يتسللون لواذاً الواحد تلو الآخر ويكون ذلك بعد مضي أربع ساعات على لتحقيق إلى أن تنقطع الحلقة وينفض المتحلقون من حولها وينتهي هذا لفاصل الغنائي الرائع الأخاذ.
أذاعت جزءاً من هذا الفاصل محطة حلب الإضافية منذ أمد بإشراف الأستاذين الشيخ عمر البطش الذي فقدته سوريا بالأمس وفقدت بفقده كنزاً ثميناً من الكنوز الفنية التي لا تعوض، وبإشراف الموسيقار توفيق الصباغ. وما كاد يمضي مدة على إذاعة مختارات من هذا الفاصل الأثرى الخالد حتى بادرة إدارة محطة الشرق الأدنى إلى الشخوص لحلب فتعاقدت مع أرباب هذه الصناعة من المذيعين وأخذت تسجيلاً خاصاً عنه. ولا ريب أن محطة دمشق ومصر والعراق وبقية محطات المدن العربية كانت أولى بحفظ هذه المخلفات الأثرية من محطة الشرق الأدنى قبل أن يمضي عميدها المرحوم الشيخ البطش، ولكنا نحن معشر الشرقيين نستهين بتراثنا الفني ونهمل رجالاته فإذا ما فقدناهم ندبنا حظنا وذرفنا الدموع سخينة على أفتقادهم، وإني ختاماً لهذا البحث الفني أراني ملزماً بذكر بعض مقطوعات مما ورد فيه تتمة للفائدة وتعميمها للنفع عسى أن يجد أبناء الفن الباحثون المتلذذون منهم والمتكسبون فيه ما تصبو إليه نفوسهم ويشفى غليلهم.
فالسادة أصحاب الطرق يذهبون في هذه الموشحات مذاهب شتى، فمنهم من يجعل الحبيب الذي يتغزل به غزالاً، ومنهم من يجعله إنساناً ذكراً أو أنثى؛ ولا يعلم إلا الله خفايا أسرارهم فيتغزلون بدعد وهند وليلى وسلمى وإلى ما هنالك من أسماء الأنثى، ومنهم من يتغزل بالذكر ويجعل المحبوب رسولاً أو ولياً من الأولياء فهم بهذه الحالة يظهرون ما لا يبطنون. ومن أقوالهم في ذلك:
يا غزالي كيف عني أبعدوك ... شتتوا شملي وهجري عودوك
يا غزالاً بالبهاء ما أجملك ... يا ترى في قتلتي من حالك
كنت لا أعشق خلاً من خلاك ... حملوك الهجر حتى واصلوك
قلت رفقاً يا حبيبي قال لا ... قلت راع الود يا ريم الفلا
قل من يهوي فلا يشكو الفلى ... قلت حسبي مدمعي قال سفوك
قلت مولى قال ذا شيء بعيد ... قلت عبداً قال لا أرضى عبيد
ومن قولهم في ذلك!(919/20)
أهوى الغزال الريرني باهي الجمال ... حلو المباسم سكري ريقه حلالي
أهيف حوى كل المحاسن والكمال ... إذا نبدي ينجلي مثل الهلال
يا عاذل اقصر كلامك عن غزالي ... ما للعواذل في هوى روحي ومالي
وهذان موشح من النوع الذي يتغزل فيه بالأنثى:
هيمتني تيمتني ... عن سواها شغلتني
أخت أنس ... ذات شمس
دون كأس ... أسكرتني
لست أسلوها ولو ... في نار هجران كوتني
ذات عقد ذات بند ... أسبلته فوق نهد
أيها الساقي فندندن ... باسم من قد آنستني
عاذلي ماذا عليها ... باللقا لو أنحفتني
صوتها العود الرخيم ... يسلب القلب السليم
تسبل الشال السليم ... فوق أعطاف سبتني
ليلة بت معاها ... بالصفا لما دعتني
وإليك نوعاً آخر من أنواع الغزل الصوفي تختتم به هذا النوع من الموشحات:
مولاي أجفاني جفاهنالكرى ... والشوق لا عجه بقلبي خيما
مولاي لي عمل ولكن موجب ... لعقوبتي فامنن على تكرما
واجل صدى قلبي بصفو محبة ... يا خير من أعطى الجزاء وأنعما
يا ذا العطا ياذا الوفا يا ذا الرضا ... يا ذا السخا إسق العطاش تكرما
أغث اللهفان وأرو الظمآن ... واسقنا يا رحمن من منهل الإحسان
أما الاستيضاحات التي طلبها من السيد محمد يوسف نجم من جامعة فؤاد الأول فالجواب عليها أورده على الجملة فيها بلى عساه باقي فيه ما تصبو إليه نفسه:
1 - لم يسبق محاولة مسرحية في سوريا قبل القباني وإنما الذي عرف أن أستاذه علي حبيب الحكواتي كان يخاطب الصور الخيالية من وراء (خيمته) بلهجةتمثيلية فيها الحوار والسؤال والجواب. وكان القباني يلازمه ويقتبس من لهجته التمثيلية ومحاورته اقتباسات(919/21)
أفسحت أمامه المجال لوضع نواة التمثيل في مخيلته، وكانت فرقة فرنسية أمت سوريا للتمثيل فيها فحلت من مدرسة (العذاري) في باب توما، فحضر القباني هذه الروايات وشهدها جميعها فأخذ فكرة عن التمثيل والمسرح. وفي عهد الوالي عبد اللطيف صبحي باشا ظهرت أولى مسرحياته فألف رواية (ناكر الجميل) ومثلها أمامه سنة 1288 وكانت سوريا والبلاد العربية لا تعرف شيئاً عن التمثيل قبل هذا التاريخ.
2 - أما كتبه ومؤلفاته المسرحية فإنها مذكورة في كتاب الموسيقي الشرقي لمؤلف المرحوم كامل الخلعي. ولقد أجهدت نفسي كثيراً لأحصل على نسخ منها فلم أظفر لأن ولده المرحوم خليل أودع مؤلفات واده عند شريك له في المحاماة من آل العجلاني، ولما توفي خليل المذكور أنكرها وأحتجزها لنفسه كما فعل شقيق الشاعر الزين رحمه الله بأشعار أخيه الفقيد. وعبثا حاولت الحصول على نسخ منها. ولما أعيتني الحيلة والأمانة للعلم والبحث قصدت نائب دمشق الأستاذ فخري بك البارودي وطلبت مساعدتي للحصول على تراثالقباني، فجال بمكتبته الفخمة جولة ثم عاد يحمل إلي روايتين مطبوعتين في القاهرة بقلم القباني نفسه قد أكلت حشاياهما الأرضة وعفى عليهما النسيان، إحداهما رواية، هارون الرشيد، والثانية رواية الأمير محمود نجل شاه العجم، فعثرت بعثوري عليهما على كنز أو معدن نادر. ولم أتبين تاريخ وضع رواية الرشيد لإهتراء مغلفها، أما السلطان محمود فلقد طبعت بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1318 هـ.
فرأي في أسلوب الروايتين لا يخرج عن رأي أديب يرى في هذا الأسلوب المشجع أسلوباً لا يليق أن يتخذ قدوة في هذا العصر، فرواية الرشيد تدور حول مؤامرة القصر والست (زبيدة) وحادثتها مع قينة الرشيد (قوت القلوب) وموضوعها لا بأس به على الجملة. أما الرواية الثانية فليس لها مثل أسلوب الأولى وليس لها مغزاها. ولقد صدرت رواية الرشيد بعهد الخديوي عباس ودليلي على ذلك ما جاء فيها من قول مؤلفها:
دام في عصر مشيد ... غوثنا عبد الحميد
وبه نجم السعود ... قد تبدى في صعود
وبعباس المعالي ... بسمت بيض الليالي
ومن هذه الأرجوزة الجذلة تعرف مقدار فهم القباني ومقدار مواهبه الشعرية والنثرية. ولا(919/22)
أضن أن للمكتبات الكبرى في القاهرة تخلو من آثار القباني إذ أنها كلها مطبوعة في القاهرة. وكانت في عصره منتشرة ولا يعدم الباحث المدقق وسيلة للعثور عليها كما وجدت أنا الوسيلة للاطلاع على بعضها على رغم فقدانها.
3 - أما ما ورد في السؤال الثالث عن احتمال وجود مدرسة فنية في دمشق اهتدت بهدى القباني وتتبعت خطاه، فهذا أمر ينفيه الواقع. لأن القباني بعد مغادريه الديار الشامية وهجرته لمصر انقطعت أخباره عن سوريا وتعطل المسرح من بعده وأنتقل هذا الفن إلى الديار المصرية حيث لقي بها تربة خصبة وصدراً رحباً وكان وصوله غليها في عهد الخديوي توفيق وعاصر عباساً ولم يعد إلى بلاده إلا بعد أن نشر الفن في ربوع النيل السعيد وتخرج هناك على يديه الكثيرون ممن ذكرتهم في مقالاتي السابقة في الرسالة الغراء. والشيء الذي أريد أن أقوله: أن القباني وقد مضى على تاريخ وفاته هذه السنون الطوال لا يزال أعقاب بعض أعدائه من الشيوخ المحافظين الذين كانوا يناوئونه ينظرون إليه نظرة المخرق الخارج الذي أحدث ثلمة في الدين وأوجد بدعة بما قام به من أعمال فنيه في ذلك الزمن. وهم يلومونني إذ أكتب عنه هذه الفصول. وهذا دليل على التأثير البالغ الذي أحدثته رواياته وقتئد لدى آبائهم وأجدادهم المعاصرين له، وقد غالى بعضهم في اللوم والعتاب وحظر على الكتلية في هذا الموضوع بداعي أنه يثير حزازات قديمة، وهؤلاء الأعقباب كما ترى قد ورثوا العداء لهذا المغني العالمي كابرا عن كابر، وأنا إذ أعود إلى نبش هذا الموضوع من جديد ألقي التبعة في ذلك على اتق السيد نجم لأنه هو السبب في أثارته من جديد فعليه يقع الكفر، وأنا إنما أنقل ما يطلب إلي، وناقل الكفر ليس بكافر
4 - وما طلب السيد نجم بإتمام بحثي عن القباني وفي الرسالة فهذه مهمة سأتفرغ لها وأكتب فصلاً خاصاً عن القباني الموسيقي كما كتبت عن القباني الممثل إجابة لرغبته وإن كانت هذه الرغبة تكلفني غالياً كما أشرت.
دمشق
حسن كنعان(919/23)
رأي في تحديد العصر الجاهلي
بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي
صاحب العزة للأستاذ إبراهيم مصطفى بك
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
يرجع أدبنا في أصوله إلى العصر الجاهلي - ألفاظ لغتنا، وطرق اشتقاقها، وبناء الجملة ونظم تأليفها، وأوزان الشعر وقوافيه وهيكل القصيدة.
ومثل البادية في العصر الجاهلي وصور الحياة فيها لم تزل منبثة في تفكيرنا وأيماننا ونظم حياتنا، وكل تنويه لهذه الحقبة من التاريخ يرجع بالإضاءة والكشف عن أصول أدبنا وتكوين حياتنا.
وهو عصر غامض حتى لا نعرف مداه ولا نقف على تحديده، ولهذا ترسل الحوادث فيه مبعثرة مضطربة غير مرتبطة بأوقاتها ويغشيها ستار من الخيال ومن المبالغة تتيه فيه الحوادث ويضل المؤرخون.
فحرب (داحس والغبراء) مثلاً وهي من أشهر حوادث هذا العصر يعدها بعض المؤرخون في أوائل القرن الخامس، ويراها آخرون من حوادث القرن السادس، ومنهم من يقول إنها امتدت أربعين سنة، ومنهم من يرى حصرها في عشر هذا الزمن أي نحو أربع سنوات.
وزهير بن جناب الكلبي عاش 300 سنة أو 400 سنة أو 450 سنة، وطي بن أد عاش 500 سنة.
وتحديد هذا العصر بمعالم من التاريخ أول واجب لتصوره والفهم مجرى حوادثه.
وآخر هذا العصر معروف محدد هو سنة 622 وهو بدء التاريخ الهجري.
وإذا نظرنا وجدناه لا يؤرخ بزوغ الدعوة الإسلامية وبدء ظهورها، فقد دعى الرسول إلى دينه سراً وجهراً وأعلن رسالته في الأسواق وهي مجامع العرب وعرض نفسه على القبائل، وتم ذلك كله قبل الهجرة ولم يعد شيء منه نهاية العصر الجاهلي.
وكذلك لا يؤرخ انتشار الإسلام وغلبته على الجزيرة العربية فقد كان الإسلام في المدينة وحدها بل في جزء منها، وسلطان الحياة الجاهلية لم يزل مبسوطاً في الجزيرة وأرجائها(919/25)
الواسعة. والمسلمون أقلية صغيرة ضئيلة كما كانوا أقلية بمكة.
ولكن أمير المؤمنين عمر والعرب معه لم يتخذوا هذا التاريخ اعتباطاً ولا حدوده تحكماً؛ بل رأوه تاريخ تكوين حكومة خضعت لها البلاد العربية وشملها سلطانها ونظامها، وقضت على حالة من الفوضى تنتهب فيها الأموال والأنفس. والضعيف نهب القوي.
ولم يتخذ تاريخاً حتى كان سلطان تلك الحكومة وطيداً شاملاً وأمنها مظلاً ورافاً.
وكان تكوين الحكومة عقب تلك الرحلة القاسية السعيدة الفاصلة وهي الهجرة فسمى التاريخ بالهجرة.
فهذه نهاية العصر الجاهلي قرنت بالهجرة وبتكوين الحكومة الإسلامية.
فما مبدأ هذا العصر؟ يحضر المؤرخون به إلى أول الخليقة ويجعلونه شاملاً لكل ما كان قبل الإسلام وهم بهذا يقررون أن العرب أو عرب الشمال على الأخص قد جاءهم الإسلام وهم على الفطرة وفي حالة بداءة لم يتصلوا قبلها بحضارة.
ونحن مضطرون هنا أن نشير إلى نوعين من الجاهلية: جاهلية الفطرة وتكون الأمة فيها بدائية متبربرة خشنة العيش لم ترث آثار مدينة سابقة. وجاهلية فترة وهي حال أمة كانت لها حضارة فقدتها بسلطان من طبيعة أو أحداث السياسة وتدهورت في حياتها درجات وبقى مستكناً فيها آثار ما تمتعت به من حضارة.
وإذا كان مسلك المؤرخين يفيد أن جاهلية العرب هذه كانت جاهلية فطرية فإن كل شيء في التاريخ وفي حيات العرب يشهد أنها كانت جاهلية فترة، جاهلية موقوتة تحمل آثاراً قوية من حضارة أو حضارات سابقة.
لغتهم وبيانهم لم تكن لغة أمة بدائية ولا قريبة من البدائية، وعملهم هو التجارة - والتجارة الخارجية خاصة - بعيد اشد البعد من أن يكون عمل أمة بدائية؛ وحكمهم للبلاد يوم فتحوها وسياستهم أهلها لا يمكن أن يتهيأ لمة فطرية.
حتى رذائل الجاهلية فيها ما يشهد ببعدها عن الحيات البدائية - هذا الربى الذي شدد الإسلام في النهي عنه والذي عني به الرسول في خطبة الوداع ووضعه عن الناس يشهد تعدد أنواعه والتشدد في تحريمه بتغلغله في الحيات الجاهلية - وما كان تقويم المال وتقديره وأرباحه عملاً من أعمال الأمم الفطرية.(919/26)
وربا الفضل نوع من الاتجار في الأثمان وفي النقد وعمل من أعمال البرصة ومضاربتها وهو من علل حضارة غنية مرفهة؛ فقد كان نقد الفرس بأيد العرب يعلو ويهبط تبعاً لانتصارهم أو هزيمتهم، وكذلك نقد الروم، فتضطرب الثروة في أيدي الناس وينتهز الفرصة البصيرون النهازون كما يفعل اليوم تجار النقد. وقد عالج الإسلام أصلح علاج - الذهب بالذهب والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد.
والقرآن يشهد للعرب بحضارات سالفة بائدة - فهم على دين أبيهم إبراهيم، وأرسل إلى العرب من العرب رسل منهم هود وصالح وشعيب ولكل رسالة دين وفي كل دين حضارة.
وطبيعة البلاد العربية وموقعها في وسط الدنيا تأبى أن تكون بمنأى عن الحضارات وأن يعمرها قوم منعزلون متأبدون فطريون. فمنذ أقدم عصور التاريخ كانت الجزيرة العربية وبواديها قناة التجارة بين الشرق والغرب من قبل تقد قناة السويس؛ بل أن طبيعة الجزيرة اليوم تعمل في قوة وسرعة لتسترد قناة التجارة إلى مسالك بواديها. ولا يغفل عن ذلك إلا من سد أذنه وأغمض عينه. فالسيارات القوية العاتية والوثيرة المريحة ما بين البصرة وبيروت في يومين، وللسرعة حسابها في التجارات وفي هذه الأيام خاصة. وقناة السويس تنظر بخضوع وحسرة - أن لم تكن غافلة - إلى هذا المنافس الذي يحاول أن يسترد من بين يديها الثروة والغنى والمجد - والصحاري كالبحار تكون عازلة حتى إذا مهدت وذلك كانت سبيل القرب وهمزة الوصل والذين اجتازوا البوادي العربية ورأوا طبيعتها الحجرية لا الرملية دهشوا لهذا الفجاج التي مهدتها الطبيعة وسوتها يد الله. وقد شهدت عشرات من الرجال مهدوا بأيديهم أميالاً من الطرق لتمر بها سيارات الملك أبن السعود وسيارات جنده، كل ما عملوا أنهم كنسوها من صغار الحجارة التي تسمى عندهم (بالحراجل).
والمنقبون لا يزالون يكشفون عن آثار حضارات عظيمة في اليمن وشمال الحجاز وبطرة وتدمر والحيرة فهل يقبل أن تقوم هذه الحضارات في نواحي الجزيرة وإخوانهم في جوفها بدائيون غير متحضرين؟
والآثار تشهد أن تلك الحضارات كانت تجارية، من التجارة ثروتها وربحها، وعليها قيامها وبقاؤها. والتجارات تأتي من طرف الجزيرة إلى طرف وتمر في مسالكها، ولا بد لهذه المسالك من الاطمئنان والأمن، ولا يكون ذلك إلا في ظل حضارات وسلطان قوي.(919/27)
هذه حقائق تمليها الطبيعة وتنطق بها الآثار ولكن روايات الأخبار التي بأيدينا تغطي هذا أو تطمسه لأن روايتها دونت بعد صدر من الإسلام وعمل في تدوينها العرب وغير العرب.
أما العرب فقد كان لدى أغلبهم أن الإسلام لا يظهر فضله حتى تكبر سيئات الجاهلية وحتى لا يكون في الجاهلية إلا شر قلبه الإسلام خيراً.
والإسلام رسالة ووحي ولكن الذين استجابوا له وقاموا به رجال ربتهم الجاهلية. لا بد أن تكون مواهبهم وتجاربهم قد أعدتهم لقبوله أو النهوض به والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وأما غير العرب فقد حز في قلوبهم ضياع أممهم ودينهم ودولهم ولم يستطيعوا عيب العرب إلا أن ينالوا من جاهليتهم. وجهاد الشعوبية في هذا كبير ووسائله شتى ظاهرة وما كرة.
فلا ينكر متبصر أن الجزيرة العربية شهدت قبل الإسلام حضارات ذات شأن. وعلى هذا الأصل نحاول أن نحدد أول الجاهلية العربية قبل الإسلام وسبيل ذلك أن نعرف آخر حضارات قامت بالجزيرة ونحدد نهايتها فتكون بدء هذا العصر الجاهلي.
فإذا اقتصرنا على العصر التاريخي وعلى ما كشف من آثار حضارته ذكرنا حضارة الأنباط وقد كانت في شمال الجزيرة وامتدت من العراق إلى مصر ووصلنا في الجنوب إلى وادي القرى وورثت حضارة ثمود وأبقت آثاراً خالدة وصمدت للروم في حروب شديدة مريرة - ثم حان حينها فانقضى أمرها على يد (تراجان) سنة 106 من الميلاد وورثت مكانتها تدمر ووسع سلطنها الشام ومصر وما بين النهرين والأناضول إلى أنقرة، وجاء يومها؛ فانقضى ملكها سنة 271 على يد أرليان الروماني أيضاً.
وكانت الحروب الطويلة القاسية بين الروم والفرس سبب انقطاع التجارة بينهما، وكان لا بد للتجارة أن تشق لها مجرى إذا سد مجرى فاتخذت سبيلها في مفاوز البلاد العربية البعيدة عن سلطان الدولتين، وكان الروم اشد حسرة لانصراف التجارة إلى أيدي العرب ولا بد لها من هذه التجارة ولا بد للغرب أن ينال موارده وقوته من هذه البلاد المشمسة الممطرة الغزيرة الإنتاج فكان من عناصر سياسة الرمل وتصميمهم أن يصلوا إلى كنوز الهند وأن تكون تجارتها خالصة لسلطانهم.
ولهذا تجشموا الأهوال في القضاء على بطرة وعلى تدمر وحاولوا القضاء على دولة اليمن أيضاً، وأرسل أغسطس حملته المشهورة بقيادة قائده العظيم الياس جلاس فهلك في(919/28)
الصحراء جيشه وعاد بخيبة سجلها رفيقه وصديقه استرايون وأورثهم بأساً أبدياً من أن ينالوا بلاد اليمن عن طريق شمال الجزيرة.
وفي القرن الرابع كانت المسيحية قد انتشرت وصالحتها الدولة الرومية والبيزنطية واستعانت بها على مد سلطانها - وكان رسل هذه الديانة قد وصلوا إلى الحبشة وشروا فيها بدينهم فقامت بها دولة مسيحية حبشية تقابل في البلاد العربية دولة اليمن اليهودية. وقامت العداوة بين الأختين؛ فأحباش هذه الدولة من أصل عربي يمني ولكن المنافسة في التجارة والعداوة في الدين أججت نار الحرب بينهما. ومن آثار تلك العداوة حديث الأخدود والنار ذات الوقود. وأرسلت بيزنطة رسلها وسفنها إلى الأحباش فمكنتهم من القضاء على دولة الحميرية باليمن بعد حروب سجال وانتهى بذلك عهد آخر دولة مستقلة قامت قبل الإسلام في الجزيرة العربية وكان ذلك سنة 525 ميلادية.
البقية في العدد القادم
إبراهيم مصطفى(919/29)
ثورة في الجحيم
للأستاذ حمدي الحسيني
جميل صدقي الزهاوي رحمه الله شاعر عربي كبير نشأ في بغداد وأشتغل فيها بالصحافة والتعليم. وقد أصابه وهو في الخامسة والعشرين من سني حياته مرض عضال في نخاعه الشوكي لازمه طول حياته. وقد زار الآستانة في عهد عبد الحميد الثاني فضاق صدر السلطان به، فتأثره الجواسيس وضيقوا عليه، فنظم قصيدة ذم بها عبد الحميد وسلوكه، ودفعته الجرأة أن ينشدها أبا الهدى الصيادي، فكتب بها أبو الهدى تقريراً دفعه إلى السلطان فكان ذلك سبباً في سجن الزهاوي
أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والرسول المبجل
فيفقر ذا مال وينفي مبرءاً ... ويسجن مظلماً ويسبي ويقتل
تمهل قليلاً لا تغض إنه إذا ... تحرك فينا الغيظ لا نتمهل
وأيديك إن طالت فلا تغترر بها ... فإن يد الأيام منهن أطول
وقد عين الزهاوي بعد الانقلاب العثماني أستاذاً للفلسفة الإسلامية في (مكتب الملكية) في الآستانة وعين في الوقت نفسه مدرساً للأدب العربي في جامعة دار الفنون، وأنتخب نائباً عن متصرفيه (المنتفك) من أعمال العراق، في مجلس النواب العثماني، ثم عاد لبغداد بعد انقشاع الحكم العثماني عن العراق، فعين عضواً في مجلس المعارف ثم رئيساً للجنة ترجمة القوانين العثمانية. وللزهاوي مقالات في مواضيع شتى نشرتها له المجلات العربية المعتبرة، وله من الكتب العلمية والأدبية الشيء الكثير. وأما دواوينه الشعرية فخمس دواوين آخرها ديوان الأوشال، وهو يجمع بين دفتيه كل ما نظم الزهاوي في سن النضوج.
يبدو لنا من شعر الزهاوي أنه كان حريصاً على أمرين، أن يشتهر بالفلسفة وأن يدعي نصير المرأة. ولا نستطيع هنا أن نمر بهذه الظاهرة النفسية دون أن نعللها تعليلاً نفسياً. فالزهاوي رحمه الله كان مطوي النفس على شعور بالنقص، وهذا الشعور قد كونته في نفسه عوامل شتى يرجع أكثرها وأقواها إلى طفولته ونشأته الأولى. وقد يكون المرض العضال الذي أصابه في نخاعه الشوكي سبباً قوياً من أسباب ذلك الشعور. ومن طبيعة هذا(919/30)
الشعور أن يدفع صاحبه إلى الكفاح في سبيل الرفعة بطرق شاذة، والرفعة في ما وصل إلى يدنا من شعور الزهاوي أصبحنا نعتقد بأن قصيدته الطويلة المسلسلة المسماة بثورة في الجحيم هي الصورة الصادقة لنفسيته، والمعرض لواضح لآرائه وأفكاره، والموضع الأمين لقوته ونزوعه. أما فلسفته في هذه القصيدة وتردده بين الإلحاد والاعتقاد وحريته بين الشك واليقين فلا نحب أن نتعرض له الآن لأن التعرض له ليس من غرضنا في هذه الكلمة. ولنصغ الآن إلى ملكي القبر منكر ونكير وهما يسألان الميت في قبره عن السفور والحجاب، هذا الأمر الذي شغل الزهاوى زمناً طويلاً واحتمل في سبيله أذى كثيراً:
قال هل في السفور نفع يرجى ... قلت خير من الحجاب السفور
إن في الاحتجاب شلا لشعب ... وخفاء وفي السفور ظهور
ليس يأتي شعب جلائل ما لم ... تتقدم إناثه والذكور
إن في رونق النهار لناساً ... لم يزل عن عيونها الدبجور
بعد أن أتم الملكان استجوابهما للميت عذباه عذاب القبر وأخذاه إلى الجنة ليجعلا من رؤيته لها عذاباً له فوق عذابه. ثم أخذاه إلى الجحيم فقذفا به في صميمه فالتقى هناك بالأشقياء المعذبين أمثاله؛ هناك قد جمع الألم المشترك بين القلوب المتباعدة، وكون العذاب بين المعذبين وحدة دفعتهم لأن يفكروا بالخلاص من عذاب الجحيم فعقدوا اجتماعاً تبارى فيه الخطباء في حض الجمهور المعذب على أنقاض نفسه من بلاء الجحيم، فقام شاب من شباب الجحيم وألقى خطبة تحريضية حرض فيها الملايين المعذبة في ذلك الجحيم على الكفاح ضد الظلم والاستبداد
قال يا قوم إننا قد ظلمنا ... شر ظلم فما لنا لا نثور
اجسروا أيها الرفاق فما نا ... ل بعيد الآمال إلا الجسور
إنما فاز في الجهاد من النا ... س بآماله الكبار الكبير
قاوموا القوة التي غش ... مت والدهر ما دام للقوى ظهير
فتحمس سكان الجحيم حتى دفعت الحماسة أكثرهم رصانة كابي العلاء المعري فوقف هو الآخر يحرض الجمهور تحريضاً عنيفاً فقال:
غصبوا حقكم فيا قوم ثوروا ... إن غصب الحقوق ظلم كبير(919/31)
فرد عليه الجمهور الحانق الغاضب:
غصبوا حقنا ولم ينصفونا ... إنما نحن للحقوق نثور
وهنا قام سكان الجحيم قومة رجل واحد واندفعوا نحو الزبانية، ووقعت المعركة الحاسمة، فأحتل سكان الجحيم الجنة وقاموا فيها منعمين مرفهين.
حمدي الحسيني(919/32)
رسالة الشعر
رحلة في وجوه الناس
صحراء العجائب
(إلى أصحاب الوجوه المستعارة. . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
تجولت في صحراء تلك العجائب ... وفي سرها المطموس حول الحواجب
وعوذت نفسي قبل أن أبدأ السري ... لعلي أنجو من سموم العقارب
وقلت لعل الله ينصر رحلتي ... فأغنم صيداً نافراً لحقائبي
وألقيت أشراكي لها وحبائلي ... وسرت كحاو هام بين الخرائب
وتعويذتي الكبرى سكون يحوطه ... تربص شيخ مل طول التجارب
أمانك ربي! ذلك الوجه ربوة ... تغنى بها الأطيار من كل جانب
تكاد تنادي العاشقين إلى الهوى ... وتجري لهم أسحارها في المغارب
مزنرة الأغصان بالعطر والندى ... وهمس الصبا في مرعشات الترائب
وتخفي دروباً في الظلال لئيمة ... بها الريح ما أبقت حذاراً لهائب
عداد الحصى فيها أفاع حيية ... كريمات صب الموت فوق المعاطب
تجود به سما نضيراً معطراً ... تدير به النجوى خدود الكواعب
وتجريه ضحاك الردى، كل بسمة ... تهب مع الساق بسهم وضارب
وقفت طويلاً عند أعتاب روضها ... وناديت رب الكون. . ما ذاك صاحبي!
أجرني! فهذا الوجه كم صدت سره ... ولو كان معصوماً بغدر الغياهب
فلم ألقى إلا آدمياً يسوقه ... بجنبيه ذئب مستعار المخالب.
ووجه به وجهان: وجه مقنع ... بآخر مدسوس بزي العناكب
يجاري وجوه الناس في كل نظرة ... ويسرب في إيمائها كالثعالب
ذليل لما يصغي إليه، فسمعه ... خطام ذلول في حبال كواذب
ترى طرفه عبداً لعينيك ضارعاً ... على أي حال من فنون التخاطب(919/33)
تنوح فيعوي، أو تصيخ فيمحى ... ويصبح شيئاً من سكون المحارب
برت آية البهتان جلدة وجهه ... مطايا رياء لا تضيق براكب
إذا قيل هذا الصخر ماء. . رأيته ... يردد للينبوع شوق السباسب
وأن قيل هذا الماء نار. . رأيته ... عليها مجوسياً عريق المذاهب
وإن قيل تلك النار فجر. . رأيته ... أذان مصل هز سمع الكواكب
وإن قيل هذا الفجر قبر رأيته ... من الثكل يستجدي دموع النوادب
تلاشي بلا موت، وأودي بلا ردي ... لعل بهذا النعش بعض المكاسب. .
أمانك ربي منه! هذا منافق ... أخف لقاء منه وجه المصائب
إذا انفردت بالله أبعاد نفسه ... - وهيهات - يلقاه يزهو المحارب
وأن مر جلاب الفتات، رأيته ... بلا أي ذنبن في سرابيل تائب
تقوس وأستخذى على الزور ظهره ... وكبر لا لله، بل للرغائب
فخلت صلاة لم يحن بعد وقتها ... وظلاً من الأوثان فوق المناصب. .
ووجه سراب البيد يخشى ظنونه ... فيزور عن رؤياه خوف العواقب
يمر به مر الظنون كأنه من الذعر صدق مر في وجه كاذب
وتمعن في نجواه عرافة الضحى ... فتنكت في خط على الرمل خائب
يعلم أجواز الفلا كيف تصطفى ... لظلمائها ود الرياح الحواصب
تعمى على مرآته، فهو صوبها ... رؤى صد إطي الزجاجة هارب
يخادع حتى نفسه، فطريقها ... بجنبيه جب قاعه في الجوانب
تهدج، واستحيا، وهوم، واختفى=بجفنين سعاءين تحت المسارب
لمحت فلاه من بعيد، فصرصرت ... بسمعي رياح الخاتل المتثائب
فقلت: معاذ الله ضعف وقدرة ... وليل ضياء فيه فجر غياهب!. .
ووجه دعى الأفق، لا شأن عنده ... بما حط في أعماقه من مثالب
طغى فوقه ضب الغرور، فأنفه ... كرمت طير كفنت بالطحالب
يشيح فضاء الله خزياً لحمقه ... وتعوي له حزناً شقوق الجنادب
تورم، وانقدت من الصدر نفسه ... فلم يبقى منه غير تل المناكب(919/34)
وغير سطور فوق كثبان وجهه ... نشين من البهتان أقدس كاتب. .
ووجه سألت الله لا مر ثانياً ... ولا اتجهت يوماً غليه مذاهبي. .
به سحنة الواشي، لها سبع أعين ... وسبع آذان، وسبع حقائب
يطل كركب من بني الجن ظامي ... يحدج في نبع من الماء ناضب
ويصغي كحارس مشى في ترابهم ... دبيب من الأوهام طامي الكتائب
وتزحف كالثعبان آفاق سمعه ... لتستل ما تبغيه من كل صاحب
جزوع إلى الأسرار، يلعق طيفها ... كذئب غريب الغاب، حيران، ساغب
وينبش في غيب العباد، فلا ترى ... له نظرة إلا برفش وحطاب
سألت له الرحمن. . قبراً كوجهه ... تعيث به الآثام في كل جانب. . .
محمود حسن إسماعيل(919/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حقيقة التشويه العلمي في (الإشارات الإلهية):
مرة أخرى نعود. . ولا مناص من هذه العودة لأنها استجابة لرغبة القراء. نعود لنكشف عن حقيقة (التشويه العلمي) التي أحدثته عبقرية الفيلسوف الأول في (الإشارات الإلهية). . ومعذرة من هذا التعبير الذي ينسب التشويه إلى العلم أو يجعل العلم منسوباً إليه، لأن العلم هنا بدلالته الخاصة مقصور على الدكتور عبد الرحمن بدوي!
وقبل أن نكشف عن حقيقة هذا (التشويه العلمي) نود أن نقف قليلاً لنقول كلمة أو كلمتين. . ترى هل قرأ الدكتور بدوي كتاب (كليلة ودمنة)؟ أننا نشك كثيراً في أنه قد قرأ هذا الكتاب، ومبعث هذا الشك أن في الكتاب فلسفة صادقة، كان من الممكن أن ينتفع بها فيلسوف مصر الأول. . لو أنه ألتقطها من لسان بيدبا الفيلسوف! ولسنا نريد من الدكتور بدوي إلا أن يرجع إلى هذا الكتاب ليخرج بشيء من الفلسفة الشرقية، شيء بسيط لا يدق على فهمه كما دقة عليه أصول الفلسفة الغربية. . قال ديشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: اضرب لي مثل الرجل يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. وجمع بيدبا الفيلسوف أطراف فلسفته، وقص على الملك قصة مالك الحزين. . ورحم الله بيدبا الفيلسوف، فلو كان يعيش بيننا في هذه الأيام مع دبشليم الملك، لاستبدل بقصة مالك الحزين قصة عبد الرحمن بدوي!
إننا لا نعني قصته في (الإشارات الإلهية) فإن لها حديثاً غير الحديث، ولكن الذي نعنيه هو قصته الأخرى التي قادنا إليها كتاب الآخر: (أرسطو عند العرب)، وهو مجموعة نصوص نشرها وحققها بطريقته المعروفة. وافتح الصفحة الرابعة والستين من هذا الكتاب، وترفق برئتيك إن كنت من أصحاب الصدور الضعيفة، قبل أن تطلقها ضحكة عريضة تملأ الفضاء العريض!
قال الدكتور عبد الرحمان بدوي وهو يتحدث عن منهجه في نشر المخطوطات، في شيء من الفخر وشيء من السخرية، الفخر (بعلمه) والسخرية من (جهل) غيره، قال لا فض فوه وهو بعيد علينا قصة مالك الحزين ويذكرنا بمثل بيدبا الفيلسوف: (والمنهج الذي نتبعه في النشر منهج بسيط، وبقد ما هو بسيط هو خصب دقيق معاً: وهو أن نجيد قراءة المخطوط(919/36)
عن تدبر وحسن فهم (هكذا والله العظيم)!. . وهذا مبدأ على الرغم من بساطته ووضوحه كثيراً ما أغفله الناشرون أو بالأحرى أجفلوا منه وكأين من أخطاء في تحقيق النصوص لم يكن السبب فيها إلا عدم إجادة القراءة! وليس الأمر في النشر أمر هذه المخطوطات وكثرة اختلافات القراءة؛ إنما المهم إن تقدم للناس - على أساس ما تيسر لك من مخطوطات، فلت أو كثرت أو كانت وحيدة - نصاً جيداً يحاكي تماماً ما في الأصول المخطوطة بعد تدبيرها تمام التدبير. فالذين مارسوا المخطوطات يعرفون أن ثمت أحوالا من إهمال النقط أو تشابك الحروف أو تقلب النفط من فوقها واضطرابها بين حروف الكلمة الواحدة أو الكلمات المتجاورات. ومثل هذه الأحوال لا يمكن أن تعد اختلافات في القراءات، إنما هي عوارض شخصية في المخطوطات، يجب أن يستقريها الناشر لنفسه أثناء قراءته الأولى للمخطوطة ثم يعين - لنفسه أيضاً - أحوال اطرادها حتى يتهيأ له جهاز تحليلي لحسن القراءة. وإلا فستكون النتيجة أن يضل القارئ إذا ما ذكر في الجهاز النقدي كل ألوان الإهمال أو الهفوات الهينة لسقطات القلم، فلا يستبين ما إذا كان بازاء اختلاف قراءة أو مجرد مخالفة خطية أو قلمية تافهة ومفهومة. ولهذا فلسنا نتردد في اتهام أولئك الذين يلجئون إلى هذه الطريقة بالعجز عن فهم النصوص وقراءتها، أو بالتمويه على القارئ بوضع جهاز نقدي ضخم محشو بهذه الاختلافات المزعومة ليدخل في روعه أن الناشر قد بذل مجهوداً هائلاً. والحق أنه لم يبذل شيئاً أكثر من جهد النسخ والمسخ معاً، دون أن يبذل أي مجهود في الفهم وتدبي المقروء. ومع ذلك تراهم يصيحون ملء أشداقهم، وتصف ألسنتهم الكذب: إن هذا هو المنهج العلمي الصحيح! مع أن الأولى بهم أن يسموه: منهج الإحصاء الآلي العاجز.
ولكم رأينا في مقارنتنا لبعض النصوص التي نشرها هؤلاء (الناشرون) المزعومون بالأصول المخطوطة التي نشروا ما نشروا عنها أن ما ادعواه (تحريفاً) أو (اختلاف قراءة) لم يكن في الواقع إلا (سوء قراءة) من عيونهم وعقولهم)!!
أنظر إن عبد الرحمن بدوي هنا يشرح لك طريقته في نشر المخطوطات، ثم يتخذ من هذه الطريقة دستوراً يأمر الناشرون بأن يعملوا به، مرتدياً ثوب الأستاذية الموجهة وسالكاً نهج مالك الحزين، ذلك يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. ترى هل يتقبل الدكتور بدوي هذه الكلمات الرائعة، هدية متواضعة؟! إنها كلماته هو، تلك التي وجهها إلى الناشرين الجهلاء.(919/37)
واستمع إليه معجباً ومقدراً حين يقول: (ولكم رأينا في مقارنتنا لبعض النصوص التي نشرها هؤلاء الناشرون المزعومون بالأصول المخطوطة التي نشروا ما نشروا عنها، أن ما أدعوه تحريفاً أو اختلاف قراءة لم يكن في الواقع إلا (سوء قراءة) من عيونهم وعقولهم)!
لكم يهزنا هذا التعبير الأخير. حقاً أن بعض العيون تسيء القراءة وكذلك بعض العقول، ولكننا لم نر ولم نسمع أن عين ناشر أساءت القراءة كما إساءتها عين فيلسوف مصر الأول، وقل مثل ذلك عن عقله إذا كنت من المنصفين! هل رأيت في حياتك ناشراً هو في نفس الوقت أستاذ جامعي، يعجز عن قراءة فقرات كاملة في مخطوطة، فيحذفها من النص بكل بساطة ولو تعثر التعبير وأختل السياق؟! لقد فعل ذلك العلم الجليل السيد بدوي في (الإشارات الإلهية). . هل كانت الفقرات التي حذفها مطموسة أو ساقطة أو غير واضحة؟ كلا والله العظيم، ولكنه العجز المطلق والاستهانة بعقول الناس والعبث بالأمانة العلمية. . ومعنى هذا أن المسألة مسألة مزاج في إنطاق أبي حيان أو إسكات أبي حيان، ورعى الله الأمزجة النادرة عند بعض الأساتذة الجامعيين!!
لقد قلنا إن نشر هذا الكتاب بهذه الصورة فضيحة علمية، وهذا هو أول ركن من أركان الفضيحة. ولو اقتصرنا عليه لما أنقص ذلك من حقيقة الاتهام. . وليت الدكتور بدوي قد وقف بمواهبه عند هذا الذي قلناه، ولكنه مضى في طريقه غير هياب ولا وجل، تعبث عينه بقراءة الكلمات ويعبث عقله بتفسيرها في جرأة تذهل الإفهام! وتخرج من هذا كله بأن الحس اللغوي عند الناشر لا وجود له، وكذلك الذوق الفني الذي ينظر إلى موضع الكلمة من السياق حين ترجى سلامة التعبير واستقامة التفسير، وإليك بعض النماذج التي ننقلها بتعليقاتها عن صديقنا الكاتب المحقق الأستاذ سيد صقر، مع صادق التهنئة له وخالص التقدير:
(20 - ص22 (فلا العلم باختلاف الأحوال نافع، ولا الجهل به ضار، بلربماضر العلم، وربما نفع الجهل، وربما نبل بالحنط، وربما فات بالتأني، وربما بعد الداني، وربما قرب النائي. .)
قال الدكتور، وما أغرب ما قال: (نبل، لقط النبل، ثم دفعها إلى الرمي ليرمي بها من جديد(919/38)
والحنط: النبل يرمي بها. والمعنى أنه ربما يلتقط النبل بالنبل، أي يداوي الداء بالداءنفسه).
ماذا أقول في نقد هذا الشرح العجاب؟ أقول إن مثل هذا الفهم هو الذي شحذ عزم أبي حيان على حرق كتبه بالنار وغسلها بالماء، وجعله يقول لمن لامه على صنيعه (فشق على أن أدعهالقوم يتلاعبون بها، ويندسون عرضي إذا نظروا فيها. . . وإن عيانى منهم في الحياة هو الذي حقق ظني بهم بعد الممات)!
وجاء من بعدك من يصحف عليك صحيح كلامك ويخبط في فهم معناه خبط عشواء، بل ولا يحسسن قراءته. جاء في النسخة المخطوطة: (وربما نيل بالخبط، وربما فات بالتأني. . .) أي وربما خبط الإنسان في ابتغاء مراده خبط عشواء فناله، وربما تأتي لنيله أشد التأني ففاته ولم يدركه.
ومن أعجب العجب أن ناسخ الكتابقد أحتاط، ووضح كرة ظاهرة تحت نون (نيل) حتى لا يخطئفي قراءتها إنسان، وصدق أبو حيان في عته الذي نتمثله فيمن نراهم بين ظهرانينا ممن نالوا بالخبط درجات العلماء!
20 - ص36: (وسقيا للرسائل التي كانت تجري بيننا وبينكم، نعم ورعيا للوسائل التي كانت تترددعندنا وعندكم، والوشاة على خيبتها في الظفر بتأذيكم) قال الدكتور في تعليقه: (في الأصل بناويكم، أو صوابه: بناديكم)
ولا معنى هنا لظفر الرشاة (بتأذيكم) أو (بناريكم). . وبديهي أن صواب الأصل (والوشاة على خيتبها بناوبكم)!
23 - ص35: يخاطب أبو حيان الإنسان المبتدع بالقدرة الإلهية المحفوفة بالنعم الملكية، ويطلب إليه أن يتأمل مواقع آياته فيه، ويستنطق شواهد آثاره عليه ويقول له: (أنظر بأي فضل خصك. . وأي ملك قلدك، وأي مشرب صفَّى لك، وبأي لطف حاشك، وبأي شيء سكَّر جاشك، وبأي صنع أزال استيحاشك ولأي أمر أعاشك) ثم يشرح أبو حيان ما ذكره، فيقول: (قلدك ملكاً هو نهاية آمالك، وصفى لك مشرباً متى كرعت منه لم تظمأ بعده، وحاشك بلطف هو الذي جعلك مغبوطاً في حالك، وسكر حاشك بشيء هو الذيأنالك مرادك، وأزال أستيحاشك بصنع أدركت به كل آمالك. .)
ومن العجيب حقاً أن يقول الدكتور في شرح قول ابي حيان (وبأي لطف حاشك، وبأي(919/39)
شيء سكر جاشك): (حاشك هنا بمعنى اصادك، وسكره بتشديد الكاف تسكيراً: أي خنقه. والجأش: نفس الإنسان)!!. . وأي عجب أعجب وأغرب من أن يقول أبو حيان للإنسان الذي يذكره بنعم الله عليه: أنظر كيف خصك بالفضل فاصطادك وخنق نفسك (بشيء هو الذي أنالك مرادك)!!
وصواب قول أبي حيان (وبأي شيء سكن جاشك) و (سكن جاشك بشيء هو الذي أنالك مرادك). . ولا ريب في أن (سكون النفس) من أنعم الله الخليقة بالتدبر، الجديرة بالتأمل. وأما (اصطياد النفس وخنقها) فمصيبة كبرى، ولعل في حشره بين أنعم الله التي حف بها عباده سراً فلسفياً دفيناً يدق على الإفهام، وتقصر عنه المدارك والعقول!!
12 - ص2: يقول أبو حيان. (يا هذا إن كنت ثاكلاً فخ على ما أصبت به، وأن كنت مكروباً بالسر فبُح)
أخطأ الدكتور في ضبط هاتين الكلمتين كما أخطأ في شرح المعنى، إذ يقول (أي ألق على مصابك)!!! والصواب فنُحْ على ما أصابك به)، ويؤيده قول أبي حيان في ص113 (ونح على نفسك نوح الثكول). وهذا هو البيان الصريح واللفظ الصحيح كما قال أبو حيان في ص294، فمن أخطأه فليقرأ تمام كلامه في الصفحة نفسها، فإنه يقول: فأطلْ البكاء، وأجد اللطم، وتجرع مرارة الكأس، المترعة بالجسر واليأس. وليت البكاء نفعك! وليت النوح أجدى عليك! وليت الحسرة أفادتك! وليت الندامة نفعتك! هيهات! فت فوتاً لا درك بعده، وبدت بيوداً لا عود معه، والعثرة غير مقالة، والمحنة غير مزالة، والحال غير محالة. . .)
1 - ص17: يقول أبو حيان مخاطباً أحبابه: (فارعوا ذمام خدمتي لكم، وحافظوا على ما تحملت فيكم، فقد شربت العلقم في هواكم، وأدريتْ العدى تحملاً لكم، ولزمت الصمت حتى نسيت الكلام، واعتزاز حتى قيل هو من الوحش، وغضضت الطرف حتى قيل هو من العميان)
قال الدكتور عبد الرحمن بدوي في شرحه (الكلام هنا بمعنى علم الكلام، والقرينة في قوله: اعتزلت، أي صرت من أهل الاعتزال أو المعتزلة، واعتزلت بعدها بمعنى توحدت وانفردت)
هذا شرح مضحك حقاً؛ فإن أبا حيان لم يرد بالكلام إلا معناه المعروف للعامة والخاصة.(919/40)
ولست أدري كيف فهم الدكتور أن أبا حيان في (علم الكلام) لما لزم الصمت. وما العلاقة العجيبة بين هذا الصمت وعلم الكلام؟! وكيف تكون (اعتزلت) بمعنى توحدت وانفردت، قرينة على أن المراد بالكلام (علم الكلام) وما الصلة بين التوحد والانفراد وبين مذهب الاعتزال؟ لست أدري. . ولعل هناك صلة فلسفية لا يدركها إلا عقل فيلسوف!
3 - ص231 (نعم يا سيدي إن الحديث من الفَريّ) أخطأ الدكتور في ضبط كلمة (الفري) ونقطها وشرحها وقال (الفري كغنى، يقال هو يفري الفري: أي يأتي بالعجب في عمله)!
والصواب: (إن الحديث من القِرَى) وهو تعبير مشهور متداول في كتب الأدب، قال الشاعر:
لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدثه إن الحديث من القري ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
راجع حماسة أبي تمام 4 - 244، وقال آخر:
ورب نضو طرق الحي سرى ... صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إن الحديث جانب من القرى
وأظن أن قرى الأضياف بين لا يحتاج إلى شرح نظري!
5 - ص348، 349: يقول أبو حيان في الحديث عن قصر العمر: (مما لبثنا في هذه البلدة الوبيئة الحرجة إلا. . . كحلم النائم في الليل، أو كظل قد أخذ في النقصان، أو كالَّنقابة من مول، أو كتوهم من النفس، أو كلمح البصر أو هو أقرب)
قال الدكتور: (النقابة بفتح النون: مصدر نقب على القوم من بابي علم وكرم: صار نقيباً عليهم، أو النقابة بالكسر: الاسم، وبالفتح المصدر)!!!
ويبدو أن الدكتور لم يحسن قراءة الكلمة في المخطوطة. فأخطأ في نقلها وشكلها وشرحها خطأ بعد بها عن المعنى. . والصواب: (أو كالِتفَاتةٍ من مول) فإن قصر الالتفانة من الذاهب المولي المتلفت إلى ما وراءه، هو المناسب للمح البصر وما قبله من تشبيهات، وما قصر مدة نقابة النقيب فشيء غير معروف ولا معنى له، (معذرة يا أستاذ صقر، فهو معروف في نقابة المحامين والصحفيين!!)، ولست أدري كيف استساغ الدكتور قرنها بحلم النائم ولمح البصر في مضمار التشبيه!(919/41)
10 - ص4: يقول أبو حيان: (وإن جنحت إلى التواني، وذهبت في آفاق الأماني، لم ترث من حالك إلا حسرة ولم تمضغ بفمك إلا جمرة، يا هذا خفض أسى عما ساءك طلابه:
(ما كل شائم بارق يسقاه)
حسب الدكتور أن هذا النص كله وليس فيه من الشعر إلا الشطر الذي أفرده في سطر وحده، وليس الأمر كما حسب؛ فإن آخر نثر أبي حيان كلمة (يا هذا)، وما بعدها بيت من الشعر تمثل به وهو:
خفض أسي عما شآك طلابه ... ما كل شائم بارق يسقاه
فساءك محرفة عن (شاك)، والبيت للبحتري كما في ديوانه 2 - 323 وقبله:
والشيء تمنعه يكون بفوته ... أجدى من الشيء الذي تعطاه
(معذرة مرة أخرى يا أستاذ صقر، لان الدكتور بدوي لا يحفظ من الشعر إلا أجدره بالخلود. . أعني شعر ديوانه الخالد مرآة نفسي)!!
هذه هي بعض النماذج ننقلها إليك كما قلنا من المقالين اللذين كتبهما الأستاذ صقر، وكشف فيهما عن منزلة التحقيق العلمي في (الإشارات الإلهية). . ومع ذلك يقول فيلسوف مصر الأول في كلمته التي اقتطفناها من كتابه الآخر (أرسطو عند العرب) يقول في جرأة يحسده عليها الناشرون المزعومون: (والمنهج الذي نتبعه في النشر منهج بسيط، وبقدر ما هو بسيط هو خصب دقيق معاً: وهو أن نجيد قراءة المخطوط عن تدبر وحسن فهم)!
ألم نقل لك ترفق برئتيك أن كنت من أصحاب الصدور الضعيفة، قبل أن تطلقها ضحكة تملأ الفضاء العريض؟! ألم نقل لك أن نجيب الريحاني الذي كان نابغة عصره في إضحاك الناس لم يمت، لأن عبد الرحمان بدوي قد ملأ مكانه بجداره؟! إذا كنت في شك من هذا فارجع إلى النماذج السابقة التي تعرض لها الأستاذ صقر، ثم قف طويلاً عند هذا النموذج الذي لم يتعرض له بعد، لأننا نقدمه إليك على أنه (نكتة الموسم) تنتزع الضحك انتزاعاً من أفواه الثاكلين:
أفتح الصفحة السادسة والأربعين بعد المائة من كتاب (الإشارات الإلهية)، وأقرأ في نهايتها قول أبي حيان المفتري عليه (فقد جمدت العيون فما تدمع، وتكبرت القلوب فما تخشع، وكلبت البطون فما تشبع، وغلبت الشقوق فما تنزع. . . يا هذا، أننا نتنفس بهذه الكلمات(919/42)
كما يتنفس المملوق)
قال العالم الجليل السيد عبد الرحمن بدوي في شرح كلمة المملوق: (إما أن يكون من ملق (من باب نصر) فلاناً بالعصا: أي ضربه، ويكون المعنى هو: المضروب؛ وإما - وهذا هو الأرجح هنا - من قولهم فرس مملوق الذَّكَر: حديث عهد بالنزاء)!!!
صدقني إذا قلت لك عن عبد الرحمن بدوي إنني أشك في سلامة عقله. . أشك في سلامة عقله ولا يمكنني أن أشك في سلامة عقل أبي حيان، لأن أبا حيان ليس مجنوناً حتى يقول للناس إنه يتنفس بهذا الكلام كما يتنفس ذكر الفرس عقب لحظة من لحظات النزاء. . هل عند نجيب الريحاني نكتة تستطيع أن تقف على قدميها لتنافس نكتة الدكتور عبد الرحمن بدوي؟! لا أظن. . ولا أحسب أن في هذه الملمات شيئاً من المغالاة!
هل انتهيت؟ كلا. . فما زالت أمامي المقدمة التي كتبها الدكتور بدوي وضم فيها أبا حيان إلى زمرة الأدباء الموجودين! وحين ينتهي الأستاذ صقر من سلسلة مقالاته، سنبدأ نحن سلسلة مقالاتنا حيث نطالب بعدها بحرق هذا الكتاب، وما أكثر ما يملك الدكتور بدوي من كتب تستحق الحرق بالنار بعد الغسل بالبنزين!!
أنور المعداوي(919/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
رسائل الرافعي:
في سنة 1912 كان الأستاذ محمود أبو رية أديباً ناشئاً، وقد أعجب بالأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فاتصل به عن طريق المراسلة، حتى نمت العلاقة بينهما وصارت صداقة ومودة. كان أبو رية يكتب إلى الرافعي يسأله عن كثير من شؤون الأدب ومسائله، فيجيبه برسائل تحتوي على كثير من الآراء واللمحات إيجاز تقتضيه طبيعة الرسائل الخاصة، وكان الرافعي يرسل نفسه على سجيتها في هذه الرسائل لا يكاد يخفي شيئاً من نوازعه وخواطره.
وقد ظفر الأدب من تلك المراسلة بهذا الكتاب (رسائل الرافعي) الذي أصدره أخيراً الأستاذ محمود أبو رية، مشتملاً على 218 رسالة انتقاها من بين ما كتب إليه الرافعي (لما فيها من فوائد جليلة للأدب والمتأدبين يله ما تحتوي عليه من تفصيل شامل لتاريخه الأدبي وغير الأدبي) كما قال في مقدمة الكتاب. وقد عنون لها بما يدل على أهم ما فيها، ورتبها ترتيباً زمنياً، يبدأ من سنة 1912 إلى سنة 1934، فجاءت (فلما) يعرض أطرافها من حياة الرجل الشخصية والأدبية وملامح من تيارات الحركة الأدبية في مصر طيلة تلك الفترة ممن الزمن. والقيمة الكبرى لهذه الرسائل هي أنها تصوير صادق لنفسية الرافعي ودوافعه الأدبية، وفيها إلى جانب ذلك تلك الفوائد الأدبية التي أشار إليها الأستاذ أبو رية، وفيها أيضاً إشارات كثيرة إلى ما كان بين الأدباء في ذلك الزمان من مجاذبات يلونها الرافعي بعاطفته الخاصة، إذ كان يقف من أكثر أدباء الجيل موقف المخاصم المنافح، وقد أحسن الأستاذ أبو رية بحذف بعض العبارات القاسية التي وصف وعبر بها عن أولئك الأدباء، والاكتفاء بالخفيف المقبول منها. وفي الرسائل كلها روح لطيف ممتع، هو روح الطبيعة المطلقة غير المتحرجة، إذ أن كاتبها لم يكن يقدر - ولا شك - أنها ستنشر على الناس.
في هذا الكتاب يبدو الرافعي (وراء الكواليس) كما يعبرون بلغة المسرح. . فهو يحدث أبا رية عن مؤلفاته ومقالاته، لم كتب هذا أو ذاك، وما وقعه، ومتى يكتب مقال كذا أو يشرع في تأليف كذا، ويحدثه مع ذلك عن آلامه وأمراضه ومنها ما ناله بسبب الكتابة. . . إلى(919/44)
آخر هذه الملابسات. ومما يستشفه القارئ من هذه الرسائل، اعتزاز الرافعي بأدبه اعتزازاً يبلغ به درجة الغرور، ومحبته السافرة للتقريظ وأثناء؛ فهو يرى أنه - وحده - أديب الزمان، وسائر ما يكتبه الأدباء (تدجيل صحفي) لم يكد يسلم من تجريحه أحد من أعلام الأدب في عصره، وهو يحدث أبا رية عن حملاته الأدبية وكيف أنها نسفت من نازلهم أو أنه سيكتب عن فلان ما لن تقوم له بعده قائمة، ويتمنى أن يتفرغ للنقد نحو سنتين أو ثلاث ليهدم العصر كله من جميع نواحيه الضعيفة ويبني عليه أدباً جديداً، ولقد كان ذلك رأيه في الوقت الذي بلغ فيه الأدب المصري الحديث أعلى ما بلغه من القوة والازدهار، ولقد كتب هو في النقد فكانت كتابته أقرب إلى الشتم والهجاء وخاصةً ما كان يسميه (السفافيد) التي كان يشري عليها من يمزق لحومهم:
وهكذا نرى الرافعي في هذه الرسائل يعد نفسه فارس الحلبة، ويرى أنه وحده الواقف في الميدان، وهو يصرح بذلك في هذه الرسائل الخاصة، وكان حياؤه ولباقته وفطنته تمنعه من هذا الادعاء في أدبه العام. ولعل ذلك راجع إلى ما كان يراه من تقدير الناس لغيره أكثر منه، فهو يحاول أن يعوض هذا النقص بلسانه في الخفاء، وإن لم ينقل به في العلن:
وهو يحب الثناء ويطلبه، يطلب من أبا رية أن يكتب عن كتبه في الصحف، ويسر كل السرور من تقريظ المقرظين، بل هو يجعل الثناء عليه مقياساً لقيمة المثنى. وهو لا يرى أدبه أحسن من الأدب المصري الحديث فقط، بل يفضل بعض كتبه ومقالاته على ما كتب الأقدمون، وعلى ما كتب كتاب الغرب مثل برجسون وشكسبير ولا مرتين.
وبعد فقد أحسن الأستاذ محمود أبو رية بإخراج هذا الكتاب القيم الممتع الذي إضافة له لوناً طريفاً إلى كتب الأدب.
ضبط الكتابة العربية:
ألقى الأستاذ محمود تيمور بك محاضرة في (ضبط الكتابة العربية) بإحدى جلسات مؤتمر المجمع اللغوي الماضية، وقد بسط فيها المصاعب التي تعترض ضبط الكتابة العربية على صورتها الحالية، مما يؤدي إلى الخطأ في نطق الكلمات وتعذر القراءة الصحيحة، لا على عامة المتعلمين فقط، بل إن المختصين في اللغة لا يستطيعون الضبط التام إلا باطراد اليقظة ومتابعة الملاحظة ومزيد التأني.(919/45)
وبعد أن جال الأستاذ تيمور بك في نواحي هذه المشكلة، عرج على ما أقترح لها من حلول فبين عدم صلاحها، وخاصة أنها إما تباعد بين الشكل القديم المألوف والوضع المقترح أو تثقل العمل المطبعي وتعقده، ذاهباً إلى أن الإجراء الذي يمكن أن نكفل له قبول الأمة العربية في جملتها، هو أن يكون لمشكلة الكتابة العربية حل لا تتغير به الحروف القائمة ولا تتنكر معه صورتها المألوفة.
ثم أبدى الأستاذ ما يقترح من حل، قائلاً: أرى أن نقتصر من صورة واحدة، من الصور المتعددة التي منها المفرد ومنها ما يقبل الاتصال بحسب أول الكلمة ووسطها وآخرها وبحسب وقوع الحروف في بنية الكلمة المركب بعضها فوق بعض، وأن نتخذ علامات الضبط المتعارف التي يجري بها الاستعمال، وأقترح أن تكون الصورة التي تقتصر عليها من صور الحروف هي الصورة التي تقبل الاتصال من بدء الكلمات، وهي التي يسميها أهل فن الطباعة: حروفاً (من الأول)، على أن تختار الكاف المبسوطة وتظل حروف الألف والدال والذال والراء والزاي والواو والتاء المربوطة واللام ألف - باقية على صورتها في حالت إفرادها.
وقدم الأستاذ مثالاً للطريقة التي يقترحها، منه ما يلي:
(أريد أن نقتصر من صور الحروف عليه بصورة واحدة).
ويرى قراء الرسالة هذا البحث القيم منشوراً في هذا العدد والذي قبله. وقد التقيت بالأستاذ تيمور بك وحدثته في أمر هذه الطريقة من حيث ما يلقاه الذين اعتادوا الكتابة الحالية من مصاعب في الكتابة الجديدة، فقال إن هذه الطريقة خاصة بالمطبعة، أما الكتابة باليد فتظل على حالها، أسوة بما يجري في اللغات الأوربية.
ولكن ألاحظ أن الكتابة الأوربية اليدوية تشتمل على حروف الضبط كما تشتمل عليها الكتابة المطبعية، بخلاف ما تكون عليه الحال في الكتابة العربية المقترحة، فيكون الشبه من حيث الشبك وعدمه فقط.
ورأى أن أهم اعتراض يوجه إلى تلك الطريقة، أن عمال الصف في المطبعة لن يستطيعوا صف الكلمات مشكلة وهي مكتوبة لهم مهملة، فإذا كلفنا الكاتبين المطبعين أن يشكلوا لقوا في ذلك جهداً وعنتاً، ولا يخفى مع هذا أن أكثرهم لا يعرفون ضبط كثير من كلمات اللغة،(919/46)
وكم يستر عدم الشكل من جهل!
مسرحية الجلف ومريض الوهم.
جالت (فرقة المسرح المصري الحديث) جولتها الأولى على مسرح الأوبرا الملكية في شهر نوفمبر الماضي، إذ قدمت مسرحيتي (أبن جلا) لتيمور و (البخيل) لموليبر، وقد حدثت القراء عنهما في ذلك الوقت. وهاهي ذي تبدأ جولتها الثانية على مسرح الأزبكية، لتقدم في حفلة واحدة مسرحيتي (الجلف) لتشيكوف و (مريض الوهم) لموليير، وهما من إخراج الأستاذ زكي طليمات وقد بدأت يوم السبت الماضي.
قدمت أولاً (الجلف) وهي تمثيلية قصيرة تستغرق نحو خمسين دقيقة، تظهر في منظر واحد تبدو به السيدة الشابة (بوبوف) في ثياب الحداد على زوجها المتوفى منذ سبعة أشهر، وهي على رغم ذلك تبكي وتنشج حزناً عليه، وهذا أيضاً على رغم أنه كان يخونها ويهملها أحياناً، كما تقول في مناجاة صورته. ويقتحم عليها هذه العزلة رجل ثائر يطالبها بدين كان له على زوجها، وهو يستعمل في مطالبته العنف وعدم المبالاة بما يحسن في مخاطبة النساء، بل ينهال عليها وعلى جنس النساء شتماً وتقريعا، كل ذلك لأن يريد دينه اليوم وهي تستمهله إلى بعد غد. وتنشب بينهما مشادة يدعوها فيها إلى المبارزة. . أليس (جلفاً)؟
ويأخذ تشيكوف (مؤلف المسرحية) في معالجة الموقف بحيث يجعل الميل والاستلطاف يداخلها فيجتاز بهما البرزخ الدقيق الذي بين الكره والحب. . فينطقان بعبارات الثورة والغضب وهما يشعران بالحب، فلا ينزل الستار عليهما إلا حبيبين.
فالصراع في المسرحية بين حالتين لدى كل من الجلف والسيدة بوبوف، فالأول جرب النساء وأقتنع أنهن لا يستحققن الاهتمام، ولكنه يجد نفسه أمام امرأة تغزو قلبه من جديد؛ والأرمل المتغالية في الحداد على زوجها وقد اعتزلت الناس لا تستطيع مقاومة هذا المقتحم الجبار، ويخيل إلى أن المؤلف فتح لها الباب إلى هذا الحب الجديد بأن زوجها كان يخونها ويهملها.
ومما تبطنته المسرحية، الالتفات إلى ما تطالب به المرأة من مساواة الرجل، فلتكن المبارزة من قليل المساواة التي تطلبها: كما يقول الجلف مبرراً خشونته وقسوته.
وقد قامت ملك الجمل بدور السيدة بوبوف، فاثبتت قدرتها على تمثيل العواطف الدقيقة،(919/47)
وقام محمد السبع بدور الجلف فأجاد، وأظهر ما في إجادته أنه كان يبرز الانتقالات المختلفة في الموقف الواحد بتعبير الإلقاء والحركة. ومثل احمد الجزيري (لوكا) الخادم العجوز فقام به على وجه لا بأس به.
ثم قدمت بعد ذلك مسرحية (مريض الوهم) فاستغرقت بقية الوقت ومريض الوهم هو السيد (ارجان) الذي يعتقد أنه مريض وأن (حياة له بغير الطب والأطباء، على حين يبدو في غاية الصحة والعافية. وهو لذلك يريد أن يعقد الأواصر بينه وبين الأطباء كي يولوه عنايتهم، ويصل به الأمر إلى أن يحاول التضحية بسعادة أبنته (انجليكا) إذ يريد أن يزوجها بالطبيب (توما) غير عابئ بحبها للشاب (كليانت) الذي أغرمت به وأغرم بها. وتظهر مع مريض الوهم الخادمة (توانيت) التي تعنى به، وهذه الخادمة تقف على دخائل هذه الأسرة وخاصة موقف السيدة (بلينا) من زوجها مريض الوهم الذي تخدعه بإظهار الحب له والعناية به وتتحايل على استلاب ماله والتخلص من ابنتيه إذ تشير عليه بإدخالهما الدير. وتعمل الخادمة (توانيت) على إصلاح هذه الأسرة فتحل مشاكل أفرادها بتدبيرها الموفق، فتظل تساير الرجل في ميوله وتسخر منه أحياناً. ويأتي غليه أخوه (بيرالدو) الذي يخالفه في الفقه بالأطباء، فينتقد مسلكه ويحمل على الأطباء ويؤكد له أنه في صحة جيدة، ومما يدل على أنه في غاية الصحة أن أدوية الأطباء لم تؤثر فيه ولم تقض عليه إلى الآن: وتعمل (توانيت) على ذلك أيضاً من ناحية أخرى وبأسلوبها الخاص من حيث الاحتيال وتدبير المفاجآت. وينتهي الأمر بأن يقتنع السيد أرجان أنه يستطيع هو أن يكون طبيباً. ولا يكلفه ذلك إلا أن يلبس المعطف والقبعة ويحفظ بعض الأسماء اللاتينية وينطقها كما ينطق بها هؤلاء الأطباء الذين لا يفضلونه ولا يزيدون عنه علماً.
تصور المسرحية - إلى جانب تحليل نفسية مريض الوهم - دجل الطب وشعوذة الأطباء في عصر موليير قبل التقدم العلمي في العصر الحديث. وقد قدم نماذج عجيبة من الأطباء وسخر بهم وأضحك منهم. ولا بد أن كان لهذه المسرحية في وقتها وقع عظيم لأنها تعالج ناحية كانت ظاهرة في ذلك العصر، ومع أن تلك الظاهرة غير موجودة الآن فإن البراعة في تصوير الشخصيات، وتكرر شخصية مريض الوهم في العصور المختلفة، وسياق المآسي الإنسانية في أغلفة الفكاهة - كل ذلك يكسبها جدة وقوة في كل وقت.(919/48)
وقد مثل مريض الوهم عدلي كاسب، وكان ملائماً للدور كل الملاءمة، فأندمج فيه. ومثلت الخادمة (توانيت) سناء جميل وهي فتاة تمتاز بالحيوية والقوة في تمثيلها. ومثل (كليانت) صلاح سرحان فكان قوياً في موقفه وقد استطاع بقوته الجدية التي يتطلبها موقفه أن يثبت بجانب الشخصيات الفكاهية الطاغية، مثل سعيد أبو بكر الذي مثل (توما) والذي فجر الضحك من أعماق الجمهور، ومثل أحمد الجزيري الذي مثل الطبيب الأكبر والد (توما) وقد كان الجزيري هنا أحسن منه في مسرحية (الجلف) واستطاع عبد الغني قمر أن يفني في شخصية المسجل العجيبة رغم ما فيها من تعقد والتواء. وقامت زهرة العلى بدور (انجليكا) فكانت معبرة في مواقفها المختلفة وقد تحسن إشباعها للنطق العربي عن ذي قبل وقامت سميحة أيوب بدور الزوجة المخادعة الناعمة، وأعتقد أن الدور كان يتطلب منها أكثر مما بذلت. وقام محمد السبع بدور أخي مريض الوهم، فلم يحسن فيه بمقدار ما أحسن في دور (الجلف) مع أنه كان يتحدث عن آراء موليير في الطب والأطباء، فلم يف تمثيله بأهمية الدور.
وجهد الإخراج في هاتين المسرحيتين يتجلى في الممثلين والممثلات أنفسهم، فإن الأستاذ زكي طليمات يخرجهم كما يخرج الرواية، وقد أحسن تنسيقهم على المسرح، واجتهد في تحسين المناظر وتجديد الأثاث البالي الذي عرف به مسرح حديقة الأزبكية. ولكني لاحظت أشياء صغيرة في منظر مسرحية (الجلف) فهناك مكتب أعتقد أن في (سوق العتبة) ما هو خير منه. . وإطار مرآة يحيط بغير مرآة. . . ومع ذلك فقد كان البطلان ينظران فيه. . وقد أمسكت السيدة بحبل معلق بجدار الغرفة لتستدعي الخادم والمفروض أن الحبل متصل بجرس في الداخل ولكن لم يسمع أي صوت لهذا الجرس.
ولا يستطيع القلم أن يمسك عن الكتابة قبل أن يزجى التحية إلى هذه الفرقة التي أنستنا أنها ناشئة، وقبل أن أبدى الإعجاب بهذه الروح التي تشيع فيها فتجعل كل فرد منها يعمل لإنجاح الجميع، وقبل أن أعرب عن سروري ببدء. حياة جديدة للمسرح المصري.
عباس خضر(919/49)
البريد الأدبي
رداً على رد:
في عدد سابق من الرسالة الغراء كنت كتبت في (البريد الأدبي) كلمة حول مقال للأستاذ الخطيب الطبيب حامد الغوابي في صدد كلامه على الخمر وقصر العمر وإحصائيات شركات التأمين على الحياة. . وقلت فيها إن العمر لا يقصر بشرب الخمر مستشهداً بقوله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً). وقد تفضلت (الرسالة) فأوجزت ردها البليغ باستشهادها بقول الله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وكنت ارتحت إلى رد الرسالة ولم أشأ التعقيب عليه لأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولكن الأستاذ الدكتور الغوابي يتفضل بعد أن تفضلت الرسالة فيعلق على ما كتبته وما كتبته الرسالة زيادة منه في الإيضاح والإفصاح. . ونحن نشكر للأستاذ تفضله الجميل النبيل، ولكنا نختلف معه في قليل مما كتب وبه عقب؛ نختلف معه في أن شارب الخمر قد يطول عمره على شارب الحديد والكينا وأنواع الأدوية والعقاقير. . وقد يولد التوءمان فيشرب أحدهما الخمر من شبابه إلى مشيبه ويزهد الآخر فيها، ومع هذا يطول عمر الشارب ويقصر عمر الزاهد فيموت هذا ليمتد العمر بذاك ليشرب ويشرب سنين وسنين. .!
وقد يدهس (الترام) - كحد قول الدكتور - رجلين: شارب خمر وزاهداً فيها فيموت الزاهد وينجو الشارب. .
وقد يلقى مهووسان أرعنان بنفسيهما من حالق أو شاهق فيموت القوي والضعيف لا يموت. .
وقد يمتد العمر بالعليل الهزيل ولا يمتد بالقوي الصحيح لسبب ظاهر أو لآخر يعلمه الله. . وقد. وقد.
وإذاً فمن الواجب على الكاتب أو الباحث أو الطبيب ألا يخلط بين (العمر) و (الصحة)، وبين القضاء والدواء. فالدواء لا يمد في العمر إذا حل القضاء وإنما يخفف من وطأة الألم والدواء بإذن الله والأجل إذا حل معه الموت والوحي بالرغم من كل داء ودواء. .(919/50)
والله سبحانه وتعالى حين حرم الخمر في كتابه المنزل بين أن (إثمها) أكبر من (نفعها) ولم يحرمها لأنها تقصر العمر فلا يطول. .
والخمر في الجاهلية الأولى معروف أمرها بين القوم، ومن الجاهلين الشاربين من امتد به العمر حتى ذرف على المائة أو المائتين فمد في المعمرين. وفي الجاهلية الآخرة - أعني في هذا العصر الحديث - نجد مصادقة ذلك بين من نعرف ومن لا نعرف من الناس.
ويبقى بعد هذا أن أتوجه بسؤال آخر ينتظر الجواب: لنفرض أن مخموراً أو مصدوماً توفاه الله، فهل وفاه الأجل لأنه شرب أو صدم، أو هل شرب أو صدم لأن الأجل وفاه؟
وبعد: فالجواب الصحيح على سؤالنا هذا هو بعينه الجواب الصحيح على سؤالنا ذاك.
الزيتون
عدنان
حول محاضرة الدكتور ناجي
طالعتنا مجلةالرسالة بتعليق موجز على محاضرة الدكتور إبراهيم ناجي عن (الشعر العربي المعاصر)، وقد كنت أحد الذين استمعوا إلى المحاضرة. ولا بد أن أشهد أن التعليق الذي نشرته (الرسالة) لم يحاول أن يكون منصفاً.
مثال ذلك أن يرجع حضرة الأستاذ المعقب إلى عبارات التفكه التي وردت في المحاضرة على أنها أقوال جدية، كقول الدكتور ناجي إن لم يوجد شاعر تافه إلا لقي في الرسالة باباً مفتوحاً لشعره، ثم حاول التعليق أن يسخر من المحاضر، فيقول إن ناجي يعزي نفسه بأن الناس لم تحفل بشعره - لأن أكثر الشعراء الخالدين لم يفهموا في عصرهم. والواقع أن ناجي لم يذكر ذلك إلا في معرض الحديث عن الشاعر السوداني ميشيل يوسف التيجاني، وهو شاعر غير معروف، تنبأ له المحاضر بالشهرة في المستقبل، أما ناجي نفسه فلا أحسب أن عنده شعوراً بالنقص من هذه الناحية فقد خرج شعره عن آفاق مصر إلى حيث ترجمه المستشرقون.
ويقول الأستاذ المعقب في سخرية، إن شوقي سقط أمام ناجي! وما الذي يمنع؟ هل تقفون النجاح على الشاعر أم على الشعر نفسه؟؟(919/51)
ثم تفتخر (الرسالة) بأنها لم تلتفت إلى (ليالي القاهرة) فهل تريد الرسالة، وهي الصحيفة الأدبية الأولى في البلاد - أن تفتخر بإهمالها لديوان شاعر - مهما كان رأيها في هذا الشاعر؟؟ وهل هذه هي سمات محي الفن، وأبنائه؟
وإذا كانت هاك ثمة (عقد) بين الرسالة وبين الدكتور ناجي فإني آمل أن تحل هذا العقد، وتتلاشى، على الأقل حين تكون في مجال النقد الأدبي المتزن الذي تفيد منه النهضة الأدبية في البلاد.
حلمي حنا مقار
رجاء إلى معالي الدكتور طه حسين باشا
هذه قضية عاجلة نتقدم بها إلى معالي الوزير راجين أن تحظى لديه بالقبول
إن أبناء كلية اللغة العربية حريصون أشد الحرص على التحاقهم بالدراسات العليا بجامعة فؤاد، ولقد حفزهم إلى ذلك شغف بالعلم وكلف به. فليسمح لهم أبن الجامعة البكر أن يتقدموا إليه بهذا الرجاء. إذ ليس من سياسته أن يحرم من العلم راغب فيه وهو الذي جعل العلم حقاً للجميع كالماء والشمس والهواء. والجامعة المصرية يا معالي الباشا أسست ليلتحق بها المصريون وغيرهم كما جاء في خطاب المغفور له جلالة الملك فؤاد (أنني أبتهل إليه تعالى أن يجعل هذه الجامعة نافعة لطلاب العلم عموماً، ولشبيبتها المصرية خصوصاً، إذ أننا لم نقدم على هذا المشروع الجسيم ولم نسهر الليالي بسببه إلا لترقية هذه الشبيبة التي لا يكفيها امتيازها بالذكاء والنشاط والاجتهاد. بل نرى أن يتحتم عليها أيضاً أن تتحلى بفضيلتي الصبر والاستمرار لأنهما سر النجاح) فليس عجيباً بعد ذلك أن يتقدم أبناء كلية اللغة العربية إلى معاليك بهذه الأمنية وأنت الذي رأى أنه من الخير أن يسمح للأزهريين بالالتحاق بكلية الآداب بل نفذت هذه الفكرة فعلاً في وقت ما أفلا يجدر بنا أن نطمع في تحقيق أمنيتنا في هذه الآونة التي احتفلت فيها مصر بالعيد الفضي لجامعة فؤاد. ذلك فضل عظيم يضم إلى أفضالك التي لا تحصى.
يا معالي الباشا: نريد أن نحلق في هذه الآفاق الرحيبة. نريد أن نلتحق بالدراسات العليا في كلية الآداب ما دمنا مصريين نحمل مؤهلات عالية.(919/52)
رغبة ثانية وهي شقيق الأولى وهي أن يتكرم معالي الباشا فيجعل لنا الحق في الالتحاق بمعهد اللغات الشرقية ما دمنا متساوين مع كلية دار العلوم في اللغات الشرقية.
رغبتان أكيدتان نرجو أن يتقبلهما صدر الوزير. ولن يتنافى ذلك مع ما يهمسون به من إعادة تخصصات المادة إذ أن أبناء كلية اللغة العربية يريدون أن يكون لهم الحق في الدراسات العليا في جامعة فؤاد حيث البحث المنتج وحرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال؛ لأن ذلك هو أساس التعليم الجامعي وليس الحفظ والتصديق لكل ما يقال كما يسجل معالي السيد لطفي باشا في مقال له. فمن أراد من أبناء كلية اللغة أن يلتحق بتخصص المادة كان له ما أراد، ومن أراد أن يتوجه إلى الدراسات العليا في كلية الآداب وجد الطريق ممهداً أمامه، وأخيراً: نأمل أن يعجل معالي الباشا بتحقيق هاتين الرغبتين.
عز عمر
أين المراجع:
قرأت المقال الممتع الذي كتبه زميلي الأستاذ محمود رجب البيومي تحت عنوان: أديب يتعاظم.
وقد لاحظت أن صديقي الفاضل قد وعد القراء في مقدمة حديثه بذكر المراجع التي أعتمد عليها ليبراْ من التقول أمام الأستاذ محمد كرد علي - ومن العجيب أني بحثت متعمداً عن هذه المراجع في هوامش الرسالة، وفي خاتمة المقال فلم أجد لها ظلا. فهل نسى الكتاب وعده أم احسن الظن بجميع القراء. وهم في بعض حالاتهم لا يفطنون إلى مراجعه الدفينة في حفائر المكاتب
فلعل الأستاذ يسمح بذكرها للقراء براً بوعده.
محمد خالد حنفي(919/53)
العدد 920 - بتاريخ: 19 - 02 - 1951(/)
الدين والسلوك الإنساني
ـ 4 ـ
للأستاذ عمر حليق
شغل (دير كهايم) في إمعان وروية بالتعرف على الحقائق التي تكن وراء القداسة والألوهية والمثل والقيم الإضافية والمعاني الفاضلة التي تنطوي عليها.
فأنكر أن المقدسات هي مجرد تعبيرات عن المؤثرات الخارجية المستمدة من البيئة والتاريخ، كما أنكر أن تكون وليدة الوراثة بمعناها الواسع.
فالقول بأن القداسة هي تعبير مستمد من البيئة والتاريخ ينفيه ما سجله (دير كهايم) من أنها (أي القداسة) رمز مستمد من الغريزة الفطرية. وفوق ذلك فإن تغيير البيئة واستمرار التطور في تاريخ الفكر لم يذهب بالرموز القدسية والحياة الدينية المعبرة عنها.
والادعاء بأن القداسة هي وليدة الوراثة وما أكتسبه الفرد عن أسلافه من ذخيرة فكرية واتجاهات عاطفية وطبائع أخلاقية لا يتفق وحقيقة الواقع في عالم عناصر الوراثة فيه واسعة متشعبة تفاعلت فيها عدة مؤثرات ثقافية وعاطفية تسربت غليها من الخارج. ومع ذلك فقد بقى جوهر القداسة سليماً في تأثيره الروحي والاجتماعي على سلوك الإنسان.
فإذا سجلنا إذن على ضوء هذا الشرح أن وراء المقدسات حقائق راسخة، وأن هذه المقدسات (على تعدد أنواعها وألوانها) بالغة الأثر راسخة النفوذ في السلوك الإنساني؛ فإن لنا أن نبحث في علاقتها بالحياة والأوضاع الاجتماعية.
فالمثل والأخلاق التي تضبط سلوك الفرد تستمد سلطتها من الاختبار الديني الذي قيد الفرد بنظم وقوانين يسير عليها في علاقته بربه ومجتمعه. والثابت عندنا أن الله عز وجل (وهو قدس الأقداس) حقيقة راسخة، وأن علاقة الفرد بربه علاقة منشؤها غريزة فطرية موهوبة وليست مكتسبة. فلنا إذن أن نبحث في علاقة الاختيار الديني بالمجتمع الإنساني الذي وضع الله له نظماً وقوانين وقيماً أخلاقية ووضع دير كهايم بعد هذا الاستنتاج كلمته الشهيرة: -
(إن الله (عز وجل) هو رمز المجتمع الصالح)
وثار بعض النقاد أول الأمر على كلمة دير كهايم هذه وخابت آمالهم في رجل ابتدأ في(920/1)
حماس يدافع عن روحانية الدين إزاء مادية الطبيعيين، ثم ما لبث أن خرج (في رأيهم) باستنتاج أكثر مادية. فالمجتمع ملموس والله عز وجل حقيقة قدسية يدركها الناس بالعقيدة والإيمان فكيف يصح القول بأن الله جل جلاله رمز لشيء مادي؟ وقال دير كهايم وأنصاره إن هذه الثورة لا موجب لها. فالحقيقة الاجتماعية التي وضعها دير كهايم ليست من الأشياء الطبيعية التي يلمسها الناس لمسهم الصخرة والشجرة والحديد والماء؛ إنما هي (سلوك جماعي) يشترك في التعبير عنه أفراد المجتمع كما لو كانوا فرداً واحداً. وأوضح دير كهايم الفرق بين الفكر الفردي والفكر الجماعي وقال بأن اختيارات الإنسان الفردية الخاصة به وسلوكه النفساني والروحي يختلف عن اختياراته متضامناً متكافلاً مع أفراد الجماعة التي تعيش فيها ويشاركها الخير والشر. والمجتمع في رأي دير كهايم كيان لا وجود له إلا في تفكير الفرد وشعوره.
هذا الفكر الجماعي هو من أبرز ما اهتم به دير كهايم في معرض معالجته للدين والسلوك الإنساني، فاختبار الجماعة عند دير كهايم حقيقة اجتماعية لا علاقة لها بالماديات التي تكلم عنها الطبيعيون.
إذن فعلاقة الله عز وجل بهذه الحقيقة الاجتماعية ليست علاقة مادة، والقيم والمثل الفاضلة التي جاءت بها التعاليم الدينية لم تقتصر على علاقة الفرد بربه وإنما شملت كذلك علاقة الكيان الاجتماعي بالعزة الإلهية، وذلك لأن الفرد عضو في الجماعة وسلوك الإنسان فرداً يختلف عن سلوكه متضامناً م الجماعة.
وقد ركز اكثر المصلحين من أهل التقوى والإيمان اهتمامهم إلى سلوك الإنسان الفردي وأهملوا معالجة سلوكه الجماعي. ولما كان هذا السلوك الجماعي مميزاً عن السلوك الفردي بصفات واتجاهات وطبائع وشاعر خاصة فلذلك استوجب على المصلحين أن يقوموا أكثر فأكثر على توجيه السلوك الجماعي على ضوء التعاليم السماوية. وشرح دير كهايم في حماس كيف أنه جعل اهتمامه أن ينفي الصبغة الطبيعية المادية عن طبيعة السلوك الجماعي ويثبت صفاته ومميزاته الروحية.
ثم زادت الحاجة إلى دراسة علم الدين الاجتماعي دراسة عملية وتعميمها والدعوة لنشرها ما وجد المصلحون لذلك سبيلاً. وما لبث دير كهايم أن وقع فريسة التطرف في التحليل(920/2)
والتعليل والتعصب لآرائه شأن معظم الذين يكتشفون لوناً جديداً من ألوان المعرفة فيندفعون في حماستهم دون التريث ولا إمعان. متخطين فروع المعرفة الأخرى بالرغم مما فيها من عناصر وحقائق لا تقبل جدلاً ولا إنكاراً.
واندفع دير كهايم في أبحثه ينادي بما فحواه أن وظيفة الدين الاجتماعية يجب أن تفوق وظيفته الروحية؛ وهذا ما يستدعي في نظر دير كهايم أن يتحكم علم الاجتماع في رقبة الدين وتعاليمه.
وقام باريتو (وهومفكر إيطالي جليل الشأن) يصلح ما أفسده دير كهايم بطريقة غير مباشرة. فأصر باريتو في تراثه الضخم أن سلوك الجماعة (السلوك الجماعي عند دير كهايم) ينقصه في أغلب الحالات الرشاد والإدراك الإيجابي الشامل بطبيعة الأشياء ومعانيها الكاملة. وأن من المستحيل أن يتحقق للجماعة في سلوكها الرشد المنطقي كما اصطلح باريترد على تسميته ولذلك فتحكم علم الاجتماع (السوسيولوجي) في رقبة السلوك الديني مناف للمنطق السليم؛ ذلك ألان علم الاجتماع يستمد عناصره من سلوك الجماعة ويبني مبادئه واستنتاجاته عليها. وهذا السلوك كما أصر (باريتو) بينه وبين المنطق السليم صداقة مفقودة.
لعل من المفيد أن نسجل هنا بأن دير كهايم أخذ فيها بعد بوجاهة هذه الآراء التي بشر بها (باريتو) فعدل من تطرفه ثم أمعن في دراسة (الحقائق المادية الملموسة) على ضوء فلسفة المعرفة ليثبت أن معرفة الناس للحقائق المادية لا يمكن أن تقرر على أساس المحسوس والملموس. وكان هدف دير كهايم أن يثبت للطبيعيين أن استشهادهم بالحقائق المادية في تهجمهم على الدين هو استشهاد باطل. فالناس لا يعرفون الأشياء بخواصها المميزة وأوصافها الطبيعية فحسب وإنما يعرفونها بالأفكار والمشاعر والاحساسات التي تؤثر بها تلك الأشياء في سلوك الفرد والمجتمع.
فالفلاسفة مثلاً هم نقيض العلماء الطبيعيين من حياتهم (أي الفلاسفة) شغلو بمصادر المعرفة غاضين الطرف في أكثر الحالات عن العالم الطبيعي الذي يعيش الناس فيه.
ومثل هذا الإهمال ينطبق بصورة عكسية على اتجاهات العلماء الطبيعيين الذين حصروا اجتهادهم في التعرف على الحقائق المادية في الأجسام والظواهر الطبيعية (الفيزيولوجية).
وكلا الاتجاهين ناقص في رأي دير كهايم. فالكمال في البحث العلمي لا يتم إلا بالتعرف(920/3)
على الحقائق الاجتماعية التي لا يمكن أن تعد في حساب الفلسفة وفي عداد الحقائق الطبيعية المادية لأنها ظواهر اجتماعية بينه يدرك الناس أهمية الدور االذي تطلبه في مجرى السلوك الإنساني.
وفي رأي دير كهايم أن الفلاسفة يستمدون مادتهم الخام من هذه الظواهر سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا. وعلماء الطبيعة لم ينصبوا علة معالجة الحقائق المادية إلا ونصب أعينهم توجيه هذه الحقائق الاجتماعية نحو قسط أوفر من الكمال. والعلماء في انصبابهم على الحقائق المادية أهملوا التعرف على الحقائق الاجتماعية.
هذا هو محرر النهج العلمي الذي استنبطه دير كهايم فأثار إعجاب الناس. والدارس لآثار دير كهايم يلمس صعوبة المعارج التي سلكها باحثاً للتعرف على جوهر الدين والسلوك الإنساني. فالصلة بين الروح والمادة لا تتم إلا عن طريق الحقائق الاجتماعية، طريق الحقائق الاجتماعية ليست في حد ذاتها مادة مجردة أو روحانية مجردة وإنما هي الظواهر تلعب دوراً رئيسياً في النظام الكوني. ويترك دير كهايم في بلبلة فكرية إزاء هذا المنطق اللوبي ولكنه يمضي في الدراسة والاستقراء والبحث والاستنتاج على أسس هذا المنهج العلمي وهذا المنطق اللوبي. فهو يقدر أن الفوضى في السلوك الإنساني (فردياً كان أم جماعياً) لابد وأن تنتظم وتستقيم بفعل المعرفة الصحيحة للحقائق المادية. ولكن سيطرة الحقائق المادية علة التفكير والسلوك الإنساني. لابد أن تخلق عاجلاً أو آجلاً نوعاً آخر من الغموض والاضطراب الروحي والنفساني؛ ولا يحل هذه الأزمة إلا تدخل النظم الاجتماعية (أو الحقائق الاجتماعية في لغة دير كهايم). والناحية الاجتماعية في التعاليم الدينية من الأهمية بمكان عظيم لأنها تقوم بعمل مزدوج؛ فهي تعزز الغريزة الروحية من جهة، وتصون الحقائق الاجتماعية من جهة أخرى. فإذا تسنى لرجال الدين والذين يحملون لواء الدعوة له أن يضيفوا إلى تراث الدين الروحي والاجتماعي مادة جديدة تستمد إقناعها من الحقائق المادية سياسية كانت أو اقتصادية أو تكنولوجية فإنهم يساهمون بالقسط الأكبر في تنظيم السلوك الإنساني تنظيماً سليماً يحقق سعادة الدارين.
وأصبح دير كهايم سعيداً حين رأي المفكرين من رجال الدين والفلاسفة والعلماء في أوائل هذا القرن على وجه الخصوص يتجهون أكثر فأكثر لدراسة هذا الثالوث من الحقائق(920/4)
الروحية والمادية والاجتماعية، الأمر الذي دفع إلى الطليعة أهمية علم الاجتماع الديني في التفكير والسلوك الإنساني. وهذا الاتجاه يزداد أهمية وضرورة بازدياد الصراع بين المذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة التي جرت على المجتمع الإنساني ويلات الحروب وشر التفكك الاجتماعي ومرارة البلبلة الفكرية والنفسانية التي يعانيها المثقفون في هذا العالم بما فيه الشرق العربي.
وثمة مزية أخرى في مكانة الدين والدور الذي يؤديه في السلوك الإنساني، وأعني به (النظام) وما ينطوي عليه من استقرار روحي وفكري ومادي. وما تضار النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة شيوعية كانت أو رأسمالية أو فاشية إلا لاختلافها عن أوجه التنظيم وأسس المبادئ والوسائل التي تحقق النظام والاستقرار.
فالنظم الديكتاتورية ـ وهي وليدة استياء المصلحين من بطء النحو التقدمي للمجتمع وضعف الأداة لتحقيق النظام ومن ثم الإصلاح والتقدم والرفاهية ـ فاشلة في محاولتها هذه كما أثبت ذلك التاريخ الحديث والقديم لأنها وهي وليدة السلوك الفردي تحاول أن تكون تعبيراً للسلوك الجماعي. وشتان بين السلوكيين كما أخبرنا دير كهايم.
والديمقراطية في نظامها الحالي تدعي باطلاً أنها تعبير عن سلوك الجماعة ورغباتها لأنها حملت نفسها فوق ما تستطيع والدولة في نظم الديمقراطية المعاصرة قد فصلت نفسها عن الحياة الدينية. ومع أنها (أي الدولة) لم تقاوم السلوك الديني فقد سلبته بعض أسسه الجوهرية؛ فجردت برامج التعليم من المواد الدينية وتركت ذلك لمشيئة الفرد، وجردت المعابد والمؤسسات الدينية من مواردها الرسمية وتركتها عالة على تبرعات المحسنين الذين يتأثر مبلغ إحسانهم بالتقاليد الاقتصادية التي لا تعرف نظاماً ثابتاً ولا تتقيد باستقرار.
وحاولت الدولة الحديثة أن تقوم بأعباء الحقائق الاجتماعية التي كان يقوم بها الدين دون أن تستطيع تلك الدولة أن تندمج في العلاقة الثالوثية التي شرحها دير كهايم وهي الروح والمادة والمجتمع. وكان من جراء ذلك هذا الفشل الذي أصاب الديمقراطية في توفير النظام وتوطيد الاستقرار؛ لا في ناحية الروحية والنفسانية والفكرية فحسب بل حتى في فروعه السياسية والاقتصادية كذلك وحين يقف مفكر رزين كالأديب البريطاني ت. إس إليوت وغيره من المثقفين الممتازين ليناشد الدولة والمجتمع أن (يوفر للمعوزين قبل أن يوفرا لهم(920/5)
زجاجات الشمبانيا) لم يعن بذلك إلا لضرورة ربط الحياة الروحية بالحقائق الاجتماعية والترف المادي والفكري التي أغرمت به هذه الأيام الدولة وأصحاب الثقافة المادية من دعاة الإصلاح.
فالمشكلة إذن مشكلة نظام يراعي الحقائق الروحية الدينية إلى جانب اهتمامه بالحقائق الروحية الدينية إلى جانب اهتمامه بالحقائق المادية في حياة الفرد والجماعة.
وحين يراعي المشرعون وأصحاب الحل والعقد والفرد والجماعة والحقائق الأصيلة في هذا السلاح المثلث تكون الإنسانية قد لمست نقاط الضعف والقوة في هذا الاضطراب المرير الذي يعيث في مجتمع القرن العشرين فساداً.
(للبحث صلة)
عمر حليق
نيويورك(920/6)
الأمانة العامة. .!
للأستاذ محمد محمود زيتون
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل. .)
قرآن كريم
الأمانة فضيلة، والفرد إنما يكتسب الفضائل من المجتمع الذي هو المصدر الأول لكل فضيلة، فلا غرو إذا كانت (الأمانة العلمية) بمثابة (الطاقة) التي تنبثق من أرجائها أشعة الحق والخير، فتنعكس على الأفراد بالرضا والسعادة، ومن هنا يتلمس طريق الإصلاح الشامل ومن أراد القضاء على المشاكل التي يصطلى نارها كل من الفرد والجماعة على السواء.
وقبل أن نفرض هذا العبء الأكبر على الفرد، نرى أن المجتمع قد احتمله بطبعه، فإن الضمير الاجتماعي هو القياس السليم للحكم على الأمور التي تصدر عن الأفراد، بل هو المحكمة التي لا نقص ولا إبرام لأحكامها، فلا مناص من الرضوخ لها، والانصياع إليها.
والمجتمع هو (الأمين العام) على الحقوق والواجبات التي تنتظم بمقتضاها الحياة العامة، فلا مفر من الاسترشاد بأوامره، والإنصات إلى أصدائه الرنانة في جوانب الفرد حين يصدق عليه قول الشاعر:
وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
وتحقيق العدالة لطالبيها موكول أولاً وبالذات إلى الأمانة العامة، بعد أن تكون المنافذ قد سدت في وجوههم، فما هو إلا أن تعرض المظالم في وضع النهار، على سمع المجتمع وبصره، ولن تجتمع الأمة المستنيرة يوماً على باطل، ولن تنأى بجانبها عن إنصاف من يستنصرها، بكل سبيل مشروع، وذلك هو الواجب، الأول على الحاكمين والمحكومين علىالسواء، فليس بنا إذن حاجة إلى هذه البدعة الجديدة التي يسمونها (وزارة المظالم) فإنها غير ذات موضوع، من كل مجتمع مطبوع غير مصنوع.
بهذا تستجيب الجماعة لغريزة (البقاء الاجتماعي) التي تتطلب تنسيق الأعضاء من غير(920/7)
تناكر أو تنافر، وبدون إفراط أو تفريط. وعندئذ تكون (العدالة) حقيقية جارية، في الكيان العام، غير محتاجة إلى توكيد وجودها، أو البكاء على أطلالها، وحسبها أن يطرد النمو اطراداً ثابتاً تكون فيه النسبة محفوظة على الدوام بين الجميع، كخطوط العرض المتوازية التي لا تلتقي أبداً على سطوح الأرض على الرغم من دورانها حول نفسها وحول الشمس، وعلى الرغم من اختلاف الليل والنهار، مادام محمر الأرض عموداً مستقيماً على خط الاستواء بين الشمال والجنوب. إذن لابد من قوامين على العدالة حتى تختفي أشباح المظالم، وتتواري الهياكل المتجبرة التي تبغي العلو في الأرض بغير الحق، فلتكن العيون يواقظ متنبهة لتحذير المتنبي إذ يقول:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها ... حتى بشمن وما تفنى العناقيد
ونحن إنما ننشد لعناقيد الحق، هذه (النواطير) لا تلك (الطراطير)، ويومئذ ينقطع دابر كل ثعلب يتسلل نهاراً جهاراً إلى كل كرمة نام عن جناها، من بيده سقاها ورعاها. والذي نخشاه هو أن يتواكل الجميع يوم يتبدل الثمر الحلو في أفواههم مراً لا يذاق، فيصبح المرء لا يرى بعد الثعالب العنب، إلا طيور الحنظل، فلا يهش ولا ينش، وإنما يقول وقد عبس وتولى:
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره
أما إذا خشينا انهيار الصرح العظيم الذي بنيانه المرصوص مؤتلف من الآحاد والعشرات، أو الأفراد والجماعات، فما علينا إلا إجراء عملية (الصقل البشري) على الدوام، لننحت من الغرائز الحجرية قوالب متساوية، تنبض بالحياة، وينسجم بها البناء المتساوي السيقان، فلا يكون به نتوءات أو مغارات تأوي إليها حشرات الفساد، حيث نريد الإصلاح.
والتعهد المستمر للنفوس، يزيدها صقلاً ولمعاناً، ويكسبها كذلك مناعة طبيعية من الانحلال الخلقي، فلا تفسد مع الأهواء الطارئة، ولا تنحدر مع التيارات الجارفة، ولن يكون هذا التعهد ضامناً إلا بالأخذ من معالم القوة والعزة، ومعارف الخير والحق، مما يجعل الدين والآداب والتاريخ والعرف والقانون تسير جميعاً بالدارسين نحو تدعيم الأمانة العامة، وتقوية أركانها، لترتفع في أعاليها رايات العدات في مختلف أحجاما، ومتباين ألوانها وأجناسها.(920/8)
وليس يكفي أن تكون عين العدالة في يقظة لتحقق الأمانة العامة، وإنما ينبغي أن ينبغي أن تمتد يدها بالبطش غلى الجريمة، وإلا أفلت اللص بما سرق، وذهبت صرخات المطاردين أدراج الرياح، كما أنا تستلزم الفطنة في المييز بين السارق والمسروق، فقد نقبض بيد الحديد على برئ، ونطق سراح أثيم خادع الأمين العام فاندس في صفوف المطاردين، وهم يتراكضون خلف السارق المزعوم، فلما أعياهم اللحاق به نكص هو على عقبيه، ليقتسم الأسلوب مع الأبالسة.
وهيهات أن تتسرب شاذة أو فاذة من الأمانة العامة، إذا ألقت شباكها في الماء العكر، فهي إنما تتعقب كل من يعكر صفو السلام، مهما يكن لونه ومقامه، وإلا فإن قطع ذنب الأفعى لا يغني عن رأس الفتنة شيئاً. والجراثيم لا تتكاثر إلا إذا كانت درجة الحرارة مناسبة والمكان صالحاً، وعندئذ يتعسر اداء، ويتعذر الدواء.
ولما كان الخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، فإن الأمانة العمة هي أقوم خط بين الحق والباطل، وليس بينهما منطقة اشتباه، (فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال.) وليس حولهما كذلك إلا صحاري لعدم، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم سبيله. .)، ولهذا كان التمادي في الانحراف خيانة طامة، عواقبها غير مأمونة.
وليس أخون من تنحية الجندي عن صفه، وتعطيله من سلاح، واتهامه بعد ذلك بالتخفيف عن كتائب الجهاد، ليحرم من مكانه في مواكب النصر، وهو الهاتف:
سلاحي إيماني العتيد، وقائدي ... ضميري، وأجنادي من الشيم الغر
وهنا ننتظر الساعة التي فيها تتحطم الأهرام الثقيلة على قالبيها، ويومئذ يندمون على انصرافهم عن هدى (الأمين) المأمون عليه الصلاة والسلام إذ يقول: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل: فكيف إضاعتها يا رسول الله. قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وما كان أجدر أصحاب الحقول بحقوقهم حتى يستقيم الطريق، ويعتدل الميزان، وتعلو أصواتهم بالفخر المسنون:
وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها(920/9)
وويل للقطيع الي بشرد منه القاصي والناحي، فيصيح غنيمة باردة، تغري أشلاؤها كل وحش ضال بالاصطياد من تحت الريح. وهكذا المجتمع الذي يغفل عن رسالة (المرشد العام) و (الراعي الأمين) عليه السلام، إذ يقول (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأكل الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد).
ولو عرف كل امرئ قدر نفسه، لوضع نفسه حيث يجب أن توضع، غير طمع في العلا إلا بالحق والدور، وغير متظلم إلا من الهضم والجور، وبين يديه مؤهلات الشاعر الغيور:
متى تحمل القلب الذكي وصارما ... وأنفاً حميماً تجتنبك المظالم
وأف لمن يتخذ أكتاف الكرام سلماً لمآربه، يتنقل عليه من حزب غلى حزب، ليسود، وما كان ليسود لأن الحياء من الإيمان، والرفعة من التواضع، أو كما قال من قال:
سدت الجميع فسدت غير مسدود ... ومن البلاء تفردي بالسؤدد
وهل أوتي الوضيع هذا السلم الرفيع إلا في غفلة من الرقيب العام، يوم كانت الدولة لأقارب المتربع على الكرسي، يؤثرهم - للعصابة والقرابة - على من لهم الحق قبلهم، وهنا ينطق (أمين من في السماء) بقول الحق (من استعمل رجل من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين).
هذا بينما الأصيل الكادح، يئن تحت كل فادح، ويقول في مرارة:
وإذا تكون مهمة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وليس من الفضائل أحق بالصدارة من الأمانة لأنها جهاد النفس، وصراع الغرائز، وإبطال الباطل، وإحقاق الحق. طلع رجل على النبي وهو جالس بين صحبه فقال (يا رسول الله، أخبرني بأشد سيئ في هذا الدين والينه، فقال عليه السلام: ألينه اشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وأشده يا أخا العالية: الأمانة إنه لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له).
والحياة الإنسانية ما هي إلا مجموعة من (أحكام القيم) نصدرها على ما يقع في نطاق الحق والخير والجمال، ولا محيص من إعلان هذه الأحكام حتى يكون لكل عمل إنساني الحق في الثواب والعقاب، أو الاستحسان والاستهجان، وبذلك من أمارات الحيوية والاجتماعية.
قال أبو بكر الصديق: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم،(920/10)
لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يده أوشك الله تعالى أن يعمهم جميعاً بعقاب).
وما كان أحرص من رسول الله على الصرح الاجتماعي، والوحدة الشاملة! وما كان أشده استمساكاً بالعروة الوثقى، واعتصاماً بحبل الله حين يقول: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإنه من خالف الجماعة سبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية).
وبعد، فإنه إذا كان (دور كايم) اليهودي أول واضع لقواعد علم الاجتماع حين قال بنظرية (التماسك الاجتماعي) ' محمداً عليه السلام كان أسبق المفكرين جميعاً إلى وضع الدستور العام المستمد من الحياة الإنسانية في إمكانياتها العامة، وإذا كان قد عرف أول ما عرف بين قومه بأمانة قبل البعثة، فإنه كان الأمين الأول على مقدرات المجتمع في كل زمان ومكان، فمن أين تنفذ نظرية (الماركسية التاريخية) من هذا التراث الفولاذي الخالد الذي يكرم البشرية ويعصمها من مهاوي الزلل، بفضل (الأمانة العامة) وقد أعلى منارتها (كبير الأمناء) الذي أرسله ربه رحمة للعالمين.
وعسى أن يكون واضحاً الآن أن الأمانة إنما هي رسالة المجتمع قبل أن تكون فضيلة الفرد، وأنها الكنز القديم المدخر للإنسانية منذ الأزال حتى الآباد، وصدق الله تبارك اسمه إذ يقول (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً). إي والله إنه كان ظلوماً جهولاً!
محمد محمود زيتون(920/11)
رأي في تحديد العصر الجاهلي
بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي
صاحب العزة إبراهيم مصطفى بك عضو مجمع فؤاد الأول
للغة العربية
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولا نذكر التجاء اليمن إلى الفرس أعداء الروم ولا استعادتهم لنصيب من حكم بلادهم ولا سعي الفرس لبسط سلطانهم عليهم، وإنما نذكر أن بلاد العرب خلت من دولة تحكمها وتؤمن سبلها وتحمي تجارتها ووقعت في فوضى نرى بعض صورها في شعر كشعر الحارث بن حلزة إذ يقول:
هل علمتم أيام ينتهب النا ... س من غواراً لكل حي عواء
لا يقيم العزيز بالبلد السه ... ل ولا ينفع الذليل النجاء
ليس ينجي موائلاً من حذار ... رأس طود وحرة رجلاء
فهذا عندنا حد العصر الجاهلي العربي وتلك سماته التي أوحت إلى الشاعر القديم أن يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراه لهم ... ولا سراه إذا تجاهلهم سادوا
وإذا نظرنا إلى الجزيرة العربية في هذا القرن وجدنا آثار المعسكرات اليمنية ومعاقلها مبعثرة في أنحاء الجزيرة.
بنو الحارث بن كعب في جنوب الحجاز وكانوا يلقبونهم ملوكاً، والأوس والخزرج في شماله، وفي نجد طي وكلب وملوك كنده - وفي عمان الأزد وفي تخوم العراق المناذرة، وفي مشارق الشام الغساسنة، وكلهم ينتسبون إلى اليمن. وقد نشبت الحروب بينهم كل يريد الملك لنفسه كما فعل قواد الاسكندر في ملكه الواسع من بعده. وثار العرب ون غير اليمن وهم العدنانيون وتطلعوا إلى الاستقلال والتفرد بالسلطان، واشتعلت الحرب بين العدنانيين واليمنيين وبين العدنانيين والعدنانيين - ونهض كل مغامر طموح، وطمعت كل قبيلة ذات قوة أن تستبد بالسلطان وغلبت عليهم حمية العداوة والثأر ومضى شعرائهم يتغنون بفظائع الحرب:(920/12)
وحليل غانية تركت مجدلا ... تحكو فريصته كشدق الأعلم
فشككت بالرمح الأصم جنانه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
فتركته جزر السباع ينشنه ... ينحضن حسن بنانه والمعصم
كأن جماجم الأبطال فيها ... وسوق بالأماعز يرتمينا
نجز رؤوسهم في غير بر ... فما يدرون ماذا ينفرونا
ولكن حياة العرب - كما قدمنا - تعتمد على التجارة ورزقهم منها ولابد أن يتجروا ليعيشوا - والأثر الوارد: تسعة أعشار الرزق من التجارة. والرسول كان منذ الصبا تاجراً وأبوه وعمه وجده تجار، وزوجه خديجة ترسل في التجارة أموالها وبسبب من التجارة كان زواجها - وأبو بكر وعمر وعثمان تجار، وما شئت من وجوه الصحابة وأشراف العرب كانوا يعملون في التجارة.
واللغة نفسها تحمل أثر التجارة وغلبتها على أعمالهم؛ فالإيمان تجارة لن تبور، وتجارة تنجيكم من عذاب أليم، والله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. والمؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وعهد الخلافة بيعة.
فلا بد لهم من تجارة ليعيشوا ويرتزقوا. ولا مناص لهم من الحرب ليثأروا ويتسلطوا، ونا عظمت شعائر الأشهر الأربع الحرم. وشاعت البيوت المحرمة الآتية وكان أمجدها بيت قريش بمكة، وحرم الله الذي امنن به القرآن على قريش (أو لم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم).
وبدت عادة التحالف وتضام بعض القبائل إلى بعض والحرص على العهد والوفاء بالعقد.
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه - العهود والكفلاء
حذر الطيش والتعدي وهل ... ينقض ما في المهرق الأهواء
وبدت نغمة التحذير من الحرب والثناء على السلم وتمجيد مساعيه:
يميناً لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما أن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على الخير منها موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومأثم(920/13)
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضربتموها فتضرم
والشعر لزهير في معلقته. وولداه كعب وبجير قد لقيا المصطفى وآمنا به.
فهذا تحديد العصر الجاهلي وتلك ملمحه ومعالم حوادثه، يبتدئ بفقد حكومة البلاد وضياع أمنها واضطراب نظامها في سنة 525 وينتهي بقيام الحكومة التي تقر السلام وتنشر الأمن في سنة 622 وما بينهما عصر الجاهلية والفوضى والتناحر على السلطان ومنذ بدا لي هذا الرأي جعلت أختبره فيما أقرأ من أخبار فأرى حوادث الجاهلية تمضي في حدوده منسجمة منسقة متضامة يوضح بعضها بعضاً.
وأجد من الشواهد في تاريخ الأمم المجاورة ما يؤيده.
فالغساسنة كانوا يتخمون الروم في الشام قبيل الإسلام ولهم مع الدولة البيزنطية صلاة مدمنة نرى أنها مرت بحالتين: صلة الجار المجاور الذي يسالم ويحارب، وصلة التابع الذي يستمد ولايته الشرعية توليته غيره.
وللمستشرق العظيم نلدكه بحث تاريخ أمراء غسان كتبه وهو شاب لينال به الدكتوراه ثم رجع إليه بالتحقيق بعد النضج وبعدما ظهرت مستندات من تأليف المعاصرين من السجلات الرسمية في الكنائس وغيرها - وقرر أن أقدم اتصال للغساسنة ببيزنطة اتصال التابع المستعين كان في زمن الحارث الأكبر من سنة 529 إلى سنة569 إذ أنعموا عليه ثم على ولده من بعده بلقب بطرق وهو لقب حكام الأقاليم عندهم. وتفسير ذلك عندي أن الغساسنة وهم يمنيون كانوا يستمدون سلطانهم من دولتهم اليمنية ويجاورون الروم مجاورة الجار قد يسالم وقد يحارب؛ فلما زالت دولة اليمن وجاءهم الحرب من حيث كانوا يلتمسون العون اضطروا إلى الاستعانة بالروم واستمداد السلطان منهم. ونعلم أن العربي لا يقبل هذا إلا بعد القهر والقسر.
وفي بلاد تخوم العراق كان المناذرة ملوك الحيرة وكانلهم اتصال بملوك الفرس من آل ساسان.
ونقرأ من أخبارهم أن (يزدجرد) أرسل ولده (بهرام) ليتربى في بلاط المنذر بالحيرة.
وأن (يزدجرد) لما مات ثار الفرس رافضين أن يتولى أحد من أولاده لما كانوا يكرهون من(920/14)
حكمه؛ وأن بهرام استعان بالمنذر وولده النعمان في جيش قدروه بثلاثين ألفاً وبهم تمكن من الجلوس على عرش أبيه، ولا أرى هذا صورة التابع الخاضع، وقد كان ذلك سنة 420.
ولكن في زمن كسرى أنوشروان نرى المنذر الثالث يتولى السلطان من يد كسرى، وحكم كسرى من سنة 531 إلى سنة 578 والمنذر قتل في واقعة محددة التاريخ سنة 554 واستمر الأمر على ذلك يولي الفرس حاكم الحيرة من المناذرة - وربما ولوه من غيرهم كما ولوا عليها إياس بن قبيصة الطائي.
فهذه أسرة يمنية أخرى تبدلت طبيعة اتصالها بجارتها بعد أن سقطت دولة اليمن سنة 525.
وفي داخل الجزيرة كان امرؤ القيس آخر ملوك كنده وقد حاربه المنذر الثالث وحارب أسرته نزاعاً على الملك وقتل كثيراً من أمراء كنده صبراً ويبكيهم امرؤ القيس فيقول:
ملوك من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
فلم يغسل جماجم بغسل ... ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا
وإذا كان المنذر يستند إلى سلطان الفرس فإن سبيل امرئ القيس أن يستعين بمنافسيهم الذين ينازعونهم الرغبة في التسلط على البلاد العربية وهم الروم ويقصد في ذلك إلى الحارث بن جبلة والحارث كما علمنا ولي من سنة 529 إلى سنة 569.
وهكذا نرى أن ما نكشف من تاريخ الحوادث يؤيد ما بدا لنا من التحديد.
فإذا تقرر تحديد العصر الجاهلي على هذا الوجه فتح باب لدرسه دراسة قوية؛ وكان ما بأيدينا من الشعر المروي مدداً كافياً لتنوير هذا العصر وتوضيحه.
فإذا أخذنا قبيلة واحدة مثل قبيلة بكر وهي أخت تغلب وكلتاهما من وائل - ووائل فرع من فروع ربيعه.
إذا أخذنا هذه القبيلة وجدنا أنا نروي لأكثر من خمسين شاعراً من شعرائها بينهم نحو عشرين يمكن أن يكون شعر الواحد منهم ديواناً؛ وخمسة لهم دواوين مطبوعة متداولة بأيدينا وهم عمرو بن قميئة وطرفة بن العبد والخرنق أخته والمتلمس والأعشى.(920/15)
وهو قدر كفيل أن يهدينا إلى معرفة واضحة لأحوال تلك القبيلة.
فإذا درست على هذا النمط كل قبيلة وتضامت أخبار القبائل ووضح بعضها بعضاً أمكن أن يكون بأيدينا تاريخ لهذا العصر أوضح وأصح وأثبت من هذه الروايات المبعثرة المشوبة بكثير من الخيال والمبالغة.
إبراهيم مصطفى(920/16)
خطرات وذكريات
في التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ منصور جاب الله
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذمم التشاؤم ويبدئ القول ثم يعيده في تهجينه وتشبينه، إذ كان الإسلام قريب عهد بالجاهلية، وكان للتفاؤل والتشاؤم دولتهما في تسيير شؤون الناس. وكان عليه الصلاة والسلام خبيراً بطبائع الناس وأمور معايشهم، وإذ بصر بالتطير بينهم شائعاً في الخطب الجسام وفي الأمر الدون نهى عنه وبغضه تبغيضاً شديداً، حتى لقد قرن التشاؤم بوقوع الشؤم ذهاباً مع ما يستشعره الوجدان من خفي النوازع ومتضارب الخوالج، ثم يكون عليها بعد ذلك من صميم الواقع شهيد.
وللرسول الأعظم أحاديث كثيرة في ذم التشاؤم مبثوثة في الأسانيد الصحاح، وإنها لخير مرجع للرائد والباحث في علوم النفس. ولقد كان التفاؤل والتشاؤم أثرهما في حياة الكثيرين من أعيان الأدباء والساسة. وعرف عن ابن الرومي أنه كثير التطير والتوجس فأغرت به هذه الغمزة من الضعف عداته وحساده، وطوعت لهم أنفسهم أن يتخذوا له من هذه الرذيلة مقتلاً يفوقون من خلاله سهام حقدهم وكيدهم، ويغيضوه ويردوه عن مكاسبه، فكانوا إذا أرادوا به كيداً أرسلوا إليه من يتطير باسمه، فظل الرجل ثاوياً في داره لا يبرحها وحوله أولاد جياع وأكباد تحن إلى القدر.
ولقد أفسحت رقعة الحضارة واستقام ميزانها، وارتفعت العلوم وانبسط رواقها، وانفتقت الأذهان إلى غاية مداها، ولكن النفوس بقيت مطوية على ما كانت عليه قبل عهد ابن الرومي وقبل إعصار الجاهلية من التطير وعكسه، والإيمان بهما إيماناً أعمى ليملك على الإنسان نفسه من سائر أقطارها.
ذلك لأن التفاؤل والتشاؤم منزعان من منازع النفس البشرية جبلت عليهما فأصبحا من تلك العاد التي تتعلق بالفطر والطباع، وأمسى أمر اكتناهها مما يعي الإفهام ويتبهم على العقول. وليس يمكن الوصول إلى تجريد النفس من التطير مما ترى فيه نحساً ولو على سبيل التظني والتوهم، إلا إذا يسر النفاذ إلى قداس الخوالج النفسية، وهان الوصول إلى أعمق ما يتحرك به الحس في انطواء الروح، وهذا ولا ريب من بعض المحال، وهيهات أن يبلغه(920/17)
عقل بحال من الأحوال!
للتفاؤل والتشاؤم دوافع وأسباب قد تنحدر أصلابها إلى ما يقترن بالواعية الباطنة، أو ما وراء الوعي كما يقول علماء النفس، أو ترتد إلى مراجع أخرى لها مقوماتها في علم النفس التجريبي، وهذا ما لا نجرؤ على القول فيه في كثير ولا في قليل لئلا يزل القلم ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
وواقع الأمر أن المرء ما يستطيع مدافعة التطير بوحي من عقله الواعي إلا على مضاضة وتململ وبرم، كذلك الإنسان إذا عراه ما يضحك فلابد له من الأستضحاك، أود دهاه ما يبكي فلا عليه من الاستعبار وإذا هو كبح حبوره كبحاً، أو كبت نشيجه كبتاً فهو معاني الأمرين بغير مشاحة. وكثير من الناس يتطيرون ويسرفون في الطيرة ويحسبون أنهم مانعهم تشاؤمهم من وقوع الشؤم وهو لا يغني عنه شيئاً. وفي التطير ما فيه من الثورة بالقدر والاعتراض غير المجدي على حكمة الخالق، وتشنئي به جل وعلا. ولعل هذا المعنى هم ما قصد إليه سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والتفاؤل هو الجانب الإيجابي الآخر، ولا يذهب في الضرر البالغ مذهب التشاؤم إلا إذا أسرف فيه حد يصيره إلى غاية الهوس أو الركون إلى الحياة الرتيبة الكسلى، أو التسليم بالأمر الواقع تسليماً يؤدي بالمجتمع إلى التداعي والخور، وعلى أي الحالين واجب الإنسان أن يكون قواماً بين التفاؤل والتشاؤم، وعدلاً بينهما ومقسطاً، فلا يسرف في جانب ولا يقتر في جانب، وإلا فالضرر واقع لا محالة.
وليس ما تقدم به الكلام تمهيداً بين يدي بحث علمي فمالنا في هذا المجال يدان، وإنما هو تقدمة لبعض ما يتصل بموضوع التفاؤل والتشاؤم، فلقد عبرت بي حوادث جمة في هذا السياق، عفي الزمان على الكثير منها وبقى في لوحة الذاكرة نزر يسير. وما أنس لا أنس حادثين وقعا لي مع بعض أصدقائي في زمنين متفاوتين، وكان في نفسي منهما أثران قويان، أحدهما إيجابي والآخر يميل إلى الجانب السالب، وإني لمثبتهما فيها يجيء من السطور.
في إحدى غدواتي إلى القاهرة ثويت إلى متجر صديق لي، حائك ثياب، وما اقتدت ببابه حتى أقبل على بعد ديباجه من التحية بألوان من الشكاية والضجر، ذلك لأنه قد جازت به(920/18)
طائفة من الزمن ويداه صفر من المال، وبضاعته المزجاة ضربتها السوق بالبوار، فتبطلت أنامله عن لفق الثوب ومخيط الدثار.
وطفق يحدثني صاحبي عن مضانكه التي يلقاها في حياته وخصاصة موارده وعجف مكاسبه في أسلوب يستسقطر العبرات الغوالي، حتى لقد ذهب إلى أنه لا يصرف ذياك النهار ويتقدم مساؤه إلا وقد أتى الله على بنيان متجره من القواعد، أو أتى هو على مصاريعه الواحد تلو الآخر وتركه على عروشه خاوياً، وزين لي أن لو قد خرجت عن يد وجدت عليه من وفاضي الخاوي بجزء من عشرة من الدانق لتقبله مغتبطاً عطاء غير مردود ولا ممنون!
وإذ سادر شكايته، وأنا أصيخ غليه السمع متوجساً مستريباً على نكرة واستثقال، هبط علينا فتى أمرد تأخذه العين، تبدو عليه إمارات النعمة، ويبين النبل في أطرافه، ويضوع الطيب من أدرانه وأعطافه، فسلم ثم سلم على غير سابق استعراف، وجيء له بكرسي استوى عليه في استحياء الشباب، ثم أراد أن يبلغ الغاية من مبغاه، فذكر في صوت لا يكاد يبين أنه نازح عن هذه الديار فمتوجه تلقاء باريس في طلب أواسط العلم وأعاليه، وهذا ما قصد من أجله صاحبي الحائك، فهو يروم تجهيز أربعة أثواب على الأنماط الفرنجية، وراح يشرح في إسهاب فني لا يمت إلى علمه، بصلة، فهذا على صفة كيت وكيت، وهذا على هيئة ذيت وذيت، وهذا من الطراز الفلاني، وهذا حسب النموذج العلاني، وهكذا حتى استوفى بيانه الشافي وضرب موعداً لنتخاب طلبته لا يزيد على أسبوعين.
وبعد ما عاين صديقي الحائك جسد الفتى وسمته وقاسه من قدام ومن خلف، ومن يمين ومن شمال، تقدم غليه بالحساب الدقيق عن الأجر الذي يقتضيه لقاء صنعته، وما يستلحقها، وعند هذا الحد رأيت الشاب ينتزع حافظة نقوده من جيبه كلمح البصر، وينقد الحائك جملة من الدنانير خفي علي عديدها، وإن لم يخف علي ما أحدثت في نفس صاحبي من أثر إيجابي ما يقوى على وصفه حجر ولا يراع، فانبسطت غضون وجهه والتمعت حدقاته، وطار به الجذل أي مطار.
وما أن انصرف الشاب حتى نظر إلي صاحبي نظرة جمعت له الزمان كله، وكان أن هم بعناقي وكأن به جنة أو عراه هوس، ولكنه عاد يشرح لي مقدار تفاؤله بمقدمي إذ يسر له(920/19)
الأمر، وتفرج الكرب، وعلم الله ما كنت سبباً في شيء مما حدث، وإن كان مدعاة لسروري أن أرى صديقاً لي أثيراً عندي يزيح الله همه ويرزقه من حيث لا يحتسب.
ولا يغني اعتذاري عني شيئاً، ولا ارتباطي بموعد استبق هذه الزورة وعسير الفكاك منه، أن أمسي ضيقاً عنده، وكان أن ذبح لي دجاجة ليس كمثلها في الدجاج! وقعت عليها فطويتها وملحقاتها من المرق والإدم، حتى لحقني البشم وعييت عن التنفس والكلام!
ومن يوم هذه الواقعة أضحيت اثيراً عند صديقي الحائك، وزاد في إعزازي عن ذي قبل، فكان يجد في تعقبي كلما أطلت الغياب، ويترصد مظاني كنت حيث كنت، ورأيت هذا منه فأبيت إلا أدالاً عليه، لأعرف منزلتي عنده، فكنت أشيح عنه كلما رأيته، وأفر منه كلما رآني. وإن يشهد مني ذلك سيتضحك كثيراً ويصيح لي: أيها الخبيث المكار! وظلت هذه حالي معه حتى حالت بيني وبينه ظروف المكان، فنزحت الدار وشط المزار، وإني اليوم وإن كنت أستحس برجاء الألم لفراق ذياك الصديق ما برحت أجد في جوانب نفسي أثارة حلوة من بعض هذي الذكريات العذاب.
كان بيني وبين صديقي (فلان) ظل من الصداقة ممدود، فكنا لا نفترق إلا على ميعاد من لقاء، ما يكف أحدنا عن ازديار الآخر مهما تجيء الظروف، وحيث منت كانزاطوت على ذلك الحب البريء جملة من الزمن وهو لا يزداد إلا ينعاً وإيراقاً وازدهاراً، ذلك إلى ما بيني وبينه من المصالح المتبادلة من أخذ وعطاء.
كان صاحبي هذا لا يسافر إلا وأنا له مودع، ولا يؤوب إلا وأنا له مستقبل، وما كان يطوي عني شيئاً مما يخالج في قرارة نفسه من أمر. وهكذا كان شأني معه. فلما قضى الأمر وأريد له أن يبرح المدينة إلى الأقاليم ليقوم على أعماله المتشعبة، لحقني من الحزن على فراقه ما يتقاصر اليراع عن إثباته. بكى يومها وبكيت أنا امضاضة الافتراق، وكان بيننا ميثاق غليظ على التوافي والادكار. وقد بر بقسمه فلا يستدبر الأسبوع حتى يبرد إلى الكتاب والكاتبين، وما كانت كتبه تحوي إلا كل لفظ جميل يدل على معنى جميل يكون له في نفسي وقع جميل.
ولحتني في أحد الأعوام شكاة أزمت معي وتطاولت مدتها حتى اسيقنت أني في غايتها مستأثر بي الله أن حان حيني، ووالله ما آسف على شيء مما حولي فما خلقت من سبد ولا(920/20)
لبد، ولا مال عندي ولا ولد، ويحضرني اسم هذا الصديق فأستشعر المرارة لفراقه وأكتب إليه رسالة تفيض بمعاني الوجيعة وبرحاء الألم، راجياً أن يذكرني في نفسه فيمن يذكر من الصحب والصدقان. وإنه ليطالع كتابي فتفيض شجونه ويهبط بالإسكندرية ليلاً ثم يوفض إلى بيتي على غير موعد، ويراني في قراشي مسهداً تعرقني الحمى فيبكي ويستعبر، ويذكر أيامنا الحلوة التي طويناها في صداقة لا يزيدها اطراد الزمان إلا استحكاماً.
ويشاء الله العلي القدير أن أبل من مرضي، فنعود إلى ما كنا فيه من تراسل وتزاور بين حين وحين.
كان بعد ذلك أن بعثت إليه أوصيه بأمر عينته له، هو من بعض شأني، فأبطأ علي في الجواب حتى تداخلني الريب. وما هي إلا أيام حتى تلقيت منه كتاباً ينعى إلي فيه والده، وكان البقية الباقية من أصوله، فوقع مني النبأ موقع الصاعقة على الهشيم، ثم حوقلت واسترجعت وأرسلت أعوز به معتذراً عما فرط مني قبل هذا.
وعادت الأمور بيننا إلى مجاريها، وكنت كلما رأيت من صاحبي فتوراً عن ذي قبل صرفت الأمر عن جهته، وعدلت به إلى ما هو الأكرم بي وبه، وغدوت أبعث إليه بالرسائل فلا يجيب، وإذا ما تعجلته في أمر من الأمور، ادكر بعد أمة، وإذ ذاك أدركت أن الرجل تشاءم من رسائلي أو على الصحيح تشاءم بي.
ويشاء القدر أن أرسل إليه كتاباً أوصيه فيه بشخص أثير عندي، وأعلم بعد يوم أو يومين أنه احتسب طفلاً له.
لقد كان المصاب عندي ما يكاد يحتمل، حتى خيل إلي أن الولد ولدي وأن الفجيعة فجيعتي، وبكيت مريراً ثم عزيته عزاء دميلاً، وأنا أدرك أن منزلتي عنده قد بطت وأني صرت حياله لا صديقاً ولا شبه صديق.
وهبط بالإسكندرية في صيف من الأصياف ليقضي أياماً دون أن يبلغني بأوبته، وأستقصي عنه في جميع منازله فلا أدركه، وأراه يوماً ساعة الأصيل في مشرب من المشارب العامة فلا يكاد يبصرني من بعيد حتى يتطاير عن المائدة، ويفر إلى داخل المقهى كأنما كنت غولاً لاهم له إلا افتراس الأناسي!
لقد لحقني الإشفاق على الرجل وتألمت أشد الألم لذهاب صداقة مكينة كنت أعتز بها جد(920/21)
الاعتزاز وعلمت فيما بعد أن للتشاؤم أثره في حياة الأفراد، وأنه قد يذهب بالصداقة الصدوق وما يستلحقها من مصالح وأعمال.
منصور جاب الله(920/22)
صور من الحياة
سماوية. . . و. . . أرضية
(كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى)
قرآن كريم
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا أيها الجبار، خفف الوطء فما أنت سوى ثرى يمشي فوق ثرى، وما هذا اللقب الذي تفخر به سوى سيما الذل والضعة اتسمت بها لأنك تعبدت - في غير رجولة - لرجل من الناس، وما هذا المال الذي تعتز به سوى لعنات الفقير تنصب عليك أبداً لأنك استلبته في غير شفقة - من مساك الروح!
يا أيها الجبار، لقد عميت فجذبك الثرى الأرضي إليه لتكون أرضياً في نوازعك ترتدغ في الوحل، ولتطردك روحانية السماء من نورها ومن رحمتها في وقت معاً!
هذا صاحبي رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرامة والترفع، وفيه الإباء والإيمان؛ فهو قد شب ونما واشد غرسه في ظلام القرية، وترعرع واتد رأيه في كنف الدين. وهو من بيت فيه القناعة والرضا، يسمو عن النوازع الوضيعة بالقناعة ويتنسم روح الجنة في الرضا، لا تشغله حاجات العيش عن معاني المسجد، ولا تصرفه صوارف الحياة عن نور اليقين. والحياة في أعماق القرية لا تندفع إلى الطمع ولا تغري بجشع؛ فاطمأن صاحبي إلى روق ضيق وإيمان واسع، وهدأ إلى بيت خاو وقلب عامر؛ وانطوت الأيام. . .
وأحس صاحبي بدوم الشباب الحار يتدفق في عروقه ويفور، فانطلق إلى فتاة من ذوي قرابته يخطبها لنفسه فما رفض أبوها ولا تمنعت أمها، فإذا هو زوج إلى جانب زوجة رفيقة طيعة. وراح الرجل - كدا ًبه أبداً - يتسلل من الدار كل صباح - لدى الفجر - إلى الجامع يبتغي أن يتجرد ساعة من أرضيته الثقيلة لتحلق روحه الطاهرة - حيناً - في صفاء السماء تطلب الهدوء والسكينة، وتسأل العطف الإلهي الذي يتراءى لها في صورة طفل يملأ الدار مرحاً وبهجة ويفعم القلب فرحاً وسروراً. وانتظر الرجل الهبة الإلهية طويلاً. . . انتظر طويلاً في غير جدوى. ولم يستطع الشيطان أن يتسرب غلى قلب(920/23)
الرجل الورع فينفث فيه الأسى واليأس، أو يوسوس له بالشر لأنه لم يرزق طفلاً، فصبر. . . صبر والزوجة البائسة تحس خواطر قلب زوجها فتتقلب. . . في صمت. . . على جمرات من الضيق أنها تخشى ثورة الرجل الذي أكرمها عاقراً سبع سنوات عجاف. وبدأت نفسها تتفلسف لسفه الفلاح حين يمسك بالفأس ليجتث أصول الشجرة التي لا تفئ ولا تأتي الأكل، فاضطربت وطار عنها القرار لأنها تضن الحياة النيعمة التي تسعد بها أن تنكفئ فتستحيل جحيماً أو تنفصم عروقها؛ وتضن بهذه الشمس المشرقة في أرجاء الدار أن تغيب في غمرات اليأس، وتضن بهذا الرجل الطيب أن يحور وحشاً يفترس. . . يفترسها هي في غير ذنب ولا جريرة؛ فانضمت على أسى وضيق، ولكنها توجهت بقلبها إلى السماء.
وعلى حين فجأة أثمرت الشجرة التي أقفرت عمراً طويلاً فأضاء وجه الرجل لمقدم الطفلة وأشرق النور في جنبات قلبه، وأضاء وجه المرأة وهدأت جائشتها؛ واستحالت حال الدار فأفعمها البشر وفاض بها السرور. وترقرق الأمل في عصب الرجل ونبضت الهمة في قوته، فانطلق إلى الحقل يحدوه الرجاء ويدفعه الأمل فأصاب مالاً على حين لم يغفل نزعات روحه السماوية.
ودرجت الطفلة وشبت، وإلى جانبها قلب أبيها يفيض بالحنان والرقة، ويده تفيض بالكرم والسخاء؛ وهو في عمله يستنفد وسع الطاقة في جد، ويبذل غاية الجهد في رضا، ومرت الأيام في هدوء رتيب يدفع الصبية غلى الصحة والنشاط إلى أن بلغت سن الشباب والأنوثة.
وفي ذات صباح - وعلى حين غفلة من أهلها - هبت الفتاة لترى الداء يتسرب إلى رقبتها فتتورم، ورأت الأم ورأى الأب، فأصابها الفزع. وطار الأب في - في ذعر - إلى حلاق الصحة. . وحلاق الصحة في القرية رجل فرض نفسه ليكون طبيباً يصف الداء ويسرف على العلاج، فهو يعبث بالمرضى كيف يشاء والحكومة في عمى عن أمره، ويستنزف الصحة والمال، لا يجد رادعاً من نفسه ولا يحس غلظة من قانون.
وجاء حلاق الصحة يداوي علة الفتاة على طريقته التي تتخبط في متاهات الجهل، ولكن الداء تأبى عليه فما أجدت حيلته ولا أصاب رأيه.(920/24)
وأصاب الأب السهوم والضيق مما تلقى فتاته؛ فهو لا يرى إلا كاسف البال. مقطب الجبين. مضطرب الخاطر.
ونفد صبر الرجل من طول ما عانت ابنته فجلس إلى الحلاق يستوضحه خبر المرض الذي عز دواؤه، ويسأل النصيحة الخاصة بعد أن أجزل له العطاء، فقال الحلاق (إن في القاهرة طبيباً كبيراً هو سعادة فلان يستطيع أن يحتال للأمر بحيلته وبراعته وعلمه، فاذهب إليه علك تجد عنده شفاء ابنتك).
فقال الرجل (وماذا عسى أن يطلب مني أجر هذا العلاج)
قال الحلاق (أظنه لا يقنع بأقل من عشرة جنيهات)
وانطلق الأب من فوره يهيئ الجنيهات التي يطمع أن يشتري بها صحة وحيدته فما أسفر الصبح حتى كان يصحب ابنته في طريقهما إلى القاهرة يريد أن يمسح عن الفتاة قسوة الداء، وأن ينفض عن قلبه لفحه الحيرة.
وطرق الرجل باب صاحب السعادة الطبيب الكبير فانفتح له، ووقف الرجل المسكين أمام الطبيب الثري يشرح له عمر الداء ويتحدث عن لوعته وفزعه، في صوت يبكي بكاء الأب الملتاع يترجى وحيدته وفي خياله أنه يوشك أن يفقدها وهي بسمة الأمل في ظلمات الحياة. ونور القلب في مضلات العمر. وسمع الطبيب خفقات قلب الرجل وهو ينفض ذات نفسه في ذله وانكسار فما اهتز له ولا راق؛ ثم شمخ بأنفه في صلف وكبرياء وهو يقول (هذه العملية لا أرضى فيها بأقل من خمسين جنيهاً)
ودوت الكلمات في أذني الرجل الريفي الساذج فارتعدت لها نفسه ومادت به الأرض من هول ما سمع. وذهب يحدث نفسه (خمسين جنيهاً؟ خمسين جنيهاً كاملة ينالها رجل من الناس أجر ما يضع المشرط ثم يرفعه؟ هذا ظلم وتعسف وجور. . .) ثم صحا الرجل من ذهوله ونظر إلى الطبيب يحدثه في تضرع وخضوع (يا سيدي، إن ابنتي هذه هي وحيدتي التي أترجاها، وهي أمنية العمر وأمل الحياة، ولقد جاءت في جدب السنين وقفرها لتبذر في غراس الأمل والنشاط، ولتدفع عني عنت اليأس والضيق، وأنا رجل فقير ى أملك سوى عشرة جنيهات هي لك كلها) فابتسم الطبيب الكبير في سخرية وهو يقول (كلها؟ كلها؟) وفهم الرجل الطيب من الكلمات ما يبطن الطبيب، فقال (نعم، يا سيدي، كلها) وسخر(920/25)
الطبيب من عقل الرجل الريفي مرة ومرة ثم سخر مرة أخرى من المبلغ التافه الضئيل الذي يقدمه الرجل، سخر من هذا المبلغ وهو في نظر الفلاح شيء كبير لأنه يسد الخلة شهوراً وشهوراً. . . سخر الطبيب من الجرل ومن المبلغ ثم قال في جد (لا أقل من خمسين جنيهاً) والح الرجل يتوسل في أسلوبه الريفي على حين قد أوصد الطبيب قلبه عن لوهة الأب، ثم اندفع يهر في الرجل هريراً منكراً وهو يقول (نحن هنا لا نتصدق! نحن هنا لا نتصدق أيها الجلف! أخرج، أخرج فقد أضعت وقتي وجهدي سدي) وخرج الرجل من لدن الطبيب العظيم وقد انكسر خاطره وذوى أمله وتحطم قلبه. وخرج وما في مسمعيه سوى صرخات الطبيب العظيم وهو يعوي عواء منكراً (نحن هنا لا نتصدق. . . نحن هنا لا نتصدق)
وعجب الرجل أن يكون في الدنيا رجل لأرضي يتحدى بأرضيته الوضيعة. روحانية السماء السامية. فرفع بصره صوب السماء يدعو (إنك أنت، يا إلهي، الذي تتصدق علينا جميعاً)
وضاقت الأرض في عيني الرجل فلم يجد سعة إلا في المسجد، في المكان الذي يمسح عن نفس المرء خبث الأرض. وجلس هناك يستجدي ندى السماء حين أغلقت في ناظريه أبواب الأرض. جلس وإلى جانبه ابنته تعاني شدة الضنى نهكة المرض ووعثاء السفر فأخذتها سنة من النوم، واندفع هو في تضرعه حتى أرهقته النصب فاستسلم هو أيضاً للكرى.
ورفت عليهما الرحمة الإلهية تهدهد من أشجانهما ومن آلامهما وفزعت الفتاة من أحلامها - بعد لحظة - تتلمس موضع الورم من رقبتها فإذا هو ينفض ما فيه من دم وقيح، وأسرعت إلى أبيها توقظه ليمسح عن الجرح ما سال منه وقد سكن الورم.
يا عجباً! لقد انفتحت أبواب السماء لدعاء الأب المسكين فجاء المشرط الإلهي يبرئ سقم الفتاة التي ضن عليها الطبيب الأرضي بمشرطه إلا أن يرهق الأب بالمال الذي لا يجد إليه سبيلاً. وسمت سماوية الرجل الصالح على أرضية الطبيب الشره تمحقها، فارتدت الفتاة - في لمحة واحدة - تحس الراحة والهدوء والصحة.
فيا لسماوية السماء. . . يا لسماوية السماء!(920/26)
كامل محمود حبيب(920/27)
يزيد بن المهلب
للأستاذ حمدي الحسيني
للمهلب بم أبي صفرة أبناء نجباء كرماء شجعان غزاة فاتحون قد أجمع المؤرخون على أنه لم يكن في دولة بني أمية اكرم منهم.
وكان لهم في الشجاعة مواقف مشهورة مشكورة. ذكر آل المهلب في مجلس عبد الرحمن بن الأشعث بسوء فقال حريس بن هلال القريعي: والله ما أعلم أحداً أصون لنفسه عند الرخاء ولا أبذل لها في الشدة منهم.
وقدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلب فرأى بنيه قد ركبوا عن أخرهم فقال:
آنس الله الإسلام بتلاحقكم. أما والله لئن لم تكونوا أسباط بنوه فإنكم لأسباط ملحمة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: آل المهلب جبابرة لا أحب مثلهم. ووفد مالك بن بشير على الحجاج فسأله عن ولد المهلب فقال هم رعاة الباب حتى يأمنوا، وحماة السرح حتى يردوه، قال ايهم أفضل قال ذاك إلى أبيهم. هم كالحلقة المفرغة لا يعلم طرفاها.
أجل لقد أصاب مالك بن بشير في أن أبناء المهلب كالحلقة المفرغة. وفي أن أباهم هو الذي يعرف طرفي الحلقة ويميز بين أقدارهم ويفضل بعضهم على بعض. وها نحن نراه يعلن هذه المعرفة وهذا التفضيل في وصيته لأبنائه يقول لهم والسرور يملأ نفسه: قد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت عليكم حبيباً على الجند حتى يقدم بهم على يزيد. فلا تخالفوا يزيد. فيجيبه المفضل لو لم تقدمه لقدمناه.
فعن يزيد بن المهلب أحدثكم هذه المرة فأجلوا أمامكم شخصيته القوية جلاء ترون فيه ألواناً زاهية ساحرة من العظمة، وأشكالاً جميلة فاتنة من العبقرية، وضروباً نادرة المثال في البطولة والشجاعة.
ولد يزيد بن المهلب في ساحات الحروب فاكتحلت عيناه بغبار المعارك، وتضمخ جسمه بعبير الكر والإقدام، وملأت سمعه قعقعة السلاح والركاب، وصبت في نفسه أخبار الحروب والقتال، وهزت روحه نغمات النصر وأناشيد الظفر فنشأ على ظهور الخيل في ساحات الفر. وبين الأبطال في ميادين النضال.
قاتل يزيد بن المهلب الخوارج مع أبيه فكان له في قتالهم مواقف البطولة أكسبته الثقة(920/28)
وخلعت عليه المهابة وجلال القدر مما جعل أباه المهلب يعتمد عليه فيوليه القيادة في أدق المواقف وأخطر الساعات، ويوليه الإدارة في أوسع القطار وأغنى الأمصار. وما إن تولى يزيد بن المهلب على خراسان بعد أبيه حتى كتب للحجاج بتوليته عليها حسب وصية المهلب فما وسع الحجاج ولا وسع عبد الملك إلا أن يحترم وصية المهلب في استخلاف يزيد على خراسان، وإلا أن يحترما إرادة يزيد نفسه في الولاية عليها فأقرا يزيد بن المهلب على خراسان فأصبح والياً على هذا القطر الإسلامي العظيم بموقعة العسكري بالنسبة لحركة الفتح الإسلامي؛ وبخراجه الضخم بالنسبة لميزانية الدولة الأموية.
أقام يزيد على ولاية خراسان ثلاث سنين كان خلالها السيد المطلق والحاكم الذي ى ترد له إرادة، ولكنه لم يستسلم للراحة ولم ينغمس في النعيم، بل ظل كرأس الحية النضناض لا يرى مجالاً تظهر فيه البطولة غلا رمى بنفسه فيه فكان البطل الذي لا يغلب؛ ولا يحس بظرف تبرز فيه المكارم إلا برز فيه فكان الكريم الذي لا يجارى والعظيم الذي لا يسق له غبار.
أراد رجال عبد الرحمن بن الأشعث الثأر على الحجاج والدولة الأموية أن يجعلوا خراسان ملجأ لهم وموضعاً لحركاتهم الثورية، فقال لهم عبد الرحمن: على خراسان يزيد بن المهلب وهو شاب شجاع صارم وليس بتارك لكم سلطانه، ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعاً. ولكنهم دخلوا خراسان فوجدوا يزيد إليهم سريعاً ضربهم في وجوههم ففروا أمامه مقهورين ورجع غانماً ظافراً.
وما كاد يفرغ من الضربات الباطشة التي أوقعها على رؤوس الثوار حتى انقض على قلعة عظيمة من قلاع ملوك الترك تسمى قلعة نيزك ففتحها فكان في فتحها لغزاة المسلمين خير كثير. ولكن هيهات أن يتسع صدر الحجاج لمثل يزيد بن المهلب في عقله وتدبيره وهمته وبطولته وعزته ومنعته وقوته وسلطانه. فقد تنكر له الحجاج فاستدعاه للعراق فأشار عليه بعض خاصته بعدم الذهاب إليه فقال له: نحن ىل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره المعصية والخلاف. وذهب إلى الحجاج فقبض عليه وأودعه السجن وأسرف في تعذيبه حتى هيأ الله له أن يخرج من السجن بأعجوبة فذهب إلى سليمان بن عبد الملك وهو في الرملة البيضاء وطلب منه التوسط له عند أخيه الوليد ففعل. وظل يزيد عند سليمان بن(920/29)
عبد الملك في الرملة حتى آلت الخلافة إليه فولاه على العراق بعد وفاة الحجاج، فكره يزيد أن يظل على هذا القطر المتعب المنهوك فنقاه سليمان إلى خراسان ذلك القطر الحبيب إلى نفسه العزيز عليه وعلى آل المهلب جميعاً. فعاد يزيد إلى خرسان وقضى فيها ثلاث سنوات فتح خلالها جرجان وطبرستان. ولكن كوت سليمان قطع على يزيد طريق الفتح والتقدم فقبض عليه عمر بن عبد العزيز لأنه كان يكره آل المهلب لأنهم جبابرة؛ وأودعه السجن، فظل يزيد بن المهلب في السجن حتى توفي عمر، ففر يزيد خوفاً على حياته من يزيد بن عبد الملك وتوجه إلى البصرة وهناك كشر ليزيد بن عبد الملك عن نابه وخلعه ورام الخلافة لنفسه فبايعه الناس على كتاب الله وسنة رسوله، ولكن يزيد بن عبد الملك أرسل إليه أخاه مسلمة في جيش عظيم فاستقبله يزيد بن المهلب وقاتله قتالاً شديداً، فلما استمر القتل بين الفريقين تفرق أصحاب يزيد فقيل له قد انهزم الناس، فقال مم انهزموا؟ فقيل له أحرق الجسر فلم يلبث أحد، فقال قبحهم الله. بق دخن عليه فطار. وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار وجاء من أخبره أيضاً أن أخاه حبيباً قد قتل، فقال لا خير في العيش بعد حبيب قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فو الله ما ازددت لها إلى بغضاً. أمضوا قدماً. قال أصحابه إن الرجل قد استقتل. مضى يزيد في قتال أعدائه وصار كلما مر بخيل كشفها. جاءه أحد أصحابه وهو في تلك الساعة الرهيبة والسيف في يده يقطر دماً وقال له: قد ذهب الناس لك أن تنصرف. فقال له يزيد قبح الله رأيك، إلى تقول؟! إذاً الموت أيسر علي من ذلك. فقال له إني أخاف عليك. أما ترى حولك من جبال الحديد. مشيراً إلى جيش مسلمة فقال. أفأنا أباليها جبال الحديد كانت أم جبال النار؟ اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالاً معنا. وأقبل يزيد على مسلمة لا يريد غيره حتى إذا دنا منه عصفت عليه خيول أهل الشام فخر صريعاً
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده ... إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه ... هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر
حمل رأس البطل القتيل إلى عدوه ووضع بين يديه؛ فأراد أحدهم أن ينتقص البطل حينذاك، فقال له يزيد بن عبد الملك: مه، إن يزيد بن عبد المهلب طلب جسيماً وركب(920/30)
عظيماً ومات كريماً.
حمدي الحسيني(920/31)
رسالة العلم
الضوء لغز الطبيعة
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
لعل الضوء أهم العوامل التي تزيد معلوماتنا عن العالم الخارجي. فالعوامل الأخرى كالأصوات والروائح وغيرها تدلنا على القليل إذا ما قورنت بالضوء. لأن أغلب معلوماتنا تأتي نتيجة لمشاهداتنا البصرية. فما الذي نعرفه عن الضوء، ذلك الذي لا تعتمد عليه معلوماتنا فحسب، بل تعتمد عليه أيضاً حياتنا وكياننا؟
كان بعض الفلاسفة اليونان الأقدمين يقولون إن الضوء يرحل في خطوط مستقيمة يبعد الخط الواحد عن الآخر. ولهذا كانوا يعزون عجزهم عن رؤية سيئ صغير راقد تحت أنوفهم كإبرة مثلاً إلى أنها موضوعة بين خطين من الخيوط الضوئية. فقد كانوا يجهلون إذ ذاك وجود النقطة العمياء في العين، ويظنون أن أشعة الضوء تصدر من العين، لأنها لو كانت صادرة من الإبرة لشاهدوها دائماً.
ولقد قال بعض مفكري المدرسة الأفلاطونية في ذلك الوقت إن الإبصار عن ذريرات تندفع من الأشياء المضيئة وتصل إلى إنسان العين فتؤدي إلى رؤية. وهذا قول أقرب إلى الصحة من القول السابق. ومع ذلك فلم يقبله الرأي العام إلا في القرن الحادي عشر.
النظرية الذرية:
لقد صرح السير إسحاق نيوتن ب، االضوء ناشئ من تيار من الدقائق الصغيرة اللامتناهية في العدد، تنبعث من الجسم المضيء في كل اتجاه وفي خطوط مستقيمة. وافترض أن هذه الدقائق تستطيع اختراق الأجسام الشفافة، فإذا ما اصطدمت بعدسة العين نتج لأحساس بالرؤية. ولذلك سميت النظرية بنظرية الانبعاث نظرية الضوء الذرية فسرت هذه النظرية الكثير مما يمت للضوء بصلة واعتبرت لأمد طويل نظرية موفقة.
نظرية الموجة:
أجمع العلماء إذن على أن الضوء آت من الأجسام المضيئة، وأصبحوا لا يشكون في أنه يتركب من دقائق صغيرة تندفع من الجسم المضيء.(920/32)
ثم أقبل القرن التاسع عشر، فافترض العلماء أن الضوء حركة تموجية في الأثير، وسميت هذه النظرية بالنظرية الموجية.
بيد أننا في عصرنا هذا لا نعتقد في وجود الأثير الذي أسرف علماء القرن التاسع عشر في الاعتماد على فرضه. فالوسط الواسع الذي يملأ رحاب الفضاء، ذلك الوسط المهتز المتغلغل في المادة جميعها، ليس له المكان في العالم الذي أوجده آينشتاين، فضلاً عن أننا لسنا في ثقة من معرفتنا الفرق بين الدقيقة والموجة. فنحن نشاهد في معاملنا الحديثة دقائق تفعل فعل الموجات، وموجات تتصرف تصرف الدقائق؛ والضوء يحذو حذو الدقائق والموجات. فهنالك ثمة ظواهر تتصل بالضوء لا يمكن تفسيرها إلا بقاعدة الموجة، وهناك ظواهر أخرى تفسرها النظرية الذرية. والواقع أنه بكشف الأشعة السينية وغيرها من الأشعة الخفية استطاع العلماء تسجيل ظواهر يبدو أنها في حاجة إلى كلتا النظريتين حتى تتطابق الحقائق. وهذا هو الوضع الغريب للضوء في علم الطبيعة اليوم. ولذلك فالضوء أكثر غموضاً في الوقت الحاضر مما كان عليه منذ قرون مضت. وما البحث النظري الحاضر في (آلية الموجة) إلا محاولة من المحاولات للعثور على معادلة تحل هذا الوضع.
ويعتقد العلماء الآن أن الضوء يدين بأصله إلى الكترونات الذرة، ولها شرح مستفاض في نظرية الكم التي تفسر أيضاً امتصاص الضوء، ولا سيما انبعاث الإلكترونات من الأسطح المعدنية المضاءة.
سرعة الضوء:
ومع اختلاف الآراء في ماهية الضوء فإننا نعرف عنه في الوقت الحاضر الشيء الكثير. فنحن نعرف مثلاً أن الضوء يستغرق زمناً لرحيله من مكان إلى مكان. وهذه أغرب ظاهرة في تاريخ العلم. إن مجرد تأمل هذه الحقيقة يبدو كأنه خيال محض. فقد اعتدنا أن نعزو الإبصار أنه مجرد موهبة. فإننا نفتح أعيننا، فإذا ما كان هناك الضوء أبصرنا الأشياء. ويبدو هذا طبيعياً تماماً. فمن ذا الذي يخطر على باله أن الضوء يأخذ وقتاً في قطعه مسافة ما؟
كان أول من فكر في ذلك الفلكي الهولندي أولاوس ريمر في عام 1676. فقد لاحظ لأي أثناء مراقبته المشتري وأقماره الأربعة التي تدور حوله أنه عندما يمر أحد هذه الأقمار(920/33)
خلف المشتري تأتي لحظة يختفي فيها القمر عنا، وهي اللحظة التي يستغرقها القمر في الاختفاء ثم الظهور مرة أخرى حتى يقطع جزء من رحلته خلف السيار. ولاحظ ريمر أن مدى هذه اللحظة متغير، وأن الزمن يطول عندما تتحرك الأرض مبتعدة عن المشتري، ويقصر عندما تقترب منه، وأن هذا التغيير متعدد نظراً لأن المشتري والأرض يتحركان حول الشمس بسرعتين متغايرتين. فسأل نفسه: لماذا تبدو هذا النجوم الراحلة بسرعة ثابتة كما لو أنها تمكث خلف المشتري مدداً مختلفة؟ وكان هذا السؤال هو الذي ولد في عقل ريمر تلك الفكرة العجيبة في أن الضوء يستغرق زمناً أثناء رحيله. لأنه إذا كان الضوء القادم من أقمار المشتري لا يصلنا في التو واللحظة فذلك مرجعه إلى أن الضوء يقطع وقتاً حتى يدرك الأرض المدبرة عن المشتري أطول من الوقت الذي يقطعه ليقابل الأرض المقبلة على النجم. وقد استطاع ريمر بقياس الفرق بين الأزمنة المختلفة أن يحسب سرعة الضوء، فوجدها أقصى سرعة في الوجود. وقد استطاع علماء العصر الحديث أن يقيسوا هذه السرعة مباشرة وهي 186. 000 ميل في الثانية. إن أسرع رصاصة تبدو وكأنها لا تتحرك إذا ما قورنت سرعتها بسرعة شعاعه ضوئية. ومع ذلك فنحن نعرف ذرات (دقائق) تتحرك بسرعة تقرب من سرعة الضوء. فبعض دقائق الكهرباء المنقذفة من الراديوم (أشعة بيتا) تصل سرعتها إلى أكثر من 99 % من سرعة الضوء مثل هذه الدقائق تستطيع أن تدور حول خط الاستواء سبع مرات في الثانية.
السرعة الحرجة:
وصفوة القول أن سرعة الضوء تعتبر أكبر سرعة موجودة في العالم على الإطلاق. ومن المستحيل على أن جسم مادي أن يتحرك بسرعة أكبر من هذه السرعة، وهذه حقيقة أثبتتها نظرية النسبية لآنشتاين. ولذلك أصبح من المستحيل وجود سرعة لانهائية في عالمنا هذا. فهناك سرعة محدودة معينة لا يمكن لأية سرعة أن تتعداها، وهي سرعة الضوء. ولذلك سميت بالسرعة الحرجة وهذه السرعة تعزز الرأي في أن الضوء لا يتركب من دقائق وبالأخص دقائق مادية، على الرغم من أن بعض الظواهر الأخرى لا تفسرها إلا النظرية التموجية.
عودة إلى الأثير:(920/34)
ولكن كيفما يكون الضوء فإننا نعرف أنه توجد أشياء لها نفس نظامه، مثل أمواج اللاسلكي والأشعة السينية والإشعاع الحراري والأشعة فوق البنفسجية. كل هذه الظواهر ذات طبيعة تماثل طبيعة الضوء ولو أنها لا تحدث تأثيراً على أعيننا مثلما تحدثه أشعة الضوء.
فإذا اعتبرنا الضوء وموجات في الأثير - ونحن لا نملك إنكار الأثير على الرغم من شكوكنا الحديثة - فإننا نستطيع في سهولة رؤية الفرق بين الضوء وهذه الظواهر الأخرى. فإن أمواجها إما أن تكون أطول أو أقصر من أمواج الضوء ولو أن لها نفس طبيعة أمواج الضوء وترحل بنفس سرعتها.
وليس معنى ذلك أن كل أمواج الضوء ذات طول واحد؛ فبين موجات الأثير التي تؤثر على أعيننا وبين ما نسميه بالضوء توجد موجات ذات أطوال مختلفة. وعلى هذه الحقيقة يتوقف وجود الألوان المختلفة. فأطول موجات الضوء ينتج فينا إحساساً باللون الأحمر، وأقصرها ينتج فينا إحساساً باللون البنفسجي. أما الألوان الأخرى فأمواجها بين هذين الطولين. وما نزعم أنه ضوء أبيض ليس إلا خليطاً من مختلف الألوان. ونستطيع رؤية ذلك إذا مر الضوء الأبيض خلال منشور زجاجي. فالنشور يحلل أطوال الموجات المختلفة فنرى أشرطة ملونة محدودة بين اللونين الأحمر والبنفسجي.
العناصر والضوء:
كان السير إسحاق نيوتن أول من أثبت أن اللون الأبيض كركب من مختلف الألوان. ولقد تقدم تحليل الضوء تقدماً كبيراً، ويعد الآن أهم فرع من فروع الطبيعة. فجميع معلوماتنا عن النظم الطبيعية للنجوم تأتي من علم تحليل الضوء أو ما يسمة بالتحليل الطيفي (السبكتر سكوبي). والحقيقة الرئيسية التي يتألف عليها هذا العلم هو أن كل عنصر عتد إحمائه إلى درجة التوهج يعطي ثمة ضوءاً معيناً. فإذا أحمى عنصر ما ومر ضوءه خلال منشور زجاجي، فإن هذا الضوء ينتشر في أشرطة ملونة، عند فحصها نجد من بينهما خطوطاً لامعة. وقد وجد أن هذه الخطوط تطابق العنصر نفسه، وأنه لا توجد مادتان تعطيان نفس الخطوط. فمن تحليل ضوء أية مادة متوهجة نستطيع معرفة هذه المادة.
وقد طبقت هذه الطريقة التحليلية على الضوء القادم من الشمس فاستطاع العلماء معرفة(920/35)
المواد التي تتركب منها الشمس فوجد أنها تطابق مواد موجودة بالأرض. وقد كشف العلماء غاز الهليوم على الشمس قبل أن يعثروا عليه في الأرض.
وبنفس الطريقة أمكن معرفة تركيب النجوم وحرارتها وسرعتها.
هذا هو الضوء الذي يساعدنا بالإفضاء لنا بالكثير عن أحاجب الكون، ومع ذلك فلا يزال لغزاً قائماً بذاته لم يستطع الإنسان حله إلى الآن.
محمد فتحي عبد الوهاب(920/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
في الأدب والحياة:
نشرت لي أخيراً إحدى المجلات الأسبوعية مقالاً تحت عنوان (أنقذوا طلبة الجامعة)، أنحيت فيه اللائمة على شباب الجامعة، طلائع الجيل الجديد، ورمز الحضارة والثقافة العالية بمصر، وكيف جرفتهم حياة القاهرة اللاهية العابثة، وضاعت رسالاتهم النبيلة التي من أجلها هاجروا إلى هذا الوطن الكبير، كما ضاع شبابهم، ووسط هذا العباب الزاخر، والتدهور الأخلاقي الرهيب!
وجمعتني الظروف في إحدى أمسيات الأسبوع الماضي، بزميلة صحفية خريجة الجامعة منذ سنوات، تعمل محررة في إحدى الصحف اليومية المسائية، وما إن استقر بي المقام في هذه الندوة الأدبية التي ضمت الكثير من الصحفيين، حتى بادرتني الزميلة بقولها: (علام تتحاملون على الجامعة وطالباتها وطلبتها؟! إن الجامعة بخير ما دام الجميع يؤمنون برسالتها النبيلة في الحياة) وتطرق الحديث بنا إلى مجلة (الرسالة) والكاتب الناقد الذي يحرر (باب التعقيدات).
وحدثتني الكاتبة الصحفية قائلة: (إننا نفخر بالأستاذ المعداوي ككاتب له الرسالة، وهدف في الحياة يحاول أن يحققه عن طريق النقد والتوجيه. غير أن آراءه ونقده تتسم غالباً بطابع العنف والقسوة، ولذلك فهو في نظري عامل هدم لا عامل بناء. وفرق كبير بين كاتب يحاول أن يضيء شمعة وسط الظلام، وآخر يسعى إلى ذبابة النور التي يتلمسها كل حائر ليطفئها)! ثم استطردت الأديبة تقول: (هذا هو أحد أعداد الرسالة، وهذه هي السطور التي كتبها صاحب التعقيدات تحت عنوان (الفتاة الجامعية والزواج)، تحامل فيها على طالبات الجامعة وقال إنهن لا يذهبن للجامعة للدرس والتحصيل بل لطلب الزواج. . وهذا رأي خطير لم يجترئ كاتب شرقي على أن يجهر به قبل اليوم، ولا تؤمن به أي فتاة جامعية اعتصرت شبابها وحياتها، وسهرت الليالي الطوال في سبيل هدف أسمى مما تصوره ونادى به! وهذا ما أجهر به تجاه الأستاذ المعداوي وتجاه الرأي العام الذي شاهد كفاح الفتاة الجامعية في سبيل العلم لا في سبيل الزواج. . وهأنذى واحدة منهن دخلت الجامعة(920/37)
وخرجت منها دون أن أتأبط ذراع عريس الأحلام بجانب (الليسانس) كما يدعي الأستاذ المعداوي، بل جاهدت طوال سنوات الدراسة في سبيل العلم والمعرفة والثقافة، العلم الذي ستظل به المرأة أداة هامة في ذلك المجتمع المنحل الفاسد، والمرأة التي هي روحه كما يقول الكاتب الفيلسوف (برناردشو): إذا كان الرجل هو المجتمع فالمرأة روحه!
يظهر أن المرأة التي حطمت تمثال الأمل الجميل بين حنايا قلبه، قلب الأستاذ المعداوي، وأقصته عن محراب شبابها وجنة حبها بالأمس، وألهمته (من الأعماق) و (من وراء الأبد)، يظهر أن هذه المرأة هي التي أثارت كوامن الحقد الدفين بين جوانحه على كل امرأة في الوجود! وما لك تذهب بعيداً وسطوره التي كتبها بأحد أعداد (الرسالة) أيضاً عن الكاتبة الأدبية السيدة أمينة السعيد، تطالعنا الآن يوم أن كتب إليه أحد الأدباء رسالة يستوضحه فيها رأيه عما كتبته الأديبة المصرية وما كتبه هو عن طبيعة (لورد بايرون)، وإنتاجه الذي خلده التاريخ بين (عبقريته وحرمانه). لقد كان رده أبلغ دليل على تجنيه على الحقائق التي حدثنا بها التاريخ الأدبي عن هذا الشاعر العظيم، وما زالت عباراته التي وجهها إلى الكاتبة الأدبية على صفحات (الرسالة) تطالعني في كل وقت، يوم أن كتب بالحرف الواحد: (ولعل في هذه العجالة ما يهدي الأديبة المصرية إلى معالم الطريق)!
بقي شيء بعد ذلك هو أوضح برهان على أنه لا يبغي من وراء هذا النقد إلا التجريح والتشهير بمن يكتب عنهم، وأعني به المعركة الأدبية التي أثارها الأستاذ المعداوي على صفحات (الرسالة)، عن أحد الكتاب الشيوخ الذين سوف يكتب عنهم التاريخ في المستقبل بأحرف من نور. . لقد استخدم الأستاذ معوله في غير ترفق ولا أناة)! ثم اختتمت الصحفية الأديبة حديثها - وأستسمح الكاتب الكبير - اختتمته بهذه الكلمات: (لقد كتب الأستاذ سعيد العريان يوماً عن أديب العربية الرافعي في كتابه (حياة الرافعي)، كتب يقول: لقد كان الرافعي طويل اللسان من أول يوم، وإذا جاز لي أن أستعير منه هذا التعبير لقلت لصاحب التعقيبات: إنك طويل اللسان من أول يوم تخطوه في طريق المجد. . المجد الأدبي العظيم الذي ينتظرك إذا ما حاولت أن تبقي على الشمعة التي تضيء لنا الطريق)!
إلى هنا ينتهي رأي الزميلة الصحفية في الأستاذ المعداوي. . وكان ردي عليها حين اختتمت حديثها معي: (رأيي في الأستاذ المعداوي - ولا أقول هذا عن نفاق أو رياء - أنه(920/38)
الكاتب الوحيد الذي سيفخر به ميدان النقد الأدبي في الشرق العربي، يوم أن تموت الأنانية والحقد في صدور الأدباء بعضهم لبعض)!
وإننا لننتظر رد الأستاذ المعداوي على ما وجهته إليه الزميلة الأديبة من اتهام، ولكل أديب أن ينظر إلى الآخر من الزاوية التي تتفق وما يحفظه له من صور وأحاسيس، غير أن الحقيقة هي النور الذي يفضح التجني أو غيره!
(كلية الشريعة)
عبد العال حسن إسماعيل
هذه رسالة من أطرف الرسائل التي زخرت بها حقيبة البريد، ومرجع الطرافة فيها إلى هذا السيل المنهمر من فنون الاتهام، وما يقترن به من صراحة محببة أعجب بها ولا أضيق. أما الأديبة الفاضلة التي ينتقل إلى اتهامها الأديب الفاضل فهي محررة في جريدة (الزمان)، أعفي القلم من ذكر اسمها حرصاً على إحساسها المرهف وشعورها الرقيق. وأعفيه مرة أخرى من التعرض لها بشيء من القسوة أو أشياء من العنف، لأن أخلاق الفروسية تحول بين الرجل وبين التهجم على فتاة. . . هذا مبدأ أدين به في حياتي الشخصية والأدبية. ومعذرة للأديبة الفاضلة إذا قلت لها إن حملاتها علي قد بلغتني قبل أن أتلقى هذه الرسالة، ومع ذلك فقد كففت قلمي عملاً بهذا المبدأ واحتراماًلهذا الشعار!
إنها تتهمني بأنني كاتب طويل اللسان. وهذا حق لا أجادل فيه! وأزيد عليه أنني واحد من الذين جبلوا على الصراحة وفطروا على الشجاعة، حتى لتدفعهم صراحتهم وشجاعتهم إلى أن تولوا عن أنفسهم ما يفزع منه غيرهم من الناس، ولولا هذا الذي فطرت عليه وجبلت، لما وافقت الأديبة الفاضلة على أنني كاتب طويل اللسان! أوافقها على هذه المقدمة وأختلف معها حول ما انتهت إليه من نتيجة، محورها أنني عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء. . هنا شيء من الظلم للحقيقة والمجافاة للواقع، لأنني ما استخدمت طول لساني في هدم قيمة من القيم إلا إذا كانت بالية، ومتداعية، وينبغي أن تزول، أعني أنني لا أهدم إلا ونصب عيني هدف واحد، هو أن أقيم البناء الموطد الأركان على ركام الأنقاض!
أقول هذا ولا أريد أن أذكر أسماء من هاجمت من الأدباء. . . حسبي أنني آمنت ومازلت(920/39)
أومن، بأن الحياة الأدبية في مصر محتاجة إلى حركة تطهير يقوم بها لسان طويل! ذلك لأن الأدب هنا، في هذا البلد، أشبه برجل كريم النفس سمح الخلق مضياف، يفتح بابه لكل طارق، ويهيئ مائدته لكل عابر، ولو اندس بين جموع الطارقين والعابرين من هم خلاصة الأدعياء والمتطفلين! هذا الرجل، الذي هو الأدب، في حاجة إلى صديق طويل اللسان، ينهر تلك الجموع المتطفلة، الدخيلة، التي استغلت سماحة رب البيت ونبل محتده وكرم ضيافته، فاندفعت من أبوابه وجلست إلى موائده، في غير ما خجل ولا حياء. . . هذا الصديق الطويل اللسان هو كاتب هذه السطور، ولا ضير عليه أبداً إذا ما أنقذ الرجل الكريم المضياف من هؤلاء الضيوف الثقلاء، وألهب ظهورهم بالسياط!
ولتصدقني الأديبة الفاضلة أنني أضيق بأضواء الشموع، هذه الأضواء الضئيلة، الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام. . وإذا كنت قد دأبت على إطفائها فلأنني أوثر أن أحدق في أضواء المصابيح الضخمة، المتوهجة، التي يغمر شعاعها كل حنية وكل ركن وكل تعريجة في منعطف الطريق. فلتبق هذه ولتذهب تلك، ما دمنا نريد للنور أن يقوى على مواجهة العواصف والأعاصير! هدم للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض، وإخماد للأضواء الضئيلة الهزيلة يشع على أثره كل نور وهاج. . . أهذا هو ما ألام عليه وتوجه إلى من أجله فنون الاتهام؟ شيئاً من العدل يا سيدتي أو شيئاً من الإنصاف!
بعد هذا أقول للأديبة الفاضلة فيما يختص برأيي حول فتياتنا الجامعيات، إن هذا الرأي القديم لي قد أقمته على أسس من الدراسة النفسية والملاحظة النظرية طيلة أعوام أربعة قضيتها في الجامعة. فأنا إذن لا أنقل عن أفواه الناس وإنما أنقل عن رؤية العين حين تنتهي من جولتها في حدود الواقع المحس، وعن حكم العقل حين يفرغ من رحلته في نطاق الحاضر المشهود. . . وإذا كانت هي قد التحقت بالجامعة ابتغاء لهذا الغرض النبيل، وهو أن تتزود بسلاح العلم وتنهل من منابع المعرفة، فمن الصعب أن نستدل بالمثل الفرد على غيره من الأمثال، حين يكون هدفنا وضع قاعدة عامة لظاهرة من الظواهر أو لمشكلة من المشكلات. إننا لا ننظر إلى حكم الأقلية في مثل هذا المجال، ولكننا ننظر إلى حكم الكثرة الغالبة ليستقيم منطق التفسير والتبرير!(920/40)
ولست والله حين أجهر بهذا الرأي حاقداً على المرأة أو منكراً لمكانتها الاجتماعية، متى وجدت فيها النموذج الكامل والمثل الأعلى في كل ناحية من نواحي الحياة. . . ولقد وجدت هذا المثل وذلك النموذج في يوم من الأيام، وجدته في تلك التي ألهمتني بالأمس قصة (من الأعماق) ولم تلهمني (من وراء الأبد)، تلك التي ملأت نفسي تقديراً لرسالة المرأة حين تجمع إلى اتساع الأفق سمو الخلق وجمال الروح. . . تلك التي تركت ظلها على الأرض بعد أن رحلت إلى السماء، وآثرت على ضجيج الحياة سكون الفناء والعدم!!
هذا هو ردي على اتهام الأديبة الفاضلة، ولها بعد ذلك أن تكون منصة أو لا تكون. . . حسبي أن أقول ما أعتقد، لا يدفعني إليه رضا الراضين ولا يصرفني عنه سخط الساخطين، وإنما هي حرية الرأي وجرأة القلم في عصر طبع على الرق الأدبي، وطغت عليه أمواج الخوف والكذب والملق والرياء. . . وللأديب الفاضل صاحب هذه الرسالة أخلص الشكر على تحيته المعطرة بأرج الوفاء.
مقال عن ندواتنا الأدبية:
في عدد فبراير من مجلة (الفصول) الشهرية قرأت مقالاً طريفاً عن ندواتنا الأدبية، كتبه صديقنا الأستاذ نعمان عاشور بأسلوب قصد به إلى المرح والدعابة أكثر مما قصد به إلى الجد والوقار.
إن خفة الظل وعذوبة الروح صفتان أصيلتان من صفات الصديق الأديب، ولكنني كنت أوثر ألا تطغي هاتان الصفتان على الموضوع الذي كتب فيه، لأنه من الموضوعات الجديرة بأن يبتعد في كتابتها عن مثل هذا الطابع الذي أشرت إليه، لأن الحديث عن الندوات الأدبية والتعرض لما يدور فيها من ألوان الجدل والمناقشة، جزء مهم من تاريخ الأدب حين يكون هذا التاريخ تسجيلاً صادقاً متزناً لشتى التيارات الفكرية والفنية!
لقد بدأ الأستاذ مقاله بالحديث عن ندوة (الجيزة)، حيث أرسل عدسته اللاقطة لتجوب المكان وتتصفح الوجوه وتعرض الأفكار، ولكنه كما قلت لك يقدم لقطات هدفها الدعابة حين تنتزع المشهد من أعماق الخيال. وحسبه أن يستغل اللقطة البصرية استغلالاً طريفاً وموفقاً في رسم عدد من الصور الضاحكة حيث يختار لها الأطر الملائمة التي يصنعها وفق هواه، أو وفق طبيعة الموضوع كما اراد له أن يكون! أما ندوة الجيزة التي تحدث عنها الأستاذ(920/41)
نعمان، فهي الندوة التي يؤثرها بحبه كاتب هذه السطور، ومن روادها الأساتذة الدكاترة: عبد الحميد يونس المدرس بجامعة فؤاد، ومحمد كامل حسين الأستاذ بجامعة فؤاد أيضاً، وعبد القادر القط المدرس بجامعة إبراهيم، ومحمد القصاص المدرس بنفس الجامعة. ثم الأساتذة الشعراء: محمود حسن إسماعيل وإبراهيم الوائلي ثم الأساتذة الأدباء: أنور فتح الله، وزكريا الحجاوي، ومحمود محمد شعبان، وكمال منصور. ثم يهبط عليها من حين إلى حين بعض الزائرين من أمثال الأساتذة: السيد أحمد صقر، وعباس خضر، وحمود محمد زيتون، ونعمان عاشور؛ وشاكر خصباك.
هؤلاء هم رواد الندوة وزوارها، وهذه هي بعض الصور التي رسمها لبعضهم الأستاذ نعمان عاشور: (فهناك في نهاية المكان تعود أن يجلس الشاعر العراقي إبراهيم الوائلي منصرفاً إلى كتابة رسالته للجامعة، والسيجارة لا تفارق شفتيه. حتى إذا جاءت الساعة العاشرة بدأ يبحث عن مستمع لآخر أشعاره!. . ثم ترى الدكتور عبد القادر القط يجذب أنفاساً من الشيشة في ملال، ويحاور الأستاذ أنور المعداوي ناقد (الرسالة) حول ضرورة العناية بالجانب الفني في كل إنتاج يستهدف غاية اجتماعية، متهماً أنصار الأدب الواقعي بأن إنتاجهم فارغ ومجرد ضرب من نشرات الدعاية والأستاذ المعداوي لا يطيق الإنصات، وإنما هو يدفع بنظريته عن (الأداء النفسي) ويضرب على صدور الحاضرين بمرفقيه ليفسح أمام فكرته، وكأنه لا يكتفي بتطبيق الأداء النفسي على ما يكتبونه فقط! والذي تصيبه معظم لكمات المعداوي هو الدكتور محمد كامل حسين لأنه يجلس عادة وسط المتناقشين محاولاً الحديث في هدوء، ولكن هل يحظى بالحديث الهادئ أمام هذا الأداء النفسي المعداوي؟!. . وعن بعد يجلس الشاعر محمود حسن إسماعيل. كيف يريدونه بعدكل هذا المجد أن يشتغل مدرساً في مدرسة ابتدائية، ومع أنه صاحب (أغاني الكوخ)؟ إنه لا تهمة الدرجة ولا الوظيفة قدر ما يهمه أن يكون عضواً في اللجنة التي تختار ما يقرر من شعر على تلاميذ المدارس!. . ومن الطرف الآخر تلمح زكريا الحجاوي وهو يعلق على تيلد الجالسين من لاعبي الطاولة وتبلدهم. فإذا أخطأ واحد وتكلم في الفن والأدب انفجر الحجاوي في هدير صاخب، يحدثك عن الأدب المصنوع والأدب الذاتي الموضوعي، والصلة بين الكون والفنان وأثر ذلك كله في موسيقى سيد درويش الحاصل(920/42)
على دكتوراه من الله!. . ثم أنت ترى الأستاذ أنور فتح الله في يده اليسرى مبسم الشيشة، وفي اليمنى قلم وأمامه مسرحية فرنسية يترجمها، وكلما ترجم صفحة تلفت يبحث عن مستمع وإذا لم يكن يترجم فهو ينقد، باعتباره من خريجي معهد النقد، أي ناقد مؤهل رسمياً!. . . وبجواره الأستاذ محمود محمد شعبان - غير بابا شارو كما يقدم لك نفسه - يحاوره في أدباء الصحافة اليومية وما ينتجون من أدب فارغ. وشعبان أديب متخصص في كسب جوائز وزارة المعارف العمومية، وقد حصل في سنة واحدة على ثلاث جوائز!
وفجأة يهبط على الجالسين عزت حماد منصور، وهو أديب ساخط متهكم: ما فائدة الأدب وما فائدة النقد؟ ثم إن واحداً لا يقرأ إنتاجهم فليس في البلد قراء، لماذا يتعبون أنفسهم ويرهقون شبابهم؟! أليس الأجدى لهم الانصراف إلى حياتهم الخاصة ينظمونها؟! فإذا سألته: لماذا ظل يكتب هو نفسه؟ أجابك صائحاً: مرض!. . . ثم تخرج من القهوة لا يخالجك شك في أن ما يقوله إن هو إلا تنفيس عن الركود الذي يشيع في حياتنا الاجتماعية ذاتها. ولو حاولت أن تقنعه بذلك لأصر على وصف أدباء الندوة بأنهم جماعة من الفدائيين)!
هذه هي (عينة) من كلمات صديقنا الأستاذ نعمان، أما صديقنا الآخر الأستاذ عزت فو أديب ساخط متهكم حقاً، يتناول الحياة والأحياء بأسلوبه الساخر اللاذع، ثم ى يعفي نفسه من مثل هذه السخرية الساخطة في كثير من الأحيان، حتى لينتزع الضحكة الصاخبة من أكثر الوجوه قدرة على التجهم والعبوس فهو مثلاً إذا شكا سوء حظه في الحياة قال لك: (صدقني أنه لو قدر لي أن أكون بائع طرابيش، لتعمد الله أن يخلق أناساً بغير رؤوس)!!. . وحدث أن هبط على الندوة ذات مساء فأسر إليه أحد الجالسين في خبث، أن الأستاذ عاشور قد شتمه في مقاله عن (الندوات الأدبية)، وحين علم صاحبنا أن المقال قد نشر في مجلة (الفصول) تحول إلى كاتب المقال ليقول له: (أنا متشكر يا أستاذ نعمان. . لأنك شتمتني في سرك)!!
والتفت إلي الأستاذ نعمان يسألني عن معنى النكتة. . ثم أغرق في الضحك وأغرق معه الحاضرون، حين قالت له: إن معنى النكتة أنك شتمته في مجلة لا يقرأها أحد!!
حول شاعر من السودان:(920/43)
أخرجت إلى حيز الوجود مذهب (الأداء النفسي) الذي تجاوبت أصداؤه في أرجاء العالم العربي، وربط بين كثير من أدباء العروبة برباط الحق والخير والجمال. . . وقد عرفنا الأداء النفسي أصدق محك نتناول به القيم الفنية والأدبية، فإما أن نخرج من لمسات المبضع تقطر روعة وقوة، وإما أن تخرج وهي كومة من الهشيم تذروها الرياح!
ولا أثقل عليك يا سيدي فإعجابي بك لا تصوره هذه الكلمات واسمح لي أن أخاطبك في الأمر الذي كتبت إليك من أجله. . . التيجاني يوسف بسير شاعر سوداني لم يترك من الآثار الأدبية سوى ديوانه (إشراقة) وإني لألتمس من الأستاذ الناقد أن يضعه على مشرحة النقد ويسلط عليه أضواء قلمه، لتفهمه كما يجب أن يفهم. وأخيراً تحياتي وإكباري.
(أم درمان ـ المعهد العلمي)
وداعة عكود
أود أن أشكر للأديب الفاضل كريم تقديره، أما عن رغبته في أن أكتب عن شاعر السودان الراحل فيؤسفني أن ليس بين يدي شيء من شعره، كما يؤسفني مرة أخرى أن أسمع عنه من قبل دون أن أقرأ له. . . إنني لن أتأخر عن النظر في ديوان هذا الشاعر إذا ما تفضل أي قارئ من قراء (الرسالة) وبعث إلي به، ولن أتأخر عن الكتابة عنه متى وجدت فيه تلك الومضات المنشودة من ذلك الأداء الذي دعوت إليه.
أنور المعداوي(920/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
من هم العرب المقصرون؟:
أقام الأستاذ أسعد داغر السكرتير العام لجمعية الوحدة العربية - حفلة شاي لتكريم سمو الأمير فيصل آل سعود، في نادي الجمعية بالزمالك يوم الأربعاء الماضي. وبعد تناول الشاي ألقى الأستاذ داغر كلمة عبر فيها عن ألمه لما صارت إليه حرب فلسطين ولسوء الحال في الموقف العربي الحاضر الذي لا يراه خيراً مما كان، نظراً إلى الخطر المتوقع من جانب الصهيونيين المضطرين إلى توسيع رقعة إسرائيل حتى تتسع اللاجئين إليها من يهود العالم.
وقد عزي الأستاذ ما منينا به من الهزيمة إلى ضعف الوطنية الذي قعد بنا البذل والتضحية، وقال بضرورة العناية بتكوين المواطن الحقيقي، ليكون لبنة قوية في بناء الأمة العربية. وقد أعقبه الأستاذ توفيق دياب بك بكلمة حماسية فياضة، أيد فيها الأستاذ داغر من حيث تكوين المواطن العربي الصالح. ثم تحث سمو الأمير فيصل حديثاً هادئ النبرات قوي المعاني، صرح فيه بتقصير العرب وتهاونهم، مشيراً إلى إصبع الاستعمار في ذلك إذ قال سموه: لي رجاء واحد هو أن نتناسى المشاحنات التي ورثنا الاستعمار إياها وغرس بذورها للقضاء على وحدتنا، هذه الحزازات وهي السم الذي دسه العدو في دمائنا وأفكارنا.
وهكذا أجمع خطباء الحفلة على أننا جميعاً مقصرون. وأنا أريد أن أفهم المقصود من الضمير (أنا) في (أننا) وهل هو يشمل العرب كلهم شعوباً وحكومات. . . ثم أسأل كيف قصرت الشعوب؟ وأوجه السؤال إلى الأستاذ داغر الذي رمى المواطنين العرب عامة بضعف الوطنية، وإن كنت ألتمس له العذر من حيث مراعاة المقام الذي تحضره شخصية رسمية كبيرة.
إن الأمر لا يرجع إلى تاريخ بعيد، فقد رأينا إبان الحملة العربية المصرية على الصهيونيين - رأينا المشاعر تتوقد والهمم تتوثب، استبسل الجيش جنوده وضباطه، وهرعت وفود المتطوعين إلى الجهاد، وجاد الكثيرين بأموالهم. ولقد استشرى الحماس في جموع الشعب بالقاهرة إلى حد التهور والاعتداد المخطئ. وكان يصل غلينا صدى مشاعر(920/45)
الغضب الذي كان يبديه إخواننا في كل بلد عربي يلتوي ساسته فيتقاعس جيشه.
ولم يفسد الأمر كله إلا رجال الحكم والسياسة أو الذي جرى في دمائهم السم المدسوس من قبل الاستعمار. إن التبعة كلها تقع على الحكومات ومن ورائها الاستعمار. وإذا كان اليهود أخفقوا في تسميم الآبار فإن المستعمرين نجحوا في إطلاق الجراثيم على بعض المسئولين، والجراثيم أنواع لا أرى حاجة إلا تفصيلها.
حتى الجامعة مظلومة. . . فإني لا أذهب مع المغالين في لومها إذ أرى أن كل اضطراب فيها وكل اختلاف في لجانها إنما هو انعكاس لأغراض واتجاهات الحكومات المختلفة، ولن تكون الأمانة العامة مسئولة حقاً حتى يكون لها جيش وسلطان.
أما المواطنون العرب فإنهم لم يقصروا، وإن لوحظ فيهم ضعف فإنما هو ضعف مقوماتهم الاقتصادية والاجتماعية وسخطهم على المغترين بزخرف الحياة الدنيا، والتكوين الحقيقي لهؤلاء المواطنين إنما هو بإزالة هذه الأسباب قبل كل شيء.
وأوجه كلمة صغيرة إلى الأستاذ أسعد داغر باعتباره السكرتير العام لجمعية الوحدة العربية، وإلى غيره من رجال العروبة (غير الرسميين) تلك الكلمة هي الاتجاه - في الدعوة إلى البعث العربي - إلى المواطنين من شعوب العرب لتكوين رأي عربي عام منظم يرفع صوته ويعمل ما في وسعه لخير العرب، بل أقول: لتوجيه الحكومات.
أولئك المواطنون وذلك الرأي العام المنشود، وهم الذين نعنيهم ونحس بوجودهم حينما نتفاءل وحينما تداعبنا الآمال في مستقبل الأمة العربية.
هل نحن مثقفون بالثقافة الإسلامية؟
التقيت أخيراً بشخصية كبيرة من الباكستان في مجتمع بالقاهرة، ودار بيننا حديث شاقني فيه أن الرجل ينظر إلينا - معشر المصريين - وإلى بعض شؤوننا التي لا نلتفت إلى ما فيها من عيوب للفتنا إياها، نظرة المستشرف المبرأ من هذه الألفة الساترة. . . وقد ناقشته في بعض الأمور، ولم يسعني إلا أن أسلم بأكثر ملاحظاته، مع إعجابي بروح الأخوة الإسلامية التي استشعرتها في حديث ونبراته ونظراته الفياضة بالإيمان العميق.
قال: نحن نسمع عن مصر باعتبارها زعيمة الدول العربية والإسلامية ومركز ثقافة العرب والإسلام، فنشتاق إلى أن نقتبس منها ونغترف، ولكنا نجيء إليها فنجد فيها كل شيء(920/46)
أوربياً، فالحالة الاجتماعية كما تعرف، وصحفكم ومجلاتكم مملوءة بما تعلم، وقد حضرت بعض الحفلات الكبيرة التي تضم كبراء ووزراء وأجانب فهالني أن أرى مثلاً في إحداها راقصة مصرية - وقد عرفت أنها مسلمة! - ترقص شبه عارية ثم قل لي: أين الثقافة الإسلامية والعربية عندكم؟
رحت أحدثه عن مظاهر ثقافتنا العربية الإسلامية مشيراً إلى أن إخواننا الباكستانيين لا يطلعون عليها لعدم إجادتهم اللغة العربية. ولكن الرجل بادرني بقوله: أنت تقصد الكتب! أنا أعني اثر هذه الثقافة في النفوس وطابعها في الحياة. . .
قلت: لا أنكر أننا نأخذ كثيراً من أوربا في حياتنا وثقافتنا، وهذا شيء طبيعي، فاحتكاك الحضارات وتفاعلها مسألة مفروغ منها.
قال: هذا حسن لو أنكم تأخذون ما يفيد، ولكني أراكم تأخذون كل شيء وأكثره سيئ لا يتفق مع روح الإسلام، ونحن في الباكستان لم يستطع الأجانب أن يحولونا عن روح الدين الحقيقية، ولم نأخذ عنهم إلا ما يفيد من علومهم وحضارتهم.
قلت: إنكم تحكمون بناء على اختلاطكم بالبيئات التي يسمونها طبقات راقية.
قال: كلا، لقد جلت في مختلف أحياء الشعب وصليت في مسجد الحسين والسيدة زينب وغيرهما. ومما لاحظته أن الطبقات الفقيرة لا تستنكر ما يأتيه الأغنياء من المفاسد، وإنما تنظر إلى هذه المفاسد نظرة المحروم الذي
لو وجد المال لما تردد. . . ويعنيني هنا الواعز الإسلامي الذي يتحكم في الأعماق والتصرفات والذي يؤسفني أني لم أعثر عليه.
وسكت الرجل المسلم ثم قال: أحدثك بشيء حدث، لا يخلو من نكتة لطيفة، فقد اتجهت الرغبة الباكستانية إلى الانتفاع ببعض النشاط المصري السينمائي، فأرسل بعض الأفلام المصرية لتعرض هناك. فلما عرضت على الرقيب قبل عرضها أبدى دهشته قائلاً: أهذه أفلام أنتجت في بلاد مسلمة. .؟ أنا لا أصدق أن هذه أفلام مصرية! إنها من صنع اليهود يقصدون بها الإساءة إلى سمعة مصر!!
تأبين حافظ عوض بك:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المغفور له الأستاذ أحمد حافظ عوض بك يوم(920/47)
الأربعاء الماضي بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية. وقد ألقى الأستاذ عباس محمود العقاد كلمة التأبين التي استغرقت نحو نصف ساعة، أتى فيها بدارسة دقيقة وافية للفقيد. وخاصة ما يتصل بأدبه وثقافته ومكانته في جيله. بدأ الأستاذ بقوله:
يتفق للكثير م النابغين والنابهين أن تختار لهم الحوادث غير ما يختارون، وأن يندموا على الواقع ثم تنجلي سيرتهم كلها عن الحقيقة التي احتجبت عنهم في مطلع الحياة: وهي أن الخيرة في الواقع الذي لم يطلبوه ولم يتوقعوه. رأينا مثلاً لهذا في حياة فقيد كريم نعيناه قبل نحو سنتين، وهو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، ونرى اليوم مثلاً آخر له في فقيد اليوم الأستاذ أحمد حافظ عوض بك رحمهما الله.
كلاهما يقصد إلى الاشتغال بالتعليم والصحافة في نشأته الأولى وكلاهما قد انتهت به الخيرة الواقع إلى الاشتغال بالتعليم ثم بالكتابة فكان عالم الكتابة علماً من الأعلام. ثم قال: فقد عاش حافظ بسليقة المعلم والكاتب في كل يوم من أيامه، وكتب ليعلم في كثير من رسائله ومقالاته، بل لعله يتحدث ليعلم ويعتز بالخبرة التي تسوغ له التعليم وتشفع له فيه، فأطلق عليه أصحابه ومؤيدوه وزملائه في الصحافة اسم (المعلم).
وتحدث الأستاذ العقاد عن أسلوب الفقيد في الكتابة والموضوعات التي يتناولها، فقال إن كتابته الصحفية كانت تتسع للسياسة وغيرها، ومنها ما هو بعيد عن الوضوعات التي تعود للصحفيون أن يطرقوها في الصحافة اليومية. وكان أسلوبه في السياسة أطبع ما يكون حين يتخذ له موضوعاً من موضوعات النقد التهكمي والتصوير الفكاهي، وهي طريقة كان رحمه الله يحسنها ولا يتعدى بها أن يضحك القراء من المنقود دون أن يجرح أو يؤذيه، أما أسلوبه في الأدب فقد كان أطبع ما يكون حيت يصف شعور الحنان والعاطفة الشجية. وقد امتاز أسلوب الفقيد في الموضوعات جميعاً بالصفاء والسلامة، وشفت كتاباته عن مصادر ثقافته في اللغات الأوربية واللغة العربية.
وتحدث الأستاذ العقاد عن مصادر ثقافة الفقيد الغربية والعربية واستدل على ثقافته العربية ببعض ما كتبه في رسائله إلى ولده، ومن ذلك قوله في بيان الطريقة التي جرت عليها في دراسة دواوين الشعراء: - كنت أعد لكل شاعر دفتراً صغيراً وأنقطع ساعة أو ساعتين لتصفح ديوانه فأقرأ القصيدة مرة واحدة وأتصور عند تلاوة كل البيت من أبياتها ما إذا كان(920/48)
من الممكن أن أحتاج إلى هذا البيت أو ذلك المصراع للاستشهاد به في موضوع إنشائي أو خطاب رقيق لأديب من أصدقائي أو في واقعة حال أ , في إشارة إلى شيء مما كنت أتخيله في نفسي فإن وجدت في البيت أو في أحد مصراعيه أو في تعبير منه ما أظنه ينفعني قيدته في دفتري) وعلق الأستاذ العقاد على هذا بقوله: والذين عرفوا الفقيد يعرفون أنه كان في أحاديثه كثير الاستشهاد بالأبيات والمقطوعات في مناسباتها، وكان يقدم أحاديثه أحياناً بالبيت والأبيات حيث تقع من موقعها وتنبئ بالحديث الذي يتلوها، وأذكر أنني تيقظت ذات ليلة على دق التليفون فإذا بصوت حافظ بك يناديني:
يا نائم الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
وكان ذلك ليلة أن صدر الأمر بتعطيل الصحيفة التي كنا نكتب فيها، فعلمت جلية الخبر من المصراع الأول قبل تمام البيت وختم الأستاذ العقاد هذه الدراسة الموجزة الشاملة بقوله: وأوجز ما يقال في تقدير الزميل الفقيد وتكريم ذكراه، أنه رحمة الله عليه كان في طليعة الرواد المصريين لفن القصة الاجتماعية، وكان له نصيب مشطور في القيام على عهد الخضرمة بين مرحلة التقليد ومرحلة التجديد، وسهم مذكور في التعريف بتريخ هذه الأمة ردحاً من الزمن ينبه القراء إلى تواريخها في جميع الأدوار، وأنه زود العربية بذخيرة من المفردات لا غنى عنها للألسنة والأقلام.
عباس خضر(920/49)
البريد الأدبي
الدخان في الشعر
غريب أن لا يتناول شعراؤنا (شرب الدخان) في شعرهم وقد بلغ من سرعة الانتشار هذا المبلغ العظيم فما وصفوا الدخان وهو يتصاعد من لفافته كسحاب الصيف، ولا صوروه وهو يخرج من فم شاربه كزفرة العاشق أو نفثا المصدور، ولا دعوا الناس إلى الإقبال عليه بمدحهم لمنافعه وإطرائهم فوائده، ولا صرفوهم عنه بسردهم عيوبه ومضاره، على حين أنهم ما برحوا ينظمون في الخمر واصفين ومادحين وهاجين، وهم يعلمون أن السابقين قد ابتغوا المدى في ذلك كله.
فإلى هذا الموضوع الخطير أدعو رجال الشعر وأرباب القريض
الإسكندرية
فتحي بسيوني دعبس
تاريخ البرعي الشاعر
السلام عليكم وبعد، جاء في العدد 916 في ص110 عند كلام الأستاذ حامد الجرجاوي على نشأة البديعيات أن العارف بالله عبد الرحيم البرعي توفي سنة 480 - وقد ذكر السيد زبلرة في ملحقه على البدر الطالع أن وفاته سنة 803 - والفرق يزيد على ثلاثة قرون - وذكر السيد الزبيدي في شرح القاموس في مادة (برع) سيدي عبد الرحيم ولكنه لم يذكر سنة وفاته بل قال إنه من المتأخرين.
فهل يتفضل الأستاذ حامد الجرجاوي بأن يخبرنا عن المصدر الذي رأى أن وفاة البرعي كانت سنة 480، فإن البرعي على شهرته تكاد سنة وفاته تكون في حكم المجهول فإذا جلاها لنا الأستاذ الجرجاوي فإنه يحسن صنعاً.
عبد السلام البحار
الرسالة: يظهر أن هناك خطأ في نقل الأرقام، ولعل صوابها
804(920/50)
أخطاء شائعة:
جاء في (مغنى اللبيب) للعلامة (ابن هشام) أن (قد) لا تدخل على الفعل المنفي، ولم يذكر خلافاً في ذلك. ولكن (ابن مالك) قال في ألفيته في آخر بيت من أبيات باب (الممنوع من الصرف)
ولاضطرار أو تناسب صرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
فأدخل (قد) على الفعل المنفي.
فهل يفهم من ذلك أن (ابن مالك) لا يرى مانعاً من دخول (قد) على الفعل المنفي؟ أم أنه أخطأ فقال هذا من غير قصد؟. الظاهر الثاني.
وجاء في مقالة للسيدة (أمينة السعيد) تحت عنوان (ذكريات حواء في الجامعة): (. . . أحب الحياة وأكره أن أخفي عن الناس حبي لها طالما كان ضميري مستريحاً) إذ أن (طالما) التي معناها (كثيراً ما) لا يمكن أن يكون لها معنى هنا.
قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
وجاء في مقالة بمجلة (الحديث) للأستاذ (محمد شعبان) تحت عنوان (نظرة في كتاب أغاني القبة) (أجمع العلماء على استحسان تكرار حرف النداء مع التوابع المستقلة سيما إذا تعددت.)
والصواب (ولا سيما إذا تعددت) فقد جاء في (مغنى اللبيب) عند الكلام على (لا سيما): (وتشديد يائه ودخول (لا) عليه ودخول (الواو) على (لا) واجب. قال ثعلب: من استعمله على خلاف ما جاء في قوله (ولا سيما يوم بدارة جلجل) فهو مخطئ. انتهى)
(وجاء في المصباح المنير): (ولا تستعمل إلا مع الجحد، ونص عليه أبو جعفر أحمد بن محمد النحوي في شرح المعلقات ولفظه: ولا يجوز أن تقول جاءني القوم سيما زيد حتى تأتي بلا لأنه كالاستثناء. وقال ابن يعيش أيضاً: ولا يستثنى بسيما إلا ومعها جحد. وفي البارع مثل ذلك. . . الخ)
أحمد مختار عمر(920/51)
إلى أستاذنا الزيات:
كنت ولا أزال من المعجبين بأسلوبك الرائع الأخاذ، وذلك الأسلوب الساحر ذو الجرس الفاتن البليغ، الذي يملك على قرائك زمام تفكيرهم فينقلهم إلى عوالم الحق والخير والجمال. ولا أحابيك أو أداجيك إذا ما قلت إنك أثير لدي - على رغم إيجازك - أكثر من أندادك الكتاب الذين لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم إلا بالإطناب والتطويل. وهو ما لا يرضاه البليغ الواقف على أسرار العربية. وقد زاد هذا الإعجاب حتى بلغ الذروة يوم أشرقت علينا (رسالتك) الحبيبة، وهي تحمل لدين الناطقين بالضاد افتتاحيتك الجبارة الموسومة بـ (ثوروا على الفقر قبل أن يثور)! لقد كانت - والله شاهد على ما أقول - درة الأمة في جيد الرسالة - قرأتها مرات وفي كل مرة كانت تسمو في عيني وفكري حتى ارتفعت إلى قمة لم تبلغها مقالة كاتب من قبل وقد تعجب وتقول: وما مرد هذا كله لدى شاعر يعيش في أفق الوهم؟! أما أنا فاسمح لي أن أهمس في أذنك بكلمة واحدة: هي أنك الآن استطعت أن تعبر عن شعور الملايين من الشعوب العربية المبتلاة بأرباب المناصب والألقاب، الذين ما وصلوا إلى كراسيهم تلك التي ذكرتها إلا بجهود الأيدي العاملة وغفلة عقولهم. فما ذكرته عن مصر هو بعينه في العراق. فهل لك أن توجه إلى وزرائنا الذين لا يزالون يعيشون في أبراج عاجية، مقالاً كمقالك (ثوروا على الفقر قبل أن يثور)؟!
صدقني يا سيدي أنك بعملك ذاك ترضي هذه الملايين التي تعيش على ضفاف الرافدين، إرضاء يجعل من اسمك عندهم أغرودة عذبة الرنين! فهل آمل على يديك خيراً لهذا الشعب المسكين الذي يتنعم برفاه الجهل، وظلال الفقر، وعز المرض. . بهمة وزراء المعارف والشؤون الاجتماعية والاقتصاد؟!
وعليك يا سيدي منا السلام. ولك الشكر والإعجاب
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
تصويب:(920/52)
وردت شطرا على غير وجهها في أحد أبيات قصيدة (صحراء العجائب) المنشورة في العدد الماضي لالتباس التصحيح وصوابه كالآتي: -
به سحنة الواشي، لها سبع أعين ... لها سبع آذان، وسبع حقائب!(920/53)
القصص
لحن الوداع. . .
للأستاذ عبد القادر حميدة
كانت الساعة الرابعة مساء. . . حين نزل موزع البريد عن دراجته. . أمام ذلك المبنى الهائل القابع بميدان سليمان باشا. . . ودلف من باب العمارة الضخم. . . ثم ألفى نفسه بالطابق الثالث يضغط على جرس الشقة رقم 4. . .
وناوله الخادم رسالة رجا منه أن يؤديها لسيده. .
وفضها الدكتور وطفق يلتهم سطورها في لهفة. . .
وفجأة تقلصت عضلات وجهه. . . وشحب لونه. . . واتسعت حدقتا عينيه. . . وزاغتا بين العبارات في ذهول وشرود. . . ثم فركهما. . . وأنعم النظر ثانية في الرسالة غير مصدق ما تطالعه به حروفها. . .
وتناول معطفه. . . وغادر العيادة. . . وفي كيانه ثورة جامحة تنتفض وتهزه هزاً عنيفاً. . . وتندلع من عينيه ألسنة من لهب صارم جبار. . . وهو يردد في إصرار وتحد بين آونة وأخرى. . .
يا إلهي. . . أيمكن أن يحدث هذا؟؟
وهناك في منزله. . . ألقى على زوجه نظرة قاسية عنيفة. . . تركزت فيها مشاعره الثائرة. . . قائلاً بصوت أجش فيه صرامة واعتداد. . .
الليلة سأغادر القاهرة. . . لمسائل خاصة بعملي. . . وسأعود بعد أربعة أيام. . .
وحاول أن يغوص في أعماقها. . . ليستشف ما أحدثه وقع الخبر على سمعها. . . لكن صوتاً رقيقاً كأنه النغم العذب همست به شفتاها انساب إلى أذنيه في هدوء حالم. . .
ـ وهل أغضبك يا حبيبي أن القدر سيختلس أربعة أيام من حياتنا السعيدة، ويحرمنا سماع ذلك اللحن الخالد عندما تتهامس شفتانا. . . وتلك الأنغام العذبة عندما يبسم ثغرك. . . ويخفق صدرك. . . وأنا ملصقة بك. . . ألوذ بأحضانك. .؟
الله معك. . . وطيفك معي. . . سأتخذ منه رفيقاً يهدهد صدري. . . ويرفرف علي بجناحيه. . . حتى تعود. . .(920/54)
وانبرى يريد أن يقول شيئاً. . . ولكن الكلمات ماتت على شفتيه. . . ولم يدر كيف اغتصب تلك الابتسامة المصطنعة - وهي تمتد أناملها البضة لتجفف دموعها التي انسابت غزيرة على خديها - وقال في خبث ودهاء: هو كذلك يا حبيبتي. . . ولكن ما حيلتنا؟
والآن. . . أود أن تسمعيني لحن الوداع الذي وضعناه معاً في لحظة ما. . . على ألا تنتهي منه حتى أكون قد بعدت عن البيت تماماً. . . لعلي أجد في سماعه ما يهون ضخامة الفجوة التي ستباعد بيني وبينك طيلة الأيام الأربعة. . .
وجلست إلى البيان تعزف عليه بأناملها المرهفة. . . فتصاعدت أنغام حزينة رائعة تفيض سحراً وحناناً وتتمثل في إيقاعها روعة الفرقة وألم البين.
بيد أنه عندما تركها لم يكن قد خرج ولكنه دلف إلى حجرة مكتبه في انسياب الثعبان؛ وعندئذ أحكم رتاجها في حذر وران الصمت الرهيب على أرجاء البيت فبدا في سكون مدينة الأموات كان النهار قد رقد بين أحضان الليل. . . والقمر قد صب شعاعه الهادئ الحنون على الكون. . .
والخمائل قد استسلمت إلى مداعبة الأنسام الرطبة. . .
كما كان حمدي مستسلماً إلى أفكاره الحائرة. . .
إنه الآن يستطيع أن يفعل شيئاً. . .
إنه يستطيع أن يقف على جلية الأمر. . .
ونزع يده من جيبه وهي مطبقة على الرسالة. . . وانسكب عليها ضوء القمر الحالم خلال النافذة فقربها من عينيه وقرأها للمرة العاشرة. . .
وخيل إليه أن أتونا مستعراً يصهر أعصابه حين نظر إلى ساعته وأدرك أنه لم يبق سوى ستين دقيقة يحسم بعدها موقفه من زوجه الخائنة كما تطالعه الرسالة بالموعد الذي سيلقاها فيه شريكها في الإثم. . .
وخلال ذلك الصراع العنيف الجبار الذي اكتنفه وتنازعه طويلاً وقع بصره دون قصد على إطار جميل يضم بين زواياه صورة زوجه. . .
فاقض عليها ليحطمها، لكنه خاف أن يحدث ضجة تفسد عليه خطته، وتكون حائلاً بينه وبين الحقيقة السافرة التي سوف تنبلج بعد قليل فتراجع. وأذهله الزمن عن حاضره(920/55)
لحظات اندفع فيها إلى أركان الماضي البعيد القريب. . . ومن ثم تراءت له أحداث ووقائع راحت تتدفق على ذهنه المكدود حتى انتهت به إلى سعير تلك الخيانة المخيفة. . .
كان طالباً بالسنة النهائية بكلية الطب حين برزت في حياته (ميرفت) و (ميرفت) مثال خلاب من الفتنة الطاغية يتمثل في وجهها سحر الشرق العنيف، وجمال الغرب الفتان، ذات عينين عميقتين زرقاوين، وشعر كأسلاك الذهب، ينسدل في تماوج على عنق من العاج، تزهيه بشرة كأنها المرمر. . .
وكان صاحبنا قد قرأ فيما قرأ مقطوعة شعرية رائعة للشاعر الفريد دي موسيه يصف فيها محبوبته. . . فكمنت في أعماقه تلك الصورة الشعرية، وتأثر بها أيما تأثر، فبات يحلم بفتاة أي فتاة، يرى فيها خياله وحلمه. . .
ولم يتردد في حب ميرفت حين وجدها على الصورة البارعة التي خلقها في ذهنه الشاعر الفرنسي، وكأنها هي الأخرى شعرت بما يحمله لها بين حنايا ضلوعه، فكانت إذا قابلته عند ذهابه وإيابه من الكلية - تتضرج وجنتاها وتغض من بصرها. . .
أما حيلته هو في هذا لحب فكان يستلقي على فراشه ليستعيد الدقائق التي مرت بهما في مقابلة عابرة. . . ويجنح إلى الخيال العريض، ويودع طيات حبه أمنيات كثيرة، ويشيد عليه كثيراً من أهداف مستقبله، وتعددت، المقابلات. . .
وارتفعت درجة حرارة هذا الطارئ الجديد. . .
من نظرة مختلسة بادئ الأمر، إلى كلمات تنقصها بعض الجرأة، إلى رسائل الغرام الملتهبة، حتى التقيا في خلوة هادئة بعيدة عن أنظار الفضوليين. . .
في الحدائق، وعلى شاطئ النيل، تبادلا أعذب ألفاظ الحب والهيام. . .
ووسط تلك العاصفة الفياضة. . . ارتبطا معاً بوعد الزواج. . .
وحصل حمدي على إجازته الجامعية. . . ولتقدمه البين كان من الطلبة الذين حازوا شرف إيفادهم إلى الخارج. . .
لم يسر لتلك المنحة الجامعية التي تعده بمستقبل زاهر، بل ظن أن الدهر يريد أن يحرمه سعادته ـ وإذا كان القدر ينقل خطانا كيفما يعن له. . . وما نحن إلا دمى ضئيلة تترنح تحت معوله - فلا ضير عليه أن يدخل بأنفه ليبدد الحلم الذي تحقق أو كاد. بيد أن الذي(920/56)
هدأ من روعه أن معبودته الفاتنة انتزعت من رأسه فكرة الإحجام عن السفر إلى الخارج. . . وفتحت أمامه باب الأمل على مصراعيه. إن حمدي يذكر جيداً تلك الليلة، ليلة السفر، وإن شيئاً هاماً ليظل عالقاً بذهنه حتى الموت. . . إنه اللحن الخالد، لحن الوداع، الذي وضعناه معاً وهما سابحان في رحلة حالمة بين أطباق نفسيهما العليا وأغوارهما المتباعدة. . .
وإنه ليذكر أيضاً تلك الرسالات المعطرة التي كانت تبعث بها إليهفي بلاد الغرب، تطمئنه أن قلبها لن يسع إنساناً غيره، وأنها قد أغمضت عينيها عن جميع شباب هذا الجيل. . .
عاد حمدي إلى أرض الوطن. بلد الحبيب مزهواً بما ناله من علم. ومال ينتظره من سعادة. . .
وصارح والده برغبته في الزواج من ميرفت فوافق على الفور.
وشهدت القاهرة ليلة من ليالي العمر، تزوجا فيها، وبلغا أقصى أمانيهما. . .
وانقضت سنة أنجبا فيها طفلاً. . .
وجاء اليوم المشؤوم الذي جاءته فيه الرسالة. . .
إن موزع البريد لم يخطئ حين أعطاه إياها برغم أنها مكتوبة بعنوان زوجه. كل الذي يدركه أن القدر أراد أن يمنحه الفرصة السانحة لينتقم لشرفه المثلوم الذي كان يقدسه ويقدره. . .
ترى. . . إلى أي مدى وصلت علاقتها (بصلاح) هذا الذي ذيل الرسالة باسمه القذر، والذي سوف يمحى من قائمة الأحياء بعد قليل؟
وما كنه هذه العلاقة؟ وكم من الآدميين أدركوا أنه زوج غافل مخدوع؟ وأيقظه من غفوة أفكاره قرع خفيف على الباب الخارجي. . . فيه خوف واضطراب. . .
فانفجر بين خواطره بركان هائج ثائر يقذف بالحمم. وأدرك لتوه أن الساعة قد اقتربت، وأن الموعد المضروب قد أتى به ركب الزمن. . .
وزاد من يقينه وقع خطوات مرتجفة اندست إلى مخدع الزوجية المدنس. . .
وابتدأ حبل الشيطان يلتف حول جسده. . .
واستولت عليه قوة مفاجئة جعلته يخطو إلى الردهة في تباطؤ وحذر. . .(920/57)
لكن بريقاً حاداً التمع أمام ناظره، فحول بصره ليستقر على مسدس رابض فوق مكتبته. . . فجذبه في نشوة، واندفع كالسهم، ووقف عند باب الحجرة يسترق السمع. . .
وانبعثت من جوف الحجرة قبلة صاخبة صفعته في قوة، فركل الباب بحذائه. . . وقبل أن يلجه انطلقت أربه رصاصات من فوهة مسدسه أصابت المرمى. . .
فهدأت ثورته، وداخلته راحة نفسية، ولذة غريبة. . .
وتلفت حوله بعد أن رأى زوجه تنتفض في لجة من الدماء، فشاهد مخلوقاً صغيراً يبتسم في بلاهة تبين فيه طفله الصغير. . .
شيء واحد إطار صوابه وجعله يهذي كالمحموم، هو. . . أنه بعد وقوع الحادث بقليل سمع وقع أقدام تهبط على الدرج من الطابق العلوي للمنزل يقطعه صوت رقيق. . .
- آه. . . تذكرت يا صلاح! لعل السيدة التي تقطن الشقة التي تحت شقتنا قد تسلمت الرسالة. . . كما حدث في الرسالة السابقة لتشابه اسمينا!!
عبد القادر حميدة(920/58)
العدد 921 - بتاريخ: 26 - 02 - 1951(/)
الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
- 5 -
النتائج الاجتماعية للاختبار الديني
ليس التاريخ الديني إلا تاريخ الصراع الناجح الذي توصل فيه الإنسان إلى الانفعالات النفسانية والطمأنينة الروحية التي اختبرها في امتثاله لتعاليم الأديان على حد قول (جورج سميل) الفيلسوف الاجتماعي الألماني.
حاول سميل ومفكر بريطاني آخر أن يتلمسا أوجه الشبه بين النظم الروحية وبين النشاط الفكري الذي يحمل في ثناياه متعاً روحية كالفن والشعر والأدب الرفيع وفلسفة التشريع والعلوم المادية.
وليس يعنينا في هذا البحث استعراض أوجه الشبه هذه وإنما لفتنا النظر إليها لبيان ما تنطوي عليه معارضة بعض المثقفين المحدثين من الذين نفروا من الحياة الدينية واستعاضوا عنها بالفن والمتعة الروحية المستمدة منه ومن فلسفة التشريع والعلوم الطبيعية.
ولعلنا نوفي هذا الاستعراض حقه إذا حاولنا التعرف على حقيقة الاختبار الديني والمسالك العاطفية والنفسانية التي ينتهجها.
يحلو لبعض الناس ومنهم الصوفية والمنقطعون إلى العبادة أن ينادوا بأن الدين في أصوله ليس إلا تأملات في النفس وخالقها وفي النظام الكوني. ويقول الدنيويون من خصوم الحياة الدينية إن الأديان وليدة التأمل في الخليقة وبارئها؛ وعليه يجب ألا تتعدى حدود التأمل والعبادة.
ومثل هذا الوصف لا يعطي إلا صورة مشوهة عن وظيفة الدين وحقيقة الاختبار الديني.
ولقد رأينا كيف حاول (دير كهايم) أن يجيب عن التساؤل الذي شغل الناس في الغرب منذ قرون وهو. هل تسبق العقيدة الاختبار الديني، أم أن ذلك الاختبار هو الذي يساعد على رسوخ العقيدة في نفسية المؤمن؟ وهل الطقوس الدينية مستمدة من العقيدة، أم الصواب عكس ذلك؟(921/1)
فكان الجواب أن هنالك تواكلاً بين العقيدة والاختبار الديني المعبر عنها. فهما عنصران يكونان حلقة واحدة؛ فالتساؤل عن إيضاحها كالتساؤل المنطقي القديم (من يأتي أولاً؟ الدجاجة أم البيضة)؟
وحاول مفكر ألماني شهير أن يضع لهذا التساؤل حداً يرد به على الدنيويون فقال: إن الاختبار الديني هو في الواقع مزيج من الإدراك العقلي والشعور النفساني (السيكولوجي) وليس المهم أن نحدد أيهما يسبق الآخر، وإنما المهم أن نقرر بأن الاختبار الديني سلوك يدور في نطاق هاتين الحقيقتين.
وأخذ كاتب ألماني آخر هذا الجواب وبنى عليه بحثاً جعله في ثلاثة أبواب: -
(1) العقيدة والاختبار الديني.
(2) الطقوس والاختبار الديني.
(3) النتائج الاجتماعية للاختبار الديني.
وسنعتمد إلى حد بعيد على هذا التقسيم في هذا الفصل من دراستنا.
العقيدة
يقول (لاوي بروهل) في دراسته الشهيرة إن الأسطورة أو الخرافة التي تتعلق بها المجتمعات البدائية تتطور فتصبح عقيدة عند المجتمعات المتحضرة. وللأساطير لغتها المنطقية الخاصة. والأساطير التي تتعلق بالآلهة عند المجتمعات البدائية تتفرع وتتشعب ولكنها تتحد في الجوهر. وحين يأخذ المجتمع البدائي بأسباب الحضارة تتقلص أنواع أساطيره ويندثر بعضها لتفسح الطريق أمام ملحمة محبوكة الأجزاء. ويلعب التطور الفكري والنمو العقلي دوره الكبير في خلق هذه الملحمة مطهرة من الأدران والسخافات التي لا يدرك الفكر البدائي سذاجتها. ويصاحب هذا النمو العقلي عادة ترتكز السلطة الروحية التي تعبر عنها هذه الملحمة في يد الكهنة وخدام الآلهة والهياكل المقدسة وفي هذه المركزية تصاغ الرموز والتعبيرات الدينية وتصبح هذه الرموز (التي كانت فيما قبل شفهية تتناقل بالرواية) سجلاً للجماعة التي تؤمن بها وتمتثل لتعاليمها. ويقوم الكهنة جيلاً بعد جيل بشرح هذا السجل وإحاطته بهالة من المنطق والرشاد، ومن ثم ينشأ علم اللاهوت ونظام الكهنوت.
ويبقى هذا التراث المسجل وقفاً على الكهنة وأعوانهم بينما يكتفي الأتباع بمعرفة الخطوط(921/2)
الرئيسية لهذا التراث المسجل.
والعقيدة التي تنشأ على هذا المنوال لا تتحمل تفنيداً ولا تتعرض للنمو الصحي؛ وإنما تظل منطوية على كثير من الهراء والسفسطة والزيغ الذي لا يقبله العقل السليم.
وعلى مبلغ صدق العقيدة وصحة ألوهيتها تتوقف سماحة الدين. فالعقيدة التي تظل محصورة في يد الكهنوت تعجز عن ممشاة التقدم الفكري والرقي العقلي للفرد وللجماعة.
أما العقيدة الإلهية الصادقة التي لم تنشأ عن الأساطير والخرافات وإنما نشأت عن وحي من الإله العلي العظيم ورسله المختارين فلا يجد الجدل إلى جوهرها سبيلاً. فهي ليست وقفاً على طائفة من الكهنة ولا هي نظام إداري تنحصر وراثته في نفر معين من الأتباع؛ وإنما هي مشاع بين الناس وتراثها المسجل في متناول الجميع.
والإسلام عقيدة أوحى بها الله إلى نبيه المختار ورسوله المصطفى؛ والرسول الكريم لم يكن كاهناً يحتكر المعرفة الدينية وأنما كان مبشراً ونذيراً ويدعو الناس إلى اتباع هذه المثل العليا التي نزل بها الوحي عليه، ويضع القرآن الكريم في يد كل من يستطيع قراءته ومن لا يستطيع. ولقد يجوز لنا أن نقول كذلك إن نظام الصلاة في الإسلام كما أوحاه الله تعالى إلى رسوله الكريم قد عني به بالإضافة إلى الطهارة الروحية والجسمانية، وحق الخالق على المخلوق بالإضافة غلى هذه الحقائق المجيدة أن يستمع الناس إلى كلمة الله صافية خالية من التأويل والتفسير. وكأن الباري عز وجل لم يكتف بتجريد الإسلام عن الكهنوت، بل أوصى جل جلاله في طريقة عملية ألا تكون هناك صلات بين العبد وبارئه غير صلات الروح والفكر المستمدة من الإقناع الشخصي.
والسنة الإسلامية الموروثة أن يلقن القرآن الكريم للأحداث في سن مبكرة، فينشئوا ولا غموض يكتنف عقيدتهم، ولا هالة تحيط بطقوس دينهم، ولا وساطة بينهم وبين العلي العظيم.
والتخصص في دراسة الدين الإسلامي في معاهد العلم لا يفترض مركزية روحية ولا ينطوي على احتكار لعلوم الدين. وما يقوم به رجال الدين في الإسلام يكاد ينحصر في تذكير العباد بكلمة الله كما نزلت في القرآن الكريم وكما عززتها الأحاديث النبوية واجتهاد الأئمة الصالحين.(921/3)
وكل مستمع إلى خطب الجمع والأعياد يلمس ذلك كله لمساً تاماً. وكل دارس للتراث الإسلامي في الفقه والتشريع وما إليه يدرك ذلك من أول وهلة.
فالأزهر وغيره من معاقل العلوم الدينية لا يخرج كهنه، وإنما يؤهل طلبته انشر الدعوة الإسلامية وشرحها وتوضيحها للفرد وللجماعة الذين عاقتهم شؤون الحياة اليومية عن استذكار التعاليم الدينية وما انطوت عليه من حكم وموعظات.
فوظائف رجال الدين في الإسلام على تنوعها لا تتعدى الوعظ والتعليم والإفتاء، وكلها نشاط متمم للثقافة الدينية التي بدأها الحدث المسلم في سنه الباكرة.
وقد اتجهت البروتستانتية إلى الاقتداء بالإسلام في هذا المضمار. والواقع أن البروتستانتية في بعض أسسها الجوهرية لم تكن إلا ثورة على كهنوت الكنيسة وما أحدثه من ديكتاتورية دينية على النحو الذي يعرفه المطلعون على تعاليم لوثر وكالفين وجماعة الموحدين.
وخلو الإسلام من سلطة الكهنوت الروحية واهتمامه ببيان العقائد لا ينفي أن أحكامه تستوجب نوعاً آخر يراد به تنظيم السلطة الدينية وموقفها إزاء الفرد والجماعة وتنظيم علاقات الأفراد بعضها ببعض. فقد شرع الإسلام القصاص في القتل وغير ذلك من الجرائم، وشرع الدية وشرح كثيراً من أحكام الأسرة والمعاملات الشخصية. ولا يمكن أن يكون شرع هذه الأحكام لمجرد البيان والإرشاد دون الأمر بإقامتها والحكم بها في المحاكم الشرعية، وهي سلطة دينية تستمد وزنها وأحكامها من الشرع والتعاليم الإسلامية، ولكنها مع ذلك بعيدة كل البعد ومغايرة كل المغايرة لسلطة الكهنوت، فلكل فرد من المسلمين الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والنكوص عنه مع القدرة عليه إثم عظيم) كما قال فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في خلال النقاش عن السلطة الدينية وحقوقها وواجباتها.
ولنعد لصلب موضوعنا. رأينا مع (لاوي بروهل) كيف ينشأ الكهنوت من تركز السلطة الروحية في يد جماعة مختارة من الحافظين لتراث الدين المسجل، وكيف أن هذا الكهنوت بحكم احتكاره للمعرفة الدينية وحقوقها وواجباتها قد وضع ما يعرف في بعض الديانات بعلم (اللاهوت).
وحين خرج من قبضة الكهنوت احتكار المعرفة الدينية وأتيح لبعض النابهين من العية(921/4)
التعمق في الدراسة والاستقراء نشأت الفلسفة الدينية وأخذت تجادل الكهنوت في أسرار الدين وتأويلاته وتحليلاته وأحكامه وتفاسيره.
ووجد الكهنوت في بعض الحالات أنفسهم في مأزق حرج فلم يكن استعدادهم الفكري ليتحمل هذا النقد؛ وذلك لأن حياة الكهنوت في عزلة عن الحياة اليومية، ولأن اللاهوت الذي وضع الكهنة على مدى الأجيال أسسه ومبادئه كان قد أهمل في كثير من الحالات مراعاة الحقائق الاجتماعية؛ ولذلك فقد وجد الفلاسفة من ورائهم علماء الطبيعة مآخذ على العقيدة الدينية كما يحفظها الكهنة ويبشرون بها ويعرضونها على سلوك الناس. واشتط الفلاسفة وعلماء الطبيعة في تهجمهم على الكهنة ولاهوتهم في تحيز أفسد عليهم الرشد والنزاهة؛ وأصبحت العقيدة الدينية بفضل هذا الصراع علماً على الإيمان الساذج سذاجة الجهل والتعصب الأعمى الذي تبثه ديكتاتورية الكهنوت في العقول الساذجة والقلوب القلقة نشأت. ولم تقتصر هذه الوصمة على الأديان التي تطورت من الخرافات والأساطير، وإنما شملت الأديان السماوية التي أوحى بها الله إلى رسله وأنبيائه.
وأصبحت الفلسفة ونظرة الطبيعيين إلى الحياة والممات علماً على التحرر الفكر الطليق. ولكن هذا الانطلاق (كما بينا في مستهل هذا البحث) لم يستطع أن يزعزع الإيمان الصادق أو أن يطوح بالغريزة الدينية والطمأنينة والاستقرار الذي يهيمن على من يختبرون في صدق الحياة الدينية. وبازدياد الصراع بين العقل والعقيدة الدينية ازدادت البلبلة الفكرية والفوضى الأخلاقية وتعرض المجتمع إلى مشكلات لم تكن الفلسفة ولا العلم الطبيعي مستعدين لمعالجتها.
فإذا نشأت في العالم اليوم نزعة إلى التوفيق بين الحياة الروحية والظواهر الطبيعية والحقائق الاجتماعية فما ذلك إلا لأن هذه الأمور جميعها تؤثر في حياة الفرد والمجتمع.
وسنحاول في الفصل القادم أن نتعرف جوهر العلاقات بين هذه الأمور متابعين البحث في النتائج الاجتماعية للاختيار الديني ومجارين بذلك هذا الاتجاه الجديد في التفكير العربي الذي أقلقه تطور العلوم الطبيعية التي قطعت صلاتها بالقيم الأخلاقية التي يبشر بها الدين فأنتجت القنابل الذرية والمشاكل النفسانية التي تعبث بمجتمع مفكك الأوصال مشحون بالفوضى والقلق.(921/5)
للبحث صلة
نيويورك
عمر حليق(921/6)
روافع المجتمع. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
لم تعد الدراسات الاجتماعية عقوداً من إرشادات ونصائح، أو فرائد من أفكار مرتجلة هي بضاعة ذوي المآرب في الدعاية لأشخاصهم والترويح لمبادئهم أو أحزانهم. ومضى كل ذلك مع أمس الدابر، يوم أصبح المجتمع في نظر العلم الحديث موضوعاً للمقاييس ومجالاً للمناهج، وميداناً للقوانين العامة أقصى ما يكون العموم. . وبذلك كان الاجتماع البشري آخر معقل من معاقل العرفان غزته جيوش العلم واتخذت منه معسكراً.
وليس أدل على ذلك من قوانين الاقتصاد التي أصبحت رموزاً ومعادلات جبرية تسير بمقتضاها الظاهر الاجتماعية كما هو معروف في قوانين العرض والطلب، وقانون (ملتوس) في تزايد السكان. وانضوت البحوث السيكولوجية - هي الأخرى - تحت لواء العلم منذ وجدت النزعة العلمية الحديثة أرضاً خصبة لها في كل مكان.
وهذا علم الاجتماع لم يشذ عن هذا المضمار، فقد ميز فيه (دور كيم) جانبين هامين هما (الاستاتيكية) و (الديناميكية) شأنه في ذلك شأن الكهربائية في جانبيها (الذاتي) و (الانتقالي)، واعتبر النشاط الاجتماعي عن ظواهر أو وقائع ينظر إليها العلم على أنها (أشياء) من حيث خضوعها للحواس من جهة، وللمقاييس من جهة أخرى. ثم من حيث أنها تسير حسب قوانين صارمة لا تتخلف، وعلى الباحث أن يجد في كشف هذه القوانين المضارعة لقانون الضغط مثلاً، فإنه لم يكن قد اكتشف بعد، بينما آثار الظواهر لا تنكر.
وقد حرصت المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة على طبع فروع العلم الاجتماعي بهذا الطابع العلمي الخالص، وظهرت آثار هذه الحرص فعلاً في دراستها لعلوم الأخلاق والسياسة والدين والقضاء والجمال.
وإذا كان (دور كيم) قد اقتبس من الفلك والكهرباء والفيزياء والكيمياء على أوسع نطاق، فلا حرج علينا إذا اتخذنا من الميكانيكا استعارة صريحة نستعين بها على فهم المقومات العامة للمجتمع الموزون في قواه الداخلية والخارجية.
وتتركب الرافعة - وهي نوع من الميزان كما تعلم - من محور الارتكاز والقوة والمقاومة، ولا يستقيم الميزان إلا إذا تحققت المعادلة الآتية أياماً كانت الرافعة: القوة في ذراعها(921/7)
تساوي المقاومة في ذراعها.
والروافع ثلاث كنا نحفظها ونحن تلاميذ بالسنة الثالثة الابتدائية بناء على طلسم خاص هو (رمق). فالقاف رمز القوة. والميم رمز المقاومة والراء رمز محور الارتكاز، ثم إن هذا الطلسم بوضعه هذا يكون مفتاحاً لأنواع الروافع.
فالنوع الأول يكون فيه محور الارتكاز بين القوة والمقاومة والنوع الثاني تكون فيه المقاومة بين محور الارتكاز والقوة والنوع الثالث تكون القوة بين محور الارتكاز والمقاومة.
ولهذه الدوافع الآلية فوائد عملية للإنسان، فهي تنفعه في التغلب على القوى الكبيرة باستعمال قوى صغيرة. وروافع المجتمع أشبه بروافع الطبيعة في بساطتها وتعقيدها. وليس يخفى أن الحياة الاجتماعية إنما هي تفاعلات مستمرة بين عناصر لأحد لها ولا حصر، ومن أبرزها عوامل الجغرافيا والتاريخ والدين والاقتصاد والسياسة والأخلاق والعلم والصحة والجنس واللغة.
ومن العبث أن نعتبر المجتمع مكوناً من أفراد كما نعتبر الجدار مجموعة من قوالب مرصوصة على نحو أو آخر، ذلك بأن الإنسان شخص لا فرد، والفرق بين الشخصية والفردية مدارة تكامل الجهاز العصبي، ذلك التكامل الذي يبلغ أقصاه عند الإنسان، ويندرج تحته سائر الأحياء في سلم النشوء والارتقاء، ولذلك يقال في البيولوجيا إن الأرنب فرد لأن سلوكه طائفي، بينما الكلب شخص ذاتي. ومعنى ذلك أنه كلما كان سلوك الحي متدرجاً في الرقي مع مرونة الجهاز العصبي، كانت له شخصيته التي بها يعرف ويمتاز.
وليست هذه (الشخصية العنصرية) حجر عثرة في سبيل (التكامل الاجتماعي) كما يبدو لأول وهلة، فإن الميول الفطرية العامة من أهم العوامل في تحقيق هذا التكامل بين الأشتات، وذلك التقارب بين العناصر. وإنه لمن اليسير أن تتلاقى الأهواء والميول وفاقاً لقانون (الجاذبية الاجتماعية) ذلك القانون المستمد من الطبيعة السيكولوجية. والذي يوحي بأن حياة المجتمع أشبه ما تكون بحياة القطيع، يرى الفرد نفسه منساقاً إليه، مدفوعاً معه مثل (خروف يانورج) في القصة المعروفة.
فإذا كانت الغرائز هي تلك القوى الفطرية والأسس الأولى للسلوك، فإن الميول العامة هي القوى التي ينبني عليها المجتمع، وهي لا تظهر بوادرها إلا بوجود الإنسان في المجال(921/8)
الاجتماعي، وتلك الميول هي ما يعبر عنها بالإيحاء والمحاكاة والمشاركة الوجدانية.
وأقرب مثل لذلك سرادق منصوب، فيه خطيب متحمس يخطب في جمهور من الناس مختلفين في الأفكار والنزعات والأهواء، ومع ذلك سرعان ما يتفق الجميع على رأي الخطيب عن طريق (الإيحاء) ويساير البعض رأي البعض الآخر في التصفيق والهتاف عن طريق (المحاكاة) ويتأثر الجميع بانفعالات الخطيب من غضب أو فرح أو حزن عن طريق (المشاركة الوجدانية) ولولا وجود هذا المجتمع ما كان لهذه المجتمع ما كان لهذه الميول أن تظهر في الفرد.
بهذا يسهل التقريب بين عناصر المجتمع، ويتم التكامل الذي به تختزل الصعاب أمام الإصلاح، ويتبلور الرأي العام، فيستطيع المشرعون أن يستمدوا منه القوانين الصالحة لأنها تطابق الآمال المشتركة والأهداف العامة.
وعلى ضوء هذا كله نتساءل: ما هي روافع المجتمع؟ أو بعبارة أخرى ما هي العوامل التي ترفع من شأن المجتمع حتى يكون الفرد والمجموع على وفاق تام بالنسبة للمثل العليا في مرافق الحياة الكريمة. فلا يضطرب الميزان الاجتماعي؟
أما المجتمع الأول فهو الذي يقوم (العلم) فيه مقام محور الارتكاز في الرافعة الأولى، وتكون (الأخلاق) بمثابة القوة، و (التاريخ القومي) بمثابة المقاومة. ولا شك أنه في مثل هذا المجتمع تتعادل مخلفات الماضي مع آمال المستقبل، كما تتعادل الكفتان في الميزان. ولا سبيل غلى ذلك إلا بالعلم الذي يبصر المواطنين بمآثر أسلافهم فيتخذون منها دعامة لصروح المجد الذي ينشدونه، ولا يدفع المجتمع بعيداً نحو أهدافه غير الأخلاق، فإذا كانت مهمة العلم تنوير العقل، فأن مهمة الأخلاق صقل الضمير ليبغي الخير وينشد الحق.
ولهذا يجب أن تكون (الكفالة الأخلاقية) واجباً عاماً يقوم به المسجد والكنيسة والجامعة والمدرسة والمنزل والشارع، والمسرح والسينما والصحافة والإذاعة، والمقهى والملهى، إذ الأخلاق في المجتمع قوة رافعة دافعة، مما يتحتم معه على هذه الدوائر أن تتولى أمرها جميعاً، فلا تختص بها هذه دون تلك، وللمجتمع وحده أن يحكم لأيها الفضل في تنقية الضمائر، وترقية الغرائز، وتعلية النوازع.
والمجتمع الرفيع هو الذي يدرك المعالي من أقرب طريق وأبسط جهد، ومن أجل هذا(921/9)
اخترنا له هذا النوع من الروافع الاجتماعية إذ تتكافأ القوة مع المقاومة ويتسبق إلى القمة تراث الأمس وهدف الغد على غير نفرة بينهما أو شذوذ؛ إذ هما أشبه بضلعين متساويين في مثلث متساوي الأضلاع، قاعدته الثابتة العلم الراسخ بحقائق الأمور.
ولا يخفى أن البعد أو القرب من محور الارتكاز يرجع إلى مقدار تكافؤ القوة والمقاومة، وتبعاً لذلك تكون رسالة العلم سريعة الأداء إذا توافرت الذخيرة الأخلاقية، وتعددت القوى والأثقال، وعندئذ فقط تستجيب المقومات الحضارية، وتضطر إلى المعادلة، وإلا اضطرب الميزان، واختلت روافع المجتمع، وشالت كفة ورجحت أخرى.
والمجتمع الذي هو من هذا النوع يشبه (الكماشة) لأن محور ارتكازه (العدل) الذي يوطد أركانه قوة مطلقة من (القانون) وهنا فقط نستطيع التغلب على (الجريمة) التي لن تفلت من فكي الكماشة ما دامت عين القانون ساهرة، وقادرة على التوغل في كل وكر فتسلط أنوارها الكاشفة على جسم الجريمة بصرف النظر عن المجرم مهما تكن قرابته أو عصابته أو مكانته، بل الكل سواء بلا تفريق.
والمجتمع الثاني هو الذي تكتمل فيه عناصر الرافعة الثانية، فتكون المقاومة بين محور الارتكاز والقوة، كما في (كسارة البندق) حيث ترتكز على مفصلها، وتوضع البندقة قريباً من المحور، وتضغط اليد على أقصى الطرفين لتحاول كسر البندقة التي تقاوم حسب استعدادها، وتبعاً للضغوط المتتالية عليها.
وفي رافعة هذا المجتمع يكون (الاتحاد) قوة و (السياسة) مقاومة، ومحور ارتكازهما هو (الاستقلال) فإذا ارتكز المجتمع على الاستقلال التام استطاع أن يقاوم مقومات تقدمه، وأن يفك الأغلال والأصفاد التي تحول بينه وبين الانطلاق، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتضافر الأفراد واتحادهم جميعاً كأصابع اليد الواحدة في قبضتها على يد الكسارة، وعندئذ لا يكون لإصبع حق في ادعاء الظفر، وإنما الفضل للوحدة المتصلة لا للفرقة المنفصلة.
وعوامل الاتحاد في المجتمع الرفيع ميسورة لا تستعصي على الإمكان. أليس الدين يدعو إلى وحدانية الله واتحاد العباد ووحدة القبلة؟ أليس العلم في مجمله ومفصله يفترض العقل الذي هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس؟. . أليست الحقيقة متمثلة في حاصل جمع عددين أو باقي طرحهما، وإنه إذن لصواب أو خطأ، ولا مجال لجدال.(921/10)
والاستقلال في ذاته رفعة، وبالنسبة للجهاد وسيلة رافعة، لأن الفرد المستقل هو المجتمع المستقل عاجلاً أو آجلاً، ولن يكون ذلك إلا بكشف الأغطية عن العقل المفكر، ورفع الكمائم عن الأنفاس الحرة، وطرح المخدرات الممقوتة عن الأنوف الشامخة، بعيداً بعيداً، والحذر من المسكنات التي لا يقصد منها غير الاستهلاك المحلي. ولابد من الارتكاز على الاستقلال في القوة واتحاد لإخماد التعصب والتحزب، وإحباط التعالي على الغير وازدراء أقدار الرجال إلى غير ذلك مما يقوم مقام البندقة من الكسارة ولا يعلم صلاحها أو فسادها إلا بالكسر.
ومكافحة المعوقات السياسية من أيسر اليسر، فليس أقل من التفرقة بين السياسة والاستغلال، والفصل بين الوطنية والحزبية، لهذا كان طول ذراع القوة مؤذناً بأن قليلاً من القليل يكفي لكسر البندقة التي قد يغري قربها من محور الارتكاز باحتقار شأنها، في حين أن قصر ذراعها يستلزم الضغط، وهو إن بدأ من بعيد غير شديد إلا أنه كفيل بتفتيت قنبلة ذرية، وليت الناس يعلمون حق العلم قانون الروافع الاجتماعية، إذن ما ضلوا سواء السبيل، ولا تكلفوا الشطط مع بعضهم بعضاً، ولا كلفوا أنفسهم وأوطانهم مشقة الاحتيال على المشاكل المعلقة بينهم وبين أعدائهم وخصومهم.
وهذا المجتمع يشبه (عربة الكناس) وقد امتلأت بالأقذار، وهو يدفعها أمامه، وهي تندفع على عجلة من حديد، وتميل ذات اليمين وذات الشمال، وهو من هزله يميل معها كما تميل، ويحاول أن يقاوم هذه القذارة الثقيلة، ولكنه مرغم على احتمال المكروه في سبيل الجلاء، الجلاء التام.
ذلك هو شأن المجتمع النحيل الذي يكافح الاستعمار والحماية والاحتلال، ويرتكز على عجلة الزمن: تدور فتطوي الطريق وراءها ليس له أن يسبقها أو يدعها تكر بين يديه من غير دفع مستمر.
يا له من كناس يقبض بيديه على نعش العدو، يشيعه إلى خارج البلد إلى غير رجعة، والأيام تطاوعه، فلا ينبغي له أن يستعجل الجلاء، ففي العجلة الندامة، وحسبه أن عجلة الظلم لا تدور مع الأيام، فليعتمد على ضعفه ليكون القوة. إن ذلك من عزم الأمور.
إن المقاومة القذرة، والبطش الكافر، والاستعباد العنيف، كل ذلك مطرود من كل بيت،(921/11)
ملفوظ من كل كوخ، ولا يستقيم مع نظافة العيش، وسلامة الطريق. وياليتنا نتفهم فلسفة هذا الكناس الذي عرف كيف يبدأ وأين ينتهي، لم يتكل على أن القذارة ستزول من بيته ما بين طرفة عين وانتباهها، بل نهض وشمر عن ساعد الفقر والجهل والمرض، لينعم بالغنى والعلم والصحة. . إنها حركة وفيها بركة، إنها كاسحة نازحة، وعما قريب تكون الفاتحة، والمجتمع المرفوع هو الذي خيره لا مقطوع ولا ممنوع، وشر عدوه دائماً مقلوع لا مزروع.
الزمن محور ارتكاز، وإن طالت الآماد بين حلو الشهاد وخرط القتاد، على أن المصير معروف مألوف. فالظلم والعدوان سينقلبان أسوأ منقلب، وبعدهما الحرية التي لا حدود لها، والنظافة التي لا بعدها، ومن ذا الذي لا يود أن يغدو ثقيلاً ليروح خفيفاً، أو أن يكافح عدوه ليعود سيد نفسه، أو أن تكرهه الأيام على جر العربات، لتكون له وحده الثمرات.
أما المجتمع الثالث المرفوع، فما أشبهه (بلاقطة الجمر)، ولن يستغني المجتمع عن هذه الرافعة في التقاط كل جمرة متقدة من العلوم والفنون، وكل ألوان الحضارة، ولا يكون ذلك إلا بالارتكاز على (الحرية) في الأخذ والعطاء، بحيث لا نأخذ بالجبر، ولا نعطي بالقهر، ولن تكون الحرية مكفولة إذا فتحت الأسواق لكل بضاعة من غير تدخل يراد منه الصيد في الماء العكر، لكساد بضاعة صالحة، والترويج لأخرى فاسدة، وليكن قانون الجميع (البقاء للأصلح).
هذه الحرية التي لا بد منها في تبادل النفع المشترك بين الشعوب الراغبة في السلام، والساعية في الخير، ومع هذا فإن (الشر) سيقاوم هذه الغاية النبيلة، ولن يكون عنصراً فعالاً في المقاومة إلا إذا طال واستطال، وأدمن في المطال، كلما تقاضته الإنسانية ضريبة الحياة، والشر قوة لا محالة، ولكن سرعان ما يمحى في ظلال الحرية، وعلى جمرات العلوم والمعارف.
مجتمع هذه رافعته جدير بأن يكون أفراده يداً واحدة، تقاوم الرذائل والشرور بل تبطش بها البطشة الكبرى حتى لا يضار بها المجتمع. ولعمري لئن كانت هذه اليد بمثابة المقاومة في الرافعة فإن محور الارتكاز اللازم هنا إنما يكون الدين المتين، الدين الذي يمتد سلطانه المشروع إلى كل مرفق من مرافق الحياة المعلقة بيد الله، وعندئذ تكون (الأمانة العلمية)(921/12)
هي القوة الدافعة للمغريات حينما تتكاثر وتتثاقل على اليد البيضاء بالرشوة والسرقة والاحتكار والاستغلال، فتدفعها عنها في إباء وترفع يرتفع بهما المجتمع بأفراده إلى المثل العليا.
هذه هي روافع المجتمع، فلينتظر كل فرد أين هو من هذه المجتمعات، وعليه أن يرتفع بالتدريج إلى المقام الرفيع الذي يكون فيه المجتمع وأفراده متكافئين في الميزان. وذلك هو الهدف الذي لا مطمع بعده من رفعة، ولا حاجة وراءه من روافع.
محمد محمود زيتون(921/13)
خليل شيبوب في ذمة الله!
للأستاذ منصور جاب الله
في مطالع عام 1921 كان المغفور له أحمد شوقي بك في الإسكندرية يتردد على (بنك الأراضي) بغية شراء أرض زراعية؛ وإذ أدخلوه القاعة التي يجلس فيها (رئيس قلم العقود)، بصر به شاباً قسيماً وسيماً قد انهمك في تصحيح تجارب مطبعية، وذهل عن كل ما حوله، فسأله أمير الشعراء عما يفعل، فأجاب أنه يصحح (بروفات) ديوان شعره. ودهش شوقي بك وسأله:
- أأنت شاعر؟
- لست شاعراً ولكنني أنظم الشعر أحياناً!
- هل لي أن أتشرف باسمك؟
- اسمي خليل شيبوب
ـ ومن كتب مقدمة ديوانك؟
- كتبها خليل مطران
- وتعرف مطراناً؟
- نعم أعرفه ويزورني في منزلي بعض الأحيان.
بهذه المحاورة نشأت صداقة خليل شيبوب لأمير الشعراء، وعرض عليه شوقي بك أن يكتب له مقدمة لديوانه تضاف إلى مقدمة شاعر القطرين، وإذ ذاك استطار (الشيبوب) فرحاً وقبل العرض شاكراً، وإذ كان الكتاب قد ثم طبعه، فإن المقدمة ألصقت به إلصاقاً. ومما نذكره منها الساعة قوله:
شيبوب ديوانك باكورة ... وفجرك الأول نور السبيل
ويعني بالفجر الأول اسم الديوان، فكذلك رأى خليل أن يسمي ديوانه رمزاً إلى شبابه الأول وغضارة العمر. وليس في قصيدة شوقي هذه جيد يذكر اللهم إلا قوله في الشعر عامة:
ما فيه عصري ولا دارس ... الدهر عمر للقريض الأصيل
ومنذ بضعة أعوام أقام السوريون واللبانيون في الإسكندرية حفلاً لتكريم المغفور له خليل مطران بك كان خطيبه الأول خليل شيبوب، وإذ قارب الحفل نهايته وقف خليل مطران(921/14)
وبايع لخليل شيبوب بخلافة الشعر من بعده، واعتز شيبوب بهذه (البيعة) لأنه كان يجل (المطران) ويجعل من نفسه حوارياً من حواريه وغاب عن مطران أن الأدب لا يورث، وليس فيه خلف ولا سلف. والحق أن (الشيبوب) كان أشعر في بابه من مطران، وإنما سبقه المطران غلى الشهرة لأن الذين في أيديهم أمور النشر والإذاعة رأوا أن يجعلوا منه ثالثاً لشوقي وحافظ. ولسنا نحب أن نناقش حجية هذا الرأي فنحن بصدد الكلام في خليل شيبوب ومذهبه في الشعر والأدب جميعاً.
والحق أن شيبوباً كان يتمذهب بمذهب خليل مطران في الشعر الوصفي الرمزي، فهو شاعر وصاف، والشاعر الوصاف ينزع أكثر ما ينزع إلى الناحية المادية، بيد أن شعر شيبوب في هذا المنحى أقوى من شعر مطران، فيه قوة نفتقدها في قريض شاعر القطرين وعاطفة مشوبة قل أن نعثر عليها في قصائد الوصافين من الشعراء المحدثين. ثم إن شيبوباً هو الذي يقول:
ليس بجسمي قطرة من دم ... لم تختبر حباً ولا تعشق
على أن خليل لم يفرغ الشعر مرة واحدة وإنما جعله هواية له في أوقات الفراغ أو في بعضها على الأصح فهو قارئ من الطراز الأول. اشهد أني ما رأيته إلا وفي يده كتاب يطالعه، أو يريد أن يطالعه، وتلك هوايته المفضلة في تزجية الوقت الثقيل.
ولكن صديقنا خليل شيبوب يروي لنا أنه أسرف على نفسه في شبابه الأول أو في فجره الأول، غير أننا لم نلحظ هذا الإسراف في مظهره، فالشيب لم يسلك سبيله إلى مفرقة حتى بعد أن ذرف على الستين أو جاوزها، بل بقى شعره فاحم السواد، حتى كنا نحن أصدقائه الخلصاء نداعبه ونعابثه قائلين له إنه من (المنظرين) الذين لا يموتون حتى يوم القيامة!
وكان الأستاذ شيبوب سوري الأصل ولد في اللاذقية موطن أبي العلاء، ولكن هواه إنما كان مصروفاً إلى لبنان لا إلى سوريا، ديدنه في ذلك ديدن النصارى من أهل الشام.
ولعل أحداً ممن نعموا بعشرة خليل شيبوب لا يصبح أو يمسي إلا ذاكراً طيب خلاله وجميل شمائله وحلو دعاباته ومتارفه البهيجة، فقد اعتاد أن يدعو أصفياءه إلى سهرات رائقة ومآدب مونقة، يتبادلون فيها إلى جانب الطعام الشهي والشراب الروي مستعذب الأفاكيه ومستغرب النوادر، ويتطارحون أبرع ألوان القريض.(921/15)
وفي غضون الحرب المنقضية ضاق (الخليل) ذرعاً بظلام الإسكندرية وغاراتها المتوالية، فغادرها إلى أطراف المدينة (وفي الأطراف تغشى منازل الكرماء) حيث أقام لنفسه مغنى في صحراء سيد البشر، وهنالك بين المهامة البيد والتنائف الفيح، كان ينعقد مجلس الشعر، أو مجلس البحر كما سماه فيما بعد، وتدور على الحاضرين كؤوس الطلا مترعة، ويتسارقون ألواناً من أدب شيبوب وكرم شيبوب.
وأذكر أني زرته مرة في مغناه هذا، فهتف بي: هلم بنا يا أخي نتحرر من قيود المدينة واصفاد المدنية، هيا بنا إلى البادية الشاسعة نعش على الفطرة كآدم الأول.
وانطلقنا معاً في هاتيك التلال الرملية، وجمعنا حطباً أضرمنا فيه النار، ثم صنعنا شراب الشاهي السائغ، وأنشأنا نتذوقه رشفة بعد رشفة كما يفعل الأعراب المحيطون بنا في ذياك المكان البعيد.
ولقد سمعنا قبل أيام أديباً كبيراً يقول: إن خليل شيبوب كان بقية (اليازجية) الذين ملئوا ربوع الشام فضلاً وأدباً وعلماً، أو أنه كان امتداداً لعهدهم وإن لم يكن من سلالتهم. ولقد نبالغ نحن فنقول إن الخليل كان آخر من يستحق لقب (أديب) من طائفة الذين هبطوا الإسكندرية واتخذوها مستقراً ومقاماً. فليس فيهم - مع الأسف - الآن كاتب بارز ولا شاعر مبين.
ولقد تحدثنا فيما أنف عن شعر خليل شيبوب في إيجاز شديد ولا بأس من أن نورد فيما يلي نماذج من شعره فهو يصبو إلى الإسكندرية ويرسل فيها هذا اللحن العذب:
هداك بصدري حادث وقديم ... وعهدك عهدي راحل ومقيم
وأنت كما شاء الجمال حبيبه ... وأم كما شاء الحنان رءوم
فلو نطقت فيك الحجارة حدثت ... عن المجد مرفوع اللواء عظيم
وله قصيدة عنوانها (صوت الرجاء) يقول فيها:
السقم يأكل من عزمي وجلدي ... والحب يأكل من روحي ومن كبدي
لذا فزعت إلى الكاسات اشربها ... صرفاً وتشرب من عقلي ومن رشدي
أشكو غلى الخمر همي وهي تسلبني ... عقلي مخافة أن أشكو إلى أحد
ومن قوله في مصر:(921/16)
هي مصر فاتنة العصور عجيبة ... تقدمت الدنيا الورى فتقدموا؟
خطت لأثينا وروما منهجاً ... مشتا عليه فكان فيه المغنم
ويبين نثره أكثر ما يبين في كتابه عن (الجبرتي) إذ توفر الخليل على دراسة العصر المملوكي وألم بكثير من دقائقه. وقال بعض المتأدبين إنه كان ناثراً أكثر منه شاعراً. والحق أنه كان مقلاً في شعره متأنقاً في نثره.
ولقد كان الأستاذ خليل شيبوب يحيي مستهل هذا العام في بيته بحفل بهيج كما اعتاد أن يفعل كل عام، ولكن المرض ضربه فجأة، وأصابته ذبحة صدرية حادة، ثم تحول المرض إلى شلل، ففقد المنطق، وساءت حالته، وتعلقنا نحن الخلصاء من أصدقائه ومر يديه بين اليأس والرجاء، حتى إذا غربت شمس يوم السبت الثالث من فبراير الحالي غربت معها شمسه وفاضت نفسه، ففاض بنا الجزع من اجل هذا الأديب الكبير الذي فقدناه وهيهات أن نجد له بديلاً.
عوض الله فيه دولة الأدب والشعر، فقد كان خليل شيبوب أمة من الشعر والأدب.
منصور جاب الله(921/17)
المكتبة العربية في عصر الحروب الصليببية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
إن الدارس للحركة العقلية بمصر والشام في عصر الحروب الصليبية، يبهرة كثرة الإنتاج في فروع الثقافة المختلفة، ويرى أن البلاد لم تعش على ما وفد إليها من كتب ألفت في غير أرضها، بل ساهمت مساهمة كبيرة في النشاط العلمي والأدبي، ولا نزال إلى اليوم نعيش على بعض آثار ذلك العصر، ونعتز بما له من ثمار.
وقد تنوع الإنتاج يومئذ تنوعاً يدل على حركة علمية ناشطة، وحمل لواء هذه الحركة أعلام نابغون؛ فمن فقهاء على المذاهب الأربعة إلى نحاة، ولغويين، وعروضيين، ومحدثين، ومفسرين، ومقرئين، ومتكلمين، ورجال أدب، وبلاغة، ومؤرخين وجغرافيين، وعلماء بعلوم الأوائل من منطق وفلسفة وسياسة، وعلوم رياضية، ولم يخل العصر من فلكيين ومنجمين.
وساعد على ازدهار حركة الإنتاج ما كان يستطيع أن يصل إليه العلماء في الدولة من أسمى المناصب، ومالهم عند الشعوب من إجلال وتقدير، وما يظفرون به عند الخلفاء والسلاطين من تشجيع وتقريب.
وكان أحكام ذلك العصر مثقفين ثقافة ممتازة، ويحيطون أنفسهم بطبقة مصطفاة من المثقفين، ويغدقون عليهم، وللفاطميين من ذلك نصيب كبير: يروي أن المهذب بن النقاش لما وصل إلى الشام من بغداد، وكان فاضلاً في صناعة الطب، وأقام بدمشق مدة، ولم يحصل له ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية، وأنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم، ولا سيما أرباب العلم والفضل، فتاقت نفسه إلى السفر، وتوجهت أمانيه إلى مصر، فوجد فيها ما كان يرجوه، وشهر من وزرائهم بحب العلم وتقريب العلماء وتشجيعهم الوزير الأفضل ابن بدر الجمالي.
أما نور الدين محمود فقد كان يجلب العلماء ويحتفي بكبارهم ويسكنهم الشام، ويبني لهم المدارس، ويغدق عليهم المرتبات، ويكاتبهم بخط يده. وافتدى به صلاح الدين في تشجيع العلماء وتقريبهم، حتى أن عبد اللطيف البغدادي عندما دخل دمشق وجد فيها من أعيان(921/18)
بغداد والبلاد ممن جمعهم الإحسان الصلاحي جمعاً كبيراً، وكان مجلس صلاح الدين حافلاً بأهل العلم، يتذاكرون في صنوف العلوم، وهو يحسن السماع والمشاركة حتى صار لكثرة مخالطته العلماء وأخذه عنهم كأنه من كبار الفقهاء يضرب في كل علم من علوم الدين بالسهم الصائب مع امتيازه في معرفة التاريخ، وولى بعده العرش في مصر ابنه العزيز عثمان، وهو مثقف، سمع الحديث بالإسكندرية من الحافظ السلفي، والفقيه أبي الطاهر بن عوف الزهري. وسمع بمصر من العلامة ابن بري النحوي اللغوي، وهو الذي رحب بمقدم عبد اللطيف البغدادي إلى مصر، وأجرى عليه من بيت المال ما يزيد على كفايته واستقدم الحسن بن الخطير من القدس، وأغدق عليه حتى أغناه.
فلما جاء العادل ساهم وإن كانت مساهمة قليلة في النهضة الفكرية، فأنشأ بمصر مدرسة للمالكية، وذلك لانصرافه إلى الحياة السياسية، وتثبيت دعائم العرش له ولبنيه، ولكن أبناءه كانوا أكرم الأبناء: نهوضاً بالعلم، وأخذ منه بأوفى نصيب، وتشجيعاً على الاغتراف من مناهله، ورفعاً لقواعد معاهده، فكان الكامل يحب أهل العلم ويؤثر مجالسهم، وبشغف بسماع الحديث النبوي وقد بنى له دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو، يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظى عنده، ويبيت عنده بالقلعة جماعة من أهل العلم بجانب سريره ليسامروه، فنفقت العلوم والآداب عنده وقصده أرباب الفضائل، فكان يطلق لمن يأتيه منهم الأرزاق الوافرة الدارة، ويجلس كل ليلة جمعة مجلساً لأهل العلم، ويشترك في المناقشات التي تجري فيه.
أما المعظم عيسى بالشام فكان مأمون بني أيوب، شجع العلماء وأكرم وفادتهم، وشاركهم في التأليف، وكذلك كان ابنه الناصر داود.
واقتدى المماليك بأساتذتهم الأيوبيين، وكانوا هم يزودون بالثقافات التي تؤلههم للوصول إلى مناصبهم، وشهر من بينهم في ذلك العصر الظاهر بيبرس فقد أخذ يقرب النابغين في كل علم وفن، وكان يميل إلى التاريخ وأهله ميلاً شديداً ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب.
أما خليل بن قلاوون فكان مثقفاً ثقافة أدبية ممتازة استطاع أن ينقد ما يعرض عليه من المراسيم وأن يصلحها، ويطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط.(921/19)
- 2 -
وانتشرت دور العلم في ذلك العصر: فكان الجامع الأزهر أيام الفاطميين موطن دراسة الفقه الشيعي والمذهب الإسماعيلي، ونهضت دار الحكمة بالعلوم الفلسفية وربما كانت هذه العلوم تدرس بالأزهر كذلك؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة؛ ولعل مذهب أهل السنة قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي ضعفت فيها حده الدعوة الإسماعيلي كما في عهد الأفضل والعادل بن السلار.
وإذا كان صلاح الدين قد ابطل الخطبة في الجامع الأزهر، وقضى على تدريس المذهب الشيعي فيه، فأن التدريس لم ينقطع منه، وها هوذا عبد اللطيف البغدادي يأتي أليه في العصر العادل، ويتردد عليه عشر سنين مستمعا إلى الأساتذة والمحاضرين حيناً، وقائماً بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار حيناً آخر. وعاد الأزهر إلى نشاطه في عهد جيرس ومن جاء بعده.
وإلى جانب الأزهر كان جامع عمرو ينهض بعبئه في نشر الثقافة وإذاعتها، فتعددت به حلقات العلم في مختلف فروع الثقافة، وكان له الأثر فيها أكبر مما للأزهر، لأن أحدا ًلم يحاربه؛ كما قامت بعض المساجد في أرجاء البلاد بنصيبها من النهضة الثقافية.
وفي الشام كان الجامع الأموي بدمشق يؤدي الرسالة التي يقوم بها جامع عمرو في القاهرة، وكانت دمشق أبعد من أن تنالها آمال الصليبيين، فظلت الحركة العلمية بجامعيها العتيد، ونهض جامع حلب بنصيب في نشر الثقافة أيضاً.
وشاهد ذلك العصر بناء المدارس وانتشارها في مصر والشام، فأنشئت بالإسكندرية في عصر الفاطميين مدرستان في عهد الحافظ واحدة، وفي عهد الظافر للسلفي أخرى. وفي الشام أخذ نور الدين ينشئ المدارس ويستدعي نوابغ العلماء من الأقطار يبني لهم المدارس في أرجاء إمارته، حتى إذا جاء صلاح الدين تأثر خطا سلفه، فأنشأ كثيراً من المدارس في أرجاء إمبراطوريته بمصر والشام؛ فمن ذلك الصلاحية بالقاهرة للشافعية ولعلها كانت أكبر مدرسة في عصرها، والقمحية للمالكية، والسيوفية للحنفية، والصلاحية بالقدس، وقد أحصى فقهاء مدارس دمشق في عهده، فكانوا ستمائة فقيه.
واقتدى بصلاح الدين خلفاؤه من الأيوبيين، ومن جاء بعدهم من سلاطين المماليك، وساهم(921/20)
أمراء الأسرة المالكة وأميراتها وأمراء الدولة في إنشاء المدارس بمصر والشام كتقي الدين عمر الذي اشترى منازل العز أحد قصور الفاطميين بالقاهرة ووقفه مدرسة كما بنى بالفيوم مدرستين عندما كانت الفيوم إقطاعاً له، وبنى في الشام التقوية بدمشق، والمظفرية بحماة.
وأخذ بعض الوزراء بنصيبهم في إشادة دور العلم كما أسس القاضي الفاضل مدرسته الفاضلية وكانت من أعظم مدارس مصر وبنى المثرون من المعلمين وغيرهم مدارس وقفوا عليها أملاكاً تكفي للإنفاق عليها.
وهكذا حفل هذا العصر بإنشاء المدارس في أرجاء البلاد، فإنه لم يقف إنشاؤها عند العواصم فحسب، بل تعدتها إلى غيرها، فرأيناها تقام بالقاهرة والإسكندرية وقوص وإسنا وأسوان والفيوم؛ وفي دمشق وحلب والقدس وحمص وبعلبك، ولكن أكثر المدارس يومئذ كان بالقاهرة ودمشق، وقد بقى من أسماء المدارس التي عرفتها القاهرة يومئذ أكثر من اربعين مدرسة، ومما عرفته دمشق زهاء تسعين.
وقد تنوعت المدارس في هذا العصر، فكان منها معاهد لتدريس الحديث خاصة، وأخرى لتدريس الفقه، وبعضها للنحو، وأنشئت في القاهرة ودمشق وحلب مدارس خاصة بالطب، كما كان يدرس منهج الطب إلى جانب المواد الأخرى في بعض المدارس، وكان معنى التخصص أن المادة الأساسية فيها هي الفقه مثلاً، أما المواد الأخرى فكانت تدرس إلى جانب هذه المادة الأساسية.
(للكلام صلة)
أحمد بدوي(921/21)
ومضات من الحجاز
للأستاذ حمدي الحسيني
نزل القرآن الكريم على رسول الله صلوات الله عليه والعرب سادرون في مهاوي الضلال، مهددون بالفناء والاضمحلال، غرائز النضال والغلبة في نفوسهم هامدة خامدة، ورغباتهم في الحرية والاستقلال مكبوتة محتجزة. فدعاهم رسول الله إلى الهدى ودفعهم إلى العزة والكرامة، وأمرهم بالنضال في سبيل الحرية والاستقلال، فوقعت المعركة الكبرى بين الحياة والموت، فعبأ رسول الله كل جزء حي من الأمة لمقاومة الموت، وساق كل أنواع القوة لدفع الفناء، وكان الشعر القوى في هذه المعركة المقدسة سيفاً من السيوف المشهرة في وجوه المشركين، وقد عمل هذا السيف ما عمل هذا السيف ما عمله الحسام في أيدي الأبطال في ميادين القتال، وظل شعر القوة كذلك في الحجاز حتى تصدعت الوحدة العربية وتضعضعت القوة الإسلامية، وانتقل الحكم الإسلامي من الحجاز إلى الشام، ومن بغداد إلى الآستانة، فأفتقر الحجاز من القوة ومن شعر القوة، ومن الحياة ومن شعر الحياة حتى أصبح:
كقفر أفاء الموت فيه ظلالة ... فأوحش حتى ما تصر جنادبه
وظل كذلك حتى أعلن الدستور العثماني فأخذ يتحرك تحركاً بطيئاً ويتماثل للنهوض تماثلاً ضعيفاً غلى أن شبت نار الثورة العربية فيه، فأصبح الحجاز علماً في رأسه نار، ترنو إليه عيون العرب، وتتوافد غليه رجال الأدب، فأوجد هذا الاحتكاك حياة في الحجاز وحركة أخذت تنمو وتتسع حتى رأينا في صميمها حركة أدبية فنية نشيطة تندفع نحو النور وتتواثب نحو الحياة والحرية بقوة لا تلبث أن تصبح كافية لتحقيق الغاية والوصول غلى الهدف إن شاء الله. وإليكم الطلائع التي تطمئن لها نفوس العرب على أعز قطر من أقطار العرب.
السيد أحمد إبراهيم الغزاوي: ولد بمكة وتلقى علومه فيها ثم اشتغل بالوظائف في حكومة الملك حسين ثم في الحكومة الحاضرة وقد حاز لقب شاعر الملك عبد العزيز آل سعود المعظم. نظم قصيدة بمناسبة الحلف العربي الذي تم بين المملكة العربية السعودية ومملكة اليمن بعد تلك الحرب الطاحنة التي جرت بين القطرين الشقيقين منذ ست عشرة سنة. وفي(921/22)
القصيدة ألم لما وقع بين المملكتين العربيتين من خصام وامتشاق حسام، وفيها رضى عن النتيجة التي انجلى عنها ذلك الخصام وهي الحلف بين المملكتين. وقد أعجبنا في القصيدة روح الإخاء والمودة التي تقام عليها الوحدة العربية بين العرب؛ فترى الشاعر بعد أن يشيد بقوة ابن السعود العسكرية ويعتز بها يقول:
أفأنا إلى صلح تمهد بعدما ... أفاء بنو أعمامنا للأواصر
وتلك المنى لولا المنايا تقدمت ... فأنعم بهم من كل باد وحاضر
هم الجيرة الأدنون واللحمة التي ... لها الحسب الوضاح عرف الأزهر
وهم دمنا الغالي وأعصاب مجدنا ... وأعضاؤنا في كل ماض وحاضر
فقل لذوي الأحقاد هذا نتاجكم ... فهل كان إلا غصة في الحناجر
سعيتم فأخفقتم وبؤتم بإثمكم ... وبؤنا بحلف كامتزاج العناصر
واسمعه الآن يخاطب الشرق العربي:
يا شرق حسبك مالقيت من عنت ... أفق فإنك بعد اليوم مقتحم
شمر ذيولك وانهض لا تكن خولاً ... ولا يصدك عن درك العلا حمم
وواصل السعي في التعليم مقتبساً ... خير الفنون وإلا مضك الألم
وارهف عزائم من أبنائك اتكأوا ... على الأرائك يعلو فوقها القتم
السيد أحمد قنديل: ولد بجدة وتعلم في مدارسها ثم اشتغل فيها بالتعليم والصحافة، وهو شاعر من شعراء القوة يدعو إلى الانطلاق من قيود الخضوع للقديم البالي وينادي بالحرية والنظام.
جاهر برأيك في الحياة ولا تخف ... غراً تذرع بالسفاهة أو حسود
وانهج إلى المثل الشريف فحبذا ... المثل الشريف العتيد
واسلك سبيلك كيفما تختاره ... مادمت مصطحباً به الرأي السديد
فإذا سلمت به فأنت موفق ... وإذا عثرت فمن عثارك تستفيد
والفوز في شتى المواقف حافز ... للمرء داعيه إلى شرف المزيد
واسمعه الآن يخاطب الشعب هذا الخطاب الرصين الخالي من العنجهية والغطرسة:
لسنا من المجد في أعلى منارته ... أو في الطريق قطعاً منه ما عظما(921/23)
لكنما نحن شعب يرتجي أملاً ... ضخماً وأرقى أماني الشعب ما ضخما
ومن رجا وسعى في الجد متشحاً ... بالصبر مدرعاً نال المنى نعما
السيد حسين السراج: ولد بالطائف وتلقى علومه الابتدائية بمكة ثم رحل إلى شرق الأردن حيث أخذ علومه الثانوية ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت؛ وهو شاعر من شعراء الحجاز الناهضين للكفاح في سبيل الحياة، اسمعه يخاطب الشباب:
يا شباب البلاد كونوا جميعاً ... أخوة عصبة جهاراً وسرا
ثابروا في جهادكم وأعدوا ... خلقاً باسلاً وعزماً وصبرا
حققوا الظن فالأماني سبيل ... من يغامر أتته طوعاً وقهرا
يا شباباً عليه تبنى الأماني ... أشحذ العزم فالمصائب تترى
واصل السير فالحياة نضال ... تبتغي قوة وحزماً وخبرا
السيد عبد الوهاب آشي: ولد بمكة وتعلم فيها؛ ثم اشتغل فيها بالتعليم والصحافة وقد اعتقل على أثر حادثة ابن رفادة، ونفي إلى نجد وهو من شعراء الحجاز الذين يحملون روحاً قوية وثابة.
ويح الجبان إذا استطا ... رلهيب قاصمة الظهور
يدع الديار بلاقعاً ... والحر في قيد الأسير
والموت خير للفتى ... تحت المناصل والقتير
من ذلة تدع الأبي ... مطية العسف المرير
واسمعه يخاطب رفيقاً له:
فانتض العزم وامتط الجد والبس ... مطرف البأس كي تجوس الحنادق
إن في هذه الحياة مجالاً ... لمريد الحياة جم الطرائق
جولة ثم جولة يتجلى ... لك في ذا الجهاد صدق الأصادق
لك مني الثبات يوم تعد ... العزم للكد في مجال البوائق
نقصد المجد لا الونى ينقض العهد ... ولا العاديات تغري المواثق
إن سبق العزوم غذ يتصدى ... للعلا دونه تقذى السوابق
كل شيء وإن تسامى منالاً ... هين إن عني الهمام المسابق(921/24)
وخذ هذين البيتين القويين من قصيدة قوية للسيد عبد الله عمر بالخير أحد شعراء الحجاز:
الملك يخطب بالصوارم والقنا ... لا الكتب تخطبه ولا الأقلام
والحق يعطي للقوى ومن يكن ... غراً فإن الفاتكين قيام
حمدي الحسيني(921/25)
من رجال الفكر في تركيا:
فؤاد كوبريلي
للأستاذ عطا الله طرزي باشي
تحدثت إلى القراء في عدد مضى من الرسالة عن المفكر التركي الكبير ضياء كوك آلب وعن أثره العظيم في تنشئة جيل يفهم للقومية معنى صالحاً، ويقيم للإنسانية وزناً عادلاً.
وأعود إليهم اليوم لأحدثهم عن أحد تلامذته المعروفين في الأوساط العلمية العالية، وأعني به العلامة فؤاد كوبريلي الذي سطع نجمه في تلك الأوساط بما أسداه من خدمات جليلة في رفع شأن الأدب الشرقي؛ وإلباسه تاريخ التصوف ثوباً قشيباً من نسج الحقيقة؛ فنال بذلك استحسان الأندية الثقافية وكوفئ بشهاداتها العالية وأوسمتها البهية الغالية التي لم يفز بها أحد من علماء الترك قبله، فاستحق من جانب الحكومة التركية كل إعجاب وتقدير، حتى ضمته الأمة إلى صدرها فكان كوبريلي من بين الثلاثة الذين أسسوا الحزب الديمقراطي في تركيا وذلك سنة 1946. فهو اليوم بلا شك قطب من أقطاب السياسة الذين يديرون دفة الحكم في تركيا.
ولنضرب في هذه العاجلة صفحاً من حياته السياسية القصيرة التي لا تتجاوز العشر سنوات الأخيرة من عمره، ونجعل موضوع بحثنا يدور حول ترجمة مختصرة لحياته، ودراسة مجملة لآثاره، وأخيراً ذكر أقوال الكبار من المستشرقين والعلماء فيه.
ولد كوبريلي في سنة 1890م بمدينة الآستانة من عائلة (كوبريلي) المشهورة في التاريخ العثماني برجالاتها البارزين في السياسة والتنظيم، والمعروفين بنشر الثقافة والتعليم.
وكان هو خلال دراسته الثانوية والجامعية (حيث درس في كلية الحقوق) مثالاً للجد والنشاط فتميز بين أقرانه بذكائه الوقاد وامتاز عليهم بما كان ينشره بين حين وآخر من البحوث القيمة والمواضيع الشيقة في الأدب والتاريخ مما لفت غليه الأنظار فاهتمت به الحكومة إذ رأت أن الحاجة إليه عاجلة فعينته مدرساً في كلية دار القانون قبل أن ينال شهادة الحقوق ودون أن يتجاوز سن الثالثة والعشرين.
وقد درس كوبريلي التاريخ السياسي في المدرسة الملكية (كلية السياسة) وتاريخ المدنية في معهد الفنون الجميلة في حين أنه كان أستاذاً محاضراً في كلية الشريعة.(921/26)
وفي سنة 1924عين عميداً لكلية الفنون كما عين في نفس السنة مستشاراً في وزارة المعارف.
وفي سنة 1925 اختارته أكاديميا العلوم الروسية عضواً مراسلاً لها.
وفي سنة 1927 أصبح رئيساً لجمعية التاريخ التركي وانتخب عضواً فخرياً في الجمعية العلمية المجرية وفي نفس السنة أيضاً منحته جامعة (هايد لبرغ) شهادة دكتوراة فخرية في الفلسفة. وانتخب في سنة 1929 عضواً في جمعية الشرق التشيكوسلوفاكية وعضواً في معهد (الاركيولوجي) الألماني.
وفي سنة 1937 نال شهادة دكتوراة فخرية من جامعة أثينا كما نال في سنة 1939 شهادة دكتوراة من جامعة (السوربون) الفرنسية.
وقد جمع محاضراته التي ألقاها في هذه الجامعة الأخيرة في كتاب '
ومؤلفات هذا المفكر كثيرة جداً أغلبها في اللغة والتاريخ والاجتماع والأدب. وقد أسس في تركيا مجلات علمية وأدبية مختلفة كما ساهم في تحرير عدد غير قليل من المجلات التركية والأجنبية، وكتب في أصل دائرة المعارف الإسلامية بعض مواد هامة كانت موضع إعجاب العلماء والمفكرين. فنشرت تلك الأبحاث عند صدور تلك الانسيكلوبيديا.
ومن آثاره كتاب كتبه باللغة الفرنسية، ومنها كتاب (دراسات في التاريخ الديني في الأناضول) كتبه باللغة الألمانية ونشره في سنة 1922.
وألف بالاشتراك مع الأستاذ برتولد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي إذ كتب القسم الأول من الكتاب الأستاذ (بارثولد) فأكمله الأستاذ كوبريلي. وكتابه.
(تاريخ الأدب التركي) الصادر في سنة 1926 يعد مفخرة من مفاخر التأليف التركي، إذ هو المصدر الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في استنباط الحقائق الأدبية فهو يتميز عن سواه بغزارة المادة ورقة الأسلوب وصحة البحث والوضع المحكم، حتى قال عنه البروفيسور. أحد أعضاء أكاديمية العلوم في (فيانه): (إن الأثر الخالد يعد تاريخاً لآداب الأقوام التركية الساكنة في المناطق الممتدة بين ساحل الإدرياتيك وحدود الصين.
وإنه لا يقتصر نفعه على العلماء المشتغلين في هذا الحقل؛ بل هو دليل لكل من يروم الاطلاع على ثقافة تلك الشعوب الآسيوية عن كثب. .).(921/27)
وكتابه (المتصوفون الأوائل) أحدث حين صدوره دوياً هائلاً في الأوساط العلمية وتردد صداه في كافة أنحاء العالم. فقد نشر البروفيسور هيار عضو المعهد الفرنسي بمناسبة صدور هذا الكتاب مقالاً جاء فيه: (إن هذا الثر العظيم لم يوضع ليعطي لنا معلومات جديدة صافية، وإنما هو أثر خالد يرشدنا إلى أساليب تطبيقية مبتكرة في أصول النقد الأدبي والتاريخي. . وإذا وجد من يدرسونه بإتقان - وسيكون الباحثون عنه كثيراً - لرأوه فاتحة دور عظيم. .).
وتحدث عن الكتاب نفسه الأستاذ بجامعة بودابست بقوله (حقا أن الجهود التي يبذلها الأستاذ فؤاد كوبريلي - ومن معه من تلاميذه - ستكسب تاريخ الأدب في تركيا لوناً يجعله في موضع لائق بين تواريخ الأدب للأمم الأخرى. .) وهكذا نرى أن إعجاب العلماء والمفكرين بالأستاذ كوبريلي يزداد يوم بعد يوم. وكلما أهدى إلى المكتبة الشرقية أثر ثمين وجدناه في كل مرة يسجل انتصارا باهرا في تاريخ الأدب التركي؛ فقد جعله حافلاً بصفات بارزة ممتازة، وأعطاه مزاياه البديعة التي كانت كامنة بين طيات الكتب المختفية في جوانح المكتبات.
وله أبحاث جد قيمة في تاريخ التصوف الإسلامي. وهي دراسات عميقة للطوائف والنحل والشيع الإسلامية في مختلف العصور، تبحث في آداب هذه الأقوام وتاريخها ومعتقداتها وشعارها. . .
وفي هذا يقول المؤرخ العراقي المعروف الأستاذ عباس العزاوي، وقد زار كوبريلي في سنة 1937 في استنبول: (إنه يعد من اشهر المدققين في الآداب والنحل، له تتبعات في نواح علمية لها مكانتها من الثقافة التركية. . . ولا يركن في بحوثه كلها إلا إلى نصوص تاريخية، فهو من الموفقين في ذلك، ومقالاته في دائرة المعارف الإسلامية مهمة جداً.)
وقد قضى الأستاذ كوبريلي غالب أوقاته بين الكتب، فهو مغرم بها، ولا يهوى في الحياة غير البحث والتنقيب. وتعتبر خزانة كتبه في استنبول من أعظم الخزانات في الشرق بما تصمه من أنفس الكتب المخطوطة والمطبوعة. يفتحها للزائرين. ولا يبخل بعلمه على من هو في حاجة إليه. فقد قال عنه (إن دارة الشبيهة بالبرج المطلة على بحر مرمرة تحوي كنزاً من الجواهر الفكرية. . ولم يوجد من دخل فيها وتركها دون أن يحمل بين ضلوعه(921/28)
مودة وحبوراً، ويأخذ من بحر أفكاره بهجة وسروراً. . فيزود الزائر هناك من العلم والأدب ما يغنيه في مطلبه ويزجي له مقصده. . .)
ولقد أصاب بحق البروفيسور الروسي الكبير في مقال نشره عن الأستاذ فؤاد كوبريلي عندما قال: (إنه تمثال مجسم للثقافات الشرقية والغربية)
كركوك (العراق)
عطا الله ترزي باشي(921/29)
فلسطين!. . .
للآنسة فائزة عبد المجيد
يا للنداء الرهيب يجلجل في الآفاق يهز سمع الزمن! هناك هناك أيها العرب أمة لكم تفنى، وراية تطوى، ووطن يضيع، فلسطين! الله الله لها، مواقف المجد تدوس معالمها، منازل الوحي تخبو مشاعرها!
فلسطين! يا للصرخات تتعالى من أرجائك ترج جنبات الأرض وتشق كبد السماء! يا للرايات ترتفع في فضائك خافقات! يا للصوت الحق يدوي! هيا بني الوطن، هو ذا يوم التضحية قد جاء. أيتها الحرية أجمعي من القلوب، قوي السواعد، شدي الهمم أيتها الأرض! كم سرى حبك منا في القلوب يقيناً، وفي العروق دما، أيتها الأرض! لك منا الفداء. . .
أرض الشهداء! قدستك السماء، روتك الدماء. . .
أرض الأبطال! فيك طافت مواكبهم، فيك حطت رحالهم من كل قطر وواد، من كل قاسية ودانية، حملوا اللواء وساروا، حفظوا الميثاق وأجمعوا، فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء. . .
فلسطين! لمن الأكاليل تعقد؟ لمن القلوب تهتف: يا زكي الدماء تهب الحياة، وتخط الخلود. يا جلال الفداء يلقي على الكون وشاحه! إيه يا غضبة الأبي! يا صيحة الحق! أرض الشهداء! كل بقعة لهم فيك روضة، وعلى كل ربوة من جهادهم علم. .
أيها الهاتف القدسي! تردد الآفاق نداءه، يملأ الأرض سنى، يصغي له الكون، يهتف له المجد: فلسطين! لن تسقط عنك الراية، لن تدخلي في ذمة التاريخ، تلك الجحافل إليك نافرة، تهتك حجاب الشمس، أو تقطر دماً. . .
وي! فلسطين! مالها؟ تهزها النوازل، تعصف بها عصفاً! ما للسيوف مغمدة، ما للمظالم تطغى، ما للعدو يغتصب ويلتهب، ما للرايات تنكس، ما للرقاب تذل.؟!
فلسطين! أين مدنك الزاهرات؟ أين محافلك الغر؟ أين قراك العامرات؟ أين منابع الخير وملتقى الكرم؟ انفض سامرها، وغابت معالمها. وأين توارت وما آذنت بوادع؟
فلسطين! أين تلك الديار؟ أين أهلوها؟ ذهبوا وما عادوا. ديارنا! مهوى أفئدتنا! سر حياتنا(921/30)
أنت! ألا سقيا لعهدك! وسلاماً لرباك. . .
فلسطين! أين أهلوك؟ كيف هامت في الأرض قوافلهم؟ أتفرقوا زمراً أم قذفتهم الأقدار في حياض الردى حيارى، أم أضحى لهم التراب وساداً، والجوع لباساً، والمذلة نعمة؟
فلسطين! ما طرقتك الأحداث وكنت لضرباتها هدفاً لتفنيك، لا، وما صهرتك الشدائد إلا لتشد منك العزائم. منبت الأبطال! ما ركزوا في رباك وجففوا عرق الكفاح إلا ليجمعوا أمرهم، ليجيبوا داعي الوطن.
فلسطين! أين شاعر المجد يوقظه من سباته ويرسله في أعماق العروبة؟ نشيد النضال له قوة الألحان في ساحات النزال، تقوى به العزمات، وترفع له الرايات، يوم النضال:
(يوم النضال كستك لون جمالها ... حرية صبغت أدميك بالدم. .)
فلسطين! أين شاعر النصر يوحي بملحمة الجهاد في أرض الجهاد:
(يا جهاد صفق المجد له ... لبس الغار عليه الأرجوانا. . .)
نابلس - فلسطين
فائزة عبد المجيد(921/31)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
لقاء لا ينسى مع طه حسين:
في صباح يوم الأحد 11 فبراير طالع الناس في إحدى الصحف اليومية المعارضة، هجوماً موجهاً إلى وزير المعارف وبعد ذلك بيومين كنت أتلقى اتهاماً سافراً بأنني صاحب هذا الهجوم، إن لم أكن على التحقيق قد أوحيت به. . وقلت لمن حمل إلى نبأ الاتهام نقلاً عن أفواه المسئولين: يتهمونني أنا؟ ولماذا يا صديقي؟ ترى هل تستطيع أن تنقل إلى مرة أخرى مصادر الشبهات؟ وكان رد الزميل الأديب: لأن بينك وبين الصحافة صلة عامة هي صلة القلم، وبينك وبين رئيس تحرير الصحيفة المعارضة صلة خاصة هي صلة القرابة، وبينك وبين وزير المعارف كما يقال أشياء!
كان ذلك في صباح الثلاثاء 13 فبراير، وقبل أن أعقب أو أسأل المزيد من الوضوح، أقبل رسول موفد من مكتب الوزير ليوجه إلي الحديث في كلمات: معالي الدكتور طه حسين باشا يطالبك. في تمام الساعة العاشرة والنصف! ونظر الزميل الأديب نظرة طويلة وعلى شفتيه ظل ابتسامة، معناها في لغة الصمت المعبر عن حديث الشعور: لقد بدأت المحاكمة!
وتركت حجرتي المتواضعة وفيها الزميل الأديب، وأخذت طريقي إلى الحجرة الضخمة التي ينتظرني فيها حساب وعقاب. . . وهناك تذكرت حقيقة من الحقائق لا أدري هل أوحى بها الموقف أم أوحى بها المكان: هذه الحجرة أقسم صادقاً أنني أطرق بابها لأول مرة، وأدخلها لأول مرة، وما اتجهت إليها نفسي في يوم من الأيام. . رباه! ما أعجب الذين يعرفون هذه الحجرة، يعرفونها كلما ذهب عهد وجاء عهد، وكلما مضى وزير وأقبل وزير حتى لقد حذقوا فنون التلون كما تحذقها كل حرباء!!
واستقر بي المقام في مكتب الوزير لحظات، ثم خرجت بعدها حين رأى صاحب المعالي أن يتم اللقاء في منزله، على أن يكون في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم. وأقف قليلاً لأقص عليك قصة الألم المشبوب الذي ألهب مني الشعور وعصف بالوجدان، حين حملني الخيال على جناحه ليطلعني على مشاهد شتى وآفاق: رباه! هذا الرجل الذي لم يؤمن في حياته بقيمة من القيم كما آمن بحرية الفكر، ولم يتطلع إلى مثل من المثل كما تطلع إلى(921/32)
كرامة العقل، ولم يقدس صوتاً من الأصوات كما قدس صوت القلم؛ هذا الرجل يتغير هكذا سريعاً بين الأمس واليوم، ثم يطلب إلي أن ألقاه ليحاسبني على أنني قدست ما كان يقدسه، وتطلعت غلى ما كان يتطلع غليه، وآمنت بما كان يؤمن به؟! ولماذا يحاسبني؟ ألأنه وزير المعارف وأنا موظف بوزارة المعارف؟ وهب أنني كنت كاتب هذا المقال الذي لم أكتبه، فيا له من عجب أن يكون الرجل الذي يحاسب الأحرار. . . هو طه حسين!!
وامتدت يدي إلى القلم في عنف ثائر، ومضت تخط على ورقة بيضاء سطوراً أملتها الكرامة. . وطويت استقالتي لأقدمها لوزير المعارف في الموعد المرتقب، ولأقول له إذا ما لقيني بوجه عابس أو بصوت غاضب أو بثورة عاصفة: لا يا سيدي! هذه هي استقالتي بين يديك، واستقبلني بعد ذلك بوجه الأديب الكبير لا بوجه الوزير، أو بلسان المضيف السمح والرجل الكريم. . . يفتح بابه وقلبه لضيف عابر إن طرق الأبواب فهو لا يقيم!!
أشهد لقد كانت هذه هي خواطري التي تملأ آفاق النفس والحس قبل أن أبرح بيتي لأذهب إلى بيته، وأن هذه الخواطر قد صحبتني وأنا أقطع الطريق وأحث الخطى إلى هناك، إلى حيث ينتظرني حساب وعقاب. . . لقد كان يجلس وحده في حجرة المكتبة، وحين تجاوزت الباب وألقيت بتحية المساء، نهض طه حسين واقفاً ليصافحني بحرارة، حتى لقد هبت علي روح من الماضي البعيد نسمات. . وجلس وجلست، وأحضرت القهوة فشرب وشربت، وأخرج علبة سجائره ليقدم إلي واحدة تتبدد في الهواء دخانها وتتبدد معه الظنون!
وبعد عبارة ترحيب نبيلة أعقبتها مني كلمة شكر، بدأ طه حسين الحديث: (لقد قرأت لك منذ قريب مقالاً في (الرسالة) آلمني كل الألم، حتى لقد بعثت في طلبك لأعبر لك عن أسفي. . . ومصدر الأسف أنني كنت السبب المباشر أو غير المباشر في أن حرية الفكر قد صودرت، يوم أن خطر لك أن تهاجمني فحيل بينك وبين هذا الهجوم! لقد كان مقالك الذي عنيتني به تحت هذا العنوان: (مشكلتي مع الأستاذ الزيات). . . وقد فهمت أنني الوزير المقصود بتلك الكلمة، لأنك كنت تقول للقراء إن صديقك الزيات قد حذف مقالك، لأنه كان هجوماً عنيفاً على أحد الوزراء. وكنت تقول لهم أيضاً إن الزيات يشفق عليك من حماسة الشباب وفورة الشباب، وما يتبعهما من عنف القلم وجيشان العاطفة، ولهذا فقد حال بينك وبين حرية الرأي حرصاً منه على مستقبلك. وكنت تقول لهم مرة ثالثة إنك كاتب تعودت(921/33)
أن تكون صريحاً وشجاعاً لا تهمك العواقب بقدر ما يهمك أن تعبر صادقاً عما في نفسك، وإن الزيات بمثل هذا الإشفاق سيجني عليك من حيث لا تدري ولا يريد، لأنه سيدفعك آخر الأمر إلى أن تتحرر من أسر الوظيفة، وحينئذ تستطيع أن تقول عن الوزراء ما تشاء. . . أليس كذلك؟ اسمع يا أستاذ: إن طه حسين الذي وهب قلمه قرباناً لحرية الفكر يعز عليه أن تصادر من أجله حرية الفكر! قل للزيات إنني عاتب وغاضب لأن طه حسين قد طبع على أن يحب للناس ما يحب لنفسه: يحب لهم الكرامة، ويحب لهم الشجاعة، ويحب لهم الحرية، وإنه ليسعده أن يهاجمه الناس بمثل هذه الأسلحة ما دام رائدهم الحق وقائدهم الضمير. . . أيظن صديقي الزيات أنك حين تهاجمني ثم يسمح بنشر هذا الهجوم على صفحات (الرسالة)، أيظن أن ذلك سيفيد ما بيني وبينه من أسباب الود وروابط الوفاء؟ كلا! إن شيئاً من هذا لا يمكن أن يكون. . . لأنني واثق كل الثقة من أنك لست كغيرك من الناس، أولئك الذين لا يرجعون إلى ضمائرهم فيما يكتبون! هذه كلمات أود أن تنقلها إلى الأستاذ الزيات، إذا ما كان هدفه الأول من وراء حذف كلمتك هو إرضاء طه حسين. . . أما إذا كان يشفق عليك حقاً لأنك موظف في الدولة أو موظف في وزارة المعارف بالذات، فإن وزير المعارف يأذن لك في أن تهاجمه كما تشاء وبأي أسلوب تحب! لن أقول لك لا تخف لأنني أعرف أنك لا تخاف، ولو كنت من الذين يخافون لما احترمتك. . . لن أقول لك هذا، وإنما الذي أريد أن أقوله هو أن طه حسين لا يضيق أبداً بحرية الرأي، سواء أكانت هذه الحرية موجهة إلى نقد أعماله كأديب أو نقد أعماله كوزير، لأنه يزد على كونه إنساناً يخطئ ويصيب)!
هذا هو طه حسين كما رأيته على حقيقته. . . جئت إليه ليحاسبني فإذا هو يحاسب نفسه!! أشهد لقد هزتني كلماته هزاً عنيفاً، وما تعودت أن يهزني شيء كما تهزني تلك الواقف النادرة، هنالك حيث تتجرد النفوس من أكثر أثوابها لا يبقى لها غير ثوب واحد. . . هو ثوب الإنسانية! لقد كان طه حسين في تلك اللحظة، يرسم على لوحة الشعور صورة فريدة لم يرسمها من قبله إنسان. ولا فنان! أهذا هو الرجل الذي صحبت الظنون حين تصورته، فظلمت نفسيي ظلمته؟ يا عجباً! لقد كان الرجل العظيم النبيل بريئاً مما تخيل أنه منسوب إليه، ومع ذلك فقد دفعه الضمير الحر اليقظ إلى أن يدفع عن نفسه كل شبهة، حين يكون(921/34)
الأمر متعلقاً بحرية غيره من أصحاب الآراء والأقلام. . . وقلت له وأنا مأخوذ بنبله ومفتون بإنسانيته:
(أود أن أقول لك يا سيدي إنني عاجز عن شكرك، وأعتذر إليك من هذا الذي تبادر إلى ذهنك، لأن المقصود بذلك الهجوم كان وزيراً آخر غير طه حسين، وتلك حقيقة يعرفها الأستاذ الزيات)!
وعقب الرجل العظيم النبيل في تواضع جميل: (إذا كانت هذه هي الحقيقة فإني أكون قد أزعجتك. . ومرة أخرى أعبر لك عن أسفي)!
وقلت له وقد تكشف لي من أمره ما لم أكن أعرف: (يا سيدي عفواً. . وإذا كان إزعاجك لي معناه أنني سأعرفك على حقيقتك ثم أتحدث عن هذا الذي عرفت إلى الناس، فأرجو أن تزعجني كل يوم. . . وما دمت تؤمن بحرية الرأي لغيرك كما نؤمن بها لنفسك، فأود أن أفضى به إليك هنا ثم أتحدث به إلى الناس عامة هناك، أعني على صفحات (الرسالة). ولكني أخشى أن يعترض الزيات طريقي غداً كما اعترض طريقي بالأمس، لأن هذا الرجل من أحفظ الناس لود الأصدقاء وفي مقدمتهم طه حسين! ولا أقصد بالطبع أنه حال بيني وبينك في ذلك الموقف الذي حدث منذ قريب، ولكنه فعل ذلك في موقف آخر بالأمس البعيد، حتى لقد انقطعت عن (الرسالة) شهرين عدت بعدهما إلى الكتابة خضوعاً لرغبة الأصدقاء. . . وهل لي بأن أوجه إليك شيئاً من النقد في ناحية خاصة، كانت ولا تزال مثار ألم عميق، عند من يضعون ثقتهم فيك؟!
واعتدل الرجل العظيم النبيل، واقبل علي بوجهه السمح وخاطبني بصوته الحبيب: (قل ما تشاء يا أستاذ، وقل عني لقراء (الرسالة) ما تريد، وانقل إلى الزيات ما سبق أن أشرت إليه، أنني سأكون عاتباً غاضباً إذا اعترض طريق رأي من آرائك في طه حسين، وحال بينه وبين أن يبلغ منافذ الأسماع. . صدقني أن كثرة شواغلي لا تتيح لي أن أقرأ الكثير من الإنتاج الأدبي ولا أن أتابع الكثير من الكتاب، ومع ذلك فأنت واحد من هذه القلة التي أحرص على أن أقرأ لها في كل حين)!
وقلت وقد غلبني التأثر بعد الثناء المضمخ من سمو الخلق بأزكى عبير: (إذا كان هناك شيء أعتز به فهو كريم تقديرك. . وإذا كان هناك أمر أود أن أطالعك به فهو أن أقول لك:(921/35)
لقد فعلت الكثير من أجل التعليم والمعلمين، ولكنك لم تفعل إلا القليل من أجل الأدب والأدباء)!
وارتسمت على وجهه مظاهر الاهتمام، وعبرت قسماته عن سؤال ينتظر الجواب ثم قال: (أما عن التعليم فأنت مغال فيما نسبته إلي من جهد في سبيله! ماذا فعلت من أجل التعليم؟ إنها خطوة قصيرة المدى محدودة الأثر أرجو أن تعقبها خطوات. . . وأما عن الأدب وأهله، فأود أن تقدم إلي بعض الأمثلة تأييداً لاتهامك! هل أننا مقصر حقاً في هذه الناحية؟ وماذا ينتظر مني الأدب وماذا يطلب الأدباء)؟
وأجبت وأنا من تواضعه الجم في حيرة تقترن الإعجاب: (لا يا سيدي! إذا كان التواضع سيفرض عليك أن تظلم نفسك وأن تنكر جهدك فأن التاريخ سينصفك بلا جدال، وأعتقد أن الرأي العام قد بلغ من النضج والوعي ما يهيئ له أن ينظر غلى أعمالك نظرة عادلة، مهما حاولت أنت تخفي وراء حجب شتى من التواضع وإنكار الذات. أما إذا كنت ترغب في أن أقدم إليك بعض الأمثلة على أنك لم ترع الأدب ولم تذكر حقوق الأدباء، فلا بأس من أن أتحدث هنا باختصار على أن يكون الحديث المفصل على صفحات الرسالة)!
وعندما قدمت إليه بعض الأمثلة هتف الرجل العظيم النبيل في نبرات صادقة: (إنني أوافقك. . وأكون شاكراً لو تناولت قلمك وكتبت في هذا الموضوع مهاجماً طه حسين، لأن مثل هذا الهجوم سيساعدني كثيراً في مجلس الوزراء، يوم أن أستشهد بما كتب في (الرسالة) على أن للرأي العام الفني مطالب يجب أن تنال! أما التاريخ الذي تقول أنه سينصفني في الغد القريب أو الغد البعيد، فصدقني إذا قلت لك إنني ما اتجهت غليه يوماً بتفكيري كلما قدمت غلى الناس عملاً من الأعمال. . . حسبي أن أتجه إلى نفسي وحدها وإلى ضميري وحده، حتى يستريح كل منهما وأستريح)!!
وقلت له بعد أن تطرق الحديث غلى موضوع آخر أمسك القلم مؤقتاً عن الإشارة إليه، قلت له بعد ذلك وقبل أن أودعه شاكراً له هذا اللقاء الذي لن أنساه: (هل تعلم يا سيدي أن ما حدث في هذا اللقاء كان بالنسبة إلي مفاجأة كاملة؟ لقد حضرت إليك وليس في ذهني غير خاطر واحد، هو أنك ستحاسبني على ذلك المقال الذي ظهر في تلك الصحيفة المعارضة، فإذا أنت تحدثني عن شيء آخر لم يخطر لي على بال، وأعني به مقال (الرسالة). . . لقد(921/36)
كنت أتوقع أن يدور كل الحديث حول ذلك المقال، لأن بعض المسئولين في الوزارة قد اتهموني بكتابته، إن لم أكن في رأيهم قد أوحيت به)!
ويا لها من ابتسامة رقيقة عذبة تلك التي داعبت شفتيه، ثم غمرت بضيائها الباهر آفاق الشعور حين قال: (أوه. . ذلك المقال الذي منذ يومين؟ لا ضير أبداً من أن يكون كاتبه هو أنت، ولا ضير من أي هجوم يوجه إلى وزير المعارف، ما دام رائده الحق كما قلت لك وقائده الضمير)!!
ونهض الرجل العظيم النبيل واقفاً ليودعني في حرارة، حتى لقد هبت على الروح من الماضي البعيد نسمات. . . رباه إن المنصب الخطير لم يغير من خلق طه حسين، وإن الصورة الحبيبة التي عرفتها بالأمس. لم تنل من بهائها الأيام!!
أنور المعداوي(921/37)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
طه حسين الوزير يتحكم في طه حسين المؤلف:
(كان شعاري منذ ولية وزارة المعارف ألا تشتري الوزارة كتبي حتى أخرج منها، وتقدمت في ذلك إلى أعواني فأنكروه ولكنهم أذعنوا له. حتى إذا سافرت إلى أوربا في إبريل الماضي وناب عني في الوزارة زميلي معالي عبد الفتاح الطويل باشا اشترت الوزارة بعض النسخ من طائفة من كتبي لمكتبات المدارس وأعدت قراراً بشراء كتابي (الوعد الحق) و (رحلة الربيع) ليوزعا على التلاميذ، فلما رجعت من أوربا أثناء الصيف عرفت ذلك فغضبت منه أشد الغضب. وكانت إجراءات كتابي (الوعد الحق) و (رحلة الربيع) لم تتم، فأمرت بوقفها وألغيت قرار الزميل عبد الفتاح باشا. أما صفقة الكتب التي اشتريت للمكتبات فكانت قد تمت، ولم أجد غلى إلغائها سبيلاً إلا أن أرد ثمنها إلى الوزارة وأعتبرها تبرعاً مني للمكتبات. وأقسم لو ملكت ثمنها ما ترددت في ذلك؛ ولكني أعيش بمرتبي راضياً بما قسم الله لي، وأقسم لو كان لي في ثمن هذه الكتب نصيب ما ترددت في اقتراضه ورده إلى الوزارة، ولكني أبيع حقوق الطبع للناشر وأقبض ثمنها مقدماً، وأترك الناشر يوزع كتبه كما يشاء أو كما يستطيع. وإن آسف لشيء لأن عملي في الوزارة يمنعني من تأليف الكتب وبيع حقي فيها مقدماً للناشرين. ومع ذلك كله فما أظن أن وجود هذه الكتب في المكتبات في متناول المدرسين والطلاب، يضر أولئك أو هؤلاء، أو لا ينفعهم).
ذلك جزء من حديث معالي الدكتور طه حسين باشا الذي أفضى به إلى الأستاذ كامل الشناوي فنشرته (الأهرام) يوم الأحد الماضي، وهو يلخص لنا القصة التي أثيرت حولها عجاجات ملونة بالحزبية السياسية، ولهذا أتجنب الخوض فيها. إنما يعنيني هنا الظلم الصارخ الذي يصبه الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف على مؤلف الأيام وعلى هامش السيرة وذكرى أبي العلاء وحديث الأربعاء والوعد الحق و. . . الخ. بل أقول إن هذا الظلم لا يقف عند ذلك المؤلف، بل يمتد إلى آلاف الناشئين في المدارس إذ يحرمهم تلك الوجبات العقلية وما تحتويه من فيتامينات الأدب والفن.(921/38)
لقد أجمع الناس على أن كتب طه حسين من خير ما يقرأ وأنفس ما يقدم للتلاميذ وأنفعه، وتوالت كتابات الكتاب في هذه الحقيقة منذ ذلك الصيف الذي أصدر فيه معالي الدكتور طه حسين قراره بوقف شراء كتبه. وأقول (أجمع الناس) ولا أستثني من كتب معارضاً، فقد لاحظت أن المعارضة قصرت أمر الاعتراض - من حيث مؤلفات معاليه - على الشكل دون الموضوع، أعني أنها قالت في ذلك إن وزير المعارف اصدر قراراً بعدم شراء كتبه ثم اشترت الوزارة كتبه. وقد جاء في حديث معاليه أن صفقة الكتب التي اشتريت كانت قد تمت قبل ذلك القرار. وبهذا لم يبق للاعتراض محل. ولكن المعارضة نفسها لم تعترض ولم يكن ينبغي لها أن تعترض علة مجرد الشراء.
ولم يكن ينبغي ولا ينبغي لأي كان ممن ولوا أمر تقدير كتب المطالعة الإضافية أن يغفل كتب طه حسين لمكانة هذا المؤلف - المسلم بها من الجميع - في عالم الفكر والأدب في هذا العصر.
ذلك إجماع الناس - يا معالي الباشا - على تقدير ذلك المؤلف والاعتراف بنفع كتبه، فبأي حق تظلمه. . وبأي حق تمنع حق إشراقه على عقول التلاميذ؟ ألأنك وزير؟ لا، فأنت وزير ديمقراطي، وهذا حكم الرأي العام. . . لو كنت عضواً في البرلمان لاقترحت على المجلس أن يقرر تلك الكتب أو يعتبر تقريرها رغبة برلمانية ويبعث بها إلى وزارة المعارف للعمل على تحقيقها ولو عارض معالي الوزير. . .
مناقشة في (الموقف الدولي في آسيا)
افتتح قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الماضي سلسلة للبحث والمناقشة موضوعها (مصر بين الشرق والغرب) وكان الموضوع الأول في هذه السلسلة (الموقف الدولي في آسيا) وقد تألف رواق المناقشة من الأساتذة والدكاترة محمود عزمي ومحمد زكي عبد القادر وفؤاد صروف وسليمان حزين بك وحسين كامل سليم بك.
بدأت المناقشة بتحديد آسيا، فاشتد الخلاف في هذا التحديد بين الدكتور عزمي والدكتور حزين، إذ حدها الأول بالحدود الجغرافية المشهورة ورأى أن يخرج من موضوع البحث البلاد العربية لارتباطها بمصر، وهذه في إفريقية. فانبرى الدكتور حزين بك يقول إن الرأي الحديث في تحديد آسيا يجعلها تشمل شمال إفريقية ويعتبر أوربا شبه جزيرة من(921/39)
آسيا، وتسمى هذه القارة الكبيرة (أورفراسيا) وعزز ذلك ببيان وجه الشبه في الموقف السياسي في كوريا وفي أوربا ففي كوريا الشيوعية شمالاً والديمقراطية جنوباً، وكذلك في أوربا الشرقية.
ونشب الخلاف مرة ثانية بين الأستاذ زكي عبد القادر والدكتور سليمان حزين بك، عندما قال الأول إن آسيا ليست إلا مسرحاً لسياسة الأمم الغربية فهي تتكون من أمم ضعيفة تتنازع النفوذ فيها دول الغرب القوية، فقال الدكتور حزين: إن في آسيا حيوية كامنة، وقد برزت قوتها في الصين، وفي صراع إندونيسيا لهولندا، والقارة تتكون من نحو نصف سكان العالم وتسودها الآن اليقظة الوطنية. قال الأستاذ زكي: نحن نتكلم عن الحاضر لا عن المستقبل. فقال الدكتور حزين: إن الحاضر يدل على مستقبل قريب.
وفي خلاف ثالث اشتبك الدكتور محمود عزمي وحسين كامل سليم بك، إذ رأى الأول أن زحف كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية ليس اعتداء وإنما هو التجاء إلى العنف لتحقيق غرض سياسي هو توحيد البلاد وإخراج المحتلين منها، وبين الفرق بين العدوان والالتجاء إلى العنف وضرب مثلاً لذلك مصر والسودان مفترضاً أن مصر رأت أو استطاعت أن ترسل جيشها إلى الخرطوم لتحقيق وحدة الوادي. . . وهنا دوت القاعة بتصفيق الحاضرين. ثم تحدث حسين كامل سليم ذاهباً إلى وصف ذلك الزحف بأنه عدوان، وقال إن كوريا تعتبر خط دفاع للديمقراطية في آسيا أمام الشيوعية، وتدخل في هذا الدكتور سليمان الحزين فأيد الدكتور عزمي في أنه من حق الشعب الكوري أن يعمل على توحيد جزئيه، ثم قال إن الذي حدث أن المصلحة الوطنية الكورية ضحى بها في سبيل التنافس بين الكتلتين الغربية والشرقية، وقد نجحت روسيا في خطتها العسكرية إذ استدرجت الغرب إلى هذه الحرب التي جشمته خسائر فادحة على حين لم تخسر روسيا جندياً واحداً، ولذلك كان من الخير للغرب ألا يتدخل.
وتناول الرواق بالمناقشة مسألة انتشار الشيوعية في آسيا، وعزوا ذلك إلى متاخمة روسيا للقارة وسوء حال المعيشة وفساد الحكم في البلاد الآسيوية التي انتشرت فيها الشيوعية. ولخص الأستاذ صروف الملاحظات التي اتفق عليها الجميع في ثلاثة أمور: (1) يقظة الآسيويين وثورتهم على الاستعمار وعلى النظم القائمة في بلادهم. (2) انحسار النفوذ(921/40)
الأوربي عن أكثر البلاد الآسيوية. (3) انتشار الشيوعية.
واختتم الأستاذ زكي عبد القادر المناقشة قائلاً: قد تصبح دول آسيا هي المسيطرة على العالم ولكنها الآن مسرح للنزاع بين الكتلتين، وقد شاعت فيها الشيوعية ونشأت بها دولة شيوعية قوية، ولكن كيف يكون المصير؟ هل تستبدل هذه الشعوب سيداً بسيد أو تكون لها قوتها الذاتية؟ وهل تظل نظم الصين مطابقة لنظم روسيا أو تصبح أفكارها مغايرة؟ يتوقف جواب ذلك كله على سير الأمور في العالم وعلى مدى اليقظة في الأمم الآسيوية.
حول محاضرة الدكتور ناجي:
. . . وبعد، فقد كنت أو أود أن أسبق الأديب (أسامة) في الرد على ما عقبت به حول محاضرة (الدكتور إبراهيم ناجي) ولكن شواغل حياتي الخاصة التي لا شك أنك عرفت طرفاً غير يسير منها - وفضل ذلك راجع إلى أخينا الأستاذ المعداوي - صرفتني عن الكتابة إليك في حينه. والآن وبعد أن هدأت العاصفة واستقر كل شيء يسرني أن أرسل كلمة عتاب هادئة لشاعر (ليالي القاهرة) الذي تجنى كثيراً على الرسالة وشعرائها. وهي تهمة أعيذ كبار كتاب مصر الشيوخ منها.
لماذا يريد الدكتور ناجي أن تتخلص الرسالة من الشعراء الذين تنشر لهم منذ سنوات؟ الأجل أن يحتكرها هو؟ أم أن هناك سبباً لا يدركه إلا هو والراسخون في علم الطب؟! وبأي حق يلقب هؤلاء الشاعرين بـ (التافهين) هل هو اشعر منهم أم هو أعلم أهل زمانه بقواعد اللغة؟
صدقني يا سيدي أنني كلما راجعت العدد الذي عقبت فيه على محاضرته عجبت من سكوت الشعراء على هذا التجني الشنيع والوقف الذي وقفه الدكتور من زملائه وفيهم من هو أعلم بأسرار البلاغة. وخصوصاً حين أرجع إلى ذاكرتي فأردد بيني وبين نفسي قوله:
(أجرجر) وحدتي في كل حشد ... وأحمل غربتي في كل جمع
وأقول: مرحى مرحى يا دكتور، من قال لك إن لفظة (أجرجر) تستعمل بمعنى (أجر) وفي أي قاموس وجدتها وأنت قد بلغت الآن الستين من عمرك المديد.
تصور يا صاحب (الأدب والفن في أسبوع) حال شاعر لا يعرف كيف تستعمل الكلمات في محلها، وقل لي بحق العلم والفن والأدب هل يجوز له نعت إخوان بـ (التافهين).(921/41)
لقد كنت في (باريس) إبان أخرجت المطابع المصرية ديوان الدكتور وعند مروري بالإسكندرية وبيروت ودمشق لم أحصل على نسخة منه، وفي بغداد أكد لي أصحاب المكاتب أنه لم يرد حتى الآن لأقرأه وأعيه حقه من النقد. فهل يتكرم أصدقائي في القاهرة بإهدائي نسخة من (ليالي القاهرة) فأكون لهم من الشاكرين وأحبذ لو يتفضل الدكتور إبراهيم ناجي فيحمل عنهم هذا العبء. .
وختاماً يا صديقي الأستاذ عباس أود أن أحيل إليك هذا السؤال لترد أو تعقب أنت بدلاً من صديقك الدكتور فأقول سائلاً ومعاتباً:
من هم الشعراء التافهون الذين يعنيهم الشاعر ناجي؟ أهم كانوا من العراق، أم من سوريا ولبنان، أم من مصر والسودان؟ إن كانوا من العراق وأنا منهم طبعاً فهل لك أن تبين لنا عيوبنا لنتجنبها في المستقبل القريب؟! هذه جناية كبرى لا تغتفر للدكتور ناجي آمل أن تداركوها عسى أن تخفف ما علق بنفوسنا من أشجان.
واسلم لأخيك
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
عندما علقت على محاضرة الدكتور إبراهيم ناجي (الشعر العربي المعاصر) لم أقصد إلى انتقاص قدره ومكانته في عالم الشعر، إنما لاحظت أنه أراد أن يخلي المكان ويمسح كل من يشغله ليجلس فيه وحده، وقد أشفقت عليه لأنه يجشم نفسه هذا العناء وهو يستطيع أن يأخذ مكانه - وهو آخذه بالفعل - مستريحاً فسيحاً.
والذي ألحظه في رسالة الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري - ويسرني أن حالته قد استقرت - أنه قد غضب من وصف الدكتور ناجي شعراء الرسالة بأنهم تافهون، لأنه منهم، وهو يعجب من سكوت بقية الشعراء. . ولكني أرى الأمر أتفه من أن يثير هذا الغضب، فقد رويت ذلك الوصف وأنا أعتقد أنه يحمل في تضاعيفه السخرية به. . فالرسالة تنشر لشعراء معروفين وغير معروفين مقدرة ما تنشره، وليس قول أحد بضائره. . . فالناس تعرف ما ينكره. . .(921/42)
وقد نقدت محاضرة الدكتور ناجي، ولم أتعرض لشعره، وأقول الآن إن ما يقوله يعجبني، ومنه هذا البيت الذي أورده الأستاذ الناصري في رسالته:
أجرجر وحدتي في كل حشد ... وأحمل غربتي في كل جمع
فأنا أشاركه هذا الإحساس، وأراه موفقاً في التعبير عنه، هذا الشاعر الذي يعيش وحيداً وغريباً بين الناس لأنه يحيا بمشاعره في عالم غير عالمهم - جدير بالأنس إليه - وهو لا يترك تلك المشاعر عندما ينتقل إلى الناس بل ينقلها معه فتجر عليه الوحدة والغربة. أما (أجرجر) فلا أرى بها بأساً، بل أرى فيها بلاغة؛ فالجرجرة - كما نفهم من الأمثلة الواردة فيها - التحريك مع الصوت وهو نفس المعنى الذي يستعمل في العامية، واستعمال الفعل (أجرجر) في البيت، فيه تجسيم للوحدة إذ يشبه بالجسم الثقيل الذي يحدث جره صوتاً مزعجاً، وهذا يلائم المعنى، إذ يزيد الإحساس بالوحدة ضيقاً وثقلاً.
وتحياتي وأطيب تمنياتي للأستاذ الناصري، وأرجو ألا يضن عليه الدكتور ناجي بنسخة من (ليالي القاهرة)
عباس خضر(921/43)
الكتب
معركة الإسلام والرأسمالية
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
إن النكسة التي أصابت الإسلام في تطبيق نظمه على منهجها الصحيح ترجع إلى اكثر من ثلاثمائة وألف سنة. أي: منذ تحول الحكم المقيد بالشورى إلى ملك مطلق يورث كما تورث القصور والبساتين والأموال، وقد بعدت الشقة بين النظم الإسلامية وبين تطبيقها يوم أن تساقط على رقاب المسلمين عناصر لا تعرف من الحياة غير البذخ والملذات والشهوات، وتعقدت المشكلة أكثر من ذلك يوم أريد لهذا الدين الواضح السهل أن تنصب فيه تيارات غريبة عنه من التقاليد والعادات التي لا عهد للمسلمين بها. وفي بداية النكسة قام أبو ذر يبث الدعوة للإسلام الاشتراكي حتى تحمل الأذى في سبيل مبادئه. ولم تكن دعوته إلا صدى للدعوة الأولى عند انبثاق الفجر، واستجابة للحد من تلك الطفرة البعيدة التي مني بها الإسلام في مرحلته الأولى حتى أفلت الزمام في المراحل التي بعدها.
ولا نغالي إذا قلنا: إن تلك القصور على الغوطتين أيام الأمويين، وفي بغداد وسامراء أيام العباسيين، وعلى البسفور والدردنيل أيام العثمانيين، لم تكن إلا من الأمثلة السيئة في تاريخ الإسلام الصحيح. أما في عرف التبجح والأرستقراطية فهي رمز للمكانة الكبرى التي كان يتمتع بها أولئك الخلفاء كما يسميهم التاريخ!!. نعم: التاريخ العاطفي المقلوب. . . خذ مثلاً من أمثلة هذا التاريخ المقلوب عن حاكم عباسي عربيد يهب في إحدى لياليه للخمار ألف دينار ولزوجة الخمار مثلها، ولكل واحدة من بناته خمسمائة، ويطلب من شاعره أن يصف هذه الليلة فيقول الشاعر:
يا حانة الشط قد أكرمت مثوانا ... عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تحرمينا دعابات الإمام ولا ... طيب البطالة إسراراً وإعلانا
هذا الحاكم السكير الواهب يسميه التاريخ خليفة للمسلمين ويسميه الشاعر (إماماً): وما أبعد هذا عن الخليفة القائل:(921/44)
وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة ... وحولك أكباد تن إلى القد
أتعلم من ذلك (الخليفة الإمام)؟ إنه الواثق العباسي، أما الثاني فهو علي بن أبي طالب، وليس تاريخ المسلمين غير (علي) واحد يحمي الحديدة لأخيه عقيل من أجل حفنة من الشعير اقتصدها من قوته اليومي، ولكن كم في تاريخ المسلمين من (واثق) مسرف سكير! إن أمثال هذا هم الذين أشاعوا التفسخ في دنيا الإسلام، وها نحن أولاء نقاسي تبعات هذا التفسخ في عصرنا الحاضر، الذي لم يرث عن عصر علي وعمر أي شيء، كما أنه لم يرث عن الأمويين قوتهم وفتوحاتهم ولا عن العباسيين علومهم وآدابهم، وإنما ورث عن هؤلاء وأولئك البذخ والترف والقصور والأقطاع، كما ورث عن العثمانيين والمماليك كل ما اتصفوا به من الاستبداد المطلق والجشع الماحق، والرشوة والنهب والسلب وبيع الوظائف في سوق (المزاد) السري وإغداقها على الأنصار والذيول. ورث عنهم هذه الفروق الشاسعة بين طبقات الناس، فإلى جانب القصور المحلقة بأجنحتها تعشعش الهياكل الآدمية في أكواخ وبيوت كأنها القبور ليس فيها إلا الدود والعظام. وإلى جانب الأكراش المترهلة بألوان الطعام بطون وبطون تنطوي على الجوع والحرمان. وإلى جانب الأكتاف والنحور المثقلة بالفرو والسنجاب والماس والجواهر أجساد عارية لا تجد الكساء. وإلى جانب الإقطاعيات المترامية مشردون لا يجدون مفحص قطاة. وإلى جانب الحكام والمتنفذين محكومون يلوذون بالصمت حيناً وبالتذمر حيناً آخر، وكلا الحالين أحلاهما مر؛ ففي الأول جوع، وحرمان وفي الثاني سجن وتعذيب، وإلى جانب الاستعمار المستشري شعوب ذليلة خاضعة تأتيها الصفعة من كل جانب،!! هذا هو التفسخ السياسي والاجتماعي في البلاد العربي والإسلامية يصوره لنا الأستاذ الكبير سيد قطب في كتابه الجديد (معركة الإسلام والرأسمالية) ففي هذا الكتاب دعوة صارخة إلى الحق والكف عن الفوضى التي دهورت المجتمع العربي الإسلامي وجعلت منه ميداناً فسيحاً لعبث العابثين وألعوبة بين المستعمرين حتى تساوى معلموه وجهاله في ضعف الذاتية وتبلد الفكر والتواء الطريق وسخف الهدف والاتجاه. وكثيراً ما نسمع في هذه الأيام من الكلمات الفارغة هنا وهناك في الإصلاح والتكتل الإسلامي وما شابه ورادف. . كلمات لا تجدي شيئاً لأن قائليها عبيد مأجورون قد انعدمت ذاتيتهم وضؤلت نفوسهم. أما الأستاذ قطب فليس من أولئك لأنه ليس(921/45)
بسياسي (مأجور) ولا معمماً يتجر بالدين، وإنما هو واحد من أحرار الفكر والضمير.
ومن الخير أن أسوق بعض الأمثلة من هذا الكتاب الذي بين أيدينا. قال الأستاذ قطب في ص7:
(إن الإسلام ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعي والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء، وإنه ليمد المكافحين لهذه الأوضاع القائمة. وما من إثم أكبر من إثم الذين يدينون بالإسلام ثم يقبلون مثل هذه الأوضاع أو يبررونها باسم الإسلام، والإسلام من مثلها براء).
ويتحدث عن الكتلة الإسلامية فيقول في ص33:
(في هذا العالم رقعة فسيحة متصلة الحدود من شواطئ الأطلنطي إلى جوانب الباسفيكي تضم أكثر من مائتي مليون من الناس يشتركون في عقيدة واحدة ونظام معيشي واحد، وتقاليد متقاربة ولغة إن لا تكن واحدة فهي في طريقها لأن تصبح لغة التفاهم للجميع. . . فأي عقل يمكن أن يغفل هذه الكتابة الضخمة من الحساب؟).
وفي ص38 يتحدث عن العالم العربي وموقفه من النزاع الدولي فيقول:
(إن هذا العالم العربي الممزق في برثن الاستعمار الغربي ليستحق اللعنة والاحتقار إذا مد يده الذليلة ليسند الغرب الفاجر في بأسائه مرة أخرى).
قد يقال: إن الأستاذ قطب يدعو إلى فكرة رجعية تحرمنا (لذه) الاتصال بالغرب ولكن الشأن غير ذلك فهو يقول في ص35و36:
(نحن لا ندعو إلى عزلة فكرية أو اجتماعية عن ركب الإنسانية المندفع فنحن شركاء في القافلة، شركاء في الحضارة البشرية. . . ولكننا ننعى هذا التسول الدائم الذي نزاوله وهذا الاستجداء المزري الذي نحن عاكفون عليه. . . وما دمنا نستجدي دائماً ولا نعطي شيئاً فنحن على مائدة الإنسانية في موضع الشحاذ المتسول لا في موضع الواهب الكريم).
هذه بعض الأمثلة من هذا الكتاب؛ وكله على مثل هذا النسج وقد كتب بأسلوب مؤثر تمكن في طياته حرارة القلب المؤمن بوطنه ودينه وأمته، ونضج المفكر الحر الذي يشعر بكرامته وكرامة جنسه، وصدق الداعي الذي يؤمن برسالته أحر الإيمان. ولعل هذا الوصف الشامل الدقيق للحالة الاجتماعية والسياسية يعود ويكون مقدمة لما في الكتاب من استيحاء للنظم الإسلامية في مختلف نواحي الحياة، وقد عالج الأستاذ قطب هذه النظم بدقة وطبقها(921/46)
من الوجه النظرية على شؤون المجتمع.
هناك كلمة أقولها للصديق الكبير على صفحات الرسالة ولعلي قلتها له في معارض الحديث أكثر من مرة: إن هذه الدعوة التي يدعو إليها حق لا مراء فيه ولكن أين هي القوة المنفذة التي تستطيع أن تطبق الأحكام والنظم الإسلامية بدقة. وهل باستطاعتنا أن نخرج من الحدود النظرية إلى العملية في وقت تتولى السلطة فيه طبقات تحارب الإسلام لأنه يحاربها. . .؟ وهل بإمكاننا أن نقيم صرحاً متيناً على دعائم متآكلة وجدران متداعية؟ إن لحظة من الزمن وكلمة من لسان لا تستطيعان استخلاص الإسلام من الشوائب التي علقت به طيلة ثلاثة عشر قرناً، ولكن بعد أن تنقي التربة وتصفي المياه يمكن أن نعيد غرس هذه الشجرة من جديد وأن ننعم بظلها وثمرها.
ولعلي أتجنى على الأستاذ قطب بهذه الكلمة لأنه لم يغفل هذه الناحية التي تعترض طريق التطبيق بل ألح عليها كثيراً واستعرضها استعراضاً شاملاً وأهاب بالشعوب الخاضعة والجماهير المغلوبة أن تعيد غلى نفسها حقاً فرضه الدين وجحده المسلطون.
وبعد فقد قرأت للأستاذ قطب في معظم كتبه التي تفضل بها علي ورافقته في الكثير من إنتاجه؛ ولكني أحسست بعنف الهزة حين قرأت هذا الكتاب الجديد لأنه منطق الشعور العام لا منطق الأذناب والعبيد. . .
هذه كلمة لا أظنها تكفي لتسجيل ما في هذا الكتاب من قوة وتفكير وصدق وإيمان.
إبراهيم الوائلي(921/47)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمد محمود زيتون
ورد في مقالكم جامعة الزهراء المنشور في مجلة الرسالة الغراء عدد 919 - 12 فبراير حديث. خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء. . أي عائشة، ولقد ظن كثير من العلماء بأن هذا الحديث صحيح. ووضعاً للحق في نصابه رأيت أن أتثبت منه فرجعت إلى كتاب معارج الألباب في مناهج الحق والصواب للنعيمي المتوفى سنة 1187هـ فرأيته يقول عن هذا الحديث: وقد بحثنا عن هذا الخط وإذا حفاظ الفن وأئمة هذا الشأن لا يعرفونه في جميع ما وقفنا عليه من كتبهم الحوافل ولم يأنسوا فيه بسند ضعيف، فضلاً عن حسن، فضلاً عن صحيح. وقد كشف أمره الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي في المقاصد الحسنة وكذا العلامة ابن الدبيع في مختصره (تمييز الخبيث من الطيب) والفيروز آبادي في آخر كتابه سفر السعادة وهذا الحديث ذكر في بعض المصنفات القديمة منها النهاية لابن الأثير، ونص العالمون على أنه حديث منكر لم يجد له العلماء الحفاظ إسناداً قط بل قال ابن القيم الإمام (كل حديث فيه يا حميراء أو الحميراء فهو كذب مختلق). (ويقول ابن الدبيع في كتابه تمييز الخبيث من الطيب (خذوا نصف دينكم عن الحميراء يعني عن عائشة رضي اله عنها قال ابن حجر لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرجه، وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنه سأل المزني والذهبي عنه فلم يعرفاه).
ومما تقدم نعرف بأن الحديث موضوع ومفترى على صاحب الرسالة وختاماً اشكر لكم هذه الفكرة الجريئة، وحبذا لو وجدت قبول في أولي الأمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد عطيفي الشامي
بمعهد التربية العالي للمعلمين
حول أديب يتعاظم
كتب الأستاذ محمد خالد حنفي في العدد السالف من الرسالة الغراء يسأل زميله رجب(921/48)
البيومي عن مراجع المقال الذي نشره في العدد المذكور لأنه وعد ت على حد قوله - في صدر المقال أن يذكرها. وأنا أقول لا داعي لهذا السؤال فالمراجع بحمد الله كثيرة ومعروفة ولكن الذي يدعو إلى التساؤل حفاً هو هل هذا المقال أو مضمون هذا المقال وقع لياقوت الحموي وحده مع شميم أم وقع لعدة أشخاص من بينهم ياقوت وإنما الذي قام بدور المؤلف بين هذه الطرائف إنما هو خيال الأستاذ بيومي؟؟ أؤكد للأستاذ بيومي أنني من المعجبين بأسلوبه وطريقته في الكتابة - غير أن هذا الإعجاب لا يقف حائلاً دون أن أقول إنه يجب أن يكون هناك شيء من الأمانة في النقل ونسبة الوقائع إلى أصحابها في النقط الجوهرية على الأقل؛ ولا علينا بعد هذا أن يفعل الخيال فعله في صوغ القصة وتجويدها. وها ذا ياقوت الرومي يذكر هذه الوقائع في (معجم الأدباء) ص50ج14 ويسجل المحاورة الطريفة التي وقعت بينه وبين شميم وليس بينها قصة السجود وإنما يذكرها ياقوت - عن طريق الرواية - لشاعر آخر استنشده شميم فأجاد ثم أنكر عليه نسبة الشعر وتحداه أن يأتي بشعر هذا المعنى فارتجل الشاعر أبياتاً يعتذر فيها في أن القريض قد لا يأتيه عفواً فانتزع إعجابه بهذه الأبيات وأمره بالسجود. وليس من بينهم أيضاً قصة (نشيد) النائحات على الإطلاق. وهنا يبلغ بنا العجب أقصاه غذ كيف يتصور أن تقع هذه الحادثة الفريدة لياقوت ثم يهملها وهو من هو في اقتناص الطرائف وتصيد أخبار الأدباء؟. . ثم إني أشك في وقوع هذه القصة أصلاً من شميم نفسه، شميم الذي يقول عنه ابن خلكان (إنه أديب فاضل له خبرة باللغة والأدب جم الفضائل الخ) كيف تتخلى هذه الأوصاف جميعها عن الرجل ليهبط إلى مصاف المجانين فيضع (نشيداً) للنائحات ثم يقوم بتلحينه وتمثيله مع نخبة من تلاميذه المجانين. ولو قد فعل ذلك لوجد نفسه مشمولاً بالرعاية في كتاب (عقلاء المجانين) على الأقل ولم يعرف بمهذب الدين، وصاحب فضائل، وشيخ الأدباء.
وهل من الأدب أن يلطم الشخص خده ويأمر تلاميذه من أجل النادبات النائحات. أعوذ بالله!
مختار محمد هويسة
هذه هي المراجع:(921/49)
صديقي الأستاذ محمد خالد حنفي على حق حين يطلب مني المراجع التي نقلت عنها مقالي المعروف (أديب يتعاظم) بعد أن وعدت بها القراء.
والواقع أني سجلت المراجع في صدر المقال، ونسيت مطبعة الرسالة أن ترفقها بالبحث كما هو معتاد، وهأنذا أضعها للقراء من جديد
(1) معجم الأدباء جـ13ص50.
(2) معجم الأدباء جـ8ص122.
(3) أنباه الرواة ص543.
(4) بغية الوعاة ص333.
(5) صحيفة دار العلوم (س5) يوليه 1938م.
وللأستاذ خالد تحياتي وشكري.
(المنصورة)
محمد رجب بيومي
طه حسين الشاعر. .
كثرت في الآونة الأخيرة الأحاديث عن نابغة الجيل وشعر النابغة عميدنا الدكتور طه حسين باشا.
ولقد قال البعض إن عميدنا انقطع عن الشعر منذ عام1914، وجاء آخرون فأوردوا له شعراً انبث في ثنايا كتبه التي ظهرت بعد هذا العام. .
والحقيقة الواقعة أن عميدنا لم ينقطع عن الشعر أبداً حتى العام الماضي فقط، وقد أشار الأستاذ إبراهيم محمد نجا إلى ذلك. .
ففي كتابه الفريد (جنة الحيوان) الذي ظهر في العام الماضي، ابتدأ فصلاً منه بهذه السطور التي هي في الواقع شعر مقفى موزون:
من أين أقبلت يا ابنتي؟ ... من حيث لا تبلغ الظنون!
ماذا تريدين يا ابنتي ... أريد ما لا تقدرون!
كيف تقولين يا ابنتي؟ ... أقول ما لا تصدقون!(921/50)
أسرفت في الرمزيا يا ابنتي ... بل ما لكم كيف تحكمون!
وينظر الشيخ حوله ... فلا يرى من يحاوره
وينكر الشيخ نفسه ... ولا شكوك تساوره
فقد رأى شخصها الجميل ... تظله هذه الغصون
ولم يزل صوتها الضئيل ... يثير في نفسه الشجون
وكانت الشمس قد تولت ... كالأمل الخائب الكذوب
وظلمة الليل قد أظلت ... كاليأس إذ يغمر القلوب
أما بعد، فما أشبه نفس عميدنا بالنبع العذب الرقراق، لا ينقطع فيضه أبداً، رضى أم لم يرض فحق الناس أن يرشفوا من كأسه ويعبوا من نبعه.
ولإخواننا الباحثين الإجلاء، خالص الشكر والثناء.
ع. الزقم(921/51)
القصص
العظام المقدسة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأستاذ حسين أحمد أمين
(رسالة إلى الأب لويس دانير قسيس سواسون)
سيدي الفاضل:
يؤلمني أن أنهي إليك أن الخطبة التي كانت قائمة بين ابنة عمك وبيني قد انفصمت عراها، وأن هذا الانفصام إنما يرجع إلى أتفه الأسباب وأبعثها للضحك. . هي لعبة قذرة لجأت إليها من غير عمد. . لذلك لجأ إليك يا سيدي العزيز لتنقذني مما أنا فيه ولن أنسى لك ما حييت ما قدمته لي من مساعدة.
إنك تعرف جيلبرت. . أو بالأحرى تظن أنك تفهمها. . ولكن من ذا الذي يفهم امرأة؟ ومن ذا الذي بإمكانه أن يثق بآراء النساء ومعتقداتهن وأفكارهن؟ ألا ترى أنهن لا يلبثن على وضع ولا يستعن بمنطق، وأنهن يتهربن في المناقشات، ويبدون متمسكات بآرائهن إلى حد العناد ثم يتحولن عنها فجأة لمجرد أن طائراً صغيراً قد ظهر عند حافة النافذة؟
ولست في حاجة إلى أن أبين لك مدى تمسك ابنة عمك بالين إذ هي - كما تعلم - قد تلقت دروسها عن الراهبات في نانسي. . وربما كنت تعلم عنها هذا الصدد أكثر مما أعلم. . ولكني على ثقة من أنه قد غاب عن ذهنك أنها امرأة قبل كل شيء وأنها في عواطفها وآرائها كالريشة في مهب الريح. فما أسرع تحولها من الإشفاق إلى الغضب، ومن الحب إلى الحقد!
حسن! لقد خطبتها وأحببتها إلى حد العبادة وقد بدا لي أنها تحمل لشخصي بعض الميل. . وفي إحدى الأمسيات تلقيت برقية تستدعيني إلى كولونيا لإجراء إحدى العمليات. فأسرعت إلى جيلبرت لأودعها وأعتذر لها من عدم إمكاني تناول العشاء مع والديها يوم الأربعاء ولأطلب منها أن تؤجل الحفلة إلى يوم الجمعة عند عودتي. . آه يا عزيزي. . حذار من يوم الجمعة فإنه يوم شؤم. وعندما أخبرتها بعزمي على القيام بالرحلة رأيت دمعة تلمح في(921/52)
عينيها ولكن ما أن أخبرتها بنيتي في الرجوع في أسرع وقت حتى صفقت بيديها وصاحت:
حسن. . حسن. . يجب أن تحضر لي هدية معك. . أية هدية رخيصة الثمن أبقيها معي دائماً لتذكرني بك. . ولكن عليك أن تنتقيها لي وأن تتأكد من أنها ستدخل السرور إلى نفسي. .
ثم قالت:
(إني أمنعك من أن تشتري هدية بأكثر من عشرين فرنكاً. . إذ لا يهمني عظم قيمتها وفداحة ثمنها. . إنما يهمني حقيقة شعورك وإخلاصك لي) وسكتت قليلاً ثم قالت وهي تخفض بصرها:
(إذا اشتريتها لي بثمن منخفض ونالت إعجابي فسأمنحك قبلة. .)
وسافرت في اليوم التالي إلى كولونيا. . فوجدت المصاب رب عائلة فقيرة ووجدت جراحه من الخطورة بحيث تستدعي عملية عاجلة. . فأجريتها له ومكثت إلى جواره ثمانياً وأربعين ساعة. . حتى إذا ما رأيته قد بدأ يرجع إلى نفسه استققللت عربة إلى المحطة.
وعلمت أن القطار سيبرح بعد ساعة فخرجت أتجول في الطرقات وأنا أفكر في المريض البائس. . وإذا برجل يتقدم مني. . ومع أني لا أفهم الألمانية وهو لا يفهم الفرنسية استطعت أن أدرك منه أنه يبيع آثاراً للقديسين. . وفجأة تذكرت جيلبرت. وتذكرت أنها شديدة التدين. . فتبعت الرجل إلى حانوته واخترت من بين محتوياته عظمة صغيرة من عظام إحدى القديسات محفوظة في علبة صغيرة من الفضة. . ثم سافرت. .
وعندما وصلت إلى منزلي أردت أن أرى العظمة مرة أخرى. ففتحت العلبة. . وإذا بي أراها خالية. وفتشت جيوبي واحداً إثر الآخر ولكني لم أعثر لها على أثر.
وأنت تعلم يا عزيزي القسيس أن معتقداتي الدينية ليست بالمتينة. وتعلم أني لا أعتقد في قدسية آثار القديسين - وتشاركني أنت في هذا الرأي - لذلك لم أحزن على فقد العظمة وبحثت عن أي شيء أحله محلها. . ثم ذهبت إلى حبيبتي. .
وما إن دخلت الحجرة حتى جرت إلي وهي تقول:
- ماذا أحضرت لي؟(921/53)
وتظاهرت بأني قد نسيت طلبها ولكنها رفضت أن تصدق. . وتوسلت إلي أن أريها ما أحضرته لها. . وأخيراً أظهرت لها العلبة وبداخلها عظمة صغيرة فكادت تجن من الفرح. .
- عظمة لإحدى القديسات!!
ورأيتها تقبل العلبة في خشوع. .
بدأ ضميري يوبخني على الخدعة التي ارتكبتها وسألتني فجأة:
- هل أنت واثق من أنها إحدى القديسات؟
- كل الثقة. .
- وما دليلك على هذا؟
وشعرت بحرج الموقف. . فإن أخبرتها أني اشتريتها من بائع متجول فقد ضاع كل شيء. . فماذا أقول؟ وطافت بعقلي فكرة جنونية فقلت لها في صوت منخفض غامض:
- لقد سرقتها من أجلك. .
ورأيتها تحدق بعينيها الواسعتين:
- ماذا؟ سرقتها؟ من أين!
- من الكنيسة. . ومن المكان الخاص بآثار القديسات. وأخذ قلبي يدق بشدة، ورأيتها تكاد أن يغمى عليها من الفرح وتمتمت: وسرقتها من أجلي؟ قص علي القصة كلها. . وهكذا لم أستطع التراجع. . فقصصت عليها قصة من مخيلتي سارداً فيها أدق التفاصيل. وقلت إنني رشوت الحارس بمائة فرنك لكي يسمح لي بالدخول وحدي. . وإن العمال الذين كانوا يصلحون المكان خرجوا لتناول الغداء ففتحت أحد الصناديق وسرقت عظمة صغيرة ثم أقفلت الصندوق ثانية وذهبت إلى الصائغ فصنعت له علبة من الفضة.
ورأيتها تستمع إلي في ذهول وسعادة ثم سمعتها تتمتم: ما أعظم حبي لك! وغاصت بين ذراعي. .
لتلق بالك إلى هذا يا سعادة القسيس. . لقد سرقت وانتهكت حرمة الكنيسة وغرفة القديسات وسرقت آثاراً مقدسة. . وبسبب ذلك تحبني وتعتبرني مخلصاً كاملاً عظيماً!
هكذا النساء يا عزيزي القسيس. دائماً أبداً. .(921/54)
وظللت شهرين إلى جوارها وهي تعتبرني أخلص المحبين وأكثرهم سحراً. . ورأيتها تضع العلبة في مكان أعدته لها لتتعبد إلى جوارها صباح ومساء. .
وما أن جاء الصيف حتى انتابها شوق إلى رؤية مكان الجريمة وألحت على والدها بشدة دون أن تطلعه على السبب الحقيقي كي يصحبها إلى كولونيا. . وقد أخفوا جميعاً عني سر هذه الرحلة.
وأظنك تعلم يا سيدي أني لم أشاهد في حياتي كنيسة كولونيا من الداخل. . وأني لا أعلم ما إذا كانت هناك حقاً غرفة لقديسات أم لا. .
وبعد أسبوع تلقيت ستة سطور من جلبرت تفسخ فيها الخطبة وخطاباً من أبيها يشرح لي السبب في الفسخ. . لقد ذهبا إلى الكنيسة ودخلا غرفة القديسات وسألت الحارس عما إذا كانت قد وقعت سرقة من الغرفة في يوم ما. فضحك وبين لها استحالة السرقة. .
لقد اعتبرتني غير جدير بحبها منذ اتضح لها أنني لم أسرق من هذا المكان الطاهر، وأن يدي الدنسة لم تتسلل إلى العظام المقدسة.
ومنعتني من دخول منزلها برغم توسلاتي الحارة.
أتضرع إليك يا سيدي القسيس أن تتوسط في الأمر وأن تشفع لي عندها. . ولك مني أخلص الود.
حسين أحمد أمين(921/55)
العدد 922 - بتاريخ: 05 - 03 - 1951(/)
حول مشكلة اللاجئين!
قلت مرة أني كفرت بالضمير الإنساني، كفرت به حين كفر هو بكل وشيجة من وشائج الإنسانية، وكل خليقة من خلائق الأحياء، حيث تكون هذه الخلائق مجموعة من المشاعر والأحاسيس. . . مشاعر الدم الواحد واللغة الواحدة والتقاليد الواحدة، وأحاسيس الأخوة والعروبة والجوار!
قلت هذا فأعترض بعض الناس، وحجتهم أن الضمير الإنساني لا يزال بخير، في هذه البقاع الطيبة التي عنبتها بكلمات رسبت في نفسي رسوب اليقين. . . هم ينضرون إلى الجزء وأنضر أنا إلى الكل، ويحكمون في ضوء القرد وأحكم أنا في ضوء المجموع، ويتكلمون عن الضمير الإنساني من زاوية ضيقة ينحصر فيها فلان وفلان من عشاق الخير وصناع الجميل، أتكلم أنا عن الضمير الإنساني في صورته الكاملة الشاملة التي تعني أكبر عدد من الناس في أكبر عدد من أقطار العروبة!
إن الضمير الإنساني في هذه البقاع الطيبة وبهذا المعنى الذي رميت إليه قد مات. . . ولو كان حيا لما سمح لنفسه بأن يطيق منظر الموت البشع وهو يحصد بمنجله الرهيب جوعا من الأحياء شردهم الظلم والطغيان فهاموا على وجوههم في كل واد وكل فلاة: بطونهم خاوية، وأجسادهم عارية، بينما شبعت الكلاب واكتست الأضرحة واطمأنت إلى المأوى الأمين أخس أنواع الحشرات!
أتطلع إلى هولاء المشردين الذين أضناهم البرد وقتلهم الجوع ولفح شعورهم الهوان، ثم أتذكر أن هناك غيرهم ممن أنعشهم الدف وضاقت بطونهم بالتخمة وامتلأت نفوسهم بالأمان. . . أتطلع إلى هولاء وأولئك ثم أخرج من جولة الفكر وفوره الأسى بهذه الحقيقة، وهي إنني لا املك في الحياة غير هذا القلم! وماذا يجدي القلم يا رب وهناك من ينتظر الثوب الذي يستر الجسد، واللقمة التي ترد عادية الجوع، والقطرة التي نرطب حرارة الظمأ، والوطن الذي يشعر بكرامة الحي ويعبر عن جمال الحياة؟!
وماذا يصنع القلم وهو لا يجد ما يهديه إلى هولاء الجياع العراة غير هذه القروش الفكرية؟! ومن يخاطب وقد مات الضمير الإنساني عند حراس الخزائن وملاك الضياع وسكان القصور؟! أننا لا ندعو إلى الشيوعية ولكننا ندعو إلى الإنسانية. . . الإنسانية التي تصرخ في وجه هولاء جميعا بأن في أموالهم حقا لكل جائع وكل محروم، وتقول لكل واحد(922/1)
منهم في همسة إن لم تكن جازعة فهي ضارعة: تنكر للغتك إذا شئت، ولعروبتك إذا أردت، ولقوميتك إذا أحببت، ولكن. . . ولكن لا تنس أنك إنسان!
إنها فروش فكرية كما قلت، وحسبي حين أجود بها أنني أجود بخلجات النفس وخفقات القلب ودفقات الوجدان. حسبي هذا، وحسب اللاجئين أن يتقبلوها على أنها نفحة من نفحات الألم، فيها من مشاركة الشعور ما يقوم مقام العزاء، حين يضيع كل أمل في الضمير الإنساني. . . ويخيب كل رجاء!
ا. م(922/2)
أسمعي يا مصر
لفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوى
نائب معتمد دار العلوم بندوة العلماء بلكهنو بالهند
أحييك يا مصر بتحية السلام وأحي فيك الزعامة للعالم العربي. الزعامة التي كانت عن جدارة واستحقاق، لا عن احتكار واغتصاب، وإنك تحلين اليوم في العالم العربي محل السمع والبصر، ومحل العقل والفكر، رضى به الناس أم لم يرضوا، ولكن الواقع لا ينكر
أحي فيك يا مصر نفاق سوق العلم ورواج بضاعة الأدب، وتقدير رجال العلم والفن، فقد أنجبتهم واحتضنتهم ودافعت عنهم، وحدبت عليهم، فهم أبناؤك البررة وأنت الأم الحنون
أحي فيك الأزهر الشريف الذي كان ولا يزال المنهل المورود في الدين والعلم للعالم الإسلامي، والذي لا يضارعه ولا يزاحمه في تقدم السن وطول العمر وامتداد الظل وكثرة الإنتاج معهد أو جامعه على وجه الأرض
أحي فيك المكتبة العربية التي فاضت وامتدت كالنيل وأصدرت كتبا ومطبوعات عربية لو وضع بعضها فوق بعض لكانت مثل الأهرام أو أرفع
أحي فيك على اللغة العربية وجهادك في إحيائها ونشرها ورفع شأنها وتوسيعها حتى أصبحت بجهود أدبائك وكتابك، وبفضل الصحافة المصرية والحياة السياسية، وبفضل حركة التأليف والترجمة والنشر، وبفضل المجمع اللغوي؛ لغة راقية عصرية علمية سياسية فنية لا تقل في غزارة مادتها وقابليتها لتعليم العلوم العصرية والطبيعية والرياضية عن أي لغة من لغات الغرب
أحي فيك عددا مشرفا من الأدباء والكتاب، فيهم الكاتب المبدع، والمترسل القدير، والأديب الفنان، والباحث الناقد، والعالم الضليع، والمؤرخ الأمين، والفيلسوف الحكيم، ولمحدث اللبق، والروائي المصور، والمتهكم اللاذع، والمضحك المطرب، والمصلح المنتقد، والشاعر المطبوع، والسياسي المناقش، والصحاف البارع، إذا كتب أحدهم في موضوع ردد العالم العربي صداه، وافتخر المتأدبون بتقليد أسلوبه والنسج على منواله، واحتجوا به كما يحتج بشعر القدماء
أحي فيك يا مصر هذا وغير هذا، وكن لي معك اليوم شانا آخر. إن لي معك كلاما أرجو(922/3)
أن تلق إليه سمعك وتشهديه قلبك فأنا ضيف قد نزل بك، ومن حسن الوفادة وتمام الضيافة الاستماع إلى كلام الضيف والإقبال عليه بالسمع والقلب
إن مسئوليتك يا مصر أوسع وأعظم من تأدية رسالة الأدب وخدمة لغة العرب، وما تجودين على الأقطار العربية الشقيقة برشحات الثقافة الأوربية وفتات المدينة الغربة. إنك بين آسيا وأوربا فأنت ملتقى الثقافتين ومجمع البحرين. إنك وسط بين مهد الإسلام ومشرق نوره؛ وبين مولد الحضارة الغربية ومبعث العلوم المصرية، فعليك مسؤولية القارتين، وعندك رسالة الثقافتين
وأما مسؤولية آسيا والأقطار العربية فلا تخرجين منها يا مصر حتى تكوني قنطرة تعبر عليها إلى البلاد العربية تجارب أوربا وعلومها ونشاطها وكدحها في الحياة وجهادها للبقاء، هنالك تقومين برسالتك ووظيفتك لهذه البلاد العزيزة التي ترتبطين بها برابطة دينية وروحية وثقافية وسياسية
وأما مسؤولية أوربا فلا تخرجين منها حتى تبلغي رسالة الجزيرة العربية - وهي الإسلام الذي احتضنته من زمان - إلى أوربا، وحل المشاكل التي أعيت كبار المفكرين وأتعبت عظماء المشرعين، وبذلك تؤدين واجبك المقدس نحو هذه القارة الأوربية التي استوردت منها شيئا كثيرا من العلم والمصنوعات والمنتجات، ونظمت عليها مدنيتك وحياتك تنظيما جديدا، وتحسنين إليها أكثر مما أحسنت إليك وتصدرين إليها أفضل مما صدرت إليك
إنك يا مصر قد بنيت القناطر الخيرية فانتظم الري وازدهرت الزراعة وأخصبت البلاد؛ وأريد أن تبنى قنطرة خيرية أخرى هي أكبر القناطر في العالم وانفعها، تصل بين بحرين لم يزالا منفصلين، وبين حضارتين لم تزالا متنافستين، وبانفصالهما وتنافسهما شقي العصر الجديد، فلو إنك وصلت بينهما وكنت قنطرة تتبادل بها القارتان خيراتهما ومحاسنهما؛ وفرت على الإنسانية جهودا وأوقاتا كثيرة وصنتها من الضياع كما أن قناطرك الخيرية وفرت على مصر مياه ونظمت أمر الري
تقد كان حفر قناة السويس اكبر حادث في التاريخ العصري غير مجرى التاريخ وأحدث انقلابا في السياسة والتجارة؛ ولكن من يستطيع أن ينكر أن شقاء الأمم الشرقية كان أعظم وأعظم من سعادتها، وأنها لم تجن من السويس إلا عبودية واستعمارا. والعالم الآن في(922/4)
حاجة إلى قنال آخر، قنال التعارف الصحيح والتبادل المتوازن، وإليك وحدك يا مصر، القيام بهذه المبرة العظيمة لمكانك الجغرافي وأهميتك السياسية وثروتك الثقافية ومركزك الروحي. تعلمين أن دولة تتزن ميزانيتها ولا تتحسن أحوالها الاقتصادية إلا إذا وجد توازن بين حركة التصدير والتوريد، أو كان تصديرها أكثر من توريدها، ولمننا في الشرق نورد أكثر مما نصدر، وكان السويس أكبر مطية من مطايا هذا التوريد، فلا نريد قنطرة أو قنالا يكون معبر البضائع الأجنبية من أفكار وآراء وفلسفات وأخلاق إلى أعماق الشرق وأحشائه، بل نريد قنالا يساوي بين التوريد والتصدير، ويصدر أفضل ما عند الشرق الإسلامي من رسالة وعقيدة وخلق وعلم، ويورد أحسن ما عند الغرب من منتجات ومصنوعات وتجارب واكتشافات ومرافق الحياة، فكوني يا مصر ذلك القنال الأمين العادل الذي لا يسمح بالمرور إلا للصالح للفاضل
إن لك يا مصر يدين، فخذي من الغرب ما فاق فيه من علم وتجربة فالحكمة ضالة المؤمن، ومدي إليه يدا أخرى، يد المساعدة والكرم، وجودي بما أنعم الله عليك من نعمة الأيمان وشرف الإسلام فذلك الذي لا يملكه الغرب ولا يستغني فيه عنك، وقد أنهى به إفلاسه فيه إلى ما ترين من فوضى وانحلال، فتصدقي عليه بهذا الأيمان ورسالة الروح، ولا تنسى أبدا اليد العليا خير من اليد السفلى
كوني يا مصر رسول الإسلام إلى الغرب، واحملي إليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، تلمك الرسالة تلتي حملها العرب إلى الأمة الرومية والأمة الفارسية فأنقذتهما من مخالب لموت وأفاضت عليهما ثوبا قشيبا من الحياة ولونا جديدا من النشاط، وليس الغرب أقل حاجة إلى هذه الرسالة وهو في دور التفكك وتنازع الموت والحياة إلى الأمة الرومية والفارسية إليها. وقديما اختار الملوك وأصحاب الرسالة السماوية رسلا من عشيرتهم والأقربين إليهم، ولك من إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم رحم ماسة وقرابة خاصة ليست لقطر من الأقطار الإسلامية بعد الجزيرة العربية
إن أوربا قد شاخت ونضجت كالفاكهة التي أدركت وضعف الغصن عن حملها، فاستعدي يا مصر الإسلامية لتحلي محلها في الزعامة العالمية وقيادة الأمم، وما ذلك بعزيز ولا بمستحيل، إذا تم استعدادك الروحي والخلقي والمادي. وإذا كانت أوربا قد احتفظت بالقيادة(922/5)
العالمية هذه المدة الطويلة وليست عندها رسالة عامة للإنسانية ولا دعوة مخلصة لأمم العالم وعندها كل ما يضعف ثقة العالم بها من وطنية وعنصرية وتقديس للنسل الآري وإدلال باللون الأبيض ونزعة تجارية وإستعمار، فكيف لا يرضى العالم بقيادتك وعندك الرسالة التي تضمن سعادة العالم كله، ودين لا يفرق بين الأوطان والعناصر والألوان؟
احرصي يا مصر على رجولة أبنائك وأخلاقهم، وصوني شبابهم وشرفهم ودينهم وصحتهم من أن يعبث بها العابثون أو يتجر بها المتجرون ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لتروج بضاعتهم وتزدهر تجارتهم، أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة والصور العارية والأدب المكشوف، فإنك يا مصر في محل الزعامة والقيادة للشرق الأوسط وفي طريقك إلى الزعامة والقيادة للعالم الإسلامي، ولا تأتي الزعامة والسيادة إلا بعد الاستقامة والثبات في مزالق الإنسان، والنجاح البارز في امتحان العفة وطهارة الأخلاق، واذكري قصة يوسف التي مرت على أرضك، ووقعت بين سمعك وبصرك، كيف ثبت في الامتحان وكيف حافظ على دينه وعفته، فكانت نتيجة ذلك الثقة والاعتماد والسيادة والملك، واقرإي أن شئت (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أن يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)؛ بل ولا حياة ولا شرف إلا بالرجولة والأخلاق، فكيف وأنت في ميدان القتال وساحة الجهاد فلا بد أن تحفظي وصية قائدك الكبير سيدنا عمر بن العاص وتذكري ما قال لخلفائه في أرضك (واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم والى داركم)
فكافحي يا مصر الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمة أشد مما تكافحين وباء الكوليرا الذي يقضي على حياة بعض الأفراد؛ وطاردي كل من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك، ويزلزل الأيمان ويفسد الخلق، أشد مما تطاردين من ينشر الوباء أو يسبب الأمراض أو ينقل إلى أرضك المكروب، فلم نسمع أن الأمة الرومية العظيمة ماتت وبادت بسبب وباء أو مرض، وأن اليونان اجتاحهم مرض من الأمراض، ولكننا قرأنا في التاريخ وشهدت أنت أن هذه الأمم كانت كلها فريسة التفسخ الخلقي والأمراض الأجتماعية، فأحذري يا مصر - صانك الله وحرسك - هذا المصير المؤلم(922/6)
إن العالم العربي قد أحلك يا مصر من نفسه محلا رفيعا ووضع ثقته فيك وفتح لك أذنيه وعينيه، فأتقي الله يا مصر فيمن ائتمنك ووثق بك في نفسه وعقله، ولا تصدري إليه من أدبك ومطبوعاتك ما يرزأه في إيمانه وأخلاقه وقوته المعنوية وروحه، كما لا ترضين ولا ترضى كرامتك ومروءتك أن تصدري إلى زبائنك من الدول والبلاد الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة ولا تقبلين أن يصدرها إليك أحد، وصدقيني يا مصر العزيزة أن هذه الروايات الخليعة والأدب الماجن أفسد وأضر للأمة والحياة من الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة. إنك زعيمة للعالم العربي فلا تغلبنك النزعة التجارية ولا تغرنك المنافع المؤقتة، فلا يكون زعيما ولا يكون عظيما من يؤثر العاجل على الآجل، والمنفعة الفردية على المنفعة الاجتماعية، والأثرة على الإيثار
إنك يا مصر من أغنى بلاد الله، ولست أعنى بالغنى خصب الأرض وكثرة الموارد، وإنك لغنية من غير شك، ولكني أعني غناك في المواد الخامة وهي الشعب الذي توفرت المواهبوالقوى، خصوصا ما يسكن منه في أريامك، فهي المناجم التي لا تزال مدفونه، والمعادن التي لم تستخرج بعد، هذا الشعب قوي الأيمان قوي الشخصية، قوي الجسم، فلو أنك أحسنت تعليمه وتربيته وأفدت من هذا الأيمان ووضعته في محله لكان حارسك الأمين القوي وثروتك العظيمة
قد أختار الله لك يا مصر من أوسع القارات وأكثرها مواد خامة هي القارة الأفريقية ولا يزال جزء كبير منها على سذاجته وفطرته، ولا تزال فيها أمم على الجاهلية والوثنية، وعلى الجهالة والضلالة، ولا تزال فيها أمم كاللوح الصافي يكتب الإنسان فيه ما يشاء، وهذه الأجزاء من القارة وهذه الأمم خير حقل لجهودك وتربيتك، وخير أرض لزراعتك وغرسك، فأرسلي إليها دعاتك المبشرين ورجالك المصلحين، وعلمائك المرشدين وأبنائك المعلمين، يبلغونهم الدين ويتلون عليهم آيات الله ويعلمونهم الكتاب والحكمة، وبذلك تنقذين بإذن الله نفوسا كثيرة من النار، وتخرجينها من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وتكتسبين قلوبا نقية وأرواحا فتية وأجساما قوية، ويكون ذلك خيرا لك من هذه الأمم والدول الغربية التي تخطبين ودها وتحرصين على صداقتها، وهي لا تدوم على حال بل تجري وتدور مع أغراضها المادية ومصالحها السياسية، فيوما هي معك ويوما مع أعدائك،(922/7)
وإذا كانت معك لم تكن بإخلاص وصدق، وإنما هي المطامع والمصالح. وما أضعف الصداقة التي تقوم على المطامع والأغراض!
وأخيرا أريد أن أقول في أذنك يا مصر إن الله في خلقه شوؤنا وأنه أعظم غيرة من كل غيور وأنه لا يعطي نعمة دينه إلا من يعظمها ويجلها ويقدرها حق قدرها، فإذا رأى منك استغناء عن الدين وما ينبئ عن احتقر لشأنه واستصغار لأمره وزهدا في الإسلام، وانصرافا عن خدمته وتقصيرا في أداء رسالته واعتزازا لمبدأ غير الإسلام وتشرفا بغير محمد عليه الصلاة والسلام أستغمى عنك - على مآثرك السابقة وثروتك الضخمة ومدينتك الفخمة - (سنة الله في الدين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) وجاء لخدمة الإسلام وقيادة الأمم الإسلامية بأمة لم تخطر منك إلى بال تعتز بالدين وحده وتتشرف برسالة الإسلام وتتشبع بحب محمد عليه الصلاة والسلام وتلتهب غيرة دينية وحماسة إسلامية وتجاهد في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم، وإن الله تعالى حذر العرب الأولين وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) وقال للمسلمين العرب (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ولله جنود السماوات والأرض، وفي كنانة الإسلام سهام لم يرها أحد ولا تخرج إلا في وقتها. ومن يدري فلعل شمس الإسلام تطلع من المشرق وهذه أمم إسلامية فتية على سواحل المحيط الهندي وفي جزره تتحفز للوثوب وتتهيأ لقيادة العالم الإسلامي، فاحتفظي يا مصر العربية بمكانتك ومجدك ولا تأمني الأيام ولا تأمني مكر الله (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)
هذه تحيتي إليك يا مصر العزيزة فتقبليها، وهذه آمالنا فيك فحققيها، وكلمة مرة في الأخير فتحمليها، وهذه معذرتي إليك فاقبليها، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
أبو الحسن علي الحسني الندوى
(نزيل مصر) القاهرة(922/8)
أدب الشتاء
للأستاذ محمد علي كيلاني
حتى إذا ما أقبل الشتاء=جاءتك منه غمة غماء
(أبن وكيع التنيسى)
يعاني الناس في فصل الشتاء كثيرا من الأهوال والشدائد. وقد كان شعور القدماء بهذه الشدائد أعظم وبخاصة الفقراء منهم. وسكان الأرياف ما زالوا يلاقون من بلاء الشتاء ما كان يلاقيه أسلافهم من قبل. لذلك اعتبروه عدوا لدودا وخصما عنيفا. وشبهوه بجيش جرار أغار عليهم بعساكره مشاة وفرسانا. فعواصف وأنواء، ورياح وزوابع، وأمطار وسيول، وغيوم بعضها فوق بعض، وبرق ورعد، وبرد وثلج. قال القاضي التنوخي:
أما ترى البرد قد وافت عساكره=وعسكر الحر كيف أنصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها=قد ألبست حبكا أو غشيت ورقا
وقد تبارى الشعراء والكتاب في وصف مظاهر الطبيعة في هذا الفصل وأخترعوا المعاني الجميلة وأتوا بالصور الرائعة، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا قالوا فيها شعرا ونثرا. قال أبو تمام وهو بخراسان:
ما للشتاء ولا للصيف من مثل ... يرضى به السمع إلا الجود والبخل
أما ترى الأرض غضى والحصى قلقا ... والأفق بالحر جف النكباء يقتتل
من يزعم الصيف لم تذهب بشاشته ... فغير ذلك أمسى يزعم الجبل
غدا له مغفر في رأسه يقق ... لا تهتك البيض فودية ولا الأسل
فالشاعر هنا قد شخص الطبيعة وأضفى عليها ثوبا من الحياة والنشاط؛ فالأرض هائجة ساخطة، والحصى لا يستقر على حال فهو دائم الإطراب، والأفق يتضارب برياح عاتية، والجبال قد اكتست بطبقات كثيفة من الثلوج. ثم حدثنا أبو تمام عن أثر البرد في الضلوع والأحشاء والكلى. وكان قد عانى من أهواله بلاء كبيرا. قال:
من كان يجهل منه جد سورته ... في القريتين وأمر الحق مكتهل
فما الضلوع ولا الأحشاء جاهلة ... ولا الكلى أنه المقدامة البطل
وقد بلغ شغور أبى تمام بشدة البرد أنه بكى على ذهاب الصيف بكاء مرا. قال:(922/9)
عدل من الدمع أن يبكى المصيف كما ... يبكى الشباب ويبكى اللهو والغزل
وقد كانت رحلته إلى خراسان دافعا له على وصف مظاهر الطبيعة القاسية في هذا الفصل. وقد شبه الشتاء بحيوان قوي مخيف وادعى أن ممدوحة ضرب هذا الحيوان ضربة فلت من غربة وكسرت من حدته، وجعلته ذلولا سلس القيادة، قال:
فضربت الشتاء في اخدعيه ... ضربة غادرته قودا ركوبا
ووجد الشعراء والكتاب في الأمطار والسيول مجالا للقول، وميدانا فيه يتسابقون ويأتون بكل معنى طريف، وقد صور لنا ابن الرومي ما فعلته به الأمطار وهو سائر في الطريق فقال:
لقيت من البر التبارج بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ري به الف مرة ... شففت لبغضيها بحب المجادب
إلى الله أشكو سخف دهري فأنه ... وما يثني - مذ كنت - مطايبى
أبى أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت ... برحلي أتاها بالغيوث المواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلة ... تمايل صاحبها تمايل شارب
وأستمر الشاعر في هذه القصيدة فصور لنا حاله وقد بللته الأمطار حتى أصبح كالغريق. وذكرتنا أنه التجأ إلى خان ليستريح من بلاء هذا المطر وليظفر بالدفء. ولكنه لم يجد بغيته في هذا الخان لأن الأمطار قد أتلفته وجعلته عرضة للسقوط. فقضى به ليلة في خوف وجوع، إذ كان سقف الخان قد أثقلته مياه الأمطار فأضحى مبعثا للرعب بصريره الذي يشبه صرير الجنادب. ولما انقطعت الأمطار هبت ريح صرصر عاتية حثت التراب والحصى في الوجوه. وهكذا أصبحت الحياة كما صورها أبن الرومي جحيما لا يطاق. وفي هذه القصيدة من الألم والتبرم والسخط ما لا يخفى. فالشاعر يشكو مر الشكوى من دهره الذي يعبث به ويسومه عذاب الهون
وقد تبارى أدباء الشام في وصف ما أحدثته الأمطار والسيول ببلادهم، وما سببته من الخسائر والتلف في الزرع والضرع، وما فعلته في الطرق من التخريب والتميز، وما ترتب على ذلك من سوء الأحوال الاقتصادية والصحية، وما تعرض له الناس من الهلاك. فانظر إلى هذه الصورة المؤثرة وهي من رسالة لأحد الكتاب: (. . أما المسكن فأهلها(922/10)
مساكين، وأفواههم من الحزن مطبقة فما تفتحها السكاكين. قد أنتبذ كل منهم زاوية من داره، وتداخل بعضه في بعض لتضمه بقعة على مقداره، هربا من توقيع أكف الوكف، وخوفا من ركوع الجدار وسجود السقف)
وقال أبن المعتز:
روينا فما نزاد يا رب من حيا ... وأنت على ما في النفوس شهيد
سقوف لبيتي صرن أرضا أدوسها ... وحيطان بيتي ركع وسجود
فالناس في الشتاء كانوا عرضة للهلاك. فربما فاجأتهم الأمطار الغزيرة في أثناء سفرهم
وقطعت عليهم الطريق وتعذر على القوافل السير فيتلفهم الجوعوالبرد ويموت أكثرهم من جراء هذا.
والمقيمون في المدن لا يسلمون من شر الأمطار. فلما خرت عليهم سقوف المنازل فجأة وهم نائمون فيقضي عليهم. وقد يحبسون في دورهم أياما حتى تجف الطرق وتصلح، فلا عجب إذا ساءت أحوال المعيشة إلى حد كبير. وقد ظهر اثر هذا في الأدب بشكل واضح، فرأينا أدبا لحمته وسداه السخط والتبرم بالحياة. أما المتصوفة فرأوا في هذه الأمطار والسيول عقوبة إلهية امتحن الله بها الناس لعصيانهم وابتعادهم عن الصراط المستقيم. وفي ذلك يقول ابن الوردي:
أن المصائب بالأقدار كائنة ... لمن على حساب الأقدار تحتسب
عجبت مني ومن غيري تشوفنا ... إلى ازدياد حياة كلها تعب
وان دهمنا بسيل أو بنوع أذى ... كالنار والثلج قلنا ما هو السبب
أقسمت بالله لولا حلم خالقنا ... لكان منم عشر ما نأتي به العطب
ودهرنا أي دهر في تقلبه ... قد هان فيه التقى والعلم والأدب
فالمتصوفة كانوا يتخذون من هذه الأمطار الغزيرة التي يبتلى بها الناس في هذا الفصل وسيله للوعض والإرشاد، والنصح والتحذير
ووصفوا الغيوم وما تحدثه في الجو حين تحجب الشمس والقمر والنجوم. واتوا في ذلك بكثير من الصور والمعاني الجميلة. قال احد الشعراء:
لا يوحش الله من شيء يقال له ... شمس النهار فما تبدو ولم تعد(922/11)
أما النجوم فشيء كان في زمن ... مضى حميدا فقد ولى ولم يعد
وهذا من المبالغات العجيبة. فالشاعر هنا يتحدث عن شيء يقال له الشمس وعن شيء يقال له النجوم. وذلك لان الناس لطول عهدهمبالغيوم أضحوا لا يعرفون من أمر هذه الكواكب قليلا أو كثيرا
وهذا شاعر يصور النجوم حين تظهر من خلال الغيوم فيقول:
ولقد ذكرتك والنجوم كأنها ... در على ارض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنها ... شرر تطاير عن يبيس العرفج
والأفق احلك من خواطر كاسب ... بالشعر يستجدي اللئام ويرتجي
لقد تنافس الشعراء والكتاب في اختراع الأوصاف والتشبيهات، وصوروا هذه الظاهرة الطبيعية تصويرا لا تنقصه ريشة الفنان الموهوب. انظر إلى هذا الشاعر حين يقول:
والبدر يستر بالغيوم وينجلي ... كتنفس الحسناء في مرآتها
وكانوا ينتهزون فرصة تلبد الجو بالغيوم ويجعلون من هذا وقتا مناسبا للهو والعربدةٍ، فيعقدون مجالس الخمر والغناء. وتلك عادة عرفت عند العرب منذ العصر الجاهلي. قال طرفة
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المعمد
وقال الصنوبري:
الجو بين مضمخ ومضرج ... والروض بين زخرف ومدبج
والثلج يهطل كالنثار فقم بنا ... نلهو بربة كرمة لم تمزج
ضحك النهار وبان حسن شقائق ... وزهت غصون الورد بين بنفسج
فكان يومك من غلالة فضة ... والنور من ذهب على فروزج
والشواهد على ذلك كثيرة. ومنها نرى انهم كانوا في أوقات الغيوم والأمطار ينشطون لتعاطي الشراب وسماع الغناء. ولا يخفى انه عقب سقوط الأمطار تصفو الطبيعة صفاء تاما وترق إلى حد بعيد، فتستولي على الإنسان مشاعر خاصة لما يرى من مظاهر الجمال الطبيعي في الكون ويمتزج بالطبيعة امتزاجا كليا. وكأنه يتعاطى الخمر وسماع الغناء يريد أن يشارك الكون في الصفاء(922/12)
ووصفوا البرد وشبهوه بالدر. قال ابن احمد يس الصقلي
نثر الجو على الأرض برد ... أي در لنحور لو جمد
لؤلؤ أصدافه السحب التي ... أنجز البارق منها ما وعد
منحته عاريا من نكد ... واكتساب الدر بالغوص نكد
ذوبته من سماء ادمع ... فوق ارض تتلقاه نجد
فجرت منه سيول حولنا ... كثعابين عجال تطرد
وهذه القصيدة الطويلة تعتبر من عيون شعر ابن حمد يس في الوصف. وذلك لما حوته من الصور الرائعة والأوصاف الجميلة اللطيفة. فقد وقف الشاعر أمام البرد وأطال الوقوف. فالبرد لو جمد لصار كالدر الجميل الذي تتزين به نحور الحسان. وهو كاللؤلؤ. وإذا استقر على الأرض وذاب تكونت منه سيول ملتوية كالثعابين التي تزحف مسرعة هربا ممن يطاردها
وقد تناول ابن خفاجة الأندلسي البرد في شعره فقال:
يا رب قطر جامد حلى به ... نحر الثرى برد تحدر صائب
حصب الأباطح منه ماء جامد ... غشى البلاد به عذاب ذائب
فالأرض تضحك عن قلائد أنجم ... نثرت بها والجو جهم قاطب
فكأنما زنت البسيطة تحته ... فأكب يرجمها الغمام الحاسب
لم يقف أبن خفاجة أمام البرد طويلا كما وقف أبن حمد يس. فهو عنده حلية لنحر الثرى أو قرئد من النجوم. ثم نظر إلى ما أصاب الناس من جزاء سقوط هذا البرد. فالفرق أن أقام عليها حد الرجم، وأرسل عليها حاصبا من البرد. فالفرق واضح بين نظرة ابن حمد يس للبرد ونظرة ابن خفاجة. فابن حمد يس أعجب بمنظر البرد فوقف يصور لنا ببيانه صورة شعرية جميلة. أما ابن خفاجة فاعتبر البرد نقمة وعقابا وقعته الغيوم على الأرض
ووصفوا تساقط الثلوج على الأشجار والزروع، وجاءوا في ذلك بصورة جميلة. ومثال ذلك قول أحدهم:
نظرت إلى أشجار جلق فوقها ... ثلوج أراها بالبروق تلوح
فشبهتها قضبان فضة اكتست ... وقابلها عند الغداة صبوح(922/13)
ومن تحتها الأوراق كأنها ... زمردة تغدو بنا وتروح
ومن بينها النارنج كالذهب الذي ... هواه به كل النفوس تبوح
فأنظر إلى هذا المصور الماهر الذي أمسك ريشته وراح يضفي الألوان المناسبة على كل جزء من أجزاء تلك الصورة. فالنارنج كالذهب، والأوراق الخضر كالزمرد، والأغصان كقضبان من الفضة
ووصفوا الرعد والبرق. فتراهم أحيانا يشبهون الرعد بامرأة ثاكلة نادبة. وأحيانا يشبهونه بالأسد حين يزأر مهددا بالويل والثبور. ويشبهون وميض البرق بالضحك، أو بالسيوف، أو بشريط من الذهب. وقد شبه ابن حمد يس الرعد بالحادي يسوق الغمام أمامه كما تساق الإبل. قال:
أرق الأجفان رعد صوته ... كهدير القرم في الشول صفد
بات يجتاز بأبكار الحيا ... بلدا يرويه من بعد بلد
فهو كالحادي روايا إن ونت ... في السري صاح عليها وجلد
وقد تتناول أحدهم التقلبات فيشبهها بأخلاق الملوك التي لا تدوم على حال. ومثال ذلك قول القائل:
ويوم كأخلاق الملوك ملون ... فصحو ودجن ثم طل ووابل
كذلك أخلاق الملوك محبة ... وبغض ومنع بين ذاك ونائل
وهكذا نجد عوامل الطبيعة في الشتاء تحرك الخواطر، وتفتق الأذهان، وتثير في النفس الإحساس الكامن والشعور فتزداد صلة الإنسان بالكون. وكانت هذه المظهر الطبيعية المختلفة وحيا للشعراء والكتاب، وقد وجدوا فيها ميدانا خصبا فأضافوا إلى الأدب الوصفي ثروة طائلة
محمد سيد كيلاني(922/14)
أم عمارة. . .
(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!)
محمد رسول الله
للأستاذ محمد محمود زيتون
(1)
امرأة عربية مسلمة من طراز نادر، يحق للمرأة الحديثة أن تقف طويلا على معالم حياتهها، وتتأمل مشاهد جهادها وتتبصر عوامل العظمة التي جعلت منها عضوا بارزا في سجل الخلود
تلك هي أم عمارة: نسيبه بنت كعب بن عمروا بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وأبناءها حبيب وعبد الله
كان لأم عمارة مؤهلات المجد والكمال، ومستندات الحسب والنسب، فهي من بني النجار، وما أدراك من بنو النجار!
بنو النجار أخوال محمد رسول الله أي أخوال جده عبد المطلب سيد العرب، وعمدة المكارم في الجزيرة. . .
بنو النجار الذين نزلت بهم آمنة ومعها محمد اليتيم الذي لم يتجاوز من عمره ست سنوات، وهنالك رأى الزروع والضروع والقصور والآبار. . .
بنو النجار الذين نزل بهم النبي المهجر من مكة فدعوه إليهم حيث المنعة والعدد والعدة والحدائق. . .
بنو النجار الذين خرجوا إليه رقاق القلوب، يقول غلمانهم:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وتقول جواريهم وفي أيديهن المعازف والدفوف:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فيقول لهن: أتحببنني؟ فيقلن: نعم. فيقول: الله يعلم أن قلبي يحبكن
بنو النجار الذين اصطفاهم النبي ليسترضع فيهم ابنه إبراهيم، وائتمن على رضاعته أم(922/15)
بردة. . .
بنو النجار الذين كانوا للنبي أنصارا، أولئك الذين رقت مشاعرهم، وأشرقت أساريرهم، ونعمت نساؤهم بالجمال والكمال، وعرفن بالظرف والرقة، والغزل والطرب. . .
بنو النجار الذين قال النبي فيهم (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثمبنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير)
في هذه الجواء العاطرة بالمرح والنعيم، وفي تلك الأرجاء الحافلة بالبطولة والرجولة، وفي بيت بني مازن، نشأت أم عمارة، وكانت من ربات البيوت اللأئي أفضن على الأزواج والأولاد من إيمانهن بالله ورسوله، فاستنارت القلوب، وارتفعت الجباه، بما دعا إليه نبي الإسلام من توحيد الله، واتحاد العباد
وكانت أم عمارة إحدى اثنتين من نساء يثرب جاءتا في الحجيج إلى مكة قبل الهجرة، وبايعتا النبي فيمن بايعه ليلة (العقبة الكبرى) ويالها من ليلة مشهودة، أنبثق من حواشيها السود، طلائع النور في يثرب الفيحاء
وليس من الهين على التاريخ أن ينسى أم عمارة وأم منيع وهما اللتان ظفرتا ببيعة النبي، فقد أخذ عليهما من غير مصافحة، وأقرتا له فقال لهما: اذهبن فقد بايعتكن وذهبتا لتمهيد النفوس للبشارة المحمدية الصافية، ولاستقباله يوم يقدم المدينة مهاجرا من قريش التي أخرجته من مكة، ولولا أن أخرجوه لكان له المقام الدائم في بلد به بيت الله الحرام، فهو لذلك احب البلاد إليه، والصق الأوطان بجلده، وأعمقها أثرا في لحمه ودمه
وطلع البدر على يثرب من ثنيات الوداع، ونزل بدار (أبي أيوب الأنصاري) وتوافد المهاجرون إرسالا من مكة، واخذ كل أنصاري يستضيف اخاه المهاجر حتى ليكاد أن يشاطره ماله، وينزل له عن إحدى زوجتيه حبا وكرامة، ولم تنقطع جفان بني النجار خاصة والأنصار عامة عن منزل رسول الله. تطعم منها ويطعم البائس الفقير من أهل الصفة
يالها من اربحيه تهز المكارم الملية في نفوس الأنصار رجالا ونساء، شيبا وشبانا، سواء في ذلك الأوس والخزرج، وقد اعتصموا بحبل الله (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) وانقلبوا بعد العداوة والراوة إخوانا وأحبابا، ورفت على صدورهم نعمة الإسلام،(922/16)
وتضوعت بين أعطافهم رياحين الأيمان
في بيت من تلك البيوت، كانت شعلة الأيمان أسد توهجا، وأنصع بريقا، وكلما توالت الأيام، اتسعت آفاق الدعوة، وانتشرت أقطار الخير، على الرغم مما كان يبديه اليهود، ويخفيه المنافقون، وترجوه قريش
ولعل هذا الثلوث المعادي، كان العامل الأول في ازدياد عدد الأنصار، وإنقاذ جذوة الأيمان، واستعداد الكتائب لكل طارئ، وهم الذين بايعوا نبيهم على العسر واليسر والمنشط والمكره وقول الحق ولو كان مرا، لا يخشون في الله لومة لائم، ولا ينازعون الآمر وأهله
أيقن الأنصار أن قدوم النبي عليهم إنما فاتحة عهد جديد لهذا الدين الذي جاء ليشق بالمهاجرين والأنصار طريق الجهاد، وإنها لإحدى الحسنيين: نصر دين الله، أو استشهاد في سبيله، وكان ما كان من أمر النبي في غزوة بدر، حيث انتصر المسلمون وهم قلة في العدد والعدة
جاءت أم عمارة يوما تقول لرسول الله: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى للنساء شيئا: فتلا عليها قول الله تعالى (إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الله، لهم مغفرة وأجرا عظيما)
ولزمت أم عمارة غرز نبيها الكريم، وكانت امرأة ضابطة جلدة، قوامة، لها من النفوذ والتأثير في بيتها وأهلها وجاراتها وصواحبها ما جعل الناس يتحدثون عنها كلما ذكروا خير نساء الأنصار، والسابقات منهن إلى الإسلام
ولم يكن ليفوت أم عمارة أن توثق صلتها بأهل البيت، بيت النبي الكريم، لترى عن كثب كيف تعمل فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وسيدة نساء أهل الجنة، فاطمة البتول العابدة الزاهدة، ولترى فيها المثل الأعلى للمرأة المجاهدة بنفسها في سبيل الله. . ولتشهد مع هذا كله أمهات المؤمنين، وما ينعمن به عند الرسول الكريم من رعاية وعناية، وما يسعدن به من دون النساء من علوم الدين على يدي رسول هذا الدين
واستحوذت على أذهان نساء يثرب فكرة أخذت عليهن كل سبيل، فما وجدن عنها منصرفا،(922/17)
ولا أردن عنها متحولا، وسرت هذه الفكرة بينهن غاديات رائحات، فأصبحت حديث الصباح والمساء، وكلما رأين رجالهن يدرجون في مراقي الجهاد سراعا، استصغرن عيشتهن هذه الضيقة، وكادت قلوبهن تطفر من أقفاصها لتنطلق كالسهام في ميادين الجهاد
هذه أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأل رسول الله فتقول:
يا رسول الله: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت ومواضع شهوات الرجال وحاملات أولادهم، وان الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟؟
عندئذ التفت النبي بوجهه إلى أصحابه من حوله، وقال: هل سمعتم مقالة امرأة احسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: بلى يا رسول. فقال لها: انصرفي يا أسماء، واعلمي بأنك من النساء، أن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال)
وانصرفت أسماء وهي تهلهل وتكبر، استبشارا بما قال لها رسول الله، حيث لا زيادة لمستزيد. وترامى حديث أسماء إلى أسماع حزب النساء، فكان لهن من هدى الرسول نور يسترشدن به في هذه الحياة الأجتماعية، التي تزخر بالحيوية، وتفيضبالنشاط على غير ما كان معهودا في المدينة من قيل، بل ما كان ابعد نساء يثرب عنه، قبل أن تشرق عليهن شمس الإسلام، وقبل أن ينقشع الوخم والوباء عن الناس، ولولا دعوة النبي لها ما طاب بها مقام، ولا لذ فيها معاش
وأرادت أم المؤمنين عائشة أن تظفر بتصريح من زوجها النبي الكريم علها تأتي حزب النساء بجديد، يضاف إلى ما يشغل بالهن من أمر (جهاد المرأة)، فسألته ليأذن لها في الجهاد فقال: جهادكن الحج) وسألته غيرها من أمهات المؤمنين عن الجهاد فقال: نعم الجهاد الحج
هذا وفي رأس أم عمارة فكرة تكاد أن تنفجر ولكنها تستبقيها إلى حين، وفي صدرها وثبة إلى هدف كريم، وما كان أحرصها على الأستثئار به دون غيرها. . إنها آمنت وصدقت كل ما جاء على لسان النبي من القرآن والسنة. وهي امرأة من النساء وما قاله النبي لهن إنما يصدق عليها، فلا مفر من تسكين نزعتها المدوية بين جوانحها، ولا مناص من الإذعان(922/18)
- كسائر النساء لأوامره ونواهيه، ومن أمهات المؤمنين، وهن ما هن شرفا ومكانة
ولكن أم عمارة قد أصرت إصرارا على أن تحمل السلاح وتنتظم في الصفوف، وتجاهد مع المجاهدين. فهل خرجت بذلك عن طوع القيادة؟. وهل خالفت عن أمر قائدها الأعلى؟. . كلا وما كان لها أن تفعل، ولكنها ذات امتياز على سائر النساء حتى أزواج النبي منهن، لأنها صاحبة عهد مع رسول الله منذ العقبة الكبرى، وهو الذي بايعها على الجهاد، فما ينبغي لها أن تنقض البيعة وأن كان للنساء في تصريحات النبي ذريعة للخروج من باب الجهاد. .
أفهل وقر في الأذهان أن بيعة العقبة أصبحت - ولو بالنسبة لأم عمارة وأم منيع - غير ذات موضوع. أم أنها استنفذت أغراضها، وفقدت صلاحيتها منذ هاجر النبي إلى المدينة، واستقر بها، وقال وأم عمارة وأسماء ما قال من إعفاء النساء من فريضة القتال. .؟
الحق أن القتال كره للرجال، ومع ذلك فقد كتبه الله عليهم، ومن يدري لعله يكون لهم خيرا. . من هذا الباب دخلت أم عمارة وحدها، بعد أن صممت تصميما تاما على الجهاد مع رسول الله، ولديها من المبررات ما بسند رأيها إذا أحتدم الجدال
عرفت أم عمارة أن جهاد النساء ليس واجبا، فلم لا يكون تطوعا، وها هي قريش بقضها وقضيضها، وخيلائها قد غادرت مكة ليس بها داع ولا مجيب، تحارب الله وتحاد رسوله، ليكون لها يوم بيوم بدر، وهذا أبو سفيان قد استخف قومه فأطاعوه
وترامت الأنباء إلى النبي، فأعد لهم من القوة ومن رباط الخيل ما استطاع، ونادى المنادي للجهاد فتقاطر المسلمون إلى الصفوف كأنهم بنيان مرصوص، منهم الغلمان أمثال رافع بن خديج وسمرة ابن جندب وأبو سعيد الخدري، وغيرهم ممن عرفوا بالرماية والمصارعة على حداثة أسنانهم، ومنهم عائشة وأم سليم وقد تطوعتا لنقل الماء على متونها لتفرغاه في افواه القوم، ومنهم الكهول الذين تاقت نفوسهم إلى الاستشهاد في سبيل الله كاليمان حسيل ابن جابر ورفاعة بن وقش ولم يقبلا أن يبقيا مرفوعين في الآطام مع النساء، ومنهم عمرو بن الجموح الذي اخذ يعدو إلى رسول الله ومن خلفه بنوه يصدونه وقد أعفاه الله من الجهاد لأنه اعرج، أما هو فقد أراد أن يطأ بعرجته في الجنة. ومنهم حنظلة الذي لم يبت ليلة عرسه إلا ليصبح على جنابة، فما أن سمع الهيعة حتى طار إليها ليكون غسيل الملائكة بين(922/19)
السماء والأرض، واصطفوا عند (أحد) ظهورهم إلى الجبل
أفكان يهون على أم عمارة أن ترى هؤلاء وهؤلاء، وتقف هي من خلف الصفوف، والأمر يومئذ جد لا هزل، وقد لزم كل من المجاهدين والمجاهدات المكان الذي أمر به، وحذرهم النبي إلا يبرحوا اماكنهم، وامرهم بان يحموا ظهره وإلا كرت عليهم قريش بخيلها تحت إمرة خالد ابن الوليد
ودارت رحى القتال، وحمى الوطيس، واختلط الحابل بالنابل، وانقض المسلمون إلى الغنائم فتخلوا عن أماكنهم فانكشف النبي لعدوه، فكروا عليه كرة واحدة، وما أن رآهم يغشونه حتى مظر إلى من حوله وقال: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار فقاتلوا دون لرسول الله، رجلا ثم رجلا، يقتلون من دونه حتى كان آخرهم زياد فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فائت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه
وانفض المسلمون من حول النبي، وتركوه قائما، فاقبل ابن قمئة وقد اختصر حرابه، وانقضى سهامه، وجعل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت أن نجا. ونساء قريش يذمرن الرجال، ويضربن الدفوف، وبنو عبد الدار يخشون أن تسقط اللواء منهم فلا يرتفع لهم راس في قريش ابدا، وهم لذلك يستجيبون لهذه الراجزة هند بنت عتبة وصواحبها، وهن مقبلات مدبرات ويقلن:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار=ضربا بكل بتار
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق=مشي القطا البوارق
والمسك في المفارق ... والدر في المخانق=أن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق ... او تدبروا نفارق=فراق غير وامق
والتحم القتال، وقد اصمد المسلمون لا يلوون على أحد، والنبي يقول لهم:
أي عباد الله! أخراكم!
ولكن ذهبت دعوته أدراج الرياح، وان كان بعض الناس قد احدقوا بالنبي، ونثروا كناناتهم بين يديه، وأبو طلحة الأنصاري يقول: وجهي لوجهك فداء يا رسول الله. ثم يرمي اشد ما يكون الرمي، ويصرخ في القوم فكأنه زئير الأسد تتجاوب أصداؤه في جوانب الغاب، ولذلك قال النبي وقد سمع صوته يجلجل. (صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين(922/20)
رجلا) وكان حول النبي سعد بن أبي وقاص، وسهل بن حنيف وأبو دجانة، وقد اعتصب بالموت الأسود وزيادة بن الحارث الذي اخذ يرمي دون نبيه حتى مات شهيدا
ونادى عدو الله بن قمئة في الناس: أن محمدا قد قتل. . وإذا بالناس قد انتثروا من الحرب كما تنتثر الحبوب من بين شقي الرحى، وهي تدور في يد شيطان رجيم، ويستوقفهم مصعب بن عمير فيقول لهم: اثبتوا، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا
أقماك الله يا ابن قمئة، وكبك في النار يا أبا عامر، وشلت يداك يا عتبة. . أهكذا يشج وجه رسول الله، وتدخل حلقتا المفغر في صدغيه، فينزعهما أبو عبيده بأسنانه، فتكسر رباعية النبي وتشق شفته، ويسيل الدم على وجهه، فيمسحه بن عمه وختنه علي، ويتأثر النبي فيقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، ويتنزل عليه جبريل الأمين بقول رب العالمين:
(ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
ويتفقد كعب بن مالك نبيه في هذه الغمرة، فيراه بحمد الله على غير ما يدعي عدو الله، فيتلفت إلى المسلمين، يبشرهم بان نبيهم لا يزال على قيد الحياة، فيشير النبي إليه أن أنصت، ثم تعتمل القوافي في وجدان شاعر النبي إذ يرى الكفار يظهرون الشماتة، وما تخفي صدورهم اكبر، فينبري لهم ويقول:
إن تقتلونا فدين الله فطرتنا ... والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا امرنا في رأيكم سفها ... فرأى من خالف الإسلام تضليل
أين أنت في هذه المعمعة الدائرة يا أم عمارة؟
(للكلام بقية)
محمد محمود زيتون(922/21)
نفوس عراقية ثائرة
للأستاذ حمدي الحسيني
1 - الشيخ عبد المحسن الكاظمي - طيب الله ثراه - شاعر عربي استقلالي. نشأ في بغداد فاشتغل فيها بالتجارة ثم بالزراعة، فلم ينجح في كلا العملين فتوجه نحو الأدب وكل ميسر لما خلق له. فطالع كتب الأدب وحفظ من الشعر القديم أثني عشر ألف بيت فعرف فضله ونبه ذكره. واخذ يفكر في العرب والمسلمين، وما هم عليه من الخضوع والذل، حتى قدم السيد جمال الدين الأفغاني إلى بغداد منفيا من حكومة ايران فالتقى به الكاظمي وعقدت الصداقة والمبادئ بين قلبيهما. وما كاد الأفغاني ينفى من بغداد حتى شعر الكاظمي بان الخطر يقترب منه لأنه صديق الأفغاني ولأنه يناضل الحكومة العثمانية على نور القضية العربية، فاضطر أن يغادر بغداد وينتقل في البلاد الإسلامية حتى ألقى عصا تسياره إلى مصر، وجعلها دار إقامته، ولامس قضيتها الوطنية بزعامة سعد ملامسة قوية حارة، نظم فيها القصائد الكثيرة العامرة، ولم يخرج منها إلا بعض الأقطار العربية المجاورة.
وقد زار فلسطين وشرق الأردن بعد الحرب العالمية الأولى، فأقام بيننا في القدس مدة قصيرة رأينا خلالها من أدبه الجم ما ملأ النقوس إعجابا، ومن عواطفه الوطنية ما أفعم القلوب سرورا وطربا. مما دعا العرب في فلسطين أن يقوموا له بعد وفاته حفلة تأبين كبيرة في مدينة يافا دعوا إليها عددا من أهل الفضل في البلاد العربية. وقد تكلم في هذه الحفلة نخبة من عارفي فضل الكاظمي. والمعجبين بشعره ووطنيته وتضحيته، منهم المرحومان إبراهيم عبد القادر المازني وإسعاف النشاشيبي والأستاذان أسعد داغر وعجاج نويهض وكاتب هذه السطور وغيرهم
فالكاظمي يعد من شعراء القومية العربية والقضية الاستقلالية. وأما النبع الذي يفيض على سعره الوطني بالقوة فهو المبدأ القويم الراسخ. والكاظمي كان منفردا بين شعراء العرب والمعاصرين في القدرة على نظم المطولات ارتجالا. وأما أخلاقه الشخصية فالفضيلة بكل معانيها، ولعل الإباء وعفة النفس هي أقوى أخلاقه وهي من أقوى أسباب بؤسه وشقائه في حياته. ولنسمع الآن الكاظمي يخاطب حرية العرب المسلوبة ويتودد لهذه الحرية حتى تعود إلى البلاد العربية المشوقة لجمال طلعتها(922/22)
يا حبذا يوم الجمال وحبذا ... يوم الوصال وأجره المكسوب
يوم يعود لنا به استقلالنا ... ويرد فيه حقنا المغصوب
حثام نحتمل المذلة طوعا ... ولنا بآفاق البلاد وثوب
ولنسمع هذه القطعة القوية من شعره:
سيروا نذب عن الحمى ... ونرد عنه المستبدا
نحمي حمى أوطاننا ... ونصونها غورا ونجدا
ونرد عنها من عدا ... ظلما عليها أو تعدى
أيروق لي عيش أرى ... فيه الكريم الحر عبدا
وإذا نظرت إلى الهوا ... ن رأيت طعم الموت شهدا
إن لم تكن تجدي الحيا ... ة بعزها فالموت أجدى
2 - السيد محمد رضا الشبيبي، شاعر عراقي بارز الشخصية، وقطب من أقطاب الحركة الفكرية والنهضة الوطنية في العراق. وهو فوق هذا ذو ثقافة إسلامية عالية ومقام اجتماعي رفيع. قرأنا طائفة من شعره فرأينا القوة تتدفق والوطنية تتألق
خسرت صفقتكم في معشر ... شروا العار، وباعوا الوطنا
ضيعوه ولو اعتاضوا به ... هذه الدنيا، لفلت ثمنا
يا عبيد المال خير منكم ... جهلاء يعبدون الوثنا
إنني ذاك العراقي الذي ... ذكر الشام وناجى اليمنا
إنني أعتد نجدا روضتي ... وأرى جنة عدن، عدنا
وقد رأينا روح الوحدة العربية تتنفس في قصائد الشبيبي مما دلنا على إنه مؤمن بهذه الوحدة عامل لها
ببغداد أشتاق الشام وها أنا ... إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
فما أنا في أرض الشام بمشئم ... ولا أنا في أرض العراق بمعرق
هما وطن فرد، وقد فرقوهما ... رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
3 - السيد خيري الهنداوي، شاعر عراقي، اتصل في نشأته الأولى بالزهاوي والرصافي في بغداد وعاشرهما مدة طويلة فأفادته تلك المعاشرة في تفكيره وأسلوبه الشعري، وهدته(922/23)
إلى أقوم الطرق وأصح الوسائل لخدمة القضية العربية. وقد سجنه الأتحاديون مرارا وضيقوا عليه الخناق حتى زال حكمهم فاشتغل بالوظائف في العراق. وقد نفي مع من نفي على أثر الثورة العراقية الكبرى. وقد رأيت فيما قرأته له من شعر، روح الرصافي مشرقة بين السطور أيما إشراق:
مرحبا بالخطوب إن هي كانت ... سببا موصلا إلينا الحقوقا
وأحب الخطوب عندي حبس ... فيه نستطيع بالكرام اللحوقا
لا أبالي إذا خدمت بلادي ... أأسيرا رأيتني أم طليقا
وبك لا أرتضي الحياة بذل ... قم فمزق إهابها تمزيقا
وأدر لي الرافدين حميا ال ... حرب صرفا، وكسر الإبريقا
إن موتا يكون في ساحة الع ... ز لموت أجدر به أن يروقا
4 - الشيخ كاظم الدجيلي شاعر عراقي، واسع الإطلاع كثير المعرفة؛ اشتغل في بغداد بالصحافة قبل الحرب العالمية الأولى. وهو يحب الرحلة والتنقل، ويميل إلى التحقيق العلمي. قد رأينا فيما قرأناه له من شعر، قوة نزوع للحياة وشدة اندفاع للحرية، وهو يعتقد بأن لا بد للحق من قوة تعضده وإلا فهو ضائع
حديثك عن غيري القوي حرام ... وسعيك في نصر الضعيف أثام
نحدث بمجد الأقوياء ففيهمو ... قعود بأحكام الورى وقيام
إذا كنت بين العالمين أخا قوي ... رعتك عيون الناس حيث تنام
حمى الغاب بأس الليث من كل طارق ... ولم ينج من فتك البزاة حمام
يقولون أن الحق من فوق قوة ... وما الحق إلا مدفع وحسام
إلى العز فاركبها معودة السري ... عليها ركوب الصاغرين حرام
ولاتك عن نيل العلاء بقاعد ... وفيك إلى نيل العلاء قيام
ولا ترض ذل الخاملين وعيشهم ... فإن حياة الخاملين حمام
5 - في يدنا للسيد أحمد الصافي النجفي - متعه الله بالصحة والعافية - ديوانان، الأمواج، وأشعة ملونة. فرأينا للصافي في هذين الديوانين نفسا كبيرة، ثائرة، نزاعة إلى مثلها العليا التي يحيا الصافي من أجلها ويموت في سبيلها؛ وهي الحق والحرية والرحمة. ونحن نعتقد(922/24)
بأنه مخلص لهذه المبادئ، وأنه جاد في التقرب منها مجاهد في سبيل تحقيقها. وكيف لا يكون الصافي مخلصا لهذه المبادئ وهي أهداف لأقوى غرائزه ووسائل لإشباع أعرق رغباته. وكيف لا يكون للصافي هذا المقام الرفيع في قومه، وأهدافه مشتركة بينه وبين العرب في سائر بلاد العرب، بل مشتركة بينه وبين الإنسانية كافة. واستهداف الصافي للحق والحرية والرحمة يجعله في نظرنا ليس شاعرا عربيا فحسب، بل شاعرا إنسانيا يشترك مع جميع الناس في نصرة الحق المهضوم، واسترداد الحرية المسلوبة، وإرسال الرحمة نسيما عليلا معطرا ينعش نفوس البائسين. ومع كل هذا نرى في نفسية الصافي تعقدا وفي سلوكه شذوذا. ونعتقد أن سبب هذا التعقد وهذا الشذوذ، ما قست به الطبيعة عليه من مرض وما اشتدت به البيئة عليه من فقر
الفلاح - على الإطلاق - صديق للصافي، نراه يرفق به ويتوجع له مما لحق به من أذى الظلم الاجتماعي الذي يباعد بينه وبين سعادة الحياة وهناء العيش، على رغم ما يبذل في سبيل الحياة من عرق جبين وعضلات ساعد. ولكنه لا يقف منه عند حد التوجع، بل يدفعه إلى استنكار الظلم ودفع الحيف
حتام يا هذا لسانك الكن ... وإلى م السنة الطغاة فصاح
كل الجناح على الضعيف إذا اعتدى ... أما القوي فما عليه جناح
يا ريف أن كتاب بؤسك مشكل ... يعيا بحل رموزه الشراح
أطيار روضك غالها باز العدى ... وعدا على أسماكك التمساح
الورد قد خنقته أشواك الربى ... ظلما. وفر البلبل الصداح
يا ريف مالك شرب أهلك آسن ... رنق، وشرب ولاة أمرك راح
وإذا كان الصافي صديق الفلاح في كل أرض فهو صديق الشعب في كل وطن، فاسمعه الآن يخاطب الشعب المظلوم
لا تشك للعدل ضيما واشكه لظبا ... فالعدل أصبح في الدنيا بلا أذن
لم يعطك العدل شيئا وهو ذو منن ... والسيف يعطيك ما تهوى بلا منن
لا تنتظرن أن يرد العدل عنك أذى ... فالحق في محبس القانون والسنن
ضعف الخراف دعا ذئب الفلاة لها ... فالذئب للضعف، ليت الضعف لم يكن(922/25)
وأسمع الصافي يصيح أبن الجرس؟؟
جرس النهضة قد دق فلم ... نتيقظ حين دق الجرس
سرق الطامع أبهى مجدنا ... ومضى يعدو فأين العسس
قد رقدنا أملا في حرس ... ولقد نمنا نام الحرس
سهروا في أول الليل ومذ ... نهض السارق يسعى، نعسوا
نسمة الإصلاح هبي نحونا ... فلقد ضاق علينا النفس
هل نرى يوما سنا حرية ... فلقد ساء علينا الفلس
وخذ هذه القطعة العامرة بقوة الكفاح والمغالية في سبيل الحياة
إن غصبت من الأسود لقمة ... فاستخرج اللقمة من فم الأسد
إن مصاعب الحياة كلها ... شديدة، لكنما الذل أشد
أحفظ كيان الجسم منك سالما ... ثم اقطع العضو، إذا العضو فسد
لا تنصبوا من فسدت نيته ... فما يرى الأشياء طرف ذو رمد
حمدي الحسيني(922/26)
المكتبة العربية في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
تلك هي العوامل التي نهضت بالثقافة في ذلك العصر، وأغنت المكتبة العربية غنى ساهم فيه علماء ممتازون لا تزال أسماؤهم حية إلى يومنا، ولا تزال كتبهم باقية تدرس:
ففي القراءات نجد أشهر ما بقي لنا من ذلك العصر منظومة الشاطبية لمؤلفها القاسم بن فيرة الشاطبي المتوفي سنة 591، وقد استقبل العلماء تلك المنظومة منذ إنشائها خير استقبال، وبالغ الناس في التغالي بها، وأخذ أقوالها مسلمة، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم
وساهم في تفسير القرآن يومئذ عدد كبير من العلماء أنتجوا أكثر من ثلاثين تفسيرا اشترك في تأليفها الشاعر الأديب كالحسن ابن الزبير، والفقيه المشرع كالعز بن عبد السلام، والواعظ المؤرخ كسبط ابن الجوزي، والنحوي كعلي بن عبد الله الوهراني، والمتكلم كعلي بن أحمد التجيبي، والصوفي كابن العربي، والطبيب كابن اللبودي، والمقرئ كعلم الدين السخاوي
وفي دار الكتب من أثار هذه الحقبة جزء من تفسير ابن المنير. وكتابه الانتصاف من الكشاف؛ ولابن العربي بعض تفسيره وكتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن، وكتاب رد معاني الآيات المحكمات؛ كما بقى للعز بن عبد السلام تفسيره وفوائد له، وهي أسئلة وأجوبه تتعلق بالقرآن الكريم، وكتاب كشف الإشكالات عن بعض الآيات وهي أجوبه عن أسئلة مشكلة في آيات من القرآن الكريم، كما عثرنا على بعض تفسير ابن ظفر الصقلي الذي سماه ينبوع الحياة، وعلى منظومة السخاوي في بيان متشابهات الكتاب، ومنظومة الديربني في التفسير
وقد تنوعت كتب التفسير في هذا العصر بين موجزة، وبين مطولة قد تبلغ خمسين سفرا أو تزيد
ولم يقف نشاط العلماء عند تفسير القرآن مجتمعا، بل انصرفت طائفة إلى تنظيم الاستفادة من كتب التفسير التي وضعها سواهم فاختصروها أو أكملوها، ومنهم من فسر جزءا منه قد(922/27)
يكون آية أو سورة أو آيات متناثرات. ومنهم من أنصرف إلى ناحية خاصة في القرآن فدرس الناسخ والمنسوخ فيه، أو درس ما قد يتراءى من آيات مشكلة أو متشابة، أو تعرض لأسرار ما بدئت به بعض السور من الحروف، أو تحدث في أمثال القرآن، أو إعرابه، أو وصف خطه، أو ألف في علومه
وأشهر تفسير بقي لنا من ذلك العصر هو تفسير القرطبي الذي سماه: جامع أحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان. وتقوم دار الكتب بطبعه وتقدر أنها ستتمه في نحو عشرين جزءا؛ وقد بدأ القرطبي موضحا الخطة التي أنتهجها في كتابه بقوله: (وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع، الذي أستقل بالسني والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه منتي، بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكل منها، بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف. . وأضربت عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين، إلا ما لابد منه ولا غناء عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل وهكذا إلى آخر الكتاب.) ٍ
وأشتغل بدراسة الحديث رواية ودراية في ذلك العصر طائفة كبيرة عرفت منهم زهاء ثلاثمائة
ولما كانت أمهات كتب الحديث قد وضعت قبل ذلك العصر فإنها قد جعلت أساس دراسة الحديث يومئذ يقرؤها الأساتذة في دروسهم، ويحفظها المحدثون في صدورهم ويدور حوله المؤلفون. فرأينا طائفة من العلماء قد تصدت لشرح هذه الكتب أو اختصارها أو للجمع بينها أو إعرابها أو معرفة ما أتفق عليه مؤلفوها
وظهر في هذا العصر ولوع بأن يجمع العالم من مختاراته أربعين حديثا، فمنهم كن اختارها قدسية، ومنهم من اختارها في الأحكام، ومنهم من جمعها في فضائل القرآن، ومنهم من(922/28)
اختارها متعلقة بالطب، كما تنوعت اتجاهات رجال الحديث في ذلك الحين: فمنهم من جمع أحاديث ترتبط بموضوع معين كما جمع ضياء الدين المقدسي أحاديث الحرف والصوت، والنووي أحاديث الترغيب والترهيب، ومنهم من جمع الأحاديث التي ترتبط بالأحكام الشرعية ورتبها على أبواب الفقه كما فعل ابن دقيق العيد في كتابه: الإمام في أحاديث الأحكام، صنفه في عشرين جزءا، جمع فيه متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام مجردة عن الأسانيد ثم شرحه، وجمع في هذا الشرح ما جعله مؤلفا حافلا لم يصنف مثله، ولكنه لم يكمله، ولو كملت نسخته لأغنت عن كل مصنف في هذا الباب.
أما علوم الحديث وتسمى مصطلح الحديث، وهي ما تبحث في أحوال السند، من حيث اتصاله وانقطاعه، وقوة رجاله أو ضعفهم، وفي نقد المتن من حيث صحته أو شذوذه أو تحريفه أو تصحيفه، فقد ظفرت في هذا العصر بكتاب عد مرجعا في هذا الشأن منذ تأليفه، وهو كتاب ابن الصلاح الذي بين أحكامه، وفصل أقسامه، وأوضح أصوله، وشرح فروعه وفصوله
ومن أشهر رجال الحديث المؤلفين فيه حينئذ ابن عساكر، والسلفي، وعبد الغني المقدسي، وابن الصلاح، وعبد العظيم المنذري، ومحي الدين النووي، والشرف الدمياطي
أما الفقه فكان المذهب المعمول به في مصر عندما شبت الحروب الصليبية مذهب الشيعة، فلما ولي صلاح الدين تظاهر الناس بمذهب مالك والشافعي، ولما كان نور الدين محمود حنفيا نشر مذهب أبي حنيفة ببلاد الشام، وقدم منهم عدة إلى مصر
وكان مذهب الشافعي له قصب السبق في مصر ويليه مذهب مالك وأبي حنيفة فأحمد بن حنبل. وكانت المكانة الأولى في الشام لمذهب أبي حنيفة ثم للشافعي، ويحتل مذهب ابن حنبل الرتبة الثالثة بينما يقل مذهب مالك في تلك الربوع
لا أستطيع أن أرسم صورة صحيحة للجهود العلمية التي بذلها علماء الشيعة، فكثير منها قد أندثر بانتهاء العهد الفاطمي لحرص الدولة الأيوبية على محو رسومهم وآثارهم؛ وفي مذهب الشافعي عني العلماء يومئذ بشرح كبريات كتب المذهب الوافدة عليهم، ككتابي التنبيه والمهذب لأبي إسحاق الشيرازي، وكتابي الوسيط والوجيز للغزالي، والمحرر للقزويني. وكان من أهم مختصراته كتاب منهاج الطالبين للنووي(922/29)
ولم يقف جهد العلماء عند حد شرح الكتب الوافدة واختصارها بل ساهموا بإنتاجهم الخاص المستقل، فوضعوا كتبا كثيرة كان من أهمها كتاب القواعد الكبرى لعز الدين بن عبد السلام، قال عنه صاحب كشف الظنون: وليس لأحد مثله، وله القواعد الصغرى أيضا، وساهم ابن أبي عصرون في الإنتاج مساهمة كبرى فوضع مآخذ النظر، وكتاب الذريعة في معرفة الشريعة، وكتاب الانتصار لمذهب الشافعي وهو كبير في أربع مجلدات، وكتاب المرشد في مجلدين، وهو أحكام مجردة بلفظ وجيز كانت الفتوى عليه في مصر قبل وصول الرافعي الكبير إليها، وكتاب التنبيه في معرفة الأحكام، كما وضع مجلى بن جميع كتاب الذخائر، وعبد الله الفهري كتابه المجموع، وابن شداد كتابه الموجز، وابو شامة المقدسي أرجوزة في الفقه وكتابا سماه المذهب، وموسى القشيري كتابه المغنى
وعني رجال أبي حنيفة يومئذ بكتب أربعة وفدت إليهم هي الجامع الكبير والجامع الصغير لمؤلفهما محمد بن الحسن الشيباني ومختصر القدوري وكتاب الهداية، فشرحوا بعضها ونظموا البعض الآخر. ولم يقف جهدهم عند دراسة هذه الكتب وخدمتها ولكنهم أضافوا ثروة جديدة إلى ثروة الأقدمين؛ ذكر ابن خلكان أن المعظم عيسى أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه فجردوه له في عشر مجلدات، وسموه التذكرة المعظمية نسبة إليه، وكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا ويديم مطالعته. ووضع كثير من العلماء كتبا، فرأينا الغزنوي يضع كتابا عرف بالمقدمة الغزنوية، والعامري يؤلف كتابه المبسوط في نحو ثلاثين مجلدا، ولعل أكبر ما وضعه علماء هذا العصر كتاب المحيط للسرخسي في أربعين مجلدا، وللعلماء حديث طويل في صحة نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه
وفي مذهب مالك كان كتاب المدونة لعبد الرحمن بن القاسم المالكي المتوفي سنة 191 من أعظم ما عني به في عصر الحروب الصليبية، درسها العلماء وشرحوها وهذبوها، ومن أشهر من هذبها يومئذ البرادعي، وقد صار تهذيبه من أجل كتب المالكية فقام العلماء على شرحه حينا واختصاره حينا آخر
أما ما وضعه العلماء في فقه المالكية حينئذ فمن أهمه كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة؛ وقد عكفت عليه طائفة المالكية بمصر يدرسونه ويحفظونه. أما الكتاب الذي وضعه ابن الحاجب وعرف بالمختصر، فقد ظفر من العلماء بعناية خاصة وأصبح مرجعا لهم(922/30)
وشرحوه. كما وضع القرافي كتابيه الذخيرة والقواعد
وكان مختصر الخرقي لعمر بن حسين الدمشقي المتوفي سنة 334 مما يدرس في ذلك العصر، ويعنى به شرحه موفق الدين ابن قدامة المقدسي في كتاب سماه المغنى وهو من أهم كتب الحنابلة، كما ألف المقنع الذي شرحه ابن أخيه عبد الرحمن بن محمد في عشر مجلدات وألف العمدة واختصر الهداية
ولا عجب أن نرى هذه العناية بالفقه فقد كان مصدر التشريع يومئذ، وكان السلاطين أنفسهم يدرسونه لحاجتهم إليه في الفصل فيما يعرض عليهم من القضايا وهم جالسون بدار العدل مع القضاة
وفي أصول الفقه كان كتاب المحصول لفخر الدين الرازي أشهر ما يدرس في مصر والشام، اختصره العلماء أحيانا وشرحوه أحيانا أخرى، وجمعوا ما فيه من المعلومات وزادوا عليها ما نقصه منها
وقدمت البلاد في هذه المادة كتبا عدت من أصول كتبه ومن أهم مراجعه، ومن ذلك كتاب الإحكام للآمدي، واختصر ابن الحاجب هذا الكتاب في مصنف سماه منتهى السول والأمل، ثم عاد فاختصر المنتهى في كتاب عرف عند الأصوليين بمختصر ابن الحاجب، قال عنه صاحب كشف الظنون: هو مختصر غريب في صنعه، بديع في فنه؛ وظفر هذا المختصر بعناية العلماء حتى فاق في ذلك كتاب المحصول
وظفرت المكتبة العربية في مادة أصول التربية بمحصول ضخم، فقد عني في هذا العصر بعلم الكلام لتصحيح العقيدة الدينية والدفاع عنها، في وقت كان من أشد الأوقات اصطداما بالعقيدة المسيحية. وكثيرا ما كانت المناظرات تجري بين رجال من الصليبيين ورجال من المسلمين، ويروي ابن شداد في كتابه النوادر السلطانية (ص 80) بعض هذه المناظرات
ويضاف إلى هذا العامل ما كان بين الشيعة وأهل السنة من الخلاف في بعض العقائد، وما كان بين الأشاعرة والحنابلة من خلاف دفع كل فريق من هؤلاء إلى أن يدافع عن عقيدته
وكان الإنتاج في هذه المادة ممثلا لتلك الحركة وصدى لها، فرأينا كثيرا من العلماء قد تصدى للرد على النصارى والدفاع عن عقيدة الإسلام كالوزير القفطي، والقرافي الذي سمى كتابه: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، والديريني في كتابه: إرشاد الحيارى في(922/31)
روع من مارى
وفي عصر سيادة السلطان الشيعي رأينا طلائع به رزبك يؤلف كتاب الاعتماد، في الرد على أهل العناد، وعندما زالت دولة هذا المذهب رأينا العلماء يتصدون للرد عليه، فرأينا مثلا بهاء الدين الففطى يؤلف كتاب النصائح المفترضة في فضائح الرفضة، ولما ساد المذهب الأشعري تصدى العلماء لنصرته والدفاع عنه، فكتب ابن عساكر رسالة يرد فيها على من انتقص الأشعري، وأخذ الأشاعرة يردون على من خالفهم من المعطلة والحنابلة، وحاول بعض العلماء التوفيق بين المذهبين كما فعل ذلك عبد الغني النابلسي في كتابه التوفيق الجلي بين الأشعري والحنبلي
وضع علماء ذلك العصر كتبا تتناول مسائل علم الكلام من إلهيات ونبويات وسمعيات، وعرفت من هذه الكتب زهاء عشرين، منها ما وضعه ابن دقيق العيد، والعز بن عبد السلام.
وأكثروا من كتابة عقائدهم التي يدينون الله بها، ونستطيع أن نرى نموذجا لما كتب من هذه العقائد في عقيدة العز بن عبد السلام، وهي برمتها في كتاب طبقات الشافعية للسبكي (ج 5 ص 85)
وعالج بعض العلماء كثيرا من المسائل الجزئية التي كانت موضع جدل في ذلك العصر، مثل مسألة القضاء والقدر، وقد نالت رجال هذا العهد حظا موفورا، ومسألة الثواب والعقاب وهي ترتبط بالمسألة السالفة ارتباطا وثيقا، كما أثار الحنابلة موضوع صفات الله، ومعنى ثبوتها له، والقرآن وقدمه وحدوثه، فرأينا كتبا تتناول هذه المسائل بالبحث والتفصيل
ومن أشهر متكلمي هذا العهد شهاب الدين الطوسي، وسيف الدين الآمدي، وعلاء الدين الباجي
للكلام صلة
أحمد أحمد بدوي(922/32)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
أستاذ جامعي يتسول:
لم أكن أحب أن أعود الآن إلى الدكتور عبد الرحمن بدوي. . . لم أكن والله أحب أن أعود، ولكن ماذا أفعل وهو يجبرني على العودة إجبارا ويدفعني إليها دفعا دون أن يترك لي شيئا من الحرية أو شيئا من الاختيار؟! وما ذنبي إذا كأن الأستاذ الجليل والفيلسوف الكبير قد أعجب كل الإعجاب بقصة مالك الحزين، حتى لقد مثلها بالأمس على مسرح الفكر ثم عاد اليوم ليمثلها مرة أخرى على مسرح الحياة؟! هل تذكر دوره الخالد الذي قام بتمثيله خير قيام على صفحات كتابه (أر سطو عند العرب) و (الإشارات الإلهية)؟ ليس من شك في أنك تذكره، لأن أثار التصفيق الحاد لا تزال واضحة على كفيك. . . إن هذا الدور الخالد - أقصد دور مالك الحزين - قد مثل من جديد ببراعة ليس لها نظير، وصفق اليوم بقوة كما صفقت بالأمس، وإياك أن تستهجن حركات الممثل البارع فتملأ الجو بالصفير!!
هل قرأت جريدة (الأساس) في عددها الصادر يوم 19 فبراير؟ إذا لم تكن قرأتها فقد نبنا عنك في قرأتها لننقل إليك هذا النبأ المثير. . . قالت الجريدة في صفحتها الثالثة وتحت هذا العنوان: (اقتراح جديد لعله يفيد)، قالت في مجال حملتها على وزارة المعارف وتعريضها بشراء الكتب الإضافية: (تلقينا من الدكتور عبد الرحمن بدوي أستاذ الفلسفة بجامعة إبراهيم كلمة يعلق بها على المناقشات الدائرة حول ما يؤخذ على وزارة المعارف في شرائها كتب المطالعة الإضافية للمدارس وكتب المكتبات. وقد تضمنت كلمته اقتراحا جاء فيه:
(عندي اقتراح يرفع الأمر عن كليهما، وقديما قال حكيم: من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن، وهو أن نبعد الشبهة ومواطنها فتلغي وزارة المعارف نظام شراء الكتب غير المدرسية أيا كان نوعها. وعلى المؤلفين أن ينزلوا إلى السوق والجمهور، فهو الفيصل النهائي في تقدير أعمالهم، وليس لجنة ولا هيئة يعلم الكل بأي وحي تسير ووفق أي هوى تعمل. . . وفي هذا الاقتراح ما يشرف كرامة المؤلفين، ويصون قيمة الأعمال العلمية والأدبية، ويحررهم من عبودية الدولة، باستجدائها وتملق رضاها. والمفكر والأديب الحق هو الذي يحرص على هذه الحرية وتلك الكرامة، فينزل إلى جمهور القراء وجها(922/33)
لوجه. ولسنا نعرف في أمة متحضرة مثل هذا التسول العلمي والأدبي الذي يلجأ إليه المؤلفون لدى ديوان العطاء الحكومي. . . فهل يتفضل معالي وزير المعارف فيحسم الأمر بهذا الاقتراح، وهو أحرص الناس على كرامة العلم والأدب)
هذا هو نص الاقتراح الذي تفتقت عنه عبقرية العالم الجليل السيد بدوي. . . اقرأه بعناية، ثم تقبل مني أحر الرجاء بأن تقف طويلا أمام تلك الكلمات التي تحتها خط، لأن مالك الحزين طيب الله ثراه هو الذي ضغط على يدي لتضع هذا الخط اللعين تحت تلك الكلمات. . أن العالم الجليل هنا يتحدث عن الحرية، ويتحدث عن الكرامة، ويلقي على الأدباء (المتسولين) درسا لن ينسى الدقة وروعة ألفاظه ومعانيه! هل تصدق إنني حين قرأت تلك الكلمات منذ بضعة أيام، قفز إلى ذهني خاطر عجيب هو أن السيد بدوي إنسان يستحق الاحترام؟ لقد قلت لنفسي يومئذ أنني استغفر له فضائحه العلمية التي هزت سمعة الجامعة، وسأذكر له غير أنه إنسان ينظر إلى الكرامة على أنها شعار كل عالم وأديب وما أجدر المفكرين الأحرار الذين عناهم العالم الجليل بكلماته وما أجدرهم أن يعوا هذا الدرس القيم ليحفظوا ماء الوجوه وإقامة النفوس، حين يبتعدون عن مثل هذا (التسول) والأدبي الذي يلجأ إليه البعض لدى ديوان العطاء الحكيم!
هذا ما قلته لنفسي يوم أ، وقعت عيناي على اقتراح العالم الجليل، وعلمت أنني ظننت أنه كريم جدا على نفسه، لا يرتضي لا أن تهبط هذا الدرك (الوضيع) الذي يهبط إليه غيره من الأدباء المقبولين، حين يجبنون على لقاء الجمهور فلا يجدون أمامهم من طرق الاستجداء غير وزارة المعارف. . . ولكن العالم الجليل قد خيب ظني في مثاليته، لأن هذه المثالية كانت حبرا على ورق، شأنها في ذلك شأن المعاهدات السياسية في هذه الأيام!
لقد قال حضرته للناشرين في كتابه (أر سطو عند العرب) أنكم جهلاء، ثم راح يرسم لهم الطريق، ثم ما لبث أن صافح الجهل وعانقه وقبل خديه في (الإشارات الإلهية). . وقال حضرته للمؤلفين في كلمته التي نشرتها (الأساس) أنكم غير كرماء، ثم ألقى عليهم درسا في الكرامة، ثم ما لبث أن قادته قدماه إلى وزارة المعارف ليطمئن على كتبه الغالية. . أعني ليتسول على حد تعبيره البليغ
لقد قلت لك أن هذا الدور الخالد - دور مالك الحزين - قد مثل من جديد ببراعة ليس لها(922/34)
نظير. . . وصفق اليوم بقوة كما صفقت بالأمس، وإياك أن تستهجن حركات الممثل البارع فتملأ الجو بالصفير! أنه حظ سيئ ذلك الذي أوحى إلى العالم الجليل بأن يذهب إلى وزارة المعارف ليتسول على مرأى ومسمع من كاتب هذه السطور؛ حظ سيئ لأنه لم يكن يعلم أنني أعمل هناك، في تلك الإدارة المختصة بفحص الكتب والتأشير عليها بالرفض أو القبول. . وحظ سيئ للمرة الثالثة حيث حضر إلينا العالم الجليل في يوم الأحد 25 فبراير، وحديثه عن التسول والمتسولين لم يجف له مداد!
أنها خمسة أيام فقط بين حديثه عن الحرية، والكرامة، والتسول العلمي والأدبي، وبين مجيئه إلى وزارة المعارف، وسؤاله عن كتبه التي رفضت، وشكواه إلى المسئولين من أن مواهبه الفذة لم تكن محمل رعاية وتقدير!!
ويا لها من لحظة تلك التي لن ينساها صديقنا الدكتور محمد يوسف موسى وغيره من حضرات الزائرين، حين تطرق الحديث إلى مقالات (الرسالة) و (الثقافة) حول الفضيحة العلمية التي هزت سمعة الجامعة. . . لقد كأن النقاش دائرا حول العالم الجليل حين فتح باب الحجرة، ونفذ منه رأس مليء علما هو رأس الدكتور عبد الرحمن بدوي! إلى هنا وأقف قليلا لأنقل إليك مشهدا من المشاهد يندر أن ترى له مثيلا على شاشة السينما أو خشبة المسرح، وأعني به مشهد الدكتور بدوي حين وقعت عيناه على كاتب هذه السطور. . . لقد أذهلته المفاجأة حتى وقف في مكانه من الحجرة حائرا لا يريم: لا خطوة إلى الخلف، ولا خطوة إلى الأمام، ولا كلمة ينقذ بها نفسه من بسمات الشفاه ونظرات العيون! هل رأيت في حياتك فأرا صغيرا قد أطبقت عليه مصيدة لم تكن له في حساب؟ إذا كنت قد رأيته فحسبك هذا الإيجاز وأعفني من مشقة الإطناب. . ولا أطيل عليك فقد أشفق عليه أحد الزملاء ونهض ليصحبه إلى الحجرة المجاورة، وهناك أخبره العالم الجليل يسبب مجيئه، وهو أنه أراد أن يطمئن على كتبه الغالية! وما كأن أخبث الزميل الفاضل حين لحق به ليقول له: لقد فحصنا كل كتبك يا دكتور. . حتى (الإشارات الإلهية)!
واترك هذا كله على رسالة للأديب الفاضل محمود أحمد الشربيني بكلية الآداب جامعة فاروق، حيث يوجه ألي فيها الكلمات: (أريد أن أسألك يا سيدي. . . إذا كأن هذا هو فهم الدكتور عبد الرحمن بدوي للنصوص العربية التي هي جزء من لغته ولغة أجداده، فكيف(922/35)
يكون فهمه للنصوص الفرنسية مثلا وهي جزء من لغة أخرى لا يعقل أن يجيدها أجادته للغته؟! يخيل إلى أن الحقيقة قد بدأت تتضح لي، بعد أن كنت أتهم نفسي بالغباء كلما قرأت للدكتور بدوي كتابا مترجما عن لغة أجنبية! فمن المؤكد أنه لا يفهم النص الذي يترجمه حق الفهم، ولهذا تبدو أكثر ترجماته ملتوية وغامضة، ولو كانت واضحة في ذهنه لا نعكس هذا الوضوح في نقلها إلى العربية أليس كذلك يا سيدي؟ أنني في انتصار جوابك)!
هذه هي كلمات الأديب الفاضل، وردي عليها هو أن أقول له: أنك لم تعد الصاب في هذا الذي ذهبت أليه ولست أدري كيف كنت تتهم نفسك بالغباء وأنت تملك هذا القدر من الذكاء. أن ذكائك بخير يا صديقي، لأنك لو كنت غبيا لاستطعت أن تفهم كتب السيد بدوي المترجمة عن لغات أجنبية! حسبك أن معالي الدكتور طه حسين باشا قال له يوما أن كأن يناقشه في رسالة الماجستير: أن الشيء الذي يحيرني هو أن اللغة الفرنسية وهي لغة الوضوح والإبانة، تصير على يديك وهي لغة الغموض والتعقيد!! بعد هذا أود أن يرجع الأديب الفاضل إلى (تعقيبات) العدد (819) من الرسالة، ليقرأ هذه الكلمات التي كتبتها منذ عامين، وهي تثبت أن بعض النابغين من طلاب المدارس الثانوية، يفهمون اللغة الفرنسية خيرا مما يفهمها العالم الجليل: (تحدث الدكتور عبد الرحمن بدوي في عدد (شباط) من مجلة الأديب اللبنانية عن مسرحية الأيدي القذرة للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. . ولقد استوقفني ما جاء بمقاله من ترجمه خاطئة لبعض كلمات رأيت أن أصححها، حتى لا تبعد الشقة بين أصلها في الفرنسية وبين ما يقابلهافي اللغة العربية. ترجم الدكتور هذه الكلمات وهي عنوان مسرحية لسارتر (العاهر المهيبة)؛ وهنا يبدو شيء من الانحراف في الترجمة لا يستقيم المعنى سواء أكان منسوبا إلى عنوان المسرحية أم كأن منسوبا إلى التي بنية عليها. . أن المهابة كما يدل عليها موال محيطين ضوع المسرحية وكلمة لا تنسب إلى (العاهر) وإنما تنسب إلى بها من عشاق الجسد، أولئك الذين كانت ترحب بهم وتحتفي بمقدمهم؛ وأذن تكون الترجمة (العاهر الحفية). . . أما (العاهر المهيبة) فلا يقابلها بالفرنسية غير هذه الكلمات
وترجم الدكتور بدوي عنوان أخرى لسارتر ترجمه خاطئ وهي مسرحية حيث قابلها بكلمة (القرف)، مع أن ترجمتها الدقيقة هي الغثيان). . . والفارق بين الترجمتين بعيد!(922/36)
إلى أخر ما قلته في هذا المجال). . .
ومع هذا كله فلا يزال السيد عبد الرحمن بدوي أستاذا في الجامعة!!
شاعر في الميزان:
أدباء السودان الذين يتلقون العلم في القاهرة عاتبون على، ومرد العتاب الذي يمتزج بالدهشة حينا وبالعجب حينا آخر، إلى أنني لم اقرأ شيا من شعر شاعرهم الراحل: التيجاني يوسف بشير! هذا ما جهرت به في العدد (920) من الرسالة حين طلب إلى زميل لهم من (أم درمان) أن أتحدث عن شعر التيجاني إلى جمهرة القراء. . . لقد كأن عذري في هذا الذي جهرت به، هو أن ديوانه (إشراقة) لم يقع بين يدي في يوم من الأيام، قلت هذا على صفحات (الرسالة)، منهتا إلى أنني لن أتأخر عن النظر في شعر التيجاني إذا ما تفضل أحد القراءفبعث إلى بديوانه. . . ومنذ أيام أربعة تلقيت هذا الديوأن؛ تلقيته من الأديب الفاضل أحمد عيسى كنفحة من نفحات الوفاء. واليوم وبعد أن فرغت من ديوانه وأرسلت الذوق وراء أبياته، أستطيع أن أتناول قلمي لأكتب عن التيجاني يوسف بشير، الشاعر الذي كشفت لي عن جوهره الثمين رسالة من أم درمان! وفي عدد مقبل من (الرسالة) سيكون لي مع شعر التيجاني موعد ولقاء
كلمة عن صديق:
كتب الأديب الفاضل وحيد الدين بهاء الدين (كركوك - العراق)، يسألني عن الأديب العراقي الصديق الأستاذ غائب طعمة فرمان، شهيد الظلم في العراق وطريح الفراش في مصر. . . يا أخي، أنني أشكر لك سؤالك ووفاءك، وإذا كنت تطلب ألي بحق الصداقة أن أزوره لأخفف عنه وأطمئن عليه فأنني أقول لك: أن الصداقة في حساب الشعور شيء مقدس. . . ولك أن تثق من أني قد زرته وسأزوره حتى يشعر بأنه في وطنه وبين أهله! أن الصديق العراقي بخير، وأرجو أن يغادر المستشفى في الغد القريب ليستأنف جهاده في طلب العلم وخدمة الأدب. . . كتب الله له أن يستروح أنسام العافية ويقبس من ضياء الأمل
أنور المعداوي(922/37)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضير
حب الرافعي:
(وبعد فقد كدت أخرج برأي في حب (الرافعي) بعد أن فرغت من قراءة كتابه (رسائل الأحزان)، بيد أني تذكرت ما كتبته في (الرسالة) منذ عامين، فرجعت إليه أتلمس الحقيقة، وأنشد الفائدة. . . وفتحت عيني على جديد، إذ رأيت كل ما كتب عن هذا الموضوع لا يكاد يكون فيه ما يطمأن إليه الباحث، وبرضى التاريخ. . . والواقع أن صدق (الرافعي) في حبه، أو نقص (الصدق الفني) فيم كتبه في (تصوير العواطف، وفلسفة الحب والجمال) أمر له خطره وأثره في أدب الرجل، وعقول قرائه ولقد أثر الأستاذ (العريان) أن يكون (راوية) فحسب.
والحق أني حين رجعت إلى كتابه (حياة الرافعي) ممحصا له رأيت أنه يلقي أكبر ضوء على هذا الموضوع الذي شغل الأذهان وقتا ما، وهاأنذا أضع من الادله ما يثبت أن (الرافعي) كأن صادق الحب، وأن ما كتبه فيما يمت إلى ذلك بسبب أم يكن يعوزه (الصدق الفني) ولك بعد ذلك حرية الرأي أن توافقني فيما أذهب أليه، أو تطلع علينا برأي جديد. . . يقول الأستاذ (العريان) - وأن كان لم يذكر اسم (مي) -:
(. . . كان يحبها حبا عنيفا جارما لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا، لأنه ليس له مدى ولا غاية. لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحس وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه، وتصطرع عواطفه، ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره. . .)
ثم يقول بعد ذلك:
(. . . لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبا أضل نفسه وشرد فكره، وسلبه القرار، ولكنه حب عجيب ليس فيه حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مفاجأة طويلة كأنها تسبيح وعبادة، وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في(922/39)
غمراته خلقا بلا أرادة، فليس له من دنياه إلا هي، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه. . .)
ويقول أيضا:
(. . . وكأن يحبها ليجد في حبها ينبوع الشعر، فما وجد الحب وحده، بل وجد الحب والألم، وثورة النفس وقلق الحياة، ووجد في كل أولئك ينابيع من الشعر والحكمة تفيض بها نفسه وينفعل بها جنانه ويضيء بها فكره، وكأن آخر حبه الألم، وكانت آلامه أول قدحت من شرار الشعر والحكمة. . . وقالت له نفسه: (ها أنت قد بلغت من الحب ما كنت ترجو فلم تبق إلا الغاية الثانية، وأنك عنها لعف كريم. . .)
. . . مما تقدم نرى أن (الرافعي) كأن صادقا في حبه إلى حد بعيد، صادقا فيما كتب عن ذلك الحب، ولولا ضيق المقام لأوردت أكثر من ذلك مما يدعم وجهة نظري في هذا الموضوع، ولكن هذا حسبي، ولك بعد ذلك رأيك ولعل أحدا من تلاميذ (الرافعي) ينجم علينا بجديد يفيد.! وفي النهاية تقبل شكر وتقدير الخالص:
إسكندرية
صبري حسن الباقوري
يشير حسن الياقوري إلى ما كتبه في (الرسالة) منذ عامين عن (حب الرافعي) والذي فعلت إذ ذاك أن أتيت براين للصديق الأستاذ حسنين حسن مخلوف وكامل محمود حبيب في هذا الحب، يرى الأول أن الافعي أن يحدث في اللغة العربية لونا من الفن الممزوج بالفلسفة الاجتماعية التي سرها إيحاء المرأة على النحو المستفيض في الأدب الأوربي، فطلب الحب لذلك. ويرى الأستاذ كامل حبيب أن الرافعي كأن يشعر بجفاف قلبه لشدة تدينه فطلب ليندى به قلبه ويرقق أسلوبه، والرأيان - كما ترى - يرميان إلى أن الحب الرافعي كأن حبا مصنوعا أو مجتلبا بقصد منه إلى أحداث لون من الإنتاج الأدبي. وقد علقت على ذلك فكأن مما قلته (ولمن شاء بعد ذلك أن يقول أن ما كتب الرافعي في تصوير العواطف وفلسفة الحب والجمال ينقصه الصدق الفني)
والفقرات التي نقلها الأستاذ الباقوري من كتاب (حياة الرافعي) إنما هي عبارات مختارة(922/40)
في وصف الحب، وفيها ما يدل على أن الرافعي كأن يطلب الحب ويبحث عنه ليشعر بمعانيه ويكتب فيه. ولا أرى في ذلك ما يدل على صدق الحب، لأن العاطفة لاتطلب، وأنما تأتي ولو جانب الإنسان أسبابها وكتاب (رسائل الرافعي) الذي أصدره أخيرا الأستاذ محمود أبو ريه يلقي أضواء في هذا الموضوع، إذ نرى الرافعي في هذه الرسائل الخاصة يحدث أبا رية، لا عن (مي) وحدها، بل عن أخريات، فيقول في رسالة منها (وقد جاء الشيطان فعرض على (عينات) جديدة. . . كأنه أخزاه الله كتبي يعيش من بيع هذه الكتب فهو يريد الإكثار منها) يعني أن هذه (العينات) من الجميلات يستمد منها ما يؤلف في الحب. . . ويقول في الأخرى: (واليوم تجد لي قطعه في الضياء عن (سونيه) وهي لا بأس بها ولكن سونيه. . .) ويقول في الثالثة (ولكن صاحبة فلسفه الجمال قد انتهى تاريخها، وهل يبدأ تاريخ آخر لصاحبة فلسفه أخرى؟ ربما يا أبا ربه، أما الأولى فلم يعد لها أي شأن الآن وهي لا تساوي من الثانية شيئا! ولكن هل يبدأ للثانية تاريخ وفلسفه؟ أن أولها كن أمس فقط في مصر)
وهكذا نراه لا يقف عند واحدة ولا يتمسك بحب واحد، فصاحبة الفلسفة القديمة انتهى أمرها، وجدت صاحبة فلسفة أخرى، وهناك (العينات) الأخرى، ولا ننس سونية. . . ومن ذلك نفهم أن الرجل كأن يطلب المرأة هنا وهناك؛ ولم يقصر حبه أو طلبه على واحدة؛ ويقول أنه يقصد بذلك إلى تجديد في الأدب العربي كما يقول في إحدى تلك الرسائل عن كتابه أوراق الورد (وقد صح عندي بعد البحث أنه لا يوجد في اللغة العربية رسالة واحدة ذات قيمه في هذا الباب مناول تاريخها وإلى اليوم) ثم يقول (وثق يا أبا ريه أن هذا الكتاب الصغير هو أهم وأحسن ما كتب كما أني أم اتعب في شيء مثل تعبي فيه، وربما بيظت الرسالة الواحدة في أربع ساعات لأن الغرض الأول من الكتاب إعطاء العربية هذا الكنز الذي ليس فيها) وقد عبر في هذه الرسائل غير مرة عن شدة تعبه في كتاب أوراق الورد وقال في إحداها أن الكتابة فيه عسرة جيدا وذلك كله يشكك في صدق ذلك الحب لأنه كأن يطلبه والحب لا يطلب، وكأن يتنقل من اليد تعلق بواحدة إلى غيرها، وكأن هدفه أن يكتب في الحب، والكتابة إنما تأتى فيض الحب الذي يغزو صاحبه، ولو أن قيسا ذهب إلى بني عامر ليطلب امرأة تعينه على قول الشعر لكان لشعره شأن آخر. . . ولو أن(922/41)
الرافعي كأن صادق الحب لألهمه القول طيعا لا يجد فيه عسرا ولا يحتاج إلى ساعات يبيض فيها إرساله الواحدة، ولما أنشغل بقيمة الكتاب وما يكون له من مكانه في الأدب، وقد ذهب به هذا الانشغال إلى حد قوله في إحدى الرسائل (وقد كأن عندي بالأمس أحد الأدباء المطلعين على الآداب الإنجليزية فأقرأته بعض رسائل منها (يعني من أوراق الورد) فقال أن مثل هذا لا يوجد في الأدب الإنجليزي) وفي ضوء ذلك كله، وفي ضوء ما قرأته في أوراق الورد وغيره يمكن أن نسمي ما كتبه الرافعي في هذا الصدد فلسفة حب وجمال منبعها التأمل العقلي مصوغه في أسلوب محتفل له اشد الاحتفال ولكن من العسير أن تجد به نبض عاطفه طبعيه.
مسرحية (في خدمة الملكة)
أصل هذه المسرحيه رواية (الفرسان الثلاثة) للكاتب الفرنسي أسكندر ديماس الكبير، وقد أعدها الأستاذ إسماعيل أرسلان إلى فرقة المسرح المصري الحديث، وذلك باقتباس بعض حوادث الرواية وكتابتها في حوار مسرحي، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات وتجري حوادثها في عهد الملك لويس الثالث عشر، وتصور ما كان يجري في قصر هذا الملك من دسائس ومؤامرات، والصراع الرئيسي فيها بين الملكة (آن) وأعوانها وخاصة وصيفتها (مدام بوناسيية) والفارس الفتي (دار تانيان) وبين الكاردينال (ريشليو) رئيس وزراء فرنسا وأعوانها. وموضوع الصراع علاقة غرامية بين الملكة وبين (اللورد باكنجهام) من أشراف إنجلترا. تشعر الملكة بأن هذه العلاقة تمس شرفها ولا تتفق مع مركزها كملكة في عصمة ملك فرنسا، فتستدعي حبيبها اللورد سرا وتفضي اليه بذلك طالبة منه أن يرحل إلى بلاده ويقطع صلته بها، فيخضع للأمر ويطلب منها هدية يذكرها بها، فتهدي إليه حلية مرصعة باثنتي عشرة ماسة. ويعلم بذلك ريشيلو فيبث عيونه بالبحث عن اللورد، ولكن هذا يفلت منه إلى إنجلترا. ويعلم ريشيلو - بوساطة جاسوسة في إنجلترا - على سرقة ماستين من الحلية، ويشير على الملك أن يطلب إلى الملكة لبس الحلية في حفلة بالقصر. وتعلم الملكة بذلك فتعمل للخروج من هذا المأزق بمعاونة وصيفتها والفتى دارتانيان الذي يسافر إلى إنجلترا لإحضار الحلية من لدن اللورد باكنجهام ولما يكشف اللورد سرقة الماستين يأمر بصنع أخريين مثلهما، ويعود دارتانيان بالحلية كاملة، فتظهر بها الملكة في الحفلة، فيفسد(922/42)
تدبير الكاردينال، وتنتهي المسرحية بانتصار الملكة أن. ويبرز في خلال هذه الحوادث نفوذ ريشليو الذي يرجح نفوذ الملك لويس الثالث عشر الضعيف الشخصية، ويكاد الأول يطغي على الثاني لولا شجاعة فرسان الملك وخاصة دارتانيان
وينبغي أن أقول قبل كل شيء. أن نجاح هذه المسرحية يرجع إلى أمرين، الأول هو هذه الجذوات المتقدة جوانح هؤلاء الشباب - ممثلي الفرقة وممثلاتها - المتطلعين إلى مستقبل بجنون فيه ثمرات جهودهم الحاضرة، وهذه الجذوات هي أهم ما يميزهم عن الممثين القدماء الذين وصلوا أو يئسوا. . . وقد برز في تمثيل هذه المسرحية صلاح سرحان (دارتانيان) فقام بدور الفارس الصغير الذي يدفعه روح الفروسية إلى الإخلاص في خدمة الملكة وإنقاذها مما يحاك لها من شباك، وعبد الغني قمر في دور مدير سجن الباستيل، وقد أثبت عبد الغني - بهذا الدور وبغيره في مريض الوهم - براعة تمثيل الشخصيات الشاذة وإبراز ما يقصد بها من معان وظلال في جو الرواية، وزهة العلا (مدام بوناسيية) كانت موفقة في أداء ما يتطلبه دورها من حركات وتعبيرات، وكذلك أحسن كل من سعد قردش (ريشليو) ومحمد السبع (الملك لويس) ونور الدمرداش (اللورد بانجهام) وسميحة أيوب (الملكة آن) أحسن كل منهم في دوره، ويظهر أن سميحة كأنت متعبة عند لقاء دوره، يظهر أن
أن سميحة كأنت متعبة عند لقاء اللورد باكنجهام فلم تعط الحب المكبوت حقه في أن يطل خلال العزم على قطع الصلة بالحبيب أما ثاني الأمرين اللذين يرجع إليهما نجاح المسرحية، فهو أنها مقررة على طلبة الثقافة، وبهذا ضمنت، جمهورا كبيرا يغص به المسرح في كل يوم من أيام عرضها. ويظهر أن هذا هو الحافز الأمل على تقديم هذه المسرحية، وهو غرض لا بأس به من حيث اجتذاب الطلبه إلى المسرح وتوطيد صلتهم بالفرقة وبعد فأن المسرحية في ذاتها لا تخلق شيئا ذا بال، فليس فيها تحليل ولا التفاتات تذكر إنسانية تذكر، ولا حادثة تاريخية مهمة يقصد إلى تجليتها، وهذا أدنى ما يهدف إليه في الروايات التاريخية والصراعليس له تستحق كل تلك الجلبة، فكل ما في الأمر أن تنقذ الملكة من شبهة علاقاتها الغرامية الحقيقية. . أي أن ينتصر الرياء. . . ولهذا كان الختام يحتاج إلى أن يعلن عنه بمثل كلمة (خلاص!) وقد استطاع الأستاذ زكي طليمات مخرج(922/43)
المسرحية - على رغم ذلك - أن يبث فيها التشويق وشيئا من الحياة، وكانت المناظر ملائمة وموحيه، وخاصة منظر سجن الباستيل الذي عبر عنه بالستار التي جعلت جدارا للسجن ولابد أن الرغبة في الاقتصاد أو عدم القدرة وقلة الاستعداد، هي التي جعلت منظر (الحفلة) التي لبست فيها الملكة حليها كما ظهرت، فقد خيل إلى حين رفع الستار عن هذا المنظر أن الكاردينال يجمع أعوانه وجواسيسه ليضع لهم خطة العمل، ولم أفهم أن هناك حفلة إلا من حديث المتحدثين على المسرح إذ قال بعضهم أنهم في الحفلة. .
وقصارى القول - كما يقول المنشؤن - أني لم أستطع أن أغتبط بهذه المسرحية، وأن كنت أود للطلبه أن تعينهم مشاهدتها على أداء الامتحان.
عباس خضر(922/44)
البريد الأدبي
السارق العجيب!.
هو مع الأسف الشديد الأستاذ إبراهيم المصري الكاتب القصصي المعروف. فقد سطا على قصة أنطون تشيموف (الرهان) وأضافها إلى نفسه ونشرها بالعدد 852 من مجلة آخر ساعة تحت عنوان (الرهان العجيب)! وقدم لها بهذا الكلام الغريب:
(هذه الحادثة الواقعية الفذة في موضوعها تعتبر من أغرب وأدهش حوادث المغامرات المثالية والعاطفية - وقد قرأت تفصيلاتها في إحدى صحف باريس فرأيت فيها صورة رائعة مفعمة بروح القوة والبطولة والتضحية فصغتها للقراء في هذا القالب القصصي)!
والقارئ العادي يفطن إلى هذه المغالطة التي يريد بها الأستاذ المصري أن يغطي سرقته. فقصص تشيكوف من الذيوع والانتشار بحيث لا نكاد نجد في القراء من لم يقرأها ولا في الأدباء من لم يحاول أن يترجمها إلى لغة الضاد!. وهذا ما فعله الأستاذ الجليل محمد كامل البهنساوي بك في كتابه (أقاصيص مأثورة) إذ ترجم قصة (الرهان) بالذات ترجمة أمينة بارعة. . . وليس بمستبعد أن يكون الأستاذ المصري قد نقل عن (الأقاصيص المأثورة) قصة الرهان ثم أراد أن يطمس معالم السرقة فحشا القصة بحوادث مفتعلة وبواعث مصطنعة واستغل أبغض شيء إلى قلب تشيكوف في مسخ القصة وهو العنف. . فإن تشيكوف ليقول: (أنني أبغض العنف في كل صوره)!. استغل الأستاذ المصري العنف فجعله عنصرا جديدا لم يكن في القصة الأصلية فأحدث معركة بين بطل القصة المحامي الشاب وبين الممول. . . والغريب في الأمر أنه جعل بطل القصة يصمد لعراك عنيف مع أنه قضى في السجن الانفرادي سنة كاملة لا يدفع إليه فيه بغير الطعام والشراب. . ولست أدري كيف لم يسلمه هذا السجن القاسي إلى جنون!. وقد كان هذا يكون أسلم عاقبة من هذا الكلام الذي أنهى به الأستاذ المصري قصته!
والمتأمل لقصة الرهان لتشيكوف يرى فيها عمقا وجلالا لا يقوى عليهما، غير ذهن جبار كذهن تشيكوف فالمحامي الشاب في قصة (الرهان) عندما قبل الرهان كأن يطمع في أن يظفر بالمال. . ولكن تشيكوف الفيلسوف الذي يرى أن كل شيء في الدنيا وهم وقبض الريح كان لا بد أن يغلب السعادة العقلية على كل سعادة مادية زائلة فجعل المحامي الشاب(922/45)
يخرج طائعا مختارا قبل موعد الرهان بدقائق معدودات لأنه كان قد قرأ في سجنه طائفة من المعارف والعلوم خلقت منه فيلسوفا يزهد الحياة. . ولكن الأستاذ المصري شوه هذه الفكرة الرائعة ومسخها في قصة (الرهان العجيب) إذ أنهاها بشهوة منهومة إلى المال قضت على رجلين ودفعت بامرأة - زجها السارق في القصة زجا - إلى السجن!.
كمال رستم
حول أديب يتعاظم:
من يقرأ التعقيب الذي نشره بالعدد، 921، من الرسالة يظن أننا افترينا على شميم الحلي الكذب، وحقيقة الأمر أن كاتب التعقيب قد رجع إلى معجم الأدباء فقط، فظن أنه قد جمع كل ما يتصل بشميم، وراح يعطينا درسا في الأمانة والأخلاق!
وقد أبدى الكاتب عجبه لقصة (النائحات والنشيد الموضوع لهن) وظن أننا اختلقناها اختلاقا، ولو رجع الكاتب إلى (أنباء الرواة) لقرأها هناك. والغريب أنها مذكورة بهامش معجم الأدباء، ونسي الكاتب أن يقرأها كما قرأ غيرها من الأنباء!
ويلاحظ أن الناقد الفاضل لا ينكر قصة السجود، ولكنه ينسب الواقعة لشخص غير ياقوت مع (شميم)، ونحب أن نقول له أننا تقيدنا بما روى المؤرخون عن (شميم) فجمعنا أخباره من شتى الكتب، ووضعناها في قالب حوار قصصي على لسان ياقوت، وليس يعنينا ذلك في شيء ما دامت الحوادث مدونة لم تختلق؛ وأني أتحدى الكاتب أن يشير إلى حادثة لم توجد بالمراجع المدونة بالعدد (921) وفي هذا القدر كفاية
محمد رجب البيومي
الدخان في الشعر:
أخي الأستاذ فتحي بسيوني
لقد دعوت رجال الشعر وأرباب القريض ليتناولوا (شرب الدخان) في شعرهم، وليسهموا في وصفه، محبذين تعاطيه، أو صارفين عنه، وكان مثار الغرابة عندك أن الشعراء المعاصرين لم يقوموا بهذا الواجب، على حين أنهم ما برحوا ينظمون الشعر في الخمر، مادحين ومهاجين!(922/46)
وأحب أن أقول لك: أن لي في الدخان قصيدة نشرت في مجلة الهلال بعدد شهر سبتمبر سنة 1948م، وللأستاذ سلامة خاطر قصيدة في الدخان أيضا نشرت بمجلة الهلال أيضا في عدد أكتوبر سنة 1948م، وقد نشرت لي مجلة الإسلام كلمة نثرية سنة 1946م بعنوان (الحبيب البغيض) حول الدخان كذلك! ولقد كنت أدمن الدخان، ولكنن تركته منذ ثلاثة سنوات وألفت فيه كتابا عنوانه (في الهواء) ما زال مخطوطا لتعنت الناشرين، وندرت الورق، وأزمة القراء، وشدة الغلاء، مع أنه كتاب فريد في هذا الباب، أوردت فيه تجاربي مع الدخان، وأراء الأطباء والأدباء، وعلماء النفس، والطرق الناجمة للإقلاع عنه. وعندما تسمح الضروف، وتسنح الفرصة، فيطبع الكتاب، ستكون يا أخي أول من يهدى أليه، لترى فيه ما بذلت، وما كتبت عن هذه العادة التي تفشت بين الرجال والنساء، والكبار والصغار على السواء!
محمود محمد بكر هلال
المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية
الدخان في الشعر أيضا
تحت هذا العنوان قرأت كلمة الأستاذ فتحي بسيوني دعبس عرض فيها لتقصير شعرائنا في شأن (شرب الدخان) ومن الأنصاف أن أذكر أنني سمعت قصيدة رائعة للأستاذ علي الجندي بعنوان (الحسان المدخنات) ألقاها من محطة الإذاعة منذ عهد قريب صور فيها غضبة الجمال المضربة على الدخان مازجا فيها الغزل الرقيق بالوعظ المؤثر
وأستطيع أن أصرح بأن لقريبة حسناء أقلعت عن الدخان بعد سماعها هذه القصيدة
ولعل كثيرا من شعرائنا قالوا في هذا الموضوع ولكن لم يبلغنا
محمد عوض
(1) تعليق على مقال (أسق العطاس)
قرأت مقالا بهذا العنوان للأستاذ حسني كنعان وقد استوقفني فيه قوله: (لم يسبق محاولة مسرحية في سوريه قبل القباني، والواقع أن المرحوم مارون النقاش هو أول من حاول تلك(922/47)
المحاولة، ومارون النقاش شاب سوري ولد في صيداء وتعلم في بيروت فنشأ ميالا للفنون الجميلة، فأتقن فنون اللغة العربية ونظم الشعر ولما يبلغ الثامنة عشرة فضلا عن إتقان اللغات الفرنسية والإيطالية والتركية؛ وكان مولعاً بالموسيقى مشغوفاً بالسفر إلى مصر سنة 1846 في أواخر أيام محمد علي باشا الكبير ثم قصد إلى إيطاليا وهناك تعلم فن التمثيل ونقله إلى بيروت حيث ألف فرقة من أصدقائه وألف أول رواية تمثيلية باللغة العربية أسماها (البخيل) ومثلها مع فرقته في بيته عام 1267 بحضور وجهاء البلد وقناصل الدول الأجنبية. ثم أردفها برواية (أبي الحسن المغفل) ثم بعد ذلك أنشأ مسرحاً خارج منزله بفرمان سلطان حوالي سنة 1850 وقد تحول بعد وفاته سنة 1855 إلى كنيسة حسب وصيته!
من هنا يتضح أن القباني قد سبق بتلك المحاولة المسرحية وأن سوريا - على الأقل - كانت تعرف فن التمثيل قبل ذلك التاريخ!
(2) حول مقال (ثورة في الجحيم):
قرأت فيما قرأت في (العدد 919) من الرسالة الغراء مقالا طيبا للأستاذ حمدي الحسيني بعنوان (ثورة في الجحيم) تكلم فيها بإيجاز عن الشاعر جميل صدقي الزهاوي وذكر فيما ذكر دواوينه الشعرية وحددها بخمسة دواوين آخرها ديوان الأوشال، والواقع أنها ستة دواوين آخرها ديوان الثمالة وقد طبع بعد وفاته في مطبعة التفيض ببغداد عام 1939 بمساعدة أرملة الشاعر. ومما ذكره أن معظم قصائد هذا الديوان كان نشرها صاحبها في مجلة الرسالة الغراء. ولذلك اقتضى التنبيه.
كلية الحقوق - بغداد
عبد الحميد الرشودي(922/48)
القصص
الحب ألم
لرينيه مبزروا
بقلم الأستاذ كمال رستم
(هذه قصة في يوميات لرينيه ميزروا ألخصها لك. . وأجمل من أن تقرأ القصة كما كتبها كاتبها فإن التلخيص يفقدها الكثير من مزاياها التي تفردت بها. . ولكن هذا لا يمنع من أن أنقل إليك - بقدر الإمكان - المتعة التي وجدتها وأنا أطالعها. . وأن أجعلك تأسى كما أسيت على العاشق (روبير دي بلينفي)!)
(روبير دي بلينفي) فتى من سراة باريس قدم (نابلي) على ظهر اليخت (البجعة البيضاء). . وقد صادف مقدمه احتفال المدينة بذكرى استجابة القديسة (سانتا مارياديل كارمن) ضراعات القوم بأن يقي المدينة شر الأمطار!.
شهد الفتى الاحتفال. . وكانت تصحبه (مس تمبلي) و (البرنسيس داسبرامونت). . وإذ يخلو الفتى إلى هذه الأخيرة يسألها قائلا:
- هل تأذن لي سيدتي بأن اسأل عمن عساها تكون هذه الفتاة اللطيفة التي كانت تتأمل بسخرية ألبوم (البجعة البيضاء)؟
وتهز البرنسيس داسبرامونت رأسها بسخرية قائلة:
- إنك يا عزيزي بلينفي سابع شخص ألقي علي هذا السؤال. . وليس يدهشني هذا ما دامت ابنة خالتي (فوستين) فتاة سابية الحسن. . آسرة الجمال!.
- فوستين. لكم يجلب اسمها السعادة!.
ومع هذا فأن السعادة لم تقع للطفلة البائسة على صفة. . فقد انتهت حياة والدها (المركيز دي تيفيرون) ذات ليلة بالقتل على طريق (بوزول) وما لبثت زوجه أن لحقت به جزعا عليه وأسى!؟
- ومن الذي كفلها بعد وفاة والديها؟.
- كفلتها خالتها (دوقة دي ستابيا) التي تدين لها فوستين بابتسامتها الجميلة التي أسرتك!(922/49)
وتقترب منهما فتاتان فيزداد وجيب قلب بلينفي إذ تقدمه البرنسيس داسبرامونت إلى إحداهما قائلة:
- فوستين! هذا هو السيد روبير دي بلينفي. . وهو يود أن يتحدث إليك. . .
: وتظطرب فوستين. . . ويتضرج وجهها فيقل بلينفي:
- هل جئتك متأخرا يا آنستي؟
- على النقيض يا سيدي. . فقد كنا جراس: وأنا منشغلتين بتحليل كتابتك على الألبوم!
قالت مس تمبلي:
- صحيح. . وقد جاء التحليل في صالحك!
قالت فوستين:
- وما كادت صديقتي تطالعني بأنك موسيقي موهوب. . وأنك لا تبارى في الرقص حتى نازعتني النفس إلى التعرف بك!
- مس تمبلي هي اللطف بعينه. وإني لأشكرها على صنيعها هذا الجميل!
- على أنني موقنة بأنها لم تبالغ في وصف مواهبك. . أما عن نفسي فإني أخشى أن أبدو مبتدئة في الرقص!
- أيضايقك أن تعطيني هذا الدرس الصغير!
. . ويدلفان إلى صالون (البجعة البيضاء) ويلبيان نداء الفالس ويهمس بلينفي قائلا:
- أتذكرين يا آنستي مثلنا السائر. . . (كما يأتي الحب يمضي؟)
- شد ما أنت متشائم يا صديقي!
وتسمي أصابعها لتضغط على أصابعه وتهمس:
. . ولكن الفتى يقف فجأة عن الرقص. . . إذ يشعر كما لو كانت شوكة حادة استقرت في عقبه الأيسر. . . ويفيض الدم من وجهه. . . ويستغرق الألم كيانه كله. . . ويشله تماما عن الحركة وتصيح فوستين وقد أخذتها اللهفة على الفتى:
- رباه. . ماذا دهاك؟
- ليس سوى خور. . خطوة خاطئة!
أستند إلى ذراعي ودعنا نخرج من هنا. . فإن الهواء خليق بأن ينعشك. .(922/50)
وإذ يعود الفتى إلى حالته الطبيعية يقول لنفسه:
- كم كان سخيفا أن أموت. . وأن أخلف ورائي هذا الهناء كله!
وتقبل (مس تمبلي) و (البرنسيس داسبرامونت) يصحبهما طبيب هو الأستاذ (مورياك)
. . وتطري عيادة الدكتور (دينيز مورياك) الأستاذ بكلية الطب للفتى. ولكن الأمريبدو له غامضا كالسر. . وهو عاجز تماما عن تشخيص مرض بلينفي أو تفسير الأزمة التي انتابته!. ويتحدث طويلا إلى الفتى عن تلك الآلة المعقدة المسماة (بالجسد الإنساني) إلى أن يقول:
- أمن الممكن أن يحدث اضطراب عصي مروعنتيجة حركة فصلت برهة شريان القدم. . أو الشظى القصير الجانبي بينما كنت تراقص الآنسة دي تيفيرون؟. . لقد استطلعت آراء بعض الزملاء. فكان إجماعنا على أنه ينبغي لك أن تأخذ حذرك من الآن!
- أن تتنبه إلى هذا الإنذار! اكرر انه ليس طبيعيا أن يتعرض شاب شديد الأسر مثلك بريء من العيوب الجسدية لمدة خمس دقائق لموت محقق؛ وأن يشعر برعدة الموت المروعة تسري في عروقه!. ثم فجأة يتوقف هذا العذاب. . كما لو كان دعابة سخيفة
وإذ يخلو الفتى إلى نفسه يقفز إلى رأسه هذا السؤال: أصحيح إنني في خطر. وإن هذا الطبيب الكريه إنما قرر الحقيقة!. . .
. . يخت (البجعة البيضاء) يتحرك مبعدا عن الميناء. . ويريد بلينفي أن يستطيع رأى (فوستين) عما إذا كانت تبادله الحب وترغب في بقائه إلى جوارها حتى يكللا هذا الحب بالزواج فيمضي إليها ويطرح السؤال التالي:
- فوستين! أيبغي أن أرحل أم أبقى؟
وتجيبه في صوتها الحبيب بكلمة واحدة:
- إبق!
وتسلم شفتيه جبينها الوضىء. وعينيها النجلاوين. . وتستطرد هامسة:
- إنني أحبك أكثر مما تحبني. وسأغدو زوجتك. . وغلا فأنني لن أمنح نفسي بعدك لغير الله
ويتم قرانها(922/51)
وها هو ذا بلينفي في منزل الزوجية يعزف إحدى سمفونيات بيتهوفن، وفوستين زوجه في حال من خدر الحس وسكرة النفس - جالسة على حافة النافذة تصغي إلى النغم الحالم الصادر من البيان. . ويهتف بلينفي من أعماق نفسه قائلا:
- أتحبينني يا فوستين؟.
- نعم. . أحبك. . أحبك وما عيشي إلا لحبك. . إنني سعيدة إلى حد يخيل إلى أنني أحلم!
. . وفجأة يتوقف بلينفي عن العزف إذ تعود نوبة المرض وتهتف فوستين قائلة: -
- أرجوك. . . لا تكف عن الإيقاع. . . ما أعذب موسيقى بيتهوفن في سكينة الليل!
تتكرر نوبات المرض. . ويغدو قعيد عربة تجرها ممرضة بين دموع فوستين التي يشير عليها الأطباء بان ترد عنها أحزانها إشفاقا على صحتها، وأن تنطلق إلى الحياة وتعب من معينها الصافي لا من الكدر الذي يصوح جمالها ويذوي جسدها!
وينقضي شهران يجتر فيهما بلينفي الألم، ويبكي سعادته الغاربة إذ يتأمل حاله؛ ولكنه يذكر رجلا مقعدا يدعى (كونت دوجنربلاك) يبدو، أبدا ضاحك السن. مرح الفؤاد. . ولكنه سرعان ما يلمس الفارق بينه وبينه؛ أن الكونت رجل أعزب. . أما هو فقد دلف إلى حياة الحب وربط إلى عجلته. . فوستين!.
ويقع بلينفي فريسة الحلم يثبته هكذا في يومياته:
(وقع لي هذه الليلة كابوس مخيف كان مسرحه حديقتنا في (بوزيليب). . ورحت في الحلم أنتحب كطفل. لم تكن الأشجار إلا هياكل عظيمة شائهة تحكي فروعها الجرداء المشانق!
وكانت ثمة وردة وحيدة - لست أدري بأية معجزة تفادت الكارثة - كانت تخفق بلطف متلألئة. . نصف متفتحة كأنها شفتان تتأهبان لتلقي حلاوة القبلة الأولى!
. . وكان لها شذا فوستين!
وراح ضوءها ينتشر تدريجيا على بقعة الخراب. . مهددة من أثر هذا الحزن؛ وكلما شرعت أستروح عطرها السحري. . وهممت بأن أقتطفها واحملها بعيدا عن هذا اليباب. . شعرت بالوردة المعبودة تمد جذورها تشبثا بالأرض. إذ ذاك دلف إلى الحديقة فتى غض الإهاب، رشيق القوام، متين البنيان حلو السمات. . واجتاز الممشى وعيناه عالقتان بالزهرة، ويداه ممدودتان كما لو كانتا تسعيان إلى يدي حبيبة!. . وتفتحت الزهرة عن(922/52)
كمامها، وتلألأت، وخفقت على ساقها الواهن. . وقد نفثت عطرا نفاذا أصابني منه دوار!
وأردت أن أقبض على الدخيل وأن أسد عليه الطريقوأرده عن أن يدنس متاعي وأن يسرق ملكي. . كنزي!
. . وبذلت مجهودا فوق طاقة البشر لأزيح عن ساقي هذه الصخرة التي أثقلتهما. . وطلبت الغوث، وضرعت إلى الله وتوعدت. . وسببت. . ولكنه وقد أصم أذنيه عن ضراعاتي. . مستخفا بإهانتي، وإذ بلغ الوردة جثا أمامها وهمس بصوت خفيض: فوستين! إذ ذاك رأيت الوردة العجيبة، الوردة الوحيدة تميل على راحة الفتى وتهوى متناثرة الأوراق بين أنامله! وسرعان ما ضرب فوقي ومن حولي نطاق غامض من الظلمات وثارت في وجهي عاصفة من الرمال، وأعقب ذلك سكون الأبد. . والعدم.
وهذه نازلة أخرى تنزل ببلينفي: أن السيد فيليب سترادون الذي عهد إليه بكل ثروته. . بدد الثروة وأصبح بلينفي وكل ما يملكه بعض أراض في (بيريجور) وفندق في (نوبلي). . ويلج الألم بالفتى إذ يذكر إنه عاجز عن العمل والكفاح. . فلو إنه سليم معافى لشق طريقه في الحياة، ولمضى إلى الأرجنتين أو إلى كندا. . . وحسبه فوستين سندا ومعينا. . . فوستين. . . كيف يمكن أن تألف حياة الفقر والفاقة؟
ويعود الدكتور (دينيز موريان) فيسأله أن يحدثه بصراحة عن مرضه فيقول له:
- إنك مصاب بمرض من أخطر الأمراض. . . مرض لم يأت ذكره في كتاب. . . ولم يعرف بعد في مستشفى. . . لا في أوربا ولا في آسيا. . . ومن شأن هذا المرض أن يحيل الأنسجة العضلية إلى عظام، وهو يفضي حتما إلى الموت
- الموت؟ بعد أجل قصير أو طويل؟
- إني أجهل ذلك
ولكن الدكتور دينيز مورياك الذي تطمح نفسه إلى اكتشاف سر هذا المرض الجديد لا ينصرف من قبل أن يظفر منه باتفاق يضع فيه بلينفي جسده تحت تصرفه في مقابل أن ينقده الدكتور دينيز مبلغ 50 , 000 فرنك سنويا إلى حين وفاته!
ويتأمل بلينفي فوستين فيبهره تغيرها المفاجئ. . . ويثبت في مذكراته حديث نفسه فيقول:
- كم تبدو فوستين سعيدة! وكم تتحامى لقائي وتهمل شأني. . . إنني لا أقوى على أن(922/53)
أصعد النظر إلى عينيها! لقد دفعتها إلى السرور والى الحياة. . . مستعينا في ذلك بإرادتي وقوتي ورقتي!
وحملتها العاصفة
فإلى سهر مضى كان عهدي بها تقص علي ما عماته وما علمته، أما الآن فقد غدت كلماتها عابرة مفتعلة حتى لتثلج القلب. إنها أصبحت تنهي حديثا على وجه السرعة. . . ولا تقول لي إلا ما تريد أن تقوله حسب!
إن فكرها شارد في مكان آخر
ويشتد به اليأس فيقول:
(إني لأتصور الآن وهم يعتبرونها أرملة. . . وانهم لم يعودوا بعد يحدثونها عني. . . كأنني عدمت النفس. . . وفارقت الحياة. من الذي تحبه؟ من سلبني قلبها؟ وأي شؤم طالعني به وجه هذا الحلم؟ أو ما كان ينبغي أن تكون أفضل من سواها، وأن تضع في اعتبارها أنني أحبها إلى حد الهوس والجنون. . . وإنني عاجز عن حماية نفسي بينما أن غريمي في حبها سالم من مثل النكبة التي حلت بي. . . وأن تكون فوستين من رقة القلب وشفافية الشعور بحيث تدعني أموت في سلام)
. . ولكن حياة بلينفي لم تعرف السلام فكذلك ينبغي أن يكون مماته.
إنه يأمر الخادم بان يذهب به إلى غرفة زوجه. . وثمة يجد رسالة لم تفرغ بعد فوستين من كتابتها إلى عشيقها
وتتراقص أمام عينيه هذه الكلمات:
. . إنك لتسبب لي يا عزيزي ألما لا ينفض عندما نتسخط هكذا ظلما على القدر، أو لم تظفر بكامل حبي؟. ما قيمة بضعة أشهر من الانتظار بالقياس إلى حبيبين قطعا على نفسيهما العهد بان يكون أحدهما للآخر. . ولا تزال أمامهما سنوات. . وسنوات. . من السعادة،.
أم تراك تعد توددك إلى - هذا التودد الذي أسرني - وقتا مضيعا؟.
. . ويتحامل بلينفي التعس على نفسه ويخط هذه الكلمات في أسفل الرسالة:
(وداعا يا فوستين. . وإني لأصفح عنك. . مادامت أوفر سعادة معه.)(922/54)
إن يمينه كانت لا تزال قوية على استعمال النصل الذي أهدته إليه فوستين. . وهكذا سقط على الأرض مضرجا بدمائه، متأثرا بغدر المرأة التي طالما زعمت له إنها (إنما تعيش من أجله وإنها (لن تمنح نفسها بعده لأحد غير الله!)
كمال رستم(922/55)
العدد 923 - بتاريخ: 12 - 03 - 1951(/)
عبد العزيز فهمي باشا
حم قضاء الله ومضى الرجل العظيم مستقبلاً وجه الخلود! والرجولة والعظمة صفتان تجمعان ما أوتي عبد العزيز فهمي باشا من مناقب مصدرها خلقه، ومواهب مظهرها عمله. كان رجلاً بالمعنى الرفيع الذي يفهمه المهذب من لفظ الرجل، وكان عظيماً بالمعنى الجميع الذي يدركه المثقف من كلمة العظيم. ولو ذهبت تحلل حياة أول القضاة في سجل القضاء، وثاني الزعماء في سجل السياسة إلى عواملها الأولية، لوجدتها في الخلال الصدق والصراحة والإباء والشجاعة وهذه هي الرجولة، وفي الأعمال العمق والشمول والإتقان والتفرد وهذه هي العظمة. وفقد رجل كهذا الرجل حياته تأريخ، وعمله رسالة، وخلقه قدوة، وكفايته ثروة، خسارة إنسانية لا خسارة قومية، ومصاب آمة لا مصاب أسرة، وفجيعة منفعة لا فجيعة عاطفة. فإذا جزع الشعب لموته هذا الجزع فإنما يجزع لركن هوى لا لغصن ذوى، ولهاد مضى لا لصديق قضى. والجزع على العظماء لا يكون بالعبرات التي تطفىء، وإنما يكون بالحسرات التي تحرق، والخطب الذي يبكي العيون، أهون من الخطب الذي يدمي القلوب. ومن يقف أمام الحصن الذي ينسف، أو الكنز الذي يخسف، يجد في نفسه الروع الذي يذهل، لا الحزن الذي يعول.
كان عبد العزيز فهمي جزءاً ضخماً من ثروة مصر العلمية. وهذه الثروة لا تزال من حيث الكيف ضئيلة. فإن العباقرة الذين هيأتهم إلى العلم الصحيح طبائعهم الحرة وملكاتهم الأصيلة لا يزالون بيننا آحاداً. وقل من هؤلاء الآحاد من جمع إلى العلم سمو العالم ونزاهة المصلح كما جمعهما الفقيد. واجتماع هذه المزايا فيه لا يعلله معلل من نشأته وبيئته ودراسته. فإن هذه العوامل نفسها أو شبهها أثرت في غيره من أهل جيله، ولكن مصر لم تظفر من بينهم بمثيله. هناك أمر قد يكون مفتاح السر وطريق المجهول: ذلك أنه تلقى دراسته الأولى في الأزهر كما تلقاها فيه محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي. وهؤلاء جميعاً قد تشابهوا في قوة الشخصية ونفوذ العقلية، فدرسوا الفقه بعمق، وعالجوا البيان بحدق، وزاولوا المحاماة ببراعة، وتولوا القضاء بجدارة، ومارسوا السياسة بخبرة. ولكنه أنفرد من دونهم جميعاً بخصائص خلقية جعلت ذلك التشابه تغايراً في بعض نواحي الرجولة. كان رحمه الله لا ينافق ولا يمالق، ولا يداهي ولا يداحي، ولا يدلس ولا يلبّس، ولا يقول إلى ما يصح في معتقده، ولا يعتقد إلا ما يصح في رأيه. وهذه الصفات قد تجعل(923/1)
المصلح عظيما، ولكنها لا تجعله زعيما. وأريد بالزعامة هنا زعامة العامة لا زعامة الخاصة، فقد كان الفقيد زعيما في المحاماة، وزعيما في التشريع، وزعيما في الشورى؛ وفي كل هذه الأمور كان هو وسعد يتعاوران الأولية، فلما دخلا معا ميدان السياسة، دخلها هو بعقل القاضي ولسان المحامي. والقاضي أداته قانونه ونزاهته، والمحامي آلته دليله وبلاغته. وإذا تجهزت للزعامة السياسية في أمم الشرق بالقانون والضمير والنطق والصراحة والصدق، هاجمك خصمك بالأباطيل الغاشية فيظهر عليك، ووقف منك جمهورك على الحقائق العارية فينفر منك. لذلك كان حظ عبد العزيز من القضية المصرية على فصاحته في الخطابة وبلاغته في الكتابة، حظ القائد الحكيم الذي توضع الخطط على رسمه، لا حظ القائد الزعيم الذي نتوج (الأوامر) باسمه. وظل طول عمره السياسي راضيا بهذا الحظ حتى عجز آخر الأمر عن التوفيق بين هواه والعامة، وبين خلقه والسياسة، وبين ضميره والحكم، فارتد إلى القضاء وقد آتاه الله فيه الحكمة وفصل الخطاب، فوضع المبادئ، وقرر الأحكام، وأضاف إلى الفقه المصري مادة ضخمة من علمه وحكمه زادت في ثروته ورفعت من قيمته.
ثم اختير بعد اعتزاله القضاء عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، فأخلى ذرعه للنظر في علوم اللغة والأدب بعين الفقيه المجتهد والأديب الناقد، حتى بلغ منها مبلغ الأعلام الذين وقفوا على تحصيلها العمر والجهد. وتقدم إلى المجمع بمشروع اقتباس الحروف اللاتينية للكتابة العربية، مقرونا بالأسباب، معززا بالمزايا، مؤيدا بالأسانيد ثم أعقبه بكتاب ألفه في الرد على معارضيه ومنتقديه، جمع إلى بلاغة الأسلوب قوة العرض ومتانة الحجة، فكان آية على سمو طبقته في الكتابة وبعد غيته في الأدب. فلما أقعدته العلة رضوان الله عليه كانت غرفة مرضه ملتقى أقطاب الفقه والأدب والسياسة، يستفيدون من علمه، ويستزيدون من أدبه، ويستضيئون بفكره؛ وهو في كل ما يعرض عليه أو يتعرض له طلق البديهة، محكم الرأي، جيد الأستنباط، حاضر الدليل.
كنت فيمن يزورونه الحين بعد الحين، فكان في كل زوره يكشف لي غير عامد عن سر من أسرار عبقريته. دفع إلي مرة بضع مقالات في نقد شرح وضعه أستاذان جليلان لكاتب البخلاء، وشرط علي أن أنشره غفلا من الإمضاء. فلما ظهر النقد في الرسالة كان حديث(923/2)
الأندية ومثار الظنون، لأن الناس عجبوا أن يستتر الناقد وهو على هذه الكلمة من ثقوب النظر، وقوة التوجيه، وصحة الأستدلال، وعفة اللفظ. وأفضى إلي مرة أخرى بأنه يقرض الشعر منذ الحداثة، إما مناقله بينه وبين نفسه؛ وإما مساجلة بينه وبين إخوانه. ثم أنشدني مطارحة من جيد النظم جرت بينه وبين الأستاذ المفتي الجزائري، وقصيدة دالية من المطولات وصف فيها فساد الطباع في الناس، وسقوط الأخلاق في المجتمع. فلما طلبت إليه أن يهديها إلى قراء الرسالة سوَّف هربا من سقوط الأضواء ثانية عليه وهو مضطجع على أعراف المجد يسترفه من مكارة الواجب وتكاليف النبوغ. وما زال الناس يرددون هذه الأرجوزة القصيرة التي نظمها وكتبها على قبر زوجته وقد نعم بالعيش معها سنة واحدة ثم توفاها الله بحمى النفاس فلم يتصل بامرأة بعدها حتى لقيها:
يا وردة عاشت حياة الورد ... عمراً قصيراً وثوت في اللحد
لولا بريء غافل في المهد ... يرضيك أن أحيا ليحيا بعدي
لعجًّلت بي زفرات الوجد
أما بعد فماذا ينشر الكاتب الموجز وماذا يطوي من حياة أقل مفاخرها موضوع كتاب، وجملة مآثرها تاريخ عصر؟
رحم الله المحامي المدرة، والقاضي المجتهد، والوزير النزيه، والدستوري الحر، والفقيه الحجة، والخطيب المفوه، والكاتب البليغ، والشاعر المجيد، والناقد البصير، والأديب المطلع، وألهمنا على فقده جميل الصبر، وعوضنا من بعده خير العوض!
أحمد حسن الزيات(923/3)
أم عمارة. . .
(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!)
محمد رسول الله
للأستاذ محمد محمود زيتون
طلع الصباح، فاتجهت الأنظار إلى جبل أحد، كأنما كانت الشمس هي الأخرى تشير إليه بأشعتها الحامية، وها هي أم عمارة تدلف في همة ونشاط، ومعها سقاء فيه ماء لسقي الجرحى، ولما أحتدم الضراب، أخذ الناس يولون، ولكن أم عمارة كانت ممن ثبتت مع النبي، ومعها زوجها وأختها وولداها حبيب وعبد الله، كلهم يتلقى النبال وهي تتهاوى كالبروق على رسول الله، فلا يخلص منها شيء.
هذه أم عمارة بقامتها المديدة، والعصائب في حقويها، وسقاء الماء بين قدميها، والقوس بين يديها، ومسلمة يصوب إليها سهماً يصيب يدها، فينزف الدم، ويتلفت النبي إلى عبد الله ابن زيد ويقول: أمك أمك!
ولكنها تمضي إلى الكنانة المنثورة أمامها فترمي سهماً بعد سهم غير عابئة بجرحها هذا، ويعينها أبنها عبد الله على قتل عدو الله مسلمة، وينسى عبد الله جرحه الذي لا يرقأ دمه، وبحسبه أن قد ظفره الله بعدوه، وعدو دينه، ورد كيده في نحره لم يخلص أذاه إلى نبي الله، ويظل عبد الله يتلقى السهام، فيراه النبي، والنزيف منه لا ينقطع فيقول له: اعصب جرحك يا عبد الله.
وبلغ الإعياء من عبد الله مبلغا عجيبا، فقد غلبه جرحه حتى برك كالجمل، وعمدت إليه أمه، ونزعت من حقويها عصابة، وضمدت جرحه، وأخذت بذراعه وهي تقول: انهض بني فضارب القوم.
وتتلفت يمنة يسرة، وعلى ملامح وجهها لهفة إلى ترس تتخذها هدفاً لنبال العدو دفاعاً عن رسول الله، والناس ينفضون منهزمين يولون الأدبار، وإذا برجل في الراجعين وترسه معه فيقول له النبي:
يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل.(923/4)
ويلقي الرجل ما معه، ويمضي وهو لا يلوى على شيء، فتنفرج أسارير أم عمارة إذ تتناول الترس تحمي بها وجه رسول الله، وتظل تارة تترس دونه وتارة تعصب الجرحى، وتارة أخرى ترمي عن القوس، نبلا بعد نبل، وهي مع ذلك كله تستفز زوجها وأختها وولديها للنهوض والقتال، وتفرغ الماء في أفواه جرحى المسلمين، ويعجب النبي لهذه القدرة العجيبة وذلك المضاء الفائق بينما سائر الجيش يلوذون بالفرار، فينظر إلى أم عمارة فيقول لها: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟
وفجأة يلمح النبي رجلا في القوم ضرب عبد الله، ثم افنتل كالأفعوان إلى وكره الخبيث فيشير إليه النبي ويقول لأم عمارة: هذا ضارب ابنك، فتعاجله أم عمارة بضربة في ساقه، فيبرك حيث هو كالخيمة انقض عليها صاعق من السماء السابعة، ويتلوى على نفسه وله جعير كأنه الجمل الذبيح، ويبتسم النبي ويقول: استقدت يا أم عمارة. وبعينها طلحة على عدوها فيعلوه بسيفه حتى يجهز عليه.
ولم تكد أم عمارة ترى الرجل قتيلا حتى رجعت إلى وراء كأنما تبدي أسفها لرسول الله أن سبقها طلحة إلى غريمها، فلم يجعل الله مصرعه على يديها، ولكن النبي الكريم يبادرها بقوله مشجعا:
الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك. فيستريح بالها، وتطمئن نفسها، وتهدأ ثورتها، ولكن النبي يلمح جرحا بعانقها وهي لا تشعر به فينظر إلى حبيب بن زيد: ويقول له: أمك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله أهل البيت.
وأسرع حبيب إلى نزع عصابة من عصائب أمه، فضمد جراحها، وحبس نزفها، وعلى فم أم عمارة بسمة كأنها البطل الظافر والضرغام الكاسر، لولا أنها حوراء قد هبطت من الجنة ترفل في هالة من القدس المنير، فتقول للنبي الكريم تبتغي رضوان ربها:
يا رسول الله، أدع الله أن نرافقك في الجنة.
فيرفع النبي يديه إلى السماء ويقول: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.
وما هي إلا دمعتان أصفى من ماء المزنه تنحدران في رفق وحنان على خديها، وتقول في رضى وأيمان: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك.(923/5)
وخفت الوطأة، وانقشع الغبار، فمضى علي وسعد برسول الله إلى المدينة، حيث أخذت فاطمة الزهراء تغسل الدم عن وجه أبيها، فما أن هدأ حتى نظر إلى من حوله، وقال كأنما يشاركهم الحديث عن أم عمارة وما أحسنت من بلاء غداة أحد:
ما التفت يمنياً ولا شمالاً يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دوني. وتناقل الناس أخبار أحد، وسار ذكر أم عمارة في الركبان، ولا ينفض سامر للرجال إلا عن أم عمارة، ولا ينعقد مجلس للنساء إلا بأم عمارة؛ دخلت عليها خباءها أم سعد بنت سعد بن الربيع الرجل الأنصاري الكريم الذي طابت نفسه لأخيه المهاجر عبد الرحمن بن عوف عن نصف ماله؛ وإحدى زوجتيه، ولم تكد أم سعد تلج الباب حتى تنسمت عطراً يفوح من أرجاء البيت، وإذا بالبهاه يأخذ عليها جوانب نفسها، ولم لا؛ وقد وقفت أم عمارة تصلي في المحراب، وتتلو القرآن في هدأة نفس، ورقة قلب، وعبرة عين، ومقاطع الآيات تكاد تشق صخور الجبال الرواسي. وألفت أم سعد نفسها وقد جمدت في مكانها، وألقت السمع والبصر والفؤاد جميعاً إلى أم عمارة وهي تتلو:
(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتن في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة؛ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا الله عنكم؛ والله ذو فضل على المؤمنين) الله أكبر وتركع وتسجد ثم تنهض إلى الثانية، فتستفتح بأم الكتاب ثم تتلو:
(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد؛ والرسول يدعوكم في أخراكم؛ فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم، والله خبير بما تعملون، ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنه نعاساً يغشي طائفة منكم. . .) الله أكبر.
ولما فرغت أم عمارة من صلاتها، تقدمت إليها أم سعد بالتحية المشرقة، فلقيتها بوجه يتهلل بالبشر والرضى، فبادرتها أم سعد تقول: يا خالة أخبريني خبرك. فقالت أم عمارة: خرجت أول النهار من يوم أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله، وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي.(923/6)
ورأت أم سعد على عاتق أم عمارة جرحاً أجوف له غور يلفت النظر فقالت: من أصابك بهذا يا خالة؟ ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
فقالت أم سعد: سمعتهم يقولون أن رسول الله دعا أن تكونوا رفقاءه في الجنة؛ فقالت أم عمارة وقد انداحت لإشراقه على محياها: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك!
وانقضت على النبي ثلاث سنوات بعد أحد؛ والأحداث شاهدة بانتصار الحق وانتشار الدعوة، واهتزت الجوانح شوقاً إلى بيت الله الحرام، وقد وقفت قريش تصد المؤمنين عن الحج؛ بينما يباح ذلك لأوباش الناس.
ونزل النبي تحت الشجرة بالوادي؛ وأخذ البيعة من المسلمين فكانت بيعة الرضوان، وفتح الله عليهم فتحاً مبيناً، وامتلأت القلوب إيماناً بدخول مكة. . وكان لا بد أن تشهد أم عمارة هذه البيعة لتظفر بأجر المجاهدة، وتحظى بشرف الرضى عند الله.
ولما لحق رسول الله بالرفيق الأعلى، وولى أمر المسلمين خليفته الأمين أبو الصديق، اندلعت ألسنة النفاق من جحور الفتنة، ونجمت قرون الردة من رؤوس المتنبئين، وما كان من خليفة محمد إلا أن يقاتل هؤلاء حتى يشهدوا ألا إله إلا الله فيعصموا بذلك دماءهم منه.
هنالك ابتلي المؤمنون، فكأنما بعث المعذبون في الله بعثا آخر، ولوا ما كان يلقاه خباب بن الأرت، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، وزنيرة، وظن الكافرون أن الناس لا بد منطلقون من عقال محمد وقد مات، وحسبوا أن الدين الذي جاءهم إنما هو غاشية أصابتهم، فهم من بعد موته مفيقون، وانقلبت في رؤوسهم موازين التفكير، فراحوا يستبدون عليهم مدركين مجداً لأنفسهم، إن لم يكن كمجد محمد، فلا اقل من أن يمحو كل أثر حتى تعود للأصنام والأوثان مكانتها، ولأساطين الجاهلية سلطانهم.
وكان مسيلمة الكذاب من هؤلاء الذين سول لهم الشيطان أعمالهم، فأضلهم وأفسد بالهم، ولم يعد يرى إلا مسلكا واحداً هو (الطغيان) تمتد سياطه إلى المستضعفين، فينالهم من التعذيب ما يدفعهم إلى الخروج عن دين محمد، ويقهرهم على الشهادة بأن مسيلمة رسول الله، وأنه(923/7)
السيد المطاع، وأنه الآمر الناهي، وأنه مالك الرقاب، وقابض الأرواح.
وأخذ مسيلمة حبيب بن زيد فيمن أخذ. وظل يفتله في الذروة والغارب ليفتنه عن دينه، فلم يظفر منه بما كان ينتظر، ولما لم تنفع وسائل الإغراء، عمد إلى الأغلال فصفده بها، والطعام والشراب فحرمه منهما، والحديد والنار فصبهما عليه، وجعل يقول:
- أتشهد أن محمد رسول الله؟
- نعم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم
- أتشهد أني رسول الله؟
- لا أسمع
ضاق مسيلمة ذرعا بهذا الفتى العنيد حبيب بن زيد، وأخذ يستعدي عليه زبانيته من الغلاظ الشداد، فلم تفلح لهم حيلة، وازداد الكذاب غيظا وحنقا، واستبدت به شهوة الجبروت، ونزوة الطغيان، ورأى بثاقب فكره أن قطع العقدة أيسر من حلها، وأن لا سبيل إلى الراحة إلا بإخماد هذا الضمير العربيد بين حناياه، ودارت الفكرة، ودار معها حتى طلع عليه الصباح، فاندفع كالثور الأسود، وفي عينيه شرار ولهيب، وعلى صفحة خده عروق توشك أن تجحظ بكل ما يعتمل به صدره ويغلي به مرجل حقده.
وتسلل من خلف حبيب، فاستمع إلى صوته المتهدج، وأنفاسه المترامية إلى أطراف الحياة لا تزال تردد في هبوط: الله أكبر. . . ولم يكتم مسيلمة نار الضغينة في نفسه، فاستل سكينا، وجعل يقطع فريسته عضوا عضوا، يقطع باليمين ويرمي بالشمال، والدماء تنبثق كالنوافير في عينيه، كأنها تدفق من قدر على النار، ومسيلمة كالجزار لا يبالي ما يصنع، والأشلاء في يسراه ترعش كأنما تصب عليه اللعنات، فلا يطيق صبرا عليها، فينحيها عنه بأقصى ما يستطيع من قوة، ولم يزل به حتى خفتت أنفاسه وهي تمتد إلى وادي الخلود.
واستراح مسيلمة منذ انقطعت كلمات حبيب بعد أن قال آخر ما قال: الله ربي. وما كان للطاغية أن يدع هذه الأشلاء، وتلك الدماء هكذا، فقد واتته فكرة طائرة اهتز لها اهتزازا عنيفا وهو في نشوة النصر المنحوس، تلك هي أن يشق صدر حبيب ويستخرج قلبه، ويرفعه بزق رمحه، ويحدجه بنظره في عين الشمس، ليعبث في هذا القلب الذي امتلكه محمد، ولينبش السر الذي كمن فيه الأيمان، وأخيرا لقول للشمس:(923/8)
أشهدي فقد أهلكت بيدي ما أراد محمد أن يهلك به سلطاني. وقالت له الشمس: لا أسمع، فدخل في روع مسيلمة انه صوت حبيب، فهاله أن رآه وقد مات بين يديه، وصوته ما يزال يتردد مع أشعة الشمس، فإذا بهذه الأشعة كأنها رشاش الدم ينصب في وجهه فما يطيق دفعه، ولا يستطيع أن يتفاداه.
ألقى مسيلمة السكين من يده، في هدوء جمع بين النصر والهزيمة، وكأنما صحا من حلم يداعب خياله في نأمة الليل البهيم، فما هو إلا أن غشيته كتائب الإيمان تسيل بها (اليمامة) وتنقض على مسيلمة كأنها موت الفجاءة، وإذا بأم كأنها بمفردها كتيبة خرساء، درعها سابغة، وخوذتها شاملة، وكنانتها في منكيها، وسهامها منتضاة، وحرابها مختصرة.
وشمرت الحرب عن ساقها، وشرعت أم عمارة وبين يديها ابنها عبد الله تتفحص مسيلمة في عصابته فإذا بالفاجر المعمر يحوطه عبيده من كل جانب، فأشارت إلى ابنها، فرماه رمية استقرت في نحره، فانتفض عنه كل من كان حوله، فقام آخر وأجهز عليه بسيفه، وخلفه ملحمة للجوارح والكواسر.
لو أن أم عمارة كانت تقاتل مسيلمة انتقاما منه لقتله ابنها حبيب لهان الأمر، ولكنها والله جاءت لتقاتل في سبيل الله ولتكون كلمة الله هي العليا.
لهذا فهي تضارب القوم، وهذا شاب مغامر قد انفتل من شرذمة الباطل، وامتدت يده بالسيف إلى أم عمارة، يريد أن يزيل هامتها فأخلفته فما هو إلا أن طارت يدها في الهواء، والجراح موزعة في أجزاء جسمها، والدم تنزف منها على غير هدى، وإذا ترى ابنها يمسح سيفه بثيابه، ونظراته تشير إلى مصرع عدو الله مسيلمة، فانشق الدم المدرار عن بسمة من ثغرها، وسجدت لله الذي جعل ذاك الخبيث على يد ابنها، حتى انطوت في لحظة واحدة مائة وخمسون سنة قضاها مسيلمة يحارب الله ورسوله ويفتن المستضعفين، ويعذب المؤمنين، ويصد عن السبيل، ويحسب أنه من المهتدين.
وانطفأت فتنة الكذاب، وأخذت الدعوة سبيلها إلى القلوب وامتدت إلى الأمصار، وأم عمارة سيدة المجاهدات المسلمات، لم تثنها ضربة يوم أحد عن خوض غمار حرب يوم اليمامة، ولم يصرفها قتل ابنها حبيب عن دفع ابنها الوحيد عبد الله إلى الميدان، وما كان الجرح الغائر في عاتقها الذي لقيته من ابن قمئة ليصدها عن محاربة مسيلمة.(923/9)
استرخصت أم عمارة الحياة الدنيا في سبيل الحياة الآخرة، وأرادت العزة فوهبتها عزيز الروح، وعاشت دهرا بعد أن تقطعت يدها يوم اليمامة، ورجعت وفي جسمها اثنا عشر جرحا ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، وكأنها اثنا عشر نجما تتلألأ في السماء، فتنير ظلام البدن بشرف الروح.
وجعل الناس يعودونها ومعهم مرضاهم لتستشفي لهم، ويتلمسوا منها البركة، فتمسح بيدها الشلاء على موضع العلة، وتدعو ببعض كلمات كانت تسمعها من رسول الله، فما من عاهة مسحت عليها بيدها إلا برئت بإذن الله.
وصار كل من يرى أم عمارة لا يستطيع أن يخفي إعجابه من قلبها هذا الحديدي، وقد امتلأ أمنا وإيمانا، ولا أن يخفي عجبه من هذه الجراحات الموزعة في ظاهر جسمها، وكلما سأل سائل عن ذلك، قالت:
(يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا بابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه فقلت له: أقتلته؟ قال: نعم. فسجدت لله شكرا)
وكان جديرا بأم عمارة أن تلقى التكريم من كل من جلس إليها، وتأمل آثار جهادها، ولكن ما كان أسعدها حين يردد الناس على سمعها قول النبي الكريم، وما أصدقه وأبلغه وأحكمه: ون يطيق ما تطيقين يا أم عمارة!
محمد محمود زيتون(923/10)
أدب الشتاء
للأستاذ محمد سيد كيلاني
حسبك أن تندس في اللحاف ... وخشية البرد على الأطراف
(ابن وكيع التنيسي)
- 2 -
يرغم الناس في فصل الشتاء على الدخول في حرب مع الطبيعة فمنهم الفقير الضعيف الذي لا يطيق هذه الحرب، فيشكو ويتألم، ويسخط ويتبرم، حتى يتمنى لو فتحت له أبواب جهنم ليدخل فيها هربا من شدة البرد وقسوته، قال أحد الشعراء:
أيا رب هذا البرد أصبح كالحا ... وأنت بصير عالم ما تعلم
لئن كنت يوما في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
لقد كاد الشاعر يتجمد من شدة البرد، وأنساه هذا الهول ما يمكن أن يلاقيه من عذاب النار. فتضرع إلى الله أن يعجل بإدخاله جهنم، فهي عنده مكان صالح لأن يعيش فيه بعيداً من بطش البرد الذي كاد يفتك به.
وهذا شاعر آخر يتمنى لو مات واستراح من عناء الشتاء وآلام البرد. قال:
فليت هذا الشتاء الصعب مذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد
برد لو أن الورى جاءت تبايعني ... على الخلافة لم أقدر أمد يدي
وفي هذا المبالغة ما فيه. فالشاعر مع شدة فقره وعظيم احتياجه إلى ما يدفع عنه غائلة الشتاء يقول لو أن الناس ذهبوا ليبايعوه بالخلافة لما استطاع من قسوة البرد أن يمد يده ويتقبل البيعة.
وهذا شاعر آخر يصف ليلة من ليالي الشتاء فيقول:
فنحن فيها ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن فيها ولم نفلج مفاليج
وحسبك هذا المنظر. قوم جمدوا في أماكنهم من شدة البرد فكأنهم قد أصيبوا بالخرس والشلل فلا يستطيعون كلا ما ولا حركة.
وهكذا تنافس الشعراء في اختراع الصور وابتكار المعاني التي تترجم عن مشاعرهم(923/11)
المختلفة، واحساساتهم المتباينة أمام هذا العدو الجبار وهو البرد.
وفي الشتاء كما ذكرنا يكثر أدب الشكوى والسخط والتبرم بالفقر. وذلك لأن متاعب الفقر تظهر في هذا الفصل، فيشعر المعدمون بوطأة الحياة عليهم، ويتألمون ويتضجرون ومثال ذلك قول أحدهم:
قيل ما أعددت لل ... برد وقد جاء بشدة
قلت دراعة عرى ... تحتها جبة زعدة
وهذا شاعر متصوف يقول:
جاء الشتاء وليس عندي درهم ... وبمثل هذا قد يصاب المسلم
لبس العلوج خزوزها وفراءها ... وكأنني بفناء مكة محرم
وأكثر ما يظهر حسد الفقراء للأغنياء في هذا الفصل الذي تعرف فيه قيمة الثراء حق المعرفة. وقد يمزجون الشكوى من الشتاء بالتهكم المر والسخرية اللاذعة والدعابة المؤلمة. ومثال ذلك قول أحدهم:
لي من الشمس حلة صفراء ... لا أبالي إذا أتاني الشتاء
ومن الزمهرير إن حدث الغي ... م ثيابي وطيلساني الهواء
بيتي الأرض والسماء به سو ... ر مدار وسقف بيتي السماء
فكأن الإصباح عندي لما في ... هـ حبيب رقيبة الإمساء
فانظر كيف صور الشاعر نفسه، وكيف فرج عن آلامه المكبوتة بهذه الدعابات وكيف وصف ما يعانيه من العرى في هذه الصورة الساخرة. فهو لا يحفل بالشتاء ولا يعبأ بالبرد. فإن طلعت الشمس اتخذ منها ثيابه، وإن احتجبت استعاض عنها بالغيم والهواء والفضاء سكنه. فكأنه يعيش على مذهب العراة الذي نسمع به في هذه الأيام.
وأنظر إلى أبي الحسين الجزار حين يقول:
لبست بيتي وقد زررت أبوابي ... علي حتى غسلت اليوم أثوابي
وقد أزال الشتاء ما كان من حمقي ... دعني فمستوقد الحمام أولى بي
ما كنت أعرف ما ضرب المقارع أو ... قاسيت وقع الندى من فوق أحبابي.
فالبيت الأول يكشف عن خفة الروح التي أشتهر بها هذا الشاعر. فهو لفقره وعدم توفر(923/12)
الملابس لديه اضطر إلى أن يتجرد من أثوابه ويحبس نفسه في منزله حتى تغسل ملابسه وتجف. وقد عانى من ويلات البرد ما جعله يخنع ويستكين ويفضل أن يلقي بنفسه في مستوقد الحمام لأن وطأة البرد عليه كانت أشبه بضرب المقارع.
وبجانب هذا الأدب الذي يعبر عن الشكوى والسخط، تجد أدبا آخر يصور حياة الأغنياء في هذا الفصل وما فيها من ترف ونعيم. فهو عندهم فصل محبب إلى النفس، إذ يقبلون فيه على الخمر والكباب والنساء، والسماع والرقص، قال أحدهم:
نعم الشتاء وحبذا ... زمن الهنا والراحة
طاب العناق به إذا ... دار الحبيب براحتي
وقال الخوارزمي:
أعد الورى للبرد جندا من الصلا ... ولاقيته من بينهم بجنود
ثلاث من النيران: نار مدامة ... ونار صبابات ونار وقود
فهذا هو شعور الأغنياء نحو الشتاء. فهو عندهم فرصة للتمتع بالمشروب والمأكول والملبوس والملموس. وكانوا يسمون لوازم الشتاء (كافات). وهي عندهم سبعة تضمنها قول الشاعر:
جاء الشتاء وعندي من جوانحه ... سبع إذا القطر عن أوطاننا حبسا
وكن وكيس وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكف ناعم وكسا
آلكن أي المنزل والكيس كناية عن النقود. وكف ناعم كناية عن المرأة، والسعيد هو الذي تتوفر لديه هذه النعم.
وكثيراً ما شكا الفقراء من حرمانهم من تلك الكافات قال أحدهم:
جاء الشتاء وما الكافات حاضرة ... وإنما حضرت منهن إبدال
قل وقر وقلب موجع وقلا ... وقادر هاجر والقيل والقال
وقال آخر:
لا الكاف عندي ولا الكانون متقد ... كنى ظلامي وكيسي قل ما فيه
دع الكباب وخل (الكف) وا أسفا ... على كسا أتغطى في دياجيه
فمن هنا نرى أن الشتاء يوحي بنوعين من الأدب يناقض أحدهما الآخر؛ فالأول أدب(923/13)
الفقراء الذي يصور ما يلاقيه الفقير من البؤس والضيق والجوع والعرى. وإحساس الفقير بالحاجة إلى الغذاء والكساء في فصل الشتاء أشد منه في أي فصل آخر.
وذلك لحاجة الجسم إلى طاقة معينة من الحرارة لا يحصل عليها إلا إذا توفرت لديه الملابس الصوفية والمواد الدهنية. وبغير ذلك يتعرض الناس للموت ولأمراض الشتاء المختلفة. لذلك كان هذا النوع من الأدب صادقاً إلى أبعد حدود الصدق. أما النوع الآخر فهو الذي يصور حياة الأغنياء وما فيها من لهو ومجون وعبث وخلاعة وتفاخر بالأموال والثمرات. فليالي الشتاء عندهم مواسم وأعياد.
وفي الشتاء تكثر البراغيث بين الطبقات الفقيرة. قال ابن وكيع التنيسي:
حتى إذا ما ملت للرقاد ... نمت على فرش من القتاد
إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل ما قلب وجلد تنضج
لا يستلذ جنبه المضاجعا ... كأنما أفرشته مباضعا
فانظر كيف صور الشاعر ليالي الفقراء في هذا الفصل. فبينما هي فرصة طيبة للهو والخلاعة عند الأغنياء، إذا هي جحيم لا يطاق عند الفقراء. برد شديد، وبراغيث تطرد النوم عنهم في غير رحمة فلا عجب إذا تبرم الفقراء بطول الليل وتضجروا. في حين أن الأغنياء يجدونه - على طوله - قصيرا.
وهذا شاعر آخر يزعم أن للبرغوث فوائد ومزايا. وقال:
لا تكره البرغوث إن اسمه ... برغوث لك لو تدري
فبره مص دم فاسد ... والغوث إيقاظك في الفجر
وهذا من وحي الجهل نعوذ بالله من شره.
وكان من الناس من يعجز عن تأدية فريضة الصلاة، وبخاصة صلاة الصبح، وذلك لشدة البرد، قيل لأعرابي:
أما تصلي في الشتاء؟ قال: البرد شديد، وما علي كسوة أصلي فيها. وأنشد:
إن يكسني ربي قميصا وريطة ... أصلي وأعبده إلى آخر الدهر
وإن لم يكن إلا بقايا عباءة ... مخرقة ما لي على البرد من صبر
ففي الشتاء تصعب الصلاة ويسهل الصيام. وهناك أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه(923/14)
وسلم في مدح الشتاء منها قوله عليه السلام: الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه.
وكانوا لشدة البرد يكثرون من الذهاب إلى الحمامات العامة التي كانوا يسمونها (بيت النار) وقد وصفها الأدباء شعرا ونثرا وأتوا في ذلك بالمعاني الطريفة والصور اللطيفة كما سنرى في غير هذا المقال. وكان للأغنياء حماماتهم الخاصة، يدعون إليها المقربين لديهم من الأدباء، ويقضون فيها وقتا طويلا متجردين من برقع الحياء
وفي الليل يلتفون حول المواقد، ويتناشدون الأشعار، ويستمعون إلى القصص والحكايات والملح والنوادر ويتنافسون في نظم المقطوعات التي تتناول وصف المواقد وما فيها من جمر أحمر يعلوه الرماد، وما يتصاعد منها من لهب.
فإذا انتهى الشتاء وولى، وأقبل الربيع فرح الناس واستبشروا بانقشاع تلك الغمة وذهاب تلك الشدة. وفي برد العجوز التي هي نهاية الشتاء يقوا أحدهم:
كسع الشتاء بسبعة غبر ... بالصن والصنبر والوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعطل وبمطفئ الجمر
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(923/15)
المقامة اللغوية
للأستاذ إبراهيم الأبياري
أمردود على حديث قومي ... به سبقوا وما سطرت غيا
ألقاك أيها الوديد على موروث عي به واعية، وند عن باغية؛ لا هو بالآحاد فيحد، ولا بالمئات فيعد، أنت عنه صادف، وفيه عازف.
وقبلك بلونا الوارثين:
طوى الدهر عنهم ما أفادوا فأعدموا ... حين راموا مرامك، وقعدوا مقعدك
وغير هذا ما تعهد، فما لك اليد المبسوطة في سرف، ولا أنت ينزيك ترف؛ فترهبك النزر، وتخشى المتربة مع العمر. وهل أنت إلا شحشاح، من شحاح تأخذ النزر، وتبقي الكثر. هذا إلى مغيبات لم تفضض لها ختما، ومكنونان لم تشهد لها رسما، فما أولاك أن تردني إلى قول القائل:
ألا جحجح فما بالرأي تدلي ... ولا أنت الملوح بالصواب
ولو غير المقة أحمل لك، وأنشد دون إعزازك، لتركتك في هواك، وأسلمتك إلى مغواك.
وغاب عنك أنك والمسرف على حسرة، فكلا كما مضياع، هو بما خرج عنه، وأنت بما حرمت منه. غير أنه عز بما ذاق مع الأنفاق، وأنت لهيف حسير على فوت ما شاق. وما أبعد ما بين الحسرتين.
وتسألني عما لك من نشب لا أحصيه، ورزق ساقه الله إليك ولا تدريه؛ فعرفتك بنفسك أن ليس لك سلف أتلدوا، ولا خلف أطرفوا؛ فما بالي أدينك في غير دينه، وأشينك دون مشيئة.
وفاتك أنك وارث القاموس بما طم، ومالك المحيط وما ضم وما هو إرث يا أمام قليل.
وأخاف أن تهمني أهازلك ... وما الخيم إلا أن أقول فأصدقا
وتهتال، في هذا المآل؛ وتطالعني عيناك بما يهجس في صدرك وتوسوس به نفسك.
تريد بياناً أو مزيداً من الفهم.
وأوجس أن أبلبلك؛ فتزحم ربة البحار، تنازعها ما انتزعت منك، فتهيج على أهلك هيجاء تذهب بالحرث والنسل.(923/16)
وغيرك - حماك الله - يغري بالأنشاب، يجد فيها جاهته وأنت نشبتك ما تحوي الدفاتر، واعتزاؤك إلى ما تضم القماطر
هذا إرثك الذي ترث لا ورق فيه ولا نضار.
وتجهمني يا بن إنس وبك غير الرضا عن نصيبك من الحياة
أو يضارك أن أجعلك من الوارثين، وأن أسلكك في زمرة المالكين. أليست من اللغة تلك الكلمات التي لا تحصى، والأساليب التي لا تستقصي:
أو لست وارثها ومالك شأنها ... وإليك أمر بقائها وفنائها
وإن من ضب ضبك، وحاز حوزك، خليق أن يكون الترعاية الأمنة. وأراك من الجيل الجانح إلى ما خف، الطيب ما لان اللسان، ينفر إن ذكرته بما لم يسمع، ويأنف إن دربته بما لم يحفظ. وهو من اللغة في أبيجاد، يعيش منها على آحاد.
ما أشبهك بالبخيل الذي فقد ماله بحبسه، وخرج من دنياه إلى رمسه، وهو لم يحسن إلى نفسه.
إبراهيم الأبياري(923/17)
من حديث الشعر
للأستاذ كمال بسيوني
بعثت بهذا الكتاب إلى أستاذ صديق من أساتذة الأدب في جامعة فؤاد الأول، وقد رأيت ألا بأس بإذاعته وإظهار الناس عليه فقد يكون فيه خير قليل أو كثير، وقد يكون فيه نفع ضئيل أو خطير. وأول ما يجب على الكاتب أن يؤثر الناس بالخير، ويختصهم بما يعتقد أن لهم فيه نفعا، فإذا تفضلت (الرسالة) فأذنت في نشره، فلها مني شكر ملؤه المودة الصادقة.
كمال بسيوني
صديقي العزيز. . .
لست أدري ما اهتمامك بهذا الشعر المصري الحديث، تدرسه وتنقده وتؤرخ له، إلا أن تكون قد أغرقت في العلم والفلسفة حتى مللتهما، فأردت أن ترفه عن نفسك بشيء من الجهل والسذاجة تجدهما في شعر هؤلاء الشعراء. ولا تغضب ولا يغضب معك هؤلاء الشعراء، فلم أرد إغضابك ولا إغضابهم، وما كنت في يوم من الأيام، ولن أكون في يوم من الأيام، مريد إلى إغضاب أحد أو متعمدا إسخاط أحد، وإنما هو الحق الذي أخلص له الحديث إذا تحدثت، والعلم الذي أتحرى فيه الصواب إذا بحثت، وأنا مهما كنت حريصا على إرضائك شديد الكره لإسخاطك، فأنا على إرضاء الحق أحرص، وللعبث بالعلم أشد كرها، وأنا من أجل ذلك آسف أشد الأسف حين أعلن إليك مضطرا أن هذا الشعر الذي يهز نفسك هزا، ويختلب قلبك اختلابا، لا يدل على شيء إلا على الجهل والسذاجة وما شئت من هذه الصفات التي تصور انحطاط الحياة العقلية، وماذا تريد أن أقول في كلام لا يصور حقيقة من حقائق العلم، ولا يشرح نظرية من نظريات الفلسفة، ولا يعتمد على منهج من مناهج البحث، ولا يحب الدقة إذا أراد أن يحدد الأشياء، بل لعل أبغض شيء إليه أن يسمي الأشياء بأسمائها. ستقول: وما للشعر ولهذا كله؟ ومن قال إن الشعر يصور حقائق العلم أو يشرح نظريات الفلسفة أو يعتمد على مناهج البحث أو يحرص على تسمية الأشياء بأسمائها؟ ولقد كنت تقول الشعر وتنشره في (الثقافة) وفي غير (الثقافة) من المجلات الأدبية، فهل كنت تقصد به إلى حقائق العلم ونظريات الفلسفة، أم كنت تقصد إلى الجمال الفني في نفسه، لا تريد أن تصف شعورا شعرت به، أو إحساسا أحسسته، أو عرض لك،(923/18)
في لفظ يلائمه رقة ولينا وعذوبة، أو روعة وعنفا وخشونة؟ أكان شعرك يتناول حقائق العلم ونظريات الفلسفة، أم كان شعرك يتناول الطبيعة وجمالها، يتناول العاطفة وحرارتها، يتناول الرضا والسخط، يتناول الفرح والحزن؟ لقد كنت شاعرا وتعرف أن الشعر فن كله، يفسده العلم أو يكاد يفسده إن دخل فيه، وكنت شاعرا وتعرف أن الشعر ليس هو الكلام الذي يعتمد فيه صاحبه على البحث والمقارنة واستنباط الحقائق، وإنما هو الكلام الذي يعتمد فيه صاحبه على الخيال، ويقصد فيه إلى الجمال الفني الذي يختلب الألباب ويستلب العقول. ستقول هذا وأكثر من هذا، وأنا أحب أن أستمع منك إلى هذا الكلام وأمثال هذا الكلام، لأن هذا الكلام نفسه لا يؤيدك في شيء، ولكنه يؤيدني في كل شيء، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك أو الجدل أن هذا الشعر لا يدل إلا على الجهل والسذاجة وما شئت من هذه الصفات التي تدل على انحطاط الحياة العقلية. إن الشعر إذا لم يكن علما وكان يفسده العلم، ولم يكن يعتمد على الواقع وإنما يعتمد على الخيال، ولم يكن يحرص على تسمية الأشياء بأسمائها، وإنما يحرص على فتنة اللفظ وسحره، وعذوبة الجرس وجماله، فكيف لا يدل بعد هذا كله على الجهل الجاهل والسذاجة الساذجة؟ لقد كنت شاعرا وأعرف أن الشعر يعتمد أول ما يعتمد على المبالغة الكاذبة والخيال الجامح الذي يصور الأشياء كما يشاء؛ لا يحفل في تصويره بشيء، فليست المرأة في منطقه إنسانا يأكل ويشرب ويتنفس، وإنما هي جسم من النور مرة، وغصن على كثيب مرة أخرى، وغزال نافر مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وليست المرأة الجميلة في رأيه امرأة أتاح الله لها هذا الجمال، وإنما هي الطبيعة المتناثرة تجمعت فكانت هذه المرأة الجميلة، فوجهها كان جزءا من فلق الصبح، وشعرها كان قطعة من قطع الليل، وثناياها كانت لؤلؤا أو أقاحا، وخداها كانا وردتين، ونهداها كانا رمانتين، وردفاها كانا موجتين إلى آخر هذا الكلام الذي يفهمه الشعراء، والذي يفهمه الشعراء على طريقتهم الخاصة، وأنا أعرف أنك ستقول: إن هذا كله هو الفن وإن هذا كله هو الخيال، ولكن ما رأيك في هؤلاء الكتاب الذين يجيدون الفن ويستخدمون الخيال ثم تعصمهم ثقافتهم الواسعة عن أن ينحدروا هذا الأنحدار، وأن يسفوا هذا الإسفاف؟ بل ما رأيك في هؤلاء العلماء الذين يستخدمون الخيال في معاملهم كما يستخدمه الشعراء بل أكثر مما يستخدمه الشعراء، وهم مع ذلك لا ينتهون إلى ما ينتهي هؤلاء الشعراء من هذا اللهو واللغو، وإنما(923/19)
ينتهون إلى استكشاف الحقائق العلمية الصحيحة. ولكن معذرة فأني أنسيت أن خيال الشعراء غير خيال العلماء، فخيال الشعراء يصعد إلى السماء فيستوحي منها الحقائق، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك لا تقبل الشك ولا تحتمل المراء. ولكن خيال العلماء يجري في الأرض ليستنبط منها الحقائق استنباطا ولم يتح الله له هذا الجناح الذي يستطيع به أن يطير في السماء، وأن يجوب أجواز الفضاء، ومن هنا كان الشعر مطمئنا إلى كل ما يقول، لأنه إنما يستوحي حقائقه من السماء، وكان العلم شاكا في كل شيء، غير مطمئن إلى شيء، لنه إنما يستنبط حقائقه من الأرض، ومن هنا رأينا العلماء حين يتصورون فرضا من الفروض لا يطمئنون إليه حتى يجرون عليه التجارب المختلفة التي تثبت صحته أو فساده، ورأينا الشعراء حين يتصورون أمرا من الأمور يضعونه في إطاره الشعري، ثم يقدمونه إلينا تحفة فنية رائعة، لا يبالون بعدها إن كان ما قالوا حقا أم باطلا، خطأ أم صوابا، ومن هنا كان العلماء في حاجة إلى القراءة والدراسة والبحث والاستقصاء، ولم يكن الشعراء في حاجة إلى شيء من هذا كله، لأنهم يدرسون في السماء، ويقرءون في الفضاء، ولا تقل: وماذا تريد إذن من الشعراء، أتريد منهم أن ينظموا الشعر في الأرض؟ أتريد أن تقص أجنحة خيالهم المحلق؟ أتريد أن تفسد عليهم شعرهم بما تسميه حقائق العلم ونظريات الفلسفة. لا تقل هذا فإني لا أريد من شعرائنا أن ينظموا شعرهم في الأرض، ولا أن يفسدوه بالعلم والفلسفة؛ ولكن تعال أسألك: من من الكتاب يستطيع أن يتناول موضوعا من الموضوعات الأدبية فيكتب فيه مقالا أدبيا رائعا دون أن يكون قد عرفه وفهمه ودرسه من جميع نواحيه، ولكن تعال أحدثك عن كثير من الشعراء الذين ينظمون القصائد الطوال في مواضيع لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها قليلا أو كثيراً، تعال أحدثك عن شوقي شاعرنا العظيم، إنك قد قرأت من غير شك قصيدته الطويلة العريضة التي قالها في (شكسبير)، فماذا فيها عن شكسبير؟. ليس فيها عنه إلا أنه يشبه شعره بالآيات المنزلة، ويشبه معانيه بعيسى المسيح، ويقول إن قصصه تمثل الحياة، وما عدا ذلك فهو كلام عام لا يشير إلى شكسبير من قريب أو بعيد، فأستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، لو أن كاتبا أراد أن يتحدث عن شكسبير أكان يقول مثل هذا الكلام؟ بل أستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، أيجرؤ(923/20)
كاتب أن يتحدث عن شكسبير وهو لا يعلم من أمر شكسبير شيئا؟ ولكن معذرة فإني أنسيت أن الشاعر ذو خيال، وأنه يستطيع أن يصعد بخياله في السماء فينتقل به بين الكواكب السيارة والثابتة، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك بأشعاره الحلوة العذبة التي لا تخلو من ضخامة ولا تبرأ من فراغ.
ستقول: وماذا تريد؟ أتريد أن تسكت الشعراء عن قول الشعر؟ إنك إذا استطعت أن تسكت الطائر الغرد عن تغريده أو تمنع الزهرة الأرجة عن أن تبعث عرفها، أو تمنع الشمس المضيئة عن أن ترسل ضوءها، استطعت أن تسكت الشعراء عن قول الشعر وأنا معك في أني لا أستطيع أن أسكت الشعراء عن قول الشعر، لأنه ينبعث منهم انبعاثا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة، ولكني أريد إليهم ألا يجعلوا حياتهم الشعورية والنفسية كل شيء، وأن يجعلوا لحياتهم العقلية نصيبا من عنايتهم، فأنا أعلم أنهم قالوا الشعر لما حباهم الله به من شعور مرهف وحس قوي وعاطفة دقيقة وخيال خصب، فكان الشعر أثرا لهذا كله ومظهرا لهذا كله، ولكن الله قد حباهم مع ذلك عقلا واسعا وتفكيرا ناضجا، فأين أثر هذا العقل وأين مظهر هذا التفكير؟ ستقول: ولم لا يكون الشعر أثرا من آثار العقل ومظهرا من مظاهر التفكير؟ وأنا أقول: إن الشعر لا يمكن أن يكون أثرا من آثار العقل ولا مظهرا من مظاهر التفكير، فالشعر بوزنه وقافيته ولفظه وخياله أضيق من أن يسع تفكير العقل إذا ارتقى وأخذ من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به، وأنت تعرف كيف نشأ النثر الفني عند اليونان والرومان، وكيف نشأ النثر الفني عند العرب، وكيف نشأ النثر الفني عند الأمم الأوربية الحديثة، فقد كانوا يقولون الشعر ويتغنونه في حياتهم الأولى، وكانوا يقولون الشعر ويتغنونه بحكم هذه الملكات الفطرية التي تنشأ مع الأفراد والجماعات والتي نسميها الحس والشعور والعاطفة والخيال، والتي تنمو وتنضج قبل أن ينمو العقل وينضج التفكير، فلما وصلوا إلى درجة من الحضارة والرقي ضاق عنها الشعر بوزنه وقافيته ولغته وخياله احتاجوا إلى أن يتحللوا من هذه القيود وما كان تحللهم من هذه القيود إلا نشأة لهذا الفن النثري الذي تراه راقيا قويا في الأمم التي بلغت من الرقي والحضارة أمداً بعيداً. لن يكون الشعر في يوم من الأيام مظهرا من مظاهر الحياة العقلية؛ ولكنه كان وسيكون مظهرا من مظاهر الحياة الشعورية والنفسية. وإذا كان الشعراء قد(923/21)
برهنوا لنا بشعرهم الرائع على أنهم أصحاب حس قوي وشعور مرهف وخيال خصب، فقد بقي عليهم أن يبرهنوا لنا على أنهم أصحاب عقول ناضجة تستطيع أن تبحث وأن تفكر وأن تصل إلى حقائق الأشياء. وأنا أعلم أنك سترميني بالكر والكيد، وأني أريد أن أصرف الشعراء صرفا عن الشعر حين أدعوهم إلى أن يهتموا بحياتهم العقلية وأن يأخذوا أنفسهم بالثقافة الواسعة العميقة، ذلك أني أزعم أن الشعر أضيق من أن يسع تفكير العقول الراقية التي أخذت من العلم والفلسفة بنصيب كبير، وفي الوقت نفسه أدعوهم إلى هذا الرقي العقلي والتعمق العلمي والفلسفي، فماذا أريد من ذلك إلا أن أهيئهم تهيئة جديدة لا يستطيعون معها قول الشعر. ويجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يهجروه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني الذي يجدون فيه مجالا واسعاً لأفكار عقولهم بعد أن ضاق الشعر عنها، ولم يتسع بوزنه وقافيته لها. ستقول هذا كله، وأنا معك في أني أريد أن أصرف الشعراء عن الشعر، لأني لا أحب لهم أن يظلوا في مرتبة الأمم البدائية التي تقول الشعر وتتغناه في حياتها الأولى؛ وإنما أريد أن يتجاوزوا هذه المرتبة إلى مرتبة الأمم التي ارتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية وعرفت هذا النثر الفني الذي يتسع لأفكار عقولهم الراقية المثقفة. إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس والشعور والخيال. ولكن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام. وإنما أحب أن يتجاوزوه إلى المظهر الأخير من مظاهر الفن في الكلام، لأني أحب أن يتطوروا في فنهم كما يتطورون في حياتهم، فأنا أفهم أنهم يصوغون الشعر في حياتهم الأدبية الأولى لأن عقولهم لم تكن قد ارتقت وأخذت بحظها المقدور لها من الثقافة. ولكني لا أفهم أن يظلوا طول حياتهم يصوغون الشعر ليس غير لأن معنى هذا يعيشون خرس العقول فصحاء الخيال، ولأن معنى هذا أنهم ينفقون حياتهم بعيدين عن هذه الحياة العقلية الراقية، بعيدين عن هذه الثقافة الواسعة العميقة التي لا يستطيع أن يستغني عنها كل إنسان أن يعيش عيشة راقية في بيئة راقية. وأنا كما تعلم كنت شاعرا في مبد حياتي الأدبية. ولقد قلت الشعر ما اتسعت أوزانه وقوافيه ولفظه وخياله لما يجول في نفسي من معان وخواطر وعواطف، فلما ارتقت حياتي العقلية وأصبح الشعر أضيق من أن يتسع لأفكاري الناضجة رأيتني مضطرا إلىأن أنصرف عنه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني.(923/22)
وإن من دواعي الغبطة أن تزدهر الثقافة في هذا العصر، وأن تبلغ الحياة العقلية في مصر أوجها، وإن يكون ازدهار الثقافة وارتقاء الحياة العقلية سببا في إخمال الشعر وإسكات صوته. ولقد قيل إن الشعر في مصر قد خفت صوته بعد شوقي وحافظ؛ وأنا أقول: إن الحياة العقلية في مصر بعد شوقي وحافظ قد ارتقت. فانصرف الناس إلى تسجيل أفكارهم بعد أن كانوا منصرفين إلى تصوير احساساتهم. ألا فليعلم الناس أني ما سمعت أن فلانا شاعر حتى فهمت أنه لم يزل في الطور الأول من أطوار الأدب، وأنه أبعد ما يكون عن هذه الثقافة الواسعة العميقة. وما سمعت أن أمة من الأمم شاعرة حتى فهمت أنها أمة بدائية وأن حياتها العقلية ما زالت هامدة جامدة. فهنيئا لمصر أن يضمحل فيها الشعر ويقل فيها الشعراء، وأن يزدهر فيها العلم وتمتلئ بالكتاب والعلماء.
وتقبل في النهاية تحية خالصة ملؤها المودة الصادقة.
كمال بسيوني(923/23)
المكتبة العربية في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 4 -
وكان النحو مادة أساسية من مواد الثقافة في هذا العصر ويكاد يشترك كل المثقفين في أن يأخذوا منها بنصيب، وندر من لم يشارك فيها، وكأنما يعدونها أداة أساسية لدراسة العلوم الشرعية
وأهم ما كان يدرس بالبلاد يومئذ كتاب المصل للزمخشري، وقد نال من عناية العلماء في ذلك العصر ما لم ينله كتاب آخر؛ فظفر بشروح كثيرة منها شرح ابن الحاجب وشرح ابن يعيش وساهمت البلاد مساهمة فعالة في الإنتاج، وغزت كتبها العالم العربي بدورها حتى صارت تلك الكتب أهم ما يدرس في تلك المادة. وحسبي أن أشير هنا إلى كتب ابن مالك وعلى رأسها ألفيته، وكتب ابن الحاجب ومن أهمها كافيته، كما وضع ابن معطي ألفية. وقد عرفت من بين ما أنتجته هذه البلاد أكثر من أربعين كتابا منها المطول ومنها الموجز، وعرفت من الرجال الذين ساهموا مساهمة كبيرة في دراسة هذه المادة زهاء مئتي عالم كان أكثر تخصصهم فيها
أما في اللغة عرفت البلاد في ذلك العصر أمهات كتبها؛ فدرسها رجالها واختصروها حينا ووضعوا عليها الحواشي التي تتعقب ما وقع فيها من الوهم، كما اشتركت البلاد في الإنتاج اللغوي، وكان أكبر ما تمخض عنه جهودها ذلك الكتاب العظيم لسان العرب لابن مكرم المصري وقد تم تأليفه سنة 689 وجمع فيه مؤلفه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية ورتبه ترتيب الصحاح
ووضع العلماء في ذلك الحين كتبا لا تصل إلى مستوى الكتاب، وتناولوا بعض نواحي فقه اللغة فكتبوا في الاشتقاق والاشتراك والتصحيف وغيرها. واشتهر من علماء اللغة يومئذ طائفة كبيرة، منهم تاج الدين الكندي وعبد الله بن زي وابن مكرم المصري
وفي علوم البلاغة درست مصر والشام ما عرفته اللغة العربية من الكتب التي ألفت من قبل سواء في ذلك ما وضع في تلك العلوم بخاصة، أو تناولها وإن لم يخصص لها، وتستطيع أن ترجع إلى كتاب بدائع القرآن لابن أبي الإصبع لترى ما عرف يومئذ من(923/24)
كتب البلاغة، وتدرك أم مسائلها كانت لا تزال متفرقة بين كتب التفسير وكتب الأدب وكتب النقد والبلاغة، وقد قام علماء البلاد بجمع هذا التناثر المتفرق هنا وهناك، ثم لم يقفوا عند هذا الجمع، بل زادوا ما وصلوا إليه باجتهادهم الشخصي وأذواقهم الخاصة، ووضعوا كتبا كثيرة لم أر منها إلا ما لا يكاد يزيد على أصابع اليدين
وكان دارسوا لبلاغة في ذلك الحين يرمون إلى هدفين: أولهما دراسة بلاغة القرآن، وثانيها القدرة على تذوق القول الجميل والعون على إنتاجه، وما بقي لدينا من كتب هذا العصر يدل في وضوح على هذين الهدفين، وقد يتغلب أحدهما على الآخر في بعض الكتب، فترى كتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، وكتاب بدائع القرآن، وكتاب التبيان في علم البيان لأبن الزملكاني ترمي إلى بيان ما أودعه القرآن من ألوان البلاغة، بينما تجد الغالب على كتاب المثل السائر وكتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة وكتاب تحرير التحبير، وكتاب البديع لأسامة ضرب المثل البلاغية للتذوق والإقتداء
وأشهر مؤلفي البلاغة في ذلك العصر ابن الأثير صاحب كتاب المثل السائر وهو أسير كتاب بقي لنا، وعبد العظيم بن الإصبع وبدر الدين بن مالك الذي اختصر المفتاح للسكاكي في كتاب سماه المصباح
- 5 -
وظفرت المكتبة العربية في ذلك العصر بإنتاج ضخم في التاريخ، وألوان متنوعة فيه، وشخصيات ذوات أقدار ممتازة من الناحية العلمية والاجتماعية، ومن الممكن أن نتبين في هذا العصر أكثر من عشرين اتجاها في كتابة التاريخ
فبعض مؤرخي العصر قد أعجب بأسرته من ناحية مجدها السياسي حينا أو العلمي حينا آخر؛ ومنهم من اكتفى بكتابة مذكرات شخصية سجل فيها ما رآه، كما فعل أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار. وانتهج بعض علماء هذا العصر نهجاً صالحاً قويما فألفوا معاجم فيها لأساتذتهم الذين كانوا يبلغون في بعض الأحيان عدة آلاف؛ وإن هذه المعاجم لخليقة أن تعطينا فكرة حقيقة عن الحركة الفكرية والجهد العلمي في تلك الأيام، وترسم لنا صورا للتعليم ومناهجه في تلك العصور
ومن المؤرخين من أعجب بشخصية، فمضى يجمع أخبارها ويؤرخ لها، وكان صلاح أوفر(923/25)
هذه الشخصيات حظا، كما ظفر نور الدين والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون بعناية مؤرخي ذلك العصر، وبقي لنا من ذلك كتاب الروضتين
ولم يقف كثير عند حد الترجمة المفردة، بل مضى يؤرخ لطائفة معينة من الناس، كما جمع علي بن ظافر الأزدي أخبار الشجعان والمظفر بن قدامة مناقب الصالحين وأخبارهم، ومن أهم كتب التراجم النافعة الباقية لنا في ذلك العصر كتاب وفيات الأعيان الذي لا يكاد يستغني عنه باحث في عصرنا هذا، وكتاب معجم الأدباء لياقوت
ومضى بعضهم يؤرخ المكتبة العربية إلى ذلك العص، ولو أن هذه الكتب كلها بقيت لاستطعنا أن نرسم إلى مدى بعيد صورة قوية لسير الحركة العلمية في هذا العصر، وما سبقه من عصور، وقد ساهم الوزير القفطي بنصيب كبير في هذه الحركة، فوضع كتابا في أخبار المصنفين وما صنفوه، وآخر في أخبار النحاة، وبقي لنا إلى هذا اليوم من الكتب التي تؤرخ لبعض نواحي المكتبة العربية كتاب ابن أبي أصيبعة الذي دعاه عيون الأنباء في طبقات الأطباء
ومن أهم ما عني به المؤرخون في ذلك العصر تاريخ المدن، يذكرون فيه من دخل المدينة، أو سكنها من عظماء الرجال. وربما كان أضخم كتاب وضع في تاريخ مدينة في ذلك العصر هو تاريخ دمشق لابن عساكر ولا يزال موجودا في أكثر من أربعين مجلدا، كما أرخوا لمصر وكتبوا في خططها، وأرخوا لغير القاهرة كأسوان والفيوم والإسكندرية
وتنوعت الاتجاهات في كتابة التاريخ السياسي يومئذ، فمن الؤرخين من عني بتاريخ الوزراء كابن الصيرفي في كتابه الإشارة إلى من نال الوزارة، وعمارة اليمني في كتاب النكت العصرية، ولا يزال الكتابان باقيين. ومنهم من أرخ لمصر على ترتيب السنين ومنهم من أرخ للدولة الفاطمية أو الأيوبية، ومنهم من عني بباقي أجزاء العالم العربي فوضع القفطي تاريخا للمغرب وتاريخا لليمن
وكانت العناية بالتاريخ العام أكبر من العناية بالتاريخ الجزئي، وقد بقي لنا ستة كتب تمثل هذا الاتجاه منها كتاب الدولة المنقطعة للوزير جمال الدين الأزدي، وقد تضمن أخبار الدول الإسلامية وحوادثها وغزواتها وهو مرتب على السنين، ومنها كتاب تاريخ الزمان في تاريخ الأعيان ألفه سبط ابن الجوزي، وكتاب أبي شاكر بطرس المعروف بابن الراهب(923/26)
وقد جمع فيه التاريخ من آدم إلى عصره في أيجاز وللشيخ ابن العميد كتابنا في التاريخ أحدهما يدعى تاريخ ابن العميد وهو يبحث في تاريخ ما قبل الإسلام، والتاريخ يدعى تاريخ المسلمين وانتهى به إلى سنة 65 وكتب ابن واصل كتابة التاريخ الصالحي في التاريخ العام
ونالت الجغرافية في هذا العصر حظا كبيرا من عناية رجاله وتنوعت اتجاهاتها، وبحسبنا أن ينتج هذا العصر كتاب معجم البلدان لياقوت الذي يعد من أهم المصادر إلى وقتنا هذا
- 6 -
وكانت الفلسفة موضع عناية الفاطميين فقد كانت الدعاة يلقنون تلاميذهم حبها،
ويحضونهم على النظر في كلام أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس من على شاكلتهم، وينهونهم عن قبول الأخبار والاحتجاج بالسمعيات، ويزينون لهم الإقتداء بالأدلة العقلية والتعويل عليها، ويحيلونهم إلى ما تقرر في كتب الفلاسفة من العلم الطبيعي والعلم الالهي، فكانت دراسة الفلسفة للدعوة الشيعية وإحدى دعائهما، وبرغم ما كان للفلسفة من هذه المكانة القوية لم أعثر على فيلسوف نبغ في هذه الفترة التي شهدت الحروب الصليبية، وربما رجع ذلك إلى ما لاقيه آثار الفاطميين الفكرية من تشريد على يد صلاح الدين الذي كان سنيا يكره الفلسفة ورجالها ويراها مضللة. للعقول وتأثر الكامل خطوات عمه صلاح الدين، ويظهر أن اضطهاد الفلسفة قد خفت وطأته بعد موت الكامل وأخيه الأشرف، وتولى بعض دارسيها مناصب كبيرة في الدولة كالقضاء، أو مناصب دينية كبرى كمحمد ابن بكر المعروف بالأبكى وكان إماما في المنطق وعلوم الأوائل فإنه استقر بمشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وظهر في هذه الفترة التي استعاد فيها دارسو الفلسفة والمنطق حريتهم علمان ممتازان هما عز الدين الإربلي التوفي سنة 660 وأستاذه التوفي سنة 646، وقدم الخونجي كتبا كثيرة في المنطق للمكتبة العربية لا يزال بعضها باقيا إلى اليوم ككتاب الموجز، وظفرت كتبه في المنطق بعناية كثير من العلماء فشرحها بعضهم وعلق عليها آخرون
- 7 -
وتنوع الإنتاج في المكتبة الأدبية يومئذ؛ فمن مجموعات تحوي رائع القول كما في كتاب(923/27)
الآداب النافعة والألفاظ المختارة الجامعة لابن شمس الخلافة الأفضلي وكتاب تذكره ابن العديم التي ضمنها كثيرا من الآداب ونوادر الأشعار. وأهم ما بقي لنا من هذا النوع كتاب خريدة القصر للعماد الأصبهاني وقد تضمنت مختارات من شعر شعراء العراق ومصر والشام والحجاز واليمن وصقلية والمغرب والأندلس، وكتاب المطرب في أشعار أهل المغرب لابن دحية
ومن دراسات للآثار الأدبية كحواشي الكندي على خطب ابن نباتة وديوان المتنبي وشرح شميم الحلي على مقامات الحريري، وبدار الكتب شرح الضرير النحوي على تلك المقامات
ومن معاجم تحوي أخبار الشعراء والأدباء كمعجم الشعراء لياقوت، ومعجم شعراء الشيعة ليحيى بن حميدة
ومن مختصرات لكبريات الآثار الأدبية كما فعل محمد بن عبد الكريم المهندس الذي اختصر كتاب الأغاني الكبير
وفي هذا العصر نهض الشعر نهضة كبرى، فقدم للمكتبة العربية كثيرا من الدواوين نذكر من بينها ديوان القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن مطروح والبهاء زهير
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(923/28)
الوطنية في المهجر
للأستاذ حمدي الحسيني
ساءت الحال في بلاد الشام في القرن التاسع عشر أيما سوء. وانصبت الويلات على سكان هذه البقعة الطيبة من الوطن العزيز انصبابا قويا متلاحقاً، حتى أصبحت هذه البلاد الجميلة مسرحاً لأبشع أعمال الظلم وأقبح أنواع التفريق بين العناصر، ليتمكن ذلك الظلم من السيادة. فكانت فتنة الستين المشؤومة وتبعتها فتن أخرى جعلت من بلاد الشام جحيما فاتكا بالأموال، والحريات والأنفس، فدفعت غريزة حب البقاء فريقاً كبيراً من سكان البلاد إلى التفكير في الوسائل التي يمكنهم بها أن يحققوا رغبة الحياة ورغبة الحرية. فقلبوا النظر في هذا الكون الفسيح الأرجاء باحثين عن بقعة من الأرض يمكنهم أن يعيثوا فيها أحرارا كراما فوقع نظرهم على نور الحرية والاستقلال المتألق في الديار الأميركية بعد ثورتها التحريرية الكبرى فصمموا على الهجرة وركبوا متون الأخطار إلى تلك الديار، ولا يسع المضطر إلا ركوبها. فعاشوا هنالك بالعزم الصادق والإرادة القوية فضمنوا بالكسب الحلال حياتهم والاندماج في النظام العادل حريتهم.
أجل! هجر أولئك العرب بلادهم وأقاموا في بلاد الناس ولكن حب الوطن بقى متمكنا في نفوسهم محركا لعواطفهم.
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وما كاد يستقر الحال بهؤلاء العرب المهاجرين حتى أخذت الوطنية تعصف في نفوسهم، تأثيرها المقارنات بين حاضرهم في مهجرهم وماضيهم في موطنهم. وتؤججها المقايسات بين حياة السعادة التي يشاركون فيها الأميركيين الأحرار المستقلين، وبين حياة الشقاء التي خلفوا أمتهم العربية تصطلي نارها في بلاد العرب الخاضعة لظلم الحكم وذل الجهل.
أخذت العاطفة الوطنية المكبوتة في نفوس أولئك الأخوان المهاجرين تتململ في مكابتها وتتهيأ للانطلاق من مكامنها في ظلال تلك الحرية الوارفة وأفياء ذلك الاستقلال الرطبة الناعمة وأية وسيلة لإشباع رغبة الوطنية في مثل هذه الحال من الأدب عل اختلاف أنواعه فنشأ بالأمة العربية هنالك أدب وطني قوي يمثل العاطفة الوطنية القوية في نفس العرب، وأخذ هذا الأدب شرق بنوره وينصب بحرارته على نفوس العرب في سائر(923/29)
أقطارهم فكان الرسول الأمين بين النفوس العربية المتألمة في الغرب والشرق، والعامل القوي في تحريك الآمال بالحرية والاستقلال. وإني محدث القارئ الكريم عن شعر القوة في المهجر الأميركي بشاعرين قويين في عواطفهما الوطنية يصح أن نتخذ من شعرهما برهانا قاطعا على أن إخواننا العرب في مهجرهم النائي يحملون من العواطف الوطنية ما نحمل، ويعملون لتحقيق الأماني القومية ما نعمل
السيد رشيد سليم الخوري - الشاعر القروي - شاعر عربي يقطن مدينة سان باولو في البرازيل، له ثلاثة دواوين شعرية وهي الرشيديات، والقرويات، والأعاصير، في يدنا منها الآن ديوان واحد هو ديوان الأعاصير، والذي يبدو لنا مما قرأناه للسيد ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال) عن السيد رشيد الخوري، ومما قرأناه في مقدمة ديوان الأعاصير للسيد رشيد الخوري نفسه أن ما جاء في ديوان الأعاصير هو أقوى أقسام شعر السيد رشيد الخوري على الإطلاق
لفت نظرنا في ديوان الأعاصير مقدمة الديوان لأنها مكتوبة بقلم صاحب الديوان نفسه خلافا لعادة الشعراء الذين يقدمون دواوينهم بمقدمات مستجداة من أقلام ذوي الشخصيات الأدبية الكبيرة سواء كان ذلك التقديم حق الصديق الوفي لصديق، أم منه كبير يفضل بها على صغير. ولفت نظرنا من تلك المقدمة تلك الخطوط الجميلة التي حدد بها الشاعر القروي مبدأه الوطني تحديدا دقيقا بدت بعده عاطفته الوطنية في قصائده واضحة جميلة مشرقة برغم هذا الضعف البلاغي الذي يبدو واضحا جليا على قصائد هذا الديوان النفيس
وقف الشاعر القروي أمام الأندلس فثارت في نفسه الذكريات فأراد أن يحييها باسم بلاد العرب ولكن كيف يحيها باسم بلاد ترسف بقيود الذل والأستعباد؟ إذن لا بد من الصبر حتى يأذن الله للبلاد العربية بالاستقلال وحينذاك تهدي تحيتها للأندلس كما يهدي الكريم تحيته للكريم
فإذا بغداد عادت كالقديم ... موطن الشعر وديوان العلوم
وإذا رن بها عود النديم ... مرجفا بالحب لعصاب النجوم
ومثيراً لوعة الليل البهيم ... ومديرا أدمع الفجر مداما
عند هذا سوف نهديك السلاما(923/30)
وإذا بيروت أم النور ولى ... عن سماها أثقل الرايات ظلا
وإذا السيف من الصحراء سلا ... نافضا من أربع الفيحاء ذلا
وإذا لبنان بالأمر استقلا ... فلبسنا العز أو متنا كراما
عند هذا سوف نهديك السلاما
واسمعه الآن يقرر حق الاستقلال للأمة ويدلها على الوسيلة الصحيحة لإحقاق هذا الحق
إن ضاع حقك لم يضع حقان ... لك في نجاد السيف حق ثان
ما مات حق فتى له زند، له ... كف، لها سيف، له حدان
فابعث سيوف الهند من أغمادها ... تبعث بها الموتى من الأكفان
وإليك هذين البيتين من قصيدة له في الثورة السورية الكبرى يخاطب بها العربي المقاتل في سبيل الحرية والاستقلال
إذا حاولت دفع الضيم فاضرب ... بسيف محمد واهجر يسوعا
(أحبوا بعضكم بعضا) وعظنا ... بها ذئبا فما نجت قطيعا
وإليك هذه القطعة من قصيدة نظمها إبان تلك الثورة السورية:
بدت ولهي ممزقة القناع ... فقلت لها فديتك لا تراعي
فدون حماك أبطال العوالي ... مؤزرة بأبطال اليراع
رماح كالأفاعي مشرعات ... وأقلام كأنياب الأفاعي
أطلي واشهدي منهم هجوما ... ترى وثب القلاع على القلاع
وهل عربية هذا أخوها ... تراع إذا دعا للحرب داع
السيد إلياس قنصل شاعر عربي يقيم في مدينة بوينس إيريس عاصمة الأرجنتين له في يدنا ديوان السهام، وهذا الديوان مصدر بمقدمة صاحبه يرجع لها الفضل في دراستنا لنفسية الشاعر لأنها وصفت لنا هذه النفسية القوية أجمل وصف؛ كما صورها لنا سعر الديوان أجمل تصوير
أعجبنا في هذا الشاعر ثقته بنفسه وثقته بأمته فهو يعتقد بأن في إمكان الأمة العربية أن تعد من نفسها قوة ترجع بها سؤددها وتهيأ لذاتها جبروتا يرد لها التالد من عزها، وهو لا يرى في قوة الغاصبين للوطن العربي إلا ضعفا بجانب اتحاد الأمة العربية وثقتها بنفسها(923/31)
واعتمادها على حقها، وهو واثق بقدرته على تحريك شعور الثقة بالنفس والاعتماد على الذات في نفسية الأمة بقصائدها لقوية التي يقذف بها في وجه الضعف والونى بلا شفقة ولا رحمة، وإنك لترى هذا الواثق بنفسه المؤمن بأمته، لا يقيم للفشل في الجهاد وزنا، فهو لا يخاف الفشل لأنه مؤمن بالنجاح، ولهذا فهو يدعو الأمة العربية بحرارة للجهاد في سبيل الحرية جهاداً لا يعتوره الخوف من الفشل ولا تخالطها الخشية من الكلل والملل. ومن حق هذا الشاعر علينا الآن أن نورد له هذه العبارة التي جاءت في مقدمة ديوانه موجهة إلى فريق الضعفاء من الأمة الذين يقفون من المؤمنين موقف اللائم اللاحي
(ليست حمية الشباب هي التي تدفعني إلى هذه الحماسة، ولكنه إحساس بالإرهاق الذي يعانيه وطني المفدى، وما هذه الجمرات المشبوبة حماسة - لو تعلمون - وإنما هي إيمان راسخ) ولا ننسى ونحن نولي هذا الشاعر إعجابنا بقوة عاطفته الوطنية أن نوجه إليه عتبنا لضعفه البلاغي الذي لو تنزه عنه شعره لجاء آيات بينات في القوة معنى ومبنى، ولنسمعه الآن ينشد نشيد المجد.
وإن ناصبتك الحرب دنياك كلها ... وحقك من ليل الحوادث غيهب
فلا تشك فالشكوى احتضار مخيب ... ولن يستحق النور شاك مخيب
بل استل من عالي إبائك مغمدا ... تغلغل فيه من مضائك كهرب
وكافح به صرف الزمان وقل له ... سأبعث فيك الرعب من حيث تهرب
ولنسمعه يخاطب شباب البلاد الناعمين بتوافه اللذات
هبوا الشباب التذاذا بالحياة أما ... في عالم المجد للذات ميدان؟
هذي الليالي التي تقضونها عبثا ... يبكي الإباء عليها وهو خجلان
يا حبذا لو رصدتم من شهودكم ... ساعاً بآي العلا والعز تزدان
إن البلاد إذا ضلت شبيبتها ... فكل آمالها فقد وخسران
وإليكم هذه القطعة الجميلة القوية من قصيدة له نظمها على لسان ثائر دمشقي يودع عروسه قبل الالتحاق بالثورة الكبرى
بلادي تدعوني إلى حومة الوغى ... ودعوتها الغراء أمر مقدس
فإن لم أكن في مطلع الجيش هاجما ... تمور بصيحاتي الأعادي وتوجس(923/32)
فلا أبهجت قلبي نسيمات دمر ... ولا ضمني في شامة الأرض مجلس
فراقك خطب منه بين جوانحي ... سهام يصاب الحزن والسهد تغمس
ولكن حمل الذل موت وعاره ... إزاء عواديه يضيع التحرس
وإلا فلا تبكي علي فإنني ... أموت قرير العين بالعز أهجس
وإليكم هذه القطعة القوية منتزعة من إحدى قصائده العامرة بالقوة
وما من أمة في الأرض لمت ... بغير السيف حقا بات يذري
وليس ينال الاستقلال إلا ... إذا سالت دماء القوم نهرا
وشعب يبتغيه دون جد ... لشعب سادر ما زال غرا
حمدي الحسيني(923/33)
إرهاصات في الجزيرة قبيل البعثة المحمدية
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
- 1 -
كان الاعتقاد السائد حتى القرن الثامن عشر، أن الحركات الإصلاحية وليدة العبقرية الفردية، فهي مدينة بوجودها لهم، ومتوقفة في بقائها عليهم، وعلى مقدار ما يوجد من عباقرة، يتوقف سير الحياة أو يندفع، وتبطئ عجلة الزمن أو تسرع، ويشغر مكان القيادة أو يملأ، حتى إذا جاء دور كايم، حطم هذه النظرية، وأقام على أنقاضها صرحا سامقا لنظرية أخرى، وصنع من أشلائها مذهباً عاليا لرأي أقوى، يرد كل ظاهرة في المجتمع إليه، وينسب كل رقي إلى تفاعله، ويجرد الفرد من سلاح الخلق والابتكار!. . .
وهو مذهب حري بأن يقف الإنسان عنده طويلا، وان يتملى حقائقه مليا، فسيقوده في رفق إلى مواطن الخفاء فيما نجح من دعوات فبقي، وما فشل من مذاهب فتلاشى، وما صلح من أديان فخلد، ويرد كل نتيجة إلى أسبابها، وكل ظاهرة إلى عللها، وما الفرد إلا أثر لمكانه وما اتصل به، ولزمانه وما استتبعه، ولبيئته وما اعتمل فيها!. . .
فعلم الاجتماع الحديث يقرر أن الظواهر أيا كان نوعها، من خلق المجتمع وأليست من صنع الفرد، وحقيقة أي مجتمع لا وجود له بدون أفراده، ولكن من تجمع هؤلاء واحتكاكهم، ينشأ شيء يختلف كل الاختلاف عن خواطرهم الفردية، وقد يبدو غريبا إن ينشأ من اجتماع عناصر ما، حقيقة خارجة عنها في عالم المعاني، ولكنها في عالم الطبيعة أمر ظاهر ومألوف، (فكما أن الخلية الحية لا تحتوي على شيء آخر غير الجزيئات المعدنية، كذلك لا يضم المجتمع شيئاً غير الأفراد، ومع ذلك فإنه من المستحيل بداهة أن تحتوي ذرات الإيدروجين أو الأكسوجين أو الأزوت أو الكربون على الظواهر المميزة للحياة، وبناء على ذلك فلا يمكن إلا أن نتخذ الحياة المادية بأسرها مستقرا لها، فهي توجد في الكل ولا توجد في الأجزاء. . . وحينئذ فليس لنا أن نطبق هذا المبدأ على علم الاجتماع) لأن ما هو ممكن في عالم المادة، فهو في عالم الأناسي أمكن، حيث الأفكار تتفاعل، والنظرات تمتزج. . .
وما أناقش مذهباً رست دعائمه، وتوطدت أركانه، أو أن أشرح طرائفه ومناهجه، أو(923/34)
أصوغ قوانينه وقواعده، وإنما أعرض لموقفه من الدين، فهو عندهم ظاهرة اجتماعية وأن جاء به الوحي، وأثر أرضي وإن نزل من السماء، وخلق جمعي وإن نهض به رسول، ما دام المجتمع قد أخذ به ورضيه، وأخلد إلى أوامره وسكن إلى نظمه. ولن يستقر دينفي مجتمع ما، إلا إذا انسجم مع طبيعته، وواءم فكره رقيه الفكري وتطوره الاجتماعي، وكان معدا لسماعه، متطلعا لأحداثه، فالرسل مترجمون عن حالة، المجتمع مهيأ لقبولها، يفهم مظهرها، ويستسيغ حقائقها، ويرنو إلى مثلها العليا. ولأمر ما، كان الرسول بشرا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!
(إن الدين لون من ألوان التعبير الإنساني عن العواطف والميول والمثل العليا، وإن هذا اللون من ألوان التعبير متصل أشد الاتصال بأمزجة الأفراد والأمم، ممثل لها تمثيلا صادقا قويا. . . وهو طريق من الطرق التي تسلكها الإنسانية إلى الجمال والحق والمثل العليا) ومن ثم تعددت الأديان، لا بتعدد العصور وحدها، وإنما بتعدد الأمكنة أيضا، لأن كينا ما، قد ينهض في موطن ويكبو في غيره، وقد يثمر في مجتمع ويجدب في سواه، فالدين الإسلامي مثلا، وقف عند حدود معروفة ودول معلومة، ورغم الجهود الجبارة التي بذلها المسلمونفي اجتياز هذه الحدود، لم يكتب لهم النجاح، ولم يقدر لهم التوفيق، على حين أن هناك أماكن انتشر فيها بطبيعته، ولم يجد صعوبة ما في أن يثبت فيها وأن يقوى!. . .
وأنا وأنت وغيرنا، هل كان لنا فضل في اتخاذ الإسلام دينا والإيمان به عقيدة، أم ترانا خرجنا إلى الحياة، فوجدنا آباءنا كذلك، فتابعناهم وسايرناهم وسلكنا نفس الطريق الذي يسلكون؟ هل استطاع أحد ما، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا أو حتى بلا دين، أن يصطنع الجدة ساعة، فرأى المتابعة كسلا، والتقليد خمولا، والإذعان ضعفا، فنقب وبحث ودرس وقارن، وانتهى إلى عقيدة نيرة، يؤمن بها لأنها حق، ويخضع لها لأنها صواب؟
إنما نحن أسارى المجتمع (فالطفل حين يدخل العالم لا يحمل معه سوى طبيعة بيولوجية، غير خلقية أو اجتماعية، تستطيع أن تتكيف بجميع الهيئات والأشكال، فهو لا يختار لنفسه لغة دون أخرى، أو ديانة دون غيرها، بل هو المجتمع الذي يضطره إلى اتباع الديانة التي يشب عليها، أو اللغة التي يتكلم بها، والواحد من ساعة نشأته يؤلف جزءاً من مجتمع له تعاليمه وأخلاقه ولغته وديانته وفنه وعاداته وتقاليده وتاريخه وأنظمته وخرافاته ومثله(923/35)
الأعلى، ولا بد من التقيد بهذا الميراث والعمل به)
هذا هو رأي علم الاجتماع في الأديان، وقد اهتدى إليه قوم يدرسون المجتمع كما هو، لا يطيرون مع الملائكة، ولا يمتطون أجنحة الخيال، ولا يركبون متن الفرض، ولا يجنبون إزاء الحق، ولا تعميهم المثل العليا عن واقع الحياة. . .
وفي ضوء العلم، وعلى هدي منه، نريد أن نستشف حال الجزيرة العربية قبيل البعثة المحمدية، لنتفهم حالها. . . أجاء الإسلام فصار بها غير ما أحبت، وساقها إلى غير ما هويت، ونقلها من حال كانت فيها، إلى حال لم تكن تريدها، أم أن تيار الحوادث؛ كان ينبئ بما سيتمخض عنه الغد، وما سيحمله المستقبل، وما ستأتي به الليالي في قابلها القريب أو البعيد؟. . .
(للكلام صلة)
الطاهر أحمد مكي
كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول(923/36)
خواطر مرسلة:
هنا موضع الغرابة
للأستاذ حامد بدر
قال أخي: غريب أن تتلاشى صفة الحياة عند أهلها
قلت: ومن أهلها؟
قال: النساء، ففي كل يوم أراهن يبتدعن فنوناً جديدة من التبرج، وينحدرن إلى درك يفقدن فيه ما يجب أن يصان.!
قلت: أنت طيب القلب يا أخي إلى حد أعيذك منه، أو بتعبير أقرب إلى الصراحة، وأبعث من المواربة: أنت أبله!
فاربد وجه وقال: كيف تصفني بالبلاهة على أن عجبت من أنثيات تطفح بهن الطرق، لا يعرفن الحشمة، لا يبالين الحياء.!
قلت أنت أبله، لأنك تستغرب شائعا، والغرابة تكون فيما ندر، لا فيما كثر، فاستغرب الأدب إن عمت البلوى بسوء الأدب، واعجب من الحياء إن أحدقت المصيبة بضياع الحياء، ألست تقول إن الحياء قد قل؟
قال: نعم
قلت: إذن فالحياء هو الذي صار غريبا، وليس الغريب ضياع الحياء
صار ما يعنينا مألوفا، ولو قلت عنه عيب سلقوك بألسنة حداد من السخرية والتهكم، واتهموك بالتأخر، والرجوع إلى الوراء! فما أسهل الانحدار، وما أكثر أنصاره؛ وما أقل الجرأة في هدم المنكر، أو إنكار القبيح!
إن الشرع يحرم على المرأة أن تبدي زينتها إلا لبعلها أو من في حكمه، والبعل ذاته يراها في تبرجها وابتذالها نهبة للعيون، في السوق، وفي الملهى، وفي الطريق العامة، ليلا ونهارا. . فلا يحرك ساكنا، ولا يبدي انفعالا. . فأية غرابة فيما ألفناه، وتعودنا أن نراه، فلا نغضب ولا نعجب ولا نغار؟!
كان اليسير مما نشهده اليوم موجبا لعجب يثور، وغيرة تحمى، وحمية تنفجر، في زمن كانت المرأة فيه محتجبة مصونة. فإذا قضت الضرورة الملحة بظهورها بدت في الثوب(923/37)
الفضفاض، والرداء السابغ، تمشي على استيحاء، لا يتبين الرائي وجهها، ولا ما خفي من حيلها. فإن رأيت اليوم في مثل هذه المرأة فاعجب كثيرا ودعنا نعجب معك، لأن تكل هذه الصورة النادرة التي تبعث الدهش، وتثير العجب!
ثارت عاصفة طيبة ضد الصور الخليعة التي ينشرها بعض الصحف والمجلات، ولا أدري في أي مكان استقرت العاصفة، بعد أن كان أثرها دوام الحال على ما هو فيه عليه من ظهور تلك الرسوم منتشرة في أبعد الأوضاع من الدين والأدب!
وكل فكرة ترمي إلى محاربة الغواية، إن لم تجد أنصارا مجندين، فان مصيرها إلى الركود، وقد تنجو من الضعف الخلقي القاتل إن أقلعنا عن عبادة المظاهر التقليدية الزائفة، والجري وراء الأهواء، من غير تدبر ولا أناة
وأخشى أن يقتلنا هذا الضعف ما دمنا ننظر إلى المحافظين نظرة تعجب واستغراب
حامد بدر(923/38)
رسالة الشعر
اللحن الجريح. .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا حبيبي. . أنا في عالم أحزاني أغني
كهزار خنقت ألحانه كيف التجني
كم تمنيت أأفني العمر في دنيا التمني؟!
لا تلمني إن تمردت على قيدي وسجني
كيف أحيا وضباب اليأس أعشى ناظريا
ومنى دنياي كالحلم تولت من يديا
والتقاليد أثارت غضب الجهل عليا
وأبى جرعني صابا ورباني شقيا
خلني في صحبة الأحزان مجترا لحزني
من معيدي لصبا باتي وأكوابي ودني
ما لقلبي يتغنى ودماه تتجارى
ودموعي كشآبيب غمام تتبارى
لست أبكى لخيال طاف بالفكر ومارا
أو لمال بددته الكف أو حلم توارى
إنما أبكي على شعري وآمالي وفني
حين أغفت في دجى النفس فدعني لا تلمني
يا حبيبي ملني الصبر وأضنتني الهواجس
وتراءى العالم البسام في عيني عابس
لم تعد تفتنني الدنيا ولا الحور النواعس
وكرهت الراح واللحن وإيناس المجالس
ملت الألحان أذناي وقد أنكرت أذني
وتلفت عسى عيني ترى لآلاء حسن(923/39)
يا فؤادي أين ولت عن دجى الليل الشموس؟!
أين فجري! أترى دارت على فجري النحوس؟!
أم الصبح كأبكار معاني شموس
لم أزل أرصد في الغيب غدي وهو عبوس
وأمني النفس والأيام كم خيبن ظني
آه لو ترجع أيامي. وهل آواه تغني؟
أنا كالزنبقة العذراء لكن بين شوك
وكقيثار جريح اللحن مخنوق التشكي
وفؤادي الواحة السمحة في صحراء شك
كم ذئاب روعوا أمني وقالوا لم تبكي
كيف لا أبكي وقد رويت بالأدمع لحني
بعد ما أرقصت دنياي على اللحن المرن
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
بعد الأوان!. .
للأستاذ محمد قطب
هذه اللهفة تجتاح حياتي
وحنين موغل في جنباتي
ولهيب فائر في خفقاتي
ليت شعري! بعد إن عشت زمانا في سبات
أقطع الأيام في صمت بليد وأناة!
ما الذي أيقظ قلبي من سباته
ما الذي هيج منه حرقاته
أي شيطان ثوى في جنباته(923/40)
يشعل الثورة فيه، ويغذي جمحاته!
ويشيع اللهفة الحرى فتذكي رغباته؟
أيها القلب! لقد عشت شقيا
لم تذق من متعة الأحياء شيا
قد تعشقت سرابا سرمديا
عشت أيامك فيه، فكأن لم تك حيا
وطواك الزمن الساخر في البيداء طيا!
لم تصحوا اليوم من بعد ركود؟
ما الذي عدت ترجى من جديد؟
دورة أخرى على الأفق الشريد!
وعذاب الأمل الضائع في التيه المديد!
هكذا يذهب عمري في ضلال وشرود!
لا تطع يا قلب داعي الخفقان
لا يغرنك شيطان الأماني!
ما غناء الصحن بعد الأوان؟
ضل ركب العمر ببيداء الزمان
وتغشى اليأس والظلمة أعماق كياني
محمد قطب(923/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
معركة الإسلام والرأسمالية:
هذا عنوان كتاب جديد للأستاذ سيد قطب، كتاب يعرض فيه سوء حالة المجتمع وما يشيع في نفوس أفراده من قلق بسبب الأوضاع الظالمة، ويعني خاصة - عند الكلام على هذه الأوضاع - بكشف الستار عن الجاذبية الشيوعية التي تسحر ألباب الكادحين إذ تعدهم بالخلاص مما يعانونه من بؤس وحرمان ذاهبا إلى أن الخلاص الحقيقي الذي يحفظ الإنسانية كرامتها وحريتها إنما هو في الإسلام: نظمه وتشريعه وحكمه. وهو يهاجم الأوضاع القائمة هجوماً عنيفاً، يأتي عنفه من الصراحة والبصر بحقائق الأمور. ومن هنا يبدو الكتاب (حريفا) يبلغ في غرضه ما لا تستطيع أن تبلغه الوسائل الأخرى من كتابة بريئة أو غير بريئة. . . ذلك لأن المؤلف يلذع ثم (يزيت) موضع اللذع بدسم الإسلام
هذا هو الكلام الجد. . . نحن في أحوال سيئة ما في ذلك شك، أحوال يسودها الاستغلال وتتحكم فيها الرأسمالية، ولكنها لا تريد شيوعية. ولماذا نلجأ إلى الشيوعية (إذا كان هناك نظام آخر يمنحنا الخير الذي تمنحه لنا الشيوعية، ويعفينا من بشاعة الثراء الفاحش وفوارق الطبقات، ويحقق لنا مجتمعاً متوازناً لا حرمان فيه ولا افتراء. . ثم يمنحنا في الوقت ذاته غذاء الروح، وحرية الفكر، والشعور الإنساني، الأرقى بالإنسان والحياة. ما القول إذا كان هناك نظام، لا يدعنا ذيلا في القافلة، قافلة الشيوعية أو قافلة الرأسمالية. . . إنما يمنحنا مع العدالة الاجتماعية المطلقة في الداخل، كرامة دولية عزيزة في الخارج، ويرد إلينا اعتبارنا في المجتمع الدولي؛ وقد يعفينا من ويلات الحرب، ويعفي الإنسانية معنا من هذا البلاء)
ويلخص الأستاذ سيد قطب مشكلاتنا الاجتماعية في: سوء توزيع الملكيات والثروات، ومشكلة العمل والأجور، وعدم تكافؤ الفرص، وفساد جهاز العمل وضعف الإنتاج؛ ويعرضها - واحدة واحدة - على الإسلام، ويشرح علاجه الحاسم لها، ثم يخلص إلى أن الإسلام يجب أن يحكم ليستطيع أن يطبق وينفذ مفنداً ما يوجه إلى حكم الإسلام من مطاعن وما يقف في سبيله من عدوات هي عداوات الصليبين، والمستعمرين، والمستغلين والطغاة،(923/42)
والمحترفين من رجال الدين، والمستهترين والمنحلين، والشيوعية والشيوعيين
وقد كتب الأستاذ المؤلف هذا الكتاب على هدى الثقافة الإسلامية المستقاة من منابعها وأصولها، وفي ضوء الإلمام بالمذاهب الحديثة، واستعان بأداة الكاتب المبين وثقافة الناقد البصير. وقد ألف قبله كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) والكتابان يرميان إلى هدف واحد، وإن كان كتاب العدالة يميل إلى الدراسة الجامعة للأصول، أما كتاب المعركة فهو أميل إلى التطبيق. ويختلف الكتابان أيضا في الأسلوب من حيث هدوء العدالة وثورة المعركة
وإنني لأغبط صديقي الأستاذ سيدعلى هذه الروح القوية المنبثة في كتابه (معركة الإسلام والرأسمالية) وأتمنى أن يكون لي تفاؤله. . ذلك أني أرى أكبر عدو لسيادة الإسلام وعدالته إنما هو في عقولنا. . حقا هناك العداوات التي ذكرها وبين أساليبها، وهي عداوات ضارية، ولكن العداوة الأشد هي في داخلنا، هي في فهمنا العامي للإسلام، وليس هذا الفهم مقصورا على العوام، بل هو أيضا في أذهان المتعلمين الذين يتعلمون - ولا يزالون - على الأسس التي وضعها المستعمرون وقصدوا فيها إلى المباعدة بيننا وبين الإسلام، بل هو أيضا في أذهان من يسمونهم (رجال الدين) الذين يجارون ذلك الفهم، من أثر العكوف على الجدل العقيم الذي تزخر به الشروح والحواشي
وقد بين الأستاذ ذلك في هذا الكتاب، ولكنه متفائل قوي الأمل في النصر القريب، ولكني لا أرى محاربة العدد الكامن في العقول أمرا هينا، ولا ألمح لهذه المحاربة إلا طلائع قليلة العدو أغبطها ارجوا لها التوفيق
العيد الألفي لابن سينا
ذكرت في الأسبوع الماضي أنه تقرر تأجيل الاحتفال بالعيد الألفي للفيلسوف ابن سينا إلى ربيع سنة 1952 وكان مقررا إقامته في أكتوبر سنة 1951 ببغداد، ووعدت ببيان سبب لهذا التأجيل.
تقوم بالنظر في هذا الاحتفال الإدارة الثقافية بالجامعة العربية وهي دائمة الاتصال بالحكومة الإيرانية للتنسيق بين الاحتفال العربي المعتزم إقامته في بغداد وبين الاحتفال الإيراني المعتزم إقامته في طهران. ولما تقرر تحديدا أكتوبر سنة 1951 لاحتفال بغداد(923/43)
أبلغت الحكومة الإيرانية بذلك فردت بأن هذا الوقت يصادف شهر المحرم وهو شهر حداد عند الشيعة فلا تقام فيه حفلات. وأن الحكومة الإيرانية تعمل في بناء ضريح لابن سينا في همدان ولم يتم بعد ولا ينتظر أن يتم قبل أكتوبر سنة 1951 ويحسن أن يكون الضريح مهيأ عند الاحتفال ليكون من تمام العناية بهذه الذكرى. ولذلك قررت اللجنة المؤلفة لهذا الغرض بالإدارة الثقافية أن يقام الاحتفال ببغداد في النصف الثاني من شهر مارس سنة 1952 وتم الاتفاق مع إيران على هذا الموعد وعلى أن يقام احتفال طهران في النصف الأول من إبريل، إذ ينتقل المحتفلون ببغداد إلى طهران ويتم الاحتفال على هذه الصورة التعاونية
واللجنة العامة المؤلفة في الإدارة الثقافية للاحتفال بالعيد الألفي لابن سينا مكونة برياسة الدكتور أحمد أمين بك وعضوية الدكاترة والأساتذة إبراهيم بيومي مدكور ومحمد البهي ومحمد يوسف موسى وأحمد فؤاد الأهواني ومحمود الخضيري والسيد محمد تقي القمي (من إيران) وشارل كونز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة والمستشرق ماسينيون عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية والأب جورج شحاتة قنواتي. وقد ألفت لجنة فرعية لنشر مؤلفات ابن سينا من بعض هؤلاء الأعضاء. وهناك لجان فرعية بالعراق وسوريا ولبنان، العراقية برياسة الدكتور ناحي الأصيل والسورية برياسة الدكتور جميل صليب واللبنانية برياسة الدكتور عمر فاروخ. وكل منها تعمل في بلادها للتحضير للاحتفال العام ببغداد
ويتمثل نشاط الإدارة الثقافية واللجنة المؤلفة بها فيما يأتي:
1 - جمع المخطوطات والوثائق المشتملة على مؤلفات الرئيس ابن سينا في المكتبات الشرقية والغربية والمكتبات الخاصة، وما عسى أن يكون لدى بعض الأفراد وقد أرسلت بعثات لتحقيق هذا الغرض إلى اسطنبول وسوريا وإيران وبريطانيا والفاتيكانوالأسكوريال، فصورت كثيراً من مؤلفات ابن سينا وأتت بما أمكن الإتيان به منها
2 - قررت اللجنة البدء بنشر قسم من كتاب (الشفاء) وهو الخاص بالمنطق بعد مراجعة نسخة المخطوطة المتعددة وهو الآن تحت الطبع ونشر المجموعة الفلكية والمجموعة الرياضية لابن سينا، وعهدت اللجنة إلى المختصين في كليتي العلوم والهندسة بجامعة فؤاد الأول لإنشاء لجنتين فرعيتين لمعالجة هذين الفرعين وكلفت اللجنة الأب جورج شحاتة(923/44)
قنواتي بالكتابة عن مؤلفات ابن سينا، فأنجز الأستاذ هذا العمل في مؤلف ظهر أخيراً بعنوان (مؤلفات ابن سينا) وكلفت اللجنة أيضا الأستاذ محمود الخضيري بكتابة ترجمة حياة ابن سينا وكانت اللجنة قد تلقت من عالم باكستاني في لندن، وهو الدكتور رحماني، أنه مهتم بنشر جزء النفس من كتاب الشفاء، فقررت نشر هذا الجزء أيضا على أن يتعاون فيه الدكتور رحماني والدكتور الأهواني، وقد يحضر الأول إلى مصر لهذا الغرض. وذلك كله عدا ما قد تنشره اللجان الفرعية في العراق وسوريا ولبنان
3 - فيما يختص بالمهرجان الذي سيقام ببغداد، رؤى أن تتناول المحاضرات الشؤون الرئيسية والقضايا الكبرى في شخصية ابن سينا وإنتاجه. أما الموضوعات التي تعالج نقطا خاصة لم يسبق علاجها فتعالج في بحوث فنية دقيقة، وكلفت اللجنة لفيفا من المستشرقين بالكتابة في موضوع من موضوعات عينتها ليلقى في المهرجان، وقد رد معظمهم بالقبول، ووصلت بالفعل أبحاث من بعضهم، ومن هؤلاء البروفسور جاردي الأستاذ بمدرسة اللاهوت في جامعة السربون
عباس خضر(923/45)
البريد الأدبي
رحلة معالي وزير المعارف إلى الدقهلية
حركة بعد سكون، ونشاط بعد خمود، وإشراق بعد عبوس، وبشر بعد قطوب؛ وجود بعد بخل، وسخاء بعد شح، وبذل بعد ضن؛ تلك هي حال إقليم الدقهلية وحاضرته (المنصورة) في الأسابيع الماضية، لما استفاضت الأنباء بأن الدكتور طه حسين باشا سيزور هذا الإقليم ليبث فيه العلم وينشر منه العرفان. ولقد كنت ترى الناس جميعا في القرى والمدن لا يجري على ألسنتهم غير اسم طه حسين، ولا يتحدثون إلا عن علم طه حسين، ولا يشيدون إلا بفضل طه حسين
ولم يكن هذا الانقلاب الذي شمل الحياة والناس في هذه الأيام الطيبة، لأن وزير المعارف سيزورهم، أو لأنه سيأتيهم ليفتتح معاهد للعلم في بلادهم! فهذا شيء قد ألفوه من قبل كثيرا وأصبحوا لا يهتمون به، ولا يلتفتون إليه. وكم من وزير قد زارهم وأحيطت زيارته بضجيج المظاهرات، وعجيج الهتافات؛ مما لا يهز إلا الهواء ولا يخط إلا على الماء، ولا يبقي له أثر في الأرض ولا في السماء
ولكن هذا الانقلاب قد كان لأن الذي سيزورهم، ويشرف بلادهم هو الدكتور طه حسين، ذلك الرجل العجيب في علمه وإرادته، وفي عزمه وفي ثورته، والذي إذا أردت أن تجمل وصفه قلت صادقا - بفراء تخشى معارضا - إنه قوة متحركة جبارة، لا تني ولا تضعف ولا تخشى في العلم أحدا
جاء ديارهم - لا ليفتتح - كغيره - مدارس للعلم وهو لا يدري شيئا فيها ولا هم له إلا أن يمر عليها أو يشاهد مظاهرها ثم ينقلب مسرعاً من حيث أتى! لا يذر وراءه أثرا، ولا يترك بعده ذكرا - وإنما جاءهم يمثل عصا موسى ففجر الخزائن المصونة، واستخرج الأموال المدفونة، وألان القلوب القاسية، وعصر النفوس العاتية، ليشيد الآثار الخالدة من المعاهد العلمية والكليات الجامعية، وينفخ فيها من روحه لكي تبقى على وجه الدهر، وتؤتى ثمرها في كل عصر. ومعاهد العلم كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. وهل أبقى على وجه الأرض من أماكن العلم وأثبت من صروح العرفان؟(923/46)
ومن كان يظن أن رحلة صغيرة مثل هذه الرحلة تؤتي مثل هذه الثمرة المباركة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يجمع في يوم واحد من مثل بلادنا المصروفة عن المكارم المغلولة اليد عن الخير - مئتي ألف من الجنيهات ليبني بها معاهد للعلم - وليس في يده قوة مادية ولا سلطة إدارية! حقا إن هذا لعجيب. ولكنه طه حسين وقوته الجبارة!
ولو أنت شهدت إقليم الدقهلية وحاضرته في اليوم الثاني من شهر مارس سنة 1951 أبهرك ما ترى، ولأدهشك ما تسمع؛ فقد أخذت الأرض زخرفها وازينت وانبعث الناس جميعا كأنهم في عيد محتشدين على جوانب الطرق التي اتخذها طه حسين لمروره في بلادهم من جنوب الإقليم إلى شماله، لم تدفعهم رجة ولا ساقتهم قوة - كما جرت العادة في مثل هذه الزيارة - ولكن دفعتهم الرغبة المشبوبة بين جوانحهم ليرحبوا به أجمل الترحيب، وليؤدوا ما يجب له من مظاهر التكريم، وليسعدوا برؤية موكب وزيرهم الذي ملأ البلاد علمه، وعم الأكوان فضله، وكأن هذا اليوم هو الذي عناه الصاحب بن عباد بقوله:
قدم (الوزير) مقدما في سبقه ... وكأنما الدنيا سعت في طرقه
وما ظنك بما تكن القلوب المخلصة وتظهر الجوارح الصادقة لرجل لا ينفك بعمل للعلم، ويسعى في نشر العلم، ولا يفتأ برجل في سبيل العلم حتى صدق فيه قول المتنبي:
كل يوم لك ارتحال جديد ... ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
وإن هذا اليوم المبارك الذي ازدهت الدقهلية به، ولم تشهد مثله على مد التاريخ كله، له ما بعده، وما بعده إلا العلم ينبعث ضوءه الباهر لينير هذا الإقليم، ثم يرسل أشعته إلى من حوله ومن يؤمه من سائر الأقاليم
وإن التاريخ ليسجل هذا اليوم على صفحاته ويجعله من الأيام التي تفاخر الأجيال بمثله، وتتحدث القرون بفضله
فهنيئا لإقليم الدقهلية بما فر من مجد وبما نال من فخر، وأهلا ومرحبا بالزائر الكريم في الحل والترحال، وحقق الله على يديه كل ما نصبو إليه من آمال
المنصورة
محمود أبو ريه(923/47)
بين شيبوب ومطران
يبدو أن ما كتبته في (الرسالة) عن تفضيل شعر خليل مطران، قد أثار مرارة في بعض النفوس مظهرها هذه الرسائل الصاخبة التي ألقى إلى بها البريد، وهذه الرسائل الشفوية العاتبة صبتها في أذني المسرة صبا
وأحب أن ألقي هؤلاء العاتبين الصاخبين بقول أكثم بن صيفي (إن قول الحق لم يع لي صديقا) ليفهموا أني رجل أحمل رأسي على كفي، وليفهموا أيضا أن المجاملات الفارغة هي التي أضاعت تراثنا الأدبي، فنبه الخامل وخمل النبيه، وانحط الرفيع، وارتفع الوضيع
وكذلك شاء القدر الساخر أن يجعل الناشرون والمسيطرون على دور الصحف من خليل مطران (ثالثا) لشوقي وحافظ، وهو لم يلحق بغبارهما، بل إنهم لم يكونوا ينشرون قصائد شوقي وحافظ في صحفهم إلا من خلال نشرهم لقصائد مطران! وكذلك خمل ذكر أحمد محرم ومحمود الكاشف وهما من القدر والمكانة عند أهل الأدب الصحيح في المنزلة العليا والمكان الرفيع!
وبعد، فإننا رجعنا إلى مقال (الرسالة) في خليل شيبوب فلم نعثر على أننا أتينا أمرا؛ وكل ما سجلناه هو الحقيقة الواضحة التي ى تخفي على ذي عينين، وإن كانت تخفي على ذوي الوجهين وذوي اللسانين! فأن كان أحد من العاتبين الصاخبين يرى غير هذا الرأي، فدونه فليعاود قراءة المقال، ثم ليقرع الحجة بالحجة إن استطاع إلى ذلك سبيلا. وما هو بمستطيع إن شاء الله
أما الصحب والخلصاء الذين حسبوا أني قصدت إليهم بتجريح أو نكاية، فحسبي أن يعرفوا أني أدين بدين الصراحة. وإن وقع في أذهانهم أن اتجاها بعينه هو الذي حملني على أن أقول ما قلت، فما أراهم عرفوني ولا أدركوا شيئا مما رضنا به النفس في متاهات الحياة!
منصور جاب الله
رسائل بين مصر وملوك المغرب
كتب ملك مصر السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن سنة 585 هجرية أحد ملوك المغرب يستحثه على الجهاد.(923/48)
(فتح الله بحضرة سيدنا أمير المؤمنين وسيد العالمين وقسيم الدنيا والدين، أبواب الميامين وأسباب المحاسن، فقد كان من أوائل عزمنا، وفواتح رأينا، منذ ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمن بمكاتبتها، ونتزين بمخاطبتها. . لكي نمسك طرفا من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه، فنتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين، الأولى في تطهير الأرض العربية واليمنية، والثانية في تطهير بيت المقدس، ممن كان يعارض برجسه تقديسه، ويزعج ببناء ضلاله تأسيسه، وما كان إلا جنة إسلام فخرج منها المسلون خروج أبيهم آدم من الجنة. فوفقنا الله وما كانت لنا بذلك قوة بل لله القوة، ولا لنا على الخلق منة بل لله المنة)
وتحدث عن معركة ثغر عكا مع الإفرنج فقال: (ونزلنا عليهم وعليه فضرب معنا مصاف قللت فيه فرسانه وجندلت شجعانه). .
وذكر عودة الإفرنج في منسلخ الشتاء ومستهل الصيف، بقوله (فلا يؤمن على نفوذ المسلمين أن يتطرف العدو إليهم وإليها ويفرغ لهم ويتسلط عليها)
(وإذا قسمت القوة أضر بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها)
وطلب إليه أن يبعث بأسطول المغرب ليحاصر صقلية ويصف سفيره بقوله: (أوفدنا إلى باب حضرة سيدنا وهو الداعي المسمع والمبلغ المقنع، علمناه أمرا يسرا، وبوأناه الصدر فكان وجها، وأودعناه الأسر فكان صدرا
ويقول صاحب صبح الأعشى إن رسول صلاح الدين كان اسمه ابن منقذ ولا بد أنه وضع كتابا عن رحلته. فدليل نقله عنه أنه زار بستانا بجوار فاس يقال له البحيرة علم أن إيراده بلغ كل سنة خمسة وأربعين ألف دينار، وبه بركة ماء مربعة قاس كل ضلع منها فإذا به مائتان وستة عشر ذراعا وبها ما هو أكبر من ذلك
أحمد رمزي
تصويت لغوي
قرأت في العدد 917 من مجلة الرسالة الزاهرة كلمة عن طول العمر وقصره في البريد الأدبي للدكتور حامد الغوابي وجاء في ثنايا كلمته (أرأيت إلى من يدهسه ترام) ولم يسمع(923/49)
عند العرب استعمال دهس بهذا المعنى فالصواب أن يقال (داسه) مستعاراً من الدوس بالأقدام ولعل دهسه محرف من دعسه أي وطئه شديدا
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن(923/50)
القصص
مقهى سوراط
قصة عن ليوتو لستوي
للأستاذ رمزي مزييغت
كان في مدينة سوراط في الهند مقهى يؤمه خليط من مختلف الأجناس والأديان، وفي ذات يوم وفد إلى المقهى رجل مهيب الطلعة وفي صحبته عبد أسود يقوم على خدمته، وكان هذا الرجل عالما روحانيا من بلاد فارس قضى جل عمره في قراءة كتب اللاهوت ودراستها والبحث عن ذات الله وسر وجوده. وكانت نتيجة بحثه أن اختلطت عليه الأمور وأنكر وجود إله يدير هذا الكون على الإطلاق. ولما علم الشاه بأمره نفاه من البلاد، فراح يرتحل من بلد إلى بلد حتى انتهى به المطاف إلى هذا المقهى في مدينة سوراط
طلب العالم لنفسه كوبا من شراب الأفيون بينما جلس العبد على حجر خارج الباب يذب عن أنفه الذباب ولما استقر الأفيون في جوف العلم وسري في عروقه مفعوله، التفت إلى عبده وسأله:
- قل لي أيها العبد التعس، هل تؤمن بوجود الله؟ فقال العبد - نعم أومن. ثم مد يده إلى حزامه وأخرج من تحته تمثالا صغيراً من الخشب - وقال هذا هو الإله الذي حرسني منذ ولدت. ونحن جميعاً في بلادنا نعبد الشجرة التي نصنع منها هذا الإله. وكان في المقهى خليط من مختلف الأجناس والأديان فأدهشهم سؤال العلم وجواب العبد، ثم انبرى لهما رجل من أتباع براهما وقال مخاطبا العبد - يالك من تعس أحمق. . كيف تعتقد أن رجلا مثلك يمكنه أن يحمل الله تحت حزامه؟ ليس هناك إلا إله واحد هو براهما خالق هذا الكون. إن براهما هو الإله الأعظم الذي من أجله أقيمت الكهنة الورعون. ولقد مضى على ظهور براهما عشرون ألف سنة جرت خلالها ثورات وثورات ومع ذلك فان شيئا لم يستطع أن يعصف بأولئك الكهنة لأن براهما - الإله الواحد الحق - كان يحميهم طوال هذه السنين
وما انتهى البرهمي من حديثه حتى رد عليه صيرفي يهودي قائلا - ما هذا الذي تقوله؟ إن معبد الإله الحق ليس في الهند وليس الإله الحق بإله الهنود. وإنما إله إبراهيم وإسحاق(923/51)
ويعقوب. . . وهو لا يحمي إلا بني إسرائيل شعبه المختار. . وإذا كنت ترانا اليوم مشردين في أنحاء الأرض فما ذلك إلا لتجربتنا وامتحان إيماننا. . ولقد وعدنا الله أن يجمع شملنا في القدس مرة أخرى، ومنها سوف نبسط سلطاننا على العالم بأسره. قال اليهودي هذا وانفجر باكيا يريد الاسترسال في حديثه فقاطعه مبشر إيطالي كان حاضراً - إن ما تقوله غير صحيح. . وأنت إنما تنسب الظلم إلى الله بدعواك هذه. فالله لا يفضل شعبا على شعب وإنما يدعو الذين يبتغون الخلاص أن ينتموا إلى كنيسة روما الكاثوليكية إذ أنه لا خلاص لمن لا ينتمي إليها. وكان من جملة القوم قسيس بروتستانتي فساءه قول المبشر وقال له بصوت مرتجف - إن ما تقوله خطأ محض، فليس الخلاص مقصورا على اتباع كنيستكم، بل هو من نصيب كل من يخدم الله حسب تعاليم الإنجيل. هكذا قال السيد المسيح
وكان من بين الحاضرين تركي من موظفي الجمرك فنظر إلى هذين المسيحيين شزرا وقال بترفع - إن إيمانكم بالديانة المسيحية أصبح باطلاً منذ أن حل محلها الدين الإسلامي الحنيف. إن هذا الدين هو دين الله الحق وليس أدل على صحته من تلك السرعة الهائلة التي انتشر بها في ربوع أفريقيا وأوربا وحتى في بلاد الصين المستنيرة إنه لا خلاص إلا لأتباع محمد آخر المرسلين
وأثار قول هذا التركي ضجة بين الحاضرين فاشتبكوا في جدال حامي الوطيس. ولم يبق أحد لم يشترك في الجدال غلا رجل واحد صيني من تلاميذ كونفوشيوس كان قابعا في ركن من أركان المقهى يشرب الشاي ويصغي إلى ما يقوله المتخاصمون. ووقعت عينا التركي عليه صدفة فاستنجد به قائلا - أراك ساكتا لا تتكلم، ولكني أعتقد أنك في قراراتك توافقني على رأي. فأنتم معشر الصينيين على الرغم من كثرة الأديان في بلادكم ترون أن الديانة الإسلامية هي أفضل الأديان وتعتنقونها عن طيب خاطر. فهلا أنجدتني أبت لنا عن رأيك في الله وفي رسوله؟ فهتف الجميع قائلين - نعم، نعم، أسمعنا عن رأيك في الموضوع. . فأغمض تلميذ كونفوشيوس عينيه وفكر قليلا ثم فتحهما وطوى يديه على صدره وقال بصوت هادئ رزين:
(يبدو لي أيها السادة أن التعصب أو العصبية وحدها هي التي تحول دون اتفاق الناس في أمور الدين. سأروي لكم قصة توضح ما أعنيه)(923/52)
لقد قدمت هذه البلاد على ظهر باخرة إنكليزية ومررنا بطريقنا على مختلف البلدان. ولما وصلنا إلى جزيرة سومطرة نفذ منا الماء فنزلنا إلى الشاطئ لنتزود بحاجتنا منه. وكان الوقت ظهراً فجلسنا تحت ظل أشجار جوز الهند على مقربة من إحدى القرى. وكنا خليطا من مختلف الأجناس. . ولم نلبث قليلا حتى اقترب منا رجل أعمى علمناه فيما بعد أنه فقد بصره لكثرة ما كان ينظر إلى الشمس لمعرفة كنهها وكيفية انبثاق النور منها. فكانت نتيجة بحثه فقدان بصره وعقله في آن واحد. وجلس الأعمى إلى جوارنا وأخذ يحدث نفسه بصوت مرتفع - أن نور الشمس لا يمكن أن يكون سائلا وإلا كان من الممكن صبه من وعاء إلى آخر. وهو لا يمكن أن يكون نارا وإلا أطفئه الماء. ولا يمكن أن يكون الضوء روحاً لأنه يرى بالعين. كذلك فهو ليس مادة لأن مادة يمكن تحريكها. وما دام ضوء الشمس ليس سائلا ولا نارا ولا روحا ولا مادة أذن (لا شيء). وكان في رفقة الأعمى خادم، وكان منصرفا عن حديث سيده إلى عمل المصباح من جوزة الهند، ففتل فتيلا من قشرتها وعصر الزيت من اللب وصبه في القشرة وأدلى الفتيل فيها. وألتفت أليه الأعمى بعد قليل وقال - قل لي أيها العبد، ألم أكن محقا حين قلت لك أنه لا وجود للشمس؟ إلا ترى هذا الظلام يلف العالم بردائه؟ ومع ذلك فأن الناس يزعمون أن الشمس موجودة. . فإذا كانت موجودة فعلا فما هي وما كنهها؟ فرد عليه الخادم بقوله - أنا لا أعرف ما هي الشمس ولا يهمني أن أعرف، فليس هذا من شأني. ولكنني اعرف ما هو النور وها أنا قد صنعت مصباحا أستطيع على ضوئه أن أقضي لك حاجاتك عندما يحل الظلام. قال هذا ثم رفع المصباح بيده وقال - هذه هي شمسي. وكان إلى جوارنا رجل أعرج فلما سمع ما دار بين الأعمى وخادمه أنفجر ضاحكا وقال مخاطبا الضرير: يبدو لي أنك ولدت أعمى وإلا عرفت ما هي الشمس. أن الشمس يا صاحبي كرة من النار ترتفع كل صباح من البحر ثم تعود فتتوارى بين جبال جزيرتنا كل مساء. أن كل سكان الجزيرة يعرفون ذلك ولو كنت مبصرا لأمكنك التحقق بنفسك من صدق الخبر
وما انتهى الأعرج من كلامه حتى انبرى صياد سمك قائلا - يظهر لي أنك لم تغادر جزيرتك هذه قط. فلو أنك لم تكن أعرج وطفت البحار مثلي في قارب للصيد لعرفت أن الشمس لا تغرب بين جبال جزيرتنا أبدا، ولأدركت أنها كما تشرق من البحر كل صباح(923/53)
فهي تغرب فيه كل مساء. ولك أن تصدق ما أقول لأني أرى ذلك بعيني كل يوم
وكان بيننا هندي من عبدة الشمس فقاطعه قائلا - يدهشني أن أسمع شخصا عاقلا مثلك يهذي بهذا الكلام. كيف يجوز أن تغطس كرة من النار في الماء دون أن تنطفئ. أن الشمس ليست كرة من النار قطعا وإنما هي الإله المعروف باسم (ديفا) الذي يركب عربته ويدور بها باستمرار حول جبل فيدو الذهبي ويحدث في بعض الأحيان أن تهجم عليه الحيتان اللعينتان (راجو) و (كيتو) وتبتلعانه فيسود الأرض الظلام. فينصرف الكهنة إلى الصلاة لخلاص الإله يلبث أن تقذفه الحيتان ويبدد ضوء الظلام من جديد. أن الأغبياء الجهلة من أمثالك الذين لم يبرحوا جزيرتهم قط، هم الذين يعتقون أن الشمس لا تضيء إلا بلادهم وحدها فقط. وهنا انبرى للهندي ربان سفينة مصري كان معنا وقال له أنك مخطئ أيضا. إن الشمس ليست إلها ولا هي تدور حول الهند وجبلها الذهبي فقط. لقد طفت أنا في مختلف البحار ومررت بجميع البلاد وكنت أرى الشمس في كل مكان. فهي لا تدور حول جبل معين ولكنها تشرق من أقصى الشرق وراء جزر اليابان وتغرب من أقصى الغرب وراء الجزر البريطانية. وكان المصري يرغب في مواصلة حديثه لولا أن قاطعه بحار إنجليزي من سفينتنا بقوله - ما من بلد تعرف عن الشمس وحركتها اليومية أكثر من بلاد الإنجليز. فنحن معشر الإنجليز نعرف أن الشمس لا تشرق من أي مكان وإنما هي تدور حول الأرض باستمرار. وكل من معي في هذه السفينة يمكنه أن يؤكد لكم هذه الحقيقة. فلقد طفنا بجميع أطراف العالم ومع ذلك لم نصطدم يوما بالشمس في أي مكان. بل كنا أنى اتجهنا نجدها تشرق في الصباح وتغرب في المساء كما هو شأنها هنا في هذه الجزيرة. قال البحار هذا وألتقط عصا وأخذ يرسم على الرمل أشكالا يشرح بها حركة الشمس في قبة السماء ولكنه لم يستطع أن يوفي الشرح حقه فألتفت إلى ربان السفينة الإنجليزي وقال - إن هذا السيد يعرف عن الشمس أكثر مني وهو يشرح لكم أمرها. وكان الربان طيلة الوقت ساكناً يصغي إلى ما يقال فلما طلب إليه البحار أن يتكلم واتجهت إليه الأنظار تنحنح وقال - الواقع أنكم تضللون بعضكم بعض وجميعكم مخطئون. إن الشمس لا تدور حول الأرض وإنما الأرض هي التي تدور حول الشمس وهي تدور في الوقت نفسه حول نفسها مرة كل يوم وبذلك يتعرض كل بلد على سطحها لضوء الشمس على التعاقب. فمخطئ من يقول أن(923/54)
الشمس لا تضيء إلا جبلا واحدا أو جزيرة واحدة أو بحرا واحدا. فهي في الواقع تضيء كل الكواكب ومن جملتها الأرض التي نعيش عليها. ولو أنكم نظرتم إلى السماء متأملين لاتضحت لكم حقيقة الأمر ولما عدتم إلى القول بأن الشمس تضيء لكم وحدكم أو لبلدكم دون غيرها. . وتوقف تلميذ كونفوشيوس قليلا عن الكلام ثم استطرد - وكذلك أيها السادة في أمور الدين، فإن الكبرياء أو التعصب وحده هو سبب هذه الخلافات بين الناس، والذي ينطبق على الشمس ينطبق على الله. . فكل واحد يريد إلها خاصا به أو إلها خاصا ببلده على الأقل. . وكل أمة تريد أن تحصر في معابدها الخاصة ذلك إلاله الذي لا يتسع له الكون بأسره. . هل هناك من معبد يضاهي ذلك المعبد الذي صنعه الله ليجعل الناس فيه على دين واحد لا غير. .؟ إن جميع معابد البشر قد بنيت على نمط معبد الله الأكبر، ولكل منها حوض وقبة ومصابيح وصور وتماثيل ومخطوطات وأنظمة ومذابح وكهنة. . ولكن أي حوض من هذه الأحواض يضاهي حوض الأوقيانوس؟ وأي قبة تضاهي قبة السماء، وأين هذه المصابيح من الشمس والقمر والكواكب. . وأين تلك التماثيل الجامدة من بني البشر الأحياء الذين تربط بينهم المحبة والتعاون. وأين قوانين البشر من قوانين الله، وأية تضحية أعظم من تضحية بني البشر المحبين بعضهم لبعض، وأي مذبح أعظم من قلب الرجل الطيب المؤمن؟ أن المرء كلما تعمق في فهم الله أزداد به علما، وكلما أزداد علما به أزداد منه قربا وبات مثله حنونا طيبا ومحبا لأخيه الإنسان. . فليكف إذن من يرى ضوء الشمس يغمر الكون بأسره عن لوم ذلك الأحمق الذي قعد به خموله عن أن يرى سوى شعاع واحد من ذلك الضوء الباهر. وليكف أيضا عن احتقار الكافر الذي فقد بصره ولم يعد يرى الشمس المنيرة.
بهذا خاطب الصيني تلميذ كونفوشيوس - رواد المقهى - فسكت الجميع وأفحموا، وكف كل منهم عن الادعاء بأن دينه أفضل الأديان.
رمزي مزيغيت(923/55)
العدد 924 - بتاريخ: 19 - 03 - 1951(/)
6 - الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
الطقوس الدينية
اقتدى كاتب هذه السطور في هذا الجزء من دراسته بالبروفسور واخ وتصنيفه الاختبار الديني في ثلاثة هي العقائد والطقوس الدينية والنتائج الاجتماعية لكل منهما.
ولقد عالجنا فيما سبق علاقة الاختبار الديني بالعقيدة فلنحاول أن نتعرف الآن مكانة الطقوس والعبادات الدينية في هذا الاختبار.
ولنا أن نبدأ فنسجل أن هناك تواكلا وتكاليف بين العقيدة والطقوس المعبرة عنها. فالعقيدة والإيمان الصادق بها يوحي بها إلى الفرد والجماعة ألواناً من التعبير هي ما اصطلح الناس على تسميتها بالطقوس والعبادة، فالأولى يمكن أن تحسب (ولو على سبيل الدلالة) في عداد النظريات والنشاط الفكري والروحي، والثانية تعد من قبيل النشاط العملي (الجسماني).
ففي رأي البروفسور (واليس) أن الطقوس الدينية والعبادات ليست مجرد تقليد جاء بطريق الصدفة، وإنما هو تعبير أصيل للعقيدة الدينية التي تتوخى أن تنفذ إلى كل ما في الكيان الانساني؛ فلا تقتصر على الاتصال والتأثير بالمشاعر الروحية الحاسة وإنما تتعمد الوصول إلى الناحية المادية (الفيزيولوجية) في ذلك الكيان.
وقد اصطلح علماء الانتروبولوجيا على تصنيف العبادات الدينية أربعة أصناف هي: -
(1) الحفلات والطقوس الدينية
(2) الرموز
(3) المقدسات (الملموسة والمحسوسة)
(4) الضحايا (بمعناها الديني)
وللطقوس الدينية مكانة أصيلة في السلوك الديني. ولعل الخطأ الجوهري في حملة الطبيعيين والماديين على الدين مرجعه خلطهم الناحية المنطقية (النشاط الفكري) في الدين بالنشاط العملي (الجسماني) الذي يعبر عنها كالصلاة وضحايا الأعياد والحفلات الدينية وما إلى ذلك من ألوان ذلك النشاط.
ومما لا ريب فيه أن الطقوس الدينية على غرابة بعض ألوانها وشذوذه هي جزء جوهري(924/1)
من الحياة الدينية ومتممة للناحية المنطقية والفكرية في السلوك الديني.
وقد حلل روبرت سميث هذه الصلة بين الطقوس والعقيدة الدينية تحليلا في كتابه الشهير عن ديانات الساميين وسنده في ذلك بعض المحدثين من علماء الانثروبولجيا منهم (لووي) و (مانيلوفسكي).
فقد وجد روبرت سميت أن في اليهودية والكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية (الكنيسة البزنطية) ثروة من الطقوس والرمزيات، بينما خلت الديانة الإسلامية منها. اللهم إلا في ضحايا عيد الأضحى وبعض ما دخل على الإسلام من طقوس كتلك التي يمارسها في بعض المواسم الخاصة أتباع الطرق الصوفية. ومما لا ريب فيه أن هذه الطقوس لم تكن في صلب الإسلام وإنما وجدت سبيلها إلى بعض أتباعه عن طريق الديانات الآرية (الفارسية) والهندية. والطقوس في الديانات الآرية كالبوذية والبرهمانية والزرادشتية تؤلف عنصرا رئيسيا بارزاً في الحياة الدينية للجماعات التي تدين بها.
وخلاصة القول في تمازج العقيدة الدينية بالطقوس المعبرة عنها وتكافلها تضامنها في توجيه السلوك الديني - خلاصة القول أن الطقوس تختلف باختلاف العقيدة والمكان والزمان. وقد تكون هذه الطقوس في حياة جماعة الناس منسقة لها طابع تقليدي خاص يعبر عن روح الجماعة. وقد تكون فردية يصوغها المؤمن في قالب شخصي فتكون معبرة عن انفعالاته الخاصة.
وفي تاريخ الديانات صراع مزمن مستمر بين الطقوس التقليدية التي تعبر تعبيراً جماعيا (نسبة إلى الجماعة) وتلك التي لها طابع فردي ومن هذا الصراع نشأ الإلحاد والمدارس المتطاحنة التي عالجت مسألة الدين عقيدة وسلوكا. وهذا الصراع كان على نوعين:
إلحادي ينفر من الدين وينفر الناس منه. ونوع آخر إصلاحي أهدافه الخروج على التقاليد والسعي لصياغتها في قوالب تختلف باختلاف اجتهاد المصلحين في تفهم وظيفة الدين.
ومهما يكن من الأمر في هذا الصراع، فالذي يعنينا منه في هذه المرحلة من بحثنا هذا هو أن نقرر ما سبق أن قرره (ديركهايم) الذي لم يكن همه أن يتعرف على طبيعة هذه الطقوس الدينية بقدر ما كان يرجوه من إدراك لفحوى القيم الروحية والمعاني والمثل الأخلاقية التي تمثلها وترمز إليها وتعبر عنها.(924/2)
وعلى ضوء علم النفس الاجتماعي فإن للطقوس الدينية كذلك ناحية إيجابية أخرى. فقد كتب أحد فلاسفة الكنيسة الكاثوليكية في معرض دفاعه عن التقاليد التي احتفظت بها الكنيسة الكاثوليكية منذ نشوئها وانتقاد البروتستانتية الحديثة لهذه التقاليد فقال:
(إن المسيحي بمفرده ليس مسيحيا فقط، وهو يعني بذلك أن اقتصار الاختبار الديني على الفرد دون الجماعة لا يفي بالنتائج الاجتماعية التي ينطوي عليها الاختبار الديني والتي هي من الوظائف الأساسية للدين).
فصلاة الجماعة فضلا عن وظيفتها الاجتماعية من حيث أنها تجمع المؤمنين على الفضيلة في صعيد واحد فإن لها وظيفة نفسانية (سيكولوجية) كبيرة النفع.
فإن التعبير المشترك بين الجماعة عن المشاعر الروحية إثبات لحقيقة هذا الشعور. فالمرء إذا خلا لنفسه يحاسبها ويستعرض أمامها مشاكله الروحية والاجتماعية فقد يميل إلى القنوط ويبالغ في عجزه أو مقدرته على مواجهة هذه المشاكل. والمرء مهما ارتقت مداركه واحساساته واطلاعه على نواحي الخير والشر في السلوك الإنساني عاجز عن التعرف على حقيقة مكانه في الكون؛ فمشاكل الكون النفسانية والمادية والاجتماعية معقدة وعرة المسالك. فإذا تسنى للمرء أن يندمج في جماعة من الناس تشعر بما يشعر وتبحث عما يبحث من الطمأنينة والرضى فهو لا شك مرتاح ومستكين. والحياة اليومية أقسى من أن توفر للفرد جوا يستطيع أن يخلد فيه إلى الطمأنينة والرضى. والمساجد وبيوت الله والهدوء والسكينة التي تحيط بها توفر له ولإخوانه المؤمنين ذلك الجو المنشود يستوحي القدرة منه على التأمل ويستمد الشجاعة الأدبية ويحاسب نفسه على الصالح والطالح. فصوت الله جل جلاله يستدعي الخشوع والانطلاق من قيود النفس والمادة.
فإذا استطاع المريض أن يتلمس في خجل واستحياء نوعا من الطمأنينة في عيادة الطبيب النفساني يستلهمه علاج النفس من آلامها فإن بيوت الله أرحب صدرا وأكثر مهابة. ففي كل فقرة من آيات الذكر عظة وفي كل آية حكمة وبلاغة يتراجع أمامها خجلا واستحياء علم الطبيب النفساني. وبعد فإن علم النفس لا يعالج إلا النفس القلقة المضطربة التي تعتقد أن العقيدة الراسخة فيها أصبحت فريدة العقد النفسانية والأزمات الروحية.
والمرء حين يجد في بيوت الله من يشاركه هذا الالتماس ويرجو مثل الطمأنينة التي(924/3)
يرجوها يزداد ثقة وينطلق في محاسبة النفس والتماس العلاج.
والبروتستانتية المعاصرة مثلا تفخر بأنها تجاري التطور في الحرية الفردية، وأن هذه الحرية يجب أن تشمل الدين كما شملت السياسة والاقتصاد ولذلك أطلقت العنان للمؤمنين فانتهجت كل جماعة وسيلة جديدة من وسائل الاختبار الديني.
وإذا جاز للمطلعين على حاضر البروتستانتية أن يكبروا مساهمتها في إطلاق قيود الفكر المسيحي من جمود القرون الوسطى فإن لنا أن نسجل هنا أن هذه المساهمة قد أولت في كثر من الحالات قلقاً فكريا وروحا عاطفيا انتهج في الآونة الأخيرة نهجين: - نهجا وجد في القانون المدني وآدابه ومثله العليا استعاضة عن الدين فلم يشف غليله، وإنما أشكل عليه الأمر كما تشهد بذلك المشاكل النفسانية العميقة التي تعيش في الشعوب البروتستانتية. والنهج الثاني عكوف عن هذا الانطلاق المتطرف وتحديده بقيود أسسها إحياء الاختبار الديني على أساس السلوك الجماعي لا الفردي.
فالكنائس البروتستانتية في أمريكا وبريطانيا - وقد تأثرت بالحرية الفردية إلى أقصى حد - أخذت في الآونة الأخيرة تعلن عن بضاعتها في شتى أنواع الإغراء. فهي تنظم الحفلات الاجتماعية في المواسم الدينية وأيام الآحاد وتستهوي الناس للمشاركة فيها بتنويع البضاعة. وهي بضاعة في جوهرها روحية فاضلة ولكنها مشوبة ببعض ما يتنافى ومهابة الدين.
ولقد فطن الإنسان لهذه الناحية النفسانية في صلاة الجماعة، ومع أنه أبقى على الحرية الفردية في العبادات إبقاء شاملا إلا انه شرع صلاة الجمعة والأعياد وصاغها في قالب بسيط خلا من المؤثرات وأبقى على المهابة والجلال التي تليق بالدين ومعاقله؛ وما ذلك إلا لأن الإسلام - وهو عقيدة إلهية راسخة - يعتمد على الإقناع أكثر من اعتماده على الترغيب والاستمالة. والمرء إذا اقتنع كبرت لديه الغاية وهانت الوسيلة.
ومهما يكن من الأمر فإن العبادات (كما قال ماكموري) ليست مجرد وسيلة من وسائل الاختبار الديني فحسب بل هي فوق ذلك دافع من أهم الدوافع لاستمراره. فهي إذن بالرغم من تحامل بعض الدنيويين على غرابة طقوسها جزء جوهري من وظيفة الدين.
وعالج السيد محمد رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) عبادة الفرد والجماعة في فصل من ذلك الكتاب تحت عنوان (التقوى الخاصة والعامة) وعاقبتهما فقال: -(924/4)
(أن النور في العلم الذي لا يصل إليه طالب إلا بالتقوى هو الحكمة. فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم (65 بـ 2 ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا)
ومعنى التقوى العام عند السيد رضا هو (اتقاء كل ما يضر الإنسان وفي نفسه وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن) ولذلك قال العلماء إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي وفعل ما يستطاع من الطاعات. وزدنا على ذلك اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون. . . ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل، فيفصل فيها بين ما يجب قوله وما يجب رفضه وبين ما ينبغي فعله وما يجب تركه).
أما سنة القرآن في الإرشاد إلى العبادات فهي عند السيد رشيد
رضا (بيان أصولها ومجامعها وتكرار التذكير بها بالإجمال.
وأكثر ما يحث عليه من العبادات الصلاة التي هي العبادة
الروحية العليا والاجتماعية المثلى. فقد كرر القرآن الأمر بها
في آيات كثيرة (29 بـ 45) اتل ما أوحي إليك من الكتاب
وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر
الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون). وقوله (70، 19 إن الإنسان
خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا،
إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في
أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.) (صفحة 165167 من
كتاب الوحي المحمدي)(924/5)
وسواء أقام المنكرون للدين أو المصلحون له يجادلونه في نواحيه الفكرية الرمزية أو في نواحيه العملية من طقوس وعبادات وما إليها، فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن للدين وظيفة أساسية في السلوك الإنساني (فرديا كان أم جماعيا) لم يبطلها تطور الفكر والاكتشافات العلمية قديمها وحديثها. وكل ما فعله هذا التطور أن أفسد على الدين بعض وظائفه دون أن يستطيع بناء ما هدم.
فإذا كان للدين - إذن - هذه الوظيفة الاجتماعية الهامة فلنحاول فيما بعد أن نتعرف جوهر النتائج الاجتماعية للاختبار الديني.
نيويورك
للبحث صلة
عمر حليق(924/6)
الأزهر والثقافة الدينية وأثرها في الحياة المصرية
للأستاذ الشرقاوي
أقيمت في مصر منذ شهرين أو أكثر، المهرجانات لمناسبة تنشرح لها صدور المثقفين الذين يرجون أن تتعمق الثقافة المصرية كيفا، كما يراد لها أن تتسع كما، وأن تستوعب تلك هي المهرجانات التي أقيمت احتفالا بالعيد الفضي لجامعة فؤاد الأول.
وقد نالت هذه المناسبة من الاهتمام - وذلك أمر طبيعي - إلى حد أن شرفها جلالة الملك بحضور بعض حفلاتها، والى حد وضعها جميعا تحت رعايته السامية، وإلى حد أن يدعي لشهودها كبار رجال الفكر والعلم من بلاد العالم المختلفة، فحضرها مندوبون عن ثلاثين من الدول بلغ عددهم مائة وخمسة وسبعين، وقد شهدوا جميعا مدى ما وصلت إليه الثقافة المدنية في مصر من تقدم ونجاح.
ومنذ أيام قريبة رأينا وسمعنا عن حفلات تقام في إحدى مديريات مصر يتبرع فيها، أو يعلن فيها بالتبرع، بأموال ضخمة ستخصص لإنشاء مدارس، وقد تنشأ منها أو يستعان بها على إنشاء جامعة جديدة، فوق ما أنشئ من جامعات في السنوات الأخيرة. وأبادر فأسجل أن هذه مناسبات وتوجيهات تنشرح لها، كما قلت، صدور المثقفين الذين لا يرجون لوطنهم إلا الخير.
ولكن هناك شيء آخر هو الذي أريد أن أجعله موضوع هذا المقال.
منذ ذلك الوقت الذي كانت تقام فيه تلك المهرجانات الحافلة لعيد الجامعة، وإلى هذه الأيام القريبة التي تلبي فيها الدعوات وتبذل الأموال الضخمة، أو يوعد ببذلها، لإنشاء مدارس وجامعة جديدة، في هذا الوقت وذاك، رأينا وسمعنا، وما نزال نرى ونسمع، عن أمور تجري في جامعة عريقة تعتز بها مصر، ويحتاج العالم الإسلامي - أو هكذا يقال - لما تقوم به، أو لما يمكن أن تقوم به، من جهود في سبيل إحياء ثقافة هذا العالم وحفظ تراثه العقلي والأدبي والروحي. بل في سبيل تنمية هذه الثقافة وتعزيزها ومدها بعوامل البقاء والتقدم.
هذه الجامعة هي الأزهر.
والناس أمام هذا الذي رأينا وسمعنا عن هذه الجامعة فريقان، فريق يرى أن من خصائص(924/7)
رجل الدين التبتل والبعد عن رغائب الحياة وأن واجبه الأول هو الدعوة لدين الله وتعليم الناس وهدايتهم. وهذا الواجب مما لا يتخلى عنه رجل الدين الحق، مهما لقي في سبيله.
وفريق يرى أن رجل الدين إنسان يجب أن يعيش كما يعيش الناس، وأن توفر له أسباب الحياة، لا نقول الحياة الميسورة الموفورة، ولكن الحياة المعقولة المقبولة. وتوفير الأسباب لهذه الحياة سبب أو شرط لابد منه لتمكينه من أداء واجبه في الهداية والدعوة.
ولست الآن بسبيل التفنيد أو التأييد لأحد هذين الرأيين، أو كليهما، أو التوفيق والتأليف بينهما. بل أريد أن أعالج الأمر بما هو أعم وأشمل.
مهمة الأزهر، أو المفروض إنه مهمته، هي القيام بالرعاية على كل ما يتصل بالدين والعقيدة واللغة، ووسيلته إلى ذلك هي معرفة نوع معين من الثقافة هو الثقافة الإسلامية. وهذا النوع من الثقافة أو المعرفة إن لم يكن أهم الأسس التي تقوم عليها الحياة المصرية، فهو من أقوى أسسها، لأنه أحد مقوماتها الأصيلة، أو يجب أن يكون كذلك.
ومصر من أهدافها أن تمكن علاقاتها الثقافية وأن تمد نفوذها الأدبي في مجالين، الأول تلك البلاد العربية التي تربطنا بها جماعة الدول العربية أو وشائج الدين واللغة، والثاني مجال القارة الأفريقية أو مناطق خاصة فيها تحتاج لثقافة مصر ومعرفتها ونشاط أبنائها. وقد كان لرفعة رئيس الحكومة في هذا الشأن حديث أذيع منذ شهور وظل إلى عهد قريب موضع تعليقات الصحف في العالم.
هذه الأهداف الثقافية، أو ما هو أبعد مدى منها، لا يمكن أن يتحقق إلا على الأساس الأول من أسس حياتنا المشتركة مع هذه البلاد العربية وأهم مقوماتها، وهو الدين واللغة، ولا يمكن أن يأخذ سبيله إلى المجال الآخر إلا على أساس من ثقافتنا ولغتنا لكي تقوم بيننا وبين هذه البلاد علائق موثقة يمكن أن يكون لها دوام ورسوخ ونمو.
وهناك زعامة مصر على البلاد الإسلامية أو العربية. وسواء أكانت هذه الزعامة قائمة فعلا ويراد الإبقاء عليها وتعزيزها، أو هي هدف يراد الوصول إليه، فإن من أهم أسانيد هذه الزعامة ومبرراتها الحرص على خصائص ما هو (إسلامي) و (عربي) من الثقافة والفهم والفكر.
فهل يراد من الأزهر أن يكون هو سبيل الوصول إلى هذه الأهداف. .؟(924/8)
إن كان الجواب (نعم) فيجب أن يدرك القوم، وأن يدرك الأزهر ويعمل والإدراك أول مراحل العمل للتمكن من الوصول إلى هذه الغايات، وأن تمهد السبل لهذا الوصول.
هناك احتمال آخر، هو أن ما يقصد بالدين واللغة شيء، ومواطن الدراسة للدين واللغة شيء آخر، وأن الثقافة واللغة أمران اعم من الأزهر والمعاهد الثقافية. هذا الاحتمال أو الغرض يهمس به قوم ويجهر به أقوام. وهم يقولون إن الأزهر قام بواجبه في الأزمان الماضية في حدود إمكانه وفي حدود الحاجة التي كانت قائمة في تلك الأزمان، وأن الأزهر أدى رسالته في ظروف كانت الملاءمة قائمة بينه وبين بيئته وعصره. ثم تغيرت الأزمان، وقد يكون تغير الإمكان والقدرة أو تطورهما أقل من تغير الزمن وتطوره، وقد تكون الملاءمة الآن مع العصر غير قائمة أو غير كافية.
هذا الوضع، أو التحديد للمسألة، يهمس به قوم ويجهر به أقوام. فإن كان هذا التحديد صحيحاً معتبرا عند أهل الاعتبار ومن بيدهم توجيه الحياة العامة في مصر، فإني أعتقد أن الحرص على مقومات حياتنا وثقافتنا، وعلى الأهداف الهامة التي تهدف إليها مصر لتعزيز مكانتها، الحرص على هذا وذاك، يجب أن يكون مقدما على اعتبارات الرعاية والمجاملة.
محمود الشرقاوي(924/9)
من الدراسات الأدبية
ابن الخلفة
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
من وراء زوايا التاريخ المهملة، ومن خلال صفحات المخطوطات القديمة، ومن خلف خزانات صدور شيوخ الأدب: تلوح أنوار مشرقة، وتطل صور زاهية، وتتراءى بدوات مشرقة، فتومض وميض الذكريات في خاطر الزمن؛ حاملة نفحات شذية، فاحت في الربع الأخير من القرن الثالث عشر للهجرة.
كانت مدينة (الحلة) حينذاك كعبة الرواد ومنهل الوراد من عشاق العلم والأدب والعرفان، وكانت الينبوع الرائق السلسبيل الذي يتهافت عليه الظامئون - كل حدب وصوب - لنهل تلك الرشفات الريا، التي كانت تفيض من عقول أدبائها الفطاحل بغزارة متناهية فيها كل طرفة ومتعة.
أما اليوم وا أسفاه؛ فإن أدباءها كادوا أن يتناسوا أن لهم من تاريخهم الفكري ما يضمن لهم نهضة أدبية رائعة في حاضرهم هذا الذي عصفت به الأهواء وطوحت به النزعات؛ وقد غرب عن بالهم أن لهم سجلا حافلا بأنواع الجهاد الفكري والعلمي في تاريخ مدينتهم هذه، ذلك السجل الذي يزخر بتراث أدبي لا يستهان به: ينتظر الجلاء والحك، ينتظر أن تمتد إليه يد العناية والاعتزاز، لتسجل جميع مظاهر حياته الفكرية، لئلا يشذ وينبو عن طابعه المتوارث، وحاضر محيطه المكتسب!!
فلو تصفحنا تاريخ الأمم الغريبة، لوجدناه يعتمد كل الاعتماد على ما جاء بتراثه الشعبي القديم؛ ويضعه موضع التقدير والإجلال. فهذه إنجلترا تقدس أغنيها الشعبية القديمة لما فيها من أمانة في التعبير، وصدق في الإيحاء، وجمال في التصوير فهي المرجع الأول عند دراسة نهضتها الأدبية الحديثة؛ بل هي الأساس المتين الذي بنى عليه أدباء إنجلترا صروح مجدهم الأدبي.
فالشعر الشعبي له طابعه الخاص، وله مميزاته وأساليبه وفنونه، وهو مرآة صادقة لحياة الجيل بكامله، بل إنه الصورة الحقيقية التي نعتمد عليها في دراسة ذلك العصر، بما فيه من ألوان وأشتات، فضلا عن أن للغته العامية (ديناميك) مجرى يستقر في النفس وفي الأعماق(924/10)
دون التواء أو مواربة. . فهي المدرسة الأولى لشحذ أذهان أبنائها، وتدرجهم إلى صفوف الكمال. . .
ويشترك الشعر الشعبي مع شعر القريض في قوة التعبير عن الخلجات والأحاسيس، كما يشاركه في الأوزان والقوافي والأغراض، وبكثرة عدد فنونه ومصطلحاته التي وضعها له أهل هذا الفن. . ومن بين مشاهير الفضلاء الذين نظموا في الشعر الشعبي: هو الأمام ابن الجوزي، وشمس الدين الكوفي، وأبو بكر ابن قزمان وغيرهم، كما نقل ذل كصاحب كتاب (ميزان الذهب) وابن خلدون في (مقدمته).
ولم يقتصر نظم الشعر الشعبي على الشعراء القدماء بل تعداه إلى مشاهر الشعراء المحدثين، كأمير الشعراء أحمد شوقي بك، وشاعر الشباب أحمد رامي - شيطان أم كلثوم! ولهما في ذلك قطع غنائية خالدة ملأت سمع الزمان رقة وعذوبة، وبذلك أضافا إلى الأدب العربي ثروة رائعة، كانت ولا تزال موضع تقدير وإعجاب من أبناء الضاد. . .
وفي هذا الفصل استعراض أمام القارئ صورة جميلة، أوشك الزمن بمروره أن يطمس معالمها ويذهب بروائها وآثارها، هذه الصورة المحببة إلى نفوس طائفة كبيرة من أدباء هذه العصر: تلك هي صورة حياة الشاعر الشعبي محمد بن إسماعيل الحلي، المعروف بابن الخلفة!
ولد الشاعر في مدينة الحلة عام 1247 هـ في محلة (الجامعين) وترعرع في مغانيها بين ظلال النخيل وشواطئ الأنهار، وشب في أحضان الطبيعة الساحرة، بين أهل العلم والأدب أمثال السيد حيدر بن السيد سليمان الحلي، والسيد صالح بن السيد مهدي المعروف بـ (الكواز)، وغيرهم مما لا يستطاع حصر عددهم. . . فظهرت شاعريته منذ نعومة أظفاره، وراح يرسل الأنغام عبر الفضاء الرحيب، مجنحات الرفيف الحلو والرنين المطرب. . . إلا أن البعض من شعره - كما سترى - تغلب عليه الألوان البيانية المتكلفة، ويشيع فيه الغلو والإغراق في الزخارف البديعية. .
كان - رحمه الله - ذكي القلب بارع النكتة؛ خفيف الروح، وفيا أبيا لم يتكسب بشعره، ولم يمتدح أحدا لا يستحق الإطراء والثناء، بل كان يتكسب من مهنته الخياطة التي كان يزاولها، إذ تدر عليه ما يسد رمقه وبقيه العوز والفاقة: لذا نراه قد جال جولات صادقة في(924/11)
جميع فنون الشعر الشعبي والقريض معا، منها (الموال) و (الركباني) و (البند). .
فاستمع إليه في (مواله) الشعبي الذي يزخر بالجناس والتورية، يقول فيه:
يا فاحم الليل جعدك والبدر ويهلك
النارا إلك نورهه وبضامري ويهلك
ييزي دلالك علي وتغنجك ويهلك
يا من بفتر العيون أرميتني والحاظ
يا مانعي شمتك ومسامرك والحاظ
واللي حظه بك حظه والماحظه والحاظ
بهواك من ذا وذا يعدم عليه ويهلك
وهاك استمع إليه في (موال) آخر، يقول فيه:
لواعجي يوم طار الشوك بظهورهن
والبيض أطون حزوم الطي بظهورهن
ونيت ون الطعين الكيض بظهورهن
كالن: علامك بروض الحسن شخصك فلا؟
والغيد يمك فلا تحظى بوصله فلا؟!
كلت: آنه شبه النياق اللي سرن بالفلا
ومن الظما موتن والماي بظهورهن
وهو بهذا الموال قد ضمن البيت المشهور القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وقد أحب شاعرنا عذراء من أهالي (القصيم) من ديار نجد واسمها (مي): وهي فتاة كاعب لم تبلغ الرابعة عشر من عمرها؛ فرقت نفسه، ودقت محبته، فأطلق لعواطفه العنان، وراح يسرف على روحه فيما يخضع له من تباريح الهوى وعذاباته، ولكن في ثياب من العفة والطهر والبراءة؛ فنظم (ركبانيته) المشهورة، قالها على لسان أهل القصيم. . فيقول فيها:
يا معتلي في كور هجنا تليعه ... ريض لشبدي بالنوى لا تليعه
قبل السرى يا هيه دونك ذريعه ... من مدنف في قيد الأشواق مرهون(924/12)
واستمع إليه وهو يخاطب صديقه الذي أوفده كرسول إلى حبيبته (مي) فيقول له:
وأمض لفتاة الحي والليل داجي ... عساك من صرف المجادير ناجي
عني نيابة يا فتى، لا تحاجي ... قلها: ترى يا (مي) خلفت مجنون
وبعد أن يرحل ذلك الرسول ويقوم بمهمته أحسن قيام، يعود إلى الشاعر بأخبار سارة، ويوصيه بالسفر إلى لقاء معشوقته. . وهكذا يمضي على هذا المنوال فينسج رائعته الشعبية التي يصف فيها قصة غرامه، وكيف راح متلصصا (كضيف الطيف مسترصدا)، ليزور حبيبته في غفلة من عيون الوشاة وآذان الحساد، وفي حذر وخوف من أهلها ذوي البأس والبطش. . وها هو الآن يلتقي بها في سكون الليل الهادئ. فاسمعه يقول:
مديت كفي حدر طي المبرم ... قالت: تهدى، قلت: أنا بك مغرم
من للوصل يا زينة العين حرم؟ ... والوصل مردين الهوى بيه يحيون
فتخاطبه:
خلي الترومه وانثنى اللثم ثغري ... وأنشق عبير حقاق غاص بصدري
لا تكثرن ضمي فأعوام عمري ... عشر وأربع ما عليها يزيدون
بكر بعد ما لوث الثوب نهدي ... ولا انقطف ورد زها فوق خدي
غيرك فما حصل سوى طول صدي ... ولا هلي بي بعض ريبه يظنون
وبعد أن يتزود من معبودته يودعها على مضض، فيقول:
ودعتها والدمع عاالخد سايل ... والجسم من عظم النوى بات ناحل
قالت: بنا لا تقطعون إرسايل، ... ناديتها: وانتوبنا لا تقطعون
وراح ابن الخلفة يبزغ نجمه رويداً رويداً، فاندفع يغشى مجالس العلم ونوادي الأدب، ويتصدر الحفلات والولائم، فذاع صيته وشاع، حتى تتلمذ له كثيرون، ساروا على منواله متلمسين خطاه. . وقد تأثر بشعر شعراء الموشحات في الأندلس والعراق، فأخذ يعب من رحيق ينابيعهم، ويقلد فنونهم في صياغة الموشحات ولكنه، وفي الأخير، برع في صياغة نوع آخر يسمى (البند) وأول من اخترع هذا النوع هم أهالي (الحويزة) وهو منوال غريب قد يخرج على أوزان الشعر، وقد يوافقها. ولا نخطئ إذا قلنا إنه قريب الشبه من النثر المسجع، أو الشعر المرسل؛ إلا أن الناظم لهذا اللون كان جل اعتماده على اللحن(924/13)
الموسيقي، حتى ولو خرج عن الأوزان العربية المعروفة، لأن الدافع الأول - كما قلنا - كان دافع الطرب، والتأثير على السمع ليس إلا!
وشاعرنا هذا: قد بز أقرانه وغلبهم في هذا المضمار. وله في ذلك ثلاثة (بنود) معروفة، فالبند الأول يصف به حصانه. والبند الثاني يصف فيه سفرته إلى (بغداد). والبند الثالث وهو المشهور يصف فيه حبيبته وصفا دقيقا، وهو بذلك يقلد صاحب (اليتيمة) وقد وشاه بألوان رائعة من اللفظ الأنيق من جودة الصياغة، وغزارة المعاني، تلك التي نتلمسها في كل صورة من صوره. ولو أننا نلاحظ فيه بعض التكلف في الصناعة، وبعض التعقيد في اللفظ، وهذا مما دفع به أن يحشر بين سطوره طائفة من الكلمات الغريبة، البعيدة كل البعد عن اللغة العربية الفصحى. . ولكن له العذر في ذلك، لأن طابعه الشعبي يغلب عليه في بعض الأحيان، فتفلت منه هذه السقطات فأصغ إلى ما يقول في هذا البند:
أيها اللائم في الحب
دع اللوم عن الصب
فلو كنت ترى حاجبي الزج ... فويق الأعين الدعج
أو الخد الشقيقي
أو الريق الرحيقي
أو القد الرشيق
الذي قد شابه الغصن انعطافا واعتدالا،
فندا يورق لي آس عذار أخضر
دب عليه عقرب الصدغ،
وعرنين حكى عقد جمان يقق
قدره القادر حقا ببنان الخود ما زاد عن العقد،
وثغر أشنب قد نظمت فيه لآل لثناياهن
في سلك دمقس أحمر
جل عن الصبغ
وجيد فضح الجؤذر مذ روعه القانص(924/14)
فانصاع ودين الود
يزجي حذر السهم طلا عن متنه
في غاية البعد،
فلو تلمس من شوقك ذاك العضد المبرم
والساعد والمعصم
والكف الذي أنمله قد شاكلت أقلام ياقوت
فكم أصبح ذو اللب، من الحب، بها حيران مبهوت؟
لو شاهدت في لبته يا سعد مرآة الأعاجيب
عيهلا ركبا حقا عاج حشيا من وائق الطيب،
أو الكشح الذي أصبح مهضوما نحيلا
مذ غدا يحمل رضوى كفل
بات من الرص ... كموار من الدعص
ومرتجى ردفين
عليها ركبا من ناصع البلور ساقين،
وكعبين أدرمين
لها صيغ من الفضة أقدام:
لما لمت محبا في ربى البيد من الوجد بها هام!
أهل تعلم أم لا؟ ... أن للحب لذاذات
وقد يعذر لا يعذل من فيه غراما وجوى مات
فذا مذهب أرباب الكمالات
فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات،
فكم قد هذب الحب بليدا؟!
فغدا في مسلك الآداب والفضل رشيدا،
صه. . فما بالك أصبحت غليظ الطبع؟!
لا تعرف شوقا(924/15)
لا ولا تظهر توقا
لا ولا شمت بلحظيك
سنى البرق اللموعي الذي أومض من جانب أطلال
خليط عنك قد بان
وقد عرس في سفح ربي البان،
ولا استنشقت من صوب حماه نفحة الشيح
ولا اهتاجك يوما للقاه من جوى وجد وتبريح،
لك العذر
على أنك لم تحظ من الخل بشم وعناق
وبضم والتصاق،
لو تكن مثلي قضيت ليال
سمح الدهر بها، إذ بات سكرى قرقف الريق، بتحقيق،
فما قهوة إبريق!!
ومشمومي ورد، لاح
من وجنة غد، فاح
لي عرف شذاه،
وإذا أسفر ليل الشعر في طرته
أوضح من غرته
صبح سناه،
لو ترانا كلنا يبدي لدى صاحبه العتب
ويخفي فرط وجد كامن أضمره القلب سحيرا؛
والتقى قمصنا ثوب عفاف قط ما دنس بالإثم
سوى اللثم:
لأصبحت من الغيرة في حيرة
حتى جئت لي من خجل تبدي اعتذارا(924/16)
ولأعلنت بحب الشادن الأهيف سرا وجهارا!.
إلى هنا يصل ابن الخلفة في (بنده) ثم يعرج به إلى مدح الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام، ولنقتطف إلى القارئ صورة واحدة في هذا المديح. . يقول فيه:
يمير الخلق بالرفد ... ببذل زائد الحد
وقد جل عن الند
وقد فاق على النور شذاه
وعلى البدر سناه!.
هذه لمحة موجزة من حياة الشاعر المنسي، الذي توفي رحمه الله - سنة 1297 هـ، في بداية تفشي مرض الطاعون المشهور في الحلة، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ليدفن هناك. .
العراق - الحلة
عبد اللطيف الشهابي(924/17)
الأزهر جريح فأدركوه
إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير
للأستاذ محمود النواوي
حقا والله لقد هان على الأملس ما لاقي الدبر. ولكن. . . ولكن كان الظن أن دبر الأزهر دبر للشرق كله. وأن علته علة للإسلام على بكرة أبيه. وأنه إذا اشتكى تداعي له سائر المسلمين بالسهر والحمى، ذلك أن الأزهر صاحب الفضل الأكبر؛ والمحل الذي لا يجهل، فمن المكرر أن نقول إن العالم كله مدين في مدنيته وتثقيفه للإسلام. وإن الإسلام مدين في نشر ثقافته في أرجاء الأرض للأزهر منذ ألف سنة أو تزيد.
ومن المكرر أن نقول إن الأزهر ثبت ثبات الطود الشامخ هذه المدة يعلم ويخرج ويبث وينشر ويذيع من معارف الإسلام واللغة العربية والفلسفة الإسلامية وغير الإسلامية وشتى صنوف المعارف البشرية ما طرق أعناق الخليقة؛ لا يبالي ما يصيب العلم أحيانا من عسف واضطهاد، بل يخرج من كل عارض خروج البدر من تحت غيمه، والشمس من بين الضباب. لقد فزع العلم والعلماء أيام التتار في سائر الأقطار وروعوا حتى كان بعض الجبارين يتخذ من رؤوسهم قلاعا إلا من أوى إلى مصر كنانة الله في أرضه، وإلى الأزهر كنانة الله في مصر. لقد حفظه الله من كل يد ظالمة فلا تصل إليه، وقال يا نار كوني برداً وسلاما عليه يوم طورد العلم والأدب في الشرق أيام التتار، وفي الغرب أيام طورد العلماء والأدباء في بلاد الأندلس. ثم كانت يده الطولى التي سجل الله له يوم حكم العثمانيون مصر نفسها فحاولوا القضاء على العلم والأدب بما شغل الناس في عسفهم واستبدادهم ومحاولتهم تأخير البلاد في جميع نواحيها حتى كانوا ينقلون إلى بلادهم كل نفيس كريم وكل شخص عظيم. ولكن الأزهر يومها كان كعبة القصاد وموئل الرواد ملحوظا بعناية الله تؤمنه المخاوف، ومصنوعا على عين الله تنجيه من المتالف، حتى كان عهد الأسرة العلوية الكريمة فكان ما حفظ التاريخ للأزهر من إنه نواة الثقافة في جميع نواحيها. والذي اعتمد عليه جد هذه الأسرة العظيمة محمد علي باشا فكون البعوث وأنشأ المدارس وبث العلم والمدنية من جميع نواحيها وأنحائها. ذلك قول معاد مكرر؛ ولكنها الذكرى العطرة تثيرها مثيراتها وتجددها مجدداتها.(924/18)
أعزز علي بأن أراك يا معقل العلم والثقافة ويا منيع المدنية طريحا مجندلا تحت احتكام الأهواء. واختلاف النزعات والآراء وأنت أسوأ حالا مما قيل فيه:
لقد هزات حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
أعزز علي بأن أرى أعداء الدين وخصوم الإسلام من المستعمرين الذين ما فتئوا يحاربونك بكل وسيلة في السر والعلن لأنه لا طيب لحياتهم وأنت في مصر تبث تعاليم الإسلام وكلها حرية وإباء، وعزيمة ومضاء، وجهاد للأعداء، وقوة وفتاء، يأبى القليل منها أن يمكن لجبار في الأرض أو يفتح لمستعمر قيد فتر. فالآن إذ أرى هؤلاء يشمتون ويفرحون ويرتقبون ما كنوا يأملون بأيدينا لا بأيديهم. لقد أفلحت سياستهم بعد أن مكنوا المدنية، الخلاعة والدعارة والخنوثة وفككوا قيود الدين حتى هان فهان معه منبعه ومستقاه وهو الأزهر الكريم.
لقد جاء الوقت الذي تغلق فيه أبواب الأزهر باليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين والشهر والشهرين فما يحس أحد ولا يحرك ساكنا
إن أخوف ما أخاف أن تكون فتنة محبوكة ومؤامرة مقصودة يراد بها هدم الدين ونقض دعائم المسلمين فتتفرق كلمتهم وتتمكن الأيدي الغاصبة منهم في جو صفاء كما ضاعت خلافة الإسلام من قبل فكانت مبدأ ضعف في الجملة. وإذن يضحي الشرق والمسلمون بأشمط عنوان السجود به، ويفقدوا حمامة السلام وعنوان الوئام، ومبلغ رسالات الله إلى جميع الأنام، ويهون الشرق والمسلمون على الله فما يبالي في أي واد أهلكهم
أخوف ما أخاف أن تكون مؤامرة مدبرة يفعلها عدو مختبئ ويسلك إليها سبله، وأولها إيقاع البأس بيننا بأيدينا. فسياسة التفريق هي السياسة التي يعتمد عليها مهرة الساسة؛ والعدو الكاشح فينا ما أوجف عليها من خيل ولا ركاب. ولما بلغ معاوية أن الأشتر النخعي مات في شربة عسل وكان من شيعة علي قال معاوية إن لله جنودا منها العسل، فسيقول خصمنا (إن دامت الحال) إن لنا جنودا منها الفشل. لقد عرف العدو كيف يحقن خصمه بالمصل المخدر الذي يسهل به ارتكاب أكبر جريمة على الله والدين والوطن فما يفيق الناس إلا وقد وقعت الجريمة ونفذ السهم وإلا فما بال هذا الأزهر الكريم الذي كان ملاذ اللائذ ومعاذ العائذ ومفزع الملهوف ونصفة المظلوم، والذي كان قوام كل مائل وقصد كل جائز. والذي كان أعز على كل نفس مؤمنة من كل عزيز عندها قد أصبح يئن ويستغيث ولا مغيث. هذا(924/19)
الأزهر الذي كان يقضي بالحق في خصومات الدنيا ومشاكلها قد جاءت عليه قضية لا حكم فيها إلا الله (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). أما والذي نفسي بيده لئن تكن نوايا خبثت بمنبع الدين فإن الله خير الماكرين. (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) إن قضية الأزهر معلومة مفهومة، وكل مسلم مطالب بالنظر فيها وعلى رأس الجميع ملوك الإسلام. فقد بدت ظاهره استهانة واستهتار؛ تنذر بسوء المصير وعندئذ فستغل كل عنق في الأرض ربقة إثم لا قبل له باحتمالها ولا سيما ولاة الأمور جميعا يوم يقوم الناس لرب العالمين:
فلا تحمل ذنبي وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
محمود النواوي
المفتش بالأزهر(924/20)
2 - إرهاصات في الجزيرة
قبيل البعثة المحمدية
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
ولكن. . . من أين يستعد المؤرخ للجزيرة العربية حقائق بحثه ومادة موضوعه، وما أثر عن العرب الأول متهالك مضطرب ينقض بعضه بعصا، ويهدم آخره أوله، فأنت أمام سيل متلاحق من القصص والسير، والروايات والأحاديث، إذا أعملت فكرك وعقلك في تمييزه، وجدت أكثره خرافة لا تمت إلى الواقع بسبب، وإنما هو من فعل الوضاع، ترويجا لمذهب، أو دفاعا عن فكرة، أو سنداً لعصبية، أو رغبة ملحة في إضحاك الناس، حين كانت الحياة العربية تموج بهذا اللون من الافتعال والاختلاق، والباقية منه، لا تعطي صورة واضحة محددة، أو توحي بفكرة ثابتة ميقنة، يطمئن إليها الضمير العلمي، حين يعرض لأمر، فيحكم فيه إثباتا أو نفيا. .
ومبعث ذلك كله، أن التاريخ العربي كان يعتمد - إلى ما قبيل العصر العباسي - على المشافهة والرواية، وهي عرضة للتصحيف والتحريف، والزيادة والنقص، والضياع والنسيان، عند كل أمة وفي أي شعب، فلا إجحاف إذن حين يمسك الباحث، فلا يندفع مصدقا، ولا بدع أن ظل العرب حتى الرسالة المحمدية ومطلع الإسلام، شعبا بلا تاريخ!
كان القدماء عربا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجما يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد، لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم، ولأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً. . .
صحيح أن هذه القصص وما صيغ من أساطير، تتصل بعادات العرب وطباعهم، تلقي إشعاعا قويا على حياتهم ومعاشهم، لأن الوضاع وهم أقرب عهدا بهم، وأكثر علما بما كان عليه أسلافهم، اجتهدوا ما وسعهم الجهد، واحتالوا ما واتتهم الحيلة في أن يجعلوا هذه الصور واقعية، أو قريبة الشبه بالواقع، حتى لا ينكشف أمرها، فتضيع الفائدة المرجوة منها، ولكن الصحيح أيضاً، أن الصورة تكشف فيما تكشف عن نفسية المصور، وأن الرواية تتأثر فيما تتأثر بأخلاق الواضع، وتفاعلات المجتمع الذي عاش فيه. . .(924/21)
ولعل أغمض فترة في التاريخ العربي، هي تلك التي تمتد من القرن الأول الميلادي حتى القرن الثامن، فليس ثمة تاريخ صحيح لها، حتى المصادر اليونانية أو اللاتينية لم تشر إليها، رغم أن هذه المصادر عرضت لأحوال الجزيرة قبيل ذلك التاريخ (ومرجع ذلك فيما يبدو هو ظهور المسيحية وانتشارها في الغرب وتسلط الأضواء عليا، وجذبها لأنظار العالم المثقف إذ ذاك، وانصرافه عما عداها. وكذلك الإسلام من ناحية أخرى، فهو كما تعلم جاء مناهضا للوثنية العربية الجاهلية، فشن حربا لا هوادة فيها على كل ما هو عربي وثني، لذلك تطوع كثيرون من كتاب العرب لتشويه العهد العربي الجاهلي، تاريخا وأدبا وعقائد، وأضحت الصورة التي لدينا، والتي قدمها لنا الإسلام والمسلمون صورة مشوهة، لا تعبر عن حقيقة بلاد العرب قبل الإسلام)! وليس أقوى على ذلك دلالة ولا أبلغ حجة، من أن القرآن وسم عصر ما قبل البعثة بالجاهلية، وبداهة كان يقصد أن القوم لم يكن لهم نبي مرسل ولا كتاب منزل، وإلا فكيف نصم بالجهل وندمغ بالجهالة مجتمعا له آداب رفيعة، وثقافة عالية، كتلك التي تركها لنا العرب القدامى، ولكن الإسلام وهو يواجه قوة قريش في عنفوانها، لم يجد بدا من إسدال السجف على ما قبله من حياة، ومطالبة معتنقيه بترك ما ورثوا في صرامة، والعزوف عما ألفوا في شدة، حتى يمهد لدعوته سبل القرار، وكان له ما أراد إلى حين
وكان الشعر ديوان العرب الخالد، يجمع مفاخرهم، ويسجل عظائمهم، ويصور حياتهم، وتنعكس على محياه خلجات نفوسهم، ونبضات قلوبهم، فنهي عنه؛ وصادر روايته، وشن حملة شديدة على الشعراء ورواتهم (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون؛ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) ويروي الأغاني أن أمية بن الصلت كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر يقول:
ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح
فنهى الرسول (ص) عن رواية القصيدة كلها، وكان لذلك أثره فيما بعد، فلما انتصرت العصبية في العهد الأموي، وعاد الشعر يحتل مكانته من جديد، كانت يد الرقيب قد امتدت إلى ما بقي من العهود الأولى، فحذفت وبترت، وغيرت وحورت، مرضاة لله أو تقربا إلى(924/22)
السلطان
وقد تعرض القرآن الكريم لما كان عليه العرب، هادماً وقادحاً، ذاما وناكرا، ولكنه لم يعرض لكل شيء، ولم يهدم كل شيء، وما اعترض عليه أو دعا إلى هدمه ذكره مجملا فلم يعن بالتفاصيل والجزئيات، أو الأسباب والدوافع، وإنما يفسر الشيء بسببه أو دافعه، وتكيف الحادثة بظروفها المهيأة، وما أحاط بها من ملابسات.
ومع ذلك، فلنحاول في هوادة ويسر، أن نشق طريقنا خلال هذه الحجب، لا غالين ولا متعصبين، وإنما رائدنا الصدق وغايتنا الحق، ونهجنا الإخلاص، وعلى المرء أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح!
(يتبع)
الطاهر أحمد زكي
كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول(924/23)
تأديب الصحافة
للأستاذ محمد إبراهيم الخالدي
لا شك أن سمات الدهشة سترتسم عل محياك حين تقرأ عنوان هذا المقال، وستنكر أن تتهم الصحافة، وأن تساق إلى تأديب أو عقاب. ولن ترضى وأنت المتعشق للحرية في جميع ضروبها، المستشرف لعصر تتحقق فيه آمال البلاد أن ترى (صاحبة الجلالة) تهان، وتذل، وتنزع عن عرشها، لتساق إلى مجلس قضاء
وأنا معك أيها القارئ فيما تنكره، لا أرضى للصحافة ذلك المصير المحزن؛ بل أحب لها أن تبقى على عرشها، عزيزة الجانب، مرموقة المكانة، وأن يزاد قدرها علوا، لتنهض بواجبها خير نهوض. ولكنني مع ذلك أدعو إلى تأديبها - على نحو آخر لتستطيع أن تساهم في بناء الإصلاح على دعائم صحيحة، ولتكون وسيلة راقية ترتفع بالشعب وترقى به شيئا فشيئا إلى مدارج الرقي ومطامح الآمال.
والصحافة إحدى وسائل ثلاث في العصر الحديث تقدم للناس ما يضطرب في عالم الأرض من أحداث، وما يجول في عالم الذهن والقلب من أفكار ومشاعر تشاركها في ذلك الإذاعة والسينما، وتتضافر كلها على تغذية المرء بما يحتاج إليه عقله وقلبه
وسيطرة هذه الوسائل الثلاث على الناس وانتشارها بينهم دليل على أن الإنسان متطلع أبداً إلى معرفة ما يجري حوله من أمور لا يكتفي بغذاء المعدة بل يسعى وراء ذلك إلى غذاء العقل والقلب، فيطلبه في صحيفة يقرؤها، أو فلم يشاهده، أو إذاعة يستمع إليها
ولقد انتشرت الصحافة في هذا العصر انتشارا عظيما، وأصبحت في كل بيت يقرأ، ولعل من أقوى أسباب انتشارها رخص ثمنها وتقدم طباعتها وإخراجها تقدماً عظيماً. فهناك عدد من الصحف الأسبوعية والشهرية التي تصدر في البلاد العربية، تستهوي القارئ بجمال الطباعة وحسن التنسيق. كما أن عرض الموضوعات أصبح فناً من الفنون تجمع له الصور المعبرة، ويحشد له الأسلوب الطلب، ليكون التأثير في القارئ أبلغ، والوصول إلى مواطن شوقه واهتمامه أسرع. ولهذا فإنني أرى أن للصحافة أثراً كبيراً في الشعب لا يقل عن أثر الوسيلتين الأخريين؛ فهي تعبر عن آمال الشعب ورغباته، كما إنها توجهه إلى هذا الاتجاه أو ذاك(924/24)
ولا شك أن الصحافة العربية قد خطت خطوات واسعة نحو التقدم فلم يعد عملها نقل الأخبار ورواية الأنباء وإنما تعدت ذلك إلى تثقيف الشعب، ونقد المجتمع، وعلاج الأدواء، وتوجيه الآراء؛ ومن ثم فقد أصبحت من الوسائل القوية التي نرجو لها القوة والخير، لأنها لم تعد ملكا لأصحابها وإنما صارت ملكا للشعب، فهي مسؤولة عما تخلق فيه من تيارات صالحة أو فاسدة، وعما تصور له من أهداف ومثل
ولكن صحافتنا - مع الأسف - لا تسير نحو أهداف واضحة، ولا تطبق مبدأ محدوداً، وإنما أكثر صحفنا تسعى وراء الربح المادي، فتجاري أهواء الشعب وتسعى إلى إحراز ما يرضيه لا إلى ما ينفعه، لتضمن الرواج والقبول ولهذا فإن صحافتنا محتاجة إلى تطعيم من دم الأدب، يكسبها قوة، ويجعلها أقدر على أداء مهمتها
وحين أتحدث عن الأدب، فإنما أعني ذلك النوع من الأدب الذي يستحق الخلود بسمو أفكاره، وجمال تعبيره، واتساع محيطه. ومن أبرز صفات الأدب الحي: الحرية والجمال، الحرية في أن يقول الأديب ما يشاء كما يملي عليه عقله وضميره، وأن يلقي الرأي الذي يعتقد، لا يسعى لإرضاء المجتمع ولا إلى تملقه لينال رضاه، كما لا يقصد إلى مبادئه ومثله ومعتقداته بالهدم والتحطيم. ثم التعبير عن آرائه وأفكاره بالقول الجميل، والتعبير الحي، وإخراج ذلك كله في حلة رائعة من الفن
فصحافتنا بحاجة إلى تأديب لاكتساب الروح القوية التي تشيع في الأدب الخالد، والتي تهتم بالفكرة قبل الناس، والتي ترى أن من أقوى واجباتها أن ترفع الشعب إلى مستوى راق من التفكير والتهذيب والذوق لا أن تنزل إلى غرائزه وأهوائه وإلى ما يريد وما لا يريد، هي جديرة بأن تقتبس تلك الكرامة العقلية التي يتصف بها الأدب، وبأن تتعلم من الأدب السمو بالقارئ والأخذ بيده إلى سبيل الحياة الحافلة بالكفاح، لأطرح المبادئ والمثل في سبيل تسليته وتخدير أعصابه
ولا يعني ذلك أن تهمل الصحافة الشعب ولا تلتفت إليه؛ ولكن الذي أقصد إليه أن يكون للصحافة مبدأ إصلاحي، وهدف سام تسعى إلى تحقيقه؛ ترتفع بالشغب إذا رأته يتدنى في أخلاقه وفي مثله، وتبصره بالسبل الواضحة إذا ما زاغ عنها معبرة في كل ذلك عن رغباته ومآله(924/25)
وصحافتنا بحاجة إلى تأديب لاكتساب أسلوب الأدب في تعبيره لتدب فيها الحياة، ولتؤثر في قلوب القارئين وفي عقولهم، ولتأخذهم شيئاً فشيئاً إلى ذخائر الفكر، وروائع الفن، فتصل بينهم وبين الأدب الخالد، والثقافة الواسعة، وترتفع بهم إلى حياة واعية، ينعمون فهيا بالحرية التامة، ويبصرون فيها سبل الإصلاح
فإذا ما أدبت الصحافة على هذا الأساس: بأن رفعت كرامة العقل ونزاهة القلم فوق كل اعتبار، وبأن أشاعت الحياة في تعبيرها واتخذت طريق الأدب في أسلوبها؛ أصبحت أقوى وسيلة من وسائل التأثير في النفوس وتوجيه الإصلاح في المجتمع، وأصبحت (صاحبة الجلالة) حقا
دير الزور - سوريا
محمد إبراهيم الخالدي(924/26)
أحمد يوسف نجاتي
للأستاذ حسين علي محفوظ
قرأنا في العراق - أيام الدراسة - على طائفة من أشياخ مصر، ونفر من أئمة اللغة في مغانيها، وردوا العراق، فانتهزنا فرصة مقامهم، ولبثوا فيها فاهتبلنا مكثهم، أقبلنا على الأخذ عنهم، واعتكفنا على الإفادة منهم، وتوفرنا على الدراسة عليهم، وقد كانت أيامهم حفلا، يعمرها الأنس، ويغمرها البشر، وتشوبها النعماء
لازمتهم ملازمة السقب لظئره لا يزايلها، وخالطتهم مخالطة الابن لأبيه لا يفارقه. ولا أزال أمحضهم هواي، ولا أنفك أصفيهم ودي، وقد شغفت حبا بفضلهم، وأولعت وجدا بعلمهم، وأغربت صبابة بخلقهم. وكنت إذا آن أوان الدرس أقبل عليهم ولا كالظمآن، وأهفو إليهم ولا كالعجلان. وكان ذلك يقربهم مني ويزلفني عندهم. وقد كان يجمعني معهم شعر، ويؤلف شملنا أدب، ولقد كان فراقهم يوم حزن لم استطع صبرا عليه، وكان تحملهم يوم أسى لم أملك حملا له
وما أنس لا أنس شيخهم في مصر - غير مكابر - إمام النحاة أستاذنا أحمد يوسف نجاتي، الذي أعجبت بفصاحته، وأغرمت بمنطقه، وكلفت بشمائله، وهو عيبة علم حافلة وجؤنة أدب ساطعة، تنم على فضله أصول الأدب التي هذبه، وتدل على علمه دواوين اللغة التي أوضحها، وتعبر عنه مجاميع السير التي حررها.
قرأنا عليه النحو فذكرنا سيبويه، وقرب من خواطرنا ابن هشام، وأيا ابن يعيش وأسمعنا الكسائي، ونشر المبرد. ولا نزال كلما ذكرناه حننا نزوعاً نحوه، وطربنا شوقاً إلى القرب منه، وزدنا وجداً إلى لقياه
وهو من بيت شهير ينميه إلى سيدي الناس فرع شامخ، وعرق طيبن , حسب باذخ، ونسب وضاح. كان آباؤه من أئمة علماء الدين وأولى الأمر والوجاهة بالإسكندرية، درس في مجالس العلم بالمساجد، وتخرج في دار العلوم سنة 1906 لا يعاوره ملاءة الحضر أحد أبدا. وكان لازم الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده - رضي الله عنه - واقتدى بهداه؛ وهو وارث علمه الجم، وأدبه الغزير، وخلقه العظيم، وفضله الباهر، ومواهبه الجسيمة، وتواضعه الوافر. وأنا لا أعرف أحدا أحاط بفنون اللغة سواه، ولا أدري بأحد ملك نواصي(924/27)
الأدب غيره
جاء العراق فتهللنا، وأقبل علينا ولا إقبال الحيا على الثرى المكروب فتشوقنا لدروسه تشوق الظمآن إلى الماء، واستمسكنا بمجلسه ولا استمساك الخائف بالأمن. وقد حل ساعة ورد بيت (رحمة الله الطاله باني) من أهل الجاه ببغداد واحتفوا به فأنشد مورياً:
تغربت عن مصر ببغداد طائعاً ... وقد حيل ما بيني وبين هوى النفس
يقولون يشفيك الأنيس من الجوى ... ومالي إلا رحمة الله من أنس
وكان أراد في غضون دراستنا عليه، وإبان أخذنا عنه، أن يجرب علمنا ويمتحن ذكاءنا، ويختبر فهمنا، وكان يعبر عن الامتحان بقرع الصفاة، فأقبل والصبح في العنفوان، وقال أريد لأقرع صفاتكم، فقلت أجيبه مورياً:
أبهذا البحر الذي جمع العل ... م فأوعى ورام قرع صفاتي
أنا إن رزتني ولا غرو صلب ... مكسري لم تلن لغمز قناتي
وإذا كنت أنت ثقفت عودي ... فحرام ألا أبز لداتي
أنا إما أغوص في بحرك اللج ... ي لا أختشي فأنت نجاتي
وكنت وقفت نفسي على مصاحبته، ونذرتها لتقييد أوابده، وعقل شوارده، وتصيد نوافره. وما أنس لا أنس فائق إعزازه إياي، وإعظامه لي، وثقته بي. وكان ينسبني إذا سئل عني إلى الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل، ويعزوني في إثبات الحكم على الحجة والتعليل
وهو (حفظه الله) - وقد ذرف على الستين - حفظة لا تخفى عليه اللغة، ولا تغرب عنه الأصول
كان يسابق الفجر، ويسارع إلى النهوض، وطالما رأيته يتوضأ والليل شامل، وكان رأس ما عظمه في عيني دين يستمسك بعروته، وإيمان يعتصم بحبله، كان يتهدج بالقرآن في الغدو، إذا وخط المشيب عارضي الليل، ويرتل الكتاب في الآصال إذا أوشك أن يتخفر النهار، وقد كان ينطق بالفضل، ويتفجر الظرف من جوانبه؛ قال:
وإني وإن دب في المشي ... ب فتي الفؤاد قوي الأمل
أنزه طرفي بروض الجمال ... على رغم من لام أو من عذل(924/28)
وأصبوا إلى الحسن أنى أراه ... كأني ببرد الصبا لم أزل
وأجمع بين الهوى والتقى ... وقلب إذا جد حينا هزل
وما صدني عن هوى طاهر ... بياض المشيب بفودي نزل
(وقد علم الناس أني امرؤ ... أحب الغزال وأهوى الغزل)
وما لامرئ لذة في الحياة ... إذا هو عاف الصبى واعتزل
وهو طيب النفس لا يبخل على أوليائه وخلانه بالمزح. وطرائفه لا يحصرها العد، ولطائفه لا يدركها الحصر. وكأني به يتمثل بقول الشاعر:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... قليلا وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
العراق - الكاظمية
حسين علي محفوظ(924/29)
رسالة الشعر
آلام شاعر!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ألم يكفها أني تركت لها غدي ... وشيعت أمسي، ثم ضيعت حاضري؟
ألم يكفها بأسى وحزني وحيرتي ... وضيعة أيامي، ولوعة خاطري؟
فجاءت تعري روضتي من غصونها ... وتنثر فوق الأرض غض أزاهري!
وتملأ لي كأسي من الهم والضنى ... فتفعل بي فعل السهاد بساهر
كفى ألما بعدي عن الناس كلهم ... وكثرة أعدائي، وقلة ناصري!
كفى ألما أن أترك اليوم ظامئا ... أفتش عن نبع من الماء زاخر!
ويرجع كل الناس نحو ديارهم ... وامضي شريدا مستطار المشاعر
أهيم على وجهي كأني مطارد ... من الدهر، أو جان على كل سائر
لقد كنت أخفي هم نفسي، فها أنا ... أهتك أشعاري، وأبدي سرائري!
أنا الشارد الهيمان! عفت إقامتي ... وسرت كطيف شارد الخطو نافر
أنا الشارب الظمآن! تهتز أكؤسي ... بدمع المآسي، لا بخمر المعاصر!
أنا الشاعر السأمان! حطمت معزفي ... وأصغيت في يأس لبوم المغاور
تمر على قلبي الليالي كأنها ... مواكب أشباح سرت في مقابر
وتبدو لعيني الأماني كأنها ... تصاوير جن، أو تهاويل ساحر
فإن جئتها أبغي لقلبي راحة ... لديها، تعد كالعثير المتطاير
أليس لقلبي أن يعيش منعما ... يغرد في الآفاق تغريد طائر؟
أكل حياتي لوعة وكآبة ... وأحلام محروم، وأوهام شاعر؟
أكل حياتي لهفة وصبابة ... وآلام ظماآن؛ وأحزان حاشر!
فهمت أضاليل الحياة فعفتها ... كما عافها من قبل أهل البصائر
وعشت كأني ضارب في مفازة على ظمأ مر، وخوف مخامر
أنام على يأس قديم مساور ... وأصحو على يأس جديد مبادر!
إذا هدأ الليل الرهيب أثارني ... وذكرني عهد الليالي الغوابر(924/30)
فمرت على قلبي طيوف كثيرة ... تطوف حولي في الدجى كالسواحر
على ثغرها الداوي شكاية حائر ... وفي وجهها الباكي كآبة عاثر
وفي قلبها الشاكي جراح كثيرة ... تنوح نواح الريح تحت الدياجر
وفي مقلتيها أدمع خلت أنها ... سوافر سركن غير سوافر
عرفتك يا أطياف عمري الذي مضى ... ولم يبق لي إلا علالة ذاكر
عرفتك لا بالعين؛ فالعين لا ترى ... بها صور من عالم غير ظاهر
ولكن بتحنان الفؤاد وخفقه ... وهزة روحي، واختلاج مشاعري
وهمس جرى في مهجتي فسمعته ... وإن كان أخفى من طيوف عوابر
أأنت التي كانت نعيما وفرحة ... لقلبي، وكانت بهجة لنواظري!
أأنت التي أنبت في قلبي المنى ... فرفت كأزهار الربيع النواضر؟
أأنت التي غنى بها القلب مسعدا ... على شدو أطيار، وعزف قياثر؟
أأنت التي كانت لنفسي مفزعا ... من الهم إذ يغشى عتي الهوادر؟
تغيرت! حتى كدت أنكر ما مضى ... وحتى لقد أوشكت أنكر حاضري
وما أنا إلا عابر لم يتح له ... من العمر إلا ما يتاح لعابر
أسير وما أدري! وأرنو وما أرى ... وأصبو وما ألقى! ولست بصابر
أظل حزين النفس يرتادني الأسى ... وتقذفني البلوى إلى كل غائر
أفكر في عرمي الذي ضاع مثلما ... تضيع على الآفاق آهات زافر
أفكر في قلبي الذي لم أجد له ... أنيسا، ولم أظفر له بمسامر!
أفكر في حظي؛ فإني لم أجد ... مثيلا له بين الجدود العواثر!
أفكر من الآلام علي أضلها ... ومن أين؟ والآلام جند المقادير
وأستر آلامي، وأخفي مواجعي ... فتفضحني آثار دمع المحاجر!
قضى الله أن أحيا بدنياي حائرا ... كأني لحن فر من ناي زامر
كأني سفين ضلل البحر سيره ... فغيب في لج من الموج غامر
كأني دفين أطلقته يد البلى ... فعاش بدنيا الناس عيش المحاذر
ألا ليتني ميت، فيهدأ خافقي ... وترسب آلامي، وترسو خواطري(924/31)
وينعم جسمي بالتراب، فطالما ... أضرت به أشواك تلك الأزاهر
تعال فؤادي، حسبنا اليأس مغنما ... وهيا نجري حظنا في المقابر!
أآسى على دنيا سقتني حميمها ... وصبت على قلبي لهيب المجامر؟
سأخرج منها ما قضيت لبانتي ... ولا نلت أو طاري، ولا قر طائري!
أآسى على مجد يقولون إنه ... حياة لجسم ميت متناثر؟
أآسى على فن وهبت له دمي ... وما نلت منه غير وهم مساور؟
وهل نافعي أن أبصر الآل لامعا ... وأترك ظمآنا صريع الهواجر؟
لعمرك ما في العمر خير إذا خلا ... من الحب. إن الحب نور البصائر
وما الحب إلا النبع رفت مياهه ... رفيف نجوم في السماء زواهر
وما هو إلا عالم ساحر الرؤى ... وكنزر سعادات، ودنيا بشائر
وما هو إلا المجد يعنوا لعرشه ... ويشكو إليه الذل عرش الجبابر
وما هو إلا الفن يسمو بأهله ... إلى ملكوت عاطر النور طاهر
إذا لم ينل قلبي من الحب ما اشتهي ... فإني بما قد نلت - أضيع خاسر
إبراهيم محمد نجا(924/32)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الرقاعات الفرنسية:
للرقاعات الفرنسية في هذا الباب (حساب مفتوح) وأذكر أن آخر (دفعة) منها كانت في العالم الماضي حينما حضر إلى مصر وفد من الصحفيين الفرنسيين وكانت فيهم عجوز تدعى (مدام تابوي)، قالت هذه العجوز فيما قالت لإحدى الصحف المصرية - وكانت حينذاك مناسبة من المناسبات التي يرتفع فيها صوت مصر لنصرة إخواننا أهل المغرب - قالت: لماذا تعملون على إقامة المتاعب لنا في شمال إفريقية؟ إنكم تلعبون بالنار إذ تشجعون هذه الشعوب. . . كنت أعددت مقالا عن مصر فيه تحية طيبة لها، ولكني غيرت رأيي واستبدلت به مقالا آخر! ووصفت هذا القول إذ ذاك بصفته وهي الرقاعة، والرقاعة فن يحذقه الفرنسيون
وقد كنا نعرض تلك الرقاعات واحدة واحدة، أما اليوم فنراها تسقط علينا بالجملة. . في هذه المحنة التي تعانيها مراكش من جراء الوحشية الفرنسية التي نكأت الجراح القديمة وأثارت المواجع في أقطار العروبة والإسلام. ولندع القضية نفسها فهي معروضة في أصحف مبسوطة الجوانب، ولندع مسائل الاعتداء على الشعوب الصغيرة وكتم أنفاس الحريات والتنكيل بالوطنيين الأحرار، فهي مسائل معروفة معهودة في المستعمرين على الإطلاق وإن كان الفرنسيون (دعاة الحرية والإخاء والمساواة) يبزون فيها سائر المستعمرين. لندع كل ذلك، فالذي يعنينا الآن هو (الرقاعات) التي تنفرد بها أهل باريس الرقاق اللطاف. .
الرقاعة الأولى من (النوع الدبلوماسي) الذي يسيل أدبا وظرفا. . فقد استدعى وزير خارجية فرنسا سفير مصر وتحدث إليه بحديث قال فيه إن ما ينشر في الصحف المصرية يستدعي اشمئزاز الشعب الفرنسي! أرأيت إلى هذا (الاشمئزاز الفرنساوي) العجيب الذي لا يشعر بما يأتيه أهله من الفظائع التي تشمئز منها الفضائل كلها وعلى رأسها الحياء؟ كأن مطالبة سلطان مراكش بإقرار الاستعمار في بلاده، والبراءة من أبنائها الوطنيين، وضرب المواطنين بعضهم ببعض، وحصار السلطان وتقييد حريته؛ وضرب المدن بالقنابل، وغير ذلك مما يتحدث به العالم ويكذبه الفرنسيون كأن كل ذلك أمور لطيفة جدا تستعدي الإعجاب(924/33)
في عرف الشعب الفرنسي الذي (يشمئز) مما تكتبه الصحف المصرية!! إذن فاشمئزوا حتى تنفلقوا. .
وذلك التكذيب نفسه رقاعة. . فماضيهم يؤيد الأنباء، وليس ما يفعلونه الآن جديدا ولا غريبا منهم في شمال إفريقية، وليس هذا الصدى في مصر إلا جراحا قديمة تنكأ. ولو كانت هذه الأخبار كاذبة كما يدعون ما قطعوا أسلاك البرق بين مراكش والخارج وضربوا الستار الحديدي الدائم هناك لمنع وسائل الثقافة المصرية والعربية على العموم من النفوذ إلى أهل المغرب الواقعين تحت النفوذ الفرنسي. على أنني لا أدري لماذا نصدق الفرنسيين ونكذب المراكشيين؟
ومن الرقاعات ما قاله المقيم الفرنسي في مراكش: (أن الثورة ليست في مراكش ولكنها القاهرة، وسيدفع المصريون ثمنها!) وهو تهديد رخيص أشبه بتهديد (مربع) الذي يبشر بطول السلامة، وهو لهذا يدعو إلى الابتسام، وإن كانت فيه وقاحة تدعو إلى الاشمئزاز الحقيقي
على أن رقاعة الرقاعات هي في موقف الصحافة الفرنسية من الصحف المصرية. . . تنكر الأولى على الثانية إنها اشتدت في التعليق على أنباء مراكش وتتحدث عن شرف المهنة! ثم تأخذ في الحملة على الصحافة المصرية. . ولست أدري أي الصحافتين أولى بأن يستنكر صنيعها وأيها حاد عن شرف المهنة. . أهي الصحافة التي تنتصر للمظلومين أم التي تدافع عن الظلم؟ والصحافة الفرنسية تتحدث عن علاقات المودة التي تزعم أن الصحف المصرية أخلت بها. . فهل كان من علاقات المودة والصداقة ما كتبته عن مصر وخرجت فيه عن الذوق والحياء؟ وما زلنا نذكر أن حكومة فرنسا عندما سئلت في ذلك أجابت بأن الصحافة حرة؛ وهي الآن تطلب إلى الحكومة المصرية أن تسكت صحف مصر!
والرقاعة الأخيرة - ولسنا ندري ما بعدها - ما تواتر على ألسنة الهيئات الفرنسية المختلفة المحتجة على مصر وحكومتها وبرلمانها وصحفها لموقفها من المسألة المراكشية، من تساؤلهم: لم يتدخل المصريون في هذه الأمور التي تخص الفرنسيين والمراكشيين؟ وقولهم: إن ذلك لا يتفق مع الصداقة التقليدية بين مصر وفرنسا! ووجه الترقع هنا أنهم يعلمون(924/34)
جواب ما يقولون ولكنهم يسألون! ألا فليعلموا - إن لم يكونوا يعلمون - أن أقطار العروبة والإسلام كلها بلاد واحدة، لا يفرق بينها ولا يمنعها من التوحد المنشود إلا وسائل الاستعمار ودسائسه، وأنه لا يمكن الجمع بين الاعتداء على أي منها وبين صداقة غيره من سائرها، فإن ظلوا على إيثار الأول فإنا نرد إليهم صداقتهم التي بلونها كثيرا فلم نجد فيها نفعا.
مسرحية (في إحدى الضواحي):
نحن الآن أمام لون جديد من الفن على المسرح المصري الذي اعتاد الهزات الانفعالية التي تعتمد على المفاجآت المفتعلة لإحداث التأثير في الجمهور؛ وقد اعتاد هذا الجمهور أن يشاهد ويتأثر بحواسه دون أن يجشم فكره أي مجهود. نحن الآن أمام مسرحية (في إحدى الضواحي) التي قدمتها في الأسبوع الماضي فرقة المسرح المصري الحديث على مسرح حديقة الأزبكية، وهي مسرحية إنجليزية من تأليف ج. ب. بريستلي وترجمة الأستاذ حسن وهبي، وإخراج الأستاذ زكي طليمات. هي قطعة من الحياة تبدو هادئة هدوء الضواحي، ولكن هذا الهدوء لا يلبث أن يتبين انه يستقر على بركان. . ويتبين ذلك في هدوء أيضاً برغام البركان. .
تعيش الأسرة في إحدى الضواحي عيشة ريفية هادئة في سعة من العيش، ورب الأسرة (جورج رادفورن) يبدو راضيا بهذه الحياة، متلهيا بزراعة الخضر في حديقته، يقضي أوقات فراغه بالاستماع إلى الراديون ويقطع بعضها بقراءة الروايات البوليسية، ويسافر أحيانا إلى بعض البلاد لأعمال تتعلق بتجارته في الورق؛ والزوجة (مسز رادفورن) امرأة بيت لا تشغل نفسها بغير شؤون المنزل؛ ولكن هذه الحياة لا تعجب ابنتهما (إلسي) التي تصف أباها بالغباء وتسقط على حياة الريف وتتطلع إلى الاتصال بالحياة في خارج هذه الضاحية، ويوافقها على ذلك زوج خالتها (برنارد بكسلي) وهو رجل لا عمل له يدعي أنه رحالة مغامر، وقد نزل هو وزوجته على هذه الأسرة ضيفين ثقيلين همهما الاحتيال على أخذ المال من (رادفورن) بصفة قرون. ويتقدم لخطبة إلسي الشاب (هارولد) الذي يخدع الفتاة بالحب وإنما هو يطمع في مال أبيها إذ يطلب منه بعض المال ليؤسس به عملا، ويضيق (رادفورن) بهؤلاء الطامعين ويؤخر الحديث في مطالبهم إلى ما بعد العشاء، ويجلس الجميع إلى المائدة، ولا يمهلهم الرجل (رادفورن) إلى أن يتموا عشاءهم فيفاجئهم(924/35)
بحديث هادئ يفضي فيه إليهم بأنه مجرم. . يعمل في تزييف السندات والأوراق المالية، وإن المال الذي يأكلون منه مال حرام. . وأنه عرضة للقبض عليه إذا كشف أمره (بوليس اسكتلنديار)! فيدهشون ويفزعون أشد الفزع، ويفر الشاب، ويهرع الضيفان إلى حزم أمتعتهما للرحيل. وهنا يتغير شعور الفتاة (إلسي) فتزهد في المغامرة وتصير كل أمانيها منحصرة في الأمن ثم يقبل مفتش من (اسكتلنديارد) ويخفي مقصده في أول الأمر قائلا إنه يريد أن يسأل المستر رادفورن عن أشياء تتعلق بإحدى القضايا. ثم يستقبله رادفورن؛ وينفردان ويدور بينهما حديث هادئ عنيف في آن. . يبدأ بالتلميح ثم يندفع المفتش إلى مصارحة الرجل بأن البوليس يعرف عمله المريب ويطلب منه أن يساعده بالكشف عن الشركة التي يعمل معها على ألا يصيبه مكروه. ولكن رادفورن يقابله مقابلة هادئة قوية بحيث لا يستطيع المفتش أن يظفر منه بغير السخرية وعدم المبالاة، فليس لدى البوليس أدلة مادية على إدانته، وأخيرا ينادي رادفورن زوجته وابنته ويقول لهما أمام المفتش إنهم سيقومون برحلة بعيدة يمران فيها ببلاد المشرق؛ ويكون ذلك بمثابة اتفاق غير مباشر بينه وبين المفتش على أن يقطع عمله المريب، وتنتهي المسرحية باعتزام الأسرة وتأهبها للرحيل
والرواية من الأدب المسرحي الذي يحمل المشاهد على متابعتها بذهنه وإعمال فكره، وهي تعتمد في المفاجآت والحركة على الانتقالات الشعورية لأشخاصها، وتبرز خلالها أفكار يعرضها المؤلف بلسان الاحداث؛ فالإنسان يزهد في الهدوء والاستقرار ولكنه يتمناهما عندما يتعرض للأخطار، والحياة لا أمن فيها ولا استقرار مع الانحراف، والهدوء لا يلبث أن ينقلب إلى قلق واضطراب إذا لم تحرسه الاستقامة. ويعني المؤلف برسم الشخصيات ويقدم من الناس أنماطا مختلفة يظهر كلا منها في وضوح، وأهم هذه الشخصيات هي شخصية (رادفورن) الذي يمثل برود الرجل الإنجليزي على أتم ما يكون، تحيط به المخاوف الروائع فيضبط أعصابه ضبطا عجيبا ويبدو كأنه لا يشعر ولا يبالي بشيء
وقد أبرز الأستاذ زكي طليمات - بإخراجه - كل تلك المعاني وكأنه يستمع إلى همسات المؤلف الدقيقة ويتجاوب معها ويرتب لها، ومما يستلفت النظر مشهد الجماعة وقد تحلقت حول مأدبة العشاء، فقد طال هذا المشهد ولكن لم يمض جزء من زمنه إلا مشغولا بحركة(924/36)
أو لفتة أو طرفة إلى ما ساده من المباغتة المرهبة
وقد أجاد الممثلون جميعا في هذه المسرحية، وخاصة الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني قام بدور (رادفورن) فكان موفقا كل التوفيق في التعبير بالمواقف المختلفة، وقد أظهر مقدرة فائقة في تمثيل البرود الإنجليزي، حتى ليصعب علي أن أراه بعد ذلك رجلا مصريا. . وأعتقد أن هذا هو دوره الذي يعرف هب في حياته التمثيلية. وكذلك كانت نعيمةوصفي موفقة في دور (مسز بكسلي) وهو دور فكاهي قامت به على أكمل وجه، وأجاد محمد السبع في دور المفتش وهذا الممثل يستطيع أن يقف المواقف الطويلة وهو يجدد شوق المشاهدين بحركاته وانتقالاته البارعة، وكان كمال يس (في دور برنارد بكسلي) مثال الرجل (الهجاص) الذي لا يحسن غير الأكل والتظاهر بالمظاهر الفارغة
وأرى أن هذه المسرحية تعتبر تجربة للجمهور من حيث تذوقه للمسرحيات العالية، وألاحظ أنها تجربة ناجحة، وإن كنت لا أدري أذلك لأن هذا الجمهور من طبقة خاصة أم أن الجمهور المصري يظلمه المهرجون. .؟
حول مؤلفات العميد
تلقيت الرسالة الآتية من الأديب الذي يصر على أن يوقع (أسامة) وهو يعقب بها على ما كتبته بعنوان (طه حسين الوزير يتحكم في طه حسين المؤلف):
(خاطر غريب، لست أدري مبعثه، دفعني لأن ألقي بالكتاب الذي في يدي جانبا، وأتناول (الرسالة) فأقرأ مرة أخرى (كان شعاري منذ وليت وزارة المعارف ألا تشتري الوزارة كتبي حتى أخرج منها. . . ومع ذلك فما أظن وجود هذه الكتب في المكتبات في متناول المدرسين والطلاب يضر أولئك أو هؤلاء أو لا ينفعهم)
وأنا وإن كنت مثلك - يا سيدي - لا أحب أن أخوض في الحديث الملوث بالحزبية إلا أني في حيرة من أمري. . . وأسأل نفسي: أيوجد هناك من يعترض على مد الناشئة بكتب طه حسين؟!. . . وما الدافع على ذلك؟!. . . أهو الجحود بالعبقرية أم الكفر بالأدب والعلم الخالد؟!. . . أم هي الحزبية السياسية الحمقاء التي يجب ألا تنفذ إلى ميدان العلم؟!. . .
إننا لو تركنا جانبا ذلك الغذاء الأدبي والفني الذي يعود على الناشئة من كتب طه حسين، ونفذنا من زاوية واحدة. . . زاوية التربية الصحيحة والاتجاه إلى الأخلاق الفاضلة، وخلق(924/37)
الطموح فيهم - وهو ما تحتاجه ناشئة مصر الذين ران على قلوبهم في السنين الأخيرة نوع من الخمول والرضا - لألفينا مؤلفات عميد الأدباء تؤدي رسالتها كاملة من هذه الناحية. . .
ونستطيع أن ندرك ذلك حين نتصور تلك الكليمات تنفذ إلى قلب الطالب الصغير نم بين القصة الخالدة - الأيام - (وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به أو يقسو عليه). . . وفي غمرة هذا التأثير الذي يسيطر على الصبي الصغير تنفذ هذه النصائح الغالية إلى النفس، فتعمل عملها
وهذا الطموح الذي يخلق في الناشئة، وحب العلم الذي يستولي على نفسهم حين ينظرون إلى وزيرهم وإلى عبقريته الخالدة ثم يقرؤون في أيامه (أنه كان ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا، يأخذ حظه منه في الصباح والمساء، لا شاكيا ولا متبرما) ثم يسألون كيف انتهى إلى حيث هو. . . فيعلمون أنه كان صبي جد وعمل. .، وأن المجد لا ينال إلا بالجد والعمل. .
صوتي إلى صوتك نرفعه إلى معالي وزير المعارف: بأي حق يحول بين الناشئة وبين ارتشاف العلم من كتب طه حسين؟!. . .)
عباس خضر(924/38)
الكتب
حياة مجيدة
للسيدة وداد سكاكيني
أصدق آثار الأديب مذكراته، والذكريات ذخيرة الفكر والسنين، وصدى الحوادث والشؤون، فما أحب إلى ذوي الأقلام الحرة من اختزان المذكرات وتسجيلها، ففيها يودعون صورا تعبر عن حياتهم الخاصة أو العامة، وفيها يعربون عن تهاويل ماضيهم وهمومهم، وما اتصل بجيلهم وقبيلهم من خير أو شر، فإذا هي بعد ترتيبها ونشرها تهتز وتنبعث فتعود جديدة شائقة كما كانت حوادقها وبواعثها، قبل أن تغيب بين سمع الأرض وبصرها.
ولعل أول ما يدون أصحاب هذا الضرب من الأدب هو ذكرياتهم. وسيرة حياتهم، إذ يكتبونها من أجل أنفسهم قبل غيرهم، ورب كراسة قيدوا فيها هواجسهم وحوادثهم، فور انبثاقها أو في فترات منقطعة متتابعة كانت كل صفحة من صفحاتها صورة كامنة لأيامهم الحافلة وشؤونها المختلفة، فاستوفوا حاجتهم وإلهامهم قبل الفوات، وكانوا أمناء في تسجيل الأحداث والتجاريب وتعليل الأمور التي تجلو الحقائق وتتصل بالتاريخ
وثمة ضرب آخر من المذكرات يعمد أصحابها إلى استعادتها وكتابتها بعد أن تغيب أشباحها، وتضيع آثارها وأخبارها، فإذا عن لهم تصويرها ونشرها أخذوا يرتدون إلى الماضي وربما كان بعيدا شريدا، فيخلعون أردية السنين حتى يبلغوا أيامهم الخالية فيبعثوا الذكريات من مرقدها. ومهما هاجوا ما فاتهم منها فلن يعود ثائرا ناضرا، لأن اهتزازة الحياة وحرارة الحوادث قد أرقته بسبب النسيان والإهمال أو غياب الشعور، فيفقد القديم المستعاد الصحة والرونق ويكون له طعم الغذاء المحفوظ في علبة من حديد.
فمن الضرب الأول كتاب (حياتي) للدكتور أحمد أمين بك. وقد كان هذا الكتاب درة التأليف العربي في أدب هذا العام، إن قارئه ليشعر منذ الصفحة الأولى أنه ين يدي كاتب صريح، بعيد عن التكلف والتمويه، فلا التباس ولا تنميق ولا تبجح أو تمجد، فإذا ذكر عوامل تكوينه وأثرها في حياته وثقافته، وألاعيب القدر التي صرفت في هذه الحياة حظ صاحبها رأينا مثالا إنسانيا عظيما لطلاب المعرفة والصابرين على الصعاب حتى يدركوا بكفايتهم وكرامتهم المجد المنشود، وكأن المؤلف حين يجلي حياته ويكشف عن دخيلتها ومزاجها منذ(924/39)
تفتحها حتى نضجها، وما تخللها من أطوار عجيبة وفروق متضاربة يستعرض رواية حاشدة لغرائب الأحداث
لقد قرأت فيما مضى مذكرات لجبار الأدب الغربي (أندريه جيد) فأخذت بما فيها من قول صراح ولم يسلم فنه على روعته من تبرمي ولومي، إذ كان الكاتب المبدع يجور في ذلك القول حتى على نفسه فرأيته من غلاة المصارحين، والغلو في كل أمر ثقيل ممقوت. ومن قبل قرأت اعترافات الشاعر الفريد دوموسيه ففيها قص علينا كيف تردى في حمأة الهوى وتصدي لداء العصر الذي استحكم في أبناء جيله بعد أن اجتاحت الغرب أعاصير الحرب، فراح (موسيه) يصف ذلك الداء العياء ويعترف بذنبه ومصابه، مصورا بدم قلبه عبرا لا بد أن يجد فيها كل فتى صورة لحادثة من حوادث حياته. غير أن (جان جاك روسو) كان أصدق رواية وأحسن تأويلا في اعترافاته، حتى قال ما معناه: لقد كشفت لك يا إلهي عن طويتي كما رأيتها، فلو اجتمع أمثالي وسمعوا اعترافي وكشفوا عن قلوبهم بمثل إخلاصي لما تجاسر أحدهم أن يقول: لقد كنت أحسن من هذا الرجل. . .
أما كتاب (حياتي) الذي هو قصة حياة إنسان جاء إلى الدنيا لينفع الناس ويعلمهم الأدب والأخلاق فلم يكن من قبيل الاعترافات ولا من طبقة المذكرات لأنه أجل منهما وأجمل، هو سيرة (أحمد أمين) بقلمه الحر وفنه الأصيل وصدقه المعهود. ولقد تحرج أستاذنا الكبير بادي الرأي من نشر هذا الكتاب، لأنه كان يرى نفسه فيه بمنزلة العارض والمعروض والواصف والموصوف فتمنى أن يرى نفسه بمرآة غيره محكوما عليه لا حكاما ومشهودا عليه لا شاهدا، فإن - والتواضع أجل صفات العلماء - جعله يرى نفسه غير جدير بتسجيل حياته إذ لم ير لها عظمة ولا زعامة ولا بطولة، فهو ليس بسياسي كبير أو مغامر خطير لكنه وجد وسيلة لتبرير صنعه في نشر الكتاب، وهي أن عصر الديمقراطية قد كاد يغرب وتعم العالم في الشرق والغرب فكرة ديمقراطية، قد كاد يغرب وتعم العالم في الشرق والغرب فكرة ديمقراطية، وعلى كل امرئ يؤثر الحرية والخير لقومه أن يسعى إلى نفعهم، وقد وجد الدكتور أحمد أمين أن في وسعه نفع أمته بنشر كتابه لنه يصور جانبا من جوانب جيله ويصف نمطا من أنماط الحياة في عصره ووطنه، ولعله يفيد اليوم قارئا ويعين غدا مؤرخا(924/40)
كانت فاتحة كلامه على حياته فلسفية صوفية، والفلسفة كيف للمفكرين أمثاله، إذ كان يرى أن وجوده نتيجة محتومة لكل ما مر عليه وعلى أهلية من أحداث، ثم جعل يتغلغل في مظاهر هذا الوجود وبواطنه، حتى صار معه الرأس إلى أن يجد نفسه عالما وحده، خاضعا لعوامل التأثر النفسي والوراثي والرؤية العينية والمناهج العقلية والعلمية.
ويدفعنا المؤلف برفق وهوادة إلى مشاهدة البلدة التي نشأت فيها أسرته المصرية؛ فيصور الفلاح الكادح الذي كان يعاني العنت والاستغلال حتى أصاب أهل المؤلف لظى ذلك الجور فنزحوا إلى القاهرة وكان أبوه عالما فقيها فأحي أن ينشئه نشأته. وحين صور الأستاذ أحمد أمين أثر المدرسة التي طبعته بطوابعها وجد البيت هو المدرسة الأولى التي تعلم فيها أهم دروسه في الحياة.
ما أروع حادثة مولده ورضاعه! إنه ليصورها محفوفة بضربة قاصمة من ضربات المقدور، فقد اتفق أن نهضت أخت له في مستهل العمر لكي تعد القهوة لبعض الضيوف وكانت أمه حاملا به، غير أن النار هبت في أخته فما استطاعت أن تطفئها، ولم يدركها أهلها إلا وهي شعلة من نار، فتغذي وهو جنين دما حزينا ورضع لبنا حزينا، ويرد هذا السبب وأمثاله إلى طبيعته ومزاجه، فيتساءل: هل كان لذلك أثر فيما غلب عليه من الحزن في حياته؟
ولقد أحسست منه ذلك فيما فاضت خواطره، وفيما كنت أنصت له من حديثه، فأسمع فيه هدوء المحزونين، وأحس في سمته وفي نبرات صوته ولهجته شجوا حيرني تعليله حتى قرأت كتابه (حياتي).
ويتدرج المؤلف في مذكراته من بيته إلى المدرسة الثانية التي كانت حارثته وجيرته، ثم يتهادى إلى (الكتاب) مصورا لنا (كتابه) وشيخه و (الفلقة) المعلقة على الحائط وعصا الشيخ الذي يقولون له بمصر (سيدنا) وحين وصف لوحه تذكرت الجاحظ الذي صور لنا الشيخ في كتاب زمانه، والتلميذ وهو يمحو لوحه فقلت: إن مياسم الشرق واحدة في القديم والحديث وقد أثارت هذه الذكرى في خاطري صورا رائعة للدكتور (طه حسين) ذكرها في (أيامه) ما كان أجملها وهو يقرأ القرآن بين يدي شيخه القاسي الوقور
إن كثيرا من الناس لا يعرفون أن الدكتور أحمد أمين بك نشأ بعمامة وجبة كنشأة أترابه(924/41)
وصحبه من أعلام الفكر والبيان بمصر، وأنه تلقى ثقافته الأولى أزهرية مكينة تعهدها أبوه بالتوجيه والتسديد قبل أن يتلقى ثقافة القضاء والأدب ويصير إلى الجامعة المصرية أستاذا وعميدا ورائدا للباحثين والمؤلفين.
وكان لموت أبيه ومعلمه أثر عميق في نفسه اقتحم بعدهما غمار الحياة وتحمل تكاليفها بعزم وإيمان، حتى إذا انتهى من قصة دراسته ووظيفته في القضاء ثم بجامعة فؤاد قص علينا بإيجاز رحلاته إلى الشرق والغرب حتى أخذ بنا إلى صفحات سعادته بين أهله، وحين منحته الجامعة الدكتوراه الفخرية وجائزة فؤاد الأول تقديرا لفضله ومآثره، وتكريما لمجهوده السباق إلى البحث العلمي المعاصر في تاريخ الأدب العربي وتوجيه الأمة الوجهة الأخلاقية المثلى
فكتاب (حياتي) الذي خطه مؤلفه الجليل بأسلوبه الخاص سيشع منه على الأيام القابلة، والجيل العربي الصاعد مشعل للحق والخير يضيء الفكر والضمير، وينهج السيرة والتاريخ
دمشق
وداد سكاكيني(924/42)
خواطر بدر. . .
للأستاذ محمد عثمان محمد
مما لا يواتي الكثيرين من الأدباء القدرة الفائقة على التلوين والتنويع في أدبهم مع الحبك والسبك والإجادة. . . فقد يكون الكاتب في النثر بارعا، وقد يكون في الشعر مفلقا، وقد يكون في القصص عبقريا، وقد يكون في الأدب الشعبي راسخا. . . أما أن يكون في مستوى واحد من البراعة والإجادة في جميع فنون الكتابة فأمر لا أظن أنه يتأتى للأكثرين. . .
أقول هذا وبين يدي كتاب جديد صدر أخيرا باسم (خواطر بدر)، أهداه إلى مؤلفه الأستاذ الفاضل أحمد عبد اللطيف بدر، المدرس ببورسعيد الأميرية الثانوية. . . فقد حوى في تضاعيفه الشذرة الاجتماعية، والمقالة الأدبية، والقصة في عالميها الواقعي والخيالي، والشعر المقفى في أغراضه، والزجل الشعبي في استرساله. . . مما دل على قدرة الأستاذ على التلوين والتنويع في أدبه بصورة غير مألوفة. . .
وقد يدهش القارئ الفاضل أن يكون عالم من خريجي إحدى كليات الأزهر الشريف زجالا. . . ولكن ليس في هذا ما يدعو إلى الدهش والاستغراب. . . فالزجل فن شعبي له منهجه وأصوله، وليس كما يفهم البعض (. . . كلمات مسرفة في العامية أو عبارات تنظم حيثما اتفق. . .)، وليس في مزاولته أو محاولة نظمه ما يحط من قدر العالم المصلح والكاتب الاجتماعي. . . لأننا إذا دعونا إلى الإصلاح مثلا - ومخاطبة الدهماء من طبيعة عمل العالم الذي يهدف إلى الإصلاح والكاتب الاجتماعي الذي يرمي إلى التهذيب والإرشاد - كانت دعوتنا، كما يقول الأستاذ المؤلف، ذات فائدة إذا كانت لها صلة بروح الشعب المنتفع بها، ولا تتأتى هذه الصلة الروحية إلا إذا خاطبنا الشعب بلغته الدارجة التي يفهمها، والزجل مظهر من مظاهر هذه اللغة. . .
وقد يظن البعض أن الزجل فن شعبي مستحدث، ولكنه فن قديم مضت عليه أكثر من ثمانمائة وعشرين سنة، فقد ابتدعه في الأندلس من يقال له (راشد)، جوده وحسنه وأكثر من أوزانه من بعده أندلسي آخر يقال له (ابن قزمان) وقد توفي عام 555 هـ. . .
والملاحظ على أزجال الأستاذ أحمد أنها كلها أدبية أخلاقية اجتماعية، لا تجد خلالها قصيدة(924/43)
واحدة في الهجاء أو الذم تتخللها ألفاظ نابية. . .
وإذا تركنا الزجل وانتقلنا إلى الشعر. . . أو انتقلنا من النظم باللغة الدارجة إلى النظم بالفصحى، وجدنا الأستاذ الشاعر مقلا. . . تتفاوت مقطوعاته ما بين عشرة أبيات وأربعة، اللهم إلا في قصيدة واحدة هي (فجر النهوض) فقد أربت على ستة وعشرين بيتا. .!! وهو يقول في تعليل ذلك: (. . . وشعري قطعة من نفسي أصوغه حينما أشعر برغبتي في تنغيم مشاعري على النغم الموسيقي الذي يبعه اللحن الصادق المتجاوب بين أعطاف وجداني لذلك كنت مقلا. . .)، يريد أن يقول إنه لا يقول الشعر إلا إذا أحس في أعماقه برغبة قوية صادقة تدفعه دفعا إلى التنغيم والإنشاد. . .، وهذا حسن. . . ويجب أن يكون منهاجا وسبيلا يطرقه كل شاعر يريد أن يسمو بشعره وأن يخلد بنات أفكاره. . . ولكنه لا يمكن أن ينهض سببا قويا على التقصير وعدم الاسترسال في القصيد. . . وإن كان يمكن التعلل به على قلة النتاج الفكري. . .
فإذا كان الذهن حاضرا، والقريحة صافية، والشعور صادقا، وتلك الرغبة العميقة الدافعة إلى النظم والإرشاد مواتية. . . ما الذي يمنع الشاعر من الاسترسال والإطالة - لغير المملة - ما دام لم يستوف الغرض ن وما دام الموضوع يتطلب منه الصول والجول. .؟!
على أنه ليس معنى ذلك أنني أقول (بالكم) في مجال التفوق والشاعرية. . فقد (يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق) كما قال عقيل بن علفة حين سأله سائل وقال: مالك لا تطيل الهجاء؟!
هذا، والأستاذ بدر، صاحب هذه الخواطر، هو صاحب مجموعة (قصص بدر للأطفال)، فهو من تلك الفئة العاملة من رجال التربية والتعليم، المعنية عناية خاصة بتربية الناشئة تربية تقوم دعائمها على النهج الديني القويم. . فهو من دعاة نشر الثقافة الدينية في جميع مراحل التعليم في مدارسنا على اختلاف درجاتها، لأنه يرى أن (ليس هناك أجدى على النفس من الوازع الديني. .)، وفي هذا يقول (ص 98): (. . إنا لا ندعو إلى وجوب التخصص في الدين، لب نأمل فهم روحه حتى تربى الأم أولادها وبناتها في ضوء تعاليمه التربية التي تخول لهم حياة كريمة). . وهو في دعوته هذه على حق. . فنحن نعيش في عالم مادي بحث، تدهورت فيه القيم الأخلاقية وعمت الفوضى والفساد حتى أصبحنا في(924/44)
حالة نم الانحلال تنذر بالويل والثبور. . ولا يمكن أن يثوب هذا العالم إلى رشده ما دامت المادية متحكمة فهي هذا التحكم المزري به، وما دامت أغلالها وسلاسلها وقيودها محكمة تعوقه عن السير والانطلاق. . وليس أجدى على هذه الإنسانية التعسة وهذه البشرية الرعناء من الرجوع إلى الدين وتعاليمه لكبح جماح هذه المادية للحيلولة بينها وبين الاستمرار في انطلاقها. .
هذا مثال واحد لما في تضاعيف الكتاب نم المواقف الكثيرة المثيرة للاهتمام والتأمل في الأدب والنقد والفن والاجتماع وغير ذلك في أسلوب سلس أخاذ. .
بور سعيد
محمد عثمان محمد(924/45)
البريد الأدبي
اليوبيل الذهبي لعبده الحمولي
لما كانت الذكرى تنفع المؤمنين وكان يوبيل عبده الحمولي الذهبي
سيقع في 12 مايو المقبل (لمرور خمسين سنة على وفاته) رفعت إلى
الأعتاب الملكية وإلى وزير المعارف اقتراحا بإقامة مهرجان ليوبيله
الذهبي بدار الأوبرا الملكية تحت رعاية جلالة الملك ويخصص دخله
لمبرة الأميرة فريال وجمعية الإسعاف العمومية أسوة بمهرجاني شوبان
وفردي اللذين أقامتهما لهما وزارة المعارف لمناسبة عيديهما الخمسيني
الذهبي
على أن الغرض الذي نزعت إليه من وضعي (كتاب الموسيقى الشرقية والغناء العربي ونظرة الخديوي إسماعيل للفنون الجميلة وحياة عبده الحمولي) في أربعة أجزاء هو التصدي لصون الموسسيقى الشرقية من أيدي التلاعب والضياع ورد غارة العجمة عنها والاحتفاظ بطابعها الشرقي
ولا أحسب إسماعيل العظيم قد اختص عبده الحمولي بالبعثات المتوالية إلى الأستانة إلا تقديرا لمواهبه الفنية من سلامة الذوق وسعة التصرف فضلا عن الابتكار والإلهام والوحي وهو فوق التخت
والذي حداني إلى طلب إقامة المهرجان ليس تكريمه وذكراه فحسب بل إعطاء صورة صحيحة لأنغامه الساحرة وتلاحينه المنسجمة وأدواره المتدامجة التي بها هز مناكب الأهلين وحبب إليهم الجمال وجعلهم يتذوقون الفن الرفيع
ولما كان العاهل العظيم قد شمل بعنايته الموسيقى الشرقية وهيأ لعبده أسباب النجاح فوضع الأصول والقواعد لها وكان المغفور له الملك فؤاد ناسجا على منوال والده قد أنشأ لها معهدا أغدق عليه من ماله الشيء الكثير وعقد مؤتمرا موسيقيا سنة 1932 بدار الأوبرا حيث اعترف أحد علماء الموسيقى الغربية المنتدب بأن الموسيقى العربية قد غذت الموسيقى(924/46)
الغربية منذ ألف سنة فلا عجب أن ينال مقترحي من معالي وزير المعارف ما يستحقه من العناية والله ولي التوفيق
قسطندي رزق
الجواهري يطرد من لبنان
لا أظن أحدا في البلاد العربية لا يعرف شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري هذا الشاعر الذي يقول فيه المرحوم الرصافي:
بك الشعر لا بي أصبح اليوم زاهرا ... وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا
فأنت الذي ألقت مقاليد أمرها ... إليك القوافي شردا ونوافرا
هذا الشاعر الذي يعطيك صورة صادقة للعراق السياسي والاجتماعي في الثلاثين سنة الأخيرة بما يتاح لك أن تقرأه من دواوينه المتعددة، ويهزك بقصائده عن سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وسائر البلاد العربية بل هو أكبر داعية لمصائف لبنان وصيف لبنان الجميل في قصائده الكثيرة وهو القائل في (زحلة):
يوم من العمر في واديك معدود ... مستوحشات به أيامي السود
وفي شاغور حمانا:
شاغور حمانا ولم ير جنة ... من لم يشاهد مرة حمانا
وفي (بكفية):
أرجعي ما استطعت لي من شباب ... يا سهولا تدثرت بالهضاب
وهو الشاعر العراقي الوحيد الذي استقبل رئيس جمهورية لبنان الحالي بقصيدة رائعة عند زيارته العراق قبل سنوات. . وبعد هذا ينذر الجواهري بمغادرة لبنان في ظرف أربع وعشرين ساعة!! لماذا؟ لأنه ألقى قصيدة في تأبين عبد الحميد كرمي الذي توفي أخيرا. وقد استقبل أدباء لبنان هذه القصيدة بما يستحقه شاعر العراق وأضافوا إلى تقديرهم الشاعر في كل مناسبة يزور بها لبنان تقديرا آخر
هذا إجراء آلمني لأنه بادرة خطيرة إزاء حرية الفكر والشعور، وحينئذ لا يأمن أديب أو شاعر على نفسه في أي بلد عربي ما لم يسكت على مضض أو يؤمن برسالة الاستعمار.(924/47)
إبراهيم الوائلي
في لغة (أكلوني البراغيث):
كلف أخي الأصغر بكتابة موضوع إنشائي يصف فيه حياة الفلاحين فافتتحه بقوله (يعيشون الفلاحون) وهذه عبارة صحيحة فصيحة على ما سأبينه بعد - ولكن مدرس الإنشاء أبى إلا أن يعدها من الأغاليط. ولعل الذي دفعه إلى هذا ما توهمه - ويتوهمه كثير من الناس - من خطأ مثل هذا التركيب
وقبل أن أتكلم في الموضوع أحب أن أوجه نظر القارئ إلى أن لغة (أكلوني البراغيث) هذه لغة جماعة من العرب بأعيانهم - يقال: هم طييء، ويقال: هم أزدشنوءة - وهذه الجماعة تجيز أن يؤتى في الفعل إذا أسند إلى اسم ظاهر - مثنى أو مجموع - بعلامة تدل على التثنية أو الجمع فتقول (قاما الرجلان) و (قاموا الرجال) و (قمن النسوة) فتكون الألف والواو والنون حروفا دالة على التثنية والجمع كما تدل التاء في (قامت سعاد) على التأنيث
وللنحويين في هذه اللغة رأيان: رأي يقول بصحتها وفصاحتها ويبيح استعمالها، ورأي يقول وضعفها وينكر استعمالها. والسبب في ضعفها عند من رأي ذلك هو الإتيان بعلامات التثنية والجمع بدون حاجة إليها
وقد نص على صحتها العالم الجليل (الألوسي) في تفسيره (روح المعاني) عند شرح قوله تعالى (وأسروا النجوى الذين ظلموا) فقال ما نصه:
(قال أبو عبيده والأخفش وغيرهما هو - أي لفظ الذين - فاعل أسروا والواو حرف دال على الجمعية كواو (القائمون) وكتاء (قامت) وهذا على لغة (أكلوني البراغيث) وهي لغة حسنة كما نص (أبو حيان) وليست شاذة كما زعمه بعضهم)
ويكفي دليلا على صحتها قوله تعالى (ثم عموا وصموا كثير منهم) وقوله (وأسروا النجوى الذين ظلموا) وما جاء في حديث وائل بن حجر (ووقعتا ركبتاه قبل أن تقعا كفاه) وقوله (يخرجن العواتق ذوات الخدور)
وقول الشاعر:
نتج الربيع محاسنا ... ألقمنها غر السحائب(924/48)
يلومونني في اشتراء النخيل ... أهلي فكلهم يعذل
رأين الغواني الشيب لاح بعارض ... فأعرضن عني بالخدود النواضر
نصروك قومي فاعتززت بنصرهم ... ولو أنهم خذلوك كنت ذليلا
فأدركنه خالاته فخذلته ... ألا إن عرق السوء لا بد مدرك
نسيا حاتم وأوس لدن فأ ... ضنت عطاياك يا ابن عبد العزيز
وأحقرهم وأهونهم عليه ... وإن كانا له نسب وخير
تولى قتال المارقين بنفسه ... وقد أسلماه مبعد وحميم
إلى غير ذلك من الشواهد التي تقطع بصحة تلك اللغة
هذا وقد اتفق النحويون على صحة هذا التركيب إذا جعلت الفعل مسندا إلى المتصل به - من الألف والواو والنون - وجعلت الظاهر بدلا من الضمير أو مبتدأ - والخبر مقدما - والى ذلك يشير ابن مالك بقوله:
وقد يقال سعدا وسعدوا ... والفعل للظاهر بعد مسند
فمعنى البيت انه فقد يؤتى في الفعل بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع وهذا قليل. وإنما يكون كذلك إذا أسندت الفعل إلى الظاهر؛ وأما إذا أسندته إلى المتصل به - من الألف والواو والنون - فلا يكون ذلك قليلا
فعلى هذا وسواء اعتبرنا لغة (أكلوني البراغيث) لغة صحيحة أم ضعيفة فالتركيب صحيح فصيح لا غبار عليه ولا مانع من استعماله خصوصا وأن في استعماله تيسيرا كبيرا لقواعد اللغة العربية
أحمد مختار عمر
الطالب بمعهد القاهرة الديني الثانوي
من حديث الشعر
قرأت مقال (من حديث الشعر) المنشور في العدد (923) من مجلة الرسالة، ولقد كان الأولى أن يكون كتابا خاصا لأستاذ الجامعة المذكور، لا أن يطلع به كاتبه على قراء الرسالة فيقتضي منهم وقتا وجهدا ثم لا يظفرون من بطائل. وأشهد لقد حاولت أن أخرج(924/49)
منه برأي جديد يستحق النظر والدراسة ولكن يدي أطبقت على الماء حين أيقنت أن صاحبه يدعو الناس إلى الكفر بالشعر ورسالته في الحياة، ويدعو الشعراء إلى نبذ الشعر والعزوف عن قرضه، مناشدهم أن يكتفوا بالكتابة العقلية، فإنه هو كان (شاعرا) إبان حياته الأدبية، ثم لما نضج لم يتسع شعره لأفكاره فتركه واعتبره ديدن الأمم البدائية. ويقول بالحرف الواحد (فهنيئا لمصر أن يضمحل فيها الشعر ويقل الشعراء)، ربما كان ذلك نوعا من الغرور الذي يداخل الإنسان في كل ما تتناول يده، فإن هو رضي عن شيء أفرط في حبه والدعاية له، وإن صدف عنه نبذه ودعا إلى نبذه ما استطاع. والذي أعرفه عن الأستاذ بسيوني أنه كان يعتبر شعره تنزيلا من التنزيل، ثم إذ نكص على عقبيه، وطلق الشعر لأنه (نضج) بدأ يحمل على الشعر وأهله.
الشعر جهل وسذاجة! من يقول هذا! ومن ذا الذي تطوع له بنفسه أن يتناول أمير الشعراء بأنه كان في شعره ينزع منزع الجهل والسذاجة؟ إن شوقي أن في شعره مؤرخا وعالما وفي النهاية (شاعرا). . ثم هو في الثلاثة سابق لا يلحق. . . وإذا تصفحت ديوانه ولو بالنظر العابر علمت إنه مرجع من مراجع التاريخ، فما تكاد تخلو قصيدة من قصائده من الحديث عنه. . وحتى رجل الشارع يدرك ذلك بما تغنيه أم كلثوم من فرائده. أنا أعلم أنه ربما فزع كثير غيري ثائرين على هذا المقال الذي لا تشفع له حرية الرأي، ولا أن الرسالة منبر حر يعنو لكل قائل وخطيب، فالقراء في غنى عن مثل هذه الآراء (المتعبة) التي قد يقصد صاحبها من ورائها الشهرة عن طريق الكتابة والردود والتعقيبات
محمد محمد الابشيهي
مدرس بمدرسة بسيون الإبتدائية
من حديث الشعر أيضاً
قرأت هذا المقال الذي كتبه الأستاذ (كمال بسيوني) فأعجبت به - شهد الله - لما فيه من تلك الصراحة التي نشرها الكاتب على الناس، غير عابئ بما قد يناله من ورائها من عنت أهل العنت، ولو أصحاب الكلام المقفى، وأرباب القريض. . .
ولست أزعم لنفسي الحق في أن أجرد قلمي لمساجلة الأستاذ النقاش فيما ذهب إليه من(924/50)
رأي، وما ركن إليه من منطق قد يعوزه الدليل، وتنقصه القوة؛ أقول لا أريد هذا خشية أن أتهم بانتسابي إلى الحرم الشعري المقدس، وأنا منه قصي بعيد. .!
وإنما أحب أن أقول للأستاذ الفاضل: لو زخر الشعر بالحقائق العلمية والنظريات الفلسفية، وترك هذه الصبغة التي فطر الله النفوس عليها أما كان يأتي يوم نشكو فيه مر الشكوى، لهذا الجمود المطبق، والفلسفة العميقة المضنية! بل أين كان يجد المكروب اللاغب المكدود نسمة الراحة إلا في روضة الشعر، وتحت أفنانه المتفطرة؟ والإنسان بطبعه يرى في الشيء الرتيب تفاهة الطعم، وقلة الغنم!
لعل الأديب الفاضل يرى لنا من هذا الأمر مخرجا، أو يهدينا إلى ما يرضي العقل، ويثلج الوجدان. . .، وله مني تحية عطرة ملؤها التقدير الصادق
إسكندرية
صبري حسن الباقوري
الدخان في الشعر:
كتب الأستاذ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي، الخطاط، بالمعارف العامة بمكة المكرمة رسالة لطيفة مما قاله الأدباء والظرفاء في الشاي والقهوة والدخان؛ ونبه على ثلاث رسائل مطبوعات في هذا الشان
واسم الرسالة (أدبيات، الشاي، والقهوة، والدخان)
والرسالة تباع في إدارة الطباعة المنيرية بالأزهر
ومنها في الدخان، قال الشهاب الخفاجي
إذا شرب الدخان فلا تلمنا ... وجد بالصفو يا روض الأماني
تريد مهذبا من غير ذنب ... وهل عود يفوح بلا دخان
وقد عارضه السيد محمد الشهير بالحميدي بقوله
إذا شرب الدخان فلا تلمني ... على لومي لأبناء الزمان
أريد مهذباً من غير ذنب ... كريح المسك فاح بلا دخان
سليم سالم شراب(924/51)
القصص
(هذا حقك)
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
سارا معا يقصدان المقهى المعتاد لقضاء السهرة حيث يرتشفان أقداح الشاي الدافئة، ويتناقلان أحاديث الكادر المعادة، ويوزعان الوقت الممل الطويل بين تبادل النكات المرحة والتعليقات الساخرة، وبين لعبة النرد والشطرنج والبوكر!!
وكان الصمت يسير بينهما وهو ينقل خطواته الثقيلة فوق الأرض وكأنه يطأ بقدميه الأفكار التي تدور برأسيهما حتى لا تستحيل إلى كلمات. .! وأمام عمود من أعمدة النور وقف (حسن أفندي) وفوق مرتكز العمود المصنوع من (الأسمنت) وضع قدمه ليشد رباط الحذاء الذي أوشك أن ينفك. . .
وقبل أن يعتدل ليواصل السير مع زميله وقعت نظراته على شيخ متهدم يستند بظهره إلى الحائط وتنسدل فوق جسده المتقلص مزق من ثياب بالية أشبه بثياب الراقصات مع فارق بسيط هو أن الفن مزق ثياب الراقصات ليبرز صورة رائعة من صور الفتنة والجمال؛ وأن القدر مزق ثياب الشيخ ليبرز صورة مروعة من صور الفاقة والاحتياج!
وكان هذا الثوب أو كانت هذه المزق تسمح ليد الشيخ المعروقة النحيلة أن تبرز منها دون أن تحمل عبء نسيجها المهلهل تماما كما كانت تسمح لرياح الشتاء الباردة أن تدخل فيها لتكون لهذا الجسد الضارع المشفوف بدلا من الملابسة الداخلية!
ويبدو أن (حسن أفندي) قد تأثر تأثرا عميقا لمنظر هذا الشيخ فمد يده في حافظة نقوده وأخرج منها بعض القطع المعدنية وراح يتأملها. . إنه لم يجد بينها قرشا واحدا، كلها قطع من فئة العشرة قروش والخمسة قروش. . .!!
هل من الممكن أن يعطيه خمسة قروش دفعة واحدة؟ هذا في الواقع ممكن. . . ولكن شعوره لا يستسيغ ذلك التصرف. إنه لم يعتد التصدق على فقير بأكثر من قرش واحد. . . فكيف يدفع خمسة قروش دفعة واحدة؟ وتدخل عقله لينقذ الموقف. . . تدخل بخاطر جريء. . . كيف يعطي خمسة قروش لعاجز واحد وهناك عجزة آخرون في حاجة إلى مساعدة؟ أليس من الأوفق أن يعطي كل واحد قرشا بدل أن يعطي خمسة قروش لعاجز(924/53)
واحد! لا بأس إذن من أن ينتظر حتى يحصل على فكة!!
وهنا ارتفع صوت زميله (سعد أفندي) الذي كان يسايره قائلا - ماذا جرى يا أخي؟ أنت بتربط (عفش)؟ وعاد إليه (حسن أفندي) وهو يتمتم بعبارات غير واضحة. . . وكان إذ ذاك يشعر بأن شيئا ثقيلا ينزاح عن كتفيه
وسارا من جديد، وجعلا يرددان في هذه المرة أحاديث تافهة كان (حسن أفندي) يخلقها خلقا حتى لا يترك لخياله فرصة يستعيد فيها صور ذلك الشيخ الهرم. . . الصورة التي سرعان ما تلاشت في أضواء الطريق الساطعة مثلما تتلاشى الظلال في الظهيرة
وفي مكان لا يكاد يتغير من مقهى (السعادة) جلسا بعد أن انضم إليهما آخرون من مدرسي مدرسة النجاح الثانوية. . . ودار بينهم الحديث المعتاد. . . الحديث الذي يضج بالشكوى ويطفح بالألم. . . كلهم منسيون. . . وكلهم ينشد الدرجة الرابعة أو الخامسة. . . وكلهم يعاني ضيقا ماليا. وكان الحديث يتنقل بين الشفاه متثاقلا مترنحا أشبه براقصة مخمورة تنتقل بين الموائد وهي تهذي بنكات قديمة لا روح فيها ولا حياة!
ومضت لحظات كانت بعدها سحب الدخان المنبعثة من سجائرهم قد انعقدت فوقهم، وكان البخار المتصاعد من أقداح الشاي قد اختلط بتلك السحب فأشاع كل ذلك جوا من الانقباض بدا أثره وجوما على بعض الشفاه وتبلدا على بعض الوجوه وشرودا في بعض النظرات. . .
ويبدو أن (حسن أفندي) قد ضاق بهذا الجو العامر بالركود فهمس في أذن صديقه. . .
- أريد أن ألاعبك الشطرنج. . ولكن صديقه رد عليه في استخفاف
- ولكني أغلبك دائما. . فعقب (حسن أفندي) في تحد. .
- سأغلبك أنا هذه المرة. .
وابتدأ اللعب بحماس م جانب حسن أفندي وفتور من جانب صديقه. . وسرعان ما ضاق هو بفتور صاحبه فقال له
- ما هكذا يكون اللعب. . أقترح أن يكون هناك رهان حتى يكون للعب روح. . وهنا ضحك سعد أفندي قائلا. .
- يبدو انك غني جدا هذا المساء. .(924/54)
وهنا أيضاً أخرج حسن أفندي قطعة من فئة الخمسة قروش وألقى بها على المنضدة قائلا. .
- هذه لك إن غلبتني. .
وكما يحلو للقط أن يعاكس الفأر قبل أن يقتله فقد حلا لسعد أفندي أن يسخر من صديقه قبل أن ينتصر عليه، فكان يتغاضى عن الخطط الحاسمة في اللعب ويعمد إلى التردد والحيرة حتى يبدو كمن اختلط عليه الأمر، حتى إذا اطمأن حسن أفندي إلى نفسه فاجأه بقتل قطعة من قطعه
ومضت الدقائق بعد ذلك تنعى القطع الغالية إلى حسن أفندي، فكان ذلك يثير الحماس في صدره ويثير في نفس الوقت مشاعر القلق والضيق في فؤاده. .
وكان لا بد لعقله أن يتدخل هنا أيضاً لينقذ أعصابه من قبضة التوتر والألم.
ماذا لو غلبه سعد أفندي؟ إنه حين ينتصر عليه وهو محتشد للعب أحسن بكثير مما لو انتصر هو وسعد أفندي غير مكترث! ثم ماذا تكون الخمسة قروش بجانب ذلك الحماس الذي كان يحسه أثناء اللعب؟ بجانب ذلك الحماس الذي أزاح عن صدره مشاعر الجمود والركود؟ حسبه إذن تلك اللحظات الزاخرة بالانفعالات بل بالحياة. .!
وانتهى الدور بانتصار سعد أفندي الذي أخذ القطعة الفضية بدوره ووضعها أمام زميله قائلا:
وهذه لك أيضاً! ولكن حسن أفندي أعادها إليه من جديد في إصرار وعزم وهتف قائلا:
- لا يا أخي. . لا يمكن، هذا حقك!
محمد أبو المعاطي أبو النجا(924/55)
العدد 925 - بتاريخ: 26 - 03 - 1951(/)
الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
النتائج الاجتماعية للاختيار الديني
1 - الجماعة الدينية
للجماعة الدينية على حد تعبير (أ. هولت) (تاريخ خاص وصعيد خاص، وكيان اجتماعي خاص وخصائص وسلوك وأهداف وغايات خاصة)
ولهذه الجماعة في النظام الاجتماعي وظيفة مزدوجة. فهي بحكم هذا الوضع الخاص تلعب دورا كبيرا في صيانة النظام الاجتماعي الذي تعيش عليه، تدمج بعضه ببعض في تكافل محكم متين، وتوجهه توجيها عمليا إيجابيا على أسس العقيدة والطابع الديني الذي تدين به هذه الجماعة
وهي في الوقت نفسه وبحكم هذا الوضع الخاص تؤثر تأثيرا سليما في ذلك النظام، فهي تضمن التكافل الاجتماعي للفئة التي تندمج في تلك الجماعة تشوب طبائعهم وسلوكهم ومشاريعهم وأهواءهم وحياتهم الروحية والعملية في قالب خاص يتفق والتعاليم الدينية التي تؤمن بها. وبذلك تفصلها عن الفئات الأخرى النظام الاجتماعي الأكبر الذي تعيش فيه وقد تخلق من جراء ذلك تشويشا في العلاقات الإنسانية. وتاريخ الحروب الحديثة شاهد على مبلغ الصدق في هذا التعريف. وقد يكون هذا التشويش في صالح المجتمع الإنساني أو قد لا يكون. وليس المقام مقام شرح سماحة الأديان (والإسلام على وجه الخصوص) إزاء الديانات الأخرى. فلهذه النقطة مجال آخر سنعالجه في مكان آخر من هذا البحث
فلقد سبق ورأينا أن في السلوك الديني عناصر قوية تؤثر في الحقائق الاجتماعية. والجماعة الدينية التي حددناها في مستهل هذا المقال هي المادة الخام التي تتيح لنا دراستها للتعرف على الأثر السلبي والإيجابي التي تتركه في النظام الاجتماعي
فلقد قام الإسلام مثلا في جماعة محدودة من الناس وفي صعيد معين وفي قوم كان لهم خصائصهم ومقوماتهم الخلقية وأساليبهم في حياة الروح والجسد، وكان لهم كذلك أهدافهم وغاياتهم
ولم ينتشر الإسلام في مثل هذه السرعة العجيبة إلا لأمرين: أولهما: تمكنه من صياغة روح(925/1)
الجماعة العربية أهل يثرب ومكة ومن حواليهما في قالب محكم متين كان علما على الجماعة الدينية الإسلامية في أدق معانيها
وثانيهما: - أن العقيدة والتعاليم التي آمنت بها تلك الجماعة العربية إيمانا صادقا وحملتها إلى المشرق والمغرب فيما بعد - هذه التعاليم لم تجد هذا القبول السريع الصادق في المشرق والمغرب إلا لأنها كانت اقرب إلى الحقائق الاجتماعية وأنفع لمعالجتها من التعاليم الدينية الأخرى التي جاءت التعاليم الإسلامية لتنافسها في مجال الإصلاح
والتكافل الاجتماعي الذي يحققه الدين في الجماعة التي تؤمن به يتوقف مدى وثوقه وسرعة نموه على مبلغ الصدق في الاختبار الديني عند تلك الجماعة. فالعزة الإلهية هي محور الأديان السماوية؛ والاختبار الديني الصادق يستمد منها مزيداً من القدرة على تنظيم السلوك الإنساني في شكل يتفق وما أمر الله به وما نهي عنه. فإذا شمل ذلك الاختبار الكثرة من الجماعة استقام سلوكهم وتوارث عناصر الشقاق الاجتماعي من بينهم ليحل مكانها تكافل منسقة أصوله مبينة أهدافه ومراميه لأنها من عند الله خالق الكون ومهندسه الأعظم
وسرعة نمو التكافل الاجتماعي في الجماعة الدينية يتوقف كذلك على تحديد التعاليم الدينية لأسس ذلك التكافل. فمن الأمور التي ينفرد بها الإسلام على غيره من العقائد أن القرآن والحديث قد جددا كثيرا من أوجه السلوك الإنساني تحديدا شاملا دقيقا
ونستشهد بالسيد محمد رشيد رضا معجبين للدلالة على تحديد الإسلام لوظيفة الدين في التكافل الاجتماعي. فقد صنف رحمه الله في كتابه (الوحي المحمدي) مقاصد القرآن في عشرة هي:
المقصد الأول: - في حقيقة أركان الدين وهي الإيمان - العقيدة - البعث والجزاء والعمل الصالح وتهذيب الأخلاق والنهي عن أتباع الهوى والترغيب في التقوى والإرشاد إلى العبادات
المقصد الثاني: - بيان ما جهل البشر من أمور النبوة والرسالة ووظائف الرسول، والإيمان بالقدر والسنن العلمة وآيات الله الخالصة والحظر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين
المقصد الثالث: - كون الإسلام دين الفطرة والصقل والفكر والعلم والبرهان والحجة والضمير والوجدان والحرية والاستقلال(925/2)
المقصد الرابع: - الإصلاح الإنساني والاجتماعي والسياسي الوطني بالوحدات الثمان: - وحدة الأمة و (الإنسانية) والدين والتشريع والأخوة الدينية والجنسية السياسية والقضاء واللغة
المقصد الخامس: - في مزايا الإسلام العامة في التكاليف الواجبة والمحظورة. وقد حصر السيد رضا رحمه الله هذه المزايا في عشر هي: - الأولى كونه جامعا لحقوق الروح والجسد (الثانية) كونه غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة (الثالثة) كون الغرض منه التأليف بين البشر وهو يعني بذلك ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميته بالتكافل الاجتماعي (الرابعة) كونه يسرا (الخامسة) منع الغلو في الدين وإباحة الطيبات والزينة (السادسة) قلة تكاليفه وسهولة فهمها (السابعة) انقسام تكاليفه إلى عزائم ورخص (الثامنة) كون نصوصه مراعى فيها درجات تفاوت البشر في العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها (التاسعة) معاملة الناس بظواهرهم (العاشرة) مدار العبادات على الأتباع المحض وأحكام المعاملات على الصالح مع مراعاة النص
المقصد السادس: - في حكم الإسلام السياسي نوعه وأساسه وأصوله العامة
المقصد السابع: - في الإصلاح المالي والحقوق المفروضة والمندوبة في المال والإصلاح فيه
المقصد الثامن: - في إصلاح نظم الحرب وفلسفتها
المقصد التاسع: - في إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية الدينية والمدنية
المقصد العاشر: - في هداية الإسلام في تحرير الرقيق
هذه الخطوط الرئيسية التي جعلها السيد رضا رحمه الله محور شرحه لوظيفة الإسلام أشبه بباقة مبعثرة زهورها تحتاج إلى التنسيق في آنية لطيفة المنظر جميلة الصنع يضاف إليها غصون رطبة من الأخضر اليانع ليكسبها عذوبة وسلاسة تتفق والذوق الذي تربى في قرار العربية هذه الأيام
والأسلوب العلمي الحديث في البحث والاستقراء يوفر للباحث هذه الآنية ويسهل عليه تنسيق تلك الزهور وإحاطتها بالغصون الرطبة الخضراء
وقد لمس كاتب هذه الأسطر - كما لمس غيره من الذين أتيح لهم دراسة مناهج البحث(925/3)
المعاصرة - أهمية الذخيرة النافعة التي تتوفر في المراجع الإسلامية القديمة منها والحديثة وما يحيط بتلك الذخيرة من مقصد اللفظ والمنطق بشكل يطمر بعض ما فيها من كنوز ويشوه ما فيها من جمال المغزى والمعنى
على أن الذي يعنينا من استعراض أثر السيد محمد رشيد رضا الجليل هذا هو لفت النظر في إشارة عابرة إلى تحديد الإسلام لأسس التكافل الاجتماعي تحديدا يكاد يكون شاملا؛ وذلك ما مهد لذلك التكافل سرعة النمو في الجماعة الإسلامية، ذلك التكافل الذي لا تزال بعض أسسه تربط العالم الإسلامي برباط اجتماعي وروحي كبير الأهمية. وما التفكك السياسي والاقتصادي الذي لازم تاريخ الشعوب الإسلامية منذ أفول نجم الإمبراطورية الإسلامية إلا وليد الوهن الذي أصاب مفهوم الناس وسوء ممارستهم للتعاليم الإسلامية؛ وليس مرجع هذا التفكك وهن التعاليم نفسها
قلنا إن وظيفة الدين لتحقيق التكافل الاجتماعي في الجماعة الدينية تتوقف على صدق الإيمان والاختبار الديني لدى تلك الجماعة، وعلى تحديد العقيدة الدينية التي تدين بها الجماعة لأسس ذلك التكافل.
ولا شك أن سلامة العقيدة الدينية وصيانتها من التحوير والتبديل شرط أساسي لحفظ ذلك التكافل الاجتماعي وهذا لا يعني الجمود والتعصب وإقفال باب الاجتهاد
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق(925/4)
الشعراء المجازون
الكلمة التي ألقيت في الاحتفال الذي أقامه مجمع فؤاد الأول للغة العربية في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية عصر الخميس الماضي لتوزيع جوائزه على الفائزين
أعلن المجمع في العام الماضي مسابقة في الإنتاج الأدبي شملت الشعر والقصص والبحث، فتقدم إلى حلبة القريض منها عشرة من شعراء الشباب أمتعوا لجنة الأدب حينا من الزمن بأغاريد متسقة الوزن منسجمة اللحن صافية الرنين، ولكن في بعضها التوقيع المتنوع. وفي بعضها الترجيع المتجانس. فاستمعت اللجنة إلى الأصوات جميعا؛ ثم أرهفت أسماعها لثلاثة من هؤلاء الشعراء رأت أنهم خرجوا من فناء العش إلى فضاء الأفق، وجاوزوا طور الزقزقة إلى طور الشدو. فسمعت الأول يقول
دهى النيل ليل فاستطال هجوده ... وأورث جنبيه كلالا رقوده
بساتينه باتت نواعس حوله ... وأغفت بها أطياره ووروده
فلا ساجعات الأيك فيها صوادح ... ولا الورد لذ النفح ريانُ عوده
ولا النبت مطراف على الأرض سابغ ... قشيب ولا صوب الربيع يجوده
ولا الصبح طلق الوجه نضر ولا الضحى ... ضحوك السنا ضاحي المحيا سعيده
ولا النيل تأتيه إذا نصل الدجا ... صباياه يملأن الجرار وغيده
فلما دجا ليل الخطوب توثبت ... تهائم واديه وهبت نجوده
وفتح عينا في الدنا فإذا بها ... مضى مجده منها وولى تليده
وأغرى به أهل الطماعة أنهم ... غزوه فلم تزأر عليهم أسوده
فنادى بنيه الغر هبوا فأوقضت ... جحاجحه المستقتلون وصيده
أهاب بشطريه قلباه بيضه ... سيوفا جرى فيها المضاء وسوده
وسمعت الثاني يقول:
أبناء مصر ضنيت مما أكتوى ... لا الصبر في طوقي ولا إجماله
برح الخفاء فما النقاب بمدل ... كلا ولا من حكمة إسداله
أدواء مصر أقلها قتالها ... فزن المصير ولا يفتك وباله
الطير تلهم قبل عصف رياحها ... والقطر ينبئ إن دنا هطاله
وعجيب قومي أن أنوء بنصحهم ... والنصح أدهى ما دهى اهماله(925/5)
عزت هدايتهم علي بموطن ... المرء فيه جاهه أو ماله
لا أصفراه قلبه ولسانه ... بل أكبراه عمه أو خاله
وسمعت الثالث يقول:
قد صحونا اليوم من طول الهجوع ... ونفضنا النوم عنا والكرى
بعد ما أصبح وادينا المنيع ... مرتعا يرعى به كل الورى
وحسرنا الستر عن أبصارنا ... لنرى الدنيا وما صارت إليه
فإذا المجد الذي كان لنا ... قد طواه الناس واستعلوا عليه
وإذا كان غفلا في الثرى ... قد سما بين الورى وارتفعا
وتوانينا فعدنا القهقرى ... وخسرا اليوم والأمس معا
فارتقب يا نيل إنا سنعيد ... ما مضى من تالد المجد وغاب
واهتفي يا مصر بالماضي المجيد ... فغدا يحيا على عزم الشباب
نحن أبناء الفراعين الألي ... ملكوا الدنيا وشادوا الهرما
وعلوا بالمجد آفاق العلا ... وتخطوا في الخلود الأمما
وسليل المجد لا يرضي الصغار ... أو يطيق الضيم يطغي في جماه
وإذا ما هاجه الظلم فثار ... هانت الدنيا عليه والحياه
ثلاثة أصوات تتفق في الموضوع والغاية، وتختلف في الشكل والطريقة: شعر الأول جزل اللفظ فخم العبارة محكم السرد، يجري أكثره في البحور الطويلة، ويؤثر لغة الأولين فيذكر التهائم والنجود والجحاجح والصيد. وشعر الثاني والثالث مأنوس الكلم، سلس الأسلوب، متنوع القوافي، حتى ليسبق إلى ظن المقارن أن هناك مذهبين للتعبير: قديما اتبعه صاحب (الأنداء المحترقة) وجديدا اتبعه أخواه صاحب (أدب الثورات القومية) وصاحب (وحي الشباب)، وهي الدواوين الثلاثة التي أجيزت. فهل في تاريخ الشعر العربي ما يسوغ هذا الظن؟ الواقع أن ليس للقديم والجديد في الأدب العربي ما لهما من الدلالة في الآداب العالمية الأخرى: قديم الفرنسية أو الإنجليزية مثلا قد استحال أو اندرس، فلا يستعمل اليوم، وإذا استعمل لا يفهم، وإذا فهم لا يقبل؛ لأن هاتين اللغتين تطورتا مع الزمن تطورا شديدا حتى اتسع الخلاف بين حاضرهما وماضيهما في النطق والنحو والبيان. ثم تغيرت(925/6)
عقلية قوميهما بتقدم العلوم وارتقاء الحضارة فتغيرت الأساليب واختلفت طبيعة أدبيهما لاتصالهما بحياة الناس عن طريق القصص والتمثيل فاختلفت المذاهب. أما قديم العربية فهو جديد أبدا، وأما جديدها فهو قديم أبدا. لا نجد فرقا جوهريا بين أساليب القرن العشرين وأساليب القرن السابع: الألفاظ هي الألفاظ، والنسج هو النسج، والأعراب هو الأعراب. فما يمتعنا من خطب زياد وسحبان وشبيب، هو ما يمتعنا من خطب النديم ومصطفى كامل وسعد زغلول. وما يعجبنا من نثر الجاحظ وأبي حيان والبديع، هو ما يعجبنا من نثر المازني والمنفلوطي والمويلحي. وما يطربنا من شعر البحتري وأبي فراس والمتنبي، هو ما يطربنا من شعر البارودي وشوقي وحافظ! كأنما نشأ هؤلاء جميعا في عصر واحد وشبوا على ثقافة واحدة! ولعل تعليل ذلك أن الشعر الجاهلي بأصالته، والقرآن الكريم ببلاغته، والدين الإسلامي بثقافته، هي العناصر التي يتألف منها المثال الفني الذي يحتذيه الكاتب والشاعر، فما تفرق مفترق إلا اجتمع عليه، وما تباعد متباعد إلا رجع إليه. فالشعر الجاهلي أقام عمود الشعر، والنثر القرآني أقر أسلوب الكتابة، والأدب الديني طبع الفكر العربي بطابع الرزانة والهدوء والسلفية؛ فهو لا ينفك يستهدي الوحي، ويسترشد السنة، ويستمهل الطفرة، ويستريب البدعة، ويصبغ نتائج القرائح المختلفة في الزمان والمكان بلون من التصور والتصوير لا يكاد يختلف ولا يتغير. فلو أن الزمان تأخر بالمتنبي ألف سنة لكان من الممكن أن يكون شاعر الخديوي عباس. ولو أنه تقدم بشوقي ألف سنة لكان من الجائز أن يكون شاعر سيف الدولة. وما نظن المصريين كانوا يقولون إن شعر المتنبي قديم، ولا الحلبيين كانوا يقولون أن شعر شوقي جديد!
إنما كان الاختلاف بين شاعر وشاعر، أو بين عصر وعصر، في الصور التي تلهمها البيئة والثقافة والحضارة، وفي الألفاظ التي تقرب أو تبعد عن لغة الجمهور ومألوف المجتمع. فبعض الشعراء يغترفون من قاموس المكتبة ولغة القرآن؛ وبعضهم يرتشفون من قاموس الجيب ولغة الصحف. والاختلاف على هذا النحو اختلاف في الشكل. والشكل حكمه حكم اللباس والأثاث والآنية، يتغير بتغير المكان والزمان والحالة. وما كان لأحد أن يختلف أو يختصم فيما لا حيلة فيه. ولكن النقاد الأقدمين جعلوا من اختلاف هذه الأشكال معركة بين القديم والجديد أداروها على اللفظ الجزل والركيك، والأسلوب الصفيق(925/7)
والمهلهل، والمعنى المسروق والمطروق، والمطلع الجيد والردئ، والتخلص الحسن والقبيح. وعذرهم في ذلك أن الشعراء لأسباب فطرية واجتماعية لم يقدموا إليهم إلا نوعا واحدا من الشعر هو ما يتصل بالوجدان والعاطفة؛ فكان النقاد أمام وحدة الشعر العربي ونقصه، مسوقين إلى أن يقصروا جهودهم على لفظه. فلو أن الشعراء ألهموا أن ينظموا في القصص الحكائي والتمثيلي، لا اختلفوا في الموضوع وما يصدر عنه من أغراض، وفي الينبوع وما يؤدي إليه من مسالك؛ كما اختلف فيهما الشعراء الفرنسيون فظهر في أدبهم الاتباعية والإبداعية والواقعية والرمزية وغيرها من المذاهب المقبولة والمرذولة. ولم يسمع التاريخ فيما سمع أن العرب اختلفوا يوم تركوا علبة الخشب إلى زرق الجلد وكوز الفخار وقدح الزجاج وجام الفضة، لأن الموضوع وهو الماء أو اللبن لم يتغير بتغير الآنية؛ ولكنه سمع أن الخلاف حدث وأن الرأي تشعب حين تغير الشراب من اللبن إلى الخمر. فالقول بأن في الشعر العربي قديما وجديدا وهو لا يزال واحدا في لغته وطريقته ونوعه ووزنه قول مدفوع بالواقع. ولقد صدق شوقي إذ يقول
ما فيه عصري ولا دارس ... الدهر عمر للقريض الأصيل
على هذا الوجه أيها السادة نظرت لجنة الأدب بالمجمع في أشعار الثلاثة السابقين فرأت الشاعر كمالا النجمي صاحب الأنداء المحترقة يأتي في الحلبة مجليا لفخامة ألفاظه ورصانة أسلوبه ومتانة قوافيه ووضوح معانيه وقلة سقطه وندرة خطأه، وهي الصفات الفنية الجوهرية التي يطمع المجتمع في أن تشيع في شعر الشباب. لذلك خصه بالجائزة الأولى. والأستاذ النجمي يقول أنه من قبيلة أولاد نجم من عرب الصعيد، وإن أباه كان من رجال الدين واللغة والشعر فوجهه هذا التوجيه الأدبي الخالص. وأبى عليه أن يستقي ثقافته الأدبية من غير مشاعرها الصافية الأولى، فحفظ القرآن الكريم، وقرأ كتابي الأغاني والعقد الفريد، ودرس ديواني البحتري والمتنبي. وفي هذه البيئة وتلك النشأة نجد تعليل الجزالة والسلامة اللتين تميز بهما شعره على الرغم من وقوفه في الدراسة عند حدود المرحلة الثانوية. وقد اخذ ينظم ديوانه المجاز وهو في الثامنة عشرة من عمره، ثم أتمه وقد نيف على الثامنة والعشرين. وشعر الديوان وجداني محض، استمده الشاعر من طبعه، ونقله عن قلبه، وعبر به عن شعوره، فليس للقصص والتمثيل منه نصيب. وقد طفى فيه حديث(925/8)
الشاعر عن نفسه، على حديثه عن غيره، فقل في السياسة والوطنية والاجتماع، وكثر في الحب والشوق والحنين والذكرى والألم والحزن. وأفكاره وصوره وأخيلته في كل أولئك جيدة، ولكنها في الوصف والشكوى والرثاء أجود
ثم رأت اللجنة على مسافة قريبة من الشاعر المجلي شاعرين يعدوان جنبا إلى جنب وقد كادا يبلغان الأمد، أحدهما الأستاذ محمود محمد صادق صاحب (أدب الثورات القومية) والآخر الأستاذ فريد عين شوكة صاحب (وحي الشباب)؛ فالشاعر محمود صادق ولد بالقاهرة في العام الأول من هذا القرن، ثم تخرج في مدرسة الحقوق سنة 1924 وكان من الطلاب الأولين الذين أوضعوا خلال الثورة المصرية المباركة، يؤرثون نارها بالخطب، ويسعرون أوارها بالشعر، ويرفعون صوتها بالتظاهر. فنظم فيها ديوانا نشره في سنة 1923. وكان وهو في سن اليفاعة يقول الشعر من غير علم باوزانه، ولا معرفة بقواعده. وقد علل ذلك بعض من كتبوا عنه بخلوص العروبة في دمه، لأن والديه نسبا في بني العباس. وبهذه الروح الثورية المشبوبة نظم النشيد الوطني سنة 1936 ونال عليه الجائزة الأولى. ثم أتجه شعوره إلى العروبة والإسلام حين تجددت في فلسطين مأساة الأندلس، فوضع للعرب نشيدا ونظم في كارثتهم مطولة. ولم نكد نقرأ له في خير الأحداث المصرية والعربية شيئا. الشاعر قوي الشاعرية عصبي الأسلوب حماسي العاطفة نبيل الغرض؛ ولكن قيثارته كربابة الشاعر الشعبي ترسل الأنغام من وتر واحد، وذلك ما بطأ به عن الغاية، والأستاذ صادق يسمي قصائده المطولات التي قالها في الثورة المصرية وفي الكارثة الفلسطينية ملاحم. وهذه التسمية من الوجهة الفنية خطأ؛ لأن القصيدة لا يكفيها أن تكون حماسية الموضوع ضافية الطول لتكون ملحمة، إنما الملحمة مصطلح وضع في الأدب الحديث ليقابل لفظ (ايوبيه) في الأدب الأوربي. وهي بهذا المعنى لا بد أن تكون قصة، أما طبيعية تكونت على طول الزمن مما تنوقل وتوورث من الأقاصيص والأغاني حتى تنتهي إلى شاعر سمح القريحة طويل النفس فينظمها كما فعل هوميروس في الألياذة؛ وإما صناعية تنشأ من عمل فرد واحد يخلق مادتها ويصنع صورتها كما فعل الفردوسي في الشاهنامة. وقصة الملحمة لا بد أن تنتزع من حياة شعب بأسره، لا من حياة شخص بعينه، وبذلك تخرج من الملاحم القصيدة العمرية لحافظ. ولا بد أن تقوم على قواعد الفن(925/9)
القصصي في العرض والعقد والحل، وبذلك تخرج منها أرجوزة (دول العرب) لشوقي. والمطولات التي سماها الأستاذ صادق ملاحم قد خلت من عنصر الحكاية وهو الشرط الأساسي لوجود الملحمة؛ وزخرت بمعاني الشعر الوجداني من حماسة وفخر ومدح ورثاء ووصف وشكوى. وما أسعد المجمع يوم يقدم ويكرم ويجيز الشاعر الموهوب الذي يكمل نقص الشعر العربي في القصص، كما كمل شوقي نقصه في التمثيل. وفي أحداث الفتوح الإسلامية والحروب الصليبية والمعارك الفلسطينية مواقف للبطولة والمروءة والتضحية تنتظر الشاعر العبقري ليجعل منها موضوعا لملحمة العرب
وأما الأستاذ فريد عين شوكة فقد ولد في منوف ثم تخرج في دار العلوم سنة 1936، وزاول تعليم اللغة في مدارس الدولة. وأبناء دار العلوم وإخوانهم أبناء الأزهر هم جنود العربية وحماتها إما بالطبع وأما بالصنعة، فالمصنوعون يخدمون فقهها ونحوها وصرفها وبلاغتها بالبحث والنقد والشرح والتعليم؛ والمطبوعون يمارسون فوق ذلك تنمية أدبها بالكتابة، وتجديد بيانها بالشعر. ومن هذا الفريق الأستاذ فريد. قال الشعر في سن باكرة، ووجد من طبيعة نفسه ومن طبيعة درسه ما يعين عليه فصاغه صياغة حسنة جرى عليها رونق الطبع فهي سلسة، وأثرت فيها صنعة المعلم فهي صحيحة، وأن فعلت مشاعره وخواطره بالنفس والبيئة والطبيعة والمهنة والعقيدة، فتغنى بالشباب والحب، ونظم في التعليم والمدرسة، وأشاد بالنيل والريف، وقال في الإسلام والعروبة. وقد تميز على صاحبيه بمعالجة الشعر التمثيلي وهو أكمل أنواع الشعر الثلاثة، لأنه جماعها بما يشتمل عليه من حرارة الوجدان في وصف المواقف، وجاذبية القصص في سرد الحوادث، وبراعة الحوار في تمثيل الوقائع
هذان الشاعران اللذان جاءا في الحلبة مصليين يجريان في عنان، لانفراد كل منهما بمزية، كانا لقربهما من السابق وبعدهما عن المتخلف موضع تقدير المجمع فدبر لهما جائزة أخرى كالأولى وقسمها بينهما بالسوية
إن المجمع كما ترون يولي شرف السبق في مضمار الشعر من امتاز ببلاغة الأسلوب في جمال صورته وصحة فكرته وشدة أسره؛ ثم لا يغفل بعد ذلك المعنى المبتكر ولا الفن المستحدث ولا الخيال المستطرف ولا الغرض السامي. والشعر على هذا النحو من أرفع(925/10)
الفنون التي يشجع على إنتاجها المجمع؛ لأنه أحد النبعين الذين ينبثقان من روح اللغة فيحملان لموادها النماء ولأساليبها الجدة ولصورها النضارة. والشعر من بعد ذلك خليق بأن نحتفل له ونحتفي به ونعين عليه، لأنه موسيقى المجاهدين في سبيل المجد، وحداء المجهودين في ركب الحياة
والمجمع إذ يؤدي إلى الشعر هذا الواجب في أشخاص أهله، يتقدم إلى الثلاثة المجازين بخالص التهنئة، وإلى السبعة المؤجلين بجميل المعذرة، وإلى السادة الحاضرين بجزيل الشكر
أحمد حسن الزيات(925/11)
من شعر القوة في بلاد الشام
للأستاذ حمدي الحسيني
إن خلايا الحياة في جسم الأمة العربية بدأت تتحرك منذ أعلن الدستور العثماني؛ فكانت هذه البقعة العربية من طورس إلى رفح أحفل البقاع العربية بمظاهر الحياة والنضال في سبيل الحياة. وقد كان فريق من شعراء هذه البقعة المباركة - ولا يزال أكثرهم والحمد لله أحياء - من أكثر الخلايا العربية تغذية لروح الأمة بالقوة المتدفقة والأمل الهادي، ومن أقواها حركة واندفاعا في ميادين النضال في سبيل الحرية والاستقلال. ولا شك في أن الشيخ فؤاد الخطيب شاعر الثورة العربية - حفظه الله - كان ولا يزال في الرعيل الأول من شعراء العرب الذين أحسوا برغبة الأمة العربية في الحرية وتطلعها إلى الاستقلال. فأخذ ينظم لها هذه الرغبة الصادقة شعرا صادقا فتنشره له الصحف العربية في مصر والآستانة، حتى تقدم الشريف حسين بن علي رحمه الله في الحرب الماضية فأعلن الثورة العربية بإطلاق الرصاصة الأولى في وجه الظلم فما كاد العالم العربي يسمع دوي هذه الرصاصة في سماء البلاد العربية حتى دوى بجانبها صوت الشيخ فؤاد الخطيب بقصيدة عصماء فكان دويها أيضاً واسع المدى قوي الصدى؛ حيا الشريف حسينا وحيا البيت الحرام، وطلب من الشريف أن ينهض للأمر الخطير نهضة قوية عنيفة لأن الظلم لم يعد يطاق، وأن الأذى لم يعد يحتمل. ومن أولى من ابن النبي يحمل هذا العبء الكبير، وينهض بهذا الأمر الخطير؟
والتف حولك أبطال غطارفة ... شم الأنوف يرون الموت مغتنما
فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقا ... سدا من الظلم إن تعرض له انهدما
ثم التفت إلى العرب يستفز حميتهم ويستنهض همتهم:
إيه بني العرب الأحرار إن لكم ... فجرا أطل على الأكوان مبتسما
يستقبل الناس من أنفاسه أرج ... ما هب في الشرق حتى أنشر الرمما
من ذلك البيت من تلك البطاح على ... تلك الطريق مشت أجدادنا قدما
لستم بنيهم ولستم من سلالتهم إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما
وقد ظل الشيخ فؤاد متصلا ببني هاشم في دور ملكهم في الحجاز والشام وشرق الأردن والعراق ملامسا للقضية العربية العامة في أكثر نواحيها. وقد أخرج للمسرح العربي رواية(925/12)
فتح الأندلس، رأينا فيها روحه مشرقة على كل قطعة منها، ولا ننسى ذلك الموقف الذي اصطدمت فيه همة الشيخوخة الفانية بهمة الشباب المتوثب:
يا شيخنا اسلم وذرنا نحن في محن ... ماذا يضيرك أن نستقصي المحنا
تالله ما الموت إلا العيش في ضعة ... من يرض بالثوب يجعل ثوبه الكفنا
إن يعوز العرب في بنيان دولتهم ... هدم الحياة بذلنا الروح والبدنا
وليجعلوا من بقايانا ومن دمنا ... طينا وماء فيبنوا الملك والوطنا
وأما السيد خير الدين الزركلي شاعر القومية العربية أطال الله بقاءه فقد كان من أسبق شباب سوريا دعوة للقوة ومجاهرة برغبة الحرية:
ما منال الحياة بالمطلب السهل ... ولكنني أرى النهج وعرا
كل عز فباطل غير عز ... شيدته الظباة وخزا وهبرا
واللبيب اللبيب من يؤثر المو ... ت على أن يعيش في الذل دهرا
وهو يعتقد بأن أماني الأمم في الحرية والحياة لا تتحقق إلا إذا أصبحت في النفوس إيمانا دافعا:
من كان يؤمن إيمانا بدعوته ... أجابه الفلك الدوار آمينا
ومن إذا خلصت للمجد همته ... أصاب نجما على الأيام مضمونا
وهل الإيمان إلا الإرادة القوية الحازمة التي تأبى على الدهر إلا أن تتحقق على رغم الصعوبات والعقبات:
إرادة تستذل العصم ماضية ... وعزمة تصدع الأطواد توهينا
وللعظائم ما ترضى فإن وهنت ... خابت وإن تمض آبت في المجلينا
كل امرئ طامح للمجد يطلبه ... لولا العظائم ما خاب المرجونا
وما دامت الإرادة ماضية في العمل فيجب أن يكون العمل ثابتا قويا لا يتزعزع ولا يتضعضع.
ابن علي الصخر وإلا فما ... شيد علي المنهار يصدع
وخشي الزركلي أن يظن الضعفاء بأن الحق المهضوم يمكن الحصول عليه بالهوادة واللين والهوان والذل، فراح يحذرهم هذا الظن الآثم بأقصى حدود الصراحة والصرامة:(925/13)
من خال أن المجد يدرك هينا ... فلينتظر بعد الهوان هوانا
ما شاد ملكا أو أعز قبيلة ... من آثر الإخلاد والإذعانا
قال الزركلي هذا ولكنه لم يطمئن فقد خشي ألا يفهم الضعفاء وسيلة النضال الحقيقية فيظلوا في هوانهم سادرين فأخذ بأيديهم ووضعها على السلاح:
ابن مجدا ولو بحد المواضي ... ما أرى الدهر عن مهين براض
وأخو العزم من بيت وكلتا ... مقلتيه لم تكتحل باغتماض
أفلح الخائض الغمار بعيد الغور ... رأياً وأخفق المتغاضي
ليس بالندب من إذا مسه ... الضيم تولى أو لاذ بالأرباض
إنما ابن العلاء من ليس بالمحجم ... عن خصمه ولا الركاض
من إذا استل باليمين حساما ... شغل البرق عن سنا الإيماض
وما كاد الزركلي يرى أمته اهتدت إلى الطريق السوي الموصل إلى الحق المهضوم حتى اطمأنت نفسه وزال قلقه: واسمعه الآن في مكة بين يدي الملك حسين يصيح هذه الصيحة القوية على أثر خطب من الخطوب التي أصابت سوريا في ميدان جهادها:
إن في الشام أمة لا تطيق ... الضيم، تأبى العلا لها أن تطيقا
أنذرونا بالموت، ما أعذب المو ... ت إذا كان للحياة طريقا
إن للباطل اضطرابا على الح ... ق وعقباه أن يكون زهوقا
وأما السيد بشارة الخوري - الأخطل الصغير - ففي شعره وثبات قوية وحفزات ثائرة، ونفثات محرقة تجعله في نظرنا شاعرا من شعراء القوة كما هو شاعر من شعراء الحب والجمال. وهل القوة والحب والجمال إلا شيء واحد معناه الحياة السعيدة الهانئة؟ واسمع الآن الأخطل الصغير يزف هذه البشرى الغالية بسقوط عبد الحميد - ليس للأمم العثمانية فحسب بل لأمم الأرض قاطبة
زال عصر السجود يا أمم الأرض ... وهذا عصر الإخاء الوطيد
ظمئت هذه النفوس إلى المجد ... فلا تمنعوا سبيل الورود
وخذ هذه الحملة القوية التي يحمل بها الأخطل الصغير على الضعف الذي يبدو على الأمة العربية أحيانا عند نزول الخطوب بساحتها:(925/14)
لا يثور المجد في أعراقها ... أمة تغدو على النوح وتمسي
يخطب المدفع في محفلها ... طاهر الألفاظ معسول التأسي
خاب من شيد حريته ... دون أن يدعم ركنيها برمس
مهروها أنفسا غالية ... لا بأحلام وأقلام وطرس
وخذ هذه القطعة القوية التي يوجهها إلى الشباب هذا التوجيه القوي الجميل المحبب
يا دماء الشباب ما أنت إلا ... ذائب الطيب يا دماء الشباب
لا تضني على الحراب وإن آذ ... تك بل عطري رءوس الحراب
املئيها شذا كما يملأ الورد ... يد الجارحيه بالأطياب
قطرة منك بسمة في فم الرفق ... وسوط على يد القرضاب
كم سياج من الحديد تقضي ... وسياج باق من الآداب
وأما الشيخ سليمان التاجي الفاروقي فهو شاعر فلسطيني مقل ولكن قليله قوي صادع كانت تتفجر به عواطفه المكبوتة بعد الدستور العثماني تفجرا قويا عنيفا. وقد وقعت في يدنا إحدى صوادعه وهي التي كان قد أنشدها في الآستانة في أواخر الحرب العالمية الأولى فكانت نفثة تنم عما تستشعره نفسه المرتمضة وتحس به عواطفه المتألمة. وإليكم هذه القطعة القوية من هذه القصيدة العامرة:
بيد أنا بعد ما قد نالنا ... لا يرى اليأس إلينا مذهبا
نحن للحرب خلقنا وبنا ... يضرب الأمثال من قد ضربا
عدة الناشئ منا سيفه ... وفؤاد منه أمضى مضربا
إن للعرب لجيشا إن مشى ... زلزل الشرق وراع المغربا
تسجد الأحكام إجلالا له ... ويدك الأرض دكا والربى
كتب النصر على راياته ... كيف والله الذي قد كتبا
أيها الطامع في إذلالنا ... إن من دون مناك الشهبا
قد أبى الله لنا إذلالنا ... كيف ترجو أنت ما الله أبى
الشيخ إبراهيم الدباغ رحمه الله: شاعر فلسطيني عاش في مصر منذ حداثته؛ قد اتصل بالحركة الوطنية في مصر وساهم في خدمتها عن طريق الصحافة والسياسة، انتسب(925/15)
للحزب الوطني ثم ظاهر حزب الوفد، في شعره رغبة في الحرية وأملا في تحقيقها للعرب وللشرقيين عامة:
غلت فغلي في كل صدر وجيها ... ولست لها إن كان غيري مجيها
تعود منها المستبدون هدنة ... وسلما وردتهم لرشد حروبها
ممنعة لا تبتغي عند أمة ... موزعة أهواؤها وقلوبها
بنو الشرق أبطال لها في بلادهم ... وما دك دور العز إلا غريبها
وفي شعره ثورة على الظلم وتبرم بالظالمين:
أغرب ما شاهدت في ... حكم الشعوب والأمم
مسلط يطاع فيها ... أمره، وإن ظلم
وخادم يعطى له السي ... د أجر ما اجترم
السيد إبراهيم طوقان رحمه الله، من شعراء الشباب في فلسطين، في شعره حيوية وقوة تهيجها الذكريات الخالدة، وتحركها الحوادث العظيمة، فذكرى خالدة كذكرى واقعة حطين تعصف في نفسه عصفا قويا ولا تنفك تعصف حتى يقول:
قف على حطين واخشع ... يشج قلبك ما شجاني
وانظر هنالك هل ترى ... آثار يوسف في المكان
من كل خطار على الأخ ... طار صبار الجنان
حلقات أدرعهم قيو ... د الموت في درك الطعان
وسيوفهم ماء الحميم ... على مضاربهن قان
والخيل طوع كماتها ... في النقع مرخاة العنان
لا تنثني أو تحرز القصبا ... ت في يوم الرهان
وخذ هذه القطعة القوية التي يصف بها من يخاطر بحياته في سبيل عقيدته:
لا تسل عن سلامته ... روحه فوق راحته
بدلته همومه ... كفنا من وسادته
بين جنيه خافق ... يتلظى لغايته
صامت لو تكلما ... لفظ النار والدما(925/16)
قل لمن عاب صمته ... خلق الحزم أبكما
وأخو الحزم لم تزل ... يده تسبق الفما
وخذ هذه القطعة أيضاً يصف بها الشهيد:
عبس الخطب فابتسم ... وطغى الهول فاقتحم
رابط الجأش والنهى ... ثابت القلب والقدم
لا يبالي الأذى ولم ... يثنه طارئ ألم
لا تقل أين جسمه ... واسمه في فم الزمن
إنه كوكب الهدى ... لاح في غيهب المحن
أرسل النور في العي ... ون فما تعرف الوسن
حمدي الحسيني(925/17)
فتح القسطنطينية
الدكتور سالم أحمد الرشيدي
(لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك
الجيش)
حديث شريف
تحتل مدينة القسطنطينية موقعا فريدا بين مدن العالم، وحسبك أن تلقى نظرة عليها في الخريطة فتدرك ذلك. فهي تقع عند ملتقى القارتين آسية وأوربا، تحيط بها البحار من ثلاث جهات. وقد حبتها الطبيعة خصوبة الأرض وجودة الطقس كما حبتها أسباب القوة والمتعة. وللقسطنطينية ميناؤها العظيم في القرن الذهبي الذي كان يعد أوسع وآمن ميناء في العالم. وكانت هذه المدينة فوق ذلك كله مركزا عظيما للتجارة، تأتى إليها المتاجر من كل صوب من البر والبحر. وقد نوه نابليون بونابرت بوجه خاص في العصور الحديثة بأهميتها وخطورتها فقال في شأنها (لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها). وذكر نابليون في مذكراته التي كتبها في منفاه بجزيرة سانت هيلين أنه حاول مرات عدة الإنفاق مع روسيا على اقتسام الإمبراطورية التركية، ولكن وقفت القسطنطينية في كل مرة العقبة الكؤود دون الاتفاق. فقد كانت روسيا تلح في امتلاكها ونابليون يصر على عدم تسليمها إذ أن هذه المدينة وحدها كانت في نظره تساوي إمبراطورية. وهي تعد بمثابة مفتاح العالم، من استولى عليها استطاع أن يسيطر على العالم بأجمعه. وقد كان نابليون في أشد الحاجة إلى صداقة روسيا لمواجهة عدوته اللدود إنجلترا؛ ولكنه برغم ذلك لم يستطع أن يضحي بالقسطنطينية. ولو قد تم الاتفاق بين نابليون وروسيا على مصير المدينة لتغير مجرى تاريخ أوربا وتغير تبعا لذلك مجرى تاريخ العالم كله
وقد أدرك الغزاة والفاتحون منذ القدم أهمية هذه المدينة وخطورة موقعها فحاولوا الاستيلاء عليها وحاصروها مرات كثيرة. غير أن هذه المدينة استطاعت بمناعة موقعها وقوة حصونها أن تصد معظم الغزاة الفاتحين وكان للمسلمين نصيب كبير من هذه المحاولات،(925/18)
وقد وردت أحاديث كثيرة تبشرهم بفتح القسطنطينية منها قوله عليه الصلاة والسلام (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) الأمر الذي زادهم تعلقا وأملا في فتح هذه المدينة. وقد حاول المسلمون فتحها منذ أيام الخليفة عثمان بن عفان واستشهد تحت أسوارها الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري في عهد معاوية بن أبي سفيان. وهكذا أصبحت القسطنطينية - إلى جانب أهميتها الإستراتيجية والاقتصادية - أهمية دينية خاصة في نظر العثمانيين الذين حملوا لواء الإسلام والجهاد في سبيله بعد استقرار دولتهم الجديدة في آسيا الصغرى في بداية القرن الرابع عشر الميلادي. وقد أدرك عثمان أول سلاطين الدولة العثمانية - كغيره من الفاتحين قبله وبعده - قيمت هذه المدينة وعظم قدرها ولكنه لم يكن إذ ذاك قد بلغ من القسوة ما يقدر به على فتحها فأوصى بذلك من يأتي بعده. وقد حاصرها السلطان بايزيد الأول والسلطان مراد الثاني ولكنهما لم يصلا إلى فتحها حتى جاء السلطان محمد الفاتح فاستطاع - بما أظهره من أحكام القيادة وحسن التنظيم وسرعة الخاطر وقوة العزيمة وقوة المصابرة والجلد والتفنن في ابتداع آلات الحصار والقتال - أن يصل إلى فتح هذه المدينة، وحقق بذلك حلم الفاتحين منذ ألف عام كما حقق البشارة النبوية الكريمة بفتح القسطنطينية
وقد أوصى السلطان الفاتح جنوده عند دخولهم هذه المدينة بإتباع تعاليم الشرع الحنيف فلا يقاتلون إلا من قاتلهم ولا يعرضون للنساء والأطفال والعجزة بسوء أو أذى؛ ويحسنون من يقع في أيديهم من الأسرى وأن يكونوا أهلا للشرف العظيم الذي حباهم به الرسول (ص) في حديثه.
وباستيلاء المسلمين على القسطنطينية قضى على ما كان يستحر فيها من المنازعات والمشاحنات الدينية التي طالما أثارت الفتنة وأراقت الدماء؛ وحرم السلطان الفاتح اضطهاد النصارى تحريما قاطعا ولم يميز في تسامحه ومعاملته بين أحد منهم على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم بل جعلهم كلهم سواء وأضلهم جميعا بعدله ورعايته. وقد طلب إليه بعض الجهلة المتعصبين قتل الروم وإبادتهم وإذا لم يدخلوا في الإسلام فأبى عليهم ذلك وقال أنه يخالف تعاليم القرآن وأذن للروم بانتخاب بطريركهم الجديد بنفس المراسم الفخمة التي كانت تتبع في عهد الأباطرة الأول. وقد أحتفي به السلطان الفاتح وأعظم لقياه وبالغ في تكريمه. ولكن(925/19)
مؤرخا إنجليزيا اللورد إيفرسلي قد استنتج من هذا التسامح أنه دليل على أن العثمانيين في فتوحاتهم بأوربا لم يكونوا يقصدون إلى نشر الإسلام. وهو استنتاج خبيث المرمى والغرض إذ معناه أن الإسلام قبل ذلك لم ينتشر بالتسامح والاختيار، وإنما نشر بالسيف والإكراه ولو أن هذا اللورد الإنجليزي قد شدا شيئا في تاريخ الإسلام لعلم أن هذا الدين في مختلف عصوره وعهوده لم يفرض قط على أحد من الناس. ويقول السير توماس أرنولد إن مدينة القسطنطينية بعد الفتح العثماني الإسلامي أصبحت ملجأ العالم كله، يأمن فيه الخائف والمذعور ويطمئن فيه المضطهد والمظلوم وينال في جميع الناس العدل والمساواة والحرية على قدر سواء لا تميز بين غني وفقير ولا بين عظيم وحقير. فكان فتح القسطنطينية بحق مفخرة من مفاخر الإسلام التي ترهى بها التاريخ ومجدا من أمجاده الخالدة الباقية على الدهر
لقد كان لسقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين (في العشرين من جمادي الأولى سنة 857هـ 29 مايو 1453) دوي عظيم في العالم ولكن اختلف وقعه وأثره في الغرب عن وقعه وأثره في الشرق. أما النصارى في الغرب فقد صعقهم نبأ هذا الحادث وتملكهم الفزع والألم والخزي وتجسم لهم خطر المسلمين وتهديدهم لأوربا النصرانية وتوجوا أن يكون انتصار محمد الفاتح بداية لتوغله في أوربا فأخذوا يتتبعون خطواته وحركاته بقلق واهتمام وعظمت في أعينهم أهمية القسطنطينية وخطورة قيمتها. وأزداد الأتراك العثمانيون شهرة في الناحية العسكرية بعد استيلائهم على هذه المدينة المنيعة الخالدة. وقال حاكم مدينة غلطه في رسالة كتبها بعد فتح القسطنطينية بنحو شهر إن السلطان محمد الفاتح، يهدف إلى أن يكون سيد العالم وأنه قبل أن تمضي سنتان سيزحف إلى روما. وعبر كتاب معاصرون آخرون عن مثل هذا الفزع. وخطب إينياس سلفيوس (الذي صار فيما بعد بابا باسم بي 2) أمام ندوة فرانكفورت يقول: إن سقوط القسطنطينية قد جعل المجر مفتوحة أمام محمد الفاتح وإذا ما خضعت له هذه البلدة انفتحت له الطريق لغزو إيطاليا وألمانيا. وبعث أحد شعراء النصرانية في الشرق بقصيدة طويلة إلى العالم النصراني يهيب به إلى قتال الأتراك وحث البابا نيقولا الخامس أن يعمل على توحيد كلمة أمراء النصرانية وتوجيه جميع جهودهم وقواهم لقتال العدو المشترك ثم ابتهل الشاعر إلى العذراء، ودعا أن يكتب(925/20)
النصر لقومه
والحق أن النصارى في الغرب قد انبعث فيهم نوع من الروح الصليبية القديمة وتداعى الناس إلى طرح الخلافات والحزازات والاتحاد ضد الأتراك. وعنف الكاردينال سنت أنج اللاتين وقرعهم على تخاذلهم عن نجدة الروم وألقى عليهم تبعة هذه الكارثة العظيمة. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثرا بنبأ سقوط القسطنطينية في يد الأتراك وجد في توحيد الدول الإيطالية وتأليها على قتالهم. ورأس مؤتمر في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عزمها على التهادن فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقواها ضد العدو المشترك
وكان من أعظم الناس تأثيرا باستيلاء الأتراك العثمانيين على القسطنطينية فيليب الطيب دوق بور غويا وقد كان هذا الدوق بطبعه ذا نزعة صليبية قوية ومن أشد الناس تحمسا لقتال الأتراك من قبل سقوط القسطنطينية، فلما استولى هؤلاء على هذه المدينة وجاء رسول البابا سنة 1453 يستحثه على قتال محمد الفاتح التهب حماسا وحمية واستنفر جميع النصارى إلى هذا القتال وذهب بنفسه إلى ألمانيا يستنهض إمبراطورها فريد ريك الثالث. وبعث هذا الإمبراطور بدوره إلى ملك فرنسا شارل السابع كما بعث إليه في نفس الوقت الملك ألفونس يحثانه على حرب السلطان محمد الفاتح، ولم يلبث أن تحولت الفكرة الصليبية من قتال الأتراك العثمانيين إلى قتال جميع المسلمين وغزو جميع بلادهم إمعانا في الانتقام وأخذ الثأر لمدينة القسطنطينية. يقول المؤرخ المصري المعاصر أبو المحاسن ابن تغري بردي (وفي هذا الشهر (ربيع الآخر 861هـ مايو 1457م) وردت الأخبار من الإسكندرية وغيرها من بلاد الساحل أن الفرنج عمرت نحو ثلثمائة مركب لغزو سائر سواحل الإسلام من الروم إلى الإسكندرية ودمياط مكافأة لأخذ السلطان محمد بن عثمان استنبول من الفرنج خزاهم الله فلم يلتفت السلطان إلى هذا الخبر لعزة شوكة الإسلام ونصرته إن شاء الله إلى يوم القيامة) وقد أرسل الغرب النصراني فعلا فيما بعد حملات حربية إلى الشرق ولكنها كانت محدودة الأثر لم نتعد تخريب بعض المدن الساحلية في آسيا الصغرى
وذلك ما كان من حال النصارى في الغرب وموقفهم بعد فتح القسطنطينية. أما في الشرق الإسلامي فقد كان الأمر على عكس ذلك، إذ عم الفرح والابتهاج بين المسلمين في ربوع(925/21)
آسيا وأفريقيا، لهذا الفتح الإسلامي العظيم. وما أن وصل رسل السلطان محمد الفاتح إلى مصر والحجاز وفارس يحملون نبأ هذا الفتح حتى هلل المسلمون وكبروا وأذيعت البشائر من منابر المساجد وأقيمت صلوات الشكر وزينت المنازل والدكاكين والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط الأعلام والبنود المزركشة المختلفة الألوان وأمضى الناس في هذه البلاد أياما كأحسن ما تكون أيام الأعياد الإسلامية روعة ورونقا وبهاء.
وأي مسلم كان لا يغتبط وقد تحققت نبوءة كريمة لنبيهم الكريم بفتح القسطنطينية التي استعصت على المسلمين منذ الصدر الأول من الإسلام؟
وندع هنا المؤرخ المصري المعاصر الثقة أبا المحسن بن تغري بردي يصف لنا شعور الناس وحالهم في القاهرة بعد أن وصل إليها قاصد السلطان ورفقته في الثالث والعشرين من شوال سنة 857 (27 أكتوبر 1453) بنبأ فتح القسطنطينية ومعهم الهدايا وأسيران من عظماء الروم قال (قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح المبين وجاء القاصد المذكور ومعه أسيران من عظماء استنبول وطلع بهما إلى السلطان (سلطان مصر الأشرف إينال) وهما من أهل قسطنطينية وهي الكنيسة العظمى باستنبول فسر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم؛ ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياما، ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران إلى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال بعد أن أجتاز القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك إلى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل. .) ويقول ابن تغري بردي في موضوع آخر (ثم طلع قاصد ممتلك بلاد الروم ورفقته إلى القلعة من غير أن يحظر القضاة وتمثلوا بين يدي السلطان وقدموا ما معهم من الهدية التي أرسل بها رسلهم (عدد ابن تغري بردي هذه الهدايا وذكر أنواعها وهي كثيرة) فقبلها السلطان ثم رحب بها ثم أنزل إلى محل إقامته ومعه رفقته وهم يتفرجون في الزينة وكانت عظيمة واستمرت أياما وتغالى العوام في شأنها مع استمرار دق البشائر في صباح كل يوم أياما)
وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ما هو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الإسلامية الأخرى. وقد سجل لنا المؤرخ التركي فريدون بك في كتابه (مجموعة منشآت السلاطين) الكتب التي تبودلت(925/22)
بمناسة هذا الفتح العظيم بين السلطان محمد الفاتح وبين سلطان مصر وغيره من ملوك المسلمين وأمرائهم وهي تكشف لنا عن نوع العلاقات القائمة في ذلك العهد بين هذه الدول الإسلامية المتجاورة وكانت تفيض بحسن المودة وصدق الإخاء والصفاء
وبعد، فإن المسلم ليدخل اليوم في مسجد السلطان محمد الفاتح باستنبول فيكون أول ما يروعه من هذا المسجد جبينه المتبلج وقد نقش عليه هذا الحديث الكريم (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) فتخشع نفسه ويخفق قلبه وتطوى في ذهنه آماد الزمن وتمر به الذكر بين محمد بن عبد الله الذي أنطقه الوحي بهذا الحديث وبين محمد الفاتح الذي حقق هذا الحديث فلا يملك إلا أن يقول: سبحانك ربي، أية معجزة قد تمت!
الدكتور سالم أحمد الرشيدي(925/23)
بحث لغوي
بين الضر والضرر
للأستاذ طاهر بن عاشور
عضو مجمع فؤاد المراسل
أجملت كتب اللغة في هاتين الكلمتين أجمالا سرت منه إلى ألسن المستعملين أخطاء باستعمالهم كلمة الضرر بالفك فيما يساوي معاني كلمة الضر بالإدغام، غافلين عما تضمنه سر عدم إدغام الحرفين في كلمة الضرر من التنبيه على الاحتراز من استعمالها فيما يساوي معنى كلمة الضر المدغمة
فوجب بسط هذا البحث وتحقيقه؛ ذلك أن في اللغة فرقا في اعتبار بنية الفعل يظهر أثره في حالة مصدره، فالمصدر الذي على وزان فعل بفتح العين إنما يجيء مصدرا من الفعل الذي ماضيه على زنة فعل بكسر العين ومضارعه على زنة يفعل، وهذه البنية مصوغة لأفعال السجايا والوجدان مثل فهم وفرح وجوى، ولأفعال الاتصاف بالعاهات مثل مرض وشلل وعمى وزمن
فلأجل ذلك ففعل ضر الماضي إذا استعمل متعديا فحركة عينه في الماضي تقدر بالفتح لأن مضارعه مضموم العين. قال تعالى: (لن يضروكم إلا أذى_لا يضركم من ضل) فهو جار على قاعدة أن المضاعف المتعدي المفتوح العين في الماضي ينقاس في مضارعه ضم العين، عدى ما استثنى مما جاء بالكسر على خلاف القياس أو جاء بالوجهين الضم والكسر ومصدر ضر هذا المتعدي الضر يوازن فعل كالنصر مفتوح الضاد
وقد وجب فيه إدغام أول مثليه لأن أولهما ساكن وثانيهما متحرك. فالإدغام واجب، فلذلك قالوا ضر كقوله تعالى: (ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا).
وأسم المصدر منه الضر يضم الضاد. ومنه قوله تعالى: (ثم إذا كشف الضر عنكم) وقيل الضر والضر لغتان في مصدر ضر المتعدي جريا على ما جاء باللغتين في الأسماء نحو الشهد والشهد تغليبا لجانب الجمود في المصدر على جانب الاشتقاق، والقول الأول أصح وأقيس(925/24)
فأما إذا استعمل ضر فعلا لازما فهو حينئذ بمعنى صار ضريرا، أي عمى، فتعين أن يكون وزنه فعل بكسر العين في الماضي لأنه وزن أفعال العاهات والأحزان ونحوها. فقياس مضارعه أن يكون مفتوح العين، فيقال يضر بفتح الضاد، كما يقال عمى بعمى وشلل يشل (واعلم أني لم أعثر على مضارع ضر في كلامهم إلا في قول بشار:
إذا ذكر الحباب بها أضرت ... بها عين تضر على الحباب
وقد وجدته في نسخة ديوان بشار غير مضبوط فضبطته بفتحة على الضاد، ولم أعثر أيضاً على من ذكره أو ذكر زنة ماضيه من أصحاب كتب اللغة المعروفة لنا، مثل الأساس والصحاح واللسان والقاموس والتاج والمخصص لابن سيده وإصلاح المنطق ومفردات الراغب والمشارق لعياض والنهاية لابن الأثير
وإذا لم يذكروا فيه أنه جاء على خلاف القياس فهو محمول على القياس في الماضي والمضارع، وقد دل على ذلك أيضاً مصدره، فإنهم قالوا في مصدره الضرر بدون إدغام لأنه جاء على مثال فعل؛ وكل ما كان من الأسماء مضاعف المثلين على هذا المثال وشبهه، فإنه يتعين فيه الفك ولا يجوز الإدغام. وعللوه بالخفة الحاصلة بالفتح مثل: طلل، ولبب، وجلل. وأنا أرى أن علة الفك فيه التفرقة بين الفعل والاسم في الأكثر، ثم طرد الباب على وتيرة واحدة. فإذا قالوا في المصدر ضرر علمنا أن الماضي بوزن فعل بكسر العين، وأن المضارع بوزن يفعل بفتح العين. ومن أجل ذلك لا يطلق الضرر بالفك إلا على ما كان من الأضرار عاهة. فالعمى ضرر والزمانة ضرر. قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) أي العمى والزمانة. وقد فسر المفسرون الآية بذلك، فلا يشمل من أصيب بضر في ماله أو في أهله. وفي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى فأنزل الله على رسوله (غير أولي الضرر) اهـ
ولم يستعمل الضرر في غير ما هو من العاهات فيما بلغنا من كلام العرب ولا رأينا من صرح به من الأئمة المروى عنهم. ولكن وقع في كتاب الأقضية من الموطأ عن يحيى(925/25)
المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ضرر ولا ضرار) هكذا رواه المازني مرسلا.
وأن كان قد اسند بهذا اللفظ عن أبي سعيد الخدري وعبادة ابن الصامت وعائشة وابن عباس في غير الموطأ من سنن ابن ماجه ومسند أحمد ونحوهما من الكتب التي تخرج الصحيح وتدونه بأسانيد مختلفة.
فلننقل الكلام إلى الاحتجاج بالحديث في العربية، وهي قضية مختلف فيها سكت عنها المتقدمون. وقد منع الاحتجاج به ابن الصايغ الاشبيلي، وقال أبو حيان: (إن الأئمة من البصريين والكوفيين لم يحتجوا بالحديث، وتبعهم على ذلك المتأخرون)
وأجاز الاحتجاج بالحديث ابن مالك وابن هشام الأنصاري. ويؤخذ من كلام الأئمة ما يؤيد القول الأول، إذ قالوا لا تقبل رواية اللغة إلا من الرواة الثقات، يعنون بالرواة رواة العربية المتصدين للرواية؛ إذ لا نشك في أن شرط قبول نقل الناقل في اللغة أن يكون قاصدا نقل اللغة، فلا تؤخذ العربية تبعا لنقله في غرض آخر لأن إنما يضبط ويتحرى في نقله فيما يخص الغرض الذي لأجله ينقل؛ لأن المقصود من الخبر النسبة الخبرية لا الضمنية؛ فالراوي المتصدي لرواية الأحاديث لإفادة أحكام شرعية لا يهمه من الألفاظ إلا موادها المفيدة للمعاني دون صيغها المفيدة لاختلاف كيفيات تلك المعاني. فإذا لم يكن نقله صريحا في غرضه الذي تصدى لأجله، رجع أمر نقله إلى أنه احتجاج يحسن الظن به في تحري الصواب من جميع جوانبه. وذلك غير مقنع في إثبات اللغة. وقد عدوا من القواعد الأصلية أن الكلام إذا سيق لمعنى لا يحتج به في معنى آخر. على أنه قد حفظ الخطأ عن كثير من الأئمة بتصحيف أو نحوه.
ورواة الحديث قد يقع لهم الغلط في عربية ما يروونه، وممن عد من هذا الباب، هشيم بن بشير السلمي من أئمة الحديث. قال النضر بن شميل وهو من أئمة اللغة، كان هشيم لحانا وهو الذي روى حديث (إذا تزوج امرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز) رواه بفتح السين من سداد. والصواب سداد بكسر السين في قصة مدونة في كتب اللغة والأدب. فلعل النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ضر ولا ضرار. فغيرها الراوي لا ضرر. فإذا درجنا على عدم الاحتجاج بالحديث قي العربية، فهذا الحديث لا يثبت به استعمال في العربية لما(925/26)
يتطرقه من الاحتمالات بالنسبة للرواة لا بالنسبة لقائل اللفظ المروى. فلا يكون ذلك شاهدا لغويا
وإذا درجنا على الاحتجاج به تعين: إما أن نرده إلى الرواية بالمعنى بأن درج الرواة على استعماله مولد، وإما أن نؤوله: فأما بالحمل على الشذوذ مثل قول أبي النجم: الحمد لله العلي الأجلل. والشاذ يغتفر لأهل اللسان ولا يتابعون عليه في استعمال غيرهم. وإما بتأويله بأن الذي أوجب الفك هو قصد الاتباع والمزاوجة بين اللفظين الضرر والضرار، فإن كليهما لا إدغام فيه. فروعي ذلك في المقارنة تحسينا، وهو من ضروب البديع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ووفد عبد القيس في الصحيح: (مرحبا بالوفد غير خزايى ولا ندامى). فجمع نادما على ندامى لموافقة صيغة خزايى. إذ ليس فعالي من صيغ جموع فاعل، بل هو من صيغ جمع فعلان والندمان هو المنادم، ومن هذا النوع قول الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوبة ... يخالط البر منه الجد واللينا
إذ جمع بابا على أبوبة. وقوله صلى الله عليه وسلم لنساء (ارجعن مأزورات غير مأجورات). بهمز مأزورات. وأصله موزورات لأنه من الوزر وهو الإثم وإنما هو اتباعا لقوله غير مأجورات
والحاصل أننا إذا قبلنا الاحتجاج به تعين أن يحمل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء على خلاف القياس مجملا يناسب فصاحته وبلاغته. ويستخلص من هذا كله أن الضر والضر أعم من الضرر فيصح إطلاق الضر والضرر على المعنى الذي يطلق عليه الضرر ولا يقع إطلاق الضرر على كل ما يطلق عليه الضر والضرر
وأما ما وقع في صحاح الجوهري من قوله: (الضر خلاف النفع والاسم الضر ويقال لا ضرر عليك) فهو مما أنفرد به. وقد ذكر الأئمة أن الجوهري لا يؤخذ ما انفرد به. وقد وهمه الفيروزبادي في مواضع كثيرة
قال التبريزي: لا يشك في أن في كتاب الصحاح تصحيفا لا شك أنه من المصنف لا من الناسخ (ص49 مزهر ج1)، وقال الأزهري لا يقبل من الجوهري ما انفرد به (ص67 مزهر ج1)
ووقع في الأساس ما يوهم ظاهره موافقة كلام الجوهري. لكنه ليس بنص بل هو محتمل(925/27)
للتأويل
ومن أهم الواجبات الحفاظ على فروق العربية ودقائق استعمالها وإبقاء ما شذ عن ذلك غير متجاوز موقعه بحيث لا يرخص لأحد في اتباعه، لأن ذلك يقضي إلى تلاشي رونق العربية وضياعه
تونس
الطاهر بن عاشور(925/28)
الدخان في الشعر. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
كتب الأديب فتحي بسيوني دعبس في العدد (920) من الرسالة الزاهرة كلمة في البريد الأدبي تساءل فيها عن عدم تناول الشعراء المعاصرين الدخان في شعرهم مع أنه بلغ من سرعة الانتشار هذا المبلغ العظيم، ورجا في ختام كلمته رجال الشعر وأرباب القريض أن يجعلوا من الدخان ملاحن وأغاريد يخلدون بها هذا النوع من الترف المدني شأنهم في تخليدهم الخمر التي يقول فيها إمام هذا اللون من الشعر وأعني به الحسن بن هاني الملقب بأبي نواس
اثن على الخمر بآلائها ... وسمها أحسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهراً ... بلى وسلطها على مائها
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها
وإظهارا للحقيقة وإجابة للصديق الفاضل أود أن أقدم لقراء الرسالة بعض الشعر العراقي المعاصر الذي قاله شعراء العراق في الدخان
فقد قال المرحوم الرصافي وهو من المعروفين لدى أدباء العربية في وصف السيكارة من قصيدة طويلة سماها (العادات قاهرات) أبيات إن تكن متينة في ديباجتها إلا أنها تعد بحق من خيرة القصائد التي قيلت في هذا المعنى. ومطلع هذه القصيدة
كل ابن آدم مقهور بعادات ... لهن ينقاد في كل الإرادات
ثم يسترسل حتى يأتي إلى ما نحن بصدده فيقول
لو لم تكن هذه العادات قاهرة ... لما أسيغت بحال بنت حانات
ولا رأيت (سكارات) يدخنها ... قوم بوقت انفراد واجتماعات
إن الدخان لثان في البلاء إذا ... ما عدت الخمر أولى في البليات
ولست أدري ما هو رأي شعرائنا الآن في البيت الأخير من قصيدة المرحوم الرصافي وأعني بهم شعراء الخمر ومنهم صديقنا جميل أحمد الكاظمي وفؤاد عباس وخيري الهنداوي في العراق. أما أنا فلست على رأي الرصافي طبعا ثم يواصل وصفه فيقول.
ورب بيضاء قيد الإصبع احترقت ... في الكف وهي احتراق في الحشاشات(925/29)
إن مر بين شفاه القوم أسودها ... ألقى اصفرارا على بيض الثنيات
وليتها كان هذا حظ شاربها ... بل قد تفت بكفيه المرارات
عوائد عمت الدنيا مصائبها ... وإنما أنا في تلك المصيبات
إن كلفتني السكارى شرب خمرتهم ... شربت لكن دخانا من سكاراتي
وقلت يا قوم تكفيكم مشاركتي ... إياكمو في التذاذ بالمضرات
إني لأمتص جمرا لف في ورق ... إذ تشربون لهيبا ملء كاسات
كلاهما حمق يفتر عن ضرر ... يسم من دمنا تلك الكريات
حسبي من الحمق المعتاد أهونه ... إن كان لا بد من هذى الحماقات
والقارئ يجد في الأبيات السابقة أن المرحوم الرصافي قد كذب على نفسه وعلى الناس لأنه رحمه الله كان لا تفارق الكأس، شفتيه وهو كما قال فيه صديقنا الأستاذ الزيات: (همه من الحياة شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال) وقد حدثني الأستاذ الشاعر خيري الدين الهنداوي وهو صفي الرصافي وصديقه الحميم فقال:
إن صاحب الجلالة المرحوم فيصل الأول كان قد سمع بأن الهنداوي يشرب الخمر بإفراط وأن الناس قد نقلوا له - وأعني المقربين إلى جلالته آنذاك - أحاديث لا تسر؛ لذلك أرسل في طلبه، وحينما مثل بين يدي جلالته طلب منه هجر الخمر وإن لم يستطع فليشرب ولكن دون أن يعلم أحد به. . وما كان من الهنداوي إلا أن امتثل أمر جلالته ووعده بالطاعة وترك بنت الحان نهائيا، وخرج الهنداوي على هذا الأمر واعتكف في داره وهو ينظم قصيدة في هذا المعنى. وبعد يومين من نشر القصيدة جاءه المرحوم الرصافي وكان الوقت صباحا وبيده قنينة خمر وعندما استقر به الجلوس قال لصديقه الهنداوي أنت صاحب القصيدة التي تقول فيها لصاحب الجلالة إنك ستتوب عن شرب هذه الفضة، وأخرج له قنينة الخمر، فأجابه الهنداوي: طبعا، فما كان من المرحوم الرصافي إلا أن أفرغ في الكأس قسم منها وناولها الهنداوي وهو يقول:
والله لأفسدن عليك هذه التوبة.
وظل يداوره حتى شربا. وهذه القصة - وصاحبها حي يرزق - ما سقتها إلا للاستشهاد على كذب المرحوم في شعره وأعذب الشعر أكذبه كما قال غيره.(925/30)
ثم يقول في القصيدة نفسها.
يا من يدخن مثلي كل آونة ... لمنى ألمك ولا ترض اعتذاراتي
إن العوائد كالأغلال تجمعنا ... على قلوب لنا منهن أشتات
ويختم الشاعر قصيدته بقوله:
لو لم يك الدهر سوقا راج باطلها ... ما راجت الخمر في سوق التجارات
ولا استمر دخان التبغ منتشرا ... بين الورى وهو مطلوب كأقوات
لو استطعت جعلت التبغ محتكرا ... فوق احتكار له أضعاف مرات
وزدت أضعاف أضعاف ضريبته ... حتى يبيعوه قيراطا ببدرات
فيستريح فقير القوم منه ولا ... يبلى به غير مثر ذي سفاهات
والقارئ الكريم يلاحظ في هذه الأبيات ركاكة في التعبير وذلك كما قلت سابقا أن القصيدة هذه ليست من الفن في شيء إلا النظم، وذلك لدخول ألفاظ عادية فيها ولكنها تعبر عن ابتلاء الشاعر بهذا البلاء الذي عم الورى. ولست أدري ماذا كان الرصافي يقول لو شاهد الآن الغانيات وهن يدخن في شوارع بغداد؟!
ثم أذكر بيتا للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي الذي قست عليه ظروف العيش في بغداد كما قسمت على غيره فشردته في دمشق وهذا شأن الحكومات أو الوزارات المتعاقبة على الحكم من تشريد الأدباء وإماتتهم جوعا كما فعلت بالرصافي، والكاظمي عبد المحسن الذي لولا كرم الأمة المصرية لمات عاريا، وهذا البيت منشور في مجموعته الشعرية الموسومة (أشعة ملونة) التي طبعتها جريدة الهاتف الزاهرة لصاحبها الأستاذ جعفر الخليلي على نفقتها الخاصة وهو
تخذتها أمة حتى غدوت لها ... عبداً، وها أنا أفنيها وتفنيني
وللأستاذ محمد صالح بحر العلوم شاعر الشعب رباعية جميلة في وصف السيكارة هي
ذات جسم مستخلص من نضار ... حجبت نفسها عن الأنظار
في خمار من اللجين، شربنا ... من شذاها خمراً بدون خمار
قبل (العود) رأسها فأحست ... باحتراق، واستسلمت بانكسار
وأذابت أنفاسها بدخان ... في فمي، ذوب جسمها في النار(925/31)
والأستاذ بحر العلوم شاعر واقعي يجيد التعبير عن آلام الشعب وله من الدواوين المطبوعة (العواطف) ومن الخطية (الشعب) و (المكشوف) و (الرباعيات) وسأتناول شعراء العراق المميزين في هذا العصر بالتحليل على صفحات الرسالة قريبا إن شاء الله
وقد عثرت على أبيات للشاعر العراقي محمد سعيد الحبوبي وهو من شعراء القرن التاسع عشر للميلاد وقد ولد كما يقول ديوانه في أواخر العقد الرابع وأوائل العقد الخامس من القرن الثالث عشر للهجرة، يصف بها (النارجيلة) أي (الشيشة) في لغة إخواننا المصريين الدارجة. . ولاتصالها بالدخان أثبتها هنا، وهي كما يراها القارئ رقيقة تتسم بالأصالة والعذوبة وهذا هو شأن شعره على المجموع وإن كان لا يخلو من التقليد شأن شعراء عصره. وقد كنت أرجو لو اتسع لي المجال مع الدكتور مهدي البصير الذي سبق أن تكلم عن الشاعر الحبوبي في سلسلة خطبه التي أذاعها من دار الإذاعة اللاسلكية ببغداد ثم جمعها في سفر باسم (نهضة العراق الأدبية)!
والآن نعود إلى أبيات الحبوبي فنعرضها وهي:
ونارجيلية تهدى يكف رشا ... حلو الدلال رشيق القد مياس
ظلت تعربد في كفيه شاربة ... من ريقه العذب لا من نهلة الكاس
حتى إذا جاد لي فها بثثت بها ... وجدي (عيانا) تراه أعين الناس
حيث الدخان إذا ما جال في كبدي ... موهت في نفخه تصعيد أنفاس
جاءت تزر فويق الماء مئزرها ... وفوق مفرقها لألاء مقباس
أعديتها داء برحائي معاكسة ... فالدفع في قلبها والنار في الراس
وقبل أن أختتم هذه الكلمة أود أن أذكر صديقنا الشاعر الأستاذ إبراهيم الوائلي بأن لشعراء الشيء الكثير في وصف الدخان لم اطلع عليه ولعله يتكرم فيذكر لنا شيئا منه إذ قد حدثني صديقي الأستاذ فؤاد عباس معاون عميد الإعدادية المركزية ببغداد وهو دائرة معارف كما يعرف الأدباء بأن لشعراء النجف الكثير في هذا المعنى. لذا يسرني أن أترك المجال للأستاذ الوائلي الآن. . ولعلي بهذه الكلمة أشبع رغبة الأستاذ دعبس في وصف الدخان
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(925/32)
فن القيادة
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
بقلم الأستاذ محمد أديب العامري
(كتب أندريه موروا الكاتب الفرنسي المعروف كتابا أسماه (فن الحياة) أو بترجمة أدق (فن العيش) وقد ذاع الكتاب أيما ذيوع وترجم إلى عدة لغات منها الإنجليزية.
والفصل الذي نقدمه الآن هو واحد من فصول الكتاب. ويلاحظ من الفصل أن القيادة أو الزعامة أو الرئاسة عند أندريه موروا لا تعني قيادة الناس السياسية فقط وكما نميل نحن إلى تعريف، ولكنها تعني القيادة أجمالا في ميادين الحياة كلها. فالملك قائد، وزعيم الأمة، وقائد الجيش ورئيس الحكومة قادة. ومثل ذلك رئيس المصلحة أو الشركة أو المدرسة أو رئيس جماعة من البنائين مثلا. ولهذا نرى أن الأمثلة التي يضربها موروا مقتبسة من ميادين الحياة المختلفة، وأنها أمثلة تعتمد على حياة صناعية علمية لا نعهدها كثيرا في بلادنا. فلنصبر على هذه الأمثلة ولنتفهمها فإننا جديرون إذ نفعل أن ندرك أهمية الحياة الصناعية، في الحضارة الراهنة).
المترجم
لا يستطيع الناس أن يقوموا بعمل مشترك قياما مجديا إلا إذا اضطلع واحد منهم بتنظيم نشاطهم جميعا إلى غاية مشتركة، ويتضح هذا عندما يقوم الناس بأعمال تحتاج إلى شيء من النظام. فمن العبث مثلا أن تقوم جماعة من الناس بإنشاء خط حديدي، أو تسيير قارب إلا إذا قام عليهم رقيب يضبط حركاتهم. ولن يكون مصير أي عمل تقوم به جماعة دون قيادة إلا الاضطراب والفساد. ويعلم جميع الذين اشتركوا في حرب من الحروب ضرورة القيادة. وما يصح على الجيش يصح على عمال في ميناء أو صناع في مصنع، أو محررين في مكتب لجريدة، كما يصح على سكان بلد من البلدان. وخلاصة القول أنه حيثما يعمل رجال عملا مشتركا فلا بد لهم من قائد.
وفي اللحظة التي يظهر فيها القائد بقيادته، أو الزعيم بزعامته، وحيث تكون هذه القيادة قوية مضبوطة، يعقب الفوضى نظام واستقرار. وفي الحرب العالمية الأولى كانت الوحدات(925/34)
التي تقاد قيادة فاشلة تتقهقر وتقع في أزمات حتى قيض لها قائد جدير باللقب فتتحول الكتائب إلى قوة ذات رباطة ومقاومة. وقد يبدو على الأمة الواحدة مؤلفة من شعب واحد معروف، الاضطراب والفوضى، أو النظام والقوة، متوقفا ذلك على ما إذا كانت الحكومة تقوم بمهمة الحكم أو لا تقوم. وبغير هذه القيادة لا يمكن أن تقوم قائمة لعمليات حربية أو حياة وطنية أو نظام اجتماعي.
ولقد أخذت الجماعة البشرية طوال تاريخها بقاعدة اختيار قادة أعمالها على أساس يتلو بعضهم فيه بعضا بنظام هرمي. وقام هؤلاء القادة كل مرة بتأسيس نظام وطدوا فيه لشعوبهم مصائر بلادهم على هذه القاعدة.
لكنهم كانوا يستغلون هذا النظام لظلم الشعوب؛ فكانت هذه تثور في وجههم فيضطرب النظام الذي أقيم وتعقبه الفوضى فتعود الأمم إلى بناء هذا النظام من جديد. ولما انهار التركيب الهرمي العسكري الذي قامت عليه الدولة الرومانية فقدت هذه الدولة قوتها وقام على أنقاضها نظام هرمي إقطاعي لم يتم بناؤه إلا بعد فترة طويلة من الفوضى ولما ألغت روسيا النظام الرأسمالي قام على الأثر نظام من الفنيين ورجال الأعمال أدوا الواجبات الأولى نفسها. وذلك هو السبب الذي يحمل رجال الثورة على الرغم من وعودهم ورغباتهم إلى أن لا يحققوا العدالة التي كانوا ينادون بها. يجب أن يكون هنالك مساواة في الفرص، أو كما قال بونابرت تتاح الفرص دون أي مانع لجميع المواهب. ومن الضروري أن يرغب المرء في المساواة بين الجميع في نظر القانون، غير أنه لا يمكن أن تقوم هذه المساواة بين قائد ومقود، أو في جماعات ليس لها زعامة.
ولقد اكتشفت الإنسانية خلال تاريخها الطويل وسائل قليلة لاختيار الزعماء أو القادة. وكان أقدم هذه الوسائل، الوراثة. وكانت تستخدم دون ريب في القبائل الرحل في قديم الزمن حين كان يخلف الأب ابنه الأكبر. وبدون هذا النظام القائم على خلافة الابن الأكبر كانت تتعرض الجماعات البشرية إلى تصدع واضطراب. ونجد في التوراة مظاهر من هذا الاضطراب كما نجدها في تاريخ اليونان. وكانت السلطة في أنظمة الملك القديمة القوية، تنتقل في هدوء كما كان الزعيم الوراثي يتمتع باحترام وتقدير لا حد لهما.
ولقد كان المركز الممتاز الذي يحتله ملك إنجلترا قائما على هذا الأساس. وأدرك نابليون(925/35)
ذلك إدراكا تاما، فإنه كان يرمي إلى تأسيس ملك عضوض. لقد عرف أن الملك يظل ملكا حتى إذا انهزم أما الإمبراطور الذي ينصب نفسه فيحتاج إلى انتصارات متوالية ليظل عرشه قائما.
وهذا صحيح أيضاً في الأعمال والدويلات التي حكمتها عائلات خلال أجيال عديدة. وإنك لتجد المديرين والمراقبين والزراع الذين يثورون عادة على السلطان يخضعون لسلطة رئيس العائلة. ولا يعود هذا الخضوع إلى العادة وحدها، ولكنه يعود كذلك إلى شعور طبيعي وتفكير معقول بعض الشيء. فالأب يستطيع أن يورث ابنه تقاليد الزعامة وأعرافها كما يورثه التفاني في خدمة العائلة. والقائد الوراثي كالملك الوراثي يحس برابطة تربطه بعائلته أو ببلاده_رابطة من الشرف تتطلب التضحيات. ولقد رأينا من ذلك أمثلة رائعة في فرنسا خلال الأزمة الاقتصادية التي مررنا بها منذ عهد قريب.
أما خطر القوة الوراثية فهو أن يكون الابن الأكبر للعائلة الحاكمة غير ذي شخصية، أو حتى غير ذي عقل كامل. فهل من اللازم في مثل هذه الحالة أن توكل الأمور إلى رجل لا يقدر على القيادة؟ كلا! وقد عمدت بعض البلاد التي يقوم فيها مثل هذا النظام من الوراثة، إلى استثناءات لا تمكن من الحكم الزعيم الوراثي الذي لا يليق للقيادة. ففي بريطانيا عدل نظام الإرث الملكي مرات عديدة بطرق برلمانية، وحدد رجال الأعمال الكبار في الولايات المتحدة أثناء حياتهم حدود السلطة التي قد تنتقل إلى أبناء لا يستطيعون أن يخلفوهم. فإذا لطفت السلطة الوراثية بما يتطلبه الحس العام وبسيطرة من البرلمان أو المجالس التمثيلية، فإنها تكون ذات صفات طيبة كثيرة.
وأهم ما يجب أن يمتاز به زعيم هو أن يعترف له الناس بصفة الزعامة. وجميع الزعماء الذين لا يقر لهم المجموع بزعامتهم كاملة، تنقصهم القوى الكافية لهذه الصفة الكبرى. والزعيم الذي ينتخب انتخابا يجب أن تكون له سلطة تامة على الذين انتخبوه؛ ولكن يقع أحيانا أن تكون الصفات التي اختير من أجلها الزعيم كالفصاحة وحسن الخلق غير الصفات المطلوبة في موقف معين، فيعود ضعيفا غير قادر على معالجة الأمور. وكذلك الحال في أمة تتقاسمها الأحزاب. فالزعيم المنتخب في هذه الحالة إنما يمثل ما يقارب نصف المنتخبين، فإذا أحس الباقون تجاهه بشيء من الكراهية، تعرضت الدولة للخطر.(925/36)
ولقد رأينا مرات عديدة بلادا عظيمة تقع فريسة الشك والهزيمة لأن زعيما لها اختارته الأغلبية فلم يملك ثقة جميع الشعب.
واختيار الزعيم أو القائد عملية أشد خطرا عندما يدور الأمر لا على سلطة تقوم في بلاد بكاملها، ولكن على سلطة تقوم في جماعة أصغر وخاصة عندما يمارس الزعيم سلطته مباشرة، أو يكون معرضا لتجديد الانتخاب مرة بعد أخرى في فترات معينة. والسؤال الذي يرد هنا هو كيف يستطيع الزعيم أن يكسب طاعة الناس الذين سيتملق أصواتهم بعد قليل؟ إن انتخاب رئيس لمشروع، أو قائد كبير لجيش، بطريق الغالبية في الأصوات إنما نهى الدمار للمشروع أو الهزيمة للجيش. ولقد أدركت هذا بسرعة إدارات المشاريع والأعمال فرغبت عن الطريقة أكثر البلاد إحساسا بالديمقراطية ونبذتها. وهي تستعيض عن ذلك بأن يختار وكلاء القادة أو أعضاء مجلس الأعيان أو رؤساء الدوائر اختيارا انتخابيا وهؤلاء الموظفون التنفيذيون، أو هكذا يجب أن يكونوا، وليسوا قادة بحال من الأحوال. ومن الخطر جدا أن تجزأ الأعمال على صورة تحول دون الإجراءات اللازمة. فدستور الولايات المتحدة الأمريكية منشأ على شكل يجعل البلاد دون سياسة خارجية على الإطلاق فترة ما يكون الرئيس والكونغرس على خلاف. ويقع ذلك مدة سنتين كاملتين. وهذه حالة مضرة ضررا شديدا بأميركا وبأمم أخرى مثلها. أما للطريقة الإنكليزية فإنها تؤدي غرضها تأدية أفضل، لأنها أكثر مرونة وطواعية.
ومن أساليب اختيار القائد أسلوب الامتحانات، وفي هذا الأسلوب يجوز المرشح للرئاسة شهادة عملية. وقد استعملت هذه الطريقة سابقا في الصين. وهي تستعمل إلى حد محدود في فرنسا هذه الأيام. فإذا أراد فرنسي أن يتبوأ مقاما في الجيش أو في السلك الدبلوماسي أو في دائرة حكومية وجب عليه أن يجوز امتحانات معينة. ويبدو لأول وهلة أن هذا النظام عادل، لأن المتنافسين فيه يخضعون لظروف واحدة؛ ولكن له مساوئ خطيرة فالرجل الذي تتفتح قواه الذهنية ببطء والذي يمكن أن يثبت قدرته على القيادة في الأربعين من عمره يمنعه السن من الاستفادة من قواه. ثم إن الصفات والخصائص التي تكون القائد الحسن لا تظهر أغلب الأحيان ولا تعرف عن طريق الامتحان. ولا يتردد (بول فاليري) في القول بأن أعظم شرور اليوم هي الامتحانات والشهادات.(925/37)
ويتخذ هذا الأسلوب من الترشيح للقيادة شكله الأشد حين تكون الترقية خاضعة للامتحانات. وهذا هو الحال في مهنة الطب في فرنسا. وفي الجيش يجد الرجل أمامه المدرسة الحربية وكلية الدراسات العسكرية العليا، إذ يجب أن يؤدي امتحاناتهما. غير أن الأقدمية في العمل ووساطات أصحاب الوساطة لها أثرها في التقدم كما تفيد الانتصارات أثناء الحرب ولا يمكن أن نقول شيئا كثيرا عن الأقدمية، فمن الواضح ان الناس يكسبون خبرة كلما تقدموا في السن إلا إذا كانوا شديدي الكسل والبلادة، أو شديدي العناد إلى حد يعوقهم من أن يتعلموا شيئا. غير أن هناك عددا كبيرا من المتقدمين في السن يمكن أن يختار أحسنهم بالنظر إلى شهادات الولادة، وعلى هذا الأساس تجري تعييناتهم.
ومن أكثر الطرق مطابقة للمنطق أن يعين رؤساء الأعمال الرجال الذين يلونهم في المناصب. وفي هذه الحالة يضطرون إلى الاعتماد عليهم وإلى أن يكونوا مسئولين عن أعمالهم. ويعين الملك الوراثي أو الرئيس المنتخب رئيسا للوزراء، بعد موافقة البرلمان أو الجمعية الحاكمة. ثم يختار رئيس الوزراء. ثم يعين الوزراء الموظفين في دوائرهم المختلفة. وبهذا يبنى الهرم بالبداية من رأسه ثم النزول إلى أسفل، وهي عملية ناجحة من الناحية الإدارية وإن تكن غير معقولة بالطبع في إقامة بناء.
وهذا النظام حسن ولا ريب على قدر ما يمكن أن تكون أعمال البشر حسنة. والمبدأ فيه حكيم، ولكن الجهاز مع ذلك لا يعمل عملا كاملا. فجميع التعيينات ما عدا الرئيس وعددا من الوزراء السياسيين، ومنها تعيينات الرجال الفنيين، يجب إن تقوم على أساس المقدرة التكتيكية والمتانة الأخلاقية. إن مصلحة البلاد ومصلحة الذين يقومون على حكمها هي أن يكون قائد الجيش أو مدير مصلحة السكة الحديدية مثلا رجلا من الطراز الأول، مهما كانت نزعاته السياسية أو الدينية، وكائنة ما كانت علاقاته وأصدقاؤه. وليس من الممكن أن يتمتع الناس عن أن تكون لهم عواطف، فالصداقة والقرابة والصلات الحزبية لها أثر كبير في التعيينات، وهذا أمر يؤسف له أحيانا، إذ من الواجب أن نسيطر جميعا على أنفسنا حتى لا تتأثر المواهب تأثرا يضير المصلحة.
وفي النظم التي تخلق الزعيم أن يتقدم الرجل على أثر ما تقع الأمة في حال من الفوضى، فيفرض نفسه عليها فرضا. (إن كرومويل) لم تعينه سلطة عليا، وإنما كان رجلا غامضا(925/38)
يقود عددا قليلا من الفرسان. وقد رفعت الثورة (بونابرت) إلى مركز جنرال، ولكنه جعل من نفسه قائدا للأمة. وهنالك أمثلة حديثة تخطر ببال كل واحد منا. ومما لا سبيل إلى الشك فيه أن الزعيم الذي يتبوأ مركزه عن طريق القوة زعيم يتمتع بالصفات اللازمة للزعامة. ولو لم يتمتع بهذه الصفات لما تمكن من القوة التي تبوأها بفرض نفسه، والصعوبة هنا أن تكتشف ما إذا كانت مواهب الزعيم مواهب رئيس حزب أو قائد أمة.
قإذا استولى زعيم على السلطة بنفسه واجهنا صعوبة إيجاد من يجيء خليفة له. فابن كرومويل لم يحكم طويلا، وابن بونابرت مات في المنفى. وقد كره خليفة (لينين) ما كان قد تم من قبل فأتى عليه.
ومن الحق أن نعترف بأن اختيار قائد مشكلة ليس لها حل صحيح، وإنما الأمر يتوقف على الظروف السابقة. وعلى أهداف الأمة في المستقبل. لكن شيئا واحدا نعرفه هو أن الزعيم لا يستطيع أن يتمكن من مركزه منتخبا كان أو معينا، وارثا أو مغتصبا، إلا إذا حاز جميع الصفات المطلوبة في الزعيم.
(للكلام بقية)
محمد أديب العامري(925/39)
شوق على قرب
للأستاذ ثروت أباظة
جلس إلى وفي عينيه قالة تترقرق، وفي شفتيه بسمة تبدو وتغيب ومض البرق الخاطف، وعلى وجهه أسى من ظن الخير في غير مكانه. رأيت كل هذه التعبيرات على وجهه فكان يخيل إلي أنني أرى مقالة رمزية عن حرب طحون تعتمل بنفسه، فهششت له وهو الصديق الذي أصطفيه فأصفيه نفسي كلها. هششت فما زاد على أن ثبت من تلك البسمة الوامضة
على فمه فإذا وجهه كله مشرق بضحكة آسية. . . قلت:
- ماذا؟ لقد كنت على أحسن ما أرجو لك بالأمس
- لا شيء
- لاشيء؟ منذ متى تدخل هذه الكلمة في حديثنا. . . لا شيء! أغبي أنا لا أعرفك! أأسألك ماذا بك ولا يكون بك شيء. . . أم تراك تخفي أمرا؛ فإن كان كذلك فدعني أو ولي عنك الوجه فلست صديقك بعد اليوم. . . أترى سرى كله وتخفي عني ألمك. . . ماذا بك؟ انطلق.
سمع الرجل الحديث وهو مطرق إلا بضع لحظات حاول فيها أن يجيب ولكنه احترم دفعتي تلك فعاد إلى إطراقه حتى أتمته فإذا هو رافع إلى دمعتين صافيتين. . . يقول
- أشكرك على ثورتك فقد أرجعت لي نفسي
- وأين كانت؟
- تبحث عنك
- عني. . . حذار أن تكون الثورة قد طغت على عقلك. . تبحث عني تقول وأنا لا أكاد أرى أحدا قدر ما أراك. . . أجننت؟
- أنت تراني نعم ولكنني لا أراك أبدا
- لا تراني؟ لا. . . لا بد أن الثورة قد مست عقلك. . . حسبي الله ونعم الوكيل. . . أأنظر إليك من خص؟ كيف أراك فلا تراني؟ أنتكلم كل يوم وليس بيننا من البعد إلا بقدر هذا النضد. . . ثم أراك فلا تراني؟ أجننت رجل
- وأنا اليوم لم أراك إلا حينما ثرت(925/40)
- أنك اليوم أما مجنون لم تعلم به الهيئات المختصة بعد، أو حكيم عالمي لم يشرق أسمه قبل. فأيهما أنت؟ لا يمكن أن تكون رؤيتك لي محتاجة لكل هذه الثورة. أيهما أنت
- أنا صديقك
- أو يغنيك هذا عن أن تكون إما مجنونا أو حكيما. أتظن أن كونك صديقي يعفيك من. . .
- أراك تطيل الحديث، اسمع. . . لقد جئت اليوم مجلسك ورأيتك ولكنني جلست إليك أبحث عنك حتى ثرت هذه الثورة فوجدتك؛ كنت قد فقدتك وكنت مشتاقا إليك الشوق كله. حتى ثرت فندبت الشوق ونقمته. كنت إذا رأيتني في الأيام القليلة الماضية كلمتني بنفس غير خالصة وقلب غير مقبل؛ وكنت أحس في رنين صوتك شيئا غير الذي تنطق به فأكتم نفسي على حسرات، وفقدتك لقد عرفت عني أمرا فكتمته وسعيت وراءه تبحث عنه حتى تبين لك كذبه فكنت في فترة البحث تزور عني بنفسك وتقبل علي بلسانك، كنت تثور بي كما كنت تثور بل كنت هادئ القول ثائر النفس وقد عهدتك قبل ثائر القول هادئ النفس. . . ففقدتك. . . وفقدت معك نفسي وانطلقت مني تبحث في أيامنا الحلوة الماضية وترجع لي منها بصور شوهتها نفس فقدتك ولكنها مع هذا تحبك فهي تقبل على تلك الصورة في لهفة مشتاق يحن إلى هاته الأيام. . . واليوم ثرت بي. . . قد تبينت لك الوشاية فوجدتك. . . أرأيت إذن كيف فقدتك وليس بيننا إلا هذا النضد الذي تجلس إليه الآن؛ واليوم أجدك وإن ذهبت بك الأيام إلى أقاصي الأرض أرأيت أني؟ لم أكن حكيما لم يظهر قبل ولا مجنونا لم يحبس بعد. . . بل أنا أنا من تعرف.
- وأنا من تعرف. أبقاك الله لي صديقا حين يعز الصديق، وأبقى لي نفسك حلوة تشتاقني على قرب إذا مل قربي كل صديق، وتبحث في البعد عني إذا لم يحس ببعدي كل رفيق. . أبقاك الله.
ثروت أباظة(925/41)
رسالة الشعر
على قبر عبد العزيز فهمي باشا
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
ألقى الشاعر هذه الأبيات على قبر فقيد الوطنية عبد العزيز
فهمي باشا ببلدته (كفر المصلحة)
نوديت في ألق الصباح الباكر ... فمضيت أطهر من نداه الطاهر
تسعى ويسعى النور حولك زاخراً ... في موكب جم المآثر زاخر
يمشي به التاريخ، يقظة ساهر ... في ليله الداجي، وصرخة ثائر
وإباء حر، واستماتة حازم ... وعناد جبار، وغضبة قادر
لفوك بالعلم الذي أعليته ... ورفعته بيد الكريم الكابر
خضت المصارع لم يفزعك الردى ... ومشيت في عنت الزمان الجائر
ثبت الخطى، لم تدمك الأشواك في ... حلك الظلام المدلهم الغامر
لم تدر ما القيد انذليل، ولم تطق ... أن يرسف الأسرى بقيد الآسر
فطويت عاتيه، ورضت حديده ... بهدى رشيد، وابتسامة ساخر
وسريت في ليل الخطوب، فلم ينل ... من همه الساري النحيل الضامر
لله ما صنعت يداك، وإنه ... ذكر يدور مع الزمان الدائر
زادتك أحداث الجهاد صلابة ... هي نعمة الله القوي القاهر
هذا الذي أضفى عليك خلائقاً ... أزكى من الزهر الندي الناضر
فانعم به جاراً، وعش بجنانه ... بين النعيم السرمدي الزاهر
أحمد عبد المجيد الغزالي
بين شاعر وسيجارة
للأستاذ محمود محمد بكر هلال
أغرت السيجارة الشاعر بأنفاسها العطرة، فجرى في حبال(925/42)
هواها، وجاذبها قبلة بقبلة، وبادلها حبا بحب، ولكنه عندما
اضطرمت أنفاسها في صدره، واضطربت قبلاتها على ثغره،
سئم هواها، ومل أنفاسها، فهجرها إلى غير عودة، ونأى عنها
على غير ميعاد، فكان بينهما هذا الهجر، وذلك العتاب. . .!
الشاعر
جاءت تراود في هواده ... وتشوقني في دل غاده
أغرت في قبلاتها ... فغدت لزاما كالعباده
وتنسكت في حبها ... لي وارتدت ثوب الزهاده
ما زلت أهواها وأطلب من مباسمها الزياده
إن غاب عني ثغرها ... فقد النهى مني رشاده
حتى صحوت عشية ... وإذا بها ولها السياده!
سيجارة غدارة ... قد حرمت جفني رقاده!
هيفاء تغري كل ثغر بالصبابة والوداده
طلقتها وأنا محب فبعدها عني سعاده!
ماذا يفيدك من دخا ... نك بعد ما تذرو رماده!؟
إما اضطراب في التنفس قد يجر إلى الشهاده؟
إما سعال فاتك ... يدعو إلى باب العياده!
صدر المدخن كالظ ... م فلن ترى إلا سواده!
خير الأمور لعاقل ... ألا يكون أسير عاده!
من لم يضح فلا تصح ... لمثله فينا القياده!
السيجارة
أنسيت أنى راحة ... من كل نازلة وسلوى؟
أنسيت باعثة الخيا ... ل إذا النهى أكدى وأقوى؟(925/43)
قبلات ثغري متعة ... وحديثها همس ونجوى!
تحنو علي إذا ظمئت فتحتسي مني وتروى
أنفاس غانية من القبلات والصبوات نشوى!
في جوها سبح الخيا ... ل بكل ما تصبو وتهوى
تتصاعد الأنفاس في ... دنيا من الآمال تطوى
فكأنها الغيم الرقيق يراقص الأفكار زهوا
فلم التباغض والقلى ... وأنا التي بالنار أكوى؟
أيليق هجران الحبيب وحفظه للود يروى؟
أنسيت أن الهجر بعد الوصل للعشاق يلوى؟
راجع فؤادك فالمحب على التباعد ليس يقوى
فأجاب الشاعر:
أبداً فلست براجع ... عن هجرها طول المدى!
من ذا الذي يهفو إلى ... ثغر ثناياه الردى؟
آليت لا أصغي لها ... أبداً وأتركها سدى!
لو زحزحت جبل المقطم ما مددت لها يدا!
محمود محمد بكر هلال(925/44)
الكتب
شاعر العقيدة
تأليف الأستاذ محمد تقي الحكيم
للأستاذ إبراهيم الوائلي
لعل مدينة النجف الصغيرة هي ثالثة المدن العراقية التي احتضنت تراث العرب المسلمين بعد بغداد والحلة، وقد كانت مثابة لطلاب العلم ومجالا فسيحا للغة العربية وآدابها في أواخر العصر العثماني، وكان تميزها بكثرة النوابغ من الشعراء_عدا العلماء والمؤلفين_ظاهرة يعترف بها التاريخ في أوسع مصادره الحديثة، وكادت تفقد مركزها الأدبي في السنوات الأخيرة لو لم يتح لها جيل جديد ينشط للبحث والتطلع ويسير في الموكب الصاعد، فكانت (جمعية الرابطة الأدبية) ذات طابع شعري معروف، وإلى جانبها جمعية (منتدى النشر) وقد أسست لتجمع بين القديم والحديث. والتف حول مناهجها ودروسها طائفة غير قليلة من شباب النجف والمدن الأخرى، وهي تعمل في شكل فصول وامتحانات كما يفعل الأزهر في مصر، ولم نكتف بالدرس العلمي والبحث اللغوي بل دفعت هؤلاء الشباب إلى مجال الأدب الواسع يقرؤون ويهضمون ثم يكتبون وينشرون، ومجلة (البذرة) هي منبرهم الذي يتبارون عليه، وكانوا يتيحون لنا_هم وأساتذتهم_أن نستشف خلال تلك المسارب الضيقة ومضات تبشر بوجود قوة الاستمرار لتلك الشعلة التي طالما توجهت على ربوة النجف الخضراء في قرون كثيرة، وبالرغم من أن العناصر الرجعية من (الرسميين) وغيرهم لا يريدون لهذه الجمعية أن تسعى في طريقها الإصلاحي فإنها بقيت تصارع وتعمل بصمت وهدوء في سبيل رسالتها العلمية والأدبية.
وقد استثمرت هذه الجمعية جهادها في التأليف والكتابة فكان إنتاجها ضخما في الكم والكيف بالرغم من أن عمرها لا يتجاوز خمسة عشر عاما. ومن ثمرات هذا الجهاد كتابان تفضل بهما على مؤلفاهما الكريمان وآنا في مصر، وأول الكتابين (السقيفة) لفضيلة الأستاذ محمد رضا المظفر معتمد الجمعية، وثانيهما (شاعر العقيدة) للأستاذ محمد تقي الحكيم سكرتير الجمعية، أما الأول فليس من السهل أن أتحدث عنه دون أن أتوفر على دراسة التأريخ(925/45)
الذي تكونت منه فصول الكتاب، وكنت أود أن يكون غيري هو الذي يكتب عنه، لذلك سأتناول الكتاب الثاني بشيء من العرض والتعريف وتسجيل بعض الملاحظات بقدر ما تسمح به صفحات الرسالة.
(شاعر العقيدة) _كما أراد أن يسميه الكاتب_هو السيد إسماعيل بن محمد الحميري وقد أدرك أواخر العصر الأموي وعاش بقية حياته في ظلال العصر العباسي حيث تتصارع الأفكار السياسية والعقائد الدينية وتتشعب الدروب بسالكيها شعبا متعددة، فهناك بقايا الخوارج الذائبين، وشيعة تجمعهم هذه الكلمة في معناها المادي وتفترق بهم مناحي التشيع في مسالك شتى. وهناك طائفة السنة التي كانت تسيطر على السياسة والحكم، وفي هذا المظطرب الواسع كان السيد الحميري بصطرع مع السياسة والعقائد حتى استقر به المطاف على مذهب التشيع السائد الآن في العراق. وكان تأثير السياسة والعقائد واضحا في شعره وبخاصة الظاهرة الأساسية من ظواهر التشيع وهي (الإمانة) فقد كان بلح بشعره على حديث البيعة وقصة (غديرخم) التي كانت بعد حجة الوداع كم ترويها الكتب التي أوصلها المؤلف إلى ثلثمائة، ومعظمها_كما يقرر_مروى عن طريق السنة.
وقد أراد المؤلف الفاضل أن يلم بدراسة هذا الشاعر ويستخرج من المصادر المتفرقة صورة تطمئن إليها النفس عن نسبه وحياته العقلية والمادية والأدبية والدينية، وقسم الكاتب إلى قسمين: أولها: في نشأة الذي بصور هذه العقيدة، وثانيها: دراسة هذا الشعر على ضوء النقد والتحليل، وقد وفق الكاتب في القسم الأول حين عرض لنشأة الشاعر في البصرة وتطوره من خارجي_ورث ذلك عن أبويه_إلى شيعي كيساني فجعفري. وصراعه مع أبويه اللذين ينكر عليهما بغضهما الإمام عليا وينكران عليه تشيعه، كما أن وصف البصرة وما فيها من حلقات علمية ودينية واختلاف السيد الحميري إلى هذه الحلقات التي انتهى منها بالتشيع، وتحدث عن صلته ببقايا الأمويين ثم العباسيين. وقد كان في كل ذلك يقارن ويوازن ويدرس الروايات المتناثرة ثم ينتهي منها إلى رأي أو حكم لا يخلوان من أصالة في معظم الأحيان. ولكن الذي يؤاخذ عليه الكاتب الفاضل أنه وزع البحث توزيعا يكاد يضطرب على القارئ فهو لم يعقد فصلا خاصا عن اثر العقيدة في الشعر الحميري بل نثر هذه الظاهرة البارزة في أماكن مختلفة لو أنيح لها أن تلتقي في مكان واحد لكانت فصلا(925/46)
قيما. ولعل هذا العنوان الذي اختاره الكاتب يكاد يتضاءل عند التطبيق على فصول الكتاب. فقد كان الأجدر به أن يعقد فصلا خاصا بالبيئة العصرية في مختلف نواحيها، وفصلا عن نشأة الشاعر والنقلات المذهبية التي رافقت حياته، ثم فضلا عن أثر هذه العقائد في شعره إلى جانب الأثر القبلي، وأن يكون البحث في صلة برجال الحكم والسياسة مستقلا ألا بمقدار ما يتصل بالعقيدة. على أنني لا أنكر_كما قلت_أن الكاتب قد تعرض لذلك بإسهاب ولكن منهج البحث قد أضطرب عليه. أو أنه أختار لنفسه منهجا أدى به إلى هذا التقسيم المشوش. وإذا كان الكاتب قد استعان_كما يقول_بعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما فإن استعانته تكاد تتضاءل في المواطن المهمة ومنها تصوير المجتمع تصويرا واضحا ليصل منه إلى دراسة الشاعر دراسة واضحة، ثم دراسة العقيدة الدينية من حيث هي بوصفها ظاهرة اجتماعية وبوصفها عاملا قويا في تكوين حياة المرء وسلوكه الخارجي وما ينتجه هذا السلوك من صور أدبية، ثم تطبيق هذا الإنتاج على مظاهر تلك العقيدة، لا شك أن اضطراب المنهج أضاع على الكاتب أن يجعل من تلك الدراسة المتينة فصولا يستقل أحدهما من الآخر ليصح معها التدرج المنهجي، وهذا الاضطراب هو الذي أوقع الكاتب في زاوية ضيقة المنافذ حين تحدث عن صلة الشاعر بالعصر الأموي المحتضر وموقفه من ذلك العصر فقد قال:
(. . وقد كان لها_أى الدولة الأموية_من سياستها (المكيافيلية) الوصولية التي تبرز في سبيل السلوك إلى غايتها أية وسيلة دنيئة ما يحسس الرأى العام ويحفزه إلى نقد أعمالها والنقمة عليها. . . وهذا ما يعلل كثرة الناهضين عليهم من القادة والعاملين على تقليص نفوذهم. على أن كثيرا من الناس_ومنهم صاحبنا_كانوا لا يقرون لها خلافة ولا يرونهم أهلالها مع وجود أربابها الشرعيين من أهل البيت.)
ألست هذه العبارة مضطربة لا تلتقي عند النقطة التي يجب أن تلتقي عندها في حياة الشاعر وعقيدته، فلو أن الكاتب الفاضل أشار إلى العقيدة الإسلامية من حيث هي وتعرض للنص الصريح في الصفات التي يجب أن تتوفر في الخليفة واعتقاد الشاعر هذا النص لانتهى إلى تحديد الثورة عند الشاعر واكتفى بالفقرة الأخيرة ولم يتعرض إلى سياسة الأمويين (الميكيافيلية) فالثورة هنا هي ثورة عقيدة دينية هاشمية علوية لا ثورة على(925/47)
السياسة (الميكيافيلية) لأن العباسيين لم يكونوا بأقل (ميكيافيلية) من الأمويين؛ ومع ذلك فإن الشاعر وقف يمدحهم ويؤيدهم. وقد أشار الكاتب الفاضل إلى هذه النقطة الأخيرة متفقا مع الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء في مدح السيد الحميري للعباسيين وأنه لم يكن عن تقية: (لأنهم من بني هاشم وبنو هاشم بالنسبة إليه على حد سواء).
أما دراسة هذا الشعر من حيث قيمته الفنية ومقدار استجابته للصدق في التعبير والشعور فقد كان الكاتب موفقا إلى حد كبير فيها، وقد تعرض لمقدار الثروة الشعرية التي خلفها، واضطراب الرواة في تقدير هذه الثروة، وأشار إلى آراء النقاد الأقدمين في قيمة هذا الشعر، وأضاف إليها شيئا من آراء المحدثين_وقد أعجبتني من الكاتب لفتته البارعة إلى شعر الحميري بقوله:
(فبعضه يرتفع بصاحبه إلى القمة وبعضه الأخر يهبط به إلى الحضيض، ووسط بين هذا وذاك.) كما أنه أشار إلى أن بعض هذا الشعر يكاد يدس على الشاعر وينسب إليه نسبة لا تليق بذلك العصر. هذه لفتة بارعة_كما قلت_وقد عرض عليها بعض القصائد المدسوسة، أو التي أنحط بها الشاعر، ولكنه نسى أن يعرض عليها قصيدته المشهورة التي شغلت شيئا من جهد الكاتب في معرض الحديث وهي:
لأم عمرو باللوى مربع ... طامسة أعلامها بلقع
أني أشك في كثير من أبيات هذه القصيدة لا لفكرتها وموضوعها ولكن لموسيقاها اللفظية وانسجامها مع ذلك العصر الذي اشتهر بجودة الاختيار وحسن الإيقاع، فقوله:
فعنها قام النبي الذي ... كان بما يؤمر به يصدع
يخطب مأمورا وفي كفه ... كف على ظاهرا تلمع
رافعها، أكرم بكف الذي ... يرفع والكف (الذي) يرفع
إنها فكرة السيد الحميري التي يرددها في معظم قصائده ولكنها ليست موسيقاه ولا ألفاظه بغض النظر عما في بعض أبياتها من اضطراب في النحو واللغة.
وقد كنت أود ألا يقتحم الكاتب باب الغزل والنسيب وما يتصل بالمرأة في هذا الكتاب لأن العنوان لا يتحمل أن يندرج فيه ما ليس منه.
أما أسلوب الكتاب فيبدو قصصيا في بعض الصفحات وبخاصة في حديثه عن نشأة الشاعر(925/48)
الأولى، وخطابيا في بعضها الآخر، وهو في الأول متأثر بأسلوب الدكتور طه حسين.
ومهما يكن من شيء فإن في الكتاب ذخيرة من بحث وإطلاع لا يتوفران إلا للقليل من الشباب الباحثين، ولعله من خير ما كتب عن السيد الحميري في الأيام الخيرة. وإذا كانت هناك ملاحظات أخرى فهي ملاحظات شكلية تتعلق بطبع الكتاب فقد كنت أود أن يطبع طبعا معتنى به، ولقد نسيت أن أقول أنه الحلقة الحادية عشر من سلسلة (حديث الشهر) التي يصدرها في بغداد السيد عبد الأمير السبيتي وهذا جهد يشكر عليه.
القاهرة
إبراهيم الوائلي(925/49)
البريد الأدبي
لكل جواد كبوة
أخي في العروبة والإسلام الأستاذ أنور المعداوي
سلام الله ورحمته وبركاته عليك. وبعد فهل لهذه الكلمة الموجزة مدخل في باب تعقيباتك كما كان للكلمة التي دعت إلى كتابتها؟؟ أجل إن في رحاب صدرك وكرمك ما لا يضيق به ولا يضن عليه بالنشر.
في الصفحة التاسعة عشر بعد المائة من العدد السادس العشر بعد التسعمائة من مجلة الرسالة كلمة كنا - وكان كل عربي صادق العروبة وكل مسلم صحيح الإسلام - نربأ بمجلة الرسالة - وهي مجلة العروبة جمعاء - أن تدنس إحدى صفحاتها بها - وكنا - كما كان غيرنا - نجل تلك الصحيفة الكريمة أن تكون فيها كالقذاة في العين النجلاء.
هي (فهناك طائفة الوهابية وطائفة الإسماعيلية وطوائف أخر تتحدى وتنذر وتبذر الشك في عقيدة المسلمين على مرآى ومسمع من علماء الإسلام الذين أطلبهم ويطالبهم معي آلاف الشباب الأزهريين أن يضعوا حدا لهذه المهزلة العلمية وأن ينتجوا إنتاجا يتحصن به أبنائهم ضد هذه التيارات المتباينة والآراء الخطيرة. ولست أول من جهر بهذا الرأي فقد سبقني إليه أساتذة أجلاء إذ أذكر من بينهم أستاذي الدكتور محمد يوسف موسى. (محمد إبراهيم الخطيب - كلية أصول الدين).
يا سيدي الأستاذ إذا كان هذا مبلغ طلبة كلية أصول الدين من العلم عن دينهم، وهذا غاية ما وصلوا إليه من معرفة آراء الفرق الإسلامية واختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم - أيصح أن يتقبله أستاذ مثقف واسع الإطلاع حر الفكر صافي العقيدة على علته تقبل المطمئن إليه، المقتنع بصحته، العارف بما يرمي إليه، تقبلا ووثوقا واقتناعا ومعرفة برز أثرها في (التعقيبة) التي أختتمها الأستاذ المعداوي بقوله (حسبنا هذا وحسب الأديب الفاضل أن يكتفي منا بهذا التعقيب، وحسب القراء أنهم استمعوا لهذه المشكلة من هذا الطالب الحزين)؟
طائفة الوهابية في أول (قائمة) الطوائف التي تنذر وتبذر بذور الشك في عقائد المسلمين؟ (وما يكون لنا في هذا - سبحانك هذا بهتان عظيم).
ليس الأستاذ المعداوي وليس أستاذنا الكبير الزيات وليس قراء مجلة الرسالة - وهم(925/50)
الصفوة المختارة من أبناء يعرب وعدنان - في حاجة إلى التدليل على أن أولئك القوم الذين ينبزهم الشعوبيون المغرضون بقلب (الوهابية) ولا تميزهم عن غيرهم من المسلمين ميزة في معتقداتهم - ولا ينفردون عنهم برأي ديني ولا يذهبون إلى قول من الأقوال التي تخالف ما عليه الصدر الأول من المسلمين - النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بإحسان وأنهم يستقون التعاليم الدينية من معينها الصافي من الشوائب والكدر_القرآن الكريم والصحيح من سنن المصطفى عليه صلوات الله وسلامهم.
للطالب في كلية أصول الدين واسع العذر بجهله حقيقة الإسلام إذا كان - كما يقول في كلمته - يدرس في كليته العقيدة دراسة أشد تعقدا من ذنب الضب. . . لا يكاد يصل إلى نتيجة في بحث إلا وجدها مهددة باعتراضات بيزنطية أشد فتكا بالعقول من القنابل الذرية. . . وله أن يجهل أنه يسيء بكلمته إلى قسم عظيم من إخوانه المسلمين في الوقت - بل في اليوم - الذي يقوم فيه فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بتكريم رئيس علماء ذلك القسم.
إي أخي أنور - إذا كان مبلغ الدكتور محمد يوسف موسى من العلم - ونعوذ بالله أن يكون ذلك مبلغه - وإذا كانت غايته ما وصل إليه في دراساته - ونجله قدرا من أن تكون تلك غايته - إذا كان مبلغه من العلم وغايته هو أن يجهل من حقائق الإسلام الصحيحة ومن مذاهب أهله ما علمه المستشرق اليهودي (جولد زيهر) الذي اشترك في ترجمة كتابه (تاريخ العقيدة والشريعة في الإسلام) فعلى الغرب وجامعاته وشهاداتها العليا - العفاء -
وبعد فهل تقبل أيها الأستاذ هذه التحية المشوبة بشيء من العتب.
إذا ذهب العتاب فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب
(الرياض)
حمد الجاسر
شيخ الناشرين:
قال لي صاحب من أهل الأدب إن ال المرحوم مصطفى محمد شيخ الناشرين احتفلوا بمرور أربعين ليلة على وفاة عميدهم، وإن أحدا من الأدباء لم يذكر هذا الجندي المجهول(925/51)
في مقالة أو بعض مقالة.
والحق أن مصطفى محمد خدم الأدب وأنشأ أدباء، ولم يكن هو أديبا ولا شبه أديب وإنما كان من أولئك الوراقين الذين يعرضون بضاعتهم المزجاة للقارئين - وما أقلهم - ثم سما به الجد فجعل من نفسه (حاميا) للمؤلفين كما كان يحلو له أن ينعت نفسه في بعض الأحيان.
ولقد عرف المستشرقون قدر مصطفى محمد فنوه كثير منهم بالمؤلفات التي نشرها وأذاعها، وبصرنا باسمه في أكثر من ثبت، وفي غير فهرس.
ولم يكن - رحمه الله - يؤمن بالإعلان عن المؤلفات فعنده أن القارئ يطلب الكتاب واقعا حيث وقع فلا جدوى - في رأيه - من الإعلان والبر ويا جندا!
وكان مصطفى محمد يفخر بأن بعض الشباب الناشئين الذين قدمهم إلى جمهور القارئين بلغوا على يده من المجد والشهرة حتى وصلوا إلى أعلى المناصب.
وكان - رحمه الله - عيوفا إلى حد التكبر، فما عرفنا أنه طلب إلى ذي منصب حاجة إلا في إباء وكبرياء وكان لا يقبل الدنية في دينه ولا في دنياه، ومن هنا كان الدين الذي له في أعناق عارفيه كبيرا. ومع هذا لم يؤد أحد منهم بضعة من هذا الدين. وإذا استثنينا رصفاءه من أصحاب المكتبات والمطابع فإن أحدا من المؤلفين والأدباء لم يذكره بكلمة خير يوم منعاه!
إن مصطفى محمد من أولئك الجنود المجهولين الذين وقفوا حياتهم لخدمة العلم، وما ونى ولا وهن ولا هان. ولئن عاش مجهولا ومات مجهولا، فحسبه أن يذكر فضله في ذمة الله. عليه رضوان الله.
منصور جاب الله
تحقيق وفاة البرعي
ردا على سؤال الأستاذ عبد السلام النجار بالعدد (920) من الرسالة أشكر الأستاذ الزيات على تصويب التصحيف الذي فرط منا أثناء النقل من كتابنا (تاريخ البديع).
وأضيف إلى ذلك أني لم أخالف الأستاذ النجار في مصدره إذ أن السخاوي وابن عبد السلام(925/52)
وابن العماد والشوكاني لم يذكروا شيئا عن الشيخ عبد الرحمن البرعي في وفيات القرن التاسع. ولم أخالف السيد محمد زبارة إلا لقصد التوفيق بين الروايات فقد ورد في فهرسة الأدب رقم (3) بدار الكتب المصرية ما نصه: (. . العارف بالله الشيخ عبد الرحمن بن أحمد البرعي اليمني كان موجودا في القرن الخامس. . .)، وذلك ما جعلني أرجح - أول الأمر - أن وفاة البرعي كانت سنة 804هـ وأحسب أن الناقلين تصحفوا عليه فوضعوا الرقم (4) مكان الرقم (8) فحدث الخطأ وحسبوه من رجال القرن الخامس.
وقد خاطبت هذا الأسبوع فضيلتي الأستاذين الشيخ زاهد الكوثري وأحمد خيري بك عسى أن يكون عندهما بعض المصادر التي تؤيد إحدى الروايتين. وقد أكدا ما ذكره السيد في ملحقه (6) من أن وفاة البرعي كانت سنة 803هـ. وصحح الأستاذ أحمد خيري بك هذه الرواية في صفحة (72) من كتابه (إزالة الشبهات) وكتب إلينا بذلك والكتاب على وشك الطبع.
وأخيرا أشكر الأستاذ النجار حيث أتاح لنا فرصة تحقيق وفاة الشيخ البرعي بعد أن اضطررنا إلى التوفيق بين الروايات المضطربة.
حامد حقني داود(925/53)
القصص
السر. .
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأستاذ حسين أحمد أمين
تسأليني أيتها الصديقة أن أسرد عليك أكبر الحوادث أثرا في حياتي وأعلقها بذاكرتي. . وبما أنني قد خلفت ورائي الشباب بمراحل طويلة ولم يعد لي من الأقارب من أهتم له، ولذلك لا أجد غضاضة في أن أسر إليك بما تبتغين على ألا تعيديه لأحد، فإن لم تجدي القدرة على الكتمان فلا بأس برده إذا لم تذكري أسمي
تعلمين أني قد اتخذت لي في حياتي عشاقا من الكثرة بحيث لا أذكر عددهم. . وأنني بادلت بعضهم حبا بحب، فقد كنت جميلة فاتنة وكان الحب بالنسبة إلي دعامة الروج لا تستغني عنه كما لا يستغني الجسد عن التنفس. كنت أفضل الموت على الحياة دون حب ودون أن أشعر بأن هناك من يفكر في طوال الوقت ويرغب في رضاي. . وقد تفخر الكثيرات من النساء بعجزهن عن احب سوى مرة واحدة وبأنهن إن وهبن قلوبهن إلى رجل فإلى الأبد. لا يتحولن عنه. . أما أنا فقد أحببت رجالا كثيرين معتقدة في كل مرة أني سأحبه إلى الأبد وأن عاطفتي نحوه لن تتضاءل. لكنها كانت دائما تتضاءل كالنار التي لا تزودها بالوقود. . وينهى بها التضاؤل إلى الموت. .
واليوم أذكر لك مغامرتي الأولى. . وبرغم أنها بريئة تماما إلى أن في تربتها تكونت البذرة التي تفرع عنها سائر المغامرات
كان زوجي كونت هيرفيه دو - رجلا واسع الثروة من عائلة عريقة ولم أكن أحمل في قلبي له ذرة من الحب. . فالحب في رأي يتطلب لوجوده الحرية والصعاب. . أما الحب الذي ينظمه القانون ويحميه، وتباركه الكنيسة فسرعان ما تخمد جذوته. . وما قيمة القبلة المشروعة إذا قيست بالقبلة المغتصبة كان زوجي طويلا ضخم الجسم نبيل الطلعة. . غير أنه كان غبيا إلى أقصد حد، فالمناقشات معه مملة وملاحظاته تافهة وعقله جامد لا يتطور ولا يسمح بدخول أفكار جديدة إليه(925/54)
كنا نعيش في منزل كبير بالريف وقد مضى على زواجنا عام واحد. . وكانت تحوطه الأشجار من كل جانب. وفي نهاية الحديقة تجد بحيرتين واسعتين مليئتين بالأعشاب المائية وبينهما كوخ صغير بناه زوجي لاستعماله عند صيد البط
وبالإضافة إلى خدم المنزل، كان يعيش معنا حارس مخلص لزوجي كل الإخلاص تابع له غدواته وروحاته، ووصيفة لي تحبني وأحبها كالأصدقاء، كنت قد أحضرتها معي من إسبانيا ورغم أنها كانت في السادسة عشرة من عمرها إلا أن الناظر إليها يحسبها في العشرين. . .
وبدأ في الخريف موسم الصيد. فكنا أحيانا نصطاد في ضيعتنا وأحيانا في ضيعة جيراننا. . وكان البرون دو - على الأخص موضع اهتمامي. . فلما انقطعت زياراته لنا فجأة انقطعت عن التفكير فيه. . غير أني بدأت ألاحظ منذ ذلك الحين تغيرا طرأ على علاقة زوجي بي فقد بدأ لي غامضا تنتابه الهواجس ولم يقبلني. . ورغم أنه لم يعد يدخل إلي في حجرتي الخاصة إلا أنني كنت أسمع أثناء الليل خطوات مسترقة تقف عند باب الحجرة بضع دقائق ثم تعود أدراجها. . وكنت أسمع وقع أقدام في الحديقة ليلا تذهب وتجيء تحت نافذة حجرتي فلما سألت زوجي عنها نظر إلي نظرة طويلة ثم قال: لا شيء. . لا شيء. . لا بد أنه الحارس.
وفي إحدى الأمسيات - بعد أن انتهينا من العشاء - بدأ زوجي في اضطراب نفسي شديد. . وإذا به يسألني بغتة: هلا خرجت معي إلى الضيعة نصطاد ثعلبا اعتاد غشيتها كل ليلة؟
ودهشت لسؤاله وترددت، غير أنه كان ينظر إلي في إلحاح شديد فأجبته أخيرا بالطبع يا عزيزي. .
وأرى لزاما على أن أخبرك أنني كنت أصطاد الثعالب كالرجال. . فلم يكن هناك ما هو غير عادي في سؤاله. لكنه ضل طيلة المساء يقطع الردهة في خطوات قلقة وقد بدا على وجهه الهم. .
وفي العاشر سألني فجأة: هل أنت مستعدة؟ فأجبته بالإيجاب وخرجت معه.
وسألته. أأضع في بندقيتي الرصاص أم (الخراطيش)؟ فحملق في دهشا بعض الوقت ثم قال: فلتستعملي (الخراطيش) ففيها الكفاية. .(925/55)
ثم أضاف في لهجة غريبة. ما أبردك!
فضحكت قائلة: ما أبردني!؟ وما حاجتي إلى البرودة في صيد ثعلب؟ ما هذا الذي يشغل فكرك يا عزيزي؟
واخترقنا الحديقة في سكون حتى وصلنا إلى حافة البحيرتين فوقفنا أمام الكوخ الذي علينا أن ننتظر في قدوم الثعلب. . وسألني زوجي أن أدخل أولا. . . ثم أحدث فجأة صوتا ببندقيته أرعبني. . . ورآني أرتعش. . .
وسمعته يقول: يكفي هذا الاختبار. . . باستطاعتك الرجوع. . . فدهشت كل الدهشة وقلت له: أنني لم أحضر هنا كي أرجع ثانية ما أغربك الليلة!
قال: كما تشائين. . .
وانتظرنا نصف ساعة دون حراك ولم نسمع للثعلب صوتا فسألت زوجي هامسة: أمتأكد أنت أنه يأتي من هذا الطريق؟
فبدا عليه الرعب من قولي هذا وأجاب: أجل. . . متأكد تماما.
وحفنا السكون ثانية مدة طويلة. . . وإذا بزوجي يمسك بذراعي فجأة ويقول: أترينه؟ أنه هناك. . . تحت الأشجار.
ونظرت جاهدة فلم أتبين شيئا. . . وجعل زوجي يراقبني وأنا أنظر. . . ثم بدأ يعد يندقيته وبدأت أحذو حذوه. . وفجأة، وعلى بعد ثلاثين خطوة رأيت رجلا يبرز في ضوء القمر متسللا وقد حنا جسمه كأنما يفر من شيء. . .
وأصابني الفزع فصدرت عني صرخة عالية. . . وقبل أن أستطيع حراكا سمعت صوتا مدويا ورأيت الرجل يسقط على الأرض كالذئب وقد اخترقته الرصاصة.
وجن جنوني فبدأت أصرخ. . . وامسكني زوجي بقسوة من رقبتي ورماني على الأرض ثم جرني نحو الجثة الراقدة على الحشائش وألقاني عليها بقوة كأنما يريد أن يكسر رأسي. . . لقد كان ينوي قتلي. . . لكنه ما أن رفع حذاءه كي يحطم به وجهي حتى ذراعين يحوطانه ويلقيان به على الأرض.
ووقفت بسرعة. . . وإذا بي أرى وصيفتي وهي تنهش زوجي بأسنانها كالهرة وتمزق وجهه ولحيته بأظافرها. . . ثم رأيتها فتحول عنه فجأة إلى الرجل القتيل وبدأت تقبل(925/56)
عينيه وشفتيه وهي تستخرط في البكاء. . .
وقام زوجي ورأى وصيفتي تبكي حبيبها فعرف الحقيقة ورمى بنفسه عند قدمي قائلا:
- سامحيني يا حبيبتي. . لقد شككت فيك وقتلت عشيق الفتاة. . لقد ظللني الحارس. .
أما أنا فبقيت أنظر إلى عناق الحي للميت وأستمع إلى بكاء المرأة على حبها. .
. . في هذه اللحظة تبينت أنه من المستحيل أن أظل مخلصة لزوجي. .
حسين أحمد أمين(925/57)
العدد 926 - بتاريخ: 02 - 04 - 1951(/)
8 - الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
الجماعة الدينية
توصلنا في الفصل السابق من هذه الدراسة إلى القول بأن وظيفة الدين لتحقيق التكافل الاجتماعي في الجماعة الإنسانية تتوقف على صدق الإيمان والاختبار الديني لدى أعضاء تلك الجماعة وعلى مدى تحديد العقيدة الدينية التي تدين بها الجماعة لأسس ذلك التكافل.
ورأينا أن سلامة العقيدة الدينية وصيانتها من التحوير والتبديل شرط أساسي لحفظ ذلك التكافل الاجتماعي وهذا لا يعني الجحود والتعصب وإقفال باب الاجتهاد.
فالمشكلة في صيانة العقيدة وسلامتها ووصف المدافعين عنها بالجحود والرجعية والمعتدين عليها بالإلحاد والزندقة ترجع إلى الخطأ في تفهم معنى السلامة ومغزى الصيانة.
فإذا كان للدين أن يكون وسيلة جوهرية فعالة لحفظ التكافل الاجتماعي وتنميته يجب أن تحدد وظائفه ومعانيه. وهذا التحديد لا يمكن أن يمس العقيدة لأن العقيدة فطرة وغريزة كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (30، 30) (فأقم وجهك للدين حنيفا. فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). وقد استعرضنا في مكان آخر من هذا البحث رأي بعض علماء الاجتماع والأنترولوجيا في صدق هذا القول.
فالاجتهاد إذا في بحث الفلسفة الدينية لا يخضع لأصول المنطق العلمي إذا توخى التعرض للدين من حيث أنه عقيدة، فالعقيدة الدينية قديمة في السلوك الإنساني قدم الأزل لم يطوح بها تطور الفكر الإنساني في العلوم والفنون.
ولئن سعى بعض الناس إلى تحديد معنا الدين ووظائفه فإن سعيهم هذا كثيرا ما يعد من قبيل سوء الاجتهاد إذا تعمد مس العقيدة مسا رقيقا أو غير رقيق.
والاجتهاد الذي من هذا القبيل يبدأ في هدم الأساس الذي يحاول واعيا أو غير واع أن يبني عليه تكافلا اجتماعيا جديدا.
فالعقيدة فطرة غريزية وظيفتها محدده معينة أصولها في النظام الكوني والتكوين النفساني والجسماني للإنسان. ولقد أصاب الغزالي حين شبه العقيدة الدينية بجذع الشجرة ووظائف(926/1)
الدين الاجتماعية بالأغصان. وقد يستطيع عالم النبات بمعادلة حديثة أن يطعم غصون الشجرة لتؤتي ثمرا حديثا. قد يكون ألذ من الثمر الأصلي أو قد لا يكون ولكن عالم النبات لن يستطيع أن يسلط معادلة على صميم التكوين الطبيعي لجذع تلك الشجرة وإلا قتلها.
ولعل هذا المثل ينطبق على سوء اجتهد بعض الباحثين في تعرضهم للعقيدة وفي سعيهم لتطعيم الدين بالمستجد من التطور الفكري والاجتماعي الذي تمر به الإنسانية في مجرى التاريخ.
ولإشكال الذي صاحب تاريخ الديانات يعود إلى سعي بعض أولي الفكر لتطعيم العقيدة الدينية بالآراء والنظم التي استعدوها، من بيئتهم الاجتماعية والفكرية. وهذا خطأ وصوابه أن توجه تلك النظم والآراء الفكرية والاجتماعية بحيث تلازم جوهر العقيدة الدينية. وذلك لسباب بسيط وهو أن العقيدة فطرة غريزية هي من صميم الوجود؛ بينما النظم والآراء المستجدة متقلبة تبعا لتطور الفكر والبيئة والأوضاع السياسية والاقتصادية.
فالصراع يصبح إذا بين الغريزة الفطرية السليمة وبين البيئة والتطور الفكري. فالأولى أبدية راسخة والثانية متقلبة بتقلب الظروف والملابسات.
والاجتهاد عادة ضرورية للنمو العقلي. فإنك لن تستطيع أن توقف عقرب الساعة وتؤجل استمرار الزمن. والمشاكل الاجتماعية تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، ولا بد للدين أن يؤدي وظيفته الاجتماعية إلى جانب وظيفته الروحانية الفطرية الغريزية. ولن يكون ذلك بإقفال باب الاجتهاد على النحو الذي يدعو إلية بعض حفظة الدين في إخلاص وصدق لا مراء فيهما. فمثل هذه الدعوة من قبيل سوء الاجتهاد. فه تنكر على الزمن تطوره وعلى الفكر نموه وعلى المجتمع اضطراد مسيره وميلاد مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة فيه.
والإخلاص والصدق في الدفاع عن العقيدة الدينية وجوهرها وأصولها اجتهاد حميد ولكنه لا يكفي لمواجهة التحدي الذي يواجهه الدين في عالم يزخر بالمستجد من المشاكل والآراء والنظريات التي لم يعالجها الدين في القرون الغابرة.
وهذا التحدي للعقيدة الدينية وحفظها يستوجب التعرف على أسس تلك المشاكل الاجتماعية وعلى جواهر الآراء والنظريات التي تتحدى الدين ووظيفته.(926/2)
فالذين يحملون على الدين ووظيفته الاجتماعية هم في معظم الحالات مفتقرون إلى الاختيار الديني الصادق، أو بمعنى آخر مفتقرون إلى الغريزة الدينية الفطرية التي هي - كما رأينا - جزء من نظام الكون والتكوين النفساني والعقلي والجسماني للإنسان. فاجتهادهم إذن اجتهاد مريض فقد غريزته فجاء اجتهاده وتفكيره وتحليله مشوها لا تتوفر فيه عناصر الكمال.
وحفظة الدين الذين لا يتعرفون على جوهر المشاكل الاجتماعية والمذاهب الفكرية والسياسية والاقتصادية المعاصرة عاجزين - سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفا بذلك أم لم يعترفوا - عن صياغة اجتهادهم في قلب يحقق النفع الجزيل. فهم والحالة هذه يقفلون باب الاجتهاد ويحولون بين الدين وتأدية وظيفته الاجتماعية - سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه -.
فلو طبقت هذا الوضع على حاضر العالم العربي لوجدت كلا النقيضين ولوجدت تحديا للدين من جماعة فقدوا غريزتهم الدينية الفطرية - أو طمروها تحت ركام من التعليل المنطقي السيئ - ولوجدت كذلك إجابة على هذا التحدي من بعض حفظة الدين يفتقرون إلى سلاح المعرفة الحديثة وهي معرفة شاسعة معقدة لا يكفي للتعرف عليها دروس من الجغرافية والحساب والطبيعة والكيمياء.
فالمكتبة العربية فقيرة فقرا مدقعا في أكثر ما تطفح به الثقافات المعاصرة من فلسفة ودراسات اجتماعية بنيات عليها المذاهب الفكرية المعاصرة - اجتماعية كانت أم فلسفية أم سياسية أم اقتصادية - التي تتحدى الدين ووظيفته الاجتماعية.
ولقد واجهت العقيدة المسيحية في أوربا وأمريكا مثل هذا التحدي في الأزمنة الحديثة فسعت معاقل الديانات المسيحية لمواجهته بالتسلح بالعلم الحديث.
ولقد تسنى لكاتب هذا السطور أن يلمس عن كثب ثروة مناهج العلم والتدريس في بغض المعاقل الرئيسية في أمريكا؛ وبرامج التدريس العالي في هذه المؤسسات لا تترك شاردة ولا واردة من العلم الحديث إلا خصصت لها حصصا تتكافأ وأهميتها ومبلغ تحديها للعقيدة المسيحية الدينية. فهناك فصول في علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد والفلسفة السياسية والهندسة والفيزياء العالية والكيمياء المتقدمة وألف نوع ونوع من العلوم الحديثة تدرس في(926/3)
أرقى مناهج التعليم وأحدثها. وطلبة العلم في هذه المؤسسات يلقنون العقيدة الدينية فترسخ فيهم ويؤمنون إيمانا صادقا مخلصا ثم يدفعون إلى التحصين ضد أسلحة الإلحاد بالتعرف على جوهر تلك الأسلحة علمية مادية أو فلسفة منطقية.
فليس من الغرابة أن تجد قسيسا في أميركا الآن بروتستانتيا أو كاثوليكيا يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد أو الهندسة أو علوم الطبيعة بالإضافة إلى شهادة اللاهوت. بل الواقع أن هذا الاتجاه أخذ ينتشر الآن انتشارا واسعا في معظم المعاهد الدينية في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص.
وقد لخص أحد أقطاب الفكر المعاصر في أمريكا هذا الاتجاه فقال: -
(المرء عدو لما يجهل ولكن عداءه يزداد قوة إذا تعرف على ما يجهله واكتشف فيه مواطن الضعف والقوة. فأني أهيب بحفظة الدين وخصومه على السواء أن يحاولوا - قبل أن يتخطوا المنطق الحرام - التعرف تعرفا إيجابيا صادقا على مواطن الضعف والقوة في جوهر تلك الخصومة. فهم لا بد مدركون بالعلم والدين أنهم متممان بعضهما لبعض وكل ما يستجلب السماحة والحالة هذه ملاقاة بعضهما لبعض على صعيد من المعرفة الحقة لجوهر الأشياء لا لظواهرها. وبهذا تزداد عداوتهما قساوة لا لبعضهما بعضا ولكن للجهل الذي ولد بينهما الخصومة.)
ولعل أبرز مزايا حركة الإحياء الديني للإسلام في باكستان تعود إلى تسلح قادتها بهذا السلاح المزدوج الذي قوامه صدق الاختبار الديني والإلمام بالعلوم الدينية في أعلى مراقيها.
فأنت حين تطالع آثار هؤلاء القادة تلمس اتساع الأفاق وقوة الإقناع والاعتزاز بالعقيدة اعتزازا لا يعود فقط إلى رسوخ الاختبار الديني والتقوى في نفوس هؤلاء المصلحين بل إلى إلمامهم إلماما واسعا بالعلوم وعلى تراثها المعاصر والقديم في الشرق والغرب وإلمام هؤلاء السادة بهذه العلوم واستيعابهم للتعاليم الإسلامية استيعابا شاملا مهد لهم سبل الإيمان بقوة الدين الاندفاعية وصلاحها لبناء مجتمع صحيح لا يتعارض مطلقا مع المستجد المفيد في الحضارات الغربية المعاصرة. وأبحاث هذه المدرسة الفكرية الإسلامية في الهند والباكستان لا تعتمد على اللفظ والإنشاء والتبرير أو الاعتذار والوقوف موقف المدافع عن(926/4)
الدين وتعاليمه، وإنما تتوخى تطعيم النظم السياسية الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة التي وجدت سبيلها إلى حاض المسلمين بجوهر العقيدة المحمدية وتعاليمها. وحركة الإحياء الدينية على هذا الأسلوب تترك العقيدة الدينية وشأنها فهي أجل من أن تجادل وتزج في معترك الجدل البيزنطي ولأنها - وهي غريزة فطرية - لا تستدعي النكران والشك فهي قسم من الوجود الإنساني وجزء من فلسفته وحقيقته. إنما الاتجاه الرئيسي في حركة الإحياء الديني هذه تتوخى صياغة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في قالب إسلامي. وتراث الإسلام - وهو دين عملي ودنيوي - زاخر بالأسباب التي تسهل هذه الصياغة وتجعل منها أسلوبا جديدا من أساليب الحياة، حياة الروح والمادة، وبذلك تحقق للدين تأدية وظيفته الاجتماعية - وهي وظيفة رئيسية على وجه لا يثير الاعتراض ولا يستدعي الثورة الجامحة العاصفة وإنما يستهوي الأفئدة والعقول. فإذا تسلح المصلح بالوجدانيات، المستمدة من الاختبار الديني وواجه بها مشاكل المجتمع، وبالعلم الحديث ثم صاغ الحلول في قالب منطقي مقبول استطاع أن يواجه الحياة العملية في نشاط فريد وفي روحانية تجند لنصرتها العقول الدنيوية (العلمانية) التي لا تؤمن إلا بالمنطق المادي والقلوب المؤمنة التي تبحث عن المجتمع الصالح في إطار الشريعة والحياة الدينية.
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق(926/5)
1 - الفارابي
في العالم الإسلامي وفي أوربا
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
يقول الأستاذ (كارادفو) في ترجمة للفارابي في دائرة المعارف الإسلامية: (ومذهب الفارابي هو مذهب الفلسفة أعني الأفلاطونية الجديدة الإسلامية الذي بدأ، من قبله الكندي ووجد في كتب ابن سينا من بعده أكمل عبارة عنه، وقد يكون من الراجح أن الفارابي يخالف الكندي وابن سينا في بعض المواضع ولكن من العسير تعيين هذه المواضع، ومن المناسب التحفظ بل الشك في تفسير ما يتعلق بتفصيل مذهبه. والواقع أنا لا نعرف من آثاره إلا قليلا. ثم إن أسلوبه لا يخلو من غموض وفيما عرفنا من رسائله ما هو مصوغ بصورة حكم في نهاية الإيجاز من غير نظام في ترتيبها ثم إنه لا يمكن البت عن يقين بأن مؤلفات كثيرة كمؤلفات الفارابي يتداولها تأثير أرسطو وأفلاطون وأفلاطين تتجرد من التناقض. على أن الفكرة التي تعتبر قاعدة لهذا المذهب وهي التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من ناحية، وبين هذه الفلسفة الملفقة والعقيدة الإسلامية من ناحية أخرى ليست في نفسها سليمة من التضارب).
ويرى الأستاذ مصطفى عبد الرزاق أن الفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا في المنطق وآثاره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني إذ كان أرسطو هو الأول. هذا هو رأي بعض المؤرخين ومنهم (كارادفو)
إن فضل الفارابي لا ينتهي عند تفسير كتاب أرسطو وتصحيح تراجمها والتمهيد بذلك للنهضة الفلسفية في الإسلام التي تكاملت من بعده بل إن له أيضا أنظارا مبتدعة وأبحاثا في الحكمة العملية والعلمية عميقة سامية لم تتهيأ بعد للباحثين الوسائل لتفصيلها تفصيلا وافيا. وللفارابي كتاب في المدينة الفاضلة كما أن لأفلاطون كتابا في الجمهورية الفاضلة. والفارابي هو أول من عنى بإحصاء العلوم وترتيبها في كتابه (إحصاء العلوم) الذي نشره سنة 1931م الدكتور عثمان أمين مدرس الفلسفة بكلية الآداب ووضع له مقدمة طيبة وعنى(926/6)
بنشره المستشرق الإسباني (بلانسيا) في سنة 1934 ومن أجل ذلك يعتبر بعض الباحثين أبا نصر أول واضع في العالم لنواة دوائر المعارف. ولئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير البشري وفي تاريخ المثل العليا للحياة الفاضلة. ويرى الأستاذ جرجي زيدان معنا أن الفارابي كان أصلا للموسوعات العربية فقد قال في كتابه (تاريخ الآداب العربية) عندما عد كتاب الفارابي (وكتاب إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وهو من قبيل موسوعات العلم لأنه يشتمل على عدة علوم؛ منها نسخة خطية في الأسكوريال؛ وله ترجمة عبرانية وأخرى لاتينية. وبهذا الكتاب عد الفارابي من مؤسسي الموسوعات العربية وسنعود إلى ذلك) وفي عودته إلى الموضوع قال (إنه في العصر العباسي الثالث أخذت الموسوعات (دوائر المعارف) في الظهور بعد أن وضع أساسها الفارابي. وإن كتاب الفارابي القيم (إحصاء العلوم) قد ترجمه (جرادو دكريمونا إلى اللاتينية، وهو عالم إيطالي ولد في (كريمونا) من مدن إيطاليا الشمالية سنة 1114م ومات بها سنة 1187م؛ وبمدينة طليطلة من أعمال الأندلس عنى بنقل أهم كتب العرب العلمية إلى اللغة اللاتينية ونال بذلك شهرة عظيمة وترجم أكثر من سبعين كتابا من كتب الهيئة وأحكام النجوم وهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة).
وقد كان كتاب إحصاء العلوم مفقودا كما ذكر المستشرق الإيطالي الشهير (السنيور كرلو نلينو) الأستاذ بالجامعة المصرية سابقا وبجامعة بلرم بإيطالية حيث أفاد في كتابه (علم الفلك وتاريخه في القرون الوسطى) أنه عندما أراد الرجوع إلى كتاب الفارابي (إحصاء العلوم) للتعرف إلى ما كان يقصد كتاب العرب بعلم الهيئة قال (أبتدئ بما قاله الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي (المتوفي سنة 339هـ 950م) في كتاب له في إحصاء العلوم فقد أصله العربي فلم أقف على ما فيه إلا بواسطة ترجمته اللاتينية لجرادو دكريمونا الخ) ثم يقول (نلينو) زهت بمدينة البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري أي بعد وفاة الفارابي بسنين قليلة جمعية فلسفية سمت أعضاءها (إخوان الصفاء) ومن أعمالها وضع مجموع اثنتين وخمسين رسالة (52) مشهورة برسائل (إخوان الصفاء وخلان الوفاء) وكل رسالة تتبين فيها مبادئ فن من فنون العلم. وأقول معلقا على ما نقله هذا المستشرق(926/7)
الإيطالي وإذن فإن عهد الفارابي كان من عهود ازدهار الفلسفة الإسلامية. ولعل تلك الجمعية الفلسفية هي قبس من الروح الفلسفية التي أشاعها المعلم الثاني في بلاد الإسلام؛ ولعل موسوعتها (رسائل إخوان الصفاء) تقليد ومحاكاة لموسوعته (إحصاء العلوم) فقد تقدم أن بعض مؤرخي آداب اللغة العربية يعتبرونه من مؤسسي الموسوعات أو هو المؤسس الأول الوحيد لها، ولم أنفرد برأيي هذا فقد اطلعت بعد سنوحه لي على ما كتبه مدرسان في كلية الآداب بمصر هما الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ويوسف أفندي كرم إذ قالا في كتابهما اللطيف (دروس في تاريخ الفلسفة):
(تتلمذ للفارابي كثيرون ممن بهرهم بسيرته الصالحة وأخلاقه الوديعة واستولى عليهم بآرائه الناضجة وأبحاثه الدقيقة وقد تأثر به بوجه خاص طائفة من الباحثين هم أشبه بالجماعات السرية منهم بالمدارس العلمية المنظمة ونعني بهم (إخوان الصفاء) الذين لا زلنا نجهل الشيء الكثير عن تاريخ نشأتهم وتكونهم؛ الذين كانوا يمتون في أغلب الظن بصلة إلى الباطنية والإسماعيلية. ومهما يكن من أمرهم فمن المحقق أنهم نشئوا في القرن الرابع للهجرة فعاصروا الفارابي وأخذوا عنه؛ وإن تكن فكرتهم في الفلسفة أوسع مجالا من فكرته فما كانوا يقفون عند أفلاطون وأرسطو طاليس بل جاوزوهما إلى المدارس اليونانية (الأخرى) وهذا يبين عمق تأثير الفارابي في العقلية الإسلامية وحسبك أنه سحر ابن سينا على جلاله وكبريائه فأخذ يشدو بحمده ويعلن عن فضله عليه في تفهيمه علم ما بعد الطبيعة.
وقد تعددت نواحي عظمة الفارابي واختلفت وجوه عبقريته وكثرت أفانين معرفته فهو مرجع في كثير من العلوم غير الفلسفية فهذا نلينو المستشرق الإيطالي يرشد في كتابه (علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى) - من أراد أن يعرف آراء العرب في علم الفلك والهيئة إلى جملة كتب كان أولها كتاب (عيون المسائل) لأبي نصر الفارابي وهو مجموعة رسائل الفارابي المطبوعة بليدن سنة 1890م ثم بمصر سنة 1325هـ ثم إن الفارابي عرف بعلم الموسيقى وغيره مما سنعود إليه.
ولقد كانت شهرة الفارابي في أوربا ضاربة أطنابها على جامعاتها وساح ذكره في أقطارها. ويقص علينا الأستاذ فرح أنطون في كتابه (ابن رشد وفلسفته) عن مبدأ دخول الفارابي إلى(926/8)
أوربا أن الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوربا إلى اللغة اللاتينية كان لرئيس أساقفة طليطلة (مونسنيور دريموند) فان هذا الأسقف أنشأ في طليطلة من سنة 1130م إلى سنة 1150م دائرة لترجمة الكتب العربية الفلسفية أخصها كتب ابن سينا إذ لم تكن كتب ابن رشد اشتهرت بعد. أما الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية وقد كان سبقه إليها كثيرون مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريغولي وقد جعل هذا الأسقف (الأرشيد باكردومينيك كوند بسالفي) رئيسا لدائرة الترجمة وكانت هذه الدوائر مؤلفة من مترجمين من اليهود أشهرهم يوحنا الإشبيلي فأخرجت إلى اللغة اللاتينية كثيرا من مؤلفات ابن سينا؛ وبعد بضع سنوات ترجم (جرار دي كريمونا) و (الفريد دي مولاي) بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي وبذلك كانت أوربا مدينة لأسقف طليطلة بإدخال فلسفة العرب إليها على يد واحد من كبار الدين) ويحدثنا الدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق بمصر فيقول أن العالم الأوربي جهل تراث أرسطو منذ بداية المسيحية بل انصرف عن دراسته باعتباره طبيعيا ملحدا وإن سلم بما عرف من مباحثه في المنطق منذ القرن الخامس والسادس للميلاد، ولبث العالم الأوربي على هذا حتى أقبل القرن الثاني عشر وانتقل إليه تراث أرسطو في الطبيعة والأخلاق والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) وعلم النفس وذلك حين اجتاحت قوات ألفونس السادس - أمير قشتالة - مدينة طليطلة عام 1085م وسرعان ما اصطبغ بلاطه المسيحي اسما بالثقافة الإسلامية فأعلن نفسه إمبراطور العقيدتين وحج إلى طليطلة طلاب العلم من كل أنحاء أوربا وأضحت طليطلة للترجمة من اللغات الشرقية كما يقول تراند) في مقاله عن إسبانيا والبرتغال في كتاب (تراث الإسلام) وراحت مكتبة مسجد طليطلة مثابة للعلماء فيما يقول إبرنست باركر) في مقاله عن الحروب الصليبية في كتاب (تراث الإسلام) ولقد أنشأ (ريموند كبير أساقفه المدينة بين سنتي (1130 - 1150م) ديوانا لترجمة الكتب العربية الفلسفية على يد مترجمين من اليهود وأمر رئيس الشمامسة (دومنيك جنديز الفس أرشيدوق سيجوفيا و (يوحنا أفنديث الإشبيلي بترجمة التراث الفلسفي الإسلامي ولا سيما ما خلفه ابن سينا ثم تكفل الديوان بعد هذا بترجمة الفارابي والكندي. وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر تولى (ميخائيل الإيقوصي ومن حذا حذوه ترجمة تراث الشارح(926/9)
الأعظم ابن رشد تحت رعاية الإمبراطور فردريك الثاني الذي اتصل بالعالم الإسلامي في حروبه الصليبية ومهر في اللغة العربية واستخفه الإعجاب بفلسفتها فتاق لنقل تراثهم إلى اللاتينية والعبرية وعلى هذا النحو عرفت أوربا فلسفة أرسطو منقولة إلى اللاتينية عن كتب شراحه ومفسريه من المسلمين وفي مقدمتهم أستاذهم الفارابي. وهكذا تجد أبا نصر يدخل أوربا في فجر يقظتها فما أن فتحت عينها إلى فلسفة العرب وحضارة الإسلام وما أن مدت يديها لتقتبس من أنوار الشرق إلا وجدت الفارابي أبا الفلاسفة الإسلاميين يشق طريقه إلى بلادها يحيط به تلامذته الذين أتوا بعده فساروا على هداه وفهموا الفلسفة كما لقنهم إياها المعلم الثاني مقتبسا وجها عن المعلم الأول أرسطو. وقد قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق والفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا المنطق وأثره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني إذ كان أرسطو هو الأول هذا هو رأي بعض المؤرخين في الفارابي ومنهم (كارادفو) فترى كل من ذكر الفارابي عرف له فضله في شرحه لفلسفة أرسطو. قال الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) وترجع شهرة الفارابي إلى شروحه الكثيرة على مؤلفات أرسطو حيث لقب بالمعلم الثاني تميزا له عن أرسطو الذي لقب المعلم الأول وقال (كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية وقد اشتهر الفارابي كشارح لفلسفة أرسطو وقد شرح كتبا لليونان في ما وراء الطبيعة والفلسفة والعلم ولم يقتصر على شرح كتب اليونانيين بل ألف كتبا كثيرة مستقلة.
للكلام صلة
ضياء الدخيلي(926/10)
في آفاق مجهولة
عن الموت. .
للأستاذ محمد رجب البيومي
يقسو الموت على الإنسان فيخطفه من بين أهله وذويه، ويحمله إلى حفرة دامسة حالكة، لا يسطع فيها نجم ولا يهب بها نسيم، ووراءه أكباد تتقطع حسرة على فراقه، ودموع تتساقط حزنا على غربته، وأجسام ترتدي السواد، فتثير كامن اللوعة ودفين الوجد.
وقد يحاول كثير من المرزوئين في أحبائهم وأعزائهم التجلد التماسك فيظهرون الرضا والاستسلام بضع ساعات، ثم تهب عليهم الذكريات الموجعة فتطير الأمن وتمزق الصبر، ويصبح الصابر القانع، كالهالع الجازع، فريسة في أيدي الحزن يمزق أحشاءه، ويريق دموعه، حتى يمن الله عليه بالسلو مرة ثانية فيتماسك ويتجلد، إلى حين محدود. . .!
وكنت أسائل نفسي حين أقف موقف الملتاع بين الكارثة والكارثة، أأنا محق في هذه اللوعة التي أكابد غصصها، وأعاني برحها، أم أن الداء يخونني في موقفي فأظل كاسف البال شارد اللب. ومهما تذرعت بالمنطق والحكمة، فلن أجد الجواب الحاسم لهذا السؤل المعجز. ومن لي به، والموت في حقيقة أمره باب موصد محكم تعلوه أقفال غلاظ شداد فلا يمكن لإنسان أن يعرف ما وراءه مهما أجهد الفكر وواصل التنقيب.
ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان من جرائه، فلو أدرك المرء أمره، وما يعقبه من خطوات مستترة خافية، لا تنتهي إلى نتيجة معينة، ووقف عند حد لا يقبل التجاوز ووطد العزم على قبوله راضيا أو كارها، وهنا تتبدد الحيرة وينتهي التساؤل، ولكن ذلك لن يكون، فالباب موصد، تعلوه الأقفال، ولن يزال ما وراءه خافيا عن الإفهام. . . وهذه الحيرة التي تكتنف كل مفكر في مصيره، متأمل في عقباه، لن يخلو منها إنسان رزق نصيبا من المعرفة. سوء أكان مؤمنا عميق اليقين بما لديه من نصوص أم شاكا يتقلب على جمر الريب والظن. فالإيمان بالله واليوم الآخر لا يحل المشكلة بحال، لأن الذي يعتقد البعث والنشور، يتساءل عما قبل البعث من خطوات فلا يظفر بجواب. وقد يجد أقوالا متفرقة هنا وهناك فلا يلمس فيها النجاة والراحة، بل ربما ضاعفت شكوكه، وأثارت كوامنه. ولقد كان مالك بن دينار رضي الله عنه راسخ اليقين قوي الإيمان، ومات له أخ(926/11)
شقيق فجزع عليه جزعا شديدا، وقال لمن واساه: (والله لن أرتاح حتى أعلم ما هو عليه بعد الموت، ولن أعلم ما هو عليه حتى أصير إليه) فكأنه لا راحة له طيلة الحياة!
والإنسان إذا استبدت به الحيرة، ودفعته إلى التفكير في أمر مبهم غامض، لا يزال ينتقل من رأي إلى رأي ومن مذهب إلى مذهب، حتى إذا اطمأن إلى معتقد راسخ عاودته الشكوك فتركه إلى سواه. وهذا سر التشعب فيما قيل عن حقيقة الموت وما يليه من خطوات. ومن المسلم به أن كثيرا من الناس قد فكروا في مصايرهم، وخرجوا بنتائج تقترب وتبتعد، وتتفرع وتتجمع، ومنها ما يقف من الآخر موقف المناقض المباين، وأنت تجد بين هؤلاء من يحذر الموت ويخشاه وينظر إلى يومه المحتوم خائفا مذعورا، كما تجد بينهم من ينشد الموت، بل ربما ركض إليه واثبا، فأشاح عنه وتعذر عليه، ولكل من الفريقين دليله المستمد من ظروف معيشته، وواقع حياته - في الغالب - وقد يكون من الأوفق أن نسأل من يحذرون الموت لم يحذرون؟ كما نسأل من ينشدون الموت لم ينشدون؟ ولكل وجهة هو موليها، فبأي منطق يجيب.
لقد كان للفكرة القاتمة التي يأخذها الطفل عن الموت منذ نشأته أثر بغيض يعكس على نفسه شتى الصور الرهيبة، ويزيل من مشاعره معاني الاطمئنان والأمن، فهو في - سنيه الأولى - يسمع الصراخ الفاجع، ويرى الدموع المتقاطرة من أقاربه وذويه، فيسأل عن سر هذا الفزع، فتطرق سمعه لأول مرة كلمت الموت ممزوجة بالنشيج والبكاء، فيبكي هو الآخر متأثرا بما يرى ويسمع، ويتوالى الحمام كعادته بين الناس، فيعيد إلى الطفل ما عرفه من البكاء والنحيب، فيعلم أن الموت كارثة فادحة، ومصيبة حارة، ويتغلغل هذا الأمر في إدراكه ووجدانه، فيشب كارها للموت قبل أن يدرك حقيقته، وقد دأبنا أن نلقن الطفل في مختلف أدواره التعليمية أنباء قاسية عن ملك الموت وما تعانيه لدى انفصالها النهائي من هم وتبربح، فيتعاظمه الأمر، ويتخيل نفسه وقد أحيط بهذه الكوارث فلا يجد مفرجا من ضيق. هذا إلى الأساطير الخيالية التي تتحول في بعض الأذهان عقائد ثابتة، فترسم للذهن الزبانية والمقامع النارية في صور رهيبة حالكة، فلا يسعه إلا الفزع من الموت، ذلك الغول الرهيب الذي ينقل الناس فجأة من الجنة إلى النار. ولو أننا أعطينا للطفل صورة مقبولة عن الموت، وبعدنا بينه وبين من يحتضرون، فلا يشاهد ما يعانيه المريض في مرحلته(926/12)
الخيرة من آلام وتبريح، لهان الأمر علي بعض الشيء، ونظر إلى الموت - فيما بعد - كأمر تنتهي إليه الكائنات، ولكن متى يكون ذلك!
وليست ملابسات الموت وحدها السبب في خوف الإنسان وفزعه من القدر المحتوم، بل يضاف إليها أشياء وأشياء، فكل إنسان مهما تجنب الرذيلة، وآثر الفضيلة، لا بد متعرض في بعض مراحل حياته إلى ما يغضب ربه من الآثام، والضمير رقيب يقض غير نائم فيظل يذكر المرء بما اقترفه، وإن كرت الأيام عليه، فإذا تصور الإنسان وقد حان حينه، ودقت ساعته الآزفة مع أنه قد أسلف ما أسلف من ذنوب سيحاسب عليها حسابا منصفا تأكد من العقاب العادل، وعجز عن حمل التبعة الثقيلة، ومن ثم فهو يبغض الباب القاتم الذي يدفعه إلى الجزاء والحساب، وينظر إلى موعده المحتوم نظرة الخائف المتفزع. ونحن وأن كنا نطمع في عفو الله، ونأمل في الصفح والغفران، لا بد من صور معقولة لهذا اليوم تصد النفس الأمارة بالسوء، على أن نتخيل بجانبها صور بهيجة ذات مفاتن وأضواء لمن يعتصم بالأدب والأخلاق، وهنا يكون الموت غير مخوف إن آلم بذوي المروءة والدين، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقائه كما قيل.
ولن ننسى في هذا المقام ما يبعثه القبر المظلم الضيق في النفوس من رهب وإيحاش، فكثير من الناس تتفتت أكبادهم حسرة حين يتصورون أجسامهم في حفرة دامسة خانقة لا يقر بها النور والهواء، وكأني بهؤلاء الجازعين وقد وهموا أن إحساسهم سيصحبهم في هذه الغياهب الحالكة، فيشعرون بما يشعر به الحي حين يوضع في صندوق مقفل خانق، ولو كان الأمر كذلك حقيقة، لجل الصبر، وعظم الخطب، ولكن أما يتناقص الجسم يوما بعد يوم؟ أما ترتع فيه الديدان والهوام أسوأ مرتع في محبسه الرهيب؟ أما يمر علي يوم ينعدم فيه ويتلاشى وتتحول بقاياه إلى ذرات؟ أين إذن يكون الألم والإحساس؟ وإذا سلمنا منطقيا أن الجسم لا يألم بعد وفاته وانعدامه، فلم لا يندرج عليه هذا الحكم حين ترتع به الديدان والهوام وهو سجين حبيس! ولم نخاف الظلمة والضيق والهامد الراقد لا يشعر بها بحال؛ ذلك نوع من الخيال!؟
لقد سطر كثير من الكتاب صحائف مفزعة عن القبر وما يتراكم فيه من ظلمات وأهوال، فتركوا أسوأ الأثر في نفوس ونغصوا على الناس حياتهم ومعاشهم شر تنغيص. وهل كان(926/13)
الحمام محتاجا إلى ما يريدونه من الإرهاب والتخويف، فجاءوا يضيفون إلى أهواله الحقيقية والمتوهمة أكداسا فوق أكداس!
هذه بعض الهواجس التي يرددها الخائفون الوجلون، وقد حاولنا أن ننقذها بعض الشيء مما يغمرها من المبالغة والتهويل، ولن نتمادى معهم في مخاوفهم المتشبعة، فلدينا الفريق الآخر الذي يرحب بالموت ويرسل في تمجيده الشوارد السائرة، وأنت تجيل طرفك فيما سطره هؤلاء فتجد سيلا جارفا من الحكم والأمثال قد سيق سوقا في هذا المضمار، فمثلا قائل (مقابر من ماتوا منازل راحة) (إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض. .) ومن قائل (ضجعت الموت رقدت يستريح الجسم فيه). . (فيما موت زر إن الحياة ذميمة) ومن قائل (وقفت حين تركت الأم دار)، (خضم الحياة بعيد النجاة) وقد فاقهم جميعا من يقول في رثاء صديق:
كذبتك لم أجزع عليك وقد رمى ... فؤادك من نيل الحمام ظلوم
تمر الليالي لا نحس صروفها ... فيما ليتني في الهالكين مقيم
تجوت من الدنيا نجاة نفسها ... عليك ولو أن الفراق أليم
ولم أر مثل العيش أزهاره الردى ... ولا عاصفا كالموت وهو نسيم
فهل عان على هؤلاء طعم الحياة كما يقولون، وهل يحنون إلى التراب حنينا خالصا بريئا؟ وماذا أعجبهم في المستقبل المجهول وهو ملئ بالغرائب والشكوك؟
وجه هذه الأسئلة إلى من يصبون اللعنات على الحياة، ووجه هذه الأسئلة إلى من يرحبون بالانتحار؟ فلن تظفر من هؤلاء بكلمة صادقة في حب الموت، فهم غارقون إلى آذانهم في مخاوفه ومآسيه، ولكنهم يلمسون القسوة الصارمة من الحياة. فيتعرضون إلى الفشل المخجل والخسارة الفادحة، والناس لا يرحمونهم في شيء، بل يلوكون أحاديثهم، ويمضغون مآسيهم شامتين فرحين، ويدور الفاشل بعينه فلا يرى من يرمقه بالعطف، أو يلتمس له العذر في ذلة، وقد يتضاعف وهمه فيظن أن الناس جميعا يتندرون به في كل مجتمع وناد، فيضيق في وجهه العيش، وتسود في عينيه آفاق الحياة، ويفزع إلى مصرعه البغيض كارها مرغما، وهو يوطن نفسه على ما ينتظره من شدائد وأهوال.
أعرف ثريا موسرا رتع في بحبوحة النعمة والترف أمدا غير قصير ثم ضربه المرض(926/14)
بذات الجنب فكان يتقلب على سريره متأوها صارخا وقد حاول الأطباء أن يهدئوا من لوعته فما رجعوا عليه بطائل. وفي غفلة من أهله ألقى بنفسه من شرف عال، فلفظ بقية أنفاسه. وأعرف عشرات غيره من المعدمين البائسين بهظتهم الحياة بتكاليفها الضرورية، وتضورت بطون أطفالهم جوعا وحرمانا، فها لهم أن يقعد بهم العدم عن إسعاد أولادهم فخفوا إلى الموت مرغمين، وفي صدورهم مراجل من اللوعة تغلي وتحتدم حتى تنفجر انفجارا، يراه الناس انتحارا فجائيا، في الواقع بعيد الأمد عميق الجذور! فيا هؤلاء لا تقولوا إنكم تحبون الموت، ولكن قولوا إنكم لم تجدوا مفرا من الموت فسعيتم إليه فزعين غير مختارين!
ولكن مالنا نزيد الأمر هولا فوق هول، فنؤكد المخاوف، ونقلق النفوس، وأولي بنا أن نعمد إلى شيء من التهدئة، والتلطيف! الحق أن الفناء رهيب مهول، وأن من دافعوا عنه يلجئون إلى العقل وحده فيقنعونه تارة ويدفعهم تارات، أما العاطفة فقد أوصدت منافذها دونهم أي إيصاد، فما وصلوا إليها في قليل أو كثير، وأنت تقرأ لهؤلاء في تمجيد الموت والترحيب به أقوالا أخذت سمت المنطق في القياس والاستدلال، فلا تجد شيئا من قبولك الصريح وهيهات أن يكون ذاك، واسمع ما يقوله أحد فلاسفة الإسلام على سبيل المثال:
قال ابن مسكويه - ما فحواه - (والإنسان في أصح تعاريفه حيوان ناطق ميت، فبالموت يبلغ كماله ويصل إلى نضجه فلم يخاف إذن من الكمال؟ وكل ينشده ويبتغيه) فهل راقك هذا الكلام؟ قد يتحير عقلك بين الرفض والقبول، إن لم يرفضه بادئ ذي بدء دون نقاش، أما العاطفة فتأباه وتتحاشاه، والإنسان ليس عقلا فقط، ولكنه عقل ووجدان!
لقد مات سقراط وهو يتحدث عن الخلود مرحبا، وجاء بعده مئات من الفلاسفة والحكماء فشغلوا أنفسهم بما شغل به سقراط، فهل اقتنع بمنطقهم إنسان، وهل رغب أحد في الموت ليصل إلى الخلود والبقاء؟ لقد ذهب كلام الفلاسفة أدراج الرياح، وجاءت الأديان فأنقذت الملايين من البشر ومالت بهم إلى عقيدة ثابتة بددت شكوككهم، وأغثتهم من الحيرة والارتياب، حتى إن جاهليا بدائيا تقلقه وساوسه فيسعى إلى الجمع الحاشد بعكاظ فيوجه إليه هذا السؤال (ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا؟) وتمضي الأيام مديدة طويلة فلا يرجع من الراحلين عائد ينبئ بما شاهد، وأنى لغائب أن(926/15)
يعود، وقد قامت دونه الصفائح، وسجنته الأجداث!
ربى حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجانا وهن سكون
كفى الهجر أنا لم يضح لك أمرنا ... ولم يأتنا عما لديك يقين
(المنصورة)
محمد رجب البيومي(926/16)
أبطال اليهود
بين القرآن والعهد القديم
للأستاذ محمد خليفة التونسي
قبل عامين كتبت مقالا في هذه المجلة مقدما به إلى قرائها كتابا كان ظهوره في تلك الأيام عجيبا مريبا، وكان موضوعه (موسى) ومؤلفه عالما مصريا، وكان مما لاحظته وسجلته في مقالي عنه يومئذ ما نصه: (والمؤلف يسوق قصة موسى كما وردت في القرآن وقصته كما وردت في التوراة على أنهما متكاملتان، وهذا السياق يوقعنا في خطأ كبير. وهاأنذا أقرر - ولا أدري أحدا سبقني إلى قراري هذا - أن الصورة التي يتبينها القارئ في نصوص القرآن لموسى تختلف اختلافا كبيرا عن الصورة التي يتبينها له من تأمل نصوص التوراة، وأن الله في نظر موسى كما ذكر القرآن يختلف اختلافا كبيرا عن (يهوه) في نظر موسى كما ذكرت التوراة، فإن موسى المؤمن بالله الواحد غير موسى الذي اختص هو وقومه بعبادتهم (يهوه) مرة، و (الوهيم) - ومعناها الآلهة - مرة أخرى)، ثم بينت هناك بالإجمال صورة (يهوه) إله موسى كما تستخلص من نصوص التوراة.
وهذه الملاحظة لا تصدق على موسى والإله في نظره فحسب، بل تصدق على كل أبطال اليهود قبله وبعده ممن رسمت صورهم أو جوانب بارزة منها في القرآن والعهد القديم معا، ولو كانت الوقائع في كلا الكتابين متفقة أو كالمتفقة.
ولا خلل في هذه القاعدة إذا طبقت على أكبر هؤلاء الأبطال وهو إليهم أو على أصغرهم، ولا حاجة بنا إلى تغيير كثير أو قليل فيها إذا قارنا بين صورتي أي بطل عداه من الأنبياء والملوك والزعماء والعامة سواء أكانوا في الصالحين أم في الطالحين ومجمل النتيجة التي ننتهي إليها بعد عقد كل المقارنات يمكن حصره في هذه العبارة الوجيزة: صور هؤلاء الأبطال في القرآن (صور إسلامية) وصور في العهد القديم (صور يهودية).
وقد يشتد الخلاف بين صورة البطل هنا وصورته هناك حتى يبلغ حد التناكر. وتبرؤ كل صورة من الخرى، كاختلاف الضدين أو النقيضين. وقد يدهشنا بقاء هذه الحقيقة خافية - مع قربها ويسرها - حتى الآن.
فالكتابان كلاهما معروفان حق المعرفة للملايين منذ عهود سحيقة؛ ودرس الديان وكتبها(926/17)
دراسة مقارنة علم (قائم يدرسه علماء مشهود لهم بالتضلع والأستاذية) في كل جامعات العالم، وعلماء أمثالهم في غير الجامعات؛ ولكن دهشتنا عند النظرة الأولى خليقة أن تزول عند النظرة الثانية؛ إذ تتكاشف لنا أسباب خفاء هذه الحقيقة القريبة اليسيرة. فمن أسبابه أن القائمين بدراسة هذا العلم علماء غير أدباء، وهم ينظرون إلى موضوعاته نظرة علمية لا فنية. ومن أسبابه أن أكثرهم من صغار العلماء، والعالم الصغير في يده منهج، وفي وجهه عينان ينظران في اتجاه واحد، وليس يلزم نفسه ولا يلزمه أكثر الناس - حتى المثقفين - أن يكون له في رأسه عقل واسع يعي ما يرى، ولا أن يكون بين جوانبه قلب كبير يحس به، فهو إذن أحسن الفهرسة والتعداد والتنسيق - وهذا غاية وسعة - كان هذا حسبه في نظر نفسه وفي أنظار الناس، لأن المسألة عنده عملية حسابية تجمع فيها أجزاء إلى أخرى، أو تطرح منها، وليس بنية حية تعاشر وتؤلف كالأزواج والأقرباء والأصدقاء. ومن أسبابه أن أكثر القائمين به من اليهود وتلاميذهم الذين يسيرون على نهجهم المغرض العقيم.
فأما العلماء اليهود فمغرضون لأن همهم تبيين فضل الديانة اليهودية وأسفارها على ما تلاها من الديانات والفلسفات الدينية وكتبها وما إلى ذلك، أما ما تأثر الناس به منها؛ أو ما كان لها من آراء كالآراء التي كانت للنابغين قبلها وبعدها عند الأمم الأخرى. ومعلوم أن العهد القديم أقدم أسفار الديانات الكتابية وحصر البحث في الحيز الضيق، وتناول النظم بعد تفتيتها على النهج العلمي الجاف هما الكفيلان ببيان فضل اليهود ونبوغهم. وهذا على فرض أمانة هؤلاء العلماء في البحث وهذا الغرض قد يعذر اليهود بشأنه على ما فيه من مآخذ.
ولكن لهم غاية شر من هذه الغاية وهم يسيرون على هذا النحو المضلل، هي تشكيك المسيحيين والمسلمين_وهم أقوى مزاحمي اليهود_في الديانتين، فالعالم إذا تمكن من تفتيت الدين، وأعاد كل فتات إلى مصدر قلبه ولو لم يكن المصدر يهوديا_استطاع أن يمحق قداسة الدين في القلوب والعقول، وبخاصة عند المسلمين الذين يعتقدون أن القرآن وحي من الله أنزله على محمد فبلغه من غير أن تكون له مشاركة فيه، وهذا يخالف ما يعتقد المسيحيون في الوحي، إذ يرون أن كتاب الأناجيل هم كاتبوها بإلهام من الله وإشراف عليهم منه.
ونحن إذ نلاحظ ذلك غير غافلين عن أن هذا المنهج قد طبقي مجال أوسع مما أراد اليهود،(926/18)
فقد قام علماء من غير اليهود ومن اليهود أيضا بعقد مقارنات بين كثير مما جاء في العهد القديم ولا سيما التوراة وما جاء في الشرائع والعقائد السابقة له عند الأمم القديمة كالمصريين والبابليين والهنود وغيرهم فزعزعوا من مكانة العهد القديم ما زعزعوا، ولكن في أنظار غير اليهود، فأما اليهود فهم متمسكون بنصوص كتبهم المقدسة وحروفها ونقطها برغم كل نقد وهدم سواء في ذلك أحبارهم والملحدون الذين ينكرون الله والأديان فيهم. فحتى السلع التي يصنعها اليهود في نقد كتبهم إنما هي سلع للتصدير إلى غير اليهود لا للاستهلاك المحلي بينهم كما يقال بلغة التجارة، وهم يروجونها بكل مالهم من حول وحيلة، لأن ضررها واقع على غيرهم لا عليهم، وإنما مثلهم في ذلك مثل صناع المسكرات والمخدرات وتجارها الذين لا يعاقرونها.
وأما تلاميذهم من غير اليهود فمعظمهم ببغاوات (تبغبغ) بما تلقن دون فهم أو تصور، أو هم مورطون بأهواء تحول بينهم وبين الخارج على أساتذتهم، وأكرم هذه الأهواء أنهم أمام أساتذتهم كهان أوثان في عالم وثني أو شبه وثني يعترف لأوثانهم بالتقدير والإجلال عن جدارة أو عن غيرها. وليس مما يليق في (صناعة) الكهانة، ولا مما يغتفر أن يهون الكاهن من شأن وثنه أمام الناس صراحة أو رمزا، على حين أنه لا ينتظر منهم أن يحترموه إلا لسبب واحد هو أنه كاهن ذلك الوثن. فتقديره لوثنه تقدير لكهانته هو، ودفاعه عنه دفاع عن نفسه، فهو ملتزم شريعته أمام الناس؛ ولو كان هو به في أعماق سريرته أكفر الكافرين.
وهؤلاء التلاميذ على خير الوجوه علماء لا أدباء، وهمهم التحليل والتركيب، والمنهج التحليلي وحده لا يمكن أن يتأدى بنا إلا إلى ضلال.
ومن أسبابه أن من وراء هؤلاء وهؤلاء مستهلكين أو مروجين لا ناقدين ولا صناعا، وهذا على فرض أن هذه الموضوعات من همومهم، فكيف وليست هي كذلك ولو كانوا من الثقافة في أرفع مكان.
ومن أسبابه أن هذه الموضوعات تتناول مسائل الدين، وهي دقيقة شائكة، والتورط فيها غير مأمون العواقب، وأكثر الناس - ولا جناح عليهم - يؤثرون لأنفسهم السلامة والعافية، فلوفهم المهتمون بها شيئا منها، لآثروا - حبا للسلامة والعافية - أن يقتصروا منها على الفهم لأنفسهم أو مع خلصائهم غير ملومين، ويتوجسون خيفة أن يظهروها، وحسبهم بعد(926/19)
كل أنهم (فاهمون).
ومن أسبابه أن هذا العلم - أو هذا النمط من المعرفة الموكل بدراسة الموضوعات - علم حديث أو ضيق على رغم ذيوعه، والدراسة لم تتسع حتى تشمل كل موضوعاته ولا سيما على النهج الفني الذي نريده، وهو لم يظفر حتى اليوم بالأدباء والأكفاء الذين يستطيع الواحد منهم أن يحيد فيها علما وشعورا بموضوعه الذي يتصدى له، ويفقهه حق الفقه، ونحن مفرطون في الشطط والوهم إذا انتظرنا من أديب واحد أن يستوعب كل موضوعاته، فبحسب الأديب إتقان ما يتعرض له منها.
ولو أهم موضوعنا هذا أحدا من المسلمين قبل اليوم، وكان له أهلا لما عز عليه أن يناله لأنه قريب يسير، ولا تحفنا بكتاب ذي أجزاء عدة في هذا الموضوع الطريف.
وهذه هي أهم الأسباب التي يمكن أن تقال - إزالة لدهشة الجهل، وتعليلا لخفاء هذه الحقيقة - وهي أن صور أبطال اليهود في القرآن (صور إسلامية) وصورهم في العهد القديم (صور يهودية) والخلاف بين صورتي كل بطل منهم خلاف واسع، قد يصل إلى حد التناكر والتبرؤ، كما يختلف العدوان اللدودان. وأهم ظاهره في هذا الخلاف هو عصمة هؤلاء الأبطال في القرآن عما لا يليق بهم، وعدم عصمتهم في العهد القديم عن ذلك، وهذا باب واسع، والطريق من ورائه طويل كثير العقبات، والسير فيه محفوف بالأخطار، ومجمل ما يقال إتماما للبيان أن الديانتين الإسلام واليهودية - مع اتفاقهما في النظر إلى كثير من الأعمال والحكم عليها حكما واحدا - مختلفان أبعد الاختلاف في النظر إلى أعمال أكثر منها، وفي الحكم عليها، فمن الأعمال ما تعده اليهودية فرضا لازما، ويعده الإسلام محرما كل التحريم، فتحديد ما يليق وما لا يليق عمل شاق كل المشقة وإن يكن ممكنا يسيرا. ومرجع ذلك إلى أن اليهود فوجئوا بديانتهم قبل أن يتمدنوا ويأتلفوا مع غيرهم، ويحسوا بالإخاء لهم، وتمت ديانتهم وهم قبيلة بدوية تضرب في آفاق شرقا وغربا، فتداس من القبائل التي هي أقوى منها، وتستبعد من الأمم التي تتصل بها، وبقيت هذه الديانة راسخة متماسكة حتى الآن في القبيلة لأسباب يطول شرحها، فهي لا تحس بواجب عليها نحو غيرها من البشر، لأنها عندما تكونت ديانتها كانت في حالة حرب مع كل الناس ومع الطبيعة نفسها وإلههم نفسه لم يسلم من هذه العداوة رغم حرصهم على عبادته وحده، فهم لا(926/20)
يتفوهون باسمه مثلا، وهم يقسمون البشر. إلى يهود وهم الشعب المختار، وجويهيم من عداهم من البشر، ومعنى جويهيم الكفرة والوثنيون والأنجاس والحيوانات، وتترجم أحيانا في العربية كلمة الأمميين، وقد عثرت لها على لفظ قرآني ليته يشتهر ليغنينا في ترجمة إذ جاء في سورة آل عمران في بيان عدم اعتراف اليهود لغيرهم من الناس بأي حرمة (ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل) أي أنهم غير ملتزمين بأي شريعة في معاملة غيرهم، فلهم قتل غير اليهودي وسرقت ماله وانتهاك عرضه، ولا جناح عليهم في ذلك عند إلههم (يهوه) كما كانوا يعتقدون، وكما لا يزالون يعتقدون إلى اليوم فالأمر إنكار كل حرمة، لا الاعتراف بها والتعدي عليها.
واعتذر عن سلسلة هذه الحقائق الكثيرة كلها في هذا الإيجاز الذي قد يجعل بعضها غامضا، فأكثر هذه الحقائق رءوس موضوعات، أو قواعد في حاجة إلى مثال بل أمثلة، وكل واحدة منها لا يجليها إلا مقال كامل، وقد أشرت إشارة قصيرة إلى المنهج الأدبي الذي أراه أنسب المناهج لدراسة هؤلاء الأبطال وعقد المقارنات بين صورة كل بطل في القرآن وصورته في العهد القديم وأعني به فن التراجم، فالمنهج الذي يغني هنا هو المنهج البيوجرافي الذي يهتم برسم الصور لا سرد السير، وإبراز (التركيبة) حية كاملة كما فعل بلوتارك في كتابه (العظماء) والعقاد في (عبقرياته) دون الاستغراق في الأجزاء التي تتركب منها (التركيبة) على طريقة العلماء المحققين من المؤرخين، ولو استوعبت كل جزء.
ولن يفوتني أن أهدي هذا المفتاح المتواضع لمن يتقدم إلى فتح باب هذا الموضوع الطريف، ولن أعفي نفسي من استعماله مرات في مقالات ستأتي إن شاء الله وعذري في إيجاز المقال ضيق المجال.
محمد خليفة التونسي(926/21)
نبضات الحياة في الشعر الجاهلي
للأستاذ حمدي الحسيني
كان للعرب في جاهليتهم حصن من جزيرتهم حفظها الله وحماها، وسور من حدود هذه الجزيرة المباركة. عاشوا في هذا الحصن الممنع كراما أعزاء، أحرارا مستقلين. لا يعلوهم سلطان ولا يخضعون لمن يحاول الاستبداد بهم، فظلت نفوسهم مطلقة على طبيعتها، وغرائزهم مرسلة على فطرتها. فجاء أدبهم مرآة لهذه النفوس وصورة لهذه السجايا. قوة في المعنى مع سذاجة، ورصانة اللفظ مع بساطة. يقذف إليك العربي الحر المستقل العزيز الكريم بقطعة من الشعر فتجد نفسه مجلوة في هذه القطعة، كما يجلي وجه الحسناء في المرآة المصقولة، فتشرق عليك بقوتها وبساطتها إشراقة الشمس، لا يشوبها ضعف ولا يشوهها استسلام.
وهل يمكن أن ترى للضعف ضلا فيما يصوره ذلك العربي من صورة نفسه في أدبه وهو لم يضعف أمام ظالم ولم يخضع لطاغية غاشم.
هذا امرؤ القيس الذي كان مغموسا في ملذات الشباب مدفوعا في تيار الملاهي والمسرات، يقتل أبوه الملك، فينعاه إليه الناعي فلا تضطرب نفسه ولا يجيش فؤاده، بل ينهض للأمر العظيم وقد نسلى ملذات الشباب وملاهيه، يأخذ بثأر الملك القتيل ويسترجع صولجان الملك الضائع. هدف عظيم يثير في هذه النفس العظيمة قوة العراك والمغالبة، فيندفع هذا المغيظ المحنق، المفجوع بأبيه وملكه، بكل ما في نفسه من شدة وعنف وصرامة، يكافح الصعوبات التي كانت تقف في سبيله شامخة مستعلية، ويقاوم العقبات التي كانت تعترض طريقه متجبرة متكبرة
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ظل يحاول تذليل الصعوبات وهدفه العظيم يثير في نفسه القوة والثقة بالنفس ويحاول إخضاع العقبات وغايته السامية تبعث في روحه الأمل في النصر.
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا(926/22)
ظل يحاول حتى خر صريعا فمات معذورا مشكورا.
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
ألا ترى هذا البيت الذي يكاد يقفز عن صفحة الكتاب، فتى مملوء النفس بالقوة وحماسة الفتوة، ويده على مقبض سيفه يلتف يمنة ويسرة ليرى القوم الذين كربهم الكرب ودهمهم الخطب، ليدعوه فيأخذ بناصرهم ويريد عنهم الكرب الذي دهم، والخطب الذي اقتحم. وأية فضيلة في قائمة فضائل البشر أعلى قيمة في التلبية التي لباها طرفه؟ وأي خلق إنساني أمتن من هذه السرعة في البادرة لنصرف المستنصر وغياث المستغيث؟
وإن أدع للجلي أكن من حماتها ... وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم ... بكأس حياض الموت قبل الّهدد
ثم ألا تنتظر إلى هذين البيتين الذين يصوران لك نفسا قوية ولكنها متسامحة، والتسامح ضرب من القوة أيضا. هذه نفس طرفة الذي خاصمه ابن عمه وعاداه ولم يترك في معاداته طريقا إلا سلكها، ولكن طرفة ينسى كل هذه المعاداة ويتسامح مع ابن عمه، ولا يقف عند حد التسامح السلبي بل يعدوه إلى المناصرة بالسيف إذا اعتدى على ابن عمه المعتدون. والويل كل الويل لهؤلاء المعتدين إذا قذفوا عرض ابن عمه الذي يعتبره عرضه، وهو في الحقيقة كذلك. وتراه يسوق كل هذه الفضائل نحو ابن عمه على متن هذه الكاف الخطابية التي جعلها بهذه العواطف النبيلة تشع نورا وجمالا.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ألست ترى الحياة كلها محمولة على يدي هذا البيت من الشعر الذي تركه زهير ميراثا للعلم والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. وهل الحياة غير هذا القتال المسلح ذودا عن موارد الحياة ومناهلها؟ وإذا أنت لم تحمل السلاح ولم تقاتل ولم تدفع هذه الأيدي المتطاولة إلى وطنك فماذا يكون المصير؟ أليس مصيرك أن تقع في أيدي الظلم والاستبعاد؟ وهل تستقر نفسك على هذا المصير؟ إذا كان لا بد من الظلم في هذه الحياة فكن أنت الظالم لا المظلوم.
أنا إذا التقت المجامع لم يزل ... فينا لزاز عظيمة جشامها
خذ الثقة بالنفس والشعور بالقوة رغم كل ما يوهم الضعف والخور. فلبيد، يؤكد للناس أجمعين أن قومه لم يفقدوا قوتهم ولم يزايروا قدرتهم على القتال ولا يزال فيهم من بتجشم(926/23)
العظائم في الأيام التي تفوح فيها رائحة الموت شهية في سبيل المجد والفخار.
إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الذل فينا
إذا اطمأن الناس للظلم حرصا على طعامهم وشرابهم وراحت أجسامهم رأيت هؤلاء الناس أفرادا وجماعات تتلظى نفوسهم آلما من وقع الخسف، وتتحول هممهم قذائف من نار وحديد لدفع هذا الخسف الذي رضى به غيرهم من عبيد الشهوات. وهل هذا البيت الذي قذف به عمرو ابن كلثوم إلا القاعدة المثلى للتمرد على الظلم؟ وهل هو إلا الطريق الواضح للانقلابات السياسية والاجتماعية في تاريخ البشر.
اثني علي بما علمت فإنني ... سهل معاشرتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم
هذه القطعة من معلقة فارس بني عبس، تعطينا صورة جميلة لما انطوت عليه نفس الشاعر البطل من رقة مؤنسة، ولطف مغر بالمعاشرة يستوجب ثناء المحبين والعشراء، حتى يظلم. فإذا ظلم فهناك ننقلب الحال وتتبدل الأرض غير الأرض والسماء غير السماء. تنقلب الرجل الرقيق الهادي أسدا مزمجرا يقاتل دفاعا عن نفسه وذيادا عن حريته وكرامته. ويظل يقاتل حتى يدفع الظلم ويرد الأذى.
ما جزعنا عند العجاجة إذ ولوا ... شلالا وإذ تلظى الصلاء
فريقان من الأبطال يتساقيان كؤوس الموت شهيا في سبيل النصر العزيز، حتى لاح جبين النصر مشرقا لقوم اليشكري إذ ولى خصومهم فرارا من لظى الحرب المتقدة. وإنك لترى ابتسامة الإيمان بالنصر تلمع في صدر هذا البيت من الشعر كما كان الإيمان بالنصر يشرق في صدور أولئك الأبطال الذين فازوا بالنصر على أقرانهم في ذلك الموقف الذي ما كان فيه للشجاع غير النصر أو الموت.
حمدي الحسيني(926/24)
2 - فن القيادة
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
بقلم الأستاذ محمد أديب العامري
أما رسالة الزعيم فهي أن يوجه أعمال الآخرين. ومن المحتوم عليه أن يعلم إلى أي هدف يتجه بهم. وأعظم صفات الزعيم أهمية أن يكون ذا إرادة قوية يجب أن يعرف كيف يقر المبادئ ويتخذ المقررات وكيف يضطلع بمسئوليتها. ومن الطبيعي أن يحيط علما بالظروف وأن يزنها حق الوزن قيل أن يصل إلى أي رأي. فإذا أصدر أمره وجب أن يلتزم ذلك لا يحيد عنه إلا إذا قامت في وجهه عقبة لم ينتظرها أو لا يستطيع التغلب عليها. وليس يذهب بشجاعة الناس وإقدامهم شيء كالزعيم المتردد. وقد قال نابليون (إن الحزم سيد الأعمال).
ولكي يقر الزعيم رأيه يجب أن يكون ذا شجاعة أدبية عظيمة. وقد تكون قرارات الزعيم أحيانا شديدة الأذى له. ففي بداية الحرب العالمية الأولى اضطر (جوفر) أن يعزل عددا كبيرا من قواد الحرب الذين كانوا جميعا أصدقاءه. ويقع أحيانا أن تكون التضحية بالعدد القليل من الرجال سبيلا إلى اتجاه العدد الكبير. هذا ويستطيع الزعيم أن يكون شديد بل من الواجب أن يكون كذلك. على أنه ليس من حقه أن يكون سيئ النية أو فظا أو منتقما، كما أن من واجبه أن يعرض عن القيل والقال بل أن يمنع القيل والقال ما استطاع.
ومن الضروري أن يكون حوله عدد من المساعدين المخلصين الذين يستطيعون أن يعرفوا المسائل الثانوية. ويجب أن يعلو على الصفائر فلا يغرق في التفاصيل. ولكي ينفذ أوامره يضطلع بالعمل مساعدوه الذين اختارهم والذين يثق بهم كل الثقة. فهو يأذن لهم بالعمل بحرية ويكتفي بالإشراف، عن طريق التدقيق بين آونة وأخرى في صحة البيانات التي يدلون له بها. قيل للجنرال ليوتي: ما الذي تقوم به أنت؟ فقال (إني مهندس الأفكار العامة). إن القائد الخبير يعرف أنه لا يستطيع أن يدخل في تفاصيل ما يقوم به كل واحد من أعوانه. ويصح هذا بصورة خاصة في المسائل الاقتصادية، فهنا يجب أن يحصر نفسه في بيان الخطط العامة وفي التجديد في أن المصلحة الخاصة يجب أن تخضع للمصلحة العامة. وهو لا يعمد إلى خطة تصدم الملايين فتؤول إلى مقاومة الأكثرية منها. إن ضابط حركة(926/25)
السير ينظم هذه الحركة ولكن لا يعين لكل سيارة الطريق الذي يجب أن تنساب فيها.
إن رئيس عمل من الأعمال يجب أن يبعث الاحترام في نفوس الذين يعملون معه، فإذا عجز عن ذلك تسربت إليهم الشكوك وأخذوا يتآمرون. وليس هناك إلا طريق واحد لكسب الاحترام، وهو أن يكون المرء جديرا به. والقائد العظيم شخصية عظيمة كذلك فإنه غير متحيز وغير ذي مصلحة خاصة. ولعل (بلدوين) و (بوانكريه) كانا قليلي الذكاء، بل كان بلدوين ويعترف بذلك. ولكن كلا منهما كان رجل مبادئ وأمانة مالية لا يتطرق إليها شك. وقد أوصى بلدوين بجزء من ثروته للأمة، وما كان بوانكريه يستفيد قط من موظفي الحكومة لقضاء حاجاته الخاصة. وكان كلاهما يتمتع بصفات الاستقامة التي يحتاج إليها مدير المصنع أو يتطلبها أب في ابنته. وأضفت هذه الخصال البسيطة عليهما قوة عظيمة. ولقد تختلف معهما في السياسة أو تتفق، ولكن خصومهما لم يجدوا غضاضة في أن يتبوأ الحكم. ومما يزيد الحاكم المطلق قوة اقتصاده وفي النفقات وعدم انصياعه للفساد في عمله.
ويجب أن لا تكون للقائد إلا عاطفة واحدة هي عاطفته نحو عمله ومهنته. كما يجب أن يكون متحفظا، حتى إلى درجة إضفاء غلالة من الشك حول نفسه. إن الرجل في رواية (كبلنغ) التي عنوانها (الإنسان الذي يكون ملكا) كان مغامرا استطاع بقوة أخلاقه وحدها أن يسود عدة قبائل جبلية وأن يصبح زعيمها. ولكنه خسر مركزه وعرشه عندما ضعف إلى حد الوقوع في شرك فتاة من شعبه، فأذن لها أن ترى أنه كان رجلا عاديا وحسب. ولقد قال نابليون (ما أكثر الرجال الذين يقعون فريسة المشاكل من جراء ضعفهم أمام امرأة).
وهنا يجب أن نتحدث عن زوجة الزعيم، فإن عليها وظيفة صعبة تؤديها. إنها يجب أن تدافع عنه تجاه العالم كله وأن تحميه من التعب الذي يرهقه دون جدوى. وأن تتحاشى ما يؤذيه، وأن نجعل من بيتها مستقرا هادئا، لا أن نخلق له إمبراطورية أخرى يحكمها، فهذه إمبراطورية يصعب عليه حكمها أكثر من أي شيء آخر.
وقد وقع أثناء مناقشة في الصفات الضرورية للرجل السياسي بمحضر من (وليم بت) أن ذكر أحد الحاضرين الجد، وذكر آخر النشاط، وذكر غير الفصاحة. أما (بت) فقد قال إن الصفة الضرورية لرئيس وزارة هي الصبر، ولقد أصاب. فإن الصبر ضروري لا لرئيس وزارة فقط، ولكن لجميع الذين تلقى إليهم مقاليد قيادة جماعة من البشر. إن الغباء عنصر(926/26)
بحسب الزعيم حسابه دائما في التعامل مع الناس. والقائد الحقيقي يتوقع أن يصادف هذا دائما، ويتهيأ للصبر عليه ما دام نوعا عاديا من الغباء، وهو يعلم أن أفكاره ستنضر، وأن أوامره ستنفذ في غير عناية، كما يعلم أن الحسد يقع بين مساعديه. إنه يدخل هذه الظاهرات كلها في حسابه، وبدل أن يحاول إيجاد رجال لا يخطئون (وهؤلاء غير موجودين) فإنه يجهد نفسه في الاستفادة من أحسن الرجال الذين يحيطون به ليستفيد منهم على علاتهم، لا كما يجب أن يكونوا.
وهناك نوع آخر من الصبر، وهو المثابرة. فإذا انتهى الزعيم إلى غرض وحققه فإنه لا يتصور أن أمور بلاده قد استقامت إلى الأبد، لأنه لا يستقيم شيء في هذا العالم استقامة لا مغير لها. ولقد قال نابليون (إن أشد اللحظات خطرا هي لحظات النصر) فالحديقة المنسقة تنمو فيها الإعشاب إذا ما أهملت بعض الوقت، والبلاد الغنية القوية لا تتعرض بضع سنوات لسوء النظام إلا سقطت في أيدي شر أبنائها وعدا عليها جيرانها. والزعيم يعرف أن جهوده لا تؤتي ثمرات باقية، وأن هذه الجهود يجب أن تتجدد كل صباح.
والحزام فضيلة أخرى لها ذات قيمة. ولقد قال (ريشليو) (إن الكتمان روح الأعمال الوطنية) وأضاع شارل الأول ملك إنكلترا عرشه لأنه أضاع الحزم. فسوء التدبير أوقعه في أن يطلع زوجته الفاتنة على خطة ينتويها إزاء عدد من نواب البرلمان، فأطلعت إحدى وصيفاتها الوثوقات على ما سيقع فلم تضع الوصيفة وقتا في أبطال هذا إلى بعض أصدقائها الذين سارعوا فأوصلوا الخبر إلى النواب المهددين. فلما حان الوقت لتنفيذ الخطة الواسعة، وجد الملك أن فريسته قد ولت وأن الناس يحملون السلاح ضده. والمغزى من ذلك أن لا تعلن شيئا إلا إذا كان ضروريا، وللرجل الذي يجب أن تعلن إليه الخبر، وفي الوقت المناسب لذلك فقط.
كتب (ديجول) (لاشيء يمكن للسلطة كالصمت) فالكلام يغمر الفكر ويفقد المرء شجاعته. إنه بالاختصار يضيع التركيز اللازم. ولن يكن إنسان في هدوء (بونابرت) ولقد اتبع الجيش الكبير خطواته. وكتب (فيني) (عرفت ضباطاً أشتملوا على الصمت، فلم يقولوا كلمة ألا إذا أصدروا أمرا). ولقد عرف (الرئيس كولدج) حق المعرفة أن الصمت ينفعه، فأتخذ هذه الصنعة مبدأ له في الوصول إلى أهدافه وفي تكوين فكرة خرافية عن نفسه.(926/27)
وكان (لويس الرابع عشر) ذا خلق رصين يبعث الخوف والاحترام في الناس، ويمنع حتى المقربين إليه ممن أعجب بهم من أن يتصرفوا معه بحرية حتى في الأمور الخاصة. ولا ريب أنه من الصعب جدا على زعيم أن يجد التوازن بين التحفظ والهدوء اللازمين له في عمله والحب المطلوب من إزاء الذين يعملون معه، ولكن مما لا ريب فيه أن هذه العقبة تزول بسهولة عندما يعمل الزعيم الحذر اللازم واللباقة المطلوبة من رجل خلق للقيام بأعباء الأعمال العظيمة مضاف إلى هذه الصفات شجاعة القائد وصحته، فإن الصحة الجيدة تزيد الزعيم قوة، وهذه تمكنه من الصبر والجد والإرادة الماضية. ومن الصفات التي كان يتمتع بها (المارشال جوفر) شهيته للطعام وقوته على النوم. وإلى هاتين الصفتين نعزو كسبنا لمعركة (المارن) لأن التوازن الصحي العضوي يشحذ قوي الدماغ (إن الهدوء هو أعظم الصفات التي يجب أن يتصف بها الرجل الذي قدر له أن يحكم) ويذكرنا هذا بما كان يصنعه (جاليني) بعد أن يصدر الأوامر في ساحة القتال، فإنه كان يتناول كتابا فيقرأ وكان (ليوتي) وهو ضابط صغير دهشا من هذا السلوك ولكن (جاليني) كان يجيبه (لقد قمت بكل ما أستطيع، والآن أنتظر ما يحدث، وفيما أنا أنتظر أستطيع التفكير في شيء آخر). ولقد كانت هذه طريقة حسنة لتهدئة خواطره، والتمكن من موقفه. إن الذين تثقلهم أعباء أعمالهم فلا يستطيعون أن ينحوا وساوسهم جانبا ليفكروا فيها بعد، إنما هم أناس لا قيمة لهم.
إن الأخلاق في الدرجة الأولى من الأهمية، لكن الذكاء لا بد منه على كل حال. ومن المستحسن أن يكون القائد واسع الاطلاع. وتزيد دراسة التاريخ والشعر من علمه بعواطف الناس. وإن الثقافة لترد المرء بين آونة وأخرى إلى الرصانة اللازمة، وهي تتيح له فرصا تطلعه على نماذج من النظام والوضوح في الأشياء. وإن قيادة جيش والنهوض بأمة لعمل فيه ولا ريب معنى فني. فالرجل الذي يكتسب حس الجمال مما يقرأ ويطالع يكون أكثر نجاحا في المهمة التي ينهض لها.
ولقد كتب (المارشال فوش) فقال إذا كانت قيمة الدراسات العلمية هي تدريب العقل على أدراك القوانين والأبعاد المادية فإن الأدب والفلسفة والتاريخ تولد الفكر القادر على فهم العالم الحي. وبهذا يشحذ الذكاء ويتسع أفقه ويظل دائم الحيوية والإنتاج عند التفكير في(926/28)
آفاق اللانهاية. وستزيد أحداث المستقبل حاجة الضابط في الحرب إلى استيعاب الثقافة العامة إضافة إلى اختصاصه الفني.
ومما لا جدال فيه أن المعرفة الفنية شيء ضروري. وعندما نشرت منذ زمن كتابي (حوار في القيادة) كتب إلي (المارشال فيول) كتابا جاء فيه:
إن الرجل يكون ضابطا قديرا إذا كان ذا أخلاق وكان مرهف الذوق، ذا اطلاع واسع عام، ولا يكون ذلك إلا بعد دراسة طويلة. ولا يعلم الناس إلى الآن علما كافيا أن كثيرين من القادة في الحرب الماضية كانوا أساتذة في الكلية العسكرية، فإنني أنا و (فوش) و (بيتان) وكثير غيرنا كنا أساتذة قبل أن نصير جنرالات، وكانت خبرتنا ناتجة عن التدريب العلمي الذي جرى في الكلية، وكان هذا التدريب قائما على دراسة التاريخ والتدريبات العلمية. وقد كنا ندرس الكتب المدرسية والتمرينات التحريرية في الشتاء، ونقوم بدراسة تطبيقية ومناورات عملية في الميادين في الصيف. ولك أن تتصور أن الرجل الذي حل مدة سنوات مشاكل مختلفة في الأساليب العسكرية لا يضطرب أي اضطراب في ساحة القتال. وإنك لن تعجز عن ابتداع حلول للمشاكل إذا كان التدريب واضحا وقائما على أصول منطقية فيجمع النواحي المادية والعقلية والأخلاقية لتؤدي جميعا غرضها بنسب صحيحة. ومما تجب عناية به أن لا تهمل صفة على حساب أختها فإنها جميعا ضرورية.
إن تفكير الزعيم يجب أن يكون بسيطا واضحا فأن العمل يصبح صعبا عندما يكون الدماغ محشوا بالخطط والنظريات المعقدة. والصناعة المنظمة تنظيما بالغا تفقد من المواد اللازمة لها بمقدار ما تستهلك صناعة لا نظام لها. (ولذلك كانت الصناعة القائمة على مشاريع صغيرة يديرها رجل واحد أحسن إنتاجا من الشركات الضخمة لأن تكاليفها أقل، وإنتاجها أعلى قيمة) فالزعيم يجب أن تكون آراؤه قليلة وبسيطة جدا، قائمة على الاختبار مؤيدة بالتجربة. وهذا البناء القائم على الخبرة سيكون ذا غناء كبير فيما ينفذ من أعمال لما ينطوي عليه من المعرفة الموثوقة.
ومن المحتم على الزعيم أن يستطيع الاستفادة من عقول الآخرين. قال (ريشليو) (يجب أن يتحدث المرء قليلا ويصغي كثيرا إذا أراد أن يحكم أمة حكما صحيحا) ولكن الإصغاء إنما يكون لرجال محدودين ذوي معارف صحيحة. ولا ريب أن الصمت صفة ممتازة، ولكن(926/29)
من الممتاز كذلك أن نحمل ذوي الكلام الفارغ على الصمت.
ومما يجب أن يتمتع به الزعيم أو القائد بديهة حاضرة. فان الوقت عامل كبير في جميع المهمات، والخطة غير الكاملة يطبقها صاحبها في الوقت المناسب أفضل من خطة كاملة تنفذ متأخرة عن موعدها. وتشتد أهمية الوقت أحيانا إلى حد يصبح له المقام الأول. فليس لوزير الطيران مثلا أن يقول. (ما هو الوقت الذي أستطيع أن أبني فيه خمسة آلاف طيارة بما عندي من الرجال والميزانية وبما سيصادفني من المشاكل الإدارية) ولكنه يقول: (إذا كان علي أن أبني خمسة آلاف طيارة قبل حلول الربيع فما هي الميزانية التي يجب أن ألح في طلبها؟ وما هو المجهود الذي يجب أن يقوم به الموظفون لإنهاء المشروع في الوقت المعين)؟ والبطء يمكن أحيانا أن يكون قتالا في جميع الأعمال. فالسرعة لازمة في عمل الملابس كما هي لازمة في الحرب وكما هي لازمة في إدارة بنك أو جريدة. والرئيس هنا يفكر بسرعة ويحيط نفسه برجال ينفذون بسرعة كذلك.
للكلام بقية
محمد أديب العامري(926/30)
كوريا
للأستاذ أبو الفتوح عطية
قبلة الطامعين وموطن الصراع بين المتنازعين ومقبرة المحاربين من كلا الفريقين. معركة بدأت ولكن لا تبدو لها نهاية. كلما آذنت شمسها بالأفول عادت إلى التجدد والاشتعال، وكلما صرع قوم من البشر جئ بآخرين فأكلتهم المدافع ولم تبق منهم ولم تذر!!
هنا في كوريا التقى الدب الروسي بالحمل التركي. لقد كان الدب شديد الهجوم على الحمل في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكان الناس ما يكادون ينتهون من سماع أنباء حرب بين الدب والحمل إلا عادوا إلى قصة أخرى وغارة أخرى فكان النزاع والصراع دائمين يتجددان في كل لحظة ويبدآن بين فترة وفترة. ثم خفت النزاع وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وعاد الشوق إلى الدب الروسي فأراد أن يرتشف من دم الحمل التركي وعز عليه اصطياده في الشرق الأوسط، ولكن الحمل ألقى بنفسه بين يدي الدب الروسي في كوريا فتلقاه الدب فرحا متهللا وهناك شرب الدب من دم الحمل وارتوى بعد أن طال به الظمأ!
قبلة الطامعين:
ولعلك تسألني ما قصة هذه الحرب وكيف بدأت؟ لقد تنفس الناس الصعداء منذ سنين خمس حين أفلت شمس الحرب العالمية الثانية وظنوا أنهم سينعمون بالسلام طويلا وبأن الرخاء سيعود إلى العالم من جديد بعد أن مزقته سيوف الحرب وقنابلها الذرية. ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق، فما يدري الناس أهم في حرب أم في سلم أم أنهم في هدنة قد تؤدي إلى الحرب، ذلك أنه للآن لم تعقد معاهدة للصلح كما جرى العرف عقب انتهاء كل حرب، وزاد الطين بلة أن حلفاء الأمس أصبحوا اليوم أعداء بعضهم لبعض. فقد وقف الروس بجانب الإنجليز والأمريكان للقضاء على طاغية القرن العشرين هتلر، فلما فرغوا من عدوهم تنازعوا أمرهم بينهم وانقسم العالم إلى كتلتين إحداهما شرقية والأخرى غربية لكل منهم مطامعها وأمانيها، واستيقظ الناس على دوي المدافع تؤذن بحرب جديدة وكان الميدان كوريا.
أين تقع:(926/31)
هنالك في أقصى شرق القارة الآسيوية تقع الجزائر اليابانية أو أرض الشمس المشرقة وفي مواجهة هذه الجزائر تقع شبه جزيرة كوريا وهي مفتاح القارة الآسيوية ولا تستطيع أية حكومة يابانية أن تطمئن على نفسها إلا إذا كان هذا المفتاح في يده أو في جيبها فإن من يملك كوريا يهدد اليابان.
وفضلا عن هذا الموقع الحربي الهام فإن كوريا تتمتع بثروة اقتصادية: زراعية ومعدنية عظيمة كانت اليابان في أشد الحاجة إليها، فهي تنتج كميات وافرة من الأرز والشعير وفول الصويا والتبغ والقطن كما تزرع أشجار التوت وتربي الماشية، وثروتها المعدنية عظيمة ففيها مناجم الذهب والحديد والفحم والجرافيت.
ومن أجل هذه العوامل مجتمعة تطلعت اليابان إلى الاستيلاء عليها مما أدى إلى قيام حروب أهمها: الحرب الصينية اليابانية والحرب الروسية اليابانية.
الحرب الصينية - اليابانية 1894
ظلت اليابان دولة متأخرة حتى إذا كان منتصف القرن التاسع عشر استيقظت من نومها فزعة على أصوات المدافع الأمريكية والإنجليزية لترى مدى تأخرها وضعفها، فهبت من رقادها وقامت تعمل على إدخال المدنية الحديثة في بلادها ولم تمض سنون طويلة حتى كانت اليابان دولة متحضرة قوية تقاتل بأسلحة الغرب وتنافسهم في ميداني العلم والصناعة.
هنا وجدت اليابان نفسها في حاجة إلى توسيع تجارتها وإيجاد أسواق لها ونافست سفنها وتجارتها الأوربيين في الأصقاع المجاورة لها؛ بل إن تجارتها لاقت رواجا أكثر من التجارة الأوربية والأمريكية.
على الشاطئ الآسيوي المقابل وجدت كوريا. كانت كوريا دولة مستقلة وقد سبق أن غزتها اليابان في القرن السادس عشر ولكن تمكن الكوريون بمساعدة الصينيين من طرد اليابانيين واستردت كوريا استقلالها وقد اتفقت الدولتان على تقسيمها إلى منطقتي نفوذ فظلت موضوع تنافس بين الدولتين.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر احتلت التجارة اليابانية في كوريا مكانة أثارت الحقد في نفس الصين مما أدى إلى قيام الحرب بينهما 1894. وفي هذه الحرب انتصرت اليابان لأنها كانت تقاتل بالأسلحة الحديثة بينما كان الصينيون من أشد أعداء المدينة(926/32)
الحديثة وأدواتها وآلاتها، وطرد الصينيون من كوريا وانتقل ميدان القتال إلى منشوريا واستولت اليابان على ميناء بورت آرثر.
استنجدت الصين بالدول ولكن هذه لم تنجدها فاضطرت الصين إلى عقد معاهدة شيمونسكي وفيها اعترفت الصين باستقلال كوريا ولكن هذا كان معناه انتقال كوريا إلى اليابان وسلمت الصين ميناء بورت آرثر وجزيرة فرموزا لليابان.
على أن الدول وخاصة روسيا لم تلبث أن تدخلت لمنع اليابان من وضع قدمها في القارة الآسيوية وكانت روسيا تطمع في هذه المنطقة فأنذرت اليابان بإخلائها. ولما كانت اليابان قد أرهقتها الحرب مع الصين. فقد اضطرت إلى قبول مطالب الدول وأخلت منشوريا وميناء بورت آرثر.
وهكذا انتهت هذه الحرب وحكم على الصين بغرامة مالية تدفعها لليابان. وقد احتاجت الصين إلى المال للوفاء بدينها فلم تجده إلا لدى روسيا.
الحرب الروسية اليابانية 1904
كان من نتائج مساعدة روسيا للصين أن ارتمت الصين في أحضانها وانتهزت الفرصة روسيا فعملت على نشر نفوذها في منشوريا وكوريا، ففي 1895 أنشئ بنك روسي صيني وسمح لقيصر روسيا بمد خط حديدي عبر أراضي الصين في منشوريا إلى فيلاديفوستك وسمح له أيضا بوضع جنود في منشوريا لحماية السكة الحديدية.
وفي 1898 استأجرت روسيا ميناء بورت آرثر لمدة 25 سنة وبدأ الروس يعملون على تحصينه وأنشئوا خطا حديديا إلى حزبين ليتصل بسكة حديد سيبيريا وهكذا تحقق حلم روسيا فأصبح لها على المحيط الهادي ميناء لا تتجمد مياهها شتاءا.
استاءت اليابان من احتلال روسيا لمنشوريا وبورت آرثر وهي مناطق كانت تطمع فيها ثم زاد الطين بلة أن روسيا أخذت تعمل على نشر نفوذها في كوريا فاحتجت اليابان.
أعلنت الروسيا أكثر من مرة عزمها على إخلاء منشوريا ولكنها لم تفعل وأعلنت روسيا احترامها لاستقلال كوريا ومع ذلك بدأت تتعدى عليها.
في صيف 1903 ضاق صدر اليابان فطلبت من روسيا إيضاح نواياها في منشوريا وكوريا فلجأت هذه إلى المماطلة والتسويف فاضطرت اليابان إلى إعلان الحرب في 5(926/33)
فبراير 1904.
كانت اليابان قد أعدت عدتها وهي قريبة من الميدان فحطم الأسطول الياباني الأسطول الروسي في بورت آرثر وكذلك هزم الأسطول الروسي في فلاديفوستك وأصبحت لليابان السيطرة البحرية في الشرق الأقصى.
ثم نزل اليابانيون إلى البر وتمكنوا من حصار بورت آرثر وطاردوا الروس إلى مكدن وفي أول يناير 1905 اضطرت بورت آرثر إلى التسليم.
وأقبل الشتاء فتحمل الروس خسائر فادحة، وفي 9 مارس 1905 سلمت مكدن وخسرت روسيا 40 ألف قتيل و100 ألف جريح.
وقد أبدى اليابانيون في هذه الحرب بسالة نادرة ودقة في النظام كانت مضرب الأمثال وأثارت إعجاب العالم عامة والشرقيين خاصة لأنهم كانوا يرون في انتصار اليابان انتصار لهم. وقد خلد شاعر النيل هذه الحرب في قصيدته التي مطلعها:
أساحة للحرب أن محشر؟ ... ومورد الموت أم الكوثر؟
وهذه جند أطاعوا هوى ... أربابهم أن نعم تنحر؟
قد أقسم البيض بصلباتهم ... لا يهجرون الموت أو ينصروا
وأقسم الصفر بأوثانهم ... لا يغمدون السيف أو يظفروا
فمادت الأرض بأوتادها ... حين التقى الأبيض والأصفر
وأثمنتها خمرة من دم ... يلهم بها الميكاد والقيصر
والبيض لا ترضى بخذلانها ... والصفر بعد اليوم لا تكسر
فما لتلك الحرب قد شمرت ... عن ساقها حتى قضى العسكر
ويختتمها قائلا:
تسوءنا الحرب وإن أصبحت ... تدعو رجال الشرق أن يفخروا
أتى على المشرق حين إذا ... ما ذكر الأحياء لا يذكر
ومر بالشرق زمان وما ... يمر بالبال ولا يخطر
حتى أعاد الصفر أيامه ... فانتصف الأسود والأسمر
فرحمة الله على أمة ... يروى لها التاريخ ما يؤثر(926/34)
وقد حاولت روسيا إنقاذ الموقف فأرسلت أسطولا من بحر البلطيق فوصل في مايو 1905 إلى مياه كوريا حيث حطمه اليابانيون بقيادة الجنرال توجو. وإلى هذا يشير حافظ بك إبراهيم بقوله
وذلك الأسطول ما خطبه ... حتى عراه الفزع الأكبر
ظن به طوجو فأهدى له ... تحية طوجو بها أخبر
تحية من واجد شيق ... أنفاسه من حرها تزفر
فهل درى القيصر في قصره ... ما تعلن الحرب وما تضمر
فكم قتيل بات فوق الثرى ... ينتابه الأظفور والمنسر
وكم جريح باسط كفه ... يدعو أخاه وهو لا يبصر
وكم أسير بات في أسره ... نفسه من حسرة تقطر
وأخيرا تدخلت الولايات المتحدة وطلبت فتح باب المفاوضة للصلح وأمضيت معاهدة بورتموث وبها:
(1) اعترفت روسيا بالنفوذ الياباني في كوريا واعترفت اليابان باستقلالها ولكن في 1907 أرغم إمبراطورها على اعتزال عرشه وضمت لليابان.
(2) قرر الفريقان إخلاء منشوريا وبورت آرثر ولكن تقرر أن تنتقل الحقوق التي نالتها روسيا إلى اليابان.
وهكذا انتهت الحرب.
الحرب الحالية:
ظلت اليابان في تقدمها وأخذ نفوذها يزداد ووقفت بجانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ولكن في الحرب الثانية غيرت خطتها ودخلت الحرب بجانب ألمانيا وإيطاليا وانتهى الأمر بهزيمتها وباحتلالها إذا احتلها الأمريكان 1945.
أما كوريا فقد قسمت إلى إقليمين كوريا الشمالية وهذه تدين بالشيوعية وتعتبر منطقة نفوذ روسي، وكوريا الجنوبية وهي تعتبر منطقة نفوذ أمريكية. حاول الشيوعيون ضم كوريا الجنوبية فلم توافق أمريكا واعتبرت هذه عدوانا عليها وهكذا تجددت المأساة؛ فالأمريكان في اليابان يرون الآن ما رأته اليابان منذ نصف قرن وأكثر من أن وجود كوريا في يد(926/35)
دولة معادية خطر عليهم ومن هنا قامت الحرب الحالية وهي ما تزال سجالا بين الفريقين.
أبو الفتوح عطية
مدرس أول العلوم الاجتماعية بمدرسة سمنود الثانية(926/36)
رسالة الشعر
الوطن المكبل
للأستاذ إبراهيم الوائلي
إلى الشعوب التي تتطلع إلى الحرية والاستقرار فيجرها
المستعمرون وأذنابهم إلى الهاوية وهي لا تستطيع الدفاع
تنقلي تنقلي على بساط المخمل
واستقبلي الربيع في موكبه المخضل
فنسمة عطرية من نسمات الشمأل
ونغمة حالمة من نغمات البلبل
وزهرة نافحة من زهر القرنفل
تنقلي على الربى وفي ضفاف الجدول
وانطلقي مع الصباح والضحى والطفل
في عالم مجنح يسمو على التخيل
من دوحة وارفة إلى غدير سلسل
لك الحقول فامرحي وزهرها فقبلي
وكل ينبوع جرى في السهل أوفى الجبل
لك الفضاء والمروج والجمال فاحفلي
ولى وهل في الكون شيء لا أقول: ذاك لي؟
لي الشعور ثائراً وهو سلاح الأعزل:
ولي كآبة الرجاء وانطفاء الأمل
تنقلي على (الفرات) فهو عذب المنهل
و (دجلة) اصدحي على ضفافها وهللي
لك العراق روضة يانعة لم تذبل
فحومي على (الخليج) واخفقي في (المعقل)(926/37)
وحلق في (بابل) إن شئت أو في (الموصل)
لك الرحيق فاشربي من صفوه المسلسل
وعللينا بالخيال من بقايا الوشل!
يا ضيفة الحقل الذي حف بمن لم يبخل
تنقلي ما شئت في أوطاننا واهتبلي. .
سوانح اللذة في مجالها المفضل
ولا تخاف حارسا فكلهم في شغل
في نهم ليس له من آخر وأول
تقاسموا بقية من فضلة لم تؤكل
مما تبقى منك يا (ضيفة) هذا المنزل
فهذه قصورهم مع الغيوم تعتلي
حافلة بكل ما نيل وما لم ينل
وهذه بطونهم تشكو من الترهل
مما ارتشوا أو نهموا من عالم (مغفل)
يا ضيفة الحقل وما سواك بالمدلل
ترنحي في وطن مشتت مضلل
وعششي وأفرخي فيه وما شئت افعلي
وسخري أذنابه لسحق رب المنجل
وغارس متشح بطمره المهلهل
وعامل كفنه نسج دخان المعمل
وخاضعين كم جثوا لصنم أو هيكل
يسوقهم سيدهم سوق النعام الهمل!
يا ضيفة الحقل اهتفي على الربى ورتلي
أغنية ساخرة بالوطن المغلل
واتخذي من جهله للنهب خير السبل(926/38)
فإنه في شغل عنك بداء معضل
بفرقة حزبية قامت على التكتل
و (نزعة) عابثة تسقيه مر الحنظل
ترن في أوصاله مثل رنين المعول
تثيرها سياسة مملوءة بالدغل
ويمتطيها نفر باسم الكتاب المنزل
من الألى ما احترقوا الدين لحل مشكل
كم حللت أهواؤهم ما ليس بالمحلل
وكم أذاعوا وافتروا على النبي المرسل
واتخذوا من دينه القيم شتى الحيل
لكي تعيش حفنة أكراشها لا تمتلي
من كل من لولا هوى مستعمر لم يصل
ولم ينل غير الذي ترمي ثقوب المنخل
لكنها سياسة ذات رتاج مقفل
إلا لمن يمدها منه بحبل موصل
وينحني في بابها انحناءة التسول
ليشتري منصبه بالوطن المكبل
بكل ما يملك من ماض ومن مستقبل
بالشعب. ما الشعب سوى قطيع ضأن مهمل!
ببائس بمعدم بثاكل بمعول
بساعة يصرفها في حكمه المزلزل
لله يا شعب الألى مدوا رواق الأزل
في بابل و (نينوى) وفي عهود الرسل
وفي تراث خالد كان رواء المجتلي
وأمة كم هدرت بصوتها المجلجل(926/39)
ما للفراتين يسيلان على تمهل؟
وفي الضفاف (شوكة) تحز كل مفصل
جاء بها في غفلة عهد الولاة الأول
فأوغلت ممتدة في القطر شر موغل
ولن تزال هكذا تصيب كل مقتل
ما بقيت (حثالة) في مأمن وموئل
تسود شعبا جائعا من الحفاة العزل!
فيالجرح ناغر في الشرق لم يندمل
وأمة حائرة من عيشها في مجهل
يحكمها من لم يكن منها ومن لم يسأل
فمن ظلام مدبر إلى ظلام مقبل
وفترة ضاق بها كل أديب أمثل
ولم تدع من أمل لشاعر مؤمل
أما لفجر باسم من رعشة في المقل؟
إبراهيم الوائلي(926/40)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأستاذ توفيق الحكيم:
صدر مرسوم ملكي بتعيين الأستاذ توفيق الحكيم مديرا لدار الكتب المصرية، وقد سرني ذلك، لأمرين:
الأول ما يدل عليه هذا الاختيار من حسن التفات الدولة إلى الكفايات الممتازة والانتفاع بها فيما يناسبها من الأعمال، فهو اختيار خالص ممحض لوجهته، وشخصية توفيق الحكيم إنما تقوم على ساقين متينتين من الأدب والفن، لم يستند إلى من يقدم، ولم يسر في ركابه، ولم يصطنع غير إنتاجه، فامتداد وعي الدولة إلى خلوته يدعو إلى الارتياح الذي شعر به الجميع إزاء هذا التعيين.
الأمر الثاني ما يرجى على يده في دار الكتب، وسيرى الأستاذ الحكيم في الدار نوعين من موظفيها جديرين بالالتفات، النوع الأول جماعة من (الأفندية) يحسنون (الهنكرة) ينقلون الكلام ويلفقونه ويوقعون بين الناس، ويتقربون بذلك إلى من بيده الأمر، متخذين وسائل الملق وحسن السمت وفرط الأدب. . . حتى لا ينقض أحدهم إلا الفرجون يمسح به. . . وهذه الفئة تسد الطريق في وجه النوع الثاني. لأنها تستقبل الفوائد فتلقفها، ولا يكاد يصل شيء إلى القابعين في محاريب العلم والعمل. . . وأقصد بهؤلاء - وهم النوع الثاني - أولئك العاملين في خدمة العلم والأدب في دار الكتب، وخاصة بالقسم الأدبي، وكثير منه مضت عليه عشرات السنين هناك وخرجت على يده نفائس الكتب وذخائر الأدب محققة منسقة أدق تحقيق وأجمل تنسيق، وهم مع ذلك مرزوءون في أرزاقهم، حتى انسدت نفوسهم من الإهمال وسوء التقدير.
وليست المسألة كلها متعلقة بأشخاص أولئك العاملين في خدمة العلم والأدب في دار الكتب، وبمن يعولون، إنما هي - إلى ذلك - مسألة العلم والأدب، مسألة العمل في إخراج الكتب، فقد كاد هذا الجهاز النافع الذي كان ناشطا في ذلك المضمار جادا في تنقية موارد الفكر - كاد هذا الجهاز يشل، لعدم إيلائه ما يستحق من عناية ورعاية. وقد جعل الناس منذ سنين يتساءلون عما جرى لدار الكتب. فأقعدها عن مواصلة إخراج أمهات الكتب ومراجع(926/41)
الأدب. وتبلغ الآذان بعض المعاذير من ظروف الحرب وغلاء الورق. . . ولكن ذلك قد طال حتى فقد ما يحمل على تصديقه. . . والداء كله في (سد النفس) وها قد صار الأمل كله مناطا بالحكيم. . .
الشعر في مجلة المصور:
في عدد الأسبوع الماضي من مجلة (المصور) جاء ذكر قصيدة (عندما يأتي المساء) في موضوع من موضوعاتها، فنسب المحرر هذه القصيدة إلى الأستاذ أحمد رامي، وهي من شعر الأستاذ محمود أبو الوفا، ومن أغاني فلم (يحيا الحب) للأستاذ محمد عبد الوهاب، وقد قالها أبو الوفا وغناها عبد الوهاب منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وسجلت في (أسطوانة) وكثيرا ما تذاع، ولم تتكرم الإذاعة مرة واحدة فتذكر اسم قائلها ولو على أسلوبها المعروف بمثل قولها (من كلمات فلان!) ثم جاء محرر المصور فرمى الرمية إلى رامي!
وفي عدد هذا الأسبوع من مجلة المصور أيضا (23 مارس سنة 1951) نشرت كلمة لسعادة عبد الرحمن حقي باشا وكيل وزارة الخارجية إلى جانب صورته بعنوان (أنا) قال سعادة الباشا في هذه الكلمة:
(وإذا سئلت الآن أن ألخص تجاربي في عبارة قصيرة جامعة لم أجد خيرا من البيتين الاثنين علقا بذاكرتي من أيام الصغر، وهما:
أحبب حبيبك هوناً ما ... عسى أن يكون بغيضك يوماً ما
وابغض بغيضك يوماً ما ... عسى أن يكون حبيبك يوماً ما
وهكذا كتب الكلام في صورة بيتين من الشعر، ولعل عذر الباشا أن الكلام علق بذاكرته منذ الصغر، فلو كان من محصوله في الكبر لتنبه إلى أنه نثر. . . أضف إلى ذلك أن (ما) في نهاية الفقرات تشبه القافية!
ذلك عذر الباشا. . . فما عذر المجلة ورئيس تحريرها الأستاذ الكبير فكري أباظة باشا الأديب الذي كان ينظم الشعر في صباه؟ أو ليس في دار الهلال مراجع أديب يعرف الكلام المنثور من الموزون، ويضبط الخطأ في ذلك إن جاز على محرر أو سكرتير تحرير؟
إنها سقطة أرجو أن تنبه عليها مجلة المصور لتلافي ما قد يستقر في أذهان قرائها الكثيرين من أن ذلك الكلام شعر.(926/42)
وبعد فيذكرني ذلك بالأعرابي الذي قام بخطب الناس ليحثهم على الجهاد فقال: أيها الناس، قال الله تعالى:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
صاحت الدجاجة صياح الديك
في يوم من الأسبوع الماضي حفلت قاعة فاروق الأول في نادي نقابة الصحفيين بجمهور كبير أكثره من السيدات والآنسات المطالبات بالحقوق السياسية للمرأة، وذلك لسماع محاضرة الدكتورة درية شفيق في (الثقافة الشعبية كوسيلة للنهضة النسوية) وهي إحدى المحاضرات العامة التي تنظمها الجامعة الشعبية.
تحدثت الدكتورة كثيرا جدا عن مساواة المرأة بالرجل وعن المعركة التي تخوضها المرأة لنيل الحقوق السياسية، وتحدثت قليلا جدا عن أثر الثقافة في النهضة النسوية وهو موضوع المحاضرة. . . فجاءت المحاضرة فرصة لمظاهرة من هذه المظاهرات التي قامت بها أخيرا الأحزاب النسوية في مصر، ولم تحقق شيئا مما يتطلبه الباحث عن ثقافة المرأة المصرية ممثلة في هؤلاء (الزعيمات) وكم أود أن تدلل المرأة العصرية على استحقاقها ما تطالب به بثقافة ممتازة وعمل مجيد.
والذي يهمني الآن من هذه المحاضرة هو ما سادها من اللحن الكثير والخطأ اللغوي الفاحش، حتى خيل أن (كان وإن) وأخواتهما - مثلا - يكدن هن أيضا ينهضن للمطالبة بحقوقهن في رفع المرفوع ونصب المنصوب. . . ويدعوني هذا إلى أن اقترح على الجامعة الشعبية إنشاء قسم خاص بها لتعليم أعضاء الأحزاب النسوية اللغة العربية باعتبارها عنصرا من الثقافة الشعبية.
وأريد أن أعدي عن كل ذلك إلى أمر آخر، أريد أن أغض عن جر المنصوب وفتح المضموم، وعن مثل قول المحاضرة (ماءة في الماءة) لأقف عند ظاهرة أخرى. . . كانت الدكتورة درية شفيق تعبر عن نفسها بالمذكر وترجع ضميره إلى النساء، فقد قالت: (هأنذا) وكانت تعبر عن تعليم الجامعة الشعبية النساء فتقول إنها تعلمهم وتهذبهم بدلا من تعلمهن وتهذبهن! وفشا ذلك كثيرا في المحاضرة حتى وصلت عداوه إلى الأستاذ علي الجمبلاطي المشرف على تنظيم محاضرات الجامعة الشعبية في تعقيبه على المحاضرة. . وتدرك(926/43)
مقدار هذا التأثير إذا علمت أن الأستاذ من رجال الأدب واللغة!
فهل كانت الدكتورة تفعل ذلك قصدا إلى المساواة في اللغة وإزالة الفوارق بين المذكر والمؤنث؟ وهل لنا أن نقول: صاحت الدجاجة صياح الديك.؟
درس في الجامعة الشعبية:
كان منتصف الساعة السابعة من مساء الأربعاء الماضي، موعدا معينا لندوة المكتبة بالجامعة الشعبية، وكان المقرر أن يتحدث في هذه الندوة الأستاذ أحمد الشرباصي عن كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب، ونشر ذلك في (الأهرام) وتوافد الجمهور لحضور الندوة، ولكن كان كل من يقبل ويقصد إلى قاعة المحاضرات يفاجأ بمحاضرة أخرى تلقى فيها حيث كان الدكتور محمد بلال يتحدث عن (رسالة النائب في المجتمع) ووقف الأستاذ الشرباصي ومن معه بالفناء كمن حكم عليهم بالإخلاء ولا يجدون مأوى. وأقبل الأستاذ سيد قطب، فانضم إلى الحائرين. وجاء بعض القائمين بالأمر هناك يعتذرون ويستمهلون. ولكن محاضرة النائب طالت، فأخرج الأستاذ سيد قطب الدعوة الموجهة إليه ووقع عليها بالأسف لعدم قدرة الجامعة الشعبية على تنظيم أوقات محاضراتها؛ وأعاد الدعوة - التي ليس لها مكان - إلى أصحابها، وانصرف. . .
وبقى الأستاذ الشرباصي حتى فرغ المحاضر في منتصف الثامنة، ودعي إلى القاعة وقدمه أحدهم إلى من تبقى من الجمهور على ظن أنه سيلقي محاضرته، ولكن الأستاذ وقف فقص على الحاضرين ما حدث، ثم روى الحديث الشريف (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) وقال: إن الأستاذ سيد قطب عرف قدر نفسه فانصرف، وأنا أيضا لا أرى من كرامتي أن تكون محاضرتي ذيلا لمحاضرة أخرى. . .
وسمعت واحدا من الجمهور يقول لزميله في منصرفهما:
لقد جئنا لسماع المحاضرة، ولكن سمعنا ما هو أوقع منها. .
- ليت كل من يخطئ في هذا البلد المسكين يجد من يلقي عليه مثل هذا الدرس!
جوائز المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية، في الأسبوع الماضي بقاعة الجمعية الجغرافية(926/44)
الملكية، بإعلان نتيجة المسابقات الأدبية لسنة 1950 - 1951. وقد بدأ الاحتفال بكلمة الأستاذ أحمد حسن الزيات التي نشرتها (الرسالة) في الأسبوع الماضي، وقد تضمنت رأيا في القديم والجديد وموازنة في ذلك بين الأدب العربي وغيره، وقدم الأستاذ الشعراء المجازين فوصف أشعارهم وعرف بهم. ثم تلاه الأستاذ إبراهيم مصطفى بك فألقى كلمته عن البحوث الأدبية، وقد بدأها بنبذة عن الدراسة اللغوية وتطورها، ثم عرف بالكتابين الفائزين، فقال إن كتاب (الفصحى في ثياب العامية) نظر فيما بين العامية والعربية من صلة وقربى في الألفاظ وفي وسائل الدلالة؛ وفي الكناية والتشبيه والاستعارة، وفي أساليب الاستفهام والتأكيد والذكر والحذف، وفيما يعتري الحروف من إبدال وتسهيل وإسكان وتحريك. وقال إن كتاب (الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي) يكشف عما يحيط بالعصر الجاهلي من الغموض والجهالة، وقد جعل المؤلف أساس العمل فيه سلاسل الأنساب المروية التي كان العرب يعتزون بها ولا يعدون العالم عالما حتى يكون بصيرا فيها، وعاد إلى أخبار الملوك المدونة وإلى الحوادث المؤرخة ليختبر نظريته ويؤيد نتائجها، وانتهى إلى أصل يعتمد عليه في تحقيق كل سلسلة من سلاسل النسب وفي تاريخ كل شاعر وزمن حياته.
وبعد ذلك أعلن الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي مراقب المجمع، نتيجة المسابقات مفصلة كما يلي:
1 - الشعر: منح الأستاذ كمال النجمي الجائزة الأولى وقدرها 200 جنيه عن ديوانه (الأنداء المحترقة) ومنح الأستاذ محمود محمد صادق 100 جنيه عن مجموعة شعره المقدمة للمسابقة، ومنح الأستاذ فريد عين شوكة 100 جنيه عن ديوانه (وحي الشباب)
2 - البحوث الأدبية واللغوية: منح الأستاذ سليمان محمد سليمان الجائزة الأولى وقدرها 200 جنيه عن بحث (العامية في ثياب الفصحى) ومنح الأستاذ عبد العزيز مزروع الأزهري 100 جنيه عن كتاب (الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي)
وكان قد قدم لهذه المسابقات عشرة دواوين، وأربعة بحوث، وست قصص لم يلف فيها ما هو جدير بالجائزة، وبحث عن ابن سينا لم يجز.
عباس خضر(926/45)
البريد الأدبي
إذن لقد استيقظ الشرق
دفعني لكتابة هذه الكلمة القصيرة ما نقلته إلينا محطات الإذاعة ووكالات الأنباء حول تأميم صناعة البترول في إيران. . . فلقد جمعني مجلس ضم خمسة أشخاص يمثل كل منهم جنسية ما. كان ذلك قبل الميعاد المحدد لإحدى المحاضرات في أحد المعاهد. . . خمسة أشخاص. سيدة أمريكية تبلغ من العمر الستين عاما وفتاة بولونية وسيدة فرنسية وشاب إيراني وآخر إنجليزي.
بدأ الحديث حول إضراب عمال (المترو والأتوبيس) في باريس وما الوسيلة التي حضر بها كل منا إلى المعهد؛ فمن قائل في إحدى سيارات الجيش التي خصصتها الحكومة لتنقلات السكان، ومن قائل أتيت راكبا قطار رقم 11 - على حسب تعبير الفرنسيين - وهو يعني بذلك قدميه، وكيف أنه قطع المسافة في ساعة ونصف نظرا لبعد مسكنه. . .
ثم انتقل الحديث إلى نظام العمل والتأمين الاجتماعي والصناعات المؤممة فتحدث كل من الحاضرين عن ذلك في بلده. ولما جاء دور الشاب الإيراني وذكر موافقة البرلمان الإيراني على مشروع تأميم صناعة البترول بإيران قالت له السيدة الفرنسية أليس للروس دخل في ذلك؟ فقال إن الحزب الشيوعي ضعيف في إيران وإنما حركة التأميم هي حركة تمثل رغبة الشعب الإيراني. . . فقالت السيدة الفرنسية ومصر تريد تأميم شركة قناة السويس؟ ولقد استمعت عن رغبة العراق في تأميم شركة البترول العراقية الإنجليزية. . . عند ذلك قالت السيدة الأمريكية (إذن لقد استيقظ الشرق) وهنا تنهد الشاب الإنجليزي - بحرقة أثارت انتباهنا جميعا والتفاتنا إليه - وقال: (مسكينة إنجلترا. . . كل هذا ضدنا. . .) فقلت له أرجو أن تسمح لي أن أقول لقد اشتغلت إنجلترا هذه الثروات وربحت منها كثيرا منذ زمن طويل. وأعتقد أن الوقت قد جاء ليستفيد أصحاب الثروة من ثروتهم.
ويأخذ أصحاب الحق حقهم. . فتنهد الإنجليزي مرة أخرى وصمت. . . وهنا أحسست إحساسا عميقا بأن سيطرة بريطانيا وجبروتها قد أخذ ينكمش ليتلاشى. . .
وعادت السيدة الفرنسية إلى الكلام قائلة لقد حملنا إلى الشرق أشياء كثيرة، أقول ذلك كأوربية لا كفرنسية فحسب؛ حملنا الثقافة ومبادئ الحرية وغير ذلك كثير. . .(926/47)
وهنا ثار الشاب الإيراني واحمر وجهه وقال لم تحملوا إلينا شيئا. . . فأسرعت قائلا لأتمم كلام زميلي الإيراني.
الحرية!! كلمة ناديتم بها ولكن للأسف لم نحسها نحن معشر الشرقيين إلا عبودية منكم لنا فكانت دعوتكم منطقا معكوسا. . . ولم يسمح لي (الجرس الكهربائي) أن أتم كلامي إيذانا ببدء المحاضرة وهبا قالت السيدة الفرنسية ونحن نتأهب للقيام لقد كانت الحضارة القديمة في مصر وفارس وهي اليوم في أوربا وربما عادت إلى الشرق مرة أخرى فتلك دورة الزمن! وعندئذ وجدتني أرتل قوله تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس. . .
(باريس)
سالم عزام
أعذب الشعر أكذبه!
أورد الأستاذ الأديب عبد القادر رشيد الناصري في مقاله الطريف (الدخان في الشعر) هذه الكلمة الموروثة (أعذب الشعر أكذبه) مستدلا بها على كذب المرحوم الشاعر معروف الرصافي حين يذم الخمر، وهو الذي كان لا تفارق الكأس شفتيه وكان كما قال أستاذنا الكبير الزيات: همه من الحياة شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال)!
وإيراد تلك الكلمة الموروثة على هذا الوجه في ذلك المقام تحريف لها عن معناها الأدبي الرفيع! ولقد أعجبني تحليل أستاذ العربية المرحوم مصطفى صادق الرافعي لها؛ إذ جاء في كتابه القيم وحي القلم جـ3 ما نصه:
(ولعلماء الأدب العربي كلمة ما أراهم فهموها على حقها، ولا نفذوا إلى سرها! قالوا: أعذب الشعر أكذبه؛ يعنون أن قوام الشعر المبالغة والخيال، ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك؛ وما وراء إلا الحقيقة رائعة بصدقها وجلالها! وفلسفة ذلك أن الطبيعة كلها على الحواس الإنسانية؛ وأن أبصارنا وأسماعنا وحواسنا هي عمل شعري في الحقيقة، إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه، ليكون شيئا في نفوسنا؛ فيؤثر فيها أثره جمالا وقبحا وما بينهما!
وما هي خمرة الشعر مثلا؟ هي رضاب الحبيبة؛ ولكن العاشق لو رأى هذا الرضاب تحت المجهر لرأى. . . لرأى مستنقعا صغيرا. . . ولو كان هذا المجهر أضعاف الأضعاف مما(926/48)
يجهر به لرأيت ذلك الرضاب يعج عجيبا بالهوام والحشرات التي لا تخفى بنفسها، ولكن أخفاها التدبير الإلهي بأن جعل رتبتها في الوجود وراء النظر الإنساني رحمة من الله بالناس! فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة، كما تعمل الحواس الحية بسر الحياة، ولهذا المعنى كان الشعراء النوابغ في كل مجتمع هم الحواس لهذا المجتمع)!
وللأستاذ الناصري أخلص الشكر، وأطيب التحيات.
محمود محمد بكر هلال
المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية القديمة للبنين
إلى الأستاذ كمال بسيوني
مقالك أيها الأديب عدوان على الشعر وإجحاف بالشعراء، فقد جعلت من سمة الذوق الحي، والفطرة المهذبة، لغة بدائية، النطق بها جمود، والاحتفاء بها تأخر. مع أن العقل المنطبق لا يقول بأسبقية الشعر وهو. مقيد بالوزن، منغم بالقافية على النثر وهو مطلق حر لا يعقله إسار. ولا شك أن الإنسان إذا أراد له الله أن يعلو على الحيوان باللسان كانت ألفاظه كالحب قبل أن ينتظمه العقد، وظل كذلك حتى ارتقى وتهذبت أحاسيسه، ورقت نفسه فزين قوله بالشعر. . . وبدهي أن هناك فرقا واسع الأبعاد بين البدائي وهو يحس بجسمه وأعصابه، والمتحضر وهو يشعر بقلبه وأعماقه. ولقد صدق شوقي حين قال. (أنتم الناس أيها الشعراء).
القاهرة
بركات(926/49)
القصص
ليلة في مقبرة
عن جي دي موباساق
بقلم الأستاذ رمزي مزيغيت
لقد أحببتها حب جنوني. . ولا تسلني لماذا يحب المرء، وهو إذا ما أحب تغيرت حاله وبات لا يرى من الناس إلا شخصا واحدا، ولا يختلج قلبه إلا برغبة واحدة، ولا تهمس شفتاه إلا اسما واحدا يتصاعد من أعماق الروح كما تتصاعد المياه من الينابيع. . اسما واحدا يردده العاشق على الدوام ويهمس به حيثما كان كالصلاة.
سأروي لك قصة حبنا، وما قصتنا إلا قصة الحب الخالدة التي لا تتغير أبدا الدهر. .
لقد قابلتها يوما وأحببتها. . هذا كل ما جرى. . ثم عشت معها حولا كاملا ذقت خلاله صفو الحياة وانطلقت بدنيا الحب ألحق بأجواء الغرام، أغرد في أنس وأسكن في أمن. . فكان لي من حبها دنيا جعلتني سعيدا خليا لا أبالي بمقامي أو مآلي. .
ثم ماتت. . كيف ماتت. . لست أدري. .!؟ كل ما أعلمه أنها عادت إلى البيت ذات ليلة ماطرة مبللة الثياب. وفي اليوم التالي انتابتها نوبة من السعال أخذت حدتها تشتد يوما بعد يوم. ومضى أسبوع على هذا الحال فلزمت الفراش. . أما ما حدث بعد ذلك فلا أذكر منه إلا أن الأطباء حضروا وفحصوا الداء ووصفوا الدواء، وجاءت بعض النسوة لرعايتها وتمريضها. . كانت يداها ملتهبتين وجبينها يشتعل نارا وعيناها لامعتين حزينتين، وكنت أحدثها وتحدثني. . أما ماذا كنت أقول وماذا كانت تجيب فلست أدري. . فقد نسيت كل شيء. . ولست أذكر سوى أنها ماتت، وسوى تلك الآهة الواهنة التي انفلتت من بين شفتيها ساعة انطلقت روحها إلى بارئها.
وحضر الكاهن وسمعته يقول لي. . (أهذه خليلتك؟) فخيل إلي أنه يسيء إليها وينتهك حرمة الموت فطردته شر طرد، وجاء غيره وكان وقورا طيبا، فراح يحدثني عنها بلطف واحتشام ومقلتاي تهرقان الدمع مدرارا. .
وجاء المشيعون، وأودعوها نعشها، وثبتوا غطاءه بالمسامير ثم حملت إلى المقبرة - مثواها(926/50)
الأخير - وواروها في جثوة ضيقة عميقة باردة. . وأذكر أني هربت، ورحت أعدو من شارع إلى شارع كمن به مس من الجنون، حتى بلغت البيت. . وفي اليوم التالي رحلت.
وقد عدت يوم أمس. . ولما دخلت غرفتها ورأيت أثاثها وكل ما خلفته وراءها مر بخاطري شريط متتابع الصور من الأمس الحبيب، فعاودتني الأحزان وعصرت قلبي عصرا، وشعرت برغبة ملحة في أن أقذف بنفسي من النافذة. .
ولم أستطيع البقاء بين تلك الأشياء وبين تلك الجدران التي كانت تحتويها، فقد كنت أشعر بأنفاسها مازالت عالقة بجو الغرفة. . فاختطفت قبعتي واندفعت هاربا. . وفي طريقي إلى الباب مررت بالمرآة الكبيرة القائمة في البهو - تلك المرآة التي وضعتها هي هنا لتتأمل فيها نفسها وتصلح من شأنها كلما أزمعت الخروج.
واقتربت من تلك المرآة التي طالما انعكست صورتها على صفحتها، وخيل إلي أنها مازالت هناك. . فانتابتني الرعدة وجرى في جسدي تيار بارد، وتعلقت عيناي بالمرآة - ذلك الزجاج المنبسط الفارغ الذي طالما احتواها وملكها بكليتها كما ملكتها يوما وملكتها عيناي. . وشعرت كأني أحب ذلك الزجاج الأملس فمددت يدي إليه فإذا هو بارد لا حياة فيه. . آه منك أيتها المرآة الفارغة الرهيبة! وآه من تلك الأحزان القاتلة التي تبعثينها في قلوب الرجال!
سعيد ذلك الرجل الذي يستطيع أن ينزع من قلبه كل ما احتواه ويسدل على أمسه سترا ويكفن ماضيه ويواريه حفرة نائية، يا إلهي لشد ما أتعذب.!
وخرجت من البيت دون ما شعور أو تفكير ورحت أضرب في شوارع المدينة على غير هدى، حتى وجدتني أتجه إلى المقبرة. . وهناك وجدت قبرها البسيط وعليه صليب أبيض من الرخام حفرت عليه هذه الكلمات: -
(أحبت وأحبت، ثم ماتت). . .
نعم ماتت، وهاهي هنا تحت الثرى وقد تعفنت وحالت إلى تراب. . يا لله. . وبكيت طويلا ورأسي مسند إلى قبرها. . ثم بدأ الظلام يرخي سدوله. واكتسحتني رغبة جنونية - رغبة العاشق اليائس - في أن أقضي آخر ليله بجانب قبرها. ولكني خشيت أن يبصر بي أحدهم، فما العمل.؟ ليس أمامي إلا الحيلة. . فرحت أتجول في مدينة الموتى وأتنقل من(926/51)
هنا إلى هناك. . ولشد ما بدت لي هذه المدينة صغيرة بالنسبة لمدينة الأحياء. . ولكن ساكنيها ولا شك أكثر عددا وعديدا. . ومع ذلك فهم يقنعون بهذه البيوت الوضيعة بينما نحنو الأحياء نطلب القصور العالية والشوارع الواسعة والمأكل الشهي والمشرب العذب، لنعود في النهاية إلى التراب وننظم إلى أجيال الموتى التي سبقتنا؛ ويطوينا المجهول وإياها بردائه.
وقادتني قدماي إلى طرف المقبرة حيث تقوم القبور القديمة المتآكلة الصلبان والتي حالت أجساد ساكنيها إلى تراب لا يلبث أن يصبح مهدا للمزيد من الأموات. . وكانت الأزهار في هذا الركن تقف على سيقانها سقيمة الحسن ذاوية البهجة.
ولا عجب، فأنها ترتوي من ماء الأبدان. . ولم يكن في هذا الجزء أحد من الأحياء، فتسلقت شجرة عتيقة واختبأت بين أغصانها، ومكثت هناك طويلا متعلق في جذع الشجرة كما يتعلق الغريق بحطام السفينة.
وأخيرا نفض الليل على المكان حالكات نقابه، فنزلت من مخبأي وأخذت أسير ببطء وحذر فوق تلك الأرض المليئة بالموتى. . وتجولت بين القبور دون أن أهتدي إلى قبرها. . فسرت باسطا ذراعي أمامي أتحسس طريقي، ولكني لم أعثر على قبرها. . وأعدت الكرة فلم أترك شيئا إلا ولمسته. . الصلبان والأحجار والأسوار الحديدية وأكاليل الزهر الاصطناعية وأكاليل الزهر الذابلة اليابسة، وقرأت أسماء أصحاب القبور بأطراف أصابعي، ولكن دون جدوى. . يالها من ليلة. . فقد كانت ليلة ضريرة النجم والقمر، ملأت قلبي رعبا وفزعا وأنا أتنقل في الممرات الضيقة بين القبور. ولم يكن هناك سوى قبور. قبور في كل مكان. . ومن ثمة جلست على واحد منها بعد أن نال مني التعب وتملكني اليأس. وكنت أسمع دقات قلبي بوضوح وأنا جالس هناك وحيدا مرتعدا. . ثم طرق أذني صوت آخر غامض انبعث من جوف الظلام أو باطن الأرض المزروعة بأجداث الموتى. . فتلفت حولي وأنا أكاد أختنق من الخوف والرعب. وفجأة شعرت أن السطح الرخامي الجالس فوقه قد أخذ يتحرك كأن يدا تدفعه. . فوثبت إلى قبر مجاور ونظرت إلى القبر الذي كنت جالسا عليه فرأيت الحجر يرتفع ومن تحته هيكل بشري يدفعه بظهر متقوس وبرغم الظلام الحالك فقد كنت أراه بوضوح، وقرأت على صليب قبره هذه الكلمات -(926/52)
(هنا يرقد جاك أوليفانت الذي توفى عن 51 عاما وكان محب لأسرته لطيفا شريفا، ومات في محبة الله.)
وقراء الهيكل أيضا ما كان مكتوب على قبره ثم انحني والتقط حجرا صغيرا مدببا وراح يمسح ما كتب عنه بكل عناية حتى طمسها جميعا، وأخذ ينظر إلى ما فعل من محجريه الأجوفين. . وبخط أشبه بما يكتبه الأطفال على الجدران بالطباشير راح يكتب بعظمة إصبعه هذه الكلمات (هنا يرقد جاك أوليفانت الذي مات عن 51 عاما، ولقد عجل بوفاة والده بسبب معاملته الفظة وطمعه في الحصول على الإرث. . وكان يعذب زوجته وأولاده ويخدع جيرانه ويسرق، وفي النهاية مات تعيسا شقيا)
وبعد أن فرغ الهيكل من كتابته أنتصب بعظامه يحدق فيما خطت يده، وعندما تحولت بنظري عنه شاهدت أن جميع القبور قد فتحت وانسلت منها هياكل ساكنيها وراح كل منهم يمسح ما كتب الأقارب والخلان على صليبه ويكتب مكانها بنفسه ما يعرف عن حقيقة نفسه. ولشد ما كانت دهشتي حين تبين لي أنهم كانوا جميعا كذابين منافقين، حاسدين أفاقين، معذبين لأزواجهم وخادعين لجيرانهم، سارقين، ارتكبوا كل منكر وشائن. . . كانوا جميعا الآباء الطيبون منهم والزوجات الوفيات والأبناء البررة والبنات العفيفات والتجار الأمناء، يكتبون على عتبات مثواهم لأبدي حقيقة أنفسهم المروعة تلك الحقيقة التي لم يكن أحد غيرهم يعرفها أو كان يعرفها ويتجاهلها عندما كانوا أحياء يرزقون.
وخطر لي عند إذن ربما تكون هي الأخرى قد كتبت حقيقة نفسها فرحت أعدو بين القبور المنشورة وسط الهياكل والأجداث إلى حيث يوجد رمسها. ولم أجد صعوبة في الاهتداء إليها هذه المرة، وعرفتها في الحال رغم اختفاء وجهها تحت ملاءة بيضاء. . وعلى الصليب الرخامي حيث قرأت منذ حين (وأحبت ثم ماتت) طالعتني هذه الكلمات - (خرجت ذات يوم غزير المطر لتخون حبيبها فأصيبت بنزلة برد وماتت. .) ويبدو أنهم عثروا علي فجر اليوم التالي ملقى على القبر مغشيا علي. .
رمزي مزيغيت(926/53)
العدد 927 - بتاريخ: 09 - 04 - 1951(/)
ربيعك في نفسك
كنت كلما أقبل أبريل بالربيع تلقيته وفي نفسي بهجة الطفل وفي عيني وضاءة الجنة، وفي قلبي صبوة العاشق، وفي حسي نشوة الشاعر، وعلى لساني أغرودة ا. لبلبل. ثم أجدني بعد همود الشتاء وعبوسه قد تجاوبت مع الطبيعة، فأنفر مع الغصن، وأنفتح مع الزهر، وأنطلق مع النسيم، وأمرح مع الطير، وأزدان مع الروض، وأقضي أواخر النهار على ضفاف النيل، وأوائل الليل في ملاهي القاهرة فأجد لكل شيء جمالاً، وفي كل عمل لذة وعلى كل منظر فتنة!
أما اليوم فأنه يقبل به على فلا ألقاه، وإذا لقيته لا أراه! ذلك لآن ستاراً من ظلام النفس يفصل بين عيني ونوره وحجاباً من كآبة العيش يحول بين قلبي وسروره!
فأنا أمشي في شارع فؤاد - أن مشيت - فأرى حياة الربيع من حولي تتدفق باللهو، وتتألق بالجمال، وتتأنق بالزينة، وتتأنق بالزينة، وأنا محمول على عبابها المضطرب ذاهل الوعي بارد الحس خامد الحركة، كأنني جثة قتيل على سطح نهر، تمور الامواء تحتها بالحياة، وتزدهي الشطئان حولها بالنضارة، وهى تجرى إلى مصيرها المجهول لا تتصل بالكون ولا تشعر بالوجود!
وأنا أغشى مسرح اللهو - إن غشيت - فأرى الوجوه تهش، والثغور تبسم والعيون تقول والقلوب تصغي وأنا جالس إلى المنضدة الرخامية لاأجد بيني وبينها فرقاً في الجمود والبرود! فمثلي كمثل الآصم الأصلخ في المرقص الصاخب: يرى أفواها تنفخ في مزامير، وعصياً تضرب علي طبول، وأجساداً تلتصق بأجساد، وشفاهاً تنفرج عن ثغور، ثم لا يسمع أنغام العازفين فيطرب، ولا يدرى كلام الرقصين فينتعش!
لقد خبت وقدة القلب وعادت جمراته رماداً!
أذلك لتقدم السن، أم ذلك لتأخرالصحة؟ لاياصديقي! لا تقدم السن يؤخر الربيع، ولا تأخر الصحة يقدم الخريف مادامت فيك حياة ففيك حياة ففيك شعور، والشعور إن يبلد يدرك الحس في جمال الطبيعة؛ وإن يرهف يدرك الروح في حس الجمال، إنما هي الحياة العفنة التي تحياها اليوم في مصر! مستنقع من الماء الآسن، تنعقد عليه أبخرة خانقة، وتسطح منه روائح خبيثة وتطن
فوقه حشرات سامة. فإذا لم يؤتك الّله المشاعر السحرية التي تجعل الظلام نوراً، والبخار(927/1)
بخوراً، والطنين شدواً، والكدر صفواً، عناك أن تجد اللذة، وأعياك أن تسيغ العيش! لقد كنا من قبل نبصر الحياة بالقلب والقلب فنان، ونحن الآن نبصرها بالعقل والعقل عالم!
احمد حسن الزيات(927/2)
9 - الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
الجماعة الدينية:
رأينا أن للجماعة الدينية في النظام الاجتماعي وظيفة مزدوجة فهي تصون ذلك النظام وتنسق اتجاهاته ومثله العليا وتساعد بذلك على توحيد عناصر السلوك الإنساني فيه فتحقق تكاملا اجتماعيا سلمياً. والوجه الثاني لهذه الوظيفة المزدوجة هو فصل تلك الجماعة عن المجتمع الأكبر روحياً واجتماعيا. ولنبدأ بمعالجة الوجه الأول:
للجماعة الدينية دستور مدون وظيفتها الاجتماعية هو كتابها المقدس؛ وعلى مقدار صلاح ذلك الدستور لمواجهة التطور في الزمان والمكان يتوقف استمرار تلك الوظيفة ومبلغ اتقائها لثورات الفكر أو تقيلها لدعوات الإصلاح.
والتكامل الاجتماعي لتلك الجماعة الدينية يتقي كثيراً من الشر إذا فسح المجال لدعوات الإصلاح أو ثورات الفكر أن تجادل وظيفة الدين الاجتماعية على أن يكون سلاح تلك الجماعة مستمداً من روح العصر ولغته وعلومه ومعارفه.
ودفاع الجماعة الدينية عن وظيفتها الاجتماعية لا يكون بوقف باب الاجتهاد وإنما يكون بتصحيح الأخطاء التي تنتج عن سوء اجتهاد المصلحين أو الملحدين فالشك سبيل إلى يقين ومعالجة الشك لا تأتي بطريق الإقناع والشك مرض وأمراض العالم تعالج بأسلحة حديثة وإلا نفلا الناس من الجماعة الدينية نفورهم من الحلاق أو الساحر الذي يعالج المرض بوسائل ما قبل التاريخ والمتشكك المنكر لوظيفة الدين والثائر على الجماعة الدينية إذا عجز عن الاقتناع مثله مثل الذي يأبى التطيب فيموت بعلته.
ولكن من حق الجماعة الدينية إذا عجزت عن إقناع المنكر لها الثائر أن تحاربه بأقصى ما تستطيع من عنف وجهد، وإلا كان مثله مثل الجماعة التي عن علاج المجذوم ثم تتركه ينقل العدوى إلى جسمها الأكبر.
ولقد أعرب جماعة كبار علماء الأزهر عن هذه الحقيقة حين ناقشوا كتاب الأستاذ خالد محمد خالد (من هنا نبدأ) فقالوا (إن لكل فرد من المسلمين (الجماعة الدينية الإسلامية) الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنكوص عنه مع القدرة عليه إثم عظيم.(927/3)
فسعة الصدر لدى الجماعة الدينية في منقاشه المتشككين والمدعين ضرورية للتكافل الاجتماعي الذي هو من خصائص وظيفة تلك الجماعة. فتاريخ نمو الوعي الديني كتاريخ نمو الوعي السياسي والاقتصادي كان وليد النقاش والجدل والشك والإقناع وإلا فالجمود صفة تلازم الجماعة التي لا تناقش ولا تجادل ولا تنفع المتشكك الثائر.
ومناقشة الجماعة الدينية في وظيفتها الاجتماعية ونهوض تلك الجماعة للدفاع والإقناع وسيلة من وسائل تنشيط الفكر، وتهيئ تلك الجماعة لمواجهة التيارات المستجدة في التفكير والسلوك. فالتطور الفكري غريزة فوق أنه ظاهرة تستمد وجودها من طبيعة الأشياء. فإذا تسلحت تلك الجماعة بسلاح العصر استطاعت أن تكشف في وظيفتها الاجتماعية نواحي جديدة لم يفطن إليها السلف فتزيد بذلك من مكانها في النظام الاجتماعي وتعزز كيانها فتزيد من سلطتها الروحية رسوخاً وقوة فالمشكلة إذن ليست في ميلاد الشك والثورة الفكرية وإنما في مبلغ استعداد الجماعة الدينية للتعرف على حقيقة وظيفتها على ضوء العلم والمعرفة المستمدة من روح العصر.
ويجب أن لا يساء الفهم في تحديد معنى الجماعة الدينية ووظيفتها فالجماعة الدينية لا تعنى أئمة الرأي وحفظة الدين والنخبة الممتازة التي تتخصص في تدريس الدعوة ونشرها بين الناس والقيام على إحياء شعائرها. فقد عرف (هولت) الجماعة الدينية بأن يكون لها (تاريخ خاص وكيان اجتماعي وخصائص خاصة وسلوك وأهداف وغايات خاصة وقد يفهم من هذا أن مفهوم الجماعة ينطبق على جميع المؤمنين الذين يعتنقون العقيدة ويؤمنون بها. وهذا تعريف صحيح؛ ولكن علم الاجتماع وإن كان علم الاجتماع وإن كان يؤمن بصدق هذا التعرف وصوابه يصر على (أن الظاهرة الاجتماعية في العبادات والسلوك الديني مدينة إلى جهود الخاصة من حفظة الدين والمتبحرين في اختباره ودراسته وصيانته تعاليمه من سوء الاجتهاد والتحوير
وهذا يعني أن عبء وظيفته الدين في تحقيق المشاكل الاجتماعية يقع جزء كبير منه على الخاصة من أهل العلم والاجتهاد والأئمة.
فالتحريف في الطقوس والعبادات يعني تحريفاً في أوجه التكامل الاجتماعي الذي يكون للدين ضلع كبير في توطيده وتحقيقه وكلما تعقدت الطقوس وأنواع العبادات ازدادت(927/4)
مسؤولية الخاصة من حفظة الدين، وبالتالي ازداد أثرهم في توجيه التكامل الاجتماعي خيراً أو شراً تبعاً لاستعدادهم لمواجهة التحدي والفكري (الشك والثورة) الذي يكاد ينحصر في انتقاده للطقوس والعبادات والرمزيات التي تعبر عن العقيدة الدينية لا لجوهرها وكلما كان الدين وتعاليمه وعبادته وطقوسه في متناول الهامة من المؤمنين كان صيانة تلك التعاليم أكثر سهولة.
وظيفة الإمام المسلم في المسجد تختلف عن وظيفة الكاهن في معبد بوذي مثلا فالإمام وظيفته ديمقراطية بمعنى أنه يؤم المؤمنين في أقامه الصلاة بينما وظيفة الكاهن أو الراهب وظيفة مهنية تنحدر إليه بطريقة معينة سلبها وأسسها وشروطها. ذلك لآن الإسلام وقد خلا من الكهنوت ترك الإمامة لأكثر الحضور أهل في إقامة شعائر الدين تجنب بذلك حصر السلطة الدينية في أيدي الخاصة.
ولقد أتبع المسلمون في العصور الحديثة تقليداً يدل على مدى مرونة الإسلام في مجاراته التطور. فأصبحت الإمامة في مساجد لجماعة من الذين تفرغوا لرعاية شعائر الدين على نحو يلائم الحياة اليومية الحديثة التي تتطلب من المؤمنين أن يقوموا بوظائف الحياة الاقتصادية المعقدة فلا تمكنهم ظروفهم من اختيار من يؤمهم في الصلاة كلما دعاهم المؤذن أليها.
ولكن هذا التقليد لم ينف الجوهر الديمقراطي في وظيفة الإمام فهو لا يتميز عن بقية المؤمنين بشيء، ولا تزيد حسنته عند الله مثقال ذرة، ولا يتخذ لنفسه صبغة الاحتكار للشؤون الدينية
والإمام أو الواعظ في الإسلام ليس عمله أن يقيم شعائر الدين بالنيابة عن بقية المؤمنين ولا أن يكون وساطة بينهم وبين الله. فبدون الإمام تقام تلك الشعائر وأقامتها واجبة على كل مؤمن، وإنما وظيفته أن يسهل سبلها بالوعظ والإفتاء والإقامة وأن يشرح لهم ما استعصي عليهم فهمه من أمور الدين؛ فهو إذن لا يتميز عن بقية المؤمنين بمهنة موروثة بمهنة أو درجة معينة فإذا كانت وظيفة حفظة الدين في الإسلام ديمقراطية فإن من واجبها أن تجادل الناس وتثقفهم وأن تستمع إليهم وتد على شكوكهم وتوجيههم توجيها يتفق مع هذه الوظيفة الديمقراطية التي تحفظ التوازن في نطاق المصلحة الجوهرية للأكثرية التي تؤلف الجماعة(927/5)
الدينية.
ومما يزيد في أهمية هذه الوظيفة الديمقراطية لحفظة الدين في الإسلام أن ردهم وإقناعهم ومنطقهم وتوجيههم مستمد من المادة الأولى (القرآن والحديث والقياس والإجماع) التي هي في متناول جميع المؤمنين. فإذا تكلم المفتي أو الإمام أو الواعظ فإنما يردد ما يقرأه عامة المؤمنين صباح مساء في صلواتهم وأدعيتهم وكتبهم الدينية فالدستور الديني في الإسلام ليس رموزاً ولا طقوساً معقدة الفهم والإدراك.
فوظيفة حفظة الدين في الإسلام كوظفية النائب في البرلمان يتقيد بمواد الدستور وينوب عن الشعب في التعبير عنها ومهما أختلف الناس في إصلاح هذا النائب أو ذاك وفي قدرته وتضلعه في معالجة المشاكل فأن الاختلاف لا يمس جوهر الفكرة الديمقراطية التي بعثت به إلى قبة البرلمان.
إذن فالعلاقة بين حفظة الدين والقائمين على دراسة تعاليمه وشروحه وتفاسيرها ووظائفها الاجتماعية وشرحها بين الناس المؤمنين من الرعية هي علاقة متممة بعضها لبعض. وأسسها ديمقراطي؛ وهي لذلك من أهم الدعائم التي تحفظ التكامل اللاجتماغي ومن الأخطاء التي يقع بعض نقدا الدين أنهم ينتقدونه ممثل في بعض حفظته. ومثلهم كمثل من ينتقد النظام البرلماني لفساد بعض النواب وقصورهم وهذا النقد فرق أنه خاطئ فأنه شر يمس صميم التكامل الاجتماعي الذي هو هدف كل حركة إصلاحية، دينية كانت أم سياسية أم اقتصادية
وقد يزداد شر هذا النقد على أسس ذاك التكامل أن يقوم بعض حفظة الدين بتوليه أنفسهم سلطة ديكتاتورية لم تعترف بها العقيدة ولم تشرعها السنة أو السلف الصالح.
وتفادي هذا الشر لا يكون إلا بترقية أساليب النقد ووسائل الرد عليه. وفي عالم تزداد المعرفة فيه يوما عن يوم فإن على الناقد والمنتقد معاً أن يدركا مقدرة الناس على تميز المنطق المخطئ أو المصيب حين تكون تعاليم الدين سهلة ومبسطة واضحة بينة كما هو الحال فالإسلام.
فإذا عجز حفظة الدين عن تسليح أنفسهم بسلاح المنطق العلمي الحديث والمعرفة والعلوم العصرية فإنهم بذلك يسيئون إلى صميم العقيدة الدينية ويبثون في نفوس بعض الناس شكاً(927/6)
وارتيابا ما كان ليثار لو أن الإقناع كان باللغة التي يفهما أهل الجبل، وهى لغة تستمد تعابيرها ومنطقها من الحقائق الاجتماعية التي يعيشون فيها ومن مناهج تعليمية، الدروس الدينية فيها قل أن تحظى بانتباه أو أن تعالج بالقدر الذي تستحقه نظراً لأهمية الدور الذي يؤديه الدين في النظام الاجتماعي.
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق
مراكش
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
قطر شفيق جريح؛ وكلنا في الهم شرق!
إيه يا شرق! أما لليلك من أخر؟ وهل لفجرك من شروق؟ أنني حيثما قلبت النظر لم أجد ألا شعباً كليما، وحيثما أدرت البصر لم أر إلا هما مقيما!
يا شرق! لقد أتى عليك حين من الدهر كنت تدير الدنيا ونتحكم فيها، وكان العالم يحسب لكلمتك ألف حساب وحساب يتقرب الملوك إلى خلفائك، وتخضع الشعوب طوعا لإرادتك. ثم انقلبت الآية وجاء حين آخر فإذا بك إذا ذكر الأحياء لا تذكر والأمم لا تعيش في ماضيها وإنما تعيش في حاضره ومستقبلها، فهل آن لمجدك أن يعود؟
وأنت أيها الغرب عجبا لك: تؤمن بمبادئك وتكفر بها في وقت واحد؟ فأنت تؤمن بالحرية في بلادك وتكفر بها في غير بلادك. وأنت تؤمن بالمساواة في ديارك وتنكرها على غيرك من الشعوب والمماليك. وأنت تؤمن بالديمقراطية وتطعنها في سائر الأقطار! أما آن لك أن تفي رشدك وأن ترتدع عن غيك! تا لله أنك إن للم تثب إلى عقلك فإن أزمة حامية لن تبقى حامية لن تبقى ولن تذر سوف تقتلع مدينتك وتقضي على حضارتك
وأنت يا فرنسا يا من تقولين إنك مبعث النور والحرية وأم الإخاء والمساواة والديمقراطية! أما تذكرين أنك منذ عشر سنين سقطت تحت أقدام المحتلين من الألمان فداسوا حريتك(927/7)
وبكى رجالك وشرد نساؤك وأطفالك، ومازلنا وما زال العالم يذكر ديجول وهو يبكي من دار الإذاعة في لندن على حريتك المسلوبة وعلى شعبك المسكين! أما آن لك أن ترتعي عن غيك وأن تحترمي الحرية وأن تقديسها في غير بلادك. فما يعرف طعم الحرية إلا من ذاق ألم السجن، وما يقدر الصحة إلا مريض عوفي من مرضه خبرينا. ماذا دهاك وماذا صنعت بمراكش؟ وعلى أي أسس ومبادئ أنحت لقائدك جوان فعاث فيها فساداً وبطشا وإرهابا وطعن شعبا وأذل سلطانا؟
ثم طلعت جريدة الايكونومست البريطانية منذ أيام تطلب إلى الحكومة البريطانية بمناسبة الحالة في إيران أن ترسل بوارجها إلى المياه الخليج الفارسي لآن الشعوب الإسلامية لا تخاف إلا بالقوة فكأنما نحن الشرقيين نستهدف لحملة مدبرة من الغربيين. ولعل من الخير لنا أن إذن أن نعرف بلادنا وأن نعمل على جمع كلمتنا وأنى هنا أقدم حديثي الأول عن مراكش.
أين تقع مراكش
هناك في شمال غرب قارة أفريقيا توجد مراكش وهي تطل البحر الأبيض وتشرف على المحيط الأطلنطي وتتكون من سهول ساحلية خصبة تتدرج في الارتفاع في الداخل حتى تنتهي إلى جبال مراكش وبها أنهار قصيرة تصب في البحر الأبيض والمحيط الأطلنطي ومناخها صيفا حار جاف وشتاؤها دافئ ممطرة تتغذى أنهارها صيف على ذوبان الثلوج فوق الجبال.
وفي السهول يشتغل السكان بالزراعة فيزرعون القمح والشعير والخضر والزيتون والفاكهة. وعى الحشائش تربى الأغنام والماعز وعلى الجبال توجد غابات البلوط والفلين. وبها من المعادن الفوسفات والنحاس والرصاص والزنك
ويشتغل كثير من السكان باستخراج الإسفنج وصيد السمك، وأما الصناعة فما زالت متأخرة؛ ومعظم الصناعات تعتمد على الإنتاج الزراعي والحيواني مثل دبغ الجلود وعمل المصبوغات الجلدية الرقيقة وصناعة البسط والأغطية الصوفية واستخراج الزيت.
ولعلك تسألني متى دخلت مراكش في الإسلام وما هو الدور الذي لعبته في تاريخه؟ وأنا أجيبك بأنها دخلت الإسلام منذ تم فتحها في عهد الوليد بن عبد الملك ومنها خرج الجيش(927/8)
العربي بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير لفتح بلاد الأندلس وقد مراكش من بلاد الدولة الفاطمية حين تم تأسيسها ومن بلاد المغرب كانت تخرج سفن العرب فتملأ قلوب سكان إيطاليا فزعا ورعبا ثم خضعت للدولة العثمانية واستقلت عنها وقد حافظت على استقلالها حتى أوائل هذا القرن.
الحماية:
في نهاية القرن التاسع عشر انتابت أوربا حمى عنيفة من الاستعمار ووضعت كل من فرنسا وألمانيا عينها على مراكش. وكانت مراكش بلاداً متأخرة وكان سكانها من البربر يتحدون السلطان في عاصمة فاس. وقد بلغ من سطوتهم أن أحد زعمائهم خطف مندوب بريطانيا 1906 مما اتخذته الدول دليلا على عجز السلطان عن حماية الأجانب في بلاده وذلك ما اتخذته الدول جميعا سببا للقضاء على حرية الشعوب واستعبادها.
وقد حاولت الدول أن تنشئ علاقات تجارية معها وكانت أسبقها فرنسا، فكانت تستورد منها الليمون والصمغ وجلود الماعز المراكشي الشهيرة ثم أقرضت السلطان دينا وبدأت القصة التي أدت إلى الاحتلال. في 1904 عقد الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا على أن تطلق إنجلترا يد فرنسا في مراكش وتطاق فرنسا يد إنجلترا في مصر. وفي 1905 زار القيصر وليم الثاني إمبراطور ألمانيا ميناء طنجة وألقي خطبة ندد فيها سياسة فرنسا الاستعمارية وأيد استقلال سلطان مراكش للمحافظة على مصالح ألمانيا الاقتصادية ودعا إلى تسوية المسألة في مؤتمر دولي فعارضت فرنسا وكادت المسألة تؤدى إلى حرب.
وقد أجتمع المؤتمر الدولي في الجزيرة 1906 ووافقت الدول على استقلال مراكش واتفقت على أن تحافظ على الأمن الداخلي كل من فرنسا وأسبانيا.
وفي 1911عادت ألمانيا فأثارت المشكلة المراكشية من جديد ذلك أن فرنسا احتلت فاس عاصمة مراكش بدعوى المحافظة على النظام فأعلنت ألمانيا أن ذلك خروج على اتفاقية الجزيرة وأرسلت المدعوة (باثر) إلى ميناء أغادير. وتوترت العلاقات بين فرنسا وألمانيا وانضمت إنجلترا إلى فرنسا وكادت الحرب تقوم ولكن ألمانيا قبلت ما عرضته عليها الدول. فقد عوضتها فرنسا عن مطامعها في مراكش ببعض أراضيها في وسط أفريقيا واعترفت ألمانيا بحماية فرنسا لمراكش.(927/9)
وتنقسم مراكش حاليا إلى الأقسام الآتية:
أولا: مراكش الفرنسية وهي تشمل معظم مراكش ويحكمها سلطان وطني.
ثانيا: مراكش الأسبانية وتعرف بالمنطقة الخلفية نسبة إلى خليفة سلطان مراكش ومركزه تطوان وتعرف هذه المنطقة ببلاد الريف.
ثالثا: طنجة وهي ميناء دولي.
السطان الأسير:
وقد نزعت مراكش أخيرا إلى الاستقلال عن فرنسا وشجع الحركة سلطانها الحالي محمد بن يوسف فثارت فرنسا وأرعدت وقام قائدها جوان المقيم العام يثير القبائل على السلطان ويهدده وأمام التهديد قبل السلطان ما فرضه جوان!
وقد ذهب صحفي مصري أخيرا لمقابلة جلالة السلطان وتمت المقابلة وكان يجلس بجانب الصحفي المصري أثناء المقابلة المستشار الفرنسي ويقول الفرنسيون بعد هذا إن السلطان ينعم بتمام الحرية
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(927/10)
2 - الفاربي في العالم الإسلامي وفي أوربا بمناسبة
مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
لا ريب أن قيام الفارابي بشرح الكتب اليونانية الطارئة قد أدى خدمة جلى لليقظة العربية، ولو لم يقم هو ومن حذا حذوه بشرح غوامض الفلسفة التي وفدت على بلاد العرب من دون سابق ألفة لما نهضت صروح تلك الحركة الفكرية ولم نثبت في هذه البيئة الجديدة روحيا وماديا وإذن فإن شرحه للتراث اليوناني كان تلبية لنداء الحاجة التي اقتضتها الظروف القاهرة ولعله شغل بالشرح عن الابتكار والإبداع على أن الشرح لا ينقص من مكانته ولا أجد فرق كبير بين الشارح والمؤلف فأن الأول إذا فهم أهدافه الثاني وعرف أفكاره فقد حلق في نفس الأجواء التي يبسط المبتدع جناحيه فيها وتابعه في طيران وكان معه في مستوى واحد إلا أن المبتدع يتقدم فيتلوه الشارح ولقد كانت بركة الفارابي شاملة غير المسلمين والعرب فإن الأمم الأعجمية عندما نهضت واستشرفت معالم الفلسفة اليونانية وجدت في الفارابي وتلاميذه من يأخذ بيدها إلى الصواب في متاهة أفكار الفلاسفة فلذلك عمدت إلى آثاره فترجمتها إلى لغاتها قال (جورج في كتابة المدخل إلى تاريخ العلم ترجم إلى اللغة اللاتينية (جون) و (جرارد) كتاب إحصاء العلوم للفاربي (وهو من النصف الأول للقرن العاشر الميلادي) وقال (سارتون) إن كتاب (المبادئ) الباحث في الفلسفة والسياسة الذي ألفه الفارابي في النصف الأول من القرن العاشر في دمشق (عام 942 م) وراجعه وأعاد النظر فيه في القاهرة بين عامي (948 - 949 م) قد ترجم إلى العبرية عام 1248 م تحت عنوان وترجمها إلى العبرية (موسى بن تبون الذي ولد في مرسيليا وكان قد ترجم إلى العبرية جملة كتب عربية لابن رشد والفارابي وغريهما وكان من أعظم المترجمين في العصور الوسطى وكان رياضيا وطبيبا وفلكيا وقال سارتون أن إسحاق البلاغ كان فيلسوفا ومترجما من العربية إلى العبرية وقد ترعرع في شمال إسبانيا في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن الرابع عشر، وقد سعي ليوفق بين علم اللاهوت اليهودي والثقافة الأرسطاطاليسية الصافية الأصيلة وفي خلال دحضه ونقضه وتفنيده آراء الغزالي و (موسى بن قدم ملاحظة تقول بأن أغلاطهم أي أغلاط أتباع ابن(927/11)
ميمون نشأت من أخذهم فلسفة أرسطو بصورة غير مباشرة ولم يتهيأ لهم أن يقتبسوها من معينها الأصيل ذلك لأنهم أخذوها من شروح الفارابي وابن سينا ولآخرين. وإذن فإن هذا الفيلسوف اليهودي يرى أن الفارابي وتلميذه ابن سينا لم يفهما أرسطو على حقيقته. وهذه دعوى نظنه انفرد بها ولم يشاركه فيها أحد من البشر وقد تجشمها لأجل تقريب إمكان التوفيق بين اليهود وتعاليم أرسطو ساعيا ليجعل الصعوبة التي وجدها محاولوا ذلك التوفيق ويرجعها إلى أن الفلسفة التي بأيديهم المنسوبة لأرسطو مشوهة وممسوخة أما فلسفة ارسطو الحقيقية فإنها لا تتعارض مع اليهودية ليت شعري ما الذي حمله على كل هذا التمحل والتكلف؟ ومن قال له إن كل ما قاله أرسطو حق مستقيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأظن هذا اليهودي التائه لو بعث اليوم من مرقده ورأى كيف أن الفلسفة العصرية هدمت هياكل فلسفة أرسطو وإخوانه من اليونان لسخر من أتعابه وجهوده في تقويم المعوج في العصور الوسطى، ولا بأس أن نشرح كلمة مرت عليك قبل أسطر هي فقد شرحها لنا قاموس إذ قال إن منسوب إلى أي موسى بن ميمون الذي عاش (1135 - 1204م) وكان من أعظم فلاسفة اليهود في القرون الوسطى، وكانت مدرسته تتوخى الجمع والتوفيق بين فلسفة أرسطو والتعاليم اليهودية.
أقول وهذا نظير ما سعى إليه (إخوان الصفاء وخلان الوفاء) من الجمع بين الإسلام والفلسفة اليونانية وكل ذلك ناشئ من إكبار فلاسفة العصور الوسطى لفلاسفة اليونان فأخذ كل فريق يؤيد بالتوفيق بينه وبين فلسفة اليونان، ظنا منهم أن الذي يتفق مع أرسطو الذي كان نابغة خالدة يضمن له الرسوخ والثبات ولماذا؟ وقد جاء وفق ما اهتدت أليه العباقرة من اليونان أو أن هذه المساعي كانت ضرورة ملحة استجابة لتبلبل الأفكار حيث اصطدمت في نفوسهم عقيدتان فلابد من التأليف بين ما أختلف منهما؟ وإلا فإن اصطدامهما يودي بإحداهما. غير أن طائفة من المتزمتين ثاروا في وجه الفلسفة وحرموها وقاوموها وأعلنوا بطلانها وسفهوا أحلام الفلاسفة وظنوا أنهم استراحوا فكانت النتيجة أن بقوا سخرية الأجيال المتعاقبة وفي طليعة هؤلاء أبن تيمية وابن قيم الجوزية وابن الصلاح. والذي يهم موضوعنا اليوم مما تقدم أن هذا اليهودي العنيد يرى أن الفارابي شارح أرسطو قد خلط وخبط ولم يهتد إلى سواء السبيل ولم يفهم حقيقة فلسفة أرسطو. ولنتركه واعتقاده ونعرض(927/12)
لك شخصية أوربية أثنى عليها (سارتون) في كتابه وادعى أنها كانت تضع ثقتها كلها في صاحبنا الفارابي وتلميذه ابن سينا، أجل قال (سارتون) في ترجمة (البرت الذي ولد عام 1193م في (لوينجن وتعلم ودرس في ثم علم ودرس في مختلف المدارس الربانية المسيحية في ألمانيا سنة 1228م وما بعدها ودرس في باريس من عام 1245م إلى عام 1248م وكانت مؤلفاته تقوم على مدرسة أرسطو، وكانت نوعا من تفاسير وشروح لما كتبه أرسطو، ولكنه أقحم فيها حشوا كثيرا مأخوذا من الفلسفة الإسلامية واليهودية ومصادر أخرى مختلفة، وزج فيها أيضا ملاحظاته الشخصية يقول (ثارتونا)، إن البرت الكبير وهذا قد اعتمد من شراح فلسفة أرسطو ولتبع بصورة رئيسة خطوات الفارابي وابن سينا وكان على الأغلب لا يرتضي أقوال ابن رشد وابن يهوذا (ابن جبيرول الذي اعتبره من الفلاسفة المسيحيين الذين قاوموا فلسفة أرسطو، وقد مال (البرت الكبير) ميلا قويا إلى فلسفة موسى ابن ميمون واعتمد عليها ولكنه حافظ على استقلاله. وابن ميمون هذا هو الرئيس الحاخام موسى بن ميمون ولد في قرطبة من عائلة يهودية معروفة وأكره بسبب الاضطهاد الديني على مغادرة إسبانيا فذهب أولا إلى فاس ثم إلى عكا ثم إلى القاهرة حيث توطن. وكان مشهورا لا في الطب فحسب بل في الفلسفة والدين ويبالغ اليهود في احترامهم له. وكان ابن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي ثم طبيب الملك الأفضل وطبيب أشراف الدولة، وقد تراكمت عليه الأشغال حتى كان أحيانا يأخذه التعب فيعالج بعض المرضى وهو مستلق على الديوان. وكانت معظم تأليفه في اللغة العربية وقلما كتب في العبرانية وقد ترجمت كتبه إلى العبرانية ثم إلى اللاتينية أما شهرة موسى بن ميمون فلم تأت من الطب ولكن من محاولته التوفيق بين الاعتقاد والبرهان، وبين الدين والعلم. واتته أيضا من تعاليمه التي وعاها في كتابه (دلالة الحائرين) الذي دون فيه نظراته في تقريب الفلسفة اليونانية والعربية من التعاليم الدينية في زمانه ولهذا اتهمه المعاصرون من خصومه بالهرطقة وسموا كتابه (ضلالة الحائرين) رغماً من أنه كان يشغل أكبر مركز ديني عند اليهود في القاهرة وقد ترجم هذا الكتاب إلى العبرانية ثم إلى اللاتينية وكان ذا أثر عظيم على النظريات الفلسفية في القرون الوسطى وما بعدها حتى أننا لنجد أثر هذه التعاليم في فلسفة (سبينوزا) و (كانت) ونعود إلى صاحبنا الفارابي فنلفت نظرك إلى أن من المأمول(927/13)
والمترقب أن لا ينجو أبو نصر من حملات الغزالي على الفلسفة وأقطبها، وإن المسيحيين الذين خاصموا الفلسفة أجمالاً قد أستعانو بخصوم الفلسفة نمنن المسلمين فموقف الغزالي العقلي والديني قد راق علماء المسيحيين منذ الحظه التي تيسر لهم فيها الإطلاع على كتبه ولا يزالون مهتمين بدراسة أبحاثه والعناية بها والمعروف أن الغزالي قد هاجم الفلسفة وذهب في هجومه عليها إلى تكفير أهلها، من أفلاطون وأرسطو إلى الفارابي وابن سينا وقد مهد لدراستها بكتابه (مقاصد الفلاسفة) ثم حمل عليها في كتابه (تهافت الفلاسفة) وسرعان ما راج كتابه الثاني عند خصوم الفلسفة من المسيحيين فنلاحظ أن (ريموند مارتن، الذي يحتمل أن لا يكون لعلمه بمؤلفي العرب نظير في أوربا بأسرها حتى العصور الحديثة - فيما يقول جيوم - قد نهض بعد ممات القديس (توما) بمقابلة فلاسفة الإسلام وعلمائه، واستجاب لمطلب (بنافورـ رئيس هيئة الدومنيكيين في وضع كتابه (الدفاع عن الأيمان) وأدخل فيه الكثير من آراء الغزالي ومنذ ذلك الحين أفاد الكثيرون من علماء المسيحية من آراء الغزالي، وانتفع القديس (توما) الذي عاصر (مارتن) برسالة في (الاقتصاد في الاعتقاد) في وضع كتابه المعروف (الخلاصة الفلسفية في الرد على الأمم غير المسيحية) الذي وضعه استجابة لطلب رئيس هيئة الدومنكين السالف الذكر. وأوجه الشبه بين آراء توما والغزالي كثيرة
ونلاحظ أن الغزالي كان ويلا على الفلسفة عند اليهود والمسيحيين على السواء وكان له الأثر الهدام في فلسفة العالم الإسلامي وكان أثر كتابه (تهافت الفلاسفة) عند هؤلاء جميعا أعمق - فيما يلوح - من أثر (تهافت التهافت) الذي فند فيه ابن رشد موقف الغزالي من الفلسفة. وقد قسم الغزالي الفلاسفة في كتابه (المنقذ من الضلال) إلى ثلاثة أصناف: دهرين وهم الزنادقة لأنهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجود بنفسه. . . ثم طبيعيين وهم الذين سلموا بوجود قادر حطكم مطلع على غايات الأمور ومقاصدها ولكنهم أنكروا معاد النفس وجحدوا الآخرة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب، وهؤلاء زنادقة. ثم الإلهيين وهم المتأخرون منهم كسقراط وأفلاطون وأرسطوا وقد هاجموا الدهرية والطبيعيين ولكنهم استبقوا من رذائل كفرهم بقايا فوجب تكفيرهم وتكفير متبيعهم من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما.(927/14)
ويرى الغزالي أن مجموع ما صح من فلسفة أرسطو بحسب ما نقله الفيلسوفان (ابن سينا والفارابي) ينحصر في ثلاثة أقسام قسم يجب التكفير به وقسم يجب التبديع به (أي اعتباره بدعة) وقسم لا يجب إنكاره أصلا.
للكلام صلة
ضياء الدجيلي(927/15)
المهلب بن أبي صفرة
للأستاذ حمدي الحسيني
ولد المهلب لأبى صفرة سيد الأزد في اليمن قبيل وفاة النبي (ص) ببضع سنين ففتحت عيناه في نور الإسلام وأشرقت نفسه بإشراقة الهدى ودين الحق، فنشأ سيداً ماجداً وحراً مستقلا في أمة حرة مستقلة ومؤمناً مجاهداً في صفوف المؤمنين المجاهدين، وبطلا عظيما منتصراً في ميادين المجد والشرف.
هبط أبو صفوة البصرة على اثر حرب من حروب الردة اليمن، فعاش المهلب هناك ولم يلبث حتى أصبح سيد العراق بما آتاه الله من صفات السيادة والتفوق على الأقران بالفضائل قدم المهلب على عبد الله بن الزبير الخليفة البطل أثناء خلافته في الحجاز والعراق وهو يومئذ في مكة، فخلا به عبد الله يشاوره فدخل عليه عبدا لله صفوان فقال: من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ قال. أما تعرفه؟ قال (لا) قال هذا سيد العراق، قال فهو المهلب بن أبي صفرة؟ قال نعم.
أجل هذا هو سيد الأزد وبطل العراق المهلب بن أبي صفرة يخلو به الخليفة عبد الله بن الزبير ويشاوره في اشد أزماته وأعقد مشكلاته وأدق مواقفه وأخطر حوادثه. أليس الزمن عصيباً والموقف حرجاً؟ أليس صولجان الحكم الإسلامي مضطرباً بين يدي عبد الله بن الزبير في الحجاز وعبد الملك ابن مروان في الشام؟ كل منها يجذبه من صاحبه بما عنده من قوة. أليس العراق وما يجاور العراق من الأقطار الإسلامية كرة تتقاذفها قوات الحجاز والشام تصبح لهذا وتمسى لذلك؟ أليس هؤلاء الخوارج ينكرون على عبد الله بن الزبير وعبد الملك ابن مروان خلافتيهما كما أنكروا على علي بن أبي طالب ومعاوية ابن سفيان خلافتيهما من قبل فيتقبلون في أنحاء البلاد من البصرة إلى الموصل إلى الأهواز إلى كرمان يقتلون العباد ويهدمون البلاد ويقيمون على الأشلاء والأطلال ممالك وحكومات أجل إن الأمر لخطير، ولابد فيه لعبد الله بن الزبير من المشورة، وهل أرجح من المهلب عقلا وأعلى همة وأوسع معرفة وأعظم نفوذاً حتى يستشيره عبد الله بن الزبير دون المهلب؟ إذا لابد لابن الزبير من استشارة المهلب، ولا بد له من أن يوليه على خراسان حمل المهلب عهد ابن الزبير له على خراسان وتوجه به نحوها عن طريق العراق ووصل البصرة(927/16)
فرأى البصرة تلهب بنيران الحرب القائمة بين قوات ابن الزبير والخوارج، ورأى أن الخوارج قد تفوقوا على قوات الخلافة تفوقا ألقى الرعب في قلوب أهل البلاد.
ولكن ما شأن المهلب في هذا الأمر وهو سائر في طريقه إلى خراسان ليكون والياً؟ إذاً عليه أن يترك هذه النار المشتعلة تلتهم أكباد المسلمين ويمضي إلى عمله.
هذه خطة صحيحة لو كان صاحب هذه الخطة غير المهلب أما وهو المهلب صاحب البصرة وسيد العراق فلابد له من البقاء بجانب بلده وقرب أهله ليحمي حماهم من الخوارج فنقضهم من فتك أولئك الشجعان الذين لعبت العقيدة في نفوسهم فخلقت منهم أبطالا في الحروب لا يهابون الموت ولا يخشون الردى.
أليس البطل في نظر قومه مدخرة يستعينون بها على الشدائد في الأيام الحالكة؟ وأية شدة أدعي لاستنجاد قوات المسلمين بالمهلب من هذه الشدة المدمرة التي تكاد تطبق على المسلمين بسيوف الخوارج؟ إذا لا والله ما لهذا إلا المهلب فخرج أشراف الناس فكلموه ليتولى قتال الخوارج فقال لا أفعل.
هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان فلم أكن أدع عهده وأمره. رفض المهلب أن يجيب الناس إلى طلبهم في قتال الخوارج لأن المهلب رجل نظام وطاعة، فلم يشأ أن يخرج عن قاعدته في النظام وعن عادته في الطاعة، وهو رجل عسكري والنظام والطاعة قوام الحياة العسكرية. إذا لابد من أمر يصدره الخليفة للمهلب يلغي عهد خراسان ويثبت قيادة الجيوش لمحاربة الخوارج. ولكن أين أبن الزبيب الآن من المهلب وكيف يحتمل الصبر تدور المخابرات الرسمية دورتها وهؤلاء الخوارج على الأبواب لا يبلعون الناس ريقهم ولا يدعوهم يهدأ روعهم من الفزع. إذا لابد من الحيلة والحيلة في مثل هذه المأزق مستحبة. . فرأى قائد قوات ابن الزبير مع أهل البصرة أن يكتبوا على لسان ابن الزبير كتابا يأمره فيه بمقاتلة الخوارج ويعده بعد النصر بالولاية على خراسان فأخذ المهلب الكتاب بنفس راضية مطمئنة ونهض للأمر العظيم. والغريب في أمر هذا البطل أنه كان فوق الأحزاب في ذلك الزمن القائم على الحزبية العنيفة مما يدل دلالة واضحة على أنه كان جندياً مسلماً قد وقف حياته على المصلحة الإسلامية العامة ورصد بطولته على مجد الإسلام وعزته وكرامته. لا يعنيه من يكون الخليفة ولا يكون سواء عنده أكان الخليفة(927/17)
علي بن أبي طالب أم معاوية بن أبي سفيان أم عبد الله بن الزبير أم عبد الملك بن مروان. وسواء لديه أكان مقر الخلافة الحجاز أم الشام ولهذا فقد رأيناه جندياً غازيا لسمرقند في جيش معاوية بن أبي سفيان ثم رأيناه موضع ثقة أبن الزبير يعهد له بالولاية على خراسان ثم يوليه القيادة لحرب الخوارج ثم رأيناه موضع ثقة عبد الملك بن مروان فيعهد له بجباية الأهواز ثم رأيناه موضع ثقة الحجاج بن يوسف الثقفي فيوليه على خراسان
ونعتقد أن وصيته لأبنائه الغر الميامين قبيل وفاته صورة واضحة لنفسيته الكبيرة التقية وأخلاقه الطاهرة الرضية وعقيدته الإسلامية القوية. لنسمع الآن المهلب يوصي أبناءه وقد جمعهم إليه وهو على فراش الموت يودعهم ويوصيهم ويفرغ نفسه في نفوسهم ويضع عقله في عقولهم ويصب همته في همهم: دعا المهلب بسهام فحزمت وقال (أفترونكم كاسريها مجتمعتاً؟ قالوا (لا) قال أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا (نعم) قال فهكذا الجماعة أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإن صلة الرحم تنشئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنها كم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الزلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا وتباروا تجتمع أموركم، وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعلكم أفضل من قولكم فأني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته ويزل لسانه فيهلك.
اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكره له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرب فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف الصنيعة عنده؟ عليكم في الحرب بالأناة والكيد فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قبل أتى الأمر من وجهه ثم ظفر فحمد، وأن لم يظفر بعد الأناة قيل ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم)
حمدي الحسيني(927/18)
بطل عرفته
عبد القادر الحسيني بمناسبة ذكرى استشهاده
للأستاذ كامل السوافيري
يهتف بي الوفاء أن أذكر صديقاً وفيا، قائدا عربيا في مناسبة كريمة. أما ذلك الصديق فهو بطل العروبة المجاهد المرحوم عبد القادر الحسيني، وأما المناسبة فهي ذكرى استشهاده المجيدة إذ سقط في حومة الشرف في الثامن من أبريل سنة 1948 وليس البطل بالرجل المجهول الذي يحتاج للتعريف، أو المجاهد المغمور الذي يتطلب الشهرة، فهو النجم المتألق في سماء الجهاد، والكوكب المشرق في أفق الوطنية، والسيف البتار في ثورة الحرية.
عرفت الشهيد إبان الثورة الوطنية الكبرى في فلسطين سنة 1936 وهو يخوض المعارك الدامية ضد الجيش البريطاني المجهز بأحدث الأسلحة مع نفر من المجاهدين الأبرار فيسير النصر في ركابه، ويعود من المعركة وهو مكلل بأكاليل الفخر ثم توثقت بيننا أواصر الاخوة والصداقة وكلما امتدت الأيام بصداقتنا زدت إعجابا برجولته وتقديراً لشخصيته. ولعل أعظم نواحي إعجابي بالفقيد أنه قضى طفولته يمرح في أعطاف البشر، ويختال في رياض الأنس، وترعرع في أحضان النعيم حيث الثراء الواسع والجاه العريض، والمحتد الكريم، والمنبت العريق، وهذه العوامل تدفع الناشئ إلى الجنوح للدعة والركون للراحة والاستقرار، والنزوع نحو الرغبات والملذات، ولكنها لم تؤثر على عبد القادر، إذ تمرد على بيئته وانتقل من الحياة الناعمة حيث الفراش الوثير والماء النهير والطعام الشهي إلى الحياة القاسية حيث يفترش الصخر، ويتوسد الحجر ويطوى جوفه على الجوع ويهجر الرقاد ويمتطي الأهوال سعيداً بذلك طيب النفس قرير العين.
وأذ كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
ولقد كان البطل كامل الرجولة واضح المعالم في كل أمر من أموره، ينطق بالحق ويؤمن بالصدق ويدين بالعدل ويفي بالوعد ويواجهك بما فيك، ويصارحك بالأمور وقد جنت عليه صراحته إذ خلقت له الخصوم والأعداء، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يحفل بخصومتهم لأنه كما يعتقد أرضى خالقه، وأراح ضميره.
وقد سطر له التاريخ أنصع صفحات التضحية والبذل، التضحية بالنفس والمال والراحة لقد(927/19)
حرمت عليه بريطانيا دخول فلسطين جزاء اشتراكه في حربها عليها سنة1931 وعاش الفقيد بعيدا عن بلاده يطارده الاستعمار الظالم من قطر إلى آخر وتلاحقه جنود الظلم وأعوان المستعمر، وتضع في طريقه العراقيل وتحوك المؤامرات مما جعله يقضي فترة من حياته في غياهب السجون فتعود إليه العلل والآلام التي أصابته في جسمه خلال جهاده المجيد ضد بريطانيا. ولقد تنقل البطل في عواصم العروبة كلها من دمشق إلى بغداد ومن الرياض إلى القاهرة وكان في كل حاضرة من هذه الحواضر يترك أطيب الأثر، وأجمل الذكر ولقد أنجب أبناءه الثلاثة موسى وفيصل وغازي في أقطار مختلفة في سبيل ذلك شداد المحن وعظائم الزمن، فلم تلن له قناة، ولم يهن له عزم
ولقد كان عبد القادر يرى أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس لا يجوز أن يأخذ عليه العامل أجراً، ولذلك ما كان يستبيح لنفسه أن يتقاضى مرتباً إلا إذا أناخ عليه الفقر، وقسا عليه الدهر. وقد ضرب في ذلك أروع الأمثلة في العفة والنزاهة، واحتقار المادة ونعى على الذين يتخوف الوطنية ستاراً لجمع الأموال طريقهم الملتوي وسبيلهم المعوج
ورغم أن عبد القادر كان قائدا مظفرا لم يعرف عنه أنه هزم في معركة فقد كانت تشرق في نفسه جوانب الإنسانية فهو من أشد الناس تأثرا بمظاهر البؤس والحرمان، واكثر الناس عطفا ومواساة البائسين والمعوزين. ولست أذيع سرا إذا قلت إن عبد القادر طالما جفف دموعا ومحا آلاما، وأعاد البهجة والرواء إلى وجوه عابسة ونفوس حزينة
ولم يكن البطل لأسرته فحسب أو لفلسطين وحدها؛ بل كان سيفا للعروبة وفارسا للإسلام. سألته يوما قبيل توليته قيادة منطقة القدس عقب قرار التقسيم المشئوم: ماذا تريد أن تفعل بعد تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني والصهيونية؟ فأجاب على الفور: أترك فلسطين وأسافر إلى شمال أفريقيا لأحارب الاستعمار الفرنسي كما حاربت الاستعمار البريطاني وأرجو أن يحقق الّله أمنيتي وهي أن أفوز بنعمة الشهادة.
وبعد فقد مضى عبد القادر ومضى قبله وبعده شهداء أبرار، وإن أرواحهم لتطل على العالم العربي اليوم وتدعوه في حرارة أن يحترم هذه الدماء الزكية وتنشده بيت أمير الشعراء:
وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرمة يدق
يا أبا موسى! طيب الله ثراك، وأحسن مثواك فلقد أديت الرسالة وذات لأمتك ووطنك أغلى(927/20)
ما تملك
عليك سلام الله وقفا فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر
كامل االسوافيري(927/21)
جي دي موبسان
بمناسبة مرور مائة عام على ولادته
للأستاذ إسكنندر كرباج
ولد جي دي موبسان في قصر ميرومنسيل في نور منديا. وهو من جهة أبيه ينتسب إلى أسرة شريفة مفلسة، ومن جهة أمه إلى عيلة وضيعة من الفنانين. وكان والده رجلا فاسقا وأمه امرأة فاضلة. وعندما أخذ الابن يلاحظ ما بين أبيه وأمه من التناقض في الأخلاق والنزعات، أدرك وهن اتحادهما الذي هو إحدى ثمراته وراح يرتاد البحر ويود اقتحام غمرتنه، لاعتقاده أنه يمثل كل ما في الحياة من خير وشر، وبؤس ونعيم، فكان يقضي معظم أوقاته متجولا في السواحل برفقة كلبين كبيرين وكان من أحب الأشياء إليه الاشتراك مع قرويي نور منديا في الألعاب الرياضية تحت سماء غائمة وفي مهب الرياح الباردة، والرقص مع الصبايا على نغمات الرباب وفى ظل أشجار التفاح المزهرة وكان يجلس مع النوتية على صخور الشاطئ، ويقضي وقتا طويلا وهو ينظر بمنظاره إلى الأفق البعيد، متمنيا أن يتجه بزورقه في صباح نير من أيام فصل الربيع إلى ما وراء تلك الشواسع المائية من الموانئ المجهولة.
وأرادت أمه أن يترهب فأدخلته أحد الأديرة إلا أن موبسان لم يكن راغباً في الترهب فصرف المدة التي قضاها في الدير ثائراً متمرداً، لا يخضع لنظام ولا يتقيد بقاعدة وفى ذات يوم كسر غطاء أحد دنان الخمر وراح يكرع منها مع رفاقه التلامذة وعندئذ عيل صبر رئيس الدير فأمر بطرده.
ثم انصرف موبسان إلى درس الحقوق غير أن نشوب الحرب بين فرنسا وألمانيا عام 1870 اضطر إلى هجر المدرسة ودخل في دائرة تموين الجيش. وبينما كان الجيش الفرنسي يتراجع أمام هجوم الألمان العنيف، وكان موبسان يطالع كتب شوينهور وينظم الأشعار في الحب، ويعلل النفس بالانتقام من العدو الذي أجتاح أرض بلاده، وداس حرمة أمته. ومن برودة الانتقام وحرارة الحب تكون مزاج هذا الكتاب الفني ولما انتهت الحرب بانتصار ألمانيا، قصد موبسان باريس على أمل أن يجيد عملا يساعده على متابعة دروسه فدخل موظفا في إحدى الدوائر البحرية ولم يكن بين رؤسائه ورفاقه من يعتقد بأن ذلك(927/22)
الأسد الثائر يتحول إلى حمل وديع.
أما باريس وشعبها وأنديتها وكبار شخصيتها فكانوا لا يعرفون عن هذا الفتى شيئا وعبثا كان يقصد ليلا إلى البوليفار، ويأخذ في التطلع إلى أوجه المارة، وعلى نور مصابيح الغاز الضئيل لعله يكتشف بينهم روحا شقيقة لروحه، فيأنس إليها ويبثها ما في قلبه من حنين وشجن. وأخيرا وجد نهر السين ضالته المنشودة فأحبه وأنس به وركن إليه، لاعتقاده إنه الصديق الذي لا يخون، والرفيق الذي لا يراوغ.
فكان يقضي أيام الآحاد بكاملها ماخرا بزورقه في مياه نهر السين محاولا تبريد ما يستمر في نفسه من ميول وأهواء وكانت برودة رياح ذلك النهر الذي هو أشبه بقطعة من البحر تنسيه غبار المصلحة التي يشتغل فيها، ورائحة المقاهي التي يرتادها وضمات الغواني اللواتي يجتمع بهن وجملة القول أنه اتخذ من ذلك النهر عشيقة ورفيقه ونجيه ومهدهد أحلامه ومن قفوله في انصرافه إلى تلك الحياة البوهيمية: (لا عمل لي سوى التجديف والاستحمام، وقد اعتادت الجرذان والضفادع رؤية نور مصباح زورقي الضئيل كل ساعات الليل، وعندما أقبل عليها ترفع أصواتها لاستقبالي أما أصدقائي المجدفون فكان يدهشون عندما أطل عليهم في منتصف الليل، وأشاركهم في احتساء كأس من الشراب)
ثم تعرف مومبسان إلى الكاتب المشهور جوستاف فلوبير وكان هذا الأديب العبقري قد حوكم وقوطع بسبب روايته (مدام بوفاري) وبات منعزلا في بيته كركب فرضت عليه المراقبة الصحية، لا أحد يجسر على الدنو منه. غير أن هذا الكاتب الكبير ولم يحزن لما أصابه، أو يهتم لأنه أصبح وقتئذ لا يرسم من صور الحياة إلا بقايا ما في شخصيته التعبة من رؤى وأشباح لقد كان كملك مخلوع، قبع في هيكل للفن لا أحد يعرف مدخله سواه.
وكان فلوبير في ذلك العهد يفتش عن تلميذ نبيه، وموبسان يفتش عن أستاذ خبير يمكنه الاتكال عليه. فتفاهما وتصادقا ومزجا روحيهما في روح واحدة. وظل موبسان خلال سبعة أيام يرتاد بيت أستاذه في أيام الآحاد، حاملا إليه ما يكون قد حبره في أيام الأسبوع لكي يصلحه له. وكان الأستاذ يقلب نظره في تلك الأوراق المكتوبة، وهو يشطب بقلمه الرصاصي الأزرق ما يراه شاذا أو خطأ. ولم يطل أن اكتشف التلميذ سر فن الأستاذ، وراح ينشب سهام سخريته السامة في أكاذيب الحياة ورياء المجتمع.(927/23)
وفي خلال السنوات السبع التي قضاها موبسان صديقا لفلوبير، وأرشده هذا إلى طريقة تضمن له الفوز في حياته الأدبية، وهذه الطريقة هي أن يلاحظ، أولا وثانيا وثالثا، وكل ما يحيط به ويقع تحت نظره، من مشاهد الحياة وحوادث المجتمع ولما توفي فلوبير قصد موبسان إلى بيت صديقه وأستاذه المتوفي، وعملا بوصيته له أخذ يلاحظ أولا وثانيا وثالثا، غسل الجثمان وإعداده للدفن، وحمله إلى المقبرة وإنزال التابوت إلى الحفرة. كان موبسان يقاسي صداعا لا يحتمل، ولكي يخفف من هذا الألم كان يلقى بنفسه في مياه نهر السين الباردة. ثم كان يقترب من الشاطئ ليسمع الذين تجمعوا هناك للتفرج عليه كل كلام بذيء. وكان يروي لرفاقه الموظفين قصصاً يحمر لها وجه الفضيلة خجلا، ويلقى في مسامع السيدات والأوانس اللواتي يجتمع بهن في الحفلات والمراقص كل قول ملتبس. وكانوا يتحدثون عنه ويقولون أنه أوقح رجل عرفته باريس. نعم لقد كان أوقح رجل عرفته باريس، ولكنه كان في الوقت نفسه من أكثر رجال تلك المدينة ذكاء وعبقرية. ولربما كانت هذه العبقرية نفسها سبب ما كان يعانيه في حياته المضطربة من ألم وضيق. وكان الباريسيون يتحاشونه، ويتخلفون عن مشاهدة ما كان يمثله من الروايات المشبوهة في مختبر لرسام عرف بتعشقه هذا النوع من التمثيل، ورجال الأمن يعنفونه بشدة كلما أطلعوا له على قصيده مجونية منشورة في مجلة تعني بمثل هذه المواضيع وكان كلما أشتد صداعه، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة، يقف أمام المرأة ساعات كاملة، محدقاً إلى عينيه كأنه يريد أن يكتشف فيهما أسباب ذلك الألم وقد كتب مرة إلى أمه قائلا: (إن شهر ديسمبر يخفيني ويبعث قلبي في اليأس. إنه شهر قاتم ومشؤوم ولا سيما في منتصف ليلة آخر السنة وعندما أجلس وحيدا إلى منضدتي ومصباحي أمامي يلقي علي نوره الكئيب أشعر بانحطاط قواي إلى درجة لا أعرف معها إلى أين أتجه) ولكنه كان يتجه دائما إلى روايته وقصصه، ملتقطا مواضيعها من أفواه الصيادين والقرويين والممثلات والغواني والموظفين وغيرهم.
وأجتمع مرة بفئة من رجال الفكر والقلم في منزل إميل زولا وكانوا يتباحثون في مبادئ المذهب الأدبي الجديد الذين يريدون اعتناقه والتبشير به. وفي أثناء ذلك اقترح أحدهم وضع كتاب عن الحرب التي نشبت بين فرنسا وألمانيا، ولكن ليس كالذي اعتاد المؤرخين(927/24)
والسياسيون وضعه عن الحروب، بل كالذي يضعه الألبسة في الجحيم، وينقضه البشر على الأرض، أي أن يكون خاليا من الأوهام والمزاعم، لا غرض منه سوى إظهار البطولة الحقيقية. وكان من نتائج هذا الاقتراح صدور رواية لموبسان بعنوان (كرة الشحم) وقد جاءت كما أرادها صاحب الاقتراح.
لقد أظهر موبسان في هذه الرواية احتقاره وبغضه لبلادة الرجل. ولكن هذا البغض يتحول إلى شفقة في الروايات الأخرى، ولاسيما في روايته (الحلية) التي هي في نظر أئمة النقد من روائع الفن القصصي الفرنسي
كان موبسان يكثر من تنشق الأثير لكي ينسى آلامه المبرحة بما تحدثه أبخرته في رأسه من الأحلام. وكان ينفق ما يقتصده لقضاء أيام عطلة الصيف خارج باريس على شراء المسكنات. وقد كان لجوئه إلى هذه الواسطة للتخلص من أوجاعه الدائمة صورة جلية للجمال الوثني. ومن قوله: ومن قوله: (أحب الفضاء كالعصفور، والغاب كالذئب، والصخور كالغزال، والمروج كالجواد، وأحب المياه الصافية التي تطيب لنا فيها السباحة. كالسمك وأحب العالم كما تحبه هذه كلها، لا كما تحبونه أنتم أيها البشر أحبه دون إعجاب، وأنشده وأتغنى به دون شعوذة. إني أحبه حبا عميقا وحيوانيا، حبا دنيويا ومقدسا في وقت معا) وكان يظهر قلة شفقته على البشر مع أن رواياته تكذبه.
ومن قوله: (أريد أن أفتح رأس أحد الشعراء لكي أرى ما فيه).
ولكنه كان يبكي لآلام الحيوانات الخرساء ويشقي. فصياح الذئب الجريح يدمى قلبه، ومشهد جثة البغل مطروحة على بضع خطوات من المرج، الذي كثيرا ما تمنى أن يرعى فيه ويسرح، يذيب حشاشته، ونباح الكلب الجائع يسيل عبراته. وله في شقاء الكلب قصة جد مؤثرة.
ومن قوله عن مملكة الإنسان، أو الحيوان الأصغر، أن القدر يتسلط على الإنسانية
بوحشية الإنسانية في تسلطها على البغال والكلاب.
وقد نفخ في نفوس قرويي روح نورمنديا روح الحياة، وكان يتصل بهذه النفوس البسيطة لا عن طريق الروح، بل بالشعور والفطرة والشم، وقد كانت هذه الحاسة الأخيرة قوية فيه كما هي في بعض الحيوانات البرية. فكان يقف بواسطتها على تأثراتهم وغرائزهم وأفكارهم(927/25)
ونوع معيشتهم. حتى إن الحياة التي تختلج في صفحات كتبه كانت عابقة بمختلف الروائح ولا سيما المنتنة منها. لأن موبسان لم يكن ينظر إلى الحياة إلا من ناحيتها المنتنة فيقبض على هذه الناحية بكلتا يديه، في دعكها وعصرها إلى أن يمسخها أو يدميها.
وكان يستخدم في إعداد قصصه، حتى الشنيع منها، أسلوبا خاصا، لأنه لم يكن يرى فيما يريد أن يكتبه سواء أكان عن الأمراء أم القرويين، شيئا من التفكه أو الزهور، ومع ذلك فقد أرتفع في وصفه الألم والبلادة والسخافة إلى أعلى ذرى الفن. وكانت قصصه شبيهة بامتثال لافونتين وراويات بوكاسيو الرائعة ومن خصائص فنه القصصي تجريد أشخاص رواياته من النفس ومن أية تعزية دينية. ومع ذلك فتشاؤمه وضآلة علمه وأسلوبه المدرسي البسيط، كل ذلك يدل بأجلى بيان على أنه خير ممثل لجيله الجديد.
لم يتقيد موبسان في حياته بأي مذهب من المذاهب الفلسفية المعروفة. ومن قوله في هذا الصدد: (في العالم من الحقائق بقدر ما فيه من البشر فلكل منا فكرة خيالية للعالم. من هذا الفكر ما هو عاطفي، ومنها ما هو فرح وكئيب ودنس، أي حسب طبيعة كل واحد. ففكرة الجمال هي اصطلاح إنساني بسيط، وفكرة القبح رأى بسيط قابل للتغيير، وكذلك فكرة الحقارة التي يتعشقها الكثيرون، وأعاظم الفنانين هم الذين يستطيعون إرغام الإنسانية على اعتناق أفكارهم الخاصة)
كان موبسان كثير التخوف من الموت ومن قوله فيه: (أنا لا اعتقد باضمحلال كل كائن يموت)
وكان يخاف من الجنون وقد قال مرة لمدعويه: (يهمني كثيرا أمر الجنون، وسأكتب قصة عن رجل جن تدريجيا) ولشدة خوفه من هذا المرض كان يقضى لياليه عند عشيقاته كي لا ينام في غرفته وحيدا. وليس ما نطالعه في رواياته وقصصه من مواقف شاذة وأشباح مرعبة، سوى صورة جلية لما كان يقاسيه في سويعاته السرية من خوف وإرتعاب.
وعكف على درس كتب الطب وكان كلما اجتمع بطبيب يرهقه بالأسئلة عن أعراض بعض الأمراض حتى تبادر إلى أذهان الكثيرين من الأطباء أن موبسان يجمع معلوماته عن الطب لكي يضع رواية يحمل فيها عليهم وعلى علومهم.
وتسلط عليه أخيرا مرض رؤية نفسه فكان يرى ذاته أحيانا كما لو ينظر في المرأة ودخل(927/26)
فأبصر طيفه جالسا على كرسيه يطالع كتابا كان قد تركه منذ دقائق قليلة وألف قصة عن رجل كان طيفه يتعقبه بصورة دائمة وفيما يكتب ذات يوم جاء طيفه وجلس أمامه بالذات، وأخذ يملي عليه ما كان يكتبه فأرتاع من شدة الخوف وصاح رافعا يده يريد طرد تلك الرؤية الغريبة.
وكان في أيام الشتاء يجلس إلى الموقد وهو يرتعش من شدة البرد حتى إنه أيام الحر كان يحتفظ بنار موقده مستعرة. وكان يفكر في الذباب الذي يعيش بضع ساعات، وفي الحيوانات التي تعيش بضعة أيام، وفى البشر الذين يعيشون بضع سنوات وفي العوالم التي تعيش بضعة قرون. ثم كان يتساءل: فما الفرق بين الحشرة والكون؟
بضعة شروق شمس لا أكثر ولا أقل!
وكان لشدة خوفه من الموت يقول: (إن الموت يقترب مني أريد أن أمد إليه يدي وأبعده عني. إني أراه في كل مكان: ففي الحشرات المدوسة على الطريق، وفى الأوراق المتساقطة على الأرض، وفى الشيب الذي يجلل رأس هذا الصديق! إن هذا كله يدمي قلبي ويصيح قائلا لي: أنظر! إنه يقضي على كل ما تفعله وكل ما تنظره وتأكله وتشربه وتحبه! إنه يحرمني رؤية شروق الشمس، وبزوغ البدر، وتقلب أمواج البحار، وجريان مياه الأنهار ونسمات العصر البليلة التي ينعشنا تتنشقها!)
وساءت حالته الروحية بعد فقد أخيه (هرفه) على أثر نوبة جنون أنتابته. ولكنه ازداد نشاطا وانعكافا على الكتابة وتأليف القصص والروايات، حتى إن هذا الدور كان من أكثر أدوار حياته إنتاجا، كما لو لأن السموم التي تفسد دمه، استخرجت أفضل ما فيه قبل أن تقضي عليه. وكان يترآى له كل ما في منزله من أثاث وأدوات يتحول إلى حيوانات كانت تدخل غرفته ثم تخرج منها وتنزل الدرج إلى الشارع. ووقف مرة أمام صليب كبير كان قائما في إحدى الساحات وقال لخادمه: أنظر يافرنسوا لقد كان في الثالثة والثلاثين عندما صلب، وأنا الآن أقترب الحادية والأربعين!
لقد كان موبسان رسام النفس البشرية الأكبر. كان يرسم بدون بغض وبدون حب وبدون غضب وبدون شفقة كان يرينا ما في هذه النفس من شوائب وعاهات بلباقة وإتقان يحملاننا على الاعتقاد بأنها حقائق ننظرها بأعيننا ونلمسها بأيدينا.(927/27)
وبعد منتصف ليل رأس السنة بساعات قليلة، تناول مسدسا وأطلقه على رأسه بحركة جنونية. ولما رأى أن المسدس كان فارغا أخذ يطعن عنقه بشفرة للحلاقة إلى أن سالت دماؤه ثم أخذ ينظر إلى فعلته هذه بصورة تدل على قلة الاكتراث ولما أسرع الخادم إليه صارخا قال له: أتنظر يافرنسوا ماذا فعلت؟ إنه الجنون بعينه!
وقدم الأطباء وضمدوا جراحه وفي اليوم التالي حملوه إلى البحر لعل رؤية يخته تعيد إليه وعيه. فحدق قليلا في اليخت، ثم حرك شفتيه كطفل ولم يقل شيئا وعادوا به إلى البيت حيث توفى، وقد كان ذلك في عام 1893.
(العصبة)
إسكندر كرباج(927/28)
3 - فن القيادة
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
بقلم الأستاذ محمد أديب العامري
وفي الختام لابد للزعيم من أن يجمع في حسبانه بين والتقاليد والعادات. اجل إن الحياة عنده والبقاء فضيلة، ولكنه يبني بناء المستقبل من مواد الماضي المتينة، فيسكبها في قوالب تخضع لحاجات الحاضر، لكنه لا ينبذها. ولقد أوضح (كبلنغ) في قصة رائعة كيف يعاقب آلهة النهر بنائي الجسور الذين يخرجون على القوانين القديمة في الأعمال. إننا نحن رجال القرن العشرين المسلحون تسليحا عجيبا للتغلب على العالم لكن للعالم أساليب شنيعة في الانتقام لنفسه، ولا يسهل علينا دائما أن نبصر جرائر أعمالنا. ففي الثورة مثلا يقوض الناس وسائل الدفاع المعهودة في البلاد غير أن هذا الرأي لا ينكشف إلا في النهاية. فالثورة الفرنسية انتهت بعهد الرجمة إلى الماضي أما الزعيم الحكيم فلا ينسى أن ما ينشره العراف لا تلتئم أطرافه بعد أن يكون السحر قد فعل أفاعيله.
ومهما يكن مركز الزعيم، وزيرا أو مديرا، أو رئيس مكتب، أو بناء، فأنه يتصل بتابعيه بطرق ثلاث: بالأوامر التي يصدرها والتقارير التي يتلقاها والتفتيش الذي يجربه. أما الأمر فيجب أن يكون واضحا، إن التخيل والتفكر يمكن أن يكون غامضا، والخطة التي لم تنفذ بعد يمكن أن تحمل في تضاعيفها آثار الرؤيا. أما الأمر فيجب أن يكون واضح المعالم، وجميع الأوامر يمكن ان يساء فهمها. لكن الأمر الغامض لا سبيل إلى فهمه قط. قال (نابليون): (إذا أردت أن تقوم بعمل قياما حسنا فأده بنفسك) ولكن هذا غير صحيح. أما القائد الحصيف فيعترف بأن الذين يدركون الأمور من الناس قليل، وأن جميعهم على وجه التقريب ينسون، فليس من الممكن إذن أن يقنع الآمر بإصدار الأمر، وإنما يجب أن يراقب تنفيذه وأن يتبصر عند إصدار الأمر بأي سبب يمكن أن يعوق تنفيذه، ولا جد لبلادة الناس ولا لسوء الطالع، ولذا يتوقع الزعيم دائما حدوث ما لا ينتظر. والزعيم الذي يسعى للحيلولة دون عوامل الخطأ ويحتاط لنقاط الضعف في الخطط؛ أقوى على تنفيذ ما يريد عندما يواجهه الناس بغبائهما وتعارضه الصدف السيئة، من زعيم آخر لا يحتاط لهذه الأمور.(927/29)
والحاجة إلى هذه الاحتياطات تكون أقل إذا فاز القائد بجماعة من حوله علمته التجارب أنه يستطيع الاعتماد عليهم ولكل زعيم وطني وزارته كما لكل قائد عسكري أركان حربه.
وهؤلاء المساعدون يعرفون خصائص زعيمهم كما يعرفون سبيلهم إلى خدمته، وهم لذلك يدركون تعليماته في سرعة متناهية ويراقبون تنفيذها إلى آخر حرف فيها، غير أن عدد الذين يمكن الاعتماد عليهم من الناس في هذا العالم قليل. وقد روى عن (الرئيس ولسون) قوله: إنه كان يثق بالبشرية، ولكنه كان لا يثق بالرجال جميعا أما القائد الصحيح فيشك بالبشرية ويثق بعدد قليل من الرجال.
وكيف السبيل إلى اختيار هؤلاء الرجال؟ إن أول واجبات الزعيم أن يتعرف إلى جماعات منهم يستطيع أن يختار منها أعوانه، ومن الصفات القوية في (المارشال بيتان) التي برزت عندما تولى قيادة الجيش الفرنسي كانت أستاذيته السابقة في الكلية العسكرية التي مرت على يديه فيها أجيال من الضباط الأحداث وكان (جامبيتا)
يتجول في كل ناحية من فرنسا ليتعرف إلى القضاء في دوائره.
والرجل الذي يكتسب شرف القيام بحكم بلاد يجب أن يحاول اكتشاف أحسن الرجال لأهم الدوائر الحكومية - وليس عليه أن يستفيد مما يجد بين فحسب ولكن واجبه يقضي عليه كما تقضي عليه مصلحته أن يخلق مواد جديدة. وتقوم الأحزاب السياسية خارج فرنسا بهذه المهمة. فالمحافظون مثلا في إنجلترا يصنعون هذا. إنهم يرقبون يقظة الجامعات الكبرى يرجون أن يجدوا فيها شبابا يتحولون في المستقبل إلى ساسة، وهنالك كلية خاصة فإذا أثبتوا ذكائهم فإن الحزب يكسبهم مقاعد في البرلمان كما يحاول رئيس الوزراء أن يقدم للأحسن منهم الفرص الممكنة فيبوئهم مراكز لمساعدة كوكلاء في البرلمان ولابد لزعيم الحزب من أيجند للحزب من حزبه رجالا يصلحون للحكم. وهذا الواجب يقع كذلك على مديري الأعمال الكبيرة ولا ريب أن بعض هؤلاء يدركون هذه الناحية فمدارس (كروسو) مثلا تدار بمهارة تدعوا للإعجاب فتهيئ لكل طالب الفرصة اللازمة ليتبوأ على المراكز التي تؤهله لها ملكاته
ومن الصعب في غالب الأحيان إيجاد التفاهم التام بين المساعدين إذ من الضروري هنا نفي التعصب أو التحزب المحلي في أية دائرة لتنسجم تلك الدائرة مع المصالح الأخرى،(927/30)
ففى السكة الحديد مثلا حيث تنشأ الخلافات بين الإدارة والأقسام الفنية أو في قيادة الجيش حيث ينشأ التشاحن بين مركز القيادة والضباط في الميادين في هذه الحالات يجب أن يدرك كل إنسان أن الجيش أو المعمل أو البلاد تشبه جسماً حياً قائما برأسه وأن أي اضطراب يقع بين أعضائه إنما يكون انتحارا محضا.
وكثيراً ما يقع أن المساعدين الذين يعجبون برؤسائهم ويخلصون في العمل لهم يتغلب عليهم الحسد بعضهم مع بعض بشره عنيف في التماس رضاهم، فيجب أن يحسب لهذه الحالات المتعبة حسابها وأن يعالجها المعالجة اللازمة لأنها ذات خطر كبير في نظام العمل، وكما يستطيع السائق الماهر الخبير أن يعرف بالإصغاء إلى آلة سيارته أن إحدى أسطواناتها لا يقع فيها اشتعال كما يجب، كذلك الزعيم الموهوب يعرف أن مساعديه لا يؤدون الخدمة اللازمة له، فيفتش عن السبب ويتوصل إلى معرفته وكثيراً ما يكون السبب تافها - قد يكون شيئا من الاتساخ في آلة الاشتعال، وقد يكون هزة للأكتاف لا تزيد عند تحليلها على حركة عصبية تؤول على أنها تحقير مقصود.
ويتلقى الرئيس تقارير عن نشاط موظفيه ونتائج التعليمات التي أصدرها إليهم وهو يطالع هذه التقارير في حذر وشك ولقد أعرف رئيسا لمصنع كان يقول أن جميع التقارير كاذبة. وكان على حق لأن كل شيء فيها تقريبا عرضة للمبالغة والتشويه والطريقة الوحيدة لتجنب الخطأ في الحقائق هي أن يجري المسؤول تفتيشا خاصا بنفسه من آن لآخر، ويكون لهذا التفتيش نتائج فعالة للغاية كما تكون الفكرة الناتجة عنه صحيحة ومدعاة لتصحيح للتقارير التي ترد فيما بعد، ويذكر (المارشال بيتان) حكاية وقعت في سنة 1951 عندما عين قائدا في إحدى القطاعات التي طالبت فيها القيادة العامة بالهجوم مرات متوالية كانت البلاغات الصادرة تدل على تقدم بطيء وخسارات فادحة فلما شك (بيتان) في الامر شخص إلى الجبهة ومعه المراصد اللازمة فوجد البلاغات قد شوهت لغاية إرضاء القيادة العليا وأن الانتصارات كانت خيالية لا أساس لها من الصحة والتقارير التي ترفع لأولي الأمر تكون دائما مرضية أو تقدم على شكل يرجع النظريات التي يؤمن بها صاحب التقرير
والقائد الذي يطالب موظفيه بما يريد يستطيع دائما أن يكسب عطفهم أكثر من قائد لا يبالي(927/31)
بالأمور. وأمثل الطرق لفرض الحزم في العمل هو أن يحيط القائد نفسه بالأشخاص الذين يجد فيهم من الصفات ما يرضيه ومن العادة أن يتقبل أي إنسان النقد إذا لم يكن هذا النقد موجها إلى خلفه أو إلى ذكائه والخطة الحكيمة في هذا الصدد أن يعرب المسؤول في سرعة وقوة عما يحس إحساسا قويا. وإذا وجه توبيخ قاس بسرعة فإنه يكون أقل إيلاما من الإبانة عن عدم الرضا المشحون بالكراهية. ويجب أن يدرك المأمورون أنهم عرضة للعقوبة إذا لم يقوموا بتنفيذ الموجه إليهم، كما يجب أن يعلموا حق العلم أنهم معفون من جريرة تنفيذ الأوامر التي تؤودي إلى تهلكة والقائد الحكيم يتحمل دائما المسؤولية الكاملة فيما يقوم من أعمال
والقائد المدافع الطبيعي عن شعبه ضد عدوان المعتدين. ومن اللازم أن يراقب قائد عماله أو جنوده أو يجاريه ليستوثق من أن المعاملة التي توجه إليهم من رؤسائهم عادلة محترمة. وهذا أصعب واجبات القائد، إذ يجب عليه أن لا يضعف من سلطة مساعديه ولا يصبر على التصرفات المسيئة التي يقترفها أصحاب السلطة منهم. وليس من قاعدة هنا يمكن سنها، وإنما يحاول المسؤول أن يرفع كفة ويرجح أخرى حتى يحفظ التوازن المطلوب ومن واجبات الزعيم أن يتنبأ ما استطاع بالتذمر الذي يمكن أن يقع فيعالجه كما يعالج الظلم قبل تقديم الشكايات. وللوصول إلى ذلك من الاتصال المستمر بالرجال الذين يعملون معه وهذا يعنى أن ينزل إلى الخنادق إذا كان قائدا عسكريا وأن يراه العمال قائما بينهم زائرا لهم آونة وأخرى إذا كان مديرا لعمل. ولابد للزعيم من خيال يسعفه فالاطلاع على حياة الآخرين شيء ضروري له لكي يتمكن من حماية الذين يكابدون المتاعب منهم. وسر الوصول إلى محبتهم أن يشعر معهم وأن يستطيع مساعدتهم في أعمالهم بالقدرة التي يستطيعون القيام بها هم أنفسهم. والناس يصبرون على تلقى الأوامر بل يحبون ذلك إذا كانت هذه الأوامر تلقى صحيحة واضحة.
ويختلف الحكم على القيادة في الفن اللازم لهما زمن السلم فالقيادة تعني إيصال جماعة من الناس تحت نظام صارم إلى غاية معلومة. والضابط في الجيش يعلم أن رجاله يطعيون إلا في الحالات النادرة من العصيان الخطير. وهو يحيط إحاطة تامة بالغاية التي يرمي أليها سواء كانت دفاعية أو كانت للاستيلاء على مقاطعة معينة. ورئيس مشروع تجاري كبير(927/32)
مثلا يعلم أنه يجب أن ينتج بضاعة من البضائع بسعر معين ومقادير محددة كما يعلم أن فشله يؤدى إلى دمار المشروع والى تعطل موظفيه وعماله ومن المعتاد أن يكون قادرا على السيطرة على الموقف مادام يتبع الأنظمة إلا في حالات يضطرب فيها النظام الاجتماعي والحاكم المطلق كالقائد العسكري يقود ولا يحكم.
أما رئيس الحكومة في أمة حرة فيوجه البلاد إلى أهداف متغيرة ويدير أعمال جماعات من الناس غير مكلفين بالطاعة ألا بعامل الخوف من الفوضى. وهذا العامل غير موجود في أيام السلم. ولا يستطيع أن يقوم بأي عمل دون أن يوجه أليه خصومه النقد بقصد إحلال رجل آخر مكانه في غير لين ولا رحمة ومساعدوه في هذه الحالة لا يبدون له الاحترام اللازم فإنهم أكفأ له وإن منهم خلفاءه في المستقبل.
وهنا يرد السؤال: ما هي الصفات التي نتطلبها في رجل تلقي أليه أعباء إدارة شؤوننا؟ وأول ما في هذا الباب هو إحساسه بما يمكن وما لا يمكن. وفى الأعمال السياسية يعتبر من العبث أن يخطط القائد لمشاريع عالية عظيمة إذا كانت حالة البلاد لا تأذن بتنفيذها. إن دوافع الشعوب الحرة تشبه متوازي القوى، فالسياسي العظيم يدرك كل الإدراك ماهية القوى ويخاطب نفسه دون أن يرتكب خطأ شنيعا فيقول: (أنني أستطيع أن أمضي إلى هذا الحد لا غير) ولا يسمح لنفسه أن ينحاز إلى طبقة متجاهلا رد فعل الذي يحدث عند الجماعات المهملة. والطبيب الحصيف لا يداوي مريضا من شكوى خفيفة عابرة بعلاج يولد مرض في الكبد. والسياسي العادل لا يرضي الطبقة العاملة على حساب الطبقة البرجوازية، ولا يطلق العنان للبرجوازيين على حساب الطبقة العاملة. وهو يجهد أن ينظر إلى الآمة نظرة إلى جسم حي كبير تعتمد أعضاؤه بعضها على بعض. وهو حرارة الرأي العام كل يوم، فإذا ارتفعت هذه الحرارة أعد العدة لتلافى الأمر وإراحة الأمة.
وهو يدرك الإدراك كله قوة الرأي العام ولكنه كسياسي ماهر يعرف انه يستطيع أن يؤثر فيه بسهولة فأنه يعرف قوة الشعب على عدم الاكتراث بمجهوده، وأن للناس ساعات يبدو فيها منهم العنف، وحق لهم أن يفعلوا إذا كانت الحكومة تجلب لهم الفقر وتحرمهم ما ألفوا من حرية أو تتدخل في حياتهم الخاصة. غير أنهم يرضون أن يسير بهم رجل يعرف إلى أين يتجه ويبدى لهم بوضوح اهتمامه الصميم لمصالح الأمة وأنهم يمكن أن يركنوا أليه(927/33)
ويعتمدوا عليه.
أما القدوة على معرفة ما يمكن وما لا يمكن فليست تعني استحالة بعض الأشياء لأن هذه صفة سالبة، ولكنها تعنى وقوع الأحداث التي تظهر عسيرة جداً. إن الرجل السياسي العظيم لا يقول لنفسه (هذه الأمة حفيفية) ولكنه يقول هذه (الأمة نائمة وأني سأوقظها) إن القوانين والأنظمة والمؤسسات من صنع الناس ولذلك أستطيع أن أغيرها عند الحاجة.
وأهم من ذلك كله أنه يتبع العزيمة والتصميم أعمال لا أقوال فقط. إن صغار الأحلام من السياسيين ينفقون معظم أوقاتهم في رسم الخطط والدعوة إلى المذاهب. إنهم يتحدثون عن الإصلاح والبناء ويخترعون أنظمة اجتماعية معصومة من الخطأ ويسنون خططاً لسم دائم ولقد قلنا عند بحثنا في فن التفكير أن المشروع شيء والعمل شيء آخر إن السياسي الصحيح يعرف عند الحاجة كيف يحترم في خطبه العامة النظريات الحديثة ويصرح بعبارات جذابة بفائدة الرجال الذين يحرسون أبواب المعابد، ولكنه من حيث الواقع إنما يعمل لسد الحاجات الحقيقية التي تحتاج أليها الأمة. فهو يقول مثلا. إن فرنسا سنة 1939 ينبغي أن تؤمن السلام قبل أي شيء آخر وأن تنشئ لنفسها دفاعا جويا بإنشاء عدداً أكبر من الطيارات وأن تزيد إنتاجها من الصناعات الأخرى، وأن تنظم أحوالها المالية تنظيما وطيداً. وهو يعمل على إنجاز هذه الأهداف الواضحة الصحيحة بأحسن الطرق التي يراها فإذا صادف عقبات في سبيله فأنه يدور حول هذه العقبات أما الغرور والكبرياء الثقافي والشعور بالحاجة الشديدة إلى نظام شديد زائد فأنها موانع خطيرة في وجه السياسي. وبعض زعماء الأحزاب على استعداد لتضحية بلادهم من أجل نظرية أو مجموعة من المبادئ. أما الزعيم الحقيقي فيقول: فلنتنح عن المبادئ ولنخلص البلاد) هل يكون علمه مبتورا؟ هل يعقب ذلك ظلم؟ إنه يدرك أن هذه ممكنات، وكل عمل معقد لا يتم بكامله. وفي كتاب (لجورج برنادو) يحاول كاهن مسن أن يعلم كاهنا صغيرا أن القديسين أنفسهم لا يستطيعون أن يحولوا ديرا إلى مجموعة من الأولياء ذوى الاستقامة والصدق التامين ولكي يدلل على هذا يروى الشيخ حكاية امرأة بلجيكية أرادت أن تحول كنيسة غير نظيفة إلى معبد نظيف مشرق النظافة فقامت على مهمتها وأخذت تزيل الغبار المتراكم ولكن طبقة من الغبار الجديد كانت تتراكم كل صباح كما كان العشب يبت هنا وهناك وتنسج العناكب(927/34)
خيوطها في الزوايا غير أن المرأة لم تيأس واستمرت في التنظيف والغسل، فأخذ الطحلب ينمو على رؤوس الأعمدة وتراكم الوسخ في الكنيسة أيام الآحاد. أما أيام الأعياد فقد أرهقتها وذهبت بقوتها واستمر الرجل المسن يقول (ولقد كانت مجاهدة ولا شك، ولكنها كانت مخطئة، وخطؤها لم يكمن في حملتها في سبيل النظافة ولكن محاولتها التخلص من الوسخ بتاتا، كأن شيئا مثل ذلك ممكن. إن الكنيسة مكان لابد من أن يظل متسخا.
والقارة أشد اتساخا من ذلك،
وخاصة إذا كانت قارة عجوزا مثل أوربا، غزتها طوال أجيال عديدة أعشاب والنمال بالكراهية والمرارة. وكان (ولسون) أشبه ما يكون بالمرأة البلجيكية فقد أراد أن يحيل هذه الأرض العتيقة المغبرة في سرعة مفاجئة إلى حلف من المحامين، كانت فكرة بديعة ولا ريب ولكنها كانت مستحيلة التنفيذ كما يستحيل اليوم أن نحاول تنظيف أوربا على أساس الواقع فيها مرة واحدة والى الأبد. والسياسي العظيم مثل الخادم البارع يعلم أن التنظيف عملية يجب أتتم كل صباح وهو يرى الشجار شيء طبيعي فيتحمله بصبر لأن شجارا آخر سيحدث على أثر ما يهدأ الشجار الأول، وهو يوافق على إجراء تسوية مؤقتة وإن كانت لا تكفل له ما يرد، لأنه يعلم أن لاشيء في الحياة البشرية يكفل لأي إنسان كل ما يريد بصورة دائمة. والسلم عالمية أو اجتماعية لابد أن تجئ وإن حالت ذلك عقبات متكررة فتمر سنوات عشر أو عشرون يتم خلالها عمل الجيل ثم يتبع ذلك جيل آخر يمارس حياته اليومية من جديد.
ومن حق الزعيم الذي ينال لقبه عن جدارة أن يكون مطاعا. فالمجتمع البشري الذي لا يستطيع أن يولي زعماءه الذين أختارهم الاحترام اللازم مجتمع مقضي عليه، لأنه لا يستطيع العمل. ولا مانع بالطبع من أن يفضل المجتمع نظاما من الحكم على نظام ففي زمن الحرب مثلا يضطر إلى أن يستبدل بالنظام المدني النظام العسكري، فإذا تم ذلك وجبت الطاعة للزعماء الجدد. أما عدم النظام فيحتم الهزيمة في الجيش والدمار في الصناعة وأما المجتمعات التي تقع تحت رحمة الأنظمة المتضاربة فتنظيمها سيئ فمن ذلك أن يتقسم العمال داعيتان مختلفان، صاحب العمل والنقابة. وهنا يجب أن تعرف حدود صاحب العمل وحدود النقابة معرفة واضحة. فإذا تم ذلك كان لكل منهما سلطان مطلق في(927/35)
الناحية التي يختص بها: وقد دلت التجربة في إنجلترا والبلاد الاسكندنافية على أن ذلك ممكن.
ومن حق الزعيم أيضا أن يحافظ على زعامته، إذ كيف يستطيع زعيم أن يصل إلى نتائج حسنة دون أن يكون لديه الوقت الكافي. وقبل أن يعهد إلى رجل بإعادة تنظيم مستعمرة أو تأسيس مصنع للطيران، من المحتم أن يجرى بحثا واسعا وأن نثق أن هذا الرجل هو أحسن الناس للمركز المطلوب: لكن إذا اختير الرجل كان من الواجب إفساح المجال له وإطلاق يده إلا في الحالات إلى يتضح فيها أن خطأ وقع في الاختيار، وأن الرجل غير جدير بالثقة. إن الوقت يتيح للإنسان إنشاء علاقات لا حصر لها ويسهل له الاضطلاع بأعباء السلطة.
وكيف يستطيع المرء أن يوفق بين الإدارة الحازمة والوقت اللازم لها وبين حق الناس في الانتقاد بحرية؟ ألا يتحول قائد له سلطات مطلقة لا كابح لها إلى رجل عسوف أو مجنون؟ أما (الدوس هلسكي) فقد أخترع أخبار (لعبة القيصر) فنظر في أصدقائه على أساس ما يصنع منهم كقيصر لو أسندت إليه السلطة العليا فلم ينجح في الاختبار إلا عدد قليل. ومن الواضح أن النقد ضروري ولكن السؤال هنا هو ماذا يستطيع النقد أن يفعل وإلى أي حد أن يذهب؟
أما في الجيش وفى الأعمال التي تتطلب أجراء مباشرا فتجب الطاعة العمياء ويجئ النقد هاهنا. من القادة أنفسهم أما في الحالات العادية من حياة الناس الحرة فإن كل إنسان يملك حق النقد في حدود يعينها الاختبار، فإذا أجمعت الأمة كان من الواجب أن يتغير قادتها من وقت إلى أخر لكن يجب أن لا يشهر بهم ولا أن يتغيرا مرات عديدة أو يسيرهم رجل الشارع وفى إنشاء الحرية الصحيحة يجب أن يقوم ذلك لا على قوانين عادلة فحسب ولكن على أخلاقية قويمة أيضا وعلى درجة استحقاقنا للحرية كشعب تقررها قدرتنا على احترام الزعيم النظامي وعلى الموافقة على المعارضة والإصغاء إلى ما تقول به وأن نضع صالح الأمة فوق صالح الأحزاب والنفع الخاص وليست الحرية شيئاً غير قابل للضياع إنها منحة هامة ولكنها عسيرة المنال ويجب أن نتمسك بها دائما أبداً.
هذه التربية الخلقية التي أشرنا أليها أشد ضرورة للذين كتب لهم أن يقودوا الناس إذ(927/36)
بالإضافة إلى قدرة الزعيم على ضبط رفاقه فإنه يجب أن يكون ذا إحساس قوى بالواجب وهو لا يستطيع الاحتفاظ بمركزه إلا إذا أثبت كل يوم أنه جدير به. وليس زعيما قط من إذا وضع على رأس جماعة أو مشروع حاول أن يجلب النفع لنفسه وليس زعيما من يرضي بقيادة في جيش ويجعل لذاته فوق واجباته. وليس زعيما كذلك من يقع فريسة الغضب أو التحيز، ولا من يضحي وهو ممثل دبلوماسي بمنفعة بلاده الخارجية في سبيل المؤامرات والمشاحنات الداخلية. إن مجال الطبقة الحاكمة هو الإدارة أي توجيه البلاد في سبيل الشرف والعمل. والقيادة ليست ميزة ولكنها أمانة وشرف.
محمد أديب العامري(927/37)
رسالة الشعر
فلسطين الضائعة
للأستاذ كمال النجمي
خلت فلسطين من سادتها ... وأقفرت من بنى آبائها الشهب
طارت عن الشاطئ الخالي حمائمه ... وأقلعت سفن الإسلام العرب!
يا أخت أندلس بذلا وتضحية ... وطول صبر على الأرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعة ... ضياع أندلس من قبل في الحقب
وطوحت بينك الصيد نازلة ... بمثلها أمة القرآن لم تصب
ذادوا عن الدار حتى ذادهم قدر ... عدا على الدار والأسوار والرحب
يا أخت غرناطة عزا وقرطبة ... في مواق من شباب الدهر مختلب
سلبت من يد أهل الحق مثلهما ... بسيف منهك للحق مستلب!
أهلوك أين همو؟ شطت مهاجرهم ... وأسلموا كخماص الطير للعطب
عاشوا جياعا فلما حان حينهمو ... جادوا بأنفسهم حري من السغب
باتوا رماماً جفاه الذئب من شفق ... ورحمة وعداه الصقر من أدب
تجوزه ساريات الريح معولة ... عويل ثاكلة مرت علي الترب
اللاجئون بأهليهم وصبيتهم ... والتائهون بهم في كل مضطرب
والنازحون عن الأوطان شتتهم ... بطش العدو وبأس الحادث والحزب
نأوا بأطفالهم خوفا كأنهمو ... حمائم هاجرت بالأفرخ الزغب
ويقتل النفس من غم ومن كمد ... فناؤهم وهمو منا على عثب
ديارهم كيف باتت بعدما نزحوا ... عنهاوباتوا على الأحجار والكثب؟
منازل خفتت أضواؤها ونأت ... أطلاؤها وخلت لليوم والغرب!
يحلق الشهداء الأوفياء على ... ركامها نحبا في ربعه االخرب
كم مسجد بعدهم عاث اليهود به ... نشوى رءوسهم من سكرة الطرب
وبيعة سكرت فيها بناتهمو ... وما خجلن وأخجلن أبنة العنب
معابد لا الدعاء السمح منطلق ... منها ولا لغة القرآن والأدب(927/38)
آضت طلولا يلم الرسل من جزع ... برسمها وينوح الصحب من حرب!
وكم كعاب أذيلت في طهارتها ... وطفلة فجعت في عرضها وصبى
ورب طفل بكى اهتزت لدمعته ... وصائل البيت ذي الأستار والحجب
بكت له الملة الغراء وإلهة ... وأجهشت ملة الرهبان والصلب
يا آل يعرب في مصر وجيرانها ... ملأتمو سمع هذا الكون بالصخب
لما تكلم صهيون بلهذمه ... جاوبتم السيف بالأسجاع والخطب
أضعتمو بلدا عاش الخليل به ... وأنزل الله فيه أول الكتب
مشى البراق على بطحائه وسرى ... بأحمد فوق مسرى الريح والسحب
فليهنأ العرب بالنصر الذي غنموا ... وليغمد القضب الأبطال في القرب
ضحية الغدر، اسلبنا مدامعنا ... بريئة كدموع المزن لم تشب
أجرت عليك مآق غير كاذبة ... دمعا تنزه مسفوحا عن الكذب
إن لم يعنك على عاد فمعذرة ... لأخوة لم يضنوا بالدم السرب
فقد تحكم فيهم أجنب شرس ... مسيطر فوقهم بالقهر والغلب
يمينه سامة عرب أبالسة ... أزرى بهم كلف بالحكم واللقب
مافيهمو غير خوان لأمته ... مضيع لحقوق الشعب مغتصب
يسير في خيلة الأبطال منتفخا ... يهز في يده سيفا من الخشب
يجر أذيال ألقاب منمقة ... يختال فيهن كالطاووس ذي الذنب
أخيذة الغرب هل في الشرق من رجل ... مثوب في سبيل الحق معتصب
ذي مرة لم يشب أخلاقه دنس ... ولا أطباء هوى اللذات واللعب
يقود يعرب نحو المجد منطلقا ... في مهيع واضح عالي الصوى اللحب
لا تيئسي فرحاب الصبر واسعة ... والحظ في صعد آنا وفي صببي
ولن تكوني لصهيون ودعوته ... إلا جهنم فاضت منه بالحطب
هل بين هارون أو موسى وبينهمو ... من واشج يصل الأرحام أو نسب؟
ما قوم موسى كليم الله شرذمة ... تبيع أعراضها للناس بالذهب!
يا فلذة من فؤاد الحق قد قطعت ... بصارم من دم الأعزال مختضب(927/39)
لم يبق غير رماد منك محترق ... مبدد كرماد النار منتهب
هنا إليك صلاح الدين مدكرا ... خالي الوقائع من تاريخك العجب
أطل فوقك شوقا وانثنى ولها ... بدمع غارق في الدمع منتحب
يدعو إليك أسود الله ضاربة ... تعدو على مهج الأبطال والقصب
دعاء ليث له في كل معترك ... طعن القنا وزئير الضغيم الغضب
ماض على سنة الآباء مقترب ... لله مقترب في الله محترب
بما أدرت لبوءات الفلاة غذا ... أعراقه ونما في خيسها وربى
يا بوم حطين عد للشرق ثانية ... واخلع على العرب من أثوابك القشب
أعد إلينا صلاح الدين في أجم ... من القنا وخميس زاخر لجب
كائن للجن في حطين مزدحما ... منه يمس قلوب الجن بالرعب
ساورا كتائب للرحمن داعية ... بالبيض تغمر وجه الأرض واليلب
يفرجون عن الإسلام كربته ... ويمنعون كريم المجد والحسب
ويقهرون العدا إما التقوا بهم ... في ساحة رحبة أو معقل أشب
القاحمون على الآساد معقلها ... والواثبون وثوب الجن في اللهب
والقارئون كتاب الله في رهب ... والواردون حياض الموت في رغب
سادوا الدنيا في ظلال الله راضية ... وغادروها فنالوا أجر محتسب
إيه فلسطين والأيام راكضة ... بنا تقطع قلب الدهر بالخبب
ماذا سقتك يد الأيام من غصص ... أليمة ورماك الدهر من كرب
لما سقطت بكى القرطاس من وله ... عليك وأنشق صدر السيف من غضب
يبكى عليك بنو الإسلام من عدن ... إلى الرياض إلى مصر إلى حلب
قد ذاب كل فؤاد حرق وجوى ... وانشق كل جماد منك لم يذب
بي منك جرح فتى ضيمت عروبته ... ومسلم حيز منه عرضه وسبي
ولم أزل كأبي أهفو إليك أسى ... وينثنى لا عج الأشواق نحوك بي
قاسمت فيك الأسى شعري فقاسمني ... حتى وهيت وضج الشعر من لغب
(القاهرة)(927/40)
كمال النجمي
الرجوع إلى النيل
للدكتور زكي المحاسني
ماذا تركت من الهوى لفؤادي ... من بعد تسهادي وطول ودادي
خل التواصل للأحبة كلهم ... كان الهوى أقوى على الأبعاد
خالفت في أهل الصبابة حكمهم ... فهمو أرادوا الحب في الآحاد
لكنني أبغي الغرام شراكة ... فاحمل معي عبء الهوى المنآد
كل يحب الشمس فاسكب ضوءها ... في العين والأضلاع والأكباد
إنا نزلنا مصر، لا في زورة ... محسوبة الأيام والميعاد
فسل الزمان يجبك: هذي دا ... رنا أيام كان الفتح بالأجداد
فإذا عشقنا أرضها وسمائها ... وهفا النخيل بنا على الآباد
فلقد رأيناها مرايا عزنا ... عكست دمشق وملتقى بغداد
فأعذر حبيبك إن أتاك مكاثرا ... يحدوه نحوك باشتياق حادي
خلق الجميل لكي يحب ويشتهي ... ويقول من يلقاه ذاك مرادي
يا مصر يا بنت الخلود جديدة ... وقديمة، يا كعبة القصاد
هذي وفود الشام أقبل جمعها ... ليراك بين مطارف الأبراد
مهد الكنانة أنت بل دار الندى ... شهد الوفاء عليك هذا النادي
فأعجب بكل معلم من أهله ... نذر الحياة لحكمه وسداد
وأشرب كؤوسك من رحيق نيله ... يشفي من الأدواء والأحقاد
وإذا رجعت إليه يوما مثلما ... رجع الطيور صدى إلى الأوراد
فقل الذي أسكرتموه بنيلكم ... أنتم كتبتم عوده لمعاد
زكى المحاسني
الملحق الثقافي السوري بمصر(927/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قطع العلاقات الأدبية:
أصدرت الحكومة قرارا يقضى بخطر تصدير الورق المطبوع وغير المطبوع، علاجا لأزمة الورق الحاضرة، حتى يتوافر في داخل القطر ما يرد منه. ويتضمن ذلك منع إصدار الكتب التي تطبع في مصر إلى سائر البلاد العربية. . وهذا قرار بالغ الخطورة! أهون منه حل جامعة الدول العربية وكل ما ينشأ بين الحكومات العربية من خلاف وسوء تفاهم. . . فالكتاب هو السفير بين البلاد، وهو سفير يعمل على توطيد المودة وتعزيز القرابة بين أهلها، وهو سفير صامت يعمل في غير تظاهر ومآدب وحفلات، لا يخطب بكلام يرن بين الأركان ثم يذهب في الفضاء، وإنما يتحدث إلى العقول والقلوب فتستكين إليه ويستكين بها، فأن ذهب تسرب إلى قرار النفوس وبواطن المشاعر.
فالكتاب بين البلاد العربية أساس وحدتها وقد سبق (البرتوكولات) بل مهد لها وقامت عليها. فليت شعري كيف ينزع الأساس ويظل البناء قائما!
والعجيب أن ذلك القرار يشمل منع الكتب عن جنوب الوادي: السودان! وهنا معنى سياسي لست أدرى كيف خفي على من أعدوا القرار. . . وهناك أيضا نواح عملية لست أدري أيضا كيف خفيت عليهم، فلنا في السودان مدارس تصرف لها الكتب من مصر. . ولدار الكتب المصرية فرع في الخرطوم من الطبيعي أن تمده بما يجد من الكتب، وكذلك هناك مكتبة النادي المصري بالخرطوم. وإخواننا السودانيين على العموم يحفلون بالمؤلفات المصرية ويستقبلونها من لدنا كما نستقبل من لديهم ماء النيل.
والعجب يبلغ أشده كلما أنعمنا النظر في ذلك القرار. . والظاهر أن الموظفين الذين فكروا فيه وأعدوه إنما نظروا إلى الناحية المادية والتجارية المحضة، نظروا إلى الكتب على أنها بضاعة كالأرز والبصل يمنع إصدارها لتكثر في الأسواق المحلية ولم يخطر ببالهم أن قطع الكتب إنما هو قطع العلاقات الأدبية وصد للتيار الفكري بين البلاد العربية، بل أقول إن النظرية المادية التجارية نفسها غير سليمة، فمستهلكو الكتاب المصري في مصر قليل، وهو يعتمد على قراء البلاد العربية الأخرى، فمنعه من التصدير معناه الكساد وما في هذا(927/43)
الكساد من القضاء على الحركة الفكرية في مصر. ولندع الحركة الفكرية ونستمر في المناقشة الاقتصادية إن المواد يمنع من التصدير لتقوم بالحاجة المحلية، فماذا نصنع بالورق الذي يستعمل في طبع الكتب، والكتب قد حكم عليها بالكساد. .؟
وهناك - من الناحية الاقتصادية والاجتماعية أيضا دور النشر والطباعة وعمالها. . أليس في الحسبان ما يصيبهم من أضرار وتعطل؟ هل من النظر الاقتصادي السليم أن تحل أزمة بأزمة. . فيدير توافر الأوراق بتوافر البطالة في البلاد.
أن ذلك القرار من أين أتيته وجدت فيه الخطر والعجب والمخلص الوحيد منه أن يتداركه أولوالأمر، وفيهم من لا تخفى عليه دقائقه.
فلم (ليلة غرام):
كنت قد أخذت نفسي - في فترة مضت - بتتبع ما يعرض في الأفلام المصرية، والكتابة عنها، قاصدا بذلك أن أسلك طريقا أو أساهم في طريق يؤدى إلى حسن استخدام صناعة السينما في نفع المجتمع وخير الناس من حيث معالجة المسائل القومية والاجتماعية، وتهيئة أسباب المتعة الفنية البعيدة عن التبذل والإسفاف وقد رأيت - إذ ذاك إزاء خطر هذا الفن باعتباره أكثر الوسائل اتصالا بالجمهور - أنه ينبغي أن نصبر على ما في البضاعة من تفاهة وغثاثة، وأن نولي هذه الناحية اهتماما لا بالنظر إلى المعروض، بل نظرا إلى المثال المرجو منها وأيدني في ذلك بعض القراء وخالفني آخرون قائلين: ما هذا الذي تكتبه عن شكوكو وكاريوكا وإسماعيل يس؟ اعدل بنا يا رجل عن هذه الأشياء إلى الأمور ذات البال. .
وحين وصل إلى سمعي ذلك القول كان صبري قد نفذ وضقت ذرعا بتلك الأفلام، فعدلت عنها واكتفيت بتتبع الروايات التمثيلية ذات القيمة الأدبية التي تمثل على المسرح الراقي
وأخيرا علمت أن هناك فلما أخرج من قصة (لقيطة) التي ظفر كاتبها الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله عنها، بجائزة مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ سنوات، وقد سمى الفلم (ليلة غرام) على اعتبار أن اللقيطة كانت ثمرة لتلك التي التقى فيها أبوها حرام. شاهدت الفلم لمكانة قصته وصاحبها من الادب، ولنلق أولا نظرة على مجمل القصة قبل الكلام عليها: يعرض الفلم حياة إنسان من حقه أن يكون له بذاته اعتبار في المجتمع ولكن(927/44)
المجتمع يضطهده ويأبى عليه هذا الحق لذنب جناه غيره، ذلك الإنسان هو (اللقيطة) التي قذفت بها الأقدار عقب ولادتها إلى ملجأ اللقطاء حيث نشأت لا تعرف لها أبا ولا أما، ثم خرجت منه بعد أن شبت إلى ميدان الحياة وكانت في الملجأ تعانى شعورها بحرمان الأبوين، فلما أتيح لها شيء من الاستقرار والنجاح في معترك الحياة جعلت تصارع لؤم الناس وسوء نظرهم أليها لأنها لقيطة فقاست ألوانا من الألم والبؤس صبرت عليها في إيمان ثابت يغذيه ويقويه في نفسها (السيد الأمير) وهو رجل من علماء الإسلام مستنير العقل واسع الأفق، كان مبدأ صلتها في المستشفى الذي كانت تعمل ممرضة فيه وكان هو يعالج هناك، ولما يئست هي وخاطبها الطبيب الشاب الذي أحبها وأحبته، من موافقة أبيه الثرى على زواجهما، لجأ إلى السيد الأمير الذي استطاع بقوة وشخصيته الدينية أن يقنع الوالد بأن البنت لا ذنب لها جناه أبواها المجهولان، وكان الحل الأخير أن يتبنى السيد الأمير الفتاة، ويتم الزواج ليس الموضوع - وهو الدفاع عن اللقيط البريء ضد المجتمع الذي يظلمه - ليس هذا الموضوع جديدا، وليس حتما أن يكون الموضوع جديدا، فالعبرة بالمعالجة وطريقة التناول وقد عالجه المؤلف علاجا حسنا، وتناوله من نواح واقعية، وصوره في صورة حية، وربما بينها بخيال محبوك الأطراف وبذلك خرج هذا الفلم عن المدارات المتشابهة التي تدور عليها الأفلام المصرية، وجانب المبالغة التي تعرضها قصدا إلى الإثارة، وليس بهذا الفلم فراغ كالذي يسد في الأفلام الأخرى بمناظر التهتك وعرض المتباذل، ففيه موضوع يشغله عن ذلك وقد أخرج الفلم أحمد بدرخان فأحسن إخراجه، بتنسيق المناظر وتوجيه التمثيل، والمحافظة على ما في القصة من معان أدبية جميلة، بل بترجمة هذه المعاني إلى لغة السينما ووسائلها فجمع مثلا بين مناظر الشروق والغروب وبين خواطر البطلين في الأمل واليأس، وكانت شخصية السيد الأمير موحية بكثير من المعاني الروحية القوية، وكانت وسيلة لمعالجة المشكلة من وجهة النظر الإسلامية
وفى القصة كثير من المصادفات التي استعين بها على تسلسل الحوادث وحبكها، وهي مقبولة لأنها لا تخرج كثيرا عن الواقع، وأرى لهذه الكثيرة أن إظهار الأم مريضة في المستشفى للتعارف هي وأبنتها اللقيطة، وكان صدفة مفتعلة زائدة علي ما أشبعت به القصة من مصادفات، وكان يمكن الاستغناء عن هذا المنظر دون أن يخل ذلك بمجرى الحوادث.(927/45)
التصوير الفني في القرآن
أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي كان مقررا أن يلقيها الأستاذ أحمد الشرباصي في الجامعة الشعبية، عن كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب. وحالت بعض الظروف دون إلقائها. وأذكر الآن أن الأستاذ ألقى هذه المحاضرة في جمعية الشبان المسلمين يوم الثلاثاء الماضي. أستهل المحاضرة بمقدمة عن سوء التفاهم بين الرجال الفن ورجال الدين، ولتمسك الأولين بالتحرر والانطلاق والتزام الآخرين التزمت والتقيد، وقال إن كلا منهما يغالي في طرفه، ولو أن الفريقين تركا هذا التغالي لالتقيا عند هدفهما الواحد وهو طلب الجمال الروحي وعد المحاضر كتاب (التصوير الفني) أول عمل صريح في سبيل ذلك الهدف، وقال إن المؤلف هو أول من كشف عن القاعدة التي بني عليها كتابه، وهى أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن فهو يعبر بالصورة المحسسة المتخيلة عن المعني الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية ثم يرتقى الصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة ثم أتى المحاضر بأمثلة من الكتاب تطبيقا لهذه القاعدة ومما قاله أن بعض الناس أدعى انه سبق المؤلف إلى هذا الموضوع وهى دعوى مردودة لأن الأستاذ سيد قطب كتب مقالا - قبل إخراج الكتاب - في مجلة المقتطف بعنوان (التصوير الفني في القرآن) سنة 1938 أي في الوقت لم يكن أحد فيه قد كتب شيئا متصلا بهذا الموضوع
ثم أبدى المحاضر بضع ملاحظات تتلخص فيما يلي:
1 - تمنى لو أن المؤلف كتب فصلا عن معنى كلمة (التصوير) وكلمة (الفني) بالنسبة للقرآن لأن الاصطلاح جديد.
2 - قال إن المؤلف كان يعيب على الرافعي أسلوبه لأنه يعبر بالصورة الحسية عن المعاني الذهنية، على حين أنه يثني على هذه الطريقة في تعبير القرآن.
3 - ذكر أن المؤلف أستعمل تعبير (سحر القرآن) وتمنى لو أنه أستخدم بدلا منه (جاذبية القرآن) أو (روعة القرآن) لأن السحر في الأغلب بدل على المعنى الخداع والتغرير، وهو الذي كان يقصده الكفار حين وصفوا به القرآن الكريم.(927/46)
4 - لاحظ على فصل (المنطق الوجداني) في القرآن أن المؤلف يقول: أن العقيدة تقوم على وجدان، وقال: إن الوجدان يجئ سابقا حقيقة ولكن العقل ولكن العقل يتدخل بعد ذلك ليبرهن على ما تأثر به الوجدان.
5 - أعترض على عبارة في الكتاب جاء فيها (أدركنا سر الأعجاز في تعبير القرآن) قائلا بأن سر الأعجاز في القرآن لا يدركه فرد ولا يدركه جيل.
وختم الأستاذ الشرباصي محاضرته بالإشادة بقيمة الكتاب ومكانة موضوعه الجديد من الدراسات الإسلامية، مقترحا أن يدرس هذا الموضوع في كليات الأزهر وكليات الجامعة التي تدرس اللغة العربية
وقد تحدثت بعد ذلك مع الأستاذ سيد قطب وسألته عن رأيه في الملاحظات فشكر جهد الأستاذ الشرباصي في المحاضرة وعبر عن أثرها الطيب في نفسه، ثم رد الملاحظات واحدة واحدة، وقال عن الأولى: أحسب أنني شرحت عبارة (التصوير الفني) ولكن في غير صورة التعريف والتبويب فالكتاب كله إنما هو شرح وتمثيل وتطبيق، وفى مقدمة فصل (التصوير الفني) ما يغني، وقد تتابعت فصول الكتاب كلها لتشرح هذه القاعدة الكلية وتمثل لها وتوضحها.
وقال عن الملاحظة الثانية: لا أذكر أن هذا كان مأخذي على أسلوب الرافعي، بل أذكر أنه كان العكس، فقد كنت آخذ عليه الألاعيب الذهنية في التعبير، والجمل التي ينبع ذيلها من رأسها، والعكس، والتي يحسبها القارئ ماشية (تتقصع!) وتضع يديها في خصرها على الطرس! وليس شيء من هذا كله بسبيل من ذلك الأسلوب القرآني الذي أبنت عنه في الكتاب وقال عن الثالثة: رأى أنه مادام المعنى اللغوي يحتمل هذا ويحتمل المعنى الآخر وهو لطف المدخل والجاذبية فإن العرف الأدبي إذن هو الذي يحدد، وعرفنا الأدبي الحاضر لا يعتبر سحر البيان معناه الخداع والتغرير، بل وصف استحسان وقال عن الرابعة: أحسب أنني كنت معنى خاصا حينما قلت (المنطق الوجداني) فأنا لم أعن مجرد التأثر الوجداني بل (المنطق الوجداني) فقد أردت أن أفرق بين هذا المنطق وبين (المنطق الذهني) والمنطق الوجداني هو الذي يقوم على الانطباعات الوجدانية والمقدمات الوجدانية والتأثرات الوجدانية ولكنه (منطق) وليس مجرد تأثر، أي أنه حكم تسبقه مقدمات من نوع(927/47)
معين، وأما المنطق الذهني فهو الذي يقوم على الأقيسة المجردة الخالية من الانطباعات والتأثرات. ثم جعلت للذهن وظيفته المحدودة في بناء العقيدة، ولم أنفه من مجالها بتاتا
وقال عن الملاحظة الخامسة: أحسب أن معنى إدراك سر الأعجاز في التعبير القرآني لا يعني الكشف عن إعجاز القرآن، فأجاز القرآن فقط في تعبيره، بل خصائص أخرى كثيرة ترجع إلى صميم الأفكار والمبادئ التي تضمنها، وأما إعجاز التعبير فكل جيل يدرك سره كما يراه، ولا يمنع هذا أن يأتي جيل آخر فيدرك هذا السر من زاوية أخرى.
عباس خضر(927/48)
الكتب
كتاب (من أسرار اللغة)
تأليف الدكتور إبراهيم أنيس
الأستاذ بكلية دار العلوم
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
لو أن كل متخصص في نوع من العلوم أو لون من الفنون قدر قيمة درس وأخلص في خدمة ما أهلته الحياة أو الدولة له لظفر العلم والأدب بأوفى نصيب من الإنتاج ولجنت الدولة والأمة أينع الثمرات. ولكن تختلف والبواعث تتفوات لهذا اختلفت القيم وتباينت الشخصيات
وكم سافر أناس في بعثات بعد أن اختارتهم الدولة وآثرتهم الأمة فمنهم من أنشغل بمآرب قضاها الشباب هنالك، ومنهم من عاد فأعجب بالمنصب مع زخرف اللقب ولم يفعل غير ذلك، وقليل منهم من وهب الرشد وقوة الجلد فلم يكن من هؤلاء ولا من أولئك.
أقول هذا بمناسبة ما ألفه أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس من كتب متعددة في موضوعات مختلفة كانت كلها ثمار غرس أحسن القيام عليه والعناية به على ضوء ما درسه وتخصص فيه فأسرى وأمثاله، وأنتج وأشباهه خاملون. وأخر ما جلته قريحته هذا الكتاب الذي جعل عنوانه (من أسرار اللغة) عاد أستاذنا من إنجلترا 1942 ونحن إذ ذاك طلبة في السنة الرابعة بدار العلوم فدرس لنا فقه اللغة وكنا على طريق نقيض نحن متعصبون للقديم من آراء اللغويين لا نريد منه فكاكا وهو متشبع بالأبحاث الحديثة لا يؤثر عليها قيودا، ومازال يداورنا فلتزمت ونقف في طريقة فينساب ولكنه احدث في جمودنا ثقوبا شعت منها أضواء بعد أن جعلناه يلتفت شيئا ما إلى الوراء ثم دارت الأيام ونفذ أستاذنا إلى خفايا الكتب العربية ليعيد فيها النظر على أضواء خبرته ودراسته وبدأت جهوده المتوالية المباركة تؤتى ثمارها كتباً قيمة ومحاضرات ناضجة بنيت على أحدث النظريات مدعمة بكثير من أقوال العلماء السابقين إن فصول الكتاب وأبوابه، وطريقه عرض الأفكار وتسلسلها، تعجب القارئ وتمتعه ويلذ له ما فيها حتى لو كان بعض ما فيها من استنتاج مبنى على افتراض(927/49)
يخالف بعض ما أطمئن إليه القارئ من الآراء، وقد يدعوه بقوة حجته إلى التأمل فيما قرأ من كتب أو كون من معلومات كما تبدو للقارئ ظاهرة أخرى قوية تلك هي الاستنتاج المبني على الإحصاء الدقيق الذي يدل على تعمق في البحث واستيعاب لما يريد أن يخوض فيه من حديث، وكل ذلك في أسلوب خلا من التكلف والغموض ولا يكون هذا الإيضاح تلك العذوبة ألا بعد هضم للمعلومات ووضوح الغرض في النفس وتميز الغاية التي يهدف أليها الكاتب المبين.
وكنت أحب أن أنقل بعض فقرات من الكتاب لولا أنني وجدت كل ما فيه متخير ووأنه - كما يقولون - آخذ بعضه بحجز بعض، أحتوى على طرائف من دراسة البلاغة التي امتزجت بدراسة مفردات اللغة ولهجاتها، ونحوها وصرفها، وأدبها من شعر ونثر مع مقارنة باللغات الأخرى ولهجاتها متوجا ذلك كله باستعراض أساليب القرآن المختلفة التي توضح أفكاره وترجحها
لهذا كان على كل أديب ولغوى وباحث أن يقرأ الكتاب، وسيجد فيه مصداق ما أقول ولقد أبدع أستاذنا فيما كتب وأحسن فيما ألف فلهو تهنئتي وتقديري راجيا أن يواصل الجهد ويوالي الإنتاج لينفع إخوانه وتلاميذه وليبعث في أولئك القاعدين والخاملين النشاط والحياة والله يتولى العاملين.
عبد الستار أحمد فراج
المحرر بالمجمع اللغوي(927/50)
القصص
بين المقابر
للقصصي الروسي تشيكوف
بقلم الأستاذ حسين أحمد أمين
(الريح تعصف، والظلام يزحف علينا. . أليس من الأفضل أن نعود؟)
كانت العاصفة تنساب بين الأشجار الطويلة القديمة عابثة بأوراقها الصفراء المتهالكة، وكان البرد يتساقط بغزارة على جماعتنا. . فإذا بواحد منا ينزلق على الأرض الموحلة فيمسك بصليب كبير يمنعه من السقوط. .
وبدأ الرجل يقرأ ما كتب على الصليب: (أيجور جريا سنورا كوف. . فارس ومستشار خاص. . أنني اعرف هذا الرجل لقد كان يحب زوجته. . ولم يقرأ في حياته كتابا واحدا وكان حسن الهضم وحياته جديرة بأن تعاش. . إنه لم يكن في حاجة إلى أن يموت. . غير أنه - ويا للأسف - مات ضحية لعبقريته وحبه للملاحظة والمراقبة، فبينما كان ينصت من ثقب الباب ذات مرة إذا برأسه يصطدم صدمة عنيفة مات بسبها. . فتحت هذا الصليب يرقد رجل كان يكره الشعر منذ أن كان في المهد. .
أرى شخصا قادما نحونا. .)
وتقدم منا رجل حليق الوجه في معطف قديم وتحت إبطه زجاجة من الفودكا وفى جيبه ربطة من السجق
وسألنا في صوت أجش (أين قبر موشكين، الممثل؟)
وقدناه إلى القبر وكان موشكين قد مات منذ عامين. . وسألناه: هل أنت موظف حكومي؟
- (كلا أنني ممثل وإنه لمن الصعب في أيامنا هذه أن نميز الممثل من الموظف الحكومي. . هذا شيء غريب وهو بلا شك لا يشرف الموظفين. .) كان قبر موشكين مختلفا عن سائر القبور وكانت الأعشاب تغطيه وعلى سطحه صليب صغير رخيص الثمن قد أتلفه الثلج وقرأنا على الصليب: الصديق المنسي. . موشكين. . وكانت الكتابة غير واضحة لتقادم الزمن عليها.(927/51)
وتمتم الرجل وهو ينحني على الأرض فتلمس ركبتاه الطين المبلل: (لقد جمع الممثلون والصحفيون مالا لكي يقيموا له نصبا تذكاريا. . فإذا بهم بعد ذلك يبتلعونه)
(ماذا تعنى بقولك أبتلعوه؟)
(أعنى أنهم جمعوا المال لأقامة النصب ثم دسوا المال في جيوبهم. أنني لا أقول ذلك لائما لهم بل مقررا لحقيقة واقعة. . والآن سأشرب نخب صحتكم ونخب ذكراه الخالدة. .)
(إن الصحة لن تأتينا بشربك نخبها. . . والذكرى الخالدة أمر محزن. . لتكن الذكرى مؤقتة دائما فهذا خير للبشر. .)
(هذا حق. . لقد كان موشكين رجلا شهيرا. . وقد حمل الناس خلف نعشه عشرات من الأكاليل. . ومع ذلك فقد طواه النسيان في مدى عامين. . لقد نسيه من أحبوه. . أما من أساء إليهم فما زالوا له من الذاكرين إنني لن أنساه ما حييت. . أبدا، أبدا، لأنني ما تلقيت منه سوى الإساءة. . أنني لا أحبه. .)
(كيف أساء إليك؟)
تنهد الممثل وقد بدت على وجهه المرارة والألم: (إساءة كبرى. . لقد كان الرجل - طيب الله ثراه - وغدا لصا فبالنظر إليه والاستماع له أصبحت ممثلا. . وبفنه أغواني فتركت بيتي إلى الأبد وقد غرني المجد الفني. . وعدني بالكثير ولم يمنحني سوى الحسرة والدموع. . هكذا المصير الكئيب الذي ينتظر الممثل. . لقد فقدت كل شاء الشباب والعاطفة وشبهي بالآلهة وليس الآن في جيبي مليم واحد. وحذائي بال وملابسي ممزقة. . لقد سلبني الإيمان. . هذا اللص. . ومنحني التفكير الحر والحماقة دون أن يكون لدى أية موهبة. . إن الجو أيها السادة فهلا شاركتموني في الشراب؟ إن الزجاجة ما يكفينا جميعا. . فلنشرب نخب رقود روحه في سلام، أنني لا أحبه. . إنه الآن ميت. . ومع ذلك فلم يكن غيره في هذه الحياة. . وكان لي كأحد أصابعي. هذه هي آخر مرة أراه فيها فأطباء يقولون أنى سأموت قريبا لفرط الشراب. . وقد أتيت هنا لأودعه وأقرئه السلام والعفو عن أعدائنا واجب علينا
وتركنا الممثل ليتحدث إلى موشكين وسرنا وفى الجو رذاذ منعش. . . وعندما بلغنا الطريق العام جنازة تمر بنا وقد حمل النعش أربعة يلبسون أحزمة بيضاء وأحذية قذرة. .(927/52)
وكانوا يسرعون في الظلام وهم يتعثرون في مشيتهم. . .
(لقد مكثنا هنا ساعتين فقط أدخلوا خلالهما ثلاث جثث إلى المقبرة. .
حسين أحمد أمين(927/53)
البريد الأدبي
طرابلس وليست ليبيا
بمناسبة استقلال الشعب الطرابلسي وفوزه بالحرية المنشودة كثر خوض الصحف في ذكر أسم رددته ألسنة العامة والخاصة ولم يقتصر الأمر على هذا وذاك بل وتعداه إلى المحاضر الرسمية باسم ليبيا وتعنى القطر الطرابلسي بأقاليمه الثلاثة (فزان وبرقة وطرابلس) ومن الغريب أن الرأي السائد عند أهلها يساير هذا الإطلاق أيضا. وهو وأن لم يكن خطأ في الجملة من ناحية فهو ليس بصحيح على وجه العموم من ناحية أخرى على ما سأبينه أما ليبيا. فقد قال عنها ياقوت في معجم البلدان ج7ص341 (لوبية - ليبيا - مدينة بين برقة وإسكندرية) وأهمل ياقوت ضبط موقعها الجغرافي على غير عادته في دقة التحديد بالدرجات والدقائق القوسية. وهذه المدينة لم يبق لها أي أثر يذكر الآن ويقول اليوزباشي محمد إبراهيم لطفي المصري في كتابه (تاريخ طرابلس الغرب) ص8 ما معناه: أن ليبيا هذه هي الصحراء المتاخمة لحدود مصر الغربية وسميت بذلك نسبة للوبى ابن حام بن نوح عليه السلام؛ فقد كانت تسكن هذه الصحراء قبائل من نسله فنسبت إلى جدهم الأكبر؛ وطلبا للخفة وبحكم التطور عرفت فيما بعد بليبيا. ويلاحظ شيء فارق بين هذا وما ذكره ياقوت
وقال ياقوت ج6ص34 عن طرابلس - بألف وبدونه - وذكر أن معناها - مركبا - ثلاث مدن عند الإغريق والرومان وهى مساحة تشغل ما لا يقل عن ثلاثمائة من الكيلومترات ثم أفاض في وصف محاسنها وخيراتها بما يشرف هذا القطر العزيز وانتهى إلى قوله: (وهذا يدل على أنها ليست مدينة بعينها وأنها كورة) أي أنها قطر. وأنها أعم اسما من ليبيا، ثم ذكر طائفة من مشاهير أدبائها ومؤرخيها وذكر في كل نسبة إما الأطرابلسي أو الطرابلسي وأغفل النسبة إلى ليبيا لأي أحد منهم. ومن مؤرخيها العظام (أبو الحسن على عبد الله بن مخلوف الطرابلسي - ولم يقل الليبي - له اهتمام بالتاريخ. . .
وصنف تاريخنا لطرابلس الغرب. . . وقال أبو الطيب يمدح:
لو كان فيض هديه ماء غادية ... عز القطا في الفيافي موضع اليبس
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصر كل مصر عن طرابلس.(927/54)
وقال شاعرها المحارب أحمد بن خراسان الطرابلسي
أحبابنا غير زهد في محبتكم ... كوني بمصر وأنتم في طرابلس
أن زرتكم فالمنايا في زيارتكم ... وأن هجرتكمو فالهجر مفترسي
ومن هذا كله يتبين أن أسم طرابلس أشمل وأعم من ليبيا وفى نفس الوقت له ما يستند إليه الأسماء الوجودية وأملنا في العهد الجديد كبير في أن يصحح هذه الأوضاع بتعميم اسم طرابلس على جميع القطر رسميا بدلا من ذلك الاسم الحاير - ليبيا - هذا ونحن نهيب بمن يعثر على التاريخ المشار إليه آنفا أن يدل عليه شباب هذا القطر حتى ينتفع به ويكون بذلك قد أستجاز الثناء وأستوجب الشكر من القطر العربي العريق
مختار محمد هويسة
حتى تموت العصبية القبلية:
في عدد مجلة المصور. . . الذي صدر يوم الخميس 29 من مارس 1951 قرأ الناس قصة عراك نشب في بلدة حلوان بين فريق من أهل البلدة وفريق من أهل دمياط سببه أطفال صغار كانوا يلعبون بكرة أمام منزل أحد الحلوانيين وراح ضحيته رجل في مقتبل العمر خلف وراءه في يد الأقدار أفراخا لما ترش بعد وزوجته مكلومة يقطر قلبها بالدم فذكرتني تلك الحادثة بأخرى تماثلها حدثت في مدينة السويس منذ عام بين جماعة من أهل الإسكندرية جاءوا بقضهم وقضيضهم من مصنع السماد الذي يعملون فيه وجماعة من أهل السويس وتجمعوا لملاقاة السكندريين وكانت معركة رهيبة أغمدت فيها السكاكين في الجسوم وتفجرت الدماء غزيرة في منظر بشع تقزز منه النفس ولا أظن أن كان لتلك الحادثة سبب أقوى من السبب في الحادثة الأولى بل هو كالذي وصفته المجلة بقولها (يعملها الصغار ويقع بها الكبار) أو كما هو معروف من المثل الشائع (وأول النار من مستصغر الشرر) فهذان الحادثان وأمثالهما مما يقع عادة بين العائلات وخاصة في الريف، لا يجوز للعاقل أن يسميها بالحوادث الطارئة التي تحتمها ظروف خاصة قهرية وتتمخض سريعة في نفس اللحظة التي يولد فيها السبب والدافع ثم لا تلبث أن يضيع آثرها أما أن تركت ذيولا وأثارا فذلك ما ردت من القارئ أن يشاطرني فهم نتائجه فهما صحيحا وهل(927/55)
خليق بتلك الذيول أن تعمل عملها في الناس وتثير بينهم مثل هذه النوازع إلى الشجار العنيف المميت؟ أم أن الناس جبلوا على أن يتناولوا المبدأ القديم (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) تناولا عماده الجهل وعدم تقدير للعواقب كما كان العرب يتناولونه ويطبقونه في تصرفاتهم قبل شروق الإسلام وأخذ المسلمين به بعد تبنيه من الرسول عليه السلام؟ الحق الذي لا مراء فيه هو أن الأسباب مادامت متهالكة واهية والمقدسات ركيكة متداعية فإن النتائج تكون أوهى أو هي وأضعف وليست ذا بال. . . فلنخلص من ذلك إلى كلمة نسم بها تلك الحوادث المخجلة المخيفة (وهى النتائج الفادحة لمقدسات تافهة لا قيمة لها وعمل الشعوب المتدني الحديثة) فنقول: إنها العصبية القبلية والمنهجية البغيضة التي طالما سمعنا وقرأنا عنها وهى تفعل أفاعيلها بين أهل الريف من قرى الصعيد وكثر من قرى الوجه البحري حيث يفنى بعضهم بعضا ويحكم بعضهم على بعض بالإعدام تارة بالرصاص وأخرى بالذبح وثالثة بالشنق والخنق، وهل بعيدة عنا تلك الحوادث الدامية التي دارت رحاها بين قبيلتي (الهوارة والفلاحين) في مركز دشنا؟ وأنا لنرى متعجبين أن حياة النازحين من أهل الريف إلى القاهرة والإسكندرية والسويس مثلا برغم تبدلها بانتقالهم من بيئة خشنة جافة في الريف إلى أخرى لينة ناعمة في العواصم فلم تبرح تلك العصبية تتملك أزمتهم وتحيا في رؤوسهم حتى بات الأخذ بالثأر القانون الأول في دستور ابن الريف. ولا ندرى متى تنتهي تلك العصبية القبيحة البالية؟ ومتى تحل محلها عصبية أخرى من المحبة والسلام والخير والجمال؟ ليت شعري هل يكون صاحب الدم نفسه أول من يستجيب فيرضي الله مخلصا بالتسامح والعفو، فيضع حدا لسفك الدماء حقنا لها وإبقاء على حياة البرآء الآخرين؟
(السويس)
محمد عبد الرحمن(927/56)
العدد 928 - بتاريخ: 16 - 04 - 1951(/)
10 - الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
التعاليم الدينية والقانون:
القوانين الخلقية للجماعة تؤلف جزءا أصيلا جوهريا للنظام الاجتماعي الذي تعيش عليه والذي يستوحي الفرد منه سلوكه ويعتمد عليه في صلاته مع الناس. فالقوانين الخلقية هي أسبق من العادات والتقاليد والنظم والشرائع القانونية (المدنية) في توجيه السلوك الإنساني. وقد يأتي حين من الدهر تمتزج فيه هذه العناصر جميعها لتؤلف الأسس الجوهرية للنظام الاجتماعي، ولكن القوانين الأخلاقية تظل محتفظة بمكانتها الرئيسية، مهيمنة على بقية العناصر التي يتألف منها النظام الاجتماعي.
والدارس للمجتمعات البدائية يدرك كيف أن القوانين الأخلاقية (الدينية) تجد من يعبر عنها في الحكم والأمثال التي تلعب دورا كبيرا في تلوين السلوك الإنساني بطابع الرشاد والطهارة والعمل الصالح.
فالحكم والأمثال والأقوال السائرة نوع من التفلسف يستمد أصوله من القوانين الدينية؛ وهذه كما رأينا في مقال سابق من هذا البحث تستند إلى الغريزة الروحانية التي تعيش في كيان الإنسان.
فالحكم في القرآن والحديث مثلا على نوعين: -
(1) نوع يعالج الأخلاق والفلسفة العملية في السلوك الإنساني.
(2) نوع يتوسع في الوعظ والإرشاد ويلجأ إلى الأمثال الشعبية المستمدة من صميم الحياة اليومية وعبر الأيام والحوادث قديمها ومعاصرها ليعزز الحكمة الخلقية والفلسفية القرآنية العملية بشروح ميسرة مبسطة تجد سبيلها إلى قلوب الخاصة وعقول العامة من الناس في لغة مستمدة من شتى أوجه النشاط الإنساني الدنيوي.
فالنوع الأول إذن يعالج المشاكل الخلقية الروحية على أسس منطقية، العقل والروح من أسلحتها. والنوع الآخر يتمم الاجتهاد فيضرب الأمثال بالحياة العملية وعبر التاريخ، وبجمعها في أسلوب محسوس ملموس، والإقناع فيه يستند إلى اختبار الناس وما يتواردونه من أنباء وحوادث، وما يلاحظونه من خير أو شر في نشاطهم الدنيوي.(928/1)
وكلا النوعين في الإسلام متمم للأخر، وكلاهما قوام على نشر رسالة الدين على أوسع ما يكون الانتشار، وحافظ للأسس الجوهرية والتفصيلية للوظيفة الدينية التي جاء بها القرآن وشرحها الحديث وتراث السلف الصالح.
ومن هذا التمازج استمد أهل الاجتهاد العون على استنباط التشريع الذي صاحب نمو الجماعة الدينية واتساع حاجاتها الدنيوية، وتطور أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وازدياد حياتها الاجتماعية تعقدا وتشويشا. وهذا التطور الطبيعي الذي لا مفر منه هو الذي استدعى أكثر فأكثر تحديد العقيدة الدينية، والسعي لإحاطتها بسياج من الوقاية تحول دون التحريف والتأويل وتستهدف صيانتها من سوء الاجتهاد الذي كثيرا ما يلتبس عليه تحديد جوهر العقيدة في خضم هذه الذخيرة الطائلة من الحكم والأمثال والعبر الذي استشهد بها القرآن والدين والسلف الصالح في معرض شرحهم لذلك الجوهر.
ولعل هذا الالتباس هو السبب في ضلال بعض الكتاب المعاصرين الذين يحاولون تطبيق النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة على تعاليم الإسلام، أو تبرير هذه النظم على ضوء الحكمة والفلسفة الإسلامية.
فهذا النوع من الاجتهاد يتطلب تحفظا بالغا في البحث والاستقراء، والمنهج العلمي الصادق لا يقتبس الفقرة من سجل مجردة عن المعنى الشامل الذي استعملت فيه تلك الفقرة، والأمانة في الاقتباس والاستشهاد تستوجب استعراض المجال الواسع الشامل الذي جاءت منه تلك الآراء أو المعاني أو الحكم التي اقتبست واستشهد بها. فبعض كبار الأئمة مثلا يراعي شرح أسباب نزول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قبل أن يجيزوا بفتوى أو يدلوا برأي له بالعقيدة الدينية مساس مباشر.
ولقد رأينا أن الاجتهاد والتشريع يصاحبان نمو الجماعة وتطورها التاريخي، فينشأ إلى جانب الفلسفة الدينية بمعناها الشامل فلسفة اجتماعية تستمد عناصرها من التطور الجديد وما يخلقه من محاسن أو مساوئ. وقد تكون التعاليم السماوية قد حددت وظيفة الدين إزاء هذه العناصر المستجدة تحديدا بينا واضحا، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للتعاليم السماوية أن تتحمل سوء الاجتهاد. وقد يحدث أن تكون إشارة التعاليم السماوية إلى العناصر المستجدة في التطور الاجتماعي إشارة مستترة؛ التعرف عليها يتطلب مزيدا من الاجتهاد(928/2)
والبحث والاستقراء. ومثل هذا الوضع يلقى على أمانة المجتهد والباحث عبئا جليلا لا يكفي للقيام به مجرد الاقتباس والاستشهاد المجرد من المعنى الشامل للنص الأصيل كما يبدو مع الأسف عند كثير من الذين حاولوا معالجة التطور الاجتماعي على ضوء التعاليم السماوية. ودراسة النصوص الدينية في ناحيتها الاجتماعية عمل خطير، والاستعداد للقيام به يتطلب - بالإضافة إلى إخلاص النية والنزاهة العلمية وصواب منهج البحث - تعرفا على طبيعة المجتمعات التقليدية التي نزلت عليها تلك التعاليم. ولقد وفر علم الأنثروبولوجيات لنا في هذا العصر أسلحة نستطيع به أن ندرس - على قدر الإمكان - عقلية تلك المجتمعات ونظمها وأساليب تفكيرها ومعيشتها وألف نوع ونوع من هذه المميزات التي تتباين بها المجتمعات الحديثة عن المجتمعات القديمة.
والسلوك الإنساني في جوهره متماثل في الجماعات البدائية والجماعات المتقدمة وإن اختلفت أساليب ذلك السلوك بفضل التطور الحضري. ووظيفة الدين الاجتماعية في جوهرها لم تتأثر بالتطور الحضري، إذ أن الدين - كما رأينا في مقال مضى من هذا البحث - من الخصائص الغريزية التي ولدت في النفس البشرية كالأكل والشرب والتزاوج. وقد ارتقت أساليب الناس في إشباع هذه الغرائز الجسمانية بارتقاء الحضارة، إلا أن جوهر تلك الغرائز لا يزال كما كان عليه منذ طرد آدم وحواء من الجنة. ومثل هذه الحقيقة تنطبق بشكل أدق وأصدق على الحياة الدينية الروحانية والحياة الدينية في جميع مراحل التاريخ الديني، مستندة إلى اتجاهين كلاهما يعزز الآخر.
أولهما: - التطلع إلى الخالق الأعظم الذي بيده الحياة والموت وهو على كل شيء قدير.
وثانيهما: - الامتثال إلى تعاليم ومثل وقيم أخلاقية توجه السلوك الإنساني وتعدد للحياة الصالحة السعيدة في الدنيا والآخرة. ومن الصعب جدا كما قال الأستاذ (برات) أن نفرق بين هذين الاتجاهين.
فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نصف الاتجاه الأول بأنه العقيدة الدينية، والثاني بأنه الوظيفة الاجتماعية للدين، فإن على الباحث في وظيفة الدين الاجتماعية أن يراعي أشد المراعاة تمازح ذينك الاتجاهين، وإلا فإن أسلوبهفي البحث لا يحقق النفع ولا يتمشى مع حقائق الوضع الاجتماعي، ولا يأخذ بعين الاعتبار جوهر السلوك الإنساني بمعناه الشامل وهو(928/3)
أصدق المعاني وأقربها إلى الحقائق الاجتماعية التي شرحها لنا (دير كهايم).
إذن فاستنباط التشريع الجديد من التعاليم السماوية واجتهاد الباحثين في علاقة تلك التعاليم بالحقائق الاجتماعية يجب أن يتقيد بهذا التمازج الطبيعي الذي لا مفر منه بين العقيدة الدينية والحقيقة الاجتماعية.
وبمثل هذا المنطق يمكننا أن نعالج موقف الجمود الذي يقفه بعض حفظة الدين في العصر الحاضر إزاء التطور الاجتماعي الذي صاحب نمو الجماعة الدينية. فدراسة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة ومساوئها يستوجب على حفظة الدين أمرين: -
أحدهما التسلح بعلوم مستجدة كعلم الأنثروبولوجيات وعلم النفس الاجتماعي وعلم التاريخ الثقافي وغيرها من ألوان المعرفة الحديثة المتشعبة لزيادة تبحرهم في العلوم الدينية وتسلحهم بألسنة العلم الحديث لنشرها بين الناس والدفاع عنها إزاء العبث وسوء الاجتهاد. والآخر يستوجب تفهما صادقا للمشاكل الجوهرية في التطور الذي ألم بحياة الجماعة في شتى أوجه النشاط الإنساني. فتحت لواء هذا التطور تنطوي أصناف من المحاسن والمساوئ خلقتها الفلسفة والثورات الصناعية وتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية وما خلفته عن عقد ومشاكل، وما وفرته من أسباب المتعة والإغراء ومن أسباب التفكير الحديث، وكل ذلك خصائص لم تختبرها المجتمعات القديمة التي نزلت عليها التعاليم السماوية في العصور الغابرة. ولما كان الإسلام يصلح لكل زمان فإن وزر القصور في إعادة فتح باب الاجتهاد بأسلحة العلم الحديث وزر خطير، والقصور عن القيام به مع القدرة عليه إثم عظيم.
وخلاصة القول بصدد هذه النقطة من البحث أن في علوم العصر معاول جديدة لتفهم الحقيقة الدينية ووظيفتها الاجتماعية في عالم مضطرب، ومن العبث الذي لا طائل منه أن ينساق المصلحون والمشرعون الاجتماعيون للنيل من العقيدة الاجتماعية والتصدي لحقائقها. فهذه الحقائق تستمد وجودها من الغريزة الدينية، والغريزة الدينية تلعب دورا رئيسيا في أي لون من ألوان الإصلاح الاجتماعي بمعناه الشامل.
ومن العبث أن نحارب الحياة الدينية لأن بعض مظاهرها قد تحمل ألوانا من الشذوذ لا(928/4)
يستسيغه السلوك الإنساني في عصر الرادار والطاقة الذرية. فالحقائق الاجتماعية التي تركن وراء تلك المظاهر لم تندثر ولن تندثر لأنها سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا. والإصلاح الصادق النافع لا يستهدف معالجة الظواهر وإنما يدلف إلى الجوهر؛ عندئذ يسهل التوجيه وتزداد الرغبة في الإصلاح بين المصلح والذي يرغب في إصلاحهم.
وهذا العبث يصح إطلاقه كذلك على جمود بعض حفظة الدين في التهيب من فصل بين سلامة العقيدة الدينية وبين الاجتهاد في إعادة الدرس في وظيفة الدين الاجتماعية على ضوء التطور الذي استجد في حياة الجماعة الدينية المعاصرة. فجوهر العقيدة الدينية لا خوف عليه لأنه من الغرائز التي لا تندثر، إنما الخوف أن يزداد نفور الناس من الامتثال إلى التعاليم الاجتماعية لتلك العقيدة فيفقد الدين إحدى دعائمه القوية وهي الوظيفة الاجتماعية التي هي جزء من ذلك الاتجاه المزدوج في الحياة الدينية؛ ألا وهو التطلع إلى الخالق عز وجل كمصدر للحياة الروحانية، والسير على الأرض بنور تعاليمه السماوية.
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق(928/5)
إيران
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
منطقة من مناطق البارود في العالم، وميدان من ميادين التنافس الدولي، وأمة قامت تحاول أن ترد إلى نفسها ما أغدقته عليها الطبيعة من موارد قيمة.
نعم! هنا في إيران منطقة من مناطق البارود وميدان من ميادين التنافس الدولي، ذلك أن روسيا وإنجلترا تقفان لبعضهما بالمرصاد في هذه المنطقة وتحاول كل منهما أن تفوز بالغنيمة. وأي احتكاك بين الدولتين قد يؤدي إلى الحرب العالمية الثالثة التي بات الناس يتوقعون نشوبها بين لحظة وأخرى.
وقد روع الناس منذ أيام بنبأ اغتيال رئيس وزراء إيران على يد أحد الإيرانيين من أعضاء جمعية فدائيان إسلام، وقد كانت التهمة التي وجهت إلى رئيس الوزراء هي تعاونه مع الأجانب وتفريطه في حقوق الوطن؛ وقد تتابعت الاغتيالات حتى توقع الناس أن يسمعوا كل يوم نبأ اغتيالات جديدة؛ الأمر الذي يؤسف له أشد الأسف، فإن الاغتيالات لا يمكن أن تنصر قضية شعب مظلوم أو ترد إلى وطن ضائع حقوقه، وإنما الطريق إلى تحقيق مطالب الوطن يكون بفهم الشعب كله لقضيته وإيمانه بها وعمل جميع أفراده على تحقيقها واتحاد كلمتهم.
وكذلك استرعى انتباه الناس أمر لا يقل خطورة عن الأمر الأول، وهو أن البرلمان الإيراني قرر تأميم البترول الإيراني. وقد ثارت إنجلترا لهذين الأمرين، ولعل الأمر الثاني كان السبب لثورتها واهتمامها. وقد أمرت ثلاث قطع من بوارجها بدخول الخليج الفارسي للمحافظة على أرواح رعاياها وأموالهم، وأنذرت حكومة إيران بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هي سارعت إلى مشروع التأميم.
وطلعت على الناس جريدة الإيكونومست تقول: (على إنجلترا أن تأمر بوارجها بدخول الخليج الفارسي لأن الشعوب الإسلامية لا تخاف إلا بالقوة) كأن المسلمين قوم قد فرض عليهم الذل وفرضت عليهم العبودية، وكأن إنجلترا قد فرضت نفسها سيدة لهم بل وللناس جميعا، أو كأن البرلمان الإيراني قد قرر تأميم البترول في بريطانيا ذاتها!
هذا من ناحية إنجلترا؛ أما روسيا فقد حشدت قواتها على الحدود الإيرانية وبذلك أصبح(928/6)
الموقف حرجا للغاية. فالإمبراطور حائر لا يدري ماذا يفعل؟ ولو تقدمت إنجلترا داخل إيران أو أراضيها لتقدمت روسيا بدورها مما قد يؤدي إلى حرب عالمية.
ولعلك أيها القارئ تريد أن تسألني عن أهمية موقع إيران وكيف صارت وطنا إسلاميا، وعن مقدار ما تنتجه من البترول وغيره. وأنا بدوري أجيبك لأننا قد اتفقنا منذ حين على أنه خير للشرقيين أن يعرفوا أوطانهم وأن يعملوا على توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم للوقوف في وجه الاستعمار.
تقع إيران في منطقة اصطلح الناس على تسميتها بالشرق الأوسط، ويحدها من الشرق باكستان وبلوخستان، ومن الغرب العراق، ومن الشمال الاتحاد السوفيتي، ومن الجنوب البحر العربي والمحيط الهندي. ولعلك تسألني ما أهمية هذا الموقع؟ إن موقع إيران مهم من عدة نواح: أولا: إن روسيا تسعى دائما للوصول إلى البحار الدافئة ولن يتحقق لها ذلك إلا إذا استولت على إيران. . وثانيا أن إنجلترا شديدة الحرص على إبقاء روسيا حبيسة في داخل القارتين أوروبا وآسيا. وثالثا لأن روسيا إذا استولت على إيران تصبح خطرا محققا على الهند، وإنجلترا كانت وما زالت حريصة على الهند وسلامتها ومنع وقوعها في يد دولة معادية لأن الهند سوق هامة للمصنوعات البريطانية، وهي كذلك مورد هام من موارد الخام اللازمة للصناعات البريطانية. من هنا نشأ حرص بريطانيا على سلامة الهند فعملت على التدخل في شؤون مصر واحتلتها علم 1882 وما تزال إلى اليوم تماطل في الجلاء عنها حتى أصبح يخيل للناس أن يوم الجلاء يوم الحشر، مجتمعان متلازمان، وحتى ضاقت بنفوس المصريين الصدور! ولسلامة الهند نرى إنجلترا كذلك تمنع روسيا من احتلال إيران وأفغانستان.
ودولة إيران تشمل الجانب الأكبر من الهضبة المعروفة بهضبة إيران وتعرف حافتها الشمالية بجبال البرز، وتمتد شرقا إلى جبال هندكوش، أما الحافة الجنوبية فسلاسل جبلية متوازية تحف بسهول العراق وتقترب من سواحل الخليج الفارسي.
والسهول الساحلية ضعيفة وأكثرها خصوبة السهول المجاورة لبحر الخزر. وتجري في إيران عدة أنهار قصيرة تنتهي إلى بحيرات داخلية ما عدا نهر قارون الذي يجري غربا حتى يصب في نهر شط العرب. وتستمد المجاري المائية مياهها من الجليد المتراكم فوق(928/7)
الجبال.
ومناخ إيران قارس البرد شتاءا، وتسقط بعض الأمطار شتاء بتأثير أعاصير الرياح العكسية وتشتد الحرارة صيفا وبخاصة في السهول.
ويبلغ عدد سكان إيران 5ر15مليونا وهم مسلمون. وقد دخل الفرس في الإسلام عقب الفتح العربي عام 642م ثم اعتنقوا المذهب الشيعي وكان لهم آثر كبير في تاريخ الإسلام فبتأثيرهم سقطت الدولة الأموية وعلى أكتافهم قامت الدولة العباسية.
ويشتغل الإيرانيين بالرعي والزراعة فيربون الأغنام والماعز. ومقادير الصوف الناتجة عظيمة؛ وتصنع منه السجاجيد الفاخرة والبسط والشيلان. ولسجاد إيران (العجمي) شهرة عالمية وتصدر منه ما قيمته مليونا جنيه ونصف. ويزرع الإيرانيون كميات وفيرة من القمح والشعير والأرز والخشخاش والقطن وقصب السكر، ومن الفواكه العنب والبلح، وتزرع أشجار التوت وتربى دودة القز.
البترول: وثروة إيران المعدنية عظيمة ففيها الفحم والحديد: على أن أكثر المعادن أهمية هو البترول تمتد مواطنه على حدود إيران الغربية وفي منطقة بحر الخزر وتستغل الآن المناطق القريبة من الخليج الفارسي. وتمتد أنابيب البترول مسافة 230 ك م إلى معامل تكريره في عبدان عند مصب شط العرب وفيها منشآت شركة الزيت الإنجليزية الإيرانية.
إيران مشكلة دولية
أخذت روسيا منذ عهد بطرس الأكبر تعمل على توسيع رقعتها والوصول إلى البحرين: البحر الأسود وبحر البلطيق، والاستيلاء على القسطنطينية. وقد نجحت روسيا في تحقيق بعض مطامعها فاستولت على شواطئ بحر البلطيق الشرقية وشواطئ البحر الأسود الشمالية ولكن أطماعها في تركيا وفي الاستيلاء على القسطنطينية أثارت عليها الدول وخاصة إنجلترا وفرنسا مما أدى إلى قيام الحرب المعروفة بحرب القرم 1853 - 1856 وكان السبب الرئيسي في نشوبها سعى القيصر في تقسيم تركة (الرجل المحتضر) (تركيا) وقد هزمت روسيا في هذه الحرب فولت وجهها شطر آسيا ومدت نفوذها حتى وصلت إلى ميناء فلاديفوسك 1858.
ثم تطلعت إلى إيران؛ وهنا قام نزاع خطير بينها وبين إنجلترا، ولكن الدولتين اتفقا أخيرا(928/8)
على أن تعملا على قض المشاكل الآسيوية بطريق المفاوضة الودية. وقد كان قيام ألمانيا الحديثة 1870 وظهور نواياها الاستعمارية الدافع الأكبر على فض النزاع القائم بين الدولتين.
وطبقا للاتفاق سالف الذكر قسمت إيران إلى ثلاث مناطق نفوذ، فأطلقت يد روسيا في الشمال، وأطلقت يد إنجلترا في الجنوب، وبقى القسم الأوسط على الحياد يحكمه الإمبراطور. وخول لأصحاب رؤوس الأموال من الروس والإنجليز حق استغلال أموالهم كما يشاءون.
وقد حاولت روسيا بعد أن عقدت الاتفاق الودي مع فرنسا1893 أن تستولي على طهران، ولكن إنجلترا عارضت ونصحت فرنسا حليفتها روسيا بالعدول عن رغبتها فعدلت.
وفي أوائل القرن العشرين تألفت شركة البترول الإيرانية الإنجليزية لاستخراج البترول وقد أصبحت هذه الشركة أعظم شركات البترول العالمية وأغناها.
وقد كان تغلغل النفوذ الإنجليزي والنفوذ الروسي في إيران سببا في ثورة الإيرانيين على ملكهم. وكان من أهم نتائج هذا الانقلاب تولى رضا بهلوي عرش إيران وهو والد الإمبراطور الحالي.
وقد هال الإمبراطور الجديد ما حصلت عليه الشركة من امتيازات، فقد كان للشركة حق استغلال آبار البترول في الجنوب. وتحصل الحكومة على 10 % من الأرباح. ومن أجل هذا تقدم الإمبراطور يطلب تعديل الامتياز وفي 1933 اتفق الطرفان على أن تكون حصة إيران 14 % من الأرباح ومد أجل الامتياز إلى 1991.
إن كل قطرة من البترول تعادل قطرة من الدم، وإنجلترا من أجل هذا حريصة على أن تبقى آبار البترول في إيران تحت يدها ويضاف إلى هذا ما تربحه بريطانيا من أموال طائلة. والإيرانيون الآن يرون أن بلادهم تفيض ذهبا ولكن هذا الذهب لا يذهب إلى جيوبهم وإنما يذهب إلى جيوب غيرهم من الأجانب، ومن ثم قاموا يطالبون حكومتهم بتصحيح الأوضاع ورد بضاعتهم إليهم، ولن يكون ذلك إلا بإلغاء امتياز شركة البترول الإيرانية الإنجليزية التي زاد إنتاجها في العام الماضي عن 20 مليون طن من البترول وتأميم البترول، أي أن تصبح آباره مرفقا عاما من مرافق الدولة الإيرانية وموردا من(928/9)
مواردها؟ ألست ترى معي أنهم على حق؟
وبدأت الحركة باغتيال رئيس الوزراء وقرر البرلمان الإيراني موافقته على مشروع التأميم وثارت إنجلترا وأرسلت بوارجها إلى الخليج الفارسي وحشدت روسيا قواتها على حدود إيران وما يزال الموقف مضطربا للغاية. وما يعلم إلا ربي وربك كيف تكون النهاية.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(928/10)
1 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
نستخير الله اليوم في أن نفي بما وعدنا به قراء الرسالة الغراء فننشر فصولا مختصرة من بحث مستفيض قصرناه على الكلام (في الحديث المحمدي) والله نسأل أن يعصمنا من الزلل ويلهمنا التوفيق في القول والعمل
محمود أبو رية
مما لا يكاد يختلف فيه اثنان، أو يحتاج في إثباته إلى برهان، أن للحديث المحمدي من جلال الشأن وعلو القدر، ما يدعو إلى العناية به، والبحث عنه، حتى يدرس ما فيه من دين وأدب، ويعلم ما يحمله من أخلاق وحكم.
وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة، والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون برجال الحديث يتداولونه بينهم ويدرسونه على طريقتهم. وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث - على قدر الوسع - في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحا أو غير صحيح، معقولا أو غير معقول، أي أنهم وقفوا عند البحث فيما يتصل بالسند فقط، أما المتن فلا يعنيهم من أمره شيء
ثم جاء المتأخرين فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من قبلهم، لا يتجاوزونها ولا يحيدون عنها، وبذلك جمد علم الرواية منذ القرون الأولى لا يتحرك ولا يتغير، ووقف هؤلاء وهؤلاء عند ظواهر الحديث كما أدت إليه الرواية مطمئنين إليها آخذين من غير بحث ولا تمحيص بها.
وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته حتى قيل: (أن علم الحديث قد أنطبخ حتى احترق) فإنهم قد أهملوا جميعا أمرا عظيما يجب أن يعرف قبل النظر في كتب هذا العلم ودرس ما فيها، وذلك هو البحث عن النص الصحيح لما تحدث به النبي (ص)، وهل كتبه عند إلقائه كما فعل بالقرآن؟ أو أهمله ونهى عن كتابته! وهل دونه الصحابة ومن بعدهم أو أمسكوا عن تدوينه؟ وماذا كان أمرهم في روايته؟ وهل ما روي(928/11)
منه قد جاء مطابقا لحقيقة ما نطق النبي به - لفظا ومعنى - أو كان مخالفا له؟ وما هي العوامل التي تدسست إليه من أعدائه، والمؤثرات التي أصابته من أهواء أوليائه، حتى رشيت بما ليس منه، وتسرب إليه ما هو غريب عنه! ثم في أي زمن أبتدأ تدوينه؟ وهل اتخذ ما دونوه - في أول الأمر - طورا واحدا لم يتغير على مر العصور، أو تقلب في أطوار متعددة! وفي أية صورة خرج أخيرا للناس في كتبه المعتمدة، وماذا كان موقف علماء الأمة منه، وما مبلغ ثقتهم به، ومدى اختلافهم فيه! بعد أن عراه ما عراه، وتأثر بما تأثر به؟ وما إلى ذلك من الأمور المهمة التي يجب أن يعرفها كل مسلم أو باحث قبل النظر فيه، والأخذ بما تؤدي إليه ألفاظه ومعانيه
أما هذا كله وغيره مما يتصل بحياة الحديث وتاريخه فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارا في بطون الكتب مبعثرة، وأقوالا بين ضمائر الأسفار مستنسرة، لا يضم نشرها كتاب، ولا يعنى بتصنيفها باحث.
نهي النبي عن كتابة حديثه وعمل الصحابة بذلك:
كان رسول الله صلوات الله عليه مبينا ومفسرا للقرآن بفعله وقوله، ولكن أقواله في هذا البيان أو في غيره لم تحفظ بالتدوين كما حفظ القرآن، وقد تضافرت الأدلة النقلية الوثيقة، وتواتر العمل الصحيح على أن أحاديث الرسول (ص) لم تكتب في عهده كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها والتلفظ بها كما كان للقرآن كتاب معروفون يقيدون آياته عند نزولها، بل جاءت أحاديث صحيحة وأثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلوات الله عليه إذا أوردناها كلها طال بنا القول فلنجتزئ يذكر ذرو قليل منها:
روى مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه)
وأخرج الدارمي عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي (ص) في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم
وروى الترمذي عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا.
وعن أبي وهب قال: سمعت مالكا يحدث أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب الأحاديث أو(928/12)
كتبها ثم قال: (لا كتاب مع كتاب الله)
وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك - ورواية البيهقي - فاستشار فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله - (وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا) ورواية البيهقي (لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا)
وروى الحاكم عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب - قالت فغمني كثيرا فقلت لشكوى أو لشيء بلغه! فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها حديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني فاكون قد تقلدت ذلك. زاد الأحوص بن الفضل بن عنان في رواية: أو يكون قد بقى حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله
والأخبار في ذلك كثيرة جدا لا نستزيد بإيرادها كلها رغبة الصحابة عن رواية الحديث ونهيهم عنها:
إذا كانت الآثار الصحيحة قد جاءت في نهي النبي (ص) عن كتابة حديثه، والأخبار الوثيقة قد ترادفت بأن صحابته رضوان الله عليهم قد استمعوا إلى نهيه، ولم يكتبوا حديثه بعد موته، - كما علمت مما مر بك - فإنا نجد هؤلاء الصحابة كانوا يرغبون عن رواية الحديث بل كانوا ينهون عنها! وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدا قويا.
روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. وروى ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال: ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن(928/13)
رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ منكم ونريد منكم، فما فارقوه حتى مات.
وروى السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة (لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أي (إلى بلاده) وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة.
ونهاهما كذلك عن الرواية عثمان بن عفان
وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به. ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حضر النبي (أي حضرته الوفاة) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: (هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده) فقال عمر إن النبي غلبه الوجع وعندكم كتاب الله فحسبنا كتاب الله.
وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدثنا عن النبي حديثا حتى رجع، وسئل عن شيء فاستعجم وقال: (إني أخاف أن أحدثكم واحدا فتزيدوا عليه المائة). وسعد هذا من العشرة المبشرين بالجنة ومن كبار الصحابة.
وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله، ولا يقول قال رسول الله؛ إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه، قال رسول الله! فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك)
وأخرج أحمد وأبو يعلي عن دجين قال: قدمت المدينة فلقيت أسلم مولى عمر بن الخطاب فقلت حدثني عن عمر فقال: لا أستطيع، أخاف أن أزيد أو أنقص! كنا إذا قلنا لعمر، حدثنا عن رسول الله قال أخاف أن أزيد أو أنقص.
وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن عامر، قال: سمعت معاوية على منبر دمشق قال:
(إياكم وأحاديث رسول الله إلا حديثا ذكر على عهد عمر. إن عمر كان يخيف الناس الله - ورواية الدارمي - اتقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر، إن(928/14)
عمر كان يخوف الناس في الله تعالى)
المنصورة
للكلام صلة
محمود أبو رية(928/15)
3 - الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
قال الغزالي (المتوفى سنة 505 هـ الموافقة سنة 1111 م) في كتابه تهافت الفلاسفة: ثم المترجمون لكلام أرسطا طاليس لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير حتى أثار ذلك أيضا نزاعا بينهم، ن وأقوامهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام الفارابي أبو نصر وابن سينا، فنقتصر على إبطال ما اختاروه ورأوه الصحيح من مذهب رؤسائهم في الضلال فإن ما هجروه واستنكفوا من المتابعة فيه لا يتمارى في اختلاله، ولا يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله.
وقال الغزالي في (المنقذ من الضلال): رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلاهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما. . . على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما لا يخلو من تخبط وتخليط يتشوش فيه قلب المطامع حتى لا يفهم وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: قسم يجب التفكير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا فلنفصله.
فترى الغزالي في التهافت قد أثنى على ما نقه الفارابي من فلسفة أرسطو ووسمه بالاستقامة، وفي المنقذ كفره مع إطرائه جهوده في النقل.
ومن المنتظر أن لا يعف عن الطعن في أبي نصر وفلسفته من اتبع خطوات الغزالي وسار في ركابه كابن العماد الحنبلي الذي حمل عليه في (شذرات الذهب) مقتطفا كلمات للغزالي دعم بها هجومه على هذا الفيلسوف الجليل فقال عنه الفارابي ذو المصنفات المشهورة في الحكمة والمنطق والموسيقى التي من ابتغى الهدى فيها أضله الله. وكان مفرط الذكاء، وقال ابن الأهدل قيل هو أكبر فلاسفة المسلمين لم يكن فيهم من بلغ رتبته وبه أي بتأليفه تخرج ابن سينا. وكان يحقق كتاب أرسطاطاليس وكتب عنه في شرحه سبعين سفرا ولم يكن في(928/16)
وقته مثله ولم يكن في هذا الفن أبصر من الفارابي. ويقال إن آلة القانون من وضعه. قال الفقيه حسين هؤلاء الثلاثة متهمون في دينهم يعني الفارابي والكندي وابن سينا فلا تغتر بالسكوت عنه. انتهى ما أورده ابن الأهدل ملخصا. استمر الحنبلي في حديثه قائلا: وبجملة فأخبره وعلومه وتصانيفه كثيرة شهيرة؛ ولكن أكثر العلماء على كفره وزندقته حتى قال الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال): لا نشك في كفرهما أى الفارابي وابن سينا. وقال فيه أيضا وأما الإلاهيات ففيها أكثر أغاليطهم وما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوا في المنطق ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذهب الإسلاميين الفارابي وابن سينا ولمن مجموع ما يخلطون فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في (17) ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت. وقال الغزالي في (المنقذ من الضلال) القسم الثلث الإلاهيون وهم المتأخرون مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وهو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم وأوضح لهم ما كان أنمحى من علومهم. وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم. ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن قبله من الإلاهيين ردا لا يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم إلا أنه استبقى من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق بالنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من الإسلاميين كابن سينا والفارابي على أنه لم يقم بعلم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهم ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم ما لا يفهم كيف يرد أو يقبل. . .؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: قسم يجب التفكير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا وبعد ما أورد ابن العماد الحنبلي هذا في كتابه (شذرات الذهب) أردفه بقوله انتهى ما قاله حجة الإسلام الغزالي فرحمه الله تعالى رحمة واسعة. فانظر ما يجر إليه علم النطق وما يترتب عليه التوغل فيه ولهذا حرمه أعيان الأجلاء كابن الصلاح النواوي والسيوطي وابن نجيم في أشباهه وابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم وإن كان أكثر الحنابلة على كراهته. قال الشيخ في غاية المنتهى ما لم(928/17)
يخف فساد عقيدة أي فيحرم. . .
وأقول إن ما أورده ابن العماد الحنبلي هذا لا يمثل وجهة نظر عامة المسلمين وإنما هو مما تحجرت عليه أدمغة الحنابلة والرجعيين والجامدين فلا يتخذن أعداء الإسلام من هذا الهذيان منفذا للطعن فيه بأنه دين يكره التفكير الحر والمنطق ورحم الله الإمام محمد عبده فقد كفانا في جولاته وصولاته مع من حاول ذلك الطعن في الإسلام من أمثال فرح أنطون صاحب كتاب (ابن رشد وفلسفته) الذي جمع فيه مقالاته التي طعن فيها الإسلام بضيق صدره بالفلسفة وقد نشرها في صحيفة (الجامعة) ورد عليه الإمام المذكور في كتابه (العلم والمدنية في الإسلام والنصرانية) وحين ذكر الفارابي - ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ في كتابه (البداية والنهاية) لم ينس أن يطعن في عقيدته فقال: الفارابي التركي الفيلسوف كان حاذقا في الفلسفة ومن كتبه تفقه ابن سينا. وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف بها المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قال ابن الأثير في كامله (ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم. . .) ويقصد بهذا الشتم القبيح من شاد صرح الفلسفة الإسلامية المعلم الثاني ابن نصر الفارابي فتأمل. . .
والحق أن هذه الهجمات العنيفة من خصوم الفلسفة قد آذت الفارابي وشوهت سمعته في العالم الإسلامي فصارت أبحاثه رمزا للانحراف عن الإسلام وزيغان العقيدة كما توضح لك ذلك القصة التالية: جاء في كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي: أنه في سنة 595هـ عظمت الفتنة في عسكر غياث الدين محمد ملك الغورية وكانت بلاد الغور تقع بأفغانستان بين هراة وغزنة وكانت مملكة إسلامية مستقلة بشؤونها منذ أوائل القرن الخامس الهجري ثم فتحها محمود الغزنوي سنة 411هـ واستمرت تابعة للدولة الغزنوية وصاهر ملوكها سلاطينهم حتى سنة 536هـ حيث قضى التركمان على الدولتين الغزنوية والغورية معا ثم جاء غيث الدين بن بسام فأسس ملكا جديدا على أنقاض الدولتين سنة 569هـ. . . وكان سبب هذه الفتنة أن الإمام فخر الدين محمد ابن عمر الرازي الفقيه الشافعي المشهور كان قد بالغ غياث الدين في إكرامه وبنى له مدرسة بقرب(928/18)
جامع هراة ومعظم أهلها كرامية، والكرامية إحدى الفرق الإسلامية. ويذكر المقريزي أنها أتباع محمد بن كرام (بتشديد الراء) السجستاني وكلهم مجسمة زعموا (أن الله جسم وله نهاية من جهة الأسفل الخ) قال تقي الدين المقريزي وأن أهل هراة أجمعوا على مناظرة الرازي وتجمعوا عند غياث الدين محمد معه وكبيرهم القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة فتكلم الإمام فخر الدين مع ابن القدوة واستطال عليه وبالغ في شتمه وهو لا يزيد على أن يقول (لا يفعل مولانا. لا آخذك الله؛ استغفر الله) فغضب الملك ضياء الدين له وهو ابن عم الملك غياث الدين وكان أشد الناس كراهة للفخر الرازي ونسب الإمام الرازي إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة وقام من الغد الخطيب بالجامع وقال في خطبته (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. أيها الناس أنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ. الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيه؟ وبكى وأبكى فثار الناس من كل جانب وامتلأت البلد فتنة فسكتهم السلطان غياث الدين وتقدم إلى الإمام فخر الدين بالعود إلى هراة فخرج إليها ثم فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية وتقلد الشافعي رحمة الله)
وهذه القصة توضح لنا كيف أن اسم فلسفة الفارابي كان مقرونا بالإلحاد والخروج على قواعد الإسلام في دنيا المسلمين وهذه من نتائج حملات الرجعيين الشنيعة على الفلسفة وأقطابها، فهذا طاش كبرى زاده المتوفي عام 962هـ (1554) يقول في مفتاح السعادة ومصباح السيادة (كما نقل عنه صاحب كتاب قصت النزاع بين الدين والفلسفة): وإياك أن تضن أن الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا ونقحها نصير الدين الطوسي - ممدوحة، هيهات هيهات، إن ما خالف الشرع فهو مذموم سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام عكفوا على دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة وربما استهجنوا من عرى منها. . . قيل فيهم
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ... لصون دمائهم عن أن تسالا
فيأتون المناكر في نشاط ... ويأتون الصلات وهم كسالى
للكلام صلة(928/19)
ضياء الدخيلي(928/20)
ذكرى الشاعر الفنان
الطبيعة في شعر الرصافي
للأستاذ أنيس الحوراني
الطبيعة العراقية لوحة فنية رائعة، رسمتها ريشة مفن أصيل، صورتها في أحسن تصوير، وكونتها في أبدع تكوين: زاخرة في مفاتنها ومباهجها؛ في أنهارها الجارية وجداولها السارية، في تخيلها السامق وحقولها الخضراء، في مروجها الفيح وحدائقها الغناء، في صحرائها المترامية وهضباتها الرابضة، في رمالها الحمراء وحصاها المتماوج. . حيثما تولي وجهك ترى الجمال فيها هنا وهناك يتراءى لك في ألوان شتى وأشكال مختلفة!
تحت هذه الظلال الوارفة، وعلى جنبات هذه الشواطئ المخضلة: ترعرع شاعرنا الرصافي وشب، فترعرع معه حبه للطبيعة وشب وإياه تعشقه لجمالها الساحر الفتان. . فراح يتملئ من مفاتنها ويستلهم سرها الدفين، فيستجلي الصور الرائعة الفريدة، ويرسلها شعرا رقيقا عذبا ينساب كالغدير الصافي فوق أفواف الزهر؛ ثم نراه يطفر هنا وهناك كالبلبل الغريد ينشد ويغرد بحرارة ونشاط!
فالرصافي إذن ابن الطبيعة البار، ابنها الوفي الأمين الذي اعتز بوعده لها، فخلدها في أسمى المعاني وأرق البيان، وكثيرا ما نراه يفزع إليها بعد إخفاق الأماني، ليسري عن نفسه، وينفس عن كربه، فتسعفه بأروع ما عندها من ذخائر ونفائس. . فنراه عند ذاك كالرسام البارع الأصيل الذي يكتفي بألوان قليلة لرسم الصورة التي تمر أمامه، فيخرجها للناس بإطارها الوضاء، حيث يسكب فيها شعوره الفياض ممزوجا بمعاني النور والظلال والتجاوب النفسي في تذوق الجمال الفني الذي تأتلف فيه الطبيعة ائتلافا دقيقا. .
هذه ناحية قيمة من شعر الرصافي تجاهلها النقاد فلم يعطوها حقها، وذلك لابتعادهم عن الاندماج في نفسية الشاعر وتذوق شعره؛ فهو قبل كل شيء معبر وجداني، وشعره مرآة نفسه المتجاوبة مع عناصر الحياة وتكوينها، وأن أدبه أدب القوة والإبداع والخلود!.
وهذه الطبيعة الراقصة في شعره، يمكننا أن نتلمسها في قصائده الكثيرة منذ صباه حتى شيخوخته، فنجدها ذات روح وثابة قوية، روائعها الفنية ناطقة في غير بيان. والذي جعل شاعرنا يبدع في ذلك هو غرامه الذي لا حد له في المحسنات اللفظية والجمال البديعي، مما(928/21)
يجعلنا نقرأ قصيدته ونستعيدها مرة إثر مرة حتى نقف على أبعد مراميها فندرك سر بيانها، وإن شعره في كثير من الأحيان يسيل رقة وعذوبة، ويتفجر عن ينابيع ثرة دافقة. .
استمع إليه في قصيدة (الغروب) يقول فيها:
نزلت تجر إلى الغيوب ذيولا ... صفراء تشبه عاشقاً متبولا
تهتز بين يد المغيب كأنها ... صب تململ في الفراش عليلا
ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء أصيلا
يصف الرصافي الشمس في هذه القصيدة، وهي تجر مطارفها بخفر وحياء وقد أضربها السقم كالعاشق الواني الذي سئم رقدة الفراش؛ فنراه هنا وقد اكتفى بخطوط قليلة وألوان زاهية لإبداع لوحته الفنية، ثم صورها عند الشروق ضاحكة باسمة، وعند الأصيل مولولة جازعة تتشح بردائها الأحمر القاني الذي خضبته الدماء.
وفي قصيدته (وقفة في الروض) يقول:
ناح الحمام وغرد الشحرور ... هذا به شجن وذا مسرور
في روضة يشجي المشوق ترقرق ... للماء في جنباتها وخرير
ما قد انعكس الصفاء بوجهه ... وصفاه لاح كأنه بلور
ومنها:
وتسلسلت في الروض منها جداول ... بين الزهور كأنها سطور
حيث الغصون مع النسيم موائل ... فكأنها معاطف وخصور
تأملوا يا لله! في خيال الشاعر العبقري الواصف تجدوه كمن اطلع على أسرار الطبيعة وما تزخر به من حجب وتكهنات فراح يقتنص الشوارد بأدق المعاني وأرق الأحاسيس؛ فيشعر بمصاب الحمام وهو ينوح من شجن وعذاب، ويشارك الشحرور في تغريده لفرحته ومسرته! ثم يلتفت هنا وهناك وكأنه يستشف غور الأعماق، فينتقي سادرا في صفحة الماء الجلواء، حتى يتخيل إليه أنه يرى مدى بعدها لصفائها، وكأنها استطابت مكوثه في هذه الأرض فرقة له واستسلمت إليه، فكشفت له عن كنهها ومخابئ صدرها من جمال وروعة!.
ومن هذا الوصف المفتن ما جاء في قصيدة (ذكرى لبنان) إذ يقول فيها:
برزت تميس كخطرة النشوان ... هيفاء مخجلة غصون البان(928/22)
ومشت فخف بها الصبا فتمايلت ... مرحاً فاجهد خصرها الردفان
جال الوشاح على معاطفها التي ... قعدت وقام بصدرها النهدان
تستعبد الحر الأبي بمقلة ... دب الفتور بجفنها الوسنان
ومنها:
لم أنس في قلبي صعود غرامها ... إذ نحن نصعد في ربي لبنان
حيث الرياض يهز عطف غصونها ... شدو الطيور بأطرب الألحان
لبنان تفعل بالحياة جنانه ... فعل الزلازل بغلة الظمآن
نراه هنا نتمشى مع الطبيعة جنبا إلى جنب، فيعطيها نصيبها الوافر من الإبداع والتشبيه، مع خيال شعري سليم، وموسيقى شجية، ليس فيها أي تكلف مصطنع، بل جاءت فريدة من صميم نفسه الشاعرة المراهقة.
وقوله لاستغلال مادة الطبيعة في بساطة ساحرة:
البحر رهو والسما صافية ... والفخت في الليل شبيه السديم
والبدر في طلعته الزاهية ... قد ضاحك البحر بثغر بسيم
والصمت في الأنحاء قد حيما ... فالليل لم يسمع ولم ينطق
والبدر في مفرق هام السما ... تحسبه التاج على المفرق
أغرق في أنواره الأنجما ... وبعضها عام فلم يغرق
والبحر في جبهته الصافية ... قام طريق للسنا مستقيم
لم تحف في أثنائه خافية ... حتى ترى منه اهتزاز النسيم
تلك هي قصيدته (محاسن الطبيعة) التي أجاد في صياغتها وتوشيحها، فكانت طرفة خالدة من طرائفه الفنية النفسية!. يصف فيها سكون البحر وهدوئه، والليل وصمته، تظللهما سماء جلواء صاحية الأديم؛ وقد وثب القمر في طلعة مشرقة وضاءة، ليداعب البحر في فرحة ومسرة، وكأنه تاج من سنى الضياء، على مفرق السماء!
وقوله:
أنظر إلى تلك المعلقة التي ... سترت ظلام الليل بالأضواء
قطع من البلور محدقة بها ... يحكين شكل أصابع الحسناء(928/23)
فكأنها بدر تلألأ في الدجى ... وكأنهن كواكب الجوزاء
بل قد يمثلها الخيال كأنها ... قمر أحيط بهالة بيضاء
قال هذه الآبيات مرتجلا في (معلقة) وقد برع في وصفها مجنحا إلى آفاق رحبة من الخيال المطلق. والذي نتلمسه الآن في شعره هو أن الطابع الوصفي يغلب على شعره في الطبيعة والذي يصاحبه الجرس واللون والخيال المجنح؛ وقد يمتزج أحيانا بفلسفة الحياة والعاطفة والوجدان.
ونراه بعد حين يرتد طرفه عن مباهج الحياة وزخارفها، ليرى وطنه وقد لعبت به أيادي الحدثان، وارتفعت في أرجاءه سياط الطغيان، فأنشد يقول ودمعه لا يرقأ:
نظرت إلى عرض البلاد وطولها ... فما راقني عرض هناك ولا طول
ولم يبد لي فيها معاهد عزها ... ولكن رسوم رثة وطلول
أأمنع عيني أن تجود بدمعها ... على وطني إني إذن لبخيل
لنشاركه في هذه النظرة التي ألقاها على البلاد، حيث تتجلى فيها دفقة الحس وفيض الشعور، لنرى وإياه بعين المتأمل الخبير (فما راقني) يا للعجب!. تلك البلاد التي استهوته بجمالها؛ وأسرته بمفاتنها، يعود فيراها على صورة غير التي كان يعهدها منذ قبل. . (ولكن رسوم رثة وطلول)، وكأننا نحس ونشعر بما يرمي إليه الشاعر، فيغمرنا الألم ويحز في نفوسنا، فنشاركه دموع الحزن والأسى لما أصاب الوطن الجميل. . ثم ماذا؟! (إني إذن لبخيل)، وهنا تتم اللوحة التصويرية في أجل معانيها وأنبل غاياتها، فتدفع بالروح المتطلعة إلى أبعد حدود الذات، إلى الانطلاق الحر، إلى ثورة النفس الصاخبة التي يرمي إليها الشاعر في هذا الهمس البسيط يبغي من وراء ذلك تحطيم القيود وهدم السدود، ودك صروح الغزاة المعتدين!!
هذا هو الرصافي في شعر الطبيعة، ذلك الشعر الذي يتراءى لنا من خلال سطوره وقدة النفس في طموحها في سبيل الاعتزاز بهذه الأرض الطيبة الساحرة الجميلة!.
والرصافي الآن في مقدمة موكب الخالدين، وشعره هذا سيبقى سفرا قيما للتاريخ التصويري للطبيعة العراقية!
بغداد(928/24)
أنيس الحوراني(928/25)
مع أبي تمام في آفاقه:
قصيدة النار
للأستاذ محمود عزت عرفة
المعتصم والفقشين:
لم يكن المعتصم رجل علم كأخيه المأمون، وإنما كان جنديا قديرا يحسن اصطفاء القواد وتخير رجالات الحرب. وقد وصف نفسه في بعض مجالسه بأنه (الخليفة الأمي) فلم يعد وجه الحق في شيء.
وكان موقف الدولة العباسية وعوامل تكوينها قد قضت علها أن تستجلب العناصر الغريبة إلى جيشها، من فرس وترك وغيرهما، تستعين بهم على كبح جماح العرب من فلول بني أمية وأشياع بني هاشم.
فلما جاء أبو إسحاق المعتصم أرنى في ذلك على أسلافه، حتى لأسقط أسماء العرب من ديوان الجيش مكتفيا بالأتراك والأبناء، وبجند اجتلبهم من فرغانة وأشروسنة.
ولما نبت بغداد بأولئك الجند، وآذوا أهلها وتأذوا بهم، اختط لهم المعتصم حاضرته الجديدة سامرا، وأبانهم بالأزياء الجديدة عن سائر جنده، ورفع من مراتبهم وأقدارهم، وجعل بأيديهم مستقبل الخلافة.
وكان الأفشين (حيدر بن كاوس) أحد هؤلاء الذين اصطفاهم المعتصم، وهو فارسي الأصل من أبناء أشروسنة. ولقب الأفشين كان يطلق على كل من ملك في تلك الناحية.
والثابت أن الأفشين من أبناء الملوك الذين حكموا هنالك؛ وقد كانت منزلته رفيعة لدى قومه حتى اليوم الذي قتل فيه، بل إن إفراطهم في الولاء له كان إحدى التهم التي ووجه بها وأدت إلى أن يسلب نعمته ويصلب.
ويرجع اتصال الأفشين بالمعتصم إلى ما قبل توليه الخلافة بسنوات. ففي عام 213هـ عقد المأمون لأخيه لواء الولاية على الشام ومصر. وفي نفس السنة أندلع بمصر لهيب الثورة. ووثب عرب القيسية واليمانية بعامل المعتصم فقتلوه، وهو عميرة بن الوليد الباذغيسي الذي رثاه أبو تمام بإحدى بواكير شعره وهو بمصر فقال:
أعيدي النوح معولة أعيدي ... وزيدي من بكائك ثم زيدي(928/26)
وقومي في نساء حاسرات ... خوامش للنحور وللخدود
هو الخطب الذي ابتدع الرزايا ... وقال لأعين الثقلين: جودي
ألا رزئت خراسان فناها ... غداة ثوى عمير بن الوليد!
ومرت بمصر أحداث جسام استدعت أن يأتي المعتصم بنفسه فيسكن من ثائرها. ولما غادرها تجددت أسباب الفتنة فلم يجد بدا من أن يبعث إلى مصر بأفضل رجاله عنده وهو الأفشين. فقدمها في ذي الحجة عام 214هـ.
ولا تكاد كتب التاريخ تشير إلى الأفشين بشيء قبل أن تجري هذه الحوادث؛ فمما لا شك فيه أن تلك أول مهمة خطيرة يعهد إليه المعتصم بها.
وقد استمر بمصر يقاتل القوم في وثبات متتابعة حتى قدم إليها المأمون بنفسه في المحرم من عام 217هـ.
وتنقطع أخبار الأفشين بعد هذا. ولعله كاد في ركاب المأمون، ثم التحق بموضعه من حاشية أميره المعتصم. على أن المأمون توفى في رجب سنة 218هـ، وخلفه المعتصم بعهد منه. فخاض غمار حربين كبيرتين استغرقتا أعوام حكمه: أولاهما حرب الخرمية في الشرق، وقد انتهت بفتح (البذ) معقل بابك الخزمي واعتقاله وقتله والثانية حرب الروم في الغرب - وكانوا قد تحركوا على صدى حوادث الخرمية - وتمث هزيمتهم بفتح (عمورية) أقوى حصونهم على حدود المملكة الإسلامية في آسيا الصغرى.
وكان الأفشين هو بطل الخلافة المجلى وفارسها المعلم في هاتين السلسلتين من الحروب.
حرب الخزمية:
والخرمية قوم من المجوس كانوا يدينون بمذهب التناسخ، ويبيحون المحرمات من تناول الخمر وزواج ذوات المحارم وسائر ما تستجيب إليه الأهواء.
وكان رئيسهم جاويدان بن سهل صاحب جبال البذ، الذي خلفه عند موته بابك بن بهرام مدعيا أن روح جاويدان حلت فيه. وقد حدث هذا في سنة 201هـ والمأمون لا يزال في أوائل حكمه مقيما بمدينة مرو لم يبرحها بعد إلى بغداد.
ويقول ابن الأثير في تاريخه (الكامل) إن تفسير جاويدان: الدائم الباقي، ومعنى (خرم) الفرح. . قال: وهي مقالات المجوس. والرجل منهم يتزوج أمه وأخته وأبنته، ولذا يسمونه(928/27)
دين الفرح، ويعتقدون بمذهب التناسخ، وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره.
وقد جد المأمون في حرب بابك حتى استعصى عليه أمره؛ وأشخص إليه جندا كثيفا على دفعات؛ فانهزم أمامه من قواد الخلافة على التوالي، بين ناج وقتيل وأسير: يحيى بن معاذ، وعيسى بن محمد بن أبي خالد، وعلي بن صدقة، وأحمد بن الجنيد الإسكافي، وإبراهيم بن الليث بن الفضل، ومحمد بن حميد الطوسي. وكان ذلك في الفترة ما بين عامي 204، 214هـ
ومن هنا نفهم معنى ما سجله المأمون في وصاته وهو يحتضر، لأخيه أبي إسحاق المعتصم حيث يقول: والخزمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة. فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك. واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه.
ولم يأل المعتصم في محاربة الخرمية جهدا، فسير إليهم قائده إسحق بن إبراهيم المصعبي سنة 218هـ وعقد له الولاية على الجبال، فأوقع بفريق منهم في همذان وعاد ومعه منهم أسرى. وأعقبه المعتصم بالأفشين حين تبين له استفحال خطبهم، وانضواء الكثيرين تحت لواء دعوتهم. فأوقع بهم عند حصن (أرشق)، ونجا بابك هاربا إلى (موقان) ثم أرسل إلى البذ فجاءه جند تقوى بهم وعاد إلى حصنه.
وما زال الأفشين يتنقل من موضع إلى موضع، وهو يسد المسالك، ويستجلب الميرة، ويرم الحصون، ويبث الأرصاد والعيون، حتى أوفى على حصن البذ فحاصره، واستولى عليه في رمضان سنة 222هـ.
وقد كان لهذا النصر أثره المدوي في نفوس المسلمين، فشرقت به مدائح الشعراء وغربت تنوه بفضل الأفشين وقواده ممن أعانوه على هذا العمل الجليل.
يقول أبو تمام - باقتراح من عبد الله بن طاهر - في وصف بلاء الأفشين، وعظم تدبيره في هذه المواقع:
لقد لبس الأفشين قسطلة الوغى ... مخشا بنصل السيف غير مواكل
وجرد من آرائه حين أضرمت ... له الحرب، حدا مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا ... عزائم كانت كالقنا والقنابل(928/28)
رأى بابك منه التي لا سوى لها ... سوى سلم ضيم أو صفيحة قاتل
ويقول في مدحه بعد عودته ظافرا، من نونية مطلعها: بذ الجلاد البذ فهو دفين:
قاد المنايا والجيوش فأصبحت ... ولها بأرشق قسطل عثنون
فتركت أرشق وهي يرقى باسمها ... صم الصفا، فتفيض منه عيون
لو تستطيع الحج يوما بلدة ... حجت إليها كعبة وحجون
لاقاك بابك وهو يزأر، وانثنى ... وزئيره قد عاد وهو أنين
لاقى شكائم منك (معتصمية) ... أهزلن جنب الكفر وهو سمين
ويقول في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الطائي - أحد قواد الأفشين - وكان قد أنزله بموضع يقال له (خش):
أبلغ محمدا الملقى كلاكله ... بأرض خش أمام القوم قد لبجا
ما سر قومك أن تبقى لهم أبدا ... وأن غيرك كان استنزل الكذجا
أضاء سيفك، لما اجتث أصلهمو ... ما كان في جانبي تلك البلاد دجى
ويوم أرشق والآمال مرشفة ... إليك، لا نتبغى عنك منعرجا
أرضعتهم خلف مكروه فطمت به ... من كان بالحرب منهم قبله لهجا
ثم يصف مداهمته بابك في موقان حتى تخلى عنها هاربا إلى البذ، كما ذكرنا قبل:
وفي موقان كنت غداة ماقوا ... أشد قوى من الحجر الصلود
مشت خببا سيوفك في طلاهم ... ولم يك مشيها مشي الوليد
سيوف عودت سيقا دماء ... بهامة كل جبار عنيد
ويوم البذ لما يبق حقد ... على الأعداء، في قلب حقود
حططت بابك فانحط لما ... رأى أجل الشقي مع السعيد
فما ندري؛ أحدك كان أمضى ... غداة (البذ) أم حد الحديد؟
ويقول مخاطبا ابن يوسف أيضا من دالية أخرى:
عططت على رغم العدا عزم بابك ... بعزمك حط الأنحما المعضد
وموقان كان الدار هجرته فقد ... توردتها بالخيل أي تورد
حططت بها يوم العروبة عزه ... وكان مقيما بين نسر وفرقد(928/29)
ويخاطبه في دالية ثالثة:
تركت منهم سبيل النار سابلا ... في كل يوم إليها عصبة تفد
كأن بابك بالذين بعدهمو ... نؤى أقام خلاف الخى أو وتد
وأهل موقان إذ ماقوا فلا وزر ... أنجاهمو منك في الهيجا ولا سند
لم تبق مشركة إلا وقد علمت ... إن لم تنب، أنه للسيف ما تلد
ويقول أبو تمام في مدح أبي دلف - القاسم بن عيسى العجلي - وكان قائد فرقة المطوعة تحت إمرة الأفشين:
إن الخليفة والأفشين قد علما ... من اشتفى لهما من بابك وشفى
في يوم أرشق والهيجاء قد رشقت ... من المنية رشقا وابلا قصفا
فكان شخصك في أغفالها علما ... وكان رأيك في ظلمائها سدفا
نضوته دلفيا من كنانته ... فأصبحت فوزة العقبي له هدفا
وكان بابك قد نجا بنفسه بعد سقوط معقله، ومضى هاربا إلى بلاد الروم عن طريق أرمينية، فأذكى الأفشين وراءه العيون وبث الأرصاد في كل مكان حتى قبض عليه. وإلى هذا يشير أبو تمام بقوله:
ورجا بلاد الروم فاستعصى به ... أجل أصم عن النجاء حرون
هيهات لم يعلم بأنك لو ثوى ... بالصين لم تبعد عليك الصين!
وكان الذي قبض على بابك سهل بن سنباط - أحد بطارقة أرمينية - عند اجتيازه بأرضه متخفيا:
وأزمع نية هربا فحامت ... حشاشته على أجل بليد
تقنصه بنو سنباط أخذا ... بأشراك المواثق والعهود
ولولا أن ريحك ذربتهم ... لأحجمت الكلاب عن الأسود
ولكي نعرف حقيقة ذكر الكلاب والأسود هنا نقول إن الأفشين كان قد ألح على ملوك أرمينية وبطارقها بوجوب التحري عن كل من يجتاز أرضهم وحثهم على القبض على بابك ووعدهم في ذلك ومناهم. . فلما مر بابك بأرض ابن سنباط عرف حقيقته ولكنه جبن عن القبض عليه. فتملقه بالخضوع والطاعة واستضافه في حصنه، ثم كاتب الأفشين(928/30)
بخبره. فأرسل الأفشين من استوثق له من صحة ذلك ثم بعث بأبي سعيد مع جند فقبضوا عليه. ولما تحقق بابك خيانة ابن سنباط أغلظ في شتمه وقال له: بعتني لليهود بالشيء اليسير. لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء.
ولما مضوا ببابك سير معه ابن سنباط ابنه معاوية (فأمر له الأفشين بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر، وتاج البطرقة. فبطرق سهل بهذا السبب)
وقال صاحب النجوم الزاهرة: كان المعتصم قد جعل لمن جاء به حيا ألفى ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم. فجاءه به سهل البطريق فأعطاه المعتصم ألفي ألف درهم، وحط عنه خراج عشرين سنة.
أما بابك - وقد شبهه أبو تمام في بيته بالأسد - فكان مملوء النفس من كبر، مأخوذا بداء العظمة التي وصلت به إلى حد التأله. ولما وصل إلى الأفشين كتاب المعتصم بالأمان لبابك، وهو متوار قبيل القبض عليه، عرضه على بعض من استأمن إليه من أصحاب بابك - وفيهم ابن له كبير - على أن يستقصوا موضعه ويوصلوه إليه. فلم يجرؤ أحد منهم على ذلك. قال الأفشين لبعضهم: ويحك، إنه يفرح بهذا! فقال: أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك!
ولما وصل الكتاب إلى بابك على يد اثنين ضمن لهما الأفشين النفقة على عيالهما إن قتلا - ضرب بابك عنق أحدهما وشد على صدره الكتاب مختوما لم يفضه. وفض كتابا آخر كتبه إليه ابنه يحسن له التسليم ثم أطلق الرسول الثاني وحمله إلى ابنه كلاما كله سب وإفحاش، وفيه قوله: إنك من جنس لا خير فيه، وأنا أشهد أنك بابني. تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل؟؟
وحمل الأفشين بابك إلى سامراء فأمر المعتصم بقتله، ثم صلب بموضع يقال له العقبة، في شهر صفر سنة 223هـ
(يتبع)
محمود عزت عرفة(928/31)
من حديث الشعر
الكتاب الثاني
صديقي العزيز. . .
رأيتني أزدرى الشعر وأصف الشعراء بالجهل والسذاجة. فأحفظك هذا الوصف، وغاظك هذا الازدراء. فهببت تذود عن الشعر والشعراء. ولكنك لم تسلك في هذا الدفاع طريقا سواء، وإنما التوت بك السبل فخلطت وأفسدت الأمر على نفسك وعلى الشعر والشعراء، ذلك أنك قد زعمت أن الشعر متنوع مختلف. منه ما يعتمد على الواقع، ومنه ما يعتمد على الخيال، ومنه ما يعتمد على الواقع والخيال جميعها، وأنك أنت لا تؤثر هذا الشعر الذي يسترسل فيه صاحبه مع الخيال، ويسرف في ذلك فيتورط في المبالغات وألوان الغلو، وإنما تؤثر هذا الشعر الذي لاحظ فيه للخيال ولا الاختراع، وإنما هو وصف صادق مطابق للحق الواقع، وأن مذهبك في ذلك مذهب العرب الأوائل الذين قال قائلهم:
وإن احسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإذن فأنا مسرف مبالغ حين أزعم أن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال ولا يعنى بالحقائق، وأين يقع شعر أبي العلاء من الخيال؟ بل أين تقع حكم المتنبي وحكم أبي تمام من الخيال؟ وعلى هذا النحو مضيت في دفاعك عن الشعر والشعراء، فأفسدت الأمر - كما قلنا - على نفسك وعلى الشعر والشعراء. ذلك أن ما تسميه شعرا يعتمد على الحق الواقع ليس من الشعر في شيء، وإنما هو من النظم في كل شيء. . وإذن فمن الخير لي ولك أن نتفق على تعريف الشعر حتى لا أسمي نظما ما تسميه شعرا، ولا تسمي شعرا ما اسميه نظما.
وأنا حين أعرض لتعريف الشعر لا أحب أن أتحذق وأتكلف، وأضع لك جملا غريبة كأنني أحدد أصلا من أصول الفلسفة العليا، أو كأني استنزل وحيا من السماء، ولست في الوقت نفسه أريد أن أخترع أو أن أبتكر، وإنما أريد أن آخذ الأشياء كما هي، وأتمثلها كما يتمثلها المستنيرون من الناس. وأظنك معي في أن الشعر والنظم كلاهما كلام موزون مقفي، ولكن الشعر يمتاز عن النظم أنه يصدر عن الشاعر كما يصدر التغريد عن الطائر الغرد، وكما ينبعث العرف من الزهرة الأرجة، وكما ينبثق الضوء من الشمس المضيئة، فتأثير الإرادة(928/33)
وتأثير الروية فيه ضئيل جدا، ولعله أن يكون معدوما. أما النظم فتأثير الإرادة وتأثير الروية فيه واضح جدا، أوضح من أن نعرفه أو ندل عليه ولعله أن يكون إرادة كله، وروية كله، ومن هنا كانت العاطفة وحرارتها هي كل شيء في الشعر، ولعلي أن أقول إن الشعر عاطفة كله، ومن هنا أيضا كان العقل ونتاجه خطرا جدا على الشعر يفسده أو يكاد يفسده إفسادا لا حد له. وإذا كان الشعر عاطفة فيجب ألا تنظم هذه العاطفة نظما في الكلام، وإنما يجب أن تصور تصويرا فنيا جميلا. وكيف أعد شعرا قول القائل: أنا محزون جدا، أو أنا مسرور جدا، دون أن يصور لي حزنه أو يصور لي سروره؟ بل كيف أعد شاعرا من قال لي في كلام موزون مقفى: إنه محزون أو إنه مسرور؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة - ولكن تصوير العاطفة ليس شيئا إذا لم يكن تصويرا فنيا جميلا. وكيف أستطيع أن أطلق على إنسان اسم الشاعر والريشة تضطرب في يده والألوان تختلط في لوحته؛ والفن والجمال يحتضران بين يديه؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا - ولكن التصوير الفني لا يعتمد على العقل والملكات المفكرة، وإنما يعتمد على الخيال والملكات الخالقة المبتكرة. وهل الاستعارة والمجاز والتشبيه إلا مظاهر من مظاهر الخيال؟ وهل هي في الوقت نفسه إلا ألوان من ألوان التصوير الكلامي الفني الجميل؟ فكيف تقول لي إذن: إن الشعر بعضه يعتمد على الواقع، وبعضه يعتمد على الخيال، وبعضه يعتمد على الواقع والخيال جميعا؟ وهل من فرق بين أن تقول لي هذا وبين أن تقول لي: إن الشعر بعضه يعتمد على التصوير وبعضه لا يعتمد عليه؟ وإذا لم يكن الشعر تصويرا فلعمري ماذا يكون؟ أيكون تحليلا كتحليل العلم أم يكون شرحا كشرح الفلسفة؟ إن أبا العلاء - يا صديقي - لم يكن شاعرا في كل ما نظم، ولكنه كان شاعرا حينا وكان ناظما حينا آخر، وكان يجيد مرة ويتورط في الرديء مرة أخرى. وإن أبا الطيب وأبا تمام لم يكونا يحشران الحكم حشرا بين أبيات القصائد، وإنما كانت حكمهما في كثير من الأحيان تكملة للصورة الفنية التي يرسمانها، وأنت إذا فتشت في هذه الحكم رأيتها مبالغات وخيالات دفعت إليها العاطفة المنفعلة دفعا، فلابد في الشعر إذن من عاطفة، ولا بد لهذه العاطفة من تصوير كلامي منظوم، ولا بد لهذا التصوير من جمال فني، ولا بد لهذا الجمال من خيال. فنحن الآن نستطيع أن نفهم أن الكلام المنثور وإن احتوى على عاطفة وتصوير(928/34)
وجمال فني وخيال ليس شعرا لأنه فقد النظم، وأن نفهم أن الكلام العاطفي المنظوم الذي لا تصوير فيه للعاطفة ليس شعرا لأنه لا تصوير، ومن ثم لا جمال ولا خيال، وأن نفهم أن الأفكار التي توضع في كلام موزون مقفى ليست شعرا لأن الأفكار لا تحتمل التصوير الشعري الجميل وإنما هي محتاجة إلى الدقة وإلى التشدد في الدقة وإلى أن تسمى الأشياء بأسمائها
وأنا أكتب إليك هذا وبين يدي كتاب في الأدب المقارن لزميل من زملائك أساتذة البلاغة والنقد الأدبي، وهو يعرف الأدب - ومنه الشعر طبعا - بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وإذا صح أن نعرف النثر بأنه فكرة فإنه يستحيل علينا أن نعرف الشعر بأنه فكرة. على أن النثر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، فقد يكون النثر فكرة محضة وقد يكون عاطفة محضة، وقد يكون فكرة مزجاة بعاطفة، وقد يكون عاطفة مزجاة بفكرة، وعلى أن هذه الفكرة ليست مصورة دائما، وإنما قد تكون مصورة مرة، وقد تكون محللة مرة أخرى، وقد تكون مشروحة مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وكلها مع هذا نثر، ونثر فني. على أننا لا نحب أن نناقش الأستاذ الفاضل في هذا، وإنما الذي نريد أن نقوله: هو أن الشعر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، وإنما الشعر عاطفة مصورة، لأن نتاج العقل لا يحتمل التصوير الشعري، وإنما هو في حاجة إلى الدقة في التعبير. وماذا يقول الأستاذ الفاضل في هذه العواطف المصورة تصويرا فنيا جميلا، والتي لا تحمل في طياتها فكرة من الأفكار؟ أيسقطها من الأدب لأنها ليست فكرة؟ أم ماذا يصنع بها؟
على أن من الحق أن نقرر أن زميلك الفاضل قد احتاط لنفسه حين عرف الأدب بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، احتاط لنفسه احتياطا فهو يفرق بين الفكرة بمعناها العلمي المحض، والفكرة بمعناها الأدبي، ويرى أن الفرق بينهما هو الفرق بين (العالمية) و (الفردية) أو بين (الموضوعية) و (الذاتية) فالفكرة العلمية حقيقة واقعة تفرض نفسها على الناس جميعا، ولا تفقد صحتها إلا إذا قام البرهان العلمي على فسادها. أما الفكرة الأدبية فليست حقيقة واقعة وإنما هي حقيقة في رأي الشاعر. وقد يراها الناس وهما كاذبا وخيالا باطلا، فهي فردية ذاتية وليست عالمية وموضوعية. هو يريد أن يقول: إن الأدب يصف الخواطر النفسية والعواطف الإنسانية، ولكنه لم يقل هذا فيريح ويستريح، وإنما لف ودار فتعب وأتعب(928/35)
الناس معه ولم يصب المرمى بعد هذا التعب وهذا الاتعاب، لأن الخواطر النفسية ليست أفكارا وإن وصفها بالذاتية ووصفها بالفردية، وإنما هي خواطر، وخواطر ليس غير. ماذا أقول؟ بل أن الأدب ليس أفكارا ذاتية وأفكارا فردية ليس غير، وإنما هو ولا سيما إذ كان نثرا فنيا أفكار علمية وحقائق واقعة لم تصغ صياغة علمية جافة، وإنما صيغت صياغة أدبية جميلة أبعدتها عن جفاف العلم وجفوته. وكيف أقول إن النثر الفني أفكار ذاتية أو فردية وهو لا يرقى إلا في الأمم التي أوتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية، وأخذت من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به. أنا إذن عاجز عن افهم أن الأدب فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وعاجز أيضا عن أن أفهم هذا الفرق بين الفكرة العلمية والفكرة الأدبية. ذلك لأني إن فهمت أن النثر فكرة فلن أفهم أن الشعر فكرة، وإن فهمت أن الفكرة الأدبية ذاتية وفردية فلن أفهم أن النثر الفني أفكار ذاتية فردية، وإذن فالأستاذ مطالب بأن يوضح لي رأيه في الأدب عامة وفي النثر خاصة وفي الشعر بنوع أخص
على أننا قد ابتسمنا حين رأيناه يكلف نفسه شططا ويرهقها عسرا لإثبات أن الأدب ومنه الشعر فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، ولعله كان يلمح أن الشعر ليس فكرة، وإنما هو عاطفة وشعور. فهو يقول إن العاطفة لا توجد وحدها بل توجد مدفوعة بفكرة، أو هي بطبيعتها تنتهي متى تملكت صاحبها إلى فكرة من الأفكار. وأنا أحب أن أناقشه في هذا الكلام، لأن العاطفة قد لا توجدها فكرة من الأفكار وقد لا تنتهي حين تتملك صاحبها إلى فكرة من الأفكار. ومن المحقق أن المخزون لا يفكر في الحزن أولا حتى يحزن، ومن المحقق أيضا أن المخزون إذا تملكه الحزن لا ينتهي حزنه إلى فكرة من الأفكار، وإنما ينتهي به إلى البكاء، وقد ينتهي به إلى العويل.
وأنا أحب أن أترك زميلك الفاضل، فأنا لا أكتب إليه هو، وإنما أكتب إليك أنت. وأكبر ظني أننا الآن قد اتفقنا على تعريف الشعر؛ فهو عاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا في كلام موزون مقفى، وإذا قلنا مصورة تصويرا فنيا جميلا فقد ذكرنا الخيال القومي المبتكر. فنحن إذن لم نعد الحق حين قلنا إن الشعر لغة الحس والشعور والخيال. وهذه الملكات التي تنشأ مع الفرد والجماعة وتنضج وترتقي قبل أن ينضج العقل ويرتقي التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس(928/36)
والشعور والخيال، وأن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة العقل ومظهر التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال الذي يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء، لا كما تشاء الأشياء أو كما تشاء الطبيعة. وأنت مخطئ يا صديقي إن ظننت أني حين أصف الشعر بالجهل والسذاجة أغض من شأنه أو أحط من قدره. فوصف الشعر بالجهل والسذاجة مدح له وثناء عليه. لأن الشعر الذي يوصف بالعلم والعمق نظيم كله لا أثر فيه للشاعرية ولا للخيال. الشعر جهل وخير له أن يظل جهلا، لأنه يفقد فنيته كلما اترك الخيال المبتكر وجنح إلى الحقائق الواقعة. والشعر سذاجة وخير له أن يظل سذاجة؛ لأنه يفقد فنيته وجماله كلما ترك هذه السذاجة وجنح إلى التفكير والعمق. على أني أحب أن تطمئن ويطمئن الشعراء ويطمئن الذين يحبون الشعر ويشفقون عليه ويجدون شيئا من اللذة الفنية في قراءته وبتغنيه، فلن يستطيع هذا الحديث أن يميت الملكات الشعرية في نفوس الشعراء. ولن يستطيع هذا الحديث أن يقطع السبيل بين عشاق الشعر وبين قراءة الشعر واستظهاره، والتماس اللذة الفنية في قراءته واستظهاره. بل اذهب إلى ابعد من هذا فأزعم لهم أن الشعر إذا اضمحل في مصر في هذا العصر الذي ارتقت فيه الحياة العقلية ارتقاء كبيرا، فإنهم لن يفقدوا اللذة الفنية إذا التمسوها في النثر الفني. ففي هذا النثر يجدون حياة أدبية مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة الشعرية الجاهلة الساذجة.
وأراني قد أطلت عليك، وإن كنت لم أحدثك عن كل ما أريد أن أحدثك عنه فأنا مضطر الآن إلى أن أفرغ من هذا الحديث، وإلى وقت آخر.
كمال بسيوني(928/37)
المقامة العرفانية
للأستاذ إبراهيم الابياري
مكن الله له ومكن به
أساغ لنا وردا تورد ماءه ... مياسير قد أعطوا ورد المحرب
ويا بينونة ما بين الشارب ولشرب، ومن يسوي بالبشم السغب. وهل يحمد الري مثل ظماء، أو يشكر الشبع إلا على خواء.
وقديما نكر الناكر على جساس ألا يغيث كليبا بشربة، وفيل المفيل أن تمنع عامر الماء معبد بن زرارة، وأذموا عبسا على غدير فلهى حين ردت عنه ذبيان عطشى، وأثموا ابن زياد في صده ابن الزهراء عن الشريعة.
وهل عندك أن ثمود ضنت أن تعاض بماء لبنا، وأبت أن تشرك في بئر الناقة، وأن فتاة ابن قبيصة لم تذكر إلا ماءة صداء حين سئلت أن تقايس بين لقيط ومن بنى بها بعده، وأن العرب حين تمثلوا الماء جعلوا الزمام إليه فقالوا: الماء ملك آمر.
وأصيخ إليك تشعر منكرا: ... فما ظمأ نشكو ولا الماء نفقد:
ثم تنثر مرقدا: وكيف يصدي في يمينه هذا النهر يجمع، أو مع العشرين وفي ظل الحاضرية تخوفنا ألأنميه، واين منا هذا الورد المحلأ، والحوض غير الموطأ.
ويحضرني قيك:
عدوت مرادي سبط هيمان فاقصد
لقد لغبت عشيرتك والماء تحت أرجلها، وحيل بينها وبينه وخريره في آذانها.
وتحجوني أومئ إلى عهد لم يأتك نبؤه في كتاب، فما في المنقول أن قلا مما أقول كان بله كثره
وفي واعيتك أنا ذرء الفيض والخصب، لا القحط والجدب، والوسيع لا يتضيق
وجازك أن شاهدي حاضر في زرافات لا تفتأ على الصدى، تعرفهم في اللسان المعقول، والعقل الخرف، واليد الخرقة.
وعلمك أن الظمأ ولا يدي. وتجري في إثر من وصفت لك فتحصى منهم فوق ما أحصيت فتهتال، وتسألني أي ظمأ هذا؟(928/38)
هذا ظمأ القرن الموفى على العشرين لا ظمأ القرون الأولى. أعوزهم الماء فربطوا به حلهم وترحالهم، حربهم وسلمهم، ولو عبدوا غير الله لعبدوه وهو لا ينقع إلا غلة الأجواف
ويعوزنا للعلم ورد نروده ... شكت ظمأ منه النفوس اللواغب
وكيف تقاس بغلة الأنفس غلة، أو كيف نحرص على أرماق للجهالة وذماء للضلالة؟ وما للأغمار تسأل الأعمار، وغيرك من لا يختار زيادة يوم على أثرة من علم.
ثم ألا ترى أني لم أعد الصواب حين حركتك بالماء، وأني لم أبعد حين جمعت بين ورد وورد
وأعدك بعد أني لم أجنح إلى التلميح، ولن تلقاني إلا على صريح.
إبراهيم الابياري
الرسالة:
المقامة رياضة أدبية، كما أن الأحجية رياضة عقلية، تلك تمتحن بها فهمك. والصبر في كلتا الحالتين هو المفتاح.(928/39)
رسالة الشعر
من الموشحات
(ما لتلك المعالم انطمست)
للأستاذ أبي الوفاء محمود رمزي نظيم
أتراه يحنو على الصبِ ... أهيف القدِ
أي وجد أثار في قلبي ... آه يا وجدي
من لوعة وجراحْ ... لو رآها لرق
أخذتني بالسحر صورته ... فأنا المضنى
لا تقولوا كالغصن قامته ... إن مشى غصنا
لا تقولوا كالبدر طلعته ... وجهه أسنى
لا تقولوا كالسحر نظرته ... نزهوا الحسنا
إن حسن الملاح ... مبعت للأرق
وصف من أهواه لا أرضاه ... أنا صب غيور
لم يزل حاضراً وعيني تراه ... فهو فيها النور
غاية الوهم هجره وجفاه ... لست بالمهجور
في فؤاد مثاله وسناه ... بدد الديجور
فحياتي صباح ... والظلام انمحق
كنت ميتاً والحب أحياني ... ياله من حياه
هو نور أضاء وجداني ... بشعاع سناه
وخلود للنفس روحاني ... عند من تهواه
نحن نبقى والهيكل الفاني ... في الثرى مثواه
قد قضى وارتاح ... كالهشيم احترق
لا تظنوا دنياكمو شيا ... إنها أوهام
حملتني همومها حيا ... وعذاب السقام(928/40)
وكوتني بنارها كيا ... دائب الآلام
وطوتني سنيها طيا ... يا لها أحلام
تخدع الأشباح ... حلمها ما صدق
والثرى يهضم الجسوم فلا ... يبقى منها شى
لجت كل من بها نزلا ... يبتلى بالعى
لا تثر في مآلنا جدلا ... لا يرح الحى
خل من لم يزل يجد أمل ... غافلا في الحى
لا هيا بالراح ... بين نفح العبق
أين أيامنا التي سلفت ... في قديم العصور
ما لتلك المعالم انطمست ... ولذاك النور
بالأرض بأهلها شقيت ... حكمة المقدور
مالها في خصبها نكبت ... خصبه المشهور
هل طوته الرياح ... ثم جفت الورق
وطن قام فيه (رمسيس) ... فأذل الأمم
أين (خوفو) وأين (احميس) ... وبناة الهرم
ذهبت بالكرام (منفيس) ... وأقام العدم
واستباح النفوس ابليس ... فأباد الشمم
وقضى واستباح ... وبغى وسرق
لم يعد من مجدنا باقي ... فأزل كربى
واملأ الكأس أيها الساقى ... وأرح قلبى
فخمور تذيب أشواقي ... بلسم الحب
ساء عيشي ما بين أوراقي ... ليس ذا ذنبى
فاملأ الأقداح ... من ورود الشفق
أيها النائمون في الشرق ... في ضلال الخمول
إن سيل الغرب لا يبقى ... ويبيد الأصول(928/41)
قد خدعتم بلمعة البرق ... يا لها من عقول
رضيت بالصغار والرق ... في حياة تزول
كلها أتراح ... كالشراب اندفق
وافترقتم في أرضكم شيعا ... سميت أحزاب
وكل قوم لحزبه تبعا ... ثم صاح الغراب
وحدة ركنها قد انصدعا ... فتح الأبواب
شكر الطامعون ما صنعا ... وشربنا العذاب
يزهق الأرواح ... ويزيد القلق
كل جهاد لنا يروح سدى ... ونحن في استعباد
وكيف يلقى أخو الجهاد هدى ... وقومه الحساد
لا تتبعوا غير قائد أبداً ... لكل قوم هاد
كل افتراق بين الشعوب بدا ... يمزق الأكباد
وتدوم الجراح ... ويتم الغرق
(منيل الروضه)
محمود رمزي نظيم(928/42)
في الربيع
للأديب محمد مفتاح الفيتوري
ربوتنا اعشوشبت ... وكوخنا الممحل
وإبلنا أنتجت ... وشاؤنا مطفل
والقمح في حقلنا. . . ... قرطه السنبل
واختال في أرضنا ... المحراث والمنجل
وكرمة المنحنى. . . ... ناءت بما تحمل
وامتلأت بالندى ... القناة والجدول
والورد في دربنا ... عاطفه الصندل
وحام في جونا ... البازى والأجدل
وعاد شحرورنا ... الجميل والبلبل. . .
ونسمات المسا ... تحكى وتسترسل
كأنها في الدجى ... شاعرة تغزل
وجدت ريشها ... الحمائم الهدل
ولاح وجه الربيع ... حيث نستقبل
قد كان في فصله ... ميعادنا الأول
حبيبتي استيقظي ... فإنه مقبل. . .
لبى نداء الصبا ... أيتها الراعيه
وكحلي مقلتيك ... بالرؤى الصاحيه
وجردى عنك ذى ... الغلالة القاسيه
واستقبلي ركبه ... فتانة عاريه
فأنت عند الربيع ... زهرة ساميه
والزهر يهوى الفضى ... ويكره الآنيه
هيا بنا للمروج ... والربى الحاليه
نهتز في خفة الـ ... السخائل اللاهيه(928/43)
ونهد أشواقنا ... للسفح والرابيه
ونبن أحلامنا ... بالرملة الصافيه
مدائننا. . . أو قصورا ... . . . أو دمى زاهيه
أو نقطف الزهر كي ... تلقفه الهاويه
أو نسرق الشهد من ... خلية الجانيه
أو نختبئ من زوايا ... المرج في زاويه
أو نجذب الشمس من ... شعورها ألدانيه
أو نحبس الضوء في ... سلالنا الواعيه
أو نضطجع في ظلال ... الغيمة الساريه
أو نتأرجح على ... ضفائر الداليه
أو نستحم بماء ... البركة الساجيه
أو ننظم الشعر أوزانا ... . . . بلى قافيه
استيقظي استيقظي ... يا زهرتي الغافيه
وابتسمي للحياة ... إنها فانيه. . .
وإنما الخالدو ... ن نحن غانيه
أنت بفصل الربيع ... زهرة ناميه. . .
وكلما استغرقت ... أيقظها ثانيه. . .
وأنا في نايه ... أنشودة ساريه
فلننس آلامنا ... الكبيرة الداميه
وأمسيات الشتا ... وريحه العاتيه
ولننس دنيا الورى ... الضاحكة الزاريه
وحسبنا ذلك ... الخلود يا غاليه
محمد مفتاح الفيتوري(928/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
رفاعة فرنسية جديدة
كان الفرنسيون قد قالوا: إن الأنباء التي نشرتها الصحف المصرية عن حوادث مراكش الأخيرة غير صحيحة، وإن حملة الصحافة المصرية على فرنسا معتسفة ومتعسفة، وراحوا يلقون علينا دروسا في أصول المهنة التي تتطلب تحري الحقائق واستقاءها من مصادرها، واقترحوا على نقابة الصحفيين المصريين أن تبعث وفدا منها إلى مراكش للوقوف على حقيقة الحال هناك. وكان هذا الاقتراح مدهشا. . . فليس مثل هذا التسامح معهودا من فرنسا في المغرب، إذ جرى عمالها هناك على منع أشعة المشرق من النفوذ إليه، حتى لا تقتل جراثيم الاستعمار. .
ومع ذلك فقد قابلت النقابة الاقتراح بالترحيب، إما بسلامة نية، وإما متابعة للكاذب إلى داره. . . وسافرت البعثة الصحفية المصرية إلى المغرب، وبلغت طنجة، فلما أرادت دخول مراكش تلبية لدعوة الفرنسيين منعها الفرنسيون! ألغى وزير فرنسا في طنجة إجازة (تأشيرة) وزير فرنسا في مصر. . . وهذا يذكرنا بالنادرة التي تروى عن عمدة بخيل يستقبل زواره بالترحيب ثم ينادي الخادم قائلا في صوت جهوري: (قهوة يا ولد) وهو يرفع يده مشيرا بإصبعه إشارة أفقية يفهم منها الخادم أن لا قهوة. . . فالوزير الفرنسي يوافق على دخول الصحفيين المصريين مراكش وكأنه يشير إلى زميله في طنجة أن لا دخول. . .
وليس منع الفرنسيين هذه البعثة وأمثالها غريبا، بل الغريب أن يسمحوا لها بدخول تلك البلاد المنكوبة بهم، ولا بد أن تسأل بعد ذلك: أين (الرقاعة) في ذلك التصرف ما دام طبيعيا لا غرابة فيه؟ الرقاعة - أو لا وكما قلت من قبل - فن يجيده الفرنسيون، والإبداع الفني أو (الإشراق الرقاعي) في هذا الموضوع، هو أن الفرنسيين هم الذين طلبوا سفر البعثة وهم الذين منعوها! وغيرهم يستطيع أن يطلب فقط أو يمنع فقط، أما عبقرية الرقاعة التي تجمع بين الأمرين فهي مقصودة على الفرنسيين.
(كوكتيل) باكستاني(928/45)
قدم إلى مصر في الأسبوع الماضي وفد صحفي من الباكستان،
تلك الدولة الحبيبة التي يجمعنا بها الإسلام. وقد لقي الضيوف
الكرام ما يليق بهم من الحفاوة والتكريم، فإضافتهم الحكومة
المصرية، ورحبت بهم الشخصيات والجماعات المختلفة،
واهتمت الصحف بأنباء تنقلاتهم وما يقام لهم من حفلات، وقد
تتبعت ما نشر عنهم باهتمام وسرور، ولكن شيئا واحدا نغص
على هذا الشعور، إذ قرأت بأهرام الخميس (541951) في
سياق ما أعد لهم من برنامج في ذلك اليوم، ما يلي: (وفي
المساء يقيم لهم معظم على مندوب وكالة أسوشييندبرس
الباكستانية، حفلة كوكتيل في داره).
وقفت عند حفلة الكوكتيل هذه مندهشا! فهؤلاء الإخوان من الباكستان التي نتصورها أمة مسلمة محافظة على شعائر الإسلام، ونغتبط بهذا التصور الذي تكونه في أذهاننا قرائن ومظاهر مختلفة، منها ما تعلنه حكومة الباكستان من أن دستورها يقوم على تعاليم الإسلام، وما يبديه ممثلوها في الهيئات العالية من الدفاع عن الإسلام ومناصرة المسلمين، وما يترامى إلينا من تمسك الشعب الباكستاني بأهداب الدين، ولعل قراء الرسالة يذكرون ما كتبته منذ أسابيع بعنوان (هل نحن مثقفون بالثقافة الإسلامية) على لسان باكستاني كبير تحدث إلى مقارنا بين الروح الإسلامية في مصر وفي الباكستان.
لذلك دهشت إذ رأيت إخواننا من مسلمي الباكستان يتداعون
إلى شرب الخمر في برنامج ينشر على الناس. . . فتوقعت(928/46)
بدافع ميل النفس إلى خير الاحتمالات - أن يكون في ذلك
الذي نشر خطأ أو لبس، وأن لا بد من استدراكه في اليوم
التالي، ولكن زادت دهشتي عندما قرأت في العدد التالي من
الأهرام (641951) ما يلي: (وفي المساء أقام لهم السيد معظم
على المراسل الخاص لوكالة الأسوشيتدبرس الباكستانية
بالقاهرة حفلة كوكتيل).
إذن فقد تحقق الأمر ووقع المحظور. وأنا حائر في هذا الموضوع. . . هل هو يستحق التدقيق للاعتبارات التي سلفت، وأن ذلك يستوجب توجيه العقاب إلى أولئك الإخوان، أو إلى سفارة الباكستان بالقاهرة التي ينبغي أن يتدخل نفوذها الأدبي في مثل ذلك؟ أو أنه يجب أن تكون (عصريين) فلا ندقق وندع الإخوان يصيبون شيئا من الحظ والمراح. . وخصوصا أننا في مصر (المسلمة أيضا) نفعل مثل ذلك وإن كنا نتحرج من إعلانه ونشره. . . عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا بليتم فاستتروا) ولكني لا أشك في أن إخواننا الباكستانيين يعرفون هذا الحديث كما نعرفه. وقد يقال إن الأهرام هي التي نشرت؛ ولكنها نشرت في يومين، وكان يمكن الاتصال بها وخاصة من جانب السفارة - لنشر عبارة (دبلوماسية) تغطي ما كشف. . . وكان يمكن أيضا أن ترى الأهرام من تلقاء نفسها أن نشر ذلك غير لائق، ويلاحظ أنها فقط التي نشرته!
حتى البرنامج الأوربي
تحدث إلي أستاذ إيطالي زار مصر أخيرا، وقد جاء ذكر الإذاعة المصرية، قال إنه استمع في فترات مختلفة إلى البرنامج الإيطالي من قسم الأوربي في الإذاعة المصرية، فلاحظ أن المادة التي تذاع أكثرها اسطوانات وتسجيلات موسيقية يمكن الاستماع غليها من محطة إيطالية، فليس فيما يذاع للجالية الإيطالية ويبلغ عددها في مصر 45 ألف نسمة - ما يكون صورة ثقافية لمصر الوطن الذي يقيمون فيه، فهنا كثير من المسائل المتعلقة بمصر، مثل(928/47)
السودان، والمسألة العربية، والحركة الوطنية، والاتجاهات الإنشائية للحكومات المتعاقبة - كل هذه المسائل وأمثالها لا يعرف المثقف الإيطالي المقيم بمصر عنها شيئا. . .
هذا، ومصر تنفق آلاف الجنيهات للدعاية في الخارج أليست الدعاية لمصر بين جماهير الأجانب المقيمين في أولى؟ وخاصة إذا كانت لا تكلف كثيرا ولا تحتاج إلى جهد كبير؟
الأجانب واللغة العربية
وقد استطر ذلك الأستاذ في الحديث قائلا: لماذا لا تذاع دروس لتعليم اللغة العربية في البرنامج الأوربي بالإذاعة المصرية، كي يستطيع المواطن الأجنبي في خلال شهور التفاهم بها أو قراءة جريدة عربية؟
والواقع المؤلم أن مصر مقصرة أشد التقصير في تعليم لغتها للأجانب، فليس هذا التقصير خاصا بالإذاعة، فإن الأجنبي لا يجد في بلادنا معهدا يتعلم فيه اللغة العربية على نفقة الحكومة، على حين نرى الدول الأخرى تنشأ المعاهد التي تعلم الأجنبي لغتها لا في داخلها فقط، بل في البلاد الأخرى ولا تدخر وسعا في نشرها بمختلف الأقطار. وأن المصري الذي يسافر إلى لندن أو باريس مثلا لا يلبث أن يجيد الحديث بالإنجليزية أو الفرنسية، على حين نرى الأجنبي يستوطن مصر ويمضي فيها سنوات دون أن يلم بلغتها، فإن فعل لم يتجاوز العامية الجارية على ألسنة الشعب، فلا يعرف شيئا عن ثقافة البلاد وآدابها، بل هو لا يقرأ من الصحف والمجلات إلا ما يصدر باللغات الأجنبية.
مسرحية (المتحذلقات)
استأنفت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها الثاني لهذا العام على مسرح الأوبرا الملكية يوم السبت الماضي، وقد بدأت بتمثيل مسرحيتي (المتحذلقات) و (مريض الوهم) وأقصر حديثي اليوم على المسرحية الأولى التي تعرضها الفرقة لأول مرة، أما الثانية فقد كتبت عنها من نحو شهرين عندما مثلتها الفرقة على مسرح حديقة الأزبكية.
تعرض المسرحية أربعة متحذلقين: اثنتين وأثنين، ويعديني جو هذه الرواية فيحملني على أن أصطنع شيئا من (الحذلقة النحوية) فأسأل: لماذا غلب جانب التأنيث على جانب التذكير في العنوان (متحذلقات) على خلاف القاعدة العربية المعروفة التي تحتم تغليب المذكر على(928/48)
المؤنث في الجمع فيكون جمع مذكر إذا كان فيه ولو رجلا واحدا مهما كان عدد النساء. . .؟ ثم أجيب عن هذا السؤال بأن هناك اعتبارا آخر سوغ تغليب التأنيث، وهو أن المتحذلقتين هما الأصل والحذلقة فيهما لازمة، أما المتحذلقان فقد اصطنعا الحذلقة لتدبير مؤقت يظهر في متابعة المسرحية.
ولا تحسبن أنني قدمت هذا التحذلق النحوي عبثا. . . فهو يشبه موضوع المسرحية مع فارق واحد، هو أن هذا النوع النحوي خشن غليظ، أما الحذلقة التي شهدناها على المسرح ففيها تأنق وتظرف وتنعم وكل (تفعل) من هذه المعاني يرجع في أصله إلى التكلف، طلبا للشهرة واسترعاء الأنظار. . .
(كاتوس) و (مادولون) فتاتان نشأتا في الريف ثم قدمتا إلى باريس وقد امتلأ خيالهما بما يسمعان عما يجري في مدينة الحب من مغامرات وما يسود مجتمعاتها من رشاقة الحركات وحسن اختيار العبارات، فهما تعترضان على أبيهما (جورجيبوس) إذ يناديهما: كاتوس؛ مادلون. . . هذا وتطلبان أن يخاطبهما بإسمين من أسماء التدليل الناعمة بدلا من هذين الاسمين القديمين وتوبخان الخادمة لأنها تطلب الإذن لزائر بعبارات عامية وإنما يجب أن تستأذن في عبارة أدبية عالية، وكأن تقول: هل من المستطاب يا سيدتي في هذا الوقت أن تستقبلي المركيز. . . وعندما تريدان التزين تطلبان من الخادمة (مستشارة المحاسن!) وتحار الخادمة. . ولكنها يجب أن تتعلم أن مستشارة المحاسن هي المرآة. . .
ويتقدم لخطبة الفتاتين شابان طبيعيان: ليسا من أهل الحذلقة، فتقابلانهما بفتور وإعراض واحتقار. ويضيق بهما أبوهما (جورجيبوس) ويسألهما عن سبب إعراضهما عن الشابين، وهنا تلقى المتحذلقتان درسا ممتعا عن الحب والزواج، إذ يجب أن يبدأ الشاب بالغزل الرقيق وإنشاد الشعر العالي ثم يذهب بفتاته إلى الأركان الهادئة بالحدائق، ويتخلل ذلك تأوهات وتنهدات. . . وأخيرا يصارحها برغبته في الزواج، أما المصارحة بطلب اليد من أول الأمر - كما صنع الشابان - فلا تليق إلا بالصفقات التجارية التي لا تحسن بأهل الظرف والكياسة. . .
ويغتاظ الشابان من مسلك الفتاتين تجاههما، فيدبران أمرا. . . ثم يظهر على المسرح (المركيز ماسكريل) و (الفيكونت جودليه) في زيارة الفتاتين المتحذلقتين، يدخل (المركيز)(928/49)
أولا غاية التأنق والتظرف و. . . التحذلق، ويعرض على الفتاتين بضاعته (الغالية) من الحذلقة (الرفيعة) ويوهمهما أنه بالتأوهات ذات المدلولات التي يفسرها لهما طبقا لأصول الحذلقة، فتعجبان به غاية الإعجاب؛ ثم يلحق به صديقه (الفيكونت) ويأخذ معه بنصيب من الحذلقة ومن إعجاب الفتاتين.
وحين تبلغ الحذلقة تمامها، تفاجأ الفتاتان بمنظر عجيب، إذ يدخل الخاطبان اللذان أعرضتا عنهما فينهالان ضربا على المركيز والفيكونت. . . ويتبين أن هذين خادما الشابين الخاطبين مثلا دوريهما للعبث بالمتحذلقتين، ليسخر الشابان بهما وينتقمان منهما.
المسرحية لموليير، وهي كسائر مسرحياته تقدم نماذج غريبة من الناس وتصورهم في سخرية، وتضحك من تصرفاتهم وما يلابسها من مفارقات. وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات، وأهم ما يستلفت النظر في الإخراج هو اتجاه كل شيء على المسرح نحو هدف المسرحية واستخدامه في تصوير جوها، من حركات الممثلين ونبرات إلقائهم وترتيب المناظر والإضاءة. . . الخ، غير أني ألاحظ أن شخصية الأستاذ زكي تنعكس على الممثلين فتفيد في أكثر الأمور إذ تضفي حيويته الفنية عليهم، ولكن ظلالا خفية جدا من هذه الشخصية تجعل الممثلين يتماثلون في طابع واحد، ويتجلى ذلك في أصواتهم عندما (يزومون).
أما الممثلون والممثلات فقد أجادوا جميعا، وكانت البطولة البارزة في هذه المسرحية لعبد الغني قمر (ماسكريل) فوفق في تمثيل الحذلقة توفيقا يستدعي الإعجاب، وقد جاراه في ذلك أحمد الجزيري (جودليه)، ومثلت سناء جميل إحدى المتحذلقتين (مادلون) وسناء فتاة قديرة على التعبير البليغ، وقد برعت في هذا الدور براعة تشبه ما أبدته في دورها الخالد بمسرحية مريض الوهم. ومثلت سميحة أيوب المتحذلقة الأخرى (كاتوس) فاستطاعت أن تجاري سناء في دورها، وقد لاحظت تقدمها و (لحلحتها) في هذه المسرحية وأيضا في مسرحية (مريض الوهم) أكثر من قبل.
عباس خضر(928/50)
الكتب
زبدة الحلب من تاريخ حلب
ألفه كمال عمر بن أحمد بن العديم ونشره الدكتور سامي
الدهان
للأستاذ إبراهيم الابياري
أكاد أعرف التاريخ العربي في مظهرين عام وخاص، فهو إلى العموم حين يعرض للحياة يقول فيها لا يحد نفسه بمكان أو زمان ولا يخص بيئة دون بيئة، ولا يقف عند أناس دون أناس. بل هو سالك الأزمان كلها في سلك واحد يبدأ من حيث بدأ الله خلقه، ثم يجري في إثر من نسل أبو البشر يقص مالهم ويروي ما وعي عنهم حتى يدرك شهر زاد الصباح.
وما كان منه إلى الخصوص فهو ذلك الذي فرغ لسير الأفراد يجمعها ويلم نوادها ومتفرقاتها فتجتمع لك حياة الفرد من شبه إلى دبه ناطقة بما كان له وما كان عنه تغنى بها عن الرجوع إلى أماكن مختلفة من المظان. ومن هذا الخاص كتب في التاريخ عقدت لسير البلاد لا الأفراد تقدم علي ابن العديم فيها الخطيب البغدادي بكتابه تاريخ بغداد، وابن عساكر بكتابه تاريخ دمشق. والتاريخ في سير الأفراد أقرب إلى التوفيق منه في سير البلاد. فأتت تقرأ للمؤرخين في سيرة الفرد الحياة الخاصة والعامة، وفي كلتيهما ما يعوزك لترى رأيك وتحكم حكمك، ولكنك في سير البلاد واقف في أولها عند كلمة عن طبيعة البلد وما خصه الله به وما قيل به ثم منتقل إلى الحديث عن الناس الذين تربطهم بهذا البلد صلات. وقد يبدو في هذا شيء من الخصوص ولكنه ليس الخصوص كله كما هي الحال في سير الأفراد؛ فالفرد في الأولى هو الذي يدور حوله الحديث، والبلد في الثانية لا يختص من الحديث بغير نزول فلان إليه ونزوحه عنه، وتولى هذا للحكم وذاك للقضاء دون شيء يكشف لك في وضوح واتصال عن حياة هذا البلد في مظاهره مع الأيام وتداولها.
هذا شيء في الحق أعوز هؤلاء المؤرخين الذين عقدوا كتبا في سير البلدان، لم يخصوا البلد فيها إلا بالمقدمة ثم هم بعد ذلك قائلون في سير الأفراد الذين تربطهم بالبلد صلات(928/51)
ظانين أن هذا كل ما يعني القارئ لسيرة البلد، أما عن خطوات البلد في الحياة وما أمسى عليه وما أصبح، وحياته العلمية والسياسية والاجتماعية من تلك الأمور التي بدأ يلتفت إليها المؤرخون المحدثون. فذلك شيء لم يخطر لهم ببال.
من أجل ذلك عددت كتب المؤرخين في سير البلاد ليست من الخاص إلا في عنوانها ومقدمتها وتلك الصلة التي جوزت سرد تلك الجمل من التراجم.
وابن العديم من الذين حاولوا أن يفردوا حلب بسيرة متأثرا في ذلك بمن ألف في سير البلدان قبله. فوضع كتابه البغية أو التاريخ الكبير على نهج من سبق، خص حلب بشيء قيل مثله في دمشق وبغداد، ثم أردف يجمع تراجم من لهم بحلب صلة.
ويلتفت ابن العديم فيرى أنه لم يوف سيرة حلب بما فعل وأنه لا بد للمؤرخ في سير البلدان من نهج غير هذا، يخص فيه البلد بحديث موصول الحلقات، فيقبل على كتاب البغية يحور فيه ويشكل ويخرج على الناس منه بهذا الكتاب الذي أسماه زبدة الحلب من تاريخ حلب.
وفي الحق لقد قارب ابن العديم أن يكون في هذا الكتاب كاتب سيرة حلب. فقد أرخ لها في ظل الملوك والقضاة وعرض لما واجهت من فتوح واستقبلت من غزاة وما عانت من حروب، كل ذلك خلال سرده لحيات الأفراد الذين حكموا وولوا. ولو أنه ألتفت قليلا إلى حلب نفسها فحدثنا عن مظاهر الحياة فيها في إفاضة وتوسع لو في غرضه وأكمل نهجه. ولكن الكتاب يعرفه كل مفيد أنه مع البقية تاريخ حلب الذي عليه معتمدهم ومنه إفادتهم.
هذه موجزة في التاريخ والمؤرخين، وأما عن النشر والناشرين فذلك شيء حبيب إلى نفسي الحديث عنه، فالصلة به قديمة ومشاركتي فيه متنوعة.
وإذا ذكرنا النشر فإنما نعني ذلك النهج القويم الذي طلع به علينا الغربيون على مختلف أممهم فكانوا فيه بحق أساتذة تلك المدرسة الذين بينوا السبيل وخطوا الخطة.
ثم كانت للشرق في أثرهم خطوات موفقة لكنها يعوزها الأناة والصبر؛ ثم بسطة من المال والشيء من التشجيع وعندي أن هذا العمل الخطير جدير أن يرعاه رجل خطير يدعم أركانه، فما أحوج الناشر إلى من يمكنه من المخطوطات المبعثرة هنا وهناك في جهة العالم المختلفة، وإلى من يرزقه على جهد سنين متصلة، وإلى من يجزيه جزاء فيه عوض وبه رضى.(928/52)
وتكاد دور النشر لا تتهيأ لهذا؛ فالناس تجر راغبون في الغم والناشر غير راغب في أن يجوع ويعرى، وفي التوفيق بين الرغبتين ما يسيء إلى تلك الصناعة ويعوقها عن المضي قدماً في السبيل المستقيم.
وبيننا جلة من العلماء مهروا في النشر وحذقوه يعوزهم التمكين والتشجيع ليرزقوا الصبر والأناة، وعندنا دار للكتب في وسعها أن تمكن، كما عندنا دار لإحياء التراث في وسعها أن تشجع لو أوتي قانونها سعة توفر لها مالا تعوض به هؤلاء لعلماء؛ ثم بعد هذا نحن في حاجة إلى تنظيم تلك الأداة وتوجيهها في حاجة إلى أن نلتفت إلى ذلك الماضي بتراثه الذي لا يزال كثره مخطوطا لا ينتفع إلا بقلة، فنرى في نشره رأيا سليما مرسوما، في حاجة أن ننشئ مع العلماء ناشئة، فالقدر يختطف منهم ولا تجد من يخلفهم، في حاجة إلى هذا وغيره إذا كنا نؤمن أنا مفيدون من هذا التراث وأنا لا بد متولون نشره ومشاركون فيه.
ذكرت بالأمس القريب شيئا من هذا لكبير علينا فسبقني إلى ما أردت أن أنتهي إليه وقال في عاطفة الموطن الموقن: إن الآمال معقودة بأستاذ الجيل معالي الدكتور طه حسين باشا، فعلى يديه سيمكن الله للنشر وإليه تتجه كل نهضة علمية داعية راجية
وأعود إلى هذا الجهد المشكور الذي بذله الدكتور سامي الدهان في زبدة الحلب فإني أعرفه صبورا ذا أناة قد خص هذا العمل بالوقت الذي يتسع لمثله، وأعرف له زوراته المختلفة للمكتبات في البحث عن النسخ المختلفة المتنوعة، وأعرف له صلته القديمة بالنشر؛ ولا زلنا نذكر له أبا فراس، والوأواء، والسياسة تلك الكتب الثلاثة التي عرفتنا به ناشرا محققا.
وما اجتمعت الاشراط على مشروط إلا ضمن السلامة وأمن الزلل. وإنك حين تنظر في كتابه الجديد (الزبدة) تعجبك الدفتان وما بينهما. فله في الأول مقدمة الدارس المفيض الموفي، لم يترك مدونة لم يجمعها ولا شاردة لم يقبض عليها، فكان فيها مؤرخا كتب لنا سيرة ابن العديم جامعة شاملة. وله في الآخر إثبات تشير إلى الأعلام والبلدان والكتب، وأخير قبل فيه بين السنين الميلادية والهجرية. وله ما بين الأول والآخر متن وفق التوفيق كله في تحريره وتصويبه والتعليق عليه وإكمال نقصه من المظان التي هداته الخبرة الطويلة.
وما أحب أن أزيد فقد أعود إليه متحدثا عن أثر له آخر هو طبقات الحنابلة(928/53)
رزقه الله جهد الصابرين وكتب له التوفيق في كل ما يأخذ فيه
إبراهيم الابياري(928/54)
البريد الأدبي
طرابلس وليست ليبيا
في كلمة تحت هذا العنوان أورد الأستاذ مختار محمد هويسة قول أبي الطيب:
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصر عن طرابلس
فيما أورده من أدلة على وجوب تسمية ليبيا باسم طرابلس
والمراد بطرابلس هنا: طرابلس الشام لا طرابلس الغرب - كما ظن الكاتب. والبيت من قصيدة للمتنبي يمدح بها عبيد الله خلكان وآباءه وقد كانوا من أهل المدينة الشامية، وهي الآن للبنان وإليها ينتهي فرع من أنابيب زيت البترول العراقي
محمد الفاتح الجندي
مدرس بأشمون الثانوية
مذهب جديد
قرأت في العدد (923) من الرسالة الزاهرة مقالا للأستاذ كمال بسيوني يدعو فيه إلى (مذهب جديد) تعرض فيه إلى الشعر والشعراء فكان ساخرا متهكما في أسلوبه، قاسيا عنيفا في أحكامه، زاعما أن الشعر والشعراء لم تعد بهما حاجة في عصر يزخر بالمعجزات العلمية والنظريات الفلسفية، وما الشعر على حد قوله إلا حديث خرافة وخيال، وما كلام الشعراء إلا ضرب من (اللهو واللغو) ليس ألا - بل ما هو إلا إسفاف ما دام شعرهم لا يتعرض للحقائق العلمية ويصوغها في قواف وأوزان.
لقد أنكر الأستاذ بسيوني وجود الشعراء وأنكر عليهم تفكيرهم ونعتهم بالجهل والسذاجة وأنهم يكفرون بالحياة العلمية والعقلية وليس هم من سكان هذا الكوكب - بل هم يعيشون في عالم خيالي غير منظور وأنهم بعيدون عن الحياة الواقعية التي يحياها العلماء. إذن فالحياة كما يريدها الأستاذ بسيوني حياة علمية صرف لا تعترف بالفن والحب والجمال. ما قيمة الحياة يا أستاذ بسيوني إذا خلت من هذه الألوان؟ أني (أشفق) عليك يا أستاذ بسيوني (وأشفق) على (مذهبك الجديد) (ودعوتك الجريئة) التي لم يسبقك بها أحد حتى من العلماء الذين دافعت عنهم(928/55)
العراق - الهندية
قاسم غازي الجنابي
بين الشعر والنثر
قرأت في العدد 923 من مجلة (الرسالة) الغراء المقال القيم الذي موضوعه (من حديث الشعر) للأستاذ كمال بسيوني، والحقيقة أن الأستاذ البسيوني قد أصاب كبد الحقيقة حين قال (الا فليعلم الناس أني ما سمعت أن فلانا شاعرا حتى فهمت أنه لم يزل في الطور الأول من أطوار الأدب وأنه أبعد ما يكون عن هذه الثقافة الواسعة العميقة الخ. . .) والشواهد على ذلك كثيرة؛ فالشاعر العراقي معروف الرصافي لم يكن يملك في حياته مكتبة تظم شتات الكتب، ولذلك جاءت مؤلفاته النثرية خاوية الوفاض من كل مادة دون أن تستند إلى دليل، ولذا كانت موضع سخط الطبقات المثقفة المستنيرة. وقد أنتقدها كتاب مصر الأفاضل على صفحات الرسالة الزاهرة مبينين خطل رأيه وسوء تفكيره، بخلاف شعره الذي لم ينتقد لعدم احتياجه إلى ثقافة واسعة. ومعالي الدكتور طه حسين باشا بدأ حياته شاعرا وبعد أن ارتشف مناهل الأدب الغزير، وسبر غور العلم الكثير، انصرف عن الشعر إلى النثر الفني الذي جعل منه عالم فاضلا وأديبا عبقريا يحلق في سماء الخلود. والأستاذ عباس محمود العقاد قرض الشعر قبل أن يتمتع بهذه الشهرة الواسعة التي أسبغت عليه ثوب العالم بمؤلفاته التي أصدرها في السنين الأخيرة. إذا فليزدهر العلم وليكثر الكتاب والعلماء وليلفظ الشعر أنفاسه غير مأسوف عليه.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن
أحبب حبيبك هونا ما. .
جاء في باب الأدب والفن من عدد الرسالة الفائت تحت عنوان (الشعر في مجلة المصور) أن سعادة عبد الرحمن حقي باشا وكيل وزارة الخارجية قال في مجلة المصور.
وإذا سئلت الآن أن ألخص تجاربي في عبارة قصيرة جامعة لا أجد خيرا من البيتين اللذين(928/56)
علقا بذاكرتي من أيام الصغر وهما:
أحبب حبيبك هونا ما ... عسى أن يكون بغيضك يوما ما
وابغض بغيضك يوما ما ... عسى أن يكون حبيبك يوما ما
وعلق الأديب المتمكن الأستاذ عباس خضر بما نفى الشعر عن هذا النثر - وأود أن أزيد على تعليق الأديب الفاضل بأن هذا الكلام الذي أعتبره الباشا شعرا إن هو إلا حديث شريف رواه الترمذي عن أبي هريرة كما جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي الجزء الثاني، في كتاب (آداب الألفة والأخوة والصحبة. .) وللأديب الفاضل تقديري وتحياتي
محمد عبد لله السماق
مدرس بمدرسة أمير الصعيد الابتدائية بالمنيرة
منوط به لا مناط به
في مقال الكاتب القدير الأستاذ عباس خضر بالعدد (926) من مجلة الرسالة الزهراء وردت عبارة: (وها قد صار الأمل كله مناطا بالحكيم، بمعنى معلق. . وكلمة مناط لم تصح في اللغة العربية بالمعنى الذي يقصد إليه ولكنها هكذا (منوط به) لأنها اسم مفعول من الفعل الثلاثي (ناط) لا أناط، وقد قرأت في المصباح المنير ما نصه: (ناطه نوطا من باب قال - علقه -) وفي القاموس المحيط: (وهذا منوط به - معلق). . . وللأستاذ الكبير وافر الإعجاب، وعظيم التقدير
محمد محمد الابشبهى(928/57)
القصص
مكتب البريد
للقصص الروسي تشيكوف
بقلم الأستاذ حسين أحمد أمين
ذهبنا بالأمس نشيع جنازة زوجة وكيل مكتب البريد، سلادكوبرزوف؛ وبعد أن دفنا المتوفاة قصدنا جميعا - كما هي عادة آبائنا وأجدادنا من قبل - إلى مكتب البريد، نتذاكر محاسن السيدة
وعندما وضعت الفطيرة أمامنا على المائدة صاح وكيل المكتب العجوز بمرارة: ألا ترون كيف يشبه هذا اللون الأحمر للفطيرة خدي زوجتي الحبيبة؟
وأمنت الجماعة على قوله: (أجل. . هذا حق. . لقد كانت جميلة فاتنة!) قال: (نعم لقد ذهل كل من رآها لجمالها. . ولكن، أيها السادة، لا تحسبوا أنني أحببتها لجمالها أو لرقة شمائلها؛ فهذه الصفات تعلق دائما بطبيعة المرأة؛ وكثيرا ما نجدها واضحة في أكثر النساء. . إنني أحببتها لصفة أخرى فيها. . أحببتها - رحمها الله - لأنها على رغم حيويتها ومرحها وعبثها - ظلت مخلصة لي. . مخلصة لي وأنا في الستين وكانت هي في العشرين.
وتنحنح الحانوتي - وهو جالس إلى الطعام معنا - حين سمع هذا القول. . فاستدار إليه وكيل المكتب العجوز وقال: (أخالك لا تصدق ما أقول. .) فأجاب الحانوتي في اضطراب وتلعثم: معاذ الله يا سيدي أن أكذب قولك. . غير أن النساء الصغيرات كما تعلمون - قد أصبحن ولاهم لهن إلا اجتذاب العاشقين إليهن)
قال الأرمل: إنك لا تصدق. . ولكني سأثبت لك صحة قولي. . لقد ضمنت وفاءها لي بطرق استراتيجية مختلفة. . فبسلوكي وحيري أصبحت زوجتي غير قادرة على خيانتي. . والحيلة هي الوسيلة التي اتبعتها لكي أصون فراش الزوجية من الدنس.
ففي جعبتي بضع كلمات إذا تفوهت بها كان لي أن أنام هانئا مطمئنا إلى أن زوجتي لا تخونني. .)
(وما هي هذه الكلمات؟)(928/58)
في منتهى البساطة. . لقد نشرت بنفسي إشاعة خبيثة في لبلد - وأنا موقن أنكم تعلمونها - فكنت كلما قابلت مخلوقا قلت له: (إن زوجتي أليونا عشيقة إفان ألكسيفيتش رئيس البوليس.! وكانت هذه الكلمات كافية لأن تبعد الرجال أجمعين عن مغازلة أليونا خوفا من غضب رئيس البوليس. . وكلما كان يلمحها رجل في الطريق كان يجري خوفا على حياته كي لا يشك فيه الكسيفيتش. . ها. . ها. . ها. . وأنتم تعرفون ما يحدث لمن يشك فيه الكسيفيتش. إنه إذا ما رأى قطة لكم في الطريق كتب عنها تقريرا للسلطات وكأنما هي قطيع ضال من الغنم. .)
قلنا جميعا في صوت منخفض وقد ملكنا العجب. (إذن فزوجتك لم تكن عشيقة إيفان ألكسيفيتش؟.)
(كلا. . لقد كان هذا من وحي خيالي. . ها. . ها. . ها. . لقد سخرت منكم أيها الشبان.)
ومضت ثلاث دقائق ونحن في صمت، وشعرنا جميعا بالخدعة المهينة التي وقعنا فيها بمهارة ذلك الرجل العجوز الأحمر الأنف.
وتمتم الحانوتي قائلا: أرجو من الله أن يتزوج هذا الرجل مرة أخرى. .)
حسين أحمد أمين(928/59)
العدد 929 - بتاريخ: 23 - 04 - 1951(/)
11 - الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
4 - الجماعة الدينية:
الوجه الثاني لوظيفة الدين المزدوجة أنها وظيفة سلبية. فإذا كان الدستور المدون للجماعة الدينية يسهل تكافلها ويسعى لتحقيقه ويذود عن حماه إزاء المتشكك والثائر فإن طبيعة هذا التكافل في الجماعة الدينية تفصلها روحيا واجتماعيا عن الجماعات الأخرى التي تعيش في المجتمع الأكبر (الوطن أو العالم بأسره).
فلقد رأينا في مقال سابق من هذا البحث أن السلوك الديني ليس فرديا فحسب، بل هو جماعي كما شرح ذلك علماء الاجتماع والأنثرولوجيا. وحتى لو اقتصر السلوك الديني على الفرد واختياره الخاص فإن ذلك لن يحول بينه وبين أن يصبح جزءا من السلوك العام الذي يشوب حياة الجماعة الدينية التي تؤمن بنفس العقيدة التي يؤمن بها ذلك الفرد وتختبر نفس الاختبار الديني الذي يختبره. بل الواقع أن هذا الاندماج أمر لا مفر منه مهما تعمد الفرد تفاديه.
فعناصر السلوك الديني على نوعين - كما رأينا - روحية واجتماعية. . حتى لو أنكر بعض الناس وظيفة الدين الاجتماعية وقصروها على الاختبار الروحاني (علاقة المرء بربه) فإن المشاركة في الاختبار الروحاني والوجداني تستوجب الاندماج في السلوك الجماعي.
فإذا أعجب أديبان أو أكثر بشاعر أو فنان أو فيلسوف وقرءوا له وحفظوا عنه فإنهم يؤلفون مدرسة فكرية تجمع بينهم في صعيد روحي واحد، وهم ولا ريب مدافعون عن هذه المدرسة الفكرية، مبشرون بمزاياها إذا حدث أن تصدى لها بعض الناس بالنقد والتعريض.
والاختبار الديني أقوى ألف مرة من الإعجاب بشعر أو فن أو فلسفة. ولعلنا نلمس هذه الحقيقة في تصدي بعض المسلمين الذين - لأسباب لا يهمنا معرفتها هنا - لا يقيمون شعائر دينهم للدفاع عن الإسلام إذا تصدى له ناقد أو متحامل.
وكم من مرة شهدت جامعات أمريكا وبريطانيا ومحافلها الأدبية محاولة الطلبة وغير الطلبة من المسلمين دفاعا عن الإسلام وتعاليمه مع أن المدافعين في أكثر الحالات لم يؤدوا لله(929/1)
ركعة منذ سنين.
وتاريخ الاستعمار الأوربي في آسيا وأفريقيا شاهد على تفضيل المستعمر للعناصر التي تدين بعقيدته الدينية أو تمت إليها بصلة في مسائل التوظيف والمشورة والائتمان على السر، وقد لا يكون الدافع لهذا السلوك سياسة مرسومة بقدر ما هو توافق في الاختبار الروحي وحدة في السلوك الجماعي بين الطرفين.
واقتصار السلوك الديني على الفرد وعلاقته بالله شيء لن يتم منعزلا عن الحياة الاجتماعية. فالحياة الوجدانية لا مفر لها من أن تعبر عن نفسها في المجتمع الذي تعيش فيه.
والمرء في اختباره للحياة الدينية منفردا قد يصمت صمتا طويلا قبل أن يعبر عنها في الحياة الاجتماعية ويشارك أهل ملته في سلوكهم الديني الجماعي. ولكن لا مفر له عاجلا أو آجلا من المشاركة في هذا السلوك.
فطبيعة الاختبار الديني عند الفرد يستوجب صياغة مقوماته الخلقية والعاطفية صياغة تماشي وتتحد وتتفق مع المقومات الخلقية التي تشوب بقية أعضاء الجماعة الدينية التي تختبر مثل ما يختبر. وهذه الصياغة لا تقتصر على توجيه الفكر والوجدان فحسب، بل تشمل أيضاً الحياة العملية والنشاط الاجتماعي.
ولقد عالج هيجل أحد دعائم الفكر الغربي الحديث هذه الناحية الدينية في مقدرة فائقة فتأثر بأن لكل عقيدة دينية (روحاً) تنفرد بها عن بقية العقائد، ومرجع ذلك إلى أن السلوك الديني هو عنصر من أهم مقومات الخلق القومي. ولعل رسوخ الإسلام وتعاليمه في عقليات الشعوب التي دانت به وأثر هذه التعاليم ومبلغ نفاذها إلى صميم الحياة الروحية والاجتماعية لتلك الشعوب على اختلاف حكوماتها الخلقية من عربية وفارسية وهندية وصينية هو الذي خلق هذه الحضارة الإسلامية التي تعرف إلى الآن بها شعوب الإسلام على اختلاف لغاتها وبيانها وظروفها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
والقول بأن الاختبار الديني يمكن أن ينحصر في السلوك الفردي تنفيه حقيقة أخرى؛ وهي أن كل دين من الأديان الكبرى يبشر بوحدة اجتماعية عالمية تنطوي على توجيه السلوك الإنساني في شتى نواحيه توجيها يتفق والأسس الجوهرية لتعاليم ذلك الدين. وهذه الوحدة(929/2)
الاجتماعية العالمية التي يدعو إليها الدين نصا وروحا وإن كانت لا تتحدى تحديا مباشر الإيديولوجيات الاجتماعية الأخرى التي تدعو لها الأديان الأخرى، إلا أنها تقف منها موقفا أقل ما فيه أنه سلبي من النوع المشحون بعوامل الانفجار كما قال جورج ميد المفكر الأمريكي الشهير والتاريخ على الأخص - تاريخ الحروب الدينية - ملئ بالشواهد على هذا الصراع السلبي الذي يؤدي فيه الدين دورا خطيرا عند الضرورة.
ومهما أحسن المجتهدون في تعليل سماحة الأديان التي ينتمون إليها فإن اجتهادهم يكاد ينحصر فيما عبر عنه (ماكس ديبر) تعبيرا جامعا حين قال: -
(إن اختبار الجماعات الدينية ينظر إلى العالم بمنظارين، وأحدهما يرى فيه الألوهية والقداسة، والآخر يرى فيه الأشياء وطبائعها المادية، ولو توفرت (التقوى) وحدة الاختبار الديني عند جماعة ما ونظرت إلى العالم - على تنوع أديانه وتشعب جماعاته الدينية - نظرة ملؤها التفاؤل والبشر والسماحة والرضا، إلا فإن مثل هذا التسامح في رأي الوعي الباطن على الأقل لدى تلك الجماعة محصور ومقيد ومقصور عليها (على تلك الجماعة) وعلى العقيدة والسلوك الديني الذي تمتثل له.
وهذا التسامح السلبي قد يتخذ في بعض الأديان لونا رقيقا ويأسف لضلال الكافرين ويطلب المغفرة لهم. وقد يتخذ لونا عنيفا فلا يرى في ذلك الضلال إلا كفرا وزندقة رسولها الشيطان ودستورها الإلحاد ودعوتها الفساد.
وفي كلتا الحالتين فإن العالم ميدان لهذا الصراع. وسواء كان الصراع لرد الكافرين عن ضلالهم أو للحيلولة بين الضلال وبين أن يمس كيان الجماعة الدينية (المؤمنة) فإنه صراع على كل حال، ومهما كان سلبيا فإن الاحتكاك منطو في ثناياه.
وعلى سبيل المثال - ومع مراعاة التفرقة الجوهرية بين العقائد الدينية والنظم الفكرية - فإننا نستطيع أن نستشهد بحاضر الصراع بين المذاهب الفكرية والمعاصرة بين الاشتراكية السوفييتية والديمقراطية الغربية.
فالاشتراكية - وهي بمثابة العقيدة الدينية لأتباعها - لا ترى في خصومها من دول أوربا وأمريكا إلا ضلالاً وشراً. وهذه الدول بدورها ترى في الاشتراكية الماركسية تحديا للأسس المسيحية التي بنيت عليها حضارة ديمقراطيات الغرب فوق أنه تحد للنظم الاقتصادية(929/3)
والسياسية التي تعيش في تلك الديمقراطيات. ولطالما ادعى أقطاب كلتا الكتلتين السوفييتية والغربية أن في العالم متسعا لكلتيهما، وقد يكون في مثل هذا الدعاء صدق وإخلاص إلا أن طبيعة الصراع السلبي بينهما تدفعهما دفعا إلى الاحتكاك المسلح على النحو الذي نعلمه جميعاً.
وقوة هذا الصراع السلبي بين الجماعات الدينية المتباينة عقائدها وضعفه يتوقفان إلى حد كبير على مبلغ ما تعلمه بعض تلك الجماعات عن عقائد بعض. والمرء كما قال الحكماء عدو لما يجهل.
فالإسلام وأهله مثلا يفخرون بأنه دين التسامح؟ وفي القرآن والأحاديث نصوص بينة على تأمل هذا التسامح في التعاليم الإسلامية، ولكن الميزة الكبرى في الإسلام أنه يشرح في صميم القرآن والحديث والاجتهاد بعض الأسس الجوهرية لليهودية والمسيحية ويعترف ببعض مزاياها وفي طليعتها مزية التوحيد. ويعترف الإسلام كذلك بأنه جاء متمماً لا ناسخا لتعاليم إبراهيم وموسى وعيسى. والمسلم يقرأ الصلاة والسلام على الأنبياء والرسل الذين سبقوا النبي العربي ويخيل إليك وأنت تقرأ ما جاء به القرآن والحديث في هذا الصدد وما سجله المجتهدون المسلمون من بحوث في الإسرائيليات (والنصرانيات) أن هناك رنة أسف يستشعر بها الإسلام نحو الموحدين بالله الذين ضلوا تعاليم موسى وعيسى واستعاضوا عنها بأمور لا يعترف الإسلام بأنها من أصول تلك التعاليم. فهذا الرفق الذي عالج به الإسلام الديانات الأخرى هو من أهم الدوافع لهذا التسامح.
والحديث عن هذا الصراع السلبي بين العقائد الدينية يستدعي الإشارة إلى موقف تلك التعاليم من الحروب. ولقد أساء البعض إلى العقيدة الإسلامية بأنها ترضى عن الحرب وتشترع الجهاد. وقد رد المحدثون من علماء الإسلام العرب على هذا الادعاء ردا معززا بالدساتير القرآنية والأدلة التاريخية، وعالج هذا الموضوع كذلك بعض أئمة المسلمين في الهند والباكستان والعالم العربي معالجة علمية متينة.
ولكن الذي يعنينا من هذه الإشارة أن تشريع الجهاد في الإسلام مقيد بظروف وملابسات لا تختلف مطلقا عن تلك التي شرعتها اليهودية والمسيحية نصا وروحا، وذلك باعتراف التعاليم المسيحية نفسها وعلى ضوء اجتهاد بعض قادة الفكر المسيحي معاصرة وقديمة.(929/4)
وليس المهم أن نبرر تشريع الجهاد في الأديان فذلك التبرير يجب ألا يكون على أساس فلسفة الدين فحسب، بل على أسس من علم النفس الاجتماعي. وتشريع الجهاد ينطبق وروح الجماعات الدينية ويجري مع سلوكها الجماعي ومع طبيعة العوامل النفسانية (السيكولوجية) التي تصوغ تفكيرها واتجاهاتها وأوضاعها الدنيوية.
والجهاد لا يجد سبيله إلى سلوك الجماعة الدينية إلا إذا تعرضت عقيدتها الدينية إلى الخطر الداهم أو إذا تعرض كيانها الاجتماعي (وهو يشمل المصلحة السياسية والقومية والاقتصادية) إلى الاضطهاد والمذلة. وهذا مثل آخر على تأصل الوظيفة الاجتماعية للدين في السلوك الإنساني.
فمسلمو شمالي أفريقيا والمغرب العربي في هذه الأيام في حالة جهاد وإن عجزوا عن حمل السلاح لأسباب قاهرة. فالخطر هناك لا يقتصر على تعريض الكيان الاجتماعي لمسلمي الجزائر ومراكش وتونس إلى خطر الانهيار والزوال، وإنما يمس صميم التعاليم الدينية وجوهر العقيدة المحمدية.
ولقد أدرك الفرنسيون الوظيفة الاجتماعية للدين الإسلامي في سعيهم لفرنسة مسلمي شمالي أفريقيا فلم يتقيدوا بأساليب الاستعمار التقليدية التي توجه كفاحها الأكبر ضد الوعي السياسي والنضوج الاقتصادي، وإنما عملوا على النيل من صميم العقيدة والتعاليم الدينية للمسلمين هناك لعلمهم بأن الإسلام وهو دين عملي لا بد وأن يوفر لحركة التحرر الوطني ذخيرة قوية تحارب بها ذلك الاستعمار. وغزوة الصهيونيين لفلسطين لم تتم لو لم تشترع القيادة الصهيونية العليا (الجهاد) في أدق وأوسع معانيه.
وليس المقام هنا لبحث علاقة الدين بالقوميات والإصلاح السياسي - فكاتب هذه السطور يأمل أن يستطيع التفرغ لدراسته عما قريب - وإنما ضربنا المثل به هنا للدلالة على أن العقائد الدينية في تشريعها للجهاد والحرب إنما تفعل ذلك دفاعا عن كيانها الديني ووظيفته الاجتماعية. وهي والحالة هذه لا تحتاج إلى تبرير أو اعتذار وشأنها في ذلك شأن أي جماعة من الجماعات الإنسانية الأخرى - السياسية والاقتصادية والإيديولوجية أيضاً - لتي تعلن الجهاد في أنواعه المتعددة مسلحا وغير مسلح دفاعا عن مصالحها ومبادئها وكيانها.(929/5)
فالحرب من طبائع الحياة سواء أرضينا بها أم كرهنا، ومهما سعينا إلى إزالتها ومعالجة أسبابها ونتائجها، إلا أن ذلك لا يحول بيننا وبين إيضاح علاقة الدين بها على أسس لا تستند إلى التزوير بقدر ما تستند إلى طبيعة الحقائق الاجتماعية.
وخلاصة القول في هذه الوظيفة السلبية للجماعة الدينية أنها تؤثر - خيرا أو شراً - في التكافل الاجتماعي (العالمي) وذلك يتوقف إلى حد كبير على مبلغ ما تستوعبه تلك الجماعة من معرفة منزهة عن الأهواء لتعاليم الديانات الأخرى وبمقدار ما يتضمنه دستورها الديني من أسانيد فيها دعوة صادقة إلى التسامح كما هو الحال في عقيدة الإسلام وتعاليمه.
وبعد فهذه الفصول كانت معالجة مشوشة لبعض وظائف الدين الاجتماعية. ويأمل كاتب هذه السطور أن يستعرض في مناسبات قادمة إن شاء الله ألوانا أخرى من علاقة الدين بالحياة اليومية في أسلوب أدق ترتيبا وأوسع استيعاباً.
نيويورك
(تم البحث)
عمر حليق(929/6)
إسرائيل
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دولة (لقيطة) ولدت وكان مولدها ثمرة لأكبر جريمة اقترفها الساسة المعاصرون في التاريخ: قديمه وحديثه؛ وإني أعتبرها بحق جريمة القرن العشرين.
ووليد يحتضر وهو يحبو. ولولا مسارعة الدول الديمقراطية لإنقاذه لمات قبل أن يولد، ولكن الدول أرادت له الحياة فكلما دنت ساعته سارعت إلى نجدته فأنقذته من خطر محقق وموت مؤكد.
وأفعى ألقى بها بين أحضان الدول العربية لكي تقلق بالها وتهدد سلامتها وأمنها.
وكارثة نزلت بقوم آمنين يقيمون في بلادهم وادعين، فأخرجوا من ديارهم بغير حق، وجردوا من أملاكهم وشتت شمل نسائهم وأطفالهم، وألقي بهم في البيد والعراء جياعا عراة فأصبحوا لا مأوى لهم ولا ملجأ!! وهكذا تمت الجريمة وقامت الدولة.
ولعلك أيها الصديق الكريم تسألني أكان قيام إسرائيل أمرا طارئا أم كانت مسألة مدبرة؟ وأنا أجيبك بأن السياسة البريطانية لا تعرف المفاجآت وإنما هي سياسة تقليدية تسير وفق خطة موضوعة لا تتغير مهما كان لون الوزراء؛ فوزراء خارجية بريطانيا قد يكونون من المحافظين وربما كانوا من العمال وقد تتغير أشخاصهم ولكن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية لا تتغير ولا تتبدل. وإسرائيل هذه إنما هي ثمرة من ثمرات السياسة البريطانية، وعمل أثيم من تدبير إنجلترا ووزرائها.
وعد
في خلال الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 قام اليهود بخدمات كبيرة لقضية الحلفاء كما زعمت إنجلترا، ونتيجة لهذه الخدمات وعد اللورد بلفور وزير خارجية إنجلترا اليهود بأن يتيح لهم أن ينشئوا وطنا قوميا في فلسطين وكان ذلك في 2 نوفمبر سنة 1917.
ولسنا ندري كيف أباح بلفور لنفسه أن يصرح هذا التصريح وأن يعد اليهود بفلسطين، ولعله لو وعد اليهود بإقطاعهم جزءا من قارة أستراليا مثلا لكان موضع ثناء الناس جميعا، فهناك في أستراليا جهات واسعة غير مأهولة بالسكان، بل إن جميع سكان القارة يبلغ تعدادهم 7 ملايين نسمة، وهي بهذا في حاجة إلى أيد كثيرة لتنهض بها ولتعمل على(929/7)
استغلال مرافقها؛ ولكنه بدلا من ذلك يعد اليهود بالعودة إلى وطنهم في فلسطين؛ ذلك الوطن الذي طردوا منه منذ آلاف السنين قبل أن يولد المسيح ومحمد صلوات الله عليهما؛ وليتحقق ذلك ولو كان على حساب قوم أبرياء قد استوطنوا هذه الديار منذ آلاف السنين.
وأعجب ما في الأمر أن فلسطين كانت حتى قيام الحرب العالمية الأولى تابعة لتركيا، فلما قامت الحرب وانضمت تركيا إلى جانب الألمان عمدت إنجلترا إلى إثارة العرب ضد تركيا ووعدتهم بتحقيق استقلالهم عقب انتهاء الحرب. وقد شرب العرب من ماء النهر السام دخلت عليهم ألاعيب السياسة البريطانية فعمدوا إلى محاربة الأتراك وتحطمت الإمبراطورية العثمانية وتقاسمت فرنسا وإنجلترا ممتلكاتها، فوضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضعت العراق وشرق الأردن وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي؛ وأما مصر فكانت الحماية البريطانية قد أعلنت عليها منذ 1914.
ومما يدعو إلى مزيد من الدهشة أن يصدر بلفور وعده حين آذنت شمس الحرب بالنهاية، وقبل أن يعقد مؤتمر للصلح ليضع الأمور في نصابها، وقبل أن يتقرر أن تكون فلسطين تحت الانتداب البريطاني!!
ومن الطريف أن أذكر ما يذاع من أن اللورد أللنبي قال حين دخل بيت المقدس 1917 (اليوم انتهت الحروب الصليبية) وأما أنا فأرى أن دخول الغربيين بيت المقدس مرة أخرى كان إيذانا ببدء حرب صليبية جديدة!!
مؤامرة
لما عقدت معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة سيفر 1920 وانتدبت بريطانيا لتقوم بالأمر في فلسطين كان المفروض أن تعمل الدولة المنتدبة على تحسين حال الإقليم الذي انتدبت لإدارته حتى يصبح أهلا لتولي إدارته بنفسه، وقد قامت بريطانيا بمهمتها ولكن على طريقة يندى لها جبين الإنسانية وبشكل سوف يكون مثالا للنفاق البشري وللاثم والعدوان، فبدلا من أن تعمل على إصلاح حال عرب فلسطين عملت على إحلال اليهود في بلادهم ويسرت لهم الاستيطان بفلسطين وسمحت لهم بالهجرة إليها وبشراء الأراضي فيها، وأمدتهم بالأموال والآلات اللازمة، وظاهرها اليهود في سائر أنحاء العالم، وقد ثار العرب على بريطانيا واستفحلت ثورتهم في الفترة من 1936 - 1939 وهنا وجدت إنجلترا نفسها أمام(929/8)
الحرب العالمية الثانية فاضطرت أن تعمل على إرضاء العرب، ومرة أخرى خدع العرب ووثقوا في بريطانيا ووعودها وأخلدوا إلى الهدوء والسكينة؛ وأما الصهيونيون فقد ضايقهم بطئ إنجلترا في تحقيق أمانيهم فلجئوا إلى الغدر والاغتيال واعتدوا على الموظفين الإنجليز في فلسطين، بل إنهم قتلوا وزيرا بريطانيا هو اللورد موين في القاهرة!!
مملكة
وأنتهت الحرب وبدأت إنجلترا تقلب للعرب ظهر المجن وتكشر عن أنياب الغدر فرتبت أمورها وأعدت عدتها وعقدت معاهدة مع شرق الأردن 1946 وبمقتضاها أصبح الأمير عبد الله ملكا لشرق الأردن، وقد اشترط في المعاهدة أن تسمح شرق الأردن لبريطانيا بوضع جنود بريطانيين في أراضيها على قدر ما ترغب بريطانيا أو تراه ضروريا، ومن عجب أن شرق الأردن هذه مملكة لا سواحل لها. ولست أدري كيف تستطيع القوات البريطانية الوصول إلى شرق الأردن ما دامت بريطانيا قد أعلنت أنها ستترك فلسطين؟؟ لكن بريطانيا دبرت وقدرت فهي ستخرج من فلسطين لتعود إليها من جديد وفي شكل جديد، ولن يكون ذلك إلا بقيام إسرائيل.
بعد عمل الترتيبات السابقة أعلنت بريطانيا أنها قد يئست من إصلاح الأمر في فلسطين، وأنها تعلن انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948.
وما حل هذا اليوم حتى انسحبت بريطانيا من فلسطين وأصبح العرب وجها لوجه أمام الصهيونيين، وسارعت الدول العربية إلى نجدة العرب وأحرزت قواتها انتصارات رائعة، وفي مدى أيام بانت الجيوش العربية تهدد تل أبيب عاصمة إسرائيل.
وفجأة تتدخل إنجلترا وأمريكا وتأمر الدول العربية بوقف القتال وإعلان الهدنة، وترى الدول العربية نفسها في موقف حرج وتقرر قبول الهدنة. وفي فترة الهدنة تستعد إسرائيل وتنسحب شرق الأردن وتلعب بريطانيا فتمنع السلاح عمن تشاء وتعطي من تشاء؛ ويتجدد القتال وقد تآمرت أمريكا وإنجلترا مع إسرائيل على العرب وينتهي الأمر بقيام دولة إسرائيل!! ويطرد العرب من أوطانهم وتقوم دولة في القرن العشرين على أساس ديني في الوقت الذي ترى فيه الدول الغربية أن مجرد تمسك أمة من الأمم بدينها رجعية لا مبرر لها.(929/9)
التاريخ يعيد نفسه
أيها العرب: ليست هذه أول مرة تبغي فيها أمم الغرب عليكم وتعتدي على أوطانكم؛ فأنتم جميعا تعرفون أن فلسطين والأقطار الإسلامية قد استهدفت لعدة حملات معروفة باسم الحروب الصليبية وكانت أولاها في المدة من 1097 إلى 1099 وقد نجح الصليبيون في هذه الحرب من فتح سواحل الشام ودخول بيت المقدس. وقد كتب قائدهم إلى البابا يبشره بما أحرزه من نصر فقال (إذا أردت أن تعرف مدى انتصارنا فاعلم أن خيولنا كانت تسبح في بحار من دماء المسلمين؟) وقد حق له أن يقول ذلك فقد قتل الصليبيون أكثر من 70 ألفا من المسلمين وتمكنوا من تأسيس ما عرف باسم الإمارات اللاتينية، وما إسرائيل إلا إمارة لاتينية في القرن العشرين، وما أشبه الليلة بالبارحة!
وقد دام بقاء الصليبين في الشرق قرنين من الزمان؛ ثم طردوا نهائيا من الشرق، وعاد بيت المقدس والأماكن المقدسة فيه إلى يد المسلمين.
ولكن لا تحسن أيها القارئ أن هذا العمل كان مهلا ميسرا بل على العكس كان هذا العمل شاقا عسيرا، ولكن همم الرجال وعزائم الأبطال هي التي مكنت للعرب من استرداد حقوقهم، ويرجع الفضل في ذلك إلى بطلين عظيمين. . هما نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وقد استطاع الأخير أن يعيد فتح بيت المقدس وأن يضيق على الصليبين حتى أصبحت أملاكهم لا تتجاوز شريطا ضيقا من صور إلى يافا. وثم طردهم نهائيا في عصر المماليك.
مقارنة
وجدير بنا أن نذكر أن الصليبين كانوا أكثر إنسانية من الصهيونيين، فبرغم أن الحملات الصليبية جاءت إلى الشرق في العصور الوسطى وهي عصور تعتبر عصورا متأخرة، إلا أنهم لم يقترفوا من الإثم ما اقترفه الصهيونيون. ذلك أن الصليبين لم يطردوا العرب من ديارهم وإنما أبقوا عليهم وتركوهم في ديارهم آمنين مطمئنين، أما في القرن العشرين عصر المدينة والتقدم فقد اقترف الصهيونيون أشنع الإثم وأكبر الجرائم، فطردوا السكان الآمنين من ديارهم وشردوا نساءهم وأطفالهم، وهكذا تكون المدنية والإنسانية؟(929/10)
المعاملة بالمثل
وقد يطيب لي أن أذكر أن الدول العربية تؤوى في ديرها أعدادا كبيرة من اليهود وهم أصحاب رءوس الأموال الضخمة، ولست أدري ماذا تفعل الدول الغربية لو أن الدول العربية لجأت إلى معاملة اليهود بالمثل فطردتهم من بلادها؟ ما أحسب إلا أن هذه الدول سوف تقوم ثائرتها وسوف ترمي المسلمين بأنهم قوم متعصبون متأخرون وربما تدخلت بالقوة لمنع الدول العربية من تنفيذ مثل هذه الخطوة، أما إسرائيل فلها أن تفعل ما تشاء ولها أن تدل كما تشاء فقد اشترت ذمم ساسة الغرب بأموالها وأعراضها.
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن آمان
العدو الصديق
نعم يا أخي إنك لو أنعمت النظر قليلا لرأيت ثم رأيت أمرا عجيبا، فإنجلترا دولة صديقة للدول العربية ما في ذلك شك وهي كذلك دولة حليفة لهم فبينها وبين مصر والعراق وشرق الأردن وغيرها معاهدات تحالف وصداقة، ولكن هذه الدولة الصديقة هي التي أقامت إسرائيل في ديار العرب لتقلق بالهم وتشغل أذهانهم وقلوبهم، وهي التي منعت السلاح عن العرب عند انتصارهم على اليهود، وهي التي دفعتهم إلى قبول الهدنة الأولى بعد أن أصبح النصر أمرا محققا وواقعا ومؤكدا، وهي التي تحتل ديارهم وبلادهم؟؟
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
والآن
لا ترع يا صديقي فإن السنين ليس لها حساب في تاريخ الأمم، وقد رأيت الصليبيين أقاموا في الشرق مائتين من السنين، ولا ضير إذن من أن تقوم إسرائيل فمصيرها معروف مفهوم، ولكن ذلك لن يتم إلا إذا كانت الدول العربية في منتهى اليقظة تعمل على جمع كلمتها وتوحيد قوتها وإعداد القوات اللازمة لحمايتها إعدادا حربيا حديثا. وأهم من ذلك أن تؤمن بقضيتها وبعدالة مطالبها. إذا أمكن ذلك وهو ممكن إن شاء الله فستقضي هذه الدول على إسرائيل. أما إن أهملت شؤونها وتفرقت كلمتها فإن إسرائيل ستقضي عليها، وها هي قد بدأت عدوانها على مصر منذ حين وأخيرا على سوريا، ولست أدري كيف ينتهي(929/11)
الخلاف بينهما، وإنما أرجو ربي أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(929/12)
مع أبي تمام في آفاقه:
قصيدة النار
- 2 -
للأستاذ محمود عزت عرفة
حرب الروم:
لما أنحى الأفشين بقواه على حصون الخرمية بدا لبابك أن يستثير عزيمة الروم على حرب المسلمين، ليكشف عن نفسه بعض ما هو فيه. فكتب إلى قيصر الروم - توفيل بن ميخائيل - كتابا يذكر فيه (أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه، حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار الخياط - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد. قال: فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك)
فاهتبل قيصر الفرصة وانقض على زبطرة من ثغور المسلمين، بجيش تبلغ عدته مائة ألف أو أكثر. فقتل من أهل هذا الثغر وسبي. ثم أغار على ملطية وغيرها من الحصون ومثل بمن وقعوا في يده. فخرج إليه أهل الثغور من الشام والجزيرة؛ وبادر المعتصم بتوجيه عجيف بن عنبسة وعمرو الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلها، فبلغوها وقد انصرف عنها ملك الروم. ولما فرغ المعتصم من أمر بابك سأل عن أمنع بلاد الروم وأقوى حصونهم شوكة. فذكرت له عمورية فوطد العزم على قصدها وتأهب لذلك.
ثم تحركت جيوش الخلافة وفيها من القواد - ممن صحبوا المعتصم أو تقدموه - أشناس، وإيتاخ، ومحمد بن إبراهيم ابن مصعب، وجعفر بن دينار بن عبد الله، وعجيف بن عنبسة، ووصيف، وحيدر الأفشين. وتفرقت هذه الجيوش في المسالك؛ فكان الأفشين أول من أوقع بالروم إذ كان أسبق القوم إلى التوغل في بلادهم؛ ذلك أنه هزم جيش القيصر نفسه في شعبان سنة 223هـ؛ ثم قدم على المعتصم وهو نازل على أنقرة حيث أتعد القواد على الالتقاء. وتحركت الجيوش من هنالك مجتمعة نحو عمورية فحاصرتها. وراح القواد يتناوبون الهجوم عليها حتى سقطت بعد حصار دام شهرين.(929/13)
وقد كانت الوقعة التي جرت بين الأفشين وملك الروم قبيل ذلك من ألمع الحوادث في هذه الحرب. وزاد من روعتها ما كان مأثورا عن الأفشين من البلاء في حرب بابك وخضد شوكة الخرمية.
قال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين ويذكر هذه المواقع:
أثبت المعصوم عزا لأبي ... حسن أثبت من ركن إضم
كل مجد دون ما أثله ... لبنى كاوس أملاك العجم
إنما (الأفشين) سيف سله ... قدر الله بكف (المعتصم)
لم يدع بالبذ من ساكنه ... غير أمثال كأمثال إرم
ثم أهدى سلماً بابكه ... رهن حجلين نجيا للندم
وقرى (توفيل) طعناً صادقاً ... فض جمعيه جميعاً وهزم
قتل الأكثر منهم، ونجا ... من نجا لحما على ظهر وضم
وبائية أبي تمام في فتح عمورية أشهر من (قفانبك)، ولكنا نحلى جيد الكلام بشذور منها. قال يخاطب المعتصم:
لبيت صوتا زبطريا هرقت له ... كأس السكرى ورضاب الخرد العرب
عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور، وعن سلسالها الحصب
أجبته معلنا بالسيف منصلتا ... ولو أجبت بغير السيف، لم تجب!
حتى تركت عمود الشرك منقعرا ... ولم تعرج على الأوتاد والطنب
لما رأى الحرب رأى العين (توفلس) ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب
غدا يصرف بالأموال جريتها ... فعزهُ البحر ذو التيار والعبب
السخط على الأفشين ومحاكمته
أحرز الأفشين هذا المجد كله، وبلغ تلك الذروة الرفيعة من تقدير المعتصم ومحبته؛ مع إعجاب العامة وإجلال الخاصة، وتمكن أسباب الجاه والنعمة، والاتسام بالجد الموفق والنقيبة الميمونة، وأنه سيف الخلافة الذي ذاد عن ركنيها وقصم ظهور أعدائها - بلغ هذا كله ليهبط منه فجأة إلى حضيض الذل والمهانة، ثم يقتل قتلة الخائن المارق، والعدو المنابذ.(929/14)
وإذا نحن تجنبنا نسبة القضية كلها إلى عوامل الحسد والغيرة التي أكلت قلوب النظراء - وخاصة العرب ومن يحطب في حبلهم - ثم إلى تمكن شهوة الانتقام عندهم من الرؤساء الأعاجم جميعا، في شخص هذا الذي أعيا كل عربي وعجمي أن يشق له غبار - فليس يفوتنا أن ننبه إلى ما تجلى من عوامل الحسد والغيرة ورغبة التشقي والانتقام كدوافع بارزة حركت القضية منذ بدايتها؛ وسارت بها إلى غايتها المرسومة من إهدار دم الأفشين.
وكان الذي أجرى محاكمته، بأمر المعتصم أو على الأصح بموافقته، الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وشهدها معه أحمد بن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم المصعبي وغيرهما من أعيان العرب. وكان المناظر له أبن الزيات.
على أن بوادر الانقلاب على الأفشين لم تظهر إلا بعد عودته من حرب الروم. إذ كان إلى ما قبل ذلك يتمتع بثقة الخليفة التامة حتى لقد دفع إليه بالعباس بن المأمون بعد ما ظهر من تدبيره خطة الانقلاب على المعتصم أثناء حصار عمورية. وظل بيده إلى أن قتل خلال العودة، في مدينة منبج من أعمال الشام.
بل لقد شفع الأفشين في هرثمة بن النضر وكان العباس قد سماه في عداد من انضموا إليه، فعفا عنه المعتصم وولاه الأفشين حكم الدينور.
وعلى كثرة من انغمسوا في المؤامرة من القواد كان الأفشين بعيدا عنها فلم يعلق به من جانبها شبهة ومع ذلك نجده محاطا بالأراجيف مأخوذا بالتهم منذ نجم أمر (مازبار بن قارن) كما سنشير إليه بعد. ثم نرى المعتصم يعزله عن الحرس ويوليه إسحق بن يحي بن معاذ. وبعد قليل تجري محاكمة الأفشين على الوجه الذي أشرنا إليه. والتهم التي ووجه بها كثيرة، ونحن نوجزها فيما يلي:
1 - أنه حرض مازيار بن قارن الحاكم بطبرستان على منابذة الطاهر أصحاب خراسان، ثم الخروج على المعتصم ولما قبض عليه أقر لدى المعتصم أن الأفشين كاتبه وحسن له الخلاف ووضع معه خطة لإحياء المجوسية. وفي رواية للطبري وابن الأثير أن المازيار زعم أن أخا الأفشين واسمه (خاش) كتب إلى أخيه (قوهيار) بذلك. وفي رواية ثالثة لأبي الفداء في البداية والنهاية أن المازيار: لما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فإنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات.(929/15)
2 - ولي منكجور الأشروسني - أحد أقاربه - على بعض أعماله في أذريبجان فاغتصب أموالا وجدها هنالك من كنوز بابك، ثم خلع الطاعة وأعلن الثورة على المعتصم، حتى غدر به أصحابه وأسلموه، فحبس واتهم الأفشين في أمره.
3 - وجه بهدايا وأموال كثيرة إلى مسقط رأسه في أشروسنة، على أن يلجأ إلى هنالك فيما بعد فيستقل بملك آبائه، وكان الذي كشف أمر ذلك عبد الله بن طاهر، وقد كان يحمل الضغينة للأفشين ويتتبع عوراته: وطاهر بن الحسين أبوه هو ابن عم إسحق بن إبراهيم المصعبي الذي اشترك في محاكمة الأفشين.
4 - أمر بجلد بعض المسلمين في أشروسنة ممن حولوا بيتا للأصنام إلى مسجد للصلاة.
5 - كان يأكل لحم المخنوقة ويحمل على أكلها شهد عليه بذلك الموبذ، وكان مجوسيا أسلم أيام المتوكل.
6 - قال لهذا الموبذ في حديث جرى بينهما: قد دخلت لهؤلاء القوم - يعني المسلمين - في كل شيء أكرهه، حتى أكلت الزيت وركبت الجمل والبغل. غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة! ولم أختتن!
7 - وجد في بيته كتاب قد حلاه بالذهب والجوهر، فيه كفر بالله تعالى. . .
8 - يخاطبه أهل بلده أشروسنة بعبارات التقديس. ويبدءون كتبهم إليه بقولهم: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان - شهد عليه بهذه التهمة المرزبان بن تركش أحد ملوك السغد. وكيفما كان الأمر في هذه التهم فقد دفعها الأفشين عن نفسه، وعلل بعضها بعلل معقولة فإنكر علاقته بحادثتي منكجور ومازيار. ونفى نية الوثوب بأشروسنة أو إحياء ملك آبائه فيها؛ وعلل قصة المسجد هناك بأن بينه وبين ملك السغد عهدا بأن يترك كل قوم على دينهم. وقال عن الكتاب المحلى بالجوهر: هو كتاب ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم، وكفر. . . فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر، ووجدته محلى فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه، وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
وقال عن الموبد في صداد تهمتيه: أخبروني عن هذا، أثقة هو في دينه؟ قالوا: لا. قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه؟
ويروون أنه حين أخرج بقول أبن أبى دؤاد له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا حيدر أقلف؛(929/16)
أجاب: نعم. . ثم قال فيما بعد لحمدون بن إسماعيل وهو يزوره في سجنه: إنما أراد أن يفضحني؛ إن قلت له نعم لم يقبل قولي وقال لي: تكشف فيفضحني بين الناس. والموت كان أحب إلى من أن أتكشف بين يدي الناس.
وأما ما اتهمه به المرزبان من مخاطبة قومه إياه بإله الآلهة فقد قال عن ذلك: هذه كانت عادتهم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام. فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتسقط علي طاعتهم.
والحق أنه لم يثبت على الأفشين إلا تهمة واحدة هي أنه كان يعد العدة لكي يهرب قبيل القبض عليه ومحاكمته. فقد عثروا في قصره على أطواف وآلات للركوب كان أعدها ليعبر عليها نهر الزاب ثم يصير - كما زعموا - إلى أرمينية فبلاد الخزر ثم إلى بلاد الترك ومنها إلى أشروسنة. . . قالوا (ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام). ونسكت عن الجملة الأخيرة. . . وهي لم تثر أثناء محاكمته - لنقول إن نية الهرب أمر طبيعي، بل تدبير حكيم سديد، لمن كان في مثل موقفه.
ونحب أن نسجل هنا كلمة للأفشين - دون أن نناقشهاأيضاً - وهي قد تعطينا فكرة عن حقيقة شعوره قبيل القبض عليه، بل قد تبرر في نظرنا ما شغل به نفسه من نية الهرب. . .
أرسل الأفشين إلى المعتصم من سجنه، على لسان بعض زائريه، يقول في عقب كلام طويل: إنما مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين كرجل ربى عجلا حتى أسمنه وكبر. وكان له أصحاب يشتهون أن يأكلوا من لحمه فعرضوا بذبحه فلم يجبهم. فاتفقوا جميعا على أن قالوا: لم تربي هذا الأسد، فإنه إذا كبر رجع إلى جنسه؟ فقال لهم: إنما هو عجل. فقالوا: هذا أسد. فسل من شئت. وتقدموا إلى جميع من يعرفونه وقالوا لهم: إذا سألكم عن العجل فقولوا له أنه أسد وكلما سأل إنسانا قال: هو سبع. فأمر بالعجل فذبح. وإني أنا ذلك العجل، فكيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري!
(يتبع)
محمود عزت عرفة(929/17)
4 - الفارابي
في العالم الإسلامي وفي أوربا
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
هذا ما نقله في كتابه الدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول ولكني قرأت في مفتاح السعادة (ج1ص259) ثناء عاطرا على الفارابي إذ قال المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده (ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي الحكيم المشهور صاحب التصانيف في المنطق والحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، وتخرج أبن سينا بكتبه وبعلومه، وانتفع في تصانيفه. وعدد مصنفاته من الكتب والرسائل سبعون كلها نافعة ولا سيما كتابان في العلم الإلهي والمدني لا نظير لهما، أحدهما المعروف (بالسياسة المدنية) والآخر (بالسيرة الفاضلة) وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأعراضها لم يسبق إليه أحد، ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني أحد من طلاب العلم، وكذا كتابه في (أغراض أفلاطون وأرسطو) اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما أن وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض شيئا فشيئا، ثم بدأ بفلسفة أفلاطون يعرف بغرضه منها ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية فلا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منه) فأين هذا المديح من ذلك التهجم القبيح، وكيف اجتمع النقيضان في صعيد واحد. .؟ ولقد أمسى هذا الفيلسوف هدفا للمؤلفين في كل العصور؛ فلئن انتقده القدامى لفساد عقيدته واختلالها (كما يرون) فإن المتأخرين الذين لم يتطبعوا على فهم لغة القدماء الصعبة المسالك الغامضة الأغراض على أبناء العصر الحديث - لم يمنعهم التريث عن التحامل عليه رحمه الله، فقد أخذ المتأخرون يطعنون في أسلوب الفارابي ويلحقون به مسبة الغموض والاضطراب، وإذا كان بعض هؤلاء النقاد لا يسلم إهابه من وخز البيت القائل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم(929/19)
فإن الباقين ممن نجل مكانتهم ونعلي شأنهم. ولكني في الحقيقة كيف يدعي الكتاب المحدثون فهم كتب أبن سينا والفارابي بلغتها واصطلاحاتها المهجورة؟ وقد كنا معذبين من شيوخ أساتذتنا في النجف الأشرف فكانوا يقفون عند كل كلمة وينشرون لنا ما فيها من بطون وما علق عليها أصحاب الحواشي والشارحون فإذا عثروا بكلمة (فتأمل) وقفوا عندها وأطالوا البحث شارحين وجه التأمل وقد كان له (فإن قلت قلنا) ميدان واسع يجول في مجاله فرس الشيخ الوقور ويصول، فمن أفهم شباب العصر أسرار (فتأمل) ومن غاص بهم في أعماق العبارات؟ وهل تقوى عيونهم على قراءة الحواشي الدقيقة الخطوط المتعرجة وهي على الأخص في مطبوعات إيران ذات أشكال غريبة؛ فمنها ما نضد ونظم على شكل (الباذنجان) ومنه ما جاء على شكل (أوراق الورد) أما الخطوط فما غرب تعليقات لدارسين فيها فهي تتلوى بين السطور كالأفاعي، فكيف فهم العصريون تلك الكتب الغامضة التي أظن أن المتنبي قصدها بقوله:
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
فكيف فهم الأستاذ إسماعيل مظهر (أسفار ملا صدرا) حتى أخذ يحدثنا في كتابه (ملقى السبيل) عن أحيلة الملا صدر الدين الشيرازي وأوهامه في أسفاره ونحن في النجف الأشرف لا نقرأ كتاب الأسفار إلا بعد أن يدرس الطالب علم المنطق بكتبه القديمة مثل حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، وشرح الشمسية، وشرح المطالع، وشرح منظومة الشيخ هادي شليله، وشرح منطق إشارات ابن سينا، ثم يقرأ في علم الكلام شرح التجريد والأصل لنصير الدين الطوسي والشرح لتلميذه العلامة الحلي أو شرح الملا علي القوشجي عليه، ويدرس في الفلسفة شرح إشارات ابن سينا لنصير الدين الطوسي وردوده على (الفاضل الشارح) فخر الدين الرازي مدافعا عن الشيخ الرئيس و (محاكمات الداماد) الذي أقام نفسه حكما يفصل بين الشارحين، ويدرس شرح منظومة السنرواري في الحكمة، ويدرس الشفاء لابن سينا ثم يدرس بعد كل هذا أسفار الملا صدر الدين الشيرازي، ونسيت عد الشوارق للملا عبد الرزاق اللاهجي في الكلام. ولأغرب من هؤلاء المدعين فهم تلك الكتب الصفراء - ادعاءات المستشرقين الأجانب فهمهم تلك الكتب الوعرة المسالك وكنا لا نتورط في مجاهلها إلا بدلالة من أساتذة بارعين نشأوا وشبوا وشابوا على خوض غمارها(929/20)
فكيف تسنى لأمثال (دي بوير) الهولندي أن يفهم مذاهب فلاسفة الإسلام؟ وكيف تهيأ ذلك وتيسر لجيوم الإنجليزي ونلينو الإيطالي؟ وكيف ترجم أسلافهم هذه الكتب إلى اللغات الأوربية؟ إني أكاد أجزم بفساد تلك التراجم وشيوع الأغلاط فيها. وبعد هذا ألا يحق لنا أن نعذر المرحوم الأستاذ مصطفى عبد الرزاق على وصفه الفارابي في ما كتبه بالغموض والاضطراب إذ قال في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) وبعد الكندي أبونصر الفارابي المعلم الثاني المتوفى سنة 335هـ (والمعروف أن سنة وفاته 329هـ) فعرض لتجديد معنى الفلسفة وعرض للإحاطة بأقسامها وذكر الغاية منها والفرق بين الدين والفلسفة في بيان أفصح وأبسط لكنه فرق هذه الأبحاث في مواضع من كتبه لمناسبات، ولم يعمد إلى جمعها في نسق ولم تخل أقواله على بسطها من اضطراب وغموض في بعض الأحايين).
ولكن أبن العبرى المتوفى سنة 385هـ وكان قد عاصر وعاشر نصير الدين الطوسي في مراغة قال في تاريخه (مختصر الدول) يثني على أسلوب الفارابي ويصفه بلطف الإشارة وصحة العبارة إذ ذكر (أن الفارابي استوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان المتوفى في أيام المقتدر واستفاد منه وبرز في ذلك على أقرانه وأربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقية وكشف سرها وقرب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أعفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وإنحاء التعاليم فجاءت كتبه المنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية - الغاية الكافية والنهاية الفاضلة) فترى ابن العبري لا يجد الغموض والاضطراب الذين وصم أقوال الفارابي بهما صاحب كتاب (لتمهيد لتاريخ الفلسفة) ولعل العلة من صنع الزمن؛ فإن ابن العبري من أبناء القرن السابع الهجري ولغة كتب الفارابي (المعقدة) لغة عصره العلمية - تقريباً لتشابه العصرين في لغة التأليف. والحق أنك لتجد كتب المؤرخين طافحة بالإعجاب بفضل الفارابي والإعلاء من مكانته ولئن كان إطراء بعض هؤلاء عديم القيمة لجهله الفلسفة فهو بلا ريب مرآة لآراء العارفين. قال ابن الأثير المتوفى سنة 630هـ (وفيها توفى أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها وهذا الشيخ زين الدين عمر بن الوردي من القرن الثاني الهجري يقول في تاريخه عن الفارابي وألف في بغداد معظم تصانيفه ثم دخل مصر ثم دمشق وأقام بها أيام سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وكان(929/21)
على زي الأتراك، وحضر يوما بدمشق عند سيف الدولة وعنده فضلاؤها فما زال كلام الفارابي يعلو وكلامهم يسفل حتى صمتوا ثم أخذوا يكتبون ما يقول وقد نقل قصة دخوله على سيف الدولة هذه وكيف أن العلماء أخذوا يتلقفون فرائد كلماته ويسجلونها في دفاترهم أبو فداء المتوفى سنة 732هـ ولعل هذه الأقصوصة المتواضعة هي أصل تلك القصة الفضفاضة التي تنسب للفارابي البراعة الخارقة في الموسيقى التي استطاع أن يلعب بها بسيف الدولة وندمائه من إضحاك وإبكاء وترقيد، كل ذلك بسحر الموسيقى. ولعل تلك القصة تتحدث عن موقعة ثانية فقد جعل القصاص مسرحها حلب وهذه وقعت في دمشق. ويختصر ابن تغري بردي الأتابكي في النجوم الزاهرة ويلخص إجلاله للفارابي بأن يقول. . وأبو نصر الفارابي صاحب الفلسفة ويحق لأبي نصر أن تعزى إليه الفلسفة فهو من أول بناتها في دنيا الإسلام أما صلاح الدين بن أيبك الصفدي فيقول عنه في الوافي بالوفيات. أبو نصر التركي الفارابي الحكيم فيلسوف الإسلام. وتلاحظ أن المؤرخين تسالموا تقريبا على أنه تركي غير عربي وإن كان من تلاميذ المدرسة العربية في الفلسفة. وقد جرت تركيته الشعوبيين أن يجدوا فجوة وثغرة لغمز القومية العربية، قال الأستاذ العقاد في كتابه عن (أثر العرب في الحضارة الأوربية) (وقد أتخذ الشعوبيون من كون الفارابي وابن سينا من غير العرب - ذريعة للطعن في الذهنية العربية، وأن من ضروب التجني التي لا تحمد من العلماء أن يقال إن العقل العربي لن يستطيع التفلسف بحال من الأحواللأن الفارابي وأبن سينا كانا من سلالة فارسية (كذا) على أشهر الأقوال ولم يكونا من سلالة عربية أو سامية كأنما كانت للفرس قبل ذلك فلسفة فارسية أو كان لهم عذر كعذر العرب في هجر البحوث الفلسفية طوال العهود التي مرت بهم في الحضارة والعمران؟. . على أن الكندي عربي أصيل وفلاسفة الأندلس كانوا من العرب الخ. ونؤاخذ الأستاذ العقاد على اعتباره الفارابي فارسيا وهو تركي وكم من البون الشاسع بين القوميتين؟ ويقول عنه جرجي زيدان في تاريخآداب اللغة العربية (ج2ص213) وكان فيلسوفا كاملا درس كل ما درسه من العلوم وفاق في كثير منها وخصوصا في المنطق وألف كتبا في مواضيع لم يسبقه أحد إليها ككتابه في (إحصاء العلوم) وكتاب (السياسة المدنية) وهو من قبيل الاقتصاد السياسي الذي يزعم أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم وقد كتب فيه الفارابي منذ ألف سنة. وأصلح(929/22)
ما بقى من الترجمات غير مصلح ولخصها. أوعز إليه بذلك منصور ابن نوح الساماني فأجاب وسمى كتابه (التعليم الثاني) ولذلك سموه المعلم الثاني كما في كشف الظنون (ج1ص448) ومن مؤلفاته الباقية إلى الآن نحو (12) كتابا في المنطق متفرقة في مكاتب أوربا، بعضها منقول إلى اللاتينية أو العبرانية أكثرها في الأسكوريال، وبعض الترجمات اللاتينية مطبوع في البندقية وغيرها الخ. وقد طعن العقاد فيما يدعيه بعض المؤرخين من هذه الصلة بين الفارابي ومنصور بن نوح الذي يرى العقاد أنه صار ملكا بعد موت الفارابي بإحدى عشرة سنة كما تقدم. أما تلقيبه بالمعلم الثاني فإن دي بوير في كتابه في (تاريخ الفلسفة الإسلامية) يرى له وجها آخر إذ قال ولم يتعين حتى الآن الترتيب التاريخي لمؤلفات الفارابي، وإذا صح له أن رسائل صغيرة نحن فيها منحى المتكلمين والفلاسفة الطبيعيين، وإذا صح أنها كانت على هذه الصورة التي انتهت إلينا فهي مؤلفات كتبها للجمهور أيام صباه؛ فلما أوغل في الدرس انتقل إلى دراسة مؤلفات أرسطو ولهذا سماه أهل الشرق المعلم الثاني، فهو إذن قد اكتسب هذا اللقب الجليل بشروحه لمؤلفات المعلم الأول.
ويقول العقاد في رسالته عن الفارابي. . ومهما يكن من شيء فإن عناية الفارابي بالمنطق واهتمامه بشرح آراء المعلم الأول وبيان فلسفته وتقريب فهمه إلى معاصريه جعل له عند العرب مكانة لا تداني حتى أنهم لقبوه بالمعلم الثاني. وقد فهم (هامر خطأ أن الفارابي سمي بالمعلم الثاني لأنه كان ثاني فلاسفة المسلمين، المبرزين، ونحن نجد هذه التسمية لأول مرة عند البيهقي ثم نجدها بعد ذلك عند الشهرزوري. وقد ذهب طاشكبرى زاده وحاج خليفة إلى أن لهذه التسمية سببا هو أن الفارابي صنف كتابا سماه (التعليم الثاني) هذب فيه وصحح ما ترجمه الأوائل من كتب المعلم الأول الخ. . . ومهما تعددت الروايات في سبب تسمية الفارابي (والأصح تلقيبه) بالمعلم الثاني فإنهما جميعا تتلاقى في الدلالة على ما كان له من عظيم القدر ورفيع المكانة.
للبحث صلة
ضياء الدخيلي(929/23)
الحاج خواجة كمال الدين
(1870 - 1932)
للأستاذ أرسلان بوهدانو وكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
(الأستاذ أرسلان بوهدانو وكز كاتب هذا المقال الرائع، مسلم بولندي، قد تخصص في التاريخ الإسلامي، وهو مؤرخ نابه، وكاتب ذائع الصيت. . . نشره في عدد ديسمبر سنة 1949 في مجلة إسلامك ريفيو بمناسبة مرور 18 عاما على وفاة خواجا كمال الدين، ترجمناه لقراء الرسالة الغراء بمناسبة سماح الجمعية الإسلامية في وكنج - لندن - لنا بترجمة كتاب خواجه كمال الدين (النبي المثالي) إلى اللغة العربية، وكذلك كتابيه الآخرين (مصادر الديانة المسيحية) و (لماذا اختار الإسلام دينا).
ومجلة الرسالة المجاهدة في خدمة الإسلام أحرى المجلات، بأن يتلاقي القراء على صفحاتها ببطل من أبطال الإسلام الخالدين، الذين تنحى أمام بطولتهم وأعمالهم الخالدة الرؤوس).
ع. م. سرطاوي
قال الخواجه كمال الدين في تعليقه على شرح بعض آي الذكر الحكيم:
(الحب الصحيح يبدو في شعور الإنسان وأعماله التي تنير ما حوله من ظلام، وتدفعه إلى التحليق في آفاق الخير بكل ما يستطيع من عزيمة).
وهذا التعليق يصدق إلى حد بعيد على ما قام به من أعمال، وعلى ما يحمل له الناس في قلوبهم من إكبار عميق، في الحدود الضيقة التي تستطيع لغة الإنسان المحدودة التعبير فيها عن أروع ما في الحياة الإنسانية من جمال وسمو بعيد. . . ولكم يجد من المصاعب إنسان ضعيف مثلي، وهو في سبيل التحدث عن أعمال وحياة عبقري، لم حياته حياة الآخرين؛ ولكنني وأنا أقتحم هذا المسلك الوعر، لا يدفعني إلى ذلك واجب الوفاء لذكراه فحسب، ولكن لأملئ جوانب نفسي بالإيمان، وأنا أصف حياة إنسان كان المثل الرائع لما يجب أن يكون عليه كل مسلم. ولكنني وأنا أتحدث عن ذكرى المؤمن الذي أسس في عاصمة(929/25)
الإنجليز مسجد (وكنج) ومجلة (إسلامك ريفيو) أتطلع إلى اليوم الذي ينهض لمثل هذا العمل الجليل من هو خير مني وأقدر على تصوير هذه الحياة وأعماله الباهرة التي ألقى على أكتافنا عبء الاستمرار فيها، تلك الأعمال التي نهضت بديننا الحنيف الذي يهدف لخير الإنسانية.
حياته:
ولد الحاج خواجة كمال الدين سنة 1870 في البنجاب، من أسرة كشميرية ذات مكانة في المجتمع الهندي؛ اشتهر ماضيها بخدمة الإسلام. كان جده عبد الراشد شاعرا مشهورا، جلس على منصة القضاء لإسلامي في مدينة لاهور رئيسا للقضاء أثناء حكم السيخ، وكان أخوه الأكبر خواجا جمال الدين المسؤول عن نشر التعليم بين المسلمين في كشمير وإمارة جامو؛ لذلك نستطيع أن نعزو إلى الوراثة من أسرته، أقباسا من تلك العزيمة الجبارة التي جعلته داعيا لا يشق له غبار في خدمة الإسلام.
وابتدأ تعليمه في كلية (فورمان) المسيحية في لاهور، وإلى هذه الكلية تعزي معرفته العميقة بأسرار الديانة المسيحية، وأدق التفاصيل في الكتاب المقدس، وكان لهذا الاطلاع العميق أثره المباشر في التغلب على رجال الدين من المسيحيين في المناظرات العامة التي كانت تقام بينه وبينهم في لندن. وحصل على درجته الجامعية (ب. ع.) عام 1895، وتسلم وسام جامعة البنجاب في العلوم الاقتصادية، وهذا النجاح مهد إليه الطريق لكرسي الأستاذية في التاريخ والاقتصاد في الكلية الإسلامية في لاهور، وبقى هناك أربع سنوات أصبح في نهايتها مديرا لهذه الكلية. وبعد حصوله على بكالوريوس الحقوق عام 1898 اشتغل محاميا ناجحا في بشاور مدة سنوات ست، وعاد عام 1903 إلى لاهور حيث أصبح من المحامين الممتازين في محكمة البنجاب العليا، كان فيها موضع احترام القضاة والناس بلا استثناء، وبقى في لاهور حتى شد الرحال إلى بلاد الإنجليز عام 1912.
وفي بداية هذه الفترة من حياته الأخيرة في لاهور، أخذ يحس إحساسا عميقا بالهوة التي ينحدر إليها الإسلام تدريجيا من الانحلال والتراخي، ولهذا السبب راح يستعمل ما عنده من أوقات الفراغ فيطوف في أرجاء الهند ملقيا المحاضرات عن الإسلام. ولم يمض على عمله هذا غير وقت قصير حتى اعترفت الجامعة الإسلامية في إليجات أداه للإسلام من خدمات(929/26)
فقررت منحه عضويتها، وأصبح في نفس الوقت أحد أمناء مجلسها العلمي.
السفر إلى الشرق:
كان في قمة النجاح عام 1912، وكان ذلك النجاح يبشر بمستقبل باهر عظيم، ولكنه وهو في رأس تلك القمة، استمع إلى نداء يدوي في أعماق شعوره، فلبى النداء، وأشاح بوجهه عن الذهب الذي كان يتساقط على أقدام مجده في بلاد الهند، وأقبل على طريق مملوء بالأشواك وعلى مستقبل غامض لليقصر ما بقي له من تلك الحياة على خدمة الإسلام. ولكي يستطيع القيام بذلك على أحسن وجه اختار طريقا موحشا لا أنيس فيه، فبدلا من البقاء بين مواطنيه، قرر أن يغترب مدافعا عن قضية الإسلام في المكان الذي كان يتلاعب بمقدرات العالم الإسلامي يصرفها كما يريد. . . قرر أن يذهب إلى أوربا واختار مدينة لندن مركزا دائما لذلك النشاط الذي تكاد تطل عليه أطياف عابسة منه من وراء آفاق الغيب.
إن المؤرخين الذين كتبوا عنه بعد وفاته عام 1932، والذين كان ينقصهم التعمق في الدرس ليصلوا إلى الحقائق المجردة من التاريخ، لم يعطوا هذا القرار ما يستحقه من تقدير، ولكننا ونحن في نهاية سنة 1949، وقد حصل كل قطر إسلامي تقريبا على استقلاله السياسي، ولا سيما في الهند، تستطيع أن ندرك خطورة ذلك القرار بإعلان الجهاد عن طريق الدعوة إلى مبادئ الإسلام، وأن نعطيه ما يستحقه من أصالة رأي وعبقرية فذة، ولعله كان إلهاما من الله ليتم على يده المعجزة في بلاد الإنجليز. ولكي ندرك تمام الإدراك أخطر هذا القرار علينا أن نعرف ماذا كان يعني عام 1912 في تاريخ الإسلام والمسلمين.
أفاق العالم الإسلامي مظلمة عام 1912
تعتبر سنة 1912 ابتداء ذلك العصر المظلم في تاريخ الإسلام الذي انتهى عام 1918 بالقضاء على استقلال آخر دولة إسلامية هي تركيا؛ فإن هذه الدولة بعد خسارتها طرابلس آخر أملاكها في أفريقيا سنة 1910، كانت على وشك خسارة مماثلة في أوربا عام 1912 نتيجة مباشرة لحرب البلقان الدامية. فإذا أضفنا إلى ذلك قيام حركة وطنية، في تلك الآونة، أخذت تمكن لنفسها في تركيا، مندفعة وراء مبادئ مخالفة لتعاليم الإسلام، استطاعت هذه التعاليم بعد سنوات عشر أن تبعد تركيا عن زعامة العالم الإسلامي، أدركنا تمام الإدراك(929/27)
التيارات العتيقة التي كانت تبعث بفلك العالم الإسلامي والمسلمين في ذلك الوقت.
إن قرار خواجة كمال الدين في الدعوة إلى الإسلام في أوربا يبدو محيرا غريبا لأولئك الذين لا تدرك بصائرهم وراء مظاهر الأشياء والحوادث، ولذلك لا يبدو محيرا ما جره عمله الجريء هذا عليه من عداء أولئك الذين في قلوبهم مرض، وأولئك الذين يريدون خدمة الإسلام بأضعف الإيمان، وبأقل من ذلك، بأمور ووسائل لا تتجاوز الصلاة وجلب المنافع لأنفسهم عن طريق هذا الدين.
والآن، وبعد مرور سبعة وثلاثين عاما، والإسلام يحتل المركز اللائق به في شؤون العالم السياسية، أصبح من اليسير الحكم على صواب ما رأى وما عمل خواجة كمال الدين. ومن المحقق أن عظمته الحقيقية ما كانت لتبدو على فطرتها لو لم يتخذ مثل هذا التصميم في خدمة الإسلام. ومن حسن الحظ أنه لم يكن من ذلك الطراز الذي يجري وراء الحوادث، وإنما كان من ذلك النوع الذي تجري الحوادث لاهثة متعبة وراء قدميه. لقد استبق معاصريه بخطواته الجبارة، فكان الفذ الذي لا يجارى، والسباق الذي لا يشق له غبار، والبطل الذي تزيل إرادته الجبال، فاضطلع بتلك الأعمال الخطيرة ورسم المستقبل واضحا لغاية كريمة واضحة.
والواقع أن العالم الإسلامي عام 1912 كان في حاجة ماسة إلى تقوية نفوذه في أوربا مركز الاستعمار، الذي كان يتوقف عليها مصيره، وبعبارة أخرى كان هذا العالم في حاجة إلى سفير في تلك القارة لا يمثل أمة أو بلدا من بلاد الإسلام، وإنما يمثل ما في روح الإسلام من مثل إنسانية رائعة لا يعزفها الناس هناك. ويحسن ونحن نتحدث عن أوربا أن نذكر كيف كان الناس هناك ينظرون إلى الإسلام والمسلمون. ولكي يأخذ الإسلام المكانة اللائقة به، لم يكن هنالك مناص من إثارة عظمة الإسلام وأمجاده في نفوس المسلمين أولا، وأن يؤمن أولئك المسلمون الذين امتلأت ضمائرهم وقلوبهم بمركب النقص، من جبروت الاستعمار وظلم المستعمرين وفقدان الكيان السياسي، بأنفسهم إيمانا صحيحا صادقا. وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف كانت هنالك ضرورة ملحة تتعلق بشباب المسلمين الذين هرعوا في القرن العشرين إلى جامعات الغرب يتلمذون على الحضارة الغربية، والذين راحوا تحت تأثير هذه الحضارة يتحللون من كل ما يفرضه عليهم الدين الإسلامي من(929/28)
واجبات وما ينهاهم عنه من محرمات. لذلك كان من الضروري مقاومة هذه الأمور الخطيرة في المكان الذي تنتشر منه، وباللغة التي تنتشر بها، وأصبح من الضروريأيضاً أن يفهم الشباب المسلمون الخطر الذي يتواري وراء مادية الغرب والتطور الصناعي الجارف، والميل إلى التحلل من كل ما يمت للإنسانية بصلة، وما ربحته في جهادها الطويل، والمثل الروحية التي أدى الإسلام دورا خطيرا في بثها وإشاعتها في الوجود وأخيرا أصبح من الضروري أن يقام في أوربا الغربية مركز يجتمع فيه المسلمون للصلاة دون أن تحول بينهم الفوارق القومية أو الطائفية.
وإذا كان اتخاذ قرار خطير يتطلب شجاعة عظيمة، فإن تنفيذ مثل هذا القرار يتطلب صفات أخرى لا تقل أهمية عن اتخاذ القرار نفسه، قلما وجدت مجتمعة في شخص واحد، يجيد الخطابة والكتابة، والتنظيم، والاقتناع، ذي جلد على العمل الذي يحطم الأعصاب، وأن تسند كل ذلك ثقافة عميقة شاملة، واطلاع واسع المدى. ولكن إرادة الله شاءت أن تجتمع هذه الصفات في خواجة كمال الدين. لقد كان، رحمه الله، فارسا من فرسان البيان، ولسانا من ألسنة الحق، ومنقطع النظير في البلاغة وقوة الحجة والاقتناع، ولقد ترك من الآثار الأدبية تراثاً رائعاً عظيماً سيأتي الحديث عن بعضه في مكانه من هذا المقال.
لقد كان الطريق إلى النجاح الذي وصل إليه في أوربا مملوءا بالأشواك، ولكنه لم يبال بكل ذلك، ولم يكتف بالوصول إلى درجة لا تبلغ في عمقها وشمولها من الثقافة الإنجليزية، واللغة التي تحمل هذه الثقافة، وإنما هضم الفلسفة الأوربية هضما لم يتيسر لإنسان قبله، فكان يحاضر أرقى الطبقات في أعقد مشاكل الفلسفة الألمانية في سهولة ويسر وبراعة لا يشق لها غبار.
أما قدرته على العمل فكانت شيئا لا تحتمله الطبيعة البشرية، وأدى ذلك الإجهاد إلى موته في غير أوانه. وإذا قيس العمل بالنتائج كان عمله معجزة من أثاره قدرة الله. وعلى الرغم من وصوله القمة في ذلك النجاح، لم ينقطع عن مواصلة السعي في خدمة الإسلام، حتى في سنواته الأخيرة التي قضاها محطم الأعصاب، خائر القوى. ولقد مات، رحمه الله، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء وهو يكتب تعليقا على بعض سور لتنشر في العدد التالي من المجلة التي أسسها، مجلة إسلامك ريفيو.(929/29)
أما مقدرته الخطابية فتبدو جلية في سيطرته على الجماهير المثقفة من الإنجليز نسوا الساعات الطويلة وهو يتحدث عن الإسلام وكأنها مسحورة، تحملها نشوة جارفة إلى آفاق من الحق والخير.
ولما وصل إلى لندن، استقر به المقام، بادئ ذي بدء، في (ريشموند) وبدأ في الحال يلقي المحاضرات، والخطب، ويشترك في اجتماعات الجمعيات اللاهوئية الإنجليزية، وينشر المقالات في الصحف والمجلات، وما لبث أن احتل مركزا ممتازا بين رجال اللاهوت في العاصمة البريطانية. وقبل أن تواتيه الظروف لتحقيق هدفه العظيم في نشر الإسلام في بريطانيا، مدت العناية الإلهية يدها إليه في تلك الوحدة، فعلم بوجود مسجد في ضاحية (وكنج) وقد استطاع الاستيلاء عليه في الحال، فكانت هذه الحادثة بداية الطريق إلى نجاحه العظيم.
للكلام صلة.
علي محمد سرطاوي(929/30)
اللغة العامية في القرن الحادي عشر
للأستاذ علي العماري
في مقال قيم نشرته الرسالة بعنوان (الألفاظ الأيوبية في كتاب تقويم النديم) جاء ذكر كتاب (هز القحوف) للشربيني، على إن صاحبه نسج على منوال صاحب تقويم النديم، فأحببت أن أتحدث عن هذا الكتاب، كتاب هز القحوف.
مؤلفه: لم أقرأ عن مؤلف هذا الكتاب قليلا ولا كثيرا، فليس لديه من المراجع ما يعينني على ذلك، ولكني سأرسم له صورة استقيتها من كتابه هذا.
هو الشيخ يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن خضر الشربيني، أحد علماء الأزهر، وقد تلمذ للعالم الكبير الشيخ شهاب الدين القليوبي، وكان يعظ الناس، ويعقد لهم مجالس في طريقه إلى الحج، وهو من قرية شربين كما تدل عليه نسبته، ولكن آبائه لم يزاولوا ما يزاوله رجال القرى من الفلاحة، وهو شاعر يقول القصيد والرجز والمواليا، وله شعر لا بأس به، وبالرغم من أنه أكثر في كتابه من الألفاظ العلمية إلا أنه حين يكتب بالعربية يجيد وهو يلتزم السجع على طريقة أهل عصره، ومن قوله: وقد ناب مؤلف هذا الكتاب من كيد الدهر نائب، ورمته الليالي بسهام المصائب. فأصبح بعد الجمع وحيدا، وبعد الأنس فريدا. يسامر النجوم، ويساور الهموم، يسكب على فراق الأحبة الدموع، ويرجو عود الدهر وهيهات الرجوع.
يا ليت شعري والدنيا مفرقة ... بين الرفاق وأيام الورى دول
هل ترجع الدار بعد الأنس آنسة ... وهل تعود لنا أيامنا الأول
لكن الصبر على غدرات الأيام، من شيم السادة الكرام.
والمؤلف تارة يصف نفسه بالفقر والخلاعة، وتارة يذكر أنه من آباء أمجاد، يجالسون عظماء الدولة، وأنه كان يعظ الناس في طريق الحج. وقد ذهب إلى الأرض المقدسة مرتين في سنة 1074، وسنة 1075، على ما ذكر في كتابه. وهو كثير التطواف في البلاد، فمرة في الصعيد، وأخرى في دمياط، وثالثة في بلده شربين، ثم يرحل منها إلى القاهرة. . . وهكذا.
موضوع الكتاب: عنوان الكتاب (هز القحوف في شرح قصيد(929/31)
أبي شادوف) ويقول المؤلف في مقدمته (وبعد فيقول العبد
الفقير إلى الله تعالى يوسف بن محمد. . . كان الله له، ورحم
سلفه، أن مما مر على من نظم شعر الأرياف، الموصوف
بكثافة اللفظ بلا خلاف، المشابه في رصه لطين الجوالس،
وجرى ذكره في بعض المجالس، قصي أبي شادوف، المحاكي
لبعر الخروف أو طين الخروف، فوجدته قصيدا يا له من
قصيد، كأنه عمل من حديد، أو رص من قحوف الجريد،
فالتمس مني من لا تسعني مخالفته، ولا يمكنني إلا طاعته، أن
أضع عليه شرحا كريش الفراخ. أو غبار العفاش وزوابع
السباخ. يحل ألفاظه السخيمة، ويبين معانيه الذميمة، ويكشف
القناع عن وجه لغاته الفشروية، ومصادره الفشكلية، ومعاتيه
الركيكة، ومبانيه الدكيكة، وأن أتمه بحكايات غريبة، ومسائل
هبالية عجيبة. وأن أتحفه بشرح لغات الأرياف، التي هي في
معنى ضراط النمل بلا خلاف، وأشعارهم المغترفة من بحر
التخابيط، واشتقاق بعض كلماتها التي هي في الصفات تشبه
الشراميط، وذكر فقهائهم الجهال، وعلمهم الذي يشبه ماء
النخال، وفقرائهم الأجلاف، وأحوال الأوباش منهم والأطراف.(929/32)
الخ)
ومن هذا التقديم نستطيع أن نفهم ما يشتمل عليه الكتاب، وقد قسمه مؤلفه إلى جزء ين، جعل أولهما تمهيدا للثاني، وشرح في الثاني قصيد أبي شادوف، ولئن كان صاحب كتاب تقويم النديم قد جاء بمقامة (طافحة من أولها إلى آخرها بضروب من الأحماض، والفحش والمجون الذي لا يستساغ نشره) فإن الشربيني قد أسرف في ذلك، ولكن هذا لا يمنعنا أن نشير إلى ما يمكن أن يستفيده الباحثون من هذا الكتاب.
في هذا الكتاب أمور على جانب كبير من الأهمية، فهو قد سجل اللغة العامية في عصره، وشرح معاني مفرداتها وما تدل عليه شرحا وافيا، وهو قد تعرض للحالة الاقتصادية بإسهاب، كما أنه وصف حال الحكام مع الشعب وحال الشعب مع الحكام أدق وصف، وفي أثناء الكتاب فوائد أدبية، قصص، وأشعار، وأخبار من الأدب الرفيع، وفيه شرح لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وهكذا. . .
والمؤلف كعلماء عصره، مغرم بالبديع كل الإغرام، فهو لا يترك مناسبة تمر دون أن ينبه فيها على نوع من أنواع البديع، ويظهر أنه كان واسع الإطلاع فهو يذكر كثيرا من الكتب، وينقل عنها، ويعنى عناية خاصة بذكر خواص الأطعمة وفوائدها ومضارها، ولا سيما أطعمة أهل الريف.
اللغة العامية: كتب أبو شادوف قصيدته باللغة العامية،
وضمنها شكوى زمانه، وإخوانه، وحكامه، وأمنيات كثيرة في
تشهي بعض الأطعمة، وتعرض الشارح لكل ذلك بالعامية
مرة، وبالعربية الفصحى أخرى. والذين يعنون بدراسة العامية
وتطورها يجدون في هذا الكتاب غناء لهم أي غناء. ويمتاز
هذا المؤلف عن غيره بأنه إذا ذكر كلمة شرح مدلولها شرحا
وافيا، وإذا كان مدلولها في بلاد مختلفة شرح مدلولها في كل(929/33)
مكان، وإذا ذكر نوعا من الطعام الريفي بين طريقة صنعه في
كل إقليم، وقد يذكر طريقة صنعه في القاهرة. وهو دائما يذم
الريفيين وطعامهم، ويمتدح طعام القاهرين، ولا سيما طعام
الأتراك، ونراه يقول في ص179 (أما القطايف فإنها تعمل في
بلاد المدن من الدقيق الأبيض الخاص المقطب، وتصب على
صواني يقال لها الرقع من حديد أو من نحاس إلا أنها صغيرة
مثل القرصة، وهي ألذ هذه الأنواع وأطيبها خصوصا إذا
قليت بالسمن، وصب عليها عسل النحل، والله الحمد أكلنا منها
مرارا، وتلذذنا بها، ونسأل الله تعالى أن يطعمها لإخواننا
الفقراء، ويعمهم بأكلها)
ويمكن بدراسة الكتاب دراسة دقيقة أن تعرف تطور بعض الكلمات العامية، فمثلا (الكشك كان يطلق في عصر المؤلف على المحل الخارج من البناء المرتفع المركب على الأخشاب تجعله الأكابر للجلوس. والزربون كان يطلق في عهده على ما يلبسه الفلاح في رجله، وهو في قرانا له إطلاق آخر. وهكذا.
الحالة الاقتصادية: يخيل إلى أن المؤلف وضع كتابه لهذا
الغرض، فهو لا يزال يذكر في كل مناسبة ما لا يلاقيه
الفلاحون من ضيق العيش، وما يكابدون من الفقر، ويذكر
على ألسنتهم قصصا تصور سوء أحوالهم. وقد اتخذ من الجزء
الخاص في قصيدة الناظم بهذا الأمر، موضوعا للشرح(929/34)
والتطويل، على أنه من أول الكتاب يضغط على هذه الناحية،
ويوليها عناية خاصة، فهو يذكر أن بعض الفلاحين شمخ بأنفه
وتاه على أخدانه، ونال السعادة يوما، وذلك أنه استحضر
لزوجه سقطا، في يوم عيد، فطلبت منه رائحة فقال ما معي
فلوس، فقالت له زوجه: من خلى شيء لعقب الزمان ينفعه، أنا
خليت بالصومعة أربع بيضات، خذهم ولا تقل لحد فإن الناس
تحسد الناس وخصوصا اليوم عيد وأنت اليوم في نعمة كبيرة،
ثم يذكر الرجل أن السعادة تمت لهم حين لقي هو وزوجه في
كرش الجدي شوية فول صحيح، ولكن الرجل ما يكاد ينتهي
من ذكر قصته للناس حتى يقولوا له متعجبين مما ناله من
السعادة: زمانك يا أبوعفرة ولى وراح، ومات الناس، وجار
علينا الظالمون.
الحالة السياسية: أو حالة الفلاحين مع حكامهم، والمؤلف كذلك
يولي هذه الحالة عناية فائقة، ويستطيع من يريد البحث أن يجد
صورة وافية لظلم الحكام في عصر المؤلف، ومعاملته
للفلاحين، بل إن جملة واحدة يذكرها المؤلف تدلنا أبلغ الدلالة
على ما كان يعانيه الفلاحون، فهو يقول: ولكن نحمد الله الذي(929/35)
أراحنا من الفلاحة وهمها ولم تكن لآبائنا ولا أجدادنا، فالفلاحة
على كل حال بلية أعاذنا الله والمحبين منها. ويقول في موضع
آخر: فلا بد على كل حال من تغليق المال، ولو حصل من
ذلك الهم والنكال، كما في المثل الذي اشتهر وعم: مال
السلطان يخرج من بين الظفر واللحم، وما دام على الفلاح
شيء من المال فهو في هم شديد، ويوم السداد عند الفلاح يوم
عيد. وهو يصف الكاشف ونزوله البلد، كما يصف الملتزم
وأفعاله، من إلزامه الفلاح ولو كان فقيرا بإطعامه وإطعام
أصحابه الذين معه، وإطعام دوابه. وقد يربي الفلاح الدجاج
ولا يأكل منه شيئا - ويحرمه على نفسه وعياله، وكذلك
السمن والدقيق يبقيه لأجل هذه (البلية) على حد قول المؤلف،
وهو وصف مؤثر جدا لا يغنى فيه إلا الإطلاع عليه.
وفي الكتاب لمحات دقيقة، ونقدات لاذعة لبعض البدع كبدعة طواف الميت، وهو يحمل على الدراويش حملة عنيفة، كما يصف بعض خطباء المسجد وصفا لطيفا مضحكا.
وقصارى الأمر أنه لولا ما في الكتاب من إفحاش لكان من الكتب التي يجب أن تنشر وتذاع، ومع ما فيه فهو في النواحي التي ألمنا إليها وثيقة لها قيمتها.
علي العماري(929/36)
رسالة الشعر
صارحيني!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(كتبت تقولين. . . في رسالتك الأخيرة المريرة: (لم أعد
أعرف بأي الأسماء أناديك! فاعذر حيرتي!) فإليك. . . يا
أنت!. . . إهداء هذه القصيدة)
الشاعر الحائر!
صارحيني بما لديك من الأس ... رار، أن أنفضُ على يديك شجوني
صارحيني بما لديك، وإن كا ... ن رهيباً. . . كالخنجرْ المسنون
صارحيني، فذاك أهونُ عندي ... من شكوكي وَحيرتي وظنوني!
حدثيني عما لديكِ لقلبي ... من شعور مستبهم مكنون
أهو حب كأنه الشفق المل ... تاع من فرقة الغروب الحزين؟
أهو حب كأنه الأفق النش ... وانِ من خمرة السنا والسكون؟
أهو عطف ورأفة وانعطاف ... كانعطاف القرين نحو القرين؟
لست أدري! وذاك سر عذابي ... وَشقائي وَحيرتي وَجنوني!
حدثيني عن الغريب الذي جا ... ءك يسعى في لهفة وَحنين
من وراء الصحراء يقتحم الهو ... ل، ويرتاد مستراد المنون
حدثيني أكان يبغي دفاعاً ... عن حماك المعذب المسكين؟
أم وصالا في ظل عشق عنيف؟ ... أم لقاء في ظلِ حُب حنون؟
لست أدري! وذاك سر عذابي ... وشقائي وغيرتي وجنوني!
حدثيني عن الأماني التي كا ... نت. . . وزالت لما عرفت شؤوني
حدثيني ما سر تلك الأماني؟ ... ولماذا تدرينها أنت دوني
حدثيني علام صمتك عني؟ ... بعد ما بحتُ بالذي يضنيني؟(929/37)
ولماذا زعمت أني سعيد ... وشقائي مَسطر في جبيني؟
أسعيد من كان يحيا أسيراً ... مثل طير معذب مسجون؟
أسعيد من كان يحيا بعيداً ... عن ديار الهوى، ومَهد الفتون؟
أسعيد من كلما رام شدواً ... لم يفض قلبه بغير الأنين؟
ويح قلبي! ماذا صنعت بقلبي ... يوم أحرقته بنار الشجون؟
جئت أبغي الهوى، وما كنت أدري ... أنني عائد بقلب طعينُ!
يا غراماً وهبته كل عمري ... فطواه، وقال: لا يكفيني!
كم تمنيت لو نسيتك، لكن ... كيف أنسى، وأنت في تكويني!؟
صدقيني يا مَن صنعت عذابي ... ونسيت الهوى، ولم تذكريني
وزرعت السهاد ناراً بقلبي ... وضلالاً تنام حول جفوني
صدقيني لقد يئست من الحب ... (م) ومن شجوهِ الذي يحتويني
صدقيني لقد يئست من الحب ... (م) ومن نارهِ التي تكويني
وتمنيت حين هان على قل ... بك قلبي وحبهُ. . . أن تهوني!
بل تمنيت حين فاضت بي الأش ... جانِ، أن لم أكن، وأن لم تكوني!
لا تلومي على الذي كان مني ... وأعذري ثورة الهوى، وأعذريني
واذكري حين قلت. . يا أنت!. . يوماً ... أنني في هواك غير أمين!
قلت هذا حتى يقوم لكِ العذ ... رُ إذا شئتِ في الهوى أن تخوني
تستطيعين أن تخوني، ولكن ... أنتِ مهما فعلتِ لن تخدعيني
واسأليني عن النساء، فعندي ... بقلوب النساء علم اليقين
واسألي عني النساء اللواتي ... كن يوما ملكي، وطوع يميني
اسألهن تعرفي من صفاتي ... أنني مُلهم بكل دفين
واذهبي! لا أريدُ منك وداعاً ... وَدعيني فقد يئست. . . دعيني
إن يأساً يريحني. . . هو خير ... من خداع الأوهام لي كل حين
ما غناء السراب عندي إن لم ... بك يوماً بمائهِ يرويني؟
إبراهيم محمد نجا(929/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
فلم (ظهور الإسلام):
عرض أخيرا في سينما استديو مصر بالقاهرة، فلم (ظهور الإسلام) الذي أخذ من كتاب (الوعد الحق) لمالي الدكتور طه حسين باشا، وقد أخرجه الأستاذ إبراهيم عز الدين، وشاركه المؤلف في إعداد (السيناريو)، وانفرد معاليه بكتابة الحوار باللغة الفصيحة، لغة طه حسين العربية المبينة العذبة الرشيقة.
يبدأ الفلم بظهور أخوة ثلاثة يبحثون عن أخ لهم فقدوه، فلما يئسوا من العثور عليه لم يروا بدا من العودة إلى دارهم بتهامة اليمن، ومروا بمكة وقد أضناهم الجهد، فنزلوا بها، فرآهم أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي، فدعاهم إلى داره حيث نزلوا في ضيافته وكانوا موضع إكرامه؛ وقد وكل لخدمتهم أمة سوداء ناضرة الشباب، هي سمية بنت خياط، وقد أقبلت الفتاة على خدمة ياسر بن عامر - وهو أحد الثلاثة - خاصة في خفة ونشاط، فوقع حبها في نفسه، وحببت إليه الإقامة بمكة، فخالف أخويه وتخلف عن الرحيل معهما. وفي مآبه من توديعهما التقى بأبي حذيفة قريبا من المسجد، فأنهى إليه أنه آثر الإقامة بمكة في أمن الحرم وجوار البيت. وتم الأمر بينهما على الحلف، إذ يكون ياسر في حمايةأبي حذيفة ويكون حربا على من حارب وسلما على من سالم. وتمر خمس وثلاثون سنة، وإذا نحن نرى مع ياسر وزوجه سمية وولدهما الشاب عمار بن ياسر يحدثهما بحديث وضع الحجر الأسود عندما اختلفت قريش على من ينل شرف وضعه، فحكموا أول داخل عليهم فكان محمدا الأمين الذي افترش رداءه ووضع الحجر فيه لتأخذ كل قبيلة بطرف منه. . . إلى آخر القصة المعروفة. ثم تظهر الدعوة الإسلامية، فنرى ياسرا يغشى نادي مخزوم، فيلقاه القوم بفتور، ثم يتجه إليه عمر بن هاشم ويغلظ له في القول، ويتبين أن سبب ذاك الفتور وهذه الغلظة أن عمار بن ياسر قد أسلم. ثم نرى عمارا وقد أخذ والديه الذين انفتح قلباهما للإسلام قاصدين إلى دار الأرقم ابن أبي الأرقم حيث يجتمع رسول الله (ص) بمن هداهم الله إلى الدين القويم. وما يعودون إلى دارهم حتى يفاجئهم أبو جهل عمر بن هشام في فتية من أحرار مخزوم ورقيقها فيغلوا أيدهم ويجروهم إلى حيث يحبسون، ويشعلون النار في(929/40)
دار ياسر. ثم نرى جمعا من قريش في المسجد يتحدثون عن هذا الحدث الذي أتاه أبي جهل في البلد الحرام الذي يأوى إليه الناس فيجدون به الأمن والسلام، وينكر بعضهم علىأبيجهل فعلته، ويؤيده آخرون فيما ذهب إليه من تعذيب الرقيق والأحلاف الذين اعتنقوا الإسلام، ليكونوا عبرة لغيرهم من ذوي العشائر التي تقوم دونهم إذا أرادهم أحد بمكروه.
ويمعن أبو جهل في التنكيل بآل ياسر ويذيقهم ألوان العذاب، ويلح عليهم أن يذكروا محمداً بسوء وآلهة قريش بخير، فيأبون كل الإباء، فيقتل أبو جهل سمية ويلحق بها زوجها ياسرا، ولكنه يبقي على حياة عمار ليذيقه العذاب.
وتتسع حركة التعذيب فتشمل آخرين من المسلمين المستضعفين، أرقاء وأحلافا، كبلال وصهيب وخباب بن الأرث، وكلهم يظهر الجلد ويصبر على العذاب.
وتتوالى الحوادث فيبايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل يثرب، ويهاجر المسلمون إلى المدينة، ثم يهاجر الرسول وصاحبه الصديق، ويتبعهما المشركون ثم يعودون خائبين، ويبلغ النبي وصاحبه المدينة فيتلقاه الأنصار والمهاجرون بالغبطة والاستبشار، ثم تقع غزوة بدر ويقتل فيها أبو جهل، ويعرض بعقب مناظر بدر، منظر جيش المسلمين في فتح مكة ودخولهم إليها من شعاب مختلفة وتحطيم الأصنام وصعود بلال إلى ظهر الكعبة يرفع صوته قائلا: أشهدأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
والذي ألاحظه - وقد قرأت كتاب الوعد الحق ثم شاهدت فلم ظهور الإسلام - أن الفكرة الأولى في الكتاب أصابها بعض التحوير في الفلم، فقد تناول الكتاب جماعة من الأرقاء والأحلاف الذين يعيشون في كنف سادة قريش بمكة، تناولهم تناولاً إنسانيا رائعا، سبق التاريخ إليهم: فإن التاريخ لم يعرفهم إلا عند بدأ الدعوة الإسلامية، أما مؤلف (الوعد الحق) فقد استعمل هذا التاريخ المعروف ريثما يرسل خياله إلى الوراء عشرات من السنين، يتقصى الظروف والأحوال التي طرأ فيها أولئك الأخلاط على مكة، ويعرض علاقاتهم بالبيئة الجديدة، ويسوق حديث نفوسهم ومشاعرهم نحو السادة الذين يعايشونهم، وهم أحيانا يرضون بشيم هؤلاء السادة وما يبسطون لهم من ظل فيحرصون على ولائهم والوفاء لهم، وأحيانا أخرى - وهي كثيرة - يبدون الضجر والسخط على القيود التي يعانونها من الرق الظالم ومن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية التي يحرمون بمقتضاها ما يستمتع به من لا(929/41)
كفاية لهم غير ما يعتبرونه من شرف المولد والنسب. وهم من خلال ذلك يتوقعون تحول هذه الأوضاع، وفيهم من أوتى علم ذلك عن طريق الأحبار في خارج الجزيرة فهو يلزم هذا الحرم حتى تبزغ منه الشمس المرتقبة. . . ثم تبزغ هذه الشمس فيهرع إلى دفئها أولئك الضعفاء، وهنا يدخلون في طورهم الثاني الذي عرفهم فيه التاريخ، وهو طور الإيمان القوي الذي يحتمل عنف الإيذاء ويتقبل الاستشهاد في غبطة وسرور، ويأتي هنا التصوير الصادق البارع للعراك بين الأرستقراطية الشامخة الضالة وبين الإنسانية الضعيفة في أصلها، القوية بإيمانها المهتدية إلى صراط الحق المستقيم. أما الطور الثالث فهو تحقيق الله وعده للذين استضعفوا أن يمكن لهم في الأرض ويجعلهم أئمة، فقد انتصر الإسلام، وساوى بين الناس، لا فرق بين عربي وحبشي إلا بالتقوى، وظفر أولئك المستضعفون بالحرية وبالمنزلة الاجتماعية الرفيعة، فصاروا من أئمة المسلمين وولاة أمورهم وأهل الرأي فيهم، بل ظفروا بما هو خير من ذلك كله، وهو خلود الذكر وحسن الجزاء في الآخرة.
وقد أخذ الفلم من ذلك صوره على أوضاع مختلفة تهتم بإبراز دعوة الإسلام قبيل ظهورها، وعند ظهورها وانتصارها، ولم يهتم بالتتبع الإنساني والاجتماعي لأولئك الأبطال بقدر ما اهتم بالظروف العامة، فهو مثلا لم يبرز الثورة التي كانت مكبوتة في نفوسهم تجاه الطبقة التي تسودهم، ومنجيي الإسلام للقضاء على أسباب هذه الثورة وتنظيم المجتمع على أساس جديد، وقد اعتمد الفلم في تصوير الجو الذي قصد إليه على إظهار أولئك الأبطال بالقدر الذي احتاج إليه لا بالقدر الذين يحتاجون هم إليه في التحقيق والتحليل على نحو ما في الكتاب، فلم يظهر غيرهم من أعيان المسلمين أمثال حمزة وأبي بكر وعمر، فهؤلاء - أولاً - لم يكونوا من غرض الكتاب، ولو كان غرضه (ظهور الإسلام) ما أهملهم. أما ثانيا فلا يخفى أنه من غير السهل إظهارهم على الشاشة لاعتبارات يصفونها بأنها دينية ويعنون بذلك (رجال الدين) وهنا مهزلة عقلية عجيبة! كيف يباح. تمثيل بلال وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وأمثالهم، ثم يحظر إظهار حمزة وأبي بكر وعمر وأمثالهم. .؟ ألم يسو الإسلام بين الجميع. .؟ أليس لأولئك اعتبار كهؤلاء إن كان الاعتبار يمنع الظهور في ثوب التمثيل؟ إن معنى هذا التفريق أننا نستشعر تلك الجاهلية ونصطنع تلك الأرستقراطية(929/42)
ونعد أولئك الأبطال لا يزالون أرقاء ومستضعفين. .؟
ومهما يكن من شيء فقد حقق الفلم غايته وصور ذلك الجو الذي قصد إليه أبدع تصوير وأروعه، وكان جهد المخرج والممثلين في ذلك ظاهرا رائعا، فمناظر الفلم وحركات الممثلين فيه وقوة تعبيرهم تنقل المشاهد إلى زمان الأحداث وأماكنها، وتشعرهم جلالها وروعتها، وخاصة مناظر التعذيب التي تبدو فيها الأجسام تعذب والوجوه مطمئنة إلى ما وعد الله، لا يظهر عليها أي أثر للألم، وقد مثلت غزوة بدر وصورت في صدق وروعة من حيث تنظيم الصفوف والمبارزة ثم الاشتباك ورمي السهام من الأقواس. . . الخ.
ذلك، ولم يكن من اللائق في هذا الفلم أن تظهر راقصتان في بعض أندية قريش، ترقصان على نحو لا يتفق وجو الفلم والغاية التي يرمي إليها، وهو فلم نظيف فلا تتفق نظافته مع هذا الرقص. على أن المنظر لم يكن موفقا أيضاً من ناحية الصدق الواقعي التاريخي، فهو رقص مصري عصري، وزي الراقصتين كذلك مصري عصري لا يميزه عن المصرية العصرية إلا السراويل.
وثمة ملاحظة أخرى وأخيرة، وهي أن الممثلين لم تكن تتغير سيماهم في الأعمار المختلفة، وخاصة كوكا في دور سمية، فقد كانت هي إياها تقريبا في شبابها وشيخوختها، وكذلك كانت نضارة الشباب على وجه ياسر وهو في شيخوخته، حتى لقد كان أنضر من ابنه عمار. .
وبعد فإن هذا الفلم يكفر عن فن السينما ويضع كثيرا من أوزاره، ونرجو أن يكون ظهوره فارقا بين عهد جاهلي قديم وبين مستقبل جديد قويم.
تأبين عبد العزيز فهمي باشا
أحتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المغفور له عبد العزيز فهمي باشا يوم السبت الماضي بدار الجمعية الجغرافية الملكية. وكان خطيبا الحفل معالي الدكتور طه حسين باشا وسعادة الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا.
تحدث الدكتور طه حسين باشا عن الفقيد العظيم محللا جوانب شخصيته ونواحي حياته المختلفة، ومما قاله معاليه: كان تلاميذه وأصدقاؤه يظنون أنه مخلد، وكانت قوة قلبه وعقله تعينهم على هذا الظن، فقد شاخ جسمه ولكنه ظل شاب العقل والقلب. كنا نسعى إليه حين(929/43)
عجز هو عن السعي إلينا، فنسمع منه ما يمنحنا القوة والجلد. كان ذكاؤه لا حد له، يفطن إلى دقائق الأشياء، ويفهم في سرعة، وقلما يخطئ فيما يفهم بسرعة، وكان إذا اقتنع بشيء مضى إليه كالسهم، كان لا يعوج في تفكير أو قول أو عمل. امتاز في أثناء الطلب وبعد التخرج في الحقوق وفيما تولى من مناصب، حتى إذا كانت الحركة الوطنية كان أسرع الناس للاستجابة إلى دعوة الوطن حين دعا أبناءه إلى الجهاد والكفاح، وكان العقل المدبر في الحركة الوطنية، جاهد مع أصحابه ما وسعه أن يجاهد معهم ثم حالف بعض الشيء فلم يداهن ولم يعوج، وإنما مضى فيما يراه حقا. كان في خصومته عنيفا أشد العنف لأنه كان في اقتناعه عنيفا أشد العنف. كان يرى رأيه قطعة من نفسه إذا سلم فيه سلم في قطعة من نفسه، ولم يسلم في رأيه حتى أسلم نفسه للموت، وكان عنيفا في حبه عنيفا في بغضه، يحب فيرى أن من يحبه كأنه قطعة من نفسه، وإذا أبغض فحظ من يبغضه كحظ من يحبه في العنف والتطرف. وكان مثقفا كأوسع ما تكون الثقافة وأعمقها، كان الناس يرونه إماما في الفقه والقانون، ولكنه كان كذلك إماما في اللغة والأدب، لم يكتف هو وصديقه لطفي السيد بما سمعا في المدارس وما سمعاه من شيوخ الأدب، بل كانا يقرآن ويدرسان. ولقد كان يدهشنا نحن المعممين - أن نراهما - وهما من المطربشين - يدرسان القرآن والتفسير دراسة تفطن وتعمق. وقد سمعته مرة يفسر سورة الطور لجماعة من أهل بلده، وينبه إلى أسرار فيها لم يلتفت إليها أحد من المفسرين، ويقول إن جو السورة يمتاز بالحركة السريعة والصور المتلاحقة، وكان يمثل في قراءته آيات السورة هذه الحركة. وأذكر أني أهديت إليه نسخة من كتابي (جنة الشوك) عند ظهوره، وفي اليوم التالي اتصل بي وقال أنه فرغ من قراءة الكتاب ويريد أن يلقاني، فذهبت إليه، وتحدثنا فعرفت أنه قرأ الكتاب من ألفه إلى يائه، وأبدى ملاحظاته فيه وهي ملاحظات دقيقة منها ما يختص بإطناب حيث أحسن الإيجاز وإيجاز حيث يستدعي المقام البسط والتطويل، ومنها ما يختص بوضع كلمة مكان أخرى. . . الخ، ثم دفع إلي النسخة وقد كتب هذه الملاحظات عليها؛ كي أنظر فيها عند إعادة الطبع، ولا زلت أحتفظ بهذه النسخة.
ثم قال الدكتور طه باشا: إننا يوم شيعنا عبد العزيز فهمي إنما شيعنا الجانب الخير الممتاز من حياتنا، فقد كان شطرا خطيرا من حياتنا المصرية التي يجب على الأجيال القادمة أن(929/44)
تدرسها لتنهج على منوالها.
ثم ألقى سعادة الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا كلمته في تأبين الفقيد، فابتدأ بقوله: إن الرجل الذي نؤبنه اليوم كان يمثل جيلا كاملا، بما ينطوي عليه هذا الجيل من علم ووطنية وأدب وثقافة وتفكير، وإن جوانبه المتعددة كانت تصدر جميعها عن وحدة تتمثل في شخصية قوية عنيفة، إذا هي أحسنت قوتها امتلأت إباء وأنفة، وإذا هي واجهت الأحداث التهبت عنفا وثورة. وكان في الفقيد كبرياء وتواضع، كلاهما يصدر عن أصل واحد هو هذه الشخصية القوية العنيفة، ترفع رأسها تيها على الأقوياء، وتخفض جناحها رحمة بالضعفاء. وبعد أن تحدث عن قوته وعنفه ومكافحته في حياته القانونية والسياسية، قال: وهو قوي عنيف مكافح في حياته الأدبية والفكرية يوم نادى أن تكون الكتابة بالحروف اللاتينية، ويوم ثار على مبدأ تعدد الزوجات، ويوم نفر ممن قال إن القانون الروماني مأخوذ من الفقه الإسلامي، فعكف في آخر حياته على الكتابة في القانون الروماني وهو أجف مادة في القانون. وقال: كان الفقيد أديبا من ذلك الطراز القديم، له أسلوب عربي رصين عريق في عربيته، يصعد إلى الأصول الأولى من العربية، ويحلق في سماء الأدب كما هو مسطور في كتبه الأصيلة، وبقيت ملكة الشعر تختلج في نفسه فيقرضه حتى في أواخر أيامه.
وأفاض سعادة السنهوري باشا في الحديث عن حياة الفقيد القانونية وأثره في المحاماة والقضاء وجهاده في سبيل إلغاء الامتيازات الأجنبية وما تخلل ذلك من مواقفه المظفرة المشرفة، ثم اختتم هذه الكلمة الفياضة بقوله: كان الفقيد يؤمن بالله إيمانا عميقا، ولكنه كان يؤمن بقلبه وبعقله، وهذا هو إيمان الرجل المفكر القوي، يتحدى به إيمان الرجل المستسلم العاجز. والآن وقد رحل إلى عالم الخلود، أتراه كشف عن هذا السر المستور الرهيب، الذي كان يجيل فيه عقله القوي، فلا يكاد يهتدي إلى شيء بغير معونة من قلبه، أم تراه علم أن هذا العقل البشري لا غناء فيه لدى عالم قيم الأشياء فيه وطبائعها تغاير ما عرفناه بعقولنا من قيم وطبائع. كان الفقيد يمثل جيلا كاملا مباركا على مصر، باكورته محمد عبده زعيم النهضة الدينية، وسعد زغلول زعيم النهضة الوطنية، وقاسم أمين زعيم النهضة الاجتماعية، وكان هو من خواتيم هذا الجيل، زعيم النهضة القانونية.(929/45)
منوط به ومناط به:
قرأت ما كتبه في العدد الماضي من (الرسالة) الأستاذ محمد محمد الأبشيهي، منكراً على قولي: (وها قد صار الأمل كله مناطا بالحكيم) ذاهبا إلى أن كلمة مناط لم تصح في اللغة العربية بهذا المعنى وأن الصحيح (منوط به) فقط، مستندا إلى ما رأى في المصباح المنير والقاموس المحيط من ورود الفعل (ناط) ومشتقاته دون (أناط).
وإني أشكر له تحيته وأدبه في المناقشة، وأقول: ليس من السهل أن يحكم المرء بأن كلمة ما لم تصح في العربية، وليست اللغة كلها في المصباح المنير والقاموس المحيط. جاء في أقرب الموارد: (أناط به إناطة: علقه) وجاء في المنجد: (إناطة إناطة بكذا: علقه) فمناط من الفعل (أناط) الوارد في هذين النصين، ولا حرج.
عباس خضر(929/46)
رسالة الفن
حول النحت الفرنسي المعاصر
للأستاذ أحمد محمد حسنين
منذ أسابيع قليلة أتيح لنا أن نشاهد معرضا للنحت في قاعة (الليسيه فرانسيه) تضمن مجموعة غير قليلة من أعمال النحاتين الفرنسيين المحدثين وبعض أعمال طائفة من النحاتين المصريين. والأمر الذي يثير الدهشة حقا هو عدم احتفال معظم نقادنا وكتابنا بالكلام - مجرد الكلام - عن النحت الفرنسي بالرغم من أن فرصة مناسبة قد سنحت للمقارنة بينه وبين النحت المصري. ونود قبل أن نجري حديثا عابرا عن النحت الفرنسي المعاصر أن نوجه الشكر إلى معالي الدكتور طه حسين باشا صاحب الفضل الأول في تهيئة هذا المعرض النادر. ولعلنا في غير حاجة إلى التكلم عن عراقة فن النحت والتطور الذي أصابه على مر العصور نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته شعوب العالم. ومن المعروف أن المذهب (الكلاسيكي) قد ظل سائد خلال القرن الثامن عشر، وأن الثورة الفرنسية قد أثرت في النحت تأثيرا كبيرا على نحو ما أثرت في سائر الفنون والآداب. وإن المثال الفرنسي (ريد) ليجئ في مقدمة المثالين الذين استجابوا للأثر العميق الذي أحدثته الثورة في النفوس. وإنا لنلحظ ذلك - بصفة خاصة - في تمثاله المعروف (سفر المتطوعين) الذي يجسد بعض شخصيات عصره ويحملها بالرمز لكي يؤكد فكرة مستوحاة من الثورة الفرنسية. ولقد كان القرن التاسع عشر أحفل عصور التاريخ بالنشاط الفني المتعدد المذاهب والاتجاهات. ولئن كانت التماثيل ذات الموضوعات التاريخية قد سيطرت في ذلك الحين - بدلا من التماثيل ذات المضمون الأسطوري - فليس من شك في أن حركات التجديد قد ولدت خلال هذه الفترة أيضا. ولقد بذل الكثيرون من النحاتين أمثال (دالو و (رودان أعظم مجهود في سبيل ربط النحت بالحياة ومشاعرها العميقة بدلا من التاريخ وأحداثه العامة، وإن روح هذا المتجه قد أثرت في كثير من المثالين وفي مقدمتهم (فريمييه و (بورديل وأخذ عنصر (الحركة) يظهر في المنحوتات حيث وصل إلى أقصى غاياته في تماثيل وتصاوير المصور المثال (إدجار ديجا وبالرغم من وجود أنصار للمدرسة الفرنسية التقليدية التي تنشد مثالياتها في الفن الإغريقي بجماله ورقته واتصاله(929/47)
الشديد بالطبيعة، أو الفن الروماني بمظهره القوي المترف، فقد ظلت حركة التجديد مستمرة قوية شديدة الطموح لا تقف عند حد. ومن الصعب أن نحصي أسماء المجددين ونوضح مقومات فنهم، ولذلك نكتفي الآن بمجرد إشارات سريعة إلى بعض هؤلاء الفنانين.
فهناك النحات الرسام فرانسوا إتيان كابتيه (وقد مات حوالي سنة 1902) الذي أنتج عدة تماثيل معبرة عن مختلف الأفكار والعواطف والحالات النفسية ونذكر من بينها تماثيل (آدم وحواء، والطوفان الأخير، واليأس). وهناك المثال (جوست بيكيت) (وقد مات حوالي سنة 1907) الذي نبه ذكره منذ عرض بعض تماثيله في معرض (الصالون الفرنسي) حوالي سنة 1857، والذي حاول في عدة تماثيل أن سيتلهم الفن الفرعوني ويزاوج بينه وبين الفن الحديث وذلك بإدخال عنصر الحركة. وأما المثال الشهير (أوجست رودان) فمن الأسماء التي أكدت وجودها في عالم النحت. فمنذ عرض تمثاله (الأنف المكسور) حوالي سنة 1870 أثار عاصفة من الجدل لم تلبث أن اشتدت حين عرض تمثالي (القبلة) و (يد الله). ولقد وجهت إليه أعنف سهام السخرية وأقسى أحكام النقد ولكنه لم يعبأ بشيء ومضى في عناد يحقق وجهة نظره في النحت. كان (رودان) مشغوفا بالتعبير لا بالجمال فحسب ولذلك فقد كان يجسم - وقد يبالغ - عواطف البشر ومشاعرهم وأفكارهم العميقة. وهو بعمله ذاك يصنع (الشخصية) في النحت. وهي شخصية بطولية إن لم تقم بطولتها على العضلات المفتولة والجسد المتين البناء (على نحو ما نجد في تماثيل ميكل إنجلو) فقد قامت على تعبير نفسي أو فكري يرهق الكائن البشري.
وأما المثال (أنطوان بورديل) فقد بدأ حياته الفنية متأثرا بنفوذ أستاذه (فالجيير) ثم لم يلبث أن خرج عليه وثار على الفن (الأكاديمي). وأخذ يعمل مع المثال (رودان) منذ عام 1896 ثم مضى في النهاية يحقق أسلوبه الشخصي الذي يميل إلى البناء وفي نفس الوقت يعطي صورة هندسية لما يحتفظ به المثال من ظلال رومانسية. وهو لم يتخل عن عنصر الحركة وعن كل ما هو (درامي) ولكنه يحقق التوازن فيما يختار من العناصر والقيم الفنية.
أما (أرستيدل مايول أستاذ النحت المعاصر الحقيقي - فهو يركز كل مواهبه في (البناء) على نحو يؤكد الإحساس بعناصر الحياة الأصلية في الكون، وفضلا عن ذلك فهو يثبت قيم النحت الأساسية التي أدركها الفراعنة والإغريق. لقد استطاع في براعة أن يضع الحسد(929/48)
الفاصل بين القديم والجديد، وأن يمهد السبيل الحقيقي للنحت الحديث وساعده على ذلك ميله الشديد (للفورم) النسوي. وإنه ليخضع كما يقول الأستاذ. أ. هربلان) بتواضع لاحترام قوانين عالم النحت.
ونستطيع أن ندرك قيمة التجديد الذي أعلنه القرن العشرون حين نتأمل مجموعة تماثيل الفنانين المعاصرين أمثال جوزيف برنار و (بومبو والأول قد مارس التشكيل المباشر على نحو جديد شديد التأثر بالاتجاه العصري. والثاني أكثر جرأة وأقل احتفالا بالقيم الكلاسيكية، وهو قد ذهب بعيدا منذ أرجع (السلويت) الحيواني إلى أوضاعه المبسطة فساعده ذلك على الانتقام من التجسيم الأولى إلى التجسيد الهندسي وإلى المناظر التخطيطية. والحق أنه قد أختار الموضوعات المناسبة تماما لأسلوبه القائم على التبسيط. . . . أختار بعض الطيور كالدجاجة والوزة في أكثر وضعاتها ألفة وأقلها (دراماتيكية).
ولئن كان هؤلاء الذين أشرنا إليهم قد وضعوا أسس التجديد فإن أمثال (زادكين وليبشيتز ولورا وجارجالو قد حاولوا الوصول إلى أبعد آماد التجديد. فهم قد نفروا من كل ما هو محسوس وأعرضوا تماما عن الحياة الحسية وآثروا مجال الإطلاق (لفن عقلي بحت). ويرى (هربلان) أن استعمالهم مختلف الخامات (كالحديد والصلب المضروب والخيوط المعدنية) قد سهل عليهم إنتاج ما سماه (بالتركيبات المجانية) أي التي لا هدف لها). وإنه ليرى - أيضاً - أن تأثيرات التكعيبية والفن الرنجي معا قد جعلت بعض الفنانين يميلون إلى اعتبار النحت من مسائل (التشكيل البحت).
ومهما يكن الأمر فإن استعمال هذه الخامات الجديدة (في النحت) قد أظهر هذا النوع من النحت الذي لا يشغل مسافة ثابتة في الفضاء وإنما يترك الفضاء لينساب من بينه. ويقول هربلان (إن النحت الشفاف الذي نراه عند (ليبشيتز) والأشكال المفرغة عند (زادكين) لا تستبعد الغنائية ولا الروحية، بل إن تمثال (النبي) القفصي الصنع (لجارجالو) يعتبر من الروائع. ويضيف (ويبدو أن بيكاسو - وهو الرسام العجيب - قد اختار أن ينسى عبقريته ليقتصر على استثارة ما هو واقعي وممكن الحدوث، وذلك في تركيباته اللغزية وبواسطة تفصيل واحد موحي كعين أو خد أو أنف ممسوح أو ساق تخرج على المعقول في نسبها. . .(929/49)
ويبقى العقل حائرا أمام هذه البحوث التي لا تجد فيها الحواس حقها المشروع. . . وحتى العقل لا يتقبل النتائج إلا في شكل إحصائي وباعتبارها نتائج مرحلية لا آثارا فضلا عن أن تكون آثارا رائعة) وعلى الجملة فإن النحت الفرنسي قد قفز فيما بين 1900 - 1950 قفزة غير عادية لعل الأذهان (العامة) لم تتهيأ بعد لفهمها. . . لقد انتهى عهد النحت النظري والمطابق للطبيعة وكذلك النحت التشكيلي البحت، وجاء عهد النحت الذي يطلقون عليه اسم النحت (الموسيقي المتحرك. .؟). ومهما يكن الرأي في هذا النحت الجديد فهو قد أعطى للفكر فرصة لم تتح له من قبل. ونرجو أن نعود في فرصة أخرى إلى تفصيل موضح.
أحمد محمد حسنين(929/50)
البريد الأدبي
أحبب حبيبك هونا ما
كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان في الرسالة يقول، إن كلمة أحبب حبيبك هونا ما. . هي حديث شريف رواه الترمذي عن أبي هريرة، وذكر أنه نقل ذلك عن كتاب إحياء علوم الدين للأمام الغزالي. ونحن نقول أن هذا الحديث رواه غير الترمذي عن أبي هريرة وغيره ولكنهم تكلموا في كثير من رجاله. ويبدو أنه من قول علي رضي الله عنه فقد رواه عنه موقوفا الدارقطني وابن عدي والبيهقي.
وقد جاء عن الحسن: أنتقوا الأخوان والأصحاب والمجالس، وأحبوا هونا، وأبغضوا هونا فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، وإن رأيت دون أخيك سترا فلا تكشفه.
وفي كتاب الإحياء كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
المنصورة
محمود أبو رية
تعقيب على نسبة بيت
عقب الأستاذ محمد الجندي على الكلمة (طرابلس وليست ليبيا) المنشورة بعدد الرسالة الغراء السالف بشأن نسبة بيت المتنبي الذي ورد بها، وأن المراد بطرابلس المذكورة فيه إنما هي طرابلس الشام الخ، وكنا نورد من الأستاذ الكاتب أن يذكر لنا المصدر التاريخي في تصحيح هذه النسبة حتى نطمئن إلى ما يقول. وإذا كان قد عثر على هذا النص فعليه أن يقوم بمقارنة بينه وبين ما ورد في معجم البلدان ليخرج منها بمقدمات تنتج هذا الرد أو العدول عنه. فياقوت أورد هذه الأبيات وهو بصدد ذكر طرابلس الغرب. وذكر أنها مقولة في الممدوح المذكور المغربي، لا أنها في الخلكان الشامي. وكنت أحب للمدرس الفاضل - وهو بسبيل الرد على النصوص التاريخية - ألا يبني تعليقه على مجرد الحدس والتخمين. وأخيراً تحياتي إليه.
مختار محمد هوليسه(929/51)
تصويبات لغوية
1 - يقف يعضهما لبعض بالمرصاد
. . هذا تصويب عبارة للأستاذ الكبير أبي الفتوح عطية في مقاله عن (إيران) بالعدد (928)، وقد أوردها هكذا: (ذلك أن روسيا وإنجلترا أتتفقان لبعضهما بالمرصاد). . وأحب أن ألفت النظر إلى أن هذه غلطة شائعة تصدر كثيرا عن أقلام الكاتبين، فلا معنى لأن يقال: إن روسيا وإنجلترا مجتمعين تقفان لروسيا وحدها، أو لإنجلترا وحدها، وإنما يقف بعضهما لبعض). .
2 - حيثما تولي وجهك تر الجمال
. . هكذا توجب قواعد اللغة بحذف الياء من (تولي) وحذف الألف من (تر) لأنهما فعلا الشرط وهما مجزومان بحذف حرفي العلة، وبهذا يتضح أن تعبير الأستاذ أنيس الحوراني في مقالة عن (الطبيعة) في هذا العد المذكور خطأ إذ قال (حيثما تولي وجهك ترى الجمال) وصوابه ما قد رأيت. .
3 - وإنما الخالدون نحن يا غائبة
. . هذا بيت من الشعر ورد في قصيدة الأستاذ محمد الفيتوري بالعدد المذكور وقد سقطت منه (يا) النداء، ووزن البيت يقتضيهما كما رأيت، لأن القصيدة من بحر (المنسرح) المجزوء المعروض والضرب فوزن البيت (متفعلن مفعلا) في كل من الشطرين، وإسقاط (يا) يكسره كما يفقه ذلك من له دراية بعلم العروض. .
محمد محمد الأبشيهي(929/52)
القصص
يوم المعجزات
للشاعر الألماني: هزيك هايني
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حسين الأرناؤوط
. . . أطلت الأم من النافذة، ومدت طرفها إلى الطبيعة الهادئة الساكنة وتمنت لنفسها الطمأنينة والسكينة. وكادت أن تتمتع بهما لولا ابنها الوحيد الذي أخذ يتقلب على سرير الحسرة والألم بعند ما فقد الأمل والرجاء من مليكة قلبه ومسرة روحه التي كانت هدفه في هذه الحياة. . .
إنه شاب في مقتبل العمر. . . دغدغ الحب بأنامله الناعمة أوتار قلبه لأول مرة، شأن كل شاب عندما يفتح عينه لحياة جديدة. . . حياة الحب. . . فيلمس أن قوته تنهار ويشعر أن عزيمته تهن أمام هذا الهيكل الجبار الذي لم يدع قلبا من الجنسين إلا توغل فيه واستقر في إحدى زواياه هادئا. . . مستكينا. فلا يشعر المصاب به إلا بعد ما يفارق حبيبه. . . عندئذ يحس كأن كابوسا جثم فوفه فملك عليه حواسه. .
ولم يطل مكوث الأم أمام النافذة حتى أحست أن ابنها الوحيد (ولهلم) قد استيقظ من سباته العميق. . . وابتعد عنه ذلك الكابوس الذي استولى عليه سواد الليل. . . ولم يفارقه بالرغم من المحاولات التي بذلتها نحوه. .
وسارت إليه بخطى وئيدة واقتربت منه وأقتعدت كرسيا بجانب السرير وسألته بصوت ملؤه الحنان والرأفة بعد ما أوشك الدمع أن يطفر من عينيها الذابلتين:
أي بني. . ألا يمكنك أن تنهض؟ ها هو الصباح قد تغلب على ظلام الليل بجيوشه البيضاء. .
ها هو قد أخذ يلوح لنا بشعاعه الرقيق. لنا نحن التعيسات حيث نشارك الليل مخاضه. . . وقلوبنا تقف حائرة بين أضلعنا. . لا ندري ما يخبئ لنا الدهر. وما يضمره الغد.
ها هي تباشيره تبدو على الأفق البعيد. . . ألا يمكنك أن تخرج معي (يا ولهلم) ألا تستطيع أن تشارك الطبيعة بهذا اليوم. .؟ أنه يوم مفعم بالمسرات والمعجزات. . . فهو عيد الآلهة(929/53)
العظيم عيد الجمال. عيد الحسان. عيد المعجزات والخوارق. .
لا يخفى عليك يا بني أنه سيمر موكب الكهنة من الشارع القريب منا. . . وستشاركه فرق الموسيقى. . . وستصدح بموسيقاها العذبة وألحانها الندية حتى تحيي في قلوب العذارى الطاهرات أملا وعزيمة لاستقبال الحياة الباسمة. . . ولتبعث في نفوسهم رجاء للمضي في سبيل العيش الهنيء. .
هؤلاء العذارى اللواتي حباهن الله بالطهر، وألبسهن ردأ العفة، سيمررن اليوم وعلى يد كل واحدة منهم سلة ملئت بالورد والزهر. . . كي تنثره على الجماهير التي ستحتشد على جانبي الشارع إكراما لهذا اليوم. . وتبجيلا للعيد العظيم. .
حاول يا بني. . حاول أن تنهض. حاول أن تقف على قدميك، حتى يبسم قلب أمك ويضحك فؤادها المكلوم. . فآنت قرة عينها الوحيد بعدما ترملت بعد أبيك. . أنت البلسم الشافي لجرح أمك العميق الذي لن يندمن من حزنها وألمها على أبيك. . فلا تدع الحسرة تستقر في قلبك، هذه الحسرة التي جعلتك طريح الفراش، حسرة الحب والهيام. .
فأجابها (ولهلم) بصوت تكاد الزفرات تخنقه: بالله عليك. . يا أماه دعيني. . دعيني وشأني. . فليس في مقدوري أن أنهض. . ولا أريد أن أسمع شيئا، لأنني أكاد لا أفهم ولا أميز أي شيء. . كأنني يا أماه أرى النور ظلاما. . وأشعر السرور عذابا. . إذ أحس بنار تتأجج في صميم قلبي. نار خفية لا أدري ما كنهها. . ولا أعلم ما سببها إلا أنني أعتقد أن مصدرها موت حبيبتي جريتش. جريت. .
وكاد الصوت يخونه عندما لفظ اسمها ولكنه تمتم مردفا: أنا اليوم يا أماه. لا أفكر إلا بها. . فبموتها قد أظلم عالم الحياة الهنيئة عالم الحب البهيج، وأقفرت وديانه، وتبددت أخيلته، وافتضحت أوهامه. فاستحال مقبرة موحشة لا حياة فيها. . وذلك بعد ما غادرتني حبيبتي إلى دنيا السعادة الهانئة، وتركتني على فراش الألم والحسرة.
وما إن سمعت أمه ذلك حتى تسرب إلى قلبها الخوف والهلع وغمرها الأسى. . فصاحت من أعماق فؤادها: ولهلم. . رحمة بقلب أمك، ورأفة بحياتها. . أنت عزاؤها الوحيد. أنت هناؤها وسعادتها. رفقا بأمك. . انهض. . وتوكأ على ذراعي وجرب أن تخرج معي حاملا مسبحتك البراقة ومرافقا كتاب الصلاة. . أنهض كي نذهب ونرتل معا. ونصلي أمام هيكل(929/54)
الله. . فهذا هو الموكب قد حان وقت خروجه، موكب العيد. . عيد الإله العظيم. . الذي لا ريب أن يرحمك اليوم. . ويعطف عليك. . ويشفيك من مصابك الأليم. .
هيا انهض يا ولهلم. . ها هي الموسيقى قد ارتفعت في الأجواء. وأخذت تشنف الآذان. . ها هو ذا الموكب يقترب من الشارع. .
وشعر ولهم كأن قوة خفية توغلت بنفسه بعد ما أنصت لحديث أمه فتحامل على نفسه وجمع فلول قوته. . واستند إلى ذراع أمه. . وخرج برفقتها من البيت. بيتما كانت الشمس تتهادى في صفحة السماء وهي تلقي على الطبيعة أشعتها الناعمة كأنها توقظ الكون وتبعث فيه الحياة من جديد.
كانت الأعلام المقدسة تتراءى من بعيد وهي تخفق وتترنح في الفضاء كأنها تحيي الجماهير المحتشدة المتحمسة لهذا اليوم العظيم. . فقد غادرت منازلها وخرجت إلى الشارع زرافات ووحدانا وأخذت ترتل الأناشيد بينما كانت الموسيقى تصدح مرافقة أصواتهم فتمتزج بها في الفضاء وتسير مع الأثير إلى أن تستقر أخيرا في آذان الجماهير فتبعث فيهم روحا فياضة بالنضال والكفاح والأمل. وأبت أفواج العذارى الطاهرات إلا أن تشارك الموكب كعادتها لتنثر الورود والزهر على الناس وتوزع الابتسامات العذبة عليهم. .
انه يوم العيد. . يوم فريد في حياة الأمة. . بل في حياة ولهلم المسكين. وفي حياة هؤلاء العجزة والمرضى الذين ابتاع كل فرد منهم شمعة من كاهن ثم أوقدها وتأهب لغرسها في الحوض الرملي الواسع الذي أقيم في الساحة الكبرى تجاه هيكل الإله العظيم. .
ٍكانت الأم تشق طريقها بين الجموع الزاخرة بعدما ابتاعت شمعة ناصعة البياض وقدمتها إلى وحيدها وقالت له:
خذ يا ولهلم هذه الشمعة. . وأوقدها ثم اغرسها في الحوض الرملي تجاه الهيكل العظيم. . ثم صل هناك، وابتهل إلى الله واجث أمامه فلا بد من أن يستجيب لك فيشفيك من سقمك. لا بد يا بني في هذا اليوم الأغر. . في هذا اليوم المقدس من أن تظهر المعجزة. . معجزة من معجزات الإله الرائعة. . فيريحك من عذابك وينقذك من مرضك. . وتناول ولهلمالشمعة من يد أمه شاكرا لها صنيعها وأرشادها وانطلق بها صوب الهيكل. . فأوقدها وغرسها في الحوض الرملي الواسع كما أشارت عليه أمه. . وجثا على الروض(929/55)
المعشوشب. . وأخذ يبتهل إلى ربه ويناجيه بقلب محطم. . بينما كانت الدموع قد أخذت سبيلها إلى الانطلاق. الهي. . . لقد ماتت حبيبتي. . وغادرتني بعد ما سلبت مني السعادة والهناء. . فتركتني في دنيا مظلمة. .
إلهي. . . ماتت حبيبتي جريتش وخلفت في قلبي جرحا عميقا يأبى أن يندمل. . فباسمك يا الهي. . . أصنع المعجزة واشف قلبي الجريح. . وخذني حيث هي الآن. . . أشفني رحمة بأمي المسكينة. . لا رحمة بنفسي يا الله. . .
واستغرق في صلاته فترة. . . بينما كانت الأم من ورائه تتمتم: لا بد من المعجزة. . لا بد أن تجد السعادة يا وحيدي. .
وقفل ولهلم وأمه إلى البيت؛ وما ولج الباب حتى أسرع إلى سريره واستلقى فوقه ينشد السكون والراحة وينتظر المعجزة. . ولحقت به أمه، ودنت منه، وانحنت عليه، فإنتقض ولهلم في هذه اللحظة في سريره ومد ذراعيه إلى أمه ثم صاح في نشوة جذلي. وفرحة جنونية: لقد وقعت المعجزة يا أماه. . الآن أرى حبيبتي جريتش! هاهي قد لفت ذراعها حول عنقي. . . إنها تناديني لأرافقها إلى فردوسها العلوي. . . الوداع يا أماه. . . أنا الآن مرتاح مع حبيبتي جريتش. . . لقد وقعت المعجزة. . فلا تحزني علي. . ولا تذرفي الدمع. .
ورفت أهدابه كجناح طير. . وأسبل عينيه. . وصعدت روحه إلى بارئها لتستقر في جنة السعادة والهناء مع حبيبته جريتش. . .
دمشق
عبد اللطيف حسين الأرناؤوط(929/56)
العدد 930 - بتاريخ: 30 - 04 - 1951(/)
قاسم أمين
أول ديسمبر سنة 1863ـ23 أبريل سنة 1908
بمناسبة ذكراه السنوية
في مثل هذا اليوم من عام ثمانية وتسعمائة ألف انتقل إلى دار البقاء المصلح العظيم قاسم أمين بعد أن قضى في هذه الحياة أربعا وأربعين سنة يستعد للكمال النفسي الذي تهيأ له بفطرته، ويدعو إلى الكمال الإنساني الذي اتجه إليه بفكرته. وكانت الفترة التي نشأ فيها بعد هزيمة المصريين وانتصار المحتلين أشبه شيء بالفترة التي تأخذ من أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيها الخدر والبرد والجدب، ولكن فيها أطرافا من الحس والدفء والخصوبة؛ فالشعب كان يعاني من عواقب الأزمان السود التي أتت عليه، ومن رواسب الأجناس السوء التي عاثت فيه، ألونا من الجهل والذل والفوضى جعلته يستكين لعوامل الفساد في الخلق والعقيدة والثقافة والمجتمع. فالحكم أهواء وشيع، والدين أوهام وبدع، والعلم قشور ومسخ، الأدب تقليد وزخرف، والرجال آلات للعمل والإنتاج، والنساء إماء للخدمة والمتاع، والسلطان المحتل يصرّف أمورنا على مشيئته، والمال الأجنبي يستغل مواردنا لمنفعته. وكانت البراعم التي بكرت إليها حياة الربيع فتفتحت عن الشعور والوعي تتمثل في الرواد الأولين: جمال الدين، محمد عبده، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، فشعروا أول الناس بالأدواء التي قعدت بالأمة عن النهوض، فجاهد كل منهم وقاد في الميدان الذي خلق له وظهر فيه.
ومما عمق فيهم هذا الشعور وقواه، نبوغ أكثرهم في القانون والأدب، وتفوق بعضهم في الدين والفلسفة، وأخذهم بنصبه من ثقافة الغرب، واتصالهم بأقطاب الفكر في فرنسا وإنجلترا، ووقوفهم على تلك الحملة المنكرة التي شنها أبالسة الاستعمار على مصر والعرب وإسلام، فنهض جمال الدين لإرنست رينان، ومحمد عبده لهانوتو، وقاسم أمين لدوق داركور، فدافعوا بالحجج الملزمة ما لفقوا من أباطيل أنكروا من حقائق. فلما بلغوا المآخذ التي أخذها الخصوم علينا بالحق، حملهم الإباء القومي على أن يأخذوا عليهم أشباهها في مجتمعاتهم ومعتقداتهم، كالمقابلة بين تعدد الزوجات هنا، وتعدد الخليلات هناك. ولكن هذا الإباء القومي نفسه حملهم كذلك على النظر في تطهير الشرق من هذه المآخذ، بتصحيح(930/1)
الزائف، وتقويم المعوج، وتقيد المطلق، فمضى كل زعيم يتحرى وجوه الإصلاح والتحرير في الوطن، أو في الدين، أو في الفكر، أو في الأدب، أو في القضاء، أو في الرجل، أو في المرآة، على حسب استعداده وطبيعة نفسه.
كانت رسالة قاسم إصلاح المجتمع في نواحيه المختلفة. وما كان في خلقه ولا في طوقه أن تكون رسالته غير ذلك. كان حي الوجه، يحتشم إذا لاقى، ويفضي إذا حدّث، ويعفو إذا جادل. وكان عطوف القلب، يدين بالصداقة، ويتخلق بالرحمة، ويواصل بالمودة. وكان رقيق الشعور، يكلف بالأدب، ويطرب للغناء، ويعجب بالجمال. وكان عصبي المزاج، ينفعل انفعال الفنان، وينبسط انبساط المؤمن، وينقبض انقباض الناسك، وكان محببا إليه العشرة، يخالط كل طبقة، ويسبر كل حالة، ويرقب كل حادث. وكان واسع المعرفة والخبرة؛ يتقصى طبائع الشعوب، ويدرس أحوال الأمم، ويتعرف دخائل النفوس. وهذه هي جل الصفات التي يجب أن تكون في المصلح الاجتماعي ليكون بينه وبين مجتمعه تجاوب في الشعور والفكر.
عني قاسم رضوان الله عليه بإصلاح المجتمع المصري وهو في سن العشرين منذ قرأ كتاب داركور ورد عليه في عام 1894، فكتب في جريدة المؤيد تسع عشر مقالة أكثرها بعنوان (أسباب ونتائج) وبعضها بعنوان (حكم ومواعظ) عالج فيها أدواء المصريين في الاقتصاد والوقف والتربية والتعليم والأسرة والوظيفة علاجا لا يزال المصلحون يصفونه ويكررونه، لأنه جمع أكثر العناصر الفعالة في حسم الداء وبرء المرض. وقلما نجد كاتبا يعرض اليوم لهذه المسائل ولا يقع على خطاه، أو يوافق على ما أرتاه.
كان هذا المفكر العظيم يكتب عن إيمان وصدق. لا يكتب رغبة في الكتابة، ولا ينشر طمعا في الشهرة؛ إنما كان ينشر مقالته في الصحف من غير إمضاء، ويرسل فكرته في الناس من غير ضوضاء، ثم لا يعنيه إلا أن يراها تصيب الغرض الذي قصده، وتحدث الأثر الذي أراده.
وكان صاحب رأي وعزيمة، يقول ويفعل، ويفكر ويدبر. فإذا قرأنا رأيه في كتابين قيمين: تحرير المرأة والمرأة الجديدة، فقد رأينا عزمه في عملين عظيمين: الجمعية الخيرية الإسلامية، والجامعة المصرية.(930/2)
وكان ينفذ ببصره وفكره إلى طوايا المجتمع فيرى بقوة لحظة وحدة ذهنه دقائق وتفاصيل لا يدركها النظر العادي. ومزية الكاتب الموهوب أن يرينا ما لم نر، ويقفنا على ما لم نعلم، ويصور لنا ما لم نتصور، وفي كلمات قاسم أمين المنشورة آيات من الحوار والتصوير مثل بهما طرفا من نقائص العصر تمثيلا دل على ملكه أصيلة في الأدب، وقريحة سخية في الكتابة. نقرأ له مثلا هذا الحوار القصير:
سئل ح. بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟
فأجاب: رديء!
- هل قرأته؟
- لا!
- أما يجب أن تقرأه قبل أن تحكم عليه؟
- ما قرأت ولا أقرأ كتابا يخالف رأيي!
وتقرأ له هذه الصورة الناطقة لجنازة من جنائز العامة:
(هؤلاء الفقهاء الذين يجرّ بعضهم بعضا، وليس فيهم إلا الأعمى والأعرج والأعور، يمشون بسرعة غير منتظمة، لابسين ثياب قذرة، صائحين بأصوات مزعجة، كلمات تخرج من حناجر مختلفة بنغمات شنيعة؛ وهذا النعش المحمول يتخبط فيه الميت، ويلتفت تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة الشمال؛ وهؤلاء النسوة اللاتي صبغن أيديهن ووجوههن، وعفرن بالتراب روؤسهن، يمشين وراء النعش مشيرات بالمناديل إليه إشارات مروعة مصحوبة بألفاظ مرتلة! ما هذا كله؟ أمجمع مجانين، أم نفر بهم مس من الشياطين؟ ألعوبة أطفال، أم معرض كرنفال؟).
نقرأ ذلك الحوار، ثم نقرأ هذه الصورة، فنعتقد أن لو مدّ الله في أجل قاسم لعالج عيوب المجتمع بالرواية كما فعل (مولير)، أو بالصورة كما صنع (لابرويير). والأدب العالي والأسلوب البليغ أخص صفات المصلح وأقوى أدوات الإصلاح؛ وحظ قاسم منهما كان موفورا. وكما يتعهد الجندي سلاحه، كان قاسم يتعهد اللغة والأدب، فرأى في أصالة الأسلوب، واستعمال المترادف، ومعضلة الكتابة العربية، ومشكلة اللغة العامية، وصعوبة الإعراب، وفتح باب الاجتهاد في اللغة، آراء لم تجري على بالنا إلا اليوم! والصفحات(930/3)
الستون التي جمعت (كلمات قاسم أمين) الموجزة في الأدب والاجتماع، أمثلة خالدة من عمق التصور ودقة التصوير.
نعم! عني قاسم أمين بإصلاح المجتمع المصري في خلقه وعاداته، ونظمه واقتصادياته، وتربيته وتعليمه، ولغته وأدبه، ولكنه رأى أن علة العلل في فساده هي حال المرأة. والمرأة قوام الأسرة، والأسرة نواة الأمة؛ فإذا صلحت المرأة صلح الرجل، وإذا صلح الرجل صلح المجتمع. والنساء نصف الشعب الذي يربي نصفه الآخر؛ فإذا ظللن محجوبات جاهلات متعطلات، ظل المجتمع ريضا لفقدانه تثقيف الأمومة، غليظا لحرمانه تلطيف الأنوثة. يعمل بيد واحدة لأن الأخرى شلاء، ويمشى على قدم واحدة لأن الأخرى عرجاء. وكانت المرأة في عهد قاسم شيء لا يذكر، وإذا ذكر لا ينظر؛ إنما كانت حبيسة المنزل، تضرب عليها الحجب، وتبث حولها العيون، وتقضى من دونها الأمور، وينظر إليها الزوج نظرة إلى الفراش الملقى، فلا يؤكلها على مائدة، ولا يجالسها في بهو، ولا يماشيها في شارع، ولا يشاورها في شأن، ولا يذكر اسمها إلا مكنيا عنه بالبيت أو الأولاد أو الجماعة. وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل، وساء خلقها لفقد الحرية، وضعف تفكيرها لترك التدبير، وغفل ضميرها لعدم المسؤولية، فلم تفكر إلا في حللها وحليها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها. لقد كانت خارجة عن دنيا الناس، (فلم يبقى لها من الكون - كما قال قاسم في كتابه (تحرير المرأة) - إلا ما استتر من زوايا المنازل. واختصت بالجهل والتحجب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعا للذة، يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطريق متى شاء. له الحرية ولها الرق. له العلم ولها الجهل. له العقل ولها البله. له الضياء والفضاء ولها الظلمة والسجن. له الأمر والنهي وعليها الطاعة والصبر. له كل شيء في الوجود، وهي بعض ذلك الكل الذي استولى عليه).
بذلك تأثر قاسم، وفي ذلك جاهد قاسم. فعرض القضية على وجوه المعقول والمنقول، فلم يجد لاستعباد المرأة حجة إلا استبداد الرجل، فجاءه من طريق الدين والمروءة والمصلحة وفي يديه كتاباه: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، يزيف بها حجته، ويخفف غروره. وكان لابد لمن يخالف المألوف ويعارض الموروث ويصادم الواقع أن يلقى ملقيه المرسلون والمصلحون من عنت الجدل ولدد الخصومة. ولكن محرر المرأة كان قوي الإيمان برأيه،(930/4)
شديد الإخلاص في سعيه، فلم يهن لما أصابه في سبيل الحق ولم يستكن. وإنما بذرة البزرة في وسط العواصف الهوج والسحب المرعدة، ثم تركها في ذمة الطبيعة والزمن، وظن الرجل العنيد على هذه البزرة بالغذاء والري، حتى أدركها غوث الله، فانتشر التعليم، وانتعشت الحرية، واتصل الجيل الجديد بالمدنية الغربية، فرأى فيما رأى أن المرأة في المجتمع الأوربي هي روحه ونشاطه وجماله وصقاله ووحيه، فاستشعر للمصرية الاحترام، عن تقليد في الأكثر، وعن اعتقاد في الأقل؛ ولكنه وقف من قضيتها موقف المشاهد المحايد لا يمر ولا يحلي. وكانت صفوة من كرائم السيدات قد تحررن، بكرم النسب، أو بسلطان المال، أو بقوة العلم، فأقبلن على بزرة قاسم يتعهدنها بالسقي حتى أزهرت، وعلى شعلته يمددنها بالزيت حتى أسفرت. وفي ظل هذه الشجرة، وعلى ضوء هذه الشعلة، تألف (الاتحاد النسائي)، فكان في النهضة الحديثة قوة عاملة ظهر أثرها في التشريع والتعليم والمواساة.
وقويت المرأة المصرية بتقدم المدنية وشيوع الثقافة، فحلت قضيتها بنفسها على الرغم من معارضة الرجل.
كان الرجل يأنف أن يشرك امرأته أو يشاورها في شأن من شؤون عمله أو منزله؛ فأصبحت اليوم ولها من القوة ما تسيطر به عليه: فهي تدبر له العيش، وتحدد له السلوك، وتختار له الصديق، وتنتقي له الثوب، وهو لا يسعه إلا أن يلازم ويتابع، فلا ينفرد إلا بأذنها، ولا يغيب الابعلمها، ولا يتقدم عليها في ترتيب، ولا يفصل من دونها في خلاف، ولا يتعدى في مناقشة الميزانية المنزلية حدود الإيراد.
وكان الرجل يمنع امرأته من أن تخرج، فأصبحت اليوم ولها من السلطان ما تمنعه به إذا شاءت من أن يدخل.
وكان الرجل يرفض أن تتعلم المرأة الكتابة مخافة أن تتصل عن طريقها بالخارج، فأصبحت اليوم ولها من الثقافة ما تنافس به الرجل في المحاماة والطب والأدب والصحافة.
وكان الرجل يأبى على زوجته أن تسفر عن وجهها في الطريق، فأصبحت اليوم ولها من الحرية ما تسفر به عن جسمها على الشاطئ.
وكان الرجل يكره المرأة أن تقرع باب الصالون على ضيوفه، فأصبحت اليوم ولها من(930/5)
الجرأة ما تقتحم به سور البرلمان على نوابه!
وهكذا ترعرع غرس قاسم، وأضاءت شعلة قاسم: ولكن دعوته أسرعت في طريق وأبطأت في طريق: أسرعت في الحرية والسفور حتى كادت تخرج عن الحد، وأبطأت في تضييق الزواج وتقييد الطلاق حتى كادت تنقطع عن السير. والعجيب أن المطلبين اللذين نجحا كانا مثار الخلاف والسخط، والمطلبين اللذين فشلا كانا موضع الوفاق والرضا. والعلة في السرعة أو النجاح هنا، وفي البطء أو الفشل هناك، أن الحرية والسفور أمرهما بيد المرأة، وأن تضيق الزواج وتقييد الطلاق أمرهما بيد الرجل!
سيداتي أعضاء الاتحاد النسائي!
إنكن تحتفلن اليوم بذكرى وفاة قاسم أمين، وإنه لوفاء منكن أن تمجدن ذكرى رجل قضي خمسا وعشرين سنة من عمره القصير، يسعى لكن، ويدافع عنكن، ويحتمل الأذى في سبيل أن يعترف الرجال بحقكن في الحياة ومكانكن من الوجود. ولم ينصرف إلى جوار الله إلا بعد أن رسم لكن خطة الجهاد، ووضع لكن دستور هذا الاتحاد. ولكن أجمل الوفاء أن تتبعن الطريق الذي نهجه، وتنفذون الدستور الذي وضعه. كان قاسم يطلب لكن الحرية من غير شطط، والسفور من غير تبرج، والاختلاط من غير ريبة، وممارسة الحقوق في نطاق الواجب، ومزاولة الأعمال في حدود التخصص. وإن كتبه لتشهد على أنه لم يطلب لكن شيئا يناقض الدين، أو يعارض الخلق، أو يجافي التقاليد، والسيدة زوجه، وهي من أفهم الناس لدعوته، وأعلمهم بنيته، تقول في حديث لها: إن فتيات هذا الجيل قد أسأن فهم هذه الدعوة وتجاوزن مداها؛ فإن قاسما لم يدع إلا إلى السفور الشرعي والاختلاط المقيد. وإنه ليحزنني أن يحمله الناس أوزار هذه الحال. وأعتقد أنه لو كان حيا لرأى في تبرج الفتاة فسوقا عن دعوته وزيغا عن سبيله.
فأنتن يا سيداتي خليقات أن تنقين مبادئ قاسم من شوائب الهوى والغي. وإنكن لتعلمن أن جوهر هذه المبادئ قيام الأمر بين الزوجين على المودة والرحمة، وبين المتعاملين على الصداقة والتعاون، وبين المواطنين على الدين والخلق؛ وأن التربية والتعليم والسياسة والحكم يجب أن تصدر عن هذا المبدأ وتتوافى عند هذه الغاية. والناس يقولون إن المرأة وهي معنى الوئام والحب في الأمة، أصبحت عاملا من عوامل التنافر والفرقة في الأسرة؛(930/6)
وإن أسباب الطلاق بعد أن كانت تعزى إلى استبداد الزوج، أصبحت تعزى في الغالب إلى استهتار الزوجة. وقد زعم المحصون أن عدد المطلقات بلغ في بعض السنين الأخيرة خمسة وسبعين ألفا خرجن من دار الزوجية لأسباب يسأل الرجل عن أكثرها في بيئة العامة، وتسأل المرأة عنها كلها في بيئة الأوساط والخاصة. فعالجن يا سيداتي الزعيمات جموح الفتاة كما عالج زعيمكن العظيم عناد الفتى. واحملن المرأة الجديدة على أن تذكر الواجب حين تذكر الحق، وأن تفكر في الكون العام حين تفكر في الكون الخاص. سدد الله خطاكن في الطريق القويم، وأكرم مثوى المصلح العظيم في دار النعيم!
أحمد حسن الزيات(930/7)
في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
تشديد الصحابة في قبول الأخبار:
كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم يتقون - كما علمت - كثرة الحديث عن النبي (ص) بل كانوا يرغبون عن رواية أحاديثه، إذ كانوا يعلمون أن النبي (ص) قد نهى عن كتابة حديثه وأنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي على وجهه الصحيح، لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، ولا تستطيع أن تحافظ على ما يبقى منه فيها على أصله، - مهما تحرى الإنسان الضبط - وأنهم إذا حدثوا بما سمعوا على وجهه، وكانت الذاكرة قد أمسكته وحافظت عليه كما هو، لم يأمنوا من يسمع منهم أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص، أو الغلط أو التبديل أو التحريف، إما لعدم ضبط الذاكرة أو لسوء الفهم أو لغير ذلك، وهم بما حملوا من أصول الدين وفروعه كاملا عن رسول الله ما كانوا ليرضوا بما رضى به بعضهم ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم من (رواية الحديث بالمعنى) لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغير المعنى، وأحاديث الرسول ليست كأحاديث غيره، وإنما هي أحكام أو بيان للأحكام. والحكم - وبخاصة في الحلال والحرام إنما يكون بنص قاطع وخبر متوارد قد جاء على حقيقته بلفظه ومعناه.
وقد بلغ من تحرجهم في رواية الحديث أنهم كانوا يتشددون في قبول الرواية من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة على انه سمعه من الرسول (ص) وقد وضع بعمله هذا - أول شروط علم الرواية - وهو شرط الإسناد الصحيح، قال الذهبي في ترجمته (إنه أول من احتاط في قبول الأخبار).
روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئا؛ ثم سأل الناس. فقام المغيرة فقال: كان رسول الله يعطيهم السدس. فقال: هل معك أحد يشهد! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر. هذا هو عمل أبي بكر، أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطا وتثبتا.
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (وكان عمر شديدا على من أكثر الرواية أو أتى(930/8)
بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلّوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب في المنافق والفاجر والأعرابي).
وقال الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمته:
(وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب)
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور! فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت! قال (عمر) ما منعك؟ قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت! وقال رسول الله (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه بينة - زاد مسلم - وإلا أرجعتك - وفي رواية ثالثة فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا! أمنكم أحد سمعه من النبي؟ فقال أبي ابن كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك، فانظر كيف عمر تشدد في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وقدر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في حلال أو حرام! أو في أي شيء في أصول الدين أو فروعه.
وقد استند إلى هذه القضية من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد، واستدل بها من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره - كما في الشهادة.
وقال ابن بطال: يؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه في السهو وغيره.
وقد رأيت من قبل ما فعله عمر مع أبي هريرة وغيره. ولم تكثر أحاديث أبي هريرة إلا بعد وفاة عمر، فقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة - وقلت له - أكنت تحدث - في زمان عمر هكذا؟ قال:
لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته، وفي رواية: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر - أو عند عمر - لشج رأسي!
وعن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله، حتى قبض عمر.
وعن الزهري: أن أبا هريرة كان يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي! أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن(930/9)
كلام الله.
ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له:
إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك.
ولم يتمكن أبو هريرة من الاتساع في الرواية إلا لأن الخلفاء الذين جاءوا بعد عمر لم يتشددوا كما تشدد عمر، ومن ثم استفاضت الرواية وتوسع الناس فيها، ودخلها ما دخلها مما لا تزال - ولن تزال - باقية باستمساك الحشوية بها.
المنصورة
(للكلام صلة)
محمود أبو رية(930/10)
مصر واليونان
(مهداة إلى معالي الدكتور طه حسين باشا)
للأستاذ إبراهيم الترزي
كان لتلك الدعوة الكريمة التي وجهتها اليونان إلى معالي الدكتور طه حسين باشا لمنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة (أثينا)، وكان للحفاوة البالغة التي استقبلته بها ملكا وحكومة وشعبا، أثر جميل خفق له قلب مصر، وجدد لها ذكرى صلتها الثقافية القديمة باليونان. . .
وكان ذلك التكريم الرائع الذي أحاط بمعالي الدكتور العظيم، شعورا نبيلا بجميل مصر على اليونان، وحنينا إلى تلك الصلة القوية التي ربطة هاتين الأمتين العظيمتين في غابر الأزمان!
ويحسن بنا - في هذه المناسبة - أن نذكر شيئا عن هذه الصلة الثقافية العريقة، وأن نشير إلى آثار مصر في نهضة اليونان الفكرية قديما. . . فقد تمخضت هذه الصلة عن مدينة عظيمة أيقظت الفكر الإنساني، ومنحته تراثا لا يزال حيا زاهرا إلى اليوم.
مما لا شك فيه أن صلة مصر باليونان قديمة ترجع تقريبا إلى الألف الثالث قبل الميلاد، فقد كانت مصر على أوثق اتصال بجزيرة (كريت) في ذلك العهد القديم، وقد تأثرت هذه بحضارة مصر وأخذت عنها الكثير من فنونها التي انتقلت فيما بعد إلى داخل بلاد اليونان. والتاريخ يذكر لنا أن الكريتيين خضعوا قديما للسيادة المصرية، وقد تأيد هذا بالعثور على طبق من الذهب محلى بالنقوش كان (تحتمس الثالث) قد أهداه إلى قائد من قواده عينه حاكما على (كريت) وغيرها من الجزر المجاورة لها.
وها هو ذا الأستاذ (ماسون أورسيل) يقرر تلك الصلة القديمة قائلا: (عندما انتقل أثر كريت إلى بلاد اليونان الداخلية في خلال النصف الأول من الألف الثاني ق. م أدخل معه ثمرات دلتا النيل، إذ كانت جزيرة كريت متصل اتصالا وثيقا بمصر منذ الألف الثالث ق. م. . ولقد اشترك الكريتيون بالثقافة المصرية كما يستدل من خطهم المؤلف إلى حد كبير من حروف هيروغليفية، وهذا جعلهم يصطبغون بصبغة الثقافة المصرية سواء في ميسين أم أيونيا).
وإن التأريخ يذكر لنا أنه كانت لليونانيين بمصر - في الزمن القديم - منطقة خاصة بهم(930/11)
في شمال الدلتا، وكانوا يتمتعون بامتيازات كثيرة تحبب لهم البقاء في مصر.
ومما لا شك فيه أيضا أن اليونان قد استفادت أجل الفوائد من هذه الصلة التي أحيت فكرها، وغذته بلبان المعرفة، وربته حتى شب، وتحرر وانطلق إلى سماء المعرفة يحلق في آفاقها الفسيحة الممتدة، ويتجاوب مع أسرار الكون، ويفيض بنوره على العالمين.
والواقع أن اليونان قد حملت من مصر اللبنات التي أسست بها صرح مدنيتها الشاهقة، وإن الآثار التي يكتشفها الباحثون في أرض مصر الخصبة بالأفكار والحضارة تؤكد هذا. . . فليس خافيا أن مصر أعرق حضارة، وأقدم مدينة من اليونان. . . وقد اكتشف عالم فرنسي خلف الهرم الغربي جثة موظف من عهد الدولة الأولى وجدت على تابوته تلك العبارة (هذه جثة الحارس الأكبر لدار الكتب الملكية) وقد علق الأستاذ (ماسبيرو) على هذا بقوله: إن هذه المكتبة التي كان هذا الموظف الكبير مديرها أو حارسها كانت تحوي بين جدرانها كثيراً من الكتب في الأدب والفلسفة والأخلاق والتأريخ والاجتماع والقانون والسياسة والطب والحساب والهندسة والفلك والسحر والتنجيم. وإن هذا يؤكد لنا أنه قد سبقت هذه الدولة الفرعونية الأولى بأمد طويل حياة حافلة بشتى المعارف والعلوم. . . وإن هذا أيضا يجعلنا نستحث علماء الآثار والباحثين لكي يستجيبوا للنداء الحار المنبعث من أوراق البردي وغيرها من الآثار الراقدة في المتاحف وفي جوف الثرى. . ذلك النداء الملح الذي يدعوهم لبعثتها وإحياء ما فيها من أفكار ومعارف وليس أدلة على قوة الروح العلمية التي كانت سائدة في مصر من هذه المدارس التي كانت منتشرة في أنحائها، تحفل بشتى المعارف والعلوم) فقد كان المصريون يحبون العلم، ويحضون أبناءهم عليه، ويرونه أشرف مطلب للإنسان في الحياة. . . وكانت لهم مدارس تعلم القراءة والكتابة والحساب والهندسة والطب والفلك والنحت والتصوير والموسيقى وغير ذلك من العلوم والفنون، وكانت مدارسهم هذه منتشرة في كل إقليم، وكانت في الغالب ملحقة بالمعابد. ومن مدارسهم الكبيرة التي اشتهر ذكرها، والتي يمكن أن تسمى في التعبير الحديث جامعات، مدرسة هليوبوليس (أون)، ومدرسة ساييس (ضا الحجر) ومدرسة هرموبوليس (خمينو أو أشمون) ومدرسة طيبة، ومدرسة أبيدوس (العرابة المدفونة) ومدارس أخرى مختلفة.
ولا شك أن كثيرا من مفكري اليونان قد تتلمذ في هذه المدارس على أساتذة مصريين ونهل(930/12)
من معارفهم مما كان له أكبر الأثر في علومهم وفلسفاتهم التي غزت العالم أجمع. يؤكد هذا المؤلفون اليونانيون أنفسهم إذ يقولون: (إن العلوم كانت مجهولة كل الجهل لدى اليونانيين حتى ملك أبسمانيك عرش مصر وفتح أبواب بلاده للأجانب بعد طول إقفالها، فتقاطر إلى وادي النيل الملاحون والتجار والسياح من اليونان، فبهرتهم المدنية المصرية، وكانوا على كثير من البربرية فاعتزم أولو الفهم منهم تعلم ما ينقصهم في مدارس الكهنة بمصر. . . وكذلك جاء طاليس وسولون وأفلاطون وفيثاغورس فحصلوا ما خلد أسماءهم في بطون التواريخ، ومعروف أن فيثاغورس وحده قضى بمدارس ممفيس وطيبة عشرين سنة).
إن أول فيلسوف يوناني - وهو طاليس - قد حج إلى مصر وبهرته حضارتها ومعارفها لدرجة أنه أوصى (فيثاغورس) بزيارتها! وأثر مصر في (طاليس) واضح بين يظهر في مذهبه القائل بأن أصل الكون هو الماء، فقد تأثر فيه بأسطورة مصرية تقول إن الماء قد وجد قبل أن يوجد شيء في الكون لأنه العنصر الأول المشتمل على جميع عناصر الموجودات.
وفيثاغورس صاحب الفلسفة العريضة العميقة قد تأثر أيضا بمصر فقد قضى فيها - كما يذكر المؤرخون - عشرين عاما ينهل من معارفها وعلومها، وأخذ عنها نظريتي خلود الروح وتناسخ الأرواح كما يشير إلى ذلك الأستاذ (ليجران) في تعليقه على (هيرودوت) حينما ذكر الأخير في الفقرة رقم 123 أن المصريين أول من قالوا بخلود الروح، ثم أشار إلى قولهم بتناسخ الأرواح وقال: (ومن اليونانيين من نقلوا هذه النظرية بعضهم قديما وبعضهم حديثا وظهروا بها في اليونان كأنها نظريتهم وكأنهم هم الذين وضعوها، وأنا أعرف أسماء هؤلاء الذين فعلوا هذا ولكني لا أذكرها). يعلق (ليجران) مترجم هيرودوت على هذا بقوله: وهؤلاء الذين أبى هيرودوت أن يذكر أسماءهم هم الأورفيون وفيريسيد وفيثاغورس وأمبيدوكل). ويطيب لي هنا أن أذكر تعليق المرحوم عبد القادر حمزة باشا على قول هيرودوت هذا إذ يقول: وهذا هو الذي يفسر لنا هذه الظاهرة الغريبة. . . وهي أن كثير من العلماء اليونانيين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بمدارسها ثم عادوا إلى بلادهم وكتبوا مؤلفاتهم لم يقل واحد منهم إنه اقتبس منها علما أو فنا). والواقع أن قول هيرودوت قد كشف لنا عن حقيقة هامة يجب أن يوليها الباحثون عناية فائقة، فإنه من(930/13)
الجائز أن يفعل مفكرون يونانيون غير من عرفهم هيرودوت هذه الفعلة إزاء نظريات أخرى، فعليهم أن يعنوا بالكشف عن الآثار ودراستها، فلعلهم واصلون إلى أدلة أقوى من التي بأيدينا. الآن مما يزيدنا يقينا بقوة الصلة بين مصر واليونان، فإن المؤلفين الغربيين والشرقيين لم يتأكدوا من آثار مصر في اليونان، بل إن بعضهم لم يذكرها ولم يشر إليها إلا بعد أن ظهرت هذه المكتشفات العظيمة التي أكدت قوة هذه الصلة وعمقها.
نعود إلى فيثاغورس وجماعته فنقول إن الفيثاغوريين قد تأثروا أيضا بكتاب الموتى فقد اكتشف الباحثون أنهم كانوا يضعون في قبور موتاهم صفائح ذهبية رسمت عليها الطرق التي يجب على الروح أن تسلكها بعد الموت وكتبت عليها الصلوات التي تتلوها. . مما يشبه ما جاء في كتاب الموتى!
أما (ديمو كريت) فيلسوف الذرة (فقد كان من أهم الأسفار التي أثرت في حياته العلمية إقامته بمصر التي يحدثنا هو أنها استغرقت خمسة أعوام كاملة قضاها كلها في تلقي علم الهندسة على علماء وادي النيل) كما يصرح بذلك الأستاذ (جانيه).
(وأفلاطون) أيضا قد زار مصر، واتصل بعلمائها، وتأثر بهم، فقد قال العالم شمبوليون: (تعلم فيثاغورس بمصر كل ما استطاع معرفته، وتعلم بها أيضا سولون وطاليس كل ما علماه لليونانيين، ومعروفة لدينا أسماء الأساتذة الذين تلقى عنهم أفلاطون علمه بمصر في مدرسة هليوبوليس).
أما الأستاذ (جول بابي) فإنه بعد أن يذكر أن فيثاغورس قد وضع نظريته في تناسخ الأرواح اقتباسا من مصر، يحدثنا بأن أفلاطون أيضا قد أخذ كثيرا من مصر، ثم بعد أن يعدد ما أخذه ذلك الفيلسوف العظيم عنها ويبين أثر ذلك في فلسفته يختتم كلمته قائلا: (وهذا كله مأخوذ من مصر، وكان من الضروري أن تجد الفلسفة الأفلاطونية - والأفلاطونية الحديثة - تربة صالحة لهما في مصر لأن جذورهما مصرية). ويذكر أيضا (جول بابي) أن كثير من مفكري اليونان قد زار مصر وتأثر بمعارفها، فإنه بعد أن يشير إلى ما اقتبسه اليونانيون من المصريين في مصير الإنسان بعد موته، وبعد أن يقرر أن المصريين هم أساتذة العالم في هذا الموضوع يقول: (وكان كثير من اليونانيين المشهورين يفتخرون بأنهم ساحوا في مصر، وكان تلاميذ هؤلاء العلماء والمعجبون بهم يرون شرفا لهم أن يكونوا قد(930/14)
تنقلوا في مصر، فمن الشعراء مثلا هومير وأورفي وموزي وميلامب، ومن المشرعين ليكورج وصولون، ومن المؤرخين هيكاتي وهيرودوت وهيلانيكوس، ومن الفلاسفة والعلماء طاليس وفيثاغورس وكزينوفون وديموقريت وإيدوكس وإبنوبيد وأفلاطون).
وإن الأستاذ (ماسون أورسيل) قد قرر بعض آثار مصر في اليونان حين عرض للصلة التي كانت قائمة بينهما بقوله: (وأهم ما أخذته العقلية الإغريقية عن مصر هو الهندسة التي تعد النموذج الأصيل للمعرفة حسب مذهب أفلاطون) ثم يذكر أن مقاييس المسطحات والمكعبات كانت دقيقة إلى أقصى حد عند قدماء المصريين، ويشير إلى نضوج علم الحساب لديهم ذاكرا أن حساب الكسور كان يعد أهم شيء في هذا العلم، ويذكر أيضا أن حل المعادلات الرياضية كان من الأمور اليسيرة عندهم إلى أن يقول: (وكل هذه المعارف والعلوم قد أخذها اليونانيون عن قدماء المصريين بما في ذلك خيط البناء والساعة الشمسية وساعة الماء ثم يستطرد قائلا: (وكان علم الفلك موضع ملاحظات منظمة ومتوالية فقد جعلت السنة 365 يوما وربع يوم مقسمة إلى اثني عشر شهرا، وكان الأسبوع سبعة أيام مسماة بأسماء الكواكب السيارة السبعة، واليوم مكونا من اثنتي عشرة ساعة نهارية ومثلها ليلية. . . وفكرة البروج وشكل الكون الكروي، وكروية الشمس والقمر لا الأرض التي كانت تعد حلقة مستوية ممنطقة بالمحيط، وطبيعة النجوم النارية، وشرح الخسوف والكسوف. . .) الخ (وكل هذه المعارف والأفكار قد أخذه اليونانيون - إما قضية مسلمة وإما موضعا للنظر والبحث - عن قدماء المصريين. . . وإليهم أيضا يمكن أن تنسب نظرية العناصر الأربعة في الطبيعة مع فكرة أن الماء هو العامل الأساسي).
ولقد تأثرت اليونان أيضا بالديانة المصرية القديمة التي يجمع الباحثون على أنها أول ديانة بشرية في الوجود، وأكبر مثل على هذا التأثير انتشار عبادة (إيزيس) في اليونان، وتشييد معابدها على الطراز المصري، والتعبد فيها بطقوس شبيهة بالطقوس المصرية، حتى أن بلوطرك اليوناني ألف كتابا عن (إيزيس وأوزريس)، ومما جاء فيه قوله: إن (هذا الشعب (يريد الشعب المصري) لم يكن كما يتوهمه بعضهم يدخل في حفلاته الدينية أي مبدأ غير معقول ولا أي عنصر يوعز به الوهم أو توعز فيه الوسوسة، وإنما كانت عاداته تقوم على ما في إتباع هذه العادات نفسها من الفوائد أو على الافتتان في تسجيل ذكريات تاريخية(930/15)
قديمة أو على إيضاح نواميس طبيعية). (الفقرة 8 من كتاب من الترجمة الفرنسية المطبوعة سنة 1924) ثم يستطرد بلوطرك بعد ذلك إلى أسطورة (إبزيس وأوزريس) فيقول: (إنها إحدى العقائد المستورة تحت ستار قصص وكتابات لا يظهر من خلالها إلا أثر قليل من الحقيقة المقصودة).
ومما لاشك فيه أن القوانين المصرية قد أثرت في القوانين اليونانية، بل امتدت إلى آثارها إلى القوانين الرومانية وبخاصة قانونها المسمى (قانون الألواح الأثنى عشر) (والقانون الروماني) الذي اقتبست منه أوربا قوانينها الحديثة.
ومن الواضح الجلي أيضا أن اليونان قد تأثرت في فنونها إلى حد كبير بالفنون المصرية، فإن الباحث يرى كثيرا من الملامح المصرية فيما خلفته اليونان من تراث فني خالد!
وجميع ما تقدم يكشف لنا عن الجذور المتأصلة القوية التي ربطت الثقافة اليونانية بالثقافة المصرية في الزمن القديم، ويبين مدى عمق هذه الصلة العريقة التي تفاعلت فيها الثقافتان إلى حد جعل الدكتور (غوستاف لوبون) يقول: (ولا نعلم تفصيلات ما تلقاه الإغريق عن المصريين ولكننا ندرك أنها معظم المعارف التي تضمنتها كتبهم، إذ لم يكن لهم من قبل كتب ولا علوم ذات شأن. . وما تقدم يدلنا أيضا على أن أصول العلم نهاية في القدم، فليس الإغريق هم الأصل ما داموا قد تلقوا العلم عن المصريين وتقدمهم هؤلاء بآلاف السنين، وعلى هذا يصح لنا القول بأن العلم كالمدنية صرح واحد تعمل في بنائه الأمم على التوالي، واحدة وراء أخرى، فإذا تقرر هذا صح أيضا أن نبحث عن مبلغ علوم المصريين في تأليف الإغريق الذين عاصرهم مثل فيثاغورس وأفلاطون).
حقيقة أن الفكر اليوناني قد تتلمذ على الفكر المصري، ولكن من الواضح البين أنه بعد ذلك فاق أستاذه كثيرا وبزه في كل مجال، وتسلم منه مقاليد الفن والفكر، واستوى على عرشه المقدس، ومنح العالم تراثا حيا ناضجا من الفلسفات والعلوم والفنون، وحرك عجلة الإنسانية فقطعت أشواطا جبارة في طريق المدنية والحضارة.
ثم بعد أن دب الوهن والضعف في حضرة اليونان الفكرية جاءت إلى مصر فبعثتها، وجددت فلسفاتها وتشربتها، وتأثرت بها، ونشرت أضواءها الوهاجة على العالمين. فقد استقبلت مصر كثيرا من المفكرين اليونانيين واحتضنتهم، ونشأت فيها (الأفلاطونية(930/16)
الحديثة) وترعرعت، وحلت الإسكندرية محل (أثينا) في زعامة العالم الفكرية، وكانت مكتبتها الضخمة المشهورة متخمة بالمؤلفات الإغريقية وغيرها. .
هكذا كانت صلة مصر باليونان في الزمن القديم حية زاهرة جنى العالم منها أطيب الثمرات. .
وهكذا حافظت مصر على تراث اليونان الفكري ورعت صلتها الثقافية بها. .
وهكذا تعود هذه الصلة الآن بينهما بعد أن لوعهما الحنين، واستفاض بهما الشوق!!. وقد تجلت هذه العودة المباركة في تلك الدعوة الكريمة التي وجهتها اليونان إلى معالي وزيرنا العالم الأديب الدكتور طه حسين باشا لمنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة أثينا العتيدة. . . وكم أسعدنا ذلك الحديث التي طلعت علينا به (الأهرام) إذ يقول معاليه بعد عودته (وقد أنشأت مصر في جامعة أثينا كرسي فاروق الأول للغة العربية وآدابها، وأنشأت اليونان في جامعة فاروق بالإسكندرية كرسي للغة اليونانية الحديثة وآدابها، وستنشئ معهدا للدراسات اليونانية القديمة في الإسكندرية. . وقد كانت الحكومة اليونانية رقيقة إلى أقصى حدود الرقة حين قررت أن ترد إلى الإسلام (مسجد أثينا) الذي كان معطلا منذ استقلال اليونان سنة 1821).
وأخيرا فإننا نرجو أن تتوطد هذه الصلة الثقافية من جديد، وتتسع وتعمق، فلعلها تكون بعثا فكريا جديدا للأمتين العريقتين، فتستعيدا مكانتهما القديمة السامية بين أمم العالم الحديث.
إبراهيم الترزي(930/17)
مع أبي تمام في آفاقه
قصيدة النار
- 3 -
للأستاذ محمود عزت عرفة.
قصيدة النار
. . وقصيدة النار التي عقدنا لها هذا الحديث هي ما أنشده أبو تمام في حادث مقتل الأفشين وصلبه؛ وقد كان معبرا فيها ولاشك عن الشعور الذي ساد عاصمة الخلافة وقتذاك. ولعل القارئ فهم مما قدمناه عن محاكمة الأفشين أننا أميل إلى الانتصار له - ولكن الواقع تحقيق تلك القضية والبت فيها برأي حاسم يحتاج إلى أن يفرد له كتاب معدود الصفحات لا مقال محدود السطور. والذي يعنينا أن نذكره في هذا المقام هو أن أبا تمام كان صدى في قصيدته هذه للشعور العام، وخاصة الشعور العربي الذي ضاق ذرعا بنفوذ الموالي من العجم، وأرمضه ما تمكن لهم من النفوذ في مناصب السياسة والجيش. ندرك هذه الحقيقة من أشخاص الذين اختيروا لمحاكمة الأفشين، ومن الطريقة التي أعدوا بها الشهود ورتبوا مواقفهم. . . وندركه من بعض التهم نفسها في تلونها بروح الشماتة وتحامل العصبية، مع شيء غير قليل من التكلف والإسفاف. . . وندركه أكثر من ذلك، في هذه القصة التي يحكيها أسحق ابن إبراهيم المصبعي - أحد أعضاء هيئة المحاكمة - عن حديث جرى بينه وبين المعتصم بعد مقتل الأفشين قال له فيه: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة فأفلحوا، واصطنعت أربعة فلم يفلح أحد منهم. قال أسحق: ومن الذين اصطنعهم أخوك المأمون؟ قال: طاهر ابن الحسين فقد رأيت وسمعت، وابنه عبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت فأنت والله الرجل الذي لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم وأين مثل محمد؟ وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه، وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: أجيب على أمان من غضبك؟ قال: نعم. قلت له: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها؛ واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. فقال: يا أسحق، لمقاساة ما مر(930/18)
بي في طول هذه المدة أيسر علي من هذا الجواب.
لقد كان يتجاذب النفوذ في بلاط المعتصم حزبان كبيران: العرب ومن يعتصب لهم، والأعاجم ومن ينتمون إليهم. وكان رأس الحزب العربي القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وهو أحد من حاكموا ألأفشين. وقد عاش في كنف المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل على التوالي فلقي منهم الإكرام والتبجيل جميعا. وكان ركن العرب عندهم وملاذهم الحصين، يشفع في مسيئهم فيشفع، ويلتمس الثواب لمحسنهم فيثاب.
وهو الذي استخلص أبا دلف العجلي من براثن الأفشين حين اعتل عليه ورام قتله، وكشف الغمة عن خالد بن يزيد الشيباني حين علقت به حبائل الدسائس وأمر المعتصم بنفيه إلى الحجاز وقد انضوى أبو تمام تحت راية هذا الحزب العربي بحكم طبيعته ونشأته وبتأثير من أدبه وثقافته. . وحسبك للتحقق من ذلك أن تسمع قوله لابن أبي دؤاد في بعض مدائحه:
أخذت بأعضاد العريب وقد خوت ... عيون كليلات وذات جماجم
فأضحوا لو اسطاعوا لفرط محبة ... لقد علقت خوفاً عليك التمائم
ولو علم الشيخان: أد ويعرب ... لسرت إذاً تلك العظام الرمائم
تلاقي بك الحيان في كل محفل ... جليل، وعاشت في ذراك العمائم!
والعمائم تيجان العرب كما قالوا، والشاعر هنا يكنى بها عنهم. . وندع الآن البحث في موقف الأفشين، مبغيا عليه أو باغيا، لنتحدث عن قصيدة أبي تمام التي نكرر أنه إنما أنشأها معبرا فيها عن شعوره وشعور عامة المسلمين في وقته؛ فهي من هذه الوجهة كلمة صادقة تفيض بالأحاسيس القوية، وآية من آيات الطائي لها على الأدب حق التسجيل.
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
ملك غدا جار الخلافة منكمو ... والله قد أوصى بحفظ الجار
يا رب فتنة أمة قد بزها ... جبارها، في طاعة الجبار
بمثل هذا الإنذار القوي العنيف يبدأ أبو تمام قصيدته. وكأنما هو يحاول أن يصك به آذان هؤلاء الموالي جميعا ممن ركبوا رءوسهم فتطاولوا على الانتقاص من كرامة العرب، بل حاولوا أن ينالوا بالأذى ولي نعمتهم المعتصم وهو الكفيل أن يهلك كل متجبر فيهم، امتثالا لأمر الجبار سبحانه في أمثالهم من أهل البغي.(930/19)
ثم ما أسرع ما ينفذ أبو تمام إلى أول المعاني الخطيرة التي أعدها لهذا المقام، فالأفشين قد أوتي نعمة لم يبرها ولم يحسن القيام عليها لأنه غير كفء لها. فهو حري إذا أن يسلب هذه النعمة ولا كرامة، وأن يلقى بعدها الخسران والبوار جزاء وفاقا:
جالت بحيدر جولة المقدار ... فأحله الطغيان دار بوار
كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها في غربة وإسار!
كسيت سبائب لومة فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار
وتكرير التصريع في البيت الرابع من القصيدة (جالت بحيدر جولة المقدار) ينم على تدفق القريحة بالشعر، وانطلاق السجية فيه إلى مداها. فالمعاني تترافد على نفس الشاعر، والقوافي تقتتل في سبيل احتلال مواضعها من أبيات القصيدة. . وما بقى على السامع إلا أن ينتظر الروعة والجمال، والإبداع والافتتان.
وبعد أن يسجل أبو تمام مخادعة الأفشين لأمير المؤمنين، وكيده الذي ارتد إليه فأوبقه، وما كان يبيته لهذا الدين من شر ألبسه الله خزيه وعاره - يعود فيسجل العذر البين للمعتصم في اصطناع هذا الخائن، وفي غفلته سنين عما يبطن من النفاق، ويعتقد من الكفر والخلاف. فمثل هذا أمر قد تعرض له الرسول عليه الصلوات من قبل، وهو المعان من ربه ومن رأيه ومن مشورة صحبه بأعظم العون. وتعرض له أيضا الكرام الخيرة من آل هاشم:
هذا النبي وكان صفوة ربه ... من بين باد في الأنام وقار
قد خص من أهل النفاق عصابة ... وهمو أشد أذى من الكفار
واختار من سعد لعين بني أبي ... سرح، لوحي، الله، غير خيار
حتى استضاء بشعلة السور التي ... رفعت له سجفاً عن الأسرار
والهاشميون استقلت عيرهم ... من كربلاء بأوثق الأوتار
فشفاهم (المختار) منه ولم يكن ... في دينه المختار، بالمختار
حتى إذا انكشفت سرائره اغتدوا ... منه براء السمع والأبصار
وهذا توجيه بارع لموقف المعتصم، وتعزية جميلة له في خطبه، فالأفشين صنيعته، ومجده صنع يديه. وهذه الخيانة إن دلت على شيء فإنما تدل على سوء الاختيار وخطأ التقدير،(930/20)
وعلى أن المعتصم لغفلته (قد استعمل فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها) كما قال أسحق بن إبراهيم. وأبو تمام حين يلتمس الأعذار اللطيفة أو يتنقر البراهين القوية، لا يجد أرحب من التاريخ سجلا للحوادث، ولا موردا للأسى والعبر. . فليكن للمعتصم في انخداعه أسوة بالرسول وآل بيته، خدعوا في اختيارهم، ولم يصيبوا في بعض تقديرهم، فما نقصهم ذلك فضلا، ولا أعلق بهم مذمة.
والمشار إليه في قصة الرسول عليه الصلوات هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح. صحابي أسلم قبل الفتح واستكتبه النبي عليه السلام، فكان يكتب موضع الغفور الرحيم، العزيز الحكيم. . وأشباه ذلك. فأطلع الله عليه النبي عليه السلام فهرب إلى مكة مرتدا، وفيه نزل قوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه، ثم استأمن له عثمان، فأمنه الرسول.
وفي أخبار أبي العيناء أنه دخل على عبيد الله بن سليمان فشكا إليه حاله فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفقته في طلبتي. قال: أنت اخترته. قال: وما علي أعز الله الوزير في ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان منهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتبا فرجع إلى المشركين مرتدا؛ واختار علي ابن أبي طالب أبا موسى حاكما له فحكم عليه!
وأما (مختار) بني هاشم الذي يشير إليه أبو تمام فهو المختار ابن أبي عبيد بن مسعود الثقفي. كانت لأبيه في الإسلام آثار جميلة. والمختار هو كذاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث. وكان يزعم أنه يوحي إليه في قتلة الحسين فقتلهم بكل موضع. وقتل عبيد الله ابن زياد. وله أسجاع يصنعها وألفاظ يبتدعها، ويزعم أنها تنزل عليه وتوحي إليه.
وإشارة أبي تمام إلى المختار الثقفي تنطوي على معنى دقيق، فهو رجل على خبث طويته وانحراف مذهبه قد خدم آل البيت، بما أبلى في الدفاع عنهم، وبما أراق من دم أعدائهم. ثم تمادى به طغيانه فزايل الحق وتنكب عن نهج الدين، فكان أن قاتله مصعب بن الزبير حتى قتله (في رمضان سنة 67هـ). وهكذا عفى بما أحدث من شر على كل ما سلف له من خير. ومثل هذا صنع الأفشين حين أبلى في الجهاد السنين ذوات العدد، ونصر الدين بسيفه(930/21)
كما لم ينصره قائد؛ ثم محا ذلك كله بما تكشف من غدره واستبان من كفره.
ويخلص أبو تمام من احتجاجه للمعتصم، هذا الاحتجاج الذي حشد له عقله وعلمه ليعود إلى ذكر غدر الأفشين فيقول:
ما كان لولا فحش فجرة حيدر ... ليكون في الإسلام عام فجار
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
قال أبو العيناء: انصرفت يوما من عند ابن أبي دؤاد، فدخلت إلى محمد بن منصور، فوجدت عنده عمارة بن عقيل، وكان خلا له، وهو ينشده قصيدة له في الواثق، أولها:
عفت الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر
فلما فرغ منها قلنا له: ما سمعنا أحسن من هذه الرائية، أحسن الله إليك يا أبا عقيل. فقال: والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها. قلنا له: وما هي؟ قال: كلمته التي هجا بها الأفشين. فقال محمد بن يحيى بن الجهم: أنا أحفظها! فقال: هاتها. فأنشده:
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
فقال له عمارة: أنشدنا ذكر النار، فأنشد:
مازال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
ناراً يساور جسمه من حرها ... لهب، كما عصفرت نصف إزار
طارت لها شعل يهدم لفحها ... أركانه هدماً بغير غبار
ففصلن منه كل مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكل فقار
. . . قال راوي الحديث: ثم ذكر المصلبين فقال:
سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدرعاً من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون، ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار
فقال عمارة: لله دره! لقد وجد ما أضلته الشعراء، حتى كأنه كان مخبوءا له. قال أبو العيناء: فاعتقدت في أبي تمام من ذلك اليوم أنه أشعر الناس، وما كان ذا رأي من قبل!.
لقد نالت هذه القصيدة إذا غاية الإعجاب منذ إنشادها، وبلغت من ذلك حظا لم تنافسه فيه إلا قصائد لأبي تمام معدودة. منها - فيما نرى - قصيدتاه اللامية والنونية في الأفشين أيضا.(930/22)
وهما مدح له وتنويه في إبان تألق مجده وهكذا يتفوق أبو تمام في الحديث عن ألأفشين مادحا له في حياته أو قادحا فيه بعد موته.
ويبدو لنا أنه كان صادق التأثر مطبوع المعاني في كلتا الحالتين. أما اللامية فقد اقترح عليه إنشاءها عبد الله بن طاهر والي خراسان وهو على بابه بنيسابور، وقت أن كان الأفشين يعصف بقوى البابكية في أرشق. ومطلع هذه القصيدة: (غدا الملك معمور الحرى والمنازل)
روى أبو بكر الصولي قال: استنشد خالد بن يزيد أبا تمام قصيدته في الأفشين التي ذكر فيها المعتصم، وأولها:
غدا الملك معمور الحرى والمنازل ... منور وحف الروض عذب المناهل
فلما بلغ إلى قوله:
تسربل سربالاً من الصبر وارتدى ... عليه بعضب في الكريهة قاصل
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل
قال له خالد: كم أخذت بهذه القصيدة؟ قال: ما لم يرو الغلة، ولم يسد الخلة. قال: فإني أثيبك عنها. قال: ولم ذاك، وأنا أبلغ الأمل بمدحك؟ قال: لأني آليت لا أسمع شعرا حسنا مدح به رجل فقصر عن الحق فيه، إلا نبت عنه. قال: فإن كان شعرا قبيحا؟ قال: أنظر فإن كان أخذ شيئا استرجعته منه!
فهذا نصيب اللامية وحظها من التقدير، أما النونية التي مطلعها (بذ الجلاد (البذ) فهو دفين) فقد مدح بها أبو تمام الأفشين عندما قدم ببابك إلى سر من رأى، فأمر الخليفة باستقباله وأفاض من نعمته عليه. يقول الطبري: توج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم منها عشرة آلاف ألف صلة، وعشرة آلاف ألف يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر (223هـ). وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:
بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما إن به إلا الوحوش قطين(930/23)
ثم أورد من القصيدة أبياتا. ويبدو أن أبي تمام لم ينصف في هذه القصيدة أيضا، فقد ذكر صاحب معاهد التنصيص أن المعتصم (أمر للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلثمائة ألف درهم، جرت تفرقتها على يد ابن أبي دؤاد. فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفا، وأعطى أبا تمام عشرة آلاف). وقصيدة محمد بن وهيب مطلعها:
طلول ومغانيها ... تناجيها وتبكيها
ومنها قوله:
بعثت الخيل، والخير ... عقيد بنواصيها
قال أحمد بن أبي كامل: قلت لعلي بن يحيى بن المنجم: أولا تعجب من هذا الحظ، يعطي أبو تمام عشرة آلاف درهم وأبن وهيب ثلاثين ألفا، وبينهما كما بين السماء والأرض، فقال: لذلك علة لا تعرفها؛ كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان، فلذلك وصل إلى هذه الحال.
(للكلام بقية)
محمود عزت عرفة(930/24)
2 - الحاج خواجة كمال الدين
(1870 - 1932)
للأستاذ أرسلان بوهدانووكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
مسجد وكنج:
لقد اتصل به وبصديقه ورفيقه الشيخ نور أحمد، أن في ضاحية وكنج التي تبعد خمسين ميلا عن لندن، مسجدا لا يشغله أحد ويكاد يصبح أنقاضا لقلة العناية به. ولقد بنت هذا المسجد صاحبة العظمة أميرة بيهوبال بناء على رغبة المرحوم الطيب الذكر الدكتور هنري ليمر، المستشرق الذي شغل في بعض أوقاته في الهند منصب المسجل في جامعة البنجاب، وبعد موته لم يعن أحد من ورثته بالمسجد فآل إلى الخراب عام 1912، فاغتنم الشيخ أحمد نور وخواجة كمال الدين الفرصة واحتلا المسجد ولكن ورثة الدكتور ليمر طلبا إليهما إخلاءه فاستجار المسلمان المجاهدان بالسير عباس الذي كان في ذلك الوقت يشغل منصب العضو المسلم في مجلس سكرتيرة حكومة الهند، فأوجد لهما التبرعات والمساعدات التي أرضت ورثة الدكتور ليمر، ولما أقبلت سنة 1913 كان خواجة كمال الدين إمام المسجد المسؤول عن إدارته، واستقر على مقربة منه في سكينة وسلام بقية الأيام التي عاشها في بريطانيا، ونقل مركز نشاطه إليه وسماه مسجد الشاه نسبة إلى جده حاكم بهوبال الحالي، وافتتح للمرة الأولى منذ تشييده للمصلين.
مجلة إسلامك ريفيو:
أبتدأ منذ سنة 1912 ينشر على نفقته الخاصة مجلة شهرية سماها (إسلامك ريفيو)، ما لبثت أن لاقت انتشارا واسعا في جميع بلاد المسلمين، حتى في النائية جدا منها. لقد بلغنا أن هذه المجلة الإسلامية واسعة الانتشار في الشمال الشرقي من التركستان الصينية. وفي السنة التالية أصدر مجلة باللغة الأردية ليقرأها المسلمون في الهند سماها (رسالة لإشاعة الإسلام) وظل يشرف على تحريرهما حتى لبى نداء ربه عام 1932.
نشاطه(930/25)
قال الدكتور يميني رئيس الجمعية الإسلامية في زانغون في بورما من خطاب ألقاه في مسجد وكنج أثناء حياة خواجة كمال الدين (لقد جذب محاضراته المتعددة، ومواعظه التي تحرك العواطف، قلوبا مستعمية، وراحت تلك الخطب والمواعظ تصل إلى كل جزء من الجزيرة البريطانية، في صور متنوعة من الكتب الصغيرة)
ولم يمض وقت طويل على نشاطه الجبار، حتى اعتنق الإسلام أكثر من ألف رجل وامرأة من الإنجليز، ومن بين هؤلاء المسلمين شخصيات مشهورة كاللورد هدلي، بدأ حملته التي كانت تهدف إلى بناء مسجد (نيزاميا) في لندن؛ فتألفت لجنة برآسة اللورد هدلي كانت سببا مباشرا في تأسيس الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى في لندن، وافتتحت أبوابها للمسلمين من أنحاء الأرض وبقى اللورد هدلي رئيسا لها حتى توفاه الله إلى رحمته عام 1935.
إن نجاحه العظيم في مثل هذا الوقت القصير ليدعو إلى الدهشة والإعجاب. ففي عام 1925 رافقه اللورد هدلي في حجه الثاني إلى مكة. والآن وبعد سبعة وثلاثين عاما من هذا الجهاد المقدس، قد لا نستطيع أيضا إدراك المتاعب التي كان يلاقيها من يدعو للإسلام في إنجلترا قبل الحرب العالمية الأولى. ولعل مولانا محمد علي - مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية ورئيس الجمعية الإسلامية في لاهور بالباكستان - استطاع في ذلك الوقت وصف هذه المصاعب حين قال: (هنا كان إنسان من شعب محكوم في طريقه إلى الأمة التي حكمت بلاده، يتجه من بلاد مازالت تعد في أسفل درجات سلم الحضارة إلى بلاد تقف على قمة ذلك السلم، ليحول سكان هذه البلاد الراقية، إلى دين قومه؛ يحول الناس عن الديانة التي تعتبر عاملا أساسيا في تقدم أوربا في الناحية العلمية والمادية والسيطرة على الدنيا، إلى ديانة أصبحت لديهم مرادفة للانحطاط والجهل والذل).
نشاطه الأدبي:
لقد كان بعيد النظر حين بقى بعيدا عن السياسة، ولم يرفع عقيرته حتى رأى الخطر يقترب من الإسلام، ولكنه كان لا يسكت إذا مس إنسان الإسلام من قريب أو من بعيد. ولذلك ألف كتابين في الرد على بعض الجماعات الإنجليزية حين تعرضت للإسلام وهما: (الهند في(930/26)
الميزان) و (البيت المقسم).
وفي سنة 1917 اتخذ العدة لطبع ترجمة محمد علي للقرآن - في وكنج، وهو عمل له خطورته البالغة في ذلك الوقت. أما آثاره الأدبية فتزيد على مائة كتاب معظمها عن الإسلام والأمور الدينية الأخرى ومن خير مؤلفاته:
(1) مصادر الديانة المسيحية (2) النبي المثالي (3) نحو الإسلام (4) إنجيل العمل
نعمته في دراسة القرآن الكريم:
وزيادة على ما ألف، فقد كان يعد كتابا ضخما سماه (تعليقات على القرآن الكريم) الذي لم يتمه، وكانت سعة إطلاعه على القرآن موضع إعجاب معاصريه وتقديرهم. فلقد قال عنه الشيخ حسن مشير كداوي: (إن قوة خواجة كمال الدين كانت تنبعث من الكتاب المعجز - القرآن الكريم، لقد درس القرآن دراسة عميقة على الرغم من أنه من غير العرب، وكل أحاديثه كانت مستمدة منه) وقال عنه اللورد هدلي: (لم يسبق لي أن رأيت إنسانا قبله، في مقدوره التعبير عن آيات الله المعجزات في سهولة لم يتحها إلا للأنبياء والمرسلين).
محاربة الطائفية:
وميزة كبرى من ميزات خواجة كمال الدين هي أنه - وهو يدعو لنشر الإسلام - قد نجح إلى حد بعيد في إزالة النعرات الطائفية من نفوس المسلمين الذين كان يتصل بهم، وقد وصف هذا العمل تلميذه ومساعده المستر يعقوب خان، رئيس تحرير صحيفة (ليت) التي تصدر الآن في الباكستان باللغة الإنجليزية بقوله: (لا طائفية في الإسلام)، كانت هذه الجملة شعاره في الحملة التي قام بها خواجة كمال الدين، فأصبحت وكنج ملتقى الطوائف من المسلمين من السنيين، والشيعة، والوهابيين، والأحمديين؛ يجتمع كل أولئك إخوانا على سرر متقابلين، فكان منظر هذه الوحدة موضع إعجاب الإنجليز، وهو بعمله هذا قد ضرب مثلا رائعا للمسلمين فمهد بذلك الطريق إلى نهضة الإسلام التي تأخذ طريقها إلى عالم الوجود.
نشاطه في أوربا:
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أخذ تأثيره يمتد إلى ما وراء الجزيرة البريطانية؛ حتى(930/27)
عم جميع أوربا، فكان معروفا في فرنسا، وألمانيا، وبلجيكا التي زارها عدة مرات. وكان من أثر الدعوة إلى الإسلام باللغة الإنجليزية في بريطانية أن تأسيس مركز في برلين للجمعية الإسلامية الباكستانية، ولم تمض نهاية سنة 1920 حتى شيد مسجد في عاصمة الألمان على نفقة تلك الجمعية، وتأسس في باريس مسجد آخر من تأثير خواجة كمال الدين، لأن فرنسا - وهي دولة استعمارية تحكم عددا من المسلمين - لا تحب أن تسبقها بريطانيا وألمانيا في هذا المضمار. أما أقطار أوربا الأخرى، فنعرف أن تأثيره أمتد حتى شمل بولندا، فترجم أحد مؤلفاته عن الإسلام إلى اللغة البولندية في نهاية عام 1930.
نشاطه في بلاد الإسلام:
لقد امتدت جذور نشاطه في بلاد الإسلام أكثر من امتدادها في أوروبا، وخاصة في أفريقيا وآسيا، القارتين اللتين تعرضتا لتيار عنيف من الثقافة البريطانية، فكانت مجلته إسلامك ريفيو تلاقي انتشارا واسعا بين المسلمين. وقد زار عدة مرات بلاد الإسلام وخاصة في مواسم الحج حيث زار الأماكن المقدسة حاجا مرتين، عام1910، و1923. ثم قام برحلة طويلة وصل بها إلى سنغافورة وجاوا، وكان يقابل بالترحاب في كل دولة وخاصة في مصر المضيافة العظيمة، إذ استقبل فيها استقبالا حارا، واستمعت إلى فصاحته جماهير غفيرة من المسلمين وهو يتدفق كالسيل عن الدين الحنيف.
أيامه الأخيرة
أخذت صحته تنهار حوالي سنة 1927 من جراء نشاطه الجبار، وعمله المضني، فترك إنجلترا راجعا إلى مسقط رأسه في بلاد الهند. وقبل أن يغادر بريطانيا ألف مجلس أمناء لرعاية المسجد، ووقف جميع ما يملك، وتقدر قيمته بمائة وخمسين ألف روبية، على الجمعية الإسلامية في وكنج، وحول إلى هذه الجمعية كافة الحقوق المتعلقة بطبع مؤلفاته أو ترجمتها، وكذلك مجلة إسلامك ريفيو.
وزاد عليه المرض وألح، فانحطت قواه، وراح يعاني آلاما مبرحة من أمراض صدرية احتملها بصبر عجيب وجلد نادر، مدة خمس سنوات. وعلى الرغم من تعاليم الأطباء المشددة بوجوب الإخلاد إلى السكينة، فإنه لم يرتح دقيقة واحدة، وعلى الرغم من عدم(930/28)
استطاعته حمل اليراع، فقد كان يملي البحوث الضافية، والمقالات الرائعة، حتى الكتب، عن إسلام. وقبل موته بساعات في مدينة لاهور بالباكستان في الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 1922 الموفق أول رمضان عام 1351 هجرية أملى آخر فقرة من تعليقه على القرآن الكريم، وقد نشر ذلك التعليق في عدد إسلامك ريفيو الصادر - في إبريل - عام 1933. وحتى النفس الأخيرة من تلك الحياة المجيدة، عمل جاهدا في سبيل الإسلام ومات وكان آخر الكلمات التي ودع بها الدنيا تدور حول الجهاد العظيم في مسجد وكنج تحت راية الإسلام. رحمه الله رحمة واسعة.
للكلام صلة
علي محمد سرطاوي(930/29)
رسالة شعر
شيخ القضاة
للأستاذ محمود غنيم
نضو السهاد أطال من إغفائه ... وشفاه شافي الموت من برحائه
ألقى عصاه واستراح بمرفأ ... يلقى المجاهد فيه حسن جزائه
مات الذي لم ينس مصراً والردى ... يمشي بطيء الخطو في أعضائه
ما زال في الميدان يحمل سيفه ... ويصول حتى خر من إعيائه
كان الهتاف لمصر كل أنينه ... فوق الفراش وكان بعض دوائه
عبد العزيز خلا بمصر مكانه ... في طول ساحته وعرض فضائه
كون برمته خلا من أهله ... يا من لهذا الكون بعد خلائه
هبة الهبات سخا الزمان بها على ... هذا الوجود وضن بعد سخائه
لهفي عليه وألف لهفي ما خبت ... شمس الضحى وخبا شعاع ذكائه
الموت أطفأ ذلك الذهن الذي ... عجز الضفا والشيب عن إطفائه
جسم نحيل غير أن وراءه ... أفقاً يتيه الظن في أرجائه
وقريحة نفاذة لو وكلت ... بالغيب ما عيت بكشف غطائه
قالوا السياسة قلت كان إمامها ... أما القضاء فكان بدر سمائه
كم جولة في مجمع الفصحى له ... بين النجوم الزهر من علمائه
والعبقرية أينما وجهتها ... تسمو بصاحبها على نظرائه
لما نعى شيخا القضاة نعاته ... قلنا قضاة الله فوق قضائه
حكم مضى كالسهم فيمن حكمه ... قد كان مثل السهم عند مضائه
بكت العدالة يوم مات كأنه ... صخر بكته مقلتا خنسائه
عرفتة يفني في سبيل حياتها ... ويقيم حائطها على أشلائه
دستورها ما خط من أحكامه ... وتناقل الفقهاء من آرائه
مات الذي اشترك الأحبة والعدا ... بقلوبهم في نعيه وبكائه
لا تنثروا الأزهار حول ضريحه ... فخلاله ينفحن في أنحائه(930/30)
هتفت شمائله بملء لهاتها ... ترثيه قبل هتافنا برثائه
والله ما نظم الرثاء لراحل ... كلسان ما أسداه من آلائه
ومن الثناء ممحض ومموه ... لكن صدق القول غير ريائه
هذا الذي ولى نقي الثوب ما ... من شبيهة علقت بذيل ردائه
قد كان أرفع قيمة من دهره ... وأجل من حرمانه وعطائه
النفي لم يقدر على إخضاعه ... والحكم لم يقدر على إغرائه
من أجل مصر ما يجيش بصدره ... من حبه للناس أو بغضائه
وإذا أحب فلن نراه محابيا ... شتان بين حبيبه وحبائه
يهوي ويقلي وهو في كلتيهما ... بالعقل مغلوب على أهوائه
وينال بالإسفاف منه غريمه ... وبغير ذلك ينال من غرمائه
خصم شريف إذ يصول وربما ... أغضى فكان القتل في إغضائه
حر حمى الأنف إن سيم الأذى ... فالموت دون رضائه
أنف لو أن الخلد شيب هواؤه ... بغبار ضيم عاف شم هوائه
وصراحة في الرأي يبديه وإن ... لم يرض ذو الجبروت عن إبدائه
عجبي كيف استطاع الصدق في ... لغة السياسة وهي من أعدائه
قد كان في هذا الزمان وأهله ... معنى جميلا في كتاب شائه
لو كان صادف مثله (دوجين) لم ... يبحث عن الرجل الشريف التائه
هذا الرفات سجل أكبر ثورة ... بالله لا تطووه عن قرائه
خطو على مرآي العيون ضريحه ... ثم أكتبوا التاريخ من إملائه
وخذوا الحقائق عنه بعد مماته ... والميت مؤتمن على أنبائه
هذا بقية معشر قد خط فيه ... صحف الجهاد كتابه بدمائه
اليوم نفقد صاحبيه بفقده ... فنى الثلاثة جملة بفنائه
لما أهاب النيل في الجلي بهم ... لبوه أطهر أنفسا من مائه
فتحوا على المعتل باب عرينه ... ولقوه وهو يتيه في غلوائه
وسلاحه بدم العدو مخضب ... والنصر معقود بظل لوائه(930/31)
كي ينزعوا من بين فكيه لهم ... حقا صراحا حان يوم قضائه
ما كافأوه قوة لكنهم ... بالحق والأيمان من أكفائه
رحماك يا عبد العزيز أفلت في ... ليل يضل النجم في ظلمائه
رحماك ما زال الدخيل يجوس في ... أرض الحمى ويطير في أجوائه
ليت المنية أمهلتك هنيهة ... حتى ترى عيناك يوم جلائه
هيهات لا طاحت به حرب ولا ... نجحت عهود السلم في إقصائه
في كل يوم علة لبقائهم ... تبدو بوجه غاض ماء حيائه
أديت للأوطان كامل حقها ... لكن حقك لم تقوم بأدائه
لو كان أنصفك الحمى حيا لما ... قاسيت ما قاسيت من إيذائه
أو كان أنصفك الحمى ميت غدا ... مثواك فيه يطاف حول بنائه
لكنه وطن يحط الشوك في ... طرقات من يسعى إلى إعلائه
يا رب دستور نظمت بنوده ... نظم الجمان وكنت كبش فدائه
يا كابر الأحرار حزبك ريع في ... حر أبي النفس من خلفائه
جددت أحزان الحمى في معشر ... إن يشك داه كان بلسم دائه
عدلي ومن عدلي وثروت وهو من ... هو في أصالة رأيه ودهائه
(ومحمد) ولي ومن كمحمد ... من مثله في نبله وآبائه
نفر إذا الدستور في مصر أنتعى ... فهم الكرام الصيد من إبائه
حكموا فما عبثوا بأموال الحمى ... وشروا سعادتهم بطول شقائه
أو خاصموا المحتل خارج حكمهم ... فإذا تولوا بادروا بولائه
يا وافيا بعهوده لبلاده ... ولكل من عرفوه من خلطائه
ولوردة عاشت حياة الورد ما ... راع ابنها أو راعها ببنائه
لله درك تتصف الأموات في ... زمن تفشى الجور في أحيائه
أقسمت أن في وفائك منة ... لرجال عصرك في رقاب نسائه
قالوا السموءل قلت لو أدركته ... لم يضربوا أمثاله بوفائه
عبد العزيز ولا أزيدك خبرة ... بالموت كل شارب بانائه(930/32)
قد كنت تبقى لو تكفلت العلا ... والمكرمات لربها ببقائه
لكن عدوي الموت عدوي لم تزل ... من آدم تسري إلى أبنائه
يهني سماء الله أنك جارها ... والخلد أنك نازل بفنائه
أقسمت لو جزع الصباح على امرئ ... ما لاح بعدك مشرقا بضيائه
غنيم محمود(930/33)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
نحن المساكين من سامعي الإذاعة
كنا نسكن في إحدى ضواحي القاهرة، ونعمنا فيها زمانا بالهدوء والجمال، ثم أغارت علينا أسراب البعوض فنغصتنا وكدرت صفونا، وأخرجتنا من ذلك العش الهادئ، كما أخرج الشيطان أبوينا آدم وحواء من الجنة. . ولجأنا إلى شقة بحي من أحياء القاهرة الزاخرة العامرة. وتنفسنا الصعداء، إذ صرنا بنجوة من ذلك الذي كان يلدغ أجسادنا فيعكر دماءنا، ولكن سرعان ما تبين لنا أن صروف الدهر لا تزال تترصدنا، فلقد أبدلتنا بالبعوض الإذاعة. . ورأينا برامج الثانية أشد تبريحا من زباني الأول، هذا ينال من الجسد، وتلك تنكل بالذوق السليم. وقد كنا نحاول أن نتقي البعوض بغلق النوافذ ورش السوائل المبيدة، ولكن لا بد لنا من الهواء، فإذا فتحنا له دخل العدو المهاجم معه. ولم يكن البعوض بمنزلنا فقط حتى نستطيع حصاره فيه وإبادته، وغنما هو يأتينا من كل مكان في الضاحية، فأن قتلنا منه رسلا أقبلت أرسال. وكذلك صار حالنا مع الإذاعة، نقفل مذياعنا، فتهاجمنا أصواتها من مذياع الجيران، وبكل شقة مذياع، ولكن هذه الشقة التي تقع تحتنا يسكنها (فسخاني) الحي، وهو رجل عريض القدر كبير المقام، لأنه (فسخاني) الحي كله. . ومذياعه على قدر مقامه وعلو قدره، فلا بد أن يعلو صوته حتى سمع من لا يحب أن يسمع. . والرجل يحب ألوان الغناء التي لا أسيغها بل لا أطيقها، وخاصة (التواشيح) التي يتغنى بها (الفقهاء) في الموالد، التي تنقلها الإذاعة المصرية بعجرها وبجرها، فتصك الأسماع وتؤذي الأذواق السليمة بما تجلجل أصوات المنشدين وما تطلقه حناجر المستمعين.
وما زلت أعاني عقابيل (السهرة) الأخيرة التي احتفل فيها بمولد سيدي مرزوق الأحمدي في مسجده بالجمالية، ولم تفت الفرصة إذاعتنا الهمامة، فشمرت عن ساعد (الميكرفون) وراحت تبحث في تلك الأزقة حتى بلغت ضريح (سيدي مرزوق الأحمدي) ومن الإنصاف أن نسجل لها ذلك الجهد الكبير الذي كشفت به ذاك الضريح فبزت بهذا الكشف (كولمبس) وغيره من كبار المستكشفين. . فما كنا نعرف (سيدي مرزوق الأحمدي) قبل اليوم وما كنا نسمع له ذكرا. .(930/34)
في تلك (السهرة) سمعنا عجبا. . بدأ المذيع نحن الآن في مسجد سيدي مرزوق الأحمدي - ووصف موقعه بالضبط - لنذيع عليكم الاحتفال بمولده. . . يالها من همة. . يزيدها شأنا علو مذياع جارنا (الفسخاني) المفروض علينا سماعه فرضا! ثم غنى (الفقي) ومعه (تخته) يردد ما ينشده ويحكي عبثه وتكسره. . وكلما ارتفعت أصوات الاستحسان تمادى في تقطيع أوصال الكلمات وتشويه نطقها بمختلف الأفانين، كأن يقول:
(نابي (نبي) ألبس الدنيا جمالا) ويمد الرجل نون (نبي) ما ساعده نفسه وهو طويل. . . وهو يخلط ما ينشد، يأتي ببيت من منظومة وآخر من أخرى، ثم يسترسل في نثر مسجوع، ويتضمن كل ذلك معاني سخيفة وخيالا سقيما، ومما علق بالذاكرة
يا أل بيت النبي عبيدكم غلبت ... عليه شقوته والساعة اقتربت
منوا على من به أيدي النوى لعبت
ومنه:
(في يوم موته أهتز العرش طربا، ومال الكرسي عجبا) ويستمر في كلام غث يتحدث به عما يزعم أنه وقع يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الكلام أن الحيتان في قعر البحار. . لست أدري ماذا فعلت!
ويدرك كل ذي ثقافة إسلامية صحيحة ما في ذلك الكلام كله من انحراف عن جادة الفكر الإسلامي السليم. ولكن الإذاعة المصرية لا تدرك ذلك، لأنها جاهلة، وجهلها مركب، إذ تضيف إلى جهلها أن تذيع هذه الحفلات على أنها حفلات دينيه وتجترم تشويه الدين بإذاعة هذا السخف باعتباره من مظاهر الدين!
ذلك قليل من كثير، مما تصيبنا به الإذاعة التي نسمعها على كره. وهو مثل من المهزلة الإذاعية التي تمثل في هذه البلاد المسكينة.
إلى معالي وزير المعارف
مسكينة بنيتي الصغيرة! كانت ناعمة بطفولتها، تغدو إلى (الروضة) في شوق وإقبال، وتروح إلى البيت في مراح ونشاط، تحصل ما يلقى إليها في أثناء المرح واللعب، بل تلتقطه كما يلتقط الطير الحب، شهيا مريئا. ثم تبدل الحال، إذ أصبحت تنوء بالواجب المدرسي ولما تزل في الروضة! هذه عمليات حسابية، وتلك قطع إملائية، وغير ذلك، مما(930/35)
لا يناسب عقلها الصغير ولا يلائم طورها في التعليم.
ومسكين أنا! لقد كنت سعيدا مغتبطا بما كنت ألحظه في بنيتي من شدة الرغبة في التعليم، وهأنذا أرى الجذرة المتقدة في قلبها تكاد تخبو! وقد علمنا أن لا شيء أخطر على مستقبل الناشئ من إرهاقه وتبغيض التعليم إليه، ولهذا لم يكن يهمن مقدار ما تحصله ابنتي بقد ما يهمني أن تظل جذوة الرغبة في العلم متقدة بقلبها.
لذلك رحت أتقصى الأمر وقد تبادر إلى ذهني أولا أن هذه الروضة التي انتقلت إليها الطفلة هذا العام تسير في نهج غير الروضة التي قضت فيها العامين الماضيين، ولكن علمت بعد، أن أطفال الرياض سيمتحنون آخر العام امتحانا عاما! وعلى ذلك راحت المدرسة التي كانت روضة، ترسل إلي كل شهر تقريرات عن الطفلة تثير العجب، فليس بها أية ملاحظات تربوية، بل تكاد كلها تكون صورة واحدة مضمونها أن الطفلة في حاجة إلى عناية! أية عناية بالله؟! هل أستأجر لها معلما خصوصيا؟ وهل أنا أرسل ابنتي إلى روضة أطفال تعالج فيها بوسائل التربية الحديثة التي تقوم على التشويق والمرح، أو أبعث بها إلى مدرسة تلقنها المعلومات وتحشو ذهنا بما لا يقوى على هضمه، وتريد المدرسة أن أعينها على هذا الحشو والتلقين، بل أقول الإفساد والتشويه!
كنت أسمع شكوى بعض من يلي أمر التعليم في المدارس الابتدائية، من ضعف التلاميذ الذين تخرجوا في الرياض بالقياس إلى من تعلموا في المدارس الأولية، وهي شكوى تدل على ضيق الأفق، لأن المعلومات والمهارة التعليمية التي اكتسبها الفريق الثاني إنما جاءت على حساب الإهمال في التربية الفكرية والذوقية والجسمية التي يهتم بها في الرياض، أو المفروض أن يهتم بها فيها، إلى ما في التبكير والإسراع في التزويد بالمعلومات من القسر والإرهاق اللذين لا يتحقق معهما شعور المتعلم بفائدة ما يتعلمه واقتناعه بحاجته إليه.
فهل ذاك الامتحان المزمع، انتصار لشكوى الآلات التي لا تحسن إلا الحشو والضغط كما تحشى عياب القطن وتضغط لتحتوي على أكبر كمية ممكنة؟
وأكبر العجب أن يكون ذلك، وعلى رأس وزارة المعارف الدكتور طه حسين باشا، وفي الوقت الذي يعلن فيه الحرب على الامتحانات. . في الوقت الذي قرأنا فيه كلمة معاليه في اجتماع مجلس التعليم الأعلى، التي يقول فيها:(930/36)
(أما البرامج فإنها مثقلة إلى حد لا يطاق، وهي على إثقالها لا تثقف كما ينبغي أن يثقف الطالب، والخير كل الخير أن نلقي إلى التلاميذ ما يقبلونه وما ينتفعون به دون إرهاق. أما الامتحانات عندنا فهي كارثة الكوارث لا يكاد الطفل يدخل المدرسة حتى يمتحن من سنة إلى سنة، ونحن في هذا نكاد ننفرد بهذه العلة دون كثير من الأمم المتحضرة).
أكبر الظن أن معاليه لا يعلم بهذه الكارثة التي توشك أن تنقض على هذه القطع الغضة الصغيرة من أكبادنا التي تتناثر في رياض الأطفال. إن هذا السخف لا يمكن أن يتم برضاء ذلك المفكر الكبير الذي يحارب - فيما يحارب - هذا السخف. . ويعمل على إبعاده عن الكبار، فما بالك بالصغار!
يا معالي الباشا، أدرك تلك الزهرات قبل أن تدعكها أيدي الجفاة. .
ذكرى قاسم أمين
احتفل الاتحاد النسائي يوم الاثنين الماضي، بذكرى وفاة نصير المرأة والداعي الأول إلى تحريرها قاسم أمين. وقد ألقت كلمة الاتحاد النسائي السيدة إحسان القوصي فتحدثت عن قاسم أمين من حيث دعوته إلى تحرير المرأة، وأفاضت في الحديث عن النهضة النسوية، وقد أحسنت بقولها أن المرأة ليست زينة المجالس بحليها وزيها، وإنما هي كذلك بما تشعر الرجل به من احترامها واعتبارها، إذ تناقشه في مختلف الشؤون الفكرية والعلمية والأدبية.
وتحدث الشيخ المحترم محمد خطاب بك عن صاحب الذكرى، فنبه إلى أمرين: الأول أن تحرير المرأة في رأي قاسم أمين لم يكن أمرا قائما بذاته، وإنما كان ينظر إليه على أنه الركن الأساسي في نهضة البلاد، والأمر الثاني أنه كان يصدر في دعوته عن إيمان بمطابقتها للدين الإسلامي، فأهتم بتفنيد الطعن الذي وجه إليه من حيث نظره إلى المرأة، ورفض أن يقصر دعوته على الناحية الاجتماعية. وكان خطاب بك يبدو ملما بالنواحي المختلفة لقاسم أمين وهو من قرابته وصحابته - ولكنه كان يرتجل فلم يسعفه الارتجال على إيفاء الموضوع حقه، وكان يقرأ أحيانا من ورقة مكتوبة بالعربية ولكن القراءة غير عربية. . ولجأ كثير إلى العامية، فاضطرب بين هذه وتلك، ولم تستقم له إحداهما! وقد قال في أول كلمته إن وفائه للراحلين أكثر منه للأحياء، وأنه وفي خاصة لقاسم أمين لمكانه منه، وحث في آخر الكلمة على الاهتمام بدراسته. ولو أنه أعد موضوعه كتابة لكان أدنى(930/37)
إلى الوفاء والدراسة. .
ثم تحدث الأستاذ أحمد حسن الزيات حديثا أشعر أن الصفة المطابقة له هي أنه مغذ. لأنه يمد كلا من العقل والشعور بحاجته من الفائدة والإمتاع. وترى كلمة الأستاذ في صدر هذا العدد من (الرسالة).
وألقت الآنسة منيرة عبد الرزاق كلمة المرأة العراقية في هذه الذكرى، فتحدثت عن صدى دعوة قاسم أمين في العراق، وخصت بالحديث الشاعرين العراقيين الزهاوي والرصافي من حيث تأثيرهما بآراء قاسم أمين.
وقد تعاقب خطيبات أخريات، وكانت كلماتهن - كما كان جل ما قيل في الحفل - يدور حول النهضة النسائية وحقوق المرأة. ولم يكن للمحتفل بذكراه من الاهتمام إلا بما يتعلق بهذه الحقوق وتلك النهضة، فلم تسمع حديثا عن الجوانب الأخرى لقاسم أمين، فيما عدا ما قاله الأستاذ الزيات عن أدبه وعن مكانه من النهضة، وفيما عدا الإلماع الخاطف إلى بعض النقط العامة للبلاد، في كلمة خطاب بك. ولعل في هذه فكرة مصغرة للنهضة النسائية في بلادنا، فالمرأة تبدأ وتعيد في المساواة والحقوق، وتخصص تسعة وتسعين من المائة من جهدها لهذا الميدان، أما الواحد الباقي من المائة فهو للأعمال المنتجة في خدمة المجتمع.
عباس خضر(930/38)
البريد الأدبي
تصحيح واجب
لفت نظري أخيرا بعض الأخوان الأفاضل إلى وجوب تصحيح كلمة
ورد فيها أسمي، وأثارت تعليقا طويلا من الحجاز، ذلك بأن الشاب
النابه محمد إبراهيم الخطيب شكا في الرسالة من بعض ما يلقى في
الأزهر من علم لا يساير العصر، لا يريد كيد بعض الطوائف التي
تبذر الشك في عقيدة المسلمين كالوهابية والإسماعيلية. ثم قال ولست
بأول من جهر بهذا، فقد سبقني إليه أساتذة أجلاء، منهم أستاذي الدكتور
محمد يوسف موسى. . إلى أخر ما قال.
وقد رد على هذا في كلمة طويلة الأستاذ الشيخ محمد الجاسر من الحجاز، يستعظم ويعجب أن يكون هذا الرأي لي قد ألقيته على تلاميذي بالكلية مع ما يعرف من دراساتي وتخصصي في الشؤون الإسلامية.
والواقع أن الباحث المنصف مهما رأى ما يصح بل ما يجب تقده في الحالة التي عليها الحجاز أو البلاد العربية أو بلاد جزيرة العرب من ناحية العدل الاجتماعية وما يتصل بذلك، فإنه لا يمكن أن يزعم أن العقيدة السلفية التي تقوم عليها الدولة العربية السعودية هي عقيدة طائفة من طوائف المسلمين، بله طائفة تنخر في عظام الإسلام كما يتقول تلميذنا الخطيب!
لذلك، أرى من موقف بعض دعاة هذه العقيدة هنا من المصريين، وما هم عليه من الغلو الذي ينفر كثيرا من الناس ويجعلهم حقا يشكون في عقيدتهم، سندا للرأي الذي أشار عليه هذا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
محمد يوسف موسى
أستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر(930/39)
نسبة كتاب إلى غير صاحبه
جاء في مقال الأستاذ ضياء الدخيل عن الفارابي بالعدد 929 من الرسالة الزهراء أن للأستاذ العقاد كتابا عن الفارابي من سلسلة أعلام الإسلام. والحق أن الكتاب المشار إليه وهو الحلقة التاسعة من تلك السلسلة التي انقطعت، إنما هو الأستاذ عباس محمود المتخرج في قسم الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد. وإن أستاذنا العقاد غني بنتاجه الأدبي وبكتبه الفلسفية، ولا يعلى من مكانته أن ينسب إليه كتاب لم يكن له.
عبد الرزاق عبد ربه
أجب حبيبك هونا ما
عقب أستاذنا الكبير محمود أبو رية على تعقيبي بشأن حديث أحبب حبيبك هونا ما، وذكر أن الحديث رواه الترمذي وغيره ولكنهم تكلموا في كثير من رجاله، ويبدو أنه من قول على. . وأقول: أن العراقي مخرج الأحاديث في كتاب إحياء علوم الدين ذكرنا نصه:
(حديث أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما الحديث، رواه الترمذي عن حديث أبي هريرة وقال غريب: قلت رجاله ثقات رجال مسلم لكن الراوي تردد في رفعه) انتهى وقد ورد هذا الحديث في كتاب التاج الجامع في للأصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور علي ناصف، وعقب عليه المؤلف بأنه رواه عن أبي هريرة الترمذي والبيهقي والطبراني دون أن يشير إلى ضعفه.
وقد ورد الحديث أيضا في كتاب مصبح الظلام. . لمؤلفه الجرداني وعقب عليه المؤلف بأنه رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الكبير، وغيرهم كالدارقطني في الإفراد وابن عدي في الكامل والبخاري في الأدب وهو حديث حسن كما في شرح العزيزي.
محمد عبد الله السمان
الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام
كتاب جديد في الأدب العربي في العصر الجاهلي والعصر الإسلامي يقع في نحو ثلاثمائة(930/40)
صفحة من الحجم الكبير - طبعة المطبعة الفاروقية الحديثة بالناصرية.
من تأليف الأستاذ: حسن جاد، ومحمد عبد المنعم خفاجى، وعبد الحميد المسلوت، المدرسين بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف.
ودراسات الكتاب جديدة ومنظمة بأسلوب طريف ومناهج مستحدثة في البحث الأدبي ويطلب من المؤلفين.
تحقيق مسألة
بمناسبة التعريف بكتاب (الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام) نلاحظ أن مؤلفيه الأفاضل لم يحسنوا النقل فيما نسبوه إلى كتابي (في أصول الأدب) كالعلاقة بين أدب وآدم في اللغة الشومرية مثلا، وأنهم ذكروا في الحاشية من صفحة 36 أن مصادر بحثهم في (العوامل المؤثرة في الأدب) أربعة مصادر ذكروا من بينها (في أصول الأدب). والحق أن الفصل بعنوانه تلخيص لمحاضرة ألقيتها ببغداد في 24 يناير سنة 1930 ثم نشرتها هي وغيرها بعد ذلك في كتابي (في أصول الأدب)، ولا أعلم كتابا طرق هذا الموضوع ولا ذكر هذا العنوان قبل هذا التاريخ. وقد استأذنني صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام بك في أن يعتمد على هذه المحاضرة في نصيبه الذي كتبه من كتاب (التوجيه الأدبي) وكان من الإنصاف أن يشار إلى ذلك في هذا الكتاب وفي غيره.
الزيات
مذهب قديم
وردت في بريد الرسالة كلمة من العراق تحمل إشفاق صاحبها على مذهب جديد، هو ما يقول به الآن الأديب (كمال بسيوني) وكنت أحب أن يعلم المشفق النجيب أنه ليس هناك ابتكار ولا تجديد، وإنما هو رأي أعلنه على الناس عميدنا الوزير - طه حسين باشا - محاضرا في قاعة الجمعية الجغرافية منذ عشرين عاما وهذا نصه:
(فالشعر ضرورة من ضرورات الحياة في كل طور من أطوارها، فإذا انقضى هذا الطور أصبح الشعر عاجزا عن أن يقوم بشيء من ذلك، وأصبح النثر خليفته يصور هذه الأشياء الجديدة. والشعر الذي كان ضرورة أولاً في يصبح في الطور الثاني ضربا من الترف(930/41)
والزينة. والحياة لا تستطيع أن تستغني عن كليهما. وكذلك عندما نلاحظ تاريخ الأمم التي كانت لها حياة أدبية، وكان لها شعر ونثر، نلاحظ أن حياتها قد بدأت شعرا، وأن الشعر وجد فيها قبل أن يوجد النثر بزمن طويل) ويمضي أعزه الله في الحديث إلى أن يقول: (فالأمم التي لها أدب، قبل أن تعبر عن عواطفها وميولها بالنثر، عبرت عن لذاتها وآلامها بالشعر، وكان الشعر هو لسانها الأدبي، فلما تطورت هذه الأمم وارتقى عقلها، نشأ عن ذلك أن وجدت فيها أفكار وآراء عجز الشعر عن أن يعبر عنها.) وذلك قول يشق عن وجه الحقيقة النقاب.
وليس من معنى هذا القول أن نهمل متحدث اليوم فهو كاتب قدير؛ إنما الواجب أن تناقشه على أساس أن للفرع أصلا
بركات
ضر وضرر
رفع عالم جليل بحثا قيما طريفا إلى المجمع اللغوي الموقر فرق فيه بين الضر والضرر، ذاهبا إلى أن لفظ (الضرر) يستعمل في أحوال العاهات فقط، وشكك حضرته في الاستشهاد بالحديث الشريف: (لا ضرر ولا ضرار) مؤيدا رأيه بقوله تعالى:
(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله)
ولكن فات حضرته أن التنزيل الحكيم قد ورد به أيضا: (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر). وقد استعمل كلمة (الضر) و (الضرر) بمعنى واحد فإن هذا يدل على أنهما لفظان مترادفان. ولا محل بعد ذلك للتشكيك في الحديث الشريف، ولا للتضييق حيث أراد الله ورسوله التوسيع.
عبد الحميد عمر
الرسالة
الأستاذ صاحب المقال المعقب عليه يقرر أن فعل ضر إذا كان لازما كان معناه صار ضريرا أي أعمى، ومصدره وهو الضرر لا يستعمل إلا في العاهات كالعمى والزمانة. وقول الله تعالى (غير أولي الضرر) إنما يريد به ابن أم مكتوم وكان أعمى. أما الضر(930/42)
بالضم فهو ما يصيب النفس من مرض أو هزال كالذي أصاب أيوب وكشفه الله عنه، وهو غير العاهة فتعقيب الأستاذ لا وجه له.
رأي الرصافي في مطران
كتب الأستاذ الفاضل منصور جاب الله في العدد 923 من مجلة الرسالة الزاهرة كلمة حول رأيه في شعر خليل مطران، ولم يكن رأي الأستاذ جاب الله بكرا في هذا الموضوع، إذ سبقه الشاعر معروف في ذلك عندما سئل في دمشق هل يضع الأستاذ المطران في مصاف حافظ وشوقي؟ فأجاب (وضع المطران في مصاف حافظ وشوقي، كوضع البحتري في مصاف المتنبي وأبي تمام، أي نوع من ضعف الحكم، هذا ما يلي به القارئون في عصرنا هذا، ولا نسبة أبدا بين طبقة حافظ وشوقي وطبقة مطران، كما لا نسبة بين المتنبي وأبي تمام وبين البحتري، لأن هذا الأخير ليس أكثر من منمق ألفاظ)
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن(930/43)
القصص
قانصوه الغورى
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
مهداة إلى حضرة صاحب العزة الدكتور عبد الوهاب بك عزام
قانصوه الغورى أحد سلاطين مصر في العصر المملوكي، ولي عرشها زهاء ستة عشر عاما بين سنتي 906هـ، 922هـ. وكان يوم ولايته كبير السن متأبيا على السلطنة.
وامتلأت أيامه بالحوادث الكبرى في داخل البلاد وخارجها.
وفي أثنائها بلغ نشاط العثمانيين مبلغا عظيما، واتسعت أطماعهم حتى تطلعوا إلى امتلاك البلاد الشامية والمصرية. وقد خرج هذا السلطان الكبير للقائهم بنفسه، ومعه حملة عظيمة الشان. فاستشهد في سبيل بلاده
ويرى القراء الكرام فيما يلي، وتحت العنوان المتقدم، تاريخ هذا السلطان الشهيد، وتاريخ مصر في أيام حكمه.
نقدمه إليهم في أسلوب قصصي فيه تمثيل وحوار يلطفان من خشونة العرض العلمي السافر. وقد جهدنا ما استطعنا في تصوير نزاعات عصره من دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أدبية أو علمية، على مقدار ما تحتمله قصة صغيرة.
ولم يلهنا خيال القصة عن تحري وجه الصواب في حقائق التاريخ. ولعلنا بذلك نقدم عملا متواضعا، يسفر منه تاريخ بلادنا العزيزة في حقبة من أهم حقبة
يوم التولية:
ثار المعسكر في وجه سلطان البلاد الملك العادل في آخر يوم من أيام رمضان عام 906هـ، حتى اضطر إلى الاختفاء. فسرى الخبر هما بين القاهرين، أن بيعة سلطان جديد ستتم الليلة، إذ يجتمع الأمراء للمشاورة والاختيار. ومن ثم يقومون برسوم التولية في صباح الغد، أول يوم من أيام عيد الفطر.
وما كان أحب مجالس البيعة وأخبارها عند القاهرين، وما كان أبهج حفلات التولية(930/44)
ومواكبها لديهم.
لذلك، ما بزغت شمس الاثنين مستهل شوال، حتى بكر كثير من أهل القاهرة في اليقظة، وأخذوا يعدون العدة لييمموا شطر القلعة، حيث تجري البيعة ويسير موكب السلطان ليمتعوا العين بمرأى هذا السلطان الجديد، وليتبينوه من هو؛ ومن يكون. . . ذلك لأنهم لم يكن لهم من أمر اختيار سلطانهم شيء. . واستبد بالأمر دونهم أمراء السلطنة الجراكسة، واستأثروا بالحكم فيهم، وقصروا على أنفسهم مسئولية اختيار السلطان. درج الشعب على هذا النظام، واستنام إليه، إن طوعا وإن كرها، تلك الحقبة الطويلة من الزمان.
وما هو إلا قليل، حتى امتلأت الطرقات بالوافدين عليها من كل حدب وصوب. واكتظت الميادين بقصادها، واختلطت الجموع بالجموع، وتراصت الصفوف خلف الصفوف، في أزياء فضفاضة، ذات أشكال متعددة، وألوان متباينة.
وأخذ النسوة والعذارى يطرقن الطرق، أو يذرعن المسالك في حللهن البهية، وأثوابهن الطلية. وتوارى بعضهن خلف الكوى والشرفات، يشرفن على الجمع من كثب، ويسترقن السمع والنظر، وتتنقل عيونهن بين الفرج، ليتمتعن كما يتمتع سائر الناس، بما ضرب من زينة عجلة، وما أشيع من حفاوة مرتجلة، أمر بإقامتها التجار والصناع وأصحاب الحوانيت وملاك المنازل وسكانها، هنا وهناك.
وبالقاهرين ومن حولهم من سكان الضواحي، شعور خفي يحفزهم إلى تعجل المسرة، واستدرار اللهو، واقتناص المتعة كلما سنحت فرصة لذلك، أو وجدوا إليه سبيلا. ولذلك عجلوا إلى تلك الزينات السريعة، ريثما يتم أمر التولية، استعدادا للقاء موكب السلطان. لعلهم بتلك المسرة المقتنصة يأسون جراح دهرهم العاسف، أو يطبون حظهم السقيم.
ومهما يكن من شيء فهم على الأقل يودعون سلطانا بادت دولته وذهبت صولته، ويستقبلون آخر أشرقت أيامه وأهلت لياليه. لعل لهم في ظله ما يحقق لهم آمالا جميلة، طالما غمرتهم أطيافها الحسناء في أحلام يقظتهم، ولم يتحقق منها أمل في العصر البائد.
على أنك ترى مرارة الحياة بادية على أحاديثهم، واضحة في محياهم، يغشيها ستار رقيق من الأمل الحالي، والرجاء المعسول. وهم ينفثونها أحيانا في نقدة لاذعة، أو يضمنونها فكاهة مرة، أو تورية بارعة.(930/45)
لهذا يهرعون إلى الزينات - في مثل هذه المناسبة - فيضربونها، وإلى الرايات فينصبونها.
أنظر إذا إلى الحوانيت ووجوهها، والمنازل وجبهاتها، والمسالك وجوانبها، في أحياء القلعة وما حولها، تر قطع الأقمشة من كل لون زاه، قد تألفت طوائفها، وتألقت طرائفها، والثريات الزيتية منشورة، زينة للنهار الحاشد المنتظر، وعدة لليل الحافل المرتقب. والشعب مجتمع شمله، ملتئمة صفوفه، يسود بين أفراده لغط وضجيج، وهمس وعجيج. بين أقاويل متشعبة، فيها الصدق والكذب، وفيها الحق والباطل، وفيها العدل والجور. وهم ما بين لهج لاه بما هو فيه من نشوة وسرور، سباق إلى اقتناص فرصته وبلوغ غايته، ومتحدث رزين يرسل الحديث في روية وبطء، كأنما يقرأ في سطور الحاضر مخبآت المستقبل، وناقد يمتزج في نفسه وحديثه، النقد السطحي العابر، بالرغبة الواهمة في أن يأخذ من البهجة الماثلة بنصيب؛ وناقد آخر لاذع في نقده، جرئ في لفتاته، شجاع في ملاحظاته.
وبين هذه الجموع الضاجة وقف صديقان يسترقان النقاش، وقد علا وجهيهما الجد، واختلفا طربا وصخبا، وخفة ولجاجة. وتقاتلا شعورا ورأيا؛ واستطردا إلى أشياء في الماضي، وأمور في الحاضر، وآمال في المستقبل.
قال أحدهما لزميله:
- لله ما أبهى اليوم، وما أجمل الساعة! هاهم أولاء المماليك السلطانية قد انتشروا في الطريق وهم شاكو السلاح، ليعصموا اليوم من الفوضى، ويشيعوا في الموكب النظام.
- أعلمت لهؤلاء نظاما؟ أو نسيت عبث الجلبان والقرانصة، وما بين الفريقين من عداوة وشحناء. إن هؤلاء وهم جنود الدولة، مبعث الفوضى، ومصدر السوء، ومثار الفساد. . . هم عباد المال والشهوات. يبذلون للسلطان الطاعة والولاء، ما دامت يداه تفيضان عليهم تبرا وذهبا وهاجا. ويفرق فوقهم شتى منحه وعطاياه، ويفرق عليهم ما لذ من الطعام، وما ثمن من الثياب، وما فره من الخيل، مزودة بما تحتاج إليه من أغذية وأردية. ثم يتنكرون له، ويلبسون جلد النمر، إذا تراخى في عطائه، أو ازورت عنهم دراهمه ودنانيره، أو بدا لهم في أفق السلطنة مانح جديد.(930/46)
ألم تشهد كيف غدروا بالملك العادل أمس؟ وكيف خاسوا بعهده؟ وكيف كادوا يبطشون به لولا فراره واختفاؤه! إنهم بذلك يمهدون السبيل لأمير آخر من أمراائهم، يسلمونه زمام السلطنة، لقاء ما ينالونه على يديه من حظ جديد! ثم ليتهم يستقيمون في تأييدهم حتى تتم بيعة السلطان المختار بغير شغب أو نزاع. . . لقد بلغني أمس أن الأمراء اجتمعوا للتشاور في منزل الأتابكي قانصوه خمسمائة، الذي لم يظهر من يوم اختفائه. وهذا المنزل في قناطر السباع. وفي مقدمة الأمراء المتشاورين، الأمير قبيت الرجي، وقانصوه الغوري، وطراباي، ومصرباي، ثم انضم إليهم أخيرا الأتابكي تانى بك الجمالي الذي اختفى من وجه الملك العادل، خوفا من أن يفتك به. فظهر أخيرا عندما سنحت له فرصة الظهور، وانضم إلى الأمراء المتشاورين.
واعتقادي أنه ما من أمير من هؤلاء إلا وهو يخطب السلطنة لنفسه، ومن ورائه فئة من الجنود يؤيدونه. . . ومع ذلك قيل إنه تم اختيار تاني بك الجمالي للسلطنة، ثم سرعان ما غدر به الجند، ولم يرضوا بسلطنته، فرجع الأمراء عن ترشيحه لها. وهكذا أفلت من يديه زمامها، قبل أن تتم رسومها.
واليوم تتردد الإشاعات أنها ستكون من نصيب الأمير قانصوه الغوري. . وهو على كل حال، أمير طيب القلب بلغ من العمر ستين عاما. ومع ذلك لا يزال فتى النفس، لم يبد في شعر لحيته بياض مشيب.
لكن! أرأيت إلى أي حد يعبث هؤلاء المماليك بمصير مصر وشعبها، بينما الشعب يغط في نوم عميق؟ لقد بلغني منذ قليل أن عددا من أشرار المماليك الجلبان انتهز فرصة عيد الفطر اليوم، وانصراف الناس إلى الراحة والاستجمام،! أو التفرج بالزينة والموكب، وعاثوا في أسواق القاهرة فسادا، وأحرقوا بعض الدور، ونهبوا ما فيها. فهل ترجو من أمثال هؤلاء نظاما أو إصلاحا؟
- صدقت في حديثك. . . ولكنهم - على أية حال - دعامة الدولة وسند السلطان. وهم حقا ضريبة من ضرائب الإهمال يفرضها الزمان علينا. غير أننا لا ننسى أنهم دفعوا العدو عن بلادنا زمنا طويلا. وحسبك ما مر من عشرات السنين كان للفرنجة في بلادنا مآرب لا تنقضي، وكان للتتار مآرب أخرى. فوقف لهم هؤلاء الأبطال، وأوقعوا بهم في مواقع عدة.(930/47)
ففروا إلى حيث أتوا، مزودين بالهزيمة والاندحار.
- نعم! ولكن لنا القشر ولهم اللباب. لعلك نسيت مسلكهم الشائن معنا نحن أهل القاهرة. إنهم كانوا - وما زالوا - يهتكون فينا ويسلبون منا. ثم هم إنما يمثلون الفتن والقلاقل والدماء المسفوكة، والأشلاء المتطايرة والسجن والتشريد. . .
إن حياتهم ملأى بكل هذا العذاب، ما بين سيد فيهم ومسود، وظالم منهم ومظلوم، وحاقد بينهم ومحقود عليه. . . هذه هي سياستهم وسياسة أمرائهم وكبرائهم. . . ألا تعسا لحياة تمتلئ بكل هذا الشقاء. .!
- ليست هذه الحالة دائمة بينهم، وكأنني أراك تقرأ تاريخهم من حاضرهم فحسب. . لعلك من أولئك الذين وهب لهم حس مرهف ونفس مستوفزة، تطن فيها الأحداث الحاضرة، حتى تملأ أذنيها. فلا تسمع بعد أي صوت من أصوات الماضي. . .
لقد كان الجنود المماليك في عصر المنصور قلاوون يعيشون على خير نظام وفي أجمل هندام. فقد وضع لهم هذا السلطان العظيم قواعد للتربية قويمة، وأخذهم بها دون لين أو هوادة أو مهادنة. فرباهم في طباق القلعة وأبراجها. ووكل أمرهم إلى الحذاق من الزمامين. وفرض عليهم التمرينات العسكرية والرياضية القاسية، وعنى بطعامهم وشرابهم ولباسهم. وكان يشرف على كل أولئك بنفسه، فشبوا رجال خلق كريم، ونفس قوية، ودين سليم. ولم يكن يسمح لهم بالاختلاط بغيرهم من الطوائف حفظا لهم من عدوى الأخلاق.
- حقا لقد رباهم المنصور تربية محمودة، ونشأهم تنشئة حسنة، ولكن سرعان ما عدل السلاطين من بعده عن نهجه، واتباع سبيله، ففتر هذا النظام وقلت تلك العناية، وفرط السلاطين في إعدادهم، حتى أصبحوا من بعد، وليس لهم نظام متسق، ولا تربية محمودة، ولا خلق كريم، ولا نفس طيبة، حتى صاروا: (أرذل الناس وأدنأهم، وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراض عن الدين. ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب.)
- إنك متجن عليهم أيها الصديق! ألا تدري أنهم لنا حمى، ولحياتنا مجن؟ إننا ننعم بسلام في بيوتنا، وأمن في سربنا، على حساب ما يبذله هؤلاء الشجعان من أرواح. حقا يسرف أمراؤهم وسلاطينهم في فرض الضرائب على الشعب، ويثقلون كاهله بالنفقات إزاء(930/48)
خدماتهم. ولكنهم إزاء ذلك أراحونا من شر القتال، وأخذوا على عاتقهم حمايتنا من شرور الأعداء.
ثم ما بالك تذكر سيئات أشرارهم وهنات صغارهم، وتنسى حسنات أخيارهم، ومحامد كبارهم؟ إن كثيرا من سلاطينهم وأمرائهم ينقادون للدين، وينطوون تحت أحكامه، ويعظمون أهله، وينشئون المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، ويدرون أخلاف الخير وضروع البر على المحتاجين من طلاب العلم وغيرهم. وذلك كله جدير بأن يطلق الألسنة لهم بالدعاء والثناء.
- إنك يا صاح انحدرت من حديث الرجال إلى أسلوب النساء. . .! ففي معانيك الضعف والضعة، وفي أفكارك الخور والجبن! حسبك عارا أنك تذكر حمايتهم لك من الأعداء. . . وفي الحق أنهم يحمون أنفسهم لا يحمونك أنت، ويدفعون عن ملكهم لا يدفعون عنك أنت. ولننزل على منطقك ونقول إنهم يحمونك. . . ولكن أتدري كيف ذلك، ولماذا؟. إنهم يحمونك كما يحمي الراعي بقرته خوفا على لبنها أن يتضب، وحرصا على جسدها أن يخور ويبلى. وهم قبل ذلك وبعد ذلك، سادتك! لا تقعد منهم إلا مقعد العبد. . . فهل بعد ذلك ذلة للرجال؟ اطلب إليهم أن يتركوا لك حماية نفسك بنفسك. فهل تراهم يجيبونك إلى سؤالك؟ ويجيزون لك أن تحمل السلاح وأن تنخرط في الجيش؟. كلا! وكأنما الجندية هبة اختصهم الله بها دون سائر أفراد الشعب وكأنما الروح العسكرية الحمية الوطنية وقف عليهم، وصفة ما خلقت إلا فيهم، ونزعة ما عرفت إلا لهم. أما أنت وأمثالك فلا تصلحون - في نظرهم - للكر، وإنما تصلحون للحلاب والصر. . . لقد حرمونا دخول الجيش، وحرموه علينا، ولم يتصلوا بنا إلا اتصال السيد بالمسود. وكفى بذلك هوانا. . . فأية عزة ترقبها لبلادك على يد هؤلاء الغرباء المماليك المستبدين الذين لم تجمعهم بالبلاد جامعة جنس ولا نسب ولا لغة ولا ألفة ولا عطف. . ثم هم لا يجمع بعضهم ببعض إلا أخوة في رق، أو اتفاق في ضغينة، أو ائتلاف في فتنة، أو التماس لمكيدة، أو ائتمار على غدر. . . أغلب ظني أن ما بناه أسلافهم من عز وسؤدد، سيهدمه هؤلاء الجلبان وهؤلاء القرانصة، ومن لف لفهم من هذا الخليط الدنس من أوشاب الأمم الذي تعج به بلادنا المنكودة. ألا تبالهم وقبحا وسحقا.!(930/49)
أما ما تنشدق به من مساجد ودور تعليم فحسبي أن أقول لك إنهم يبذلون في سبيل ذلك، على أنه منحة منهم للشعب وصدقة عليه، لا على أنه حق للشعب قبلهم يؤدونه إليه. . .
ألا دعنا من هرائك وسفسطتك! وقل لي كم رجلا في بلادنا يغار عليها غيرتك، ويخلص لها مثل إخلاصك؟ وكم فتى من فتيانها يحدب عليها كل هذا الحدب، وتتقطع نفسه عليها أسى، وتذهب حسرات، كما تتقطع نفسك وتذهب؟ وكم قلب بين قلوب بنيها يفيض عليها إشفاقا كما يفيض قلبك؟
لشد ما أتألم لأجلك. . لما لك من إحساس مرهف ونفس شاعرة!
اترك المستقبل لأهله، فليس علينا حمل أعبائه وهمومه. وحسبنا ما نحن فيه من حاضر فعم بحوادثه وآلامه. . . ولنخفف عن النفس أحزانها بما نراه من بهجة وزينة. . . انس ما في طواياك من هم. ولمسرح ببصرك في محاسن هذا اليوم، واقبس ما تشاء وتشتهي من مفاتنه. ثم إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. .
انظر إلى أثواب الجند الزاهية الألاقة، وإلى وجوه الناس الباسمة المشرقة، وإلى الحسان الفاتنات يرحن ويغدون في حللهن الأنيقة البراقة. وإلى الأطفال الذاهلين من عيد الفطر، فقد غمرهم عيد التولية بموجة من موجات فرحه، ألا تخبرني من سيكون السلطان؟ ومن سينال شرف السلطنة اليوم؟.
واألماه! تدعوني إلى أن أنسى المستقبل، ولا أفكر فيه. . ألا تعلم أن الدعوة إلى إهمال المستقبل وترك الاهتمام بمصير البلاد هي الأنشودة البائسة الحزينة، التي ترتلها الأمة المنكوبة الخائرة كلما أحست بضعفها. . وأرادت أن تتلهى عنه وتخدع نفسها. . لو اهتم بأمرنا من سبقنا من الآباء والأجداد لاعتدلت لنا ريح حاضرنا ونعمنا فيه بشيء من صفو الحياة. وما دام كل جيل يسلم إلى الأقدار مستقبل بلاده، ويهمله، فستتلقفه الأحداث والغير، وتلقيه بين يدي مستبد، وإلى كف طاغية، وتتنقل به من بؤس، إلى بؤس، حتى تتقلب أجيالا في شقاء الحرمان أمدا طويلا. . .
أما سلطان اليوم فأظنه قانصوه الغوري - كما تردد الألسنة - لقد رشحه للسلطنة، كما ذكرت لك، كبر سنه، وطي نفسه وعيوفه عن السلطنة. . . وهذه وسيلة باعة من وسائل اقتناصها. . . قد قيل إنه رفضها وأباها. ولو ظهر أمس الأتابكي قانصوه خمسمائة، من(930/50)
اختفائه؛ لكانت السلطنة من نصيبه ولولا فساد قلوب الجند على الأتابكي ثاني بك الجمالي، لظفر بها أمس وتمت بيعته. . .
ألا قبح الله الملك العادل السفاك! من غريب ما يروى عنه أن المنجمين أخبروه أن السلطنة يسلبها منه أمير يبدأ اسمه بحرف (ق) فظنه صديقه (قصروه) فبطش به وقتله ظلما، بعد أن أبلى قصروه البلاد الحسن في معاونته على الحصول إلى السلطنة. . ولم يحسب العادل حسابا لقاف أخرى تبدو في الأفق. ولله! ما أكثر القافات في بلدنا. .!
انقطع الجدل بين الصديقين على إثر موجة جارفة من الضجيج تنتشر باقتراب موكب السلطان.
بدت طلائع الموكب. وكان الأمراء منذ قليل يشتورون في الحراقة بباب السلسلة بالقلعة. فتم رأيهم على اختيار الأمير قانصوه الغوري سلطانا على البلاد بعد فرار الملك العادل وإعلان خلعه.
ولقد تعصب للغوري الأميران: قيت الرجبي، ومصرباي. فبكى الغوري وأبى قبول السلطنة معتذرا بكبر سنه. فاستلانوه إليها بشتى وسائل خداعهم، حتى رضى بها مشفقا منها. وقد أتموا له البيعة، فبايعه الخليفة ووكل إليه - كالمعتاد - أمور السلطنة ثم بايعه القضاة. ولقب بالملك الأشرف. فذاع لقبه بين الجموع الحاشدة، وهيئوا ركبه ليسير من الحراقة إلى باب السر بالقصر الكبير، حيث يقدم له الأمراء واجب الطاعة والولاء.
لبس الغوري شعار السلطنة - ملابسها الرسمية - وهي جبة وعمامة سوداء. وامتطى صهوة فرس مسرج بالذهب. وأخذ في المسير تتقدمه شراذم من الجند في أزيائهم الرسمية وأسلحتهم المجلوة، وتقدم الأمير قيت الرجبي، وحمل بنفسه شعارا آخر للسلطنة، تبجيلا للسلطان وتعظيما لشأنه. ويتألف هذا الشعار من قبة من حرير ثمين تنشر فوق رأس السلطان وقت المسير، كأنها مظلة. وفوقها طائر من الذهب. وركب إلى يمين السلطان، خليفة العصر، وهو المستمسك بالله يعقوب العباسي، وبين يديهم الأمراء يسيرون بشاشهم وقماشهم - أزيائهم الرسمية - في ألوان زاهية وفوق جياد محلاة.
وبدت طلعة السلطان لشعبه، فدوى صوته هاتفا (نصر الله السلطان الأشرف)، (أعز الله الإسلام) وانطلقت من خلف الكوى وصوب الطيقان زغاريد النسوة تشق أطباق الفضاء،(930/51)
فرحة مستبشرة تؤذن بطلوع عهد جديد. . .
وكان الشعب يلمح بفراسته الساذجة الصادقة على محيا السلطان الجديد، جملة من المعاني المتشادة المتمازجة، فيها الشعور وفيها الإشفاق من المستقبل وما يخبئ من مفاجآت في طياته. وفيها عزيمة حادة جادة وتصميم على المجاهدة والمجالدة، والعمل على رفاهة مصر وشعبها، وإعلاء شأنها عند غيرها من الأمم، والمحافظة على نفوذها الأدبي والسياسي، كل ذلك تغشيه موجة من الفرح العابر، لا تكاد تستر من معالمه شيئا، ولا تخفى من آياته قليلا.
كان أفراد من المشاهدين يرقبون هذه المظاهر، ويلمحون هذه المعاني، فيفاجئ بعضهم بعضا بما يفطن إليه منها. ثم انثنوا بين مثن وناقد. على أن الحوادث كانت تمر بهم ولا أثر لهم في مسلكها، بيد أنها لا تتركهم إلا بمرارة لاذعة تتوطن النفوس وتقتعد غوارب القلوب، وهم لا يملكون لوقعها تخفيفا.
استقر ركب السلطان الغوري بالقلعة، فجلس على سرير الملك، وقبل الأمراء الأرض بين يديه. فأفاض عليهم خلعه ومنحه، من أقمشة نفيسة وأردية غالية، ومناصب سامية. وكلما أفاض على أحدهم شيئا، جأر له بالدعاء. وانصرف حامدا إلى داره في موكب حافل.
تتابعت على هذا النسق مواكب الخليفة والأمراء. وكانت مجالا لمسرة الناس وابتهاجهم. ونودي للسلطان في أرجاء القاهرة، فأقامت المدينة بقية نهارها وعامة ليلها في مرح ساهر وزينة حافلة. وكأن اليوم فيه عيدان لا عيد واحد.
محمود رزق سليم(930/52)
العدد 931 - بتاريخ: 07 - 05 - 1951(/)
الربيع في الشعر المصري
اقترحت على الإذاعة أن أتحدث الليلة عن الربيع في الشعر المصري؛ وفي هذا الاقتراح وئام وانسجام مع (شم النسيم)؛ فأن الذين قضوا يومه البهيج المرح على بساط الربيع، يجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المنبثة في السماء والأرض، يسرهم أن يسمعوا تعبير الشعر عما شهدوه من جمال النيل، وأحسوه من فتنة واديه، ولم يستطيعوا الهتاف به ولا التعبير عنه. وما كان أحب إلى نفسي أن أهيئ لهم هذا السرور لو وجدت السبيل إليه؛ فإني قرأت ما نظم الشعراء المصريون قدماؤهم ومحدثوهم في الربيع المصري، فلم أجد فيه على قلته وتبعيته صدقا في الشعور ولا مطابقة للواقع. قرأت ما قال أبن وكيع التنيسي، وابن سناء الملك، وأبن الساعاتي، وأبن نباته، والشاب الظريف، وأبن مطروح، والبهاء زهير، من نوابغ المتقدمين؛ ثم قرأت ما قال شيوخ الشعر وشبابه من صفوة المتأخرين، فلم أجد إلا كلاما عاما يقال في كل ربيع، ووصفا مجملا يصدق على كل روضة! تعبيرات محفوظة من لغة الشعر، وتشبيهات منقولة من موروث البيان، صاغها كل شاعر على حسب طاقته وآلته، فجاءت وصفا لربيع مجهول لا حقيقة له في الخارج، ولا أثر له في الذهن. أما الشعور النفسي الذي يدرك الشاعر الأصيل في جو معين ومنظر محدود وزهرة خاصة، فيصل به بين النفس والطبيعة، وبين الفكر والصورة، وبين الفن والواقع فذلك ما لا أثر له فيه. ولعلك إذا استثنيت من أشعار العرب في الربيع، شعر أبن الرومي في العراق، وشعر البحتري في الشام، وشعر أبن خفاجة في الأندلس، وجدت سائرها من هذا النمط المصري الذي تجد فيه الألفاظ المبهمة، ولا تجد فيه المعاني الملهمة. فأشعارهم في الربيع أشبه بأشعارهم في الغزل، أقلها نفسي صادق يصدر عن القلب وينقل عن الوجدان؛ وأكثرها حسي كاذب يصدر عن الحافظة وينقل عن الكتاب. والمصريون أولى من غيرهم بالعذر إذا خلا شعرهم من وحي الربيع؛ لأن الربيع الذي يزور الأرض في أبريل ومايو، لا يزور مصر إلا في أكتوبر ونوفمبر. فالخريف في مصر هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره. فأينما تدر بصرك في حقول الذرة وقصب السكر والبرسيم، لا تجد إلا رياضاً شجرا من شراب وحب، ومروجا فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبر ينساب هادرا في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافي الطرق،(931/1)
وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. لذلك أمكن شعراء الريف في وصف الخريف وأبدعوا. وأما ذلك الربيع الجغرافي الذي يقبل على مصر مع الرياح الخمسينية والعواصف الرملية والتقلبات الجوية فإنه أرادا فصول العام. يطرد النسيم بالسموم، ويخنق العطر بالغبار، ويذبل الزهر باللهيب، ويرمي الطير بالبكم، وفسد المزاج بالوخومة. ثم يكون حلوله بعد رحيل شتاء هادئ جميل، في هوائه الدفء، وفي جوه الصحو، وفي سمائه الإشراق، وفي أيامه النشاط، وفي لياليه الأنس. فإذا رأيت الريف في الشتاء، رأيت الأرض على مدى البصر قد غطاها بساط من السندس الأخضر، تخف خضرته في حقول القمح فتكون كالزمرد، وتثقل في حقول البرسيم فتكون كالفيروز؛ فلا يجد الشاعر المصري وقد أنتقل من رقة هذا الشتاء إلى قسوة ذلك الربيع ما يجده الشاعر الأوربي من الحياة والمرح والبهجة والنشوة والطلاقة حين ينتقل من شتائه المكفن بالثلوج إلى ربيعه المكسو بالورود
للربع في الشعر الأوربي أرخم الأوتار وأعذب الألحان من موسيقى
الشاعر؛ لأن الشتاء في أوربا عناد طويل وهم ثقيل: ظلام متكاثف
يحجب السماء، ومطر واكف يغمر الأرض، وبرد قارص يهرأ
الأجساد، وغمام متراكم بسد الأفق فلا ترى شعاع شمس ولا خفقة
طائر؛ وثلج متراكب يطمر الثرى فلا تجد عشبة في مرج ولا زهرة
في حديقة. والناس هناك في حنين دائم إلى الربيع، لأنه في دنياهم
حياة بعد موت، وابتهاج بعد كآبة. ولشعرائهم فيما يبشرهم بمقدمة
رقائق من الشعر الشاعر، تقرأها في البشريات الأولى، كشيوع الدفء
في النسيم، ودبيب الحياة في الشجر، وعودة العصفور المهاجر إلى
عشه، وخرير الجدول الجامد بعد صمته. فإذا أقبل الربيع متعهم بما
حرموه طويلا من جلوت الطبيعة في الأفق المشرق، والروض البهيج،(931/2)
والجو المعطر، والطير الصادحة، والضواحي الأنيقة، والغابات
الوريفة، والمتنزهات اللاعبة. والربيع الأوربي على الجملة تغيير في
النفس وتجديد في الحياة. والتغير والتجدد يلهمان القرائح الخلاقة شعرا
يمتزج فيه الوجدان بالوجود، ويتصل به الخيال بالحقيقة.
أما شعراءنا المصريون فأي جديد يأتيهم به الربيع في آفاقهم وفي أنفسهم؟ إن الشمس والدفء والصحو والطير والزهر والزرع والماء من خصائص مصر الطبيعية، لا تنفك عنها طيلة العام، حتى ألفتها المشاعر والنفوس، فلا تشتاقها لأنها لا تغيب، ولا تحتاجها لأنها لا تنقطع. ومن هنا تشابهت الفصول الأربعة في حس الشاعر، فلا يكاد يرى اختلافا بينها إلا في حيوية الشتاء وشاعرية الخريف. ولذلك لم يجد الشعراء ما يقولونه في الربيع. فإذا قالوا مدفوعين بغريزة المحاكاة أو بشهوة المعارضة، قالوا كلاما قد يكون منضد الألفاظ، مجود التشابيه، ملون الصور؛ ولكن الفرق بينه وبين الشعر الصحيح يكون كالفرق بين الجماد والحي، أو بين الدمية والمرأة
ولقد نظرت في شعرنا القديم والجديد فلم أر شاعرا قبل شوقي ولا بعده خص الربيع بقصيدتين من محكم الشعر وجيده، إحداهما طويلة مستقلة، أهداها إلى الكاتب القصصي هول كين، والأخرى قصيدة تابعة جعلها صدرا لقصيدته التي نظمها في المهرجان الذي أقيم لتكريمه، يقول في الأولى:
آذار أقبل قم بنا يا صاح ... حي الربيع حديقة الأرواح
وأجمع ندامى الظرف تحت لوائه ... وأنشر بساحته بساط الراح
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها ... فالصفو ليس على المدى بمتاح
واجلس بضاحكة الرياض مصفقا ... لتجاوب الأوتار والأقداح
إلى أن يقول:
ملك النبات فكل أرض داره ... تلقاء بالأعراس والأفراح
منشورة أعلامه من أحمر ... قان وأبيض في الربى لماح
لبست لمفدمه الخمائل وشيها ... ومرحن في كنف له وجناح(931/3)
الورد في سرر الغصون مفتح ... متقابل يثني على الفتاح
ضاحي المواكب في الرياض مميز ... دون الزهور بشوكة وسلاح
مر النسيم بصفحتيه مقبِّلا ... مر الشفاه على خدود ملاح
هنك الردى من حسنه وبهائه ... بالليل ما نسجت يد الأصباح
ينيبك مصرعه وكل زائل ... أن الحياة كغدوة ورواح
ويقائق النسرين في أغصانها ... كالدر ركب في صدور رماح
والياسمين لطيفة ونقيه ... كسريرة المتنزه المسماح
متألق خلل الغصون كأنه ... في بلجة الاصباح ضوء صباح
ثم يقول في الأخرى:
مرحباً بالربيع في ريعانه ... وبأنواره، وطيب زمانه
زفت الأرض في مواكب (آزا ... ر) وشب الزمان في مِهرجانه
نزل السهلَ ضاحك البشر؛ يمشي ... فيه مشي الأمير في بستانه
عاد حَلياً براحتيه ووشياً ... طول أنهاره، وعرض جنانه
لف في طيلسانه طور الأ ... ض فطاب الأديم من طيلسانه
ساحر، فتنة العيون، مبين ... فصَّل الماء في الربا بجمانه
عبقري الخيال، زاد على الطيف، وأربى عليه في ألوانه
صبغة الله، أين منها رفائيل، ومنقاشه وسحر بنانه؟
رَّنم الروض جدولا ونسيما ... وتلا طيرَ أيكه غصن بانه
وشدت في الربا الرياحين همساً ... كتغني الطروب في وجدانه
كل ريحانة بلحن؛ كعرس ... أُلفت للغناء شتى قيانه
نغم في السماء والأرض شتى ... من معاني الربيع، أو ألحانه
هذه وتلك أيها السادة أبيات من قصيدتي شوقي في الربيع؛ وهما كما علمتم مما سمعتم مثالان من الشعر العالي الطبقة الرفيع النسق إذا وازناهما بالمأثور من الشعر المصري في هذا الباب، وربما انقطع نظيرهما أو ندر في الشعر العربي كله! ولكننا إذا وازناهما بما قرأنا في موضوعهما من الشعر الأوربي شالت كفتهما في هذه الموازنة. فإن شوقي رحمه(931/4)
الله جرى على مذهب من سبقوه، فلم يصف فيهما ربيعا بعينه، في إقليم بعينه، يصح أن يخلط به نفسه، ويضيف إليه شعوره، ويعرض ما يرى فيه من شجر وطير وعطر وفتون، على ما يجد في نفسه من حب وذكرى ونشوة وصبابة، فيأتلف المنظر والناظر، ويتحد الشعور والشاعر؛ إنما وصف شوقي ربيعا عاما كما تخيله لا كما رآه، وكما تمثله لا كما أحسه، فجاء الوصف معجما مبهما قد يعجب ويطرب بألفاظه، ولكنه لا يؤثر ولا يعرب بمعانيه. والقصيدتان على أي اعتبار مشاركة جميلة من الشعر المصري للشعر العالمي في تمجيد ذلك السر الذي يبثه الله كل سنة في الربيع، فيعيد الحياة، ويرجع الشباب، ويجدد الأمل، وينشر الجمال، وينشأ عنه في الدنيا هذا البعث العجيب!
أحمد حسن الزيات(931/5)
3 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
الكذب على رسول الله:
شر الرذائل كلها الكذب، لا يختلف في ذلك أحد، وليس في خلال الإنسان أسوأ من خلة الافتراء، ولا في أدواء الجماعات أعضل من داء البهتان.
ولئن كان الكذب بين الأفراد والجماعات مما يمكن تداركه والقضاء عليه، فإن بلاءه ولا ريب يكون عميما وضرره يكون عظيما إذا كان على مثل رسول الله (ص) فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، إذ هو رسول دين عام، وصاحب شريعة للناس كافة. وقد أخرج البزار وأبو يعلى والدارقطني والحاكم في المدخل عن سعيد بن عمرو بن نفيل قال:
قال رسول الله (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد)
وقد أتت الرسالة المحمدية بأصول في العقائد ليس لإنسان مهما بلغ من العلم أن يغير أصلا من أصولها، وجاءت بأحكام للعبادات لا يجوز لأحد أن يزيد فيها، أو ينقص منها، أو يعدل شيئا من صورها أو أزمانها؛ لأن الدين كما هو معلوم للدارسين مبني على أصلين (1) لا يعبد إلا الله (2) ولا يعبد بما أمر. وما عدا ذلك من نظم العمران، وقواعد الاجتماع، فقد وضع له الدين أسساً عامة من العدل والرحمة وعدم الضرر والصدق والأمانة والإحسان وما إليها من الفضائل، وهذه الأسس العامة قد وضعت ليهتدي بها الناس في كل زمان، وتشرق بضيائها على كل مكان
فهذا الذي جاءت به الرسالة المحمدية وبخاصة ما نطق به الرسول، لا يصح أن يشوبه ما ليس منه، ولا يخالطه ما يغايره، ومن أجل ذلك كان أشد ما يخشاه صلوات الله عليه أن يكذب أحد عليه، وقد شدد في هذا الأمر تشديداً عظيماً حتى جعل جزاءه القتل في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة
روى البخاري وغيره عن ربعي بن خراش قال: سمعت عليا يقول، قال النبي: (لا تكذبوا علي فإن من كذب علي فليلج النار)
قال الحافظ أبن حجر في شرح هذا الحديث: يؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ (يلج النار) وفي رواية يولج. وروى البخاري عن أنس وأبي هريرة وفيهما زيادة لفظ(931/6)
(متعمداً) ورويت كذلك أحاديث في غير البخاري بهذه الزيادة، ولكن من حقق النظر وأبعد النجمة في مطارح البحث يجد أن الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة - ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين - تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الزيادة، وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي (ص) قد نطق بها لمنافاة ذلك للعقل والخلق اللذين كان الرسول متصفا بالكمال فيهما
وأقطع دليل في هذا الأمر الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن الزبير الذي جاء فيه، قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما أني لم أفارقه ولكني سمعته يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) ورواه الدارقطني بهذه الزيادة (والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً!)
ورواية أبن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) - وقال - أراهم يزيدون فيه متعمداً، والله ما سمعته قال متعمداً: وفي نسخة (أنهم) يزيدون.
وقال الحافظ أبن حجر في شرح هذا الحديث (وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه في اختبار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدا أم خطأ. . . إذ الإكثار مظنة الخطأ. .)
وقال الحاكم في المدخل (إن موعد الكاذب عليه في النار) وقد شدد (ص) في ذلك وبين أن الكاذب عليه في النار؛ تعمد الكذب أم لم يتعمد، في قوله (ص) فيما رواه أبن عمر (إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار) وقد زاد تشددا بقوله فيما رواه عثمان بن عفان (من قال علي ما لم أقل) فإنه إذا نقله غير متعمد للكذب استوجب هذا الوعيد من المصطفى
ومن روايات هذا الحديث (من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار) قالوا وهذا أصعب ألفاظه وأشقها لشموله للمصحف واللحان والمحرف
الكذب على النبي قبل وفاته:
لقد كذب على النبي صلوات الله عليه وهو حي، فقد جاء في كتاب أصول الأحكام لأبن حزم الظاهري أنه كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم وعليه حلة! فقال إن رسول الله كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى. وكان قد خطب منهم امرأة فلم يزوجوه. فأنطلق على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله فقال:(931/7)
(كذب عدو الله) ثم أرسل رجلا فقال: (إن وجدته حيا فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار)
وأخرج أبن سعد في الطبقات والطبراني عن المقنع التميمي قال: (أتيت للنبي بصدقة إبلنا فأمر بها فقبضت. فقلت إن فيها ناقتين هدية لك، فأمر بعزل الهدية عن الصدقة، فمكث أياماً وخاض الناس أن رسول الله باعث خالد بن الوليد إلى رفيق مضر فمصدقهم، فقلت والله ما عند أهلنا من مال! فأتيت النبي (ص) فقلت له: إن الناس خاضوا في كذا وكذا!! فرفع النبي يديه حتى نظرت إلى بياض إبطه وقال. (اللهم لا أحل لهم أن يكذبوا علي) قال المقنع: فلم أحدث بحديث عن النبي إلا حديثاً نطق به كتاب أو جرت به سنة يكذب عليه في حياته فكيف بعد موته؟)
وفي هذا الكلام فوائد كثيرة لا نطل ببيانها
الكذب على النبي بعد وفاته:
وإذا كان قد كذب عليه في حياته، فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته صلوات الله عليه وكبار الصحابة متوافرون. وقد استفاض هذا الكذب بعد وفاة عمر لأنه كان - كما علمت - يخيف الناس حتى أفزعت كثرة الأحاديث على رسول الله كبار الصحابة وأمضتهم
فقد روى مسلم في مقدمة صحيحة بسنده عن طاووس قال: جاء هذا إلى أبن عباس (يعنى بشر بن كعب) فجعل يحدثه فقال له أبن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له. فقال: ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟
فقال أبن عباس: (إنا كنا نحدث عن رسول الله إذا لم يكن يكذب عليه! فلما ركب الناس الصعبة والذلول تركت الحديث عنه)
وجاء بشر العدوي إلى أبن عباس فجعل يحدث ويقول، قال رسول الله! قال رسول الله! قال. فجعل أبن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه! فقال. يا أبن عباس، مالي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع؟ قال أبن عباس إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلا يقول، قال رسول الله ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف
وأخرج مسلم عن أبن سيرين قال: لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد حديث،(931/8)
فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث؛ فنظر من كان من أهل السنة أخذ من حديثه، ومن كان من أهل البدع ترك حديثه
نجتزئ بهذه النصوص التي تدل على أن الرسول (ص) قد كذب عليه في حياته وبعد مماته، ولم يكن ذلك من أصحاب البدع والأهواء فحسب، ولكن كان من الصالحين - كما سنبين ذلك في فصل (الوضاع الصالحون) إن شاء الله
المنصورة
محمود أبو رية(931/9)
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
سودي يا بريطانيا ... وأحكي
هذا هو نشيد القوم وحداؤهم، ولكنه ليس هتافا تردده الألسنة والحناجر، وتقعد عن تحقيقه الهمم والعزائم، وإنما هو دينهم الذي ارتضوه، ومذهبهم الذي اعتنقوه، يقدمون أرواحهم فداء له، ويستعذبون الردى في سبيله، ولا عجب فإنهم يقولون (إذا ذهبنا فإنجلترا باقية
وبريطانيا التي أحدثك اليوم عنها أيها الصديق الكريم هي سيدة البحار، وحاملة لواء الاستعمار، زعيمة الديمقراطية، و (دينامو) السياسة الدولية، وهي تجثم على صدر العالم وتتحكم فيه، ولعلك تلمس في جميع المشاكل القائمة الأصابع البريطانية
ومن واجبنا نحن الشرقيين أن نعرف مواطن الضعف في أنفسنا فنعمل على إزالتها، يدفعنا إلى ذلك عاملان: أولهما حبنا لأوطاننا ولحرياتنا، ونحن إذ نفعل ذلك لا نبغي إثما ولا عدوانا؛ وإنما نريد أن نعيش أحرارا كراما. . وثانيهما أن ديننا يأمرنا بذلك، فهو يطلب إلينا أن نكون أعزة في بلادنا، وقد وعد الله المجاهدين منا إحدى الحسنيين، فإما نصر في الدنيا وعزة وكرامة، وإما استشهاد وقد كرم الله الشهداء حيث قال (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار. . لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
وعندي أنه لكي تحقق الأمة آمالها وأهدافها لا بد لها من أمرين: أولهما إيمانها بقضيتها، ذلك أنه لا انتصار لأمة لا تؤمن بحقوقها ويختلف أفرادها في حقيقة مطالبها، فإن هذا الخلاف يستغله الغاضب الأجنبي لإيقاع الفرقة في صفوف أبنائها مما يؤدي إلى انحلالها، وهذه السياسة هي ما اتفق على تسميته بسياسة (فرق تسد)
والأمر الثاني أن تعمل الأمة على إعداد أفراد شعبها من الناحيتين الروحية والعسكرية: فالجندي الذي لا يؤمن بالقضية التي يحارب من أجلها يكون قلبه هواء؛ وسرعان ما يولي الأدبار حين ينزل في ساحة الوغى والقتال. وكذلك ليس من العدل أن نرسل الأفراد العزل، إلى ميادين النزال حيث تلتهمهم المدافع والقنابل
إذا تحقق هذان الأمران، وعرف كل فرد من أفراد الأمة قضية بلاده وحقوقه المهضومة،(931/10)
وعمل على استخلاصها من يد الممثل الأجنبي، فتأكد يا صديقي أن أمة هذا شأنها لا بد واصلة إلى تحقيق أهدافها وغاياتها
واجب علينا إذن أن نعرف مواطن الضعف في أنفسنا فنقومها؛ وواجب علينا أيضا أن نعرف مواطن القوة في غيرنا فنعمل على الأخذ بأسبابها في بلادنا؛ وبريطانيا هي المحرك الأول لسياسة الدنيا في هذا العصر، ولعل من الخير لنا أن نحاول فهم الأسباب الرئيسية لقوتها وعظمتها
الأسد البريطاني:
حاول أيها الصديق الكريم أن تنظر إلى خريطة سياسية للدنيا، وسيسترعي انتباهك حتما سعة أملاك بريطانيا مما جعل البريطانيون على حق فيما يذهبون إليه من (أن أملاكهم لا تغرب الشمس عنها أبدا). ويذكرنا ذلك باتساع الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الزاهر مما دفع الخليفة هارون الرشيد أن يخاطب سحابة كانت تمر به قائلا: (أمطري حيث شئت يأتني خراجك)
تمتاز الأملاك البريطانية باتساعها، ولا عجب، فإن بريطانيا تحكم ثلث اليابس، إذ تملك أستراليا وتجثم على صدر معظم أفريقيا، وتتحكم في معظم آسيا، ولها ممتلكات واسعة في أمريكا
ولعل مما يثير اهتمامك وانتباهك أيضا أن بريطانيا شديدة أشد الحرص على أن تكون مفاتيح البحار في يدها، فلها في كل بحر من البحار، ومحيط من المحيطات، جزائر متناثرة، ولكن أهميتها عظيمة لأنها مأوى الأسطول البريطاني الذي تسود به بريطانيا على الدنيا
الأسطول البريطاني:
بريطانيا سيدة البحار، هذا هو ما تزعمه وهو صحيح من غير شك، فما يزال الأسطول البريطاني (الدرع الواقي) لإنجلترا حتى أيامنا هذه؛ بل إنني أعتقد بحق أن الجندي المجهول الذي كسب لبريطانيا الحرب الأخيرة، مع أن الناس لم يشعروا بقيمة الحرب البحرية في الحرب الأخيرة ولم يقدروها حق قدرها(931/11)
ولعلنا نذكر أن ألمانيا قد استطاعت أن تكتسح أوربا في فترة وجيزة حتى بلغ بها الأمر أن استولت في ليلة واحدة على دولتين: هما النرويج والدانمارك، وفي مدى أسبوع سقطت فرنسا تحت أقدامها، وأصبحت ألمانيا سيدة أوربا ولم يبق أمامها سوى إنجلترا
وقد وجهت ألمانيا إلى بريطانيا طائراتها فأخذت تقذف عاصمتها بوابل من قنابلها ليلا ونهارا، وكانت تبغي من غير شك إضعاف نفسية الشعب الإنجليزي حتى تضطر حكومته إلى طلب الصلح. ولكن الخلق الإنجليزي لا يبدو واضحا جليا إلا في أوقات الأزمات؛ فقد صمد الشعب الإنجليزي وخاب فأل الألمان
ولعلك تسألني لم لم ترسل ألمانيا قواتها فتحتل أرض بريطانيا كما فعلت مع فرنسا وأنا أجيبك بأن ألمانيا قد فكرت في ذلك من غير شك، فلما تحققت أن الأسطول البريطاني واقف لها بالمرصاد نكصت على عقبيها وارتدت عن فكرتها ولجأت إلى الحرب الجوية وانتهى الأمر بفشلها، وظلت ألمانيا حبيسة في داخل القارة. ولما تمكنت إنجلترا من جمع حلفاء حولها نظمت قواتها وقوات حلفائها وعمدت إلى إثارة الشعوب الأوربية ضد ألمانيا ثم نزلت قواتها إلى البر في أرض حليفتها بالأمس فرنسا، وظلت تحارب حتى تم لها النصر، وكان الأسطول يحاصر ألمانيا وأملاكها وينقل العتاد والذخائر والمؤن إلى بريطانيا وحلفائها
لعلك قد تبينت أيها القارئ الكريم أهمية الدور الذي لعبه الأسطول البريطاني في الحرب الأخيرة، وأنا الآن أنتقل بك إلى موضوع آخر هو: كيف أصبحت بريطانيا أمة بحرية، وكيف تمكنت من إحراز السيادة العالمية البحرية؟
وأحب أن أحدثك قليلا عن بريطانيا قبل أن أجيبك عن هذا السؤال. إن تلك الدولة العتيدة تتكون من عدة جزائر أهمها جزيرتان: الجزيرة الكبرى وهي تضم إنجلترا وويلز واسكتلندا، والجزيرة الثانية وتشمل أيرلندا، وهناك عدة جزائر أخرى متناثرة حول هاتين الجزيرتين
وتقع الجزائر البريطانية في شمال غرب أوربا، ويفصلها عن القارة بحر المانش وبحر الشمال وقد كان لهذا الموقع أهمية كبرى في تاريخ بريطانيا، ذلك أنه جعلها بعيدة عن التأثر بالتيارات السياسية، والانقلابات التي تتعرض لها القارة الأوربية، وجعلها بمنجاة من(931/12)
الغزو الأوربي
كيف أصبحت بريطانيا أمة بحرية وكيف أصبحت سيدة البحار؟ لقد رأينا فيما سبق أن بريطانيا تتكون من عدة جزائر تحيط بها البحار والمحيطات، ومن طبيعة أهل السواحل أن يلجئوا إلى البحر المجاور التماسا للرزق وسعيا وراء السمك، وقد ساعد الإنجليز على ركوب البحر توفر الغابات والأخشاب اللازمة لصناعة السفن في بلادهم، ثم إن الإنتاج الزراعي لا يكفي حاجة السكان مما جعلهم يلجئون إلى البحر. هكذا تعلم البريطانيون الملاحة
وفي عصر النهضة والاستكشافات راع الإنجليز ما أحرزته إسبانيا من ممتلكات في أمريكا، وما استولت عليه من ثروات ضخمة، فبدأ ملاحوها المعروفون باسم قراصنة البحر بزعامة سير فرنسيس دريك يهاجمون السفن الإسبانية، وانضمت إنجلترا إلى جانب هولندا التي ثارت ضد إسبانيا وقدمت لها مساعدات قيمة. الأمر الذي أثار ثائرة فيليب الثاني ملك إسبانيا وبلغ النزاع أشده بين دولتين: إحداهما تتزعم المذهب البروتستانتي وهي إنجلترا، والثانية تتزعم المذهب الكاثوليكي وهي إسبانيا، فأعد فيليب أسطولا عظيما عرف باسم (الأرمادا) ليغزو به بريطانيا في بلادها، وهنا واجهت إنجلترا أزمة خانقة ولكنها وقفت ملكة (اليصابات) وشعبا في وجه الأسبان، وحطم البحارة الإنجليز الأسطول الإسباني الكبير في يوليو 1588 وهكذا بدأت بريطانيا زعامتها البحرية
على أن بريطانيا لم تلبث أن وجدت نفسها أمام دولة أخرى تنافسها في ميدان الاستعمار والسيادة على البحار وهي فرنسا، ولكن بريطانيا أخذت تنازل عدوتها، وفي خلال حرب السنين السبع 1756 - 1763 تمكنت من الاستيلاء على ممتلكات فرنسا في أمريكا والهند
وجاء عصر الثورة ونابليون، واستطاع نابليون أن يفرض - كما فعل هتلر - سلطانه على أوربا، وبقيت إنجلترا وفكر في غزوها، ولكن قوتها البحرية ردته إلى صوابه ففكر في طريقة أخرى ليضرب بها إنجلترا، ورأى أن خير طريقة، لتحقيق ذلك تكون بالقضاء عليها في مستعمراتها، ومن هنا جاء نابليون في حملته المشهورة إلى مصر 1798
وعرفت بريطانيا أن نابليون قد جاء إلى مصر ليقضي على إمبراطوريتها في الهند فوقفت له بالمرصاد، وحطم بطلها العظيم نلسن الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية في(931/13)
أول أغسطس 1798 وكذلك وقف السير سدني سمث يساعد الجزار باشا في عكا مما اضطر نابليون أن يعود أدراجه من حملته على الشام إلى مصر ومنها إلى أوربا
واستمر العداء مستحكما بين فرنسا زعيمة أوربا وبين إنجلترا سيدة البحار، وجدت إنجلترا في القضاء على البحرية الفرنسية قضاء تاما، وقد استطاع نلسن أن يحقق لها ذلك في موقعة الطرف الأغر في أكتوبر 1805 إذ حطم قوات فرنسا البحرية وكذلك قوات حليفتها إسبانيا، وكتب للبحرية الإنجليزية نصرا رائعا دفع لها ثمنا حياته، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إنجلترا زعيمة البحار غير منازعة. وما يزال الإنجليز إذا ذكروا نلسن ذكروا بطلا ضحى بحياته في سبيل مجد إنجلترا وإن أنس لا أنس منظرا شهدته بعيني: فقد كان المرحوم المستر جريفث يقوم بتدريس الأدب الإنجليزي لنا وكان يقرأ (حياة نلسن) فلما وصل إلى نهاية الرواية وفيها وصف مؤثر لسقوط نلسن في ساحة الشرف وميدان القتال؛ بكى الرجل ودمعت عيناه رغم أن نلسن كان قد مات منذ أكثر من قرن وربع من الزمان
وما تزال كلمات نلسن التي وجهها إلى بحارة الأسطول قبيل المعركة دستورا للإنجليز: (إن إنجلترا تتوقع أن يقوم كل فرد بواجبه)
وقد قام كل فرد بواجبه فتحقق النصر لبريطانيا، وقام نلسن بواجبه واستشهد في المعركة، وكان أخر عبارة فاه بها: (حمدا لله وشكرا، لقد أديت واجبي)
وقد كان من نتائج هذه المعركة أن ظل نابليون محبوسا في أوربا لا يستطيع عنها حولا، وظلت إنجلترا تقاومه حتى سلم نفسه إليها فنفته إلى جزيرة سانت هيلانة حيث قضى بقية حياته
وجدير بي أن أذكر قبل اختتام حديثي أنه في 1912 قرر قيصر ألمانيا إنشاء ست بوارج حربية، فقررت إنجلترا إنشاء 12 بارجة واحتج القيصر، ولكن بريطانيا ردت عليه قائلة، إن الأسطول البريطاني يجب أن يكون في تعداده وقوته مماثلا لأساطيل الدولة مجتمعة
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(931/14)
مع أبي تمام في آفاقه:
قصيدة النار
- 4 -
للأستاذ محمود عزت عرفة
تتمة
. . . وثالثة القصائد التي أنشأها أبو تمام في الأفشين هي هذه لرائية الهاجية الشامتة التي لا تزال موضوع حديثنا. ولقد كانت أبياتها في وصف النار والمصلبين موضع العجب والإعجاب - كما رأينا - لدى القدماء والمحدثين جميعا. ذلك أنها تصوير مبتكر دقيق، لمنظر لنا أن نعده مبتكرا دقيقا أيضا، بما لابسه من هول المشهد وروعته، مشوبا بفرحة النفوس لهذا النصر المتتابع يمثله الخليفة لأبناء سامرا في جثث أربع، لأربعة من رؤوس الكفر والخلاف وأهل العداوة للإسلام هم: بابك الخرمي، والمازيار بن قارن، وناطس الرومي نائب عمورية، وحيدر الأفشين. إنه المشهد الذي قرت العيون بما تنظر منه، وهشت الأسماع لما تسمع عنه، وتلقت القلوب منه البشرى تبهجها فتطغيها، وأعلنت له الشماتة التي كانت في شرعة الفضيلة عاراً، فأصبحت بعد مما يرحض به العار. . .
يا مشهدا صدرت بفرحته إلى ... أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما ... وجدوا الهلال عشية الإفطار
واستنشقوا منه قتاراً نشره ... من عنبر ذفر ومسك (داري)
وتحدثوا عن هلكه كحديث من ... بالبدو عن متتابع الأمطار
وتباشروا كتباشر الحرمين في ... قحم السنين بأرخص الأسعار
كانت شماتة شامت عاراً فقد ... صارت به تنضو ثياب العار
ثم يعود أبو تمام فيستعرض وجوه النعم التي حظي بها الأفشين في ظل المعتصم، فهو قد أحله من قلبه مكانة لا تنفذ إليها مؤثرات الأحداث، وأرتعه من العيش الهنيء في أطيب مرتع، وبوأه جانب الأمن والسلامة من أن يتقلب عليه قلبه، أو تأخذه بوقيعة يده؛ لأنه كان يطمئن إليه أكثر مما يطمئن الأب الكريم إلى أبنه البار. ثم ماذا؟ ثم تكشف الأفشين فجأة(931/15)
عن طوية خبيثة، فإذا هو يسر الكفر إسرارا، ويصر على اعتقاده إصرارا؛ بل هو يحن إلى سالف عهده فيه حنيناً لا يخرجه منه إلا أن يرتد إليه، ويبكي مجد مجوسيته الذاهب بكاء من فقد آثر الأشياء عنده وأعزها إليه:
قد كان بوأه الخليفة جانباً ... من قلبه حرماً على الأقدار
فسقاه ماء الخفض غير مصرد ... وأنامه في الأمن غير غرار
ورأى به ما لم يكن يوما رأى ... عمر بن شأس قلبه بعرار
فإذا أبن كافرة، يسر بكفره ... وجداً كوجد فرزدق بنوار
وإذا تذكره بكاه كما بكى ... كعب زمان رثى آبا المغوار
وحديث عمرو بن شأس الأسدي مع زوجته وولده مشهور كانت له امرأة من رهطه يقال لها أم حسان بنت الحارث، وكان له أبن يقال له عرار من أمة له سوداء، فكانت تعيره به وتؤذي عرارا ويؤذيها، وتشتمه ويشتمها. فلما أعيت عمراً بالأذى والمكروه في أبنه، قال الكلمة التي فيها هذه الأبيات:
ألم يأتها أني صحوت وأنني ... تحلمت حتى ما أعارم من عرم
وأطرقت إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغا لنابيه الشجاع لقد أزم
فإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
وإن عراراً إن يكن ذا شكيمة ... تقاسينها منه، فما أملك الشيم
أردت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم!
أما وجد الفرزدق بزوجته (نوار) وندمه على تطليقها، فليس يعد لهما وجد ولا ندم. وهو القائل في ذلك
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
والذي يشير إليه أبو تمام من وثاء كعب لأبي المغوار، هو البائية التي أنشدها كعب بن سعد الغنوي في رثاء أبي المغوار واسمه هرم أو شبيب، وفيها يقول:
ودع دعا: يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجيبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة ... لعل أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل، إنه ... مجيب لأبواب العلاء طلوب(931/16)
فإني لباكيه، وإني لصادق ... عليه، وبعض القائلين كذوب
وكان في آل كاوس جماعة من ذوي النفوذ والجاه كالفضل أبن كاوس أخي الأفشين الذي أبلى معه في حرب الخرمية بلاء عظيما. والحسن بن الأفشين زوج أترنجة أبنة القائد أشناس وكان يطمع في بعض مناصب الولاية في خراسان. فكان مقتل الأفشين مما يستوجب الضرب على أيدي أمثال هؤلاء ممن لا تؤمن بادرتهم، وقد نجحت خطة المعتصم في ذلك بمعونة عبد الله بن طاهر ولم يكن ليغيب عن أبي تمام لزوم هذا الإجراء الحاسم، فهو يذكره للمعتصم ويشير به عليه؛ ويذكر الأحرج في إلحاق أعيان آل كاوس بمصير سيدهم، لأنهم جميعا أهل فتنة وخلاف. ولئن كان الأفشين قد لقي من بينهم جزاء ما أظهر من خيانة، فكل منهم في خبيئة نفسه وباطن أمره (أفشين). فحقهم أن يلقوا ما لقي، وأن يذوقوا الكأس التي ذاق
ولا يفوت أبا تمام كعادته أن يستشهد على هذه الحقيقة بحوادث الغابرين، وأن يستنبط لها الأمثال من سير الماضين. فهو يذك لنا السامري صاحب موسى، وقدارا أشأم ثمود. وعنده أنهما لم يركبا من الشر ما ركبا إلا وكل منهما مؤيد من قومه بما طبعت عليه نفوسهم من الشر. وكأنما كان الله - سبحانه - ينظر إليهم بهذه العين حين شملهم بسخطه وعذابه جميعا وإذاً فليس أمام المعتصم إن تحرى الحزم والسداد إلا أن يأخذ جميع آل كاوس بجريرة صاحبهم الأفشين:
يا قابضا يد آل كاوس عادلا ... أتبع يميناً منهمو بيسار
ألحق جبيناً دامياً رملته ... بقفا، وصدرا خائنا بصدار
واعلم بأنك إنما تلقبهمو ... في بعض ما حفروا من الآبار
لو لم يكد للسامري قبيله ... ما خار عجلهمو بغير خوار
وثمود لو لم يوغلوا في ربهم ... لم ترم ناقته بسهم قدار
ثم يختم الشاعر الموضوع الأصيل من قصيدته بإعادة ذكر المصلبين وقد لبست أجسادهم من لفح النار سوادا كالقار. ثم عبثت بها أيدي النسائم فانعطف بعضها إلى بعض كأنها في سرار ومناجاة.
ويذكر بعد ذلك أنهم ركبوا مطايا ضوامر ليست كالجياد من لحم وعصب، ولكنها من حديد(931/17)
وخشب، وأنهم في امتطائهم إياها كانوا أشبه شيء بالسفر المغذين وهم مع ذلك لا ينقلون قدما أو يبرحون موضعا. وقد ذكرنا ثلاثا من هذه الأبيات أنشدت في مجلس محمد بن منصور، ونحن نعيد الأبيات هنا بجملتها، وهي ستة:
ولقد شفى الأحشاء من برحائها ... أن صار بابك جار مازيار
ثانيه في كبد السماء، ولم يكن ... لاثنين ثانيا إذ هما في الغار
وكأنما ابتدرا لكيما يطويا ... عن ناطس خبرا من الأخبار
سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعا من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار
وفي البيت الأول (ولقد شفى الأحشاء. . . الخ) إشارة إلى أولى التهم التي أخذ بها الأفشين، وهي حضه مازيار بن قارن على الخلاف في طبرستان. وفي الحق إنها كانت أخطر هذه التهم كذلك، ومن أجلها وحدها تقرر مصير الأفشين وصحت نية الخليفة على الإيقاع به. . .
ويكفي للتدليل على ذلك أن نقول إن القبض على الأفشين وقع قبل الدخول بمازيار إلى سر من رأى بيوم واحد. حكي ذلك الطبري فقال: (جلس المعتصم في دار العامة لخمس ليال خلون من ذي القعدة (225هـ) وأمر فجمع بينه - يعني مازيار - وبين الأفشين. وقد كان قبل ذلك بيوم. .) وإذاً فلم يكون سائر ما ألصق بالأفشين من تهم - إلى جانب تحريضه مازيار - إلا نوعا من الاستقصاء، وتلمسا لما يبرر الانقلاب عليه، وإخلاء موضعه منه. أو قل إن ضعف هذه التهمة. وقد أشرنا قبل إلى اضطراب الروايات حولها - استدعي أن يضاف إليها ما يعززها، ويضاعف من نسجها _
أما البيت الذي قال فيه:
وكأنما ابتدرا لكيما يطويا ... عن ناطس خبراً من الأخبار
فقد كان يند عني فهم المراد منه، حتى وقعت على تفسير له في تاريخ المسعودي. قال: ومالت خشبة مازيار إلى خشبة بابك فتدانت أجسامها، وكان قد صلب في ذلك الموضع ناطس بطريق عمورية، وقد انحنت نحوهما خشبته، ففي ذلك يقول أبو تمام: ولقد شفي(931/18)
الأحشاء. . . الأبيات
ولقد تجنى صاحب (الموازنة) على أثنين من هذه الأبيات، أولهما قوله:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... لاثنين ثانياً إذ هما في الغار
أورده (ولم يكن لأثنين ثان) ثم قال: كان يجب أن يقول (ثانيا) لأنه خبر يكن، واسمها هم اسم بابك مضمر فيها. فليس إلى غير النصب سبيل في البيت وإلا بطل المعنى وفسد. ونقول: إن المعنى يبطل حقا بالرفع ويفسد؛ ولكن رواية النصب هي المأثورة، وقد وردت في الديوان، ويستلزم ذلك وصل الهمزة المنقطعة في (إذ) وتلك ضرورة شعرية يبررها استقامة البيت معها إعرابا ومعنى
أما البيت الثاني فقوله:
لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار
يقول الآمدي: قال بعض الأعراب يصف المصلوب، وأنشد ثعلب:
قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه
كأنما يضحك في إشراقه
أخذ أبو تمام قوله: آلف مثواه على فراقه فقال: لا يبرحون. . البيت. وهكذا يعتد الآمدي هذا البيت من سرقات أبي تمام على وجه من التكلف بغيض، يكاد يطالعنا في كل ما عقده القدماء تحت عنوان (السرقات الشعرية)
وإلى هنا يفرغ أبو تمام من المعاني التي حشد لها فكره مما يتصل بحياة الأفشين وموته؛ وهو كما يرى القارئ، وكما شهد له معاصره، كان كثير الاتكاء على نفسه، حفيا بكل معنى مبتكر، يعني باستنباطه نفسه، ويشحذ له جد ذهنه، لا يحس في ذلك كلالا ولا يستشعر وهنا؛ حتى لكأنه يأخذ نفسه دائماً بما وصف به بعض شعره حين قال:
أما المعاني فهي أبكار إذا ... نصت، ولكن القوافي عون
ولا يختم أبو تمام قصيدته قبل أن يشيد باستحسان ما أقره المعتصم من ولاية العهد لأبنه هارون (الواثق بالله) ففي ذلك جمع لشمل المسلمين، وتحر لمصلحتهم. مع قمع شياطين الفتنة، وتوطيد دعائم الحكم العادل، وضمان صيانة هذه الملك العريض أن يفرط عقد أقطاره، أو يتعطل معصمه من سواره، وفي ذلك يقول أبو تمام:(931/19)
فاشدد بهارون الخلافة إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار
بفتى بني العباس والقمر الذي ... حفته أنجم يعرب ونزار
ثم يقول:
فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضي البرية هديه، والباري
ليسير في الآفاق سيرة رأفة ... ويسوسها بسكينة ووقار
فالصين منظوم بأندلسي إلى ... حيطان رومية فملك ذمار
ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار!
ويختم أبو تمام قصيدته بهذا المقطع الذي يرتقي به إلى أعلى ذروة المديح، ويسجل لبني العباس - بل لآل هاشم جميعا - مجدي الدين والدنيا، وعزتي النبوة والخلافة، وليس فوق هذين غاية تطلب ولا مقصد يرام:
فالأرض دار (أقفزت ما لم يكن ... من هاشم رب لتلك الدار
سور القرآن الغر فيكم أنزلت ... ولكم تصاغ محاسن الأشعار
وبعد، فهذا أبو تمام (الشاعر) عرضنا في قصيدة واحدة من قصائده. ونحن نرجو أن نكون قد جلونا للقارئ صفحة من روعة فنه، وعبقرية شعره، وتجنيح خياله، وتألق ديباجته، وأريناه إياه ملحقا في سماء القريض الفذ إلى الغاية التي يقصر دونها كل شاعر.
أما أبو تمام (الحكيم)، أبو تمام المفكر الفيلسوف، فذلك إنسان تسامع به أهل الأدب جميعا - وإن كنا نشك في أنهم عرفوه حق معرفته - منذ ما أومأ إلى هذه الحقيقة أبو العلاء في عبارته المقتضبة العابرة: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري!
(تم البحث)
محمود عزت عرفة
المدرس بمعلمات شبرا(931/20)
صحبة العبقرية
للأستاذ خليفة التونسي
مجال العبقرية (الخالقة) هي السريرة الإنسانية.
فالعبقرية إنما تتوجه برسالتها واعية وغير واعية إلى هذه السريرة التي لا مجال لها تعمل فيه عملها سواها، وهي تعدي بإيمانها من يقدر له الاتصال بها (شخصيا) (من المستعدين) لتقبل فيوضها، والتشبع بها إلى درجة الامتلاء
ويبلغ من تأثير هذه (العدوى) أن تستجيش في سريرة المستعد لها كل بواعث الحياة والوعي والشعور بالواجب حتى ليبدو بعدئذ كأنه قد خلق في (صحبتها) خلقا جديدا، ويبلغ من تأثيرها أن ترفعه حتى يبلغ مرتبة (الاجتهاد) في رسالة العبقري، بل في غيرها من وجوه النشاط البشري، حتى يظهر كأنه هو أيضا (ملهم) كالعبقري، وذو رسالة كرسالته
وهذه ظاهرة تلازم كل عبقرية (خالقة) في الوجود، من خلال صلاتها بأتباعها الذين (صحبوها)
وقد أشرنا إلى هذه الملاحظة في مقال سابق نشر بهذه المجلة (الرسالة 883) عنوانه (مجال العبقرية)، وضربنا هناك مثلا لهذه الظاهرة حواريي السيد المسيح الذين (صحبوه) في حياته التبشيرية القصيرة ثم استطاعوا أن ينهضوا بحمل رسالته من بعده، وما كانوا أولا غير طائفة من صيادي السمك وأشباههم سذاجة وعامية، ومع ذلك استطاعوا أن يثبتوا في الجدل والكفاح لأساطين كهنة اليهود وأحبارهم (الذين كانوا قد فقهوا حق الفقه صفوة الثقافات الدينية والعلمية والفلسفية التي كانت معروفة في عهدهم، وانتصروا عليهم حتى في تفسير الشريعة الموسوية التي هم كهنتها وأحبارها، وكانوا إذا خطبوا أو تحدثوا - وهم العوام - نطقوا بالبيان الساحر الذي يزلزل القلوب ويهز العقول، فلا تملك حيال بلاغته العارمة ما يدفعها، فإما أن تؤمن بها، وإما أن تنحرف عن طريق سيلها الغامر) كما مثلنا لهذه الظاهرة أيضا ببعض صحابة النبي الأقربين، وفيهم باري النبال والجزار والحداد وراعي الغنم والعبد المسخر المستضعف، وقد بلغوا ما بلغوا من الاقتدار والأستاذية في التشريع، والحكم، والنصح للخلفاء وعامة المسلمين، وتسكين الهزاهز التي نجمت أمامهم من كل أفق، فأبلوا فيها كأعظم ما ينبغي البلاء، مع أنهم كانوا (رواد) مجاهل لا عهد لهم(931/21)
بمثلها، ولم تكن لديهم سوابق كافية يستأنسون بها في توسم تلك المشكلات الضخمة الكثيرة، وفي الطب لها
وإذا صحت هذه الملاحظة تكشف لنا مدى ما تغدقه العبقرية الهادية على (صحابتها) المستعدين لها من فضل في تصفية سرائرهم، وتصحيح ضمائرهم وأذواقهم وعقولهم، كي يتوجه كل منهم الاتجاه الذي ينبغي له في الحياة حينما يتيسر له، وحيثما يتيسر، وهذا الاتجاه لا يظهر إلا متى نضجت ملكات (الصاحب) وتهيأ لها المجال الذي يناسبها، فتتمرس فيه بالتجارب التي تثير دفائنها، وتشحذها وتصقلها، وقد يتأخر ظهور اتجاه (الصاحب) إما لعدم تمام نضوج ملكاته، وإما لأن المجال المناسب لها لم يتهيأ لها
والمجالات الكثيرة المتنوعة التي تناسب كل (أصحاب) العبقري قد لا تتهيأ له ولهم غالبا في حياته كي يوجه فيها أصحابه، بل تتهيأ بعد ذهابه على يد (أصحابه) أنفسهم إذا كتب لمبدإه الاستمرار بعده، وظلوا معتصمين به
والعبقرية تستعمل أصحابها على طريقتين نستطيع أن نصطلح على تسميتهما بالطريقة (الكمية) أو (الجمعية) أو (الكتلية) والطريقة (الكيفية) أو (الفردية) أو (الذرية)
ونعني بالأولى الطريقة العادية التي تسخر بها الجماعات العامية في الحياة اليومية، فنرى الفرد في الجماعة العامة - مهما يكن ممتازا - لا بعدو أن يكون (رقما) صغيرا ضمن عملية جمع حسابية كبيرة أو صغيرة، وهذه الطريقة لا يمكن أن تظهر (كل امتياز) الفرد إذا كان ممتازا
وإنما يلجأ العبقري إلى استعمال أصحابه على هذه الطريقة إذا ذاق أمامه أو توحد المجال الذي يوجههم فيه، ولم تتح له المجالات المتعددة المتنوعة ليختار لكل صاحب منهم المجال الذي يناسب كفايته. فاستعمالهم على هذه الطريقة المسرفة التي يبتذلون فيها آية فقر من المجالات، ولا مسوغ لهذا الإسراف وهذا الابتذال إلا الضرورة، و (من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)
وموقف العبقري في هذا الحرج يذكرني بالقصة الآتية:
أرسلني أبي - وأنا غلام - إلى حقل لنا، لأشرف على أجراء يعملون لنا فيه، ولمحت هناك فلاحاً كنت أعرفه ميسور الحال، كان هو صاحب الحقل المجاور لحقلنا وعجبت له(931/22)
إذ كان يلبس جبة وقباء أثناء عمله في حقله، والمقام مقام ابتذال لا تناسبه هذه البزة القيمة، بل يتناسبه لبس جلباب أو نحوه، فملت إلى شيخ كان يقوم بخدمتنا خاصة - وكنت أعجب بعقله ودعته - وهمست في أذنه: (ألا ترى يا عم جارنا فلانا وما يلبس، يا لإسرافه وكبريائه!) وما أسرع أن همس الشيخ الأديب في أذني: (لا إسراف يا بني ولا كبرياء، بل هو الفقر) فكان عجبي لقوله أشد من عجبي لما يلبس جارنا، فسألته دهشا: (وكيف يا عم) فأجابني مبادرا: (لو كان فلان - يعني جارنا - يملك جلبابا صالحا يبتذله في الحقل للبسه، أفكان يظل قعيد بيته ويترك العمل في حقله، أم يخرج إليه عريان، أم يلبس ثوبا ممزقا قد يجده ولكنه يفضحه، إن هذا كله غير ممكن، فلم يبقى أمامه صالحا له إلا جبته وقباؤه فابتذلهما توقيا للزوم البيت وإهمال الحقل والفضيحة أمام الناس في الخروج، ولكنه مع هذا الزي وقع في فضيحة لا يفهمها إلا قليل، وشر أهون من شر) وأبي الشيخ - رحمه الله وغفر له - إلا أن يدل بمعرفته على الغلام المعتز بما وعى على أيدي معلمه وأبيه، وبما درس من كتب كان يعكف على قراءتها عكوف الوثني المخلص على وثنه، وأبى إلا أن يصدم غروره وما كان بغرور، فعقب على ذلك بقوله: (أفهمت أيها التلميذ النجيب؟ هذا علم ليس من الكتب يا بني) فأجاب الغلام (فهمت يا عمي، وصدقت فما تغني الكتب عن تجارب مثلك) وشغلته فراسة الشيخ عن الوقوف عند تبكيته وإدلاله، وكانت هذه الملاحظة من أول ما شكك الوثني في وثنه، وزعزع إيمانه به
والحق أنها ملاحظة صادقة تنطبق على جارنا الفلاح كما تنطبق على كل عبقري صاحب مذهب إصلاحي جديد حين يبتذل أصحابه فيستعملهم فيما هو دون كفايتهم وفضلهم مضطرا، إذ لا تتوفر الأعمال المناسبة لكل كفاية وفضل
ونحن نشير إلى هذا السبب لأنه أكثر شيوعا في حداثة الدعوة عند الضرورة، ولسنا غافلين عن غيره من الأسباب، فمثلا قد يحول العبقري مختاراً كمكره بين ممتاز من أصحابه والعمل الذي يناسبه، لأن إسناده إليه غير مأمون العواقب عليه وعلى العمل معا، إذ لا يزال العبقري غير واثق كل الثقة من القوى الكابحة في نفس صاحبه، ولا أمان لامتياز الممتاز إلا بهذه الكوابح الذاتية التي تحول بينه وبين الطغيان، فلو ضعف وطغى الممتاز لأفسده طغيانه وقد يفسد معه غيره، ولا احتمال لذلك والمذهب لم يستقر في السرائر(931/23)
كل الاستقرار، وهناك أسباب غير ذلك سنشير إلى بعضها بعد حين
والطريقة الثانية هي الطريقة التي يرعى فيها امتياز كل ممتاز أو خصائص كل ذي اختصاص، وتوجيهه الوجهة التي تلائم اختصاصه، فيسند إليه العمل الذي يستجيش ملكاته ويجليها ويصقلها، ويحفظ عليه ثقته بمبدإه حتى تبدو شخصيته على أوضح ما يمكن أن تكون. فما من قوة ولا استعداد في الإنسان قد خلقه الله عبثا، بل خلقه لوظيفة في الكون، فكل مواهبه إنسانية لها مجال نشاط في الحياة يقابلها، فإذا أطلقت فيه وتمرست بتجاربه تفتحت ونضجت وازدهرت
ومجالات النشاط في الحياة متعددة، والمهم أنها - مع تعددها - متنوعة، فكل مجال منها يختلف قليلا أو كثيرا عن المجالات الأخرى، فالكفاية التي يحتاج إليها تختلف قليلا أو كثيرا عن الكفاية التي يحتاج إليها غيره من المجالات
والسير على هذه الطريقة هو السير العادل الذي يعطي فيه كل ذي حق حقه، ويضعه حيث تضعه كفايته، فيتاح لكل (ممتاز) المجال الذي يزدهر فيه (امتياز) ويترك غير الممتاز في دركه الخامل حيث يمسكه قصوره الذاتي متخلفا عن الممتازين دون خطأ أو إجحاف
غير أن السير على هذه الطريقة - مع عدله - ليس ميسورا للعبقري في كل أحواله ولا سيما في أول ظهوره، وقد ألمعنا منذ سطور إلى أهم الأسباب وهو ضيق المجالات وقلبناها أمامه، كما ألمعنا إلى سبب آخر هو تخوفه من طغيان الممتاز إذا أعجبته نفسه وأخرجه الغرور عن حده، وهناك أسباب غير ذلك، على أن كل الأسباب التي تحمل العبقري على تجنب الاستقامة على هذه الطريقة العادلة، منها الضرورية الخارجة عن إرادة العبقري فلا اختيار له فيها، ومنها الاختيارية التي تستلزمها السياسة العليا للمبدأ، في هذه الأحوال لا يبدو العبقري في حيفه مختارا كل الاختيار، بل مختارا كمضطر أشد الاضطرار
فالعبقري - وهو يعرف لكل ذي فضل فضله - قد يلجأ مثلا إلى تأخير الفاضل وتقديم المفضول اعتمادا على الثقة بالفاضل دون المفضول، استرضاء لغرور المفضول أو ضعفه، أو لأن الفاضل لا يضيره تقديم المفضول عليه، أو لأن تقديم المفضول على الفاضل هو الذي يكفل للعمل الجمع بين كفايتهما معا، أو لأنه بقى الناس الأخطار التي تتهددهم من تقديم الفاضل، إذ يحمل عليهم فيض امتيازه دون ضابط يكبحه عن الطغيان إذا(931/24)