بالثمن العادي عدة مرات حتى أصبحت السوق منها في حالة تشبع، فلو أعيد طبع مثل هذه الكتب طبعات شعبية لفتحت سوقا جديدة رائجة تعود بالخير على البلاد. وأمامنا في هذا وغيرها.
وختاما تفضلوا بقبول فائق الاحترام.
محمود طه
تعقيبي على هذه الرسالة يشمل ما يلي:
1 - هل الموظفون يريدون أن يقرئوا ولكنهم لا يستطيعون شراء الكتب؟ أنا لا أسلم بهذا، فأن أي موظف يمكنه - إذا أراد - أن يستعيض عن الجلوس في القهوة بالقراءة، وما يبذله في الأولى يكفي للثانية، وهل هم - وأعني بكل هذه الغالبية لا الجميع - يستفيدون من الكتب الزهيدة الثمن التي أشار إليها الأستاذ؟ أو هل يستفيدون من دور الكتب العامة بالقراءة فيها والاستعارة منها؟ وهناك غير دار الكتب المصرية مكتبات في كثير من المصالح والدواوين وكثير من عواصم الأقاليم وخاصة مكتبات المدارس والمعاهد والكليات. أنا شخصيا قرأت أكثر ما قرأت عن طريق الاستعارة، فلم تسعفني الظروف دائما بشراء ما أردت من الكتب، ومن المعروف نفسيا أن مستعير الكتاب يسرع إلى قراءته أكثر ممن يشتريه، ولهذه الحقيقة فضل علي كبير. . .
2 - إذا سلمنا أن مسألة الثمن مشكلة، فهي مشكلة، فهي مشكلة الراغبين في القراءة ذوي الدخل القليل، وهم نادرون، والكثرة لا نريد أن تقرأ كتبا ولو أهديت إليهم.
3 - أثمان الكتب عندنا أقل من البلاد الأخرى، والكتب الرخيصة الثمن التي تصدر في إنجلترا مثلا، هي كتب قديمة يعاد طبعها بنفقات قليلة بعد أن شبع أصحابها كسبا.
4 - انصراف الناس عن قراءة الكتب يرجع بعض أسبابه إلى المؤلفين، فهؤلاء لا يكتبون في مسائل العصر ولا يصورون واقع الحياة، وإنما يهربون إلى التاريخ والدراسات، أو يعتكفون مع تأملاتهم العاجية، فالنتيجة المؤسفة أن الناس ينظرون في الكتب فلا يجدون أنفسهم فيها، فيرغبون عنها إلى الصحافة التي تربطهم بها بالواقع وتعرض عليهم صور الحياة
5 - أرى أننا نسرف كثيرا في الغض من شأن الصحافة من حيث فائدتها في القراءة، أو(907/48)
نقلل من أهميتها بالنسبة إلى المؤلفات الحديثة. حقا هناك كثير من المجلات المسلية التافهة، ولكن هذا لا ينبغي أن يجور على غيرها من المجلات ذات المنهج الثقافي؛ وكثير من الصحف اليومية والأسبوعية تنشر أشياء ذات قيمة، وقراءة كل ذلك لا شك مفيدة، وهي تمتاز على الكتب - كما سبق - بأنها متجددة، تساير الزمن، وتلائم روح العصر، وتربط القراء بعجلة الحياة.
عباس خضر(907/49)
الكتب
تاريخ داريا
للقاضي عبد الجبار الخولاني
بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني
كتاب وجيز جم الفوائد يقع في 152 صفحة من القطع الوسط
من مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق
للأستاذ عز الدين التنوخي
عهد المجمع العلمي إلى الأستاذ المحقق سعيد الأفغاني بنشر تاريخ داريا للخولاني فاستفرغ في تحقيقه وسعه، وقدم له مقدمة ممتعة في تواريخ البلدان. ولهذا التاريخ مزيتان تسترعيان الإعجاب:
الأولى: تفرده بروايات ومعلومات لا توجد في المطولات كتاريخ ابن عساكر الكبير. والثانية: بحث المؤلف عن داريا وأحوال أهلها وأنسابهم. وهو ينص آخر أكثر التراجم على ذراري أصحابها فنعلم مثلا أن صحابيا كأبي راشد الخولاني الذي سماه النبي وكناه بقي ولده يتناسلون بداريا حتى سنة 365 وهو عام قراءة تاريخ داريا على المؤلف.
وداريا كانت قديما أم قرى الغوطة، والمعقل الأول لليمنيين، وهي اليوم ثانية قرى الغوطة، بعد دوما العاصمة، وحاضرة القرى الجنوبية منها؛ ولبثت قرونا كثيرة منار العلم والأدب، فكان يقال: (من أراد العلم فلينزل بين عنس وخولان بداريا).
إن هذا التاريخ الذي يحق لأهل داريا أن يفاخروا به هو أحد تلك الكتب الجمة التي ألفها أسلافنا في تواريخ البلدان كالقاهرة والإسكندرية والصعيد ودمشق وبغداد وقرطبة وغرناطة وتونس والقيروان وغيرها. ومن مفاخر رجال داريا أبو الحسن علي بن داود المقري، وله خبر طريف يتصل بتاريخ دمشق وداريا معا ننقله على سبيل المثال لما في هذا التاريخ الممتع على إيجازه وحواشيه من فوائد. . ذلك أن أبا الحسن هذا كان يؤم أهل داريا فمات أمام جامع دمشق فخرج أهلها إلى داريا ليأتوا بإمامها إماما لجامعهم الكبير إذ لم يكن في(907/50)
دمشق خير منه، وكان فيمن خرج معهم القاضي أبو عبد الله بن النصيبي الحسيني وجلة شيوخ البلد. ولما بلغوا داريا مانع أهلوها بالسلاح في رحيل إمامهم إلى دمشق وخلو بلدتهم من فضله، فقال لهم قاضي دمشق:
- يا أهل داريا، أما ترضون أن يشيع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمام داريا ليصلي بهم؟ فقالوا:
- رضينا، وألقوا السلاح
هذا، ويدل على مبلغ عناية المحقق الفاضل الأستاذ الأفغاني الذي أخرج لنا تاريخ داريا بهذا الضبط والإتقان أن الناسخ لهذا التاريخ شبه عامي، فكثرت أخطاؤه في أعلام الرجال وأنسابهم تحريفا أو أسقاطا، فاقتصر المحقق في الحواشي غالبا على ما يتعلق بتحقيق النص وضبط أعلامه وشرح لغوياته، ولم يتعرض لذكر الروايات المختلفة للحديثلأن نهجه الذي رسمه لنفسه أن يخرج للناس أصلا مضبوطا لا شرحا مبسوطا، ولم يغفل مع ذلك ذكر وفيات الرجال التي تركها المؤلف الذي لم يذكر من 47 ترجمة إلا وفيات سبعة من أصحابها.
إن الأستاذ الأفغاني مثال لرجال العلم المفتونين بدمشق بالعلم والأدب، والذين وهبهم الله للتحقيق جميل الصبر والدأب، قابل الله جميل صنعة للآداب، بجميل حمده والثواب.
دمشق
عز الدين التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي
كتاب الخطابة لأرسطو طاليس
ترجمه وقدم له وحقق نصوصه وعلق حواشيه الأستاذ الدكتور
إبراهيم سلامه
للأستاذ أحمد محمود الحوفي(907/51)
كان أرسطو وما زال بدعا في تفكيره، وينبوعا ثرا صافيا يستقي منه الباحثون، يعتزون بآرائه، ويفصلون فيها القول، ويشققون منها الأدلة كأنها من وحي هذا العصر.
وقد فطن العرب في عصرهم الذهبي إلى نفاسة مؤلفاته، فترجموا بعضها، ثم استقل في العصر الحاضر معالي الأستاذ لطفي السيد باشا بترجمة كتاب الأخلاق ولكن (كتاب الخطابة) - وهو من أجل كتب أرسطو وأصحها نسبة إليه - نال بعيدا عن اللسان العربي في صورته الصحيحة الكاملة إلى أن نهض بترجمته (الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة) ترجمة دقيقة أمينة سلسلة موسومة بطابع الأديب الذواق حين ينقل من لغة يدرك بلاغتها إلى لغة يفقه أسرارها.
ولم يشأ أن يحبس عمله على الترجمة وحدها، ولو أنه فعل ذلك وحده لكان جديرا بالشكران، وإنما قدم الكتاب بمقدمة حافلة في نحو مائة صفحة، تشع نورا على أرسطو، وعلى كتاب الخطابة وهي وحدها بحث قيم، بل كتاب مستقل خليق بالإعجاب.
عرض المترجم في المقدمة حياة أرسطو وكتبه، وأثبت أصالة كتاب الخطابة من حيث أنه صحيح النسبة لأرسطو فليس لا لغيره ممن تقدمه من الخطباء أو ممن تأخر عنه من تلاميذه. ومن حيث إن أفكاره أصيلة في نفس أرسطو، فهو كما يقول (أرنست هافي (ذو طريقة ونهج تفرد به أرسطو، فلم يعرض أحد من سابقيه من خطباء وغير خطباء عرضه ولا نهج نهجه، ولا تزال جدته باقية على الزمن ولا تزال خصبة منتجة) وهو لذلك لم يقتصر على الخطابة القضائية كما فعل سابقوه ومعاصروه، بل شمل بحثه أنواع الخطابة كلها، وخالفهم في عرضهم طريقتهم وآرائهم.
وقد تطلب البحث أن يعرض للخطابة قبل أرسطو، فتكلم عن السفسطائيين، وعن المدرسة اليونية، والمدرسة الإيلية وتعارضهما، ومناقضة السفسطائيين لهما، ثم عن حملة سقراط وأفلاطون على السفسطائيين، ونظرة سقراط إلى الخطابة ونظرة أفلاطون، ليخلص من ذلك إلى نظرة أرسطو في الفن الأدبي وتفريقه بين الفلسفة من حيث إنها علم وبين الخطابة من حيث إنها خطة ومنهج يتبعان الخطيب، ومن حيث إن هدف الخطابة الإقناع وهدف العلم البرهان. . . الخ.
ثم ساير كتاب الخطابة في الزمن، فعين زمن كتابته، ووضع بعثه في أوربا في القرن(907/52)
السادس عشر، والترجمات العدة التي تناولته من 1608 إلى 1932 وقرر أنه انتقى ترجمتين اعتمد عليهما: أحدهما ترجمة (إميل رويل والثانية ترجمة حديثة ظهرت عام 1932 م ل (مدريك دوفور
وافترض أن يقال: إن الكتاب قد شرح قديما، وأضيف إلى الفكر العربي بفضل أبن سينا وأبن رشد، فماذا يدعو الآن إلى ترجمته؟
ورد على هذا التساؤل بأنه لا يضير الفكر العربي أن تترجم إليه آثار أرسطو عدة تراجم، هذا على فرض أن ما قام به الفيلسوفان العربيان يعد ترجمة.
والحق أن ما نقله أبن سينا عن أرسطو كتاب الخطابة مضطرب غامض في كثير من نواحيه وموضوعاته، لأنه لم يعمد إلى الكتاب يترجمه، وإنما حاول أن يستفيد منه، فأدمج بعضه ببعض، وخلط بعضه ببعض، وأغفل الأمثلة الأدبية التي أودعها أرسطو كتابه، وكذلك فعل أبن رشد، وأن كان مختصره أسهل فهما من شرح أبن سينا.
على أن باعثا آخر يقتضي هذه الترجمة أن كتاب أرسطو لا تزال أفكاره حية خصيبة، ولا تزال صادقة في تطبيقها، فمن الخير للأدب العربي أن يترجم ترجمة حديثة سهلة التناول قديرة على تخطي العقبات التي كانت تعوق الترجمة القديمة الحرفية مع ما بذل أصحابها من جهد مشكور.
على أن هذا التساؤل - وقد ورد عليه الدكتور المترجم - لا مدعاة له إذا علمنا أن كتاب الخطابة قد ترجم إلى الفرنسية عشر مرات، فمن العجز والتهاون ألا يترجم إلى العربية هذه الترجمة المستوفية شرائط الجودة.
ثم عقد المترجم بحثا قيما في أثر أرسطو في البلاغة، أشاد فيه بفضل الدكتور طه حسين في تنبيه على العلاقة بين البيان العربي والبيان اليوناني.
ونوه بهذا البحث القيم وبإعجاب المستشرق المرحوم كراوس به، وقرر أن نفسه بدأت تساوره منذ ذلك الحين ليترجم كتاب الخطابة، وعقب على رأي الدكتور طه حسين ببسط له وتدليل.
واقتضى ذلك أن يعرض لآراء الجاحظ وأثره في البيان العربي وتعصبه للعرب، ورجح أن الجاحظ كان على علم بكتاب الخطابة قبل أن يترجمه حنين بن إسحاق أو إسحاق بن(907/53)
حنين.
واقتضى ذلك أيضاً أن يعرض لآراء أبن المعتز وأصالتها وتأثر بعضها بأرسطو وخاصة ملائمة الأسلوب التي سماها العرب ملائمة الكلام لمقتضى الحال.
والمذهب الكلامي الذي أخذوه من جدل أرسطو ومنطقه.
ثم عرض لتأثر قدامة بن جعفر بأرسطو، وأحال من أراد التوسع على كتابه الآخر (بلاغة أرسطو بين العرب واليونان).
وقد أحسن صنعا بأن قدم لكل فصل من فصول الكتاب بكلمة موجزة جمع فيها ما تفرق من فقراته، ليدرك القارئ إدراكا جمليا ما في الفصل من أفكار، لأن أرسطو لم يكن يكتب كما يكتب المحاضرون كتابة مرسلة مترابطة، بل كان يكتب فقرات في الموضوع الواحد كل فقرة تحمل فكرة.
وأحسن صنعا بهذه التعليقات القيمة التي أضافها إلى الترجمة وهي كثيرة قلما خلت منها صفحة، كما أنه ذيل الكتاب بفهرس مفصل يوضح معالمه، ويرشد إلى أجزاء كل موضوع منه.
وبعد:
فإن الدكتور إبراهيم سلامة قد نفح الأدب العربي بهذه الترجمة نفحة عظيمة القدر بالغة الأثر، وحقق ما كان يصبو إليه الأدباء والباحثون منذ عهد بعيد أن يقرئوا خطابة أرسطو كاملة النقل دقيقة الأداء صائبة الترجمة ممتسقة الموضوع، وما من شك في أن هذه الترجمة عمل أدبي عظيم جدير بالإشادة والتقدير.
وأن الأدب العربي ليتطلع في شوق إلى الجزأين الآخرين من كتاب الخطابة، وإلى (بلاغة أرسطو بين العرب واليونان)، ويشرأب في لهفة إلى كتاب أرسطو في الشعر، ويدفعه إلى ذلك ما يتمتع بع الدكتور سلامه من بسط وعمق في الثقافة، ومقدرة على تذوق البلاغة العالية في الفرنسية والعربية، واقتدار على التعبير الطيع، ومكانة ملحوظة مرموقة.
أحمد محمد الحوفي
المدرس بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول(907/54)
القصص
قصة التباس
للأستاذ نجاتي صدقي
عثر سكان قرية انجليسيدس في جزيرة قبرص على جثة رجل مهشمة ملقاة على الخط الحديدي الممتد بين نيقوسيا وفاما غوستا، وسرعان ما عرفه أهلوه فهو البناء ياناغيس ستافري. فحملوه إلى القرية بين الولولة وقرع الصدور، فبكته زوجته طويلا، وذرف أولاده دموعهم السخية على جثمانه، وأقاموا الحداد في البيت، ورفعوا على دارهم اللواء الأسود وهو يحمل الأحرف الأولى من اسم الفقيد، كما هي العادة المتبعة في تلك الديار.
ثم شيع أهل ستافري وسكان القرية الفقيد إلى مقره الأخير وكان الناس يفدون إلى بيته بلا انقطاع مواسين معزين سائلين الله أن يجود ستافري بشآبيب رحمته ورضوانه.
وبعد مضي أربعة أيام على هذا الحادث ظهر ستافري في القرية فجأة، وقد أثار ظهوره بعد موته ضجة ولغطا لا حد لهما.
فمن سكان القرية من ظن بأن في الأمر شعوذة، ومنهم من ظن أن ستافري مات لكن روحه ظهرت في شخص آخر، ومنهم من أخذ يفكر جديا فيما إذا كان للشيطان إصبع في هذه القضية.
وعلى كل حال استقبل القرويون ستافري بحذر شديد، أما هو فلم يفقه شيئا من هذه الحالة الشاذة، لم يدر لماذا يرمقه الناس بنظرات التفحص والاستغراب، ولماذا رفع على بيته لواء الموت الأسود وهو يحمل الأحرف الأولى من اسمه، ولماذا استقبلته أسرته بمظاهر الترحيب والنحيب.
وبعد أن هدأت العاصفة واطمأنت النفوس زال الالتباس واتضحت الحقيقة.
كان ستافري قد أخبر زوجته مرة بأنه مسافر في طلب الرزق وأنه سيعود إليها في مساء اليوم ذاته، فذهب إلى قرية (انكورا) وعمل فيها في بناء جناح لديرها، وقد تطلب العمل في بناء هذا الجناح أربعة أيام متتالية لم يتمكن ستافري خلالها من إخبار زوجته عن مكان عمله، أو لم يجد لزوما لأخبارها لأنه أعتاد التغيب في طلب العمل.
وحدث في اليوم الثالث من سفره أن وجد سكان قرية انجليسيدس جثة مهشمة ملقاة على(907/56)
الخط الحديدي، وكانت الجثة شديدة الشبه بستافري فحملها القرويون على أنها ستافري نفسه، وأكدت زوجته بأنها جثة زوجها وقد عرفته من علامات فارقة.
وهكذا انقلب حزن القرية إلى فرح، وأنزل اللواء الأسود عن باب بيت ستافري، وعم السرور الجميع، فصاروا يفدون إلى بيته مهنئين مرحبين بعد أن أتوه بالأمس مواسين معزين.
وظلت قصة ستافري هذه مدار حديث القرية بل جزيرة قبرص بأسرها مدة من الزمن وقد نسوها الآن أو كادوا ينسونها.
أما ستافري وأسرته فلم ينسوا الحادث وهم لا يزالون حتى يومنا هذا يعالجون ذيوله، فهم لا يدرون من هو هذا الشخص الذي يرقد في قبر أسرتهم على أنه أحد أفرادها!. وهم لا يدرون لماذا لم يأت أحد يطلب جثة القتيل.
وأخيرا رفع ستافري قضية في المحاكم على أسرة مجهولة لقتيل مجهول يطلب فيها تعويضا بسبعين جنيها هي ثمن ألبسة ستافري الجديدة التي ترقد فيها الجثة المجهولة الهوية، وهيأيضاً نفقات جنازتها وما تبع ذلك من تضييقات وتوزيع مال على الفقراء.
وقد أصدرت المحكمة حكما في صالح ستافري فسيجري تنفيذه فور ظهور أسرة القتيل الغريب.
غير أن هذه الأسرة لم تظهر بعد!.
- 2 -
السيد سليم شخص دنيوي، يسهر الليالي ويجلس إلى المائدة الخضراء ويعاقر بنت الحان، ويماجن دون أن يعرف لهذه المماجنة حدا.
وفي صباح أحد الأيام وبينما كان السيد سليم في دائرته يقوم بأعباء وظيفته أحس بدوار شديد فحمله زملاؤه وأرقدوه على المتكأ فغاب عن الوجود إلى أن جاء الطبيب. وبعد أن فحصه قال، لقد عرفت كنه مرضه. فقيل له: وما هو؟ قال: انخفاض في ضربات القلب ناتج عن قلة النوم والإكثار من شرب الخمرة.
فقيل له: وكيف تعالجون هذه الحالة. فأجاب الطبيب هاكم العلاج: وصفع السيد سليم بضع صفعات على وجهه، وإذا به يثب متنمرا (قائلا): أين أنا؟. وما لكم مجتمعين حولي؟. . وما(907/57)
سبب وجود الطبيب هاهنا؟. .
فانتحى به الطبيب جانبا (وحدثه بما يجري وأفهمه بأنه اضطر إلى صفعه ليعيد إليه شعوره، فشكره السيد سليم على حسن صنيعه هذا.
وبعد مضي شهر تقريبا على هذا الحادث التقى السيد سليم في أحد الشوارع بجماعة من الناس ملتفين حول رجل مستلقي على الأرض وهو في غيبوبة تامة. . وتدل ألبسة الرجل على أنه من المتعطلين الفقراء، كما تدل صحته على أنه من المحتاجين الجائعين.
فشق السيد سليم طريقه بين الجمع وهو يصرخ: ابعدوا عنه ابعدوا فعلاج هذا الرجل عندي! ثم تقدم من الرجل البائس ورفعه عن الأرض قليلا وأسند رأسه إلى الحائط وأخذ يصفعه على وجهه بشدة. . وما هي إلا ثوان حتى شهق البائس شهقة وأسلم الروح!
فنهض السيد سليم وشق طريقه بين الناس المشدوهين وصرخ فيهم قائلا: أتريدون مني أن أحيي الموتى؟!
نجاتي صدقي(907/58)
العدد 908 - بتاريخ: 27 - 11 - 1950(/)
من ذكريات الغربة:
قصة حشاش
كان تدخين الحشيش في أيامنا الخوالي مقصوراً على صعاليك الناس، يجلبونه في السر، ويدخنونه في الخفاء، ويلوذ بعضهم ببعض في زرائب القرى وخرائب المدن، فراراً من النظرات الجارحة والغمزات المهيمنة، لأنهم كانوا في رأي المجتمع أقل قدراً وأذل نفساً من معاقري الخمر ومتعاطي التبغ؛ فبينما كان الخيال المحايد يصور الكأس جمالا بين يد مترفة ووجه وضئ، والسيجارة جلالا بين يد قوية وثغر جريء، كان يصور الجوزة بقذارة بين يد خشنة وفم بذيء! فلما عمم البوليس تداول الحشيش في كل بيئة، ويسر تناوله على كل طبقة، بفضل مطاردته الدائبة لجالبيه ومهربيه، ومصادرته المستمرة لبائعيه ومحرزيه، أصبحت الكأس لا تلذ إلا معه، والسيجارة لا (تكيف) إلا به؛ وأضحى ذلك الشيء الحقير القذر يصان في حقيبة يد المرأة، وفي حافظة نقود الرجل، وفي محفظة كتب الطالب، وفي درج مكتب الموظف، ولا يسمى الرجل متمدناً ولا متقدماً إلا إذا أخذ منه وأعطى، وأتحِف به وأتحف؛ وأمسى الحشيش والحشاشون في صدر المجتمع وفي عين الدولة، لهم ذكر في الصحف، ومواد في القانون، وقلم في البوليس، ومحكمة في القضاء، ومهربون من حجاج البيت، وموردون من رجال السياسة، ومصدرون من إخوان العروبة! ولا جرم أن هذا الطبل الذي لا يسكن نقره، وذلك المزمار الذي لا ينقطع زمره، هما اللذان جذبا إلى الحشيش النظر، وجعلا للحشاشين والمهربين هذا الخطر! والمحظور منظور، والممنوع متبوع، والإعلان إعلام.
أين من حالهم اليوم حالهم بالأمس؟ كنا لا نراهم إلا في النادر، ولا نسمع بهم إلا في النكت والنوادر. ومن وقع منهم في الرؤية أو في السماع كان موضع النكير والتحقير حتى يتوب أو يموت. اقرأ هذه القصة ثم وازن في نفسك بين حال الحشيش حين كان وازعه الدين والخلق، وحاله حين أصبح وازعه القانون والبوليس:
كانت قريتنا حين وعيت لا تفهم من الحشيش إلا العشب، ولا من الحشاش إلا من يحش البرسيم. وكان ظرفاؤها ممن يغشون المدن يروون لأهلها الأضاحيك عن الحشاشين في القاهرة فيحسبونهم صنفاً من الناس تميزوا بالنكت والحيل والمعارف، حتى طرأ عليهم(908/1)
رجل فقير ضرير يلبس الطربوش التركي والعباءة الجوخ والجلباب الصوف، ولكنه كان مقطوع الأسباب، فلا هو سائل فيعيش على الإحسان، ولا هو حافظ فيتكسب بالقرآن. إنما كان رجلا مهذب النفس، حلو الحديث، بارع النكتة، يحسن الغناء، ويجيد النقر على الدف، فأحسنوا لقياه وأكرموا مثواه وأفرد له عمدة القرية حجرة خارج الدور جعل منها دكانه ومجلسه ومضجعه. وكان يختلف إلى هذه الحجرة في كل مساء بعض الشيوخ ممن يحبون غريب السمر، وبعض الشباب ممن يطلبون لهو الحديث. وكان عباس، وهو اسم ذلك الرجل - يتنقل بالجلوس من جد إلى هزل، ومن غناء إلى عزف، فيعجب ويطرب، ولكن أمتع ما فيه كان الدعابة والنكتة: كانت نكته على طريقة (اشمعنى؟) وكانت دعاباته من طريق التورية. وكان يركب بهاتين الطريقتين أو بإحداهما ثلاثة من خلطائه وخلصائه: فقيها أعمى وطحاناً أعشى وفلاحاً أعور، فلا يدري أحد منهم كيف يدفع عن نفسه. كان هؤلاء الثلاثة يبقون إذا انصرف السمار، فيغلق الفلاح الباب، ويوقد الطحان النار، ويهيئ الفقيه الجوزة، ويُعد عباس القرص، ثم يتعاقبون الغابة نفسا بعد نَفس. وكان عباس قد أخبرهم منذ اطمأن إليهم أن هذا هو الحشيش الذي يفتق ذهن الغبي، وينطق لسان الأبكم، ويرهف حس البليد؛ وأنه هو الحشاش الذي تحفظ نكته، وتروى حيله، وتطلب فتواه. فلم يخامرهم شك في قوله، لأنه هو نفسه الدليل على صدقه، فأقبلوا على المدخنة القذرة يأخذونها للشهيق والزفير، ويتركونها للسعال والشخير، حتى أصبحوا مدمنين لا يطيقون صبراً عن الحشيش، ولا يستطيعون بعداً عن عباس. وكان لابد للحشاشين الجدد أن يساجلوا في (القافية) الحشاش القديم. فنجح الأعمى كل النجاح، ووفق الأعشى بعض التوفيق، وأخفق الأعور غاية الإخفاق؛ لأن غباء ذهنه كان أكثف من أن يلطف، وغشاء حسه كان أصفق من أن يرق. ولكنه كان قوي الإيمان بالحشيش فلم يؤمن بالواقع. وأقبل المساء وغصت الحجرة كعادتها بالشبان والأحداث، فلهوا بالحواديت، ثم تساجلوا بالفوازير، ثم تجاوبوا بالمواويل، ثم أخذ عباس يرسل النكتة بعد النكتة فيقهقه لها الحضور، ويرد عليه الفقيه والطحان فتنبلج لردهما الصدور، وتنصب النكت على الفلاح انصباباً فيحاول أن يردها عن نفسه فيغفر فاه، ويرعش رأسه، ويهز يده، ويحاول أن ينطق فتنشب في حلقه الحروف ولا تخرج، ويتردد في صدره الصوت ولا ينطلق، فيسخر منه الجلوس(908/2)
ويتناولونه بالعبث المؤلم فلا يسعه إلا الانصراف. وفي أثناء الطريق تواردت على خاطره شبهات في قدرة الحشيش على حل العقدة من اللسان، ولكنه دفعها بما فعل في الفقيه والطحان، وعزم أن يضاعف المقدار. فلما رجع إلى (غرزة) العباس بعد انصراف الناس كرر الشد، وعمق النفس، وطول النوبة. وفي آخر الليل استعمى رفاقه واختلس قطعة كبيرة من الحشيش، وظل في داره النهار كله يقتطع منها القطعة على قدر حبة الفول، ويذيبها في فنجان من القهوة السادة ثم يجرعها. فعل ذلك مرتين ثم أراد أن يفعل الثالثة فلم يستطع. لقد أخذته حال من الخدر الشديد فصار يأكل ولا يشبع، ويشرب ولا يرتوي، ويتكلم ولا يعي، ويضحك ولا يكف. وكلما رأى أحداً من أهله أو من جيرته قال له بلهجة متلكئة متقطعة متكلفة: أنت تمشي - اشمعنى؟ زي الحمار! أه أه آه! أنت تأكل، اشمعنى؟ زي الغول! أه أه آه! فينظر إليه السامع مشدوهاً ولا يضحك، فيرفع (المسطول) الصوت، ويعيد النكتة، ويردد الضحكة، ولكن المشدوه يظل واجماً ولا ينطق. وفي المساء تحامل الأعور على نفسه حتى بلغ مجلس اللهو، ولم يكد يدخله حتى قال بلهجة المنزل المسطول: أنت يا عباس! فأجابه عباس مبتهجاً: اشمعنى؟ فقال له: أعمى! أه أه آه! وانتظر هو ماذا يقول الناس، وانتظر الناس ماذا يقول عباس، فإذا بالناس يصيحون، وإذا عباس يصيح! أهذه نكتة يا نصف أعمى؟ ثم انفجر بالنكات الساخرة في وجه الحشاش المخدوع حتى ألجأه إلى الخروج فخرج خزيان يهذي. وعاد إلى داره وهو يشعر أنه الليلة خير منه البارحة، لأنه قال على كل حال شيئاً. وكان قد عرف من عباس أين يباع الحشيش فاشترى منه مقداراً كبيراً وأخذ يذيب منه في القهوة ويشرب. وفي كل ساعة من ساعات النهار والليل كان يرتقب وحي الحشيش فلا ينزل، وينتظر ذكاء الحشاش فلا يقبل، فيضاعف المقدار ويزيد الوجبات، حتى هزل جسمه، وشحب لونه، واختل هضمه، واعتل صدره، واضطرب عصبه، وساء خلقه، واعتراه الهمود، ولزمه الوسواس، فصار لا يعمل في غيط ولا بيت، ولا يفكر في زوج ولا ولد، وإنما كان أكثر يومه نائماً، فإذا أفاق هذى بالنكت الباردة والدعابات السخيفة. وفي غشية من غشيات المخدر باح بالسر المكنون فقال وهو يضرب بيده على صدره: أنا الحشاش الأصلي لأنني أشرب الحشيش بالفنجان، وعباس وصاحباه حشاشون مقلدون لأنهم يكتفون منه بالدخان!(908/3)
وتسامع الناس بالسر المفضوح فتحاموا الأعور حتى نفق من الخبال، وقاطعوا الأعمى والأعشى والأعمش حتى هلكوا بالسلال!
أحمد حسن الزيات(908/4)
عصابة روتشيلد
1 - أمير هس كاسل يبيع الشعب ليهود فرنكفورت.
2 - إنجلترا تخطف أفراد الشعوب وتجندهم لاستعمار أمريكا.
3 - فلاسفة أوربا يشهدون على الإنجليز واليهود اللصوصية.
4 - اليهود يدخلون من القاع ويخرجون من القمة.
للأستاذ محمد محمود زيتون
انتصف القرن الثامن عشر وما تزال الثروة العامة محصورة في استغلال الضياع، أو المعادن المسيطرة على الأسواق، وليس من سبيل إلى الغنى سوى امتلاك الأرض، وتوفير المال، والتعامل بالربا، فكان من الطبيعي أن يكثر المال في أيدي أصحاب الثراء، بينما يكاد ينعدم عند الكثيرين، مما أدى إلى استغلال ذوي الحاجة، ودعا إلى الغبن والاحتكار.
وهناك في مدينة فرانكفورت، عرف (ماير أنسلم روتشيلد) في حي اليهود - بتجارة الأوسمة والأحجار الكريمة، وأفاد من تعدد العملة في الدويلات خبرة بشؤون النقد.
وأصبح (الكونت هانادننزج) - الصديق الحميم لليهودي روتشيلد - أميراً على (هس كاسل) فكان له حق التصرف في رعيته، ولا يسأل عما يفعل بهم، فهو يجندهم ثم يبيعهم - كقطعان الغنم - للدول الأجنبية تستخدمهم في حروبها الطاحنة.
وكان التنافس في الاستعمار بين إنجلترا وفرنسا على قدم وساق، بيد أن إنجلترا قد بذلت الجهود الجبارة في طرد فرنسا من أمريكا الشمالية لتكون لها خالصة، وتنفرد هي باستعمارها، فاستعانت بأمير (هس كاسل) تشتري منه شعبه المجند لتحقيق مطامعها.
لم يكن الأمير لينسى فضل اليهودي عليه وما بذله من أجله لدى معارفه من أصحاب المصارف في فرانكفورت لتخليص ثروته الهائلة يوم فر بها من وجه نابليون سنة 1806، ولو لم يكن غير هذا سبباً للمصادقة لكفى، ولكن الأواصر قد توثقت بدوام النصائح العملية التي كان يسديها روتشيلد إلى صديقه الأمير، فضلاً عما تميز به اليهودي من حذق بالغ في تدبير المال، وشح وصل بصاحبه إلى حد الجنون، وسيطرة نافذة على أسواق فرانكفورت.(908/5)
أضف إلى هذا كله ما بين الرجلين من تقارب في الميول لاستثمار الأموال.
لهذا وضع الكونت كل ثقته في روتشيلد واستخدمه وكيلاً عاما لشؤونه المالية، من باب عرفان الفضل لذويه، فأبدى من المهارة في عمله ما جعله أحدوثة التجار في حي اليهود، وتقاطرت على الأمير طلبات القروض المالية من حكومات الدانمارك وهسي دار مستان وبادن، كما تكاثرت عقود استئجار أفراد شعبه، وهو يقدمهم لإنجلترا كأنهم رءوس من الغنم يدفعها إلى (سلخانة) الحرب الاستعمارية قطيعاً بعد قطيع.
ولم يكن تقديم هذه القطعان البشرية على هذا النحو جرياً وراء انتصار لحق، أو رغبة في اقتسام مغنم، أو مجرد الحب الصافي لأصحاب العيون الزرق، وإنما هو المال ولا شيء سواه.
كانت إنجلترا تستأجر - أو بالأحرى تشتري - قطعان هس كاسل بثمن، والأمير بدوره يدفع لهم أو لعائلاتهم ثمناً بخساً في حالة الحرب، أما المصابون بجراح أو عاهات تقعدهم عن كسب العيش؛ أما الذين تودي بهم الحرب إلى دار الفناء، فإن إنجلترا تدفع عنهم للكونت التعويضات المناسبة، التي يعود معظمها عليه وعلى وكيل ماليته بالذهب الغزير.
وليس في هذا أي غضاضة ما دامت المقاييس المعاصرة تبررها ولا تستنكرها، فإنما هو كسب تجاري، والمكسب هو الفرق بين ثمن البيع وثمن الشراء، وليس يهم بعد ذلك إذا كانت السلعة جماداً أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً فهي تجارة تؤدي إلى ربح، وهذا هو المطلوب.
وتجارة كهذه لا بد أن تدر المال الكثير وتجلب الثروة الضخمة، مما جعل للرجلين صفة ممتازة عند الحكومات الأجنبية التي تتعامل معهما، ولا سيما تلك السمعة الطيبة التي ظفروا بها في جميع الأوساط من حسن المعاملة، والوفاء بالتعهدات، وتنفيذ الشروط المتفق عليها، بالشرف والأمانة، ومن غير غش أو تزوير.
أما المحاربون وعائلاتهم فليس لهم أن ينبسوا ببنت شفة ما دام أميرهم هو السيد المطاع الذي امتلك أرواحهم وأجسادهم يوم امتلك الأرض بما عليها ومن عليها، فهو يبيع فيهم ويشتري، كيف يشاء ومع من يشاء، فإذا أعطاهم رواتبهم، ولذويهم التعويضات بعد موتهم، فذلك فضل منه.(908/6)
وكان روتشيلد يخشى أن تتبدد الثروة بعد وفاته بين ذرية وأزواج بناته، فسارع إلى بيع متجره لبنيه الخمسة الذين تمرنوا معه في التجارة، وضربوا في البلاد طولاً وعرضاً، للسيطرة على زمام المال عبر البحار، واحتكار الأسواق ولضمان ذلك أنشئوا نظام (المراسلة) للوقوف على الحركات المالية بين مدها وجزرها وبهذا ظلت ألاعيبهم طي الكتمان، وبمأمن من عواصف المضاربات.
ومات شيخ التجار اليهود في فرانكفورت سنة 1812 وترك هذا التراث الضخم لأرملته وبنيه وبناته، فأكبوا على المال يستثمرونه بكل طريق مشروع، وحرصوا كل الحرص على خطة أبيهم، واتبعوا وصيته، وعضوا بالنواجذ على تقاليد الأسرة، وساروا خلف أبيهم: وقع الحافر على الحافر.
واقتسم الاخوة أرجاء القارة فيما بينهم، فأقام ناتان بلندن، وجيمس بباريس، وماير بفرنكفورت، وشارل بنابلي، وسليمان بفينا، وهكذا أحكموا ثقوب المصيدة على أوربا التي لم تلبث حكوماتها أن وقعت كالفيران واحدة تلو الأخرى في حبائل روتشيلد.
كانت العصابة اليهودية تعتنق مبدأ (ادخل من الحضيض لتخرج من القمة) ومن أجل هذا التمست كل سبيل إلى هذه الغاية. وأخذ اليهود الخمسة أنفسهم بتحقيق أغراضهم، وإن شطت بهم الديار، وبعد المزار، وعلى ضوء التعليمات الآتية دخلوا من القاع:
أولاً: يندمج أبناء روتشيلد اندماجاً كلياً في البلاد التي يقيمون بها ويتعرفون على دقائق الحياة فيها.
ثانياً: مصلحة روتشيلد أولا، فيهود فرنكفورت ثانياً، ثم اليهود عامة، ومن بعد ذلك الطوفان.
ثالثاً: لليهود وحدهم تكون الأميال والأموال.
رابعاً: التعاون مع الحكومات تعاوناً إيجابياً يكون من شأنه تحقيق أهداف روتشيلد وليكن بعد ذلك ما يكون.
خامساً: ليس لأحد الأخوة الخمسة أن ينقد خطة الآخرين، وفي حالة الفشل يتعاون الجميع على انتشاله.
سادساً: اتخاذ كل الطرق المؤدية إلى النجاح ولا سيما بالرشوة والدس والإلحاد والدعارة(908/7)
والسرقة والتقتير، وما يستحدث بعد ذلك من أساليب.
سابعاً: المال. . المال. . المال. . ولا شيء إلا المال.
وفي الحق أن الاخوة الخمسة كانوا أمناء على هذه التعليمات: كل في دائرة عمله، وكانوا من النشاط بحيث فاقو القردة والثعالب خفة ودهاء.
كان (ناتان) مقيماً بإنجلترا منذ أسند إليه أبوه عملا ماليا هاما، واتفق أن ضرب الحصار القاري على المانش، وخشي (ناتان) عواقب التهريب، على أن نابليون لم يكن يسمح بالتهريب إلا في حدود ضيقة وذلك فقط إرضاء لحلفائه، وإلا تحطمت الصداقة على هذه الصخرة العاتية، في مثل هذا التوتر السياسي الذي ساد العلاقات الدولية آنذاك.
وأغلق الباب في وجه ولنجتن بجنوده في فرنسا، وأعوزته النفقات تأتيه من إنجلترا وكان الإنجليز في حيرة من أمرهم، وتنازعهم الخوف والرجاء: الخوف من تسرب المعادن النفيسة إلى الخارج، والرجاء في توصيل المال إلى ولنجتن.
أما ناتان فقد ائتمنه أحد النبلاء الإنجليز على أموال طائلة في فترات متعاقبة بغية أن يستبدل بها كميات من الذهب والفضة لتهريبها إلى فرنسا عبر المانش، وعرف ناتان من أين تؤكل الكتف، فاتصل بأخيه جيمس ووصاه بالمبادرة إلى الحصول على ترخيص من ولاة الأمر بباريس لدخول رسائله وبذلك ضرب ناتان عصفورين بحجر، وحصل على مبالغ طائلة من وراء التهريب.
وفي هذه الفترة كانت المالية الإنجليزية في عجز شديد، واضطراب بالغ، ولم تدر إنجلترا من أين تشتري الذهب، وبالتالي كيف تنقله إلى جنودها في الخارج، وبرز ناتان في الميدان، وسرعان ما استعان بجيمس الذي لعب دوره في السوق المالية حيث اشترى جميع الأموال الفرنسية التي أتخمت أوربا. ونجح ناتان في نقلها إلى إسبانيا وإلى النمسا، وقد عادت هذه العمليات عليه بأرباح تذهل العقل، مع أنه لم يلجأ إلى تحويل العملة عند النقل كما أنها لم تتعرض للأخطار من أي نوع، ووصلت سمعة شركة روتشيلد إلى قمة الثقة لدى جميع الحكومات.
وخيمت الغيوم السياسية على جميع أوربا، ومنيت الحالة المالية في كل مكان بالهبوط السريع المؤدي بالحكومات إلى الهاوية السحيقة، وإزاء هذه الحالة انفردت عصابة روتشيلد(908/8)
بالقدرة على سد الحاجة، فأخذت تقرض بالربا الفاحش وتختص بقروضها ما تشاء من الحكومات، وتحتكر الأسواق المالية.
ولما فرض التعويض الحربي على فرنسا وتحتم نقله عبر أوربا، لم تجرؤ إلا شركة روتشيلد فتعهدت بالمهمة وقامت بها خير قيام. وربحت من جراء ذلك بنسبة واحد ونصف في المائة من عشرين مليوناً من الجنيهات أو أكثر، علاوة على ما ظفرت به من شكر حار وجهه إليها وزير إنجلترا، لقاء خدماتها التي تنوء بالاضطلاع بها على جميع الشركات وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وهذه حكومة النمسا تئن تحت ديونها الفادحة للمصارف النمساوية. فتعهدت عصابة روتشيلد بنقل نصيبها في التعويض الحربي، بل أقرضت النمسا الأموال التي كانت في حاجة إليها. مما حدا بإمبراطور النمسا إلى أن يخلع على العصابة ألقاب الشرف، وسمح لها بتأسيس فرع لها في فينا، قام على شؤونه (سليمان روتشيلد).
وامتدت أيدي الأشراف في النمسا وبروسيا والروسيا إلى الاستدانة، مما أنعش حركة القروض في فرعي فينا وفرانكفورت على نحو ظاهر.
وقامت في نابلي ثورة أهلية فبعث (مترنخ) حملة لإخمادها، وفرض على الثوار غرامة مالية باهظة، فطلب من (شارل روتشيلد) أن يدبر المال للمغلوبين على أمرهم مع مراعاة مصلحة النمسا في هذا الإقليم. ولكن شارل سليل روتشيلد - تلك العصابة اليهودية التي تحددت أهدافها - كان وفيا للتعليمات، حريصاً على المبدأ، ولو على حساب (مترنخ) بل النمسا التي زرعته برفق فاقتلعها بقوة.
اندس شارل في أوساط نابلي كما تندس الأفعى في أحضان عش دفيء، وسعى سعياً حثيثاً في مقاومة الاحتلال النمساوي. وفتح خزائنه للمقترضين عسى أن يعتدل الميزان الاقتصادي، ولكنه على العكس انقلب رأساً على عقب، وزادت الحالة سوءا، وجاء شارل فأعماها، من حيث أرادت أن تكتمل بماله عيناها، ولم تنل من الأصفر الرنان، غير الرنين الطنان، وعجز الحاكمون عن إصلاح ما أفسد الدهر وشارل، ولكنه توارى بالحجاب، وداعب العيون ببريق الذهب، فتهافتوا عليه تهافت الفراش على النور، فاصطلوا بالنار.
هكذا كان شارل؛ فقد سنحت له الفرصة (الذهبية) واغتنم احتياج النمسا إلى المال فأرغمها(908/9)
على تعيين نائبه وزيراً للمال، فكان له ذلك، والمضطر يركب الصعب من الأمور، وقام الوزير بتعديل يسير تلاه قرض ظفر به للنمسا من إنجلترا، فتحسنت الحالة، وتألق نجم شارل حتى اختاره البابا مديراً لأمواله تقديراً لخدماته التي تذكر فتشكر، وما كان أغنى شارل عن وافر الشكر، وعاطر الذكر، ولكنه يعمل حيثما كان في سبيل المال لنفسه، أما إذا كان لليهود فسعيه في سبيلهم مشكور وهو على ذلك غير مأجور ولا مأزور، وبحسبه هذا الحرص على تعليمات روتشيلد، يرعاها ويعض عليها بالنواجذ.
وأنشأ (جيمس) مصرفاً في باريس، تقاطرت عليه طلبات القروض، فربح من ذلك ثروة جعلته في أسرع وقت أغنى رجل في فرنسا بعد الملك، وصارت عصابة روتشيلد أخطر على البلاد من سائر الدول الأجنبية بعد إنجلترا، التي أهوت بفؤوس الخراب على رأس فرنسا، فجاءت روتشيلد تحصد ما تبقى من يابس وأخضر.
وكان لسليمان في النمسا وجهته، ولكل وجهة هو موليها، فقد ساهم في المنشآت العامة كالطرق الحديدية والمناجم ومصانع الألغام، وما كان هدفه من وراء ذلك إلا المال، ولا شيء إلا المال، ولما اعتزم مترنخ إعلان الحرب على بلجيكا أعوزه المال وفي ظنه أن خزائن سليمان منه على مد اليمين، ولكن خاب فأله إذ رفض سليمان، ولم يكن بد من العدول عن الحرب.
هذا وعصابة روتشيلد لا تتوانى عن إمداد اليهود بكل ما يخفف ويلاتهم، ويثبت قواعدهم، ويجمع شملهم الشتيت، يبذلون في ذلك المال بسخاء، وبدون قيد أو شرط، أما المثل العليا والحركات الناهضة، والمشروعات الهامة، فذلك بعيد عن رسالتهم ولا يتمشى مع اتجاههم بسبيل، فلا يولونه غير أذن من طين وأخرى من عجين.
كانوا من الذكاء إلى حد استغلال الخرافات والأساطير للسيطرة على أوهام الناس، وجذب الأنظار إليهم، فقد اقتضاهم نظام المراسلة الذي أنشئوه تكاليف طائلة هانت كلها أمام بخلهم في نقل خبر هزيمة نابليون في (ووترلو) قبل شركات الأنباء بيوم، فتمكنوا من تكييف أعمالهم المالية حسب الظروف، وكسبوا أيضاً قصب السبق في نقل الأنباء.
وسرعان ما دخلوا من القاع، وعجلان ما خرجوا من القمة، وتربعوا على كراسي الحكم في يسر، وامتزجوا بطبقات الأشراف عن قرب، وطاردتهم فلول المعارضة، في كل مكان، فلم(908/10)
تلبث أن أعياها الكلال، وأجهدها اللحاق، ففي النمسا آثر المخلصون أن تزداد الحالة سوءا بأيدي المواطنين الكاثوليك، على أن تمتد إليها بالإصلاح أيدي الأجانب اليهود، ولكن ما الحيلة؟!. . . العين بصيرة، واليد قصيرة، وروتشيلد كالأخطبوط آخذة بخناق أوربا، ومركزها في جميع الأرجاء وطيد بحيث تفزع إليها الحكومات كلما خربت الأمور، واشتدت الأزمات وما أكثرها كما أن الدول لا تطمئن إلا لها في نقل التعويضات إلى حيث تشاء عبر أوربا وهي بمنجاة من الخسران.
ومع هذه الثروات الضخمة التي كدسوها من الربا والغبن والاحتكار لم يحاولوا الظهور في ميدان النظم الاقتصادية الحديثة القائمة على أسس علمية، فما كان أبعدهم عن هذا المضمار نظريا وعملياً، وما كان أقربهم من الحركات الرجعية الضاربة بعروقها في أعماق الشيح والأنانية.
فقد اكتشفت مناجم الذهب، وفاضت منابعه، وامتدت الطرق الحديدية، وتعددت الثروات واتسعت المصانع، وانتبهت الضحايا - وهي في الرمق الأخير - إلى الذئاب السود وقد ولغت في دماء أفراد الشعوب، وتشدقت بأشلاء حكومات الدول.
وعندئذ انكمشت العصابة السوداء في أوكارها، وبدأت تلم شعثها في الخفاء، ولكن أذنابها لم تزل حتى يومنا هذا تفعل أفاعيلها في لندن وباريس وفرانكفورت وفينا ونابلي. ولما كان ناتان أكثر الاخوة نشاطا، فقد لزم أن تكون لندن مركز هذا النشاط. ومن هنا كان على إنجلترا أن تتبنى سياسة عصابة روتشيلد، مسترشدة بأساليبها، مقتفية آثارها، ولا سيما بصدد الاستعمار: وليد اللصوصية اليهودية. وسليل الاتجار بالقطعان البشرية.
وتم التناسخ بين اليهود والإنجليز، وصعب على الناس التمييز بينهما، فإذا قالت إنجلترا (تمسكنت فتمكنت) تبادر إلى الأذهان أنها ترجمة حرفية لمبدأ (ادخل من الحضيض لتخرج من القمة).
وسيذكر التاريخ بمزيد الإعجاب فلاسفة أوربا المعاصرين أمثال (زهاروف)، و (ليفنسون)، و (ميبرز)، و (وارشو)، و (هارولد لاسكي)، و (شارل فرانسز)، و (هنري آدمز)، و (ولز) وغيرهم من الباحثين في تاريخ الثروات ووسائل تحصيلها وعوامل التضخم المالي في أوربا وأمريكا، وما خلت الحركات المالية قط من أصابع اليهود الذين أمسكوا بعجلة(908/11)
التقدم، فعطلوا العالم عن بلوغ أهدافه السامية، وعكروا صفو السلام السياسي والاقتصادي، وإلى هؤلاء الباحثين يرجع الفضل في الكشف عن أسرار الخراب الأوربي في القرن الماضي، وبحسبهم أنهم رفعوا النقاب الأسود عن وجه القارة، وتتبعوا الأساليب اليهودية في كل مضمار، ووقفوا على خبايا الاستعمار، وخفايا السياسة (الأنجلو يهودية) مع الدقة والإخلاص في الشرح والتشريح.
ولسنا نجد أقرب من الكاتب الفيلسوف (هـ. ج. ولز) وهو إنجليزي لحماً ودماً وهو يشهد أمام محكمة التاريخ فيقول: (وإذا قامت أسرة روتشيلد بتحرير اليهود فإنما تحرر نفسها، وستسترد ما تنفق من مال بفضل تعاون اليهود الذي يقتضيه فعل المعرف، ويظهر أن ولاءهم لبني جلدتهم كان غريزة ركبت في طبعهم، كاتحادهم الطائفي، ودأبهم على العمل، على الرغم من أن رسائلهم وأساليبهم العملية لا توحي للباحث بهذا الرأي).
وليتأمل معي كل بصير هذه العبارة (وستسترد ما تنفق من مال) ولنذكر إلى جانبها عبارة أخرى للكاتب الفيلسوف بصدد تبرير هذه السياسة إذ يقول (إن أعمالهم كلها عادلة تبررها مقاييس العصر)، وهكذا صدق المثل العربي (إن العصا من العصية وهل تلد الحية إلا حية).
ليت العرب يعلمون هذا، ويعملون بقول شاعرهم:
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا
محمد محمود زيتون(908/12)
صور من الحياة:
إنسانية تتهاوى!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي (ما بالك ساهم الفكر مضطرب النفس مقطب الجبين، يلوح الأسى والعبث في نظراتك، وترن نغمات الشجى والهم من خلال كلماتك. وعهدي بك متطلق الوجه مستبشر الخاطر منفرج الأسارير؟).
قلت (آه، يا صاحبي! لقد عشت منذ الصباح في غمرات من الألم أراها قاصمة الظهر، وجهدت أن أدفعها عن خيالي فآذني أن أفعل، فطرت إليك علك تخفف عن قلبي بعض ما أثقله حين تراءت له النفوس وقد نضبت من الإنسانية وصفرت من الرجولة):
قال (هاتها!)
قلت (هي قصة رجل عصرته الحياة بين فكين غليظين من وطأة العلة وشره المال فما أفاق إلا على دوى يؤرق نفسه ويثير همه. . . دوي ينذره بأنه أوشك أن يفقد حياته وماله في وقت معاً.
هو رجل طوى عمر الشباب ينظر إلى الدنيا بعينين فيهما فرحة الأمل ولمعة الرجاء، ومن حواليه صبية صغار يرفون رفيفاً حلواً ينفث في قلبه الهمة والنشاط ويبذر في روحه الهدوء والطمأنينة، فهو يرى فيهم نوراً يتألق فيبدد ظلمات من العيش تكاثفت أمامه منذ أن مات عنه أبوه وخلفه وحيداً في خضم الحياة تتقاذفه أمواجها العاتية لا يجد العون ولا الساعد ولا الناصح فراح يتخبط على غير هدى.
وأحست الحياة بوحدة الصبي وضياعه فعبست له وبسرت لا ترحم ولا تشفق، ولكن شيئاً من ذلك لم يقعد به عن أن يشق طريقه في أناة وصبر، ولا عن أن يندفع على سننه في قوة وعناد، لا يعبأ بالغلظة ولا يضيق بالجفوة، حتى أصاب طرفاً من نجاح فأصبح موظفاً صغيراً في الحكومة وانطوت السنون.
ثم جاءته المحنة الكبرى فأصيب بذات الرئة، وأحس بالداء يسري في دمه فما اضطربت نفسه ولا ضاقت به الحيلة، وبين يديه ألف جنيه، ورث البعض وادخر البعض، فهو يستطيع أن يشتري الطبيب والدواء في وقت معاً، فأنطلق إلى طبيب من ذوي الصيت(908/13)
والعلم بطب لدائه، ومن أمامه ألف شعاع من أمل وألف نزوة من كبرياء. ووقف بإزاء الطبيب يحدثه (وأنا - يا سيدي - أدخر ألف جنيه لا أضن بها على من يمسح على دائي فيحبوني بالشفاء، لأجد في الصحة متعة صبية صغار يترجون أباهم) وتحلب ريق الطبيب فلبس ثوب الثعلب وهو يقول (لا عليك، فهذا داء قريب البرء عاجل الشفاء).
واطمأن المريض لكلمات الطبيب. وأمسك الطبيب بالسماعة ليسمع دقات جيب المريض، ثم أمسك بالقلم ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.
واطمأن المريض إلى العلاج الذي لا يغني ولا يشفي، على حين قد عمى عن يد الطبيب وهي تتسلل إلى جيبه في دهاء ومكر لتستلبه ميراث أبيه ووفر عمره. وأحس - بادئ ذي بدء - أن الصحة تسري في عروقه وتتألق على صفحة وجهه فاطمأن وهدأت جائشته، ثم ما لبث أن شعر بالخور والفتور والضعف توشك جميعاً أن تعصف بهمته ونشاطه وشبابه، فأنطلق إلى الطبيب يستعينه على الأمر ويبذل له الوفر، غير أن الطبيب أمسك بالقلم - مرة أخرى - ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.
وربط المريض حبله بحبل الطبيب الذي أخذ يختله عن صحته وماله، ووصل سببه بسببه فما ينطوي عنه إلا ريثما يعود إليه، والطبيب ينظر إليه - في كل مرة - بعينين فيهما معاني الضراوة والفتك، يرى مريضه يتهاوى تحت ضربات المرض الجاثية فلا ينبض قلبه برحمة ولا تخفق روحه بشفقة، ثم لا يجد في نفسه إلا معاني الأرضية الوضيعة تتوثب في شره تريد أن تفترس أو تلغ في الدم، فراح يستلب مال الرجل المسكين لينقض بيت أو تتهدم أسرة.
وللطبيب في مهنته منطق يشبه منطق الذئب أمام الشاة: منطق القتل والسلخ؛ منطق الجزار يغمد المدية في نحر البهيمة ليشخب دمها بين يديه نضاراً خالصاً يستحيل إلى دار أو إلى عزبة أو إلى متعة تافهة.
والطبيب - في رأي الناس - رجل فوق القانون، لأنه يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون.
وهو - في رأي نفسه - رجل بذل العمر والمال ليتعلم العلم الأرضي الذي يتلهف على المال ويمهد للمادة ويتداعى أمام الجنيه ثم هو - بعد ذلك - يترفع على الفقير والمسكين(908/14)
وذي الحاجة. . . العلم الأرضي الذي يقاس بالقرش والجنيه ويقوم بالدرهم والدينار لا تسطع فيه روحانية السماء ولا سمو الروح.
وهو - في رأي السماء - روح الجنة التي تكشف البلاء، ويد الله التي تزيح الشقاء، وبلسم النفس التي تجد الغماء.
فيا لشقاء أهل الأرض من طبيب يتعلم العلم الأرضي الذي تلتصق دواعيه - أبداً - بالتراب.
وربط المريض حبله بحبل الطبيب، وتراخى الطبيب وأهمل، والمرض يستشري ويتشبث، ومضت سنة كاملة، استحال - من بعدها - الداء الذي كان قريب البرء إلى علة ما لها من دواء. . . إلى السل. وأحس الرجل بالسل يخترم قوته على حين قد نضب معينه وصفرت يده.
وانسابت الحسرة في قلب الرجل فهو لا يجد المال الذي يدفع به المرض، ولا يجد الصحة التي يكسب بها المال. وهو يضن بصغاره الأحياء أن يصيبهم المرض الخبيث الذي تغلغل في رئته، ويشفق عليهم أن ينالهم عنت الفقر، فراح ينظر إليهم - من بعد - في رقة لا تجد متنفساً.
وجلس الرجل - ذات ليلة - إلى زوجته يحدثها حديث الداء العضال الذي كتم عنها خبره منذ أن أصابه، فإنخرطت في بكاء مر. . . بكاء المرأة تحس مرارة الفاقة ولذع العوز وفقد العائل. وترامى إلى الحكومة خبر المرض الذي يفري الرجل فقذفت به إلى الشارع.
وانطلق الرجل في شدة الهم ولأواء الألم. . . انطلق إلى الطبيب يكشف له عن ضنا نفسه وشجو قلبه فأشاح عنه بوجهه وهو يقول في غير اكتراث (الآن لا معدي لك عن أن تذهب إلى مصحة حلوان).
لا عجب فقد طرحه الطبيب بعد أن استنزف ماله وامتص وفره، طرحه لأنه نزل عن إنسانيته ورجولته لقاء دريهمات.
وألقى الرجل السلم عن يد خيفة أن تنتقل العدوى إلى أحبائه: زوجته وأولاده.
ودخل الرجل المصحة حطاماً يئن من عوز ومن ضعف. ووضع طبيب المصحة يده ثم رفعها وقد اربد وجهه وتقطب جبينه وتيقظت إنسانيته، فجلس إلى المريض الواهي يسأله(908/15)
ليعرف قصة رجل ضيعه طمع طبيب ليس من بني الإنسان. وأحس الرجل بالبهر والإعياء من طول الحديث فألقى بنفسه على فراش وعلى وجهه سمات الجهد والضنا. ونظر طبيب المصحة في غيظ وإشفاق ثم قال (آه، لو أن قانوناً يقول: النفس بالنفس. . .!) ثم عزم على أن يحيي موات الأمل في نفس هذا العليل المتداعي ليكون روح صبية صغار يترجون أباهم، فأصر على أن يستأصل الداء من جذوره رغم أن المريض لا يقوى على وطأة المخدر لضعفه وتهالكه. وأمسك الطبيب الطيب بالمنشار يقد ضلوع المريض وهو يرى ويسمع ويحس ويتألم ولكنه كظم صيحات نفسه فلم ينبس بكلمة.
وخرج المريض من المصحة، بعد حين، ليرى. . .
قال صاحبي (وخرج المريض من المصحة، بعد حين، ليرى الطبيب الذي غاله ماله وأسكبه من صحته وختله عن شبابه. . . ليراه ما يزال في عيادته ذئباً بين شياه، يستمتع بالأمن والسلام لأنه فوق القانون، يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون. . .!)
كامل محمود حبيب(908/16)
عسل النحل بين الطب والإسلام
للدكتور حامد البدري الغوابي
يقول الله سبحانه (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) صدق الله العظيم.
هذا هو إعجاز القرآن لا من جهة أسلوبه وما يملك من قوة ولسن وروعة فن؛ إنما هو إعجاز كشف الله به حجاب العلم.
فتأمل النحل وأحوالها، ومملكتها وأجنادها، وانظر إلى بيوتها وخلاياها مسدسة أشكالها، متقاربة أوضاعها، محكماً صنعها بنتها بغير مقياس أو آلة، إنما ألهمها ربها فنها، وأوحى لها أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، فأطاعت أمر ربها، واتخذ فريق منها بيوتها في بعض الجبال سكنا، واتخذت طائفة أخرى الفجوات في الأشجار بيتا ومأوى، كما اتخذ فريق ثالث بيوت الناس حيث يعرشون أي حيث يبنون لها العروش.
ولكي نفهم هذه الآية حق الفهم، يجب أن نعرف شيئاً عن النحل ومملكته ونظامها فهي مملكة ذات نظام وتنسيق، وقد أولع بها العالم (مرالدي) فصنع خلية من الزجاج راقب فيها أفرادها فرأى عجبا أنطق لسانه بالإقرار بقدرة الخلاق.
كل فرد في هذه المملكة له عمل، لا تقاعد ولا كسل، وهذا النشاط في الخلية أصبح يضرب به الأمثال، مما دعا أحد الحكماء في نصحه لتلاميذه أن يقول (كونوا كالنحل في الخلايا فهي لا تترك عندها متبطلا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية لأنه يضيق المكان ويفني العسل ويعلم النشيط الكسل) وهذا ما تفعله عاملات النحل بالذكور إذا أقبل الشتاء ببرده القارس واستعدت الخلية للبيات فتنقض على الذكور فتقتلها.
أجل!! ليت الإنسان قد أخذ من النحل في نشاطها المثل، فللنحل دوى ولكن يعمل؛ والإنسان قد تسمع له جعجعة ولا ترى طحنا.
وأفراد الخلية يطيعون الملكة ولا يعصون لها أمراً، وهي ملكة واحدة وظيفتها وضع البيض وتدبير العمل وتوزيعه على بقية الأفراد، ورحم الله شوقي حيث قال:
يا ما أقل ملكها ... وما أجل خطره(908/17)
قف سائل النحل به ... بأي عقل دبره
تجبك بالأخلاق وهي ... كالعقول جوهره
تغني قوي الأخلاق ما ... تغني القوى المفكره
ويرفع الله بها ... من شاء حتى الحشره
ثم يوجد في هذه المملكة بضع مئات من الذكور وظيفتها التلقيح، ثم توجد عدة آلاف من العاملات التي يدور عليها رحى العمل، فمنها التي تبني عيون الشمع بترتيب هندسي منظم يعجز عنه الفنان المعلم، وفي هذه العيون يخزن العسل وتضع الملكة البيض، ومنها التي تجمع الرحيق فيتحول بطريقة خاصة في معدتها عسلا ثم تلفظه شراباً فيه شفاء للناس، هو الشهد المصفى والسكر المكرر، ومنها التي تحمل الماء، ومنها المدافعات عن الخلية، فتلسع من يعتدي عليها سواء كان إنسانا أو حيوانا أو حشرة أو نحلة غريبة من خلية أخرى، ومنها ما تشتغل بتنظيف الخلية من الداخل، إلى آخر ما يرى من نظام في العمل بديع، وترتيب وتنسيق. والآن نتمم الكلام عن هذه الآية الكريمة، فبعد أن أوحى الله إليها بسكناها قال (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا) فالنحل تسلك في الوصول إلى الحقول حيث الثمرات طرقاً ملتوية، ولكنها لا تضل على بعدها السبيل إلى الخلية، بل هداها الله أدراجها، وآتاها أبراجها، وجعل سبلها سهلة ميسرة، فقد تسلك بضع كيلومترات ولكنها لا تستوعر طريقها، وبعد أن ترتشف من الأزهار رحيقها، ترده عسلاً صافياً يخرج من بطونها مختلفا ألوانه بين الأحمر والأصفر والأبيض، وذلك باختلاف الرحيق الذي ترتشفه، فإنها إن ارتشفت من أزهار البرسيم مثلا، كان العسل فاتح اللون، وإن وقعت على بعض أزهار الفاكهة كان العسل أغمق لونا.
العسل من وجهة الدين
قرر القرآن الكريم أن الشراب الذي يخرج من بطون النحل شفاء للناس من أدوائهم. وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال (العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين العسل والقرآن) هذا وقد عالج رسول الله شكاة البطن بالعسل إذ جاءه رجل فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا، ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا؛ ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا؛ ثم أتاه فقال قد فعلت. قال صدق الله وكذب بطن(908/18)
أخيك، اسقه عسلا فسقاه فبرئ.
والآن سنرى أن الطب يرى في عسل النحل ما قرره القرآن من قبل، ويقر علاج الرسول لشكاة البطن.
العسل من وجهة الطب
وقبل أن نتكلم عن فوائد العسل الطبية نذكر طرفا عن تركيبه الكيماوي:
العسل به 16 ? ماء، ومن 30 - 45 ? سكر فواكه (ليفيلوز)، ومن 25 - 40 ? سكر العنب (جلوكوز)، و1 , 9 ? سكر قصب، وحديد وبوتاسيوم وصوديوم وكبريت ومغنيسيوم وحامض فسفوريك وحامض فورميك ومواد عطرية 3. 8 ?.
فنرى أن العسل يحتوي على مواد يحتاج إليها الجسم كالحديد والفوسفات وغيرها بخلاف ما فيه من سكريات.
أما الجلوكوز الموجود فيه فهو بيت القصيد، فهو يعطى الآن في الطب دواء وحقنا تحت الجلد وفي الوريد ويعطى حقناً شرجية أيضاً كمغذ ومقو، وهذه الحميات كالتيفود وغيرها، وهذه النزلات المعدية والمعوية وما يكتنفها من قيء وإسهال، وهذه الأمراض المزمنة كضعف القلب، وهذه التسممات من احتباس البول مثلا أو من مواد خارجية كالزرنيخ، كل هذه الأمراض يفيدها الجلوكوز ويسير بها إلى طريق الشفاء.
وكم رأينا من مريض منع في علاجه عن الأطعمة، فكان سكر الجلوكوز هو الغذاء والدواء، فهو سهل في امتصاصه سريع في فائدته.
وكم رأينا من طفل صغير أصابته الإسهالات التخمرية من استعمال المواد السكرية، فلما وضع له العسل في اللبن بدلاً من السكر، استفاد جسمه وتحسنت حالته، حيث أنه سهل هضمه، سريع امتصاصه، فلا يجهد الغدد في تحليلها، ولا الخمائر في تحويلها، كما أنه لا يسبب غازات بالأمعاء. وتلك ميزة عظيمة من ميزات العسل.
هذا فضلا عن أن العسل لا يتلف الأسنان كالمواد السكرية، بل أنه لتعالج به اللثة في الأطفال عند التسنين، وذلك بأن تمسح اللثة المحتقنة بالعسل، وما معظم الأدوية المسكنة للثة إلا ويدخل في تركيبها عسل النحل.
وكم رأينا من مريض بالبول السكري وهو من احتمى في غذائه من السكريات، إذا أصيب(908/19)
بغيبوبة من تسمم السكر كان الجلوكوز مع الأنسولين هو الدواء الوحيد المنقذ، وكأنما يسري عليه القول (وداوها بالتي كانت هي الداء).
حتى إن أولاد مرضى السكر عند بدء ولادتهم يعالجون بالجلوكوز، فإن الأم المريضة بالسكر يولد طفلها ونسبة السكر في دمه قليلة في الساعات الأولى من حياته، فيعطى سكر الجلوكوز فوراً لتعويض هذه القلة بمقدار خمس نقط في الفم من محلول جلوكوز خمسين في المائة كل نصف ساعة في الست ساعات الأولى من حياته، وإلا فإنه يكون عرضة للموت نتيجة قلة السكر في الدم.
وللعسل تأثير ملطف يزيد في إفرازات الفم فيفيد في حالات صعوبة الابتلاع وجفاف الزور وفي حالات السعال الجافة. ولذلك أدخل طبياً في تركيب كثير من الغراغر وأدوية السعال، وكان يصفه (جالينوس) في آلام الصدر، وسبق أن أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (نعم الشراب العسل يرعى القلب ويذهب برد الصدر).
والعسل ملين لطيف، فابدأ صباح كل يوم بتناول ملعقة كبيرة منه تستفد غذاء وتجد فيه مليناً.
وقد أثبتت التجارب التي عملت بمعهد باستير أن كيلو العسل يفيد الجسم بما يوازي 3 ونصف كيلو لحم و12 كيلو خضروات.
والعسل معقم ومضاد للفساد لأن أي ميكروب لا يستطيع أن يعيش فيه طويلا إذ أن درجة تركيز العسل تجذب الماء من أجسام الجراثيم فتبيدها.
وقد يسأل سائل لماذا لا يكون في الفواكه التي تشبه العسل في طعمها، ما في العسل من الفائدة؟ فنقول إن السكر الذي بها هو سكر القصب أو أنواع أخرى ليس لها ما للجلوكوز من مميزات علاجية؛ كما أن الفواكه لا تحتوي من الجلوكوز إلا على نسبة ضئيلة لا تغني شيئا.
ولا يفوتني هنا أن أنوه بسائل آخر يخرج من بطون النحل من مؤخرة الجسم عن طريق آلة اللسع وهو سم النحل، جعل فيه شفاء لبعض الأمراض، إذ قد لسع النحل بطريق المصادفة مريضاً بالروماتيزم بجوار مفصله المريض وكان عجباً أنه شفي بعد اللسع، ذلك حدا بعض المعامل إلى إجراء أمثال هذه التجارب على مرضى الروماتيزم واللمياجو(908/20)
(روماتيزم في الجزء القطني من الظهر) والسياتيكا (عرق النسا).
ثم هناك الشمع الذي تفرزه النحلة من غدة خاصة بين حلقات بطنها، فيخرج أولا كصفائح رقيقة صلبة تتلعقها النحلة في فمها وتمضغها فتلين من صلابتها ويسهل بذلك تشكيلها في صنع الحجرات الصغيرة السداسية ذات الشكل الهندسي الرائع.
وقد استعمل الشمع قديما في صناعة شموع الإضاءة وحديثا في الطب كأساس في صنع المراهم والدهانات المرطبة (الكريم).
وأخيراً وليس أخرا جرب الدكتور الأمريكي (ايكارت) علاج لسعة النحل بمسها بالعسل فهدأ الورم وسكن الألم.
سبحانك اللهم، ألهمت مملكة النحل فدبرت ملكها ونظمت جندها، ألبستها الخيرات وأطعمتها الزهرات وسخرتها للناس بالعسل طاهيات، فهي إن دوت روت، وإن طعمت أطعمت وإن لسعت نفعت.
فهل رأيت النحل عن ... أمانة مقصره
ما اقترضت من بقلة ... أو استعانت زهره
أدت إلى الناس به ... سكرة بسكره
سبحانك ربي هذا كتابك شفاء نافع ودواء ناجع ولكن ما أقل المستشفين به، وهو علم ونور يقف أمامه الجامد المنكر وقفة الأخيذ الحيران. وإلا فهل كان عند نزول القرآن منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا يعرف ما في عسل النحل من مركبات وهي لم تعرف إلا حديثاً، أم كان يعرف الجلوكوز وأنه سيستعمل يوماً، دواء للأدواء ولكنه علم من هو فوق كل ذي علم عليم.
وإلى فرصة أخرى لنوالي أحاديثنا عن الطب والإسلام تذكرة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الدكتور حامد الغوالي
طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة(908/21)
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
الأمراض النفسية
- 8 -
في الإنسان قوة اختلف علماء النفس في تسميتها؛ فبعضهم يسميها قوة الحياة أو القوة الدافعة أو إرادة القوة أو اللبيد، وهذه القوة على كل حال تدفع الإنسان إلى الاحتفاظ بحياته وتحفزه إلى أن يعني بأركان الحياة من الغذاء والسلامة وتخليد النوع. وفي الأزمنة الغابرة كان سهلا على الإنسان أن يحصل على مطالبه الضرورية المحدودة كما تقتضيه غرائزه وميوله. أما بعد أن تقدمت الحضارة وأصبح المجتمع يقضي على الإنسان بالخضوع لآداب وقوانين وعادات وتقاليد كثيرة لم يعد الإنسان قادراً على أن يطلق الحرية لغرائزه ورغباته وميوله وأمانيه.
بل اضطر أن يقمع كثيراً منها ويكبتها في قرارة نفسه كلما حاولت الظهور بمظهر لا يرتضيه المجتمع أو يضر بحسن مركزه أو سلامته فيه، وبذلك قام في النفوس صراع شديد بين ما يتطلبه المجتمع وبين ما يتطلبه الفرد. إلا أن كل رغبة تكبت وكل غريزة تخمد لا تموت بل تنزل إلى قرارة النفس وتنحدر إلى أعماقها المظلمة. وتبقى هناك حية عاملة في الخفاء تحرك المرء وتدفعه فتوجه سلوكه أو تحدث له من العلل الشيء الكثير على غير علم منه ببواعث هذا السلوك أو هذه العلل. وقد تحاول هذه الدوافع أن تجد لها منفذاً إلى الشعور فيمنعها المرء بإرادته ويقيم عليها من نفسه رقيباً هو الضمير يردها إلى اللاشعور فترجع خاسئة مهزومة ولكنها لا تلبث حتى تتحفز إلى الظهور ثانية وثالثة.
فكأن هناك مصارعة نفسية مستمرة بين الهوى والعقل تنتهي غالباً بمرض عصبي أو شذوذ في السلوك وهذه المغالبة والمصارعة بين ما تقتضيه أهواء الإنسان وميوله وبين ما تقتضيه البيئة تحدث كل يوم وفي كل إنسان من بداية نشأته إلى مماته.
وقد تنبه العالم الغزالي رحمه الله إلى هذه المعركة الهائلة في النفس الإنسانية وتتبع أسبابها وعللها وأهدافها ومراميها فعرف جلية أمرها وحقيقة حالها معرفة لا تقل قيمة وخطراً ولا(908/22)
مدى واتساعاً عن المعرفة التي وصل إليها علماء العقل الباطن في زماننا هذا.
نرى الغزالي يشبه العقل بقبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، أو بهدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو مرآة منصوبة تجتاز عليها الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو بحوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه وإنما مداخل هذه الأنهار المتجددة في العقل في كل حال. أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوات والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه على أثر في العقل وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل العقل من حال إلى حال آخر. والمقصود أن العقل في تغير وتأثر دائمين من هذه الأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في العقل هو الخواطر وأعني بالخواطر ما يحصل في العقل من الأفكار وأعني به إدراكاته علوماً. إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان العقل غافلا عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محلة. فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تقسم إلى ما يعدو إلى الشر أي إلى ما يضر وإلى ما يدعو إلى الخير أي إلى ما ينفع، فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني، الداعي إلى الشر يسمى وسواساً إلى أن يقول: ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة. ثم إن كل حادث لا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب. ومهما استنارت حيطان البيت بنور الدار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الإنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان.
فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاً والذي يتهيأ لقبول وساوس الشيطان يسمى إغواء وخذلاناً.
هذه صورة واضحة الأجزاء بينة الجوانب زاهية الألوان بين الغزالي بها في صراحة(908/23)
ووضوح وترتيب واتساق الرغبات المتصارعة في النفس الإنسانية من جراء القيود الكثيرة التي تقيدها بها النية الاجتماعية وهو يعنى ولا شك العقل، العقل بجزأيه اللاشعوري والشعوري، معتبراً خواطر العقل الباطن خواطر شر أو هي الشياطين التي تغري الإنسان بتحقيق رغباته الغريزية الإيجابية المتضاربة مع مقتضيات المجتمع. ومعتبراً خواطر العقل الواعي خواطر خير أو هي الملائكة التي توفقه لما فيه خيره ونفعه. وليس غريباً أن يعتبر الغزالي الرغبات الغريزية والميول الفطرية التي تتنافى مع مقتضيات المجتمع - ولا سيما من الوجهة الدينية - شروراً وآثاماً ضارة وشياطين موسوسة ومغرية، وأن يعتبر تحفظات العقل الواعي أو الضمير الاجتماعي ملائكة تلهم التوفيق وتدعو إلى الخير والنفع العميم.
ولم يفت الغزالي في هذا المعرض الخدع النفسية التي تحاول فتح باب الشعور لرغبات العقل الباطن المكبوتة. وقد أدرك ما في هذه الناحية من حياة الإنسان النفسية من غموض وصعوبة فهم قال - ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاماً وإلى ما يتردد فيه فلا يدرى أنه من الملك أم من الشيطان. فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير والتمييز في هذا غامض إلى أن يقول وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع ومكايد الشيطان. ولنر الآن هذا التشبيه الجميل الذي وضعه الغزالي للعقل الواعي بالنسبة للخواطر اللاشعورية أو رغبات العقل الباطن يقول - العقل مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه. فحماية العقل عن وسواس الشيطان واجبة.
أما الأبواب التي يذكرها الغزالي أنها مداخل الشيطان إلى العقل فهي الغرائز، يقول: من أبواب الشيطان العظيمة إلى العقل الغضب والهم والطمع والحقد.
ويعجبنا تنبيه الغزالي إلى تأثير كبت الرغبات الغريزية في اللاشعور كبتاً يحدث مرضاً عصبياً أو تسامياً، ويعجبنا أيضا من الغزالي هذا السؤال الذي طرحه على نفسه ليجيب عليه وهو هل يتصور أن ينقطع الوسواس بالكلية عند الذكر أم لا.(908/24)
لاشك أن الغزالي عرف جيداً أن الرغبات الغريزية المكبوتة في اللاشعور لا تنقطع عن العمل بل تظل تعمل في صميم النفس وقرارة العقل الباطن أعمالاً تسبب أمراضاً نفسية وعصبية منها الوسواس، أو تسبب تسامياً تنفس به النفس ألم الكبت ومضاضة الحرمان. ويجمل بما أن نورد هنا ما يقوله الغزالي جواباً عن هذا السؤال يقول:
إن العلماء المراقبين للعقول من صفاتها وعجائبها اختلفوا في مسألة انقطاع الوسوسة بالذكر؛ فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع، وقالت أخرى: لا ينعدم أصل الوسوسة ولكن تجري في العقل ولا يكون لها أثر لأن العقل إذا صار مستوعباً للذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة، وقالت فرقة لا تسقط الوسوسة ولا أثرها ولكن تسقط غلبتها على العقل. والوسواس أصناف فقد يكون بتلبيس الباطل ثوب الحق، وقد يكون بتحريك الشهوات، وقد يكون بمجرد الخواطر.
ومن هذا يتبين لنا جليا أن الغزالي يعرف جيداً أن الوسوسة مرض نفسي لا يزول بذلك النوع من العلاج وهو الذكر، وكل ما يفعله الذكر في هذه المشكلة النفسية أو الوسوسة هو تخفيف وقعها وتقليل شرها. ونحن نرى الغزالي في هذه القطعة محللاً نفسيا أكثر منه واعظاً دينيا أو عالماً أخلاقيا.
وكأن الغزالي قد عز عليه أن يعرف أسرار النفس البشرية ولا يعرف العقد النفسية أو المركبات العاطفية فقد وضع يده على هذه العقد والمركبات وضع الخبير العارف قال - إن القلب تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب.
فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغير وضعيته، فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين وتارة بين شيطانين وتارة بين ملك وشيطان. وأي قول أبلغ في وصف العقد النفسية والمركبات العاطفية من هذا القول وسنبسط هذا الموضوع في المقالات القادمة إن شاء الله.
حمدي الحسيني(908/25)
من أخلاقنا
ردود الرسائل
للأستاذ محمد رجب البيومي
يتنقل الإنسان في حياته من مكان إلى آخر، ويترك قوما ليحل بين قوم، وفق ما تتطلبه شواغل الحياة. وهو في كل ناحية يقطن بها حينا من الدهر، يتخذ لنفسه أصدقاء يقاسمهم الود ويخلص لهم النصح، وقد يبسط لهم جناح المعونة إن وفقه الله إلى معروف، ثم تمضي الأيام فيجد نفسه مضطرا إلى فراق زملائه ليستأنف عملا جديدا في مكان آخر، فيودعهم ويودعونه حاملا بين أطواء نفسه من الذكريات الطيبة ما يلذ له أن يستعيده بين الفينة والفينة، والإنسان أقوى الحيوانات جميعها على التذكر والاستعادة، فجميع الحيوانات - غيره - تنسى ما يعترضها في الحياة بعد انقضائه بأيام أو أسابيع، أما الإنسان وحده فيحتفظ في مخيلته بذكريات يرجع بها إلى الطفولة والمراهقة مهما امتدت به السن في طريق الحياة فيستطيع أن يسرد لغيره أنباء طال عليها العهد، ولكنها لم تفقد مرآتها الواضحة في خاطره، وقد يسبح به تفكيره فيتمثل إخوانا شاطرهم الود، ولقي منهم المعروف، فيحن إلى ما تقدم من عهودهم الماضية، ثم يدفع به الحنين إلى مراسلتهم والوقوف على أنبائهم، وفي المراسلة تثبيت للمودة على البعد، وتقوية للمحبة على النزوح، فهي تقرب الشاسع، وتقضي مسألة النائي. نظرة فاحصة إلى ما خلفه الأدب العربي في تراثه الثمين من الرسائل الإخوانية تريك العجب العجيب، فقد ازدحمت الموسوعات الأدبية بتحف خالدة من الرسائل، وهي فوق مكانتها العالية في البلاغة والمنطق، تدل على الشعور الطيب الذي حفز أصحابها لتسطيرها وإنشائها، وتنبئ عما منحوه من إخلاص في الحب، وصدق في الوفاء، وإخلاص المرء وسام ناصع يتزين به، فهو الدليل المقنع على مروءته ونبله، كما يبرز للناس معدنه الحقيقي دون بهرجة وتزييف!!
ونحن في عصرنا الحاضر نغرق في أعمالنا المادية إلى آذاننا، ونستهلك أوقاتنا جميعها فيما نأمل منه النفع والكسب، فلا يجد الكثيرون وقتا صافيا للمراسلة في زعمهم. وقد يتطوع بعض من جبلوا على الوفاء والبر، بالسؤال عن أصحابه، فيسطر الصحيفة المخلصة إلى من يصطفيه، وتمضي الأيام فلا يجد ردا يسعفه بأنباء صاحبه، فيسطر رسالة(908/27)
أخرى مبقيا على ما يدخره من محبة وود، فيأبى الرد أن يعود إليه أيضا!! وأنت تعجب حين تسمع من يرددون هذه الشكوى في أسف وحيرة، بل إن العجب ليبلغ منك أقصاه حين تقابل في الطريق من بعثت إليه رسائلك، فيخبرك أنه حظي بقراءتها، وأنس بلقائها، غير أن ظروفه الخاصة لم تمكنه من الرد السريع!! وكأنه لا يجد خمس دقائق يسطر فيها فوق قرطاسه ما يحتمه الواجب الملزم، وإذا كان من الأمور المخجلة أن تحيي زميلك في الطريق تحية عابرة، فلا يرد عليها أجمل رد، فكيف بمن تتذكره على البعد؟ فتسطر إليه أنباءك وتسأله عن أنبائه ثم لا تظفر بعد ذلك بخطاب مريح!!
هذه مشكلة خلقية أليمة. تدل دلالة واضحة على ما يغمرنا من تدابر وتقاطع، وتنبئ عما ينقصنا من يقظة ووعي، وهي كجميع مشاكلنا الاجتماعية ناجمة عن إهمال التعليم الخلقي في محيطنا الشعبي، فنحن في معاملاتنا الشخصية لا نتقيد بحدود واضحة المعالم، بينة الصوى، فندرس الأخلاق دراسة عملية، ونطبقها تطبيقا ملزما واعيا، بل نتقيد بقشور تافهة نقرأها ولا ننقدها في أكثر الأحيان، وأقول - في صراحة - أنه ليست لدينا حدود خلقية، تلقن في المدارس، وتذاع في الصحف، وتتناقل بين الناس، ولكننا نطبع علاقاتنا الاجتماعية بطابع التقليد والمحاكاة، فالصغير يقلد الكبير، والمتأخر يحاكي المتقدم، إذ يعيش معه في محيط واحد، ولا عليه إذا أخطأ بعد ذلك، فقد وقع في الخطأ من يفوقه ويكبره! وحسبك أن تكون زلة الكبير دفاعا ملجما يتقدم به الصغير، وحال كهذه الحال يجب أن تزعزعها العواصف الهوج.
وواضح أن البريد في عهدنا الحاضر قد قطع أبعد أشواطه في ميدان السرعة، حتى ليمكن الإنسان أن يراسل أخاه وراء الأميال الشاسعة. والمسافات القاصية، فتصله الرسالة في اليوم الذي كتبت فيه بأجر لا يقوم له اعتبار، فلم لا نستغل هذه الأداة الطيعة في توثيق العلائق وتقوية الروابط بمجتمع مفكك متدابر. وليت شعري كيف نكون لو تقدم بنا الزمن قرونا عدة، فرأينا العهد الذي يقطع فيه البريد شهورا وأسابيع حتى يقع في متناول صاحبه البعيد، وقد تجد أثناء هذه المدة ظروف تقلب أنباء الرسالة وصاحبها رأساً على عقب، والمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، فإذا قطع صلته الأخوية، بمن أنس إليهم حينا من الدهر، وسعد بلقائهم فترة طويلة، فسيخسر الشيء الجليل. وكثيراً ما أقع في حيرة مخجلة حين(908/28)
يقابلني أحد الزملاء فيسألني عن صديق يعرف ما كان بيني وبينه من الود الأكيد فلا يجدني ملما بأنبائه وأخباره، وكأننا لم نتقابل قبل الآن، أو لطول اجتماع لم نبت ليلة معا - كما قال متمم - وإن أوجه الكلام لتضيق في وجهي حين أهم بإجابة هذا السائل، فماذا عسى أن أقول له؟ أخبره أني راسلته متسائلا عن أنبائه فلم أظفر برد؟ أم أظهر أمامه عاقاً غليظاً فأعلمه إني لم أتصل به منذ فارقته؟ أم أبسط إليه ما يغمر مجتمعنا الخلقي من تقصير وإهمال؟ ترى ماذا يكون؟ وأنت تبحث عن سبيل العذر في تقصير المقصرين فلا تجده بحال، بل إني أعلن للقراء أن هؤلاء لا يتمتعون بضمير حي متيقظ، وأن من لا يرد التحية بأحسن منها جدير أن ينسلخ من ثياب الإنسانية. ولن نرسل الكلام على إطلاقه، فنحن نعلم أن من الرجال من تتزاحم أمامهم الرسائل، وتتكدس فوق مكاتبهم الخطابات، فلا يجدون في فراغهم الضيق ما يكفي للإجابة والتعليق، وهؤلاء في العادة لا يقصرون في حقوق من اتصلوا بهم اتصالا شخصياً، وعرفوهم معرفة وثيقة، وإنما يفرطون في جانب من يشغل فراغه بمراسلة العظماء والموهوبين في غير طائل، وهم معذورون في هذا التفريط إذ عدمت الرابطة الشخصية، وضاق الوقت عن الإجابة المحيطة، فلا تؤاخذهم في ذلك، وإنما تؤاخذ من يقصر في حقك، وقد خالطته بنفسك، وأفضى إليك - يوما ما - برغباته وخلجاته ثم فرق بينكما الزمن، فنسى أمسه، وفرغ ليومه، وتجاهل حقوق المودة! ذلك عيب شنيع.
ونحن نتكلم هنا عن الرسائل الصادقة الخالصة لوجه المودة والوفاء فلا نتحدث عن الرسائل النفعية، التي يقصد بها أصحابها قضاء أرب مادي، أو استغلال نفوذ شخصي، فالسكوت عنها - في بعض الحالات - يجد مبرراته وظروفه، وإن كان الأجدر بصاحب الخلق الرفيع أن يسعى حسب طاقته في نفع أصدقائه، ما لم يؤد به مسعاه إلى ضرر إنسان ما، فإذا لم تسعفه النتيجة المرتقبة، أعلن أمره إلى صاحبه في رسالة صادقة. ورب خطاب رقيق أراح الضمير وأثلج الصدر، وإن لم يعد بالثمرة المشتهاة.
إن من المؤلم حقا أن تنقطع الروابط بين الناس لمجرد ابتعادهم من مكان إلى مكان. ويزيد في الألم أن تكون وسائل الاتصال في متناول اليد دون أن تجد من يحرص عليها، والمرء في خضم الحياة هدف للمشاكل المعقدة، والمعضلات المؤرقة، فهو في حاجة ماسة إلى(908/29)
المشورة والاستفتاء، ومن الطبيعي أن يراسل خلصاءه مستفسرا مستنبئا، فقد يجد لديهم الحل المريح في غير عناء، ومن المضحك أن المرء في أغلب أحواله - كمالك الحزين - يرى الرأي لغيره صادقاً بصيراً، وتتخطفه الحيرة فلا يراه لنفسه إلا بعد مشقة وجهد. وتعليل هذه الظاهرة سهل بين، فالإنسان - إلا من عصم الله - شديد الخوف على نفسه، يظن الريبة والخطر في كل ما يقدم عليه، فلا يكاد يخطو خطوة واحدة حتى تتقاذفه الحيرة من سبيل إلى سبيل، لكن صديقه - في الغالب - أقدر منه ثباتا وعزما، فهو ينظر إلى المشكلة بعين الواقع، طارحاً ما يتراءى من الشكوك دبر أذنه، ولا نعني بذلك أنه قليل المبالاة بما يعترض الموقف من مصاعب، بل نفرض فيه اليقظة والحذر مع أعصاب هادئة وجنان مطمئن، وإن عاطفة (اعتبار الذات) لتمتد من الإنسان فتشمل ذويه وأصحابه، وتدفعه إلى المشورة السديدة والمساندة المخلصة، فأولى بالعاقل أن يلجأ إلى أصحابه على البعد، يبثهم النجوى، ويبسط أمامهم المشاكل، وأولى بهم أن يسارعوا في إيضاح الغامض. وحل المشكل، فستدور عليهم الدائرة يوما ما، ويحتاجون إلى من يشاورونه ويناشدونه، وفي ذلك تخفيف مريح لما تمتحن به الإنسانية من ويلات، وإن مجتمعا يتضافر أبناؤه على البعد، ويتكتل أجناده تحت لواء التضحية والإيثار، لجدير أن ينعم بالأمن والاستقرار.
هذه خواطر خاطفة تجول بذهني من وقت لآخر حين أواجه بمن أعتقد فيه الوفاء والمودة، فأراسله محييا مكرماً، عقب صلة وارفة تفيأنا معاً ظلالها الوريفة حقبة طويلة، ثم أجد الفتور في الرد حينا، والتواني عن الإجابة حينا، وقد لا أجد رداً بالمرة، فأسأل نفسي في حيرة محزنة، أليس لهؤلاء نفوس تستعيد الذكريات، وقلوب تستشعر اللوعة، وعواطف يذكيها الشوق!! ثم أغمض عيني وأنهض للبارودي فأستمع قوله الحزين
فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا ... ثوت عندكم شهراً، ولم يأتنا رد
أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود
فلا تحسبوني غافلاً عن ودادكم ... رويداً، فما في مهجتي حجر صلد
(المنصورة)
محمد رجب البيومي(908/30)
رسالة الشعر
قصة شريد
(إلى التي نسجت يد الأقدار من حياتها وحياتي قصة هذا
الشريد!)
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كان شريد سائراً في فلاه ... مضيع الصفو، شريد الأمان
يبكي، فتبكي في يديه الحياة ... مما يلاقيه، ويبكي الزمان
يمشي على الرمل رماه الهجير ... بناره حتى ترامى لظاه!
حيران قد أضناه طول المسير ... ويشتكي لكن تضيع الشكاه!
ولم يكن يدري لماذا يسير؟ ... ولا إلى أين ستمضي خطاه!
في الليل، والليل رهيب الظلام ... تراه يسري وحده مجهدا
كأنه روح ثوى في حطام ... أطلقه من قبضتيه الردى
وحين تعوي الريح مثل الذئاب ... ويستبد البرد بالبائسين
تراه يجري هائماُ في الشعاب ... يبحث عن مأوى قوي أمين
وأين؟ لا مأوى يقيه العذاب ... قد حرم المأوى على الشاردين!
سأمان يبكي ضارعا للملال ... ويشتكي للوحشة القاحله
ظمآن يسقيه سراب الرمال ... نار الأسى والحسرة القاتله
كم صاح بالأقدار في محنته: ... هلا رحمت البائس الشاردا؟
فأعقبته من صدى صيحته ... صمتاُ عميقاً ساخراً خالدا
وما على الأقدار من شقوته ... وليس إلا في الورى واحدا؟
وحين ألقى عبئه واستراح ... أو هكذا كان يريد الشريد
صاح به صوت عيي الصياح ... يوشك أن ينقد منه الحديد:
قم أيها العبد الذليل المهين ... وسر على الصحراء سير الأسير!
ولا تسل عن غاية السائرين ... فإنها سر طواه الضمير!(908/32)
قد خفي السر عن العارفين ... فهل ترى الجاهل يدري المصير؟
فقام يسعى وهو باك طريد ... معذب الخطو، شقي الطريق!
كما يرى السادة يمشي العبيد ... حتى على الشوك! ولو في الحريق!
ومرت الأيام مثل الصدى ... معروفة الأول والآخر
يماثل الفائت منها الغدا ... والغائب المأمول كالحاضر
والشارد المسكين يحيا سدى ... كريشة في عيلم زاخر
وبينما كان يسير الغريب ... مستغرقاً في صمته ذاهلا
والقيظ بحر موجه من لهيب ... لا تبصر العين له ساحلا
رأى على الأفق البعيد القريب ... شيئاً تبدى جنة باسمه
رواحه منها نسيم رطيب ... ونفحة من عطرها هائمه
فراح يهفو مستثار الوجيب ... مستغرقاً في نشوة حالمه
وحين وافى الجنة الساحره ... رأى. . . وما أعجب ما قد رآه!
ما صورت أحلامه الشاعرة ... وقد سرى فيه ربيع الحياه
ماء شهي الورد كالسلسبيل ... كأنما منبعه في السماء
يضعه عشب ندي جميل ... يعانق الظل عليه الضياء
وفوقه يسري النسيم العليل ... مرنح العطر، شجي الغناء
وهذه الأشجار قد أبدعت ... تصويرها قدرة رب الوجود
وهذه الأشجار قد أينعت ... ثمارها، تحمل سر الخلود
والطير تشدو بالغناء البديع ... فتبعث الحب، وتذكي الحنين
كأنما تبصر طيف الربيع ... إذا تراءى من خلال السنين
دنيا من الحسن الذي لا يشيع ... ولا تره العين في كل حين
لما رأى الشارد هذا الجمال ... هفا إليه مستهام الجناح
فراعه ما أطلعته الرمال ... من غابة أشواكها كالرماح!
قد حجبت عنه الجمال الحبيب ... فما يرى إلا من خيال الفناء!
ورن في الصحراء صوت رهيب ... فارتجت البيد لهول النداء:(908/33)
سر أيها الشارد فوق اللهيب ... فأنت عبد من عبيد القضاء
لن تدخل الجنة مهما بقيت ... ولو تحملت سهام القتاد
ولن ترى أمثالها ما حييت ... فما خلقنا مثلها في البلاد
لغيرها هيئت يا ابن السبيل ... فاذهب لكي تبحث عن غيرها!
أما ترى الأشجار مثل النخيل ... أعشاشها وقف على طيرها؟
قد أزف البين، وحان الرحيل ... فسر مع الأيام في سيرها!
فأجهش الشارد مستنجدا ... وقال في صوت كرجع الأنين
يا أيها الصوت الرهيب الصدى ... رفقاً بهذا الضارع المستكين
قضيت عمري في سعير الألم ... وفي ضباب الوحشة البارده
وكان قلبي هائماً في القمم ... يبحث عن أحلامه الشارده
وكم تمنيت حياة العدم ... في ظل تلك الراحة الخالدة
وعشت في الصحراء عيش الهوان ... يحيط بي أنى ذهبت الشقاء
أهتف: أين الحب؟ أين الحنان؟ ... فيذهب الصوت سدى في الفضاء
وكنت أمشي مستطار الفؤاد ... على رمال ثائرات الشرار
شرابي الآل، وزادي القتاد ... وليس لي مأوى، فأرجو القرار
وكان لي ثوبان: هذا السواد ... يخلفه عندي بياض النهار
وكان لي في كل وقت حنين ... إلى ظلال الجنة الزاهره
وكنت أمضي في فضاء السنين ... أسأل عنها النسمة العابره
والآن قد أبصرتها ماثله ... فعربد القلب كطير سجين
يريد تلك الجنة الحافله ... بكل حسن يفتن الناظرين
والموت آت، والمنى زائلة ... فكيف لا أنعم حتى يحين؟
علام حرمت على المتاع؟ ... وفيم قدرت على المحن؟
وكيف أمضي في طريق الضياع ... أحمل في قلبي هموم الزمن؟
لمن تكون الجنة المشتهاه ... إلا لمن أضناه طول السفر؟
والمورد العذب كجدب الفلاة ... إن لم يكن للظامئ المنتظر(908/34)
ظننت يأسي قد توارث رؤاه ... فراعني يأس جديد الصور!
وهذه الجنة. . . وما ذنبها؟ ... حتى أراها ملك من لا تريد!
إني مناها. . . بل أنا حبها ... وطيرها الشادي بحلو النشيد
ظمآن يا ربي! وهذا النمير ... ترنو إليه غلتي الصاديه!
لهفان! والحسن الغضير النضير ... تحنو عليه لهفتي الباكيه!
حيران! لكن ها أنا أستجير ... من حيرتي بالجنة الحانيه!
دعني أعش في ظلها شاديا ... حينا. . . إذا قدرت أن نفترق
وبعده مر أنطلق باكيا ... بقلبي الشاكي، وروحي القلق
وحين يمضي عن حياتي الشباب ... وينصت العمر لخطو المشيب!
أحيا بظل الذكريات العذاب ... وأسأل الصمت الذي لا يجيب:
هل يرجع الغائب بعد الغياب ... ويشتفي ممن يحب الحبيب؟
يا رب هذي منية المستهام ... وأنت أدرى بأماني البشر
أذاعها الوجد الذي لا ينام ... فما يقول الصوت. . صوت القدر؟
وأطرق الشارد حتى غدا ... في صمته تمثال يأس عريق
كأنه والرمل لما بدا ... من حوله. . جثة ميت غريق
منتظرا صوتا كحز المدي ... إذا قسا، أو مثل لذع الحريق
وخيم الصمت، وران السكون ... على رمال في الدجى نائمه
وفجأة ثارت به في جنون ... عاصفة مجنونة عارمه
وا رحمتا للشارد المستطار ... مقيداً في لجة العاصفه
تمضي به نحو بعيد القفار ... في ليلة مقرورة واجفه
حتى إذا الليل طواه النهار ... وغاب طيف الجنة الوارفه
تلفت الشارد كيما يرى ... أين انتهى بعد المسير الطويل
فلم يجد إلا الردى العابرا ... بقفرة للصمت فيها عويل!
فسار في واد عميق الوهاد ... يسلك في الصخر طريق الشتات
ضلاله مثل الهدى والرشاد ... ما دام يمضي ضائع الأمنيات(908/35)
يحيا. . . ولكن للضنى والسهاد ... واليأس والحسرة. . حتى الممات!
يا من يوافي طيفها وحدتي ... وشخصها عني بعيد. . . بعيد!
هذي حياتي. . . هذه قصتي ... قصة حب مستهام طريد!
تأمليها تعرفي محنتي ... وتدركي سر شقائي العتيد!
وتعذريني إن بكت لهفتي ... من حرقة الأسر، ونار القيود!
حملت نار الحب في مهجتي ... وعشت أيامي بقلب شهيد!
رعاك بالآمال يا جنتي ... من غال باليأس فتاك الشريد!
القاهرة
إبراهيم محمد نجا(908/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
في الأدب والنقد والحياة:
ما إن فرغت من قراءة تعليقك على رسالتي إليك؛ تلك الرسالة المنشورة في العدد (901) حتى سيطر عليّ شعور غريب لا أملك له دفعا، ذلك لأن تعليقك كان عميقا كأشد ما يكون البحر عمقا، وصافيا كأحلى ما يكون صفاء، متشعب النواحي ممتد الشعاب، يستجيب له القلب والقلم، ويتحفزان إلى الإجابة عن كل ناحية من نواحيه وكل شعبة من شعابه. . ولكنهما يحاران فيه حيرة تبعث على الصمت والإعجاب، والتفكير والاكتئاب!
1 - فهنا روح (ناهد) التي تطل علي من عالمها الآخر تشكر لي عاطفة نبيلة أملت علي أن أذكر أختا لي في الأدب والإنسانية ولدت مع الربيع وماتت مع الورد، وكانت حياتها (أقباساً من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس)! لقد تحدث إليها قلبي وناجاها بياني في نفحات معطرة بالشكوى، مضمخة بالنجوى، هبت علي ذكراها من قصيدتي (قمرية تموت) المنشورة في العدد (903) من الرسالة.
ولكن من يدري أن (ناهد) قد ماتت في (هجران) وأن (هجران) قد ماتت في (ناهد)، وأن (قمرية تموت) ما كانت إلا استجابة للحزن الصارخ الجازع الذي يبكي القلب حين يدفن فيه الحب، ويفزع إلى النحيب حين يغيب عنه الحبيب؟ فمن شؤمنا نحن معاشر الأحياء أن نموت فيمن نحب، وأن نتوزع على من ينأى، وأن يعيش معذبين مروعين على نحو ما تعيش الحمائم قد غالت فراخها النسور، وأودت بعشاشها الرياح!
2 - وهنا الشاعرة (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار. ماذا أقول لك يا أنور وقد أثرت بهذه الحقيقة الصادقة نوازع النفس ونوازي الروح، ودفعتني إلى الشعر دفعا فإذا بالنفس تنسكب حسرات، وبالقلب يترقرق عبرات، وإذا بقصيدتي (رهينة المحبسين) تمثل أمامي عبرة صافية، وأنة شافية؟ فإن استطاعت هذه القصيدة أن تصور حال الفتاة وقد أرداها مجتمعها الظالم في هوة فاغرة كالقبر موحشة كالعدم، ملؤها الحرمان والقنوط والسأم والملل، فلأنك وحدك الباعث على هذا التصوير(908/37)
والحافز لهذا التفكير. . ومن أولى منك بالدفاع عن (المرأة الشهيد) التي عاشت طعيناً بسكين من العادة والوهم كما يقول (شوقي) الخالد في مسرحيته (مجنون ليلى) على لسان (ليلى) مخاطبة (قيسا):
كلانا قيس مذبوح ... قتيل الأب والأم
طعينان بسكين ... من العادة والوهم!
أجل! فما هذا الشعر الذي قاله (شوقي) إلا تصوير لهذا المجتمع الآثم الذي أمات المرأة ووأدها وهي حية في دارها كرة وفي قلبها نزلة أخرى، بما فيه من عرف جائر وناس محافظين يعيشون بالعادة والوهم أضعاف ما يعيشون بالعقل والتفكير، ويستجيبون للغضب والشدة والخصام والعرام أكثر مما يستجيبون للأناة والرفق والوئام والسلام.
فيا أخي أنور لا تحسبنها الشاعرة وحدها (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار. . ولكن كل فتاة عربية في هذا الجيل قد أمست رهينة محبسيها: قلبها ودارها، فعاشت تتطلع إلى مجتمعها الظالم من بعيد تنظر ولا تقترب، وتنطوي على نفسها تفكر وتكتئب، وتئن وتنتحب، وتبدع أدبا يتسم بالسأم والملل، ويتشح بالقنوط والحرمان!
أرأيت يا أخي أنور إلى هذه الأزمة المستعصية، أزمة الفتاة، وإلى غمتها التي ما تنجلي، وإلى إسارها الذي لا يطاق؛ وإلى حياتها التي تضج بالحرمان والعذاب؛ من مهد الصبا والشباب إلى مهد البلى والتراب؟ ألا تفوق هذه الأزمة أزمة القراء ومشكلة الكتب؟ وهل مثل هذه الغمة غمة يجدر بالأقلام أن تتساند على كشفها وتتساعد في جلائها؟ فهلم يا كاتب الأداء النفسي وثر على هذا العصر واصرخ في وجه هذا المجتمع وزحزح ناسه المحافظين الناقمين على المرأة أن تستنشق هواء الحرية، وأن تتذوق معنى الحياة وأن تلخص من أشواك العرف والعادة والوهم، وإسار القلب والدار!
هلم يا كاتب الأداء النفسي واجل ببيانك غمتها وعالج بتفكيرك أزمتها، وادع الكتاب والكاتبات إلى معالجة أزمة المرأة وغمة الفتاة، كما دعوتهم من قبل إلى معالجة شئون الأدب والأدباء، ومشكلة الكتب وأزمة القراء، فعسى أن يكون في انكشاف هذه الأزمة وانجلاء هذه الغمة ما يعين على تلافي أزمة القراء ومشكلة الكتب، بإنقاذ نصفنا الآخر(908/38)
الذي يعيش ليشقى، ويتألم لينقى، ويتعلم ليبقى!
3 - إن من حق أزمة القراء أن تصرفك عن التفكير في إخراج كتبك إلى الناس، هؤلاء الذي زهدوا في عصير الذهن ورغبوا في عصير الليمون كما تحدث من قبل صديقك الأستاذ توفيق الحكيم، في حواره النادر الذي أداره على صفحات (أخبار اليوم) بينه وبين عصاه، وعلقت عليه (الرسالة) في تعقيبات العدد (887)، وأنحى فيه باللائمة على المدرسة لأنها لم تستطع إلى الآن أن تغرس في الطالب ملكة المطالعة ومحبة الإطلاع اللتين ستلازمانه في كل حين وتجعلان منه رجلا نافعا وأداة صالحة.
وأرى أن المدرسة أو الجامعة تزهد الفتى والفتاة في المطالعة بما يرهق الفكر ويتعب العقل من ضروب الثقافة وصنوف المعرفة التي تضجر بكثرتها الكاثرة، وتدفع النفس حين تخلص من محنتها ونقمتها أن تستجم وتستريح إلى فنون من اللهو والعبث والحياة الرخيصة، وألوان من الابتذال لا تثمر إلا بالكسل والسأم وإضاعة الوقت والمال. ذلك لأن المناهج لا تزال تحرص على الكمية أكثر من حرصها على الكيفية، ووظيفة الجامعة في هذا الزمن العجيب أن تسأل: كم قرأت؟ دون أن تسأل: ماذا أفدت؟! إن حشو الذهن بالمعلومات يؤذي خارج الجامعة أضعاف ما يؤذي داخلها؛ فهو بثوبه الثقيل وظله البغيض يصرف النفس صرفا عن المطالعة، لا لأنها لا تريدها ولا تحبها بل لأنها ملتها واجتوتها، ورأت في خلاطها ما يؤذي وفي صحبتها ما يضجر وفي الانصراف إليها ما يضيع رونق العمر وبهجة الحياة. إن الجامعة تنفر الطالب من القراءة لأنه تقتله قتلا بالقراءة. فلا يتخرج من الجامعة إلا بعد أن يذبل عينيه ويمحو رواء وجنتيه بمعلومات لا تغني غناء ولا تجدي جداء، والويل له إن قصر ويا خسره إن تأخر! فهل للجامعة بعد هذا كله أن تستجيب لنداء الأستاذ الحكيم: (فتعلم طلابها حب القراءة، وتمرن عضلاتهم الفكرية على هضم أغذية العقل، ثم تدفع بهم إلى الحياة ليزدردوا ثمرات الذهن. . إن الإنسان يولد زبونا بالفطرة لعصير الليمون، ولكنه لا بد أن يعد إعدادا ليصير زبونا لعصير الذهن)!
إن وظيفة المطالعة أن تغني الذهن أولا، وأن تقتل السأم والملل ثانيا بما تفرغه على النفس من نعمة النسيان ولذة الغرق في أيام سود كوالح، ناهيك بمتعة المعرفة التي تخلق التجاوب بين الكتاب والقراء فيستجيب الفكر للفكر ويخلد الرأي إلى الرأي، وينشأ من ذلك أدب(908/39)
جديد يستنير بأضواء الكتاب وأقباس المؤلفين يعالج ما عالجوا وينقد ما نقدوا يسايرهم مرة ويغايرهم مرات. ذلك لأنه يحرص في أداء رسالته الجديدة على الصدق والحقيقة والخير، فالشعر يهيج الشعر والكلام يثير الكلام. ولله ما أصدق أكتب كتاب العربية أبا عثمان الجاحظ حين يقول: (كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام فإنك إذا ثنيته طال)!. وكذلك الشأن في التأليف فإنه يدفع إلى التأليف، كما أن القراءة تلهم الكتابة.
ومن حقنا أن ننصف حين نعالج الأمور، فليس عدلا أن يكون الذنب ذنب الجامعة وحدها بل هناك ذنب العصر الذي نشأنا فيه، فلقد غمرنا بعلل نفسية وأدواء اجتماعية بتنا أساراها نعانيها ولا ندري طريق الخلاص منها، فالعصر مضطرب هائج بالويلات، والثبور مائج بالفتن والحروب، والنفوس لا تستقر على حال من القلق كأنها الريشة في مهب الرياح كما يقول أبو الطيب المتنبي. . ولقد (قذفت الأمهات المضطربات هذا الوجود بسلالة شاحبة عنيفة مستعرة الأحشاء، نشأت على دوى القذائف ورائحة البارود وغبار المعارك، ففقدت إرادتها وأضاعت اتزانها وعاشت للسأم والملل) كما يقول (موسيه) في اعترافات فتى العصر!
وأحسب أن الحضارة قد قتلت (الكتاب) وأن المدنية قد خلقت أزمة القراء. فهذا هو المذياع قد قرب البعيد ويسر الممتنع وجعل العالم بين إصبعيك فما أطقت أيها الإنسان الملول الضجر أن تستمع إلى أخبار العالم ملخصة في أسطر، وما صبرت على الأديب يتحدث في دقائق معدودات حتى يتم حديثه، ولا على الشاعر حتى ينهي قصيده، ولا على المغني حتى يتم أغنيته، وأخذت بين إصبعيك العالم بأسره تبحث عن شاطئ السلام فلا تجده، وتفتش عن مرامك فلا تظفر به، وأنت لا تعرف على التحديد ما تريد، ولا تعلم على التحقيق ما تبتغي، وتظل رهين قلقك أسير ملالك حليف أساك. . وحين ملت أذنك السماع وفرت لك (الشاشة) النظر فعرضت لك الحوادث مصورة والأنباء مجسدة والوقائع ناطقة، فأشاحت العين بعد أن نفرت الأذن، ورغبت كلتاهما عن السماع والنظر.
لقد قتلت القصة الشعر كما صرعت المقالة الكتاب، وعفت الشاشة على القصة والشعر والمقالة والكتاب. وها هو ذا الإنسان يسأم النظر إلى الشاشة ويعاف سماع المذياع، لأنه ابن عصر قلق ضجر ورث عنه قلقه وضجره. فهل لأطباء النفوس أن يعالجوا داءه(908/40)
ويصفوا دواءه وينجوه من العلل والأزمات فيخلص من عذاب لا يطاق وعناء لا يحتمل؟!
لقد كانت أديبتنا المطبوعة السيدة وداد سكاكيني صادقة كل الصدق حين زارتك في وزارة المعارف لتسألك عني ولتقول لك فيما قالت وأنتما تتحدثان عن أزمة القراء: (لو كنت تعلم منزلتك في الأقطار العربية عامة وفي سورية على الأخص، لما تأخرت في أن تقدم إلى قرائك ما لديك من كتب). . إنها كلمات من قبيل الحقيقة التي يؤيدها الواقع، فأنت أديب واسع الآفاق تملك من القراء والمعجبين بك ما لا حد له، ولكنك ستمنى بما مني به الأستاذ توفيق الحكيم من قبل، حين أرخص أثمان كتبه لييسر للناس اقتناءها فلم يقتن هذه الكتب إلا عشاق فنه وأحباب أدبه، فهم في نقص الثمن مثلهم في ارتفاعه، فهل هو حتم على الأديب أن يسكب نفسه في كتابه ليقدمه إلى الناس بالمجان، أو يهديه إلى قرائه إهداء كي ينتصر على أزمة الكتب ومشكلة القراء؟!
إن عصرا هذه محنه وعلله، وجامعات هذه برامجها ومناهجها وإن نصفنا الآخر وما يقاسيه من إسار وحرمان واحتباس في القلب والدار، كل أولئك كفيل أن يقضي على الكتاب ويزيد في أزمة القراء، ويقودنا إلى نكبة كبرى من جفاف العقل ومحول التفكير ونضوب الذهن وخلو القلب والروح. فإن رأيت أن تهدي كتبك إهداء لمن يطلبها على غرار ما صنع الشاعر عزيز أباظة في ديوانه الأول (أنات حائرة) أنهيت أزمة الكتاب على خير حال وأيسر منال، ولو ذهب المال إثر المال!!
4 - أما عن هذا الباب الذي فتحته من قبل وهبت منه رياح العصبية الإقليمية وسرك أن أطرقه بهذه الكلمات: (إنني أمقت من ينتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات، ووطن بعينه دون غيره من الأوطان، لأنني أرى الفن وطنا وأحب أن يتلاقى الناس في هواه) فإنه ليسرني (أن أسمع هذه الصيحة من كل قارئ وأديب في مصر ولبنان وسورية والعراق، وكل وطن تربطه بالعروبة أواصر وأسباب، وأحب للكتاب أن ينظروا إلى أسمائهم وهي مجردة من أثواب الوطن الصغير ليلفها علم واحد هو علم الوطن الكبير. . عندئذ تختفي من الأذهان هذه العصبية البغيضة التي تنتصف لعلي محمود طه في مصر لأنه مصري، وتقف إلى جانب أبي ماضي في لبنان لأنه لبناني! إن كليهما في رأيي رأي الحق شاعر (عربي)، وهذا هو العنوان الصحيح الذي يجب أن تدرج تحته أسماء أهل الفن هنا(908/41)
وهناك). لقد قلت أنت هذه الكلمات، ولكن ما بال مجمعنا اللغوي يعمم جوائز اللغة والأدب على مستحقيها من أدباء العرب، ثم يقصر جائزة الشعر على مصر كأنه يخصها دون سواها بهذا الخير، والشعر لا يقصر على قطر دون قطر، وإنما يترك فيه للمجلي الأمر، وفي التخصيص تضييق، وفي التعميم غنم كبير للشعر وهو في إبان ازدهاره وأوان إثماره؟! فهل لك يا كاتب الأداء النفسي أن تعمل على إغلاق هذا الباب الذي هبت منه رياح العصبية الإقليمية التي تتمنى على الشعر ألا يفارق أرجاء مصر؟ لقد فات المجمع أن (شوقي) الخالد إنما استمد خلوده لأنه ملك العرب والعروبة، كتب شعره ببيانها فنطق بلسانها وأعرب عن أفراحها وأحزانها!
5 - أما عن سر إعجابي بشعر عزيز أباظة وأنور العطار فمرده إلى أن الشاعرين يغترفان ألفاظهما وأخيلتهما وقوالبهما من المنبع نفسه الذي كان يغترف منه (شوقي) الشاعر الخالد. . وما أحب للشعر العربي حين يتحرر في أفكاره أن يتبذل في قوالبه وأساليبه ولا أن يتجهم للغة ويتنكر للبيان. وإني لأرى في شعر علي محمود طه من تحرر الفكر ومتانة الأسلوب ورصانة البيان ما يفتن ويبهج، كما أرى في شعر خليل مطران من قوة الحبك ودقة النسج والحرص على النهج العربي المبين ما يعجب حقا ويفتن صدقا. ولكني لا أرى مثل هذا في شعر أبي ماضي. فهو يبدع في فكرته ويسف في لغته وأسلوبه، ويرتكب من الأخطاء اللغوية والنحوية ما يجعل الفكرة بالية في ثوبها المهلهل وقالبها الرديء، وأسلوبها الذي يتنكر للبيان العربي تارات وتارات. . وكذلك أنظر إلى قصيدة (يوسف حداد) إن كان في الأرض شاعر بهذا الاسم لم ينظم سوى قصيدة واحدة كانت (فلته من الفلتات التي يصعب أن تتكرر من حين إلى حين). وأغلب الظن أن يوسف حداد إن هو إلا شاعر من شعراء (العصبة الأندلسية) في المهجر، شاء أن يختفي وراء هذا القناع لتظل جائزة الشعر وفقاً عليه تنطلق منه إليه! على أني أكذب الفن وأنحرف عن جادة الإنصاف إن قلت إن قصيدة يوسف حداد خلو من الشعر أو هي براء من الخيال المجنح العجيب الذي يهز النفس هزاً ولكنه لا يظفر بقسط كبير من الإعجاب، كما أن في شعر عزيز أباظة وأنور العطار ما يعجب النفس أشد الإعجاب ولكنه لا يهزها هزاً إلا في لمحات عابرة وبدوات مشرقة وما أندرها وما أقلها!(908/42)
إن في هذين اللونين من الشعر ما يرضى عنه (الأداء النفسي) كما تقول، فهل يتاح للشعر العربي شاعر مجنح عظيم يغترف صوره وأفكاره من (جبران) المنطلق الرحب، ويشيد قوالبه وأساليبه من نسج (الرافعي) المحتشد الرصين؟ عند ذلك تتطلع الأرواح والقلوب إلى (أبي الطيب) الجديد الذي يصبح أرث الخلود وهوى النفوس وشغل الزمان!
لا يا أخي أنور، إني ما شممت من كلامك رائحة اختلاف في الرأي، ما أحسب أنا اختلفنا في أمر وإنما نحن على ائتلاف في وجهات نظرنا إلى الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. . وبحسبك أن تعلم أن هذه الأبيات التي قالها شوقي على لسان ابن ذريح برغم ما فيها من تحريف في البيت الأول اقتضاه المقام، إنما كان لسان حالي ويسرني أن أسجله مرة ثانية فأقول:
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية
وبعد فما أحسب هذه المطالب متعبة وما أراها مضجرة، لأنها ستظل أبدا جزءا من تعقيباتك ولعلها تصبح تعقيباتك كلها في الغد القريب، فإن قلمك سينشط بعد هذا اليوم للدفاع عن المرأة التي صدها مجتمعها عن ولولج بابه والسير في رحابه والوصول إلى محرابه، حتى تنجلي أزمتها وتنكشف غمتها وما أنا إلا إحدى الحبيسات الشهيدات. والله يتولاك برعايته كفاء دفاعك عنا إحسانك إلينا.
دمشق
هجران شوقي
أعتقد أن الشاعرة السورية المطبوعة الآنسة هجران شوقي توافقني على إرجاء التعقيب إلى الأسبوع المقبل، لأن رسالتها المطولة قد طغت على الصفحات الأربع المخصصة للتعقيبات. . . وأعتقد مرة أخرى أن القراء سيلتمسون لي بعض العذر إذا ما شغلت عن أسئلتهم حول كثير من شؤون الأدب والفن، بالجواب عن هذه الرسالة في العدد القادم، ذلك لأن الشاعرة الفاضلة قد طرقت أبوابا جديدة تقف خلفها أكداس من الخواطر والمشاعر بعضها في الأدب، وبعضها في النقد، وبعضها في الحياة!
ويبدو لي أنني سأختلف مع الآنسة هجران حيث ينبغي أن نختلف وسأتفق معها حيث يجب(908/43)
أن نتفق، لأنها تصيب الهدف في كثير من الدقة والإتقان، ثم ينحرف قلمها قليلا فتخطئ التصويب في بعض الأحيان! أما عن قصيدتها (رهينة المحبسين) فلها مني خالص التهنئة ولشعرها كله مثل هذه التهنئة الخالصة، وموعدي معها في الأيام القليلة المقبلة إن شاء الله.
أما عن الجزء الأخير من رسالتها فقد رأيت ألا أثبته حتى أتلقى منها ما يلقي بعض الضوء على زاوية خاصة، وجهت منها الحديث إليها في رسالة خاصة منذ بضعة أيام. وأنا في انتظار هذا الضوء الذي يبدد من حول حياتها حجبا من الظلام!
أنور المعداوي(908/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مسرحية (ابن جلا):
كان يوم السبت الماضي بدء تاريخ في حياة المسرح العربي، فهو أول يوم ظهرت فيه فرقة المسرح المصري الحديث على خشبة المسرح، وكان مسقط رأسها مسرح الأوبرا الملكية، وكان مولدها على يد الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد العالي لفن التمثيل العربي، وقد اختار أعضاءها كلهم من أبناء هذا المعهد وبناته. عبأهم، وتقدم بهم مباشرة إلى الأوبرا على طريقة الزحف السريع، كما كان يصنع الحجاج (يمثل الأستاذ دور الحجاج في ابن جلا) وقبل أن نحكم على مدى انتصار فرقة الحجاج الحديث. . ننظر في جولتها الأولى. .
افتتحت الفرقة عملها بتمثيل رواية (ابن جلا) للأستاذ محمود تيمور بك، وهي رواية تعالج شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي وتعرض حياته في اثنتين وعشرين سنة، وهي الفترة التي ظهر فيها على مسرح الحياة السياسية في عهد بني أمية. تعرض المسرحية في ثمانية مناظر، يظهر في أولها الخليفة عبد الله بن مروان يدبر لحرب مصعب بن الزبير بالعراق، ويعين قواد الحملة فيختار الحجاج (رئيس الشرطة) قائداً لمؤخرة الجيش، وتظهر في هذا المنظر فتاة أهوازية مغامرة تقول إنها تشتغل بسقاية الجنود، فتسترعي جرأتها وغرابة حالها انتباه الحجاج. ويبدو الحجاج في المنظر الثاني قائدا للحملة المتوجهة إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، فها هو ذا بسفح الجبل، يشرف على الكعبة التي يحتمي بها ابن الزبير ويرميها بأحجار المنجنيق، ويفد عليه في أثناء ذلك ابن حكيم، وهو شيخ من الطائف ومعه ابنته عفراء، يذكرانه بأيام نشأته في الطائفي، وتعرض له الفتاة بما كان بينهما في أيام الصبا، ولكنه لا يلقى إليها بالاً، فتنصرف مع أبيها في انكسار وخيبة أمل. ويدور بين الحجاج والفتاة الأهوازية حديث عن المرأة الطائفية تظهر فيه غيرتها وحبها للحجاج، وقد صارت الفتاة مرافقة للحجاج وتعد له الطعام، وهي تطمع أن يبادلها الحب، وهو يعابثها، ويبدو من معاملته إياها أنه فقط يعطف عليها ويستملحا ويستطيب صحبتها.
ويرتفع الستار عن المنظر الثالث فيرى الحجاج بقصره في المدينة وقد أصبح واليا على الحجاز، ينتظر رسوله من دمشق، كما ينتظر قدوم عبد الله بن جعفر الذي بعث إليه،(908/45)
فيحضر ابن جعفر، فيحسن الحجاج استقباله، ويتطرق الحديث بينهما إلى أن يخطب الحجاج إلى ابن جعفر ابنته، فيرفض ابن جعفر، لأن الحجاج ليس كفئا للهاشميات وإن علت به الولاية، وينصرف ابن جعفر بعد جدل عنيف بينه وبين الحجاج. وتقبل الأهوازية وتبدي غيرتها، وتظهر في مناقشة الحجاج الجرأة التي اعتادتها معه من أول لقاء بينهما، فتقول له: إنك تريد كدأبك أن تشرف بمصاهرة ذوي الحسب والنسب، ولما يقول لها أنه مصر على زواج ابنة عبد الله بن جعفر، تتوعده وتذكر له كيد المرأة. وفي آخر هذا المنظر يقدم الرسول من دمشق وينهي إلى الحجاج اضطراب الأمور في العراق وضعف واليها وحيرة الخليفة فيما يصنع لذلك، فيعلن الحجاج اعتزامه الرحيل إلى دمشق في وفد من أعيان الحجاز لإعطاء البيعة، يقول ذلك وهو يردد في نفسه كلمة: العراق. .
ويظهر الحجاج - في المنظر الرابع - بقصر الإمارة في الكوفة، مزهوا، يردد: هذا أوان الشد فاشتدي زيم. . ويصرف بعض الأمور، ثم يسأل صاحب الشرطة عن الأهوازية: ألم يعلم شيئا عنها؟ فيجيبه: لم أعلم من أمرها شيئا منذ هربت من المدينة. ثم يصيب الحجاج سهم في ذراعه نفذ إليه من الشرفة، فيهرع الحراس ويعودون ممسكين بالجاني. . ويتبينه الحجاج فإذا هو الأهوازية. ويدور بينهما حوار تقول فيه: إنها تريد أن تقتله لأنها تحبه. وإنها حاقدة عليه لخطبته هنداً بنت أسماء جريا على ما يتطلع إليه من فخر المصاهرة، ويختم هذا المنظر بوثوب الأهوازية من النافذة إلى النثر هربا.
فإذا كان المنظر الخامس رأينا في مخيم شبيب الخارجي أمه (جهيزة) وزوجه (غزالة) في لبوس القتال، ثم ينصرفان من جانب بعد حديث طويل، ويقبل من الجانب الآخر شبيب ومعه الأهوازية التي جاءت إليه لتنقل له أخبار الحجاج وتساعده على قتاله. وفي المنظر السادس نعود إلى قصر الإمارة بالكوفة وقد ظهر فيه حراس الحجاج في حالة فزع لأن شبيبا يحاصر القصر، ويدخل الحجاج فينهر حاشيته وحراسه لخوفهم، ثم يقبل الحجاج أن يستقبل وفدا من قبل شبيب للمفاوضة، ويدخل الوفد على رأسه الأهوازية، فينفرد بها، ويلجأ إلى خداعها بالحب، ثم تنصرف فتحتال على شبيب حتى تحمله على العودة ومغادرة الكوفة.
والمنظر السابع في قصر الإمارة بمدينة واسط التي بناها الحجاج؛ تقدم العمر بالحجاج،(908/46)
وبدت عليه شيخوخة مبكرة، وصار يشكو آلام معدته، فهو يطلب الطبيب، ولكنه يأبى أن يخضع لأوامره، ويعاند حتى معدته، فيدخل عليها - وهو يعاني عسر الهضم - عشر صحاف من الفستق. وتظهر الأهوازية بجانب الحجاج، تعنى به وتسهر على راحته. يعبر الحجاج عن قلقه لبطئ (قتيبة) في حرب بخارى، ثم يقبل رسول قتيبة فيبشره بفتح بخارى، فيفرح لذلك أشد الفرح، ويعد الرسول بأن يزف إليه عروسا جميلة عندما يزف إليه نبأ دخول المسلمين أرض الصين.
وفي المنظر الثامن، وهو الأخير، نرى الحجاج ملففا بالملاحف، وعلى جانبيه مدفأتان، يغالب آلامه ويتمادى في مخالفة الطبيب ومعاندة معدته، فيأكل ويفرط في الطعام، والأهوازية لا تزال في خدمته والعناية به. وكانت عيون الحجاج تجد في البحث عن الفقيه الصالح سعيد بن جبير لخروجه عليه مع ابن الأشعث. وهذا يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجاج الذي يباريه في سطوته وبطشه، ينهى إلى الحجاج أنهم جاءوا بسعيد بن جبير، ويدخل سعيد على الحجاج، ويأبى أن يعتذر بخطأ، ويوغر يزيد صدر الحجاج على شبيب حتى يأمر بقتله، ولكنه يندم على ذلك بعد ويناجي نفسه بفظاعة هذا العمل، ذاهبا إلى إلقاء التبعة على كاتبه يزيد، ويعود إلى الطعام مصراً على المزيد، ولكنه يضعف فيلجأ إلى متكئه. ويأتي رسول قتيبة قائلا: جنود المسلمين على أبواب الصين، فيستدنيه الحجاج ويعانقه، وتبدو في أساريره نشوة الفرح رغم آلامه الشديدة. ثم تعاوده ذكرى الدماء، فيقول في مناجاته: مالي ولسعيد بن جبير؟ ما قتلته. على نفسه جنى. . رحمتاه يا ربي! وأخيرا يتمدد فاقد الحركة، فقد فاضت نفسه.
مسرحية طويلة يستغرق تمثيلها نحو أربع ساعات، ولكنها متجددة التشويق، تشيع فيها روح الدعابة والفكاهة، وتعبيراتها مجنحة بالخواطر والالتفاتات المعجبة. والهدف الذي ترمي إليه هو تحليل شخصية الحجاج كما يراها المؤلف، بل كما أحسها وفهمها من طول معاشرتها في تاريخها، وهو يتخذ هذا التاريخ وسيلة إلى غايته الفنية؛ فالتاريخ موجود في كتبه، ميسور لمن أراده، أما الفن فمجاله النفس الإنسانية، يطلبها في الحياة الحاضرة أو في (الحياة التاريخية) إن صح هذا التعبير.
قصد تيمور إلى الحجاج ذاته، ولم يعرض من تاريخه وأعماله إلا ما يعين على كشف(908/47)
أغوار نفسه؛ ولذلك نجد المسرحية تعنى بحياته الخاصة أكثر مما تهتم بالأحداث التاريخية. الذي يهمنا من هذه المسرحية هو الحجاج باعتباره كائنا إنسانيا له خصائص متميزة كان يعيش في زمن ما.
الحجاج - كما صوره تيمور أو كما يبدو لنا من هذا التصوير - رجل طامح يتطلع إلى المجد، ويحس في أعماق نفسه بنقائص يحاول تعويضها، كان معلم صبيان بالطائف ثم جاء إلى دمشق ووضع قدمه على أول درج في السلم عندما لحق بشرطة الخليفة، فأراد أن يصعد عدوا، واستحكمت به الرغبة، فعنف وبطش وأسرف في عنفه وبطشه، بل أسرف في كل شيء حتى الطعام، وكان يحرص على فخر المصاهرة ليتسامى إلى ذوي الأحساب والأنساب. وهو رجل قوي الشكيمة يأبى الخضوع حتى أنه ليعصي أوامر الطبيب ويأبى تحكمه في ما يأكل ويشرب، ويعاند معدته فيحاول أن يرغمها على تقبل الطعام وهضمه مهما كثر وثقل. وهو أسود أخفش دميم، فتراه معنيا بزيه، يتخذ لغطاء رأسه الطراطير الطويلة يلف عليها العمائم الخضر أو الحمر ليتميز على نظرائه، وهو يميل إلى أن تعشقه النساء، يتجاذبه حبهن وحب المجد، وقد أتى المؤلف بالفتاة الأهوازية من إبداع خياله وجعلها محكا للحجاج ومسباراً لقلبه، فأجرى على لسانها ما يكشف عن نوازعه وأسرار نفسه، تجاهره بذلك في جرأة لا يضيق بها على رغم أنها تصل أحياناً إلى القحة، وبذلك يكشف لنا عن مرض نفسي لدى الحجاج هو (السادية) فهذا الجبار الباطش يلذ له أن تؤذيه هذه الفتاة المغامرة وهي أيضاً تشعر بلذة قسوته بل هي الناحية التي تعجبها فيه، وتجمل الفتاة رأيها في الحجاج بأنه (يد تبطش ومعدة تعوي).
وتيمور لا يرى الحجاج - على ما يبدو لي - رجلا شريراً، أو على الأقل يصدر في أعماله عن محبة للشر - لا يراه كذلك، وإنما يرجع دوافعه إلى البطش والطغيان، إلى ما يراه في جمع كلمة المسلمين وتدعيم الدولة، فهو يبتهج كل الابتهاج بانتصار المسلمين وتمام الفتح واتساع رقعة البلاد، يشم التراب الذي أتى به رسول قتيبة من تحت سنابك خيل المسلمين - يشمه فينتشي به وهو يحتضر. . ثم هو يتألم أشد الألم لقتل ابن جبير ويؤرقه تخيل دمه المسفوك.
وقد بلغت هذه المسرحية غايتها من حيث معالجة الحجاج وجلاء (ابن جلا وطلاع الثنايا)،(908/48)
وكان جل العناية موجهاً إليه ثم إلى الفتاة الأهوازية، وكان رسم الشخصيتين منطقيا سليما وإن كان في علاقتهما شذوذ، وهو شذوذ يقع في الحياة. وليس في المسرحية عناية ذات شأن برسم شخصيات أخرى، وإن كان تقديم سائر الشخصيات طبيعياً فيما عدا شخصية شبيب الخارجي، فقد رأيناه على المسرح على غير ما نعلمه في التاريخ وعلى غير ما يوافق فكرته الثورية الدينية، رأيناه كلفا بحب الأهوازية يلح عليها في مبادلته الحب، وتفاجئه زوجه وأمه وهو مع الأهوازية في حالة تقبيل. . وقد نشأت من ذلك مشكلة هي غيرة الزوجة ونكوصها عن مشاركة زوجها في القتال لخيانته إياها، ثم انتهى الموقف انتهاء خطابيا لا يحل المشكلة، فكان الحل (مكلفتا!)
وقد جنح تيمور إلى تغليب جانب التحليل على جانب السبك، حتى أنه لم يحفل بترتيب نهاية مفاجئة، وهذا اتجاه فني لا غبار عليه، وقد سلكه مع المحافظة على اجتذاب المشاهدين إلى النهاية، وهي مقدرة لا يستهان بها، ولكني أريد النظر في محور القصة الذي يقوم عليه التشويق المسرحي، وهو العلاقة التي بين الحجاج والأهوازية، بدأت هذه العلاقة قوية مشبوبة في أول المسرحية واستمرت متصلة الحوادث حتى نهاية المنظر السادس، ثم كانت في المنظرين السابع والثامن على صورة واحدة، فتاة تعني بمن كانت تحبه عناية عطف ووفاء، وأرى بذلك أن هذا المحور انتهى قبل انتهاء المسرحية بمسافة كبيرة، وسد الفراغ بأشياء أخرى غيره كعرض مرض الحجاج ومناقشته لطبيبه، وقد طال ذلك حتى بدا فاترا لولا بعض المسليات كحركات الخصي (بهروز) ودخول الأعرابي على الحجاج.
وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات ومثل الحجاج، ولا بد أنه بذل جهداً كبيراً في ذلك، وخاصة أنه بصدد إعداد فرقة جديدة وإظهارها على المسرح أمام الجمهور لأول مرة، وقد وفق على رغم ذلك في الإخراج والتمثيل إلى حد كبير، فكانت أوضاع الممثلين وحركاتهم وأصواتهم طبيعية منتظمة، وكانت الإضاءة معبرة ومطابقة لأوقاتها، وكان منظر الصواعق ولهب الاحتراق رائعاً، وقد تجلت فيه طريقة زكي طليمات في التعبير بالمناظر والإيحاء بالأضواء، وزاد هذا المنظر روعة إصرار الحجاج على مواصلة الرمي وما لابس ذلك من قوة التمثيل وكانت المناظر والملابس موافقة، بيد أني أرى أن المخرج(908/49)
اشترك مع المؤلف في المباعدة بين شخصية شبيب وبين الواقع، فقد بدا في (التزلك) برجليه والدرع اللامع على صدره كأنه من عساكر الرومان.
وفي المنظر الأول رأينا الوزير يدخل على الخليفة فزعاً صائحاً يطلب النصفة من الحجاج لأنه اعتدى على أعوانه، وأعتقد أن التصرف اللائق بالوزير وبالخليفة أن يدخل الأول هادئاً ويسلم بالخلافة فيؤذن له بالجلوس فيجلس ويبث شكايته ورأينا الحجاج (رئيس الشرطة) يدخل على الخليفة وبيده سوط، وقد يكون هذا مقبولاً، ولكن ما أظن لائقاً أن يرفع الشرطي السوط أمام الوزير لإرهابه في حضرة أمير المؤمنين!
وقد أدى الأستاذ زكي طليمات دوره في تمثيل شخصية الحجاج فأحسن الأداء، فقد اندمج فيها وخاصة في المناظر الأخيرة فقد لمحت شيئاً من (زكي طليمات) في البدء، ولكني افتقدته بعد ذلك تماماً حتى لم أعد أرى غير الحجاج.
ولم يكن جهد الأستاذ زكي طليمات في الإخراج قاصراً على الرواية، فقد أخرج أيضاً هؤلاء (الأولاد) الذين أظهروا على المسرح كفاية ممتازة تبعث الاطمئنان على مستقبل المسرح في مصر.
قامت نعيمة وصفي بدور الأهوازية، فبرعت في تمثيل الفتاة الجريئة المتهكمة والأنثى المذلة، وكانت معبرة بصوتها وحركاتها حسنة الأداء للجرس العربي، وهذا قليل في الممثلات، وهي ميزة تمتاز بها هذه الفرقة ممثلين وممثلات. وقد وصلت نعيمة وصفي إلى القمة في المنظر الثالث عندما كانت تحاور الحجاج في شأن خطبته لابنه عبد الله بن جعفر، ولكن ضعفها كان ظاهراً في المنظر السادس عندما أتت تفاوض الحجاج من قبل شبيب، كانت ضعيفة وانية، ولعل ذلك لتعبها.
وقد ظهر باقي الممثلين والممثلات في أدوار قصيرة، وقد أحسن كل منهم في تأدية دوره، وخاصة عبد الغني قمر وسعيد أبو بكر وعبد الرحيم الزرقاني وصلاح سرحان وفوزية مصطفى وسناء جميل وملك الجمل ومحمد الطوخي وأحمد الجزيري.
وكان توفيق الجميع ظاهرة سارة، لتحقيق أمنية (فرقة المسرح المصري الحديث) التي طالما داعبت الأحلام.
عباس خضر(908/50)
البريد الأدبي
إلى فضيلة الأستاذ الأكبر:
بدأ الأمل في الإصلاح يعاود نفوس الغير منذ أن تولى مشيخة الأزهر أستاذنا الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم، وغمرت القلوب فرحة هذا النبأ لأنه قرب بعيد الآمال لمن طال بهم الانتظار. وإني حين أهنئ فضيلته بهذا المنصب الجليل أضرع إلى الله تعالى أن يعينه على النهوض بأعبائه الجسام. وأن يحقق على يديه الغاية الإسلامية الكبرى التي طالما انتظره الناس لها. وإن له من غزير علمه وتجارب سنه وحصيف رأيه وبعد نظره ومرونته التي رفعته عن مستوى الخامدين الرجعيين ما يتهيأ له به أن يمسك الدين الإسلامي عن التخلف في طريق المبادئ والإصلاح، ويدفعه للسير في طليعة مواكب الحضارة التي أقامها أصحابها على أساس يواكب روح التطور، ويعرض الإسلام على الناس نقياً طاهراً خالياً من كل شائبة ألحقها به سوء الفهم لمبادئه السامية وجمود القائمين عليه عند نصوصه التي عاصرت ميلاده، فاتهم الدين الإسلامي بالجمود والرجعية، وعدم صلاحيته لأن يطب لأدواء الحياة المعاصرة. وعلم الله أن دينه براء من ذلك وأن علاجه للمشاكل التي تورطت فيها البشرية هو السبيل الوحيد الذي ينقذ الإنسانية من متاهات الحيرة والضلال ويفضي بها إلى حياة السعادة والكمال؛ وقد شهد له بذلك من أعدائه رجال الفكر والإصلاح الذين يعصمهم الاعتدال والاتزان عن الاستجابة للأهواء والأغراض.
إن أعلى تراث ورثناه عن الآباء والأجداد قد وكل أمره إليك الآن يا سيدي وجعلك الله عليه قائماً، وإن أنبل عمل يرضى به الله عنك ويخلدك به التاريخ وترفع به شأن المسلمين، أن تنفض عن جمال الدين الإسلامي الغبار الذي أثارته الجهالة بتعاليمه، وأن تفك عنه العقل التي قيدته طويلا عن النهوض، وأن تبلغه للعالمين على الصورة الجميلة الرائعة التي صنعة الله عليها، فإن ما لحق به في عصور التخلف من إبداع وتزمت شوه تعاليمه ومسخ جماله وأخفى روائعه حتى عن بنيه، فلا عجب أن رأينا فيهم هذه الروح المعنوية الذابلة، فتطلعوا إلى كل مستحدث غربي، وأخذوا منه ما يخالف روح الإسلام وتقاليده، ونادي بذلك من هم أولى الناس برعايته وحياطته والسهر على إبراز محاسنه ودعوة الناس إليه. أمامك الآن يا سيدي مبهمات تنتظر التوضيح، ومشكلات تتطلب الحلول، وأوضاع يقف المرء(908/52)
حيالها حائراً جامداً سليب العزم لأن الواقع صارم في إقناعه.
أمامك الآن يا سيدي مشكلة التعامل بالفائدة. . . وماذا يعمل الفلاح الذي لا يجد من يقرض الله قرضاً حسناً ويزجره دينه عن أن يدخل في بنوك التسليف في معاملات تقوم على أساس ربوي.
وأمامك الآن يا سيدي أوراق اليانصيب التي يصرف إيرادها في بناء دور الإسعاف والمبرات والإنفاق عليها في زمن قبضت الكرزة فيه الأيدي عن البذل في سبيل الله؛ وهذا النوع كما نراه لا يوقع الشيطان بين المساهمين فيه العداوة والبغضاء.
وأمامك يا سيدي موضوع التأمين على الحياة الذي تكالب عليه الناس وخاصة طوائف الموظفين الذين لا تدع لهم تكاليف الحياة ما يدخرونه لبنيهم من بعدهم - وحرص الآباء على سعادة أبنائهم من بعدهم غريزة فطرية لا مناص للمرء من الاستجابة لها أو قضاء حياته في بلبلة واضطراب. وأمامك الآن مشكلة الطلاق وتعدد الزوجات، تلك التي تهدد الأسر وتزلزل كيانها وتعصف بهنائها وتشرد أولادها، وأمرها متروك بلا عاصم ولا ضابط، فشاع التذمر والمقت في كل الأوساط.
وأمامك يا سيدي هذه الهيئات التي تسمي نفسها إسلامية وليس للإسلام فيها ظل من ظلاله أو سمة من سماته، ولا يأخذ رجالها أنفسهم بالتزام مبادئه وتعاليمه. وأمامك يا سيدي غير هذه المشاكل مما لا تتسع له هذه العجالة ولا يخفى عليك. فأقدم على بركة الله وسلط عليها من إيمانك وعلمك وعزمك ما يفل حديدها ويجلو دجنتها ويزيل لبسها ويبين للناس موقف الإسلام منها في صراحة ووضوح. وفقك الله إلى كل خير، وكتب للإسلام على يديك النصر والغلب.
فرشوط
عبد الفتاح محمد حماد
بتفتيش المعارف بفرشوط
على حد منكب
زارني بعض إخواني بمنزلي وكنت بين كتبي التي آنس بها وأسكن إليها وقال أحدهم:(908/53)
مالك لا تأتينا في نادينا تحت شجرة الكافور؟ فكان جوابي: إنكم تعلمون أني لا أكاد ألم بهذا المكان إلا إذا كان الأستاذ الكبير صاحب الرسالة بين ظهرانينا، وأخذ الحدين بعد ذلك يذهب بنا ههنا وههنا، وبان من أمرهم أنهم أتوا للبحث عن معنى عبارة جرت على قلم صاحب الرسالة في الكلمة الأولى التي أنشأها عن (الأزهر في عهده الجديد) وهو يصف ما كان بين الأستاذ الإمام وبين خديوي مصر وهي (لولا أنه كان من سياسة القصر - على حد منكب) وقد قال أحدهم: لم لا يأتي الأستاذ الزيات بعبارات لا تستعصي على إفهام القراء؟ فقلت لهم: إن للبلغاء سبلاً في نشر مثل هذه العبارات يتلطفون في بثها في بيانهم لتشيع بين الأدباء وتجري على أسنة أقلامهم؛ والأستاذ الزيات لا تكاد تخلو كلمة من كلماته من مثل هذه العبارة.
وأخذنا بعد ذلك نتحدث في أمر هذه العبارة فقالوا إننا قد بحثنا عنها في المصباح المنير وما يماثله فلم نجدها فهل تكون في أساس البلاغة وهو لا يكتفي بإيراد المعنى اللغوي للكلمة وإنما يبين معناها المجازي؟ فأثبت به إليهم ولما لم يعثروا عليها فيه قلت لهم إن مثل هذه العبارة لا يصيبها الباحث إلا في كتب الأدب مما يستعمله كتاب البيان ويخيل إلى أنها توجد في مثل كتاب (نجمة الرائد) وتناولت هذا الكتاب وكان على مد يدي وأخذت أبحث فيه حتى ألفيتها جاثمة بين الصفحتين 240و41 من الجزء الأول منه وهذا نصها: (ويقال هو منه على حد منكب أي منحرف عنه دائم الإعراض) وكأنهم عندما عثرت عليها قد وجدوا كنزاً ولم يسعهم بعد ذلك إلا الإقرار بفضل صاحب الرسالة وعلو كعبه في الأدب وإلا الدعاء له بأن يديمه الله ذخرا للعربية وبلاغتها.
المنصورة
محمد أبو ريه
(الرسالة) جاء في معجم أقرب الموارد في مادة (نكب) (وفلان معي على حد منكب) أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه. وهو كقولهم (فلان يلقاني على حرف)
ابن عباس أو حسان: أيهما قال
اطلعت على مجلة الرسالة فرأيت تعليقا على كتاب - أضواء الماضي - للأستاذ سامي(908/54)
الكيالي إذ نسب البيتين الآتيين إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهما:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
فصاحب الكتاب نسبهما لابن عباس والأستاذ المدرس بسوهاج نسبهما لحسان كما رأى ذلك في ديوان حسان.
وفي العقد الفريد جزء ثالث صفحة (105) قال: وقال ابن عباس لما كف بصره وسرد البيتين. وفي نكت العميان للصفدي صفحة 271 يقول أنشد الجاحظ لابن عباس وساق البيتين إلى أن قال الصفدي في صفحة (72) قال المعري:
سواد العين زاد سواد قلبي ... ليشتقا على فهم الأمور
وقبله قال الخريمي:
فإن يك عيني خبا نورها ... فكم قبلها نور عيني جبا
فلم يعم قلبي ولكنما ... أرى نور عيني لقلبي سعا
قلت كلاهما أخذ المعنى من قول ابن عباس
وعلى هذا فصاحب الكتاب له العذر. والذي يرجح أن ابن عباس استشهد بكلام حسان أن الأخير هو المشهور بالشعر وابن عباس عرف بالحفظ وكلاهما كانا بصيرين كف بصرهما في الكبر وليس وجود الشعر في الديوان دليلا على أن النسبة صحيحة لحسان فكم من أبيات أدرجت وكم من أبيات حذفت ولم نتلق ديوان حسان بسند متصل. وتصحيح نسبة الكلام والقول لقائلة عسير جدا وقد نسب ديوان لعلي كرم الله وجهه والأدباء يقولون أنه لم يقل شعرا إلا بيتين. وقالوا إن كل شعر مجهول نسب إلى مجنون ليلى وليس هذا خاصا بالنثر والشعر بل تتناول الأقوال والآراء والحمد لله الذي لم يعصم إلا كتابه.
أسيوط
سيد على الطويجي
الواعظ العام لمديريتي أسيوط وجرجا(908/55)
القصص
أحلام الزفاف
مهداة إلى رفيق الشباب محمد إسماعيل هاني
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
الأضواء الساطعة التي تنبعث من نهاية الزقاق، والجموع الحاشدة التي تتوافد إلى هناك، يؤكدان أن حادثاً هاماً شغل أهل الزقاق هذا المساء!
أما الأغاريد التي تنبعث بين آن وآخر، والأغنيات التي تسمع بين حين وحين، والأعلام الصغيرة الخضراء التي يهزها نسيم المساء الهادئ فتبدو كأنها أيد تدعو الناس إلى الحضور هناك. . .
كل أولئك كان يشير إلى أن الحادث الهام عرس من تلك الأعراس السعيدة التي تشغل أهل القرية كلما أنتفخ جيب شيخ بالمال، وأشرق وجه فتاة بالجمال!. . .
فإذا استخفتك هذه الأغاريد الحلوة، وراعتك هاته الأغنيات الشجية، وسرت في زحمة الناس إلى هناك فسترى في نهاية الزقاق فنوناً من الزينة وضروباً من البهجة تحيط بالعروسين في مكانهما المرتفع الغارق في الأزهار والأنوار. . .
وأقسم أنك لن تنظر إلى الأزهار وقد نسقت في نظام بديع، ولا إلى الأنوار وقد تألقت في وضع جذاب، ولا إلى العذارى من بنات القرية وقد أحطن بالعروس الشابة مثلما تحيط الملائكة بروح طاهرة تدخل الجنة!. . . لا، لن تنظر إلى شيء من ذلك وإنما ستحدق مذهولا في عيني العروس الفاتنة وستجد في نظراتها الساحرة الآسرة غناء عن كل أولئك.
وستظل تحدق في وجهها لا تمل التحديق، وعلى حين فجأة ستجد هاتين العينين تنطبقان في هدوء عجيب، وستجد العروس الفاتنة لا تحس بشيء مما حولها، حتى ولا بعريسها الشاب الجالس إلى جوارها وهو يدخن لفائفه المهداة إليه دون كلل أو فتور.
ستشعر أنت بالضيق حين يحجب عنك هذا الفيض الزاخر من السمر، وستحس برغبة ملحة في رؤية تلك الأحلام التي تمر مستخفية وراء تلك الأهداب الطوال. . .
ومن هنا سأقص عليك قصة تلك الأحلام. . . الواقع أنك كنت مشغولا بعينيها فلم تر ذلك(908/56)
طفل الذي دخل هنا منذ لحظات وجعل يتأمل وجوه الناس ويتفقد أرجاء المكان؛ أنه (سامي) الأخ الصغير (لمحمود). . . وأنت لا تعرف محمودا هذا، ولكن (العروس) تعرفه جيداً. . . أنه الأفق الرحيب الذي تحلق فيه الأحلام، أما سامي الصغير. . . سامي الذي أثار بمرآه ذكريات رقدت في حنايا القلب وأغفت في ثنايا الروح. . . سامي هذا كان بمثابة الجناح الذي حمل العروس وحلق بها في وادي الأحلام، حيث يتراءى لها طيف محمود فوق كل ربوة وعد كل زهرة وجوار كل غدير. . .
إنها تعرف كل شيء عن (محمود). . تعرف أنه كان يتردد على منزلهم كلما أقبل في إجازة مدرسية إلى القرية، فأواصر القرابة التي تربط بينهم أقوى من أن تتركه يهمل تلك الزورات.
كانت تشعر بنشوة طارئة عندما يقبل وهو يسير بخطوات متوثبة حية كأنما يرقص على إيقاعها الشباب. . . وكانت دائماً تحشى أن تطيل النظر إليه حتى لا تلتقي منهما النظرات كانت تشعر كأن في عينيه قوة نفاثة تهزها بعنف فيصعد في وجهها ذلك الدم الحار الذي يكشف المكنون من العواطف ويزيح عن المشاعر أستار الجمود. . .
لذلك كانت تؤثر أن تقف خلف باب الحجرة التي يجلس فيها مع والدها لتسمع حديثه الفتي المرح الذي تتخلله الضحكات، ويا لها من ضحكات سحرية كانت تخترق صدرها الصغير لتوقظ ذلك القلب الراقد هناك في لفائف الصبا الغرير. . .
إنها تذكر كل ذلك. . ونذكر أيضاً أن أباها طلب إليها أن تصنع (شاياً) للضيف العزيز ولكنها لم تكد تضع الشاي على الموقد حتى تركته وراحت تعدو خفيفة إلى مكانها المأثور خلف باب الحجرة، ولم تبارح مكانها الحبيب إلا بعد أن ارتفع صوت والدها يستعجل الشراب للضيف الأثير. . وحين غادرت مكانها إلى الموقد كان الشاي قد غادر مكانه إلى الأرض. . . وتذكر أيضاً وما أجمل الذكريات! أنها كانت تتمنى أن تتحدث إلى (محمود) وأن تراه يخصها بكلماته ويغمرها بنظراته ويشعر بوجودها في خاطره ولو للحظات، هي التي تجعل كل خواطرها وقفاً عليه!! وقد وافتها تلك الأمنية السعيدة حين ذهب (محمود) إلى منزلهم ولم يكن أحد سواها هناك. لقد استجابت متكاسلة إلى طرقات الباب ولم يكد ينفرج عن وجه محمود حتى ندت عنها آهة خافتة كانت بمثابة عنوان صادق لكتاب(908/57)
مشاعرها الكبير وحتى تلون وجهها الجميل بحمرة خفيفة كانت بمثابة حديث صامت عن أحلامها العذراء.
وأخرجها محمود من ارتباكها حين سألها:
- هل أبوك موجود؟ وأجابت بنبرات متقطعة خجولة
- إنه خرج. . . ولكن. . . تفضل. .! وأجابها وهو يبتسم
- سأعود مرة أخرى! فقالت وقد تغلبت على خجلها بعض الشيء
- ومتى ذلك؟ فأردف في نبرة حلوة:
- حين تريدين! تذكر أنها لم تجب بعد ذلك وتذكر أنه خلفها بعد أن ربت على كتفيها وهو يقول في صوت أخاذ.
- وداعا إلى أن أعود. . . ولم يكد يتوارى في نهاية الطريق حتى طفقت تعدو نشوى في أنحاء الدار كانت أشبه بسجين مدمن يتناول كأساً من الخمر لم يذق طعمها منذ أمد بعيد. .
وراحت تردد وهي مبهورة الأنفاس متوترة الأعصاب. . .
ربي. . . إنني لا اصدق أذني! أحقا إنني صادفت هوى من نفس محمود؟ حقا أن هذا الشيء اللطيف الرهيف الذي كنت أحسه على كتفي كان يده؟ أحقا انه يحبني؟
وأصبحت تجد طيف محمود في كل ما تنظر، وتستوعب حديثه في كل ما تسمع، وتعيش حياته في كل ما تحلم، وأصبح هو في دنياها كل شئ!!
وتذكر وما أعذب الذكريات أنهما تلاقيا بعد ذلك كثيراً وتحدثا كثيراً وفي ضوء تلك الأحاديث الشهية تلاقت عواطفهما الشابة لتسير في هذا الطريق الخالد الذي تزرع القلوب البشرية على جانبيه أزهار الأمل لتعطر للعشاق أنسام الحياة كان يحدثها عن غرامه حين يلقاها فتطرق!
وكان يربت على خدها حين يودعها فتبتسم. وكان هذا اللقاء الحبيب يتم بينهما خلسة في مكان بعيد. . . بعيد جدا هناك حيث لا تدب عصا التقاليد
وأعجب ما في الأمر أنها كانت تعلم أن هذه العلاقة لن تنتهي بهما إلى الزواج. . . كانت تعلم أن السنوات الباقية في حياته الدراسية وأن المركز الذي ينتظره في حياته الاجتماعية سوف يعودان بتلك الأمنية الغالية إلى دنيا الذكريات والأحلام. ثم هل تفكر الفتاة الريفية(908/58)
البسيطة في الزواج بمحمود؟
يا لغرور الأحلام! لقد كانت كل أمانيها بالأمس تنحصر في شيء واحد هو أن تتحدث إليه، فهل تجمح بها الأخيلة إلى هذا الحد الذي تريد أن تشاركه فيه حياته؟! ثم ألا يكفيها أنه يحبها؟ أنه يلقاها فترى في عينيه دنيا من الأشواق تستطيع بحرارتها أن تدفئ قلبها إلى الأبد!! ثم أليست هي أول من يلقاه حين يحضر وآخر من يراه حين يسافر؟ حسبها إذن هذا المكان الجميل ما دام في قلب محمود!!
ثم تختلط أمامها الصور وتتزاحم الرؤى وتتماوج الأطياف حتى تنفرج أخيراً عن صورة تبدو واضحة السمات بارزة المعالم تلك هي صورة (متولي)
إنها تذكر جيدا هذا المساء الذي حضر فيه مع والده ومعه بعض الناس. لقد جلسوا طويلاً يتشاورون في أمر خطبتها (لمتولي) ثم انتهى المجلس بإعلان (الخطبة) وتذكر أن أمها وبعض الجيران رحن يزغردن في سرور والجميع يهتف بها في نشوة: مبروك يا حبيبتي. .!!
أما هي فقد كانت أشبه ما تكون بطفل صغير فقد يد أخيه الأكبر في حفلة من حفلات الزفاف، وجعل يبكي بين هتاف المغنين وأصوات المزامير دون أن يشعر به أحد. . لقد كانت تلك الأغاريد الحلوة تصل إلى أذنيها أشبه بالنواح كأنما تشيع أحلامها العذراء نحو مقابر الحرمان.
أجل حدث كل ذلك بالرغم من أنها كانت تثق بأن محموداً لن يكون زوجها المنتظر وأدركت تماما أنها كانت تخدع قلبها الصغير حين راحت توهمه بأن الزواج يصبح أملاً بسيطا حين تنفسح آفاق الحب وتسمو مشاعر العشاق!!. . . ومنذ ذلك اليوم أحست بأنها قد استيقظت من حلم جميل. . ومنذ ذلك اليوم أيضاً غاب عنها محمود!! لقد ظن الفتى النبيل أنه بذلك يساعدها على النسيان ولم يكن يقدر أن مرأى أخيه الصغير الذي يبحث عنه قد أثار كل هذه الذكريات. . .
لقد كانت الفتاة المسكينة تغمض عينها عن ضياء الحقائق لتنعم بطيف حبيبها في ظلام الأحلام؛ وعادت إليك تلك النظرات الساحرة الفاترة أشبه بشبح منهوك كان يزور قبر ولده الشاب! ومرة أخرى سوف تلهيك هذه النظرات عن سماع ذلك الحوار، أنه يدور بين شاب(908/59)
في ربيع العمر وشيخ في خريف الحياة، أما الأول فهو يهتف في نشوة غامرة.
- ربي إنها تحلم. . . وأما الثاني فيجيبه بصوت ثقة وتجربة
- أجل يا بني بالسعادة المقبلة.
محمد أبو المعاطي أبو النجا(908/60)
العدد 909 - بتاريخ: 04 - 12 - 1950(/)
مثل الشيخ. . .
مثل الشيخ كمثل الزرع إذا آتى ثمره ثم هاج واصفر وأوشك أن يكون حطاما؛ لا يهتمبأصوله في الثرى لأنها عجزت عن امتصاص الغذاء فحسبه منها أن تتماسك، وإنما يهتم بسيقانه وأوراقه، يخشى عليها نفحة البرد ولفحة الحر وهبة الريح. وكلما تغير وجه السماء، أو اشتدت سرعة الهواء، ارتاع وانكمش وتوقع النهاية، فإذا صحا الجو وسرى النسيم الفاتر يداعب الأغصان الملد والأوراق الغضة، تبلد من الهمود فلا يحس نشاطاً لدعابة ولا اغتباطاً بمتعة! وهكذا الشيخ! تذوبه السنون وتضوبه العلل فتيبس أسلافه وتجف أعاليه، فيعيش بالاجترار أكثر مما يعيش بالأكل؛ ويتجه إلى الوراء ليتذكر، ولا يتجه إلى الأمام ليأمل؛ ويجل باله لأخبار المرض والموت والدواء، أكثر مما يجعله لأخبار الرياضة والولادة والغذاء. فإذا سمع بمرض صديق سال ما مرضه؟ ومن طبيبه؟ وما أسباب هذا المرض؟ أعنده ارتفاع في الضغط، أم زيادة في السكر، أم تصلب في الشرايين، أم ضعف في القلب، أم اضطراب في الغدد؟ وإذا قرأ في الصحف نعي رجل سال بأي علة مات؟ وكم سنة عاش؟ فإذا كان من طوال العمر سأل بماذا طال عمره؟ أكان يتبع في الطعام نظاماً خاصاً، أم كان يسلك في الحياة خطة معينة؟ وإذا كان من قصاره سأل لماذا قصر عمره؟ هل كان يفرط على نفسه في الأكل أو في الطعام أو في الشراب أو في الدخان؟ أم هل كان يسرف على جسمه في العمل أو في الفكر أو في الهم؟ وإذا وقع على مجلة في الطب أو مقالة في العلاج أو إعلانا عن دواء، تلمس في كل أولئك ما يعيد الصحة أو يؤخر الشيخوخة أو يطيل الأجل. وإذا جلس شيخ إلى شيخ لا يسأل أحدهما الآخر عن شدة الغلاء، ولا عن أزمة الجلاء، ولا عن قضية الجيش؛ إنما يسأله عن مقدار سنه، ونوع أكله، وساعات نومه، وعن الطبيب الذي يعالجه، والدواء الذي يفضله، والنظام الذي يتبعه. وإذا رجا الناس من العلم أن يكشف عن أسرار المادة، ويهيمن على قوى الطبيعة، ليهبط بالفردوس إلى الأرض، ويفيض من السعادة على العالم، رجا الشيخ منه أن يدرس كل مادة، ويخبر كل قوة، ويسبر كل غور، ليستخرج من المنابع الخفية والناجم المجهولة العقار الذي يرجع الشباب، والإكسير الذي يطيل الحياة!
وإذا الشيخ رأى الشباب الريان يمرح في الطريق، والجمال الفتان يخطر في الندى، انصرف ذهنه عن الوسامة والسقامة والفتنة واللذة، إلى العضلات القوية، والحركات(909/1)
العنيفة، والأعصاب المتينة، والشرايين المرنة، والنفوس المفتوحة، فيتحسر على ماض لا يعود، ويتأوه من حاضر لا يبقى!
وإذا الشيخ قال أف فما مل ... حياة وإنما الضعف ملا
آله العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى
أحمد حسن الزيات(909/2)
تحية إلى صديق راحل
للأستاذ محمود رزق سليم
توفي الصديق الكريم، عبد العزيز المراغي، في صباح الخميس 16 نوفمبر عام 1950 م. فخبا بوفاته نجم لامع، وتوارت ومضات أمل ضاحك. وقد لاقى ربه بعد مرض لم يمهله، ولم يشفق عليه، وهو شاب القلب، فتى الفؤاد، يقظ الرأي، متوثب الرجاء، يعد نفسه إعدادا ممتازا لمستقبل سعيد يخدم به دينه ومليكه ووطنه.
وقد تلقى أصدقائه وعارفوا فضله خبر وفاته بقلوب فاجعة، وعيون ذارفة، ونفوس ولهى، وشعروا كأن ساعدا قويا قد اختطفه من بينهم على غرة، ويدا خالسة قد استلبته منهم على غير أهبة. ولكنه الأجل الوافي، والقدر المحتوم، والموت النقاد.
وقد نعاه الناعون ما بدا لهم النعي، ورثته الصحف ما عن لها الرثاء. وذكروا طرفا من أخبار حياته الحافة وبقى منها الشيء الكثير.
وقد كان عبد العزيز واسع الأفق في نواح من الحياة كثيرة. فقد هيأت له ملابساته - مع ذكائه وفطنته - أن تكشف له كثيرا من حقائقها، كما دفعته إلى تجربة الأمور وملاحظتها. فاكتسب من وراء ذلك مرانه وخبرة، وحنكة وحسن بصر بالأمور ومعالجتها.
وقد كان منذ صغره مشغوفا بأخيه الأكبر الأستاذ الإمام المراغي، ويرى فيه نموذجا ساميا يقتدي به. وقد جمعت بينهما ظروف الحياة، أكثر مما تجمع بين شقيقين. فرحل معه إلى السودان، وتعلم بكلية غوردون. ثم عاد إلى مصر فاندمج في سلك طلاب الأزهر، مبرزا بينهم حتى تخرج به بأرقى شهاداته حينذاك. وأرسل في بعثة علمية إلى إنجلترا، فلبث فيها زهاء خمسة أعوام، ازداد فيها علما بالحياة، ومعرفة بمذاهبها ومآتيها. وتخصص في دراسة التاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان، وهما من أهم المواد الثقافية صقلاً للأذهان ودعما للتجارب وتبليغا إلى الحق.
ولما بلغ أخوه الأكبر مرتبة المشيخة الجليلة، للمرة الثانية، كان عبد العزيز - وبخاصة بعد عودته من إنجلترا - أشد سواعده القوية، ومن أقرب مستشاريه إلى نفسه. فحمل معه شيئا من العبء، على مقدار طاقته وجهده. وطبعي أن يصبح في ذلك الحين، موضعا للأمل والآملين، كما كان محطا للنقد والناقدين.(909/3)
وقد استطاع عبد العزيز في هذه الحقبة - وهو على كثب من أمور الأزهر - أن يدرسها ظاهرها وباطنها، صريحها ومؤولها، وأن تتكشف له منها مواضع الداء، ويقدر الدواء. ولا أغلو حينما أذكر أن حدب عبد العزيز على الأزهر، وشغفه به، وأمله القوي في أن يسمق بنيانه، وترتفع أركانه، كان شيئا فوق مكنة الطالب الذي يعشق معهده، ويتعصب له
وقد عرف فيه إخوانه دماثة الخلق، والمرح، وبشاشة الوجه، وابتسامة الثغر، وعفة اللفظ على علانه - كما كان مطاوعا لكل ذي حديث، ولو كان فيه آمال، لا يصده عنه إلا بكيس ورفق - وربما نعى عليه بعض خلطائه أنه يلقى عدوه كما يلقى صديقه، فلا برم ولا تنكر - وما كانت هذه منه إلا لرحابة صدره وحسن سياسته، وحبه لتلافي ما يستطاع باللطف تلافيه. ولذلك ظل كثير ممن ينتقدونه ويحملون عليه، يبجلونه لذاته، ويحبونه لشخصه، ويلقونه لقاء الأخوة الكرام
ولما اختير إماماً للحضرة العلية الملكية تفتحت له من الحياة سبل جديدة، ازداد بها مرانه ومعرفة، وأخذ يخطو ويبرز نحو الصفوف الأولى بين رجالات الوطن. وكان إذ ذاك حركة دائبة. فيؤدي واجبه أمام مليكه، ويلقي دروسه وخطبه، ويذيع في المذياع، ويكتب في المجلات، في الأمور الدينية والاجتماعية والتاريخية
وقد كان عبد العزيز عالما أزهريا، بالمعنى الذي يفهمه التاريخ والعرف. ومرجع ذلك - فيما اعتقد - إلى حبه العميق للأزهر، وما في الأزهر من علم، وما له من تقاليد. فهو وإن بدا مترفا في بعض حياته، جانحا إلى الأخذ بأساليب العيش الحديثة. كان شديد الحنين إلى الحياة القروية الساذجة الهادئة التي تفضل البساطة في كل شئ من ملبس ومأكل ونحوهما، وهو سريع الجنوح إليها ما واتته الفرصة، ولهذا كان أحب الأيام إليه ما قضاه في بلده بالصعيد، والمراغة. . . بين عشيرته
وأهم خصوصيات العالم الأزهري - فضلا عن معرفة الشريعة الغراء - حبه الجدل والمناقشة، وقدرته على سوق الحجة والدليل، وعدم تسليمه لخصمه في سهولة ويسر. وقد كان عبد العزيز في ذلك، من الطراز الأول، لا يكاد المرء يدخل معه في نقاش حتى يفيض بالاعتراض والاستشهاد، وبالتدليل والتعليل، والموازنة والترجيح، حتى يصل إلى قرار الحق يشهد بذلك تلاميذه الكثيرون في كليات الأزهر، وأصدقائه، وأعتقد أن أصحاب(909/4)
الفضيلة الإجلاء أعضاء لجنة الفتوى، قد لمسوا فيه هذه الخصوصية، خلال عضويته بها.
وكان ضليعا في معرفة الشريعة السمحة وأحكامها، خبيرا بمذاهب أئمتها على اختلافهم، بصيرا بمذاب الكلاميين من فقهائها. وقد أخرج كتابا في حياة (ثقي الدين بن تيمية الحراني) ألقى فيه ضوءا على جهاد هذا العلامة في سبيل دينه، موضحا عقيدته، مبينا أنها عقيدة السلف، وأنها بعيدة عن مزالق المبتدعة من متطرفي الحنابلة. وقد سمعت ثناء مستطابا على هذا الكتاب من كثير من الفضلاء
وقد كان مؤرخا راعيا لتطورات التاريخ الإسلامي وتقلب دولته، منقبا عن ذلك في كتب التاريخ الإسلامي العربي منها وغير العربي
وكان أديبا بكل ما تحمله هذه الكلمة من المعاني. فقد أوتي حافظة قوية كنت أغبطه عليها، ملمة بشتى عصور الأدب وتقلباتها وحوادثها إلماماً محموداً، وكثير ما تجود بالأبيات والطرف الأدبية والأمثال ونحو ذلك، عند أدنى مناسبة - وكان يطرب للدعابة اللطيفة والنكتة الرائعة - 0واو على حسابه - ويأخذ حينذاك سبيله إلى المرح قائلاً (لقد قتلتنا كثرة الجد) ولكنه سرعان ما ينحدر إلى سوق الحكم والنعي على الدنيا، مع الرضا والاستسلام لقضاء الله وقدره.
وكان كثير البحث في مظان اللغة، يحفظ من ألفاظها عددا تكتنز فيه المعني، أو يعبر عن المعاني الغريبة أو المستحدثة، ويعنى بالألفاظ الطوافة في اللغات، وما كسبته في كل لغة من المعاني. وأغلب الظن أن في مسجلاته كثيرا منها.
هذا إلى أنه كان كاتبا حسن الكتابة، وخطيبا رائع الخطابة، وممن أوتى مقدرة طيبة على تدبيج المقالات دينية واجتماعية وتاريخية. وهذه مقالته في مجلة (رسالة الإسلام) وغيرها، خير شاهد
ولا نقول جديدا إذا نوهنا بدروسه الدينية وخطبه المنبرية، فإنه أسبغ عليها سمة من التجديد، وغذاها بما تفيض به نزعته الأدبية وثقافته الواسعة، فخرجت بجديد أسلوبها ومعناها، عصرية بريئة من السمت التقليدي القديم
ومنذ سنوات أخذ على عاتقه إخراج كتاب من أهم كتب الحديث والفقه والقضاء الإسلامي، وهو كتاب (أخبار القضاء) لمحمد بن خلف بن حيان، المشهور بوكيع. استعار نسخته(909/5)
الشمسية الوحيدة - على ما اعتقد - وأنفق فيها النفيس من وقته، والمرجو من راحته، حتى استقام له تقديمها إلى المطبعة. فأنجزت منها جزأين وبقى جزآن، وقد تسنى لي الاطلاع على الجزأين المطبوعين - وإن كانا لم يخرجا إلى السوق بعد - فوجدته قد عنى في الكتاب بالتصحيح والتعليق وشرح الغامض وتخريج الأحاديث، بما يشعرك بعلمه الغزير وأدبه الجم وإحاطته بمسائل الفقه ومواضع الحديث ومظان الأدب. وبما يشعرك بصبره وبالغ جهده في سبيل خدمة دينه وشريعته - ولعل أحد خلصانه وأحبابه ينجز من الكتاب ما بقى، حتى يخرجه إلى القراء، ويكون لهما أثرا خالدا وذكرا طيبا.
وقد عنى الفقيد أخيرا بموضوع من أجلْ الموضوعات وأشقها، (وهو تطور الفقه الإسلامي متأثرا بأحوال الدول الإسلامية) وكان كثير التفكير فيه، والحديث من نواحيه، ولا أدري إلى أي مرحلة من مراحله بلغ.
وبعد، فهذه عاجلة في ذكرى الفقيد العزيز دفعتني إليها مقتضيات صداقة كريمة دامت عشرين عاما على أنبل ما تكون الصداقات
رحمك الله أيها العزيز رحمة واسعة، وعزى فيك الوطن والأصدقاء.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب في كلية اللغة العربية(909/6)
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
- 9 -
التحليل النفسي
التحليل النفسي طريقة عملية لمعرفة الرغبات المكبوتة في اللاشعور، والعقد النفسية الناشئة عن هذا الكتب. وأول من فكر في هذه الطريقة ووضع قواعدها ومصطلحاتها العلمية العالم النفسي العظيم - سيجمند فرويد - وقد تقدم التحليل النفسي في السنين الأخيرة تقدما كان له أثر كبير في علم النفس فتطور هذا العلم بواسطته تطورا عظيم الأهمية بعيد الأثر ولا سيما من الناحية اللاشعورية. وتتلخص طريقة التحليل النفسي في حمل المرء المراد تحليل نفسيته على أن يطلق لنفسه العنان فيدع أفكاره تأتي وتروح بدون أن يضبطها أو يراقبها. وبهذا تكون أفكاره لا علاقة لها بالعلم الخارجي وتصبح حاله أشبه ما تكون بحال المطرق في حلم. ثم يطلب منه ألا يقاوم تلك الأحلام وما عيه إلا أن يقول كل ما يخطر بباله فيذكر أوهاما وعبارات مضطربة وألفاظا لا ارتباط بينها. بعضها عن حوادث بعيدة حصلت له في الطفولة وبعضها حصل له في بقية أدوار حياته الأخرى وأكثرها يتعلق بآلامه وآماله وبكل ما هو مؤثر في نفسه وسلوكه
ويجب على المحلل أن يكون شديد العطف على المريض فيعينه على البحث في قرارة نفسه حتى يصل به إلى حادثة أو فكرة معينة يتخذها كمفتاح يفتح به اللاشعور فيتوصل بها إلى معرفة سبب الاضطراب في السلوك والأعصاب، ومتى بلغ المحلل هذه النقطة أمكنه أن يعرف كل شئ. فالتحليل النفسي إذاً مفتاح اللاشعور والغاية منه معرفة سبب الاضطراب في لسلوك والأعصاب. ونحن نرى من الحق أن نبسط هذا الموضوع بعض البسط حرصاً على الفائدة وتوطئة لفهم ما عند الغزالي في هذا الموضوع فنقول
عندما اصطدم الإنسان بالمجتمع وما فيه من قيود انكبتت رغباته وميوله انكباتاً سبب له كثيراً من الأمراض النفسية والعصبية فخلقت هذه الأمراض النفسية والعصبية للمريض جحيما مستقرا لا تنطفي ناره ولا تخمد أوراه. والذي يؤسف له حقا هو أن أكثرية البشر(909/7)
مريضة نفسا او عصبيا. أو نفسيا وعصبيا معاً وإن اختلفت هذه الأمراض قوة وضعفاً وضوحاً وغموضاً وقد مضى على البشر القرون الطويلة وهم يتقلبون في جحيم من الأمراض وهم لا يشعرون ولكن لم تخف هذه الحقيقة المؤلمة على أهل الفكر من أبناء الأجيال الماضية. فقد عرفوا هذه الحقيقة لأنهم اكتووا بنارها ولكنهم حاروا في سرها وضلوا الطريق إلى فهم كنهها وحقيقة أمرها فأخذوا يتخبطون في هذا الأمر تخبط العشواء في الظلام لا يخرجون من ظلمة حالكة إلا ليتردوا في هوة أشد حلكة حتى ألهم الله - فرويد - بدراسة العقل الباطن وما في هذا العقل العجيب من عواطف مكبوتة ورغبات متصادمة متلاطمة وعقد مبرمة محكمة ومركبات محتدمة مضطربة فاهتدى إلى حل هذه المشكلة النفسية بطريقة التحليل التي أشرنا إليها في صدر هذا المقال ونحن نعتقد أن الإنسانية تنتفع عظيم الانتفاع بطريقة - فرويد - في التحليل النفسي متى دخل على النفس التحليلي البيوت والمدارس والمصانع والمزارع وعمت العيادات والمستشفيات النفسية المدن والقرى. نقول هذه وأملنا كبير بتحقيق هذه الأمنية لأننا رأينا المدى الواسع الذي قطعه علم النفس التحليلي في الغرب خلال نصف قرن ذلك المدى الذي يبشرنا بقرب انتشار هذا العلم الجليل في الشرق فينتفع به الشرقيون عامة ويصبح الشرقي وقد تعود أن يذهب إلى العيادة النفسية لمعالجة الخوف والخجل كما يعالج السل والسرطان. ولا يفوتنا أن نذكر هنا شيئا جليل الخطر في موضوع التحليل النفسي وهو أن خطورة العقد النفسية وخطرها في خفائها وعدم الشعور بها، فإذا ما عرفت العقد وأصبح صاحبها شاعراً بها انحلت وبطل سحرها. ومتى انحلت العقد انتهى السلوك الشاذ الذي كان متسبباً عنها وهذا ما يرمي إليه التحليل النفسي ويعمل لأجله المحللون النفسيون.
ولندع الآن الإمام العلامة أبا حامد الغزالي يتحدث عن التحليل النفسي والطريق الذي يعرف به المرء عيوب نفسه. يقول أبو حامد الغزالي.
إذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق(909/8)
الأول. أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته
الثاني. أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنية والظاهرية ينبهه عليه
الثالث. أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه
الرابع. أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما فليطالب نفسه به وينسبها إليه فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شئ منه فيتفقد نفسه ويطهرها منكل ما يذمه غيره
هذه طرق الغزالي الأربعة في التحليل النفسي. فالطريقة الأولى قريبة جدا من طريقة علم النفس الحديث ونرى ذلك واضحاً عندما نقابل ما يقضي به العلم الحديث من الإنسان حمل المراد تحليل نفسيته على أن يطلق العنان لأفكاره أمام المحلل وبين يدي شيخ بصير بعيوب النفس وبحكمه في نفسه ويتابع إشارته فيعرفه ذلك الشيخ عيوب نفسه وطريق علاجها. والطريقة الثانية هي الاستعانة بالصديق في معرفة العيوب وهذه الطريقة شبيهة بالأولى من حيث أنها استعانة بالغير في التحليل. إلا أن الأولى تحليل بواسطة اختصاصي (شيخ بصير بعيوب النفس) - والثانية تحليل بواسطة صديق بصير في المراقبة دقيق الملاحظة. وأما الطريقة الثالثة والرابعة فهما طريقتان للتحليل الذاتي والتأمل الباطني وطريقة التحليل الذاتي أفضل طرق التحليل لذوي البصائر النيرة والعقول الراجحة.
ومن حق الغزالي علينا أن نذكر له معرفته بس العقدة النفسية وإدراكه أن خفاء العقدة عن صاحبها هو السبب الذي يجعل حلها صعباً وشفاءها في بعض الأحوال مستحيلاً وإدراكه أيضاً أن معرفة العقدة والشعور بها يسبب حلها والتخلص من شرها. يقول - فمن تكون بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه فإذا عرف العيب أمكن العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم. ثم يقول في موضع آخر: إن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها ومرض النفس مما لا يعرفه صاحبه وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه.
ولنسمع الآن ما عند الغزالي من طرق المعالجة النفسية يقول:(909/9)
- ينظر في الداء فإذا كان البخل مثلا فعلاجه بذل المال. ولكن قد يبذل المال إلى حد يصير تبذيراً؛ فيكون التبذير أيضاً داء، فالمطلوب إذن هو الاعتدال، وهذا الاعتدال الذي يذكره الغزالي هو السلوك السوي الذي يعمل للحصول عليه التحليل النفسي لرد هؤلاء الشاذين في سلوكهم إليه. ولم تغفل بصيرة الغزالي اليقظة عن الصعوبة في رد الشاذ إلى الحد السوي من السلوك يقول - الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف. وقلما ينفك الإنسان عن ميل عم الصراط المستقيم أعني الوسط حتى لا يميل إلى أحد الجانبين.
وسنتحدث في مقالنا القادم عن السلوك في نظر الغزالي إن شاء الله
حمدي الحسيني(909/10)
شعر الحماسة عند العرب
للأستاذ أحمد حسن الرحيم
شعر الحماسة لا يخلو منه أدب أمة من الأمم الراقية، فهو قطعة من تاريخ حروبها الداخلية والخارجية، وهو حافز قوي يؤجج في النفس الحمية والحرص على الكرامة. ولكثرة حروب العرب كثر في أدب شعر الدماء والصدام. وقد تكيف العربي لبيئته القاسية وأذعن لما تطلب منه حفظا لحياته، فالذي يعيش في خيمته عرضة لكل هجوم يباغته به عدوه من الإنسان أو الحيوان ينبغي أن يكون شجاعا خفيف الحركة لا تربكه المفاجآت. ولما كان الكلام من وسائل الدفاع - أيضاً - فقد وجب أن يكون سريع الارتجال، حاضر البديهة، بليغ الإجابة، وقد أحب العرب باديتهم وفضلوها عن الحضارة وافتخروا بحريتها وطلاقتها، قال القطامي: -
ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية. ترانا
ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قنا سلباً وأفراساً حسانا
وقد كان العربي بحاجة مستمرة إلى سلاحه وجواده وقد روى عن حاتم الطائي الجواد العلم أنه كان يجود بكل ما يملك إن سئل إلا أنه يشق عليه جدا أن يجود بجواده أو حسامه، وهو على حق في ذلك فجوده في آلة الحرب في مجتمع دموي يسلمه إلى الذل والهوان، قال الشاعر: -
فما منعت دار ولا عز أهلها ... من الناس إلا بالقنا والقنابل
ولسعة الصحراء وتنقل العرب فيها عز عليهم أن يذعنوا لجبار متحكم، لماذا يقبلون الضيم وأرض الله واسعة، ومطية السفر حاضرة وقد أوصى بعضهم بعضاً بمغادرة دار الهوان.
قال عنترة العبسي يطري دار العز ولو كانت سعيراً متقداً: -
لا تسقني كأس الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
كأس الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل
وقال غيره: -
إذا جانب أعياك فاعمد لجانب ... فإنك لاقٍ في بلاد معولا
فالعربي في صحرائه جراب آفاق لا يضيره بل يسره أن يتنقل من أرض إلى أخرى إذ لا(909/11)
تربطه بها أملاك أو مصالح لا تنقل. ولكثرة ترحال العرب كثر أدب الحنين إلى الديار ووصف الدمن والأطلال والفراق كثرة بينة.
ونتج عن كثرة الحروب تعدد الزوجات ليكثر النسل (فالعزة للكاثر) ومن كان أكثر عدداً فقد نأى عنه الضيم، وفرضت مهابته على خصومه.
أبى لهم أن يعرقوا الضيم أنهم ... بنو ناتق كانت كثيراً عيالها
وأصبح تعداد البنات عبئاً على الرجل ونقطة ضعف ينبغي أن يذود عنها.
ونسوتكم في الروع باد وجوهها ... يخلن إماء والإماء حرائر
فهم يكثرون من النساء لزيادة النسل ولا يتمنون لهن أن يكثرن من البنات، ولو كانت فتاة الصحراء كفتا ة اليوم في حذق فن القتال لكان للعربي إلى المرأة نظرة أخرى. وقد ورد في تاريخ العرب ذكر نساء مقاتلات ولا سيما من الخوارج ولكنهن من القلة بحيث لا تستقيم بهن قاعدة. وقد تطور فن القتال وأصبح اليوم - بصالح المرأة، فقد كانت قديماً آلة الحرب تحتاج إلى عضل شديد، أما اليوم فقد أصبحت أهميته ضئيلة بجانب المهارة وقوة الأعصاب.
ولقد تمكن حب الحرب من نفس العربي، وساد نظام (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وأصبحت
الحرب عندهم من الأماني الثلاث العزيزة التي لولاها لا يحفل الإنسان بحياته.
قال طرفة بن العبد: -
ولو ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقى العاذلات بشربة ... كميت متى ما قل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الغصا - نبهته - المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطرف المعمد
وقال غيره: -
وكان أخي جوان ذا حفاظ ... وكان القتل للفتيان زينا
وقال غيره: -
وإني في الحرب الضروس موكل ... بإقدام نفس لا أريد بقاءها(909/12)
ومن الصواب أن شعر الانتقام والوعيد يذكي جذوة النفس، ويحفز إلى الأخذ بالثأر ويرهب الخصم العنيد، ولعل من أسباب انصراف العرب عن الملاحم الطويلة أنهم بحاجة إلى نوع من الشعر سهل الترديد، قصير مستقل بذاته، سهل حفظه، يردد قبيل الحرب أو بين الجموع المتشابكة - وقد جاشت الأرواح - ليقوي النفس على الثبات ويهبها الإقدام والحرص على مواقف البطولة - وجل ما ورد في ديوان الحماسة من شعر الحرب قصير موجز مع احتمال أن أبا تمام قصر منه بانتخابه الغزير التوفيق.
ومن شعر الحماسة نرى أن قسما من العرب يرى أن من سمات الشجاعة والسطوة أن يكون الإنسان سريع الاستجابة لدواعي الشر، متحككا بة، إمعة مع كل شرير، لأن ذلك من مظاهر القوة والبسالة.
قال الشاعر: -
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهمو ... لأية حرب أم بأي مكان
وقال غيره: -
لا يسألون أخاهم حيث يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
وقال غيره: -
وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقال غيره: -
وإني لا أزال أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مجن جاني
غفر الله (لسواء بن المضرب) وكان في عون من عاصره وعايشه
هذه غاية حب الخصام والفتن أن يكون حريصا على أن يستمر حبل الشر فإذا لم يجن حمى الجناة وصار لهم وقاء استدامة لشرهم وظلمهم، وإذا أسعده الحظ فجنى على الناس فتلك الأمنية.
ومن العيب على أفراد العشيرة: (ألا يظلموا الناس حبة خردل) أو أن يطلبوا من المستصرخ دليلاً على دعواه ومظلمته قبل أن يبدءوا المعركة.
والمستقرئ لشعر الحماسة في أدب العرب يجد منه ما يمثل عاطفتين متضادتين: عاطفة الرأفة بالأقارب ورعايتهم، وعاطفة القسوة عليهم، والمثل لكلتا العاطفتين عديدة.(909/13)
قال أوس بن حنباء في مقاومة الشر وإن جاء من ذوي القربى:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواصره
وقال غيره: -
ونحن بنو عم على ذات بيننا ... زرابي فينا بغضة وتنافس
ونحن كصدع العس أن يعط شاعباً ... يدعه وفيه عيبه متشاخس
وعارضه آخر في رعاية حقوق القربى وإكرام صلة النسب: -
وإني لأنسى عند كل حفيظة ... إذا قيل مولاك احتمال الضغائن
وإن كان مولى ليس فيما يهمني ... من الأمر بالكافي ولا بالمعاون
وقال غيره: -
لعمري لرهط المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كل مركب
من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب
وقال محمد بن عبد الأزدي:
ولا أدفع ابن العم يمشي على شفا ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوما إلى الرواجع
وأحسب أن قصيدة (معن بن أوس) في مداراة القريب لانتزاع الضغينة من صدره باللطف والتسامح وسعة الصدر هي أم الباب في هذا الصدد: -
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
وفيها يفصل أسلوبه الناجع في رأب الصدع وإصلاح الخلاف وتأليف الأفئدة. وقد أعجب بها عبد الملك بن مروان وكان ذا نزعة أدبية وفضلها على كل ما سمع من شعر أمرؤ القيس والأعشى والنابغة. وإذا أخذنا بنظرية (أدلر) في شدة التنافس بين الأقارب فإن ما ذكر من أشعار البغض بين الأقرباء شئ طبعي شائع كما أن استعمال الحسنى في معاملتهم سمو من تغليب العقل على العاطفة لا يرقى إليه إلا القلائل.
ومن سمات الضعف والاستخذاء قبول الدية فلا تقبل الديات إلا عند خوف معاقبة، وقبولها عندهم سمة الضعف والطمع.
قال مرة بن عداء من بني أسد: -(909/14)
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال غيره: -
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب على لسان أخيها القتيل: -
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمى
ولا تأخذوا منهم أفالا وأبكراً ... وأترك في بيت بصعدة مظلم
والمستحسن أن يضيف الموتور إلى رفض أخذ الدية زيادة في التنكيل والقتل يتجاوز بها حد المساواة.
قال أحدهم: -
فيا شمل شمر واطلب القوم بالذي ... أصبت ولا تقبل قصاصاً ولا عقلا
ومما يدل على جودة الطبع، والثقة بالنفس وحب الصدق أن يعترف العربي لخصمه بالصفات المشرفة فيطرى شجاعته ويصف البطولة في حملاته، وأشعار هذا الضرب تسمى عندهم (بالمنصفات)
يكرمون شاعرها ويعجبون به فوق ما يصنعون لغيره من الشعراء قال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني: -
شددنا شدة فقتلت منهم ... ثلاثة فتية وقتلت قينا
وشدوا شدة أخرى فجروا ... بأرجل مثلهم ورموا جوينا
فآبوا بالرماح مكسرات ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا
وقال زفر بن الحرث: -
وكنا حبسنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذام وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جرداً للمنية ضمرا
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت اصبرا
لقد ذكر عن خصومه طواعية أنهم (كانوا على الموت اصبرا) وهذا لسان صدق ولفظ بديع يعتز بهما وبأمثالهما تاريخ الأدب.(909/15)
وقال العديل بن الفرخ العجلي وهو شاعر إسلامي: -
إذا ما حملنا حملة مثلوا لنا ... بمرهفة تذري السواعد من صعد
وإن نحن نازلناهم بصوارم ... ردوا في سرابيل الحديد كما نردى
كفى حزناً أن لا أزال من القنا ... يمج نجيعاً من ذراعي ومن زندي
ومن أشنع العيوب عند العرب أن يعيش الفرد للذته وعاره فتشغله اللذة عن واجب الإباء والكرامة، وصورة مصعب بن الزبير ماثلة للأذهان إذ يترك من بعده زوجه سكينة بنت الحسين فتاة الحسب والأدب والجمال تندب ثكلها وهو يلومها على جزعها بقوله (ما ترك أبوك لابن حرة من عذر). وقد كانت لمصعب القدرة على النجاة.
قال شبرمة بن الطفيل من شعراء العصر العباسي الأول: -
لعمري لرئم عند باب ابن محرز ... أغن عليه اليارقان مشوف
أحب إليكم من بيوت عمادها ... سيوف وأرماح لهن حفيف
فهو يعرض بهم لسكوتهم إلى الخفض وانزوائهم عن لقاء الحروب وأبو نواس - وهو ربيب حياة اللذة - لا يعجبه قول شبرمة بل يقف على حافة الطرف الثاني قال: -
رضيت من الدنيا بكأس وشادن ... تحير في تفصيله فطن الفكر
إذا ما بدت أزرار جيب قميصه ... تطلع منه صورة القمر البدر
فأحسن من ركض إلى حومة الوغى ... وأحسن عندي من خروج إلى النحر
فلا خير في قوم تدور عليهم ... كؤوس المنايا بالمثقفة السمر
تحياتهم في كل يوم وليلة ... ظبي المشرفيات المزيرة للقبر
وهو بالإضافة إلى ما في حياته من عوامل الاستخذاء عاش في بيئة ترفل بنعمة الأمان، يسهر الحاكمون فيها على حماية دماء الناس وأموالهم، ولم يكلفه مجتمعه واجباً دفاعيا فظن نفسه مستغنيا عن الذياد. ولو عاش في بيئة يحتكم ساكنوها إلى القوة والسيف قبل المنطق لتبين خطل رأيه وراح ضحية فلسفته.
وقد زودت حرب الجاهلية وحرب الجمل وصفين وحروب الخوارج تاريخ الأدب العربي بأروع أدب الحرب، ولكنه نزر في العصر العباسي بالتدريج لتغير نظم المجتمع العربي. ولعل من أبرز شعر الحماسة في هذا العصر بائية أبي تمام في فتح عمورية وسيفيات أبي(909/16)
الطيب في الحماسة والمديح. وفي عصر الفترة المظلمة قصيدة صفي الدين الطائي الحلي (677 - 750 هـ) وأولها: -
سلي الرماح العوالي عن معالينا ... واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
أما شعر الحماسة في الأدب الحديث فبحاجة إلى بحث مستقل وقد اكتسب معاني جديدة لتطور أساليب القتال ومعداته.
لقد كانت شوكة العرب وسطوتهم طاقة جبارة وجهها الإسلام إلى خارج الجزيرة واستغلتهالنشر الدين فاكتسح بها الأقطار.
وبعد هذا شواظ من أدب الحماسة عند أجدادنا الأباة أعيده على الأسماع لعله يقدح زند الحمية في النفوس ويلهب ما ورثت من حب التضحية لتوهب لها الحياة العزيزة، والدفاع المشروع تقره كل النظم الدينية والمدنية.
الحلة (العراق)
أحمد حسن الرحيم
ليسانس بالأدب العربي(909/17)
الغباء الاجتماعي. . .
للأستاذ محمد عثمان محمد
في ركن هادئ بأحد المقاهي العامة، جلس اثنان يتجاذبان الحديث، أحدهما محامٍ له ماضيه وشهرته، والثاني طبيب مشهور يعمل كبير لجراحي إحدى المؤسسات. .
وتشاء الصدفة البحتة أن يمر بها أثناء جلوسهما صديق قديم للمحامي، ليست له معرفة بالطبيب. .
وبالرغم من أن هذا الصديق مثقف ثقافة عالية، وحائز على أرقى الدرجات العلمية، إلا أنه لم يراع الكياسة الواجبة، واللباقة الأدبية في مقام التحية والترحيب. .
فهو مثلاً، لم يعط الفرصة لصديقه الحامي حتى يقدمه إلى صديقه الطبيب، بل رفع الكلفة من تلقاء نفسه وأسرع بمد يده إلى الطبيب الجراح مسلماً هازاً يده في حرارة وحماس شديد، كأن له به سابق معرفة، أو كأنه صديق قديم لم يره من زمن بعيد
وبمجرد جلوسه أخذ يسترسل في الحديث، منتقداً الطب والأطباء قائلاً أنهم فئة جشعة تجردت من الرحمة قلوبها، فئة أعمتها الأنانية الخبيثة، وبهرتها المادة الزائفة ببريقها الأخاذ، فسرعان ما طمست ضمائرها، ففقدت إنسانيتها التي كانت فيما مضي تعتز بها أيما اعتزاز. . . تصوروا أن بعضهم يأبى فحص المريض قبل المساومة. . . إلى آخر ما في جعبته من مثل هذا اللغو المسترسل حتى احمر وجه صديقه المحامي خجلاً. .
أمثال هذا الصديق، كثيرون في المجتمعات المختلفة، والأوساط المتباينة في الشرق وفي الغرب. تجدهم بين الطبقات الغنية الأرستقراطية، وبين الطبقات المتوسطة الديمقراطية، وبين الطبقات الفقيرة العمالية. تجدهم بين المتعلمين المثقفين، وبين أنصاف المتعلمين، وبين الأميين على السواء. .
وهؤلاء، من أمثال هذا الصديق، يمكن اعتبارهم مرضى، مصابون بما يسميه النفسانيون (الغباء الاجتماعي).
وهم لا يعنون بهذا الغباء ضعف الذاكرة، أو فقدان الذكاء العقلي، أو انطفاء الشعلة الذهبية المتقدة. كلا، فقد يكون الرجل ألمعياً، وعالماً عبقرياً، وحائزاً أرقى الدرجات الجامعية، ومع ذلك قد يكون مصابا بهذا (الغباء الاجتماعي). . وقد يكون الرجل أمياً، لا يعرف القراءة(909/18)
والكتابة، ولكنه مع ذلك قد يكون حاد الذكاء، حاضر البديهية، متحدثاً لبقاً، يعرف كيف يترك أثراً طيباً في نفس سامعه أو محدثه أو جليسه. . ولكنهم يعنون (بالغباء الاجتماعي) إنعدام الميزة أو الصفة التي تجعل صاحبها محبوباً في المجتمع أو في البيئة التي يعيش فيها. .
فصاحبنا مثلا الذي لم يراع الذوق والكياسة وأدب المقابلة، وأخذ يجرح شعور جليسه الطبيب الكبير - دون معرفته طبعاً - بكلمات أحر من الجمر ووقف صديقه المحامي موقف الحرج بدون مبرر، لا يمكن أن يكسب يوماً أصدقاء، ولا يمكن أن يكون محبوباً في مجتمع من المجتمعات. . . وبالتالي لا يمكن أن ينجح النجاح العلمي المنشود في الحياة، ولا سيما إذا كان ممن يعملون في المحيط التجاري. . . ذلك لإصابته (بالغباء الاجتماعي)، ولانعدام تلك الهبة الإلهية التي تجعل صاحبها أهلاً بالترحيب والحفاوة به في المجتمعات والحفلات.
ويمكنك، على ذلك، أن تقول مؤكداً إن نجاح الفرد في الحياة يتوقف إلى حد كبير على هذه الهبة الربانية، أو هذه الصفة التي تجعل منه رجلاً محبوباً في البيئات والأواسط التي يختلط بها.
ٍوقد عزا بعض العلماء نجاح أكثر كبار رجال الأعمال والاقتصاد في العالم إلى هذه الموهبة العويدة. وإلى هذه الصفة التي تجعل الفرد غير مكروه من الأفراد والجماعات، وتجعل له القدرة الفائقة على اجتذاب القلوب.
بور سعيد
محمد عثمان محمد(909/19)
على قبور الشعراء
القبر هو النهاية المحتومة بعد الموت لكل نفس عاشت على وجه الأرض، وتختلف نهاية كل إنسان على حسب عقيدته وعمله، فمنهم من جعل نهايته هداية لغيره، ومنهم من حذر من غرور الدنيا، ومنهم من شرح نهايته، ومنهم من طلب المغفرة من الرحيم الرحمن!
وهذه وصايا بعض الشعراء لعل فيها عضة وذكرى، لمن كان له قلب يفقه مصيره المحتوم!
1 - أوصى أبو العتاهية الشاعر وهو يجود بنفسه أن يكتب على قبره: -
أذن حي تسمعي ... اسمعي ثم عي وعي
أنا رهن بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
2 - ولما احتضر يحيى بن عدي أوصى أن يكتب على قبره: -
ربَ ميت قد صار بالعلم حيا ... ومبقى قد مات جهلا وعيا
فاقتنوا العلم كي تنالوا خلوداً ... لا تعد الحياة في الجهل شيئا
3 - نظم أبو الصلت الأشبيلي أبياتاً أوصى أن تكتب على قبره: -
سكنتك يا ديار الفناء مصدقا ... بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير
4 - وأوصى أبو العلاء المعري أن يكتب على قبره: -
هذا جناه أبي عليَ ... وما جنيت على أحد
5 - ونظم ابن الزقاق اللخمي أبياتاً وأوصى أن تكتب على قبره منها: -
أإخواننا والموت قد حال بيننا ... وللموت حكم نافذ في الخلائق
فمن مر بيَ فليمض بيَ مترحما ... ولا يك منسيا وفاء الأصادق
6 - وأوصى محمد بن إبراهيم الأندلسي أن يكتب على قبره: -
لئن نفذ القدر السابق ... بموتي كما حكم الخالق
فقل للذي سره مصرعي ... تأهب فإنك بيَ لاحق
7 - وطاب ابن زهر الأندلسي أن يكتب على قبره: -
تأمل بحقك يا واقفاً ... ولاحظ مكانا دفعنا إليه(909/20)
تراب الضريح على وجنتي ... كأني لم أمشي يوماً عليه
8 - ونظم ابن مطروح الشاعر ليكتب على قبره: -
أتجزع للموت هذا الجزع ... ورحمة ربك فيها الطمع
ولو بذنوب الورى جئته ... فرحمته كل شئ تسع
9 - وطلب ابن منير الطرابلسي أن يكتب على قبره: -
من زار قبري فليكن موقنا ... بأن ما ألقاه يلقاه
فيرحم الله امرأ زارني ... وقال لي يرحمك الله
10 - وأوصى الزمخشري جار الله صاحب التفسير المشهور باسمه أن يكتب على قبره: -
يا من مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب عن فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول
11 - ووجد مكتوبا على قبرٍ لم يعرف صاحبه: -
تناجيك أجداث وهن صموت ... وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغه ... لمن تجمع الدنيا وأنتَ تموت
12 - وقال ابن السماك: مررت على المقابر فإذا على قبر مكتوب: -
يمر أقاربي جنبات قبري ... كأن أقاربي لم يعرفوني
ذووا الميراث يقتسمون مالي ... وما يألون أن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهم وعاشوا ... فيا لله أسرع ما نسوني
13 - ووجد على قبر آخر: -
وقفت على الأحبة حين صفت ... قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي ... رأت عيناي بينهم مكاني
14 - وقرأت أن أمير الشعراء أحمد شوقي بك أوصى أن يكتب على قبره من قصيدته الفريدة (نهج البردة)
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل ... في الله يجعلني في خير معتصم(909/21)
هذا ما عثرنا عليه لبعض الشعراء رحمهم الله - وسبحان الدائم الباقي
شطانوف
محمد منصور خضر(909/22)
رسالة الشعر
شاعر يودع الحياة
اللحن الأخير. . .
(أخي الأستاذ المعداوي:
(اسمح لي أن أقدم شكري لمصر المثقفة ممثلة في شخصك الكريم على الموقف المشرف الذي وقفته إزاء قضيتي في وزارة المعارف العراقية، واسمح لي أن أهدي إليك شكر الشباب العراقي المثقف على رسالتك الرائعة التي وجهتها إلى وزير معارف العراق، ولكني في الوقت نفسه أود أن اسمع أدباء العربية بأن صرختك وصرختي لم تنفذا إلى مسامع وزارة المعارف العراقية لأنها تجد في غمط حقوق الشعراء واجباً لا بد منه، وعلى كلٍ فإنك باسم مصر زعيمة البلاد العربية قد أديت ما عليك، لذا كان من واجبي أن أرفع هذا اللحن الباكي لك ولكل أديب مصري. . وهو كما أظن آخر ألحان الحياة. . .)
الناصري
جف نبعي وشف روحي الغليل ... وتمشي على حطامي الذبول
وغدا قلبي الندى يباباً ... ما به واحة ولا سلسبيل
وخيالي الطليق قيده اله ... م فإن طار جاذبته الكبول
وارتضت نفسي الجريحة بالوهم ... وللوهم يركن المخذول
فزع صارخ يلف حياتي ... فحياتي تلفت وذهول
وفراغ كوحشة القبر ... أزيحه، فلا فرحة ولا ترتيل
وحدة مرة وغربة روح ... راضها للعذاب صبر جميل
فالحنين الحنين للشاطئ المجهول ... ريي وزادي المستحيل
كلما أشرفت على الغيب روحي ... ودها مأمل لوح سؤول
فالضباب الكثيف، والظلمة الدك ... ناء، والوحش والطريق الطويل
والعذاب الممل والعدم الشام ... ل، والخوف والرجاء القتيل
وعواء الذئاب والظمأ القاتل، ... والشوك. والهجير الأكول
وأنا راكض، ألملم آمالي ... فتذري شتاتهن القبول(909/23)
واللهاث المحموم يأكل من ص ... دري حطاماً فد مزقته النصول
وجراحي المفتحات الدوامي ... تتنزى وكالغمام تسيل
كلها هوة يبرقعها الموت، ... وشك ضبابه لا يزول!
يا (هنائي) أنا الغريب بأرض ... لص - خيراتها - القوي الدخيل
كيف أشقى وهذه الدار داري ... كيف. قولي. . أما لليلي رحيل؟!
كيف عم الظلام، وانطمس أل ... نور، ورانت على العقول السدول!؟
كيف! لا تعجبي إذا ساد قومي ... مستبداً بهم، عني جهول!
يا (هنائي) ضيعت في التيه عمري ... مثلما، ضاع في الرحاب الأصيل
مثلما ضاع بلبل أسلمته ... ليد الشؤم (بومة) و (طلول)
فطوى جنحه على الجرح يشدو ... لا (سياط) تخيفه أو (نصول)
يا ضلالي مع الأعاصير في اللي ... ل، أأهدى، ومن ضلالي الدليل!؟
كيف بيَ، والعمى يقود شروداً ... ضل عن دربه فضاع السبيل
شاعر بالأسى تقضت لياليه ... وأيامه، ضنى وعويل
كل يوم، يمر يدفن مني ... أملاً بالدموع مني غسيل
أتراني وقد نغضت (الثلاثين) ... سعيداً. .، ثكلت. ماذا أقول
يا هذا الشقاء، قد نضب الزي ... ت، وما زال في السراج الفتيل!!
رعشة الموت لم تزل في دمائي ... نغمة ما لسرها تعليل
أنا من وحيها أعيش بكون ... مرعب فوقه الردى مسدول
ما حياتي إلا انتظار رهيب ... لجفاها ترى جفاها يطول؟
فعلى راحتي من جثث الموتى اص ... فرار وفوق وجهي نحول
وعلى مبسمي احمرار من السم ... وفي عيني السهاد الطويل
ويردني من فاجرات الليالي ... بقع، ما للونهن نصول
دمغ الشؤم جبهتي فعلى صد ... غي من نحسي العقيم دليل
دب في السقام وانتشر السل ... بجسمي، وشاق نجمي الأفول
فأنا في يد المباضع جرح ... حائر عن أساته لا يميل(909/24)
وأنا في فم العفاء حذاء ... يتلهى به الردى المخبول
كان لي مطمح بأمس وقد ... مات فماتت رغائب وميول
وغدي مثل أمس مر كئيباً ... لا رجاء فيه ولا تأميل
يا لمستقبلي الرهيب أيبقى ... ناعباً في ركابه عزريل؟!
أين منى (عناية) القدر الساحر ... بل أين (طيفها) المجهول؟!
أو لم أذبح الرقاد للقيا ... ها، وقلبي بحبها متبول؟
عاصرا مقلتي في قدح السه ... د، سلافا والليل وحف ظليل
أتراها كالآل تلمحه العين ... ولكن ما إن إليه وصول؟
تعست حقبة حرمت بها الصف ... و، ولحظ (الهناء) عني كليل
أن عمراً بالدمع والشجن الم ... وار، يقضي لذاك عمر فضول
كيف أرجو من السقام نجاة ... أو يرجو شفاءه المسلول؟!
إيه أشباح جنة الخلد هيا ... فلقد ضاق بالحياة العليل
أقبلي كالطيوف من عالم الن ... ور، ورفي كالزهر وهو بليل
بالتهاليل طوفي حول نعشي ... وتغني فذاك عرس جميل
واسرجي لي الشموع واحدي بركبي ... فالسرى متعب، ودربي طويل!!
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(909/25)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مع الفن الشهيد في العراق:
لا تعتب على أخيك أن تأخر في تقديم خالص شكره وشكر الشباب العراقي المثقف إليك على ذلك الموقف النبيل المشرف الذي وقفته من محنته على صفحات الرسالة، فلست ذلك الإنسان الذي سرعان ما ينسى الجميل ويتنكر لمعاني الوفاء؛ ولكن ثق أنني كنت في المستشفى أقاسي وخز الإبر وعذاب الداء. . . ولقد جاءت الرسالة وقرأ الناس تعقيبك الأول وكلمتك الثانية، فأعجبوا بهما شأن كل ما كتب، ثم نقلت الصحف العراقية كلمتك الموجهة إلى وزير المعارف معلقة وثمينة. . . وكان الثناء عاطراً عليك وعلى مصر، حتى لقد دفع بعض أصحاب النفوس المريضة إلى أن يفرغوا ما رسب في نفوسهم من أحقاد!
أما عن موقف وزارة المعارف العراقية فقد بقيت كعهدها الأول، صماء بكماء، ويظهر أنها تريد محاربة الأدباء لأنها تخشى انتشار الثقافة في العراق! ماذا أقول لك؟ لقد قلت كل شئ في هذه القصيدة التي تقص عليك أحزان النفس وأشجان الحياة. ألا توافقني بعد هذا كله على أنها يجب أن تكون (اللحن الأخير)؟ صدقني إنها تسمية صادقة، لأن الزورق المجهد يوشك أن يرسو على شواطئ الفناء!!
(بغداد - العراق)
عبد القادر رشيد الناصري
الشيء الذي كنت أنتظره وينتظره معي الناس، هو أن يتفضل معالي الأستاذ خليل كنه فيثبت لنا أنه إنسان. . . كنا ننتظر منه هذا المعنى الكبير، ولكنه أبى إلا أن يثبت لنا أنه وزير! ومن دلائل هذا الإثبات أن معالي الأستاذ قد أغمض عينيه فلم ينظر، وأعلق أذنيه فلم يسمع، وأطبق شفتيه فلم ينطق بكلمة واحدة تنقد الفن الشهيد وتنصف الحق المهضوم!!
إن القلم يتعثر في يدي وأنا أسجل هذه الحقيقة. هذه الحقيقة المرة التي تهمس في أذن التاريخ قائلة له: إن وزير المعارف قد آثر أن يكون من أصحاب المعالي على أن يكون من أصحاب الإنسانية، وفضل جاه المنصب وهو تقليد على فعل الخير وهو تخليد، وزهد كل(909/26)
الزهد في أن تخصه الأقلام بشيء مما تخص به الناس من الذكر الجميل!
ألا يوافقني معالي الأستاذ خليل كنه على أن لأصحاب المواهب حقوقا في الدولة يجب أن تذكر فلا تهدر، وأن تصان فلا تهان، وأن يضرب بها المثل على سلامة الوعي ونزاهة القصد وعدالة التقدير؟ لا أشك لحظة في أنه سيوافقني في قلبه وسيؤيدني بلسانه. . والدليل؟ الدليل هو أن العراق قد ضرب يوماً هذا المثل، حين مد يده إلى مقعد من مقاعد الصحافة لينقل منه رجلا إلى مقاعد الوزراء. . هذا الرجل هو معالي الأستاذ خليل كنه!! ما باله إذن وقد ظفر بكل ما له على الدولة من حقوق، ينسى أن هناك أناساً لهم بعض الحق وهو في يديه، ثم لا يمنحهم شيئاً من هذا الحق وهو قادر عليه؟! سؤال حائر، وسيظل حائراً ما شاء له وزير المعارف أن يحار. . . أما الجواب، فسيوافقني عليه معالي الأستاذ خليل كنه بقلبه إن لم يؤيدني بلسانه. . . وآه من حيرة الجواب بين القلب واللسان!!
ويقول لي الأستاذ الناصري إن صحف العراق قد نقلت كلمتي عن (الرسالة) معلقة وثمينة. . أنا شاكر للصحافة العراقية عطفها على الشاعر وثناءها على الكاتب، وأدعو الله من قلبي ألا ينقل أحد رجالها بعد الآن من مقعد التحرير إلى مقعد الوزير، حتى تظل جذوة الإنسانية متوهجة منه في شعاب القلب متوقدة على شباة القلم، يصطلي دفء هواها كل من أضناه برد الأسى وتجهم الأيام!!
أما أنت يا عبد القادر فدعك من هذا اليأس الذي لا يطيقه الشباب ولا تحتمله الحياة. . إن الشباب ومضة شعاعه بالعزم وضاءة بالتضحية، وإن الحياة زهرة ندية بالصبر فواحة بالأمل، فلماذا تريد للومضة الساطعة أن تخمد، وللزهرة اليانعة أن تذبل، وللأمل الخالد أن يذهب أدراج الرياح؟ إن الحياة يا صديقي ليست هي اليوم المشهود ولكنها الغد المرتقب. . . الغد الذي قد يزف الربيع إلى جفاف الغصون، ويطلق الأحرار من زوايا السجون، ويحمل خمرة السلوان إلى ندامى الشجن!
وتسألني إن كنت أوافقك على تسمية هذه القصيدة التي بين يدي باللحن الأخير؟ إنني أوافقك على أنها يجب أن تكون كذلك. . . أن تكون آخر لحن يضج بالشكوى ويشرق بالدموع! ولهذا سأصفح عن هذه القصيدة الباكية التي لا تتفق مع أحلام الشباب وأمانيه،(909/27)
على أن تكون قصائدك المقبلة كلها باسمة كالأمل مشرقة كالفجر، حافلة بخفقات القلب المتفتح لنداء الحياة!
إن الابتسامة الصادقة هي السلاح القاطع في كل معركة وكل صراع، وإن ما ينقصنا نحن الشرقيين هو أن نتعلم كيف نبتسم. . . نبتسم للخصم كما نبتسم للصديق، نبتسم للمرض كما نبتسم للعافية، نبتسم للنصر كما نبتسم للهزيمة. وعلى مدار قدرتنا على تلوين الابتسامة هنا وتلوينها هناك، نستطيع أن نلمح الغاية ونرسم الطريق ونحدد المصير!
ولا تحسب بعد هذا كله أنك تقف وحيداً بلا نصراء. . . إن بين يدي كثيراً من الرسائل من مختلف أقطار العروبة، يؤازرك أصحابها بكل ما يملكون من عواطف الأخوة ومشاعر الوفاء؛ وأتصفح أنا هذه الرسائل لأتخير منها واحدة عرف صاحبها كيف يخاطب القلوب المغلقة في العراق!
رجع الصدى من السودان:
قرأت تلك الصرخة التي أرسلها الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري على صفحات (الرسالة) وقرأت ما كتبته أنت بقلمك السيال إلى وزير معارف العراق، راجياً منه أن يتدارك صرخة الفن الشهيد بعطفه ورعايته. . فإلى وزير المعارف العراقي أرفع هذه القصة:
جاء بمجلة كردفان التي تصدر بعاصمتها (الأبيض) الخبر الآتي تحت عنوان: (عطف ملكي). . . (وصل إلى علم جلالة الملك فاروق إبان وجوده بفرنسا، أن الطالب السوداني أحمد مدثر وقد ذهب إلى فرنسا لتلقي العلم، قد أرغمته سوء حالته المالية على أن يعمل (حمالا) في وقت فراغه، ومع ذلك فقد نال دبلوم العلوم السياسية. . . ولولا سوء حالته المالية لسافر إلى سويسرا للحصول على الدكتوراه! وقد تعطف صاحب الجلالة الملك فاروق بعد علمه فمنحه خمسين ألف فرنك، مع إيفاده إلى سويسرا على نفقته الخاصة)
قرأت هذا على ما أسلفت، وأحببت أن أقارن بين الطالبين. . ولكن القلم القاصر والبيان العاجز، لا يتيحان لي أن أصب مشاعر النفس فيما يلاثمها من كلمات. . . وما دمت قد وهبت قلمك للدفاع عن قضايا الأدب وحقوق الأدباء، فليس لي إلا أن أهدي هذه القصة الخالدة إلى وزير المعارف العراقي ليسمع، وإلى كاتب التعقيبات المصري ليعقب(909/28)
(أم روابه - سودان)
محمد الحسن شاع الدين
هذه المأثرة النادرة التي يقص علينا نبأها الأديب السوداني الفاضل، أشارت إليها الصحف المصرية وكانت حديث الناس في كل مكان، وأشادت بها الصحف الفرنسية وكانت محل التقدير البالغ على كل لسان. . وليست هي بالمأثرة الأولى لجلالة الملك فاروق، فما أكثر المآثر والمفاخر التي تمتلئ بها حياة هذا الإنسان العظيم! وقد يقول بعض الذين لا يدركون حقيقة القلب الإنساني كما فطره الله، إن الملك فاروق قد مد يد العون إلى هذا الطالب لأنه واحد من رعاياه. . إن القلوب الكبيرة في شعورها المرهف لا تفرق بين جنس وجنس، ولا بين لغة ولغة، ولا بين دين ودين، ذلك لأنها طبعت على حب الخير، وفطرت على صنع المعروف، وجبلت على إسدال الجميل! وأستطيع أن أقسم لمن يقفز إلي إخلادهم مثل هذا الخاطر العجيب، أن عبد القادر الناصري (العراقي) لو قدر له أن يكون في باريس إبان وجود صاحب الجلالة (المصرية)، لما بكى شبابه الدامي على صفحات الرسالة!!
إنني أشكر لحضرات المتفضلين برسائلهم كريم عواطفهم، وأقتصر على هذه الرسالة لأنها خير لفة يمكن أن تقدم لوزير المعارف العراقي في مثل هذا المجال. . وأكتفي بهذا التعقيب لأنني قلت اليوم وبالأمس كل ما يمكن أن يقال!
كلمات في نقد الشعر:
يشجعني على مواصلة الكتابة إليكم ومعاودة الكلام في شعر العطار وأباظة، أني وجدتكم تلتمسون في الشعر الذي تحبونه وتؤثرونه، تلك الإلتماعات الخواطف للبصر، الخوالب للفكر، التي تلقيها عليه مخيلة أعطيت القدرة على التحليق المتمادي والانطلاق الحر، في عوالم انقطعت دونها أخيلة الكثرة من الأدعياء، عوالم زخرت بطرائف الرؤى وخوارق الصور.
بل يشوقني إلى هذا الكلام أني أجدكم تتحرون في هذا الشعر، بل في الأثر الأدبي دون تحديد، حلاوة ذلك الشعور الناعم بدفء الحياة، الدفء الذي تطلقه فيه روح متصلة السر بسر الحياة الأكبر. فهي تستمد عناصر قوتها وعناصر وجودها من تلك الصلة الخالدة التي(909/29)
تشرف بها على أقصى أعماق الطبيعة الإنسانية، وتفضي بها إلى أخفى الحقائق في محيط هذا الكون الحافل الزاخر اللامحدود. وأنكم كذلك ترهفون السمع في العمل الفني إلى صدى ذلك الرنين، بل إلى الرنين نفسه، الذي أودعته فيه ملكة فذة من تلك الملكات التي ترصد لكل معنى يخطر ولكل كلمة ترسل نغما خالداً لا يجوز عليه الفناء، لأنه مما توقع عليه تجارب الحياة في مجال الشعور الصادق، ومما توحي نتائج تلك التجارب في نطاق الذهن المتفوق!
كل ذلك يحملني على الكلام ويغريني به، لأنه يجعلني أشعر بالطمأنينة إلى أنكم تنظرون إلى الحقائق الفنية الثابتة، من نفس الزاوية التي أحاول أن أنظر منها إليها، وأنكم تضعون للأعمال الأدبية الميزان الذي لست أو من بغيره! أجل، وهاأنذا الآن أقرأ لكم هذا التعقيب البارع على كلمتي السابقة، أو هذا المقال الفصل، على إجازة، في شاعرية العطار، مرتكزاً فيه الحكم على إنتاجه العام، فأجدني راضياً كل الرضا عما أقرأ، مقتنعاً كل الاقتناع بأن ما رأيتموه في شعر الشاعر يتفق في جملته وهذا الذي أراه.
هو في جملته شعر يعوزه عنصر الحياة الذي يذكي خواطر القارئ، ويلهب وجدانه، ويهز أوتار قلبه وكيانه. . وإن كان لا يخلو من اللفتات الشعرية المحلقة في بعض الأحيان! وهو شعر تنقصه أصالة الرؤية الشعرية، وطبيعة الحركة النفسية، برغم أن قائله من أحلى الشعراء جرساً كما تقولون. . أو هو بعبارتي الخاصة، شعر يفتقر إلى ذلك الإشراق الذي يشف عن الآفاق الفنية المترامية التي يتداعى إليها الخيال المبدع؛ وذلك الدفء الحبيب الذي يمسك على الأثر الشعري حياته وأنفاسه ويصون نظره ورواءه، وهو يفتقر أخيراً إلى تلك الموسيقى النفسية التي تحدثتم عنها في نقد الشعر
على أني أخشى يا سيدي الأستاذ ألا نكون قد اتفقنا بعد على وضع الشاعرين، أباظة والعطار، في طبقة واحدة. فشعر أباظة على الأكثر شعر موفور: تحوطه هالة من الألوان التي تهيئ للذهن ذلك الجو الخالص حيث تسبح المعاني وترقص الأخيلة؛ وتترقرق في أعماقه موجة الحياة حارة صادقة، الحياة التي تدنو به من نفسك، بل تلصقه إلى نفسك، ويغطي كل ذلك على مشاعرك ويمتد سحره إلى قلبك، حيث جذور الحياة الإنسانية، ليهزها من أصولها هزاً، ويغمرها غمراً! وأباظة فنان يقدم في إطار من أجمل الشعر وأطرفه(909/30)
مشاهد فنية هي في الأغلب الأعم ملء النظر وملء الحس وملء الفكر، لأنه إذ يقول هذا الشعر إنما يستجيب لحركة نفسه، ويترحم عن خوالج وجدانه، ويغمس ريشته بنور قلبه.
وأخيرا أنا أعاود الكلام يا سيدي لأوكد لكم مخلصا أنه لا هوى يقود رأي حامل هذا القلم إلا هوى الفن الذي يتوخى في آثار الفنانين لمحات الأصالة الذهنية، ودلالات الصدق الشعوري وبعد. . فأختم هذه الكلمة محييا فبكم شخص الأديب والناقد، شاطرا للظروف هذه الفرصة الكريمة التي أتاحت لي لقاءكم في هذا الجو الحبيب الذي تتراوح فيه أنسام الشعر الجميل وأنغام الوداد الخالص وإلى لقاء قريب إن شاء الله، في محراب قصتكم الخالدة (من الأعماق). . . والسلام عليكم من المخلص
(دمشق - سورية)
محمد الأرناؤوط
أتعرف ملكة (المزاج الفني)؟. . إذا استطعت أن تتخيل القصيدة الشعرية بأدائها النفسي جسما من الأجسام، وإذا استطعت أن تفترض كل ملكة من الملكات الشعرية عضوا عاملا في حركة هذا الجسم، وإذا استطعت أن تتمثل الحيز الذي يشغله هذا الجسم من الوجدان المتذوق مكونا من تلك المجموعة من الأعضاء؛ إذا استطعت أن تتخيل وأن تفترض وأن تتمثل هذا كله، فإن ملكة (المزاج الفني) هي الثوب الذي يلتف حول هذا الجسم بمجموعة أعضائه ليبرز تقاطعيه للعيون ويكشف عن مفاتنه! إنه أشبه بالثوب الذي ترتديه أي حسناء. قد يكون جسمها نموذجا خاصا لجمال كل عضو من أعضاءه على حدة، وقد يكون جسمها نموذجا عاما لتناسق تلك الأعضاء مجتمعة، ولكن الثوب هو الحكم الأخير الفاصل بين أجساد الحسان، لأنه هو وحده الذي يطلعنا على مدى التفاوت الجمالي بين جسد وجسد! هناك ثوب يوحي إليك أن صانعه غير (فنان)، لأنه لم يراع النسب الفنية بينه وبين جسم صاحبته: من ناحية الطول والقصر، ومن ناحية الضيق والسعة، ومن ناحية الكماليات التي تلتمس مظاهر الزينة وتوائم بين لون الثوب ولون البشرة، مثل هذا الثوب لا شك أنه يظلم الجسد الجميل لأنه يقدمه للعيون على غير حقيقته؛ على تلك الحقيقة الأخرى التي اقتضاها ذوق صانع غير فنان. ماذا ينقص هذا الصانع من (ملكات الفن) ليصنع (ملكات الجمال)؟(909/31)
تنقصه ملكة (المزاج الفني)، ملكة تفصيل (الأثواب الكاشفة) عن مفاتن الأجساد!
المزاج الفني إذن هو المسئول، بل هو واضع الحدود والفروق بين طابع كاتب وكاتب وبين طابع شاعر وشاعر. . خذ مثلا طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم - ككتاب في مجال القصة وحدها لا في مجال آخر - فستجد أن طه في (شجرة البؤس) و (دعاء الكروان) يمثل الطابع الأدبي فهو قصاص أديب، وستجد أن العقاد في (سارة) يمثل الطابع الفكري فهو قصاصا مفكر. وستجد أن توفيق في عدد من قصصه يمثل الطابع الفني فهو قصاص فنان. . . وخذ العقاد مرة أخرى وعزيز أباظة وعلي طه - كشعراء - فستجد أن الأول يمثل المزاج الفكري فهو شاعر مفكر، وأن الثاني يمثل المزاج الأدبي فهو شاعر أديب، وأن الثالث يمثل المزاج الفني فهو شاعر فنان. . . هذا التقسيم واضح كل الوضوح في الأدب المصري الحديث كما هو واضح كل الوضوح في الأدب الفرنسي الحديث: أندريه جيد وفرانسوا مورياك كلاهما نموذج لهذا القصاص الأديب، وجان بول سارتر وبول كلودل كلاهما نموذج لهذا القصاص المفكر، وجان كوكتو وجان إنوي كلاهما نموذج أهذا القصاص الفنان!
إن الشعر دفقه وانتفاضة. . دفقه يتلقاها الشعراء جميعا، ولكن فيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن وحده، وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الحس وحده، وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن والحس والشعور في وقت واحد. ونفرق نحن بين هذه الألوان من الانتفاضات في محاولة فنية تهدف من ورائها إلى استشفاف (الحقيقة الشعرية) من خلال أثوابها الكاشفة، وننتهي إلى أن حقيقة الشاعر الأول صاحب الانتفاضة الأولى هي (وجهة نظر) فكرية، وهذا هو العقاد. وإلى أن حقيقة الشاعر الثاني صاحب الانتفاضة الثانية هي (وجهة نظر) أدبية، وهذا هو عزيز أباظة. وإلى أن حقيقية الشاعر الثالث صاحب الانتفاضة الثالثة هي (وجهة نظر) فنية، وهذا هو علي طه. . . وهكذا تجد مزاج الشاعر المفكر، ومزاج الشاعر الأديب، ومزاج الشاعر الفنان!!
هذا هو رأي الأخير الذي أقدمه للأديب السوري الفاضل تعقيبا على كلمته عن الشاعر عزيز أباظة، ولا أريد أن أفرض هذا الرأي عليه ولا على غيره من الأدباء. . إن للأستاذ الأرناؤوط مطلق الحرية في أن يحتفظ بآرائه الخاصة حول قيم الشعر، كما يهديه إليها(909/32)
ذوقه الخاص وموازينه الذاتية، وله مني خالص الود وصادق التقدير.
أنور المعداوي(909/33)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ردوا على الأزهر كرامته:
كادت كلية اللغة العربية في هذه الأيام الأخيرة أن تتسم بطابع وزارة المعارف ومن علامات هذه الظاهرة عقد مسابقات لقبول الطلبة الراغبين في الانتساب إليها تحت إشراف الوزارة، وتعديل منهاج التعليم على النحو الذي أقرته في كلية دار العلوم.
ورسالة الأزهر (كما نعلم جميعا) هي المحافظة على كيان العلوم الإسلامية، والعمل على نشرها في جميع بقاع العالم على لسان أبنائه الأزهريين، أو بأقلامهم السيالة المؤمنة. ولا يخفى ما للغة العربية من أثر في تأدية هذه الرسالة على وجهها. إذ هي الأداة الوحيدة في فهم لغة السماء المقدسة، وفي هدى النفوس الحائرة في ضباب الأوهام والجهالة، وتصحيح معتقداتها الإلهية؛ وفقد الأزهر لكلية اللغة العربية ليس إلا فقد دعامة متينة من بنيانه مما يخل بتأدية هذه الرسالة المقدسة، واندراجها له تحت إشراف وزارة المعارف في الوقت الذي ينادي فيه بعض ذوي الرأي من رجالات التعليم بوجوب انفصال الجامعة المصرية عن الوزارة، واعتبارها هيئة قائمة بذاتها، إذ أن في وضعها الحالي غضا كبيراً من كرامتها كدار يدرس فيها لأرقى أنواع الطبقات المثقفة في مصر.
وإذا كان الطلاب الأزهريون يرضون عن هذه الأوضاع الراهنة بغض الطرف عما يترتب عليها من نتائج غير مرضية لأنهم إنما ينظرون بعين المادة، فما الداعي لرضاء أولي الأمر فيه.!! والقائمين عليه. .!! الأمر الذي يوشك أن يحرم الأزهر من حرمته وقدسيته؟
أنا لا أفهم الأزهري النابه ينسلخ هكذا من أزهريته، ويتمرد على أزهره، وإنما أفهمه يترنم بمجده وشرفه، وينادي بتدعيم بناء مكانته العلمية والأدبية، ويطالب في إباء وشمم أولياء الأمر من أساتذته الأزهريين بتعديل أساليب الدراسة، ومنهاج التدريس كما يتفق وروح العصر، ومسايرة العالم في تطوراته وأحداثه، ويجأر أكثر مما يجأر بتدريس اللغات الأجنبية دراسة وافية عميقة.!! ومتى اكتملت للأزهر الشريف هذه المقومات استطاع بجدارة أن يشغل مكانة ممتازة بين الهيئات العلمية المختلفة. وأن يؤدي رسالته المقدسة بكل لسان في كل مكان. .!!(909/34)
إن عقد مسابقات للقبول بكلية اللغة العربية معناه حرمان كثير من ذوي الميول الطبيعية، والاستعدادات الفطرية، من تمكينهم من تغذية ملكاتهم وتنمية مواهبهم. .!! وعقده تحت إشراف رجال الوزارة معناه طعن رجال التعليم الوزاريين الصريح في كفاية الأزهري ومقدرته العلمية، ودراسات أزهره، واعتراف رجال الأزهر بذلك، معناه فقد الأزهر جزءاً حياً من أجزائه. وهدم ركن شديد من بنيانه. .!!
إن الأزهر ليستصرخ باسم الدين الغيورين من رجاله أن يردوا عليه كرامته؛ وأن ينقذوه من هذا الجمود البغيض، ويسايروا به مواكب الحياة العلمية المتوثبة، وتقدم العصر المطرد ويومئذ يستطيع الأزهر أن يحمل بجدارة مشاعل العلم والنور والحرية. .!!
كلية اللغة العربية
نيازي علي مرزوق
وردت هذه الكلمة بعنوانها المثبت على رأسها، وهي كلمة حق، والموضوع الذي تعرض له موضوع خطير، لأنه يتعلق بكيان الأزهر الذي يجب أن يبقى مستقلا بمقوماته وخصائصه، ذلك الكيان الذي نراه مهدداً بالتيارات التي تحدث عنها الأديب الفطن نيازي علي مرزوق.
والواقع الصريح أن أصل الموضوع هو عدم ثقة وزارة المعارف بحسن إعداد الطلبة في كلية اللغة العربية، لأنها ترى أسس التعليم في الأزهر غير متمشية مع طرائقها التربوية، وهي في الوقت نفسه تحتاج إلى خريجين لتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي بالمدارس وهؤلاء الخريجون أنفسهم يطالبون بذلك. فالوزارات تريد أن تطمئن إليهم في تأدية هذا العمل على الوجه المرضي، فهي تعمل على المشاركة في إعدادهم وامتحانهم.
فهل ذلك الاتجاه من صالح الأزهر باعتباره جامعة لها كيانها وكرامتها ومقوماتها الأصيلة؟ لا شك أن خريجي الأزهر وطلبته الذين يريدون الخروج عن النطاق الأزهري وغزو البيئات الأخرى، هم الذين يدفعون بالأزهر إلى ذلك الوضع. ولأنفسهم يمنون الخير، وهم يريدون بلوغ غايتهم، والأزهر يقف بهم عند حدوده، فهم ينتقلون بالأزهر إلى ما يريدون، ورؤساء الأزهر يسيرون مع تيارهم، لأنه تيار جارف لا يستطيعون الوقوف في سبيله(909/35)
والواقع الصريح كذلك أن كثيراً من طلبة الأزهر نشئوا فيه بغير إرادتهم، وكثير منهم يضيقون به عندما تلوح لهم مظاهر الحياة المصرية التي يعزلهم عنها الأزهر، فيتلمسون أي سبيل للخروج منه، كما يتلمسون أي صفة أخرى تغطي على أزهريتهم، وذلك بعض المتخرجين الذين لحقوا بمعهد الأوا فيه أاأأأاا ' تنببتراتنلافثلرعتلاافبعتلرلابىأ
تربية وتخرجوا فيه، تراهم يحرصون على أن يكتبوا تحت أسمائهم الصفة الجديدة فقط. ولا بأس بالاستطراد إلى أمر آخر يجرنا إليه هؤلاء الضائقون أزهريتهم، وهو ما يقول به بعض المصلحين من الأزهريين وغيرهم، من قصر التعليم على الكلمات واستمدادها الطلبة من التعليم العام، فإني أرى أن الطالب الذي يتجه إلى الأزهر، أعني الكليات، يتجه إليه برغبة، ويختاره عن عقيدة؛ فيكون الأزهري المقتنع بأزهريته، بل المعتز بها.
ونعود بعد هذا الاستطراد القصير إلى موضوعنا الأصلي، فنحرر المسألة على الوضع التالي: لا بد لخريجي الأزهر أن يلوا ما يناسبه من وظائف الدولة، وخاصة إن هذه الوظائف تحتاج إليهم، ولكن ليس معنى ذلك أن يفقد الأزهر شخصيته، ويمحو بيديه صبغته، وأعتقد أن ما حدث كان لا بد منه، فلم يكن هناك من سبيل غيره لإقناع وزارة المعارف، ولكن أعتقد كذلك أنها كانت مرحلة انتقال، يجب الآن إنهاؤها. والدور الآن على رؤساء الأزهر، فواجبهم أن يردوا عليه كرامته، على حد تعبير السيد نيازي، فيعملوا على إصلاحه وتقويمه بحيث يقتنع الجميع بأنه قوي بذاته وأن أهله أهل لما يناسبهم من الأعمال دون مشاركة أحد في إعدادهم.
وحين يبلغ الأزهر ذلك المبلغ الذي نرجوه له، لا نرى خريجي الأزهر يطالبون - مثلا - باللحاق بمعهد التربية لأن تخصص التدريس في الأزهر ليس أقل شأناً من معهد التربية، ولا نرى - مثلا أيضا - كلية اللغة العربية تطالب كلية دار العلوم بأن ترد عليها الهاربين منها، بتوحيد امتحان القبول في الكليتين واقتسام الناجحين، لأن كلية اللغة العربية لن تكون أقل إغراء من دار العلوم.
تأبين عجيب:
احتفلت نقابة الصحفيين يوم الخميس الماضي، بتأبين الكتاب الصحفي المرحوم الأستاذ عبد الحميد حمدي. وقد أبنه جماعة من الزملاء الصحفيين هم الأستاذ حافظ محمود ومحمد(909/36)
مصطفى حمام وحسين صبحي وعبد الرحمن العيسوي وعبد العزيز السكري والسيدة منيرة ثابت. أما الأستاذ حافظ محمود فكانت كلمته مناسبة ووفت بحق الفقيد من حيث جهوده الصحفية ومودته لزملائه، وإن كان قد أساء إلى الخليل وسيبويه وغيرهما من علماء النحو واللغة، بالإضافة إلى الأخطاء. وأما الأستاذ حمام فقد جرى على عادته في كتابة أبيات الرثاء على علبة السجائر قبل إلقائها بدقائق معدودات. ومن الأبيات التي ألقاها في الفقيد:
مضى لم تدلله الحياة فلا تقل ... (لكل مجد في الحياة نصيبه)
ولعله لهذا لم يجد في إعداد قصيدة للرثاء.
وكان حمام موفقاً صادقاً في قوله:
وأمتعها من مستطاب بيانه ... وما أمتعه بالذي يستطيبه
فهذا ينطبق على المساكين أصحاب الأقلام في هذا البلد، يشبعون الناس أدبا وبيانا ولا يجدون لقاء ذلك مكافأة وتقديرا، وقد يتركون من بعدهم من يدعي إلى الاكتتاب لهم، كما حدث في هذا الاحتفال، إذ أعلنت ذلك السيدة منيرة ثابت عطفا على ابنة الفقيد!!
وجاء أكثر العجب بعد ذلك، فقد اتهم الأستاذ العيسوي الفقيد بأنه كان داعية للإنجليز! وقال أنه أفضى إليه مرة بألمه من ذلك. . وقد كان الأستاذ عبد الحميد حمدي رئيس الترجمة بالسفارة البريطانية.
وقد أصلح الأستاذ حسن صبحي ما قاله العيسوي، إذ وجه علاقة عبد الحميد حمدي بالإنجليز، بأن خدماته للسفارة كانت في وقت تتعاون فيه مصر مع بريطانيا وكان الجو بينهما مشبعا بروح الصداقة.
وأما الأستاذ السكري فقد هنأ الفقيد بوفاته. . وحمل عل الحياة وتمنى للأحياء أطيب التمنيات بمفارقتها!
وأما السيدة منيرة ثابت فقد أشادت بجهود الفقيد في مناصرة النهضة النسوية والدفاع عن حقوق المرأة، ونوهت بأن ذلك كان أيام الصبا والجمال! وهذا تواضع منها، فهي لا تزال!!
وحضر الحفلة طائفة من السيدات ومتزعمات الحركة النسوية، وقد لوحظ أنهن انصرفن قبل قراءة القرآن الكريم في الختام، فما قال القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى نهضن منصرفات. . وأنا استحلفهن بحق الانتخاب، هل كن يقمن لو اختتمت الحفلة(909/37)
بشكوكو.؟
من أدب المجلس:
في مكتبة الكيلاني ينتدي - يوم السبت من كل أسبوع - جماعة أكثرهم من المشتغلين بالشؤون السياسية، وهم مع ذلك لا يتحدثون في السياسة. . . كأنهم جاءوا إلى هذه الندوة ليريحوا عقولهم من ذلك العناء، فلا تسمع إلا طرفة من هذا وملحة من ذاك، تتبين في تفكيرهم خواطر الأدباء، وفي حديثهم طلاوة الأدب، وإن لم تدركهم الحرفة. . . يتوسطهم المحدث اللبق الأستاذ كامل كيلاني، يدير عليهم كؤوس السلاف من حديثه الممتع، إلى جانب أكواب القرفة والتمر الهندي. . .
وفي الجلسة الماضية حلا للقوم موضوع الجرس المرافق للمعنى في أدب العرب، واشترك في الحديث الأساتذة مفتي الجزايرلي باشا وجمال الدين أباظة بك وأحمد حلمي باشا والحاج أمين الحسيني وحقي العظم بك وسامي العظم بك ومحمود حسيب بك والأستاذ الكيلاني. روى راويهم قول ابن الرومي:
من بنات الروم لا يكذبنا ... لونها المشرق عن منصبها
فهي حسب العين من نزهتها ... وهي حسب الأذن من مطربها
وإذا قامت إلى ملعبها ... كمهاة الرمل في ربربها
سألت أردافها أعطافها ... هل رأت أوطأ من مركبها
- إن الألفاظ تتماوج وتختال كأنها تكون صورة متحركة لتلك (البنت) الرومية.
- استمع إلى الموسيقى الغاضبة في قول ابن الرومي أيضاً:
ويح القوافي ما لها سفسفت ... حظي كأني كنت سفسفتها
ألم تكن ميلا فقومتها ... ألم تكن عوجا فثقفتها
إلى أن يقول:
حرمت في سني وفي ميمتي ... قراي من الدنيا تضيفتها
لهفي على الدنيا وهل لهفة ... تنصف منها إن تلهفتها
- كذلك في قول الله تعالى: (أم منْ هذا الذي هو جندُ لكمْ ينصركم من دونِ الرحمن) أين من هذه المقاطع القوية أن يقال: من ينصركم من دون الرحمن؟(909/38)
- مما يتصل بحسن النسق بين الأجزاء قول الشاعر:
مرت بنا في قرطق أخضر ... يعشق منها بعضها بعضا
ولم أر أبدع في التناسق من أن يعشق كل عضو عضوا
روى جمال الدين أباظة بك عن الدكتور طه حسين بك أنه فسر (القرطق) ب (الشمزت)
- ليت شعري ماذا كان يقول الشاعر لو رأى من عندنا من لابسات (الشمزت) الحديث؟
- لم يكن يقول شيئا. . فقد ألفنا كثرتهن حتى أصبح منظرهن شيئا عاديا لا يحفز على التغزل فيهن!
عباس خضر(909/39)
رسالة الفن
مسرحية ابن جلا
نقد وتحليل
للأستاذ حبيب الزحلاوي
خطوة جريئة يخطوها الأستاذ الكبير محمود بك تيمور في بناء الرواية التمثيلية، والخطوة هذه على ما فيها من جرأة تدل على روح فنان دؤوب ونفس ثائرة لا يرحمها المشي في طريق مسلوك، بل هي تواقة إلى تعبيد طريق جديد يجد السائر فيه كل ما يبهج ويفرح
أسميت عمل الصديق تيمور خطوة جريئة ولم أسمها متمردة، لأن محافظا مثله يتشدد في المحافظة على سلوك المحافظين وفق (الإيتيكيت) لا ينحرف عنها في حياته الخاصة إلا حينما يجبره إخوانه الأدباء على الالتفاف حول طبق الثريد، وإن خروجه في رواية ابن جلا، على التاريخ يشذ به ويقلمه ويكيفه تكييفا خاصا وفق مزاج الفنان، يضرب بالقيود التاريخية، ويهمل الواقع والأسانيد والعنعنات والبلاغات الرسمية والمحفوظات وما إليها من عدة نفاق المؤرخين وكذب كتب التاريخ، إن خروجا كهذا لا يكفي أن نسميه بالخطوة الجريئة، ولا ننعته بالتمرد، بل يحسن أن نسميه فتحاً جديداً في الفن الروائي العربي
تصدى الأستاذ تيمور في العام الماضي لشخصية أدبية خالدة في تاريخ الأدب هي شخصية بارزة في الإسلام تتحلى بأوفر خصائص الرجل العظيم وصفاته، هي شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، وإن التعرض لشخصية خالدة وإخراجها على مسرح التمثيل لا يخلو من ضرورة خلق الجو الملائم لروح العصر والبيئة التي عاش فيها صاحب الشخصية؛ والانتقال به من مكان وسماء وملابسات وبواعث إلى خلافها أو إلى ما يناقضها من ظروف وصدف ومفاجآت، بل لا بد من السير في حدود حددها التاريخ ضمن نطاق محاط بسور من القدسية هي أمنع من الحصن، ولكن الأستاذ تيمور بروايته التي افتتحت بها (فرقة المسرح المصري) حياتها قد ابتعد عن كل ما له صلة بالتسلسل التاريخي وتناول (شخصية) البطل الذي خلق التاريخ وأطل عليها من ناحيات عدة ثم أرانا إياها مرة واضحة أو سافرة أو محجبة بحجاب كثيف، ومرة يحوطها ضباب معتم أو شفاف، وبكلمة(909/40)
أوضح جعل أعمال البطل تدل عليه، وتصرفاته تنم عن شخصيته
هو ذا الفتح الجديد ي فن الرواية التمثيلية الذي عنيت، وهو فتح يساير روح العصر في الدرس والتحليل والاستقراء والاستنتاج، وفي الغوص على النفس ينبش المكنون في أعماقها يحل العقد فيها، ويبسط بواعث الانفعالات، ويلاحظ ويدقق في ملاحظة أسباب انفعالاتها ونتائج الانفعالات.
على هذا النحو من التأثر بروح العصر، وعلى هذا الضرب من مسايرة علم النفس أراد الأستاذ تيمور أن يظهر شخصية الحجاج أمام الجمهور، ولكن هل استطاع التوفيق بين ما أراده وبين ما أردنا إياه؟ هل صورة الحجاج التي رسمها لنا تمثل الحقيقة من حياة الرجل أم هي خيالات نفخ فيها من روحه هو ولم يقو على أن يبعث فيها روح صاحبها؟ هل تصرفات الحجاج في حياته جاءت مطابقة لما هو وارد في كتب التاريخ وسير أعلام الإسلام، أو أن المؤلف رأى بدافع من دوافع أصول الفن المسرحي أن يجعل خطوط حياة الحجاج مرة بارزة واضحة ومرة أخرى مستترة وراء شعار شفاف استلفاتاً لاهتمام النظارة وجذباً لأنظارهم؟
عرف الحجاج بالبلاغة الخطابية، والإرادة الصارمة، والشدة القاتلة، والحزم، والحرص على النظام، فأي صفة من هذه الصفات لم يعطها المؤلف حقها من الإيضاح وأي منها لم تنله كاملا؟ وهل الصورة التي علقت في ذهن المشاهد العادي هي صورة صادقة للحجاج، أو قريبة من الصدق، أو هي مشوهة؟
يحسن أن نلفت النظر إلى أن الأستاذ محمود بك تيمور هو من أعضاء المجمع اللغوي، وإن عالماً مثله صار في عداد الخالدين لا بد أن يكون اللغة طيعة له لينة، أضف إلى ذلك أن من أبرز صفاته الأدبية كتابة القصة، وأن لا محيد للقاص من الانفعال مع نفسه فيكون غضوباً ومسالماً، قاسياً وليناً، عبوساً وباشاً عند الحاجة، ولا بد له من القدرة على تقمص روح المتكلم فيكون كلامه كالملوك أو كالسوقة، كالعلماء أو كالجهلاء، كالمزارعين وعامة الدهماء، يهبط أو يرتفع مع كل طبقة من الناس حسب تفكيرها وتعابيرها ومصطلحاتها، يفكر تفكير المرأة يصور أحاسيسها وشعورها ومدى خيالها وأطماعها، وقد قرأنا في بعض مؤلفات الأستاذ تيمور ما يؤكد قدرته على ذلك، فهل استطاع في هذه المرة أن يسمو بحديثه(909/41)
إلى بلاغة الحجاج وفصاحته، أو أنه التزم لغة المسرح في السهولة والبساطة؟
يخيل إليَ أن الأستاذ قد تأثر كثيراً بما قرأ من خطب الحجاج وسيرته وأعماله وأحاديثه، وأن بعض تأثره قد تبخر يوم صور أفكاره بالقلم، وأن صديقه وصديقنا الأستاذ زكي طليمات قد أخذ بتلابيبه برده عن الحجاج ويلح عليه في وجوب التزام مستوى الجماهير، فالحجاج الذي سمعناه يتكلم على المسرح، لم يكن بليغاً بل كان فصيحاً، طلق اللسان، واضح البيان، حاضر البديهة، سريع الخاطر، قوي الحجة، صادق الحكم، لا يعلو كثيراً في التفكير، وفي التعبير، وفي المصطلحات اللفظية، وفي تركيب الجمل، وفي التشبيه والاستعارة والاقتباس عن مستوى الطبقة المتعلمة لا الطبقة المثقفة.
لقد استطاع الأستاذ تيمور أن يرينا صوراً حية لحرص الحجاج على النظام، وعلى (تحيزه) الشدة الصارمة المفطور عليها، وعلى دغدغته رغبة الشدة الأصيلة فيه بافتعال المتناقضات إذ كان يطعم الجائع لا عن جود وكرم بل عن دعابة نفسية فيه تلزم الآكل أن يأكل عدداً من الصحاف إن قصر في ازدرادها عالجه يسف الجلاد، ومن بارع صور شدة الحجاج وحرصه على اللغة طرده المقرئ الذي غلط فلحن فكان جزاءه السجن لا يفرج عنه حتى يستوفي من حظه حفظ القرآن، أما قوة الإرادة وعدم الانصياع لآمر والنفور من كلمة تعني الأمر فقد كانت تغضبه وتثيره إلى حد أنه كان ينفض ثيابه ويديه منها كأنها علقت بها، وكان لا يطيع أمر الطبيب ويعصاه ويأبى تناول الدواء لأنه فرض مفروض، وقد أجاد الأستاذ تيمور في إبراز هذه الصور واضحة نقية.
بقيت مسألة أقف منها موقف المعجب بها والمستريب بصمتها وهي هل كان الحجاج منهماً شهوانياً، وهل حكاية تعلقه بالفتاة (الأهوازية) وكلفه بها، ولجاجته بالشكوى منها، وافتقادها إذا هجرته وعادته، والسؤال عنها لتكون قريبة دائماً منه، وكان يرتاح لخصامها؟
ليس بمستنكر أن تكون (رأس الحكمة إشباع المعدة) عند رجل عبقري كالحجاج، وليس بمستبعد أن يكون شرها في مناوحة المرأة، ولا بمستغرب أن يكلف بامرأة مفطورة على اللدد محبة للعظمة والكبرياء، موغلة في العناد، مشغولة بالاستعلاء بشخصيتها لتنحدر في إظهار أنوثتها وهي مقهورة. إن خصلة اللدد وحدها كافية لأن تجعل الحجاج الجبار، العنيد، المشاكس المقاتل الذي لا يرحم، يكلف بهذه القطة الأهوازية يهارشها فتخمشه وتدميه،(909/42)
ويمسح شعرها فتعضه وتؤذيه، فكيف بها امرأة جميلة، وصبية بضة لا يقوى سواها من دون خلق الله أن يقف منه يجابهه ويعانده ويعنفه ثم يرتمي بين يديه يغسل جنونه بدموع الحب والارتماء في أحضان الحب
لا شك أن الحجاج كان نهماً جشعا يساير طبيعة الإنسان أي تحقيق غايته الأولى من وجوده وهي (الشبع) ولا ريب أنه يرغب في المرأة رغبة من كان قلبه لا يطيق التقيد، وبذلك أيضا يساير الطبيعة الإنسانية ولا يعطل غايتها الإنسانية من وجودها، فعزوف الحجاج عن المرأة مرده إلى انشغاله في توطيد الملك ومقاتلة خصومه يدلنا على ذلك رده (عفراء) رفيقة طفولته في كثير من الخشونة وعدم المبالاة، أما سعيه إلى التقيد بالزواج إنما هو سعي الوضيع الذي يطلب الرفعة والجاه عن طريق مصاهرة الهاشميين.
أما حكاية الفتاة (الأهوازية) التي لفقها المرحوم جرجي زيدان واقتبسها الأستاذ تيمور إنما هي حكاية لم أجد ما يؤيدها مما قرأت مما كتب عن الحجاج، وأرى أن الحق بجانب زيدان الروائي لا المؤرخ في تلفيق ما يجذب القارئ ويشوقه إلى قراءة فصول الرواية، وكذلك أجد أن من الواجب أن أشكر الأستاذ تيمور على اقتباسه تلك الحكاية واحتضانها وتجسيدها فجعلها المحور المركز على قاعدتين، الحجاج من جانب، والأهوازية من جانب آخر
لا يسعني حيال هذه الخطوة البارعة في جعل (شخصية) البطل هي التي تصوب عليها أنوار التحليل النفسي، وبذلك يشترك المشاهد مع المؤلف في تمييز ما يمكن وما لا يمكن من أمور النفس الإنسانية، وأن يلزم المؤلف المشاهد حمل ما يستطيع حمله من كنوز الرواية لتكون زاداً لعقله وتفكيره
هل رأيت ديكا فتيا يمد عنقه، ويفرد جناحيه، ينقل كفا بعجب، ويتبع الأخرى بتيه، ثم يقف فيطلق صيحة صداحة تتفتح لهاه أفئدة الدجاجات وجوارحها؟
كان هذا الديك التياه هو صاحبنا الأستاذ زكي طليمات، بله الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأوبرا، ولكنه لم يكن ديكا صيالا بين دجاجات تبيض، بل كان يتيه بين أقواب صغار زغبهم ذهبي ناعم، وزقزقتهم طفلة رنانة.
إني لأتمنى أن أراهم تياهين صوالين يجذب حيالهم في ميدان المسرح الجديد أذهاننا وأفئدتنا.(909/43)
كنت في صحبة الكريم حضرة الغزة الأستاذ أحمد رمزي بك العالم المؤرخ والمدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي وقد شاهدنا تمثيل روايتي (شجرة الدر) لعزيز باشا أباظة و (ابن جلا) للأستاذ محمود بك تيمور فلقيته بنفر من الإحراج ويبرم بملابس الممثلين وقد قال ما نصه
(الإخراج فن لا يزال بدائيا في مصر، وهو فن من أصعب الفنون وخصوصاً إذا تعرض لإخراج الروايات التاريخية. وإني لا أعد مخرجي روايتي (شجرة الدر) و (ابن جلا) موفقين فيهما، لأن الذي يتعرض لمثل هذه الأمور يجب أن يكون لديه ثقافة وافرة، واطلاع عميق في النصوص التاريخية. وعى علم الآثار الإسلامية، والخطوط، ويفهم الملابس والإشارات والأسلحة والأثاث والمعمار الذي يسود كل عصر
وأجد أن كل عصر إسلامي يمتاز عن الآخر ميزة خاصة تميزه عن كل هذه النواحي، وأن كل مائة سنة تحتاج إلى رجل مختص يساعد المخرجين على تفهم الأمور التي أشرت إليها وكيف كانت في ذك العصر
والملابس التي أخرجت بها شجرة الدر لا تمت بصلة إلى عصر المماليك، والملابس التي أخرجت بها رواية الحجاج لا تمت بصلة إلى العصر الذي عاش فيه الحجاج. والأدلة على ذلك كثيرة، مثال ذلك، الأعلام التي جاءت في رواية الحجاج كتبت بالخط النسخ وهو لم يكن موجود في ذلك العصر، وكتبت بالخط الكوفي في رواية شجرة الدر بينما كان العكس هو الواجب أن يتبع
ومن أغرب ما شاهدت أن يرفع في وسط معسكر الحجاج علم عليه الشاليش التركي، وهي عادة جاءت في أواسط آسيا بعد قيام الدولة السلجوقية، فالأتراك هم أول من استعمل أذناب الخيل على الأعلام والسناجق وسموه (الشاليش) وأخذت به جميع الدول التركية سواء كانوا من الأيوبيين والأنابكة أو سلاطين الأتراك في الدولتين البحرية والبرجية بمصر
ولا شك أن في إخراج الجند الشامي بملابس عسكرية من ملابس القرن العشرين أمر مضحك. كذلك رئيس الشرطة أو قائد الجند الذي كان يلبس ألبسة تشبه ملابس القواد في الجيش الإيراني أيام مظفر شاه، أما ألبسة الحجاج فكانت مجموعة من أغرب ما رأيت
مسكين الحجاج جمع بين عصور المغول والفرس والهنود والانكشارية فكان إخراجا يدعو(909/44)
إلى الدهشة والعجب، فقد لبس ألبسة العصور جميعاً غير عصره. وأغرب من ذلك أن تدلى له الشعور تحت العمامة وهي عادة لم يعرفها عصره وإنما جاءت بعد ذلك. وأعظم من هذا أن يلبس قلنسوة فارسية عليها عمامة، ويظهر آنا تحت طاقية حمراء لم تعرف إلا أيام تيمور لنك
أما بقية العمائم فلا تمت بصلة إلى ذلك العصر بتاتاً، بل هي عمائم عرفت في العصور المتأخرة، عصور العثمانيين. ولو شئنا التحدث عن الأسلحة والأعلام وشارات الملك والجند وما كان يلبسه الناس في أقدامهم لتبين القارئ أن المخرج بعيد عن فن الإخراج ولا يعرف شيئا عن عصر الحجاج ولا عن عصر شجرة الدر، والظاهر أنه يفهم هذه العصور على طريقة خاصة بدليل أنه وضع في خيمة الحجاج درعين وسيفين معلقين على قاعدة خضراء على هيئة الرنوك، هذه أيضا لم تعرف بعصر الحجاج ولم يأت لها ذكر إلا بعد ذلك بقرون
أما السيوف والأسلحة فليست من ذلك العهد بتاتاً
ويوجد في متحف استنبول مجموعة من السيوف القديمة التي استولى عليها العثمانيون من خزائن السلاح المصرية في قلاع مصر وقلاع الشام يقول بعض أهل التحقيق إن فيها ما يمكن عده من أسلحة الأمويين، فيحسن بالمخرجين أن يرجعوا لأهل الاختصاص في الملابس والدروع والأسلحة والعمائم وكل ما يتعلق بأي عصر من العصور معتمدين على النصوص التاريخية، وفن الملابس، وعلم الأسلحة، وفن المعمار وكل ما يتعلق بالخطوط وقراءتها، وعلم الآثار حتى لا تخرج دار الأوبرا الملكية منظراً في القرن الأول الهجري يمثل معماراً أندلسيا أو صورة من مبان تحمل الطابع الفاطمي وهو طراز من البناء جاء بعد الحجاج بأكثر من قرنين)
وللأستاذ العالم رمزي بك ملاحظات أخرى على الإبقاء والتمثيل، ومخارج الحروف وقت النطق وغير ذلك من الملاحظات ليته يتفضل بإتحاف قراء الرسالة بشئ عنها خدمة للغة العربية الفصحى التي نعرف مقدار حرصه على سلامتها
حبيب الزحلاوي(909/45)
البريد الأدبي
حكاية حمار العمدة:
ألقى إلى البريد كتاباً طواه صاحبه على دعوة لتكريم (مدير المصلحة) المرقى إلى (وظيفة) أعلى، وكان من البديهي أن أجامل صديقي صاحب الدعوة، حيث لا علاقة بيني وبين هذا المدير، ولو بالسماع!
فلما ضمني مكان الحفل، إذا بكراسي مصفوفة، وموائد مرصوفة، فوقها زهر جنى، وطعام شهي، وشراب روي. حتى إذا أكل القوم مريئا، وشربوا هنيئا، وقف خطباؤهم يتبارون في المنظوم والمنثور، فأجادوا وأفادوا، وقد خلعوا على (المدير المنقول) نعوتا من إقدام عمرو وسماحة وحاتم وحلم أحنف وذكاء إياس!
وكان يجلس إلى جانبي رجل عرف بالحصافة والزكانة، فلويت إليه عنقي دهشة، وقلت له: يا هذا إن بعض هذه الأوصاف أسبغت على نابليون، وبعضها بصدق على بسمارك، وهي في جملتها تصح لو وصف بها عمر بن الخطاب؟
فبدهني بقوله: لا عليك، فهذا قول محفوظ وورد منظوم، يتلى عند وداع كل رئيس وعند استقبال كل رئيس، لا يتغير فيه سوى الأسماء.
ثم سألت صاحبي الزكي الحصيف: ترى لو كان هذا (المدير) أحيل على المعاش - مثلا - ولم يرق إلى منصب أعلى، أكان يقام له مثل هذا الحفل المرنق، ويقال فيه مثل هذا الكلام المنمق؟ فقاطعني على الفور: دعك من الإحراج؟ أو لم تسمع حكاية (حمار العمدة)؟ قلت: منك نستفيد. قال الزكي الحصيف: عندنا في الريف حكاية تهكمية مؤداها أنه حين ينفق حمار العمدة، يتبادر أه القرية جميعا لتعزيته في حماره النشيط الذي ضرب بحسن أخلاقه المثل، فلم يرفس، ولم يركل، ولم يعض؟
. . . فإذا قضى الله ومات العمدة ذاته، لم يذهب أحد لتعزية أهله. وإنما يترامون على باب العمدة المرقوب؟
قلت آمنت بالله؟
منصور جاب الله
كلمة غريبة في مقال:(909/46)
قرأت في العدد 904 من مجلة الرسالة الزاهرة مقالاً الأستاذ علي العامري بعنوان (دم الحسين) والشيء الذي يوجب الاستغراب ويبعث الدهشة في النفس هو قوله (الفارس الذي منع الماء مات عطشان بالرغم من أنه كان يسقي الماء حتى يبعز ثم يعود فيشرب حتى يبعز وما زال كذلك حتى لفظ أنفاسه والشقي بحر بن كعب وقد سلب الحسين لباسه - كانت يداه في الشتاء تنضحان الماء) إلى غير ذلك من الخزعبلات والأباطيل التي تأباها العقول وتلفظها الألباب ويزدريها الواقع، وتكذبها الرواية
لقد مات إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم فبكاه رسول الله حتى اخضلت لحيته بالدموع ثم حمل إبراهيم ليدفن في البقيع ولم يكد الصحابة يغدرون البقيع حتى انكسفت الشمس فظن بعضهم أن الكون قد شاركهم في المصيبة وأن إنكساف الشمس إعلان الحزن على إبراهيم. ولما بلغ قولهم النبي صلى الله عليه وسلم أنكره قائلاً (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) لقد أتيت بهذا المثل لأبسط للأستاذ العامري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لو كان حياً بعد قتل الحسين ولو آمنا بما سطره لنا التاريخ من روايات وما لعبت به أيدي المؤرخين في زمن الدولة العباسية بسبب بغضهم لبني أمية أقول لو آمنا بما قيل في هذه الرواية لكان قول الرسول بأن ليس هناك من يموت عطشان بالرغم من أنه يسقي الماء من أجل قتل الحسين كما أن الشمس لم تنكسف من أجل وفاة إبراهيم.
لقد كانت هذه الرواية موضع استهجان نخبة ممتازة من الشباب المثقف في مجالسهم الخاصة وقد لاموا الرسالة المجلة الراقية على حد تعبيرهم لنشرها مثل هذه الأسطورة.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن
تصويب لغوي:
انساق قلم الأستاذ الكبير أحمد الصاوي محمد إلى خطأين لا يحسن السكوت عليهما: -
- فأولا - ورد في (ما قل ودل) عبارة (يقدم رجلا ويؤخر رجلا) مما يوهم أن المثل العربي (أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) معناه (أراك تقدم رجلا وتؤخر رجلا أخرى).(909/47)
والصحيح أن كلمة (أخرى) نعت لكلمة (تارة) المحذوفة، أي أن أصل المثل هو (أراك تقدم رجلا تارة وتؤخرها تارة أخرى).
- ثانيا - جاء في (إبر النحل) عبارة (معالي الوزير المنصف دكتور طه حسين بك). ولا أدري لماذا آثر الأستاذ التنكير على التعريف في كلمة (دكتور) إلا أن يكون قد انساق انسياقا وراء لغة العامة والعصمة لله وحده
عبد المجيد عمر
نظرة في مقال:
اعتاد الأستاذ كامل محمود حبيب أن يتحفنا بين الفنية والفنية بمقالاته الرائعة وصوره الممتعة على صفحات الرسالة الزاهرة وكان آخر ما قرأنا له مقالا بعنوان (هوى على الشاطئ) المنشور في (العدد 902) من مجلة الرسالة الغراء ولكن الشئ الذي استرعى انتباهي قوله (. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخشوع ويبعث في الروح الخوف ويفيد الهمة بالاستسلام) ويظهر أن الأستاذ كامل يفهم الدين على غير حقيقته. إن الدين قوة روحية لها من الكمال الأسنى قدسية تفيض بالجمال الإلهي فيملأ النفس حبا ويسمو على الرغبة والرهبة. حتى كأن للنفس طبيعة المرآة تنعكس فيها ظلال المعاني السامية فتفيض على الروح روحاً حتى لا تحيا في جسمها ولا تفنى معه. تضفي على الحياة معنى تتنسم منه خلود الجنة حتى لا ترى في الحياة شهوة مثيرة، أو رغبة أخاذة أو أملا فاتناً أو مصيبة مهلكة، إنما ترى فيها سبيلا مجداً دعاك إليه من خلق الحياة ومن ورائها الجنة فلا تأخذك الحياة بيأسها أو تغريرها كما لا تأخذ من الحياة إلا ما فيه مصلحة الحياة ولا تهمل منها ما فيه مصلحتها لأنه لم يخلق شيئاً عبثاً.
فالدين بجوهره خلق وتربية غير أنه لا يحتاج إلى ما تحتاجه الأخلاق من قوة مسيطرة وإنما هو القوة المسيطرة على الأخلاق توجهها لأقوم وجهة، فهي خارجة عن الذات تراقبها، ولها من الذات قوتها لاعتقادها بأن الله (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
إن الدين حق الفرد على الجماعة فلا تعتدي عليه، ولا تنقصه حقه ولا تقيده في حريته، وإنما تنتصف له حتى يكون ضعفه في أقوى قوة.(909/48)
إن الاعتقاد بإله وآخره ما يبدل الحاجات ويقمع الشهوات ويلجم النزوات وفي هذا ما يغير النظر لذات الحياة فتكون الأخلاق غير الأخلاق، وتكون مع هذه الأرض غير الأرض كأنها بين ربوة عالية وهاوية سحيقة، ولهذا قال فولتير الأديب الفرنسي الشهير بإلحاده إن الإله شرطي يصون المجتمع حتى ليحب أن نوجده إن لم يكن موجوداً.
إن الدين روح الأخلاق وأساس الفضيلة والمجتمع الذي لا يقوم على أساس من دين يهوي إلى الدرك الأسفل من الرذائل.
(بغداد)
ع. ع
تعقيب على تعقيب:
قرأت في مجلة الرسالة الحبيبة رقم 904 الكلمة المعنونة (تعقيب على مقال) الأديب عبد الخالق عبد الرحمن، يخطئ فيها الأديب الكبير، أحمد بك رمزي. في استعماله كلمة (خصيصاً) قائلا: هي مما يؤخذ بالسماع ولم ينقل عن العرب خصيص بمعنى مخصوص، وأقول هذه الكلمة وردت في منظومهم ومنثورهم، وهي صيغة سماعية لاسم الفاعل وليست لاسم المفعول.
فقد ورد في الجزء الثامن من لسان العرب ص 290 الطبعة الأولى في مادة (خص) ما نصه:
(خصه بالشيء يخصه: خصا وخصوصاً وخصوصية والفتح أفصح وخصيصي. والاسم: الخصوصية والخصوصية والخصية والخاصية والخصيص وهي تمد وتقصر عن كراع، ولا نظير لها إلا المكيثي) انتهى ما ورد باللسان. والألف في هذه الكلمة علامة المؤنث لأن هذه الكلمة مقصورة وزان فعيلي وكتب الصرف تؤيد هذا.
حسين سلامة دياب(909/49)
القصص
السعادة
عن الكاتب البلغاري تيدور بانوف
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
لقد كان شاباً أهيف ظريفاً فماذا كان ينقصه؟ السعادة وكان شوقه إليها يتبعه كظله دائماً إلى كل مكان فإذا ما استيقظ، شر كأنما قلبه الخافق رهن قبضته وكانت نظراته المفعمة (بالأماني) تجوز آفاقاً غريبة مجهولة
ترى ما الذي كان مشوقاً إليه؟
لقد كان مشوقاً إلى شئ ما. . . بل إلى كل شئ!
كان العندليب يداعب برعماً من الزهر ويشدو عليه أرق الألحان التي كانت رعشتها اللطيفة كنسم الصباح تتهادى لتتلاشى في الآفاق المترامية
وكان كل ما عداه هادئاً؛ كل شئ كابت أنفاسه. واستمعت السماوات والنجوم والقمر إلى شدوه، معجبة داهلة، وقد أرهفت السمع حتى أغمي عليها من شدة الحب والهيام
وفي الفترات التي كان ينقطع فيها العندليب عن التغريد، كانت تجتاح الكون تنهدة ذهول وغزل
(آه) هكذا كانت الأرض تلفظ أنفاسها الرقيقة، وكانت هذه (الآهة) تحمل إلى الأشجار والأعشاب والنجوم والقمر، ويموت صداها الناعم على ذرى الجبال البعيدة
كل شئ يتنهد بالسحر المجنح بالأحلام، وفي تلك التنهدات يكمن حنين الهوى الضائع. وواصل العندليب غناءه. . . وكانت أشعة القمر الذاهلة تعانق العندليب وشجيرات الورد بلطف زائد، وكانت النجوم تستمع إلى أغنية الهوى، وبابتسامة حنون تشجع الطائر الشاعر قائلة: - (أشد وغن أيها الحبيب!).
وإذ كان العندليب غارقا في رعشاته الصوتية العذبة، كان مبتهجاً أيضاً بعواطفه الغرامية الدافئة وإذ صار قلبه يدنو من برعم الوردة أكثر فأكثر، أخذ يتوسل قائلا (تفتحي أيتها الوردة!. . دعيني أستنشق عبيرك البكر مرة واحدة! دعيني أدفن رأسي بين وريقاتك(909/50)
القرمزية!. . .)
هكذا واصل العندليب توسلاته، مرسلا ألحانه الشجية حتى الهزيع الأخير من الليل. وعندما أخذ رعشاته الرنانة تخفت شيئاً فشيئاً، ومع ذلك فقد كان يتعالى في صوته تنهد الشوق الظامئ. ولكن سكن الشادي في النهاية. وتنهد برفق وعمق مصعداً (آهته) الأخيرة
وفي تلك التنهدة التي طال مكوثها بين شجيرات الورد ناحت (الأمنية) التائهة الظامئة
وقف الشاب يستلقي ليل نهار على العشب الأخضر تحت ظلال أشجار الغابة الهرمة، يحدق في السماء الصافية
وكان النسيم يتهادى ما بين الأغصان فيلامس الأوراق برفق ويقبل وريقات الأعشاب بابتسامة هادئة حنون
وأما الأشجار العظيمة والأغصان القوية فقد بقيت هادئة دون حراك، لأنها كانت مستغرقة في سبات عميق؛ وفي أحلامها الأبدية كانت تكمن الأسرار العظيمة، ولذا كان النيسم الخفيف الروح يمر بها بهدوء مداعباً أوراقها فقط، كي لا يعكر عليها صفو الهدوء السني.
ولم كانت تهجع في نوم عميق شبيه بنوم الأموات؟
أليس ممكناً أن يعثر الشاب على أمنيته في نومها المسحور؟
وأرهف سمعه إلى هدير الجدل المنحدر من قمم الجبال المكسوة بالثلج الدائم، ولقد عظم هديره، وأخذ يصارع الصخور فيحمل معه قطعاً كبيرة منها، ويخدش بها صدر الجبل.
فأن كان الجدول يسرع في جريانه؟
لم يكن يدري. . .
لقد كان ينحدر هائجاً مزمجراً منذ الأزل، لا يعلم له وجهة ولا قصداً؛ فلربما أنصب وتلاشى في البحر أوفي سيل جارف، أو في الرمال المتناثرة وهذا ما لم يكن الجدول يعلمه.
وأما هديره وخريره. . . أليس تعبيراً عن غضب واهن علة (المجهول)؟!. . .
ولكنها (الأمنية). . .!
لم يكن الشاب يستطيع أن يحمل عبئا المجهد، فلقد كان ثقيلا عليه؛ وهكذا عبر العالم باحثاً عن (سعادته).(909/51)
أشرقت الشمس ثم غربت مرات كثيرة. وتعاقبت الليالي والأنهر، وتصرم العام تلو العام، وما زال الشاب يضرب على وجه الأرض! لقد مر بقرى كثيرة، وفي إحداها وجد الفلاحين ذات مرة مستسلمين إلى نوم عميق أغرقهم فيه عملهم المضني. وكان الظلام الكثيف يلفع الأكواخ الحقيرة، والصمت أشبه ما يكون بصمت القبور. . .
(أين أنت أيتها (السعادة)؟) هكذا صرخ الشاب، ولكنه لم يظفر بجواب
واقترب من باب أحد الأكواخ وخفق قلبه متطيراً قلقاً وبعد هنيهة سمع وراء الباب أنيناً خافتاً وتنهداً عميقاً يائساً
إذاً فلا بد أن تكون (السعادة) في هذه الساعة المتأخرة تنتحب وسط ظلام الكوخ الموحش.
ومشى الشاب في طريقه حزيناً متثاقلا، وقطع الأنهار والبحيرات والوديان حتى ارتقى جبلا شامخاً، وإذا هنالك راع يرعى قطيعه، وكان العشب القصير الكثيف يتألق بما عليه من دموع الفجر وبدأت الريح اللطيفة تبعث بصوف الخراف التي بدأت ترتعش من برودة الصباح، وأسرعت تلتمس الدفء تحت أشعة الشمس المشرقة. أما الراعي، فقد كان شابا فتيا يحمل كيساً على ظهره، وقد جلس على صخرة، وأخذ يعزف على نايه، وهو يحدق في الأفق الأزرق بتخيل حالم، وكانت أنغامه المنخفضة العذبة تسيل من نايه، لطيفة كأشعة الشمس الأولى، حالمة كعيني العذراء، متسقة كذلك الضباب الأبيض المحلق فوق الجبال؛ وأخذت أنغامه تزحف بهدوء كالضباب فوق الصخور والأحجار والأعشاب، وأنصت القطيع إلى أنغام الراعي.
- (أخبرني، أخبرني، بالله عليك، لمن تغني؟)
- (لمن أغني؟ هل تغني الريح لأحد؟ إنني أغني لأنني لا أستطيع أن أمكث بدون غناء. . . إنني أعزف لأشياء مجهولة!)
- (هل تعرف السعادة أيها الراعي؟)
- (السعادة؟) إنني لم أعثر عليها قط في هذه الجبال؛ فأنا وحيد هنا مع خرافي بين قليل من الثلج والضباب. وأؤكد لك أن ليست السعادة من حوريات الغاب - لأنني أعرفهن جميعاً ولكن برغم الناس أنها هناك، بعيداً بعيداً. . . ألا ترى هناك مدينة جميلة؟ أوليس ممكناً أن تعيش (السعادة) فيها؟. . . لست أدري. . . إذ لم يسبق لي أن كنت هناك!. . .)(909/52)
وهبط الشاب الجبل بعد أن تملكته رغبة أشد من قبل، ويمم وجهه نحو المدينة العجيبة. حقاً لقد كانت المدينة عجيبة - لأنه لم يكن قد شاهد نظيرها: - عمارات فخمة، وشوارع واسعة، ومراكز تجارية، وملاهٍ، وجنائن، وقصور. . . يغمرها جميعاً نور ساطع باهر وكان الثراء والبهاء والرخاء تتألق في جميع أرجائها.
وشرع الشاب يقطع شارعاً ويدخل آخر، وما لبث أن رأى أمام جدار يحيط منتزه، متسولا صغيراً يرتجف من شدة البرد، ويطلب الإحسان بصوت كئيب.
وتابع الشاب طريقه. . .
ثم وقف ليلقي نظرة من النافذة على أحد الملاهي، وإذا جمهور الناس يصفقون إعجاباً بفنانة شابة كانوا يعظمونها كأنما هي إلهتهم فانحنت أمامهم بلطف عذب، وبانت كأنما (السعادة) تتوهج في ابتسامتها؛ ولكنها دخلت بعد بضع دقائق غرفة اللبس، تبكي بخزن.
وغادر الشاب المدينة العظيمة، ولم يعد يلقي ولو نظرة واحدة إلى الوراء، فلقد حزت في نفسه التنهدات الأليمة التي كان يصعدها المتسول الصغير والبكاء اليائس الذي أطلقته الإلهة المعبودة.
وظل يخبط بالأرض مدة طويلة، وأخيراً وقف في مكان بين جبلين حيث كان يسكن في أحد المغاور العميقة ناسك طاعن في السن، بعيداً عن الناي وقريباً من الله. . .
وعندما وقف في حضرة الحكيم الناسك سأله بلطف: (هل تعرف يا سيدي الجليل مقر السعادة؟).
وكان الناسك آنئذ مستغرقاً في قراءة كتبه، يستوعب منها حكمة الدهور. ومضت فترة طويلة قبل أن أجاب على سؤال الشاب. وعندما رفع رأسه الأشيب، نظر إلى الشاب نظرة باهتة وبدت على وجهه المخدر ابتسامة صارمة.
ترى هل كان يفكر في شبابه المضمحل؟
(أسعادة لك؟) تساءل الحكيم بلهجة تشوبها الشك. ثم استغرق في التفكير. . . وعندما عاد ورفع رأسه، أخذ يتكلم بقسوة، فقال: - (عبث ذلك، إذ ليس هنالك من (سعادة)!. . إن هي إلا حلم من الأحلام!)
فأخذ الشاب يتنهد ثم قال: - (إذاً فما غايتي من (الحياة)؟ ولم أحتمل كل هذه الآلام؟ وما(909/53)
الفائدة من كل أسفاري؟)
فرق قلب الشيخ وأخذ يشعر مع الشاب الحالم، وقال: - (لا تبك، هاهو ذا السبيل الذي تقصد! إذهب، فما زلت فتيا بعد! ولكن أحداً لم يعثر عليها حتى الآن؛ فإذا ما عدت، فما من شك في أنك ستجلب (السعادة) إلى هذه الأرض!).
فسار الشاب في طريقه، وكأنما فارقه التعب بعد سفرته الطويلة، لأن الناسك ولد في روحه الأمل الذي صار ينمو كل يوم وتنمو معه (أمنيته). وأخذ يضرب في المسالك الوعرة، ويرقى الجبال والتلال. . . وكانت قمم الصخور تتألق على ضوء أشعة الشمس الباهتة المنحدرة إلى المغيب، وحول هذه المرتفعات كان (الموت) يحوم ويسمم الهواء بأنفاسه. ولم يكن هناك أي شئ ينبئ (بالحياة) أو (الشباب).
كان كل شئ ساكنا هادئا كأنما ينذر بالسوء، أو كأنما حلت عليه لعنة القضاء العاتي العنيد. وظهرت فجأة في طريق الشاب هوة سحيقة. فوقف واجماً على بعد بضع خطوات منها، وقد استحوذت عليه الدهشة والخوف. . . وأخذ يتصاعد من أعماقها ضباب كثيف، وأخذ هدير الجدول تحت الأرض يدوي صداه المتصاعد من الأعماق السحيقة، فيملأ الجو هولاً ورعباً. . . وقد كان في الإمكان الاستماع تحت ستار الظلام، إلى هياج العناصر الرعيب، ومع ذلك، فإن الخوف لم يتطرق إلى قلب الشاب.
وعلى حافة الهوة المقابلة، كانت إحدى الحوريات تستند بذراعها إلى صخرة مغطاة بالطحلب. . . وكان شعرها الذهبي يتلألأ مع أنوار الغروب، فيستبين له احمرار فاتن.
أما الشاب فقد أخذ يسرح نظره مع مجرى الدم تحت بشرتها الشفافة، وكان ينبعث من عينيها وميض ساحر غامض، ومن صدرها تنهدات متموجة متسقة. ووقف الشاب في مكانه لا يبدي حراكا؛ ومع ذلك فقد مد إليها يده؛ وفي تلك اللحظة فقط أدرك سر غناء العندليب، وعلم أين يسرع الجدول المنحدر من على الجبل، ولم احتفظت الأشجار القديمة بسر صمتها، ولمن كان الراعي يعزف الأنغام
وجثا أمام الحورية متوسلا، دون أن يحول نظراته عنها! أجل عنها! عن (السعادة) الأرضية!
ولكن (الموت) كان مختبئاً وراء تلك الحورية، فقد كشر أنيابه الكاحلة بجهامة مخيفة،(909/54)
وبسط فوق الهوة منجله الحاد. ولقد كان يبدو لأشعة الشمس المحتضرة لمعان عجيب على حد المنجل، وقد تراءى انعكاسه الباهت على غيمه كثيفة خارجة من الهوة المتثائبة
وظلت الحورية واقفة هناك، وقد أشارت إليه بيديها، وسحرته نظراتها، وأسكرته تنهدات صدرها المضطرب
وكان (الموت) يضحك وهو قابض على المنجل الذي ازداد توهجه عما كان عليه من قبل.
(أيها الأحمق! أيان تندفع؟).
وألقى ذلك الشاب نظرة واحدة على الهوة ليقيسها ثم قفز. . . لقد قفز بعد أن طال بحثه عن (السعادة)، السعادة التي أوقعته في العذاب، السعادة التي أسرته بجمالها!
أجل لقد قفز! ولكن لا ليعانق الحورية بل ليقع على منجل (الموت)!
ومنذ ذلك الحين صار الناس يدعونها (هوة السعادة).
ماجد فرحان سعيد
(مدرسة الفرندز للبنين) رام الله(909/55)
العدد 910 - بتاريخ: 11 - 12 - 1950(/)
آخر المدنية همجية!
هدد الرئيس ترومان باستخدام القنبلة الذرية عندما ساء موقف جيشه في كوريا، معتقدا أن مثل هذا السلاح المدمر يمكن أن ينهي الحرب ويرد إلى نفسه شيئا من الاطمئنان. . وعندما أراد رئيس الولايات المتحدة أن يطمئن، غمرت الضمير الإنساني موجة من القلق عصفت بكل ما رسب في أعماقه من أمل في مستقبل السلام؛ ذلك لأن مستقبل السلام في العالم مرتبط بمستقبل الحضارة الإنسانية، هذه الحضارة التي لا يمكن أن يضيء مشعلها وهو معرض لهبوب العواصف والأعاصير!
يريد الرئيس الأمريكي أن يطمئن على سلامة مائة ألف من الأمريكيين، ولا ضير في منطق الضمير الأمريكي والسياسة الأمريكية أن يذهب الملايين من الأجناس الأخرى إلى الجحيم. . ولقد اطمأن الرئيس من قبل ونام ملء جفنيه وسعد بهْدوء الفكر وراحة البال، يوم أن ألقى هذه القنبلة المشؤومة على مدينة هيروشيما فأودت بحياة تسعين ألفا في لحظة عابرة لن يغتفرها التاريخ! ولماذا لا يطمئن هذا (الإنسان) العظيم وقد أنهى الحرب اليابانية على خير وجه وفي أسرع وقت وبأيسر جهد فيما عرفه الناس من جهود؟ المهم هو ألا يراق الدم الأمريكي ولا بأس من أن يراق غيره من الدماء!
واليوم يحاول الرئيس ترومان أن يكرر التجربة ويعيد إلى الأذهان قصة الأمس البغيض، ولكن هذه الأذهان التي لم تثر بالأمس قد ثارت اليوم، لأنها قد أحست وخز الجراح العميقة التي غفلت عن أن تحس وخزها من قبل، يوم كانت في غمرة المعركة واحتدام الصراع! وتمثلت هذه الثورة الجارفة في قالب صيحة ساخطة، أطلقتها في وجه أمريكا حناجر الأصدقاء ولم تطلقها حناجر الخصوم. . ليدرك الرئيس الأمريكي أن مستقبل البشرية فوق مستقبل جنس واحد، وأن التفكير في بقاء القيم الإنسانية أجدى من التفكير في إلقاء القنبلة الذرية!
ترى هل يعتقد الرئيس ترومان أن مشكلة السلام والاستقرار والأمن، يمكن أن تحل بأن تنتصر أمريكا ولو كان انتصارها مرتبطا بهدم الحضارة وإفناء الشعوب؟ أي انتصار هذا الذي يريد له أن يبنى على الأنقاض وأن يقام على الأشلاء؟ ويقال بعد هذا إن (الديمقراطيات) الغربية تسعى إلى توطيد أركان السلم وتنشد بعث الطمأنينة في قرار النفوس، والقنبلة الذرية هي السلاح الكفيل بتحقيق هذا الأمل. . وهكذا تجد أن آخر المدنية(910/1)
همجية!
أ. م(910/2)
على حد منكب
للأستاذ محمود محمد شاكر
قلت قديماً في الرسالة إن الشيخ إبراهيم اليازجي ومن لف لفه كالمعلم الشرتوني، هم أصحاب حشد وتخليط في جمع اللغة. وآفة الحشد والاستكثار ترك التبصر ومجافاة التمحيص. ثم يأتي الناس بعد ذلك فيأخذون هذا الحشد على ثقة وأمن، فتزداد بلبلة الناس في شأن اللغة. فما كل أحد يصبر على تتبع الكلام المبعثر في الشعر والنثر، ثم جمعه وتأليفه، ثم النظر في أصوله ومبانيه، ثم تمحيص المعاني المختلطة ورد كل قرينة منها إلى أختها.
وقد قرأت في عدد الرسالة (908) ما نقله الأستاذ محمود أبو ريه من كتاب نجمة الرائد لليازجي: (هو منه على حد منكب: أي منحرف عنه دائم الإعراض) وما عقبت به الرسالة من قول أقرب الموارد: (وفلان معي على حد منكب: أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه، وهو كقولهم: فلان يلقاني على حرف). وأستطيع أن أوسع لليازجي والشرتوني في هذا الموضع مكان العذر، فقد نقلا، ولكنهما لم ينخلا الكلام ولم يمحصاه. والذي أوقعهما في هذا الوهم، هو حب الاستكثار، ثم اطمئنانهما إلى شيخ قديم كان من أئمة العربية، ولكنه كان أيضاً عريض الدعوى، جريئاً على التوهم، كثير التخليط في اجتهاده، بل كان يدلس فيما يكتب، إذ كان يأتي بالشيء يوهمك أنه مما نقله عن الرواة قبله، وهو في الحقيقة مما اخترعه بسوء رأيه وقلة معرفته بغامض كلام العرب - ولا أعني غريبه -، فهو كان قيما بالغريب حفظاً ونقلا. وهذا الشيخ القديم هو الخطيب التبريزي شارح الحماسة. ويدل شرحه للحماسة على ما ذكرت من صفته، وعلى شيء آخر، هو ضعفه الشديد في فهم دقائق الشعر العربي. ثم على شيء آخر أيضاً، هو أنه مشغول بالنحو وما إليه وبالأغراب في بيان وجوهه المختلفة. وهذه الكلمة التي نقلها اليازجي والشرتوني عنه، هو صاحبها، وهو مدعي هذا المعنى لها، ولم ترد في شعر قديم، ولا نثر معروف، على الوجه الذي توهمه التبريزي واحتال له. وإنما أتى الشيخ من سوء فهمه لما تولى شرحه من شعر الحماسة.
جاءت الكلمة في شعر للبعيث بن حريث بن جابر الحنفي، أحد بني الدؤل بن حنيفة بن(910/3)
لجيم. . بن بكر بن وائل، وهي أبيات جياد مختارة، يذكر فيها طروق طيف صاحبته على بعد الزيارة، ثم مسيره في البلاد، ثم يفخر بنفسه وبمحاماته دون عشيرته وذبه عن مآثرها ومجدها، يقول في مطلعها:
خيال لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب!
حتى يفخر بما فعل في نصرة رجلين من قومه هما (يزيد) و (عبس)، كانا استصرخا به في ملمة من ملمات الحروب، فنصرهما وحامى عنهما، واستنقذهما، وهم يومئذ جميعاً في غربة عن ديار عشيرتهم، قال البعيث في ذلك:
وإن مسيري في البلاد ومنزلي ... لباً لمنزل الأقصى إذا لم أقرب
ولست، وإن قربت يوماً ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ويعتده قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
دعاني يزيد، بعد ما ساء ظنه، ... وعبس، وقد كانا على حد منكب
وقد علما أن العشيرة كلها، ... سوى محضري، من خاذلين وغيب
فكنت أنا الحامي حقيقة وائل=كما كان يحمي عن حقائقها أبي
ويظهر لي أن البعيث كان قد خرج هو وصاحباه (يزيد وعبس) إلى خراسان في ولاية أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن أجل ذلك قال: (ومن دونها مسيرة شهر للبريد المذبذب)
قال التبريزي في شرح البيت: (أي أشرفا على الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف. يقال: أصابه نكب من الدهر ومنكب ونكبة ونكوب كثيرة. ومنه حفر نكيب ومنكوب: إذا أثر فيه حجر أو غيره. ويروى (على حد منكب) بكسر الكاف. يعني أنهما كانا مهاجرين له. يقال: فلان معي على حد منكب: أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه. وتنكب عني: أي اجتنبني. والمنكب من كل شيء جانبه وناحيته. ومثله قولهم: فلان يلقاني على حرف. وفي القرآن (ومن الناس من يعبد الله على حرف). ويجوز أن يريد بقوله: (بعد ما ساء ظنه) بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة)
والذي حمل التبريزي على التفسير الذي اجتهد فيه، وادعى فيه دعوى ليس عليها بينة من نفس الشعر، ولا من كلام العرب، بعد أن قارب المعنى الصحيح في الشعر بقوله (أي أشرفا على الهلاك) - أنه أتى من سوء فهمه الذي بدر إليه في معنى قوله: (دعاني يزيد(910/4)
بعد ما ساء ظنه وعبس) فتوهم أنه أراد (بعد ما ساء ظنه في)، ثم ازداد في توهمه فزعم مهاجرة كانت بين البعيث وصاحبيه عبس ويزيد، لكي تتسنى له المداخل إلى دعواه في تأويل الكلام على وجه توهمه واخترعه، ثم أثبته بقوله (يقال: فلان معي على حد منكب). وهو شيء لم يقله غير التبريزي نفسه، بالمعنى الذي فسره به، وكان من حيرته أن عاد في آخر شرحه يقول: (ويجوز أن يريد بقوله (بعد ما ساء ظنه) أي بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة)، وكأن الأول الذي فهمه الصواب وكأن هذا الثاني جائز على تمريض.
وأخطأ التبريزي فيما فهم من قول الشاعر (ساء ظنه)، وأخطأ أيضاً في هذا التفسير الذي قال إنه (يجوز) أن يكون من وجوه تأويلها. فالعرب حين تأتي بقولها (ساء ظنه) في مثل هذا الموضع، إنما تريد بالظن: ذميم الخواطر التي تخامر نفس المحارب حين يحمر البأس، إذ يحدث نفسه بالهرب والفرار حبا للحياة وحرصاً على الأحوال، فيرتكب أخلاق للئام والأنذال والجبناء في ترك المحاماة عن الأعراض مخافة الموت المطبق. فمن ذلك قول أشابة بن سفيان البجلي:
ومستلحم يدعو، وقد ساء ظنه، ... بمهلكة، والخيل تدمى نحورها
كررت عليه، والجياد كأنها ... قناً زاعبي، لم تشنها فطورها
فنهنهت عنه أول الخيل، إنني ... صبور، إذ الأبطال ضج صبورها
والمستلحم: من قولهم: استلحم (بالبناء للمجهول) أي روهق في القتال، واستوحش العدو من هنا وهنا. فهو يدعو باسم عشيرته، وقد حدث نفسه بالفرار. وهذا البيت هو نفس معنى بيت البعيث. إلا أن هذا قال: (بمهلكة)، والآخر قال: (وقد كانا على حد منكب) بفتح الكاف. وهو أيضاً ما قاله التبريزي أولا، ثم أخذه حب الاجتهاد، فظن ظنا خطأ جعله رواية للبيت، بكسر الكاف، ثم توهم وتصنع الاجتهاد، ثم ادعى ما ادعى.
بل لقد قال عروة بن الورد يتمدح بنصرته قومه (بني عوذ) حين اشتد القتال عليهم بمادان فقال:
تدارك عوذاً، بعدما ساء ظنها، ... بمادان، عرق من أسامة أزهر
يعني نفسه حين نصرهم، وقد أوشكوا أن يفروا عن أعدائهم.
ويقول موسى بن جابر الحنفي (عم البعيث صاحب الأبيات المذكورة آنفاً)(910/5)
وجدت بنفس لا يجاد بمثلها ... وقلت: اطمئني، حين ساءت ظنونها
وما خير مال لا يقي الذم ربه ... بنفس امرئ في حقها لا يهينها
أي حين خطر له أن يفر من حومة القتال
هذا أول سوء قصد التبريزي إلى المعاني. أما ثانيهما فما استخف من الفرح باجتهاده، حتى عجل فلم يقف على كلمة (حد) ولم يحاول أن يفهمها، إلا على الوجه الذي بدر إلى عقله، وهو الحد الفاصل بين شيئين. بيد أن العرب تقول: (حد الظهيرة) و (حد المطر) و (حد الخمر) و (حد الموت) وكثير من مثل ذلك، وتعني بالحد الشدة والبأس والصلابة والعنفوان. وقد قال موسى بن جابر الحنفي في أول كلمته التي ذكرناها آنفاً
ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت، والموت دونها
وقد روى هذه الأبيات أبو تمام في حماسته، وشرحها التبريزي نفسه، فشغله الاجتهاد في إعراب (دونها) مرفوعة، عن تمحيص العبارة، وعن الوقوف على معنى (حد الموت)، وفر إلى النحو والعروض يسود الصحف بوجوه تأويلها. ونسى أن يفسر (حد الموت)، وهي سورته وشدته وتلهبه في المعترك وهذا هو المعنى الذي جاء في قول البعيث (حد منكب): أي سورة النكبة وشدتها في القتال، ولم يعن الحد الفاصل بين شيئين
وأما ثالث الثلاثة. فإنه عجل كعادته ولم يتثبت من معنى (على) في قوله (على حد منكب) فمعنى (على) في مثل هذه العبارة ينظر إلى معنى (في) أو (عند) ومن ذلك قول الحطيئة:
وإن قال مولاهم، على جل حادث ... من الدهر: ردوا فضل أحلامكم، ردوا
أي عند حادث خليل ينزل بهم. وكذلك قول الفرزدق
على ساعة، لو كان في القوم حاتم ... على جوده، ضنت به نفس حاتم
أي: في ساعة شديدة، لو شهدها حاتم لضن بالماء على أصحابه
ورحم الله إمام العربية شيخنا المرصفي، فإنه لم يعرج على سوء فهم التبريزي واستطالته في الدعوى، وقد قرأت عليه أبيات البعيث هذه أيام قراءتي عليه شرحه لحماسة أبي تمام. وقد جاء في المطبوع من شرحه عند ذكر هذا البيت: (على حد منكب) بفتح الكاف، مصدر ميمي من نكبه الدهر ينكبه بالضم نكباً: أصابه بنكبة. يريد، وقد أرهقهما العدو فبلغ منهما كل مبلغ)(910/6)
هذا، ومعنى الأبيات الثلاثة الأخيرة أن عبساً ويزيد حين حمى القتال، حدثتهما نفسهما بالفرار وهما في سورة نكبة كريهة مستأصلة، فدعوا - كعادة العرب في الاستغاثة والتداعي عند القتال - فقالا (بآل بكر بن وائل)، وقد عجلا فظنا أنهما يدعوان عشيرتهما، وبينهما وبين العشيرة (مسيرة شهر للبريد المذبذب)، إذ كانوا في خراسان كما قلت آنفاً، لا في ديار قومهما وكانت هذه الدعوة وسوسة من وساوس النفس الأمارة، فالعشيرة كلها كما يعلمان، علماً ليس بالظن، غائبة بعيدة، والقليل الذي حضر منها خاذل لهما مشغول بنفسه، إلا أنا، فإني حاضر لم أغب، وإذا دعيت فلا أخذل من دعاني. فإذا دعوا فقالا (بآل بكر بن وائل) فهما لم يدعوا أحداً سواي أنا وحدي
فكنت أنا الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي
فالبيت الثاني (وقد علما أن العشيرة كلها) بيان واعتذار عن كذبه في قوله: (دعاني يزيد. . . وعبس) وهما لم يدعواه باسمه هو، بل هتفا باسم عشيرتهم (بكر بن وائل) ومن أجل هذا المعنى قال البيت الأخير الذي بلغ به غاية الفخر بنفسه، وحق له. فقد كان سيداً شريفاً شاعراً، وكان أبوه حريث سيداً شريفاً شاعراً، وكذلك كان سائر أعمامه وبني أعمامه.
وفي البيت رواية أخرى جادلت عنها كتبي في هذين اليومين، فلم أهتد إليها لطول الترك والنسيان. وهي (وقد كانا على حز منكب). أي في ساعة نكبة شديدة. والحز والحزة اليسير من الوقت، لأنه من معنى الحز وهو القطع. يقولون: (على أي حزة أتانا فلان!) أي في أي وقت ضيق حرج أتانا! ويقولان: (جئتنا على حزة منكرة) أي في ساعة منكرة شديدة. (وكيف جئت في هذه الحزة؟). ويقول أبو ذؤيب، يذكر جفاف الماء في شدة الحر، وانقطاعه حين لا يطاق الصبر عنه
حتى إذا جرزت مياه رزونه، ... وبأي حز ملاوة تتقطع!!
يقول: في أي ساعة منكرة شديدة ينقطع الماء، حين لا يستطاع الصبر عنه! فهذه الرواية تؤيد تفسيرنا، وتنفي عنه تحريف التبريزي وانتحاله واختراعه واجتهاده وأرجو أن يفسح لي القارئ العذر في الإطالة، كما أفسح الناس لتخليط التبريزي والناقلين عنه.
محمود محمد شاكر(910/7)
الإرث التناسلي بين الطب والإسلام
للدكتور حامد الغوابي
أما بعد فإن القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً قد أبدى من التوجيهات الطبية ما لم يعرفها الطب إلا حديثاً ولم يصل إلى كنهها إلا بعد فحص وتمحيص.
ولست هنا لأتكلم عن نضارة القول وفصاحة الكلام ودقة الأداء وحلاوة التعبير في كتاب الله فهذا قد خاض فيه رجال الأدب وما بلغوا منه ساحلا، إنما أتكلم من وجهة الطب بعد أن كشف الطب ودائع الغيب في كتاب الله الكريم فانجلت الرغوة عن الصريح ووضح الحق لذي عينين. فإلى الذين انصرفوا عن نور الإيمان وانحسرت نواظرهم عن طريق الهداية أقول: اسمعوا وعوا عسى أن يذكر ما أقول منكم ناسيا وينبه فبكم لاهيا.
وإلى الذين نبت الإيمان في حنايا ضلوعهم وامتلأت به أرجاء قلوبهم أقول: اسمعوه تجدوا فيه روحا على قلوبكم وبردا على صدوركم وزيادة اطمئنان وحلاوة إيمان.
يقول الله تعالى (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) هنا تعجب قوم مريم كيف تأتي أمرا فريا وأبوها لم يكن امرأ سوء وأمها لم تكن بغيا فبين الله تعالى في هذه الآية على لسان قومها أن الأخلاق تنتقل بالوراثة وأن الأب إن كان غير حميد الخلق والأم إن كانت فاسدة نقلا إلى ذريتهما سوء الأخلاق بالتوريث.
وقال تعالى (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلى فاجراً كفارا)
ومعنى ذلك أن الخلف يأخذ من السلف صفاتهم بالوراثة؛ فهؤلاء الكفار الفجر لا يلدون إلا أمثالهم. ولا جرم أن الولد سر أبيه ولا تلد الحية إلى حية.
هذا وفي أحاديث رسول الله (ص) ما يؤيد تأثير المرأة في توريث أخلاقها لأنسالها فيقول في الحديث (تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس) ويقول (تخيروا لنطفكم ولا تضعوها في غير الأكفاء).
فنرى في هذين الحديثين أن رسول الله قد وضع أسس علم الوراثة فحذر من زواج المرأة إن لم تكن في الحجر الصالح أو لم تكن من الأكفاء لأن العرق دساس ينقل إلى النسل ما(910/8)
فيها من خير وما فيها من شر. وحقاً إن تكن المرأة سيئة الخلق، لوثت بويضتها نطفة الرجل فيخرج الجنين كأمه سيئ الخلق أو إن تكن غير كفء بأن تكون ضعيفة العقل أو ذات بله فتنقل بويضتها وراثة البله والجنون وغير ذلك من الأمراض إلى نسلها.
وأمر لذلك رسول الله باختيار المرأة ذات الدين والخلق فقال في حديث آخر (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين والخلق تربت يداك) فإن النسل سيرث منها خلقها فيكون ملكاً رحيماً إن صلحت وشيطاناً رجيماً إن فسدت وهي مرآة أبنائها وهم صورة مصغرة منها ولم يهتم الرسول بغير دينها وخلقها.
هذه وجهة نظر في الوراثة من الأبوين وسنرى رأي الطب في ذلك.
الطب والوراثة
يقول الطب إن الجنين يعتمد في خلقته وتكوينه على نوع الحيوان المنوي في الرجل ونوع البويضة في المرأة فيخرج يشبه الأبوين جسماً وعقلاً، فإن اختلف عنهما كان موضع غرابة وشذوذ قاعدة.
وقانون (مندل) يقول بأن هناك وحدات تمثل صفات خاصة موجودة في الحيوان المنوي وفي البويضة، وهذه الوحدات تنتقل بعضها أو كلها إلى النسل، وعندما تتحد وحدات الأبوين المختلفة مع بعضهما باتحاد الحيوان المنوي والبويضة تتغلب وحدة على الأخرى أو بمعنىآخر قد تطغى إحدى خواص الوحدات من إحداهما على الأخرى في الذرية ولنضرب لذلك مثلاً يسهل علينا فيه هذه النظرية.
إذا توالد خنزيران بريان (وقد اختير هذا الحيوان لسهولة عمل التجارب عليه في المعامل) وكان أحدهما أبيض اللون والثاني أسود كان أول نسل منهما أسود اللون كأحد الأبوين وذلك لأن اللون الأسود يطغى ويمسح اللون الأبيض.
وليس معنى ذلك أن يذهب اللون الأبيض لغير رجعة فإن هذا النسل الأسود سوف ينتج إذا تناسل مع بعض نسلاً بعضه أسود وبعضه أبيض وقد وجد أن ثلاثة أرباع النسل في هذه الحالة يكون أسود كأحد الأجداد السود والربع أبيض كالجد الأبيض.
رأينا من المثل السابق كيف يطغى اللون الأسود على الأبيض في الإرث التناسلي فكذلك الخلق الفاسد يطغى على الخلق الحسن كما يطغى اللون القاتم الأسود على الأبيض الأزهر.(910/9)
فإن كان أحد الأبوين فاسد الخلق نشأ النسل أكثر ميلاً إلى الفساد وجرى ذلك في أنسال متعاقبة ينشأ جيلهم إن لم يكن كلهم وقد التوت طرقهم وسقطت مروءتهم وضلت عقولهم. والأمثلة من واقع الحياة وسجل الأطباء كثيرة في ذلك، وأبدأ بإرث الجنين من الأب فأذكر قصة أسرة بأكملها هي أسرة جيوكس في نيويورك (عن كتاب الطب الوقائي لمؤلفه رزينو) بدأت هذه الأسرة برجل كانت مهنته صيد السمك وكان شريراً فاسد الأخلاق نزاعاً إلى الشر كسولاً في عمله وقد ولد سنة 1720 وقد رزق خمس بنات فتزوجت هذه الفتيات فأتين في ستة أنسال متعاقبة بحوالي 1200 شخص وقد عرف تاريخ 540 شخصاً منهم تمام المعرفة وعرف عن 500 آخرين جزء من تاريخهم وكان سجل هذه الأسرة أن 300 ماتوا في سن الطفولة و310 التزموا مهنة التسول و400 رجال ونساء فاسدات وأكثر من نصف النساء عاهرات و130 حذقوا أساليب الإجرام و60 لصاً اعتادوا الإجرام. ولم يعثر في سجل هذه الأسرة على واحد تعلم في مدرسة أو تخرج في جامعة ولكن وجد فيها 20 شخصاً تعلموا صناعات ولكن أين تعلموها؟ لقد تعلموها بين جدران السجون.
وسبب هذا النسل الفاسد كله رجل واحد فاسد قد لقحت نطفته الفاسدة المرأة فنقلت إلى بويضتها الفساد فورَّث البنات والبنين الشر والخنا المبين.
هذا مثل طبي أوردته كتب الطب وأثبتت كيف ينشأ النسل فاسدا كأبيه. وقد سبق إلى ذلك القرآن فقال (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء) حتى تأتي شيئاً فريا.
كما أن للجنين إرثا تناسليا من الأم ويصف (بويلمان) حالة أسرة بدأت بفتاتين أنسلتهما امرأة شرير سكير وأعقبا في خمسة أو ستة أنسال 834 منها 107 نغلاً (ولد زنا) و64 في الملاجئ و162 اتخذوا التسول مهنة و164 عاهرات و17 بين قواد وقرنان (لا غيرة له) و76 حكم عليهم بالإعدام والباقون بين لصوص وقتلة.
وهناك أمثلة عديدة لا يتسع المجال لذكرها الآن ولكن قد يسأل سائل لماذا نرى في بعض الأحيان من قد ينحدر مريضاً من أب سليم؟ فالجواب على ذلك أن السبب في مرض الأجداد السابقين كما رأينا أن الخنزير البري الأبيض قد نشأ في ثالث دور من التناسل من أبوين أسودين راجعاً إلى لون جده الأبيض الأول.
فالأب والأم والأجداد ينقشون صفحاتهم في الأولاد، ويورثونهم ما فيهم من عناد، حتى(910/10)
ليرى المولود كأنه نسخة طبعت مرة أخرى من صحيفة لوح موجود.
أجل. ألم تروا سادتي إلى أسر قد انتشر في أفرادها جميعاً شمم الأنوف، وإلى أسر غيرها قد تفشى فيهم فطس الأنوف؟ أم لم تروا مثلاً إلى أسر قد انتقل فيها نسلاً بعد نسل مرض البول السكري وإلى غيرها قد انتقل فيها الميل إلى الانتحار حتى إن أفرادها ليتشابهون في طريقة الانتحار.
ألم تروا إلى بني إسرائيل وقد توارث فيهم حب المال ينتقل فيهم جيلاً بعد جيل؟ أم لم تشهدوا العرب الرحل وقد كرهوا سكنى المدن ونزئوا تحب الخيام يتوارث الأبناء منهم ذلك عن الآباء؟
أليس فيما سبق أدلة على أن الوراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء وأن هذه الوراثة جسمانية وعقلية ونفسية، فكما تتجلى في الجسم في خلقته وقامته وصوره وحركاته
تتجلى في العقل في نموه أو ضعفه، وصحته أو مرضه، وذكائه أو بلاهته، وتتجلى كذلك في النفس في صفاتها وسجاياها وطباعها.
هذا وقد رأينا أن النطفة هي العامل على ذلك والناقل لما في الأب إلى النسل وكيف أن الدين الإسلامي قد ألم من قبل بتأثير الوراثة ثم رأينا كيف عبر القرآن عن النطفة بأنها أمشاج فقال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا)
فالنطفة إن تكن بسيطة شكلاً فهي مركبة أصلاً وهي خليط من المواد في تكوينها، فهذه الحيوانات المنوية وهي ترى متشابهة شكلاً، فإذا بها قد أخرجت بعد تلقيح البويضات أجنة مختلفي الأنواع متبايني الصفات متنوعي الأشكال، فهذا ذكر وتلك أنثى وهذا أبيض وذاك أسود وهذا جميل وذاك دميم وهذا عاقل ذاك مجنون وهذا مستقيم وذاك مجرم أثيم.
فما هذا الذي يغير الأجنة وقد بدءوا متشابهين، وما هذا الذي ينوع الناس وقد كانوا في مبدأ الخليقة متماثلين؟ ألا إنه شيء في النطفة وفي البويضة كمين، وخبئ هو فيها دفين، ذلك صنع الله رب العالمين الذي خلق النطفة الأمشاج وجعلها في قرار مكين فتبارك الله أحسن الخالقين.
أرأيتم كيف ثبت القرآن الإرث التناسلي من قديم ثم جاء الطب فأيد القرآن بالأدلة والبرهان؟(910/11)
وفي فرصة أخرى سنتكلم في موضوعات الطب والإسلام التي نرى لزاماً علينا أن ننشر بيانها على الناس هدى وإرشاداً.
حامد الغوابي
طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة(910/12)
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
- 10 -
السلوك
التقينا بواسطة هذه المجلة الزاهرة مع القراء الكرام تسع مرات تحدثنا خلالها عن شخصية الإمام الجليل حجة الإسلام أبي حامد محمد الطوسي الغزالي وعن معرفته النفسية التي رأيناها تتلاقى مع قواعد علم النفس الحديث فتتآخى، وتتقارب فتتجاذب، فظهر من كل هذا صورة واضحة لنفسية هذا الرجل العظيم وصورة أوضح لعقليته الجبارة وتفكيره الدقيق العميق. وقد وعدنا في مقالنا السابق أن نتحدث هذه المرة عن السلوك في نظر الغزالي وهو ما يسميه الغزالي بالخلق.
والأخلاق الإنسانية هي هذه الصور الكثيرة المتعددة التي تشبع الرغبات بها نفسها فينشأ عن تعددها الفروق بين الناس والتفاوت في أقدارهم وقيم أعمالهم. والغزالي - ولا شك - من أكبر علماء السلوك أو (الخلق) الإنساني وعلى الأخص الخلق الإسلامي بالنسبة لقواعد الدين الحنيف، فبرا بالوعد وحرصاً على الخير نسوق لكم ما يقوله الغزالي في السلوك اللاشعوري أو ما يسميه هو بالخلق، وقوله هذا تحديد دقيق للسلوك اللاشعوري سواء كان هذا السلوك غريزيا أم مكتسبا بالعادة. يقول الخلق والخلق عبارتان مستعملتان معاً يقال فلان حسن الخَلق والخلق أي حسن الظاهر والباطن، يراد بالخَلق الصورة الظاهرة وبالخلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح مدركة بالبصيرة ولكل واحد منها هيئة وصورة إما قبيحة أو جميلة؛ فالخلق إذاً عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً. وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً.
هذا ما يقوله الغزالي في السلوك اللاشعوري وهو قول واضح الجوانب لا غموض فيه ولا إبهام. وهو موافق كل الموافقة لما يقوله علم النفس الحديث من أن الطفل يحس بالفرق(910/13)
الكبير بينه وبين أبيه وأخوته وأقاربه من الرجال في الطول والضخامة والقدرة فيشعر بضعف أمام قوتهم، وبعجزه بالنسبة إلى قدرتهم، وبحقارته بالقياس إلى عظمتهم، ثم ينتقل هذا الشعور إلى عقله الباطن فيستقر فيه ويصبح هذا الشعور هو الحاكم المطلق والمتصرف الذي لا ترد إرادته ولا تعصى إشارته. ينتقل الطفل من دور الطفولة إلى بقية أدوار حياته. ولكن ذلك الشعور بالضعف والعجز والحقارة يظل مستقرا في عقله الباطن يوجهه لاشعوريا ويصرفه باطنيا فقد تراه وهو في شيخوخته طفلاً في سلوكه ينزع في سبيل الحصول على أهدافه نزوعاً طفلياً كالإقدام الشاذ الذي قد يتخذ شكل الاعتداء والتحيز، والإحجام الشاذ الذي هو النكوص والانطواء على النفس وتجاهل المشكلة والتردد والحيرة والذبذبة التي قد تنقلب قلقاً ووسواساً وحصراً نفسياً خبيثاً مما لا يعلم غير الله مداه في السلوك ومدة بقائه في النفس حتى تنحل العقدة (عقدة النقص) بأعجوبة فيشعر الشخص بقوته وقدرته وكرامته ويندس هذا الشعور في عقله الباطن ويتولى قيادته من جديد فيسيره تسييراً يتناسب مع رجولته وقوته وكرامته. يسيره لاشعوريا كما يقول الغزالي (بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية).
ولنرجع الآن إلى الأمثال التي يضربها الغزالي على صحة قواعده والشواهد التي يقدمها لشرح تلك القواعد وتقريبها للأفكار. يقول:
وإنما قلنا إن الأخلاق هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور ولحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر الأفعال بسهولة ومن غير روية لأن من تكلف بذل المال والسكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم، فالسلوك الصحيح عند الغزالي هو السلوك اللاشعوري. وبعبارة أقرب إلى الحقيقة هو السلوك الذي يكون ناشئا عن توافق بين العقل الباطن والعقل الواعي بدليل قوله ليس الخلق عبارة عن الفعل. فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل لفقد المال أو لمانع؛ وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء. وليس هو عبارة عن القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك وذلك لا يوجب خلق البخل ولا السخاء. وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد. بل هو أي(910/14)
الخلق عبارة عن الهيئة التي تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل هو عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة.
ونقارن الآن بين هذه الأقوال التي يقولها الغزالي وأقوال علماء النفس المعاصرين وهي أن الرغبات ليست خيراً ولا شراً في ذاتها فإن الخير والشر موجود فقط في ذلك الطريق الخاص الذي يسلكه الفرد لإشباع رغباته.
ومن الحق أن نترك الغزالي يقرر الخير والشر في طريق السلوك لإشباع الرغبات ويضع قيم الأخلاق. وينعت هذه القيم بالحسن والقبح في نور عقيدته الدينية وآدابه الإسلامية. يقول: إن حسن الصورة الظاهرة لا يتم بحسن العينين دون الأنف بل لابد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر. فكذلك في الباطن أربعة أركان لابد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العدل. أما قوة العلم فحسنها في أن تصير بحيث يسهل بها إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبح في الأفعال. فإذا حسنت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة. وأما قوة الغضب فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على ما تقتضيه الحكمة. وكذلك الشهوة، فإن حسنها في أن تكون تحت إشارة الحكمة. وأما قوة العدل فهي ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.
ونحن نرى الغزالي قد عرف جيداً أن كثيراً ما تتصارع رغباتنا وتتعارض دوافعنا المختلفة فيكون لدينا نزوع أو رغبة في أن نسير على نهج معين من الأعمال. وفي نفس الوقت يكون فينا ميل آخر أو رغبة في أن نسلك طريقا مخالفا للأول كل المخالفة. وقد يكون هذان النوعان من السلوك متناقضين تمام التناقض فنندفع إلى هذا الطريق ثم إلى ذاك إذ لا نستطيع أن نسلك الطريقين معا فينشأ الصراع.
عرف الغزالي كل هذا فانبرى يضع القوى النفسية المصارعة في صفوف معينة ويطلق عليها إذا ما بدت سلوكاً، نعوتاً من الحسن والقبح والخير والشر والفضيلة والرذيلة يقول:
العقل مثاله مثال الناصح المشير وقوة العدل هي المقدرة ومثالها مثال المنفذ المحض لإشارة العقل، والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن(910/15)
يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس، والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضا مؤدبا وتارة يكون حجما؛ فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقا. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة. كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون البعض، وحسن القوة العصبية يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوة الشهوة يعبر عنه بالعفة. فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً. وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرها. وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً. والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة. والطرفان رذيلتان مذمومتان. والعدل إذا فات فليس له طرفاً زيادة ونقصان بل له ضد واحد وهو الجور. وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستفحال في الأغراض الفاسدة خبثا ويسمى تفريطها بلها. والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.
فإذاً أمهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ونعني بالحكمة حالة النفس وقوة يساس بها الغضب والشهوة، ونعني بالشجاعة قوة الغضب مقادة للعقل في إقدامها وإحجامها، ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بأدب العقل والشرع. ومن اعتدال هذه الأصول تصدر الأخلاق الجميلة كلها إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن. ومن إفراطها يحصل المكر والخداع. ومن تفريطها يصدر البله والجنون.
وأما خلق الشجاعة فيصدر عنه الكرم والنجدة. وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف والكبر. وأما تفريطها فيصدر منه الذلة والصغار والانقباض عن تناول الحق الواجب. وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء. فأمهات الأخلاق إذاً هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل.
حمدي الحسيني(910/16)
فلسفة الوجودية
للأستاذ شاكر السكري
هناك نمت بين أحضان باريس بصورة خاصة فلسفة الوجودية التي استفحل أمرها بشكل يدعو إلى الغرابة والدهشة لا باعتبار الوجودية كفلسفة، ولكن باعتبار الأشخاص وجوديين. وإذا ما عالجنا هذه الوجودية القائمة اليوم بشيء من الصدق وجدنا أن هناك نوعاً جديداً من التهتك والتفسخ الناتج عن وجهة نظر مغلوطة أدت بها إلى مفهوم مغلوط.
وإذا تساءلنا عن سر هذه الفلسفة وجدناه في (الحرية الفردية كما تدعوها أو تدعو إلى تفسيرها الوجودية).
والحرية الفردية في منطوق هذا المذهب سر الفلسفة الوجودية ولكن أية حرية فردية تزعمها هذه الفلسفة العدمية؟
الحقيقة هي أن ليس هناك غير الحرية الفردية الجنسية؛ الحرية التي تقضي بأن يكون الفرد الوجودي وليد اللحظة التي يعيش فيها، وليست هذه اللحظة إلا أن يفرغ فيها كل رغباته وأهوائه وقواه الجنسية على الشكل التي تبشر به الوجودية. ومعنى ذلك أن الوجودي هذا والوجودية تلك لهما مطلق الحرية في تمثيل وجوديتهما كما يرغبان على مرأى ومسمع من الناس. ومن ميزات هذه الحرية أن الوجودي له ملء الحرية في كيفية القيام بأعماله. فمثلا يشعر أن هذا الإنسان ليس من حقه أن يعيش فما عليه إلا أن يقتله لمجرد اعتقاده ذلك دون أن يلتفت إلى القيم والنظم الاجتماعية والشعور بالمسؤولية. فإذا قلت له إنك مسؤول عن ارتكابك هذا الجرم اكتفى بأن - يعلن لك مبرراً ارتكابه الجرم. . إنه وجودي. . من حقه أن يقرر المصير الذي يعتقده والذي تقره الوجودية هذا بغض النظر عن المقومات التي ترتكز عليها الحياة.
(. . وأغرب ما في باريس اليوم هؤلاء الوجوديون. إنك تقابلهم في كل مكان، وحينما يقع بصرك على أحدهم تجد نفسك قائلة على الفور: الوجودية. وكل شبان باريس اليوم وشاباتها يجرون وراء هذا المذهب ويمعنون في التطرف فيه. وكيفما كان رأي (جان بول سارتر) عميد هذا المذهب في تفسير الناس لمذهبه فالذي لا شك فيه أن الوجودية الآن في فرنسا تمثل انحلال الأخلاق والاستهتار بكل ما تحويه كلمة الاستهتار من معان.(910/17)
وتروي باريس الأعاجيب عما يحدث في حفلات الوجودية وهي (أعاجيب) لا يمكن أن تروى لا في الشرق فحسب بل حتى في مواخير (مونمرتر) التي تتأذى برغم فجورها المشهور لما يحدث في حفلات الوجوديين.
ومفهوم مثل هذا يدعو إلى الخروج على القواعد الفلسفية الصحيحة التي ترتكز عليها القواعد العامة لهذه الفلسفات. ولا يمكن أن تعمر هذه الفلسفة في ظل النظام الذي تسير عليه الحركات والنظم الشعبية في العالم نحو خلق حياة مطمئنة تعيش بظلها الشعوب وتنضوي تحت منارها قوى الطبقات الشعبية العاملة. ومفهوم الحرية الشعبية ليس كمفهوم الحرية الفردية التي تبشر بها الوجودية القائمة على أساس الإشباع الجنسي. وإشباع حيواني مثل هذا قد يجر وراءه البشرية إلى أسوأ المصاير وأحطها قيمة وخلقا. ولعل الوجودية هذه فلسفة تدور حول حورها القاضي بدعوى الانطلاق الذاتي لتلك الغرائز لكي تعمل على الهدم لا البناء، ودعوة مثل هذه قد يكون عمرها أقصر مما قامت عليه أعمار الفلسفات والمذاهب المختلفة الأخرى. ولعل عميد المذهب (جون بول سارتر) سيزيد في استنكاره للوجودية القائمة الآن في فرنسا بالرغم من اعتباره ما يحدث شيئاً لا تقره الوجودية ولا تدعو إليه. والواقع يؤيد أن (جون بول سارتر) هو الوجودية الباريسية بنفسها، ولا غرابة إذا كان الوجوديون لم يفهموا معنى وجودية عميدهم. كما أن عميدهم تجاهل وجوديته ووجوديتهم أيضاً.
أما بقاء هذه الفلسفة قائمة فذلك لا يعني أنها ستعيش، ولا يمكن لها العيش إلا في وسط مثل باريس وأمثالها من المدن الأوربية الخليعة.
هناك فلسفات أخرى تجري وراء استقصاء الحقائق والغوص إلى أغوارها إلا أنها فلسفات لا تخلو من الدوران حول نفسها. . وليست هذه الفلسفات المضطربة إلا نتيجة لشخصيات مضطربة تتخبط في فهم وتقدير الأمور كما أنها تزيد حوار هذه الفلسفات غموضاً وإبهاما. والكل آخذ في طريقه لبلوغ النتائج التي تمخضت عنها الحياة. الحياة التي لابد من أن تلد حياة أخرى وعالماً آخر. وطبيعي أن الحياة سائرة خطوة نحو التقدم لتعقبها خطوة أخرى نحو بلوغ العقل الإنساني أقصى مداه وأبعد ما يهدف إليه.
فما دامت الحياة قد بدأت بالتقدم فسوف تنتهي لا محالة بتقدم يكفل لها ما تصبو إليه بعد أن(910/18)
تحيل العناصر الضارة عناصر صالحة تستخدمها البشرية لبلوغ أمانيها.
فحقيقة مثل هذه تدعو العقل البشري لأن يعمل ويعمل جاهداً حتى اللحظة التي يسوده فيها الركود والهدوء. . ومن ثمة تعقبه عقلية أخرى آخذة بما أنتجه هذا العقل ليكون بداية فلسفة جديدة. تعمل على إظهارها عقليات أخرى، وهكذا تقارب النهاية البداية.
ولابد من يوم تكون فيه الحياة فلسفة غامضة من الصعب فهمها والإحاطة بكل مداخلها ومخارجها. وعلى هذا النحو تجتر البداية النهاية ويعود العالم وهو سائر نحو التقدم - ليقارب النهاية التي ستبدأ فيها البداية.
شاكر السكري(910/19)
رسالة الشعر
القمر
(في قصيدة القمر أقباس من الهوى العنيف العفيف، وتوله
بالطبيعة وعبادة لها واندماج بها وفناء فيها)
(هجران شوقي)
وفي ليلة قمراء ممشوقة القد ... أطل على البدرُ وهنا على عمد
وكان فراشي لا يقر من الضنى ... أقلب فيه الطرف سهداً على سهد
أداري فؤاداً شفه لاعج الأسى ... وأورده ليل النوى أشأم الورد
ومن كان مثلي في اكتئاب ووحدة ... تمنى لو أن النوم يسري على مهدي
فقلت له: - لما ترامى شعاعه - ... سلام على من كنت منه على وعد
تعال أيا ملك الليالي وسحرها ... ويا طيفها الغري ويا حلمها الوردي
تعال! إلى قلبي فأنت نجيه ... وأنت أحاديثي إذا هاجني وجدي
وقد قر عيناً واستراح إلى الهوى ... وأقبل في ثوب المحبة والود
فغنيته حتى استلان إلى الكرى ... وأفرشته صدري ووسدته زندي
ونام بإحدى مقلتيه طماعة ... وحام على ثغري وطاف على خدي
وكانت نثارات من النور رخصة ... تراكض ما بين الترائب والنهد
وسامرني من بت أهوى وصاله ... ومن وصله أحلى من العيشة الرغد
تساءل قلبي وهو في نشوة الهوى ... أأطمع أن ألقى الذي أشتهي عندي
فتاتك عيناه وذلك جيده ... وتلك يدي تنساب في شعره الجعد
أضم أليف الروح في غمرة الجوى ... وأشربه دمعي وأطعمه كبدي
وأرجع للنفس اللجوج ألومها ... أما كنت في همي وفي ليلتي وحدي!؟
دمشق:
هجران شوقي(910/20)
إليها
للأستاذ جورج سلستي
يا بسمة الأمل النضير وهناءة الحلم القرير،
وسنا الربيع الطلق، يزخر بالوضاءة والعبير،
وندى الصباح يهل بالنعمى على الزهر الحرور،
روحي يحوم عليك يا (ليلى)، فأنى شئت سيري!
ويطوف حولك طوفة الحجاج بالحرم الطهور!
فلأنت، ما تدنين أو تنأين، مالئة شعوري
أحيا، ذكرك في فمي أبداً، وطيفك في ضميري!
أنا مذ عرفتك ما عرفت الكون إلا دفق نور!
تتألق الدنيا بثغرك لي، وتبسم لي أموري
أمشي، وقد علقت بشخصك مقلتاي، على حرير
فكأنني أصبحت كالملك المجنح في مسيري
نشوان من خمر معتقة بخابية الدهور!
طافت بها عيناك يا (ليلى) فبعتهما مصيري
والبابلية تستبيح بمقلتيك حجى الوقور!
وفم تفتح مثل كم المورد في الروض النضير
متألق البسمات، معسول اللمى، رف السرور
شفتاه حاليتان كالشفق المنور في البكور
رواهما ألق الصبا الريان بالسحر الوفير
وعلاهما، كشقائق النعمان، ذوب من سعير!
أفدى انفراجهما يمن علي بالنطق الأثير،
ويجود بالكلم المدلة، في الحديث، دلال حور
في غنة الوتر الحنون وقد شأى سجع الطيور؛
كلم أفانين النظيم بها، وومضات النثير!(910/22)
كلم تشربها النفوس تشرب الماء النمير!
يا للحديث المستساغ ينم عن قلب كبير،
هو نزهة الروح الحزين، وبلسم القلب الكسير
قيد السميع، وعقلة المصغي، وأسر للسمير!
(ليلى)، وروحك في منسكب كمنسكب العطور،
إني أحسك في دمي وحياً تؤج به سطوري!
أشدو فتلتفت الدنى وتطل سالفة العصور
بيروت
جورج سلستي(910/23)
في الدير
للأديب عبد الوهاب البياتي
أحبك للفن، لا للهوى ... وأهواك للروح، لا للجسد
فلا تذرفي كاذبات الدموع ... ولا تخبري عن هوانا أحد
لئن فرقتنا حدود القطيع ... يعود، فيجمعنا معتقد
فخلف الجدار. . جدار الزمان ... لنا موعد، ولنا مسترد
ستحملنا الريح يوماً له ... ولكن. . ولكن يطول الأمد
فليت غدي. . ليته ما يكون ... لأبقى. . لأبقى أحن لغد
ليبقى بعينيك نفس الحنين ... تغلفه ظلمات الأبد
لنبقى ندور بهذا الفراغ ... ونجتر في الصمت هذا الكمد
لتبقى مصابيحنا المطفآت ... على الرف ظمأى لزيت نفد
يقولون: (ضلا) وكيف نضل ... ونحن على الدرب كنا رصد
يغني لنا في المساء اللصوص ... عن النور والفرح المفتقد
وعن ظمأ جارح يستغيث ... يؤججه الليل إما خمد
على قمة الموت حيث النسور ... تثور بها كبرياء الجلد
سأغرز هذا الصليب الخضيب ... وأدفن في الثلج هذا الجسد
الرمادي - العراق
عبد الوهاب البياتي(910/24)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
المباراة الشعرية ونموذج من النقد:
إن هذا المجلس الذي ضم الشعراء: شاهين وميشال وفوزي وشفيق معلوف في دار السيدة إيزابيل لمجلس ينفح بالترف الثقافي.
ولقد هبت علينا منه ونحن في السودان، نسمات رقاق معطرات.
إن السيدة جميلة لا شك في ذلك، وهؤلاء الشعراء يقدرون هذا الجمال المصون، ويعشقونه عشقاً مهذباً عفيفاً. أمثال هذه السيدة الفضلى هن اللائى يوحين ويأخذن بيد الأدب الفنان إلى عروشه الخالدات. أما تراها تبالغ في إعزاز الأدب وتعده عاطفة سامية مطهرة؟ أما تراها تبالغ في إعزاز الجمال وتكريمه؟ فهي تضعه في كفة، وتضع في الكفة الأخرى ساعة ذهبية. . إن الذهب في رأيي لا قيمة له، لأنه هنا رمز للإعزاز والتقدير، أعني أن قيمته معنوية لا مادية!
وإنه ليدهش الخاطر أن يقول هؤلاء السادة شعراً في هذه الحادثة العادية البسيطة، ولكن الله أدركني برحمته فشعرت أو علمت أن الباعث المؤثر هو جمال الثغر الذي يلامسه الفنجان. لقد تمنى كل شاعر من هؤلاء جاهداً في أعماق نفسه لو كان مكان الفنجان، وهنا تذوب النفس رحمة لضعف الإنسان الشاعر؛ إن شعراءنا هؤلاء يشتركون في هذا. . وهو المرجع الأصيل لهذه الخطرات الشعرية!
أما السيد شاهين فقد قص علينا قصة مظهرية (فوتوغرافية) حرارة الفنجان. وإن الفنجان لو درى ما أصاب السيدة منه لاعتذر وأن السيدة وضعته فارتمى. . إنها قصة بردت قبل أن يبرد الفنجان، فبين البيت الأول:
ثمل الفنجان لما لامست ... شفتاه شفتيها واستعر
وبين الشطر: وضعته عند ذا من كفها، بون بعيد. . وإذا صح أن الفنجان مستعر فإنها لا تضعه وإنما (تدلقه)! وأين إجفال الجسم الرقيق من هذه الحرارة المستعرة؟ وإذا صح أنها (وضعته) فإنه لا ينكسر، كما جاء في البيت الأخير:
وارتمى من وجده مستعطفاً ... قدميها وهو يبكي فانكسر(910/25)
إن الانكسار فيه ثورية لطيفة. ولكن هذا البيت لا صلة له بالأبيات السابقة!
أما السيد ميشال فقد هزني شعره أول ما نظرت فيه، وقد أعجلني هذا الشعر حتى زاحم أنفاسي وأعجل عيني على حروفه المتحركات في صخب. . إنه شعر أصيل، وكأنه كان معتقاً في خلد الشاعر منذ أمد، فلما سنحت المناسبة سال وفاض، وماج وهاج. . كما يشطح الصوفية وهم في مرتبة الفناء. إنه يقول:
عاش يهواها ولكن ... في هوان يتكتم
كلما أدنته منها ... لاصق الثغر وتمتم
دأبه التقبيل لا ينفك ... حتى يتحطم!
إن كلمة (عاش) هنا تخلع الإحساس على هذا الفنجان الذي عاش فعلاً في كنف هذه السيدة وبين أنفاسها وهي قد خلعت عليه جوها الخاص. . ثم (يتكتم)، وهذا الكتمان يصور حال هذا الفنجان وعشقه المكظوم وإطراقه ووحدته ثم صمته الحزين - وهنا شيء هائل يزحم نفسي ولا أستطيع التعبير عنه - فأنا أشبه هذا الفنجان العائش - وكم في الناس مثله من فناجين - ولكن ليس لي سيدة تعطف علي أو أجد منها غفلة لأحس مسها. فما أخبثه من فنجان سروق وما أظرفه!
ثم يندفع الشاعر العملاق فيقول (كلما أدنته منها). . . ولا أملك إلا أن أصيح: واغوثاه!. . إن الفنجان العاشق الكتوم لا يستطيع الدنو منها، فإذا (أدنته) في رفق ولطف (لاصق الثغر وتمتم)! و (لاصق) هذه ليست كلمة ولكنها شعور مطلق، و (تمتم) هذه رقية الشعر وتميمته في هذا البيت بل هي طلسم السحر فيه. . إن ذلك الفنجان العاشق الكتوم، انتظر طويلا فلما أحس حرارة اللقاء، أدهشته المفاجأة ولم يصدقها وأعجله الشعور الجارف العاصف فتمتم. . وليسمح لي الأستاذ في صيحة أخرى: واغوثاه! واغوثاه!
ثم الخاتمة الطبيعية لهذا الاندفاع الشعوري: (دأبه التقبيل) وهذا إصرار عذب معذب. . (ولا ينفك) وكيف ينفك؟! وقد وجد المورد الروي الخفاق بعد ظمأ. . (حتى) وهذه الغاية المطلوبة (تحطم). . وهذه نهاية القبلة التطبيعية ذلك الجيشان المسعور المتعجل - ذلك الفتور. . تلك الراحة. . ذلك الخدر. ذلك التحطيم!! وهكذا تمر هذه العاصفة الشعرية بنفسي فتترك صدى من بعدها بعيد الرنين.(910/26)
إن السيد ميشال هو صاحب الجائزة. . ولا داعي لأن يسابقه أحد، وأنا أقسم بأ ولو المقدس أن له قريناً من الشياطين العظام.
أما السيد شفيق فقد حطم الفنجان فعلاً فتطايرت شظاياه. . إنه فنجان عادي كفناجين المقاهي العامة! وفنجان من خزف - مثلي - لا أمل فيه. . له رنين خشن مزعج. . ألم يقل السيد شفيق:
كل جزء طار من فنجانها ... كان ذكرى قبلة من فمها
والقبلة لا تكون إلا من الفم. . فلا داعي لذكر أي فم هنا. . أم لعلها قبلات طائرة كالأطباق الطائرة؟. . إن بركان ذو شظايا لا فم تعتز به حسناء!
وسيدي فوزي المعلوف - في الذي أظن - شيخ. . إنه نظر ونظر فرأى الفنجان لم ينكسر. . لقد فقد التحفز والتأثر بالمفاجأة، ولا داعي للشعر بعد ذلك! ولكنه عنى نفسه وجامل وأظنه تعب أشد التعب في الجري وراء هذه الأبيات حتى تعطلت أنفاسه القصار. . وليس من اللياقة في مخاطبة السيدات - فيما أظن - والعبد الفقير لم يخاطب سيدة، بالمعنى الصحيح، أبداً - أن يخطر ببال السيد فوزي مثل هذا الكلام الرخيص:
هي ألقته وذا حظ الذي ... يعتدي يوماً بتقبيل عليها
إن كلمة (ألقته) هنا باردة. . والأصح أن يقول - ما دام قد اعتدى عليها بالتقبيل - إنها ضربته قلماً! وكيف يوحي إلينا - ولو من بعيد - أن هنالك معتدين؟!. إنه أراد تنزيه السيدة ولكنه لم يجد طرف الخيط فتخبط في العقد!
إن إخواننا الشوام شعراء، وهم عند العبد الضعيف أشعر من المصريين. . الشوام يحلقون في خفة، والمصريون يجرون أغلالهم ويحملون أوزارهم وأقصد بذلك لغتنا الشريفة! في مصر الأزهر. . وفي الشام. . في الشام الحدائق والينابيع والعرق. . ولعل سيدي أنور. . يكتب لنا مقارناً بين شعراء مصر وشعراء الشام!
أما بعد فللرسالة علينا حق لا نستطيع إيفاءه. هذا الحق خالط الدم والنفس. فإن جاءها قارئ برأي فإنما يميل إلى أم روحه ليفض في أحضانها صدره، وقد عن لي - على كساد القريحة - أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع النقدي - وأنا لا أجرؤ فأسميه نقداً. . وإنما هو شيء أميل به إلى ظلال الرسالة.(910/27)
والشكر كل الشكر للمعداوي. . إنني أسمع صوته يحث قلمي كما يعين طفلاً يحبو على المشي. . نشكره على الرفق بالقراء وقربه منهم هذا القرب الصديق، وسعيه إليهم هذا السعي الحاني.
سيدي الأستاذ: إن السيد ميشال صاحب الجائزة، فلو قسمت لغيره فسوف يحزنني - ورب الكعبة - ذلك ويغمني. ونحن الآن نتحرق شوقاً وانتظاراً لرأيك الفيصل. . رأي النابغة!
(الخرطوم) - وزارة المالية
محمد المهدي مجذوب
عندما قدمت تلك المباراة الشعرية إلى القراء في عدد مضى من الرسالة، كنت أرمي بها إلى شحذ القرائح واختبار الأذواق.
وكنت أبغي من ورائها أن ألهب الملكات الناقدة لأظفر بالناقد الموهوب؛ ناقد الشعر الذي يتذوق اللفظة الموحية، ويقف عند الصورة الملهمة، ويحلق مع الخيال الطليق. كنت أريد هذا كله وأهف إليه، لأحرك الخواطر الخابية حين أوفر لها عناصر الحركة، وأثير المشاعر الغافية حين أهيئ لها مصادر الإثارة. . وعلى هذا الأساس جعلتها مباراة نقدية!
تدفقت رسائل القراء من هنا وهناك، حتى بلغ عددها خمساً وسبعين رسالة. . وكما أرسلت الذوق وراء كل بيت في المباراة الشعرية، وحشدت الفكر خلال كل مقطوعة، لأحكم للفائز الأول من الشعراء؛ فقد أطلت الوقوف عند كل رسالة في المباراة النقدية، وأقمت الميزان لكل ملكة، لأقدم الفائز الأول من النقاد. وانتهت إلى أن عدالة التقدير تفرض علي اختيار هذه الرسالة للنشر، وجدارة صاحبها بالسبق. . وهو الأستاذ الشاعر محمد المهدي مجذوب!
كانت هي خير رسالة لا مراء، وكان هو خير ناقد بلا جدال. ولا أزعم أني أرضى عن هذا الناقد كل الرضا أو أطمئن إلى ذوقه كل الاطمئنان، لأن مدار التفضيل هنا مقصور على مدى التفاوت بينه وبين غيره من النقاد. إنه يفترق عنهم في رهافة إحساسه بظلال اللفظة الشعرية، فهو من هذه الناحية صاحب لفتة واعية. ولكن الذي لا يرضيني منه هو هذا المنظار الذي يركز (الرؤية النقدية) في لفظ بعينه أو مجموعة من الألفاظ تجتمع في مكان، ثم يترتب على هذا التركيز أن تبدو الصور الفنية القريبة من العدسة واضحة(910/28)
لعينيه، وأن تبدو الصور البعيدة عن هذه العدسة مغلقة بطبقات من الضباب، تحول بين صاحب المنظار وبين الرؤية الصادقة في بعض الأحيان! أريد أن أقول إن الأستاذ مجذوب حين أعجب بهذا الشعر الذي يفضله، كان أشبه بالمصور الفوتوغرافي الذي سلط أضواء المغنيسيوم على مشهد واحد ووجه مقدمة الكاميرا إلى زاوية واحدة، فظهرت المشاهد الأخرى وهي باهتة الظلال حائلة الألوان. . أقصد أنه لو عنى بتوزيع الضوء على المشاهد المختلفة عند الشعراء الأربعة، لوقعت عنياه على كثير من الإشعاعات اللفظية المتوهجة في أفق آخر غير أفق ميشال معلوف، هذا الشاعر الذي لم يسمح الناقد لعينيه أن تتحولا عن أفقه لتحلق في غيره من الآفاق. . . إن الذي يعجب بلون الورد يا سيد مجذوب، لا يحق له أن يغفل عن لون الفل والبنفسج وزهور القرنفل واللبنسيه!
بعد هذا أحب أن أقول لهذا الناقد الذي يهزني منه خفة الظل وعذوبة الروح، إنني لا أتهم ذوقك حين تقف إلى جانب ميشال لأنه خيال محلق وجناح رفاف، ولكنني أتهم هذا الذوق حين يفطن إلى مواطن الجمال عند هذا الشاعر ثم لا يفطن إلى أمثالها عند غيره من الشعراء. . . إن الذي آخذه عليك هو أنك شغلت في رحابه عن أن تلتفت إلى سواء، وسرت في ركابه حتى أهملت من عداه! وهذا هو العيب الذي وقع فيه كل من اشترك في المباراة النقدية من النقاد، هؤلاء الذين رفع نصفهم شعر شاهين إلى قمة المجد وهبط بشعر الباقين إلى الحضيض، وأقدم نصفهم الأخير على مثل ما أقدم عليه نصفهمالأول بالنسبة إلى شعر فوزي المعلوف. . . مهما يكن من شيء فقد كانت رسالتك هي الرسالة الوحيدة التي انتصفت لشعر ميشال وهو جدير بالإنصاف؛ كانت الوحيدة من بين خمس وسبعين. وحسبك مثل هذه الشخصية الاستقلالية في ميدان النقد الأدبي!
إن الأستاذ مجذوب يشفق من أن أحكم بالسبق لشاعر آخر غير هذا الذي حكم له، ويجهر بأن مثل هذا الحكم سيغمه - ورب الكعبة - ويحزنه!! ألا يرى الأستاذ مجذوب أنه قد بلغ حداً كبيراً من الطمع حين يريدني على أن أحكم لشاعره المفضل بالسبق على غيره من الشعراء، بعد أن حكمت له بالسبق على غيره من النقاد؟! مهما يكن من شيء فإن إعجابي بشعر ميشال سيخفف من حدة هذا الغم ويلطف من شدة هذا الحزن. وموعدنا العدد المقبل أو العدد الذي يليه، حيث أعرض بالنقد المفصل لتلك المباراة الشعرية، معرجاً على بعض(910/29)
المآخذ في نقد الأستاذ مجذوب، حاكما للفائز الأول بما يرضي الحق والنقد والضمير.
وتبقى بعد هذا كله إشارة الأستاذ الفاضل إلى شعرائنا وشعراء الشام. أتريد مقارنة؟ أرجو أن تنظر في شعر على محمود طه، وأن تعيد النظر فيما كتبته عنه من فصول، ثم قارن أنت. . . قارن بينه وبين شعر أبو ماضي، أو بينه وبين شعر أبي شبكة، أو بينه وبين شعر أبي ريشة، ثم ابعث إلي برأيك الموجز أو برأيك المفصل، مقاماً على مثل تلك الأسس النقدية التي أقمت عليها رأيي في شعر على محمود طه، وأنا أستعرض شتى الملكات الشعرية عند هذا الشاعر الفنان. . . وعندئذ سأوافيك وأوافي القراء بما شئت من مقارنات!
أما عن قصيدتك (ذات مساء) فهي شعر شاعر. . وسننشرها في عدد مقبل من الرسالة إن شاء الله.
لحظات مع أوسكار وايلر:
لما كنت أعرف أن الصفحات المخصصة لكم من الرسالة الغراء، مقصورة على الأمور الأدبية والمسائل الفنية؛ لما كنت أعرف ذلك لم أتردد في أن أسألكم شيئاً من التعقيب على ما عرض لي أثناء مطالعتي لقصة (دوريان جراي) وأنا أكتب هذه الكلمات بعد تأمل لم يتمخض عن نتيجة مرضية، وبخاصة لما في آراء كاتبها الكبير من شذوذ عجيب وتخريج غريب، ونظر للأمور ومسائل الحياة من جهات مغايرة ومنظار مخالف. . بيد أنني لا أشك في أن الآراء والنظرات مهما كانت ممعنة في الشذوذ مسرفة في التطرف، لا أشك في أن يكون لتلك الآراء والنظرات مرتكز ترتكز عليه أو تفسير يرجع إليه. . ولهذا كتبت إليكم راجيا أن تظهروا لي خبئ ما عز علي تفسيره، وأن تجلوا ما لم أرتح إلى إحاطتي به، وإليكم بعض النماذج من خواطره وأفكاره: (الحب مسألة فسيولوجية لا دخل لها في الإرادة، ولذلك فأنت ترى الشباب يحاولون الوفاء فلا يستطيعون، وترى الشيب يحاولون الخيانة فلا يستطيعون)!. . (الفن الخيالي يبدأ حيث يجب أن ينتهي)!. . (الجبن والضمير اسمان لمدلول واحد، وكل ما هنالك أن الضمير هو الاسم الرسمي، الماركة المسجلة على حد قولهم)!. . (الفرق الوحيد بين النزوة العارضة والعاطفة الدائمة، هو أن النزوة العارضة أطول عمراً من العاطفة الدائمة)!(910/30)
ألا ترون أن لمثل هذه الآراء خطرها الكبير على المجتمع وشرها المستطير على الأخلاق؟. ولكم خالص الشكر والتقدير.
(عمان - شرق الأردن)
يوسف. ب
من الغريب أنني حين فضضت غلاف هذه الرسالة وبدأت أقرأ ما جاء بها من كلمات، كان يجلس إلى جانبي مترجم هذه القصة وهو الأستاذ لويس عوض المدرس بجامعة فؤاد الأول. . وارتسمت على شفتي ابتسامة عريضة وأنا أدفع إليه برسالة الاحتجاج الأردنية قائلا له: أجب يا أستاذ! كيف تترجم للناس قصة من شأنها أن تهز معايير القيم وتزلزل مكارم الأخلاق؟! وقال الأستاذ المترجم بعد أن فرغ من قراءة الرسالة في شيء من الإنكار: أو تعتقد هذا حقا؟ إنني أترك لك الجواب!
وهذا هو جوابي عما جاء برسالة الأديب الفاضل: إذا رأيت شيئا من الشذوذ في الأدب أو شيئا من الانحراف في الفن، فعليك أن ترد الشذوذ والانحراف إلى أثر (البيئة المعنوية) في نفس الأديب أو شعور الفنان. . هذه البيئة المعنوية التي أحاطت بحياة أوسكار وايلد هي التي طبعت عقله بهذا الطابع الفكري، ولونت مشاعره بهذه الألوان النفسية. لقد عاش أوسكار وايلد في بيئة منحلة وتنفس في أجواء موبوءة. . كان يحلم بالقيم فتبخرت من حوله القيم، وكان يتطلع إلى المثل فتبددت من حوله المثل، وكان يحاول أن يزن الأمور بميزانها الصحيح في وقت اختلت فيه شتى الموازين! من هنا نشأ الكاتب الكبير ساخطا على الدنيا ثائرا عن الناس، ساخرا من الأوضاع المألوفة والتقاليد الموروثة، حتى غدت أكثر القيم الخلقية والإنسانية وهي في رأيه مجموعة من (الاصطلاحات). . تلك التي (يتعامل) بها المجتمع لأغراض وغايات!!
الحب مسألة إرادية؟ هذا (اصطلاح) زائف. . إنه مسألة فسيولوجية! الضمير المثالي؟ هذا (اصطلاح) فاسد. . إنه سلاح الجبناء! الفن الخيالي؟ هذا (اصطلاح) فاشل. . إنه أداة العاجزين! النزوة العارضة والعاطفة الدائمة؟ إنهما (اصطلاحان) يفسرهما كل فريق حسب هواه! وهكذا تجد أوسكار وايلد، كافرا بكل ما تعارف عليه الناس، لا يكاد يؤمن إلا بهذا(910/31)
الذي تعارف عليه بينه وبين نفسه. وهذه هي (الواقعية النفسية) التي تجاوبت أصداؤها في أعماق ذاته، منعكسة على وجهات نظره من واقعية المجتمع الذي عاش فيه، والمجتمع وحده هو المسؤول عما أصابه من شذوذ وانحراف!
هذا هو التفسير الذي يمكن أن يرجع إليه الأديب الفاضل حين تعترضه أمثال هذه الآراء المنحرفة في قصة (دوريان جراي) أما عن خطرها الكبير على المجتمع وشرها المستطير على الأخلاق فأود أن أقول له: هون عليك! ألا تخشى على المجتمع الشرقي مما يسري في كيانه من فنون المحرمات وضروب الموبقات، ثم تخشى عليه من كلمات لأوسكار وايلد؟! أو كذلك أن مجتمعنا الشرقي قد بلغ من الفساد والتأخر والانحلال، ما جعل الكثيرين من أبنائه يجدون أنفسهم في كلمات الكاتب الكبير. . ومع ذلك فإن البقية الباقية من أصحاب المثل العليا والخلق القويم، لا يمكن أن تنحرف عن طريقها في الحياة ولو امتلأ هذا الطريق بنوافث السموم!!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
قلت وما زلت أقول: إنني أوثر أن ألقى الذين يكتبون إلى في وضح النهار. . . ولهذا أرجو أن يكشف هؤلاء القراء عن أسمائهم، حتى أستطيع أن أرد على رسائلهم هنا أو في رسائل خاصة: الأديب (م) بالمدينة المنورة، والأديب (ع. ص) بدمشق، والأديب (ف. ش) ببغداد، والأديب (ابن العميد) ببيروت، والأديب (هـ. س. أ) بقنا. . ولهم جميعاً خالص الشكر على وفائهم للخلق والعقل، مع صادق التحية والتقدير.
أنور المعداوي(910/32)
الأدب والفن في أسبوُع
للأستاذ عباس حضر
مسرح المجتمع
كتاب جديد للأستاذ توفيق الحكيم، وهو كتاب ضخم يضم بين دفتيه إحدى وعشرين قصة تمثيلية عصرية. والمؤلف يتجه في هذه القصص إلى تصوير نواح وأنماط مختلفة من المجتمع المصري، ويعني عناية خاصة بما جد في هذا المجتمع في السنوات الأخيرة من تيارات واتجاهات وشخصيات كانت نتيجة للهزات الاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
ولذلك جاء الكتاب متحفا لحياتنا الحاضرة، جمع كثيرا من الأشكال والألوان، فبدت في مرآة المؤلف الفنان، فنا حيا يمتع ويستهوي ومن أبرز ما يحتويه هذا (المتحف) صور الأداة الحكومية وما يجري في مكاتب الوزراء وكبار الموظفين من النفاق ووسائل الوصولية، كما في قصة (بين يوم وليلة) التي تعطينا نموذجا لمدير مكتب الوزير، نراه متكرراً ملموسا في واقعنا، من أولئك الذين بزوا الحرباء في التلون؛ ومن محتويات (المتحف) صور للحياة النسوية في عراكها وتطلعها إلى أوضاع جديدة، وقد أعجبتني قصة (أريد هذا الرجل) التي جعل فيها الفتاة تذهب إلى الشاب لتخطبه. وهي صورة في غاية الطرافة والظرف، وأبدع ما فيها منطق الفتاة وهي تبرر مسلكها، إذ تقول لصاحبتها إنها لا ترى غضاضة في أن تسمع ممن تخطبه كلمة (لا) ما دامت هي صاحبة الإرادة الأولى.
(. . . ولكن الغضاضة عندي هي أن أشعر بأني حبيسة ذلك الوهم الذي نسجته الأجيال عن ضعفنا وحياتنا وعجزنا عن مجابهة الحقائق وتحمل النتائج، وأني سجينة ذلك البهتان والكذب والسخف الذي ألبسنا إياه خيال الرجال فجعل منا مخلوقات أشبه بعرائس المولد، أجسامها من حلوى وأثوابها من ورق مفضض مذهب، لا تتحرك إلا بيد الرجل، ولا تتحمل أكثر من لمس أصابعه. لا يا درية. . آن الأوان أن تكون لنا إرادة نصدم بها إرادة الرجل. . وأن نجرؤ على أن نتقدم إليه ونعرض عليه، ونرغمه على أن يجيبنا بكلمة (نعم) أو (لا) كأنه عذراء، وأن نمتع عيوننا بمنظره وقد علت وجهه حمرة الحياء!) وهو منطق سليم جدا، لا يملك العقل إلا أن يسلم به كما سلم الشاب (المخطوب) وأجاب بنعم. .(910/33)
وفي (متحف الحكيم) صور أخرى متنوعة معجبة، ومما يسترعي الانتباه عنايته بتحليل النفس الإنسانية والتعمق في أغوارها، ومن أمثلة ذلك قصة (أريد أن أقتل) التي عرض فيها زوجين يتبادلان عبارات المحبة التي تبلغ إلى حد أن يتمنى كل منهما أن يجعل الله يومه قبل يوم الآخر! وهي عاطفة، مهما صدقت، لن تجاوز الشعور الظاهر، ولكنه يظل سائرا بهما حتى يقفهما أمام القتل الذي لا بد منه لأحدهما، فيبرز ما استكن في الأعماق من إيثار النفس، وإذا كل منهما يود أن يقدم الآخر فداء له. . وفي القصة أيضا لمحة بارعة إلى ما أحدثه الكبت في نفس الفتاة التي أرادت أن تقتل أي الزوجين، من اضطراب عصبي وقلق نفسي.
ومما يسترعي الانتباه أيضا في (متحف الحكيم) تصويره للمرأة تصويرا كريما لا يتفق مع ما وصف به من أنه عدو المرأة، فقد أتى لها بنماذج طيبة كتلك الفتاة العصرية المفكرة الواعية التي خطبت فتاها، ومثل (النائبة المحترمة) التي صور متاعبها في (الحياة النيابية) تصويرا جديا وانتهى بها إلى موقف مشرف كريم عندما اضطرت إلى الاستقالة من عضوية البرلمان. ولا شك أن عدو المرأة هو الذي يريد لها المتاعب، وها نحن نرى الأستاذ الحكيم على عكس ذلك، فما أحراه أن يكون (صديق المرأة).
والأستاذ الفنان يجنح في هذا (المتحف) إلى (التجسيم) تجسيم المحاسن والمقابح وعرض النماذج البشرية كما هي، مع نظراته في الحياة التي يلقيها على ألسنة أشخاصه، ولكنه يترك لك الحكم واستخلاص الحقائق، حتى السخرية لا يمعن فيها لأنه يكتفي بإبراز السمات ويدعك وشأنك معها. وهو يعنى بأن يقدم إليك طريفا يمتع نفسك أكثر مما يعمل على اجتذاب مشاركتك الشعورية في الجو الذي يصوره.
وبراعة الأستاذ توفيق الحكيم في الحوار مقررة معروفة وأساس هذه البراعة حرصه على الواقعية، بحيث ينطق الأشخاص بما يمكن أن يقولوه في الطبيعة والواقع، ويجري على الألسنة العبارات الحية التي تأتي حيويتها من التقريب بين اللغة الفصيحة واللغة الدارجة، بحيث يرفع من الثانية إلى الأولى. هذا وقد لاحظت خروجا عن واقعية الحوار في موضعين، الأول في ختام قصة (بين يوم وليلة) إذ جعل خاطب بنت الوزير وهو في موقف التملق لمدير مكتب الوزير لشدة حاجته إلى معاونته جعله يقول له: (إن صاحب(910/34)
السلطة بسهولة يصدق الملق. . وبسرعة ينسى النفاق) فهو يصفه بأنه يتملق ونافق في الوقت الذي يعمل فيه على كسب رضائه ونيل مساعدته. وعلى ذلك يظهر لنا القائل الحقيقي وهو المؤلف الذي يريد التعبير عن هذه الحقيقة فلم يجد لها غير ذلك الذي لا تناسبه في موقفه. والموطن الثاني في حديث الفتاة التي خطبت الرجل، عندما شبهت المرأة في انتظار من يخطبها بالطائر (يخطر على أعشاب المروج في انتظار يد القانص الذي قد يأتي وقد لا يأتي. .) ولا شك أن الطائر لا ينتظر الصائد، وإنما هذا يفاجئه، بخلاف المرأة التي تنتظر متمنية.
وبعد فإنني أحيي الأستاذ الحكيم أطيب التحية، وأعرب عن إعجابي باتجاهه نحو المجتمع واستجابته لدواعيه، بهذه المجموعة من التمثيليات الحية النابضة.
وقد كان الأستاذ - في أكثر إنتاجه الماضي - يتجه إلى الأفكار المجردة العاجية. ولكنه شعر في الفترة الأخيرة بنداء المجتمع فلباه، وما أحسن ما فعل! وأنا - مكرها على هذه (الأنا) لأتحمل تبعة ما أقول - أعتقد أن من يمشي على الأرض ساعيا مع الناس في حركة ونشاط، خير وأسمى ممن يحلق مع الغربان في أجواز الفضاء. . .
مسرحية (البخيل)
هذه هي الرواية الثانية لفرقة المسرح المصري الحديث، قدمتها في الأسبوع الماضي على مسرح الأوبرا الملكية. وهي للكاتب الفرنسي موليير، وكان، قد ترجمها المرحوم محمد مسعود بك.
السيد (هارباجون) رجل بخيل، بل هو البخل مجسما في شخصه، لا يرى في الحياة ما يستحق العناية غير المال، لا يقيم لغيرة وزنا. يقتر على نفسه وعلى ولديه (كليانت) و (إيليز) أشد التقتير، ويقرض المال بالربا الفاحش، ويفرض على المقترض شروطا قاسية، ويصفه أحد أشخاص المسرحية بأنه إذا سلم قال (إني أقرضك السلام) ولا يقول (أهدي إليك السلام) لأن الإهداء أبعد شيء عن حياته، وهو يضن أن يجري على لسانه!
وهارباجون في الستين من عمره فقد زوجته أم ولديه، ويأبى مع ذلك إلا أن يتزوج فتاة في سن ابنته (إيليز) هي (ماريان) التي يحبها ابنه (كليانت) ويدور الصراع بين الأب المتصابي والابن العاشق على ماريان، يريد كل منهما أن يتركها له الآخر.(910/35)
ويصاحب ذلك علاقة حب أخرى بين (إيليز) ووكيل أبيها الفتى (فالير) في الوقت الذي يريد فيه هارباجون أن يزوج ابنته إيلز من رجل غني مسن.
وأخيرا يدبر كليانت مكيدة لأبيه إذ يسرق الصندوق الذي جمع فيه ماله. فيجزع هارباجون لفقد ماله، ويطالب المحققين بنصب المشانق للسارقين، فإذا لم يعثر على السارق طالب بالقبض على الناس أجمعين!
ويتهم فالير بالسرقة، فيدور بينه وبين هارباجون حوار ظريف بديع، إذ يقر الأول بالسرقة وهو يعني سرقة إليز التي اتفق معها على الزواج، ويحمل هارباجون الكلام على المال. ثم يظهر كليانت ويعترف بالسرقة ويبدي استعداده لإعادة الصندوق إذا تنازل له أبوه عن ماريان، فلا يتردد الرجل في إجابة هذا الطلب ما دام سيرد إليه ماله الذي هو كل شيء لديه.
ذلك ملخص مسرحية (البخيل) وهي تقوم على تحليل هذه الشخصية العجيبة، ورسم صورة البخيل كما هي في كل زمان وفي كل مكان، يتجه كل شيء في الرواية إلى إلقاء الضوء عليها، لتظهر سماتها وخصائصها، فإذا أنت أمام شخصية تعرف لها في الحياة أشباها، وإذا أنت تشارك المؤلف نظرته إليها وسخريته بما يجري منها وحولها، وإذا أنت إزاء مفارقات تغرق في ضحك لا يبعثه تدبير ولا قصد، لأن روح الدعابة يجري في الحوار وفي المواقف طبيعيا منسابا في جسم الرواية من أولها إلى آخرها.
والحوار مسوق في أسلوب أدبي، وهو يميل في أول المسرحية إلى التطويل في الحوار بقصد التعريف بالأشخاص أو الإنباء بالحوادث وتشيع فيه كلمات كثيرة عن الشرف والحب البريء والفضيلة وما إليها مما هو أدنى إلى الطريقة المباشرة في إلقاء الدروس. .
وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات، وأهم شيء يظهر به جهده في الإخراج، إسناد الأدوار إلى الممثلين والممثلات، وتحريك المجموعة كلها في اتجاه معبر عن جو الرواية، ويعجبني من الأستاذ زكي طليمات أنه يجعل كل فرد على المسرح جزءاً حيا من الحياة التي تجري فوقه، إذ يظهر الظلال والأصداء على سمات الواقفين الساكتين كأنهم ينطقون مع الناطقين. على أنني لا أدري لم ظهرت إليز وفالير في أول الرواية على مؤخرة المسرح، وكنت أوثر أن يتقدما نحو الجمهور. وقد رأينا النور يسطع فجأة عندما دخل(910/36)
كليانت معلنا أنه السارق، ويبدو أن ذلك مقصود به ظهور الحقيقة الساطعة بعد الظلام الذي كان يجري فيه التحقيق، فهو تعبير بالضوء، ولكن مع ملاحظة هذا الهدف المعنوي شعرت بالانتقال المادي المفاجئ من الظلام إلى النور، وهو انتقال يوغل في البعد عن الواقعية.
وقد مثل دور البخيل سعيد أبو بكر فأجاد فيه إلى حد بعيد، حتى ليخيل إلى أنه لم يخلق إلا ليكون هارباجون البخيل، ويليه في الإجادة صلاح سرحان في دور فاليرا، فقد كان موفقا في تمثيل المداهن اللبق الذي يستجلب الرضى بنفاقه وفي الوقت نفسه يصل إلى ما يريد. وقد برحت نعيمة وصفي في دور (فروزين) المرأة الناعمة التي أرادت خداع البخيل عن شيء من ماله، وقد كان حريا أن ينخدع لما بذلته معه، ولكنه البخيل. .
وكان عدلي كاسب خفيف الظل. وقامت كل من زهرة العلى وانشراح الألفي بدوريهما في توفيق، غير أن الأولى تحتاج إلى مران في إشباع النطق العربي الفصيح.
حول مشكلة القراءة:
تلقيت من الأستاذ عبد الخالق الشهاوي، رسالة يعقب فيها على ما أثير على صفحات (الرسالة) حول مشكلة القراءة. فيما يلي أهم ما يقوله.
(ليس بي حاجة إلى أن أقرر أن 90 في المائة من طلبة جامعاتنا على أقل تقدير - يهتمون - إلى أبعد حدود الاهتمام - بالزي وبالسينما، وبقراءة المجلات الرخيصة التي لا تحمل حتى قشور الثقافة، بل إن بعض الطلاب - ولا أقول الطالبات - يتابعون أحدث تطورات الأزياء! فإذا بقى للعلم متسع من وقت شبابنا (الحي) فإنما هي أيام قبيل الامتحان (يحفظ) فيها ما يخف حمله ويغلو ثمنه. . وإذا هو بعد سنوات في المجتمع المسكين ينشئ جيلا أو يدير عملا خاصا أو عاما. .
(وتعود أصول هذه المأساة أولا إلى الأيام الأولى في البيت المصري المريض، وثانيا إلى النقص الكبير الذي نعانيه في تنظيم برامج التعليم في جميع مراحله، وثالثا إلى الأساتذة والقائمين على تكوين العقل المصري. . فالجامعيون منهم ليس لهم من الجامعية سوى الاسم، أما في المدرجات فالمتبع هو الطريقة المدرسية (المتحفية) التي تسير بالجيل إلى ما رسمه (دانلوب) من أساليب تعليم لا يكون متعلمين، وإنما يوجد موظفين يقطعون الوقت بالحديث عن العلاوات وتعمير المقاهي ودور السينما. وهكذا نسير في دائرة مفرغة: طلبة(910/37)
لا يعرفون واجباتهم يتخرجون لواجهوا جيلا يسير إلى مصيرهم التافه. .
(فالمشكلة ليست مشكلة مال، وإني لأخجل حين أرى مكتبة الجامعة والمكاتب العامة تصفر صفير المقابر. . فليست الأزمة اقتصادية ولا هي أزمة في التأليف، فمكاتبنا بحمد الله تشكو التخمة وعدم التصريف. . وإنما هي في صميمها (أزمة سياسية) وإليك الدليل:
(كلنا يحفظ تلك الكلمة الخالدة (الشعب الجاهل أسلس قيادا من الشعب المتعلم) وكلنا يعلم أن التعليم ثورة خفية وقوة كامنة رهيبة. . . هو النور الذي يخشاه خفاش الاستعمار، فالاستعمار الذي رسم طريق التعليم الجاف العقيم)
وأنا أوافق الأستاذ الشهاوي على مدخل (السياسة) في الموضوع، فنحن لا نزال نسير في تعليمنا على تلك الأسس التي أريدت لنا، وذلك بدافع (القصور الذاتي) وبدافع العقليات التي كونها التعليم الاستعماري ولا تزال تشارك في توجيه التعليم.
وقد مر الأستاذ عابرا بمسألة (البيت المصري) باعتباره جذرا من جذور مشكلة القراءة المتشعبة المتغلغلة، فالناشئ عندنا يشب - غالبا - في بيت ليس فيه للكتاب مكان وأذكر أني شاهدت معرضا لكتب الأطفال أقيم في القاهرة من نحو سنتين، كان يحتوي على كتب بلغات أجنبية وأخرى باللغة العربية، فرأيت هناك عددا كبيرا من الأجنبيات يفحصن ويتأملن الكتب المعروضة بعناية وانتباه، كي يخترن لأولادهن ما يغريهم بالقراءة ويجدي على عقولهم، ولم أر في المعرض مصرية واحدة. . . وهذا طبيعي، لأن الأم المصرية نفسها لا تقرأ، فما الذي يحفزها على طلب ما يقرأ لأولادها؟
عباس خضر(910/38)
رسالة الفن
مسرحية (ابن جلا)
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
إخراج الأستاذ زكي طليمات
تمثيل فرقة المسرح المصري الحديث على مسرح دار الأوبرا
الملكية
للأستاذ أنور فتح الله
بدأت فرقة المسرح الحديث حياتها في منتصف هذا الشهر. وكانت بالأمس أمنية في نفس الأستاذ زكي طليمات، ظل يجاهد ويكافح حتى أخرجها إلى عالم الوجود، لتجمع شمل خريجي المعهد العالي لفن التمثيل، ولتكون ميداناً يعملون فيه على النهوض بالمسرح المصري.
ونحن إذ نرحب بهذه الفرقة الغنية بالمواهب الشابة، والقلوب الفتية، والثقافة الفنية، لا يسعنا إلا أن نرجو لها التوفيق في أداء رسالتها، ونتمنى أن يكون مولدها بدء نهضة جديدة في المسرح المصري.
وقد افتتحت الفرقة موسمها التمثيلي بمسرحية (ابن جلا) للأستاذ محمود تيمور بك.
وقد اتخذ المؤلف حياة الحجاج بن يوسف الثقفي موضوعاً لمسرحيته. واختار الفترة من سنة 32 هجرية إلى سنة 95 هجرية ليصور منها حياة الحجاج من بدء ظهوره في تاريخ الدولة الأموية إلى يوم وفاته. فصوره في الحادية والثلاثين من عمره وقد تولى أمر عسكر عبد الملك بن مروان بالشام ثم صوره قائداً للجيش الذي فتح مكة وانتزعها من عبد الله بن الزبير ثم والياً على المدينة ثم والياً على العراق، إلى أن يصوره وهو على فراش الموت.
وقبل أن نعرض المسرحية، أو نتعرض لها، نرى لزاماً علينا أن نحدد الفرق بين التاريخ والمسرحية التاريخية.
فالتاريخ يسجل حقائق حدثت في الماضي، ولم تعد تمتد إلى الحاضر لتؤثر فيه. أما(910/39)
المسرحية فماض مستمر في الحاضر؛ ومادة التاريخ وثائق ومحفوظات، وقيمته إخبارية بحتة. . والمسرحية على العكس من ذلك، فهي لون من ألوان الأدب الحي لقدرته المستمرة على الإثارة الفكرية والعاطفية. فالمسرحية التاريخية إذن تصور الواقع التاريخي تصويراً يعيد خلقه على نحو حي، وترتب هذا الواقع التاريخي في صورة فنية تثير المشاهد، وتولد الأثر الذي يهدف إليه المؤلف. فالمقياس إذن، هو مدى قدرة المؤلف على بعث الحياة في الواقع التاريخي، ومقدار توفيقه في التأثير على المشاهد. ولتحديد ذلك نستعرض المسرحية.
. . . في سنة 72 هجرية نرى الحجاج وقد أصبح قائداً في جيش أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وقد ظهرت في حياته امرأة هي (الأهوازية). .
وبعد ذلك بعام يصبح الحجاج قائداً لجيش الخليفة بالقرب من مكة، ونرى ابن حكيم وابنته عفراء يدخلان عليه، ويستنجزانه وعده للعفراء بالزواج، فيردهما خائبين. وعندما تراهما الأهوازية، وتسأله عن الفتاة فيجيبها بأنها رفيقة صباه، وأنه سيتزوجها، فتغار، وتثور غاضبة مهددة، فيصرفها في لين. . ويعود أحد الرسل فيخبره بأن ابن الزبير قد أبى الاستسلام، فيأمر بضرب الكعبة بالمنجنيقات. ويعين الحجاج والياً على المدينة ويطلب من عبد الله بن جعفر أن يزوجه ابنته أم كلثوم، فيأبى لأنه هاشمي، وتقتحم الأهوازية عليهما القاعة، فينصرف عبد الله، وتتوسل إليه الأهوازية أن يعرض عن هذا الزواج لأنها تحبه، فيصر على عزمه، وتعميها الغيرة، ويثيرها الغضب فتهدده بالكيد له.
. . . ويصبح الحجاج والياً على العراق. . ونراه في قصره بالكوفة يسأل عن أنباء الأهوازية بعد أن هربت. . وإذا بسهم يصيبه في كتفه، وتقبض الشرطة على الضارب فإذا به الأهوازية!. . وقد أرادت أن تقتله لتنساه. وتطلب منه أن يقتلها ليخلصها من العذاب الذي تقاسيه، فيقترب منها، مبدياً إعجابه بفتنتها، وجسدها الرائع، وتكاد شفتاهما تتلامس، لكنه يقذف بها بغتة مصرحاً بأن الحب لا يقع منه ببال. . . ثم يخبرها بأنه سيخطب هند بنت أسماء. . وتنتهز الأهوازية فرصة غفلته عنها، فتلقي بنفسها في النهر، فيصيح الحجاج بالجند ليدركوها، ويأتوه بها حية أو ميتة. . . وتستعين الأهوازية بشبيب على الحجاج، وتعده بأن تكون له، إذا مكنها من الحجاج الذي أذلها. . ويعلن شبيب أنه سيفاجئ(910/40)
الكوفة الليلة، ليظفر بالحجاج. . . وفي نفس الليلة، نرى الحجاج في قصره وقد حاصره جند شبيب، وأرسل له رسولاً يفاوضه،. . ويدخل الرسول وإذا به الأهوازية أيضاً! ويقبل عليها الحجاج معاتبا. . . لائما. . . يصرح لها بالحب وكان بالأمس يرفض حبها، ويذل قلبها، ولكن الأهوازية تطلب منه أن يسلم نفسه فيركع عند قدميه في تذلل قائلا (رحماك (يا أهوازية رحماك) فتقول له دعني دعني لا تخدعني) وتصر على أن يسلم نفسه، فيأبى، فتنصرف. وتمر برهة وتدوي الأبواق. . وينظر الحجاج من الشرفة فيرى الجند يجلون عن القصر، فيقول مهتاجاً (يا لقلب المرأة! لقد خدعتها فخدعت هي صاحبها) ثم يأمر الجند بأن يرموا ظهر الأهوازية بالنبال. . فيقول له عنبسة (أتضرب ظهر من عملت على إنجائك أيها الأمير؟) فيأمر الحجاج جنده بأن يسددوا الضرب.
. . . وفي سنة 90 هجرية. . . ترى الحجاج في مقر ولايته بمدينة واسط. . . وقد أضناه المرض. . . نرى الأهوازية وقد عادت إليه، وأصبحت سيدة قصره. . . وتشتد العلة بالحجاج. . . ويأتيه كاتبه يزيد فيخبره بأن سعيد بن جبير ينتظر الإذن في الدخول ليحاسب في أمر خروجه مع ابن الأشعث. . فيأذن له في الدخول. . .
. . . ويأتي سعيد بن جبير وهو مقيد بالأغلال. . . ويدور الصراع بينهما. . . وينتهي بأن يأمر الحجاج بقتل سعيد. . . وعندما يقتل، يضطرب الحجاج، ويجزع، وتحتبس أنفاسه. . . ثم يهدأ قليلاً. . . ويأتيه رسول قتيبة بحفنة من تراب الصين. . . فيأمر أن تزف البشرى إلى أمير المؤمنين. . ويلفظ نفسه الأخير. هذه هي المسرحية. . . وقد التزم المؤلف جانب التاريخ في تصوير حياة الحجاج السياسية. . . وبما كتبه المترجمون في تصوير حياته الخاصة وعاداته وميوله وطباعه. . وأخبار غزواته. . وآرائه في الحكم والسياسة. . .
وأراد المؤلف أن يبعث الحياة في هذه الصورة التاريخية، وذلك بتصوير الجانب العاطفي في حياة الحجاج. . فخلق من مخيلته شخصية الأهوازية وتجعلها تحتك بالحجاج في مواقف عدة، وطول بذلك أن يقيم الصراع بينهما وينفذ من هذه الزاوية الإنسانية إلى قلب المشاهد ليؤثر فيه. فهل وفق المؤلف في فرضه؟ ذلك ما سنحاول أن نبينه بمناقشتنا للجانب العاطفي الذي صوره المؤلف في مسرحيته.(910/41)
وأول ما نأخذه على المؤلف هو اعتماده على الممثلة في تصوير المرأة في حياة الحجاج، وكان من الخير له أن يستند في تصويره على امرأة حقيقية لها مع الحجاج قصة عاطفية فيجسم هذه القصة، ويكملها من مخيلته ليصل إلى غرضه، وبهذا تبدو الصورة للمشاهد قريبة من الحقيقة، فيستجيب لها. أما أن يعتمد على صورة خيالية لا تمت للواقع التاريخي بأية صلة، فهذا من شأنه أن يشعر المشاهد بغرابة الصورة، وينفره منها.
ومن حيث الصراع العاطفي، وهو الأساس الأول في التأثير على المشاهد في مثل هذه المسرحية التاريخية. نرى أن المؤلف لم يحتفظ بالتوازن بين قوة الحجاج وقوة الأهوازية، ليقيم بينهما صراعاً عاطفيا متكافئ القوى فالأهوازية لم تستطع النفاذ إلى قلب الحجاج في أي موقف من المواقف. بل كان موقفها سلبياً في كل موقف التحمت به. فهي تغار وتثور وتهدد عندما ترى عفراء، وتعلم أنه سيتزوجها، فيصرفها الحجاج بكلمة. . وعندما تعلم برغبته في الزواج من أم كلثوم تفر منه، وعندما تعلم بعزمه على الزواج من هند بنت أسماء تلقي بنفسها في النهر. . . وعندما يحاصره شبيب، يوهمها بأنه يحبها، فتفك الحصار عنه. . وعندما يفك الحصار، يأمر جنده بضربها بالسهام. ومع كل هذا تعود إليه وبهذا انتفى الغرض الأول من خلق هذه الشخصية وهو إقامة الصراع بينها وبين الحجاج.
وعلى الرغم من كثرة المشاهد العاطفية بين الحجاج والأهوازية لم يستطع المؤلف أن يعطينا أية فكرة عن حياة الحجاج العاطفية. فقد صوره معجباً بها، عطوفاً عليها، وهو مع هذا منصرف عنها يرغب في الزواج من عفراء، ثم من أم كلثوم وهند بنت أسماء ليحقق أغراضه السياسية.
وعندما فرت منه جعل يبحث عنها، وعندما حاولت قتله أبرزه متساهلا معها، ثم جعله يقترب منها مظهراً افتتانه بها ثم راح يقذفها على الأرض معلناً أن الحب لم يقع منه ببال، وعندما ألقت بنفسها في النهر راح يصرخ في الجند أن يأتوه بها حية أو ميتة، وعندما أقنعت شبيباً بفك الحصار عنه، أمر الجند بضربها بالسهام. ومن هذا يبدو جليا أن المؤلف كان يبتعد في كل خطوة يخطوها عن الغرض الذي خلق من أجله شخصية الأهوازية، وأنه كان يفسر الغموض بالألغاز.
ولقد كانت المشاهد العاطفية بين الحجاج والأهوازية مكررة ومتشابهة تمام الشبه. فموقف(910/42)
الأهوازية من الحجاج عندما سمعت أنه سيتزوج من عفراء، هو نفس موقفها منه فيما يختص بأم كلثوم، وكذلك فيما يختص بهند. في تثور ثم تهدد، ثم تعود لتقف نفس الموقف، وكذلك موقف الحجاج منها فهو كل مرة متساهل متسامح، وعندما تحاول أن تلين قلبه، يقترب منها ثم يبتعد نافراً، ثم يعلن أنه سيتزوج من غيرها.
هذا، وفي كل مرة تظهر فيها الأهوازية لتلتحم بالحجاج، أو تختفي فراراً منه، كان يصاحب ظهورها أو اختفاءها مفاجأة مفتعلة، بعيدة عن المنطق والعقل. فقد ظهرت في حياته فجأة، مدعية أن روح بن زنباع خمش وجهها لتنقذه من غضب الخليفة، وهذه ولا شك طريقة صبيانية لا يقبلها عقل أو منطق. وقد أمرها الحجاج بالذهاب إلى مكة، فعادت إليه متخفية في صحبة عبد الله بن منصور في اللحظة التي كان يخطب فيها أم كلثوم لتفسد عليه خطته. ثم فرت منه لتعود إليه فجأة متخفية في ثياب فتى أعرابي لتقتله. ثم تلقي بنفسها في النهر لتعود متخفية في ثياب رسول من رسل شبيب لتفاوضه في تسليم نفسه، وبعد أن يأمر الجند بضربها بالسياط نراها وقد عادت إليه راضية قريرة. . . وبهذا الافتعال والتلفيق بدت هذه الشخصية في صورة خرافية بعيدة عن الطبيعة والصدق.
ومن هذا يتضح أن الجانب العاطفي الذي صوره المؤلف من مخيلته، بعيد كل البعد عن الحياة، ولا تأثير له على المشاهد وبهذا فقدت المسرحية القدرة على بعث الحياة، والإثارة، ولم يبق فيها سوى الجانب التاريخي.
ولقد أساءت شخصية الأهوازية إلى الصورة التاريخية للحجاج، وتعارضت مع أبرز صفاته، وهي القسوة الصرامة، فالحجاج الذي لا يتسامح أبداً، كان متسامحاً معها، يعفو عنها وقد حاولت قتله، بل إنه ليستخدم أساليب الخداع عندما حاول استمالة قلبها في مشهد الحصار، وقد أظهر المؤلف الحجاج في موقف يتنافى مع الشهامة العربية عندما أمر الجند بضرب الأهوازية بالسياط بعد أن أنقذته من حصار شبيب.
والخط الذي سار عليه المؤلف في تتبع الحجاج في فترات حياته المختلفة، هو نفس الخط الذي سار عليه المؤرخ والمترجم، ولانعدام الصراع بدت المسرحية من حيث الموضوع، وكأنها عرض تمثيلي لحياة الحجاج. ولتقيد المؤلف بحرفية التاريخ، وبطلان تأثير الجانب العاطفي الذي تخيله، انقطعت صلة المسرحية بالحاضر وأصبحت قيمتها إخبارية بحتة.(910/43)
هذا، وعلى الرغم من ولع المؤلف بالتاريخ وتقيده به، فقد فاته أن يستغل امرأة قوية لها قصة مشهورة في حياة الحجاج، وكان يبنه وبينها صراع عنيف، لو جسمه المؤلف وسلط عليه أضواءه، وركز فيه موضوع مسرحيته، لنفذ إلى قلب الحجاج. . . تلك المرأة هي هند بنت أسماء التي تزوجها قسراً، فذهبت إلى الخليفة تشكو إليه أمرها، فأجبر الحجاج على تطليقها، وأمره أن يقودها إليه وهو يمسك جملها، ليتزوجها فلما كانت في بعض الطريق، ألقت بدينار، وقالت للحجاج (قد سقط مني درهم فأتني به) فبحث فوجد ديناراً فقال (بل هو دينار) فقالت (الحمد لله الذي أبدلنا الدينار بالدرهم) وهي أيضاً التي قالت فيه:
وما هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهراً فلله درها ... وإن ولدت بغلا فجاء به البغل
فلو استبدل المؤلف الأهوازية بهند، وكمل الحقيقة بالخيال لأقام صراعاً عاطفياً قوياً يرتكز على أساس من الواقع.
وإذا نظرنا إلى بناء المسرحية. . وجدناها لا تقتصر على حادث مسرحي واحد يرتكز فيه موضوعها، بل هي تتضمن أحداثاً مختلفة تصور حياة الحجاج السياسية الحربية والاجتماعية والعاطفية كقصته مع روح بن زنباع، ورميه الكعبة بالمنجنيقات وقصته مع عفراء، وعبد الله بن جعفر، وحربه مع شبيب، ومحاصرة قصره، وقصة مرضه وحادث الأعرابي، وقتل سعيد بن جبير، ثم وفاته. فكل هذه الأحداث قد أخلت بوحدة الحادث المسرحي، فقضت على التركيز، وكانت سبباً في تشتيت انتباه المشاهد. ولانعدام الرابطة بين هذه الأحداث، ولدورانها حول شخصية الحجاج فقد طغى على المسرحية جانب العرض. وليس لهذه المسرحية عقدة، ولا يعرف لها بداية ولا نهاية، فكل منفصل عن الآخر، ومن السهل أن نبدأ المسرحية من أي منظر فيها وننهيها بأي منظر يتلوه، ولو حذفنا أي منظر لما أحسسنا بنقص فيها.
ولانعدام التعارض بين الشخصيات الرئيسية، وبعد المؤلف عن الصدق في تصوير الطباع والميول البشرية، انعدم الصراع المسرحي الذي يثير المشاهد ويحرك قلبه، وأصبح من المتعذر جذب انتباهه إلى خط سير الأحداث، وإثارة غريزة حب الاستطلاع في نفسه، ليتطلع إلى الأحداث اللاحقة.(910/44)
ولعدم ربط المؤلف بين الماضي التاريخي والحاضر الواقعي، وذلك بأن تكون المشكلة التاريخية شبيهة بمشاكل الحاضر الذي نعيش فيه، انقطعت صلة المشاهد بها، وبعدت عن مشاكل الحياة، وهي من أهم ضرورات المسرح.
ولقد كان الحوار مثقلاً بالعبارات الطويلة، والأوصاف والأخبار المملة، وبهذا انعدم التركيز في الحوار، وفقد الشحنة العاطفية التي تثير عقل المشاهد وقلبه.
قام بالإخراج الأستاذ زكي طليمات وسار فيه على المذهب الإيجابي الذي يرمز للكل بالجزء، فيجسم جزءاً من المنظر، ويكمله بالأستار. وبهذا استطاع أن يلاحق مناظر المسرحية الثمانية. وكان موفقاً في خلق جو المسرحية، ففي المناظر الخارجية صور الصحراء بخيامها؛ وسفح الجبل، والسماء الصافية، فبدت وكأنها لوحات رسمتها يد فنان. وفي المناظر الداخلية، أبرز قصر الولاية بالمدينة، وبالكوفة وواسط، في جو من الفخامة والترف متدرجاً في ذلك مع حياة الحجاج في تطورها.
وكانت الإضاءة ترمز للجو النفسي العام في الموقف المسرحي، وتضفي على المناظر هالة من السحر.
وكان المخرج ممتازاً في تحريكه للمجتمعات فلم نشعر بتكتلها أو جودها، واستطاع أن يطابق بين الإيقاع الحركي والإيقاع النفسي، فالمجموعات في حالة الحرب سريعة الحركة، وعند حصار القصر بطيئة لتصور جو الحزن واليأس الذي يثيره الموقف المسرحي.
وليس من شك في أن أثر المخرج كان بارزاً وراء كل ممثل، وكل حركة أو إشارة، فبدأ الجميع في وحدة فنية تتعاون على بعث الحياة على خشبة المسرح.
وقام الأستاذ زكي طليمات بدور الحجاج. وهذا الدور يمثل الحجاج شاباً صارماً طوحاً وينتهي بتصويره شيخاً قد أضناه المرض وخمدت في نفسه جذوة الطغيان والشر وبدأت عوامل الخير تصارع عوامل الشر نفسه، فأصبح مترددا بينها. وتمثيل مثل هذه الشخصية يحتاج إلى طاقة انفعالية قوية ليتسنى لممثلها أن يفصح عن باطن الحجاج الذي أضرمته غريزة المقاتلة، وأشعلته نزعة القسوة والظلم وقدرة الممثل على الانفعال في مثل هذا الدور ترجع إلى السن والتكوين العضوي وقد بذل الأستاذ زكي مجهوداً كبيراً ليعوض الفارق بينه وبين طبيعة الدور الذي يمثله معتمداً في ذلك على الحركة والصوت والانفعال بالقدر(910/45)
الذي يسمح به تكوينه وسنه. فأدى به ذلك إلى المد في العبارة والضغط على آخرها، وغلب على أدائه النغمة الكلاسيكية. وفي المنظرين الأخيرين، عندما التقت طبيعته بطبيعة الدور الذي يمثله، ارتفع إلى القمة في أدائه.
وقام الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني بدور عبد الملك بن مروان، فجسمه في حكمته وحزمه وإنسانيته، وأبرز الخطوط الخفيفة التي تصور معالم شخصية دوره بالصوت المعبر، والانفعال المتزن، والحركة المصورة.
وقام الأستاذ محمد السبع بدور سعيد بن جبير فجسم ثورته على بني أمية بالنار المندلعة في العبارات التي كان ينبذ بها في وجه الحجاج، والنبر الصوتي القوي المشحون بالغضب والإيمان.
وقام الأستاذ أحمد الجزيري بدور أبي بردة، وهو رجل تقي ورع ساذج، فبلور هذه الشخصية بروحه الخفيفة الشفافة، وأثار المرح العميق في القلوب بحركاته الطبيعية، وأدائه الصادق، وأثبت في اللحظات التي ظهر فيها أنه ممثل كوميدي راسخ في فنه.
وقام الأستاذ سعيد أبو بكر بدور الخصي بهروز، فكان موفقاً فيه، وأضحك المشاهد بتصويره الكاريكاتيري لهذه الشخصية.
وقام الأستاذ محمد الطوخي بدور ابن حكيم فصور بصوته القوي الطيع حنان الأب الذي يتعلق بالأمل، ليسعد ابنته.
وقام الأستاذ عدلي كاسب بدور شبيبب فساعده جسمه على الظهور بمظهر القائد الثائر، وساعده أداؤه الجيد على تصوير المحب الوالد.
وقامت بالدور النسائي الأول السيدة نعيمة وصفي، وهو دور الأهوازية. فجسمت غيرة المرأة المتنمرة، وغضبها إذا جرحت في عزتها، وحبها العارم للحجاج، وحقدها عليه لإذلاله قلبها، ثم مثاليتها عندما ارتوى قلبها المحروم. لقد صورت هذه الألوان العاطفية المتباينة، في طبيعة وصدق. وأثبتت أنها ممثلة جديرة بأن تقوم بالأدوار الرئيسية.
وقد برز من طلبة المعهد، سعد قردش، وفوزية مصطفى، فنجح الأول في دور عبد الله بن جعفر، ووفقت الثانية في دور عفراء وامتازت بصوتها المرن الحنون.
. . . وبعد. . . فقد أثبتت فرقة المسرح الحديث وجودها في عالم المسرح. وبلغت ما كان(910/46)
يرجى لها من نجاح بفضل مخرجها إلى الحياة، ومن ورائه أبناؤه الذين كان له الفضل الأول في اكتشاف مواهبهم، وصلتها بالثقافة الفنية.
أنور فتح الله(910/47)
البريد الأدبي
حول (كلمة غريبة في مقال)
قرأت في عدد 909 من الرسالة الغراء كلمة للأديب السيد عبد الخالق عبد الرحمن من بغداد يعلق فيها على مقال للأستاذ علي العماري بعنوان (دم الحسين) وقد استغرب السيد عبد الخالق وأخذته الدهشة من تطرق الأستاذ العماري إلى رواية تعد من الخزعبلات والأباطيل!! أما الرواية فهي: أن (الفارس الذي منع (الحسين) الماء مات عطشان بالرغم من أنه كان يسقى الماء حتى يبعر ثم يعود فيشرب حتى يبعر وما زال كذلك حتى لفظ أنفاسه) ومنشأ الاستغراب عند السيد عبد الخالق من أنتكون للحسين فضيلة يظهر أثرها في حياة مانعه الماء. وأحسب أن الشك يسري بالأديب المستغرب إلى حديث (الغمامة) التي كانت تظل النبي (ص) وإلى كراع (المعز) التي أشبعت جيش النبي، وإلى عادة هز الكتفين التي لازمت أبا جهل حين كان يسخر من مشية النبي، وإلى حديث (التلباثي) على حد تعبير الأستاذ العقاد، وغير ذلك من الروايات المماثلة التي تعج بها بطون الكتب الدينية والتاريخية. وقد تستفز السيد عبد الخالق هذه المقارنة بين النبي (ص) وبين سبطه الحسين، وأؤكد له أن موقفي حيال هذه الروايات التي تعد خرقاً للطبيعة موقف التشكيك والتأمل، ولكن تصديقي رواية (الفارس) التي ذكرها الأستاذ العماري قد لا يعترضه الشك لا لسبب ديني ولكن لسبب آخر يستند إلى (علم النفس) وحده، فإن قتل الحسين على تلك الصورة التي تحدث عنها التاريخ (المحايد) لم يكن هيناً على المسلمين. ولعل هذا (الفارس) الذي يمنع الحسين الماء قد ندم وشعر بجسامة ذنبه مع ابن بنت نبي المسلمين الذين يزعم (الفارس) أنه منهم، أو أن الضمير الإنساني الذي استيقظ فيما بعد نبهه إلى فظاعة الجرم فانتهى به المطاف إلى الندم الشديد ولكنه ندم لا تستجيب له العقيدة الدينية أو الضمير الإنساني، ثم انتهى به الندم غير المجدي إلى عقدة نفسية وحالة من اللاشعور تدفعه إلى اعتياد شرب الماء فلا يرتوي أو لا يكاد يرتوي حتى يعود إلى الشرب نتيجة للإرادة اللاشعورية.
وهذه الرواية أصدق ما تكون بالنسبة لهذا الفارس لأن الصورة التي طلت ترافقه وتهيمن على ضميره اللاشعوري هي مشهد النهر ومشهد الحسين حين يقترب إلى النهر ليشرب(910/48)
الماء، ومشهد الفارس يمنعه شرب الماء بالقوة، ولباعث من العقيدة الدينية أو الضمير الإنساني خلق هذا المشهد عقدة نفسية في هذا الفرس ولا يبعد أن تكون هذه العقدة قد أدت به إلى مرض في الجسم لا يشفيه إلا الماء فكلما تذكر المشهد اندفع إلى الماء ليشرب ويبقى يكرر العملية بوعي أو بدون وعي.
وقد أثبت العلم الحديث كثيراً من الحالات الشاذة التي ترجع إلى عوامل نفسية بحتة، تبقى ما بقيت هذه العوامل وتزول متى زالت، كما أن اعتياد بعض الأعمال والإدمان عليها بإرادة أو بدون إرادة كثيرا ما يرجع إلى مرض نفسي وإلى عقدة تنشأ من حادث يمر بحياة الإنسان فيدفعه إلى الشذوذ أو المرض الجسمي، وفي الماضي القريب قرأنا: أن رجلا شفي من مرض السل بعد وفاة حماته بلحظات. وأثبت الطبيب المشرف على علاجه أن مرضه لم يكن إلا نتيجة لعقدة نفسية.
وبعد فإن رواية عطش (الفارس) وعدم ارتوائه لا تدعو إلى الاستغراب والدهشة واستهجان (نخبة ممتازة من الشباب المثقف) ببغداد ولا تستدعي لوم (الرسالة) على نشرها لأنها من الأساطير والخزعبلات!! ما دام (الشباب المثقف) يجد مفتاحا لحل مثل هذه الأساطير والخزعبلات على ضوء العلم الحديث، وقد تنبهت (الرسالة) نفسها فعلقت على الكلمة بقولها: (لعله أصيب بهيضة) وليس بغريب أن يكون ذلك سواء أكان نتيجة لتلك العقدة النفسية التي سببها ذلك المشهد الخطر أم جاء هذا المرض عفواً فرافق حياة الفارس وكان جزءاً من تاريخه.
أما إذا لم يكن هناك تفسير لمثل هذه الروايات فإني مع المستهجنين الذين لا يرون في نشرها إلا تضليلا للعقول واستثارة للعواطف الدينية.
القاهرة
عراقي
أيها اللاجئون. . .
أقبل الشتاء أيها اللاجئون: وعلى وجهه ظلمة القبر، وفي قلبه قسوة الكفر، وعلى شفتيه صيحة الذعر، وعلى راحتيه ألف زوبعة وزوبعة. . .! أقبل الشتاء أيها اللاجئون: وحشو(910/49)
كسائه الأعاصير الهوج، وستر أعضائه السحائب السود، وبصيص عينيه بورق وامضة، وملء جبينه رعود قاصفة، لها في الأسماع ألف قرع وقرع، وألف طنين وطنين!
أقبل الشتاء أيها اللاجئون بارز الناب والمخلب، طويل النصل والسوط. ولكنه - بالغة ما بلغت لذعات سياطه من القسوة والشدة، وكائنة ما كانت نصال ظباه من المضاء والحدة - ليس شرا مما عانيتم وقاسيتم، وليس أسوأ مما كابدتم وجاهدتم، وهل رأيتم موقداً أخشن من الجوع والفاقة، ومورداً أكدر من الضعة والحاجة، ومتكأ أقسى من الذل والهون. .؟!
أقبل الشتاء أيها اللاجئون: وقد بدلتم بالقرار الفرار، وبالمنازل النوازل، وبالرحاب الخراب. .!
أقبل وقد بدلتم بالتسويد التشريد، وبالنعمة النقمة، وبالعلاء البلاء. .! أقبل وأمركم بين يدي حريص ومضيع، وفي وعاق، ولكم الله بين هذا وذاك. .! فماذا ترجون. .؟! والقوم قد ضاقت بكم حدودهم، كما ناءت قبل ذاك جنودهم. .!
ماذا ترجون وقد ركنوا إلى أحاديث يذيعونها، وأهوال يسوقونها (وقلوب يهبونها) بعد أن غدرت بهم قلة الذخيرة، وأضلتهم متاهات الأطماع، وأودت بهم قذارات النفوس. بل ماذا ترجون سوى أن يزجوا إليكم كل يوم قولا واهياً وأملا خابياً، ووعداً كاذباً. .!
ولا بأس أن يطالبوا بأن تفرحوا وتستبشروا، وتبتهجوا ولا تبتئسوا، ألم يقل أحدهم إن قلوبهم معكم، وإنهم حريصون على تدبير المستقبل لكم؟ وهل هناك أغلى من القلوب؟ وقد منحتموها، أو أثمن من الأفئدة؟ وقد وهبتموها. فلتتلمسوا فيها الدفء والغذاء والكساء، ولتتحسسوا فيها السلوى والعزاء والدواء. .؟ وماذا يضرهم بعد هذه الهبة الرائعة لو متم جوعاً وظلماً؟ وماذا عسى يضيرهم بعد تلك المنحة الرفيعة، لو هلكتم فريسة الفقر والعنت والإملاق بل ماذا يهمهم لو عشتم في الحاضر البائس المميت - أشباه موتى أو أشباه أحياء - حتى يدبروا لكم المستقبل الباسم السعيد. .؟ ألا ما أكرم هؤلاء السادة. .؟ فحذار أن تنسوا هذا الكرم فإن ذلك يتنافى مع إخلاص البائسين. .؟ وحذار ألا تتمنوا لهم أطيب المنى، وأهدأ الأحلام. أي إخواننا: إن كانت الصهيونية تطلق على كل من كان سبباً في طرد فرد أو أفراد من مقارهم، وإن كنتم سميتم باللاجئين لأنكم أخرجتم من مطرح إلى مطرح، فإبليس إذن أول الصهيونيين، وآدم إذن أول اللاجئين وأبو اللاجئين: فعزاء به(910/50)
واقتداء، وليعلم كل عربي أنه لاجئ في وطنه، وغريب في بلاده، مهما حاول أن يؤكد غير ذلك بأغلظ الإيمان، حتى تندمل جراحكم، وتلتئم قروحكم، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً. .
أحمد قاسم أحمد
خطآن: مطبعي وقلمي
خطآن وقعا في مجلة الرسالة الغراء بالعدد 909: مطبعي في مقال الأستاذ الزيات إذ وردت به هذه العبارة (وإذا وقع على مجلة في الطب أو مقالة في العلاج أو إعلاناً عن دواء. . .) والصواب إعلان بالكسر.
وقلمي في مقال الأستاذ حبيب الزحلاوي إذ وردت به هذه العبارة (وكان لا يطيع أمر الطبيب ويعصاه). وكان الأستاذ قد التبس عليه الأمر في قوله (يعصاه) لأن الماضي (عصى) بفتح الصاد، أو كأنه ظن أن (يعصاه) مثل ينهاه وينعاه. والصحيح (يعصيه) كما ورد ذلك في التنزيل الحكيم.
عبد الحميد عمر(910/51)
القصص
ماما. . . ماما
للشاب الأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كانت (صفية هانم) تنتقل نشوى بين المرآة وصوان الملابس وهي تستعرض الفساتين الحريرية الناعمة على جسدها العاجي البديع لتختار الفستان الذي يبرز مفاتن ذلك الجسد ويشي بأسراره إلى العيون.
ثم تنتقل وهي تدندن بإحدى الأغنيات أمام معرض العطور والأدهان في ناحية أخرى من الحجرة لتستعيد لقسماتها الغضة جمال الزهور ولثيابها الأنيقة رقيق العطور. . . ثم تقف أخيراً أمام المرآة وكأنها تسألها رأيها في كل تلك الأناقة وإذ ذلك لا تستطيع أن تكتم تلك الابتسامة الرائعة التي تكشف عن مدى إعجابها بهذا الرأي.
وما تلبث (صفية هانم) أن تلقي بجسمها على مقعد وثير حين تنتبه إلى أنها ستنتظر ساعة أخرى حتى يمكنها أن تذب إلى الشقة المقابلة لتلقى صلاح.
ووضعت رأسها الصغير المضمخ بالعطور بين يديها وجعلت تنتقل بنظراتها القلقة في أنحاء الحجرة حتى انتهت تلك النظرات إلى وجه (سمير) وهو مغرق في النوم فوق سريره الصغير. . . وعلى الرغم منها تجد أ، نظراتها تشيح عنه وهي تشعر بشيء من الضيق يوشك أن يستحيل إلى كراهية. . . وعلى الرغم منها أيضاً تجد هذه النظرات تتجه إلى الماضي لتحدق فيه وسرعان ما تنساق هي ورائها تنبش بعصا الخيال أنقاض الذكريات.
أربع سنوات مضت وهي تعيش في هذا السجن المكون من ثلاث غرف مزودة بفاخر الأثاث ونادر التحف وجميل الستائر، أعني منذ مات زوجها وخلف لها ذلك المعاش الذي أتاح لها تلك الحياة الرخية الناعمة وخلف لها أيضاً سميرا ذلك الطفل الذي يهدف نحو سنته السادسة.
إنها تعجب أشد العجب!!. . . لقد كانت منذ شهر واحد تجد في كل أولئك جنة صغيرة وهي الآدمي الوحيد الذي منحها فوق الأرض. . .
كانت تعتقد أنه يمكنها أن تكون أسعد مخلوقة ولو عاشت في مكان أقل من هذا وبيئة أبسط من تلك ما دام معها (سمير) وما دامت تتملك ذلك الفيض الزاخر من الذكريات. . .(910/52)
الذكريات التي تنهل منها القلوب حين تظمأ في العواطف في صحراء الحياة!!
وإنها لتكاد تجن حين تذكر أن هناك أيدي كثيرة كانت تمتد إليها ومعها الثراء والشباب والجاه ولكنها كانت ترفضها جميعاً لأنها كانت تفتح ذراعيها لتستقبل ذلك الطفل الصغير الذي يقطع الردهة جرياً على قدميه الصغيرتين ليلقي بنفسه في حضها الحبيب!!
كانت لعبة طريفة من غير شك تلك التي أنستها شبابها النضير.
ومتى يا ترى كانت تذكر ذلك الشاب وهي التي كانت تمضي يومها الطويل لا تفكر إلى في سمير! وهذه اللعبة الطريفة ستسره من غير شك. . . وتلك البدلة الأنيقة سوف تكون مثار دهشته. . . وهذه الحفلة ما أجمل أن يشاهدها سمير. . .!
لقد كانت تود لو استحال العالم كله إلى لعب، إذن لأحضرتها من أجل سمير. . .!
البسمات التي تمرح على شفتيه، والنظرات التي ترقص في عينيه، والكلمات التي تعدو متعثرة على لسانه الصغير؛ كل أولئك تحف غالية كانت تبيع شبابها من أجلها وما أرخصه من ثمن!.
إن أوثق رجل في الوجود لا يستطيع وهي في كنفه أن تقوم بالليل لتتفقد فراش سمير. . ولتنظر هل لا زال الغطاء منسولاً عليه؟ وهل تحرك وهو نائم وأوشك رأسه أن ينحرف قليلا عن الوسادة؟؟ وهل مد يديه الصغيرتين فلم يجد عنقها ليطوقه في شغف؟ كلا كلا هذا مستحيل!
إنها ترفض العالم كله إذا قدم إليها خالياً من سمير!
إنها الآن تتذكر كل ذلك ولا تملك إلا أن تبتسم في سخرية لهذه الأفكار التي تبدو لها الآن تافهة!
أجل إنها تافهة من غير شك وهي تعجب كيف ظلت تجهل ذلك حتى الآن!
الأمومة. . . التضحية. . . الذكريات، كل هذه الألفاظ الجوفاء التي ظلت تتعبد بها طيلة تلك السنوات الأربع ما جدواها وما نفعها؟ أجل ما جدواها في ذلك الزمن الذي يغتصب فيه كل إنسان سعادته من فم الأيام؟ ما أشبهها بأزهار القرع لا تجد وراء ألوانها الناقعة نفحة من عبير!
إن سميراً هذا الذي تبيع شبابها من أجله لتشتري له البسمات سوف يدفع لها الثمن يوماً(910/53)
وسيكون دموعا. . غداً يكبر. . وتكون له معشوقات ويمضي الليالي الطوال لا يفكر إلا في فتاة أحلامه! أما هي فأغلب الظن أنه لن يذكرها إلا حين يحتاج إلى نقود! ثم ماذا بعد ذلك؟ سيتزوج سمير من غير شك. ومعنى هذا أنها ستنتقل من مركز الأم إلى مركز الحماة! وهو مركز لن تحسد عليه بأي حال! ومعنى هذا أيضاً أن (سمير) لن يتكلم معها إلا ليقول. . . يا سيدتي إن هذا لا يصح! لماذا دائماً تثيرين الخلاف مع زوجتي؟ وإذا قدر لها أن تظفر منه بابتسامة فإنها فضلا عما ستحمله من معاني التهكم فستكون على رأس طائفة من الألفاظ لن تفضل بأي حال هذه العبارة. . إنني على استعداد لأن أبحث لك عن مكان لائق وأتكفل بكل مطالبك على أن تتركينا ننعم ببعض الحياة التي كنت تنعمين بها مع أبي. . .!
أما إذا تكرم يوماً بزيارتها فلن يحدث ذلك إلا حين يكون على خلاف مع زوجته، أعني أنها لن تسمع منه غير ألفاظ الشكوى وزفرات الألم!
وهكذا وبكل بساطة تأتي امرأة أخرى لتأخذ الرجل الذي صنعته هي بدموعها وقدمت ليالي شبابها الذاهب قرباناً في محراب حبه!
كم كانت ستخدع وراء هذا السراب الزائف الذي يسمونه الأمومة؟
ثم تبتسم في سخرية وهي تلقي على نفسها هذا السؤال. . . لو الذي هي التي ماتت أكان من المعقول أن يبقى زوجها أربع سنوات بدون أن يتزوج؟ لا، لا يمكن بعد اليوم أن تترك عواطفها الشابة تستدفئ على موقد ليس فيه غير الرماد!
هي إذن ليست مخطئة حين تعرفت إلى صلاح! ذلك الشاب الذي يسكن الشقة المقابلة لقد أحست حين رأته أول مرة وهو يحمل ابنها الصغير بين يديه حين وجده يبذل مجهوداً في صعود السلم! أحست بكل جسدها ينتفض مثلما ينتفض المحموم حين توضع فوق جبينه قطرات الماء. . . لقد استبقت يده بين يديها قليلا وهي تستجمع أشتات الألفاظ لتشكره على ذلك الصنيع الطيب!
ولم تكد تخلو إلى نفسها حتى رأته يبدو أمام عينيها بقامته الفارعة ووجهة الأسمر وابتسامته الخلابة؛ ومثلما سمحت ليفه أن يزور خيالها فقد سمحت له أن يزور مسكنها. وهكذا استطاعت أن تجعل هذا اللقاء العابر يستحيل إلى صداقة. ومن يدري فقد تستحيل تلك الصداقة إلى حب. ومهما يكن من شيء فحسبها تلك الصداقة التي تتيح لهما أن يذهبا معاً(910/54)
إلى دور السينما أو يرتادا أماكن اللهو وهو الشيء الذي يملأ حياتها بفنون من المسرة والإمتاع!. . . وترفع رأسها الصغير ثم تنظر في ساعة يدها وسرعان ما تدرك أن ميعاد السهرة قد قرب فتقف قليلا أمام المرآة ثم تسرع نحو الباب، وحين تدير المزلاج يحدث ذلك الصوت الطبيعي المعروف فيستيقظ سمير وينظر نحو أمه ثم يهتف بصوت أضعفه النعاس - ماما. . . ماما! إنت رايحه فين يا ماما! فتعود الأم وهي تحاول أن تهدهده حتى ينام ثم تقول له
مش رايحه يا حبيبي. . .! ولكن يدي الصغير تحوطان عنقها في إصرار وتشبث وهو يقول. . . خليكي هنا يا ماما. . . ترتجف الأم حين تسمع ذلك الصوت الصغير الحالم.
وتحس بأهدابها تختلج وبأعصابها تنتفض. . . إنها تنظر في عينيه فلا تجد تلك النظرات الساذجة الهادئة، بل إنها لتكاد ترى فيهما عيني والده. . . الزوج الذي مات منذ أربع سنوات. . . إن عينيه لم تموتا. . . إنهما هنا ببريقهما العميق النفاذ. . .! وهاتان اليدان الصغيرتان إنهما يشدان على عنقها بعنف لا تقدر عليه يدا رجل. . . إن هذه الرغبات الطاغية التي كانت تعصف بروحها منذ حين لتوشك أن تختنق تحت وطأة هاته الأيدي الطفلة. . .! ولكن ها هو النوم يطبق أجفان سمير في هدوء، وها هو يستل يديه من حول عنقها كأنه يريد أن يسنده إلى صدره؛ وها هو ذا عقرب الساعة يشير إلى تمام الثامنة ويشير إلى شيء آخر هو أن صلاح ينتظرها الآن فلماذا لا تخرج؟ والواقع أنها لا تستطيع لأنها هي الأخرى قد نامت إلى جوار سمير. . . ثغرها على جبينه. . . ويدها على خصره. . . وروحها تعانق روحه في سماء لا يعلمها غير الله. . .
محمد أبو المعاطي أبو النجا(910/55)
العدد 911 - بتاريخ: 18 - 12 - 1950(/)
كيف نحتفي بذكرى مولد الرسول؟
للأستاذ محمود أبو رية
ماذا أقول في وصف هذا المصلح الأعظم لهذا الكون العظيم؟ إن كبار الأدباء، ومصاقع الخطباء، وفحول الشعراء، ليتولاهم العجز، ويدر كهم الحصر، إذا هم اخذوا في وصف زعيم من الزعماء، أو عظيم من العظماء، على أن يكون هذا العظيم لأمة واحدة، وفي عصر واحد، وفي ناحية من العظمة بخصوصها، أمّا في العلم، أو في الأدب، أو في السياسة، أو في غير ذلك، والأمم كثيرة، والعصور متطاولة، ونواحي العظمة فسيحة مترامية! فما بالكم إذا كان الكلام في عظيم الدهر ومصلح العالم كله، في الدين والأدب والسياسة والأخلاق والفضائل، وما شئت من صفات الكمال البشري.
كنت أود أن أكون شاعراً محلقاً واسع الخيال فأحملكم على أجنحة خيالي إلى عرش البهاء الروحاني لذات الرسول صلوات الله عليه لتستغرقوا فيه لحظة، أو كاتباً بليغاً مرهف الحس فأنقلكم ببلاغتي إلى روض البيان الموشى بالأزاهر والأنوار ليتنفس عليكم هنيهة بالعبق والأريج من صفاته (ص).
كنت أود ذلك ولكن ماذا اصنع وقد بهر في سمو مقامه (ص) فلم استطع أن أقول فيه قولاً يبلغ بي ما أريد، ذلك بان كل قول مهما سما في البلاغة وعلا في البيان، لا يمكن أن يبلغ من وصفه شيئاً. وهل يستطاع وصف من بعثه الله ليكون نور الوجود كله على مد العصور كلها! ذلك الذي قال فيه أستاذنا الإمام محمد عبده فيما وصفه به: (أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما يكتبون ويقرءون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون، في ناحية من ينابيع العرفان جاء يرشد المعرفة، ناشئ بين الواهمين هب لتقويم عوج الحكماء، غريب في اقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن فهم نظام الخليقة، والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع: أصول الشريعة ويخط للسعادة طرقاً لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها).
لما أدركتني الحيرة رأيت أن أرجع إلى غيري ممن هم أصفى مني بياناً، وأقوى على القول سلطاناً، لأستعير منهم ذرواً مما قالوا في هادي الإنسانية كلها. ولا عاب في ذلك ًفالعاطلً تستعير!! فالتمست طلبتي عند البلغاء من المتقدمين والمتأخرين فوجدتهم جميعاً(911/1)
على رائع ما قالوا، وبديع ما وصفوا لم يبلغوا شيئاً من وصف حقيقته، أللهمَّ إلا أبياتاً للبوصيري رحمه الله وها هي ذي:
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساورك في علاك وقد حا ... ل سني منك دونهم وسناء
إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء
أنت مصباح كل فضل فما تص ... در إلا عن ضوئك الأضواء
وحقاً لقد صدق الشاعر في قوله:
ما كلام الأنام في الشمس إلا ... أنها الشمس ليس فيها كلام
ولما بلغ بي الأمر إلى ذلك استخرت الله في أن أتخطى عصرنا هذا الى العصور الماضية - وبخاصة بعد أن ألفيت أن كل ما يقال في عصرنا متشابه حتى اصبح حديثاً معادا - فأغذذت السير في بيداء الزمن حتى وافيت عصر الصحابة وهم الذين سعدت أبصارهم بشهود حضرته، واستنارت بصائرهم بساطع حجته، ثم عدت مع الزمن الى عصور من أتوا بعدهم من التابعين ومن تبعهم رضوان الله عليهم أجمعين لعلى أقتبس من سني أقوالهم في مولده (صلوات الله عليه) قبساً أنير به هذه الذكرى لتصح المناسبة، وكذلك حاولت أن ابحث عن صنف الحلاوة التي كانت تصنع في أيامهم في ذكرى المولد الكريم. وبعد أن أمعنت في البحث. وبالغت في التنقيب ظهر لي أمر غريب ربما تدهشون له
ذلك أني لم أجد من صحابة النبي وخلفائه الراشدين ولا من التابعين من تبعهم وهم بنص الحديث خير القرون قولاً يقال في حفل يقام لمولده (ص) في شهر ربيع الأول من أي عام!!
ولما استنبأت التاريخ عن أول من أحتفل بمولده (ص) أخبرني أن الذي ابتدع هذا الاحتفال هو السلطان المظفر أبو سعيد صاحب إربل الذي تولى الحكم من سنة 586هـ إلى سنة 630 هـ وبذلك يكون هذا الاحتفال قد أبتدع بعد نحو ستة قرون من مولده (ص) ولأن هذا العمل محدث فقد أختلف فيه شيوخ الدين ولهم آراء كثيرة في الإباحة والمنع لا نتوسع بإيرادها.
لعلكم تعجبون من أن ينقضي عهد الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون ثم يتولى عصر السلف(911/2)
الصالح الذين هم أعلم الناس بفضله والتنويه بذكره ولا يقام للنبي (ص) احتفال بمولده! ثم يظل الأمر على ذلك قرابة ستمائة سنة حتى يأتي رجل تركماني فيحتفل به ويقوم بعمل لم يعلموه!
ولم يقف الأمر بالصحابة عند ذلك بل رأيناهم قد أهمله غير هذا أمراً عظيماً، ذلك أن النصارى قد جعلوا مولد عيسى عليه السلام مبدأ لتاريخهم ولكن تاريخنا لم يكن من مولده (ص) وإنما جعل من هجرته فهل كانت عناية المسيحيين بنبيهم أشد وأقوى من عنايتنا برسولنا؟
وهناك أمر ثالث عثرنا عليه في بحثنا، ذلك أنه لما انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى دفنوه حيث قبض ولم يشيدوا على رفاته قبراً مخصصاً ولا أقاموا على القبر قبة عالية مزخرفة ولا وضعوا عليه أستاراً من حرير أو أقفاصاً من نحاس أو حديد كما يوضع لقبور الأولياء وظل الأمر على ذلك حتى جاء بعض ملوك مصر فأقام عليه قبة وكان ذلك على ما يحدثنا التاريخ سنة 678 هـ أي بعد سبعة قرون من موته (ص).
هذا ما أنبأنا به التاريخ من عمل الصحابة، لا يعنون بتشييد قبره (ص) ولا يحتفلون باليوم الذي بزغت فيه شمس نوره، ولا يؤرخون بيوم مولده! فهل بعد ذلك منهم إهمالا أو تقصيراً في حقه وما يجب له صلوات الله عليه؟؟
كيف كانوا يحتفلون به؟
كلا! وما كان لنا أن نرميهم بالإهمال أو نحكم عليهم بالتقصير فليس في المسلمين أحد على مد التاريخ الإسلامي كله يعرف من قدره (ص) مثل ما يعرف صحابته ولا من جاء بعدهم وإنما كان احتفالهم به (ص) احتفالا أروع من احتفالنا، واحتفاؤهم بذكراه أجل وأوفى من احتفائنا.
إن احتفالنا بمولده الشريف واحتفاءنا بذكراه إنما يكون في كل عام مرة! فينظم الشعراء في وصفه فرائد الشعر، وينسج الخطباء لمدحه برود النثر، وتزين الأماكن بالثريات وترفع عليها الرايات. هذا كل ما نصفه!. ولكن وا أسفاه! لم يكد يفرغ الشعراء والخطباء من قولهم حتى يكون الهواء قد حمل كل ما يقولون فبدده بين أمواجه. وقبل أن نغادر الحفل تطوى الأعلام وتطفأ الأنوار وتحمل المقاعد الى حيث أتت ولا يبقى من كل ما عمل(911/3)
شيء! لا أثر في النفوس! ولا ذكرى في القلوب!
أما هم فقد كان احتفاؤهم به وإجلالهم له يتجلى باهراً لا في كل عام، ولا في كل شهر، ولا في كل يوم، بل في كل لحظة. فهم معه أينما ساروا وكيفما توجهوا، يتبعونه في كل طريق الى الخير، ويستضيئون بنوره في كل عمل صالح.
كيف نحتفي بذكرى مولده (ص)
لقد عرف السلف الصالح من تعاليمه (ص) أن أهم شيء يرضيه هو أن يحملوا رسالته ليؤدوها كما يجب أن تؤدى فجعلوا ول همهم إصلاح نفوسهم وتأديبها بالأدب الإلهي حتى يصبح هذا الأدب ملكة راسخة تعصم صاحبها ثم تعتصم مع غيرها بحبل الله لحمل أعباء الرسالة والقيام بما جاءت به وهي إصلاح المجتمع الإنساني كله، في أخلاقه وآدابه ومعيشته فلا يكون بين الناس إلا أدب القرآن وإلا هدى القرآن، ذلك بأن دين الإسلام ليس دين شخصيات، ولا مبادئه بأقوال وكلمات. وإنما هو دين أخلاق وأعمال.
دعوة الحق
علموا أن المسلم بحكم دينه يجب أن يكون عزيزاً قوياً والعزة لا تكون إلا بقوة وغلبة وشوكة فنهضوا نهضة الأسود يحملون النور في إحدى أيديهم ليشقوا به ظلمت الجهالة ويهدون بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الطريق المستقيم في هذه الحياة، ويحملون السيف في اليد الأخرى لا ليمدوا ولكن ليذودوا به عن حوض الحق حتى لا يعتدي عليه باغ أو ظالم وكانوا لا يهابون شيئاً في جهادهم ليقينهم أن الله ناصرهم - كما قال تعالى (إنما ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) وقال: (ولينصرن الله من ينصره) وقال: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
بماذا بلغوا مكان السيادة؟
وعلموا أنهم خلقوا سادة عادلين فكانوا كذلك يراعون الفضائل، من الحق والعدل والأمانة والصدق والرحمة والمحبة والعفة والمواساة والبر والإحسان والوفاء بالعهود والعقود واجتناب الرذائل من الظلم والغدر والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل والرشوة والسحت وغير ذلك مما يطول القول فيه(911/4)
كانوا يعرفون أن شريعتهم عمود الإصلاح وقطب الفلاح ومرقاة السعادة فكانوا لا يفتئون يعملون لرفع شأنها وإعلاء كلمتها، وبذلك كانوا كما وصفهم الله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وكانوا يستأهلون ما نعتهم الله به في قوله، (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) والشاهد لا بد أن يكون عدلاً صالحاً.
حالنا اليوم!!
هذه كانت حالهم وما كانوا يهتمون به ويعملون له، أما ما عدا ذلك من الأمور العرضية لا تنفع الناس فما كانوا يلتفتون إليها ولا يعنون بها لأنهم كانوا أهل عمل وجد، لا أصحاب كلام باللسان وتصفيق باليد!! - كما هي حالنا اليوم، تلك الحال التي دعت إمام الشعراء شوقي بك رحمه الله إلى أن يناجي رسول الله بقوله في مسلمي هذا العصر:
أدرى رسول الله أن نفوسهم ... ركبت هواها والقلوب هواء
متفككون فما تضم نفوسهم ... ثقة ولا جمع القلوب صفاء
رقدوا وغرهمو نعيم باطل ... ونعيم قوم في القيود بلاء
أقطعتهم غرر البلاد فضيعوا ... وغدوا وهم في أرضهم غرباء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها ... ما لم ينل في رومة الفقهاء
وقال كذلك يناجي الرسول (ص):
شعوبك في شرق البلاد وغربها ... كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران - ذكر وسنة ... فما بالهم في حالك الظلمات
وذلك ماضي مجدهم وفخارهم ... فما ضرهم لو يعلمون لآت
وهذا زمان أرضه وسماؤه ... مجال لمقدام كبير حياة
فقل رب وفق في العظائم أمتي ... وزين لها الأفعال والعزمات
كيف يكون التكريم للعظيم؟
إن التعظيم الحقيقي للرسول أو المصلح أو الزعيم إنما يكون بطاعته والنصح له والنهوض بالأعمال التي يقوم بها أمره وكذلك كان تعظيم الصدر الأول لرسولهم، عمل وجهاد ونصح وكفاح. فالذي علينا أن لا نجعل همنا الأول من احتفالنا هو هذه المصابيح التي تنير(911/5)
الحفلات ثم تنطفئ قبل انفضاضها وإلقاء الأقوال التي تذهب في الهواء بعد إلقاءها، ورفع الأعلام التي تطوى قبل انطواء ليلها، وإنما يجب علينا أن نجعل من يوم مولده السعيد في كل عام موسماً لعمل نافع يعود على البلاد بالخير والرفعة والسعادة فتنفتح فيه معاهد للعلم أو مصحات للمرضى أو مصانع للعمل أو مبرات للرحمة، أو ننشر في البر فصائل من الدبابات أو ترسل إلى الجو أسراباً من الطائرات أو ننزل الى البحر أساطيل من المدمرات أو الطرادات أو الغواصات، أو ما إلى ذلك مما يؤدي إلى العزة والقوة ويعلو بالأمم إلى مراقي السؤدد والمجد، وهذا كله وسواه مما يدعو الإسلام أليه ويحث عليه وبذلك نصبح صالحين حقاً لوراثة الأرض واستعمار الدنيا وتحقق فينا قول الله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) والصالحون هنا هم الصالحون لعمارة الأرض وامتلاك ناحيتها.
الإسلام قول وعمل
إن الإسلام قول وعمل، عقائد وعبادات، آداب وكفاح فلا يكفي المسلم أن يظهر إسلامه أو يؤدي فروضه كما تمثل الأمور الروائية ولكن المسلم من أحتمل تكاليف الدين وتكيف بهدايته - على التعبير الجديد - وتربى عنده ملكة دينه تصدر عنها أقواله وأعماله ينظر بها ويسمع بها ويمشي بها، ومن كان كذلك فإنه لا ريب يكون قد هدى إلى الصراط المستقيم وكان مع النبي (ص) في كل حين.
كلمة ختامية
لازلت أجأر بالدعوة فأقول: إن الكلام لا يفيد وإن الإسلام قائم على العمل (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وهو ما يرضى الله والرسول فانهضوا جادين لتتخذوا مقامكم عزيزاً بين الأمم إن لم يكن فوقها والعزة لله ولرسوله والمؤمنين، وكافحوا حتى تكون كلمة الله هي العليا.
كنت أريد أن تحدث عن علة عدم اتخاذ الصحابة من مولده (ص) مبدأ للتاريخ الإسلامي وكذلك كنت أتمنى أن أبين سبب عدم إقامة قبة لقبر النبي (ص) في الصدر الأول ولكن القول في ذلك يطول. على أني اختم قولي بالضراعة إلى الله سبحانه أن تكون هذه الليلة(911/6)
التي انبثق فيها نور من اصطفاه الله لهداية من في الأرض جميعاً مبدأ لجهاد لنا جديد فيكون كل مسلم جندياً دينياً بآدابه وأخلاقه وأعماله وأحكامه وليكن خلقنا جميعاً (القرآن) - وهدينا الحنيفية السمحة التي تركها لنا النبي بيضاء، ليلها كنهارها ليعود إلينا مجدنا، وينتشر بين أرجاء الأرض نور ديننا ونأتي في مثل هذه الليلة إن شاء الله، ورسول الله (ص) راض عنا مشرف ببهائه علينا.
هذا ما أرجوه وأتمناه، واليقين إنكم وانتم مسلمون حقاً ستلبون دعوتي وتحققون رجائي وأمنيتي، وما رجائي إلا رجاؤكم جميعاً وما أمنيتي إلا أمانيكم جميعاً.
هذه كلمة خالصة صادرة من قلبي فأضرع إلى الله تعالى أن يكتب لها التوفيق والقبول حتى تتخطى هذه المظاهر الزائلة وتنفذ إلى قلوبكم فتمس شغافها ليقدح فيها نور الإيمان الصحيح فتتجلى في أعمالكم الصالحة ومن ثم تبدو الرسالة المحمدية لأمم الأرض جميعاً على وجهها وتظهر في غير خفاء عظمة من أتى بها فيسجدون له سجود الإكبار ويعلمون حقاً إنه صلوات الله عليه مصلح الإنسانية الأعظم وأن ما يقام له من حفلات لم يكن لهواً ولا لعباً وأن ما يقال في وصفه لم يكن منياً ولا كذباً.
هذا ما ابتهل به من الله، والسلام عليكم ورحمة الله
المنصورة
محمود أبو رية(911/7)
مشكلة جامعية
للأستاذ كامل محمود حبيب
كتبت في العدد (906) من الرسالة الغراء نداء إلى حضرت الأساتذة الأجلاء عمداء الكليات بالجامعات المصرية وهيئة التدريس بها، أستفتيهم في أمر رجل ليس مغموراً ولا نكرة ولا متخلفاً في ركب الحياة، تخرج في مدرسة المعلمين العليا حين تخرج فلم يدع العلم ولا الصرف عن الكتاب ولا اطمأن إلى فتور النفس، فأصاب ثقافة عالية أخرى نالها في طول ما قرأ ومن طول ما أطلع. وعاش حيناً من الدهر يرسف في قيود الوظيفة، ثم ضاق بالوظيفة أو ضاقت هي به، ولكنه لم يرد أن يبطل ترفعاً منه وأنفة، ولا أن يسكن إلى حياة الريف خشية أن يصيبه الجمود الذي يقتل العقل أو أن يعصف به الفتور الذي يمسح على الذكاء، فتقدم إلى كلية عملية من كليات جامعة فؤاد الأول، يطمح أن يكون طالباً بين شبابه على حين قد طوى عمر الشباب، وعلى حين إنه يعلم طول الشقة وبعد الغاية وصعوبة المرتقى، غير أن في النفوس الكبيرة الوثابة طمعاً ما يهدأ أبدا، وان فيها أملاً مشبوباً ما يفتر. وجاء - بعد أيام - رد (المسجل) يقول الرجل (. . ونأسف لعدم إمكان قبولكم بالقسم المذكور إذ أن القبول به قاصر على الطلاب الحاصلين على شهادة التوجيه (كذا).
وخيل للرجل إن (المسجل) لا يملك أن يرد طلبه، فالمسجل في ظن الرجل - موظف يغله قانون وتقيده لائحة، فهو لا يستطيع أن يبت في أمر برأي إلا أن تسنده مادة من قانون، أو يدعمه بند من لائحة، فكتب الى عميد الكلية ينشر امامه الخبر كله عله يجد الرأي الذي غرب عن (المسجل) أولاً فيسمع حكم مجلس الكلية. . كتب الرجل الى العميد وفي رأيه أن عميد كلية من كليات الجامعة ليس سوى رجل علم وأدب واجتماع: يبذل من عقله للعلم ويبذل من قلبه للأدب ويبذل من نفسه للجماعة، وأنه ليس موظفاً كبيراً في ديوان من دواوين الحكومة تبطره النعمة ويغره المنصب كلما ذكر تاريخه يوم أن كان موظفاً حقيراً، يوم أن كان ملقى في ناحية من الديوان ولكنه تسم إلى ذرى المنصب العلمي الخطير يوم أن تسنه بقوة العلم الذي يرفع النفس عن الصغار ويسمو بالروح عن الإسفاف ويصفى الخاطر من الخبث، فهو رجل ارتفع بكبرياء العلم الذي لا تستر له زينة الحياة ولا يستهويه ألق النجاح ولا يفته بهرج المنصب. كتب الرجل الذي تعلم العلم والأدب إلى (صاحب(911/8)
السعادة) عميد الكلية. . . كتب وإن زيف اللقب لا يكاد أن يسمو إلى موطئ قدميه، وإن طنين الرتبة لا يكاد يبلغ مسمعيه، ثم هو رجل يترفع بنفسه أبدا عن أن يتطامن للجاه أو يتصاغر أمام المال. . . كتب إلى عميد الكلية وفي خياله أن عالماً يتحدث الى عالم، أو أن أدبياً يكتب الى أديب، أو أن عقلاً يحدث عقلاً، أو أن رأياً يخاطب رأياً. . . ولكن. . .
ولبث الرجل أياماً ينتظر رأي العميد، ولكن العميد كان قد أخذته روعة المنصب فعز عليه أن يتنزل الى مستوى الناس، وغره جاه الوظيفة فاصم أذنيه، وصرفته رئات اللقب فلم يلق بالا لأمر، ونسى العميد أنه رجل علم أدب واجتماع، يجب أن يبذل من عقله للعلم وأن يبذل من قلبه للأدب وأن يبذل من نفسه للجماعة. لقد امسك العميد عن أن يقول كلمة واحدة في أمر ذي بال. ولست أدري أكان ذلك سهواً منه أم إغفالا أم امتهاناً لشأن الرجل الذي لم يعرفه بعد. . . أو أمله تلبث طويلاً ينتظر أن يتوسل إليه الرجل بواحد من العظماء كرأيه - أو من ذوي الجاه والسلطان ليكون له على الرجل فضلان، ولكنه غاب عنه أن في العلم ترفعاً يأبى أن ينحط وأن به كبرياء لا يتصاغر أبدا.
وجاءني الرجل يشكو الكلية التي أغفلت رسالتها الجامعية ونسيت روحها العلمية.
قال الرجل (ولبثت أياماً أنتظر رأي العميد، ولكن العميد كان ذا مال وثراء فشغله بريق المادة على أن يخلص للعلم وحده)
قلت (إنك تتجنى على أساتذتنا وهم قادتنا إن حزب الأمر وهم منارتنا إن غرب الرأي).
قال الرجل (حاشا أن أفتت أو أتجنى. وأعجب العجب أن يتراءى العميد العالم نفسه موظفاً كبيراً ذا خطر وشأن فتأخذه - من ناحية - غطرسة المنصب وعزة الرتبة، وأن تشغله من ناحية أخرى دواعي الحياة وترف العيش على أن يصبر على مشقة العلم).
قلت (إن في نفسك - يا صاحبي - ثورة جارفة فهدئ من روعك).
قال (فماذا تقول أنت إن عرفت أن العميد قد بلغ أكبر منصب علمي في الشرق دون أن يشارك في النهضة العلمية ببحث علمي عالمي واحد يشفع له؟ وأنه قد فاز بأكبر لقب في الدولة دون أن يشاطر في النهضة الوطنية الكبرى بعمل واحد كبير يشهد له؟).
قلت (إن عبقريته السامية هي التي دفعته ليتسم الذروة التي تقصر دونها همة العباقرة الأفذاذ).(911/9)
قال (أما الكلية نفسها فقد تخلفت عن كليات العالم كله فلم تخرج على العالم، في ثورة العلم وتقدمه بشيء ذي خطر على حين قد سلخت نيفا ومائة سنة من عمرها المديد).
قلت (لا عليك، فسأنشر قضيتك أمام أساتذة الجامعة وهم قضاتنا وفيهم الرأي السديد والعقل الحر).
وكتبت الى حضرت الأساتذة الجامعيين استفتيتهم في أمر الرجل، وانتظرت الرأي الذي ينير والفتوى التي تهدي. . . ثم انتظرت أسابيع فلم أظفر من واحد منهم بكلمة.
وقلت لنفسي: (لعل واحداً من حضرت الأساتذة الأجلاء لم يقرأ نداء له نشرته أكبر مجلة أدبية في الشرق. ولا عليه من بأس إن لم يكن قد قرأ ما كتب، فشوا غل الحياة كثيرة تصرف الناس عن القراءة ومطالب العيش ثقيلة تضن بالمال على دواعي المطالعة. وليس للعقل أن يتكلم حين تلج حاجات العيش.
أو لعل واحداً منهم لم يجد الرأي الذي يشفي ولم يعثر - في خاطره - على الصواب الذي ينفع، فأمسك على ضيق وحصر خيفة أن يكلف نفسه شططاً.
أو لعل واحداً منهم لم يشأ أن يقذف بالرأي الحر الجريء فيتخطى بذلك تقاليد الوظيفة التي تفيد المرءوس برغبة الرئيس فيجلب على نفسه همة غضب العميد والخروج على التقاليد فآثروا جميعا العافية في الصمت
أو لعله الترف العقلي الذي يصيب الرجل فيقعد به عن الكد حين يخيل إليه إنه بلغ الغاية التي دونها كل غاية أو أنه أصاب الهدف الذي يتضاءل أمامه كل هدف.
والآن، ما رأي الجامعة. . . الجامعة التي أصبحت توصد الباب من دون كل طالب علم في غير تحرج لتذكرنا بأيام الجهالة الأولى حين كان الاستعباد يقوم سداً منيعاً يحجب النور عن البلاد، حين كان العلم حراماً على كثير من الناس استصغارا لشانهم وامتهانا لأقدارهم، حين كان الجهل يغمر آفاق البلاد، عن عمد وإصرار ليستبد ظالم أو يستبعد غاشم. . . ما رأي الجامعة التي هي اكبر جامعة عربية في العالم والتي أنشأها عاهل كبير لتنجلي غمة أو تنكشف ظلمة.
ما رأي الجامعة التي تعلم المنطق والعقل، ما رأيها في المنطق المختل الذي يتذرع بأسباب واهية ليست من المنطق ولا من العقل ليوهم الناس بأن شهادة عليا يعترف قانون الدولة(911/10)
فيخول حاملها حقوقاً علمية وحقوقاً مادية وحقوقاً دستورية. . . ليوهم الناس بأن شهادة عليا هذا شأنها هي في نظر الجامعة التي تعلم المنطق والعقل أقل من شهادة التوجيه. ولا عجب فمنطق الجامعة إذن - يعترف بالسمو إلى أسفل أو يؤمن بالتقدم الى الوراء.
وما رأي الجامعة - وهي أخت الجامع - وفي الجامع الذي لا يرد قاصداً ولا يصد طالباً حين ينادي المنادي أن: حي على العلم، حي على الفلاح.
وإذا تنكبت الجامعة عن القصد أو حادث عن الجادة فمن عسى أن يكون الحكم سوى الأساتذة الإجلاء؟ وإذا أغلقت الجماعة رسالتها الجامعية ونسيت روحها العلمية فمن عسى أن يكون الناصح سوى الأساتذة الإجلاء؟ وإذا ضاقت الجامعة بمبادئها السامية أو تنكرت لهدفها العالي فمن عسى أن يكون الهادي سوى الأساتذة الأجلاء؟
إن القضاة الذين ينشرون روح العدل على الأرض هم أبناء الجامعة البررة، وإن أعضاء مجلس الدولة الذين يردون إلى كل ذي حق حقه ويدفعون عن كل مظلوم التعسف هم أبناء الجامعة البررة، ولكننا نخشى أن تكون روح أمثال دنلوب ما تزال تعيش بيننا فتتغلغل في ستر إلى أعماق النفوس فتنفث فيها روح الظلم والعنت، أشياء نحاول أن نمحوها من نفوس عاشت في ظلام الاستبداد فاستنامت إليه زماناً.
ولكن، أيتها الجامعة، كوني كدأبك أبداً فأضيئي النور في غمرت الظلام، وابعثي الحرية في ظلمت الاستعباد، واخلقي العقول الحرة الجريئة لتبلغي الهدف السامي الذي من اجله نافحت عنه منذ سنوات وسنوات. وكوني كدأبك أبداً أخت الجامع.
كامل محمود(911/11)
الخمر بين الطب والإسلام
للدكتور حامد الغوابى
يقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل انتم منّهون) صدق الله العظيم.
ما هي الخمر؟ هي كل شراب يغطي العقل ويضع عليه ستراً فيجعله لا يدرك حقائق الأمور ولا تستضيء بصيرته بنوره، أي أن كل ما أسكر فهو خمر وهو حرام.
وقد سمي الشراب المخصوص خمراً لأنه كالخمار في تغطية المحاسن وسترها، فمتعاطيها قد طبع الله على بصيرته وختم على قلبه فلا يدرك المحاسن، ولا يعرف المضار والمساوئ، ويعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء، إذ أنها تسلب العقل وهو النعمة الكبرى من الله تعالى لعبده، والناس قبل الإسلام كانوا على تناول الخمر كفين، فلو أمرهم الله بتركها بادئ ذي بدء فقد يكون ذلك باعثاً لكثير منهم على الإعراض عن الإسلام ونبذه، فقد أختلط حبها بقلوبهم اختلاط الدم بجسمهم، لذلك لم يفاجئهم بالتحريم فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فترك الخمر قوم ولم يزل يعاقرها آخرون
ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فتركها الجميع عند الصلاة.
ولما قوي الإسلام في نفوسهم، وزالت أسباب تناول الخمر، وأزداد اليقين والحرص على الطاعة بين الله لهم حكمه بياناً شافياً فقال (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) فاجتنبوه اجتناباً تاماً في الصلاة وفي غيرها.
نرى من ذلك كيف تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر خطوة خطوة، حتى لا يكون في تحريمها على مدمنيها عنت ومشقة، هذا وإن في هذا التدرج لحكمة طبية أخرى، يعلمها الخبير اللطيف بعباده، فإن منع الخمر عن مدمنيها مرة واحدة يسبب مرضاً خطيراً، هو هذاء السكارى، فتراه يصبح ضائق الصدر، قلق النفس، لا يطمئن جنبه إلى مضجع، وقد(911/12)
استعصت على الكرى جفونه، ترتجف منه اليدان، ويتلعثم اللسان، ويزداد نبضه، ويضطرب قلبه، وتذوى نضرته، ثم يصاب بتخيلات وأوهام، فتراه كمن يتلمس شيئاً، أو يتوجس صوتاً، فتارة يتخيل عدوا أمامه مهاجماً، وطور يتخيل سماع أصوات مزعجات مما يؤثر ذلك على عقله ويشوش فكره، فيعتريه مس من الخيال وقد يجري من أمام هذه المرئيات، أو يفر من سماع هذه الأصوات، وقد يقفز بنفسه من شباك، ثم تزداد بعد ذلك حالته سوءاً وضعفاً حتى تنتهي بإغماء وموت. فالله الرحيم بعباده لم يشأ يعرضهم لهذا الخطر، فأنتقل معهم من دور الى دور
علاج رباني حكيم، وقى الناس شر هذه السموم
والآن نتكلم عن الخمر من الوجهة الطبية.
أولا: تأثير الخمر في الجهاز الهضمي، بملامسة الخمر لسطح الفم، تهيج إفراز عدد اللعاب ويزيد ذلك من إفراز عصير المعدة مثل تأثير الطعام إذ لامس اللسان. ولكن هناك فارقاً كبيراً بين تأثير الطعام وتأثير الخمر، فالخمر تزيد في تدفق العصير ولا تؤثر في إفراز خميرته التي تساعد على الهضم، وهذا العصير الناشئ من تأثير الخمر يعجز عن تحليل المواد الزلالية وهضمها كما أنه يسبب تهيجاً للمعدة.
ثانياً: تأثيرها في الجهاز الدموي: تزيد الخمر من سرعة النبض وتسبب اتساع أوعية الدم السطحية، وهذا يفسر لنا سبب احمرار وجزه متعاطي الخمر، فليس هذا الاحمرار إذاً علامة للصحة ولا دليلاً على قوة، إن هو إلا دم اتسعت أوعيته الخارجية فوضح، في حين إن الأوعية الداخلية انقبضت، أي أن مقدار الدم في الجسم واحد لم يتغير ثم أن الخمر تسبب ارتفاعاً في ضغط الدم وبذلك تعرض مرتفعي الضغط للخطر.
ثالثاً: الخمر والجهاز العصبي: إن أكبر تأثير للخمر في الجهاز العصبي، فليس غريبا عنا من نشاهدهم في الطرقات وقد غاض عنهم ماء الحياة، وحلوا عقد التحفظ، فأصبحوا لا يستطيعون كبح جماحهم، فهم يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال، يرسلون كلامهم على عواهنه دون وجل.
فالخمر تأثيرها تخميل وإرداء للأعصاب، وما الأعراض السابقة التي نشهدها فيمن يشرب فيهرف بما لا يعرف، إن هو إلا تخميل للمراكز المسكنة، فالتخميل يبدأ في مراكز المخ(911/13)
بحسب نموها، فهو يبدأ في المراكز التي تنمو أخيراً وهذه هي مراكز التحكيم والحس.
هذا هو تأثير الخمر في خلايا الأعصاب، تتلفها ثم ترديها فيصاب المدمنون بالشلل ثم عدم التمييز فالجنون.
رابعاً: تأثير الخمر في حرارة الجسم: قد ثبت طبياً أن كأساً من الخمر إلى ثلاث كؤوس تسبب انخفاضاً في درجة حرارة الجسم بمقدار نصف درجة سنتراد تقريباً، وذلك سببه اتساع أوعية الدم السطحية التي تكلمنا عليها، وعلى ذلك تزيد في تشمع الحرارة فينشأ عن ذلك فقد حرارة من الجسم أكثر - وهذا الفقد للحرارة ضار بالإنسان، فكم من سكير شرب الخمر ثم خرج في البرد فأصابته النزلات الشعبية وغيرها من الأمراض.
خامساً: تأثير الخمر في الكبد: الخمر تتلف الكبد وتسبب خموداً في نسيجها وفي خلاياها، ويزيد بها مقدار النسيج الضام الوتري حتى لقد سمى الطب مرضاً خاصاً بالخمر من تأثيرها في الكبد، وإذا مرضت الكبد نعرض الإنسان لأمراض أخرى.
سادساً: مقاومة الجسم المرض: أثبت الطب أن الأشخاص الذين يتعاطون الخمر أكثر استعداداً للمرض، وأقل مقاومة له من الذين لا يتعاطونها، وكذلك يكون أقل تحملاً لأن تجرى في أجسادهم العمليات، وإذا اطلعتم علة إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر الحياة.
سابعاً: الخمر والحوادث: كثيراً ما تحدث الحوادث تحت تأثير الخمر كحوادث السيارات وغيرها فنقرأ في الجرائد مثلاً أن سائق سيارة كان ثملا فأودى بحياة انفس بريئة.
وقد ثبت من الإحصائيات أن أكثر من 13 % من الحوادث سببها الخمر.
(ثامناً) الخمر والفقر: شارب الخمر إذا أنفق أتلف وإن سخا إسراف.
وما احسن قول الشاعر
لعمرك إن الخمر ما دمت شارباً ... لسالبة مالي ومذهبة عقلي
وقد وجد أن 25 في المائة من الذين يتكففون في الطرقات ويستجدون كانوا للخمر يشربون.
(تاسعاً) الخمر والأخلاق: الخمر أس الشر، فتعود الموبقات وتزين للمرء السيئات، قال أحد العرب ذات يوم لرجل جالس يشرب الخمر. (ما تصنع الخمر؟) قال (أنها تهضم طعامي)(911/14)
فقال له (أنها تهضم من دينك وعقلك، أكثر مما تهضم من أكلك.
وحقاً كلما زاد الشارب الخمر شرباً زاده الله رعالا وحمقا، فتجده أصبح نزق القطاه، خفيف الحصاة، يخاصم في صغار الأمور، وينساق بلا ترو، وقد عميت عن الخير عيناه، وقد صمت عن الفضيلة أذناه، فيقدم على أية جريمة دون وازع يزع أو عقل يزن.
(عاشراً) الخمر والنسل: ينشأ أولاد السكيرين ممتلئ الأجسام، ناقصي العقول، ذوي ميول إلى الأجرام ودافع إلى الشر وتهافت على الخطيئة.
وإن ولد جنين ولم تجهضه أمه أثناء حملها فإن الخمر سبب من أسباب الإجهاض، نزل معرضاً للتشوهات الخلقية فضلاً عن العاهات الخلقية التي تنتقل إليه من نطفة أبيه (كما سبق أن ذكرنا في مقالنا عن الإرث التناسلي).
هذا وان الخمر ليست دواء كما كان الاعتقاد الشائع عنها بأن الكحول به تأثير تنبيهي على القلب، فإن الكحول لم يصل إلى مرتبة الأدوية المنبهة كالا ستركنين وغيرها.
قد يعترض على معترض قائلاً إن الله سبحانه ليقول (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعها).
أي أن الله قال فيهما منافع للناس فما هذه المنافع ومن هم هؤلاء الناس؟ إن الله سبحانه وتعالى لم يقل منافع للشاربين واللاعبين، إذإنه لا مراء أن الشارب يذهب منه دينه ويذوي منه عقله وتنقضي ثروته وتفنى صحته، ولكن المنافع هي منافع مادية لتكون غيره من تجار الخمر وصاحب الخان والخدم والأعوان.
وقد أردف الله تعالى قوله (وإثمهما أكبر من نفعهما) لأن أثمهما عظيم فهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقعان العداوة والبغضاء بين الإخوان والأصدقاء كما هو مشاهد في مجتمعات الخمور ونوادي القمار.
وذكر الله تعالى هو مادة حياة النفوس وهو ترياق المؤمنين وأنس المنقطعين وبساط المؤمنين فيه جلاء البصائر الكليلة وشفاء الصدور العليلة، يفتح إغلاق القلوب ويذهب وقر الأسماع وذكر الله أصله صفاء وفرعه وفاء وشرطه اتصال وبساطه عمل صالح وثمرته فتح مبين فهو يقرب المرء من ربه فتفيض عليه الأنوار والمنح الإلهية وما اجلها من منح
والصلاة عماد الدين وسراج المؤمنين وأصل القربات وعزة الطاعات فهي تجلو القلوب(911/15)
وتهذب النفوس وتنمي فيها شجرة الإيمان وما أرسخها من شجرة اصلها ثابت وفرعها في السماء.
فنرى أن الذكر والصلاة هما سبب القرب من الله عز وجل وتجليه على عبده بالمنح والخيرات فكفى بالخمر شراً أنها تمنع عن شاربها الخير الإلهي وتسبب له غضب ربه
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الخمر مفتاح كل شر وإن خطيئتها تعلو كل الخطايا كما أن شجرتها تعلو كل الشجر) وحقاً ما كان مفتاحاً للشر كله كان مغلقا للخير كله
الخمر منظار مكبر، يكبر المحسوس في النفوس، ويجسم الأخيلة للعيون، وهي سم تودي بجؤجؤ العقول، وتسم شاربها بميسم العار والهون، فإن سرته يوماً ففي أعقابها ترحه، وإن تبسمت لآلئُ ثغره حيناً أدمى شفته ندماً أحايين، فهي لذة ممزوجة بألم، وشرب مخلوط بسم، ما شربه أحد وهو اثبت الجمة ريان من الصحة والقوة إلا تركها أو تركته وهو مخدد الوجه متداع الجسم، عميد الوسادة، قد استعز به الداء، كم غني أذهبت الخمر غناه، وكم من صحيح الجسم هدت من قواه.
أفترضون أن يقود لكم طائرة تعتلونها أو سيارة تركبونها مخمور، أترضون أن يجري لأحدكم عملية جراحية طبيب مدمن خمور؟ أتريدون أن تسلموا فتياتكم وأولادكم لمعلم سوار أو سكير، كم رجل كان له في يومه خمر، فأصبح له في غده أمر وأي أمر، إنها الورد الآسن والغذاء العفن - كم ترنح منها شارب فضل، وكم تمايح بها سكير فزل!
أرأيتم إلى الدين كيف عالج مدمني الخمور ونقلهم من ثورة الإدمان إلى ساحة الأيمان، وكيف نهى الإسلام عن الخمور لما فيها من أضرار وشرور، وهاهو الطب حلى لكم أخبارها وبين لكم أضرارها.
سبحانك اللهم إنك ما نهيت عن شيء إلا وفيه ضرر محقق وبلاء عظيم وذلك رحمة منك بالمصلين فإصرفنا عن مذاهب الشهوات وأرشدنا في غياهب الشبهات، وأملأ نفوسنا تقوى واستقامة، وجهنا الى الخير والسلامة
حامد الغوابي
طبيب أول مستشفى رعاية الأطفال بالجيزة(911/16)
نفسية الشعب المصري من أمثاله
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
من المعروف أن الأمثال خير معبر عن نفسية الأمة وأصدق مصور لروحها وأبلغ شيء في الدلالة على ما يجيش في صدور أبنائها وسبب ذلك واضح وهو أن الأمثال تنبع من صميم الأمة وتقتطع من روحها وإلا لما كان لها بقاء ولما استمر لها وجود ولما قدر لها أن تبقى حية على ممر الدهور كأنها بنت ساعتها وبدع زمانها وحده. وإن المثل ليقال ليعبر عن حالة من الحالات أو رأي من الآراء فإن لم تكن تلك حالة الشعوب وذلك الرأي رأيه لما سار المثل بين بنيه مسير النار في الهشيم، وإن مجموعة الأمثال لتكون نظرة الشعب الفلسفية للحياة وتبين على أي نحو من الأنحاء يتقبل الشعب الحياة وبأي منظار ينظر الى الوجود، ويؤيد ذلك أنا لا نعرف قائل المثل، والمثل لا يشيع لأن فلاناً قاله بل لأنه يصور حالة يرونها صادقة. أو يكفيهم مئونة تعليل ما يريدون أن يكون.
إنك إن أعطيتني أمثال أمة من الأمم أعطيتك صورة صادقة ترى فيها حالتها وحالة أبنائها ومقدار درجة رقيها أو انحطاطها، وتلمس فيها حضارتها ومبلغ حظها من الحياة أو الموت. ولو أعطيتني صورة أمة من الأمم وكشفت لي عن حضارتها، فأنا زعيم لك لم أخبرك ما هي أمثال هذه الأمة بالضبط فلن أخطئ على الأقل، في تبيين المعاني والأفكار التي تدور حولها أمثال هذه الأمة. فالأمثال مرآة الأمة التي تنعكس عليها حالتها وحضارتها.
والشعب المصري عرف بحبه للفكاهة أو أمتاز بالفكاهة والنكتة وبرز ف ي هذا المضمار حتى أصبح ذلك الصق الأشياء به وأدلها عليه، ومثل هذا الشعب لا بد أن يكون حظه من الأمثال موفورا فإن الجو الذي تقال فيه النكات أنسب الأجواء لضرب الأمثال ولعل في ذلك ما يفسر لنا ما نلحظه في الأمثال المصرية من روح الفكاهة.
لن نتكلم عن الأمثال من ناحيتها البلاغية فقيمتها البلاغية معروفة، وهناك من يعدها أم البلاغة ونهايتها، كما قال إبراهيم النظام (يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة)، بل سنتكلم عن قيمة المثل النفسية ومقدار دلالته على روح الشعب والى أي مدى يوصلنا الى أغوار نفوس الشعوب. والأمثال العربية قديمة قدم اللغة العربية، ولكن العامية لم تدخل(911/18)
مصر إلا بعد ذيوع العربية بين المصريين وتحولها لغة الشعب، وحينئذ بدت بعض الحكم العربية تدخل - متخذة قالباً سهلاً - العامية، ثم تهضم ويتمثل بها. ولسنا الآن في مجال بحث نشأة المثال العامية في مصر، بل إننا لنكتفي بالقول بأن الأمثال التي سنقولها بعد والتي سنعرف منها جانباً من نفسية الشعب المصري قد نشأت وتطورت في عصور الظلام، عصور الاستبداد التي نشبت أظفارها في جسد المصري فأقصته عن الحكم، وألصقته بالأرض يفلحها وبالماشية يسيمها ثم انتزعت من بين يديه ثمار غرسه ونتاج تربيته، ولم نترك له ألا قشر ثمرته التي جناها وعظام ذبيحته التي رباها، هذه العصور المظلمة منذ المماليك ولأتراك إلى ما قبل يومنا هذا بقليل.
ولنأخذ الآن في تحليل نفسية الشعب المصري من أمثاله، ولن نتناول الآن إلا ناحية واحدة هي (الميل إلى الاستكانة والشعور بالدونية، وسريان روح اليأس والدعوة الى الخنوع وعدم الرغبة في الكفاح) ولست أدري هل هي فطرية - وأعوذ بالله أن تكون كذلك وإن التاريخ لينفي أن تكون فطرية، أو مكتسبة؟ واكثر الظن أو الأسلم أن نقول (إنها مكتسبة اكتسبها الشعب نتيجة لعصور الطغيان والاستبداد بالأمر وإقصاء الحاكم الأجنبي عن الحكم أهل البلاد ووسمهم بأنهم فلاحون ولا يصلحون إلا لذلك فقط).
(اقعد يا أخي واسكت، هي الميه بتطلع العالي) إن هذا المثل قد اتخذ من هذه الحقيقة الطبيعية برهانا يؤيد به ما يريد أن يقوله من أن الكفاح والجهد لا يجدي. فإذا كان كذلك فلماذا لا تريح نفسك وتدع الأمور تجري في مجاريها؟ ألا تجهد نفسك في تغييرها فإنك لن تستطيع أن تبلغ ما تريد ولن تستطيع أن تغير من حالك أو نظام الكون شيئا، (ده ملك منظمه صاحبه) (ودع الأمور تجري في أعنتها) وبت ليلك راضي النفس مطمئن الفؤاد، يا له من غر أحمق هذا الذي يحاول أن يقنع عاميا أن عليه أن لا ييئس وان لا يقنط من روح الله، أن يكد حتى يبلغ مراتب العظماء، فإنه لن يكون عنده إلا جاهلا لا يعلن أن (المية لا تطلع إلى العالي) نعم إن الماء لا يطلع العالي وحده، ولكنه يطلعه برافعات لا تحتاج إلا إلى جهد قليل، وإن الماء لا بد أن يطلع العالي إذا استطاع ماء قبله طلوعه وإن العظيم ما دام إنسانا وهو إنسان أيضا فلا مستحيل هناك في أن يصل إلى ما وصل إليه.
(إن لقيت بلد يتعبد عجل حش وارمي له)، (اللي يجوز أمي، أقول له يا عمي). في هذين(911/19)
المثلين يتجلى الخنوع والخضوع والرضا بالمركز السافل والوضع الدنيء والحكم الظالم والسكوت على الذل. وإن رائحة الدم والشحم الذي حرقه الظلم لتفوح من هذين المثلين حتى تزكم الأنوف. . . فلا تحاول أن تبدل وضعاً من الأوضاع أو حتى تنتقد النظام الذي تحي في كنفه بل اعمل دأبك وابذل جهدك حتى لا تغيره، وليس هذا فقط بل عاون على تثبيت بنيانه وتدعيم أركانه، وساعد على ذلك أيضا حتى ولو كان يخالف عقيدتك. . . حتى ولو كفرت! فإن كنت مسلماً ورأيت قوماً يعبدون العجل، فلا تنههم عن المنكر أو الكفر ولا تأمرهم بالمعروف بل اعبد العجل معهم وأطعمه مبالغة منك في عبادتك. وأنت لاشك لا تحب أن تتزوج أمك غير أبيك وتأبى ذلك أشد الإباء وتنكره غاية الإنكار، ولكن إذا تزوجت فأرض بهذه الحال ولا تثر ولا تضق بل قر عينا وقل لزوج أمك، هذا الذي تبغضه من أعماق قلبك (عماه).
(حط رأسك بين الروس واسكت)، إذا ما دعا داع إلى تغيير وضع من الأوضاع أو أمر من الأمور السياسية، جوبه بهذا المثل وسخر منه وقيل له (صه. فأنت لا ناقة لك فيها أي الدولة ولا جمل) (تروح فين يا صعلوك بين الملوك) وهذا المثل كله يأس وكله شعور بالدونية والصغار وبأن الدولة التي هي دولته شيء غريب عنه، لا حق له للتدخل في شؤونها، وعليه أن يستنيم وان يرضخ للحكم كما استنام ورضخ إخوانه من. . . النعاج.
وهناك مثل آخر يكاد يدل على تقديس الحاكم ومشروعية الظلم وسموه! وهو (ضرب الحاكم شرف) وهم يقصدون ضربه حتى ولو كان ظلماً، فإن الذل والخضوع للحكام بلغ بهم أن يعدوا ضربهم شرفاً، أو إنه لما عمهم ضرب الحاكم وأذاه وهو شيء يسوئهم بلا شك، أرادوا أن يخففوا من وطأة الظلم بأن أقروه وجعلوه مشروعاً وبرروه، وهذه حالة نفسية فإن الإنسان إذا لم يجد إلا السيئ رضى به وحسنه حتى يخفف من سوئه، كالفقير يتمادح بفقره وينسب إليه كل خير ويلصق بالغنى كل نقيصة لأنه قد فاته. وكذلك الإنسان مضطر الى التكيف مع ما يكره حتى ينقص من وطأة ألمه، فهؤلاء جعلوا الظلم مشروعاً حتى يلطفوا من حدته.
وليست كل الأمثال العامية تظهرنا على نواح سيئة من نفسية الشعب - بل إن هناك نواحي مشرقة مشرفة تطلعنا عليها هذه الأمثال أرجو أن نوفق إلى إبرازها إن شاء الله.(911/20)
عبد الجليل السيد حسن(911/21)
بين حافظ وإمام العبد
للأستاذ خليل الخوري
كان المغفور له حافظ بك إبراهيم شاعرا عظيما وأحد الثلاثة الذين رفعوا اسم الشعر عاليا في الجيل الماضي. ومن يجهل أولئك الأدباء الذين لن يمحو مرور الأيام والأيام ولا مرور الأحقاب ذكراهم الخالدة - بل من لا يعرف شوقي وحافظا والمطران أولئك الأبطال الثلاثة الذين قد يكونون ولدوا في سنة واحدة فهم من فلتات الزمان. وقد تمر الأجيال بل القرون ولا تلد النساء أمثال هؤلاء العباقرة.
وإني أذكر أن في مقهى (سبلنددبار) (مقهى السبت فاير اليوم) المجاور لنزل شبرد المشهور والمقابل لحديقة الازبكية في القاهرة كان يجلس أدباء الجيل الماضي في خلال الحرب العظمى الأولى وقبلها، ومن أولئك الأدباء - الشعراء الثلاثة الذين خفقت أعلامهم في الإفطار والشيخ طاهر الجزائري والشيخ رشيد رضا والشيخ عبد الحميد الزهراوى ومحمد إمام العبد الشاعر الأسود ورفيق بك بركات والشيخ عبد القادر المغربي ومحمد كرد علي_العالم الدكتور شبلي الشميل الذي كان أعلم رجال زمانه في العلوم الطبيعية وانطوان الجميل بك؛ وكان ينتاب ذلك المجلس الفينة بعد الفينة سليمان البستاني والدكتوران يعقوب صروف وفارس نمر باشا.
ذلك كان مقهى العلماء والأدباء يجلسون فيه طوال الساعات يتجاذبون فيه الأحاديث من قديم ومن حديث فكان بمثابة سوق عكاظ، والذي تتاح له مجالسة أولئك الأبطال كان يتعلم منهم الجم مما جهل فقد كانوا معلمين طوراً وتارة متعلمين.
ولم يبق من الأحباء ممن ذكرت سوى الدكتور فارس نمر والشيخ عبد القادر المغربي ومحمد بك كرد علي الذين مازالوا يعملون في العلم والأدب والصحافة واللغة أطال الله أعمارهم وصان صحتهم ورحم الله أولئك الأبطال الخالدين.
ووقع مرة أن حافظا كان في المقهى ومنه بعض صحبه فأقبل عليهم محمد إمام العبد والكآبة تلو محيا الأسود فيزيده حلكا؛ وبعد أن سلم على الإخوان الغطاريف جلس إلى جانب حافظ فذعر حافظ من ذلك المنظر وكربه أن يرى إمام العبد يعاني ذلك الغم_وقال له ويحك! قل ما أصابك. هل ماتت زوجتك أم مات ابنك وأنت لا زوج لك ولا ابن ولن ويكون لك لا(911/22)
تلك ولا هذا - ويحك ألا تضحك قليلاً بل ألا تبتسم حتى يبدو اليسير الجميل من الدميم الكثير منك - فتظهر أسنانك البيضاء الناصعة فتشفع ولو قليلاً لسواد وجهك الحالك؟ فانهمرت العبرات من مآقي الشاعر البائس وقال لحافظ كيف اضحك وقد بت ليلة أمس كلها أعان الكرى من وطأة الطوى - اعطني اليسير مما رزقك الله - فبكى حافظ واستبكى سائر الجلساء وكانوا كلهم أولى المتربة والإملاق وجيوبهم من النضار بل من اللجين افرغ من البيداء من الماء - وقد كان حافظ اقلهم شقاء وبؤساً على رغم شهرته في الشقاء والبؤس.
بكى حافظ على إمام العبد وعلى نفسه وعلى سائر أصحابه ومد يده الى أحد جيوبه واخرج قطعتين من النقد قطعة من الذهب وقطعة الفضة أما قطعة الذهب فكانت جنيهاً إنكليزيا، وقطعة الذهب قرشاً صاغاً مصرياً؛ ألقى القطعتين على المائدة التي كانت بين الجلساء وقال لإمام العبد خذ القطعة التي تشاء من هاتين القطعتين. فتناول الإمام القرش وتلك الجنيه المتألق على وولى وهو يبكي؛ فلحق به حافظ واستحلفه أن يأخذ الجنيه وشدد عليه في ذلك وهو يأبى وكان بين المحسن والمستجدي البائس صراع عنيف؛ هذا يرفض الاستئثار بالجنيه ويكتفي بالقرش وذاك يصر على إعطاءه الذهب واستبقاء الفضة حتى تغلب بعد طول الصراع حافظ على الإمام ومضى هذا بالجنيه وتلك القرش لحافظ.
طرابلس الغرب
خليل الخوري(911/23)
تاريخ ثوكيديدس
للأستاذ سيد محمد سيد
ثوكيديدس. . وأعني به ذلك المؤرخ المعروف الذي أرخ لنا الحروب البلوبونيزية التي نشبت بين إسبرطة وأحلافها من جهة وبين الإمبراطورية الأثينية من جهة أخرى وذلك في النصف الثاني من القرن الخامس قبل ميلاد المسيح.
والتاريخ في حد ذاته فن يحتاج إلى عدة عناصر يجب أن تتوافر في المؤرخ، منها مثلا معرفة الحقائق والاستعداد لتسجيلها بأمانة وإخلاص، وكذلك الاستعانة بالخيال - إلى حد ما - لتصوير الشخصيات وإبراز النتائج.
ونحن نعلم تماماً أن المعرفة ليست من السهولة بمكان، كما أنه يصعب التوفيق بين الدراسة العميقة والخيال الخصب، ومع ذلك فقد تجمعت لثوكيديدس من هذه العناصر ما ترفعه إلى مصاف أعظم المؤرخين، وربما كان هذا رأى (ما كولي) المؤرخ المعروف الذي كتب في مذكراته: لقد انتهيت اليوم من قراءة ثوكيديدس وتاريخه بكل شغف وإعجاب، وأستطيع أن أقرر أعظم مؤرخ ظهر إلى اليوم.
ولا أرى بأسا من أن أشير إلى سيرة هذا المؤرخ إشارة وجيزة تمهيداً للكلام عن تاريخه.
ولد ما بين سنتي 47، 46 قبل الميلاد في أثينا ضد الإسبرطيين خلال حروب البلوبونيز، وقد قصَّ علينا في (كتابه الرابع) فشله في هذه المهمة بإيجاز وخشي أن يعود الى وطنه يجر أذيال الخيبة والخسران، فولى وجه شطر بعض الولايات المعادية لا أثينا في البلوبونيز. ثم بدء يكتب تاريخه.
وقد استغرقت الحوادث التي دونها الربع لأخير من القرن الخامس ق. م وعنى بذكر حرب البلوبونيز بصفة خاصة فلم يشر في كتاباته إلى الإمبراطوريات القائمة وقتئذ مثل إمبراطورية الفرس ومصر إلا بقدر ما تؤثر في مجرى الأمور في ولايات الإغريق.
وعلى الرغم من أنه في هذه الفترة من التاريخ القديم عاش فطاحل الأدب والفلسفة والفن أمثال هردود وايسوخلوس وقيدياس واوبربيرس وسقراط فإن ثوكيديدس لم يذكر في كتاباته اسم أحد من هؤلاء كما لم يشر إلى أعمالهم بشيء الآن كل ما وجه إليه عنايته في تاريخ الحروب البلوبونيزية مما جعل البعض يطلق عليه أنه مؤرخ هذه الحروب.(911/24)
وإن الباحث المدقق في تاريخ هذا الرجل يبدو له لأول وهلة إن كتاباته ليست سوى صورة باهتة جرت بها يد شخص ليست لديه ملكة قياسية، هذا في الوقت الذي اعتبر فيه (ما كولي) أعظم المؤرخين!
ويرى السير رتشردلفنجستون في مقدمته عن تاريخ ثوكيديدس الذي نقله عن اليونانية إنه ليس في الحيات الأدبية لأنه أمة ثلاثة تشابهت أو تساوت عبقريتهم مثل أفلاطون وأر سطو وثوكيديدس في أثينا. . . ويقول أيضاً. . . لقد كنت لدى ثوكيديدس هذه الروح العلمية التي نجدها عند المؤرخين في أيامنا.
وقد شرح لنا ثوكيديدس على صفحات كتبه النظريات عن كيفية التحقق من الروايات التاريخية، وعلى ذلك نستطيع أن نقول - ولا حرج - إنه واضع الأساس لهذا العلم الناشئ. ولنستعرض آرائه إذ يقول (لكي تبحث عن الحقيقة يجب أن لا تعبئ بأول ما يصل المتناول يدك، وعلى المؤرخ أن لا يتنكب الوصول إلى الحقيقة عن طريق أخيلة الشعراء وأساطير الأولين الذين يحاولون اجتذاب القلوب إلى أحاديثهم المشوقة عن طريق التهويل والمبالغة دون العناية بذكر الحقيقة.
ثم يعرج ثوكيديدس إلى الإشارة عن طريق تدوينه الوقائع الحربية فيقول (لا أذكر أني دونت معلومات استقيتها مصادفة، فإني لم أذكر سوى ما رأيته بعين رأسي أو قمت بتحقيقه شخصياً وتضح لي في النهاية أنه وقع فعلاً. ومع ذلك فقد أخطأه التوفيق في الحكم على بعض الحوادث، فالبعض يرى أنه كان متجنباً على الزعيم الديماجوجى (كليون) في الوقت الذي أغرق فيه في مدح الزعيم (بر كابس)، لا بأس! فأين هو المؤرخ الذي يسرد الحوادث التاريخية دون أن يتأثر بالعاطفة والتحيز؟
وقصارى القول،، أن ثوكيديدس كان يفهم تماماً الطريقة الصحيحة لتدوين الحوادث،، وكانت لديه عدة ميزات تعينه على ذلك! حقيقة كانت تنقصه العناصر المتوافرة لدى مؤرخي العصور الحديثة،، فهو لم يذهب إلى المدرسة أو الجامعة ولم يتعلم طرق البحث العلمي الصحيح،، إلا أنه تعلم طريقة الحياة وسط المفكرين الذين تبدو آراؤهم في الانعكاسات السيكولوجية لأحاديثه،، فقد كان يقص الحوادث التي وقعت في زمانه ويصور العواطف والأحاسيس التي أحس بها شخصيا واستطاع بذلك أن يمتاز بأن تصويره للحوادث جاء عن(911/25)
اتصالاته الشخصية بها لا عن طريق المستندات والمدونات. وهو لم يقف حياته متفرجاً بل أندمج بنفسه في كثير من الحوادث وساهم فيها،، فكان سياسيا خدم في الجيش وعمل في الأسطول وتلقى جانباً من الثقافة من اتصالاته بالمفكرين والشعراء في هذه الساعات التي كان يقضيها معهم في مجالسهم حيث كانوا على اتصال دائم بالطبيعة الإنسانية التي اتخذوا منها مادة لكتاباتهم ونضمهم.
وكان لاشتراك بلاده (أثينا) في الحرب ميزة لعلها الفريدة من نوعها لتدوين حوادث هذه الحرب وخاصة بعد أن قضا شطراً من حياته في صفوف العدو وهو يقول في ذلك:
(لقد كان من حسن حضي أن امضي عشرين عاماً في المنفى فوجدت بذلك الفراغ الكافي لأن ارقب الحوادث عن كثب).
هذه العناصر،، عنصر المساهمة في الحوادث والنظر إليها خلال منظار بلاده تارة ومن منظار أعدائه تارة أخرى كانت كافية لأن تجعل منه مؤرخاً منقطع النظير.
وقد أطلق البعض عليه لقب (مؤرخ سياسي) وقد دفعهم إلى ذلك أنه عنا عناية فائقة بمسلك الأمم والرجال في الأمور السياسية،، وإن من يقرأ تاريخه عن الحرب البلوبونيزية يدخل في روعة أنها حروب نشبت بين إمبراطوريات عظام،، وأوضح أنا المؤلف سبب قيام هذه الحرب ويستطيع القارئ الكريم أن يرجع إلى كتابه الذي نقله عن اليونانية أخيراً وتشرد لفنجستون عميد إحدى كليات أكسفورد.
وقد أشار هذا المؤرخ الكبير إلى حقيقتين عن الديمقراطية جديرتين بالتسجيل،، الأولى هي أن الديمقراطية الناجحة في حاجة ماسة إلى زعماء مهرة بارعين إذ أن أثينا لم تحطمها وتودي بها سوى الزعامة الفاسدة. والحقيقة الثانية هي معنى الديمقراطية فهي - كما يرى التي تترك لكل فرد الحرية في أن يعنى بشؤون نفسه بطريقته الخاصة وعلى الأفراد واجب احترام قوانين الولاية وأن يقدموا لها الخدمات بمطلق حريتهم.
وكان الرجل واقعيا في تفكيره لا يجري وراء النظريات المثالية التي نادى بها مفكرون اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل ميلاد المسيح ومنهم أفلاطون الذي قال (إن الدولة قامت لتنشر العدل) بل قال صاحبنا (إن الدولة هي القوة وأنه لا دخل للأمور الأخلاقية في العلاقات السياسية بين الدول وأن على الضعيف دائماً أن يستسلم!) وليست هذه المبادئ(911/26)
صادرة عن ثوكيديدس نفسه بل هي صدرت عن الحقائق،، فإن أفلاطون رأى ما ينبغي أن تكون عليه الدولة في حين صور لنا مؤرخنا حالة الدولة في الواقع.
وهكذا فإننا لا نرى إشارة إلى العدالة أو الرحمة في تاريخه،، فقد عبر عن آراء الزعماء والقادة. وهذا صاحبه برك ليس يقول (عليك أن تذكر أن عظمة بلادك ترجع إلى أنها كرست حياتها للحرب،، ولو سرت عليها سنة التطور وأخذت في الانهيار فيكفي أنها حكمت أكبر عدد من الولايات لم تحكمه دولة أخرى).
وقد يبدو لنا تاريخ ثوكيديدس لأول وهلة سرداً للوقائع لعبور دراماتيكية مملة دون أن نشارك الفريقين المتحاربين عواطفه؛ بيد أن (فرديث) يقول: كما تبدو فكرة المواطن الصالح في (كوميديات اريستوفان) تظهر الروح الوطنية في تاريخ ثوكيديدس فهو لم يغرم بشيء قدر غرامه بأثينا) كان صاحبنا ينظر نظرة خاصة إلى الوطنية فلا يكتفي بأن يكرس الفرد جهوده لوطنه بل عليه أن يعشقه عشقاً!
وقد تحدث ثوكيديدس في تاريخه عن أثر الحرب في الأخلاق فقال: (إن المبادئ السامية تؤثر على الدول والأفراد في وقت السلم تأثيرا لا شك في أنه يبعدهم عن حقيقتهم بينما تستطيع الحرب أن تظهر الأخلاق على حقيقتها).
وقد تأثر في كتابه بالطريقة التي ابتدعها (جور جياس) السفسطائي المعروف فلم يستطيع أسلوبه أن يبلغ قيمة أساليب كتاب الجيل الذين أتوا من بعده أمثال ليسياس وديمو ستنيس،، بل لقد بلغ الأمر أن غلق على شيشرون (كيكرو) فهم بعض تعبيراته أحيانا.
وقد دون ثوكيديدس مأساة من أروع مآسي التاريخ القديم وهي انهيار أمة بأسرها وأعني بذلك (أثينا) التي عاصرها وهي في أوج عظمتها تحت قيادة قائدها العظيم نركليس،، ثم رآها وقد أمسك بزمامها قواد أوردوها موارد الهلاك تحت ستار من الديمقراطية المتطرفة (الديماجوجية)، هذا إلى أن قضى عشرين عاماً في المنفى وسط أعداء بلاده. ولعل السر في عظمة تاريخه هو أنه كان يدون مأساة حياته في الوقت الذي دون فيه مأساة أثينا.
محمد سيد محمد(911/27)
رسالة الشعر
أختي
للآنسة إلهام يوسف
إلى الزهرة التي ذوت قبل الأوان إلى الشاعرة المرحومة (ن.
ط. ع.) التي عرفتها بالروح عن طريق (الرسالة) الغراء.
أختي إذا انتحر الشباب ... ومات في ثغري وغاب
ورأيتني أمضي على ... درب الحياة بلا إياب:
قولي: لقد ماتت هناك ... هناك في حضن الرصيف
كانت هناك تمد كفيها ... فلا تجد الرغيف
وإذا سئلت متى وكيف. . ... تحسري. . لا تنطقي
ثم انظري نحو السماء ... بلوعة أو فاطرقي
قولي: هناك رأيتها ... تذوي على شفة المغيب
وعلى يديها. . حيرة. . ... تستنجد الصبر الغريب
وإذا سئلت متى وكيف ... تحطمت أحلامها
ولأي درب في الحياة ... تدحرجت أيامها
قولي: لقد أبصرتها ... مذهولة عند المساء
تلج الطريق وقبلها ... متوثب نحو السماء
وتصيح: أبصرت الضعيف ... يعيش مقصوص الجناح
حتى يموت على الطريق ... ولا تجف له جراح
أختي. . وإن قالوا. . ... وأين. دفنت شلو شبابها
وتساءلوا: ومن الذين ... مشوا وراء ركابها
قولي: أناس. . شاحبون ... على الطريق تجمعوا
ساروا. . أنينا. . صامتاً ... منه القلوب تقطع
حملوا الرفات عن الرصيف ... إلى مكان مظلم(911/28)
واروه فيه بالدموع ... وبالأنين المؤلم
أختي،، وإن يوما مررت ... هناك من قرب الرصيف
قولي: وكم عذراء ... حطمها على الدرب الرغيف
غزة
الهام يوسف(911/29)
بين الأعاصير
للأستاذ إبراهيم الوائلي
سواجع الروض - لو تصغي سوأجعه ... خذي من اللحن ما تشجي مقاطعه
إني وقفت فلا طير يساجلني ... على الغصون وتهفو لي مسامعه
قلب يذوب وأنفاس يضيق بها ... صدر تعج ببلواه أضالعه
أني اتجهت رأيت الشوك يرصدني ... وعاصف التيه تطويني زعازعه
مالي وللنهر قد رقت مساربه ... لكل وحش وضاقت بي منابعه؟
أكلّما جئت ألقاه على ظمأ ... تجهمت دون ما أبغي مشارعه؟
والحقل ينضح عطراً من نسائمه ... فإن مررت تلقتني زوابعه!
كأنني لست من أطيار دوحته ... أشدو وتبعث أنغامي بدائعه
ودعت (دجلة) لا طيف يعاودني ... إلا الحنين ولا لحن أطاوعه
وخلتها أنها تصغي، وشر أسنا ... ألا يهز متون الروض ساجعه
وخلت أن (الفرات) العذب مذكر ... عهداً من الشعر ما جفت مطالعه
هناك غنت بجنب النخل صادحة ... شبا بتي واستشارتني مرا بعه
أستقبل الموج منساباً ولي كبد ... تظل من فرحة ألقيا تتابعه
نهر تغنى بأمجاد وطاف على ... دنيا الأعاجيب وامتدت رواضعه
كبابل و (سمير أميس) شامخة ... تقول للدهر: ماذا أنت صانعه؟
وموكب الشعر لا الأصفاد لاهثة ... تكف منه ولا الدنيا تقارعه
من (ابن دبيان) كم هزت قصائده ... (رب الخورنق) واهتاجت روائعه
ومجد بغداد والتاريخ شاهده ... إن قيل: هات تحدثنا مجامعه
حتى إذا بات في الظلماء رائدها ... يطوي المتيه وتحويه شوا سعه
تجاذبتها أعاصير ومزقها ... عصر من الظلم لا تنسى فظائعه
عصر (الولاة) وشعب يشتري علنا ... في كل يوم و (ظل الله) بائعه!
وزمرة من عبيد (الكرج) ساغ لهم ... من الفراتين عذب الماء مانعه
والمستعز على (البسفور) تحضنه ... مواكب الغيد والدنيا توا رعه(911/30)
يستنزف الدم لا الأقدار ترهبه ... فيستفيق ولا خلق ينازعه
ثم انطوى العهد (عثمان) لا رجعت ... به السنون ولا عادت فجائعه
وقيل جاء (حليف) الشرق منتصراً ... تحرر الشرق من رق مدافعه
وسار في كل واد فيلق ومشى ... ظل من الأمل الكابي يخادعه
فلم نجد غير أشلاء مبعثرة ... وأمة عبثت فيها مطامعه
وهب شعب فهز الظلم ثائرته ... وخضبت بالدم الذاكي مقال عه
وارتد فاتح دنيا الشرق ما نفعت ... منه (الأكاذيب) أو أجدت مواقعه
ثم انجلى الليل عن (سر) ولست أرى ... إلا السكوت وإن لم يخف ذائعه
و (سادة) إن مشى التيار مصطخباً ... ألفيتهم مثلما تطفو فواقعه
من كل محتضن كرسيه صنما ... وشيخ (سائمة) تزهى قطائعه
وبين هذين جمهور يبيت على ... ذل ويصرخ عارية وجائعة
آمنت بالظلم يذكى النار في كبدي ... وتلهب الشعر في روحي دوافعه
وكلما لوحت بالسوط عانيه ... كف (الأجير) استفزتني مقارعه
لا الكبت يقوى على صوتي فيسكته ... إذا هتفت ولا الطاغي يمانعه
أأستجيب لصمتي بين قافلة ... قد بعثرها من الوادي بلاقعه؟
ورائد الركب سكران الخطى ثمل ... جنت فهامت على شوك أصابعه
وغره أن هذا الليل ما فتئت ... تمتد في مشرق الدنيا سوافعه
وما درى أن فجرا لا يرمقنا ... من كوة الأفق المكدود ساطعه
وشاعر كلما أوفى على أمل ... ذابت على مسرح الذكرى طلائعه
مستوفز القلب لم يجنح على دعة ... من الحياة ولم تهدأ نوازعه
يشقي ودون أماني النفس مهزلة ... من السياسة ما انفكت تصارعه
و (نزعة) من بقايا الذاهبين أبت ... أن نستريح، وشر السم ناقعه
مدت أحابيلها في كل زاوية ... كما تعهد شوك القلب زارعه
سياسة باسم حكام يحرمها ... دين تجل عن الفوضى شرائعه
لكنه الحكم كم هدت معاوله ... شعبا وكم شردت جيلا مقامعه(911/31)
عهد من الظلم يا دنيا أرقى أملاً ... فسوف تطوى وإن جلت فواجعه
القاهرة
إبراهيم الوائلي(911/32)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
قصة أدبية سورية:
لا أخفي أن شخصية (الآنسة) هجران شوقي كانت موضع شك لدى فريق من الأدباء، ولولا أن أديباً واحداً بقي على شكله ويريد أن يسبقني إلى الكتابة حول هذا الموضوع، لما تناولت القلم لأحدث قراء الرسالة عن هذه الشخصية (الأنثوية) التي لم أشأ أن أغلق في وجهها الباب حتى اليوم لغرض مقصود!
هذا الأدب الصديق يريد أن يقول للقراء: إن (الآنسة) هجران شوقي ما هي إلا أديب سوري يخاطبني بلسان فتاة؛ يريد أن يقول هذا ويكتفي به، لأنه لا يملك دلائل الإثبات. . حسبه أنه مطمئن إلى هذا الطن، مقتنع به، عازم على أن يذكره على صفحات الرسالة، معرباً عن عجبه من أن أسمح لذكائي المتواضع بأن يتقبل الخديعة!
وقلت للأديب الصديق: إنك لا تستطيع أن تثبت صحة هذه الظنون، ومع ذلك فإنني أقدر ذكاءك. ذكاءك الذي صمد حيث لم يصمد ذكاء الآخرين، وأعني بهم هؤلاء الذين قرءوا رسالة (الآنسة) هجران الأخيرة فتبخرت شكوكهم حين لفحتهم لوعة الشعور من خلال السطور؛ لوعة الشعور (الأنثوي) الصارخ من وطأة القيد وظلمة السجن وقسوة السجان. . لقد آمنوا بأن الصرخة صادقة كل الصدق، بريئة كل البراءة، وأن من ورائها حقاً شهيدة المجتمع وحبيسة الدار!!
إنني أهنئك يا صديقي على هذا الذكاء وأو أكد لك أن ذكائي المتواضع لم يتقبل الخديعة في يوم من الأيام. . هذه حقيقة أفضيت بها إلى بعض الناس منذ اشهر، كما أفضيت بها إلى هؤلاء الذين تبخرت شكوكهم بعد أن قرءوا رسالة هجران الأخيرة. . كل ما دفعني إلى أن أظهر بمظهر المخدوع أمام الكثيرين وأمامها (هي) بوجه أخص، هو أنني كنت أريد ألا أغلق في وجهها الباب لغرض مقصود، هذا الغرض هو أن يخونها الذكاء يوماً فتطل من فرجة الباب بوجهها الحقيقي الذي لم تغيره الألوان والمساحيق. . ولم يخب ظني فقد أقبل اليوم المنتظر، اليوم الذي خانها فيه الذكاء أو خانتها الذاكرة، فنسيت أن تضع على وجهها قليلا من الطلاء قبل أن تطل برأسها من فرجة الباب المفتوح!!(911/33)
هذا هو دليل الإثبات الأول الذي يعوزك يا صديقي أن تقدمه، والذي يجعل ذكاءك محصورا ً في دائرة ضيقة محورها الظن الذي تحس به النفس ويفتقر معه العقل إلى برهان. هذا البرهان الذي كان يمكن أن تضع عليه يدك في رسالة هجرن الأخيرة وهي تشكو وطأة القيد وظلمة السجن وقسوة السجان! عد إلى رسائلها الأولى ثم قف طويلا عند هذه الرسالة الأخيرة، وقارن بين بعض الظواهر هنا وبعض الظواهر هناك، وأنا واثق من أنك ستجد المفتاح الضخم الذي يمكنك أن تضعه في ثقب الباب ليفتح، ويكشف لك عما وراءه من حجرات يسطع فيها الضياء. . بعد هذا دعني أقدم لك عدداً من المفاتيح بدلا من مفتاح واحد، ولك أنت أن تضع النقط فوق الحروف كما يقول الصحفيون!
لقد قلت في ردي على أول رسالة من (الآنسة) هجران إنني اعتقد أنها أديب سوري يخاطبني من وراء قناع. . وحين تلقيت رسالتها الثانية التي ظهرت فيها بمظهر الغاضبة والعاتبة على هذا الاعتقاد الذي لا أساس له من الصحة كما تعبر البلاغات الرسمية رحت أعتذر إليها من هذا الاعتقاد (الخاطئ) الذي كان مصدره أنني لم أقرأ لها شيئاً من قبل في الصحف والمجلات. . قلت هذا وأنا باق على يقيني الأول لم يشغلني عنه أنها عازمة على الحضور إلى مصر في المؤتمر الثقافي لتثبت لي شخصيتها الأنثوية، ولا أنها بعثت إلي بعنوانها في دمشق كوسيلة من وسائل هذا الإثبات. . قلته وأنا واثق من أنها لن تحضر، ولم أحاول أن أكتب إليها على ذلك العنوان لثقتي مرة أخرى من أنه عنوان لا وجود له، وقد أثبتت الأيام في الحالين صدق هذا اليقين!!
وقالت الأديبة السورية المعروفة السيدة وداد سكاكيني وهي تزورني في وزارة المعارف عقب إنهاء المؤتمر الثقافي: أود أن أقول لك إن شخصية (الآنسة) هجران شوقي شخصية خيالية. . وقلت لها رداً على الفتة البارعة: وأود أن أؤكد لك أنها كذلك! وارتسمت على وجهها صورة من الدهشة وهي تقول مرة ثانية: ولماذا إذن تنشر لها قصائدها ورسائلها ما دمت تعتقد أنها شخصية مستعارة؟! وأجبت وقد علت شفتي ابتسامة ذات معان: لسببين. الأول لأنني لا أريد أن أغلق في وجهها الباب لتبرهن (هي) على شخصيتها الأنثوية تحتاج إلى إثبات، وقد برهنت على ذلك حتى الآن بتخلفها عن الحضور في المؤتمر الثقافي! أما السبب الأخير فهو أنني راض عن إنتاجها الأدبي فهو من هذه الناحية جدير(911/34)
بالنشر حري بالتشجيع، وأنا لا أهتم بمن قال قدر اهتمامي بما قال. . وانقضت بعد ذلك أيام وأشرت إلى هذا الحديث إشارة ذات مغزى على صفحات الرسالة، حين قلت (للآنسة) هجران أن تحملي إليها خالص التحية!!
وحدث بعد ذلك أن عاد الصديق الأديب الأستاذ حبيب الزحلاوي من رحلته الموفقة إلى سورية ولبنان لينقل إلى بعض ما سمعه هناك، وليطالعني بمثل ما طالعتني به السيدة الفاضلة وداد سكاكيني. وقلت للأستاذ حبيب في معرض الحديث الذي وامقته فيه على صدق ظنونه، هون عليك يا صديقي فسأكتب يوماً عن هذا الموضوع! ولعل قارئاً يسألني: على أية دعامة من الدعائم أقمت يقينك بأن (الآنسة). هجران شوقي ما هي إلا أديب يخاطبك من وراء قناع؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن أسأله: أتظن أن هناك أديبة تملك كل هذا النضج في تعبيرها النثري، وكل هذه الأصالة في صياغتها الشعرية، ثم لا تحاول مرة واحدة أن تظهر في ميدان الأدب لولا هذه المناسبة العابرة التي دفعتها إلى الظهور، يوم أن تحدثت عن قصيدة الشاعر يوسف حداد؟! ثم هل تظن مرة أخرى أن هناك من يزهد في المجد الأدبي كل هذا الزهد، وهو يعلم أن كلا من شعره ونثره يمكن أن يطرق الأبواب في كثير من الثقة والاطمئنان؟!. . ضع النقط فوق الحروف كما يقول الصحفيون!!
إن الذكاء كما قلت لك كثيراً ما يخون، ولو لم تتماد (الآنسة) هجران في ذكائها لما تعثرت قدماها في هذا الطريق الذي تعمدت أن تسير فيه. . لقد حدث أن تعثرت قدماها فسقطت، وحين سقطت اصطدم وجهها بصخور الطريق، فتمزق النقاب الذي كان يخفي وجهها فظهر على حقيقته للعيون! معذرة يا (آنستي) فقد حرصت من جهتي على أن أرسم لك خط السير ولكنك كنت تسيرين مسرعة، لا تكادين تلتفتين لحظة إلى الوراء. . لو أنك مددت عينيك مرة واحدة إلى الخلف لما تعثرت قدماك، ولما أصطدم وجهك بصخور الطريق، ولما تمزق النقاب! أقصد لو أنك تذكرت ما جاء برسائلك الماضية من إنك حرة طليقة تملكين من هذه الحرية التي لا تحد ما يهيئ لك الحضور إلى القاهرة لتجلسي إلى هذا وتتحدثي إلى ذاك، وتغشى المجتمعات الأدبية في بلد غريب لتشاركي في أمور الأدب والفن؛ لو تذكرت هذا كله لما شكوت في رسالتك الأخيرة ظلم المجتمع وقسوة التقاليد، ذلك(911/35)
المجتمع الذي فرض عليك أن تكوني شهيدة القيد وهذه التقاليد الذي ضربت من حولك نطاقاً من الأسر جعلك حبيسة الدار رهينة الجدران. . أي منطق هذا الذي يؤكد لنا اليوم أنك سجينة مقيدة، بعد أن أكد لنا بالأمس أنك حرة طليقة؟ إنها هفوة من هفوات الذكاء. . الذكاء الخائن في أحرج الأوقات! وهذا هو المفتاح الضخم الذي قدمته منذ أسابيع لهؤلاء الذين تبخرت ظنونهم حول شخصية (الآنسة) هجران المفتاح الذي يستطيعون أن يضعوه في ثقب الباب لينفتح، ويكشف لهم عما وراءه من حجرات يسطع فيها الضياء!!
ورب سائل يسألني وقد تجمعت بين يدي شتى الخيوط التي تنسج أثواب اليقين: لقد كنت تعتقد أن عنوانها الذي بعثت به إليك منذ أشهر ليس له وجود في دمشق، فلماذا بعثت إليها آخر الأمر بتلك الرسالة الخاصة التي أشرت إليها منذ قريب في (التعقيبات)؟ لقد أقدمت على ذلك لألقى بآخر سهم في جعبة الاعتقاد، الاعتقاد الراسخ بأن الذي يكتب إلي فتى لا فتات. . . وكنت واثقاً كل الثقة من أن رسالتي الخاصة سترد إلي مرة أخرى وعليها إشارة مصلحة البريد في دمشق بأن هذا العنوان لا وجود له، وقد كان!. وبقى هناك غرض مقصود من وراء هذه الرسالة التي كنت أتوقع أن ترد إلي وهو أن أقدم الدليل المادي القاطع لمن يهمهم أن يطلعوا عليه، ومن بينهم (الآنسة) هجران شوقي إذا حاولت أن تكتب إلي غاضبة وعاتبة!!
ومع ذلك فأنا أود أن أقول (للآنسة) الفاضلة وللكثيرين إنني لا أهتم بمن قال قدر اهتمامي بما قال. . والدليل هو أن (الرسالة) قد نشرت لها في العدد الماضي قصيدة (القمر)، ولا يزال لها عندي قصيدتان سأنشرهما في الأعداد المقبلة. . كل ما أرجوه هو أن تعتقد (الآنسة) هجران بأنني حتى هذه اللحظة صديق، وليس عليها من بأس إذا هي كشفت للقراء عن اسمها الصريح. . اسمها الذي أعتقد أنني أعرفه، والذي تحدثت عنه إلى عدد من الأصدقاء!!
بيتان لجميل بثينة:
كنت أستذكر بعض محفوظاتي من الشعر لجميل بن معمر العذري. وفجأة استوقفني بيتان لم أستطع أن أمر عليهما مر الكرام، وهذان هما البيتان:
وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله(911/36)
بلا، وبأ لا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب أمله!
والذي استوقفني في هذين البيتين هو الشطر الثاني من البيت الأول، أي قول جميل: لو أبصره الواشي لفرت بلابله. . وقد رأيت في معنى قوله هذا غمطا لحق الواشي وتغييرا لطبيعته. فالواشي المتلصص على هناء حبيبين لن تقر بلابله عندما يرى الحب قانعا من حبيبته بلا، وبأ لا أستطيع، وبالمنى. . بل سينفجر غيظه وتثور مراجله. فهو لم يتلصص ليراهما على هذه الحال فليس فيها لوم ولا تثريب. . وإنما ليراهما في حالة مريبة تقر بلابله!
وإني أرى أن يكون قول جميل، وربما كان هو الأصح:
وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لثارت مراجله!
فأرجو من حضرة الأستاذ الكريم إفادتي على صفحات الرسالة الغراء: أنظرتي خاطئة؟ أم الخطأ من الشاعر، أم من الرواة؟ ولكم خالص الشكر والتحية.
محمد تركي الرجبي
الشيء الذي أود أن يطمئن إليه الأديب الفاضل هو أن هذين البيتين من شعر جميل بثينة، لا غبار عليهما من ناحية النقل الأمين للشعر القديم. . أما الشطر الثاني من البيت الأول فلا غبار عليه أيضا من ناحية الصدق الفني أو من ناحية السلامة التعبيرية.
إن جميل بثينة يريد أن يعبر عن حقيقة هواه ويريد في نفس الوقت أن يفصح عن سر أساه. فحقيقة الحب عند جميل أنه عذري لم تدنسه شهوة، ولم يعبث بطهره إثم، ولم تذهب بصفائه نزوات الجسد أو سقطات الغواية. وسر الأسى عند جميل أن الوشاة لم يتقوا العدل ولم يراعوا الضمير، حين أطلقوا لخيالهم العنان حول هذه العلاقة البريئة الطاهرة بمن يحب! إنهم أصحاب شكوك وأوهام، لأنهم لم (يبصروا) الواقع الذي لا يخرج منه بغير الأماني الكاذبة والوعود الباطلة!
بلا، وبأ لا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب أمله!
هذا الواشي الذي يعنيه جميل، لم (يبصر) هذا الذي يقنع به دائما من حبه لبثينة ولو أبصر لما (تخيل). لما تخيل أن كل محظور قد وقع في عالم المنظور! وهنا تبدو (الرؤية الشعرية) واضحة كل الوضوح صافية كل الصفاء، لأن هذا الواشي الذي يجور على الحق(911/37)
وينأى عن الإنصاف، قد اتخذ الخيال الآثم معبره إلى الظنون، ومن طبيعة الظنون أن تثير الخواطر حين تفترض وجود الشبهات. . فلو أن الوشاة قد رأوا بعين الحقيقة لا بعين الخيال، لفرت بلابلهم، وهدأت مراجلهم، وأنصفوا الحقيقة المظلومة ورحموا الواقع الشهيد. ولكنهم للأسف لا يبصرون. . ولهذا يتقولون!!
وإذن فالمعنى الذي يهدف إليه الشاعر مستقيم لا التواء به واضح لا غموض فيه. ولو رجع الأديب الفاضل إلى الشطر الثاني من البيت الأول، لأدرك أن (الحركة النفسية) في قول جميل: (لقرأت) بلابله، مرتبطة كل الارتباط (بالحركة المادية) في قوله: لو (أبصره) الواشي. . وهذه هي (الرؤية الشعرية) الصادقة التي تعتمد أكثر ما تعتمد على دقة (العلاقة النفسية) بين حركتين: تعمل إحداهما في حدود الواقع المحس وتعمل الأخرى في حدود الواقع المنظور.
مع الفن الشهيد في العراق:
يصر حضرت الذين بعثوا إلى برسائلهم حول محنة الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر الناصري على أن أفسح المجال لمشاعرهم الفياضة بالعطف عليه ليطمئن إلى أنه لا يقف وحيدا بلا نصراء. هذا المعنى الكبير الذي يسمون إليه قد سجلته لهم شاكرا على صفحات الرسالة، وأكتفي اليوم باختيار قصيدة للنشر في العدد القادم للأستاذ جعفر حامد البشير، معتقدا أنها يمكن أن تنوب عن هذه المشاعر الكريمة فيما تزخر به من نبل العاطفة وصدق الوفاء.
أنور المعداوي(911/38)
رسالة الفن
مسرحية ابن جلا
للأستاذ إسماعيل رسلان
ما كنت أحب أن يتصدى ناقد لمسرحية ابن جلا دون أن يكون ملما بحوادث المسرحية التي ينقدها، ويخيل إلى أن الناقد لم يكلف نفسه عناء مراجعة مقالة بل مراجعة نقده على الأصل، فنراه ينتقد حوادث الرواية فيقول (وعندما تعلم برغبته (أي الحجاج) في الزواج من هند بنت أسماء تلقي بنفسها في النهر) والله يعلم أنه ما دار في خلد المؤلف أن يصور الأهوازية باعثة نفسها. ولكن ناقدنا البصير خيل إليه أن الأمر كذلك مع أنه يدبج الصفحات الطوال في انتقاد البواعث الخفية للأشخاص، وهذا مثل يدل على قدرته في تفهم البواعث والحركات، فالأهوازية كما رآها من شاهد المسرحية إنما احتفظت بقوة شخصيتها وإيمانها بنفسها إلى أخر مراحل الرواية فهي لم تلق بنفسها في النهر تخلصاً من الحياة أو من حب مزدري به، وإنما ألقت بنفسها أولا ثم من عقاب صارم كان ينتظرها على يد الحجاج، وشتان بين هرب متحدي ومقصود، وبين محاولة للانتحار في استسلام واستخذاء!!
ويحسب صاحبنا أن المسرحية ينبغي (أن تصور الواقع التاريخي) فلا يجوز لها أن تخلق شخصية ليس لها سند من التاريخ المحفوظ ومن هنا كانت شدة نقده للمؤلف إذ خلق شخصية الأهوازية، وقد حسب صاحبنا أنه وقع على اكتشاف خطير إذ نراه يقترح على المؤلف أن يضع (هند بنت أسماء) بدلا من الأهوازية، وهو في كلا الحالين واهم، فإن المسرحية التاريخية من حقها أن تسجل ما أهمل التاريخ من صلات إنسانية لم يكن لها أن تجد طريقها إلى سجل التاريخ كما كان يعرفه الناس وقتئذ. ومما لاشك فيه أن الحجاج كان يحيا حياة عاطفية ما، ولاشك أيضاً أن المؤلف قد أصاب إذ خلق شخصية تسد تلك الفجوة التي أهملها مؤرخو العرب، ولو أن صاحبنا قد أنصف لعرف ما ينطوي عليه اقتراحه من تعسف وشطط. فلو أن الأستاذ محمود تيمور بك قد أخذ باقتراح الناقد البصير ونحفف في استعمال أسانيده التاريخية لما وسعه أن يجعل من هند بنت أسماء إلا شخصية ثانوية لا تحل من حياة الحجاج إلا سنة أو بعض سنة ثم لا يلبث أن يسلوها.(911/39)
أين هذا مما وفق إليه المؤلف من ابتداع شخصية الأهوازية التي لا زمت الحجاج على المسرح من ضحي حياته إلى مغربها، وكانت مثار الحس فيه وباعثه على أن يظهر ألوانا متعددة.
وما احسبني كنت في حاجة في يوم من الأيام أن أقرر بديهية من بديهيات التأليف المسرحي، تلك أن الشخصية المسرحية يشترط فيها أن تكون متساوقة مطردة، ولكن ناقدا أحوجني إلى ذلك إذ شكا وأستنكر أن يكون الحجاج صخري القلب مشغولا بنفسه وأطمحها لا تلين له قناة إلى آخر المسرحية، ولو أنه استخذى للحب ولان للأهوازية وتنكر لطبيعة قلبه الصلد، كما يريد ناقدنا، لأنكرنا من المؤلف صورة شو هاء للحجاج لا تمثل شخصية الحجاج التاريخية، وكذلك الحال بالنسبة للأهوازية إذ صورها المؤلف مندفعة طائشة تلقي نفسها إلى التهلكة من أجل الحب، لا تعيش إلا له ولا تحي إلا به، فإن لم يبادلها الحجاج حبا بحب عاشت من أجل هذا الحب وقد انقلب في وهمها كرها، ولكنها لا تفطن إلى ما يعتمل في فؤادها الجياش من العواطف والأهواء.
فأين ناقدنا من هذا الغور السحيق من مكنونات القلب البشري، وهو يحاول أن يستبطنها ليدرك كنهها؟ إنه مشغول عن كل هذا بما ظنه الخروج على قواعد التأليف الصحيح من جعل شخصية الأهوازية ثائرة مهددة على الدوام إذ يقول (فموقف الأهوازية من الحجاج عندما سمعت أنه سيتزوج من عفراء، هو نفس موقفها منه فيما يختص بأم كلثوم، وكذلك فيما يختص بهند، فهي تثور ثم تهدد ثم تعود لتقف نفس الموقف) وهذا الذي يعده الناقد عيباً هو أسمى ما يصل إليه المؤلف المسرحي من تصوير الشخصية المتماسكة المستقيمة المطردة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المؤلف قد صورها من واقع الحياة كامرأة حائرة بين حبها الشديد وبين كبريائها فطوراً تنصاع لحبها وطوراً تنصاع لكبريائها لما ترددنا في الحكم بأن المؤلف قد بلغ غاية التوفيق في تصويره للأهوازية.
وما احسبني في حاجة بعد ذلك إلى بيان فساد رأي الناقد في الأهوازية إذ يقول (كان موقفاً سلبيا في كل موقف التحمت به) يعني الحجاج، وهو يعلم أنها لم تلاق الحجاج مصادفة بل احتالت للقائه وأنها استخفت لتعصي له أمراً، إذ أمرها بالذهاب إلى مكة (فعادت إليه متخفية في صحبة عبد الله بن جعفر في اللحظة التي كان يخطب فيها أم كلثوم لتفسد عليه(911/40)
خطته ثم فرت منه لتعود إليه متخفية في ثياب فتى أعرابي لتقتله) هذه هي المواقف السلبية التي يعزوها الناقد إلى الأهوازية فما هي يا ترى المواقف الإيجابية التي كان الناقد يريدها من المؤلف؟ أو بعد هذا الصراع الذي صوره المؤلف بين الاثنين يصر الناقد على أن الأهوازية كانت سلبية الموقف؟
ويظهر أن ناقدنا قد غاب عنه أن الحجاج كان جدب الحياة العاطفية الغرامية وأن المؤلف قد نجح في تصوير ذلك، فكان الحجاج يتخذ الحب دائماً وسيلة إلى مطمع من مطامعه السياسية كما فعل مع بنت عبد الله بن جعفر وغيرها، وكما أعرض عن رفيقة صباه عفراء مع شدة جمالها وذكريات صباه معها فقد رفضها إذ لا مطمع من ورائها، وكانت الأهوازية هي المرأة الوحيدة التي نالت شيئا من اهتمامه إذ لازمته ملازمة الظل وكانت تهاجمه في كل مكان، فلو لم تفعل ذلك لما اهتم بها أصلاً، وحتى هذه الأهوازية قد استخدمها في مآربه السياسية إلى جانب أنه أعزها لأن في طموحها هي الأخرى ما يجعله يتجاوب معها في هذا السبيل.
بقي بعد ذلك أني أشير إلى أنه يخيل لصاحبي أن المسرحية يجب أن تقوم على الصراع العاطفي وهو عنده (الأساس الأول في التأثير على المشاهد في مثل هذه المسرحية التاريخية) والمشاهد العاطفة عنده هي المشاهد التي تجري نين الحجاج والأهوازية كما كرر ذلك مراراً، وهذا وهم كان يشيع في أواخر القرن الماضي، وأحب أن يعرف حضرة الناقد البصير أن المسرحية اليوم قد تقوم على صراع ذهني تضطرم فيه شهوات الغلبة والسيطرة وتنزوي فيه العواطف الساذجة من حب وهيام.
إسماعيل رسلان
مسرحية (ابن جلا)
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
طالعتنا الرسالة الغراء بثلاث مقالات مختلفة عن هذه المسرحية؛ الأولى للأستاذ عباس خضر، والثانية للأستاذ حبيب الزحلاوي ضمنها رأيه ورأي الأستاذ أحمد رمزي بك في الإخراج، والثالثة للأستاذ أنور فتح الله.(911/41)
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اهتمامهم المشكور بهذه المسرحية ومؤلفها ومخرجها وبفرقة المسرح المصري الحديث التي افتتحت بها موسمها.
غير أن التفاوت الكبير بين أراء حضر اتهم لدرجة غير معهودة أمر يدعو إلى النظر بالرغم من دقة بعض الموضوعات التي تناولوها واختلاف نقاد الغرب أنفسهم فيها.
فبينما يرى الأستاذ خضر مثلا أن هذه المسرحية قد بلغت غايتها من حيث معالجة الحجاج، ويرى الأستاذ الزحلاوي أن مؤلفها تيمور بك قد فتح فتحا جديدا في الفن الروائي العربي، يرى الأستاذ فتح الله أنها قد فقدت القدرة على بعث الحياة والإثارة إلى آخر ما قاله محاولا الحط من قيمتها استنادا إلى رأي الدكتور مندور في كتابه (في الأدب والنقد). ولست أزعم أن رأي الدكتور مندور خطأ ولكن لعل الناقد أخطأ في تطبيقه من جهة وفي اعتباره الرأي الوحيد الذي (يحدد الفرق بين التاريخ والمسرحية التاريخية) من جهة أخرى. فهناك كما نعلم آراء شتى في هذا الموضوع. فرأي يقول بأن التزام التاريخ يفسد المسرحية من الناحية الفنية لأن الفن تقليد بارع للأشياء، والبراعة شرط أساسي. ونحن إذا قلدنا التاريخ كما هو لسلبنا الفن براعته. ونتيجة لذلك يصبح عبثا لا طائل وراءه إذ أنه في هذه الحالة لا يعطينا شيئا خلاف ما يعطينا إياه التاريخ.
ورأي آخر يقول بأن التزام المؤلف المسرحي للتاريخ لا يقلل فينا من شأن إنتاجه أنه مادام يتغلغل في بواطن شخصياته ويستنطقها بما يعين على تفسير الحوادث.
ورأي ثالث يقول بأن هناك لحظات نادرة تكون فيها الحقائق التاريخية واغرب أروع وأكثر إرضاء للنفس وأوثق صلة بالفن من أي قصة من القصص. ولئن أقبلت لحظة من هذه اللحظات النادرة على فنان مسرحي ممتاز فإن الفن والتاريخ يسيران معا بين يديه في توافق تام.
ورأي رابع يقول بأن المسرحية التاريخية إن هي إلا معيار للإنسان لا باعتباره حيوانا اجتماعيا كما في الملهاة ولا باعتباره طامحا للخلود كما في المأساة ولكن باعتباره أداة سياسية في المجتمع أي باعتباره خادماً ساهراً على مصلحة الجماعة التي يعيش فيها. ومن ثم يجب على الفنان المسرحي أن يصور بطله التاريخي بحيث تمحي الفردية فيه أمام عنصره السياسي الذي يمت إلى الجماعة بصفة عامة. . . الخ.(911/42)
ولا اتفاق بين نقاد المسرح إلى على أن طبيعة حوادث التاريخ تغاير طبيعة الموضوع المسرحي، وأن التاريخ وإن كان - فرضا - سجلا واقعيا إلا أنه لا يعنى بغير الجزئي من الأمور، في حين أن المسرح يعنى بالكل منها طبقاً لتاريخ الاحتمال أو الضرورة. التاريخ يصور ما حدث فعلا - إن صدق المؤرخون - بينما المسرح يصور النماذج العليا التي يخلقها الانتخاب والتخيل. التاريخ يحدد واقعاً معيناً بينما المسرح يبتدع المثال الكامل.
وإذن فلا محل لمؤاخذة تيمور بك على تصوير شخصية الأهوازية من مخيلته دون تصوير امرأة (حقيقية). وكنت أرجو أن يقرأ الأستاذ فتح الله مسرحيات برنادشو التاريخية ليرى كيف يبتدع هذا الفنان الجبار من مخيلته شخصيات لا وجود لها في التاريخ.
كذلك كنت أرجو أن يدرك أن الصراع لا يكون حتما بين شخصيتي البطلين وأن الصراع المسرحي ليس (خناقة) تدور بينهما. فلو أنه أدرك هذا لأعفانا من كلام طويل ترتب على ذلك.
كذلك قوله عن تكرار المشاهد العاطفية يحتاج إلى مراجعة لأن كبار المؤلفين أمثال شكسبير كثيراً ما لجئوا إلى ما يشبه التكرار إما أو بالمطابقة تفسيراً للفكرة الأساسية في التمثيلية وتوضيحاً لشخصيتهم
كذلك رمى تيمور بك بالإساءة إلى صورة الحجاج التاريخية عند ما صوره متسامحا مثلا بحجة أن الحجاج (لا يتسامح أبدا) ونسى الناقد الفاضل أن الحجاج إنسان يجوز عليه ما يجوز على بني البشر وأن المسرح لا يعبأ بسيرته الواردة في كتب المدارس الثانوية وإنما يتغلغل وينفذ إلى الصميم، وربما كانت أهم مزايا تيمور أنه استطاع فهم ذلك واستثماره.
أترك هذا وأغفل ما كتبه عن بناء المسرحية وعن (العقدة) لأناقش ما هو أجدى من ذلك وهو رأي العالم الفاضل أحمد رمزي بك بصدد الإخراج:
وأبادر فأقول إني أوافقه تمام الموافقة على أن المخرج يجب أن يكون ذا ثقافة وافرة واطلاع عميق على النصوص التاريخية وعلى علم الآثار الإسلامية والخطوط، ويفهم الملابس والإشارات والأسلحة والأثاث والمعمار الذي يسود كل عصر.
وأوافقه أيضاً على أن كل عصر إسلامي يمتاز عن الآخر بميزة خاصة تميزه من هذه النواحي.(911/43)
لكن هل معنى ذلك أن المخرج يكون (بدائيا) حتما إذا لم يستطع مراعاة مطابقة مناظره وملابسه للحقيقة التاريخية حتى ولو لم يكن في وسعه - ماديا مثلا - تحقيق ذلك؟
وهل يصدقني عزته إذا قلت إن الروايات التاريخية يجوز إخراجها بملابس ومناظر عصرية؛ وإذن فإخراج الجند الشامي بملابس القرن العشرين ليس أمراً مضحكا؟!
وهل يصدقني إذا قلت إن الإخراج الواقعي أي محاولة تمثيل الواقع حرفيا هو من أسوء مذاهب الإخراج؛ وإذن فكتابة الأعلام بالخط النسخ بدلا من الخط الكوفي مثلا لا تضير كثيرا، ولا سيما إذا لم يقصد المؤلف تصوير الحجاج بن يوسف الثقفي بقدر ما قصد تصوير (الإنسان) و (المثال) و (الرمز)؟!
لقد كنت أرجو أن يتحدث النقاد الأفاضل عن الإخراج في صميمة وموضعية ويقدروا الجهد الذي بذله المخرج في إبراز المعاني الكامنة والغامضة التي قصد إلى استجلائها المؤلف. كنت أرجو أن ينهوا بما توخاه من تضخيم قطع الأثاث ورفعها على قواعد عالية وما تشاكل ذلك في كل ما يتصل بالحجاج ليطابق هذا ما كان يعتمل ويحتدم في باطنه من استعلاء
والتمثيل. . . إن أقصى ما قيل أن زكي طليمات قد بلغ الذروة. . . ولكن ما هي هذه الذروة وأين مكانها وكيف تقلب بين مراحل دوره المتفاوتة وكيف أعطى لكل مرحلة ما يناسبها من نفسه وجهده وأعصابه وذاته، وكيف تمكن من إخفاء شخصيته الحقيقية وإبراز شخصيته التمثيلية لدرجة أننا لم نعرفه على خشبه المسرح لأول وهلة، وكيف صمد لمختلف المواقف والانفعالات بالرغم من دوران الرواية كلها حوله نحو أربع ساعات تكاد تكون بغير انقطاع
وبعد فبقدر ما الأستاذ عباس خضر في كلمته المعتدلة التي أعلتها روح التشجيع الواجب - فيما أرى_إزاء مؤلف أخلص للفن لمحض الفن حتى صار في مقدمة مؤلفينا، ومخرج وطد العزم على أن يجعل من فرقته نواة لمسرح الغد. . وبقدر ما وفق الأستاذان رمزي بك والزحلاوي في توخي الصراحة والنزاهة والقصد حتى في قسوتهما أحيانا. . لم يستطع الزميل أنور فتح الله إخفاء تحامله بين سطور كلماته الغاضبة
ولولا تعقيب (الرسالة) عليه بما استحقه لصارحته جهراً بالأسف على ما انساق إليه بلا(911/44)
مسوغ.
عبد الفتاح البارودي(911/45)
البريد الأدبي
ألفاظ ف أبياتي
في هذا الركن من (البريد الأدبي) للرسالة الغراء التقيت مع الأستاذ الفاضل عبد الوهاب حمودة في معنا لفظة (الفرقان) واليوم يسرني أن التقي معه مرة أخرى في ألفاظ أخرى وردت في مقاله (همزية شوقي) المنشور في مجلة (لواء الإسلام) عدد ربيع الأول فأقول:
بعقب الأستاذ على بيت شوقي من همزيته:
والوحي يقطر سلسلا من سلسل ... واللوح والقلم البديع رواء
بأن لفظة (البديع) قلقة في موضعها نازلة عن درر عقدها لأن (وصف القلم البديع) وصف عادي نازل، لا يقوم بتصوير ما للقلم من جلالة وقدسية وخطر وخصوصية).
وبالرد أقول: لفظة (البديع) في البيت ليس المقصود منها الجمال على وجه الصفة. . وإنما هي بمعنى (المبدع) وهل ثم جلالة وقدسية وراء الآية (الله بديع السماوات. .) وإذا فاللفظة (غير قلقة في موضعها) وإنما هي نازلة في منزلها حالة في محلها ثابتة لا تريم.
ولست أدري كيف ينتقد الأستاذ بيت البوصيري:
رق لفضاً وراق معنا وجاءت ... في حلاها وحليها الخنساء
بأن (التشبيه بالخنساء في هذا المقام غير لائق ولا مناسب، وليس فيه أي شيء من الجمال الفني) بينما نراه يمر على بيت شوقي:
أنت الجمال بها وأنت المجتلي ... والكف والمرآة والحسناء
وبيته:
أنت الدهور على سلافته ولم ... تفن السلاف ولا سلا الندماء
مر الكرام وفيهما ما فيهما من ألفاظ (المرأة والحسناء، والسلافة والندماء،) وهي من أخوات (الخنساء) في بيت البوصيري منزلا ومقاماً.
وفي بيت شوقي:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا ... منها وما يعشق الكبراء
يقول الأستاذ حمودة: إن لفظ القافية (الكبراء) قلقة ضعيفة. وأقول: لا قلق في لفظة القافية ولا ضعف؛ لأن المقصود (بالكبراء) كبراء النفوس بالأخلاق والفضائل وكل محمود من(911/46)
الصفات التي ترفع قيمة الإنسان والإنسانية، وليس المعنى هو ما تفهمه العامة من قولهم (فلان من الكبراء. .) أي من أصحاب الراغي والثاغي والصامت والناطق. . وفرق كبير بين هذا الكبير وذاك الكبير. . وفي المأثور: ليس الغنى في كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس.
وبعد: فالشكر أزجيه إلى الأستاذ العالم الأديب على مقاله (التشريحي) القيم. هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل، والسلام
(الزيتون)
عدنان
الكتب السامة
قالت الصحف في تفاصيل حادث سفاح كرموز إن المحققين عثروا أثناء تفتيش منزل هذا السفاك على مجلة بوليسية، تدور إحدى قصصها حول طريقة القتل، وإخفاء الجثة.
ولعل الكثيرين مروا بهذه الأسطر مر الكرام. . أما أنا فقد وقفت طويلا عندها. . لا نأمل مدى تأثير المطالعة في نفس الشباب، وهو في هذا السن المبكر من العمر. . وكيف تخلق هذه الكتب السامة من الشباب الطاهر شياطين، يوولعون بالجريمة، تحت تأثير ما طالعوه من مطالعات سامة، نفثت في نفوسهم سمومها.
وهناك روايات غرامية، تتأثر بها الفتيات. . . تصور لهن الحياة على غير حقيقتها. وتزين لهن الطريق الشائك. وهذه لا يقل أثرها في نفس الفتاة الساذجة عن أثر الروايات البوليسية في نفس الشباب!
وما يقال في الكتب يقال عن الأفلام. . . فالأفلام البوليسية لها تأثيرها كذلك في نفوس الشباب. . . والمفروض أن الأفلام والأقلام كلها وسائل ثقافية، يستعان بها على توجيه النشء الوجهة القومية، فإذا انحرفت هذه الوسائل عن غايتها، انحرف الشباب بتأثيرها. . . وكان عاقبة أمره حسرا.
ولقد شاهدت في الأسبوع الماضي قصة على الشاشة البيضاء تزين للفتاة طريق الهرب من بيت الأب، إلى بيت الخليل. . . فهربت بطلة القصة من بيت أبيها مع ابن البقال الذي يقع(911/47)
حانوته بنفس العمارة التي تسكنها. . . ومن أسف أن معظم أفلامنا المصرية تدور حول الحب. . ولا شيء غير الحب!
إن الأفلام الأجنبية لا تخلو من نقد اجتماعي، أو تحليل لمشكلة من المشاكل، أما أفلامنا فلا تعالج موضوعا غير موضوع الهيام. . والخيانة. . والهجران!
أن التربية الصحيحة تحتم على كل والد أن يتخير لأبنائه وبناته الكتب التي يقرئونها، والأفلام التي يشاهدونها، تجنبا لما تجره علينا الكتب السامة والأفلام الخليعة من ويلات اجتماعية. . نشفق على أبنائنا وبناتنا من شرورها وآثامها!
عيسى متولي
انصر أخاك ظالما أو مظلوماً:
جاء في مقال الأستاذ أحمد حسن عبد الرحيم (شعر الحماسة عند العرب) المنشور في العدد 909 من مجلة الرسالة الزاهرة قوله:
(ولقد تمكن حب الحرب من نفس العربي، وساد نظام (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما). وأصبحت الحرب عندهم من الأماني الثلاثة العزيزة التي لولاها لا يحفل الإنسان بحياته). ولست أرى معنى لإبراز هذا الحديث الشريف في هذا المقام اللهم إلا أن يعني الأستاذ منه أن يكون الإنسان بجانب أخيه ناصراً ومعيناً، ومشايعاً ومدافعاً ظالماً كان أو مظلوماً وفي هذا خروج بالحديث الشريف عن معناه، وانحراف عن مقصده ومرماه. وحسبنا أن نروي الحديث بنصه دون تعليق: -
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه).
عبد العظيم عطية هاشم
ناظر مدرسة سرابيوم الأولية
(الرسالة)(911/48)
أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً مبدأ جاهلي مقرر كان يراد به ما ذكره الأستاذ صاحب المقال فلما جاء الإسلام نسخ ما كان يريده الجاهليون من هذه العبارة وفسرها الرسول الكريم بما يتفق مع مبادئ الدين
سلطان العلماء: مسرحية للأستاذ كامل عجلان:
محاولة تستحق التشجيع لا لنضجها الفني واكتمالها المسرحي فحسب؛ بل لأنها تشق طريقها بين مختلف المعوقات البيئية والذوقية؛ فالبيئة الأزهرية بحكم تقاليدها لا تهش لهذا اللون الأدبي ولا تفسح له بين تلك الفنون الأدبية التي تعالجها، بل ربما ساقتها بعض التيارات إلى أن تأخذ على هذا اللون من الإنتاج الأدبي الطريق: ذاهبة مذاهبها المختلفة لتسوغ مسلكها مع ما لهذا اللون من الثر العميق من الناحية السيكولوجية والاجتماعية والأدبية؛ فمن الناحية السيكولوجية يأتي تأثيره من تغذيته أكثر من جانب في الشخصية الإنسانية. فهو يخاطب خيالها؛ ويؤثر على حسها فيكون أثره أقوى وسحره أشد؛ وق استعانت به التربية في صقل الجانب الوجداني فاتخذته وسيلة ناجمة في - إقرار الخير في النفوس. واقتلاع الشر من الرؤوس. وتغذية القلوب المريضة بالعواطف النبيلة بتصوير مثلها العليا كما في المأساة؛ أو إصلاح الفاسد؛ وتقويم المعوج من العادات والأخلاق باتخاذه لها مضحكة للناس كما في الملهاة -
ومن الناحية الأدبية فهي الآن تكاد تكون محور النشاط الأدبي. من الناحية الاجتماعية فمنذ أن أصبحت الطبقة الوسطى والدنيا تحتل مكانتها بفضل التضامن الاجتماعي والوعي الطبقي وتخلص المسرح من طغيان أهل النبالة؛ وانتقل من الخيالية إلى الواقعية وأصبح المسرح مسؤولاً عن تزويد المشاهد بالأفكار السليمة والأخذ بيده في كثير من مشكلاته النفسية والاجتماعية صارت له رسالته البليغة في هذا العصر. وليس أقتل لأمثال تلك ألبوا كير من الإشاحة ومحاولة الغض أمام النفوس الأزهرية الناشئة من رسالتها. وقد اتقى المؤلف بكثير من الدواعي المثبطة. ولكنه قد ظهر عليها وتخطاها؛ وأخرج هذه المسرحية التي تصور فترة تعرض فيها الشرق لأعاصير التتار والصليبين والدور الذي اضطلع به العلماء. وقد اصطنع المؤلف في إخراج هذه المسرحية أصدق الأحداث التاريخية ومأثور(911/49)
الأقوال على لسان الأبطال وقد أعتمد في تصوير شخصيات مسرحيته على ما حفظه التاريخ من سماتهم النفسية والفكرية. وقد وفق في إبراز ذلك الصراع النبيل الذي قام به العلماء والذي يشهد لهؤلاء العلماء بما لهم من أيادي على الشرق والشرقيين
محمد عبد الحليم أبو زيد
دبلوم في التربية وعلم النفس
ومدرس اللغة العربية بالمدارس الأميرية(911/50)
القصص
الشعر
للأسباني أنطونيو دي ثروبيا
للأستاذ م. أمين (البندقي)
لصاحبي يوسف أرض غير واسعة، فيلا فيتزبوزا بناحية من نواحي أيدونا، فهو يقضي فيها من زمان الربيع أياماً، ومن الصيف أياماً، ويصب جهده على الزرع، يحدو به شديد الميل أكثر مما تحدو به الحاجة.
وقد جرى على حنة امرأة يوسف، وهي أفضل الأزواج والأمهات شيء كالذي جرى على شخص من الشخوص في قصة من القصص المسرحي طوى الحياة كلها وهو يمثل، وما أحس قط أن له على التمثيل قدرة رائعة، قل أن يكون لها شبيه. ذلك أن حنة كانت مدى العمر شاعرة، وهي لا تعلم، بينا الكثيرات غيرها قد لبسن لبوس الشعر وليس بينهن وبين الشعر أوهى سبب.
كان النهار قد انتصف بيوم أضوء من أيام يوناو صاف أغر حين بلغت إلى بيت صاحبي يوسف. وإذ رآني ليون كلبه وكان هو الأخر من صحبي بادر إلى يلقاني وأنا مازلت على مبعدة من الدار، وراح يحييني بالوثب واللعب. ومالت شجرة من أشجار الكريز كانت تراءى على حائط البستان تستهوي بأثمارها قلوب الصغار، فضربتني على قبعتي حتى أذكر أنها هناك قد أطلت. . ولما أن صعدت السلم بدا لي أني سمعت قراءة، إلا أن خطاي قد جعلتها تنقطع.
وكانت ثم حجرة رائعة الجمال يهبط منها الهابط إلى البستان على سلم صغير من الخشب، فوقه كرمة مصفوفة تلقى عليها الظلال،
وقد ضمت الحجرة حنة ومريم وليجني ويبينو معاً. وكانت حنة عندئذ تخيط ثوباً. وكانت مريم وهي صبية في الخامسة عشر وجهها الوضاح تمنيت لو أراه أمامي في كل نائبة، وقد أمسكت بكتاب أغلقته قليلاً وأما لو يجي وبيينو، وهما طفلان بين الرابعة والسادسة، فقد كانا يعالجان رأس تمثال من الطباشير ليفصلاه عن سائر الجسد.
ورآني الطفلان فبادرا إلى لقائي، وسألتهما أكانا من الطيبين الهادئين؟ فكان جوابهما أن(911/51)
راحا يسألاني هل جئت أليهما بالحلوى؟ ألقيت بالتحيات ألقت علي التحيات. ثم قالت لحنة إن زوجها قد ذهب إلى السوق في مكان لا اعرفه - غير انهم ينتظرون عودته في نفس الليلة.
- أكنتم تقرءون؟
- أجل
- وماذا كنت تقرئين يا مريم؟
- كتاباً من الشعر ألفه شاعر في مدريد
- ومن هذا الشاعر؟
- شاعر يأتي كل عام لينصب المراوح يوم عيد الثيران
- أشاعر ينصب المراوح؟ لقد أصلبك الخبل
- نعم ينصبها. وما ذاك إلا إنه مولع بمصارعة الثور
- أذن فما هو بالشاعر
- بلى إنه لشاعر
- وكيف علمت إنه شاعر؟
- إنه إذ يتحدث فحديثه النظم، وإذ يكتب لا يكتب شيئاً سوى النظم
فأخذت الكتاب الذي كان في يد مريم فقرأت فيه بعض الأبيات. ولما كان القليل يدل على الكثير فقد قلت لها:
- إني لا أراه شاعراً ولا أرى في هذا الكتاب شعراً
- وماذا فيه إذن؟
- فيه النظم
- وهل كان الشعر والنظم إلا شيئا واحدا؟
- ليسا بالشيء الواحد
- إني أراك تسخر مني يا انطون. أليس الشعر والنظم شيئاً واحداً؟
- كلا فقد يكون في الكتاب نظم ولا يكون فيه شعر. وقد يكون فيه الشعر دون النظم
- رويدك فما النظم إذن؟(911/52)
- إني أود أن أسألك سؤالا قبل أن أجيب. مريم كم عندها من الثياب؟
- عندها من الجديد ثوبان. أحدهما أخضر لونه والأخر أزرق
- وأي الثوبين انسب إليها؟
- الأزرق. والمحتالة التائهة لا تغفل عن ذلك. فهي تؤثر أن تلبس الأزرق دون الأخضر
- إذن فاعلمي أن الشعر ليس له غير ثوبين يناسبانه. أحدهما النثر والأخر النظم. ولما كان النظم أنسب له من النثر فهو يؤثر الأول على الآخر
- وإذا لم يكن النظم هو الشعر، وإنما هو الشكل الذي يناسبه أكثر مما يناسبه سواه، فما الشعر إذن؟
وإن حنة لتطرح علي هذا السؤال إذ نسمع صوتاً ضعيفاً ناحية السلم يهتف:
- حسنة لله. فمالي أب ولا لي أم.
فيبادر لويجي وبيينو إلى السلم:
أماه! إنها طفلة تأكل رأس كرنبة. ألا ما أقبحها!
- أدخلاها
وما هو إلا أن دخلت الحجرة طفلة في السادسة أو نحوها تكاد أن تكون عارية، وهي تنحت بأسنانها حقاً في رأس كرنبة فقالت حنة وهي تنزع من يد الطفلة ذلك الرأس وتمضي بها نحو الحقل:
- لم تأكلين هذا القذر؟
فأجابتها الطفلة وعيناها نديتان بالدمع:
- إني جائعة
فهتفت مريم وهتفت حنة، في آن معاً:
- الله للمسكينة!
ثم سألتها حنة:
- من أين أقبلت؟
- من نافلشا نيرو
- وأبواك؟(911/53)
- ليس لي أب ولا أم. فقد ماتا من الكوليرا
فهتفت حنة:
- أواه يا بنية!
وجادت بالدموع السواجم عيناها وهي تقبل الطفلة، دون أن تبالي بأقذار كستها وقالت:
- ليت الله كان أخذ الضعيفة حين أخذ أبويها! ألا يا بؤسي لها!
وأسرعت حنة إلى المطبخ وهي تزفر الزفرات الحرى، فما لبثت أن أعدت طبقاً من الثريد بأحسن ما كان عندها من الحساء. وجاءت تسعى به إلى الطفلة، ومعه قطعة من اللحم ضخمة، وعنقود من العنب.
ثم انطلقت، والطفلة مقبلة على الطعام، فراحت تبحث عن رداء وثياب أخرى كانت مريم وهي في سن الثامنة قد كفت عن لبسها وهي لم تزل جديدة، وما ذاك إلا أنها كانت ضيقة.
فلما فرغت اليتيمة من طعامها غسلت لها وجهها وبدلت لها أطمارها بتلك الثياب ثم شيعتها بالدعابة والرفق الجميل العذب وعادت تصل ما انقطع فهتفت:
- لنستأنف حديثنا، ما الشعر؟
فأجبتها:
- الشعر هو هذى الدموع التي لا تزال تندى بها عيناك، وهذى الزفرات التي تصاعد ألان في صدرك، وكل ما يختلج في قلبك هذه الساعة
فقالت:
آه!
نطقت بها همساً، وقد بدأت تدرك شيئاً مما كنت أحاول أن أشرحه
م. أمين
(البندقي)(911/54)
العدد 912 - بتاريخ: 25 - 12 - 1950(/)
تحية لجامعة فؤاد في يوبيلها الفضي
تحية مباركة طيبة يا جامعة فؤاد!
لشدّ ما يُزهى بك المصري ويفخر! كنت أول تعبير عن إرادة مصر،
وأول مظهر لحرية الفكر، وأول صدع في بناء الاحتلال، وأول نبو
على طغيان كرومر!
كان اللورد يريد بحوله وطوله أن يصرفنا عن إنشائِك إلى إنشاء الكتاتيب، لأن سياسة المستعمر المحتل أن يجعل من ضحاياه عبيداً لا سادة، وجنوداً لا قادة. ولكن حملة (المؤيد) و (اللواء)، وصيحة بعض الزعماء والكبراء، أخذنا على (العميد) الطريق، فانكفأ راجعاً إلى (الوكالة البريطانية) يقلب كفيه من الخيبة، ويعضعض شفتيه من الغيظ؛ واتخذت أنت سبيلك إلى الوجود، فاحتفلت الأمة بمولدك في شهر ديسمبر من عام 1908. ثم تبنتك الحكومة في شهر ديسمبر من عام 1925؛ ثم قضيت في الجهاد العلمي تحت الرداء الرسمي خمساً وعشرين سنة، فيها رسخ بنيانك وشمخ، واتسع سلطانك وعز، وتأثل مجدك وعظم، وسطع نورك وانتشر، وارتفع ذكرك واستفاض، ولكنك لا تزالين تذكرين وتفخرين بأنأباك الرحيم هو الأمير فؤاد، وأن أمك الرءوم هي الأميرة فاطمة إسماعيل، وأن معينك البار هو مصطفى الغمراوي، وإن داعيك العظيم هو سعد زغلول، وأن حاميك القوي هو عبد الخالق ثروت، وأن ابنك البكر هو طه حسين!
أنت وبنك مصر يا جامعة فؤاد كل ما غنمناه من جهاد اثنتين وثلاثين سنة. وأقسم بالله جهد يميني لو أننا تجاهلنا الإنجليز بعد إلغاء الحماية الكاملة، وإعلان الاستقلال الناقص، ووقينا الأمة شر هذه الخصومات والمنافسات والمظاهرات والإضرابات والمفاوضات، وعملنا ما عمل بالأمس طلعت حرب في الاقتصاد، وما يعمل اليوم طه حسين في التعليم، لأجتمع لنا من سطوة المال وقوة العلم ما يدفع عنا معرّة الجهل ومضرّة الفقر ومغبّة المرض، ولوقفنا في مصائر الشعوب أمام الكتلتين الشرقية والغربية موقف النظراء الأكفاء في الكمال الإنساني، لنا نفع يرجى، وضرر يخشى، وقولٌ يسمع، ورأيٌ يتبع. ويومئذ لا يكون بين النِّدين المتمدنين قضية جلاء ولا مسألة استجداء ولا مشكلة دفاع، ولكننا ابتلينا يا جامعة فؤاد بقوم من كبار المتعطلين احترفوا السياسة، وامتهنوا التهريج، فشغلوا الأمة بالقول عن(912/1)
الفعل، وبالهزل عن الجد، وبالحزبية عن القومية، وبالفرقة عن الجماعة، حتى أضلوها الطريق، ودفعوها مكرهة في هذا المضيق!
أحمد حسن الزيات(912/2)
تنازع اللغات في طائفة من الكلمات
لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
إن من أشق الأمور على من كلف الكلام في الحفلات اختيار موضوع كلمة الحفلة لحفلة مثل حفلتكم، أقيمت لافتتاح أعمال مجمع لغوي مثل مجمعكم: إذ لا يحسن بالمتكلم إذ ذاك إلا أن يكون موضوع بحثه مما له علاقة باللغة وسلامتها، أو اتصال بتاريخها وبحوث آدابها. وبحوث اللغة أيها السادة قد يعتريها سوء تعبير، ويلحق بها أحياناً شيء من جفاء وجفاف، فما أحوج المتكلم اللغوي إلى التلطف في جمال العرض وحسن الإيراد ونصاعة البيان.
وهي خطة أصبحت لا أجيدها، ولا أطيق الجولان في ميادينها. وماذا أصنع وقد ذكر أسمي في جملة خطباء الحفلة من دون أن أستشار، أو يجعل لي اختيار، في تلمس الأعذار.
وبعد لأي هديت إلى بحث لغوي رأيته يلائم الزمان والمكان. غير أني لما زرته، وحاولت إفراغه في قالبه وجدته في حاجة إلى أن أذكر السبب في اختياره، والداعي إلى جمع مسائله وتقييد أوابده.
وإذا بي أرجع إلى ذكرى حادثة قد تسمى تاريخية. وقد تسمى مصرية. ويغلب على الظن أنها لم تدون بعد. فأزمعت تدوينها كمقدمة لبحثي اللغوي، أو كصفحة من تاريخ الوادي ومغامرات أبنائه في سبيل استقلاله.
وبدل أن تقع المقدمة في كلمات. إذا هي استوعبت صفحات. وفيها من الخبر ما يحسن وقعه، ويطيب لكم أيها الإخوان سمعه:
ألا تحبون أن تسمعوا أن الشيخ عبد العزيز شاويش رحمه الله نجح في إقناع (جمال باشا) قائد الجيش الرابع في الحرب العالمية الأولى (حرب سنة 1914م) - إقناعه باسترداد المدرسة الصلاحية في القدس من أيدي الرهبنة الفرنسية المسماة بالآباء البيض وإرجاع تلك المدرسة سيرتها الأولى: مدرسة دينية أزهرية عمائمية لكنها عصرية باسم (الكلية الصلاحية) نسبة إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كان بنى تلك المدرسة على ظهر مغارة كانت تأوي إليها السيدة حنة وطفلتها السيدة مريم. وكان هذا من صلاح الدين بعد أن(912/3)
أنقذ بيت المقدس من براثن الصليبيين، وجعل المدرسة داراً للحديث باسم السادة الشافعية.
نجح الشيخ شاويش في هذا وفاز بأمنيته، وباشر تأسيس الكلية وترتيب فصولها وتنظيم برامجها.
ودعيت من (طرابلس الشام) إلى معاونته في عمله، فلبيت الطلب، وأسرعت إلى القدس أهدى من القطا الكدرى. وأعلن خبر افتتاح الكلية الصلاحية في طول البلاد وعرضها، واجتلبت الأساتذة إليها، واقبل الطلاب من كل حدب عليها. وكانوا يؤمونها لا لطلب العلم وحده، بل للتخلص من أهوال حرب كانوا يعتقدون أنها شر وبلاء عليهم وعلى دولتهم. وكان الخلاف بين الترك والعرب لحين نشوب تلك الحرب في منتهى شدته، وعلى أحر جمرته.
وكان من أساتذة الكلية المرحوم محمد رستم حيدر الوزير العراقي، والمرحوم إسعاف النشاشيبي الأديب الفلسطيني؛ ومن طلابها المرحوم محمد الأنسي البيروتي رئيس وزراء شرق الأردن. وعباس باشا ميرزا الشركسي وزير داخليتها اليوم، والشيخ يوسف ياسين الوزير السعودي، وصبحي بك الخضرا السياسي الفلسطيني. وليس الشأن أيها السادة في هؤلاء وأولئك، وإنما الشأن في رهط من أبناء مصر الأحرار أووا إلى الكلية في ذلك الحين العصيب كما أوى فتية أهل الكهف إلى كهفهم. فخصص لهم نقيبهم الشيخ شاويش جناحاً من بناء الكلية؛ فكانوا يقيمون فيه ولا يبرحونه إلا ريثما يتناولون قوتهم في مطاعم المدينة. ثم يأوون إلى كهفهم دون أن يشعر بهم أحد.
ولا غرو أن يكون مدار حديث هؤلاء الفتية في خلوتهم على الحرب ونتائجها، والحملة التركية ومناهجها، وكنت أنا وصديقي الشيخ شاويش ننظر في أمور الكلية وقبول الطلاب الحائزين للشروط، ونريح أنفسنا أحياناً بزيارة الفتية في كهفهم، بل الأشبال في عرينهم.
وما كان أشد اغتباطي حين أخذني الشيخ شاويش من يدي لأول وصولي إلى الكلية، وجاء بي إلى أولئك الأشبال في منامتهم. هذا مستلق على سريره وبيده كتاب، وآخر منتبذ ناحية يقرأ جريدة، وذاك ينفض الغبار عن معطفه، وهنالك من يأمر الفراش ببعض حاجته.
وقدمني إليهم صديقي شاويش باسم (المغربي) المحرر في جريدة المؤيد منذ خمس سنين.
فهشوا إلى لقياي، وأخذت أعانق من أعرف، وأصافح من لم أكن اعرف؛ ثم قال لي الشيخ(912/4)
شاويش:
هذا فؤاد بك سليم، وهذا الدكتور أحمد فؤاد المصري نزيل الآستانة، وهذا عبد الملك حمزة بك، وهذا عوض بحراوي بك، وهذا فلان: وأشار إلى واحد منهم سماه باسم إسماعيل بك، بل قد نسيت إن كان (إسماعيل) اسماً له أو اسماً لأبيه. وكان هذا الفتى النجيب مربوع القامة أبيض اللون بديناً. وكان أكثرهم مرحاً وتفاؤلاً وأقلهم مبالاة بما تأتي به الأقدار.
وقضينا أيها السادة مع هؤلاء الفتية المؤمنين بربهم وبوطنهم ساعة من الزمن في مطايبة ومفاكهة وأحاديث مختلفة ثم كنت أزورهم من وقت إلى آخر. وكان الشيخ شاويش يغيب عن الكلية لمراجعة مقر القيادة التركية في بعض المهام ويترك الأشبال في عرينهم ينتظرون إيابه بلهفة وفرط استشراف. وكانوا في غيبته أحياناً يفكرون ويقدرون، وطوراً يزأرون من الغيظ ويزمجرون. ثم يعود الشيخ إليهم بما يسرهم تارة، ويؤلمهم تارة أخرى.
كلما ذاق كأس بأس مرير ... جاء كأس من الرجاء معسول
واتفق ذات ليلة أيها السادة أن تركت غرفتي وتخطيت الرواق المؤدي إلى عرين الأشبال أزورهم. وكان يتدلى من سقف الرواق قنديل قديم من قناديل الأديرة يتنفس عن أشعة ضئيلة لا تتبين معها الأشباح إلا بصعوبة؛ وإذا بشبح كالعملاق يعترضني ويلقي بتجليده عليَّ قيل أن يتوسمني أو يتبين من أنا، فسألته قائلاً:
- من يكون حضرة الأخ؟
- عبد الحميد سعيد (قالها بلهجة المشتاق ألمتحبب وعجب من سؤالي مع أن طوله وعرضه رحمه الله ينبئان عن شخصه ثم قال)
- ألست الشيخ عبد العزيز شاويش؟
- لا: بل أنا عبد القادر صديق الشيخ شاويش ومغربي مثله.
فتبسم ضاحكاً من قولي وعجب من هذا الشبه بيني وبين صديقه. وانقلبنا إلى مأوى الأشبال متشابكي الذراعين نحدثهم بما وقع. فقامت فيهم ضجة صاخبة مرحة قللت من العبوس، ورفهت بعض الشيء عن مخاوف النفوس، وكان (عبد الحميد بك سعيد) حين جئت الكلية من طرابلس غائباً في قضاء مهمة وراء منطقة القدس. فلما رجع ودخل على إخوانه هللوا لمقدمه؛ وكان أول ما سألهم عن صديقه الشيخ شاويش فقالوا: هو في المنامة(912/5)
الكبرى يتفقد الطلاب قبل نومهم، فلم يطق صبراً وخف إليه مسلماً عليه. فصادفني في الرواق وكان من أمرنا ما كان.
والأشبال في أحاديثهم أيها السادة قلما كانوا يتخطون المشاكل الدولية عامة، والمسألة المصرية خاصة. وكانوا يتنسمون أخبار الغزاة، ويستطلعون طلع الحركات والمقارنة بين الاستعدادات. وكثيراً ما كانت تقع بينهم مناظرات في أي الأعمال والمساعي أنجح؟ فترتفع أصواتهم، وتحتدم نار الجدل بينهم. وكان أقواهم حجة وأعنفهم لهجة، ذلك البطل المصري، يافعة السياسة (الدكتور أحمد فؤاد): فإن إقامته في الآستانة أكسبته مزايا في الجدل وسعة اطلاع على المناورات الدولية وتفقهاً في أسرار القضية المصرية.
وكنت إذا زرتهم خففوا من الخوض في السياسة وفاضوا في العلم واللغة والأدب وتاريخ العرب وتناشدوا شعر شوقي وحافظ، وتطارحوا النوادر ومستملح النكت على الطريقة المصرية التي مرن إخواننا المصريين عليها، ويقف غيرهم مبهوتاً حواليها. ولذا كنت إذا شاركتهم في الحديث فعلت بشيء من الحذر والتهيب منشداً بيني وبين نفسي:
أقول لمحرز لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام
وتذاكرنا يوماً فضلاء مصر وكبار أدبائها. فقلت لهم: إن من رجال مصر ثلاثة اشتركوا في الاسم، وسعة الفضل والعلم. وسميتهم لهم (ألأباره) وألأباره أيها السادة جمع إبراهيم. وأردت بهم الأساتذة إبراهيم اللقاني، وإبراهيم الهلباوي، وإبراهيم المويلحي، رحمهم الله.
فهب الأشبال للمجادلة فيهم، وإعمال الموازنة بينهم. فقلت ليس غرضي التحدث عن درجاتهم في الفضل وإنما الغرض التعجب من اتفاقهم في الاسم. وأن يكون لهم أوفر سهم في الأدب واللسن وصنوف العلم. فقال بحراوي بك: إذن لا تنسى يا أستاذ الأحامد الثلاثة وهم أصحاب السعادة: أحمد بك حسني، وأحمد بك تيمور، وأحمد بك زكي.
قلت: وأزيدك أنهم مع اشتراكهم في الاسم تراهم شركاء في حب الكتب واقتنائها والولوع بجمعها والبحث عنها هنا وهناك ولدى كل منهم مكتبة لا نظير لها. ولم يكد يرتد إلى صوتي حتى علا من زاوية المكان صوت استنكار لما قلت. وإذا هو فؤاد بك سليم ينكر على أن تكون مكتبات (الأحامد) أجمع لنفائس الكتب ونوادر المخطوطات من مكتبة والده. وإذا الإخوان يخبرونني بمكانة والده في المجتمع المصري وعلو كعبه في شرف المحتد(912/6)
وهو عبد اللطيف باشا سليم. وشهدوا بأن مكتبته لا تضاهيها مكتبة في مصر. فقلت: وهل يسمى الباشا بأحمد؟ قالوا لا، قلت لا داعي إذن للمعارضة إذ أن المقام مقام (أباره) و (أحامد) لا مقام إحصاء هواة الكتب. ولاحظت أن في فؤاد بك رحمه الله شيئاً من أرستقراطية وتمجيد بالنسب.
ثم رجعنا إلى التحدث في الأخبار العامّة. وكان كثيراً ما يتخلل كلامنا ذكر (القنال). وكنا نستعمل لفظ (القنال) أكثر مما نستعمل لفظ (الترعة). فصاح بنا (الدكتور أحمد فؤاد) معترضاً على من يقول القنال وقال إن القنال لفظ فرنسي ولفظ (الترعة) العربي أفضل منه وأكرم عند الله. فسألني الأخوان إذ ذاك عما إذا كان لفظ (قنال) عربياً أو فرنسياً؟
فقلت هو من جملة الألفاظ المولدة التي تبنتها اللغة العربية وينازعها فيها غيرها من اللغات: كالفارسية واليونانية والحبشية والسريانية وأخيراً التركية ثم الفرنسية.
أقول: وهذه الكلمات المتنازع فيها كثيرة يصح أن يؤلف فيها معجم صغير. واستحسن زميلنا العلامة رضا الشبيبي أن يسمى هذا المعجم باسم (الوغى في ميادين أللغى) وإني لذاكر لكم أيها السادة من هذه الكلمات المتنازع فيها ثلاثة أمثلة. وأبتدئ القول في كلمة (القنال) التي كانت السبب في إثارة هذا البحث (أي بحث تنازع اللغات في بعض الكلمات) فالقنال لفظ عربي وقد نازعت اللغة العربية فيه اللغة الفرنسية فهي (أي الفرنسية) تدعى أنه منها وإليها، وتزعم أن أصل القنال باللغة اللاتينية أما اللغة العربية فتقول إن القنال كلمة عربية مولدة منحوتة من كلمتي (قنا الماء) أو (قنا البحر) وربما كان الفرنسيون هم الذين جروا في فرنستها مجرى أميرال فإن لفظ (أمير) أضيف إليه اللام من كلمة (البحر) إذ أن الأصل أمير البحر. فلم يعجب قولي هذا (فؤاد بك سليم) فصاح من زاويته العاجية، وما تقول يا أستاذ في أخوات أميرال وهي المارشال والجنرال والكابورال؟ هل الفرنسيون نحتوها من العربية أيضاً؟ فقلت: إن لفظ (أمير) من أميرال عربي قطعاً بخلاف أخواتها فإنها فرنسيات بجميع حروفها. وأمير البحر اسم لكبير الربابنة في اصطلاح مؤرخي العرب، وقد استعمله الفرنسيون أولا بتمام لفظه أعني أمير البحر، ثم نحتوا منها كلمة (أميرال) لتكون على وزن كلماتهم (مارشال، جنرال، كابورال).
وهكذا الحال في (قنال) اصلها قنا البحر أو قنا الماء، وقنا جمع قناة بمعنى مجرى الماء،(912/7)
فنحتوا من قنا الماء (قنال) اسماً لمجرى الماء الواسع المسمى بالعربية الفصحى ترعة.
ومثل هذا النحت في العربية الفصحى قولهم عقابيل المرض، وعقابيل الحمى اسم للبثور التي تظهر على المريض عقبى الحمى فنحت العرب منهما أي من عقبى الحمى (عقبل) ولكن اشتهر عقبل بلفظ جمعه أعني عقابيل.
ومن أمثلة هذا النحت في الألفاظ العربية المولدة ما جاء في لهجة السوريين وهو قولهم دحل الأرض بالمدحلة أي رصها وسواها. وأصله (أي أصل دحل) دحا الأرض يدحوها بالمدحاة، فنحتوا من دحا الأرض فعل (دحل) باللام المنحوتة من أل.
ومثله في هذا النحت اسم عائلة تجارية مشهورة في (بمباي) و (جدة) وهم زينل إخوان منحوت اسمهم من اسم جدهم (زين العابدين).
عندها كثر الجدال بين الأشبال في أي القولين أرجح: عجمية القنال أو عروبته؟
نتركهم في حوارهم ونعمد إلى مثال آخر من أمثلة التنازع الواقع بين العربية والفارسية. وهو كلمة (عنبر) اسماً لمخزن الغلة والقمح. وقد قال بعض الفضلاء إن عنبر فارسية الأصل محرفة من كلمة (أنبار) الفارسية بدليل أن الفرس القدماء سموا إحدى مدنهم في العراق (أنبار).
فقلت: ولكن المعاجم العربية وخاصة معجم البلدان لياقوت تذكر أن (أنبار) عربية وأنها جمع (نبر) بمعنى ألهري الذي يجمع على أهراء. وهي أي الأهراء مخازن الغلال كالأنبار.
وأزيد على ذلك أن جماعة من عرب تنوخ في عهد ملوك الفرس الأقدمين المشهورين بملوك الطوائف نزلوا مدينة (الأنبار) الفارسية العراقية وكان اسمها بالفارسية فيروزسابور فرأى فيها التنوخيون أكوام الغلال مرتفعة هنا وهناك فسموا مدينة (فيروزسابور) باسم (أنبار) لكثرة ما رأوا فيها من أنبار الغلال. وبقي الاسم عليها إلى اليوم. والنبر في اللغة العربية بمعنى الارتفاع ومنه المنبر ونبرات الصوت. ثم حرفت كلمة (أنبار) إلى عنبر بالعين المهملة.
ومثال النزاع بين العربية واللغة العبرانية كلمة (شعر) اسماً للكلام المقفى الموزون. لا جرم أنها عربية مشتقة من شعر بالشيء إذا علمه. وشعراء العرب هم علماؤهم. وذهب بعض(912/8)
المستشرقين إلى أن كلمة (شعر) عبرانية الأصل محولة عن كلمة (شير) التي هي في العبرانية بمعنى ترتيلة وتسبيحه وفي كتاب (فجر الإسلام) (جزء 1 عدد 69) للعلامة أحمد أمين ما يشعر بترجيح بعضهم لعبرانية شعر.
وأمثلة التنازع بين العربية وغيرها كثيرة كما قلنا. وإن كثرتها وضيق الوقت يحولان دون الإفاضة فيها:
فكلمات موسيقى وقهوة وقازوزة وقرش وفرن وفانوس وبارود وبندقية وقبعة وسراب وميزاب وعسكر - كلها عربيات. واللغات الأخرى تنازعنا في عروبتها فلنرجئ الكلام عليها وتحرير النزاع فيها إلى إحدى جلسات المجمع العادية.
على أننا مهما تسامحنا في عروبة تلك الكلمات لا يحسن بنا أيها السادة أن نتسامح في (القنال) لظهور أدلتنا على عروبته فلنتمسك بحقنا فيه مهما كلفنا الأمر.
هذه هي كلمتنا أيها السادة. وخير ما فيها مقدمتها وما تضمنته من ذكرى أولئك الأشبال الأحرار الذين وفوا لربهم نذرهم، وقضوا في سبيل وطنهم نحبهم، سوى واحد منهم قد مدَّ الله في عمره، ليرى حسنة عاقبة صبرهم وصبره.
وما أحقهم برثاء الشاعر الذي فجع بإخوان له مثلهم إذ قال
هبت قبيل تبلج الفجر ... هند تقول ودمعها يجري
أقذى بعينك لا يفارقها ... أم عار أم مالها تذري؟
أم ذكر إخوان فجعت بهم ... سلكوا طريقهمو على خبر
فأجبتها بل ذكر مصرعهم ... لا غيره عبراتها يمري
يا رب أسلكني طريقهمو ... ذا العرش واشدد بالتقوى أزري
عبد القادر المغربي(912/9)
العيد الفضي لجامعة فؤاد:
كيف نشأت أول جامعة في مصر
للأستاذ سيد محمد كيلاني
إن فكرة إنشاء جامعة في مصر فكرة قديمة اختمرت في رؤوس بعض المفكرين المصريين. وقد كان يعقوب باشا أرتين أحد وكلاء وزارة المعارف السابقين أول من تناول هذا الموضوع وكتب فيه. ففي سنة 1894 أخرج كتاباً عنوانه (القول التام في التعليم العام) ومما جاء فيه قوله (. . . ومتى وقع الإقرار على هذا التعديل ألمحتم وتم إخراجه من عالم القول إلى عالم الفعل وأصبحت مدارسنا العالية مؤسسة على أسلوب منتظم وقائمة على قواعد متينة يقضي بها العقل، حينئذ تتجه الرغبات إلى ضمها كلها (المدارس العالية) بعضها إلى بعض وجعلها مدرسة كلية جامعة. وبما أن العناصر اللازمة لإنشاء هذه المدرسة الكلية تكاد تكون متوافرة لدينا بتمامها فعندما نتمكن من الحصول على الأساتذة القديرين على التدريس في هذه المدرسة الكلية يكون من السهل وصولهم إلى درجة الاستعداد والكمال، فتكتسب البلاد فوائد عظمى من حيث تقدم العلوم والآداب والفلسفة النظرية والعملية وما يحدث من السنن والتقاليد وبما يظهر من روح الموالاة في العمل وبالمزاحمة والمسابقة اللتين تتولدان بالطبع بين مدرستنا الكلية ونظائرها الأخرى.).
غير أن سياسة المحتلين كانت ترمي إلى حرمان المصريين من كل تقدم أو رقي، فكان المستشار المالي من ناحية ومستشار المعارف (دنلوب) من ناحية أخرى ينفذان بكل دقة وأمانة الأوامر الإنجليزية الاستعمارية القاضية بالحيلولة بين الشعب المصري وبين التعلم حتى يعيش جاهلاً فيسهل عليهم قياده ويهون إذلاله واستعباده.
ولما نشأ الحزب الوطني وكثرت الصحف أخذت الأصوات ترتفع من كل جانب مستنكرة سياسة المحتلين التي حرمت الأمة من نور العلم. وكانت حملات الكتاب والشعراء في ذلك عنيفة قاسية. ولكن المحتلين لم يغيروا خطتهم المرسومة فرأينا المستشار المالي يكتب في تقريره الذي أصدره سنة 1904 ما نصه (إن الحكومة لا تملك المال للإنفاق على تعليم الأمة وإنما هي تعلم في مدارسها العدد الذي تحتاج إليه في وضائفها فقط).
وفي سنة 1905 ظهرت في الصحف فكرة إنشاء جامعة مصرية؛ وأخذ الكتاب يحررون(912/10)
المقالات في التنويه بمزايا إنشاء هذه الجامعة. فخشي اللورد كرومر أن تخرج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، فأراد أن يقضي عليها وهي في بدايتها. فشد رحاله إلى الفيوم وألقى خطبة في أعيان تلك المدينة قال فيها (. . إن التعليم الذي تحتاج إليه الأمة المصرية هو تعليم الكتاب فقط.).
وحث الأعيان والحكام في جميع جهات القطر على إنشاء الكتاتيب فجمعت آلاف الجنيهات، ولكن لم ينشأ من الكتاتيب إلا عدد يسير لم يلبث أن حول إلى حظائر للمواشي والأغنام.
كانت سياسة المحتلين هذه حافزاً للمصريين على إنشاء المدارس والعمل على نشر العلم بين أبناء الشعب، فظهرت الجمعيات الخيرية كجمعية المساعي المشكورة بالمنوفية، وجمعية العروة الوثقى بالإسكندرية، وقد جدتا في فتح المدارس وتعليم الفقراء فيها بالمجان، وحذت حذوهما الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية في كثير من جهات القطر المصري.
إلا أن فكرة الجامعة بقيت حلماً من الأحلام حتى قام أحد أعيان بني سويف في شهر سبتمبر سنة 1906 وأعلن أنه تبرع بمبلغ 500جـ م لإنشاء جامعة ودعا المصريين إلى التبرع لهذا العمل الجليل. أما هذا الرجل فهو مصطفى بك كامل الغمراوي. وفي شهر أكتوبر من تلك السنة اجتمع في منزل سعد زغلول بك (باشا) بعض الأعيان والوجهاء وشكلوا لجنة لتسليم التبرعات سموها (لجنة الجامعة) وقد قرروا إنشاء جامعة تسمى (الجامعة المصرية) وأصدروا نداء جاء فيه:
(إن جميع الذين يشعرون منا بنقص تربيتهم العقلية يرون من الواجب أن التعليم يجب أن يتقدم خطوة في بلادنا نحو الأمام وإن أمتنا لا يمكنها أن تعد في صف الأمم الراقية لمجرد أن يعرف أغلب أفرادها القراءة والكتابة أو أن يتعلم بعضهم شيئاً من الفنون والصناعات كالطب والهندسة والمحاماة، بل يلزمهم أكثر من ذلك.).
وكان من رأي هذه اللجنة أن تشمل الجامعة التعليم بأنواعه الثلاثة: الابتدائي والثانوي والعالي. ولكن نظراً لتعذر تنفيذ ذلك كما ذكرت ولوجود التعليم الابتدائي والثانوي رأت أن تكتفي مؤقتاً بالتعليم العالي الذي لم يكن له وجود في ذلك الوقت.
وقد تبرع أعضاء اللجنة بمبلغ 4485 جـ م ثم أخذ الناس يبعثون بالتبرعات من جهات(912/11)
مختلفة: وقد دبت روح الغيرة الوطنية في النفوس. انظر إلى ما كتبته صحيفة اللواء في شهر أكتوبر سنة 1906 وهو: (دبت في نفوس الناشئة روح الشعور الشريف نحو مشروع الجامعة المصرية حتى أن من التلامذة من يقتصد من مصروفه الخاص بعض الدراهم فيتبرع بها لذلك المشروع فلقد جاءنا كتاب يفيد أن حضرة أحمد أفندي رأفت التلميذ بمدرسة راتب باشا بالإسكندرية اقتصد من مصروفه خمسين مليماً ودفعها للجنة اكتتاب الجامعة. ونحن نشكر هذا الشعور ونرجو الله تنميته في الناشئة).
ولكن سياسة الإنجليز التي أشرنا إليها قد وضعت نصب عينيها دفن هذا المشروع قبل أن يظهر إلى الوجود. فأخذ رجالهم يحاربون هذه الفكرة القيمة بطرق شتى ويحاولون صرف المصريين عن تحقيق ما يجول في أذهانهم في هذا الصدد. وقد كتب لورد كرومر في تقريره عن سنة 1906 يقول (. . ولما كان إخراج هذا المشروع من القول إلى الفعل يقضي زماناً فإني أشير على أصحابه أن يدرسوا تاريخ إنشاء المدارس الجامعة في البلدان الأخرى، ويبذلوا الجهد في إفهام المصريين الغرض الحقيقي الذي يتولونه، ويجدر بهم أيضاً إعمال الفكرة في بعض التفاصيل الخاصة بالمشروع وأهمها تدبير الطلبة وتعيين اللغة التي تتخذ أساساً للتعليم، وإعداد الأساتذة والمعلمين للجامعة في المستقبل فهذه هي الأمور الجوهرية التي يحسن أن يدور البحث الأول عليها، ويتلوها أمر الشؤون المالية وعلاقة الجامعة بنظارة المعارف والمدارس الفنية العالية، وتأليف مجلس إدارة لها ووضع نظام فدارة الطلبة والسكن إلى غير ذلك من الأمور التي تستحق النظر والاعتبار.) ,
بهذا أراد كرومر تثبيط الهمم وإضعاف العزائم، فهو يشير على لجنة الجامعة بأن تبذل الجهد في إفهام المصريين الغرض الذي كانت تتوخاه في حين أنه هو كان يبذل الجهد في محاربة هذا المشروع والقضاء عليه.
ولما كان سعد زغلول هو الذي نهض بتشكيل لجنة الجامعة، وهو الذي جد واجتهد في الترويج لتلك الفكرة، ظن كرومر أنه قادر على قبر هذا المشروع الجليل بإقصائه سعداً عن اللجنة.
وأقدم على تنفيذ هذا الغرض فعين سعد وزيراً للمعارف في سنة 1907 فخلفه قاسم أمين بك الذي واصل الجهاد والكفاح. وقد أخذ حافظ إبراهيم يستحث الهمم بشعره ويلهب(912/12)
العواطف فمن ذلك قوله من قصيدة:
ذر الكتاتيب متشبها بلا عدد ... ذر الرماد بعين الحاذق الأرب
فأنشئوا ألف كتاب وقد علموا ... أن المصابيح لا تغني عن الشهب
هبوا الأجير أو الحراث قد بلغا ... حد القراءة في صحف وفي كتب
من المداوي إذا ما علة عرضت ... من المدافع عن عرض وعن نشب
ومن يروض مياه النيل إن جمحت ... وأنذرت مصر بالويلات والحرب
ومن يوكل بالقسطاس بينكم ... حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب
ومن يطل على الأفلاك يرصدها ... بين المناطق عن بعد وعن كثب
يبيت ينبئنا عما تنم به ... سرائر الغيب عن شفافة الحجب
ومن ينر أديم الأرض ما ركزت ... فيها الطبيعة من بدع ومن عجب
يظل يرشد من ذراتها نبأ ... ضنت به الأرض في ماض من الحقب
ومن يميط ستار الجهل إن طمست ... معالم القصد بين الشك والريب
فما لكم أيها الأقوام جامعة ... إلا بجامعة موصولة النسب
هكذا وقف حافظ مبيناً أهمية التعليم الجامعي وضرورته لمصر والمصريين، داعياً إلى تحقيق هذا المشروع الذي فيه حياة مصر قال:
ولا حياة لكم إلا بجامعة ... تكون أما لطلاب العلا وأبا
وفي سنة 1908 أوعز الخديوي عباس إلى الأمير أحمد فؤاد (المغفور له الملك فؤاد) أن يرأس لجنة الجامعة فقبل ذلك ووقف جهده ووقته في العمل على إخراج تلك الفكرة السامية إلى حيز الوجود كما أوعز الخديوي إلى وزارة الأوقاف فقررت للجامعة إعانة سنوية قدرها خمسة آلاف جنيه.
وفي ديسمبر من تلك السنة افتتح الخديوي عباس الجامعة المصرية في حفلة أقيمت بمجلس شورى القوانين. وقد خرج تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية والفنية حاملين أعلامهم وساروا حتى وصلوا إلى مكان الاحتفال ووقفوا في انتظار قدوم الخديوي.
وقد ألقى الأمير (الملك) أحمد فؤاد خطاباً جاء فيه:
(. . . وإنني أبتهل إليه تعالى أن يجعل هذه الجامعة نافعة لطلاب العلم عموماً ولشبيبتنا(912/13)
المصرية خصوصاً. إذ أننا لم نقدم على هذا العمل الجسيم ولم نسهر الليالي بسببه إلا لترقية هذه الشبيبة).
ورد الخديوي عباس مبدياً سروره واغتباطه لتحقيق هذا المشروع الوطني الجليل وختم كلمته بقوله (فباسم الفتاح العليم أعلن افتتاح الجامعة المصرية وأسأله تعالى أن يجعلها منهلاً عذباً لطلاب العلم والعرفان على اختلاف الأجناس والأديان.).
وكان الطلبة على نوعين: منتسبون ومستمعون، فالطالب المنتسب هو الذي يواظب على حضور جميع المواد التي كانت مقررة، وهذا الطالب يدفع رسم قيد قدره 240 قرشاً يضاف إليها رسوم مكتبة قدرها عشرون قرشاً.
وكانت المحاضرات تلقى بعد الظهر من الساعة الرابعة والنصف إلى الساعة السابعة والنصف. أما مكان الجامعة فكان بأحد القصور الواقعة في أول شارع قصر العيني من جهة ميدان الخديوي إسماعيل (محل الجامعة الأمريكية الآن).
وقد بلغ عدد طلبة الجامعة بين مستمعين ومنتسبين في العام الأول من افتتاحها 754 طالباً.
وفي سنة 1909 أنشأت الجامعة قسماً للسيدات وكانت المحاضرات تلقى فيه صباح يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. وقد ذكرت الجامعة في إعلانها عن هذا القسم أن المحاضرات تلقى فيه في غير أوقات المحاضرات الخاصة بالطلبة ثم جاء في هذا الإعلان ما نصه:
(وزيادة على ذلك فإن الجامعة أناطت بسيدتين أوربيتين مقابلة السيدات اللاتي يرغبن في حضور هذه المحاضرات الخاصة بالسيدات بحيث لا يصادفهن أحد من موظفي الجامعة ولا من الأجانب عند دخولهن وخروجهن.). هكذا أرادت الجامعة أن تطمئن السيدات على أنفسهن. وكانت السيدة تدفع خمسة قروش في سماع محاضرة واحدة. وقد بلغ عدد المستمعات ثمانية وخمسين سيدة بين مصرية وأجنبية.
وكانت الدراسة في الجامعة عبارة عن محاضرات تلقى في موضوعات شتى في الأدب وتاريخه والتاريخ الإسلامي وعلم الفلك عند العرب وآداب اللغتين الإنجليزية والفرنسية. وفي سنة 1910 أنشأت الجامعة قسماً خاصاً للآداب والفلسفة.
وبدأت بإنشاء فرع للعلوم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وقد بلغت نفقاتها السنوية في(912/14)
ذلك الوقت 3200 جـ م. هذا غير ما كانت تنفقه على الطلبة الذين أرسلتهم إلى أوربا للدراسة في الجامعات.
وسعت الجامعة لدى الحكومتين الفرنسية والإيطالية لتقبلا في مدارسها أطفالاً من سن ثماني إلى عشر تنتخبهم الجامعة ليربوا ويتعلموا بمدينتي باريس وروما حتى يتموا الدراسة الثانوية وذلك على نفقة الحكومتين المذكورتين. وقد قبلت كل من الحكومتين ذلك فأرسلت الجامعة أربعة أطفال إلى فرنسا ومثلهم إلى إيطاليا.
وفي هذا العام أعني عام 1910 منحت الجامعة أول دكتوراه فخرية للسيد روزفلت الرئيس السابق لجمهورية الولايات المتحدة.
وفي سنة 1911 احتفلت بعض جامعات أوربا بمرور مائة عام على تأسيسها. فدعت الأمير (الملك) أحمد فؤاد لحضور تلك الاحتفالات بصفته رئيساً لأحدث جامعة. وكان رحمه الله كما ذكرنا يبذل جهداً جباراً في النهوض بالجامعة. وقد ذكر في تقريره عن سنة 1911 ما نصه (- ولو كنا ممن يميلون إلى الاستعارات والتشبيهات لقلت إن من السهل تشييد الجامعة بتشييد تلك الأبنية الشاهقة والمعابد الشامخة التي يتبادر إلى الذهن أنها لا تتم أبداً لما تستدعيه من المعدات الهائلة المختلفة الأنواع، غير أني أوثر العمل على زخارف الكلام العديم الفائدة وعلى تسليم أن عملي مؤسس على خيال فإني آمل أن يصبح بناؤنا يوماً بعد تمامه مركزاً لإعادة مجد العلوم والفنون في هذه البلاد، وأن تكون خيالات اليوم حقائق الغد.). فالأمير (الملك) أحمد فؤاد كان عليماً بالصعوبات الجمة الهائلة التي كانت تكتنف هذا المشروع وتحول دون قيامه. ولكنه لم ييئس بل آثر العمل في هدوء وسكينة متذرعا بالصبر، متحلياً بالعزيمة الصادقة، مؤملاً كما ذكر (أن تكون خيالات اليوم حقائق الغد) وقد تحقق ظنه وقدر له أن يرى في مصر جامعة عظيمة مستكملة العدة قائمة على مكان في أجمل بقاع مدينة القاهرة وفي أبنية رائعة فخمة. وهذا هو الحلم الذي يراود القائمين بأمر الجامعة حينما افتتحوها في منزل صغير قديم وحينما كانت الجامعة مجرد قاعة لإلقاء محاضرات في بعض المواد.
وفي سنة 1914 تبرعت الأميرة فاطمة إسماعيل للجامعة بتسعة عشر فداناً من أجود أراضيها في الجيزة كما تبرعت بجواهر تبلغ قيمتها 26 ألف جنيه؛ ففكرت الجامعة في(912/15)
إقامة بناء على تلك الأرض.
وفي 30 مارس سنة 1914 وضع الخديوي عباس الحجر الأساسي لمباني الجامعة. وفي سرادق الاحتفال غنى المطرب زكي عكاشة قصيدة شوقي التي مطلعها
يا بارك الله في عباس من ملك ... وبارك الله فيكم آل عباس
ولكن قيام الحرب العظمى الأولى قضى على فكرة بناء أمكنة للدراسة وتعرضت الجامعة للإفلاس واضطرت إلى استدعاء بعثاتها من أوربا بعد أن إنعدمت التبرعات.
وفي سنة 1914 منحت الجامعة أول دكتوراه علمية للطالب طه حسين (بك) بعد أن جرت فيها أول مناقشة علمية علنية برياسة الشيخ الخضري وقد حضرها جمهور كبير من الطلبة والأساتذة.
وفي عام 1915 فكرت الحكومة في إنشاء جامعة. وفي 27 فبراير سنة 1917 وافق مجلس الوزراء بصفة مبدئية على ما اقترحه وزير المعارف من إنشاء جامعة. وناط بوزارة المعارف إعداد مشروع لهذا الاقتراح فشكلت لجنة لهذا الغرض بقرار وزاري صدر في 20 مارس سنة 1917 وقامت بالعمل في الحال وقدمت في 17 نوفمبر من تلك السنة تقريرها التمهيدي الأول متناولاً الاقتراحات التي ترى العمل بها في وضع النظام الذي تقوم عليه الجامعة وبيان ما لرجالها والهيئات المكونة لها من الحقوق وما عليهم من الواجبات. ثم وقفت اجتماعات اللجنة مدة تزيد على سنتين من 22 يناير سنة 1918 إلى 24 مارس سنة 1920 وفي 4 يناير سنة 1921 رفعت اللجنة تقريرها إلى وزير المعارف.
وقد كانت أغلبية أعضاء هذه اللجنة من الأجانب، لذلك قررت أن تكون لغة الدراسة بالجامعة هي اللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
أما الأعضاء المصريون وكانوا ثلاثة فقد احتفظوا برأيهم وسجلوه في التقرير وهو تدريس المواد باللغة العربية. وقد بقي هذا المشروع في طي النسيان حتى شهر مارس من سنة 1925 إذ صدر مرسوم ملكي بإنشاء (الجامعة المصرية) وقد جرت مفاوضات بين الحكومة والقائمين على الجامعة القديمة. وانتهت هذه المفاوضات بضم الجامعة القديمة إلى الحكومة. ولم تكن الجامعة الذي صدر بها هذا المرسوم تشمل سوى أربع كليات وهي:(912/16)
الآداب، والعلوم، والحقوق، والطب.
وفي 7 يناير سنة 1928 وضع المغفور له الملك فؤاد الحجر الأساسي لمباني الجامعة الحالية. ولعل من محاسن الصدف أن يكون الرئيس الأعلى لجامعة فؤاد الآن هو أول طالب حصل منها على شهادة الدكتوراه.
ونحن إذ نحتفل في ظل الفاروق حفظه الله بالعيد الفضي لجامعة فؤاد إنما نحتفل بانتصار إرادة الأمة على إرادة الطغاة المحتلين.
لقد أراد المحتلون أن يحرمونا من التعليم العالي بل ومن التعليم الثانوي وأن يقنعونا بالاكتفاء بالكتاتيب؛ فنجد غورست مثلاً يقول في تقريره عن سنة 1908 ما نصه (وما دامت المدارس نقطة الدائرة التي تدور حولها مساعي المضللين السياسيين فلا مناص من إبطاء تعليم الشبان المصريين.). ولكن الأمة أرادت عكس ما أراده لها المستعمرون فكان لها ذلك ونصرها الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
محمد سيد كيلاني(912/17)
شبيب بن يزيد
للأستاذ حمدي الحسيني
حج عبد الملك بن مروان بالناس في السنة التي ولى فيها الحجاج العراق وأخمد المهلب حركة الأرازقة، وحج في السنة نفسها صالح بن مسرح وشبيب بن يزيد وغيرهما من خوارج الموصل. فحاول شبيب أن يفتك بعبد الملك بن مروان فكتب عبد الملك إلى الحجاج بالخبر وطلب إليه أن يناهض هؤلاء الخوارج الفتاك. فهب الحجاج سريعاً يطارد القوم مطاردة فيها الشيء الكثير من العنف والشيء الكثير من الاعتداد بالنفس والاستهتار بالخصم. فتململ الخوارج في مخابئهم وتحفزوا للوثوب، وكان صالح بن مسرح الرجل التقي الورع معلمهم ومرشدهم؛ فقال لهم ذات يوم: ما أدري ماذا تنتظرون وحتى متى انتم مقيمون؟ هذا الجور قد فشا وهذا العدل قد عفا ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا عتواً وتباعداً عن الحق وجرأة على الرب؛ فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون فيأتونكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون وإن خرجوا نحن خارجون).
أذاع صالح بن سرح بيانه هذا على أصحابه فكان كالنار أصابت مواد ملتهبة فانفجرت عواطف الخوارج وثارت عزائمهم للنضال وكان أشد الجماعة حماسة وأسرعهم تلبية شبيب بن يزيد؛ فقد أرسل إلى صالح كتاباً يقول فيه أما بعد: - فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك. فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك منا أحداً، وإن أردت تأخير ذلك اليوم علمتني فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمل أن تخترني المنية ولما أجاهد الظالمين.
فياله غبناً وياله فضلاً متروكاً، جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه والنظر إلى وجهه ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك).
أخذ صالح كتاب شبيب القوي الحازم فصمم على العمل تصميماً قوياً حازماً وبعث إلى شبيب بعزمه وتصميمه واستدعاء بقوله: ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك فأقبل إلينا ثم اخرج بنا ما أحببت فإنك ممن لا يستغني عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور.
نهض شبيب للعمل بذلك الإيمان الراسخ وتلك العزيمة الصادقة والهمة العالية والإرادة(912/18)
القوية فبعث إلى نفر من أصحابه الأبطال المغاوير فجمعهم إليه ثم خرج بهم حتى قدم على صالح أبن مسرح، فلما لقيه قال له: اخرج بنا رحمك الله فو الله ما تزداد السنة إلا دروساً ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً. فبث صالح رسله في أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين للهجرة فاجتمع بعضهم إلى بعض وتهيئوا للخروج وجيوش الحجاج في أعالي العراق بقيادة صالح وما زال القتال يشتد ويعنف بين الفريقين حتى سقط صالح قتيلاً في معركة حامية الوطيس جرت بين الخوارج وجنود الحجاج بالقرب من الموصل.
هذا موقف عسكري دقيق لا ينتج إلا أحد أمرين: أما أن ينهزم هؤلاء المتحمسون بعد مقتل مرشدهم الروحي وقائد هم العسكري صالح بن المسرح؛ وإما أن يقيض الله لهم رجلاً منهم يفرغ في نفوسهم الصبر والاحتمال والشجاعة والتضحية على قتلتهم وكثرة عدوهم فيصمدوا للقتال فينتصروا أو يفنوا عن أخرهم. ليس في الجماعة أحق من شبيب بهذا الأمر فهو المؤمن الصادق والقائد الشجاع وصاحب الرأي الموفق الذي لا يستغني عنه ولا تقضى دونه الأمور. قتل صالح في الميمنة وصرع شبيب عن فرسه بالقرب منه فوقع ولكنه نهض فشد على خصومه شدة قوية حتى انكشفوا فذهب إلى صالح فألفاه قتيلاً. هنا في هذه اللحظة الدقيقة الرهيبة ظهرت عبقرية شبيب وبطولته ولمثل هذه اللحظات الدقيقة الرهيبة يدخر الله العباقرة من عباده. نادى شبيب: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به فقال لهم: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن كل واحد منكم عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل الحصن ونرى رأينا. ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلاً فكان دخولهم هذا نصرا بالنسبة لموقفهم الدقيق أمام جيش الحجاج الجرار. ولكن قائد جيش الحجاج أبى أن يتركهم معتصمين في الحصن بل أمر رجاله أن يحرقوا باب الحصن تمهيداً للفتك بهم فأحرق الباب حتى صار جمراً لا يمكن الخروج منه، فتنبه شبيب للأمر وأمر رجاله أن يتهيئوا لاقتحام النار المشتعلة ومداهمة الجيش المرابط أمام الباب، فتحمس الأبطال لهذه الخطة الخطرة وصمموا على تنفيذها ولكنهم التفتوا إلى شبيب وقالوا له ابسط يديك نبايعك، فبايعوه واقتحموا النار المشتعلة وخرجوا من الحصن فلم يشعر الجند المرابط إلا وشبيب وأصحابه يضربون بالسيوف في جوف الجيش فقتل قائد جيش الحجاج،(912/19)
فاحتمله أصحابه وانهزموا به. فكان هذا الجيش أول جيش من جيوش الحجاج المتعددة التي هزمها البطل شبيب بن يزيد بن نعيم الخارجي. وصلت أخبار الهزيمة إلى الحجاج فأقلقته وأثارت مخاوفه. رأى أن الأمر جد لا هزل فوجه إلى شبيب جيشاً ثانياً ولكن شبيب لجأ هذه المرة إلى الحيلة الحربية البارعة فتظاهر أمام جيش الحجاج بالانسحاب بعد أن أكمن له كميناً فانخدع الجيش ولحق بشبيب غير عالم بالكمين، وما كاد يجتاز الكمين حتى عطف عليه شبيب فاشتبك معه وصاح به الكمين من ورائه فدب الرعب في جيش الحجاج فانهزم شر هزيمة. ظهرت شخصية شبيب الحربية بعد هذه المعركة ظهوراً أوقع الرعب في قلب الحجاج وقلوب رجال جيوشه من جهة، ومهد لاتساع حركة شبيب وزيادة أنصاره من جهة أخرى؛ فراح الحجاج يعبئ الجيوش من فلوله المهزومة ويقذف بها في وجه شبيب فيستقبلها شبيب بما آتاه الله به من أيمان بالنصر وقدرة على القيادة وشجاعة في القتال فيهزمها ويشتت شملها. وظل الحال كذلك: نصر متواصل لشبيب، وخذلان مستمر لجيوش الحجاج، مما شجع شبيباً على طلب الكوفة مقر إمارة الحجاج وقيادته. فعزم شبيب على أن يدخل عرين الأسد فوجه إليه همته وجعل الكوفة هدفاً له يعمل في سبيل الحصول عليه جهده.
تحفز شبيب للوثوب على الكوفة فانخلعت قلوب حماتها والذائدين عنها؛ ولم تلبث الكوفة أن أصبحت تارة في يد الحجاج وتارة أخرى في يد شبيب يتجاذبها البطلان تجاذباً قوياً عنيفاً اضطر الحجاج أن يطلب المدد من الشام ليدفع به شبيباً عن الكوفة دفعاً قوياً حاسماً، فجاء المدد وكانت المعركة الكبرى. جيوش العراق والشام وعلى رأسها الحجاج وخيرة قواده، والخوارج وعلى رأسهم شبيب وصفوة أعوانه. انقض الخوارج على خصومهم انقضاض الصواعق فاستقبلهم خصومهم استقبال الجبال الراسية. وفي هذا الهجوم والدفاع أبدى شبيب ورجاله من ضروب الشجاعة وفنون القتال معجزات باهرات، وأبدى الحجاج وقواده من ضروب الإدارة وأساليب الحزم والسياسة في القتال آيات بينات، ولكن شبيب قد انهزم في هذه المعركة التي لم يهزم قبلها في حياته وكان من أمره أن سقط في النهر فمات غريقاً. قيل كان شبيب ينعى لأمه فيقال لها قتل شبيب فلا تصدق، فلما قيل لها هذه المرة إنه غرق صدقت وقالت إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب من نار فعلمت أنه لا(912/20)
يطفئه إلا الماء. وقيل أنه قد شق بطن شبيب واخرج قلبه فوجده صلباً كأنه قطعة صخر، وكانت تضرب به الأرض فيثب قامة إنسان.
أجل سقط شبيب في النهر فغرق فانطفأت تلك الحياة المشتعلة إيماناً وقوة وشجاعة وجبروتاً، وخبت تلك الروح الكبيرة المتوثبة المنطلقة، وخمدت تلك الحركة الدائمة المتواصلة في سبيل الله وفي خدمة المبدأ ونصرة الحق. رحم الله البطل شبيب بن يزيد بن نعيم سيد الشبيبة وقائدها المحبب ومذيقها المرجب، وأسكن روحه الكبيرة فسيح الجنان وتعمدها بالرحمة والرضوان.
حمدي الحسيني.(912/21)
رسالة الشعر
شاعر العراق
للأديب جعفر حامد البشير
(مهداة إلى الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري)
يا أخا بالعراق يندب مجداً ... ظنه ضاع في غمار الليالي
لا ترع إن في قريضك مجداً ... سوف تنو له جباه الرجال!
أنت ذكرتنا الرصافة والجس ... ر وبغداد في العصور الخوالي
وأغاريد عذبة تسكر الرو ... ح بلحن غض وسحر حلال
والهوى والجمال. . ما كان أحلا ... ها أغانيك في الهوى والجمال!
شاعر الجيل دونك المجد فاصعد ... وابن مجد القريض للأجيال
أحزنتني شكاة شعرك لما ... أعولت أمس أيما إعوال
أحزنتني فعدت أسمع أنغا ... ماً ثكالى تئن في الأغلال
يا أخا الشعر والعروبة هون ... كم أمات الزمان من آمال
نحن قيثارة الأنين وأهدا ... ف الليالي منذ ابتداء الليالي
نحن صخر الضفاف فليرسل الدهر ... من الموج شامخاً كالجبال
يا أخا الشعر من سوانا أعدته ... المقادير كائناً للنضال
للكفاح المرير للقدر السا ... خر للبؤس للردى للنكال
يا أخا الشعر للمشاعر دنيا ... حلوة. . مرة على الجهال
الألى يعبدون جاهاً ومالاً ... ويحهم من عبيد جاه ومال
ليس في ثروة النقود ثراء ... إنه في النهى وبيض الخلال!
ياأخا الشعر أنت تعلم ماذا ... دون بعض القلوب من أقفال
أظلمت حيث لا بصيص من الن ... ور فيا للإحراج والأدغال!
يا أخا دجلة إليك من ... النيل مزاج الآلام والآمال
فرقت بيننا الحياة ولكن ... ربطت مصر حلقة الاتصال(912/22)
نحن - جمعاً - بنو العروبة إن ... ننسب فما ثم غير عم وخال!
جعفر حامد البشير(912/23)
لوعة
للأديب حسن طنطاوي سليم
طفت ولهان على الشا ... طئ أشدو وأغني
دون أن يسمع مخل ... وق على الشاطئ لحني
كنت فناناً ول ... كني فتى أشقى بفني
كنت طيراً إلفه غا ... ب فلم يحظ بأمن
هاجت النفس فغني ... ت لكي تسكن نفسي
ونأي الأنس فرجع ... ت لكي يرجع أنسي
كان لحني في فؤادي ... محض سر مستكن
إنني قد صنته في القل ... ب عن إنس وجن
أرأيت القلب قد أغ ... رقه فيض الحنين
ورأيت الصدر قد أح ... رقه فرط الأنين
فلمن أزجي أغاري ... دي ومن يسمع مني
ولمن أهدي أناش ... يدي ومن يسأل عني
وفد الموج على الشا ... طئ مبسوط اليدين
لقى الموج فراحا ... في عناق العاشقين
وأنا أشرب كأسي ... مرة من قاع دنى
وأغني في ضميري ... دون أن تسمع أذني
قلت للموج لم التص ... فيق يا ذوب اللجين؟
قال محبوبي معي قد ... صار في قلبي وعيني
قلت ما أسعده في ... حبه يا ليت أني
وبكت عيني أسى بل ... غيرة وازداد حزني
رمت أن أطفئ بالدمع ... جوى أحرق قلبي
فإذا دمعي بخار ... صعدته نار حبي
وتلفت كثيراً. . . ... بين يأس وتمني(912/24)
علني ألقاك لكن ... ويلتا قد خاب ظني
حسن طنطاوي سليم(912/25)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بعض الظواهر في حياتنا الأدبية:
(بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء، ولا تكف عن اقتراح! ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس عليها واجب تفرضه على نفسها. . إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟ وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟ وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح أو للصور المتحركة؟ وإذا كتبت للمسرح والصور المتحركة قالوا: ولم لا تحي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة إلى إحياء ذلك التراث؟
وإذا أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث فنحن أحق الناس بالكتابة فيه. . وإن جمعت بين هذه الأغراض كلها قالوا لك: والقطن؟ وشؤون القرض الجديد؟ ومسائل العمال! ورؤوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه!
وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض. . إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفاً من الحلوى، رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول!
سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة معروف. سره أن الجمهور في بلادنا العربية لم (يتشكل) بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوربية. وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلاً إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات. . وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيراً حتى يتم لنا (التشكيل) المنشود وهو غير بعيد!
إننا لا نعتقد أن هنالك واجباً مفروضاً على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائناً ما كان. . وليس هناك موضوع يكتب كتابة حسنة ثم لا يستحق أن يقرأ ولا يفيد إذا قرء قراءة حسنة: فالبطل القديم الذي يدرس على الوجه الصحيح هو موضوع جديد في كل عصر من العصور. والبطل الحديث الذي يساء درسه خسارة على القارئ والكاتب والبطل(912/26)
المكتوب عنه؛ لأن العبرة بتناول الموضوع لا الموضوع، والعبرة بأسلوب العصر الذي نتوخاه وليست بالسنة التي يدور عليها الكلام. . فالكتابة عن سنة 1937 بأسلوب عتيق هي موضوع عتيق. والكتابة عن آدم وحواء بأحدث الأساليب العلمية أو النقدية هي موضوع الساعة الذي لا يبلى. وأولى من الاقتراح على الكتاب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما أختلف موضوعاته، لا أن نشجع (الولد المدلل الممعود) على رفض كل ما على المائدة وطلب كل ما عداه)!
هذه الكلمات ليست لي، ولكنها للأستاذ العقاد يوم أن كان يكتب للرسالة. . لقد ابتلي العقاد يومئذ بهذه الطائفة من المقترحين فكتب هذه الكلمات القيمة؛ وابتليت أنا بها في هذه الأيام فلم أجد في الرد عليها خيراً من هذا الذي كتبه العقاد!
ما أكثر المقترحين حقاً وما أكثر المعترضين. . قارئ يقول لي، في لهجة لا تخلوا من السخط والاحتجاج: لقد حدثتنا عن سار تر، وحدثتنا عن دستوفسكي، وحدثتنا عن شو، وحدثتنا عن بلزاك، وحدثتنا عمن ندري ولا ندري. . صدقني لقد شبعنا حديثاً عن الأدب والأدباء، وبقي أن تتجه بقلمك إلى تلك الجوانب الأخرى التي يضطرب فيها الأحياء من حولك؛ تلك الجوانب التي تصور واقع المجتمع الذي نعيش فيه. . يا أخي عندنا فقر ومرض وجهل، وعندنا من أخطار هذه الأمراض الاجتماعية ما هو كفيل بتحريك المشاعر وإثارة الأقلام، فإلى متى ستظل مشغولاً بغير وطنك، ومحلقاً في غير أفقك، وغافلاً أو متغافلاً عن هذه الصيحات (القومية) التي تنطلق من هذه البقعة من بقاع الشرق، لتفتح منافذ الفكر والشعور لتلك الصيحات (الفنية) التي تأتيك من بقاع الغرب؟! إن كلمة عن الفقير الذي يبحث عن لقمة العيش، أو الجاهل الذي يفتش عن أضواء العلم، أو عن المريض الذي يلتمس ثمن الدواء، لأجدى ألف مرة من فصل يكتب عن سار تر أو يكتب عن دستوفسكي أو يكتب عن برناردشو وبلزاك!
وقارئ آخر يقول لي، في لهجة لا تخلو هي أيضا من العجب والإنكار: يخيل إلينا أنك تحترم الأدب الغربي أكثر مما تحترم الأدب العربي، وتفضل ثقافة الأباعد على ثقافة الأقارب، وتقدر أولئك حيث لا يظفر منك هؤلاء بمثل هذا التقدير. . أو تعتقد أن في أدب الغرب ناقداً مثل عبد القاهر، أو كاتباً مثل الجاحظ، أو شاعراً مثل المتنبي، أو باحثاً مثل(912/27)
ابن خلدون، أو حكيماً مثل أبي العلاء؟ يا أخي عندنا في مجال الأدب والفكر أقطاب وأعلام، فلماذا لا تخصهم بمثل ما خصصت به الآخرين من البحث والدراسة، ومن النقد والمراجعة، ومن العرض الأمين الذي يبرز قيم المواهب والملكات؟ إن في التراث العربي كنوزاً تزخر بكل ما هو ثمين ونفيس، فلماذا لا تسمح لقلمك بأن يعرج على تلك الكنوز النادرة ليرفع عنها الغطاء؟!
وقارئ ثالث يقول لي، في لهجة تفيض بالأسف وتعج بالإشفاق: لماذا أهملت نقد الكتب كل هذا الإهمال؟ صحيح أن أكثر كتاباتك في النقد، ولكننا نريد نقد الكتب بالذات. . ترى هل أمسكت قلمك عن الكتابة لأن الإنتاج الأدبي في مصر لا يرضيك؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل من الأمانة العلمية أن تسكت عن العيوب لأنها عيوب، وتنصرف عن المآخذ لأنها مآخذ، وتشغل عن رسالة النقد مع أن أساسها الأول هو توجيه الخطى وتحديد الهدف وتمهيد الطريق؟ ألا تشعر أنك تتخلى عن ميدان نرى نحن القراء ما يكتنفه من أزمة في كتابه، وتجوس بقلمك خلال ميادين أخرى لا تشك أنت أنها تشكو التخمة التي تعقب الشبع والامتلاء؟!
وقارئ رابع يقول لي، في لهجة باطنها التذكير وظاهرها التأثير: لقد طرقت أبواب القصة في يوم من الأيام، وأثبت أن ملكتك القاصة لا تقل نضجاً وأصالة عن ملكتك الناقدة، فلماذا لا تترك النقد إلى القصة بعد أن عالجت كل فن من فنونه ونفذت إلى كل زاوية من زواياه؟ صدقني يا أستاذ أن القصة هي أكثر ألوان الأدب رواجاً وأحفلها بإقبال القراء، ومن الخير لقلمك أن يقبل على هذا الإنتاج الذي يتلاءم وشتى الميول وترضى عنه كافة الأذواق!
وقارئ خامس يقول لي، في لهجة يتوثب فيها الخيال وتنزي العاطفة: لست أدري لم تؤثر في هذه الأيام أن تخاطب العقول دون القلوب؟ أين (قصة الدموع التي شابت)، وأين (موكب الحرمان)، وأين تلك النفحات الوجدانية التي كنت تطالعنا بها من حين إلى حين؟ إن ومضات الفكر بما فيها من جفاف لتحوج أرض النفوس إلى قطرات من المطر، هذه القطرات المنعشة من أدب الشعور والوجدان!
وقارئ سادس وسابع وثامن، ورغبات متنافرة وأخرى متناقضة، وسبحان من يرضي جميع العباد. وأقف أنا حائراً بين أنصار الأدب وبين أنصار القصة، وبين أشياع الفن للفن، وبين(912/28)
أشياع الفن للمجتمع، وبين أصحاب الفكر وبين أصحاب العاطفة؛ ومصدر الحيرة أنني كتبت للجميع فلم أستطع أن أرضي الجميع، لأن كل فريق يريدني على أن أكتب وفق هواه!
لقد كتبت عن الفقر، وكتبت عن الجهل، وكتبت عن المرض، وكتبت عن هموم الشباب وحيرة الشباب، وكتبت عن القصة وفي القصة، وكتبت عن النقد وفي النقد، وكتبت عن أدباء الشرق وأدباء الغرب، وكتبت في مختلف الشؤون وفي أكثر الموضوعات: منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يتصل بالفلسفة، ومنها ما يتصل بالتاريخ، ومنها ما يتصل بالسياسة، ومنها ما يتصل بالمجتمع. . ولكن المشكلة كما يتصورها الأستاذ العقاد فيبدع في التصوير، هي أن هذه الطائفة من المقترحين أشبه بالطفل المدلل الممعود: (يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض. . إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفاً من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعاً وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول)!.
إن ردي على هؤلاء المقترحين والمعترضين هو أن أقول لهم اليوم كما قال العقاد لأمثالهم بالأمس: إننا في الواقع لا نعتقد أن هناك واجباً مفروضاً على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائناً ما كان. وأولى من الاقتراح على الكاتب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما اختلفت موضوعاته، لا أن نشجع (الولد المدلل الممعود) على رفض كل ما على المائدة وطلب كل ما عداه!
في محيط الشعر والشعراء
قرأت في العدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء ضمن تعقيباتك القيمة، كلمة الأستاذ محمد المهدي مجذوب، وهي الكلمة التي كتبها عن تلك المباراة الشعرية التي جعلتها بذوقك الرفيع مباراة نقدية. . لقد رأى الأستاذ - حسب ذوقه الخاص - أن الشوام أشعر من المصريين، فكان ردك على هذه الكلمة هو أنك قلت له: (وتبقى بعد هذا كله إشارة الأستاذ الفاضل إلى شعرائنا وشعراء الشام. . أتريد مقارنة؟ أرجو أن تنظر في شعر علي محمود طه، وأن تعيد النظر فيما كتبته عنه من فصول، ثم قارن أنت. . قارن بينه وبين شعر أبي(912/29)
ماضي، أو بينه وبين شعر أبي شبكة، أو بينه وبين شعر أبي ريشة)!
إن القارئ يفهم من هذه العبارة أنك تفضل علي محمود طه على غيره ممن ذكرت، ومع إعجابي بالشاعر الخالد وبخاصة بعد أن قرأت لك تلك الفصول القيمة التي كتبتها عن فنه وعطرت بها صفحات الرسالة؛ مع هذا فقد تذكرت أنك وضعت أبا ماضي في مكان عال من شعراء (الأدب النفسي)، حيث قلت في العدد (847) من الرسالة وكنت تقارن بين الشعر القديم والحديث: (وإذا قلنا الشعر العربي الحديث فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض الشعراء الشيوخ وعلى رأسهم (شوقي) وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم (إيليا أبو ماضي)!
إنني يا سيدي الأستاذ أقارن بين ما كتبته اليوم وبين ما كتبته بالأمس، فأجد فارقاً كبيراً بين الكلمتين. فبالأمس كنت تضع أبا ماضي على رأس شعر الشباب ومنهم علي محمود طه، واليوم تقول إن علي محمود طه أشعر من هؤلاء ومنهم أبو ماضي، فهل غيرت رأيك في شعر الشاعرين فأنصفت اليوم علي طه كما أنصفت شوقي من قبل؟ ذلك ما أرجو معرفته. والسلام عليك ممن ينتظر كتبك الثلاثة وما يليها.
(محلة المرحوم)
السيد حنفي الشريف
أما أنني غيرت رأيي في شعر الشاعرين فأود أن أقول للأديب الفاضل إن شيئاً من هذا لم يحدث. . وأما أنني قد كتبت عن أبي ماضي بالأمس واضعاً إياه على رأس شعراء الشباب فأود أن أقول للأديب الفاضل مرة أخرى إن هذا قد حدث، وأزيد عليه أنني كنت أتوقع أن يذكرني قارئ فطن بهذا الذي كتبت، بعد أن رددت على الأستاذ مجذوب بما قد يوهم الكثيرين بأنه مناقض لما سبق أن قلت. . لقد كنت أتوقع من فطنة القراء مثل هذا التذكير لأروي هذه القصة، إنصافاً للحقيقة وإنصافاً للتأريخ: كان شاعرنا الخالد علي محمود طه يوم أن كتبت تلك الكلمة مقارناً بين الشعر القديم والشعر الحديث، كان رحمه الله صديقاً لي وكان على قيد الحياة. . وأمسكت بالتليفون لأتحدث إليه وهو وكيل لدار الكتب المصرية،(912/30)
لأتحدث عن موضوع تلك الكلمة ولأقول له: لقد كان يجب أن أضع اسمك بدلا عن اسم أبي ماضي على رأس شعراء الشباب، ولكن (صداقتي) لك قد ضغطت على قلمي حتى أرغمته على ألا يذكرك مع شديد إعجابه بك وعميق تقديره لك، ذلك لأن الناس قد دأبوا على اتهام الصداقة في مواقف النقد البريء والأحكام العادلة. . ومع ذلك فأعتقد أنني قد اخترت اسماً آخر لا يجادلني في اختياره إلا كل بعيد عن تذوق الشعر وكل منكر لمكانة الشعراء! وأجاب الشاعر الخالد رحمه الله في صوت مخلص ونبرات صادقة: إنني أقدر أبا ماضي وأقدر شعره، ولا أستطيع أبداً أن أعترض عليك حين تضعه في مكانه ثم لا تنس أن اختيارك لي كان كفيلاً بأن يعرضك لنوع آخر من الاتهام أعرف أنك تحاربه وتضيق به، وهو العصبية الإقليمية وذلك حين تضع على رأس شعراء الشيوخ والشباب شاعرين مصريين!!
من هذه القصة يتبين للأديب صاحب الرسالة أن رأيي في شعر الشاعرين لم يتغير بين الأمس واليوم، فهما عندي من طبقة واحدة هي الطبقة الأولى بين الشعراء، ويأتي من بعدهما إلياس أبو شبكة وعمر أبو ريشة. . وعلى هذا الأساس يمكن أن يرجع مرة أخرى إلى ردي على الأستاذ مجذوب ليخرج من ذلك الرد مقترناً بهذا التوضيح، بأن شعراء الشام لا يفضلون شعراء مصر حين يكون هناك مجال للمقارنة والتفضيل!
عاصفة على نقد:
في الأسبوع الماضي وعلى صفحات الرسالة، هبت على الناقد المسرحي الأستاذ أنور فتح الله عاصفة هوجاء. . ولست أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن نقد الأستاذ فتح الله لأنه من أصحاب الأقلام القادرة على الدفاع، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أنني كنت أوثر للناقدين الفاضلين اللذين تعرضا له أن يبتعدا عن مواطن الاتهام، اتهام القراء لهما بأن حماسهما في نفي المآخذ الفنية عن مسرحية الأستاذ تيمور، قد زادت كثيراً عن الحد المألوف!
لقد كان يجدر بكل منهما أن يسمو بقلمه فوق مستوى الاتهام الموجه إليه، بدلا من توجيه مثل هذا الاتهام إلى الأستاذ فتح الله وهو الرجل الذي لا تربطه بالأستاذ تيمور علاقة من العلاقات. . لقد حاول الأستاذ الفاضل أن يكتب نقداً نزيهاً لا أثر فيه للمصانعة، فكان جزاؤه أن رمي بالتحامل، لأنه لا يجامل!(912/31)
لفتة أخيرة أود أن أختم بها هذه الكلمة، وهي أنني أقدر فن الأستاذ تيمور. . وأحترم نقد الأستاذ فتح الله!!
أنور المعداوي(912/32)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي بافتتاح مؤتمره السنوي الذي يجمع كل أعضائه من شرقيين ومستشرقين. وقد افتتح الحفلة معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف بكلمة موجزة قال فيها إنه - باعتباره وزير المعارف سيعين على أن تنفذ أعمال المجمع وتتم مشروعاته، وأن هذا هو ما يود أن يقوله الآن متوخياً الإيجاز، أما الحديث عن اللغة العربية وسلامتها ونمائها وما إلى ذلك مما يتعلق بأغراض المجمع فهو حديث معاد أربأ بكم عن سماعه وأربأ بنفسي عن تكراره، ثم حيا معاليه حضرت الأعضاء وأعرب عن رجائه أن تكون هذه الدورة خصبة كالدورات الماضية.
ثم ألقى الأستاذ محمد شوقي أمين كلمة الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع، وقد تحدث فيها عن المحاضرات التي ألقاها الأعضاء في المؤتمر الماضي حديثاً مجملاً، وأشار إلى الصعاب التي يلاقيها المجمع للنهوض بأعبائه، والناشئة من ضيق ميزانيته، ثم قال: على أنه مهما يكن من صعاب تحد من نشاط المجمع فإن آثاره الحميدة تجد سبيلها موصولة ممهدة في محيط التعليم وفي البيئات الثقافية في مصر وغيرها من بلاد العروبة، ثم تحدث عن نشاط المجمعيين واتجاهاتهم، وقال: إن المجمعيين يتلاقون عند عاطفة كريمة تملك عليهم مشاعرهم وهي الاعتزاز بهذه اللغة وشمولها بكثير من التقديس والإجلال، وذلك نتيجة لتأثير وراثي عريق أنحدر عن الأسلاف، تضاف إليه عوامل اليقضة والتوثب إلى الحياة ومجاراة التطور. إلى أن قال: وإن هذه اللغة بخصائصها الجوهرية وأصولها الموحدة، لتمتد في الماضي وتشيع في الحاضر وترنو إلى المستقبل على صور يتقارب بعضها من بعض وينزع بعضها إلى بعض، وتلك ميزة للغة العرب لا نعرفها لغيرها من اللغات، وهي في ذلك أشبه بشجرة قوية مباركة حية تتشابه أصولها وفروعها وغصونها، وإن لغة هذا شأنها وتلك حالها خليقة بالتمجيد والتقدير.
وألقى بعد ذلك الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي بحثاً للدكتور أحمد أمين بك في (أخذ اللغة من القبائل) وصل فيه من تعدد لغات قبائل العرب إلى الحديث المستفيض عن الترادف، ذاهباً(912/33)
إلى أن هذا الترادف لا فائدة له إلا في التزام القافية بالشعر، ورأى أن هذا الالتزام لم يعد ضرورياً إزاء المصطلحات الجديدة التي يجب أن تحل في اللغة محل المترادفات الكثيرة. وأرجو أن أتوسع في تلخيص هذا البحث القيم في فرصة مقبلة.
وأعقب ذلك الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي، فألقى كلمة طريفة ظريفة، جعل موضوعها (تنازع اللغات في طائفة من الكلمات) وقد أستطرق إلى هذا الموضوع من حديث عن جماعة من المصريين الوطنيين لجئوا إلى (الكلية الصلاحية) بالقدس، حيث كان الأستاذ مع الشيخ عبد العزيز جاويش في إدارة تلك الكلية، وذلك أنهم تناولوا في بعض أحاديثهم السياسية (قنال السويس) فقال بعضهم عن كلمة (قنال) فرنسية ولفظ (الترعة) العربي أفضل منه وأكرم عند الله. . فرأى الأستاذ المغربي أن (القنال) عربي أصله قنا البحر أو قنا الماء، وقنا جمع قناة بمعنى مجرى الماء، فنحتوا من قنا الماء (قنال). وأتى بعد ذلك بكلمات أخرى تتنازع عليها اللغات، وقال: فلنرجئ الكلام عليها وتحرير النزاع فيها إلى إحدى جلسات المجمع العادية على أننا مهما تسامحنا في عروبة تلك الكلمات لا يحسن أن نتسامح في عروبة (القنال) لظهور أدلتنا على عروبته، فلنتمسك بحقنا فيه مهما كلف الأمر.
وكانت كلمة الختام للمستشرق الألماني (ليتمان) وموضوعها (الأدب الشعبي) قال فيها إن الأدب الشعبي المصوغ باللغة العامية لم يكن عند علماء أوربا موضع عناية واحترام، حتى جاء العالم الألماني (هردر) في القرن الثامن عشر، فاهتم به لأنه يدل على باطن الإنسانية، واتصل منذ ذلك الحين الاهتمام بالآداب الشعبية وصار لها موضع في مقارنة الآداب. وقال الأستاذ ليتمان - إنه خلال زياراته لمصر - جمع كثيراً من نصوص الأدب الشعبي، كالقصص المتداولة بين العامة، والأزجال، ونداءات الباعة والمسحرين، ونواح الأمهات على أبنائهن. . الخ وأنه جمع كل ذلك وكتبه بالحروف اللاتينية، وترجم كثيراً منه إلى اللغة الألمانية.
أغنية (غفاة البشر):
قالوا ستغني أم كلثوم أغنية جديدة مختارة من شعر عمر الخيام. قلت: لماذا تجشم نفسها مشقة الإغماض عمن حولها وما حولها، والبحث في لفائف الزمن عن شعر الخيام؟ أهي مغرمة بالراحلين من ذوي الأسماء الكبيرة، وقد يقع اختيارها بعد ذلك على طاغور مثلاً،(912/34)
ومن يدري فقد تعرج على شكسبير: أم قد تصوفت وأخذتها الجلالة من هذا العالم الذي تضطرب فيه؟
وسمعت الغنية، وهي ثلاثون بيتاً ملفقة - على الطريقة التي تتبعها في ديوان شوقي - من رباعيات الخيام، أولها:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر ... نادى من المغيب غفاة البشر
والحق أنني أشفقت عليها، فقد تبين لي أنها تورطت في هذا الاختيار، فلم تجد للأغنية جواً تندمج فيه وتنقل السامع إليه، كما كانت مثلاً في أغنية (سهران لوحدي) التي كان غناؤها فيها كائناً حياً له روح. أما (غفاة البشر) فلم يطب لهم في السحر غي رنين الحنجرة الفضية الذي يطرب الأذن أو (يشنفها) ولا ينفذ إلى القلب، ولعل عدم الانسجام مع الأغنية جعلها تغفل عن ضبط كلمة (اليوم) في البيت الآتي:
غذ يظهر الغيب واليوم لي ... وكم خيب الظن في المقبل
فقد نطقتها منصوبة وهي مبتدأ، وسيتكرر الخطأ مع إذاعة الفلم المسجل، فيا له من خطأ أبلق، لأنه من أم كلثوم: وكذلك التلحين، لم يندمج في جو الأغنية، ولم ينسجم مع معنى لها بل كان أيضاً نغمات مختلفة تصل إلى الأذن ولا تعبر عن شيء ولا أرى قصور الغناء والتلحين عن غاية التعبير راجعاً إلى أم كلثوم والسنباطي، فهما هما؛ ولكن الرحلة كانت شاقة، ولم تعوض غايتها مشقتها، فليس هناك إلا (مسحراتي) يوقظ الناس في السحر ليملئوا الكأس وينهبوا اللذات. . وحتى هذه الصورة - إن كان لابد من مثلها - ليست من الواقع الحاضر، فأهل الكأس والهوى يسهرون الآن من أول الليل علناً ولا يحتاجون إلى التخفي والتداري بالسحر.
إن أم كلثوم هي كوكب الشرق. . ومن حق الشرق على كوكبه أن ينير له، ليرى على صفحته الدرية صور حياته وخلجات نفسه، فهل من ذلك أن نصحو في السحر ونسكر ثم نتوسل وننام. .؟ ألا تذكر أم كلثوم صدى صيحتها في هذا البيت:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
بيت واحد جاء على الجرح، فانبعث الحماس ودوى التصفيق حتى كاد يوقظ الغفاة حقاً. . فما بالها تغفل عن مثل ذلك؟ ألم تجد في مصر شعراء يقولون ما يعجب؟ إني أعلم أن(912/35)
بعض الشعراء الجيدين قدموا إليها شعراً حياً لو غنته لوجد فيه الناس ما يصبون إليه في هذه الآونة ولكنها تريد الخيام بعد شوقي، ولست أدري من بعده
لقد أعجب الإنجليز وغيرهم بشعر الخيام وأمثاله في وقت فرغوا فيه من الضرورات، وتطلعوا إلى الاستطراف بصور من الشرق مغرقة في الخيال، على أن هذه الرباعيات مترجمة عن الإنجليزية، لا كما قال المذيع إن رامي ترجمها عن الفارسية! - ففيها كثير من الإضافة والتحوير وليست كلها خيامية.
أما نحن الآن فما أغنانا عن ذلك (الأفيون) وما أحوجنا إلى كلام آخر، يقال أو يغنى فيوقظ الغفاة، لا ليسكروا ويناموا وإنما ليجدوا ويعملوا.
مسرحية (قلوب الأمهات):
قدمت الفرقة المصرية هذه المسرحية في الأسبوع الماضي بمسرح حديقة الأزبكية، وهي من تأليف الكاتبة الفرنسية (كلود سو كوري) وقد ترجمها الأستاذ فتح الله، وأخرجها الأستاذ أحمد علام وهي من المسرحيات الحديثة التي تعرض الحياة على المسرح هادئة بعيدة عن الافتعال والمؤثرات الصارخة.
وعنوان المسرحية في الفرنسية (فابين) وهو اسم الفتاة التي تدور حولها، بنت حزينة كاسفة البال، تبدو هادئة مستسلمة لما تأخذها بها جدتها (ماريا) المتدينة من الشدة والصرامة، لتعودها السلوك الحسن وتجنبها ما انزلقت إليه أمها (فرانسواز) التي تركتها صغيرة، فارة من زوجها الذي تزوجته على كره، مع عشيق رحلت معه إلى الأرجنتين. ولكن لا تلبث (فابين) أن تتكشف عن فتاة ثائرة النفس، عندما تعلم أن أمها ستعود إلى المنزل، فتعبر عن بغضها لأمها التي أهملتها مستجيبة لنزواتها وشهواتها وتقول فابين إنها لا تريد رؤية أمها ولا تستطيع أن تبقى في المنزل إذا أتت إليه، وعند ما ترى أنها قادمة لا محالة تسارع إلى الموافقة على الزواج من رجل دميم الخلقة شائه النفس لا لشيء إلا لتبتعد عن المنزل الذي ستنزل به أمها. .
وتدور عجلة الزمن، فإذا الفتاة الحاقدة على أمها تقع في نفس الظروف التي كانت فيها أمها، فقد أحبت وشعرت بأن لا سعادة لها إلا بجانب حبيبها (ريمون) الضابط بالجيش والذي تقرر نقله إلى مراكش. . وهناك ابنتها الصغيرة (كوليت) التي أتت بها من الزوج(912/36)
البغيض. . ماذا تصنع وقد وقعت في صراع شعوري عنيف بين دافع الهوى وقلب الأم.
قررت الرحيل مع ريمون. . ولكن كوليت. آه. . تذكرت أن أمها فرانسواز كانت تبعث إليها ضارعة أن ترسل إليها الصغيرة كوليت لبضعة أيام، فتأبى ثائرة على صديقتها (أليس) التي كانت تخاطبها في ذلك. لماذا لا ترسلها الآن. .؟ لا لبضعة أيام ولكن إلى ما شاء الله. وهذه الأم (فرانسواز) المسكينة! لقد كانت إذن على حق فيما فعلته. . وهي إذن جديرة بالرحمة والغفران! ولكن فرانسواز - عندما تجيء ملبية دعوة فابين - تصحح للفتاة موقفها وتبين حقيقة شعورها، قائلة لها: إنك تبرئين عملك يا فابين. . أنت تغفرين لنفسك لا لي، فابين! لا ترحلي، فقد تعذبت وندمت، لا أحب لك ما قاسيت: وتتبين فابين هول ما هي مقدمة عليه، وتتذكر ما عانته من حرمان الحنان، وأنها توشك أن تضع ابنتها في مثل ما كانت فيه، وهي عالمة به. . فتنفجر في قلبها الأمومة لتقضي على أمل العاشق المنتظر. .
وهكذا نرى المسرحية تعرض تلك المشكلة، وتكشف عن جذورها التي تتمثل في الزواج الذي لا ينبني على أساس من الألفة والمودة، وتعالج إعراضها علاجاً طبيعياً يرد كل شيء إلى أصله، وتعطي الدوافع الإنسانية حقها كاملاً، فالحب ليس شيء يهمل ولكن هناك معارضاً أقوى منه، وهو الأمومة التي تتغلب لا لإملاء قواعد أخلاقية غير مقتنع بها، وإنما لأنها دافع إنساني لا يقهر، وبذلك تجيء القيمة الخلقية طبيعية فتثبت، لا كالتي تجيء بالوعظ فتتبخر بعد تمصص الشفاه. .
والقضية قضية أنثوية، ولذلك أحسنت المؤلفة معالجتها، ولم تنس في خلال الحوار أن تبث خواطر المرأة كأن تقول في الحوار إن المرأة ترتطم بقوانين المجتمع الظالمة التي يضعها الرجل.
ولا شك أن نقل جو المسرحية ودقائقها يرجع الفضل فيه إلى المترجم والمخرج، وأجمل ملاحظاتي فيما يلي:
ظهر (ريمون) في حياة (فابين) قبل زواجها، وعرفت أنه يحبها ويعتزم خطبتها، ولم يطرأ ما يغير هذا العزم إلا ما قيل لها من أنه اختلف مع أهله ويعتزم الرحيل إلى مراكش، وليس ذلك مانعاً قاطعاً للأمل في خطبتها، ولكنها مع ذلك سارعت إلى زواج الرجل الذي تبغضه ولم يكن ثمة ما يدعوا إلى هذه السرعة فلا يزال باقياً على عودة أمها ثلاثة أشهر.(912/37)
قال العم (فيلكس) لفابين ما معناه: لماذا لا تكونين سعيدة وأنت في سن العشرين، فأجابته: إن هذه السن تبدو مطلباً جميلاً عندما نجاوزها، أما ونحن نبلغها فإننا نحتاج معها إلى شيء آخر فكيف تشعر بذلك الشعور وهي لم تجاوز تلك السن؟
كانت المناظر غير موافقة، بل كان بعضها مزرياً. ففي المنظر الأول حديقة منزل أو المفروض أنها كذلك. . ولكن المتأمل في الستارة التي رسم عليها المنظر يرى في آخر الحديقة مباني بعيدة غير المنزل الذي يفترض أن الحديقة حديقته. والمنزل نفسه ليس إلا حجرة صغيرة كالتي تعد في جانب وحدها للاستقبال في معزل عن الجدار والمناظر المزرية تتمثل في الستائر القذرة المزيتة. . التي أقيمت جدراناً ل (صالونات باريس) الفخمة الأنيقة.
ويبدو جهد المخرج الذي يستحق الثناء في حركات الممثلين وتنسيق المواقف. وقد أجادت زوزو حمدي الحكيم في دور (فابين) (وكان تمثيلها عاملاً مهماً، بل أكبر عامل في أداء الأغراض المقصودة من المسرحية. وكان منسي فهمي (العم فيلكس) موفقاً في تمثيل الرجل العجوز المتسامح الذي عرك الحياة وصقلته التجارب، وقد أمعن في (الطبيعية) إلى حد أنه نسي الجمهور فكان أحياناً يلقى كأن لا أحد يسمعه، أما كان يمكن أن يجمع بين الأمرين: الفناء في الدور والشعور بالجمهور كما فعلت رفيعة الشال في دور الجدة العجوز؟ ولم يكن كل من كمال حسين (ريمون) وروحية خالد (إليس) مالئاً دوره. أما زينب صدقي فيخيل إلي أنها كانت تمثل من غير مزاج. . فهي تؤدي الواجب والسلام. .
عباس خضر(912/38)
رسالة الفن
حول نقد مسرحية (ابن جلا)
للأستاذ أنور فتح الله
نشرت الرسالة بالعدد رقم 910 نقداً لي عن مسرحية (ابن جلا) وبالعدد 911 تصدي للتعقيب على هذا النقد الأستاذان إسماعيل رسلان، وعبد الفتاح البارودي. . وقد أختار الأستاذان، أن يتعديا الناحية الموضوعية للنقد إلى التعريض بشخص الناقد، لأسباب لا داعي للتعرض لها، حتى لا أجعل من هذه المجلة التي تحمل رسالة الفن والثقافة ميداناً لشيء من هذا القبيل.
وأحب أن أقول للمعقبين، ولمن يعنيه أمرهما، وأمر فرقة المسرح الحديث إن النقد كما يفهمه المحبون للفن، المخلصون له، لا يعني الهدم. وإن الشخص الذي يضيق بالنقد، ولا يريد أن يفيد منه، قد يكون غير مهيأ بتركيبه السيكولوجي للنجاح الذي ننشده للمسرح المصري في عهده الجديد. . وليس إخفاء النقص بوسائل مفتعلة يعني أن النقص غير موجود، كما أن السعي إلى طلب الثناء بأي ثمن لن يكون وسيلة لإنشاء مسرح صحيح.
وباستعراض آراء المعقبين، نرى أنهما قد التقيا في بعضهما، وتعارضا في البعض الآخر فكان مما التقيا فيه، تفسيرهما للمسرحية التاريخية وحق المؤلف في خلق الشخصيات في المسرحية التاريخية. فبدأ الأستاذ البارودي تعقيبه بعرض طويل لآراء النقاد في المسرحية التاريخية، وانتهى بأن قرر بأن نقاد المسرح قد أجمعوا على أن طبيعة حوادث التاريخ تغاير طبيعة الموضوع المسرحي. وبهذه النتيجة انتهى الأستاذ إلى الرأي الذي استندت أنا إليه، وطبقته على المسرحية. وهو مع هذا يخطئ تطبيقي لهذا الرأي، ولا يحاول أن يبين الأساس الذي استند إليه في هذا الحكم وهما يريان معاً، ألا محل لمؤاخذة المؤلف على خلق شخصية الاهوازية. وأحب أن أقرر أولاً أنه ما دامت هناك شخصية حقيقية تستطيع أن تؤدي نفس الغرض الذي يقصد إليه المؤلف فلا محل لخلق شخصية خيالية. وهذه الشخصية الحقيقية كما سبق أن بينت هي شخصية هند بنت أسماء. ولا محل لاعتراض الأستاذ رسلان بأن هند بنت أسماء لا تحتل من حياة الحجاج سوى سنة واحدة، وكأنه فرض على المؤلف أن يصور حياة الحجاج مدى ربع قرن.(912/39)
أمّا مطالبتنا بأن تكون شخصية الأهوازية ذات واقع تاريخي. فلا يعني مطلقاً أننا نحرم خلق شخصيات لم يرد ذكرها في التاريخ، وإنما نعني - كما يفهم كل مشتغل بالنقد الفني - أن يصدق خيالنا في خلق الشخصية حتى يجعلها واقعية الصورة، فلا تبدو شاذة في الحياة التاريخية الواقعية التي تعرضها المسرحية. فقد بدت الأهوازية في صورة مغامرة من طراز رعاة البقر، فأهدر المؤلف بذلك حق الحياة العربية في ذلك الزمن الذي لم يشهد هذا النوع من النساء المغامرات. وأهدر أيضاً تصوير الواقع النفسي لشخصية الحجاج فلم تكن الأهوازية في موقفها منه في جميع مشاهد المسرحية، موضوعاً لعاطفة أو وسيلة لتحقيق مطمح من مطمحه العريضة. وقد اقتصر دورها في المسرحية على خلق الحركة بطريقة (بهلوانية). . وعلى نحو ما قصدناه سار برناردشو وأمثاله في خلق الشخصيات المتخيلة في المسرحيات التاريخية. ولعل الأستاذ البارودي قد فهم برناردشو على غير ما يفهمه الناس.
وقد التقى المعقبان أيضاً في فهمهما للصراع المسرحي فقال الأستاذ رسلان إنه يخيل إليه أني أرى أن المسرحية يجب أن تصور الصراع العاطفي. وقال الأستاذ البارودي، إن الصراع لا يكون حتماً بين شخصيتي البطلين. وأسأله أي صراع في هذه المسرحية غير ما بين الأهوازية والحجاج؟. . أما باقي المسرحية فمشاهد لم تصور دراماتيكا ووقف عند حد الحكاية وعرض النتيجة. فهلا كان الأجدر بالمعقب أن يهرب من تقديم مبادئ تسئ إلى المسرحية التي يدافع عنها؟. .
وقد اتفقا أيضاً في الرد على ما أخذته على المسرحية من تكرار في المواقف العاطفية، فاعتبر أحدهما أن ما أعده عيباً هو أسمى ما يصل إليه المؤلف المسرحي من تصوير الشخصية المتماسكة المطردة. وقال المعقب الآخر إن كبار المؤلفين كثيراً ما لجئوا إلى ما يشبه التكرار إما بالمعارضة أو المطابقة. ويؤسفني أن أحتاج إلى القول بأن المعارضة أو المطابقة إنما تأتي للتلوين وعرض جوانب مختلفة من الشخصية. بعكس ما رأيناه من إعطاء اللون الواحد في مواقف متعددة، وهذا هو التكرار الممل.
هذا، ويناقض الأستاذ رسلان نفسه، فيقول إن المؤلف قد أصاب إذ خلق شخصية الأهوازية لتسد الفجوة العاطفية التي أهملها مؤرخو العرب. ثم يعود في موضع آخر فيقول إنه (لو(912/40)
لان الحجاج للأهوازية، وتنكر لطبيعة قلبه الصلد، لأنكرنا من المؤلف صورة مشوهة للحجاج لا تمثل شخصيته التاريخية.). فأية فجوة عاطفية يسترها المؤلف بتصويره للأهوازية ما دام قلب الحجاج سيظل مغلقاً؟. . وما الغرض إذن من تصوير هذه الشخصية؟. . لاشك في أن الدافع الذي ساق الأستاذ إلى هذا التناقض هو الرغبة في المغالطة وتسفيه الرأي. فهو عند دفاعه عن شخصية الأهوازية يرى أنه من حق المؤلف أن يصور حياة الحجاج العاطفية، فإذا ناقشنا الخط العاطفي الذي رسمه المؤلف ومدى فاعليته من المسرحية، عاد فأنكر حق المؤلف في هذا التصوير. وهكذا لم يستطع التمييز بين الحق والباطل.
ولقد استهل الأستاذ رسلان تعقيبه بتوهمه أني أخطأت خطأ كبيراً عندما قلت إن الأهوازية ألقت بنفسها في النهر هاربة. وقد بنى على هذا الخطأ المتوهم نتيجة كبرى، وهي أنني غير جدير بنقد البواعث الخفية للأشخاص الخ. . ولا أحسب الأستاذ جاد في رمي من كتب هذا النقد الذي أفزعه بمثل ما رماني به من عدم الإلمام بأحداث المسرحية.
أما البديهية التي تبرع بها لنا فرجائي إليه أن يحتفظ بها لنفسه، لأنها ليست من بديهيات العصر الذي نعيش فيه. ويستطيع أن يرجع إلى أستاذه في ذلك ليزيده علماً بمثل هذه البديهيات، ويشرح له تطورات المسرحية الحديثة ومقدار فهمها للشخصية الإنسانية.
هذا. . . وأحب أن أقول للأستاذ البارودي، إني قد ذكرت رأيي في التمثيل في حدود التشجيع المرعي لكل مبتدئ في عمله الجديد، وأترك له رأيه في الحكم على مقدرة المشرف على الفرقة التي يعمل داعية لها. وإني أستميحه عذراً في أن أهمس في أذنه لأذكره برأيه الذي أبداه لي في هذه المسرحية في الليلة الأولى من عرضها، وما بدا في رأيه من سخط على المسرحية والممثل وما كنت أعتقد أن الناقد المخلص لفنه ينتقل هكذا سريعاً من طرف لطرف.
وبعد. . . فلست أحب أن أشغل القارئ - ولا أحرج المجلة الوقورة التي نقدت فيها - بالكشف عن الدوافع الشخصية التي أخرجت هذه التعقيبات، كما أتجاوز - كريماً - عن الرد على ما تساقط من أقلام المعقبين مما يدخل في باب المهاترة لا في باب النقد.
أنور فتح الله(912/41)
البريد الأدبي
محاضرة للأستاذ ساطع الحصري بك
كان معالي الأمير مصطفى الشهابي قد ألقى محاضرة قيمة في جمعية الوحدة العربية موضوعها ما هي الأمة العربية، ومن هو العربي.
وقد غاص المحاضر في أعماق التاريخ القديم والحديث، رجال بين الآشوريين والفينيقيين وأثبت انهم من العرب كما أثبت أن أقباط مصر عرب أيضاً، ثم استعرض تاريخ كل أمة من هذه الأمم في أسلوب رفيع وعرض بديع ولا على غزارة علمه، وإحاطته بموضوعه وانتقل إلى تعريف العربي فعرفه بأنه هو كل من يتكلم العربية ويشارك الأمة العربية آلامها وآمالها ومصالحها. وقد أدى هذا التعريف إلى نقاش حاد عقب المحاضرة تشعبت نواحيه واشترك فيه عدد من الحاضرين الذين كان من بينهم سعادة العلامة الكبير الأستاذ ساطع الحصري بك، فشخصت إليه الأبصار تسأله التعقيب على المحاضرة، والإجابة عن بعض الأسئلة، وتفصيل ما أجمله معالي الأمير، وتلبية لرغبة الحاضرين تفضل سعادته بإلقاء محاضرته في الجمعية نفسها يوم الثلاثاء 12 ديسمبر.
وقد استهل الأستاذ محاضرته ببيان انقسام الأمة العربية إلى دول عديدة وشعوب مختلفة، واستطرد من ذلك إلى توضيح الفرق بين الدولة والأمة. وفحوى ما قاله في ذلك أن بين العلماء اختلافاً في الرأي على صحة التعبير بالدولة عن الأمة والعكس، ففريق يرى دلالة الكلمتين على معنى واحد، وآخر يرى دلالة كل كلمة على معنى خاص. وبتمحيص الرأيين يتبين أن ما ذهب إليه الفريق الأول يصح بالنسبة إلى بعض الدول التي تنتمي إلى أمة واحدة ولا يصح بالنسبة للدول التي تنتمي إلى أمم متعددة، في حين أن ما ذهب إليه الفريق الثاني يصح بالنسبة لكل الدول، ومثل بولونيا التي هاجمتها ثلاث دول وتمكن المهاجمون من إزالة الدولة البولونية ولكنهم عجزوا عن إزالة الأمة البولونية التي ظلت محتفظة بكيانها.
وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى بيان معنى الجنسية فبين أن لها معنيين: الجنسية بالمعنى القانوني وهي التي ينحصر البحث فيها في نطاق الدولة ولا يشمل الأمة. والجنسية بمعنى القومية.(912/43)
وأوضح أن كلمة في الفرنسية تدل على الانتساب إلى دولة، وقد تدل على الانتساب إلى أمة ولو لم تكن الأمة كاملة الوجود.
وقال إن العلماء الألمان كانوا أصدق تعبيراً من العلماء الفرنسيين في هذه الناحية وأقرب للواقع والحق حين أستعمل الأولون كلمة للدلالة على الأمة، وأخرى للدلالة على الدولة، وطلب من العلماء العرب أن ينهجوا طريق علماء الألمان فيضعوا كلمة للأمة وأخرى للدولة.
وهنا قال إن وضعنا الاجتماعي والسياسي يفرضان علينا أن نضع ألفاظاً وكلمات للتفريق بين هذين المعنيين. ثم واصل الأستاذ حديثه قائلاً يجب أن نميز بين القومية والجنسية ونفرق بينهما فقد توجد القومية حيث لا توجد الجنسية بمعناها القانوني.
وضرب مثلا بالعرب عندما كانوا تابعين للدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى حيث كانوا جنسية تابعة للدولة العثمانية ولكنهم من حيث قوميتهم عرب أي قوميتهم عربية واخذ يضرب الأمثلة ويسوق الشواهد، فمثل أولاً بمنطقة ليبيا وما تعاقب عليها من احتلال واستعمار ومحاولات تجزئة. وطبق ذلك على الأمة العربية عندما كانت تابعة للدولة العثمانية قائلاً:
عندما بدأت الحركة العربية كانت حركة عربية محضة لا تعرف الإقليم ولا البلد ولهذا لم تعرف باسم الحركة العراقية أو السورية أو المصرية أو الحجازية، والنادي العربي الذي أسس يومئذ كان يعمل باسم الشبيبة العربية، والثورة العربية نفسها التي أشعلها المغفور له الملك حسين لم تكن ثورة حجازية بل ثورة عربية عامة للعرب كلهم وللأمة العربية جمعاء، ومن أجل هذا لقب المغفور له الملك فيصل عندما حرر جيشه دمشق بقائد الجيوش الشمالية.
ثم انتقل المحاضر بعد ذلك إلى الدول العربية القائمة اليوم شارحاً الظروف التي قامت فيها، وكيف حددت مساحاتها، وأعلنت حدودها الموجودة الآن فقال: إن هذه الدول العربية المختلفة لم تقم رعاية للأمم العربية، ولا محافظة على حقوقها، بل قامت لأسباب سياسية أو بتعبير أدق باتفاق الدول الكبرى الاستعمارية. وألمع المحاضر للاتفاق بين بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقسيم ميراث الدولة العثمانية بينها عقب الحرب العالمية الأولى بل في(912/44)
أثنائها، ثم الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا على تقسيم العراق وسوريا وكانت فلسطين يومئذ جزءاً منها يعرف باسم سوريا الجنوبية - إلى مناطق نفوذ واستعمار، وهذا الاتفاق هو الذي عرف فيما بعد باتفاق سايكس بيكو وأقر في مايو سنة 1916.
ويؤيد هذا أن مواطن الاتفاق الأربعة بين فرنسا وبريطانيا زاد منطقة خامسة هي الأردن، ولذلك لم يتجاوز الفرنسيون عند استيلائهم على سوريا خط العرض المتفق عليه بينهم وبين حليفتهم كما أدخلت بريطانيا فلسطين في وعد بلفور وأخرجت الأردن من حدود هذا الوعد الظالم.
أما حدود الدول العربية الفاصلة القائمة اليوم فقد فرضتها الدول المستعمرة أيضاً وعدلتها وفق رغباتها الاستعمارية ومن ذلك الموصل التي كانت في اتفاقية سايكس بيكو تابعة للنفوذ الفرنسي فطلبت بريطانيا من حليفتها فرنسا أن تتنازل لها عنه مقابل أن تطلق بريطانيا يدها في سوريا، فوافقت فرنسا على ذلك، وأصبح الموصل الآن جزءا من العراق وكان السبب في هذا اهتمام بريطانيا بالقطر العراقي.
فهل يعقل أن يعتبر السوري أو المصري أو العراقي حدود بلاده القائمة اليوم حدوداً للأمة العربية؟ بالطبع الجواب بالنفي، فالأمة العربية أمة واحدة لا تعترف بهذه الفواصل الجغرافية التي خلقها الاستعمار تنفيذاً لأغراضه السياسية. وقد يقول إخواننا المصريون هذا صحيح بالنسبة للدول العربية التي قسمت إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا فماذا تقول في مصر وعروبتها وحدودها؟ والجواب أن حدود مصر الشمالية تنتهي بخط بين رفح وخليج العقبة، فمن الذي قرر هذا الحد لمصر؟ ويسترسل المحاضر في هذه الناحية فيقول:
لو رجعنا إلى عصر رأس الأسرة العلوية محمد علي باشا الكبير لوجدناه قد بسط سلطانه على سوريا مدة كبيرة ولم يتركها إلا مكرهاً، ولو لم ينسحب منها لظلت مصر وسوريا دولة واحدة منذ 120 سنة إلى اليوم. فإذا تركنا عهد محمد علي وعدنا إلى الوراء في عهد المماليك وجدنا أن سوريا والحجاز كانتا تحت حكمهم بالإضافة إلى مصر. ومعنى هذا أن مصر كانت وحدة مع سوريا والحجاز في عهد المماليك، وفي عهد الأيوبيين قبلهم كانت مصر وحدة مع البلاد العربية كما كانت كذلك في عهد الفاطميين.(912/45)
ولم نجد مصر تنكمش في حدودها الحالية إلا في الآونة الأخيرة. فإذا أضفنا إلى وحدة مصر السياسية مع البلاد العربية تكلمها باللغة العربية، وتبوأها أسمى مكانة في الناحية الثقافية ظهر لنا جلياً أن مصر ليست عربية فقط، بل عريقة في العروبة. إن كل الشعوب التي تتكلم العربية هي شعوب عربية، وكل إنسان ينتمي إلى أحد هذه الشعوب عربي ينتمي إلى الشعب أو الشعوب المختلفة التي هي أجزاء من الأمة العربية الواحدة. وكانت آخر نقطة في المحاضرة الحركة القومية وعوامل تكوين الأمة فقال:
ظهر في أواسط القرن التاسع عشر نظريتان مختلفتان، نظرية ألمانية وأخرى فرنسية، تقول الأولى إن القومية كائن حي وليست مما يقرره الأشخاص، وهي قائمة على اللغة بوجه خاص، على حين تقول الثانية إن القومية مبنية على الإرادة. وعند تمحيص هاتين النظريتين نجد النظرية الأولى أقرب للصدق والواقع والمنطق، فألمانيا بنت وحدتها وتكوينها وقوميتها على وحدة اللغة ولما رأت فرنسا خطراً عليها من هذه النظرية جاءت بنظريتها. والواقع يؤيد نظرية الألمان ويهدم نظرية الفرنسيين لأن إرادة الأمة لا تأتي عفواً بل نتيجة عوامل متعددة، ولأن الإرادة ليس لها مقياس ثابت إذ يجوز أن تظهر وتختفي فلا يجوز اعتبارها أساساً للقومية. واعترافا بضعف النظرية الفرنسية وقالوا ليست كل إرادة أساساً للقومية بل الإرادة القومية الطويلة الأجل. وعلت نبرات الأستاذ إذ يقول: عندما تتكلم الأمة بلغة واحدة فإن أفرادها يتفاهمون ويتفقون ويتماسكون ويتجهون نحو الوحدة الشاملة وتشعر الأمة أنها واحدة فتريد، فالإرادة تأتي بعد تكوين الأمة لا قبلها. إن أساس تكوين الأمم يقوم على اللغة، وحياة الأمم تقوم على اللغة أيضاً، أما شعورها فيقوم على التاريخ، وإذا زال التاريخ وظلت اللغة أمكن أن تتكون الأمة ويبقى وعيها، أما إذا فقدت الأمة لغتها فقد فقدت حياتها واندمجت في الأمة التي تتكلم بلغتها. ولذلك أقرر أن كل الأمم التي تتكلم العربية أمم وشعوب عربية وعندما نستعرض قضايا التاريخ لا يبقى فينا من يقول أنا مصري أو عراقي أو فلسطيني بل عربي ولا شك أن الكل سيقول آخر الأمر العروبة فوق الجميع!
كامل السوافيري
تصويبات لغوية(912/46)
يقع في مقالات كثير من الكتاب بعض الأخطاء اللغوية التي لا يمكن السكوت عليها لوقوعها ممن لا يستساغ وقوعها منه.
فمن ذلك ما جاء في (وحي الرسالة): (. . ليحمل إلى الناس رسالة الزهور. .) وهذا خطأ. لأن (زهرة) لا تجمع على (زهور) فقد جاء في (محيط المحيط): (الزهرة والزهرة النبات ونوره الأصفر منه والجمع زهر وأزهار وأزاهير والعامة تقول زهور).
وجاء في كتاب (في منزل الوحي) للدكتور (محمد حسين هيكل) ما نصه (. . إن العمل الصالح يخلع قدسيته. .) والصواب (قداسته). (والقداسة) الطهارة كما جاء في (المنجد).
وجاء في (ما قل ودل) للأستاذ (الصاوي) لفظة (عريظة) والصواب (عريضة) فلا يوجد الفعل (عرظ) حتى يؤخذ منه (عريظة) ولكن يوجد (عرض) بمعنى أظهر وجاء في مقال بالهلال للدكتور (بنت الشاطئ). تحت عنوان (صور من حياتهن). (. . وهي تعجب للصدفة. .) والصواب (للمصادفة)، جاء في (المنجد):
(الصدفة لفظة مولدة بمعنى المصادفة والاتفاق). والمولدون - كما هو معلوم - لا يحتج بكلامهم:
وجاء في كتاب (رجعة فرعون) للدكتور (بنت الشاطئ) ما نصه (. . كامل المعدات الجنائزية. .) والصواب (الجنازية) برد المجموع إلى مفرده ثم النسب إليه.
وجاء في كتاب (ساعات بين الكتب)، للأستاذ (العقاد): (ولعلني أدري السبب. .) وكان الصواب أن يقول (ولعلي) - بلا نون وقاية -، قال ابن مالك:
وليتني فشا وليتني ندرا ... ومع لعل اعكس. . الخ
ولم تأت (لعل) في القرآن الكريم إلا بغير النون كقوله تعالى - حكاية عن فرعون - (لعلي أبلغ الأسباب).
وجاء في ص 351 (. . لكن أين هي الكتب. .). وإني أذكر أن الدكتورة الفاضلة (بنت الشاطئ) قد أخطأت مثل هذه العبارة في مقال سابق لها بالأهرام عند نقدها كتاب (ثقافة الناقد الأدبي) للدكتور (محمد النويهي) فقد خطأت قوله (ما هو حظ شبابنا) إذ رأت ألا موضع للضمير هنا، ولعل الذي دفعها إلى هذا ما توهمته - وتوهمه كثير من الناس - من ضرورة وقوع ضمير الفصل بين معرفتين وإلا كان ذكره خطأ. والصواب أنه يجوز(912/47)
وقوعه بين معرفتين أو معرفة ونكرة تشبه المعرفة في عدم قبولها أداة التعريف - كما هنا - وعلى هذا فلا خطأ في العبارتين.
وقد فشا الآن استعمال لفظ (عضوة) وهذا خطأ والصواب (عضو) - بلا تاء - للمذكر والمؤنث. لأنها اسم جنس وأسماء الأجناس لا تلحقها (التاء) إلا سماعاً، ولم يسمع.
وبعد: فهذه هنات يسيرة كان يمكن تجاوزها والسكوت عنها، لو أنها وقعت من غير المشهود لهم بالكفاءة والرسوخ في اللغة العربية.
أحمد مختار عمر(912/48)
العدد 913 - بتاريخ: 01 - 01 - 1951(/)
كيف أعلن محمد حقوق الإنسان
في شهر ديسمبر من عام 1949، وفي فوره من فورات النفاق الدولي، أعلن الساسة في (هيئة الأمم المتحدة) حقوق الإنسان؛ ثم احتفلوا واحتفل معهم الناس بالذكرى الأولى لهذا الإعلان منذ عشرين يوما، فبشروا بالنعيم المقيم والخير العميم والسلام الدائم. ومن وقبل هؤلاء الساسة (الإنسانيين) أعلن قادة الثورة الفرنسية هذه الحقوق عام 1789 وصاغوها في عشرة مادة جعلوها ديباجة لدستور سنة 1791.
ومن السهل على الذهن الاجتماعي أن يعلل صيحة الثوار الفرنسيين بحقوق الإنسان بعد أن كابدوا ما كابدوا من استعباد النبلاء واستبداد القسس، وان يفسر احتضان هيئة الأمم المتحدة لهذه الحقوق بعد أن رأت الحوت الشيوعي معترضاً في خضم الحياة وقد فغر فاه الهائل المروع ليلتقم الديمقراطية الرأسمالية وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم بالاستعمار أو بالنفوذ. ولكن من الصعب على الذهن المنطقي أن يدرك ما يريده الأوربيون والأمريكيون من لفظ (الإنسان) الذي أعلنوا له هذه الحقوق وظاهروا عليه هذا العطف. اغلب الظن أنهم يريدون بإنسان هذه الحقوق ذلك الإنسان الأبيض المترف الذي تحدر من أصلاب اللانين أو السكسون أو التوتون؛ أما الإنسان الأحمر في أمريكا فهو في رأي أبناء العم سام ضرب مهين من الخلق عليه كل واجب وليس له أي حق؛ ولكن وجوده المعدوم في بلاد الديمقراطيين الأحرار لا يزال في رأي المسلمين أغلظ كذبة في دستور الديمقراطية بواشنطون، وأكبر لعنة على تمثال الحرية بنيويورك! وأما الإنسان الأسمر والأسود في أفريقيا، أو الأخضر والأصفر في آسيا، فهو في نظر الفرنسيين والإنجليز نوع من بهيمة الأنعام، وجنس من المواد الخام، يولد ليسخر، ويروض ليستثمر، وينتج ليستهلك؛ وهو موضوع الخصومة في السلم، ومادة الغنيمة في الحرب؛ ولكن حقه المهضوم بين أمم العلم والدستور لا يزال في نظر السلمون اتهاماً لصحة الثقافة في جامعات فرنسا، وإنكار الحقيقة العدل في برلمان إنجلترا! ومن هذا التفسير المزور لمعنى الإنسان في القديم والحديث اضطرب الأساس وفسد القياس واختلف التقدير؛ فلكل جنس وزنه، ولكل لون قيمته، ولكل دين حسابه. ومدار الوزن والتقويم والحساب على قدرة الإنسان وعجزه، لا على إنسانيته وفضله. فالعلم والغنى والقوة سبيل السيادة، والجهل والفقر والضعف سبيل العبودية. والسيادة حق ليس بازائه واجب، والعبودية واجب ليس بازائه حق.(913/1)
المسلمون وحدهم هم الذين يفهمون الإنسان بمعناه الصحيح لأنهم اتباع محمد. ومحمد وحده هو الذي أعلن حقوق الإنسان بهذا المعنى لأنه رسول الله. والله وحده هو الذي الهم رسوله هذه الحقوق لأنه أرسله رحمة للعاملين كافة.
أرسله رحمة للذين استضعفوا في الأرضلقلة المال كالمساكين، أو لفقد العشير كالموالي، أو لضعف النصير كالأرقاء، أو لطبيعة الخلقة كالنساء، فكفل الرزق للفقير بالزكاة، وضمن العز للذليل بالعدل، ويسر الحرية للرقيق بالعتق، وأعطى الحق للمرأة بالمساواة.
والمستضعفين الذين رحمهم الله برسالة محمد لم يكونوا من جنس مبين ولا من وطن معين؛ إنما كانوا أمة من أشتات الخلق وأنحاء الأرض اجتمع فيها العربي والفارسي والرومي والتركي والهندي والصيني والبربري والحبشي على شرع واحد هو الإسلام، وتحت تاج واحد هو الخلافة. والإسلام الذي يقول شارعه العظيم (ولقد كرمنا بني أدم) لم يخص بالتكريم لوناً دون لون، ولا طبقة دون طبقة. إنما ربأ ببني أدم جميعاً أن يسجدوا لحجر أو شجر أو حيوان، وأن يخضعوا مكرهين لجبروت كاهن أو سلطان.
كان اليهود يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه وسائر الناس سواء والعدم! وكان الرومان يدعون انهم حكام الأرض وما سواهم خدم! وكان العرب يقولون انهم أهل البيان وماعداهم عجم! وكان الهنود يعتقدون أن الله خلق البراهمة من فمه والراجيوت من عضده والمنبوذين من رجله ولا يستوي الأمر بين راس وكتف وقدم! وكان النظام الاجتماعي كله قائمة على الامتياز بالجنس أو بالدين، وعلى السيادة بالنسب أو بالمال، حتى جاء محمد اليتيم الفقير الأمي بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله؛ فأعلن المساواة بقول الله عز اسمه: (إنما المؤمنون أخوة) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله اتقاكم) وأكدها بقوله صلوات الله عليه: (الناس سواسية كأسنان المشط) (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب).
ثم كان الرقيق والمرأة شيئين من الأشياء لا يملكان ولا يتصرفان، فضيق الإسلام حدود الرق، وجعل كفارة الذنوب على الصدقة والعتق، وسوى بين الرجال والنساء في الحق والواجب.
ثم أعلن حرية العقيدة بقول الله تعالى: (لا إكراه في الدين وقد تبين الرشد من ألغى) (ولو(913/2)
شاء ربك لا من فيالأرضكلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟) واحترام عقائد أهل الكتاب، وضمن لهم حرية العبادة وأمان العيش وعدل القضاء، وأمر الولاة أن يرعوهم ويعطفوا عليهم، وأوصى المسلمون أن يبروهم ويقسط إليهم ثم أعلن الإسلام حرية الفكر والرأي فلم يقبل إيمان المقلد ولا حكم المستبد، وأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، ووسع صدره لأهل السياسة حتى تعددت الأحزاب، ولأهل الجدل حتى كثرت الفرق، والرجال الفقه حتى تنوعت المذاهب. وسمح لأهل الذمة وأصحاب النحل أن يدعوا إلى أديانهم ويدفعوا عنها في المدارس والمجالس والبيع، ونهانا ألا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن.
ثم احترام الملكية وثبت لها الأصول، ونظم المواريث ورتب عليها التعامل. وهذه هي جماع الحقوق الطبيعية التي كفلها الإسلام للإنسان على اختلاف ألوانه وأوطانه وألسنته. أعلنها محمد بن عبد الله منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، والأمر يومئذ للجهالة، والرأي للضلالة، والحكم للطغيان، فأنقذ بها الإنسانية من إسار المادية والعصبية والأثرة، ثم أكرمها ونعمها وهداها الطريق المستقيم إلى نظام أكمل وعالم أفضل وحياة أسعد. ولكن الإنسانية وا أسفاه أضلت هذا السبيل! أضلها أولئك المنافقون الذين يعلنون لها اليوم هذه الحقوق، وهم يسرون في أنفسهم تأكيد الامتيازات وتأييد الفروق!
أحمد حسن الزيات(913/3)
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
(وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فنفرق
بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
يقاسى العالم اليوم ألواناً من الشرور والمفاسد، ويكابد أصنافا من الآلام والمتعب، تقض عليه مضاجع الأمن والاستقرار، وتزلزل كيان الطمأنينة والسعادة في الأفراد والجماعة. وما مثل الناس في هذا الزمان إلا كمثل قوم في سفينة أخذتها الأعاصير من كل جانب، واضطربت في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، يكاد اليم يبتلعها بمن فيها؛ أو كمثل قوم حوصروا بالنار ذات الوقود في بيت مغلق النوافذ وقد تقطعت بهم الأسباب، وجمدوا في أماكنهم شاخصة أبصارهم يشهدون الهام النار لمتاعهم ونفائسهم وأموالهم وأبنائهم وأنفسهم، ثم لا يستطيعون أن يحركوا ساكناً، ولا يلتمسوا طريقاً للخلاص، سوى الصياح والعويل والاستغاثة من الخطر الذي داهمهم وحل بدارهم!!
وليس لهذه النكبة فيما يرى عقلاء العالم من سر سوى انسياق الناس في حياتهم مع نظم وضعها الإنسان وأملتها عليه الشهوات والنزعات، لم تبن على مصالح البشر ولم يلاحظ فيها مقتضى الطبيعة الإنسانية التي تفترض المساواة في الحقوق والواجبات، فجاءت مختلفة باختلاف بواعثها، مضطربة باضطراب ألوانها وغاياتها، متنازعة بالعصبية لها، والتناحر عليها، كل أمة تعمل جاهدة على أن يسود نظامها، وتعلو كلمتها، ويستقر في العالم سلطانها، وتصبح ذات السيادة المطلقة، والكلمة النافذة، فمن نازية إلى فاشية إلى شيوعية إلى رأسمالية إلى ديمقراطية، إلى اشتراكية، إلى غير ذلك من ألوان ما أنزل الله بها من سلطان.
فمن الطبيعي وهذا شأنها وشأن واضعيها والمتعصبين لها ان تقضى بالعالم إلى هذا الشر المتفاقم، وأن توقد نيران الحروب في جميع أرجائه، ما بين حرب تصلى الشعوب نيرانها، وتدمر البلاد والديار أسلحتها، وحرب باردة تأتي على الهدوء والسكينة، فتزلزل الأمن(913/4)
والقرار من القلوب، وتثير الخوف والفزع في النفوس، وتهيج في المجتمع ألوان النفاق والأخلاق الفاسدة، وتحل عرى الجماعة؛ فيصبح الأخ عدوا لأخيه، والأمة شيعاً وأحزاباً يتربص كل بالآخرين دوائر السوء، ويقدر كل منهم ان خيره كله في نجاته هو، وشر الآخرين. وانه ليس عليه لوطنه، ولا لمواطنيه وبني جنسه شئ من الحقوق ينبعث بها الشعور من قلبه، ويتحقق بها معنى التعاطف والتراحم.
ولعمري أن العالم سيظل في هذه الحيرة، وهذا الاضطراب بل في هذا البحر اللجي من الشرور والمفاسد، لا يجد راحة مادية، ولا يحس راحة روحية، ولا يتنسم شيئاً من النسيم الذي يبشر بالخلاص والنجاة، سيظل كذلك ما ظل متمسكاً بأهداب هذه النظم التي أفتحرها الإنسان، واتخذها أساساً لحياته فما ذاق منها إلإ الخوف والجوع، والظلم والطغيان.
طريق الخلاص:
وقد أقلقت هذه الحالة كثيراً من مفكري الأمم في الشرق والغرب ومدعى حب السلام والأمن في العالم، ولم يبق أحد له فكر سليم وقلب رحيم إلا أشفق على الإنسانية من عواقب ما تتخبط فيه من ظلمات، وأخذوا يفكرون في طريق الخلاص فتفتقت بعض الأذهان عن وسائل زعموها طريقاً للسلم العالمي المنشود، وما هي في واقعها إلا تلبية لنزعات الطغيان الكامن في النفوس الذي يدين بالأثرة ولا يعبأ بمصالح الأمم، ولا يكترث بما يصيب الإنسانية من ويلات.
وهذا هو سلامهم لا يزال بعد اتخاذ هذه الصور يتعثر في خطواته، ويلتوي في مشيته، والشر يتكون ويقوى في خلال خطواته: تنطلق أبواق الدعاية وتعقد المؤتمرات، وتوضع المبادئ وتعقد المجالس، ثم لا تلبث الدعاية أن تخفق، والمؤتمرات أن تنفض، والمبادئ أن تتبخر، والمجالس أن تنحل، وتصبح ردهات هذه المنشآت ميداناً للارعاد، والإبراق. وتتطاير شرر الطغيان على الضعفاء. والويل كل الويل لمن لا تحميه قوة، أو يرمى بنفسه في أحضان قوى مستعبد. ولا عجب فإن الطغيان الذي تندلع به نيران الحروب الفتاكة هو الذي يتسلط على تلك الرءوس التي حاولت أن تستر طغيانها باسم التفكير في وسائل السلم العالمي؛ فهو سلم تذوق الإنسانية من مرارته مثل ما ذاقت وتذوق من مرارة الحرب، فكلاهما وليد الطغيان، وكلاهما وسيلة من وسائل التخريب والتدمير والقلق والاضطراب.(913/5)
وبحال أن تجد الإنسانية علاج هذا الطغيان فيما وضعه الإنسان أو يضعه بروح الأثرة والزهور والغرور؛ إنما العلاج الحق في الرجوع إلى ذلك العلاج الإلهي الخالد الذي يستند في صدوره وتنظيمه وإبداعه إلى العليم بخفيات النفوس، الخبير باتجاهات القلوب، وذلك هو الإسلام وحده الذي مهما تعددت مبادئه وتنوعت إرشاداته يرجع إلى كلمتين اثنتين: إيمان، وعمل صالح (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
(والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
لقد مرت على الإنسانية حقب انتابها فيها مثل ما انتابها في هذه الحقبة من شرور وآثام وطغيان، وما أنقذها من شر تلك الويلات إلا هذا العلاج الإلهي، زكاها وطهرها وعلمها الكتاب والحكمة، وحولها من مجاري الشر والشقاء إلى سبيل الخير والفلاح، والإنسانية هي الإنسانية، والويلات هي الويلات، والعلاج هو العلاج؛ فليكن علاج الآخرين هو علاج الأولين.
لهذا وبمناسبة ذكرى ميلاد مسدد هذا العلاج، محمد بن عبد الله رأيت أن أتقدم على صفحات الرسالة بموجز بين واضح عن جملة العقاقير التي تألف منها ذلك العلاج رجاء أن يتعرفه الناس ويقبلوا عليه فيكون في تناوله الشفاء والإنقاذ، والصحة والعافية. (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا).
الإسلام:
ليس الإسلام - كما يظن الذين يجهلون حقيقته - دين نسك وعبادة فقط، تقتصر مهمته على تنظيم علاقة الإنسان بربه، وإنما هو - كما ينطق كتابه - دين عملي، عام، خالد. ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بمواطنيه وبني جنسه، ويرسم للجميع طريق السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليما) (9، 10) الإسراء.(913/6)
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (24 الأنفال.
(ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (66 المائدة).
(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) (123 - 127 سورة طه.
أساس التنظيم الإسلامي للحياة
شرع الله الإسلام، وجعل منه نظاما يكفل سعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، لم يترك عنصرا من عناصر الخير والفلاح، عناصر الحياة الطيبة والسعادة الخالدة إلا أمر به ودعا أليه، وحث عليه، ولم يترك عنصرا من عناصر الشر والفساد، عناصر الحياة الذليلة والشقاء المقيم إلا نهى عنه، وحذر ونفر منه.
ذلك أن الإسلام بني تنظيمه للعالم على الواقع وهو: إن الإنسان جسم وروح، وان للجسم حظا ومتعة، وان للروح حظا ومتعة، وان للإنسان شخصية مستقلة عن بني جنسه، وشخصية يكون بها لبنة في المجتمع الوطني والإنساني، وأن له بكل من هاتين الشخصيتين حقوقا وعليه واجبات.
ولا تتحقق سعادة الإنسان إلا باستكماله حظ الجسم والروح، وتنظيم حقوقه وواجباته في نفسه وفي مجتمعه دون إفراط ولا تفريط.
وكل ما جاء به الإسلام من عقائد وعبادات وآداب وتشريعات لا يخرج عن هذه الدائرة، دائرة رعاية حظ الجسم وحظ الروح للإنسان منفردا ومجتمعا.
المبادئ العامة للإسلام
وفي ظل هذا المبدأ العام الواقعي، وفي سبيل الوصول إلى غايته السامية، وضح الإسلام المبادئ الآتية:
أولا: طلب الإيمان بمصدر الوجود والخير، والرجوع إليه في كل شئ، وإفراده بالعبادة(913/7)
والتقديس، والدعاء والاستغاثة، حتى لا يذل مخلوق لمخلوق، وحتى يشعر الإنسان بعزة نفسه، ولا يضل باتخاذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب الإيمان بيوم الحساب والجزاء، والإيمان بمعرفة طريق الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وربط به سعادتهم في الدنيا والآخرة. ذلك الطريق هو: ملائكة الله الذين يتلقون عنه الشرائع والأحكام، وأنبياؤه الذين يتلقون عن الملائكة ويبلغون الناس ما أمروا بتبليغه، والكتب السماوية التي هي رسالة الله لعباده. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين) صدر الآية (177) سورة البقرة.
ثانياً: رسم طرق العبادة وفرض منها جملة أنواع ما بين بدنية ومالية، جعلها مددا للإيمان بالخالق، وسبيلا لمراقبته، واعترافا بشكره فرض خمس صلوات في اليوم والليلة يتكرر بها وقوف الإنسان بين يدي خالقه ومولاه يناجيه، ويستشعر عظمته، ويخلص بها من سلطان الحياة المادية المظلمة.
وفرض صوم شهر في السنة - وهو شهر رمضان - شكرا على نعمة نزول القرآن، وتدريبا على خلق الصبر الذي لابد منه في احتمال الحياة.
وفرض الزكاة وهي إخراج جزء معين من ماله سبيل الله شكرا على نعمة المال وقياما بحق الجماعة.
وفرض الحج إظهار الشعار الإيمان العام وهو الالتجاء إلى الله مع جماعة المؤمنين متجردين عن المال والأهل والولد والمساكن الطيبة ابتغاء مرضاة الله وتذكر اليوم المعاد، وجمعاً لكلمة الموحدين وإحياء لذكرى المصلحين الأولين الذين اصطفاهم الله لإنقاذ عباده من هوة الظلال والمآثم.
فرض هذه العبادات وبين على لسان رسوله كيفياتها ومقاديرها وأوقاتها، ووحد بين الناس في كل ذلك حتى لا تتشعب أهواؤهم ولا تختلف أنظارهم، وحتى يكون ذلك سبيلا لجمع القلوب وائتلاف الأرواح، والشعور بوحدة الغاية والمقصد.
الثالث: حث على العلم والمعرفة، وفك عن العقل البشري أغلال التقليد والجمود، ودفع به إلى معرفة أسرار الله في خلقه: أرضه وسمائه، مائه وهوائه، وذلك ليقوى الإيمان بالله،(913/8)
وليسعد الناس باستخدام ما يدركون من أسرار هذا الكون الذي أخضعه الله للإنسان وسخره له في حياته، ومن هنا علا شأن العلماء الذين خاضوا غمار هذا الكون وانتفع الناس بما أدركوا.
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
(يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات) (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
الرابع: أمر الإسلام بتحصيل الأموال وقرر أنها قوام الناس، وعصب حياتهم، وجعل السعي في تحصيلها من الطرق المشروعة، وهي الزراعة، والصناعة، والتجارة؛ عديلا لعبادة الله (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) (10) سورة الجمعة.
(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) 15. سورة الملك.
وأمر بحفظها، ونهى عن تبذيرها واغتيالها. وجعل فيها حقا للفقير الذي لا يستطيع العمل وللمصالح العامة (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا نبذر تبذير، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) 26 - 29 سورة الإسراء.
(وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) 195 سورة البقرة.
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) 188 البقرة
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) 278 - 280 البقرة.
وبجانب هذا قرر الإسلام أن الترف منبع شر يقضي على أخضر العالم ويابسة.
(وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتهم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) 34، 35سورة سبأ(913/9)
وبذلك حارب في القائمين على أموال، والذين لهم فيها حق التصرف - مالكين أو مشرفين. حارب فيهم الترف والبذخ والتبذير فيما لا يعود بخير على الأمة، وجعل للحاكمين الحق في أن يقفوا للمسرفين المبذرين بالمرصاد حتى يحتفظوا بأموال التي استخلفهم فيها، والتي هي الحياة للفرد والجماعة، وحتى تسلم صدور المقلين من الحقد الذي تولده وتنميه مظاهر الترف والإسراف التي تحيط بهم وتقع عليها أبصارهم وهم محرمون من حاجتهم الضرورية، والمعيشة المطمئنة المريحة.
وبهذا المبدأ الذي قرره الإسلام إزاء المال تحل المشكلة المالية التي ولدها الجشع فهددت العالم في حياته وأمنه، فهو يقضي على الطغيان المالي، ويصوم المجتمع من الشيوعية الهدامة، ويحتفظ بالحقوق والجهود، ويوفر ثمرة العمل، ويفتح باب التنافس في عمارة الكون وتقديم الحياة والفضائل الإنسانية السامية.
أمر الإسلام بحفظ العرض احتفاظا بعنوان الشرف والكرامة، واقتلاعا لبذور الفوضى الجنسية التي تقضي على نظام الأسر والأنساب، وتجعل الأفراد لبنات مبعثرة لا يجمعها رباط ولا يظللها قبيل. وقرر أن الاختصاص في الحياة الجنسية كالاختصاص في الملكية الشخصية كلاهما عنصر من عناصر الحياة الآمنة الشريفة، وبفقدها أو إحداهما تنفصم العرى وتنقطع الروابط، ويصير الإنسان إلى إباحة مطلقة أو قسوة وحشية، وجدير به حين إذ أن يرحل من قصور الحضارة إلى غابات الوحوش وفلوات الذئاب.
أمر الإسلام بحفظ الصحة وحارب المرض، فأمر بالوقاية، وحذر من العدوى، وحث على التداوي، وأباح للمريض والخائف من المرض إذا توضأ - أن يتيمم - واكتفي به طهارة له. وأباح الفطر في المرض والسفر، والحيض والنفاس، والحمل والإرضاع والشيخوخة؛ كل ذلك عناية بالصحة ووقاية من المرض. والإسلام يبني أمره كما قلنا على الواقع، والواقع أنه لا علم إلا بالصحة، ولا جهاد إلا بالصحة، ولا عمل إلا بالصحة، فالصحة هي رأس مال الإنسان وأساس سعادته، وقد استقر ذلك في نفوس المسلمين حتى اشهر على ألسنتهم: إن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.
السابع: أمر بحفظ العقل الذي هو ميزان الخير والشر في هذه الحياة، فحرم كل ما يفسده أو يضعفه (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل(913/10)
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) 90 المائدة
جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام.
الثامن: أمر الإسلام حفظاً لكيان الدولة وردا لغائلة المعتدين بتحصيل القوة واتخاذ العدة التي يكافح بها الأعداء.
(واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) 60 سورة الأنفال.
وقد أرشدت الآية الكريمة إلى القوة ليست في نظر الإسلام إلا طريقا من طرق الإصلاح وسبيلا من سبل السلم بإرهاب المفسدين، ورد المغيرين، وتقوية جانب الخير بشد أزر المصلحين، وأنه لا يقرها طريقا للإذلال والتخريب، وإخراج الناس من ديارهم وسلب أموالهم والتضييق عليهم في الحياة، ولا يريدها إكراهاً للناس على اعتناق الدين (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغنى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم. 256 سورة البقرة).
(ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) 99. سورة يونس.
التاسع: قرر الإسلام المساواة بين الناس، وقضى في الحقوق والواجبات على الفوارق بين بني الإنسان، وأعلنهم في الصراحة لا تعرف الموارية أنهم جميعا من نفس واحدة، وأنهم ما جعلوا شعوباً وقبائل للتفاضل أو للتناحر والتقاتل؛ ولكن للتعارف والتعاون.
يا أيُها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) 13 الحجرات.
العاشر: وضع الإسلام الأحكام وأصول التشريعات لحياة الناس، وكان سبيله في ذلك أنه لم يترك الناس يشرعون لأنفسهم في كل شيء، ولم يقيدهم بتشريع معين في كل شيء، وإنما نص وفوض: نص على أحكام ملا تستقل العقول بإدراك الخير فيه وما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وفوض فيما وراء ذلك معرفة ما تقضي به المصلحة لأرباب النظر والاجتهاد في حدود أصوله العمة، وبذلك حفظ الإسلام للعقل الإنساني كرامته،(913/11)
وحياته في الوقت نفسه من الاضطراب للأهواء والنزعات.
الحادي عشر: مكن الإنسان من حظ الجسم وأرباح له التمتع بالطيبات، في مأكله ومشربه، في ملبسة ومسكنه بحسب وسعه وقدرته دون إسراف أو تبذير، وأرباح له التمتع بحاجة نفسه من الزوجة والمال والولد، ومكنه من متعة الروح بالعلم عن طريق التصفية والرياضة، وعن طريق الفكر والتدبر في جلال الله وجماله وما خلق الله من آيات وعجاب.
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا أن الله لا يحب المسرفين - قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق - قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) 31 - 33 سورة الأعراف.
(يا أيها الذين لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتقدون إن الله لا يحب المعتدين، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي انتم به مؤمنون. 87، 88 المائدة)
الثاني عشر: منح الإنسان باعتباره فرداً - شخصية مستقلة وجعله في الوقت نفسه - لبنة في ناء المجتمع، والاعتبار الأول اثبت له حق الملكية لما له ودمه، وحق الهيمنة على نفسه وولده، ومنحه في هذه الدائرة حق التصرف بما يكون مصلحة له وسبيلا مقوماً لحياته دون مساس بحق الغير.
وباعتبار الثاني أوجب عليه للمجتمع حقا في نفسه يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويخرج للغزو والجهاد في سبيل رد العودان، ويساهم في كل ما يستطيع في مرافق الحياة ووسائل رفاهيتها، وأوجب عليه حقا في ماله بالبذل والإنفاق في سبيل الله بما بفضل عن حاجته وحاجة من يمونهم وبلى عليهم ولاية خاصة، كما حثه على أن يعمل - لو كان قادراً - على إيجاد النسل القوى الصالح الذي يرفع بقوته وصلاحيته صرح المجتمع على كاهله.
وفي مقاله هذه الواجبات التي فرضها الإسلام على الفرد للمجتمع فكلف المجتمع الممثل في الحاكم الأمر بحفظ دمه وماله وعرضه، وشرع لحماية ذلك العقوبة من قصاص وحد وتعزيز. وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع - في الوضع الإسلامي - الحقوق والوجبات،(913/12)
وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين دون طغيان من أحدهما على الآخر؛ فلو ضمن الفرد بنفسه أو ماله، أو بلسانه أو بامتناعه عن الزواج والنسل مع قدرته - ساءت حالة الأمة وانقلبت حياتها جحيما واستوجب الفرد عذاب الله وغضبه. وكذا لو ضن المجتمع بقوته وسلطانه عن حماية الفرد وكفالته ساءت الحال وانقلبت جحيما واستوجب الحاكم وولاة الأمر الممثلين للأمة سخط الله وغضبه.
شد الإسلام أزر هذه المبادئ التي لا بد منها في أصل الحياة، وحفظها بجملة من الآداب الفردية والاجتماعية تخلع على الإنسان في شخصه ومجتمعه حلة البهاء الإنساني والجمال النفسي، وتقية شر التدهور والانحلال.
ففي أدب التواضع والمشية والنداء واشتغال الإنسان بما لا يعنيه وجريه وراء الظنون الفاسدة والخواطر السيئة يقول الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرضمرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك). سورة لقمان.
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا، ولا تمش في الأرضمرحاً إنك لن تخرق لأرضولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها) 36 - 83الإسراء.
(يا أيُها الذين لآمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) 12 الحجرات.
وفي أدب الزيارة للبيوت: (يا أيُها الذين لآمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير للكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعلمون عليم) 28 سورة النور.
وفي سد أبواب الفتنة الجنسية (قل للمؤمنين بغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلكم أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات بغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه وليضربن بخمرهن على جيوبهن) 30، 31 سورة النور.
وفي أدب المجالس (يا أيُها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله(913/13)
لكم وإذا قيل انتشروا فانتشروا،) 11سورة المجادلة.
وفيأدبتلقى الأخبار وإذاعته: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) 6سورة الحجرات.
وفي أدب اجتماعي خطير (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلزموا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الآثم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) 11 الحجرات.
وفي معاملة المسالمين المخالفين في الدين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) 8 الممتحنة.
الرابع عشر: هذه جملة المبادئ الأصلية، وقد صانتها الإسلام فوضع العدل والشورى أساسين للحكم فيها وبين مصادر التشريع التي يتجه إليها المشروع فيما يحتاجون إليه من أحكام (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)، (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم) (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ويعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تتذكرون) (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وفي بيان مصادر التشريع يقول (يا أيُها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) 58، 59 النساء.
ثم أمر الناس يتقوى الله فيها والتزم حدوده منها وحذرهم مخالفتها إلى الاعتصام بحبلها، والتضامن فيها، والتواصي بها حاكمين ومحكومين، رعاة ورعايا.
وفي ذلك يقول الله تعالى (يا أيُها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(913/14)
وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
(والعصر إن الإنسان لفي خصر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
أما بعد: فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ينظمون به حياتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد بعث بأصوله الرسل، وبينها في الكتب ثم أكملها بما يناسب رقي الإنسانية في آخر الكتب المنزلة وهو القرآن، وعلى لسان خاتم الأنبياء والمرسلين وهو محمد عليه الصلاة والسلام. أجملناه في هذه العجالة ليكونوا مناراً يسترشد به المسترشدون وليكونوا تبصرة وذكرى لأولى الألباب، وليكون حدا فاصلا بين الحقيقة التي أنزلها الله ودعا الناس إليها، وربط بها سعادتهم، وبين الانحراف الذي وقع فيه العالم، وتفكك به المسلمون.
والسلام على من اتبع الهدى.
محمود شلتوت(913/15)
ابتهال إلى الله
يا محمد
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
يا هادم ظلم الأيام ... ومذل جباه الأصنام
ومبدد أكون ركعت ... لسياط قوى ظلام
يغريه سراب للباس
فيقول أنا رب الناس
ويظل يتيه بما عزفت ... لخطاه أكف الأوهام
حتى أقبلت بإلهام
لا سيف ولا حد حسام
ولطمت علاه بما حملت ... يمناك من الألق السامي
فأندك إله الأرجاس
بشعاع من نور محمد
يا مطفئ نار عجمية ... في الموقد لاحت أبديه
عجماء لها نغم سكبت ... بيديه صلاة الوثنية
فجثا لقداستها كسرى
والناس لها ظلوا أسرى
حتى أشرقت. . فما سمعت ... إلا برياح أزليه
تحدوها شهب قدسيه
زأرت بسماء عربيه
فإن صعق لظاها واحتضرت ... أم الأرباب الهمجية
ورماد الشرك غدا عطراً
يتسابق شوقاً (لمحمد). .
يا حامل شرع للأمم ... سوىّ القيعان مع القمم
الأرض بمن فيها سلكت ... ليلا بتراشق بالظلم(913/16)
فالعدل بها عشيت سبله
والحق بها شقيت حيلة
والمجد لركاع صلبت ... كتفاء بذل في قدم
والظلم قرير بالصمم
والعهد نعوش للذمم
ونفاق الوجه كما اختلجت=حولاء بضوء منقسم
والكون يناديه خجلة
يا رب أجرنا (بمحمد).
يا راقئ دمع الباكينا ... ومشفع ذنب العاصينا
جئناك حيارى قد نفرت ... أعماق الجرح بوادينا
حدنا عن نور الإيمان
فغدونا عبر الأزمان
وطن الإسلام به فتكت ... أطماع القوم الطاغينا
قد مزقناه بأيدينا
وجبهنا الغرب مساكينا
فرقنا الأنفس، واختلفت ... حتى في الروع أمانينا
يا رب أعدنا لكيان
أبدى في ظل (محمد). .
محمود حسن إسماعيل(913/17)
دين ودولة
للأستاذ محمود تيمور بك
يخوض الناس في حديث الدين متنازعين يتساءلون: هل هو عقيدة روحانية وشريعة عمرانية معاً؟
أيضم الدين علاقة المرء بربه، وينظم كذلك علاقة الناس بعضهم ببعض فيما يضربون فيه من وسائل العيش وشون الاجتماع؟
والناس قاطبة مؤمنون بأن الدين عقيدة تسمو بالنفوس إلى الله، ولكنهم مختلفون في أنه مع ذلك قانون للمجتمع ودستور للدولة.
والهاتفون بأن الدين شريعة ودستور يلتمسون برهان ذلك فيما سن الدين من أوضاع تحكم مرافق الناس ومصالحهم جميعاً، ويرون في هذه الأوضاع قواعد جامعة صالحة لكل زمان ومكان، خليقة أن تقوم عليها سائر القوانين والأحكام.
والقائلون بقصر الدين على معاني التعبد، يريدون للناس أن يكونوا أحراراً فيما يتخذون من أنظمة للتعايش، مستهدين في ذلك حاجة العصر، وطابع الزمن؛ مسايرين موكب المجتمع البشري في تطوره الفكري.
والرأي عندي أن مثل النزاع لا يقوم فيأمةإلا إذا كانت من أمر نفسها على قلق. . . لا هي متدينة موصلة بدينها فتسكن إليه، وتهتدي في عامة شأنها به؛ ولا هي قد تخلت عن الدين جملة، فثركن إلى أن تتخذ لعلاقاتها الاجتماعية ضوابط من قانون مصنوع.
لا خلاف على أن الأمة المثالية هي التي تكون مصدر السلطات، وهي التي تحكم نفسها بقانون مستمد من خصائصها ملائم لما يشيع فيها من عادة وعرف، محقق لرغبة مجموعها فيما يعتقدون أنه خير وبر وصلاح. فإذا لم يكن قانون الأمة على هذا النحو من موافقته لنفسها، ومطابقته لمصلحتها، فهو قانون مفترى عليها، لا بقاء له فيها.
وإذن فالقانون لا منبع له إلا الأمة فيما يكون لها من مستوى فكري واقتصادي واجتماعي، وفيما يكون لها من صبغة نفسية وطابع شخصي، وفي هذا القانون الذي يحكمها تتجمع صفوة ما تتميز به من أخلاق وعادات وتقاليد، فإذا هو مرآة لها، تجلو وجهه نظرها في الحياة، ومبلغ فهمها لما هو خير وحق وعدل(913/18)
ومما لا مريه فيه أن الإيمان إذا استبطن النفوس، لم يلبث أن يوطنها على هداه، ومتى رسخ الاعتقاد انقادت العقول طوعا له. وليست مظاهر الحياة في كلأمةإلا ميزانا أمينا لما يعمر جوانبها من إيمان، ومقياساً دقيقاً لما يرسخ فيها من اعتقاد.
وما دام الدين إيماناً عميقاً وعقيدة روحانية تأخذ الناس بألوان من تقاليد وأوضاع، وما دامت هذه الأوضاع والتقاليد ذات أثر بالغ في سلوك الناس أفراداً وجماعات، فلا منجاة للقانون من التأثر بالدين، والاصطباغ بصبغته؛ فإن قانونا يتشكل بروح الآمة لا بد أن يسرى إليه ما يسري في جوانب تلك الأمة من خصائص التدين، فبقدر ما يسكن في النفوس من هذه الخصائص يظهر الأثر واضحاً في روح القانون.
فإذا نقم الناقمون من قوانيننا التي يجرى بها العمل في المجتمع الحاضر أنها تجانب تعاليم الدين بقدر يسير أو بقدر جسيم، وإذا طمح الطامحون إلى تضييق دائرة الفروق بين الدولة والدين فلينظروا بادئ بدء:
أفي هذه القوانين تمثل صحيح لحاجات البيئة التي يندرج فيها مجموع الأمة؟ وهل هي تطبيق سليم للمبادئ العامة التي يزكيها أهل الرأي، وتنزل من موافقتهم منزلة الإجماع؟
فإن استبان لهم أن القوانين منقوصة الحظ من صحة التمثيل، وسلامة التطبيق، فليعمدوا إلى تعديلها وإصلاحها بالوسائل المشروعة التي يجرى بها التعديل ولإصلاح.
وأما إن وجدوها سليمة صحيحة، من حيث مسايرتها لحاجات الأمة، وطبائع المجتمع الحاضر، فليعلموا إذن أن هذه القوانين لا تجانب تعاليم الدين بغيا وعدوانا، ولكنلأنالأمة هي التي بضعف استشعارها لهذه التعاليم، فهي تجانبها على عمد أو على غير عمد.
فليقولوا في غير مواربة إننا تحن الذين أخذنا من الدين قشوراً وظواهر، وإننا نحن الذين آمنا به رسوما وأسماء، فأما أغلب مبادئ الدين وتعاليمه الوثيقة الصلة بنواميس العيش وحقائق الاجتماع، فقد ظلت بعيدة عنا، أو خافية علينا، فلم نشعر لها في مجموعنا بذلك الأثر الذي ينفض صبغته على حياتنا العملية، ولم يكن لنا إلهام منها فيما نتخذ من دستور، وما نصطنع من قانون.
ولعل السر في ذلك أن أغلب المبادئ والتعليم التي رسمها الدين، لينتظم بها المجتمع في أسواق الحياة، يستأثر بعلمها نفر من رجال الشرع، ويتخذونها موضوع درس وتلقين في(913/19)
حلقات الدرس والتلقين، فهي محجوزة لهم، مخصوصة بهم، يتعلمونها فيما بينهم لأغراض دراسية محضة لا صلة بينها وبين دنيا الواقع ومشهود الناس. فكأن هذا الدين قسمة بين أهليه: فهو للجمهور عقيدة يتعبدون بها وحسب، وهو لبعض الناس شريعة دراسية يتلقاها تلميذ عن أستاذ في مقام التعليم.
فمن شاء أن يكون للدين سلطان على القانون، فليجعل للدين سلطاناً على الأمة في مجموعها، وليبث في نفسيتها العامة مبادئ الشريعة وتعاليمها، حتى يستشعر الناس أن هذا الدستور الديني أنظمة حيوية عملية يقوم على دعائمها صرح المجتمع، وحتى تطمئن العقول والقلوب إلى أن اصطناع هذه الأنظمة لا يصد عن مسايرة الحضارة في ركبها السيار. ويومئذ لا تكون القوانين إلاّ ظلاً لهذا الإيمان والاطمئنان على نحو طبيعي لا تكلف فيه ولا افتئات ولا استكراه.
والدولة في جوهرها يتمثل كيانها في قوانينها التي هي نابعة من عرف الأمة وروحها وخصائصها، والتي هي صورة صادقة لمبلغ ما تنطوي عليه نفسية الأمة من إيمان بالدين، وفهم لمبادئه، واستشعر لتعاليمه، ولكل أمة مقدار كبير أو صغير من ذلك الإيمان والفهم والاستشعار. وإذن لابد أن تتأثر الدولة بقدر ما تتأثر به تلك القوانين، فإنه لا دين بلا دولة، ولا دولة بلا دين.
محمود تيمور
-(913/20)
عُمَرُ وكبرياء قريش!
للأستاذ أنور المعداوي
فيلسوف من فلاسفة الحكم. . ولا نعني أنه كان من أصحاب المذاهب والنظريات، أولئك الذين يضعون للدولة نظاماً فلسفياً تعمل به، ومنهجاً مدروساً تسير عليه، وفقاً لميولهم الفكرية الخاصة في محيط السياسة والإدارة والاقتصاد.
لم يكن عمر بن الخطاب واحداً من فلاسفة الحكم بمعنى هذه الفلسفة في العصر الحديث، حين تفهم على أنها طريقة معينة لنظم الإدارة لا تصلح بغيرها الإدارة، وخطة مفصلة لإقامة نوع من الحكومة لا تنجح بغيره الحكومة، على نحو ما يفكر الفلاسفة الإداريون من أشياع الفاشية أو الشيوعية أو الاشتراكية في هذه الأيام. . لم يكن واحداً من هؤلاء بهذا المعنى المفهوم، وإنما كان واحداً من فلاسفة الحكم حين تكون الفلسفة خبرة بدخائل النفوس، ودراية بأحوال الناس، وبصراً بما تتجه إليه منهم شتى العواطف والنزعات، وعلى هذه الأسس جميعاً قامت فلسفة عمر الإدارية حين يرجى صلاح الأمور بين الحاكم والمحكوم.
هو فيلسوف بهذا المعنى الأخير إذا كانت الفلسفة فكراً صائباً يلمس مواطن الضعف في أخلاق الرعية، ونظرا ثاقباً يلمح مواضع العلل في كيان الدولة، ورأيا نافذا يقرن الصرامة بالعدل وهو يواجه المرض وملء جمعيته فنون من العلاج
ولا نريد هنا أن نعرض لمختلف الجوانب في فلسفة عمر الحكومية فهي متعددة المعالم متنوعة الأهداف، ولكن الذي نريده من هذه الكلمة هو جانب واحد يدل به المثل الفرد على غيره من الأمثل. . هذا الجانب الواحد الذي يصور لنا الطبيعة العمرية في تصريف الأمور، بما عرف عنها من عبقرية القائد وحنكة الحاكم وكياسة المدير. هناك في موافقة الحازمة من كبرياء قريش، أو من تلك الأرستقراطية القرشية التي لم يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!!
لقد كان عمر يعلم من أمر قريش ما قد يعلمه غيره من الناس. وليس في هذا العلم بطبيعة الظواهر النفسية ما يبهر أو يروع حين يقف العقل بعلمه عند هذا الحد ولا يزيد، لأنه قسط مشترك من المعرفة قد يتساوى فيه كل صاحب حظ من الألمعية أو كل صاحب قدر من(913/21)
الذكاء. . ولكن امتياز عمر في هذا المجال يتمثل في نخطي المنظور إلى ما وراء المنظور، وانتقال الوعي من رؤية العيش إلى رؤية الفكر، واحتشاد العقل لتفسير الظواهر النفسية في ضوء ما يصحبها من أعمال وما يعقبها من أحداث!
هنا يتركز امتياز عمر؛ فهو يعرف عن قريش أمورا لا تخفى على أمثاله البصراء: يعرف عنها تلك الكبرياء الموروثة عن مكانتها في الجاهلية، ويعرف عنها هذا الصلف المكتسب من سيادتها في الإسلام، ومن هاتين الزاويتين قدر كل ما يمكن أن تتسم به الأرستقراطية القرشية من أسباب الزهو ومظاهر الخيلاء. لقد كان هذا الحي من أحياء العرب هو صاحب الكلمة الأولى قبل أن يظهر في الأفق محمد. كان له المجد الذي يأتيه من عزة الدنيا وزعامة الدين: فهو القائم على مناسك الحج يستأثر بها من العرب جميعاً، ويتسلط بها من دون العرب جميعاً، على القبائل كافة، ويستمد من هذه السلطة الدينية كل منابع القوة والرفعة والتفوق على غيره من الأحياء. وهو صاحب التجارة الضخمة والمال الوفير، وما يتبعهما من سعة الشهرة ونفاذ الكلمة ودافع السيطرة والغلبة والاقتحام. كان له هذا كله قبل أن تسطع أضواء الرسالة المحمدية في سماء الجزيرة العربية، وحين سطعت هذه الأضواء كان لقريش حق آخر لا يزاحمها فيه مزاحم ولا يجادلها فيه إنسان، وهو شرف الانتساب إلى محمد الزعيم وشرف القرابة من محمد الرسول. .
وحسبها من هاتين الناحيتين أن تغلو، وأن تطمع وتسرف في الطمع، وأن تطمح وتغرق في الطموح؛ ولا عجب إن تمادت الأرستقراطية القرشية فيما ورثته من معاني الصلف ومعالم الكبرياء، ولا عجبأيضاًإن مضت في طريقها جامحة لا يكاد يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!
نعم، لم يهذب من جموحها هذا الذي قلناه. وإننا لنرمز للأرستقراطية القرشية في عهد النبي وأبي بكر بمثل واحد هو خالد بن الوليد. . لقد كان خالد مثلاً صادقاً ووجهاً سافرا لتلك الأرستقراطية المتميزة بالألوان من الغطرسة والاستعلاء، ولعل ما كان يثير من غلوائه أنه كان واحدا من قريش، يقبس من أمجادها مجده ثم يضيف إليه مجد القائد المظفر لجيوش المسلمين. وكل هذا قد دفع لبن الوليد إلى شيء من الازدراء للغير وإلى أشياء من الزهو عليه، كأن يكون هذا المزدري رجلا كعمار بن ياسر على سبيل المثال. . عمار الذي لقي(913/22)
في سبيل الدعوة من صنوف الذل وضروب الهوان ما لم يلقه إنسان، عمار الذي عاش مجاهدا ومات شهيدا وعطر صفحات التاريخ بمداد التضحية وسطور الفداء؛ عمار هذا يخاصمه خالد في حياة محمد ثم ينسى جهاده في سبيل الله وفضله في نصرة الإسلام، ولا يذكر له غير شيء واحد وهي يغلظ في القول ويشتد في الخصومة، وأن أباه (ياسر) كان عتيقا من عتقاء مخزوم، وهي حي من أحياء قريش كان من فتيانه خالد بن الوليد. . ومعنى هذا كله في منطق الأرستقراطية القرشية أن العبيد لا يحق لهم أن يرفعوا الرءوس أمام السادة!!
وينطلق عمار إلى الرسول ليحتكم إليه شاكيا ابن الوليد، ويقبل خالد في موكب من كبريائه القريشية ليوجه عمارا أمامالنبي يمثل ما واجهه به، فيصمت عمار ويطرق محمد. . وحين تنهى الأرستقراطية المتعالية من تهجمها على ابن ياسر وابن سمية، يرفع رأسه الرسول الكريم وينطق الإنسان العظيم، ينطق بعبارته الخالدة خلود الحق، الباقية بقاء العدل، الراسخة رسوخ اليقين: (من عادى عمارا فقد عادني)!. . قالها محمد ولم يزد، ولكن العبارة الموجزة كان فيها من الزجر، وكان فيها من الردع، وكان فيها من التأنيب والتثريب، وكان فيها من هذا كله ما أشعر خالدا بالخجل وما جعله يطلب الصفح من الرسول ويلتمس العفو من عمار!
ولكن هل رجع خالد عن طبعه وهل عدل عن سيرته بعد وفاة الرسول؟ إن سماحة الصديق بعد إنسانيته محمد، لم تستطع أن تخفف من حدة تلك الغلواء القرشية أو توقف من اندفاعها في طريق. . وها هو التاريخ ينقل إلينا موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة حين قتله بغير حق ليتزوج من امرأته الحسناء. وها هو ينقل إلينا مرة أخرى كيف ثار عمر من أعماقه على هذا العمل الذي لا يقره العدل ولا يرضاه الضمير، وكيف خذله أبو بكر حين طلب إليه أن يعزل ابن الوليد حتى لا يكون قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين. لقد كان أبو بكر رجلاً سمح النفس لين العريكة موطأ الأكناف يعمل بهدي محمد، وما دام محمد قد وضع خالد في رأس الجيش ثقة بقدرته واعترفا بمكانة، فلا يحق لابنأبيقحافة أن يخرج على تلك الثقة الغالية فيعزل قائداً رضى عنه الرسول. . ويسكت ابن الخطاب على مضض ويسرها في نفسه إلى حين!(913/23)
كان عمر كما قلت لك يعرف من أمر قريش ما قد يعرفه غيره من الناس، ولكنه كحاكم فيلسوف خبر طبائع النفوس، كان يدرك أن قريشاً كالطفل المدلل لا تنفع معه كلمات الزجر ولا تحول دون رغباته ألفاظ التأنيب، وإنما يصلح أمره بالحكم الحازم واللقاء الصارم، و (الدرة) التي لا تفرق حين تعلو الرءوس وبين كبير وصغير. وكان يخشى الفتنة التي يخشاها هي ما يعرفه عن قريش من حب للسيطرة ورغبة في الاعتلاء، وطموح لا يقف عند حد في سبيل فرض الكلمة على غيرها من الناس. وأي فتنة أشد خطرا وأبعد أثرا من أن نلغي الأرستقراطية القرشية شعار الدعوة ودستور الإسلام: وهما لا فضل لعربي عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم؟ إن الإسلام لم يعترف بفضل غير فضل الجهاد ولا بمنزلة غير منزلة التقوى، ولا بجاه غير جاه الدين، ولا بسلطان غير سلطان العدل والمساواة. . فإذا كانت قريش لا تريد أن تعترف إلا بعزها في الجاهلية ومكانتها في الإسلام وقرابتها من الرسول، فهذه هي الفتنة التي كان يخشاها ويقدر عواقبها في تشتيت الشمل وتفريق الكلمة وتصدع البناء. ومن هنا وقف ابن الخطاب في وجهها بكل ما أوتى من حزم الحاكم وحكمة الفيلسوف: الدرة في يمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون!!
بهذه الفلسفة الحاكمة وبعد وفاةأبيبكر، واجه عمر كبرياء السادة من قريش. . عزل خالدا من القيادة والمعركة دائرة ليضع في مكانة أبا عبيده بن الجراح، لأنه لم ينس لابن الوليد تلك الهفوة التي أقدم عليها يوما مطمئنا إلى سماحة الصديق، وحتى لا يكون كما سبق أن قلت قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين، ولعله قد أراد أن يكبح جماعة ليكون عبرة لأمثاله من الجامحين. ولم يكتف بهذا بل أخذ يراقبه ليقضى على البقية الباقية فيه من زهو الكبرياء القرشية، وليجعل منها آخر الأمر قوة منهوكة لا تكاد تؤمر حتى تطيع. ويقص علينا التاريخ أن عمر دخل المسجد ذات يوم فوقعت عيناه على خالد وقد رشق في قلنسوته عددا من السهام، مختالا كما يختال بريشة المنقوش كل طاووس من الطواويس. . وتمتد بين عمر بالدرة ليعلو بها رأس هذا الطائر المختال، وتمتد شماله لنزع السهام ملقية بها إلى خارج المسجد وأن يسمع كلمة اعتراض، ويهتف الجبار العادل في صرخة خالدة: إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولن تزهي قريش وفي ابن الخطاب عرق(913/24)
ينبض!!
ويقص علينا التاريخ مرة أخرى أن عمر كان قد حدد يوما ليقسم فيه الغنائم على المسلمين، وحين أقبل اليوم المرتقب تجمع الناس من حوله وازدحموا عليه، حتى لم يبق مكان لقدم. ونظر عمر إلى رجل يدفع الناس بمنكبيه ويشق طريقه في عنف حنى بلغ موضعه من الطليعة، وكان هذا الرجل هو سعد بنأبيوقاص، سعد الذي كان أول من رمى بسهم ي سبيل الله، والذي فداه النبي بأبويه يوم أحد، والذي رآه مقبلات ذات يم فأشار وقال لمن حوله: هذا خالي. سعد هذا رآه عمر يزاحم الناس يوم تقسيم الغنائم فلم يكن منه إلا أن علاه بالدرة وهو يصرخ في وجهه: لم تهب سلطان الله فيالأرضفأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!!
ويقص علينا التاريخ مرة ثالثة وما أكثر ما يروى لنا التاريخ من أبناء عمر، يقص علينا أن عبد الرحمن بن عوف قد أقبل يوما على الجبار العادل ومعه فتى من بنية قد لبس قميصاً من حرير، فينظر إليه عمر غاضباً ويقول له: ما هذا الذي أراه يا ابن عوف؟ لباس من حرير وابن الخطاب قائم على أمر هذه الأمة؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفل. . ويقول له عبد الرحمن وقد أذهلته المفاجأة: ألم تعلم أن رسول الله (ص) قد أذن لي في لبس الحرير؟ فيجيب عمر مصدقاً منكر لمن عداه: بلى! لحلكة شكوتها. . أما لبنيك فلا!!
وهكذا كان عمر حيال الأرستقراطية القرشية. يريد أن يسوى بين قريش وبين غيرها من العرب في كل شأن من شؤون الحياة، فلا فضل ولا تفوق ولا امتياز، ولا شيء يمكن أن يفرق بين الناس في مظهر من المظاهر ولا في قيمة من القيم ولا في حق من الحقوق. ولهذا أدار دفة الحكم كما سبق أن قلت، بما عرف عنه عبقرية القائد وحنكة الحاكم وكياسة المدير. . وبقيت حقيقة نقف من هذه المقدمات المادية موقف النتيجة النفسية، وهي أن تلك الكبرياء المقهورة في نفوس قريش قد تنفست الصعداء بعد موت عمر، فانطلقت في عهد عثمان كما تنطلق الأسود السجينة قد أفلتت من قبضة السجان. ووقعت الفتنة التي كان يخشاها الحاكم الفيلسوف، وهي أن يخلى بين قريش وبين ما تطمع فيه من سيطرة على العرب، وما تطمح إليه من تحكم في رقاب الناس؛ وقعت الفتنة التي أودت بعثمان فيما(913/25)
أودت به من استقرار الأمور في جيل من بعه أجيال. ويالها من نتيجة طبيعة تلك التي ترتيب على انقضاء عهد كان فيه ابن الخطاب كما صورتاه: الدرة في بيمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون.
يا درة عمر، إن لك مكانا في التاريخ. . ويا عدل عمر، إن لك مكانا عند الله!!
أنور المعداوي(913/26)
دين الفطرة
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
عدت إلى الشرق الإسلامي عدوى من الغرب في أمر الدين لم تكن لتنتقل إليه لو كان يدري ما الدين الذي بيده، أو كان يدري فرق ما بين الدين في الغرب وبين الإسلام
لقد حاول الغرب كثيراً يوفق بين دينه وبين العلم فلم يستطع، لا لجمود رجال الدين فيه هذه المرة، ولكن لنصوص في كتابه ناقضت ما أثبته العلم واستعصت على التأويل، كالنص على عمر للدنيا محدود لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين في حين أن العلم اليقيني يقدر عمرها بالملايين. وكان من شأن ذلك أن حمل بعض كتابه مثل أرنولد وبعض قسيسيه على أن ظنوا أن الدين قد خذله الواقع فلم يبق ما يستند إليه إلا الشعر، أي إلا ما يتمثل في ذلك الدين من معان شعرية وقيم أخلاقية لا غنى للإنسانية عنها بحال. وقرأ ذلك وشبه بعض مقلدة الغرب من المسلمين الذين يحتبطون في حبل الغرب كيفما احتطب، فظنوا أن ما ينطبق على الدين هناك ينطبق على الدين هنا من غير أن يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن الدينين هل هما مشتركان في مخالفة اليقيني من العلم حنى يشتركاأيضاًفيما يترتب على تلك المخالفة من حكم. ومن هنا نجمت هذه الناجمة التي تحاول أن تطفئ نور الله بأفواهها حين تدعو من ناحية إلى اعتبار القصص القرآن فنا يرمز إلى قيم أخلاقية من غير أن يقوم على حقيقة تاريخية، ومن ناحية أخرى إلى تأويل نصوص الدين وأحكامه وتقييدها بما لم يقيدها أو يخصصها به الله ولا رسوله ولا جماعة المسلمين من لدن أن نزل القرآن إلى هذا العصر الذي فقد الشرق فيه اتزانه، وكاد أن يبيع بأبخس الثمن إيمانه.
ومن العجيب أن الإسلام الذي يرمونه بداء غيره فينسبون إليه معادة العلم أحياناً ومنافاة العقل أحياناً ومجافاة الفطر أحياناً، هو وحده من بين الأديان السماوية الذي احتضن العلم وتحاكم إلى العقل وميز الحق بخصائصه. وما عليك إلا أن تردد النظر في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة لترى الدليل تلو الدليل على أن الإسلام هو الدين العلم والعقل والحق. وهو وحده بين الأديان السماوية الذي عرف الفطرة وسماها باسمها ووصفها بأوصافها وشهد لنفسه أنه دين الفطرة، بل أنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس. وآية ذلك قوله تعالى من سورة الروم(913/27)
(فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
وقد غفل المسلمون عن هذه الآية بأقطارها غفلة يعجب منها كل ذي لب حتى يضرب كفا بكف! فلا هم أطاعوا أولها، ولا هم استمدوا التثبيت من آخرها، ولا هم فقهوا ما بين ذلك منها ليتخذوا منه هادياً ودليلاً وحجة تقوم وتدحض كل ما افترى أو يفتري الخصوم:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله): كلمات كل منها حجة قائمة وقوة قاصمة تصدع وتدفع كل من يرمى الإسلام بما لا يليق بدين الله.
إن فكرة الفطرة وحدها لا يمكن أن تخطو ببال بشر من عند نفسه الذي نزلت فيه الآية الكريمة ولا في القرون الكثيرة بعده، لأنها لم تنشأ بعد الإسلام إلا بنشوء العلم الحديث في الغرب. ومن يدري! لعل الغرب استوحاها مما نقل إليه في القرون الوسطى من كتب الإسلام.
ونسبة الفطرة إلى الله الحق جل جلالة تشريف أي تشريف وإكبار أي إكبار للفطرة كلها ولفطرة الإنسان على الأخص عليها المقصودة هنا بالذات. وهي كفكرة الفطرة لا يمكن أن تخطو ببال بشر من عند نفسه، لا في عصر نزول الآية الكريمة ولا فيما بعدها من العصور؛ فإن الإنسانية حتى في عصر العلم الحديث هذا لم تهتد بعد إلى الفطرة عامة لها حكمها وإحكامها. فكما أن الكون قد فطره فاطره على سنن وقوانين لا تتخالف ولا تتخلف كشف عن بعضها العلم الطبيعي الحديث، كذلك الإنسان فطرة فاطر الكون على سنن وقوانين لا تتخلف ولا تتخالف لا مع نفسها ولا مع غيرها من سنن الله في الخلق. وفي نسبة فطرة الإنسان إلى فاطرها سبحانه يتمثل الفرق بين الإنسان وبين دين الغرب الذي يقول بأن الإنسان مفطور على الإثم. فالإسلام بتلك النسبة الكريمة يرفع الإنسانية وفطرتها إلى الأوج، ويفتح أمامها الباب واسعاً إلى السعادة والترقي الذاتي، في حين أن نسبة الفطرة الإنسانية وتنزل بفطرته إلى الحضيض.
ومن عجائب تلك الآية الكريمة ودلائلها الباهرة وصفها الفطرة بأخص أوصافها وهي الاطراد والثبوت وعدم التخلف: (لا تبديل لخلق الله) ووصف فطرة الإنسان خاصة بأخص خصائص فطرة الكون عامة من الاتساق والاطراد والثبوت، هو برهان أن القرآن من عند(913/28)
فاطر الفطرة سبحانه؛ فإن الإنسانية بعلومها الطبيعية الحديثة إذا كانت قد اهتدت إلى اطراد الفطرة في المادة والطاقة، فإنها لما تهتد إلى الفطرة ولا إلى اطرادها في الاجتماعيات. فهي في فلسفاتها ومذاهبها الاجتماعية في البلبلة والاضطراب الذي ترى، والذي لا ترى له مثيلا في الطبيعي من العلوم.
وقاله تعالى (لا تبديل لخلق الله) في موضعها من الآية ليس فقط وصفا للفطرة التي فطر الحق سبحانه عليها الإنسان وغير الإنسان من حيث اطراد السنن وثبوتها، ولكنهأيضاًأمر وتشريع ألا يبدل الإنسان دين الله بتشريع من عنده كما فعل المسلمون ويفعلون منذ اتصالهم بأوروبا في القرن التاسع عشر حين اتخذوا ويتخذون منها إماما، ومن قوانينها ونظمها الاجتماعية بديلا من أحكام الله. ثم هوأيضاًتوكيد، أي توكيد لما أمر الله به في صدر الآية الكريمة من إقامة الوجه للدين في تصميم وعزم، وانصراف كلي إليه، وميل عن كل ما سواه، وإلا تعرض في روحه واجتماعياته لكل ما يتعرض له ممن يخالف قوانين الفطرة وسننها في المادة وما إليها. ومن العجيب أن الإنسان مقبل كل الإقبال على الانصياع لما يعلم من قوانين الفطرة في المادة والطاقة لا يجترئ على مخالفها في معامله ولا في مصانعه، فنال بذلك ما نال من القوة المادية الهائلة التي حملته وتحمله على الغرور والاعتزاز، ثم هو منصرف انصرافاً كبيراً عن الانصياع لقوانين الفطرة في الروح والاجتماع بانصرافه عن الإسلام دين الفطرة: دين الله، واجترائه عليه بالشك ولتشكيك، والإهمال والتجريح، أو بالتأويل والتبديل، والتحريف والتعديل، كيفما شاء هواه فكان عاقبته أن صار قزمًا في الروح عملاقاً في المادة، أو قزماً الناحيتين الروحية والمادة كلتيهما وكان عاقبة المسلمين بتركهم الدين وانخداعهم عنه ما نرى من الضعف والمهانة حتى اجترأ عليهم من لم يكن يدفع عن نفسه، وكان عاقبة الغرب حين لم تجد قوته المادية قوة روحية تكبح جماحها أن تعاورته الخطوب ودمرته الحروب وفرقته المذاهب والأهواء شيعاً لا اتفاق لها ولا أمل في اتفاق.
ومن أعجب عجائب تلك الآية الكريمة وأكبرها وأبهرها وصفها الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس وهذا شيء فوق العق البشري أن يتصوره، فضلاً عن أن يسبق إليه في القديم وفي الحديث. والإنسانية إلىالآنلا تعقل إمكان تحقيقه؛ فلا فلاسفتها ولا(913/29)
مشرعوها يحدثون أنفسهم بالوصول يوما إلى نظام ينطبق على الفطرة من جميع الوجوه. والمسلمون في شغل بما ينبذ إليهم الغرب من الآراء والمذاهب، غافلين عن الكنز الذي في أيديهم والنور لذي فوق أبصارهم، وعن النعمة الكبرى التي من الله عليهم بها في الإسلام.
وليس وصف الإسلام بأنه نفس الفطرة التي فطر الله عليها الناس من باب المبالغة كما قد يظن بعض الناس، فليس في الآية الكريمة من أدوات المبالغة ولا من قرأتها شيء. بل هو وصف دقيق للدين الذي أنزله وكمله وأمر الناس بإقامة الوجه له مائلين عما سواه فهو وصف محيط شامل لتمام انطباق دين الله على الفطرة التي فطر عليها الناس حتى كأنما هو هي، لا تخالفه في شيء ولا يند عنه منها شيء وفرق بين المبالغة وبين هذا التعبير الدقيق عن تمام تطابق الإسلام والفطرة. إن المبالغة فيها دائماً تزيد عن الواقع ولو قليلا، لكن الوصف هنا طبق الواقع من غير زيادة ولا نقصان مادام الواصف هو الله الحق سبحانه الذي فطر الفطرة وأنزل الإسلام لا سعاد الناس.
ويمنع أيضاً من احتمال المبالغة في ذلك الوصف الإلهي المعجز أن مجرد القول بها يجعل الدين مقصراً تقصيرا ما عن حاجة الإنسان بفطرته، وعندئذ ينفتح باب من جواز تطلب سد تلك الحاجة في غير ما شرع الله للإنسان من دين. وهو باب إن انفتح أوشك لما يحيط به من إبهام أن يؤدي إلى التحلل حتى من أساسيات الدين وأصوله كما يحاول بعض الأفاكين أن يلقي قي روع المسلمين اليوم. لكن الله برحمته وحكمته، وهو أعلم بما خلق وأعلم بما نزل وشرع، قد سد هذا الباب من الاحتمال إلى الأبد حين وصف الإسلام لتمام التطابق بينه وبين فطرة الإنسان بأنه هو نفس الفطرة. وأرقى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان من الرقي الروحي أن يحقق لنفسه فطرتها، وأن يبلغ في الترقي أقصى ما تسمح به فطرته. وليس إلى هذا سبيل إتمام الاستمساك بين الفطرة الذي وصفه منزلة بأنه هو نفس الفطرة: الإسلام.
محمد أحمد الغمراوي(913/30)
نجوى الرسول الأعظم
للأستاذ جورج سلستي
أقبلت كالفجر وضاح الأسارير ... يفيض وجهك بالنعماء والنور!
على جبينك فجر الحق منبلج ... وفي يديك مقاليد المقادير!
فرحت، والليل الكفر معتكر ... تفرى بهديك أصداف الدياجير!
وتمطر البيد آلاء، وتمرعها ... يمنا يدوم إلى دهر الدهارير!
ما أنت بالمصطفى يا بيد مجدية ... كلا! ولا أنت يا صحراء بالبور!
أبيت إلا سمو الحق حين أبي ... سواك إلا سمو البطل والزور!
أطلعت من تاهت الدنيا بطلعته ... ونافست فيه حتى موئل الحور!
أطلعت أكرم خلق الله كلهم ... وخاتم الرسل الصيد المغاوير!
بوركت أرضاً تبث الطهر تربتها ... كالطيب بثته أفواه القوارير،
الدين ما زال يزكو في مرابعها ... والنبل ما انفك فيها جد موفور،
والفضل والحلم والأخلاق ما فتئت ... تخطى لديها بإجلال وتوقير!
قدك افتخاراً على الأكوان قاطبة ... بما حبوت الورى يا بيد نور!
فليس كالدين نور يستضاء به ... في عالم بظلام الجهل مغمور،
ينزو بنوه هوى، إلا أقلهمو، ... نزو البغايا بأكناف المواخير،
ضلوا، فما إن أرى فيهم أخا بصر ... إلا نكبت بآلاف من العور!
يا سيدي، يا رسول الله، معذرة ... إذا كبا فيك تبياني وتعبيري
ماذا أوفيك من حق وتكرمة ... وأنت تعلو مدى ظني وتقديري؟!
وأنت رب لأداء الفذ في لغة ... تشأوا اللغى حسن تنميق وتصوير
على لسانك، ما جن البيان به، ... وأقصد الشعر يرنو شبه مسحور!
آي من الله، ما ينفك معجزها ... يعيى على الدهر أعلام التحارير!
تلونها فسرت كالنور مؤتلقا ... يطوي الدنى بين مأهول ومهجور!
ولفت الناس من بدو ومن حضر ... كما تلف الثرى هوج الأعاصير
فلان من كان فظا، واستكان لها ... مستكبر، وعنا طاغوت شرير!(913/31)
وكنت عفا رقيق القلب متسماً ... بكل زاه من الأخلاق منظور
تستل بالحلم حقد الحاقدين وتحتل القلوب بلطف عنك مأثور،
الله أكبر! كم في اللين من عظة ... لعلق شر غليظ القلب مغرور
فاللين مقدرة، والحلم مأثرة، ... والعطف مكرمة تنبيك عن خير
وأنت من أنت في دنيا الخصال ألا ... بوركت من مرسل بالطهر مفطور
تنهى وتأمر بالحسنى، ورائدك الدين ... الحنيف بما ألهمت من سور!
يا ممرع البيد بالإيمان، مرحمة ... فقد تناءى الهدى من صفوة الدور
وجامع الشمل بالتقوى لقد صفرت ... منها النفوس فتاهت كاليحامير
أشكو إليك دياراً كنت مرشدها، ... ومرشدوها استكانوا اليوم للنير!
وأصبحوا تبعاً للأجنبي، فما ... زادوا وحقك إلا سوء تدبير!
وكان بالأمس حب الله يجمعهم، ... فبات يجمعهم حب الدنانير!
وذي فلسطين أولى القبلتين، لقد ... بيعت على يدهم بيع الجآذير!
والشعب - وا حربا للشعب سائمة ... تقودها في الفيافي كف مأجور
قد باع تقواه بالدنيا، وقال لها: ... سيري كما شئت عمياء الهوى سيري
يا سيدي، يا نجى الله، روعنا ... صرف الزمان بشر منه مسعور
وامتد بالعرب ليل النائبات، أما ... للفجر بعد الدياجي من تباشير؟!
وطال منا السري في مهمة درست ... فيه الصوى قاتم الأرجاء مسجور
فاشفع فإنك أدنى المرسلين إلى ... البارئ، فنسلم من ذل وتعيير
ويرجع العز معقود اللواء لنا ... وحقنا مستحير غير منزور
وأكلا عليك صلاة الله، أمتنا ... حيال ربك حتى نفخة الصور
بيروت
جورج سلستي(913/32)
الإسلام نظام عالمي
للأستاذ عباس خضر
شاع بيننا - منذ غزتنا أوربا بجيوشها وحضارتها - أن الحياة الدينية شيء آخر غير الحياة العلمية، وحرص الغزاة على أن يقروا هذا الوهم في نفوسنا، وأردنا نحن ذلك وسعينا إليه وعملنا له، عند ما رأينا الحياة الأوربية نفسها قائمة على ذلك الوضع، إذا بدا لنا أن ننهض كما نهضت أوربا، وقد قامت النهضة الأوربية بمعزل عن الحياة الدينية بعد أن اجتازت دور الصراع بينها وبين الكنيسة، ذلك الصراع الذي انتهى إلى جعل الدين في وضع صلاحي يتفق مع مبادئ المسيحية التي تنحصر في شعائر العبادة والتهذيب الروحي وتدع ما ليقصر لقيصر وما لله لله، ولم تهتم بأن نلائم بين نهضتنا الحديثة وبين شريعتنا الإسلامية، وساعد على ذلك جمود علما الإسلام ونفورهم أو توجسهم الشر من دخول الحضارة الأوربية إلى حياتنا، وكان التيار - ولا يزال - جارفا، ولم تكن مقاومته مستطاعة ولم تكن من الخير لتقدمنا، وكان الخير كله، أن نتقبله ونحيله إلى ما يوافقنا، وكان هذا يقتضي نشاطاً عقلياً متجدداً، وكان أيضاً يقتضي جواً من الحرية خالصاً من أعراض الاستعمار.
ولندع ما كان وما كان أن يكون، لنعود إلى ما جرنا إليه، وهو تقليد الأوربيين في التفرقة بين الدين والمجتمع. الحقيقة التي يعرفها كل متبصر في الإسلام أن هذا الدين نظام كامل للحياة من نواحيها المختلفة، وهو ينظر إليها على أنها (مركب) - كما يعبر الكيمائيون - فليس هناك ناحية روحية منفصلة عن سبيل التبرك به، وليس الدين رجال معنيون دون سائر المسلمين، فكل مسلم رجل دين، وقد جرى المجتمع الإسلامي - قبل تقليد الأوربيين - على تسمية الدارسين للشريعة الإسلامية بأسماء مختلفة ليس من بينها (رجال الدين) كانوا: أئمة، علماء، فقهاء، الخ وكان لفظ (الإسلام) لا (الدين) هو الذي يطلق غالباً على هذه الشريعة الكاملة التي تشمل نواحي الحياة جميعاً، كما تطلقالآنكلمة (الديمقراطية) أو (الاشتراكية) أو (الشيوعية) لتدل على مبادئها ووسائلها في تنظيم الحياة.
كنا إذن (إسلاميين) ثم تحولنا عن (إسلامية) في أكثر نظمنا السياسة والاجتماعية والاقتصادية، وأرضينا ضميرنا الديني أو خدعناه بأنه يكفي لإسلامنا أن نؤدي بعض(913/33)
الشعائر ونخضع للكثير من الأباطيل والخرافات التي تلتبس بشعائر الدين، وضربنا سوراً حول المشتغلين بالدراسات الإسلامية وعرفناهم بزي خاص وسيماء معينة وسميناهم روحانيين. ثم سمينا أنفسنا (ديمقراطيين) وأخيراً حلا لنا لفظ (الاشتراكية) فاتخذناه أو ادعيناه كما ادعينا الديمقراطية من قبل.
ولنفرض أننا الآن أردنا أن نعود إلى الإسلام بمعناه الحقيقي الكامل، مع استمرار سيرنا في ركب الحضارة العالمي، فهل يمكن ذلك؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟
اعتقد أولا أنه لا يقف في سبيل ذلك إلا فهمنا المخطئ لحقيقة الإسلام، وأول شئ أن نصلح هذا الخطأ في عقولنا، ثم نعمل بمقتضى هذا الإصلاح.
والعجيب أن كثيراً منا يدافعون عن الإسلام بما لا يجعله صالحاً لمسايرة التقدم الإنساني، فيثلبون النظم الغربية لأنها مادية وأما نحن فقد صفت قلوبنا من المادية لأننا روحانيون. .! فهل نحن كذلك، أو هل ينبغي لما أن نكون كذلك؟ لقد أشرت قيما تقدم إلى أن لإسلام ينظر إلى الحياة كوحدة كاملة، حياة تسودها الضرورات المادية ويحكمها الضمير أو الوازع الذي ينظم التكامل الاجتماعي ويربطه برباط مكين.
إن الإسلام لم يهمل الجانب العملي في الحياة، بل حث عليه ودعا إليه، قال الله تعالى: (يا أيُها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
بل أن الإسلام قدم الجانب العملي في الحياة على الجانب التعبدي، ورفع الأول على الثاني في بعض المواطن. روى أنس: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال الرسول صلوات الله عليه وسلامه: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.
وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل كثير العبادة فقال: من يقوم به؟ قالوا: أخوه. قال: أخوه أعبد منه.(913/34)
وشهد شاهد عند عمر ين الخطاب، فقال: اثنتي بمن يعرفك، فاتاه برجل، فإنني عليه خيراً، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه تارة ويرفعه أخرى؟ قال: نعم. فقال: اذهب فلست تعرفه. وقال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك.
هذا هو الإسلام في حقيقته، يحض على العمل، ويقدر القيم بالنتائج العملية، ويعرف أقدار الناس بأعمالهم وسلوكهم في المجتمع لا بمظاهر النسك والعبادة. وهو يقيس هذه الأقدار أيضاً بكفايات أصحابها وما يحسنون من أعمال. كتب أبو بكر إلى أبي عبيدة ما يلي:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بنأبيقحافة إلىأبيعبيده بن الجراح. سلام الله عليك، أما بعد فقد وليت خالاً قتال العدو في الشام، فلا تخالفه وأسمع له وأطع، فإني فقد وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه وأفضل دينا، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست ذلك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد).
وهكذا فرق أبو بكر بين الورع والتقوى وبين الكفاية الحربية، وهو في ذلك بصدر عن روح الإسلام العلمية، فهو مع إكباره لأبي عبيده وتقديره لديانته وتقواه، يسند العمل لمن يراه أهلاً له وأقدر على القيام به، وهذا يدل على أن رجال الحكومة في الإسلام لا يصطبغون بالصبغة الدينية المقدسة، فإن الإسلام يقضي بأن يتولى الأمر من يحسنه لا من هو أعلم وأتقى، ومن هنا تبطل دعوى من يصف الحكومات الإسلامية بأنها دينية لا تصلح للقيام بالأمور، لأنها تتسلح بالقداسة الدينية وتمتنع بها على النقد.
وذلك لأن الحكومة التي تسير على نهج الإسلام لا تتصف بالصفة الدينية على النحو الذي يصفونه، وإنما هي حكومة تستمد سلطتها من الأمة لا من حق إلهي، وتعمل بمرقبة من الأمة، وكلنا يعلم ما قاله عمر بن الخطاب، وهو واقف على المنبر: من رأي في اعوجاجاً فليقومه، ورد أحد المسلمين عليه بقوله، والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا.
أما التكافل الاجتماعي بين الناس فقد بلغ فيه الإسلام الغاية حتى أنه جعل الأمة الإسلامية كلها جسماً واحداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس(913/35)
من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة مستفيضة. وقد محت الرابطة الإسلامية الفوارق بين الناس، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى فلا جنسية ولا لون ولا إقليمية ولا شيء مما إلى ذلك يفرق بين الناس، وقف سلمان الفارسي يقسم الغنائم بين المسلمين في إحدى الوقائع بين المسلمين والفرس، وفي الغنائم جواهر فارس وتيجان كسرى، فنظر إليه أحد زعماء الفرس مغيظاً وقال: يا سلمان إنها أمجاد قومك تسلمها لهؤلاء العرب! فقال سلمان: لست من أبناء الفرس، وإنما أنا ابن الإسلام.
وقد كفلت المبادئ الإسلامية السعادة لجميع أفراد المجتمع، وإن كانت هذه المبادئ تحتاج في هذا العصر إلى اجتهاد وتنظيم لتوافق روح العصر وتساير الركب؛ وهي حافلة بالذخائر التي يجب أن نكد في استخراجها ونحسن تطبيقها. هذا هو الضمان الاجتماعي التي تقوم بهالآن وزارة الشؤون الاجتماعية، ليس جديداً على الإسلام، فقد كان يعمل به العصور الإسلامية المتقدمة. ومما يتصل بذلك ما حكى عن عمر أنه يشيخ كبير يسأل الناس فسأله حاله، فلما عرف ضعفه وحاجته، قال له: لقد ظلمناك، أخذنا منك الجزية في شبابك ولم ننصفك في كهولتك وأمر له بدينارين كل شهر من بيت المال.
وأحب أن أنبه إلى نقطة مهمة في هذا الموضوع، وهي أن الإسلام لا يقصد بتشريعه المسلمين وحدهم، وإنما هو يعتبر المواطنين من أهل الأديان الكتابية الأخرى كالمسلمين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم فهم أفراد من الأمة يظلمهم النظام الإسلامي كما يظل المسلمين، وهم أحرار في عباداتهم، ولكنهم يشاركون المسلمين في الحقوق والواجبات، فكل نظام إسلامي يشمل من يعايش المسلمين في بلادهم من أهل الكتاب، فهو يعتبرهم (إسلاميين) فالإسلام يجمعهم والمسلمين، وإن كان لكل عبادته، وهذه نقطة أخرى تدحض من يصف الدولة الإسلامية بأنها دينية على معنى أنها تقوم على صالح من ينتمي إلى الدين الإسلامي فقط.
الإسلام ذخيرتنا وفيه كل ما نحتاج إليه، وهو نظام عالمي يكفل للناس الحرية والإخاء والمساواة ويجب أن نحرص عليه وندعو إليه لا أن نتركه ونستجيب لدعوات النظم الأخرى.(913/36)
عباس خضر(913/37)
غزوة بدر بين القرآن والشعر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
بين القرآن
لغزوة بدر أثر كبير في حياة الدولة الإسلامية الناشئة ففيها جمع المكيون أمرهم، وحشدوا قوتهم، وأقبلوا بجموعهم، يريدون القضاء على هذه الجماعة التي عابت دينهم، وسفهت أحلامهم، ووجدوا أن الفرصة التي طالما تمنوها في هذه واتتهم بمهاجمة محمد وصحبه، فيمضي دينه معه، ويعودون إلى ما كانوا عليه من قبل، لا ينغص عليهم حياتهم دعوة إلى نبذ ما ألفوه، وطرح ما ورثوه عن آبائهم من عقائد وعادات.
ولكن الدائرة دارت عليهم، على غير ما كانوا يؤملون، وانتصر المسلمون انتصاراً مؤزراً، قتلوا فيه جمعاً من رجالات قريش، وأسروا طائفة أخرى، وعاد الرسول وصحبه فرحين بانتصارهم، مبتهجين بما أفاء الله عليهم، ورجع المكيون يحرقون الأرم على ما نزل من القرآن الكريم في هذه الغزوة المباركة سورة كاملة، هي سورة الأنفال، تنوع فيها القول بين حديث عن المؤمنين، وحديث عن المشركين، وسن أحكام جديدة يقتضيها هذا العهد الجديد من عهود الجهاد.
تحدثت السورة عن هذه الغزوة، فتغلغلت إلى أعماق نفسية المؤمنين، فحدثتنا عن كراهة بعضهم للخروج إلى القتال كراهة مليئة بالخوف والجزع، وقد دفعهم ذلك إلى جدال الرسول جدالاً عنيفاً، برغم ما يسوقه الرسول من حجج، يؤيد بها ما يريده من الخروج إلى حرب القرشيين، ويصور القرآن في صراحة جزع هؤلاء إذ يقول: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ولعل قلة المسلمين يومئذ هي التي دفعت هذا الفريق إلى الجدال، وإلى الرغبة في أن يستولوا على أموال المكيين، ويعودوا المدينة بلا قتال. وهنا يذكر القرآن أن الله لم يخرجهم من ديارهم رغبة في مغنم يحصلون عليه، ولكن يريد أن يثبت بهم دعائم هذا الدين الجديد، وينصر الحق (ويقطع دابر الكافرين).(913/38)
وتصور السورة المؤمنين، وقد وصلوا إلى ميدان المعركة، شاعرين بضعفهم، لاجئين إلى الله أن يمدهم بقوة من عنده، فيمضي الرسول مقوياً من روحهم المعنوية، ويعدهم بأن الله سيمدهم بالملائكة ينصرونهم، حتى تطمئن قلوبهم، ويملأ التفاؤل أنفسهم، وكان لذلك أثره، فثبتوا في المعركة ثابتاً أذهل أعداءهم، وملأ قلبهم بالوهن والرعب، حتى تمكن المسلمون من ضرب أعناقهم وبتر أعضائهم، (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أتى معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان).
ويرسم القتال ميدان القتال، وقد اتخذ فيه المسلمون أماكنهم بالعدوة الدنيا من وادي بدر، واتخذ الأعداء أماكنهم بالعدوة القصوى منه، وكأنما يريد القرآن ألا ينسوا هذا الموقف، وأن يذكروا ما كان يخالطهم فيه من مشاعر واحساسات، ويسجل شعور الطائفتين عندما تراءى الجمعان، فقد خيل للمسلمين أن أعداءهم قلة فأقبلوا مستميتين في القتال حتى هزموهم، وخيل للمشركين أن أصحاب محمد قلة، فخاضوا غمار المعركة مستهينين، وقد ألقى في نفس الطائفتين هذا الشعور، ليتم ما أراده الله من انتهاء المعركة بما انتهت به، انتهاء أوحى إلى نفوس المسلمين الشعور بقوتهم ما داموا ينصرون الحق، ويذودون عن الدين الصحيح، حتى لكأن الله يدافع عنهم، ويذود دونهم، (إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لا اختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، إذ يريكم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً فشلتم، ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، أنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقلكم في أعينهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور). وهو عندما يذكرهم بالله وقوته، حين يقول: (فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى) - يملأ قلوبهم ثقة بالله، واطمئناناً إلى نصره لهم، فتقوى روحهم المعنوية، ويقدمون على القتال بلا خوف ولا رهبة.
وتحدثت السورة عن المؤمنين، وأخذت تحثهم على طاعة الرسول، بعد أن تبينوا يمن رأيه، والنجاح فيما دعاهم إليه، وهنا ينفر من العصيان، مخرجا العاصين من عداد بني(913/39)
الإنسان، مذكراً إياهم بهذه النعمة الشاملة التي أسبغها عليهم، وهي نعمة أمنهم بعد الخوف، ونصرهم بعد الضعف، فجدير بهم أن استجيبوا لله وللرسول وألا يخونوهما، وألا يدعوا أموالهم وأولادهم تحول بينهم وبين هذه الطاعة، (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم،. . . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم، وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات، لعلكم تشكرون، يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم). وإذا كانت السورة قد عنيت بصفة الطاعة هنا، فحثت المؤمنين عليها، فلأن صفة الطاعة أهم صفات الجندي، وأول خلة تطلب فيه، وبدونها لا يمكن كسب معركة، ولا الانتصار في قتال، والسورة تعدهم للجندية، فلا غزو أن دعتهم إلى الاستمساك بأهم صفاتها.
كما تحدثت حديثاً طويلاً عن المشركين، وصفت فيه موقفهم من الرسول، وموقفهم من القرآن، وموقفهم من الدين الجديد وتعاليمه:
أما موقفهم من رسول الله، فقد دبروا له المكايد، يريدون أن يحبسوه، أو يقتلوه أو يخرجوه، وكان موقفهم من هذا الدين الجديد موقف السفهاء الذين يدفعهم سوء تفكيرهم إلى أن يطلبوا آية تؤذيهم. وكان موقفهم من الصلاة سخرية واستهزاء، ويصف القرآن بذلهم الأموال لهدم هذا الدين الجديد، ويسخر من ضياعها سدى، قال سبحانه. (وإذ يمكر بك الذين كفروا، ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك، ويمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين، وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم،. . . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصديه، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، إن الذين كفروا ينفقون أموالهم، ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).
والقرآن في هذه السورة بصور نفسيتهم عندما جاءوا إلى المعركة، فقد كان يملأ أفئدتهم، وكانوا يرغبون رغبة ملحة في أن يطير ذكر خروجهم في العرب، وأن يخنقوا هذا الدين الجديد، وقد أصغوا إلى ما غرهم به الشيطان وعدهم من النصر ولكنه لم يلبث أن تركهم(913/40)
وحدهم في ميدان المعركة لمصيرهم المشئوم. لقد طار غرورهم تحت شدة وطأة الضربات القوية التي كآلها المسلمون لهم، والقرآن يصور ذلك في أسلوب أخاذ، فيقول (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط، وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنيجار لكم، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وقال إني برئ منكم، إني أرى مالا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب)
ومع تهديد القران للمشركين، وتوعده لهم قائلا: (إن تستفحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودوا، نعد، ولن تغنى عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين) - يفتح أمامهم باب الأمل، ويمهد أمامهم السبيل للعودة إلى الحق وتركوا اللجاج في الطغيان، (قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) وذكرهم القرآن بآل فرعون ومصيرهم عندما (كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوى شديد العقاب)؛ وصور لهم المصير المؤلم الذي ينتظرهم، إذا هم أصروا على عنادهم، وتمادوا في كفرهم، فإن الملائكة يستقبلونهم شر استقبال، ويدفعونهم إلى عذاب أليم، (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد)؛ وكل ذلك يدفعهم إلى التفكير العميق، ويثير فيهم غريزة المحافظة على الذات كي لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وكي يعدوا منذ اليوم عدتهم للنجاة من هذا المصير.
ولما كانت معركة بدر أولى المعارك الكبرى، فقد ضمت سورتها تعاليم عليها في حروبهم المقبلة.
وأول هذه التعاليم الثبات المستميت في الجهاد، وهو يتوعد شديد الإبعاد من يفر من المعركة، لما للفرار من الأثر في تحطيم وحدة الجيش والذهاب بماله من قوة معنوية، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير)
ومن تلك التعاليم ألا يسمحوا للنزاع بأن يدب بينهم، وأن تكون الطاعة لله وللرسول(913/41)
شعارهم، (يا أيها الذين آمنوا، إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا والله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين)
ومنها أن تكون العقيدة هي التي تدفعهم إلى الجهاد، لا محبة الاعتداء، ولا الغرور والرياء، وقد سبق أن بيتنا كيف نعى على المشركين غرورهم وبطرهم. وللعقيدة أثرها في الروح المعنوية، حتى لقد جعل القرآن الرجل المؤمن ذا العقيدة يساوي عشرة من المسلمين في الميدان القتال، ثم خفف الله عنهم وجعله يضارب رجلين.
ومنها الحزم في معاملة العدو، وعدم الظهور بمظهر الضعف، لئلا يظن العدو فيهم وهنا، فهؤلاء الذين لا يحترمون عهودهم إذا عقدوا عهدا - جدير، أن يكونوا عظة لغيرهم، وأولئك الذين يضمرون الخيانة حريون بأن ينبذ إليهم عهدهم؛ ويوصي القرآن بإعداد القوة والعناية بأمرها، لما طبعت عليه النفوس البشرية من خوف القوة والجدير منها، فقال: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرون من دونهم، لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)
وتحدثت السورة كذلك عن تقسيم الغنائم ومعاملة الأسرى، وختمت بالثناء على هؤلاء الذين جاهدوا في تلك الغزوة، وأبلوا فيها أحسن البلاء من المهاجرين والأنصار، ووعدهم بأكرم الوعود، قال سبحانه: (والذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا، أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم)
أرأيت كيف تنوعت أغراض السورة، بين وصف لنفسه الفريقين المتقاتلين، وعمل على تقوية الروح المعنوية في نفوس المؤمنين، وتحطيم هذه القوة عند المشركين، وكيف يقف الدين الجديد إزراء هؤلاء المشركين موقف الحزم المشوب بالرحمة وفتح باب الأمل، وكيف كانت الغزاة سببا في سن تعاليم جديدة توطد للدين الناشئ أقدامه، وتهدم ما بناه المشركون من أوهام وخرافات المهاجرين والأنصار، ويؤلف بين قلوبهم
أحمد أحمد بدوي(913/42)
من شئون المساكين وتخطيط البلدان
في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
لما انعقدت بالقاهرة أخيراً الدراسات الاجتماعية للدول العربية ناقشت المساكن وتخطيط القرى في الريف، وفي رأينا أنه كان يجمل بالمؤتمرين - وهم مندوبو دول عربية إسلامية - يلتفتوا إلى آراء النظم الإسلامية في هذا الشأن، ولكنهم لم يفعلوا، والظن أنهم في غمرة التقدير المسرف لنظم الغرب وأفكاره وتشريعاته شغلوا عن الإفادة من النظر في تضاعيف التاريخ الإسلامي ما يحوى من ثروات اجتماعية فكرية وتشريعية، وهي ثروات يمكن الانتفاع منها في الطلب للمشكلة والملاءمة عند الاقتضاء بين بعضها وبين الزمن. وربما كان من دواعي هذا الإغفال أن الإسلامية لم يستخرج بع الكثير من غرائب نصوصها، ولم تدرس بعد على نحو علمي عميق يجلوها نصوصاً وروحاً ومعقولاً.
وفي موضوع المساكن، تسبق النظم الإسلامية إلى مبدأ بالغ لأهمية هو إلزام الدولة بتدبير مساكن للفقراء، ذلك أن الشريعة تقتضي أغنياء كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، وأن يجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم. والقيام بالفقراء لا يكون بتدبير القوت وكسوة الشتاء والصيف فحسب، ولكنأيضاًبتجهيز مساكن لهم يصفها ابن حزم بأنها (تكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة)
وتوفير المساكن أمر عمرانيتستهدفه النظم الإسلامية، فليس لمالك دار أن يهدمها إذا كان في ذلك - كما يعبر المفتون - (ضرر لأهل السكة بخراب المحلة)
والمسلمون في سياستهم المسكنية يعنون بقوانين الصحة الوقائية، فهم مثلا لا يغفلون عن وجوب نقاء ماء الشرب، ويعرفون للماء خطرة في توفير النظافة، ولذلك فهم حين تواتيهم الفرصة بفضل الظروف الطبيعية يزيدون البيوت كبيرها وصغيرها بالمياه النقية. يتحدث المرحوم الأستاذ أمير على عن مياه الشرب في دمشق أيام فيقول: (ومع أن نهر (بردي) كان يجهز المدينة ولا شك بالمياه الكافية إلا أن الأمويين أبدوا مهارة منقطعة النظير في تجهيز حتى أحقر دور المدينة بأحواض خاصة تنبثق منها المياه الصافية، كما حفروا سبعة جداول رئيسية تنساب في أنحاء المدينة، وعلاوة على المجاري العديدة الأخرى التي كانت(913/43)
تربط كل منزل بالمجرى الرئيسي.) ولقد زار ناصر خسروا المسجد الأقصى فرأى هناك (ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها هذه الأحواض ليخرج منها الماء وبصب ي الصهاريج قنوات بينها غير ملوث أو عفن)
ويبدو أن العناية بالمرافق العامة كانت مبذولة في مختلف البلاد الإسلامية صغيرها وكبيرها، فمن وصف ناصر خسروا لمسجد (ميافارقين) في فارس أن (لميضأته أربعين مرحاضا تمر أمامنا قناتان كبيرتان: الأولى ظاهرة ليستعمل ماؤها، والثانية نحن الأرض لحمل الثقل والصرف) ومن صفة لمسجد (آمد) (أن به ميضأة عظيمة جميلة الصنع بحيث لا يوجد أحسن منها) وكذلك من وصفة لسوق طرابلس الشام أن فيها مشرعة ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير، ويأخذ منه الناس حاجتهم) ويذكر ابن دقماق عن وزير لآل طولون أنه (عمل المجاري في سنة 304 أو 303 هـ. وكشفت حفريات الفسطاط عن كثرة المعدات الصحية وانتشارها فيها؛ يقول صاحبا هذه الحفريات المرحوم علي بك بهجت والمسيو ألبير جبرييل في هذا الشأن: (يستدل من كثرة المعدات الصحية وانتشارها على زيادة العناية بأمور الصحة العمومية لأنا لم نر داراً خلت من وجود مجارير للمراجعة حيض متسلطة على بيارة تنصرف إليها مياه الدار) وقد وصف هذان الأثريان تفضلاً نظم بناء المراحيض والمجاري بالفسطاط ونظم توزيع الماء في هذا البلد، سواء بالآبار أو بالقنوات والأنابيب أو بالفساقي وأحواض غسل الأيدي فنستدل من هذا الوصف على تقدم في الهندسة الصحية. ونقل المؤلفان عن مخطوطات في الحسبة بمكتبة الجامعة الفرنسية ببيروت نصا مؤداه أنه لا يجوز لأحد إخراج كل ما فيه أذية وأضرار على السالكين في الشوارع كمجاري الأوساخ الخارجة من الدار في زمن الصيف إلى وسط الطريق، كما نقلاأيضاًنصا يفيد أن على من ينقلون السماد إلى ظاهر البلدان أن يحفروا له حفائر، فإذا نقل إليها يطم عليه حتى تنقطع رائحته، فلا يتأذى منه أحد، ويمنعون من نقل ذلك إلى الماء وطرحه فيه أو ما حوله.
ومن القواعد الشرعية الإسلامية أنه كان لدار مسيل قذر في الطريق العام، وكان مضرا بالعامة، أو حتى الطريق الخاص وكان ضرره ولو كان قديماً ولا يعتبر قدمه.
وهكذا تتظاهر أدلة التاريخ الآثار والشريعة في الشهادة بأن النظم الإسلامية أولت الصحة(913/44)
الوقائية عناية تامة.
وتلتفت النظم الإسلامية إلى الأماكن الموصوفة في مصطلح وزارة الصحةالآنبأنها (مقلقة للراحة أو ضارة بالصحة) وتتصرف تلقاءها على نحو يشبهه ما تجري عليه اللوائح المتعارفة حالياً فلا يجوز مثلاً إقامة مخبز أو مطحن أو مدق في (الحيطان) التي كانت وقتئذ بمثابة مرافق صحية. ويمنع نصب المنوال لاستخراج الحرير من دود القز إذا تضرر الجيران بالدخان ورائحة الديدان. بل أن حق الجيران منع يتخذ داره حماماً إذا تأذوا من دخانه. ويمنع دقائق الذهب من دقة بعد العشاء إلى طلوع الفجر إذا تضرر الجيران من ذلك. ليس لأحد أن ينشئ بستاناً في أرض يتعدى ضررها إلى جدار الجيران، وكذا يمنع من يجعل دكانه طاحونة أو معصرة أو حماماً أو إسطبلا، وليس لأحد أن يقيم تنوراً في وسط تجار الأقمشة إذا كان يضرهم دخانه.
وقد كان المسلمون أول الأمر يكرهون المغالاة في البيان والإسراف فيه، ولكنهم بعد سايروا مقتضيات الزمن. كتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن مروان وأصحابه بالبصرة لنا بنوا باللبن: فقد كنت أكره لكم ذلك، فإذا ما فعلتم فعرضوا الحيطان وارفعوا السمك وقاربوا بين الخشب).
والاجتماع الإسلامي يعرف راشداً ما تحب مراعاته في أوضاع البلدان. فقول لبن خلدون: (ومما يراعي في ذلك للحماية على الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض، فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من تجاوزها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محاولة. . والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب) ويمضي لبن خلدون فيتحدث عن المرافق العامة التي يستلزمها نفع البلد ودفع الشقة عن أهله، فيشير إلى أهمية قرب الماء وطيب المرعى للساعة.
وعناية النظم الإسلامية باتساع الطرق عناية بالغة. بذكر الماوردي - وهو بسبيل تعداد مواضع ولاية القاضي - أن منها (النظر في مصارع عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية) ويذكر أن للقاضي أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم لأنها من حقوق الله تعالى التي يستوي وغير المستعدي،(913/45)
فكان تفرد الولاية بها أخص)
وآية نضج ذوقي وتقدم حضاري أن من أوقاف المسلمين ما كان على تعدل الطرق، (ويأخذهم بهدم ما بنوة ولو كان المبنى مسجداً، لأن مرافق الطرق للسلوك لا للأبنية)
والفقه يحرص حرصاً المثالية على حق الجمهور في الانتفاع بالطرق العامة، فليس لأهل سكة أن يسدوا رأسها، ولا أن يبيعوها ولو كانوا أصحابها وأنفقوا عليها، ولا أن يقتسموها فيما بينهم، ذلك أن الطريق الأعظم - كما يقول أبو حنيفة - (إذا كثر فيه الناس كان لهم أن يدخلوا هذه السكة حتى يخف الزحام) وإخراج مصاطب الدكاكين إلى الجمهور عدوان على المارة يجب على المحتسب وإزالة والمنع من فعله. ولا يجوز لأحد أن بيني ظله تضر الطريق، (ومن خاصة من المسلمين قبل البناء فله أن يمنعه، وبعد البناء له أن يهدمه.
وتمضي الحسبة الإسلامية في النهوض بما تنهض بهالآنمصلحة التنظيم والمجالس البلدية، فالميازيب الظاهرة من الحيطان في زمن الشتاء يأمر المحتسب أصحابها (أن يجعلوا عوضها مسيلاً محفوراً في الحائط مكلساً يجري فيه ماء السطح؛ وكل من كان في داره مخرج للرسخ إلى الطريق فإنه يكلف سدة)
وعلى المحتسب أن يأمر الأسواق بكنسها وتنظيفها من الأوساخ والطين والمجتمع وغير ذلك مما يضر بالناس.
ومن قول الرسول: إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وهو - صلوات الله عليه - يقرر أن من قضى حاجته تحت شجرة مثمرة أو على طريق للسير أو على حافة النهر فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. والمسلمون بعده يتناهون عن توسيع الطرقات، فالسمر قندي مثلا يقول: (ولا ينبغي للعاقل أن يتمخط أو يبزق في ممر الناس كيلا يصيب أقدامهم).
لذلك، كانت نظافة الطرقات لافتة، وقد رأى ناصر خسروا شوارع طرابلس الشام وأسواقها من الجمال والنظافة بحيث ظن أن كل سوق قصر مزين. وفي صيدا رأى سوقا جميلة نظيفة ظن أنها زينب لمقدم السلطان أو بمناسبة بشرى سعيدة، ثم ما لبث أن عرف أنها عادة المدينة دائماً.
ومن اللفتات الفقهية الكبيرة الدلالة أن شغل البائع للطريق الضيق على نحو يتضرر منه(913/46)
الماس يوجب عدم الشراء منه (لأن القعود على الطريق بغير عذر مكروه. ولهذا لو عثر به إنسان وهلك كان ضامنا، فالشراء منه يكون حملاً له على المعصية وإعانة له على ذلك).
والمرور في الطريق له قواعده، فيستحب للراجل مشيه في جانب الطريق، وللركب في وسطه إذا كان في مصر، وإن كان في الفضاء فوسط الطريق للراجل وحافتاه للراكب. ويستحب للمتنقل أن يوسع للحافي عن سهل الطريق. وقد أشار لبن بطوطة إلى أن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليها المترجلون ويمر الركبان بين ذلك.
وترى الشريعة الإسلامية أن المنافع العامة كالقناطر والطرق النافذة والشوارع العامة التي ليست بملك لعين لا يجوز لأحد أن يختص بها ولا أن يمنع غيره الانتفاع بها بل تبقى لمنفعة عامة.
ولا شك أن الشريعة تستهدف من هذا أن يكون نفع الشطوط ومتعتها مشاعاً بين الأهلين غنيهم وفقيرهم. وقد ذكر ابن إياس في أخبار ستة 866هـ أن الشيخ جلال الدين الأسيوطي أفتى بأنه لا يجوز البناء على ساحل الروضة بناء على ذلك الإجماع، وأن ما ذكر من جواز ذلك في مذهب الشافعي باطل وليس له صحة في كتب الشافعية قاطبة.
والبيوت لا تترك الحرية المطلقة لأصحابها في تعليقات على حساب مصلحة الجيران. قيل: يا رسول الله، ما حق الجار على الجار؟ قال: - وعدا أموراً -. . وأن لا تطيل بناءك عليه إلا بطيبة من نفسه.
ولا يفوت النظم الإسلامية أن تهتم بمطارح الحصائد أو ما نسميه الأجران، فهي تقر حاجة القرية إليها وتعدها (بمنزلة الطريق والنهر، ولذلك لا تعتبر مواتا، بل تعتبر للعامر لأنها من مرافقه).
بقى أن نسأل استيفاء للبحث: كيف كانت حال المساكن وتخطيط البلدان في حواضر أوربا بل في ريعها؟ سندع العلامة
هنا نقص(913/47)
عهود الظلام
للأستاذ إبراهيم الوائلي
من قصور رحيبة الأفياء ... وليال مجنونة حمراء
فتنة الحالمين والنماء ... نهزة العابثين في الظلماء
من كؤوس تعج بالصهباء ... وثغور تموغت بالدماء
من ثياب ترف بالأشذاء ... تتحدى النجوم بالأضواء
من صدور محمومة الأهواء ... ونحور تموج باللألاء
ونهود عربيدة خرساء ... تتنزى على رؤى الخيلاء
كان هزء الطبيعة الحمقاء
بالجماهير من بنى الإنسان
من بقايا هياكل كل جوفاء ... نحتت من حجارة صماء
في حياة مجنونة رعناء ... تحسب المجد في فتون المرائي
في وسام مذهب ورداء ... وضروب النعوت والأسماء
من صروح منيعة شماء ... ساخرات بالبؤس والبؤساء
من نفوس حقيرة سوداء ... ورؤوس مريضة بلهاء
خلقها سياسة الدخلاء ... من هباء وذاك شر بلاء
لم يعد في الحياة أي رجاء
لشعوب تعيش كالديدان
من بروج تشاد فوق الجماجم ... حافلات بكل غض وباسم
غرف كالخيال في رأس حالم ... وأفانين من حصيد المغانم
هي في موكب الحسان الكرائم ... وهج الشمس ذوبته النسائم
تتحلى به (العذارى) النواعم ... في نحور رقيقة ومعاصم
وأكف ندية ومباسم ... كزهور ترف بين الكمائم
تحسب الطهر من بقايا المآثم ... وتخال النهى خرافات واهم
عصفت بالضعاف شتى المظالم(913/48)
كالأعاصير في بقايا دخان
من قوانين شرعت ومحاكم ... وحدود تنوعت وعواصم
وزعامات مستبد وآثم ... سابح في قرارة الشر هائم
فإذا الحق أن تداس المحارم ... بين مستضعف على الذل جاثم
ومقيم على استلاب الغنائم ... من عراة على الرمال سوائم
أثقلتهم حياتهم بالمغارم ... بالتي لا يردها سخط ناقم
من شيوخ تدثروا بالعمائم ... لم يهيموا بغير حل الطلاسم
كان أفق الحياة أسود قائم
في شعوب تنوء بالحرمان
من وحوش مجنونة الخطوات ... تتشهى حتى بقايا الرفات
لم تدع في الخرائب الموحشات ... غير أشباح أعظم نخرات
من جياع على الصخور حفاة ... كقبور تعج بالأموات
فإذا بالجنان كالفوات ... وإذا بالحياة مثل الممات
من جناة مدمرين غزاة ... وطغاة مخربين قساة
سلطتم سياسية الفلتات ... في عهود الظلام والكبوات
قد ركسنا فكان عهد سبات ... وأفقنا فكان عهد هوان
من ضلالات أحمق مأفون ... مستهين بكل شرع ودين
وضراعات أبله مسكين ... يتخطى السنين بعد السنين
وهو في صمته الطويل المهين ... من سياط تنث فوق المتون
وسجون تقام حول سجون ... ليس فيها سوى الظلام الحزين
وانطلاقات زفرة وأنين ... يتلاقى بها دخان الجفون
من قوى ببطشه مفتون ... وأسير مكبل موهون
جن ظلم الحياة شر جنون ... بالألى يركعون للأوثان
من أراجيف عالم محموم ... يتغنى بنافثات الجحيم
حامل في يد قوى التحطيم ... وبكف مخدرات السموم(913/49)
بين وغد مزيف موهوم ... وغد غامض الخطا مزعوم
من مدل بطيشه المذموم ... تزدهيه مواكب التفخيم
فهو في نشوة الأثيم ... يحسب الشمس من صغار النجوم
من شقي معذب محروم ... مستغيث بصمته المكلوم
مزق العدل كل عات غشوم ... فتلاشى كضحكة النشوان
أيها الركب طال عهد الحداء ... والسرى والطريق والظلمات
أنت تطوى مجاهل الصحراء ... بين عصف الرياح والأنواء
أترى تستريح بعد عناء ... ونضال مكلل بالدماء
فلقد طال منك في البيداء ... تعب لم يزدك غير بلاء
أيها الركب رب ليل شقاء ... يتواري بلحمة من ضياء
فترقب لعل في الأجواء ... قبسا يستجيب للحيران
إبراهيم الوائلي
القاهرة(913/50)
صلواتي
للأستاذ كامل محمود حبيب
من أعماق قلبي أناديك يا ربي!
فهل يستطيع صوتي الضعيف أن يبلغ موطئ عرشك؟ إنني أخشى أن يتلاشى صوتي في ظلمات ذنوبي فلا تنفتح له أبواب رحمتك.
ولكن عظمة أسمك الكريم تزلزل قوتي وتعصف بجلدي فأخر ساجداً وقد أخذتني وغمرني الخشوع واغرورقت عيناي بالدموع في توسل علىأستطيعبضمفي أن ألج بابك. باب الرحمة والغفران.
فلا تغلق من دوني باب رحمتك وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
إن حبي لك، يا إلهي - يتغلغل، أبداً، في أغوار روحي فتصفو من كدر.
وإن روحي تصفو أبداً لأنني لا أتعبد إلا لك أنت وحدك، يا إلهي وحين تصفو روحي تسمو فوق هذا العالم الأرضي.
فأرى من خلال حبي عظمتك الخالدة نوراً يسطع فيضئ العالم كله.
وأتنشقها أنفاساً ندية عطرة تنتشي لها خواطري وأسمها لحناً موسيقياً سماوياً يتطرب له فؤادي وأحسها حياة طاهرة نقية تتدفق في دمي وأشعر بها تضمني إليها في رفق فأخر ساجداً في خشوع وقد اغرورقت عيناي بالدموع في توسل وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
يا إلهي لا تدع شواغل الحياة الأرضية تجذبني إليها بأمراس غلاظ، فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً.
واصرفني عن الأمل الخلاب الزائل الذي لا يجذب إلا النفوس المتداعية ليسمها بميسم التراب. . . اصرفني عنه إلى الفكر السامية التي تخلق الخلود.
ولا تدع نفسي تدنسها الخواطر الوضعية أو تلطخها الأكاذيب التافهة.
ولا تدع قلبي يخطفه ألق الرذيلة أو يشغله بريق المتعة ولا تدع روحي تسيطر عليها شيطانية المارة فتنزعها من صفاء السماء.
فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً لأنني أخشى أن يتلاشى صوتي الضعيف في ظلمات(913/51)
ذنوبي فلا تنفتح له أبوب رحمتك حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي
أنا - يا سيدي - لا أخشى البطشة الكبرى لأنني أطمع في رحمتك العظمى.
ولا أخاف الثورة العاتية لأنني أرنو إلى بسمتك الرقيقة ولا أتهيب العاصفة الهوجاء لأنني أهفو إلى صفائك الرقراق ولا أفرق من كسف الظلام لأنني أنظر في شغف إلى فلق الإصباح.
فأنت علمتني أن القوى لا يعبأ بالضعيف، وأن العظيم لا يتحدى الضئيل.
وأنت علمتني أنني شعاع من فيض نورك الذي يغمر العالم وأنني نغمة من اللحن الساحر الذي ينبعث - دائماً - من بابك الخالد.
وأنت لم تعلمني الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينبث في الروح الخوف ويقيد بالاستسلام بل علمتني الدين الذي يبذر في القلب الجرأة ويغرس في النفس العظمة وينفث في الروح الشجاعة ويدفع الهمة إلى القمة فدعني أحس من عطفك في أوتار قلبي حين أجلس إليك في خلوة.
فأنا أخشى ألا يبلغ صوتي الضعيف موطئ عرشك حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
أزح عني خبث الطمع الذي يستلب الإنسان من الإنسانية ونقني من شوائب الأماني الزائفة التي تطفئ من النفس الأنوار الروحانية.
وادفع عني الكبرياء التي تسم الروح بالغرور ونجني من الخديعة التي تنحط بالرجل عن معاني الرجولة واجعلني - في أخلاقي - طفلا لم تدنسه الحياة فالطفل لا يعرف المعاني الشيطانية في العداوة والبغضاء والغيظ، ولا يعرف الأحقاد التي تحيل الحياة الناعمة إلى جحيم يتلظى اجعلني - في أخلاق - طفلا لم تدنسه الحياة ثم لا تثقلني بأعباء الرجل الذي يتمرغ دائماً في الثرى الأرضي.
فأنا أطمع أن أكون إلى جانبك أبداً ليرقي إليك صوتي الضعيف حين أناديك من أعماق قلبي يا ربي!
لقد قضيت عمراً طويلاً على نفسي، وأخلو إلى عبادي وأسكن إلى تسابيحي وانطوت سنوات وصوت السماء يناديني: يا عبد؛ إن الألوهية لا تعيش بين الجدران، فانطلق في فجاج الأرض لترى العظمة وتلمس القوة وتسمع الألحان العذبة. . ولتجد الحقيقة.(913/52)
ولكن ذنوبي كانت قد طمت على روحي فلم أعد أسمع الحق فلما صفت روحي من الخبث وتطهرت نفسي من الرجس، طرت من خلوتي لأراك - يا إلهي - وألمسك وأسمعك
حينذاك، عرفت أنني ضيعت عمري في شيء لا غناء فيه، فاغفر لي - يا إلهي - جهلي وغفلتي.
آه، يا قلبي، إن إيمان الراهب هو إيمان شيطاني أبله فدعني يا إلهي أكفر عن رهبانيتي الحمقاء بالكد والجهاد في لظى الحر وزمهرير البدر، لأكون إلى جانبك أبداً فيرقي إليك صوتي الضعيف حين أناديك من أعماق قلبي: يا ربي!
امنحني - يا إلهي - القوة لأحمل آلاءك العظام وامنحني الهدوء الذي يسع حماقة أهلي وجهل أخي وامنحني العقل الذي يغفر زلات أقاربي وبغضي عن أخطاء رفاقي.
وامنحني القدرة على أن أقيل عثرات جارى
وامنحني العزة التي تترفع عن تفاهات الحياة
وامنحني الكبرياء التي تسمو النزوات الطائشة
وامنحني الخضوع الذي لا أتعبد به إلا لك أنت وحدك فأعيش فوق الناس جميعاً، ثم امنحني العطف الذي يتدفق من لدنك ليمس أوتار قلبي في رقة وأنا أناديك من أعماق قلبي: يا ربي
كلما ذكرتك يا إلهي - أحسست بالراحة والهدوء والسعادة فعلمني كيف أناديك نداء رقيقاً تنفتح له أبواب رحمتك وعلمني كيف أنطلق في هدوء إلى محرابك أتنظر فيض نورك وألهمني النشيد الإلهي العذب لأوقعه على أوتار قلبي في خشوع فيملأ حياتي بالسعادة ويفعم روحي بالطمأنينة.
ثم احبني بالقيثارة السماوية لأعزف عليها النشيد الإلهي العذب كما ذكرتك عسى أن نغماتي موطئ عرشك كلما ناديتك من أعماق قلبي: يا ربي!
وإذا شئت - يا إلهي - أن تقطف هذه الزهرة الغضة النضيرة - حياتي - لتطهرها من الدنس الأرضي وتضمها إلى أزاهير جنتك الوارفة، فلا تقطفها حين تعصف بها لإواء الحياة وشدة الأسى وغلظة اليأس؛ ولكن أقطفها وهي غضه تمرح بين ندى الصباح وبسمات الفجر، وقد هزها الطرب وأفعمها النشاط وتأريج منها العطر وتألق فيها النور،(913/53)
لتعيش في جنتك فتية زاهية تقوى على أن تناديك من أعماق قلبها: يا ربي!
كامل محمود حبيب(913/54)
الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام
للأستاذ قدري حافظ طوقان
الغزالي حجة الإسلام وزين الدين ومن أكبر أعلام الفكر الذين يعتز بهم الإسلام ويفخر. ظهر في القرن الخامس للهجرة في عصر سادت فيه آراء الشك والاختلافات وعمت أوساطه الفوضى في المعتقدات والمذاهب. وكان لهذا أثر على حياة الغزالي كما كان لنشأته الصوفية والروحية أثر كبير عليها. فنزع إلى الانتصار للدين وسلك في ذلك مسلكاً جديداً لم يسلكه أحد من قبله، حتى قال (رينان): (إن الغزالي هو الوحيد بين الفلاسفة المسلمين الذي انتهج لنفسه طريقاً خاصاً في التفكير. . .).
واجه الغزالي في أول حياته مذاهب مختلفة من كلام وباطنية وفلسفة وتصوف وساورته نزعات التشكيك والتحليل المنطقي، واحتار في أمره ولم يدر أيها يتبع. وقد لجأ إلى دراسة هذه المذاهب واختبار حسناتها وسيئاتها رائدة في ذلك الوصول إلى الحقيقة التي تروي النفس وتنير العقل، فخاض بحار التفكير وتوغل في كل مظلمة واقتحم كل مشكلة وورطة، وتفحص الفرق والعقائد ليميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع. درس الفلسفة ليقف على كنهها، ودرس علم الكلام ليطلع على غايات المتكلمين ومحاولاتهم، ودرس الصوفية ليعثر على سرها. وكان في دراساته واسع الصدر سما بتفكيره وحلق، وقد أدرك أنه لا يمكن للمحقق أو الباحث عن الحقيقة المتعطش لها أن يستوعب سلبها بغير الجمع بين سائر مظاهرها مما يقال للشيء أو عليه.
إن هذه الطريق الذي سار عليه الغزالي يدلل على قوة شخصيته وعلى إيمانه بنفسه وثقته بمواهبه ومزاياه مما ساعده في الانتصار على خصومه وعلى الفلسفة.
والغزالي يمتاز على غيره من علماء الكلام في كونه قرب الدين من العقل الاعتيادي وكشف دقائقه أمام أذهان العامة، في حين أن الكثيرين من الفقهاء، ورجال الدين في عصره والعصور التي سبقته ساروا في تفكيرهم على أساس من الغموض وفي بحار من المعميات والأسرار، وذلك مخافة على شخصياتهم من بروزها على حقيقتها ضعيفة واهية، وخشية من نفوذهم أن يتلاشى إذا وضحت الأمور وزال الغموض.
والغزالي حين قرب الدين لم ينزل به، بل استطاع بما أوتى من قوة العارضة وصفاء(913/55)
التفكير وسعة الاطلاع؛ أن يرفع الإيمان من (حضيض السذاجة إلى قوة التفكير العالي مما جعل المفكرين في الشرق والغرب يرون فيه المثل الأعلى للتفكير الإلهي والنور المبدد لروح الشك والتشاؤم. . .) وقد قال سارطون في هذا الشأن: (إن أثر الغزالي في العلم الإلهي أعظم من أثر القديس توما. . .).
درس الغزالي الفلسفة (. . . ولم يكن الذي حمله على دراستها مجرد شغف بالعلم بل كان يتطلع إلى مخرج من الشكوك التي كان يثيرها عقله. . .). ليطمئن قلبه ويتذوق الحقيقة العليا. وخرج من دراساته هذه وسياحاته وتنقلاته بكتب قيمة نفيسة أهمها كتاب تهافت الفلاسفة، وهو عمل عظيم لا يخلو من قيمة فلسفية إذ هو (ثمرة دراسة محكمة وتفكير طويل، يبين المسائل الكبرى التي كانت محل خلاف بين الدين والفلسفة. . .) مما يدل على طول نظر في الفلسفة ودراسة وافية لها. وقد بلغ فيه أقصى حدود الشك فسبق زعيم الشكيين (دافيد هيوم) بسبعة قرون في الرد على نظرية العلة والمعلول.
لقد وصل الغزالي من دراساته الفلسفية وغيرها إلى ما وصل إليه (كانت) فيما بعد، من أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفاً الغطاء عن جميع المعضلات، وإنه لابد من الرجوع إلى القلب وهو الذي يستطيع أن يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف وذلك بعد تصفية النفس بالعبادات والرياضيات الصوفية. وهو بذلك حاول أن يخضع العلم والعقل للوحي والدين لكي يصل إلى الحقيقة العليا. وعلى الرغم من محاولاته إخضاع العلم والعقل للوحي والدين كان يمجد العقل ويرى فيه (كما جاء كتاب إحياء علوم الدين) منبع العلم ومطلعه وأساسه وإن العلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس وقد أتى بجملة أحاديث نبوية تشير إلى مقام العقل وشرفه.
والغزالي لم يأخذ بأقوال فلاسفة اليونان، بل كان يعرضها ويسلط عليها العقل فيخرج بنقد صائب ورأي عبقري. لقد اعترض على قول (جالينوس) اليوناني (. . . إن الشمس لا تقيل الانعدام) ويستدل على ذلك بأن الأرصاد لم تدل على أي تبدل في حرارة الشمس أو حجمها، وهنا يأخذ الغزالي هذا القول، ويرى فيه خطأ وخروجاً عن الصواب. فأرصاد القدماء ليست إلا على التقريب، والشمس قد تخف حرارتها وينقص حجمها دون أن يلاحظ الناس ذلك في مدة قصيرة، وعلى ذلك يخرج الغزالي برأي صحيح هو ما توصل علماء(913/56)
الفلك الحديث. فلقد توصل العلم إلى أن الشمس تحتضر على حد تعبير السير جيمز جينز وأنها في تناقض. وقد حسبوا ما ينقص منها (على الرغم من القوى والذخيرة التي تصل إليها بعوامل شتى) فوجدوا أنها تفقد مادتها عن طريق الإشعاع (360) ألف مليون طن في كل يوم.
وللغزالي آراء تدل على حسن إيمانه بالبشرية وصفاء نظره إلى الخليقة الإنسانية وهو لم يأخذ بأقوال الذين يجعلون الشر مركباً في طبع الإنسان، بل أنه أحسن اعتقاده في النشأة فجعله خيراً. ويرى أن الفطرة الإنسانية قابلة لكل شيء فالخير يكتسب بالتربية وكذلك الشر. وفي رأيه أن الإنسان لا يميل بفطرته إلى إحدى الجهتين وإنما هو يسعد ويشقى تبعاً لعوامل عديدة تتعلق بالأبوين والمحيط غير حاسب أي حساب للوراثة وما إليها.
وأورد الغزالي في كتاب الأحياء قواعد ومبادئ ليسير عليها المعلم والمتعلم. ويجد المتصفح لها أنها سامية الغايات فيها تحليل نفسي دقيق يدل على النضج وخصب القريحة وعلى معرفته التامة بنفسية المعلم المتعلم. ويرى فيها المؤرخون أنها لا تقل عن النظريات الحديثة في علم التربية. وكذلك وضع الغزالي مبادئ جليلة فيآدابالمناظرة هي في الواقع الدستور الذي يجب أن يسلكه المتناظرون وأصحاب الجدل والبحث. وفي رأي الغزالي أن الخروج على هذه الآداب قد أشاع الخصومات وأنشأ العدواتلأنالغاية من الجدل والمناظرة لم تكن في الحقيقة كما يجب أن يكون، بل كانت التغلب على الخصم والتفوق على المناظر.
والغزالي لم يذهب مذهب المعتزلة في أن العمل يكون حسناً أو قبيحاً لأنه حسن أو قبيح بحكم العقل. كما أنه لم يقل أنه حسن أو قبيح بحكم الشرع، لكنه قال أن الحسن والقبيح يرجعان إلى العقل والشرع معاً. فالعمل خير إذا وافق العقل والشرع، وشر إذا خالف العقل والشرع. وهكذا قاس الخير والشر بمقياس العقل والشرع.
وتوفر الغزالي على بحث الأخلاق فأجاد في هذا الباب وترك أبقى الآثار وأرفعها شأناً ضمنها كتابه الشهير (أحياء علوم الدين) لقد نهج الغزالي في فلسفة الأخلاق الناحية الدينية من حيث النظر والتقدير والناحية التحليلية النفسية من حيث التناول والتفسير.
والغزالي يجعل للعلم منطقة وللدين منطقة. ولكل مزاياها وأحوالها الخاصة والنفس البشرية(913/57)
تتصل بالمنطقتين، فهي تتصل بالعالم الحسي عن طريق المعرفة والبرهان وبالعالم الروحي عن طريق الاختبار الشخصي والكشف.
ويرى أن السعادة الروحية لا تأتي من الإيمان الفلسفي بل بالعمل المؤدي إلى الاتصال بالروح الأعلى. ومن هنا تبين أن الغزالي حين يتناول الدين فإنه يحررها من أطمار الكلاميين ثم (يمزج حيوية الأول بحيوية الثاني ويولد منهما مذهباً روحياً يقبله العقل ولا يدحضه البرهان. . .).
وقد أعرض الغزالي من معرفة هذا العالم عن طريق العقل (ولكنه أدرك المسألة الدينية إدراكاً أعمق من إدراك فلاسفة عصره. . .) فقد كان هؤلاء الفلاسفة عقليين شأن أسلافهم اليونان فاعتبروا أن أمور الدين ثمرة لتصور الشارع ووهمه، بل هو ثمرة لهواء. واعتبروا الدين انقياداً أعمى أو ضرباً من المعرفة فيه حقائق أدنى من حقائق الفلسفة. وقد عارض الغزالي هذا الرأي واعتبر الدين ذوقاً باطنياً لا مجرد أحكام شرعية أو عقائد، بل هو شيء أكثر من ذلك، وأنه شيء تتذوقه الروح. ويعلق (دي بور) على هذا فيقول (. . . ولا يتاح لكل إنسان أن يبلغ في هذا الأمر مبلغ الغزالي، والذين لا يستطيعون متابعته إذ يعرج في مدراج السالكين متخطياً المعارف المكتبية كلها، لا محيص لهم عن الإقرار بأن محاولاته في الوصول إلى الله ليست أقل شأناً في تاريخ العقل الإنساني من مذاهب فلاسفة عصره، وإن بدت هذه المذاهب أدنى إلى اليقين، لأن أصحابها إنما ساروا في بلاد قد كشفها غيرهم من قبل. . .).
وجاء في كتاب نهاية الميزان ما يشير إلى أن الشك هو طريق اليقينلأنالشكوك هي الموجبة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلال. ولم يفت الغزالي أن ينبه في مواطن عديدة من كتبه إلى أنه: (. . . يجب على المعلم أن يتجنب كل ما يثير الشك في نفوس الضعفاء، وخص المرشد على الاقتصار مع العامة على المتداول المألوف. . .) فهو يرى أن يستعمل الشك بمقدار محدود وهذا المنهج (. . . يبين أن الغزالي يحرص على وحدة الهيئة الاجتماعية، وينفر من كل ما يقربها من الانحلال. . .).
والمجال لا يتسع لعرض الآراء المختلفة التي أوردها الغزالي في كتبه في الأخلاق(913/58)
والآداب والحقوق والواجبات. ولكن يمكن القول أنه ترك تراثاً ضخماً في كتبه وتآليفه تجعله من الخالدين وهو يعد بحق إمام أهل البيان في الأسلوب العلمي والأسلوب الاجتماعي ومزاج من علوم شتى (. . . أنضجها البحث وصقلها التفكير وأضفتها تجاربه وشكوكه القاسية التي عاناها في نشأته. . .).
وأخيراً تعرض لمقام الغزالي عند الغربيين فنقول: كان للغزالي قيمة ومقام عند الغربيين وقد أحلوه المكان اللائق ودرسوا مؤلفاته ورسائله وكتبه وكتبوا عنه مؤلفات الطوال. ومنهم من يتعصب له يرى فيه أحداً من أربعة. يقول الدكتور (زويمر): (كل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظام وهم: محمد نبي المسلمين والبخاري الأشعري والغزالي. .) ويرى (دي بور) أن الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام. وكتب (كارادي فو) عن الغزالي وقد أنصفه بعض الإنصاف. وهناك رسائل كثيرة كتبت عن الغزالي بالإنكليزية والفرنسية والألمانية، وهي تدل على أنه شغل الباحثين والمستشرقين أمثال الدكتور مولتر، وماكدونالد، وستيفيلد وشمولدز ودي بور والأب بويج وماسينيون وجولدزيهر وغيرهم، فكان محل اهتمامهم وعنايتهم، كما تدلل على فضله وأثره الكبيرين في العلوم وخاصة في العلوم الإلهية والصوفية والأخلاق.
نابلس
قدري حافظ طوقان(913/59)
الهجرة الكبرى في سبيل السلام
للأستاذ محمد محمود زيتون
(والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر
إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون. .).
قرآن كريم
لم تكن هجرة النبي عليه السلام إلا مرحلة من مراحل الدعوة إلى السلام، فقد دعا العرب إلى الحق والخير، بالحكمة والموعظة الحسنة، فآذوه في شخصه وأهله وصحبه، وطوى الزمن ثلاثة عشر عاماً، وهم بين مضروب ومشجوج ومعذب بالرمضاء تارة، وبالحديد والنار تارة أخرى.
واحتل المعذبون مكانهم في التاريخ، وتلألأت صفحاته بآل ياسر وبلال وخباب وزنيرة، أولئك الذين ابتلوا فصبروا، وامتحنوا فشكروا، وهل الإيمان إلا الشكر والصبر.
وإنها لكبيرة على النفس أن تحتمل من العنت والرهق ما لا تطيق، وأكبر من ذلك أن يغير عشرات الرجال وقليل من النساء معهم، مجاهل الجزيرة في سنوات: فإذا الوجه العباس يرتد يساماً ضحوكاً، والقلب المتحجر يرفض بالرحمة والرقة، والعقل البليد يتفتح لنور الحق، ويستجيب لصوت السماء.
وكان طبيعياً أن يكون الجهر بالإسلام بمثابة إعلان الثورة على جميع الأوضاع المألوفة، ولكن يؤلف عن العربي سكوته على الضيم والهوان، فكيف بهؤلاء الصفوة يفتنون في دينهم، ويستضعفون في وطنهم!
تلك المشكلة التي تتطلب الحل المعقول، وإن كان الوقت يمطلها بالتردد والتخير كالمعهود في أشباهها ونظائرها، فقد تم إعداد الحل المسعف، وسرعان ما نزل من السماء على لسان محمد، ومضى أتباعه في الطريق المستقيم.(913/60)
ذلك بأن دعوة الإسلام ليس لها أن تنحدر إلى مخلفات الجاهلية فتقاوم الإساءة بالإساءة، وتقابل العدوان بمثله، وإلا كان دين الإسلام متناقضاً مع نفسه: يتنزى الدم من يديه، وتتساقط الأشلاء من بين شدقيه.
والحل الذي يستقيم مع روح هذا الدين هو (الهجرة) المرسومة في بدئها وختامها المليئة بمدخراتها للتاريخ إذا أعوزه الكشف عن مواطن العبرة، ومظن الفخار، وليس بدعا من الأحداث أن يهاجر محمد، فقد سبقه لوط إذ هاجر بأهله ونزل بهم بالمؤتفكة. ولكن ما أصعب الهجرة من المواطن المضيم.
فما بال محمد وتابعيه تهون عليهم مكة، وفيها بيت الله الحرام وبها الأهل والوالد؟ ألم يقف محمد في وسط لمجلس يوم خرج مهاجراً، والتفت إلى الكعبة فقال: (إني لأعلم ما وضع الله بيتاً أحب إلى الله منك، وما في الأرضبلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني).
وتهامس الأغرار: أنه قرار، واستدرك الدهاة: بل استنصار حقا، أنه بالأمانة خشية الضياع، لهذا قال النبي الرسول (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من أرض استوجب له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم خليل الله، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم)، وحقا أنه استنصار للدعوة من أتباعها فيما وراء الحدود، ولكن هل سكنت ثائرة من قال أنه فرار، وهل أجدى دهاء القائلين بأنه استنصار.
وفر أبو بكر بدينه يعبد الله عليه بأرض اليمن، لولا أن أخذ ابن الدغنة له الجوار من (القارة) شارطين عليه أن يتعبد بداره ولا يستعلن، ولأن أبو بكر فقبل ورجع فإنني في داره مسجدا اخذ يصلى فيه ويقرأ القرآن وبرفع صوته، والبكاء يغالبه، والناس يتهافتون عليه مسلمين من كل صوب، فلما كلمه صاحب الجوار قال له: رددت عليك جوارك، ورضيت جوار ربي) وضربت قريش الحصار على شعب أبي طالب فلم يتمكن أهل النبي مع البيع والشراء والمصاهرة، وأضر الجوع بهم، ولا سيما بزوجته خديجة، وكادوا يهلكون من عند آخرهم، وبعد موت خديجة وأبي طالب اشتد الأذى، وأخذت المؤامرات تدبر في الظلام لاغتيال محمد.
هذا وهو ماض في سبيل الدعوة، لا يمل من لقاء الحجيج في المواسم، والاستكثار من(913/61)
القبائل، بينما فراعنة قريش يحاربونه بكل ما يسعفهم به قلوب مريضة، ونفوس منحلة، ومفاسد مستحكمة، والأصنام أيما استبداد.
وما يكون لنبي السلام أن يهدم السلام، وما ينبغي لمنطق الغريزة المقاتلة أن تستثار فلا تستجيب، ولكن التسامي بها هو المطلب الكريم، والأمنية الكبرى، فما هو إلا أن تراكض المسلمون مهاجرين إلى يثرب تاركين المال والعيال، لم يجردوا سيفاً، ولم يتننكبوا رمحاً، بل تجردوا للسلام، إلى حين ينثلم السلاح في أيدي الخصوم، وحاشا لأهل الإيمان أن يطلبوا الثأر على نحو لا يشرف أقدارهم.
لهذا قال أبو أحمد بن جحش في هجرته:
فكم قد تركنا من صميم مناصح ... وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وتراً نائياً عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغاب تطلب
واجتمعت بدار الندوة نزعات إبليس بنزوات الجبت والطاغوت، وانطفأت في الحال جذوة التدبير، وأنقطع حبل التفكير، فما كان من أصحاب الفراغ، بل هو الشيء الذي لا تسعفهم الغريزة بما فوقه.
ولا أقل من أن يجد العدو مصرفاً للضغينة المكتومة فيما درن غرضه المأمول، أما إذا تركوا محمداً في وجهه إلى يثرب، فإن له بها أنصاراً، وإنهم لناصروه، وإنه لفاتح بهم مكة على أهلها عاجلاً أو آجلاً.
يا له من يوم! كلما تمكن من خيالهم وتحدى كيدهم، لا يستطيعون له صرفاً، ولا يزيدون معه إلا تضييقاً على محمد وتنكيلاً بمن سلك سبيله.
خرج صهيب الرومي بماله فخيره بين نفسه وماله، فهجر المال، وهاجر بالنفس، وربح صهيب على كل حال، وخسر هنالك المبطلون. وخرج أبو سلمة، ولما أرادت صاحبته أن تلحق به ومعها طفلها، خيروها بين ابنها ونفسها، فتركت فلذة من كبدها في أيديهم، وخرجت مؤمنة بأنه وديعة في يد الله، وفتنوا من فتنوا، وحبسوا من حبسوا، ولو لم يكونوا قد انشغلوا بهذا القليل لتبددت الهجرة تحت هاتيك الضغوط، ولفظت الدعوة آخر أنفاسها.
وأطلع الله رسوله على دار هجرته، فأخبر بها صاحبه أبا بكر الصديق الذي طالما كان يستأذنه فيستأجره النبي حتى أراد الله لهما (صحبة) في الهجرة الكبرى إلى الله، وأعد(913/62)
أبوبكر ماله كله ليهاجر معه، وتواعد مع النبي على ساعة الخروج من ليلة الفارقة بين العدوان والأمان، الفاصلة بين الشر والخير المراد.
وتسجى على بالبردة الحضرمية الخضراء، ولزم حزب الضلال باب الدار، وسهدوا أجفانهم، وكدوا أذهانهم، فما هي إلا الخيبة التي لا بعدها، على الرغم من الصفوف والسيوف، وما هو إلا نصر السماء (وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ولبثا ثلاثا بغار ثور، والطلب لا ينقطع، وكان أبو بكر يسمع القوم يتهامسون ويتخافتون، فيأخذ الخوف من كل سبيل، ولكن الذي أعمى بصائر الكفار عند خروج النبي من الدار هو الذي ضلل حدسهم وهو في الغار (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا).
وخرجا من غار الخفاء إلى نهار الجلاء، ومضيا على راحتيهما بين تصويب وتصعيد، وكلما رأى أهل البادية أبا بكر سألوه عن هذا الرجل الذي معه فيقول لهم في تورية صادقة (هذا الرجل يهديني السبيل)، فلما وصلا إلى الجحفة تحرك الحنين إلى مكة في جوانح نبي الوطنية، فتذكر ما كان من قريش معه وهو يدعوهما لربهم، ومن ثمة نزل عليه جبريل بقول ربه (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى نعاد).
ولم يمض على رحيلهما ثمانية أيام حتى أشرف النبي على المدينة فقابله أهلها، والبشر تندي به وجوه الرجال، وبالغناء تتجاوز دفوف الجواري، وبالشعر تتعالى الفتيان، وبالحراب تنوع ألعاب الأحباش.
والأنصار يتسابقون إلى خطام الناقة ويقول: (هلم يا رسول الله إلى المنعة والقوة) وهو يقول لهم (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).
ولم تلبث إلا قليلا حتى أناخت، لا في (المنعة والقوة) ولكن في مبروك (الأمن) ومناخ (السلام) حيث المربد الذي لسهل وسهيل أبني عمرو والذي اختاره نبي السلام منذ الساعة الأولى له بالمدينة دار السلام.
وتفرق المهاجرون على دور الأنصار، ونزل النبي مع رحله عندأبي أيوب الأنصاري، واجتمع بهم جميعا بدار سعد بن خيثمه، وأعلن (دستور السلام) منذ اللحظة الأولى فقال:(913/63)
(يا أيها الناس، أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).
وأسرع إلى موادعة يهود المدينة ليستل السخيمة من نفوس فلا يعكروا صفوا السلام، وعقد معهم معاهدة كتب في ختامها (وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكان له الأمان ولليهود التأمين، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
ثم التفت إلى الجماعة ينظم أمرها، ويجمع شملها، ويؤلف وحدتها، فابتنى (المسجد) ليكون بمثابة دار السلام لطلاب السلام، وكان بناؤه نقطة التقاء الهجرة والنصرة، فسرعان ما أصلح النبي فيه العلاقات بين الأوس والخزرج، وعجلان ما أنزل فيه التأييد من السماء (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين).
ودوى صوت بلال بالأذان للصلاة فكان دعاية لانتصار الهجرة وإذاعة لانتشار التوحيد، ومتى جلجلت البطاح بصوت (الله أكبر) وتجاوزت بصوت (لا إله إلا الله) عرف كل من لا يعرف أن هذه الهجرة الكبرى إنما جاءت لتوحيد الصفوف، ووحدانية المعبود، ووحدة الكلمة، وتلك هي العناصر الأساسية التي لا بد من أن يتألف منها السلام.
وتتابع المهاجرون أرسلا، والمسجد يغص بهم يوما بعد يوم والمسلمون والمؤمنون أخوين سواه في الهجرة أو النصرة وإنه ليوم خالد إذ يجتمع بهم نبيهم في هذا المسجد المبارك، ويسأل عنهم، فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى انتظم شملهم، ثم قال لهم:
- (إني محدثكم فاحفظوه وعده وحدثوه به من يعدكم، أن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) وإنياصطفي منكم من أحب أن أصطفيه، وأؤاخي بينكم كما آخى الله تعالى بين الملائكة. . قم يا أبا بكر. .)، وقام أبو بكر فجثا يديه فقال له.
- (إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل، فأنت مني بمنزلة قميص من جسدي). وحرك النبي قميصه بيده. - (إذن يا عمر. .) فدنا، فقال له النبي:(913/64)
(كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز بك الدين أو بأبي جهل، ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث من هذه الأمة.)
وآخى بينه وبين أبى بكر في المسجد الذي أصبح بيت المحبة والتعارف، وصار المسلمون أرواحنا مجندة: إلى الله أسلمت الوجوه، وإلى الكعبة توجهت القلوب، وخلف رسول الله انتظمت الصفوف.
وأقبل سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف وقال له: يا أخي إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق أحدهما، فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال عبد الرحمن وقد هاجر ولا مال ولا أهل: يا أخي بارك الله لك في أهلك ومالك.
كل ذلك من إشعاع الإيمان الذي انبثقت عنه الهجرة، ومن وحي المسجد الذي قال فيه النبي الكريم (من ألف المسجد ألفه الله)، وقال (إن للمساجد أوتادا: جلساؤهم، إن غابوا افتقدوا، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم، جليس المسجد على ثلاث خصال، أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة).
وتفيأ النبي ظلال السلام وأرفه منذ نزل بين الأنصار، لذلك قال في مقام الذكر والشكر (لولا الهجرة لكنت من الأنصار) الذين نصروه وأكرموا من معه (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. .).
ويتأكد هنا لكل منصف أن الهجرة الكبرى لم تكن إلا إسراء بالأرواح قبل أن تكون انتقالا بالأشباح، وبذلك تميزت (الهجرة الكبرى) إذ ارتفعت فيها الإنسانية من الهاوية إلى العلية، وخلفت فيما وراءها غريزة الوحش، وشريعة الغاب، ومضت في تصعيدها إلى القمة، وصدق الشاعر.
إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا
وسئل النبي: ما أفضل الإيمان؟ فقال: (الهجرة). فسئل وما الهجرة؟ قال: (أن يهاجروا من الضلال والعدوان في بلد أراد الله فيه للناس الأمن والسلام، وفيه البيت الحرام، (ومن دخله كان آمنا).
وظل النبي يحرس السلام، في يقظة وحكمة، فقد قتل قتيل بالمدينة ولم بعرف قاتله، فصعد(913/65)
النبي المنبر وقال (يا أيُها الناس يقتل قتيل وأنا فيكم ولا يعم من قتله، لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ لعذبهم الله إلا أن يفعل ما يشاء).
ومر شاس بن قيس حبر اليهود بالأوس والخزرج وقد اجتمعت كلمتهم، فغاظه ذلك الائتلاف بينهم فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، وأمر فتى من اليهود بالدس بين الأنصار، وظل بهم حتى تنازعوا وتوعدوا على الحرب، وخرجوا بالسلاح واصطفوه للقتال.
وعلم بذلك حارس الأمن السلام، فخرج إليهم فيمن كان معهم من المهاجرين وقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، اتقوا الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم. .).
فعرفوا أنها من نزع الشيطان وكيد العدو، فبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع النبي وقد نزل عليه (يا أيُها الذين آمنوا أن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى آيات الله عليكم وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى الصراط مستقيم، يا أيُها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) وإذ يقول نبي الرحمة (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم وجوه بعض) إنما يدل على أن الكفر هو العدوان وأن الإخاء هو السلام بل الإسلام الذي هو أن يسلم الله قلبك وأن يسلم الناس من لسانك ويدك).
ومضى على النبي عامان نشر فيهما لواء السلام على أهل المدينة واطمأنت فيه النفوس، وأصبحت آيات القرآن تخاطبهم (يا أيُها الذين آمنوا) وقد كان الخطاب بمكة (يا أيُها الناس) فما كان هذا التغير إلا عقب الهجرة التي تصافت فيها الصدور، وتوارت الشرور
فلما تألب اليهود والمنافقون والمشرقون على دعوة السلام، لم يكن بد من أن يتنزل على محمد الأذان بالجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وإن الله على نصرهم لقدير) فكان الجهاد من لزوم ما يلزم السلام، شأنه الصفاء لا يرتجي إلا في غمرة العواصف والأعاصير، ولا بد دون الشهد من إبر النحل.(913/66)
واليوم ونحن على باب سبعين عاما بعد ثلثمائة من الهجرة الكبرى، نرى أن للعالم كله العبرة كل العبرة، فما أحوج الإنسانية إلى هجرة السوء من كل لون، ونصرة الحق في كل حين، ودفع الشر والخصام بنشر الخير والسلام.
محمد محمود زيتوق(913/67)
أبو دجّانة
للأستاذ محمد طلبه رزق
يطيب للمسلمين في ذكرى مولد الرسول أن يذكروا روائع أحداث الجهاد الأولى التي صاحب الدعوة للإسلام والمقرونة بآيات من العبقرية أو التضحية أو البطولة. ولعل حياة أبي دجانة البطل الفدائي من أخلد هذه الروائع وأبعدها أثراً في القلوب والنفوس.
وعلى أن تاريخ الجهاد الإسلامي ملئ بالبطولات الفذة والتضحيات العظمى والمواقف النبيلة، فإنني أشهد أن حياة أبيدجانة كانت من أعظم ما استهواني وملأ نفسي وقلبي روعة وتمجيدا لهذا البطل الذي اعتقد جازما - إن حقا أو غيره - أن التاريخ قد ظلمه وهضمه إلى درجة تكاد تكون دينهم، والذي لولاه ولولا فدائيته وبطولته لما تمت رسالة. ولرب قائل يقول: وكيف لأبي دجانة هذا أن يحفظ ذلك الدين العظيم ويكون سببا في إتمام رسالة الإسلام.؟ ولرب قائل يقول: وكيف لأبي دجانة هذا شريكا أكان أبودجانة هذا شريكا للرسول في نلقى تعاليم الدين؟ أكان ينزل عليه كما ينزل على الرسول؟ أكان الأمين الأوحد والنائب المفرد للرسول يؤثره بأسرار الدعوة ويأتمنه عليها؟
والواقع أن أبا دجانة كان مسلما من عامة المسلمين تفتح قلبه للدعوة الإسلامية وأشربت نفسه حبها، وتعلقت روحه بأهدابها. كان أنصاريا من أهل يثرب لي دعوة الحق ودخل في الدين بعد يقين صادق وأيما نعميق، وأحب الرسول حبا لا يوصف لفرط صدقه وشدته وإخلاصه. وهو قبل ذلك وبعد ذلك فارس بارع، خفيف الحركة، سريع الوثبة، يجيد المبارزة واللعب بالسيف والخنجر كما يجيد فنون الحرب الأخرى التي عرفها العرب آنذاك. وحين قرر النبي صلوات الله عليه. العمل على نشر الدعوة بقوة السيف ومقابلة عدوان جاحديها بمثله، كان أبودجانة من المسلمين نقص
ألفاً من الجنود تخذل من المنافقين والضعفاء ما يقرب من ثلثهم.
وينظم النبي جنوده ويجعل منهم رماة يحملون مؤخرة الجيش ويجعل مكانهم على الجبل ويقول لهم: (قوموا على مصافكم هذه، انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا قد هزمنا القوم وظهرنا عليهم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم). ثم يلتفت القائد الأعظم والزعيم المقدس إلى الآخرين يبثهم روح(913/68)
الإقدام والتضحية، ويزودهم بنصائحه ويميل عليهم توجيهاته وإرشاداته ولا يدع سبيلا إلى حفرهم وتشجيعهم إلا سلكها؛ فهذا هو صلى الله عليه وسلم يرفع سيفه بيمينه ويعرضه على جنوده قائلاً: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ ويتهافت المؤمنون عليه، كل يبغي هذا الشرف الرفيع، حتى ينبري له أبو دجانة متحمساً مندفعاً فيقول عمر: هذا أبو دجانة الشجاع يقول إليه، فيقول أبو دجانة: نعم أنا أقوم إليه، ما حقه يا رسول الله؟. ويجيبه النبي العظيم: أن تضرب به حتى ينحني. فتزداد حماسة البطل ويردد أنا آخذه يا رسول الله بحقه. ويسر النبي لهذه الحماسة ولا يملك إلا أن ينوله السيف. وبتناول الفارس الشجاع السيف في فرح وثورة ويهزه في يده مردداً:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
إلا أقوام الدهر الكبول ... أضرب بسيف الله والرسول
ويخرج من جيبه عصابة حمراء يعصب بها رأسه ويختال بين الصفوف كأنما هو ترقص، ويعجب المسلمون نشوة الفارس وفرحته بسيف الرسول.
وتبدأ المعركة بمبارزات فردية يكون صراعها جميعاً من قريش الباعية، ثم ما يلبث الجيشان أن يلتحما، وما تلبث قوات المسلمين أن تتقدم منتصرة مثخنة في جيوش العدو وأبودجاية في فرسان المؤمنين يتغنى بشعره، ويضرب الرسول يمنة ويسرة ما تنوله ضربة، ولا تخيب له طعنة، صرعاه يتجندلون ويخرجون عن يمين وشمال. . وتتراجع قوات قريش مروعة منهزمة متخاذلة وترى نساء المشركين وتراجع رجالهن وهزيمتهم فيصحن فيهم محمسات حافرات تتزعمهن هند بنت عتبة الموتورة في أبيها أحد قتلى بدر:
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
أن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وأبو دجانة يصول ويجول في الصفوف يصرع المشركين ويروي بدمهم الأرض، وتعترضه هند هاتفه محرصة المشركين ويهاً بني عبد ويهاً حماة الأديار ضرباً بكل بتار
ولا يكاد يميزها أن كانت رجلا أو امرأة فيهم بقتلها، فتصيح مذعورة: ويلاه. وما إن يتميزها أبودجابة حتى ينحبها عن سبيله قائلا: أهي أن أنثى اذهبي قبحك الله. ويقول له(913/69)
الزبير: بل اقتلها يا أبا دجانة فيرد أبو دجانة الفارس الباسل أو ترد رجولته الكريمة: إني أكرم سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.
وتسير المعركة قوية ملتهبة نحو غايتها، ونكاد تنجلي عن نصر للمؤمنين مبين، وفوز لهم محقق، ولا يكاد يشك ذو عقل أو بصر في أن الهزيمة الساحقة الماحقة ستحل على جيوش الملحدين؛ وتؤيد جميع الشواهد والقرائن هذا المصر وتقرره، ويتضخم هذا الشعور بالنصر في قلوب المسلمين ويؤمنون به ويتأذى المشركين وتمتلئ قلوبهم بالحسرات واللوعات بعد أن رأوا معركتهم التي تأهبوا لها واتخذوا لها العدة ووطدوا عزائمهم على أن يجعلونها انتقاما ومحور للعار الذي لحقهم في بدر، تدور عليهم وتنقلب ضدهم.
ولكن. ولكن - ولعن الله لكن هذه - هاهي فصيلة الرماة المسلمين التي ناط بها قائد المسلمين وزعيهم الرسول حماية المؤخرة يرى أفرادها انتصار إخوانهم وتقهقر المشركين أمامهم تاركين متاعهم غنائم وأسلابا. وهاهي الغنائم والأسلاب تلمع في أعين هؤلاء الرماة فتسيل لعابهم وتجعلهم يفكرون فيها وفي موقفهم هذا الثابت، وفي تلك الأوامر الحاسمة الصارمة الموجهة إليهم بضرورة ثباتهم مها رأوا من انتصار جيشهم وتقهقر عدوهم. ولكن أية نفوس تلك التي ترى هذه الغنائم والأسلاب الكثيرة الوفيرة وترى أكثر من هذا وذاك إغراء الشيطان، وثراء الحياة يساق هينا لينا ليس بينهم وبينه إلا أن يتحركوا وينقضوا لتحفظ لهم حقوقهم وأنصبتهم من أن يغتالها رفاقهم المنتصرون أو أن يبخسوا بعضها. وما هي إلا أن تضعف نفوسهم وينتصر الشيطان وتبرق الدنيا في عيني أحدهم فيصيح من أعماقه: الغنيمة. . وتهز صيحته بقية الرماة. . وإذا هؤلاء الرماة حماة المؤخرة، يخالفون عن أمر قيادتهم، لا رغبة في العصيان والمخالفة، وإنما خاطئا بأن النصر قد صار في جانبهم ويندفعون جاعلين همهم جمع الغنائم والأسلاب من متروكات جيش المشركين المنهزم.
وفي المشركين يقظة وحسرة، وفي قلوبهم نار تأجج حقدا وحفاظا لأهليهم وعشيرتهم الذين ذهبوا في بدر، وإذا هذه اليقظة وذلك الحقد يبصر بالثغرة الجديدة التي انفتحت في مؤخرة المسلمين المنتصرين، وإذا فلولهم تتجمع وتحتشد وتتجه نحو الثغرة!
ويريد الله أن يمتحن المسلمين ويبلوهم، وأن يجزيهم جزاء مخالفتهم، ويريد عاقبة عصيانهم(913/70)
لأوامر قائدهم ورسولهم، ويبصرهم بخطئهم وطمعهم في عرض الدنيا الذي رجوه، وهم المؤمنون الذين خرجوا من ديارهم وأهليهم قد بايعوا الله ورسوله أن ينصروا دينه وباعوه أرواحهم بأن لهم الجنة وليس أسلاب الحرب وغنائمها. . يريد الله ذلك، ويشاء الله إلا أن تكون إرادته تلك رائعة قاسية بعيدة الأثر في نفوس المسلمين جميعا، ويتمثل كل ذلك في أن يمكن لفلول قريش المتجمعة من أن تنفذ في جيوش المسلمين من الثغرة التي كشقها الرماة في المؤخرة، وأن تنال قريش الباغية المشركة منهم ونثخن فيهم.
ويرى النبي صلى الله عليه وسلم هجمة الأعداء المفاجئة من الخلف، فيدرك خطيئة الرماة ويعرف من ابن أتى الشر، وكيف انهارت الخطة الحكيمة التي رضعها وأمر بها. ويرتاع المسلمون ويأخذهم الروع والجزع ويظنون أن جيوشا أخرى جديدة للمشركين قد أخذتهم من خلف فيضعفون ويدب الفزع بينهم، فيفر منهم من يفر، ويتخاذل منهم من يتخاذل، والنبي العظيم يستنفرهم ويثبتهم ويعدهم النصر، وينادي فيهم أن اثبتوا وكافحوا، ولا يدع سبيلا لحفزهم ودفعهم للصمود والجلاء دون أن يسلكها!.
ويكثر عدد القتلى من المسلمين ويسقط فيهم أعلام من فرسانهم الصناديد ويشاء الله إلا أن تبلغ العظمة والعبرة أعظم مبلغ وأروعه حين يبقى الرسول في عشرة من صحبه ينافون معه وهو يرمي بسهمه حتى يصير شظايا. . ويقترب المشركون منه ودونه اثنان سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير يذوبان عنه وأم عمارة لمسلمة المؤمنة تقبل فترى ذلك فترمي سقاءها وتنتزع سهم أحد القتلى وتنفح به الرسول العظيم. . ويقبل أبودجانة فأي إقبال البطل الذي حارب الرسول وأدى حقه فقاتل به حتى تقوس، وحتى امتلأ جسمه بالجراح والطعنات. . ويرى أبو دجانة النبي الكريم في هذا الموقف العسير ويرى أحد المشركين الأنذال وهو يضرب أم عمارة المرأة المسلمة على عاتقها فيرديها!. . ويهم أبودجانة لينافح عن الرسول، وكيف له ذلك وسيفه قد انحنى وتقوس، وجسمه قد تمزق وتجرح، ولكنه يرى النبي الكريم هدفا لنيل الكافرين الفاجرين، ولكنه يريد أن يسجل أروع أمثال التضحية والفدائية أعظم تسجيل وأدقه، فها هو يندفع نحو النبي العظيم وينكفئ عليه حاميا له بجسده متوسلا إليه بقوله: دعني يا رسول الله أترس دونك بنفسي، لقد ولى الناس عنك وهذا نبل العدو يصل إليك. ويقول له الرسول العظيم مشفقا: إن النبل يقع في ظهرك.(913/71)
ولكن أبا دجانة المسلم الصادق الإيمان والفدائي الذي باع روحه ونفسه لله لا يحس ألما للرميات الكافرة المجنونة ويستعذبها ويرد على النبي العظيم بآخر ألفاظه: لا بأس. ويظل ظهرأبيدجانة يتلقى النبل حتى يمتلئ، وحتى لا تبقى فيه نقطة واحد دون إصابة قاتلة!. .
ويتأذن الله أن تمر المحنة القاسية والدارس الرادع، وتنجلي معركة أحد الخالدة وقد نجا النبي العظيم من القتل فسلم للمسلمين بنجاته دينهم، وتمت بذلك للمؤمنين رسالتهم، وكما دينهم، وبلغ الكتاب أجله بعد العظة الرهيبة العميقة التي كان من أعظم آثارها فدائية هذا الإنسان الفذ أبو دجانة. .
قلت لصاحبي وهو يتحدث كالسيل المنهمر وحديثه يفيض من أعماقه؛ حسبك يا صديقي فقد والله بلغت بحديثك هذا من نفسي ومن قلبي أعظم وأروع ما يمكن أن يبلغه أكبر الدروس وأخطر العظات، وما أرى إلا أنك محق في لومك للقائمين على شؤون التعليم والتثقيف والتجنيد أكبر اللوم لنسيانهم تخليد ذكر هذا البطل والمثل الحي الذي يظل حيا مدى الدهور. . .
محمد طلبه رزق(913/72)
العدد 914 - بتاريخ: 08 - 01 - 1951(/)
طه حسين باشا
رجلان مصر في مصر كلها جاءتهم الباشوية بعد أن أكبر عليها وضاقت عليهما: طلعت حرب وطه حسين!
رفع طلعت حرب قواعد الاقتصادي المصري على أربعة عشر أساً من بنك مصر وشركاته، فارتفعت مكانته في نفوس الناس حتى تهيبوه في اللقاء والخطاب، ورأوا لقب (البك) قد نزل عن قدره فاختالوا على تعظيمه بشتى الألقاب فقالوا: منقذ مصر العظيم، وزعيم الاستقلال الاقتصادي، وبطل النهضة القومية فلما أتته الباشوية آخر الأمر كانت أشبه بثوب الصبي الناشئ على جسم الرجل المكتمل.
ووثب طه حسين بالتعليم في مختلف درجاته وثبة وجد كل مصري أثرها، في نفسه إن كان معلماً أو تلميذاً، وفي أسرته أن كان أباً أو أولياء، وفي بيئته أن كان جاراً أو صديقاً. ثم رحل إلى أوربا رحلة في سبيل الوطن، ومن أقوال أكثر السفارات في الخارج! كان في تنقله المبارك الموفق من بلد إلى قطر، ومن معهد إلى جامعة، ومن عالم إلى وزير، ومن حديث إلى خطبة، ومن خطبة إلى محاضرة، دعاية لمصر من نوع فريد صحت ما افتراه على كفايتها العدو، وأصلحت ما جناه على كرامتها الصديق، وسمت بحكومتها القائمة من الأفق المنخفض للمفاوضة في الأرصدة الإسترلينية والمطالب القومية، إلى الأفق المرتفع للمعاونة على توثيق العلائق الإنسانية، وتعميم الثقافة العالمية؛ فرأى الناس في الوزير الذي جعل وزارته مبدأ تاريخ، وفي الجامعي الذي خلق لنا من مهرجان الجامعة أوسع دعاية، وفي الأديب الذي هيأ للأدب أعظم نهضة، رجلاً لا يسامت قدره لقب (البك)، فتوجوا أسمه الغني عن التتويج بالألقاب المختلفة فقالوا: عميد الأدب العربي، وأبو التعليم، وحامي المعلمين، وبطل الثورة الفكرية. فلما أتته الباشوية آخر الأمر كانت أشبه بطوق عمرو وحين شب عنه وربا عليه!
لم يكتسب طه حسين من لرتبة ما يكتسبه عادة فقير المجد أو غنى الحرب من ورم في المعنى وانتفاخ في الذات؛ وإنما أكتسب منها دلالتها السامية على تكريم ملكه وتقدير أمته. وتكريم صاحب الجلالة الفاروق لذوي الفضل شيمة من شيمه، وفيض من كرمه، فلا غرابة فيه ولا عجب منه. ولكن تقدير الأمة لرجل من رجالها على هذه الصورة الرائعة وبهذا الإجماع النادر أمر فيه الغرابة ومنه العجب.(914/1)
لقد كان الأنعام السامي على صاحب المعالي طه حسين باشا لفته كريمة من صاحب الجلالة أعلن بها رضا عن وزير من وزارته نفذ أمره في خطاب العرش، وأمضى رأيه في سياسة الدولة؛ كما كان فرصة مواتية لهذا الشعب الكريم عبر فيها عن اعترافه بالجميل لرجل من رجاله عمل فأخلص العمل، ووعد فأبحر الوعد، وقاد فأحسن القيادة!
أحمد حسن الزيات(914/2)
عميد الأدب العربي منذ أربعين سنة
طه حسين الشاعر
للأستاذ محمد سيد كيلاني
عرف الناس طه حسين كاتباً وقصاصاً وعالماً وباحثاً وإسناداً ومربياً ووزيراً، ولكنهم لم يعرفوه شاعراً، ومن هذا المقال سيعلمون أنه عالج الشعر في صباه ثم انصرف عنه في شبابه. فلو ظل يعالجه لظفر بالأولية فيه كما ظفر في كل شيء.
بدأ معالي الدكتور طه حسين باشا حياته الأدبية شاعراً لا كاتباً. فلهج بالشعر وهو صبي وكان الدافع على ذلك وفاة أخيه في وباء الكوليرا في صيف عام 1902 وقد ذكر ذلك في الجزء الأول من كتاب الأيام فقال أنه كان ينفق وقتاً طويلاً في نظم القصائد يرثي بها أخاه ويختم كل قصيدة بالصلاة على النبي واهباً ثواب هذه الصلاة إلى أخيه. ولم يدون لنا هذا الشعر فلا نعرف عنه شيئاً.
ولما جاء القاهرة ظل ينظم القصائد من حين إلى حين. وقد حدث ذات مرة أن الشيخ المرصفي كلف تلاميذه بالكتابة في موضوع من الموضوعات شعراً ونثراً. قال الشيخ أحمد حسن الزيات أستاذ الآداب العربية بكلية الفرير بالقاهرة من خطبة ألقاها في حفل تكريم الدكتور طه نبيل الدكتوراه من الجامعة المصرية القديمة ونشرت بصحيفة الجريرة في 26مايو سنة 1914ما نصه (. . . فأخذنا نعمل موقنين أن الفتى (يعني الدكتور طه حسين) أن يبزنا في نثر الكلام ونظمه، وأن بزنا في حفظه وفهمه. ولكن ما تقولون وقد فدا على الشيخ بقصيدة حماسية الموضوع جاهلية الأسلوب تمثل ما انطبع في خاطرة من صور الشعر القديم؟
(سمعنا تلك القصيدة فازدرينا أنفسنا وسترنا ما قلنا وشعرنا بالضعف أمام تلك القوة النادرة. فأحلنا منا محل الإنسان من العين والسواد من القلب ومضينا على أثره نخوض بحور الشعر فتارة نطفو وأخرى نرسب وهو في السباحة ماهر وبالطريق خبير. . . الخ)
والظاهر أن هذه القصيدة التي يحدثنا عنها الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات قد ضاعت وذلك لأن الشاعر لم يكن متصلاً بالصحف في الوقت فلم تنتشر.
وأول قصيدة نشرها كانت في رثاء حسن باشا عبد الرازق وقد ظهرت في صحيفة الجريدة(914/3)
بتاريخ أول يناير 1908ومطلعها.
أفي الحق ما أسمعتنا أم توهما ... تبين فقد بدلت أدمعنا دما
والحب بين الشاعر وبين آل عبد الرازق قديم. وقد توثقت أواصر المودة والإخاء بينه وبينهم على ممر الأيام. ولما وقف منذ أعوام يرثي المغفور له مصطفى باشا عبد الرازق كان رثاؤه مؤثرا إلى حد بعيد.
وفي عام 1909 رأينا الشاعر قد مال إلى جانب الحزب الوطني وأخذ ينشر في صحيفة مصر الفتاة قصائد حماسية تارة تحب عنوان (حديث مع النيل) وتارة تحت عنوان (في القاهرة) وفي بعض هذه القصائد يظهر في مظهر رجل الدين الذي ملئ قلبه يقينا وإيماناً فتراه يعظ ويرشد، ويذكر ويحذر، ويبصر وينذر، ويدعو الناس إلى التمسك بأهداب الدين وأحكام الشريعة الغراء، انظر إليه حين يقول من قصيدة نشرت في صحيفة مصر الفتاة بتاريخ 26أغسطس1909.
أنفذوا حكمة على كل جان ... لا ينلكم من دون هذا فتور
أرجو واجلدوا كما أمر الل ... هـ يجانبكمو الخنا والفجور
إن من يهدر الفضيلة يهدر ... ليس كفأ لذنبه التعزير
طرب النيل ثم قال لعمر الل - هـ قد كان يزدهيني السرور
أمحب للدين من أهل مصر ... أنت والله للنجاة بشير
نسيت مصر دينها فعداها ... كل خير وجللتها الشرور
أهملت فيكم الفضيلة من أه ... مل فيكم كتابها المسطور
لن ترى بين أهل مصر وفيا ... يقتضيه الوفاء إلا البدور
عهدنا بالوفاء أيام كان الد ... ين غضا تلين منه الصدور
وكان يكتب مقالات تدور حول هذه. المعاني. ومن أمثلة ذلك ما نشره في صحيفة مصر الفتاة تحت عنوان (ويحي من غد بمناسبة حلول شهر رمضان. ومما جاء في هذا المقال قوله: (. . . فستطلع علينا شمس الغد لا محالة ونحن بين رجلين، مذعن لأمر ربه، وخارج عليه. فأما الذين أمنوا وعملوا الصالحات فقلوبهم خاشعة لربهم، وأفواههم ملجمة إلا عن ذكره، ناطقة إلا بلغو الحديث. وما الجاهلون لأمر ربهم فمغررون يتبعون أئمة من(914/4)
شياطين الإنس ينهجون بهم مناهج ألغى قد ضربوا في الفلسفة حتى خرجوا منها أصفار الأكف خفاف العيان. وإذا سألت أحدهم ما خطبك أهذا وأهجر، وتشدق وتفيهق، لا تأخذه رهبة من الله، ولا يردعه حياء من نفسه، ليس بدعا من أعمال الناس أن يزرع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب ساعات معدودات فكثيراً ما نضطر إلى شيء من ذلك؛ وإنما المشقة في أن نؤدي حقا لله أو نقضي به له واجباً.
(ضعف في الإيمان وتزعزع في العقيدة. ولو كان هناك يقينا صادقاً أو قلوبا مطمئنة لهان علينا لإذعان لله والقيام بحقوقه وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين. ليصم من شاء وليفطر من شاء فلسنا من أمرهم في شيء. ولكن أقبل أبها الشهر الكريم فستلقاك وجوه باشة وصدور رحبة، ولئن كنت موسم نسك لقوم فإنك موسم لهو لآخرين)
والشيء الذي لا ريب فيه أن الشاعر حينما نظم هذه القصائد وكتب هذه المقالات لم يكن متكلفا ولا متصنعا، وإنما كان يرسل الفول شعراً أو نثراً - عقيدة ثابتة في قرارة نفسه، ممتزجة بدمه ولحمه لذلك انتفعت في دراستي لتطوره الفكري بما نظم ونثر في ذلك الوقت.
ومن قوله في هذه القصيدة:
حسبكم في الآداب ما قاله فل ... تير أو ما أتى به فيكتور
نعم ما قال هذا ... ونعما قال العليم الخمير
فخذوا من كلبهما بنصيب ... وتوخوا هداهما تستنيروا
والظاهرة الغالبة على شاعرنا هي الدعوة إلى الجد وترك اللهو والخمول والكسل. وهو يدعو إلى العمل المتواصل المنتج على أن نقلل من الكلام ما أمكن. وكان ساخطا على المجتمع المصري لما فيه عيون كانت سببا في تخلف الأمة وتأخرها. ولكنه على سخطه وتبرمه لم يكن متشائما ولا يائسا. بل كان الأمل يحدو والرجاء في نهضة الأمة يملأ فؤاده. أنظر إليه حين يقول من القصيدة المتقدمة.
كثر المدعون في مصر حتى ... كاد يقضي على البلاد الغرور
حسبكم يا بني الكنانة عجبا ... كسل مخجل وفخر كثير
ليكن قولكم أقل من الفع ... ل فلن يبلغ العلاء فخور(914/5)
أجمعوا إن أردتم السير للسؤ ... دد والمجد أمركم ثم سيروا
أو يقول من قصيدة أخرى نشرت في الصحيفة المذكورة بتاريخ 18مايو سنة 1909.
كاتب نائم وذو الشعر لاه ... وأديب سبته كأس الشمول
شاعر النيل لا عدتك العوادي ... هل لهذا السكوت من تأويل
أسلموا دارهم وعقوك يا ني ... ل فما إن لهم سوى التنكيل
فض فأغرقهمو فإنت حليم ... غض فأهلكهمو وغير بخيل
فظاهرة السخط الشديد هذه لن تجدها عند أحد من شعراء ذلك العصر فمما لا ريب فيه أن الطالب طه حسين قد انفرد بها دون سواه. لا يزال محتفظاً بها.
والدكتور طه حسين لا يعرف القناعة بل يعتبرها ضعفاً وخوراً. وقد نشأ على تلك العقيدة كما ترى من شعره فهو من غير شك صاحب روح قد بلغ الأوج في السمو والرفعة. فجدير بنا أن نسلك سبيله ونهتدي بهديه. وإني بهذا أقرر حقيقة من الحقائق.
قلنا إن الطالب طه حسين انضم إلى الحزب الوطني وأصبح داعياً من دعاته. وقد ظهر أثر ذلك في شعره فتراه يحمل على المحتلين حملة شعواء ويهاجمهم هجوماً عنيفاً، ويدعو إلى كفاحهم وجهادهم، ويظهر مقته وحقده على الأجانب الذين يمتصون دماء المصريين ويستنزفون أموالهم. ومما نظمه في ذلك قصيدة قيمة نشرت بمصر الفتاة بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1909 تحت عنوان (هم جائش).
تيمموا غير وادي النيل وانتجعوا ... فليس في مصر للأطماع
كفوا مطامعكم عنا أليس لكم ... مما جنيتم وما تجنونه شبع
يا للكنانة من منكود طالعها ... ماذا يجر عليها النوم والطمع
من مثل أبنائها في سوء صفتهم ... منها إذا ما اجتنوا من غرسهم وزعوا
هم الذين ابتنوا بالأمس واحتفروا ... فما لهم إن أرادوا حقهم دفعوا
لا يصنع الله للمستعمرين فكم ... يلقى بنوا النيل من جراء ما صنعوا
أكلما جاع غربي تيممنا ... حتى إذا اكتظ أغراه بنا الجشع
لا جاد مصرحياً. لا أخضب أبداً ... فحظ أبنائها من خصبها الضرع
يا نيل إن سغت للمستعمرين ولم ... تطب لأبنائك العلات والجرع(914/6)
فلا جرت ولا رويت ذا ظمأ ... ولا أمدك غيث واكف همع
ومنها:
الذنب ذنب بني مصر فإنهم ... الذين إذا ما استخضموا واخضعوا
هم الذين استبدت في حقوقهم ... يد الدخيل فما ذادوا ولا منعوا
هم الذين يقول الناس إنهم ... إن صادفوا ملهيا عن جوعهم قنعوا
لا أكذب الله كم فينا ذوو شمم ... إذا أريدت بهم مكروهة فزعوا
هذه القصيدة قيلت في أيام الوزارة البطرسية، وقد كان شعور السخط عليها شديداً. ولما كانت هي مجرد آلة في يد المحتلين كانت حملات الشعراء والكتاب موجهة في الحقيقة إلى السياسة البريطانية وإلى الأجانب الذين يسندون هذه السياسة ويشدون أزرها ولا شك في أن روح الشاعر قد بدأ سامياً. ومما لا شك في محيط الحزب الوطن قد أثر فيه وطبعه بهذا الطابع.
وقد هنأ الشيخ عبد العزيز جاويس حينما خرج من السجن بقصيدة نشرت في مصر الفتاة بتاريخ 23 نوفمبر سنة 1909 نذكر منها:
الآن حق لك الثناء ... فلتحي فلتحني وليحي اللواء
ولتحي مصر وحقها ... شاء العدى أو لم يشاءوا
تعلو بها أصواتها ... حتى ترددها السماء
ومنها:
إن كان ذكرك للجلا ... ء يسوء فليكن الجلاء
أو كان صوت الشعب عن ... دهم هو الداء العياء
فليعل صوت الشعب حتى ... يرجعوا من حيث جاءوا
سيرون أن الحق يأ ... بى أن يدوم له خفاء
سيرون أن الحق مه ... ما يهتظم فله العلاء
لم يسجنوك وإنما ... ردوا الأمور كما تشاء
ما إن أصابتك الإساءة ... بل لأنفسهم أساءوا
هذا هو الجانب السياسي في شعر الطالب الشاب طه حسين. وهو جانب مشرق، ترى فيه(914/7)
الشجاعة والإقدام والدعوة إلى التضحية بالمال والروح في سبيل الوطن والذود عن حياضه.
ولما عاد الخديوي عباس من الحجاز نظم الشاعر قصيدة نشرت في الجريدة بتاريخ 26 يناير سنة 1910 تحت عنوان (رجاء الدستور بعد الحج المبرور) ومما جاء فيها قوله:
أنت والدستور في الح ... ب لديها أخوان
ونرى حجك باليم ... ن لها نعم البشير
كن لوادي النيل حصنا ... من عوادي الحدثان
وامنح الدستور مصراً ... أنت إن شئت قدير
هل سمعت الصوت يدعو ... ك من القبر الكريم
إنما أنت على النا ... س وصي وأمين
لا تذدهم عن صراط ال ... حق والنهج القويم
أرض بالدستور مصراً ... ترض رب العالمين
وقد حاول الشاعر أن يخاطب الخديوي عن طريق العاطفة الدينية، فذكر القبر النبوي الكريم وأن النبي دعا الخديوي أئلا له إنما أنت وصي وأمين على الناس فاجعلهم يسلكون الصراط المستقيم ولا يكون هذا بغير الحكم الدستوري. فإن أنت منحت شعبك الدستور فقد رضى الله عنك، وإن حلت بينهم وبين ما يشتهون فقد عرضت نفسك لغضب الله ولا ينفعك حج ولا صلاة.
ننتقل بعد ذلك إلى الشعر الوجداني الذي نظمه الشاعر وصور فيه خلجات نفسه وما يتردد بين جوانحه من مشاعر مختلفة وأحاسيس متباينة كالرضى والسخط، والحزن والفرح، والتفائل والتشائم، والحب والبغض. فمن ذلك قصيدة نشرت في مصر الفتاة في 15 يناير سنة 1910 تحت عنوان (يوم القرآن) وقد قدم لها بقوله: (دعيت إلى حفل أقامه صديقي الأديب الأستاذ الشيخ أحمد حسن الزيات مساء الخميس الماضي لعقد قرائه. فلما أجبت الدعوة راقني ما كان في الحفل من جمال ولا سيما ذلك النوع من الغناء القديم الذي طالما اشتقت إلى سماعة)
قال:(914/8)
يا خليلي سلامي ... حبذا يوم القران
حبذا أمس فقد أد ... نى نوالا غير دان
حبذا ليلة أمس ... راق لي فيها زماني
ليلة قد نلت فيها ... من حظوظي ما شفاني
أنا لا أحمد منها ... حسن توقيع الأغاني
إنما أحمد منها ... حسن أنسى بفلان
لم أزل أقصف حتى ... خلت أني في الجنان
بينما نحن على ذ ... لك زف القمران
آه يا زيات ما أج ... مل ساعات الأماني
هن قد هجن لنفسي ... ذكر سحر وعنان
أنا لولا سوء حظي ... لم أكن إلا ابن هاني
يا شقيق النفس ضاق ... الشعر عن نظم التهاني
لا تلمني إن دعوت ... الشعر والشعر عصاني
جل حبي لك يا زيات ... عن وصف البيان
ومن الظواهر التي نقف عليها في شعره الشكوى من البؤس وهذا النوع من الشكوى كان مألوفا بين الشعراء في تلك الأيام. ومما في هذا الصدد قصيدة نشرت في مصر الفتاة بتاريخ 27 نوفمبر سنة 1909 تحت عنوان (شكاة الأديب) وقد جاء فيها:
إذا شكا البؤس كل ندب ... فقد نجا منه شاعران
بيننا نعانيه كان شوقي ... يقصف في كرمة لبن هاني
وحافظ في قطار يلهو ... مشرود الهم غير عاني
أذاك أم مسه شقاء ... فانتجع الوصل المداني
ثم أنثى وهو بالصفايا ... من صلف الدهر في ضمان
فليطلب الشاعران نفسا ... إنا رضينا بما نعاني
ما سرني ساعة كبؤسي ... والأدب الغض صاحبان
ويقول في قصيدة أخرى نشرت بمصر الفتاة بتأريخ أول أكتوبر سنة 1909.(914/9)
علم الله أن حظي في البؤ ... س كبير لكنني غير عاني
كل حظي من السعادة أني ... رضت نفسي على خطوب الزمان
وغشى الشاعر أحد الملاهي مرة فكتب في الجريدة بتاريخ 31 يوليو سنة 1911 فقال (كنت منذ أيام في ملهى من الملاهي العامة التي يجب أن تتخذ مثالاً صادقاً لذوق الجمهور، وقد يكون هذا التصريح خطراً جداً، فإن الجمهور لا يقبل من كاتب مثلي أن يزج نفسه بين صفوفه في المراقص وأندية الغناء، بل إن أسرتي نفسها قد تنكر على ذلك أشد الإنكار لأنها لا ترضى مني إلا أن أسلك سبيلاً واحدا هو ما بيت البيت والمدرسة.)
وله شعر في الغزل يغلب على الظن أنه من وحي الخيال كقوله من قصيدة نشرت في مصر الفتاة في 27نوفنبر سنة1909.
كم حمد الغيد من بلائي ... مذ كان لي بالهوى يدان
تحكم الغيد في دهراً ... ثم انثنى عنهم عناني
لا أكذب الله إن عاماً ... مضى حثيثاً بلا تواني
إذا تذكرته استهلت ... دموع عيني كالجمان
إذ أنا في لذة وأمن ... أباكر اللهو غير وأني
أرضيت بالطيبات نفسي ... في غير إثم ولا افتنان
ما أخذ الكاتبان سوءا ... يذودني عن ربي الجنان
إن كان في قبلة جناح ... فإنني منه في أمان
لم أستبح نيلها فجوراً ... بل قل بالحل (مفتيان)
قد نلتها واستزدت منها ... لو بعض مل نلته كفاني
ثم طوى الدهر ذاك عنا ... ليت الردى قبلها طواني
وهو حتى في هذه القصائد التي يتغنى فيها بالحب والجمال ويتحدث عن الحسان كان يدعو إلى التمسك بأهداب للفضيلة انظر إليه حين يقول من قصيدة نشرت بالجريدة في 14 فبراير سنة 1910 تحت عنوان (زلة في الحياة).
أي هذا العاشق المد ... نف حب الحق أولى
دونك العشق إذا ش ... ئت ولكن للفضيلة(914/10)
أنا أنهاك من الأه ... واء عما كان جهلا
إنما أربأ بابن الني ... ل عن حب الرذيلة
وكثيراً ما دعا في شعره إلى هذا النوع من الغرام وتراه يدافع ويناضل عن مذهبه الغرامي ويرد على من ينكر عليه ذلك مسفهاً رأيه، ومثال ذلك قولة من قصيدة نشرت في مصر الفتاة بتاريخ 7 يناير 1910 تحت عنوان (ليت للحب قضاة)
سيقولون حرام ... قلت ليست بحرام
إنما حرم ربي ... في الهوى ما كان رجسا
أي دين أو كتاب ... لم يبح ورد الغرام
لا شفى الله لأهل الم ... ين والتضليل نفسا
ثم يستمر الشاعر في قصيدته فيبين لنا الحب الطاهر والحب المدنس؛ فالأول لا يحرمه دين من الأديان، أما الثاني فمحرم قطعا. وهو إن تعني بالحب فإنما يقصد ذلك الحلال المباح. ثم أحذ يحذرنا من خداع النساء تحذيراً زعم أنه صادر عن تجربة واختبار قال:
إن للغيد خداعا ... ربما فات الفطن
أنا قد جربت منه ... إن تصدقني صوفا
ليس يكفي غدرات ... الغيد قوال لسن
إنما بأمن مكر الغي ... د من كان شريفا
ولم أر لصاحبنا شعراً في غير الأغراض المتقدمة، اللهم إلا قصيدة واحدة في الهجاء نشرت في الجريدة بتاريخ 28نوفمبر سنة 1911 تحت عنوان (إلى عبد الرحمن شكري) وهي:
قل لشكري فقد غلا وتمادى ... بعض ما أنت فيه يشفي الفؤادا
بعض هذا فأنت في الشعر والن ... ثر أديب لا يعجز النقادا
لو تفهمت قولنا لم يكلف ... ك هوى نقدنا الضنى والسهادا
عد إليه تجد شفاءك فيه ... إنما نمقت الحديث المعادا
واقتصد في الغلو إن لدينا ... إن تسائل بنا نصالا حدادا
خل عنك القريض إذ لست أمضي ... فيه سهما ولا بأوري زنادا(914/11)
إن تكن مكثراً فرب مقل ... حاول القول مرة فأجادا
كن إذا شئت آمناً مطمئنا ... لم نحاول لما تقول انتقادا
ذلك شعر طه حسين أيام كان طالباً بالأزهر منذ أربعين سنة وهو يدل على أنه نشا شاعراً بالفطرة وقال الشعر وهو صبي، وأخذت شاعريته تنمو نمواً مطرداً سريعاً يصاحبها إحساس فياض وعواطف حارة وشعور متدفق. وقد شهد له إخوانه في الأزهر بذلك وأقروا له بالسبق واعترفوا بفضله وتفوقه عليهم. وكثيراً ما تجد في نثره سمات الشعر.
أما شهره فقد كان فيه مجداً مبتكراً. قال الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات في خطبته المتقدمة (بعد عامين من هذا التاريخ (يقصد بعد عام 1905) استطاع بطلنا أن ينزل الشعر، على حكمه ويروضه لذوقه فصاغ الشعر الحضري العصري في مختلف الأوضاع، لأنه وإن كان محافظاً في اللغة فإنه حرفي الشعر؛ رأى ما يثقل الشعر العربي من قيود القافية فوقع في نفسه أن ينفس عنه فاخترع له الأضرب المختلفة والقوافي المتنوعة على نحو ما يصنع الإفرنج في شعرهم، إلا أن شعره أجمل وأكمل لاحتفاظه بالذوق العربي والطابع الشرقي.) وهكذا أراد الشاعر الناشئ أن يخفف من قيود الشعر العربي وأن يجعله سهلا مرنا لا يحتاج إلى عناء وتعب. وقد شاع هذا المذهب عند بعض الشعراء في تلك الأيام.
وشعر الطالب طه حسين يفيض رقة وعذوبة، وقصائد الغرامية أسبه بالأدوار الموسيقية والمقطوعات الغنائية، عليها مسحة فنية جميلة، فكأنها قيلت للغناء. أنظر إلى قوله:
شادن عطف ... عطفه الحبيب
بعد أن صدف ... صدفة الملول
كم سبي ... قوله الخلوب
يملك القلوب ... ثم لا ينيل
كل ذي السهود ... منه بالنوال
إن في الجمال ... عثرة الجدود
فأنت ترى شعراً غنائياً جميلاً، ينبعث منه صوت حنون نكاد نرقص منه طرباً. وقد ظهر الشاعر أمامنا ممسكا بقيثارته ليحرك مشاعر ويهز عواطفنا ويملك قلوبنا بهذه الأنغام العذبة(914/12)
والشيء الذي نأسف له هو أن الشاعر قد اضطرته الحياة الجامعية إلى التخلي عن صوغ الشعر. فبعد عام 1910 لا نجد له من القصائد إلا النادرة. ولكنه ظل محتفظا بشهرته كشاعر إلى عام 1914 وهو العام الذي سافر فيه إلى أوربا. وقد رأينا الأستاذ الزيات يقول في خطبته التي ألقاها في صيف ذلك العام ما نصه.
(. . ولولا أن شعره مشهور مذكور لأوردت منه المعجب المطرب. .)
ولكن الشاعر منذ سافر إلى أوروبا في عام 1914 لم نر له ولا بيتا واحدا. فقد هجر القريض هجرا تاما. ونسي الناس هذا الشاعر الموهوب، بل ربما يكون هو نفسه قد نسي شعره.
محمد سيد الكيلاني(914/13)
الجامعة في ربع قرن
للأستاذ محمد محمد علي
تحتفل جامعة فؤاد الأول بمرور ربع قرن على مولدها الرسمي السعيد. وربع قرن أمد بعيد في عمر الأفراد، ولكنه ليس كذلك في حياة الجامعات. فقد احتفلت جامعة مونبلييه بعيدها الألفي ولماذا نذهب بعيداً وأمامنا الأزهر الشريف؟
وليس من شك في أن الجامعة عنوان تقدم المجتمع، وأن أثرها بعيد في إعداد الشباب لخدمة الوطن والمساهمة في حل مشكلاته والتحمس لإصلاحه.
وقد اتخذت الجامعة لها مقرا على الضفة الغربية للنيل. وفي ذلكم - كما رأى الدكتور زكي مبارك - رمز لما تسمو إليه من نقل عقل الغرب إلى روح الشرق.
أنشئت الجامعة (الأميرية) في عام 1925 بلا أهداف واضحة ومن غير رسالة محددة. وهنا يواجهنا أستاذنا الدكتور عباس عمار بتلك الحقيقة المرة؛ وهي أن النظام الجامعي يبدو أنه فرض علينا فرضا، فلم يأت كما حدث في كثير من بلدان العالم الغربي نتيجة تطور طبيعي، وما دعت إليه وقتئذ حاجة ماسة. (وليس أدل على ذلك من غموض النص على اختصاص الجامعة في اللائحة التأسيسية لها. فمن اختصاصها مهمة تشجيع البحوث العلمية والعمل على ترقية الآداب والعلوم في البلاد.
ذلك أن النظام الجامعي - ككل نظام اجتماعي - لكي يؤتى أكله ويستسيغه الأفراد، لا بد أن يعبر عن الاتجاهات الحديثة التي يتجه إليها المجتمع، وأن ينسجم مع النظام الاجتماعية الأخرى ويتفق مع وجهة المجتمع. ولقد أثار الأستاذ الكبير فريد يك أبو حديد مشكلة على جانب كبير من الأهمية، وهي: هل كان نشر التعليم حقا هو العمل علة نهضة الأمم في الماضي؟ وهل كان تطور التعليم في البلاد، أم أن تطورهكان نتيجة تطور الحياة في المجتمع.
وانتهى الأستاذ في بحثه إلى أن تطور الحياة في المجتمع هو الباعث على نشر التعليم. بيد أنه كان الكثير من مظاهر نهضتنا الحديثة لم يكن نتيجة تطور طبيعي، فإن التعرض لهذه الناحية فيه زعزعة لأركان هذه النهضة. فهل كان ينبغي أن نعيش بمعزل عن التيارات العالمية ونتخلف عن الركب؟ إننا لا نستطيع، فالعالم وحده متشابكة المصالح معقدة(914/14)
الروابط. والرأي السليم هو أن يوفق أولو الأمر بين الجامعة (الجديدة) وبين ما تتطلبه الحياة المصرية، وألا يغفلوا عن مكانة الجامعة في المجتمع، وما تؤديه من رسالة خطيرة.
حلت كليات الجامعة محل المدارس العليا القديمة وسارت في عملها. ومع ذلك فقد ظهرت لها مآثر جليلة وآثار عظيمة. وقد كان في مقدمة ما قامت به من جلائل الأعمال هو إيقاظ الوعي القومي وشحذ العزائم والهمم. كما كانت الجامعة - ولا زال - مبعث النور والعرفان، ومصدر أصوات الحرية والاستقلال، فحملت ألوية الجهاد في سبيل مصر العزيزة، ولم تبخل في كفاحها فروت أرض الوطن بدماء الشهداء الأبرار من أبنائها الأطهار.
وما ينبغي أن ينكر الباحث صولات الجامعة وجولاتها في النهضة الأدبية والعلمية والفنية؛ إذا ازدهرت الدراسات العليا في مختلف النواحي والشؤون، فلم تعد مصر تعيش عالة على ما تجود به الحضارة الغربية بل نبغ من بين جدران الجامعة من بزوا رجال الغرب ونافسوا؛ فئة تعتز بهم الجامعة وتفخر، ويكفي أن نذكر اسم العالم الأشهر (المرحوم) مشرفة باشا، والوزير الأديب طه حسين باشا، والبروفسير الأثرى سليمان حزين، والأنثروبولوجي الاجتماعي عباس عمار، لتخر أشهر الجامعات ساجدة تشيد بفضل صاحبة أقدم حضارة نقلت العالم من الظلمات إلى النور، وتعترف بأنه يصعب عليها أن تخرج أمثال هؤلاء الرجال. . .
ومما لوحظ على الجامعة خروجها من عزلتها، فظهرت ثمار النشاط الشعبي للجامعين والجامعيات في إقبال الطبقات المختلفة على طلب العلم، وفي نشر الآداب وتبسيط العلوم والفنون. ولعل من أروع ما صحب الجامعة من ظاهرات: ظاهرتين خطيرتين هما: اختلاط الجنسين وما نتج عنه من تدعيم أركان النهضة النسائية، ثم تطور الصحافة وتنوير الرأي العام
أما اختلاط الجنسين فأن كلية الآداب قد سبقت الكليات في إباحته، وذلك بحكم إن دراساتها من أكثر الدراسات الجامعية ملاءمة للفتيات. . .
والاختلاط قد يرضي عنه قوم ويسخط عليه آخرون. وفي الواقع أن الاختلاط - كأي ظاهرة اجتماعية - له فوائد ومضار ولم يكن في الإمكان تفادي حدوثه تلبية لدعوى(914/15)
المحافظين، مادمنا قد وافقنا على أنه ليس في استطاعة أمة أن تعيش بمعزل عن العالم، بل لابد من التأثير والتأثر. فمن مزايا الاختلاط أنه يقلل من (خشونة) الجنس الخشن (إن جاز أن نكون كذلك) ثم أهم من ذلك وهو الحد من سيطرة الغريزة الجنسية وتخفيف وطأتها عند كل من الجنسين. وقد دلت الأبحاث النفسية على أن الجنسية المثلية الجنسين، وكراهية المرأة الذكور، وكثيرا من الأمراض النفسية والعصبية سببها الحيلولة اختلاط الجنسين ووقوف كل منهما بمنأى عن الآخر. ونجد أحيانا أن الاختلاط يهدف إلى أغراض شريفة أو ينتهي الأمر بإقامة دعائم الأسرة. . ومهما قيل عن الاختلاط فإن الجامعة ليست هي المكان الوحيد الذي يسمح بالاختلاط، ثم إن ظروفها قلما تساعد على التفكير في الفساد. . . على أن الاختلاط لا يخلو من مضار، لا مندوحة عن تلافيها أول الأمر كما قدمنا. . وينبغي أن نعترف بوجودها
وقد كان فتح الجامعة أبوابها للفتيات عاملا هاما في تدعيم أركان النهضة النسائية والعناية بتعليم الفتاة، وانتشال المرأة المصرية مهما كانت تغط فيه من جهالة جهلاء وضلالة عمياء. . . حتى رأينا المصرية المتعلمة تشغل مناصب الدولة الرفيعة وتصل إلى (الدرجة الأولى)، وتخوض غمار الحياة الاجتماعية والسياسية وتؤلف أحزاباً ثلاثة: بنت النيل والحزب النسائي والاتحاد النسائي، إلى جانب الجمعيات والمنظمات النسائية
أما الصحافة فإنا نسجل لكلية الآداب مأثرة كبيرة، إذ أفادت صاحبة الجلالة فائدة عظيمة، وغذتها بغذاء دسم سمين، بإنشائها معهد التحرير والترجمة والصحافة. فظهرت آثار ذلك في تنوير الرأي العام وإيقاظ الوعي القومي. وقد خطت الصحافة خطوة واسعة في خدمة الوطن وتعددت أنواعها ومما هو جدير بالذكر ظهور الصحافة النسائية كعامل فعال في النهضة الحديثة.
ويمكن إرجاع ظهور الصحافة إلى عام 1892 حين أصدرت (هند بنت نوفل) صحيفة (الفتاة) على أن الجامعة هي صاحبة الفضل في نصرتها ونموها، وهنا ينبغي أن نشيد بجهود الدكتورة درية شفيق في هذا الميدان.
بيد أن الجامعة - مع قيامها بهذه الجلائل من الأعمال - فإنها قد أخفقت في تأدية رسالات كثيرة، وفي هذا الإخفاق مآخذ يحق لأبنائها أن يأخذوها عليها.(914/16)
فلم تنجح الجامعة في تعميم الدراسة باللغة العربية في جميع الكليات، وما كان لها أن تتغافل عن العمل ونحن في مستهل نهضتها القومية.
ثم مسألة الصلة بين الجامعة والخريجين لم تعمل الجامعة شيئاً في هذا الاتجاه، واقتصرت على الصلة بينها وبين طلبتها. بل أنه أحياناً نجد الصلة بين الأستاذ والطالب لا تتعدى ساعة المحاضرة لكن لا ينبغي أن ننكر ما في قسم الجغرافيا بكلية الآداب من نظم الحياة الجامعية الحقة، إذ ساعدت قلة العدد على توثيق عرى الروابط بين الطلبة والطالبات والأساتذة، هذا إلى جانب الرحلات أدى إلى تكوين (الأسرة الجغرافية).
ولا تزال ظاهرة الحفظ والتقيد (ببعض) ما جاء في كتب معينة، واضحة في بعض الكليات، مما جعل شبه استمرار للمدرسة الثانوية، ويبلد الذهن ويزيد من أمية المتعلمين.
والنقطة الهامة هي تأثير الجامعة بالسياسة الحزبية، فقد فشلت الجامعة فشلا ذريعا في تحصين أبنائها وبناتها ضد عبث الأحزاب المختلفة، فأصبح من السهل على قلة من المهرجين وفئة من الديماجوجيين أن يسمموا أفكار الشباب وأن يجرفوهم في تياراتهم، لم تخط الجامعة خطوات حاسمة في تعويد أبنائها التفكير الحر، ولم تبث فيهم روح التحمس الجدي للإصلاح، ولا يغرب عن بال ما دسته هذه الأحزاب من أفكار سامة لوث التعليم الجامعي إذ تدور حول الحقد والطمع والطعن في الغير بالحق وبالباطل.
ومع ذلك فقد لاح في الأفق بصيص من الأمل بتولي الدكتور طه حسين باشا أمور التعليم، وأصبح لجامعة فؤاد الأول أخوات ثلاث، نرجو أن تعمل كلها على تحقيق رسالة الجامعة في المجتمع، وأن توجه عنايتها للكيف لا للكم.
فإنا نعلق على همة الوزير الأديب آمالا كبارا ونرجو على يديه خيرا كثيراً.
محمد محمد علي
مدرس بمدرسة مفاغة الثانوية(914/17)
غزو بدر بين القرآن والشعر
بين الشعر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 2 -
أما موقف الشعر من هذه الغزوة فلم يستطع شعراء المسلمين أن يصوروا جلالها، وما امتلأت به نفوس المسلمين من غبطة وابتهاج إزاء هذا النصر المؤزر، فما روى لنا من شعر قيل في تلك الغزوة لا يناسب مالها من جلال؛ وإن المرء ليحار في تعليل هذه الظاهرة:
فقد يكون من أسبابها أن الفخر والتباهي والزهو مما كان مألوفا عند العرب، قد حد الدين الجديد منه، فلم يستطع الشعراء أن ينطلقوا على سجيتهم الأولى في حرية غير محدودة.
وقد يكون من أسبابها عقيدتهم بأن هذا النصر إنما أمدهم به الله، فلم يكن من نوع هذه الانتصارات التي كانوا يحرزونها في الجاهلية، يعتقدون أن شجاعتهم هي التي أحرزتها.
وقد يكون من أسباب ذلك النصر المؤزر ربما كان وراءه في قرارة نفوسهم ألم عميق على ما أصاب بعض لأقاربهم في هذه المعركة من القتل أو الأسر، فإنه مهما تغلغلت العقيدة في النفس لا يسلم المرء من تذكر هذه الصلة الطبيعية، ورحم الله البحتري إذ يقول:
وإذا احترت يوما ففاضت دمائها ... تذكرت القرى ففاضت دموعها
شعر المسلمين في هذه المعركة ليس بقوى في جملته، وقد انتحى فيه الشعراء مناحي شتى: فحيناً يتجهون على العقيدة المشركين، يعيرنهم بها، كما قال حسان بن ثابت:
جمحت بنو جمح بشقوة جدهم ... أن الذليل موكل بذليل
جحدوا الكتاب وكذبوا بمحمد ... والله يظهر دين كل رسول
وتأثر بعض الشعراء بالقرآن الذي نزل في تلك الغزوة، فتحدث عن الشيطان الذي غر المشركين وأغرهم، حتى إذا وجد الدائرة قد دارت عليهم، تاركا جنده للهزيمة والأسر، وتحدث عن الملائكة الذين أمد الله بهم جند المسلمين، قال حمزة:
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر(914/18)
لواء ظلال قاد إبليس أهله ... فخافس بهم، إن الخبيث إلى غدر
فقال لهم، إذ عاين الأمر واضحاً ... برئت إليكم، ما بي اليوم من صبر
فإني أرى مالا ترون، وإنني ... أخاف عقاب الله، والله ذو قسر
فقدمهم للحين، حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر
وفينا جنود الله حين يمدنا ... بهم في مقام ثم مستوضح الذكر
فشد بهم جبريل تحت لوائنا ... لدى مأزق فيه مناياهمو تجري
وألم ببعض هذا المعنى حسان بن ثابت فقال:
سرنا وساروا إلى بدر لحينهمو ... لو يعلمون بعين العلم ما ساروا
دلاهمو بغرور، ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
وقال: إني لكم جار، فأوردهم ... شر الموارد، فيه الخزي والعار
كما سجل حسان ما قاله الرسول الكريم، يوم وقف على القليب، وقد طرح فيه قتلى المشركين، فقال: (يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) فقال له أصحابه: (يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟! فقال لهم: (لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق) سجل ذلك حسان في قصيدة يقول فيها:
يناديهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا حديثي كان حقا ... وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا، ولو لقالوا ... صدقت، وكنت ذا رأي مصيب
ومضى شعر المسلمين يسجل على قريش بغيها، وبطرها الذي سجله القرآن من قبل، فقال كعب بن مالك:
عجبت لأمر الله، والله قادر ... على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقي معشراً ... بغوا، وسبيل البغي بالناس جائر
وقد حشدوا واستنفروا من بليهم ... من الناس، حتى جمعهم متكاثر
وقال حمزة:
ألم تر أمراً كان من عجب الدهر ... وللحين أسباب مبينة الأمر
وما ذلك إلا أن قوماً أفادهم ... فحانوا - تواص بالعقوق وبالكفر(914/19)
ويسخر بهم وبدعاويهم التي يبعثها الرياء والغرور، قال أحد شعراء المسلمين:
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم ... وماء بدر، غير مورود
وقد وردنا ولم نسمع لقولكم ... حتى شربنا رواء غير تصريد
وقال حمزة ساخراً:
عيشة راحوا نحو بدر بجمعهم ... فكانوا رهونا للركية من بدر
أما من فر من المشركين يوم بدر فقد أشتفي منه شعر المسلمين بالتعيير والهزاء والزراية، ومن أوجع ما قيل ي ذلك ما أنشأه حسان بن ثابت في قصيدة تعد من أقوى ما قيل من الشعر في غزوة بدر، وسجل فيها فرار الحارث بن هشام، وتركه أخاه عمرا (أبا جهل) يقتل في ميدان القتال، فبعد غزل بدأه حسان بقوله:
تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تسقي الضجيع ببارد بسام
وتخلص من الغزل قائلا:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
وبنو أبيه ورهطه في معرك ... نصر الإله به ذوى الإسلام
لولا الإله وجريها لتركنه ... جزر السباع، ودسنه بحوامي
ولم يحتمل الحارث بن هشام هذا التعيير وأوجعه، واضطر أن يبرر فراره أمام القوم، فقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل، ولا بضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم، والأحبة فيهم ... طعماً لهم بعقاب يوم مرصا
وكان لهذا الحادث أثره ولا ريب في نفسي الحارث، فأكثرها من الشعر يتهدد به المسلمين ويتوعد، كأنما ينفس به عن نفسه ومن أكثر ما وردده شعراء المسلمين يومئذ تعديدهم عظما صرعى قريش ووصف هوانهم، ملقين على أرض المعركة، ينتظروهم مصير مؤلم في نار جهنم، ووصفهم الأسرى وقد شدوا بالأغلال وقيدوا بالأصفاد وها هو ذا حسان دائرة(914/20)
المعركة التي دارت على المشركين، فيقول:
طحنتهمو والله ينفذ أمره ... حرب يشب سعيرها بضراء
من كل مأسور يشد صفاده ... صقر إذا لاقى الكتيبة حامي
ومجدل، لا يستجيب لدعوة ... حتى تزول شوامخ الأعلاء
بالعار والذل المبين إذ رأوا ... بيض السيوف تسق كل هماء
ويقول كعب بن مالك:
بهن أبدنا جمعهم، فتبددوا ... وكان يلاقي الحين من هو فاجر
فخر أبو جهل صريعاً لوجهه ... وعتبة قد غادرنه وهو عاثر
وشيبة والتيمي غادرن في الوغى ... وما منهم إلا بذي العرش كافر
فأمسكوا وقود النار في مستقرها ... وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم، وهي قد شب حميها ... بزبر الحديد والحجارة ساجر
وأشد حسان وكعب بن مالك بموقف الأوس والخزرج من نصرة الرسول، ولم يشيروا إلى بلاء المهاجرين في تلك المعركة على عكس القرآن، فإنه مدح المهاجرين والأنصار معاً، كما ذكرنا: ولعل ذلك راجع إلى جمهرة الجيش كانت من الأنصار، قال كعب بن مالك:
وفينا رسول الله، والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر
وجمع بنى النجار تحت لوائه ... يمشون (المأذي) والنقع ثائر
وصمت الشعر عن دور المهاجرين، الذين فضلوا العقيدة على المال والأهل، بل حاربوا الأهل عن رضا، في سبيل هذه العقيدة، ولكن القرآن سجل لهم أيمانهم الحق , ووعدهم وظهرت روح الإسلام في شعر المسلمين، فرأينا فخراً بالالتفاف حول الرسول وطاعته والإئتمار بأمره، وتصديق دينه، قال شاعرهم
مستعصمين بحبل غير منجدم ... مستحكم من حبال الله ممدود
فينا الرسول، وفينا الحق نتبعه ... حتى الممات ونصر غير محدود
واف وماض شهاب يستضاء به ... بدر أنار على كل الأماجيد
ورأينا اعتماداً على الله واستناداً إلى قوته في قول حسان:
فما نخشى بحول الله قوماً ... وإن كثروا، وأجمعت الزحوف(914/21)
إذا ما ألبوا جمعاً علينا ... كفانا حدهم رب رؤوف
ولم ينس المسلمون ما هددهم به المشركون من الإغارة عليهم والأخذ بالثأر، فهون شعراء من ذلك، بل أكدوا أن سيأتي يوم يغزون فيه مكة، ويستولون عليها، وقال كعب ابن مالك:
فلا تعجل أبا سفيان، وارقب ... جياد الخيل تطلع من كداء
أما موقف شعراء المشركين من تلك الغزوة، فيظهر أن قريشا توصلت على أن تخفى حزنها في صدرها، وألا تبوح بآلامها، روى أن قريشاً ناحت على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا، فيبلغ محمداً وأصحابه، فيشمتوا بكم، فكف الشعراء عن البكاء، برغم ما كان يعتلج في صدورهم من الهم والأسى.
يروي أن الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث؛ وكان يجب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له: أنظر، هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على ابن حكيمة (يعني زمعة)، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فعند ذلك قال الأسود:
أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها البكاء من الهجود
فلا تبكي على بكر، ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود
وبكي إن بكيت على عقيل ... وبكى حارثاً أسد الأسود
وبكيهم، ولا تسمى جميعاً ... فما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا
ولكن لم يلبث الشعر أن انطلق من عقاله، ومضى الشعراء يتحدثون عما يجيش في صدورهم من الألم والغيظ معاً، فمضى بعض الشعراء يبكي في حزن ومرارة من لقي مصرعه في وادي بدر، ويعدد عظماء هؤلاء القتلى، ويصف ما نال مكة من الأسى لقتالهم، فهذا شداد بن أوس يقول:
تحيى بالسلامة أم بكر ... وهل لي بعد قومي من سلام
فماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزي تكلل بالسنام(914/22)
وهذا أمية بن أبي الصلت يبكيهم، ويثنى عليهم، ويصف هم مكة بهم، فيقول:
ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولى الممادح
ماذا ببدر فالعقن ... قل من مرازية جحاجح
شمط وشبان بها ... ليل مغاوير وحاوح
ألا ترون كما أرى ... ولقد أبان لكل لامح
أن قد تغير بطن مكة، ... فهي موحشة الأباطح
ومضى بعض الشعراء مصابهم الخاص، أو يندبون بني قبيلهم، أو يرثون بعض عظامهم، ومن أمثلة ذلك رثاء الحارث بن هشام لأخيه أبي جهل، إذ يقول فيه:
ألا يا لقومي للصبابة والهجر ... وللحزن مني والحرارة في الصدر
وللدمع من عيني جواداً، كأنه ... فريد هوى من سلك ناظمه يجري
على البطل الحلو الشمائل إذ ثوى ... رهين مقام للركية من بدر
ورثاء أمية بن أبي الصلت لصراعي بني أسد، وهو يمثل الحزن الدفين في صدورهم:
فبنو عمهم إذا حضر البأ ... س عليهم أكبادهم وجعة
ولم يبك أبا جهل أخوه الحارث فحسب، ولكن بكاه غيره من الشعراء، فقد كان رأساً من رؤوس قريش، فرثاء بعضهم بشعره كهذه القصيدة التي تنسب إلى ضرار بن الخطاب الفهري، والتي يقول فيها:
فآليت لا تنفك عيني بعبرة ... على هالك بعد الرئيس أبي الحكم
على هالك أشجى لؤي بن غالب ... أتته المنايا يوم بدر، فلم ترم
وأخذ بعضهم يتوعد، وينذر الأوس والخزرج بالانتقام والأخذ بالثأر، ويخفف من غلواء الأنصار فيما ملأ قلوبهم من الابتهاج بالنصر، ويدعو المكيين دعوة حارة إلى ألا يناموا على الضيم، وأن يجمعوا أمرهم على أن يأخذوا بثأرهم، وتسمع النزعة القلبية صارخة، والفخر بالنسب قويا، حين يوازنون بينهم وبين الأوس والخزرج، ويدعون إلى الدفاع عن معتقداتهم وألهتهم التي ورثوا عباداتهم عن آبائهم، وامتلأ بذلك كله شعر المشركين من أهل مكة، فترى الحارث بن هشام يقول:
فإن لا أمت يا عمر وأتركك ثائراً ... ولا أبق بقيا في إخاء ولا صهر(914/23)
وأقطع ظهرا من رجال بمعشر ... كرام عليهم مثل ما قطعوا ظهري
أغرهم ما جمعوا من وشيظة ... ونحن الصميم في القبائل من فهر
فيال لؤي، ذببوا عن حريمكم ... وآلهة لا تتركوها
توارثها آباؤكم، وورثتمو ... أواسيها والبيت ذا السقف والستر
وجدوا لمن عاديتم، وتوازروا ... وكونوا جميعاً في التأسي وفي الصبر
ويقول ضرار بن الخطاب:
عجبت لفخر الأوس، والحين دائر ... عليهم غداً، والدهر فيه بصائر
وفخر بني النجار أن كان معشر ... أصيبوا ببدر، كلهم ثم صابر
فإن يك غورت من رجالنا ... فإن رجالا بعدهم سنغادر
ونترك صرعى تعصب الطير حولهم ... وليس لهم إلا الأماني ناصر
وتبكيهم من أهل يثرب نسوة ... لهن بها ليل عن النوم ساهر
ولم ينس بعضهم أن يفتخر بما أبلى في ذلك اليوم من دفاع عن الصحب، وإقدام في هذا الموطن الذي اعترف الشاعر بقسوته عليهم وشدته، ونرى ذلك في شعرهم أبي شعر أبي أسامة معاوية بن زهير إذ يقول معترفا بفرارهم، وقتل الكثير من رجالاتهم:
ولما أن رأيت القوم خفوا ... وأن شالت نعامتهم لنفر
وأن تركت سراة القوم صرعى ... كأن خيارهم أذباح عتر
وكانت جمة وافت حماما ... ولقينا المنايا يوم بدر
نصعد عن طريق وأركونا=كأن زهاءهم غيطان بحر
وقال القائلون: من ابن قيس ... فقلت: أبو أسامة غير فخر
فأبلغ مالكا لما غشينا ... وعندك مال، إن نبثت، خبري
بأني إذ دعيت إلى أفيد ... كررت، ولم يضيق بالكر صدري
عشية لا يكر على مضاف ... ولا ذي نعمة منهم وصهر
وشاركت المرأة المشركة الرجل في البكاء على صرعى بدر، وروى ابن هشام بعض شعر شاعراتهم، كهند بنت عتبة، وصفية بنت مسافر، وهند بنت أثاثه، فما يروي لأولادهن قولها:(914/24)
أعيني جودا بدمع سرب ... على خير خندق لم ينقلب
تداعى له رهطه غدوة ... بنو هاشم وبنو المطلب
يذيقونه حد أسيافهم ... يعلونه بعد ما قد عطب
يجرونه وعفير التراب ... على وجهه عاريا قد سلب
ومن أجمل ما قالته المرأة من الشعر في هذه الغزاة ما أنشأته قتيلة بنت الحارث، تبكي أخاها النضر، وتعاتب الرسول:
يا راكبا، إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موافق
أبلغ بها ميتاً بأن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها، وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد، يا خير ضنء كريمة ... في قوامها، والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنصر أقرب من أسرت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
ويروي أن رسول الله لما بلغه هذا الشعر قال: (لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه).
كان شعر المشركين في جملته أقوى في تلك الغزوة من شعر المسلمين ولا غرو فإنهم كانوا موتورين، وكانت ريح الانتقام والغضب تفوح من شعرهم، حتى ليخيل إليك أنهم قد مضوا إلى الأخذ بثأرهم:
ويلاق قرن قرنه ... مشى المصافح للمصافح
وبعد فقد صور القرآن الغزوة تصويراً ألهيا، يتخذ منها دروساً وعظات لهداية البشر وإصلاح أمورهم، أما الشعر فقد تحدث عن عواطفه شخصية ليس لها طابع إنساني عام.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم جامعة فؤاد الأول(914/25)
رسالة الشعر
صلوات روح
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
سموت بالروح إلى خالقي ... في ليلة نشوى بخمر الضياء
ذابت بها الظلمة حتى غدت ... أسطورة طال عليها العفاء
ورق فيها النور مسترسلا ... كهمس ناي هاشم في فضاء
ما زلت أسموا، والمنى في يدي ... رفاقه مثل النجوم الوضاء
وفي شعوري نشوة حلوة ... تسكب في نفسي أرق الغناء
وملء نفسي فتنة ترنوي ... من روعة الليل، وسحر المساء
حتى انتهت روحي بأشواقها ... لمنهل الغيب الذي في سماء
كما انتهي للنبع بعد السري ... في البيد ركب الحائرين الظماء
فانتفضت فيها ضراعتها ... وأطلقت في الصمت هذا النداء:
يا منهل الغيب. . . اسقني قطرة ... من ذلك النور، وهذا الصفاء
تجعل حياتي نغما شادياً ... في عالم يهفو إليه الرجاء
أحسه صوتاً عميق الصدى ... يهز أعماق بسحر الدعاء
وصورة طال عليها المدى ... وما خبا فيها رفيف الرواء
يا منهل الغيب. . . وبي حيرة ... قد صيرتني أستحق الرثاء
كطائر أبعد عن عشه ... فهام في إحدى ليالي الشتاء
وبي حنين يتحدى الثرى ... ويرتقي بي طائراً حيث شاء
ولي قيود تتمنى سدى ... لو أنني سبيل العلاء
حتى يحين الأجل المرتجى ... فأنزع القيد، وألقى الرداء
يا منهل الغيب. . . وبي غربة ... تنبت في عمري هموم البقاء!
لا الأرضداري، لا، ولا أهلها ... أهلي، فكيف الصبر؟ كيف العزاء
غريبة بالحب في عالم ... الحب فيه خدعة أو رياء
نسخته ظلا به يحتمي ... وصغته نوراً به يستضاء(914/26)
وطفت في دنياي مسحورة ... تغمرني إشراقة وانتشاء
أبحث عن روح أرى طيفه ... يفتن أيامي بحلو اللقاء
فلم أجده، فالفت المنى ... حتى جفتني، فألفت البكاء!
غريبة بالصمت. . . من نايه ... يثير إلهامي أرق الحداء
أراه ظلا سابحاً في السنا ... كطيف عطر سابح في الهواء
وأحتسيه حمرة عتقت ... في الغيب. . . يدري سرها الأنبياء
والصمت سر هائم في الدجى ... يهفو إلى الغيب، ويبغي الخفاء
صاغت حياتي منه أسرارها ... فاستغرقت في عزلة وانطواء
والصمت سحر همت في جوه ... على جناحي لهفة واشتهاء
والصمت بحر موجة نائم ... يحلم بالعودة من حيث جاء
عبرته وحي على زورق ... يود لو يسري لغير انتهاء
وعدت منه بشهي الرؤى ... وفي الرؤى ري، وفيها غذاء
غريبة بالحزن. . . نيرانه ... تلقى على ضوئي ظلال الفناء
وسره في داخلي كامن ... محجب بالصمت والكبرياء
يدري أساه من زماني به ... ومن تولاني بطول العناء
إليه أشكو وحده غربتي ... وحيرتي في الأرض أرض الشقاء
ولهفتي الكبرى إلى موطني ... في عالم يهفوا إليه الرجاء
أبعدت عنه، فعرفت الأسى ... ولست أدري سر هذا الجزاء!
خطيئة الجنة من آدم ... علام تكوى نارها الأبرياء؟
وأطرقت روحي بأشجانها ... لعلها نسمع صوت القضاء
فاهتزت في أعماقها هاتف ... يشع مثل البارق المستضاء
وقال في صوت عميق الصدى ... نماذج الرقة فيه المضاء:
يا هذا الروح الذي تشتكي ... من دائها، والداء فيه الدواء!
من يحمل الآلام يقعد بها ... إن لم يجمعها بروح الفداء
فلتحملي الآم في قوة ... فإنها تخشع بروح الفداء(914/27)
ولا تضيقي بحياة الورى ... وتهربي مما بها من بلاء
وجاهدي الليل بهذا السنا ... وكافحي الشر بهذا النقاء
قالبدر لا تظهر أنواره ... إن لم يرقها في ظلام المساء
والخير ما جدواه؟ إن لم يكن ... قد ألجأ الشر إلى الاهتداء
ورقرقي نورك من نبعه ... لكل ظمآن إلى الاهتداء
فالدر في الأصداف مثل الحصا ... ما دام لا يكشف عنه الغطاء
والبقلة الخضراء في أرضها ... خير من البستان بين العراء
حتى إذا ناداك رب الورى ... وكنت قد أبليت خير البلاء
دخلت دنيا ناداك رب الورى ... وكنت قد أبليت خير البلاء
دخت دنيا الغيب مزهوة ... اتغنمي فيها دوام البقاء
هذا قضاء الله في خلقه ... لكل شيء محنة وابتلاء
وخيم الصمت سوى نبأة ... من الصدى قد آنت باختفاء
فأذعنت روحي، وعادت إلى ... دنيا الشقاء البكر والأشقياء
ولم تزل تعجب مما رأت ... في ليلة نشوى بخمر الضياء
أكان وهما شاعري الرؤى ... أم كان حلماً ساحري البهاء؟
إبراهيم محمد نجا(914/28)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
صرخة أخرى من العراق
ما أطيب قلبك، وما أكرم معدن نفسك. . لشد ما يعجبني فيك إخلاصك للفن، ونمسكك بالمثل العليا، وتفانيك في سبيل أنبل الغايات. . تخال الدنيا خلقت كما تشتهيها: نبل في الطبع، وحب للخير، وعبادة للجمال!
لقد أثارت في كلمتك عن (الفن الشهيد في العراق) عواطف كثيرة. . وكنت في كل لقاء لي معك أهم بأن أقول لك أنت صرخت صرختك المدوية لإنصاف شاعر واحد، في حين أن هناك عشرات من الأبناء والشعراء يتصارعون مع الحياة القاسية، ويكافحون في سبيل الحرية المسلوبة، ويلاقون في سبيل ذلك أشد العنت وأفظع التنكيل والاضطهاد!
يا أخي: إن المسألة ليست إنصاف شاعر أو ترضيه أديب.
بل هي أعم من ذلك وأوسع شمولا. إنها مسألة الحق المهدود، والمقاييس الخاطئة، والضمائر التي أصابها الفساد فلم تشعر بالتبعية، ولم تعبأ بالمسئولية! أنها قصة كل بلد عربي، المحسوبية فيه فوق كل قانون، والعدالة في أرضه ضرب من الأفلاطونية التي لا تطبق، ومواطنوه درجات ورتب كعهود الرقيق!!.
وحين تكون ذا ضمير نقي ونفس أبية، فقد حكمت على نفسك بالإعدام في أرض غريب عنها نقاء الضمير، عزيز فيها إباء النفس. . إن نقاء الضمير، وإباء النفس، ووفاء القلب، والإخلاص للمثيل العليا، عملة زائفة في سوق أثمن بضاعة فيه أخس صفات الإنسان!
ولا بد من أنك تعرف قصة الإله الذين يريدون أن يمسخوه عبداً، أو العملاق الذي يريدون أن يصيروه قزما. . أنه صاحب القلم!! وذلك الذي يقف في بدء حياته في مفترق طريقين: إحداهما قصيرة مليئة بالرياحين، وأرقة الظلال غنية بالعطور. . إنها الطريق التي يصل فيها الحمقى وفقراء الذمة والمدقعين في الشرف إلى قمة المجد الزائف، حين تدفعهم الجرأة إلى أن يسموا الأبيض أسود، والحق باطلا، والظلم عدالة، والنخاسة ديمقراطية، والرذيلة فضيلة، إلى غير ذلك من قلب للأوضاع وعبث بالقيم. . ولا شك في أنك تجد في كل بلد عربي جمهرة كبيرة من أولئك المهرجين الذين استبدلوا حياءهم بوقاحة، ووضعوا مكان(914/29)
قلوبهم قطعة من النقود!! وإنك لن تجد أديبا مرفها تقبل عليه الحياة مبتسمة، وتظله السعادة بجناحيها النورانيين إلا من هذه الطبقة. . .
أما الطريق الثانية فتلك التي تقود سالكها شيئاً فشيئاً إلى الموت البطيء. . تلك التي تجعله دائماً في عداء مع الحياة! تلك التي تحرمه مما تحل الرأفة للحيوان الأعجم من قوت ومأوى. . وما تستوجبه الطبيعة من رعاية! آه ما أقسى الظروف. . لقد عاهدت نفسي ألا أتحدث عن نفسي. . وأراني اليوم مرغماً على نقض العهد لأن الإناء قد فاض، وامتلأ صدري بما يشبه القيح!
أغلب الظن أنك تعرف قصة حياتي في مصر. . أو قل طرفا منها. وأغلب الظن كذلك أنك تعرف كيف كنت أكافح وحيداً قسوة الحياة الجارفة ومرارة الدنيا العبوس. . وكيف كنت أجهد جهدي لا لأستمتع بنعيم الحياة أو لأنال وطراً من عهد الشباب، بل أقنع بالكفاف لمواصلة دراستي الجامعية. . وكنت دائماً تتهمني بالنشاط. . عجيب أمرك والله!. . كأنك لا تعرف أن القلم مهما خط وسطر وملأ الصفحات فلا يفي بخط يسير من أعباء الحياة!! إذا تنزه القلم عن أن يكون مأجوراً، وأبى الضمير إلا أن يكون أبيض الجبين، وأخلص القلب للثالوث المقدس: الحق والعدالة والحرية!!
إنني لأذكر تلك الأيام والدموع تملأ قلبي؛ فقد كانت شديدة القسوة، ثقيلة الوطأة، عظيمة التكاليف. . وفي سماء حياتي الحالكة تسطع مصر الكريمة كنجم منور: فإنني مهما كنت قليل الحظ من الوفاء فستظل لمصر منزلة أعظم بها من منزلة، فقد أخذت بيدي من حيث نبذني وطني، وأشفقت عليّ من حيث لم أعرف من وطني إلا غلظة القلب، وخشونة الجانب!
وطني!. . تلك الأغنية الحبيبة التي كنت أرددها في ليالي السهاد. . وتلك الكأس التي تنعش روحي كلما أصابها جفاف الحياة. . لقد كنت أذكر وطني دائماً، وأجاهد لأرفع سمعته، وأعرف الناس بالشعب الذي أنا منه. . ومع ذلك فوطني شحيح عليّ، ضنين بكل ما يثبت أن العراقيين متساوون في الحقوق!!
وفي كل سنة أذهب إلى بغداد لأنال ما يقره القانون لي من حق كطالب علم، غير أن الأبواب تغلق في وجهي، ويحال بيني وبين حكم القانون، وأرجع إلى مصر خاوي الوفاض(914/30)
إلا من تلك العزيمة على مجابهة الحياة ومجالدة الأيام!
إن الحيرة لتشدد عليّ الخناق! أأنا لا أستحق مقداراً ضئيلاً من المال أستعين به على طلب العلم، في الوقت الذي تغدق فيه الأموال من غير حساب لغير وجه الحق؟!. . وهل أنا دون أولئك الذين تغدق عليهم الأموال باسم العلم وهم بين كؤوس الطلي ومهرجان الرذيلة؟! أحق أنني لا أستحق بعض ما يناله أصحاب الكروش والذين يحسبون الحياة امتلاء معدة حتى التخمة، وإراقة الأموال على أقدام الغانيات وتفريغ الجيوب على الموائد الخضراء؟!
لا يا صديقي. . لقد أثرت شجني وملأت صدري بكوامن الهموم، أنا الذي أحاول دائماً إن أنظر إلى الحياة على أنها فصل قصير من رواية ساخرة. . لا أطيق اليوم أن ابتسم وقلبي يشرق بالدمع، وصدري يعصف فيه الألم الحاد، ونفسي فريسة للأحزان!
إنني أكتب إليك هذه الرسالة لا لترفعها إلى معالي وزير المعارف في العراق. . بل هي هزة ألم اعترت كياني فسطرتها لك. لأن المرء قد يجد نفسه في بعض الأحيان أمام قوة هائلة تدفعه من الداخل إلى أن القول. . إلى أن ينشد لحناً حزيناً. . إلى أن يفضي ببعض ما في نفسه!
إنني جئت إليك لا لأتظلم عن نفسي. . فغدا سوف أدخل المستشفى، ومن يدري؟!. . فقد أشهد خاتمة المهزلة. . . مهزلة الحياة. . وأنا معلق بين السماء والأرض. . ولكن جئت لأتظلم عن كثير ممن يقضون حياتهم على مضض، بعيداً عن رحمة الحكومة وحماية القانون!!
يا صديقي. إنها قصة الظلم وليست شكاة التأثر، لأن النقمة تتحول في نفسي إلى معدن كريم. . هو الجهاد! ذلك الغذاء الروحي لنفوس حرمها الناس من الغذاء المادي. . وهو أدنى درجات الحياة!!
وتقبل من أخيك كل احترام وتقدير
(القاهرة)
غائب طعمة فرمان
أنا من الذين يتقبلون الظلم راضين عنه مطمئنين إليه، إذا كان فيه شيء من المساواة بين(914/31)
الناس. إنك حين تظلمني وتظلم سواي ولو بغير حق، فظلمك للجميع إن لم يكن في منطق الفكر عدلاً فهو عدل في منطق الشعور والوجدان! وفي مثل هذه اللحظات التي تروع بأسر القيد وتلوح بوخز الجراح، تكون المشاعر الإنسانية هي صاحبة الحكم الأول على رواسب الظلم في قرار النفوس. . أريد أن أقول لك إننا نحتكم في مثل هذه اللحظات إلى العقل أقل مما نحتكم إلى العاطفة، ولنا الكثير من العذر إذا نحن خضعنا لمنطق الشعور وسرنا حسب هواه، وفهمنا الظلم على أنه عدل مطلق ما دام مقترناً بالمساواة!
أتقبل الظلم على هذا الأساس راضياً عنه مطمئناً إليه، ما دمت أنظر إلى من حولي على أنهم أقران لي ونظراء. . كلنا في الضيم قلب إلى قلب، وكلنا في الظلم روح إلى روح. . أما أن تفرق بيننا في الحقوق فتعطى باليمين حين تسلب بالشمال، فهذه هي اللحظات الأخرى التي تنحدر فيها الضمائر وتنطمس المشاعر، وتنمحي من سفر الإنسانية أجمل ما فيه من سطور وأفضل ما فيه من كلمات!!
أقول هذا وأنا أقدم إليك هذه الرسالة التي أوقدت بين جنبي شعلة الأسى وألهبت بين يدي شباة القلم. . وتترنح الألفاظ على فمي وأنا أستعرض مرحلة أخرى من مراحل الكفاح، الكفاح المقدس في سبيل العلم. نعم، مرحلة أخرى. . فقد كانت المرحلة الأولى هي تلك التي حدثتك عنها على صفحات الرسالة: إنها محنة تتبعها محنة، وصرخة تعقبها صرخة، ومأساة تلحق بها مأساة. . ويارنة الأسف للعراق الشقيق ويا رحمة الله للشباب الشهيد!
بالأمس عاش (الناصري) غريباً في وطنه وغريباً في باريس، واليوم يستشعر (غائب) لدغ الغربة في القاهرة بعد أن لفحته بنارها في بغداد. . وذنب الأديب والشاعر أن كليهما آثر العلم وآمن به، وأحب العراق وأخلص له، وأراد أن يقبس من وهج المعرفة ليعكسها على وطنه فنوناً من الضياء. ولكن رياح الظلم قد أطفأت مصباح الأديب فبقي في الظلام، وطوت جناح الشاعر فكف عن التحليق. . وذلك هو حكم العراق العادل حين يتطلع المخلصون إلى عدالة الأوطان!
وبعد هذا تسمع من يقول لك إن الشباب قد كفروا بالقيم، وسخروا من المثل، وانحرفوا عن الطريق. . وماذا يفعل الشباب وهم يرون القيم الفاضلة تداس بالإقدام، والمثل العالية تمرغ في التراب، والطريق القويم والأشواك؟ ماذا يفعلون وقد عصفت الأهواء بكل ما بقي في(914/32)
نفوسهم من أمن وبكل ما استقر بين جوانحهم من إيمان! هذا الشاعر المكافح يحال بينه وبين العلم لأنه ليس من أصحاب الثراء، وهذا الأديب المجاهد تغلق في وجهه الأبواب لأنه ليس من أقارب الوزراء. . ويصل الذين قد عمرت منهم الجيوب واقفرت العقول، وقضوا حياتهم وهم ضيوف على موائد الملق والجهل والنفاق!!
وأنا والله أكاد أكفر بالضمير الإنساني لولا بقية من أمل. . بقية أحتفظ بها للغد القريب أو الغد البعيد، الغد الذي قلت عنه من قبل أنه قد يرف الربيع إلى جفاف الغصون، ويطلق الأحرار من زوايا السجون، ويحمل خمرة السلوان إلى ندامى الشجن. . الغد الذي قد يأتي بقلوب غير القلوب، وعقول غير العقول، وقادرة غير الفادة، وعندئذ يجد الشباب المحيرون ذلك الظل الوريف الذي يحميهم من وقدة القيظ ولفح الهجير!
ماذا أقول لهذا الصديق الذي كنت أرقب خطواته في طريق العلم، وجهاده في ميدان الأدب، وصبره على تحبهم الأيام؟ ماذا أقول له وقد ترك الجامعة إلى المستشفى، وحرم رؤية الأستاذ ليشقي برؤية الطبيب، وهجر دنيا القلم ليصبح وهو طريح الفراش يا أخي صبرا. . صبرا ولو كان هناك إنصاف وإجحاف، ورعاية وإهمال، وإغداق وحرمان! حسبك أن النقمة تتحول في نفسك إلى معدن كريم هو الجهاد وحسبي أن أسمع منك هذه الكلمة وهي صادقة وهي درع الأمان لكل محارب يتلقى الضربات، وهي شاطئ النجاة لكل زورق يواجه العاصفة!!
عودة إلى مشكلة القراء:
تتبعت تعقيباتك عن أزمة القراء وأنها - والصدق يقال - لعين القين. إن قراء الكتاب في هذه الأيام فئة قابلة للنقصان لا للزيادة، ولن يمر عدد من السنين - مع بقاء الأحوال الأخرى ثابتة كما يقول الاقتصاديون - إلا ويصبحون في خبر كان. . وأما عن قراء المقالة المحترمة يا سيدي فنظرتي إليهم أيضاً سوداء، والفئة الوافرة العدد هم قراء المقالة التافهة التي تنشر مذكرات فلانة الممثلة بقلم الكاتب التافه فلان، وكأن مثل هذه السفاسف ومثل هذا المجون خليق بأن ينشر يقرأ!
إن ذلك الذي هجر تجارة عصير الأذهان إلى تجارة الفواكه لرجل بعيد النظر، لأنه لم يجد الجو بارقة أمل لاستصلاح القراء في مصر، وإلا فما رأيك أنني لم أر في كلية التجارة(914/33)
بجامعة فاروق طالبا يحمل كتاباً أدبياً طوال ثلاث سنوات قضيتها في هذه الكلية وكأن حرمها على الكتاب؟! وقد يقول قائل إن أبحاث الاقتصاد قد سدت من دونه المسالك، ولكن الأسف فهي الأخرى في المكتبة لا تجد المخلص الذي يزورها إلا ما قد ندر!
الطلبة يا سيدي يريدون الحصول على الشهادة بأقصر طريق مشروع، فالكتب تختصر، والمذكرات تختزل، وهكذا دواليك إلى تنتهي إلى البرشامة الشهيرة،. . إن رؤيتي أحمل كتابا أدبياً لكفيل باسترعاء أنظار الطلبة، ما بين ساخر مني وبين مشفق على لإضاعة الوقت في هذا الهراء بدلا من التمتع به متسكعا في محطة الرمل على سبيل المثال. . وإني لأعرف من الجامعين من لا يشتري حتى الجريدة اليومية، فبأي سلاح يتوجه هؤلاء إلى الحياة؟!
ولكن لا أحملهم وحدهم عبء الاتهام، بل أشرك معهم المدرس الابتدائي والثانوي في تحمل التبعة، فأغلب المدرسين ولا أقول كلهم قد هجروا الكتاب وتركوه ظهريا وكرسوا وقتهم وجهدهم في إعطاء الدروس الخصوصية التي هي كارثة التعليم بلا مراء. إن الطالب مرآة أستاذه وما تلقاء من الطالب فهو إرث انتهى إليه من الأستاذ!
أي مستقبل حالك السواد ينتظر الثقافة عموما في مصر، ولكن ما ذنب عشاق العلم والأدب الذين يحرمون دون ما ذنب اقترفوه من مؤلفات كاتب مثلك، يعلم الله مكانته في قلبي وقلوب قرائه؟! إنك لا تتصور يا سيدي لهفتي ليوم الأحد من كل أسبوع كي أحصل على الرسالة ويكون أول باب أقرؤه هو (التعقيبات)!
ولكن يا سيدي ألا تضيف إلى فئة القراء فئة متعهدي النشر في تعقيد هذا المشكل؟ وما رأيك في أنني ذهبت لشراء (رسائل الرافعي) للأستاذ محمود أبو ربه فوجدته بأربعين قرشا، مع العلم بأن ثمنه المعروف في كل مكان هو ثلاثون قرشا؟!. . أروى لك هذا منتظرا منك التعليق.
الإسكندرية
كمال عبد المنياوي
هذه الظواهر العجيبة التي يذكرها الأديب يذكرها الأديب الفاضل حول مشكلة القراء قد(914/34)
عرضت لها بالبحث والمراجعة فيما كتبته قبل ذلك من فصول، وبخاصة عندما تحدث عن ثقافة الطلبة الجامعين في هذه الأيام. . وإذا كان الأديب الفاضل يقص علينا بعض مشاهداته في جامعة فاروق، فأراد أن أقول له إن الحال لا تختل كثيرا في جامعة فؤاد. ولا في جامعة إبراهيم، ولن تختلف في جامعة محمد علي إن شاء الله!
إن ثقافة الجيل بوجه عام أمر يدعو إلى الأسف ويبعث على الرثاء، وليست أدري ما هي المعجزة التي يمكن أن تحدث حتى يقرأ الناس في نصر، سواء كانوا جامعيين أم غير جامعيين. . أشهد أن لي صديق يشتغل بمهنة التدريس في الجامعة فؤاد، لا يكاد يكف عن الشكوى مما يلقاه من جهل الطلبة بفنون العلم وشئون الحياة، ولا يكاد ينتهي من سرد الأدلة وضرب الأمثال وهو يحدثني عن طلبة الجامعة، هؤلاء الذين صدموه بالواقع المر بعد أن عاد إليهم دكتورا من جامعة باريس. . ويخبط الصديق كفا يكف وهو ينظر إلى ثائرا ويقول: يا أخي أقسم لك أنني كنت أعرف أسرة فرنسية صديقة، وما من أزور فيها هذه الأسرة إلا وتقع عيناي على منظر فريد، منظر الخادمة وبين يديها كتاب مفتوح، لا تكاد تلقي به إلا إذا دعيت لمطلب من مطالب البيت أو أمر من أمور المائدة. . وإذا حدثتك عن شغف الخادمة بالقراءة وولعها بالاطلاع، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عن ثقافة السادة فهي في غنى عن كل حديث الخادمات في فرنسا يقرأن، وطلبة الجامعة في مصر لا يقرئون. . ألا تعذرني إذا ما ضقت ذرعا بمكاني في كلية الآداب؟!
لقد عذرته بالطبع. . ويقي أن يعذرني الأديب الفاضل إذا ما أرجأت طبع كتبي حتى تحدث المعجزة الثانية، وهي أن نرفع وزارة المالية هذه الحواجز السخيفة التي تحول بين الكتاب المصري وبين البلاد العربية. . إن الكاتب الذي يعتمد على مصر وحدها في توزيع كتبه يجب أن يكون من الأثرياء، ليستطيع أن يتحمل الخسارة المادية وهو يواجه أزمة القراء! أما عن بعض الكتب التي تباع بأكثر من ثمنها المحدد فهي ظاهرة لم أسمع بها من قبل. لقد كنت أفهم مثلاً أن يسلك الناشرون هذا الطريق إذا ما ساعدهم الجمهور القارئ وأقبل على آثار الكتاب، أما لن يلجأ إلى هذه الوسيلة وقراؤنا (الأفاضل) يؤثرون عصير البرتقال على عصارة الأذهان، فهذا هو الغباء الذي يفوق كل غباء!!
وللأديب المناوي أصدق الشكر على كريم تقديره، وأخلص التهنئة على أن دراسة الأدب(914/35)
في حياته لم تشغله عنها دراسته الاقتصاد!
من حقيبة البريد:
بين يدي كثير من الشعر، وكثبر من النثر، وكثير من الأسئلة التي تدور في محيط الأدب والفن وأستعرض هذا الفيض من الرسائل لأقول لحضرات الشعراء والكتاب والسائلين، إن (الرسالة) لن تحجم عن نشر ما يستحق أن ينشر، وإذا كان هناك شئ من الإرجاء فمرده إلى كثيرة ما يصلنا من نفحات الأقلام، ولن تغلق الرسالة أبوابها يوما في وجه أصحاب المواهب والملكات. . أما هؤلاء الذين يبعثون إلى بأسئلتهم الأدبية، فموعدي معهم في الأعداد المقبلة إن شاء الله.
أنور المعداوي.(914/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
معالي الدكتور طه حسين باشا:
أبدأ بتهنئتكم بالإنعام السامي الذي شمل به جلالة الملك الأدب والفضل والهمة في شخصكم الكريم، إذ منحكم رتبة الباشوية، فقدر بذلك أعمالكم الجليلة ونشاطكم الدائب في خدمة هذا الوطن المحبوب، وتوج به ما نلتموه من محبة أهل هذه البلاد وتقدير البلاد الأجنبية لشخصكم المتفرد، لما تملئون به الدنيا وتشغلون الناس من سعى مثمر في خير الإنسانية ونشر العلم والثقافة.
وقد اعتدت - يا معالي الباشا - أن أقصر في السعي مع الساعين إليكم في المناسبات المختلفة، مؤثراً أن ألقاكم وأتحدث إليكم في هذا الركن الهادئ من (الرسالة) على أن أزحم ساحتكم مع الزاحمين، أبتغي بذلك لنفسي تجنب الزحام وما يلابسه من أذى والبعد عمن يستأذنون عليكم وما يبدونه من جفوة لأمثالي غير ذوي النفوذ والسلطان! وأبتغي أيضاً لكم الراحة من واحد، وإن كان واحداً من آلاف. أقول هذا لاعتذار من تقصيري، ثم أخلص إلى ما أحببت أن أحدثكم به في هذا الكتاب الذي أوجهه إليكم على صفحات الرسالة كي أشرك قراءها في الموضوع، وأزعم أني أتكلم باسمهم فيه، فهم إما أدباء يهمهم الأمر أو محبون للأدباء لما يطالعون من إنتاجهم فيودون لهم الجزاء الحسن على ما يسكبون من أرواحهم على الصفحات
نذكر يا معالي الباشا، وأنتم تذكرون، بلاءكم الحسن في المحنة التي وقعت فيها أسرة الأديب الكبير المرحوم الأستاذ المازني، فقد كتبتم وعاودتم الكتابة، مطالبين - قبل أن تلوا الوزارة - بتقرير معاش الأسرة الكريمة يكفل لها حياة كريمة، وتوجهتم إلى الأدباء أن يتضامنوا (ويجمعوا أمرهم على أن ينغصوا على رئيس الوزارة ووزير المعارف أمرهما كله وأن يؤرقوا ليلها ويجعلوا يومهما عسيرا، حتى يفرغا من هذه القصة، ويفرغا منها على النحو الذي نريده لا على غيره من الأنحاء) وشددتم في ذلك وألححتم فيه حتى قلتم: إن لم تهتم الحكومة بهذا الأمر فإني أتوجه به إلى جلالة الملك. ثم توليتم وزارة المعارف بعد قليل وحققتم ما ناديتم به، إذ تقدمتم إلى مجلس الوزارة، فقرر لولدي المازني وزوجته(914/37)
معاشاً شهرياً قدره ثلاثون جنيها. وقد حمدنا لك اهتمامك كاتبا ناقداً، وشكرنا لك همتك وزيراً عاملاً.
ولا شك أن عملكم في ذلك، كان له أطيب الأثر، لا لأنه خاص بأسرة أديب بعينه، وإنما لما يقرره من مبدأ وما يهدف إليه من خير لسائر الأدباء ولأسرهم من بعيد العمر الطويل الذي يثمر أدبا ينفع ويمتع، ولكنه لا يغني من جوع.
هذا مثل آخر يا معالي الباشا وعميد الأدباء، أسرة الشاعر الرواية والأديب المحقق المرحوم الأستاذ أحمد الزين، لست بحاجة إلى أن أعرفكم بشعره وجهده في خدمة الأدب بإخراج مراجعة وتحقيق روائعه، غادر هذه منذ أكثر من ثلاث سنوات وترك وليداً تكفله أيم، وهما منذ ذلك الحين يعيشان في كفالة الضياع والإهمال. .! كان الرجل قانعاً بكفاف العيش وبصيانة كرامته وأدبه عما يمس الكرامة ويشين الأدب ولو جلب نفعاً ومالً كثيرا. ولكن الأسرة الآن بعد فقد عائلها لا تجد غير العقوق والحرمان.
خدم الزين الحكومة نحو خمس وعشرين سنة، قضاها في دار الكتب المصرية، يكد ويشقى في إخراج نفائس الكتب، ويجازي بالأجر البخس يحسب له قريشاً في اليوم. . . لم ينصفه أحد حتى جاء (الإنصاف) فأنصف شهادته. .! إذ وضعه من أجلها في الدرجة السادسة!.
وليت أسرته تلقي الآن مثل ذلك! كل ما كافأتها به الدولة (مكافأة) لم تبلغ مائة جنيه قاسمتها الحكومة إياها. . وتركها تعاني ما تعاني من الحزن والبؤس والحرمان.
هذه محنة أخرى يا معالي الباشا وعميد الأدباء، ليس أمرها الآن عسيراً عليكم، ولست أنا في حاجة إلى أن أدعو الأدباء إلى التضامن وإجماع الأمر على التنغيص عليكم وتأريق ليلكم وجعل يومكم عسيراً. . . ولو احتجنا إلى أن نفعل لما ترددنا. . . ولكن الأدباء مطمئنون لأن واحداً منهم، وهو طه حسين بالذات، يلي الأمر، وأنا واثق من أن هذه المحنة ستنال عنايتكم، فأنتم ولا شك لم تعلوا بها حتى الساعة.
ذلك يا عميد الأدباء، وللأدباء، عندك حقوق أخرى سكنوا عنها إلى الآن، لأنهم كمن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. . . ويؤثرون أن تفرغوا لمسائل التعليم وتيسيره وإنصاف أهله، ولكنهم يتوقعون من عميدهم عملا يذكى الأدب ويشجع المشتغلين به، وأنتم من أعلم الناس بما يلاقي الأدباء الذين لا يستظلون بحماية أحد، من عنت وعقوق(914/38)
في هذا البلد.
وتفضلوا معاليكم بقبول فائق التحية ووافر الاحترام.
الشعر المعاصر
في رأي الدكتور ناجي:
قيل أن الدكتور إبراهيم ناجي سيلقي محاضرة عن (الشعر العربي المعاصر) بنادي الخريجين المصري. وذهبنا نستمع إليه هناك، فألقي علينا محاضرة، أو - بتعبير أوفق - حدثنا حديثاً، لا يصح أن نعتبره في (الشعر العربي المعاصر) إلا إذا اعتبرنا أن هذا الشعر هو الدكتور إبراهيم ناجي وشعره لا غير. .
فقد بدأ بأن النقاد لا يحفلون بشعر المعاصرين، إذ لا يكتبون إلا عمن فارقوا الحياة، وهو يرى أن الشعر المعاصر ما قيل منذ عشرين سنة إلى الآن بخلاف الحديث الذي يرجع إلى خمسين سنة. . وأن الشعراء الأحياء (المعاصرين) لا يهتم بهم نقادنا. . . بخلاف المستشرقين الذين عنوا بدارستهم. . وذلك أن أحد الناشرين الإنجليز أخرج كتابا جمع فيه مختارات من أشعار هؤلاء الشعراء، والذي يهمنا مما احتواه هذا الكتاب - في حديث الدكتور ناجي - هو قصيدته (العودة) التي ترجمت إلى الإنجليزية وإلى الفرنسية فجاءت في الترجمة أحسن منها في الأصل العربي! كما قال الدكتور. . لماذا؟ لأن الشعر الإنساني هو الذي يصلح للترجمة، وليس كذلك سائر الشعر، فمثلا: دعت جريدة (الأهرام) في وقت ما الأدباء إلى ترجمة قصيدة (يا نائح الطلح أشباه عوادينا) لشوقي، فلم يستطع أحد أن يترجمها، والدكتور ناجي ممن حاولوا ذلك، لأنها - كما قال - لا تصلح للترجمة!
وهكذا سقط أمير الشعراء في الميدان أمام الدكتور ناجي في الجولة الأولى! وبقي أن يجول جولات أخرى يسقط فيها الباقين.
هناك أولا شعراء تنشر لهم (الرسالة) فيجب التخلص منهم، قال: لكي نعرف قيمة ما ينشر من الشعر (المعاصر) ننظر في المجلات الأدبية التي هي أهم ما يهتم به، وأهم هذه المجلات (الرسالة) في مصر و (الأديب) في لبنان، فلنقارن بين هاتين المجلتين من حيث ما ينشر بهما من شعر، قال ذلك ولم يقارن. . إذ بدا له أن يقصر المقارنة على (الرسالة)(914/39)
من حيث ما كان ينشر فيها من قبل وما ينشر الآن، وكل ما قاله في ذلك، أن الرسالة كانت فيما مضى تنشر بها! ولم يعن الدكتور يذكر أسماء من أنت تنشر لهم الرسالة، فليس هو منهم. . أما الذين ينشرون بها الآن فهم في طريق الغارة التي يشنها بهذا الحديث على (الشعر المعاصر) والرسالة نفسها عقدة في نفس الدكتور. . ولذلك فإنه ليس في البلد نقد. . ألم يخرج ديوان ناجي فلم تكتب عنه الرسالة! ولعلة لا يذكر سبب ذلك، فقد أتى إلى دار الرسالة يحمل نسخة من هذا الديوان مشترطا ألا يطلع عليها نقاد الرسالة. وشكرنا له هذا الفضل! وليست الرسالة وحدها - فالحق يقال - هي التي أهملت ديوان ناجي (عملا بوصيته!) بل كذلك جميع الصحف والمجلات، خلا (عمود فقري) في إحدى الصحف. . و (العامود الفقري) من لفظة على سبيل النكتة. . ونذكر أن الدكتورة بنت الشاطئ هي التي كتبت عنه (عمودا) في الأهرام. ولم يفت الدكتور - في هذه النقطة - أن ينبه على أن العباقرة لا يلتفت إليهم في زمانهم، فشكسبير مثلا لم يعبأ به الإنجليز في حياته، ثم كشف عنه الألمان ولكنا نرى أن الدكتور إبراهيم ناجي ليس كذلك. . فالناس يلتفتون إليه ويهتم كثير منهم بشعره، حتى لقد استنفذ ما يستحق من ذلك.
ويتابع الدكتور إبراهيم ناجي حديثة عن (الشعر المعاصر) أو حملته عليه ليقضي على البقية الباقية، وليثبت في النهاية أنه هو الشعر المعاصر. . . فيقول: يتجه الشعر العربي الآن اتجاهين رئيسيين، يسير في الاتجاه الأول طبقا للمذاهب الأدبية المعروفة، والثاني يتمثل في محاولة خلق شعر حديث اجتماعي يوافق العصر الجديدة ويتصل بالجماهير. فالمذاهب التي يسلكها الاتجاه الأول هي التقليدية اللفظية (الكلاسيكية) التي تعني بالألفاظ (القاموسية) والدلالة المباشرة للكلمات دون التفات إلى روح الكلمة وظلالها، ويمثل هذه (الكلاسيكية) الآن في مصر، الأسمر، وأتى ببعض شعره الذي لا تجد فيه إلا (الكليشهات) المرددة التي لا روح فيها.
ثم المذهب الخيالي (الرومانسية) المشبع بروح المراهقة ولم يذكر لهذا المذهب أحداً من شعراء مصر، بل قال أنه يتمثل في شعراء الشام لتأثرهم بالأدب الفرنسي.
ثم الرمزية (السمبولزم) التي يمثلها في مصر الدكتور بشر فارس، وقال إن الدكتور نقل غموض الرمزية إلى مصر ولم ينقل جوهرها.(914/40)
ثم الواقعية (الريالزم) التي جرى عليها العقاد فأخرج الشعر عن طبيعة، إذ جرده من الانفعال وجنح به إلى الفكر والمنطق.
وأخيراً (السريالزم) الذي يقوم على إستيحاء العقل الباطن في غيبة الشعور الواعي، فتظهر فيه البدائيات الإنسانية مختلفة، كما في شعره محمود حسن إسماعيل الذي يذخر بما كان يملأ عقل الإنسان الأول، من مثل الكوخ والراهب والنادي والمزمار. . الخ.
وهكذا جبر الدكتور جبر الدكتور ناجي خاطر (الشعر المعاصر) المسكين الذي لا يجد أحداً يتحدث عنه. . فتحدث هو عنه بذلك الأسلوب، ولم يفته أن ينبه الأذهان - تلميحا وتصريحا - إلى أنه (الدكتور ناجي) هو الذي يقول (الشعر المعاصر) الذي فسره بأنه؟ إنساني خالد. . وهو يصف الشعر الإنساني بأنه معاصر كيلا يشركه فيه القدماء، وقد فرغ من الأحياء! وقد قال أنه يتجه في شعره إلى الجمع بين المذاهب المعروفة كلها، ومرة أخرى قال أنه هو صاحب الاتجاه الاجتماعي الجديد الذي يعني بالجماهير، وكأنه ترك من يمثل من يمثل (الرومانسية) في مصر (على بياض) لأضعه أنا في هذا البياض. . ومما يدك على (رومانسيته) أن المراهقة وخيالتها تبدو واضحة في شعره رغم كبره، ولعله يوافقني - وهو من المشتغلين بالدراسات النفسية - على أن المراهقة - على أن المراهقة ليست خاصة بالشباب؛ فهي فيهم بالفعل، وهي أيضاً في الشيوخ بالقوة. .
الضمان الاجتماعي في الإسلام:
ألفت الدكتورة بنت الشاطئ محاضرة في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية يوم السبت الماضي، موضوعها (تطبيق الضمان الاجتماعي في الإسلامي) قالت فيها: لا ازعم أن تشريع الضمان الاجتماعي؟ الذي تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية كان موجودا في الإسلام بصورة الحالية، وإنما أقول إن الإسلام وضع مبادئه وترك تفصيلاته للمجتهدين بما يوافق الأحوال والأزمان، وذلك أن الإسلام خصص جزءاً مما يتجمع في بيت المال المسلمين من الأوجه المختلفة كخمس الغنائم والتركات التي لا وارث لها - خصص جزءاً من ذلك للفقراء والعجزة والمحتاجين، وجعل ذلك حقاً لهم، كما حث الأغنياء على التطوع بالصدقات. وذلك كله تحقيق للوحدة الاجتماعية التي يحث عليها الإسلام. وقد اختلف الأئمة فيما عدا الأموال المنصوص على وجوبها، كإعانة المحتاجين والإحسان إلى المعوزين،(914/41)
فقال بعضهم إنها صدقة تطوع، وذهب آخرون منهم ابن حزم إلى أنها واجبة وأن على كل من عند فضلة مال أن يعين بها من هو في حاجة إليها، ويجب على أغنياء البلد أن يعولوا كل من فيها من الفقراء العاجزين عن الكسب.
وعرضت بعد ذلك لتطبيق تلك المبادئ في الحياة الإسلامية فذكرت بعض ما جاء في تاريخ الخلفاء كالوليد بن عبد الملك، من اهتمامهم بأمر العاجزين عن الكسب وترتيب الأرزاق لهم ثم تحدثت عن قضية وقعت في صعيد مصر سنة 1920، تتلخص في أن امرأة غاب زوجها غيبة منقطعة وتركها هي ووليدها الصغير دون مال أو عقار، فتقدمت إلى محكمة نجع حمادي الشرعية طالبة الحكم لها ولابنها بنفقة على زوجها الغائب والحكم لها بالاستدانة، على أن تدفع وزارة المالية باعتبارها بيت مال المسلمين النفقة المطلوبة وتعتبرها ديناً على المحكوم عليه تستقضيه إياه حينما يظهر. . وحكم لها القاضي بذلك، وكان القاضي هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري. وجاء في حيثيات الحكم أن وزارة المالية في بيت مال المسلمين الذي تجب فيه نفقة هذه المرة الضعيفة وولدها الصغير العاجز عن الكسب، لو لم يكن لها عائل، وجزعت وزارة المالية من هذا الحكم لأنه يفتح بابا ينقذ منه جميع من في القطر المصري من أرامل وعجزة وأيتام وغيرهم من المحتاجين العاجزين، واهتمت وزارة الحقانية بالأمر فعهدت إلى تفتيش المحاكم الشرعية أن يبحثه. . وبحث (التفتيش) المسألة وأصدر منشوراً إلى المحاكم الشرعية ألا تنظر في أمثال هذه الدعوى لأن القضاء غير مختص لها، وأمر (التفتيش) بعدم تنفيذ ذلك الحكم لأن تنفيذه، مع ما يستجد، يؤدي إلى إفلاس بيت مال المسلمين.
وبعد انتهاء المحاضرة أجابت الدكتورة على عدة أسئلة وجهت إليه منها هذا السؤال: ألا يعتبر الإحسان إلى الفقير إذلالاً له؟ قالت: أنه حق، وليس معنى الإحسان الإذلال، قال الله تعالى (وبالوالدين إحسانا) وقال: (فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بإحسان).
عباس خضر(914/42)
رسالة الفن
إخراج رواية (ابن جلا)
تعليق علي تعقيب
للأستاذ أحمد رمزي بك
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي
أشكر للأستاذ البارودي الكلمة التي تفضل بالتعليق بها على كلمتي حول إخراج رواية (ابن جلا).
وأبادر بأن أعلمه أن قصدي من النقد هو إبداء الرأي رغبة في الإصلاح لا في الهدم، ثم أعلمه بأنني أعد عمل عزيز أباظة باشا وعمل محمود تيمور بك في كتابة (شجرة الدر) نظماً وتأليف (ابن جلا) نثراً، فتحاً جديداً للمسرح العربي، لا يقل بحال عن الفتح الذي بدأ به أمير الشعراء، رحمة الله. ولذا أطلب المزيد من إخراج حوادث وأيام ومظاهر تاريخنا العظيم. .
وليسمح لي الأستاذ بأن أصارحه أنني أجل الصديق العزيز زكي طليمات بك وأقدر علمه وفنه وأعرف تماماً ما بذل من جهد في التمثيل والتخجيج والإخراج، وأنا على يقين من المصاعب والعقبات التي واجهته في كل ذلك، ولذا أهنئه من كل قلبي.
ولي الحق بعد أن أقول بإخلاص: إن أخبار الحجاج معروفة في كتب الأدب والتاريخ وأعماله مشهورة ومشهودة، وقد كنت أنتظر منه ومن تلامذته وطلابه الرجوع إلى أمهات الكتب العربية لا إلى كتب المدارس الثانوية لكي يتعرفوا على روح العصر ولكن يتصلوا بالحجاج وأقواله وشخصيته وزمنه اتصالاً وثيقاً.
وما أقوله عن رواية (ابن خلا) ينطبق على رواية (شجرة الدر) كنت أؤمل في أن يتدل الممثلون ورجال الفن بالعصر الذي دارت فيه ظروف هذه الرواية وأن يعيشوا حقبة وسط أدواره وأيامه.
أقول هذه لأن الصورة التي ظهر بها صديقي زكي طليمات بك في دور الحجاج ليست صورة الحجاج (رغم ما كان يعتمل ويحتد في باطنه من استعلاء).(914/43)
ثم أقول إن الصورة التي ظهر بها بيبرس في (شجرة الدر) لا تمت بصلة إلى شخصية بيبرس.
إنني لن أتكلم عن التأليف التاريخي في المسرح العربي، لأن الكتاب والشعراء لا يزالون يجاهدون في الخطوات الأولى وهي ليست هنية، ويصعب على إبداء رأي قاطع وأن كنت أقرر أن التأليف التاريخي بختم الاستعانة بأهل الخبرة والاطلاع، ولا يسعنا أن نطلب من المؤلف أن يلم بكل تفاصيل التاريخ ولكن لا ندع هذه الفرصة تمر دون أن نشير عليه بأن يلم بروح العصر وبالعوامل النفسية التي كانت تختلج في صدور أبطاله.
وأعود إلى الإخراج فأقرر بأنني أعد الإخراج بدائياً، إذا لم يكن منطبقاً على أصول الإخراج المعروفة، بصرف النظر عن فكرة هل في وسع المخرج مادياً مراعاة هذه الأصول أم لا. . .
لأننا تطلب من المخرج حينما يتعرض لإخراج الروايات التاريخية شرائط يلزم نفسه باتباعها، فأما أن تكون بين يديه فيحصل على تحقيق نهاية ما يمكنه من الإخراج الصحيح أو ما يقرب من الصحيح، وإما أن يعتذر عن الإخراج الذي لم تستعد له البلاد بعد.
ولا أزال على رأيي من أن الإخراج التاريخي لا يزال بدائياً في مصر، وهذه حقيقة ثابتة ملموسة واضحة منذ أيام الشيخ سلامة حجازي إلى اليوم. والأدلة على ما أقول كثيرة ولا محل لتكرارها.
أما الإخراج في غير هذه الروايات التاريخية، وأقصد بالتاريخية ما تمس تاريخنا وعصورنا، أقول أنه حيثما وجدنا المشق أمامنا، في التمثيل والتخريج والإخراج، جاء تقليدنا موفقاً بقدر يقظتنا واهتمامنا بالنقل عن المسرح الأوربي والتأثر بمناظره وحركاته وإشاراته.
وكلنا نشعر بأن تخرج شخصية لويس الحادي عشر بواسطة الأستاذ الجليل جورج أبيض بك كان موفقاً جداً، بل أنني لا أجد شائبة واحدة على إخراج الملابس والأثاث والمناظر لهذه الرواية لا من الناحية التاريخية ولا من جهة مطابقة المناظر والأثاث والملابس للحقيقة التي كانت سائدة في عصر لويس الحادي عشر.
لماذا لازم المسرح العربي هذا التوفيق؟(914/44)
لأن القائمين بالتمثيل والإخراج في مثل هذه الروايات وجدوا المشق والصورة والنموذج أمامهم في كل شيء، فلم يكن أمامهم سوى التقليد في إخراج الرواية وتخريج الشخصية ومحاكاة التمثيل في الإلقاء والإشارة.
ولذا أعد مهمة المخرج العربي ورسالته محصورة مؤقتاً في الأخذ بالروايات الكلاسيكية أو الأوربية المشهورة التي سبق للمسارح العالية إخراجها، وذلك حرصاً مني على الخطوات التي سار فيها المسرح المصري، ولكي لا نتعثر في الأخطاء الكثيرة التي وقعنا فيها في رواية (شجرة الدر) و (ابن جلا).
وليس ذلك من قبل تثبيط الهمم أو الدعوة إلى إهمال الروايات التي تمثل أزهى عصورنا التاريخية ولكني أقولها بصراحة وفي مواجهة المسؤولين والمختصين أنني أحرص على تراثنا التاريخي حرصا لا مزيد عليه، وأريد أعيش لأرى هذا التراث على المسرح، بمظهر القوة والعظمة في التمثيل والإخراج، الذي يرتاح إليه ضميري ويطمئن له قلبي وبرضى عنه شعوري وإحساسي بقدسية هذا الماضي الذي يملأ كل جوانب نفسي.
وإني كرجل بقدر رسالة المسرح العربي وأثره في يقظة الشعور القومي والوعي التاريخي لا يسعني إلا أن أشير إلى ما يصاحب هذه الفكرة من عقبات تتعلق بالبحث والدرس والتدقيق وما يلزم كل ذلك من ابتكار وابتدع وخيال وصناعة، فنحن الذين نقلب صفحات كتب التاريخ القديمة لا تعطى لأنفسنا أكثر مما نستحق أو أبعد مما نعلم إذ لكل جهد غاية ونهاية، وقد تقف بنا الجهود عند رأي أو فكرة وقد نعلم أشياء عن عصر معين، ونجهل أشياء كثيرة عن عصور أخرى، فمقدار علمنا في كثير من هذه الأمور محدود، ومقدار تشبعنا بأي عصر من العصور قاصر عليه قد لا يتعداه.
فإذا طلب إلى المسرح بفرقة المختلفة إخراج بعض الروايات التي تمثل عصر الحجاج أو شجرة الدر أو صلاح الدين أو العصر العباسي يجب أن نتدبر الأمر وأن تفكر فيه، حتى لا نقع في المتناقضات والأخطاء التي يصح أن تكون موضع انتقاد الغير وانتقاصه لسمعتنا.
وعليه أعتقد - ولا جناح عليّ في ذلك - إن جهود المسرح العربي يجب أن تتوافر على إخراج رواية تاريخية في العام الواحد، وأن يكون الاستعداد لها - ماديا - بعد درستها دراسة علمية: تستند على ثقافة وافرة واطلاع عميق على النصوص التاريخية وعلى على(914/45)
الآثار، وعلى تفهم ميزات كل عصر في كل ما يتعلق بالملابس وشارات الملك والأسلحة والأثاث والمعمار، ولا يسع عالماً واحداً أن يقوم بكل ذلك بل أن هذا العمل يستلزم تعاون طائفة من أهل الفن والعلم والاختصاص.
وأظن أن الأستاذ البارودي لا يخالفني في هذا الرأي. . . أم قوله إن الروايات التاريخية بجور إخراجها بملابس ومناظر عصرية فرأي له أنصاره وهو تمكين الجمهور من الاستماع إلى رنين الألفاظ وأداء المعنى المقصود من عبارات المؤلف، ولو أخذنا في إخراج (شجرة الدر) (والحجاج) بهذا الرأي لم يكن لمثلي أن يتكلم منتقداً ملابس العصر وشواهده. . .
أما وقد أخذنا المسرح بالإخراج التاريخي لا العصري فإنا عند رأيي الأول من أن إخراج الجند الشامي في رواية الحجاج بملابس القرن العشرين جاء مضحكاً، وأكثر منه إمعاناً في التسلية إلباس أحد قواد الحجاج ملابس القائد الإيراني لعهد مظفر شاه. . .
وحيث أننا انتقلنا من المذهب العصري إلى الإخراج التاريخي وجب علينا التقيد بالرأي القائل بأن يكون الإخراج مطابقاً في مناظره وملابسه للحقيقة التاريخية.
وإلا جاز إخراج رواية لويس الحادي عشر بملابس نابليون، وإلباس لويس الرابع عشر ملابس عهد الثورة الفرنسية. أؤكد للقارئ أن أي مسرح أوربي يقدم على هذا الخلط والمزج الغريب يسقط في فرنسا سقوطاً فاحشاً. . .
ولقد استشهد الأستاذ البارودي ببعض روايات برناردشو في كلامه، ولكن ما رأيه في أن برناردشو حينما أشرف على كتابة محاورات رواية كيلو بطرة، اهتم اهتماماً بالغاً، فتتبع حياة يوليوس قيصر، وعكف على دراسة مختلف ملابس العصر والألوان التي كان يلبسها ويعجب بها قيصر، وأن تدقيقه في أسلحة ذلك الزمن، دفعه إلى استعراض كل ما كتب عنها وتصفح صور المجموعات العالمية لها، حتى وفق إلى لون الدروع المحببة إلى قيصر والتي كان يحملها في الحفلات.
ولقد حاولت ومعي غيري أن أجد في الرواية منظراً نابياً أو أجد خطأ في ملابس القواد والجند والخدم والحاشية، أو تساهلاً في الأثاث والمباني، أو شيئاً يمت إلى عصر لا حق لعصر قيصر فلم أجد شيئاً من ذلك، فعرفت حقاً أن الإخراج التاريخي أمانة. . .(914/46)
إنني أصدقه، في أن الإخراج الواقعي أي محاولة تمثيل الواقع حرفياً أمر صعب، بل إذا قصد به إخراج الواقع في الحياة وما يلازمها تماماً كصورة طبق الأصل، أصبح الإخراج أدعى إلى ضجر الجمهور، لأن التمثيل والإخراج يحتاجان إلى الخروج عن قاعدة مجاراة الحقيقة التي يعيشها الإنسان في حياته العادية.
ولكن الأمر هنا يتعلق بمعرفة القدر اللازم إدخاله من المغالاة في التعبير والإشارة، ثم إلى حسن الاختيار. وهنا يبرز خيال المخرج ليلتقي مع صناعته وذوقه في صعيد واحد وهذا هو الفن، ولكن أتساءل هل هذا المذهب يبرر القول بأن استعمال الخط النسخ بدل الكوفي مسألة ثانوية، إذ ما ذنب الجمهور الذي يتلقى درساً خاطئاً في حقيقة تاريخية ثابتة كان يسهل جداً على المخرج تلافيها؟ وما أسهل ذلك عليه، بوضع الكتابة على الإعلام كوفية في رواية (ابن جلا) وبالنسخ في (شجرة الدر).
إن المجهود الذي بذله الأستاذ زكي طليمات بك في التمثيل رائع حقاً، وفي الإخراج عظيم. وقد شرح لي عزته المصاعب التي كانت أمامه، ولكني كرجل حريص على تاريخنا الإسلامي الذي ننحدر من أيامه وتتكون شخصيتنا من مواقفه وعظمته الخالدة، أقول إن الشخصية التي ظهر بها على المسرح ليست شخصية الحجاج، إنها أقرب ما تكون إلى تيمور لنك أو شخصية (أورسون ويلز) في روايته السينمائية لما فعل بورجيا أو القائد الأسيوي بايان في (الوردة السوداء).
الحجاج وهو سيف بني مروان يحتاج إلى دراسة أعمق من هذا لكي نظهره كما قال الأستاذ البارودي (أداة سياسية في المجتمع أو خادماً ساهراً على مصلحة الجماعة) أو لكي يظهر (بطلا تاريخياً تنمحي فرديته أمام عنصره السياسي التي عني إلى الجماعة بصفة عامة).
إن تقمص شخصية الحجاج تحتم أولاً تفهم عصر الحجاج، كما أن إبراز المعاني الكامنة والغامضة تستدعي تكشف الدوافع النفسية، وكل هذا يتطلب أن يعيش الإنسان في عصر الحجاج ولو فترة بين المراجع. كنت أنتظر أكثر من هذا ولكني لا أزال ا (مل وأنتظر من الصديق زكي طليمات بك ما هو أعظم وما يتفق مع (ما يعتمل ويحتدم) بين جنبين من آمال كبيرة ورغبة للوصول إلى آفاق بعيدة. . .
أحمد رمزي(914/47)
مسرحية ابن جلا
لما نشرت الرسالة الغراء نقد مسرحية (ابن جلا) للأستاذ أنو فتح الله، رأيت في نقده تحاملاً ظاهراً على المؤلف لا يستند إلى حقيقة ولا يرمي إلى غاية بريئة وهو نفس الأمر الذي لا حظه أستاذنا الزيات فعلق عليه بقوله (إن الناقد قد نظر إلى المسرحية بعين السخط فرأي المساوئ).
والأستاذ الناقد من خريجي قسم النقد بمعهد التمثيل الذي أقوم بالتدريس فيه، وهو من نفس الوقت ناقد ناشئ مجتهد، ومن هنا وجدت تشجيعاً له وتكريماً أن أعقب على نقده وليس بيني وبينه سوى هذا، فلم يكن هناك داع أن يجأر الناقد في مقاله بأني تعديت الناحية الموضوعية للنقد إلى التعريض بشخص الناقد الذي لم أذكره بخير أو بشر إلا في حدود ما خطه قلمه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن معرفتي بصاحب المسرحية أستاذنا تيمور بك هي عن طريق مؤلفاته إذ أني لم أتشرف بمعرفته أو لقائه حتى اليوم لظهر أن تعقيبي على مقال الناقد كان بريئاً خالصاً لوجه الفن والحقيقة وأنه لم يكن مستساغاً هذا الغمز.
ويأتي اليوم ناقداً البصير ويردد ما قاله في نقده الأول ويهرب من مآخذي بتصوير دوافع شخصية خيالية تحويلها، وهذا أمر لا يليق بناقد في مستهل حياته أفسحت له مجلة كبيرة صدرها. وإني لأنصح له مخلصاً أن يلتزم جانب الحق وأن يرجع إليه دائماً وليس بضاره هذا بل أنه لأكرم وأجدى. أما إذا كان يرى أن في تسفيه أعمال كبار الكتاب سبيلا إلى التقدم نحو الصفوف الأولى فهو لا شك يخطئ خطأ جسيما في حق نفسه وفي حق قرائه. وأخيراً فإني أعتبر عجزه الواضح في تعقيبه إقراراً منه بأنه قد أساء فهم المسرحية التي نقدها واكتفى بهذا إذ ليس من شيمتي أن أجادل في غير طائل.
إسماعيل رسلان(914/48)
البريد الأدبي
أمنية كبرى تحققت
كنت وإخواني المصريون، في السنوات التي قضيناها نطلب العلم بباريس، نلاقي من كثير ممن نتصل بهم، من الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين تجمعنا بهم صلة الدرس أو السكن، جهلاً عجيباً بالإسلام وتقاليده. وكذلك وجدت الأمر بالنسبة لمن اتصلت بهم وتحدثت إليهم من المسلمين بإنجلترا وأسبانيا في رحلتي إليهما عام 1948. وحين زرنا ألمانيا صيف ذلك العام نفسه، باعتبارنا أعضاء بمؤتمرات الشباب العالمي الذي انعقد بموينخ في شهر يونية، وجدنا نفس الشيء في شباب ألمانيا، وربما على نسبة أكثر ومدى أوسع.
وفي هذا المؤتمر كان من حظي وحظ أخي وصديقي الدكتور أحمد مسلم المدرس الآن بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول. أن وقع علينا عبء البحث والنقاش في اللجنة التي عهد إليها بحث مشكلة زيادة عدد النساء وعدد الرجال في ألمانيا بعد الحرب التي أكلت الشبان. وكان أن عرض كثير من المؤتمرون، وهم من أجناس وأمم ودول مختلفة من جميع أقطار الأرض، حلولا غير ناجعة لهذه المشكلة، وحسبنا أن نذكر أنه كان منها إباحة (المخالة) رسميا وجعلها في منزلة الزواج ومنزلة واعتبار!!
وكان أن عرضنا، زميلي وأنا، الحل الوحيد الذي يعالج هذه المشكلة علاجاً طبيعياً شريفاً دائماً، نعني به إباحة تعدد الزوجات في التشريع الألماني وغيره من تشاريع البلاد الأخرى التي تعاني نفس المشكلة. وهنا وجدت كثيراً من العيون تسلفنا بنظرات حداد. وكثيراً من الشفاه تتفرج عن كلمات عدم الموافقة بل استهجان الاقتراح، وحين طلبنا السبب في كل هذا، عرفنا أن جمهور المؤتمرين لا يعرفون عن الإسلام شيئاً طيباً يجعلهم يقبلون بعض تقاليده، وبخاصة مسألة تعدد الزوجات. وبعد لأي، وبعد شرح منا لوجهة نظر الإسلام في هذه المسألة وأن الحل الذي يراه هو الوحيد الذي يمكن معالجة هذه المشكلة به هذه الأيام، ابتدأت الأسارير تتفرج، وابتدأ المؤتمرون يقبلون بجد على تقليب وجوه الرأي فيه.
ثم عدنا إلى الوطن، وشرعت ألمانيا الغريبة تعد دستورها الجديد. وإذا بمدينة (بون) العاصمة يقترح أهلها - كما نشرت الصحف هنا - يقترحون أن ينص في الدستور على إباحة تعدد الزوجات علاجاً للمشكلة التي يحسها كل ألماني إحساساً شديد!(914/49)
كان من أماني إذا، وقد عدت للوطن، واستقررت فيه من جديد، أن يكتب كتاب عن الإسلام عقيدة، وأخلاقاً، وتشريعاً، ونظاماً اجتماعياً، ومذهباً اقتصادياً، إلى سائر نواحيه المختلفة حتى الدولي منها موقناً أن هذا العمل يجعل التفاهم بيننا وبين المسيحيين غير الشرقيين أمراً سهلاً ميسوراً، ما دام كل منا سيصح وقد فهم غيره حق الفهم. وقد قدمت في ذلك أكثر من تقرير لمشيخة الأزهر. وكتبت فيه أكثر من مقال في مجلة الرسالة الغراء وغيرها. وكان مما ذكرته في الرسالة في عدد يناير سنة 1950 ما يأتي:
(علينا إذا أن نقرب هذا الدين، وأن نجلوه للطالبين: عقيدة وأخلاقاً ونظاماً اجتماعياً، في كتاب قريب التناول نترجمه للغات جميعاً في الغرب والشرق، ثم نوزعه في أقطار الأرض كلها. بهذا وحده يستطيع أن يعرف الإسلام من يريد، وبهذا نكون أدينا واجباً لهؤلاء الحائرين وما أكثرهم، وللإنسانية كلها، لأن أكثر ما كتب عن الإسلام تعوزه الدقة والإنصاف). وكانت هذه الكلمة موجهة لفضيلة الأستاذ الأكبر، الشيخ الشناوي حينذاك.
وفي العدد الصادر بتاريخ 13111950م كتبت كلمة أخرى
عن الأزهر ووجوه الإصلاح فيه ليؤدي رسالته ي مصر
وغير مصر، وقلت في آخرها: لماذا لا يعمل الأزهر على
تقريب الإسلام يوضع كتاب عنه في نواحيه المختلفة، ثم
يترجم هذا الكتاب بكل لغات العالم ويوزع في أقطار الأرض
كلها؟).
ولم أكتف بما قدمت من تقارير وكتبت من مقالات، دعاوى لما أرى وتأييداً له، بل تحدثت بذلك إلى غير قليل من رجالات الأزهر مراراً عديدة، وشرعت في إعداد نفسي لهذا العمل بما أخذت أجمع من نصوص ووثائق وأسانيد، تمهيداً لوضع الكتاب المرجو بالعربية أولاً ثم لترجمته ثانياً.
لهذا كله، رأيت نفسي أشد الناس فرحاً بما نشرت الصحف من توفيق الله تعالى مولانا صاحب الجلالة الملك إلى الإشارة بوضع رسالة عن الإسلام تبين فضله ومزاياه، ثم تترجم(914/50)
للغات الحية، ومن أن فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الأزهر شلتوت. حينئذ أحسست برد الراحة التي يحسها من يجد أنه وصل إلى ما كان يتمنى، من أكد الطرق وعلى أحسن الوجوه. ويقيننا أن الله قد كتب التوفيق لفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت في هذا المهم الجليل الذي له ما بعده والله الهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور محمد يوسف موسى
أستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر
شكر لابد منه
قبل أن أقدم جزيل شكري وعظيم امتناني إلى إخواني أدباء العرب في كافة أقطارهم، على موقفهم النبيل الذي وقفوه تجاه محنتي من وزارة المعارف العراقية العمومية وتصلب وزيرها الصحفي معالي السيد خليل كنه، أود أن أتريث قليلاً لأزف أسمي آيات الإخلاص إلى أستاذنا الجليل أحمد حسن الزيات الذي فسح صدر (رسالته) الغراء لي، وأعمق عبارات الود والأخوة إلى كاتب التعقيبات الأستاذ الناقد الفذ أنور المعداوي على شعوره الطيب تجاه أخيه الشاعر، حيث قد وقف قلمه على نصرتي، وهذه رنة لا ينساها إلا من فقد معاني الوفاء وتنكر للجميل! كما أرجو أن أكون عند حسن ظن الجميع، وختاماً أود أن أرفع شكري أيضاً إلى الذين وصلتني منهم رسائل وبرقيات ولم أستطع أن أرد عليها في حينه لجهلي عناوينهم، وأن تكون هذه الكلمة بمثابة رد للجميع، وأسأل الله أن تبقى مصر أم الثقافة وزعيمة البلاد العربية، مناراً يهتدي بنوره الملجون. . .
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(914/51)
عودة
للأستاذ ثروت أباظة
عشر سنين أحمل الداء في هذه الزائدة التي أبقاها الله في الإنسان ليغض من كبره كلما تكبر، ويذل من عتوه حينما يعتو. . عشر سنين أحمل الداء وأتشبه بالقوم فأروح وأعدو لا يعلم أحد علام أقفل هذا الصندوق الآدمي، ويرونني فيرش المحب اللمح فوق رأسي خشبة الحسد، ويكتم الحقود الحقد في نفسه أو يبديه في ألفاظ مادحة وأنا أتلوى ساعات في اليوم لقد ظن الأهل أنني أبالغ ثم أقوم من تلك الأزمة اليومية لأشكر اللمح للصديق ولأتظاهر بالفرح للحسود.
عشر سنين ودعائي إلى الله كلما أقبل اليوم أن يخف فيه العذاب، ثم أفكر فيما أنا فيه فلا أجد لي غير الأطباء مخرجاً أزال بهم أو ما يزالون هم بي حتى أصبح صديقهم جميعاً وحتى أصبحت أفهم في مرضى أكثر مما يفهم بعضهم. لقد كنت مجتمع آرائهم وحقل ثقافتهم فمن حق هذا المكان الآدمي أن يفهم وأن يفهم كل ما يقولونه وقد فهمته فشقيت به وأسلمت أمري معهم إلى الله.
عشر سنين لا يضيع طبيب يده على مكان العلة بل هو دائماً في المكان الخاطئ وعلى الرأي اليأس وأنا أسلم أمري إلى الله وأشكر نعمته التي وهب فما أقل ما كنت فيه إذا نظرت إلى غيري، وما أهون ما لاقيته من شر إذا ذكرت ما يسكبه على سبحانه من خير.
عشر سنوات ثم يشاء الرب الكريم أن ينم النعمة ويكشف عن الطب الغشاوة عن تلك الزائدة التي أمر الله أن تظل في الإنسان بقية من حيوانيته. . ويشاء الله أن ينكشف الغشاء وأنا في أوج الخير الذي يسكبه على فأغض من كبر كاد أن يركبني وأذكر أنني ما زلت هذا الحيوان صاحب تلك الزائدة التي تألم لتذكر!.
سبحانك رب هل أنا أهل لكل هذا الخير الذي تحيطني به. . . تسكب على النعم حتى لتتلاني الخشية ويكاد المبر أن يدخلني، وحينئذ على النعم حتى لتتولاني الخشية الرحيمة أن تكشف عني علتي فيزول بها مرض الجسم ومرض النفس. . . سبحانك رب. . . وهل يملك هذا المخلوق الحقير إلا أن يسبح باسمك ويسبح، ثم يريد الغنى أن يشكر فإذا أنت سبحانك تسكب عليه الخير مرة أخرى فتهبي له رب! وهل الطيب إلا برك يسعى على(914/52)
الأرض يستعين بك فتعينه، ويستلهم وحيك فتلهمه سبحانك.
ثروت أباظة(914/53)
القصص
قلب الابن
للأستاذ كمال رستم
مهداة إلى سعادة الأستاذ محمد كامل البهنساوي بك صاحب
الأقاصيص المأثورة
. . رقى إبراهيم إلى العربة وقال مخاطباً الحوذي
- عيادة الدكتور رأفت
وساط الحوذي جواده فتحامل الحيوان الجاهد على نفسه وجرر أقدامه في تثاقل وبطئ وهو يكاد أن يتكفأ من التعب والأنين. . .
وتنهد إبراهيم تنهدة عميقة وهو يرقب العربة تتحرك في هينة ورفق كأنما قد خرج بها إلى نزهة وليس إلى أمر ذي بال. . وهمه أن رأى العربات تمضي بعربته سريعاً كأنما جيادها شياطين جن وأزمع أن يصرخ في الحوذي ليحدث جواده المتهالك على السير. ولكن الرجل كان قد برق في ذهنه نفس الخاطر وأهوى سوطه على ظهر الحيوان في قسوة وعنف فحث خطاه وأنفاسه حشرجة محتضر. . .
ولكن الجواد وقد حسره السير تباطأت خطاه مرة أخرى وتقاربت فعاد الحواذي يلهب بالسوط ظهره والسباب يطفح من فمه وانصرف إبراهيم بذهنه عن الرجل وجوده وأوى إلى أفكاره يعايشها. . أنه ترك أمه في البيت طريحة الفراش. . وقد تعناها المرض وتحلل بها حتى ليوشك أن يوردها موارد الموت. . .
وبدا له غريباً أن يحدث هذه لأمه. . وأن تفارق روحها بدنها الناحل وهي مسمرة به. . وومضت صورتها لحظة في ذهنه. . هذه الأم التي علت بها السن وهي بعد موثقة الخلق شديدة الأسر كفتاة في العشرين، فاستكثر أن تعنو هذه الحياة الكبيرة لمرض فموت. ولكن الحقيقة أن أمه كانت تعاني المرض. . وأنه أقعدها لأول مرة في حياتها عن أداء وأجبها. . وذكر أنها كانت وهي مدنفة تشرف على البيت مملكنها الصغيرة تناقش الزوجة وتراجع الخادم كما تفعل كل يوم. . دون أن تترك للمرض الوافد فرصة للتغلب عليها. . .(914/54)
كان البيت بيتها، هي ربته تدبر حركته وتصرف أموره على النحو الذي ترضاه، وتأبى على الزوجة أن تطلق يدها في شأن من شؤونه. . كانت تنهض من فراشها في الصباح الواعد فتبعث بالخادم إلى السوق لشراء حاجات الطعام، فإذا عادت من السوق وقد امتلأت سلتها بالخضر والطماطم واللحم دار بينها بادئ الأمر حديث هادئ كان لا يلبث صوت أمه بعده أن يرتفع في ثورة وغضب، لأن الخادم - في وهمها - سرقت نصف قريش. . .
وحينما تتهيأ لطهو الطعام ويعلو صوت (وايور الغاز)
كانت تتمشى على شفتها الرضا والسعادة، فصوت الوابور يحكى عندما صوت الموسيقى تنتشي له وتطرب. . وعندما كان ابنها يعود من عمله مجهداً مكدوداً كانت تستقبله بابتسامة حلوة وتقول له.
- أعددت لك اليوم فاصوليا تأكل معها أصابعك. . .
وكان يجيبها وهو يربت على كتفها قائلا:
- نعم الطعام طعامك يا أمي! لا عندما يديك. . .
وتنثني راجعة إلى المطبخ وقد استغرقتها السعادة لمديحه وإطرائه. . بينما يدلف هو إلى غرفته ينضو عنه ثيابه. وكانوا يجلسون ثلاثتهم إلى المائدة يتنازلون الطعام ويشققون الأحاديث. . .
وعندما كانوا يفرغون من تنازل طعامهم كانوا يأوون إلى أسرتهم يغفون القيلولة ولا يبارحون إلا على أذان العصر فتجهز له أمه القهوة، وبعد أن يتنازلون لها كما يرتدي ملابسه وينطلق إلى الطريق. . .
ولكن هذا لم يكن يحدث في كل وقت. . . فالغالب ألا يمضي اليوم هكذا هادئاً دون أن يفكر صفوة نزاع أو شجار يقوم بين زوجه وبين أمه. . . ولقد اعتاد أن ينصت إلى شكايتهما. . ويحاول جهده أن يصلح بينهما دون أن يتحيز إلى أحدهما. . ولكن موقفه هذا كان لا ينجيه من غضب الاثنتين جميعاً. . فأمه ترميه بمحاباة الزوجة. . والزوجة تتهمه بمظاهرة الأم. . ويمضي به اليوم أبأس ما يكون اليوم. . . ولم يكن هذا النزاع بين زوجه وأمه لينتهي أبداً. . وأبهظت هذا الحال أعصابه. . وأمضته فكان ينفر من البيت وينطلق إلى الطريق يقتل وقته في المقاهي والمشارب يسلو ويتعزى. . وكان يعود متأخراً إلى(914/55)
البيت فيجد في انتظاره زوجته غضبى. . تشكو له أمه وتنعى عليها أنها سبب شقائهما في حياتهما كزوجين. إنها تعرف أن أمه لا تحمل لها إلا البغض. وهي لا تنسى أنها عارضت في زواجه منها. . . لأنها كانت تأمل أن تزوجه من أبنة أختها. . . ولكن إبراهيم ركب رأسه وأصر على أن يتزوج منها هي لأنهما كانا متحابين. . . وأنها لذلك تسعى إلى تعكير ما ينهما من صفو لتحملها على مغادرة البيت. . . ولقد تبينت خطأها آخر الأمر. . . فما كان ينبغي أن تقبل على أن تبني به وأمه لا تبارك زواجهما. . . وكان ينهض من فراشه في الصباح خائراً مكدوداً فيمضي إلى أمه يقرئها تحية الصباح فتردها عليه فاترة. . . وتقول له إن زوجه أدارت رأسه. . . وأنها تعمل على إفساد ما بينهما. . . وتذكره بأنها أمه. . . أمة التي حملته في بطنها. . . وقامت على تربيته إلى أن غدا رجلا. . . إنها أعدته للزمن أمناً لها في شيخوختها. . ولكن امرأة لن تتعب في تربيته. . امرأة أجنبية. . تبعث في قلبه العقوق وتنفره منها وهو صامت لا يتكلم. . . إنها تعلم أن زوجة تريد أن تقسرها بعنادها على مبارحة البيت ليصبح لها على أتساعه. . . وستفعل هي ذلك يوماً ما دام أنه يظاهر زوجه عليها. . وستمضي إلى شقيقها عنده ما تبقى من أيامها وإنها لقلائل وتدعه لزوجه تهنأ به. . . وحينما ينطلق إلى الطريق محتضنا أفكاره كان يفكر في حياته الشقية هذه. . . أنه لا يذكر أنه شعر بالهدوء يوماً ولا بالراحة منذ أن تزوج. . . إن أمه كان يعز عليها أن يشرك في حبها زوجته. وكثيراً ما كان يهم بأن يطلب منها أن تعدل أسلوب معاملتها لزوجه، ولكنه كان لا يلبث أن يضعف ويستحذي ويقنع نفسه بأنها ستفعل ذلك من تلقاء نفسها حالما تدرك أن سلوكها هذا يتعسه ويشقيه. . . ولكنها لن تشأ أبداً أن تقدم على هذه الخطوة من جانبها. وبات النزاع بينها وبين زوجه لا ينفض إلا ريث أن يعود من جديد. . . وآخر مرة هددته زوجه بأنه إن لم يوقف أمه عند حدها فإنها ستغادر بيته إلى الأبد. . . ولكن ها هي ذي أمه - طريحة الفراش لا تقوى على حركة. . . واندس خاطر جري بين خواطره له همس حبيب. . . (لو أن أمه تموت!). نعم فإنه يود أن يتحرر من إسار بنوته ويخلص إلى زوجه التي لم ينعم بحبها لحظة واحدة. . . وومضت في خياله صورة زاهية لمستقبله الهانئ مع زوجته. . . إنهما يعيشان في البيت وحدهما. . . يتذاكران الماضي ويستعيدان مشاهده. . . ثم انتقلت خواطره إلى أن وقفت به(914/56)
عند أمه. . . فأقنع نفسه بأنها أخذت حظها من الحياة، وأن الخير في أن تمضي عن الدنيا الآن وقبل أن يمتد بها المرض. . .
وأخرجه من تأملاته صوت الحوذي يقول
- عيادة الدكتور رأفت يابك. . .
فهبط معجلا. . .
ولما عاد إلى المنزل مع الطبيب تقدمتهما زوجه إلى غرفة المريضة. . .
هناك رأي أمه ممددة على الفراش منهوكة القوى مهدومة. . .
وكانت عيناها مغلقتين. . . وصدرها المسيح يخفق وأنفاسها الحارة تتلاحق. . .
وبدأ وجهها المعروق وقد زايلته حمرته. . . وشاعت فيه بدلا منها صفرة الموت. . .
وتقدم الطبيب من مهادها وأمسك بجمع يده. . . يدها المتقدة، ففتحت عينين أنهكهما المرض وكحلهما السهد. . . وفحصها. . . ووصف الدواء. . .
وخلا إلى الزوجين وقال لهما:
- لا معدي من إجراء جراحة فهي الأمل الوحيد لإنقاذها. . .
وليس من الأطباء من أضمن أن يقوم بإجرائها بنجاح إلا الجراح الكبير (محمود باشا سامي). . . فإذا أمكن أن ننقلاها غدا إلى مستشفاه بالقاهرة فلا تتردد. . . وإلا ضاع الأمل في إنقاذها إلى الأبد. . .
وصافحهما ومضى. . .
وقالت زوجه:
- لتحضر لها الدواء. . . وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء. . . إنك لا طاقة لك بنفقات جراحة لا طائل تحتها. . . وأنت تعلم من محمود باشا سامي. . .
وأمن الزوج على قولها وقال:
- نعم ليفعل الله ما يشاء. . .
وخرج يحضر الدواء. . .
وراح ذهنه طول الطريق يبرق بشتى ألوان التفكير. . .
وفجأة. . . أحس بشعور جديد وافد. . . يطرق قلبه. . .(914/57)
إنه الألم. . . الألم الذي راح يغلف روحه في غير هوادة. . .
بدا له أن أمه عزيزة عليه. . . وأنه يحبها كما لم يحبها من قبل. . .
وتراءت له صورتها الحبيبة. . . يوم أن كانت تملأ حركتها البيت. . .
وراح يقابلها بصورتها وهي مسجاة على الفراش. . . لا تقوى على حركة. . . فزخرت بالألم نفسه. . . وناش الحزن صدره، وخيل إليه لحظة أنه لا يطيق العيش بعدها. . . هذه الأم التي أحبته من أعمق قلبها. . .
وشعر بالخزي والعار لأنه تمنى لها الموت. . .
وكان قد بلغ الصيدلية فاتباع لها الدواء وانقلب عائداً إلى البيت محتضنا أفكاره. . .
ودخل غرفتها. . .
وكانت أمه مسترخية على الفراش وقد تآلف جفناها. . . وتباطأت دقات قلبها. . . ووهنت أنفاسها. . .
وكاد مشهدها أن يستل روحه من بين أضالعه
ووسد راحته جبينها الصلت. . . وقال في صوته الخفيض
- أماه! ألا تزالين نائمة. . .
وفتحت جفنيها المطبقين. . . وكما لو كانت الحياة دبت فيها من جديد. . . تمشت على شفتيها بسمة واهنة وهمست
- إبراهيم؟
- نعم يا أماه. . . لقد أحضرت لك الدواء. . . وسيمسح الله ما بك. . . وتعودين إلى طهو الطعام لأني لا أسيغه من غير يديك. . .
ووهنت ابتسامتها حتى كادت أن تتلاشى وقالت في صوتها الهامس. . .
- لقد ضعفت يا إبراهيم. . . لا تأس. . . إنني أحس بأن حياتي انتهت. . .
وخنقته العبرات وهو يقول
- لا تقول ذلك يا أماه. إنك في خير وعافية
. . . ولم تتكلم. . . وراح ابنها يحدق في وجهها الحبيب الذي طالما طالعنه ابتسامته. . . وخيل إليه في لحظة واحدة أنه على استعداد لأن يضحي كل شيء في سبيل أن تبقى. . .(914/58)
أن تعيش. . . أن يراها مرة أخرى تملأ البيت. . . وأن تستقبله بابتسامتها العريضة. . . وأن تجلس إلى المائدة تطري الطعام الذي صنعته له. . .
وفكرت في غمرة ألمه وحزنه أن يفعل شيئاً سريعاً لإنقاذها. . .
إنه سيسحب في الغد من صندوق التوفير نقوده كلها ويوقفها على شفاء أمه. . . على برئها. . .
وانحنى فوق وجهها الناحل يقبله في حنين وهو يقول:
- أماه. . . سنسافر غداً إلى القاهرة. . . وسأقوم إلى جانبك إلى أن يتم إجراء الجراحة لك وتبرئي من مرضك. . .
وتمشت على شفتيها ظلال ابتسامة. . . وبدا له أنها متعبة مكدودة. . . إذ تآلف جفناها فجأة. . . فتراجع إلى غرفته. . . والدموع ملء عينيه. . .
كمال رستم(914/59)
العدد 915 - بتاريخ: 15 - 01 - 1951(/)
ثوروا على الفقر قبل أن يثور
سادتي وزراء الشؤون الاجتماعية والاقتصادية الوطني والتموين والتجارة والأوقاف! نصيحة خالصة لوجه الله يدفعني الإشفاق عليكم أن أقدمها إليكم:
ثوروا على الفقر أن بثور، واستعدوا للدائرة قبل أن تدور! إن زميلكم وزير المعارف يؤلب عليكم الأمة! لقد صمم على أن يعلم الشعب. وتعليم الشعب معناه أن تزول الغشاوة عن عينه فيبصر، وأن تنجلي الغشاوة عن قلبه فيفقه، وأن تذهب البلادة عن عصبه فيحس. ومتى يبصر الشعب ويفقه ويحس، يدرك الاختلاف بين حال وحال، ويميز الفرق بين طبقة وطبقة، ويقرأ العدد الأخير من مجلة (آخر ساعة) مثلاً فلا يكتفي منه بالصور تلهيه، بالأخبار تسليه؛ وإنما موازنة الواعي المفكر بين ما صورته من عيد رأس السنة الميلادية وما أقيم فيه من مآدب ومراقص بالنعيم، وتلألأت بالجواهر، وازدهت بالحلل، والتحمت بالرقص، وطفحت بالخمر، وضجت بالحجاز، والتهبت بالقبل، وعرضت على الأنظار الطامحة ألوفاً مؤلفة من الجنيهات المصرية تمثلت على الأجساد المترفة البضة حللا وفراء وعقوداً ومشابك وخواتم مما يجلبه الغنى الفاحش من كنوز أوربا! يوازن بين هذا وبين ما صورت المجلة في العدد نفسه من بؤس الفلاح في قرية (مناوهلة) بالمنوفية وما يكابده من كرب العيش وغصص الفاقة، ومض الأمراض، وعنت الملاك، وهبوط دنياه إلى دنيا البهيم، فيأكل أخشب الطعام ولا يتغذى، ويلبس أخشن الثياب ولا يستتر، ويعمل أشق الأعمال ولا يكافأ، وينتج أعظم الإنتاج ولا يشارك، فتصدمه الموازنة لأنه علم، وتؤلمه النتيجة لأنه أحس. ويؤمئذ يسألكم يا أصحاب المعالي هذا السؤال: (ماذا تصنعون على الكراسي التي وضعتكم عليها بيدي، وكافأتكم على الحركة فيها بمالي؟)
ولعلكم تدركون يا أصحاب الجاه والسلطان، أن الجواب عن سؤال الشعب غير الجواب عن سؤال البرلمان!
أعداؤنا الثلاثة يا أصحاب المعالي لا يعرفون هوادة ولا يقبلون هدنة. فأما الجهل فالصراع بينه وبين وزير المعارف شديد. والعالم كل رقب هذه المعركة الشعواء بعين الإعجاب والثقة والنصر ولا ريب مكفول لزميلكم العظيم لأنه لا يقبل النكوص ولا يرضى الهزيمة. وأما الفقر والمرض فقد تركتموهما يعيثان في القرى والمدن، يبذران الشقاء والوباء، ويسخران من وعودكم التي تعلن ولا تنجر، ومن مشروعاتكم التي توضع ولا تنفذ. وإذا(915/1)
أنجر منها وعد أو أنفذ مشروع، كان لمصلحة الأغنياء ومنفعة الأصحاء على حساب الفقراء والمرضى!
أحمد حسن الزيات(915/2)
الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة
الإسلامية
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
- 1 -
الأستاذ ضياء الدخيلي
نشرت جريدة (العالم العربي) البغدادية بتاريخ 13121950
تحت عنوان الدعوة للاحتفال بذكرى الفيلسوف الفارابي: تقول
صحف الشام إن السيد فخري البارودي أحد المعروفين
بالاشتغال بالقضايا العامة، والذي انصرف مؤخراً إلى رعاية
الجمعيات لخدمة الموسيقى العربية قد رفع إلى وزارة
المعارف السورية كتاباً يقترح فيه أن تدعو ممثلي الدول
العربية للاشتراك في مهرجان لتخليد ذكرى الفيلسوف
الموسيقار أبي نصر الفارابي بمناسبة مرور ألف سنة على
وفاته ودفنه في دمشق أسوة بالمهرجان الذي قررت الجامعة
العربية إقامته في بغداد خلال الربيع لذكرى لبن سينا. وقد
أخبرني الدكتور جواد علي سكرتير المجمع العلمي العراقي
عندما عرضت عليه هذا الخبر أن أول من احتفل بذكرى
الفارابي الألفية إحدى جامعات النمسا، وقد شهد الاحتفال أحد(915/3)
العرب فتحمس وتألم لنسيان بلاده هذا الفيلسوف العظيم الذي
أنتجته المدرسة العربية في بغداد على حين يبعث الوفاء
لعبقرية الأوربيين للاحتفال بعيدة الألفي. وأردف سكرتير
المجتمع العلمي العراقي حديثه بقوله لماذا لا يحتفل العرب
بالفيلسوف العربي يعقوب الكندي وهو عربي أصيل؟ وبعد
مفارقتي الدكتور جواد علي راجعت كتاب أخبار الحكماء
للقفطي وكتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وكتاب
فهرست ابن النديم وقد ذكر هؤلاء ترجمة الكندي إلا أن
الغريب أنهم لم يذكروا تاريخ وفاته غير أني وجدت الأستاذ
الزيات يذكرني في كتابه القيم تاريخ الأدب العربي أن وفاة
يعقوب بن إسحاق الكندي سنة 246هـ ومعنى هذا أنه قد
مضى على عيده الألفي حوالي 124 سنة ولكن لا يمنع ذلك
من إقامة احتفال فخم لإحياء ذكرى أول فيلسوف عربي
أصيل؛ ذلك لأن الشعور القومي العربي كان قبل قرن يرزخ
وينوه بأعباء الاضطهاد التركي واليوم قد تنفس العرب
الصعداء بعض الشيء وتحرروا قليلاً من ربقة استعمار ليخلفه
آخر. ولقد فهموا قيمة الاعتزاز بالأمجاد وتقديس الذكريات في(915/4)
بعث الحياة واليقظة في الجيل الجديد، وها هي تركيا الحديثة
قد احتفلت بالفيلسوف الفارابي لادعائها تركيته فقد قرأت في
مجلة (الرسالة) الغراء أن الأتراك قرروا الاحتفال بذكراه
الألفية في نوفمبر من هذا العام. ولكن الفارابي إن كان تركيا
في قوميته فهو عربي في دراسته وثقافته ولغته العلمية فمن
واجب العرب أن يحتفلوا بأحد كبار معلمي مدرستهم الفلسفية
ومن كان قبل من عباقرة طلابها وها أني أول من يلبي دعوة
ابن الشام للاحتفال بالفارابي على صفحات مجلة (الرسالة)
الغراء ومن أولى من (الرسالة) بالاحتفال بذكرى فيلسوف
إسلامي كالفارابي، فالرسالة هي المجلة التي حملت في بلاد
العرب والإسلام مشعل اليقظة وأنارت السبيل للجيل الجديد
إلى كنوز الثقافة العربية وبعثت في النفوس الراكدة نهضة
وحياة خليقتين بالإجلال والإكبار وأقبلت على تراث العرب
والإسلام تتلمسه لتظهر معالمه للضالين؛ فأشرقت أنوار
ذكريات ذلك المجد الزاهر الذي أضعناه نحن أبناؤه واحتفظ
بتقديسه الغربيون الذين بقوا يجلون ويكبرون الفارابي وابن
سينا وابن رشد والكندي وإخوانهم ويحيطونهم بهالة من(915/5)
الإكبار كموقف الفكر العربي اليوم تجاه أفلاطون وأرسطو
وسقراط اليونانيين. من أولى من (الرسالة) في أن تخصص
الصفحات المشرقة من أعدادها الغراء للاحتفال بذكرى المعلم
الثاني و (الرسالة) هي التي علمت شباب العرب والإسلام
اليوم كيف يقدسون تراث السلف الصالح. . . فلتحتفل هي
بالفارابي أسوة بجامعتي النمسا واستنبول.
فقد نشرت جريدة (العزة) البغدادية بتاريخ 18 كانون الأول سنة 1950 أن وزارة المعارف العراقية تلقت أمس دعوة من جامعة استنبول لاشتراك الحكومة العراقية في الاحتفال بذكرى الفارابي التي ستقوم بها الجامعة المذكورة يوم 29 من الشهر الحالي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته؛ فما هو صدى ذلك في جامعتي فؤاد وفاروق المصريتين؟ وما هو موقف الجامعة السورية؟ أما العراق فإنه مع الأسف بالرغم من كثرة ادعاءات حكومته لا توجد فيه جامعة ذات طابع عراقي خاص.
يحدثنا مؤلف (تاريخ فلاسفة الإسلام) أن حكماء العرب انشقوا في أواخر الفرن الثالث الهجري إلى فريقين: الأولى فرقة المتكلمين، وكان للكندي الفضل الأكبر في تمهيد سبيلها واختصت بالإلهيات وما وراء الطبيعة وكان ظهورها في مرو (خراسان من بلاد إيران) وكانت قبل ذلك الانفصال تتبع فيثاغورس ثم تنحت عنه وعن أتباعه وتعلقت بأرسطو بعد أن لبست تعاليمه ثوب مبادئ الأفلاطونية الحديثة (نيوبلاتونيزم) وكانت هذه الفرقة تبحث الأشياء في مبادئها وتتحرى المعنى والفكرة والروح ولا تصف الله بالحكمة في الخلق أو بالعلة الأولى ولكن بأنه واجب الوجود. وكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك أولاً وكان الفارابي رئيس هذه الفرقة وزعيمها والمقدم فيها وإليه المرجع وعليه الاعتماد (راجع تاريخ العرب لنيولسن). أما الفرقة الثانية فهي فلاسفة الطبيعة وكان ظهورها بحران والبصرة وقصرت بحثها على ظواهر الطبيعة المادية المحسوسة مثل تخطيط(915/6)
البلدان وأحوال الشعوب، ثم ترقت في البحث فلم تتعد النظر في الأثر الذي تحدثه الأشياء في عالم الحس، ثم تجاوزت البحث في ذلك إلى النفس والروح فالقوة الإلهية فعرفها بالعلة الأولى أو الخالق الحكيم الظاهرة حكمته في مخلوقاته. وكان أبو بكر محمد زكريا الرازي زعيمها، وكان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً طبيباً.
فالفرق ظاهر بين الفرقين؟ فالفرقة الثانية التي زعيمها الرازي كانت تبحث فيما ظاهر للعيان وملموس بالحس وتقنع بصفاته وقوة أثره في غيره من الموجودات. أما الفرقة الأولى فرقة المتكلمين التي كان رئيسها الفارابي فكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك الوجود أولاً، فالفارابي كان إذن زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره. لقد قال الأستاذ محمد لطفي جمعة مقال له عن الفارابي في المجلد من المقتطف ونشر مضامينه كتابه (تاريخ فلاسفة الإسلام) - أن مبدأ انشقاق فلاسفة المسلمين كان في أواخر القرن الثالث الهجري لكن دي بوير في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) خالفه في تحديد زمن ذلك الانقسام فحدثنا أنه كان في القرن الرابع الهجري والحقيقة أنه من الصعب تقسيم الحركات الفكرية إلى فصول زمنية؛ فليس هنالك حدود فاصلة دقيقة تقطع التيار الفكري إلى قطع متمايزة، فهي كلها تؤلف أحجاراً متلازمة وأجزاء مترابطة في هيكل الحياة الفكرية. فكثير من الأفكار والمبادئ الشائعة اليوم والمهيمنة على القسم المعمور من الأرض تجد جذوره إلى أقدم العهود التاريخية، فلو تصفحت (جمهورية أفلاطون) مثلا لوجدت فيها طائفة من الأفكار الحديثة التي يعتقد الناس خطأ أنها وليدة العصر الحديث وأنها من نتاج أبناء اليوم؛ وكذلك القول في (رسائل إخوان الصفا)
على أن هناك من ينكر هذا الانشقاق في تجاه الفلاسفة. وإني عند ما درست شرح إشارات لبن سينا للطوسي والشوارق للاهجي وشرح منظومة السبروارى في الفلسفة ودرست حاشية الملا عبد الله وشرح الشمسية وشرح منظومة الشيخ هادي شليلة في علم المنطق وغيرها من كتب الفلسفة الإسلامية ودرست في علم الكلام شرح تجريد الطوسي للعلامة الحلي؛ أقول عندما درست هذه الكتب الفلسفية في مدارس النجف الأشرف الإسلامية لم أجد أستاذننا يقسمون فلاسفة المسلمين إلى هاتين الطائفين، وكانوا رحمهم الله يخلطون بين أقولهم جميعاً في مزيج واحد؛ ولكن دي بوير يصر هذا التقسيم فيقول في كتابه (تاريخ(915/7)
الفلسفة في الإسلام) أخذ أصحاب المنطق أو أصحاب ما بعد الطبيعة يتميزون في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) عن الفلاسفة الطبيعيين. والأولون يسلكون في أبحاثهم منهجاً أكثر دقة وصراحة من منهج المتكلمين (ومنهجهم يقوم على استنباط الأشياء من أصولها على طريقة برهانية دقيقة) وقد رغبوا عن مذهب فيثاغورس وانقادوا لأر سطو الذي وصلت إليهم فلسفته في ثوب من المذاهب الأفلاطوني الجديد. وهنا نجد أمام اتجاهين في العلم عني بكل منهما فريق، فالفلاسفة الطبيعيون عنوا - على تفاوت فيما بينهم - بدراسة ما في الطبيعة من ظواهر مادية كثيرة كما هو الحال في علم الجغرافيا وشأن الأمر الجزئي في نظرهم ثانوي وهو لا يزيد عن كونه مندرجا تحت كلي ويمكن استنباطه من هذا الكلي. وعلى حين أن الفلاسفة الطبيعيين يجعلون دراسة آثار الأشياء أساساً لأبحاثهم فإن أصحاب المنطق يحاولون إدراك الأشياء باستنباطها من أصول وهم في كل أبحاثهم يتلمسون ما هيأت الأشياء وحقائقها. وقد جاء أهل المنطق بعد الطبيعيين في الزمان كما أن متكلمي المعتزلة نظروا أولا في المخلوقات ثم نظروا في ذات الخالق بعد ذلك. وقد عرفنا أن الرازي الطبيب المشهور المتوفى عام 320 كان أكبر ممثل للفلسفة الطبيعة التي يستعمل فيها المنهج المنطقي والتي مهد الكندي وغيره إليها السبيل فهي تبلغ أوجها ممثلة في رجل معاصر للرازي وأصغر منه سنا هو الفارابي
وقد كان الفارابي أبي رجلاً ممن يخلدون إلى السكينة والهدوء؛ وقد وقف حباته على التأمل الفلسفي يظله الملوك بسلطانهم؛ ثم ظهر في آخر الأمر في زي أهل التصوف ويقول إن والد الفارابي كان قائد جيش وأصله فارسي وإن الفارابي نفسه ولد في وسيج وهي قرية حصينة تقع ولاية قاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر. هذا ما يقوله ذي بوير فهو يعتبر الفارابي ممن يمثل مباحث ما بعد الطبيعة في أوجها، وتجد قد اعتبر فيلسوفنا فارسيافي قومية لكن كارادفو في البحث الذي كتبه لدائرة المعارف الإسلامية عن الفارابي يقول: كان الفارابي أعظم فلاسفة الإسلام قبل ابن سينا. ولد في عائلة تركية في أواخر القرن السابع الميلادي في وسيج وهي مدينة صغيرة محصنة في مقاطعة فاراب. فترة يعتبره في الأتراك، وهذا ما حدا بحكومة الأناضول التركية أن تحتفل بعيده الألفي في جامعة استنبول في 29 كانون الأول سنة 1950.(915/8)
وقال كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية (المجلد الثاني ص53) إن الفارابي درس في بغداد على طبيب مسيحي اسمه بوحنا ابن حبلان واشتغل أيضاً عند أبي بشر متى وهو مسيحي نسطورى أشهر بكونه معرباً لكتب اليونان. وقد ذهب الفارابي إلى حلب بعد ذلك واتصل ببلاط سيف الدولة الحمداني وعاش في ظله في حياة الصوفية.
واشهر الفارابي كشارح لفلسفة أرسطو وأكسبه جهوده في ذلك لقلب (المعلم الثاني) باعتباره ثانيا للمعلم الأول أرسطو وقد شرح كتبا لليونان في ما وراء الطبيعية والفلسفة والعلم ولم يقتصر على شرح كتب اليونان بل إنه ألف كتبا كثيرة مستقلة وقد طبع له تسع رسائل صغيرة من أشهرها (فصول الحكمة) وهذه الرسالة تحوى أراه عديدة بشكل مختصر. وقد تدو ولت في كل مدارس الشرق وشرحها الحسيني الفارابي (من القرن الخامس وطبعت في المطبعة الأميرية. وطبع له أيضاً رسالته المثالية (رسالة في آراء أهل المدينة الفاضلة) وهي رسالة مهمة في 34 فضلا وفيها أوضح ذلك الفيلسوف المسلم المشبع بفلسفة أفلاطون ما يتصوره في تنظيم المدينة الكاملة التي يجب أن يحكمها عقلاؤها، وأن يكون هدفها أن تقتدي في العلم السفلي الأرضي بمدن الفردوس في كمالها، وأن تهيئ سكانها الغبطة وسعادة سكان مدن الجنة المثالية
يقول كارادفو إن هذه النظرية ضئيلة المنفعة من الوجهة العملية ولكن فيها بعض الأهمية من وجهه علم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) وكانت غاية الفارابي ومراميه كبائر فلاسفة المدرسة التي ينتمي إليها - أن يحيط بدائرة جميع العلوم. ويظهر أنه كان رياضياً وطبيباً فاضلاً. وألف في علوم السحر والتنجيم، وكان موسيقياً. هذا رأى كارادفو في الفارابي.
ويحدثناصاعد الأندلسي المتوفى سنة 462 هـ لا عن إعجابه بمؤلفات الفارابي فيقول: ألف الفارابي كتاباً في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطو طاليس اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علماً وبين كيفية التدرج من بعضها إلى بعض شيئاً فشيئاً ثم بدأ بفلسفة أفلاطون فعرف بغرضه منها وسمى تأليفه فيها، ثم أتبع ذلك بفلسفة أر سطا طاليس فقدم له مقدمة جليلة عرف فيها بتدرجه إلى فلسفته ثم بدأ بوصف أغراضه في تأليفه المنطقية والطبيعية كتاباً كتاباً. قال صاعد فلا أعلم كتاباً أجدى على طالب الفلسفة منه؛ قال وللفارابي في ما وراء الطبيعة وفي العلم المدني كتابان(915/9)
لا نظير لهما، أحدهما المعروف بالسياسة المدنية، والثاني المعروف بالسيرة الفاضلة، كتبهما وفق مذهب أر سطا طاليس اليوناني. وقد عقد أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت هو الدكتور أمين أسعد - مقارنة في كتابه (الطب العربي) بين الكندي والفارابي وابن سينا فقال ' ن أساس الفلسفة العربية مأخوذ من اليونانية بعد تعديله ليوافق تعاليم الإسلام وذوق الشرقيين وقد اعتبر العرب أن تعاليم أر سطا طاليس تمثل الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي. وكانت طريقة الكندي في بحثه انتخابية غايتها التوفيق بين فلسفة أفلاطون وأر سطا طاليس من جهة وبين التعاليم الإسلامية من جهة أخرى أما الفارابي فقد جمع بين الفلسفة الأفلاطونية والأرسطو طاليسية والتعاليم الصوفية معاً وفي كتابه (السياسة المدنية) صور الفاضلة مقتدياً بجمهورية أفلاطون وسياسة أرسطا طاليس. وقد تأثراً بالغاً بفلسفة الفارابي ووضع قانوناً للفلسفة اليونانية كما وضع قانوناً للطب اليوناني وإهداء إلى العالم في قالب بسيط ومقبول. وتجد هذا الأستاذ يعتبر الفارابي متبعاً ومتأثراً بخطى أر سطا طاليس في كتابيهما (الجمهورية) و (السياسة) والحق أن الفارابي قد اتسع خياله فبنى مجتمعاً ودولة كما يريدها على وجه الأرض لا كما تريده البيعة، فإن الواقع كثيراً ما كان بجانب الدجال المراوغ على جهلة وكان ضد العاقل الحكيم. وعليه فإن أحلام الفارابي لن تتحقق في هذا العالم الدنيوي وإن بقيت شهوة لذيذة تصببو لتحقيقها نفوس الحكماء. وقد ذكره الأستاذ سلامة موسى في كتابه (أحلام الفلاسفة) واستعرض كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة إلى جنب جمهورية أفلاطون. ولا نجرأ أن نرمي الفارابي بتقليد أفلاطون فإنه من المبتكرين ولكنه حاكي الفيلسوف اليوناني القديم بطريقة التأليف.
وقد درج القدماء والمتأخرون على اعتبار ابن سينا تلميذاً للفارابي في حين أن هذا قد توفي عام 339 هـ أما لبن سينا فقد مات علم 428 هـ وكان عمره إذ ذاك (58) سنة. وعليه فإن ولادته كانت حوالي سنة 370 هـ أي أن ابن سينا ولد بعد وفاة الفارابي بواحد وثلاثين (31) عاماً فما معنى اعتباره تلميذاً للفارابي؟ الجواب أنهم اعتبره تلميذاً له لأنه فهم الفلسفة من كتب الفارابي، فهذا ابن خلكان يقول في وفيات الأعيان (إن الفارابي كان أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه وأن الشيخ الرئيس لبن سينا بكتبه تخرج وبكلامه في تصنيفه انتفع)(915/10)
وقد اعترف ابن سينا نفسه بفضل الفارابي عليه فقال في ترجمة حياته التي أملاها على أحد تلاميذه (الجوزجاني) لما سأله (حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس على غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا أعرف المقصود به وأيست في نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوارقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه على فرددته معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي أشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فرجعت إلى بيتي وأسرعت في قراءته فانفتح على في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه صار لي على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يوم بشيء كثير على ظهر الفقراء شكراً لله تعالى)
ولكن بعض المؤلفين يسرف في تحدثه عن هذه العلاقة الفكرية بين الفارابي وابن يسنا فهل سمعت بالتهمة الشنعاء التي يفهم منها ضمنا أن ابن سينا سرق أتعاب الفارابي الفكرية وانتحلها وادعاها؟ قال حاجي خليفة في كشف الظنون (ج3ص98 - 99 طبعة ليبتزك) نقلا عن كتاب حاشية المطالع (وقد نقل هذا أيضاً الأستاذ مصطفى عبد الرزاق في رسالته عن الفارابي (المعلم الثاني) - نقلا عن كتاب أيجد العلوم لحسن صديق خان عن حاسة المطالع) أن مترجمي المأمون أتوا بتراجم مخلوقة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة بل أشرف أن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي ثم إنه التمس منه ملك زمانه منصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه (التعليم الثاني)
فلذلك لقب (المعلم الثاني) ثم يذكر حاجي خليفة أن هذا الكتاب ظل مسوداً بخط الفارابي في خزانة المنصور (أضاف إلى هذه العبارة كتاب أبجد العلوم الفقرة التالية: - إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد المنصور وكان غير مخرج إلى البياض إذ الفارابي ملتف إلى جميع تصانيفه، وكان غالب عليه السياحة على زي القلندرية. وكانت تلك الخزانة بأصفهان(915/11)
وتسنى (صوان الحكمة) وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزيراً لمسعود وتقرب اله بسبب الطب حنى استوزره وسلم إليه الكتب فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب ووجد فيما بينها التعليم الثاني ولخص منه كتاب (الشفاء) ثم أخذ الخزانة أصابتها آفة فاحترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته ثم أحرقها لئلا تنشر ويطلع عليه) حنى اطلع عليه ابن سينا ولخص منه كتاب (الشفا) قال صاحب كشف الظنون ويفهم في كثير مواضع الشفاء أنه تلخيص للتعليم الثاني انتهى كلام حاجي خليفة. وقد عرضنا عليك الزيادة على الخبر التي وردت في أبجد العلوم. وعلى كل حال إذا صح ما ذكر لبن خلدون في مقدمته من أن أرسطو سمى بالمعلم الأول لأنه هذب وجمع ما تفرق من مباحث المنطق ومسائله فأقام بناءه متماسكا وجعله أول العلوم الحكمة وفاتحها وفاتحتها فإن ما قام به الفارابي من تأليف كتاب يجمع وهذب ما ترجم قبله يجعله مشبها لأر سطو ولذلك سمى المعلم الثاني.
للكلام بقية.
ضياء الدجيلي.(915/12)
بمناسبة انتصاف القرن العشرين:
حياة العلم بين منهجين
للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي
كان أرسطو الفيلسوف اليوناني أول من انتزع العلوم من الفلسفة. وهو وإن لم يخرجها عن إطارها القديم فقد نزل بها من عالم المثل الذي لا يحس إلى عالم الواقع. وهكذا أخرج أرسطو العلوم من دائرة الوهمية عند أفلاطون إلى دائرة الواقع المحس. رأى أرسطو وأن كل علم يشبه مجموعة خاصة من الأفكار، يربط بين أجرائها وجوه شبه معينة. فهدته الأجزاء وأوجه الشبه وأوجه الاختلاف إلى ربط كل مجموعة في دائرة معينة فنشأت فكرة العلوم المختلفة التي أخذ يسلخها الواحدة تلو الأخرى من سديم الفلسفة الواسع وهيولا الأفكار. فلما تم له ذلك سمى هذه البديهيات التي اصطنعها في التفرقة بين علم وآخر (المنطق) أو المدخل إلى العلوم.
وقد ظل منطق أرسطو مقياس العلماء في العصور الوسطى يكشفون بفضله عن مكنون العلوم ويربطون بين الأفكار المتشابه. وهم في ذلك يصدقون ما صدقه المنطق ويكذبون ما كذبه.
ولم يحرم رجال الدين في هذه الآونة من اتخاذه في البرهنة على قضايا الدين والاستدلال على وحدانية الله ووجوه. وقالوا كل صنعة لا بد لها من صانع. أعظم وهو الله سبحانه وتعالى.
وفي أوائل القرن السابع عشر تبدل وجه الفلسفة مسفراً عن فلسفة حديثة حمل مشغلها فرنسيس بيكون المتوفى سنة (1626م) وأتباعه. وقد كان بيكون أشدهم ثورة على فلسفة أرسطو، فالفكرة في نظر بيكون أيا كان نوعها لا تصدق إلا إذا برهنت له عليها واقتنع بصحتها. وجعل (التجربة) شرطا في التصديق
وهكذا ضيق بيكون مجرى العلم بعد أن كان واسعاً لأن الكون مليء بالأفكار التي لم تخضع للتجربة، ويتعسر إجراء التجربة على أكبرها. وسرعان ما اصطدم المذهب التجريبي الذي استنه بيكون بالأفكار. وهي أفكار نقلية عقيدية لا يجيز رجال الدين البحث فيها. كما أنها لا تجرب كما تجرب المواد الخام في المعمل. وكانت صدمة عنيفة صدم بها(915/13)
بيكون وصدم بها منهجه التجريبي الذي عجز عن تفسير قضايا الدين وأخفق إخفاقاً تاماً في تناولها.
إذاً لم يستطع مذهب بيكون أن ينهض للقيام بخدمة العلوم الدينية كما نهض بخدمة العلوم الطبيعية.
وعند ذلك انبرى بعض الوسطاء من الفلاسفة ليوافقوا بين منهج أستاذهم بيكون وبين قضايا الدين التي استعصت على التجربة وكان توماس هوبز المتوفى سنة (1679) أشدهم حماساً، فاعتبر أن هناك شعبيتين هما (المادة) و (الوحي) وذكر أن القوانين الطبيعية تصح عليها التجربة لأنها (مادة) وأن قضايا الدين وكل ما وصل إلينا بالنقل عن رجال الدين إنما هو (وحي) أو من قبيل الوحي؛ ويجب تصديقه لأنه وحي، ولكنه لم يعلل ذلك
وهكذا أخفق وسطاء بيكون كما أخفق بيكون لما في منهجهم من ضعف وضيق حال بينه وبين الاتساع لشمول المساءل الدينية النقلية، فلم يستطيع تفسيرها
وكان هذا الإخفاق سبباً في تشكك الفلاسفة. فمنهم من ترك فلسفة المادة والروح جانباً كجون لوك. ومنهم من أنكر المادة أصالة ليتقي شرها ويصدق بالوحي كما فعل: بركلي وهيوم وأذكر أني ناقشت أستاذنا بود الأمريكي عام 1945 م بمعهد التربية العالي للمعلمين، في فكرة الأخلاق والتربية الدينية، وكيف نوفق بين الأهداف الدينية والأهداف الدنيوية، فكان مما أجاب به قوله: (إن الأخلاق نسبية لا مطلقة، وإن الفلسفة تتعارض مع الدين) وهكذا أبي الفيلسوف التربوي إلا أن يعطيني صورة عن الفلاسفة المعاصرين في مناهجهم.
هذه حيرة!!!
فكيف نوفق بين قضايا المادة التي تخضع للتجربة وقضايا الروح التي يعسر علينا إقامة التجربة عليها؟
فكرت طويلا وقد هداني البحث إلى منهج يستطع أن يحل مشاكل المادة والروح.
وقد قلت: نعم إن طبيعة (المادة) تخالف طبيعة (الروح) ونستطيع أن نصدق بمظاهر (المادة) بإقامة التجربة عليها في المعمل فنعرف - مثلاً - تمدد المعادن بالحرارة وتقلصها بالبرودة(915/14)
ثم قلت: وحيث أن (الروح) والمسائل الدينية النقلية: كحساب القبر وسؤال منكر ونكر وغيرها لا تدخل تحت دائرة حسنا ولا يمكن وضعها في معملنا - أعتبرها صادقة ما لم تقم التجربة يوماً - على إثبات ضدها، وبمعنى أوضح: إن حساب القبر صحيح ما لم يثبت بالتجربة ضده.
وهكذا نستغني عن إقامة التجربة على الأمور الروحية بقولنا للمنكر أو المكابر: أقم التجربة على ضدها أو أثبت ضدها.
وهكذا تكون تجربة الأمور الروحية صحيحة بطريق عكسي يتفق مع طبيعتها. وحيث أن المنكرين للأمور الروحية والمسائل العقلية يعجزون عن إقامة التجربة على ضدها، فإني أعتبر إبكارهم لها من قبيل إنكار الفروض العلمية. ومن أنكر الفروض العلمية فقد أنكر العلم كله. لأن الأصول الأولى للتجربة أيا كان نوعها هو الفرض الذي يسبق التجربة.
وهذا هو (المنهج العلمي الحديث) الذي وصت، واستطعت أن أوفق فيه بين قوانين (المادة) وقوانين (الوحي) حيث أخفق الفلاسفة في التوفيق بينهما.
ولعل هذا المنهج الذي رأيت أنفع لحياة العلم، لأنه لا يجعل من الدين والفلسفة عدوين يحارب أحدهما الآخر. وشعره: (يجب التصديق بالقضايا العلمية المروية عن أسلافنا ما لم يقم الدليل المادي على بطلانها سواء بالنص العارض، أو تمحيض عدم تقبل العقل المنصف لها. (أما منهج فيكون ففضلا عن عجزه وعجز أتباعه عن التوفيق بين قضايا لمادة والوحي، يضيق دائرة العلم حيث يقول: (يجب إبطال كل شيء ما لم يقم الدليل التجريبي على صحة المبطل) وهو قانون خطأ لأن التجربة غير ميسورة في كل وقت
وأنت ترى بعد هذا. أن (المنهج العلمي الحديث) الذي رأيته يوسع دائرة العلم ويرفع الشك عن الإنسان، بينما ترى منهج بيكون يضيق دائرة العلم ويقف بك موقف بك موقف الشاك المرتاب. وشتان ما بين المنهجين. فالفرق بينهما - كما ترى - كالفرق بين من يبني ومن يهدم.
حامد حفني داود الجرجاوي
دبلوم معهد الدراسات العليا(915/15)
وأستاذ التربية بمدرسة المعلمات الراقية بباب اللوق(915/16)
الغزل عند الصوفية
للأستاذ محمد منصور خضر
للكلام الموزون المقفى سيطرة كبيرة على النفوس، تنفعل له وتترنح تحت تأثيره وتطرب له، يحس بذلك كل ذي حس مرهف وذوق سليم ونفس فياضة بالعواطف، فتتردد في جنبات الفكر روح اللفظ والمعنى، فتنبعث النفس المتثاقلة ويبسم الوجه العبوس، وتتفاعل موجات الفكر صاخبة مدوية، فيتولد عن إحساس رقيق يهب الصفا ونقاء السريرة. ويذهب بالنفس إلى عالمها السماوي الأعلى.
نعم يشعر بذلك كل من سمع لفظاً دقيقاً رقيقاً ومعنى سامياً، ولذا نحا أدباء التصوف تلك الناحية وهي ناحية القلب وما يحسه في أداء العبارات من رضا وشوق وصفاء ونور! ضرب شعراء التصوف على هذا الوتر الحساس فأقبل الناس عليهم يشبعون رغبتهم، ويحيون نفوسهم، وقد أمانتها أماني الحياة وآمالها، فنراهم ملكوا زمام القيادة، وبهرهم منزلتهم السامية عامة الناس وخاصتهم، وتألقت منزلتهم في حب الله ورسوله من أقصر طريق؛ حتى أصبحوا منارات هدى يهتدي بهم الضال والحائر، إذ أن قصائدهم الفريدة الفائقة تفصح عن تبحر في اللغة وسعة في الملكة، وإيضاح تام عما في الخاطر، وإحاطة تامة في معارج الطريق.
ولشعراء التصوف طابع خاص يمتازون به في منظومهم، فهم زيادة عن ولعهم الشديد بالغزل الذي يحيدون عنه يستعملون الرمز والتوبة كثيراً، فهم بحق ينظمون نظما دقيقا فيه عاطفة رقيقة وإن خرجوا على الأساليب المألوفة ففيه القوة والحرارة والإيمان!
ومنظوم المتصوفة في مجموعة يرمي إلى أغراض علوية في أساليب غزلية ليسهل قبوله، فتنفعل له النفوس والمشاعر، ولذا نراهم يقدمون لنا ألونا من أذواقهم على تفاوت درجاتهم في الطريق، فمنهم سافر يظهر على لسانه بعض ما يجده من وجد يريد أن يبوح به فيأتي بألفاظ بوهم ظاهرها معنى غير مراد، وهذا من أسباب القوية التي ساعدت بعض الفقهاء على الوقوف ضدهم، ومنهم محجب أراح نفسه وغيره، وهذا الصنف قليل عندهم.
وأثناء عرضنا لمنظوم هؤلاء الصوفية تبدوا لنا ظواهر طيبة من صادق الألفاظ والمعاني، وترك المغالاة في الوصف وحبكة التعبير وقوته وسهولته معاً؛ حتى ليحار الباحث في قوة(915/17)
هذا الشعر وحرارته مما يدل دلالة صادقة على تفجره من قلوب هائمة في بحار المعاني وأنهار المباني غير مقيدة بقيود الشعر الهزيل الكاذب الذي نراه في العصور المختلفة. وما أحسن قول محيى الدين بن عربي:
إذا حل ذكركم خاطري ... فرشت خدودي مكان التراب
وأقعد ذلا على بابكم ... قعود الأساري لضرب الرقاب
فهل تجد أيها القارئ العزيز أسهل وأصدق من هذا النظم الخارج من القلب ليعمل عمله في القلوب الميسرة لقبول الأنوار الإلهية؟
ولشعراء التصوف ذوق خاص، فهم يجعلون نصب أعينهم موافقة أشعارهم لروح الشرع الحكيم. ومن دقتهم في هذا السبيل إنكارهم الخروج عن المألوف شرعا وذوقا مثل قول القائل.
تمازجت الحقائق بالمعاني ... فصرنا واحداً روحاً ومعنى!
وأنشد ابن عربي الشاعر:
يا من يراني ولا أراه=كم ذا أراه ولا يراني
فقال له بعض إخوانه: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرجلا:
يا من يراني مجرما ... ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا
ويدخل في إنكارهم تحريمهم سماع قول المتنبي:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما أنشق جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه ... عبدت فصار العالمون مجوسا
وقوله أيضاً:
أنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود
أو أقول ابن هانئ الأندلسي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
وقد حكى أن سبب توبة أبي العتاهية عن الشعر أنه أنشد مرة:(915/18)
الله بيني وبين مولاني ... أبدت لي الصد والملالات فقال له في المنام أما وجدت من تجعل
بينك وبين امرأة في الحرام إلا الله تعالى؟ فاستيقظ وتاب فلم ينظم بعد ذلك بيتا إلا في الزهد والترغيب في الطاعات!.
وفي رأينا أن القصيدة التي ينظمها الصوفي تعتبر كوحدة تامة آخذ بعضها بزمام بعض يكمل آخرها أولها، وربما تكلم في نظمه على لسان الحق سبحانه وتعالى، وربما تكلم على لسان رسول الله، فيظن بعض الباحثين أن ذلك على لسان هو فيبادر إلى الإنكار وقد لقى شعراء التصوف في كل عصرنا عنتا ومشقة في سبيل تأويل أشعارهم على وضوحها لمن درس حياتهم بإمعان وأحكم التعبير عنه، فطالما رموا بالكفر والزندقة، وما يتبع ذلك من المذاهب الباطلة كالاتحاد والحلول، وقد دافعنا عنهم دفاعاً حارا وكان بحمد الله النصر حليفنا.
ومن أنفس القصائد الغزلية تائية عمر بن الفارض رضى الله عنه وهي تزيد على سبعمائة على بيت، مطلعها:
يقتني حميا الحب راحة مقلتي ... وكأس محيا من عن الحسن جلت
فأزهمت صحبي أن شرب شرابهم ... به سرسري في انتشائي
وبالحدق استغنيت عن قدحي ومن ... شمائلها لا من شمائل نشوتي
وقصيدة السيد إبراهيم الدسوقي صاحب المقام المشهور:
تجلى لي المحبوب في كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائري ... فقال أتدري من أنا؟ قلت منيتي
خبأت له في جنة القلب منزلا ... ترفع عن دعد وهند وعلوا
وقصيدة الشاعر الصوفي عبد الغني النابلسي:
أطوف على ذاتي بكاسات جامتي ... وأستمع الألحان في حان حضرتي
وأنفخ مزماري وأصغي لصوته ... وأضرب دفي حين ترقص قينتي
وأنشق من روضي نسيم حقائقي ... ويسرح طرفي في حدائق نشأتي
وقصيدة (البردة) للإمام البوصيري وقد بدأها بالغزل:
أمن تذكر جيران بذى سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم(915/19)
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق الظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت اكففاهمتا ... وما لقلبك إن قلت استفق بهم!
وقصيدة أمير الشعراء شوقي (نهج البردة) وقد بدأها بالغزل:
ريم على القاع بين البانو العلم ... أحل سفك دمى في الأشهر الحرم
رمى الفضاء بعيني جؤذر أسدا ... يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
لما رنا حدثني النفس قائلة ... يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي!
ويدخل في هذا السبيل قصائد أخرى قصيرة نقتطف من أزاهير روضها بعض أبيات تدل على ما لها من آثار بليغة في طريق الفوم، فطالما يستعملونها إنشاداً في حلقات الذكر، إذ أنها تؤثر في القلوب تأثيراً قوياً يجعل الروح تحن إلى عالمها السماوي وتقتفي آثار من مضى من الأولياء والصالحين!
ومن القصائد:
نسيم الوصل هب على الندامى ... فأسكرهم وما شربوا مداما
ومالت منهم الأعناق شوقاً ... لأن قلوبهم ملئت غراما
ولما شاهدوا الساقي تجلى ... وأيقظ في الدجى من كان ناما
وقصيدة الرفاعي رضى الله عنه:
إذا جن ليلى هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوق
وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ... وتحتي بحار بالأسى تتدفق
وقول القائل:
سلبت ليلى ... مني العقلا
قلت يا ليلى ... ارحمي القتلا
ولا يفوتنا بأن الغزل الرقيق سمعه الرسول عليه السلام من الشاعر كعب بن زهير بعد أن بهذا الغزل اللطيف:
بانت سعاد فقلبي اليوم ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غدا البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول(915/20)
هذا وللغزل العنيف سيطرة كبيرة على النفس يسمو بها في سماء المعاني بما يحويه من نصائح غالية وتوجيهات سديدة في قالب من الألفاظ العذبة القوية:
على أن استجابة القلوب للغزل شيء قديم كقدم دواعيه، وليس من سبيل إلى إنكار آثاره الأدبية في حياتنا بل في معالجة القلوب المريضة والأفكار البعيدة عن طريق الحق والحياة.
شطانوف
محمد منصور خضر(915/21)
بجانب مدينة تنجر
عصر الحرية
للأستاذ إبراهيم البطراوي
التحرر نزعة فطرية تلازم الإنسان والحيوان في مختلف أطوار حياته بدرجات تتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لتفاوت مداركه ونوع سلوكه بالنسبة للبيئة التي يعيش فيها الولد هذه النزعة مع الطفل وتبدأ في التعبير عن وجودها بالقدر الذي تستطيعه أعضاؤه من تلبية: فهو حين يمتنع عن ثدي أمه لحظات ألنه أو عدم انسجامه رغم جوعه، وهو حين يركل الغطاء برجلة ويحاول التخلص من ملابسه ومن كل حاجز يكنه أو يحد من حركنه ونشاطه، فإنما يستجيب بهذا السلوك لنزعة الحرية فيه والحيوان حين يفلت من القفص أو الربقة وينطلق مسرعاً في طيرانه أنه أو جريانه، والوحش حين يفترس مريضه إنما يستجيب بهذا السلوك لنزعة الحرية فيه كذلك.
تبلغ هذه النزعة أشدها في أوقات نضوج القوى الجسمية والعقلية بالنسبة للأفراد، وفي أوقات نضوج العمران والمدينة بالنسبة للأمم؛ ولذا تجد دعاة الحرية ومعتنقيها والمتحمسين لها بين الشباب والكهول أكثرها ما يكونون، وتجد أن هذه النزعة في الأمم الراقية المتدينة أظهر ما تكون أيضاً.
ولكن شيئاً واحداً قد فات دعاة الحرية ومعتنقيها على مر العصور منذ طفولته التاريخ إلى يومنا هذا وأقصد به الفهم الصحيح لمعنى الحرية، ولهذا كان وجودهم في كل عهد وجدوا فيه مظهراً من مظاهر التفكك والفوضى، ومقدمة لنهاية عهد وبداية عهد جديد.
الحرية حريتان: حرية طبيعية وحرية ترفيهية؛ فالحرية الطبيعية هي تلك التي تدفع الإنسان دفعاً قويا لالتزام كل سلوك من شأنه أن يحفظ لذلك الإنسان ذاته ودينه وتقاليد وعاداته وكل متعلقات من تحكم الأجنبي واستعباده؛ فهي نوع من الحفاظ أو لدفاع عن الذات لا أكثر.
أما الحرية الترفيهية فعلى النقيض من ذلك، إذ هي مغالاة في سلوك المحافظة على الذات وانحراف بهذا السلوك بقصد النيل من الغير واستباحة ذاته وانتهاك حرمنه والتحكم في تقاليده وعاداته، فهي نوع من الهجوم واسترقاق الآخرين كما يبدو، أو هي نوع من ترف(915/22)
الأقوياء بعبارة أخرى.
والناس على اختلاف الأزمنة والأمكنة - يخلطون بين هذين النوعين من الحرية خلطاً يدلنا على جهل تام بمعنى الحرية، ولهذا كانت (الحرية) مرادفة للفوضى والإباحية والثورات والانقربات على نحو ما قدمنا. ولم تجد الحرية الطبيعية سبيلها للظهور إلا نادراً وبين قوم أقوياء سرعان ما نعصف برؤوسهم حميا القوة فتنزو بهم نحو الحرية الترفية، ومن هنا - كما يغلب الظن - جاء حكم ابن خلدون يرم قرر في مقدمة تاريخه أن ازدهار المدينة وزيادة الترف في أمة من الأمم أو عصر من العصور - إيذان بانهيار تلك الأمة ونهاية ذلك العصر. ومن هنا أيضاً كانت مصلحة المغلوبين في الاستقامة الخلفية والتمسك بما لديهم من تقاليد ونظم، وتقديس ما ورثه من دين ومثل. وبعبارة أخرى في العمل علة تحقيق الحرية الطبيعية. ومصلحة الغالبين تجيء على العكس من ذلك بالنسبة للمغلوبين وحدهم، أما بالنسبة للغالبين أنفسهم فلا بد لهم من تقديس نظمهم وتقاليدهم وأديانهم إذا أرادوا لذاتهم بقاء، ولهذا رأينا ساسة الدول الديمقراطية الكبرى - على اختلاف نزعاتهم - في هذه الأيام يكررون نداءاتهم بوجوب المحافظة على الفضيلة والتمسك بالأديان حتى تتحقق لهم بذلك القوة تتمكن من مواجهة الشيوعية والصمود أمام طغيانها.
وفي هذه الأيام أيضاً نجد الصهيونيين يبذرون بذور الفساد والإباحة والإلحاد باسم الحرية في مختلف البقاع حتى يكتسبوا من ضعف الناس قوة يعيشون بها ومدداً ويحقق لهم أمانيهم في أرض الميعاد؛ وما هذه الأرض إلا العالم أجمع كما يفهم من (تلمودهم) المقدس. ونظرة واحدة إلى تحكمهم في سياسة دولة كأمريكا، وإلى نوع حياة أبناء صيهود وبناتهم فيها، وكيف يغرون الأمريكان ويرونهم إلى ما يشاءون، ونظرة أخرى إلى الأدوار المماثلة التي يقوم بها بناتهم وأبناؤهم في فرنسا إيطاليا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا بل وفي إنجلترا نفسها وغيرها من الدول ترينا خطر سياستهم على العالم أجمع ومقدار أثرها السيئ في توجيه السياسة العالمية وفي التأثير على كثير من النفوس.
وقد اتخذ هؤلاء الصهاينة لأنفسهم في الأيام الأخيرة اسما تنكريا آخر ظهروا به في عالم الفكر والفلسفة وصارت لهم دولة في هذه العالم عرفت باسم (الوجودية) ونعني بها الوجودية السارترية في فرنسا تلك التي تعد أخطر مذهب صهيوني ظهر إلى الوجود في(915/23)
فرنسا تلك تعد أخطر مذهب صهيوني ظهر إلى الوجود حتى الآن وأية خطوة على المجتمع الإنساني بل وأي جنون أدهى من الحرية في (وجوده وعدمه)، وفي مواضع عدة من مؤلفاته بأنها (التلبية المطلقة التي يتلاشى عندها كل شعور بالأثم).
كل شخص يصادفك في هذه الأيام لا تجد له حديثا سوى (الحرية) وضرورة الحرب من أجل هذه الحرية سواء أكان هذا الشخص موظفا أم تاجر أم صانع أم صحفيا أم مزارع أو سياسيا أم رجل دين؛ لأن لكل كائن حي رغباته وأطماعه وحاجاته التي لا تنقضي كما يقول الشاعر العربي القديم، ولكل فهمه الخاص لهذه الحرية، ولكل شرعته الخاصة في تحقيقها. حتى المرأة النوكاء بلغ بها هوس طنطنة التحرر المعاصرة حدا أو همها أن الأمومة والتدبير وشؤون الزوجية والبيت كلها قيود وعبودية فرضتها عليها قوة الرجال، وأن الحرية في أن تنبذ هذه القيود ليحملها الرجل طوعاً أو كرهاً كي تتزيا وتتفرع عي للأحداث الدولية والشؤون العالمية ووضع القانون الذي به تلي القضاء والإفتاء، وتسوس الرعية وتعل ما تشاء. . .
كل شيء يفعل باسم الحرية في هذا العصر: فاللص يسرق باسم الحرية، والفجور الدعارة بروج لها باسم الحرية، والتاجر يطفف ويغش باسم الحرية، والموظف يدلس ويهمل ويضرب باسم الحرية، والطالب يخرج معهد ويتسكع في الطرقات باسم الحرية، والفتاة تغشى الندوات وتتخذ الآخذان وتفعل المجون باسم الحرية، ورجل الدين يسكت عن المنكر أو يلحد هو في الدين باسم الحرية، والصحفي يستبيح الحرمات ويهدم التقاليد باسم الحرية، وهكذا كل محرم يوتى باسم الحرية، والأمر في حقيقة لا يعدو كونه انحلالا واستباحة وهدما، وفي كلمة واحدة لا يعدوا كونه (انتحارا).
وإنك حين تدقق النظر ي هذه الحرية الترفيه تجد لها جانبين في غاية الخطورة: إحداهما سلبي يقوم به صنع الاستعمار في الأمم التي يراد القضاء عليها بترويج تلك المفاسد وتزييف هذه الأثناء مما يفت في عضد هذه الأمم ويقوض أركان تقاليدها ومجتمعاتها، والآخر إيجاد فيه ينقض المستعمر على هذه الأمم بحجة تقويمها وإصلاحها أو الذود عن الهيئة الحاكمة فيها. وما إلى ذلك من مبررات لا حصر لها، ولكل منهم عذره أو كذبة الجميل المستساغ. فلإنجليزية يحتلون مصر دفاع عن الخديوي، ويظلون في الهند حماية(915/24)
للطوائف، ويستأثرون بالسودان رحمة بأهله، ويستعبدون مع الفرنسيس أفريقيا لنشر العلم والمدينة، والأمريكان يقحمون أنفسهم في كوريا احتلال العالم كله لنشر الحضارة والسلم في ربوعه. . وهكذا كل أمة تجد أن تسود العالم وتتحكم في أزقة وأنفاسه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا باسم الحرية ولا شيء غير الحرية، حتى تلك الشر ذمة المستخذية من اليهود تحاول ذلك وتعمل له في كل بقعة توجد فيها بشتى الوسائل والأساليب الملتوية في السر والعلن باسم الحرية أيضاً، ولكل منهم عذره أو كذبة الجميل المستساغ لانه لا يقدم على شيء إلا (تضحية) من أجل السلام والعرفان والحرية.
لقد استعبدت الأمم الضعيفة لأنها لم تفهم من الحرية إلا أضدادا التي أراد لها السادة من خيانة وفجور وفساد وفوضى والتي أدت بهم إلى هذه الدركات الدنيئة من العبودية، فهل تراها تستفيد من الماضي وتعمل على تحقيق نصيبها من الحرية الطبيعية الصحيحة التي يحرص عليها السادة المستعمرين كل الحرص ويقيمونها فيما بينهم؟ أم تراها تؤثر دعة الخنوع والفقر والعبودية على مرارة الكفاح الصادق من أجل الخلاص والحرية عملا بالخرافة القائلة (أن للأقدار وحدها أن تجعل من تشاء سيدا وتجعل من شاء مسودا؟
والآن يلوح أن العصر الحديث بمديناته وعلومه وفلسفاته لم يرق بالإنسانية درجة واحدة نحو الكمال المنشود والفهم الصحيح لحقيقة الحياة، فالإنسان في كل زمان ومكان لم تستطع المدنيات المتعاقبة ولا المعارف المتعددة أن تهذب من طباعه أو غرائزه شيئاً وإنما زاده هذا الشعاع الضئيل من سراب المعرفة تيهاً وعجباً وأنانية ووحشية ورجع القهقري نحو عصور الهمجية الأولى. فهو لا يكاد يفرغ من ظلم إلا ليبدأ ظلمات، وهو لا يكاد يشبع شهوة إلا لتصرخ في شهوات، وهو لا يكاد يستجيب لأنانية حتى تستبد به أطماع وأحقاد وأنانيات تؤوه إزاء نحو الحرب تفضي إلى حروب تفضي به إلى فناء.
ترى هل هنالك من عناية تنقذ هذا العصر من شره وتشعر الإنسان بقيمته فيدرك أنه روح وقلب قبل أن يكون جسداً وشهوة، ويعرف أنه خلق لغاية وحياة أعقل من جهالة الشهوات وأسمى من ظلام الفناء؟ أم تراه عصر قد مات ضميره وفقد إنسانيته وتخلى عن دينه فركبه الهوى ومكن من أزمة قياده الشهوات فهو - في جهله وعماه - لا يرى الحرية في غير شهوته ولا يرى العالم قد خلق إلا لتلبية هذه الشهوة أو (الحرية) كما يشاء أن يضلل(915/25)
نفسه النعامية بتسميتها، وليس يرى هذا المسكين شيئاً يعادل إخفاقه غير الانتحار والفناء. لهذا تجد ذرة وإيدروجين قائلاً (أنا! أنا! أنا! إما أن أكون مالك كل شيء، وسيد كل شيء ورب كل شيء، وإلا فويل مني لكل شيء)! ولا يستحي هؤلاء (العقلاء) أن التاريخ سيؤنبهم يوما فيقول فيهم (يا له من عصر مجنون، عصر الشهوة ذلك الذي كان يعيشه آخرون!).
إبراهيم البطراوي(915/26)
قتيبة بن مسلم
للأستاذ حمدي الحسيني
دهم شبيب بن يزيد الكوفة فهب الحجاج لدفعه. وعقد مجلسا حربيا من قواد الجيش أبطال حرب وأركان الإدارة واخذ يشاورهم فيما يجب أن يعمل لدفع جيوش شبيب المجتاحة للكوفة والمهددة للسلطة الأموية في العراق وإيران بأشد الأخطار وأفتك الأضرار، فقام من بين الصفوف رجل عليه جلال ووقار وفيه صيد وخيلاء، أخذ كرسيه ووضعه أمام الحجاج وقال له: أن الأمير والله مل راقب الله، ولا حفظ أمير ولا نصح المرعية. فغضب الحجاج وقال من المتكلم؟ فقام قتيبة بن مسلم وأعاد كلامه فقال الحجاج فما الرأي؟ قال قتيبة: الرأي أن تخرج أنت إلى شبيب فتقاتل حتى يرتد. قال الحجاج فارتد لي معسراً واغد إلى. ولما أصبح القوم غدوا الحجاج فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة يسأل عن وقتيبة لما يأت بعد.
جاء قتيبة عليه قباء هروي أصفر وعمامة خز أحمر متقلداً سيفاً عريضاً ففتح له الباب فخل بغير استئذان، ولبث الحجاج طويلا ثم خرج وأخرج معه لواء منشورا. وركب فرساً أغر محجلاً كميتاً. وركب الحجاج على بلغته وسار الاثنان وسار الناس وراءهما إلى السبخة حيث يعسكر شبيب وهناك دارت المعركة الحاسمة فانهزمت الخوارج ورجع الحجاج وقتيبة ومن معها من أبطال الدفاع ظافرين منتصرين.
وخشى الحجاج على سلطانه من يزيد بن المهلب وإلى خرسان ومن آل المهلب الكرماء الشجعان فعزم على التخلص منهم وانقاء ما قد يحدث عن عرامهم. ولكن من يدخل خرسان بعد يزيد ابن المهلب وخرسان عرين يزبد ومسبعه آل الملهب؟
ليس لهذا الأمر الخطير إلا قتيبة، فقتيبة إلى الملهب عن خراسان فعزله وولى مكانة قتيبة بن مسلم؛ فطار قتيبة إلى خراسان فوجد المفضل بن الملهب (الوالي الموقت) يعرض الجند لغزوة يريد أن يغزوها فإزاحة عن موقفه وحل مكانة واستعرض الجند وخطب فيهم حاثا على الجهاد. ثم رتب شؤون الإدارة والحكم واستعرض الجند في السلاح وطار بهم إلى غزو أعدائه وفتح بلادهم للإسلام والمسلمين فكان التوفيق يحفه في روحانا وغدواته، والنصر يرافقه في وثباته وغزواته.(915/27)
ولنتبع الآن خطوات هذا الفاتح العربي العظيم الواسعة في الأقطار الشرقية الشاسعة، لنرى خطوات ثابتة متزنة في تسير الجيوش وتوجيهها، ووثبات قوية سريعة في ساحات الكر والإقدام وغزوات موفقة ظافرة في ميادين الغزو والفتح مما يذكرنا بخطوات الإسكندر ووثبات خالد وغزوات نابليون.
تحرك قتيبة لنشر دين الله في الأرض رحمة للعالمين، وكانت هيبته قد سبقته إلى قلوب أعدائه فخرجت إليه ملوك الترك والصغد يسلمون إليه مفاتيح بلادهم ومقاليد أمورهم، تارة يصالحهم على فدية. ويقفون في وجهه يقاومون تارة أخرى فيدخل بلادهم في حرب. عشر سنين قضاها قتيبة غازياً فاتحاً تقف له حركة ولم تبرد له ولم تطفأ لحربه نار.
لم يعجب الحجاج من قتيبة خطة المصالحة التي اتبعها في بعض الممالك فلامه لأنه ليس القصد من الفتح أخذ الفدية وتكديس المال بل الغرض من الفتح نشر الدين وأنقاد المشركين من عماية الضلال. فأخذ قتيبة يستعد لفتح بخاري رغم ما يكلف فتحها من تضحية فاستنصرت بمن حولها من ملوك الترك والصغد فتأهبوا لنصرتها ولكن عين قتيبة اليقظة لمحت إباء بخاري وامتناعها ونصرة جيرانها لها فوئب القوية السريعة فوصل قبل أن يصل أنصارها فألقى عليها الحصار وكانت بين المسلمين وأهل بخاري وأنصارهم معركة حامية الوطيس كان موقف المسلمين فيها غير موقف في أول الأمر فانتفض قتيبة في جيشه انتفاضة الأسد وأخذ يصب ما في نفسه من جرأة وشجاعة وثبات في نفوس أصحابه حتى ذكت الحماسة في الصدور فاندفع المسلمون على خصومهم اندفاع السيل الجارف غير آبهين بالأخطار المدمرة التي تقف أمامهم، فلاح لهم النصر بغرته الجميلة فدخلوا بخاري ظافرين غانمين.
اشتدت شوكة الجيش الإسلامي بهذا النصر المبين وازداد شعور قتيبة بقوته ازدياداً عظيماً وأحس بأن هذه الليونة التي يظهرها له هؤلاء الملوك الذين صالحهم ويصالحهم على الفدية إنما هي فرص يغتنمونها ليتكتلوا ضده وينتقضوا عليه. ولهذا فقد سلك سلوكاً آخر فأخذ يغزو ويفتح ولا يصالح إلا إذا قضت الضرورة الحربية بالصلح. ولذا رأيناه يلتفت إلى هؤلاء المصالحين الذين انتقضوا عليه في غيابه ورموه في ظهره فيكتسح بلادهم ويقتل ملوكهم جزاء خيانتهم وغدرهم ويثبت سلطانه في تلك البلاد تثبيتاً لا مجال للخيانة والغدر.(915/28)
وقف قتيبة أمام سمرقند يناجي نفسه قائلا: يعشش فيك الشيطان؛ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقضي غاية، سمع هذا القول أحد خاصة قتيبة فقال لبعض أصحابه كم من نفس أبيه ستموت غداً منا ومنهم! أجل لقد أصبح قتيبة والحمد لله سليما معافى، ولابد من البر باليمين فأصدر أمره للجيش بالتقدم نحو سمرقند فسار الجيش للظفر المنصور نحو المدينة والله يعلم كم من النفوس الأبية قد ذهبت على أبواب سمرقند، ولكن على كل حال فقد فتحت سمر قند، ولكن على كل حال فقد فتحت سمر قند، فتحت سمر قند فدخلها قتيبة والسيف في يده يقطر دماً فوقف على جبل سمر قند ونظر إلى الناس متفرقين في المروج فتمثل قول طرفه: -
وأرتع أقوام ولولا محلنا ... بمخشية ردوا الجمال فقوضوا
ارتحل قتيبة عن سمر قند بعد أن استحلف عليها أخاه عبد الله وترك له جنداً وعتاداً حربيا وقال له: لا تدعن مشركاً يدخل باباً من أبواب سمر قند إلا مختوم اليد، وأن جفت الطينة قبل أن يخرج فاقتله. وإن وجدت معه سلاحاً فاقتله وإن أغلقت أبواب المدينة فوجدت فيها أحداً منهم فاقتله.
غزا قتيبة كل هذه المغازي وفتح كل هذه الفتوح فلم تقف به همته عند هذا الحد بل دفعة الإيمان بالله والرغبة في نشر دين الله في أوسع بقعة من الأرض ما دام ذلك في إمكانه. إذاً لا بد لقتيبة من فتح كشعر تمهيداً لفتح الصين، ولكنه فوجئ بموت الوليد هما الوليد ابن عبد الملك بعد موت الحجاج. والحجاج والوليد هما اللذان يثق بهما قتيبة ويعتمد عليهما ويستمد قوته منهما. إذاً فقد تغير الموقف وأصبح قتيبة يخشى سليمان بن عند الملك، لأن قتيبة كان قد سعى في بيعة عمر بن عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج، ولأن سلمان كان صديقاً ليزيد بن المهلب خصم قتيبة الألد. وما دام قتيبة يخشى سلمان فعليه أن يحتاط للأمر فينقل أهله إلى سمر قند ليكونوا بالقرب منه، حتى إذا بدا سلمان ما يريب اعتصم دونه بهذه البلاد التي فتحها بسيفه. ولكن مع كل هذا ر بد من غزو الصين ما دام قد احتل كشعر وأصبح من الصين على الحدود.
علم ملك الصين بعزم قتيبة على فتح بلاده فلم ير أمامه إلا المطاولة والمصابرة بالمفاوضة والمخابرة على أمل أن يكون في حادث الدهر ما يغني عن قتال. فأرسل ملك الصين إلى(915/29)
قتيبة أن لبعث إلينا رجلاً من أشرف من معكم يخبرنا عنكم ونسائله عن دينكم. فانتخب قتيبة من عسكرة أثنى عشر رجلاً لهم جمال وأجسام وألسنة وبأس، وجهز لهم أحسن جهاز وقال لهم إذا دخلتم عليه فأعلموه إنني حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي إخراجهم. وصل الوفد إلى الصين فدعاهم الملك فلبوا الدعوة ودخلوا عليه وهم في ثياب بيض تحتها الغلال تنبعث من أردانهم رائحة الطيب فلم يكلمهم الملك، فنهضوا، فقال لمن حضر كيف رأيتم هؤلاء قالوا رأينا قوماً ما هم إلا نساء ولما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز. فلما دخلوا قيل لهم ارجعوا، فقال لأصحابه كيف رأيتم؟ قالوا هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال. فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وتقلد السيوف وأخذوا الرماح وتنكبوا القسي وركبوا خيولهم وغدوا، فنظر إليهم الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين فقيل لهم ارجعوا، فركبوا خيولهم واختلجوا رماحهم ثم رفعوا خيولهم كأنهم يطاردون بها. فقال الملك لأصحابه كيف ترون؟ قالوا ما رأينا مثل هؤلاء قط. فلما أمسى الملك طلب زعيم الوفد فدخل عليه فقال له الملك. لم صنعتم ما صنعتم في الأيام الثلاثة؟ فقال له أما زينا في اليوم الأول فلباسنا في أهالينا، وأما اليوم الثاني فزينا إذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا. قال ما أحسن ما دبر تم؛ انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف. إني عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه. قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا وراءه قادراً عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل. قال فما الذي يرضى صاحبك؟ قال إنه حلف أن لا ينصرف حنى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطي الجزية. قال فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأها ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجاز الوفد وسرحه إلى قتيبة الجزية وختم الغلمة وردهم ووطئ التراب.
رجع قتيبة إلى خراسان وكان سليمان قد ولي الخلافة فما لبث سليمان حتى عزل قتيبة عدوة وصديقه يزيد بن الملهب، ولكن هيهات أن يذعن قتيبة لأمر سليمان دون أن تشرق(915/30)
هذه الأقطار بالقنا والصوارم والدماه فخلع قتيبة سليمان وأراد أن يملأها عليه خيلا ورجالا؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فقد حدثت فتنة عمياء صماء ذهب قتيبة وأهل بيته ضحيتها. قال رجل من عجم خراسان: يا معشر العرب قتلتم قتيبة؛ والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا. والله ما صنع أحد قط بخرا سان ما صنع قتيبة. وقال آخر: يا معشر العرب قتلتم ويزيد بن المهلب وهما سيد العرب. فقال له أحدهم أيهما كان أعظم عندهم وأهيب؟ قال: - لو كان قتيبة بالغرب بأقصى حجر بالأرض مكبلاً بالحديد ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد.
رحم الله بن مسلم الباهلي وإلى خراسان، وقاهر الشرك في إيران والأفغان والتركستان، ومرغم ملوك الصين على التسليم والإذعان، وجزاه عن العروبة والعرب والإسلام والمسلمين خير الجزاء وجعل الجنة مأواه.
حمدي الحسيني(915/31)
في الرحلة إلى الحجاز
الوميض
للآنسة عزيزة توفيق
هناك لحظات لامعة تومض في الحياة المرء وقد أحلكتها ظروف الحدثان. وفي فيض من نور تلك اللحظة التي لمعت في حياتي وقفت أرقب الجموع المحتشدة المودعة لقطار الحجاج الذي يقلهم إلى السويس. ابتعد القطار رويداً واستلقت على مقعد من ورائي أنظر إلى الباكيات أمامي، وأدير عيني في اللوحين بمناديلهم وقد اغرورقت أعينهم بدموع بدت من ورائها لهفة الفراق: كنت أشعر بفيض من سعادة شاملة لا تؤثر فيها تلك المناظر الحزينة: فعجبت لنفسي اليوم وكم رثيت من قبل للباكي وشاركت المخزون الملتاع!
وصلنا إلى ميناء السويس وانشغلت بملاحظة الحمال وهو يحمل حقائبي وأمتعتي وأسرعت وراءه أعتلي يلم الباخرة وتركته لأبحث عن قمري، حتى إذا اهتت إليها تركت حاجاتي وخرجت إلى ظهر الباخرة لأراقب الجموع من جديد وأسمع للتنهدات وأرى الإشارات ولأبتسم في سكون. ترى لم كل هذا الحزن؟ أولا يعلم القوم أنهم ذاهبون إلى حيث السعادة الكبرى؛ يصلون ويبتهلون لله في أوقات معلومة، وقد ابتعدوا عن زيف الحياة وأغراضها المتعبة، فيغسلهم من أدرانها ويغفر لهم ما تقدم من ذنبهم؟ لقد تركت أهلي وعشيرتي وعلى رأسهم أمي في بلدتي وحضرت القاهرة وحيدة لأستقل القطار إلى الباخرة وكلي فرح وابتهاج: روح تسيرها السعاة تسبح وراء شعاعها الذي برق في حياتي فحقق أمنية طالما خفق بها وترنمت بها روحي في صلاتي.
ودوى البوق واهتزت الباخرة لتسير في تؤدة، وارتفع بجانبي صوت شجي حنون من حاجة ريفية:
يا بحر يا رائي (رائق) ... لا موج يعوق ولا ريح يضايق
يا بحر يا كبير ... لا موج يغرق ولا ريح يغير
وزادت نشوتي ووقفت أطيل النظر إلى تموجات البحر الزرقاء وقد بدت منتشرة على صفحة الماء، وظهرت وهي نتسابق وتتلاحق كوشى براق خلاب. وكأنما اجتذب هذا المنظر الساحر الأسماك فقفزت لاهية لاعبة مع الموج وقد بدا لونها الأحمر المزركش(915/32)
مكملاً للمجموعة اللونية المكونة من انسجام ألوان المياه الزرقاء البنفسجية وقد علاها وشى الموج الأبيض. وتحركت شهوة الإنسان في صبى طباخ الباخرة فأسرع بشصه ليصطاد من جموع السمك ما سوف يجهز لنا به وجبة العشاء. وأيقظني من تأملي صوت أجش متسائلاً: (لم لم تغادري الباخرة حتى الآن؟ لقد تحركت في تؤدة وعما قليل ستسرع ولن تتمكني من النزول) فتطلعت إلى صاحب الصوت في استغراب كأنما أوقظت من حلم بعيد، وللمرة الثانية يكرر قوله وأخبرته بأنني (حاجة)، وسرى هذا اللفظ (حاجة) في روحي متعة ولذة. وإذ دخلت قمرتي وطالعني وجهي في المرآة ولاحظت شعري المصفف ألهمت أن الشرطي كان على حق؛ فما ينبغي أن أذهب عارية الرأس إلى البيت الحرام. ومن ثم أسرعت بخلع ملابس المدينة وارتديت الجلباب الأبيض الفضفاض وأسدلت خماري على جيبي. وشعرت إذ ذاك كأن وجهي قد ازداد نورا، وروحي قد اكتسب صفاء، وخرجت إلى ظهر الباخرة من جديد، لأمتزج بالحجاج فوجدت أن أغلبهم لم يخلع بعد ملابسه.
ووافاني الشرطي معتذراً بأنه ما كان يظن أن صغيرة مثلي تقدم على الحج. وللمرة الثانية نظرت إليه في تعجب وذهول، وتركته لأجلس مع صاحباتي وكلمته ما زالت تدور في فكري. كيف ينظر الناس إلى الحج على أنه واجب الشيوخ وقد أثقلتهم ذنوب أعمالهم التي سطرتها سنو حياتهم ليتطهروا منها؟ أو كانت الفريضة وتأديتها وفقاً على الشيوخ دون الشباب؟ - وكأنما كان ينتظرني عجب آخر إذ سمعتهن وسنتهم في أحاديثهم وهي تعلو على هدير الموج يتذاكرون فيما تركوه من شؤون، وبدت في أحاديثهم الشجون؛ فمن شاكية زوجها وما تركتها إلا من ساعات، ومن باك على حبيب فقده، وحاقد على أخ اغتصب حقه من الميراث، وأنا أطل عليهم من تفكيري الشارد.
أو هؤلاء الحجاج يا رب: الناس هم الناس في كل مكان حتى في الطريق إلى بيتك المعظم!
ومر يوم وكاد الثاني ينقضي، وشاء الله أن يريح فكري، فدوى البوق واختلطت بدوية الزغاريد، واستيقظت على نغمات القطعة الموسيقية التي كونتها المقاطع المتوافقة ممتزجة بتصفيق الأمواج، ونظرت إلى ساعتي فإذا بها تشير إلى الثانية عشرة مساء، ومر في أدنى صوت يتحدث قائلاً بأننا قد وصلنا (رابغ) وأن علينا أن نبدأ الإحرام، وأسرع الجميع إلى(915/33)
الحمام وأنا فيهم لنستحم على ترانيم الزغاريد ونلبس ثياب الإحرام. واجتمعنا على ظهر الباخرة، وكانت تلك هي اللحظة الخالدة التي تبعث الرهبة في القلوب، وتحرك أقسى النفوس صلابة. الجميع في ابتهال وخشوع (لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك) وقد بدا الرجال عراة إلا من مئزر أبيض (بشكير) يدور حول وسطهم وآخر يغطي كتفهم الأيسر. وارتدت النساء الملابس البيضاء الواسعة، والخمر وقد بدت مثل هالات جميلة حول وجوههن، وضربنها على صدورهن فظهرن في أبدع زي وأكمل زينة. عمت الفرحة واشتركنا في التلبية؛ السيدات في صوت اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وإن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك) هانحن قد وفقنا ملبين وجئنا ساعين، نلبي نداءك أيها الإله العظيم. هذا النداء الذي يسري في رو كل مؤمن، ويحرك قلبه في كل حين حتى إذا ما وافي ميقات الحج بعث فيه شوقاً ينطق ناراً ونوراً بمن استطاع إليه سبيلاً حيث يلبي النداء، وفاء بوعدك الذي وعدته لإبراهيم؛ فلقد رددت الجبال والوديان آذانه في الناس بالحج، وحملته للأثير ووجد مجالاً في قلوب المؤمنين ممن استنشقوه من البشر.
ورحت معالم (جدة) من بعيد فزاد التهليل والتكبير.
عزيزة توفيق
كلية الآداب(915/34)
رسالة الشعر
في الشعر المطلق
التوبة الكبرى
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
(مهداه إلى أخي الأستاذ أنور المعداوي)
هو:
لا تفرعي. . أختاه فالفجر لاح
على نثار من بقايا الجراح
غسلها العطر
كفنها الزهر
قبلها الطل بثغر الصباح
ساخرة. . تزري بهوج الرياح
هي:
طافت بنا الأرواح في أسرها
مخبولة تندب في سرها!
مغلولة اليد
في قسوة القيد
لتغرق الآلام في خمرها
وتدفن الآمال في قبرها
هو:
لا تجزعي. . أختاه لا تجزعي
هيا معي. سيري ولا ترجعي
نجتاز وادي الشقاء
إلى نروح الرجاء(915/35)
نعيد ذكرى حبنا الممرع!!
ونغسل الآثام بالأدمع!
هي:
عدت وفي قلبي صدى العاثر
كالحلم، عند الشفق الساحر
في توبتي الكبرى
وأدمعي الحرى
فاغفر لي الآثام يا شاعري
ولا تكن كالغاضب الثائر!
هو:
لا ترهبي. فالشمس عند المغيب
تحدث الأفق بسر الغيوب،
سر الهوى والأنين
فصدقي عن يقين:
إني بهذا الكون طيف ريب
كآهة عبر الفضاء الرحيب
هي:
هيا معي، نعب صفو الرحيق
نعطر الموج بمسك فتيق
ننشد في المزهر
أنشودة الأعصر:
لم يسمع الكون صراخ الغريق
فامتدت الأيدي لغل وثيق!
هو:
ومن وراء الأفق الأزرق!(915/36)
رفت طيوف الأمل المونق
على سني الضياء
ما بين ظل وماء
فهدهدت بالسعد قلب الشقي
في غفوة (عذراء) لم تخلق!
العراق - الحلة
عبد اللطيف الشهابي
الشعر والطفولة:
صديقي الصغير
للأستاذ محمد علي مخلوف
غداً سيتيه بك المنصب ... وتلك النبوءة لا تكذب
هو القول يلهمه شاعر ... إلى الوحي في صدقه أقرب
كأني أراك بلحظ الغيوب ... يحف بك الجند والمواكب
فهذا يحي الرئيس العظيم ... وذاك بمظهره يعجب!
نماك التقي وغذاك العفاف ... فلله منبتك الطيب!!
فما مثل أمك في الطهر ... ولا كأبيك لعمري أب
ستوفد يوماً إلى معهد ... رحيق العلوم به يسكب
فتلقي لداتك في ظله ... وذاك يثور وذا يصخب
وثمت راع غريب العصا ... يهش عليهم ولا يضرب
يسوق القطيع إلى مورد ... عذاب الهوى عنده يعذب
وحلم الطفولة إن خف لا ... ملام هناك ولا معتب
أهازيج صوتك حول الربي ... بغام الطلا شاقه الربرب
ومن مقلتيك يشع الذكاء ... كما شع في الظلمة الكوكب(915/37)
وأسنانك المرهفات الحدا ... دخير سلاحك إذ تغضب
فيا لاعباً بحسان الدمى ... نراك بألبابنا تلعب. .
وكم ذا تطارد من هرة ... وما من يديك لها مهرب
فآونة ممسكا ذيلها. . ... وآوانة رجلها تسحب
وليس يردك عنها المواء ... ولم يحمها الناب والمخلب
وكم مزقت من كتاب يداك ... وما نالك اللوم إذ تذنب
ولو علم الكاتبون الكرا ... م ما سوف تأتيه لم يكتبوا
حكيم لعمري فيما فعلت ... وإن لم تجرب كما جربوا
فما ينفع الناس يبقي وما ... يضر فأولى به يذهب
أخالد يا ابن الحسيب الكريم ... وضنء النجيبة إذ تنسب
لأنت هلال بدا طالعاً ... ونبع من الظرف لا ينضب
دار الأهرام
محمد علي مخلوف(915/38)
تعقيبات
للأستاذ أمور الإقليمية: أنت أدرى بخلجات الأديب، وبهذه التيارات
العجيبة من الأحاسيس الغامضة التي تدفعه ليمسك بالقلم ويكتب. . أي
شيء! وما قرأتك مرة من المرات إلا هاجت النفس، وثارت بي شهوة
الكتابة، الكتابة إليك، لأني أدرك تماماً أن مكانك من أدبنا العربي، هو
مكان (سانت بيف) من أدب الفرنسي. وحتى تعلم أني شخصي
الضعيف هذه التهمة حتى نعلم ذلك قولك: إني لم أمراك - وهذا
يؤسفني - إلا في تعقيبات التي انتظرها كما ينتظرها الكثيرون. . أما
(أداؤك النفسي) ورفاك لشاعر مصر العظيم فلم أقرأ منه إلا مقالا
ونصف مقال، إي وربئ مقالا ونصف مقال. . وهذا يبدو عجيبا ممن
أخذ بك و (تيم) بآرائك ولكن يا سيدي إذا عرف السبب بطل العجب
كما يقولون!.
قبل أن تطلع علينا بهذا المذهب النفسي الجليل، كنت أتوق وأتمنى لو أن في أدبنا العربي مثل هذا المنهج في دراسة الأدب ونقد الشعر، هذا المنهج الذي أراه في بعض الأحيان - متناثراً - عند هذا الشعر، هذا أو ذاك من الكتاب. فلما قرأت مقالك الأول، وأخذت في قراءة الثاني، أمسكت عن القراءة وعزمت على أمر. عزمت على أن انتظرك حتى تتم هذه المقالات أو هذا المنهج في مقالات النفيسة، فتضع بذلك حجر الزاوية في بناء النقد العربي الحديث، لأني أردتها قراءة مترابطة آخذا بعضها بعري بعض. ولا احلني بحاجة إلى أن أصف شعري يوم كففت عن نشر مقالات، واعداً بنشرها في كتاب يظهر في المستقبل، ويعلم الله متى يظهر!! إلى هنا يا سيدي وأنا وافقك على كل ما ترى، وأذهب معك إلى أن (الأداء النفسي) هو المنظار الأفضل الذي يجب أن ننظر منه إلى نتاج القرائح وفيض العقول. ولكن يظهر - واسمح لي بهذه - أني أخالفك فيمن طبق عليه هذا المذهب ذلك التطبيق الواسع، أو فيمن يجوز أن نجده في شعره بصورة واضحة. ومن يقرأ تعقيبات(915/39)
ورودك، ودمعة الذكرى على الشاعر الراحل، ويضيف إلى ذلك (المقال ونصف المقال)، ويعرف أنك تقصر هذا المذهب على نابغة المنصورة، وإن اضطررت - لسبب ما - إلا تغفل بعض من يسكنون الشام!.
وأستطيع أن أخرج من هذا بأن العنصرية في الأدب ما زال لها مكان مرموق وصوت مسموع وصوت مسموع، حتى عند أئمة النقد وحاملي لولئه. . حقاً إن راية الشعر ظلت مرفوعة في مصر ردحا من الزمن: بدأت عند البارودي ولكنها انتهت عند شوقي، ثم حدث ما يحدث في كل العصور، فإن الشمس لا تشرق دائماً على مكان واحد، وهي الآن تعم أرجاء الشام نوراً وبهجة، ونحلق في سما حلب ومصدرها الشاعر الفحل: عمر أبو ريشة.
ولست أحب في هذا المجال القصير أن أتحدث عن عمر شاعر عبقرياً، وهبة الله سعة في الخيال وامتياز في (النفس) ورفاه في الشعور، مما جعله شاعراً بكل ما في الكلمة من حياة وروح وشعر. . . ولعل من الفصول أن أسألك قبل أن أودعك، عما إذ كنت يا سيدي قد نظرت إلى شعر عمر العين ونفس الاهتمام الذي نظرت به إلى شعر على محمود طه، ويقيني أن الأستاذ المعداوي سيغير من (قلة الاهتمام) بهذا الشاعر العظيم لو أعاد النظر ديوانه الأخير وقرأ: طلل، امرأة وتمثال، مصرع الفنان الروضة الجائعة، كان لي، فراق نسر، شاعر وشاعر
لو قرأ هذه القصائد الممتازة لغير من نظرته، ولطلع علينا بكتاب عظيم يكون درة يضمها إلى تاجه الأدبي. . وبعد، فله يسعدك أنك أسعدت إنسانا: لكتابه إليك.
القاهرة
محمد بدر الدين الحاضري
الشيء الوحيد الذي لم أكن أنتظره أو أفكر فيه، هو يتهمني قارئ فاضل بالعصبية الإقليمية، أنا الذي حاربت هو العصبية بكل ما أملك من جهد على صفحات الرسالة، كلما أطل برأسها من قلم كاتب أو لسان أديب. ومع ذلك فقد فوجد بالقارئ الذي اتهمني على غير ترقب وانتظار!
وأعود إلى هذا الاتهام السافر فأجده قد خلا من (الحيثيات)، وظهرت فيه النتائج واحتفت(915/40)
المقدمات. . إن الأديب الفاضل بدر الدين الحاضري أشبه بوكيل النيابة الذي يوجه التهمه وهو لم يقرأ من (ملف) الفضية غير صفحتين. . أما تراه يخالفني فيمن طبق عليه الأداء النفسي هذا التطبيق الواسع، منهيا إلى أن هذا الأداء لا يتمثل في شعره بصورة واضحة، وهو لم يقرأ من تطبيق مذهبنا على شعر علي محمود طه غير مقال؟! ما هذا أيها القارئ الصديق؟. . لقد كنت أرجو أن نفسك بعد أن تكون قد رجعت إلى التطبيق في صورته الكاملة، حتى تستطيع أن تهيأ لحكمك من الأدلة ما يقف به على قدميه!
إن تلك النماذج الفنية التي استشهدت بها من شعر على محمود طه، هي الحكم الفاضل بيني وبين كل معترض على أمانة النقد وسلامة التطبيق. . ولن أضيق أبداً بأي قارئ يجادلني فيما كتبت، أما أن يعترف الأديب الفاضل بأنه أرجأ النظر في بقية الفصول طلبا للوحدة الموضوعية، فقد كان يجدر به خضوعاً لهذا المنطق أن ترجي اتهامه لنا بالعصبية الإقليمية!!.
أن أيليا أبا ماضي الذي في الطبقة الأولى من الشعراء ليس شاعراً مصربا، ولعل القراء يذكرون أن أول تطبيق لمذهب الأداء النفسي على صفحات الرسالة كان منصباً على هذا الشاعر، حتى لقد دفعته الدهشة من أن يحتفل ناقد (مصري) بشعره، إلى أن يبعث إلينا بتحية الصادقة وشكره الخالص، على لسان صديقنا وصديقه الأستاذ محمد على الحوماني. . ماذا أقول بعد هذه اللفتة التي أذكرها لأول مرة حين دعت إليها المناسبة واقتضاها المقام؟!.
إنني أقول للأديب الفاضل رداً على تلك التعريجة في منعطف الطريق: صدقني أنه لا يضيرنا أن راية الشعر فوق أرض سورية لو لبنانية لو عراقية، ما دامت هذه الأرض قطعة عزيزة من هذا الثرى الحبيب، ثرى البلاد العربية حين تجمع بينها حدود واحدة هي حدود الوطن الكبير. . ولكن القول بأن رأيه الشعر ظلت مرفوعة في مصر فترة من الزمن انتهت بانتهاء أمير الشعراء، يع في رأينا شاطحة من شاطحات الرأي العابر والحكم الطائر حين يعوزهما قوة الدليل والبرهان. . لقد نودي بمثل هذا الرأي في مصر بعد أن مات شوقي، وحين ظهر في الأفق الشاعر الذي ملأ المكان الشاعر، تريثت موازين النقد في إصدار الأحكام النهائية على النهائية علة إنتاج المعاصرين!.(915/41)
أما عن إشارة الأديب الحاضري إلى شعر أبي ريشة، فلا أذكر أنه قد أخرج ديوانا دون أن أقف عند كل قصيدة من قصائد، بل دون أن أرسل الذوق وراء كل بيت من أبياته.
ويا طالما وضعت ديوانه الأهل (شعر)، وديوانه الثاني الذي أخرجنه مجلة (الأديب) وضم بين دفتيه كل ما قال، يا طالما وضعتهما في بوتقة النقد وكفة الميزان. تريد رأيي في شعره؟ إن كل قصيدة من قصائده تذكرني بروعة الجمال الأسر في (جاليتيا) تمثال بجماليون. لقد أدرك بجماليون الفنان أن تمثاله الجميل تنقصه الحركة، تنقصه الروح، تنقصه الحياة. . ومن هنا راح يتوسل إلى الآلهة أن تحيل الرخام الصامت إلى كيان ناطق، أو الجسد الهامد إلى حياة نابضة. واستجابت الآلهة لبجماليون المثال، ولكنها حتى الآن تستجيب لأبي ريشة الشاعر. إن شعره يا صديقي يزخر بالجمال والخيال، ولكنه يفتقر إلى الروح والعاطفة!!.
كلمة إلى صديقي:
تلقيت رسالتك الأولى كما تلقيت من بعدها رسالتك الثانية. ترى هل تبلغ من الثراء هذا الحد الذي يتيح لك أن تطيع ديواناً من الشعر لتوزعه على الناس بالمجان؟! أنه ليسعدني أن تكون صادقاً فيما اعتزمت، لأن في ذلك حلاً لأزمة القراء. . ولقد طلبت إلى أن أقوم بطبع هذا الديوان والتقديم له، ثم رأيت أن تحتار له عنوانا هو (منعطف النهر). . عنوان جميل من غير شك، ولكن لم تؤثر أن يظهر الديوان وهو يحمل اسماً مستعاراً بدلاً من اسمك الصريح؟ صدقني أنني أضيق بكل شيء مستعار، لأنني تعودت أن أعيش في وضح النهار. . ثم لا تنسى أن النقاد سيسألني عن أسمك الحقيقي إذا ما كتبت مقدمة ديوانك، وأنا لا أحب أن أتعرض لمثل هذا الإخراج!.
أنور المعداوي
-(915/42)
للأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أشرت في عدد مضى من (الرسالة) إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور أحمد أمين بك في حفلة افتتاح مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وموضوعها (جمع اللغة العربية) ووعدت بتلخيصها تلخيصاً يتضمن فكرتها كاملة. واليوم أذكر هذه الخلاصة، ثم أعقب عليها ببعض الملاحظات.
بدأ الدكتور بأن المثقفين كانوا في العهد الأول وصدر من الدولة العباسية يأخذون اللغة من لأفواه العرب، وكان بعضهم يذهب إلى البادية ويقيم فيها يتعلم فصيح اللغة من أهلها، فلما جاءت موجة التدوين أهتم قوة بجمع اللغة، فجمعوها أولا من لغة القرآن الكريم والأحاديث التي صبحت عندهم، ثم تنقلوا بين القبائل العربية يجمعون كال ما يسمعون. ثم جد المؤلفون بعد ذلك في حذوهم أهل الحديث، فقسموا اللغة إلى متواتر وآحاد. وبين المحاضر معنى كل من المتواتر والآحاد، وعنى خاصة بالاعتراض على طريق المختلفة لجمع اللغة، ووصل من ذلك إلى أنها كانت بدائية غير منتظمة، إذ قال: إنما كان عملهم في الجمع بائيا غير منظم، إذ قال: إنما كانوا يلتقطون ما يسمعون من الألفاظ ويدونها ولم ينصوا في الأعم الأغلب على القبيلة الواحدة التي جمعوا منها ألفاظهم.
وأعبر تلك المقدمة عبراً، فالمحاضر - فيما يبدوا لي - يبغي من عرض طرق جمع اللغة وما أدت إليه من الكثرة وتضخم المعاجم، الوصول إلى (الترادف) ليفنذه وببسط فيه رأيه. فالترادف أصله جمع الألفاظ من القبائل المختلفة لتكون كلها لغة عربية ويقع فيها تعدد الكلمات لمعنى واحد آتياً من استعمال كل قبيلة لكلمة منها، يقول الدكتور: والقبائل كانت أعقل من أن تضع كل قبيلة لفظين لمسمى واحد، فالقبيلة التي تستعمل كلمة (السكين) لا تستعمل كلمة (المدية) والقبيلة التي كانت تستعمل كلمة (البئر) لا تستعمل كلمة (الفليب) فلما كان الجمع بدائيا، وجدت ألفاظ كثيرة مترادفة، ومن ثم كانت المعاجم مملوءة بالمترادفات. وفي رأيي أن المترادفات مع إعادتها للشاعر خصوصاً في الشعر العربي الذي يلتزم القافية وخصوصاً في الملاحم الطويلة التي تشمل على أبيات كثيرة يحتاج معها إلى مترادفات كثيرة. وقد أنكرها ابن فارس وثعلب، فقد روى أن ابن خالويه قال أفي(915/43)
حضرة سيف الدولة بن حمدون: إني أعرف للسيف خمسين اسماً، فقال ابن فارس إني لا أعرف له إلا اسماً واحداً وهو السيف. فقال ابن خالويه: وماذا تقول في المهند والصمصام والمتار؟ قال إنها صفات. يعني بذلك أنها اختلفت لدلالاتها على صفات غير الاسم، وذلك كأسماء الله الحسنى فإنها تدل على صفات أكثر مما تدل على الذوات. والترادف في نظري ليس مزية من مزايا اللغات، بل هو عيب من عيوبها، فإن كان موجوداً في اللغات القديمة. والمثل الأعلى للغة: لفظ واحد لكل مسمى، فلا ترادف ولا اشتراك، ولذلك كانت المترادفات في اللغات القديمة أكثر منها في اللغات الحديثة. ومع أن ألفاظ كثيرة عدت مترادفات وإن لم تكن مترادفة لدقة الفروق بينها مما أدى إلى عناية بعض العلماء من المستشرقين وعرب إلى تأليف كتب في الفروق، كما فعل أبو هلال العسكري وكما فعل بعض الآباء اليسوعيين - إلا أنها مع ذلك من غير شك كثيرة في اللغة العربية، مما ملأ المعاجم بالمترادفات وضخمها ضخامة كاذبة.
وأخيراً قال الدكتور: ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج منه أن اللغة قد تضخمت تضخماً مزيفاً كثيراً، وكانت نتيجة ذلك تضخم المعاجم تضخماً أيضاً مزيفاً، وقد كان يقبل هذا لو تدهمنا الحضارة الغربية بكثير من المسميات والمعاني نحتاج لها إلى ألفاظ كثيرة، وهي تغمرنا كل يوم بمئات المصطلحات التي كثيراً ما نعجز عن مسايرتها، فكان المعقول أن نتخفف من كثير من الكلمات، لنفسح مكاناً لها في المعاجم. وقد فعلت قريش خيراً مما فعله جامعو اللغة العربية ومؤلفو معاجمها، فإنهم صفوا اللغات المختلفة ونقوا خيرها واستعملوه لغة لهم وبها نزل القرآن، فلم يجمعوا كل ما قيل عن القبائل بل نخلوه واقتصروا على ما حسن وقعه في أسماعهم وراق في أذواقهم. بقى سؤالان عامان، وهما: ألم يرد في القرآن الكريم مترادفات لنثبت أن قريشاً اختارت من اللغات أحسنها، والسؤال الثاني: أيهما خير، أنضحي بوحدة القافية في الشعر لتنقية اللغة من المترادفات، أم نبقى عليها للإبقاء على الشعر العربي في شكله القديم؟ ومن رأينا في الإجابة عن السؤال الأول أن ليس في القرآن مترادفات، وإنما كلمات باختلاف موضعها، فقد تكون كلمة أوقع في محلها، وتكون الأخرى أوقع في محلها الآخر، وقد أدرك الجرجاني في دلائل الإعجاز ذلك إذ قال إن كلمة أيضاً ليست من الكلمات التي تستحسن في الشعر ولكن وردت جميلة في بيت شعر وهو:(915/44)
غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني
وأما عن السؤال الثاني فيمكننا أن نهدر المترادفات ونهدر معها ورود القصيدة على قافية واحدة، ويمكن في الملاحم وأمثالها أن نغير القافية في كل عدة أبيات كل اضطر البستاني أن يفعل في ترجمة الإلياذة، وبذلك كله نفسح مكاناً واسعاً في المعاجم للكلمات الحديثة والمصطلحات الحديثة. وإذا لم تتح لنا فرصة الإجادة في الشعر المرسل كما حدث في بعض اللغات، فليس أقل من أن نغير القافية بين جملة من الأبيات وأخرى، وليست وحدة القافية بالأمر المقدس الذي لا يصح أن نخرج عنه، ولكنه أمر اعتيادي وتقليدي، مرده كله إلى الأذن الموسيقية.
تعقيب
نرى أن النتيجة العملية التي يستخلصها الدكتور أحمد أمين بك من ذلك البحث الذي يعتبر حلقة في سلسلة بحوثه اللغوية التجديدية التي يلقيها في مؤثرات المجتمع - هي إعادة النظر في ذلك التراث المتضخم دون فائدة لنحذف منه المترادفات كي تحل محلها في المعاجم الكلمات والمصطلحات الحديثة، ويرى الأستاذ أن المثل الأعلى للغة أن يستعمل فيها لفظ واحد للمعنى الواحد وأن لا حاجة إلى المترادفات إلا في قافية الشعر التي يمكن أن نستغني عنها. وأنا أوافق الأستاذ الكبير على أن قافية الشعر ليست مقدسة وأنها لا تبرر ذلك التضخم الذي وصفه، بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك، فأعجب كيف ثرنا على القافية في النثر المسجوع وأقررنا في الشعر، والأمر فيهما واحد من حيث القيد الصناعي الذي يرجع إلى الأذن الموسيقية.
ولكن هل الغرض من الترادف الإعانة على القافية؟ لقد جاء في تعبير الدكتور بالمحاضرة قوله: (فإنهم صفوا اللغات ونقوا خيرها) ترى لماذا استعمل (نقوا) بدل (اختاروا)؟ إنه فعل ذلك لأن عبارة (اختاروا خيرها) يثقلها اجتماع الخاءين وهنا أسفه الترادف بالفعل (نقي) الذي لا يثقل في النطق والسمع مع (خيرها) وقال أيضاً: (واقتصروا على حسن وقعة في أسماعهم وراق في أذواقهم) ولو كرر (حسن) مكان (راق) لما حسن وقع الكلام في الأسماع وراق في الأذواق. . ولو أنه أخذ باقتراحه في صياغة المحاضرة فقرر الاكتفاء بالفعلين اختار وحسن دون مرادفاتهما لوقع في حرج من ثقل التعبير. ومثل هذا ما قاله الأستاذ(915/45)
نفسه عند نفي الترادفات في القرآن، فقد رأى أن ما فيه كلمات تختلف باختلاف موضعها فقد تكون كلمة أوقع في محلها وتكون أخرى أوقع في محلها الآخر والمتأمل في هذا لا يراه خارجاً عن الترادف وإنما هو استعانة به على استعمال الشيء في موضعه.
وقد تعرض الأستاذ لرأى ابن فارس في الترادف إذ أنكر ابن فارس وجوده في اللغة ووجه الكلمات المتعددة التي تطلق على شيء واحد بأن واحداً منها هو الاسم والباقي صفات كأسماء الله الحسنى، ولم يعن الأستاذ بتنفيذ هذا الرأي مع أنه يتفق وفكرته من حيث رأى أن اللغة تثقلها مترادفات كثيرة يجب التخلص منها. وفي نظري أن تلك الكلمات وإن كان قد لوحظ في استعمالها الأول ما بينها من فروق إلا أن هذه الفروق قد ذهبت مع الزمن وصارت الكلمات ذات دلالة واحدة، فالشاعر - مثلاً - إنما يأتي بكلمة (مهند) لأن القصيدة دالية، ولو كانت ميمية لأني بلفظ (صمصام) من غير شك.
ولو فرضنا أن هناك لغة ينطبق عليها المثل الأعلى الذي ذكره الأستاذ، فإن الإنسان لا يتصور لهذه اللغة أدبا، فقد كفى بحاجة التعبير العلمي واليومي، ولكنها تكون بعيدة جداً عن الاعتبارات التي تلاحظ في حسن وقع الكلام، وفضل كلمة على أخرى في موضعها، وفي الظلال التي يضيفها لفظ دون آخر. . . إلى آخر هذا الذي يحتاج إلى بحث وحده.
على أنني أوافق أستاذنا الكبير الدكتور أحمد أمين بك إذا كانت خلاصة موضوعه: الضيق بالكثرة المتضخمة من المترادفات في لغتنا وأكثرها ألفاظ حوشيه وكلمات ميتة، والدعوة إلى تصفية اللغة منها مع الإبقاء على المترادفات الحية المأنوسة وذلك كما فعلت قريش، فإنهم لم يهدروا المترادفات كلها، وما أظن الأستاذ يقول بذلك، وإنا نراه يحتاط في التعبير إذ قال إنهم اختاروا من اللغات أحسنها، وهذا ما نريد.
شكر الاستعمار:
أعلنت نقابة الصحفيين - يوم الخميس الماضي - عن محاضرة تلقيها زوجه أحد الزملاء موضوعها (أسرار المهنة في رحلتي بشمال إفريقية) وامتلأت قاعة فاروق الأول للمحاضرات في نادي النقابة بجمهور من الجنسين وقدمت السيدة على أنها صحيفة، ولذلك سنتحدث عن (أسرار المهنة) وتحدث السيدة فقالت إنها ليست صحيفة ثم أبدت هذا القول بعدم تعرضها للمهنة وأسرارها. . .(915/46)
كثيراً ما سمعت محاضرات أو (شربها) كما يقوون في اللغة الدراجة عما يقع فيه المرء وهو غافل. . فلم أراد أن أشرك قراء (الأديب والفن) في بلوته!
وكنت أغضى على هذه المحاضرة، لو اقتصر الأمر فيها على فراغها من شيء ذي بال، أو اقتصر على اللغة التي تحدث بها السيدة إذ جانب الفضيحة وكسرت العامية. . وكنت أستطيع أن أغضى أيضاً عن تهاون نقابة الصحفيين في اختار ما تجمع من أجله الناس في قاعتها الفخمة.
ولكن الذي لم أستطع له كتاناً، وهو الذي حدا بي إلى كتابة هذا، أن السيدة الفاضلة، وهي نتحدث عن رحلتها بشمال إفريقية، شكرت فرنسا. . لا على ما قام به الحكام الفرنسيون هناك من تسهيلات أو حفارة بالزملاء في رحلتهم. . وإنما شكرت (المحاضرة) فرنسا على ما قامت وتقوم به من أعمال لتقدم أهل شمال إفريقية ورقيهم. .! أي أنها تشكرها على الاستعمار!
وقد علمت أن في النقابة برنامجاً لأحاديث في سلسلة أسرار المهنة في رحلات ببلاد مختلفة، وكل الذي أرجوه ألا يحدثنا أحد عن رحلة في مصر يشكر فيها إنجلترا. . .
الموسيقى والدين:
يول الأديب (حافظ عبد السميع عمران) في رسالة إلى:
(قرأت كلمة طريقة بجريدة المصري مؤداها أن نستعين بالموسيقى في جميع تراتيلنا الدينية. ويسأل صاحب المقال ويسأل معه مؤيده: لماذا لا ترتل القرآن والأذان وخطبنا الدينية على نغمات الموسيقى؟ إن الموسيقى تنقلنا إلى عالم الانتشاء الحسي والاستمتاع الروحي فلماذا لا نتخذها وسيلة لتذوق ديننا؟!) ثم يقول: (ونحن لا نرتاب في أن الموسيقى تحرك الغرائز وتثير الشهوات وتبعثها على الهوى وتدفعها إلى السيطرة على العقول والإرادة الإنسانية، فما فائدتها إذن للدين؟) ويمضي هكذا حاملاً على الموسيقى لأنها - في رأيه - تثير الغرائز والرغبات الشهوانية إلى أن يتساءل: وأين قداسة الدين في جو تسوده الإباحية والتحلل الخلقي. . . في جو يسيطر عليه المجون والخلاعة؟ أيريدون أن نهبط بالدين إلى الهاوية التي صرنا إليها ونجعله أداة لهو إشباعاً لرغباتنا الشهوانية الوضيعة؟
ولاشك أننا لا نرى الموسيقى بتلك المثابة، فالموسيقى فن رفيع، وقد اصبح بيان أميته(915/47)
وأثره في الإمتاع الروحي وترقية النفوس وما إلى ذلك، من الكلام المقرر المعاد. أما استخدام الموسيقى في اللهو الرخيص من حيث ما يصاحبها من غناء مبتذل ورقص مثير، فهو أمر آخر لا ينبغي أن نخلط بينه وبين الفن الموسيقي العالي.
أما ما كتب عن اتخاذ الموسيقى في ترتيل القرآن والخطب الدينية والأذان فهو كلام يعمد إليه بعض زملائنا الصحفيين لإطراف القراء وإتحاقهم بما يلفت الأنظار ويجدد النشاط للقراءة. . وإذا كان الكاتبون الداعون إلى ذلك جادين في دعوتهم فإنهم ولا شك بعيدون كل البعد عن روح الإسلام وثقافته، وليس كل ما يعمل في الأديان الأخرى يلائم ديننا، وإن آفتنا الكبرى هي التقليد. . . وكما جانب الأديب صاحب الرسالة الصواب في طعنه على الموسيقى، كذلك بعد عنه أولئك الدعاة كل البعد، فإن النصوص الإسلامية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأذان وخطب وغيرها - لا يقصد الانتشاء والاستمتاع، كما يقولون؛ إنما هو كلام موجه إلى العقول والإفهام لتعي ما يرمي إليه وتعمل بمقتضاه، فإذا صاحبته الموسيقى تحيف الانتباه إليه وشغلت عن مراميه. ولعل شيئاً من ذلك واقع بالفعل إزاء ما يصنعه الآن أكثر قراء القرآن من تكسر وتطريب باسم التجويد، حتى أصبحت غاية الناس مع سماع القرآن أن يطربوا لأنغام القارئين. وأما أبشع الأصوات المنكرة التي نسمعها من الحفلات المذاعة، تلك الأصوات لتي تتعالى بالاستحسان فتنطق بعبارات عجيبة ولهجات غير لائقة، كذلك الذي يجأر في خطاب القارئ: يا حلو يا حلو!
وما ذلك إلا للاتجاه بالقراء نحو التنغيم والتطريب، فما بالك إذا صحبها العزف والطرب. . إن القرآن لم ينزل لمثل هذا، إنما أنزل لإبلاغ ما تضمنه إلى الإفهام، فهل نحيد به إلى الأنغام و (الانسجام)؟
عباس خضر(915/48)
البريد الأدبي
كتاب كريم
أرسل صاحب المعالي الدكتور طه حسين باشا هذا الكتاب الكريم إلى الأستاذ محمد سيد كيلاني يشكره على مقاله طه حسين الشاعر الذي نشر في العدد الماضي من الرسالة.
سيدي الكريم:
قرأت الآن في القناطر الخيرية مقالك الممتع الذي نشرته الرسالة، فأشكر لك أجمل ذكرتني شيئاً كنت أنسيته حتى كنت أشعر أثناء قراءة هذا المقال أنك تتحدث عن شخص غيري.
وعفا الله عما سلف، فقد كانت تلك المحاولات في آخر الصبا وأول الشباب فجراً كاذباً لم يمح شكاً ولم يجل يقيناً.
والحمد لله على الخير والشر والبراءة إليه من الكذب والغرور. أما بعد فإني أرجو أن يقبل تحيتي وشكري مجدداً.
طه حسين
حول نقد مسرحية ابن جلا:
نشرت في الرسالة نقداً لمسرحية (ابن جلا)، وتعرض للتعقيب على هذا النقد معقبان. . . وقد لمحت في ردي على التعقيبين إلى الدافع لأحدهما إلى التعقيب على ردي في العدد الماضي من الرسالة. . . وأبي إلا أن يبتعد عن الموضوع، بعد أن أثبت تناقضه، وتخبطه. . . وراح يتحدث في غرور عن الشرف الذي أضفاه علينا بتعقيبه على نقدنا. . . ونحمد الله على أننا تخرجنا في قسم النقد بمعهد التمثيل قبل أن يدخله الأستاذ إسماعيل رسلان تلميذاً. . . فلم نتشرف حتى بزمالته. . . ولعل في ولعل في تحمسه للرد على نقدنا وفي تطاوله علينا، ما يفصح عن الوسيلة التي وصل بها إلى هذه الأستاذية. على أننا لا ننكر أن المعقب معيد في المعهد منذ شهرين، وقد تخرج فيه هذا العام، وثار حول نجاحه جدل، ى أريد إكراماً لهذا المعهد أن أسرد تفصيله. . وأريد زيادة في التعريف به أن اذكر أن ما نشرته الرسالة له من تعقيبات هو كل ما جادت به قريحة في حياته للفنية.
وليس من الغريب أن ينكر المعقب بمؤلف المسرحية، فهذا هو المنتظر؛ ولكنه لا يستطيع(915/49)
أن ينكر علاقته بالمسؤول عن اختيارنا.
وليعلم المعقب أن قارئ الرسالة ممتاز، ومن المتعذر تضليله. فهو يعرف من التحامل ومن المأجور ومن الذي هرب من الموضوع، ومن الذي كتب بأذنه ى يعقله هذا. . . وللمعقب أن يحتفظ لنفسه بنصائحه التي ألبس فيها الضلال ثوب الحق، والإثم ثوب الطهر. . ولست أدري متى عرف الأستاذ ما يليق حتى ينهى عما لا يليق، ومتى عرف الحق حتى يتضح بالتزامه؟. . وإذا كان النقد المنرة عن الهوى يعد في نظرة تسفيها لأعمال الكتاب. . . فهل ينبغي منا أن نسير معه في الركاب؟!. . وهل من ينقد أعمال الكبار، في هذا العصر الذي ينبغي الوصل؟
وبعد. . فأحب أن أقول للسيد رسلان إنه قد حقق الكثير من آماله. . ولكن النقد أسمي من أن يكون في متناول هذه الوسائل، لارتباطه بالمثل والقيم التي لا تستجيب لغير الحق!
وإذا كان الأستاذ يريد أن يذكر كل الحق فقد كان حريا به أن يشير إلى ما كتبه الأستاذ أنور المعداوي في هذا الصدد حيث قال معقباً على نقدنا للمسرحية، وعلى ما كتبه هو وزميله: (لقد كنت أوثر للناقدين اللذين تعرضا للأستاذ فتح الله أن يبتعدا عن مواطن الاتهام، اتهام القراء لهما بأن حماسهما في نفي المآخذ الفنية عن مسرحية الأستاذ تيمور، قد زادت كثيراً عن الحد المألوف!. . لقد كان يجدر بكل منهما أن يسمو بقلمه فوق مستوى الاتهام الموجة إليه، بدلا من توجه مثل هذا الاتهام إلى الأستاذ تيمور علاقة من العلاقات، لقد حاول الأستاذ أن يكتب نقداً نزيهاً لا أثر فيه للمصانعة، فكان جزاؤه أن رمي بالتحامل، لأنه لا يجامل! لفته أخيرة أود أن أختم بها هذه الكلمة، وهي أنني أقدر فن الأستاذ تيمور. . . وأحترم نقد الأستاذ فتح الله)
. . . وأعتقد أن هذا التعقيب، أكرم تعويض للناقد الحر في هذا البلد.
أنور فتح الله
كلمة غريبة حق مقال:
اطلعت مؤخراً - بسبب تعطيل المواصلات في السودان - على مجلة الرسالة، فقرأت كلمة لأديب عراقي يعقب فيها على بعض ما جاء في كلمتي (دم الحسين) ويقول إن فيما(915/50)
كتبته خزعبلات وأباطيل، وأن نخبة من الشباب المثقف - على ما زعم - استهجنوا بعض ما سطرت.
ونصيحتي للأديب أن يكون عف اللسان، مطلعاً، مميزاً بين ما يجوز وما لا يجوز. استبعد المعترض أن يكون الرجل الذي منع الحسين الماء قد أصيب بداء يشرب معه ولا يروى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن تكون الشمس كسفت لموت إبراهيم. فمن ناحية الوقوع ما أظن أن أحداً ينكر أن يبتلى الله من شاء بمرض لا يرويه الماء معه، ومن ناحية القياس فهو قياس غريب عجيب، فانكساف الشمس أو القمر آية كونية، ونحن مؤمنون بته هذه الآيات الكونية لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن هل يمنع العقل أو المشاهدة أن ينتقم الله من معتد فيصيبه ببعض الأمراض، أما أنا فقد شاهدت ذلك كثيراً في قرانا الريفية، وقرأت وسمعت.
وأما أن هذا الكلام تكذبه الرواية فحسبي أن أقول لحضرة (العلامة) إنني نقلت هذه الروايات من تاريخ الطبري، وناهيك به تاريخاً، ويصاحبه شيخاً.
(وبعد) فالمثقف لا يعترض حتى يعلم، ولا يستهجن حتى يبلغ في العقل مبلغ من يفرق بين ما يقع وما لا يقع.
علي العماري
كلمة طيبة لنائب محترم:
كان للكلمة الكريمة التي نشرها المصري لحضرة النائب المحترم حسين بك بدراوي حول الخلاف المتشعب الأطراف بين علمين من أعلام السياسة والأدب، وما كان لهما أن يسلكا هذا الطريق والبلد في أشد الحاجة إلى اتفاق الرءوس وصفاء النفوس وتوحيد الكلمة.
إن ما نحن فيه من محن ومشكلات، وما تنذر به الحالة الدولية من خطوب وصعوبات، ليدعو بالعقول المدبرة والرؤوس المفكرة والأفلام المعبرة البريئة أن تقف من هذا كله موقف الداعي الناصح والمرشد الموجه.
اتقوا الله يا سادة وانتقلوا إلى جدول الأعمال فالدول جميعاً لا هم لها الآن غير التفكير والتدبير والعمل.(915/51)
(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنون).
حسن عبد العزيز الدالي
سؤال:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز (وما كان لنفس أن يموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً). وقال جل شأنه (فإذا جاء أجلهم لا يتأخرون ساعة ولا يستقدمون). وكتب الدكتور الأستاذ حامد الغوابي مقالا في الرسالة الغراء عدد (911) بعنوان (الخمر بين الطب والإسلام) جاء فيه (وإذا أطلعتم على إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر العمر)! قلت: كيف يمكن التوفيق بين ما قررته الآيات البينات، وبين إحصائيات شركات التأمين على الحياة؟! أما أنا فلا أفهم إلا لغة القرآن، وأفهم أن العمر لا يقصر ولا يطول ولا يمكن أن يقصر أن يطول لسبب أو لآخر، فالنباتين والفيتامين لا يطيلان العمر كما لا يقصره الزرنيخ والنفتالين. .
فما قول الدكتور الغوابي صاحب المقال في الجواب على صاحب السؤال؟
لو كان في الخمر أعمار يعجلها ... لقصر الموت أعماراً يؤجلها!
عدنان
(الزيتون)
(الرسالة)
قال الله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب)
حذف وتحريف
نشرت مجلة (الألواح) البيروتية ي عددها الثامن الصادر في منتصف الشهر الماضي قصيدة لي بعنوان (بين الأعاصير) وهي القصيدة التي نشرتها الرسالة قبل ثلاثة أسابيع. وقد أتيح لهذه القصيدة أن تخرج بها الألواح عن التقاليد الصحيفة فحذفت منها وحرفت فيها. وقد تناول الحذف بعض الأبيات في أول القصيدة وفي آخرها فأساء هذا الحذف إلى التسلسل بين أجزائها والترابط في موضوعها وفكرتها، كما أدى التحريف إلى الخروج عن(915/52)
المعاني المقصودة وقواعد اللغة، وإذا كان الحذف قد يفسر بغفلة طارئة من المنضد أو المصطلح، أو بضيق الصفحة الواحدة عن استيعاب القصيدة كلها فإن تحريف (كبابل) إلى (أي بابل) في البيت الآتي:
كبابل وسميراميس شامخة ... تقول للدهر: ماذا أنت صانعه
وتحريف (مدافعه) إلى (يدافعه) في البيت:
وقيل جاء حليف الشرق منتصرا ... تحرر الشرق من رق مدافعه
وتحريف (في) إلى (من) في البيت:
وغره أن هذا الليل ما فتئت ... تمتد في مشرق الدنيا سوافه
كل هذا يؤدي إلى مسخ المعنى وتشويه القصد، وقد يفسر هذا أيضاً بغفلة المصحح ولكن الذي يدعو إلى الدهشة أن تأتي كلمة (الدروب) بدل (المتيه) في البيت:
حتى إذا بات في الظلماء رائدها ... يطوي المتيه وتحويه شواسعه
لأن ضمير (شواسعه) لا يقصد به إلا المتيه فكيف يعود إلى الدروب وهي جمع؛ يضاف إلى هذا أن كلمة (المتيه) لا تنكرها اللغة وإن أنكرتها فلا ينكرها القياس الصرفي، على أن هذه القصيدة قد نشرها الأستاذ الزيات ولم يقل فيها شيئاً وهو من أئمة اللغة والأدب.
لقد كنت أود أن تمتد يد التصحيح إلى القصائد والقطع الأخرى لتي نشرت في العدد نفسه فتعيدها إلى حظيرة النحو والصرف والعروض قبل أن تمتد إلى قصيدتي فتحرف وتحذف بدون مسوغ.
وإذا كان هناك شيء أقوله لصاحب الألواح فهو أن اللقب الجامعي لا يضاف إلى الشاعر في قصيدة أو مقطوعة إذ لم يكن من التقاليد الصحيفة أن يضاف هذا اللقب ما لم يكن صفة ملازمة للشاعر كلقب (الدكتور). إن اللقب الجامعي لا يذكر عادة إلا في البحوث التي تتناول تربية الطفل وعلم النفس وما شابه ذلك؛ أما الشعر فهو بعيد كل البعد عن الألقاب.
حقاً أن صاحب (الألواح) صديق قديم وصحفي أثير المكانة ولكن الصداقة شيء والدفاع عن كرامة الشعر شيء آخر.
القاهرة
إبراهيم الوائلي(915/53)
الكتب
من بلاغة القرآن
تأليف الأستاذ أحمد أحمد بدوي المدرس بكلية دار العلوم
للأستاذ الظاهر أحمد مكي
بمن الجزئية صدر الأستاذ أحمد أحمد بدوي عنوان كتابه وكان موقفاً، فإن التصدي لبلاغة قرآن كلا شيء فوق طاقة الفرد وجهد العقل. ولهذا الكتاب قصة بدأت في يوم من العام الماضي بدار العلوم، حين أختط الأستاذ لنفسه منهجاً جديداً في تدريس البلاغة لطلابه، فقد آثر الناحية التطبيقية، على تدريس القواعد البلاغية، كما تركها لنا القدامى، ممزوجة بالفلسفة، أو متأثرة بالمنطق، وقد أصاب فيما أرتاى وما ابتدع، فإن البلاغة ذوق وفن، ومران وصقل، وملكة وحاسة، وهي عدد تنمها القراءة الرشيدة، والدراسة الحرة، والاطلاع والواسع، والعزوف عما فتن لها من القواعد ونظم لا يتصل أغلبها بالذوق السلم.
فالأستاذ أحمد بدوي إذن أراد أن يدرس لطلابه البلاغة في القرآن، ولم يفرضه عليهم، وإنما استشارهم فيه، وكان لكاتب هذه السطور رأى يخالفه، مؤثراً دراسته شاعر أو نتاج أديب، ليكون مجال العقل أوسع، وميدان النقد أرحب، وتطبيقاً لمناهج البحث الحديثة، من تناول الموضوع خلوا عن أي فكرة سابقة، وما في استطاعة مسلم أن يجرد نفسه من العطفة، ومن ظلال القدسية، حين يعرض لدراسة القرآن الكريم!
وثمت أمر آخر أشد خطورة، هو أن القرآن ليس نتاجاً عادياً، فيخضع لقوانا وأبحاثنا، فمن الخير أن ندمه في عليانه، نمسة بعواطفنا ووجداننا، ونغدي به حواسنا وشعورنا. ونستلهم فيما نكتب أو تفكر، دون أن نحاول البحث عن السبل التي سلكنا أو القواعد التي نهجها، ولكن أستاذنا الفاضل، رأى غير ما ارتأينا، فدرس لنا الموضوع فعلا، وأخرج نتائج بحثه مؤلفاته ضخما، يذل فيه مجهوداً كبيراً كنا نشفق عليه منه، فقد تصدى لحمل رسالة بنوء بها أعظم الناس عقلا، وأكثرهم تفرغا لذات الموضوع، فما بالك وهو يشارك في أكثر من ميدان علمي، دارسي أو مؤلفاً أو محقفاً، وله أكثر من كتاب صدر في نفس العام تحمل دراسات قيمة، توج واجداً منها مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وهو دراسة عن (رفاعة بك(915/55)
الطهطاوي) فنال عنه الجائر الأولى في المسابقة الأدبية التي أقامها لعام 1950.
ولكن إلى حد نجح أستاذنا في محاولة؟. . . إنه عرض علينا صورا طيبة، لدراسة عالية أساليب (القرآن) تحمل العمق والجدة، والإحاطة والشمول، والإلمام الواسع باللغة في شتى مناهجها، أما النتائج التي قصدنا إليها فلم نبلغ منها إلا القليل، ذلك أن قاعدة واحدة من قواعد النقد الأدبي أو النحو أو البلاغة، أو حتى الصرف، تستطيع أن تطبقها على القرآن أو تستخرجها منه، دون أن تصطدم بما ينقصها في مكان آخر. لأن القرآن لا يلتزم في نهجه طريقاً واحداً، حين يغزو المشاعر والأحاسيس، مادحاً أو قادحاً، مهاجماً أو دافعاً، مرغباً أو مزهداً واعداً أو موعداً. ومن ثم فقد أضطر أستاذنا إلى نفس الطريقة التي لجأ إليها أسلافنا من التأويل والتخريج، وصرف الكلام عن ظاهره، وهي طريقة إن صحت في ميدان التشريع والتفسير فلا تحمد في ميدان البلاغة بحال.
على أن للكتاب أهمية قصوى، لا تتأنى من عرضة لصحائف من القرآن في صورة جديدة فحسب، وإنما لإثارته أكثر من قضية أدبية، فهو يحدثنا عن هدف الأدب (ص12) فيقول (والحق أننا نقف بهذا الهدف، عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة) وهو كلام يستدعى النظر طويلاً. أما أن الأدب إثارة وجدانية فأمر لأمراء فيه وأما عدم اشتراط الصدق، يرفضه الأدب بمعناه الحديث لأن البساطة والصدق هما أخص مميزاته، أما الأدب المنافق المرائي الذي شهدته العربية وتشهده، في عصور الضعف والاستعباد فمرهون بظروفه، وسينتهي فمرهون بظروفه، وسينتهي يوم تشيع الحرية والكرامة في أرجاء هذا الوطن العزيز. . .
ثم، ما هو التعبير الإباحي لا يعده الأستاذ من الأدب أو الفن الجميل (ص18) وما الفرق بين الإثارة الروحية والإثارة الجنسية؟ إن الكاتب قد يعرض لموضوع جنسي، محللاً في قصة، أو مبحوثاً في مقال، فيقرأ من سمت تربيته فلا يراه إلا روحيا خالصاً، ويقرأه من عاش في بيئة متحللة، فلا يلمس فيه إلا استفزازاً جنسياً، فليس هناك تعبير وتعبير روحي، وإنما هناك قابلية روحية وقابلية جنسية، وهو يحدثاً عن المنهج الأدبي في القرآن (ص37) (وأعني بالمنهج الأدبي هذا الذي يتجه إلى إثارة وجدان القارئ، إثارة روحية رفيعة) ثم يستشهد له بما يمت إلى الروحية إلا بسبب واهن ضعيف، في آية (ومن يطيع الله(915/56)
والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. . .) لأن صحبة الأنبياء ورفقائهم هنا، ليست مرغوبة لذاتها، وإنما لأن هؤلاء مأواهم على درجات الجنة، فمن صحبهم كان معهم. والجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلإثارة هنا مادية لا روحية فيها. . .
والحق إن إثارة القرآن كلها من النوع الهادي، فقد نزل يخاطب قوما ماديين، ومن ثم فقد أصحب كل وعودة ومواعيد، الجنة بما فيها من خيرات، والنار بما فيها من عذاب، فهو يدعوهم إلى الخير لا لأنه فضيلة في ذاته، وينهاهم عن الشر لا لأنه رذيلة في ذاته، ولو فعل ذلك لما وجد سميعاً، وإنما يدعوهم إلى الخير لأنه يؤدي إلى الجنة، وينهاهم عن الشر لأنه يؤدي إلى النار، والقرآن حين يحدث مخاطبيه عن الجنة، لا يحدثهم عن أي جنة وكفى، وإنما يقول (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمرة لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات. . .) ثم بعد ذلك (. . . ومغفرة من ربهم) فهل هناك إثارة مادية أبلغ من هذا؟ ولم يفت أستاذنا هذا الوضع، فراح يستثنيه مع أنه الأصل، ويؤوله ليستقيم مع حكمة الأول، من أن إثارات القرآن كلها وجدانية روحية خالصة.
والقرآن معجز، وإخفاق العرب عن الآنيان بشبيه له أو ضريب - وإن قل - حديث مستفاض، ولكن وراء هذه القضية أكثر من علامة استفهام، فإن الذين وما هم القرآن نفسه بلدهم وشدة خصومتهم، لم يحفظ لنا التاريخ من حججهم شيئاً، ماذا كان ردهم على القرآن؟. . ما هي أنماط المحاولات التي فشلت؟ على أي أسلوب جرت؟. . من هم الذين قاموا بها؟. التاريخ يصمت، ونحن نتابعه في صمته مسوقين، وأستاذنا يخطئ مذهب الصرفة (ص49) (إنه لو عجز العرب عن المعارضة بالصرفة، لما استعظموا من بلاغة القرآن، وتعجبوا من فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: (إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة) وقصة الوليد هذه تصطدم بها في كل كتاب وكل بحث، وقد تجد لها شبيهاً في قصة إسلام عمر، ولكنك لن تجد للقصتين ثالثة، ترى هل كان الوليد بن المغيرة كل شيء في مكة حتى يؤخذ سوادها برأي ارتآه؟ قضية علمية كانت تستلزم أكثر من هذا المرور السريع!(915/57)
ثم هذه الآية التي عرض لها (ص62) ثم غفل عن المشكلة التي صحبها، من يوم أن قرأها المسلمون حتى اليوم، آية (إن هذان لساحران) ماذا وراء هذا الرفع المنصوب؟ أهي لغة أهي لهجة؟ إنها لم ترد في القرآن على هذه الصورة إلا مرة واحدة، وما كنت أريد بتعرضه لها أن يعيد على أسماعنا تأويلات النجاة الفجة، وإنما كنت أريد لها تفسيراً جديداً ي ظلال الإمكانيات الواسعة التي يتمتع بها العالم الآن!
وفي فصل (الفاضلة) بحث قيم مفيد، ونهج جديد مشكور، ولكن محاولة إخضاع الفواصل في طريقها لقاعدة، أجهدت الأستاذ كثيراً، ثم انتهينا إلى لا قاعدة، ففي (ص77) (وإن يريدوا خيانتك فقد خالوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) فهو عليم بخيانتهم، حكيم في التمكن منهم. ترى لو استبدلنا العلم بالعزة، فقلنا (والله عزيز حكيم) عزيز لا ينال، حكيم في التمكن، هل يحدث ارتباك ما؟ هل يشعر القارئ أن هنا لفظاً مضطرباً؛ أو كلمة قلقة، أو معنى غير موائم؟. .
وفي فصل (الغريب) جملة تحتاج إلى شيء من التقدير (ص89) (فكان العرب في عصر نزول القرآن يمضون إلى كبار الصحابة، يسألونهم عن المعاني، مستشهدات بأبيات الشعر. والواقع أن قدرة الصحابة على فهم القرآن لم تكن في درجة واحدة: فكان منهم المثقف ثقافة أبية ممتازة، لم يكن ما نسميه الآن غريباً بغريب عند هؤلاء الذين تجداهم القرآن، فلم يكن استخدامه حينئذ معيباً ولا مستكرها، ومثال ذلك استعمال عباقرة الشعراء ألفاظاً يعرفها جمهور المتأدبين، ويتذوقون جمالها، وإن كانت دائرة على ألسنة العانة) فكيف كان بعض العرب يمضون إلى الصحابة يسألونهم عن الغريب، وكيف أن ما نسميه غريباً لم يكن بغريب عند هؤلاء الذين تحدهم القرآن؟ ويستشهد أستاذنا لقضيته بما يستعمله عباقرة الشعراء، وهو قياس مع الفارق الكبير، فلم تكن هناك فوارق شاسعة بين لغة الأدب ولغة المحادثة، ولم تكن هناك لغة خاصة وأخرى دراجة، وحين نفترض الشاسع بين اللغتين، تكون المشكلة التي تعرض لنا أضخم وأدق، هؤلاء العامة الذين لم يكونوا يلمون بالعربية حقا ليسوا أهلا لأن يتحداهم القرآن، لأنهم لا يملكون وسائلة.
وفصل (الزائد) (ص95)، ولكن، من الذي أوصل النجاة إلى ذلك؟ وضعوا قواعد، فلما اصطدمت هذه الكلمات بما قصدوا، فلم يعترفوا بعجز أو تقصر، وإنما نسبوا إلى القرآن ما(915/58)
ليس فيه، ثم أتى البلاغيين يدفعون قولهم، قضية مفترضة لا تحتاج إلى جهد أو عناء. . . القرآن في ذروة البلاغة، هذه قضية نسلم جميعاً. فعلى النجاة يريدون أن يخضعوا القرآن لقواعدهم أن يعدلوها بما يسايره، دون أن يضطرونا إلى التأويل والتخريج، وإلا فهم الواهمون!. .
أما (التشبيه في القرآن (ص187) فأثمن ما في الكتاب وأجدر فصوله بالاطلاع فيما استنوه للتشبيه من قواعد، فمضى يهدمها في رفق وهدوء وأناة. ولكنه لم يذر لهم مما قننوا شيئاً. فليس صحيحاً أن أبلغ التشبيه على النفس وشعورها به سروراً أو ألماً، وهو كلام صحيح قوى إلى حد بعيد!
وشبيه بهذا (التصوير بالاستعارةص217) (ومجازات القرآن ص223) والأسلوب القرآني ص244) وفي كل منها دراسة قيمة وعرض جذاب لم يسبق إليه!. .
ثم تأتي (القصة في القرآن ص267) عرضها لنا الأستاذ الفاضل تفسيراً، لم يعرض لمشكلة القصة ذاتها من قريب أو بعيد، قصة صدقها حرفياً، هل هي وقائع حدثت كما صورها القرآن تماماً؛ فلم يتصرف فيها بحذف أو زيادة، وفقاً لما يهدف إليه من عظة واعتبار؟. .
وأخيراً يعرض (لبعض صور الحياة الجاهلية) في القرآن (ص379) ونحن نعلم أن الإسلام جاء فشوه وهدم كل ما هو عربي وثنى، وكان نقده وتقريعه منصبا على رءوس المسائل الكبرى وأصولها، أما جزئياتها، أما حسنات هؤلاء القوم، فقد سكت عنها القرآن سكوتاً تاما، لا. . . بل يبدو أن الإسلام كان عاملا في القضاء على التاريخ الجاهلي بحسناته وسيئاته على السواء، فلم يعرف عنه أي شيء، وظل العرب الأول والمعاصرين مولد الإسلام، شعباً بلا تاريخ والعقبة الكبرى هي الوصول إلى هذه الحقائق، وعلى ضوء ما يتكشف منها، يكون التفسير للآيات القرآنية التي عرضت للحياة الجاهلية، وتبين ما فيها من بلاغة وإعجاز، أما السماع للحجج من طرف واحد، فيجعلنا عاجزين عن فهم كل شيء.
وبعد. . . فقد تختلف في الرأي، ونتباعد في النظرة، ولكنا نلتقي دواماً عند هدف واحد، علمنا أستاذنا إياه، هو أن نقول كل ما نعتقد حين نعرض لشيء جديد، بالروح السمحة التي(915/59)
كنا نلتقي بها الدرس، قد عرضت لمؤلفه الجديد، ولن يقعد بي مرض في الرأي، أو غرض في القصد عن الإشادة بهذا الكتاب، بهذا الكتاب فهو دراسة عميقة حديثة، لموضوع قد تعرض له الكتب القديمة، ولكنه لم يحط في دراستنا الحديثة بأي نصيب، وهو يتسم - ككل ما كتب الأستاذ أحمد بدوي - بالعبارة الرصينة، والأسلوب الجزل، والعرض البارع، والدرس العميق. . .
وإلى اللقاء مع أستاذنا في مؤلفه الجديد القادم، سيصدر عما قريب!
الطاهر أحمد مكي
كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول(915/60)
الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي
تأليف الأستاذ عبد العزيز من روع الأزهري
هذا الكتاب من الكتب الأدبية العصرية التي تستحق أن يطلع عليها الأدباء، فهو محاولة موفقة لتحديد الأزمان الجاهلية عند العرب، وربط كل أثر من آثار الأدب الجاهلي يحيل معين محدود بالتاريخ الهجري والميلادي معاً.
وقد استطاع المؤلف بهذا أن يبرهن على أن من الآثار الأدبية عند العرب ما سبق الهجرة بأكثر من سبعة قرون، في الوقت الذي يكاد يجمع رواد الأدب العربي على أن أقدم الآثار العربية التي بين أيدينا لا تتجاوز الهجرة بأكثر من قرن ونصف قرن.
ومما يجعل لنظريته آثاراً خطيرة أن من الأدلة التي اعتمد عليها بعض النقوش الأثرية التي يرجع تاريخها إلى سنة 33ق هـ.
لقد اعتمد المؤلف على سلال الأنساب العربية، وتحيد المتوسط لعدد الأشخاص الذين أنظمتهم سلاسل النسب من عصر النبوة إلى (عدنان) عند العدنانيين وإلى (قحطان) عند القحطانيين؛ وقد وجد متوسط الأجيال العدنانية بين هذين الطرفين22 , 650 جيلاً ومتوسط الأجيال القحطانية بينهما 31 جيلاً؛ ثم تابع البحث فرأى أن هذين المتوسطين لا جدوى منهما ما لم يقدر العمر المتوسط لكل جيل في تلك السلال، فظل يبحث وينقب أكثر من عشر سنوات، اطلع في خلالها على مئات من المراجع غريبة وشرقية حتى اهتدى بعد طول الغناء إلى أن أنسب عدد لعمر الجيل هو 40 سنة وقد ذكر من أدلته على هذا التحديد في كتابه 12 دليلا جعل آخرها مشتقاً من قوله تعالى في القرآن في سيرة بني إسرائيل الذين نزحوا من مصر مع موسى:
(فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) ورجع إلى المفسرين فوجدهم قد أجمعوا على أن السبب في تحديد هذا العدد هو انقراض الجيل السابق الذي طبع على الذلة والمسكنة في مصر؛ ورجع إلى التوراة فوجد مصدقا لما بين يديه من القرآن ونصه هذا:
وبدا صار في مكنته كل أديب - بعد اليوم - أن يعرف تاريخ أي أثر أدبي للجاهلين إذا نسبت إلى قائلة، وقد طبق نظريته على كثير جداً من الشخصيات البارزة في تلك الأحقاب، وكان من أمثلته التي سأكتفي بها هنا حكيم العرب المشهور (عامر بن الطرب العدواني(915/61)
العدناني) وقد سار في تجديد زمانه هكذا:
(1) من عامر إلى عدنان 12 جيلاً
(2) ويطرحها من المتوسط العام لأجيال العدنانيين من عصر النبوة إلى عدنان تجد الباقي 9 أجيال.
(3) و 9 و 40 يساوي 360 سنة هي التي تدل على عمر عامر ف سن الأربعين.
(4) مكان ميلاده كان حوالي 400 ق. هـ (234م).
وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام تطبيقاً لنظريته:
1 - (القسم الأول) أثبت فيه أن الأمثال المنسوبة إلى أصحابها أقدم الآثار العربية؛ لأن البسيط أقدم من المركب؛ والأمثال أبسط من المقطوعات ومن القصائد، لهذا بسط القول فيها بهذا الترتيب وقد حقق في هذا القسم أن أقدم ما عثر عليه من الأمثال قول (الأفعى الجرهمي) إن العصا من العصية.
2 - والقسم الثاني (المقطوعات الشعرية) وقد حقق فيه أن أقدم المقطوعات التي عثر عليها منسوبة لطي بن أدد القحطاني، فأتخذ من هذا وسيلة إلى تحديد الزمن الذي ذابت فيه لغة القحطانيين في لغة العدنايين أصحاب هذه اللهجة وقد أرجع تاريخ هذا الأثر حوالي سنة 700 ق. هـ (57ق. م).
3 - والقسم الثالث شعراء القصائد في الجاهلية وآثارهم وقد أثبت فيه أن أقدمهم الشاعر النميمي (ذؤيب) وحقق أنه كان في سن الميلاد حوالي 435هـ ويليه (لغيط الابادي) صاحب أطول قصيدة وصلت إلينا وأقدمها وأن تاريخها يرتد إلى 306ق. هـ.
4 - والقسم الرابع وهو الأخير أثبت فيه بأدلة ثمانية أن اللهجة التي نزل بها القرآن ليست لقريش! وقد توج أدلته (بنقش الثمارة) المشهور المنقوش سنة 303ق. هـ (328م) وهي السنة التي توفي فيها صاحب الملك امرؤ القيس بن عمرو، فيرى من هذا أن الكتاب ظريف ممتع، جديد في موضوعه، وفي أسلوبه، وفي الاستدلال على ما فيه من نظريات.
ولا يضير الكتاب بعد هذا أن بعض مباحثه مضغوط إلى درجة قريبة من الأحاجي.
م. ع(915/62)
العدد 916 - بتاريخ: 22 - 01 - 1951(/)
الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
- 1 -
توطئة:
يواجه الدين في العالم المعاصر موجتين من التحدي: أحدهما الحادية لا ترى في الدين إلا (تخلصا من الواقع) ولجوءاً إلى التحذيرات الروحية التي أبرز فيها أنها توجه السلوك الإنساني توجيها سلبياً إزاء مشاكل الحياة، ومن ثم إزاء عناصر التقدم والسعادة البشرية. هذه الموجة هي محور الهجوم الماركسي على الحياة الدينية.
والموجة الأخرى لا تمت إلى الفلسفة الماركسية إلا بصلة غير مباشرة ولكنها تماثلها في الابتعاد عن الحقيقية الدينية. أعنى بها موجة التحلل من القيم تتزعمها الآن الحضارة الأمريكية وتنقلها إلى سائر بقاع الأرض مواصلات فكرية أتقن الأمريكيون وسائلها إتقانا بارعا في السينمائية والصور الفوتوغرافية والصحافة ومؤسسات الإعلان والدعاية والقصص الحديثة، وألف نوع ونوع من وسائل الاتصال الفكري الذي يهيمن الآن على القسم الأعظم من صحافة العالم وإنتاجه الأدبي والفني.
ووجه الخطورة في الموجة الثانية أنها في حل من أن تتهم بالدعوة إلى التفسير المادي للتاريخ على النحو الذي يدعو إليه الشيوعيون. ولكنها في الواقع تفعل ذلك، وفوقه عنصر من أخطر العناصر في السلوك الإنساني وهو تركيز النشاط الفكري في حرية الغريرة والعاطفة والأهواء.
ومن أوجه الخطورة كذلك في هذه الموجة التي تنزعها الحضارة الأمريكية المعاصرة إحاطتها بهالة من التقدير والإعجاب بدعوى أنها من الشواهد الأصلية على التقديم الحضري وتوجيه السلوك الإنساني نحو قسط وافر من السعادة والهناء.
فحرية الغريزة والطلاق الشهوات والأهواء التي تمخضت عنها حضارة فرنسا اللاتينية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر والتي تحمل الآن الدعوة الحضارة الأنجلو سكسونية، هذه الحرية أصبحت الآن جزءا جوهريا من مبادئ التحرر السياسي والفكري(916/1)
الذي هو بحق؛ أفضل ما في الحضارة الغربية من تراث.
فالتحرير (ليبيرالزم) في ثقافة الغرب المعاصرة عامة والأنجلو سكسونية منها على وجه الخصوص علم على الإصلاح في مجالات الاقتصاد والسياسة والصلات الاجتماعية ولانطلاق الفكري. وهذا يشمل الدين والحياة الروحية والنفسية، واتجاهات الثقافية الأنجلو سكسونية في هذه الآونة تقف التحدي لجوهر العناصر التي تضمن التكافل الاجتماعي. فالصراع الفكري في أوربا وأمريكا الآن يكاد ينحصر في توجيه السلوك الإنساني لا على أساس العقل كما شرحه فلاسفة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عسر ولكن على أساس الغريزة والانطلاق النفساني (الفيزيولوجي والسيكولوجي) كما بشر به (ريجموند فرويد) وأتباعه من علماء التحليل النفساني والمدارس الفكرية والأدبية والفنية العديدة التي تأثرت به وتفرعت عنه، وكما تدعو إليه (هوليوود) وكتاب القصة الحديثة وبعض أئمة الفن في أوربا وأمريكا.
فإذا حق لحضارة الغرب أن تفتخر بأنها خلال القرون الأخيرة الماضية قد أسدت إلى تراث الفكر وانطلاقه من قيود الجمود والبلادة العقلية فإن هذه المثل الآن تواجه حملة عاصفة تدفع بالسلوك الإنساني نحو فلسفة بدائية في جوهرها ومضمونها تمجد الغريزة النظرية وتناقض العقل وهدوءه وحكمته فتستهوى بذلك الجماعات التي تعيش على الصحف السيارة ووسائل التسلية الرخيصة واللهو والمتعة ممثلة الأفلام والقصص الحديثة. هذه الألوان من الفنون والآداب التي تجد سبيلها إلى صميم العلم ومعاقله الراقية في كثير من بقاع الأرض منها العالم العربي؛ وذلك لأن هذه الدكتاتورية الفكرية التي تفرضها الحضارات الأخرى لا تقتصر على أنصاف المتعلمين، بل إن سلطانها يمتد فيؤثر تأثيراً فعالاً في الاتجاهات الفكرية والعاطفية لكثير من المثقفين الممتازين الذين يخلفون حضارات جديدة كما هو الحال في حاضر الثقافة العربية.
أحب ألا يساء الفهم في هذا الصدد. فالتعاون الفكري أمر لا مفر منه، بل في الواقع من الدعائم الجوهرية بناء الحضارات الحديثة أو إحيائها والنهوض بها. ولكن المشكلة ليست في مبدأ التعاون الفكري ولكنها في تفهم العناصر الجوهرية في الحضارات التي تفرض نفسها - خيراً أم شرا - على حاضر الثقافة العربية.(916/2)
ويخيل إلى أن الذين يوجهون الثقافة العربية الآن لم يفطنوا بعد جدية إلى إصلاح الأسلوب الذي اتخذه بناة الثقافة الجديدة في الباكستان مثلا، والباكستان مثل فريد.
فقادة الفكر في الباكستان جماعة استدعوا استيعاباً غير قليل العناصر الجوهرية التي تكون حضارات أوربا وأمريكا فاستبانوا في نباهة وحكمة عناصر القوة والضعف فيها فنتج عن ذلك هذه النهضة الفكرية والأسس الإيديولوجية التي لم يتأثر بها بعد - مع الأسف الشديد - قادة الفكر في الشرق العربي فلإيديولوجية في الباكستان ليست (رجعية) تعيش في من القرون الوسطى كما يصمها بذلك بعض المغرضين من أعداء الشرق وبعض أبنائه. وإنما هي أسلوب في الحياة الفكر استوحى التوجيه من تراث الإسلام ومبادئه ومن روح الشرق ونظمه الاجتماعي والمتأصل من الاتجاهات العاطفية والتكوين النفسي. فحين تبين لمحمد إقبال وغير من جهابذة الفكر من القارة الهندية أن الإسلام كمذهب وكنظام للحياة الدنيوية برئ من هذا الجمود وهذا التفسيرات المغالطة وهذا السلوك الشائن الذي كاد يؤدي بالمسلمين إلى المذلة والانحطاط ويثقافهم إلى الانحلال والموت - حين يبين لمسلمي الهند والباكستان ذلك يقفوا عند حد الوعد والإرشاد والنفخ في أبواق لا نؤثر دعوتها في صميم النظم السياسي والاقتصادية والاجتماعية والإحياء الفكري والعلمي، وإنما استعار من الغرب مناهجه في البحث والتوجيه واقتبسوا عنه أساليب العمل والإنتاج وصاغوا تعاليم الدين الإسلامي في قالب لا يجب عن جوهر العقيدة المحمدية، وإنما يتميز بأنه لا يختلف عن القوالب التي ولدت حضارات عصور النهضة من إيطاليا وفرنسا واليابان الأنجلوسكسونية. وتبين لمسلمي الهند والباكستان كذلك بأن إنتاج الفكر الأوربي في الحياة الدستورية وفي التنظيم الاقتصادي وفي التكافل الاجتماعي لا يمكن أن يكون مناقضا للنظم التي شره الإسلام، وإنما هو في الواقع متمم له. وجاء ميلاد الدولة الباكستانية فدمج الفكر بالعمل وحقق الأسس الهجر للإيديولوجية الإسلامية الحديثة على النحو أثار إعجاب العارفين به.
وليس من أهداف كاتب هذه السطور أن يستعرض هنا أسس الإيديولوجية الإسلامية في الباكستان وإنما استشهد بها في معرض الحديث عن البلبلة التي تعتري الحضارة الإنسانية وأزمتها إزراء صراع العقل والروح من جهة، والغريزة البدائية من جهة أخرى، هذا(916/3)
الصراع الذي أوجد تشويشا فكريا واجتماعيا في كثير من بقاع منها الأرض منها عالم الغرب.
ولنعد إلى قضية الدين والسلوك الإنساني لنقرر حتما في المستهل أن هذا الصراع الفكري يشغل الآن أذهان المثقفين في الغرب وفي أمريكا على وجه الخصوص.
فقد نشأ العالم الجديد أول ما نشأ على مذهب التحرير من القيود الثقيلة التي فرضت على العقيدة والسلوك الديني في أوربا. فحملت سفينة (مايلفور) في القرن السادس عشر هؤلاء المضطهدين من القارة الأوربية إلى أرض كولومبوس لتدفع عنهم شر هذه القيود. فالحضارة الأمريكية إذن أسس روحية للدين فيها شأن كبير لا تزال عناصره الأصيلة تناضل موجات الإلحاد والانطلاق الغريزي الذي ولده نشوة النظم الاقتصادية الحديثة على النحو الذي شرحه في عمق وبلاغة الكاتب الألماني الكبير (ماكس ويجر) وكذلك تسرب الأيدلوجية اليهودية وتركها في صميم الحضارة الأمريكية وعبثها فيه فسادا.
وحري بالذين استخفوا واستهجنوا دفاع رجال الأزهر الشريف وعلمائه ورجال الدين في نصر عن الفضيلة والقيم الدينية في حملتهم الأخيرة بأن مثل هذا الدفاع هو من أهم ما يشغل العلماء وقادة الفكر في معاقل الغربية التي يتطلع إليها المستخفون من المثقفين العرب ليستمدوا منها الوحي والإلهام والذخيرة لمناوأة الإحياء الذي له رجال الدين في مصر والشرق العربي.
قلت إن أهل الفكر في لأوربا وأمريكا يشغلون الآن بهذا النزاع الحاد بين العقل والروح من جهة؛ والانطلاق الغريزي البدائي من جهة أخرى وعلاقة السلوك الديني بهما.
فبعض أتباع في إنتاجهم الفني العلمي يرون في السلوك الديني شاهداً على الجهل والخوف والتفكك النفساني، وعلما على الجمود الفكري والشخصية الضعيفة المنطوية التي لا تستطيع ولا تود مواجهة الواقع.
ثم هناك وبليام جيمس البروتستانتي وغيره من فلاسفة الكنيسة الكاثوليكية الذين يقولون بأن السلوك الديني القويم ليس رمز لهذه العقد النفسية؛ وذلك لأن في الفرد غريزة دينية متأصلة تشوب سلوكه المطمئنة والشخصية الكاملة الناجحة (بمعناها الكسيولوحي) لم يتوفر لها هذه الطمأنينة وهذا الكمال إلا لأنها لمست مبلغ القوة في غريزتها الدينية فهذبتها بالتروي(916/4)
والتبصر، وأنتما سليمة مستقرة آمنة لا تزعزعها هذه المشاكل الدنيوية النفسية التي لا يخلو منها مجتمع ما بدائيا كان أم حضريا. وتقول مدرسة وبليام جيمس - ولها اتباع من أئمة علماء النفس المعاصرين - إن الخوف والبلبلة النفسانية ومشكلة السلوك السيكوباتي ليست إلا وليدة إنكار الفرد على غريزته الدينية حقها ووظيفتها لأهميتها والدور الذي تلعبه في السلوك الإنساني ونفوره من إنمائها ورعايتها خالصة مطهرة.
ولنقف هنيهة هنا ولنحاول في أعداد الرسالة القادمة إن شاء الله أن ندرس مسألة الدين الإنساني على أضواء هذا النزاع لعلنا بذلك نساهم في تفهم هذه المشكلة الاجتماعية التي أخذت حدتها تتخذ طورا مخيفاً في حاضر الأمة العربية.(916/5)
الألفاظ الأيوبية
في كتاب تقويم النديم
لصاحب المعالي الدكتور محمد رضا الشبيبي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
كتاب (تقويم النديم، وعقبى النعيم المقيم)، وبهذا الاسم ورد ذكره في كشف الظنون وفي غيره من فهارس الكتب، كتاب غير غريب عن المؤتمر، فقد ورد ذكره في معرض البحث عن المصطلحات الحرفية، في مؤتمر السنة الماضية، وهو البحث الذي عالجه الأستاذ ماسينيون في محاضرة لطيفة أشار فيها إلى عناية بعض علماء الشرق بوضع معجم في ألفاظ الحرف والصناعات، وكانت لي كلمة في التعقيب على المحاضرة قلت فيها إن أول من طريق هذا الباب أديب مصري من أعلام القرن السابع ومن وزراء الدولة الأيوبية في عصر الكامل بن الملك الصالح أيوب، وهو الأمير فخر الدين يوسف بن حمويه الجوبني، في كتاب له سماء (تقويم النديم وعقبى النعيم المقيم) ضمنه جملة صالحة من المصطلحات الحرفية الشائعة في عصره. وما من شك أن الشربيني في كتاب هز الفحوف، والشيخ قاسم الدمشقي في معجمه نسجا على منوال فخر الدين بن حمويه، فهو أقدم أديب عالج هذا الموضوع على كل حال. وقد قلت فيما قلت في تلك الجلسة إني لعلي استعداد لإهداء نسختي التي ظفرت بها من الكتاب إلى مكتبة المجمع أو إلى وزارة المعارف المصرية لأن مصر بهذا الكتاب أولى من العراق. هذا ولما قفلت إلى لدى بعد انفضاض المؤتمر الماضي بعثت بالنسخة المذكورة فوراً إلى الوزارة المشار إليها ضمن كتاب أرسلت نسخة منه إلى كتب المراقب الإداري في هذا المجمع، فوزارة المعارف هي التي تملك حق التصرف في الكتاب الآن.
إلى هذا الحين كنت وكان غير واحد من المعنيين بالبحث عن الأصول القديمة يرون أن نسختنا العراقية هي النسخة الوحيدة من هذا الكتاب، بيد أني ما زلت منذ نزلت القاهرة في نتصف الشهر الماضي حتى الأيام الأخيرة، في سبيل التنقيب عن لأصول الكتاب في دور الكتب هنا وهناك، إلى أن ظفرت بنسختين جديدتين، توجد إحداهما في دار الكتب، والثانية(916/6)
وهي أقد خطا وأدق ضبطاً في المكتبة الأزهرية، وإن كانت ناقصة قليلا ولعلها نسخت في عصر المؤلف، أو قريباً منه، فهي أصل يعتمد عليه، لأن كلا من النسختين العراقية، ونسخة دار الكتب سقيمة لا يوثق بكل ما جاء فيها، وفيهما ما فيهما من المسح والتحريف والتصحيف.
مؤلف الكتاب:
مؤلف كتاب تقويم النديم وعقبي النعيم المقيم، هو الأمير الصاحب فخر الدين يوسف بن صدر الدين محمد شيخ الشيوخ بن حمويه الجويني، من أعلام مصر في صدر القرن السابع، ووزير بني أيوب، ومقدم جيوشهم في عصر الملك الكامل. وآل حنويه بيت مشهور يمت إليه عدد من الأعلام. وحمل التاريخ والطبقات بين أواخر القرن السادس وصدر القرن السابع وممن ترجم لمنشئ هذا الكتاب السبكي في طبقاته وترجمته ضافت مستوفاة، وابن تغري بردى في النجوم الزاهرة وابن أبي شاء في الذيل على الروضتين. وجل المؤرخين المصريين والشاميين الذين عنوا بتاريخ الحروب التي دارت رحاها في مصر بين الأيوبيين والفرنسيين في منتصف القرن السابع وهي حروب طاحنة بعض وقائعها أسر ملك فرنسة، وفي واقعة منها سنة47 قتل مؤلف هذا الكتاب.
قال لبن أبي شامة في حوادث السنة المذكورة ما نصه: (في قتل فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وهو آخر أخوته موت) وفي حوادث السنة عينها من النجوم الزاهرة ما نصه: (تؤثر الصاحب فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد حمويه الجوبني كان عاقلا جواداً ممدحا خليقا بالملك محبوبا إلى الناس ولما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمياط، ندب إلى الملك فامتنع ولو أجاب لما خالفوه، واستشهد على دمياط) وقال أيد (ومن الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، الأمير مقدم الجيوش فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين الجوبني في ذي القعدة شهيداً يوم وقعة المنصورة) وفي تاريخ أبي الفد وابن الوردي مثل هذا ذلك.
موضوع الكتاب:
موضوع الكتاب أدبي هو سلس طويلة من المنظوم والمنثور، ولك أم تقول أنه مقامة واحدة(916/7)
من هذه المقامات الأدبية، لم يراع فيها التنوع والتقسيم، فلا عجب إذا اعترى قارئ الكتاب ضرب من السأم، وإنما قلنا (مقامة) لأن المؤلف استهل الكتاب بقوله (حكى السرور ابن اللذة قال: كنت وشعبه جنون شبابي في عنفوانها، وصحيفة عمري لم أقرأ منها غير عنوانها) وهذه العبارة شبيهة ببعض عبارات الحريري وغيره من أصحاب المقامات، والمقامة طافحة من أولها إلى آخرها، بضروب من الأحماض والفحش والمجون الذي لا يستساغ نشره فيما أرى وإن نشر الناشرون ما هو أسوأ منه. وقد حاول المؤلف في مواضع عدة من الكتاب تأكيد سلامة نيته، وحسن قصده في مجونه وعبثه الفاحش، وأن ذلك مجرد أقوال لم تقترن بأعمال وأفراد فصولا أخرى في أول الكتاب وآخره للدفاع عن نفسه والاعتذار عن شطحاته وبداوته، وعرض ببعض خصوصه الذين نسبوا إليه الجد، ورموه بسوء القصد وزعم أنه نسج على منوال البلغاء، فيما وضعوه من الكلام منسوبا إلى الجمادات أو ما عزوه من الحكم إلى الحيوانات مثل ما جاء في كتاب كليله ودمنه وكثير من المقامات؛ وقد يكون هذا العذر مقبولا لولا أن الجوبني أسرف والحق يقال وإفراط في تماجنه وخلاعته من هذا القبيل، ومع ذلك فإن وجه الانتفاع بنشر جانب من هذا الكتاب ظاهر لعناية المؤلف بتدوين المصطلحات الحرفية الشائعة في عصره على وجه لم يسبق له مثيل.
في مطاوي كتاب تقويم النديم مجموعة ألفاظ ومصطلحات كانت تدور على ألسنة المصريين في عصر الدولة الأيوبية، وقد عنى المؤلف عناية خاصة بتدوين هذه الألفاظ أو المصطلحات الأيوبية وإنما قلنا (ألفاظ أيوبية) مع أنها لا تخلو من ألفاظ عباسية أو فاطمية من باب التغليب، أو أنها أوضاع شاع استعمالها في العصر المذكور بطريقة الاشتقاق أو التوليد أو التغليب أو بطريق من طرق المجاز أو الاستعارة.
وقد يكون حظ هذه المصطلحات وإضافتها إلى تراثها اللغوي إحدى غايات هذا الأديب من إنشاء هذه المقامة، كما كان حفظ أوابد العربية إحدى غايات الحريري من إنشاء المقامات، وبعض هذه الألفاظ أو المصطلحات من أوضاع المصريين في اللغة أو من مصطلحاتهم المولدة.
والقريض في هذا الكتاب كثير وأكثر من إنشاء المؤلف وهو مدمج في النثر. فالجويني(916/8)
شاعر وشعره في طبقه نثره. وله طريقة خاصة في اختيار شواهده الشعرية شرحها في آخر كتابه ولا يخلو أسلوبه من تصنع في المنظوم والمنثور.
المصطلحات الحرفية في الكتاب:
تصفحت الكتاب فعثرت فيه على مجموعة من المصطلحات والألفاظ الحرفية التي استعمالها ي دواوين الدولة الأيوبية، وعلى ألسنة الجمهور والكتاب في مصر وما إليها من البلاد. وقد وجدت أن أصول كثير منها فصيحة بل عريقة في الفصاحة في تلك العصور، ولم أجد لبعض ألفاظه ذكراً في المعجمات، وإما لأنها ألفاظ مولدة، أو أوضاع حادثه في العصور الأيوبية، ولم أنقل كل الألفاظ أو المصطلحات الواردة في الكتاب، لكثيرة المسخ والتحريف في نسختي منه، وليس في الآن متسع للمقابلة والتحقيق، ولذلك عنيت بنقل نموذج من ألفاظ الكتاب مع شرح موجز وإيضاح لمعانيها أحياناً، وأما البحث في أصول تلك الكلمات ونقل مذاهب اللغويين وأحكام فيها وفي جوار استعمالها فإن له وقتاً مذاهب آخر والأمور مرهونة بأوقاتها، وهذه هي مصطلحات الكتاب.
الفلاحة والزراعة وما يتصل بالملاحة:
جران، مشاق، قلفاط، جسار، مرابع، فلاح يس قرقورة، طراح، مغرك ودقاق، قفاص، قفاف، خواص، تبان، علاف، ناخوذاه ربان
جران - صانع الأجران
مشتاق وقنفاط - من الألفاظ الداخلة في صناعة السفن
جسار - القيم على الجسر، وهي شائعة إلى اليوم في العراق فيقولون، جسار للقيم على الجسر أي (الكوبرى) باصطلاح المصريين اليوم، والكوبرى تركية ولا تستعمل في العراق والشام. ومرابع وفلاح: الفلاح معلوم وأما المرابع فالغالب أنه الفلاح أو الأجير الذي يأخذ ربع الغلة ولا أدري هل هي شائعة في مصر اليوم أم لا.
ريس قرقورة وطراح: قال الخفاجي في شفاء الغليل قرقور ضرب من السفن تكملوا به قديماً. هذا كل ما ورد في شفاء الغليل. وقال الجواليقي في المغرب من كلام العجم، القرقور ضرب من السفن أعجمي وقد تكلمت به العرب، وزاد ابن دريد أنه ضرب من(916/9)
السفن كبار، وفي اللسان، قيل هي السفينة العظيمة الطويلة. والقرقور أطول السفن وجمعه قراقير. أما الطراح فالأغلب أنهم كانوا يستعملونها في العصر الأيوبي بمعنى الملاح وما إلى ذلك
مفرك دقائق. والفرك هو الذي يفرك الحب، وقال في القاموس أفرك الحب آن له أن يفرك، واستفرك في السنبلة سمن واشتد، وفرك السنبل دلكه فانفرك. وأما الدقائق فهو بائع الدقيق قال الفيروز ابادى: الدقيق الطحين وبائعه دقائق، ومن ذلك يعلم أن أفصح الألفاظ والمصطلحات كانت تدور على ألسنة جمهور المصريين في عصر الدولة الأيوبية.
قفاص. قفاف. خواص صانع الأقفاص والواحد قفص وهو الذي يحفظ به الطير وغيره. والقفص أيضاً أداة زراعية ينقل بها البر إلى الكدس، والقفاف صانع القاف أو بائعها واحدتها قفة بالضم وهي معرفة كهيئة القرعة تتخذ من الخوض. قال المجد الفيروزابادى: الخوض بالضم ورق النخل، والخواص بائعة. ومما يستدرك عليه إناء مخوص فيه على أشكال الخوص
تبان وعلاف: التبان بائع التبن والعلاف بائع العلف قاله في القاموس وهما لفظان في مصر الآن.
ناخوذاه وربان: فاريسة معربة استعمالها شائع في العراق من القديم إلى اليوم بمعنى ربان السفينة ولكنهم يقولون الآن (نوخذه) والظاهر أنها كانت معرفة في مصر أيضاً بالمعنى المذكور على عهد الأيوبيين، قال المجد الفيروزابادى في مادة (نخذ) ملاك سفن البحر أو وكلاؤهم معربة الواحدة (ناخذاه) اشتقوا منها الفعل وقالوا تنخذ كترأس
الفاكهة والمأكول والمشروب:
من ألفاظ الكتاب في هذا الباب مواز وقماح وتمارون لباعة الموز والقمح والتمر والرز ومن ذلك لبان وسماك وجبان وسمان وهراش وشواء وقلاء والألفاظ الأخيرة شائعة في أقصى الشرق العربي إلى اليوم.
قراب: الغالب أنه صانع القرب جمع أو من يتمن الماء من القربة وهي صيغة مولدة؛ أن يكون المقصود به صاحب الغمد أو القراب.
مزار: بائع المزر نبيذ الذرة أو الشعر.(916/10)
عكار: لبائع العكر وهو الحثالة.
بداد: العامل في البد وهي معصره الزيت قيل إنها مصر
البناؤوق وما يتصل بالبناء
طواب. عجان خراط جباس. مبلط. مزخم. مصور. دهان.
طواب: صانع والطوبة لغة شامية أو مصر
بمعنى البن عندنا في العراق وهو هذا الطين المضروب للبناء
عجان: ورد في الكتاب مرادفا لكلمة طواب وقد يرد من يعجن الطين أو غيره من مواد البناء.
خراط: من خرط العود إذا قشره ويواه وحرفيته الخراطة وهم معروفة بهذا المعنى الآن.
جباس وجبال: الجباس هو العامل بالجيش أي الجص والجبال في العراق هو الذي يجبل الجص ويحمله إلى البناء والكلمة شائعة على ألسنة العراقيين اليوم.
المبلط: عامل حرفته فرش الدار بالبلاط؛ والبلاط الحجار التي تفرش بالدار وكل أرض فرشت بها أو بالآخر، يقال بلط الدار وأبطلها وبطلها فرشها به. والكلمة معروفة الآن في البلاد المصرية.
المرخم: وزان المبلط وهو الذي يعمل في البناء بالرخام ولا يوجد في المعجمات، وفي مصر الآن يقولون المرخماني - للمعنى المذكور مصور ودهان معروفان.
حرف الجوهريين والمعدنيين.
ذهبي مداد. سكاكيني. براد. مبيض. نحاس. صيرفي. نقاد. مرصص. سباك. حجار. طلاع. نشار. حكاك. قفال
الذهبي: بائع الذهب أو الحلي الذهبية.
مداد: هو الذي يمد الذهب أو يبسطه ويسويه، من الأوضاع اللغوية المولدة في عصر الأيوبيين.
فقال: صانع الأقفال أو بائعها
البراد: من حرفته برد المعادن من الذهب وفضة وحديد، ويردها عن قشرها أو نحتها،(916/11)
والنبرد آلته والبرادة هي سحالة المعادن المبرودة.
صيرفي ونقاد: معروفان
مرصص: عامل حرفته طلي الأشياء بالرصاص، قال المجد الفيروز ابادى شيء مرصص مطلي بالرصاص.
سباك: أصله من سبك المعدن أذابه وأفرغه وهي معروفة الآن
مبيض: أصله من بيض ضد سود والمراد به على الأكثر مبيض المساكن والبيوت بالجص والبورق. وفي العراق يطلقون هذه الكلمة الآن على الماهن الذي يبيض الأواني بالقصدير.
الحكاك: يطلق في العراق على من يسوي فصوص الخواتم والقلائد وما إلى ذلك، ولا يعلم المراد منه في هذا الكتاب.
الحرب سلاح:
رماح. زراد. نشابي. قواس. تراس. سياف. صقيل. مشاعي. نقاط.
رماح: الرماح متخذ الرمح وحرته الرماحة قاله المجد الفيروز ابادى في القاموس؛ والرماحة أيضاً فرقة عسكرية تحمل الرماح.
زراد: الزراد صانع الزرد والزرد هي الدرع المزرودة.
النشابي: نسبة إلى النشاب، والنشاب النبل والنشاب بالفتح متخذه وقوم نشابة يرمون به.
القواس: صانع القوس أو الذي يتخذ القوس سلاحاً له
تراس: صاحب الترس أو صانعه والتراسة صنعته
الحيوان.
فهاد. دباب. قراد. لسائس الفهود والدببة والقرود
كباش. حمار: صاحبا الكباش والحمير. قال في القاموس الحمارة أصحاب الحمير كالحامرة وهي شائعة في أقطار الشرق العربي اليوم.
المطير طيوري: الذي يلعب بالطيور والصيغة الأولى شائعة في العراق اليوم.
البراج: القيم على الأبراج. والمقصود بها هنا الأبراج التي تتخذ للطيور.
كلا بزي: قال في شفاء الغليل الكلبزة هي معرفة حال الكلاب السلوقية منسوبة إلى سلوق(916/12)
بأرض اليمن. . قيل إن الكلمة مصرية.
بزدار: صاحب الباري أو الخبير بطباعة وإعداده للصيد معرب كما في الصحاح؛ ويقال بيرار وجمعه بيازره. قال في الشفاء تصرف فيه المولدون حتى قالوا لصناعته (بيزة) أو (بزدرة) كما فعلوا في البيطرة وقد وضعت في هذا الفن كتب يعضها يسمى (كتاب البيزرة) وعندي شيء منها؛ ويراجع عن هذه المادة كتاب المعرب للجواليقي والتذكرة للانطاكي.
ألقاب الخدم
البلان: أصل هذه الكلمة من مادة البلبل وكانت شائعة قديماً بمعنى الحمام ذكرت مرتين في القاموس ففي حرف اللام وفي مادة (البلل) قال المجد الفيروزابادي: البلان كشداد الحمام جمعه بلانات، وقال أيضاً في حرف النون البلان كشداد الحمام وذكر في اللام. ومجمل القول أن أصل هذه المادة من البلل ولكن المجد الفيروز ابادي لم يخلص إلى رأى معين في أصالة النون أو زيادتها؛ بيد أن الشارح تدارك ما أهمله الماتن. وهاك ما قاله الزبيدي في التاج (البلان) كشداد الحمام جمعه بلانات والألف والنون زائدتان وإنما يقال دخلنا البلانات أبي الأزهر ولأنه يبل بمائة أو بعرقه من دخله ولا فعل له. وفي حديث ابن عمر ستفتحون أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها البلانات من دخلها ولم يستتر فليس مناه قلت والقول للزبيدي - وأطلق لأن البلان على من يخدم في الحمام وهي عامية.
وعاد الزبيدي شارح القاموس إلى شرح الكلمة مرة أخرى في باب النون فقال: (البلان) كشداد أهمله الجوهري. وقال ابن الأثير وهو الحمام ومنه الحديث: ستفتحون بلاداً فيها بلانات أي حمامات قال والأصل بلالات فأبدلت الأم نوناً)
هذا وفي عصر أيوب شاع استعمال هذه الكلمة بمعنى خادم الحمام أو الدلاك. ومن رأى بعضهم أن أصل الكلمة من اليونان وإلى هذا ذهب اللغوي الغراقي انستاس الكرمني وليس بشيء؛ إذ لا يحامرني أدنى شك في عروبة هذه الكلمة. وفي مصر اليوم يقال للماشطة التي تزين العروس ليلة البناء (بلانة) على ما رواه لي بعض أدباء القاهرة.
الوقاف: تطلق هذه الكلمة في العراق اليوم على الرقيب الذي يقف مع الأجير وهو معناها على الظاهر في عصر مؤلف الكتاب فهي كلمة مولدة وكلمة (الوهين) في الفصحى تسد مسد هذه الكلمة. قال الفيروزابادي: الوهين وجل يكون مع الأجير في العمل يحثه عليه.(916/13)
هذا طرف من الألفاظ والمصطلحات اللغوية التي وجدتها في كتاب تقويم النديم ولم آت على كل ما يوجد في تضاعيف الكتاب من هذا القبيل أو من الأوضاع اللغوية التي كانت شائعا في عصر الدولة الأيوبية. فالكتاب مفيد كل الفائدة لمن يعني بالبحث عن المصطلحات والألفاظ الحرفية في العربية الفصحى أو في اللهجات العربية الشائعة في أقطار الشرق العربي الآن؛ يستفيد منه مضافاً إلى ذلك من يعني بتاريخ العمران والحضارة في مصر الإسلامية.
هنا ومن رأيي أن وزارة المعارف تحسن صنعاً إذا عهدت بنشر هذا الكتاب بعد تحقيقه وتهذيبه إلى لجنة من اللجان المعنية بنشر المخطوطات النادرة. والغالب أن الوزارة المشار إليهم تعني الآن بالنظر في وجوه الاستفادة من هذا الكتاب.(916/14)
تحقيقات تاريخية
الأمير سيف الدين
تغري بردى الاتابكي
والد الأمير جمال يوسف المعروف بإبن تغري بردى المؤرخ
المصري
للأستاذ أحمد رمزي بك
حينما قدمت دار الكتب الجزء الأول من كتاب (النجوم الزاهرة)، وضعت للمؤرخ ثلاث تراجم نقلا عن القدماء. الأولى من وضع تلميذة أحمد بن حسين التركماني المعروف بالمرجى، والثانية عن الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للسخاوي، والثالثة عن شذرات الذهب لأبن العماد الحنبلي وهو عن ذلك العصر وقد جاء في الأولى:
(هو يوسف بن تغري بردى الأمير جمال أبو المحاسن بن الأمير الكبير سيف الدين تغي بردى اليشبغاوي الظاهري أتابك العساكر تل مصرية ثم كافل الممالك الشامية).
وجاء في الثانية:
(يوسف بن تغري بردى الأمير جمال أبو المحاسن الأتابكي بالديار المصرية ثم نائب الشام اليشبغاوي الظاهري الحنفي)
وجاء تغري الثالثة:
(جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن الأمير الكبير سيف الدين تغري بردى).
فيفهم من هذا أن والده كان أميراً معروفاً من كبار أمراء الدولتا المصرية، والمطلع، على تاريخه يستخلص منه أنه شغل أعلى وظائف الدولة، من يوم أن عين على رأس نوبة الجمدارية ثم نقل منها إلى نيابة حلب، ثم على رتبة أمير مائة فأمير مجلس فأمير سلاح ومنها عين واليا أو نائبا للسلطنة في دمشق، ثم رفع إلى رتبة الاتابكية ومات وهو على نيابة السلطة بالشام.
وأسم (تغري يردي) عريق في تركيبته. ومعناها (الله أعطى) أو (عطية الله) وهو مأخوذ(916/15)
من طاتري فيردى.
وقول المؤرخين الظهري نسبة إلى أستاذة العظيم الملك الظاهري برقوق.
وجاء في الضوء اللامع نقلا عن ابن خطيب الناصري أنه (كان عنده عقل وحياء وسكون) ثم ذكر السخاوي أنه نظم إلى الأمير ايتمش) في خروجه بالشام، وأرجع أنه انظم إليه بحكم الجنسية التركية على رغم قرابته لبيت الظاهر برقوق.
ولقد دهشت لما قرأت في ترجمة ابنه صاحب النهل الصافي والنجوم الزاهرة، وفي كتاب الإفرنج والمشتغلين التاريخ الإسلامي من المتأخرين، تفسيرهم لكلمة الرومي باليوناني.
1 - فقد ورد في كتاب تاريخ المماليك لسير وليم موير في مقدمة المؤلف صفحة 7 ما يأتي:
(أما أبو المحاسن فقد عاش بعد المقريزي ثلاثين سنة وهو ابن الأمير تغري بردى الذي كان مملوكا يونانيا للسلطان برقوق)
2 - وذكر الأستاذ أنور زقلمة في كتابه عن تاريخ المماليك (أن الأمير تغزى بردي كان مملوكا يونانيا)
3 - كما جاء في الصفحة 26من كتاب الدكتور محمد مصطفى زيادة عن مؤرخي القرن الخامس عشر عند كلامه عن صاحب النجوم الزاهرة لفظ يوناني بين قوسين.
وتكلم عن بعض سلاطين دولة الأمراء الجر الجراكسة في محاضرة له بجمعية الدراسات التاريخية فنسب بعضهم إلى لا أصل يوناني.
وتحميل لفظ الرومي على أنه يوناني لا يتفق مع ما هو متداول في ذلك العصر لأن أرض الروم هي آسيا الصغرى، وكان يطلق على سلطان المسلمين هناك ملك الروم، هكذا ورد في أيام السلاجقة وآل عثمان.
ويظهر لنا جليا أن آسيا الصغرى كانت منذ القدم موطنا للشعوب الأسيوية لا الروم، وفي العهود التي عاش فيها تغري بردى، كانت آهلة بالعناصر التركية والتركمانية، حتى قبل مجيء العثمانيون واستيلائهم على ربوعها وأقطارها، وكان يطلق على المسلمين من سكانها أهل الروم وهم ليسوا بروم، وإلا كان جلال الدين الرومي بمجرد نسبته يونانيا، وآباؤنا وأجداده في أواسط آسيا ومكانته في الشعر الصوفي وأثره في العالم معروفان.(916/16)
أما تغري بردى فيكفي استعراض تاريخه واسمه للحكم على تركيته الصافية، ولا صلة له بالإغريق واليونان.
ويظهر من نتبع أحواله أنه كان على صلة وثيقة بالملك الظاهر برقوق، لأن المؤرخين ذكروا أن برقوق تروج الأميرة شيرين الطويلة الرومية، وهي ابنة عم تغري بردى، وقد ولدت له والده الذي أسماه (بلغق) ومعناه كما فهمت بالتركية (فتنة) ويظهر أنه ولد في إبان محنة ألمت بوالده فلما زالت اسماه (فرجاً) بالعربية وهو الذي تولى السلطنة بعده تحت اسم السلطان فرج.
وقد صاهر السلطان فرج ابن عم والدته أي الأمير تغري بردى على ابنته الكبرى، أما بناته الأخر فقد صاهره عليهن الأمير آقبغا التمرازي الذي جمع بين الأتاكية ونيابة السلطنة، وصاهره الأمير يشبك بن أزدمر الظاهري على إحدى بناته الصغار، والذي وصل إلينا عن زوجاته اثنتان.
الأولى ابنة الأمير تمر باي الحسني الذي تولى نيابة سيس ثم حجوبته الحجاب وتوفي 792 والثانية ابنة الملك المنصور ناصر الدين أبي المعالي محمد بن حاجي الناصر محمد حاجي بن ناصر المنصور قلاوون.
فأنت ترى علاقات المصاهرة والقوابة والنسب بين الأتابكي تغري بردى وكبار البيوتات التي في عصره، لتحكم على منزلته العالية وأن مكانته في الصفوف الأمامية، ولا يمكن أن تسلم أتابكية العساكر الإسلامية لمن يكن في أرومته، والكلام عنه لا ينفي أن تذكر كلمة عن ابنة عمه الأميرة شيرين زوجة السلطان برقوق، وهي التي اشتهرت بجمالها وعنفتها وكانت الخوند الكبرى في عصرها ولذلك أسكنها السلطان قاعة العواميد بقلعة مصر، كما اتفق أصحاب السير على أنها سارت في حياتها سيرة محمودة مقترنة بالحشمة والرياسة والكرم مع التواضع الزائد والخير والتمسك بالدين، وهي ذكرى تعلمنا الكثيرة عن طيب عنصر أصلها وأصل الأمير تغري بردى والد صاحب النجوم الزاهرة.
ولا يشبع الباحث من سيرة هذه الأميرة الجليلة، بل أن الحديث عن مآثرها وأياديها على الفقراء وما قامت به من أعمال البر وتجديد الرباطات على طريق مكة وما وقفته من الأوقاف وما أصلحته من المباني، طويلا لا يتسع له المجال.(916/17)
أما تشعب عائلته بردي واتصالها بالناس فأمر طويل يحتاج إلى تابعها وقيد الكثير من السير في مختلف المراجع، وأهمها الضوء اللامع إليَّ أرخ لبعض أفراد العائلة حتى عهد قايتاباني إذ ذكر محمد بن سنقر القادري ابن عمة أبي أخت المؤرخ.
ويظهر من كلام الشخاوي أن جاع السلطان برقوق بالصاغة يحتوي على رفات عدد من أولاده وأحفاده غير أولئك الذين دفنوا بمدرسته المشهورة بالصحراء بجوار تربته: كما تبين لنا صلة بيت برقوق بعائلته تغري بردى وإن كانت أسرة برقوق تنحدر من أصل جركسي عريق والثانية من أصل تركي في آسيا الصغرى.
والذي أقلقني في ترمة الأمير سيف الدين تغري بردى النسمة الآتية التي جاءت على ثلاثة أوجه: اليشغاوي الكمشبغاوي والقشبغاوي.
والذي أعرفه أنه لم يرد تحت كمش بغا ومعناها (الثور الفضي) غير الأمير سيف الدين يعقوب شاه الكمشبغاوي الظاهري وترجمته في المنهل الصافي وكان أمير ألف وقتل سنة 802 كما له ترجمة في الضوء اللامع وكان تركي الأصل مقداما جميل الصورة، حسن القامة، انظم إلى (ايتمش) وآل أمره إلى أن قتل بقلمه دمشق، أي بعد أن نظم إلى الحزب الذي كان فيه تغري بردى ولولا علاقة الأخيرة بالبيت المالك لكان نصيبه هذا الأمير أي القتل. ولذا استبعد موضوع النسبة إلى كمشبغا هذا. ولكن ابن الفرات الذي استعمل أولا لفظ كمشبغا عاد فاستعمل لفظ قشبغا وإليك النصوص:
عند خروج السلطان برقوق إلى الريدانية ترك بالقلعة من مماليكه نحو الستمائة مملوك عندهم الأمير تغري بردى من كمشبغا رأس نوبة. صفحة 249 جزء 8.
أنعم الملك الظاهر على الأمير على تغري بردى من قشبغا ص 306 أحد أمراء الطلبخانات بتقدمه ألف.
جاءت الأخبار في ذي الحجة سنة196 إلى الديار المصرية الظاهر خلع على الأمير سيف الدين تغري بردى من قشبغا واستقر في السلطنة بحلب عوضا عن الأمير سيف الدين الكمشبغاوي صفحة 378 جزء.
فاشترك الأميرين الكبيرين تحت اسم سيف الدين جعل المؤرخين يخلطون بينهما وينسبون كلا منهما إلى أنه الكمبشغاوي.(916/18)
ويستمر ابن الفرات على الأمير سيف الدين نوروزز الحافظي واستقر رأس نوبة صفير ثاني عوضا عن الأمير سيف الدين تغري بردى من قشبغا.
وإلى أن نجد اسم كمش بغا الذي نسب إليه أو يشبعا تبقي هذه الشخصية غامضة.
أحمد رمزي
المدير العام
لمصلحة الاقتصاد الدولي(916/19)
الفارابي في الشرق والغرب
ومكانته في الفلسفة الإسلامية
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
بقيت هذه التهمة الشنعاء التي ألصقت بابن سيناء؛ فإن الناقدين يرتابون في صحتها وينزهون ابن سينا عنها. والظاهرة أنها من نسيج خصومه وحساده، وقد علق على الخير ناقله وأظنه صاحب أبجد العلوم - بأنه بهتان وإفك لأن الشيخ مر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح به في نعض رسائله، وأيضا يفهم في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني. وعلق الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بأن في هذا الخير خطأ تاريخيا؛ فإن منصور ابن نوح الساماني إنما ولى أمر خرسان بعد سنة 343 هـ بعد موت الفارابي درس في بغداد وعاش في سورية وزار مصر ولم يعرف أنه أقام في أصفهان وشرق المملكة الإسلامية بعد نبوغه وتألق نجمه في الفلسفة وإن قال العقاد في رسالته عن الفارابي (على أنه يبدو من كتاب الموسيقى أن فيلسوفنا جاس أيضاً خلال خراسان قبل أن يهبط العراق) فإن الظاهر أن ذلك قبل بزوغ شمس الفلسفة. أما ما رواه البيهقي ونقله عنه الشهرزوري من أن الفارابي ذهب إلى الري استقدمه إليها كافي الكفاة الصاحب بن عباد وبعث إليه هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئاً حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء وسخ وقلنسوة بلقاء ودخل مجلس الصاحب متنكراً وكان المجلس غاصاً بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس وهو يحتمي أذى الأيدي وبغضى على قذى الأذى والاستهزاء حتى اطمأنت أنفسهم لمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهراً واستخرج لحناً مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد كالذي يغشى عليه من الموت وكتب على البربط زاركم أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم، ثم خرج من الري متنكراً مع رفقة متوجهاً إلى بغداد) فهذه(916/20)
الأقصوصة إن صحت فإنها تدل على أنه لم يمكث في تلك الجهات مكث تأليف وكتابه، وقد علق العقاد في رسالته عن الفارابي - على القصة بأن ابن خلكان يروي قصة قريبة من هذه على أنها حدثت بين الفارابي وسيف الدولة، ثم قال ولا شبهة لدينا في أن قصة البيهقي أسطورة تمثل خيال الكاتب وفنه دون أن تمت إلى الحقيقة بنسب، ودليلنا على هذا أن الصاحب إسماعيل بن عباد ولد سنة 306هـ فهو عند موت الفارابي في سنة 339هـ كان صبياً صغيراً ولم يكن له بعد مجلس يضم الندامى والظرفاء.
وجاء الأستاذ (أبو ريده) من جامعة فؤاد الأول بمصر معلنا ارتيابه وشكه في صحة هذه الطعنة النجلاء الموجهة من خصوم ابن سينا إلى مقامه الجليل - فقال ولا شك أن ما يقوله حاجي خليفة كلام ينبغي أن نتلقاه بالتردد والحذر
وقد نقل القصة السابقة أيضاً المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962هـ على الصورة التالية إذ قال (ج1 ص241) في مفتاح السعادة -: إن أرسطو يعد ما دون المنطق صارت كتبه مخزونة في أثنه (أثينا) من ولاية موره (شبه جزيرة الموره من بلاد اليونان) من بلاد الروم عند ملك من ملوك اليونان، ولما رغب الخليفة في علوم الأوائل أرسل المأمون إلى الملك المذكور وطلب الكتب فلم يرسلها فغضب المأمون وجمع العساكر وبلغ الخبر الملك فجمع البطاريق والرهابين وشاورهم في الأمر فقالوا إن أردت الكسر في دين المسلمين زلزلة عقائدهم فلا تمنعهم عن الكتب. فاستحسن الملك ذلك وأرسلها إلى المأمون فجمع المأمون مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة وغيرهما وترجموها بتراجم متخالفة لا توافق ترجمة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت التراجم غير محررة إلى أن التمس منصور بن نوح الساماني من أبي نصر الفارابي أن يحررها ويلخصها ففعل كما أراد ولهذا لقب بالمعلم الثاني وكانت كتبه في خزانة الكتب المبنية بأصبهان المسماة بصوان الحكمة إلى زمان السلطان مسعود، لكن كانت غير مبيضة لأن الفارابي كان غير ملتفت إلى جمع التصانيف ونشرها بل غلب عليه السياحة. ثم إن الشيخ أبا علي تقرب عند السلطان مسعود بسبب الطب حتى استوزره واستولى على تلك الخزانة وأخذ ما في تلك الكتب ولخص منها كتاب الشفاء وغير ذلك من تصانيفه. وقد اتفق أن احترقت تلك الكتب فاتهم من يتعصب على أبي علي بأنه أحرقها لينقطع انتساب تلك(916/21)
العلوم على أربابها ويختص بنفسه، لكن هذا الكلام للحساد الذين ليس لهم هاد. . انتهى كلام طاش كبرى زاده وقد اختتمه بارتيابه في هذه التهمة أعنى إحراق ابن سينا للمكتبة ليحتكر علومها ولم ينفِ أخذ ابن سينا من كتاب التعليم الثاني. قال العقاد في رسالته عن الفارابي، أما طاشكبرى زاده فلا يصدق هذه الرواية ويقرر أن منشأها حسد الحاسدين لأبي علي وينفى حاج خليفة أيضاً عن ابن سينا تهمة حرق الخزانة لأن الشيخ أي ابن سينا مقر بأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح في بعض رسائله؛ وأيضاً يفهم من مواضع في كتابه الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني.
يقول العقاد وفي الحق أن ابن سينا إلى نوح بن منصور وطببه واستأذنه في الاطلاع على دار كتبه فأذن له. وابن سينا يصرح أيضاً بأنه كان يقرأ كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو دون أن يفهم ما فيه حتى ألقت المقادير بين يديه كتاب الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فاستطاع حين ذاك أن يفهم كتاب أرسطو. وهو يصرح أيضاً في كتاب الشفاء بأنه يلخص آراء القدماء. ولكنا مع هذا نجد في رواتبي مفتاح السعادة وكشف الظنون كثيراً من الأغلاط؛ فمنصور بن نوح لم يكن ملكاً قبل سنة 350هـ أي بعد وفاة الفارابي بإحدى عشرة سنة ولم يكن السلطان مسعود من أحفاده ولم يستوزر ابن سينا وإنما استوزره شمس الدولة في همذان، ولم تكن خزانة الكتب في أصفهان وإنما كانت في بخاري. ومما يرجع الشك في صحة هذه الرواية أيضاً أننا لا نجد عند المؤرخين المتقدمين كتاباً للفارابي باسم التعليم الثاني.
والذي يهمنا من كل ما تقدم هو الحقيقة الثابتة التالية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي أن ابن سينا تخرج بكتب الفارابي والظاهر أن آثار المعلم الثاني بقيت المعين الصافي الذي ورد منه جمع غفير من رواد الفلسفة، فقد جاء في كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) عرض لأثر الفارابي في رواد المعرفة في الأجيال الإسلامية، قال المؤلفان فيه (وهناك تلاميذ آخرون اهتدوا بهدى الفارابي واستمسكوا بتعاليمه دون أن يروه أو يعاصروه وعلى رأس هؤلاء الأستاذ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 1037م.
ولا غرابة فابن سينا نفسه يعترف بتأثره به وفضله عليه ولقد بلغ من تعلقه بنظرياته أن(916/22)
بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذاً وسلطاناً لم تنله على يد واضعها ومبتكرها، ولئن كان للفارابي فضل السبق فلتلميذة فضل البيان والإيضاح الإسلامية) في القسم الثاني الباحث عن الإمبراطورية الإسلامية وانحلالها لم يرض أن يقصر ما دونه ابن سينا على مهمة البيان والإيضاح لأفكار الفارابي بل أعطى كتاباته من المكانة العليا ما سوق دفعه لأن يدعى وجرفت مؤلفات الفارابي من سوق الفكري فقال (ولم تقتصر الحركة الفكرية في بلاط سيف الدولة على الشعر والأدب بل عدتهما إلى العلم أيضاً بروح ملؤها التفهم والإدراك فلمع في سمائه أحد تلامذة أرسطو الكبار أبو نصر الفارابي التركي الأصل الذي أتم دروسه في بغداد. ومع أن مؤلفات ابن سينا استطاعت أن تخطى بسلطان دائم في العالم الإسلامي فالواقع أن هذا الرجل (الفارابي) ليمثل بوصفه أحد تلامذة الفلسفة اليونانية الأكثر استقلالا - ظاهرة بارزة جدا في تاريخ الحضارة الإسلامية) ولا ننكر أن انسحار ابن سينا بآراء الفارابي واجتدابها له خلفا أثراً شيئاً على مؤلفات الفارابي إذ أن ابن سينا شرح أفكار الفارابي بإسهاب وعرضها للناس بثوب جذاب ومظهر أخاذ فأدى ذلك إلى نسيان الناس مؤلفات الفارابي نفسها وانذاهالهم عنها بما كتبه ابن سينا حتى قال العقاد في رسالته عن الفارابي أن جاء بعده الرئيس ابن سينا أو الشيخ الرئيس وتألق نجمه في ميدان الفلسفة كما سطع في سماء السياسة وأفاض الشيخ الرئيس في التأليف وصنف كتباً مطولة اشتملت على مذهب الفارابي في الفلسفة، وأعنت الناس عن رسائل الفارابي الموجزة وألقت على تاريخه ظلالا من النسيان)
وقد قدمت أن ابن سينا ولد بعد وفاة الفارابي ب 31 عاماً ولكن من الغريب أني وجدت في (الوافي بالوفيات) يقول مؤلفة صلاح الدين بن أبيك الصفدى قال ابن سينا (سافرت في طلب الشيخ أبي نصر وما وجدته وليتني وجدته فكانت حصلت فادة) وإني أعلق على هذا الخبر الذي أرتاب في صحته بأن ابن سينا تعلم الفلسفة وهو شاب يافع فقد كان عمره حين تعلمها حوالي الستة عشر عاماً؟ قال الأستاذ محمد لطفي في (تاريخ فلاسفة الإسلام) ولم يبلغ أبو على - السادسة أو السابعة عشرة من عمره حتى طبقت شهرته الخافقين لخدمة في الطب، وقد دعاء نوح بن منصور أمير بخاري لعيادته في مرض ألم به وأعيا حيل(916/23)
الأطباء فعالجه إلى أن عوفي فانبسط له وأسبغ عليه ذيل الرضى وأسبل عليه ثوب النعمة وفتح له خزانة كتبه فوجد بها الطبيب الحكيم خير مجال لرغبة الدرس وأرحب ميدان لطلب العلم واستقى من تلك الينابيع العذبة ما شاء إقباله عليها. وقد حدث أن احترقت خزانة الكتب فإنهم ابن سينا بأنه حرقها رغبة في أن يتفرد بما وعته من الحكمة وخشية أن ينتفع بما حوته سواه. وقد مات الأمير نوح بعد ذلك بقليل عام 387 هـ وفي هذا العهد كان قد مضى على وفاة الفارابي حوالي (48) عاماً فكيف يسعى ابن سينا للقيا؟ وهل موت الفارابي حادثة طفيفة يتوقع أن لا تصل إلى مسامع ابن سينا وهو عاشق الفلسفة لدؤوب لتحصيلها؟ ومع ذلك فإننا لا تنغلق باب الاحتمال ونجوز صدق الرواية ولا نكذب احتمال عدم اطلاع ابن سينا على وفاة الفارابي الأمر، الذي حمله على أن يعقد عزمه على الاتصال به؛ ذلك لأن ابن سينا في هذا العهد كان يعيش في شرقي البلاد الإسلامية في بخاري، أما الفارابي فقد توفي في دمشق، فإذا أضفنا إلى بعد المسافة تقطع الأسفار لوعورة الطرق ووحشتها مضافاً إلى ذلك أنه لم يكن الفارابي الفيلسوف المتصوف المنقطع عن الناس بذائع الصيت حينئذ - كل ذلك مما يجوز صدق أقصوصة عزم ابن سينا على الاستمتاع بفضل الفارابي عن كثب وسفره في طلب الشيخ العميق التفكير والقصة على كل حال وحتى مع تقدير كذبها تدل على سمو مكانه الفارابي في أذهان المؤلفين في تلك العصور فهم ينقلون خبر عزم ابن سينا على شد الرحال أو قيامه بالسفر حقيقة للاستفادة من علمه ولا يجدون في ذلك غرابة؛ بل إن فضل الفارابي في رأيهم يستحق أن يقصده رواد العلم من أمثال ابن سينا من أقاصي البلاد فضلاً عن أدناها.
للكلام بقية
ضياء الدخيلي(916/24)
بمناسبة المولد النبوي:
نشأة البديعيات في مدح الرسول
للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي
لم ينعم نبي في أمته بمثل ما نعم به صلى الله عليه وسلم. ولم ينل نبي من الرضا عنه والثناء ما ناله النبي الأعظم من الثناء والإجلال، وليس ذلك بعجيب أو مستعظم بعد أن سجل الله له ذلك في محكم كتابه (وإنك لعلي خلق عظيم).
ومدائح النبي الأعظم لا يحصيها عُد ولا يشتملها كتاب فرد كائناً ما كان: وقد حاول العلامة الشيخ يوسف النبهاني أن يحصيها في كتابه (المدائح النبوية) - فجر - مشكوراً - عن إدراك غايته.
ولو تتبعنا فن (مديح الرسول الأعظم) منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا لوجدناه نوعين: مديح تقيد فيه ناظموه ببحر معين وقافية خاصة ونمط مصطلح عليه. وقد سمى النوع الأول (البديعيات) أما النوع الثاني فهو من (المدائح النبوية) العامة.
ولو تتبعنا تاريخ (البديعيات) لوجدناها كلها نوعاً واحداً. التزم فيها ناظموها بحر (البسيط) وقافية (الميم) واشترطوا في كل بيت من أبياتها محسناً من المحسنات البديعية المعروفة على عهدهم، وقصدوا بذلك تطريز هذا الصنف من المدائح بجميع الصور البلاغية.
ولعل أول بديعية استكملت هذه الشروط كلها (بديعية صفي الدين الحلي) المتوفى عام 750هـ. وقد استهلها بقوله:
إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... وافر السلام على عرب بذي سلم
فقد ضمنت وجود الدمع من عدم ... لهم ولم أستطع من ذاك منع دمى
وهي بديعية طويلة تقع في مائة وخمسة وأربعين بيتاً.
ومن ثم جرى الشعراء على منواله منذ القرن الثامن وهم لا يزالون كذلك إلى اليوم الذي أنشأ فيه أمير الشعراء أحمد شوقي بك (بديعية نهج البردة) التي أولها:
ريم على القاع بين البان والعم ... أحل سفك دمى في الأشهر الحرم
فكل ما قيل في مدح الرسول - منذ القرن الثامن إلى اليوم - من قصائد منظومة في هذا البحر والقافية، يسمى (البديعيات) وواحدتها (بديعية). ولعلهم لم يختاروا لها هذا الاسم إلا(916/25)
لاستخدام المحسنات البديعية في كل بيت من أبياتها.
فكيف نشأت البديعيات في تاريخ الأدب؟ الحق أن صفي الدين الحلي لم يكن أمة وحده في اختراع (البديعيات) وإن كان له فضل اختراع النسمية واشترط قافية الميم واصطناع البديع فيها.
ولو أنك استعرضت معي المدائح النبوية كلها لرأيت الجذور الأولى للبديعيات واضحة في جميع المدائح النبوية القديمة التي نظمها أصحابها من بحر البسيط.
ولعل (قصيدة كعب بن زهير) المتوفى عام 26هـ هي أول قصيدة كلاسيكية من هذا النوع أنشدها صاحبها وبين يدي الرسول الأعظم.
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يجز مكبول
وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
وفي القرن الخامس نظم العارف بالله عبد الرحيم بن أحمد البرعي اليمني المتوفى عام 480هـ قصيدة من هذا النوع أولها:
خل الغرام لصب دمعه دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه
وامنح له بعلاقات علقن به ... لو اطلعت عليه كنت ترحمه
واختتمها بقوله مصلياً:
عليك منى صلاة أكملها ... يا ما جداً عمت الدارين أنعمه
تبدي عبيراً ومسكا صوب عارضها ... ويبدأ الذكر ذاكرها ويختمه
ما رنح الريح أغصان الأراك وما ... حامت على أبرق الحنان حومه
وينثني فيعم الآل جانبه ... بكل عارض فضل فاض مسجمه
وفي القرن السادس نظم جمال الدين بن يحيى الصرصري المتوفى 656هـ قصيدته، ولو تأملتها لوجدتها عين ما قاله البرعي بحراً وقافية وروبا وافتتاحاً واختتاماً. وقد أثبت المنهج العلمي بعد البحث والاستقراء أنه عارضه بها، حيث افتتحها بما اختتم به البرعي قصيدته:
أغرب المحب بذات الستر لومه ... فبان سر غرام كان يكتمه
أني يلام على التذكار ذو شغف ... متيم بسهام القلب مغرمه
واختتمها بما اختتم بها البرعي قصيدته:(916/26)
عليك مني صلاة الله أطيبها ... ومن سلام إله العرش أدومه
وعم بالفضل من واساك في عسر ... وذب عنك غداة الروح مخدمه
من آلك الغر والأصحاب إنهم ... أفلاك دين الهدى فينا وأنجمه
ومن تلاهم بإحسان فأنت له ... ذخراً بجاهك رب العرش يرحمه
فلما كان أواخر القرن السابع نظم الإمام شرف الدين محمد ابن سعيد الضنهاجي الدلاصي المشهور البوصيري المتوفي عام 694 هـ قصيدة الخالدة المشهورة باسم (البردة) فلم يزد على ما سبقه إليه كعب بن زهير والربعي والصرصري سوى (قافية الميم) كما ترى:
أمن تذكر جيران بذي يلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاه كاضمة ... وأومض البرق في الظلماء من إضم
وقد كان لسقوط بغداد في منتصف هذا القرن (عام 656هـ هزة عنيفة، كانت من أكبر الهزات التي انتابت جوانب الإسلام فكان لها أكبر الأثر في الحياة الأدبية. والنفوس دائماً تأبى إلا أن تنتهي إلى قوة قادرة مدبرة تدبرها وتدير شؤونها وترعى حقوقها. وهي لم ترضى في ذلك العصر بهذا الفاتح الغاشم ولا بهذا السلطان الجديد - التتار - الذي كان مخالفاً للكثير من تعاليم الإسلام وتقاليد الراسخة في النفوس المظلومة على أمرها من أن تسلك دوراً جديداً، يحقق لها معاني الاتزان النفسي، وليس لتلك النفوس بد من أن تجدد عهودها مع القوة الروحية القديمة لتأنس إليها وتستمد منها قواها الدنيوبة وآمالها الأخروبة.
وهكذا كان هذا الأثر أسبق إلى نفوس الشعراء قبل غيرهم، وهم أولى الناس بإظهار أحاسيسهم وإبداء عواطفهم والتعبير عن مشاعرهم المرهفة القوية. ولم يكن هناك بد من أن يهرعوا إلى مدح المصلح الأول فنظم الصرصري (656هـ) والوتري (662هـ) والبوصري (694هـ) والعزاوي (710هـ) مدائحهم الخالدة. فلما جاء الشعراء من بعدهم نسجوا على منوالهم قصائد تشبهها في الوزن والقافية مراعاة لهذا التقليد الكريم.
ثم جاء صفي الدين الحلي في منتصف الحلي في منتصف القرن الثامن ودفعه ما في (بردة البوصري) من محسنات بديعية أن يجعل قصيدته ذاخرة بالبديع فسمى ما نظمه (بديعة) واختار لها هذا الإسم، فأصبح علماً تقليدا على القصيدة ينظمها صاحبها في مدح الرسول الأعظم مجتذباً الوزن والقافية والمحسنات البديعة.(916/27)
حامد حفتي داود الجرجاوي
دبلوم معهد الدراسات العليا
وأستاذ العربية والتربية بمدرسته الراقية بباب اللوق(916/28)
أنطون الجميل باشا
بمناسبة الذكرى الثالثة لوفاة
للأستاذ منصور جاب الله
كانت المرزأة في المغفور الأستاذ أنطوان الجميل باشا أليمة، إذ قضى نحبه فجر اليوم الثالث عشر من يناير علم1948 ولم يكن بين منصرفه من عمله ووجيعته إلا ساعة وعض ساعة، ولم يكن بين وجيعته واحتضاره إلا دقيقة وبعض دقيقة، وكذلك لم يشأ القدر لهذا الرجل المتزن الرزين العامل الناصب أن يشكو دنفاً أو يضيق به أحد من أهله ومريديه، فمضى في صمت إلى دنيا غير هذه الدنيا، ووجد الله فلقاه حسابه.
ولقد وصف أنطوان الجميل في حياته وبعد موته بأنه رجل رزين متزن، واللذين لم تكن لهم خلطة بالفقيد يحسبون أن رزانة الرجل إنما كانت مصروفة في زم اللسان والهدوء، فلا يتكلم إلا بمقدار، وأنه تجوز به الأحداث الجسام فلا يتحرك لها ولا ينبض ل عرق وما هكذا كان أنطوان الجميل الذي عرفنا وسعدنا بعشرته وتتلذنا عليه، وإني لأشهد أني عرفت منه رجلا ثائراً لا يهدأ إلا على مضض، ويهدر كالفجل إذا مست كرامته أو نال أحد من نزاهته , وسيأتي الكلام بعد عن موقفه من أحد رؤساء الوزارة ليدرك الناس أي رجل كان هذا الرجل بين الرجال.
ولقد كان فقيدنا أديبا رقيقا قبل أن يكون صحفيا بعيد الصوت والشهرة، والذين علت بهم السن من أمثال كاتب هذه السطور يدركون المكانة الأدبية التي كانت عيها مجلة (الزهور) لمنشئتها (أنطوان أفندي الجميل) كما كان يدعي في ذياك الحين.
ولعل أشهر كتبه وأخطاها عند القارئ كتابه عن شوقي، فقد كان الجميل أثير عند أمير الشعراء، وكان من جلساته الذين يأنس بهم ويصطفيهم، إذ كان بالرجل وحشة فلا يأنس بكثير من الأناسي، وإنما خلاله وجه صديق أو صديقين كما حدثنا بذلك فقيد البيان المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري.
وكان له باع في الترجمة من الفرنسية خاصة إلى اللغة العربية ومنذ ثلاثين عاما نقل إلى العربية كتاب (الفتاة والبيت) ووضع له مقدمة شيخ الشعراء المغفور له إسماعيل صبري باشا، وكتب مؤخرته شيخ الأدباء السيد مصطفى لطفي المنفلوطي وعرفت وزارة المعارف(916/29)
لهذا الكتاب قدرته لمدارس البنات.
والأدب عند أنطوان الجميل غاية لا وسيلة فما كان يدور بخلده يوما من الأيام أن يتكسب منه، وكذلك أن يكون من الأيام أن يتكسب منه، وكذلك قنع أن يكون مترجما في وزارة المالية لقاء أجر صغير، ثم سما به المنصب حتى استقال من خدمة الحكومة وهو (سكرتيرة) للجنة المالية.
ولتركه خدمة الحكومة قصة طريفة لا بأس من إيرادها فقد قصها علينا بنفسه في مجلس المونقة إذ غدا عليه ضحى يوم من الأيام المغفور له جبريل تقلا باشا وطلب إليه أن يستقبل من وزارة المالية ليعمل لتحرير صحيفة الأهرام خلفا للمرحوم داود بركات. فأجاب الجميل. وأبن أنا من داود بركات؟ دعني في عملي هذا ولا تحاول أن (تكشفني) ولا تفضحني بين! ودام الجدل بينها ساعة وبعض ساعة بغير إقناع ولا اقتناع، وإذ سقط في يد تقلا باشا قال لصاحبه؛ اعطني ورقة بيضاء. ثم مضى يكتب فيها شيئا لم يتبينه أنطوان، وبعدئذ استأذنه في الانصراف فلما سأله عن غايته أجاب بأنه يريد لقاء وزير الملية، وألحف عليه في الرجاء عن الغاية التي يريد من أجلها لقيا الوزير، فأجاب تقلا في انفعال شديد أريد أن أقدم إليه استقالة (أنطوان بك الجميل) فذعر أنطوان بك وقال لصاحبه بقوله: لقد كتبت الاستقالة ووقعتها باسم (أنطوان) الجميل وسأرفعها بنفسي إلى الوزير، وما عليك إلا أن تطعن بالتزوير وتطلب محاكمي لأني مزور!.
وبكى عندها أنطوان الجميل كما لم يبك في حياته ومضى مع صاحبه إلى الوزير المالية حيث رفع إليه استقالته ليتولى من غده العمل في الصحافة حتى أودت به الصحافة!.
والحق أن أنطوان الجميل سما بالصحافة وأحدث بها تقاليد بقيت ما بقى حيا، فلما انتقل إلى الدار الآخرة انتقلت معه - وا أسفاه - إلى الدار الآخرة!.
ومن هذه التقاليد إلا نتعرض صحيفة لما كتبه صحيفة أخرى بالتكذيب أو التنفيد، وأن ينشر الخبر على علاته دون تذييل أو تعليق وللقارئ أن يفهم منه ما يشاء، وأن تقدم لمصلحة العامة على السبق الصحفي فما يضير الصحيفة المتزنة التي تحترم نفسها أن تروج يوما وتبور يوما مادامت المصلحة العامة لم تمس في قليل ولا كثير. وأذكر في هذا السبيل أني أزوره في ليلة من الليالي أزمة سياسية حادة وجئ له ببرقية مطولة أرسلها مراسل(916/30)
الصحيفة من لندن، فتصحفها طويلا، ثم ألقاها إلى قائلا: اقرأ، فلما أتممت تلاوتها سألني رأيي فيها فقلت (برقية خطيرة جدا) فسألني: أنرى من المصلحة نشرها؟ قلت: لا. فألقى بها جانبا ولم تنشر، وعلمت فيما بعد أن نفقات هذه البرقية جاوزت مئة جنيه، وأنها لو نشرت لكان لها شأن أي شأن.
ومن هذه التقاليد ألا تستغني صحيفة من الصحف عن محور يعمل بها وإن أمسك عن العمل أياما فقد يكون له عذر، ولكن هذه التقاليد جميعاً صارت مع الحسرة والألم في خير كان!
واختير أنطون الجميل عضوا في المجمع اللغوي، فتهيب الاختيار بادئ الرأي، ثم لم يلبث أن خب في أعمال المجمع ووضع، وكان من أشد الأعضاء مواظبة ومن أشدهم جلداً على العمل وأكثرهم إنجازاً لما يطلب منه.
ولما عين عضواً لمجلس الشيوخ رأى فيه أعضاء (المجلس الأعلى) لونا جديداً من البرلمانيين، فهو رجل لا يسف ولا يهاتر ولا يعمد إلى المناورة أو المداورة ثم هو يحلط الأدب بالسياسة فيرتل الشعر في أثناء مناقشة الاستجوابات والبحث في الميزانيات، يدعو الوزراء إلى التشبه بأبي الدوانيق أو أبي جعفر المنصور!
بيد أن أنطون الجميل لم يطق البقاء في مجلس الشيوخ زمنا طويلا، فقد رأى أن عمله البرلماني يتعارض وعمله الصحفي، وإذ تضارب العملان وتناقضا، كان لا مناص له من ترك أحدهما، ولو كان جبرائيل تقلا باشا حيا وقتئذ لترك العمل الصحفي غير آسف، ولكن صاحبه مات وترك الأمانة في يده، فلا مندوحة له من الاستقالة من الشيوخ، وارتج المجلس الأعلى لاستقالة الرجل وأبي عليه قبولها وبذل عنده الشفاعات والوساطات، وذهب إليه رئيس الشيوخ يسعى كي يعدل عن استقالته ورجاء - مع هذا - أن يريح نفسه فلا يحضر كل جلسة ولكن الرجل العظيم أبي هذا قائلا: أما أن أؤدي العمل على وجهه وإما أن أدعه لغيري.
وأنعم عليه بالباشوية إثر استقالته من مجلس الشيوخ، قال خصومه أنه استقال لينعم عليه بالباشوية وأحدث هذا القول موجدة في نفسه، وأحسب أنه حدثني في ذلك فقلت له: لا عليك من كلام الناس. فلو لم يكن رجلا ذا شأن ما تحدث عنك أحد!(916/31)
أما الموقف الذي أذكره له مع أحد رؤساء الوزارة، فقد مضى عليه أكثر من عشر سنين، وغيب الذين شهدوه في عالم غير هذا العالم، ونحن اليوم في حل من إيراده بشيء من الإيجاز
فقد جاء أحد (المخبرين) لأنطون (بك) الجميل بنبأ في شهر سبتمبر عام 1940 مؤداه أن الجيش الإيطالي اقتحم الحدود المصرية من جهة الغرب، وتريث الجميل كعادته، فلم يشأ نشر الخبر لوقته وإنما أرجاه يوما أو يومين، ثم عرضه على وزير الحربية، وأجازته الرقابة فنشره، وإذ بصر به رئيس الوزارة حينئذ - وهو المغفور له حسن صبري باشا - هاج هائجه ونسى الصداقة الوثيقة التي تربطه بأنطوان الجميل وكتب بلاغا (رسميا) قاسى اللهجة لاذع الأسلوب يرمى فيه كاتب الخبر بالتزيد وإثارة الخواطر.
ولم يفعل أنطون الجميل شيئاً إزاء هذا التحدي إلا أن أشهد وزير الحربية على صحة الخبر، ثم بدأ تحديه لرئيس الوزارة فمنع نشر أبناء مقابلاته وحفلاته، وكان ينشر اجتماع مجلس الوزراء مجرداً من ذكر اسم رئيس الوزراء، ويطوف رئيس الحكومة في البلاد فلا يذكر عنه شيئاً، وتنشر صور الوزراء جميعاً وتحذف صورة كبيرهم!
وهكذا، وهكذا، حتى ضاق المغفور له حسن صبري باشا ذرعا، وبذل الوساطات والشفاعات لدى أنطون الجميل، حتى أنه أرسل إليه يقول: أرجو أن تشتمني في جريدتك وتقول في ما قال مالك في الخمر، أما أن تمهل ذكر اسني مرة واحدة فهذا ما لا طاقة لي باحتماله.
وتدخل المرحوم عبد الحميد سليمان في المصالحة، وشرط أنطون الجميل باشا أن يعد بنفسه بلاغا (رسميا) يدحض فيه البلاغ الأول، وكان، وأعاد أنطون الجميل نشر اسم حسن صبري باشا رئيس الوزارة بعد أن أهمله ثمانية عشر يوما!
ومات أنطون الجميل في حدود الخامسة والستين عزبا لم يتزوج، وقيل أنه كان مبخلا، أو هكذا رماه خصومه، وقال لنا واحد ممن تجمعه به آصرة القربى أنه خلف ثروة تتجاوز مئتي ألف جنيه، ولا نعلم مبلغ الصندوق في ذلك فقد كنا نعرف في أنطون الجميل أنه يعيش كما كان يعيش المتصوفة الأولى يأكل بمقدار ويشرب بمقدار، ولا لا يسرف، إنما يضيق عليها.(916/32)
وكان هذا سر احتفاظه بصحته، وسر احتفاظه باتزانه، ذلك الاتزان الذي جعله يوجه الطعنة النجلاء فلا يخطئ الهدف ويضرب الضربة فتصمي الخصوم.
ففي ذمة الأدب والصحافة، وفي ذمة التاريخ.
منصور جاب الله.(916/33)
لا يهم
للأستاذ ثروت أباظة
جلف غليظ النفس غليظ الجسم. . حقير ساقط الأصل ساقط التفكير. . ولكنه عظيم يجثو له من يراه، وينحني لمقدمة من يقدم عليه. . فهو غني واسع الغنى، وليس لمن يعرفونه عقل ذاكر يذكرهم ما كان عليه وما صار إليه. . هو غني، وهو ذو مكان وجاه، وهو يجرؤ فيمد إليه طرفا من عداوة. أو من يرمقه بنظرة لا ترضيه.
إن رأيته رأيت وجها كالحا تعاهدت قسمات الإجرام أن تتخذ منه مسكنا؛ وهي في هذا المسكن أو في هذا الوجه تنمو مع الزمن وتتكاثر، لا تترك البيت ولا تريم، تملأ النفس الحقيرة من الرائين رعبا وذا النفس الكبيرة احتقارا واشمئزازا. . . وما تلازم الرعب والحقارة في وجه قذر تلازمها في وجه ذلك الرجل. يعلو ذلك رأس خلا من الشعر حتى لا تكاد تبن جبهته من رأسه ولا أحب أن يثب من أنه أصيب بالصلع فإن تفكيره الإجرامي لم يكن من العمق بحيث يساقط الشعر كما يقول علماء الجلد من الأطباء. لم يكن صلعا ما بالرجل ولكنه مرض آخر أصابه وهو لم يزل بعد جرثومة لم تكبر لتصبح مرضاً. . وقد حاول بماله الدنس أن يتغلب على ما أروع الله في رأسه من شر. . كان المرض أشبه بالعنوان للكتاب المصادر من حكومة عادلة تحافظ على الآداب العامة هو يغطى رأسه بالطربوش إذا أصبح وبالأغطية الكثيفة إذا أمسى؛ ولكن الأغطية جميعاً عاجزة عن ستر ما يريد ستره.
هذا هو رأسه إن شئت أن تسمى هذا الشيء رأساً، ولا لك أن تعرف علام ركب هذا الرأس. . لنتجاوز العنق يبدو لي أنه لا يريد أن يبديه لعله يخفى بعض الشيء من رأسه الحقير، أيا كان الأمر ليس لهذا الشيء ولكن انبعاجاً ضخما شاء الله أن يكون جسماً فكان. والعجب أن هو الانبعاج يزداد في غير انتقاص وما يضنيه وصاحبه مجبول على الشر. . . إن ضايقه شخص قتله؛ وما ينقصه وصاحبه خلق وهو ضمير له.
تلك هي صورته اليوم فلندع القلم بقذف به ما وراء تلك السنين لندعه يقذف به إلى تلك الأيام التي كان لم يزل بها جرثومة صغيرة لم تصل بعد إلى تلك الخطورة التي صارت إليها. . . ماذا كان جربوع أجرب يلهث وراء حمار أبيه بعد أن خاب في كل شيء، في(916/34)
زار الوالد قريباً له بقيت الجرثومة خارج المنزل لا تجسر الاقتراب إلا ساحبة المطية ثم تنطلق فلفها فكان الركب ليس والدا وكأن اللاهث ليس ولده. . وكان الأقارب ذاك يألفون منه ويزورون عنه بجانبهم إذا أتيح له أن يراه وكان من في طوره أولاد عمومته يكادون لا يعرفون من أمره شيئاً وعرفوا فهو لهم لا يصلح لشيء إلا يعدوا وراء الحمار بتشديد تخفيف كما تشأ كان الغلام أولاد العم أو من بني قرابته يعني هذا إذا عرفه فيخفيه ولا ينبس بطرف منه إلى أحد فإذا للجرثومة حظ سعيد وذكرت في مجلس لهم فالفكر والاستنكار والهزء الذي ليس مثله هزؤ ثم يتعجل أحدهم فينقل موضوع الحديث قبل أن يدخل غريب فينكشف من أمر أسرتهم ما يرجون له الستر. لقد كان منذ ذلك اليوم لصاً في ذكره مجلبة للعار. فليس أبشع من سارق على شبع. لقد كان ذكره مفسدة للخلق، فترى الأمهات إذا ما ذكره أمامهن أحد الخدم قد رفعن أيديهن إلى أفواهن حذرا من أن يسمع الولد الحديث فيفسد حلقة ويشذ عن طريقه. . كان يذكر إذا ذكر خفية فكأنه كلمة لا تقال أمام كبير خشية أن يظن بقائلها سوء الأدب.
كان كذلك. . ثم نمت الجرثومة كالداء يترك بغير علاج. . نمت فإذا هي المرض لا يشفيه تطيب. . نمت فأصبح اللص الصغير سفاكا لا قبل للمجتمع به. . . ومات أبوه قبل أن يعرف ما انضمت عليه ضلوع الابن من الشر الكبير. . . مات الأب فخلا الابن بالحمار واعتسف ما كان لأبيه من أبيه وجمع من حوليه المجرمين من كل ضعيف النفس جائع الشهوة يريد أن يحتمي بالسفاك الأكبر. . . وهكذا انقلب الحمار سيارة، وأصبحت تقاد له بعد أن كان يشتهي أن يقود.
ازداد المال لديه. وأصبح (بيكا) وهو الجربوع. واشهر من أمر اللص ما حاول أقرباؤه أن يخفوه؛ ولكن سرعان ما تبين الأقرباء أنهم جانبوا العدل في معاملتهم لبن عمهم. هاهو ذا اسمه يجري بينهم جريئاً لا أحد ينقل الحديث إلى غيره ولا أحد يرفع يده إلى فمه: لقد أصبح الخفاء صريحاً وجهر بما كان يهمس به: هاهو ذا أحدهم يقول (والله أنه لخفيف الظل! لم لا نذهب إليه نسلم ونهنئ بيته الجديد) ولم يكن المنزل جديداً ولكنهم ذهبوا ها هم أولاد في منزلة وها هو ذا يرحب بهم فرحاً أن قصد إليه من كان يزور عن لقائه، ولكن الأقرباء لم يجدوا أنفسهم منفردين بل وجدوا معهم البلاد وأعيانها من حكام وأقطاب باسم(916/35)
الله ما شاء الله! وغمز أحدهم الآخر (قم فعجل بالقهوة) فأجابه الآخر (وأنت معي قم فعجل بالطعام) وقام: وما لهما لا يقومان؟ لقد أصبح الفقير غنياً! أما كيف كان الغني فإنه لا يهم. . . لا يهم
ثروت أباظة(916/36)
رسالة الشعر
خواطر لاجئة
للآنسة إلهام يوسف
تحت حرارة الشمس. . ورحمة الرياح. . مرت بي. . وأنا
أنتظر، وأنظر في صحيفة السيارة لأعود في معسكر
المهاجرين. . إلى البلدة (غزة) وكان بيننا حديث. فإليها وإلى
طفلها الرضيع. هذه الإناث. . .
إلهام
قالت. تسائلني. . وفي ... ألحاظها ما يؤلم
ترنو إلى بنظرة ... وكأنها تتكلم
وعلى يديها قطعة. . . ... منها بصمت تحلم
قالت: أنرجع. . أخب ... ريني. . إنني أتضرم
والشوق يحرقني إلى ... وطني الحبيب. . ويسقم
والذكريات تهزني ... بحنينها. . وترنم
أمسى هناك. . وهل سوى ... أمسى الذي يبتسم؟
ألمرج هناك يدعوني إليه ... والذرا. . والأنجم
والشاطئ الباكي على ... صخر الأسى بتحطيم
والمنزل المهجور. . غ ... ير رؤى الخيال تهوم
كل يناديني. . يقول ... متى نعود. . وننعم؟
قالت: ولم أسمع لها. . ... وكأنني لا أفهم
وزرت إلى. . بلهفة ... وعيونها تستفهم
ومضت. . وملء مسامعي ... منها. . صراخ مبهم
غزة(916/37)
إلهام يوسف(916/38)
أغنية جركسية
بلاد الأديجة. . . بلادنا الجميلة
// لا تتخلى عنا. . . يل أمنا المحبوبة
بلادنا الأديجة تقدمت البلدان. . .
نظامها يفوق كل الأنظمة. . .
جبالها البيضاء معممة. . .
أهلها رقاق الأجسام - رشقيو القوام. . .
غاباتها كالبحار غزيرة. . .
أنهارها صافية تروق العيون. . .
سماؤها وأرضها في الجود متساويان. . .
ذكورنا وإنائنا يتعلمون بالتقاليد. . .
يأخذون الآداب عن الطاعنين في السن. . .
هكذا كانت حياتنا بعضنا بعضا ويحترمنا الغير
وهكذا كان عصرنا مثاليا في - الأخلاق. . .
من ينزل عندنا ضيفاً نبالغ في إكرامه. . .
ومن يؤلمنا نشهر السيف في وجهه. . .
ولقد حاربنا عدونا الأكبر مائة عام. . .
آباؤنا لما هاجروا. . .
تركوا وراءهم وجاقات (مدافىء) البيوت. . .
ولما أبقونا صفر الأيدي. . .
أصبحنا تنخبط على وجه الأرض. . .
لما كنا في بلاد الأدبحة. . .
ولما كنا متجمعين غير موزعين. . .
بقاؤنا فيها بهذه الكيفية كان جل فخارنا. . .
نظامنا كان يسمو على العالمين. . .
نورز باكير(916/39)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلتي مع الأستاذ الزيات:
في لأسبوع الماضي ظهرت تعقيبات في صفحتين، وكان من المقرر أن تظهر في صفحات ثلاث، ومعنى هذا أن الصفي الثالثة قد تعرضت لقلم الرقيب، والرقيب هنا ليس إدار المطبوعات. . ولكنه الصديق الكريم الأستاذ الزيات!
كانت الكلمة التي حذفها قلم الرقيب هجوماً عنيفاً على أحد الوزراء. ومن الطرائف التي تدخل في باب المفارقات، أن الأستاذ الجليل صاحب الرسالة قد أنكر على أن أهاجم وزير واحداً، في وقت الذي لنفسه أن يهاجم خمسة وزراء. خبطة واحدة!!
لماذا أباح لنفسه أن يحاسب عدداً وافراً من أصحاب المعالي ثم حال بيني وبين صاحب معال واحد؟! هنا تكمن المشكلة مشكلتي مع الأستاذ الزيات، أو مشكلة وضعه الذي يفترق عن وضعي في محيط الأدب أو محيط الحياة. . إن الصديق الكريم رجل آثر الحية فابتعد عن الوظائف الحكومية، مثل هذا المجال الحر يستطيع الأديب أن يقول ما يشاء، وأن يهاجم من يشاء، وهو مطمئن إلى أن مركزه الاجتماعي لن يتعرض يوم لعصف الرياح. . أما أنا، أنا الموظف الرسمي في الدولة، فيا طالما أشفق على الصديق الكريم من حماسة الشباب وفورة الشباب وما يترتب عليهما من عنف القلم وجيشان العاطفة. يا طالما أشفق على من قيد الوظيفة حين أكافحه بجرأة القول وحرية الرأي وثورة الضمير. . ناسياً أن صداقته الغالية، تلك التي تحرص على التقاط الشوك من جوانب الطريق، طريقي الذي أفضل أن أسير فيه، هي وحدها الذي يحد في قوة التحفز وحرارة التوثب ومتعة الانطلاق!
إنها مشكلة لم تحل. . وكيف تحل والأستاذ الزيات نشفق مما قد يحدث لي وأنا مشفق منه، حريص على مستقبلي الرسمي وأنا غير حريص عليه؟! إن كل موظف يقرأ الرسالة سيسمح لألف علامة من علامات الدهشة أن ترتسم على وجه، وهو يسمع هذا التصريح العجيب من موظف مثله يقاسمه حظاً من حظوظ الحياة. . وليس من شك في أنه سيقول لنفسه بلغة الواثق المطمئن: لو كان صاحب التعقيبات محتاجاً إلى الوظيفة لما جهر بهذا الذي جهر به، لما أذن لقلمه في أن يعبر كما يريد. . ومن يدري، فقد يحلق الزميل القارئ(916/41)
في كل أفق من آفاق الظنون بكل جناح من أجنحة الخيال، ثم يتصورني واحداً من أصحاب الضياع والقصور. لبست والله صديقي واحداً من هؤلاء. . ولكن إذا اتفقت معي على الفكر ثروة، فلا ضير من أن تسلكني في عداد الأثرياء!!
لقد حدثتك بالأمس عن مشكلة الأداء النفسي في الشعر، وحدثتك عن مشكلة الفن والحياة، وحدثتك عن مشكلة الفن والقيود، وبقي أن أحدثك اليوم عن مشكلتي مع الأستاذ الزيات. . ولست أدري أي خاطر طريف هذا الذي يلح على كمقدمة تسعى إلى نتيجة، أو كبداية ترمي إلى نهاية: ماذا يحدث مثلا لو تركت أصحاب المعالي وهاجمت الأستاذ الزيات، مدافعاً عن حريتي التي ظلمتها ودافع الود وأواصر الصداقة وروابط الوفاء؟ ماذا يحدث؟ ترى هل سيشفق الصديق الكريم على مستقبلي كمحرر في الرسالة، بعد أن أشفق عليه وعلى كموظف في الحكومة؟! هذا هو السؤال الذي ينتظر الجواب. ومع ذلك تبقي النهاية المتخيلة التي لم تخطر ببال الزيات، وهي أن إشفاقه على سيدفعني يوماً إلى أن أتحرر من أسر الوظيفة، وما كان أجراه أن يفكر طويلا قبل أن يشفق على، على أن يفكر طويلا في عواقب هذا الإشفاق!
هذه لفتة أرجو ألا تغيب عن فطنة الأستاذ الزيات. . ولا احسبني غالياً إذا قلت له إن مسلكه هذا سيرغمني يوما على أن أروع مكتبي في وزارة المعارف لأحل مكتبه في إدارة الرسالة؛ أن أروع مكتبي في وزارة المعارف لأحتل مكتبه في إدارة الرسالة؛ وأستطيع إذا ما قيل هذا اليوم المنتظر أن أفعل كما فعل فأهاجم خمسة وزراء خبطة واحدة، وليس بعيداً أن تلهمني الحرية أكثر مما ألهمته فأهاجم من أصحاب المعالي بدلا من خمسة. ويا ويل الوزراء من الأدباء الأحرار!!
نحن والديمقراطية الأدبية:
أنتم معشر الأدباء لستم إلا السراج الذي يقود الأجيال نحو الحياة الروحية الرفيعة، وأنتم حداة القافلة في كل عصر، تجبنونها مواطن الزلل، وتباعدون بينها وبين موارد الفتن ومزالق الأقدام.
هذه هي رسالة الأدباء في كل جيل، حتى أننا نقرأ في الأدب القديم فنجد أن كل أديب كانت له مدرسة تجمع حوله هواة أدبه الجم ويغدق عليهم من علمه الخصب، ويغرس فيهم طريقه(916/42)
في الكتابة واتجاهه في الرأي هكذا كان أجدادنا رحمهم الله. . . أما أدباء اليوم فيكفيهم أن يطل الواحد منهم من خلال سطور يكتبها بين الحين والحين، أما أن يتحدث إلى الناس، أما أن يجمع حوله الشباب أمر دونه فرط القتاد!
لقد انصرف الشباب يا سيدي إلى ما نسميه بالحربية، يشغلون بذلك فراغ أوقاتهم، ويملئون به جدب أذهانهم، حتى أنك لو جلت جولة قصيرة في حرم الجامعة لوجدت هذا التطاحن العجيب، ولشاهدت ذلك الجدل البغيض. وليته كان حول مسألة علمية أو مشكلة فنية أو حقيقة فلسفية. . كلا، بل هو حول الأحزاب والحزبية!!
لم لا تجمعون الشباب حولهم يا سيدي، فيكون لكل أديب ناد ولكل عالم قاعة؟ لم لا يكون لكل أديب تلامذة في الأدب يتعدهم بنفسه لا بكتبه، وبرعاهم بعنايته لا بمقالته؟ ويأخذون عن شفيته لا عن قلمه؟ لم لا يكون هذا حتى ينرح إليكم الشباب من كل بيئة، ويقبلون عليكم من كل مكان؟ وحتى نرى بجانب هذا النقاش الحربي نقاشاً آخر من نوع جديد نقاشاً يدور حول الأدب ومذاهبه أو حول النقد واتجاهاته؟!
لم لا تعقدون اجتماعات أسبوعية أو شهرية يا سيدي، تجمعون فيها هواة الأدب من الشباب؟ إنكم لو فعلتم ذلك لقدمتم للشباب أجل الخدمات، لأن الناس لا يقنعون منكم بالتأليف فحسب، بل هم متشوقون إلى مجالستكم والاستمتاع إليكم والأخذ عنكم. . نريد منكم أن تفتحوا أبوابكم وصدوركم حتى تخلقوا شباباً يتعصب الأدب كما يتعصب للمبدأ، ويشرد من أجل الفكرة كما يشرد من أجل الحزبية، ويؤمن برسالة الأديب كما يؤمن برسالة الزعيم؛ أما أن تكتبوا لنا وبينكم وبين الناس حجب وأستار، فسيان عندهم قراءتهم للحديث وقراءتهم للقديم. . ولا عجب أن تكون شكواكم حارة من قلة القراء!
محمد محجوب عمر
كلية دار العلوم
نريد منكم أن تفتحوا أبوابكم وصدوركم حتى تخلفوا شبابا يتعصب للأدب كما يتعصب للمبدأ، ويشرد من أجل الفكرة كما يشرد من أجل الحربية، ويؤمن برسالة الأديب كما يؤمن برسالة الزعيم. . بهذه الكلمات الصادقة يختم الأديب الفاضل رسالته، وينتظر من هذا القلم(916/43)
رداً يقوم مقام التعقيب.
إن ردى على الأديب الفاضل هو أن أقول له: إنني أومن بهذا الذي تؤمن به، وأدعو الله أن يملأ بمثل هذا الإيمان نفس كل أديب. . إن الأدب الحق يا صديقي لا يعرف الأبراج العاجية، تلك التي تقطع كل صلة بين صاحبها وبين الناس. وما هي رسالة الفن إذا لم تكن مشاركة وجدانية بين الفكر وبين مشاهد الحياة، وبين النفس وبين مشاعر الأحياء؟ وما هي قيمته إذا عجز عن أن يربط بين القلوب بتلك الخيوط الإلهية غير المنظور، تلك الخيوط التي تنسج أثوب الحق والخير والجمال؟! إن الأدب ديمقراطي عند الذين يحسنون فهم الديمقراطية، ويقدرونها على أنها لون فريد من الألفة والتعاطف والإيثار. وهكذا أفهم الأدب وهكذا أقدر رسالته، وما تعودت يوما أن أغلق منافذ السمع والشعور في وجه كل صيحة تهز فجاج النفس وتزحم مسارب العاطفة.
إن لي في (الرسالة) بابا هو باب التعقيبات، كم فتحته على مصراعيه لكل قارئ وكل أديب ولي في (وزارة المعارف) باب آخر كم فتحته لكل طارق وكل غريب، ولي في (الجيزة) ندوة أدبية يقصدها هواة الفن وعشاق الأدب من هنا وهناك. . وما أكثر زوار الندوة وطراق البابين من القراء والأدباء! أنا يا صديقي لست من أصحاب الأرستقراطية الأدبية حين ألقى الناس وجهاً لوجه أو حين ألقاهم بين السطور والكلمات، وإذا كان غيري يميل إلى هذه النزعة فهو ميل مركب النقص حين يسعى وراء شيء من مركب التعويض. . ولست من متصنعي الأستاذية المظهرية حين يجلس إلى أديب زائر دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء، لأن الأستاذية لا تكتسب بالمظهر المتكلف ولا بالسمت المزيف ولا بالوقار المصنوع، وإنما تكتسب باللمحة الواعية والفكرة الخالقة والذهن اللماح!
على الأديب الفاضل أن يطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي أن ديمقراطية الأدب بعيدة كل البعد عن تلك الحجب الصفيقة وما يشبهها من أستار، وأنها إذا تقبلت الأستاذية فإنما تتقبلها مدثرة بوشاح التواضع العلمي حين يكون هدفه البعث الصادق والتوجيه الأمين. . أما عن تساؤله لماذا لا يكون لكل أديب ندوة ولكل عالم قاعة، فلعل الحياة الأدبية والعلمية في مصر لم يبلغ من النضج واكتمال الأداة بلغته في بعض البلاد الأوربية، سواء أكان ذلك في ميدان الأديب أو العلم من ناحية أقصابه أم من ناحية طلابه، وليس من شك في أن تعادل(916/44)
الكفتين هو الكفيل بتحقيق هذا الأمل الذي يداعب خيال الأدباء، والذي نرجو مخلصين أن يتحقق في مقبل الأيام!.
شكا من الأزهر:
إن أحزن على شيء فلا إلا على نفسي كأزهري يحل بمستقبل بسام، ويرنو إلى مدارج العزة التي يريد الوصول إليها بوسيلة مفيدة!.
وكيف لا أحزان يا صديقي وأنا صديان لا أجد المورد العذب الذي يشفي غلتي، وأنا ناقص البناء أبحث عن اللبنة التي تتم هيئتي فلا أجدها، وأنا حائر بين مفترق الطرق وعواطف الآراء لا أدري إلى أبن المفر؟!.
نعم، لا تعجب يا صديقي. فإنا طالب بكلية أصول الدين أدرس العقيدة دراسة أشد تعقداً من ذنب الضب. . لا أكاد أصل إلى نتيجة في بحث إلا وأجدها مهددة باعتراضات بيزنطية أشد فتكا بالعقول من القنابل الذرية! ثم ماذا؟ لا شيء، لا ذخيرة لا علم يساير العصر ولا فكرة تستطيع أن تقف على قدميها لترى كيد الطوائف، تلك التي وجدت لتنخر في عظام الإسلام. فهناك طائفة الوهابية الإسماعيلية وطوائف أخر، تتحدى وتنذر وتبذر بذور الشك في عقيدة المسلمين على مرأى ومسمع من علماء الإسلام الذين أطالبهم معي آلاف الشباب الأزهريين بأن يضعوا حداً لهذه المهزلة العلمية، وأن ينتخبوا إنتاجا يتحصن به أبناؤهم الأزهريين وغيرهم ضد هذه التيارات المتباينة والآراء الخطيرة!.
ولست بأول من جهر بهذا الرأي فقد سبقني إليه أساتذة إجلاء أذكر من بيتهم أستاذي الدكتور محمد يوسف موسى، ولكني أجهر به ونار الواقع تلهمني، ويكاد الأمل البسام أن يفلت مني!.
ولقد حظيت بقراءة من وضع الأستاذ الكبير الشيخ أبو زهرة في قسم وهو بكلية الحقوق، فعجب أيما عجب، وقلت في نفسي المكلومة أمام شباب جامعي، أيدرس هذا لشباب الجامعة المدنيين؟!. . وكلية الشريعة تدرس الدماء الثلاثة، وتضيع وقتها في باب العتق والطهارة، والقواعد التي لا قبل لها بتطبيقها على مسائل الظروف الحاضرة؟!.
وقلت في نفسي أيضاً وهي تنفطر: لماذا لا يجتمع علماؤنا على خير؟ لماذا لا يحققون المسائل العلمية ويطبقونها على مقتضيات العصر؟ لماذا لا يسيرون في موكب الحياة؟ ثم(916/45)
لماذا هم لا يقدمون! ترى هل يطالعنا الأستاذ المعداوي برأي في هذه المشكلة؟ إننا لمنتظرون.
محمد إبراهيم الخطيب
(كلية أصول الدين)
يريد مني الأديب الفاضل رأيا في هذه المشكلة. . أشهد أن لدى بدلا من الرأي الواحد مجموعة من الآراء. وحين أمسك بالقلم لأسجل لآرائي حول هاتين الناحيتين. لماذا تعثر الأزهر وكيف ينهض الأزهر، توقفت. توقفت لأنني رجعت إلى نفسي ورجعت إلى الواقع، وتذكرت أن هناك مشكلتين لا جدوى من الكتابة فيهما بعد أن بحت الحناجر وجفت المحابر وضجت الأقلام. . الأولى هي مشكلة القراء والثانية هي مشكلة الأزهر!
أريد أن أقول إننا لو كتبنا ألف مقال لنحث الناس على القراء فلن الناس على القراء فلن يقرأ الناس، وإننا لو كتبنا هذا العدد أو زدنا عليه لنلفت المسؤولين إلى إصلاح الأزهر فلن يصلح الأزهر. .
حسبنا إذن أن نترقب معجزة من السماء تنهي المشكاتين بعد أن أخفقت جهود البشر. وياله من أمل ذلك الذي نتطلع إليه وقد انقضى زمن المعجزات!!.
أنور المعداوي(916/46)
البريد الأدبي
طه حسين الشاعر
أتاح لنا حضرة الباحث المطلع الأستاذ محمد سيد كيلاني فرصة التعرف على جانب هام في أدب معالي الدكتور طه حسين باشا في العدد الماضي من الرسالة الزهراء فشرح كيف قرض الدكتور الشعر في الصبا والشباب، ودلنا على ما كان يفيض به ذلك الشعر من بدوات وأحاسيس إلى آخر المقال القيم.
ويختتم الأستاذ كيلاني بحثه بقوله: (ولكن الشاعر منذ سافر إلى أوربا في عام 1914 لم ولا بيتاً واحداً. فقد هجر القريض هجرا تاما. ونسى الناس هذا الشاعر الموهوب، بل ربما يكون هو نفسه قد نسى شعره).
والذي أفهمه جيداً أن معالي الدكتور طه حسين باشا لم يهجر القصيد هجراً تاما عام 1914، فالناضر في كتابه الرائع (على هامش السيرة) لا بد واجد شيئا غير فليل من شعره الجميل منبثا بين ثنايا النثر، وهو أمر لا يلمحه غير شاعر أو عروضي. . .
وأذكر أن الأستاذ دريني خشبة أول من لفت الأنظار إلى تلك الناحية في أثناء كتابته عن الشعر المرسل، ولولا وجودي الآن بعيدا عن القاهرة لأوردت البرهان القاطع، وفي الذاكرة من شعر الكتاب المذكور هذا الكتاب:
أقبلت تسعى رويدا ... مثلما يسعى النسيم
هذا والأستاذ كيلاني تحياتي وإعجابي
كلية الآداب
محمد سلامة مصطفى
طهروا الأزهر من الحزبية:
يا أولي الرأي في الأزهر ويا أصحاب الفضيلة، هبوا فأنقذوا الأزهر من هذه الواهدة المترعة بقذارة الرغبات إلا وهي الحزبية العمياء التي بذرت في نفوس أبنائه الشقاق، فتشتتت صفوفهم كلمتهم، وصاروا لا يعلمون إلا بوحي القادة ولا يسيرون إلا على هدى الزعماء، وأسدلت هذه من ظلماتها الحالكة، فنسوا أنهم رجال الدين وأن عليهم واجبا نحو(916/47)
وطنهم وأنفسهم، وأن ما يجري بينهم ليس خلقيا بهم ولا جديراً بأمثالهم، وأنهم بذلك قد فقدوا وازع الخلق، ومزقوا دستور النظام ووطئوا بأقدامهم قداسة الدين وحومة العلم.
أليس عجيبا - أيها الأزهريون - أن يصير الطالب خصما لدودا لأخيه إذا أبصر به الطريق ازور عنه ونفر منه، فهل بهذا الوضع يرجى من أمثالهم عدة للوطن، ورجالا يعملون إعزاز مكانته ورفع لوائه. وأعجب من ذلك أن تتعدى هذه الشحناء إلى معارك يتبادل الطلاب فيها ضرب الهراوات التي يتخذونها من مقاعد العلم التي طالعها السيئ وحظها المنكود.
وأنها لمأساة كبرى أن تنقلب معاهد العلم ومنابع والعرفان إلى أمكنة يسرى فيها لهيب العداء وتصطلي بنار الفوضى والاضطراب، ولا تلقي من أبنائها إلا بعدا عن العلم وفرارا من الجد وجريان وراء الرغبات الحزبية والمنافع الشخصية، وحبا في إحداث المشاغبات وعدم سير الدراسة في هدوء حتى أننا - وأيم الله - من ابتداء هذا العام إلى الآن لم نحضر أسبوعا كاملا بدون إضراب. فيا قام (لن يستقيم الظل والعود أعوج) فيها طهورا الأزهر من هذا الوباء وقوموا هذه النفوس الحاسدة عن سواء السبيل وألجموا هذه النزعات الكاذبة فهي بلاء مستطير وشر خطير. وليس من الواجب أن يترك هذا الجيش الأزهري يتخبط في دياجي هذه الحزبية وغيابها فمغبة ذلك لا يحمد أثرها ولا يستطلب ثمرها.
وانتم أيُها الشباب قيئوا إلى أنفسهم وحاسبوا ضمائرهم، وانتقوا بكم وثقوا أن مطالبهم لن تحقق إلا باتحاد قوتهم وعزيمتكم وترك هذه الحزبية وراءكم فهي قد باينت رغباتكم وفرقت قلوبهم ونفوسهم، وإن كانت مطالبكم لم تحط من الأداة الحكومية إلا بنسيان والوعود والإهمال.
وجاهدوا فالله ولن يتركم أعمالكم.
م. ع. الدسوقي
معهد طنطا الثانوي
لنصر أخاك ظالماً لو مظلوما
جاء في البريد الأدبي من الرسالة الغراء (911) الصادر في 18 ديسمبر كلمة موجزة(916/48)
للأستاذ عبد العظيم هاشم اعترض فيها على جزء من كلمتي: (شعر الحماسة عند العرب) المنشورة في الجزء (909) من الرسالة الغراء.
فقد ورد في كلامي بصدد العصبية الجاهلية ذكر المبدأ الجاهلي: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال عن ذلك (ولا أرى معنى لإيراد هذا الحديث الشريف في هذا المقام. . . وأضاف أن ذكره (خروج بالحديث الشريف عن معناه وانحراف عن قصده ومرماه) ثم عزز قوله برواية الحديث عن البخاري ولم تفته الاستفادة من بلاغة الصمت فذكر الحديث من غير تعليق.
إن عبارة: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) كلمة جاهلية بمعناها السافر قبل أن نروي حديثاً بعد تخريجاً سليماً يلائم نظم الإسلام. قال الأستاذ صاحب الرسالة في بحثه أحوال العرب الاجتماعية: (أما علاقة أبناء الأسرة بأبناء القبيلة فجماعها (بضم الجيم وتشديد الميم) مدلول هذه الكلمة الجاهلية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).
وذكر الميدان هذه الكلمة هذه الكلمة فقال: (يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال (ص) ترده عن الظلم. قال أبو عبيدة أما عبيدة أما الحديث فهكذا. وأما العرب فكان مذهبها في المثل نصرته على كل حال. قال المفضل أول من قال ذلك جندب العنبر من تميم ثم ذكر قصة ارتجال ولا حاجة لذكرها وأحسب أن الدكتور أحمد أمين يشير إلى الكلمة الجاهلية في بحثه عن حالة العرب الاجتماعية بقوله. (وأفراد القبيلة متضامنون أشد ما يكون التضامن ينصرون أخاهم ظالماً أو مظلوماً).
والظاهر أن هذه الكلمة من منحول الحديث فمن الصعب أن نصدق أن الرسول الكريم وهو سيد البلغاء يستعير كلمة جاهلية. أما ما يبعث الشك في صحنها فهو اختلاف رواية الميدان عن رواية البخاري فقد ذكر الميداني (نرده عن الظلم) وذكر البخاري: (تأخذ فوق يديه) ولم أجد فيما راجعت عن المعاجم (يأخذ فوق يده) وإنما المذكور (يأخذ على يده أي يمينه). ثم ما حاجة المسلمين إلى مثل جاهلي لا يلائم نظم الدين الحنيف إلا بعد التخرج والتوجيه وعندهم قول القرآن الكريم: (وتعالوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)؟
والظاهر أن نسبة الحديث إلى أنس وهو صاحبي كريم استدرج لتصديق الناس. قال الدكتور محمد حسين هيكل: (ومع ما أبداه جامعوا الحديث من حرص على الدقة لا ريب(916/49)
فيه فقد جرح بعض العلماء كثيراً من الأحاديث أثبتها جامعوا على أنها صحيحة. قال النووي في شرح مسلم (قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشر طهما فيها ونزلت عن درجة ما النزماه) يقول النووي في كلامه السابق قد استدرك (جماعة) على البخاري ومسلم واستدراك هؤلاء الجماعة شيء معقول فقد روى البخاري سبعة آلاف حيث فإذا أسقطنا المقدار المكرر وهو ما يقرب من ثلاثة آلاف حديث فإن الباقي أربعة آلاف حديث وهو رقم بعيد لا يصله البخاري ولا غيره قبول كثير من منحول الحديث.
وقد عارض القرآن الكريم روح العصبية التي أشار المثل وخفض منها بالتدرج إلا أنها لم تستأصل فقد بدأت أن تنتعش منذ أيام عثمان وظهر أثرها واضحاً في معركة مرج راهط فقد كان أغلب جيش الضحاك بن قيس الفهري قائد ابن الزبير من عرب الشمال وكان الكلبيون جنود بني أمية من عرب الجنوب فثأرت الحزازات المستورة وصرح عن عصبية كامة امتد أثرها حتى جعلها المؤخرون من أسبا هزيمة الجيش العربي في فرنسا.
وذكر الدكتور فليب حتى (أن هذه الخلافات العصبي ظلت حتى الأيام قائمة في لبنان وفلسطين إذ روى لنا التاريخ أن معارك قامت بين الحزبين: (الشماليين والجنوب) في أوائل القرن الثامن من عشر).
وليست هذه العصبية وقفاً على العرب دون سواهم وليست هي خاصة بعصر من عصور أو قطر من أقطار دون غيره فقد رأينا كثيراً من الغ ربيين في الشرق يجعلون التعصب الأعمى لأبناء وطنهم على غيرهم دستوراً في حياتهم ومعاملاتهم.
وأضاف الأستاذ عبد العظيم إلى الكلمة الأخيرة من أسمى الكامل كلمة (عبد) فصيرها (عبد الرحيم) وهذه الإضافة أما من استبداد السهو بالقلم أو أن الأخ يرى كلمة (رحيم) من الأسماء الحسنى لا يجوز أن يسمى بها شخص من غيره تعبيد. وعلى الاحتمال الثاني أقول أن (رحيم) بمعنى الفاعل من أسماء الله الحسنى وبمعنى المفعول من غيره فإنتفى الحرج. وقد ورد في مختار الصحاح وغيره: و (الرحيم) قد يكون بمعنى المرحوم كما يكون بمعنى الراحم)
وأحمد للأستاذ هذا الاهتمام وأشكره.
الحلة (العراق)(916/50)
أحمد حسن الرحيم(916/51)
القَصَصُ
دمعة فاجر!
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
(. . . إلى الذين تاهوا في فلوات الغي والضلال. إلى الذين
ابتعدوا عن المورد العذب. إلى فرسان الضباب. . أقدم هذه
الأقصوصة!!).
يالي من عربيد فاجر!.
كنت أجري وراء اللذات، أينما حلت وحيثما ارتحلت، كنت أشتريها بأي ثمن كان، فأندفع إليها اندفاع الطائش المغرور، وأنا غائص في الأوحال. أعمى من رماد الزمن. . تصرعني الجذوة الحمراء وهي تلح ذروة سعيرها!
رافقت الشيطان في رحلته، ورقصت معه على أشلاء الفضيلة ونحن نردد أغانينا المحبوبة: في رقصتي عطر وكأس وجسد!.
كنت أقصى الساعات والليالي بين صخب وعربدة ومجون بين قصف ورشف وأنعام. . تبهرني الأضواء الساطعة، وترسل صداها في نفسي، فتركني مغموراً بدنيا أسراري، بدنيا لذاتي متطلعاً بلهفة قائلة، لعلي أفهم كنه ذلك السر المجهول!
كنت أسير عواطفي، أتقلب بين الشك ويقين، بين الكفر وإيمان، بين حيرة ورشاد. . أندفع بكياني رغم كل شيء، فتتراءى لي من بعيد، من هنالك أخيلة وهواجس، رؤى وأحلام، أنوار وسراب. . فأنسرب في المجهول وأنا غير هياب، أفتش عن سر دفين، عن تلك القوة الهائلة التي تجذبني قسراً إليها، فتحطم أغلال إرادتي. . فأندفع اندفاعه طائشة، وأنا أرتجي الخطوة، أرتجي الأمل الذي يتراءى لي من بعيد - كما أتصور ذلك - فبقيت في حيرتي هذه بين مد وجزر، أفتش عن كل شيء، أريد كل شيء. . . ماذا أريد؟! أريد طريقي!. وأي طريق؟! طريقي القهقري، طريقي الوعر اليابس!! أريد مواكبي! وأي مواكبي؟! موكب الذكرى، مواكب الشباب المضر، موكب التوبة. . ولكني كيف؟! وقد فاتني الشباب،(916/52)
وقد غصت في الأوحال، واندفعت في الخطيئة إلى أبعد مراميها!.
أجل كنت هكذا. . لا أعرف سبيل التوبة ولا طريق الغفران. . قل عني ما تشاء أيُها القارئ. . قل إني فاسق حقير سافل! ولكني تمهل قليلا حتى أسرد لك هذه القصة التي بدلت وجه حياتي. هذه القصة الفاضلة بين لذتي وزهدي بين غوايتي وهدايتي!. بين أغنية الشيطان وبين تسابيح وغفران. . . هي قصة حياتي أقصها كما هي.
(. . . حثثت خطاي الحمر. والجذوة الصارمة تفتك بي وتدفعني بقوة هائلة. . إلى هناك، إلى أحد تلك البيوت السرية المنتشرة في الجانب الغربي من بغداد. وكان معي صديق عزيز، يشاركني وأشاركه في كل شيء لا يتركني في أي لحظة. . . سار. . . من هو؟. . . أنه. . . الشيطان، ذلك الدليل الخبير!.
أجل سار معي إلى هناك في طرف بعيد منعزل، في محلة حقيرة من المحلات، يطلقون عليها اسم (محلة الذهب)، ولا أدري أسماها بهذا الاسم؟! ولم أطلق عليها هذا النعت؟! الآن الذهب يسيل من أصابع روادها، فيغور ويختفي في خزائن أهلها؟.
ودخلنا أحد المواخير، أنا وليلى. . . دخلنا متلصصين، دخلنا نطلب المتعة ونغوص في الآثام!.
وفي غرفة حقيرة، تكاد تكون مظلمة، لولا ضوء خافت يتأرجح من مصباح زيتي معلق في ركن من أركانها: جلسنا هناك على أريكة متداعية، راحت تئن تحت ثقل أجسامنا! ورحت أنقل بصري في أرجاء هذا الخداع، إن جاز لنا أن نسميه مخدعاً. وإلا فهو أشبه ببيت أرملة فقيرة أتت على البقية الباقية من مخلفات زوجها؛ فلم يبق منها ما يستحق الذكر، أو ما يستحق أن تبيعه! هناك سرير قديم محطم الأوصال مزعزع الأركان، عليه فراش قذر تمزقت أطرافه، وأطلت منها بجزع شديد بقايا من صوف أدكن، وكأنه امتزج بحفنات من طين.
وربطت فوق هذا الفراش ستارة بالية مهلهلة، توارى لونها الأبيض وحل مكانه لون قاتم سقيم. . وتناثرت هنا وهناك بقع جامدة كأنها عيون فاجرة، أو كأنها بصقات الشيطان.
وعلى الجدار. . علقت حصير صغير عض عليها الزمن فسلب ألوانها، وكأنها شعرت بهذا الخزي الفاضح فراحت تتلاشى في الجدار، وتختفي وراء صور باهتة ممزقة انتزعت من(916/53)
مجلات عديدة. وفي طرف آخر، وقرب نهاية السرير، علقت مرآة كبيرة قد تخر الدود إطارها الأسمر، فأصبحت كخلية نحل مهجورة فباتت الصراير فيها وتصفر.
جلسنا هناك، أنا وصديقي، تفضي ليلة حمراء، ليلة صاخبة رعناء. وبقينا هنيهة جالسين، تنتظر شريكتنا وهي فتاة ممشوقة القوام، ريانة العود. اخترتها حين دخولي في هذا الوكر.
وران علينا الصمت. . . فبقيت أتملى في أرجاء المخدع. . . ماذا؟! لا أدري ماذا اعتراني؟! كأن عيني في تلك اللحظة لم تألفا رؤية هذه الأشياء، وكأنني لم أتردد إلى مثل هذا المكان من قبل. . . تخيلت في تلك اللحظة أن عيوناً ترقبني وتترصد حركاتي، وكأنني أرى وجوها تتطلع إلى باحتقار واشمئزاز، فأخذت أضغط على نفسي وأعتصرها بقوة، لعلها تهرب من هذه اللجة الطاغية، من هذه السور العاتية. . . أردت أن أفر من تلك الكابوس المخيف الذي استولى على في تلك اللحظة. . . عند ذلك، وفجأة امتدت يدي إلى جنبي وأخرجت زجاجة صغيرة بيضاء، لأغسل جوفي بما فيها من سائل أبيض كالحليب!. . . وبعد لحظات قصار شعرت ببعض الهدوء يسيطر على نفسي، وببعض الاستقرار يدب في أحاسيسي وهي تحرر في عنف وجنون. . . ولم أشعر آخر الأمر، إلا أنني أستفيق من شروري على كف بضة تمتد إلى برفق ولين فتربت على كتفي!. فرفعت رأسي قليلا وكأنني قد نسيت تماما أين أنا؟! وماذا أريد؟! ومن جاء بي إلى هذا المكان؟! ولكن. . . تذكرت بعد أن ارتفعت ضحكة ماجنة في فضاء الغرفة وإذا بها غانيتي التي ستشاركني ليلتي هذه. . . وكانت قد أخفت قسمات وجهها وراء أصباغ ومساحيق. . . وراحت نحو السرير بخطوات متعثرة واهنة واستقلت عليه بإعياء شديد.
وبقيت في مكاني، كأنني قد سمرت على المقعد، أو كأن أغلالا قوية قد ربطت جميع أطرافي. . . يا للهول!! ماذا أحس؟! وماذا أرى؟! زاغت نظراتي، إلى هناك، إلى تلك المرآة المعلقة على الجدار، فتطلعت إلى صورتي، إلى قسماتي!! وحملقت فيها مشدوهاً وفتحت فمي كالمرعوب، وأردت أن أنطلق بشيء، أن أزعق، أن أصرخ. . . ولكن. . . ولكن الكلمات احتبست في عنقي، وغاض السخط في نفسي. . . أتلك هي صورتي؟! تنطلق بالرجس والخسة، تنطلق بالشر والجريمة. . لقد أنكرت كل شيء، ورحت التفت حولي، وأردت نظراتي فسقطت لاهثة متعبة على جسد تلك الأنثى، ذلك الجسد الذابل(916/54)
المنهوك التي تفوح منه رائحة المعصية. . لقد تخيلته في تلك اللحظة - ولا أدري لماذا!؟ - جيفة نتنه تطفو على مستنقع آسن، تصورته أشلاء متناثرة وأعضاء آدمية مشوهة لطخت بالدماء والأوحال!!.
فثارت نفسي ثورة عاتية، ثورة صاخبة. . . ورأيتني وبدون أن أشعر، أتحفز الوثوب والانقضاض. . . على من؟! وتلفت حولي فلم أجد من أستحق عليه لعنات ثورتي، لم أجد هنا غير هذا الجسد المستباح، غير الفريسة المستسلمة الخانعة وهي لا تزال في ضجعتها على السرير. . . وكأنها اطمأنت لهدوئي وسكينتي فراحت تستريح من وصب الحياة، بل راحت تسترد قواها المنزوفة طيلة النهار.
ورحت أنظر إليها متهالكة تنظر إليَّ نظرة عطف وإشفاق. . . بل رحت أقارن بيني وبينها: إنها ضحية مجتمع فاسد ونظم بالية سقيمة!. لقد دفعتها الأوضاع الشاذة في طريق الإثم والجريمة، بعد أن امتدت إليها أصابع الزمن العاتية، فاستلت منها خيوط الرجاء والسعادة، فأصبحت مومساً فاجرة تعيش قسراً بهذا المحيط الموبوء، وهي موصومة ببصقات الاحتقار. . . إنها عرض مهدر وشرف مضيع يعبث به من يشاء، بثمن زهيد!
وأنا. . . عربيد فاجر. . . ولا أقول ضحية ثانية من ضحايا هذا المجتمع. . . أنا دفعت بيد هذه المسكينة وبأمثالها من بنات حواء، إلى مثل هذا الطريق الشائك، طريق الإثم والغواية! وجررتها إلى مثل هذه الحياة الملتوية القذرة. . . فالويل لي ولأمثالي من أبناء آدم، والويل كل الويل لأمة لا تستطيع أن تكفل لأبنائها لقمة العيش!
وفجأة، شعرت أن بركاناً ثائر الأنفاس كان قد انبثق في تلك اللحظة في أغواري، وأحسست أن جميع أدراني وأوزاري قد تساقطت على الأرض الواحدة تلو الأخرى، وكأنني شعرت بموجة من الندم تطغى على مشاعري، وأن شعاعاً لذيذاً تسرب إلى أوصالي، فراح ينير لي تلك الزوايا المظلمة من جوانب نفسي ونوع من الشعور لم أعرفه من قبل: هذا عجب! إن روحي تغتسل في هذا الفيض الإلهي الذي يغمرني. . . فأصبحت لساعتي - وبهذه السرعة - ثائراً على الأوضاع والتقاليد ساخطاً على أهل الصلف والعجرفة من الأغنياء، كارهاً لدهري الطاغي، ناقماً على المجتمع الذي احترف الخداع ودرجة على الشر والظلم، فراح يسدل على الحقائق ستاراً من العفة الكاذبة والورع المصطنع!(916/55)
كل هذه الثورة قذفتها على العالم، على هذا الكون المائج بالخبائث والمنكر، وأنا لا أوال على المقعد لا أريم؛ عند ذاك قمت من مكاني وأنا في أشد حالات الهياج والسخط، قمت لأصب غضبي، لأقذف شتائمي ولعناتي. . . ولكن على من؟ وليس أمامي غير هذا الجسد النضو الطليح، غير هذه الضحية البريئة التي تحركت من مكانها ونهضت جالسة حين أحست بخطواتي تقترب منها. . . وجلست بقربها، وأخذت أحدق بعيونها، فوجدتها جميلة أخاذة، يشع منها بريق فيه ذل الوضيع، فيه ثورة المتكبر! وعلى قسماتها لاحت ومضات إنسان ثائر تلتمع من تحت رمادها جمرات من أنوثة ملتهبة!
وراحت تحدثني حديثاً عابراً لا شيء فيه، فكأنها اطمأنت إلى هدوئي ودعتي، وكأنها استقرت على رأي قاطع، تكهنت في أمره فلم أظفر بهذا القول الذي قطع على تصوراتي، قالت وهي تبتسم ابتسامة مغتصبة:
- بربك. . . خبرني ماذا تريد؟! لقد حيرتني. . .
فأجبتها وأنا على حيرة من موقفي هذا:
- جئت لأعرف قصتك!.
قلتها وأنا متهيب، فأجابت على الفور:
- قصتي؟!
وانفلتت منها ضحكة تخيلتها عواء مبحوحاً انطلق في جوف ذلك الليل المختنق الأنفاس، ثم أردفت وهي عابسة:
- قصتي. . . هذا بديع. . . إذن أنت لم تطلب مني لذة الجسد.
- لا. لا. . . أريد قصتك، الحقيقة أصارحك القول جئت أول الأمر في طلب اللذة، ولكنني الآن عدلت عن رأي، فلم أطلب منك شيئاً غير قصتك. . . وكفى.
وراحت تتفرس في وجهي. . . وكأنها تريد أن تنفذ إلى أعماقي لتستجلي السر الدفين الذي دفعني لأن أطلب منها هذا الطلب اليسير! ولما اطمأنت إليَّ وعرفت صدق قولي ونبل غايتي، ابتسمت قائلة:
- إذن سأكشف لك عن جراح قلب أدمته الأيام. . . قصتي أيُها الصديق تتلخص في سطور قليلة، ولا حاجة هناك للشرح الطويل والمقدمات المسهبة: تزوجت من شاب أحببته(916/56)
وأحبني. . . وبقيت سعيدة هانئة في ظلال الزوجية. . . ومرت ثلاثة أعوام كلها صفاء وبلهنية!. ومن ثم ضحكت الأقدار هازئة ساخرة، وانقلبت الكأس الحلوة، فانثالت قطراتها على اليباب!. مات زوجي مصاباً بالتدرن الرئوي وتلفت حولي فلم أجد فسخة من الأمل المنتظر، لم أجد في هذه الحياة من أركن إليه وأستظل تحت جناح رحمته، لم أجد من ينقذني مما أنا فيه. وأظنك ستسألني عن أهلي. لقد مات أبي بعد زواجي بأيام قلائل، وتبعته أمي بعد عام واحد. . . أجل لقد بقيت وحدي ضالة شريدة، حتى التقطني رجل فاجر سكير، كان قد افتتح له محلاً في شارع (الرشيد)، وقد أطلق على محله (وسيط الخدم). . .
- وسيط الخدم!!
- أجل. . . وهذا الوسيط باعني بدوره إلى تلك السمسارة التي رأيتها عند دخولك هذا المكان وهي جالسة عند الباب الداخلي وتراني ملهاة لكل من ينهد الإثم والخطيئة، أغوص في هذا المستنقع العفن، هالكة مع رغبات الرجال، أمنح نفسي لطلاب اللذة والجسد، وللكلاب المنتشرة الحائمة على الجيف، أرافق فرسان الضباب في غزواتهم ونزواتهم!.
انتهت من قصتها وأنا أتطلع إلى وجهها الذابل وقد التهبت خلفت هذا الذبول تلك الشعلة التي اعتصرتها أصابع الزمن، وخنقتها أحضان الفجور. . . فأطرقت خجلاً وحياء. . . ممن؟! لا أدري!! ولكنني شعرت بأنني أغوص إلى أذني في العار والإثم، وأنا أسمع من بعيد ضحكات عريضة مجهولة تتجاوب في أنحاء الغرفة!. تلك كانت ضحكات الشيطان!
ونظرت مرة ثانية، إلى تلك المرآة المصدئة. . . فرأيتها. . . يا للعجب! قد انجلى الغبار عنها، وتساقطت تلك الأقذار التي كانت تغطي وجهها الصقيل، فإذا بها تتلألأ بأنوار ساطعة ولمعان غريب، ينفذان إلى الأعماق. وسقطت نظراتي هادئة رخية، ورحت أتفرس في قسمات وجهي. . . أحقاً ما أرى؟ أراها مشرقة لامعة، تشع بأنوار زاهية، ببريق ساحر أخاذ لم أعهده منذ زمن بعيد. . . منذ عشر سنوات، عندما كنت، في ذلك الزمن: أدرج في النور، وأتعشق الهدوء والاستقرار، كالطفل البريء ببسمتي الضاحكة وأساريري المشرقة. . أجل كنت هكذا قبل أن أخوض هذا الخضم المتلاطم، قبل أن تجتاحني أنواء الزمن العاصفة، قبل أن اشترك في معركة هائلة، أصبحت فيها حليف الشيطان وعبد شهواته،(916/57)
أسير في موكبه طائعاً ذليلاً. . . قبل أن أكون سيد ضميري وعبد إرادتي، قبل أن أكون من راكبي الآثام والموبقات. . . قبل تنتصر جيوش الرذيلة الفاتكة على فلول الفضيلة المنحدرة. . .
والآن. . . وفي هذه اللحظات، وبعد هذا الانقلاب الفجائي، حلفت نفسي تفتيش عن طريق المتاب، تريد أن تحرق دموع الندم على عتبات المستقبل القريب.
وتلفت حولي في أرجاء المكان، وهناك امتدت نظراتي تفتش عن منفذ للخلاص، عن طريق مستقيم، عن منقذ جبار أفزع إليه بعد إخفاق الأماني. . . فرأيت صديقي، ذلك الشيطان قد نحر نفسه خائباً على عتبة هذا المخدع الذي ارتفعت في فضائه ألحان التوبة والغفران، من قلوب طهرتها الأيام وغسلتها دموع الندم والاعتراف.
وعاودت أنظر إلى صاحبتي، فرأيتها تبكي بدموع غزيرة راحت تتساقط كاللؤلؤ المنثور على خديها وتنساب على وسادتها. . . يا لها من دموع طاهرة نقية. يا لها من لحظة عصبية كشفت أمامي سر هذه الروح المعذبة الملتاعة، هذه الروح التي صفدتها أغلال الغواية، أغلال الإنسان الآثم الجاحد. . . هذه الروح التي هصرتها يد الطغاة الظالمين، فتركتها نفاية حقيرة ملقاة في زوايا النسيان.
وطغت على موجة من الإشفاق والحنان، موجة استحوذت على كيان وشغلت أحاسيسي، فصممت على أمر عظيم، أمر أقل ما يوصف به إنه عمل إنساني يثلج له صدري، وأستحق عليه مرضاة وجه ربي ومغفرته، لعله يمحو ما بذمتي من عقوق وكفران! فأمسكت بيدها ورفعتها إلى فمي لأطبع عليها قبلات حري، قبلات استفزت فيها عصى الدموع، تلك الدموع التي كنت أضن بها يضن الشحيح على كنزه. وتلفتت نحوي كأنها تستجير بي، كأنها تريد أن تقول لي: أهرب بي من هذا الأتون المتهب، من هذا الجحيم المسعور. . . هيا. . . هيا.
ولم أشعر بعد ذاك، إلا أنني أمسك بيدها وأخرج بها مسرعاً من الدار، كما لو كانت ترقبنا ألف عين، وتتسمع إلينا ألف أذن. . . وكان الليل يجود بأنفاسه الأخيرة، والشوارع توشك أن تقفر إلا من رواد الظلام، وعشاق الحانات، وفرسان الشهوات والآثام. . .
وغبنا في ثنايا الطريق، ورحنا نقطع الدروب على هدى ضوء باهر انبثق من قلبينا(916/58)
المتفجرين بإيمان جديد. . . ومشت معي طائعة سلسة القياد: لأقضي معها بقية عمري، ولأدفن بين يديها بقية من عفة لا تزال تضج في القلب.
العراق - الحلة
عبد اللطيف الشهابي(916/59)
العدد 917 - بتاريخ: 29 - 01 - 1951(/)
الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
- 2 -
دراسة الدين والسلوك الديني موضوع لن يطمح كاتب هذه السطور أن يستنبط له منهجاً جديداً؛ إنما هو يستوحي لذلك ما انتهجه بعض أئمة البحث الغربيين من مناهج، وذلك لأن هذه الدراسة قصد بها التعرف على مشكلة الدين والسلوك الإنساني في المحيطين الأوروبي والأمريكي اللذين تغزو موجاتهما دعائم الفكر العربي في هذه الآونة مما أوجد بين بعض المثقفين العرب اتجاهاً سلبيا إزاء وظيفة الدين الروحية والاجتماعية. وهذا ما يدفعني إلى اتخاذ هذا النهج على أساس الحكمة التي تقول (من فمك أدينك).
ويجب ألا يغرب عن البال أن البحث في وظيفة الدين الاجتماعية لا يعني الانكباب على دراسة (اللاهوت)؛ فاللاهوت يختص بالتعرف على التطور الفكري والتاريخي للمذاهب الروحية، بينما ينطوي علم الدين الاجتماعي على استعراض علاقة الغريزة الدينية بالحياة اليومية وما يعرف الآن بعلم الاجتماع الديني.
فالناحية اللاهوتية في الدين تعالج العقيدة من حيث أنها إيمان وذلك عن طريق الدراسة لفلسفة الوجود والتعبير الديني ممثلاً في الصلوات والعبادات. وعلم الدين الاجتماعي يتطرق إلى الظواهر الاجتماعية وصلتها بالحياة الروحية. وهذا في الواقع صلب الإشكال بين المفكرين في الغرب وانقسام الرأي فيهم بين أنصار العقل والقيم الروحية من جهة، وأنصار الغريزة البدائية من جهة أخرى.
ولا ريب أن العلاقة وثيقة بين اللاهوت وعلم الاجتماع الديني، ولكنها ليست ضرورية دائماً. ويخيل إلى أن الإسلام في بساطته ووضوح تعاليمه لا يتطلب دفاعاً لاهوتياً على النحو الذي تتطلبه الأديان السماوية الأخرى.
ولقد كثرت في الآونة الأخيرة أبحاث بعض المفكرين المسلمين في الشرق العربي عن علاقة الإسلام بالمذاهب السياسية والاقتصادية والفكرية المعاصرة. والجدل الذي أثير مؤخراً حول هذه البحوث لا يتطرق إلى صلب الدين الإسلامي ولا يجادل جوهره ومبادئه، وإنما يطوف حول الناحية الاجتماعية في التعاليم الإسلامية.(917/1)
والواقع أنه هذا الظمأ إلى دراسة هذه الناحية الاجتماعية في العقيدة الدينية قد ألهم الكثير من رجال الفكر الأوربي والأمريكي لكتابة بحوث مماثلة لهذه التي صدرت مؤخراً في العالم الإسلامي.
ولكن الفارق الرئيسي بين بحوث هؤلاء الغربيين وبين معالجات المسلمين هو افتقار الأديان السماوية الأخرى إلى التعاليم الدنيوية التي تنظم الحياة الاجتماعية. هذه التعاليم التي يزخر بها القرآن الكريم والحديث الشريف واجتهاد الأئمة المسلمين. وهذا فارق يبسط دراسة الناحية الاجتماعية في الإسلام لا على أساس من الاقتباس والاستعارة ولكن بالمقارنة وإعادة تفسير التعاليم الإسلامية وتطهيرها من الباطل الذي علق بها زوراً وبهتاناً دون مساس بالعقيدة والجوهر، وفي لغة يفهمها أهل هذا العصر.
إذن فهدفنا الرئيسي هو التعرف على علاقة الدين بالظواهر الاجتماعية. ولعل في ذلك ما يساعدنا على تفهم المغزى الجليل النفع في السلوك الديني ويوفر لنا أضواء نلقيها على عظمة الروحانية التي يحمل لواءها الدين والتي تواجه هذا التحدي من عناصر المجتمع العربي هذه الأيام.
ويجب أن نقرر في هذه المرحلة من الحديث أن الدين لم يمت ولن يموت، لسبب بسيط وهو أن السلوك الديني تعبير عن الغريزة الدينية الكامنة في أنفسنا جميعاً. والغريزة لا تموت دائماً بل تنطمر في بعض الحالات تحت ركام من العقد النفسانية والمشاكل الدنيوية. فإذا توفر لها من يزيل عنها هذا الركام برزت صافية جلية تبعث في الفرد وفي المجتمع الطمأنينة الحقة وهي سر السعادة والهناء في عالم قلق مضطرب.
فاتجاه بعض المفكرين إذن إلى دراسة الإسلام على ضوء علم الدين الاجتماعي هو نتيجة حتمية لموجة الاضطراب الفكري التي تعتري بعض المسلمين من أصحاب الثقافة الغربية في هذه الآونة - وبعض هؤلاء ابتعدوا عن الدين لا بدافع التحامل الأعمى أو الإلحاد ولكن لمجرد افتقار برامج التعليم إلى المواد الدينية بقسط أوفر من القسط الذي تحظى به هذه البرامج الآن، وافتقار الحياة الفكرية كذلك إلى بحوث علمية تدرس الدين على أسس من المناهج المستحدثة.
فالمشكلة إذن مشكلة جهل وليست مشكلة إلحاد، وإن كان الجهل في بعض الحالات يكون(917/2)
كفراً.
ولست أدعي أبداً أن دراسة الناحية الاجتماعية في الدين الإسلامي تغني عن متابعة الاجتهاد في علوم الفقه والشريعة وأصول الدين على النحو الذي تقوم به معاقل الإسلام في الأزهر وغير الأزهر. فالحقيقة أن علم الدين الاجتماعي متمم لعلوم الفقه والشريعة وأصول الدين. فالدراسة الدينية تبرز الجوهر وتشرب التفاصيل وتفسر ما استعصى على بعض الناس فهمه من ألوان الروحانية التي يحملها الدين، والدراسة الاجتماعية للدين تشرح صلاح هذا الجوهر وهذه الروحانية لاحتضان المستنجد المفيد من التفكير السياسي والاقتصادي المعاصر. والبارزة الفريدة في الإسلام أن كلتا الناحيتين متمازجتان في صورة متماسكة متشابكة الأمر الذي يورد بعض الكتاب موارد الزلل في معالجتهم لهم بالتماسك وهذا التمازج.
والخروج من هذا الإشكال يستوجب على الباحث أمرين:
1 - اختيار صادق للعقيدة والإيمان وما يستتبع ذلك. طمأنينة وسمو نفساني ونزاهة في التفكير والمقصد.
2 - إدراك للمشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعيش نفسية رجل العصر الحاضر وفي مجتمعه.
وللباحث أن يدرك كذلك الفرق بين العقيدة والإيمان وفلسفة الحياة الروحية، وبين النظرة الواقعية لمجرى الشؤون الدنيوية والسلوك الإنساني.
فليس هناك صدق علمي فيما يحلو للبعض الكتابة عنه هذه الأيام (كالاشتراكية في الإسلام) و (الشيوعية في الإسلام) وغير ذلك من عناوين؛ وإنما هنالك مجال للبحث بين علاقة التعاليم الإسلامية بالمشكلة الاجتماعية أو الفكرة السياسية وما شابه ذلك من مظاهر النشاط الإنساني.
فالاشتراكية والشيوعية نظم سياسية واقتصادية، والدين عقيدة وإيمان فوق أية دستور للنشاط الإنساني. والخلط بين الاثنين قصور عن فهم العقيدة وافتقار إلى اختيار الإيمان وعجز عن تفهم ما انطوت عليه تلك النظم الاقتصادية من أسس قد لا تنطبق على كل مجتمع في كل صعيد.(917/3)
فعلم الدين الاجتماعي لا يجوز أن يكون وسيلة لتنفيذ برنامج معين من برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي؛ والترويج لها من مقتبسات القرآن والحديث والاجتهاد، وإلا فقد الدين مزيته الرئيسية وأصبح كبرامج الأحزاب السياسية يتجدد ويتبدل بتبدل الأوضاع والملابسات.
فقبل أن تنشأ الماركسية نشأت نظم سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة تحدى بعض مروجيها العقيدة الدينية واتهموها بأنها عائق في وجه الإصلاح. ثم اندثرت تلك النظم أو تطورت إلى نظم أخرى. وبقيت العقيدة الدينية كامنة في قرارة السلوك الإنساني تحفظ الحياة وقيمها الرفيعة في خضم القلق والثورات والحروب، وتلهم الناس أسباب الطمأنينة والثقة بالعدالة الإلهية وبالاستقرار النفساني والاجتماعي. ويحب كاتب هذه السطور أن يذكر على سبيل المثال أنه اشترك في جامعة كولومبيا في نيويورك في السنة الماضية في حلقة دراسية عالجت تطور التفكير في أمريكا في فترة ما بعد الحرب فتبين لأعضاء الحلقة أن الكتب الدينية هي من أكثر المنشورات رواجاً في عالم ما بعد الحروب - رواجاً أثبتته إحصاءات الكتب الرائجة التي تنشرها الصحافة الأمريكية بانتظام.
فالنظم السياسية والاقتصادية كالماركسية مثلاً أسلوب في الحياة يستمد مبادئه من الظواهر الاجتماعية وهذه الظواهر تتأثر بالظروف والأوضاع المتقلبة بينما الدين غريزة متأصلة في قرارة النفس كغريزة الأكل واللعب. قد يأتي عليها حين ترسب خلاله إلى الحضيض لفترة قصيرة، ولكن لا مفر لها من أن تجد سبيلها إلى الشعور الواعي في الأحيان الكثيرة.
على أن هناك أموراً أخرى لا مفر من إقرارها ما دمنا بصدد الكلام عن منهج البحث منها:
1 - إدراك الباحث والقارئ معاً واعترافهما بحقيقة الاختبار الديني وقوة الإيمان والمتعة الروحية والتطور التاريخي الذي صاحب ولا يزال يصاحب التعبير عن هذا الاختبار وعن هذه المتعة. وهذا الاختبار إن كان يتنوع في وسائل روحانياته بين مختلف الأديان السماوية إلا أنه اختبار على كل حال يشترك فيه كل مؤمن.
والتنوع في اختبار المتعة الروحية يستند أولاً: إلى الاختلاف في جوهر العقيدة (كما هو الحال بين الإسلام والبرهمانية مثلاً حيث يجد بعض البرهمانين المتعة في إيلام الجسد). وتستند ثانياً: إلى اختلاف التطور الفكري بين الشعوب وطبيعة أوضاعها التاريخية(917/4)
والجغرافية والحضرية. فإذا كان المسيحي الصادق في أمريكا مثلاً يخرج من صلاة الأحد طاهر القلب صافي الذمة ليذهب ويلعب ويعاقر الكأس وهو في حل من الإثم والمعصية فإن المسلم لا يصح له ذلك، فاختبار المسلم لروحانية الدين تنفي كل ذلك. والتطور التاريخي والفكري في أمريكا أصبح يحول بين المتعة الروحية في الكنيسة وصفاء نفس المؤمن صفاء صادقاً وبين انعكافه وهو في هذا الصفاء على احتساء كأس من الخمر والتسلي بلعب الورق.
ومثل هذا تنوع جوهري لا يفطن له الذين يعالجون الناحية الاجتماعية في الإسلام على ضوء ما استوحوه من التفكير الغربي ولعل ذلك يفسر التباس الأمر عليهم في بعض أوجه العلاقة بين الإسلام والمشاكل الاجتماعية
2 - دراسة الظواهر الدينية كما تبدو في المجتمع. وهذا يتطلب تجرداً علمياً ينفذ إلى الصميم. لا يأخذ بقشور هذه الظواهر وإنما ينفذ إلى اللباب الذي كثيراً ما تتراكم عليه ألوان من العرف والعادات والتقاليد التي ليست من أصوله ولا هي من جوهره. ولعل التحامل الذي يصدر عن بعض مفكري الغرب في دراستهم للدين الإسلامي يعزى إلى فقدان هذا التجرد والعجز في إزالة الركام عن لباب الظواهر الاجتماعية. وهذا أيضاً خطأ يأخذ به بعض المحدثين من المسلمين أنفسهم إذا ما حاولوا معالجة السلوك الديني في المجتمع الذي يعيشون فيه.
3 - توزيع العمل في الدراسة العلمية: فالباحث في علاقة الدين بالمشاكل الاجتماعية لا بد وأن يكون ملماً بكلا الموضوعين إلماماً واسعاً. فالاقتصادي الذي يكتب عن الاقتصاد في الإسلام لا ينبغي أن يقتصر على ذخيرته في علم الاقتصاد وإنما يترتب عليه أن يلم إلماماً دقيقاً بهذا التراث الضخم من الشريعة الإسلامية وهو تراث ينفق الناس فيه السنوات في التعرف على بعض ألوانه. وقل مثل ذلك عن رجال الدين الذين يعالجون المسائل الاقتصادية العميقة من وجهة النظر الدينية.
ووجه القصور في بعض من كتب (الشيوعية في الإسلام) أو (الاشتراكية في الإسلام) أو (العدالة الاجتماعية في الإسلام) أنهم ادعوا ما ليس لهم به علم كاف. فالاشتراكية مثلاً مزيج من فلسفة واقتصاد وسياسة ودراسة اجتماعية وهي أدق وأعقد من أن تؤخذ في(917/5)
سطحيتها وتقارن بالشريعة الإسلامية وفروع التخصص فيها عديدة متفرقة.
فالكتابة عن العلاقة بين الدين والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية عمل يجب - إذا توخي النفع الصادق أن يشترك فيه جماعة من أهل الاختصاص في حلقة أو حلقات يقوم فيها كل في مجال اختصاصه بالدرس والبحث والتنقيب أو أن يتفرغ لها الكاتب فترة معقولة من الزمن يستعين بالمراجع الوثيقة في المواضيع التي تمس لباب البحث مساً مباشراً أو غير مباشر. مستأنساً بآراء أهل العلم حين يستعصي عليه الفهم.
أما اتباع الأسلوب الصحفي في الكتابة عن هذا الموضوع أو التصدي لمعالجته في أدب المقالة والإنشاء فلن يحقق نفعاً صادقاً.
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق(917/6)
إسعاف النشاشيبي
بمناسبة ذكرى وفاته
للأستاذ كامل السوافيري
يصادف ظهور هذا العدد من مجلة الرسالة موعد حلول الذكرى الثالثة لوفاة زعيم العربية وإمام المحققين المغفور له الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي إذ طواه الردى في منتصف ليل اليوم الثاني والعشرين من يناير سنة 1948.
ومن حق الفقيد على مجلته الأثيرة التي خصها بنقلة، أن تفسح صدرها لدمعة عليه في يوم ذكراه وهي المجلة التي استمدت وفاءها من عميدها الكبير الذي كان ثالث ثلاثة استبقاهم الوفاء بجانب الفقيد في ساعاته الأخيرة، والذي عده الفقيد ثالث الكتاب بعد الجاحظ وأبي حيان وقال عنه أنه أمير النثر والناثرين وإنه سيد البلغاء. وهيهات لعلمي العاجز أن يتطاول فيحاول أن يوفي الفقيد حقه، أو يحصر مآثره على لغة الضاد وهو الذي حمل لواء الدفاع عنها خمسة وستين عاماً يصول في كل ميدان، ويجول في كل حلبة فما نبا له صارم ولا كبا به جواد. ولكنها عبرة أسكبها وزفرة أرجيها تقديراً لعلم من أعلام الأدب وكوكب مشرق في سمائه طالما أرسل ضياءه إلى دنيا العرب والعروبة.
ومن حق الفقيد على الأدباء في مصر والعالم العربي أن يحتفلوا بذكراه وهو الذي دوى صوته مجلجلاً في القدس ودمشق وبيروت والقاهرة وبغداد فهز القلوب بأسلوبه الرائع، وبيانه الساحر. ولكننا في الشرق - والأسى يملأ الجوانح - نضن بالوفاء على الأحياء فكيف بمن ضمهم الثرى، ووارهم التراب.
لقد كان الفقيد طرازاً خاصاً من الأدباء تعصب للفصحى واعتز بلغة الضاد وتصدى للداعين لنبذها والاستعاضة عنها برلمانة الغوغاء ورماهم بشواظ من بيانه فأخرس ألسنتهم، وله في ذلك مواقف رائعة تختال لها لغة عدنان بشراً وطرباً.
تعصب إسعاف للغة العربية لأنه يراها أهم عنصر في القومية، فمن تنكر للغته فقد تنكر لقوميته؛ ومن تنكر لقوميته فقد غدا حرباً على أمته وبلاده. وفي هذا يقول (اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. واللغة ميراث أورثه لآباء الأبناء، وأحزم الوارث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع، وإنا أمم(917/7)
اللسان الضادي لعرب وإن لغتنا لهي العربية وهي الإرث الذي ورثناه وإنا لحقيقون - والآباء هم الأباء واللغة هي اللغة - بأن نبقى عربية الجنس وعربية اللغة.) ولقد قضى الفقيد القسم الأول من حياته مدرساً للغة العربية في مدارس فلسطين قبل الانتداب البريطاني وبعده ثم سمت به كفاءته فارتقى حتى وصل إلى درجة التفتيش العام للغة العربية في القطر بأسره. فنهض بها نهضة ارتفعت بها إلى أسمى الدرجات رغم أن حكومة الانتداب البريطاني كانت تقاوم ازدهار اللغة العربية، وتحول دون تبوئها المكانة اللائقة كلغة قومية في قطر عربي. ومن مآثره الجليلة في هذه الناحية كتاب أسماه البستان اختار فيه مقطوعات شعرية، وكلمات نثرية يستظهرها الطلاب في مدارس فلسطين الابتدائية والثانوية، وكان موفقاً كل التوفيق في الاختيار إذ بث في نفوس الناشئة حب الوطن، والتطلع للمجد، والتأهب للوثبة. وله غير بستانه الزاهر رسائل منها كلمة في اللغة العربية وكلمة في رثاء أمير الشعراء شوقي بك، وثالثة في الزعيم إبراهيم هنانو. وآخر مؤلف طبعه كتاب الإسلام الصحيح. ورغم أن إسعاف قد ارتقى إلى ذروة المجد، وتسلم الشهرة في أفق اللغة والأدب، فقد كان على جانب كبير من دماثة الخلق، وحسن الطبع، وعظم التواضع حتى ليشعر محدثه بأنهما في مستوى واحد، والفرق كبير والبعد شاسع. وهو محدث لبق، والذين أتيح لهم أن يصغوا إليه في الكونتنتال حين يتوسط الحلقة، ويدير الدفة يشهدون ببراعة في الحديث وإجادة في التعبير. ولقد وقف إسعاف حياته على خدمة العربية لغة القرآن، وما رأيته إلا قارئاً أو خطيباً أو كاتباً أو معقباً أو مصححاً يستتر بأسماء متعددة ويتخفى بأزياء متباينة لأنه لا ينبغي مزيداً من شهرة أو ظهور.
والمجلات الشهيرة في العالم العربي وفي مقدمتها الرسالة في مصر ومجلة المجمع العلمي في دمشق زاخرة بأبحاث الفقيد في شتى النواحي العلمية والأدبية.
ولقد كان إسعاف قوي الإيمان، راسخ العقيدة. فاهماً للإسلام حق الفهم، القرآن حداؤه وغناؤه، والرسول الكريم قدوته وفي (خورنقه) نجد اسم محمد صلى الله عليه وسلم معلقاً أمامه على الجدران في صور متعددة. يا محمد - أنا عبدك يا رسول الله.
وتهتز أعطافه عندما يرتل آي الذكر الحكيم ترتيل العربي الصميم الذي أحاط بأسرار اللغة العربية ففهم الآيات الفهم الكامل وأدرك ما ترمي إليه من أهداف ومقاصد، وهو الذي يقول(917/8)
في القرآن:
(يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك حق قدرك، لقد هلك من كنت تتلو عليهم آياتك فيدهشون ويخرون سجداً وبكيا. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البالغة إلا عربي قح صليب لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة)
وبعد فقد عرفت إسعاف عندما استظهرت أول مقطوعة من بستانه في مدارس فلسطين؛ ثم امتد بي الزمن فالتقيت به وعرفته محدثاً ومحاضراً وكاتباً وخطيباً مفوهاً يستحوذ على القلوب ويلعب بالعواطف، وكان إعجابي به يتزايد وتقديري له يعظم؛ ولكني دهشت للجهد الجبار الذي بذله في إخراج كتابه (الإسلام الصحيح) الذي تفضل بإهدائه إلي منذ عشرة أعوام.
لقد أخرجت مطبعة العرب في القدس هذا الكتاب سنة 1354هـ وقد ذكر فيه المؤلف بعض المراجع، وأخذت أنا أحصي ذلك البعض فإذا به لا يقل عن مائتي مرجع في شتى العلوم والفنون من لغة وأدب وتاريخ وملل ونحل وفقه وشريعة وأصول، ولما تصفحت الكتاب وجدت في ثنايا صفحاته مراجع أخر غير التي ذكرت قبلاً فلم أستطع تجاه ذلك المجهود إلا أن أحني هامتي إجلالاً واحتراماً لتلك القدرة على الدرس والبحث والاستقصاء التي قلما تتهيأ لكثير من الناس.
ولقد صدر الفقيد ذلك الكتاب الذي نفدت طبعته بمقدمة صغيرة جاءت آية في البلاغة والإعجاز وبرهان صدق على تمسك الفقيه بدينه، واعتزازه بيقينه؛ إذ يقول عن الإسلام (الإسلام هو دين الحق. ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ومحمد خير الخلق وهذا الكتاب وهذا الأثر وهذا تاريخ البشر فاقرأ كتاب كل دين وانظر أثر كل عظيم وفتش صحف التاريخ واحكم إن كنت من الحاكمين. هات، هات وهيهات أن تجد مثل القرآن وحياً أو رقيماً، واذكر نظير محمد نبياً أو عظيماً إن تذكرت أو تفكرت ونقبت وحققت فمثل القرآن كتاب الله مات أوحى الله وما أنزل، ومثل محمد (صلى الإله على محمد) فمثل محمد في الدنيا ما كان ومثل محمد في العالم لن يكون) ويتحدث عن القرآن فيقول:
الضياء قد بهر إشعاعه في حروف وكلمات، والكهربية إلهية تسري في عبارات،(917/9)
والمعجزات - لا الشعبذات - بينات في آيات وإلهي من لدن الله يسير في الأرض مع الناس هادياً ودليلاً ذلكم هو القرآن الذي يتلوه القارئون.
محمد دينه التساوي ودينه العدل والنصفة، فلا شريف ولا مشروف ولا كبير ولا صغير ولا أمير ولا مأمور ولا قبيل أفضل من قبيل ولا قوم خير من (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والفضل بالفضل والتقديم بالفعل وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
رحمك الله إمام العربية، وأمطر على قبرك شآبيب الرحمة والرضوان جزاء ما أسديت للغته وقرآنه.
كامل السوافيري(917/10)
الفارابي في الشرق والغرب ومكانته في الفلسفة
الإسلامية
- تتمة -
للأستاذ ضياء الدخيلي
والحقيقة أن سمو مكانة الفارابي في الفلسفة كان حديث المتقدمين ولم يزل حديث المتأخرين العصريين. قال الأستاذ (أبو ريده) في تعاليقه على كتاب (تاريخ الفلسفة في الإسلام) للمستشرق (دي بوير) إذا كان الكندي قد أعتبر فيلسوف العرب تمييزاً له عن أقرانه من الفلاسفة غير العرب فإن الفارابي يعتبر فيلسوف المسلمين بالحقيقة كما يقول صاعد الأندلسي في طبقات الأمم وفيلسوف المسلمين غير مدافع كما يقول القفطي في أخبار الحكماء. أما ابن خلكان فإنه يقول في وفيات الأعيان إن الفارابي كان أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته ويقول ظهير الدين البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام المخطوط في دار الكتب المصرية، وكان أبو علي تلميذاً لتصانيفه وأورد هذا الرأي الشهرزوري أيضاً في كتابه نزهة الأرواح وروضة الأفراح المصور بمكتبة الجامعة المصرية. ويكاد يلمس الإنسان صحة هذا الكلام فيما يفوق الحصر من آراء ابن سيناء التي أخذها عن الفارابي من غير تغيير ف ألفاظها. ونكاد لا نجد في فلسفته شيئاً إلا وأصوله عند الفارابي. ويقول ديترصي في مقدمته لرسائل الفارابي (إن الفارابي مؤسس الفلسفة العربية) والذي يقرأ الفارابي يجد في تفكيره طرافة ونضوجاً وفهماً عميقاً يدل على طول تأمل في الفلسفة. وإذا كان الكندي الفيلسوف العربي كما ألمع (دي بوير) قريب الصلة بالمتكلمين وبالفلاسفة الطبيعيين - ونستطيع أن نعرف هذا من أسماء مؤلفاته - فقد لا نكون بعيدين عن الصواب إذا قررنا أن الفارابي أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة وقد كان يحيا حياة الفلاسفة من زهد وانقطاع إلى التأمل.
وتذكرني كلمة (ديترصي) هذه التي تحدثنا عن إعجاب الفكر الغربي بالطرافة والنضوج والفهم العميق الذي بدل على طول تأمل في الفلسفة والأمور التي يوجدها في ما دونه الفارابي من الآثار الخالدة - يذكرني هذا بما قرأته للعقاد في رسالته عن (أثر العرب في(917/11)
الحضارة الأوربية) إذ قال إن الآراء الفلسفية التي قال بها أمثال الفارابي والكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل - لا تعد غريبة كل الغرابة عن مذاهب العصر الحديث لأنها لم تخل عن آراء تكلم فيها أساطين الفلسفة الإسلامية وعرضوا لها إما بالإسهاب أو بالإيجاز) وقد قال العقاد بعد ذلك ومن المشابهات غير البعيدة (أي بين آراء القدماء والمصريين) ما يصح أن يسمى الطور الأول لمذهب التطور (الذي نسب إلى داروين وكتابه أصل الأنواع) وقد عبر عنه الفارابي حيث قال في آراء أهل المدينة الفاضلة مفسراً لأقوال المعلم الأول إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولاً أخسها ثم الأفضل فالأفضل إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة والأفضل منها الأسطقسات (وهي الأصول والعناصر وهي على زعمهم الماء والتراب والهواء والنار) ثم المعادن ثم النبات ثم الحيوان غير الناطق وليس بعد الحيوان الناطق (أي الإنسان) أفضل منه. وقد تقدم لديترصي أن أعتبر الفارابي المؤسس للفلسفة العربية ويظهر أن هذا الرأي لم يقتصر على ذلك الكاتب الغربي فقد شاركه فيه بعض المؤلفين في الشرق فقد جاء في كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) في رأينا أن الفارابي (950م) على الرغم من جهل الناس به هو الأب الحقيقي للفلسفة الإسلامية فقد شاد بناءها وألم بأجزائها الرئيسية رابطاً بعضها ببعض ولا نكاد نجد فكرة عند خلفائه إلا ولها أصل لديه، وكل ما لهؤلاء من فضل غالباً أنهم وضحوا غامضه وفصلوا القول فيما أجمله. ويخيل إلينا أنه أعرف فلاسفة الإسلام بتاريخ الفلسفة لذلك نراه يتحدث عن المدارس اليونانية وبين الفوارق التي تفصل كل واحدة منها عن الأخرى ويحاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو طاليس (فيلسوفي يوناني في رأيه بلا جدال) وقد ألف كتباً عدة بعضها شرح لمؤلفات أرسطو طاليس أو مختصرات لها وبعضها الآخر كتبه ابتداء ليعبر به عن رأيه وبحثه الخاص وما وصلنا من هذه الكتب كاف لتفهم نظريته) وفي كتاب (نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس) أن الفارابي التركي الحكيم المشهور صاحب التصانيف المشهورة في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم كان من أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن من بلغ رتبته في فنونه ويقول الأستاذ محمد فريد وجدي في (دائرة المعارف) الفارابي أبو نصر التركي الفيلسوف المشهور هو أكبر الفلاسفة الإسلاميين له تصانيف عديدة في(917/12)
المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم لم يكن من المسلمين من بلغ رتبته في فنونه) وترى تقارب العبارتين في الصيغة والمعنى والمبنى والظاهر أن مؤلف دائرة المعارف أخذ الترجمة من هذا الكتاب أو كلاهما تطفلاً على مؤلف ثالث، وكان العباس بن علي بن نور الدين المكي الحسيني فرغ من تأليف نزهة الجليس سنة 1148هـ.
ويقول الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) ومن أشهر فلاسفة الإسلام أبو نصر ويعتبر أكبر فلاسفة المسلمين حتى لقب بفيلسوف المسلمين بالحقيقة وفيلسوف المسلمين غير مدافع أما ابن تغري بردى الأتابكي في (النجوم الزاهرة) فإنه يورد فيمن ذكر الذهبي وفاتهم في سنة 339 هـ قوله (وأبو نصر الفارابي صاحب الفلسفة) أما أبو الفداء المتوفى سنة 732 هـ فيكتفي أن يقول في تاريخه وفي هذه السنة توفى أبو نصر الفيلسوف ثم يتحدث عنه وعن دراسته وأسلوب حياته وأشياء أخرى ولكنه لا يهبه تلك الألقاب الضخمة التي يضفيها عليه من ذكره من المؤلفين الآخرين. ويقول ابن النديم من القرن الرابع في (الفهرست) (أبو نصر. . . من المتقدمين في صناعة المنطق والعلوم القديمة وجرجي زيدان من المتأخرين يقول عن الفارابي في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) (وكان فيلسوفاً كاملاً درس كل ما درسه من العلوم وفاق في كثير منها وخصوصاً المنطق) ويقول الزركلي في (الأعلام) الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين ويقول ابن الأثير في التكامل) (وفيها توفي الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف فيها) ويقصد إعادة الضمير من (فيها) إلى الفلسفة المفهومة ضمناً. ويحدثنا ياقوت الحموي المتوفى سنة 606هـ في (معجم البلدان) وإليها (إلى فاراب) ينسب أبو نصر الفارابي الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف في فنون الفلسفة.
وهنا نلاحظ أن ياقوتا الحموي وابن الأثير وغيرهما يذكرون في التعريف بالفارابي أنه صاحب التصانيف في فنون الفلسفة فلا بد أن تكون لفيلسوف المسلمين جملة مؤلفات ولكن المتداول والمعروف منها شيء زهيد لا يثير الكاتب عن الفارابي لأن ينعته ويعرفه بأنه صاحب التصانيف في فنون الفلسفة. ثم إن مؤرخي حياته يقولون أنه كان يقضي حياته بين الأشجار يكتب. إذن فهو مواظب دائب على الكتابة والتأليف منقطع عن الناس منعزل قد توفر وكرس وقته للكتابة وذلك يقتضي أن يكون كثير الإنتاج فأين ذهبت آثاره؟ لا شك(917/13)
في أنه كان له جملة كتب ومؤلفات ضاعت من العالم الإسلامي فيما ضيع من كتب علمائه وفلاسفته بتأثير النكبات وغزوات التتار.
والحروب والفتن الداخلية وقد لاقت كتبه مقاومة عنيفة من الغزالي وأنصاره ومن ابن تيمية وأتباعه ومن الحنابلة الذين لعبوا في بغداد أدواراً مهمة في اضطهاد الفلسفة. ويؤيد ما تقدم من ضياع كثير من مؤلفات الفارابي ما وجدته في كتاب (فصول الحكماء) إذ يروي مؤلفه محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي عن البيهقي أن للفارابي كتباً كثيرة يجهلها الناس وقد قال إن العلامة ظهير الدين البيهقي رأى في خزانة نقيب النقباء بلري كتباً كثيرة من مؤلفات الفارابي لم تطرق سمعنا وهي بخط الفارابي) وهذا مما يؤيده العقل إذا رجع إلى الأسباب المتقدمة.
والحق أن الناس قد تحدثوا كثيراً عن مكانة الفارابي في الفلسفة. قال الأستاذ مصطفى عبد الرازق يقولون الحكماء أربعة اثنان قبل الإسلام وهما أفلاطون وأرسطو، واثنان في الإسلام وهم أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا. وكان بين وفاة أبي نصر وولادة ابن سينا حوالي ثلاثين سنة وكان أبو علي بن سينا تلميذ لتصانيف الفارابي يعترف أنه لولاهما لما اهتدى إلى فهم ما بعد الطبيعة. وكما لقب أفلاطون بالحكيم الإلاهي وأرسطا طاليس بالمعلم الأول لقب الفارابي بالمعلم الثاني وابن سينا بالشيخ الرئيس وآراء الناس مختلفة في تقديم الفارابي أو ابن سينا. يقول ابن خلكان عن الفارابي (وهو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه والرئيس أبو علي بن سينا المقدم ذكره بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه) أما الشهرستاني فيقول عند الكلام على فلاسفة المسلمين (ومنهم الفارابي وإنما علامة القوم أبو علي ابن سينا) فهو إذن يقدم ابن سينا على من اعتبره ابن خلكان أستاذه.
وهذا ابن سبعين الفيلسوف الصوفي الأندلسي الذي يقال أنه انتحر بمكة شوقاً إلى الاتصال بالله سنة 669هـ ويقول في كتاب له مخطوط ما نصه نقلاً عن المجموعة التي نشرها الأستاذ ماسنيون المستشرق الفرنسي المعروف (وأما الفارابي فقد اضطرب وخلط وتناقض وتشكك في العقل الهيولاني وزعم أن ذلك تمويه ومخرفة ثم شك في النفس الناطقة هل غمرتها الرطوبة أو حدثت بعد وتنوع اعتقاده في بقاء النفوس بحسب ما ذكر في كتاب(917/14)
الأخلاق وكتاب المدينة الفاضلة والسياسة المدنية وأكثر تآليفه في المنطق وعدة كتبه نحو خمسة وسبعين كتاباً وفيها من الإلاهيات تسعة وهذا لرجل أفهم فلاسفة الإسلام وأذكرهم للعلوم القديمة وهو الفيلسوف فيها لا غير، ومات وهو مدرك ومحقق وزال عن جميع ما ذكرته وظهر عليه بالحق بالقول والعمل ولولا التطويل لذكرت ذلك مفصلاً) هذا ما يقوله أبن سبعنين وقد تناول بالنقد اللاذع بل بالتحقير الشنيع أبن سينا والغزالي وأبن رشد.
إلى هنا نقف لنعود في القريب العاجل لنعرض لقراء الرسالة الكرام صفحات رائعة لأثر فلسفة الفارابي في العقل البشري فنستعرض سياحة الفارابي في أوربا ونشهد الموجات العنيفة الثورة التي صدمت هذا الفيلسوف فنستعرض الفارابي تحت مطارق خصومه في الشرق والغرب فإلى الملتقى.
بغداد
ضياء الدخيلي(917/15)
ذكرى الشاعر الثائر
معروف الرصافي
للأستاذ حمدي الحسيني
السيد معروف الرصافي رحمه الله شاعر عربي فحل، ولد في العراق ونشأ فيه، اشتغل بالتعليم في العراق والآستانة والقدس ودخل مجلس النواب العثماني نائباً عن متصرفيه - المنتفك - من أعمال العراق. عاصر عبد الحميد واكتوى مع الشعوب العثمانية عامة بنار مظالمه، فتألم لشدة وقع تلك المظالم ولكنه لم ينطو على ألمه شأن المستضعفين من الناس الذين يقع الظلم على رؤوسهم فيطأطئون تحت صارين، وينصب الأذى على نفوسهم فيحتملون الأذى خاضعين، بل ثار على الظلم ثورة عنيفة صاخبة وقاوم الأذى مقاومة قوية صارخة. وقد شهد الانقلاب العثماني وسقوط الجبار عن العرش، فثارت الحمية في نفسه وصاح في وجه الجبار بصوت متهدج جهوري يحمل كل عواطف إرواء الغليل وشفاء الصدر، ورأى طلعة الدستور البهية مشرقة على الإمبراطورية العثمانية فكبر وهلل ورحب بالدستور ترحيب الصب المستهام وتغنى بحسناته بأعذب الأنغام.
خالط الاتحاديين وهم في منصة الحكم وفي ظل الدستور فأطرى مؤنباً عاتباً معنفاً. ورأى توثب العرب للنهضة وتحفزهم للنضال في سبيل الحرية فأحس بإحساسهم ومشى في صفوفهم يثير في نفوسهم ما كمن من القوة ويحرك في عواطفهم ما خمد من الانطلاق والحركة. واتصل بالملك العربي بالشام والعراق وبالحركات الوطنية في العراق وسوريا وفلسطين فابتأس وتنعم وبكى وتبسم.
والرصافي كما عرفناه في القدس بالمعاشرة، وفي شعره بالسماع والمطالعة، عميق الشعور حاد الذكاء مرهف الحس حائر النفس قلق العواطف مكبوت الرغبات، وهو على علمه وفضله وعلو كعبه في اللغة والأدب وعلى سبقه في الحركة العربية القومية وجليل أثره في ميدان الكفاح في سبيل الحرية والاستقلال كان يعيش في ضنك من الحياة وبؤس في العيش ولكن هذا الضنك وهذا البؤس لم يؤثرا على عزة نفسه ولم يسلماه لغير الكرامة وعلو الهمة. وكثيراً ما كان يتمثل بهذا البيت: -
تعود كل بؤسها ونميمها ... وعشنا على بؤس ولم نتعود(917/16)
وكل ما فعل الفقر في نفس الرصافي هو الكبت: فقد كبت الفقر (وإن شئت فقل الشعور بالنقص) غريزة التغلب والسيطرة فأنكبت هذه الغريزة القوية العنيفة فأقضت عليه مضجعه وزلزلت أركان حياته، حتى هدته المعرفة إلى ما تعانيه الأمة العربية من آلام القهر والخضوع، فرأى في قهرها صورة لسلطته المقهورة فدفعه هذا التشابه إلى التفكير في الغير بدل التفكير في الذات تخفيفاً لألم الكبت. فراح الرصافي بعد هذا الانتقال النفسي بصف ما تلاقي الأمة العربية من ألم الخضوع لظلم المستبدين من الحكام، ومرارة الانقياد لسلطان الجهل وحكم العادات الضارة والتقاليد السقيمة. وهو بهذا إنما يصور رغبته في الحرية لتطبقها الأمة في نضالها. ومن حسن حظ الأمم المستضعفة أن يكون بين أفرادها أمثال الرصافي ممن كبتت فيهم رغبة الحرية ووهبهم الله قوة البيان سلاحاً يقتلون به عدو الأمة وعدوهم. فهؤلاء المكبوتون في الأمم الخاضعة المقهورة كالحرارة في الأجسام والنور في الظلام والحد القاطع في شفرة الحسام، أحس الرصافي بالظلم الواقع على الأمة العربية من قبل السلطان عبد الحميد وحكومته المؤلفة من أوباش الناس؛ ورأى الخضوع لهذا الظلم بادياً على الأمة العربية بدواً شائناً معيباً وهي الأمة العريقة في الحرية والاستقلال والعزة والكرامة فتأذى بهذا الظلم وبرم بهذا الخضوع فنظم قصيدة سماها (تنبيه النيام) وبدأها بالتساؤل عن الوقت الذي تنبه فيه الأمة العربية فتدفع عن نفسها الأذى وتسترجع حقها المسلوب ويبدي تعجبه لصبرها على الضيم وبقائها على الظلم.
عجبت لقوم يخضعون لدولة ... يسوسهم بالموبقات عميدها
وأعجب من ذا أنهم يرهبونها ... وأموالها منهم ومنهم جنودها
ولكن ما قيمة التألم في هذا المعرض. فخير منه توجيه الأمة إلى الهدف؛ وأي هدف أحلى من الحرية في نظر الأمم المستعبدة.
ألا إنما حرية العيش غادة ... منى كل نفس وصلها ووفدها
يضيء دجنات الحياة جبينها ... وتبدو المعالي حيث أقلع جيدها
أخذ الرصافي يقذف بحممه في وجه الظالم المتربع على العرش ويهدي باقات عواطفه المعطرة لأمته الخاضعة فينعشها ويغذيها ويحفزها. حتى حدثت في نجد حوادث دامية بين ابن الرشيد حليف السلطان وابن السعود خصيمه فاهتبل السلطان الفرصة وساق على(917/17)
المتخاصمين جيشاً عربياً ليفك الخصام في الظاهر وليعين ابن الرشيد على ابن السعود في الباطن فاشتبك الجيش مع المتخاصمين وكلهم عرب، فجرت الدماء حتى صبغت رمال الصحراء تحقيقاً لرغبة السلطان الذي أراد أن يضعف من قوة العرب بقتل زهرات شبابهم من الحاضرة والبادية ويباعد بين صفوفهم بتقوية البغضاء والعداوة بين أمرائهم وقادة الرأي فيهم فقام الرصافي لهذا الحادث وقعد، برق ورعد، ونظم قصيدة سماها (إيقاظ الرقود) خاطب بها العرب ووضع أمامهم ما أراد السلطان بسوق الحملة العربية على الأميرين العربيين في قلب الجزيرة العربية
حكومة شعبنا جارت وصارت ... علينا تستبد بما أشارت
فلا أحداً دعته ولا استشارت ... وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الحدود
ولم ينس الرصافي في هذا الموقف أن يوجه إلى الأميرين المتقاتلين أقسى عبارات اللوم والتعنيف على ما ارتكبا من الأعمال التي تتنافى مع مصلحة الأمة العربية، وأخذ يستعرض ما أصاب الجنود العرب من قتل وفشل في تلك المعركة المشؤومة وحاشا للرصافي أن ينسى عبد الحميد في هذا الموقف وهو منبع بالآلام الجسام والمصائب الضخام.
أقول وليس بعض القول جداً ... لسلطان تجبر واستبدا
تعدى في الأمور وما استمدا ... ألا يا أيها الملك المفدى
ومن لولاه لم نك في الوجود
أنم عن أن تسوس الملك طرفاً ... أقم ما تشتهي زمراً وعزفا
أطل نكر الرعية خل عرفا ... سم البلدان مهما شئت خسفا
وأرسل من تشاء إلى اللحود
فدتك الناس من ملك مطاع ... ابن ما شئت من طرق ابتداع
ولا تخش الإله ولا تراع ... فهل هذي البلاد سوى ضياع
ملكت، أو العباد سوى عبيد
تنعم في قصورك غير دار ... أعاش الناس أم هم في بوار(917/18)
فإنك لم تطالب باعتذار ... وهب أن الممالك في دمار
أليس بناء (بلدز) بالمشيد
ظل الرصافي على هذه الحال تغلي عواطفه في صدره بمقاومة الظلم وتتطاير قذائف حقده على الاستبداد والخسف بنظم القصيدة في بغداد ويرسلها للنشر في مصر حتى تم الانقلاب العثماني وسقط عبد الحميد عن العرش فصاح بصوت جهوري:
قمنا على الملك الجبار نقرعه ... بالسيف منصلتاً والرمح مهزوزا
حتى تركناه في هيجاء معضلة ... ألقت ضراماً على الطائفين مأزوزا
إنا لنأبى على الطاغي تهضمنا ... حتى نهوز في الهيجاء تهويزا
ونأكل الموت دون العز نمضغه ... كمضغنا التمر برينا وسمربزا
لا عاش من لا يخوض الموت مرتضيا ... بقاءه بعصى الذل موكوزا
صاح الرصافي صيحته في وجه الجبار الهاوي عن العرش والتفت يتغنى بالحرية والعدالة والمساواة ويشيد بذكر الدستور وأبطال الانقلاب غير مفرق بين عنصر وعنصر من مجموع العناصر العثمانية حتى رأى الاتحاديين يبيتون ضد العرب ورأى العرب يتنبهون للأمر فيطلبون حقهم في الإصلاح وحقهم في الاستقلال الذاتي فكشر في وجه الاتحاديين وأقبل على العرب يحضهم على طلب الحرية وبذل الثمن لهذه الحرية التي لا تذوق أمة طعم السعادة بدونها ولا يصل إليها شعب إلا بدماء المهج، فنظم قصيدة سماها (في معرض السيف) يؤيد بها الحركة الإصلاحية في بيروت ويدعو جميع العرب إلى الانضمام إليها:
هي المنى كثغور الغيد تبتسم ... إذا تطربها الصمصامة الخذم
دع الأماني أو رمهن من ظبة ... فإنما هن من غير الظبا حلم
والمجد لا يبتنى إلا على أسس ... من الحديد وإلا فهو منهدم
والحق لا يجتنى إلا بذي شطب ... ماء المنية في غربيه منسجم
فللحسام صليل يرتمي شرراً ... مفتقاً أذن من في أذنه صمم
وإنما العيش للأقوى فمن ضعفت ... أركانه فهو في الثاوين مختوم
والمجد يأثل حيث البأس يدعمه ... حتى إذا زال زال المجد والكرم
ومن حسنات الرصافي الإحاطة بجميع النواحي المهمة من حياة الأمة العربية ولا سيما(917/19)
نواحي الوحدة التي تستمد منها قوتها في نضالها فوجه إلى إخواننا المسيحيين قصيدة عصماء سماها - في سبيل الوطن - أعلن فيها أن عناصر الوحدة بين العرب هي اللغة والوطن والإيمان بالله:
إذا جمعنا وحدة وطنية ... فماذا علينا أن نعدد أديان
إذا القوم عمتهم أمور ثلاثة ... لسان وأوطان وبالله إيمان
فأي اعتقاد مانع من أخوة ... بها قال إنجيل كما قال قرآن
ولنسمع الآن هذه الصيحة القوية المدوية يرسلها الرصافي من أعماق نفسه فترددها نفوس العرب الذين ربط الاتحاد القومي بين قلوبهم:
فمن مبلغ الأعداء أن بلادنا ... مآسد لم يطرق ذراهن سرحان
وإنا إذا ما الشر أبدى نيوبه ... رددناه عنا بالظبا وهو خزيان
سنستصرخ الآساد من كل مريض ... فنمشي إلى الهيجاء شيباً وشبان
أسود وغى تأبى الحياة ذميمة ... وتلبس بالعز الردى وهو أكنان
ومقاحيم تصلى المعمدان مشيمة ... إذا احتدمت في حومة الحرب نيران
وتكسو العراء الرحب مسح عجاجة ... يمج بها السيف الردى وهو عريان
ستنهض للمجد المخلد نهضة ... تقربها حوران عيناً ولبنان
وتعتز من أرض الشآم دمشقها ... وتهتز من أرض العراقيين بغدان
وتطرب في البيت المقدس صخرة ... وترتاح في البيت المحرم أركان
وتحسن للعرب الكرام عواقب ... فيحمدها مقت ويشكر مطران
حمدي الحسيني(917/20)
من مجالس الأدب
أديب يتعاظم. . .!
للأستاذ محمد رجب البيومي
إلى الأستاذ محمد كرد علي
قرأت المقال الذي نشره الأستاذ الحوماني بأحد أعداد الرسالة تحت عنوان (هؤلاء كلاب) فرأيت أن أعرض عليك ما سبق أن قاله أحد أدباء القرن السادس الهجري في زملائه لتكون على بينة من أخباره، ولن أفتري على الرجل فأنطقه بما لم يقل، ولكني تقيدت بما روى المؤرخون عنه، وهاأنذا أضع بين يديك المراجع التاريخية، فأنت رجل مراجع وفهارس وتقبل فائق احترامي.
م. ر. البيومي
(ياقوت الحموي يتوجه إلى مسجد الخضر في آمد، ويقابل شيخ أدبائها علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت الشهير بشميم الحلى ويدور بينهما الحديث التالي)
ياقوت: السلام عليكم يا سيدي الجليل.
شميم: عليك السلام ورحمة الله، من أنت؟
ياقوت: أنا ياقوت الحموي جئت إلى آمد اليوم، فوجدت حديثك على كل لسان، وسمعت المدح ينثر عليك بدون حساب، فرأيت أن أحظى بمقابلتك، وأنهل من معينك الفياض.
شميم: كأنك لم تسمع بي إلا حين جئت إلينا اليوم، مع أن مؤلفاتي العديدة قد تناقلها الناس في الآفاق، وذاع حديثها في أنحاء حلب وبغداد وخراسان. .!
ياقوت: لا يا مولاي فقد سمعت الكثير عن أدبك وإنتاجك، ولكني حين نزلت آمد، ولمست إعجاب الناس بك، تذكرت ما أعرفه عنك، وهرعت إلى لقائك، راغباً في الاستفادة والتوجيه!
شميم: إنني كما تعرف، متنوع الثقافة، متشعب المعارف، ففي أي فن تريد أن يجري الحديث؟
ياقوت: لقد شغفت بالأدب ورواية الشعر والتاريخ وإنني لأرجو أن أنقع لديك القليل.(917/21)
شميم: أنظر أمامك، فهذا صوان ضخم مليء بالكتب الأدبية التي ألفتها من ذاكرتي دون أن أستعين بمؤلفات أحد، فهل شاهدت في رحلاتك المسهبة من له هذا القدر من التأليف؟
- هذا مجهود كبير يا مولاي، ولكنه غير مستغرب من أديب كبير عكف على الأدب والشعر حقبة من الزمن، ولعلك تخبرني عن طريقتك في التأليف، وكيف تختار المواضيع التي تدج فيها القول، حتى انفق لك هذا التراث الثمين.
- أنا لا أطرق الأبحاث الهينة المريحة، التي يعمد إليها جمهور المؤلفين، ولكني أعمد إلى المعجز العصي من آثار السابقين فأعارضه بما أراه، فتكون معارضتي ماحقة ساحقة، وأنت تعلم ما ذاع عني من المقدرة والإبداع!!
- لقد قرأت بعض معارضاتك، ولكن اختلاف الأيام قد أفسد الذاكرة وشقت الانتباه، فهل لي أن أعرف منك من عارضتهم من البلغاء لأسجل ذلك فيما بين يدي من أوراق.
- لقد رأيت الناس يعجبون بأبي تمام وهو حقير فدم، إذا قيس بي، سمعت بعض الثناء على حماسته التي جمعها من أشعار الناس، فأردت أن أخمله بحماسة جمعتها من شعري الخاص. ولم أستنجد الشعراء الآخرين كما فعل ابن أوس الذليل، فجاءت حماستي ضرباً من السحر الحلال.
- هل لك أن تسمعني بعض خرائدها الجياد؟
- حماستي مشهورة معروفة فسل عنها الناس، وأظنك ستتجاوز حدود الأدب في السؤال!
- معاذ الله أن أتجاوز الحد معك أيها السيد الجليل، ولكني ظامئ إلى المعرفة والعلم، وقد قدمت بلدتك من أجلك وحدك، فكيف أخرج منها خالي الوفاض؟
- أعرف تماماً أنك جئت إلى آمد لتزورني، فليس بها من تشد إليه الرحال سواي، ولن أسد في وجهك الطريق فسلني عما تشاء.
- سأترك الكلام في أبي تمام كيلا تغضب علي، وأحب أن أسألك عمن عارضتهم من الشعراء سواه.
- لقد عارضت الكثيرين غير حبيب، فأبو نواس قد نظم في الصهباء قصائد عامرة سارت مسير الشمس، وظن الناس أنه لم يدع شيئاً لغيره، فتصديت له معارضاً فأسقطت معجزته من يده، ونظمت في الخمر عقوداً بديعة، تحلى بها الرماق، فلو عاش ابن هانئ لاستحيا أن(917/22)
ينظم شعراً بعد الآن.
- أخاف أن تتهمني بفساد الذوق، إذا طلبت بعض خمرياتك أيها الطائر الصداح.
- لن أقول لك شيئاً بفمي، فأنا أعظم من أن أنشد الناس، ولكن خذ هذه الصحيفة واقرأ ما بها من الخمريات
ياقوت يتناول الصحيفة ويقرأ
أمزج بمسبوك اللجين ... ذهباً حكته دموع عيني
كانت ولم يقدر لشي ... ء قبلها إيجاب كوني
وأحالها التحريم لما ... شبهت بدم الحسين
يقاطعه شميم فيقول:
- ما رأيك في هذا القريض؟
- أحسنت يا مولاي غاية الإحسان!
- (في انفعال) ما عندك غير الاستحسان!! تباً لهذا الزمن الجاحد أنا مخطئ إذ أسمع البهائم أشعاري الجياد.
- معذرة أيها السيد، فقد اعتمدت أن أقول لمن ينشئ الشعر الجيد، أحسنت، وهاأنذا قد قلت، فماذا أصنع لأعبر عن إعجابي بشعر مولاي.
- نعم تقوم وتصنع مثل ما أصنع، (ثم يقوم من مكانه ويدور في المسجد ويصفق في تيه وإعجاب)
- لقد تعلمت منك ما يجب أن يصنعه المستحسن!! ولكن الضحك يأخذ على سبيل الكلام، فهل أضحك يا مولاي.
- لم تضحك أيها الأحمق في مجلسي الوقور؟
- كنت سمعت عنك نادرة ظننتها مختلفة عليك، وهاأنذا أصدقها الآن.
- ما هي النادرة يا مجنون!!
- حدثني أبو البركات سعيد الهاشمي أنك جئت قديماً إلى حلب، فقدم عليك في ملأ من صحبه، فأنشدتهم بعض قصائدك فاستحسنوها غاية الاستحسان، فغضبت كثيراً، وقمت إلى أحد أركان المنزل، ونمت على ظهرك ثم رفعت رجليك إلى الحائط ولم تزل ترتفع شيئاً(917/23)
فشيئاً حتى وقفت على رأسك، وقلت هكذا نشكر النعمة، بأن يقف الإنسان على رأسه لا على قدميه، وأمرت الحاضرين بأن يصنعوا ما صنعت!!
- نعم فعلت ذلك لأفهمهم طريقة الاستحسان - ثم ما هي المناسبة التي جعلت أبا البركات الحقير يحدثك بهذه النادرة، وقد طمسها الزمان.
- لقد كنا بحلب، ومرت بعض الجنائز، وبها نسوة يلطمن الوجوه، وينحن بكلمات حزينة، ويأتين بحركات عجيبة، فقال القوم: إن هذه الحركات منقولة عن مولاي، وإن نواح النائحات قد ألفه سيدي شميم!! وخاض الناس في غرائبك البديعة فذكر أبو البركات نادرته عنك، وهي تحفة بديعة ستدور بها الأسمار!
- هذا الكلب صادق فيما قال، وقد نسى أن يسمعك النواح العجيب الذي صنعته واخترت له روباً محكماً ووزناً مرناً، وإذا رجعت إلى حلب مرة ثانية فسل عنه الأدباء.
- أعجب كيف شغلت نفسك بالنادبات النائحات وأنت غارق في أبحاثك دون أن تجد الوقت لهؤلاء!
- لقد كنت مع تلاميذي ذات صباح بحلب، فمرت بنا جنازة يندب فيها النساء في غير حرارة وحسرة، كما يجب أن يكون، فأخذتني الحمية، وأمرت من معي من التلاميذ، فوقفوا صفين حولي، ولطمت خدي، فلطموا خدودهم مثلي، ووضعت نواحاً يرتلونه فأذن الله وتناقلته النادبات في جميع البلاد!
- أنت مولاي مبدع في كل أمورك، وأخشى أن يبتعد بنا الحديث عن الأدب والشعر، فهل تكمل حديثك مع أبي نواس؟
- إن فضلي على هذا الكلب واضح بين، فإني لم أذق الخمر طيلة حياتي، ووصفتها بما أعجز المدمنين العشاق، أما اللعين أبو نواس فقد عب من الخمر دناناً مترعات، وكان شعره هراء بدداً إذا قيس بشعري الممتاز.
- إذا كنت لا تشرب الخمر، وأجدت فيها القول، فكيف بك لو تكلمت في الزهد والحكمة كأبي العلاء، مع أنك اصطليت بما للزهد والحكمة من ضرام.
- من ذلك الكلب الأعمى الذي تذكره في مجلسي الآن، إن المعري لا يوزن بنعلي، فكيف تطمع أن أعراضه بشعري الخلاب!(917/24)
ياقوت مندهشاً:
المعري كلب حقير! سبحان الله يا مولاي! لقد ذكرتني بأبي نزار، ملك النحاة.
- هذه جريمة ثانية، إذ كيف أذكر برجل كل صناعته النحو، أما أن فكاتب شاعر راوية إخباري محدث لغوي مؤرخ! هل غرب عنك عقلك يا مجنون؟
- ذكرتني به لشيء واحد يا مولاي، فقد كان لا يذكر أمامه نحوي مثله إلا قال عنه ما قلت في أبي العلاء، وقد خاض ذات يوم في ذكر زملائه النحاة فجعلهم جميعاً كلاباً، فقال له بعض الحاضرين: إذا أنت ملك الكلاب لا النحاة، فكأنما ألقم بحجر فاه!
- ملك النحاة معذور في سبه الناس، فقد ابتلى بمخالطة الأوشاب والرعاع فوصفهم بما يستحقون - دعنا منه، وتكلم فيما جئت من أجله دون انتظار.
لم أجئ إلا لأسألك عن مؤلفاتك، وقد ذكرت لي معارضتك لأبي تمام وأبي نواس، فمن غيرهم من الذين نكبوا بمعارضتك على غير ميعاد.
- لقد رأيت استحسان الناس لجناس البستي، فألفت كتاباً في التجنيس، أسميته (أنيس الجليس) وخذ هذه الصحيفة واقرأ ما يقع عليه بصرك دون اختيار.
(يتناول ياقوت الصحيفة ويقرأ)
ليت من طول بالشام نواه وثوى به!
جعل العودة المزو ... راء من بعض ثوابه
يقاطعه شميم ويصيح: اسجد الآن، اسجد الآن!
- لماذا أسجد يا مولاي؟
- هذا موضع من مواضع السجدات في الشعر، وأنا أعرف الناس بتلك المواضع فلا تخالف أمر مولاك.
يسجد ياقوت ثم يلقي الصحيفة ويسأل:
- ومن غير أبي تمام وأبي نواس وأبي الفتح البستي قد نكب بمعارضتك أيها السيد الجليل؟
- هل سمعت الخطباء يرددون على المنابر خطب أبن نباتة في دمشق وحلب وبغداد؟
- نعم يا مولاي.(917/25)
- لقد عارضت هذا المتشدق بخطب قوية مدهشة، فليس للناس حديث غيرها الآن
- معذرة! فلم أحظ بسماعها. ولعل لديك سفراً يجمعها وأسعد بقراءته ردحاً من الزمان.
يمد شميم يده ويعطيه ديوان الخطب، فيقرأ ما وقعت عليه عينه ويسمع صاحبه قوله:
الحمد لله فالق حب الحصيد بحسام سح السحب، صابغ خد الأرض بقاني رشيق العشب، محيي ميت الأرض بإماتة كالح الجدب، لابتسام ثغر النسيم أنفاح الخصب، أحمده على ما منح من موضح بيان بما ألب في سوداء لب)
ويلاحظ شميم تلكؤ ياقوت في القراءة فيصبح منفعلاً
- ما للبهائم والأدب؟ دع السفر أيها الأعجم البليد، هل مررت على الموصل فأخذت منها البلادة والغباء؟
- معذرة يا مولاي، فقد ثقلت التراكيب، ولم يجد اللسان نافذة للاسترواح فتعثر به المنطق. . . وضل الإجادة في الإلقاء.
- قلت لك هل مررت على الموصل فأخذت منها الفهاهة والبلادة؟ فلم أظفر بجواب!
- أنا مضطر لمخالفتك الرأي في أهل الموصل فهم كما أعتقد، ألبة أذكياء.
- وما معرفتك بالذكاء واللب؟ لقد ناقشتهم وخبرتهم، فعجبت كيف خلقهم الله، ووالله لو قدرت على خلق مثلهم ما خلقتهم على الإطلاق.
- للمرة الثانية تذكرني بأبي نزار ملك النحاة!
- ولأي شيء ذكرتك به الآن؟
- أنت تسب أهل الموصل، وهو يسب أهل الشام، وكلاكما لا يعترف بإنسان، فجميع الناس كلاب رعاع. . .
- لي العذر إن شتمت جميع الناس، فهم لا يفرقون بين الدر والبعر، وملك النحاة معذور أيضاً، وإن كان يخاف الناس فلا يجاهر بسبهم كما أفعل الآن.
- هو مجاهر مثلك يا مولاي، وقصته مع نور الدين زنكي قد عرفها كل إنسان يقطن بلاد الشام!
- لم أشغل ذهني قبل الآن بأبي نزار فأعرف قصته مع نور الدين، ومع ذلك فاسردها علي بإيجاز.(917/26)
- لقد خلع نور الدين عليه حلة سنية، ومر في طريقه فرأى حلقة بها تيس يدربه إنسان، فقال المدرب لتيسه، إن بحلقتي رجلاً عظيم الشأن نابه الذكر، فأين مكانه، فشق الحيوان الحلقة ووضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك نفسه وخلع عليه حلة نور الدين، وعلم الملك فعاقبه، فقال ملك النحاة، إن بهذه المدينة أكثر من مائة ألف تيس فما عرف قدري غير هذا الحيوان فخلعت الحلة عليه في ارتياح.
- أصاب ملك النحاة فأهل الموصل كأهل الشام في الدناءة والحطة، وقد كنت أشرح لهم القاعدة العلمية، واقرأ النص الأدبي موضحاً محللاً فما يستفيدون شيئاً مني، فمن ذا يلومنا على احتقار الدهماء!
- كلامك رفيع يا مولاي، فالموصليون معذورون إذا لم يفهموه.
- اسمع يا بني ليس في الوجود إلا خالقان، فواحد في الأرض وواحد في السماء، فالله في السماء، وأنا في الأرض كما تراني الآن.
ياقوت ينظر إليه مندهشاً.
شميم: هذا كلام لا تفهمه أنت ولا العامة، ولكنك لا تنكر مقدرتي على خلق الكلام.
- اعفني من هذا الحديث يا مولاي، فلست من علماء التوحيد فأعلم من الذي يخلق الكلام؟
- إذا لم تسر المناقشة كما أريد فلن أتحدث معك في علوم الأدب على الإطلاق!
- لن نتحدث في الأدب كما تريد يا مولاي، وسأسألك سؤالاً يتعلق بك، فأنا رجل محدث، وإن لم تكن بالمحدث جرأة مات بغصته، فهل تأذن بالجواب؟
- اذكر السؤال أولاً ولي الحق في قبوله أو رفضه كما أشاء.
- لم سماك الناس (شميماً) مع أن اسمك الحقيقي علي يا مولاي؟
- لقد مكثت مدة من عمري لا آكل غير الطيب، لأخفف الرطوبة، وأقوي الذاكرة، وكان الغائط يمتنع عني بضعة أيام، فإذا جاءني كان أشبه ببندقة من الطين، فكنت آخذه وأقول لمن يجلس معي (شمه، شمه) فإن له رائحة طيبة، فكثر ذلك حتى غلب علي ولقبني الناس بشميم.
- حسبك يا مولاي، فأنا أريد أن أسجل جميع ما سمعته منك، ولو طال بنا الحديث لعجزت عن حصره، وستكون تسميتك هذه مسك الختام.(917/27)
- لقد أمتعتك بحديثي، وهو لا يباح لكثير من الناس، فاشكر ربك على فضله، فالأمر كما قال أبو العلاء
وكم عين تؤمل أن تراني ... وتفقد عند رؤيتي السوادا
(المنصورة)
محمد رجب البيومي(917/28)
رسالة الشعر
من أعياد باريس:
أشواق. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا (هنائي) ليلنا خمر وزهر وغرام
وطيوب تثمل الروحان منها وهيام
ونشيد كلما غنى به العشاق هاموا
ولواء رف بالرفق على الناس فناموا
فأقبلي كالطيب كالأنسام في الروض الأغن
واستظلي بجناحي ونامي بين جفني
واحلمي يا فرحتي الكبرى بحبي المطمئن
هل سوى ذاتك ذاتي، هل سوى لحنك لحني
سائلي النسمة هل مرت على شيء عدانا
وهل البلبل فوق الأيك غنى لسوانا
وهل الوردة فاحت بالشذى لولا هوانا
نحن لو تدرين نجوى والأغاريد صدانا
أين من (باريس) ليلات كنسيان نديه
وسويعات لقاء في مغاني الأعظمية
إذ طويناها كما شاء لنا الحب سويه
أترى ترجع أطياف هوانا الذهبية
أترى مجلسنا الضاحك في (الكرخ) يعود
مثلما كان وتزهو عند لقيانا الورود
نشتكي لليل، والشهب على الشكوى شهود
أم ترى نبقى (بباريس) ويطوينا الوجود(917/29)
أترى تبصر عيناي (ببغداد) النخيلا
وسنا (دجلة) والملاح يشدو والأصيلا
وسرى زورقنا المسحور والأفق الجميلا
والنسيم الطلق إذ يهفو على الشط بليلا
والعذارى آه ما أحلى (ببغداد) العذارى
كل حسناء كأيار بهاء وازدهارا
كلما أقبلن يملأن من النهر الجرارا
خلت سرباً من فراش طاف بالروض وطارا
يا ليالينا بوادي السحر عودي يا ليالي
وأعيدي ذكريات الأمس في وادي الجمال
حين رف الحب بالنجوى على ثغر الهلال
وعلى الزورق قلبان كأطياف الليالي
يا صدى أنشودة القلب ويا بكر هوايا
أنا لولاك لما باحت بحب شفتايا
ولما غرد قلب هو في الصدر بقايا
أنت دنياي ولولاك لضاقت بالرزايا
آه يا أشهى أماني ويا أجمل عمري
يا نسيماً خضل الأنداء قد أنعش زهري
وضياء لاح في ليل صباباتي كفجر
لم تكن دنياي لولاك سوى ظلمة قبر
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(917/30)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
فضيحة علمية لأستاذ جامعي:
أعتقد أن هذه الكلمة، تحت هذا العنوان، ستدفع فريقاً من القراء إلى أن يقول لي: ترفق. . ترفق بالدكتور عبد الرحمن بدوي لأنه (فيلسوف) مصر الأول، و (أستاذ) الفلسفة بجامعة إبرهيم، وصاحب الإنتاج الفكري - معذرة فلعل المقصود هو الإنتاج المطبعي - الذي يربى على الثلاثين كتاباً!
صيحة أتوقعها قبل أن أسمعها. . ولولا أنني أعرف الدكتور بدوي حق المعرفة، من خلال صحبته، ومن ثنايا كتبه، ومن حقيقة لقبه - أعني فيلسوف مصر الأول - لولا أنني أعرفه على ضوء هذا كله، لما تجاوزت الصيحة المنتظرة ومضيت في الطريق إلى نهايته!
لقد كان من المعقول أن أترفق بالدكتور بدوي لو أنه ترفق باللقب الخطير الذي أضفى عليه، وترفق بالأستاذية الجامعية التي هيئت له، وترفق بالقيم الفكرية التي احتمى بها أو احتمت به، وترفق بعقلي وعقلك وهو يريد أن يزاحم المنتجين في كل ميدان. . لو أنه ترفق بهذه الأمور جميعاً لرجعت إلى قلمي أسأله شيئاً من الرفق، أو شيئاً من الصفح، أو شيئاً من الأناة!
لقد حاول الأستاذ أن يكون فيلسوفاً بالقوة، وحاول أن يكون أديباً بالقوة، وحاول أن يكون قصاصاً بالقوة، وحاول أن يكون شاعراً بالقوة، وحاول أن يكون ناشر مخطوطات ومحقق نصوص بالقوة. وقد تفلح القوة في الشئون السياسية والدولية، ولكنها - وهذا ما أود أن يفهمه الدكتور بدوي - لا تفلح في الشئون الفكرية والفنية! صدقني أنني معجب به كل الإعجاب لأنه مؤمن بنفسه إلى أبعد حدود الإيمان، حتى ليكرهها على ما لا تحسن وما لا تطيق: يكرهها على فهم الفلسفة، ويكرهها على هضم الأدب، ويكرهها على نظم الشعر، ويكرهها على كتابة القصة، ويكرهها آخر الأمر على نشر المخطوطات وتحقيق النصوص. أرأيت إيماناً بالنفس يبلغ عند الموهوبين ما بلغه عند هذا المصري النابغ الموهوب؟ ألم أقل لك إنني معجب كل الإعجاب بهؤلاء المؤمنين بأنفسهم، حتى ولو أكرهوها إكراهاً على أن تطرق كل باب، وأرغموها إرغاماً على أن تخوض في كل فن،(917/31)
وأجبروها إجباراً على أن تحلق في كل أفق؟!
يخيل إلي أنني مقصر في حق النقد ومهمل لرسالته. ولو لم أكن مقصراً ومهملاً لتناولت قلمي منذ أمد بعيد لأحاسب الدكتور بدوي. . يخيل إلى هذا، ولكني أعود إلى نفسي فألتمس لها شيئاً من العذر، حين أنظر إلى الميدان فأجده قد خلا من النقاد. ترى هل يستطيع ناقد واحد أن يحاسب هذا العدد الضخم من المنتجين؟ وكيف أستطيع أن أحاسبهم جميعاً وفيهم من أحال الإنتاج (المطبعي) إلى معمل من معامل التفريخ؟!
إن إنتاج الدكتور بدوي وحده جدير بأن يشغل جيشاً من النقاد لا يهدأ ولا يستقر، ولكن أين هو هذا الجيش؟ أين الفصيلة التي تحارب الدكتور بدوي في جبهة الفلسفة، وأين الفصيلة الثانية التي تحاربه في جبهة الأدب، وأين الفصيلة الثالثة التي تحاربه في جبهة الشعر، وأين الفصيلة الرابعة التي تحاربه في جبهة القصة، وأين الفصيلة الخامسة التي تحاربه في جبهة التحقيق العلمي. . وأين الفصائل الأخرى التي تحاربه فيما يستجد بعد ذلك من جبهات؟ لقد تصدى له صديقنا سيد قطب - جزاه الله خيراً - في الجبهة الثالثة يوم أن اجترأ على أن يصدر ديوانه الخالد (مرآة نفسي)، ومع أن طعنات صديقنا الأستاذ قطب كانت قاتلة، إلا أنها كانت طعنات مهاجم واحد في ميدان يحتاج إلى فصيلة من المهاجمين. . إذا لم تصدق فاعلم أن الدكتور بدوي قد شرع في إخراج ديوان جديد، ديوان أسأل الله أن يعينني على لقائه!!
مهاجم واحد بالأمس في جبهة الشعر هو سيد قطب، واليوم يظهر في الأفق مهاج آخر هو سيد صقر. ما أعجب التشابه بين الاسمين وما أبعد الفارق بين الجبهتين. . إن الجبهة التي يهاجم فيها صديقنا الأستاذ صقر جبهة جديدة، فتحها الدكتور بدوي وهو أقدر القادرين على فتح الجبهات، لأنه أقدر القادرين على ادعاء المواهب والملكات. . . أما رحى المعركة فتدور على صفحات زميلتنا مجلة (الثقافة). هناك حيث خطر للدكتور بدوي أن يحقق (الإشارات الإلهية) لأبي حيان التوحيدي!
إلى هنا وأقف قليلاً لأحدثك عن هذه الفضيحة العلمية التي ارتكبها الدكتور بدوي، وكشف عنها الغطاء صديقنا الأستاذ السيد أحمد صقر جزاه الله. . لقد نشر المقال الأول في العدد الأسبق من (الثقافة)، ولن يصل هذا العدد من (الرسالة) إلى أيدي القراء حتى يكون المقال(917/32)
الثاني قد خرج إلى النور. . ليهتك حجب الظلام! ولن يقتصر الأمر على هذين المقالين، فلابد من مقال ثالث ورابع وخامس، لقاء ما بذل الدكتور بدوي من جهد في تشويه سمعة أبي حيان، وتشويه سمعة نفسه، وتشويه التحقيق العلمي في مصر!!
إن ما نشر من سقطات الدكتور بدوي كان أهون ما في الكتاب، وما بقي كان ألعن. . . واستمع لفصول القصة:
في مساء الاثنين الماضي كنت وحيداً في بيتي، أتأهب للخروج ولا أعرف إلى أين، فقد كان كل همي أن أطلق النفس من قيود الأسر، أسر القلم والكتب والجدران. . وفجأة هبط علي زائر كريم لم أكن أتوقع زيارته، لأنه كان معي قبل ذلك بيوم واحد، هناك على صفحات مجلة (الثقافة). وحين راحت يده اليمنى تصافحني كانت يده اليسرى تصافح أبا حيان، أعني تتصفح كتابه المفترى عليه: الإشارات الإلهية!
وقلت للأستاذ السيد أحمد صقر بعد أن استقر به المقام: معذرة فليس لدي تليفون حتى أدعو الأدباء من أعضاء ندوتنا الأدبية إلى الاجتماع في بيتي. تعال نذهب إلى مكاننا المختار حيث ندعوهم من هناك، فما أحوجك إلى كثير من الشهود المستمعين لدفاعك عن كرامة التحقيق العلمي في مصر!. . . والتأم شمل الندوة بعد دقائق، فكان فيها إلى جانب الشعراء والأدباء، بعض الأساتذة من جامعتي فؤاد وإبراهيم. وبدأ الأستاذ صقر يقرأ على الآذان المرهفة مقاله الأول الذي نشر في (الثقافة)، وحين انتهى منه، مضى يقلب صفحات الكتاب الذي (حققه) الدكتور بدوي وقدم له، واقفاً عند كل صفحة، مشيراً إلى كل سقطة، لافتاً إلى كل تشويه، معرجاً على تحريف!
أقسم لقد ضحكنا حتى اهتزت تحتنا المقاعد من كثرة الضحك، ودهشنا حتى عقدت الدهشة منا كل لسان، وأسفنا حتى ارتسمت معالم الأسف على قسمات الوجوه ونظرات العيون. . وقال أستاذ جامعي طلب إلي ألا أذكر اسمه لأنه صديق للدكتور بدوي وزميل له في جامعة إبرهيم: (هذه فضيحة من طراز فذ ليس له نظير. إن مصيبة الدكتور بدوي أنه لا يتأنى في إخراج كتبه، لأنه مولع بأن يكون له في السوق أضخم إنتاج بين المعاصرين. . هل المسألة مسألة كمأم مسألة كيف؟ أظن أن الجامعيين يجب أن يهتموا بالجانب الأخير)!
وعقب الأستاذ صقر غاضباً وهو يوجه إلي الحديث: لو كنتم يا حضرات النقاد تحاسبون(917/33)
هؤلاء الناس لما حدث الذي حدث. . إنكم تتحدثون عن أزمة القراء، ناسين أن إنتاجاً من هذا الطراز هو العامل الأول من عوامل الأزمة، أو هو العنصر الخطير من عناصر المشكلة. إن القراء معذورون إذا انصرفوا عن القراءة وشغلوا عن ثمرات المطابع، ما دام أكثر الكتاب في مصر يلتمسون الشهرة عن طريق القيمة (العددية) للآثار الفكرية!
وقلت للأستاذ صقر وعلى شفتي طيف ابتسامة: هذا صحيح! ولكن من هم (حضرات) النقاد يا صديقي؟ ترى هل تخاطبني بصيغة الجمع توقيراً لي، أن تقصد إلى أن في البلد نقاداً كثيرين يستحقون اللوم والتأنيب؟ إذا كنت ترمي إلى التوقير فأنا أشكرك، أما إذا كنت ترمي إلى كثرة النقاد فإني أعترض عليك. . أين هم النقاد في مصر؟ إنني أكاد أقف وحدي في ميدان النقد، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها! ثم هل وجهت شيئاً من لومك إلى حضرات الأساتذة الجامعيين الذين يجلسون بيننا في هذه الندوة؟ لماذا لا يمتشق أحدهم قلمه ليحاسب زميلاً له على هذه الفضيحة العلمية التي تسيء إلى الجامعة؟ مهما يكن من شيء فأنا أعدك بأن أكتب في الموضوع على صفحات (الرسالة)!
وقال أحد الجالسين من الأدباء وهو يريد أن يطمئن: من أي زاوية ستتناول الموضوع؟ هل ستشير في (الرسالة) إلى بعض ما كشف عنه الأستاذ صقر في (الثقافة)، أم أنك ستتحدث عن أزمة القراءة مرة أخرى لتنصف القراء؟!
وأجبت وأنا أدرك هدف اللفتة البارعة: بالطبع سأشير هنا إلى مقالات الأستاذ هناك، وسأطلب إلى قراء (الرسالة) باسم الحق والكرامة العقلية وأمانة البحث والاطلاع، أن يتابعوا الأستاذ صقر في (الثقافة) ليطمئنوا إلى أنني لم أكن غالياً في كل هذا الذي كتبت، وليدركوا أن أثر هذه الفضيحة العلمية في ميزان الضمير العلمي، لا يقل عن أثر أي فضيحة أخرى كفضيحة تحقيقات الجيش مثلاً في الضمير الاجتماعي. أما القراء فلا بأس من أن أعفيهم بعض الإعفاء من تحمل التبعة، ما دام الدكتور بدوي وأمثاله في الميدان!
وقال الأستاذ صقر وهو يدفع إلي بكتاب (الإشارات الإلهية): إن للكتاب مقدمة لا تدخل في حدود علمي ولكنها تدخل في حدود علمك. إنها محاولة (رائعة) يثبت بها الدكتور بدوي أن أبا حيان كان أديباً وجودياً لا يقل أصالة في نزعته الوجودية عن الأديب الألماني فرانز كفيكا!. إنني أترك لك هذه المقدمة لتناقشها على صفحات (الرسالة)، وسأدفعك إلى ذلك دفعاً(917/34)
حين أوجه إليك هذه الرغبة على صفحات (الثقافة). اقرأ يا صديقي اقرأ، واشكرني على أن قدمت إليك منبعاً من منابع الإضحاك!
وتناولت الكتاب ورحت اقرأ هذه المقدمة العجيبة حقاً. . تقولون إن نجيب الريحاني الذي كان نابغة عصره في إضحاك الناس قد مات، دون أن يملأ مكانه أحد؟! مهلاً أيها المتشائمون. . لقد أثبت الدكتور بدوي أن نجيب الريحاني لم يمت، وإذا كان، فقد ملئ مكانه بجدارة! أثبت ذلك في تحقيقه لمخطوط أبي حيان عن (الإشارات الإلهية). وفي مقدمته التي ذهب فيها إلى أن أبا حيان كان صاحب نزعة وجودية. . وبقى أن ينتهي الأستاذ صقر من مقالاته، لينتظرني الدكتور بدوي في هذا المكان!
برناردشو ورسالة المال:
في عدد قريب من الرسالة الغراء، وضعت لنا في ميزانك الدقيق الأنيق، وعلى أضواء عقلك المفتش وأشعة ذهنك الوهاج الكاتب الأيرلندي العالمي جورج برناردشو، فأدركنا ألمع اللافتات في فن هذا الكاتب العظيم. . لافتة العقل الساخر، وعرفنا أنها (الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة، ونقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي الممتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك!
غير أني وقفت طويلاً يساورني الشك ويتوزعني الارتياب عند نقطة قلت لعل من الخير أن أرجع إليك متسائلاً ومستفيداً من تلقي الجواب. . لقد قلت إن شوكان يمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر ستالين بأنه خير الناس، ثم تساءلت: ترى هل كان شو يؤمن بهذا الرأي الذي يجهر به، أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الإنجليز خاصة، هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ ثم أجبت بقولك: الحق أنه السخط من جهة - وتقصد السخط على الرأسمالية طبعاً - والإيمان بالرأي من جهة أخرى!
ولكن، هل كان شو يا سيدي ساخطاً على الرأسمالية، غير مؤمن باستحواذ المال؟ إن الأستاذ العقاد يؤكد لنا في كتابه الصغير عن برناردشو، أنه كان مؤمناً برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات (ص114)، وقال أنه لا يكتم هواه للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع (ص25)، ثم يحدثنا العقاد عما كان يجذب شو نحو الاشتراكية فيقول: كان يجذبه إليهم (فقره) وتمرده على النظم القائمة ونشأته الايرلندية التي تعلم منها الثورة على(917/35)
الاستعمار والاستغلال، فكان انضواؤه إلى جماعة الغابيين (ص27) فإذا أردنا تفسير كلمة (فقره) وجدناها لا تعني سخطه على الرأسمالية، يؤيد ذلك قول شو نفسه: لا تخلط بين كرهك لزيادة جارك في الغنى وكرهك للفاقة. . فكأنه يقول: لتكره الفاقة ما استطعت ولتحاربها بالجهد في كسب المال، ولكن لا تكره الأغنياء لأنك فقير، كأنه يقول ذلك.
من هذا يا سيدي أردت المزيد من الوضوح، ولعل في تفسيرك السابق معنى آخر تكمن فيه الحقيقة دون أن أفطن إليه، وقد استدق على فهمه واستجلاؤه. . وتقبل أخلص تحيات المعجب:
(السويس)
محمد محمد عبد الرحمن
الأديب الفاضل صاحب هذه الرسالة تاجر من تجار السويس ومع ذلك فهو يقرأ (الرسالة)، ويناقش في الأدب، ويقتطع من قوته لحظات ثمينة يقضيها في صحبة الأدباء. . . من حقه علي أن أخفض قلمي تحية له وإعجاباً به، لأنه يضرب أروع الأمثال لهؤلاء الذين يفضلون عصير الليمون على عصارة الأذهان، ويؤثرون التسكع في الطرقات على قراءة الكتب وزيارة المكتبات!
تحية أقدمها إلى الأديب الفاضل قبل أن أقول له: يؤسفني أن يحول ضيق النطاق في هذا العدد عما يريد من جواب. . فإلى العدد المقبل حيث نعود إلى برناردشو من جديد، مسلطين بعض الضوء على تلك الجوانب التي تنشد التفسير والتعليل.
أنور المعداوي(917/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
البعث العربي الجديد:
قضيت الأسبوع الماضي وبعض هذا الأسبوع، حبيس الدار لرمد في عيني، وما أريد أن أتحدث عن مرضي وما نالني منه، إن أريد إلا أن أطلق بخار الطاقة المحبوس في نفسي، فقد كنت طيلة هذه المدة كالجواد العربي الذي شد لجامه وهو يعلكه. . يريد أن ينطلق. . أريد أن أعدو وأروح وأذهب وأجيء وأقرأ وأكتب فمالي عيش بغير هذا، ولن يطيب لي القعود.
وكان أكبر أسفي لتلك الحبسة أن منعتني من المشاركة في ذلك النشاط العربي الذي دب في نواح من القاهرة، في جمعية الوحدة العربية، وفي الاتحاد العربي، وقد تلقيت دعوتين كريمتين، الأولى من (جمعية الوحدة العربية) لسماع المحاضرة التي ألقاها في نادي الجمعية يوم الخميس الماضي الأستاذ محمد توفيق دياب بك عن (التربية الوطنية في العالم العربي) والثانية من (الاتحاد العربي) لسماع محاضرة الأستاذ أحمد رمزي بك عن (العلاقات الاقتصادية بين البلاد العربية).
كنت أود أن أذهب لأسمع، ثم آتي لألخص هنا ما سمعت، وقد أعقب عليه وأضيف إليه ما يعن لي في هذه المشاكل التي تشغل منا القلوب والخواطر. ولكن، إن كنت قد تألمت من القعود عن ذلك، فقد سرني بعض ما نشر عنه من ذلك الذي كان يقرأ لي. . وذلك ما حدث في جمعية الوحدة العربية عقب محاضرة الأستاذ توفيق دياب بك، إذ وقف الأستاذ أسعد داغر السكرتير العام للجمعية، فقال: تلقيت من بضعة أيام الرسالة التالية من أحد الوطنيين العرب أقتطف منها ما يأتي: (كان لحديثكم بشأن المشروع الجديد لإنشاء جريدة كبرى تكون صوتاً للبعث العربي، صدى عظيم في نفسي، لأن هذا الصوت العربي الجديد لا قبل أن ينام على الضيم، العربي الذي يشعر بألم الطعنة التي أصابته في عزته وكرامته يحاول الآن أن ينهض ليستعيد قوته الكاملة ويسترد مجده المسلوب. تجدون طيه شيكاً بمبلغ عشرة آلاف جنيه، وسأقدم لكم خلال الأسابيع المقبلة مبلغاً آخر مثله أو أكثر إذا لزم، وقد أحببت أن أترك لغيري من المخلصين الفرصة لنيل شرف المساهمة في هذا المشروع الجليل).(917/37)
البعث العربي الجديد، وعشرة آلاف جنيه يبذلها عربي كريم لمشروع في تعزيز هذا البعث. . أنه شيء عظيم وأرجو أنه يكون أول الغيث.
إنني لم أيأس ولن أيأس، من هذه الأمة العربية، بل أقول إن شيء يدعو إلى التفاؤل، وكل ما منيت به إنما هو سحب لا بد أن تنقشع. لقد تركنا قبل مايو سنة 1948 لا شيء، ثم صرنا بعد ذلك شيئاً. . لم نكن قبل موجودين لأننا لم نكن نعمل، ثم تحقق وجودنا لأننا عملنا وأخفقنا. . ولا بأس أن نخطئ ونخفق على أن ننهض وننفض الغبار ونستعد، وإنما اليأس كله أن نتفكك ونتوانى وننام.
إن هذه الأمة العربية أمة واحدة، وهي جسم واحد لا ينبغي أن يفرق بين أعضائه ما يند من إيذاء بعضها لبعض، فقد تعض الأسنان اللسان. فلا تخلع الأسنان، وسينتهي ألم اللسان! ولو أننا جعلنا مثل هذه الأمور سبباً إلى التفرق لما أبقينا على البلد الواحد بل الأسرة الواحدة، فلو أخذنا بما يحاجنا به المبطلون في الوحدة العربية مما حدث في الظروف الأخيرة التي لابست الحركة العربية لما أبقينا على مصريتنا لما يلابسها في بعض النواحي من بغى وفساد.
والبعث العربي الجديد يجب أن يقوم على الإغضاء وتناسي ما كان، ونقد الواقع الفاسد، والعمل للمستقبل. وهو من حيث التسامح والإيثار - كما قال العربي الأول:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غبني حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمو ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لن أكلفهم رفدا
بين الحقيقة والمجاز:
في إحدى الجلسات الماضية بمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية ألقى الأستاذ عباس محمود العقاد محاضرة عنوانها (كلمات عربية بين الحقيقة والمجاز) بدأها بقوله:
توجد في اللغة العربية كلمات كثيرة بقى لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على(917/38)
الألسنة، حتى ليقع في اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال، ثم قال إن من هذه الكلمات كلمتي (الحقيقة) و (المجاز) فالحقيقة فكرة مجردة ولكن مادة الكلمة تستخدم للدلالة على ما يلمس باليد ويقع تحت النظر فيقال (انحقت) عقدة الحبل، أي أنشدت. والمجاز من جاز المكان أو جازيه غير معترض، ويقال هذا جائز عقلاً أي غير ممتنع ولا اعتراض عليه.
وعرض الأستاذ طائفة من الكلمات وبين معانيها الحقيقية والمجازية واستعمالاتها في المحسوسات وغير المحسوسات ثم قال: ونستطر ومما تقدم إلى المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في وقت واحد فيبدو لنا من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية الأوربية، وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوربية وحضارتها، ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية. وأياً كان السبب فالخلاصة العلمية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة أننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة، لأن هذا التسلل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمات في معنى وصيرورتها في معنى آخر ولكنه لا يبلغ هذا المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء أو على درجات متقاربة. ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد والمحافظة على القديم أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم للكلمات القديمة على المعاني الجديدة، ونحن لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منهما شاهداً على ما ذهبنا إليه. فالتقديم هو السير بالقدم، ويقال تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق. ولا ندري على اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا في أقدم أطوارها، ولكننا ندري أن الجد هو القطع وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثاً، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد، إن لم يكن أقدمها على الإطلاق. وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل(917/39)
العربية جددوا كثيراً في مجازاتهم، وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم ونحن نقول (نحذو حذوهم) ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجلد وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة (المسافة) حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة وهي كل بعد بين موضعين. وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز، بحيث لا يكاد السامع يفرق بينها للوهلة الأولى: أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد.
ثم جرت مناقشة بين الأعضاء في موضوع المحاضرة، قال فيها معالي السيد محمد رضا الشبيبي: هل يفهم من قول الأستاذ (إننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة وأننا في غنى عن وضع المعجمات اللغوية التاريخية)! فقال الأستاذ العقاد: في اللغة العربية استعملنا كثيراً من المعاني المجازية، لكن التعب الذي نحتاج إليه في الرجوع إلى أحوال الكلمات أقل من تعب واضعي المعجمات الأوربية، فمثلاً معجم أكسفورد وهو أكبر معجم للإنجليزية اضطر واضعوه أن يبدءوا من القرن الثاني عشر لأن ما قبله لا يستعمل الآن ولا يفهم، لكننا نحن قد نجسد كلمة من الجاهلية تستعمل الآن في معناها الأصلي.
وقال الأستاذ (جب): ما مدى تطبيق هذه القاعدة؟ إن نظام الاختيار في نهاية الأمر للجمهور، أما فيما يختص بالمصطلحات العلمية فالجمهور خاضع لأمر المختصين.
وقال الأستاذ (ماسنيون): تذكرت جلسة من الجلسات القديمة تباحثنا فيها عن التضمين، فالتضمين كالمجاز، وقد ألقيت منذ سنتين كلمة في جامعة باريس عن أهمية التضمين في تشكيل عبارات جديدة ومعان جديدة في قوالب قديمة. فقال الأستاذ العقاد: لم تنتفع بالتضمين حق الانتفاع مع أنه نافع جداً، والتضمين يجب أن يتجه إلى إيداع معان فكرية جديدة، أما المحللات اللفظية فنحن في غنى عنها.
حول محاضرة الدكتور ناجي:
قرأت تعقيبك على محاضرة (الشاعر الدكتور ناجي). . . وأنا وإن كنت ممن يقدرون شعر ناجي، بل كنت - يوماً - أضعه في مصاف الملهمين المعاصرين من أمثال علي طه وإيليا(917/40)
أبي ماضي. . . وإن كنت أيضاً لا أحب أن أتعرض لشكواه من أن القراء يقدرونه أو لا يقدرونه. . . إلا أنه آلمني حقاً أن ناجي يود أن تتخلص الرسالة من شعرائها (التافهين)، أو على الأصح يود أن تقف الرسالة (رسالة الشعر) عليه وعلى أمثلة من الملهمين. . .
هذه يا سيدي الأستاذ - علة الشرق الحديث، وهذا داؤه. . . كلنا يحب أن يطغى على غيره. . . لا عمل لنا إلا قتل الناشئين في مهدهم. . . أما أن نفسح لهم الطريق - ولا أقول - نقومهم ونرشدهم. . . أما أن نتخذهم تلامذة لنا. . . نقول لهم هذا صحيح فاتبعوه، وذاك خطأ فاجتبوه. . . فليس هذا من دأبنا.
وليس الذنب ذنب (ناجي) وحده - فيما أرى - فلقد سمعت منذ أشهر أحد الأدباء الكرام يتهجم هو أيضاً على الشعراء من شباب اليوم ويتهكم قائلاً: إنهم يقولون الشعر وهم بعد لم يحفظوا (كتب المحفوظات في المدرسة). . .
وهكذا يستعدي ناجي الرسالة على الناشئين من الشعراء وهي المجلة الوحيدة في الشرق التي لا تشتري الأسماء ولا تنشر إلا ما يستحق النشر في وقت دأبت فيه جل مجلات الشرق على أن تشتري قراءها بأسماء ضخمة مقدمة ومؤخرة بالألقاب. . . وفات ناجي أن الرسالة أستاذ قبل أن تكون مجلة، وأن قراءها تلامذة قبل أن يكونوا قراء. . .
وبعد فما أحب أن أطيل الحديث مع ناجي، ولكني أود أن أقول له: لم لم أكتب للرسالة ناقداً وموجهاً؟!. . . لم لم يجابه أولئك (التافهين) بشعره على صفحات الرسالة؟!. . .
وبعد فيا صاحب (الليالي القاهريات). . . إني لأذكر أن الرسالة حدثتنا - منذ زمن - أنك أنكرت على الناس جحودهم لشعرك فحرقته - على ما أذكر - ويومها كنت أرثى لك وأترحم على شعرك. . . أفلا تخاف - يا شاعري - أن ينكر عليك شعراء الشباب هذا الجحود، فيفعلون بأدبهم مثل ما فعلت بأدبك في شبابك؟!. . . ويومها - يا سيدي - أقسم لك أننا سوف نفقد تلك الروح العذبة الرقيقة التي تسيطر على شعر الشباب. .!!. . لقد قالت الرسالة يا سيدي الشاعر في عددها الأخير على لسان الأستاذ المعداوي (إن الرسالة لن تغلق أبوابها يوماً في وجه أصحاب المواهب والملكات).
أسامة
إنني أشاطر الأديب (أسامة) تقديره لشعر الدكتور إبراهيم ناجي ولا أرى في تعقيبه ما(917/41)
يحتاج إلى تعقيب إلا أنني أحب أن أعبر عن مودتي للدكتور ناجي، تلك المودة التي لا يعجبه أن تمزج بما أكتب عنه أحياناً. . ولكن ماذا أصنع وهو يغري هذا القلم دائماً بما يهيئ له من موضوعات طريفة؟ أنه يغضب مني، وقد اصطلحنا غير مرة، ولكن الإغراء يتجدد. . ومالي بدفعه حيلة.
وأرجو أن يوسع الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي - صدره، ويعد نفسه - كما نعده - ملكاً أدبياً عاماً. . وأن يقبل تحيتي ومودتي واحترامي.
عباس خضر(917/42)
الكتب
تفسير جزء تبارك
لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
وضع هذا التفسير صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية. وقد حذا فيه حذو الأستاذ الإمام في تفسيره لجزء عم من حيث الاقتصار على ما فيه الفائدة ويحتاج إليه الحريص على فهم كلام الله وحده. وقد تحققت هذا من التفسير وزارة المعارف المصرية فطبعت منه نيفاً وثلاثين ألف نسخة ووزعتها بين أيدي الطلاب. ويكفي في التعريف بهذا التفسير ما قاله المرحوم الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر فيه (أنه مرجو النفع به: لما فيه من العناية بتقرير المسائل التي تمس إليها الحاجة، ولما هو عليه من سلامة الأسلوب وصفاء العبارة) وقال فيه الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري كبير مفتشي المعارف في الوزارة العراقية، وقد أهدى إليه مؤلفه نسخة منه: (وأفاخر بأن أضمها إلى أمثالها في خزانة كتبي من أجلاد التفاسير لعلماء الأمة. ولها عليها جميعاً مزية الجدة في الرأي وجمال العرض وبراعة البيان) افتتح المفسر مقدمة تفسيره بقوله:
(نحمدك ربنا منزل القرآن. بحقائق الإيمان، وجليل العبر، وملهم الأذهان نواصع البيان، ودقيق النظر، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث بأكرم الأديان، وقاطع البرهان، من ولد مضر، صلاة وسلاماً تتجددان، ما تجدد الزمان، وتعاقب الملوان. ولاح قمر، ولا أدل على تصوير مكانة هذا التفسير والتعريف بحسنه من أن نبسط تحت مواقع أبصار القارئ هذا النموذج منه: وهو ما حبره المؤلف تعليقاً على آية (كذلك يضل الله من يشاء ويهذي من يشاء) فقد قال بعد أن أبان ارتباط معنى الآية بمعنى ما سبقها وأزاح الستار عن معنى القضاء والقدر بما يمكن إليه ضمير القارئ المثقف قال ما نصه:
(على أن المقام ربما وسع كلمة نحب ألا تفوتنا عملاً بما أمرنا به القرآن من النظر في الأمم وحالاتها، ثم الاعتبار ببداياتها ونهاياتها، فنقول:(917/43)
أشرنا في أطواء كلامنا السابق إلى أن البشر قد تجذبهم إلى سعادتهم أو شقاوتهم (جواذب) وإن شئت سميتها (عوامل): من مثل الملة التي يمارسون شعائرها وأحكامها، والحكومة التي تسيطر عليهم، والعائلة التي تربي أطفالهم. والمدرسة التي تعلم أبناءهم، والمحفل أو النادي الذي يحتشدون فيه للحديث أو السمر أو اللهو أو البيع والشراء أو مختلف الأعمال والمصالح - فالمراد من المحفل أو النادي ما يريده علماء التربية بقولهم (جماعة الأصدقاء والمعاشرين) - والوراثة التي تنقل إلى أبدانهم دم آبائهم ومزاجهم وتكوينهم الجسماني، كما تنقل إلى نفوسهم طباع أولئك الآباء وغرائزهم وأخلاقهم وتكوينهم الروحاني، والإقليم الذي يشربون ماءه، ويستنشقون هواءه، ويذوقون حره وبرده، ويقتاتون بمحصولاته. وهذا المؤثر يسميه علماء علم النفس (البيئة الجغرافية)، ويسمون العوامل الأخرى (البيئة الاجتماعية).
هذه (الجواذب) أو (العوامل) هي التي تعمل في تكوين الأمم، وهي التي تعرف بها حالتها الاجتماعية، ودرجتها في سلم المدنية؛ فإن صلحت تلك العوامل واستقامت صلحت الأمم واستقامت في أفرادها وجماعاتها؛ إذ ليست الجماعات إلا فرداً متكرراً، وإن ساءت وفسدت ساءت أحوال الأمم، وانحط شأنها، وتقهقر عمرانها.
هذه الجواذب هي التي تجتذب البشر إلى ملابسة الخير أو مواقعة الشر؛ وتقودهم من أيديهم إلى مواطن السعادة، أو مواطن الشقاوة، وهي التي نستدل بها، ونمشي على أثرها في معرفة ما هو قضاء الله وقدره في هذه الأمة، أو تلك الأمة.
فمهما رأينا من كمال تلك العوامل وسدادها، وثبات أمرها، وحسن نظامها - فهناك فوز الأمة وفلاحها، وتجلى حكم القضاء والقدر فيها. ومهما رأينا من نقص (العوامل) وخطلها، واضطراب أمرها، وقبح نظامها - فهناك هلاك الأمة ودمارها، وحكم القضاء والقدر فيها.
هذه العوامل هي التي يعنى بها الأنبياء والحكماء والمشرعون والعلماء الاجتماعيون، فيجتهدون في إصلاحها، وتقويم أودها؛ حباً في إصلاح أممهم، وترقية شأن شعوبهم، ولم يأل الدين الإسلامي في النصح لأبنائه بوجوب توفيرها وتنقيتها من الشوائب؛ كي تبقى صالحة لسعادتهم في دنياهم، ونجاتهم في أخراهم.
قد يقال: إذا كانت هذه العوامل هي مظهر قضاء الله وقدره في البشر، وعلى سلمها ينزلهم(917/44)
ربهم ويصعدهم، ويشقيهم ويسعدهم، فأنى لنا الوصول إليها بالإصلاح والترميم، والتغيير والتبديل؟ وهل هذا إلا افتئات على القدر، وتداخل في وظيفته؟
والجواب على هذا آيات القرآن نفسها؛ فإنها إنما أمرتنا بالنظر في أحوال الأمم والاعتبار بما جرى؛ لنتمسك بما كان سبباً في نجاتها وسعادتها، ولنتجنب ما كان سبباً في هلاكها وشقاوتها. ونحن في كلتا الحالتين بالغون ما قضاه الله وقدره فينا (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
وهذه الأمم المعاصرة لنا - معشر المسلمين - ارتفعت وعزت وغلبت بما كان من عنايتها بأمر العوامل المذكورة؛ فليس الدين لديها اليوم، ولا طرز الحكومة، ولا نظام العائلة، ولا قوانين المدرسة والتربية العامة وسائر مقومات الاجتماع - كما كانت عليه في عصورها الوسطى.
تقول: والإقليم والوراثة كيف يكون إصلاحهما؟
فأما إصلاح (الإقليم) فيكون بتجفيف المستنقعات، وغرس الأشجار، وإنشاء الغابات والحراج، وحفر الترع، وجر المياه النقية للشرب.
وأما إصلاح (الوراثة) وتحسين حالة النسل والأخلاف فقد أخذ الغربيون في الأيام الأخيرة يعتنون به، ويستفيدون مما يرشدهم إليه العلم الصحيح، والتجربة القاطبة بشأنه.
وهذا، أو ذاك، أو ذلك - مما يدخل تحت الطاقة، ويستطيعه البشر وقد أصبحت المكابرة فيه ضرباً من الجهل والغباوة بعد ما رأينا حسن أثره واضحاً جلياً في الأمم التي غلبت علينا، وأصبحت المتحكمة فينا.
وعجيب من مسلم أن يجرؤ على القول بأن في إصلاح الدين، أو الحكومة، أو نظام العائلة، أو طريقة التعليم والتأليف، أو سائر عوامل الحضارة والعمران - مخالفة للدين، أو تدخلاً في وظيفة القضاء والقدر، وهذا الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركناً من أركان الدين، وليس هو في الواقع ونفس الأمر إلا مراقبة دائمة على الدين والمتدينين به؛ فلا يتسرب إليه أو إليهم ما ليس منه في شيء فيفسد ويفسدون.
فالأمر والنهي إذن إصلاح، والآمرون الناهون مصلحون وكان بعض العارفين يقول:(917/45)
(ينبغي لأهل كل مذهب في كل عصر أن يكون فيهم عالم كبير ينقح مذهبهم، وذلك لأن الأحكام تتغير بتغير الزمان)
ومما يحسن إيراده هنا أن الشارع صلى الله عليه وسلم نبهنا إلى تأثير ناموس الوراثة، وأشار إلى أن في إصلاحه إصلاحاً للنسل والذرية مذ قال: (تخيروا لنطفكم، فإن العرق نزاع) يريد تزوجوا كرائم النساء؛ فإن أولادكم من زوجاتكم يرجعون في طيب الأخلاق وقبحها إلى أجدادهم من أمهاتهم، أما رجوعهم في أخلاقهم إلى أجدادهم من جهة آبائهم فبالطريق الأولى. وليس فوق هذا إرشاد وتعليم لنا في أن نصلح شؤوننا، وعوامل اجتماعنا، حتى ما يظن أنه مما لا يدخل تحت طاقتنا كمسألة الوراثة هذه. وقال أبو الأسود الدؤلي مخاطباً أولاده:
وأول إحساني إليكم تخيري ... لماجدة الأعراق باد عفافها
وبالجملة فإن الدين والعلم والتجربة والمشاهدة اتفقت كلها - وإن خالفها الجهل والتقليد والمكابرة - على أن سعادة الأمم وشقاءها أمران ميسوران لها، داخلان تحت طاقتها. وليس معنى أن الله يضلها ويهديها إلا أنه تعالى يمهد تحت مواقع أبصارها طريق الهدى والضلال؛ فهي إذا اختارت لنفسها طريق الهداية اختارته وسلكته بمشيئة الله وإرادته وسابق علمه، وإذا اختارت لنفسها طريق الضلال اختارته وسلكته أيضاً بمشيئته تعالى وإرادته وسابق علمه. وما أحسن ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر؛ فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير؟)، ويشبه هذا ما قاله الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر: (إن الله أراد بنا شيئاً وأراد منا شيئاً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟)
وأوضح السبل الموصلة إلى سعادة الأمم هو إصلاحها دينها! فلا يكون فيه حشو أو بدعة، أو تكليف مما لم يأت به وحي، ولا خبر صادق. ثم إصلاح بقية المقومات والعوامل التي قلنا إنها هي التي تجذب بضبع الأمم إلى مراقي الكمال والعزة والغلبة. كما أن أقرب الطرق التي تأخذ بالأمم توا إلى هاوية الذلة والمسكنة والدمار والاضمحلال - هو ترك الدين محشواً بالبدع، وبما لا يرضي الله ورسوله من الآراء والتعاليم والأقوال البين سقطها، الظاهر غلطها. ومثل ذلك في الضرر أن نترك كل قديم على قدمه من أوضاع(917/46)
حكوماتنا، ونظام عائلاتنا، وأصول التدريس والتأليف في مدارسنا ومؤلفاتنا، وسائر مقومات اجتماعنا. وقد تبين فساد ذلك كله وعدم إيصاله إلى بحابح الحياة السعيدة؛ فإن جميع ذلك سبل ضلال: بسطها الله تحت مواقع أبصارنا، وبالغ في تحذيرنا منها في محكم كتابه؛ فما علينا إلا التنكب عنها، والاستعاذة به تعالى منها! فنكون من الفائزين المهتدين إن شاء الله).(917/47)
البريد الأدبي
طول العمر وقصره:
وجه حضرة الأستاذ عدنان سؤالاً على صفحات الرسالة الغراء بالعدد (915) بمناسبة مقالي عن (الخمر بين الطب والإسلام) يقول فيه أنه جاء في هذا المقال (وإذا اطلعتم على إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر العمر) ثم يقول كيف يمكن التوفيق بين إحصائيات شركات التأمين على الحياة وقول الله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا) وقوله جل شأنه (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
وقد أوجزت (الرسالة) رداً بليغاً، بقول الله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وأنا أجيب حضرة السائل فأقول:
ما من شيء في هذه الحياة الدنيا إلا وقد بأسباب، فلم يقدر مجرداً عن سببه ولكن قدر بسببه. فمتى أتى الإنسان بالسبب وقع المقدور، ومن لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر إنجاب الأولاد بالزواج وقدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال (كما جاء في الجواب الشافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن قيم الجوزية) فكذلك قدر على شارب الخمر من الأزل إتلاف صحته سريعاً ثم يقضى في عمر قصير كتبه الله عليه في اللوح المحفوظ (وكل شيء أحصيناه كتابا).
أرأيت إلى من يدهسه (ترام) مثلاً فيموت هل قصر عمره أم ذاك كان في كتاب مسجل في برنامج الوجود؟
أرأيت إلى من يرمي نفسه من حالق فيقضى، هل قصر عمره أم ذاك أجله وافاه. فالمقتول والمنتحر كل منهما ميت بأجله الذي علم الله وقوعه وسبب وزمانه ومكانه. وكذلك شارب الخمر ميت بأجله الذي قدره الله له، فكل الأشياء مرسومة قبل أن يوجد الإنسان.
إذاً لم تكن الخمر سبباً في إنقاص أجل طويل فلكل أجل كتاب، ولكنها سبب لتقدير أجل قصير قدره الله من الأزل وقد أخرج مسلم عن جابر أن سراقة بن مالك بن جعشم قال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال ففيم العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله).(917/48)
الدكتور حامد الغوالي
طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة
رحمة باللاجئين:
حينما تناولت القلم لأكتب وقفت طويلاً. . . حائراً. . . قبل أن أبدأ. . . لقد تزاحمت علي الكلمات، وأخذت الألفاظ تترى من كل حدب وصوب كالسيل الجارف فلم أدر ماذا أكتب وماذا أعمل؟
وهل تفي الكلمات بالغرض الذي من أجله تناولت القلم. هل يمكن للحروف المسطرة على القرطاس. . . أن تصرخ وأن تصيح وأن تسكب دماء بدل الدمع حينما تحاول أن تصور حالة أخوان لنا إن لم يكن في اللغة والوطن والدين. فعلى الأقل في الإنسانية.
إنهم ليسوا بالأموات ولا هم بالأحياء كذلك؛ أو قل إن شئت إنهم أحياء أموات أو أموات أحياء. وهل أدل على ذلك من أناس يعانون المرض والبرد والجوع والعرى ولا يكونون كما وصفتهم. إنهم إخواننا اللاجئون العرب الفلسطينيون.
أهب يا سيدي بقراء الرسالة وذكرهم بما هو البرد وزمهرير الشتاء في العراء. ذكرهم بالجوع وقل لهم ما هو. وذكرهم بالمرض في الخلاء من غير مأوى ولا دواء. ناشد يا سيدي إخواننا القراء لكي يمدوا يد المعونة إلى هؤلاء البائسين وليرسل كل منهم إلى حضرة صاحب السعادة رئيس المجلس الأعلى لإغاثة اللاجئين العرب الفلسطينيين بجمعية الهلال الأحمر المصري بالقاهرة ما تجود به نفسه من مال أو ملبس أو دواء أو ما يستطيعون وما يفيض عن حاجتهم مهام قل؛ فإن القليل كثير.
ساهم يا سيدي في هذا العمل الإنساني بنشركم كلمتي هذه فإن كلمة صغيرة قد تنقذ أرواحاً معذبة قد تكون الآن في حالة النزع أو ما هو شر من النزع.
محمد أمان
الموظف بالمجلس الأعلى لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين العرب
سؤال(917/49)
ألقى مدرس ثانوي من إخواننا المسيحيين بمدرسة (. . . . .) الثانوية بالقاهرة على طلبته بالسنة الأولى السؤال التالي: ألم تقولوا إن الإسلام قد سبق الديمقراطية الحديثة في احترام الحريات والرأي والاعتقاد؟ فأجابه تلامذته بجواب المقلد الواثق بنعم. فقال المدرس لماذا إذن يستعمل الإسلام القوة مع المرتد فيحكم عليه بالإعدام؟ أليس من حرية الاعتقاد أن يعتنق الشخص أي دين يشاء؟
وفلسفة الإسلام في قتل المرتد أعمق غوراً من أن يبلغها السائل والمسئول. فالإسلام لم يقتل المرتد لأنه يهودي أو لأنه نصراني، وليست علة القتل هي اليهودية أو النصرانية، وإلا لما ترك الإسلام يوم كان يسيطر على الدنيا كتاباً واحداً. وهذا غير ما عرف من إكرامه لأهل الكتاب عامة وأهل الذمة خاصة، ولكنه قتل المرتد لأنه ذو وجهين أو لأنه لا مبدأ له أو لأنه ما دام - بإسلامه - قد اكتمل لإيمانه بموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لا يصح أن يعود من جديد فيؤمن بالبعض ويكفر بالبعض الآخر. ولقائل أن يقول لم يقتل الإسلام المرتد العكسي أي من اليهودية أو النصرانية إلى الإسلام فأقول له إن إيمانه كان مجزأ فبإسلامه أصبح إيمانه كاملاً فليس من الحكمة في شيء استعمال القسوة معه. ولا إيمان المسلم بمحمد إلا إذا آمن بعيسى قبله.
وبعد فليعلم إخواننا المسيحيون المدرسون أن التلاميذ الذين بين أيديهم إنما هم أمانة عندهم فلا يصح بذر الشكوك في أذهانهم الفضة بمثل هذه الأسئلة التي لا يستطيعون الإجابة عنها في مثل هذه السن ولا بمثل ما عندهم من العلم.
مختار محمد هويسه
بين حافظ إبراهيم وعبد الحميد الزهراوي:
كان حافظ معروفاً بالتدقيق في انتقاء الألفاظ فإذا حضره معنى من المعاني الشعرية العلوية بذل أقصى الجهد في وضعه في قالب فصيح بليغ، وقد يقضي أياماً يبحث عن لفظ فصيح تتلقاه الآذان دون استئذان.
وأذكر أنه في مقهى (السبلندد بار) المقابل لحديقة الأزبكية والذي يسمى الآن (مقهى السبت فاير) في القاهرة كان يجلس أدباء الجيل الماضي في خلال الحرب الكبرى الأولى وقبلها(917/50)
وبعدها - رأيت في أحد الآصال حافظاً يقبل على جماعة من أولئك الميامين ثم ينشدهم قصيدة من قصائده الغر يخاطب فيها العميد البريطاني وأذكر من أبياتها الأولى:
بنات الشعر بالنفحات جودي ... فهذا يوم شاعرك المجيد
أطلي وأسفري ودعيه يحى ... بما توحين أيام الرشيد
إلى من نشتكي عنت الليالي ... إلى العباس أم عبد الحميد
ثم يتطرق إلى مخاطبة العميد فيقول:
إذا اشتد الصياح فلا تلمنا ... فإن القوم في جهد جهيد
وعندما لمع هذا البيت بدت عليه علامات الكآبة فقيل له علام أنت مكتئب يا حافظ؟ فقال والله إني غير راض عن هذا اللفظ (اشتد) فإنه لفظ سقيم. وقد حاولت عبثاً أن أجد لفظاً آخر أفضل منه فلم أوفق، فأخذ كل من الحاضرين يبحث عن اللفظ المناسب ومرت دقائق والجميع واجمون حتى اندفع الشيخ عبد الحميد الزهراوي الذي كان في ذلك العهد محرراً في (الجريدة) التي كان يتولى رئاسة تحريرها الفيلسوف أحمد باشا لطفي السيد وقال لحافظ قل (إذا أعلو لي الصياح فلا تلمنا) فتهلل محيا حافظ وقال لعبد الحميد لله درك يا عبد الحميد! والله إن هذا هو اللفظ الذي ما فتئت أبحث عنه فلم أعثر عليه، وتقدم إلى الشيخ وقبله. رحم الله أولئك الأبطال!
طرابلس الغرب
خليل الخوري
القاضي في المحاكم الليبية(917/51)
القصص
حب في الشتاء
قصة للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
كان ذلك اليوم من أيام الشتاء المشرقة. . . والصقيع ينقصف في حدة، وقد كسا الجليد اللجيني خصلات شعر نادنكا المتهدلة على جبينها وحافة شفتها العليا.
وكانت ممسكة بذراعي ونحن واقفان على تل مرتفع، وقد امتد تحتنا المنحدر الأملس، تنعكس عليه أشعة الشمس كما لو أنه مرآة، وبجوارنا زاحفة مغطاة بقماش أحمر براق.
وقلت لها راجياً (فلننزلق يا نادبزدا بتروفنا! مرة واحدة فحسب! أؤكد لك أنك ستكونين بخير ولن تصابي بسوء).
بيد أن نادنكا ظلت مرتاعة، فقد كان يبدو لها المنحدر من موقع قدميها حتى سفح التل الثلجي وكأنه هوة مهولة عميقة الغور. وخانتها شجاعتها، وبهرت أنفاسها كلما حدقت إلى أسفل، في الوقت الذي كنت أقترح عليها مجرد ركوبها الزاحفة. إذن ماذا يكون حالها إذا ما جازفت بالاندفاع إلى الهاوية؟ فلعلها تهلك أو لربما تفقد وعيها.
وقلت (أرجوك! لا تخافي! إنها شجاعة واهنة منك! أنه خور وضعف!)
وأخيراً أذعنت دونكا. . ولاحظت من ملامحها أنها قد رضخت وهي في حالة من الخوف المميت. وأجلستها على الزاحفة شاحبة مرتجفة، وأحطتها بذراعي. ثم دفعت بي وبها إلى أسفل الهاوية.
واندفعت الزاحفة وكأنها القذيفة. ولطم الهواء وجهينا مزجراً، وهدر في آذاننا يتمزق حولنا، ويقرصنا غاضباً في قسوة، محاولاً أن ينتزع رأسينا من أكتافنا. وتعذر علينا التنفس من ضغط الريح.
كان يبدو كما لو أن الشيطان ذاته قد أمسكنا بمخالبه، يسحبنا إلى الجحيم في هدير. واستحال كل ما يحيط بنا خطاً واحداً متماسكاً ممتداً يسابقنا سباقاً هائلاً. . . وخيل إلينا في لحظة كما لو أننا في طريق الردى.(917/52)
وهتفت قائلاً في همس (إني أحبك يا ناديا!)
ثم أخذت الزاحفة تقل سرعتها رويداً رويداً، ولم نعد نخشى هدير الريح. وسهل علينا التنفس. ثم إذا بنا في سفح الهضبة.
كانت نادنكا في حالة سيئة، شاحبة الوجه، تتنفس في صعوبة. . . وساعدتها على النهوض.
وأخيراً قالت وهي ترنو إلي بعينين واسعتين مفعمتين رعباً (ما من أحد في العالم يدفعني بعد ذلك إلى إعادة الكرة. لقد كدت أهلك!).
وإن هي إلا لحظة حتى استعادت رباطة جأشها، ثم تطلعت في عيني متسائلة، وقد لاح على محياها دلائل العجب: هل أنا تفوهت حقاً بهذه الكلمات الثلاث؟ أم كان ذلك وليد مخيلتها وسط زئير العاصفة؟ وكنت واقفاً بجوارها أدخن وأنا غارق في تأمل قفازي.
وأخذت بيدي، ثم قضينا وقتاً طويلاً نتجاذب أطراف الحديث على مقربة من التل الثلجي. وكان من الجلي أن اللغز لا يدع لها فترة للراحة. . . هل تفوهت بتلك الكلمات أو لم أتفوه؟. . . نعم أو لا؟. . . نعم أو لا؟ إنها مسألة كبرياء، شرف، حياة - إنها شيء ذو أهمية كبرى، أهم مسألة في العالم.
وظلت نادنكا تتأمل وجهي في حزن واضح، وتخترق نظراتها النفاذة ملامحي في صبر نافذ، وتجيب على أسئلتي كيفما تعن لها الإجابة. أواه، يا لها من مشاعر تتلاعب على صفحة ذلك الوجه الجميل! شاهدت أنها تناضل مع نفسها، وتود أن تقضي بشيء، وتريد أن تسأل سؤالاً، دون أن تجد ما يسعفها من كلمات. تستشعر الارتباك والخوف والاضطراب. . .
وأخيراً قالت دون أن تنظر إلي (أتعرف ماذا؟)
قلت (ماذا؟)
قالت (دعنا ننزلق مرة أخرى!)
وتسلقنا الهضبة الثلجية وجلست نادنكا في الزاحفة شاحبة مرتجفة. ومرة أخرى اندفعنا شطر الهوة المخيفة. وزأرت الريح. ومرة أخرى همست والزاحفة تشق طريقها في سرعة مخيفة (إني أحبك يا ناديا!)(917/53)
وعندما توقفت الزاحفة عن المسير ألقت نادنكا نظرة على الهضبة حيث انزلقنا، ثم حدجتني بنظرة طويلة، تستمع إلي وأنا أتكلم في هدوء وبرود، ويعرب كل جزء من جسمها الصغير، حتى الفراء التي كانت تغطي به يديها، حتى غطاء رأسها، عن منتهى الحيرة، وكأنما قد سطر على وجهها (ماذا يعني ذلك؟ من الذي تفوه بتلك الكلمات؟ أنطق بها هو أو أني تخيلت ذلك فحسب؟)
وأصبح الشك يضايقها ويقصيها عن كل صبر. ولم تعد الفتاة المسكينة تجيب على أسئلتي، بل صمتت في غضب وكأنها على وشك البكاء.
وأخيراً سألتها (أليس من المستحسن أن نعود إلى الدار؟)
فقالت في خفر (حسن. أنا. . . إني أحب هذه الرياضة. ألا تود أن ننزلق مرة أخرى؟)
إنها تحب (هذه الرياضة)! ومع ذلك، فعندما امتطت الزاحفة، أصبحت - كما كانت في المرتين السابقتين - شاحبة الوجه مرتجفة، تلهث رعباً.
وانحدرنا للمرة الثالثة. ولاحظت أنها تحدق في وجهي وتراقب شفتي. ولكني وضعت منديلي على فمي وسعلت. وعندما بلغنا منتصف الهضبة، نجحت في التفوه قائلاً (إني أحبك يا ناديا!)
وظل السر غامضاً! كانت نادنكا صامتة، تنعم النظر في. . لا شيء. . وأوصلتها إلى دارها. كانت تسير الهويني، وتحاول أن تقصر من خطواتها، إلى أن تتحقق من أني تفوهت بهذه الكلمات. ولاحظت كيف كانت روحها تتعذب، وأي مجهود كانت تقوم به وهي تحدث نفسها قائلة (لا يمكن أن تكون الريح قد تفوهت بهذه الكلمة! إني لا أود أن تكون هي السبب!)
وفي صباح اليوم التالي تسلمت رقعة منها تقول فيها (إذا كنت تود التريض اليوم، فاحضر إلي).
ومنذ ذلك الوقت أخذت أذهب يومياً للانزلاق مع نادنكا، وكلما نزلنا بالزاحفة أهمس قائلاً (إني أحبك يا ناديا)
وسرعان ما اعتادت نادنكا هذه العبارة كما يعتاد المرء الخمر والمخدر، وأصبحت لا تستطيع العيش بدونها. وفي الحق، كان الانزلاق من التل الثلجي يرعبها دائماً بيد أن(917/54)
الإحساس المخيف والشعور بالخطر قد ولدا لها سحراً غريباً من كلمات الحب - كلمات كانت لا تزال لغزاً يعذب روحها. وكنا - أنا والريح - لا زلنا موضع شكها. . فقد كانت تجهل من منا الذي يغازلها. بيد أنه كان يبدو الآن أنها لم تعد تأبه بذلك أو تهتم. فشارب الخمر لا يعبأ من أي دن يستسقى ما دام أن ما يحتسيه يثمله.
ولقد حدث ظهر يوم أن ذهبت وحيداً إلى أرض الانزلاق واختلطت بالموجودين، فشاهدت نادنكا تصعد الهضبة وتنظر باحثة عني. . وكان يبدو عليها الخوف من الذهاب وحدها - أوه أي خوف! لقد كانت ناصعة البياض كالثلج، ترتجف وكأنها في طريقها إلى المقصلة. بيد أنها واصلت التسلق في عزم دون أن تلتفت خلفها. وكان من الجلي أنها صممت أن تتبين وحدها فيما إذا كانت ستستمع إلى تلك الكلمات العجيبة في أثناء غيابي.
وشاهدتها شاحبة الوجه منفرجة الشفتين، تمتطي الزاحفة وتغمض عينيها، ثم تندفع بها وكأنها تودع الأرض إلى الأبد.
ولست أدري هل سمعت نادنكا تلك الكلمات. كل ما أدريه أني شاهدتها تنهض من الزاحفة وقد بدت متخاذلة منهوكة. ولم يبد علي محياها ما ينبئ: أكانت قد سمعت شيئاً أو لم تسمع. فقد كان خوفها وهي تنحدر قد جردها من حاسة السمع أو تمييز الأصوات. فلم تؤد بها محاولتها الجبارة إلى حل ذلك اللغز اللطيف. . ولم تحاول مرة أخرى.
ثم أقبل شهر مارس. . . وكانت أشعة شمس الربيع أكثر حناناً وشفقة. . وتحولت هضبتنا الثلجية إلى لون قاتم، وفقدت بهاءها، وأخيراً ذاب الثلج وهجرنا الانزلاق: ولم يعد هناك ثمة موضع تستطيع فيه المسكينة نادنكا أن تستمع إلى تلك الكلمات وفي الحق، لا يوجد هناك من يتفوه بها الآن، فالريح قد ولت، وكنت أن الآخر على أهبة الرحيل قاصداً بطرسبرج لأقيم فيه مدة طويلة بل لعلها تكون إقامة مستمرة.
وحدث قبل رحيلي بيومين أن كنت جالساً يغمرني الظلام في الحديقة الصغيرة التي يفصل بينها وبين فناء نادنكا حاجز مرتفع. . . كان الجو لا يزال بارداً، ولم يعتد هناك جليد. وبدت الأشجار وكأنما قد فارقتها الحياة. بيد أن رائحة الربيع كانت تضوع في كل مكان، والغربان تنعب في صوت جهوري أثناء استقرارها في عشها. وذهبت إلى الحاجز، ووقفت مدة طويلة أتبصص خلال فرجة بالحاجز. وفجأة شعرت بالوحشة تنتابني. وبدافع يدفعني(917/55)
إلى العدول عن الرحيل.
ثم شاهدت نادنكا تقبل نحو الطنف، وتحدج السماء بنظرة حزينة والهة. كان النسيم يهب على وجهها الشاحب فيذكرها بالريح التي كانت تزأر في وجهينا فوق الهضبة الثلجية عندما كانت تستمع إلى تلك الكلمات الثلاث. وكسا وجهها حزن بالغ وانحدرت الدموع على خدها، ومدت الطفلة المسكينة ذراعها كما لو أنها تتوسل إلى النسيم أن يأتي بتلك الكلمات وفي هذه اللحظة همست قائلاً (إني أحبك يا ناديا!)
يا لرحمة الله! أي تغير ذلك الذي طرأ على نادنكا! لقد ندت عنها صرخة، ثم ابتسمت ابتسامة أشرقت على وجهها، وبدت تغمرها البهجة والسعادة والجمال. وجعلت تستقبل النسيم بذراعيها وذهبت أحزم أمتعتي. . .
كان ذلك منذ أمد بعيد. أما الآن فقد تزوجت نادنكا. . تزوجها سكرتير أحد النبلاء ولها الآن أولاد ثلاثة. .
ومع ذلك فإن ذكرى تلك الأيام التي كانت تذهب معي فيها للانزلاق، فتستمع إلى الريح تهمس إليها (إني أحبك يا ناديا!) هذه الذكرى لم تغب عن بالها مطلقاً، لأنها في عرفها أجمل وأسعد بل أكثر الذكريات تأثيراً في حياتها. . .
بيد أن، وقد بلغت الآن من الكبر عتيا، لا أستطيع أن أفهم لماذا تفوهت بتلك الكلمات، وماذا كان باعثي على هذه المزحة!؟
محمد فتحي عبد الوهاب(917/56)
العدد 918 - بتاريخ: 05 - 02 - 1951(/)
ومكروا ومكر الله!
قلنا في كلمة سبقت إن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم هو المصلح الذي يرجوه الأزهر وينتظره؛ لأن الله جمع فيه من المواهب والمكاسب ما لابد منه لكل مصلح؛ فهو أزهري مكتمل الأزهرية في دينه وخلقه وعلمه؛ وهو سلفي معتدل السلفية في عقيدته وطريقته وفهمه؛ وهو تقدمي متئد التقدمية في اجتهاده وإصلاحه وحكمه. ورجل بهذا الدين وفي هذا الخلق وعلى هذا العلم جدير بأن تناط به الآمال في إنهاض الإسلام وإصلاح الأزهر؛ لأنه بفضل دينه لا يؤتى من قبل نفسه، وبفضل علمه لا يؤتى من قبل قومه، وبفضل خلقه لا يؤتى من قبل سلطانه.
فلما ألقيت إليه مقاليد الأزهر وأخذ بنهج الطريق إلى الإصلاح فجمع الأهب وحشد القوى، وأعلن الدعوة، هبت في أول السير ريح من الخلاف تحمل بالإضراب والاعتصاب، مطالب للأساتذة والطلاب، فقلنا أول الأمر إنها الفتنة التي تفرق الرأي وتعوق الإصلاح وتعصف بالأزهر! وسمعنا أن فريقاً من الذين في قلوبهم مرض وفي رءوسهم غرض يحملون الحطب لهذه النار، ويوزعون الأبواق لهذه الفتنة. فسكتنا على مضض، وارتقبنا على خوف، وقلنا ما قال عبد المطلب في أصحاب الفيل:
// لا هم إن المرء يمن ... ع رحله فامنع رحالك
ولكن الله الذي تكفل بنصرة جنده وغلبة حزبه، نقى الخبث وماز الغش فانجلت صيحة الأزهريين عن خالص الحق وصريح العدل، فاستمع لها الأستاذ الأكبر وجعلها نقطة البدء في إصلاحه، وعدة العمل في جهاده، ووقف من مطالب العلماء موقفه العظيم الذي لم يقفه أحد قبله: أيدها لأنها من رأيه، وتبناها لأنها من منهجه، وجاهد الحكومة عليها لأنها من حقه. لذلك اجتمعت حوله القلوب، وتلاقت عنده الأهواء، ووقف الخناس خزيان يعض على يديه ويقول: طلبت الفوضى فجاء النظام، وأردت الفرقة فكانت الجماعة!
ماذا يطلبه أساتذة الأزهر؟ يطلبون المساواة بينهم وبين نظرائهم من أساتذة المعارف. ومن ذا ينكر المساواة بين النظير والنظير في الحق إذا تساويا في الواجب؟ الحكومة!
نعم الحكومة التي جعلت للأزهر نصيباً من وعودها في خطاب العرش؛ وضمنت لشيخ الأزهر قسطاً من جهودها لإصلاح الأزهر؛ وعانقت الشيخ عبد المجيد يوم هنأته ووعدته بتأييدها في هذا الإصلاح! ثم انتظر الشيخ أن تنجز الوعود، وتبذل الجهود، فإذا هي تتخلى(918/1)
عنه، وتتنكر له، وتعين عليه، وتنفّر منه، حتى يطلب العون فلا يجده، ويسأل العدل فلا يعطاه! وتأخذها صيحة الإنكار من كل مكان فتجعل أذناً من طين وأخرى من عجين!
إذا رمتمو قتلي وأنتم أحبتي ... فماذا الذي أخشى إذا كنتمو عدى
أحمد حسن الزيات(918/2)
في سبيل الله والأزهر
للدكتور محمد يوسف موسى
أما بعد!!
فقد أردت نفسي جاهداً على أن أكتب اليوم في باب من الأبواب التي أكتب فيها المتصلة بالفلسفة أو الفكر عامة، فأبت إباء شديداً، وحتمت على أن تكون هذه الكلمة من الأزهر خاصة. ولا عجب! فأين كان الأزهر في كل أدوار تأريخه الطويل الحافل ملء الزمان، فهو هذه الأيام ملء الزمان والأسماع حتى استرعى انتباه البلد كله، وأفردت له الصحافة الكريمة مكاناً كبيراً، فنحن لا نعيش هذه الأيام إلا له ولا نفكر إلا فيه.
يتساءل كثير من الناس ممن لم يتبطنوا الأمر ولم يفقهوا ما يراد بالأزهر، عن السر في ثورة الأزهريين جميعاً طلاباً ومدرسين وأساتذة، هذه الثورة الهادئة الجادة الحازمة، وكيف أصبحوا يطلبون مطالب مادية كما يطلب الغير، وقد عهدوهم زهاداً في الدنيا حين يتكالب غيرهم عليها؟ ولهؤلاء المتسائلين على هذا النحو أتوجه بهذه الكلمة.
ما كان الأزهر في يوم من الأيام طالب دنيا، ولكنه صاحب رسالة يحرص على أدائها ويرجو أن يعان عليها، بل ألا يحال بينه وبينها. وهذه الرسالة في حفظ كتاب الله وحراسة شريعته، وإذاعة التعاليم الإسلامية في مصر وغير مصر من أقطار الأمة الإسلامية، والعمل على أن يكون هذا الكتاب الكريم وتلك الشريعة السمحة هما الفيصل في البلاد الإسلامية في نواحي التشريع والأخلاق والتقاليد.
وهذه الرسالة، على خطرها وجلالتها وثقل ما تقتضيه من تبعات، قام بها الأزهر فيما مضى من تأريخه الطويل، وعرفت له الأمة الإسلامية عظم الدور الذي يقوم به، فأحلته المحل اللائق ورفعته مكاناً علياً. أما اليوم فقد وضح، حتى لمن كان أعمى أو لمن لا يحب أن يتعمق الأمور وبرد النتائج إلى مقدماتها وأسبابها الأولى، أن القائمين على شؤون مصر في هذه السنوات لا يريدون أن يقوم الأزهر برسالته من حراسة الدين وأخذ الأمة به، حتى يتم لهم ما عملوا له زمناً طويلاً من فصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً، ومن أن يكون مجتمعنا مجتمعاً لا يمت في مجموع مظاهره وتقاليده للشريعة بسبب قوي أو صلة متينة. ومن ثم راحوا يتحيفون حقوق الأزهر وأهله في عنت، ويتحدونه وأبناءه في جبروت،(918/3)
ويحاولون صرف الناس عنه بطرق وأساليب شتى، ويجدون مما بين أيديهم من الحكم وأسبابه القوية في كل ما يريدون، بل ويجدون لهم أنصاراً ممن لا يريدون - فيما يزعمون - أن تتخلف مصر عن ركب الحضارة، كأن الإسلام الذي أوجد أكبر حضارة عرفها الإنسان أصبح حجر عثرة في سبيلها هذه الأيام!
هذا، وإنا نعتقد أن الحالة أو المحنة التي يمر بها الأزهر الآن، وسيخرج منها بفضل الله، وقد نفى عن نفسه الخبث وذاد عن عينه النوم الثقيل البغيض، هي نتيجة لسياسة وضع أسسها المستعمر منذ قرابة قرن من الزمان.
إن الاستعمار على ضروب مختلفة لكل منها وسائله، ولكن مهما يختلف المستعمرون في طرقهم وأساليبهم، فإنهم يتفقون على وجوب القضاء على قومية البلد المستعمر، وهذه القومية تقوم على الدين واللغة والتقاليد. وهذه الغاية قد يسير إليها المستعمر في عجلة وعنفوان كما فعلت فرنسا في الجزائر، أو في هون وتؤدة كما حاولت إنجلترا في مصر ونجحت فيه نجاحاً غير قليل.
لقد بدأ الأمر عندنا منذ زمن طويل بالتهوين من شأن الدين واللغة، وتحيف حقوق القائمين بهما، وجعلهم لدى الأمة في منزلة أدنى من نظرائهم في الثقافة والعمل والخدمات العامة للأمة؛ ومن ثم كان خريجو دار العلوم دون خريجي مدرسة المعلمين العليا منزلة وراتباً مع اشتراكهما في العمل في المدرسة الواحدة؛ وكان القضاة الشرعيون. ولا يزالون. دون القضاة الأهليين في المرتبة المادية والأدبية، مع الاستواء في الحكم بين الناس، وما لذلك من تبعات جسام؛ وكان خريجو الأزهر في منزلة أدنى من هؤلاء جميعاً.
ثم انقضى الاستعمار بحمد الله. ولكن بقي - لا أقول أذناب وصنائع - من يخدمون بعض ما كان له من غايات من حيث يدرون أو لا يدرون، فاحتطبوا في حبله زمناً طويلاً، حتى انتهى بنا الأمر إلى كثير مما كان يريد.
هاهو ذا أحد المسلمين، ممن لهم مكانة ملحوظة في البلد، يقول في كلمة نشرتها له أوائل عام 1949 صحيفة إسلامية واسعة الانتشار: (ولا يخفى أننا في مصر نجرى، في حكمة واعتدال، على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة.)
وهاهو ذا آخر درس القانون وصار من المحامين، يقول في عريضة دعوى الآنسة(918/4)
المحامية أمينة مصطفى خليل التي رفعتها أمام مجلس الدولة، تشكو وزير العدل أنه لم يعينها وكيلة نيابة أو محامية بقلم قضايا الحكومة بعد أن استشار في الأمر رجال الدين، يقول كما جاء بمجلة أخبار اليوم في العدد الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1950: (وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين لتستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين - كما لو كانت مسألة ولاية المرأة القضاء أو شيئاً منه أمراً لا يتعلق بالدين والشريعة الإسلامية! - في كثير أو قليل. فكان حقاً عليها، حتى لا تتخلف عن المسير في ركب الحضارة، أن تسائل نفسها: هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ فإذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة)، إلى آخر ما قال! ونحن نعتقد مع محامي المدعية أن الإجابة عن هذه الأسئلة كلها هي بالسلب، وهذا ما يكشف لنا عما وصل إليه من النجاح أنصار إقصاء الدين عن الدولة والمجتمع نفسه. وهم مع هذا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، متجاهلين قوله تعالى في سورة المائدة: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون!) مع أن الحافظ ابن كثير، وهو من أجل علماء الإسلام، يقول في أثناء تفسيره لهذه الآية: (فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله.)
وأخيراً، من باب التمثيل لا من باب الاستقصاء، نرى الأزهر زاد عن القوامة على الشريعة الإسلامية فيما يفرض على البلاد من قوانين ترجع إلى كثير من المصادر ما عدا شريعة الله ورسوله! كما لا يسمع له فيما نعاني من مفكرات وآثام ومظالم، وفيما يشيع في هذا البلد من تقاليد تبعد عن أمر الله والخلق الطيب بعد المشرق عن المغرب!
أرأينا إذا أن التهوين من شأن الأزهر وأبنائه وعلمائه ورجاله عامة، وانتقاص حقوقهم جميعاً في غير ورع أو حياء، أمر يجري على سنن مرسوم وسياسة وضع المستعمر أسسها ووسائلها منذ زمن طويل! وأنه من عدم فهم الأمر على حقيقته، ومن تجاهل العلل الأولى لهذه المحنة التي تمر بها، أن يقال إن الأزهريين يثورون طلباً للمادة كما يفعل الأغيار!
ألا إن الأمر أخطر من هذا كله كما رأينا، ألا وإن من يؤمن بالله ودينه، والرسول(918/5)
وشرعته، والأزهر ورسالته، طلاباً وأساتذة ورؤساء، ليس له أن يتزحزح خطوة واحدة عن هذا الموقف الذي نقفه الآن جميعاً في سبيل الله والأزهر، وإلا كان فاراً من الزحف وباء بسخط من الله ورسوله والمسلمين جميعاً.
إن الأمر، أيها الناس، لا يعدو إحدى اثنتين: إما ألا تكون مصر والعالم الإسلامي كله في غير حاجة للأزهر، أو تكون في حاجة ماسة له، فإن كانت الأولى فليغلق الأزهر، ولينفق ما يرصد له في الميزانية، على غيره من مرافق البلد، وليريحونا من هذه الحياة التي لا يرضاها حر أبي كريم، إن كانت الأخرى، وهذا ما نعتقده صحيحاً، فعلى الدولة أن تعرف للأزهر وأبنائه منزلتهم، وأن توفر لهم الحياة الكريمة كفاء ما يقومون به من رسالة وما عليهم من تبعات، وعلى الأمة الإسلامية كلها أن تطالب الدولة بذلك كله في جد وإلحاح من يوقن أنه يطالب بحقه، فأقول: (على الأمة الإسلامية)، لأن الأزهر وإن كان مصر، ليس ملكاً لمصر وحدها، ولكنه لأمة الإسلام جميعاً، والأمر في هذا لا يحتاج لدليل أو توضيح.
وليس لأحد ممن بيدهم الأمر أن يتعلل لمحدثيه بعدم إمكان الميزانية العامة للدولة، وإلا، فكيف تتسع هذه الميزانية للإغداق على جمع من الطوائف، بل وللإغداق على فرق التمثيل والرقص نستقدمها من أوربا للترفيه عن الأغنياء المترفين!
هذا، ونقول أخيراً ما قاله فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ حسنين مخلوف عضو (جماعة كبار العلماء) في حديثه لدى فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الجامع الأزهر، إن المسألة ليست اليوم مسألة مطالب عادلة فحسب، وإنما هي مع ذلك مسألة كرامة وعزة. ويجب أن يكون للأزهر قيمته ومنزلته التي عرفها التاريخ وعرفها العالم الإسلامي، فيعترف له بحقوقه، ويقدر أهله وما يؤدون للبلاد من خدمات التقدير. اللائق وإننا، ثقة بلفتات جلالة الملك التي شملت الأزهر في كل شؤونه بمزيد من العطف والرعاية، لنرجو أن يكشف الله بها هذه الغمة، ويزيل بها هذه المحنة. ونقول نحن أيضاً: أحبب بهذه محنة جعلت الأزهريين، طلاباً ورؤساء ومرءوسين، جسماً واحداً ورجلاً واحداً في سبيل الله ودينه، ورسوله وشريعته، والأزهر ورسالته. والله المستعان
الدكتور محمد يوسف موسى
أستاذ بكلية أصول الدين(918/6)
ضبط الكتابة العربية
بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي
الأستاذ محمود تيمور بك
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
ما كاد يبدأ عهد التدوين العربي في عصر الدولة الأموية حتى تبين أن هذه الحروف العربية وحدها ليست مغنية في ضبط الكلام. ولذلك أخذ الأمويون في ابتكار علامات للضبط توضع على الحروف، نفياً للخطأ، ورفعاً للبس. هذا والأمة العربية في جملتها يومئذ مستقيمة الألسن، صافية السلائق، فصيحة اللهجات.
ولقد بلغ من شعور الأقدمين بضرورة الضبط أنهم لم يكونوا يقتصرون على وضع العلامات المقررة، بل لقد كانوا يلجئون إلى التعبير في المواضع المهمة للكلمات التي يخشون عليها الالتباس. فيكتبون مثلاً أن الكلمة بفتح الحرف الأول وسكون الثاني وضم الثالث وكسر الرابع. وما بعثهم على ذلك إلا خوف التصحيف والتحريف، بل لعلهم خشوا أن تذهب علامات الضبط، أو أن يستثقل النساخ نقلها، فأرادوا تسجيلها بالتعبير. وليس أبلغ دليلاً عن هذا على رهافة شعورهم بنقص الحروف العربية وحدها في الأداء، وبقيام الحاجة إلى ضبط الكلمات ضبطاً لا لبس فيه.
فأما نحن فإننا في مستهل نهضتنا الحديثة، حين بدأنا نتخذ الطباعة وسيلة للتدوين، اكتفينا بالحروف العربية عارية عن علامات الضبط للكلام.
فهل مبعث ذلك أننا عددنا أنفسنا عرباً أقوى سلائق من العرب الخلص في العصر الأموي، وأقدر منهم على قراءة ما يكفي بالحروف العربية غير مضبوطة؟
كلا، فإنه لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة، أمر يتعذر على المثقفين عامة. بل إن المختصين في اللغة الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطراً اليقظة، ومتابعة الملاحظة. وإن أحداً منهم إذا حرص على ألا يخطئ، لا يتسنى له ذلك إلا بمزيد من التأني، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب.
لم يكن مبعث اقتصارنا في الطباعة على الحروف العربية دون ضبط أننا وجدنا فيها غنية(918/8)
وكفاية، وإنما كان مبعثه أن أوضاع الكتابة العربية يصعب معها إدخال علامات الضبط في المطابع فلم يتح لهذه العلامات أن تأخذ مكانها على الحروف المطبعية إلا في أحوال قليلة، وضرورات خاصة.
وكان في مقدمة هذه الضرورات والأحوال بعض الكتب المدرسية الخاصة بمواد اللغة العربية، مثل كتب النحو والمطالعة فطبعت مشكولة لاستعمالها في المدارس، ولكن كان لذلك أثر سيئ، فقد أشاع بين المثقفين شعوراً نفسياً نحو هذا الشكل شعور استعلاء عليه، وأنفة منه؛ إذ توهم الكبار أن الضبط لا يكون إلا للصغار، وأنه للتلامذة دون الأساتذة، وأن الكتب المدرسية هي وحدها التي تظهر مشكولة، وعار أن تضبط الكتب التي توضع بين أيدي المثقفين الذين فارقوا مراحل التعليم. فمن قدم لمثقف كتاباً مضبوطاً فقد أساء الظن به، وعزا إليه تهماً الجهل بأوضاع اللغة، وقواعد النحو والصرف.
وجلي أن هذا الشعور النفسي نحو الشكل شعور وهمي لا أساس له، ولا حق فيه؛ فهو لون من ألوان الغرور يتواضع عليه الناس. وأولئك هم الناطقون باللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وطليانية وغيرها، لا يكتبون كلامهم إلا مضبوطاً أتم ضبط، ولغاتهم على وجه عام لغات كلام وكتابة معاً، فهم بها أبصر، وهي عليهم أيسر، وسلائقهم فيها أدعى إلى الاستغناء عن الضبط إن أرادوا أن يستغنوا عنه. ولكنهم يلتزمون الضبط فيما يكتبونه، لا يعولون على علمهم باللغة، ومرانتهم على القواعد، وانسياق ألسنتهم إلى الصواب.
فأول ما يجب أن نؤمن به، هو أن كتابتنا العربية غير المضبوطة، كتابة ناقصة، وأننا نعبر بها عن غرور نفسي، وأن هذا الغرور يخفى بين ثناياه عجز الغالب منا على القراءة الصحيحة، وفقاً لقواعد اللغة وأوضاعها. فنحن بهذه الكتابة الناقصة نرضي غرورنا، وإن كنا في حقيقة أمرنا نخطئ فيما نقرأ غير مبالين.
ولا غرو في أن يعجز العامة عن القراءة الصحيحة، وأن يجد الخاصة فيها صعوبة وحرجاً، فقد ذهبت عن العرب سلائقها الفصيحة منذ عهود وآماد، وأصبحت اللغة تؤخذ تلقيناً، وتكتسب تمريناً. إذ استقرت لنا لهجة عامية يجري بها على ألسنتنا مألوف الكلام، وهذه اللهجة تجانب لغة الكتابة الفصحى في خصائصها الواضحة، أعني الإعراب وما إليه مما يقتضيه الاشتقاق وتصريف الألفاظ والصيغ. فأصبحنا إذ أردنا أن ننطق بما نكتب،(918/9)
عانينا أن نعربه وأن نقوم تصريفه معاناة لا تخلو من تكلف، ولا تسلم من تعثر. ولذلك نجد المدرس في مدرسته، والمحاضر على منصته، لمتحدث أمام المذياع، يستنجدون مضطرين بالوقف، ويمتضغون بعض الصيغ، فراراً من كلفة الإعراب، واتقاء للخطأ في تصريف الألفاظ.
وقد أدت هذه المصاعب التي يضيق بها الناطقون بالفصحى، أو الحرصاء على النطق بها، إلى المناداة بترك الإعراب، واللجوء إلى الوقف. على أن الأخذ بهذه الدعوة لا يرفع جملة ما هنالك من مصاعب، فمن وراء الإعراب ضبط بنية الكلمة، في أوائلها وأوساطها، مما تقتضيه قواعد الصرف، وسماع اللغة. فإذا نودي بأن ننفض عن اللغة إعرابها وصرفها وضوابط كلماتها جميعاً، فلا تسمية لذلك إلا أنه (انحلال لغوي)، إذ هو يفقد اللغة مقومات من جوهرها الأصيل.
حقاً لقد شاعت في البلاد العربية بيئة ثقافية لها لغتها الفصحى، وحقاً إن هذه البيئة لها منبعان فياضان من المقروء والمسموع. ولكن هذين المنبعين لم يغنيا أهل العربية شيئاً في صحة القراءة، فإن المقروء عار من الضبط، والمطالعون يمضون في قراءتهم على غير هدى. وأما المسموع فاللحن فيه شائع، والخطأ كثير، وربما كان ضرره أكبر من نفعه.
ولو كانت هذه البيئة الثقافية بمنبعيها الفياضين كافلة للقارئ والسامع ضبطاً صحيحاً للألفاظ والصيغ، لأدت لأهل العربية نفعاً عميماً؛ ولكانت بذرة مخصبة لإثمار سلائق سليمة.
وأكاد أقول بأن هذه البيئة الثقافية بما فيها من مقروء ومسموع، لو شاع فيها الضبط، لأصبحت أقوى أثراً من تلك البيئة البدوية التي كان الخلفاء والأمراء يبعثون إليها بأبنائهم في فجر الإسلام وضحاه، لاكتساب العصمة من اللحن في الإعراب، والسلامة من الخطأ في تصريف الكلام.
فلنتمثل في خاطرنا أن الضبط قد شاع بين أهل العربية في سائر ما تقع عليه الأعين، وما تلتقطه الآذان: الطالب في مدرسته من أول مرحلة في حياته الدراسية إلى أن يتخرج في جامعته، في مختلف مواد دراسته، والقارئ عامة فيما بين يديه من الصحف والمجلات والكتب والنشرات، والأسرة كلها بمسمع من المذياع - فلنتمثل في خاطرنا أن هؤلاء جميعاً لا يقرءون ما يكتب لهم إلا مضبوطاً أدق ضبط، ولا يسمعون ما يلقى عليهم إلا معرباً(918/10)
أصح إعراب؛ ألا يكون ذلك سبيلاً إلى طبع الألسنة على صحة النطق، وإكسابها ملكة الإعراب؟
لا ريب أننا أسعد حظاً من العرب في العهود الغابرة، فما كانت لديهم هذه الوسائل التي تسنت لنا الآن، من مطبعة تخرج الكتب والصحف على اختلافها في سهولة ويسر، ومن مذياع ينقل إلى الآذان ما تلفظه الأفواه في دقة ووضوح. فأين من هذه الوسائل الناجمة ما كان للعرب الأقدمين من وسائل محدودة وعرة لجأوا إليها لإشاعة الضبط، والتعريف بالصواب؟
ولكن وسائلنا على يسرها، وقوة أثرها، لم نحسن استخدامها، فلم تفدنا شيئاً وذلك لأننا لم نلتزم ضبط الكلام فيما تؤلف من كتب، وما نصدر من صحف، وما تلفظ من قول في المذياع.
فما علة إمساكنا عن إشاعة الضبط؟
وماذا يحجم بالمطابع عن إدخال الشكل باعتباره عنصراً أصيلاً في الكلام؟
لعل أكبر البواعث في ذلك أن المطبعة العربية بدأت كما بدأت الكتابة العربية نفسها ذات حروف غير مشكولة، فأصبحت على هذا الوضع مألوفة جارية. فلما أريدت المطبعة على إدخال الشكل ضاقت به ذرعاً، ووجدته ضيقاً عليها ثقيلاً، ولم تر فيه إلا واغلاً دخيلاً. فقد أخذت الكلمات في كتابتها أوضاعاً من التركيب لا تحتمل وقوع هذه الشكلات عليها.
وعلى الرغم مما بذله أهل فن الطباعة من محاولات في معالجة الموضوع، وما بلغوه من إخضاع حروف الكلمات لمواقع الشكل، فإن الضبط في الحرف المطبعي ما زال يثقل الكلمات من كل جانب ويجعل البصر يزيغ في تصيد ما فوقها وما تحتها من حركات. وذلك إلى جانب أن تصحيح هذا الشكل في تجارب الطبع عسير جد عسير، وأن الخطأ فيه على فرط العناية به كثيراً جد كثير. ولذلك لا ترضى بإجراء الشكل في الكتب إلا بعض المطابع الخاصة. وإنها لتقيم لهذا الإجراء أكبر الوزن، وتحسب له أكبر الحساب، طوعاً لما يتطلّب إدخال هذا الشكل من جهد وعنت في صف الكلام طوراً، وفي تصحيحه طوراً.
فكيف السبيل إلى حل هذه المشكلة؟
لقد تناولها بالبحث كثير من ذوي الرأي، وأعلنوا ما بدا لهم من مقترحات وحلول. وإني(918/11)
لأحسبها ترجع إلى مناح ستة:
أ - المنحى الأول: هو اتخاذ الحروف اللاتينية، وقد آثرت أن أبدأ به تحية لأستاذنا صاحب المعالي (عبد العزيز فهمي باشا) متعه الله بالعافية. فقد نادى بهذا الحل في بيان لا أعده إلا وثيقة تاريخية من أنفس وثائقنا التي تعالج مشكلاتنا الثقافية. وقد تكفل معاليه، فيما أفاض فيه من بيان، بتجلية ما يرد على هذا الحل من مختلف الاعتراضات، وعقب عليها ما شاء أن يعقب بالرد والتفنيد، فلم يدع في هذا المنحى زيادة لمستزيد. ومجمل ما رأى معاليه أنه لجأ إلى المناداة باتخاذ الحروف اللاتينية بعد أن بحث عن طريقة لتيسير الكتابة العربية مع استبقاء حروفها الحالية، فلم يظفر بها، بل لقد تخيل أنه لن يظفر بتحقيق هذه الأمنية المحببة لنفسه ولأنفس أهله وأهل العربية. ولذلك لم يجد بداً من اختيار هذه الحروف اللاتينية التي شاعت في أكثر لغات العالم. فهي وسيلة تقريب بين الأمم، وهي مع ذلك قد مورست في الطباعة، واكتسبت مرانة في الاستخدام، وأثبتت قدرتها ويسرها في ضبط كتابة اللغات الأجنبية. وقد اتخذها معاليه أساساً لطريقته، ولكنه أدخل عليها من ضروب التعديل ما يناسب ضبط الكلام العربي على أدق وجه، بحيث تجعل كل حرف في الكلمة يدل بذاته على صورته الصوتية دلالة صادقة لا لبس فيها ولا انبهام.
ب - والمنحى الثاني هو اختراع حروف جديدة تحل محل حروفنا العربية، ذات علامات للضبط ملائمة لها. وقد تكاثر الواردون على هذا المنحى من الحلول، وتراحبت مراميه للفنانين يبتكرون ما يوحي إليهم التصور والتفكير، ويقربون أو يبعدون عن صور الحروف العربية القائمة. وربما كان في ألوان هذه الحروف المخترعة ما يتوافر له الجمال والاختصار، والسهولة واليسر وسائر المزايا التي لا تتوافر للحروف العربية أو اللاتينية جميعاً. فما على المخترعين من سبيل، وإن المجال أمامهم لطليق، يتيح لهم حرية الإنشاء، ولا يقيم حيالهم عقبة مما هو قائم عتيد. ولكن الأخذ بحروف مخترعة لا عهد بها لأحد، أمر يتطلب من رحابة الصدر، وشجاعة النفس، ومن الاستعداد لقبول الجديد الغريب أكثر مما يتطلب الأخذ بطريقة الحروف اللاتينية. لأن التبني للحروف المخترعة التي لم تثبت لها كفاية، ولم تعرف لها مرانة، أشق كلفة من اقتباس حروف متعارفة، ثبتت كفايتها في الأداء، وكفلت مرانتها في العمل.(918/12)
ج - وثالث المناحي الإبقاء على الحروف العربية القائمة، مع اختراع علامات للضبط يلاحظ في اختراعها أن تكون ميسورة على المطابع، واضحة للقارئ، فتلحق هذه العلامات بتلك الحروف.
ولا ريب أن حروفنا العربية إذا لحقت بها تلك العلامات أفقدتها صورتها المألوفة، وأفاضت عليها مسحة من التنكير والغموض.
فهذا المنحى يلتقي هو والمنحى الأول والثاني معاً في ضرورة الاتفاق بادئ بدء على أن تنزل عن رحوفنا العربية فيما ألفنا من صورها، وما عرفنا من علامات ضبطها.
د - وأما المنحى الرابع فهو الإبقاء على الحروف العربية وعلامات ضبطها، على أن تصب علامة الضبط مع الحرف في بنية واحدة، حتى لا تحيد عنه، ولا تفلت منه. فتبدو الحروف المطبعية معها ضبطها متصلاً بها، ليس بينهما من تفاوت.
وهذا المنحى تقوم في وجهه عقبتان، كلتاهما كأداء، أولاهما فنية، والأخرى اقتصادية. فإن صندوق الحروف العربية في أوضاعها القائمة كثير الصور، يعيا به الصفافون، إذ يبلغ أكثر من ثلاثمائة عين. ولو أضيف إلى الصندوق صور جديدة من الحروف عليها علامات الضبط على اختلافها، لازداد جهد القائمين بصف الكلمات أضعافاً مضاعفة، ولاستنفد من أوقاتهم بضعة أمثال ما يستنفدون الآن. فهذا المنحى مدعاة لكثرة التكاليف مضيعة للوقت، مجلبة للعنت. ولذلك لا يقبل تنفيذه الطابعون، ولا يرضى به الناشرون. ولا سيما في عصر طابعه السرعة والتيسير، طابعه اكتساب الزمن، واقتصاد الجهد، والتهوين من النفقات.
هـ - وثمة منحى خامس، وهو وضع علامات الضبط بجانب الحروف، منفصلة عنها، كالشأن في الحروف اللاتينية، لا كما توضع العلامات الآن فوق الحروف أو تحتها.
وهذا الحل يقتضي أن تتغير أوضاع الكتابة العربية في تركيب الكلمات، لكي يكون بعد كل حرف منفسح تحل به علامة الضبط، وأن يفصل بين حروف الكلمات بهذه العلامات. وإذن تبدو صور الكلمات فيها تنكير، وفيها نبو عن المألوف. يضاف إلى ذلك تفويت مزية الاقتصاد في حجم الكلمة، فإن الفصل بين حروفها بعلامات ضبطها يضاعف حجمها.
ووخاتمة المناحي الستة هو الاقتصار على الحروف المنفصلة تسهيلاً لوضع علامات(918/13)
الضبط عليها، وتخفيفاً على صندوق الحروف في المطبعة العربية.
وفي هذا المنحى مغامز من جهات مختلفة. فهو أولاً: يزيد في الحيز المقسوم للكلمات، وهذا تفويت لمزية الاقتصاد، وثانياً: لا يحمي من خفاء الكلمة أول وهلة لافتراق حروفها، وثالثاً: يقتضي يقظة ورعاية للفصل بين كل كلمة وكلمة، ولو وقع التهاون في هذا الفصل - وهو واقع لا أمان منه - لاختلطت حروف الكلمات بعضها ببعض، ولتعذر على القارئ أن يميز كل كلمة في جملتها، ويفرق بينها وبين الكلمة التي تتلوها.
البقية في العدد القادم
محمود تيمور(918/14)
ذكرى الشاعر الثائر
معروف الرصافي
للأستاذ حمدي الحسيني
نظم الرصافي ذلك الشعر القوي ضد الظلم والاستبداد في العهد العثماني وسيف الطاغية الجبار عبد الحميد الثاني مصلت على رقاب الناس في طول البلاد وعرضها، وهو كما رأى القراء يتلظى قوة وحرارة، ويتوهج شدة وعنفاً وصرامة، ويتموج اتساعاً وعمقاً وضخامة، ولم يبق الرصافي هذا النوع في الشعر محفوظاً في صدره أو مطوياً في بطن دفتره بل نشره على الناس سراً وعلناً، بلسانه وقلمه. فكان عمله ذاك جرأة عبقري وشجاعة بطل. أما تأثير هذا الشعر في نفوس العرب في ذلك الزمن فقد كان عظيماً جداً. ولا نشك بأنه كان قبة قوية الحرارة والنور، أشعلت في نفس الأمة العربية رغبة الحرية وأنارت أمامها سبيل الحياة. فمشت بقوة تلك الحرارة وبهدى ذلك النور خطوات موفقة نحو الحرية والحياة. وأما بعد إعلان الدستور فقد رفع الرصافي علم الحرية أمام أمته جهاراً نهاراً، وأخذ يقودها إلى الحياة في ظل ذلك العلم على نغمات شعره الشجية المطربة تارة، وبقوارع كلمه وصوادع حكمه تارة أخرى. حتى أصبح شعر الرصافي بسمات جميلة على ثغور العرب. وآيات جليلة على ألسنتهم وآمالاً لذيذة في قلوبهم وهزات عنيفة في نفوسهم، وعزمات صادقة في هممهم وصوارم باترة في أيديهم. فقاوموا الظلم ودفعوا الأذى وشادوا الممالك. فكان شعر الرصافي أناشيد الثائرين، وأهازيج الفاتحين وأغاني المنتصرين الظافرين. وما كادت تستقر المماليك العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتتوطد فيها العروش وتشاد دور العلم وتفتح نوادي الأدب حتى أصبح شعر الرصافي نوراً قوياً يغمر تلك المماليك، ومصابيح منيرة تسطع في دور العلم، وينابيع غزيرة تنصب في نوادي الأدب.
وما دمنا نتحدث عن شعر الرصافي القوي، وتأثيره الواسع المدى في نفسية الأمة العربية، فمن الحق علينا أن نبحث عن سر هذه القوة العجيبة التي جعلت لشعر الرصافي هذا التأثير العجيب.
درسنا شعر الرصافي دراسة نفسية واسعة، وأضفنا ما استنتجناه من هذه الدراسة إلى ما(918/15)
استنتجناه من دراستنا لنفسيته خلال المدة التي قضاها بيننا مدرساً للغة العربية في كلية دار المعلمين في القدس، فكانت نتيجة الدراستين الجزم بأن سر قوة الرصافي في شعره وفي شخصيته هو الإيمان.
آمن الرصافي بحق الأمة العربية في الحياة الحرة، وآمن بأن الوسيلة إلى هذا الحق هو القوة. فانفجرت نفسه بهذه القوة شعراً قوياً يولد به القوة في نفس الأمة العربية لتأخذ بها حقها في الحياة الحرة. انفجرت نفس الرصافي بشعر القوة على اختلاف أنواع القوة. فالعلم قوة تتخذ منه الأمم التي تطلب الحياة وسيلة للحياة. وما دام العلم قوة فله من شعر الرصافي نصيب وافر. فهذه قصائده الكونيات والاجتماعيات تقوم على أحدث نظريات العلم وأصح قواعد الاجتماع. ترى فيها شروحاً لوحدة المادة، والجاذبية، والأثير، والكهرباء، وأشعة رنتجن وآراء دارون في النشوء والارتقاء وتنازع البقاء وبقاء الأنسب، ومذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين بالشك، ومبادئ الاشتراكية في أن تكون للعامل حصة في إنتاجه
تركوا السعي والتكسب في الدنيا ... وعاشوا على الرعية عالة
يأكلون اللباب في كد قوم ... أعوزتهم سخينة من نخالة
يتجلى النعيم فيهم فتبكي ... أعين السعي في نعيم البطالة
ليس في هذا المذهب الاشتراكية إلا في الأمور المحالة وإصلاح الوسط العربي من الناحية الاجتماعية، أليس فيه قوة للأمة توصلها إلى الغاية المرجوة في الحياة؟ إذن فللإصلاح الاجتماعي على اختلاف أنواعه في الوسط العربي حظ كبير في شعر الرصافي. فهذه قصيدته (المطلقة) يصف بها ويلات الطلاق ومآسيه على المرأة المسلمة، وينتقد بقوة توقيع الطلاق لا سيما إذا كان وقوعه بغير قصد الطلاق. وهذه قصيدته (اليتيم في العيد) تفيض رحمة وحناناً على الضعفاء. وقوة وشدة على من يقف من العرب موقف العجز والذل ويصيح فيهم: -
نهوضاً إلى العز الصراح بعزمة ... تخر لمرساها الطغاة وتركع
إلا فاكتبوا صك النهوض إلى العلا ... فإني على موتي به لموقع
والنساء؟ ألسن نصف الأمة؟ فكيف يمكن للأمة العربية أن تصل إلى هدفها ونصفها مشلول؟ إذن فلتحرير المرأة العربية في شعر الرصافي مطارق قوية هائلة يهوي بها على(918/16)
قيود الحجاب والزواج والجهل والحرمان من العمل
كم في بيوت القوم من حرة ... تبكي من البؤس بعيني أمه
قد لوحت نار الطوى وجهها ... وأعمل الفقر بها ميسمه
عاب عليها قومها ضلة ... أن تكسب القوت وأن تطعمه
من أي وجه تبتغي رزقها ... وطرقها بالجهل مستبهمه
وكيف والقوم رأوا سعيها ... في طلب الرزق من الملأمه
وأما قصيدته الخالدة في التربية والأمهات التي مطلعها: -
هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات
فتعتبر من أقوى أنواع الشعر الاجتماعي وأعمله أثراً في نفس الأمة، وهي لا تزال تشع بنورها القوي في نفوس الفتيات العربيات فيستضئن بنورها ويهتدين بهديها. ولا نظن فتاة عربية واحدة دخلت المدرسة ولم تحفظ هذه القصيدة وتنتفع بها
وحرية الفكر، أليست غاية من غايات الأمم التي تبذل في سبيل الحصول عليها دماءها؟ إذن فالرصافي يدعو لهذه الحرية، لأنه لا يطيق أن يراها مقيدة في الوطن العربي، بحيث لا يستطيع المفكر أن يجهر برأيه خيفة الأذى: -
إذا كان في الأوطان للناس غاية ... فحرية الأفكار غايتها الكبرى
فأوطانكم لن تستقل سياسة ... إذا أنتمو لم تستقلوا بها فكراً
إذا السيف لم يعضده رأى محرر ... فلا تأملن من حده ضربة بكراً
وهؤلاء المفاقيع الذين يفاخرون بالعظم الرميم، أليسو شراً على الأمة؟ وهلا يستحقون أن يصفعهم الرصافي على وجوههم ليردهم عن هذه الاتكالية البشعة إلى الثقة بالنفس والاعتماد على الذات
فشر العالمين ذوو خمول ... إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وخير الناس ذو حسب قديم ... أقام لنفسه حسباً جديدا
تراه إذا ادعى في الناس فخراً ... تقيم له مكارمه الشهودا
وهؤلاء الرعاديد الذين يتقاعسون عن ميادين الجهاد بحجة أنهم يرون للأمة أن تعنى بالعلم قبل الحرية وبالمال قبل الاستقلال، أليس من حق الرصافي أن يعلمهم الحكمة ويعطيهم(918/17)
فصل الخطاب
قد علمتني الليالي في تقلبها ... أن المواقف فيها السيف لا القلم
وأن أصدق برق أنت شائمه ... برق تبسم عنه الصارم الخذم
وأخصب الأرض أرض لا تسح بها ... إلا من النقع في يوم الوغى ديم
إني أرى المجد في الأيام قاطبة ... إلى عبيط دم المحيا به قرم
والمجد أعطى الظبا ميثاق معترف ... أن ليس بضحك إلا حين تبتسم
وأما مكانة الرصافي في الأدب العربي ففي الذروة العليا والمقام الأسمى؛ فهو من ألمع الجواهر في تاج أدب العصر، ومن أثمن الدرر التي تزين جبين الشعر، وهو فوق هذا من أقوى شعراء القومية العربية. ومن أسبق شعراء العرب في الدعوة إلى الثورة على الحكم العثماني كوسيلة للحرية والاستقلال. وأما آثاره في الشعر فديوانان طبع الأول في بيروت مصدراً بمقدمة طيبة للمرحوم الشيخ محي الدين الخياط. ثم صدر الديوان الثاني وفيه كل ما نظمه الرصافي بعد صدور الديوان الأول، ثم صدره الأستاذ العلامة الشيخ عبد القادر المغربي بمقدمة تحليلية نفسية. وله في الكتب
(1) رواية الرؤيا وهي مترجمة عن التركية لنامق كمال الشاعر التركي الشهير.
(2) نفح الطيب في الخطابة والخطيب. وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها على طلبة مدرسة الواعظين في الأستانة.
(3) الأناشيد المدرسية، وهي طائفة من الأناشيد الوطنية والأدبية يتغنى بها تلاميذ المدارس.
(4) محاضرات الأدب العربي وهي مجموعة المحاضرات التي ألقاها في الأدب العربي على معلمي المدارس في بغداد.
(5) كتاب الآلة والأداة. وقد ذكر فيها أسماء الآلات والأدوات التي يستعملها الإنسان.
(6) دفع المراق في لغة العامة من أهل العراق. ضمنه بحثاً مستفيضاً عن اللغة العامية في العراق وقواعدها وآدابها وأمثالها.
هذه خطوط سريعة عليها هذه الصورة للرصافي. ونرى أن نقدم بجانبها الصورة الجميلة الأنيقة التي رسمها الرصافي لنفسه بقوله: -(918/18)
وقلت لها إني امرؤ لي لبانة ... منوط مداها بالنجوم الزواهر
تعودت أن لا أستنيم إلى المنى ... وأن لا أرى إلا بهيئة ثائر
وأن أمضي لههم الذي هو مقلقي ... بطي الفيافي أو بخوض الدياجر
حمدي الحسيني(918/19)
صوت ينبعث من الأزهر
الأستاذ الأكبر يوجه حركة الإصلاح الديني في الشرق
الإسلامي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
- 1 -
كانت الغفوة الكبرى التي أصابت العالم الإسلامي في القرون الوسطى ذات أثر بعيد في حياته السياسية والعقلية والاجتماعية في القرن التاسع عشر.
لم يبعد المسلمون في هذه الحقبة الطويلة كثيراً عن تقاليد الشرق، وإنما جافوا روح الإسلام، وجهلوا مبادئه وأهدافه، ووقفوا أمام تيار النهضة الغربية جاهلين عاجزين أذلاء. وبادرهم المستعمرون بتحطيم ما بقي في أجسامهم من متعة، وفي قلوبهم من إيمان، وفي أرواحهم من عزة ومثل عليا.
وكانت الأحداث الكبرى التي هزت العالم الإسلامي هزاً عنيفاً داعية للمفكرين والمصلحين أن يجاهدوا في سبيل البعث والإحياء وتجديد الحياة والأمل في نفوس المسلمين. واقترن ذلك بدعوات جريئة للإصلاح؛ انبعثت من رجال الدين حيناً، ومن غيرهم حيناً آخر؛ من أمثال محمد بن عبد الوهاب م1206 هـ، والسيد أحمد خان الهندي م1898، والسيد أمير علي، والكواكبي م1902، وجمال الدين الأفغاني 1897م، ومحمد عبده 1905م وسواهم من دعاة الإصلاح، وحملة رسالته.
كان السيد جمال الدين الأفغاني يريد تحرير الشعوب الإسلامية من العبودية والاستعمار، وتكوين حكومة إسلامية موحدة تهتدي بهدي الإسلام، وبعث الروح القومي في الشرق عن طريق الإصلاح الديني العام.
. . وكان محمد عبده يريد النهوض بالشرق الإسلامي سياسياً عن طريق النهضة الثقافية به، ويرى أن الإسلام هو السبيل لتمهيد حركة الإصلاح وتغذيتها، وأنه هو والعقل والعلم أخوة، ولذلك دأب على الدعوة إلى تصحيح العقيدة، وإذاعة رسالة الإسلام، وإيقاظ الشعور العام بإيقاظ الروح الديني.(918/20)
- 2 -
وخفتت بعد محمد عبده دعوة الإصلاح في الشرق؛ وإن لمعت جذوتها حيناً في أفكار الشيخ مصطفى المراغي، رحمه الله، الذي كان يعمل للنهوض بالأزهر الحديث حتى يصل إلى مستوى الجامعات الكبرى في الشرق والغرب.
كما أضاءت الشعلة حيناً آخر في آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان يحرض على إحياء التعارف والتعاون بين المسلمين عامة.
ولكن هذه الآثار الضئيلة لم تكن على جانب كبير من الأهمية في الإصلاح الديني في الشعوب الإسلامية في القرن العشرين.
- 3 -
على أن أخطر دعوة للإصلاح الديني في العصر الحاضر إنما تظهر الآن على يدي فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم الذي تولى منصب الإمامة الكبرى، والمشيخة العظمى، في الأزهر الشريف، منذ وقت قريب.
فمنذ أكثر من عشرين عاماً وفضيلة الأستاذ الأكبر يسهر على حماية التراث الإسلامي الخالد؛ ويجهر بالدعوة إلى إصلاح الأزهر إصلاحاً حقيقياً، وتمكينه من أداء رسالته؛ ويرى اقتران الإصلاح الديني في العالم الإسلامي بإصلاح الأزهر الشريف.
ومهمة الأزهر في رأي الأستاذ الأكبر جد خطيرة؛ فهي تشمل: (تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم ولغة كتابهم، تعليماً قوياً مثمراً؛ يجعلهم حملة للشريعة، أئمة في الدين واللغة، حفاظاً حراساً لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح والقيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته؛ وإقامة حجته، ونشر دينه. . . فعلى رعاية هذين الجانبين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه).
ولذلك اتجه فضيلته بعزم قوي إلى إصلاح الأزهر إصلاحاً عاماً شاملاً. ومن كلماته في هذا الصدد: (وقد أخذت على عاتقي، وشرعت - والله المستعان - في توجيه هذه الجامعة الكبرى توجيهاً صالحاً).
ووسائل إصلاح هذه الجامعة الإسلامية العتيدة تتلخص في رأي الأستاذ الأكبر فيما يلي:(918/21)
1 - مراجعة الكتب الدراسية، وإبقاء الصالح منها، واختيار لون جديد توجه الطلاب توجيهاً حسناً إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره.
2 - تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية وغيرها حتى يتصل حبل العلم. . . وتوجيه العلماء إلى وضع بحوث في الفقه والتشريع تساير الروح العلمي الحاضر.
3 - إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة؛ فإن الأمة تريد من الأزهر أن يخرج لها علماء في الدين والشريعة واللغة وسائر العلوم العقلية والاجتماعية المتصلة بها، على أن يكون هؤلاء العلماء مزودين مع هذا بقدر صالح من العلوم الأخرى التي تفيدهم في مجتمعهم ثقافة عامة. وفي هذا يقول الأستاذ الأكبر أيضاً موجهاً كلمته إلى الأزهريين: نصيحتي إليكم أن تعلموا أنكم مجندون في سبيل الله. فأقبلوا على دراستكم، وتجملوا بالفضيلة بينكم وبين الناس، لتحقيق آمال الأمة فيكم، وإعلاء كلمة الدين والعلم بكم.
4 - تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى جامعات أوربا للتزود من شتى الثقافات. . ولا بدع فإن العلم رحم (بين الناس كافة) كما يقول الأستاذ الأكبر لعلماء جامعات أوربا الذين حجوا إلى مكتبة في زيارتهم للأزهر الشريف.
5 - تنظيم هذه الجامعة الكبرى تنظيماً يتفق مع خطر رسالتها، ويساعدها على أداء هذه الرسالة، وإنشاء مكتبة كبرى، ودار كبيرة للطباعة، وإكمال مباني الأزهر الجامعي، تمهيداً للاحتفال بعيده الألفي؛ إلى غير ذلك من وسائل الإصلاح.
أما مهمة الأزهر في سبيل الإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي فتتلخص فيما يلي:
1 - العناية بإصلاح حالة الأسرة بإصلاح شؤونها، ودعم كيانها، عن طريق بحث التشريعات اللازمة لها: في الزواج، والطلاق، والنفقة، والحضانة، والولاية، وما إليها.
2 - نشر الدين والثقافة في كل ناحية.
3 - إرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أرجاء البلاد الإسلامية لدراسة أحوالها، وتهذيب أبنائها.
4 - تشجيع البعوث الإسلامية الوافدة على الأزهر، وبناء دار كبرى لإقامتهم، ورعاية(918/22)
شؤونهم العلمية والخلقية والدينية.
5 - ربط الأزهر بشتى الجامعات الشرقية، وإنشاء مراكز ثقافية له في عواصم البلاد الإسلامية.
وأما مهمة الأزهر في الدعوة إلى الدين في العالم، فهي كما يرى الأستاذ الأكبر تشمل ما يأتي:
1 - توجيه العلماء إلى وضع مؤلفات باللغات الأجنبية، لبيان حقيقة الإسلام بمزاياه. وقد بدأ فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء بتأليف رسالة في شرح مبادئ الإسلام، تترجم الآن إلى اللغات الحية، لإذاعتها في العالم.
2 - إنشاء إدارة للدعاية الإسلامية تتولى توجيه الناس إلى الإسلام ومبادئه الخالدة.
3 - ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية.
ويرسم الأستاذ الأكبر خطة للإصلاح في البلاد الإسلامية في كلمة جامعة وجهها إلى الشعوب الإسلامية منذ أيام وهذه الخطة هي:
أولاً: أن يؤمنوا إيماناً عن بينة وبصيرة بأنه لا صلاح لهم إلا بالدين الذي صلح به أولهم.
ثانياً: أن ينسوا أحقادهم وميراث عدوانهم، فيعودوا كما تركهم رسول الله أمة واحدة عزيزة كريمة؛ لا غرض لها إلا إعلاء كلمة الله، ونشر دينه، والدفاع عن الحق حيثما وجدت لذلك سبيلاً.
هذه هي أخطر رسالة للإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي في العصر الحديث.
وهي رسالة لا يستطيع النهوض بأعبائها إلا من كان مثل الأستاذ الأكبر في خلقه ودينه؛ وفي غيرته على العقيدة الإسلامية، والشريعة المحمدية، والتراث الإسلامي المجيد.
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس بكلية اللغة العربية(918/23)
في الرحلة إلى الحجاز
قدح الزناد
للآنسة عزيزة توفيق
تعالى تهليل القوم وتكبيرهم إذ لاحت معالم جدة من بعيد؛ لقد مضى عليهم يومان وهم لا يرون إلا زرقة السماء والبحر. وعلا الوجوه بشر وصفاء، وابتسم خدم الباخرة في ارتياح، وأخذوا يهنئون الحجاج بسلامة الوصول، مؤكدين أنه سيكون حجاً مبروراً؛ فقد كانت آيات الرضا من الله تتجلى في الريح الرخاء التي صاحبت الباخرة طوال اليومين الماضيين.
ووقفت بنا الباخرة على مبعدة من الشاطئ، حيث بدت منازل جدة ومن خلفها الجبال ملتفة بأضواء الشروق أضفتها عليها شمس الصباح، فبدت في حلة أرجوانية.
وفي ابتهاج أسرعنا بالنزول إلى الزوارق البخارية التي أخذت تهدهدنا في رفق على صفحة الماء الساجي، حتى لحقت بنا أمتعتنا وسارت الزوارق مسرعة، يقودها حجازيون ذوو بشرة سمراء محمرة، تطل من وجوههم عيون تبرق نشاطاً وتصفو إيماناً. وكانت شرائط المياه البيضاء المتخلفة من انسياب الزوارق على صفحة المياه الزمردية تسرع خلفنا في وشوشة موسيقية رتيبة، وأحياناً يعلو عليها صوت الحجاج (لبيك اللهم لبيك). ووصلنا جدة!!
إذ ذاك طالعتنا لوحة فنية رائعة؛ تمثل مختلف الشعوب الإسلامية، لقد كانت لوحة الوجوه والأشكال؛ على رغم أن الجميع كانوا بملابس الإحرام. ووافانا من بين الجمع غلام يافع، يتدلى شعر رأسه الأسود في خصلات لامعة منسدلة على كتفيه، وقد علت تلك الخصلات قلنسوة (طاقية) مطرزة بألوان زاهية أكسبت لونه الخمري بهاء. أخذ هذا الغلام يجمع جوازات السفر ليؤشر عليها من المختصين، ومن ثم قادنا إلى حيث أقلتنا سيارات إلى مدينة جدة.
وجدنا جدة ثغراً جميلاً، ذا مبان فخمة تضاهي طراز البيوت في أية بلد متمدن. وبها منتدى (كازينو) يسميه الوطنيون (الثلاجة) ويديره جماعة من الحجازيين بملابسهم الوطنية، وهي عبارة عن مئزر مبرقش بجمعه حزام، أو جلباب واسع مشدود من الوسط بمنطقة من القماش، ويغطي رؤوسهم (لاسة) ينساب أحد طرفيها على قفاهم لتحميها وهج الشمس،(918/24)
ويسمى عندهم (العذبة). وكم كان لطعم المرطب (ابيلاتي) الذي قدم لنا هناك لذة أية لذة؛ وعلى الأخص حينما كنا نسرح الطرف آماداً بعيدة جوالاً على تعاريج الأمواج الزاخرة، ثم يرتد إلى محيط النادي ذي الغرابة والسحر.
قضينا بجدة يوماً ممتعاً. وفي اليوم التالي وافتنا السيارات لتقلنا إلى مكة، فسارت بنا في طريق وعر، تحف بها من جانبيها جبال شاهقة وهضاب مرتفعة؛ قد اختلفت مادة ولوناً. وها نحن نرتفع إلى أعلى وقد اهتزت بنا السيارة مجتازة أحد النتوء في الطريق، ثم نهبط تبعاً لانحدارها المفاجئ. ثم إذا بها تدور فنميل حتى تتلامس الرءوس، وقد انهلعت قلوبنا فرقاً.
وأخيراً تعود السيارة سيرتها المستقيمة، ويطغى على خوفنا اطمئنان يزجيه الإيمان.
حتى بلغنا مكة. وكانت هذه أولى قدحات زناد إيماننا.
إن أي عالم نفساني لا يستطيع أن يدرك مدى تلك السعادة الروحية التي شعرنا بها ونحن نمر بأبواب الحرم الشريف في طريقنا إلى منزل (المطوف) الذي ما كدنا ندخله حتى دعا الداعي إلى (طواف القدوم)، فأسرعنا كأطفال في يوم عيد تطفح وجوهنا بشراً، لمحته أنا في كل وجه حتى في وجوه الشيوخ منا. وسرنا وراء (المدعى) نردد تلبياته وابتهالاته واستغفارا ته، بصوت خاشع منيب، فيه رنة تنفذ إلى القلوب في رهبة، وتحفز الأرواح لتلهج بها الألسنة مرددة هذا الاستغفار والابتهال: (يا رب لقد جئتك من بلاد بعيدة، بذنوب كثيرة! رحمتك يا رب! غفران يا رب!) وكان (المدعى) يمد الباء الأخيرة في (يا رب) فتصل إلى غور عميق من النفس.
ودخلنا من (باب السلام) إلى بيت الله الحرام، ووقفنا تجاه الكعبة قانتين. ودعونا الله أن يزيد بيته الحرام تشريفاً وتكريماً، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنبنا وما تأخر، ثم دعونا بما نريد من مطالب الدنيا؛ إذ قيل لنا: إن الله يستجيب ما يطلبه المرء في هذا المكان. وإذا بي لا أجدني طالبة من الله إلا أن يسهل لي الطواف ولمس الحجر الأسعد (الأسود).
وإذ نوينا الطواف أسرعنا وسط الجموع الزاخرة، يدفعنا الموج الآدمي من مختلف الشعوب والأمم. يتزاحمون ويتدافعون بالمناكب، كل مشغول بنفسه؛ كأنهم في يوم الحشر بين يدي الديان.(918/25)
تطلعت إليهم وأنا أجري يجرفني تيارهم، وهم كتل متراصة متماسكة، كل منها تردد الدعاء خلف مطوفها، كل بلغته ولسانه. وحينئذ خيل إلى أن أمنيتي لن يكون لها نصيب من التحقيق. ومررت (بالركن اليماني) وأمكنني أن ألمسه مقبله، وما وافيت الحجر الأسعد حتى رأيت الجموع المزدحمة عليه في تهافت وتلهف قد انشقت مفسحة أمامي طريقاً أفضى بي إلى الحجر بين ذهول هذه الجموع الذي لم يدم إلا لحظة تمكنت فيها من لمس الحجر وتقبيله. وخرجت من الازدحام لأتمم دورات الطواف السبع، وحين وصلت إلى ركن (إبراهيم) ووقفت لأصلي ركعتين هما سنة الطواف رفعت طرفي إلى السماء، وقد شاع في كل كياني بسمات من السعادة! تبارك الله جلت قدرته؛ فلقد حققت أمنيتي وسعدت بلمس الحجر. وحين كنت أؤدي ركعتين في (حجر إسماعيل) رحت أتمنى ما شئت من نعيم الدنيا والآخرة، وكلي ثقة وإيمان بأن الله جلت قدرته سيحققها بإذنه إن شاء. وجلست لأستريح بالحرم وأجلت البصر فيما حوالي.
للكلام صلة
عزيزه توفيق
الدراسات العالية - القسم الفرعوني
كلية الآداب(918/26)
رسالة الشعر
شكاة شاعر
(مرفوعة إلى عميد الأدب العربي، ووزير المعارف
المصرية، الدكتور طه حسين باشا)
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
إليك، وبي يأس أضاع شبابيا ... توجهت أبغي أن تعيد رجائيا
وأنت الذي يرجى لكل عظيمة ... إذا لم أجد فرداً على الخير ساعيا
وحسبي فخاراً أننا من أرومة ... موحدة طالت ذرا النجم راقيا
كلانا نماه الأزهر السمح للعلى ... وها أنت جاوزت الكواكب ساميا
وهأنذا أسعى إليك مجاهداً ... فأدرك جهادي. واستجب لندائيا
خلقت بروحي طائراً مترنماً ... يحلق في الآفاق يبغي الأعاليا
إذا ما تغنى أنصت الكون خاشعاً ... وأصغت له الأيام ركباً وحاديا
سكبت أغاريدي على كل روضة ... وفي كل أفق قد بعثت الأغانيا
فما بال قومي كبلتني قيودهم ... فعشت أسيراً موجع القلب باكيا
عفا الله عن قومي؛ يريدون شقوتي ... كأنهمو يستعذبون شقائيا!
إذا لم أعش في جنة فوق ربوة ... فكيف أغني هادئ النفس راضيا؟
شكوت ولم أفصح، وحسبي إشارة ... إذا جئت أبدي للبيت شكاتيا
عهدتك ترعاني، وترعى مواهبي=فلازلت مرعياً، ولازلت راعيا
وبلغت أقصى ما تريد من المنى ... وأنت جدير أن تنال الأمانيا
وإني جدير أن أظل على المدى ... مقيماً على عهد المودة وافيا
إبراهيم محمد نجا(918/27)
إلى النيل الخالد
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
صوت العروبة في هديرك مرزم ... وعلى ضفافك شعلة تتضرم!
يا راكضاً كالدهر منطلق المدى ... تفتر للنعمى ومنك الأنعم
تجري السفائن فيك وهي موائس ... وتعب منك وأنت زاه تبسم!
طير الحنين لذكرياتك صادح ... كالفجر نشوان الرؤى يترنم!
تتراقص النسمات حولك حفلاً ... والطير زهراً في حماك تحوم
وترى الربى سكرى رضابك إنه ... جريالها وهو الحبيب المغرم
خضراء ناضرة تروق بمنظر ... شبه السماء تشع فيه الأنجم
وإذا استحث لك الربيع ركابه ... خلت الأواذي الصقيلة تحلم
فيك الحياة تدب ملء إهابها ... حب يضوع وفرحة وتنعم
يا غنوة الأجيال من عهد الألى ... ركزوا دعامات البلاد وعلموا!
أرسوا على متن الزمان حضارة ... هي مشرق للكون بل هي مبسم!
(أهرامهم) شتى العجائب ما ترى ... فيها سوى الإبداع، نعم الملهم
سل (كليوباترا) هل تألق مجدها ... بسواك تحبوه الضياء وتعصم؟
وسل (الفراعنة) العتاة ألم يروا ... سحر الجلال يرف منك عليهم؟
ما كان (فيضاً) ما غمرت به القرى ... بالأمس بل هي غضبة تتحدم
هي وثبة الضرغام ديس عرينه ... وفراهة الجر استشاط به الدم
يا (مصر) يا أم المكارم والعلا ... لك في النفوس مودة لا تهرم
روحية الإسلام أنت رجاؤها ... ومناط آمال تجيش وتعظم
لك بين أسفار الجهاد صحائف ... ريع الجبان لها وهش الضيغم!
أنشودة كم تغمتها عصبة ... تطأ الصعاب بعزمة لاتهزم
أمل العروبة أنت كم قلدتها ... عقداً بحبات القلوب ينظم!
أرخصت في إقدامك الثمن الذي ... هو للمعالي مهرها المتوسم
فترقبي الصبح الجميل فإنه ... في موكب البشرى إليك سيقدم!(918/28)
أشباب (وادي النيل) هذا يومكم ... يوم يفر له الجبان ويحجم
رنت الشعوب له وصفقت الدنى ... فاستدبروا الأحقاد فيه وأقدموا
(الشرق) يهفو نحوكم مستبشراً ... و (الغرب) في حنق يثور ويكظم
فثبوا على متن العزائم وابتنوا ... صرح اتحاد شامخ لا يهدم
وتنهازوا فرص الحياة فإنها ... كالبرق لا يأنى ولا يتلوم
ما (مصر والسودان) إلا دوحة ... روى ثراها نيلها المستحكم
جمعت أواصرها العتيدة وحدة ... بيد الإله وثاقها مستعصم
هيهات تجتث الغصون حماقة ... من غاصب مستعبد يتهجم
حييت يا نهر الخلود فقد زها ... فوق السماك فخارك المستلهم
لا زلت هدار العباب مصارعاً ... للخطب، مرهوباً، تعز وتكرم
حسن عبد الله القرشي(918/29)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
برناردشو ورسالة المال:
قلنا ونحن نتحدث عن ملكة السخرية عند (شو) ونرد إليها أكثر آرائه وأفكاره في محيط الأدب والحياة: (والسخرية في حياة شو هي ألمع اللافتات جميعاً، بل هي الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة، وهي في فنه نقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي المعتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك. . وهي في حياته وفنه معاذ لك المعبر العظيم لإنسانية القلب وكبرياء النفس وأصالة الموهبة. وتضغط أنت على (زر) نفسي واحد لترسل التيار الكهربائي إلى هذه اللافتة لتصبح (مضيئة)، وتقرأ على (ضوئها) ما نحمل اللافتات الأخرى من (ألوان) نفسية. . ما هو هذا الزر النفسي الذي يضيء لافتة السخرية عند (شو)، أو ما هو (مفتاح النور) لهذه الملكة الفذة التي غطت على غيرها من الملكات؟ إنه السخط المتأصل في أعماق النفس منذ القدم على بعض القيود والأوضاع!
هذه الملكة النادرة عند هذا الكاتب العظيم، أنبتتها الوراثة وأنضجتها التجربة، وتولتها الموهبة بالعرض والتقديم. لقد ولد في مهد الفاقة فسخط، وشب في أحضان النبوغ فسخط، وتنفس في جو القيود فسخط، وبدأت حياته وانتهت وهي سلسلة من السخط المدثر بأثواب السخرية. لقد سخط على الأغنياء لأنه تذوق طعم الفقر، وسخط على الاستعمار لأنه نشأ حر الفكر، وسخط على العاجزين لأنه شجاع يؤثر الغلبة والاقتحام. . ثم أفرغ هذه الطاقة الساخطة في ذلك القالب الساخر، الساخر من شتى المثل والقيم والتقاليد!
لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو) لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقله من مظاهر الإنكار. وما هي السخرية على التحقيق إذا لم نردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطاً عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقلية مهذبة، هدفها النيل بالقلم واللسان، ومادتها(918/30)
السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط. . هو ساخر في حياته وساخر في فنه، وبهذه السخرية النادرة نظر إلى الحياة والفن من زواياه الخاصة، وسلط عليهما أضواءه الخاصة، واختلف مع كل المصورين في لقطاته البصرية والنفسية!
ولم تكن سخرية (شو) هي سخرية العاجز حين يشكو النقص فيتندر على القادرين، ولكنها سخرية المشرف على الدنيا من فوق قمة عالية، تريه الأشياء صغيرة مسرفة في الصغر ضئيلة مغرقة في الضآلة. ومن هنا امتزجت السخرية في دمه بالكبرياء، سخرية العقل بكبرياء النفس، ثم انصهر هذا المزيج العجيب في بودقة الحياة فنشأت عنه هذه النزعة الإنسانية التي تتسم بالعطف على الشعوب الفقيرة والمحتلة على حد سواء. . إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوماً على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى طريق الاشتراكية، وناء يوماً بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار!
ومن مظاهر الكبرياء في حياة (شو) أن يهاجم التقاليد الإنجليزية في كل مناسبة تدعوه إلى الهجوم، ويسخر من المثل الإنجليزية في كل فرصة تهيئ له أسباب السخرية، في الوقت الذي كانت أيرلندة وطنه الأول تئن تحت ضغط الاستعمار البريطاني. . ثم لا يقف بكبريائه عند هذا الحد المقبول ولكنه يندفع بها إلى ما وراء المعقول، فيمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر ستالين. . بأنه خير الناس! ترى هل كان (شو) يؤمن بهذا الذي جهر به، أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الشعب البريطاني خاصة هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ الحق أنه للسخط من جهة والإيمان بالرأي من جهة أخرى).
على هذه الفقرات الأخيرة تركزت أسئلة الأديب الفاضل محمد محمد عبد الرحمن في العدد الماضي من الرسالة. وإذا كنا قد عمدنا إلى الاستشهاد بما سبقها من فقرات، فلأننا سنعود إليها في معرض الجواب حين نرفع القناع عن أهدافه ومراميه. إن الأديب الفاضل يسألنا وهو يطلب المزيد من الوضوح. (ترى هل كل شو يا سيدي ساخطاً حقاً على الرأسمالية، غير مؤمن باستحواذ المال؟ إن الأستاذ العقاد يؤكد لنا في كتابه الصغير عن برناردشو، أنه كان مؤمناً برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات، وأنه لا يكتم هواء للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع ثم يحدثنا العقاد عما كان يجذب شو نحو الاشتراكية فيقول: كان(918/31)
يجذبه إليها فقرة وتمرده على النظم القائمة ونشأته الأيرلندية التي تعلم منها الثورة على الاستعمار والاستغلال، فكان انضمامه إلى جماعة الفابيين. فإذا أردنا تفسير كلمة (فقره) وجدناها لا تعني سخطه على الرأسمالية، يؤيد ذلك قول شو نفسه (لا تخلط بين بغضك لزيادة جارك في الغنى وبين بغضك للفاقة)!
إلى هنا تنتهي ملاحظات الأديب الفاضل ونعقب عليها قائلين له: أما أن (شو) كان ساخطاً على الرأسمالية فحق لأمراء فيه، وأما أنه كان مؤمناً برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات، ولا يكتم هواه له وحبه للاستزادة منه فحق آخر لا يقل عن الحق الأول في دلالته ومعناه، ولا تناقض بين النزعتين ولا غرابة ولا شذوذ. . فإذا قلنا إن (شو) كان صاحب نزعة اشتراكية في آرائه الاجتماعية، فمعنى هذا أنه تنكر للرأسمالية وسخط عليها وعدها خطراً على حياة الفرد وحياة الجماعة. وإذا آثر مفكر من المفكرين نظاماً في الحياة على نظام، فدلالة هذا الإيثار واضحة كل الوضوح معبرة كل التعبير، بأنه قد آمن بالوضع الأول ولم يؤمن بالوضع الأخير. وإذا قلنا بعد ذلك إن (شو) كان يعترف برسالة المال وأثره في حياة الآحاد وحياة الجماعات، وجب علينا أن نقرن القول بشيء من التوضيح ينتفي معه كل تناقض بين الرأيين في مجال الموازنة والتوفيق. أية رسالة للمال تلك التي كان يعترف بها (شو) ويؤيدها بكل ما يملك من قوة القلم وحرارة المنطق وذلاقة اللسان؟ لقد نادى (شو) بأن يكون المال في يد الجميع لينهض الجميع، أما أن يكون المال في يد طبقة دون طبقة، فهذه هي التفرقة التي لا تتسم بالعدل ولا تقترن بالإنصاف، لأنها مدعاة لتنافر الطبقات من جهة وزلزلة للنظم الاجتماعية من جهة أخرى. ومن هنا آمن (شو) بنظرية (المساواة في الدخل) كنظام اقتصادي يفضله على كل ما عداه. . وأساس هذه النظرية أن المواهب الخاصة والكفايات الذاتية، تلك التي تميز بين الأفراد في رأي المجتمع وتقدير القادة، لا يصح أبداً أن تكون ميزاناً لمثل هذا التمييز في الحصول على حقوقهم المادية. ولهذا طالب (شو) بتأميم وسائل الإنتاج، أي بوضع المرافق الاقتصادية في يد الدولة، لتستطيع الدولة أن تستغل تلك المرافق بعيداً عن دوافع الأثرة ومزالق الأهواء، وذلك بتوزيع الدخل الحكومي توزيعاً عادلاً (متساوياً) بين الأفراد!
هكذا آمن (شو) برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات، وهو إيمان تؤيده نزعته(918/32)
الاشتراكية ويؤكده انضواؤه تحت لواء الجمعية الفابية. . ونحن هنا متفقون مع الأستاذ العقاد حين قال بأن ما كان يجذب (شو) نحو نزعته تلك هو فقره، وتمرده على النظم القائمة ونشأته الأيرلندية التي تعلم منها الثورة على الاستعمار والاستغلال. متفقون معه في تلك الفقرات التي أثبتناها في بداية هذه الكلمة وختمناها بهذه العبارة: (إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوماً على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى طريق الاشتراكية، وناء يوماً بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار)!
وإذا ما تطرق الحديث إلى ثورة الكاتب العظيم على الاستعمار فقد آن لنا أن نربط بين هذه الثورة وبين ثورته الأخرى على الرأسمالية، ذلك لأن شو كان يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الرأسمالية بوجهها السافر وصورتها الصادقة، ما هي إلا المعبر الحقيقي لتلك الخطوات التي لا تعرف التردد وهي تشق طريقها نحو الاستعمار وما يقتضيه من ألوان الاستغلال وضروب الاستعباد. . إن الرأسمالية معناها إثارة الحروب، وهدفها إرضاء المطامع، وغايتها التحكم في رقاب الناس، ودستورها فرض سلطة القوي على إرادة الضعيف، وهذا كله بتسخير قوى المال في إخضاع العصاة وقهر الأباة. . تحقيقاً لمبدأ الشهوات والنزوات!
ويسألنا الأديب الفاضل بعد ذلك في نهاية كلمته: كيف نوفق بين قولك بأن (شو) كان ساخطاً على الرأسمالية، وبين قوله هو: لا تخلط بين بغضك لزيادة جارك في الغنى وبين بغضك للفاقة؟! والجواب عن هذا السؤال كامن هناك، في تلك الفقرات الأول التي استشهدنا بها من مقالنا السابق عن الكاتب العظيم، حيث قلنا بعد كلام طويل: (. . والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقلية مهذبة، هدفها النيل بالقلم واللسان، ومادتها السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط). . إن كلمة (مهذبة) التي نطقنا بها ونحن نرمي إلى ما يرسب في قرارها من أهداف، هي المفتاح الأصيل لما يبتغيه الأديب الفاضل من تفسير وتعليل:
لقد انضم (شو) إلى الجمعية الفابية عند إنشائها في سنة 1884، ومن مبادئ هذه الجمعية أن تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي أو تطبيق العدالة الاجتماعية بين طبقات الكادحين، وذلك عن طريق التوجيه والتشريع لا عن طريق الثورة المسلحة وإراقة الدماء. . لم تكن الجمعية الفابية تؤمن بنبذ الأوضاع غير المألوفة في ناحية بعينها من نواحي المجتمع هي(918/33)
الناحية الاقتصادية، وشعارها أن يكون المال في يد الجميع لينهض الجميع. نؤمن بهذا المبدأ وهي أبعد ما تكون عن وسائل الضغط وعوامل الإرهاب، وأبعد ما تكون عن تأليب فئة من الناس على فئة، عملاً بخطتها السلمية التي تأنف إثارة الأحقاد والضغائن بين الطبقات. . . فإذا كان (شو) قد جهر بتلك الكلمة المأثورة، وهي ألا نخلط بين بغضنا لغنى الجار وبين بغضنا للفاقة، فهو خضوع لمنطق نزعته الاشتراكية وخضوع في نفس الوقت لمنطق جمعيته الفابية، تلك التي انضم إليها عن عقيدة وإيمان!
لقد كانت الحركة العمالية البريطانية في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، تلجأ في تحقيق مطالبها إلى كل وسيلة من وسائل العدوان، نعني أنها كانت حركة ثورية تبعد فيها الثورة عن أن تكون (مهذبة). وحين ظهرت الجمعية الفابية في أواخر النصف الثاني من ذلك القرن، كان لها أكبر الأثر في تهذيب تلك الحركة الثورية وطبعها بطابع التعقل والرصانة وتقدير الأمور. . ولسنا مغالين إذا قلنا عن تلك الجهود التي بذلتها الجمعية الفابية في ذلك المضمار، إنها قد انتقلت بالحركة العمالية من مرحلة القوى المبعثرة بفعل القلق والاضطراب، إلى مرحلة أخرى من الاتحاد والهدوء والاستقرار، نهض على دعائمها القوية حزب العمال وحكومة العمال. نقول هذا مختلفين مع الأستاذ العقاد حين يقول في كتابه الصغير القيم عن أثر الجمعية الفابية: (. فالواقع أن المجال كله مجال (نظريات وآمال) فيما تناولته الجماعة الفابية من المساعي والجهود، فإن آثارها في مجال العمل السياسي جد قليلة، ومعظم آثارها إنما كان تعليماً مقبولاً بين الناشئين والمثقفين ممن لا يملكون في مساعيهم وجهودهم قوة فعالة أكبر من قوة الإقناع في هذا المجال المحدود)!
وليس من شك في أن (شو) كان يحب جمع المال ويسعى إلى اقتنائه، حتى مات وهو صاحب أكبر دخل بين الكتاب في القرن العشرين. . وقد يعجب القراء حين يعلمون أن هذا الكاتب الإنساني صاحب تلك النزعة الاشتراكية، لم يعرف عنه أنه جاد بماله يوماً على فقير أو محتاج أو جمعية من الجمعيات الخيرية! لقد كان (شو) هو هذا الرجل الذي صورناه، ولكن العجب يزول ويجب أن يزول، حين نقول إن (شو) كان يؤمن وله كل الحق في هذا الإيمان، بأن مشكلة الفقر لا يمكن أن تحل عن طريق التبرع أو عن طريق الإحسان. . ولهذا أمسك يده إلا عن الجمعية الفابية!(918/34)
بعض الحقائق عن الفضيحة العلمية:
كان للمقال الذي كتبناه في العدد الماضي من الرسالة، حول الفضيحة العلمية التي ارتكبها الدكتور عبد الرحمن بدوي بتحقيقه، معذرة أقصد بتشويهه لكتاب (الإشارات الإلهية) كان لذلك المقال أثره البعيد ودويه العميق في مختلف الأوساط الأدبية والجامعية. ولكن هذه الأوساط قد لجأت إلينا متسائلة ومستفسرة، عن السر الخفي الذي حال بين المقال الثاني من نقد الأستاذ صقر في مجلة (الثقافة) وبين الظهور، في الوقت الذي دعونا القراء إلى انتظاره في يوم معلوم. ونرى لزاماً علينا أن نرفع الغطاء قليلاً عن السر الخفي فنقول: لقد حدث أن عجز فيلسوف مصر الأول عن أن يدفع عن (علمه) طعنات السهام، فتوسل إلى المشرف على تحرير (الثقافة) بحق ما بينهما من روابط الصداقة وأواصر الوفاء، أن يحبس المقال الثاني إنقاذاً لسمعته!!
وتحت جنح الظلام تمت المؤامرة ونجح التوسل وأفلح الرجاء، ولكن إلى حين. . فقد علم المفكر الحر الأستاذ أحمد أمين بك بهذا الذي دبر في الخفاء فوقف إلى جانب حرية الرأي يناصرها بغضبة العالم ويؤازرها بيقظة الضمير، وأصدر أمره إلى المشرف على تحرير (الثقافة) بأن يفسح لحرية الرأي مكانها الموقر في قرار النفوس! إننا حين ندعو القراء مرة أخرى إلى متابعة الأستاذ صقر في دفاعه عن كرامة التحقيق العلمي في مصر، فإنما ندعوهم في نفس الوقت إلى أن يذكروا للأستاذ أحمد أمين بك هذا الموقف المشرف الذي لا يمكن أن ينساه المفكرون الأحرار!!
أنور المعداوي(918/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
في ندوة الجامعة الشعبية
جرت الجامعة الشعبية على أن تنظم مناقشات أدبية تدور حول كتاب يختار للعرض والمناقشة. وقد كان كتاب الندوة الأخيرة هو قصة (على باب زويلة) للأستاذ محمد سعيد العريان، قام بعرضه ونقده الأستاذ زكريا الحجاوي، وقد بدأ حديثه بمقدمة حمل فيها على الأدباء الكبار الذين تعرضوا لكتابة القصة الطويلة من حيث محاكاتهم وأخذهم من قصص الغرب، حتى شبههم بالغراب يحجل في جنة الكروان. . . ومن حيث استئثارهم باهتمام النقاد وعنايتهم، ذاهباً إلى أن قصة (على باب زويلة) ليست كذلك ولم يظفر صاحبها بما يستحق من إشادة النقاد لأنه ليس من المشهورين اللامعين، وذاهباً أيضاً إلى أن ذلك يدل على أن النقد عندنا مصاب ب (الأنيميا) على حسب تعبيره.
وكان الأستاذ الحجاوي مغالياً في ذلك ولكن لنغض عن هذه خالاة محتفظين بعبارة (أنيميا النقد) فقد لاحظت بعض أعراضها في كلامه على كتابنا هذا المعروض للنقد والمناقشة. يظهر أن كلمة (النقد) ليست في حساب هذه الندوات، ولذلك نراها تعبر في الإعلان عن الندوة بكلمتي (عرض) و (مناقشة) وإن كانت المناقشة يدخل فيها النقد، ولكن الإدارة المشرفة لا تميل إلى أن يدخل فيها ما قد يغضب حضرات المؤلفين الذين تؤثرهم باختبار مؤلفاتهم. ولو أن الأستاذ الحجاوي التزم هذا الوضع واكتفى بعرض الكتاب دون الاتجاه إلى نقده، لسلم من أعراض الأنيميا النقدية، ولكنه أديب مثقف حصيف، وكاتب قصصي ملحوظ، فلابد أن يحمله شيطانه على النظر فيما يعرض له ليقدره ويقومه. ولكنه مع ذلك رضى أن يتعرض لتلك الأنيميا لأنه كان يشرف على النقد ثم يمسك عنه، ويمضي في شيء من التقريظ يغطي على سوء الوقع لدى الجمهور غير المستعد نفسياً لسماع النقد، ولست أدري مدى ما بينه وبين المؤلف من علاقة.
أشاد الأستاذ الحجاوي بعمل المؤلف في هذه القصة من حيث إنها جلت حقائق تاريخية في الحقبة التي مرت بها حوادثها وخاصة ما بذله المؤلف من جهد لكشف الغموض في أحداث عصر المماليك الذي وقعت فيه القصة والذي لم ينل عناية المؤرخين ومن حيث اختباره(918/36)
موضوعاً مصرياً يظهر فيه خط الاتجاه الذي لا بد منه في كل عمل قصصي قيم، ويبدو هذا الخط في العناية بالناحية المصرية القومية في عرض بعض المواقف، وقال إنه يعتبر هذا الاتجاه ريحانة يضعها على مفرق الأستاذ العريان.
ورد الأستاذ الحجاوي على مآخذ وجهه إلى القصة الدكتور طه حسين والأستاذ نجيب محفوظ عند ظهورها، إذ أخذ العميد عليها (الإنات) التي تكثر فيها، ويعني بالإنات تكرار لفظ (إن) في أسلوبها. الحجاوي إن هذه الإنات واقعة في موقعها فهي كما يعادل الورد بأنه أحمر الخدين ولكن ما قوله في (الماسات) التي أفرد بها الأستاذ العريان في الكلمة التي عقب بها، إذ كان يكثر منها مثل (تصوير ما) و (نظر ما). . . الخ؟
وكان الأستاذ نجيب محفوظ أخذ على القصة أنها مزدحمة الحوادث وطويلة السنين وأنه يمكن أن تستغل بعض مواقفها وفتراتها في عمل تكون عناصر الفن فيه أكمل. رد الحجاوي على ذلك بأن الفترة التي تقع فيها حوادث الرواية تكاد تكون مجهولة التاريخ فكان عمل المؤلف مجلياً لها. ولكني أرى هذا دفاع تاريخي لا فني، أي أن المقصود به مصلحة التاريخ ومعناه أن القصة ضرورة تاريخية مؤقتة حتى يهتم المؤرخون بهذا العصر ويوله ما يستحق من عناية.
ولم أفهم ما يعنيه الأستاذ الحجاوي بما قاله من أن القصة ليست قصة أدبية ولا قصة تاريخية وإنما هي ملحمة! هل خرجت الملحمة عن أنها قصة أدبية أو تاريخية؟ لعله يعني أن أسلوب شعري أو حماس. لست أدري بالضبط.
ومما وجهه الحجاوي من نقد إلى القصة، أن بعض حوادث متعارض مع المنطق، وأن المؤلف قسمها فصولاً ومع ذلك فإن هذه الفصول ليس لكل منها وحدة إذ يتعدد الزمن وينقطع الحديث عن الشخص ويبدأ بغيره في الفصل الواحد، وأن حوارها في بعض المواضع مسرحي خطابي مقعقع، وأن المؤلف أنطق بعض شخصيات القصة بعبارات وطنية مصرية وهم من المماليك الأجانب.
والواقع أن الأستاذ الحجاوي نظر في القصة نظرة دارس فاحص لولا تلك الأعراض الأنيمية النقدية، وهي غير خبيثة على أي حال. . وكان السامع يستطيع يغض الطرف عنها أن يدرك مدى تقويمه الحق للكتاب. وقد عقب الأستاذ العريان بكلمة لبقة بين فيها(918/37)
الدوافع التي
حفزته على كتابة هذه القصة، وهي كشف الغموض عن فترة مهملة من تاريخ مصر، وقال إن القصة تشتمل على أحداث تاريخية صحيحة وعلى ناحية إنسانية من عمل الخيال الذي لا بد منه في الفن وقد أبدى روحاً طيباً نحو الأستاذ الحجاوي وسلم ببعض المآخذ، ورد على بعضها، إلا أنه عندما عبر من سروره بهذه الفرصة قال إنه يسره أن يرى صورته في مرآة القراء وهو يعرفها في مرآة نفسه، ولعل كلمة (القراء) سبقت على لسانه دون كلمة (النقاد) فإن الصورة التي يعنيها إنما صورها الحجاوي كناقد.
وعنى الأستاذ العريان خاصة بالرد على أن المماليك أجانب، ذاهباً إلى أنهم إن كانوا قد جلبوا من الخارج إلا أنهم نشأوا في مصر أو شعروا بها وطناً لهم ودفع عنهم ما وصفهم المؤرخون به من الفساد في البلاد عند الكلام على مكافحة محمد علي لهم وألاحظ أن الأستاذ غالى في وطنية المماليك ومصريتهم، فهم حقاً دافعوا عن مصر في مواطن كثيرة، ولكني أرى إنهم كانوا يصدرون في ذلك عن (روح الفروسية) لا عن الوطنية. وأين هم من الوطنية وقد كانوا يجعلون أنفسهم في مرتبة غير الشعب وينفرون منه ويأبون مصاهرته بل ما كانوا يسومونه به من خسف وطغيان.
ولم أفهم ما قاله الأستاذ العريان من أنه يتمنى أن يتكرر لمصر أبطال خارجيون كالمماليك ولم لا يتمنى لها أبطال من أبنائها؟
حفلة المسرح الحديث
هناك في ردهة مطلة على شاطئ النيل من فندق سميراميس، اجتمع طائفة من رجال الصحافة والأدب والفن تلبية لدعوة الأستاذ زكي طليمات وأعضاء فرقة المسرح المصري الحديث في حفلة شاي أنيقة أقامتها الفرقة لتكريم الصحفيين الذين أولوها عنايتهم في إبان نشأتها، ولمناسبة استئناف الفرقة موسمها بمسرح حديقة الأزبكية الذي أعدت له برنامجاً يشتمل على أربع روايات جديدة.
وقد خطب في الحفلة الأستاذ زكي طليمات وفكري أباظة باشا ومعالي الدكتور صلاح الدين بك والأستاذ مظهر سعيد. وتناولوا في كلماتهم عدة مسائل من شؤون المسرح، قال الأستاذ زكي طليمات إن المسرح والصحافة يشتركان في هدف واحد هو خدمة المجتمع عن طريق(918/38)
عرض صوره ومسائله، ولكن المسرح سبق الصحافة فقام بمهمتها في توجيه الناس ومعالجة شئونهم قبل أن توجد. فلما تكلم فكري باشا قال حقاً إن المسرح أخو الصحافة ولذلك نريد أن يؤدي مهمته في الوقت الحاضر كما تؤديها، وأعني بذلك أن يهتم المسرح بالحياة الواقعة ويأخذ صوره من المجتمع الحاضر. ثم قال الدكتور صلاح الدين بك إن المسألة التي أثارها فكري باشا، وهي عناية المسرح بالناحية الاجتماعية والقومية، جديرة بالاهتمام، ولكن ينبغي أن نذكر أن الفرق ليست مسئولة عن هذا النقص إنما هو فقر في التأليف يرجع أكثر التبعة فيه على الكتاب والصحفيين الكبار أمثال فكري باشا والأستاذ زكي عبد القادر والأستاذ التابعي، وتوجه إليهم أن يهتموا بهذه الناحية.
وقد استرعى انتباهي ما أشار إليه الأستاذ زكي طليمات عندما أراد فتح باب المناقشة في مسألة التأليف ودعا إلى إبداء الرأي بصراحة، إذ قال إن الروايات المؤلفة تكتب بالعامية. وهي إشارة تدل على ما ألمحه في برنامجه وما يتجه إليه من تجنب التمثيل بالعامية والاقتصار على الأدب الفصيح؛ وهذا اتجاه حسن أؤيده فيه وأوافقه عليه وإن كنت لا أضيق ببعض التأليف الفكاهي العامي ذي الفكرة والموضوع على أن يكون قليلاً إلى جانب الفصيح. ويلوح لي أن الأستاذ يريد أن يضع العامية عقبة في سبيل تقديم روايات مؤلفة، وإنا نراه يكثر من الروايات البعيدة عن المجتمع المصري، وقد أعجبني إبداؤه الارتياح إلى المصارحة بالنقد، ولذلك أصارحه بأن اتجاهه ذاك لا يتفق مع الرسالة الكاملة للفرقة. حقاً إنه يختار ويقدم مسرحيات قيمة من الأدب العالي، تاريخية ومترجمة، ولكن إلى جانب ذلك يجب أن يرى الناس صورهم ومسائلهم وخواطرهم على المسرح، وليست العامية عقبة في ذلك فإني لا أراها لازمة في التأليف، بل أعتقد أن الحوار العربي الحي أوفق للمسرح الراقي الموضوعي، ومسرحية (اللص) للأستاذ توفيق الحكيم تعتبر مثلاً لذلك.
وقد ساد الحفلة روح المرح والديمقراطية، وإن كان معالي الدكتور صلاح الدين بك نفى هذه الديمقراطية بلفتة بارعة، فقد شكره الأستاذ زكي طليمات على حضوره، وهو وزير عامل، وعد ذلك منه ديمقراطية، فقال معاليه إن هذه المسألة ليست كما قال الأستاذ زكي، إذ ليس في حضور وزير إلى أهل الفن ديمقراطية ولا تنازل، لأن الفن يرتفع إليه!
ومن طريف ما حدث أن الأستاذ زكي طليمات قال في صدر الحديث عن ميزانية الفرقة(918/39)
التي لا تكفل لأفرادها ما يليق بهم من العيش والمظهر: إن في الفرقة شابات ناعمات في سن صغيرة لا تسمح لهن بالزواج فهن يحتجن إلى المكافأة التي تكفيهن. فقال فكري باشا في كلمته: أما الفتيات الناعمات فإنا نرجو لهن مستقبلاً سعيداً وأزواجاً مسعدين، فإن لم يجدن فنحن هنا. . . فلما خطب الدكتور صلاح الدين بك قال إن زكي طليمات استدر العطف على الفرقة وفتياتها حتى جعل فكري أباظة يقف لا خطيباً فقط بل خاطباً كذلك!
اقتراح لابد منه:
اقترح الأستاذ أحمد حسن الزيات على مؤتمر المجمع اللغوي في جلسته الأخيرة زيادة موضع على المواضع الثلاثة التي يغتفر فيها التقاء الساكنين فأحال المؤتمر الاقتراح على لجنة الأصول تمهيداً لإقراره وهذا نص الاقتراح:
(من طبيعة العربي ألا يلتقي الساكنان على لسانه. فإن التقيا في الكلام تخلص من التقائهما بحذف الساكن الأول إن كان حرف مد، أو بتحريكه إذا لم يكن كذلك. وحذف حرف المد يكون لفظاً وخطاً إذا كان الساكنان في كلمة، نحو خف وقم وبع، ويكون لفظاً لا خطاً إذا كانا في كلمتين، نحو اصنعوا المعروف، واعملي الخير، ووكيلا المجلس، موظفو الدولة، وممثلي الأمة وقد اغتفروا التقاء الساكنين في ثلاثة مواضع: أولها إذا كان الساكنان في كلمة وكان الساكن الأول حرف مد والثاني مدغماً في مثل، نحو عام وخاص ومادة ودابة، وثانيها ما قصد سرده من حروف الهجاء نحو نون وقاف وميم. وكان من الجائز أن تحرك أواخر هذه الحروف لولا أنها وردت في القرآن الكريم على هذا الموضع في فواتح بعض السور. وثالثهما ما وقف عليه من الكلمات نحو سماء ومسكين ومحروم.
والذي يعنينا من المواضع الثلاثة الموضع الأول، لأن اغتفار الساكنين فيه قائم على أصل من أصول البيان وهو دفع اللبس في الكلام، فإنهم لو حذفوا حرف المدمن نحو قولهم عام وسام وجاد وسادة ومارة لالتبس العام بالعم والسام بالسم والجاد بالجد والمادة بالمدة والمارة بالمرة وهلم جرا. وكان ينبغي أن يطرد هذا الاغتفار كلما خيف اللبس من حذف الساكن الأول، ولكنهم وقفوا عند ذلك فدارت على الألسن عبارات لا يستطيع السامع أن يتبين مراد المتكلم منها كقولنا مثلاً: اجتمع ممثلو العراق؛ بممثلي الأردن. واتصل محامي بمحامي الخصم. فإن السامع لا يدري أقصد المتكلم إفراد الممثل والمحامي أم قصد جمعهما(918/40)
ومثل ذلك مدرسو التاريخ ومفوضو الشركة ومفتشو الوزارة.
لذلك أقترح أن يزاد على هذه المواضع الثلاثة موضع رابع وهو الاسم الصحيح الآخر إذا جمع جمع مذكر سالماً وأضيف إلى اسم محلي بأل في حالتي الرفع والجر، والاسم المنقوص إذا جمع هذا الجمع وأضيف إلى ياء المتكلم في أحوال الرفع والنصب والجر، أو إلى الاسم المحلي بأل في حالة الجر. فنقول ممثلو الشعب ومندوبي الحكومة ومحامي ومحامي الخصم بإثبات الواو والياء فيها لفظاً كما تثبت خطأ.
والذي أعتمد عليه في تأييد هذا الاقتراح القياس والسماع: قياس هذه الحالة على ما اغتفروه من التقاء الساكنين في مثل عام وخاص لاتحاد العلة فيها وهي دفع اللبس، والقياس على ماقاسه العرب من المبادئ التي أقرها المجمع. ثم سماع التقاء الساكنين فيها من المحدثين، فإن أكثر المثقفين يقولون: مقررو اللجنة وموظفي المجلس بإثبات الواو والياء وقبول السماع من المحدثين مبدأ قرره المجمع في دورته الأخيرة. وفي اعتقادي أن المجمع الموقر سيجد في هذا الاقتراح اتجاهاً إلى ما يقصد من تيسير اللغة وتوضيحها فيقبله.
يدعو إلى دراسة مسرحية دينية
تلقيت رسالة طريفة من الأديب (محمد أحمد السنباطي بمعهد رأس التين الديني) ووجه الطرافة فيها أنه يبدي بها فكرة تقدمية إلى أبعد ما تكون التقدمية. . . فقد رأى أن المهمة التي يقوم بها ريجو قسم الوعظ والإرشاد لا تؤدي إلى نتيجة، وإنما هي ضياع للأموال والجهود في الهباء لعقم وسائل الإرشاد وعدم وصول أصوات المرشدين إلى أذن المفسدين لأن أصحاب الوعظ إنما يتخذون منابر المساجد التي لا يأوي إليها لا من تشبع بالإسلام. ورأى إلى جانب ذلك انتشار الرذائل واستشراء الفساد في البلاد، فما هي إذن الوسيلة التي توافق العصر؟ يقول:
(إن القرن العشرين يحتم على شيوخ الأزهر أن ينقبوا عن وسائل حديثة تتمشى مع قانون البقاء للأصلح، وإني شخصياً أشير بالاتجاه نحو المسرح والشاشة. . فإنهما أنجع دراء يمكن أن يؤثر في تقاليد المجتمع وفي معلوماته وأفكاره يجب عليهم أن يدخلوا في دراسة العلوم الدينية فن المسرح. . أن يتقنوا ذلك (الكفر) الذي كانوا يعتقدونه من قبل! وعلينا من الآن أن نتعلم كيف نقف أمام (الكاميرا)!! إن العصر الحديث لا يريد من الواعظ أمتاراً من(918/41)
ذقنه وقباباً من عمته. . ولكن يريده عقلاً جباراً يعلم أحوال التطور ويسبر أغوار النفوس. . . الخ).
هذه دعوة منطقية، وكل ما عليها من غبار أنها تسبق الزمن. . . ولا شك أن أكثر علماء الأزهر الحاليين ينفرون من مجرد سماعها ويأبون حتى مناقشتها، ولكن من يدري ماذا تكون الحال فيما بعد إنني لا أستبعد أن يدخل الأزهر بعد مائة سنة مثلاً دراسة المسرح والسينما في دراساته لاتخاذهما وسيلة من وسائل الإصلاح وهداية الناس. . . ألم ينشأ المسرح في أول أمره لخدمة الدين؟ فليت شعري هل ينتهي به المطاف إلى خدمة الإسلام.؟
لقد أنبهر علماء الأزهر من التجارب العلمية التي قام بها أمامهم العلماء الفرنسيون الذين اصطحبهم نابليون إلى مصر ووصفوهم بأنهم سحرة. ويحدثنا الدكتور طه حسين في (الأيام) عن الشيخ الذي كان يقول في درسه بالأزهر (من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق) وها قد صارت العلوم الطبيعية، تدرس في الأزهر على أحدث طرقها ونظرياتها وصار الأزهر يرسل البعوث إلى البلاد الأوربية وفيها (فرنسا).
فهل نستبعد بعد ذلك أن يأتي الوقت الذي نتحقق فيه الفكرة التي نعدها الآن في غاية التقدمية والتي يدعوا إليها السيد السنباطي.؟ وهل نستبعد أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه من مطالب الأزهريين أن يكون لهم موسم في مسرح الأوبرا الملكية؟
عباس خضر(918/42)
الكتب
شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم
للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار
نشرت مجلة الرسالة الغراء بعددها الصادر في 25 ديسمبر سنة 1950 خبراً صاغه صديقنا الأستاذ عباس خضر جاء فيه أن المفوضية اليمنية في القاهرة تلقت (كتاباً مخطوطاً اسمه شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم بناء على أمر جلالة الإمام أحمد ملك اليمن).
وهذا الكتاب المخطوط الذي أشارت إليه الرسالة معجم من معاجم اللغة العظيمة في العربية، ولكن أحداً لم يهتم به فبقى موصوداً كل هذا الزمن الطويل؛ بل لم يعرف هذا المعجم في الشرق العربي إلا آحاد من المشتغلين باللغة، أما الذين قرءوا هذا فلا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة عدا، باستثناء اليمن الذي أعتقد أن عديداً من أهله اطلعوا عليه ودرسوه.
وطبع هذا المعجم من قبل حكومة اليمن بعد مشاركة منها في بناء صرح العربية بعد أن تهدم أكثر جوانبه، وأعتقد أن حكومة اليمن قد أحسنت بهذا العمل الجليل الذي يعد مفخرة من المفاخر وقربى من القرب.
إلا أنني ارجوا من حكومة اليمن التي تتولى طبع هذا المعجم وإخراجه أن تعنى به عناية لا مزيد عليها، لأن حياة الكتاب طبعه طبعاً أنيقاً مصححاً تصحيحاً دقيقاً، ونشره نشراً علمياً صحيحاً ولا بد في طبع هذا المعجم النفيس من لجنة تشرف عليه، لجنة عالمة فاحصة محققة تتولى تحقيقه وتصحيحه وتجنيبه من التصحيف والتحريف والخطأ، وتعلق عليه، وتسهل مراجعته على كل من يريد الكشف عن كلمة من الكلمات.
ولو كان لي أن أقترح على حكومة اليمن لطلبت إليها أن تجعل في هذه اللجنة اثنين من أعظم محققي الكتب القديمة هما الأستاذان الجليلان: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون تستعين بهما في طبع الكتاب وإخراجه ونقده وتحقيقه والتعليق عليه.
وإني ما كدت أقرأ هذا الخبر في مجلة الرسالة ومجلة الحج التي تصدر بمكة المكرمة حتى شعرت بسرور وسعادة، لأن ما لدي من أفكار أرى بعضه يحيا أمامي، فأنا من رأيي طبع(918/43)
معاجمنا المضبوطة، وهاأنذا أرى حكومة اليمن تقوم بهذا العمل الجليل الذي يكسبها ثناء لا يقوم بثمن ولا يحد بزمن.
وإنني أهنئ حكومة اليمن من كل قلبي، وأرجو أن تتجه إلى إحياء العلوم وبعث الكتب، فإن قيامها بهذا الأمن كاف لأن يوجه إليها الأنظار، ويصنع لها من الدعاية الصادقة التي لا كذب فيها ولا نفاق مالا تعد بجانبه الدعاية المأجورة إلا شيئاً تافهاً حقيراً.
وأود لو أن حكومة اليمن اتجهت إلى إحياء العلوم وبعث الكتب النادرة التي تزدحم بها أبهاء دورها الفسيحة اتجاهاً قوياً إنها لو اتجهت هذا الاتجاه فستربح مادة ومعنى، وتفيد سمعتها، وتشارك مصر خدماتها للغة والعلم.
ويقوم بالإشراف على طبع المعجم القاضي العلامة عبد الله بن عبد الكريم الحرافي، وهو من علماء اليمن المبرزين في اللغة وغيرها، وأنا وإن كنت أعرف كفاية هذا العالم الجليل إلا أنني أود أن تقوم بالإشراف على الكتاب لجنة، ويكون من أعضاء هذه اللجنة شاكر وهارون مبالغة في توخي الحق وتحري الصواب، وعندي مقترحات أخر ستظهر من خلال كلمتي هذه أوجه إليها نظر حكومة اليمن وأحب أن تعنى بها لأنها تفيد مشروعها اللغوي.
أما هذا المعجم العربي الكبير فإنني أصفه لقراء العربية بما وعته الذاكرة، وبما تحتفظ ربه أوراق التي أدون فيها بعض ما يبدو لي تدوينه.
واسم هذا المعجم: (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، وصحيح التأليف ومعجم التصنيف والأمان من التحريف) واسم مؤلفه العظيم: أبو الحسن نشوان بن سعيد بن نشوان اليمني الحميري، وذكر في معجم الأدباء لياقوت وفي بغية الوعاة للسيوطي أنه: (أبو سعيد) ولعل لنشوان كنيتين.
وأبو الحسن من علماء اللغة المعدودين في العربية، وكان في زمنه علامة اليمن الفذ، ومن علماء العربية المشار إليهم بالبنان كما يدل عليه مؤلفه القيم العظيم (وكان أوحد أهل عصره وأعلم أهل دهره).
ولم تكن اللغة أعظم علومه وفنونه، بل كان (فقيهاً نبيلاً، عالماً متفنناً عارفاً بالنحور واللغة والأصول والفروع والأنساب والتواريخ وسائر فنون الأدب، شاعراً فصيحاً بليغاً مفوهاً)(918/44)
وكان طلبة العلم يقصدونه من كل بلد، بل كان يقصده العلماء يأخذون من علمه الواسع الغزير، ويتزودون من ماله الذي منحه الله منه ما تنتهي عنده صبوة الطامع المستزيد.
وكما منحه الله علماً واسعاً نافعاً، ومالاً عظيماً، فقد منحه الله سلطاناً مبيناً، وشعباً يحبه ويفديه لخلائقه الفاضلة الأصيلة، وعدله وكرمه وتقواه، ولم يشغله الحكم عن العلم والتأليف، بل كان يأمر وينهي، ويتعبد ويخشى، ويدرس ويؤلف، دون أن يغفل عن شيء من هؤلاء، وقد بارك الله له في وقته حتى استطاع أن يملأه بالخير والنفع والعلوم والآداب.
وكان تملكه أن استولى على قلاع وحصون، ورأى أهلها أنه منقذهم، وخير من يصلح لحكمهم، فقدمه أهل جبل صبر وجعلوه ملكاً عليهم فحكم بما أنزل الله، وتوفى بعد عصر يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة 573 ثلاث وسبعين وخمسمائة. رحمه الله.
وخير مؤلفات أبي الحسن معجمه (شمس العلوم) الذي أشارت الرسالة إلى أن حكومة اليمن أخذة في أسباب طبعه
ويوجد من هذا المعجم نسخة بدار الكتب المصرية إلا أنها غير كاملة، بل الموجود منها الجزء الأول من أربعة أجزاء، ينتهي إلى حرف الدال، وهي مكتوبة بقلم تلميذ المؤلف وقريبه العلامة علي بن نشوان بن سعيد بن أبي حميد الحميري وقد فرغ منها يوم الأربعاء الثالث من شهر شوال سنة خمس وتسعين وخمسمائة، أي بعد وفاة المؤلف بعشرين سنة.
وإن بمكتبة شيخ الإسلام الإمام عارف حكمة الله الحسيني بالمدينة المنورة نسخة منه مبدوءة بقول المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الواحد القديم القادر العظيم العزيز العليم الخ) أما ترتيبه فعلى حروف المعجم، جاعلاً لكل حرف باباً، ولكل باب شطرين أسماء وأفعالاً، ولكل كلمة من الأسماء والأفعال باباً ومثالاً.
وننقل للقارئ بعض ما جاء في مقدمة (شمس العلوم) وهذا نص ما قال مؤلفه: (وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك كثيراً من الكتب، وكشفوا عنه ما يستر من الحجب، واجتهدوا في حراسة ما وضعوه، وضبط ما حفظوه، وصنفوا من ذلك وجمعوه، ورددوه عن الثقات وسمعوه، فمنهم من جعل تصنيفه حارساً النقط، وضبطه يهذا الضبط، ومنهم من(918/45)
حرس تصنيفه بأمثلة قدروها، وأوزان ذكروها، ولم يأت أحد منهم بتصنيف يحرس جميع النقط والحركات إلا بأحدها، ولا جمعها في تأليف لتبعدهما، فلما رأيت ذلك ورأيت تصحيف الكتاب والقراء وتغييرهم ما عليه كلام العرب من البناء، حملني ذلك على تصنيف، يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، يحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، ويجعلها مع جنسها وشكلها، وبردها إلى أصلها، وجعلت لكل حرف من حروف المعجم كتاباً، ثم جعلت لكل حرف معه من حروف المعجم باباً، ثم جعلت كل باب من تلك الأبواب شطرين: أسماء وأفعالاً، ثم جعلت لكل كلمة من تلك الأسماء والأفعال وزناً ومثالاً، فحروف المعجم تحرس النقط وتحفظ الخط، والأمثلة حارسة الحركات والشكل، ورادة كل كلمة من بنائها إلى الأصل، فكتابي هذا يحرس النقط والحركات جميعاً، ويدرك الطالب ملتمسه سريعاً، بلا كد مطية غريزية، ولا إتعاب خاطر ولا روية، ولا طلب شيخ يقرأ عليه، ولا مفيد يفتقر في ذلك إليه، فشرعت في تصنيف هذا الكتاب، مستعيناً بالله رب الأرباب، طالباً لما عنده من الأجر والثواب، في نفع المسلمين وإرشاد المتعلمين، وكان جمعي له بقوة الله عز وجل وحوله، ومنته وطوله، لا بحولي وقوتي، ولا بطولي ومنتي، لما شاء عز وجلّ من حفظ كلام العرب وحراسته بهذا الكتاب، على الحقب، وسميته كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، وصحيح التأليف ومعجم التصنيف والأمان من التصحيف)
ثم ذكر أبو الحسن - مؤلف هذا المعجم - فصلاً في التصريف ثم بدأ في معجمه على ترتيب حروف المعجم.
والحق أن (شمس العلوم) معجم عظيم دقيق، وما ذكر مؤلفه في مقدمته صحيح لا زيف فيه ولا ادعاء به، فهو معجم ضخم كبير سيكون في عديد من الجلدات، وأقول تخميناً: إن به ثمانين ألف مادة. وقد أختصر هذا المعجم الشيخ علي بن نافع الحميري اليمني - أحد تلامذة أبي الحسن مؤلف شمس العلوم - اختصاراً جميلاً وسماه: (ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) وقد ذكر السيوطي - رحمه الله - معتمداً على البلغة: أن ولد المؤلف اختصره في جزأين وسماه ضياء الحلوم، والصحيح ما ذكرناه.
وتوجد هذا المختصر نسخة في مكتبة الشيخ عارف حكمة بالمدينة المنورة ورقمها بقسم اللغة 82 وأوراقها 400، وعدد كلمات كل سطر 30 كلمة إلى 33 في أكثر الصفحات،(918/46)
وعدد السطور في كل صفحة 33 سطراً وكل ورقة مكتوبة من صفحتيها، والخط نسخ جميل، والكلمات مضبوطة بالشكل ضبطاً صحيحاً متقناً.
وهذه النسخة من ضياء الحلوم ليست بخط المؤلف بل بخط علي بن إبراهيم بن طيب من بلدة كوتاهية، وفرغ من نسخها في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر سنة 1116هـ بمدينة القسطنطينية.
ويحسن أن تفيد حكومة اليمن من الجزء المحفوظ بدار الكتب المصرية من شمس العلوم، وبنسخة مكتبة عارف حكمة من هذا المعجم ومن مختصره، وتعارض ذلك بالأصل الموجود عندها مبالغة في تحري الصواب.
وإذا صح عزمهم على المراجعة فإنني أذكر لهم أن مجلد مكتبة عارف حكمة قد انتزع مقدمة شمس العلوم ووضعها توطئة لنسخة من معجم (الراموز) للسيد محمد بن السيد حسن الشريف، حتى ليخيل إلى من يقرأ الراموز أن هذه التوطئة مقدمتها، مع أن ما جاء فيها من وصف الكتاب لا ينطبق على الراموز.
ونسخة الراموز التي ألحقت بها المقدمة خطأ تحتل من قسم اللغة بتلك المكتبة رقم 59، كما أن بها نسخة أخرى من الراموز رقمها 60.
وقد نبهت مدير المكتبة الذي بلغ الثمانين حتى أحوجت سمعه إلى ترجمان إلى هذا الخطأ الذي تركه حتى الآن.
وأرى أن يعلق (الناشر) على كل مادة تتطلب التعليق في أسفل الصفحة التي تتضمن المادة، ويرتبه ترتيباً يسهل على الباحث سبيله. وذلك بأن يجعل كل مادة في أول السطر، ويصنع مثل ذلك بكل كلمة تتفرع من المادة حتى لا يتعب القارئ، ويكون الحرف كبيراً حتى لا تجهد العين، وألا يكون كل جزء أكثر من مائتي صفحة.
كما أن من اللازم أن يبحث الناشر الفاضل أو المكلف بالنشر في مكتبات العالم عن نسخة من (شمس العلوم) للمعارضة، أما إذا كانت النسخة الموجودة لدى حكومة اليمن نسخة المؤلف فإن من الممكن الائتناس بنسخة دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة المدينة المنورة مع الإشارة إلى الفارق بين الأصل والمنسوخ منه.
وقبيل أن أختم كلمتي هذه أهنئ حكومة اليمن على هذا التوفيق العظيم لإخراج معجم لغوي(918/47)
ضخم كبير ممتاز، وأتمنى لها النجاح، وأرجو أن تسير في هذا الطريق الذي يفضي بها إلى ما تريد من دعاية حسنة وسمعة طيبة وصوت بعيد، كما أنني أشكر الصديق عباس خضري الذي يرجع إليه الفضل في كتابة هذه الكلمة التي أملتها إشارته إلى شمس العلوم في عدد مضى من هذه الملجة الكريمة الغراء.
أحمد عبد الغفور عطار(918/48)
البريد الأدبي
أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً
عقب الأستاذ عبد العظيم عطية هاشم في العدد 912 من الرسالة الغراء التي نشرها الأستاذ أحمد حسن الرحيم بالعدد 909 وقال فيها (لقد تمكن حب الحرب من نفس العربي وساد نظام أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال: ولست أدري معنى لإيراد هذا الحديث الشريف في هذا المقام ثم أورد نص الحديث كما رواه البخاري عن أنس.
وقد علقت الرسالة الغراء على هذه الكلمة بما هو الحق في هذا الأمر فقالت (إن كلمة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً كان مبدأ جاهلياً مقرراً فلما جاء الإسلام نسخ ما كان يريده الجاهليون من هذه العبارة وفسرها الرسول بما يتفق مع مبادئ الدين).
وهذا الذي علقت به الرسالة هو الحق الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد من المطلعين على آداب العرب وعاداتهم، ولو أن الذي اعترض على كلام الأستاذ الرحيم قد اطلع - وهو بنقل من البخاري - على ما قاله الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الكتاب وهو إمام رجال الحديث لا نصرف عن تعليقه! فقد قال هذا الحافظ بعد أن أتم شرح الحديث وأورد طرقه واختلاف رواياته ومن رواه من رجال الحديث غيره ما يلي (ذكر المفضل الضبي في كتابه الفاخر، أن أول من قال أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً جندب بن العنبر بن عمرو بن تيم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية لا على ما فسره النبي (ص) وفي ذلك يقول شاعرهم:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم لم أنصر أخي وهو يظلم
ولقد كان النبي صلوات الله عليه وآله وسلم يتكلم بما للعرب من أمثال فلا يلبث الرواة أن يصيروه حديثاً ويتلقاه الناس على ذلك.
ومثل هذه الكلمة المثل المشهور (زر غبا تزدد حباً) فقد ورده رجال الحديث على أنه من قول النبي ودونوه في كتبهم وكان أول من قاله معاذ بن حزم الخزاعي فارس خزاعة
وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه الصداقة والصديق (قال أبو هريرة. لقد دارت كلمة العرب - زر غباً تزدد حباً، إلى أن سمعت من رسول الله (ص) ولقد قالها لي)
قال العسجدي: ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن لها مواضع يجب أن تقال فيها(918/49)
لأن الزائر يستحقها! ألا يرى أنه صلوات الله عليه وآله وسلم لا يقول ذلك لأبي بكر ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما فأما أبو هريرة فأهل ذاك! لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانباً لها وحائداً عنها.
وهنات أبي هريرة التي يغمزه بها العسجدي أنه كان لنهمه يغشى بيوت الصحابة في كل وقت وكان بعضهم يزور عنه، وينزوي منه، فأراد الرسول أن يلقي عليه درساً في أدب الزيارة وغشيان البيوت فذكر له المثل العربي (زر غباً تزدد حباً). وكان صلوات الله عليه وآله وسلم لا يفتأ بتولي أصحابه بالتأديب وتحري حسن الخلق،
أما كلام الأستاذ الرحيم في العدد 919 من الرسالة عن البخاري ودرجة روقانه من الصحة وعدد أحاديثه فهو قول لا يؤخذ على إطلاقه وإنما يحتاج إلى تحقيق دقيق في أمر رواية الحديث وما اعتراها من وضع وغيره، وتدوين الحديث وأطواره التي تقلب فيها حتى وصل البخاري وغيره، وهو بحث مستفيض ندعو الله أن يوفقنا لنشره على صفحات الرسالة الغراء قريباً إنه هو المعين.
المنصورة
محمود أبو ريه
في الملكية الأدبية:
ألقى إلى البريد كتاباً من صحفي كبير يشكر لي ما سماه وفاء منى حين كتبت عن ذكرى المغفور له أنطون الجميل بشا في صحيفة يومية بعينها.
ولقد دهشت لهذا الكتاب لأني أعلم من نفسي أني أمسكت عن إرسال المقالات إلى الصحف اليومية إلى حين، ولم يبق له إلا هذه الشذور التي أبعثها في (الرسالة) بين الحين والحين تنفساً وفرجة عن النفس، وحتى لا تنبت الصلة تماماً بيني وبين أهل الأدب!
وإذ سألت أهل الذكر قيل لي إن هذا المقال نشر يوم كذا في الصحيفة المذكورة نقلاً عن (الرسالة) دون الإشارة إلى مصدره، وإن كانت الصحيفة لم تبخل بتذيل المقال بتوقيع كاتبه المسكين!
ولست أزعم أن المقال كان بليغاً، أو كان ذا طابع خاص، بيد أني مضيت إلى مكتب(918/50)
الجريدة في الإسكندرية اسأل أولى الشأن فيه وهم من صحابتي عن السر في نقل هذا المقال مع إعطائه هذه الأهمية التي لا يستحقها إذ وضع في إطار على أربعة أعمدة في صدر الأنباء المحلية، فقال لي المختصون: إن لذلك سبباً محلياً يتعلق بسياسة الجريدة، قلت: فما دخلي أنا في هذا ولا علاقة لي بسياسة الجريدة؟ ثم إن المقال كتب (للرسالة) خاصة، فكان حق الملكية الأدبية يقتضيكم الإشارة إلى اسم (الرسالة) دون أسم منصور جاب الله، قالوا: هذا ما حدث، قلت: الأمر لله!
وأنا - في الحق - لا أعيب على الصحف أن تنقل إحداها عن الأخرى، ولكن العيب كل العيب أن تتجاهل الصحيفة ذكر المصدر الذي تنقل عنه، فحق الملكية الأدبية يعادل حق الملكية المادية، بذلك جرت أحكام القضاء، غير أننا في كثير من أمرنا نحتوي هذا الحق ولا نجري على أحكام القضاء!
منصور جاب الله
حول شعر معالي الدكتور (طه حسين)
قرأت في العدد الأخير من مجلة الرسالة رقم 916 (باب البريد الأدبي تحت عنوان (طه حسين الشاعر) تعقيباً لحضرة الفاضل (محمد سلامة مصطفى) يذكر فيه: أن معالي الدكتور طه حسين لم يهجر القصيد هجراً تاماً بعد عام 1914 وأورد شاهداً على هذا ما جاء في كتاب (على هامش السيرة) من شعر لا يلمحه غير شاعر أو عروضي وذكر هذا البيت على سبيل التمثيل)
أقبلت تسعى رويداً ... مثلما يسعى النسيم
والذي أدريه أن البيت المذكور لم أعثر عليه في كتاب (على هامش السيرة) وإنما هو مطلع مقال لمعالي الوزير بعنوان (ذو الجناحين) نشر في عدد ممتاز بشأن الهجرة من مجلة الرسالة
وليس هذا فحسب بل إن البيت جاء على أسلوب الشعر المنثور هكذا:
أقبلت تسعى رويداً رويداً ... مثلما يسعى النسيم العليل
وبعده على هذه الوتيرة: -(918/51)
لا يمس الأرض وقع خطاها ... فهي كالروح سرى في الفضاء
وهبت للروض بعض شذاها ... فجزاها بثناء جميل
ومضى ينغث منه عبيراً ... مستشيراً كامنات الشجون
فإذا الجدول نشوان بيدي ... من هواه ما طواه الزمان
ردت الذكرى عليه أساه ... ودعا الشوق إليه الحنين
وهذا شعر موزون سواء كان مقفى أو غير مقفى، إلا أن مقال (ذو الجناحين) لم يكن كله من هذا النوع من الكلام، وكتاب (على هامش السيرة) وإن لم أجد فيه كلاماً موزوناً بالمعايير العروضية المقفاة التي اصطلح على تسميتها شعراً فإنه قد استكمل عندي خصائص الفن الشعري الجميل.
هذا وللأستاذ كيلاني وللأخ محمد سلامه مصطفى خالص
تقديري لبحثهما الطريف. حسن سيد أحمد الجوهري
أسلوب الرسائل في المصالح والدواوين:
. . بالرغم من أن الكتاب ظلوا ردحاً من الزمان يعيبون على الشركات وبيوت المال إغفالها اللغة العربية في خطاباتها ومعاملتها. . فإن المشاهد في أغلب المصالح الحكومية أن خطاباتها تزخر بالأخطاء اللغوية والنحوية والصفرية هذا فضلاً عما يدخلها من التعبيرات العامية والألفاظ الدارجة. .
وأذكر أنني وجهت ذات مرة نظر أحد الرؤساء إلى خطر هذه الظاهرة وإنه لا يليق بهيئة حكومية أن تدمغ بها فكان جوابه أن سفه آرائي ورماني بالإعراق والحذلقة. . وزعم أن الخطاب ما دام يؤدي الغرض المقصود منه فليس ما يدعو إلى إعمال الفكر وكد الخاطر في انتقاء الأساليب وتخير التعابير. . أما الأخطاء اللغوية والنحوية فليست في زعمه بذات بال. ولاحرج على الموظف من الوقوع فيها لأن المقام ليس مقام (تحرير) وإنما (هو مقام تعبير) أياً كان. . والعجيب أن المسئولين لم يتنبهوا بعد إلى خطر هذه الظاهرة التي عمت فشملت المصالح كلها واستغرقت رسائلها حتى أضحت سخرية الساخرين ونادرة المتندرين. .(918/52)
إن الجهل للأسف الشديد ضارب أطنابه في كل مكان وقد نهض وزير عظيم يعمل على تعليم الشعب وتثقيفه؛ أفلا تقوم الرسالة بالدعوة إلى تعليم (المتعلمين) الذين يباهون بجهلهم بمبادئ لغتهم متى تخرجوا في المدارس والجامعات وشغلوا وظائف الحكومة؟
إن الرسائل المصلحية علم على جهلنا بلغتنا. . وجدير بالمسئولين أن يوجهوا إليها العناية والاهتمام حتى ننفض عنها غبار المستعمرين من ترك وأعاجم. . وحري بنا أن نذكر في هذا المقام كتاب الدواوين أمثال ابن المقفع وابن العميد ومن جرى مجراهما حين كانت لهذه الكتابة أهميتها وخطرها. . فإن هذا التراث الضخم قمين بأن يجعلنا نروي النظر فيما آلت إليه هذه الكتابة عندنا من انحطاط وتدهور.
وبديهي أنا لا أطالب المصالح بأن يوجد على رأسها الكتاب الإنشائيون؛ ولكنا نطالب بأن تخلوا خطاباتها على الأقل من هذه الأساليب البالية وهذه الأخطاء البلقاء التي تدعو إلى الضحك وتحمل على السخرية وإني تحضرني بهذه المناسبة صيغة تعبير من التعبيرات التي تتصل بشئون الموظفين والتي لا يكاد خطاب مصلحي في هذا الشأن يخلو عنها وهي.
(نرجو التنبيه على الأفندي المذكور بكيت وكيت الخ. .) فإن أقل وصف يوصف به لفظ الأفندي في هذا المقام أنه لفظ غير مهذب، وقس على ذلك باقي الأساليب المصلحية. .
وإني لأرجو أن يكون في هذه الكلمة العاجلة ما يحفز المسئولين على توجيه عنايتهم إلى علاج هذه الحال المؤسفة التي تدهورت إليها لغتنا في المصالح والدواوين. .
كمال رستم(918/53)
القصص
حاجتنا من الأرض
عن ليو تولستوي
للأديب رمزي مزيغيت
زارت بنت المدينة يوماً شقيقها بنت الريف في قريتها الصغيرة، وجلستا إلى الموقد تستدفئان وتتحدثان. . فراحت بنت المدينة وكانت زوجة تاجر غيل تمجد حياة المدينة الزاخرة بالمباهج والزخرف وتتيه على أختها الفقيرة زوجة الفلاح المعدم، وتعرض بحياتها القذرة قفي الريف بين الخنازير والأبقار. وأصغت بنت الريف إلى شقيقتها الحضرية طويلاً ثم قالت قد تكون حياتك يا أختاه أفضل وأنعم من حياتنا نحن الفلاحين، وقد تحصلون في اليوم فوق ما تحتاجون، ولكن لا ننسى المثل القائل (إن الربح والخسارة توأمان)، فكثيراً ما يجد التاجر الغني نفسه بين عشية وضحاها فقيراً يستجدي اللقمة من عابر سبيل. . إن حياتكم أجمل وأرق ولكن حياتنا آمن وأهدأ. . صحيح إننا لا نملك كثيراً من متاع الدنيا إلا أننا نجد والحمد لله ما نقتات به دائماً. . قد يكون عملنا شاقاً مرهقاً إلا أنه شريف مضمون. . . أما أنتم يا أهل المدينة المرفهين فجوكم مليء بالمغريات ولا تأمنون على أزواجكن وزوجاتكم شر الغوايات، كالميسر والخمر والنساء والفاتنات. .
وكان باهوم زوج بنت الريف جالساً في ركن قريب فأعجبه قول زوجته وقال يحدث نفسه. . . حقاً أننا نحن معشر الفلاحين لا نجد لنا متسعاً من الوقت للتفكير في مثل هذه الأمور الفارغة لقد عشت عمري أكد وأكدح، ولولا ضيق رقعة الأرض التي املكها لكنت أسعد مخلوق، وما خشيت حتى الشيطان. .) وكان الشيطان قابعاً وراء الموقد، وسمع كل ما قيل، وسره زهو باهوم بنفسه وتحديه له. . فقرر أن يمنحه ما يطلبه من الأرض ويرى ما يكون. .
كان لباهوم رقعة أرض صغيرة تقع إلى جوار ضيعة كبيرة تمتلكها بارونة عجوز. . وكانت هذه البارونة صارمة قاسية لا ترحم من تعتدي ماشيته على أملاكها. فكرهها أهل القرية ومن جملتهم باهوم، إذ كثيراً ما كانت أبقاره وماشيته تعتدي على أرضها فيضطر(918/54)
إلى دفع غرامة ترهقه وتزيد في سوء حالته المادية. وفي ذات يوم أعلنت البارونة عن رغبتها في بيع أملاكها بأثمان بخسة، فتسارع الناس واشترى كل منهم قدر طاقته وقتر باهوم على نفسه وباع ما لديه متن ماشية واشترى بما تجمع لديه مزرعة صغيرة لم تلبث أن جاءته بمحاصيل وافرة فتحسنت حاله وكثر حساده وصاروا يطلقون ماشيتهم على زرعه. فصار يلجأ إلى العنف والقسوة والمطالبة بالغرامات والالتجاء إلى المحاكم، فأثار عليه نقمة الأهلين وحقدهم وباتوا يكرهونه كرههم القديم للبارونة العجوز. وانتشرت يوماً إشاعة بأن كثيرا من أهل القرية أخذوا يرتحلون إلى بلد آخر. ولكن باهوم قرر بعد إعمال الفكر أن يبقى مكانه إذ وجد في ذلك فرصة لزيادة ما يمتلكه من الأرض. ولكن في ذات يوم طرق باب باهوم فلاح عابر وطلب قضاء الليلة في بيته. فرحب به باهوم وقدم إليه العشاء، ثم جلسا يتسامران ويتحدثان. قال الفلاح لباهوم - إني عائد من البلاد الواقعة وراء نهر الفولجا، وهي بلاد واسعة قليلة السكان وقد أخذ الناس يرحلون إليها لاستيطانها، إذ تؤجر الأرض هناك لمن يشاء بأثمان بخسة جداً، والتربة فوق ذلك خصبة تدر على أصحابها محاصيل وافرة. وخفق قلب باهوم لهذا الخبر وراح يحدث نفسه قائلاً - لماذا يتحتم علي البقاء هنا في هذا البلد المزدحم. . . سأبيع كل ما أملك وأرتحل إلى تلك البلاد وأستأجر بالنقود أرضاً واسعة وأبدأ الحياة من جديد. . . وأخذ باهوم يستفسر من الغريب عن هذه البلاد، وفي اليوم التالي سافر إليها ليتفقد أحوالها، فلما تأكد له صدق قول الغريب عاد إلى قريته وباع كل ما يملك وارتحل مع عائلته إلى مقره الجديد. . . وقضى هناك ثلاث سنوات يستأجر الأرض ويستثمرها حتى أصبح من الأغنياء. . . فبدأ يسأم التبعية لمالك أرضه وهفت نفسه إلى امتلاك أرض خاصة. . وفي ذات يوم هبط على باهوم غريب يطلب غذاء لحصانه، وجلس الرجلان يتحدثان. وقال الغريب - إني عائد من بلاد الباشكير حيث اشتريت 13 ألف فدان بثمن زهيد جداً. إن الأرض هناك لا قيمة لها ويكفيك أن تقدم الهدايا لرؤساء البلد وأن تشرب الفودكا مع من يشربون فيعطونك الأرض التي تشاء. . . واستفسر باهوم عن الطريق إلى هذه البلاد العجيبة. . . وفي الصباح اشترى بعض الهدايا وودع بنيه وزوجته واستصحب خادمه إلى بلاد الباشكير بجد ونشاط. وبعد سبعة أيام بلغ الأرض الموعودة واتصل بالزعماء ووزع عليهم الهدايا ثم عرض(918/55)
حاجته. . . وسأل عن الثمن. . . فقال له الرئيس - إن أسعارنا محدودة - ألف روبل في اليوم. . . ولم يفهم باهوم قول الرئيس فسأله - وأي مقياس هذا الذي تبيعون به الأرض؟ فأجاب الرئيس - نحن نبيع الأرض باليوم - أي أننا نعطيك ما تستطيع أن تدور حوله في اليوم مقابل ألف روبل. . . ولكن هناك شرط واحد وهو أنك تسير مع طلوع الشمس حول الأرض التي تختار على أن تعود إلى المكان الذي بدأت منه مع غروب الشمس. فإذا غربت الشمس قبل أن تعود ضاع مالك ولم تحصل على الأرض. . . وقبل باهوم هذا الشرط فرحاً واتفقوا على أن يبدأ المسير في صبيحة اليوم التالي فهو لا يريد أن يضيع عليه الوقت. وأوى باهوم إلى فراشه وهو يصور لنفسه أنه سيستطيع أن يدور حول قطعة كبيرة فيصبح من الأغنياء وكبار المالكين. ثم راح يرسم الخطط للمستقبل الحبيب - فتارة يزرع هنا وطوراً أرشده إلى أرض الباشكير. ولما دقق النظر فيه وجد أنه انقلب من يحصد هناك، وتارة أخرى يشتري الماشية ويستثمر صوفها ولبنها. . . وقضى ليلته على هذا الحال مسهداً أرقاً ولم تغمض له جفن إلا قبيل الفجر بقليل. . . وعندئذ تراأى له في منامه زعيم القرية واقفاً خارج خيمته يقهقه ويضحك ملء شدقيه. . . فقام إليه ليسأله عن سبب ضحكه فإذا به يتبين فيه ذلك الفلاح الذي جديد إلى الفلاح الأول الذي قدم من بلاد ما وراء الفولجا وحملق باهوم في الرجل وهو لا يصدق عينيه فإذا بالفلاح ينقلب إلى شيطان رجيم له قرون وحوافر ويرقد أمامه رجل حافي القدمين لا يرتدي سوى قميص وسروال، وليس فيه حس أو حركة. فلما تأمل الرجل الميت جيداً تبين أنه هو نفسه، فهب من نومه فزعاً مذعوراً، فرأى أن الفجر قد انفلق. . . ونسى حلمه المزعج ونادى خادمه وخرج إلى القوم يستحثهم للخروج إلى السهول. وسار القوم حتى وصلوا إلى قمة تل مرتفع وهناك خلع الزعيم قبعته ووضعها على الأرض وقال لباهوم - من هنا تبدأ المسير. وهاهي الأرض الشاسعة أمامك لا يحدها حد فاختر ما يحلو لك وعد إلينا عند الغروب. . . فتهلل وجه باهوم بشراً وسروراً ووضع النقود في القلنسوة، ثم خلع معطفه وشمر عن ساقيه وتزود بقليل من الطعام والماء وحمل على كتفه فأساً، ووقف ينتظر شروق الشمس وهو يتأمل الأرض المنبسطة أمامه وقد أخذته الحيرة في أي إتجاه يسير. وبعد تردد قليل اختار جهة الشرق، وما أن أطلت الشمس برأسها من وراء الأفق حتى انطلق في اتجاهها بسرعة(918/56)
معتدلة. ولما قطع مسافة ميل أو أكثر حفر في الأرض حفرة وملأها عشباً. ثم أخذت خطاه تتسع كلما ارتفعت الشمس في قبة السماء. واشتد القيظ فخلع مئزره ونظر إلى الشمس فرأى أن النهار ما زال في أوله فأنطلق إلى الأمام لا يحيد يمنة ولا يسرة وهو يردد في نفسه: - كلما أمعنت في السير زاد نصيبي من الأرض. . . ونظر باهوم بعد فترة خلفه فرأى القوم صغاراً كالنمل فقدر أنه قد آن له أن ينحرف عن خط سيره. وكان العطش قد أخذ منه فشرب قليلاً وتابع سيره حتى أحس بالتعب والجوع فنظر إلى الشمس فرأى أن النهار قد انتصف، فجلس قليلاً وأكل. ثم مضى في طريقه الدائري مسافة أخرى طويلة، وكان على وشك الانحراف إلى اليسار مرة أخرى عندما شاهد بقعة أرض كثيرة الخصب فلم يشأ أن يخسرها فدار حولها وحفر عند طرفها حفرة لتدخل في حوزته. . . ثم نظر إلى الشمس فرآها تجري إلى المغيب. . . فكبح جماح طمعه وأدار وجهه إلى ناحية الربوة وسار في اتجاهها مكملاً دورته. ولكن التعب كان قد نال منه وشق عليه المسير. . . كان يتوق إلى قليل من الراحة ولكنه لم يجرؤ على الجلوس فراح يجر رجليه جراً وهو يحدث نفسه - لقد أوغلت في السير حتى بعدت الشقة. . . يا ليتني لم أطمع بالكثير واكتفيت باليسير. . . فها هي الشمس على وشك المغيب. . . فما العمل الآن ومازال أمامي شوط بعيد. . . وهالته الحقيقة وخشي أن يفقد النقود والأرض معاً فجمع قواه وطفق يجري والعرق يتصبب منه الدم يسيل من قدميه. فخلع حذاءه وملابسه قطعة قطعة ولم يترك سوى قطعة تستر عورته. واقتربت الشمس من خط الأفق وتحطمت نفس باهوم حسرة وندماً وتأكدت له خسارته. . . فراح يعدو من جديد وقد تقطعت أنفاسه وتداركت دقات قلبه حتى خشي أن يموت قبل أن يصل إلى الربوة. إلا أن فكرة الموت لم تقعده عن السير فواصل الزحف حتى ترامت إلى أذنيه أصوات القوم ونداءاتهم يستحثونه على الجد فجمع قواه وتابع سيره. وكانت الشمس قد لمست خط الأفق، وكان هو قد قارب هدفه. . . هاهو يرى القوم يلوحون له بأيديهم؛ بل وهاهي قبعة الرئيس التي وضع فيها نقوده، وإلى جانبها يجلس الرئيس ممسكاً جنبيه من فرط الضحك. وفجأة تذكر باهوم حلم الليلة السابقة ولكنه قال - لقد أصبحت أملك رقعة كبيرة من الأرض، فهل يمد الله في أجلي لأتمتع بثمرة تعبي. .؟ وتطلع إلى الشمس فرآها تختفي وراء الأفق. . . فقال. . . آه لقد ضاع أملي(918/57)
ولن يقدر لي الوصول إلى القبعة. . . واستجمع بقية قواه وتابع سيره. . . إن القوم سيسخرون منه ولا شك إذا هو توقف عند هذا الحد. . . ووصل الربوة ولكن عندما غابت الشمس عن ناظريه بالمرة. فصرخ صرخة يأس وكاد يسقط. . . ولكنه سمع القوم يستحثونه من جديد. . . فقدر أنهم ما زالوا يرون الشمس من موقفهم المرتفع. . . فعاوده الأمل وأخذ نفساً عميقاً واندفع يصعد الربوة حتى وصل إلى القبعة. . . فرأى الرئيس جالساً إلى جانبها وهو يكاد ينفجر من كثرة الضحك. وعاودت باهوم ذكر الحلم مرة ثانية وأدرك معناه فصرخ وتهاوى على الأرض باسطاً يده نحو القبعة. وصاح الرئيس - ياله من رجل شجاع قدير. لقد أصبح يملك الآن أرضاً جد واسعة وتقدم الخادم من سيده يريد رفعه ولكنه رأى الدم ينبثق من فمه وقد فارقته الروح. وتناول الخادم المعول وحفر حفرة على طول سيده وواراه فيها فكان كل ما احتاجه من الأرض لا يزيد على ستة أقدام.
رمزي مزيغيت(918/58)
العدد 919 - بتاريخ: 12 - 02 - 1951(/)
الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
- 3 -
لن يستطيع الباحث أن يمعن في دراسة الدين والسلوك الإنساني دون أن يتسلح بالنظريات والشطحات الفلسفية بالإضافة إلى تسجيله للظواهر الواقعية في علاقة الفرد بالمجتمع.
والباحث يجد نفسه والحالة هذه كدقات الساعة يميل تارة إلى النظريات وطوراً إلى الواقع، فهذا نهج أقل ما يقال فيه أنه سليم
فنظرة الماركسية إلى الدين - وهي نظرة مادية في كليتها - لا تعترف بتلك الناحية الأصلية في فلسفة الدين وهي ما أصطلح الناس في الغرب على تسميته بالاختبار الدين. والذي يؤكد صلاح هذا النهج في دراسة الدين كما شرحه الماركسيون بأنه وليد الأوضاع الاجتماعية؛ فمثلاً في سلوك الطبقات التي تمارسه والتي هي بدورها متأثرة مسيرة بنفوذ ذوي المصالح المادية من رجال الدين ومن يلوذ بهم من القوى والعناصر الاقتصادية التي يربطها بالنظم الدينية روابط تقليدية متينة. ففي طبيعة التعاليم الدينية (وفي الإسلام على وجه الخصوص) دعوة سافرة إلى تقييد الحد من سلطات المتاجرين باسم الدين والذين يدورون حولهم من أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية؛ وخلوا الإسلام من الكهنوت قد جعل طبيعة التعاليم الدينية في متناول الناس، بها يستهدون دون الحاجة إلى الوساطة، ومنها يستمدون سياسة عملية لتحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق المساواة والعدالة في العلاقات الإنسانية وقد تعرض ماكس ويبر لبحث هذا في أسلوب منطقي فريد في كتابه عن (التاريخ الاقتصادي العام).
وتاريخ الإنسانية سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً ملئ بالحوادث التي لعب الدين فيها دوراً إيجابياً في صميم المصلح المادية للكثرة من الناس وكم من عالم ديني حمل لواء الإصلاح السياسي والاقتصادي!
وفوق ذلك فإن للدين مزية تتعطش المجتمعات (والغربية منها على وجه الخصوص) لتحقيقها في هذا العصر القلق المتفكك وأعنا بها التكافل الاجتماعي. وتاريخ الإسلام الاجتماعي في هذا المضمار فريد؛ فقد صهر الشعوب المجتمعات التي اعتنقت في وحدة(919/1)
عاطفية واجتماعية وسياسية (ومن ثم اقتصادية) على نحو فشل الفكر السياسي المعاصر في تحقيقه في عصبة الأمم المنحلة سابقاً وفي هيئة الأمم المتحدة في الآونة الحاضرة.
وهنا يجدر بنا أن نتريث قليلاً لنتساءل عما إذا كان الدين أمراً يختص بالفرد دون المجتمع وعما إذا كان السلوك الإنساني هو سلوك سلبي أم إيجابي، بمعنى أنه مقصور على علاقة المرء بربه دون علاقة المرء بمجتمعه.
والجواب عن هذا التساؤل كان ولا يزال مثار نزاع. فالصوفية من المسلمين مثلاً اتجهوا في أقوالهم وسلوكهم الديني إلى أن وظيفة الدين هي وظيفة سلبية. ولعل هذا ما استدعى نقمة بعض أئمة المسلمين قديماً وحديثاً على الصوفية.
ففي القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية وتراث السلف الصالح أجوبة عديدة على أن وظيفة الدين لا تقتصر على علاقة المرء بربه. والواقع أن طبيعة التعاليم الإسلامية نثبت وظيفة الدين الاجتماعية بجانب وظيفته الروحية؛ فهناك فقه إلى جانب التشريع. لقد أكتشف المسلمون ذلك وعملوا به. وكان الرسول عليه السلام أول من جاهر به. والقصة التي تروى عن عمر بن الخطاب وكيف أنتهر رجلاً كان يلازم المسجد ليل نهار مثل آخر على انتباه الإسلام إلى هذه الوظيفة المزدوجة للدين ويخيل إلى أن الاتجاه الجديد في الفكر الغربي حول وظيفة الدين يحذو حذو الإسلام.
وقد أخذ بذلك (فردريك هيجل) أحد جهابذة الفكر الغربي ودعائمه الذي قال (إن ممارسة طقوس العبادة والصلوات أقوى من الناحية الإيجابية في توجيه السلوك الإنساني من الشرائع والقوانين المدنية.
والواقع أن (هيجل) كان من أوائل من لفت النظر إلى وجود (المنطق اللولبي) في علاقة النظريات والحقائق الواقعة في موضوع الدين، فقال إن هناك تواكلاً مشتركاً بين النظم التي لها كيان إيجابي في المجتمع كالعائلة والقبيلة والدولة والشعب، وكلها حقائق ملموسة، وبين النظم الفكرية كالقانون والعلوم والدين. فالكيان الإيجابي المحسوس هو كالنظم الفكرية - وفي طليعتها الدين وكلاهما جزء من شجرة الحياة.
فالإنسان في المجتمعات البدائية لا يكتفي بأن يرث النظم الفكرية الدينية عن أسلافه، وإنما يسعى ما استطاع لأن يتخذ منها أسلحة يواجه بها مشاكله الدنيوية، هذه المشاكل التي(919/2)
تختلف طبيعتها باختلاف التطور الحضري. ومن هذا نتبين أمرين:
أولهما: أن السلوك الديني غريزة طبيعية يمتثل إلى ندائها الفرد لأنها خلقت فيه.
ثانيهما: أن هذه الغريزة تتخذ في بعض الأطوار شكلاً يجعل منها ذخيرة ثقافية تتحكم في الأوضاع الاجتماعية بالإضافة إلى كونها ذخيرة روحية تتحكم في علاقة المرء بربه سواء أكان هذا الرب صنما أم عجلاً كما هو الحال في المجتمعات البدائية، أم إلهاً فرداً صمداً كما هو في الأديان التوحيدية.
وإلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي (أميل دير كهايم) يعود فضل كبير في دراسة هذه الوظيفة المشتركة (الروحية والدنيوية) للدين دراسة علمية على ضوء ما ألم به من معرفة بالمجتمعات البدائية وتحليله للمجتمعات الحضرية.
فقد ثار دير كهاين ومعه (باريتو) على الفلسفة الواقعية التي سادة أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي كانت ميالة إلى الحط من قيمة الدين إثر انتشار الفلسفة الدارونية (نسبة إلى داروين) وماركسية في أوربا، وفلسفة الذرائع (البرجماتز) في أمريكا.
قام دركهايم - وإلى حد ماربيتو - بدراسة وظيفة الدين المزدوجة على نهج جديد، فلم يعتمد دير كهايم على المتفلسف في دراسة الدين ولا على استنساخ الشواهد العلمية من التاريخ الديني، وإنما لجأ إلى دراسة الموضوع دراسة مفصلة في مجموعة إنسانية معينة من سكان استراليا الأصليين.
وأن يعنينا في هذا البحث أن نستعرض تفاصيله ودراسته، وإنما يهمنا أن نتعرف استنتاجاته الرئيسية.
واستنتاجات دير كهايم على نوعين: واحدة تعالج فلسفة المعرفة والأخرى تعالج علم الدين الاجتماعي. وكلاهما عند دير كهايم متواكل متشابك.
ويرسم دير كهايم خطين في مستهل دراسته فيطلق على الأول ما سماه (قدسي) ويطلق على الثاني (دنس) ويضيف دير كهايم تحت هذين الخطين أشياء ملموسة ومحسوسة. وهذا التصنيف لا يحدد الصفات الجسمانية بطبيعة تلك الأشياء وإنما يحصر ذلك لتحديد في مفهوم الناس لها ومبلغ تأثرهم بها وسلوكهم إزاءها.
فالأشياء القدسية في تعريف دير كهايم هي تلك التي ينطوي مفهوم الناس لها على فضائل(919/3)
فريدة تجلب السعادة والمنفعة. وسلوك الناس تجاه هذه الأشياء المقدسة لا يمكن أن يحسب في عداد السلوك الأعتيادي، إذ أن له مزايا خاصة وفيه الكثير من الاحترام الخالص الأصيل.
والناس لا تستخدم لأشياء المقدسة في الشؤون الاعتيادية وإنما تلجأ إليها في الأزمات التي لا تمت إلى المادة إلى بصلة بعيدة.
والشؤون الدنسة عند دير كهايم هي تلك التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنشاط الاقتصادي المادي في السلوك الإنساني.
فإذا قتل الهندي الأحمر من سكان أستراليا لحيوان المقدس ليأكله فأنه يفعل ذلك أثناء الطقوس الدينية. والناحية المادية في هذا العمل مرتبطة بالناحية المقدسة ولا دخل للمنفعة الاقتصادية المادية (أكل اللحم) في هذا العمل إذ أنها لا تتوفر إلا عن طريق القداسة. وأكل لحم الحيوان المقدسلا يتم إلا في ظروف من القداسة التي لها مواعيد ومواسمها الزمنية الخاصة. وحول هذه القداسة حالات من الطوطمية تحددها وتتحكم في سلوك الفرد إزاءها.
والدين في مفهوم الأقوام البدائية محصور العلاقة في الأشياء المقدسة.
ويصنف دير كهايم الظواهر الدينية في نوعين هما (العقائد) و (الطقوس)؛ فالعقيدة لون من التفكير، والطقوس نشاط عملي وكلاهما متشابك، فلا تتم معرفة الطقوس الدينية إلا بمعرفة العقيدة التي استدعت ممارستها واستوجبت القيام بها.
والدين عند دير كهايم نظام مستقر من العقائد، والطقوس تعيش عليها جماعة من الناس محورها بيت العبادة ومن يكون به من كهنة ورعية.
ويستنتج ديركهام من ذلك أن الدين الذي يتمكن تمكنناً قوياً متيناً في أتباعه لا يمكن أن تكون تعاليمه مجرد خيالات ورؤى لا تسندها الحقائق الواقعية.
وكما زاد تعلق الناس بتعاليم دينهم وطقوسه كانت تلك التعاليم أكثر صلة ووثوقاً بالحقائق المادية في العالم الذي تحيط به.
ولعل هذا الرأي يلقي ضوءاً على سر تعلق المسلمين بالتعاليم الجوهرية في دينهم الحنيف طوال هذه الأجيال والقرون.
وينتقد ديركهايم بناء على هذه النظرية ما قال به بعض مفكري عصره من أن وظيفة الدين(919/4)
هي الحياة الروحية التي لا تربطها بالواقع روابط وثيقة، وأن تعاليم الدين ما هي إلا أنطباعات الإنسان عن طبيعة الأشياء المادية التي تحيط به.
وركز ديركهايم انتقاده لهذه النظرية في أسلوب النفي المنطقي فقال: لو أننا افترضنا أن تعاليم الدين ليست إلا انطباعات الإنسان عن طبيعة الأشياء المادية التي تحيط به كالعواصف والبراكين والخوارق الطبيعية، فكيف تفسر تعلق الكثرة من العلماء الذين حافظوا على سلوكهم الديني مع أنهم استطاعوا تفسير طبائع لأشياء تفسيراً علمياً مستنداً إلى الاختبار والبحث والاستقراء؟ وعلوم النفس لم تفسر بعد تفسيراً عمياً مرضياً هذه الظاهرة التي تزداد رسوخاً بتعمق العالم في دراسة الكون ومعالمه.
واستنتج دير كهايم من ذلك أن في الدين عنصراً ثالثاً بالإضافة إلى عنصري الروح والمادة. وأطلق ديركهايم على هذا العنصر الجديد أسم (الحقيقة الاجتماعية).
ومن ثم أندفع ديركهايم في دراسة الصلة بين الدين والكيان الاجتماعي فرأى أن الأشياء المقدسة (ومن ثم المثل الأخلاقية التي تبعث منها) لا تربطها بالمرء إلى روابط القداسة. فليست العبرة (في رأي ديركهايم) في أن يعبد أمرؤ شجرة أو عجلاً أو شمساً أو قمراً أو إلهاً فرداً صمداً إنما العبرة في إزاء هذه المؤلهات، وامتثاله للقيم الروحية والأخلاقية التي تحيطها بهالة من القداسة، ورأى ديركهايم في نظرية الطبيعيين إلى الدين عجزاً دعيا في تفسير الحقائق التي تتصل بالقداسة اتصالاً أصيلاً غريزياً. وكل ما فعله الطبيعيين أنهم وجه اهتمامهم إلى تفسير القداسة في الشؤون الطبيعية كالعواصف والبراكين والزلازل وتأثر العاطفة الإنسانية بها إحاطتها بهالة من (القداسة والألوهية) والشذوذ ندرة، والنادر لا حكم له.
ووجه الضلالة في تفسير الطبيعيين للسلوك الديني أنهم أخطئوا إدراك الحقيقة في مصدر القداسة والألوهية.
فخواص العنف في العواصف والزلازل والبراكين ليست الدافع الرئيسي لتقديسها في المجتمعات البدائية. فالأشياء المقدسة ليست إلا رموزاً. وخواص الرموز أنها تعبير للأهمية والقيم والمعاني التي يواجهها الفرد في نشاطه اليومي روحياً كان هذا النشاط أم مادياً.
والصلة بين الفرد والرمز الذي يقدسه هي صلة اجتماعية بالإضافة إلى كونها صلة(919/5)
روحية. والفرد لا يتلمس معنا لهذه الرموز بقدر ما يطلب فيها ملاذاً مما استعصى عليه من الأزمات الروحية والاجتماعية.
فليست العبر إذن في طبيعة الرمز المقدس؛ إنما العبرة في المثل والقيم والمعاني التي اصطلح الناس على إلحاقها به.
وبمثل هذا المنطق يشرح ديركهايم علاقة طقوس الدينية بالحقائق الاجتماعية، فلا يهمه أن يتعرف على طبيعة هذه الطقوس وإنما يتشوق إلى أدراك القيم والمثل والمعاني العميقة التي تمثلها وترمز لها.
وإصرار الطبيعيين على نعت السلوك الديني بأنه خال من المنطق السديد يعود إلى التباس الأمر عليهم وخلطهم بين طبيعة الرمز وبين ما يرمز إليه من قيم ومثل ومعاني روحية واجتماعية.
ويستخلص ديركهايم من ذلك أن العلوم الطبيعية لا تستطيع أن تدرك كنه الدين في مجالاته الروحية والاجتماعية؛ لأن العلوم الطبيعية مادية لا تقنع إلا بالملموس والمحسوس. وفي نظام الكون وفي طبيعة النفس البشرية احساسات ومشاعر لا تلمس لمساً.
وهذا يفسر اتجاه الجهابذة من علماء الطبيعة والرياضيات نحو التفاسير الدينية في أرقى مراحل البحث في طبيعة الأشياء عندما يستعصي عليهم التفسير الشامل الإيجابي المقنع.
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق(919/6)
المرأة والأزهر
جامعة الزهراء. . .!؟
للأستاذ محمد محمود زيتون
يستعيد العالم الإسلامي الآن للاحتفال بالعيد الألفي لأقدم جامعة بالإسلام. وذلك على أثر اللفتة الملكية الكريمة التي تفضل بها الفاروق العظيم على الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر.
والاحتفال بهذه الذكرى المجيدة إنما ينطوي على المعاني السامية التي حرص هذا الجامع العتيق على أدائها منذ أقدم العصور، فلم يعبأ بخيول نابليون، ولا بمدافع الإنجليز. ذلك بأن الجامع الأزهر هو الثقافة الإسلامية تجسمت في ألف سنة من الزمان، وانبثقت أشعتها على ألسنة العلماء، وتحت ألوية الزعماء، وبين صفحات الكتب والمجلات وعلى متن الأثير اللاسلكي.
ويكفي الأزهر أنتحتل رسالته الإنسانية مكانها الرفيع من تاريخ العلم، لأنه صاحب اليد الطولي في رعاية لغة القرآن، فكان رجاله غواصين على لآلئ الحكمة والشريعة، وفرائد الأدب والتاريخ. ودور الدنيا والدين، قد توارثوها على الأيام والأحكام فصانوا خزائن كنوزها على الدوام.
وبين العلم والسلام وشيجة كبرى لا تنفض، وعروة وثقا لا تنفصم، (والعلم رحم بيننا) حقاً وصدقاً كما قال الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم لدى استقباله مندوب الفاتيكان بالأزهر منذ أيام. ولعل في احتفالنا بعيد الأزهر تجديداً لهذه البشارة الكريمة، وتبشراً بالرسالة الإسلامية التي محورها القرآن الشريف وهو ينبوع التراث الثقافي الذي نعتز به، وندعو الناس إليه.
والدعوة الإسلامية لم تقتصر على الرجال دون النساء، فقد بعث الله نبيه للناس كافة، من غير تفرقة بين العناصر والأجناس، وارتفعت الراية الكبرى بأيدي المسلمين والمسلمات على سواء، حتى لقد أوصى النبي (ص) فقال (خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء) أي عائشة.
فما بال هذه الجامعة الإسلامية العهدة قد أقفرت أروقتها وحلقاتها من المرأة المسلمة طوال(919/7)
هذا الألف الطويل من السنيين، وهي الجامعة التي أرسى قواعدها المعز لدين الله مؤسس الدولة الإسلامية التي انتسبت إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول عليه السلام، فأزدها التاريخ بهذين الاسمين الخالدين (الدولة الفاطمية) و (الجامع الأزهر).
ولا يستطيع أحد أن ينكر المرأة كعنصر قوي في تاريخ الإسلام، فقد كانت خديجة أول حواء آمنت بمحمد. وهي أم البتول فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وحولهما تألقت صفحات السيرة بالنجوم لزاهرة من أمهات المؤمنين، والصالحات من أزواجهم وبناتهم وأخواتهم. ولن ينسى التاريخ عائشة بنت الصديق، أو أختها أسماء ذات النطاقين، أو صفية عمة رسول الله، أو أم عمارة التي دافعت عن النبي بترسها، ورمت عنه بسهمها، أو زنيرة التي عميت في سبيل الله، أو سمية أم عمار بن ياسر التي لقيت الأذى الشديد بسبب عقيدتها، أو الخنساء الشاعرة التي كان يقول لها النبي: هيه يا خناس، أو رابعة العدوية التي عشقت ربها عشقاً روحانياً خالصاً.
وما كانت صفحة من كتب السيرة لتخلو من ذكر هذه الصفوة من المسلمات اللائى تعلمن أمور الدين في عهد النبي، إذ كانت تجيئه المرأة تسأل فيجيب، أو تأتيه وافدة النساء تتعلم منه وتعلم غيره، بل لقد كانت المرأة منهم تنكر قومها، بل أباها وأمها وتلحق بدين محمد؛ فهذه جميلة تزوج من حنظلة مع أنها بنت رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلوا، وهذه أم حبيبة تتزوج النبي وتمنع أباها أبا سفيان من الجلوس على فراش النبي، وهذه صفية تنكر أباها اليهودي وتتزوج النبي، وكذلك مارية وأختها سيرين وقد أهداهما المقوقس للنبي فيتزوج الأولى ويهدي الأخرى لشاعره حسان بن ثابت، كما قامت النساء الأنصاريات بنصيبهن الكامل في مراحل الدعوة؛ فقد
استقبلن النبي بالمدينة - منذ هاجر إليها - بالدفوف والمعازف، ويغنين:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
وهو - عليه السلام - يداعبهن في ظرف ويقول: أتحبينني؟ فيقلن: نعم. فيقول: والله يعلم أن قلبي يحبكن، وكن مع ذلك كله يندفعن إلى الغزوات كلما تجهزت العير، وأصطف النفير.
وضربت المرأة العربية أروع الأمثلة من الثبات بفضل استمساكها برسالة الإسلام. فهذه(919/8)
المرأة الدينارية التي تلقت يوم أحد الخبر بمصرع أبيها وأخيها وزوجها وأبنها، فتجلدت واحتملت ولم يهمها إلا أن تسأل: وكيف رسول الله؟ فيقال لها: أمامك. فتقول: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله.
وكانت فاطمة وهي بنت النبي تطحن على الرحى بيدها، وتخبز وهي حامل حتى لقد كان بطنها يمس التنور، وتدبر أمر بيتها بنفسها، فلما طلبت من أبيها خادماً أبى عليها ذلك، فكانت خير قدوة للمرأة في تدبير المنزل.
ولن ننسى موقف المرأة المسلمة التي عارضت عمر وهو أمير المؤمنين إذ كان يخطب في حقوق المرأة فيقول خليفة رسول الله: صدقت المرأة وخطأ عمر. فهل كان يكون ذلك إذا لم تكن المسلمات قد طرقن أبواب المسجد، لا يحول بينهن في ذاك إلا الحجاب المشروع؟
هذا وإن ما نرى بين ظهرانينا الآن من انحلال خلقي إنما يرجع إلى إهمال شأن المرأة المسلمة، حتى إذا حصل الرجل من العلوم الحديثة ما يشاء أعوزته الثقافة الإسلامية. فلا معين له عليها إلا همته وغيرته، أما المرأة فإنها - للأسف الشديد - قد حرمة الحرمان كله من هذا وذاك، فليس حولها من يشجعها على شعائر دينها، ولا من يدفعها إلى التفقه في أصوله، والتثقف بآدابه.
وهذا النقص يمس حياتنا الاجتماعية في صميمها، ويسئ إلى التربية الإسلامية في تطبيقها على المرأة، وإزاء ذلك نرى أن الفرصة قد حان قطافها في العيد الألفي للجامع الأزهر.
وخير ما نقدمه للأجيال القادمة - في هذه الذكرى - هو أن ننشئ (جامعة الزهراء) تؤمها المسلمات في مصر وشتى بقاع العالم يغترفن من مناهل هذا الدين المتين، فينشأن نشأة إسلامية صحيحة، تتوطد بها دعائم الأخلاق في الأسرة والمجتمع، وهذا هو الدواء السريع لكل ما نشكو الآن من تصدع في الروابط الأسرية، وانصراف عن صوت الأيمان ونداء الضمير، والتخبط في الانحرافات الزائفة تحت ستار المدينة.
ولن يفوتنا مع ذلك أن نقتبس لطالبات (جامعة الزهراء) كل ما يمكنهن من التهذيب الفردي، وتدبير المنزل، وتربية الأولاد، ومعاونة الزوج، والخروج من الأسرة إلى أوسع نطاق اجتماعي في داخل الحدود التي رسمها الإسلام كدستور سماوي، ونظام إنساني شامل لنواحي العلم والعمل.(919/9)
فإذا أردنا أن نسد على الفتن مسالكها، ونفتح لمستقبل الأجيال القادمة باب السعادة، فما علينا إلا أن نشيد للمرأة المسلمة (جامعة الزهراء) إلى جانب (الجامع الأزهر) وعندئذ ستعرف المرأة الحديثة أين حقوقها وأين واجباتها.
محمد محمود زيتون(919/10)
ضبط الكتابة العربية
بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي
الأستاذ محمود تيمور بك
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
وجملة ما نادى به المنادون من المقترحات، سواء ما كان منها يشيد باتخاذ الحروف اللاتينية، وما يتخذ للكتاب حروفاً مخترعة، وما يقتضي إدخال علامات أو أوضاع جديدة للحروف والحركات - جملة ذلك كله لم يسلم من النقد والاعتراض - وكان أكبر ما يثيره النقاد والمعترضون من مآخذ أن هذه المقترحات المعرضة لتغير الكتابة العربية تقطع الصلة بين القديم والجديد. فإذا أخذ الناس بإحدى هذه الطرائق، وكتبوا بها، عجزوا عن أن يقرءوا ما تركه لنا الأولون من تراث ثقافة عريضة، وحيل بين الجيل الجديد وبين الانتفاع بذلك التراث الذي لا تزهد فيه الأمة العربية بحال.
والحق أن الاعتراض بالقطع بين القديم والجديد دعوى لا تخلو من غلو في القول، وإسراف في التصوير. فإن أية حروف بل أية علامات وإشارات تكتب بها اللغة العربية لا تقطع بين قديم اللغة وجديدها، ولا تفصل بين ماضيها وحاضرها. بل لعل حروفاً مقتبسة أو مخترعة تكتب بها اللغة العربية تكون سبيلاً إلى أحياء اللغة وتيسير اكتسابها، ما دامت هذه الحروف المقتبسة أو المخترعة أدق ضبطاً، وأدنى تناولاً. فأنها بهذا الضبط وقرب التناول تجعل المتعلمين أقدر على القراءة ملكة، وأقوم لساناً، وأفصح بياناً.
وعلة إثارة النقاد والمعترضين لدعوى القطع بين القديم والجديد أنهم يخشون إذا اتخذت حروف مقتبسة أو مخترعة أن تظل المؤلفات العربية التي توارثناها على توالي الأحقاب مستغلقة مستبهمة لا يمسها قارئ. وبذلك تفقد الأجيال اللاحقة ما خلفته الأجيال السابقة من عصارات القرائح والعقول.
ولكن الحق أن جيلاً جديداً إذا شب عربياً في منطقة، بأية حروف وبأية علامات، فتمكن من قراءة الكلام العربي مضبوطاً أدق ضبط، معرباً أصح أعراب، وأكتسب بذلك ملكة الإفصاح فأن هذا الجيل الجديد لا يعجز بعدئذ أن يرجع إلى المؤلفات التي كتبة بالحروف(919/11)
العربية القديمة، وأن يقرأ ما فيها من بيان، وينتفع بما حوت من علم وأدب، وذلك إذا أنفق القليل من الساعات في تعلم صور الحروف العربية القديمة، باذلا من هذا السبيل أيسر جهد.
ولا ريب أن كل امرئ مكنته تعلم الصور الخطية لثمانية وعشرين حرفاً، أية كانت، في ساعات معدودات، وبجهد غير معسور.
ولو قدر للأمة العربية أن تتواضع على اقتباس حروف أجنبية، أو اختراع حروف جديدة، لوجب مع ذلك أن نلتزم الناشئة تعلم تلك الصور القديمة للحرف العربية. حتى إذا شبوا وقد انقادت اللغة لألسنتهم، ومرنوا على ضبط نطقها، وأحسنوا تصريف كلماتها، وأمنوا من اللحن في إعرابها - استطاعوا بمعرفتهم حروف العربية القديمة أن يطالعوا ما شاءوا من تراث السلف، ولا سيما المراجع الكبيرة، وأمهات الكتب، في فروع العلوم والفنون والآداب.
وستظل الحاجة إلى تعلم الحروف العربية القديمة قائمة، حتى يتسنى لنا أن طبع هذه المراجع وأمهات الكتب بالحروف التي نتواضع عليها. وستقل وطأة حاجتنا إلى هذه الحروف كلما مضينا أشواطاً في طبع تلك الكتب والمراجع. ولكن قدراً من هذه الحاجة سيبقى قائماً وإن أعدنا طبع مئات من المؤلفات ومئات.
ومن هذا يتبين أن تواضعنا على أية حروف لكتابة اللغة العربية، لا يقطع الصلة بين قديمنا وجديدنا في ميدان التأليف. فالصلة باقية، وربما بقية على نحو أوثق مما هي الآن. وغاية ما هنالك أن الأمر يقتضينا معرفة حروف العربية القديمة، فإذا عرفناها وضح لنا الطريق إلى منهل التراث العربي، نعب منه ما وسعنا أن نعب لا يصدنا عنه شيء.
بيد أن هذا المنطق الذي نراه واضحاً كل الوضوح، لا يصرفنا عن أن نسأل أنفسنا:
أنريد الحقائق النظرية، أم نريد الواقع العملي؟
إن كنا نريد النظريات، فمجال القول ذو سعة، وميدان الاقتراح رحيب الجنبات، تتنافس فيه الأذهان.
وأما إن أردنا الواقع الملموس، فيجب أن نصارح أنفسنا في غير مواربة ولا مراء.
لغتنا العربية في جوهرها ومنظرها لست ملكاً لوطن وحده، ولا هي مقصورة على دولة(919/12)
بعينها، ولكنها شركة بين طائفة من الأوطان والدول. وجلا غاية الجلاء أن هذه الطائفة التي تضم بين جوانحها الأمة العربية كلها يجري فيها اتجاه واضح إلى الإبقاء على الكتابة العربية القديمة، والنهيب للعدول عنها؛ وإن كان الرأي العام في الأمة العربية كلها يؤمن بقصور تلك الكتابة عن الوفاء بحاجات الضبط، ويعاني من صعوبتها ما يعانيه.
ثمة عامل نفسي يسري بين جوانح الأمة العربية، من أغفله لم يؤمن الشطط. فإن جماهيرنا في نهضتها الحديثة التي تقوم على أساس الحضارة الغربية الراهن، تتملكها نزعة المبالغة في الحرس على مشخصاتها القومية، وهذه الجماهير - في شديد حرصها ذلك - تتوهم أن حروف كتابتنا العربية إحدى هذه المشخصات فإن نبذتها كان ذلك إمعاناً في التطرف، وهدماً للمأثور، وتفريطاً في الجانب القومي العزيز.
وعلى الرغم من أننا طلاعون في نهضتنا إلى الأمام، آخذون من الحضارة بكل الأسباب، فإن جماهيرنا تلك ما برحت تحت وطأة من تقديس التقاليد المتوارثة، تضن ما وسعها الضن بالنزول عن شيء من شؤون حياتنا الاجتماعية، وإن كان من الظواهر والقشور.
والحروف العربية القديمة، وإن كانت لا تزيد على أنها أداة تصوير، وليست هي من جوهر اللغة في قليل ولا كثير، فإنها قد اتخذت في أوضاعها القائمة، مسحة من التقديس، لشدة الألفة بها، وطول العهد معهما، وجلال القدم فيها. ولذلك لا يحسب كل تغيير يلحق بها إلا استخفافاً بشيء تحيط به هالة من الجلالة والإكبار.
وإذن فهذا العامل النفسي المتأصل، هو الذي يقف عقبة في سبيل ما ينادى به المفكرون وذوو الرأي، من اتخاذ حروف جديدة مقتبسة أو مخترعة لكتابة العربية.
ولا خلاف على أنا العوامل النفسية التي تستقر بين جوانح الأمم لا تسقط جملة بقوة منطق، وروعة دفاع، وحجة إقناع، وأنها كذلك لا تسقط بظهور مضرة، واستبانت نفع؛ فإن للعوامل النفسية أسبابها وملابساتها. فإذا زالت هذه الأسباب والملابسات رويداً زالت معها تلك العوامل رويداً. وليس كالزمان دواء لها وعلاجها.
هيهات أن يفرض اقتراح جديد للكتابة بقانون. وهيهات أن يلزم الناس به إلزاماً بإقناع، وكل محاولة تجافي المجرى الطبيعي لتطور نفسية الأمم مكتوب لها الإخفاق.
فمن حق الأمة العربية علينا أن نساير في عهدنا الحاضر رأيها العام. وأن نسوس هذا(919/13)
الرأي في حكمة وأناة، حتى يحين وقت تتهيأ النفوس فيه لقبول الجديد.
فالإجراء الذي يمكن أن تكفل له قبول الأمة العربية في جملتها، هو أن يكون لمشكلة الكتابة العربية حل لا تتغير فيه الحروف القائمة، ولا تتنكر صورته المألوفة.
ومتى اتسق لنا تحقيق رغبة الرأي العام في استبقاء القديمة، فإن الناس جميعاً يرحبون بما نتخذ من وسيلة لتذليل المصاعب التي تعترض حل تلك المشكلة في ميدان الطباعة.
وقد حدانا هذا على أن نعرض طريقة تقوم على أساس الكتابة العربية في أوضاعها الراهنة، بيد أننا ننفي منها ما كان عائق عن إدخال علامات الضبط في الحروف المطبعية.
أن صندوق الحروف في المطبعة العربية يحمل لكل حرف صوراً متعدد، منها الفرد، ومنها ما يقبل الاتصال بحسب أول الكلمة ووسطها وآخرها، وبحسب وقوع الحروف في بنية الكلمات المركب بعضها فوق بعض. ولذلك أتسع صندوق الحروف من ناحية، فتعذر أن يحتمل معه صندوقاً آخر لعلامات الضبط. وتركبت الكلمة من ناحية أخرى، فأصبح وضع علامات الضبط عليها غير دقيقة. وهذا كله هو سر استثقال علامات الضبط وإخفاقها في أداء مهمتها، وهو العقب في سبيل استعمالها في الكتب التي تخرجها المطابع.
وأني أرى أن نقتصر من صور الحروف على صورة واحدة، وبذلك يكون لصندوق الحروف المطبعية عيون لا تتجاوز الثلاثين عيناً، فنخلص من تلك العيون التي تزيد على ثلاثمائة، وأن نتخذ علامات الضبط المتعارفة التي يجري بها الاستعمال. وسيرحب بها الصندوق الذي تخفف مما كان يغص به من الصور المتعددة للحروف الأصلية، وانفسحت جوانبه لتقبل هذه الحركات في غير مشقة ولا عسر. وطوعاً لهذا يتوافر للطباعة غنم من السهولة والتيسير، كما يتوافق للكتابة غنم من نعيم الضبط بلا عناء.
وأقترح أن تكون الصورة التي تقتصر عليها من صور الحروف هي الصورة التي تقبل الاتصال من بدء الكلمات، وهي التي يسميها أهل فن الطباعة: حروفاً من الأول، على أن تؤثر الكاف المبسوطة، وتضل حروف الألف والدال والذال والراء والزاي والواو والتاء المربوطة واللام ألف باقية على صورتها في حالة إفرادها.
وأكبر ظني أننا لو أخذنا بهذه الطريقة لحللنا مشكلة الكتابة العربية الآن على نحو لا يثير اعتراضاً، ولا يتطلب تهيئة الأذهان للرضى بتغيير طارئ، وإقناع الرأي العام بقبول شيء(919/14)
جديد.
وعندي أن هذه الطريقة تتحقق بها المزايا الآتية:
أولاً: أنها تنفي شبهة القطع بين القديم والجديد، فالحروف هي الحروف المعروفة، وعلامات الضبط هي القديمة المألوفة.
ثانياً: أن الحروف ستكون واضحة لإخفائها. فهي غير مركبة، بل مبسوطة، يعرب فيها كل حرف عن صورته في تميز واستقلال.
ثالثاً: أن علامات الشكل ستقع على الحروف بأعيانها، تأخذها الأنظار باللمح، فلا تتراجع العلامات بين الحروف المركبة في الكلمة الواحدة إذ أن كل حرف رحب الصدر لما يقع فوقه أو تحته من علامة الشكل. وبذلك تأمن العلامات من التزحزح، وتسلم من التعرض للخطأ والاضطراب.
رابعاً: أن اتخاذ صورة واحدة للحروف في جميع مواقعها من الكلمات، أولاً ووسطاً وآخراً، سيجعل تعليمها أيسر مؤونة، لأننا لا نروع المتعلمين بالحرف الواحد متعدد الصور، مختلفاً في حالة إفراده عنه في أحوال تركيبه. ولذلك أثره في تعليم القراءة للناشئين، ومكافحة الأمية على وجه عام بين الأهليين.
خامساً: أن المصاعب التي تجشمها المطبعة الآن لا يبقى لها محل. فإن صندوق الحروف سيتحرر من أكبر ما يثقله. فإذا أضفنا إليه علامات الشكل لم يضق بها جميعاً. وسيصبح ذلك الصندوق الذي يحوي الحروف وعلامات ضبطها جميعاً لا يزيد على خمسين عيناً، على حين أن صندوق الحروف غير المشكولة في حالتها الراهنة المتعددة الصور يربى على ثلاثمائة.
سادساً: أن وقت العمال الذي كانوا ينفقونه في اجتلاب صور الحروف على اختلافها سيتوافر لهم، فينفقون القليل منه في اجتلاب الشكل. وسيصبح صفهم لكلمة مشكولة يتطلب من الوقت والجهد أقل مما كان يتطلب صف كلمة لا شكل فيها.
سابعاً: أن اجتناب التركيب في الحروف سيجعل الكلمات مبسوطة ذات أفق أقل انخفاضاً من الأفق الذي تقتضيه الكلمات المركبة الحروف، فتزداد السطور في الصحيفة ازدياداً يعوضها مما يستلزمه انبساط الحروف من أتساع الحيز.(919/15)
ولقد رغبة إلى المطبعة في أن تستن هذه الطريقة في صف جملة من الكلام، فلم تعي بذلك، وأثبتت التجربة أن الطريقة لا تعترضها في العمل عقبات، مع أن المطبعة اعتمدت في إنجاز ذلك على صندوق الحروف الذي يجري به الاستعمال الآن.
ولو أن هذه الطريقة لقيت حضاً من القبول، ووضعت موضع التنفيذ لتوقعنا أن يزودها أهل الفن في مسابك الحروف بما يوحي به وضعها الجديد، وأن يزيدوها تجميلاً، ويضيف إليها من ألوان التعديل والتنسيق ما يجعلها أدق أداء، وأنق منظراً، وأدنا إلى الرضى والاستحسان.
بقى أن نعرض لشيء لا نجد سبيلاً إلى أن نضر عنه صفحاً، ذلك هو أن لمشكلة ضبط الكتابة جانباً غير الجانب المطبعي الفني الذي تحله هذه الطريقة.
إن المطالبة بضبط الكتابة أمر تعترضه مصاعب يتبرم بها الكاتبون. فإننا إذا رغبنا إلى كل كاتب أن يقدم ما يكتبه إلى المطبعة مشكولاً على وجه الدقة، استشعر من ذلك عنتاً، ولاقى في سبيله رهقاً أليس هو مطالباً بأن يتحرى الصواب في الضبط؟
وهل يتسنى لكل كاتب أن يحسن ضبط ما يكتب؟ أو ليس ذلك يقتضي بصراً باللغة، وأتقاناً بقواعد النحو والصرف، حتى لا يكون الضبط الجديد سبيلاً إلى إشاعة الخطاء من حيث نبتغي إشاعة الصواب؟
ولكن هذا الذي نتوقعه ونخشاه من شيوع الخطاء إذا أريد الكاتبون على ضبط ما يكتبون، دليل أسطع دليل على أننا تعوزنا المرابة على سلامة النطق وصحة الإعراب، دليل على حاجتنا القصوى إلى تعليم الضبط في الكتابة.
على أن لكل تغيير طارئ مصاعبه الأولى، ولكل إصلاح عثراته في فواتح الطريق، حتى يستقر الأمر، وتستتب الحال. فلا ريب في أننا حين نأخذ أنفسنا بضبط ما نكتب سيشيع بيننا خطأ كثير؛ إلا أن هذا الخطأ سيقل ويضمحل على توالي الزمن وفقاً لتتبع النقاد والرغبة في تخي الصواب. ولا ريب كذلك في أن الأمر سيقتضي تخصيص طائفة من البصراء باللغة للأشراف على كل ما تخرجه المطابع من كتب وصحف ومجلات، حتى تبرأ من اللحن والخطاء في ضبط الكلام.
ومر الأيام كفيل بإنشاء جيل جديد من الكتاب والمؤلفين يغنون بقدر كبير أو صغير عن(919/16)
معونة المراجعين والمصححين. وهذا الجيل ناشئ حتماً متى شب على قراءة ما يقرأ مضبوطاً أتم ضبط، إذ يتعود سلامة النطق، وتستقر في أذهانه صيغ الكلمات والجمل مضبوطة معربة، فيكتبها كما ألفتها عينه، ويتلفظ بها كما سمعتها أذنه، وبذلك يقتطف ثمرة النحو والصرف. دون تخصص في تعلم النحو والصرف. شأنه في ذلك شأن الشاعر المطبوع حين ينظم ما ينظم صحيحاً لا خلل فيه، طوعاً لما أدمن من قراءة الشعر، ولو لم يعرف من علم العروض شيئاً
وعلى الرغم من أن هذه الطريقة التي تراها حلاً للمشكلة الفنية المطبعية في ضبط الكتابة، طريقة ميسورة، لا تقف في سبيل تنفيذها عقبة، فأننا لا نستطيع أن نلزم بها لأمة العربية إلزاماً، سولا أن نفرضها على المطابع فرضاً. ولكن يجب أن ندعو إليها دعوة عملية طبيعية تزكيها عند الناس، وتحدوهم على اتخاذها بالطوع والاختيار.
ولعل أهدى سبيل إلى تحقيق تلك لدعوة هو أن تلتزم وزارة المعارف طبع كتبها التعليمية في مختلف المواد والمراحل، وافية الشكل، صحيحة الضبط، بهذه الطريقة الهينة الميسورة. ولن تجد الوزارة في سبيل ذلك ما كانت تجد من مصاعب فنية، وعقبات مطبعية، حالت بينها وبين تعميم الشكل في كتب التعليم.
فإذا ألزمت وزارة المعارف نفسها بهذا الإجراء، كان ذلك حافزاً على اتخاذ تلك الطريقة في محيط الجمهور.
وسينشأ تبعاً لذلك عامل نفسي لتأييد تعميم الضبط في سائر المطبوعات، هو عامل التأسي والإقتداء، عامل التنافس في إظهار القدرة على إخراج كتب مشكولة، تشبهها بما تخرج وزارة المعارف من كتبها في شتى مواد العلوم والفنون والآداب.
ويومئذ يتحقق غرض منشود، سعى إليه (مجمع فؤاد الأول للغة العربية)، وابتغى إليه الوسيلة ما وسعه أن يبتغي، ذلك هو تعميم الضبط في الكتابة العربية على نحو ميسور.
محمود تيمور(919/17)
إسق العطاش
للأستاذ حسني كنعان
سألني صديق عن فصل (اسق العطاش)، وسألني آخر عن آثار القباني، وهاأنذا أجيب على السؤالين.
اسق العطاش: نوع خاص من أنواع الموشحات العربية القديمة المجهولة المتوارثة اختصت بحفظه مدينة حلب وحدها دون سواها من المدن العربية. ولهذا النوع من الأثر طابع خاص عرف به في النظم واللحن والإنشاد طغت عليه النزعة الصوفية. فأنت إذ تصاقح أذناك هذا النوع من الموشحات الأخاذة الساحرة وتصغي بكل حواسك وجوارحك إليه تخال نفسك كأنك قابع في زاوية من زوايا السادة الصوفية تضوعت في جنباتها روائح الند والمسك والطيب فتذهل عن الدنيا لشدة ما يعتريك من الخشوع والطرب والورع تأثراً بهذه الأنغام الرائعة والمعاني الممتعة فيأخذك العجب مما جادت به قرائح الأجداد الفياضة التي إن دلت على شئ فإنما تدل على ما كانوا عليه من شغف بالفن وانكباب مجهود في إحيائه والنهوض به. . .
والفصل برمته مأخوذ عن كتاب خطي قديم عنوانه (سلافة الألحان) يقع في مائة وخمسين صفحة على الجملة، قد دون بخط جامعه السيد (محمد الوراق) الحلبي المنبت وكان رحمه الله من الملمين بهذا الفن البارزين. وله في حلب عدة تلاميذ لا يزالون حتى الآن يحفظون له هذه اليد.
وكان منشداً في التكية الهلالية قد انقطع للنسك فيها والعبادة والتصوف، وقد تيمه الحب وهاجه الوجد والغرام في هذه الطرق، فجمع هذا الفاصل الأثري وعني بتعلمه وتعليمه فكان له ما أراد من فضل في نشره وإحيائه. . .
ولقد اختلف الرواة في منبع هذه الموشحات، فمنهم من نسبها إلى مصر وذهب إلى أن مياه النيل في عام من الأعوام قديماً قد نقصت وضنت السماء على سكان الوادي الخصيب بالمطر فما جادت عام مئذ بقطرة واحدة، ففزع أهل القطر إلى العراء يستمطرون الرحمة والغوث من لدن رافع السماء وباسط الأرضيين، جاء في مطلع أدعيتهم:
يا ذا العطا ... يا ذا الوفا(919/18)
يا ذا الرضى ... يا ذا السخا
إسق العطاش ... تكرماً
فالعقل طاش ... من الظما
ومن قائل إن هذه الحادثة وقعت بحلب، ودليله على ذلك العادة المتبعة حتى الآن من فزعهم ولجوئهم إلى العراء حتى اليوم يستغيثون ويستمطرون الرحمة كلما ضنت عليهم السحب بالغيث فيجأرون بهذه الأدعية والموشحات. وإلى هذا فمصر فيها خزانات لارتواء تربتها يفزع إليها كلما ضن النيل وبخلت السحب بالأمطار.
ومن قائل بأن هذه المخلفات الفنية من وضع الصوفيين تهدف بمعناها ومبناها وموسيقاها إلى نزعة غزلية صوفية يقصد بها الإشارة والمديح للذات القدسية العلية والتغزل بها والتغني بمحامدها ومفاتنها على سبيل التعبد، وأنها تتلى بالأفكار وحلقات التكايا والزوايا لهذه الغاية.
وهي موشحات كما ترى لا تتنافى مع مبادئ الدين الحنيف في شئ، وقد سبق لأبن الفارض والسيد الجيلاني وأبن العربي وعبد الغني النابلسي أقوال كثيرة في هذا المعنى من الغزل الصوفي ولذا نراها تستعمل في بلادنا في كل حفل ديني يؤتي فيه على ذكر الله الملك الديان، ويغلب على هذه الموشحات النغمة الحجازية وقد يدوم إنشادها في الأذكار والحفلات زهاء أربعة ساعات دون انقطاعيتخللها نغمة العراق والعجم في بعض الأحيان، إلا أن نغمة الحجاز هي الغالبية على جميع الأنغام في هذه الآثار.
والعادة المتبعة عند الحلبيين أن يهيئوا لها أحسن العازفين والمنشدين فتبدأ الأنغام في بادئ الأمر ببطيء متزايد وصوت غليظ ثم يأخذ هذا الصوت في الجدة والشدة والدقة حتى تعلو الأصوات وتدق، ويشتد العزف ويخف بحسب المعنى إلى أن يغدو السامع كأنه بنشوة الطرب، وعندما تكون الحلقات معقودة وتأخذ رجالها النشوة تنزلق أرجلهم وأيديهم وصدورهم إلى البدء في رقص السماح الذي تحدثت عنه الرسالة سابقاً وينقلب هذا الفاصل من الموسيقى إلى فاصل إنشاد رقص وطرب فتسمع وترى عندئذ من القائمين على شؤونه العجب العجاب، وعندما يشعر أبطال هذه الحلقات بتعب أو ضنى ينسل من الحلقة منتحياً ناحية في المكان، فإذا ما شعر غيره بتعب صنع صنيعه وهكذا يظل أبطال الحلقات(919/19)