نجد القرآن قد شبه بالجبال في موضعين فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال)، وقال: (ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام) ولكنك تراه قد آثر كلمة الجبال عند الموج لما أنها توحي بالضخامة والجلال معاً، أما عند وصف السفن فقد آثر كلمة الأعلام جمع علم بمعنى جبل؛ وسر إيثارها هو أن الكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعاني عند ذكر هذه الكلمة، ولما كان من معاني العلم، الراية التي تستخدم للزينة والتجميل، كان ذكر الأعلام محضراً إلى النفس هذا المعنى، إلى جانب إحضارها صورة الجبال، وكان إثارة هذا الخاطر ملحوظاً عند ذكر السفن الجارية فوق البحر، تزين سطحه، فكأنما أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معاً، وفي كلمة الأعلام وفاء بتأدية هذا المعنى أدق وفاء. وشبه القرآن الموج في موضعين، فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال) وقال: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) وسر هذا التنويع أن الهدف في الآية يرمي إلى تصوير الموج عالياً ضخماً مما تستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، أما الآية الثانية فتصف قوماً يذكرون الله عند الشدة وينسونه لدى الرخاء، ويصف موقفاً من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين، يركبون سفينة تتقاذفهم الأمواج، ألا ترى أن الموج يكون أشد إرهاباً وأقوى تخويفاً، إذا هو ارتفع حتى ظلل الرءوس، هنالك يملأ الخوف القلوب، وتذهل الرهبة النفوس، وتبلغ القلوب الحناجر، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق. وعلى طريقة إيثار كلمة الأعلام على الجبال التي تحدثنا عنها آثر كلمة القصر على الشجر الضخم، لأن الاشتراك في هذه الكلمة بين هذا المعنى، ومعنى البيت الضخم يثير المعنيين في النفس معا فتزيد الفكرة عن ضخامة الشراء رسوخاً في النفس. وآثر القرآن كلمة (بنيان) في قوله سبحانه: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوي وغير ذلك من معان ترتبط بما ذكرناه، مما لا يثار في النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلاً.
واختار القرآن كلمة (لباس)، في قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)، لما توحي به تلك الكلمة من شدة الاحتياج كاحتياج المرء للباس، يكون مصدر راحة وعنوان زينة معاً.(896/12)
ومن مميزات التشبيه القرآني أيضاً أن المشبه قد يكون واحداً ويشبه بأمرين أو أكثر، لمحا صلة تربط بين هذا الأمر وما يشبهه، تثبيتاً للفكرة في النفس، أو لمحا لها من عدة زوايا، ومن ذلك مثلاً تصوير حيرة المنافقين واضطراب أمرهم، فإن هذه الحيرة يشتد تصورها لدى النفس إذا هي استحضرت صورة هذا الساري قد أوقد ناراً تضئ طريقة فعرف أين يمشي ثم لم يلبث أن ذهب الضوء، وشمل المكان ظلام دامس، لا يدري السائر فيه أين يضع قدمه، ولا كيف يأخذ سبيله، فهو يتخبط ولا يمشي خطوة حتى يرتد خطوات. أو إذا استحضرت صورة هذا السائر تحت صيب من المطر قد صحبه ظلمات ورعد وبرق، أما الرعد فمتناه في الشدة إلى درجة أنه يود انقاءه بوضع أصابعه إذا استطاع في أذنه؛ وأما البرق فيكاد يخطف البصر، وأما الظلمات المتراكمة فتحول بين السائر وبين الاهتداء إلى السبيل. وتجد تعدد هذا التشبه في قوله سبحانه: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً. . . أو كصيب من السماء. . .). ومن النظر إلى الفكرة من عدة زوايا أنه حينا ينظر إلى أعمال الكافرين من ناحية أنها لا أثر لها ولا نتيجة فيرد إلى الذهن حينئذ هذا الرماد الدقيق لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ لأنها في يوم عاصف، ألا ترى هذه الريح كفيلة بتبديد ذرات هذا الغبار شذر مذر، وأنها لا تبقي عليه ولا تذر، وكذلك أعمال الكافرين، لا تلبث أن تهب عليها ريح الكفر حتى تبددها ولا تبقي عليها، وللتعبير عن ذلك جاء قوله سبحانه: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد). وحيناً ينظر إليها من ناحية أنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم، مجدية عليهم، حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً، ألا ترى في السراب هذا الأمل المطمع ذا النهاية المؤيسة ولأداء هذا المعنى قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). وحينا ينظر إليها من ناحية ما يلم بصاحبها من اضطراب وفزع، عندما يجد آماله في أعماله قد انهارت. ألا تظلم الدنيا أمام عينيه ويتزلزل كيانه ويصبح كهذا الذي اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج؟ ألا يشعر هذا الرجل بمصيره اليائس، وهلاكه المحتوم؟ ألا يصور لك ذلك صورة هؤلاء الكفار عندما يجيئون إلى أعمالهم، فلا يجدون لها ثواباً ولا نفعا، ولتصوير ذلك جاء قوله سبحانه:(896/13)
(أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج، من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
للكلام بقية
أحمد أحمد بدوي(896/14)
الغزال وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
الوجدان
- 4 -
تحدثنا في مقالنا السابق عن العلم أو المعرفة أو الإدراك في نظر الإمام الجليل أبي حامد الغزالي وبينا ما عنده عن علم المعاملة وعلم المكاشفة أي المعرفة الشعورية واللاشعورية فظهر ما سماه بالعلم ظهوراً واضحاً وأضاه ما سماه إيماناً إضاءة جميلة وأشرق ما نعته باليقين إشراقاً قويا باهراً ساحراً.
ونحن الآن نتحدث عن الوجدان أو ما يسميه الإمام الغزالي بالحال. ولكننا نرى من الخير - قبل أن نبدأ بهذا - أن نذكر التعريف النفسي للوجدان لنستطيع المقابلة بينه وبين ما سنراه من قول الغزالي في هذا الموضوع.
(يقول النفسيون إن الوجدان يطلق على ما تجده في نفسك من لذة وألم يصحب الإدراك أو النزوع، فإذا ما حال حائل دون مسير أية عملية عقلية أو جسمية أو عاقها عن المضي في سبيلها، كان التأثر مصحوباً بالألم. إما إذا سارت في طريقها حرة لا يعوقها عائق كان التأثر سروراً وارتياحاً.
وهذا الوجدان يصحب كل علمية عقلية كما يصحبها الإدراك، فالوجدان يشمل اللذة والألم والفرح والحزن والغضب والندم، وكل انفعال نفساني، كما يشمل العواطف أيضاً. وأنت الذي تتأثر بهذه العلاقة التي بينك وبين الشيء الذي تشعر به وتنفعل بتلك العلاقة).
هذا ما يقوله علم النفس في الوجدان الذي يسميه الغزالي الحال. ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي عن الحال الذي يعرفه علم النفس بالوجدان.
يقول الغزالي في تحليله لإحدى العمليات العقلية وهي التوبة ما يأتي: إن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم. وحال. وفعل. فالعلم الأول والحال الثاني. والفعل الثالث، والأول موجب للثاني إيجاباً اقتضاء اطراد سنة الله. أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب فإذا عرف هذا معرفة محققة بيقين غالب على القلب ثار من هذه(896/15)
المعرفة تألم للقلب، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى، انبعثت من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل).
ثم يقول في موضع آخر: (أن اللذة تابعة للادراكات. والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً، بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور وهو مقتضاها بالطبع. فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام، فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها. وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الأبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها).
نرى في قول الإمام الغزالي هذا صورة واضحة الأجزاء دقيقة التركيب متناسبة لأقسام تطابق في وضوح أجزائها ودقة تركيبها وتناسب أقسامها، الصورة التي رسمها علم النفس للوجدان تمام التطابق. فقد عرف الغزالي هذه العلاقة الدقيقة العجيبة بين المعرفة والوجدان والنزوع، وعرف أن العلم أو الإيمان أو اليقين يثير الوجدان وأن هذا الوجدان قد يكون لذة وقد يكون ألماً وأن اللذة تجلب والألم يدفع وأن هذا الجلب وهذا الدفع هما النزوع، وأن هذا النزوع هو الإيجابية والسلبية في السلوك وأن بين طيات هذه السلبية وهذه الإيجابية السلوك العادي والسلوك الشاذ.
بل في هذين السلوكين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والقوة والضعف والشجاعة والجبن، بل في هذين السلوكين كل تاريخ البشرية من أقصى أزمنة التاريخ إلى أن تبيد الأرض ومن عليها.
هذا هو الوجدان أو الحال عند الغزالي. هو اللذة أو الألم يصحب الإدراك أو المعرفة أو العلم أو يصحب النزوع أو الإرادة أو العمل، وما دام الحال هو اللذة والألم عند الغزالي كما هو الوجدان عند علماء النفس المعاصرين بالضبط فمن الحق أن نعرف ما عند الغزالي عن الغرائز التي هي منابع الوجدان أو مسارح اللذة والألم لا سيما الغرائز القوية العريقة في القدم التي يحافظ بها الإنسان على حياته وينافح بواسطتها دون بقائه.
نقف الآن قليلاً لنشير إلى ما كنا ذكرناه في المقالات السابقة من أن نفسية الإمام الغزالي كانت سلبية بكل ما في السلبية من معنى وها نحن أولاء نرى هذه السلبية واضحة في(896/16)
معرفته للغرائز البشرية ووصفه لها وتعليقه عليها، فإنه يقسم الغرائز إلى قسمين، منجية من نار جهنم ومهلكة بهذه النار، فمن الغرائز المنجية من النار الخوف والخضوع والانقياد وما يتبع هذه الغرائز من الرغبات في الفقر والزهد والقناعة.
ومن الغرائز الغضب والتغلب والسيطرة وما ينشأ عنها من الرغبات في الانتقام وحب الجاه والمال والشهرة والمدح.
ونحن ذاكرون هنا طائفة من الغرائز على الترتيب الذي اتخذه لنفسه في ذكرها لنرى أن الغزالي قد فهم الغرائز فهما علميا صحيحاً مع المعرفة بأنه أراد - كمرب ديني عظيم - أن يستعملها في خدمة عقيدته الدينية القوية ويقينه الإسلامي المستولي على قلبه ولنسمع الآن ما يقوله عن غريزة الخوف التي جعلها من الغرائز المنجية من الهلال، يقول:
(إن الخوف عبارة عن تألم القلب وإحراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. فالعلم بأسباب لمكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه، وذلك الإحراق هو الخوف، ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والاصفرار والغشية والزعقة والبكاء، وقد تنشق به المرارة فيفضي إلى الموت، أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل، أو يقوى فيورث القنوط واليأس). أما فضل الخوف في نظر الغزالي كمرب فلأنه قامع للشهوات، يقول: لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضله بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات.
ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف. وكيف لا يكون الخوف ذا فضل وبه نحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى. وأما غريزة الغضب فيصفها الغزالي بهذا الوصف الدقيق البديع البارع يقول: (إن الله تعالى خلق الحيوان معرضاً للفساد في داخل بدنه وأسباب خارجية عنه) إلى أن قال (أما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر الهلكات، فافتقر إلى قوة وهمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب وثارت به ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى(896/17)
أعالي البدن كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب الإنسان على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإذا صدر الغضب على من فوقه وكان من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب وبالجملة فقوه الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام. وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي بعد وقوعها والانتقام قوة هذه القوة وشهوتها، وفيه لذتها ولا تسكن إلا بها).
هذا وصف الغزالي لغريزيتي الخوف والغضب وهما من أقدم الغرائز وأقواها وافعلها في حياة الفرد والجنس، الأولى سلوكها سلبي والثانية سلوكها إيجابي وهو المقاتلة بغية الانتقام والتشفي وقد وضع الغزالي كل غريزة من هاتين الغريزتين الأساسيتين في موضوعها الطبيعي بالنسبة للحياة، بل بالنسبة لمن يستهدف الحياة.
ومن يستهدف الحياة مطلقة مجددة لا يطمئن إلا بالهرب من الأخطار والنجاة منها. وأما الغضب والمقاتلة فلا يخلو أمر الحياة معها من خطر مهلك ولهذا فقد وضع الغزالي هذه الغريزة على رأس الغرائز المهلكة.
ومهما يكن من أمر الغزالي في فهمه للحياة فإنه قد فهم الغرائز الحيوانية والطبائع الإنسانية فهما صحيحاً دقيقاً كما رأينا.
حمدي الحسيني(896/18)
إنشاء اتحاد برلماني عربي على أسس جديدة
للأستاذ أحمد بك رمزي
مقدمة ونظرة عامة:
1 - المجالس النيابية والأنظمة البرلمانية من عمل الأوربيين، وهي حديثة العهد في الشرق، فإذا كانت قد نجحت في الغرب، فإنا نرجو لها نجاحاً مماثلاً لدينا، لأنه إذا أثبتت قواعدها ظهرت فعاليتها في أوساط الأمم العربية، وأمكن أن تؤثر في تطورها ونجاحها. بل أن أمم العروبة في حاجة إلى هذه النظم لتحركها وتهزها وتشعرها برسالتها.
نشير إلى هذا بمناسبة ما توارد من مدينة دمشق عن التفكير الجدي في دعوة الاتحاد البرلماني العربي إلى الاجتماع، وهي فكرة تستحق كل تقدير وتشجيع من المؤمنين بالأنظمة البرلمانية وتستدعي كل اهتمامهم لأن الديموقراطية لا تزال تسير في مراحلها الأولى، بل إن بعض البلاد العربية والإمارات الصغيرة ليس لها أنظمة أو دساتير، فالعرب في حاجة لمن يدعوهم إلى الأخذ بها. ولا تزال فكرة إشراك الجماهير في حكم البلاد جديدة عندنا، كما أن إعطاء المدن مسئولية حق التصرف في المرافق العامة وحاجيات السكان لا تزال محصورة في نطاق ضيق، كذلك فكرة السير نحو تطبيق اللامركزية وتوزيع مسئولية الحكم بين الهيئات المختلفة من مجالس مديريات وبليدات لا تزال في دورها البدائي التحضيري، ولا يمكن أن تستند أسس الحياة البرلمانية العربية على قواعد ثابتة وتتجه البلاد العربية نحو الديموقراطية الصحيحة قبل أن يتمرن السكان ويتدرب أهل القرى والبلاد والمدن على إدارة شئونهم المحلية أولا ثم يثبت في عقولهم وعلى المراقبة والإشراف على المصالح القومية والمسائل العامة: كما نرى ذلك في البلاد الأخرى.
فالحياة البرلمانية يجب أن تقام على أسس اللامركزية التي يجب أن تأخذ بها البلاد العربية في سيرها نحو الحياة الديموقراطية الصحيحة.
يقظة الوعي الجماعي نحو الاتحاد العربي:
2 - أن المحاولات التي تمت في السنوات الأخيرة بإيجاد هيئات اتحادية بين الدول العربية لا تزال في خطواتها التمهيدية وتعد جامعة الدول العربية خطوة أولى نحو هذا(896/19)
التعاون في الميدان الدولي الحكومي، وقد ظهرت بجانبها هيئات شعبية رأينا منها: منظمة الاتحاد العربي وجمعية الوحدة العربية، وهي هيئات غير حكومية يقوم بها الأفراد وتتجه مع جامعة الدول العربية نحو إيجاد هذا التعاون والتفاهم المنشود الذي حلم به الغرب منذ أكثر من ربع قرن.
الاتحاد البرلماني حلقة من حلقات هذا الاتحاد
3 - فقيام فكرة تأسيس اتحاد برلماني عربي فكرة وجيهة إذا قصد منها تقوية العمل الذي تقوم به جامعة الدول العربية وإذكاء الجهود التي تقوم بها الهيئات التي تمثل الناحية الشعبية الحرة بين الأمم العربية المختلفة. لأن قيمة أي نظام شعبي أو برلماني أو حكومي هي في مدى الجهود التي يبذلها لتحقيق نهضة هذه الأمم ونقلها من الحياة التي تعيش فيها إلى حياة القرن العشرين ثم في مقدار التأثير الذي يوجده هذا النظام في تحويل الشعوب وتركيز الجهود لجعل هذه المجموعة العربية ذات كيان حائز لاحترام وتقدير بقية العالم المتمدن وثقته فيها وإيمانه بأنها شعوب حية قادرة على حمل أعباء الاستقلال والسير به نحو البناء والنماء والتطور.
تكوين الاتحاد البرلماني العربي
4 - ولهذا نرى من المبدأ أن يكون هذا الاتحاد ممثلاً لبرلمانات البلاد العربية وهيئاتها النيابية، وأن يكون أول أغراض هذا الاتحاد تحقيق التعاون والتفاهم في الشئون السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية رغبة في إيجاد نوع من التقارب والتكاتف بين الحكومات والشعوب والجماعات: وهذا ما لم يتحقق للأسف.
وإن مجرد وجود فكرة عن تشجيع اجتماع عدد من النواب والشيوخ الممثلين لمختلف الشعوب العربية في هيئاتها البرلمانية من فترة لأخرى ونهوض هيئة إدارية ونوع من الرئاسة ومكتب دائم، كل ذلك من شأنه أن يساعد في تكوين فكرة عملية واتجاه معين للتقريب بين وجهات النظر في الأوساط البرلمانية إذا أحسن القائمون بهذا الأمر سياستهم وابتعدوا عن إثارة الشكوك القائمة بين الدول العربية، ولم يشغلوا أنفسهم بانتزاع ما هو من صميم اختصاص الحكومات العربية وما هو من صيم عمل جامعة الدول العربية وميثاقها.(896/20)
وإلا فإن هذا الاتحاد إذا بدأ بالوقوع في الأخطاء التي وقع فيها غيره من المنظمات والهيئات كان أثره في يقظة هذه الشعوب ضعيفاً وغير ملموس كغيره من المنظمات التي أشرنا إليها. وفي مقدمتها جامعة الدول العربية.
وأجزم بأن عمل الحكومات العربية وعمل الجامعة العربية سيدعمه هذا الاتحاد البرلماني العربي ويدفع به إلى الأمام إذا كانت أهدافه إنشائية أي حينما يشعر الممثلون البرلمانيون بعظم الأمانة التي يحملونها ويقدرون أثر الحياة النيابية في رفع شأن البلاد العربية ودفعها نحو الرقي والتقدم كما قلنا.
5 - إنني أتصور أن يكون في كل بلد عربي هيئة محلية للاتحاد البرلماني العربي يدخلها أعضاء المجالس النيابية من النواب والشيوخ بعد دفع اشتراك معين كأعضاء عاملين كما يجوز أن يدخلهما كأعضاء منسبين كل النواب والشيوخ السابقين ويجوز أن ينضم إلى هذه الهيئة ممثلو الأحزاب المختلفة والنقابات والهيئات المحلية التي تشتغل بشئون التجارة والصناعة والزراعة وهيئات العمال والجمعيات النسائية والجمعيات التي تعمل لكل غرض إنساني أو علمي. وهذه الهيئة البرلمانية المحلية هي التي تتصل بالهيئات المحلية من مثيلاتها في البلاد العربية الأخرى عن طريق المكتب الدائم ورئاسة الاتحاد البرلماني العربي.
وأجد في القاهرة خير مدينة عربية تكون فيها رئاسة الاتحاد البرلماني العربي ومجلس إدارته وسكرتاريته، وأرى أن تدعو الرئاسة كل عام إلى مؤتمر للاتحاد البرلماني العربي يجتمع كل عام في إحدى العواصم العربية ويشترك في حضوره كافة أعضاء الهيئات المحلية بعدد لا يتجاوز خمسة عشر مندوباً من نواب وشيوخ كل بلد ويمكن أن يضم إليهم خبراء وسكرتاريون، ولا مانع في المستقبل من زيادة هذا العدد، وأن يضم إليه أعضاء من الهيئات التي أشرت إليها أو من النواب السابقين بشرط ألا تنقص نسبة عدد النواب والشيوخ عن النصف دائما.
وأفضل أن تكون جلسات المؤتمر علنية وكذلك اجتماعات اللجان إلا إذا دعت المصلحة لغير ذلك.
إن مجلس إدارة الاتحاد البرلماني هو الذي يدير أعمال الاتحاد ويقرر جدول أعمال المؤتمر(896/21)
ويضع التقرير السنوي وتقرير الميزانية ويراقب تنفيذها.
أهداف الاتحاد البرلماني العربي
6 - إن لكل حركة أهدافا معينة، ودعوة قائمة وإذا سارت فكرة الاتحاد البرلماني العربي على طريقة المنظمات والهيئات التي تقدمتها أي بقيت في نطاق السلبية أصبح عملها لا أهمية له وحكمت على نفسها بالجمود والأفضل عدم السير في تكوين الاتحاد والاكتفاء بالحال التي نحن عليها. والسبب في ذلك واضح وبين يتلخص في أن علة هذه الهيئات هم الرجال الذي يسرعون الخططي لتصدر الحركات العامة واحتكارها لأنفسهم قبل نضوجهم النضوج الكافي وقبل تهيئة أنفسهم بالعلم الواسع والثقافة الكافية لهذا العمل. فإذا اجتمع مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي تدافع فريق ممن يعتقد في نفسه الكفاءة والقدرة والسياسة وتبدأ بسماع عدد من الخطب المنبرية المحفوظة أو بعض المحاضرات الإنشائية التي تصلح لطلبة الثقافة أو إتمام الدراسة التوجيهية - ونقول إن المؤتمر درس المسألة المستعصاة فتكتب الجرائد ويصفق الأتباع والأنصار. إن مثل هذا العمل استمر أعواماً يهدم في كفايتنا منذ انتهت الحرب العالمية الثانية أي منذ سنة 1945.
7 - إنني أسلم بأن المصلحة تقضي بأن تكون حركة الاتحاد البرلماني العربي حركة تقدمية ترمي إلى تقوية أواصر المودة وإلى بذل النصيحة للبلاد العربية المتخلفة في مضمار الحضارة والتي سيكون عليها واجب إدخال الأنظمة النيابية والهيئات البلدية والإقليمية والإقناع بالأخذ بها بطريقة سهلة واضحة دون مساس بشئون الدول العربية الداخلية ودون إجحاف بحقوق الناس وإنما عملاً بالنص القرآني الكريم (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)
أمام هذه الحقائق الثابتة وتحت نظرة إيجابية غير متأثرة بالعاطفة وضعت مشروعاً لتنظيم الاتحاد البرلماني العربي.
ميثاق الاتحاد البرلماني العربي 23 أغسطس 1948
وليست هذه الفكرة جديدة على رجال العرب، فقد أقرت الهيئة التأسيسية التي اجتمعت بمدينة (صوفر) في 23 أغسطس سنة 1948 ميثاقاً للاتحاد جاء في إحدى عشر مادة كما(896/22)
أقرت نظاماً للمؤتمرات في جلستها المنعقدة في 20 ديسمبر سنة 1948 والمطلع على المشروع الذي أقدمه اليوم يجد أنه لا يتعارض مع الميثاق ولا يغير في نظام المؤتمرات.
وإنما يتجه اتجاهاً شعبياً فلا يتقيد بالقواعد الواردة في أنظمة المؤتمرات البرلمانية الدولية وإنما يعطي بجانب التمثيل البرلماني العربي للاتحاد الحق في تمثيل البلاد العربية التي لم تحصل على أنظمة برلمانية تحت إشراف جامعة الدول العربية التي تبرز لأول مرة ممثلة في الاجتماعات وقد أخذت بفكرة تمثيل الجماعات الشعبية مثل الأحزاب السياسية والجامعات والجمعيات السياسية والنسائية من نظام الاتحاد البرلماني العربي لدول البلقان:
والقصد من توسيع دائرة التمثيل هو جعل الاتحاد البرلماني العربي ممثلاً لرغبات الشعوب العربية ولشتى نواحي التيارات الفكرية ولكي يتجه الاتحاد البرلماني العربي إلى قيادة العالم العربي نحو الديمقراطية الصحيحة وتأكيد نظام اللامركزية والأخذ بقواعد استقلال سكان كل إقليم بإدارة شئونه والعمل على جعل المدن العربية ممثلة بواسطة بلدياتها في شئون العروبة العامة لحين يأتي الوقت الذي ينظم فيه اتحاد بين البلديات العربية بجانب الاتحاد البرلماني العربي.
أحمد رمزي
المراقب العام لمصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية(896/23)
(كشاجم)
- 2 -
للأستاذ عبد الجواد الطيب
ثقافته:
إذ شئنا أن نتحدث عن ثقافة الرجل والتمسناها في المصادر التي تحدثت عنها، لا نجد إلا كلاماً فيه كثير من التكرار والتهويل على طريقة القدامى في النقد والتقريظ، مثل الذي قال المسعودي في مروج الذهب: وكان (أي كشاجم) من أهل العلم والرواية والمعرفة والأدب فهذه أوصاف أربعة عامة منها اثنان متقاربان هما العلم والمعرفة، وأما الأدب فلا مشاحة فيه، والرواية إذا قصد بها الرواية للأدب فقد لا يكون فيها مشاحة كذلك. وأما إذا قصد بها رواية الحديث، فإنا نستطيع القول بأن كشاجم لم يكن محدثاً، أو حتى عالماً مبرزاً في أي علم من علوم الدين، اللهم إلا أن يكون ذلك هو القدر الذي يلزم تحصيله ولا يسلك به الشخص في عداد العلماء. حقاً إننا نجد في شعر كشاجم إشارة إلى أنه سمع شيئا من الحديث، وذلك يبدو في مدحه لبعض العلماء:
إن سألناك هن حدود كتا ... ب الله أوضحت مشكلات الحدود
أو سمعنا منك الحديث فاسنا ... دك لا بالواهي ولا المردود
وهذا البيت الأخير إن أفاد فإنما يفيد أن الرجل قد سمع شيئاً من الحديث، ولكن لا ينهض دليلاً على أن كشاجم كان من رواة الحديث بالمعنى الصحيح.
ثم إليك هذه الألفاظ البراقة وتلك السجعات المتكلفة التي نجد مثلها كثيرا في تراجم الأدباء والعلماء: (كان رئيسا في الكتابة، ومقدماً في الفصاحة والخطابة، له تحقيق يتميز به على نظرائه، وتدقيق يربى به على اكفائه، وتحديق في علوم التنجيم أضرم في شعلة ذكائه فهو شاعر المفلق، والنجم المتألق
فأما عن الكتابة فنعم، وأما الرياسة فيها فلا شك أنها محل نظر، وأما الخطابة فما أظن أحداً قال بأن كشاجم كان خطيباً ولم تصلنا خطبة واحدة ولو قصيرة تثبت ذلك، ثم إن ديوانه لا يكاد يشير إلى هذا ولو في بيت واحد مجرد إشارة اللهم إلا هذا البيت الذي يقوله ناصحاً -(896/24)
فيما يبدو لبعض المتصلين به:
فرد الكتابة والخطابة والبلاغة والعبارة
وهذا لا يقتضي أن يكون هو نفسه خطيباً وإن كان يستأنس به في ذلك لو قد وجدنا في شعره ما يؤيده، فنحن كثيراً ما نجده يفتخر بشعره وكتابته وعلمه ولكنه لم يفخر مرة واحدة بخطابته
وقد نفهم البيت على أن به فخراً ضمنياً، أو حتى فخراً صريحاً بكتابته هو، وخطابته وبلاغته، ولكن عل كل حال هذه هي الإشارة الوحيدة في ديوانه كله وما قرأت له من شعر خارج الديوان
وبعد هذا لا أدري ما هو التحقيق الذي يتميز به على نظرائه والتدقيق الذي يربى به على اكفائه. . . غلى آخر ما ذكروا من هذه الأوصاف الفضفاضة؟!
وليس يبعد عن هذا كثيراً ما يحيكونه خول لقبه من قولهم كان من الشعراء المجيدين، والفضلاء المبرزين. حتى قيل إن لقبه هذا منحوت من عدة علوم كان يتقنها فالكاف للكتابة، والشين من الشعر، والألف من الإنشاء، والجيم من الجدل، والميم من المنطق) وقولهم في هذا المعنى تقريباً مع خلاف يسير: (لقب نفسه بكشاجم فسئل عن ذلك فقال: الكاف من كاتب والشين شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجم) وقد زاد على ذلك أبن العماد الحنبلي في شذراته: (قال في تثقيف اللسان: كشاجم لقب له جمع أحرفه من صناعته، ثم طلب علم الطب حتى برع فيه وصار أكبر علمه (كذا!!) فريد في اسمه طاء من طبيب وقد مت فقيل طكشاجم ولكنه لم يشتهر).
وكل من كتب من المحدثين - عرضاً في كشاجم تابعوا القدامى في ذلك دون أن يلفت نظرهم هذا الكلام؛ فينظروا فيه نظرة دقيقة فاحصة، ولكن لعل عذرهم في ذلك أنهم لم يفردوا بحثاً خاصا لكشاجم؛ وإنما جاء الحديث عنه في غمار حديث عام ربما لا يحتمل الوقوف كثيراً عند كشاجم وحده.
وقد ذكر صاحب أعيان الشيعة من المحدثين إن كشاجم مأخوذ من أربع كلمات: كاتب شاعر، منجم متكلم، مجيد للأوصاف كلها لا عديل له في عصره) فهو يذكر أن كشاجم كاتب شاعر مع أنه هو نفسه لم يذكره فيمن ذكر من الكتاب وإن كان قد عده في الشعراء،(896/25)
فهو في هذا أشبه بمن يناقض نفسه إلا أن يكون قد رأى أن كشاجم الكاتب ليس هنالك فأسقطه من عداد الكتاب؛ وهذا شيء آخر!!
بقي أن نقول إن هذه الأوصاف الأربعة: كاتب شاعر منجم متكلم لو سلمنا بها جدلاً، فقد كان يجب الوقوف عندها مادامت قد حددت بأربعة ومع هذا فقد يكون فيها ما فيها، إذ لم يحدثنا أحد عن كشاجم كما لم يحدثنا هو عن نفسه أنه كان (متكلماً) ومع ذلك فقد كان يجب الوقوف عند هذا الحد.
ولكن الرجل يأبى إلا أن يكون كشاجم بعد هذا (مجيد الأوصاف كلها؛ لا عديل له في عصره)!!
فلننظر إذن في ثقافة الرجل في شكل تعقيب على تحليلهم لهذا اللقب الذي قد حللوه على طريقهم مثل قولهم: الكاف من كاتب والشين شاعر. . . إلى غير ذلك مما سبق الحديث عنه، والإفاضة فيه.
فأما عن الكتابة فقد نظرت في بعض كتب الإنشاء مثل صبيح الأعشى فلم أجد لكشاجم الكاتب فيه ذكر بينا تراه يعرض رسائل بعض كتاب الدواوين القريبين من عصر كشاجم مثل أبن عبد كان، وأبن الداية، كما نراه في الاخوانيات ينقل إلينا رسائل لأبي الفرج الببغاء - المعاصر لكشاجم في التهنئة بولاية عمل والتهنئة بالعودة من الحج، وبالقدوم من السفر وبالصوم وبالعيد كما يثبت له رسائل في التعازي والاستهداء والشكر. . . ولكن لم ترد إشارة ما إلى كشاجم الكاتب في أي جزء من أجزاء الكتاب؛ ومع هذا فصبح الأعشى لا يهدف إلى إحصاء الكتاب في كل عصر حتى يكون المصادر الأساسية في إثبات الكتابة لكشاجم أو نفيها عنه، فإذا كان هذا الكاتب أو غيره لم يشر إلى كشاجم كاتباً، فإن جميع من ترجموا له صرحوا بأن الكتابة كانت شيئا بارزاً عنده، وربما لا تقل في ذلك عن الشعر، وقد يستدل على هذا بأن ترجمته على ظهر ديوانه تبدأ بهذه العبارة التي تلفت النظر، والتي لها دلالتها الخاصة. هو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك الكاتب) ومثل ذلك ما قاله المسعودي: فأخبرني أبو الفتح محمود بن الحسين بن السندي أبن شاهك الكاتب المعروف بكشاجم. . . فكل هذه إشارات لا يصح إهمالها ولا بد من تحقيقها. . . وإذا كان شعر الشاعر هو سجل حياته فمن الطبيعي أن يكون مصدرنا الأول الذي نهتدي بهديه(896/26)
ونسير على سننه:
يقو لكشاجم في سكين سرقت له:
يا قاتل الله كتاب الدواوين ... ما يستحلون من سرق السكاكين
لقد دهاني لطيف منهم ختل ... في ذات حد كحد السيف مسنون
فابتزنيها ولم اشعر به عبثا ... ولست لوساء في ظن بمغبون
يقد يفهم من هذا أن الرجل من بين كتاب الدواوين هؤلاء الذين حصل منهم هذا العبث، ولكن هذا مجرد احتمال يقلل من قيمته ما يحتمل من أن هؤلاء الكتاب ربما كانوا مجرد أصدقاء، وأن هذا العبث كان في بيته مثلاً أو في مكان آخر غير الديوان.
ولكنا نراه في موطن آخر يرثي غلاماً له بهذه البيات
من لدواة كنت تعنى بها ... عناية تعجز عنها القيون
تغدو مع الكتاب غلمانهم ... وأغتدي وحدي ومالي قرين
فالدار والديوان من بعده ... كرسم دار خف منها القطين
فهذا كلام يثبت أنه كان كاتباً بالفعل وأنه كان من كتاب الدواوين. واليك نصاً آخر ينطق في وضوح وجلاء بأن الرجل كان من كتاب الديوان في مصر ذاتها:
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني ... والآن عدت وعادت مصر لي دارا
أغدو إلى الجيزة الفيحاء مصطحباً ... طوراً وطوراً أرجي السبر أطوارا
بينا أسامي رئيساً في رئاسته ... إذ رحت أحسب في الحانات خمارا
فللدواوين إصباحي ومنصرفي ... إلى بيوت دمي يعملن أوتارا
وهذا وقد عثرت في ديوانه على نص صغير قي يمثل رسائله الاخونية، فقد ذكر في ثنايا الديوان: وقال في أبي الحسن الاسكافي، وقد وجد به علة، وقد أهدى إليه طيور حجل وكتب إليه رقعة نسختها: لم يدع منظوم هذه الرقعة لمنثورها حظاً في المعنى الذي اشتملت عليه، وسيدي يقف على الأبيات فيتطول بتشريفي بما التمسته فيها، وجعلتها سبباً له، إذ كان الغرض إسعافه بما لا يزال يستدعيه، ويرتاح له من لطيف المذاكرة والمفاكهة للأدب الذي وفر الله من حظه وحبب إليه أهله، لا أزال الله عنهم ظله، ولا سلبهم سيادته ورياسته
ولو قد صح أن تكون هذه الفقرة الصغيرة عنواناً لنثر كشاجم لقلنا أن كتابته سهلة، مرسلة.(896/27)
سليمة من التعقيد، خالية من السجع والبديع إلا ما جاء من ذلك عفواً، ولكن هذا النص وحده - كبر أو صغر - لا يكفي في الواقع في إثبات حك أو نفيه ولهذا فمن حق البحث علينا أن نرجئ هذا الحكم حتى ندرس فيما بعد ما يمكن أن تصل إليه يدنا من آثاره الأدبية النثرية الأخرى مثل كتاب (المصائد والمطارد) وكتاب (خصائص الطرب) وكتاب (أدب النديم) فإن بعضها في متناول اليد وبعضها الآخر لا تعرف عنه إلا أسمه أو ما جاءنا من فقر وعبارات متناثرة في بطون الكتب وأمهات المراجع.
أما عن الشعر فنحن نسلم بالمبدأ، وهو شاعرية كشاجم ونرجئ الكلام المفصل عن هذه الشاعرية في ذاتها ومقدار حظها من العمق أو السطحية؛ ومن التقليد أو الاصالة، ومن توفر الصدق النفي أو عدم توفره. . . لأن هذا كله جدير بالعناية الخاصة بعد الفراغ من هذه الفصول التمهيدية في البحث.
أما ما يختص بالحديث عن كشاجم المنجم، فقد عده صاحب (أعيان الشيعة) - من المحدثين - من منجمي الشيعة ونقل ذلك عن كتاب معالم العلماء لابن شهر اشوب، كما أن التراجم التي سردناها تكاد كلها تجمع على ذلك. ولا ندري مبلغ هذا القول من الصحة، فقد يكون من قبيل التكثر والتزيد، لا سيما أن كشاجم لم يترك في هذا العلم أثراً ولم يؤلف فيه كتابا ولكن مهما يكن من شيء فإن الرجل لابد وأن يكون قد ألم نشئ من ثقافة المنجمين ظهر أثره في شعره:
قال يصف اسطرلابا:
ومستدير كجرم الشمس مسطوح ... عن كل رائعة الأشكال مصفوح
ملء البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم في أقطارها الفيح
كأنما السبعة الأفلاك محدقة ... بالنار والماء والأرضين والريح
تنبيك عن طالع الأبراج هيئته ... بالشمس طوراً وطوراً بالمصابيح
فإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم فيه مشروع
وإن تعرض في وقت تقدره ... لك التشكك جلاه بتصحيح
مميز في قياسات النجوم به ... بين المشائم منها والمناجيح
وفي الدوائر من أشكاله حكم ... تنقح العقل منها أي تنقيح(896/28)
لا يستقل لما فيه بمعرفة ... الحصيف اللطيف الحس والروح
حتى يرى الغيب فيه وهو منغلق ... الأبواب عمن سواه جد مفتوح
نتيجة الذهن والتفكير صوره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح
وقال يصف تخت الحساب والرمل:
وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب
يكثر فيه المحو والإضراب ... من غير أن يسود الكتاب
حتى يبين الحق والصواب ... وليس إعجام ولا إضراب
فيه ولا شك ولا ارتياب
وأما ما قيل من أنه كان من المتكلمين، ومن علماء الجدل والمنطق؛ فهذا ملتمسته رغبة الوقوع على ما يؤيده صراحة أو استنتاجاً فلم أعثر عليه، وقد تتبعت صلات الرجل فلم أجد نصاً واحداً يؤيد أنه درس الجدل أو المنطق أو علم الكلام، أو جلس من أحد الأعلام المشهورين في هذه العلوم مجلس التلميذ من أستاذه ثم أنه لو كان له في ذلك حظ لا نعكس في شعره شأنه في ذلك شأن النواحي الأخرى التي أخذ منها بطرف؟ فشعر الرجل لا يعطينا ولو خيطاً دقيقاً يتعلق به القائلون بأن كشاجم كان له حظ من هذا النوع من الثقافة.
ولا يتغير الموقف كثيراً إزاء ما ذكره بعض أصحاب التراجم من أن كشاجم طلب علم الطب حتى مهر فيه وصار أكبر علمه إذ لو كان ذلك كذلك لكان قد ترك لنا في هذا العلم شيئاً مما تركه العلماء فيما مهروا فيه من علم، أو على الأقل قد كان يستطيع أن يخلد اسمه بين الأطباء الذين حمل ألينا التاريخ أسماءهم وإن لم تصلنا آثارهم، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث؟ فهذا كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي يحدثنا عن بعض الأطباء المعاصرين لكشاجم مثل أبي الحسن بن كشكرايا بينما لم يرد فيه ذكر لكشاجم. وهذا طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة يحدثنا عن كثير من الأطباء المعاصرين للرجل مثل أبي الحسن أبن كشكرايا هذا الذي قال عنه أنه كان طبيباً عالماً مشهوراً بالفضل والإتقان لصناعة الطب وجودة المزاولة لأعمالها وكان في خدمة سيف الدولة بن حمدان ومثل البالس الذي (كان طبيباً فاضلاً متميزاً في معرفة الأدوية المفردة وأفعالها، وله من الكتب كتاب التكميل في الأدوية المفردة ألفه لكافور الإخشيدي) ومثل أبي جعفر أحمد بن إبراهيم المعروف بابن(896/29)
الجزار. . . هذا ول يرد ذكر لكشاجم بين هؤلاء جميعاً. وكل ما هنالك أنه قد وردت إشارة إليه لا على أنه طبيب، بل شاعر يثنى على هذا الطبيب أبي جعفر ويصف كتابه المعروف بزاد المسافر:
أبا جعفر أبقيت حياً وميتاً ... مفاخر في ظهر الزمان عظاما
رأيت على زاد المسافر عندنا ... من الناظرين العارفين زحاما
سأحمد أفعالاً لأحمد لم تزل ... مواقعها عند الكرام كراما
فكل ما في الأمر أن كشاجم ربما قد قرأ هذا الكتاب فألم بشيء منه. ثم إنه من المحتمل أن يكون قد عرف شيئاً من هذا عن طريق تعارفه ببعض الأطباء الآخرين ممن مدحهم في شعره ولكن ليس في هذا ما يدل على أنه مهر في علم الطب حتى سار أكبر علمه!!
ثم إذا كان كشاجم قد حاول أن يعرف شيئا من الثقافات المختلفة في عصره فهو ليس بدعاً في هذا وإنما شأنه شان غيره من الكتاب الذين عاصروه أو تقدموا عصره بقليل فقد كانت الحياة تموج من حولهم بألوان الثقافات الدينية والعقلية في العصر العباسي الثاني مما ظهر أثره في شعر الشعراء ونثر الكتاب في حاضرة الخلافة أولاً، ثم في الولايات الإسلامية المختلفة، وقد كان أبن عبد كان كاتب أحمد بن طولون، وأول كاتب ديواني في مصر من هذا الطراز من الكتاب. فنحن لا نغمط كشاجم حقه، وإنما نود أن نقول أنه واحد من هؤلاء الكتاب، الذين كانت تفرض عليهم مهنتهم أن يتصلوا اتصالاً ما بمختلف الثقافات.
وهكذا نرى أن المسألة شيئاً من المبالغة التي نجدها كثيراً عند القدامى من النقاد وأصحاب التراجم، وهذا الطابع طابع المبالغة قد تأثر به كشاجم نفسه فهو الآخر يقول في صديق له من الأطباء
الحمد لله قد وجدت أخاً ... لست مدى الدهر مثله واجد
أسكن في صحتي إليه فإن ... مرضت كان الطبيب والعائد
طباً يعيا منجماً جدلاً ... يجمع منه الكثير في واحد
ينظر في الجزء والخطوط ولا ... ينتقد النطق مثله ناقد
وقد يقف هذا الموقف حتى من نفسه ولا ندري أهو سذاجة أم غرور أم هو شيء بين بين أم إنها المبالغة الأدبية لا أكثر.(896/30)
وما زلت أبغي العلم من حيث يبتغي ... وافتن في أصنافه وتطر
فقد صرت لا ألقى الذي أستزيده ... ولا يذكر الشيء الذي لست أعر
وليت شعري هل وقف الرجل على هذه الحكمة المأثورة لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم. فإن ظن أنه قد علم فقد جهل!
ولكن لعل في هذا ما يدل على أن الرجل كان يحاول كما قلت أن يأخذ من كل شيء بطرف وإن لم يصل في الواقع في شيء إلى القمة أو ما يقرب منها.
عبد الجواد الطيب(896/31)
(الفكاهة في شعر المتنبي)
للأستاذ أحمد حسن الرحيم
شعر الفكاهة في ديوان المتنبي نادراً جداً، وليس ذلك لأن أبا الطيب لا يحتاج إلى الترويج عن النفس، أو أنه لا يدرك مفارقات الحياة، أو لا يحس التعبير عنها، بل لأنه ألزم نفسه أسلوباً جدياً صارماً فقضى عمره في كفاح عنيف متواصل يريد أن ينال لنفسه ما رسم لها من المناصب يأخذه غلاباً ويخوض له المهالك إن استطاع، قال لبعض الكلابيين وهم على شراب:
لأحبتي أن يملئوا ... بالصافيات الأكؤبا
وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا ... ت المسمعات فأطربا
وقال في رثاء جدته:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
أما منية المتنبي - كما كشف عنها في شعره - فهي ولاية يرأس بها الناس فتشبع نهمه للزعامة، وقد ضن بها عليه الزمان وقتل قبل أن يبلغها.
فالفتى الذي أغرى الناس بالثورة منذ صغره وصمد - منفرداً - لدرس الكاشحين وخصوماتهم في بلاط سيف الدولة يعز على نفسه الطموح أن تنصرف - إلا نادراً - إلى اللهو والفكاهة قبل أن يحقق مأربه الفخمة. فهو فتى قل أن نجد بين الفتيان من له استكباره لنفسه وصلابة همته واحترامه لذاته.
فهو شديد الميل إلى الجد، يريد أن يكون ممحدوحه متزناً وقوراً مهيباً؛ فقد ورد في ترجمة أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني للمتنبي أنه صده عن مدح الوزير المهلي (ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مر النفس، صعب الشكيمة، حاداً مجداً
وهو إذا ضحك فلا يريد أن يحمل ضحكه على فراغ القلب بل هو كتكشيرة الليث بداية شروفتك
وجاهل غره في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وفم(896/32)
إذا نظرت نيوب الليث بارزة ... فلا تظن إن الليث يبتسم
ومع كل هذا فلا يخلو ديوانه من شعر الفكاهة فقد قال وقد تاب بدر بن عمار من الشراب مرات عديدة ثم رجع إليه فرآه أبو الطيب يشرب فأنشد ارتجالًا؛
يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في ملكه لا ملكه
في كل يوم بيننا دم كرمة ... لك توبة من توبة من سفكه
والصدق من شيم الكرام فنبنا ... آمن الشراب تتوب أم من تركه
هذه الكياسة من الصفات التي حببته إلى نفوس الأمراء والملوك فقد مزج الدعابة بالمديح المتين: أصدقاء الأمير شركاء في ما يملك من ثروة يأخذون ما يريدون بلا منّة ولا استحياء، وهذه من سمات الكرم الأصيل. ثم ما أبرع أبا الطيب في قوله (لك توبة من توبة) فالمعنى الأصلي أنه نكص ومنعفت عزيمته فارتد عن توبته ولكن براعة المتنبي تأبى أن تقول هذا المعنى بهذا اللفظ القارص فتحايلت لإبرازه بعودة أخرى؛ فالأمير لا يزال مستمرا في توبته ولكنه تائب عن التوبة. هذه المغالطة الفكهة حبيبة إلى كثير من النفوس، ثم وسع له الفرصة ورفع عنه الحرج إذ مهد له الجواب في سؤاله: (أمن الشرب تتوب أن من تركه؟) فمن اليسير المقبول أنه يقول الأمير: (بل من تركه)
ومن شعر الفكاهة قوله من قصيدة طويلة قالها عندما أنقذ سيف الدولة أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان من أسر الخارجي:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
قدى بفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنونة ... فجئن بكل فتى باسل
طرافة يصورها المتنبي لهذا الأسير، فهو يضمن النضار لأعدائه ولكنه يعطي صدور القنا عوضه، فياله من تعويض طريف. ويمنيهم الخيل يعدون بها غنيمة فجاءت الخيل - كما وعد - ولكنها تحمل الموت الزؤام بسنان (كل فتى باسل).
إن المتنبي يجوز في شرعته أن يمكر الإنسان بعدوه ويخلف وعده ولكنه يأبى هذا في الحب.
وهو ينحدر إلى السخرية الجارحة مخاطباً أعداء أبي وائل في قوله: -(896/33)
خذوا ما أتاكم به واعذورا ... فأن الغنيمة في العاجل
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص من قابل
فهو يزعم - ساخراً - أن ما نالوا من قتل وتدمير على يد سيف الدولة فذلك (إحسان) ومن شيم المحسنين أن يعتذروا عن قلة إحسانهم ولو كان جسيما. فخذوا ما تيسر واعذورا. وإذا ارتضيتم صنيعا هذا فهلموا إلينا في العام المقبل إلى مثل ما غنمتم في هزيمتكم المنكرة.
وأنشد المتنبي أبا بكر الطائي فنام والمتنبي ينشد فقال: -
إن القوافي لم تنمك وإنما ... محقتك حتى صرت مالاً يوجد
وكأن أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنها مما سكرت المرقد
إن البيت الثاني دعابة واعتذار إذ ألقى تبعة النوم على الشعر فقد حسبه كالأفيون الذي يجلب النوم، أما البيت الأول وفيه (إن القوافي محقتك) فهو وخزة عميقة أملتها نفس المتنبي الثائرة وقد جمع المتنبي بين الهجوم والاعتذار في بيتين متتابعين.
ومن الفكاهة الجيدة قوله
بلغت بسيف الدولة النور رتبة ... أنرت بها ما بين غرب ومشرق
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق
صورة بديعة مضحكة حالة هذا الأحمق يبيت له سيف الدولة المكر فيحثه على اللحاق بالمتنبي وهو منطلق لا ترى إلا عجاجته ليكشف ضعف هذا العاجز فيضحك من تقصيره، صورة حسنة منظورة في منافسات الفرسان استعارها أبو الطيب لمباراة الشعراء فبلع الغاية.
ومن التهكم والسخرية قوله وقد قبض عليه أبن علي الهاشمي في قرية يقال لها (كوكتين) وجعل في رجله وعنقه خشبتين من خشب الصفصاف.
قال: -
زعم المقيم (بكوتكين) بأنه ... من آل هاشم بن عبد مناف
فأجبته مذ صرت من أبنائهم ... صارت قيودهم من الصفصاف
وقد ذكر هذين البيتين المرحوم البرقوقي في المستدرك من شعر المتنبي في آخر الجزء الثاني من طبعة سنة 1930 فإذا صحت هذه الزاوية فربما قالهما بعد أن نجا من قيد هذا(896/34)
الهاشمي المتهم بنسبه على رأي المتنبي ولا يعقل أنه قالهما وهو في قبضة الآسر فيضاعف من نكاله وآلامه.
وقال في صباه وقد رأى جرذاً مقتولاً: -
لقد أصبح الجرذ المستغير ... أسير المنايا صريع العطب
رماه الكناني والعامري ... وتلاه للوجه فعل العرب
كلا الرجلين إتلا قتله ... فأيكما غل حر السلب
وأيكما كان من خلفه ... فان به عضة في الذنب
ففي وصف معركة الجرذ لفتات تدل على براعة التصوير ودقة التعبير؛ فالجرذ مستغير أغار على العامري والكناني فحاب في حملته لأن بأس خصميه فوق ما قدر وقد تظاهرا عليه فقتلاه، وتلاه للوجه كصنيع العرب في الوغى، ولكن من منهما اقتدى بشاعر الفراسان عنترة العبسي ذاك الذي (يغشي الوغى ويعف عند المغنم) فتنازل لصاحبه عن حصته في السلب فقد انفرد بغنيمته شخص واحد.
ووصف المتنبي السلب بأنه (حر) لا عار على آخذه فهو من أسلاب الحرب يأخذه الغالب بكامل عزته وكبريائه، ثم يتساءل المتنبي عن الندب الذي فتك به بغتة فعضه من الذنب فلعل هذا أحذق بفن الحرب وأدخل في باب الشهامة الحربية لأنه لم يستعمل من السلاح خيراً مما يملك خصمه.
هذا المتنبي من شعراء القوة والدم في العالم قطبت الأحداث جبينه وألهبت نظراته الخصومات فلا يبتسم إلا لماماً. وأحسب لو أنه نال بغيته لانبسطت أساريره وأولى شعر الفكاهة أكثر من هذه العناية، والفن القوي يخلد مع كل غرض.
الحلة العراق
أحمد حسن الرحيم
ليسانس بالأدب العربي(896/35)
رسالة الشعر
ليالي بغداد
للأستاذ محمد محمود زيتون
أين يا بغداد هاتيك الليالي
كالرؤى مرت سراعاً بالخيال
لم تعد بغداد عندي غير ذكرى
عصفت بالقلب لما جئت مصرا
أين أيامك يا (عقد النصارى)
أين في الدهر لياليك العذارى
وأنا الهيمان ليلاً ونهارا
أقتفي ظل حبيبي أين سارا
أين بغداد هاتيك الليالي
لست أنسى ليلة الشط الجميل
ههنا (دجلة) مذ ولى الأصيل
وضياء البدر كالتبر يسيل
وارى الموج على الموج يميل
أين يا بغداد هاتيك الليالي
لست أنسى زورقاً في النهر يجري
وحنين الناي في المجداف يسري
تلك أحلام الصبا مرت بفكري
هل درى الملاح سرى؟. . . لست أدري
أين يا بغداد هاتيك الليالي
يا حبيبي عد بنا فالفجر لاح
والشذى الريان في الأرجاء فاح
وانتشى إليك بأطيار الصباح(896/36)
هذه إحدى لياليه الملاح
أين يا بغداد هاتيك الليالي
كالرؤى مرت سراعاً بالخيال
لم تعد بغداد عندي غير ذكرى
عصفت بالقب لما جئت مصرا
محمد محمود زيتون
يا وردتي
للأستاذ محمد محمود عماد
أريحك رف على جبهتي
وشعرك نام على راحتي
أتدرين أنك في قبضتي؟!
أشاغل عرفاً رنا في امتثال
وأرعى عهيداً هفا للوصال
وما زلت ظمآن. . يا وردتي!
فتنت، وكان صباك السبب
ومجدت ربي. . فيا للعجب
تكون صلاتي من فتنتي!
شبيهك غازل زهر النجوم
وأرسل قبلته. . . للغيوم
يغار. . وحقك. من قبلتي!
أناغيك والعشب من حولنا
يحن إلينا. . ويصغي لنا. . .
ويحجب عنا الذي. . والتي.!
غصينك يا وردتي في يدي(896/37)
أميل عليه. . . يميل علي. . .
أنا في حماه. . . فيا قوتي!
يقولون: للورد شوك يخون
خداع لعمري الذي يزعمون
سوى الورد. لم ألق في جنتي
محمد محمود عماد(896/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
شاعرة مصرية تودع الحياة:
في اليوم الثامن من نوفمبر عام 1949 صدر عدد الرسالة الأسبوعي يحمل في أول كلمة من تعقيباته (قصة الدموع التي شابت). . . وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم نقل إلى التليفون صوت الشاعرة (ن. ط. ع) حزيناً كالعهد به، خافتاً كأنما يأتي من بعيد، قاتماً كأنما تعكس نبراته لون شعور عاش في الظلام: هل يتسع وقتك لأن أقرأ لك هذه القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق؟ تفضلي يا ناهد!. . . هل تعدني بنشرها في (الرسالة) يوم أن تتحدث عني بعد الرحيل؟ أعدك يا آنسة!. . . إذن فاستمع إلى ولا تعترض، لأنها شعر غير موزون:
(جاء إلى الحياة والدمع في عينية، ورحل عنها والدمع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي اكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لتخبو في ظلام الياس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجي كل عابر سبيل!
يخيل إلى أنه يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً. روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، وكأن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين! وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالثكل أمانيه، فكل تعزبة في حساب الشعور، وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟ لقد كان (قارئاً) من قراء الرسالة، حدثني عن نفسه يوما فكتبت إليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتق بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقي منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله، وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته.(896/39)
رباه، إنني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموس إذا احتضرت على فراش الغروب!
ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع بكل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك، وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحة يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتك، حين يصور لك الوهم أن في التراب أكواباً من العزاء!
لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلى معنى من معاني القبر: في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. كم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوما على وقع أقدام المشيعين!
من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجداني وأنا استعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغريب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغري بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!
رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك)!
وسكت الصوت المتهدج لحظات. . . ثم انطلقت صاحبته تقول: (هذه هي القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق، ثم أعدت قراءتها عليك. . . إنها من كلمات أنت، ولكن قلمك قد استمد موضوعها من حياتي: الدموع التي شابت، والزهر الذي صوح، والروح الذي أكتهل، والإنسانية التي لا يعرفها أحد وعاشت في دنياها غريبة، وهذا الوجود الذي يبدو لعينها دائما وكأنه مأتم كبير، وهذه التعزية التي تقدمها إلى في التليفون كلما شكوت إليك(896/40)
الحياة، وهذه الرسائل التي حملت إليك ألف معنى من معاني القبر؛ كل هذه الأشياء التي خرجت بها من أحاديثي إليك قد سطرتها اليوم على صفحات الرسالة. . . وكأني بك قد نفضت يديك من كل أمل في أن تحبب إلى الحياة، فرحت تخصني بهذا الرثاء الصادق قبل الموعد المنتظر؛ الموعد الذي طالما قلت لك عنه إنني أترقبه في الغد القريب)!
ومرة أخرى سكت الصوت المتهدج لحظات. . . وغمرت شعوري موجة من الأسى وأنا أجيبها في تأثر عميق: (الحق يا ناهد أنني لم أستمد موضوع كلمتي من حياتك، وإنما كانت هناك حياة أخرى هي التي أوحت إلى ما كتبت. . . وما أكثر الذين يشكون إلى الحياة في قصص تفيض بالدمع، وتتشابه في قصتك وقصصهم ألوان من الحقائق النفسية. حسبك يا آنسة أن تقرئي هذه القصة لتعلمي أنك لا تقفين وحدك في زحمة الوجود متفردة بالمزاج القاتم والطبع الحزين، إن لك هناك أشباهاً ونظائر، تتمثل لهم الدنيا من وراء المنظر الأسود وهي غارقة في الظلام! لو رفعت هذا المنظار عن عينيك وأنت تقرئين هذه القصة لشعت منها روحك ومضات العزاء، ولكنك تأبين إلا تنظري من خلال ضبابه إلى كل شيء. . . إلى الحياة التي تبد لعينيك مظلة وهي مشرقة، عابسة وهي باسمة، حافلة بأشواك اليأس وهي ملأى بزهور الأمل)!
وقالت قبل أن تنهي الحديث وتلقي بسماعة التليفون: (أقسم لك أنني أشعر شعوراً خفياً بأنني لن أعيش، لأن الحياة لا يمكن أن تحتمل فتاة من هذا الطراز. . . لقد كانت (قصة الدموع التي شابت) أبه بمرآة صافية وقفت أمامها طويلاً لأرى نفسي. . . وسواء قصدتني بها أم لم تقصد، فإنني سأضعها داخل إطار يضم صورتي الحقيقة التي يجهلها أقرب الناس إليّ وتعلمها أنت. . . أنت الذي شكوت إليك آلامي فلقيت منك عطف الأخ الشقيق وعرضت عليك شعري فلم تبخل عليّ بنصحك وتشجيعك. . . إن في هذا كله عزاء أي عزاء، ولكنني أقسم لك مرة أخرى أن الشعور بأن مقامي في هذه الحياة قصير، حقيقة نفسية ترسب في أعماق رسوب الإيمان بالله. . . مهما يكن من شيء فسأذكر دائما بوعدك، وهو أن تنشر (قصة الدموع التي شابت) في يوم من الأيام)!!
وماتت ناهد طه عبد البر. . . وكأنما كانت تخترق بشعورها المرهف حجب الغيب، وتنفذ بوعيها الباطن إلى ما وراء المجهول. . . ماتت دون أن تظفر من أحلام دنياها بغير هذا(896/41)
الحلم الصغير، وهو أن ترثى بقصة الدموع التي شابت وهي في رحاب السكون والعدم!!
نشأت ناهد في أسرة كريمة، محافظة، ترعى حقوق الخلق وتتمسك بمعاني الفضيلة. . . ومن هذا الجو الذي عاشت فيه، جو التقاليد الصارمة والمثل المفروضة والقيم الموروثة، لم تستطع أن تواجه الحياة والناس بشيء من الشجاعة يتيح لفنها أن يتنفس كما يريد. . . كانت تخشى لقاء الحياة وتشفق على نفسها من ألسنة الناس، لأن المجتمع المصري في رأيها لم يبلغ من النضج الخلقي ما يجعلها تثق به وتطمئن إليه! من هنا عاشت في عزلة، عزلة مريرة قاسية فرضتها عليها ظروف التربية وطبيعة النشأة، عزلة طبعت آثارها النفسية القاتمة في أول كلمة بعثت بها إلي ونشرت في الرسالة تحت هذا العنوان: (شاعرة حائرة تسأل عن الفن والحياة). كان ذلك في العدد الصادر بتاريخ 23 مايو سنة 1949 ومن كلمتها تلك تستطيع أن تلمس صدق اللوعة وهي تتحدث إلي عن ظلم التقاليد، هذا الظلم الذي حال بينها وبين التعليم الجامعي الذي كانت تتطلع إليه، وحرمها فرصة الاتصال بالمجتمع الذي لم تعرفه إلا عن طريق الصحف والكتب والخيال!
ولا تعجب إذا قلت لك إن هذه الشاعرة الراحلة قد بلغت من الانطواء على النفس ذلك الحد الذي لم تطق معه أن يعرف اسمها أحد أو يرى وجهها إنسان، اللهم إلا هؤلاء الذين كانت تثق بهم وتلجأ إليهم في سبيل شيء من العون أو أشياء من العزاء. . . ولقد كان كاتب هذه السطور يعلم من أسرار حياتها ما لم يتح للآخرين أن يطلعوا عليه، لأنه كان موضع ثقتها في كثير من الأمور. ومع ذلك فهو لم يرها رأى العين في يوم من الأيام لأن لذلك قصة ستعلمها بعد سطور. . . قصة تطلعك على مدى خشيتها من الناس وكلام الناس، ومدى حرصها على أن تظل بمنأى عن كل ما يثير من حولها الظنون والشبهات! قالت لي يوماً في حديثها التليفوني الذي كان يطرق سمعي كل صباح: (لقد أذنت لي منذ شهور في أن أضع مستقبلي الأدبي بين يديك وأشهد لقد أخذت بيدي وفعلت من أجلي الكثير: فتحت لي أبواب (الرسالة) و (الأهرام) فقرأ الناس شعري هنا وهناك، ويا لها أبواب أمل كانت موصدة فتجدد بفتحها كل رجاء. . . والآن لم يبق لي عندك غير أمنية واحدة، وهي أن تكتب مقدمة ديواني الذي أريد أن أدفع به إلى أيدي القراء). وسكتت قليلاً ثم قالت: (لقد كنت أزور الدكتور طه حسين منذ يومين، ومع أنه كما قلت لك غير مرة يعطف عليّ(896/42)
عطف الوالد على ابنته، فقد خشيت أن اشق عليه إذا ما عرضت عليه هذه الرغبة التي عرضتها عليك. . . ومن هنا خطر لي أن ألقاك أنت لأقدم إليك مجموعة شعري كاملة قبل أن تقدم لها بما شئت من كلمات).
وتوقفت لحظات قبل أن أقول لها وعلى شفتي ظل ابتسامة: (إنني أعلم يا ناهد أن لقاءك للدكتور طه لم تسمح به طبيعتك النفسية إلا لسبب واحد، وهو اطمئنانك إلى أن أحداً لن يظن بك الظنون إذا ما جلست إلى أديب قد بلغ مرحلة الكهولة وتخطي الستين. . . أما أنا فأخشى إذا ما علمت حقيقة سني أن تحذفي من قائمة أمانيك هذه الأمنية الأخيرة، لأنني يا أختاه لم أبلغ الثلاثين بعد)!. . . وهتفت في صوت امتزجت في نبراته الدهشة الخالصة بالأسف البالغ: ماذا؟ لم تبلغ الثلاثين بعد يا لله، ماذا كان يمكن أن يقول الناس لو أنك كتبت هذه المقدمة؟ أنت بالذات؟ إن كلمة واحدة تنطلق من لسان جاهل بحقيقتي الخليقة لكفيلة بأن توردني موارد الهلاك. . . أقسم لك أنني ما فكرت في لقائك إلا لاعتقادي بأنك في سن الدكتور طه حسين! هل تغفر لي إعفاءك من كتابة هذه الكلمة التي لن تعفيني من كلام الناس)؟
وراحت الشاعرة القديسة تعتذر إلي، معلنة عن رغبتها في أن تلقي الأستاذ الزيات ليحل قلمه محل قلمي في تقديم شعرها إلى القراء. . . ومهدت لها سبيل اللقاء حتى تم، وكان الأستاذ صاحب الرسالة ثاني اثنين رأتهما هي رأي العين قبل أن تودع دنيا الأحياء لتعيش في جوار الله!
لقد عاشت حزينة وماتت حزينة. . . هي التي كانت تسكن البيت الأنيق في حي من أجمل أحياء القاهرة، وتعيش في ظل أسرة هيأت لها من رغد العيش وطيب المقام ما لم يتح لكثير من الفتيات! ولقد كانت العزلة سبباً من أسباب حزنها بلا مراء، ولكنها لم تكن السبب الأصيل لهذا الألم الدفين الذي أحال حياتها إلى أقباس من العذاب، وانعكس على شعرها لوعة وشكاة وأمسك القلم عن أن أحدثك عن سر حزنها الحقيقي، لأنها الآن تشفق على حرمة ذكراها من كلام الناس!
وأشهد لكم وقفت منها موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل(896/43)
ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!!
أنور المعداوي(896/44)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عاصفة في المؤتمر الثقافي:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى ما حدث في جلسة افتتاح المؤتمر العربي الثاني عندما وصل برنامج الجلسة إلى مناقشة جدول أعمال المؤتمر، إذ قامت حملة عنيفة على الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية التي نظمت هذا الجدول، ولم يسمح المقام وضيق الوقت بتفصيل ذلك في العدد الماضي.
بدأ نذير هذه، الحملة عند ما كان الدكتور أحمد أمين بك يلقي كلمته طالباً الشروع في تأليف لجان المؤتمر، إذ قاطعه الأستاذ محمد جبر قائلاً أنه يجب أن يناقش جدول الأعمال قبل كل شيء، وكان الواقف على ملابسات الحال يلمح في جو المؤتمر سحباً توشك أن تنهمر. . . وقد بدأ هذا الانهمار بكلمة ألقاها الأستاذ محمد سعيد العريان قال فيها إن جدول الأعمال المعروض ليس هو الذي كان معداً من قبل، وإن المؤتمر بناء على ذلك سينظر في غير ما حضر له، وأسند هذا إلى أن الإدارة الثقافية تستبد بالعمل دون الرجوع إلى الحكومات العربية ووزارات معارفها، وذهب إلى أن هذه الإدارة لا تمثل الدول التي ينعقد المؤتمر باسمها فليس لها أن تفرض عليها موضوعات معينة! واقترح تأليف مكتب دائم للمؤتمر تمثل فيه الحكومات العربية لينظم شئونه وأعماله.
وتكلم بعد الأستاذ العريان الأستاذ جبر، فأنتقد موضوع (التوسع في التعليم الثانوي والعالي) واقترح موضوعاً آخر هو (فلسفة التربية) يقصد منه تحديد الاتجاه الثقافي الذي ينبغي أن يوجه إليه الناشئون. ووصف الأستاذ سامي عاشور تصرف الإدارة الثقافية بالتفرد والاستبداد وأنها حلت بذلك محل المستعمرين الذين كانوا يستبدون بالأمر في توجيه التعليم بالبلاد العربية على وفق هواهم الاستعماري، واقترح موضوعاً آخر هو مكافحة الأمية في البلاد العربية. ورأى الأستاذ شفيق غربال بك أن يعدل الموضوع الأول من موضوعي المؤتمر بحيث يكون (ما العقبات التي تعترض التوسع في التعليم وما وسائل تذليلها) وأن يبقى الموضوع الآخر كما هو، وهو (الإعداد للحياة العملية)
وأوضح الأستاذ إبراهيم اللبان الفرق بين طرق التربية وروح التربية وبين أهمية الثاني،(896/45)
ولاحظ أن الموضوعين المعروضين لا يتجهان إلى روح التربية، ودعا إلى أن يبحث المؤتمر كيفية خلق المواطن العربي الصالح.
وقال الأستاذ سعد اللبان أنه يلاحظ أن موضوعات هذا المؤتمر، وكذلك المؤتمر الأول، كلها موضوعات مدرسية، وأن هناك ما أهم من هذه المدرسيات، وهو الشؤون الأدبية والثقافية العامة، لأن الثقافة الأدبية هي الرباط المتين الذي يربط بين شعوب العرب في بلادها المختلفة، وقد كان قائماً قبل قيام جامعة الدول العربية.
وبعد ذلك قال معالي رئيس المؤتمر الدكتور طه حسين بك أظن أنه من حق الإدارة الثقافية بعد كل هذا الذي وجه إليها أن تدافع عن نفسها. وهنا تقدم الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية فأوجز الرد في أن الإدارة لم تنفرد بالعمل وإنما أشركت معها كبار رجال التعليم في وزارات المعارف بالبلدان العربية، وأن موضوعي المؤتمر وضعتها اللجنة الثقافية التي تمثل الحكومات العربية، وأن مجلس الجامعة العربية أقر جدول أعمال المؤتمر.
ولما كان الوقت قد تأخر فقد أعلن معالي الرئيس اختتام الجلسة على أن نجتمع في الصباح التالي الهيئة المشرفة على المؤتمر، وهي تتكون من معاليه ومن رؤساء الوفود الرسمية، على أن يتلو اجتماعها انعقاد الهيئة العامة للمؤتمر. وقررت الهيئة المشرفة أن يعدل الموضوع الأول بحيث يكون (ما العقبات التي تعترض التوسيع في التعليم الثانوي والعالي وما وسائل تذليلها) وأن يبقى الموضوع الثاني كما هو، ووافقت الهيئة العامة للمؤتمر على ذلك ثم أخذ في تأليف اللجان - فألفت كما ترى في (كشكول الأسبوع)
أريد بعد ذلك أن ننظر في تلك العاصفة التي هبت على الإدارة الثقافية وجدول أعمالها، وما نشرته الصحف حول هذا الموضوع والذي أراه أن الإدارة أو اللجنة الثقافية؛ لم تكن موقفه في الموضوع الأول - على نحو ما بينت في الأسبوع الماضي - بل أقول أنه موضوع غير ذي موضوع. . .
فنحن الآن لسنا بصدد البحث في التوسع والتحديد وبأيهما تأخذ؛ وما هي خطة ذاك؛ وما الغرض من هذا؛ فقد انتهينا إلى أنه لابد من تعليم الناس جميعاً.
وأرى أيضاً أن الموضوعين تافهان وأوافق المعترضين على أن الموضوعات التي اقترحوها أهم من هذين الموضوعين؛ ولست أدري - كما قال الأستاذ سعد اللبان - لماذا(896/46)
يقصر المؤتمر أعماله على الموضوعات المدرسية ولا يهتم بالثقافة العامة. ويظهر أن اللجنة الثقافية عندما وضعت موضوع (التوسع في التعليم) أو وافقت عليه؛ لم يكن في حسبانها أن الإدارة الثقافية ستفرغ من التحديد ونسأل عن خطط التوسع. ولو أن الإدارة تفادت هذا الوضع الشائك الذي أثار الاعتراض لما ترتب على ذلك أن تغير الموضوع وصار موضوعا آخر لم يسبق له تحضير.
ولكن هل الإدارة الثقافية حقاً انفردت وارتجلت واستبدت. . . وهل حقاً أيضاً أنها لا تمثل الحكومات العربية؟
هناك هيئات ثلاث: اللجنة الثقافية والمكتب الدائم يتألف من الملحقين الثقافيين بالمفوضيات العربية بالقاهرة. أما الإدارة الثقافية فهي هيئة منظمة وهي قسم من أقسام الأمانة العامة للجامعة. نرى ذلك أن هذه الهيئات ممثلة للبلاد العربية تمام التمثيل، وهو لهذا لم تتعد اختصاصها، ولم تعمل عملاً كان يجب أن يقوم به غيرها، وليس معنى توجيه المؤاخذة إلى عمل من أعمالها أنها دخيلة عليه منصوبة له بغير حق.
وثمة ثلاث ظواهر تلاحظ في هذا الموضوع، الأولى أن الحملة جاوزت حد القياس المعقول فقد بدت الرغبة في الهدم والمعارضة بالحق وبالباطل، وتتابع في الكلام المتحمس الثائر جماعة ممن إذا دعوا لم يسألوا لأية حرب أو بأي مكان. والظاهرة الثانية هي انحصار هذه الحملة بين الأعضاء المصريين، فلم يشترك فيها أحد من سائر الوفود العربية، بل وقفوا منها موقف المشاهد المتفرج، يستغربون أحياناً، وأحياناً ينطبق عليهم القول المأثور (من يسمع بخل) فيوجهون اللوم إلى الإدارة الثقافية حتى فيها لا تملكه، أولئك الذين تتملكهم شهوة الكلام فيهرعون إلى المنصة ليخطبوا. ولا يدري أحد ماذا يريدون.
أما الظاهرة الثالثة - وهي ثالثة الأثافي - فهي ما نشرته بعض الصحف أخباراً وتعليقات. نشرت هذه الصحف أولا أن وفد مصر هدد بالانسحاب من المؤتمر، مع أن المسألة لم تعد ملاحظات من جانب الوفد وقبول لهذه الملاحظات من جانب الإدارة الثقافية، فلم يصل الأمر إلى أزمة ولا إلى تهديد بانسحاب. والعجيب أن جريدة كبيرة متزنة كالأهرام تخرج على ما عرفت به فتنشر أخلاطاً من الكلام تصور الموقف على غير حقيقته، إلى ما فيها(896/47)
من الخبط الأعشى، فمما قالته أن الجانب المصري غير راض عن طريقة تأليف اللجنة الثقافية وأعمال الإدارة الثقافية، وأن وزارة المعارف تبحث الآن أمر الموظفين الذين يمثلون مصر في اللجنة الثقافية والإدارة الثقافية على أساس أن وجودهم في هذه المناصب لم يعد متفقاً وسياسة الوزارة في الوقت الحاضر!
ليس هناك موظفون في اللجنة الثقافية يمثلون مصر، حتى تفكر وزارة المعارف في أمرهم، فموظفو الإدارة الثقافية تابعون للأمانة العامة وهم كسائر موظفيها لا يخضعون للحكومات، أما اللجنة فتتكون من أعضاء لا من موظفين. ومن ذلك الخلط أن يقول المراسل إن تأليف لجنة للثقافة العربية يعد تجاهلاً سافراً للجنة الثقافية بالجامعة العربية! واللجنة الأولى من لجان المؤتمر ألفت لبحث موضوع معين، فأين هي من اللجنة الثقافية العامة الدائمة؟
والخطير في الأمر أن تصور وزارة المعارف على أنها خصم للإدارة الثقافة. وليس هذا معقولاً ولا لائقاً. فوكيل وزارة المعارف الأستاذ شفيق غربال بك هو الذي يرأس اجتماعات اللجنة الثقافية. ومما يذكر أن معالي وزير المعارف يبدو على كرسي رياسة المؤتمر فوق كل هذه المنازعات، وهو يدير الجلسات بروح ودي للجميع.
وقد عرض على المؤتمر قرار الهيئة المشرفة بصيغة الإقرار لجدول الأعمال كما أعدته الإدارة الثقافية، ولكن بعض الأعضاء ثاروا وأبوا إلا أن ينص على أن الجدول عدل، فكان عند رغبتهم، هذا يدل على حيدته بل على مجاملته للإدارة الثقافية.
بقي أن أسأل: من الذي يوحي إلى مراسل الصحف وإلى فرسان المعارضة في المؤتمر بأن وزارة المعارف جبهة ضد الإدارة الثقافية؟ هل هناك تدبير لهذه الحركة أو هي حركة (شيطانية) وأن كل تلك الظواهر محض اتفاق؟!
محاضرات المؤتمر:
كانت أول المحاضرات العامة التي نظمها المؤتمر الثقافي، محاضرة الدكتور عبد الوهاب عزام بك في (تحقيق موضع سوق عكاظ) وقد ألقاها يوم الأربعاء الماضي. قال فيها أنه بحث أثناء إقامته بالحجاز عن موقع سوق عكاظ، وقد هداه البحث إلى موضع يقع جهة الشرق من الطائف على مسيرة يوم منها وثلاثة أيام من مكة، وقد طبق على هذا الموضع(896/48)
ما ورد في الكتب من أوصاف سوق عكاظ، فوجدها مطابقة له.
وألقى بعده الدكتور محمد البهي محاضرة موضوعها (الطابع القومي في الثقافة الأزهرية) شرح فيها مذهبي القومية والعالمية اللذين يختلف فيهما علماء التربية، وأورد حجج كل من الفريقين ثم رجح مذهب القومية، وخلص من ذلك إلى تأييد جانب الدراسات الإسلامية والعربية التي يقوم بها الأزهر باعتبارها الثقافة القومية التي يجب أن تسود. ويخيل إلى أنه اضطر إلى ترجيح القومية ليخلص إلى هذه النتيجة، وما أراه كان بحاجة إلى ذلك، فالإسلام دين عالمي، ودعوته دائمة عامة، وإذا كانت المذاهب الاجتماعية والسياسة السائدة في العصر الحديث تدعي لنفسها صفة العالمية وتدعو العالم إلى اعتناقها، فكذلك الإسلام من حيث هذه الناحية.
وألقى أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات محاضرة يوم السبت عن (حاضر الأدب العربي) وقد حلي بها صدر هذا العدد من (الرسالة).
وألقى بعده الأستاذ واصف البارودي محاضرة عنوانها (الشباب وأزمة الثقافة) وقد عرف فيها الثقافة بأنها التوازن بين الناحية العملية والناحية النظرية، وعندما سار في المحاضرة لم يأبه لهذا التوازن، بل رجح الجانب العملي، فقلل من قيمة العلم والذكاء بالنسبة إلى العمل والمهارة فيه، وذهب إلى أن الذي لا يوافق قوله عمله لا يعد مثقفاً مهما كانت معلوماته وذكاؤه. وقد غالى الأستاذ في ذلك، حتى خلناه يعد الثقافة من الحرف والصناعات وحتى أنه عندما بين مظاهر أزمة الثقافة عد منها (البطالة) وكان الأستاذ يرتجل في أسلوب لا بأس به، ولكن لو أنه كتب المحاضرة لكانت أجزاؤها وأفكارها أوثق ارتباط وأكثر تنسيقاً.
عباس خضر(896/49)
البريد الأدبي
فكاهة
خمس وست، سبعة أو تسعة قولان؛ قالهما الخليل وثعلب!
كتب الصديق المحترم الدكتور محمد يوسف موسى، في (الأهرام) يقترح: (توحيد المدرسة) وقام الأزهريون وقعدوا، وانشعبوا فريقين، بين ناقد، ومؤيد، بتحفظ وبغير تحفظ. . . وما أشد شهوة الكلام عند المثقفين بعامة، وعند الأزهريين بخاصة! وكتب خبيث في عدد 893 من الرسالة بتوقيع (أزهري عجوز) وكان رأيه: (سمك لبن تمر هندي)؛ ويعلم الله ما أراد بمقاله وتوقيعه، على أنه أصاب بعض هدفه، عامله الله بما يستحق!
وأرجو أن تسمح لي الرسالة، فأدخل - لأول مرة - خصماً ثالثاً في قضية الإصلاح الأزهري، في إيجاز (برقي) خاطف:
فكرة (توحيد المدرسة) بتعليلاتها الحديثة، فكرة قديمة؛ خامرت أول من خامرت، المغفور له الإمام المراغي، في مشيخته الأولى، وهم بتطبيقها فعلاً، ثم بدا له. . . ونستغفر الله من أنا كنا من دعاتها ومحبذيها! ذلك بأن المدرسة المدنية في شتى أنواعها، ما تزال في طريق الإصلاح والتهذيب، وما تزال أكثر نظمها في حاجة إلى إعادة النظر؛ وما تزال تستهدف لضروب من النقد لا تقل في قوتها عن نقد الإصلاح الأزهري في أسوأ ضروبه
على أننا لو سلمنا بصلاح الفكرة، لن نسلم أبداً أبداً أبداً، بأن الظرف الحاضر، ظرف مناسب للدعوة إليها، ولا للاستجابة لها! أليس كذلك يا دكتور موسى؟!
وفي النفس حاجات، وفيك قطانة ... سكوتي جواب عندها وسؤال.
وقرأت في عدد الرسالة 894 مقالين لتلميذين من تلاميذي: أولهما: اللغة العربية والإسلام في الداغستان، لولدي النابه النبيل الأستاذ برهان الدين الداغستاني خريج كلية اللغة العربية؛ وثانيهما: الأزهر والاتجاه الحديث في التربية، للطالب في معهد التربية من كلية اللغة العربية ومن أبنائي المعمرين. . .!
وبمقدار فخري بالأول، كان خجلي للثاني. . . وهو الذي ذكرني بالبيت الذي جعلته عنواناً لهذه الكلمة؛ ونصيحتي إلى ولدي الأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد، أن ينجح أولاً ثم يكتب بعد أن ينجح إن شاء الله في الدور الثاني. في إصلاح الأزهر، وأطمئنه على أن الأزهر(896/50)
لن يصلح قبل نجاحه أبداً، ولا في طيارة والأستاذ عبد الحليم أولى الناس بقبول نصيحتي، إذ تجمعني وإياه فوق رابطة كلية اللغة والأزهر، رابطة (البلديات)!
أما بعد، فلعل خير ما أختم به هذه الكلمة، أن أضرع - في رجاء - إلى كل كاتب في (إصلاح الأزهر) أن يرحم الأزهر وأهل الأزهر المساكين، ومن هذا الهوان الذي يصب على عمائمهم كل يوم باسم (إصلاح الأزهر) من طلال معاهد الإقليم، ومن أولاد (الكتاتيب) ومن أمثالي الجهلة الذين يرون الإصلاح كل الإصلاح في (إلغاء العلم) حتى يستريحوا من طلبه، ومن كد المعاناة في تحصيله! وأنا مع هذا الفريق، ولكن لا يسمع لقصير رأي! إذ ليست الصحف مكاناً مختاراً، لعرض الآراء في الإصلاح.
بقي أننا لا نستطيع أن نطلب إلى جميع الصحف أن تسعدني في إغلاق هذا الباب؛ ولكن آمالنا في الرسالة بخاصة تضاعف ثقتنا في أنها ستتردد طويلاً، قبل أن تسمح بالنشر في هذا الموضوع لكاتب، يسمو مثلي بنفسه عن أن ينزل إلى مساجلته والرد عليه.
وأكون شاكراً لو تفضلتم بنشر كلمتي هذه - حرفياً - تحت مسئوليتي.
عبد الجواد رمضان
المدرس في كلية اللغة العربية
إلى الأستاذ عباس خضر
قرأت في (الرسالة 887) بشغف الآراء المتبادلة بينك وبين الأستاذ سيد قطب فوجدت خلالها ما تشوبه وما يشوبه من ألم حين يقارن الشرق المتلكئ بالغرب المقدام.
وأظن وصف الشرق (بالمتلكئ) والغرب (بالمقدام) هو وصف عادل منطبق على واقع، على رغم الأوصاف المتداولة على الألسن عن روحية الشرق ومادية الغرب. فالذي شاهدته في الوطن المسكين وما أراه هنا، في طباع الناس واتجاههم في الحياة ومقدراتهم في الذكاء. . . يدفعني أن أقول جازماً ألا فرق بين الرجلين. أما الثروات الطبيعية فيوجه منها في الغرب ما يوجه مثلها في الشرق.
على أن الفرق الذي يلفت الأنظار هو أن كل فرد في أمريكا خادم إن لم يكن للمجتمع فهو لنفسه؛ أما هناك فكل فرد سيد. . على الجميع. . إلا على نفسه!!(896/51)
فالأمريكي، مهما بلغت درجته ومنزلته، فهو عامل يشتغل في محل ما، أو بشيء ما ولا زلت أذكر (بول) الذي كان يغسل معنا الأواني ويكنس الأرض. وهو عميدنا ببحيرة (تاهو) ولم نعرف أنه دكتوراه في الفلسفة؛ وكان صعباً علينا، بعدئذ، ان نسميه باسمه الأخير دكتور رينولد (بعد أن تعودنا مخاطبته باسمه الأول (بول). ولن أنسى طبيب الأسنان المتقاعد في (مزولا) بولاية (منتانا) الذي كان يجمع الأخشاب الطافية في النهر ويعدها للحرق في الشتاء!
هذه بعض الأمثلة عن أمريكا. . فماذا عن الشرق؟
سلام على العراق وأهله. فلا زلت أسال أصحابي عن أصحابي فإذا فلان (بطال) والآخر (لم يجد عملا إلى الآن) والثالث (ينتظر. . .). وأذكر أن بعض طلاب إعدادية التجارة وهي مدرسة داخلية ببغداد كان يجد حطاً من كبريائه إن هو غسل الشوكة والملعقة التي يأكل بهما. . والطالب الأمريكي يكمل دراسته الجامعية ونفقاته على الأجور التي يحصل عليها من غسل الأواني في مطعم أو تنظيف السيارات في محطة بنزين!
وهذا (العمل) هو الذي جعل الفلاح الأمريكي يحصد زرعه بالقوة المكانيكية، ويحلب الأبقار بالكهرباء، ويفرق بين الحليب والقشطة بالكهرباء، ويملك ثلاجة وراديو أو تلفزيون وسيارة ومكائن للزرع والحصد. . . ويملك بعضهم الطائرات لرش البذور أو المساحيق قاتلة الحشرات بواسطتها على أرضه. . . والفلاح العربي المسكين لا يزال يستعمل الآلات التي استعملها أجداده قبل ألف سنة!
الفروق بين الشرق والغرب كثيرة تتلخص بكلمة واحدة: العمل. . العمل بأي شيء مهما كانت درجة الفرد؛ وبغيره لا يمكن الاستفادة من (الرصيد) المكنوز.
ترى هل يقتبس الفرد العربي والشرقي من الفرد الغربي اليوم كما أقتبس الغربي بالأمس؟
وبعد فإشارة قصيرة إلى الأستاذ قطب. . . إننا نسمع بين مدة ومدة همسات على صفحات الغراء ولم نتشرف بلقياه على قرب المسافة بيننا وبينه. . أيتفضل الأستاذ بإعطائنا عنوانه بواسطة هذا العنوان:
بركلي - كاليفورنيا
محمد تقي مهدي(896/52)
القصص
قصة من دون عنوان
مترجمة عن تشيكوف
بقلم الأديب كارنيك جورج
تشرق الشمس عند الصباح، فتقبل أشعتها الأنداء ن وتعيد إلى الأرض الرونق والبهاء، فيمتلئ الجو بترانيم البهجة والآمال. وما إن يأتي المساء فتغرب الشمس حتى تلتف الأرض بالسكون وتغرق في لجة الظلام.
هكذا الأيام تمضي أبداً متشابهة، وبين حين وآخر تهب العاصفة أو يقصف الرعد أو يدوي صوت تهاوى نجم من نجوم الفلك، أو ينطلق أحد الرهبان في ليخبر رفقاءه عن نمر شاهده قرب الدير! وهذا أغرب ما يحدث. . ثم تتابع الأيام متشابهة. .
كان أكبر الرهبان في الدير يحب العزف على القيثار وقرض الشعر اللاتيني في إجادة فائقة. وحين يعزف على قيثاره يخلب الباب سامعيه من الرهبان، حتى أن الذين أضعفت الشيخوخة حدة أسماعهم كانت الدموع تتبلور في مآقيهم عند سماعه. وفوق هذا يمتاز هذا الأب بظاهرة أخرى، فهو إذا تحدث ملك المشاعر وجذب الأسماع حتى ولو تحدث في أتفه الأشياء. إذ تتغير سحنته حتى تبدو كأنها تفصح عما يريد قبل أن يقول ما يريد بلسانه. فيحمر وجهه، وترتفع نبرات صوته، فيصمت الرهبان مأخوذين، وهم يشعرون بسيطرة هذا الأب عليهم، ولا يريدون منها خلاصاَ، بل يتركون زمام أنفسهم لصوته كيفما يريد.
في بعض الأوقات يدب الملل في قلوب الرهبان، ويسأمون رؤية الأشجار والورود، والخريف والربيع، وتمل أسماعهم هديل الطير وخرير الماء، بيد انهم لا يسأمون غناء هذا الأب ولا يملون أحاديثه!
مضت أعوام كثيرة والرهبان يعيشون حياة مستقرة ولا جديد فيها. في ديرهم البعيد عن مساكن الأحياء بمقدار سبعين ميلاً أو أكثر. لذا فلم يقترب من الدير غير الطيور البرية والحيوانات المختلفة، أما أبناء آدم فلا يقترب منهم إلا من زهد في الحياة وتاق إلى تلك الحياة الشبيهة بالموت.(896/54)
في ذات ليلة ردد الدير صوت دقات على الباب! فإذا رجل يدلف إلى الداخل؛ فتبين الرهبان من منظره أنه من المدينة، وانه من محبي تلك الحياة الصاخبة فاشتد عجبهم وقبل الصلاة والتماس بركات الأب الأعلى طلب الرجل بعض الطعام والنبيذ، فأتوا له بما طلب، وإذ سألوه عن سر قدومه إلى الدير، قص عليهم قصة طويلة. ذكر فيها أنه خرج للصيد فأمعن في السير أوغل في الصحراء حتى ضل طريقه، واهتدى إلى الدير. وإذ ذاك شرع الرهبان يرغبونه في البقاء معهم، بيد أنه أجابهم وهو يبسم:
- أنا لا أصلح لهذه الحياة
وبعد أن أكل وشرب، نظر حوله وتأمل الرهبان القائمين على خدمته ثم هز رأسه وقال: - أنكم أيها الرهبان ليس لكم غير الأكل والشرب، والصلاة والعبادة. فهل هذا هو سبيل الحياة؟ وهل بهذه الطريقة تريدون محاربة الشر والرذيلة؟ وانتم منزوون في هذه الصحراء؟. . . فكروا قليلا في وضعكم الحالي، فأنتم تقيمون بعيداً لا يشغل بالكم شيء تأكلون وتشربون وتمرحون، وتعيشون سعداء في حين يتردى سائر الناس في المهالك، ويتعثرون في طريق الرذائل، ويمضون وراء الشيطان ذلك الذي تحاربونه! ينبغي لكم أيها الآباء أن تمضوا إلى داخل المدينة، وتقفوا بأنفسكم على ما يحدث فيها. إنكم سترون الجائعين والمساكين إلى جانب الناعمين المترفين الذين يتهالكون على الرذائل والفجور! حتى لقد خمد في قلوب الناس نور اليقين فخلت نفوسهم من الأيمان! من المسئول عن هذا كله. ومن الذي يجب أن يرشدهم ويهديهم إلى السبيل القويم؛ أنا لا، بالطبع، فأنا مثلهم ولست ارفع منهم أبداً.
ارتفعت كلمات الرجل الغريب جارحة ساخرة. فأثرت تأثيراً كبيراً في نفس الأب الأعلى. فتغير لون وجهه وقال يخاطب الرهبان:
انه يقول الحق أيها الإخوان، فالواقع أن الناس هناك قد ضعف إيمانهم بالله، فانغمروا في الخطايا، فيجب أن أذهب إليهم واقوي إيمانهم واذكرهم بأقوال المسيح عليه السلام)
وفي اليوم التالي تناول الأب الأعلى عكازه وودع أصحابه وتلمس الطريق إلى المدينة؛ تاركا سائر الرهبان محرومين من شعره وموسيقاه وأحاديثه الطلية، فقضوا شهراً مملا مضجراً، ثم قضوا شهراً آخر دون أن يعود إليهم الأب الأعلى حتى كادوا ييئسون من(896/55)
عودته، وبعد انقضاء ثلاثة اشهر ردد الدير صوت دقات الباب فهرع الرهبان إليه، وأحاطوه من كل جانب يسألونه ويستفسرون عن سبب تأخره ولكنهم فوجئوا إذ رأوه يبكي. . دون أن ينبس ببنت شفه! وكأن في وقفته وفي هيئته يبدو كأنه غاب سنين عديدة وانه عاد بالرغم عنه ولكن الرهبان لم يفطنوا إلى ذلك فبكوا لبكائه وترفقوا في التحدث معه، فإذا هو ينسل من بينهم، ويدخل صومعته الخاصة، ويبقي سبعة أيام فيها دون أن يأكل أو يشرب ودون أن يقطع عن البكاء. وكان طيلة تلك المدة يقابل توسلات الرهبان بالإعراض والصمت. بعد ذلك خرج إليهم وتوسطهم ثم طفق يروي لهم ما شاهد في المدينة، ووجهه يعبر عن حزن عميق قال لهم أنه حين فاق الدير صافح أذنيه صوت الطيور التي أنشأت تغني له وتتطاير حوله، فجاشت في نفسه أحلام الشباب وآمال الصغر، فراح ينظم الشعر ويغنيه. وهو يخال نفسه جندياً يذهب إلى معركة الفوز فيها مضمون لا شك فيه. حتى أنه لم يشعر بأي تعب عندما دخل المدينة. . .
وخفت صوته ولاح بريق الحنق في عينيه عندما أخذ يتحدث عما لاحظ في تلك المدينة، وقال أنه رأى ما لم يكن يتصور أبداً طيلة حياته. فقد بدت له قوة الشيطان بأوضح معالمها. . . وتكشفت له فتنة الشر وتوقف على ضعف الإنسان وحيوانيته وجنونه. . .
فقد دخل أول ما دخل المدينة أحد البيوت التي تعج بأوضع الرذائل! فرأى نحو خمسين رجلا يأكلون ويشربون بنهم شديد وإذا لعبت الخمر برؤوسهم أرتفع أصواتهم تضج بأغنية مثيرة الكلمات وقحة المعاني! فبدوا للراهب الزاهد كأنهم لا يخافون الله ولا الشيطان ولا حتى الموت! فيغرقون في المجون إلى أبعد حد ممكن.
حتى النبيذ بدا للراهب كأنه يبسم لابتساماتهم. ويضحك لضحكهم وانه يشاطرهم ذلك المجون السائر الوضيع. فقد كان يزداد إشراقاً ولمعاناً كأنه يشعر بالفتنة الكامنة في أعماقه. فلا بد أنه كان حلو المذاق لذيذاً؛ يسطع بالروائح الذكية.
استشاط الأب الأعلى غضبا وانقدت عيناه واستطرد يقول أن ثمة امرأة نصف عارية وقفت وسط أولئك السكارى تتضاحك وتتراقص وتكشف عما أمر الله بستره، وتبدي جمالها الرائع وكانت سمراء اللون ممتلئه الشفاه لا تعرف اسم الحياء ولا معناه تتضاحك في وقاحة كأنها تقول (أيها الناس لا تخجلوا، إن حجابي فريد في نوعه) ثم راحت تشرب الخمر(896/56)
وتغني وتمنح نفسها لكل من يمد يده إليها.
توقف الأب الكهل، وهز قبضة يده وشرع يصف ساحات سباق الخيل ومصارعه الثيران ودور التمثيل وأماكن الرسامين الذين يرسمون النساء العاريات كما ولدنهن أمهاتهن. . واستمر يتكلم بلهجة متدفقة ساحرة الجرس، حتى جمد الرهبان وتملكهم تلك السيطرة التي تتملكهم كلما سمعوا أحاديث هذا الأب. . . وبعد أن تكلم الأب الأعلى عن أوكار الشياطين وأماكن الشرور أو بين جمال المرأة المخيف المريع، وعاد يسب ويشتم أو يصب اللعنات على الشيطان مصدر كل هذا الوبال. , ومن ثم قام ودخل صومعته وأقفل الباب خلفه!
وعندما ما فتتح الباب وخرج من صومعته في صباح الغد بحث عن إخوانه الرهبان فلم يجد لهم أثراً. فقد هرب الجميع إلى المدينة!
بغداد
كارنيك جورج(896/57)
العدد 897 - بتاريخ: 11 - 09 - 1950(/)
الدفاع عن الثقافة العربية
للأستاذ عمر حليق
- 1 -
ليست الثقافة العربية وحدها مهددة (بأدب اللذة) و (أدب المجون) الذي أصبح يؤلف الجزء الأكبر من الثقافة الأمريكية المعاصرة وبفرض ديكتاتورية على الثقافات الأخرى في مواصلات فكرية سريعة أسبابها مثقفة وأساليبها على غاية من الدهاء الحذق لأنها مستمدة من أحدث ما أنتجه علم النفس وعلم النفس الاجتماعي من دراسات نظرية وتطبيقية.
فلئن دوت في العالم العربي الآن صرخات لمقاومة هذا التحدي الثقافي الذي أعرب عن خطورته على الأخلاق والفضيلة لجماعة كبار العلماء وعن إفساد للذوق والإنتاج الأدبي كتاب لهم في حاضر الأدب العربي مكانة ونفوذ كالأستاذ الزيات - لئن دوت في العالم العربي هذه الصرخات فما ذلك إلا لأن ذيول هذا الاتجاه قد تخطت نطاق الحلقات الخاصة من أهل الأدب والفن إلى المجامع العامة فأخذ ينفذ إلى صلب التكوين العقلي والنفساني لجمهرة القراء والكتاب، ويترك أثره السيئ في صميم الأوضاع السياسية والاجتماعية للشعب الغربي بالإضافة إلى تعريضه تراث الثقافة العربية العريقة لفقدان ما حافظت عليه من مقدمات أصيلة أكسبتها هذه المكانة التي تحتلها بين ثقافات الأمم.
والذي يعيننا من هذه الكلمة دراسة عناصر الثقافة الأمريكية المعاصرة فهي المسؤولة عن هذا التحدي الذي تواجهه الفضيلة والفن في العالم العربي، فهذه العناصر هي المصدر الرئيسي للدكتاتورية التي تفرضه على الثقافات والاتجاهات الفكرية الأخرى (هوليود) وآلة دعايتها الجبارة التي من (دواعيها عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد). . ومن دواهيها أنها تلفظ أهلها على ساحل الحياة فلا يخوضون العباب ولا يغوصون على الجوهر، وتدفعهم إلى هامش الوجود فلا يكون لهم في متنه مكان مرموق ولا شأن يذكر)
وليست المسألة قضية (جمود) و (رجعية) و (محافظة) فأن هذه الكلمات على ما لها من مكانة أصيلة في التكاتل الاجتماعي أصبحت الآن كالجذام يتجنب الناس لمسها والاقتراب منها، إنما القضية تتعلق بتراث عريق يقف موقفها سلبياً إزاء أخطار تهدد أسسه وتدفعه إلا الانحطاط: وتلفظ أهله على ساحل الحياة).(897/1)
ليست الثقافة العربية وحدها هي التي تواجه هذا التحدي. فلقد قام في الآونة الأخيرة بعض أئمة الفكر الفرنسي المعاصر يحملون لواء النقد اللاذع للثقافة الأمريكية وللفجر والتبسط والتبذل التي يشوبها - أو على الأقل يشوب ألوانها التي تجد سبيلها إلى صحافة العالم ومجلاته ومنها الشرق العربي - فكتب (فرانسوا مورياك (سلسلة من المقالات التحليلية العنيفة في (الفيجارو يصف الثقافة الأمريكية بأنها (تشكل في غزوتها الثقافية للثقافة الفرنسية العريقة خطراً لا يقل عن خطر المادية الماركسية) وساند مورياك كاتب فرنسي عنيد هو (أندريه زيجفريد) فعزز رأيه وتناول بالنقد والتحليل المقارن ذيول هذا الخطر الداهم وعواقبه على الإنتاج الفكري وصميم المصلحة السياسية والاجتماعية للشعب الفرنسي.
حتى (جون بول سارتر) وهو من دعائم أدب اللذة ثار على الثقافة الأمريكية ثورة لم يكن مبعثها انتقاد عناصر اللذة والمجون التي تهيمن على إنتاج أمريكا الأدبي والفني فحسب، وإنما مبعثها تحليل لوضعية الثقافة الفرنسية ومواقف الضعف والقوة فيها إزاء هذا التحدي الأمريكي، ولم يكن في موقف سارتر هذا شيء من التناقض؛ فالرجل صاحب مدرسة في الأدب والفن، المجون واللذة من أصولها؛ ولكنه فوق ذلك مثقف فرنسي يأبى إلا أن تكون مدرسته وثقافته أصيلة لا تقلد، وعريقة لا تستعير، وعميقة لا تنساق في موكب القشور والسطحية والابتذال التي يبدأ في هوليود وينتهي في أكثر شعاب الأرض.
ولقد أقر البرلمان الفرنسي مؤخراً قانوناً - يمنع استيراد (الكوكاكولا) من أمريكا، لأنها من العناصر التي تؤثر في أسلوب الحياة الفرنسي. وكان البرلمان الفرنسي في هذا القرار جاداً وليس بهازل. فقد عبر عن مخاوف الفرنسيين في أن يفقدوا العناصر والمقومات التي تحفظ للمجتمع الفرنسي طابعه ويصون له مكانته بين الثقافات الإنسانية.
وأمثال مورياك وزيجفريد وسارتر كثيرون في بريطانيا. فالبريطاني أديباً كان أو سياسياً أو من رجال الأعمال يحمل في نفسه نفوراً للكل ما يمت إلى العقلية الثقافة الأمريكية بصلة وهذا النفور لا يستره ولا ينسيه تحالف بريطانيا مع أمريكا في عالم السياسية والاقتصاد.
وندر أن تقرأ كتاباً أو بحثاً بريطانياً في السياسية أو الأدب أو الاقتصاد أو شتى مظاهر الفكر إلا وتلمس هذا الاستخفاف بالثقافة الأمريكية والنفور منها نفوراً لا قبل للبريطانيين(897/2)
بدفعه. وقد أعرب (هارود لاسكي) عن هذا النفور البريطاني في دراسته القيمة للديمقراطية الأمريكية التي صدرت قبيل وفاته. وكذلك فعل (جفري نمورا) في كتابه عن (الخلق الأمريكي) الذي صدر منذ عامين.
إذن فحملة (الزيات) وأقرانه وكبار رجال العلماء والذين يشاركونهم في الرأي للدفاع عن الفضيلة والفن هي حملة صادقة.
فالمرء يولد في ثقافة تتشعب أصولها في تكوينه العقلي ونشاطه الروحي وحياته الاجتماعية. وهذه الثقافة عزيزة عليه لأنها توفر مستقبلاً ينفث فيه ذلك النشاط.
والثقافة الحية تعيش في جماعة حية ترى في ثقافتها إمكانيات تنطوي عليها ما تفور به نفس تلك الجماعة من انفعالات ومثل وقيم.
وهذه الأوضاع النفسانية تختلف باختلاف الجماعات وذلك لأسباب بيولوجية وتاريخية تشمل البيئة والوراثة والمقدمات الخلقية وما شاكلها في هذه الوجوه التي تنفرد بها الجماعات عن بعضها البعض.
وللثقافة الحية إذا شاءت أن توفر لنفسها حياة التقدم والرقي أن تسلك سلوكاً قومياً فتحتفظ لنفسها بالسلطة الفكرية والسيادة الثقافية بحيث تهيئ للمفكر والفنان ورجل الدين أن يقوموا بوظائفهم في تغذية تلك الثقافة بشتى عناصر الحياة والنمو.
وعناصر الحياة والنمو هذه لا تكون بالاستعارة والمحاكاة والتقليد الأعمى، بل باستيعاب الأسس العريقة التي بنيت عليها ثقافة الفنان والمفكر ورجل الدين واطلاعه على ثقافات الأمم الأخرى، فيختار منها ما يستسيغه ذوقه وما يهضمه عقله فيتطعم بها ثم يقدمها إلى ثقافته الوطنية مساغة منقحة على النحو فعله بناة الثقافة العربية حين اتصلوا بحضارات الإغريق والفرس والرومان، وكما فعله بناة الثقافة الأوربية حين استساغوا من الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى وما بعد.
أما إذا فقدت الجماعة حولها إزاء هذا التقليد الأعمى الاستعارة والمحاكاة الضالة فقل على ثقافتها السلام.
وفقدان الحول يكون بواحدة من اثنتين: أما أن تكبت ألسنة المفكرين وحفظة الدين وأهل الفن كبتاً كما فعل أتاتورك الأتراك فأفقد ثقافتهم طابع الحياة والنمو، وإما أن يقف من أهل(897/3)
العلم والفن. موقفاً سلبياً أمام نشاط المقلدين والمحاكين ويتركونهم يعيشون بالثقافة القومية وخصائصها ومقدماتها العريقة فساداً في غير وعي ونباهة.
ولقد صدق (فرانز كافكا) حين قال (إن المثقف في الدولة الديمقراطية نائب يحمل لواء الدفاع عن مقومات الثقافة وجوهرها ويصونه من عبث العابثين؛ حتى ولم يوله أحد هذه النيابة. فالدفاع عن الثقافة واجب وطني كالواجب السياسي والاجتماعي. بل الواقع أن النيابة الثقافية أهم أنواع الالتزامات القومية شأناً؛ أنها المصدر الذي يستمد منه السياسي دهاءه، والاقتصادي كفايته، والجندي معنويته واستعداده، والمصلح الاجتماعي مواد الخام)
وفي عنق الخاصة من الكتاب والباحثين من أهل الثقافة أمانة مضاعفة إزاء موجات العبث والتحدي. فالكاتب إذ ينشر في الناس آراءه وانطباعاته وزبدة اختباره وتجاربه يعد مسؤولاً عن كل شيء كما قال سارتر، عن الحب والموت والكيان الاجتماعي والحياة السياسية والمشاكل الاجتماعية وشتى أنواع النشاط الإنساني. وريشة الفنان وقلم الكاتب وحديث المعاصر مهما تقيدت بالانفعالات النفسية الخاصة ليست في الواقع إلا دعوة إلى معالجة ذلك النشاط الإنساني. والشاعر حيث يتغنى بجمال الحياة أو ينعي بؤسها إنما يعد نفسه مسؤولا عن إطلاع الناس على ذلك الجمال أو البؤس.
فحين كتب تولستوي قصته الخالدة عن (الحرب والسلم) كان يعد نفسه مسؤولاً عن الحرب وشرورها. وقل مثل ذلك من المعري في (لزوميائه) وفي جوته في (فاوسته) وفي الفارابي (في مدينته الفاضلة).
وسواء صارح الكاتب أو الفنان نفسه بهذه المسؤولية وصارح بها الناس أو لم يصارح فهذا ليس بالأمر المهم. إنما المهم أنه أنتج ونشر في الناس وبذلك عبر - واعياً أو واع - عن مسئوليته في القالب الذي يستعذبه وفي الأسلوب المحبب إلى نفسه وعواطفه ومشاعره.
فكيف إذن يقف الخاصة من المثقفين موقفاً سلبياً إزاء هذا العبث الذي يفسد كيان الثقافة التي يعيشون فيها والأسس والمقدمات العريقة التي استمدوا منها نيابتهم ومسئوليتهم؟
وقد برر (أندريه زيجفريد) انتقاده للتيارات الأمريكية التي تعصف بالثقافة الفرنسية فقال (إن الثقافة الفرنسية لا تستطيع مواجهة هذه التيارات في قوة ومناعة إلا إذا أستشعر المثقفون الفرنسيون مسئوليتهم. فالثقافة لا تحفظ طابعها أو مقوماتها العريقة إلا إذا صمد لها(897/4)
العارفون بها المؤمنون بعزتها المحبون لها من أبنائها الخلص)
والتصدي للتيارات الأجنبية يتطلب مزيداً من الدفاع وقسطاً أكبر من الحماس والنشاط حين تكون تلك التيارات صادرة عن ثقافة تسندها دولة قوية البأس وافرة العدة الاقتصادية والسياسية.
ففي الثقافة الاسكندنافية مثلاً عناصر كثيرة من المستحب السائغ الذي قد يستهوي التقليد والمحاكاة، ولكن الدول الاسكندنافية ضعيفة الحول في عالم السياسة والاقتصاد، ولذا فأن تياراتها لا تندفع نحو الثقافات الأخرى فتفرض نفسها عليها على نحو ما تفرضه ثقافة الإنجلو سكسون على ثقافات المعسكر الديمقراطي، وثقافة السوفييت على منطقة نفوذه في شرق أوربا والشرق الأقصى. وقد ضرب جون بول سارتر مثلاً بألمانيا إبان العهد.
الهتلري وقال أن المواطن في هولندا وبلجيكا ولوكسمبرج مثلا كان مدفوعاً إلى التماس الثقافة الألمانية لأنه كان يشعر بأنه سيصبح عاجلاً أو آجلاً جزءً منها. وما ذلك إلا لأن النازية كانت على قسط كبير من القوة والبأس السياسي والاقتصادي كانت سبباً في هذه الهزيمة التي شاعت في المواطنين الهولنديين والبلجيكيين والتي سهلت لألمانيا احتلال هذه الشعوب في يوم وليلة وسهل لها كذلك أدارتها وتسيير شئونها المحلية بالتعاون مع الكثرة من المثقفين وغير المثقفين.
وتاريخ الاستعمار الأوروبي في شرقنا يؤيد ذلك.
إذن فعلى المثقفين مسئولية سياسية وقومية بالإضافة. إلى الواجب الأدبي والفني في الدفاع عن مقدمات الثقافة التي نشأ فيها وتعرف على سرائرها وعرف بها الناس. ووزر القصور مضاعف، والصمت في مثل هذه الحالة جريمة قومية.
وقد يحلو لبعض الخاصة من أهل الفكر أن لا يتقيدوا بالقوميات في معناها الضيق المحدود، وألا يتعرفوا بأن للفن والفكر حدوداً ومعالم جغرافية وزمنية. فهذا لون من الاتجاه الفكري كلما أمعنت فيه الدرس وجدته مناقضاً لطبيعة السلوك الإنساني؛ فعلم الاجتماع ينفيه وعلم النفس لا يقره. والسلوك الشخصي لمعظم الداعين له ينقضه نقضاً تاماً.
فالعصبية القبلية في حقيقتها الاجتماعية مستمدة من علاقة الفرد بعائلته وأمه وأبيه؛ وإلى أن يولد مجتمع تزول منه هذه العلاقة الطبيعية فأن العصبية ستظل من الحقائق الاجتماعية(897/5)
الراسخة. المرء حيوان اجتماعي، وهو يألف الجماعة التي تبادله مشاعره وتشاركه طبائعه وتبادله المحبة والألفة. وإلى أن يتطور المجتمع إلى وحدة متجانسة في مشاعرها وطبائعها فأن المرء سيظل يألف القوم الذين هو منهم، ويعتز في قرارة نفسه بالقومية التي يدينون بها. وتاريخ الحضارة لم يحقق - ولا يبدو أنه يستطيع أن يحقق - هذه الوحدة وهذا التجانس.
فمن أبرز دعاة (العالمية) رجل يعلم عن طبيعة الكون ما لم يعلمه إنسان آخر؛ ذلك الرجل هو (البرت انشتاين). وقد نشر انشتاين بحوثاً في السياسة والاجتماع وهي غير مؤلفاته الرفيعة الشأن في الرياضيات الفلسفية. وحيث تقرأ ما كتبه انشتاين عن القومية و (العالمية) تشعر بأنك أمام رجل، العالم بأسره وطن له فهو لا يعترف بحدود ولا يتقيد بولاء (قومي) معين. ولكن ذلك لم يمنعه في السنوات الأخيرة أن ينشر النداء تلو النداء يستجدي فيه المناصرة الأدبية والسياسية والمادية للوطن القومي اليهودي في فلسطين. فعالمية أنشتين شطحة فلسفية لم تصمد أمامٍ الحقائق الاجتماعية وطبيعة السلوك الإنساني. فهو يهودي قومي قبل أن يكون مواطنا عالمياً. وقد وجه كاتب هذه السطور في السنة الماضية أسئلة بهذا المعنى إلى البروفيسور أنشتاين خلال محاضرة عن (الجامعة العبرية بالقدس وضروية مؤازرتها) ألقيت في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون هنا في أمريكا حيث يعيش اليوم أنشتاين. فكان جواب هذا المواطن العالمي ما يلي بالحرف الواحد: (إسرائيل لي وطن روحي. وأني أعز في إسرائيل ثقافة العبريين وهي ثقافة لها مكانتها في الفكر العالمي وهي جديرة بالإعزاز والإحياء.)
ويمكنك أن تستنتج ما شئت من سلوك أنشتاين هذا ولكنك لن تستطيع أن تنفي عن هذا المواطن (العالمي) قوميته الثقافية ولا أقول ولاءه السياسي لإسرائيل. فليس المقام هنا ليسمح باستعراض النقاش السياسي العنيف الذي دار بين البروفيسور أنشتاين وبين الدكتور فيليب خليل حتى المؤرخ العربي المعروف على صفحات الجريدة المحلية في برنستون وكيف كشف أنشتاين عن حقيقة نعرته القديسية وتعصبه اليهودي على أوضح ما تكون النعرات ويكون التعصب.
للبحث بقية(897/6)
نيويورك
عمر حليق(897/7)
الطابع القومي
في الثقافة الأزهرية
(ألقيت في اليوم الأول من أيام المؤتمر الثقافي العربي الثاني
للدكتور محمد البهي
هناك في التوجيه التربوي نظرتان مختلفتان، أو اتجاهان متعارضان: اتجاه يهدف إلى التكتل في نطاق خاص صونا لجماعة معينة أو شعب معين، وهو ما يعرف بالاتجاه القومي؛ وآخر يرمي تحطيم الفواصل الخاصة بين الجماعات أو الشعوب أملا في تحقيق وحدة عامة أو اتخاذ عام بينها، حتى يستقر بين الناس جميعاً ما أعتيد تسميته (السلام العام)، وهذا الاتجاه هو ما يعرف بالاتجاه العالمي في التربية والتوجيه.
ويقال ضد نزعة القومية في التربية: أنها ظاهرة من ظواهر البدائية في الجماعة، لأن مثل هذه النزعة تعتمد على ضرب من المبالغة في تقويم المميزات الخاصة بجماعة ما والرغبة في صيانة هذه المميزات، والتقويم على هذا النحو دخل فيه عندئذ عنصر غير ذاتي، وهو انتساب نوع من الخصائص للجماعة المعينة، ولم يقف حد جوهر الخصائص، والمبالغة في التقويم تنشأ عادة عن في أفق التفكير أو عن سطحية النظرة إلى الأشياء؛ وضيق الأفق، وكذا سطحية النظرة من إمارات البدائية في تفكير الفرد والجماعة.
لكن قد يقال: أن الاتجاه القومي في التربية لا يدل حتماً على بدائية في التفكير، بل قد يصدر عن حاجة قوية في الجماعة إلى تكتل ما أثر شعورها بالضعف والاضطهاد من جماعة أخرى. والالتجاء في مقاومة الضعف أو مدافعة الاضطهاد إلى إذكاء الروح القومية عن طريق التنشئة والتربية لا يعبر عن بدائية، بل بالعكس ينم عن رقي في تفكير الجماعة. إذ الشعور بمعنى الجماعة - وهو الأشخاص والأفراد - واتخاذ وسيلة غير حسية في مقاومة الضعف أو الاضطهاد، وهو وسيلة التربية هنا، يدل على تطور في التفكير.
وسعى كل من المعسكرين السياسيين الشرقي والغربي، أو الشيوعي والديمقراطي، في وقتنا الحاضر إلى التكتل بتنبيه كل منهما إلى مزاياه الخاصة لا يعد ظاهرة من ظواهر البدائية، إذ هو وليد العبقرية السياسية وقيادة الجماعات. وهو فن لم يصل البدائيون بعد إلى إدراكه(897/8)
فضلا عن ممارسته.
وربما كان تصوير الاتجاه القومي في التربية بأنه نزعة بدائية يتصل بالدعاية التي يباشرها أرباب الاتجاه الآخر عندما يحاولون تبرير وجود اتجاههم ووجوب سيادته.
أما الاتجاه العالمي فقد كثر الحديث عن مزاياه منذ بداية القرن العشرين وقيل في تفضيله: إنه يدعو إلى الاخوة الإنسانية، يدعو إلى محو الفوارق التي أقامتها التقاليد والعادات بين الأجناس والجماعات، يدعو إلى إزالة أسباب الحقد من نفوس البشر قاطبة، يدعو إلى إضعاف العقبات التي تحول دون تمكين الأفراد من استغلال مواهبهم الذهنية أو الاقتصادية أينما وجدوا، يدعو إلى وجه الإجمال إلى الحرية والإخاء والمساواة. . إنه من وحي الديمقراطية وهدف الأحرار.
ويجب في نظر أصحابه ألا يأخذ الدين، ولا التقاليد والعادات، ولا اللغة، ولا مقومات الحياة في الجماعة الخاصة على وجه العموم، ولا تاريخها وما أنطوي عليه من أحداث كان لها أثرها في خلق شخصيتها، الاعتبار الأول في التوجيه. وبالأحرى يجيب - تمكيناً لمعنى الديمقراطية في التربية - أن تغفل هذه المعاني أو تهمل، على الأقل من الوجهة الرسمية ومن المباشرين الرسميين لشئون التعليم.
وقد برز هذا الاتجاه اللا قومي في التربية بعد الحرب العالمية الأخيرة في صورة جديدة وأخذ طريقاً رسمياً بين حكومات العالم المختلفة، واحتضنته مؤسسة الثقافة والتعليم والتربية التابعة لهيئة الأمم المتحدة (اليونسكو).
لكن مما يأخذه بعض المرابين على هذا الاتجاه أنه لا يعدو دائرة الأمل إلى واقع الحياة الأمم على السواء. ويعللون ذلك بأنه ما دامت هناك أمم كبرى وأمم صغرى. ما دامت هناك قوة مادية لها السلطان في التوجيه وقيم أخرى معنوية باقية في دائرة (المثل) التي لا ظل لها في الوجود الواقعي سوف لا يتحقق معنى الإخاء والمساواة،، وبالتالي لا يتحقق السلام العالمي الذي هو الهدف الموعود لمذهب (العالمية) في التربية والتوجيه.
على أن بعضاً آخر من المربين لا يحسن الظن فوق هذا بدوافع هذا الاتجاه، ويرميه بأنه وسيلة من وسائل الخداع التي تستعملها الدول الكبرى وهي تلك التي لها القوة المادية في الصناعة والاقتصاد، ولها القوة العلمية كذلك لاستغلال الأمم الصغرى وهي المختلفة عنها(897/9)
في هذه النواحي من الحياة، لكن لها ثروة كبيرة في المواد الأولية.
وهذا البعض يحاول أن يدلل على سوء ظنه من واقع الأمم الكبرى نفسها، فيذكر أن الأمم الكبرى - سواء عن طريق الحكومات فيها أو عن طريق الجمعيات المختلفة هناك - تعني بالاتجاه القومي في التربية، تعني في توجيه الناشئة بمقومات هذا الاتجاه، وهي الدين، والتقاليد، واللغة وتراثها الماضي الذي يتمثل نمط تفكيرها وتاريخ تطورها كجماعة خاصة.
حتى العادات التي لا تتفق على الإطلاق مع النزعة العالمية - كما هو الحال في أمريكا وإنجلترا وجنوب أفريقيا من التفريق بين البيض والملونين في المعاملة والتقدير - لا تلقى معارضة جدية من السلطات الرسمية هناك، وهذه السلطات بعينها تدعو الشعوب الأخرى إلى تطبيق الاتجاه العالمي في معاهدها التعليمية.
ويقولون إن من يزر كلية (أيتون) بإنكلترا يدرك إدراكاً واضحاً عناية القائمين على التوجيه فيها بعناصر القومية في التربية من دين البلد وتقاليده، والتاريخ الماضي له، فطلاب هذه الكلية - وهو أبناء الطبقة الأرستقراطية في إنجلترا - يفتتحون الدروس اليومية كما يختتمونها بالصلاة في كنيستها التقليمية.
وجامعة أكسفورد ترجع شهرتها في الغالب إلى رعاية التقاليد في كثير من نظمها، والإنكليز عرفوا على العموم بالحرص على التقاليد. وقصر ثقافتهم اللغوية على الوطنية مظهر من مظاهر هذا الحرص. إذ قلما نجد بين المثقفين فيهم من يجيد لغة أجنبية أخرى.
مثل هذه الظواهر تحيط الإخلاص للنزعة العالمية في التربية من جانب الأمم الكبرى ببعض الشك عند من لا يحسن الظن من المربين بدوافع هذه النزعة، وتجعله يتساءل في حيطة: أليس أولى بالأمم الضعيفة ألا تزيد في عوامل ضعفها بالتحلل أو بالخروج عن مقوماتها الذاتية كجماعات خاصة؟
إن كيان الأمة - كجماعة - يعتمد على تاريخها واتجاههم الخاص في التفكير، ودينها ولغتها وتقاليدها أكثر مما يعتمدون على مصدر الثروة المادية فيها وعلى موطنها الجغرافي الخاص فأن هي عملت على إغفال هذه المقومات في التنشئة والتربية أصبحت أفراداً منثورة أو انقسمت إلى طوائف متعددة تختلف حينئذ في الانتساب إلى اتجاهات فكرية متعارضة وتتبع مذاهب مختلفة في السلوك وتقدير قيم الحياة.(897/10)
الاتجاه العالمي أمل يجب أن نباركه في حيطة وحذر. ولا غنى لنا عن الأخذ بالاتجاه القومي في تربيتنا كشعوب صغيرة، لا إقتداء بواقع الأمم الكبرى، ولكن محافظة فحسب على كياننا ووجودنا الخاص.
وإن فكرة هذا المؤتمر الثقافي وعقده من ممثلي الشعوب العربية لمناقشة الأسس التربوية السليمة في توجيهها مشتقة من الرغبة في الحرص على هذا الكيان الخاص.
ومقومات شعوبنا هذه كأمم تعيش في جو عربي إسلامي تتصل اتصالاً وثيقاً بالدين والتقاليد واللغة العربية وأدبها، وبالفكر الإسلامي واتجاهاته، وبتاريخ الأطوار السياسية التي تتعلق بنظام الحكم والتغييرات الداخلية وعوامل هذا التغيير في الأمة الإسلامية. وبعبارة أخرى تعتمد مقومات هذه الشعوب على ماضيها في المعرفة والفكر والتاريخ. وذلك ما يمثله التراث الإسلامي.
والأزهر منذ وجوده - في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي - يعنى بهذا التراث الإسلامي. . يعنى بالدين في صوره المختلفة، إن في دائرة العقيدة، أو التشريع، أو السلوك، ويعنى باللغة العربية وما يتصل بأسلوبها وأدبها، ويعنى بدراسة الحركات السياسية الإسلامية منذ الدعوة إلى الإسلام حتى تدخل النفوذ الأوربي في توجيه سياسة البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر.
بل ذهب بعض علماء الأزهر في الحرص على هذا التراث والعناية به إلى حظر دراسة أية مادة أخرى لا تتصل بالإسلام نفسه وأن اشتغل بها كثير من علماء المسلمين في كل العصور، وكان لها أثر في مجال الفكر العربي الإسلامي.
وأستمر هذا البعض من العلماء على هذا الحظر مدة طويلة إلى بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ومن أجل ذلك رمى بالجمود مرة والتعصب مرة أخرى. وربما كان لهذا الحظر على هذا النحو - مضافاً إلى عوامل أخرى سنذكرها - أثر في تضييق المجال أمام الثقافة الإسلامية.
ولم يكن موقف هؤلاء المتشددين إلا إسرافاً في الغيرة على التراث الإسلامي. فالأزهر بحق موطن الدراسة القومية في الشرق الإسلامي. ولذ كان مصدراً للحركات السياسية الوطنية في مصر وغيرها من البلاد العربية، كما كان مدرسة لتخريج زعماء الفكر وقواد(897/11)
النهضات التحريرية من النفوذ الاستعماري في العالم الإسلامي.
وليس ذلك لأنه كان المعهد الوحيد أو الرئيس في القرن التاسع عشر لنشر الثقافة والتعليم في مصر، بل لأنه كما ذكرنا مصدر الثقافة القومية.
أرتبط الأزهر بهذه الثقافة الإسلامية عرفت به في العالم الإسلامي حتى صار تلازمهما في تصور الشعوب الإسلامية الأخرى أمراً واضحاً. إن ذكر الأزهر ذكرت الدراسات الإسلامية، وإن أشير إلى الثقافة الإسلامية عرف الأزهر كمصدر لها.
والأزهر إن تطاول على غيره من معاهد العلم في الشرق بهذا الصلة في معرض الإشادة بالمحاسن فهذه الصلة نفسها قد جرت عليها كثيراً من المتاعب، كانت سبباً في محاربته وتضييق الخناق عليه.
فالاستعمار الأوربي للشعوب الإسلامية أتخذ وسيلتين رئيسيتين للوصول إلى تحقق هدفه:
(أ) عمل على كبت النزعة القومية في الشعوب الإسلامية أينما وجدت هذه النزعة، في التعليم والتشريع، أو في مجال الاقتصاد وميدان الصناعة، أو في دائرة العادات والتقاليد.
(ب) ساعد على نشر الثقافة الغربية في هذه الشعوب عن طريق ترويج اللغات الأوربية بشتى الوسائل وحمايتها من منافسة اللغة العربية لها وهي اللغة الوطنية، وكذا عن طريق تمكين الفكر الأوربي من أن يأخذ طريقه نحو السيطرة على توجيه الجماعات الشرقية الإسلامية.
والذي يعنينا من ذكر الوسيلة الأولى بيان أنه: لماذا كان الأزهر هدفاً لاضطهاد غير مباشر من حملة الاستعمار الغربي. . .
أخذ اضطهاد الأزهر صوراً عديدة: أكثر لسان الاستعمار من الحديث أولاً عن جموده وتعصب رجاله وتشددهم في تعصبهم؛ ثم تطور هذا الحديث إلى ذكر أن الأزهر يبعد قاصديه عن الحياة العامة أو يحول بينهم وبين الانتفاع بالحياة المادية والتمتع بالوجاهة الاجتماعية، ثم أنتقل إلى ادعاء أن الأزهر عقبة في تقدم مصر وسيرها نحو المدنية الأوربية أو الأمريكية. ولا زلت أذكر قصة تلك الآنسة الفلسطينية التي طلبت في عام سابق على العام الماضي معلومات عن الأزهر واتجاهاته التربوية والتعليمية كي تستعين بها على إعداد رسالتها في قسم الماجستير بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وأدهشني منها أول(897/12)
سؤال وجهته ألي وهو: هل الأزهر حقيقة عقبة في طريق رقي مصر. . . فلما سألتها عن تحديد مظاهر ذلك أجابتني أنها قرأت مضمون السؤال فقط في كتاب تربوي حديث لأستاذ أمريكي.
وأثرت فعلا هذه الحملة المغرضة على الأزهر وعلى المنتسبين إليه وحالت بين رجاله والمساهمة في الحياة التعليمية في مصر والمعاهد الأخرى غير المعاهد الدينية، واضطر كثير منهم تحت ضغط هذه الحال إلى الانزواء عن الحياة العامة والاحتكاك بغيرهم على مسرح عام.
وهذا الذي نسب إلى الأزهر في مصر من جمود وتعصب وكونه عقبة في طريق التقدم رمى به جامع الزيتونة في تونس وما شاكله في مراكش وبغداد ودمشق وأم درمان من معاهد الثقافة الإسلامية.
ولم يقف الأمر في محاربة هذه المعاهد عند حد تصويرها بهذه الصورة المنفرة، بل أتخذ معها عمل إيجابي آخر هو محاولة الحيلولة دون قوم بعثات من البلاد الإسلامية التي لم يكن بها ما يشبه الأزهر في نظامه وهدفه إلى مصر لتلتحق بالأزهر وتتم دراستها فيه. وإن لم تأخذ هذه المحاولة صورة المنع الواضحة. فموسيليني مثلاً أنشأ أيام حكمه معهداً إسلامياً في (هرر) له مظاهر نظم التعليم في الأزهر وأرسل إليه طائفة من أبناء المسلمين في ليبيا بجانب أبنائهم في الحبشة وإريتريا والصومال الإيطالي.
والرحالة الألماني (بول أشيد) يتحدث في كتابه - (الإسلام قوة الغد) الذي أخرجه في سنة 1937 بعد رحلة ست سنوات في البلاد الإسلامية عن مكانة الأزهر كموطن للثقافة الإسلامية ومعقل للحركات الوطنية التحريرية من الاستعمار الأوربي، ويعده وأمثاله في شمال أفريقيا والبلاد الإسلامية عاملاً من عوامل ثلاث - لو نجت من الاضطهاد الغربي - تقوم عليها النهضات الإسلامية وقوة العالم الإسلامي في غده. والعاملان الآخران في نظره هما: قوة النسل في الشعوب الشرقية، والثروة الاقتصادية الكامنة في أراضيها.
خرج الأزهر عن عزلته رويداً رويداً منذ بداية القرن العشري وطلبت منه المساعدة الرسمية في الوزارات والمصالح الحكومية المصرية، وعلى الأخص في وزارة المعارف. واظهر المتخرجون فيه أمانة واتقاناً وحسن أداء فيما يقومون به من عمل هناك، حتى فيما(897/13)
لم يكن متصلا بالمواد الأساسية في ثقافتهم، كعملهم في مصلحة الأموال المقررة بوزارة المالية.
ونرجو أن يكون طلب المساعدة الرسمية من الأزهر وليد تصحيح الفهم عنه كمعهد تمثل الثقافة فيه الاتجاه القومي، وليس وليد الحاجة التعليمية أو السياسية. عندئذ يكون تفاؤلنا بمستقبل النهضات الوطنية عندنا في الشرق العربي ليس من قبيل السراب الخادع.
إن بالأزهر الآن أكثر من ألفين من طلاب البعوث الوافدة إليه ينتسبون إلى أكثر من عشرين موطن إسلامي ويتكلمون شتيتاً من اللغات ولهم عادات مختلفة، ولكن لغتهم المحببة هي العربية، ودينهم المعتقد هو الإسلام، وتقاليدهم المفضلة هي المتصلة بالأمة الإسلامية.
الأزهر يمكن أن يساهم مساهمة فعالة في دفع النهضة الشرقية الوطنية خطوات إلى الأمام لو أزيلت من طريقه العقبات.
إن المرحوم الشيخ محمد عبده أشتغل بالسياسة، وأشترك في الحركات الوطنية الاستقلالية في الفرق الثورية، وأطلع على الفكر الأوربي، لكن آثر أخيراً في دفع الحركات الوطنية الاستقلالية في الشرق عامل التربية، وآثر في التربية أن تكون قوية، وآثر في عناصرها أن تكون ذا صلة بالتراث الإسلامي، ورجا أن يكون الأزهر قواماً على هذا التراث.
الأزهر لا غنى عنه، وهو باق في العالم الإسلامي ما بقي الإسلام في تصور الشعوب الإسلامية وما بقي عقيدة لأبنائه. فبدلاً من أن توضع العقبات في طريق رسالته - وهو الخطر بعينه على الإسلام وعلى الشعوب الإسلامية والعربية - يجب أن تتضافر القوى كلها في صدق وأخلاص لتمكينه من أداء رسالته.
والأمل معقود على الفاروق قائد النهضة العلمية والتعليمية والدينية.
محمد البهي
أستاذ الفلسفة الدينية بكلية أصول الدين بالأزهر(897/14)
النهضة الأفغانية
بقلم الأستاذ محمد محمود زيتون
شهد الإسلام في القرن الثامن عشر الميلادي ركوداً، شعر به الغيورون بضرورة البعث والنهوض. فقد هب محمد بن عبد الوهاب بحركة (تجديد للدين الإسلامي) وأخذت دعوته تنتشر من نجد إلى ما وراءها من سائر بقاع الإسلام، حتى قامت نهضة إسلامية في البنجاب؛ وجدت صداها في بلاد الأفغان. ولا سيما عندما عانى الإنجليز الأمرين في فتح الهند، إذ وقفت الحركة الوهابية الهندية في وجه الاستعمار، بينما أخذ السنوسي في الجزائر بنظم (الأخوان) ويعدهم لفتح كل مرفق اجتماعي واقتصادي مستمداً نشاطه من التعاليم الإسلامية. وإذ بيت الاستعمار الإيطالي نية الغدر والانقضاض على بلاد المغرب، فقد استعدت السنوسية لهذا الخطر، فأعلنت الجهاد المقدس، وأخذت للأمر ما يتطلبه من السلاح والتموين والزهد جميعاً.
وتبلورت هذه اليقظة، فلم يكن بد من انضواء المسلمين تحت لواء الجامعة الإسلامية. نهض جناحها الأيمن شرقاً على يد الوهابية التي لم تأل جهداً في تطهير الدين مما أعتوره من نوائب كادت تطمس جوهره في عصور الظلام بينما نهض جناحها الأيسر على يد السنوسية التي أدركت صميم الإسلام كدين ودنيا عقيدة وعمل وعبادة وسياسة، وحق وجهاد، ومصحف وسيف بالسنوسية والوهابية قامت حركة التحرير والتنوير في هذا القرن الصاخب بالاستعمار وأساليبه.
ومما هو جدير بالذكر، أن هذه الحركة لم تخالطها نزوات التعصب، بل ذهبت إلى أبعد حد في التسامح، واقترنت بالدعوة إلى الاقتباس من الغرب كل ما ينفع ولا يضر. دعا إلى ذلك المصلح الإسلامي الهندي، السيد أحمد خان، غير عابئ بالجمود الذي خيم ردحاً من الزمن على كل أفق إسلامي، حتى تلألأت شرارة الإصلاح في كل مكان، وقامت ثورة (تركيا الفتاة) سنة 1908م كنتيجة لازمة خاتمة لهذه المقدمات الدينية السليمة. في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي فتح الهند السلطان محمود أبن سبكتكتين الفزنوي التركي، فانهارت أباطيل البراهمة أمام كتائب الإسلام المظفرة. واقتفى أثره من الأفغان السلطان محمد الغوري الذي ضم دلهي إلى ممالكه سنة 1194م. ونسج عل منواله القائد بختيار الأفغاني(897/15)
الذي طهر البنغال وكوجرات من البوذية، فكانت هذه الحركة الجهادية إرهاصاً بقيام دولة إسلامية في الهند عاصمتها دلهي، ظل الزمان يحالفها من القرن العاشر إلى أوائل القرن التاسع عشر. حيث أخذت الضربات الإنجليزية تتوالى على هذا الصرح العتيق، الذي لم يكن بد من أن يتصدع بعد أن صمد طويلاً أمام الطغيان، وشهد الدهر كم كانت همة الأفغان مرادفة للجبال الرواسي التي - على الرغم من ثلوج عمائمها - أوقدت نار الحمية في نفوس أبطالها.
فإذا كان القرن التاسع عشر، بعث نابليون بونابرت الجنرال غاردان لمفاوضة إيران للدخول في محالفة مع فرنسا لفتح الهند، فأسرعت إنجلترا إلى الأفغان لتتخذ منها درعاً ضد إيران، ولما قامت الثورة الأفغانية التجأ أخو الصدر الأعظم إلى الإنجليز يستعديهم على أخيه دوست محمد خان وهو إذ ذاك حليف لروسيا.
اهتبلت إنجلترا هذه الفرصة وجردت حملتها على الأفغان سنة 1839م، وبعد عامين، زاد فيهما حنق الأفغانيين الأحرار على الغاصبين الإنجليز، قتل المعتمد البريطاني في كابل؛ ومعه عدد من ضباط الاحتلال. ولم يزل الأفغانيين يناصبون الإنجليز العداء حتى نصبوا الكمين لهم في (خورد كابل) فاستأصلوا حوالي سبعة عشر ألفاً من الإنجليز الذين استعانوا بحمايتهم في الهند على نسف قلاع العاصمة، وبذلك ثأروا لأنفسهم.
أما وقد شمخ الأفغانيون بأنوفهم للأحداث، وعافوا الاستبداد ولم يستنيموا للضيم فأن الإنجليز رأوا أنفسهم مضطرين لتغيير نظرتهم إزاء الأفغان الحر الأبي، وحاولوا أن يبثوا عقارب السوء فذهبت محاولاتهم أدراج الرياح، وأوقعوا خلال الصفوف يبغون الفتنة، فارتدت سهامهم إلى نحورهم. ولكن الأفغانيين وقفوا صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص إذ تضافر الشعب والسلطان. وكان الدورانيون - وهو الأسرة المالكة ويبلغون ثلث الأفغان - أشد اعتزازاً بالوحدة أمام الدسائس الإنجليزية من جهة، والأسلحة الفتاكة التي يتذرع بها الدخيل البارد من جهة أخرى.
حقاً لقد كان الشعب الأفغاني أعزل من كل سلاح إلا التضامن والإيمان بالحق، والجهاد حتى يتحرر الوطن من الطغاة المعتدين.
ولما مات (دوست محمد خان) سنة 1863 دب الشقاق بين أولاده، وظن الإنجليز أنها ثغرة(897/16)
يستطيعون النفاذ منها إلى إشباع سعارهم، لكن فوت عليهم هذه الفرصة ما توارثه الأمراء الأفغانيون من بغض الاحتلال، وأعداء الوطن. أليس أبوهم القائل للورد لورنس: (إن كنتم تريدون أن نبقى أصحاباً، فلا تكرهوني على قبول ضباط إنجليز في بلادي)؟ وضرب (شير علي خان) أروع المثل في الإباء إذ استعصى عوده على الإنجليز الذي غمزوا جانبه فلم يلن لهم، ولم يهن هو على نفسه. فأحنقوا على السلطان أبنه (يعقوب خان) وحرضوه على أبيه، واحتضنوه وأفسحوا له صدراً بارداً منذ أخذوه إلى إنجلترا، ولقنوه تعاليمهم الاستعمارية ظاهرها وباطنها، كما أغروا الفقراء بالعمل في الحاميات البريطانية بالهند لقاء أجور عالية استعداداً لتجنيدهم ضد بلادهم في القريب المنتظر على ما كانوا يزعمون.
وفي سنة 1878 أعد الإنجليز عدتهم للإجهاز على الأفغان، فإذا بأمراء الهند ومرتزقة البنجاب والسيخ وأخلاط من المنبوذين وعباد البقرة والعنزة يدخلون كابل بقيادة اللورد دوبرتس.
وفر (شير علي خان) إلى مزار شريف في القسم التركي من بلاده، وكان قد أستدعى أبنه يعقوب وأمنه على نفسه ثم سجنه حتى إذا دخل الإنجليز كابل أطلقوا سراحه ونصبوه أمير وعقدوا معه معاهدة (غاندامق)، وأملوا عليه طبعاً كل رغائبهم التي يئسوا من نيلها من أبيه، غير أنهم لم يكادوا يتمتعون بما ظفروا به حتى اندلعت نار الثورة الوطنية من جديد فخلعوا يعقوب خان ونفوه إلى الهند، وأخذوا يولون ويعزلون بعد موت (شير علي خان) سنة 1879 حتى هدأت البلاد على يد الأمير (عبد الرحمن) وتم الجلاء عن البلاد، وبذلك توطد نفوذه، وأقام مصانع السلاح والذخيرة، ودرب الجيش، ووسع الحدود شرقاً، وباتت البلاد في أمان واطمئنان حتى مات سنة 1901.
وخلفه أبنه الأمير (حبيب الله خان) الذي لم يشأ أن يطعن الإنجليز من الخلف حين شبت الحرب العامة، ولم يصخ إلى تحريض الألمان والأتراك حتى اغتيل وهو في مشتاه بجلال أباه وخلفه ولده (أمان الله خان)، فبايعه الشعب دون أخيه ولعهد أبيه نصر الله خان، وبغير موجدة من أحدهما على الآخر.
فلما استقرت الأمور، وأجمعت العناصر المختلفة على المطالبة الوطنية، صعرت بريطانيا خدها، فبدأ الجيش الأفغاني مخترقاً حدود الهند، وأبلى أحسن البلاء. وكانت الحرب وسئم(897/17)
المحاربون الإنجليز بعد أن توالت عليهم الضربات من سياستهم الغاشمة، فطلبوا الهدنة وتم الصلح سنة 1921. استقلال الأفغان في سياسة الداخل والخارج، مع تحديد المناطق الحرام بين الهند والأفغان.
وإيماناً من الملك بنفسه، واعتزازاً بالاستقلال التام يؤخذ بالجهاد، ولا يستجدي من أحد، أسرع - قبل عقد الصلح - إلى إرسال سفرائه إلى طهران وأنقره، كما عقد معاهدة مع تركيا وروسيا، فكان لهذه السياسة نتائجها العملية في الاستقلال حقيقة واقعة.
ولما فرغ الشاه من المشاكل الداخلية في بلاده، شرع يعمل على توطيد الروابط بينه وبين إنجلترا من جهة، والدول الإسلامية من جهة أخرى، ولا سيما تركيا ومصر، وبذلك لم يهمل الأواصر المتينة التي تربط الأفغان بالعالم الإسلامي حرصاً منه على المشاركة الفعالة في آلامه وآماله وفي سنة 1929 خلعه الشعب المسلم المستنير لما رأى من تطرفه الأوربي وخلفه جلالة الملك الحالي محمد ظاهر.
في معترك هذا النضال أنجبت الأفغان فيلسوف الشرق (السيد جمال الدين الأفغاني) الذي يعتبر أول باعث لفكرة الإسلامية، وأستاذ المفكرين الأحرار ممن تلقوا على يديه تعاليم النهضة الفكرية، ورفعوا مشاعل الاستقلال في وجه الاستعمار الجاثم على صدر العالم الإسلامي.
كان أبوه السيد صفدر ممن يخشى نفوذهم (دوست محمد خان)، ولما بلغ جمال الدين الثامنة عشرة. كان قد أستكمل علومه في كابل، فارتحل إلى الهند حيث تعرف على أحوالها في خلال السنتين اللتين قضاهما بها. ثم وصل إلى مكة سنة 1857 ووقف هناك على ينبوع الجامعة الإسلامية. فأنشأ بها جمعية أم القرى. ولما بلغ السابعة والعشرين أختاره أعظم خان ليكون رئيس وزرائه لسعة أفقه، وإدراكه لعظائم الأمور.
ومن الطبيعي أن تعمل له دول الاستعمار ألف حساب، وأن تحاربه بكافة الطرق المباشرة وغير المباشرة. وحشدت في وجهه الفلول الجامدة، كلما قصد بلداً إسلامياً، وكثيراً ما كان يتهافت عليه الناس تهافت الفراش على النار.
وفي الحق أن جمال الدين كان كذلك، فلم ينزل ببلد إلا أرث فيه الجذوة الكامنة، وجلا جوهره النفيس الذي ينطوي عليه كل مؤمن بدينه، وحذر من تألب المستعمرين على(897/18)
الشرق، وانقضاضهم على الإسلام بحرب صليبية جديدة.
وتتلمذ عليه في مصر رواد الحركة الإصلاحية والجهادية من أمثال محمد عبده وأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل وعبد الله النديم، الذين يرجع إليهم الفضل في القضاء على الجمود الفكري، ونبذ الخرافات، واجتمعت أهدافهم على توجيه الأمة إلى التطلع بعين البصيرة، وقلب الحمية، إلى عالم النور والحرية، كما نشطت الصحافة حتى كانت لمراجل الثورة وقوداً غير منقطع، وتبودلت الصحف الإسلامية في شتى الأقطار للوقوف على احدث الخطوات، واعتلى دعاة الحرية منابر الثورة، لتحريك النفوس الهامدة، وتأجيج النار الخامدة تحت رماد الخطوب.
وما وافت سنة 1911 حتى صدقت الحوادث نبوءات السيد جمال الدين، وكان كالذي أمر قومه بأمره وتحذيره، حتى استبانوا الرشد في صحوة الصباح فقد انتهكت إيطاليا حرمة طرابلس، وشقت الدول النصرانية البلقائية عصا الطاعة على تركيا بتحريض من دول الاستعمار على دول الخلافة، أملاً في خضد شوكتها، وتوهين نفوذها في سائر البلاد الإسلامية، فلم تلبث هذه البلاد أن استنفرت آسادها في سبيل الله والوطن، فكان ما لم يكن له حساب عند الأوربيين الذين استيقظوا من سباتهم على القوة الإسلامية الكاسحة مما جعل (السير موريسون) يقول (لا مراء في أن الإسلام أكثر من عقيدة دينية بل هو نظام اجتماعي تام الجهاز: هو حضارة أكتمل نسيجها، حضارة لها فلسفتها وتهذيبها وفنونها) ثم أخذ يستعرض صمود هذا الدين المتين في مواجهة الأحداث (حتى صار وحدة جامعة نامية نمو الجسم الطبيعي سائراً سيره بفعل نظامه الذاتي الكامن فيه).
محمد محمود زيتون(897/19)
تحقيقات حول صدر وسدر على الطريق المهجور
بين مصر والشام
للأستاذ أحمد بك رمزي
(لقد أنهت مصر الحروب الصليبية وكان من الخطأ ترك الاتصال قائما بينها وسائر بلاد الشام)
مؤرخ أوربي
(أن إسرائيل سيقدر لها أن تعيش وتنمو وتغير التاريخ وحوادث الزمن، حينما تعزل مصر عن بقية الأمم العربية: أي إذا عزلت القاهرة عن دمشق وبغداد ولو بممر لا يزيد عرضه على كيلو مترين)
أحمد رمزي
1 - وردت عين سدر ووادي في خرائط ملحة المساحة في الطبعة الأولى والثانية، كما وردت بالاتفاقات التي عقدتها الحكومة المصرية مع شركات البترول وفي القوانين التي عرضت على البرلمان لإقرارها بواسطة الحكومة المصرية فلم ينتبه أحد من رجال مصلحة المساحة ولا رجال القانون إلى تحقيق هذا الاسم وضبطه ضبطاً علمياً يتفق مع مكانة مصر وأثرها في العالم العربي إلى أن صحح في الخريطةمصر الصادرة باللغة العربية فنحمد لمصلحة المساحة هذا الاهتمام.
2 - ويظهر أن بعض الأسماء العربية الواردة بخرائط مصلحة المساحة كانت مترجمة ترجمة حرفية من اللغة الإنجليزية التي وضعت من الأصل هذه الخرائط فيها، فجاء الناقلون إلى العربية - وهم ليسوا أهل اختصاص فوضعوها بأخطائها دون عودة إلى المراجع العربية ودون ضبط للأعلام والأسماء.
3 - والذي أعلمه هو أن صحة الاسم (صدر) لا (سدر) وجاء ذكر صدر في معجم البلدان لياقوت جزء 3 صفحة 375: (قلعة حراب بين القاهرة وأيلة) أي العقبة ويظهر من كتب القدماء توالي استعمال (عين صدر) و (وادي صدر) وهي واقعة على طريق يبدأ من عيون موسى إلى عين الروبت أو (الرييثة) ثم ينتهي الطريق إلى منبع وادي صدر وهو الذي(897/20)
كان على مر الحصن الذي أشار إليه ياقوت في معجمه وهو حصن قديم لا تزال بقاياه مرسومة على الخرائط تحت أسم يسير الطريق منه إلى نخل.
4 - ويظهر أن هذا الطريق - وهو يقع جنوبي طريق الحاج العام والمعروف على الخرائط - هو الذي يمر بوادي صدر وكان يستعمل للذهاب إلى العقبة علاوة على الطريق المطروق المعروف، فقد جاء في السلوك صفحة 58 سنة 570 هجرية أن صلاح الدين أقام ببركة الجب وهي معروفة في شمال القاهرة ثم سار منها على صدر التي أشرنا إليها متجها إلى آيلة في سبعمائة فارس - ويقصد إخفاء حركاته فقد جاء كتاب الروضتين نقلاً عن (أن صلاح الدين زحف من البركة ورحل إلى بلبيس ونزل جنوباً إلى صدر ثم إلى آيلة) فلم يسلك طريق الحج المعتاد وإنما سلك هذا الطريق البعيد عن الأنظار والرقباء حتى يطمئن إخفاء حركاته وهو في طريقه إلى الشام ليقرن حملته المفاجأة، وفعلاً أناخ على بصري بالشام ثم على مدينة صرخة ثم إلى الكسوة وهي من ضواحي مدينة دمشق إجابة للرغبة أبديت له بعد وفاة نور الدين الشهيد رحمه الله.
5 - وأرجح أن هذا الطريق الذي لم يكن يطرق إلا هو نادراً هو الذي سلكه أبو الطيب المتنبي في خروجه هارباً من كافور الإخشيدي ليلة عيد الأضحى سنة 350 هجرية. فقد أعد ما هو في حاجة إليه وأخذ يظهر الرغبة في المقام، وتظاهر لمن من الرقباء أنه سيسلك طريق الشمال بدليل مدحه لعبد العزيز يوسف الخزاعي زعيم خزاعة النازلة ببلبيس بقوله:
جزى عرباً أمست ببلبيس ربها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيون
فلفت أنظار الرقباء بمديحه هذا إلى طريق بلبيس فأقامت العيون عليه هناك وكتبوا إلى عمالهم بالحرفين - الشرقي الغربي والجفار - أي سيناء - وغزة والشام وجميع البوادي حتى يقطع طريقه ويقبضوا عليه وأتجه هو إلى الطريق البعيد عن الأنظار عيون موسى ووادي عين صدر فوصل إلى نخل، ودليل على ورود موقع الرثنة ضمن المياه التي مر بها أبو الطيب المتنبي قبل وصوله إلى نخل وبذلك نجح في إخفاء طريق هربه فلم يعرف له أثر حتى قال بعض أهل البادية: (هبه سار فكيف محا أثره) وقال بعض المصريين) إنما أقام حتى عمل طريقاً تحت الأرض).(897/21)
6 - والرثنة تشبه الرتمة: يقول عنها قاموس الكتاب صفحة 475 أنها محطة نزلها بنو إسرائيل واسمها مأخوذ من الرتم الذي ينبت بالبداية. ونلاحظ أن هناك مكانا آخر باسم الرتمة في سيناء، غير هذا الموقع ولا أجزم بأن الرتمة والرثنة مكان واحد والمسألة تحتاج إلى تحقيق علمي واسع. ولكني أميل إلى الظن بأن الرثنة التي جاءت في ديوان أبو الطيب المتنبي هي الرييثة التي ذكرها الإدريسي في نزهة المشتاق طبعة ليدن كمحطة في الطريق بين عجرود المعروفة وآيلة - التي هي العقبة - وليس لدينا على الخرائط المتداولة عند وادي صدر سوى عين روبت أو رويث وهي على المنحدر الذي يوصل إلى عين صدر وقد تكون الرثنة هي الرييثة حرفها النساخ وقد تكو الرييثة هي رويث.
فكأن أبو الطيب المتنبي سلك طريقاً كان معروفاً ببعده عن الرقباء. وقد ركب الهجن من الفسطاط وأشاد بمدحها ولهذا يقول:
ضربت بها التيه ضرب القما ... ر إما لهذا وإما لذا
7 - بين يدي كتاب صحراء سيناء الذي وضعه لورانس مع (ليوراند وولي) البريطانيين عن نتيجة أبحاثهما في هذه الصحراء وهو يتضمن معلومات أثرية وتاريخية عن المنطقة الواقعة بعد الحدود المصرية، لا تقل أهمية عن الكتاب الشائق الذي وضعه الدكتور عباس مصطفى عمار ع أهمية شبه جزيرة سيناء وفي كل منهما دراسة عميقة عن أحوال هذه المناطق ومسالكها وكل منهما يكمل الآخر، وليس لي ما أزيد على تقديري للكاتبين سوى شادتي بعبقرية رجلين عظيمين الأول: صلاح الدين الأيوبي والثاني الظاهر بيبرس. فلقد كان لكل منها الفضل الذي لا ينكر في فهم استراتيجية الحروب الصليبية كما يفهمها رجل عبقري فذ ففي كل مرحلة ومفترق طرق أقيمت الحصون والقلاع التي لا تزال بقاياها موجودة وفي كل حملة أستعمل أحدهما طريقاً وعبد آخر وأخذ خصمه بالمفاجأة والعمل الحاسم.
فهل لنا أن نتساءل اليوم: واللجنة السياسية بجامعة الدول العربية منعقدة: هل نبه أحد من الناس الأنظار إلى أن هذا الركن من العالم حيوي لنا وعليه يستند تاريخنا القادم؟. . . لا أظن
وإنما أعتقد وأجزم بأن رجال الدولة اليهودية كانوا على علم بأهمية الطرق والمسالك(897/22)
وكانوا على حق في اهتمامهم بأراضي النقب وفي وصولهم إلى خليج العقبة وأن الذي وضع خريطة فلسطين سنة 1917 بشكلها المخروطي أي الذي يبدأ متسعاً في الشمال وينحدر ضيقاً إلى الجنوب حتى البحر الأحمر قد كان يستوحي من مملكة أورشليم الصليبيين هزت الكيان العربي والإسلامي والتي لولا أن قدر لنا في التاريخ أمثال صلاح الدين وبيبرس لبقيت في الوجود إلى اليوم.
8 - أننا لا نطمع في أمثال هذه العبقرية الفذة في التاريخ وإنما نطلب إلى الدول العربية أن تفهم جيداً أن مواجهة الحاضر مشاكله لا تكفي لإيجاد الحلول المطلوبة بل أن أخطر سياسة هي المرتجلة أو المعتمدة على الذكاء الفطري. . . الذي يرسم لنا الديبلوماسية التي ألفناها وهي ذات العبقرية في ترتيب الدسائس بين مصر والدول العربية والاستفادة من الأهواء والغرائز) ونقول أن حل المشاكل الكبرى يتطلب قبل كل شيء دراسة علمية وتوجيهاً معتمداً على الحقائق التاريخية والجغرافية والتاريخ الحربي لمصر وللعالم العربي. فإذا كانت السياسة والاقتصاد (صنوان) لا يفترقان، فأن استخلاص الحقائق الكبرى من دروس الماضي هو الذي يضع الزعماء والقادة في الصف الأول بين زعماء العالم وتنير لهم السبيل لحل المشاكل الكبرى. أننا نأسف أن نلفت النظر إلى هذه الحقائق، المرة بعد المرة فتذهب صيحتنا هباء ورحم الله أبا الطيب المتنبي الذي علمنا الطرق وجغرافية مسالك الجزيرة فقد بح صوته أيضاً حتى قال:
وما فكرت قبلك في محال ... ولا جربت سيفي في هباء
أحمد رمزي
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي(897/23)
التشبيه في القرآن
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 5 -
ويهدف التشبيه في القرآن إلى ما يهدف إليه كل فن بلاغي فيه، من التأثير في العاطفة، فترغب أو ترهب، ومن أجل هذا كان للمنافقين والكافرين والمشركين نصيب وافر من التشبيه الذي يزيد نفسيتهم وضوحاً، ويصور وقوع الدعوة على قلوبهم، وما كانوا يقابلون به تلك الدعوة من النفور والإعراض.
يصور لنا حالهم وقد استمعوا إلى دعوة الداعي فلم تثير فيهم تلك الدعوة رغبة في التفكير فيها لمعرفة ما قد تنطوي عليه من صدق، وما قد يكون فيها من صواب، بل يحول بينهم وبين ذلك الكبر والأنفة وما أشبههم حينئذ بالرجل لم يسمع عن الدعوة شيئا، ولم يطرق أذنه عنها نبأ، بل ما أشبههم بمن في أذنه صمم، فهو لا يسمع شيئاً مما يدور حوله، وبمن أصيب بالبكم، فهو لا ينطق بصواب اهتدى إليه، وبمن أصيب بالعمى فهو لا يرى الحق الواضح وبذلك شبههم بالقرآن، فقال: (ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقراً، فبشره بعذاب أليم) وقال: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي، فهم لا يعقلون).
أما ما يشعرون به عندما يسمعون دعوة الحق فضيق يملأ صدورهم، ويئودهم حمله، كهذا الضيق الذي يشعر به المصعد في جبل، فهو يجر نفسه ويلهث من التعب والعناء، وهكذا صور الله ضيق صدورهم بقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)
وما دام هؤلاء القوم لا يستخدمون عقولهم فيما خلقت له، ولم تصغ آذانهم إصغاء من يسمع ليتدبر، فقد وجد القرآن في الأنعام شبيها لهم يقرنهم بها، ويعقد بينهم وبينها وثيق الصلات، فقال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)، وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوباً لا يفقهون بها،(897/24)
وأعينا لا يبصرون بها وآذانا لا يسمعون بها. ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقاً إلى إنزالهم منزلة البهائم، فإذا ورد هذا التشبيه عليك، وجد في قلبك مكانا ولم تجد فيه بعداً ولا غرابة، بل يزل بهم حيناً عن درجة الأنعام فيراهم خشباً مسندة.
وحيناً يريد أن يصورهم، وقد وجدوا في الهرب والنفرة تلك الدعوة الجديدة فيقول: (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمرة مستنفرة، فرت من قسورة)، وقد تحدثنا عن هذا التشبيه فيما مضى.
أما هذا آمن ثم كفر وأنسلخ عن الإيمان وأتبع هواه فقد عاش مثال الذلة والهوان، وقد وجد القرآن في الكلب شبها يبين عن خسته وحقارته. ومما يزيد في الصلة بين الاثنين أن هذا المنسلخ يظل غير مطمئن القلب، مزعزع العقيدة مضطرب الفؤاد سواء أدعوته إلى الإيمان، أم أهملت أمره، كالكلب يظل لاهث طردثه أو زجرته، أم تركته وأهملته، قال: (وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فأنسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه، فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فأقصص القصص لعلهم يتفكرون).
ولم ينس القرآن تصوير حيويتهم، واضطراب نفسيتهم في اضطرابهم صلة بينهم وبين من أستوقد ناراً ثم ذهب الله بنورهم وبين السائر تحت منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق.
وصور وهن ما يعتمد عليه من يتخذ من دون الله أولياء بوهن بيت العنكبوت، وحين أراد أن يتحدث عن أن هؤلاء الأولياء لن يستفيد منهم عابد وهم بشيء، رأى في هذا الذي كفيه إلى الماء، يريد وهو على تلك الحال أن ينقل الماء إلى فيه، وما هو ببالغه شبيها لهم فقال: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
وتعرض لأعمال الكفرة كما سبق أن ذكرنا ولصدقاتهم التي كان جديراً بها أن تثمر ونزهر، ويفيدوا منها لولا أن هبت عليهم ريح الشرك فأبادتها، كما تهب الريح الشديدة البرد بزرع كان ينتظر إثماره فأهلكته: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح، فيها صر، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، وما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم يظلمون).
وهناك طائفة من التشبيهات ترتبط بيوم القيامة لجأ إليها القرآن للتصوير والتأثير معاً، فإذا(897/25)
أراد القرآن أن يبين قدرة الله على أن يأتي بذلك اليوم، بأسرع مما يتصور المتصورون لجأ إلى أسرع مما يراه الرائي، فأتخذه مثلا يؤدي إلى الهدف المراد، فيقول: (وله غيب السماوات والأرض، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب، إن الله على كل شيء قدير).
ويقرب أمر البعث إلى الأذهان بتوجيه النظر إلى بدء خلق الإنسان، وأن هذا البعث صورة من هذا البدء فيقول: (كما بدأكم تعودون) وبتوجيه النظر إلى هذا السحاب الثقال يسوقه الله لبلد ميت، حتى إذا نزل ماؤه دبت الحياة في أوصال الأرض خرج الثمر منها يانعاً، وهكذا يخلق الله الحياة في الموتى، قال سبحانه: وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقاه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)
وإذا جاء يوم القيامة أستيقظ الناس لا يشعرون بأنه قد مضى عليهم حين من الدهر طويل منذ فارقوا حياتهم، ويورد القرآن من التشبيه ما يصور هذه الحالة النفسية العجيبة، فيقول (يوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم، قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين)، وإذا نظرت إلى قوة التشبيه مقترنة بقوله: يتعارفون بينهم، أدركت مدى ما يستطيع أن يحدثه في النفس من أثر. وقد كرر هذا المعنى في موضع آخر يريد أن يثبته في النفس ويؤكده فقال: (يسألونك عن الساعة إيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
هاهم أولاء قد بعثوا خارجين من أجداثهم في كثرة لا تدرك العين مدرها، وماذا يستطيع أن يرسم لك تلك الصورة، تدل على الغزارة والحركة والانبعاث، أفضل من هذا التشبيه الذي أورده القرآن حين قال: (خشعاً أبصارهم، يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشرة، مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر). وحينا يصورهم ضعافاً يتهافتون مسرعين إلى الداعي كي يحاسبهم فيجد في الفراش صورتهم، فيقول: (القارعة ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث). ولا أخال أحداً لم ير الفراش يسرع إلى الضوء، ويتهافت عليه في ضعف وإلحاف معاً، ولقد تناول القرآن إسراعهم مرة(897/26)
أخرى، فشبههم بهؤلاء الذي كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصاباً مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق فيقول: (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون).
ويتناول المجرمين، فيصور ما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزي، ويرسم وجوههم وقد علتها الكآبة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). أما طعامهم فمن شجرة الزقوم يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعائهم فكأنما طعموا نحاساً ذائباً أو زيتاً ملتهباً، وإذا ما أشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كهذا النحاس والزيت تشوي وجوهه. قال تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) وقال سبحانه: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) ألا ترى التشبيه يثير في النفس خوفاً وانزعاجا؟
ويصور آكل الربا يوم القيامة صورة منفرة منه، مزرية به، فهل رأيت ذلك الذي أصابه مس من الشيطان فه لا ينهض واقفاً حتى يسقط، ولا يقوم إلا ليقع، ذلك مثل آكل الربا (الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا).
ولعب التشبيه دوراً في تصوير يوم القيامة، وما فيه من الجنة النار، ففي ذلك الحين، تفقد الجبال تماسكها، وتكون (كالعهن المنفوش) وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجو ذا لون أحمر كالورد: (فإذا انشقت السماء، فكانت وردة كالدهان)، وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التي نشاهدها في حياتنا، وحسبك أن تعلم أن شررها ليس كهذا الشرر الذي يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، وهنا يسعف التشبيه، فيمد الخيال بالصورة، حين يجعل لك هذا الشرر كأنه أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط، (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتي التشبيه ممداً في الخيال، كي يسبح ما يشاء أن يسبح فيقول: (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض).
وهكذا ترى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضراً، وتقريب البعيد النائي(897/27)
حتى يصبح قريباً دانياً.
ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء فيصبح بهيجاً نضراً، يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر ويبح هشيماً تذروه الرياح، يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة الدنيا، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه وأطنب، ليستقر معناه في النفوس ويحدث أثره في القلب، فقال مرة: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً). وقال مرة أخرى: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً). وقال مرة ثالثة (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فأختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأزينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلنا حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).
ولما كان للمال أثره في الحياة الاجتماعية لعب التشبيه دور في التأثير في النفس كي تسمح ببذله في سبيل تخفيف أعباء المجتمع فقرر، مضاعفة الثواب على ما يبذل في هذه الناحية فقال في موضع: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فأن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير). فلهذا التشبيه أثره في دفع النفس إلى بذل المال راضية مغتبطة، كما يغتبط من له جنة قد استقرت على مرتفع من الأرض ترتوي بما هي في حاجة إليه من ماء المطر وتترك ما زاد عن حاجتها، فلا يظل بها الماء حتى يتلفها كما يستقر في المنخفضات، فجاءت الجنة بثمرها مضاعفاً. وفي مرة أخرى رأى مضاعفة جزاء الحسنة كمضاعفة الثمرة لهذا الذي يبذر حبة قمح فتخرج عوداً يحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). وحاط القرآن هذه المضاعفة بشرط كون الإنفاق عن رياء. وهنا قف أمام هذا التشبيه القرآني الذي سيق تصويراً لمن يتصدق لا(897/28)
عن باعث نفسي، نتبين إيحاءاته، ونتلمس وجه اختياره، إذ يقول سبحانه: (يا أيها الذي آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق رثاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلداً، لا يقدرون على مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين)، أرأيت هذا الصلد قد غطته قشرة رقيقة من التراب فخاله الرائي صالحاً للزرع والإنبات، لكن وابل المطر لم يلبث أن أزال هذه القشرة فبدأ الحجر على حقيقته صلداً لا يستطيع أحد أن يجد فيه موضع خصب ولا تربة صالحة للزراعة؟ إلا ترى في اختيار كلمة الصفوان هنا ما يمثل لك هذا القلب الخالي من الشعور الإنساني النبيل، والعطف على أبناء جنسه عطفاً ينبع من شعور حي صادق، ولكن الصدقة تغطيه بثوب رقيق حتى يخاله الرائي، قلباً ينبض بحب الإنسانية ويبني عليه كبار الآمال فيما سوف يقدمه للمجتمع من خير، ولكن الرياء والمن والأذى لا تلبث أن تزيلا هذا الغشاء الرقيق، فيظهر القلب على حقيقته قاسياً صلباً لا يلين.
وتأتي الكاف في القرآن أحيانا لا لهذا التشبيه الفني الخالص، بل لإيقاع التساوي بين أمرين، ومن أمثلة هذا الباب قوله تعالى (وعد الله المنافقين والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالاً وأولادا، فاستمتعتوا بخلاقهم كما استمتعتم بخلاقكم. كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون) وقوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداًعليكم، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فعصى فرعون الرسول، فأخذناه أخذاً وبيلاً)؛ فهو يعقد موازنة بينهم وبين من سبقهم، ويبين لهم الوجوه التي يتفقون فيها معهم، ولا ينسى أن يذكر ما أصاب سابقيهم. وإلى هنا يقف تاركاً لهم أن يصلوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب، وإنها لطريقة مؤثرة في النفس حقاً أن تضع لها شبيها، وتتركها تصل بنفسها إلى النتيجة في سكينة وهدوء، لا أن تقذف بها في وجهها، فربما تتمرد وتثور.
ومن كاف التساوي أيضا قوله تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)، وقد يلمح في ذلك الرغبة في إزالة الغرابة عن نفوس السامعين واستبعادهم نزول الوحي على الرسول، فالقرآن يقرنه بمن لا يشكون في رسالته، ليأنسوا بدعوة النبي؛ وقد(897/29)
يكون في هذا التساوي مثار للتهكم، كما في قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى، كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)؛ أو مثار للاستنكار، كما في قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) فسر الاستنكار كما ترى هو تسوية عذاب الناس بعذاب الله.
وقد تأتي الكاف وسيلة للإيضاح، وتقوم هي وما بعده مقام المثال للقاعدة، وغير خاف ما للمثل يضرب من التأثير والإقناع؛ ومن ذلك قوله: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)، فجاء بآل فرعون مثالا لأولئك الذين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً. ومن كاف الإيضاح قوله سبحانه: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وقوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني).
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(897/30)
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
النزوع
النزوع أو الإرادة أو العمل، هو المظهر الثالث للشعور الإنساني، وما دمنا قد تحدثنا في المقالين السابقين من هذه السلسلة عن المظهرين الأولين للشعور عند الغزالي وهما المعرفة والوجدان، أو على حد تعبير الغزالي العلم والحال، نرى من الحق أن نتحدث هذه المرة عن المظهر الثالث للشعور وهو النزوع أو العمل. وبهذا نكون قد تحدثنا عن أجزاء العملية العقلية عند الغزالي تامة، وصورنا مظاهر الشعور الثلاثة في نظر هذا العبقري كاملة.
وها نحن أولاء الآن نورد وصف النزوع في علم النفس الحديث فنقابله بما سنورده من وصف لهذا النزوع عند الغزالي. يقول النفسيون: النزوع هو الوجه الثالث لأية عملية عقلية، وهو محاولة (أو جهد) يبذله الإنسان ليستديم الارتياح الذي وجده، أو يبتعد عما شعر به من الألم والضيق. فهو ما يشعر به الإنسان عندما يكون هو الفعال نفسياً، فيؤثر في ما يجري في نفسه من الخواطر منتقلاً من اللحظة التي هو فيها، نازعاً نحو أخرى آتية أو مبتعداً عنها في حين أنه في الوجدان يكون هو المتأثر المنفعل.
وليس الإدراك والوجدان والنزوع أجزاء منفصلة يتكون من مجموعها الشعور، إنما هي أوجه (ومظاهر لشيء) وأخذ يمكن تميزها بعضها عن بعض يا لفكر ليس إلا. فهي متصلة بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً، وتوجد في كل عملية عقلية، وتحدث كلها في آن واحد. فالإدراك لا يوجد من غير أن يصحبه وجدان؛ ولا يوجد وجدان بغير نزوع أو أدراك، والنزوع لا يوجد بدون أخويه الآخرين.
فالشعور وحدة متصل بعضها ببعض. الإدراك والوجدان والنزوع مظاهر ثلاثة لتلك الوحدة).
ولنر الآن ما كتبه العبقري العظيم أبو حامد الغزالي في هذا الموضوع (أعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران، علم وعمل والعلم يقدم لأنه أصله وشرطه؛ والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه وذلك لأن كل عمل، أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم واردة وقدرة، لأنه(897/31)
لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد وأن يعلم ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من الإرادة ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض، إما الحال أو المآل. فقد خلق الله الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه، ودفع الضار الخافي عن نفسه، فأفتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجب هذا ويهرب من هذا. فإن من لا يبصر الغذاء لا يمكنه من أن يتناوله. ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منها فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسباباً وهي الحواس الظاهرة والباطنة.
ثم لو أبصر الإنسان الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك للتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة له باعثه عليه. إذ المريض يرى الغذاء ويعلم أنه ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل، فخلق الله له الرغبة والميل والإرادة، وأعني به نزوعاً من نفسه إليه وتوجيهاً في قلبه نحوه. ثم ذلك لا يكفيه، فكم من شاهد طعاماً راغب فيه يريد تناوله عاجز عنه لكونه زمناً، فخلقت القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم التناول. والعضو لا يتحرك إلا بالقدرة. والقدرة تنتظر الداعية الباعثة والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن أو الاعتقاد وهو أن يقوي في نفسه كون الشيء موافقاً له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق لابد يفعل وسلمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعث الإرادة وتحقق الميل. فإذا انبعثت الإرادة إنتهضت القدرة لتحريك الأعضاء. فالقدرة خادمة الإرادة، الإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة. وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض إما في الحال وأما في المآل فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث والغرض الباعث هو المقصد المنوي والانبعاث هو القصد والنية. وأنتهاض القدرة لخدمة الإرادة لتحريك الأعضاء هو العمل، إلا أن أنتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد وقد يكون بباعثين اجتماعا في فعل واحد. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو أنفرد لكان ملبياً بإنهاض القدرة؛ وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع. وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له معاوناً).
حقاً أن الإمام الغزالي رحمه الله قد ظهر في هذه القطعة النفسية الجليلة الخالدة التي(897/32)
انتزعناها من كتابه إحياء علوم الدين عالماً نفسياً كبيراً وعبقرياً في فهم الطبائع البشرية وأسرار النفس الإنسانية خطيراً. قد ظهر الغزالي في هذه القطعة فاهماً للشعور الإنساني كل الفهم، مدركاً للعملية العقلية كل الإدراك، فهو لم يعالج في هذه القطعة موضوع (العمل) فحسب بل عالج جملة الشعور وكلية العملية العقلية. عالجها هذه المعالجة الدقيقة المتقنة السهلة الواضحة المبسطة التي تدل دلالة تامة على أن الرجل قد أوصله تأمله في نفسه وملاحظته لغيره إلى أعمق أغوار النفس البشرية فتغلغل في تلك الأغوار البعيدة تغلغل القوي القادر وعاد يحمل إلى العقل البشري هذه الأسرار العظيمة عن النفس البشرية والطبائع الإنسانية فينتفع بها الناس كافة. ونحن لا نحب أن نترك هذه القطعة النفسية العظيمة الفائدة دون أن نشير إلى التشابه بين ما جاء فيها وما جاء على قلم العالم الاجتماعي الكبير غوستاف لويون في كتابه الآراء والمعتقدات عن اللذة والألم كعاملين للحركة وباعثين للرغبة. ويقول الدكتور لويون:
(اللذة والألم يورثان الرغبة، أي الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم. فالرغبة هي المحرك الأساسي للإرادة والباعث على العمل، والرغبة هي التي توحي إلى الإرادة التي تكون بدونها معدومة. وعلى نسبة الرغبة تكون الإرادة قوية أو ضعيفة. ومع ذلك لا يجوز خلط الإرادة بالرغبة كما فعل كثير من الفلاسفة كشوبنهور وكوندياك. فإذا كانت الرغبة مصدر كل ما يراد فإنه يرغب في أمور كثيرة لا تراد. فالإرادة تتضمن التأمل والقصد والتنفيذ. إلى أن يقول:
والأمل أبن الرغبة لا الرغبة نفسها. إذ هو عبارة عن استعداد نفسي يجعل الإنسان يعتقد إمكان تحقيق ما فيه من رغبة. فقد يرغب المرء في شيء دون أن يأمله، فعلى قلة من يأملون الثروة نرى جميع الناس يرغبون فيها، وكذلك العلماء فأنهم يرغبن في اكتشاف علة العلل مع أهم لا يأملون أن يصلوا إليه. وقد تقرب الرغبة من الأمل في بعض الأحيان فتختلط به. فالإنسان في لعبة الدولاب يرغب في الربح ويأمله. ويمكننا أن نعرف الأمل باللذة المرجوة. وفي الغالب يكون الأمل في دور الرجاء أشعتي للعلة منه في إيجازه، وسبب ذلك واضح، فاللذة المنجزة تكون محدودة مقداراً وزماناً مع أنه لا حد لما يوجه الأمل من أحلام ولم يوجد سلطان الأمل وفتنته إلا لاشتماله على ما في اللذة من ممكنات.(897/33)
فهو عصا سحر قادرة على تحويل كل شيء. وهذا هو سر الكون دعاة التجدد لم يفعلوا سوى إقامة أمل مكان آخر).
ولا يفوتنا بعد كل ما تقدم عن النزوع أن نتحدث قليلاً عن سلوك الغزالي بالنسبة إلى أهدافه، يقول الغزالي:
(قد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويخالفه بعضها، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق ودفع الضار المنافي) وهو بهذا قد وضع قاعدة جلب اللذة ودفع الألم. وقال في موضع آخر:
(المحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث. والغرض الباعث هو القصد المنوي، وهو بهذا قد وضع قاعدة الهدف الباعث. ولننظر الآن لنعرف ما هو الهدف الباعث للغزالي في حياته. وأين اللذة المجلوبة في هذا الهدف وأي الألم المدفوع. نريد أن نعرف هذا لنستطيع أن نعلل سلوك هذا الرجل على ضوء علم النفس الذي يشرف علينا من هذه السطور التي سطرها قلمه مغموسً بعصارة نفسه وخلاصة حياته.
قد وضع الغزالي لنفسه هدفاً يجلب بالحصول عليه اللذة وهو الجنة، فالجنة هدف الغزالي الباعث له على ذلك السلوك الذي سلكه في حياته؛ وقد كانت العبادة هي الطريق - أو الوسيلة - الموصلة إلى الهدف. وقد تركزت في هدف الغزالي كل رغباته، فكان منساقاً إلى الهدف بكل ما في رغباته من قوة وعنف. وقد وضع الغزالي لنفسه باعثاً آخر ولكنه باعث مكروه لأنه مصدر ألم وهو نار جهنم والعياذ بالله. فقد حرك هذا الألم في نفس الغزالي الرغبة في الهروب ابتغاء النجاة والطمأنينة، الهروب من الدنيا إلى الآخرة، من نار جهنم إلى جنات النعيم ونحن إذا فهمنا هذا جيداً استطعنا أن نفهم العلة في سلبية الغزالي وانطوائه على نفسه وعده رغبات الحياة الإيجابية مهلكة تجب النجاة منها، ورغبات الحياة السلبية منجية يجب الاعتصام بها. إذا فهمنا هذا جيداً استطعنا أن نفهم السبب في اعتبار الغزالي غرائز الغضب والتغلب السيطرة والمنافسة وحب المدح والجاه والثراء وما إليها يجب الابتعاد عنها والتخلص منها بالخوف والخضوع والانقياد والزهد والفقر وما إليها من الغرائز والرغبات السلبية.
حمدي الحسيني(897/34)
رسالة الشعر
كيف أدعوك
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
مهداة إلى الآنسة أم كلثوم
(اعتدت أن أهدي إليك وأنا غريب الدار. تقولين أنني أفعل ذلك توفيراً للهدية! وأقول أنني أفعله توقيراً للمهدى لها: فهل تصنعين فيه لحناَ! لقد خلدت الخالدين، فتنزلي إلى المغمورين)
مونت كاتيني
عزيز أباظة
كيف أدعوكِ! لا أقولُ منَى ... النفس ونعماءها، فأنك نفسي
وأنا أَنتِ إنَّ روحيَ في ... روحك تَفْنىَ، وإنَّ حسَّكِ حسَّي
ما خلونا إلاَّ تساءلتُ هل همسُك ... هذا القدسي أَم هو همسيٍ
لفَّ أَعراقَنا الهَوى وطوانا ... فآمنَّا سُعارَ جنسِ لجنسٍ
حسبيَ النظرةُ الشهيةُ تلقىِ ... لُمَعَ النورِ في غياهبِ يأسي
وحديثٌ كأنَّه من صلاةِ اللهِ ... ذو طابعٍ وعرفٍ وجرسِ
أتراءكِ بينَ أجنحةَ الفجر ... إذا رفرفتْ ترُفُّ اللَّجينا
قُبَلاً من مُجاجَةِ النورِ تنهلُّ ... فتشفي جوانحاً قد ظمينا
أنت إشراقهُ السماءِ ومجلىَ ... الله في خلقهِ كمالاَ وزيناَ
أنت حسنٌ جم الأفانين ما ... شعشع لونا إلا ليبدع لونا
قلتُ للفجرِ حين لُفَّت بهِ ... الشمس وشفَّت أسداله فانطوينا
آيه يا فجرُ في غلائِلك البيضِ ... حبيبي فأمضِ الهوينىَ الهوينى
أتراءكِ والدجى مُسبَلُ الستر ... عَلَى الكونِ مستترُّ الجفون
في زُهَا البدرِ في حياءِ الثرُّيا. ... في صلاة الأطيارِ فوقَ الغصون
في سقيطِ الندَىَ يطلُّ بهِ النبتُ ... فيَرِوي عن سَّره المكنون(897/36)
نورَ عيني مذ وادَعَ الدمعُ عيني ... غِبَّ يومٍ مردٍ ورزء طحون
كنت بَرداً لقلبيَ المحزونِ ... ثم شُغلاَ لهُ فحبَّ الحنون
ثم كنت الحياةَ حاليةَ الأفوافِ. ... ريا الأعطاف شتَّى الفنون
قبلتي أنت حيثُ أضربُ في ... الأرضِ فصونيِ أمانتي واذكريني
عزيز أباظة
لن أنساك
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
السنا والظل من عي ... نيك لاحا في خيالي
في مساء ساحر الأن ... وار، مسحور الظلال
وأنا وحدي غريب ... بين يأسي واعتزالي
أشرب الأوهام والأح ... لام من كأس الليالي
آه من عينيك يا حو ... راء يا نبع الحنان
كم شربت النور من عي ... نيك في ظل التداني
فانتشت روحي وهامت ... فوق آفاق الزمان
أين مني الآن هذا ... السحر؟ بل أي مكاني
نحن كنا في ظلال ... الحب، للحب نغني
نحن كنا نقطف الأح ... لام من روض التمني
ثم غاب الروض والأح ... لام. . لما غبت عني!
يا حياتي خبريني ... أي شيء كان مني؟
كالورود الذابلات ... هكذا صارت حياتي
هكذا ضيعت عمري ... في الأماني الضائعات!
م أزل مذ غبت عني ... هائما في ذكرياتي!
ذاهل الإحساس حتى ... لم أعد أعرف ذاتي
إن دعاني الليل طارت ... نحوه روحي الحزينة(897/37)
واستقرت في يديه ... وهي حيرى مستكينة
ومضت تشكو إليه ... وهي بالشكوى ضنينة
غير أن الليل يغري ... كل روح بالسكينة
لم أعد أخشى من المو ... ت، فقد مت مرارا!!
رب يوم كنت أفني ... فيه شوقاً وانتظاراَ
شارد الإحساس، حي ... ران الأماني، مستطارا
وتوارى اليوم لم أش ... عر به لما توارى
كنت أخشى الموت لما ... كنت أحيا مطمئنا
كان لي في الحب قلب ... بهواه يتغنى
ثم صار القلب يبكي ... حبه مذ غبت عنا
يا حياتي لست أدري ... لحياتي أي معنى!
أنا لن أنساك مهما ... طال بالذكرى عذابي
كيف أنسى نور أيام ... ، وأحلام شبابي؟
فارحميني حين أبكي ... فأنا أبكي لما بي!
وأعذريني حي يأتي ... ك على الهجر عتابي
واذكريني، فعسانا ... نلتقي بعد الغياب
إبراهيم محمد نجا(897/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بين بلزاك ودستويفسكي
في مقالكم القيم الذي ظهر في العدد (889) من الرسالة، تحدثتم عن أثر القصاص الفرنسي بلزاك في صقل الموهبة القصصية عند الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل، وذلك عن طريق القراءة والدراسة والاحتذاء. . ولقد وردت في ثنايا المقال فقرة من الفقرات قلتم فيها بعد شيء من العرض والتمهيد: (وجاء اليوم الذي كان يحلم به الزوج وتحلم به، وخرجت إلى حيز الوجود (ذهب مع الريح). . أول نفحة من نفحات الكاتب الفرنسي العظيم، أستاذ مرجريت الذي درست فن القصة على يديه، أستاذ الأساتذة في فنه بلا جدال)!
قلتم هذا عن بلزاك، وهو قول يعبر عن رأيكم في الكاتب الفرنسي وخلاصته أنه أعظم كتاب القصة بلا استثناء. . فما هو موقفكم من هذا الرأي الآخر طلع به علينا الأستاذ العقاد في عدد أغسطس من (الهلال)، حيث قال في معرض الحديث عن القصاص الروسي دستويفسكي: (ذلك هو دستويفسكي العظيم، دستويفسكي الخالد، دستويفسكي الذي لا يعلو على منزلته في القصة ولن يعلو عليها فيما أظن كاتب من كتابها المبرزين)؟!
ترى هل اطلعتم على هذا المقال الذي كتبه الأستاذ العقاد؟ وإذا كنتم قد اطلعتم عليه فكيف نوفق نحن القراء بين نظريتين، تدفع إحداهما ببلزاك إلى مقدمة الصفوف بينما تقصيه الأخرى عن مكانه لتحل محله دستويفسكي؟. نحن في انتظار رأيكم على صفحات الرسالة.
(دمشق سورية)
عدنان المطيعي
حقيقة نحب أن يعلمها الأديب السوري الفاضل ويعلهما غيره من القراء، وهي أن اختلاف الآراء حول قيم العباقرة من أهل الفن أمراً لا غرابة فيه. . وكيف لا تختلف الآراء وهناك تلك الحقيقة الأخرى التي تدور حول اختلاف الأذواق، وتنتهي إلى أن الذوق هو دعامة كل نظرة وسند كل لمحة وأساس كل ميزان؟ لا عجب إذن من أن ينظر الأستاذ العقاد إلى دستويفسكي نظرتنا إلى بلزاك، وأن يتنازع القصاصان الخالدان مكان الصدارة في عالم(897/39)
النقد بما خلفاه للإنسانية من تراث عظيم!
الأستاذ العقاد معجب كل الإعجاب بدستويفسكي لا يكاد يفضل عليه قصاصاً سواه، هو لا يقف وحده في مجال الإعجاب بسيد كتاب القصة الروسية إنما يقف إلى جابه الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد. وكاتب هذه السطور مقدر كل التقدير بلزاك لا يكاد يعدل به أحداً في مزاياه، وهو لا ينفرد بهذا التقدير لسيد كتاب القصة الفرنسية وإنما يشاركه فيه الكاتب الروسي العظيم فيدرودستويفسكي. . وإذا شهد دستويفسكي لبلزاك فهي الشهادة التي يعتز بها النقد ويحلها من مقاييسه في أبرز مكان!!
هذه حقيقة لا يجادل فيها كل مطلع على تاريخ دستويفسكي وكل دارس لحياته الفنية. . لقد قرأ الكاتب الروسي كثيراً من آثار بلزاك قبل أن تناول قلمه ليخرج للناس أول قصة، وكان إعجابه به هو إعجاب المعترف بالفضل حين يتمثل في القول المأثور أو الرأي المكتوب. . . وأبلغ الدلالة على هذا الإعجاب هو إقباله في مطلع الشباب على إحدى روائع بلزاك يقرؤها في نهم ويدرسها بعناية، ثم يأخذ في نقلها إلى لغته كنموذج رفيع لأدب القصة، ونعني بها رواية (أوجيني جرانديه) التي نشر ترجمتها في إحدى الصحف الأدبية الروسية!
حدث هذا على الرغم من تلك العصبية الإقليمية التي أشتهر بها دستويفسكي ورمي في سبيلها من مؤرخي الأدب بأقسى النعوت والأوصاف. . كان يفضل الشعب الروسي على غيره من الشعوب: فثقافته في رأيه هي خير الثقافات؛ وحضارته في نظره هي أرقى الحضارات، وقس إلى ذلك أغلب آرائه وأحكامه حين تدعو المناسبة إلى وضع الأدباء الروسيين في الميزان. . . هو مفتون بشعر (هيجو) الفرنسي يردده بينه وبين نفسه وبينه وبين الأصدقاء، ولكنه ينتصب واقفاً على قدميه ليدفع عن شعر (بوشكين) الروسي كلما هم لسان بالمقارنة بين الشاعرين، ثم لا يعدو مكانه إلا وقد خفض من قدر الأول ورفع من شأن الأخير! وهكذا كان حاله في كل موقف يتطرق الحديث فيه إلى المدح بين أدباء وطنه وأدباء غيره من الأوطان، إلا بلزاك. . فقد رأيه فيه فوق ك شك وفوق كل اتهام، حتى لتتوارى العصبية الإقليمية ولا تبقى غير كلمة الحق يجهر بها في إعجاب منقطع النظير. وحسبنا من دستويفسكي تقديراً لبلزاك تلك الحملة شنها على الناقد الروسي (بلنسكي)(897/40)
لتفضيله إحدى قصص (تولستوي) على (أوجيني جرانديه!!)
ولقد قلنا ونحن نستعرض جوانب الملكة القاصة عند بلزاك ونشير إلى مزاياه: (لقد كان بلزاك دارس نفسيات من الأول، حتى لتستحيل النفس الإنسانية تحت لمسات ريشة غرفة مفتحة النوافذ والأبواب. وكان راسم شخصيات لا له، حتى لتطالعك النماذج البشرية في ساحة عرضه الفني كما تطالعك في ساحة العرض الكبرى نعني بها الحياة. . . وكانيخسر الحوادث والشخوص لإبراز فكرته العامة التي ينسج خيوطها العرض والحوار، فإذا هذه الفكرة منشورة على حدود القصة تمتد ظلالها من البداية إلى النهاية. . . وكان في التزامه لعنصر الواقعية الفنية مثلاُ أعلى للمراقبة الحسية والنفسية حين تعملان في خط اتجاه فكري واحد ينتظم كل من خطوط).
ويقول الأستاذ العقاد عن دستويفسكي في مقاله الذي نشر في الهلال: (فالمواقف الغرامية من أهم المشوقات في القصة على العموم، ولكنك لا ترى رواية لدستويفسكي تحل الغراميات في المحل الأول، ولعلها لا ترتقي في معظم روايات المرتبة الثانية من مراتب العناية، فهي فضول يأتي في السياق اضطراراً ويوشك أن يسقط من الحساب لولا أن إسقاطه واحدة مجافاة للواقع في العلاقات بين الناس. . . ومن نواحي التشويق التي لا يكترث لها دستويفسكي تضخيم الحوادث والأكثار من المزعجات أو الطوارق التي تهول العدد الأكبر من قراء القصص فربما دارت القصة كلها على حادثة واحدة من الحوادث اليومية، وهي تشتمل على مئات من الصفحات. . . وقلما يتحدث هذا الكاتب الموهوب عن (الشخصيات) العظيمة التي تعود الناس أن يستطلعوا أنباءها ولو كانت من توافه الأنباء، فمعظم شخصياته من صغار القوم الذي يعدون في المجتمعات بالألوف والملايين، ولكنه يجعلهم على الرغم من ذلك (مهمين) جداً كأنهم ذوو قرابة يشغلون بال القارئ لقرابتهم لا لأنهم ذوو خطر أو لأن حوادثهم ذات بال.
هذه هي النواحي التي لا يكترث لها دستويفسكي في رواياته، فليس هو كاتب غراميات ولا كاتب جرائم ولا كاتب بطولات ومظاهر تروع الناس بالمناصب والألقاب. . . وعلى الرغم من هذا كله يكتب ويشوق ويبلغ الغاية في التشويق والإبداع، فلولا قدرة خارقة في ذلك القلم لما استطاع أن يرتفع إلى القمة العليا بين كتاب الرواية في جميع العصور! ما(897/41)
هي هذه القدرة الخارقة؟ هي القدرة على الغوص في السريرة الإنسانية، ففي بضع صفحات ينتقل القارئ من الشاطئ إلى أعمق الأغوار الإنسانية فإذا هو غارق معه في بحر لجي لا يحف فيه بالأرض والسماء، ولا يسأل أهو في ربيع أو شتاء، وفي صباح أو مساء، لأن (معمعان) هذه النفوس التي يغوص فيها يشغله عن الدنيا وما فيها ويبلغ من طغيانه على خيال القارئ أن يتوهم أنه عائش في قلب الرواية، فهي عنده الدنيا الحقيقية والدنيا التي تحيط بها هي الخيال)!
هذه كلمات تصدق على فن دستويفسكي كل الصدق وتنطبق عليه كل الانطباق، اللهم إلا في موضع واحد تختلف بشأنه مع الأستاذ العقاد، وهو قوله بأن دستويفسكي لم يكن كاتب جرائم. الحق أن أحداً من القصاصين لم يتناول الجريمة في قصصه بالتحليل العميق كما تناولها هذا الكاتب الفنان: هناك في روايته (الساذج) عامة، وفي روايته (الشياطين) خاصة، وفي روايته (الجريمة العقاب) على الأخص. . ولقد كان تحليله للجريمة في هذه الروايات الثلاث منصباً على الناحية النفسية والخلقية الاجتماعية!
وكل ما ذكره الأستاذ العقاد بعد ذلك عن قدرة دستويفسكي على الغوص في السريرة الإنسانية كما وهبة كبرى من مواهبه حقيقة ناصعة يندرج تحتها فن الكاتب الفرنسي فهما في هذه الموهبة متساويان. . . ولكن بلزاك يتفوق على صاحبه حين له تلك العناصر المشوقة التي لم يكن دستويفسكي يكترث لها التحقيق. وتبقى ناحية أخرى في فن الكاتبين من شأنها أن تثير بحثاً منفصلاً في أدب القصة. ومحورها أن دستويفسكي كان فهما للحياة من بلزاك وأن بلزاك كان أعمق تذوقاً للحياة من دستويفسكي. . . وسنتحدث في عدد مقبل من الرسالة عن الفوارق الفنية بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) تحت هذا العنوان: (القصة بين فهم الحياة وتذوق الحياة)
حول رأي قديم في أحد الكتاب
قرأت لكم في تعقيبات العدد (889) من الرسالة كلمة تحت عنوان (الإنتاج الأدبي بين الأصل والترجمة) تقولون فيها ما نصه: (أما عن وجود التفاوت بين الأصل والترجمة في الروح فهذا أمر لا جدال فيه). . وتقولون في نهاية الكلمة: (بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فأن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي(897/42)
لهذه الروح في الأصيلة التي يتذوقها المتذوقون)!
قرأت ذلك فقمت مسرعاً يدفعني شعور خفي إلى البحث عن أعداد الرسالة السابقة وسرعان ما وجدت ما كنت أبتغيه. العدد (817) كلمة في تعقيباتكم بعنوان (كاتب لا يعرف قدر نفسه) رددتم بها على الأستاذ سلامة موسى الذي كتب العدد (188) من المسامرات كلمة جاء فيها: (وقد ترجم من كتب جتيه إلى العربية كتابان، الأول (آلام فرتر) الذي (ألفه) وترجمه الأستاذ أحمد حسن الزيات، والثاني (فاوست) الذي ترجمه الدكتور محمد عوض محمد. . . وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصتي الشاعر الألماني، وعلى من يريد الوصول إليه أن يرجع إليهما في الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية) وقد هاجمتموه هجوماً عنيفاً مراً. . وكلمتكم الأخيرة تدل المرء على اتفاقكما في الرأي. . . فهل يا ترى غير الأستاذ الناقد رأيه؟. وإذا كان، فهل تنظر إنصاف الأستاذ سلامة نن قلم كقلم المعداوي؟. . الأمل كبير. . وتقبل سلاماً من المعجب.
رجاء عبد المؤمن النقاس
طالب توجيهي
لو دقق الأديب الفاضل فيما رمينا إليه من معنى في هاتين الفقرتين اللتين نقلهما من كلمة سابقة، ولو دقق مرة أخرى فيم رمى إليه الأستاذ سلامة موسى لأدرك أننا غير متفقين معه في الرأي كما يقول. . فكلمة (ألفه) التي ينسبها سلامة موسى إلى ترجمة الأستاذ الزيات لقصة (ألام فرتر)، هذه الكلمة ترمي إلى تجريد الترجمة الزياتية من الصدق والأمانة وهما لازمتان من لوازمها الحقيقة. . وكلمته الأخرى التي يقول فيها: (إنها لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصة الشاعر الألماني) ترمي هي أيضا إلى نفي كل أصالة فنية عن حقيقة تلك الترجمة وهي صفة أولى من صفاتها الجوهرية!
هذا السخف الذي لا يستند إلى شرعة واحدة من العدل والإنصاف، هو الذي دفعنا إلى كتابة تلك الكلمة في الرد على باطل الأستاذ سلامة موسى في مجلة المسامرات. . . ومع ذلك فأن قولنا: (ومهما بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فإن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي لهذه الروح في لغتها التي يتذوقها المتذوقون)، هذا(897/43)
القول لا يؤدي مطلقاً إلى ما يؤدي إليه قول الأستاذ سلامة موسى: (وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي قصة الشاعر الألماني). ذلك لأن هذا التعبير (لا يمكن أن تسمو) معناه في لغة الألفاظ الدقيقة أن ترجمة المترجم الصادق الأمين وإن احتفظت بروح النص في غير لغته فهي لا يمكن أن تحتفظ بجوهر تلك الروح في صورته الكاملة، ومثل في ذلك مثل المصور البارع الذي ينقل إليك لوحة (الجيو كندا) لدافنشي. . ليس من شك في أنه يستطيع أن ينقل إليك اللوحة نقلاً أميناً بما تزخر به من الملامح الألوان والظلال، ولكن الصورة التقليدية لا يمكن أن توحي إلى الشعور المتذوق (بكل) ما في اللوحة الطبيعية نبض وحياة! وإذن فترجمة الزيات العربية تستوي وأي ترجمة أخرى سواء أكانت إنجليزية أم فرنسية، ولا مبرر هناك يصر الأستاذ سلامة موسى على الرجوع إلى هاتين الترجمتين!
هذا هو المعنى الدقيق الذي درنا حوله وقصدنا إليه، وهو يفترق كل الافتراق عن المعنى الآخر الذي دار حوله الأستاذ سلامة موسى، حينا خطر أن يجرد ترجمة الأستاذ الزيات وصحبه (كل) احتفاظ بروح النص في لغته الألمانية!
ترى هل ينتظر الأديب الفاضل بعد هذه الكلمة سلامة موسى شيئاً من الأنصاف؟ إن رأينا اليوم في هذا الكاتب هو رأينا بالأمس، وإنه لرأي قديم دفعتنا المناسبة وحدها إعلانه، وكم لا في بعض الناس من أراء لا ينقصها لتظهر غير عدد من المناسبات!
رجاء إلى القراء:
هناك قراء لا يزالون يبعثون إلينا ببعض الأسئلة التي تتعلق بأمور شخصية؛ فهذا طالب حصل على التوجيهية يسألنا عن أي الكليات أكثر ضمانا للمستقبل وتوجيها إلى الحياة، وهذا آخر يسألنا النصح والمشورة؛ هل يتزوج الآن أم يرجئ هذا الأمر ليتفرغ لدراسته الجامعية، وهذا طالب ثالث يكتب إلينا راغباً في (إعطائه) بعض الدروس في الأدب العربي، قارئ رابع أضناه الحب وعذبه الأرق فه محتاج إلى (فتوة غرامية) تهيئ له أن يظفر بمن يحب، وهذا قارئ خامس يرغب في (وساطتنا) لدى وزير المعارف لينقل أحد أقربائه من المدرسين إلى القاهرة لأن الوزير الأديب في رأيه لن يرد طلباً للكاتب الأديب. . إلى آخر هذه النماذج العجيبة من الرسائل الطريفة!(897/44)
إن ردنا على هذا النوع من القراء هو أننا نعتذر إليهم من الإجابة على أمثال هذه الأمور، لأنها تخرج عن دائرة اختصاصنا في هذا المكان من الرسالة، وإن رجاءنا إليهم هو أن يقصرون أسئلتهم على الشئون الأديبة والفنية!
أنور المعداوي(897/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أعمال المؤتمر الثقافي وتوصياته:
أتينا في الأسبوع الماضي على اللجان التي الفت في المؤتمر الثقافي العربي الثاني، ونذكر الآن أنه بعد أن فرغت هذه اللجان عرضت تقريراتها على الهيئة العامة للمؤتمر التي عقدت جلستين في اليومين الأخيرين من أيام المؤتمر فناقش الأعضاء توصيات اللجان، وكان الرأي يؤخذ فيها واحدة واحدة، ووافق المؤتمر عليها مع تعديل بعضها. وقد رأس هاتين الجلستين الأستاذ شفيق غبريال بك نائبا عن معالي الرئيس الدكتور طه حسين بك؛ وقد جرت المناقشة في نظام تام وكان شفيق بك حريصاً على إتاحة الحرية في الإعراب عن الرأي، كما كان صبوراً واسع الصدر في حزم.
نظر المؤتمر تقرير اللجنة المكلفة بدراسة ما نفذته دول الجامعة العربية من قرارات وتوصيات المؤتمر الثقافي الأول، فتبين أن مناهج التعليم في أكثر البلدان العربية تسير وفق الكثير من تلك التوصيات، وأن أكثر هذه البلدان عملا بها هي سوريا، أن الحكومتين السعودية واليمنية لم ترسلا تقريريهما بهما في هذا الشأن، غير أن مندوبيهما أدليا ببيانين شفويين يتضمنان أن قرارات المؤتمر الأول موضع عناية هناك. وقد تقرر تشكيل لجنة للنظر في موضوع الكتاب المدرسي وفي وضع مناهج موحدة في القدر المشترك المبين في قرارات المؤتمر الأول، وتوصية حكومات الدول الأعضاء بضرورة تنفيذ ما يوصي به المؤتمر.
ونظر تقرير اللجنة المؤلفة لبحث موضوع تعليم أولاد اللاجئين الفلسطينيين، فلوحظ أن الجهود التي بذلتها البلاد العربية إلى الآن في هذا الغرض جهود متفرقة ولم تشمل إلا تعليم عشرين في المائة من مجموع من هم في سن التعليم من أبناء اللاجئين، كما تبين أنه ليس هناك إحصاء دقيق لعددهم وأحوالهم وقد أوصى المؤتمر بعدة توصيات منها تأليف لجنة تتفرع من اللجنة العامة لشؤون فلسطين، تكون مهمتها التفرغ للنواحي التعليمية من القضية الفلسطينية، ومنها فتح أبواب المدارس جميعها في البلاد العربية في وجه أبناء اللاجئين وأن يعاملوا كأبناء الدولة نفسها، وأن تستفيد كل دولة من المعلمين النازحين إليها من(897/46)
فلسطين بضمهم إلى هيئاتها التعليمية الأصلية ومعاملتهم كالمواطنين على أساس المساواة، وتعديل الأنظمة والقوانين التي تحول دون استخدامهم، وأن تقوم اللجنة المقترحة بإحصاء دقيق لعدد من الأساتذة والطلاب اللاجئين.
ونظر تقرير لجنة الثقافة العربية، وقد وافق المؤتمر على ما اقترحته اللجنة من تخصيص مؤتمر عربي ثقافي مقبل لدراسة موضوع الثقافة العربية دراسة تحليلية مفصلة، كما وافق على سائر توصياتها، وأولها العمل على تحقيق الوحدة اللغوية في المجتمع العربي حتى تكون لغته الفصحى لا لغة التعليم والتأليف فحسب، وقد جرت مناقشة في هذه النقطة أراد فيها بعضهم أن يعدل صيغتها بحيث تكون: العمل على نشر اللغة الفصيحة في المجتمع العربي، ولكن الأكثرية أصرت على الصيغة الأصلية، ومن هذه التوصيات مواصلة العمل على ترقية الثقافة العربية من طريق إحياء تراثها القديم وتأليف لجنة من المختصين في البلاد العربية لحصر المخطوطات واختيار ما ينبغي تقديمه منها للنشر، ويتألف لجنة أخرى لاختيار أمهات الكتب الأجنبية في العلم والأدب والفن لترجمتها إلى اللغة العربية، وتسهيل نشر الكتب والمجلات والصحف العربية في مختلف البلاد العربية وإزالة القيود المفروضة على التصدير والاستيراد، ومعالجة مشكلة تحويل النقد، وعدم الحد من حرية التفكير والتداول إلا في الحدود التي يسوغها القانون.
وتقرر تأليف لجنة برياسة معالي وزير المعارف المصرية وعضوية ممثلين للدول العربية، للمعاونة على الإعداد للمؤتمر الثالث ويكون من عملها وضع كتاب عن خصائص الثقافة العربية ومقوماتها والمشكلات التي تواجهها في العصر الحاضر ووضع كتاب في وصف خصائص الثقافة العربية للمقالة والموازنة.
ونظر المؤتمر في تقرير لجنة الإعداد للحياة، وقد لوحظ أنه أطال بذكر أمور تربوية مما هو معروف ومدون في كتب التربية، هو يتضمن الحث على مقاومة النزعة الكلامية والاهتمام بالناحية العلمية، وهو مع ذلك أكثر التقريرات كلاماً! تتجه التوصيات في هذا الموضوع إلى العمل على أن يكتسب الناشئ القدرة على ممارسة الحياة المشاركة في شؤونها، وتضمنت هذه التوصيات أهمية العناية بإعداد المعلمين، ورفع مستوى المدرسين مادياً واجتماعياً، وعقد مؤتمر خاص بأعداد المعلم في البلدان العربية.(897/47)
وأقر المؤتمر تقرير لجنة التوسع في التعليميين الثانوي والعالي، ومن توصياته في هذا الموضوع أن يكون التعليم في مرحلتيه الابتدائية والثانوية مجانياً، وأن تكون المناهج ذات صلة وثيقة بالبيئة الحياة، أن يكون التعليم العالي حق للنابغين وذوي المواهب وعلى الحكومات أن تيسره لهم بإعفائهم من نفقاته ومنحهم المساعدات المالية، ولخصت اللجنة عقبات التوسع في المعلمين والمباني والميزانية، وأوصت بالتوسع في إيفاد البعوث إلى الجماعات الأجنبية وفي استقدام الأساتذة الأجانب، وذلك للتغلب على عقبة قلة الأساتذة الجامعيين.
ثم عقدت الجلسة الختامية برياسة معالي الدكتور طه حسين بك رئيس المؤتمر، فتحدث ممثلو الوفود الرسمية حديث المودة والتحية والشكر، ثم وقف معالي الرئيس فألقى كلمة أعرب فيها عن شعوره بالتقصير في جانب الوفود العربية وأشاد بفضل العرب على مصر قائلاً إن قامت بشيء نحوكم فإنما ترد على الفضل فمنكم تعلمنا أدب العرب عنكم أخذنا الحضارة العربية وقال معاليه للأعضاء: أنني أهنئكم بأمرين الأول خاص بالجهود التي بذلتموها والنتائج التي وصلتم إليها، أعاهدكم على أنني سأدرس القرارات التي اتخذتموها وسأعمل على إنفاذها فوراً ولن أنتظر حتى تدرسها الجامعة العربية وتوصي بها لأنني مؤمن بها كما أنتم بها مؤمنون، الأمر الثاني هو أنكم قد فرغتم من عناء الدرس والبحث في المؤتمر وتستطيعون الآن أن تتفرقوا في البلاد المصرية دون أن تأخذوا أنفسكم بشيء من القيود ودون أن يأخذكم شفيق بك غربال بالحزم.
وأنتقل جميع الأعضاء على أثر ذلك إلى (كازينو سان استفانو) حيث تناولوا العشاء تلبية لدعوة معالي الرئيس، وبعد العشاء ألقى الشاعر العراقي الكبير الأستاذ مهدي الجواهري قصيدة مطولة عنوانها (تحية مصر) وهي قصيدة جيدة فيها عما يربط مصر والعراق من روابط الأخوة التي لا ينال منها صنيع بعض الساسة الذي ينكره الشعب. وبعده ألقى معال الدكتور طه حسين بك كلمة وصف بها قصيدة الجواهري بأنها جمعت بين طرائف العصر وجزالة العرب وكرر معاليه الدعوة إلى عقد الثالث في مصر، وكان قد وجه هذه الدعوة أيضا في جلسة المؤتمر حتى يتاح لمصر أن تقدم للوفود من الحفاوة ما لم يتيح لها في هذا المؤتمر.(897/48)
محاضرات المؤتمر:
كانت المحاضرة الخامسة، من المحاضرات العامة التي عدت لتلقي في خلال الأيام التي ينعقد فيها المؤتمر، هي محاضرة تربية العلمية لدى الشباب) للدكتور زكي نجيب محمود وقد بدأها بالتسائل عن سبب تأخرنا عن الغرب، وانتهى إلى أن هذا السبب إنما هو أننا نصدر في أعمالنا وتصرفاتنا عن العاطفة، قائلا: إن الشائبة التي تعيب كياننا وتضعف بنياننا هي (تضخم في العواطف والانكماش في العقل) وأن العلاج الذي يطالب رجال التربية أن يتناولوا به الجيل الناشئ هو أن يحصروا العاطفة في أضيق دائرة ممكنة ليفسحوا للعقل أوسع نطاق ممكن وقد عرف العاطفة بأنها الميل الشخصي الذاتي الذي لا يؤيده شيء من الواقع وعرف العقل بأنه مجموعة الأقوال التي يمكن التحقيق من صوابها أو خطئها. وقال إن أوربا نهضت في القرن السادس عشر لأنها نقصت عن نفسها غبار العقيدة (فسر العقيدة بأنها الذي يصدر عن عاطفة) لتلقي بزمامها إلى العقل، وإن التقدمالذي أصابه الإنسان إنما يرجع إلى تغيير نظرته إذا أصبح في البحث العلمي لا يقول القول إلا إذا اقتنعت به الحواس ورضي العقل، وإننا إذا أردنا أن نلحق بركب التقدم يجب أن نصنع ما صنعت أوربا إبان نهضتها، فأن حالنا شبيه بحالها إذ ذاك، فيجب أن ننزل عن الإيمان بالقلب إلى الإيمان بالعقل، والدعوة إلى العلم وحده هي الدعوة إلى المعرفة الصحيحة. ثم ندد بالطريقة المدرسية عندنا لأنها تعتمد على الحفظ سواء أكان المحفوظ قرآنا أم غيره، فالمدارس لا تزال (كتاتيب) وقال: إن تربية الناشئ تربية علمية معناها ألا يسلم بعقيدة لأنها شائعة وألا يأخذ برأي لأنه رأي موقر بتوقير صاحبه بل يجب أن تقوم التربية على تحكيم العقل فيكون للناشئ حق النقد كيف شاء.
ولا شك أن أساس المحاضرة سليم من حيث الدعوة إلى العلم والسير على مقتضى العقل، من حيث نقد ما يسود حياتنا على اختلاف نواحيها من عواطف حمقاء وعشواء ولكن الدكتور زكي نجيب قد غالى واشتط كدأبه فقلل من شأن العاطفة بل أنكرها كل الإنكار، وجعل العقل وحده كل شيء في تقدم الإنسان ورقيه أسند تأخرنا إلى ما سماه (تضخم العواطف) الواقع أن عواطفنا المتضخمة التي تسوقنا إلى الخرافات والأوهام ليست هي العواطف المنشودة للإنسانية والتي لا تكون الإنسانية إلا بها، فالعاطفة المنشودة هي(897/49)
(العاطفة العاقلة) إذا اعتبرنا هذا المعنى أمكن القول بأننا لا نصدر فيما نأتي وندع عن عاطفة ولا عن عقل.
فليدع من يدعو إلى العقل والى العلم، وما أشد حاجتنا إليهما، ولكن كيف نعيش من غير عقيدة وقلب وعاطفة، وما موقفنا أذن من قيمنا مثلنا الروحية؟ حقاً أشار الدكتور زكي في المحاضرة إلى أنه لا ينكر أثر الأدب والفنون في ترقية الأذواق وتهذيب النفوس لكنه لم يبين كيف يتفق الإقرار بهذا مع إنكار العاطفة والوجدان هل يريد (فنونا علمية) وكيف تكون؟
ثم كيف يتجرد الناس من القلب الإنساني وكيف تكون حياتهم إذا أسكتوا نبضه؟ وهل حقاً يسير المجتمع الغربي - إذا سلمنا بأن لا بد من السير في أثره - بلا عاطفة؟ وإذا أحتج أحد بعسف السياسة وطغيان الاستعمار فهل الحياة الغربية كلها سياسة واستعمار؟ وكانت المحاضرة الأخيرة هي محاضرة فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عن (العنصر الروحي وصلته بأعداد المواطن الصالح وقد بين فيها أثر الدين في تربية الناشئ تحدث عن أعداد من سماه (الديني الخاص) وعني به المختص بالثقافة الدينية وقال إنه لا يكفي في إعداده أن يتبحر في علوم الدين بل يجب أن توجه أكبر عناية إلى تربيته بحيث يمتزج الدين بقلبه كما يلم به عقله. ومما قاله أن العالم يحتاج إلى هداية يرجى أن تشع عليه من هذا الشرق.
الشغب في المؤتمر:
كانت محاضرة الدكتور زكي نجيب محمود مساء يوم الاثنين، وكان المقرر أن يتلوه الأستاذ عبد العزيز القوصي بمحاضرة عن الأزمات النفسية بين طلبة المدارس الثانوية، ولكن المحاضرة الأولى أثارت ضجة، إذ اعتبرها بعض الأعضاء دعوة إلى الإلحاد، وطلبوا أن يجر التعليق عليها والمناقشة فيها مهما طال الوقت ولو أدى ذلك إلى تأخير المحاضرة الثانية، ورأى الرئيس المشرف على المحاضرات، الأستاذ متي عقراوي، أن تلقي المحاضرة الثانية أولاً، وأيده في ذلك بعض الأعضاء ولكن طلاب المناقشة وقفوا بعنف وحالوا دون إلقاء المحاضرة، وانقلبت هذه إلى عراك، وأراد بعضهم أن (يتفاهم) بالأيدي والكراسي. . ثم أنفض الجمع أغلقت القاعة. وقد أدى ذلك إلى إلغاء المحاضرات(897/50)
ما عدا محاضرة الأستاذ الشيخ شلتوت التي ألقاها يوم الأربعاء.
ومما يذكر أن تلك (المهارشة) وقعت بين الأعضاء المصريين فقط، وأنها امتداد للحملة أو العاصفة التي تحدثت عنها في الأسبوع الماضي، ولم يفت الأعضاء غير المصريين أن يلاحظوا أن هذا الشغب يرجع إلى دوافع شخصية أو دوافع نفسية أو كليهما، ولم يفت أحد من العقلاء جميعاً أن يستنكر هذه الأساليب التي لا تليق بالمجتمعات الثقافية.
ومما يذكر أيضا أن ذلك الشغب أنقطع أو كاد بعد الحادث الذي وقع على أثر تلك المحاضرة، وقد فهمت - من بعيد - أن انحسار الشغب عن المؤتمر بعد ذلك يرجع إلى أن معالي رئيس المؤتمر الدكتور طه حسين بك أبدى غضبه لهذه الحال بطريقة ما، فعلموا أنه غير راض عن هذه التصرفات، على خلاف ما كان يوعز إليهم!. .
معرض الزخرفة الأندلسية:
هو معرض روائع من عمل الفنان العراقي السيد يوسف محمود غلام، وقد استدعته الإدارة الثقافية من بغداد ليعرض أعماله الفنية في المؤتمر الثقافي. وآسف لضيق المقام في هذا الأسبوع عن الحديث عن هذا المعرض العظيم، غير أنه لا بد الآن من الإشارة إلى أن المعرض لا يزال في كلية الآداب بالشاطئ على رغم انقضاض المؤتمر ومجيء الأعضاء إلى القاهرة، وصاحبه السيد غلام لا يزال حائراً، وقد نفذت نفقته ولم يلق ما كان يؤمل من تشجيع أدبي وعون مالي، أيعود إلى بغداد بعد أن أنفق على معرضه وعلى نفسه وولده نحو مائتي جنيه من جيبه، أم ينتظر لفتة أحد من ذوي الشأن ينقل المعرض إلى القاهرة، عسى. . .؟
عباس خضر(897/51)
البريد الأدبي
إلى هجران:
ليتك ما تكلمت يا (هجران) فإنك لم تخرجي من تعقيب صاحب
التعقيبات إلا بطائفة من كلمات لا تقنع. أما الأجواء الفنية التي حلقت
بينها الأجنحة النفسية فما تناولت بإشارة تدل عليها، كأن القضية لا
تحتاج إلى نتيجة. . وأين الفن في أبيات صاغها (الحداد) من حديد،
فاتبعه الوزن، وأعياه التكلف، وخانه (النحو). وكل واحدة من هؤلاء
قاصمة لها في عالم الشعر ما للذر في عالم الحرب. . وإني لحائر فأي
ذوق فني في قول الحداد.
أرم عينيك يا سحاب ... إن بكى قلب شاعر
أو قوله:
وأغنى ليزهدا ... بهتاف الضحى لهزار
وأين الواو العاطفة التي ... يفتقر إليها (ظمأي)
عندما يقول:
إن جوعي كوى للحجر ... ظمأي جفف العيون
إن العنوان الحق الذي يليق برأس تلك المقطوعات لا يكون غير (هذيان) هذا إن قصد الإنصاف واعتدلت الموازين، أما إن أريد غير ذلك فلا حرج في الإفتاء بجواز تجريد جواب الشرط من فائه.
ليتك ما تكلمت يا (هجران) فإن القلم يوشك أن يقرض اللجام ليكشف الغطاء عن (الأداء النفسي) وذاك أمر أن يبد يسوء الأستاذ (المعداوي).
وسلام عليك على صاحب التعقيبات.
طنطا
بركات(897/52)
وفاة البارودي
نشرت الرسالة الغراء بالعدد (895) بضعة سطور ظن كاتباها أنه قد استدرك علينا فيما نشرناه بالعدد 892 من أن وفاة البارودي كانت في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904 فقال: أن هذه وفاة كانت ليلة الثلاثاء 13 ديسمبر سنة 1904 وكأننا بهذا الاستدراك (التجاري) قد احتملنا وزر تقديم تاريخ وفاة البارودي ساعة أو بعض ساعة!!
وقد كنا نود لو أن هذا الاستدراك قد ظهر من عشر يوم أن كتب هيكل باشا في مقدمة الجزء الأول من ديوان البارودي الذي طبع سنة 1940 أن الوفاة: كانت في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر سنة 1904!!
إن الذي يتصدى لمثل هذه الأمور يجب عليه أن يتحرى التحقيق البالغ لكي يصيب الغرض الذي يرمي إليه وهو ما في توخيناه في تحقيق وفاة البارودي رحمه الله فقد رجعا فيه إلى ثلاثة مصادر كبيرة لايشك أحد في روايتها ولا يجادل مكابر في تحقيقها في حين أنه كان يكفي في هذا التحقيق مصدر واحد منها وهذه المصادر هي مجلات: المقتطف والهلال المنار.
أما المقتطف فقد قال في الصفحة 7 من المجلد 30 جزء يناير سنة 1905 من ترجمة مستفيضة للبارودي بقلم العلامة الدكتور يعقوب صروف ما يأتي: (وعاد إلى القطر المصري ليموت فقضى إلى رحمة ربه يوم الاثنين في الثاني عشر من الشهر (ديسمبر) ودفن بما يليق من الإكرام) وقال في الصفحة 92 من جزء فبراير سنة 1905 هو يتكلم عن حفلة تأبينه ما يلي: (وقد أجتمع الأدباء بدعوة الكاتب البليغ والشاعر المطبوع خليل أفندي مطران صاحب جريدة الجوائب المصرية في العشرين من يناير فتلوا ما نضموه من المرائي الخ).
وقالت مجلة الهلال في الصفحة 261 من عدد فبراير سنة 1905 (السنة الثالثة عشرة) من كلمة لصاحبها جورجي زيدان بك (وظل بين أهله وذويه حتى توفاه الله في 12 ديسمبر سنة 1904 - وفي الصفحة 246 من هذا العدد قالت المجلة (ونظراً لمنزلته الرفيعة في نفوس الشعراء فقد اجتمعوا على ضريحه في الإمام الشافعي يوم الأربعين من وفاته(897/53)
الموافق 20 يناير الخ).
أما مجلة المنار فقد زادت الأمر تحقيقاً وبالغت فيه إثباتاً، ذلك أنها ذكرت في الصفحة 832 من المجلد السابع ما نصه: توفاه الله تعالى في يوم الاثنين لخمس خلون من شهر شوال (سنة 1322) فشيعت جنازته باحتفال عظيم وصلى عليه الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) ولم أر صلى على ميت غيره إلا مأموماً، وسيجتمع شعراء مصر أدباؤها في اليوم (التاسع والثلاثين) لموته (الجمعة 14) ذي القعدة (20 يناير) عند ضريحه ويؤبنونه ويرثونه الخ). فنظر إلى هذا التحقيق الذي تحراه صاحب هذه المجلة هو العلامة الجليل السيد رشيد رضا رحمه الله فإنه بعد أن ذكر أن وفاته كانت يوم الاثنين الموافق 12 ديسمبر سنة 1904لم يقل كما قال غيره أن حفلة تأبينه كانت في 20 يناير الذي هو يوم الأربعين، وإنما قال إنها كانت في اليوم التاسع الثلاثين لموته، وذلك لأن الأيام الباقية من شهر ديسمبر بعد اليوم الذي توفي فيه تبلغ تسعة عشر يوما فإذا ضم إليها 20 يوماً من شهر يناير كان مجموع ذلك 39 يوماً.
وأن لرواية هذا الإمام لمنزلة محترمة من التقدير والثقة فأنه على دقته المعروفة عنه كان صديقاً حميماً للبارودي وكان كذلك في مقدمة من شيعوا جنازته هو وأستاذه الإمام محمد عبده.
أما ما جاء في ظهر الورقة (و) من مقدمة الجزء إلاول من ديوان البارودي فهذا لا يعول عليه ولا يؤخذ به وقد طلعنا على هذا الجزء عند ظهوره في سنة 1916 وأغضينا طرفنا حينئذ عما جاء به شارح الديون في المقدمة مما أساء به إلى البارودي (وقصيدته)!! رحمهما الله، وانتقدنا بعض ما شرحه ونشرناه في جريدة السفور وكنا نريد المضي في هذا النقد ولكن الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق رحمه الله رغب إلينا أن نكف عن نقده بكلمة رقيقة.
هذا هو الحق في أمر تاريخ وفاة البارودي ننشره على قراء الرسالة في بعضه غنية لمن أراد أن يقنع أو يقتنع بأن الوفاة قد كانت في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904.
المنصورة
محمود أبو رية(897/54)
سويا تؤدي معنى معا
خطأ أديب بالعدد 895 من الرسالة استعمال كلمة (سوياً) بمعنى (معاً)، وبعد أن أورد جملة من قصة مترجمة بقلمي بعدد سابق من الرسالة استعملت فيها كلمة (سويا) بمعنى معاً قال (إن الذي تراه اللغة في مثل هذا أن تكون كلمة معاً هي التي يليق بها أن تحل محل سوياً لا العكس في الترجمة لكلمة فهي التي تؤدي المعنى المراد)!. .
ولهذا الأديب أقول إن استعمال كلمة سوياً بمعنى معاً استعمال صحيح لا غبار عليه يشهد لذلك قوله تعالى في سورة مريم (قال رب أجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) والتقدير (ثلاث ليال وأيام سوياً). ذلك أن ذكر الليالي والأيام في آل عمران يدل على أن المنع من الكلام أستمر ثلاثة أيام ولياليهن! فذكر الأيام يتناول ما بازائها من الأيام عرفاً! فيكون المعنى المراد من الآية إذن هو الامتناع من الكلام (ثلاث ليال وأيام معاً) وحينئذ يكون استعمال كلمة سوياً بمعنى معاً استعمال صحيح!.
ولا عبرة بما يذهب إليه بعض المفسرين من تفسير سوياً في الآية الكريمة بأنها حال من ضمير (تكلم) للتعسف الظاهر في هذا التفسير ولانطباق السياق على الوجه الذي أوضحناه.
المنصورة
كمال رستم(897/55)
العدد 898 - بتاريخ: 18 - 09 - 1950(/)
الدفاع عن الثقافة العربية
للأستاذ عمر حليق
- 2 -
رأينا في القسم الأول من هذه الكلمة أن الثقافة العربية والثقافات الأخرى مهددة بأدب التبذل والسطحية واللذة والمجون التي تنبعث من (هوليود) و (برود واي) وتجد سبيلها إلى صميم المقومات الثقافية والخلقية للشعوب الأخرى.
ورأينا كذلك أن من حق الثقافة العربية أن تتحدى هذه التيارات الدخيلة وأن تمحصها وتختار منها ما تستسيغه وما يتفق مع ثقافتها القومية. ورأينا أن على الخاصة من أهل الدين والفكر والأدب والفن مسؤولية مضاعفة في حمل لواء الدفاع والتصدي للمتطفلين من رجال الصحافة الصفراء والثقافة السطحية، والنفعيين من رجال الأدب والفن ومنافستهم في هذه السلطة الثقافية التي ليست من حقهم والتي يفرضونها على حاضر الثقافة العربية فيدفعونها في مسالك قد تؤدي بها إلى (سطحية الذهن وعامية الفكر وسآمة الحد) ومن ثم إلى هامش الحياة وزوايا التاريخ.
ورأينا أيضاً أن الثقافة الناشئة التي تمر في عهد أحياء وتجديد كالثقافة العربية المعاصرة اكثر ما تكون تعرضاً لخطر هذه التيارات الدخيلة إذا كانت سياسة شعوبها قلقة واقتصادهم مضعضعاً وكيانهم الاجتماعي متوتراً، خصوصاً وأن تلك التيارات صادرة عن شعب له في عالم المال والسياسة والحرب نفوذ كبير.
ولو كانت الثقافة العربية المعاصرة لا تستند إلى تراث، ولا تفخر بعرف، ولا تباهى بعدد الذين ينضوون تحت لوائها لهان الأمر؛ وذلك لأن الناس ينظرون إلى ثقافات الشعوب الصغيرة نظرة استخفاف ويعدونها من قبيل (الصدف) التاريخية التي تعلق بذيل الثقافات الإنسانية ولا تساهم في جوهرها، وتجرف من ثقافات الأمم ولا تصب في جداولها، ومن قبيل ذلك مثلاً ثقافة البرتغال.
أما الثقافة العربية فقد ساهمت في جوهر الفكر الإنساني وحافظت على كثير من خصائصها على ممر السنين وتعداد القرون. وحاضرهاالآن يشمل سبعين أو ثمانين مليوناً من البشر ويتصل من قريب وبعيد بأربعمائة مليون مسلم يحتلون بقاعاً هامة في مجالات السياسة(898/1)
والاقتصاد والسلم والحرب؛ فالموجب أذن لأن يقف الخاصة من المثقفين العرب في الآونة الحاضرة موقفاً سلبياً - واعين أو غير واعين - ويتعلقون بأذيال لندن أو نيويورك أو موسكو أو باريس دون ترو أو تحميص، ويسلكون سلوك الثقافات الصغيرة التافهة التي تمتص من ينبوع الفكر ولا تصب فيه؟
والقول بأن الفترة الحالة من تاريخ الثقافة العربية فترة هضم واستيعاب لا يبرر هذا الانسياق نحو التقليد والمحاكاة والاستعارة الضالة. ومثل هذا القول فيه الكثير من التضليل.
فالغذاء الفكري الذي يعيش عليه الناطقون بالضاد في الآونة الحاضرة هو في كثرته الساحقة غذاء يبلع ولا يهضم ويقلد ولا يستوعب وينقل ولا ينتج.
فعصر النهضة والأحياء عصر خطير. والخوف عليه من التقليد والنقل الأعمى اكثر من الخوف على ثقافة اكتمل أحياؤها واشتد ساعدها كالثقافة الفرنسية المعاصرة مثلاً. فإذا أخاف أهل القمر في فرنسا من تيارات هوليود فحري بأقرانهم في العالم العربي أن يهلعوا وأن يعلنوا الثورة ويحملوا أقوى أسلحة الدفاع.
ولو فرضنا - كما افترض جون بول سارتر - أن شعباً أوربيا صغيراً اضطر بحكم الظروف السياسة والاقتصادية لأن يستعير من الأيدلوجية الأمريكية أو السوفيتية شيئاً، فهذا الشيء المستعار لن يتبدل جوهره بعد الاستعارة إلا بعملية هضم ضحية سليمة، وذلك لأن أصوله مستمدة من طبيعة الاقتصاد والوضع الاجتماعي والسياسي في أمريكا أو روسيا. والمستعير حين يكون سطحي الثقافة لن يستطيع أن يبدل طبيعة هذا الوضع فيبقى الشيء المستعار في جوهره أمريكا أو روسيا يفرض على ثقافة صغيرة لا قبل لها بتحويله أو طبخه من جديد؛ وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة الضعف السياسي والحاجة الاقتصادية والفقر الثقافي في ذلك الشعب الصغير، وبطبيعة الحول الذي يسند هذه الأشياء المستعارة.
فإذا لم تقم خاصة المثقفين من أبناء ذلك الشعب الضعيف بالتدقيق في جوهر الشيء المستعار على ضوء الثقافة القومية ومصلحتها وتعديله أو رفضه، وإنما تركوه للمتطفلين على الأدب والفن والحياة الروحانية يفرضونه على تلك الثقافة القومية فإن مصير هذه الثقافة الانشقاق أولا، والانزواء والاستقرار في الحضيض بعد ذلك.
فستكثر الأشياء المستعارة وترسخ في الحياة الفكرية والنشاط الإنساني لذلك الشعب(898/2)
الضعيف فتنافس عناصر الثقافة القومية منافسة شديدة عنيفة فإذا لم تجد هذه الثقافة القومية منافسة شديدة عنيفة فإذا لم تجد هذه الثقافة من يحمل لواء الدفاع عنها فإنها لا مراء ستصاب - في المراحل النهائية - بالتفكك والانحلال، وسيفقد ذلك الشعب طابعه الأصيل ويصبح كالسيارة الأمريكية تسير في شوارع دمشق والقاهرة - ويسوقها عرب بوقود عربي، ولكنها مع ذلك لا تمت إلى صميم الثقافة العربية بصلة وثيقة، فإذا رآها المستطلع الأجنبي لم ير فيها سائقها العربي - ووقودها العربي و (رخصتها) العربية وإنما أصر على أن يرى فيها الحضارة الأمريكية ممثلة أبلغ تمثيل.
وانقسام الثقافة القومية على نفسها شر من المستطاع تفاديه إذا تصدى نواب الثقافة لبواعثه وعالجوا جرثومة الشر؛ فالافتراض من الثقافات الأخرى دون قيد أو شرط ودون مراقبة ومحاسبة سيولد في المجال الثقافي والاجتماعي مثل الحالة التي وجدت مصر نفسها فيها حين أوسع الخديوي إسماعيل على نفسه وعلى الدولة في الاقتراض والاستعارة المالية وما استتبعه ذلك من عجز في التسديد ومن ثم الحماية السياسية وما جرت من عواقب وآلام على تاريخ مصر الحديثة.
وحين تجد عناصر الثقافة القومية نفسها قاصرة عن منافسة العناصر الدخيلة والمستعارة أو عاجزة عن هضمها ووضعها في قالب قومي أصيل، وحين تفقد تلك الثقافة الأنصار من أهلها يكون مصيرها مصير الطفل الذي لم يجد من يرعاه ويحنو عليه فسينفذ مجهوده الضعيف في صراع الحياة ويشب ضعيف البنية ناقص التغذية مشلول النشاط.
وحين يمر عصر التقليد والمحاكاة وترسخ العناصر المستعارة في الثقافة الوطنية ثم تحاول العناصر القومية الأصلية أن تنهض لتطالب بحقها في الحياة يكون التنافس بين طرفين غير متكافئين - كما يقول علماء القانون - فيحلق بأضعفها غبن يترك أثره السيئ في صميم المصلحة السياسية والاقتصادية والتكافل الاجتماعي.
إذن فوزر حفظه الثقافة القومية في إهمال الدفاع، واستخلاص التوجيه الثقافي من الأقليات الدخيلة، ومن يد السطحيين والمتطفلين وأصحاب الثقافة المنشقة المشوهة وزر عظيم، والنكوص عن الدفاع عنه مع القدرة عليه أثم عظيم - على حد قول الفقهاء.
ولقد اشتكى مورياك وزيجفريد وسارتر بأن الثقافة الأمريكية البرجماتزمية المعاصرة لا(898/3)
تعترف بدينها للحضارات الأوربية القديمة أو الحديثة. (وهذا ينطبق على النازية والماركسية كذلك) وإنما تفخر بأنها وليدة التاريخ الأمريكي والدفع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نبت في العالم الجديد. ولذلك فإن في الأمريكان مزيداً من الشعور بالعظمة وفيهم لون من الاحتقار والاستخفاف بكل ما هو أوربي. وما ذلك إلا لأن أوربا لم تكن البادئة في صنع السيارات والثلاجات وألف نوع ونوع من هذه الحضارة المادية التي هي ابرز عناصر الثقافة الأمريكية.
فإذا كان هذا موقف الأمريكان من الحضارات الأوربية فإن موقفهم من حضارات الشرق يكون أشد وأعنف.
فالشرقيون عند الأمريكيان علم على الانحطاط الخلقي والضعة الاجتماعية وسوء السلوك والحسن والدناءة وكال ما في قاموس اللغة من صفات ونعوت سيئة. وهذا التحامل وإن لم يكن مقصوراً. على الأمريكان - وإنما يشترك فيه جميع الشعوب الأوربية - إلا أن الأمريكان يقرونه في دساتيرهم المدونة ومعاملاتهم القانونية وصميم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي جعل مشكلة الصراع العنصري في أمريكا وصمة في جبين القارة الأمريكية.
وقد يستطلع المثقف الأمريكي ألوانا من العظمة في حضارات الشرق، ولكن هذه الألوان لا تثير فيه إعجاباً صادقاً مخلصاً ولا تؤثر في عقليته ومشاعره. وقد يستشهد بها في معرض الكتابة أو المحادثة ولكنه لا يسمح لنفسه ولا لثقافة أن تتطعم بها لأنه - وهو برجماتزمي أصيل - لا يجد فيها إمكانيات لمستقبله الثقافي.
فحضارات الشرق عند الأمريكي أمر عفا عليه الزمن، فهو جزء من الماضي ولا مكان له في حضارة العالم الجديد بالرغم مما في الثقافات الشرقية من عناصر خالدة تصلح لكل زمان ومكان.
ولذلك يندر أن تجد في ملاعب أمريكا مسرحيات أو أفلاما تعالج الشرق من ناحية مشرقة. فالشرق لا يمد المنتج الأمريكي إلا بالمواد التي تصور له ولجمهوره الصورة الخاطئة التي يحملها من الشرق: ضعة وخسة ومكر ودهاء، وألوان من القساوة والشذوذ يعرفها كل من شاهد الأفلام وقرأ القصص الأمريكية التي اتخذت الشرق وحضاراته وشعوبه مواضيع لها.(898/4)
ثم هناك مشكلة أخرى يخلقها التقليد الأعمى والنقل (الخام) والمحاكاة والاستعارة بدون هضم صحي سليم للعناصر الثقافية المستعارة.
هذه المشكلة تتعلق بطبيعة الخلق القومي وطبيعة المكونات المثالية (الأيديولوجية) التي تجعل الخلق القومي على ما هو عليه من تميز وتفاضل.
فالثقافة الأمريكية ثقافة مادية (برجماتزمية) بنيت على الفلسفة الدارونية التي تبرر انتهاك حرمات العدالة والأنصاف والفضيلة على أساس الفكرة التي تقول بأن (البقاء للأصلح) والحق للقوة؛ وهذا يعني إنها لا تؤمن بمساواة الضعيف العاجز في الحقوق التي للقوى المتمكن. وهذه المثالية في الثقافة الأمريكية البرجماتزمية لا تقتصر على الحياة الصناعية والتجارية ولا على السياسة (كما ابتلى بها العرب في مأساة فلسطين) وإنما تشمل كذلك صميم العلاقات الاجتماعية وسائر اوجه النشاط الإنساني.
قال (شارل بير نز أحد مؤسسي الفلسفة البرجماتزمية ما يلي:
(اختيار الطبيعة للصالح من الأشياء كما يراه دارون يعنى أن عنصر التقدم وجوهره لا يتبع إلا عاملاً واحداً هو الإنتاج. فإذا أريد لهذا التقدم أن يستمر وينمو ويزدهر فلا مفر من خلق العراقيل للقضاء على العناصر التي لا تنمو، ومن ثم فإن القضاء على الضعيف وسيلة جوهرية من وسائل التقدم والرقى. وهذه مثالية لا تختلف في جوهرها - كما ترى - عن النازية والشيوعية المادية.
فهي لتأصل العنصر المادي فيها تنكر الروحانية، والروحانية عنصر أصيل في الثقافات الشرقية.
وإلا فما فائدة الدين والمثل والقيم الروحانية التي تسنده فتعين الفرد والمجتمع على اتباع حياة فاضلة؟
والدعوة إلى القضاء على الضعيف أو تجاهله كوسيلة جوهرية من وسائل (التقدم والرقي) مبدأ يعرض صلب التكافل الاجتماعي إلى خطر التفكك والانحلال، ويخلق في الناس مشارب وأهواء وفلسفات لا يرضى عنها الدين، ولا تنمي في النفس السماحة، ولا تحقق لها الطمأنينة الوجدانية، وعلى ضوء هذه البرجماتزمية نستطيع أن نفسر نصرة كثير من رجال الدين والفكر والسياسة والاقتصاد في أمريكا للعدوان اليهودي في فلسطين وإمداد هذه(898/5)
المناصرة من أغراء اليهود المادي.
فاحترام الوالدين مثلاً نظام لا تقره الثقافة البرجماتزمية - أو بالأحرى لا تقر عليه - والولد بحكم هذه الثقافة لا يؤمن بحق والده عليه في الولاء وفي الطاعة وفي الواجبات التي تحتمها صلة الرحم والشيخوخة وهي واجبات أصيلة تؤلف عنصراً أساسياً في التكافل الاجتماعي.
ومن ثم كان هذا الانحلال الذي أصاب العائلة الأمريكية واستدعى هذه النسبة العالية من حوادث الطلاق ومشاكل الزوجية بالإضافة إلى ذبول العقوق وانقطاع الصلات الروحية والعاطفية بين الأب وابنه والزوج وزوجته. ولولا الرخاء الاقتصادي (الذي من قبيل المصادفات التي جادت بها الطبيعة البكر على سكان (العالم الجديد) والذي صاحب التاريخ الأمريكي، لدفعت عناصر هذا التفكك الاجتماعي بأمريكا إلى الفوضى والانهيار. إذ أن أسس العلاقات بين هذه النظم الاجتماعية كلها هي صلات برجماتزمية مادية. ومن قال أن المادة هي أساس التكافل الاجتماعي؟ أو ليست هذه الوصمة هي محور النقد الذي يوجهه العالم إلى الماركسية وتعاليمها؟
والأدلة عديدة على أن العلاقات البرجماتزمية لا تصلح للحياة السعيدة يلمسها المراقب هنا في أمريكا ويلمس كذلك سمي الأمريكان عبثاً للتغلب عليها وأصلاحها بمثل وقيم تشوبها طوابع الروحانية وتبتعد أكثر فأكثر عن الفلسفة الدارونية.
فمسرحية (موت البائع) مثلاً التي لا تزال تمثل على مسارح برود واي في نيويورك وفي كثير من المدن الأمريكية الكبرى باستمرار منذ اكثر من عامين، تضرب على هذا الوتر الحساس في مشاعر الأمريكي - فهو إنسان قبل أن يكونبرجماتزمياً - فستنزف دموع رواد المسرح كما لو انهم في مأتم. فالمسرحية تدور حول أب وجد نفسه في سن الشيخوخة في مدينة صناعية وقد عجز عن توفير الطمأنينة الاقتصادية لنفسه ولزوجته العجوز في أيامهما الأخيرة. فلم يشفق عليه المجتمع ولن ترأف به النظم (البرجماتزمية). ومع ذك لم يستلم إلى القنوط إلا بعد أن تحقق من فقدان الشفقة والرأفة عند فلذات كبده من بنين وبنات، وهم الذين ساهم معهم في أيام شبابه في توفير المعيشة لهم وتزويدهم بما يزود به الناس أبناءهم من تربية وحسنى فكان أن عجز هذا الشيخ عن مواجهة الحياة البرجماتزمية(898/6)
فألقى بنفسه تحت عجلات القطار!
ففقدان الشفقة والرأفة والحنان بالشيخوخة عند البرجمانزميين مرجعه احتقارهم للضعف مهما كانت بواعثه. والشيخوخة ضعف بغض النظر عن أسبابه.
ولما كانت الفلسفة الدارونية هي جوهر الثقافة البرجماتزمية التي تعيش عليها أمريكا فلذلك لا تؤمن العقلية الأمريكية بالنظريات والروحانيات وهذه الصلات الرقيقة الرفيقة التي تلطف من قساوة الحياة وعصفها كما نؤمن بالنتائج وبالنواحي العملية في النشاط الإنساني ومن ثم فقد الأمريكان احترامهم للثقافة بمعناها الحقيقي.
فالمدرس وأستاذ الجامعة في أمريكا لا يحظى بالاحترام الذي يحظى به في ألمانيا وفي مصر والهند مثلاً. وما ذلك إلا لأن إنتاج المعلم شيء لا يلمس باليد. ولا شك أن الأمريكي يدرك أهمية التعليم وأهمية تعميمه ونشره وترقيته ولكن لا لهذه المتعة العقلية التي توفرها الثقافة الحقة. ولذلك فلأمريكي لا يحترم مهنة المدرس احترامه لصاحب المصنع ومخترع آلة غسل الأطباق مثلاً؛ فلا غرابة أذن أن يكون رجال التعليم في أمريكا اقل أصحاب المهن دخلا، وإلا يلاقوا في المجتمع الأمريكي ما تستحقه وظيفته من مكانة أدبية واحترام ومكافأة مادية تتفق مع ما يحظى به أصحاب الإنتاج الزراعي والصناعي المادية.
فالمستوى والمكانة الاجتماعية عند البرجماتزمين يقاس بالدخل المادي. وبنسبة النجاح الذي أصابه المرء في عالم الحضارة المادية بغض النظر عن طبيعة الوسائل التي حقق بها المر هذا النجاح، شريفة كانت أم غير شريفة. ويقول لك البرجماتزمى أن الحياة كالمصعد (الأسإنسير) لا يسألك الناس فيه من أين جئت، وبماذا جئت، ومن أين لك هذه، وإنما همهم أن يعرفوا إلى أين أنت ذاهب!
وقد يختلف الناس في تفسير هذه الحكمة البرجماتزمية ولكنهم لن يختلفوا في شيء واحد وهو أن البرجماتزمية تجرد الأشياء من جميع القيم كانت أم غير فاضلة، وتقيسها بمقياس الحالة الراهنة. فهي لا تسأل عن الموجبات ولا تهتم كثيراًبالعواقب، وإنما تنظر إلى الأمور نظرة زمنية مادية بحتة. ومن ثم كانت الأخطاء السياسة الشنيعة التي ارتكبتها أمريكا في فلسطين مثلاً وفي هذه البلية الاقتصادية والسياسية التي تواجهها أمريكا إزاء التحدي الروسي الذي يبدو أنه يتخطى في كثير من الحالات النظرة المادية المحددة وتتلاعب(898/7)
بالتطور في مرونة وانتهازية تستمد قوتها من طبيعة الخلق القومي الروسي التي فسر بها لينين وستالين المبادئ الماركسية وجعلا منها فلسفة روسية (سوفيتية)
فالنجاج عند البرجماتزميين هو مقياس كل شيء، فقد تجد فناناً يبدع أرقى أنواع الفن ولكنه لا يحظى بالتقدر، ولن (ينجح) إلا إذا استطاع أن يوجه فنه توجيهاً (ماديا) تجارياً. فإذا اتجه الفن والعلم مثلا لتبسيط القواعد وابتذال الفكرة ووضعها على أسس (عملية) تزين الصحف بالرسومات الإعلانية، وتفكيك الفلسفة والمعرفة وجعل عاليها سافلا بحيث يهضمها الجهلة وأنصاف المتعلمين - إذا انحط رجل العلم والفن إلى هذا المستوى (نجح) أو بمعنى آخر ازداد دخله واتسعت شهرته وارتفعت منزلته الاجتماعية والأدبية. وقد تكون هذه الحقيقة عامة تشتر فيها اكثر الثقافات ولكن لا ريب في أن رسوخها في أمريكا أشد من أي مكان آخر.
ويبدو أن هذه الناحية في الثقافة الأمريكية قد وجدت سبيلاً إلى بعض الكتاب والفنانين من رجال الثقافة العربية. - ودار الهلال مثلاً - وهما رمز للتحدي الذي تواجهه الثقافة العربية على النحو الذي استعرضناه في هذه الكلمة - قد (بسطت) الأدب والفن والعلوم وكثيراً من عناصر الثقافة في وسائل برجماتزمية صادقة حققت لهذه الدار ومثيلاتها ألوانا من (النجاح) وجندت لذلك أقلاما ما كان انفعها إلا تنبسط وأن لا تجند.
ويخيل إلى أن العظمة التي تتبوؤها الثقافة الأمريكية في هذه الفترة من التاريخ لا تعود إلى علو كعبها بالقياس إلى الثقافات الأخرى، وإنما تعود إلى القوة المادية التي تجعل من أمريكا السلطة التي - بحكم ما لها من نفوذ سياسي وبأس اقتصادي - تفرض برجماتزميتها على مختلف الثقافات الإنسانية المعاصرة التي تصل بأمريكا بمختلف الصلات وتحت مختلف الأوضاع والظروف.
فلنحاول - في العدد القادم - أن نتابع دراسة أوجه أخرى من هذه الثقافة البرجماتزمية العملية (الناجحة).
) للبحث بقية)
عمر حليق(898/8)
جامعة كولومبيا - نيويورك(898/9)
فخري أبو السعود
للأستاذ محمد محمود زيتون
أوشكت عشر سنوات أن تنقضي على وفاة الشاعر الكاتب فخري أبو السعود على اثر محنة لم تمله حتى أسلمته إلى يد الردى، فقصفت شبابه الغض، وترك هذين البيتين أولهما لزهير والآخر للمتنبي:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعيش ... ثمانين حولا لا أباًلك يسأم
وإتى لمن قوم كرام نفوسهم ... ترفع أن تحيا بلحم وأعظم
وهذه الثلاثون التي سئمها فخري كانت حافلة بحياة أدبية ممتازة أن لم تكن نادرة، فقد تخرج - رجمه الله وغفر له في مدرسة المعلمين العليا، ونجح في مسابقة وزارة المعارف فبعثته إلى جامعة اكستر بإنجلترا، وتوفيت أمه فرثاها بقصيدة دامعة نشرتها مجلة (الأيام) ولم يكن يعلم بنشرها لولا أن قدمتها إليه ذات عشية التقيت به فيها بداره في شتاء سنة 1938.
وعاد فخري إلى الوطن وقد اختار زوجته من إحدى زميلاته الإنجليزيات، وانجب منها ولدين. وأقام في منزل وادع برمل الإسكندرية، وسافرت قرينته إلى وطنها تزور أهلها ومعها ولداها. فلما شبت نار الحرب، واستهدف إنجلترا للغارات، كان الولدان من بين أطفال الإنجليز المرحلين إلى أمريكا فغرقت بهم السفينة جميعاً. أما زوجه فقد حبستها الحرب عن اللحاق به في مصر.
وفي صيف سنة 1939 التحق فخري بجامعة (جرينوبل) في دراسة صيفية خاصة، وفي نيته أن يلقى زوجه هناك، ولكنه عاد ولم يتمكن من لقائها هناك.
كان فخري محباً للرياضة ولا سيما (التنس)، ومغرماً بالسير على الأقدام على شاطئ البحر في هدأة الفجر، ونأمة السماء، وكان من رواد السينما إذا كان بها فلم يتفق مع ثقافته وهواه. خرج ذات يوم من عرض سينمائي وهو حانق على الأجانب لاستهجانهم موكباً وطنياً جاء في الجريدة الناطقة، فالتهبت له اكف الجماهير، بالتصفيق، فكتب فخري في (الرسالة) قصيدة تفيض بالوطنية قال منها:
أفم صاغراً وأرغم حياتك وشقها ... فإنك مصري وانك مسلم(898/10)
وعنى فخري بالتاريخ، فوضع (الثورة العرابية)، ونشر في (الرسالة) قصيدة بمناسبة (ذكرى موقعه التل الكبير)، واخذ نجمه يلمع في الأفق الأدبي لما كانت تمتاز به قصائده من أصالة ودقة حتى ارتفع إلى مصاف كبار الأدباء على الرغم من حداثة سنه، وفي غير جلبه أو دعاية.
واحتفل في شعره بالطبيعة والوطنية والوجدان، وعنى بكل لفظ جزل رصين، وبالروي الجميل الناعم. هذا وهو مدرس لغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية.
وتقدم فخري إلى المسابقة التي عقدتها وزارة المعارف سنة 1039 فأنفرد بجائزتين ماليتين بكتابيه: (الخلافة) و (البار ودي) ونال من الدكتور هيكل باشا (وزير المعارف حينذاك) ما هو أهل له. وقد أطلعني فخري بعد عودته من جرينوبل على كتب تاريخية هامة أحضرها معه، وعكف على دراستها في شغف وهدوء، وكان يعد هذه المراجع كنزاً ثميناً يعتز به ويفخر.
وكانت دراسات فخري في طال أدب المقارن (التي كانت تنشرها له الرسالة تباعاً أكبر دليل على أنه تملك ناصيتي العربية والإنجليزية، وأن محاولته تلك لم يسبقه إليها أحد من مواطنيه بل ولا من المستشرقين. وقد نقل إلى العربية (تس سليله دربرفيل) للشاعر القصصي الفيلسوف توماس هاردي، نشرتها له لجنة التأليف والترجمة والنشر من سلسلة عيون الأدب الغربي.
هذه لمحة قصدت منها إلى التنويه بما كان لفقيد الأدب من مكانة لم ينلها غيره، ومع هذا درج إلى وادي النسيان. وكأنه ما كان، أفلا يجدر بالدوائر الأدبية في مصر أن تستعيد ذكرى فخري أبو السعود قبل أن يحين العام العاشر على وفاته، فتؤلف لجنة لجمع شعره في ديوان، وبحوثه عن الأدب المقارن في كتاب. وعسى أن يتفضل معالي وزيرنا الأديب الدكتور طه حسين بك فيأمر بنفض الغبار عن أصول كتابيه الفائزين وبذلك ندفع منا وصمة التنكر لذوى الفضل، ولا شك أن في أحياء ذكراه تكريماً للأدب والأدباء.
محمد محمود زيتون(898/11)
مشكلة الفن والقيود
للأستاذ علي محمود سرطاوي
ذكر الأستاذ المعداوي في تعقيبات عدد الرسالة (885) عن مشكلة الفن والقيود ما يأتي:
(في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحس بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة آلتي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش، ومقاييس معقدة، أو مزلزلة. وابلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريانية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلسل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها دف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأسس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود، وشبيه تلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضى بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تقفز بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزيئات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد. . .
(نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم أصلوه وقواعده قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضى فيه وقبل أن ينتهي منه. . . نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذه الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد نظاماً، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء(898/12)
الفن. هذا التصميم الذي تدعو إليه بنظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى. هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي). لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق. مستودع النفس، قبل أن تدفع بها إلى الوجود كائناً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . . أننا ننك ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تطمس فيه معالم الطرق وتنمى الجهات أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!) أهـ.
والذي ينعم فيما اقتبسناه من رأى الأستاذ الفنان المعداوي يخيل إليه أن عمل الفنان لا يفترق عن عمل المهندس في كثير أو قليل؛ ذلك أن المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته الهندسية في زحمة الأرقام والأبعاد والحجوم، وتحت سيطرة العقل الواعي وحدة الذهن، وهدوء الطبع، يرسم على أوراقه التصاميم التي يطلب منه عملها؛ من عمارات، وجسور، وطرق، وإنفاق، إلى أخر ما هنالك من أعمال هندسية، حتى إذا ما فرغ من عمله المعقد الدقيق، وحساباته التي تحطم الرأس، نقل ما على الأوراق من أشكال إلى مسرح العمل، وراحت تلك التصاميم تأخذ طريقها إلى الوجود رويداً، رويداً، كل ذلك وهو يراقب العمل مراقبة دقيقة يعينها عليها العلم، وتسنده التجارب لئلا يقه في أخطاء قد تنشأ عنها كوارث تدمر حياة الآخرين وما يملكون، وتقضى على مركزه في المجتمع الذي لا يرحم من يمنى بالفشل الذريع.
والواقع أن الفنان من شاعر، ومصور، وموسيقي، لا علاقة له بكل ما ذكرناه. أنه يعمل في الجو الذي يندمج فيه الفنان بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي صريعاً تحت ضربات النفس الإنسانية التي يكتبها ذلك العقل دائماً؛ أنه يعمل في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا تسيطر عليها غير العواطف؛ تتجمع في أجوائها كما يتجمع السحاب، من بواعث إثارة المشاعر عن طريق مؤثر خارجي حينا، وعن طريق مؤثر يطل برأسه من رماد الذكريات المخيفة في مخزن النفس العميق حينا آخر، فإذا بتلك السحب ترسل الغيث مدراراً، وإذا بتلك النفحات الإلهية تأخذ مكانها إلى الحياة وراء(898/13)
الكلمات في الشعر، وبين الألوان والظلال في الصور، وبين الأنغام في القطعة الموسيقية.
إن الفنان؛ الذي يزعم أنه يعمل من تلقاء نفسه، ويضع التصاميم ويعد العدة سلفاً لعمله الفني، أشبه ما يكون في نظر الحقيقة بذلك الإنسان الذي تخيل إليه معلوماته القليلة أنه سيد العارفين، وقديماً قال البشر في أمثالهم: اخطر على الإنسان من المعرفة الضئيلة. . . وليس اخطر على الفنان والفنون من أن يزعم زاعمون انهم ينتجون آثارهم الفنية وفق خطط مرسومة سلفاً، فقد تنطلي تلك المقولة على الفنانين فإذا هم جربوها أوصدت في وجوههم آفاق الإلهام، والطريق إلى سر الحياة الذي يغرفون ويسبحون في غمره.
إن السحب لا تلقي حمولتها من الأمطار على الأرض إلا إذا كانت أسباب نزول المطر مهيأة؛ من درجة حرارة مواتية ورياح كافية، وكذلك النفس الإنسانية في الفنان لا تلقى حمولتها من الفن على الوجود إلا إذا كانت أسباب الإبداع والإثارة مهيأة تلك الأسباب التي تحمله على أجنحة الانفعالات إلى عالم بعيد عن الترتيب والتنظيم.
إن القطع الفنية الخالدة التي يعتز بها كل فنان لم تكن من عمل أرادته، وإنما كانت من عمل قوى خفية لا قدرة له على استحضارها كلما أراد، وإنما هي التي تحمله على الإنتاج مرغماً متى شاءت، حتى إذا ما أصبح الأثر الفني بين يديه وعاد إلى وعيه، تأخذه الدهشة في كثير من الأحيان مما يشاهد ولا يكاد يصدق عينه، وكثيراً ما يعجز عن إضافة حاشية صغيرة وهو في ظلال العقل الذي يرسم ويفكر ويفلسف.
إن النقد كثيرً ما يفلسف الحوادث، ويزيف المنطق، ويخدع العيون ببراعة تبعد عن الحقائق كثيراً والذين يفلسفون الحوادث هم في لغالب يعجزون عن وضع الحوادث أو الفنون نفسها.
فهؤلاء المؤرخون الذين يفلسفون حوادث التاريخ كثيراً ما ركبوا متن الشطط وهم يتحدثون عن أبطال التاريخ وصدى أعمالهم وبواعثها، ونتائجها وأسبابها. ومن المؤكد أن أولئك الأبطال لو أطلعوا عل ما كتبه المؤرخون عنهم لأنكروا قسماً كبيراً منه لأنه لم يخطر لهم على بال.
ومثلهم أولئك النقاد الذين كثيراً ما حملوا من الشعراء ما لا يذكره الواقع عنهم، كابي نواس والمعرى والمتنبي. . .(898/14)
ولعل قصة الحسن بن هانئ مع أحد المعلمين في بغداد تلقى بعض الضوء على ما نحن بسبيله من حديث؛ فلقد زعمت بعض كتب الأدب، أن النواسي كان منصرفاً إلى قضاء بعض حاجات فمر بمدرسة سمع المعلم فيها يشرح إلى طلابه قصيدته المشهورة:
ألا فاسقني خماً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
فأنصت إليه وإذا به يمضي في شرحه على الصورة بما معناه: إن الشاعر أراد أن يشرك حاسة الذوق، وحاسة السمع، وحاسة النظر، فإن اشتراك الحواس مجتمعة ابلغ في الشعور باللذة. ولم يتمالك النواسي نفسه لغرابة ما سمع فأطل عليه يؤكد له أن شيئاً مما ذكره للطلاب لم يدر يخلده وهو ينظم ذلك البيت.
ولسنا نشك في أن ملكة (التنظيم) التي وردت الإشارة إليها في قول الأستاذ المعداوي لا تخرج في حقيقتها عن حصول الفنان على درجة من المعرفة، لا كما يقال من الثقافة، تعينه على إزالة الصدأ الذي يغطى الدر والجوهر والذهب المتراكم في روحه، وهذه المعرفة لها قيمتها وأثرها، ذلك أنها تجعل نور الفن يشع وهاجاً كنور الشمس وراء آثار الفنان المهذب. أما الفنان غير المتعلم، فيبدو الاضطراب، وتطل الفوضى من آثاره، أن هذه الملكة في الفنان المتعلم أيضاً تتوارى كالشهادة المدرسية التي توصل حاملها إلى باب الحياة فيلجه مجرداً منها، حين ينتج الفن كما تصنع النحلة الشهد من الأزاهير.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول في هذا الموضع من حديثنا أن الفنان يخلق ولا يضع؛ وإن كثيراً من آثار الفنانين غير المتعلمين اقرب إلى روح الفن من آثار الأدعياء الذين امتلأت بهم الطرقات، والذين يحملون أكبر الشهادات الجامعية، ذلك لأن الفن من صنع الله وليس من صنع الإنسان.
أن الحركة السريالية والرمزية إلى جانبها، وما قد يتبعها من حركات فكرية، ليست في واقع الأمر (فوضى فكرية تنسب ظلماً لي الفن)؛ بل لعل فيها بعض الشيء الذي لم تستطع تذوقه أو أبصاره وأبصره وتذوقه بعض من سوانا. أن الذين يعرفون أسرار الذرة يعدون على الأصابع، ولكن هل يعني جهل الكثرة من البشر هذه الأسرار أن قوانين تحطيم الذرة مضطربة مشوشة لا يطمئن الفكر إليها. أن الطبيعة حولنا لغز من أسرار لا تحصى، وما تزال في أول الطريق إلى التافه القليل من هذه الأسرار. .(898/15)
إننا في واقع الأمر، نحب الشيء أو نكرهه، لأسباب لا تمت للشيء المكروه أو المحبوب بصلة؛ إنما مرد ما تشعر به نحوها من صدى إلى العادة والذوق.
لقد كان غاندي العظيم يقول لاتباعه وهو يوصيهم بالمسلمين في الباكستان: ليس كلما تقولون صواباً، وليس كل ما يقول ويعتقد خصمكم باطلاً، هنالك شيء من الباطل فيما تعتقدون وتقولون، وشيء من الصواب فيما يعتقد ويقول خصمكم.
نحن كثيراً ما نرى الأشياء في شكل خاص، لا نلبث أن نراها تختلف عنه إذا تغير الزمان والمكان، واختلفت زاوية النظر، فلقد مات غاليلو حرقاً بسب آرائه حول دوران الأرض على يد محاكم التفتيش وهو يقول: ومع ذلك فإن الأرض تدور.
ليس من عمل الناقد، ولا مهمة النقد أن يفرض رأياً بعينيه أو فكرة بذاتها قد يرى فيها غيره من قرائه أشياء وأشياء! كما ليس من عمل الناقد التحليق بجناح النسور بعيداً عن عالم الحقائق، إلى عالم يموج ويضطرب بالرؤى الحالمة والخيال الجميل!
أترى هل حقيقة أن الجمال مرتبط بالنظام؟ وأننا إذا أوجدنا النظام خلقنا الجمال؟ لست ادري، وإنما يخيل إلى أن أيجاد النظام كثيراً ما يعجز عن خلق الجمال؛ فالطبيعة لسبب واحد؛ ذلك لأنها فوضى شاملة وإسراف في عدم النظام.
والفن سر الطبيعة البكر، لا يبلغ الذروة إلا إذا كان كالطبيعة نفسها. والإنسان الضعيف الذي ما فئ يمد بصره وراء الأسرار الغامضة في صدر الطبيعة، محملقاً فيها، يخدع نفسه دائماً، وهو يدور الحقاق ولا يقوى على مواجهتها، يفتش عن الأسرار والأسرار أمامه محملقة فيه، تمد ألسنتها إليه من بعيد ومن قريب.
وبعد فإن الأستاذ أنور المعداوي. قد أوجد فناً جديداً في النقد يستحق عليه شكر الذين يعشقون الأدب والفن من الناطقين بالضاد؛ فقد قضى على تلك الأساليب الميتة، وراح يقيم على أطلالها صرحاً من الذوق الرفيع، والخيال الجميل، والرأي السديد يعالج بكل ذلك مشاكل ما زلنا نتخبط في دياجيرها، وما زلنا ننظر إليها بعيون الموتى من البائدين، ونفهمها بعقول أهل الأساطير.
وأنا واحد من آلاف المعجبين بالأستاذ العبقري المعداوي، أغتنم هذا الفرصة فأبعث إليه بأطيب ما في قلبي من إكبار وإعجاب بأدبه وفنه وذوقه. . .(898/16)
بغداد
علي محمد سرطاوي
دار المعلمين الريفية(898/17)
هؤلاء كلاب!
للأستاذ الحوماني
(ليعلم أعيان الأدب والعلم في مصر االتنفس منهم يثير كل
عربي في كل قطر عربي)
يسألني السيد كرد علي، ونحن في وقاعة المجمع العلمي بالشام، وحوله قلة من زملائه: ما وراءك في مصر؟؟ فقلت: أن إخوانك في مصر يعتبون عليك بقسوة إذ لم تحسن ذكرهم في مؤلفك الأخير (المذكرات) فقال: أن هؤلاء كلاب. .
تلك هي الجملة التي صدمني بها وهو مزهو يتميز في كرسيه ثم يدور به إلى الجهة اليسرى ليقابل جاره وهو يقول: (الأستاذ الحوماني يأتينا من مصر بأخبار طريفة، بينما يعود إلينا الأستاذ المغربي من القاهرة وكأنه علينا من الصين)
كنت ارقب ولو كلمة من هؤلاء الذين يحدقون بالسيد كرد علي كما تحدق البطالة متهمين مكانته شاخصين إلى وجهه حتى كأنه أرض المعبود، ولم نشأ صراحتي التي فطرت عليها أن اسكت، ثم لم يشأ لي الحق الذي ناديت عليه منذ كثبت وخطبت أن افر هذا الرئيس على زلته التي لا يتسع لها صدر الحر، ولا يجمل برجال المجمع العلمي أن يحدث مثلها في قاعة مجمعهم وهم شهود ثم يسكتون عليها - من اجل ذلك قلت له: ليس مثل هذا القول جديراً بإخوانك المصرين وفيهم من نحن مدينون لهم في علمنا وأدبنا وسياستنا؛ ولعل مصر وجهتنا الأولى وفي كل ما نتقوم به من عناصر الحياة.
فأعاد القول محتفظاً بنفس الجملة وزاد عليها: انهم لا يريدون إلا التهويش. ثم يقفل الباب ويتجه صوب السيد الهندي عباس إقبال يخوض معه في حديث كان ختام طعنه على مصر وأدباء مصر.
وكنت حريصاً على أن أتفرس في وجوه القوم لعلي أرى منهم ما يشير إلى تذمر إنكار فإذا بهم صموت يتهامسون فيما لا يمت إلى حديث رئيسهم بصلة ما، وأذ بي لا أرى شافياً لنفسي غير أن أغادر مجلسهم هذا.
وأعود إلى دأبي من الطواف على مجالس دمشق وأنديتها ومن أتوسم فيه الأدب والعلم(898/18)
والفن من رجالها، وعلى كل سمع ألقي هذا الحديث فإذا هم جميعاً ينكرون على (كرد علي) ما بدر منه، وإذا على كل لسان منهم شيء يصمونه به وإنه أصبح في الدور الأرذل من عمره حتى طلب إلى أديب فاضل أن أشفق على هذا الرجل، وأحبس قلمي عنه لأنه في دور يستحق الإشفاق.
أما أنا فلم أر من كل ما دار هذا الحديث في مجالس هؤلاء الأساتذة: من وحوار ينتهي أكثره إلى أن هذا الرجل قد خرف، وإن هذه الزلة ليست الأولى منه.
أقول: لم نجد في كل ذلك مكفراً عن سيئات هذا الرجل، وحائلاً دون أن اعلق على مجالسه بما يستحقه من تعليق:
هؤلاء السادة، ومنهم من هو صميم المجمع، يقرون أنه اصبح ضعيف العقل، وأن أقواله ليست من المنطق بحيث يحاكم عليها، وانه إذ يقول فيزل، اخلق بإشفاق السامع الحكيم وتغاضيه من أن يحاسبه على قوله، ويعاقبه على زلته، هؤلاء السادة يقرون ذلك ثم جلسوا إليه ويحدقون ويخشعون ولا ينكرون عليه شيئاً مما يقول، فهل هم في ذلك مخلصون له ولمجمعهم ثم لأنفسهم من وراء ذلك كله؟
قد أعجب ويعجب القارئ معي أن كلامنا ينكر على الحكيم أن يكون مرؤوساً للسفيه وهو قادر على تحرير نفسه من رئاسته، وهل هم أعضاء المجمع أو الحكماء منهم يقرون بسفاهة رئيسهم ثم لا يفكرون في تحرير نفوسهم من سفاهته. ولعلهم يفتخرون في انتسابهم إلى مجمع هذا رئيسه، ويحاسبون كل صحيفة تنشر أقوالهم غفاً من هذا الانتساب.
ما أسفه الناس إذ يضعون حداً للمناظرة في العوم والآداب، والمناظرة نوع من الأدب المطلق الذي يكبر عن التحديد، فكم يعجبني قول الأمام علي، هو يوصى بالتواضع ويبالغ في الحث على التخلق به حتى قال: التكبر على المتكبر هو عين التواضع) فإذا صدق في عرف أمام البلغاء أن التكبر قد يكون تواضعاً حيناً ما، فلم لا يصدق على السفاهة في الأدب أن تكون عين الحكمة حينا ما؟؟
فلنخاطب كرد علي بنفس المنطق الذي يخاطب به الناس، أفليس أدبيا في عرف المستخذين له، فإذا خاطبناه بمنطقه لم نخرج في عرف هؤلاء المستخذين عن حدود الأدب، والسيد كرد على، إذ يعلم أركان مجلسه وأعضاء مجمعه أن الأدب رهن بمثل هذا المنطق،(898/19)
خليق بان يناظر فيه، لأنا نسيء إليه والى المجمع العلمي إذ نتجاوز عنه فيحسب أنه على حق ويتمادى في غيه فنكون أداة لتضليه فيما يقول.
لنسأل هذا (الأديب) عن أي المصريين من علماء وأدباء يستحق لقب الكلب في منطقة؟؟ ثم يستحق هذا المصري أن ينزه رئيس المجمع بهذا اللقب في ندوة المجمع وهي مشاع لأعيان العلم والأدب في الشام التي تؤاخي مصر، وعلى مسمع من أناس لا يرون في مصر إلا العلم والأدب اللذين هما علم الشام وأدبه، ثم لا يروني مجمع العلم المصري إلا أخوانا يتضافرون معهم على أحياء التراث العربي وتغذية هذا التراث بما يعززه وينميه على التاريخ؟؟
لقد زرت مصر وزرت فيها منتدى لجنة التأليف والترجمة والنشر اكثر من مرة يجتمع أعضاء هذه اللجنة على رأس كل أسبوع فإذا هم مجمع علمي أدبي يضم أعيان العالم العربي اليوم أمثال أحمد أمين وأحمد حسن الزيات وأحمد موسى وتوفيق الحكيم وعبد المنعم خلاف ومحمد فريد أبو حديد ومحمد عبد الله عنان ومحمد عوض محمد وعبد الوهاب عزام وحسين مؤنس ومحمود الخفيف وإبراهيم المازني وزكي نجيب محفوظ وكثير غيرهم؛ وكانت مجامهم هذه تفيض بالحوار العبقري حول ما يضطرب له العالم من مشكل سياسي وأدبي واجتماعي، فكنت والله اذكر بمجالسهم ما نقرأ عنه في عهد المأمون من مرابد ومعاهد، فهل في هذا المجلس من يستحق ما ينبره كرد علي به من تلك الألقاب؟
ينقل إلى السيد أنور العطار: إن كرد علي هذا عندما رجع من مصر كان داعية كبرى لهؤلاء انفر أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر (وإنهم بالغوا في الحفاوة به، وانهم بعد تكريمه ادخلوه حجرة راعه منها شكل هرم كبير مكون من الكتب التي أخرجتها هذه المؤسسة من عالم الخط والعجمة إلى عالم الطباعة والتعريب، وقد كان هذا الهرم معداً ليهدى إلى رئيس المجمع العلمي العربي الذي يطلق بعد الإهداء على لمهدين لفظ الكلاب. . .!!
وزرت دار الأهرام فجلست إلى أسرتها التي تتألف من الأساتذة زكي عبد القادر وكامل الشناوي وأحمد الصاوي وعزيز ميرزا ومحمد الكاظم وغير هؤلاء ممن نقرأ لهم في الأهرام أم الصحافة في العالم العربي وفي غيرها من مؤلفات وصحف، فهل في هؤلاء من(898/20)
يلمزهم السيد كرد علي فيصدق عليهم لفظ كلاب؟؟
وزرت إدارة الثقافة بوزارة المعارف مراراً وفيها من أعيان الأدب والفن أمثال الأستاذ مفيد الشوباشي وزملائه الأدباء كامل محمود حبيب وأنور المعداوي وعباس خضر وأحمد عطيه وبدران والمنفلوطي وغيرهم من أعيان مصر، وكانت لهم في هذه الدار جولات في الأدب والسياسة والفنون تغذى العام العربي كله، فهل هؤلاء الذين ينهم أبو (طريف) بقوله: انهم كلاب؟؟
وكنت أزور المجمع اللغوي فاجتمع فيه إلي ثلثه من أهل العلم والأدب أمثال عباس العقاد وعبد الوهاب خلاف ومحمد الخضر حسين وعلى الجارم ولطفي السيد وكثير من أمثالهم يتناجون قبل البحث في ما يهذب اللغة العربية اليوم من تراثها المنسي وفيهم الحكمة والنضج والتفكير الذي يسود أقوالهم. فهل في هؤلاء من يعينهم أبو (الخطط) بقوله: انهم كلاب؟
وزرت ندوة (الرسالة) وفيها يأتمر أعيان الأدب مساء كل اثنين من كل أسبوع فيحتدم بينهم ساعات يختمر فيها الفكر بما يدور عليه الحوار، وعلى رأس المؤتمرين شيخ الأدباء أبو علاء صاحب الرسالة التي سلخت ثمانية عشر عاماً من حياته وهو يعالج بها أدواء الأمة في علمها وأدبها حتى وشكت أن تأكل كبده، وتذهب بنصره في هؤلاء من يستحق لقب الكلب على لسان التالد أبي طريف؟؟؟
من أهم الكلاب أيها الرجل وأي الرجل هم هؤلاء الذين تصمهم بما أنت فيه؟ في الجامع الأزهر عند الأساتذة فريد وجدي وعبد اللطيف دراز وعبد المجيد سليم؟؟ أم في الندوة الأدبية عند علوية باشا وأحمد فهمي العمروسي وكامل الكيلاني ومصطفى الماجي وأمين حسونة والعوامريأم في دار الهلال عند أباظه والطناحي ومؤنس؟؟ بلى. . . لعلك تعنى بلمزك النقر القائم على تهذيب الأمة في جامعت فؤاد وفاروق تفيضان عل الأمة العربية بخير؟
يا لله الذين يقبضون على زمام الحكم فيها وهم زعانف الأمة، عنيت بالحكم حكم أدب لا السياسة، هذا هو أحد الحكام فيها يجلس إلى منصته ثم يتلفت فيرى حوله إخلاصا من الناس يحسب نفسه السيد فيهم، فيتنحنح ويقول: أن في مصر أناسا يعدهم الناس أعيان علم(898/21)
وأدب وليسوا في الحقيقة إلا كلاباً لا تريد إلا التهويش.
ولماذا؟ لأنهم لم يعطوه حقه فيما كتب؟ وماذا كتب!؟
رحم الله رضا الركابي إذ كان يقول: (الغريب في هذه الأمة العربية كيف تستخذى للأمر دون أن تفكر في كنهه؟؟ أن جل أهل الرأي من العرب يعلمون أن محمد كرد على إنما اخذ مكانته فيهم بعمله للفرنسي وهو إلى جانب التركي يتملق له، ثم يعلمون أنه وهو يعمل للتركي كان يفتئت على العربي؛ فعمله (الصالح) أذن كان مزدوجا، ومع هذا كله اقروه على مكانته التي كانت وليدة هذا الازدواج).
ويقول عندما اخرج كرد علي كتابه (الخطط) إذا لم يمكن إحراق كرد فلا اقل من إحراق كتابه هذا لما فيه من خلط يعود بأسرة على أمة التي أقرت كونه رئيساً للمجمع العلمي فيها، والخلط في كتابه هذا مائل بين حملاته البهتانية على أهل بيت الرسول باسم الدين وكلنا يعرف منزلته من الدين. وبين طعنه على الأتراك اليوم، وقد أخر كتاباً بمدحهم فيه بالأمس، وبين كذبه في أن الشام خرجت بأسرها لاستقباله يوم عوده من منفاه، بينما كنت في الشام وعفنت الذين استقبلوه هم بضعة نفر من آذانه وأذناب المستعمر.
هذا حديث أفضى به إلى حد أعضاء المجمع العلمي ورجائي آن اكتم اسمه إذ لا يرى من الضرورة التصريح به حتى إذا لزم هذا التصريح كان مستعداً للتصديق على ما يقول. وينقل إلى فاضل آخر من آل أبي الشامات، ونحن في مجلس الأستاذ نهاد القاسم في دمشق فيقول:
(لقد عرض جمال باشا السفاح على أبي توقيع عريضة يثبت فيها صحة الحكم بإعدام الحسين بن علي أبي فيصل من طريق الشرع فآبى والدي هذه الفتوى. ثم زاره السفاح مرة أخرى على انفراد وقال له: أنا اعلم أن السبب في عدم توقيعك انك طلبت من أنور باشا إعفاء السيد رشدي الشمعة من الإعدام فلم يشفعك فيه. تم اخرج السفاح من جبينه خطاً بتوقيع كرد علي يخاطب فيه السفاح بقوله: إذا لم تعدم رشدي الشمعة فليس في هؤلاء المحكومين من يستحق الإعدام.
ويقول هذا الفاضل: زار المستشرق الفرنسي ماسنيون دمشق ثم قصد المجمع ليأخذ من كرد على، وكان غائباً فقلت للمستشرق أن الذي تحاول النقل عنه كذاب) فقال: وما يهمنا(898/22)
من ذلك ما دام أفكارنا وسياستنا. ويقول الناقل: إن السيد أمين سعيد كان شاهد هذا الحديث.
تلك هي سيرة هذا الرجل في بلده واقبح من ذلك أنه لم يتورع في ختام (خططه) عن الطعن الشائن الذي وجهه للمرحوم الدكتور رضا سعيد مؤسس لجامعة السورية ورئيسها ثم لا يندى جبين زملائه الحافين به خجلاً حين يقرون هذا الطعن وهم يرون بأم أعينهم مئات الشباب المثقف يتخرجون من الجامعة السورية بفضل فقيدها على رأس كل عام ولم تتحرك في واحد منهم عاطفة نبيلة تدفعه للدفاع عن الحق وراء بهتانه هذا.
تلك هي أثار كرد على:
كتاب الخطط يطعن فيه أعيان الأمة قديمهم وحديثهم، ومذكراته المحشوة بالبهتان على أعيان مصر علماء وأدباء وما عدا ذلك حديث يليه في ندوة المجتمع كل يوم ينال فيه من قوم نحن مدينون لهم في كلما نعتز من حياة، فعلى أي عذر نقيمه في كل ذلك؟؟ وبأي منطق نناقشه الحساب، وهو في مكانه هذا من رجال الأمة؟؟ هل يفيد معه أدب في المنطق المهذب؟؟ أم يكون المنطق غير سلم معه الدعوة إلى لحن بالحكمة والموعظة الحسنة؟
فأي منطق يستقيم في تأديبه وهو يبز أخبار أمة أعلامها أمثال لطفي السيد باشا وأحمد أمين وأحمد الزيات وطه حسين وعباس العقاد وأحمد بدوي وعبد الرزاق السنهوري ومحمد علي علوبه ومحمد فريد وجدي، أقول: أي منطق يستقيم في تهذيب كرد على نحت سماء المجمع العلمي بالحكمة والموعظة الحسنة وهو ينبز هؤلاء بالكلاب؟؟
دمشق
الحوماني
صاحب مجلة العروبة(898/23)
من الحوادث الأدبية
عام الكف
للأستاذ محمد سيد كيلاني
كانت حانة درا كتوس فيما مضى مجمعاً للأدباء والوجهاء يلتقون فيها كل مساء يقضون شطرا كبيرا من الليل يتحدثون في مواضيع شتى ويتبادلون النوادر والفكاهات. وكان بعض الكتاب يحرر فيها مقالاته آلت ينشرها في الصحف. ومن هؤلاء محمد بك المويلحي صاحب جريدة مصباح الشرق التي كانت تصدر وقتئذ. وكانت بينه وبين الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد عداوة شديدة وخصومة عنيفة وكانا يتبادلان الشتائم والسباب على صفحات جريدتهما.
وقد حدث في ذات ليلة من ليالي أكتوبر سنة 1902 بينما كان المويلحي جالساً مع بعض أصدقائه أن دخل شاب من أبناء الأغنياء اسمه محمد نشأت فداعبه المويلحي كعادته فما كان من هذا الشاب إلا أن رفع يده وهوى بها على خد المويلحي.
فانتهز صاحب المؤيد هذه الفرصة واخذ يذيع خبر هذا الحادث بين الناس ويكب عنه في جريدته مظهراً الشماتة والسخرية بعدوه اللدود محمد المويلحي. فنشر مرة تحت عنوان (تنصرت الأشراف من أجل لطمة) مقالاً جاء فيه (فخرج جيله الأيهم من دينه ولم تخرج أنت من جمودك، فإن كان ذلك لحلم منه وأنت في الحان فما معنى هذا الغضب وأنت في دارك بين الجدران؟).
وقد فتح للشعراء باباً سماه (عام الكف) فشرع هؤلاء يتسابقون في نظم المقطوعات التي تفيض بالهزء والسخرية.
وقد اعترض أحد الشعراء عل قولهم (عام الكف) واقترح أن يطلق عليه (عام القفا). قال:
سموه عام الكف وهو الذي ... يؤخذ من معناه أن قد كفى
ما هو عام الكف لو انصفوا ... لكنه في الحق عام القفا
فهو هنا يبين وجهة نظرة في اقتراحه فيقول أن الكف مصدر كف عن الشيء بمعنى تركه وارتد عنه. ولو انهم وقفوا إلى الصواب في نظر هذا الشاعر لدعوه (عام القفا) ولكن يرد عليه بان المويلحي لم يضرب على قفاه وإنما لطم على خده فذكر القف هنا أمر لا محل له.(898/24)
وشاعر صعيدي يزعم أنه سمع دوى هذا الكف وهو مقيم بالصعيد. ويتساءل عن صاحب هذه الراحة الجبارة التي صفعت خد المويلحي. قال:
لي سؤال يا أهل مصر فردوا ... بجواب عن السؤال مفيد
أي كف قد باشرت صفع خد ... سمعنا دويها في الصعيد
فانظر إلى هذا الكذب الصريح الذي يدعو الإنسان إلى الضحك.
وآخر يعرب عن سرور الصحافة وفرحها بما حدث للمصفوع فيقول:
هي صفعة سر الصحافة وقعها ... ورجا بيان مثلها وبديع
كانت تؤملها البلاد ليرعوي ... غر ويعرف قدره المخدوع
أو يقول
هي صفعة لهج الأنام بذكرها ... ودرى البعيد بها ومن لم يعلم
قد بالغ الأدباء أوصافها ... ما بين منثور وبين منظم
فغدا قفاك منذ هلالهم ... هل غادر الشعراء من متردم
فهنا ترى مبلغ الخصومة الصحيفة وأثرها في هذه الأبيات فالصحافة مبتهجة فرحة وكذلك البيان والبديع. والبلاد كانت في شوق شديد إلى ما لحق المويلحي من الإهانة على يد الصافع فلعله يرعوي ويزدجر ويترك الشتائم التي يجرى بها قلمه كل يوم، ولعلع يرجع عن غروره ويعرف أنه ضعيف لا يقدر على رد الأذى عن نفسه.
والشاعر هنا قد نفس عن شعوره المكبوت وعبر عن غيظه وحق على المفزع. وخيل إليه إن البلاد ملها تشاطره فرحه وسروره بما حدث للمويلحي. ويقولان هذه الصفعة قد سار ذكرها في الأفاق وعلم القاصي والداني واكثر الناس من التحدث عنها وتناولها الكتاب والشعراء. وانظر إلى التضمين في البيت الأخير.
على أن أبلغ ما قيل في هذا الموضوع وادعاه إلى الضحك تلك المقطوعات التي نشرها تباعاً في المؤيد الشاعر لكبير إسماعيل صبري. وقد أجرى هذه المقطوعات تارة على لسان المويلحي مفتخراً بمتانة صدغه الذي لم تؤثر فيه أكف الصافعين بل ارتدت عنه كما تريد القذيفة إمام الحصن القوي. وتارة على لسان ابن المويلحي، وتارة على لسان صاحب المؤيد، مرة على لسان الصافع، وأخرى بسوق القول في صورة نصيحة يزجيها إلى(898/25)
المصفوع. ومثال ذلك قوله:
يا أبن الآلي رسخت أحلامهم ورست ... إذ الأكف مجانين مها ويس
لا تدخل الحان والصفاع ثائرة ... حتى تقام حواليك المتاريس
وقل لصدغك يستقبل وفودهم=بالباب: انهم قوم مناحيس
وهذا إمعان في السخرية. فأنت ترى الأكف تهوى على خد المويلحي في حالة هوس وحنون وتتوالى مندفعة بغير رؤية ولا تفكير والمصفوع جالس كالطرد الثابت لا يبدى حراكاً ولا يحاول أن يقاوم أو يذود عن حياضه، بل ترك الكف تفعل بخده ما تريد. ثم أخذ الشاعر يفصح المصفوع بألا يدخل الحان ولا يأخذ مكانه فيها قبل أن تقام حوله الحاجز التي تحميه من شر الأكف. ثم تمادى الشاعر في التهكم وبالغ في السخرية فأشار على المصفوع بأن يدع خده يستقبل وفود الصفاع على الباب ويجلس هو وراء الحواجز آمناً مطمئناً على نفسه فصدغه سيحمل عنه عبء هذه الأكف الثائرة المجنونة.
والحق أن إسماعيل صبري اظهر في هذه المقطوعات براعة فائقة في التهكم المر والسخرية القاسية. وفيها مع ذلك فكاهات تدل عل خفة روح ذلك الشاعر وانظر إلى قوله:
أعرني يا ابن إبراهيم صدغا ... أخوض به غمار الصافعينا
فإن هو قد أعارك ما ترجى ... رايتهم أمامك هاربينا
كما هرب الفتى الصفاع يوماً ... أمام الكاتب ابن الكار تبينا
وخلف ثم رب الحان يجلو ... على المغلوب كأس الغالبينا
ويغبط ذلك الصدغ المفدى ... على إرغام كف الضاربينا
فإسماعيل صبري تمادى في التهكم حتى عكس القضية فجعل الغالب مغلوباً مهزوماً أمام صدغ المويلحي، وذلك لأن هذا الصدغ كما تصوره الشاعر كجلمود صخر تدمى عليه اكف الضاربين فيولون منه هربا. وجعل الحان يغبط المصفوع لأنه انتصر بصدغه القوى المتين، وينصحك بأنك إذا أردت أن تخوض غمار الصافعين وتخرج من المعركة ظافراً منتصر كانتصار المويلحي فما عليك إلا أن تذهب وترجوه أن يعيرك صدغه. فإن أجابك إلى طلبك رأيت الصفاع أمامك وقد ولو هرباً. وهذا نوع طريف من الهجاء فيه صور جديدة مضحك إلى حد بعيد.(898/26)
ومن الصور الجديدة في هذا الشعر الهجائي تلك المحاورات التي تدور على لسان والد المويلحي أو على لسان ابنه أو على لسان الصافع أو على لسان المصفوع أو على لسان صاحب المؤيد فكأنك تقرأ شعراً تمثيلياً وكأن مقطوعات إسماعيل صبري ثم من تمثيلية جرت وقائعها في حانة دراكتوس. وأبطال هذا التمثيلية هم محمد المويلحي المصفوع ووالده إبراهيم والصافع محمد نشأت وصاحب المؤيد مع نفر من أصحابه وقد ظهرت عليهم دلائل الفرح والسرور بما وقع على المولحي. ثم يظهر في هذا المشهد صاحب الحانة معجباً بصدغ المصفوع ويقترب من هذا الصدغ ويتأمله في شيء من الغبطة.
وهذا من غير شك صورة جديدة في فن الهجاء لم تعرف من قبل
محمد سيد كيلاني(898/27)
في الشعر السوداني
الأخلاق والعادات
للأستاذ علي العماري
- 8 -
لست في حاجة إلى أن أؤكد هنا ما قلته مراراً من أني لا أقصد من تصوير أدب الأمة لحياتها أن يكون - فقط - سجلاً تصور فيه مناظرها الطبيعية أو مشاكلها السياسية، أو تحصى فيه عاداتها وأخلاقها وتقاليدها، وإنما أقصد أن يتأثر الأدب بهذه الظواهر في الأمة، فيجرى في أوصاله ما تعكسه هذه الأمور من شمائلها، وما توحيه إلى أنفس الشعراء من خصائصها، فالأخلاق التي توجه الأمة؛ والعادات التي تذيع فيها، والخرافات التي تسيطر عليها، كلها ذات انعكاسات نفسية، لا مندوحة من ظهورها في الأدب - أن صدق الأدب - ونحن حين ننظر في الأدب لنحكم عليه بالتخلف أو النجاح، وبالتقاليد أو الأصالة، من واجبنا أو لا أن نتفهم جيداً ما يحيط بهذا الأدب من شتى الاتجاهات والمؤثرات.
وإذا كان الباحثون في الأدب العربي يجعلون أول همهم حين يفصلون تصوير الشعر العربي للحياة الاجتماعية عند العرب أن يعدوا ما ورد على السنة الشعراء مما يعد تسجيلاً لعادات قومهم فإننا نجعل هذا آخر همنا وننظر أولا في المظاهر العامة للأدب. ونرى هل تأثرت في اتجاهها بيئتها وانحرفت عن السبيل، وظهرت فيها خصائص بيئات أخرى، ولنضرب لذلك مثلاً:
من ابرز الأخلاق التي يمتاز بها عرب السودان البطولة والجلادة، والصبر على المكاره، وقد اتخذت هذه الصفات مظاهر متعددة، وبدت في أشكال مختلفة، فمن أكبر العار عند العربي السوداني الفرار من الميدان، وهو يقاتل ما دام النصر يتراءى له؛ فإذا تأكد الهزيمة لم يول ظهره ولم يقاتل قتال المستميت بل يلقى فروته على الأرض ويجلس عليها رابط الجأش، ثابت النفس حتى يقتل أو يؤسر، كما فعل الملك جاويش الشايقي الكبير عندما تغلب عليه بشير ملك الخندق. كان فرسان الشايقة يفتخرون بأنهم يفترشون (فراويهم) إذ بدا لهم أنهم غلبوا، وكما فعل الملك نمر عندما تغلب عليه الترك في واقعة النصوب فإنه(898/28)
ترجل عن جواده، وجلس مفضلاً الموت.
ومن العار الذي لا يمحى، ويبقى سبة للرجل وأولاده من بعده يعيرون به، أن ينطق المريض مهما اشتد مره بكلمة تدل على تألمه، أو يبدى المضروب اقل توجع مهما اشتد عليه الضرب أو يظهر على المسوق إلى القتل اقل جزع أو خوف. وقد حدثت بأحاديث كثيرة في هذا الشأن، فقد ذكروا أن جماعة من المجموعة حكم عليهم بالإعدام وكانوا يساقون إلى المشنقة واحداً واحداً، فجلسوا يلعبون (السيجة) وهم ينتظرون نوبتهم في القتل، وكان الجلاد يأتي فيأخذ أحدهم للقتل، ويبقى الآخرون مستمرين في لعبهم دون أن يبدو عليهم أي ذعر أو خوف. . . وهكذا حتى قتلوا جميعاً.
وحدثت أن بعض الفرسان بق إلى المقصلة، وكان مكانها بعيداً، وقد أبى أن يمشى مقيداً، ولكن القيد كان من النوع المفرغ، فلا يمكن فكه، فأيئسوه من فك قيده، فطلب أن يقطعوا قدمه ففعلوا، وجعل يمشى وما رؤى عليه أي تأثر.
ومن العار أن يرفع الإنسان صوته بالأنين والتوجع في حادث من الحوادث حتى لقد تجرى لأحدهم عملية جراحية دون مخدر ومع ذلك لا يرتفع له صوت، رأيت مثل ذلك في مثقفيهم، وتأكد لي من مناقشتهم طويلاً في هذا الشأن، ولقد قلت مرة لأحد المترفين: ماذا وضربت عشرين سوطا؟ قال: أتألم اشد التألم، قلت أما ترفع بالتأوه والأنين؟ قال: لا. لا. (الكوراك) لا سبيل إليه (والكوراك: رفع الصوت)
ومعروف من عاداتهم في (البطان) أن الشاب إذا اعجب بفتاة ووقع حبه في قلبها نزعت من معصمها سواراً، وألبسته إياه، فيأخذ الشاب إذ ذاك سوطه، ويهزه فوق رأسها ويقول: (ابشري بالخير أنا أخو البنات عشرة) فإذا كان له بين الحضور منافس فيقف له حامل السوار واضعاً يده اليمنى فوق رأسه فيجلده بسوطه إلى أن يكل فيرمى السوط فيجلده حامل السوار في نوبته بما أعطي من قوة، ويقف المضروب في حالة الضرب جامداً لا يتحرك، ولا يطرف له جفن كأنه صخر أصم، ومن بدت عليه ظواهر التألم بل من بدت منه أقل حركة كهز الكف أو طرف الجفن، لبس العار، ولم يعد له في البنات نصيب.
بل قد حدثت بما هو ابعد من هذا، حدثت أن سيدة أبت أن تقوم في مأتم أخيها، أو تقف على قبره، لأنها رأت في وصيته ضعفاً وخوراً لم تحبهما فيه، رأته يوصى بان يدفن(898/29)
بجوار قبر ولي من الأولياء، ولا يدفن في مقابر أهله وعشيرته، فقالت لا أبكيه أيخاف من النار وأبكيه؟!
هذا الخلق لابد أن يظهر في الشعر وإلا كان الشعراء يعيشون مع قوم آخرين فليس طبيعيا أن ترى الأنين والباء والتوجع والتأوه في الشعر السوداني، وإنما الطبيعي أن ترى التسامي على حوادث الدهر، والسخرية بتقلبات الأيام، والنفور من الضعف والهوان. وإذا كان للشعراء في أي جهة أخرى أن يسهوا الليل وأن يعدوا النجوم، وأن يلطموا الخدود، ويشقوا الجيوب في سبيل محبوبة هاجرة، وإذا كأنهم أن يشيعوا موتاهم بالعويل، وأن يتلقوا حوادث الأيام بجفن باك، وقلب واجف، وصبر متخاذل، فإنه ليس للشاعر السوداني إلا أن يقول كما قال ابن سناء الملك:
ولو مد نحوي حادث الدهر كفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا
فليس من الطبيعي أن نقرأ للشاعر شيئاً من هذا إلا حين يئس نفسه وقومه، كقول الشيخ عمر ألا زهري:
سلا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفسي من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
ولا أن تقرأ للشيخ أحمد المرضى:
لقد آن أن أبكي وأبكي البواكيا ... وانظم من حب الدموع المراثيا
ولكن من الطبيعي جداً أن نقرأ للشاعر عبد النبي مرسال هذه الأبيات.
أنا أن عضني الزمان بناب ... ودهائي يوماً بفرس
وبلتني الخطوب من كل نوع ... ودهتني الكروب من كل جنس
أن لي كالحديد عزماً ونفساً ... لا تفل الخطوب عزمي ونفسي
ومن الطبيعي أن يفتخر الشاعر السوداني بالبطولة والشجاعة وأن يتمدح بها، وأن يمدح حين يمدح بها ويهجو إذا هجا بالجبن والضعف والفرار يوم الزحف، وأن تظهر عواطفه في مثل هذه الأبيات:
ألقى بصبري جسام الحادثات ولى ... عزم أصد به ما قد يلاقني
ولا أتوق لحال لا تلائمها ... حالي، ولا منزل اللذات يلهيني(898/30)
ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت ... إلا الذي بجميل الذكر يرضيني
وكيف اقبل أسباب الهوان ولى ... آباء صدق من الغر الميامين
وإذا كان أهل السودان يعدون الكرم من أكبر مفاخرهم والبذل من أحد سجاياهم - وهو كذلك - فبديهي أن تظهر هذه الحضارة النبيلة في الشعر، وأن تأخذ مكانها اللائق بها، وكثير ما نقرأ لهم الأبيات الجميلة في تمدح بالكرم، والافتخار بالجود كما نجدهم إذا هجو كان من أبلغ الهجاء عندهم أن يصفوا الرجل بالشح، وانه لا يؤدى واجب أضيافه، وكما تجد هذا في الشعر المعرب تجده في الشعر العامي، ويعجبني قول امرأة ترث زوجها.
بي عبدو، بي خادمو. ... للدهر العيش مورادمو
يكفى الضيف، ويقادمو
فهي تصف زوجها بالسيادة، وأنه صاحب عبد وخادم، تدق في الوصف، وتبلغ في التعبير وتنبل في المعنى، فتصف زوجها بالبذل والأنفاق، وإنه يعطى ما لديه، وإذا كان البخلاء يختزنوه العيش مخافة حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وإذا كان ظنهم في الله سيئاً فإن زوجها رجل لا يخاف إلا البخل، ولا يهرب إلا من قالة السوء، ولا يحسب حساباً للدهر والأيام، فهو لم يردم العيش ويختزنه خوفاً من الدهر (للدهر العيش المرادم) ثم تتحدث عن مظهر من مظاهر الكرم فتصف زوجها بأنه يكفي الضيف، وهذا لباب الكرم، ومع ذلك لا يقصر في الإكرام فهو يودع أضيافه إلى مسافة بعيدة على عادة الكرماء وعبرت عن ذلك ابسط تعبير (يكفى الضعيف ويقادموا) كما يعجبني رجل من البطاحين:
من منا ولى منا ... كذبوا القالوا متلنا
يكفى مراره فيسلنا ... ويصد القوم عاطلنا
فهو يفتخر هنا بنسب قومه ومكارمهم وشجاعتهم ويقول: أنه لا يساميهم أحد ومن قال أنه مثلهم فقد كذب، ويسكن البطاحين بين الجعليين والشكرية، الجعليون شمالهم، والشكريية جنوبهم، أو على تعبيرهم الشكرية في الصعيد، والجعليون في السافل، وهو يقول: من هنا والى هناك يقصد الجعليين والشكرية يكذب من يقول أنه مثلا، ثم يصف قومه بالكرم فقال: يكذب مرارة فسلنا، والفسل البخيل، ويكفى مرارة إشارة إلى العادة المعروفة في السودان وهي أنه إذا نزل أضياف برجل وكان كريما ذبح لهم، وللدلالة على أنه ذبح يقدم لهم أول(898/31)
ما يقدم الكبد والطحال والكرش، وتؤكل كل نيته، يرون في ذلك دلالة على نهاي الكرم، ويعبرون عن هذا الطعم (بالمرارة) والشاعر البطحاني يقول: أن يخيلهم يبلغ به الجود إلى درجة أنه يكفى الأضياف ويذبح لهم حتى يباع حد الكرم، وإذا كان بخيلهم يقوم بحق الأضياف، فضعيفهم يصد الجيش المغير، وهذا نهاية المدح والافتخار.
والحق أن شديد الإعجاب بهذا الشعر البدوي، وهو عندي أصدق لهجة واقرب إلى الواقع من الشعر المعرب.
أما تسجيل الشعر للعادات، فالمطلع يجد كثيرا من هذه العادات في الشعر السوداني، ولا سيما العامي منه، وسأقتصر هنا على بعض تلك العادات؛ فمن العادات الشائعة في السودان أن يلبس النوادب لباس الحرب الميت ويحملن آلاته التي كان يستعملها في القتال، تتقلد واحدة من قريباته سيفه وتلبس أخرى جبته أو عمامته، ويدرن باكيات في ساح الدار، ولا يعمل هذا العمل إلا للعظماء من الرجال ملوكاً كانوا أو محاربين، وقد يستمر هذا خمسة عشر يوماً، والشاعر السوداني يذكر هذه العادة في معرض الحسرة والألم على ما صارت إليه حال قومه، فهو يبكى على زمن مضى كان السيف فيه في يدي البطل يدافع به عن حوزته ويدفع به في صدر عدوه، فعدا الزمان وسلب السيف من يديه ووصفه في يد الناعية، فأصبح لا يرى إلا في يدها، والخوذة ويسمونها (التربك) لا ترى إلا على رأسها:
كأن الزمان برغم الزم ... ان أمسى تبيعا لسلطانيه
غفرت له وهو ذاك العتي ... فكم ناشئ بيد عاتيه
عدا فاستباح دروع الكما ... ة فلف بها رمما بالية
وخلى التربك وهز البوا ... تر حبساً على الغادة الناعية
والشعوذة والدجل، وضرب الرمل، وطرق الحصى، والودع كثير في السودان، والناس يؤمنون بكثير من هذه الضلالات، ولا يفوت الشعراء أن يحدثونا عن صاحبة الودع، وأن يصفوا لنا ما يفعله الحاوي، ويجرى على ألسنتهم ذكر التعاويذ والتمائم، ومن ذلك ما يقوله التيجاني يوسف:
عوذوا الحسن بالرقى وخذوني ... أنا تعويذة لكعبة روحي
قربوها مجاماراً أنا وحدي ... عوذ للجمال من كل روح(898/32)
احرقوني عل يديه وشيدوا ... هيكل الحب من فؤادي الذبيح
واعصروا قلبي المفزع للحسن ... أماناوعوذوه (ينوح)
وللمجامر في الحياة السودانية شأن أي شأن، فليس يخلو منها بيت من البيوت، ويوضع فيها البخور حيث تتطيب به النساء والتيجاني يشير إلى ذلك حين يقول:
وليلة من جمادي ... في مثل روعة شهره
درجت والحسن حولي ... إلى خبيئة سره
ورحت احرق نفسي ... على مجامر عطره
أذبت من خمر روحي ... على يديه وثغره
بقية من ربيع ... شقيت وحدي بزهره
ومن عادة الزوجة في السودان إلا تخاطب زوجها باسمه بل تدعوه بأسماء أخرى تتحاشى طوال حياته أن تناديه باسمه، والشاعر يسجل هذه العادة فيقول:
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ... فتاته اللحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من مرءرد خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه وحديث ذو أفانين
ولا منى فيك والأشجان زائدة ... قوم وأحرى بهم إلا يلوموني
في ذمة الله محبوب كلفت به ... كالريم جيداً وكالحيروز في اللين
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ... يا أنت، ياذا، وعمدا لا يسميني
على العماري(898/33)
رسالة الشعر
عتاب
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
(مهدأة إلى أم كلثوم أيضاً)
أأضوي ولي من ظلك الكنفُ الرحبُ ... وأظمى ولي من ثغرك المنهل العذبُ
أحبك ألوانا من الحبِ لم تزلْ ... تجدُ لا يهدأ لظاها ولا يخبوُ
ترادفن في قلبي جوى غير مقلع ... وبرحاً يا شد ما حمل القلبُ
ولي فيك إجهاش الليالي، وَمدمُع ... إذا كف غربُ منه أعقبه غربُ
وجنة مشتاق إذا شطتْ النوى ... وأنأتُ محروم إذا جمع القربُ
ومحمومة من غيره ما تدافعت ... بصدري إلا قلتَ زلزلتْ الهضبُ
أبثك تحت الفجر والكون جاهد ... تسابيح نفس ملء أحنائها عتبُ
إذ كان حب الناس سهداً ولوعةً ... وأفئدة تهفوُ لأفئدة تصبوُ
فليس الذي ألقاه فيك من الضنى ... ومن حرقٍ تفرى الضلوعَ هو الحبُ
بلي أنه التقديس قد طهر الهوى ... فرف كما رفَ الندى المونقُ الرطبُ
قصاراك منى والدنا في مدارها ... تقلبُ حتى ما يقرُ لها جنبُ
أساكيب وقد في الجوانح تنصبُ ... وحز مدى بين الأضلع لا ينبوُ
وذمة وافٍ والوفاء مشقة ... وَما حسبي أن أدنى المرتقى الصعبُ
لئن لم أكن حسباً لنفك أنني ... لاعتدَ نعمى العمرُ انك لي حسبُ
) فلورانس)
عزيز أباظة(898/34)
تعقيبات
لأستاذ أنور المعداوي
وجهات نظر في رسالة:
أوفر شكر واجمل تحية:
عدت إلى دمشق من نزهة مضنية في حلب وضواحيها كما عدت أنت من رحلتك الطويلة: (خيالاً لا ينفض بعدها يديه من خداع الأوهام ويلقى عصاه). . واستقبلني المرض فاعتصمت بالسرير أياما طويتها في القراءة والتأمل، ولقد طلعت على الرسالة قبل غيرها من بريد الكتب والمجلات، فقرأت تعقيبك على كلمتي الأخيرة، وأسفت اشد الأسف أن حالت الحوائل دون زيارة الإسكندرية والقاهرة خلال انعقاد المؤتمر الثقافي الثاني، ويسرني أن تعلم أن رؤيتك ورؤية الأستاذ الزيات تعدلان عندي هذا المؤتمر الثقافي الذي لا يعدوا أن يكون مؤتمر كلام وطعامدون أن يكون مؤتمر تنفيذ وأفعال. . وما عهدي بالمؤتمر الثقافي الأول الذي عقد في (بيت مرى) من لبنان ببعيد، وما احسب حكومة (عربية) واحدة نفذت قرارات المؤتمر الثقافي الأول حث بحق لها أن تشترك في المؤتمر الثقافي الثاني!
على أني آملة من الله آن يكتب لنا لقاء قريباً في أعقاب الخريف فأزور القاهرة والقه الأستاذ الزيات في دار لرسالة ونبحت طويلاً في (شؤون الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. .) ولعلها احب الأحاديث إلى نفسي وأشهاها إلى خاطري.
لا أحب أن نتقارض الثناء فنتحدث عن أسلوبي بتميز بالنضج والأصالة، وأتحدث عن شباب أسلوبك وأناقة صورك ورفاهة أخيلتك، ولكنها كلمة صريحة أود أن أطلعك عليها فلقد قرأتك كثيراً وعرفتك كما تعرف نفسك ولكني في هذه المرة اكتشفت ناحية أدبية جديدة فيك وهي أن لك حين تكتب عقل (طه) وقلب (الزيات). . وما رأيت أحدا غيرك من أدباء هذا العصر؛ استطاع على طراءة الشباب أن يبلغ ما بلغت من أسلوب مكين متين، وصور أنيقة رقيقة، وخيال خصيب عجيب! فاحرص ما استطعت على صداقة الزيات واحرص على مكانك من رسالته، فليس أجدى على الأديب مثل أن يلقى الأديب ويصادقه ويعايشه.
مع هذه الرسالة قصيدتي (قصة قلب) وهي لون جديد من ألوان الشعر العاطفي يلخص(898/35)
قصة القلب الإنساني ويتحدث عن الحب حديثاً جديداً أن تعقب عليها وعلى أختها (القمر) في فصل من فصولك الرائعة، لأنه يهجني ويثلج صدري أن انقد وانتقد، ويسرني أن أصغي إلى نقد من أعايشهم من رجال الأدباء والفكر إن نقد الأحياء للأحياء أجدى من نقد الأحياء للموتى، وأعاظم رجال الفكر في بلاد الناس يعنون اشد العناية بهذا النقد لأنهم فيه تجاوباً وتوجيهاً.
كنت أحب أن أزوك في القاهرة، وما كنت أدري أن قصيدتي (القمر) و (قصة قلب) ستنوبان عني في هذه الزيارة فأكرم وقادتهما لأنها حبيبتان إلي عزيزتان علي أثيرتان عندي.
وذلك التحية الطيبة والمودة الدائمة والشكر الموفور.
(دمشق - سورية)
هجران شوقي
لست أدري ماذا أقول للآنسة هجران شوقي بعد أن أسرفت في الثناء. إنها وجهة نظر أول تنقلها إلى رسالتها الثالثة واقف منها كما وقف الزعيم الخالد سعد زغلول من قوم أسرفوا في الثناء عليه. ارتدى الآنسة ماذا قال لهم سعد؟ لقد قال لهم عباراته المشهورة: (لقد أخجلتم تواضعنا) فصارت مثلاً من الأمثال.
أعمق الشكر يا آنسة، واخلص الأسف أن حالت الظروف بينك ويبين الحضور وبيننا وبين رؤيتك. . ولئن عاقك اليوم المشهود عن هذه الأمنية فأرجو لا يعوقك الغد المرتقب، وسواء صافحت روحك أنسام هذه الأرض الطيبة في أعقاب الخريف أم في أوائل الشتاء، فإني أقول لك كما قلت بالأمس مرحباً بك ضيفة كريمة تلقى في ديارنا أهلا غير الأهل ووطناً غير الوطن.
صدقيني لقد كانت وجهة نظرك الثانية عن المؤتمر الثقافي لفتة مشرقة، واشهد لقد كانت هي وجهة نظري وكأننا كنا في اتفاق الرأي على ميعاد ولقد كنت على وشك الكتابة حول هذا الموضوع قبل انعقاد المؤتمر بأيام، ولكنني تذكرت أن هناك أناسا يهمهم أن ينتهي المؤتمر دون أن يثار من حوله الغبار! وما كففت القلم مجاملة لهم لي حساب الحقيقة(898/36)
الصارخة والواقع الشهيد ولكن لأنني قد وضعت من ميزان أوهامهم في كفة الشك والاتهام. . من هنا كففت قلمي ورجوت المؤتمر شيئاً من التوفيق ينسى أناس في ظلاله بعض ما ساورهم من خيبة الرجاء في المؤتمر أول، ولكن البداية السيئة التي تجلت في مظاهر الارتجال حتى أوشك الشمل أن يتفرق؛ هذه البداية كانت تشير إلى النهاية وتغنى عن كل وجهة نظر في مجال التعليق!.
ومع ذلك فقد انتهى المؤتمر وأشهد ما خرجت منه بشيء ذي خطر سوى محاضرة الأستاذ الزيات، هذه المحاضرة القيمة التي أقول فيها رأيي خالصاً لوجه الحق لا لوجه الصداقة وما تعودت أن أجامل أحدا ولو بلغت أواصر الود بيني وبينه ما بلغت بيني وبين هذا الصديق. . ما أريد أن أخرجه حين أطلب أن يجهر برأيه فيما أصاب المؤتمر من نجاح أو فيما منى به من إخفاق، بنفس الصراحة السافرة التي زخر بها رأيه الأخر في حاضر الأدبي العربي الحديث.
أما عن وجهة نظرك الثالثة يا آنسة فلا أوافقك على شقها الأول وإن كنت أوافقك على شقها الأخير: تقولين عني أن لي (عقل) طه حين اكتب (وقلب) الزيات؟. . من الصعب أن تتشابه العقول في مناهج التفكير وطرائق التعبير، لأن لكل أديب عقله الخاص الذي هو من صنع الله أولا ومن صنعه هو في نهاية المطاف، أعنى أنه وليد نشأته ونتاج ثقافته وثمرة مداركه وكل هذه الأشياء لا بد أن تعكس أثارها الواضحة على مظاهر النشاط العقلي وتوجه كلا منها إلى طريق: ومن هنا كان عقل طه غير عقل العقاد؛ وعقل العقاد غير عقل الزيات؛ وعقل الزيات غير عقل الحكيم، وقفل الحكيم غير عقل تيمور. أما القلوب فقد تلتقي في دفقة الشعور وجيشان العاطفة، وتأتلف فيها وخفقة خفقة أمام هزة من هزات الكون أو مشهد من مشاهد الحياة، لأن رواسب الإنسانية المستقرة في أعماق النفوس قسط مشترك بتقاسيمه الأحياء كل بنصيب!
بقيت إشارتك إلى الحرص على صداقة الزيات ومكان هذا القلم من رسالته. أود أن أقول لك أن ما بينه وبيني من قرابة الروح وأصالة المودة ظاهرة يعز وجودها في مثل هذا المجتمع الذي نعيش فيه؛ وليس لمكاني في الرسالة اثر يذكر في هذا الدير يربطني بصاحبها منذ عرفته، وإنما هو رفاء يقابل بوفاء! أما عن قصيدتك (قصة قلب) وأختها(898/37)
(القمر) فموعدي معها في ميدان النقد آت لا ريب فيه، وذلك بعد أن تقع عليهما الأعين والأذواق في الأيام المقبلة. وإذا كنا قد تأخرنا في نشرهما بعض الوقت فمرجع ذلك إلى ما بين أيدينا من قصائد أخرى قد سبقت في الوصول ويقتضي الأنصاف أن ينشر كل شيء في وقته المعلوم
كلمات من شوينهور:
مما روى عن الفيلسوف الألماني شوينهور أنه خرج على الناس يوماً بمذهب فلسفي جديد حمله إليهم كتابه المعروف (العالم كإرادة وفكرة). . واعجب النقاد بكتاب الفيلسوف ناعتين مذهبه بأنه غزوة موفقة في ميدان الفكر الأوربي عامة وميدان الفكر الألماني على الأخص وكن ناقداً واحداً أتصدى للكتاب القيم في حملة ساخطة هدفها الحط من قدره وقد صاحبه وفكر شوينهور طويلاً: هل يتناول قلمه ليناقش هذا الناقد المطموس؟ وبعد جولة فكرية طاف بها حول عقلية ناقدة، انتهى إلى أنه لا يستحق منه غير هذه الكلمات: (أن بعض آثار الفكر مثلها كمثل المرآة إذا نظر فيها الحمار. . فلا ينتظر أن يجد وجه ملاك!
وبالأمس خرج كاتب هذه السطور عل الناس أيضاً بمذهب جديد في النقد وهو مذهب (الأداء النفسي). . . وسجلت صفحات (الرسالة) ورسائل الأدباء مدى ما لقي المذهب الجديد من تقدير وثناء. . . ولكن ناقداً واحدا اشق عليه إلا يكون هناك صوت ينكر ورأى يعارض، فكتب في البريد الأدبي من العدد الماضي من الرسالة كلمة ختمها بهذه اللمحة البارعة: (أن القلم يوشك أن يقرض اللجام ليكشف الغطاء عن الأداء النفسي، وذاك أمر أن يبد يسؤ الأستاذ المعداوي). . من هنا تذكرت رد شوينهور على ناقده. ولعل أول شيء ذكرني بهذا أرد الخالد هو كلمة (اللجام) التي وردت في لمحة الأديب الطنطاوي المجهول!
أما الشيء الثاني الذي ذكرني شوينهور فهو موقفه من ناقده المعروف حين رأى أنه غير جدير بمناقشته: وكذلك عزمت على أن اقف نفس الموقف من ناقدي الذي لا يعرفه أحد وأرجو إلا يغضب إذا ما أهملت ذكر اسمه الذي لا يعرفه أحد وأرجو إلا يغضب إذا ما أهملت ذكر اسمه خشية أن يعرفه الناس مرتين. . وخمول الذكر خير من الذكر الذميم على كل حال!!
لقد تعرض هذا المجهول العظيم لما كنت قد كنته عن الشاعر اللبناني يوسف حداد، متخيلاً(898/38)
أني سأهتم بمناقشته لتستطيع أن يطل برأسه على دنيا الأدب والأدباء. . . ومعذرة يا عزيزتي إذا ما أغلقت الباب في وجهك، لأنني لا اهتم بمناقشة الرؤوس الفارغة ولو ركبت فوق أعناق طويلة، تتيح لها أن تطل على دنيا الأدب والأدباء من حين إلى حين!
مذهب الأداء النفسي لا يرضيك؟ من أنت إذا رضيت أم سخط؟! أن الجمال إذا تمثل في لوحة الرسام أو سيمفونية الموسيقار أو ميزان الناقد أو قصيدة الشاعر، ثم وجد من ينكر أصداءه في فجاج النفس وأضواءه في شعاب القلب فإن الذنب ليس ذنب الجمال. . . ولكنه ذنب كل عين عمياء وكل أذن صماء وكل شعور بليد!!
بين عزيز أباظة وأم كلثوم:
في العدد الماضي من الرسالة قصيدة محلقة مهداة إلى الآنسة أم كلثوم من الأستاذ الشاعر عزيز أباظة. وما أريد أن أعقب على فن الشاعر وإنما الذي أريد أعقب عليه هو ذوق المطربة! لقد أثارت عبارة الإهداء التي وجهها عزيز باشا إلى الآنسة أم كلثوم بعض الخواطر الكامنة في النفس منذ أمد بعيد. . . وقبل أن أنثر بين يد القارئ شيئاً من هذه الخواطر المثارة أعيد هنا نشر عبارة الإهداء (اعتدت أن أهدي إليك شيئاً من الشعر وأنا غريب الدار وتقولين أنني أفعل ذلك توفيراً للهدية وأقول أنني أفعله توقيراً للمهدى لها. . فهل تصنعين فيه لحناً؛ لقد خلدت الخالدين فتنزلا إلى المغمورين).
أرأيت إلى هذا الإهداء المضمخ بعطر التواضع وإنكار الذات؟ أن عزيز أباظة ليس من الشعراء المغمورين ولكنه من الشعراء الملحوظين. وهكذا يصنع التواضع بأهله حين يجردهم من محاسنهم في رأي أنفسهم ونريد من تلك المحاسن في رأي الناس! بعد هذا افتح الباب على مصراعيه فأقول لأستاذ الشاعر: هون عليك. . . أن الآنسة أم كلثوم لا تستطيع أن ترفع من شأن شاعر لم يرفعه شعره أو تخفض من قدر شاعر قد ذاع في الناس قدره هذا إذا غنت للقول ولم تغن للأخير! ما معنى هذه الكلمات؟ معناها عندي إنها غنت شوقي العظيم المشهور فلم تضف إليه مجداً فوق مجده أو معجباً ينظم إلى زمرة المعجبين، ولو لم تغن له لبقى شوقي كما كان. . وغنت لمصطفى على عبد الرحمن الشاعر المغمور فلم تستطع أن تنتشله من مهاوي الخمول أو زوايا العدم، ولو غنت له ألف مرة لبقة كما كان. . . واعجب العجب في هذا الذوق أنه لا يجد حرجاً في المساواة بين القمم والسفوح!!(898/39)
لو اقتصرت الآنسة أم كلثوم على شعر شوقي وحده لا لتمسنا لها بعض العذر كله، لأن هناك شعراء لو اطلعت على شعرهم لوجدت فيه من الروائع ما يشرف به الغناء. . . ولكنها تنسى شعر علي محمود طه مثلاً لتصدح بشعر مصطفى عبد الرحمن! ماذا أقول في هذا الذوق؟ هذا الذوق الهابط سواء أكان منسوباً إليها أم كان منسوباً إلى (مستشارها الفني) أحمد رامي؟! لقد بلغني أن رامي هو الذي يشير عليها بأن تغنى لهذا ولا تغنى لذاك. . إذا كان هذا صحيحاً فأحب أن انصح للآنسة أم كلثوم بأن تستشير الشعراء في اختيار الشعر الصالح للتغريد، لأن رامى قد ترك صفوف الشعراء منذ عرفها وانظم إلى صفوف الزجالين!
لماذا لم يشر عليها المستشار الفني بأن ترجع إلى شعر على محمود طه وهو سيد الشعراء (الغنائيين) في الأدب العربي قديمه وحديثه؟ سؤال يحتاج إلى جواب. . ومع ذلك يتطوع صديق لبق بهذا الجواب فيهم في أذني بهذه الكلمات: هل نسيت أن رامى كان هو الإنسان الوحيد الذي لم يودع الشاعر الراحل بكلمة رثاه؟ وهل نسيت أن السبب في هذا الجحود هو شعوره بأن علي محمود طه قد اعتدى على حقه في وكالة دار الكتب المصرية قبل أن يلقى ربه بأسابيع؟ ابحث عن النتائج يا صديقي في ضوء المقدمات!
منطق سليم لم أستطيع له دفعاً. . ولكن متى كان علي محمود طه محتاجاً إلى الخلود تضفيه على ذكراه كلمة يرثيه بها رجال أو قصيدة تغنيها له إحدى المطربات؟!
أنور المعداوي(898/40)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
المؤتمر الثقافي العربي الثاني في الميزان:
أول ما لوحظ على هذا المؤتمر الانتقادات التي وجهت إليه، هو عدم التوفيق في الأعداد له، وخاصة في موضوع (التوسع في التعليم) وقد فصلنا الكلام عليه فيما سبق. وقد تغيرت صيغة هذا الموضوع بحيث انقلب إلى موضوع آخر، فلم يبق معداً للنظر أمام المؤتمر إلا موضوع بحيث انقلب إلى موضوع آخر، فلم يبق معداً للنظر أمام المؤتمر إلا موضوع (الأعداد للحياة). ثم نشأ عن الكلمات التي ألقيت في حفلة لافتتاح والمناقشات التي دارت فيها، أن تقرر عرض موضوعين آخرين مرتجلين، هما مسألة تعليم أبناء اللاجئين الفلسطينيين، وموضوع الثقافة العربية؛ وهكذا وجد المؤتمر نفسه إزاء ثلاثة موضوعات جديدة، عليه أن يدرسها ويقرر توصيات فيها.
أما موضوع التوسع في التعليم فإن اللجنة التي الفت له لم تلق كبير عناء في توصياتها، فهي من آراء معالي الدكتور طه حسين ومن وحي سياسته الثقافية التي ينهض التعليم في مصر الآن على أساسها. وأما موضوع تعليم أبناء اللاجئين فقد بدا أمام لجنته معقداً، وليس من اليسير أن يرتجل بحث موضوع كهذا، ولا سيما أنه ليس هناك سابق دراسة أو بيانات أو إحصاءات يمكن الاستناد إليها وتبين نواحي الموضوع في ضوئها، وعلى ذلك دارت التوصيات في هذا الموضوع على (تأليف لجنة) تعنى به. . مع توصيات عامة أخرى على قدر الإمكان. وأما موضوع (الثقافة العربية) فقد اشتمل تقرير اللجنة التي ألفت له وتوصياتها، على نقط وأمور قيمة، ويبدو لي أن ذلك يرجع إلى أن بعض أعضاء اللجنة وخاصة الذين اشتركوا في كتابة التقرير من الأساتذة المختصين الذين شغلت هذه الأمور أفكارهم من قبل.
والموضوع الوحيد الذي ظل كما حضر من قبل، هو (الأعداد للحياة) وقد وفته اللجنة حقه واكثر من حقه. . إذا أن توصياتها جاءت حشداً كبير من الأمور الفنية الجزئية، فكانت اقرب إلى أن تكون (ملزمة) من كتاب في التربية، منها إلى توصيات مؤتمريه عامة.
وعلى الرغم من كل ذلك، ومن أن اكثر موضوعات المؤتمر كان مرتجلاً، يمكن القول بأن(898/41)
القول نج في مهمته، إذ وصل إلى نتائج وقرر توصيات مهمة فيما نظر فيه، والفضل في ذلك للروح التعاونية العامة، التي علت على المظاهرات والمشاغبات الشخصية وأغضت عنها، فقد عملت اللجان في نشاط، ونشط سائراً أعضاء المؤتمر في المناقشة وصبروا على طول الجلسات وخاصة الجلسة الأخيرة التي استمرت من الصبح إلى المساء، وأوسع الرئيس صدره حتى لبعض الصرخات التي فاضت بها بعض الألسنة، كما حدث عند النظر فيما نفذته الحكومات من قرارات المؤتمر الأول، إذ قام أحد الأعضاء وندد بما سماه (الحكم الإقطاعي) الذي يحول دون التوسع في التعليم مقترحاً أن يقرر المؤتمر تخصيص ثلث الميزانية في كل دولة عربي للتعليم.
وقد أدت زحمة الموضوعات التي كان بعضها يحتاج إلى مؤتمر خاص، أدت هذه الزحمة مع ضيق الوقت، إلى شيء من العجلة و (الكلفتة) من ذلك أن المؤتمر قرر - بناء على توصية اللجان المختلفة - أن يعقد مؤتمر خاص بكل يلي: الثقافة العربية، وإعداد المعلمين، والمرحلة الأولى للتعليم؛ ولم توزع هذه الموضوعات على دورات معية، ولم تتسع الفرصة لمناقشة استحقاق كل من الموضوعين الثاني والثالث لمؤتمر خاص، وهل هما أهم من موضوعات أخرى.
أقول مرة ثانية: لقد نجح المؤتمر كأي مؤتمر، نظر في موضوعات مهمة ووصل إلى نتائج مهمة وقرر توصيات مهمة، وماذا تصنع المؤتمرات اكثر من ذلك؟ ومن المؤسف أن تلك الحملة الشخصية التي وجهت إلى الإدارة الثقافية لا تزال تتنفس في بعض الصحف بعد انفضاض المؤتمر، والذي يؤسف له أنها اتخذت المؤتمر نفسه ذريعة إلى أغراضها، مع أن المؤتمر منذ انعقد اصبح مسؤولا عن نفسه وأصبحت إدارة الثقافية (خالية الطرف) وأنا لا أدافع عن هذه الإدارة، فقد نفذت أعمالها فيما سبق ولا أزال بصدد هذا النقد، وإنما أريد التنبيه على أن تل الحملة مفتعلة ومغرضة، وأنها تخلط الحق بالباطل. وقد كان واضحاً أن بعض الذين شاركوا في هذه الحملة يحاولون أن يجسموا اخطأ من لا شيء، وكان ذلك في مناقشات المؤتمر وفي الرحلات وقد شاهدت أحدهم يترك مكانه في السيارة بإحدى الرحلات ويتربع على أرضيتها بجوار المقاعد وينادي مصوري الصحف ليأخذوا المنظر دلالة على أن الإدارة الثقافية لن تعد سيارات كافية لركوب الأعضاء! ورأيت؟ (زعيماً)(898/42)
منهم يقول لمن بجواره. انتظروا حتى أقومفأزعق لهم ويتجه إلى منظمي الرحلة، ليزعق من غير داع إلى الرعيق!
وقد قرأت في بعض الصحف أن معالي الدكتور طه حسين بك اعتذر بدا من التقصير في استقبال الأعضاء الوافدين، وهذا حق. وهو من قبيل التلطف والإحساس بأن ما بذل دون ما يستحق الضيف إظهاراً لمنزلته من نفس المضيف، ولكن العجيب أن يستدل الكاتب بذلك على إخفاق المؤتمر. . وقد فاته أن معالي الرئيس أبدى ارتياحه إلى قرارات المؤتمر واقتناعه بها وعزمه على العمل بها فوراً وهنا الأعضاء بما بذلوا من جهود وما وصلوا إليه بما نتائج. ولعل الكاتب لم يفته ذلك ولكن تلك الحملة المغرضة لا تزال متنفساً على قلمه. .
معرض الزخرفة الأندلسية
صاحب هذا المعرض الذي أجملت الحديث عنه في الأسبوع الماضي، هو السيد يوسف محمود غلام مدير إصلاحية الأحداث والمهندس العملي للفنون العربية الأندلسية ببغداد. تبدأ قصته مع الفن الأندلسي حينما كان يبحث عن نماذج للزخرفة؛ فاهتدى إلى بعض الرسوم الأندلسية في كتب آثار، فاهتم بها وجعل يكون من وحداتها أشكالا زخرفية يحلي بها الجدران، وأنشأ داراً له عنى بتوشيتها بهذه الرسوم حتى جاءت كأنها قطعة من قصور الأندلس، وعندما اضطر إلى بيعها لم يحز بنفسه إلا أن رأى المالك الجديد يعفي على رسومه بالطلاء المعتاد. . .
وأعانته الحكومة العراقية على السفر إلى أسبانيا، ليدرس الفن الأندلسي في موطنه على قصور الخلفاء وأثارهم، وقضى هنا عدداً من السنين متنقلاً بين غرناطة واشبيلية وقرطبة وغيرها، يشاهد ويصور ويجمع الصور، ثم عاد إلى بغداد، فأقام بها معرضه. وكان هذا المعرض قائماً هناك عندما زار بغداد الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، فعرض على السيد غلام أن ينقل معرض الزخرفة أندلسية إلى مصر حيث ينعقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني، على أن تعينه الإدارة الثقافية بخمسة وعشرين جنيهاً لم تكن هي كل ما أغرى السيد غلام بالقدوم إلى مصر، بل وعده الأستاذ سعيد بأنه سيهي له وسائل الظهور التي تتطلبها الأعمال الفنية، وأكد له مساعدة ذوى النفوذ.(898/43)
وجاء السيد غلام بمعرضه إلى مصر وانفق عليه وعلى نفسه وولده المرافق له ما انفق. ووضع المعرض أو سجن في سرداب بكلية الآداب تحت المؤتمر الثقافي. ولم يهبط إليه إلا القليل، وشغلت عنه الإدارة الثقافية، ولم يهتم به ذوو النفوذ ويقول السيد غلام: ماذا أقول إذا رجعت الآن إلى بغداد؟ أقول أن الشباب المصري لم يشجعني والفنانين المصرين لم يتلفتوا إلى؟ ولكن أين الفنانون المصريون، ومن يدر بهم به؟
ولندع هذه القصة فقد مضى أسبوع منذ قدومنا من الإسكندرية ولا ندري ماذا جرى بعد ولنقصد إلى المعرض ذاته هو يحتوي على250 قطعة وهي جميعاً أما من صنعه وتصويره وحده أو مما حصل عليه بالشراء من إسبانيا وهي تشتمل أشكالا زخرفية رسمها طبقاً لأحجامها في أصولها ونماذج من الخشب تمثل أبواب القصور الأندلسية ونماذج من الجبس بألوان وزخرفة أندلسية تمثل مدافئ عربية والكثرة الغالبة في المعرض تصاوير القصور وأجزائها من جوانب وزوايا مختلفة وقد عنى عناية خاصة بقصر الحمراء أهم الآثار العربية الباقية في الأندلس، في المعرض صور رائعة لأجزاء هذا القصر منها ساحة الأسود وفيها اثنا عشر أسدا فوقها حوض كبير يرتكز على مؤخرات الأسود ويعلوه حوض أصغر منه ونافورة ويخرج الماء في هذه الساحة من 37 منبعاً من بينها أفواه الأسود وقد نقش حول الحوض أبيات منها
تشابه جار للعيون بجامد ... فلم ندر أيا منها كان جارياً
ألم تر أن الماء يجري بصفحها ... ولكنه سدت عليه المجاريا
كمثل محب فاض بالدمع جفنه ... وغيض ذاك الدمع إذ خاف واشيا
وهناك صور جميلة للبركة (ساحة الريحان) التي في الحمراء، وهناك أيضاً قاعة السفراء، ومما نقش في أحد مداخلها:
فأمنت حتى الغصن من نفحة الصبا ... وأرهبت حتى النجم في كبد السما
فإن رعشت زهر النجوم فخيفة ... وان مال غصن ألبان يشكرك دائماً
وهناك صورة برجين بين قصر الحمراء وجنة العريف (قصر الملك الصيفي) أحدهما سجنت فيه الملكة ايزابيلا التي أسرها آخر ملوك بني الأحمر، وفي البرج الثاني أطفالها الثلاثة (ثايدة وثريداً وثرويداً (وهذه الأسماء يرويها الإدلاء وليست مذكورة في التاريخ.(898/44)
وفي المعرض صور لقصر بني عباد باشبيلية وبه ساحة الجواري وساحة الدمى، وفيه أيضاً صور لجامع قرطبة الذي يحتوي على 1200 عمود، وخرائط تخطيطية للمسجد الجامع بقرطبة في زمن العرب وفي الوقت الحاضر.
وفي المعرض قطع من القاشاني الذي تصنعه إسبانيا طبق الأصل لإصلاح ما تهدم من تلك القصور.
وبعد فإنها لمهزلة كبيرة أن يجئ إلى مصر معرض كهذا دون أن تصله الأسباب بأهل الفن ودارسي الآثار العربية في البلاد المصرية فضلاً عن جمهور المشاهدين.
عباس خضر(898/45)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمد زيتون:
قرأت مقالك يا سيدي عن الجامعة فحرك في نفوسنا خواطر طالما تمنينا تحقيقها، وأحيا في قلوبنا آمالاً كثيراً ما راودتنا في أرحامنا نحن أبناء الأزهر الذين ما زلنا تقف بباب الجامعة نسألها بصيصاً من نور العلم وقطرة من بحار العرفان، نحن أبناء الأزهر الذين ما فتئنا إلى الجامعة على أنها الفاكهة المحرمة. . . نحن أبناء الأزهر الذين ما زالت الجامعة تحوم عليهم دخول حرمها المقدس والوقوف أمام هيكلها الحرام إلا إذا لبسوا لها أردية (الثقافة) ومسوح (التوجيهية). . ونحن أبناء الأزهر الذين ما زلنا ننظر بعين الشرق العربي من لبنانيين وسوريين وعراقيين وحجازيين وقد فتحت لهم أبوابها على مصا ريعها واحتضنتهم في رفق وحنان ويجول في خواطرنا في تلك اللحظة بيت شوقي الخالد:
إحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس
ولئن كانت جامعة فؤاد قد شمخت علينا بأنفها فقد كانت - وما زالت - هناك جامعة قد ربتنا في حرها وأرضعتنا من لبانها كل مقدس طاهر إلا وهي جامعة (الرسالة) الحبيبة فلطالما نهلنا من بلاغة (الزيات) ورشفتا من بيان (عزام) وحلقنا في سماء خيال (الرافعي) وبتنا نصغي لأسماء زكي مبارك وأحاديثه ذات مشجون. . .!!
وبعد فهل آن الأوان يا سيدي لشيخ الجامعات ألا زهري النشأة أن بقي ببعض ما عليه لأبناء الأزهر فيأمر بالسماح لنا بدخول المعبد المقدس والصلاة فيه وهو الأمر المطاع؟ أم أنه سيترك هذه البلابل تنوح على الخرائب والأطلال وأمامها الأيكة وبجوارها الدوح. .؟ أمل الغد بالحكم عليه وإن غداً لناظره قريب.
معهد قنا
هارون المنيفي
استغفر من ذنب لست أعرفه
أوقفتني كلمة أستاذي فضيلة الشيخ عبد الجواد رمضان - التي شرفني بها في عدد الرسالة 896 في تلك الحيرة التي أخذت نفسي من جميع أقطارها ولم يستطع ذهني أن يتبين وجه(898/46)
الرأي فيما آثار من ينوء كاهلي بأياديه؛ ما الذي يا ترى آثار غضبه؟ إلا أني تناولت مشكلة تناولتها عشرات الأقلام؟ إلا أني رأيت رأيا يعرضه صاحبه وكان عندي ما يخالف هذا الرأي فأعلنته بكل أدب؟ إلا أني حاولت أن أعرض بعض ما انتفعت به من دراسات تربوية ونفسية على أعلام التربية وعلم النفس في الشرق عن الطريق المباشر بأخذي عنهم وغير المباشر عن طريق مطالعاتي لمؤلفاتهم؟ كنت انتظر ما ينتظره كل طالب من أساتذة لو كان في هذه الكلمة مالا تهضمه قواعد المنطق، ولا ترتضيه سلامة الذوق، ولا تستدعيه روح العصر في رأى أستاذي أن يقوم ما فيها بالأسلوب العلمي فخير ما يقدم في ميدان الرأي هو المنطق الأسد لا العاطفية الثائرة.
أما أن يعلن سخطه علي زججاه مني فقط فهذا هو للظلم الذي اقف أمامه مكتوف الأيدي لا اعرف لي ذنباً استغفر منه. هذا هو الجانب الموضوعي، أما الجانب الشخصي فلا داعي لإثارته لأنهيعنى ولا يهم غيري وغير أستاذي وسأكون عند حسن ظنه دائماً.
المعترف بالفضل
محمد عبد الحليم أبو زيد:
من علماء الأزهر الشريف
في أدب الدعابة:
أستاذنا الجليل (عبد الجواد رمضان) دقيق السمت رقيق الحاشية، بارع النكتة، رائع اللمحة، وله فهم متفرد في الأدب، أخذناه عنه، ولا زلنا نعمل في ضوئه، ونسير على هديه.
إنه يعتز بأزهر ته على أوسع نطاق، لكنه (متحرر) الفكرة، مستقل الرأي، وحيد المنظرة، ويرى - بحسب ما عرفنا - أن (الجامعية) في الدراسة ليست في المحاضرة الخاطفة التي تجمع الإلمامة الشاملة، وإنما انطلاق الفكر مع الاحتفاظ (بالحرفية) يعطى منى الدراسة الصحيحة!
ولقد كان ينزع إلى (النصوص الليمة) يدعم بها دراسته القويمة، ويرى الاكتفاء فيما بين الصفحات قصوراً وتقصيراً؛ فلا بد من الموزانة العادلة والانئاد الحكيم، والمنطق المفصح!(898/47)
قرأت له (فكاهة) على طريقته الخاصة في التعريض اللذاع المخبوء طي الدماثة اللفظية؛ فابتسمت لأني لاحظته بدين الخيال حينما يستعرض الحقيقة التي لا توائم رأيه فيأتي عليها بسخريته حتى يفندها ويبسيها إلى التفنيد!
لكني أرى - كواحد من الأثيرين عنده - أن هذه الفكاهة تباعد بعض الشيء رأيه الحصيف في الدراسة الأزهرية.
إني لن أتخلف عن دراسته (الحرة) للأدب؛ بل كنت في الصدارة على الرغم من سطحيتي الوهمية فيما كان يقذف من العبارات الاصطلاحية، والألفاظ (التعبدية) التي ينوء بها العقل إلا على جماعة الحفاظ الذين كانوا يباهون بإتخام رؤوسهم وهم لا يقيمون جملة عل جملة!
ولا أنسى ما كان يقرره فقيد العلم الأستاذ (محمد أبو النجا في الأعراب) بالتوهم وتعليقي على قول القدامى بقولي: (هذا كلام فارغ)؛ فيقول على الرغم من تحفظه: صدقت يا ولدي!. أن الاعتزاز بالأزهر واجب على أبنائه، والدعوة إلى تقويم طرق الأهواء لا تعد عقوقاً، ولعل أستاذنا يعنى بفكاهته لعن موقظ الفتنة النائمة، لكنه في صميم اعتقاده يقر (الحرية الفكرية)، التي لولاها ما عرفنا (الأدب الأندلسي) الذي يأتي فيه بالطرائف الفكرية المسطورة على هوامش الكتب إلى كانت بأيدينا للذكرى والتاريخ!.
إن عشر سنوات أن تنسينا فضل أستاذنا، فله علينا حق الاعتراف بفضله، ولنا عليه حق إبداء الرأي على ضوء توجيهه مهما يصطنع في فكآهته السخط الذي ينم عن زباية رضاه!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
إلى الأستاذ الجليل الزيات - مستقبل الأدب العربي
كان لتلك الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ الجليل الزيات في المؤتمر الثقافي العربي الثاني بالإسكندرية والتي نشرت بالرسالة في العدد 896 وقع حسن إذا أصابت الصميم وعبرت عما تجيش به قلوب المتأدبين من (ضعف الملكة فيمن يكتبون وفساد الذوق فيمن يقرءون) وأشارته إلى (دراسة علوم الأدب فيما مضى دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق).(898/48)
ثم أعرب الأستاذ الكبير عن تشاؤمه - وله الحق - عمن تخلف تلك الطبقة الكريمة ذات الفئة القليلة (من أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة).
والحق كل الحق إننا يجب أن نتوجس من الخوف بالرغم من وجود قلة بارة من أدباء الشباب نرجو الله مخلصين أن يهيئ لهم من الوسائل ما يمكنهم من إذكاء شعلة الأدب.
فها هو الراديو وها هما السينما والصحافة من أهم ما امتاز به هذا القرن وغلبها يعتد العالم إلى درجة تثير الجز في كل أموره وعليها تتوقف حياة الغد الفكرية وتحديد خطوطها المستقبلة، وقد اجمع أقطاب الفكر على إنها سطحية لا عمق فيها وبسببها سيقضى على الآداب والفنون الرفيعة العالية.
ويرى فيها الجيل الجديد المتظرف طريق الخلاص من القيود ويرى فيها أيضاً أنها لغة الجماهير التي يخاطبه بها حيث لم يفلح عظماء المفكرين وكبار الكتاب من الوصول إلى العاطفة الشعبية لأنهم يقصدون فيما يكتبون طبقة معينة من الخاصة.
زد على ذلك ما يتجه غليه نظر العالم نحو حياة اكثر غنى؛ نحو حياة مادية. فالعالم يسير - بالرغم منه. .
ومن المحقق أن تلك العوامل مجتمعة لها أثرها في التطورات الفكرية والاجتماعية المعاصرة ولها أثرها في أن الإنتاج الذهبي الرفيع قد فقد الكثير من نفوذه وسحره القديم.
طنطا
محمود محمد علي(898/49)
القصص
شهيد القرية
لأستاذ مصطفى أحمد فوده
(قصة شابين وفتاة: أحدهما أراد أبوه أن يزوجه منها، لتكون أمها زوجاً له، وأحبت هي الأخر وأحبها، وأرادت أن تزف إليه عروساً، فدبرت معه مكيدة تم لهما بها ما أراد).
لم يكن الحزن يعرف سبيله إلى قلب هذه آلام، ولم تكن هي الأخرى تقدر أنه سيعرف سبيله إلى قلبها في يوم من الأيام. ولكن المقادير لا تجرى كما نريد، بل كما تريد هي؛ والحزن لم يكتب على قلوب دون سواها، وإنما هو بلاء يصيب القلوب جميعاً، لا فرق بين قلب وقلب، إلا في نصيب أحدهما منه، فقد يقسو الحسن فلا يعرف رافة ولا رحمة، إلا في نصيب أحدهما منه؛ فقد يقسو الحسن فلا يعرف رأفة ولا رحمة، وقد يترفق فيمس القلوب مساً هينا رفيقاً، ولا فرق في ذلك كذلك بين قلب وقلب إلا في الزمن الذي يصيب فيه الحزن أحدهما؛ فقد يتعجل به ويعرف سبيله إليه في شرخ شبابه، وقد يتأنى فلا يطرقه إلا في سن الشيخوخة، وقد يقيم فيه لا يفارقه بينهما عهداً لا يريد الحزن أن ينقضه.
ذاقت هذه ألام مرارة الحزن، وعرفت تباريح الأسى حين وقفت إلى جوار وحيدها إبراهيم وهو يفارقها لا إلى عمله كما هي عادته عند كل صبا ولكن إلى إلقاء ربه؛ وكأن الموت حينذاك قد أراد أن يكون رفيقاً بالفتى، فلم يمهله طويلاً يتلوى على سريره حينا، ويغادره حينا آخر ليستلقي على الأرض، ثم يتركها يطمئن إلى صدر أمه، وليحتويه ذراعاها، حتى يفارق الحياة أو تفارقه الحياة. وكأن الحزن قد أراد أن يكون قاسياً بالغ القسوة حين أبى إلا أن يستقر في قلب آلام، حتى أنست إليه أخيرا، وأصبحت تجد فيه عزاءها وسلواها.
كان (إبراهيم) فتى من فتيان هذه القرية التي تقع غير بعيدة من ترعة صغيرة تجري في شرقيها، والتي يعمل أبوه (شيخاً لحفرائها) وكان هذا الفتى يحمل بين جنبيه قلباً كريماً لم يكن ليحمله إلا اطهر الناس نفساً، وأتفاهم سريره، وأخلصهم لحقوق ربه، وحقوق غيره وحقوق نفسه. ولم يكن كغيره من شباب القرية الذين يوزعون وقتهم بين عمل ضيئل وعبث كثير؛ وإنما كان يقضى نهاره في عمل يضنيه، ويتفق ساعة أو بعض ساعة من ليله في السمر مع أمه، ثم ينهض إلى فراشه لينام نوعاً عميقاً يكسبه عزقاً وقوة، حتى إذا كان(898/50)
الفجر، ينهض من نوميه ليؤدي فريضة الصبح، ثم يعتمد فأسه ويذهب إلى حقله. ولم يكن الفتى مع عمله هذا الكثير ليغفل أداء صلواته، وإنما كان حريصاً على أدائها في أوقاتها، فكان سلوكه موضع إعجاب شيوخ القرية، يكبرونه أيما إكبار ويثنون على أخلاق اجمل ثناء؛ وكان سلوكه هذه نفسه موضع سخرية غيره من شباب القرية الذين فتنتهم زينة الحياة الدنيا، فكانوا ينقدونه مر النقد، ويبشرونه بالكهولة في غير أوان. ولكن الفتى لم يكن بفرح لثناء المعجبين، ولا يغضب لنقد الساخرين، وإنما يمضى في سبيله تلك التي رسمتها له المقادير ولم يرسمها هو لنفسه، والتي شاء أن تكون طاهرة طهر نفسه، نقية نقاء سريرته.
ولم يكن (إبراهيم) يجلس إلى أبيه إلا لماما، ولم يكن يراه في اغلب الأحيان إلا حينما يكون ذاهباً إلى عمله مع الصبح، ويكون أبوه حينذاك عائداً من حراسة القرية.
ولكن إياه لم يخرج ذات مساء إلى أزقة القرية ليشرف على أثاث العس في أرجائها. وإنما يجلس إلى ابنه وزوجه يأخذ معهما في أطراف الحديث ساعة أو بعض ساعة، يحاول الفتى أن ينهض بعدها ليستريح مما أصابه من عناء العمل، ولكن إياه يستمهله قليلاً ويخوض في الحديث عن (آمنة).
وآمنة هذه فتاة ممشوقة القوام، فائقة الحسن بارعة الجمال ساحرة العينين، طويلة الغدائر، يفيض وجهها حيوية وأنوثة مات عنها أبوها وهي صغيرة. وأمها قابلة بالقرية تتردد عل بيوت أعيانها في مناسبة وفي غير مناسبة، ولها من الجمال والفتنة ومن طلاوة الحديث وأوقاتها ما يشجع جارتهم وبناتهم على إطالة الجلوس إليها، واستزادتها من هذا الحديث الطلى الساحر
استمهل محمود ابنه إبراهيم قليلاً، وراح يخوض في الحديث عن آمنة ولم يكن هذا الحديث محبباً إلى نفس الفتى، ولم يكن الفتى يقبل عليه إلا بسمعه، أما قلبه فكان بينه وبين حديث أبيه حجاب صفيق.
قال الفتى وهو ينهض للنوم: (أكبر الظن يا أبتي أن بيني وبين الزواج أمد طويلاً، لأنني لن أتهيأ بعد لهذه المخاطرة، ولم آخذ عدتي بعد لهذه المعركة) فيجب أبوه وهو يضحك (لقد ظلمت الزواج يا بني إذ سميته مخاطرة، ورسمته في صورة معركة آن الزواج يا بني نعمة، ولا يمكن آن يكون إلا كذلك:(898/51)
وينهض الفتى بعد ذلك إلى فراشه، ويحاول النوم ولكنه عبثاً يحاول!! أن شيئاً يحول بينه وبين النوم لم يألفه الفتى من قبل، ولا يستطيع أن يجلو لنفسه حقيقة أمره ويحاول الفتى أن يهرب من هذه الفكرة التي ألمت به وألحت عليه؛ فقد استقر في نفسه أنه سيبقى حتفه على يدي هذه الفتاة.
وما زالت هذه الفكرة تلح عليه، وما زال هو يمعن في محاولة الهروب منها حتى استطاع أن يظفر بقسط ضئيل من النوم في الهزيع الأخير من الليل. ولكن القسي مع ذلك يستيقظ على صوت رفيق رفق (الله أكبر، الله أكبر. . .) فينهض ليؤدي صلاة الصبح كما هي عادته ويتناول فطوره، ويحزم غداءه في منديليه، ويعتمد فأسه، وينصرف إلى عمله ليشارك زملاءه في عمل الحقل،. . . ولكنهم يلاحظون أنه على غير عادته، فهو مهموم حزين، أو كالمهموم الحزين، وهو مطرق، مفكر دائم التفكير؛ واجم مغرق في وجومه؛ مزور عنهم وعن الحديث إليهم كل ازورارا.
وبينما هو يجلي وحيداً كئيباً، بتناول غداءه تحت شجرة على غير عادته - فقد عود إخوانه ايشاركهم حلقتهم تلك التي تكتم لهم، لا للحديث في شأن من شئون الزراعة ولكن لملء بطونهم بشهي الطعام - بينما أفتى يجلس وحيداً كذلك إذا بأحد زملائه ينهض إليه يسأله عن سبب أطرافه ووجومه، فيجب (إبراهيم) في غير ترد (والله يا (سعيد) لقد كان من أبي ليلة أمس ما لم اكن أتوقع. فقد عرض على أن محو بزوجتي من آمنة، بنت قابلة القرية، تلك الفتاة الساحرة الفاتنة، الساخرة بقلوب الشباب، الراغبة بعواطفهم ولا يخفى يا صاحبي أن أمها أصبحت بعد أن مات عنها زوجها، مطمع الأنظار والقلوب. ولست ادري، أي شقاء ينتظرني لو يصر أبي على رأيه هذا!
وما يكاد (إبراهيم) يختم حديثه إلى (سعيد) حتى ينهض هذا الأخير وفي عينيه بريق المحموم، وعلى وجنتيه احمرار المحنق، وينصرف عنه وفي قلبه غيظ مكتوم.
و (سعيد) هذا فتى في ريعان شبابه، أحب (آمنة) وصارحها بمكنون فؤاده، فبادلته الفتاة حباً بحب، ووفاء بوفاء، وإخلاصا بإخلاص، وتعاهداً على الزواج عندما يبيع أبوه محصول القطن، وتمتلئ جيوبه بالمال ولم يكن (إبراهيم) يعرف ما ربط بين قلب (سعيد) وقلب (آمنة) من حب، وما تعاهدا عليه من زواج، فلم يجد حرجاً في مصارحة بنما كان بينه(898/52)
وبين أبيه من حيث ألامس.
وقد استمر (إبراهيم) على هذه الحال من القلق والتفكير زمناً لا يدري هو، أطال أم قصر، وإن كان يدري أنه كان يعود من عمله ليؤدي صلاة المغرب وصلة العشاء ثم ينهض إلى فراشه دون أن يجلس إلى أمه ساعة أو بعض ساعة كما هي عادته، وكانت أمه ترى في قسمات وجهه إمارات الحزن والشقاء وتسمع في صوته نبرات اليأس والقنوط ولكنها، مع ذلك، لم تكر تدرك حقيقة ما ترى وما تسمع،!
وتمر أيام وأيام، ويعود الفتى ذات مرة من عمله ليجد أباه في البيت ينتظر عودته، فيسلم ويجلس إلى أبيه وأمه. وتمر فترة من الزمن، يصمت فيهم الجميع، لا يدري الفتى أطالت أم قصرت. وكان أباه قد أراد أن يخرج من صمته فيقول لأننا وهو يضع بين يديه قلادة وقرطاً من ذهب (هذه (شبكة) عروسك يا بني، وما أرانا إلا أن ننهض الآن لتقدمها إليها، فهي وأمها في انتظارنا
وينظر الفتى إلى أبيه نظرة حائر، ثم يحول بصره إلى أمه ويهم أن يقول شيئاً، ولكن أباه لا يمهله، ولسانه لا يعفه، واسه لا يواتيها الحزم فتستمهل زوجها لتأخذ برأي ولدها. وينهض الجميع إلى بيت (آمنة).
بيت ريفي صغير، في زقاق ملتو، أمامه مصباح زيتي كبير، وفي داخله مصباحان، حولهما فتيات يغنين ويزغردن، وما هي إلا بعض ساعة، حتى يدخل محمود وزوجه وابنه إبراهيم، وتأتى فاطمة أم آمنة وتخوض مع محمود في حديث لا يكاد ينتهي، وكانت تتحدث إليه بلسانها وعينيها بل وقلبها كذلك وكان إبراهيم يجلس مهموماً أو كالمهموم، ثم تأتي آمنة في ثوب أنيق رشيق، وينهض إبراهيم ليزين بالقرط أذنيها ويحيط بالقلادة جيدها؛ ولكنها مع ذلك كانت مهمومة هي الأخرى أو كالمهمومة فقد كانت تود أن تزف إلى (سعيد) عروساً كما تعاهدا على ذلك
وتمضي أيام وأيام ولا حديث لشاب القرية سوى إبراهيم وعروسه آمنة، ولا هم لسعيد إلا أن يفكر كيف يمسح عن جبينه عار الهزيمة، فتتصل الأسباب بينه وبين آمنة من طريق خفي ويتفقان معاً على مكيدة يقصيان بها إبراهيم عن طريقهما ويحولان بها بينه وبين الزواج منها. وتمر الأيام كذلك ولا هم لمحمود إلا في التفكير في الزواج من فاطمة تلك(898/53)
التي سحرته بجمالها الخلاب وبحديثها هذا لعذب الساحر فقد أصبحت السبل الآن أمامه ميسرة معبدة. ومن يدري لعله لم يفكر في زواج ابنه إبراهيم من هذه الفتاة إلا ليكون ذلك بابا ينفذ منه إلى قلب أمها لتكون زوجاً له في يوم من الأيام.
وتمضي الأيام كذلك، والأسباب متصلة جهاراً بين (آمنة) و (إبراهيم) من جهة، وفي الخفاء بينها وبين سعيد من جهة أخرى.
وبينما الجميع كذلك تتصل بينهم الأسباب، إذ بإبراهيم يهب إلى بيت (آمنة) ليقد لها هدية أعجبته، ويحدد مع أمها يوماً لزفافه، ويعجب إبراهيم لأمر آمنة في هذه الليلة، فهي معه على غير عادتها، وهي ترحب به فرخا مرحة، وهي تلطف في حديثها إليه وهي استمهله كلما أراد أن ينهض وهي تقدم إليه كوباً من شراب بتناوله فرحاً مسروراً إذا لم تكن آمنة قد عودته أن تقدم إليه هذا النوع من الشراب، وإنما هي (القهوة) تقدم إليه في كل مرة.
وما هي إلا دقائق معدودات إذ بآمنة التي كانت تستمهل الفتى قليلاً، تستحثه الآن على النهوض. وما لها تستعمله وقد نفدت مكيدتها وتحقق لها ما أرادت وأراد من تحب وتهوى ومالها لا تستحثه وهي تخشى أن يصيبه سهم القضاء وهو جالس إليها في دارها.
وينهض الفتى وهو يحس بألم شديد ويسعى إلى داره حيث كان الموت ينتظره، وتسأله أمه عما به، ولكنه لا يجيب إلا بهذه الحركات التي تدل على أن شيئاً يقطع أحشاءه، فهو راقد على سريره حينا، ويغادره حينا آخر، ليستلقي على الأرض ثم يتركها ليطمئن إلى صدر أمه، تطوقه بذراعيها حتى يفارق الحياة، أو تفارقه الحياة، وهو يقول (أن آمنة بريئة وفية لحبها، وإن أبي هو الآثم).
ويرتفع الضحى من الغد، ولا حديث لشباب القرية وشيوخها إلا موت هذا الفتى البريء الطاهر، الذي راح ضحية رخيصة لشهوة أبيه.
ويذهب محمود بعد ذلك بفتح لابنه باب القبر، وراحت الحكومة تفت لآمنة وسعيد باب السجن، وراح شباب القرية يبكون هذا (الشهيد) الذي سخروا منه بالأمس، كما راحوا ينثرون على قبره الأزاهير والرياحين.
وراحت أمه تنهض مع الفجر في كل يوم لتروى بدموعها قبر وحيدها شهيد القرية).
المنصورة(898/54)
مصطفى أحمد فوده(898/55)
العدد 899 - بتاريخ: 25 - 09 - 1950(/)
دفاع عن الثقافة العربية
للأستاذ عمر حليق
- 3 -
قال (بروكسي أتكنسون) الناقد المسرحي لمجلة النيويورك تايمس الواسعة النفوذ:
(على الرغم من أن الثقافة الأمريكية لا تلقي الاحترام الكافي في كثير من بقاع العالم إلا أن الأفلام والمسرحيات والكتب الأمريكية تلقى رواجاً واسعاً في تلك البقاع يعادل رواج البضائع والمنتجات الصناعية الأمريكية. فإن الروح التي تسيطر على معظم أسواق العالم).
ووضع الإنتاج الصناعي على قدم المساواة مع الإنتاج الفني والأدبي في الحضارة الأمريكية المعاصرة هو الوصف الصادق لروح الثقافة الأمريكية. ولو سلمت مع (هيجل) بأن الثقافة روحاً فإن للثقافة الأمريكية روحاً مادية تنتج الأدب والفن ليخدم الناحية العلمية في النشاط الصناعي، أو بمعنى آخر تجعل الإنسان في خدمة الآلة نسترقه فيتفانى في ماديتها على حساب النواحي الأخرى في النشاط الإنساني. والأمريكي يفخر بأن ليس للثقافة الممتازة مكان في سلوكه وفي أهدافه وما يصبو إليه من مجد ورفعة و (نجاح). وهذه النظرية البرجماتزمية هي المسئولة عن رواج أدب اللذة والمجون في أمريكا وسيطرته على عناصر الغذاء الفكري للقارئ. فالكاتب والفنان هناك لا يرتفعان عن ذوق السطحيين والذين من طبائعهم (عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد). وتاريخ الفكر في أمريكا لم يسمح للمثقف الممتاز الفنان الأصيل والعالم المتبحر أن يحتل المكانة والنفوذ والسلطة التي سمحت له بها الثقافات الإنسانية الأخرى.
ولذا فإن مساهمة أمريكا في الحضارة العالمية هي في الواقع مساهمة (صناعية) وليست ثقافية التقليدي المعروف. ولذا فليس للمستعير من الثقافة الأمريكية، مجال للاختيار فالبضاعة في مجملها بضاعة صناعية، اللذة والمجون جوهرها.
والأمريكي يكره السلطة بجميع أنواعها ثقافية كانت أو سياسية. ومن ثم أنكر الأمريكي على مثقفيه الممتازين أن يحتلوا مكان التوجيه فافتقرت الثقافة الأمريكية إلى المدارس الفكرية العميقة التي تتميز بها ثقافات الأمم. وأنكر الأمريكي على المثقفين الممتازين كذلك(899/1)
أن يحتلوا مكانة اجتماعية ونفوذاً أدبياً يفوق مكانة الصانع والمزارع بالرغم من التفاوت في المواهب العقلية وأهمية الإنتاج في التراث الفكري. وقد أعرب أحد أقطاب الفكر الأمريكي عن هذه الحقيقة حين قال:
(قاموس الكاتب الأمريكي هو الحياة العملية (المادية). فالفن والثقافة الرفيعة تعد من قبيل الهراء والسخف إذا لم تتمش مع مقومات هذه الحياة العملية).
وسبب ذلك أن أسس المجتمع الأمريكي بنيت على المزارع والنجار والحطاب الذين فرضت عليهم حياة الهجرة في أوائل التاريخ الأمريكي أن يواجهوا الحياة بأيديهم قبل معالجتها بعقولهم ومواهبهم الأدبية والفنية. ومرت الأجيال ونما المجتمع والحضارة الأمريكية أن على هذا الأساس من المثالية. فكان أن أحتل المسرح والفلسفة والفن والشعر والثقافة الرفيعة بجميع ألوانها مكانة ثانوية في الحياة الأمريكية. وإذا حدث فنجحت مسرحية أو راج كتاب أو تبوأ مثقف مكانة مرموقة فذلك لا يكون إلا لأن إنتاجه كان إنتاجاً بمعنى أنه يتمشى مع (عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد) التي هي من طبائع الحياة العملية التي لا سبيل المجتمع الصناعي أن يتخلص منها أو أن يتغلب عليها إذا أراد ذلك.
وقد تجد من المفكرين في أمريكا من يبرر عامية الإنتاج وسطحيته بقوله (إن الثقافات والتراث القديم عالة على الأجيال الجديدة، وإن القارات التي تتطعم بالتراث التقليد العريق قد تجد نفسها عاجزة عن قبول الفكر الجديد والتطور المفاجئ.
فإذا افتقرت الثقافة الأمريكية المعاصرة إلى جمال العنصر الكلاسيكي التقليدي فإن ذلك الافتقار هو من النعم التي حظي بها الأمريكان وحدهم، إذ أنهم يتفادون بذلك تكرار الأخطاء التي ارتكبتها الثقافات الأخرى في تطلعها إلى الأدب والفن الكلاسيكي تستمد منه الوحي والإلهام).
وهذه النظرية البرجماتزمية تبدأ من حيث اعتقدت بأن الحياة قد بدأت فقط منذ اختراع البخار والكهرباء والطاقة الذرية، فهي إذن استنتاج مبني على خطأ. ووجه الخطأ أن الحياة قديمة قدم آدم، وأن الثورة الصناعية لم تستهل حياة إنسانية جديدة وإنما أدخلت على هذه الحياة عقداً نفسانية ومشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية أضيف إلى العقد التي عاش بها الإنسان في المجتمع الكلاسيكي. فبدل أن يبدأ الفكر الأمريكي فيعالج مشاكل النفس(899/2)
الجوهرية على النحو الذي يعالجه فلاسفة الإغريق وحكماء الشرق وأنبياؤه - بدل أن يبدأ الفكر الأمريكي في معالجة الجوهر أتجه يعالج القشرة السطحية من العقد والمشاكل والمسرة والبؤس التي أضافتها (الثورة الصناعية) إلى حياة الفرد والمجتمع. والبدء في تجميل البشرة وتطرية الجلد قبل تطهير النفس والروح هو الطابع الذي يحمله الإنتاج الأدبي والفني في العالم الجديد.
فهم الحضارة الأمريكية أن توفر الغذاء والمسكن ووسائل الراحة المادية للفرد قبل أن توفر الطمأنينة الروحية. ولو أن الضائقات الاقتصادية والأزمات السياسية العنيفة والمصائب والبلايا التي حلت بالشرق يصمد لها وجلد في صراعه لها - لو أن هذه الضائقات والأزمات والبلايا قد حلت بأمريكا لفقد أهلها الجلد ولعجزوا عن مواجهة الحياة. فليس لديهم مناعة وطمأنينة روحانية تصمد للنوائب. والشواهد عديدة على تفكك عرى المجتمع الأمريكي أبان الضائقة الاقتصادية العابرة التي مرت بها أمريكا في أعوام 1929 - 1933 فلقد عم الفساد وانطمست كثير من أوجهه الفضيلة وشاع في الناس القنوط والتمسوا الرخاء والقناعة فلم توفر لهم فلسفتهم البرجماتزمية وراحوا ينتحرون بالمئات. والواقع أن نسبة الانتحار بين البروتستانت الأمريكان هي أعلى نسبة بين المجموعات الإنسانية الأخرى كما شرح ذلك (أميل في دير كهايم) دراسته المعروفة عن الانتحار.
والثقافة البرجماتزمية في إصرارها على النواحي المادية في السلوك والحياة الإنسانية لا تختلف كثيراً عن الفلسفة الماركسية وتفسيرها المادي للتاريخ وسعيها الآخرة بالدنيا.
وأدب وفن وثقافة وحضارة هذا عنصرها الجوهري هي ثقافة راحة وترف لا يعنيها توجيه النفس توجيهاً ثقافياً أصيلاً بقدر ما يعنيها توفير المتعة وإشباع الغريزة واللعب بالعواطف وإثارتها واصطناع اللذة. وليس لنا أن نستعرض هنا حسنات ثقافة الترف والمتعة والغريزة أو سيئاتها في التكافل الاجتماعي في الحضارات الصناعية، فمشاكل العائلة والصراع الطائفي والعنصري من نتائجها. ومن نتائجها كذلك القلق الاقتصادي وفقدان الطمأنينة السياسية وما يستتبع ذلك من توسع استعماري وحروب وويلات صبغت تاريخ الغرب بالدم والنار، وهو اليوم يدفع الإنسانية إلى المحو والدمار بالقنابل الذرية والهيدروجينية.
ولكن الذي يعنينا أن الثقافة الصناعية المادية أمريكية كانت أم ماركسية ابتدأت - خطأ أو(899/3)
صواباً - من حيث اختارت البدء. ونحن في العالم العربي وريثو حضارة لا يمكن أن توصف بأنها صناعية مادية. واتجاهنا الآن إلى التصنيع والإنعاش الاقتصادي لا يبرر مطلقاً التقليد الأعمى والمحاكاة الضالة وتجاهل المقومات التقليدية الأصيلة المتأصلة فنياً والتي ورثناها عن ثقافتنا الكلاسيكية بما فيها من النزعات الروحانية والخلق القومي والاتجاهات العاطفة والصلات الاجتماعية والمشاعر والاحساسات الخاصة بنا والتي نتميز بها عن غيرنا من الأمم. وحتى لو تعمدنا تجاهل هذه المقومات لما استطعنا وإلا كنا أشبه بالديك الذي تعمد تقليد مشية الطاووس فلم يكن له من تكوينه الطبيعي عون على المحاكاة التامة فنسي مشيته وفقد نفسه وأصبح مدعاة إلى السخرية:
فطبيعة المجتمع العربي ليست كطبيعة المجتمع الأمريكي أو السوفيتي أو الفرنسي. فهناك اختلاف جوهري في التطور التاريخي والصناعي وفي العواطف والاحساسات والمشاعر. وسبب هذا التباين مستمد من العوامل البيولوجية، من الوراثة والبيئة والتفاوت في مستوى التطور.
فتغذية القارئ العربي بالإنتاج الثقافي (الخام) أمريكياً كان أم فرنسياً أم روسياً مخالف لسنن الطبيعة فوق مخالفته للمنطق السليم والمصلحة القومية.
ومشاكلنا الاجتماعية تختلف، وملذتنا وآلامنا ومستقبلنا الثقافي والسياسي والاجتماعي تختلف عن مثيلاتها في الثقافات الأخرى.
ولقد وجدنا أن الثقافة الأمريكية قد تحكمت في الزمان والمكان حين وضعت دعائمها وأسسها ومقوماتها واتجاهاتها البرجماتزمية. ومثل ذلك ينطبق على الثقافة السوفيتية الماركسية التي تذرعت بالديكتاتورية لتتحكم في الأوضاع والزمان والمكان.
فترك ميدان الفكر في العالم العربي في أيدي المغرورين من الديوك التي تحاول تقليد الطاووس الأمريكي أو الدب الروسي جريمة والنتائج المترتبة على هذا الوضع لن تظهر عواقبها السيئة ألا بعد مضى فترة غير قصيرة من الزمن. والزمن في حياة الأمم لا يقدر بالشهور والسنوات.
فلئن علت أصوات الإنكار لهذه التيارات من أدب اللذة والمجون (وعامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد) فلأن الثقافة العربية حساسة لا تزال في جوهرها أصيلة وعريقة. ولقد(899/4)
شعرت بالتحدي قبل أن يستفحل خطره ولمست الشيء فبل أن ترسخ أسسه.
فدفاع المثقفين عن سلامة المقومات الأصيلة للثقافة العربية مستمد من عراقة الثقافة ومتانة هذه المقومات واستقلال العقلية العربية ونفورها من أن لا تعيش على قدم المساواة مع الثقافات الإنسانية الأصيلة. وكما تحمس المدافعون عن أصول هذه الثقافة ونقلوا حماسهم إلى المجالس العامة ازدادت مناعة تلك المجالس ضد الانسياق مع لأدب الترف والمتعة والمنحط من الغرائز والشهوات.
ويخيل إلى أن المثقفين في العالم العربي قد استشعروا منذ زمن هذا التحدي لثقافتهم. فالكتب التي أنتجها أمثال أحمد أمين والعقاد وهيكل وطه حسين وعبد الرزاق والزيات وغيرهم من الكتاب عن الثقافة الإسلامية والأدب العربي - وهذا التراث الكلاسيكي الذي أخذ يحييه الباحثون والمصنفون من خزائن الثقافة العربية القديمة، وتشعب برامج التعليم في الجامعات ومعاهد العلم العالية لتشمل المواضيع العربية الأصيلة، وصمود الحياة الدينية وقيامها بوظيفتها التقليدية في عالم تهب عليه تيارات اللذة والمجون كل ذلك - على ضآلته - أجابه لهذا التحدي الذي تواجهه الثقافة العربية، وهو خطوات في الطريق الصواب.
بقي أن يزداد حفظة الثقافة العربية إدراكا لخطورة هذا التحدي لتزداد أصواتهم حدة فلا تقتصر على الخاصة وإنما تجد صداها في المجتمع العام وفي الدوائر المسؤولة فلعلها تجد العناية التي يبدو أن حفظة الدين من علماء الأزهر ورجال الشرع الشريف والأدباء الروحانيين مستطيعون تحقيقها في تحديهم لموجات اللذة والمجون وألوان المستوردة المصطنعة، فدفاع حفظة الدين هو جزء من الدفاع الجماعي عن أسس الثقافة العربية.
عمر حليق
جامعة كولومبيا - نيويورك(899/5)
ذكرى عالم مصلح
محمد رشيد رضا
لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى
في أواخر العقد التاسع من القرن الثالث عشر الهجري وفد على مصر رجل عظيم، ومصلح كبير، هو السيد جمال الدين الأفغاني، وسرعان ما ألتف حوله عدد كبير من رجالات مصر وشبابها على اختلاف درجات ذكائهم وتباين ثقافاتهم، فصار ينفخ فيهم من روح اليقظة والحمية الإسلامية، والعزة والكرامة ما فتح عيوناً عمياً، وآذاناً صماً، مما اعتبره الباحثون عود ثقاب أشعل به ناراً على المستعمرين والظالمين.
وكان من بين رواد مجالسه الطالب النابغة الشيخ محمد عبدة الأزهري، فلم يكد يتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني. حتى ألهب منه استعداداً للثورة على القديم البالي، وأيقظ فيه طموحاً إلى الحرية والاستقلال، فأطلق عقله من عقال كاد يقضي عليه كما قضي على كثيرين من رجالات الأزهر وشبابه الذين لم تتح لهم فرصة الاتصال بمثل هذا المصلح الكبير، أو لم يهيئهم استعدادهم للانتفاعبهذه المبادئ السامية.
لازم الشيخ محمد عبدة الرجل العظيم ثماني سنوات كاملة (وهي المدة التي أقامها السيد جمال الدين في مصر) إلى أن غادر البلاد سنة 1296 هجرية إلى الهند، وأخذ يطوف في العالم مطارداً من قطر إلى قطر حتى استقر به المقام في الآستانة حيث وافته منيته سنة 1314 هجرية.
وكان لتعاليم الأستاذ السيد جمال الدين الأثر الكبير في نفس الشيخ محمد عبده فلم تهدأ ثورته، ولم يخفه نفي أستاذه، بل أزكى فيه روح الثورة والخروج على كل مبدأ ظالم إلى أن نفي هو أيضاً. وبعد مضى ست سنوات عليه منفياً رجع إلى مصر.
وكان بعد رجوعه من منفاه أشد ثورة من ذي قبل، فأخذ يؤدي رسالة إصلاحه في الأزهر، وفي خارج الأزهر بجرأة وشجاعة، أزكاهما النفي والتشريد، وكان أوسع ميادين جهاده دروسه التي كان يلقيها في الأزهر على كبار الطلاب والنابهين من رجالات مصر الذين أشربوا حب الحرية والاستقلال.
وفي هذا الوقت، في سنة 1315 وفد على مصر شاب لبناني من (القلمون) إحدى قرى(899/6)
جبال لبنان الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من شريفة، وكانت سنة إذ ذاك نحواً من ثلاث وثلاثين سنة، هذا الشاب هو السيد محمد رشيد رضا.
نزح هذا الشاب إلى مصر بعد أن حصل على قسط كبير من التعليم في بلده على يد بعض العلماء الأحرار المفكرين الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتفهموا شيئاً من مبادئه.
جاء إلى مصر كما يحي كثير غيره من أبناء الأقطار الإسلامية للإفادة من الأزهر الذي ورث سمعة كبيرة في العالم الشرقي، ولما اتصل هذا الشاب بعلماء الأزهر وتفقدهم لم يعم عليه الأمر كما عمى على كثير غيره، ولم يتحير أو ينحرف عن الهدف، ولم يطل به المقام حتى أدرك بنور بصيرته، وثاقب فكره، وطيب استعداده أن الشيخ محمداً عبده هو الضالة المنشودة، وأنه العلم المصلح الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه، فعكف على ملازمته، وشغف بالسماع منه، في الدرس وفي غير الدرس، في المسجد وغير المسجد.
وبالرغم من كثيرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل، فإن أحداً منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد محمد رشيد رضا، فكانوا على ضروب وأنواع كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الخباري عن أبي موسى الأشعري، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. . . الخ).
كذلك كان تلاميذ الأستاذ الشيخ محمد عبده. منهم من لم ينفع غيره ولم ينتفع في نفسه، لأنه مجدب الطبع، سبخ التربة، ومنهم من نفع غيره فنقل مبادئ الشيخ لغيره وأن كان هو لم ينتفع بها أو قل انتفاعه، ومنهم من انتفع في نفسه وعم نفعه غيره. فكان كالأرض الخصبة التي شربت من الماء وأنبتت الزرع فأفادت الناس.
والسيد محمد رشيد كان من هذا النوع الأخير، فقد حرص على أن يسجل آراء أستاذه التي يلقيها على الطلاب في الدرس، والتي تصدر عنه في المجتمعات، والتي يراسل بها أصحابه، أو يرد بها على مستفتيه في أمور الدين والدولة حتى صار شبيهاً بشريط تسجيل(899/7)
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة لأستاذه إلا أحصاها.
ومع عظيم هناء هذا العمل الجليل الذي سجله السيد رشيد، والذي لولاه لذهبت آثار الشيخ عبده، وتبخرت أفكاره كما ذهب مع الريح كثير من آثار غيره من كبار علماء الأزهر، نقول مع هذا: إن هذا التلميذ لم يكن مسجلاً لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشاً وممحصاً وموجهاً كما هو الشأن في التلميذ الذي كانت تعده العناية ليقوم برسالة شيخه بعد موته، وليكون امتداداً لحياته ووصياً على تركته الخالدة.
قال السيد رشيد يتحدث عن نفسه.
(إني طلبت العلم بوازع من نفسي لتكميلها بالمعرفة والعمل لا لأجل الانتفاع في تحصيل مال أو جاه، وقد عرض على الدخول في الحكومة أصحاب النفوذ فأبيت). وذكر في موضع آخر سبب ذلك فقال:
(أحمد الله أن حفظني من الابتلاء بالمناصب، ومن الامتحان بخدمة الحكومات، ومن فتنة حب المال والجاه، فإن أهون رزايا كل من هذه الفتن أن تصد عن قول الحق وتغرى بالسكوت على شيء من الباطل، وقد تبلغ بالمفتون أن يخذل الحق وينصر الباطل، ويوالي الظالمين، ويحارب المصلحين، وأن يبيع دينه بدنياه، بل قد يبيع دينه بدنيا غيره).
لكل ذلك مكث مدة عمره الطويل ثابتاً في الدعوة إلى الله على بصيرة، وإلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، بتفسير كتاب الله على طريقة السلف الأول، وإحياء سنة رسوله، وسيرة السلف الصالح. وهو في كل ذلك لم يعتمد على ملك ولا حكومة، أو جمعية، أو حزب، بل كان في كل أولئك ليس معه معين إلا الله، يكتب ويراجع ويحقق ويصحح ويتفقد الصحف والمجلات المحلية والخارجية، ويتصفحها كل يوم فإذا وجد ما لا يصح السكوت عليه بادر عليه في المنار أو الصحف الكبيرة، كالأهرام. والمؤيد. والمقطم. واللواء.
كل ذلك كان يقوم به وحده. فحقاً إن السيد محمداً رشيداً كان أمة، ولعلك تدهش إذا علمت أن كل هذه الأشياء من إخراج المنار بإتقان ومثابرة بضعة وثلاثين عاماً، وغير ذلك مما تقدم من صنع رجل واحد، فإنه عندما جاور ربه حاولت هيئات كبيرة وجماعات محترمة أن تخرج للناس مجلة تسد فراغ المنار فلم يستطع أحد منهم على كثرتهم.
وإذا علم أيضاً أن العقبات التي طالما وقفت في طريق المصلحين وهي كثيرة. من عبودية(899/8)
الناس لما يألفون، ومن حب الشهوات الذي يغري المترفين بالراحة والدعة، والصد عن المصلح. - وكثرة الجماهير دائماً جاهلة تجري وراء صاحب المال أو السلطان - إذا علم أن كل أولئك صادفت السيد رشيداً، علم أنه كان يحارب وحده في ميادين كثيرة، يحارب قوماً قعد بهم استعدادهم عن اللحاق به، فصاروا بتأثير الغيرة والحقد لا يألون جهداً في محاربته. وأقوى أسلحتهم التي يبرزونها إذا عجزوا عن الحجة هي الرمي بالزندقة والإلحاد، وهي قذائف لا تكلف صغير النفس فاقد الحياء إلا أن ترسلها من فمه فتتلقفها آذان العوام فينصرفوا من حول الداعية.
وهذا سلاح قديماً حورب به الأنبياء والمصلحون. ألم يقل ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وقد ذاق البخاري والغزالي، وابن خلدون، وابن تيمية، وغيرهم مرارة ذلك ولكن كانت العاقبة للمتقين.
فخلد الله لهم لسان صدق في الآخرين، وأهال على خصومهم تراب النسيان. وكان السيد رشيد يحارب أيضاً في ميادين أخرى، زنادقة وملحدين، وجهلة مخرفين، وعلماء جامدين مقلدين، وسلاطين جائرين، وحاكمين ظالمين.
حارب كل هؤلاء في ميادين فسيحة، كان أفسحها مجلة المنار التي أتخذ منها منبراً عالياً يدوي منه صوته في جميع بقاع الأرض، في جاوة، وسومطره، والهند، والصين شرقاً، إلى أوربا وأمريكا غرباً، فلم تبق في الأرض بقعة فيها مسلم أو من يعرف العربية إلا دخلها المنار. فكان المنار مدرسة تتلمذ فيها عدد كبير من المسلمين ونبغ بفضلها رجال مصلحون ظهرت آثارهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبرز منهم في الصفوف الأولى رجال عظماء لهم في حركات الاستقلال الأخيرة في الأمم الشرقية مواقف مشهورة.
والذي يتتبع تاريخ هذا العالم الجليل يقف على سر نجاحه فيما عالج من أمور، ذلك أنه كان يحمل بين جنبيه قلباً قوياً، وعزيمة صادقة، وإيماناً لا يتزعزع، ووراء كل ذلك رغبة شديدة في إتقان ما هو بصدده.
والرغبة الصادقة هي سبب كل النجاح، لأنها الحافز على مواصلة العمل، والشعور باللذة فيه، والجد في إتقانه حتى يرضى بذلك نفسه.
ولما كان الحديث عن السيد رشيد لا يتسع له هذا المقام الضيق، فإني تارك الإفاضة فيه(899/9)
للكتب التي تعرضت لأعماله وهي كثيرة موسعة.
وأكتفي اليوم بذكر حادثة واحدة وقعت لي أنا شخصياً ومعي ثلاثة من كبار علماء الأزهر؛ ذلك أنه في أصيل يوم من عام 1924 ميلادياً زارني بالمنزل ثلاثة من علماء الأزهر، توفي اثنان منهم إلى رحمة الله، وبقي واحد؛ وبعد قليل خرجنا أربعتنا نسير نحو السيدة زينب، وبينما نحن في الطريق ذكر أحدهم حديثاً نبوياً فقال آخر أظن أن هذا ليس حديثاً، ولم يستطع الأول أن يثبته، وكنا وقتئذ قاربنا ميدان السيدة.
ولما كنت أعلم أن كثيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين، خصوصاً الكبار منهم، كانوا يحيطون السيد رشيد بهالة من الشك في تدينه وعلمه، رغم أنهم لم يجالسوه أو يختبروا علمه أو حتى يكلفوا أنفسهم قراءة كتبه، أردت أن أحتال عليهم حتى يلتقي الجمعان، وكانت مكتبة المنار ومطبعتها بجوار السيدة زينب، وكان لي بالسيد صلة معرفة، فقلت لهم: يمكنني الآن أن أعرف لكم هذا الكلام أهو حديث أم لا؟ فتعالوا معي إلى مكتبة قريبة منا، وكانوا لا يعرفون أنها للمنار. فلما دخلنا من الباب الكبير أسررت لصبي من الخدم: هل السيد موجود بالمكتب؟ قال نعم. فقلت له: أستأذن لجماعة من علماء الأزهر. فرجع يحمل الإذن. فصعدنا للدور الذي فيه السيد، غرفة مكتب واسعة، محاطة جدرانها بالكتب المنضدة في خزائنها بترتيب بديع. وهو رحمة الله رابض على مكتب كبير يرتدي عباءة حجازية على قباء أبيض. فقابلنا هشاً مرحباً. وقدم التحية، فعرفوا عندئذ أنه رشيد رضا، فسكت لحظة حتى إذا أنس أصحابي نوعاً ما عرضت عليه الموضوع، فكان في لمح البصر جوابه: إن هذا حديث صحيح رواه البخاري في بين، باب كذا عن فلان، وباب كذا عن فلان، ورواه مسلم في باب كذا عن فلان بتغيير يسير هو كذا.
فلما خفت أن يخرجوا مرتابين في صحة ما يقول: تلطفت في سؤاله أن يعطينا الأجزاء والصفحات لنقرأ ألفاظ الحديث وتفهمها على مهل، فكان بالسرعة الأولى واضعاً الأجزاء بين أيدينا كأن الأحاديث كانت في طبق أمامه يلتقط منها ما يريد، فقرأنا الحديث في كل باب وإذا به كما قال: فوجموا ونظر بعضهم إلى بعض، وكان المغرب قد حلت صلاته فدعا بحصير للصلاة، وعزم عليهم ليتقدم أحدهم إماماً، فرجوته أن يصلي هو فأمنا، ووالله لا زلت أذكر وأتلذذ بتلك الصلاة وتلك القراءة، قرأ بخشوع وخضوع فبكى وأبكانا. ولما(899/10)
فرغت الصلاة خرجنا من عنده وكأنما على رءوسنا الطير.
وبعد أن سرنا في الطريق إلى منازلنا قلت لهم: ماذا رأيتم اليوم؟ قال أحدهم رحمة الله: ما هكذا كنا نسمع عن الرجل، كنا نسمع غير ما رأينا، فإذا هو مسلم صالح. فقلت وما رأيكم في علمه؟ فسارع أحدهم وهو الذي على قيد الحياة الآن قائلاً: وأي فضل له في هذا وهو منقطع لهذا العمل نحو ثلاثين عاماً؟ فقلت ولأي شيء منقطع أنت والدولة تدر عليك من المال ما يكفيك ويكفي من تعول، لتتفرغ لمثل ما تفرغ له هذا الرجل الذي لا يساعده أحد بفلس لينفقه على نفسه وعلى عياله؟ فبهت الرجل.
فرحمة الله عليك يا سيد رشيد، حفظت كتاب الله وحافظت عليه، وشغلت حياتك كلها في خدمته، فكلن جزاؤك في الدنيا أنك لم تفارقها إلا وكتاب الله بين يديك وتحت ناظريك تقرأ كلام ربك، وفاضت روحك وهو على صدرك. ألم يكن من علامات قبولك ورضا ربك عنك أن آخر آية من كتاب الله سطرت شرحها بخطك، ولم تطبع إلا بعد موتك هي قوله تعالى:
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين).
فسلام الله عليك في المسلمين الأولين. وسلامه عليك في الصالحين المصلحين.
عبد الجليل عيسى(899/11)
بمناسبة ترميم مسرح الأزبكية
بناء المسارح الحقيقية
للأستاذ يوسف الحطاب
كان انصراف الممثلين فجأة عن المسرح واشتغالهم بالسينما وتحويل بعض المسارح إلى دور عرض سينمائية بغية الكسب المادي - من الظواهر الغربية التي سجلها النقد الفني في السنوات الخمس الأخيرة. والمسرح - ككل فن - حين يفقد رجاله والإطار الذي يقدم من خلاله، فإنه يفقد كل شيء ولا يعود له أمل إلا في حركة قوية ترد الأمور إلى ما كانت عليه، باعتبار أن ما لحقه طفرة غير طبيعية. ولهذا السبب لم يمض وقت طويل على هذه النقلة المفاجئة من المسرح إلى السينما إلا وقد ألمت بالسينما نكسة أفسحت الطريق أمام المسرح وجعلت الأنظار تتجه إليه من جديد والجهود تبذل للنهوض به. فأنشئ المعهد العالي لفن التمثيل لتخريج فنانين يمثلون على خشبة المسرح ونقاد ومؤلفين يخدمونه بأقلامهم. وبحث هذا الجيل الجديد عن مجال مسرحي يصرفون فيه نتاجهم الفني فلم يجدوا أمامهم من دور المسرح سوى دار الأوبرا ومسرح الأزبكية. والدار الأولى - كما يدل أسمها - لا تصلح إلا لنوع معين من التمثيليات هو الأوبرا أو الأوبريت، والمسرح الثاني لم تقدم عليه حتى اليوم مسرحية ذات قيمة من الوجهة الفنية لعجز وسائله عن تقديم مسرحية كاملة؛ والمسرحان بوجه عام لا يتناسبان وطبيعة الفن الحديث. ومن هنا كان لابد - وقد عاد للمسرح الفنان الذي افتقده، وتوفر له جيل جديد من الممثلين - أن نرى عكس ما حدث أثناء الحرب، فأخذت دور السينما تتحول إلى مسارح وفتحت أبوابها لهذا الفنان الجديد.
وكنا نظن أن هذا الجيل سيثبت وجوده المتميز عن وجود غيره، ويشعر المسئولين أنه نوع آخر ممتاز ويدفعهم إلى إيجاد مسارح جديدة، تمكنه من تحقيق فنه، حسب الاتجاهات الفنية المعاصرة - خاصة وأن هناك تباشير ميل إلى تعديل بناء المسارح القائمة أو هدمها وبناء مسارح جديدة. لا أن يقف عند هذه المسارح غير الحقيقة والتي لا تحمل من سمات المسرح سوى الاسم المجرد فحسب. ولنضرب مثلاً بأكبرها (دار الأوبرا) فهي لا تعدو أن تكون بهواً مستطيلاً في نهايته ممثل ضيق وعلى جانبه شرفات متراكمة فوق بعضها؛(899/12)
وسواء جلست في البهو أوفى إحدى الشرفات، فأنت حتما متجه ببصرك إلى الممثل وما سيجري فوقه، دون إحساس بالجماعة التي أنت فرد منها؛ والتي أنت جالس بينها وستخرج بعد قليل لتنضم إليها وتعيش في كنفها. هذا هو المسرح الذي نفجر به. مسرح مغلق حينما تجلس فيه تصاب باستغلاق فكري ونقص، يحولان دون كمال استمتاعك بما يمثل فيه من مسرحيات. وقل هذا عن بقية مسارحنا لأنها صورة مصغرة منه.
ونحن حين نطالب بتغيير هذه المسارح المغلقة بأخرى مفتوحة نريد مسارح حقيقية ليس فيها مظاهر الاستقلال البادية في المسارح القائمة الآن. وإذا كنا نربط بين ضرورة إجراء هذا التغيير وبين اتجاهات هذا الجيل الجديد من الممثلين، فليس معنى هذا أنه لم يكن عندنا ممثلون من قبل وإلا كنا كمن يجافي الحقيقة ويتجنى على بعض أعلام التمثيل الذين تستطيع مصر أن تفاخر بهم كبريات الفرق المسرحية. ولكنا نؤمن بأن ما قلناه ظاهرة تنطلق بها الفترة التي نمر بها من هذا العصر الحديث. وإذا التمسنا تفسيراً لهذه الظاهرة فلن نجده في المسرح وحده أو ممثليه لأن المسرح لا يستطيع أن يفسر ظواهره بنفسه منعزلاً عن العالم إلا إذا كان تفسير الشي بأتي من داخله - وهذا مذهب في التفسير لا تثق كثيراً فيمن يتبعونه؛ لأن أصحابه مصابون بضيق في الأفق، وسطحية في النظر وحصر في الفكر. ومادام المسرح نشاطاً إنسانياً خلاقاً، وأنه للحياة قبل أن يكون لنفسه؛ ومادامت الحياة التي تلون كل نشاط إنساني تتشكل - وتشكل معها كل نشاط - بروح العصر السائد، فإن طبيعة البحث تقتضينا أن نلتمس هذه الروح التي جعلت البعض ينادي بتعديل المسرح وأملت علينا ضرورة المناداة بتغييرها وتحويلها إلى مسارح حقيقة، ولن نجد هذا التفسير إلا في ثورة العصر الحديث على ما لمسناه من مظاهر الاستغلاق في المسارح القائمة. ويرجع أصل هذه الظاهرة إلى الانطواء النفسي والاجتماعي الذي كنا وكانت فنوننا مصابة به. ولقد جعلها هذا الانطواء فنوناً مغلقة من الناحيتين النفسيةوالاجتماعية - مثل مبدعيها - تقف ضد كل أسلوب جديد، وتتوهم أن كل شيء خارجي دخيل عليها فتكتفي بما هي عليه دون تطلع إلى مستقبل أو تطور. فيصيبها الانطواء بالركود والتعفن ويكاد يتهددها بالفناء لعدم إحساسها بالحياة وبعدها عن العالم الخارجي الكبير. ولعل هذا هو السبب الذي يلتمسه نقاد الفن ولأدب الغربيين عند بحثهم في أسباب تقطع الصلة بين الفن والحياة،(899/13)
وعدم قدرته على تحقيق الوظيفة الاجتماعية التي هو مطالب بها. بل لعل هذا هو السبب في المحسنات اللفظية في الأدب وعناصر التطريب في الموسيقى، والمبالغة في الألوان في الرسم، والمغالاة في التمثيل على المسرح حتى أصبح الجمهور المتلقي لهذه الفنون والآداب واحدا من اثنين. فريق قليل يفهم فلا يطرب، وأغلبية طاغية يطرب لما لا يفهم. أما الفريق الأول فيرك أنه أمام أدب أو فن مغلق فقد شكله ومضمونه؛ الحقيقيين أما الجمهور الذي يطرب فلأنه ينساب مع البهرج فلا يلبث أن ينغلق ويتخدر.
هذه هني الظاهرة التي شملت كل مرافق الحياة والفن، نجدها متمثلة تماماً في المسرح باعتبار أنه أقرب إلى الفنون الحياة وأسرعها تأثراً بأساليبها، ونجدها على الأخص في بناء المسرح المتجمد الذي لا تنفذ الحياة إلى داخله، ويجمد من يجلس أمامه.
ويبدو أن المسالة لا يمكن إيضاحها إلا بإيراد عرض تاريخي لطرز المسرح؛ لنعرف تقدم مسارحنا أو تأخرهاعنها. ومن المعروف أن أول مسرح كان منصبه مرتفعة يتجمع الناس حولها في دائرة كاملة تمكن كل إنسان من رؤية التمثيل من خلال من حوله، ويشعره بوجود الجماعة المستمر. ثم تغيرت الطرز بعد ذلك حين جاء دور البناء ولم يستطيع التحكم في طبيعة الأرض التي تقام عليها المسارح. فأقيم المسرح اليوناني مثلاً في بطون الجبال ورغم تعذر تحقيق الدائرة المسرحية فإنه ظل نصف دائري ولم يفقد المشاهدين الشعور الجماعي. وكانت هذه المسارح رغم بدائيها سليمة، وسلامتها راجعة إلى أنها كانت بنت النفس البشرية الأولى التي لم تلحقها تعقيدات الحضارة الملتوية - كما حدث بعد ذلك. ولقد وضح التواء هذه الحضارات فيما ألحقته بالفن من شوائب أفسدته حين بنت المسارح على أنها سجون للفن: دور مغلقة لها أول ولها نهاية، يحدان من انطلاق البصر، وانسراح الفكر ويفسدان على الفن المسرحي طبيعته الحرة، واستهدافه الانتشار بغية تفتيق جوانب حياتنا وتوسيعها.
ولكم ارتفع صوتنا بضرورة تخليص المسرح من هذا الانغلاق؛ ومعالجة الإنسان المريض بالانطواء المرير. وقد ظن المسئولون أننا نبغي بذلك المسارح المكشوفة فقدموا إلينا المسرح الصيفي. والواقع أنه جاء خالصاً من بعض مظاهر الانطوائية - بعد أن تخلصت نفوس المشرفين عليه من بعض ما تنطوي عليه - ولكن بيت له أكثر مظاهر الانطواء(899/14)
الموجودة في المسارح المغلقة، غير الحقيقة. فبناء الممثل الضيق ظل بعيداً في نهاية المسرح، معزولاً عن المشاهدين. وحال ما به من ضيق وعزلة دون انطلاق حركة التعبير. ولا نغالي إذ قلنا إن الحال ظلت كما كانت عليه في المسارح المغلقة. لأن الضيق والعزلة أشياء تضيق بها النفس، وتفقدها العثور بالحياة التي تتطلب الانطلاق التام وانعدام الحدود.
وقد يقال إن هذا الأمر لا يحسه إلا من جلس بعيداً عن المسرح، وإن علاجه في القرب من الممثل. ولقد جربت هذا فكانت المنصة العالية تحول دون الاستمتاع الكامل بما يجري فوقها لأنها تتعالى عن الجمهور. وأقسم أني كنت أشعر بأقدام الممثلين تروح وتجيء فوق رأسي بمجرد رفع الستار وبدء الرواية.
ولو أضفنا هذا الستار إلى ضيق الممثل لا كتملت لنا مظاهر الانطوائية لأنه يشعرنا ببقاء الحائط الرابع الذي لا يبدأ العرض الحقيقي إلا بزواله. وفي بقائه إيحاء بأن المسرح صندوق أسرار كبير إن باح ببعضها، أمسك بالجانب الأكبر منها. وهذه السرية الممرضة تتنافس وكيان المسرح باعتباره فناً من فنون العرض يهدف إلى تجسيم الأشياء التي تجري فوق الممثل بشكل لا يتأتى إلا إذا كشف كل جوانبها. ولقد هدمت نظرية الحائط الرابع مع هدم المسارح القديمة في القرن التاسع عشر. ومن المؤكد أن المسارح المفتوحة أو المنتشرة لم تكن لتظهر إلى الوجود قبل مناقشة نظرية الحائط الرابع هذه ومؤداها أن المسارح - قبل مجيء الطبيعيين كانت مثل مسارحنا: مسارح مغلقة على نفسها تريد إغلاق جمهور المشاهدين معها. فالممثلون في جهة والمشاهدون أن يتصلوا بالجمهور حالت دونهم المنصة المرتفعة وقد مج المشاهدون هذا الانفصال فكانوا لا يذهبون إلى المسرح إلا لمجرد تمضية وقت يتحدثون فيما بينهم أو يغازلون الممثلات - كما يحدث عندنا.
وهكذا كان حال المسرح - بعد المسرح الإغريقي السليم حتى مجيء أصدقائنا الطبيعيين وعلى رأسهم أنطوان الذي تبلورت فيه ثورة الناس على هذه الأوضاع السخيفة ورأى أن العلاج يتمثل في أن يشعر الجمهور بأنه ليس في مسرح بل أمام حياة فقضى على الفكرة القديمة - السائدة في مسارحنا - من ضرورة إبقاء الجمهور في الظلام لجذب انتباهه بطريقة مفتعلة إلى ما يجري فوق المسرح. أو تقديم مناظر مغرية تأخذ عليه وتحافظ على(899/15)
جذب انتباهه حتى أن (سترندبرج) المسرحي النرويجي الكبير يرجع تقسيم المسرحية إلى فصول إلى هذا السبب ويقول إن الاستراحات تقدم حتى يتخلص المشاهد من تأثير التنويم المغناطيسي الذي يصاب به أثناء مشاهدة المسرحية وإعطائه فرصة للتفكير وتدبر ما شاهد.
وكما كان لهذا الأمر تأثيره على المشاهد والمؤلف فقد كان تأثيره كبيراً على الممثل؛ فهو لا يؤدي الأدوار كما لو كان في الحياة بل أنه لا يعترف بهذه الحقيقة فتراه لا يتابع الجمهور، أو يستجيب لتأثراته لأن هناك فاصلاً قائماً بينهما، ولا يدرك أن مقدمة المسرح يجب أن تصبح حائطاً شفافاً أمام الجمهور ومنفذاً يعبر منه الممثل.
أن الحائط الرابع (فرجة) يطل الإنسان من خلالها على الحياة مصورة بشيء من الدقة؛ فلنوسعها، ولنذهب بمقدمة المسرح حتى النهاية، ولنقدم مسرحاً مستوياً، لنخرج الممثل من هذا الإطار ولنرد عليه وعلى المسرح إبعادهما الإنسانية الثلاثة، ولنقض على محاولة خلق الوهم والخداع، ولنجعل الممثل ممثلاً حقيقياً، ولنحل المسرحية المجددة مكان التصوير الجامد، ولنخرج الممثل من قفصه، ولنجره من الإطار الفارغ الذي يتحرك فيه لموانع الحياة.
ولن يتم لنا تخليص مسارحنا من كل هذا وإرسالها على طبعتها إلا بهدم الحائط الرابع حتى لا يحول دون إدراكنا لحقيقة ما يدور ويرفع الممثل من طرف المسرح - ففي وجوده هناك أشعار ببعده عنا - وفي هذا العبد تحطيم للوحدة التي أن تتم بينه وبينا، ثم يرفع الستار فالمسرح الحديث تتجنب الخفاء وكل ما فيها مبذول للعين معروض أمام الجميع. ولو أكتمل لنا مثل هذا المسرح لقضينا على فكرة المسارح المغلقة وقدمنا مكانها مسارح مفتوحة كالحياة. تجمع بين الفن والحياة - مسارح حقيقية، المثل فيها ليس في طرف المسرح بل في وسطه، يتجمع الناس حوله في حلقة تقضي على استطالة المسرح التي تحيل الناس إلى جموع متراصة ينظر كل في ظهر الآخر دون أن يشعر بدبيب الحياة الذي يتراءى في وجهه. المسرح بهذا الشكل يصبح كلاً واحداً: فهو حلقة مستديرة يمثل عليها، خارجها حلقة تجمع المشاهدين. سيضطر الممثلون إلى الحركة يميناً ويساراً وخلفاً وإماماً وتقضي على فكرة الرسوخ والثبات المتسلطة على فنون المسرح عندناونرد إلى المسرح عنصر الحركة(899/16)
التي تفتقدها في مسارحنا. وسيصبح التمثيل أكبر تعبيراً وأدق واقعية لأن الممثل سيدرك أن هناك من هناك يراه من كل جانب فيحرص على جمال الوضع وتمام التعبير.
وسيكون لهذا المسرح الكايلي تأثيره على تأليف المسرحية التي ستعرض فيه. فما دامت المسرحية متصلة بالمسرح فلا شك أن المسرح الكامل سيقدم لنا المسرحية الكاملة لا المسرحيات الزائفة التي تقدمها المسارح المغلقة التي تغلقها بطابعها، وتحد من انطلاقها بالقيود التي تفرضها عليها.
وأخيراً. فإن هذا المسرح هو أكثر المسارح تناسباً مع طبيعة بلادنا. فما دمنا شعب زراعة مربوطين بالأرض نحتشد لكل مناسبة في حلقات فالواجب أن يكون مسرحنا شبيهاً بتلك الحلقات حتى يؤكد فينا غريزة الاجتماع نتجاوز حدود نفوسنا ونتخطى النطاق الضيق الذي تحصرنا فيه مسارح اليوم المغلقة.
يوسف الحطاب(899/17)
سبيل النقد الفني
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
يعاني النقد عندنا حادة ترجع في الغالب إلى أن الكثيرين ممن يمارسونه حديثو العناية به أو يجهلون أصوله وخواصه. فلقد أصبح النقد عند فئة من الناس سواء أكان في مضمار الأدب أم الفن أم السياسة ضرباً من اللهو والعبث، الغاية الأولى منه عند محترفيه إظهار عيوب الآخرين والفض من شأنهم لا لشيء إلا لأن حظهم من الثقافة يسير، ولأن الله لم يؤتهم موهبة في الذوق أو سعة الاطلاع أو سداد المنطق أو صدق الشعور - وهي من أهم مقومات النقد - فجاءت أحكامهم منحرفة. ولقد قرأت قبل مدة قصيرة مقالاً قيماً بالإنجليزية حول النقد وفوائده للكاتب الأديب تايجل بولشن عرض فيه بعض الآراء الطريفة التي تربط بين النقد والأثر المنقود عرضاً وافياً متزناً حداني إلى درسه وعرضه مع بعض التعليقات لعل ذلك يجلو بعض ما ألتبس علينا من أصول النقد وأحكامه وطرائفه.
يشير الكاتب في مستهل موضوعه إلى أن النقد هو (الحكم على محاسن أي إنتاج من الفنون الجميلة أو مساوئه). وسواء أكان الحكم صالحاً أم غير صالح، فلا معدى لنا عن الإدلاء به، لأن النقد كما يقول توماس إليوت ضروري كالتنفس لا غنى عنه للإنسان.
ولئن كان النقد حكماً يصدر، إلا أنه ليس من المحتم أن يكون حكماً جائزاً لاذعاً؛ أقول هذا لأن بنا نزوعاً شديداً في هذه الأيام إلى إطلاق الكلمة كما لو كانت تعني البحث عن الأخطاء فحسب. ومع أن البحث عن الأخطاء من وظائف النقد المشروعة إلا أن البحث عن المحاسن وظيفة ثانية لا تقل أهميتها عنها.
ويصبح الناقد إذ يمارس مهمة التفتيش عن المحاسن والمساوئ حاكماً في وسعه أن يقول ما يشاء. ولكن هنالك نوعين من الحكام أولهما ذاك الذي يجلس إلى منصة القضاء. يدين الناس بالعقوبات عند ما تثبت عليهم إحدى التهم. وأما النوع الثاني فهو الحكم الذي يتجول في معرض الزهور، لم يتقاعس عن التنويه بها ومنح الجائزة لصاحبها.
والفنان عند ما يقدم للناس إنتاجه، إنما يتمنى في نفسه لو كان هؤلاء النقاد من الفئة الثانية، لأنه يكره أن يعامله الناقد معاملة الحاكم للمجرم، وإنما يتوخى دائماً يقاوم وزن لإنتاجه فينوه بفضائله ومحاسنه.(899/18)
وفكرة النقد تتطلب الاستناد إلى قواعد ثابتة، نستطيع في ضوئها أن نتعرف بالشعر الجيد أو الصورة الحسنة أو الموسيقى الرائعة. ولصعوبة الاتفاق على هذه القواعد - مقاييس الجودة والرداءة - تنشأ صعوبة النقد. فهنالك طائفة من الناس تقول أن ليس في استطاعة الناقد أن يصدر حكماً صحيحاً إلا إذا استند إلى قواعد موضوعة متوارثة مع الزمن. بينما تقضي طائفة ثانية بأن متطلبات النبوغ تفرض علينا تحطيم هذه القيود وعدم إخضاع الفن لقواعد معينة. ولهذه الفكرة التي تعتبر الفن فوق القيود جاذبية ساحرة تستهوي نفراً من الناس يودون أن يصبحوا فنانين على حساب الفن دون أن يجهدوا نفوسهم بتعلمه إلى درجة الحذق والإتقان.
وتتصارع حول هذا الموضوع ذهنيتان، تنص أولاهما على أن الفن وسيلة لنقل شيء ما؛ ففي استطاعة الإنسان أن يصور أو يكتب ليرضي نزعاته الشخصية إذا شاء فحسب، وما من قانون يحرم عليه ذلك. ولكنه متى عرض إنتاجه، فإنه بذلك يحاول الاتصال بغيره من الناس لينقل إليهم خواطره أو شعوره أو أفكاره. فإذا عجز هؤلاء الناس عن فهم ما أراد إيصاله لهم، كان ذلك دليلاً ساطعاً على إخفاقه فيما حاول. ولكن لنبين بصراحة وجلاء أن قيمة الإنتاج ليست حتما في تناسب طردي مع عدد الأشخاص الذين يستهويهم ذلك الإنتاج. فما هو المحك إذاً؟ إنه الناقد الحق الذي يستحق حكمه الأخذ به. وهنا نعود من جديد إلى فكرة الأصول النقدية الثابتة.
أما الذهنية الثابتة فتصر على أن النقد الجيد أمر مستحيل، لأنه ليس للفن من قواعد. وقد يسهل اعتناق هذه الفكرة والأخذ بها لو كان الفنان يعيش وإنتاجه كنوع من الظواهر الطبيعية في فراغ تام. ولكنهما في الحقيقة ليسا كذلك، فالفنان، سواء أحب أم كره، خليفة لجميع المتعاطين الذين سبقوه في ذلك المضمار، وما إنتاجه سوى تتمة لإنتاجهم. وبحكم عدم استطاعته الإفلات من قيود الزمن، فأن هذا الفنان يبدأ في إنتاجه بخبرة الأجيال التي سبقته. ومهما حاول التنصل من ذلك، فسيظل عاجزاً عن الابتداء بنقطة العدم. وأما الأصالة التي قد يدعيها، فلا تعدو أن تكون في أغلب الأحيان تحسيناً ضئيلاً أدخله على ذلك التراث الضخم المتوارث عمن سبقوه في ذلك الفن. وفي ضوء هذا المعنى نستطيع أن نقول إن جميع الفنانين تقليديون. ولست أعني بهذا أنهم مجرد مقلدين؛ فإن جيمز جويس(899/19)
مثلاً فنان أصيل، مع أن آثاره تتخللها بعض الصفات التقليدية لمن سبقه من الكتاب.
أما الناقد الجيد فهو الذي يملك حاسة للنقد مرهفة يستشير بوساطتها انحدار التقليد الفني منذ نشأته. فبينما نجد الرسام مثلاً يركز جميع قواه على اللوحة التي أمامه، وعليها وحدها نرى الناقد عندما يصوب عليها أشعة نقده، لا ينظر إلى هذه اللوحة نفسها فحسب، بل يعتبرها جزءاً من الظواهر الطبعية الفنية جميعاً بين ما يقدمه الرسامون للناس من إنتاجهم كي يقيموا فيه موازنة عادلة. يقول المستر كلاتون بروك (ليست قواعد النقد قوانين يسنها البرلمان، وإنما هي في حقيقتها مجموعة أحكام الماضي) فمن شأن الناقد إذاً أن يلم بهذه الأحكام، وأن يحكم على الفنان في ضوئها. ولذلك يجب علينا أن نسلم هنا بضرورة وجود الناقد البارع وفوائده كشخص ينقل إلى الفنان تقاليد الماضي الذي هو أحد أجزائه، ويذكره دائماً بهذه التقاليد والأحكام، فيستطيع آنئذ أن يتفادى الأخطاء التي تردى فيها سابقاً.
ومن هنا تنشأ علاقة بنائية مفيدة بين الناقد والفنان. غير أن هذه العلاقة نفسها قد تكون هداية في كثير من الأحيان، وذلك عندما ينظر الناقد إلى الفنان نظرة تهكم وتسفيه وازدراء. وسبب هذه النظرة السقيمة يرجع غالباً إلى الملابسات الواقعية التي تكتب فيها أحكام الصحف الرائجة التي تجعل من المستحيل الإتيان بنقد جيد. ترى الناقد الفني مثلاً ينتقل بسرعة فائقة من معرض إلى آخر، يحاول أن يضع في خمسمائة كلمة حكماً على نتاج استغراق ثلاثة أو أربعة من الفنانين حولاً كاملاً. ثم ترى سبعة من الكتب تقدم إلى أحد النقاد فيه دفعة واحدة، ويطلب منه مراجعتها فيما لا يزيد على ستمائة كلمة خلال أسبوع من الزمن أو أقل. ومما لا شك فيه والحالة هذه أن ليس في استطاعته أي إنسان - مهما بلغ علمه أو ذكاؤه أو إحساسه - أن يقوم بعمل كهذا على الوجه الصحيح، إذ ليس من المعقول أن يفهم في عشر دقائق فهماً صحيحاً إنتاجاً شغل شخصاً آخر يضارعه ذكاء وإحساساً سنين من الجهد المتواصل. وهنا يشعر الناقد أنه لا يقوم بعمله على الوجه الصحيح، فيكره هذا الوضع ويرذله؛ والفنان بدوره ينقم منه ويزري عليه، لأنه يتقن أن الحكم الذي صدر حول إنتاجه كان سخيفاً سقيماً هزيلاً، فكيف لا يعافه ويتنكر له؟!
ولكن ليس من العدل في شيء أن ننسب هذه النقائض إلى الناقد أو إلى الفنان، لأنها عيوب نظام تجاري سارت عليه الصحف في النقد. ولكنها مع هذا وذاك عيوب سيئة، لأنها تلحق(899/20)
الضرر بالناقد والفنان على السواء؛ فهي تجعل الفنان يكره النقد ويحتقره، بينما ينبغي له أن يبدو لديه مفيداً قيماً. ثم إنها تحمل الناقد أحياناً على هجر النقد واللجوء إلى عمل أيسر، كأن يدلي بملاحظات عامة عابرة حول كتاب أو صورة أو عرض مفصحاً عن إعجابه بهذا أو مقته لذاك، دون أن يقيم الحجة على ما يرى. ولا يعدو هذا أن يكون تعليقاً خالياً من الدقة والتعيين؛ ولا يمكن اعتباره نقداً بالمعنى الصحيح، لأنه ليس تعليقاً على الإنتاج الفني وإنما على ذوق الجمهور. وما أشبه الناقد في هذه الحالة بصاحب الوليمة في العصور الوسطى عندما كان يتذوق أصناف الطعام قبل أن يقدمها لضيوفه ليتأكد خلوها من كل ما هو سام ومضر. وفي كثير من الأحيان نجد الناقد قد حاد عن إصدار حكمه على الإنتاج الفني، وعمد إلى مداعبة الفنان حول إنتاجه منهمكاً مرة ولاذعاً أخرى، ليضحك القراء بتلك الدعابة المستطابة لأنها لا تضر شخصياً سوى الفنان نفسه. فيغفل الفنان ذلك حانقاً لأن الناقد استخدم إنتاجه مطية لروح الدعابة عنده ولكن على الفنان قبل كل شيء ألا يعير هذا النوع من النقد المبتذل أي اهتمام. والحقيقة التي لا يمكن ابتكارها أن الفنان مهما بلغت درجة غروره أو ثقته بنفسه وعبقريته، ليظل في أغلب الأحيان يصارع شكاً مخيفاً يساوره حول إنتاجه، ولذلك كان أحوج ما يكون إلى نقد رفيق يدخل إلى نفسه قليلاً من التشجيع لأن ما يحتاجه فوق كل شيء أن يحظى إنتاجه بشيء من الجد الذي عاناه عندما شرع في خلقه. لسنا نطالب في الحقيقة إلا أن يقوم النقد بوظيفته الصحيحة، مشيداً بذكر جهود الفنان في حقل التراث الفني العظيم مهما كانت تلك الجهود متواضعة. أما إذا تناولها الناقد بالتهكم والتجريح والغض والسخرية، فإنه بذلك يدفع الفنان إلى الشك في قدرته وإمكانياته، ويحمله على الاعتقاد في قرارة نفسه بضآلة شأنه وتفاهة إنتاجه.
ولسنا نعدم وجود نفر من الفنانين الذين يتحلون بقدر وافر من روح الدعابة، ويتظاهرون بأنهم لا يقيمون وزناً للنقد اللاذع الجارح ولكنهم في الحقيقة يكرهونه ويحتقرونه، لأنه يؤذي شعورهم ويحز قلوبهم حزاً، ويوقعهم في أكثر الأحيان في هوة من اليأس المرير. ذلك لأنهم يظنون أن ما قيل فيهم، حتى ولو كان سطحياً تافهاً، يمكن أن يكون على جانب من الصحة، فهم بحكم الواقع لا يستطيعون أن يروا إنتاجهم عن كثب، ولا يمكنهم الاعتماد في ذلك إلا على الآخرين ينظرون إليه نظرة موضوعية مجردة عن كل هوى.(899/21)
وإن أشنع أنواع النقد النقد السلبي الهدام الذي يترك الفنان يعاني شعوراً أليماً يظن معه أنه يحارب عالماً بأجمعه، عالماً ليس يكره إنتاجه فحسب، بل يكره الطموح الذي دفع إلى وضعه. ومن هذا النوع نقد جيفورد الشهير للشاعر كيتس فلقد أوحى جيفورد في نقده أن من الخير لكيتس أن ينقطع عن نظم الشعر جملة واللجوء إلى مهنة شريفة كأن يصبح مثلاً مساعداً لصيدلي. ويحضرني في هذه المناسبة النقد العنيف الذي وجهه ابن سينا للفيلسوف البغدادي أبي الفرج الجاثوليق حين قال: (من حق تصنيفه أن يرد على بائعة ويترك عليه ثمنه).
وفي هذه الحالة يرى الناقد أن لا شيء خير من شيء ما؛ فخير لرسام أظهر لوحة فنية لو أنه لم يرسمها. غير أن الاعتقاد الصحيح الذي لا جدال فيه لدى كل عقل مبدع، مهما استبدت به السذاجة، أن عكس ذلك هو الصحيح. ولذا كان العقل الخلاق ولا يزال وسيظل على مدى العصور في صراع دائم مع العقل الهدام.
وكي أوفى البحث حقه أقرر من جديد أن من واجب الناقد ألا ينصب نفسه حاكماً يجلس إلى منصة القضاء ينزل العقوبات بالناس كي يحول دون اقترافهم الجرائم. وأحرى به أن يكون كالداخل إلى معرض الزهور، يقابل بين أنواعها باحثاً عن الحسنات والسيئات، مظهراً إعجابه بالمحاسن ومانحاً بعض الحواجز لأصحابها، غير كاتم استياءه من هبوط المستوى حيث تغلب العيوب على المحاسن. وعليه قبل كل ذلك كله أن يؤمن بأن شيئاً ما خير من لا شيء، وأن الجهود الخلاقة مهما كانت متواضعة، خير من لا شيء، وأن الرغبة في الإبداع فضيلة في حد ذاتها، والرغبة في الهدم لأكبر جريمة لا تغتفر.
ماجد فرحان سعيد
مدرسة الفرندز للبنين
- رام الله -(899/22)
من وحي المؤتمر الثقافي العربي
للآنسة عزيزة توفيق
ها نحن أولاً جلوس حجرة الاستقبال (الصالون) بكلية الآداب بالشاطئ بالإسكندرية وقد تعددت اللهجات، كل جاء يحمل مشعلاً ليشترك في إشعاع الضوء من الكوكب الدري الذي مرت على ضوئه غيوم خفيفة حجبت نوره فترة من الزمن، وإن لم يفقد الضياء.
وها نحن أولاً نشم عبير الهواء محملاً برائحة (اليود) فتسري في أرواحنا نشوة نشاط، ونرى الأمواج تسرع متسابقة متلاحقة يستخفها الفرح والسرور كأنها ترحب بناء. لقد دار الزمن دورته واجتمعت وفود العرب في الإسكندرية التي كانت مهد الثقافة العربية ومتلقى العلماء من كل فوج.
لقد اجتمعت وفودنا نحن العرب لنتباحث في أحسن الوسائل العلمية التي تساعد على نشر الثقافة العربية. لقد جرف الشرق تيار قوى الموج يحمل معه زيف المدينة والحضارة وجرفنا نحن العرب أمامه، وما زال يدفعنا ولما نستطيع الرجوع ضد التيار بعد. قام كل من المصلحين أو الداعين إلى الإصلاح يدلي برأي؛ فمن قائل: يجب أن نعني بالتراث القديم، ونحي ذكر العلوم العربية القديمة وتخرج كنوزها ونبتعد عن الثقافة العربية، ونسي أنه لكي نكون مثقفين يجب ألا نغلق عقولنا على ثقافة واحدة، وأن نأخذ الخير من الثقافات الغربية لتكون بمثابة طعم لثقافتنا. لقد سلكت وزارات المعارف العربية طرقاً شتى في وضع برامج مختلفة تغيرت مرات كثيرة تبعاً للظروف السياسية وما تقتضيه سياسة الاستعمار أو ما حظيت به بعض الشعوب من استقلال.
وها قد اجتمعت وفودهم اليوم ليوحدوا برامج التعليم ونسوا أن هذه فكرة مستحيلة؛ إذ أنه لكي تكون الفائدة من العلم محققة يجب أن يتمشى مع عادات كل أمة وتقاليدها وما تقتضيه مصالحها ونواحي الحياة الاجتماعية والسياسية فيها. إن البلد الواحد يجب أن ينوع فيه التعليم حسب الأقاليم؛ فمثلاً البلاد الزراعية يجب أن يعم فيها التعليم الزراعي، وفي المدن الصناعية يجب أن يعمم التعليم الصناعي، وهكذا.
ولكني أرى أن الفائدة الحقة من العلم والثقافة بوجه عام هي أن يكون علماً تربوياً وثقافة سلوكية؛ أي نعني بتربية أبنائنا التربية الحقة التي تتناول كل مرافق الحياة من النواحي(899/23)
الخلقية والدينية والعلمية والفنية. يجب أن نعلم أولادنا الحياة، أي نعدهم ليعرفوا كيف يعاملون الناس وكيف يحترمون أهليهم ومن هم أكبر منهم سناً وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون.
هذه هي أغراض التعليم والثقافة الصحيحة، إذ لا فائدة من علم أو ثقافة تقرأ في الكتب لتنمي العقل وليس له أثر في التكوين الشخصي والشعور والوجدان الذي يعبر عنه بالضمير.
لقد رأينا أولادنا وإخواننا وزملاءنا في الجامعات والمعاهد العالية يقفون حيارى، فقد احتشدت أذهانهم بالعلوم والنظريات التي تلقوها وسيلة مهما اختلفت المناهج وطرق التعليم. ولكنهم لا يجدون لهذا الحشد من النظريات العلمية والمعارف الثقافية أي صدى في نفوسهم. لقد ساروا في مرحلة المراهقة التي يتشك فيها الطالب في كل شيء، وليس لهم من أساس ديني يقوى فيهم الروح والعقيدة فباتوا يتساءلون من هم، وماذا يراد بهم في الحياة؟ وثاروا على كل شيء، وانّتهز دعاة السوء ثورتهم تلك فباتوا يملئون أوعية نفوسهم الفارغة بآرائهم ومعتقداتهم الهدامة. وكانت مأساة الشباب التي شهدناها في مصر وغيرها من البلدان العربية. لقد تلقى النشء العلم مجرداً، ولم يعن بتربيتهم تربية صحيحة سلوكية أو دينية خلقية، فمشى العقل وبعد مسافات عن الروح، ومن هنا كانت الثورة وكان النزاع وكان عدم الاستقرار الذي يهدد حياة السباب وأهدافهم ومثلهم العليا في الحياة وما يسعون له في الحياة.
وإذا تنبهت وفودنا إلى ذلك وراح بعض المصلحين ينادون بجعل الدين عنصراً أساسياً في الثقافة العربية إذا بقائل آخر يعترض متسائلا عن أي دين يتبع.
ولو فكر قليلاً لعلم أن جميع الأديان تهدي وتبين الشرائع والسبل الخيرة لإصلاح الفرد والمجتمع، وأن الدين - على حسب المثل القائل - هو المعاملة. وما أريد بجعل الدين جزءاً من الثقافة أن يحفظ النشء آيات الكتب المقدسة وتفسيرها على حسب ما يذهب إليه رجال الدين، وأن هذا حرام وأن هذا حلال دون أن يكون لذلك من أثر في تربية الروح، بل يراد به أن يتخذ كوسيلة للتربية الخلقية والتكوين النفسي على أسس تتمشى مع وسائل العلم الحديثة وتطور المجتمع.(899/24)
نحن لا نريد من النشء أن يذكر لنا لأنه حائز لشهادات عالية، بل نريد أن نرى ونلمس بأنفسنا أنه قد تثقف ثقافة عالية. نريد تربية لأولادنا ولا نريد لهم علماً مجرداً يدفعهم إلى صخرة صلدة تحطمهم وتمزق أوصالهم. ولقد قال الأستاذ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء في بعض محاضراته (إن حياة القلب هي التي تنمي حياة العلم والإدراك). وما دمنا نريد تربية روحية حقه فعلينا أن نلاحظ فيها التربية الجمالية بأوسع معانيها فهي كل فروع الروح، فننمي فيهم حب الجمال الذي يشع منه تربية الذوق الجميل والحس المرهف.
فإذا ما نادينا بتربيتهم تربية روحية يجب أن ننادي بالتربية الثقافية الفنية التي تتناول كل ما يتعلق بحياتهم وتعلمهم السير فيها على أحسن ما نرجوه لهم من خير وسعادة.
وفقنا الله أعيننا النور قوياً ساطعاً، لا شيء يحجبه دوننا، وأن نسمع الصوت قوياً واضحاً فنسعى إلى الضوء ونلبي جميعاً النداء، لنكون خير أمة عالمية ونحقق الغرض الذي اجتمعت لأجله وفودنا العربية فيزداد الكواكب الدري سناء وحتى تقتبس منه الأمم الغربية والشرقية بعض ما تهدى به ثقافاتها.
عزيزة توفيق
عضو المؤتمر(899/25)
الأمل الذاوي
دمعة على قبر الشاعرة الراحلة ق. ط. ع.
عزيز علينا أن يمضي أحباؤنا الذين نحبهم. . . إننا دوما نذكر ليالينا وأيامنا الجميلة، وقد أصبحت ذكرى نبكيها من حبات قلوبنا. ويوم تعود بنا الذكرى إلى الأيام الخولي يعصرنا الأسى ولا نملك إلا البكاء. . .
عزيز علينا أن نفقد إنساناً كان إلى جوارنا يعيش، وعلى أرضنا يمرح، ومن قوتنا يطعم، ثم يصبح بعد ذلك أثراً وخبراً وذكرى.
والله إنه لعزيز علينا أن نتلفت حوالينا فلا نجد إلا العذاب، ونفتش عن الجنة التي افتقدناها فلا نجد إلا الشقاء؟
عزيز علينا أن نعيش في القفر من غير قلب وناس. . أما قلبنا فقد افتقدناه عند موت قريب أو صديق، وهؤلاء الأحباء جميعاً كانوا سلوه لنا في دنيا الأسى والنحيب! كانوا بعضاً منا يصلون من أجلنا ويحبون علينا ويباركوننا ويملؤون علينا دنيانا. . . وفي خطفة البرق يذهبون ولا نملك لهم الدعاء!
وأمسكت بالجريدة ثم أرسلت الطرف الحزين أفتش عنها فسقط بصري على نعيها فحارت في مقلتي الدموع!. .
أماتت (ن)؟ وكيف يموت ذلك الشباب يا أرحم الراحمين؟ يا حسرة قلبي على الأمل الذي ضاع، والشباب العف الذي راح، وحلت في زوايا القلب ذكراه!
وكانت رحمة الله عليها تنظر إلى الحياة نظرة الطائر المعذب يلتمس الانطلاق فلا يجد إلا القيود، ويهفو إلى النور فلا يجد إلا الظلام. . . ويرغب في الحياة فلا يجد الموت. . . حتى إذا أعوزته النجاة كل جناحاه وهو في التراب!
يا ضيعة العمر ... في ذلك السجن
محبوسة الفكر ... في ميعة السن
وتركب زورق اليأس والحزن المرير:
وسار الشراع بأثقاله ... وقلب يضيق بهذا العذاب
يجوب الحياة فتمضي السنون ... وتذوي الأماني ويبلى الإهاب(899/26)
وما من شعاع ينير السبل ... ويهدي النفوس خلال الضباب
وجلست سعاة الأصيل في حديقة بيتي، ومضيت أتأمل الأزاهير ريانة تتفتح الطيور تغني وتصدح وتنهل من جمال الحياة.
وحدقت في زهرة من بعيد أتأملها وأنا حزين ملتاع. . إنها الساعة يفوح منها أريج الشباب، وتختال في نضرة العمر؛ وبعد قليل سوف تذبل وتموت وتصبح لا شيء!
وأفقت من ذهولي على صوت تردد صداه أشبه بالقذيفة انطلقت من بندقية، أعقبه أنين خافت ابتلعه السكون، ففزعت وتلفت حوالي أرى من عكر ذلك السكون، وأنا مضطرب لهيف، فثبت بصري على خيط من دماء تنسكب من الطائر الكناري المسكين وهو ملقى بين جدران القفص! وأدركت عبث الأيام وصروف الدهر، وقد لمحت من بعيد صياد! يبعث ببندقيته بين يديه!
كانت (ن) طيب الله ثراها أشبه بهذا الطائر المسكين، تنشق عبير الحياة، وهي ترسف في الأغلال، وكانت وكانت ثم عدا عليها الموت فأصبحت لا شيء!
يا لقسوة الحياة! أتثوي (ن) في قبرها المظلم، وقد غلقت وراءها أمانيها ودنياها!؟ ولن يشرق عليها بعد ذلك صباح، ولن يغمرها شعاع شمس أو ضياء قمر.
كانت يرحمها الله شاعرة دقيقة الحس، فياضة الشعور، تتشوق إلى الحياة، وتصبو إلى الأمل الباسم، والمستقبل الزاهر ولكنها تنظر بعين اليأس نحو مقبل الأيام:
يقولون في الغد يأتي الهناء ... ترى أين ذاك الغد المنتظر
أيقبل بعد الشتاء النعيم ... كما يقبل الصحو بعد المطر
إذا كان هذا نظام القضاء ... أصبحت أسعد من البشر
ولكنني قد رأيت الزمان ... أصم السريرة أعمى البصر
وبرغم ذلك فهي تناضل في سبيل السمو والمجد وتود أن تنالهما من أنهار الشعر، وقد نضر حواشيها الضمير والوفاء والشباب غير عابثة بمن يزرع طريقها بالأشواك:
وقلنا سلاحك هل من سلاح ... لديك به تقهرين العباب
طريقك أختاه وعر طويل ... وسوف تلاقين شتى الصعاب
فقلت سلاحي صدق الوفاء ... وهذا الطموح وهذا الشباب(899/27)
وفي زورقي ما يروق النفوس ... ويبعث منها الرضا والسرور
مجاريه مكفولة بالهدى ... مراسيه موكولة للضمير
يرف عليه لواء القريض ... فيدنو له كل قاص عسير
وتنشب في صدرها معركة هائلة بين الموت والحياة، ويحتدم الصراع، وينتفض الخلود بين أنياب الفناء فنقول في آخر قصيدة لها:
ألم تسمعني وقع خطو الزمان ... ألم تفزعي من نداء الحفر
وفزعت أيتها الإنسانية وطلبت الحياة ولكنك لم تجدي غير الموت:
لقد مالت الشمس نحو المغيب ... إلى أين مسراك يا فانية
وانهمرت دموعي من أجل عمرها الذي ذبل، ومجدها الذي ضاع ودفنت بواديه.
أهو الشعور بالسخط على الحياة يوم تذبل زهرة في تباشير الصباح؟ أم هو الشعور بالأسى واللوعة يوم تطوى أعلام وتقبر روح كانت تود أن تنطلق في سماء الحياة؟
أجل، لقد انطلقت أيتها الروح، فحلقي ما شئت طليقة من كل قيد، عند الله والحياة، من بعدك قفر وموت وأي موت وظلام وأي ظلام؟
أحمد شفيق حلمي(899/28)
رسالة الشعر
في مصر
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
يا مصر، حلم ساحر الألوان رافق كل عمري
كم داعبت روحي رؤاه فرف روحي خلف صدري
حلم كظل الواحة الخضراء في صحراء قفر. .
أن أجتلى هذا الحمى. . . وأضمه قلباً وعين
واليوم، في حلم أنا، أم يقظة، أم بين بين؟!
صدحت بقلبي إذ وطئت ثراك أنغام سواحر
فكأنما في قلبي المأخوذ غنى ألف طائر. . .
وغرقت في أمواج إحساس بعيد الغور خائر
أأنا هنا في النيل، في الأهرام، في ظل النخيل!؟
وتلفتت عيناي في دهش، وفي لهف غريب. .
ماذا؟ هنا الدنيا الخلوب تثير أهواء القلوب. .
ماذا؟ هنا نار الحياة نؤج صارخة اللهيب. .
في كل مجلى فتنة رقصت وسحر مد ظله
ماذا؟ أمصر؟ أم رؤى أسطورة من ألف ليلة!؟
أنى اتجهت تجاوب وصدى لموسيقي الوجود
في النيل يعزف لحنه الأيدي للشط السعيد
في وشوشات النسمة المعطار، في النخيل الميود
حتى النجوم هنا أحس لهن ألحاناً شجية
حتى السحاب إخاله تحدوه موسيقي خفية
يا مصر بي عطش إلى فرح الحياة. . . إلى الصفاء. .
يا مصر نحن هناك أموت بمقبرة الشقاء. . .
لا يطمئن بنا قرار. . . لا يعانقنا رجاء. . .(899/29)
لا شيء إلا ضحكة الهزء المرير على المباسم!
كالضحكة الخرساء قد يبست على فك الجماجم!!
نفسي مصدعة. . . فضميني لأنسى فيك نفسي
قست الحياة وأترعت بمرارة الآلام كأسي
والظلمة السوداء مطبقة على روحي وحسي
فاحني على وزوديني من مفاتنك الجميلة. . .
هي نهزة لم أدر كيف سخت بها الدنيا البخيلة
يا ليتني يا مصر نجم في سمائك يخفق
يا ليتني في نيلكالأزلي موج يدفق
يا ليتني لغز. . . أبو الهول احتواء، مغلق. . .
تهوى وتنسحق الدهور مواكباً، وأنا هنا
بعض خفي من كيانك لست أدرك ما أنا!
يا مصر، حلم ساحر الألوان رافق كل عمري
كم داعبت روحي رؤاه فرف روحي خلف صدري
حلم كظل الواحة الخضراء في صحراء قفر
أن اجتلى هذا الحمى وأضمه قلباً وعين. . .
واليوم، في حلم أنا، أم يقظة، أم بين بين!!
القاهرة
فدوى عبد الفتاح طوقان(899/30)
الخطيئة المجسمة
للأستاذ محمد مفتاح الفيتوري
الكرى عاقد جفون البرايا ... والدجى مطبق عيون النهار
والرياح النكباء أقفرت الطرق ... وأخلت نوادي السمار
وأيادي الضباب ألقت على الآفاق ... مما يحكن ألف إزار
فاحملي قلبك المكفن بالآثام ... وامضي ملعونة الآثار
احمليه على يديك كما تحمل ... أم اللقيط تاج العار
احمليه كزهرة وطأتها ... قدم العابثين والفجار
ويك يا هاته الذبابة من أنت؟ ... ومن أي حماة أو قرار
أنت جرثومة من الشر جوعي ... لامتصاص القلوب والأفكار
أنت مخلوقة حضيضية الأصل (م) ... كدود الغدران والآبار
أنت شيء أنكرت ذاتيتي فيه (م) ... وفيه عرفت معنى انهياري
ويك يا هاته وأنت دخان ... كيف أطفأت ثورة الإعصار
كيف قاربت هيكلي ثم لم يجرفك ... سيلي ولم تحرق ناري
كيف لطخت بالخطيئة محرابي (م) ... وقد كان كعبة الأطهار
كيف أطبقت مقلتي فلم أبصر ... طريقي المشوب بالأوضار
كيف قيدت في حبالك عنقي ... ثم سيرتني بغير اختياري
كيف أذللت كبريائي فهانت ... وهي من لم تذل للأقدار
آه وا حسرتا لما ضاع مني ... من سموي وعزتي ووقاري
فاغربي - أغربي بوجهك لا بورك ... يوم ألقاك خلف جداري
حسب شيطانك الغوي خضوعي ... وأنا الحر - عند ساق عاري
ويحسبي ندامة ليس تمحوها (م) ... صلاتي وخالد استغفاري
محمد مفتاح الفيتوري(899/31)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
ذكريات يثيرها العيد:
(ونظر إلى السماء نظرة طويلة، حار فيها دمع واضطراب بريق. . واحة في صحراء؟ ونبع يتدفق ماؤه؟ وزهرة ندية بالعطر فواحة بالأرج؟ كل هذه الأشياء يا رب له؟ أين كانت وأين كان؟!. وابتسم للحياة من قبله، وأضفى عليها من روحه، وقبس لها من حبه، وأصبح إنساناً غير الذي كان!
وألقى بالماضي كله في زوايا العدم. . لقد كان يعيش في حاضرة؛ حاضره الذي داعبته رؤى من المستقبل الباسم، ورقصت على حواشيه أطياف من الأمل الوليد، وانطلقت في أرجائه صيحة العمر الذي بعث. . هناك ينظره المجد تدفعه إليه يد حانية، وقلب يخفق، وبسمة تشرق، وروح برح بها الشوق إلى لقاء روح؛ ويا بعد الدنيا التي كانت في قلبه والدنيا التي تراءت لعينيه!
ومضت به الحياة في طريقها تطوي الأيام. . الزهرة الحبيبة يسقيها من فيض عطفه، والنبع الرقراق يسعى إليه إذا ظمؤه، والواحة الوارفة تحميه بظلها من لفح الهجير: يا صحراء: أين كانت الجنة؟ لقد كانت في رحابك وهما بغيضاً لا غناء فيه!
يا صحراء: أين كانت السعادة؟ لقد كانت في عذابك حلماً مخيفاً لا تأويل له! وأنت يا زهرته الحبيبة أين كنت؟ لقد قالت له عيناك إن الجنة ليست وهماً، وإن السعادة ليست حلماً، وإن ماضيه كله يمكن أن يختصر في لحظة من حاضره. . وماضيه الذي أصبح ذكرى في طوايا الغيب، وومضة في ثنايا الخاطر، وصرخة كتمت أنفاسها يد النسيان!
وفي تلك الدار من ذلك الحي كان هواه. . يذهب إليها مع الصبح، وحين يقبل الليل، وكلما هزه الشوق وطال الحنين؛ ولن ينسى كيف كانت تستقبله الدار يوم كان يقصد إليها: ملء يديه زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . أبداً لن ينسى الوجه الذي كان يتلقاه باليدين حين يقبل، وبالروح حين يجلس، وبالدعاء حين ينصرف مودعاً إلى لقاء قريب. ولن ينسى أنها كانت تهوى الأدب، وتعشق الفن، ويملك عليها المشاعر كل معنى جميل. . ولن ينسى أن صلتها به كانت عن هذا الطريق الذي(899/32)
جمع بين قلبها وقلبه، وبين طبعها وطبعه، وبين شعورها وشعوره. ومن أجل هذا كله كان يدفع إليها بكل كتاب يقرؤه، وكل مقال يكتبه، وكل أثر من أثار الفن يعلم أنه يلقى من نفسها هوى ورعاية.
أبدا لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحيث أمانيه. . . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في تلك الأمسية التي يسفر من بعدها صباح العيد:
لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت ويطبق السكون! أين يا دار من كانت تفتح له الباب وكأنها تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟ أين. . . أين؟ لقد قالوا له إنها مريضة. . مريضة؟ وهرع إلى حجرتها مسلوب الوعي مرتاع الخطو ملتاع الضمير، وأخذ مكانه إلى جانبها وتناول يديها بين يديه، وألقى على الوجه الشاحب نظرة سكب فيها من ذوب قلبه كل ما ادخرته الليالي وحفظته الأيام. أما هي. . فلم تنطق بكلمة، لقد أطبقت شفتيها الذابلتين، وشع من عينيها بريق عتاب لونته الدموع!
وأطرق برأسه إلى الأرض برهة، وطوقت نظرته الذاهلة هنا وهناك كأنما تبحث عن الألفاظ الحيرى في ساعة اللقاء. . . واستطاع بعد جهد أن يجمع شتات نفسه ليقول لها: لا أدرى كيف أعتذر إليك. أحقا كنت غائباً وأنت مريضة؟ كيف بالله لم يحدثني قلبي؟. ألا تغفرين لي؟!
وأمام اللهفة الحرى والخشوع الضارع والصمت المبتهل غفرت له. . ويا لحظة الغفران كم خففت من وخز ضميره، وكم حملت من عبء عذابه، وكم قربت بينه وبين الله!!
ومضى يحدثها وتحدثه، ويا عجباً. لقد عاد إلى الوجه الشاحب إشراقه الفجر، وإلى الوجنة الذابلة نضارة الورد، وإلى النظرة الفاترة صفاء النبع، وإلى الجسد المنهك تدفق العافية! وقالت له وهي تستوي في سريرها جالسة: أنظر. . ألا ترى أن العافية قد عادت إلى بعودتك؟ فأجاب والفرحة الجارفة تهز كل ذرة في كيانه: لو كنت أعلم لزرتك قبل اليوم، ولما تركتك نهباً لعوادي السقم! ومضى يحدثها وتحدثه، ويقرأ لها وتصغي إليه، ويبني لها من قصور الأوهام ما شاءت فنونه وشجونه. كم أقام على دعائم الخيال عشهما المنتظر؛ الجميل الهادئ، ذلك الذي يملؤه الأطفال أنساً ومرحا وبهجة، وتملؤه حباً وحناناً ورحمة!(899/33)
وتقول له وهي في غمرة الأماني وزحمة الأحلام:
بالله دعنا من المستقبل وخلنا في الحاضر. . إن غداً ليوم عيد، فهل فكرت في أن تهيئ لنا مكاناً جميلاً نقضي يومنا فيه؟! ويقول في صوت تنطلق فيه الهمسة من فجاج روحه: أما العيد فأنا اليوم فيه. . وأما المكان الجميل فقد هيأته لك في قلبي!
وترنوا إليه معجبة، ويرتسم على شفتيها ظل ابتسامة فاتنة، وتهتف من الأعماق قائلة له: هل تعرف أنك تجيد فن الحوار؟ لماذا لا تعالج كتابة القصة؟ أنا في انتظار اليوم الذي تكتب فيه قصتك الأولى!
ويعدها أن يكتب قصته الأولى، ويودعها وتودعه، وينطلق عائداً إلى بيته على أن يراها في صباح العيد. ولم يكن يعلم أن المقادير تدخر له أسود ليله في رصيد العمر، وأبشع صباح في حساب الشعور! ولم يكن يدرك أن ما رآه من ومضات العافية حين جلس إليها كان أشبه بومضات المصباح قد فرغ زيته، فهو يرسل أسطع أضوائه قبل أن ينطفئ، ويترك الحياة من حوله يختنق فيها النور تحت قبضة الظلام. . لقد طوى الموت في المساء صفحة عمر، وغيب القبر في الصباح أحلام عذراء!!
وسأل نفسه وهو يشهد ليلة تنطوي وفخراً يبزغ: أيمكن أن تمر تلك الليلة على إنسان كما مرت عليه؟ وسمع جواب نفسه منبعثاً من أعماقه: محال!
وكانت ليلة عيد: ولا يذكر أنه أحس القفر في حياته كما أحسه في تلك الليلة، ولا يذكر أنه أنكر دنياه كما أنكرها في تلك الليلة، ولا يذكر أنه استشعر الوحدة والغربة والفراغ كما استشعرها في تلك الليلة. . لقد كان يشم في كل شيء حوله رائحة الموت؛ الموت الكريه البشع الذي يتراءى للأحياء في الليالي السود، ويلف الآمال في أكفانه، ويهيل على جمال الحياة أكوام التراب!
وأشرقت الشمس العيد ترسل ضياءها إلى قلوب الناس إلا قلبه. لقد بقي وحده في الظلام؛ ظلام الأماني التي ذوت، والفرحه الكبرى التي انطوت، والدنيا التي ذهبت إلى غير معاد. ولأول مرة منذ سنتين شعر بدافع قوي إلى البكاء، وحاول أن يبكي ولكنه لم يستطع لقد تجمدت الدموع في عينيه، ثم تحدرت إلىقلبه قطرات: فيها من دفء عاطفته، وفيها من وقد وجدانه، وفيها من لوعة حرمانه. . . وفيها من وهج أساه!(899/34)
ونظر إلى السماء نظرة من يبحث عن شيء عزيز قد ضاع منه أو نظرة من يسأل السماء سؤالا لا جواب عنه: أين يا رب يجد الصبر وينشد السلوى ويلتمس العزاء؟ كل شيء قد انتهى، وكل جلد قد انقضى، وكل زاوية من زوايا النور قد أغلقتها يد الزمن. وها هو يمضي في الحياة وحيداً بلا رفيق، وغريباً بلا حبيب، وجرحاً تخضبت معالم الطريق من فيض دمه!)
فقرات من مقال حزين كتبه للرسالة منذ عامين. . . زهرات تمتد يده إلى حديقة الذكريات لتقطفها في حنو بالغ. . . ثم تقدمها إلى قبرها الحبيب تحية وفاء في يوم عيد!
عامان في حساب الزمن، تطمس فيهما يد النسيان من تاريخ كل حي سطوراً وكلمات. أما هو فقصة حياته ماثلة أبداً لعينيه، يرقب على مسرح الشعور فصولها المتلاحقة. . ويصفق بالجوانح لذلك المشهد المثير الذي هز قلبه في يوم من الأيام!
وكانت قصة عجيبة. . . بدأنها هي فكتبت بمداد النبوغ فصلها الأول. . . وحين لمح هو بوادر الإلهام أحب أن يقاسمها الخلود فكتب فصلها الثاني. . وحين أوشكت معجزة الخلق في يد البشر أن تنافس القدر، ضاقت السماء بهذه الألوهية فكتبت فصلها الأخير!!
وتركته وحده يشهد ختام المأساة. . ومنذ ليلتين رآها في الحلم طيفاً يعاتبه؛ يعاتبه على أنه لم يف بوعده منذ عامين في ليلة عيد! وقالت له فيما قالت: ترى هل نسيت عهد الوفاء؟ إنك منذ رحلت لم تذكري بكلمة. . ولم تذرف على دمعة. . . ولم تبعث إلي نفحة عزاء. . . أتحسب أنني في العلم الآخر لا أدرك؟! وأجابها في نظرة المتهم البريء يريد أن يدفع عن نفسه مرارة الاتهام: لقد وفيت بوعدي يا أختاه. . شيعتك إلى المكان الذي قدر لي ولك أن يطوي بين جنباته أول أمل. . وقدمت إليك (من الأعماق) نداء من القلب يؤنس وحشتك في ظلام القبر. . وكتبت (من وراء الأبد) قصة إنسانية وفت وفيها من سماتك روح وعنوان. أما الدموع فلا تسأل عنها العيون وإنما تسأل القلوب. . وما أصدق دموع الأعماق!
وقالت وهي تشرق بدمعها وترنو إليه في حنان: لقد كنت أمتحن وفاءك. ترى هل أنت سعيد في صحبة الأحياء؟ وأجاب وهو يمد في عينيه إلى الأفق البعيد حتى لا تلتقي منهما النظرات: لا أدري. . فمنذ أخذتك السماء من الأرض وأنا أهرب من السؤال إشفاقاً من(899/35)
الجواب!
وبدأت خيوط الفجر تتسلل من النافذة لتوقظه في رفق من حلمه القصير. . وهب من نومه ليرى ذراعيه ممدودتين في الهواء. . . تعانقان الفراغ والوحشة والسكون! وهتف في صوت لم يسمعه غير الله: يا رب. . هل تأذن لي في أن أعتب عليك؟!
إتجاه جديد لتوفيق الحكيم:
(وكم لنا في بعض الناس من آراء لا ينقصها لتظهر غير عدد من المناسبات). . هذا ما ختمتم به جزءاً من تعقيباتكم في العدد (897) من الرسالة. وهاأنذا اتخذتها ذريعة لكي تنشروا رأيكم بصراحة في مسرحيات توفيق الحكيم التي تنشر في (أخبار اليوم) من وقت إلى آخر. . وكفى بذلك مناسبة!
وما كنت لأوجه إليكم هذا السؤال إلا لعلمي بأنكم من أصدقاء الأستاذ الحكيم، ولما عهدناه فيكم - نحن القراء - من حرية الرأي وقوة في القلم، ومع أني لا أنكر أن الأستاذ الحكيم من أكبر الكتاب في مصر إلا أنني قد أحسست ومعي كثير من القراء بما في مسرحياته المذكورة من السرعة وعدم الإتقان. . . فإذا أخذنا مسرحيته الأخيرة المنشودة بالعدد (305) من (أخبار اليوم) والمسماة (مفتاح النجاح)، كان ذلك أصدق مثال لما ذكرته عن بعض هذه المسرحيات. فالموضوع كما هو واضح للذي قرأ المسرحية، ما هو إلا تصوير لبعض أعمال الوزراء بما فيها استثناءات وما ينتج عن حرية الرأي والصراحة في المصالح الحكومية! والمسرحية تكاد تكون جميلة، إلا أنه قد أقحم فيها بعض الشخصيات التي لا تتصل اتصالا وثيقاً بجوهر الموضوع كشخصيتي سميرة ونبيلة. . . ثم ألا توافقونني على أن الإطار الذي وضعت فيه المسرحية لم يكن قوى الحبكة؟ إنني لا أفهم أن يقحم أي شخص في سير الحوادث ما لم يكن له تأثير كبر أم صغر، وإن أومأ الأستاذ الحكيم إلى زيارة وسميرة ونبيلة بجملة واحدة قالها الوزير على لسانه ليظهر بعض أعماله وهي: (كان عندي زوار في موضوع هام)، حينما قال وكيل الوزارة: (جئت إلى معاليك منذ لحظة فوجدت النور الأحمر على الباب)!
ألم يكن الكاتب الكبير يستطيع أن يظهر هذا الرأي ولكن بأشخاص لهم صلة وثيقة بالموضوع وتأثير مباشر بالمسرحية؟ إني لكبير الأمل في أن أقرا في صفحات الرسالة(899/36)
رأيكم في الأستاذ توفيق الحكيم عامة وفي مسرحيته خاصة.
(مصطفى أ)
قبل أن أعقب على هذه الرسالة أشير إلى أمرين يثيران الدهشة والعجب: أولهما أن الأديب الفاضل يريد أن يسمع رأيي في الأستاذ توفيق الحكيم. . . أين كنت يا أخي وقد كتبت عنه اكثر من عشرين مرة؟! انك إذا رجعت إلى أعداد (الرسالة) فسيطالعك عن توفيق الحكيم آراء متعددة طفت بها حول كل الجوانب في شخصيته الفنية! أما الأمر الثاني الذي يدهشني من صاحب هذه الرسالة فهو إخفاء الجزء الأخير من اسمه لسبب غير معلوم. . . لماذا آثر أن يختفي وراء هذا الإمضاء الذي ظهر أوله وغاب آخره؟ سؤال يحتاج إلى جواب!
بعد هذا أقول له أن الأستاذ الحكيم في مسرحيته الأخيرة بعيد كل البعد عما تخيله ورماه به، واعني به السرعة وعدم الإتقان. . الحق أن الأديب الفاضل هو الذي كان متسرعاً في قراءته للمسرحيه وفي حكمه عليها من غير تثبت ولا مراجعة! وأشهد لقد طلبت الأستاذ الحكيم في التلفون يوم أن ظهرت هذه المسرحية لأهنئه، ولكنني وجدته متغيبا عن القاهرة. . . طلبته لأهنئه على هذا الاتجاه الجديد الذي يسير فيه!
إنه اتجاه سبق أن تحدثت بشأنه إلى الأستاذ الحكيم منذ أن وضع بذرته الأولى في أول مسرحية قدمها إلى المسرح وأعني بها مسرحية (اللص). . . لقد عاد توفيق الحكيم منذ هذا التاريخ إلى الحياة المصرية بعد أن غاب عنها فترة طويلة قضاها في ضيافة الأسطورة التاريخية. عاد إلى هذه الحياة ليسلط عليها أضواء فنه في كثير من الخبرة الواعية والمراقبة الصادقة.
من حق توفيق الحكيم على النقد الأدبي أن يسجل له هذا الاتجاه الاجتماعي الجديد، وأن يهنئه على أن خط السير الفني في أعماله الأخيرة كان مستقيماً لا انحرف فيه. . هذه كلمات لا أثر فيها للمجاملة التي تكون بين الأصدقاء، لأن صفحات الرسالة قد سجل لهذا القلم حملات قاسية على فن هذا (الصديق) يوم أن فاحت منه رائحة الجدران المغلقة بعد جولة طويلة في الهواء الطليق!
وأعود إلى مسرحية (مفتاح النجاح) لأقول للأديب صاحب الإمضاء: إن شخصيتي سميرة(899/37)
ونبيلة لا تقلان في الوضع الفني لتصميم المسرحية عن بقية الشخوص، أعني أن وجودهما على المسرح أمر لا غنى عنه إذا ما أردنا للواقعية الفنية أن تسير في طريقها المرسوم. . . إنهما شخصيتان غير دخيلتين كما يتوهم الأديب الفاضل، بل هما أصيلتان في واقع الفن وواقع الحياة!
لقد أبتلى توفيق الحكيم يوماً بداء الوظيفة الحكومية، ومن وراء المنظار وقعت عينيه الفاحصة على كثير من المآسي الخلقية التي صبها عن طريق مسرحيته في قالبها الفني الذي يتسع لها ولا يزبد. . . وكيل الوزارة المساعد يريد أن يتقرب إلى الوزير بشتى الطرق والأساليب، وهو في سبيل هذا التقرب يطلق كل ما في جعبته من سهام: السهم الأول هو وضع زوجته (سميرة) في خدمة (نبيلة) بنت الوزير، ولا بأس في أن تكون خادمة في بيت وزيره تقضي للزوجة والابنة كل ما يحتاجان إليه من أمور. . . وتريد العدسة الواعية من وراء هذه اللقطة البارعة أن توحي إلى القارئ بمدى تأثير هذه الخدمات (المنزلية) في نفس الوزير، وما يترتب عليها من خدمات (مصلحية) ينتظرها الوكيل المساعد. . . ومن هنا تظهر القيمة الحقيقة لظهور هاتين الشخصيتين الأنثويتين على مسرح الحوادث لغرض مقصود!
هذا هو السهم الأول، أما السهم الثاني فيستقر في قلب هذه الحقيقة الثانية التي سجاها توفيق الحكيم، وهي سعي الوكيل المساعد إلى النيل من زميله وكيل الوزارة حين أوحىإلى الوزير بوجوب منح أحد (المحاسيب) ترقية استثنائية، مقدماً أوفى الأدلة على ما يتمتع به هذا المحسوب من (كفاءة) منقطعة النظير. . . وعلى جناح الكيد والدس والوقيعة ينقل إليه أن وكيل الوزارة معترض على منح هذه الترقية لأنها حق غير مشروع، وأنه بهذا الاعتراض المتكرر يعطل أعمال الوزير ويقف في وجه مشروعاته (الإصلاحية)!
ويبقى السهم الثالث والأخير، وهو جناية الصراحة على أهلها حين يستدعي الوزير وكيله ليستطلع رأيه في هذا الذي نسب إليه. . . ويدور بينهما نقاش طويل يبدؤه الوزير بأنه يحب الصراحة ويقدرها ويضع صاحبها من نفسه في أحب مكان! وحين يطمئن الوكيل إلى هذا الخلق (الحميد) يجهر برأيه في شجاعة، وخلاصة هذا الرأي أن (محسوب) الوزير صفر اليدين من كل ما يؤهله للظفر بدرجة ليست من حقه وإنما هي من حق الآخرين. . .(899/38)
وتقديراً لهذه الصراحة يجتمع مجلس الوزراء لينظر في شكوى الوزير من أن وكيله يعطل أعمال الوزارة حتى ليستحيل معه كل تعاون منشود. . . ويحال الوكيل الأصيل إلى المعاش ليظفر الوكيل المساعد بمنصبه، والفضل قي هذه الخدمة (المصلحية) إلى ما سبقها من خدمات (منزلية) توضع في المقام الأول من قيم المواهب والحسنات!!
حول مشكلة الفن والقيود
في العدد الماضي من الرسالة قرأت كلمة للأستاذ الفاضل علي محمد سرطاوي يرد بها على رأي سابق لي حول مشكلة القيود في الفن. . . ولقد رأى الأستاذ أن يخالفني في بعض وجهات نظر لم تتضح له كل الوضوح، فراح يعدد مظاهر الاختلاف بين نظرتين تذهب كل منهما في فهم مشكلات الفن إلى طريق!
أود قبل أن أعقب على كلمة الأستاذ الفاضل في العدد المقبل من الرسالة، أن أبعث إليه بأخلص الشكر على تحيته الرقيقة التي وجهها إلي ختام كلمته، هذه التحية التي يعطرها الخلق ويزجيها الوفاء.
أنور المعداوي.(899/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الثقافة العربية في المؤتمر الثقافي:
أشرت من قبل إلى التقرير القيم الذي وضعته لجنة الثقافة العربية في المؤتمر الثقافي. وأرى الآن من تمام الفائدة أن نذكر بعض ما احتواه.
أخذت اللجنة كلمة الثقافة في مدلولها الواسع، وهو معارف الأمة وأدبها وعاداتها وتقاليدها واتجاهاتها الروحية والفنية. ونظرت بهذا المعنى إلى الثقافة العربية فوجدت أن من أهم مقوماتها (1) تراثها الفكري الخصب الغني الذي اتسعت آفاته لثمار الثقافات القديمة الأخرى التي احتك بها العرب في أيام نهضتهم وأثر بدوره في ثقافة العالم من طريق تأثيره في الفكر الأوربي.
(2) أن لغة تلك الثقافة - وهي العربية الفصحى - لغة ذات تاريخ قديم متصل الحلقات، وأنها قد سايرت الحضارة وكانت أداة طيعة للعلم والأدب والفلسفة في العصور الازدهار الفكري للعرب.
(3) أن لهذه الثقافة أدبها وفنونها وآثارها التي انطبعت بطابعها وتأثرت وترجمت عن أطوار تاريخها.
(4) أن هذه الثقافة منذ ظهور الإسلام أصبحت تستمد أهم مثلها واتجاهاتها من الدين وتعاليمه، وأنها قد حاولت في مختلف عصورها أن تستمد من تشريعه قواعد وأساسا لحياتها الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن أدبها ودراستها الأساسية قد تأثر بكتاب ذلك الدين والحرص على حفظه وفهم أسراره.
(5) أن هذه الثقافة تمثل فلسفة في الحياة والاجتماع أهم ما تتميز به توفيقها بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم، واحترامها للملكية الفردية وتوجيهها للتعاون بين الغني والفقير، وعدم تفريقها بين الأجناس والألوان، وإصرارها على قسط معين من الأدب والاحتشام في حياة الجنسين (الرجل والمرأة) وتسويتها بينهما - إلا في حالات معدودة - في الحقوق والواجبات.
وتناول التقرير بعد ذلك حاضر الثقافة العربية فقال إنها منذ قرن من الزمان - دخلت في(899/40)
دور نهضة - بعد مرحلة طويلة من التأخر والركود - واتجهت في ذلك اتجاهين لم تجد من كليهما بداً: الأول إحياء قديمها الزاهر، والثاني الاقتباس من معارف الغرب وعلومه. وقد لا بست تلك النهضة ظواهر أهمها ما يلي:
(1) انقسام المثقفين العرب طوائف: إحداها اندفعت نحو ثقافة الغرب دون أن تتسلح بالمعرفة الحقيقة لتراثها القديم، والثانية ظلت منطوية على نفسها عاكفة على قديمها الذي فقد أصالته في عصور التأخر، والثالثة طائفة وسط حاولت أن تزيد في ثروة الثقافة العربية بخير ما تثقفه من الثقافة الغربية. وقد أثر هذا الانقسام بدوره على الفرد فأورثته التناقص وكاد يشله عن السير في الحياة.
(2) اضطراب الموازين الخلقية والاجتماعية في المجتمع العربي، والحيرة بين مقتضيات روح الدين والتقاليد من جهة، وما تتطلبه بعض مظاهر الحياة المدينة الحديثة من جهة أخرى.
(3) ضعف الوحدة التعليمية في البلاد العربية لاختلاف معاهدها في ألوانها واتجاهاتها الثقافية فتعددت النظم واختلفت تبعاً لذلك العقليات والأهداف.
(4) اضطراب المجتمع العربي بين الذوق الفني المتوارث وبين ما يفد عليه من الفنون والآداب الغربية مما نوع الاتجاهات فلم يعن على تميز طابع واضح للإنتاج الفني العربي.
(5) انشغال الذهن العربي بمشكلاته السياسية والتعليمية والعمرانية، فلم يستطع بعد أن يفرغ كثيراً للشعور الحقيقي بكيان ثقافته وتعرف مقوماتها ومحاولة التوفيق بينها وبين ما نقتبسه من ثقافة الغرب.
ولخصت اللجنة أهداف الثقافة العربية الحاضرة، بأنها في زوجها ثقافة إنسانية، وأنها تستطيع الإقبال على الثقافة الإنسانية العصرية دون أن تفقد خصائصها ومقوماتها الجوهرية، وأن الإقبال على الثقافة العصرية ضرورة لحياتنا وسلامة أوطاننا ونهضتنا العلمية والاقتصادية، ولا ينجم عنه إلا الخير والقوة إذا ما وعى العرب خصائص ثقافتهم العربية وعياً صادقاً واعتزوا بها وتمثل فيهم روحها في التربية المدرسية وفي مناهج الحياة.
إهمال الفنون:(899/41)
رأينا توسع لجنة الثقافة العربية في مدلول كلمة (الثقافة) بحيث شملت العادات والتقاليد، وقالت اللجنة إنها تشمل الاتجاهات الفنية، وقد حوت توصياتها كثيراً من الأمور الثقافية المختلفة التي ذكرنا أهمها في عدد سابق. ولكنها مع ذلك لم تلتفت إلى الفنون باعتبارها من ألوان الثقافة وأدواتها، فلم تقل ولم توص بشيء عن المسرحوالسينما والإذاعة والموسيقى والنحت والرسم.
حقاً أننا نعاني أزمات في هذه الفنون، وأن أمورها مضطربة، وبعضها ينحرف عن جادة الفن، وخاصة السينما التي لا تزال أداة للهو الرخيص والتسلية الفارغة من الموضوع، مما يجعل المثقفين يزورون عنها ولا يكادون يعترفون بثقافيتها بل فنيتها. . .
وحقاً أيضاً أن فنوناً - في مجموعها - لم تستطع بعد أن تقنع ذوي الجد والوقار بأنها فنون لها غايات تقصد.
لكن ذلك كله لا ينبغي أن يدعو إلى إهمالها، بل هو على العكس يدعو إلى الاهتمام بها لتحديد موقف الدولة منها وتوجيهها توجيها نافعاً بحيث تؤدي رسالتها على الوجه الصحيح.
ومما يؤسف له أن برنامج المؤتمر أيضاً خلا من المظاهر الفنية عدا (معرض الزخرفة الأندلسية) الذي تحدث عنه في الأسبوع الماضي والذي لم يلق ما هو جدير به من العناية. وقد كان من الممكن أن تدبر بعض الحفلات التمثيلية أو الموسيقية. وكانت هناك في المسرح القومي بالإسكندرية الفرقة المصرية لتمثيل التي أنهت مدتها بالإسكندرية قبيل انعقاد المؤتمر وقد حدثت في ذلك بعض المسئولين، ولكن الوقت قد فات فلم يدبر الأمر من قبل ولم يكن في الإسكندرية غير شكوكو وإسماعيل يس وتحية كاريوكا. . .
ألا ترى معي أن انعقاد مؤتمر عربي كبير دون أن يكون في برنامجه ومظاهره نشاط فني، يدل على فقر البلاد في الفن، وأن هذا الفقر الفني كان جديراً بنظر المؤتمر؟
ولعل عذر لجنة الثقافة أنها كانت بصدد الإجمال وأنها تركت التفصيل للمؤتمر الخاص بالثقافة، ولعله القادم، ولعل الفنون تأخذ بطرف من عنايته.
ومما يذكر أيضاً أن المؤتمر لم يكن فيه أحد من المشتغلين بالفنون يوجه الاهتمام إليها.
تكوين المؤتمر(899/42)
وعلى ذكر خلو المؤتمر من الفنانين أقول إن أعضاء كانوا إلا قليلاً من المعلمين وشاغلي مناصب التعليم، وإن الإدارة الثقافية ووزارة المعارف في البلاد العربية عنيت باختيار الأعضاء من رجال التعليم، ومن القليل أن الوفد السوري كان به طبيب بيطري وموظف كتابي. وعلى ذلك لم نلق في المؤتمر أحداً من الأدباء غير المشتغلين بالتعليم، وقد كنا نود أن نرى وجوها عرفنا أقلامها. وكان يجب أن يشكل المؤتمر من هؤلاء وهؤلاء، وكان يجب أن يكون فيه كتاب صحفيون يحدثون قراءهم عنه وينقلون صداه إلى آفاق أوسع من قاعته. .
ومما يؤسف له أنه قصد إلى إهمال الأدباء والصحفيين في عضوية المؤتمر قصداً، فقد سمعت الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية يقول إنهم لا يبيحون العضوية العاملة للصحفيين، بل يحضر منهم من يريد دون الاشتراك العملي في المؤتمر!!
والأستاذ لا يقول ذلك أو يفعله بسوء نية. . إنما هو نوع من الإدراك! ولكنه يحتاج إلى أن يعلم أن معالي رئيس المؤتمر الدكتور طه حسين بك ومدير الإدارة الثقافية الدكتور أحمد أمين بك وأحد أعضاء وفد مصر الرسمي الأستاذ أحمد حسن الزيات وغيرهم من قادة الأدب والفكر - صحفيون. بعضهم كان وبعضهم لا يزال. والكلام في هذه المسألة بدهي، ولكن ما حيلتي؟!
العنصر النسوي في المؤتمر
كان معظم النساء آلائي اشتركن في المؤتمر مرافقات لأزواجهن وخاصة المصريات، فلم يكن من غير الزوجات إلا اثنتان، هما الدكتورة رمزية غريب والآنسة عزيزة توفيق. وقد أشرت فيما سبق إلى إهمال دعوة الهيئات النسوية في مصر إلى الاشتراك في المؤتمر، وفي وزارة المعارف سيدات وآنسات فضليات بعضهن مراقبات وناظرات ومفتشات، ومع ذلك لم تشترك إحداهن في المؤتمر ولم تشرك إحداهن في الوفد الرسمي كما فعلت سوريا ولبنان.
وقد كان المؤتمر نحو سبعين سيدة وآنسة أكثرهن من سوريا، وقد لوحظ أنه لم يكن لهن نشاط يذكر في المؤتمر، وكل ما في الأمر أن عدداً قليلاً منهن اشترك في بعض اللجان،(899/43)
ولم يشترك في المناقشة العامة في جلسات المؤتمر إلا الدكتورة رمزية غريب وهي مدرسة في معهد التربية العالي للبنات، وقد تحدثت على المنصة حديثاً منطقياً قيماً.
وبعد فمتى نرى النصف الآخر في مجتمعنا نصفاً حقاً؟
عباس خضر(899/44)
الكتب
من وحي السيرة
تأليف الأستاذ جمال الدين الرمادي
(95 صفحة - دار الفكر العربي)
للأستاذ محمد محمد علي
كتب الكثيرون عن السيرة النبوية الشريفة، ولا غرو فليس هناك منهل أعذب من السيرة ولا ميدان أوسع منها. بيد أن القليلين هم الذين رأوا في حياة الرسول (ص) إلهاماً، هؤلاء هم الفنانون، أولئك الذين بهرتهم حياة الرسول الكريم، فصوروا خلجات نفوسهم وخفقات قلوبهم بعد إذ أثرت فيهم السيرة تأثيراً عظيماً. ومن هؤلاء صديقنا الأستاذ جمال الدين الرمادي. فهل أني بجديد؟ نعم فقد (أعجبته مواقف رائعة من مواقف الرسول (ص) فانطلق ببراعة يصورها وطفق بريشته يحيطها بإطار يود أن يكون بفكرته وأسلوبه بهياً أنيقاً، ولكن مع هذا لا يحيد عن الحق ولا ينصرف عن التاريخ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً!) هذا هو الدستور الذي سار عليه المؤلف في رسم روائعه الفنية.
وتقرأ الكتاب فلا تكاد تميز أسلوبه عن أسلوب عميد الأدب العربي. وهذا حق فقد أعجب صديقنا بمعالي الوزير وقلد أسلوبه حنى أصبح بحق: طه حسين الصغير. ويرد الجميل لصاحبه فيهدي باكورة إنتاجه إلى صاحب على هامش السيرة. ولكن كيف كان ذلك:
وضع الأستاذ نصب عينيه منذ الصغر أن الأدب منهل عذب يجب على الجميع أن يرشفوا من سلسبيله. فنشأ محباً للأدب العالي مغرماً بالشعر الرصين فإذا به ينظم الشعر حلواً رصيناً بالعربية والإنجليزية. وكان ذلك حينما بلغ خياله أعظم درجات خصوبته في مرحلة المراهقة. ولما أوتي من الأدب نصيباً موفوراً أخذ يغذي (البلاغ) بتحفة الأدبية كما لمع اسمه على صفحات المصري والأهرام والرسالة من هنا لا تأخذه نشوة الجرس الموسيقي الذي تبعث من وضعه البديع للنور الوليد:
(ابشري يا نفوس، وأفرحي يا قلوب، وغردي يا طيور، وأملاي الدنيا بحلو الأغاريد وعذب الترانيم، وحلقي بين الأجواء سكارى بذكر الواحد القهار وذكر الرسول المرتقب(899/45)
المختار)
رسم لنا المؤلف في كتابه إحدى وعشرين لوحة من وحي السيرة الشريفة تمثل فجر الإسلام: النور الوليد، الفتى الراعي، وانتشاره: سحر الإيمان، الزفاف الحزين، العزيز المفقود، وانتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى: الفوز الراحل. صاغها في أسلوب عذب، وكفاه عذوبة أنه أسلوب طه حسين الصغير.
تأمل قوله في المخاطرة الكبرى: (وتنفس الصبح وأخذت الغزالة ترقي إلى عرشها النور في كبد السماء شيئاً فشيئاً، تسكب الأضواء الزواهر على الرمال الشقراء فترف كأنها شعور غادة فاتنة هيفاء، وتلتمع الحصباء كأنها سبيكة ذهب أو جذوة لهب. ويتبدى السبيل ساكناً صامتاً ويتراءى قبل العين واضحاً لا تبدو على أديمه إلا آثار خطى لا تلبث قبالة الغار أن تفور.)
ولقد طغى العصر الحديث بماديته على أعين الشباب فنأوا بجانبهم عن غذاء الروح. فما أحوجهم اليوم إلى مثل هذا الكتاب فيقظهم من ظلمات المادة ويردهم إلى نور الدين وبهجة الروح عليهم يجدون خلاصاً من قلقهم.
لذا فليس غريباً أن نغض الطرف عن الأخطاء المطبعية التي لا ندري كيف مرت رغم دقة مطبعة الاعتماد وفطنة ملاحظها الحريص، وإنا لنشارك صديقنا المؤلف أمله في مواصلة الكتابة في السيرة النبوية، وذلك المنبع الروحي يروي الظمآن في كل زمان ومكان
محمد محمد علي
ليسانسيه في الآداب(899/46)
قصص تمثيلية
لعميد الأدب العربي معالي الدكتور طه حسين بك
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
أمثال هذه الآيات المسرحية العالمية لها أكثر من جانب يصل بينها وبين البقاء الطويل؛ منها أنها تقدم للشباب الذين يعالجون هذا اللون من الإنتاج نماذج ناضجة تأخذ بأيديهم وتسدد خطاهم، وتجد فيها الطبقة المثقفة التي تقرأ للمتعة الذهنية الراقية أروع ما يتيح لها هذه المتعة الفكرية والوجدانية، ويجد القارئ العادي في أسلوب - الدكتور - السهل الممتع ما يرضي حاجته؛ ويثقف ذهنه، ويشيع وجدانه؛ ويجد فيها الشاب من الأساليب الفكرية ما يغذي نزعته المنطقية؛ وفي عمق فلسفتها ما يرشده في حيرته النفسية وفي فنها ما ينضح خياله؛ ويخصب وجدانه ويتكفل بإشباع نوازعه وما يحول بينه وبين ما يفسد عقله ويشوب عواطفه من هذا الذي يعرض بين يديه ولا يجد من يعصمه من شره؛ وتدفعني قوة تأثير هذه القصص؛ وحيويتها إلى الاعتقاد أن هذه الآثار ليست أوضح فكرة؛ ولا أدق تحيلا في لغتها منها في هذا التخليص والتحليل؛ وعمل الدكتور في هذا التحليل والتخليص قد ألقى الأضواء على جو القصة؛ وقربها إلى الأذواق والإفهام. فقد تعمق هذه المسرحيات؛ ونفذ إلى صميمها؛ ووقف على أهدافها ومراحيها الفكرية والوجدانية والاجتماعية؛ وأعطانا صورة دقيقة للأفكار والمذاهب والمشاكل النفسية التي عالجها - المؤلف - مع تقاضيه عن تلك الألوان المحلية التي ليس لها خطر في صميم العمل الأدبي، وهنا أيضاً تتجلى مقدرة - الدكتور - حيث استطاع أن يبرر لك أدق الخطوط؛ ويصور لك أعمق الخوالج النفسية في عفوية حية مؤثرة. فقد يعمد المترجم إلى أروع الآيات في لغتها فإذا حاول أن يترجمها شوه جمالها وجنى على روعتها على روعتها؛ فلا بد للمترجم من الفقه الواضح؛ والقدرة الفائقة في إبراز ما يحاول المؤلف إبرازه. ولا شك أن التخليص أشق وأعسر من الترجمة؛ لأنه يعرض عليك أفكار المؤلف وصورة والأمانة في تقديمها كما أرادها صاحبها أن تخرج للحياة؛ والإيجاز بالتخلي عن بعض ما يسوقه المؤلف مما لا خطر له على معارف القصة، وقد كان لهذا اللون أثره في مرحلة المراهقة التي من أهم سماتها أزمات نفسية عنيفة. وقلق فكري ووجداني مضى وظهور الميل القوي نحو القراءة والإطلاع ولا سيما كتب الأدب(899/47)
وسير الأبطال فكانت هذه القصص وأمثالها تشبع في كيانهم النفسي هذه الحاجات؛ وفي القصة أيضاً نوع سام من التربية الخلقية وقد أصبحت القصة أسلوباً تربوياً مؤثراً في مختلف مراحل النمو البشري. ويزيد في الإعجاب بأمثال هذه الكتب أننا نشكو الفقر في المكتبة القصصية عامة ومكتبة المراهق خاصة فليس فيها ما نزخر به مكتبة زميله في القرب. أليس في بعض هذه الآثار لأمثال هذا الكتاب ما يغري بالإقبال؛ ويدفع للقراء والتذوق.
محمد عبد الحليم أبو زيد
دبلوم في التربية وعلم النفس(899/48)
القصص
من القصص التركي الحديث
الحلة العسكرية
للكاتب القصصي التركي الأستاذ ق. تان كور
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
لم يكن الجيش الذي أحرز النصر الحاسم قد رايل (بوزيوك) بعد، وكان أهل قرى (أفيبنار) و (قرة كوس) و (جاس دره) وبقية القرى المجاورة يذهبون إلى (بوزويوك).
وكانت قوافل أولئك القرويين التي ازدحمت بهم الطرقات مكونة من النساء والفتيات والشيوخ الذين جاوزوا الستين من أعمارهم. ولم يكن بين تلك الأمواج الزاحفة إلى (يوزويوك) فتى واحد بلغ العاشرة لأن أولئك الفتيان كانوا في ميدان القتال منذ أسابيع.
فقد خفوا إلى ميدان القتال ليكونوا في مؤخرة جيش عصمت باشا ليساعدوه.
وكان في الصفوف الأمامية من ميدان القتال خطيب أجمل فتيان قرينه (جاس درة) زهرة الشقراء.
إن زهرة قد فارقت خطيبها (عمر) منذ بدء معركة (إبنونو) الأولى، وكان اندماج خطيبها مع الأبطال المجاهدين يهز أعطافها ويجعلها تتيه عجباً وغروراً، ولكن إلى جانب ذلك ألمها وحسرتها على فراق خطيبها ممضاً محزناً أيضاً.
أن هذا الفراق قد كسا خديها الورديتين شحوباً، وجعل لونهما مثل لون شعرها الذهبي الأصفر.
وكانت طول أيامها، وفي جميع ساعات يقظتها دائمة التفكير في (عمر) فإذا نامت رأته في منامها. وإذا نظرت في صفحة الماء تمثل لها. وكانت تحس في داخلها احساسات غريبة، وكانت كأنها تسمع أصواتاً تناديها قائلة: اقطعي أملك من عمر! ها هم أولاء أهل قرية (جاس درة) وقد انحدروا في الطريق، وها هي (زهرة) الشقراء بينهم، إنها اليوم نشوى طروب، كانت تمازح شيوخ القرية، وترسل ضحكاتها طليقة رنانة حيث ينتشر صداها في ذلك السهل المنبسط الفسيح.(899/49)
إن خديها استعادتا لونهما الوردي الجميل، كما أن عينيها عاد إليهما بريقهما ولمعانهما السابق، وكانت ترتدي ثوبها الأصفر الجميل الذي يناسب شكلها، ويبرز بديع جمالها. كل ذلك لأنها.
- بعد ساعات معدودة - سترى حبيبها (عمر).
كان الجو في ذلك اليوم صحواً، والسماء زرقاء صافية، وكانت الشمس قد بلغت أقصى ارتفاعها إلا أنه كانت الريح تهب عاصفة هوجاء زعزعاً، وكانت الأرض كأنها تدور مع الريح في كل اتجاه، وكان البرد قارساً شديداً.
كان الميدان الفسيح الذي صفت فيه الخيام حلقات يموج بأولئك الذين انتشروا أمام الخيام يحتفلون بالعيد، وكانت الطبول تدق من غير توقف، وتنشد أناشيد قرية (يانيق). وكان آلاف الناس الذين جاءوا من قرى ومدن البلقان يشتركون في الأعياد ويهنئون بذلك النصر المبين في ميدان الجهاد.
وعند الظهر تماماً دوت ثلاثة أبواق معاً، فسكن كل شيء في الميدان، ثم نادى (باش جاويش) بصوت مرتفع:
(المدنيون إلى هذا الجانب، والعسكريون إلى هذا الجانب الآخر وليتقدم المختارون إلى جانبي).
كان قد صدر أمر قائد المعركة المظفر عصمت باشا أن يعطي كل متطوع في الجيش من شباب القرى المجاورة إذن يوم يقضيه بين أهله، على أن يعود في اليوم التالي إلى الجيش.
وكان (الباش جاويش) سيكلف مختار كل قرية أن يتلو قائمة أسماء شباب قريته، وكل من يقرأ أسمه يخرج من صفوف الجيش إلى صفوف المدنيين ويعتبر مأذوناً يوماً واحداً على أن يكون في مقر القيادة في اليوم التالي.
وعند الشروع في هذه العملية كان أهل قرية (جاس درة) قد وصلوا وانضموا إلى المدنيين من أهل القرى المجاورة المتجمعين في جهة اليسار، وبين هؤلاء القرويين الذين وصلوا أخيراُ (زهرة) الشقراء.
واستغرقت عملية القراءة الأسماء كاملة، وكان الميدان قد خلا إلا قليلا، وخفت جلبة الجماهير من المدنيين فيه إذ لم يكن قد بقي فيه إلا أهل قرية (جاس درة)، وإلا أمهات أو(899/50)
آباء أو إخوان بعض المتطوعين الذين قرأت أسماؤهم ولم يظهروا.
في هذه الأثناء تقدمت فتاة قروية جميلة، وعليها ثوب أصفر جميل حتى صارت بجانب (الباش جاويش) وقالت:
وأين متطوعوا قرية (جاس درة)؟
وعند ذلك سمعت من جانب العسكريين أصوات تقول:
هنا. هنا، فقال لها (الباش جاويش) أين مختار قريتكم يا بنيتي؟ وأين قائمة الأسماء؟ فأجابته قائلة:
إن مختارنا أيضاً في الجيش، فالتفت الباش جاويش إلى (الأونباشي) الواقف إلى جواره وقال له: أعلنوا في صفوف المتطوعين: كل من كان من قرية (جاس درة) من الشبان فليأت إلى هنا حالاً. وبعد نحو دقيقة واحدة كان نحو عشرين شاباً قد أقبلوا إلى حيث كان الباش جاويش واقفاً، والتفوا حول (زهرة) الشقراء التي كانت هناك وهم يتصايحون:
أيتها الفتاة زهرة، مرحباً بك يا زهرة. كيف حال القرية أيتها الأخت؟
وكانت كأنها لا تسمع شيئاً مما حولها وهي تكرر كلمتين اثنتين لا تنفرج شفتاها عن غيرهما: أين عمر؟ أين عمر؟ عمر. عمر. وفي تلك الأثناء كان أهل قرية (جاس درة) قد اختلطوا بأولئك الشبان يعانقونهم، ويتبادلون معهم القبلات مع دموع الفرح والابتهاج، وكان الذين التقوا بأمهاتهم أو إبائهم أو أخواتهم لم يأبهوا - أول الأمر - للحال المحزنة التي كانت عليها فتاتنا الصغيرة (زهرة) الشقراء، ولم يكن بقي حولها من تعرفه سوى الباش جاويش والأونباشي، والحاج صادق.
كانت عينا صادق قد ابتلتا بالدموع، وكان لسانه كأنه محبوس في حلقه، فلم يتمكن من قول شيء، وبصعوبة استطاع أن يلفظ كلمتي: أختي. زهرة.
وهنا كان قلب زهرة الشقراء قد انسحق ألماً وحسرة، ولم تعد تملك السيطرة على دموعها، فرفعت يديها كما يفعل المبتهلون الذين يطلبون المدد من السماء - وصاحت: (عمر. عمر. أين أنت؟).
وبينما صادق يحاول التحدث مع زهرة وإعطاءها كتاباً أخرجه من جيبه مع منديل يماني. كان الباشا جاويش قد وصل إلى زهرة الجميلة. ورفعها من على الأرض وضمها بين يديه(899/51)
كما بفعل الأب الحنون، وقلبها بين عينيها وهو يقول:
لا تبكي يا عزيزتي. أن البكاء لا يليق بالفتاة التركية، إن حبيبك عمر وقع في ميدان القتال شهيداً، ولكن التي نالها عمر لا ينالها كل أحد، واسمعي حتى أشرح لك المسألة:
وكان القرويون والشباب قد تجمعوا وكونوا حلقة ضيقة، وساد بين الجميع صمت رهيب، فأخذ الباش جاويش رأس زهرة بيده اليسرى وأشار بيده اليمنى إلى مسيل ماء ضيق يلوح من بعيد كأنه خيط دقيق رمادي اللون وقال: هل ترين مجرى الماء الذي أمامنا، فقد كنا بعد ظهر أمس نطارد العدو النازل حول ذلك المجرى، وكان - على ما علمت بعد ذلك - عمر معنا، وانتهينا من هذه العملية، إلا أنه كان بقي على الجانب الآخر من النهر جنديان من جنودنا فوقع في أيدي فلول جيش العدو، وكانا يصرخان صراخاً مؤلماً وهما يجودان بأنفسهما بين أيدي العدو. في تلك الأثناء خاض أحد جنودنا الماء من جديد واجتاز النهر، وذهب لنجدة أخويه في الجندية، وفجأة وعلى غير انتظار - لا أدري كيف حصل ذلك - ظهرت بعض فلول جيش العدو هناك، وصار هذا الجندي الباسل الذي ذهب لنجدة أخويه - وذانك الجنديان معه - صار هؤلاء الجنود الثلاثة محاطين بقوة كبيرة من جيش العدو، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم ضد قوة تفوقهم أكثر من عشرين مرة. فصاروا يقاتلون ويدافعون عن أنفسهم كالأسود الضارية. وكان قتال مرير تساقط فيه الأعداء مثل سنابل القمح حصدت بمنجل حاد.
إلا أن أحد أبطالنا المقاتلين ببسالة كان قد وقع على الأرض فجأة فرأيت ضابطاً من ضباط الأعداء يلقي بنفسه عليه. وعند ذلك تحامل جندينا على نفسه، وبذل كل ما في وسعه من جهد، وأمسك بيد ذلك الضابط، وعض إصبعه حتى قطعها، ويظهر أن ذلك الضابط فقد وعيه من شدة الألم، فلم يأبه للحربة التي في يده، وكأنه نسي طريقة القتال بالحراب، وأخرج مسدسه، وأفرغ كل ما فيه من رصاص في رأس ذلك الجندي الباسل.
ثم علمت هوية ذلك الجندي الشجاع - فق كان أشجع أفراد فرقتنا وأكثرهم إقداماً - إنه كان خطيبك عمر).
ثم واصل الباش جاويش تلك المشاهد أمامه، فقال:
(كان بطل (جاس دره) عمر مستلقياً على ظهره، وعيناه الواسعتان محملقتين في اتجاه(899/52)
الميدان، كان قد فارق الحياة).
بعد أن سكت الباش جاويش هدأت نفس زهرة قليلاً، وانقطع صوت بكائها أيضاً، وعند ذلك وقف صادق أمامها ومد يده إلى زهرة وقال:
زهرة خذي هذا الكتاب الذي كان عمر أعده قبل المعركة بيومين ليرسله إليك، ولم يرسله. وهذا المنديل الأصفر الذي معه فهو هدية إليك. فتناولت زهرة آثار خطيبها الشهيد كما تتناول كتاباً مقدساً، ثم دستها في صدرها، ومرت عدة دقائق في صمت رهيب، ثم رفعت زهرة رأسها ونظرت إلى الباش جاويش نظرة توسل، ومدت إليه يدها بالكتاب الذي كاد يتمزق، وفهم الباش جاويش غرض زهرة من هذه الحركة، فقال: هاتي يا بنيتي حتى أقرأه لك.
هذا الكتاب الذي أعده عمر ليرسله إلى حبيبته، ولم يقدر له الوصول إلى القرية. لم يكن طويلاً، فقد قرأه الباش جاويش بنظرة سريعة ألقاها عليه، فامتلأت عيناها بالدموع. ويظهر أن هذا الجندي الذي كان قبل لحظات ينصح زهرة ويقول لها: لا ينبغي للفتاة التركية أن تبكي) - لم يستطع لن يغالب دموعه فمد الكتاب إلى الأونباشي الذي بجانبه قائلاً: أقرأه على زهرة.
إن هذا الكتاب القصير المكون من عدة أسطر المبدوء بكلمة: (زهرتي) كان يبين بوضوح أي بطل شجاع كان ذلك القروي التركي، وأي قلب كبير الآمال كان يحمل بين جنبيه (زهرتي) إني في شدة الشوق إلى رؤيتك، وألمي لفراقك لا حد له ولا نهاية.
في اليوم الذي نخرج العدو من هذه التربة - تربة الوطن - سنتزوج، وسأكون يوم عقد زواجنا في حلتي العسكرية. أن عمر الجاس دره صار الآن الأونباشي عمر. وإلى الآن لم ألبس الحلة العسكرية. ذلك لأن الملابس العسكرية غير متوفرة. وأخبرنا القائد أننا جميعاً سنعطي الألبسة العسكرية في القريب العاجل.
أمس لبست حلة أحد رفاقي الجنود العسكرية، فقالوا لي: إنها منسجمة عليك جداً يا عمر. وسأرى هل تقولين أنت أيضاً مثل ذلك يا زهرة؟ ابقي سعيدة. سلامي إلى كل أهل القرية).
من ذلك اليوم لم تظهر زهرة الشقراء في القرية، لأنها لم تكن قد عادت إليها، إذ ماذا عسى أن تساوي قرية (جاس دره) بدون عمر؟!(899/53)
بعد انتهاء معركة (اينونو) بالنصر الحاسم ذهب بعض الجنود البواسل من هذا الميدان للاشتراك في معركة التحرير في (إزمير)، فتحدث بعض هؤلاء أنهم رأوا في الصفوف الأمامية في المعارك الأخيرة في ميدان (انينونو) امرأة قادمة من إحدى قرى (يوزويوك) تلبس حلة عسكرية وتقاتل قتال الأبطال المستبسلين.
فقد استولت زهرة الصغيرة على الحلة العسكرية التي لم يتمتع حبيبها عمر بفرحة ارتدائها، واشتركت في القتال انتقاماً لخطيبها، وقاتلت حتى استشهدت في ميدان الجهاد كما استشهد خطيبها وحبيبها من قبل.
(حلب)
برهان الدين الداغستاني(899/54)
(/)
منطق عجيب
(قوبل نبأ اعتزام الحكومة المصرية تزويد القرى المصرية بمياه الشرب الصالحة بارتياح كبير في لندن. وقد صرح أحد المسئولين في وزارة الخارجية البريطانية اليوم لمراسل (الأهرام) بأن السير رالف ستيفنسون السفير البريطاني في القاهرة، قد سلم إلى الحكومة المصرية مبلغ 000ر400 جنيه كدفعة أولى من المبلغ الذي قررت بريطانيا المساهمة به في مشروع مياه الشرب.
والمفهوم أن هذا المبلغ هو جزء من نصيب الحكومة البريطانية في أرباح لجنة القطن المصرية البريطانية خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الأخيرة.
والمعروف أن الحكومة البريطانية كانت قد فكرت في تقديم هذه (الهبة) إلى مصر في عام 1946، ولكنها أرجأت تقديمها لأن الحكومة المصرية في ذلك الوقت لم تكن قد وضعت بعد أسس المشروع).
هذا هو النبأ الذي حملته (الأهرام) منذ ثلاثة أيام إلى المصريين. ولو كان المصريون جميعاً يقرئون لارتسمت على الشفاء عشرون مليوناً من البسمات الساخرة. اللهم أكثر من المصريين واكثر من الذين يقرئون وافتح عيون الإنجليز لتقع على المزيد من هذه البسمات!!
ولماذا لا يبتسم المصريون في سخرية وأمامهم هذا المنطق الساخر من هيبة العقل وصولة الحق وكلمة التاريخ؟ منطق ساخر، ومن حق العقلاء أن يتلقوه ساخرين إذا كانوا منطقيين. . . يعودون بأفكارهم إلى الوراء ليطووا الزمن سبعين عاما في ضيافة الاحتلال، وليذكروا أن موائد (الكرام) في خلال هذه الضيافة الطويلة قد قدمت إليهم المرض فيما قدمت من طعام! ومع ذلك فقد قوبل نبأ تزويد القرى المصرية بمياه الشرب الصالحة بارتياح كبير في لندن. أتدري لماذا؟ لأن الإنجليز يسعدهم أن يتمتع المصريون بسلامة الأبدان وياله من منطق ذلك الذي نسي المصريون متمتعون بسلامة العقول!!
منطق يفر من وجه التاريخ، وله من القدرة على المغالطة ما يبلغ حد الصفاقة في كثير من الأحيان. . وليس أمعن في الصفاقة من أن تتحدث عن ماضيك مع خصمك بمثل هذا الأسلوب، ثم نفترض أنه قد نسي ذلك الماضي فنحاول أن نغالطه في الحاضر المشهود. وأية مغالطة في الدنيا تفوق هذا الادعاء البريطاني بأن لندن قد (تصدقت) على المصريين(900/1)
بأربعمائة ألف من الجنيهات؟!
ويسمونها هبة، أو منحة، أو صدقة، أو ما شئت من هذه الألفاظ التي يعج بها قاموس الصفاقة البريطانية. يسمونها كذلك ولنا في ذمتهم من الديون ما يربى على ثلاثمائة مليون من الجنيهات هل رأيت في حياتك مدينا يتصدق على دائنه؟ مدينا بحت حنجرة الدائن من طول مطالبته بحقه وهو يماطل، وتذكيره بوعوده وهو يخلف، وتعريضه بشرفه وهو لا يخشى على شرفه من الهوان؟! ولقد عشت حتى رأيت. . رأيت الخيال يتحول إلى واقع، والباطل ينقلب إلى حق، والظن يصبح في يد المغالطين وهو حقيقة!
أ. م(900/2)
ما رأيت وما سمعت في سورية ولبنان
للأستاذ حبيب الزحلاوي
كتب التاريخ طافحة بأخبار المستعمرين الطغاة، وأزعم أن ليس بين الحكومات المستعمرة كالحكومة الفرنسية التي حاولت بكافة وسائلها الجائرة إماتة السوريين فأحيتهم، وإحياء اللبنانيين أضلتهم.
قل من الناس من يجهل كيف فرضت فرنسا انتدابها على سورية فرضا، وكيف انتفضت عليها بجحافلها فاجتاحتها اجتياحاً، وكم عانت في إخماد الثورات الدامية التي أشعلها أبناء سورية الأشاوس، وكم تحملت البلاد من ويلات ونكبات من جراء تلك الثورات التي لم تخمد نارها إلا بعد ما انكشح آخر جندي فرنسي عن البلاد. ولكن قل من يذكر أيضاً أن فرنسا لما أيقنت أنها مجبرة على ترك البلاد الشامية نهائياً، وأن صلابة الشعب السوري واستماتته في دفع بلاء الانتداب عنه قد أصابها في صميم كبريائها الاستعماري، وان الخيرات والأسلاب وما استنزفته من دماء السوريين، لا يساوي الجزء الواحد من ألف الجزء الذي أنفقته فرنسا المسيحية خلال عشرات السنين، أقول لما أيقنت حكومة فرنسا أنها مرغمة على الخروج من سورية وأنه لم يعد لها ثمة سبيل إلا سبيل الانتقام، عندها أوعزت إلى طائراتها أن تفرغ قنابلها المحرقة، وتصب حممها المشتعلة، على قلب دمشق، فسرعان ما قامت الحرائق، وشبت النار كأنها تزغرد فرحا بارتحال الفرنسيين وما عتمت تلك الحرائق أن انطفأت بد أن التهمت حيزا واسعا من دور قائمة في قلب المدينة
بهذه الحرائق شفت فرنسا غليلها من السوريين، وبهذه الحرائق أثلجت صدرها المحترق من أموية السوريين
لم يبك السوريون ديارهم المحترقة، ولم يندبوا تراث الآباء وآثار الأجداد، بل قاموا قومة رجل واحد، قومة دمشقية مبعثها العقل والجد والحب والإخلاص، فطهروا الأرض من الأنقاض، وأسسوا الأسس القويمة لمدينة جديدة، كأن مطران رحمة الله عناها بقوله:
بنوها فأعلوها فما هي غير أن ... جرت أحرف مرسومة فوق قرطاس
بدت إرم ذات العماد كأنها ... من القاع شدتها النجوم بأمراس
في قلب المدينة الجديدة ضللت الطريق، وأي دمشقي مغترب مثلي لا يضل السبيل في(900/3)
دمشق الجديدة؟ هل أحرق الفرنسيون أحياء المدينة كلها فقام الدمشقيون قومة رجل جبار يبني ما انهدم ويشيد ما احترق؟ من حدود الميدان، مسقط رأسي إلى قمة جبل قيسون، ومن مدخل دمشق حتى الباب الشرقي فالفصاع، دارات تنشق أكمامها، ودور تناطح السحاب. كيف لا أضل الطريق وقد قامت قيامة الدماشقة على الهدم والبناء؟ طي القديم من كل شيء ونشر الجديد المعتدل من المدينة العصرية، سفور عن جمال بلا تبرج، وفتنة في دمشقيات، لا من باب البربرية ولا من باب الجابية، بل من كل حي من أحياء المدينة الحافلة بمدارس تضم الطالبات والطلاب، وبكل سوق للتجارة والحدائق والمتنزهات ودمشقة في الرجال قضت المدينة الحديثة على أكثر لحاهم وعمائمهم المطرزة
أبرز مظاهر الحياة في سورية المدارس، والعمران، والمصانع، في الجامعة السورية آلاف من الطلبة تخرج منهم في العام المنصرم (173) حقوقيا وخمسة وعشرون طبيباً واثنا عشر صيدليا وخمسة عشر مهندساً وطبيباً واحداً للأسنان وستة في العلوم واثنان وخمسون في الآداب وخمسة وعشرون من المعلمين في المعهد العالي عرفت أن سبب إقبال الطلاب على دراسة الحقوق مرده إلى أمرين اثنين، الأول أنفة الشباب من أولئك المتكالبين المتهالكين على مقاعد النيابة ومكاتب الحكومة، والثاني إقدامهم على اقتحام مضمار التجارة بسلاح من علم الاقتصاد
من برز مصانع دمشق لنسج القطن والحرير الصناعي والكتان والسكر والزيت والصابون والزجاج والأسمنت ومعامل التقطير وتوليد الكهرباء وسواها لا تبهره الأبنية الحديثة على النسق الأمريكي ولا الآلات الجديدة التي تدور بلا انقطاع ليل نهار يتناوبها ثلاثة أفواج من العمال والنظار والمهندسين، ولا العدد الوفير من الإنتاج الذي يذوب أيدي صغار التجار، بل تبهره إدارة حازمة نزيهة عادلة تتولاها شبيبة سورية تملأها العين والقلب والعقل
لازمني في طوافي مصانع الشركة الخماسية في (القابون) شاب توهمت أنه أحد المهندسين أو الكتاب الإداريين، وأخذ يحدثني حديث العارف المتمكن، قال، لم يعاوننا في تشييد هذا البناء وتركيب الآلات وإدارتها بانتظام كما ترى سوى مهندسين اثنين من الأمريكان، واحد للبناء والثاني للكهرباء، أما بقية الأيدي العاملة فكلها سورية فلسطينية، وللفلسطينيين عندنا العمل المضمون والمقام المشمول بالعطف، لأن شيطان الأطماع الاقتصادية أخرجه من(900/4)
دياره. وإن الأقطان التي ننسجها إنما هي أقطان مزروعة في أرض سورية، وان ما ينقصنا من القطن نشتريه من تركيا لقربها منا
كان يسهب في الإيضاح والتبسيط، وكنت أنتبه إلى أقواله كانتباهي إلى درس قيم يلقيه أستاذ متمكن، ولم أقف منه سوى وقفة واحدة للسؤال عن كلمة واحدة لم أدرك معناها وهي شركة (مغفلة) وهل الغين ساكنة أم مشددة؟
استعان محدثي الظريف - وقد اصبغ وجهه بالحمرة - بالموظف المنتدب من وزارة التجارة والاقتصاد لمرافقة المغترين فقال هذا (إن الشركة الخماسية هي ذات أسهم لا تطرح في البورصة بل تبقى في أيدي أصحابها فقط، والإغفال لا يعني الترك أو الإهمال ولا الغفلة أيضا، وأن مجمعنا العلمي هو الذي أوجد هذه الكلمة للتمييز بين الشركة المساهمة الموزعة أسهمها بين أيدي الناس وبين الشركة المساهمة التي لا يجوز أن تنقل أسهمها إلى غير أيدي مؤسسي الشركة) قلت أي كلمة تقابلها بالافرنسية قال (أنونيم) قلت لا مساهمة) إذن
لم يكن محدثي الشاب اللبق المهذب وقد لازمني حوالي ساعتين، أقول لم يكن مهندسا ولا كاتبا من كتاب الشركة بل كان واحدا من الخمسة رحال المالكين لهذه الشركة ورأسمالها عشرة ملايين من الليرات
لم أستشهد بهذه الزيارة لهذه المؤسسة الوطنية بالذات، ولا بالحديث الممتع الذي سمعته من أحد أصحابها إلا للتدليل على روح النهضة الاقتصادية، وعلى الروح لمعنوية التي تسود شباب البلاد. يضاف إلى ذلك روح التحدي التي ستقنع الطامعين وتقنعهم بأن الأمة السورية قادرة على مجاراة الغرب في نهضته الاقتصادية والثقافية، وأنها ستجاريه أيضاً في نهضته العلمية، وأن السوري سيبز الفرنسوي ولا يستكين مثله إذا أنكبته النكبات. ولا يفوتني أن أقول أن المدارس الفرنسوية، والإرساليات الدينية والعلمانية تقوم بدعوتها الثقافية خير قيام، وان رجالها يعلمون جيداً أن في النشء السوري مناعة تقيهم سموم الغربيين وقد اكتووا بنارهم ووعوا الغاية من مدارسهم وإرساليتهم
أود الآن إلى الكلام الذي افتتحت به مقالي وهو كيف حاولت فرنسا إماتة السوريين فأحيتهم، وإحياء اللبنانيين فأضلتهم وموعدنا العدد المقبل(900/5)
حبيب الزحلاوي(900/6)
الأمثال العامية في الحياة السودانية
للأستاذ علي الماري
لست أعرف في الفنون الكلامية فناً أدل على حياة الأمة وأصدق تعبيراً عن خوالجها وميولها من الأمثال العامية، فقد يصدق الشعر عن حياة الأمة وقد يكذب، وقد تصطبغ الرسالة والمقالة بطابع الأمة، وقد تقعان بعيداً عن هذا الطابع، أما المثل فمن الأمة وإلى الأمة، لا يعبر إلا عن آلامها وأفرحها، ولا يصور إلا نوع حياتها التي تحياها، بل هو كثيراً ما يصور دقائق هذه الحياة، ويصل إلى أبعد أعماقها. وإذا كان الشعر يدور حوله في حدود ضيقة، ويقتصر على طبقة خاصة من الشعب، فإن المثل هو العملة الكلامية الوحيدة التي يتعامل بها جميع الأفراد، فالمثل الذي يستشهد به الأستاذ في درسه، أو القاضي في محكمته، أو الحاكم في إدارته، هو المثل نفسه، بلفظه ومعناه، الذي يلقيه الفلاح في غيطه، والصانع في مصنعه، والراعي خلف إبله أو غنمه، والمثل في كل ذلك لا يفقد شيئاً من قوته ودلالته. فهو يهدي إلى الطريق، ويحمس الجبان، ويدفع البخيل إلى الجود، ويبلغ في أثره ما لا تبلغه القصيدة من الشعر. والأمثال إنما تنشأ من التجارب، وربما عبرت عن الحقائق الإنسانية الكبرى، وهذه الحقائق من القدر المشترك بين كثير من الأمم، لذلك نجد أمثالا شائعة معروفة في أمم مختلفة، تتشابه في المعنى، وفي الغرض، وتختلف في طريقة الأداء، فيبدو في أدائها مزاج الأمة فالأمم وطبيعة حياتها، الزراعية مثلا يتكون كثير من أمثالها من كلمات زراعية. . وهكذا.
وقد تتقارب حياة أمتين أو اكثر تقاربا كبيراً وتشتبه في كثير من الأمور، فنجد أمثالاً غير قليلة متشابهة عندهما، وربما اختلفت هذه الأمثال أيضاً في طريق أدائها، ولكن اختلافها حينئذ يكون أقل، وبعض الأمثال خاص ببعض الأمم لا تجده في غيرها، نتيجة لظروف حياتها الخاصة.
والباحث في أمثال أمة من الأمم ليستدل منها على حياة الأمة، وفلسفتها الخاصة، يحتاج إلى جهد كبير حتى يكون بحثه وافياً شاملاً؛ فهو في حاجة إلى أن يستقصي الأمثال، ويجمعها كلها، ثم ينظر فيها على ضوء ما يعرفه من المظاهر المختلفة في حياة الأمة، من أخلاق وعادات وتقاليد، ويرجع كل مثل إلى جدوله الذي انفصل منه، وسوف يجد في النهاية -(900/7)
إذا كان دقيق الموازنة والاستقصاء قوي الملاحظة - أن الأمثال صورة صحيحة لكل ما يجري في عروق الأمة من عواطف وميول، وما يحيط بحياتها من مد الأيام وجزرها ولكن ليس ذلك في استطاعة باحث عابر، يكتفي بالإشارة، ويقتصر على النموذج والمثل.
ولا شك أننا نستطيع أن نستخرج كل مظاهر الحياة السودانية من الأمثال العامية. ولنعط القارئ على ذلك أمثلة قليلة لهذا النهج من البحث، فالمثل السوداني الشائع (ود العرب دولته يوم عرسه ويوم طهوره) يعطينا فكرة صحيحة عن العادات السودانية في الأفراح من إقامة الاحتفالات أياماً عديدة، يكون فيها العريس موضع الجلة والاحترام من الجميع رجال ونساء، ويكون مخدوما مطاع الكلمة حتى أنه يتخذ لنفسه وزيراً يكون له عوناً في جميع أموره، ويستشيره في الصغيرة والكبيرة منها، ويكون للعريس دالة على أقربائه وأصدقائه لا يحلم بها بعد اليوم من حياته، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله عبد الرحمن مهنئاً أخاه أحمد وذاكرا هذه العادة:
هات اسقني حلب العصير ... حمراء كالخد النضير
وادع الخلاعة والصبا ... واهتف بحي على السرور
وأقم لأحمد من بي ... وت الشعر أمثال القصور
كاد العريس يكون مل_كا في مواتاة الأمور
أو ما تراه ملقيا ... بهمة نحو الوزير
فكأنه في وقته ... رب الخورنق والسدير
ومع دلالة هذا المثل على هذه العادة فإنه يحمل كثيراً من الحسرة الكمينة في نفوس القوم، ويدل على ما يكابدونه من مضض تأسفا على المجد الضائع، والدولة الزائلة. وهل أدل على الحسرة والألم من أن (ود العرب) لا دولة له، ولا صولة إلا في هاتين المناسبتين، يوم عرسه، ويوم طهوره.
والرقيق كان منتشراً في السودان، تعرف ذلك من أمثالهم الكثيرة فيه، وتجارته في بعض الأحايين كانت غير رابحة، والمثل يقول: تاجران لا يربحان، تاجر الهف، وتاجر الكف، والهف الحبوب، والكف يريدون بها الرقيق، وثمن الرقيق - في بعض الأوقات - كان زهيداً جداً، بدليل المثل: (فكة ريق، أخير رأس رقيق) وفكة الريق، الطعام القليل الذي(900/8)
يتناوله الإنسان في الفطور.
وتأخذ أمثالهم في الصديق، فنؤلف منها قواعد وأصولا وأسساً تقوم عليها الصداقة الحقة، ولهم عناية بهذه الناحية لأن الصداقة من الأمور اللازمة لحياتهم، فأهل السودان أكثر الشعوب مجاملة - فيما أعرف - وقياماً بالواجب، وهم لا يفرطون في شيء من ذلك في الأفراح أو في غيرها. والكرم فيهم طبيعة غالية، والضيافة من الأمور العادية، ومن شأن كل هذه الأشياء أن تقرب بين القلوب، وأن تنشئ صداقات كثيرة، لذلك نجد لهم أمثالا كثيرة في هذه الناحية، وبالنظر فيها نجدها مصورة لكل ما يحيط بهذا المعنى الكريم (فالرفيق قبل الطريق). (وماية صاحب ولا عدو واحد). و (أيد على أيد تجدع بعيد) ومعنى تجدع تقذف، و (العود الواحد ما بيوقد نار) كل هذه الأمثال ترغب في اتخاذ الصديق، وتحبب في الإكثار منه، ولكن هل يصادق الرجل كل الناس؟ لا. (فالخلا ولا الرفيق الغسل) فليتحمل المرء وحشة الخلاء، وما فيه من متاعب، فإنه خير له من أن يزامل رجلاً بخيلاً لا مروءة له، ولا رجولة فيه، ولا معاونة ترجى منه (وخصام الرجل الدكر، ولا صحبة الرجل الأصنينة) والأصنينة: الجبان، وصحبته عار، ولكن خصومة الرجال الأحرار شرف وأي شرف. فإذا اختار الإنسان صديقه، ووفق في اختياره، فليحمله كنفسه، والمثل السوداني يقول: (ربك وصاحبك ما عليهم مدسة) وليحافظ على صداقته ما استطاع، ولا يطمع في شيء من ماله أو نفسه (فالطمع على االرفيق أخير منه القماح) وليهن إذا اشتد (فالحبل بين فاضلين ما ينقطع) وعلى الإنسان أن يعرف أن الصداقة تحتاج إلى كثير من المصابرة، وأن الأصدقاء ليسوا ملائكة، وأنه يجب ألا يحاسب أصدقاءه على الصغيرة والكبيرة، فإنه حينئذ لا يجد صديقا، وهذا معنى المثل السوداني (اللي ما يبلع ريق على ريق ما يلقى رفيق) وفي معنى هذا المثل طال كلام العرب شعرهم ونثرهم:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه
ولعل من أبدع ذلك ما بعث به أحد الكتاب إلى صاحبه منذ ألف سنة يقول: (فأما الإنصاف في الصداقة فهو ضالتي عند الأصدقاء ولا أقول:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق وبصفو أن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والأخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني(900/9)
أقول: وإني لمشتاق إلى ظل:
رجل يوازنك المودة جاهدا ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى مثقال حبة خردل ... مالت مودته مع الرجحان
وقد كنا نقترح الفضل، فأصبحنا نقترح العدل؛ وإلى الله المشتكى لا منه).
هذا، وإنا لنجد في الأمثال السودانية ظاهرة بيانية طيبة هي ميلها إلى التشبيه في بعض الأحايين، فمن أمثالهم (الإبرة ما بتشيل خيطين، والقلب ما يسع اثنين) فالمقصود من المثل هو الجزء الثاني، ولكن جاءوا بالأول ليدلوا به على صدق الثاني، وأنه من غير الممكن أن يسع القلب أثنين، وأنه من غير الممكن الذي يشاهده كل إنسان أن الإبرة لا تسع خيطين. ومن أمثالهم (رفيق اثنين كداب، وراكب سرجين وقاع، وماسك دربين ضهاب) فالمقصود تصوير حال المنافق الذي يجمع في الصداقة بين اثنين مختلفين، متماديين، ويزعم لكل منهما أنه صاحبه، والأثير عنده، فهذا كذاب، وهو شبيه بمن يركب سرجين، أو من يسير في دربين، فهذا كثير الضلال، وذاك كثير الوقوع، ومنها (صاحبك أن أباك قلل عليه الحوم، وباطنك أن وجع كثر عليه الصوم) لا شك أنهم يقصدون إلى أن ينصحوا في شأن الصاحب، حين تظهر منه الكراهية والتجنب، وأن خير علاج لهذه الحالة أن يقلل الإنسان من الاتصال به، فإن ذلك أدعى إلى أن تعود بينهما الألفة، وهم يذكرون تشبيهاً صحيحاً حسناً لهذه الحالة، فالمعدة إذا فسدت لا يصلحها إلا الإقلال من الطعام، وهو تشبيه متطبق غاية الانطباق، كما يلاحظ أن التشبيهات كلها إنما هي تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسة، وذلك من أفضل ألوان التشبيه وأوفاها بالغرض. على أنهم في هذه الحالة قد يدقون ويبلغون غاية الأمد، حتى ليجعلون المعنى بارزاً واضحا، حين يقرنونه بالمشبه به، فقد نقول الفاجرة لا تتوب، ولكن كلامك يكون في موضع الشك والتردد، فإذا قلت كما قالوا (الماء ما بتروب، والفاجر ما بتوب) بلغت بالمعنى غاية الاستحالة، فلم ير إنسان الماء وقد راب، ولا يطمع أن يراه كذلك، وهذا شيء مستقر في العقول والقلوب، فليستقر فيها كذلك أن من المستحيل أن تتوب الفاجرة.
وفي الأمثال الوطنية فلسفة عميقة في بعض الأحايين، تحتاج إلى تأمل، وتستدعي الإعجاب، فمن أمثالهم (العترة تسمح المشي) يضرب للرجل يستفيد الصواب من خطئه،(900/10)
لأن السائر حين يعثر يتنبه لنفسه، ويسير سيراً صحيحاً، و (الفاس ما بتقطع عودها) و (الحتة العفنة تعفن اللحم كله) و (اللي وراه المشي أخير له الجري) و (يا حافر حفرة السوء وسع مراقدها) و (الجمل ما بيشوف عوجة رقبته) وهي أمثال ظاهرة المعنى وفيها عمق كثير.
وبعد فهذه لمحة صغيرة في الأمثال العامية السودانية، على قدر ما يسمح به مقال في مجلة، وإني استحضر لهذه المناسبة المثل السوداني (على قدر غطاك مد كرعيك).
علي العماري
المعهد العلمي - أمدرمان(900/11)
من الحوادث الأدبية
فطلقها فلست لها بكفء
للأستاذ محمد سيد كيلاني
كان الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد صديقاً حميماً للسيد عبد الخالق السادات. وكان للسيد عبد الخالق فتاة جميلة تسمى صفية، فاغرم بها الشيخ علي وأغرمت به وأحب كل منهما صاحبه حباً ملك عليه فؤاده. وقد أعربت صفية عن حبها للشيخ علي في كتاب بعثت به إلى القضاة الشرعيين ونشر في الصحف. ومما جاء فيه قولها (وأعلم يا مولاي أنني راضية بزوجي راغبة فيه لا أختار سواه بديلا مهما كان الأمر).
وقد طلب الشيخ على من والد الفتاة أن يزوجه منها فأخذ يسوف في الأمر حتى إذا ضاق العاشقان ذرعا بهذا التسويف قررا أن يعقد قرانهما دون انتظار لموافقة والد الفتاة. وتم لهما ذلك في مساء الخميس 14 يوليه سنة 1904 إذ هربت الفتاة من منزل والدها وذهبت إلى منزل السيد عبد الحميد البكري وتبعها هناك الشيخ علي يوسف وعقد القران وظهر نبأ ذلك في الصحف.
وما كاد السيد عبد الخالق يطلع على ما نشر خاصا بهذا الزواج حتى ثارت ثائرته وأسرع برفع دعوى أمام المحكمة الشرعية طالباً فسخ الزواج بحجة أن صاحب (المؤبد) غير كفء ليتزوج من بنته وهي هاشمية قرشية. وانتهز أعداء الشيخ علي ومنهم المويلحي هذه الفرصة الثمينة وانتقموا لأنفسهم منه انتقاماً شديداً فأخذوا يشنعون عليه في المجالس والأندية ويكتبون المقالات الطوال في تجريحه والطعن في نسبه وحسبه وأخلاقه واتهموه بخطف فتاة شريفة وخداعها والتغرير بها مما لا يتفق مع الأخلاق والدين والذمة والضمير. وذكروا أنه كان مسيحياً واسلم فهو بهذا غير كفء في نسبه. قال أحد شعراء ذلك العصر
لبعض المسيحيين جئت مسلماً ... وقلت له قد أصبح الشيخ مجرما
وجر عليكم سبة وفضيحة ... بفعلته الشنعا فأضحى مذمما
لأن لسان الدفع أثبت أنه ... ليسى وعبد النور صح له أنتما
فقال المسيحي لم يشنا فإننا ... بريئون منه منذ أن صار مسلما
فهلا رأيتم يا بني مصر حادثا ... كهذا الذي قد أغضب الأرض والسما(900/12)
ولا شك في أن تصوير نسب الشيخ علي يوسف في هذه الصورة أمر لا يتفق مع الحقيقة بل دعا إليه ما تمكن في قلوب أعدائه من غل وحقد. فالشاعر يقول أن التحقيق التاريخي أثبت أن نسب الشيخ علي يرجع إلى أسل مسيحي أجداده يسى وبطرس وعبد النور. ويدعي أنه ذهب إلى بعض المسيحيين وشكا إليه من سوء ما فعل الشيخ علي الذي صحت نسبته إليهم. فأجبت بأن المسيحيين منه براء مذ صار مسلما. ثم ينتهي من ذلك إلى نتيجة وهي أن الشيخ عليا بفعلته الشنعاء قد أغضب من في السماوات ومن في الأرض.
وقد شغل الرأي العام في مصر بهذا الموضوع مدة من الزمن وأصبح حديث الخاصة والعامة. ونظرت المحكمة الشرعية المنعقدة برياسة الشيخ أحمد أبي خطوة هذه القضية واكتضت قاعة الجلسة بالمشاهدين وبينهم جم غفير من علية القوم وأكابرهم.
المصريون أعاجم
ووقف محامي السادات يطعن في نسب الشيخ علي فقال إنه عجمي لا يعرف له أب. ثم قال أن عامة أهل القرى والأمصال في هذه الديار أعاجم إلا من له نسب كالسادة الوفائية. ثم قال أن الشيخ عليا من قرية صغيرة في الصعيد تسمى بلصفورة أهلها كلهم أعاجم فكيف انفرد الشيخ علي بينهم بالنسب. ثم التفت المحامي إلى جمهور الحاضرين وسألهم عن نسب موكله وعدم كفاءة الشيخ على الزواج ببنت السادات فصاحوا كلهم في الجلسة نعترف بشرف السادات وتنكر نسب الشيخ علي، ولم يشذ عن الجمهور سوى محمد أمام العبد الذي كان يحرر في المؤيد، فالتفت إليه أحد الحاضرين وقال: شهادة العبد تحتاج إلى إبراز ورقة العتق.
الصحافة حرفة دنيئة
ولما فرغ المحامي من الطعن في نسب الشيخ علي انتقل إلى الطعن في حرفته فكان مما قاله:
(. . . ولنتكلم عن الحرفة فنقول أن حرفة الجرائد المحترف بها حضرة الشيخ علي هي حرفة دنيئة في الأصل؛ والدليل على ذلك أننا رأينا عوام الناس ممن لا حرفة لهم يتخذونها حرفة للتعيش بخلاف بقية الحرف الدنيئة فإننا لم نر من مارسها بغير بضاعة لها. وكيف(900/13)
لا تكون أدنى الحرف وهي ليست إلا عبارة عن الجاسوسية العامة وهي المعدة للإشاعة وكشف الأسرار والله تعالى قول (ولا تجسسوا)
جهل الشيخ علي
ثوم انتق إلى الكلام على جهل الشيخ علي يوسف فقال:
(. . . وماذا نقول في رجل يتعرض لتحرير الجرائد وهو لا يعرف مواقع القارات، فقد جاء في جريدته يوما قوله
(إن الله شرف القارة الأفريقية بالبيت الحرام مع أن البيت الحرام في آسيا كما يعلمه أطفال المكاتب ومنه قوله في عدد آخر القلعة المعزية بنسبها إلى المعز لدين الله، والحقيقة أنها القلعة الناصرية منسوبة لبانيها صلاح الدين بن يوسف بن أيوب. ومنها قوله في عدد آخر (هارون الرشيد وجعفر المنصوري) مع أن الصواب هارون الرشيد وجعفر المنصور. فإن قيل إنه أخطأ في الرشيد قبله في العوام كثير فقياسه المنصور عليه أشد خطأ وقبحاً لأنه اجتهاد في غير محله. ومنه قوله رأوا بيت أبي نؤاس:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام
انه في مدح النبي عليه السلام وإنما مدح به أبو نؤاس محمد الأمين في القرن الثاني من الهجرة، إلى غير ذلك مما يضيق به المقام.)
وكان محمد بك أبو شادي صاحب جريدة (الظاهر) خصما لدودا للشيخ علي يوسف ففتح للشعراء بابا على صفحات جريدته سماء (عام الكفء)، وفي ذلك يقول أحد الشعراء
قد كان عام الكف فصلا جامعا ... من أفكه الأقوال للشعراء
واليوم عام الكفء يأخذ دوره ويكون ميدانا إلى الآباء
هل بعد هذا للمؤيد عبرة ... إن كان معدودا من العقلاء
هذا قصاص في الحياة يناله ... من كان معتديا على الشرفاء
ومن عجائب المصادفات أن لفظي (كف) و (كفء) لا يختلفان كثيراً في الرسم وقد عرض الشاعر في هذه الأبيات للنوادر والملح والفكاهات التي وقعت في هذين العاملين والتي جادت بها خواطر الشعراء والكتاب. ثم ذكر في كثير من الشماتة أن جريدة المؤيد قد عوقبت في هذه الحملات التي شنها عليه خصومه وذلك لما اقترفه من التشهير فيما سماه(900/14)
(عام الكف)
وقد حكمت المحكمة الشرعية بعدم كفاءة الشيخ علي في هذا الزواج فأبطلته وقضت بفسخ العقد. وفي هذا الموضوع يقول حافظ إبراهيم:
وقالوا المؤيد في غمرة ... رماه بها الطمع الأشعبي
دعاه الغرام بسن الكهول ... فجن جنونا ببنت النبي
فضج لها العرش والحاملوه ... وضج لها القبر في بئر
ونادى رجال بإسقاطه ... وقالوا تلون في المشرب
وعدوا عليه من السيئا ... ت ألوفا تدور مع الأحقب
وقالوا لصيق ببيت الرسو ... ل أغار على النسب الأنجب
وزكى أبو حطوة قولهم ... بحكم أحد من المضرب
وهذه الأبيات جاءت ضمن قصيدة مطلعها:
حطمت اليراع فلا تعجبي ... وعفت البيان فلا تعتبي
وفيها يعبر حافظ عن شعور شديد بالألم والحزن على ما وصلت إليه أحوال البلاد. فحينما كان الأجانب يزدادون توغلا في مرافق الأمة الاقتصادية وكانت يد الاحتلال تقبض بشدة على رقاب المصريين كان الرأي العام مشغولا بهذه الصغائر، وذلك بفضل الصحف التي تركت معالجة الشؤون الحيوية وانهمكت في مسائل شخصية تافهة وحشت أعمدتها بألفاظ الشتائم والسباب.
وفي الأبيات المتقدمة يحكي لنا حافظ ما يقوله أعداء الشيخ علي يوسف في موضوع الزواج. فهو في نظرهم قد سقط سقطة شنيعة وأتى أمرا لا يتفق مع سنه وهو كهل ولامع عمله وهو صحفي مهمته الوعظ والإرشاد وتقويم المعوج وإصلاح الفاسد. وهذا العمل الشنيع في نظرهم قد ضج له العرش والملائكة والضريح النبوي. ومنهم من نادى بإسقاطه لأنه لم يكن وطنيا صادقا بل كان يلبس لكل حال لبوسها. فإن صفا الجو بين الخديو والإنجليز انضم إلى جانب المحتلين وطفق يمتدح سياستهم ويتغني بها؛ وإن حدث غير ذلك تغير تباعا للظروف. وهو في نظرهم يدعى لنفسه نسبا يلصقه ببيت النبوة. وقد اختلق هذا النسب اختلاقا وظل يخدع الناس ويوهمهم أنه من آل البيت حتى جاء أبو خطوة(900/15)
ففصل في الموضوع وأظهر بطلان ما يدعيه الشيخ علي.
وهذا كله وليد الحقد والضغينة التي طفحت بها قلوب خصوم الشيخ علي، فصوروه في صورة رجل خارج على القانون الوضعي والسماوي، خارج العرف والتقاليد! خارج على أبسط قواعد المروءة، خارج على الأخلاق التي تواضع الناس عليها. كما صوروه في صورة مجرم خطف فتاة عذراء من بيتها وغرر بها وخدعها وهو بهذا العمل قد أنكر تعاليم الشريعة الإسلامية وأغضب الله وأغضب رسوله باعتدائه على فتاة من آل بيته على هذا الوجه القبيح قال محمد أبو شادي من قصيدة رفعها إلى الشيخ أبي خطوة قبل أن يفصل في القضية
الله ينظر والإسلام ينتظر ... والحق يجأر والبهتان يأتمر
وفي ذمامك شرع الله فارع له ... عهد الوفاء وأنت الحافظ الحذر
وفي يديك لآل المصطفى شرف ... وعرض طهر فلا يلحقهما الكدر
ومنها.
جناية ثلمت عرض النبي وهل ... جناية مثلها يا عدل تغتفر
جناية ضجت الأملاك ذاهلة ... منها وأرجت الأفلاك والعصر
فأنت ترى كيف لجأ الشاعر إلى إثارة العواطف الدينية، فالله ينظر، والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها يترقب الحكم، والحق يستصرخ ويستنجد، والباطل يجد في الدس والكيد حتى ينتصر على الحق. وهذا الزواج جناية ليس بعدها جناية لأنها خدشت عرض الرسول وتحدث عنها من في السماوات ومن في الأرض وهكذا جد الشاعر في الضرب على وتر حساس وصور الشيخ عليا خارجا على الإسلام محطما لأحكام الكتاب والسنة؛ ثم دعا إلى نصرة الإسلام بإبطال هذا الزواج لأن في ذلك ما يرضي الله ورسوله بعد أن أغضبها الشيخ علي إغضابا شديدا. ولا شك في أن الضرب على هذا الوتر وإشعال العواطف الدينية على النحو المتقدم قد لعب دورا هاما في القضية فجاءت النتيجة كما يحب خصوم الشيخ علي وإبطال الزواج
ولم يترك خصومه بابا يصلح للهجوم عليه إلا ولجوه. فتناولوا ماضيه يوم أن كان فقيرا معدما لا يجد ما يمسك به رمقه ولا ما يستر به عورته. وشنعوا عليه في ذلك تشنيعا كبيرا.(900/16)
انظر إلى أحدهم حين يقول:
قل المؤيد ما دهاك ... يدك التي صفعت قفاك
فلم التغطرس والغرو ... ر ألست تذكر مبتداك
أيام كنت ولست تم ... لك كسرة لتسد فاك
تلج الثياب وكلها ... فرج يضيق لها سواك
فمن اليمين إلى اليسا ... ر إلى الأمام إلى وراك
تبلى الرياح خيوطها ... ويزيد في البلوى حذاك
تمشي الصباح إلى المسا ... ء عسى أخو بر يراك
تغشى المنازل طالبا ... رزقا لشعر لا بلاك
فانظر إلى الصورة التي في هذه الأبيات. هي من غير شك صورة مؤلمة إلى حد بعيد. فأنت ترى رجلا بائسا في حاجة إلى قطعة من الخبز وقد لبس ثيابا بالية ممزقة من اليمين واليسار ومن الوراء والأمام يقطع الشوارع والطرقات وبيده قصيدة من الشعر في مدح وجيه من الوجهاء. ثم يذهب إلى دار هذا الوجيه ويمكث أمام بابه ساعات في انتظار ما يجود به عليه من دراهم. وهكذا كان الشيخ علي يوسف كما صوره هذا الشاعر ويغلب على ظني أنه المويلحي. ففي هذه الأبيات تلمس بوضوح روح التشفي والانتقام مما أتاه الشيخ علي في (عام الكف) فعبارة (يدك التي صفعت قفاك) تكشف عن الحالة النفسية لشاعر بلغت منه الشماتة مبلغا عظيما وتهيأت أمامه الفرصة فأنتهزها وأشبع رغبته في الطعن والتجريح وانهال على خصمه في غير شفقة ولا رحمة فأتى بهذه الصورة المزرية المؤثرة واظهر الملأ حقيقة هذا الدعي المغرور الذي يحاول أن يسدل الستار على ماضيه والذي توهم أن ماضيه قد أصبح مجهولا فراح يدعي لنفسه ما شاء وهو آمن مطمئن.
ولما صدر الحكم بإبطال الزواج تهللت وجوه أعدائه فرحا وسرورا وأكثروا من الضحك منه في المجالس والنوادي وأظهروا الشماتة واتخذوه سخرية وموضعا للدعايات والفكاهات. قال أحد الشعراء هاجيا ومؤرخا
قل المؤيد رزأ ... ت من الزمان أشد رزء
منعوا صفية بعدما ... كانت لدائك خير برء(900/17)
وزعمت أنك في الكفا ... ءة مثلها جزاءا بجزء
لكن شريعة أحمد=قد أرخت هو غير كفء (1322)
وقال آخر
عوضك الله وء ... زى القوم في عاقبتك
بينا تسوق الشعر وال ... بهتان من ناحيتك
تغرى لعام الكف لا ... ترنو إلى داهيتك
إذ دار ذاك الكف مو ... زونا على قافيتك
وقال آخر
حكم أذاقك مره ... عدلا وعلقمه صفاك
فغدوت منبوذا تفو ... ح بنتن فحش جانباك
أخجلت شارات الفضي ... لة والوسام ومن كساك
بؤ حاملا غضب الذي ... قدر السقوط لأخرياك
سبحان من قسم الخطو ... ظفلا ابتداك ولا انتهاك
وهكذا صب الشعراء القول على رأس الشيخ علي في غير هوادة وقد بات في حالة يرثي لها أخذ يتوارى خجلا من الناس ووقف قلمه وانعقد لسانه واضطرب أمره وحاول أن يستغل نفوذه لدى الحكومة لتغيير مجرى الحوادث فلم يفلح، فسكنت على مضض وأسلم نفسه للحزن وهو كظيم بينما كان خصومه يروحون ويجيئون وكلهم فرح مسرور بما وقع للشيخ من الإهانة والتحقير وفي هذه المقطوعات المتقدمة ترى الشعراء يزيدون من ألم الشيخ وحزنه ففيها تعزية عل ما أصابه من التفريق بينه وبين صفية التي ادعى أنه كفء لها حتى جاء حكم الشريعة فأثبت ضد ما أدعى؛ وفيها توبيخ وتعنيف، وفيها سخرية وتهكم، وفيها سرور وشماتة، وفيها تذكير بما فرط منه في حق المويلحي، وان الكف الذي هلل له وطرب قد دار عليه ووقع على قفاه في غلظة وخشونة.
ولما استأنف الشيخ على الحكم شرع خصومة ينعون عليه عدم خضوعه وإذعانه لحكم الشرع الشريف ويصورونه في صورة السادر في الضلال المتمادي في الباطل الذي يريد أن ينهك حرمة بيت الرسول غير مكتف مما فرط منه من الإثم. وفي ذلك يقول أحد(900/18)
الشعراء
كيف التبجح يا ابن يسى ... حكم الشريعة ليس ينسى
أتريد باستئنافه ... تبنى له بالنقض ما
وتكون منغمساً بآ ... ثام الهوى وتطيب نفسا
كذبت ظنونك ليس يح ... صل ذا ولو باريت قسا
فالحكم في إحكامه ... كالراسيات ثبتن أسا
لا يستخف به سوى ... من في دجى الغفلات أمسى
فدع الأماني الباطلا ... ت ينقضه معنى وحسا
فالشرع يأبى أن يرى ... في عالم الإسلام رجسا
وهكذا تساقطت اللطمات على وجه الشيخ على كل يوم من خصومه. فبر عليها صبر الضعيف الذي لا حول له ولا قوة ولم يترك أعداؤه فرصة تمر دون أن يتخذوا منها وسيلة لتشديد الحملة على عدوهم اللدود، فما فكر في استئناف الحكم حتى وجد خمسون بابا يدخلون عليه منه فرموه بالعصيان لأحكام الشرع ومحاولة تحطيم الشريعة واتهموه بالكفر والمروق والخروج على الدين الحنيف. وكان هذا يحز في نفس الشيخ علي حزا عنيفا ويؤلمه ألما شديدا. وكيف لا يتألم ولا يتضجر وهؤلاء خصومه يتهمونه في دينه ويشنعون عليه في معتقده ويخاطبونه بولهم يا ابن يسى وبطرس وعبد النور؟ وها هي المحكمة الشرعية قد أبطلت نسبه الذي ادعاه لنفسه وحكمت بعدم كفاءته لمصاهرة السادات.
لقد عجز الشيخ علي عن إقناع الدفاع عن نفسه عجزا تاما ولم يستطع أحد من أصدقائه أن يرد عنه ذلك الهجوم العنيف الذي قام به خصومه ضده وبقى على تلك الحالة المؤلمة حتى أنقذه السلطان عبد الحميد فأنعم عليه في أول سبتمبر 1904 بنوطي الامتياز الذهبي والفضي وكانا من أرفع أنواط الدولة العليا وإلى هذا يشير حافظ بقوله:
وما للخليفة أسدى إليه ... وساما يليق بصدر الأدب
وحينئذ استطاع صاحب المؤيد أن يفرج عن نفسه قليلا وأن ينهض واقفا أمام أعدائه. وتوالت عليه برقيات التهنئة من الكبراء والعظماء في القاهرة والأقاليم وأخذ ينشر هذه البرقيات لعله بذلك يخرس خصومه ويقطع ألسنتهم، وطفقت الوفود تحج إلى داره مهنئة(900/19)
بهذا الأنعام السامي الذي يعرب عن رضاء أمير المؤمنين عن الشيخ علي. وفي ذلك يقول حافظ:
فما للتهاني غلي داره ... تساقط كالمطر الصيب
وما للوفود على بابه ... تزف البشائر في موكب
وحافظ هنا ساخط متبرم مما يرى. فبينما الناس يتهمون الشيخ عليا في أخلاقه ودينه إذا بهم يسرعون إلى داره لتهنئته بما ظفر به من الإنعام السامي. ثم يوجه حافظ الخطاب للمصريين فيقول:
فيا أمة ضاق وصفها ... جنان المفوه والأخطب
تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويصلي البريء مع المذنب
والذي لا شك فيه أن حافظ لم يوفق هنا إلى محجة الصواب فالذين هنئوا الشيخ عليا غير الذين شنوا عليه هذا الهجوم العنيف، والذين أسرعوا إلى داره غير الذين أجروا أقلامهم طعنا فيه وتجريحا. ولكن حافظا وكان ساخطا ناقما تجاهل هذه الحقيقة، ووجه نقده المر إلى الأمة المصرية بأجمعها كأن المصرين في نظره اشتركوا كلهم بغير استثناف في الحملة على الشيخ علي أو كأنهم ذهبوا كلهم بغير استئناف إلى دار الشيخ لتهنئته!
وقد اتخذ أصدقاء الشيخ علي هذا الإنعام وسيلة لمدحه وتقريظه والتعريض بخصومه والتنديد بهم. فهذا شاعر يقول:
لا والذي أعلى ذراك ... وأحاط بالحسنى حماك
وأجل قدرك في الأنا ... م وحل عقدة من شناك
ان يبلغ الحساد ما من ... أجله نصبوا الشراك
وتحفروا وتوثبوا ... وتأبطوا شر العراك
واستنفدوا جعب السبا ... ب وبالغوا في الانهماك
إن المدى مهما غلوا ... أو أغرقوا في الاحتكاك
إن يلحقوا في سعيهم ... إلا غبارا من مداك
وهكذا حاول صاحب المؤيد أن يعالج حالته النفسية السيئة وأن ينفض عن نفسه ما سقط عليه من غبار كثيف بسبب هذا الحادث المشئوم، حادث الزوجية، وأخذ نجمه يعلو ومكانته(900/20)
تسمو عند الخديوي عباس حتى أسندت إليه في سنة 1912 مشيخة السجادة الوفائية.
محمد سيد كيلاني(900/21)
أستاذ الدعاة وزعيم المصلحين
شيخ الإسلام ابن تيمية
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
. . . قدره في السماك عند قوم، وفي الحضيض عند آخرين. كثر محبوه ومبغضوه!. . . ففي كل صقع معجب به، وحانق عليه؛ وفي كل بلدة رافع له إلى رتبة الصحابة الأخيار، ونازل به إلى أحط دركات الكفار
رمي في قاع السجن عسى أن يرجع عن رأيه، فما خضع ولا هان؛ وأوذي أشد الأذى فما ازداد إلا استمساكا بدعوته؛ وحورب بكل القوى فما ارتد عن عقيدته - خاف الله حتى ما عاد يرهب أحدا؛ فما بالي بجبار. . . وإن كان جبار المغول؛ وما ريع بظالم. . . وإن خضبت يده بالدماء
بلغ في العلم الذرى، حتى سبق شيوخه. . . وهم شيوخ فقه الكتاب والسنة حتى ما عاد يرى إماما يقلده في فقههما؛ فوضع نفسه - بحق - موضع الأئمة الأربعة؛ فكان له مذهب أخذ به فيما بعد. صفى العقيدة والشريعة من كل دخيل، ورجع بها إلى صفائها الأول. . ونقائها الأوحد.
جاهد الجهادين - وأبلى خير بلاء - جهاد العلماء الذين علوا بقومهم؛ وجهاد الفرسان الذين احتربوا بين طعن القنا وخفق البنود. وحارب كأصغر جندي، وقاد أكبر القواد.
. . . هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذه صورته؛ وصورة الناس إزاءه.
ولد - تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد ابن تيمية الحراني - يوم الاثنين 10 ربيع الأول عام 661 هجرية (22 يناير عام 1263 ميلادية) في حران قرب دمشق.
وما عتم أن هجر أهله حران إلى دمشق (وهو في السابعة من عمره، هربا من جور التتار؛ وكانوا آنئذ بالشام يغيرون على المسلمين).
وقد كان أبوه عالما حنبلي المذهب؛ فبدأ بتلقين ابنه - في دمشق - ع لوم الدين فاستشعر الصغير لذة العلم، فاختلف إلى مجالس العلماء - وكانت عامرة بروادها - في دمشق بلقف من أفواه ربابنتها؛ وتعدد شيوخه حتى أربوا على المائتين في علوم الدين العربية وعلم(900/22)
الكلام.
وكان ابن تيمية عجيب الحفظ لا ينسى. . . وقد ذكروا الكثير من قوة حفظه، ومما روى في ذلك عنه وهو ما يزال بعد صبياً؛ أن شيخا من (حلب) علم به، فأراد أن يراه، وكتب له من متون الحديث أحد عشر متنا فلم يزد الصبي على أن نظر فيها مرة ثم اسمعه إياها. . . وقبل أن يبلغ العشرين كان قد نال حظا كبيرا من العلم، وذاعت شهرته حتى قيل أنه ناظر واستدل وهو دون البلوغ. . . وعد من أكابر العلماء في حياة شيوخه.
وليس من العجيب أن يكون الرجل كذلك؛ ولكن العجيب ألا يكون كذلك - فإن الوراثة أن كانت لا تصدق على كل العباقرة فهي هنا أصدق ما يكون، قرب عبقري أبواه عاديان ولكننا هنا أمام عبقري ينحدر من أصلاب عرفت بالعلم؛ وإن لم تعرف بالعبقرية فيه. فجده كان عالما معروفا، وقد ترجم له صاحب (فوات الوفيات)، وأبوه كان عالما كذلك. . . فنحن أمام إنسان خالط العلم دمه ونشأ يقرع سمعه أول ما يقرع. . نقاش في العلم والدين؛ ويرى أول ما يرى. . استمساكا بالدين وتمسكا به وقد قدر له أن يربى تربية فيها صلابة لا تضر، وأخذ في تنشأته في كل أطوار تربيته بآداب التصوف.
توفي والده وما يزال في سن الحادية والعشرين من عمره. فخلف والده وهو في إبان شبابه في تدريس الفقه الحنبلي؛ وفي كل يوم جمعة كان يفسر القرآن للناس من حفظه فينقضي مجلسه في شرح آية وتزيد!! بلا تحليل في لفظ أو جري وراء تأويل، وكان رجلنا واسع الاطلاع دائم القراءة، قل أن يدخل في علم ما - في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء على حذاق أهل. وكان في التفسير إليه المنتهى، وفي الحديث لا يلحق، وفي الفقه لا نظير له، وفي الملل لا يدانى، وفي التاريخ عجب عجاب.
قال ابن دقيق العيد بعد اجتماعه به (كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك) - وكان حر التفكير، كثير الجدل والمناظرة في حدود الكتاب والسنة، وقد كان مناظرا لا يبارى حتى أنه كان يناظر صغيرا، فيفحم الكبار، وقد جرت عليه جريته في القول وصلابته في الحق وبالا كثيرا.
تنقلاته واضطهاده
في ربيع الأول سنة ثمانية وتسعين وستمائة ورد سؤال من (حماة) على الشيخ بدمشق(900/23)
يسأل فيه عن صفات الله، فرد الشيخ بكتاب وكان هذا الكتاب بدء المحن التي سيلاقيها الشيخ. وكانت سائحة انتهزها الشائعون، فلغطوا بأن الشيخ يقول بالتجسيم، ورموه بالكفر، وحرفوا كلمة وحملوه ما لا يحتمل، وسعوا إلى القضاة والفقهاء يستحثونهم لدرء الشر المزعوم، وأغروا قاضي الحنفية جلال الدين الحنفي باستحضاره، فأبى الشيخ ورد عليه بأنه ولى الحكم بين الناس، لا لحكم في العقائد، فغضب القاضي، وأمر بالنداء على بطلان عقيدته، ولكن والي دمشق حينذاك، منع المنادي، وعقد مجلسا للشيخ بحضور الفقهاء والوالي، فنوقش في عقيدته وبين مراده، وانفض المجلس ولم ينكر عليه الحضور شيئا.
انقضت المحنة الأولى إذن بسلام. ولكن الشيخ بات ثقيل الوطأة على أصحاب البدع والمتصوفة القائلين بالاتحاد والحلول، وبالغ في الرد على فقراء الأحمدية والرفاعية، وفضح حيلهم وكشف عن خدعهم التي يدعونها خوارق، كالدخول في النار ومسك الحياة وغير ذلك
وقيل لشيخنا (إن الشيخ نصر المنجي، في مصر، اتحادي، فكتب إليه الشيخ ينكر عليه ذلك؛ وكان المنبجي ذا أنصار ومعجبين، يداخل الأمراء وأصحاب الرأي، فشنع عليه ودس له الدسائس، وخوف القضاة والمراء وأثمر سعيه. فقد ورد من القاهرة إلى دمشق مرسوم سلطاني يأمر بسؤال الشيخ عن عقيدته فعقد في الثامن من رجب سنة خمس وسبعمائة مجلسا حضره القضاة والفقهاء وأعيد المجلس في الثاني عشر من رجب وحضره المخالفون وتناظروا مع الشيخ، ونصر الله الشيخ على خصومه، ولكن خصومه شنعوا عليه بعد ذلك وآذوه في صحبه، وعزر القاضي من يلوذ بالشيخ، وكانت فتنة تداركها الوالي بحزمه، ولم يكتف خصومه بذلك بل راحوا يدسون عليه من كل طريق: يقنعون أرباب الدولة بأنه خطر على السلطة، ويثيرون عليه الفقهاء لأنه خطر على الدين! فاستدعي إلى القاهرة في 5 رمضان سنة 705 هـ.
وللشيخ في مصر أي شأن، وستثار الضجة حوله وستناله الأحداث بأيد غلاظ وسيحتويه السجن في القاهرة والإسكندرية.
غادر دمشق في الثاني عشر من رمضان، ودخل القاهرة في الثاني والعشرين منه، ثم انعقد المجلس في القلعة الحصينة وانتظم في سمطه من القضاة جمع، ومن الأكابر قوم، وجلهم(900/24)
متنمر، للشيخ، إذا تكلم قوطع، وإذا باحث غولط، لم ينل حريته في القول. وكان (الشمس بن عدلان) أحد خصومه، كان دوره (تمثيل الاتهام) كدور النيابة الآن. وكان رئيس المجلس القاضي المالكي (ابن مخلوف). فقام ابن عدلان وقال: (إن الشيخ ابن تيمية يقول: أن الله فوق العرش حقيقة وان الله يتكلم بحرف وصوت، وأنه سبحانه يشار إليه بالإشارة الحسية؛ وإني أطلب عقوبته على ذلك.) ثم جلس. فتوجه القاضي ابن مخلوف إلى الشيخ ابن تيمية وقال: (ما تقول يا فقيه)؟ فنظر ابن تيمية إلى من في المجلس، ثم أخذ في حمد الله والثناء عليه، فقاطعه القاضي بقوله: (صه. . أجب عما قال الشيخ، ما جئنا بك هنا لتخطب، وأدرك ابن تيمية أن القاضي المالكي هو الحكم والخصم معا، فغضب الشيخ وانتفخت أوداجه وتهدج صوته وصاح فيهم: (كيف يحكم في وهو خصمي؟)
وانزعج القوم. . . فأقيم من ساعته وحبس في برج من أبراج القلعة ثم نقل إلى الجب وزج معه أخواه؛ وقد توسط الأمير سيف الدين سالار في إخراجه ولكن اشترط عليه شروط، منها الرجوع عن عقيدته فأبى. واستمر في سجنه حتى سنة سبع وسبعمائة حين أتى الأمير حسام الدين مهني بن عيسى ملك العرب إلى مصر وأخرجه. واعتذر له بعض الفقهاء، وأبرد إلى دمشق بخروجه، واستبقاء الأمير سيف الدين لينتفع الناس بعلمه وفرح قوم لخروجه وكمد آخرون.
مكث الشيخ يعلم الناس، ومكث أعداؤه يكيدون له، وخاصة الصوفية؛ وفي يوم فاض كلام الشيخ في الصوفية وقرص بكلامه الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، ونال في كلامه من ابن سبعين وابن العربي؛ فثارت ثائرة المتصوفة، وانضم إليهم أهل الخوانق والزوايا والربط وأقاموها ثورة على الشيخ؛ فذهبوا بجمعهم هذا إلى السلطان، ليشكوا إليه ابن تيمية، وتجمهروا حول القلعة، فقفز منهم على القلعة من قفز. . . وتسوروا أسوارها، ومكث تحتها من مكث
اضطرب السلطان؛ وعلم أنهم يريدون كف ابن تيمية عن شيوخهم، أن لم يكن يطلبون رأسه؛ وقد انضم إلى هؤلاء في الشكوى منه شيوخ الصوفية كابن عطاء الله السكندري المشهور - الذي كان عدواً للشيخ -. فعقد له مجلس وخير بين مغادرة القاهرة إلى الإسكندرية. أو السفر إلى دمشق بشروط، أو الحبس. فاختار الشيخ الحبس. . لكن قوما(900/25)
أغروه بالسفر إلى دمشق، وبعد أن ركب خيل البريد أرسل خلفه رسول يعتقله، وينبئه بأن الدولة لا ترضى إلا بالحبس؛ وقد امتنع القضاة عن الحكم بحبسه؛ لأنه لم يفعل ما يقتضي ذلك، فذهب هو بنفسه قائلا: (أنا أذهب إلى الحبس تبعاً لما تقتضيه المصلحة). فأرسل إلى الحبس القضاة.
أخذ الشيخ يعلم (المحابيس)، ويفقههم حتى صلح أمرهم، وصاروا أحسن من كثير من أهل الزوايا والربط والخوانق - كما يقول صاحب الكواكب الدرية (ص 181).
وكان الشيخ يزار ويستفتى ويتردد عليه، فضاق من ذلك أعداؤه وسألوا نقله إلى الإسكندرية، فنقل. وحبس هناك.
وفي سنة تسع وسبعمائة دخل السلطان الناصر مصر بعد خروجه من الكرك وقدومه إلى دمشق، وتوجهه منها إلى مصر؛ فبادر الناصر بإخراج الشيخ وذهب به إلى القاهرة (وأصلح بينه وبين الفقهاء) وقد أكرمه الناصر وراعى مكانته وبجل علمه؛ وقد مكن الله للشيخ من أعدائه، ولكنه عفا عنهم ولما لم يكن كثير المداخلة والتردد للأمراء، ولم يكن من رجال الدول، ولا يتبع معهم تلك النواميس والرسوم، قل اجتماعه بالسلطان ثم انعدم.
سكن الشيخ القاهرة بالقرب من مشهد الحسين؛ وفرغ للعلم يجيب سائليه، ويفتي مستفتيه، ويعظ ويعلم ويدرس في مدرسة أسسها الناصر. . وقد وجد بعض أعدائه أنهم لن ينالوا بشكايته لدى السلطان شيئا؛ فتفردوا به. . وضربوه ضرباً موجعاً، وذاع النبأ، نبأ إهانته؛ فسعى إليه الكثير: يبغون له الانتقام، لكنه هدأهم ومنعهم من ذلك.
وفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، توجه الجيش المصري، يردي الغزاة فخرج معه الشيخ، ثم عرج على بيت المقدس ثم إلى دمشق فكان لمجيئه سرور عظيم.
ولم يذهب الحيف والاضطهاد عن الرجل في دمشق أيضا؛ ففي سنة 718 هـ أشير عليه بترك الإفتاء في مسالة الحلف بالطلاق، ومنعه السلطان من ذلك؛ ولكن الشيخ عاد فأفتى فعوقب ثم سجن بالقلعة سنة 720 هـ خمسة أشهر. . ثم أخرجه السلطان.
وفي سنة 726هـ استأنفت الأيام محاربتها إياه، وضربته ضربات أخرى هو ومن بقى من أصحابه: فقد سجن هو وصحبه؛ ثم أخلي سراحهم إلا تابعه ابن قيم الجوزية؛ وكان موقفاً جديداً من أثر المواقف وأشدها بلاء. امتحن فيها الشيخ فثبت، وتلك المحنة هي: أن سائلا(900/26)
كان قد سأله عم حكم (شد الرحال. . .) فأجابه الشيخ برأيه (وسنعرض له بعد). فكانت الفتنة، وحرفت الفتوى، وطير العلماء أمر كفره ونبأ فسقه في الأقطار العربية كلها، فتردد صدى ذلك في العالم الإسلامي كله. . فاضطرب في بغداد، وضج في مصر، وغلى في الشام، وأفتى جماعة من علماء مصر بقتله، وحمل آخرون السلطان على فعله. ولكن السلطان رضى بسجنه، فأصدر إلى دمشق أمره بحبسه، فذهب الشيخ إلى القلعة راضيا غير ساخط هازئا غير ناقم.
ثار علماء بغداد وأرسلوا الرسائل إلى الأقطار يوافقون الشيخ في رأيه، ويستنكرون فعل السلطان الناصر، ولكن لم تؤت هذه الرسائل ثمراً لأنها منعت عن السلطان. فمكث الشيخ في سجنه سنتين وثلاثة أشهر يعبد الله ويصنف التصانيف ويوفي المسائل التي حبس بسببها بحثا حتى أربى كتب فيها على المجلدات ولكن لم تترك للشيخ هذه اللذة، لذة العبادة والتأليف فقد ضاق أعداؤه بما يؤلف، وجروا هنا وهناك. . ساعين راشين، فورد مرسوم قبل وفاته بشهر بتجريده من كتبه وورقه.
. . . حرم الشيخ إذن لذته الكبرى فلم يحتمل ذلك، ومرض وفاضت روحه الطاهرة يوم الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728 هـ. وقد كان لموته حزن عميق وحضر جنازته نحو خمسمائة ألف رجل ومن النساء خمسة عشر ألفا وقد قيل في جنازته الشيء الكثير.
وقد رثي الشيخ ابن تيمية بشعر كثير. . لو يسر الله له أديبا مخلصا وجمعه في ديوان لكان ذلك عملا فريدا في بابه. ومن حق ابن تيمية على الأزهر - أن أراد خيراً - أن ينشئ لجنة لأحياء آثار ابن تيمية على نسق لجنة إحياء آثار أبي العلاء. أراد الله له وللإسلام الخير وجعله عند حسن ظننا.
للكلام بقية
عبد الجليل السيد حسن(900/27)
صفحة من تاريخ الأزهر العلمي
الدراسات العليا في الأزهر الجامعي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
كان محمد عبده رحمه الله أبرز قائد لحركة البحث والإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي بعد أستاذه جمال الدين الأفغاني. وكان من البدهي أن يتجه هذا المصلح الديني الخالد الذكر إلى إصلاح الأزهر نفسه لأنه نواة الفكرة الإسلامية، ومغذي الروح الديني. ولم تظهر آثار جهاد الشيخ محمد عبده وجهوده في إصلاح الأزهر إلا بعد وفاته، وعلى أيدي تلاميذه الذين تحمسوا لآراء أستاذهم في الإصلاح، وتعهدوا بالعناية والتنفيذ.
كانت الدراسة في الأزهر في عهد محمد عبده تسير على النظام القديم البدائي: حلقات للتعليم، وطلبة يختارون أستاذهم الذي يتتلمذون عليه ويناقشونه في ما صعب من مشكلات العلم والثقافة، وكتب ألفت في العصور الوسطى وغلبت عليها آثار الثقافة العقلية التي كانت سائدة في هذه العصور.
وفي 1872م وضع قانون لإصلاح الأزهر، نظم طريق نيل العالمية، وحدود مواد الامتحان فيها. بتعضيد الشيخ محمد عبده وعلى يد صديقه المرحوم الشيخ حسونه النواوي شيخ الأزهر حينذاك صدر قانون عام 1896، الذي نظم الدراسة في الأزهر، وأدخل العلوم الحديثة في مناهجه.
أما النظام الإداري للأزهر ومعاهده فقد صدر به قانون عام 1911، بعد وفاة الإمام محمد عبده بسنوات.
وأخذ الأزهر يسير على هذا النمط من الدراسة، دون أن يوجد فيه أثر للدراسات العليا، حتى صدر قانون 1923، الذي أوجد نوعا من هذه الدراسات قامت على أسسه أقسام التخصص القديم، التي كانت تمنح درجات علمية تعادل درجة الماجستير في جامعتي فؤاد وفاروق.
ثم أخذ الأزهر يعمل على مسايرة النظم الجامعية التي تسير عليها شتى الجامعات في الشرق والغرب، ففكر المراغي في عهد مشيخته الأولى في إنشاء أقسام للدراسات العليا في الأزهر، والمراغي أنبه تلاميذ محمد عبده؛ وأكثرهم دعابة لآراء أستاذه، وتحقيقا للكثير(900/28)
منها وقد ظهرت آثار هذا الاتجاه في قانون إصلاح الأزهر الذي صدر عام 1930 في عهد المرحوم الشيخ الأحمدي الظواهري؛ وقد نظم هذا القانون الأزهر الجامعي، فقسمه إلى كليات ومعاهد، وأنشأ أقسام الدراسات العليا بشتى فروعها وعدل عام 1936 وما والاه تعديلات لأملته الضرورة والتجربة والرغبة في خلق الروح في الأزهر.
سمى هذا القانون أقسام الدراسات العليا؛ أقسام تخصص المادة، ومنها ينال المتخرج شهادة العالمية من درجة أستاذ، وهي أرفع شهادات الأزهر العلمية، وتعادل الدكتوراه الممتازة، وتدرس بها علوم الشريعة وأصول الدين والقرآن والحديث والبلاغة والأدب واللغة والفلسفة والتاريخ، ومدة الدراسة بها لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء دراسة الكلية، وكان طلبتها يختارون من بين أوائل المتخرجين.
واختير للتدريس بهذه الأقسام أئمة العلماء والمفكرين في الأزهر ومصر، وقد حققوا نهضة فكرية وعلمية جديرة بالإشارة في تاريخ الأزهر الحديث. كما كانت امتحانات أقسام هذه الدراسات، ومناقشات رسائل الخريجين مواسم خالدة للعلم والأدب في الأزهر؛ وكان يشرف عليها أفذاذ العلماء والأدباء والمفكرين، ومن بينهم المراغي ولطفي السيد ومأمون الشناوي واللبان وحمروش وعبد المجيد سليم وعرفة وشلتوت والجارم وسواهم. ورسائل الخريجين من أقسام العالمية درجة أستاذ فيها جهد كبير وألوان جديدة من البحث والتحليل، وهي أوضح اثر لنهضة الأزهر العلمية الحديثة وقد طبع بعض قليل منها. كما حمل خريجوه بجدارة مناصب التدريس في كلياته ومعاهده؛ ولكثير منهم نشاط علمي خصب، وإنتاج حافل في الأدب والشريعة والفلسفة والتاريخ والعقائد.
ومن سوء الحظ ألا يهضم الأزهر الجامعي نظام الدراسات العليا، وأن يحاربها من وراء أستار وأن يعطل الدراسة بأقسامها من عام 1941 حتى الآن
وكان اعتزاز الأزهر بهذه الدراسات ضئيلا محدودا، تجلى في طبع رسالتين أو ثلاث من رسائل خريجيها، وفي عرض بعضها في المعرض الزراعي الأخير ولا يزال جل هذه الرسائل مخلوطا في مكتبات الكليات الأزهرية، وعددها يقارب المائتين. فمن مبلغ الأزهر بأن نظامه الجامعي وازدهاره العلمي أن يكون لهما كيان إلا إذا عادت من جديد هذه الدراسات العليا فيه، تؤدى رسالتها العظيمة في خدمة الدين والثقافة، وتجديد مناهج البحث(900/29)
العلمي الحر، والكشف عن آثار التراث الإسلامي المجيد، والنهضة بالثقافة الأزهرية، حتى تبلغ المنزلة الرفيعة، التي بلغتها الثقافات الحديثة، في جامعات الشرق والغرب.
أيقظوا الأزهر من هذا الرقود؛ وادفعوه لأداء رسالته العظيمة في خدمة الدين والحياة
محمد عبد المنعم خفاجي
أستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف(900/30)
رسالة الفن
المسرح المصري كما نريده
للأستاذ أنور فتح الله
المسرح المصري الآن في مفترق الطرق. . فاليوم تبدأ صفحة جديدة في تاريخ المسرح المصري. . فقد تقرر أخيراً إنشاء الفرقة النموذجية من خريجي المعهد العالي لفن التمثيل. لتقديم مسرحيات من الفن الرفيع. . وتقرر أيضاً الإبقاء على الفرقة المصرية، لتستمر في أداء رسالتها الفنية.
ونحن ولا شك، نرحب بطلائع المسرح الجديد من شباب المعهد الذين جمعوا بين الموهبة والثقافة المسرحية. . ونرحب أيضاً بقدامى الممثلين الذين كانوا أول من حمل المشاعل، وشق الحجب عن هذا الفن الوليد.
. . وليس من شك في أن وجود هاتين الفرقتين، سيبعث النشاط في الحقل المسرحي، في جو من التنافس البريء الذي نرجو أن يستهدف صالح الفن وحده.
ولعله من الخير، والمسرح الآن على أبواب عهد جديد، أن نحاول أن نبرز نواحي النقص في الماضي، لنتحاشاها في المستقبل المرتقب.
فالثابت من تجاربنا المسرحية السابقة أن المسرح المصري لا يفتقر إلى الممثل، ولا إلى المخرج، فقد أدى كل منهما رسالته، وقام بدوره خير قيام. ولم يبق سوى المسرحية، وما من شك في أنها الأساس الأول الذي يقوم عليه المسرح ذلك لأن الممثل، مهما أوتي من قدرة وموهبة، لن يستطيع أن يجتذب المشاهد إليه، ويشركه معه في الأحداث، ويؤثر فيه، إذا لم يكن دوره يصور بصدق الكائن البشري الذي يمثل الإنسان في الحياة.
والمخرج لن يستطيع القيام بدوره، إذا لم ترسم له المسرحية الخطوط الرئيسية التي تصور جو الحياة الحقيقي الذي تجرى فيه الأحداث.
فعلى المسرحية إذن، يتوقف نجاح الممثل والمخرج، بل يتوقف نجاح فن المسرح فإذا أردنا أن ننهض بالمسرح المصري وجب علينا، وقد توفر لدينا المخرج والممثل، أن نعمل على خلق المسرحية بالنسبة للمسرح. علينا أن نرجع إلى اليوم الذي بدأت فيه في الظهور، فقد نشأت المسرحية عند اليونان في وقت كان الدين فيه مسيطراً على العقل اليوناني، وقد(900/31)
سخرت الفنون في عبادة الآلهة وتمجيدها، فظهرت المسرحية اليونانية وغرضها الأول تصوير حياة الآلهة، وما قاسوه من آلام. وكانت المسرحية تستمد مادتها من الأساطير التي تقص سير هذه الآلهة، وكان اليونانيون يحفظونها لأنها كانت تمثل كتابهم المقدس. وكان المسرح يعد هيكلا يقصد إليه الشعب لا لمشاهدة التمثيل فحسب بل لعبادة الآلهة وذلك بمشاركتهم وجدانياً فيما يقاسون من عذاب وألم.
فالمسرحية إذن، لم تخلق إلا لتشارك الشعب اليوناني في آلامه وأحزانه، وهي بهذه المشاركة، قد حققت للمسرح وجوده واجتذبت الشعب إليه، ودفعت الدولة إلى الاهتمام بالتمثيل، وتنظيم حفلاته.
وإذا استعرضنا المسرحية في كل العصور، وجدناها متصلة دائماً بالحياة، تصاحب الإنسان في تطوره وتقدمه، وتصور آلامه وآماله، وتشترك معه في معالجة مشاكله، وهي في كل هذا تعكس صورة صادقة للحياة، متأثرة بها أو مؤثرة فيها.
وإذا استعرضنا المسرحيات الخالدة في كل عصر، رأينا أن السبب في خلودها هو صدقها في تصوير واقع ذلك العصر، وتناولها المشاكل الإنسانية العامة، وعمقها في تصوير الغرائز والعواطف البشرية.
ومن هذا يتضح أن نجاح المسرحية، مرتبط بمدى انشغال العقل البشري بموضوعها، ومدى اشتراك البشر في الآلام التي تصورها، والآمال التي تنشدها، فإذا اتسع نطاقها متجاوز حدود المجتمع والعصر الذي ظهرت فيه، فهي تصبح إنسانية خالدة.
ولما كانت المسرحية وصورة مصغرة للحياة والإنسان هو الكائن الذي يمثل الحياة فيها، وجب أن تمنى المسرحية بتصوير الصراع الذي يدور في نفسه بين رغبته وقدرته، وبينه وبين مجتمعه الصغير وهو الأسرة، ثم بينه وبين المجتمع الكبير وهو الوطن، وبتصوير هذا الصراع الذي يدور في كل نفس بشرية عندما تحتك بالحياة، تصبح القضية التي تعالجها المسرحية إنسانية تهم كل إنسان، ويجب أن يراعى في اختيار النموذج البشري الذي يمثل الإنسان في الحياة، أن يكون إنساناً عاما يمثل جيله أصدق تمثيل، على أن يجمع الخصائص المميزة لهذا الجيل على اختلاف طبقاته، وبهذا تستطيع المسرحية أن تبرز الشخصية المصرية العامة، التي تمتاز بطابعها القوي، القريبة من قلب كل مصري. هذه(900/32)
الشخصية إذا ظهرت في المسرحية المصرية، وسيكون لها التأثير الأول في اجتذاب الشعب، لأنها ستحدثه بلغته، وتشاركه في حزنه، وتدفعه إلى اقتحام الحياة، والتغلب على ما فيها من مصاعب.
والمشكلة التي تعالجها المسرحية، يجب أن تمثل أزمة عامة من الأزمات التي تصادف الإنسان في الحياة، وتشغل أكبر مجموعة من الناس، وتمس حياتهم. وبهذا يرى المشاهد نفسه على المسرح، وهو يصارع الحياة، ويرى طريق النجاة من هذه الأزمة مرسوما أمامه، رسمها له عقل مفكر خبير بالحياة، فإذا خرج إلى الحياة، استطاع أن يسلك هذا السبيل.
والدقة والصدق في تصوير هذه المشكلة يعينان على تجسيمها حية أمام نظر المشاهد، فلا يشعر بفارق بين ما يجري في الحياة وما يجري على خشبة المسرح.
أما غرض المشكلة وعلاجها، فيتصلان بحساسية المؤلف وقدرته على الملاحظة، وذلك لأن المسرحية أن هي إلا صورة من صور الحياة التقطها المؤلف، وامتزجت بروحه، وخرجت منها حاملة الأثر الذي أحدثته هذه الصورة في نفسه.
والجو العام إما أن يكون باسماً أو قائماً، وفي الأولى لا يخلو الابتسام من الألم البشري، ذلك لأن حياة الإنسان موجات من الألم والفرح، وقد يقيم الإنسان أفرحه على آلام الغير، أو يقيم أحزانه على أفراح الغير، ولكن الألم خفيف في الكوميديا، والمرح غالب، وهو عنيف في الدراما والمرح خفيف. والمقياس هنا هو درجة خطورة المشكلة التي تعالجها المسرحية فإن كانت بسيطة وجب أن تأخذ المسرحية مظهراً باسماً، وإن كانت خطيرة وجب أن تأخذ المسرحية مظهراً عابساً. وبين هذين الطرفين يتدرج المظهر بين الإشراق والعبوس. فالضحك إذن ليس غرض المسرح، والبكاء ليس غايته، وإنما يهدف المسرح إلى نقل تجارب الحياة إلى المشاهد، وبزيادة محصول الإنسان من هذه التجارب، يزداد خبرة بالحياة، وقدرة على حل مشاكلها. هذه هي الخطوط الواجب توفرها في موضوع المسرحية التي تنشدها لتمثل الواقع الذي نعيش فيه، وتساهم في نقد حياتنا والعمل على إصلاحها، ورسم الطريق إلى حياة مثالية تستهدف الحق والخير والجمال.
هذا، وإذا استعرضنا إنتاج المؤلفين المصريين في الأعوام الماضية فإننا نلاحظ أن غلبهم(900/33)
يقصر نشاطه على المسرحية التاريخية. والعيب العام في هذه المسرحيات هو عدم تناولها مشاكل شبيهة بمشاكل الحاضر، وميل بعضها إلى تصوير الشخصيات الغربية، والنزعات الشاذة، والبعض الآخر طغى عليه جانب العرض التاريخي ومن حيث تصوير الأشخاص وتحليل طباعهم، فإنها لم تعن بتصوير الجوانب الإنسانية في حياة الشخصيات التاريخية. . . وفي رأيي، أن، المسرحية التاريخية يحب ألا يطغى عليها جانب العرض التاريخي حتى لا تصاب بجمود التاريخ. وأن تتناول مشكلة شبيهة بمشاكل الحاضر الذي نعيش فيه، ليستجيب لها النظار. وما من شك في أن التصوير الطبيعي الصادق للإنسان في مواقف الحياة المختلفة لا يتغير بتغير الزمان أو المكان. فإذا روعي هذا في المسرحية التاريخية فإنها تصبح كالمرآة يرى فيها النظار أنفسهم ومشاكلهم من خلال الإطار التاريخي. ولعل هذا هو السبب في خلود مسرحيات شكسبير التاريخية كهملت وعطيل وغيرهما.
وقد يستخدم المؤلف الإطار التاريخي لينقد المجتمع في عصره ويخاطب الشعب عن طريق التورية. كما فعل بومارشيه قبيل الثورة الفرنسية حين كتب مسرحياته (حلاق أشبيلية) و (زواج فيجارو) و (الأم الآثمة) فقد صور من خلال الثوب التاريخي، الصراع بين السلطة الطاغية، والشعب الذي يطالب بحقه في الحياة.
إلى جانب عنايتنا بخلق المسرحية المصرية، يجب أن نعنى أيضاً بترجمة المسرحية الأجنبية التي تعنى بمشاكل الأسرة والمجتمع وكذلك المسرحيات التي تساير الاتجاهات المسرحية الحديثة، ليطلع الجيل الجديد على أحدث تطورات المسرح ليقتبس منها ما يعيننا على أحدث تطورات المسرح ليقتبس منها ما يعيننا على اللحاق بالأمم المتقدمة علينا في هذا الفن.
وبعد فإن رسالة المسرح لا تقف عند حد إنشاء فرقتين مسرحيتين. بل يجب أن يعمل من بيدهم الأمر على خلق المسرحية المصرية أولاً، وبث الوعي المسرحي بين طلبة المدارس والجامعات وأفراد الشعب.
يجب أن تكون هيئة من المتخصصين في فنون المسرح والنقد وعلماء التربية والاجتماع يكون من صميم اختصاصها التوجيه الفني وتنشيط حركة التأليف والترجمة، وتشجيع المؤلفين؛ ونشر المؤلفات والمترجمات المسرحية. على أن تخص هذه الهيئة باختيار(900/34)
المسرحيات لهاتين الفرقتين، وذلك حتى لا يتحكم المزاج الفردي في هذا الفن كما حدث بالأمر.
وإلى جانب هذا يجب أن تعنى وزارة المعارف بالفن المسرحي وذلك بأن تدرس آداب المسرح بالمدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد العالية؛ وذلك حتى يتسنى بث الوعي بهذا الفن الإنساني الذي يرمي إلى إصلاح البشر، وخلق الإنسان الخير، الذي تغلب على الشر الكامن في نفسه، وارتفع إلى مستوى مثالي، ليعمل على خير المجتمع الإنساني.
أنور فتح الله
ناقد مسرحي(900/35)
رسالة الشعر
من باريس
(مهداه إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب)
لصاحب السعادة عزيز أباظه باشا
يا جارةَ النيل في أعطافِ أيكته ... أغفتْ مملئة بالنوم عيناك
في جانبِ السينِ ذو سهدٍ إذا جمحَتْ ... به الشجون تصلاها وناداكِ
ناداكِ أَسوانَ عينُ الليلِ ما وقعت ... منهُ - وإنْ رادفتْ - إلا على باكِ
باكِ تَسرَّبُ في منهلَّ ادمعه ... نفسي تبثك بجواها وتهواكِ
يا رشفةَ الرياح يُسقاها على ظمأ ... صديانُ والقيظُ مشبوبُ اللظى ذاكِ
يا نشوةَ الروحِ تسري في شفائِها ... كالبرءِ يمسحَ الموجعِ الشاكي
يا نورَ عيني وما عيني بناظرةٍ ... ولا محققةٍ في الناس إلاك
هل من سبيلٍ إلى رطبٍ أراحَ بهِ ... حانيِ الخمائل من أفياء مغناكِ
نعمتُ فيه بما في الخلدِ من مَتعٍ ... والخلدُ محلاةٌ في لألاءِ محلاكِ
إِني لأهفُو إليه والنوَى قذف ... يا رب بعدٍ ترامَي بِي فأدناكِ
عندي وساوسُ عتبٍ لن أبوحَ بها ... إلا بدامعِ همسٍ حينَ ألقاكِ
(باريس)
عزيز أباظة(900/36)
مثال وتمثال
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
أطيليَ التأمُّلَ يا فاتنهْ ... إلى هذه الدُّمْيَةِ الساكنهْ
لعلَّ بريق العيون العمي ... قِ ينبِّه فيها القُوَى الكامنهْ
ويكشفُ فيها لعشَّاقها ... غوامضَ أسرارها الباطنةْ
لقد دفنَ السرَّ فيها الذي ... جلاها، وغالَ الردى دافِنَهْ
كانت على الدهر أُسطورةً ... تحيُّر أفهامَنا الواهنهْ. .
أَنيريِ بهذا البريق العجي ... ب جوانبَ آفاقنا الداكنهْ
ففي معبد الفنِّ بات الضلا ... لُ يَغُرُّ بأوهامه سادِنَهْ
وأطلق في جَوِّه القُدُسِيِّ ... بخورَ مجامرِهِ العاطنه
وعَرْبَدَ في نفسه طائرٌ ... جناحاه قَصَّتْهما ماجنهْ
فرُدِّي إليه هدى نفسهُ ... لِيَعْصِمَهُ فتنةُ شائنةْ
ورُدِّي مصابيحَهُ الذاويا ... ت إلى شُعلة الأمل الفاتنهْ
فقد ييطقىُّ النورَ بَرْدَ الجمو ... دِ، ويخمدُ أنفاسَهُ الساخنه!
دعي الحبَّ يملأُ سكونَ الحيا ... ةِ بأنغامه العذبة الآمنهْ
ويُضْفيِ على حيرة الحائري ... ن أشعَّتَهُ للهوى صائنهْ
إذا الأنفُسُ إفتَقَدَتْ هَديَها ... مَشَتْ في طريق الهوي ضاغِنَهْ!
ضَعي يَدكِ الغضَّةَ الفاتنةْ ... على هذه الدُّمْيَةِ الساكِنهْ
فأنتِ لها صورةٌ حيَّةٌ ... تلمَّسْتُها ها هُنا كائنهْ
رَسَمْتُكِ قبل اللقاء الجميلِ ... خيالاً تَجَسَّمَ في آوِنَهْ. . .!
حسن كامل الصيرفي(900/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلة الفن والقيود
قلنا ونحن نتحدث عن مشكلة القيود في الفن أن هناك قيوداً مرفوضة وقيودا مفروضة. . أما المرفوضة فقد تعرضنا لها بالبحث والمناقشة في العدد (885) من الرسالة ونحب أن يرجع إليها القراء. وبقيت القيود المفروضة التي نعود إليها مرة أخرى لأنها محل خلاف بيننا وبين الأستاذ الفاضل علي محمد سرطاوي. وهذا هو بعض ما قلناه:
(في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم) وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فنا، بل هو فوضى فكرية أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلما إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلسل والدقة والوحدة والنظام. مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود. وشبيه بتلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد. .
نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أم كاتب قصة ومسرحية أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم أصوله وقواعده، قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. . نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف(900/38)
عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد نظاما، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن. هذا التصميم الذي ندعو إليه تنظم هيكله أصول (الأداء النفسي) في الشعر والتصوير والموسيقى هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. . ولا بد للأداء النفسي في الشعر وسائر الفنون من هذا (التصميم الداخلي) - وهو تصميم معنوي لا مادي -، لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع المنفس، قبل أن ندفع بها إلى حيز الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات) أهـ.
قلنا هذا وكنا حريصين كل الحرص على تسليط شتى الأضواء الكاشفة على كل زاوية مظلمة، في سبيل الدقة اللفظية والتركيز المعنوي حتى تتضح المشكلة للقارئ كل الوضوح. ونعتقد بعد هذا الشرح والتحليل أن مشكلة القيود المفروضة في الفن كما عرضنا لها من وجهة نظرنا الذاتية، لم يبق منها جانب من الجوانب يحتاج معه القارئ إلى أن يسأل عما وراء الألفاظ من معان أو عما يعقب وراء اللمحات من غايات. ولكن صديقنا الأستاذ سرطاوي يعقب على هذه الوجهة من وجهات النظر فيقول: (والذي ينعم النظر فيما اقتبسناه من رأى الأستاذ المعداوي يخيل إليه أن عمل الفنان لا يفترق عن عمل المهندس، ذلك أن المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته الهندسية في زحمة الأرقام والأبعاد والحجوم، وتحت سيطرة العقل الواعي وحدة الذهن، وهدوء الطبع، يرسم على أوراقه التصاميم التي يطلب منه عملها من عمارات، وجسور، وطرق، وأنفاق، إلى آخر ما هنالك من أعمال هندسية، حتى إذا ما فرغ من عمله المعقد الدقيق، وحساباته التي تحطم الرأس، نقل ما على الأوراق من أشكال إلى مسرح العمل، وراحت تلك التصاميم تأخذ طريقها إلى الوجود. .
الواقع أن الفنان، من شاعر ومصور وموسيقي، لا علاقة له بكل ما ذكرناه. إنه يعمل في الجو الذي يندمج فيه الفنان بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي(900/39)
صريعا تحت ضربات النفس الإنسانية، إنه يعمل في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا يسيطر عليها غير العواطف) أهـ.
إلى هنا ونقف قليلا مع الأستاذ سرطاوي. . . نقف قليلا لنقول له: ما أكثر وجوه الشبه بين عمل المهندس وعمل الشاعر والمصور وكاتب القصة والموسيقار؛ كل واحد من هؤلاء فنان. . ومبلغ الصدق في نسبتهم إلى الفن أنهم جميعاً ينشدون النظام والجمال فيما يعملون. هذا المهندس الذي يضع تصميم بيت جميل يراعي النسب والأبعاد ليخلق هندسة معمارية فنية، وهذا الشاعر الذي يضع تصميم قصيدة محلقة يراعي النسب والأبعاد ليوجد هندسة شعرية فنية، وقل مثل ذلك عن بقية الفنون عند سائر الفنانين. . ما هي تلك النسب والأبعاد؟ هي مراعاة التوافق والانسجام بين خط وزاوية في عمل المهندس، وبين لفظ ومعنى في عمل الشاعر، وبين ضوء وظل في عمل الرسام، وبين مشهد وحياة في عمل القصاص، وبين نغمة وشعور في عمل الموسيقار. . و (ملكة التنظيم) وحدها هي التي تشرف على هذه (الهندسة الفنية) سواء أكانت معمارية أم شعرية أم تصويرية أم قصصية أم موسيقية. . ولا فرق أبداً بين (خريطة) المهندس و (نوتة) الموسيقار، لأن كليهما يا صديقي تمثل هذا (التصميم الفني) الذي رسم كلاهما أصوله وقواعده! وإذا كان المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته بين يديه، فإن كلا من الشاعر والقصاص وكاتب المسرحية يجلس إلى نفسه وأدواته في ذلك المستودع العميق الذي أشرنا إليه. . نريد أن نقول أن التصميم الفني هنا معنوي هنا ومادي هناك.
وما دام الأستاذ سرطاوي قد دفع بنا إلى أفق المقارنة بين عمل المهندس وعمل الفنان، فإننا نود أن يرجع إلى العدد الصادر من مجلة (العالم العربي) فبراير سنة 1948، لو رجع الأستاذ الفاضل إلى هذا العدد لوجد في صفحة النقد الأدبي مقالاً وضعنا فيه تحت المجهر كتابا من كتب المهجر، هو (حفنة ريح) للكاتب اللبناني سعيد تقي الدين. . حيث وردت هذه الفقرة في ثنايا المقال: (وتعال نستمع مرة أخرى، إنه يتحدث عن تصميم القصة فيقول: ضع لقصتك تصميما كما يفعل المهندس بخريطة البناية قبل أن يباشر البناء، بالطبع حين تجلس لتكتب، سترشد عن الخريطة قليلا ولكن التصميم ضروري. . أن سعيد تقي الدين يذكرنا بقول مارك سوان: يجب أن يكون للقصة تصميم فني كذلك الذي يضعه(900/40)
المهندس المعماري للبناء، أو كتلك المذكرات التي يعدها المحامي قبل مباشرة إحدى قضاياه).
هذا هو ما عقبنا به على إحدى اللفتات المشرقة للكاتب اللبناني، حيث أشرنا إلى مدى التشابه بين رأيه ورأي (مارك سوان)، وهو تشابه يعبر عن النقاء نظرتين في طريق من هذه الطرق التي تتوارد فيها الخواطر تبعا لوحدة الفهم العامة لمشكلة من مشاكل الفنون.
وإذا كان الأستاذ سرطاوي يركز مظاهر الاختلاف بين عمل المهندس وعمل الفنان في أن الأول يضع تصميمه الفني وهو تحت سيطرة (العقل الواعي وحدة الذهن وهدوء الطبع)، وأن الثاني يعمل في جو آخر (يندمج فيه بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي صريعاً تحت ضربات النفس الإنسانية). . إذا كان الأستاذ يركز مظاهر الاختلاف في هذه النقطة فإننا نقف معه مرة أخرى: ترى هل يريد أن يجرد الشاعر والقصاص والمصور والموسيقار من سيطرة (الوعي) في مرحلة الإبداع الفني، لأن كلا منهم لا يعمل إلا في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا تسيطر عليها غير العواطف كما يقول؟ لا يا سيدي! ونقولها لك لملء الفم وبكل ومضة من ومضات الإيمان. . أن مرحلة التخدر الحسي والوعي المسلوب لا تتمثل إلا في حالة واحدة، وهي حالة التلقية الأولى، والإلهام الوليد، فالفنان قد يتلقى الفكرة أول ما يتلقاها عن طريق الإلهام العابر في لحظة من لحظات الذهول، يتلقاها جنينا غير منظم الخلقة ولا منسق التكوين، جنينا تدب فيه الحياة بقدر من النبض والخفوق يتناسب وهيكله الناقص وكيانه الهزيل، إنها الحياة وليست كل الحياة. . أما بعد هذا فليس للعقل الذاهل مجال!
ترى هل يتابعنا الأستاذ سرطاوي ونحن معه خطوة بعد خطوة ونمهد للنتائج في ضوء المقدمات؟ نريد أن تقول له أن المرحلة الأولى من مراحل الإبداع الفني هي مرحلة الوعي الذاهل أن صح التعبير، أما بقية المراحل الأخرى فهي ميدان العمل الحقيقي للوعي العاقل على أصح تقدير. . هذه الفكرة الضئيلة التي يوحي بها إلى الفنان على غير ترقب وانتظار، تسلمها الإلهام العابر إلى العقل جنينا ليكفله بعد ذلك ويرعاه. فالإلهام العابر هنا في لحظة التخدر الحسي هو (المؤلف) الأول لهذه الفكرة الوليدة، أما العقل فهو (المخرج) الفنان الذي يتولى إخراجها على مسرح الفكر بكل ما في الإخراج الفني من قواعد(900/41)
وأصول. . خذ مثلا فكرة القصيدة أو اللوحة أو المسرحية أو السمفونية عندما تنبت في رأس الفنان، إنها في تكوينها الأول لا تفترق في شيء عن تكوين الجنين عندما يكون مضغة لا سمات فيها ولا قسمات، ولكن من يشرف على هذا الجنين يتم له النضج ويكتمل له التكوين وتبعث فيه الحياة؟ إنه العقل الواعي بلا جدال. . العقل الواعي الذي يقول للشاعر: أن (الجو الشعري) لهذه القصيدة يصلح له هذا الوزن دون ذاك، وتتلاءم معه (هذه الموسيقى الداخلية) دون تلك، وإن البناء الفني ينبغي أن يخضع للوحدة الموضوعية على هدى (العلاقة النفسية) بين الفظ والإيقاع. . العقل الواعي الذي يقول للرسام: أحرص على أن تكون النسب الفنية بين الزوايا متعادلة، ضع هذا اللون المناسب لحقيقة المشهد كما رأيته في لوحة الطبيعة، ألق هذا الضوء الباهر من هذا الجانب ركز هذا الظل القائم ليزيد من قوة الإيحاء. . العقل الواعي الذي يقول لكاتب المسرحية: ضع نفسك موضع الشخصية التي تخيرتها لتلغدورها على المسرح، ثم أنطقها بما يمكن أن تنطلق أنت به قبل أن تسجل الحوار، ثم نتبع سير الحوادث كما تتبعه في واقع الحياة، ثم فتش عن الموقف الذي يجب أن يزخر بالانفعال لتلهبه بحرارة الصراع، وهكذا كان يفعل الكاتب المسرحي (بومارشيه). . العقل الواعي الذي فرض على الموسيقار الخالد (بيتهوفن) أن يكثر من (الشطب) في نوته الموسيقية،. . لماذا؟ لأن منطقة (التخدر الحسي) كانت تتعرض لهبوب التيارات العقلية (المنبهة) فيحدث الشطب الذي يعقبه التغيير والتعديل!
إن العقل الواعي لا يسقط صريعاً إلا عندما يستخدمه أصحاب المذهب السريالي أو أصحاب الشعوذة العقلية، أولئك الذين يدافع عنهم الأستاذ سرطاوي بهذه الكلمات: (إن الحركة السريالية ليست في واقع الأمر فوضى فكرية تنسب ظلما إلى الفن) كما يقول الأستاذ المعداوي، بل لعل فيها بعض الشيء الذي لم نستطع تذوقه أو إبصاره، وأبصره وتذوقه بعض من سوانا أن الذين يعرفون أسرار الذرة يعدون على الأصابع، ولكن هل يعني جهل الكثرة من البشر هذه الأسرار أن قوانين تحطيم الذرة مضطربة مشوشة لا يطمئن إليها الفكرة)؟
مرة أخرى نقول للأستاذ الفاضل: لا يا سيدي! أن القياس هنا مع الفارق. . أن (الأبحاث الذرية) تقوم على نظريات علمية ثابتة ليس إلى إنكارها من سبيل، والعلم هو أكثر(900/42)
الظواهر الفكرية دقة ونظاما حتى أنه لا يبلغ الهدف إلا إذا سار في طريق مرسوم. صحيح أننا لا نعرف سر القنبلة الذرية ولكننا نعرف نتائجها الواضحة. . أما (الأبحاث السريالية) فلا نعرف لها هدفا تسعى إليه، ولا تدرك لها العقول مرمى ولا نتيجة، ولا تهتدي الأذواق فيها إلى شيء من الدقة والنظام! قلنا فوضى فكرية أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش ومقاييس معقدة أو مزلزلة. . والفوضى الفكرية لا يمكن أن تنتج فنا بمعنى الفن أو علما بمعنى العلم، لأن كليهما يضيق بكل مظهر من مظاهر الزلزلة والارتجال.
أي فن هذا الذي لا نستطيع أن نتذوقه ويظل تذوقه مقصورا على منتجيه؟ أهذه هي رسالة الفن؟ أهذه هي مقوماته ومراميه؟ بالطبع ليس الأستاذ سرطاوي في حاجة إلى أن نشرح له رسالة الفن وما يشترط لهذه الرسالة من مقومات. . ولكن حسبنا أن نقوله له أن هذا العصر الذي نعيش فيه أصبح يثور على كل فنان يستخدم فنه للتعبير عن مشاعر فردية أو ذاتية، مهما بلغ من كمال الوعي ووضوح التعبير وجمال الأداء فإذا كانت هذه هي طبيعة العصر وهذا هو ذوقه، فكيف يكون موقفه من الفنان السريالي الذي يعبر عن مشاعره الخاصة وهو في غيبوبة عقلية متصلة يتنجز معها كل وعي وكل وضوح وكل جمال؟!
ومالنا نذهب بعيدا وبين يدينا هذا المعول الهام الذي بهوى به أحد أقطاب المدرسة السريالية على زملائه القدامى في غير رفق ولا هوادة؟ لقد كان واحدا منهم في يوم من الأيام، أما الآن فقد عاد إلى رشده وثاب إلى عقله واهتدى إلى الطريق القويم، وعاد إليه عشاقه ومريدوه بعد أن انفضوا من حوله في أعقاب الحرب العالمية الأولى يوم أن بشر في هذا التاريخ بمولد فن جديد أو بثورة جديدة على هذا الفن العتيق الذي لم يعد يصلح لأبناء هذا الجيل ويعني به فن دافنشي ومايكل أنجلو ورفائيل ورميرانت. . كان هذا الثائر على فن أولئك العباقرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى هو الرسام الإيطالي العظيم (دي شريكو)، يقاسمه في حمل لواء الثورة والزعامة زميله الرسام الفرنسي (بيكاسو) وكلاهما كان يحمل اللواء في وطنه: هذا يدعو إلى المذهب السريالي بين مريديه من الفرنسيين وذاك بين مرديه من الإيطاليين. . ولنستمع إلى دي شريكو وهو يصوب سهام نقده إلى المدرسة التي كان بالأمس واحداً من زعمائها المبرزين: (إن مدرسة السيالزم قد أنتجت لوحاتها في مستشفى الأمراض العقلية. . وإن محاولتها في خلق فن جديد قد بلغت أوج(900/43)
الفشل والإخفاق، لأنها محاولة للسمو بالقبح والحط من قيم الجمال. . . إنه عجز المرضى وشذوذ الفاشلين، حين يتحللون من كل قيد ويمسكون بالفرشاة ليرسموا ما لأعين رأت ولا خطر على عقل بشر. . إنها مدرسة التحلل والانحلال، مدرسة الرذيلة المعبرة عن النزوات المعقدة والغرائز المكبوتة)! وهذه الكلمات تنطق على المذهب السريالي في كل فن من الفنون.
وأخيراً بعقب الأستاذ سرطاوي على ما درنا حوله من صلة بين الجمال والنظام فيقول: (ترى حل حقيقة أن الجمال مرتبط بالنظام؟ وأننا إذا أوجدنا النظام خلقنا الجمال؟ لست أدري، وإنما يخيل إلي أن إيجاد النظام كثيرا ما يعجز عن خلق الجمال، فالطبيعة جميلة لسبب واحد، ذلك لأنها فوضى شاملة، وإسراف في عدم النظام)!
مرة ثالثة نقول للأستاذ سرطاوي: لا يا سيدي! لقد فهمت (الحرية) على أنها (الفوضى) وشتان ما بين المعنيين من فروق. . أن مشهدا من مشاهد الطبيعة يتمثل في غابة من الغابات يلتف فيها الشجر وتتشابك الغصون مشهد جميل، جميل لأن الأشجار تلتف في حرية وتنمو في حرية فلا تقف في وجهها الحوائل والمعوقات، جميل لأنه (متحرر) من ذلك القيد) الذي تلحظه العيون في مقص البستاني حين يرسله في أشجار الحدائق بقصد (التقليم) والتشذيب، جميل لأنه يد الله هي التي (نظمته) وليست يد الإنسان. . هي حرية وليست فوضى، لأن الفوضى لا يمكن أن تقترن بالجمال، ولأن الحرية لا تناقص النظام!
أما تلك الفروق بين الحرية والفوضى وموقعها من الجمال في الفن فقد سبقنا إلى تسجيلها الأستاذ العقاد في عدد سبتمبر من مجلة (الهلال)، في مقال قيم عنوانه (الفن والحرية). . ومن العجيب أننا قبل أن نطلع على مقال الأستاذ العقاد كنا سنشير إلى نفس الفروق التي أشار إليها دون اختلاف كبير في المعاني والأهداف. ولكن ما دام هناك أناس لا نأمن اتهامهم لنا فيما لو عرضنا لهذه الفروق وقد سبقنا إليها كاتب آخر، فلا بأس من أن نستشهد برأي الأستاذ العقاد ونغفل رأينا الخاص، لأنهما يلتقيان في مجال واحد هو مجال العرض والتمثيل. وهذا هو رأي الأستاذ العقاد وإنه لجدير بكل احترام وتقدير:
(والفن الجميل مدرسة النظام كما هو مدرسة الحرية. فهل في ذلك عجب؟ قد يبدو فيه العجب لمن يحسب أن الحرية تناقص النظام، أو يعتقد أن الحرية تبيح لصاحبها أن يخرج(900/44)
على كل نظام. ولكن الخروج على النظام هو الفوضى وليس هو بالحرية، ولا مشابهة بين الفوضى والحرية في صورة من الصور، بل هما شيئان متناقضان، وقد يكون الفارق بينهما أبعد من الفارق بين الحرية والرق في أثقل قيود الاستبعاد.
فالحرية كما قدمنا هي أن تختار، والفوضى هي أن تفقد بكل اختيار وأن تختلط عليك الأشياء فلا ترى فيها محلا للتمييز والإيثار!
نقول: هذه فوضى، ونفهم من ذلك أننا فقدنا النظام وفقدنا الحرية، فلا نحن مستقرون ولا نحن أحرار. . ونقول: هذا جميل فنفهم من ذلك أنه تنسيق سليم من شوائب الخلط والاضطراب فهو نظام، ونفهم منه أيضاً أننا نستحسنه ونختاره فهو حرية، وما من شيء غير الفن الجميل يمنحنا هاتين النعمتين النفيستين نعمة الحرية ونعمة النظام مجتمعتين)!
أنور المعداوي(900/45)
الأدب والفن في اسبوع
للأستاذ عباس خضر
مهزلة الجمل
جرت مناقشة طريفة بين فضيلتي المفتي السابق والمفتي الحالي فيما يتبع في الاحتفال بالجمل الذي يحمل كسوة الطعبة، من طوافه سبع مرات بمكان الاحتفال وتقبيل مقوده عند تسليمه لأمير الحج وتجمع الناس وتسابقهم إلى التبرك بالجمل وما يحمل. . . كتب المفتي السابق في جريدة (الأساس) جوابا عن سؤال، قال إنها بدعة سيئة لا يقرها الدين. فكتب المفتي الحالي في (المصري) كلاما عجيباً دافع به عن المحمل) وما يلابسه من الأعمال التي أنكرها المفتي السابق.
ووجه العجب في كلام المفتي الحالي أن فضيلته - وهو مفتي الديار المصرية - لم يستند إلى أصل من أصول الدين، بل أخذ فضيلته (الجلالة) فراح يصف مشاعر الناس واهتزاز نفوسهم عندما يرون الجمل وتقبيل مقوده ذاهبا إلى أن ذلك يذكرهم برب الكعبة التي يحمل الجمل كسوتها. . . وزاد على ذلك فقال أن هذا تجديد في الدين!
وما أخال فضيلته إلا مسلما بأن الله خالق كل شيء ورب كل شيء، وكل شيء يذكر به تعالى. وإذا كان يصح التبرك بالجمل ومقوده لأنه يحمل كسوة الكعبة، أفلا ينبغي أن يكون للتبن الذي يأكله الجمل نصيب من ذلك التبرك والتقديس. . .؟ وهذا البرسيم الأخضر، ما قول فضيلته فيه وهو الذي يكسب الجمل القوة التي يقتدر بها على حمل محمله. . .؟
إن مشاعر الناس يا سيدي أن تتعلق بكل شيء، وكل ما يعبد ويقدس - حقا أو باطلا - تهتز له نفوس عابديه ومقدسيه. وأنتم - مصابيح الدجى وأعلام الهدى - ملكون الإرشاد والتنوير وتوجيه العقول والمشاعر إلى ما يجدر أن تتوجه إليه. ولا أحسب من ذلك هذه المهازلة (المحملية) ومواكبها المزرية التي تصفونها بأنها تجديد في الدين. وهي أدنى إلى العبادات البدائية الخرافية.
أي تجديد هذا يا فضيلة الأستاذ؟ ومن هو المجدد المصلح الذي جدد في الإسلام بتقبيل مقود الجمل؟ هل رأى ذلك المجدد أبقاء أركان الإسلام خمسا فقط جمود ديني لا يتفق وروح العصر الحديث فأضاف (جمل المحمل) إلى الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد؟!(900/46)
إذا كان ذلك أفلا ترون فضيلتكم أن هذا الاحتفال (المودرن) بالجمل والتبرك به وتقبيل مقوده، جدير بأن تعمل له أفلام تعرض بدور السينما في مصر والخارج لجذب الأنظار إلى ما جد في الإسلام؟! وإذا وقفت في سبيل ذلك رقابة الأفلام في وزارة الداخلية بحجة أنه يسيء إلى سمعة المصريين في الخارج لما فيه من مناظر غير لائقة، فالبركة في فضيلتكم، وهمتكم كفيلة بإقناعها بأن التجديد في الدين لا ينبغي أن تقف في سبيله تلك الاعتبارات!! أليست نفوس الناس تهتز ومشاعرهم ترق؟ مقال أو بيان آخر مثل الذي نشر في (المصري) يذلل هذه العقبات التي تقف في طريق أحدث وأعجب (تقدمية) رأيناها في العصر الحديث. . .
الروحانيات
حضرة المحترم الأستاذ عباس خضر
لعلك لم تنسى يا سيدي بع أمر ذلك الكتاب الروحي الذي قدمت إليك نسخة نته عن طريق (الرسالة) وأحسبك لم تطلع عليه بتمامه وإلا لعلمت من نبأه ما يبدو لي أنك لم تعلمه.
والواقع أم هذا الكتاب ليس مما يتسنى لفرد، أو أفراد، القيام به، وهو لم يقصد بنشره تحقيق رغبة مادية أو الوصول إلى غاية دنيوية، بل هو كتاب روحي وضعت فكرته وصاغت عباراته وأعانت على إخراجه جماعة الأرواح القائمة بتوجيه الناس روحياً. وكان صدوره في هذه الظرف تنفيذاً لمشيئة الخالق، إذ قضى تعالى استصلاحاً لهذا العالم الذي تزايد فساده أن تزول المادية التي تحكمت في النفوس واستبدت بالعقول وساقت الناس إلى هذا المصير الذي أوله شقاء وآخره فناء. فجاءت (الوساطة الروحية) تدعو كل مخلص للإنسانية أن يعمل ما مكنته شجاعته وأعانته همته على إخراج الناس من ضلال المادية وتخليصهم من إسارها. وذلك ليصبحوا جميعاً إخوانا يساند قويهم ضعيفهم ويعطف غنيهم على فقيرهم، وبذلك يستقيم أمرهم وينصلح بالهم ويستقر عالمهم.
وقد كان المفروض أن يكون أولئك الذين زعموا أنهم هم الجديرون بأن يكونوا أصحاب الرأي وقادة الفكر أكثر الناس اهتماما بهذا الأمر غير أن أحداً من أولئك المفكرين والعلماء والقادة والزعماء الذين توجه إليهم الكاتب بهذه الدعوة في الكتاب لم يهتم بها، إذ كان هم الأكثرية الجري وراء المال ثم العودة به لإنفاقه في سبيل الاستمتاع الدنيوي. وهكذا مضت(900/47)
خمسة عشر شهراً و (الوساطة الروحية) لا تجد من يلتفت إلى دعوتها أو يستمع إلى كلمتها وهنا شاء القادر أن يحقق ما قضى تحقيقه، فبعث تعالى على الماديين واتباعهم وأنصارهم وأشياعهم عباداً له أولي بأس شديد ليجوسوا ديارهم ويحاسبوهم على سوء فعلهم.
وها هي يا سيدي تلك الأحداث التي جاء ذكرها في (الوساطة الروحية) التي لم يصدق بها أولئك الذين شغلتهم دنياهم قد أخذت تحدث، وهي ماضية في حدوثها لتصل في اتساعها وامتدادها وتزايدها واشتدادها إلى نواحي العالم، قريبها منا وبعيدها. وسنحصد نحن منها فيما سنلاقيه من ويلاتها وتقاسيه من عذابها ما فرضه علينا قادتنا وسادتنا العاكفون على عبادة المادة ومفكرونا وعلماؤنا الذين أبت عليهم كبرياؤهم أن يستجيبوا لدعوة الحق.
اللهم إنا نشهدك أننا قد بلغنا رب أهدني وقومي فإنهم لا يعلمون
عبد اللطيف محمد الدمياطي
تلقيت هذا الكتاب من صاحبه الأستاذ عبد اللطيف محمد الدمياطي، وكان قد تفضل فأهدى إلي نسخة من كتابه (الوساطة الروحية) الذي يتحدث عنه، فتصفحته عاجلا وقدمته إلى قراء الرسالة بنبذة قصيرة في (كشكول الأسبوع) أشرت فيها إلى أهمية الكتاب من حيث إنه يضيف إلى المكتبة العربية لونا من الدراسات الروحانية ليس كثيرا فيها. وأنا أحيانا لا أجد بأسا أن أقدم (طبقاً لا أشتهيه - وقد لا أسيغه - عساه يجد من يقبل عليه، أقدمه إجمالا، لا أتعرض لتفصيلاته، ولا أتصدى لنقده، وقد فعلت ذلك إزاء هذا الكتاب لأني لست من المختصين بموضوعاته ولا أجد في نفسي ميلا إليها، ولا في (روحي) استجابة لها. ولعل ذلك لأنها ليست شفافة كأرواح (الروحانيين) أو كما يقولون مادية كثيفة.
على أنني لا أدري: هل أنا روحي أو مادي: وأريد أولا أن أعرف معنى (الروحية) وأين توجد. هل هي في التواكل والأوهام والخرافات، فمن مقتضياتها أن يقعد الإنسان معتقدا أن ماله سوف يأتيه، وأن يرضي عن عجزه بل يفلسفه بأن الرزق من نصيب الجهلاء والحمقى وأن العقلاء قضى عليهم بالشفاء والحرمان، وأن يعتقد أن الله ناصر لأن الحق في جانبه فيظل ينتظر الظفر من غير أن يعمل له ويتخذ له العدة، وقد تنتهز حلول ليلة القدر فيصعد إلى السطح ليبعث بأمانيه أو (أوامره) إلى السماء. . أو هل الروحية في التنجيم والفنجان والكعب واستحضار الأرواح لقراءة السؤال المكتوب في الورقة المطوية والإجابة(900/48)
عنه أو للدلالة على الفاعل في حوادث السرقة وغيرها؟ أو إحضار روح شاعر ليملي شعر لو نسب إليه في حياته لما رأى شيئا أبلغ في إيذائه من نسبته إليه؟
إن كانت الروحية كذلك فلست منها في شيء. ولست في حاجة إلى أقول إني لا أؤمن بخوارقها لأني لا أستطيع أن أستغني عن عقلي أبدا، فلست أفهم إلا النتائج المستخلصة من المقدمات المنطقية، ولست أرى حقا إلا ما أدت إليه الأسباب المحسوسة، وجماعة الأرواح لا أحس بوجودها ولا أقتنع بدليل يدل على إرادتها في أمور حياتنا، ولا أوافقها - على فرض وجودها - في العمل على تخليص الناس من المادية أن كان يراد بها ما يستحدثه العلم الطبيعي من وسائل خدمة الإنسان وتوفير الراحة والمنفعة له في حياته المادية، ولا أريد للضعفاء والفقراء إلا أن يعوا أسباب ضعفهم وفقرهم ليتخلصوا منها، وأعتقد أن قانون الحياة الذي لا يدافع هو أن لا يستطيع الإنسان أن يأخذ حقه من الإنسان، لا أن ينتظر حتى يشعر بالعطف عليه. والإنسان الطاغي لا يقفه عند حد العدالة والإنصاف إلا أن يرى قوة من يريد أن يطغى عليه. والحكام والزعماء يعلمون بروح الدساتير والديمقراطيات وما إليها إلا لأنهم يشعرون بقوة الشعوب وما نسميه الرأي العام الذي يخشون غضبته.
ذلك هو منطق الواقع المادي الذي أدين به، فأنا إذن (مادي) رويدك لا تظن أني قد نبذت الروحية، فلا يزال بنفسي معناها الحقيقي، وهو شعور الإنسان بجمال المعاني النفسية والسلوك الإنساني الكريم، ذلك الشعور الذي يخلق في المرء روح التعاون والتكافل الاجتماعي. على أن يكون ذلك ممتزجا بالواقعية في مواجهة مسائل الحياة وبالمنطق المعقول في فهم الأشياء.
ولا شك أن من الخوارق التي لا أومن بها أن (جماعة الأرواح) وضعت فكرة كتاب (الوساطة الروحية) وصاغت عبارته وأعانت على إخراجه. ولا استكثر تأليفه على أحد ممن يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وأنا أعرف مؤلفه شخصيا وهو على درجة من الثقافة لا يستبعد معها تأليف الكتاب، وهو يقول - لإثبات أن الأرواح هي مؤلفة الكتاب - إنه لم يتلق تعليما مدرسيا كافيا. وهل يعوق حرمان التعليم المدرسي عن التثقيف الذاتي؟
ذلك ما أراه، ولست أفرضه على أحد، وليعذرني الأستاذ الدمياطي في التصريح به، أو فليسلط علي روحا من أرواحه تقنعني بخلافه. . .(900/49)
لم التعجل؟
كتب مندوب الأهرام في الإسكندرية عن أنباء حلقات الدراسات الاجتماعية التي ستعقد بالقاهرة ابتداء من 22 نوفمبر المقبل، وقال أن معالي وزير الشؤون الاجتماعية اجتمع بمعالي وزير الخارجية بالنيابة، ثم صرح له بأن الحديث خلال هذا الاجتماع (تناول ضرورة الاتصال بحكومات الدول العربية المدعوة إلى حضور الحلقة الدراسية القادمة، لإيفاد مندوبين ممتازين ليؤلفوا مع مندوبي مصر جبهة قوية للدراسة والتمحيص وعرض المشروعات والمقترحات المثمرة الكفيلة بالقضاء التام على الزعم بأن الشرق الأوسط مرتع خصيب للشيوعية)
وكنت أود أن أقرأ الفقرة الأخيرة هكذا: (. . والمقترحات المثمرة الكفيلة بالقضاء على العوامل المهيأة للدعوة الشيوعية في الشرق الأوسط) فهذا أدنى إلى ما أجمع الناس عليه من ضرورة العمل على تهيئة أسباب الحياة الكريمة في مجتمعاتنا الشرقية حتى تتحصن ضد الشيوعية. أما أن نفرض - قبل الدراسة والتمحيص أن الشرق الأوسط منيع أمام الشيوعية، إلى أنه من تعجل النتيجة قبل البحث - ليس غرضا يقصد لأنه لا يؤدي إلى غاية علمية.
واست أدري لماذا نريد أن نثبت أن القول بأن الشرق الأوسط مرتع خصيب للشيوعية زعم باطل؟ ولمن نثبت هذا؟ الأهل الشرق حتى ينام القائمون على أموره عن إصلاح حاله، وحتى يطمئن منهم الاطمئنان.؟ أم نريد أن نثبت ذلك لأهل الغرب حتى لا يحلو على الشرق في ضرورة الإصلاح المانع من التمهيد للنفوذ الروسي؟
وحلقات الدراسات الاجتماعية ستتألف من علماء وباحثين ومفكرين، ولا يليق بها إلا أن تسلك الطرق العلمية في دراستها وأبحاثها، ولم يعلم أحد بعد ما ستتمخض عنه هذه الدراسات، فمن الجائز أن تؤيد الزعم بأن الشرق الأوسط مرتع خصيب للشيوعية، وتضع المنهج الكفيل لا بالقضاء على (الزعم) بل بالقضاء على الخصب الشيوعي نفسه. فلم التعجيل؟
عباس خضر(900/50)
البريد الأدبي
قيود الثقافة في مصر
منذ أيام قريبة قرأت في بعض الصحف، سؤالا لشاب أزهري كتب يقول: (أنا طالب أزهري حاصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من معهد القاهرة وأجيد الفرنسية والإنجليزية إجادة تامة؛ فهل يجوز لي الالتحاق بكلية الآداب؟) ونشر مع السؤال رأي سعادة عميد كلية الآداب ونصه: (لا يمكن قبول الطالب بكلية الآداب، وفقا للوائح التي لا تزال متبعة إلى الآن
وأمر هذه اللوائح عجيب حقا، فهي التي تسيطر على التفكير الحر في مصر، وكيف يمكن إقناع الطالب المسكين الذي يريد إكمال دراسته بقسم اللغة بكلية الآداب بأن رد العميد عادل ومعقود ولم فات معالي الدكتور طه حسين بك أمر هذه اللوائح حين كان عميدا لكلية الآداب. فأمر بقبول عدد كبير من طلاب الأزهر بكليته، ونظم لمن لا يعرف منهم لغة أجنبية دراسات خاصة، فكانوا أكثر خريجيها نشاطا وإنتاجا؟.
ولا تزال هذه اللوائح أيضاً تحول بين أساتذة الأزهر وحرية التقديم لشهادات كلية الآداب، والانتظام في دراستها، وقد حدث أن تقدم أستاذ يحمل أرقى شهادات الأزهر العلمية إلى كلية الآداب، بجامعة فؤاد يرجو أن تسمح له يا بالتحضير لدرجة الدكتوراه التي تعادلها شهادته الحاصل عليها من الأزهر في حكم النظام المالي الذي تعرفه الدولة، وفي حكم طبيعة الثقافة ومدة الدراسة ونوع الشهادة، فردت عليه الكلية بأن اللوائح المتبعة لا تسوغ إجابة طلبه!!
أتظل يا سيدي هذه اللوائح والقيود والأفكار القديمة تتحكم في مصير الثقافة في مصر في القرن العشرين؟
محمد عبد المنعم
أستاذ بكلية اللغة العربية
معبودة الجماهير
بهذا الوصف وصفت إحدى الفرق التمثيلية راقصة قامت بدور شيطاني في الأفلام(900/52)
السينمائية. والأفلام السينمائية عندنا لا يقبل الجمهور على مشاهدتها إلا إذا كانت حافلة بمشاهد الرقص المثير،. .
وكيف تنشر الإعلانات في الصحف على هذا النحو. . وبتلك الصيغة؟!. . .
معبودة الجماهير؟!. .
أي جمهور هذا الذي (يعبد) راقصة. . تتلوى على الشاشة. بماذا نحكم على هؤلاء (العبيد) ولا أقول العباد. لأنهم عبيد شهواتهم، استعبدهم الشيطان واستدلهم، وزين لهم أعمالهم، فصدهم عن السبيل؟!. .
وأية جرأة بلغت هؤلاء المهرجين إلى إطلاق كلمة (معبود) على راقصة كل همها إثارة الشهوات الكامنة في النفوس، وإشباع نهم قوم لا يشبعون؟!.:
إنها وربي لأضحوكة من هذه المضحكات التي يزخر بها المجتمع في مصر. . وكم ذا بمصر من مضحكات؟!. .
اللهم أن هذا منكر لا يرضيك. نعوذ بك منه، ونسألك الهداية والتوفيق!. .
عيسى توفيق
سويا لا تؤدي معنى (معا) بل معنى كاملا تاما
طالعت بمجلة الرسالة الزاهرة بالعدد رقم 897 كلمة حول سويا للأديب المحترم كمال رستم يصوب فيها سويا بمعنى معا، ولغة الضاد لا تؤدي هذا المعنى الذي أرتاه، ولم يرد في كلام العرب شاهد يؤيد صحة ما ذهب إليه وابن منظور المصري حجة في هذا المضمار وأين بحوثها فقد جاء في لسان العرب الطبعة الأولى. ص 143 ج 19 في تفسير (ثلاث ليلي سويا) ما نصه: قال الزجاج لكان قال زكريا لربه اجعل لي آية. أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به كما آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالي سويا أي تمنع الكلام وأنت سوي لا أخرس فتعلم بذلك أن الله وهب لك الولد وسويا منصوب على الحال.
وقال أبو الهيثم: السوي فعيل في معنى مفتعل أي مستو قال والمستوي في كلام العرب (التام)
وقد ورد تفسير (ثلاث ليالي سويا) في البحر المحيط ج 6 الطبعة الأولى ص 171 -(900/53)
سويا حال من ضمير ألا تكلم أي في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة - وعن ابن عباس: سويا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث وذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر ثلاث أيام بلياليهن: فسويا لا تؤدي إلا معنى كاملا أو تاما ليس غير والصواب كل الصواب ما قاله صاحب لسان العرب والبحر المحيط، وماعداه. فالغبار عليه واقع، ماله من دافع، وفقنا الله إلى السداد وجعلنا من (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب)
حسين سلامة دياب
المدرس بمدرسة طعمة - البداري(900/54)
القصص
ذلك الساحر!. .
للأستاذ يوسف يعقوب حداد
نفض ياغنيني عن جسده ذلك الوشاح الشاحب، الذي حاكه المرض، وترك فندقه ليتنفس الهواء الرطب، وليرقب الحياة في شوارع باريس!
وما كاد يقطع في بهو الفندق خطوات، حتى لفت نظره على الباب امرأة بدا على لباسها البذخ، وعلى مظهرها الرفعة. . . كانت تتحدث إلى البواب، وتشير نحوه باهتمام!
وياغنيني ذلك الأحمق الذي يضيع الفرصة إذا واتته، لم يكن ذلك الذي زهد في النساء وابتعد عن الحب. . . لقد جاء باريس وهو يشكو المرض الذي أورثه إياه الحب، ويعاني الضعف الذي أخذه في الانهماك في طلب اللذات!
وأسرع ياغنيني وراء المرأة، ولكنها كانت قد اختفت عن ناظريه في منعطفات الطريق!
وراحت خطواته تذرع - الشانزليه - وتضرب رصيفه ضربات هادئة، متثاقلة. . . وبينما كان الموسيقار الشهير، ساحر النساء وفاتن عقول الفانيات، يسير على الرصيف مطرق الرأس، مشغول البال في المرأة التي أضاعها، وأفلتها من بين يديه، إذا به يلمح عربة فخمة، تترجل منها سيدة، وتدخل واحدة من هذه المقاهي المزروعة على الرصيف!. . . يا للمصادفة!. . . إنها هي بنفسها!. . . تلك المرأة التي رآها على باب الفندق منذ لحظات! وأسرع يدخل المقهى، ويتخذ مجلسه أمامها. . .
وحاول أن يلفت إليه نظرها، ولكن المرأة الجميلة، ذات الرأس الصغير، والشعر المرصع، الأبقع، والأنوثة الناضجة ما، كانت لتترك جريدة في يدها، وتلتفت إليه! ولم يطق صبراً. . .
كان إذا أراد امرأة حاول المستحيل ليظفر بها. . . هكذا خلقه الله، يشتهي النساء، ويلقى عندهن الخطوة!. . . ما ذنبه هو؟
وأرسل إليها على بطانته، كلمة صغيرة يسألها فيها أن يتحدث إليها. . . ودفع بها إليها مع النادل!
لم يصدق ياغنيني عينه، حين قرأ ردها. . أنها لترحب به وترجو بحرارة ألا يتردد في(900/55)
التعرف عليها. . . إنها فرصة كانت تسعى للحصول عليها منذ سمعته يعزف ألحانه الساحرة على قيثارته! وتحدثا عن كل شيء. . . وراح ياغنيني يتأمل هذه الحمامة في كثير من الحب والشغف!
وعرفته بنفسها. . .
(أنا يا صديقي زوجة رجل صناعي كبير. . رجل مشغول دائماً بمشاريعه وأعماله!)
ودعته المرأة لمشاهدة حفلة راقصة تقام تلك الليلة. . وطبعاً، لم يرفض ياغنيني هذه الدعوة، ولكن على شرط. . أن يعود بها إلى منزلها بعد ذلك!!
كان الليل أبدع إطار يضم صورة عاشقين. . . وكانت العربة كثيرة الرفق بهذين المغرمين، سارت بهما إلى مخدع المرأة سيراً رفيقاً رهيناً، النجوم تضيء لها الطريق، والقمر ينشد أغاني الغرام وكانت ليلة!. . .
ليلة، جددت شباب الموسيقار. وأعادت إليه فتوته. . . وما ادخرت المرأة وسعاً لإشباع الرجل من الحب، واللذة! ونام ياغنيني على أنعم ذراع، وكانت زوجة الصناعي الكبير خبيرة في شؤون الحب
وفي البكور - نهض الموسيقار ليودع مخدع غرامه، على أن يعود إذا ما أكتشف الرجل الصناعي الكبير مشروعا جديداً!. ولكنه ما كاد يجتاز عتبة الباب، حتى التقى برجل قدم إليه رسالة مختومة في صينية من خالص الذهب. . وكم كانت دهشة الموسيقار عظيمة، حين فض الرسالة فوجدها قائمة الحساب!!
واحتقن وجهه بالدم. . . أتكون هذه المرأة قد خدعته؟! أيحسب نفسه قد فاز بسيدة عريقة، نبيلة ولم يكن إلا ضحية بغي من بائعات الهوى الرخيص.
وسدد نحو فك الرجل لكمة عنيفة. . . وخرج!
لم يكن ياغنيني قد نسي حوادث الليلة الماضية، فهو لا يزال شديد الحنق على تلك المرأة التي خدعته. ما وقع مرة في الشباك، ولا اقتنصته امرأة. . . كان دائما هو الصياد والنساء صيده الثمين!. . . أفيكون اليوم ضحية بغي من بنات السبيل؟! وجاءه من يدعوه لحفلة يقيمها وزير الداخلية.
(إن الحفلة يا صديقي ستكون على أروع ما يمكن أن تكون حفلات باريس، ولى أن أحدثك(900/56)
عن الحسان اللواتي ستضمهن القاعة الفخمة. . . أريدك أن ترى كل شيء بعينيك.
ووقف ياغنيني مأخوذاً أمام روعة الصالون وفخامة، وجمال النساء، وسحر منظرهن، ولكن. . . رويداً. . . من عساها تكون هذه الجميلة التي تستقبل المدعوين بهذه العظمة وتلك الابتسامة الساحرة؟!. . من تكون؟. . من تكون؟. . رباه، أممكن هذا؟. أتكون هي بنفسها. تلك المرأة التي خدعتني بالأمس؟
وتقدم من الوزير، وسأله في حيرة بالغة، ودهشة كبيرة: سيدي. . . هل تعرف تلك المرأة التي هناك؟.
فابتسم الوزير، وقال لضيفه الكبير:
نعم. . . ألم أقدمك بعد إلى زوجتي؟
وأخذه في يده. .
هنريتا. يا عزيزتي. . . هل لك في أن ترحبي بضيفنا الموسيقار الشهير، نيقولا ياغنيني؟
ولبست المرأة ثوب الثعلب، وقالت، وهي تنحني للضيف العزيز: لي الشرف بالتعرف على الموسيقار الشهير الذي سحر الدنيا بأنغامه. وترك الوزير زوجته لترحب بالضيف (العزيز)!. . . فمدت نحو أذنه فمها العنابي وشفتيها الساحرتين وهمست: - أتدري كدت تقتل أخي بتلك اللكمة القاتلة.
وكادت امرأة باريسية تذهب بصواب الموسيقار الذي لم يخنه سحره في النساء:
يوسف يعقوب حداد
البصرة(900/57)
العدد 901 - بتاريخ: 09 - 10 - 1950(/)
سياسة التعليم. . . .
للأستاذ أحمد بك رمزي
(إن بث العمران والتقدم في هذا البلد المتخلف عن غيره يمثل رسالة الجيل الناشئ: وإيجاد جيل يؤمن بهذا ويعمل له ويكافح من أجله هو هدف كل سياسة تعليمية).
لست من رجال التعليم والتربية، ولكنني من أهل هذا الوطن، ومن حقي أن أبدي الرأي وأجهر به في كل ما يمس حياة بلادنا. وأهم مشاكل مصر وأبعدها أثراً مشكلة التعليم، وهي مشكلة تسير كل عام نحو التعقيد ولذا لا أجد حرجاً على نفسي أن أكتب فيها وأقول: إذا كان للتعليم سياسة فهي كما قال الأستاذ محمد محمود زيتون (أحق من أي سياسة أخرى بالثبات والاستقرار ولا سيما في جوهرها).
وفي نظري إذا قدر لسياسة تعليمية أن تستقر وتثبت على أسس صالحة واضحة فيجب أن تلائم بين أمرين مهمين:
الأول: حاجة البلاد الاقتصادية.
الثاني: مسايرة الثقافة العامة لروح العصر الحالي.
هذا مع التمسك بأن كل سياسة تعليمية لها هدف أساسي هو نشر الثقافة القومية وغرسها في نفوس النشء لكي تشعر بحيويتها وتعيش في فيضها الأجيال القادمة وتتولى حفظها والسير بها في المستقبل، مع عدم التفريط في توجيه القوى النفسية الدافعة الكامنة في الأمة حتى يخرج الجيل القادم قوياً: يعرف كيف يواجه ضربات الحياة ومشاكلها وبهذا نضمن أن تخرج الأمة من كل عراك سلمى أو تصادم حربي منتصرة رافعة الرأس صابة لا تلين أمام الهزائم ولا النكبات.
ولا شك في أن العمل للوصول إلى هذه الغاية يحتم الإلمام بطائفة من المبادئ التي تبنى عليها قواعد غرس هذه الروح القومية الوطيدة القوية الواعية، وكذلك معرفة العوامل الأساسية المكونة لشخصية الجماعات والدوافع الفكرية وهي مسائل في حاجة للبحث وللدرس ولاستخلاص الحقائق: فإذا وقفنا لدراسة علمية لها للتثبت منها تبين لنا بوضوح طريق الوصول إلى التكوين الروحي والعقلي للامة وسبل إبرار العبقرية الكامنة لدينا واستعدادنا للتطور والنضوج. وهذه في نظري عوامل منبثقة من شخصية الأمة وتاريخها(901/1)
الإسلامي ولا يمكن أن تكون عارية تؤخذ من أنظمة موضوعة أو برامج تعليمية أخذ بها الغير في الغرب أو الشرق. وهذا البحث النظري التجريبي لم نأخذ به للأسف إلى الآن. ولقد قلت مرة: (لما ثقافةواحدة نريد أن تكون صورة حية لنا وهي الثقافة العربية وليدة كفاحنا وجهادنا، لا نسلم بان تطفئ عليها ثقافة أخرى لأنها الأساس الثابت المكون للشخصية المصرية فلا يمكن أن نتنازل عنها أو نقصر في حقها بل يجب أن تبرز الثقافة العربية في كل ركن من نواحي نشاطنا).
ولذلك لا أجد مبرراً للتردد أمام هذه الحقيقة ولا أجد سبباً للمجاهرة (بأننا أمة شرقية للفرعونية والإسلامية في دمائنا كرات حمراء وبيضاء، وللحضارة الحديثة في حياتنا أصداء. .) - كما قال الأستاذ زيتون في الرسالة - فهذا المخرج لا محتل له أمام الأيمان بعروبة مصر) فنحن معاشر المصريين نكون أمة عربية ثقافتنا عربية سامية: ولا يمكن أن نكون غير ذلك وإلا وقعنا في المتناقصات وواجهتنا خطوات التعثر والتفكك التي نعيش فيها الآن ولا نجد لنا منها مخرجاً. . . ولا نستطيع عنها حولا. وعليه فأني أقول بأن الإيمان بعروبة مصر هو الذي يمهد لنا طريق البحث والاستقراء في اكتشاف منابع الحياة الفكرية والعقلية بل والنفسية في الأمة وسبل توجيه اللغة والأدب والفنون الجميلة والصحافة والإذاعة وكل مظاهر الحس والوجدان نحو تقوية أنفسنا وإذكاء هذه الثقافة وغرسها وإنمائها ودفعها وانطلاقها أي جعل اللغة الفصحى الصحيحة حية في كل مكان - في لغة التعكير والكلام والعلم والكتابة والحقل والمصنع - وعليه أضع معلم اللغة العربية في المقام الأول من المسئولية وأعده الدعامة الأولى لمستقبل البلاد، وأرى أن يتفرغ لهذه الناحية بالذات وأن ينظر إلى رسالته نظرة يحوطها التقديس، ولا يتولى عملا غير لغة البلاد وحماية ثقافتها، التي أعتبرها أكبر عناصر الشخصية المصرية وأعلى مظهر لعبقريتها. فإذا اتفقنا على هذا الأساس، ولا بد أن نسلم به تسليما انتقلنا إلى أهداف السياسة التعليمية كما تبدو لي.
وهنا أعود إلى الكلام عن الأمرين الهامين أي حاجة البلاد الاقتصادية ومماشاة أو مسايرة السياسة التعليمية لروح العصر الحاضر. فنحن لا نشك لحظة واحدة في أن كل سياسة للتعليم تستمد قوتها وتوجيهاتها من الروح السائدة الآن في العالم وهي علمية اقتصادية '(901/2)
ولا أعرف لها مظهراً آخر ولا أخلط بين الحضارة الحديثة والإسلامية والفرعونية.
فنحن نطالب بأن تتجه السياسة التعليمية نحو الملائمة بين مطالب العصر وهي علمية اقتصادية وحاجات هذه الأمة، لكي تعيش في القرن العشرين:
ولقد قرأت لكثيرين ممن تعرضوا لشئون التعليم وخرجت من أبحاثهم بفكرة ثابتة هي أن الديموقراطية تجعل الثقافة والتعليم حقاً للجميع بل هي ترمي إلى جعل تكافؤ الفرص حقيقة سهلة المنال لكل فرد. وعلى هذه الفكرة سار التعليم في مصر هذه الخطوات المباركة متجها إلى زيادة المدارس وفتح الجامعات والإكثار من دور العلم والمعاهد ولكنه انتهى إلى تسعير الشهادات وبدلا من دفع خريجي هذه المعاهد إلى البحث عن عمل لهم ورزق يعيشون منه تحت لواء الأقدام والمغامرة، انتهى إلى حشد صفوف من حملة الشهادات يطالبون باستحقاقات في أوقاف خيرية. ولذا بقى السؤال الدائم الذي يواجه رجال المعارف المصريين هل نجحت سياسية مصر التعليمية بعد أن كف رجال الاستعمار الإنجليزي أيديهم عن التدخل فيها؟ وهل وقفت في سد حاجات البلاد وأخرجت جيلا يقدر أن يقف وحده بإرادة وتصميم ليسير بمصر نحو التطور الصحيح؟
الجواب على هذا يقدمه رجال التعليم في أبحاثهم ومقالاتهم وما يشمل الرأي العام من تبلبل عند ابتداء السنة الدراسية وعند نهايتها في موسم الامتحانات وما يصيب التعليم من هزات كلما نادى المعلمون بتحسين حالهم وأنصافهم وكلما تقدم الطلاب بمطالب تعجز الوزارة عن تنفيذها. . .
أنني أضع أمام القارئ ما أعتقد أنه لا يصلح لإعطاء فكرة أولى لما يجول بخاطري: فأقول (إن الثبات والاستقرار) يحتمان من المبدأ وضع الأسس وهذا يتمثل في نظري: في تنسيق السياسة التعليمية بجعلها كما قلت من المبدأ: (خاضعة لحاجيات الأمة ومصالح البلاد) فإذا كانت النظم الديموقراطية ' ' تحتم رفع ما أمكن من المستوى الجسماني والعقلي والأدبي والمدني لشباب الأمة، وترمي إلى تمكين كل فرد من أفراد الشباب من دخول مدارس الدولة مهما كانت حالته الدينية أو الاجتماعية أو العائلية أو الجنسية للحصول على التثقيف بأهون سبيل، لا فرق بين الفتى والفتاة ولا بين الغني والفقير، بل نذهب إلى أكثر من ذلك فنفرض على وزارة المعارف أن تمهد لكل طالب حق استعمال حريته التامة في(901/3)
اختيار الطريق للدراسة التي تلائم تطور شخصيته وتمكينه من استقلال استعداده الفطري للتقدم والبروز حتى تظهر كفايته لنا وحتى يستفيد المجموع من هذا الفرد الناشئ.
فإن هناك بجانب هذه الأهداف العامة اتجاهات تحتم أن تكون سياسة التعليم سياسة مبنية كما قلت على أسس اقتصادية علمية تستهدف تحقيق غايات معينة وسد النقص في نواحي النشاط التي تظهرها حاجات البلاد ويحتمها تطورها في القرن العشرين. وهذا يحتم أن يتسع نشاط الهيئات التعليمية حتى نخرج كل سنة آلاف العمال المتقنين لعملهم وآلاف ضباط الصف الذين يعرفون عن حق مهنة الزراعة، وآلاف الميكانيكيين وهلم جرا مما لا يمكن حصرهم في حياة أمة حديثة ناشئة:
فألا أستطيع أن أفهم سياسة للتضيع مثلا لا تشترك فيها وزارة المعارف، ولا أسلم بنجاح عمل يقصد به رفع الإنتاج الزراعي في مصر من غير أن تسنده سياسة تعليمية تساعد وتمهد لهذا التطور الإنتاجي في الحقلين الزراعي والصناعي. ولقد رأينا في بعض البلاد الشرقية - وهي في ظروفها تشبهنا تماماً - حينما أرادت أن تغزو الريف في مناطق بعيدة عن المدينة والعمران ولا يمكن أن تقاس بها مسافات مصر، رأينا جل اعتمادها على نشاط المدرسة في القرية، وكان هذا النشاط في المعلمة أولا، ثم في المعلم. ولا يمكن الإقلال من أثر المعلمة في دفع الحياة الريفية، لأن نقل المزارع وأهل بينه من حالة التأخر والفوضى إلى القرن العشرين ألقى على عاتق المعلمة، فهي التي فرضت التقدم في صميم عائلات الريف، وهي التي قادت حركة التثقيف وتحسين الصحة. وكان عمل المعلمة في الريف مستمداً من توجيه المراقبة التعليمية في كل إقليم والتي يتحتم أن تصبح مركزاً للتثقيف ونشر التعليم والتمدين في الدائرة التي تعمل فيها؛ فلا يقتصر عملها على إدارة المدارس الابتدائية والثانوية بل يجب أن يتعدى نشاطها هذه الدائرة فيشمل مجموع السكان: وأن يسند عملها إلى رجال يمثلون مختلف الهيئات سواء كانوا من رجال يمثلون مختلف الهيئات سواء كانوا من رجال المعارف أو المجالس المحلية أو من ممثلي الهيئات الصناعية والزراعية حتى لا يقتصر عملهم على نشر التعليم الشعبي بين الجماعات ومحاربة الأمية بل يشمل النظر في حاجيات كل إقليم لدفع التطور الزراعي والصناعي من هذا الإقليم بالذات إلى الأمام عاما بعد عام.(901/4)
كل هذا يمكن أداؤه وتنظيمه. وإن غزو الريف يجعل اللامركزية عنصراً من عناصر التقدم بالتعليم والسير به نحو تثقيف أكبر عدد ممكن من الشعب. ولهذا أعد هذه اللامركزية خطوة أولى نستهدف رفع الأعباء وتخفيفها عن وزارة المعارف، ثم أطمع فيما يتعلق بدفع الحياة الاقتصادية للإمام إلى الأخذ بنوع من السياسة التعليمية يقصد به الملائمة بين التعليم وحاجات السكان المحلية. اطمع إلى زيادة المدارس الفنية المتوسطة بحيث تقوم الصناعة والزراعة المصرية على (كادر) وأقصد به (مجموعة) من العمال والرؤساء الذين أتقنوا عملهم. بل في حاجة إلى عشرات من هذه المدارس الصناعية والزراعية قبل أن نكون في حاجة إلى إنشاء جامعة جديدة. واليك بعض ما لاحظته أبان وجودي خارج مصر. لقد مهدت لي خدمتي الاتصال بفئات كثيرة من الشعب المصري. وقد رأيت من أهل شمال الدلتا وخصوصاً (دمياط) رجالا يعملون بالبحار ويواجهون الموت في الحرب الماضية: فقلت لنفسي هؤلاء ثروة لمصر. ألا ترى انهم في حاجة لسياسية تعليمية تتفق مع بيئتهم واستعدادهم؟ فإنشاء مدرسة متوسطة للبحار يفيد هذه المنطقة بدلا من تركهم على الفطرة التي ستنتهي بهم إلى الزوال كقوة بحرية قامت منذ زمن على تجارب ولكنها عتيقة. ثم هؤلاء أكثر ثباتا واستعدادا لصناعة البحر من عناصر تأتي بها. إلى صفوف البحرية من أقاصي البلاد الداخلية بينما نترك الذين خلقوا ليجولوا البحار وكانوا من سلالة شعب بحري لعب دوراً في التاريخ وله وقفات في معارك الحروب الصليبية.
وما يقال عن هؤلاء يمكن أن نقوله عن العمال الزراعيين. إن المدارس الزراعية الأولية والمتوسطة الريفية التي تخرج مختصين لتربية أشجار الفاكهة والعناية الفنية بالماشية أو بالفنون الميكانيكية أهم لدينا من عشرات المدارس الأولية التي لا تعلم شيئاً والتي انتهت إلى أن تكون بابا للرزق ولاستبقاء جزء كبير من الأمة في حال تعطل
إن حاجات البلاد ظاهرة واضحة والشباب المصري من قوة الملاحظة والاستعداد الشخصي ما يمكنه من إتقان الدراسة السهلة التي تلائم البيئة وتدفعه إلى العمل لترقية الصناعة الزراعة ومرافق بلاده والمساهمة في نقلها إلى القرن العشرين
إن السياسة التعليمية التي ترتكز على الاستقرار والثبات هي التي تدفع بالإنتاج المصري إلى أعلى ولا تقف مكتوفة الأيدي فتهبط به إلى أسفل، والتي تجعل من أول أهدافها عظمة(901/5)
البلاد وتقدمها، والتي تخلق جيلا يعمل بيده ولا يخجل من ذلك، لأن العمران والتقدم في هذا البلد المتخلف عن غيره يمثل رسالة الجيل الناشئ.
إننا نواجه كل يوم مشاكل الطوائف وهي مشاكل ترجع إلى أن خريجي المدارس المتوسطة في الهندسة والزراعة ينظرون دائما إلى المسواة مع خريجي المدارس العالية، بدون أن تقدر مسئولية كل طائفة.
فالكونستابل الذي يخرج من المدرسة لا يعتقد أن مهنته شريفة ولا ينظر إلى أنه يؤدي رسالة للوطن إذا وقف وسط الشارع ليشرف بنفسه على تنظيم المرور، انه يلتمس الأعذار لكي تولى عملا إداريا، وأرد كل هذا إلى أسس التعليم في مدارسنا.
وما يقال عنه يصدق عن كل عمل يتولاه فريق منا خصوصا أبناء المدارس المتوسطة. أنهم ينظرون إلى الوظائف وإلى تسعير الشهادات قبل أن ينظروا إلى عظمة ورسالة المهنة التي يمثلونها.
إنني لا أستطيع أن اسلم بنجاح وتقدم أي سياسة إنتاجية سواء في التصنيع الريفي أو الآلي وسواء في تنسيق الزراعة المصرية على الأسس الحديثة وزيادة غلة الأراضي وهي قابلة للزيادة بشكل لا يمكن تحديده. إذا لم تدعم هذه الدفعة الإنشائية الانتقالية - سياسة للتعليم - تلائم الأوضاع القائمة في مصر، وتشمل على مد هذه الدفعة بعناصر البقاء والاستمرار التطور وهي ممثلة: في إيجاد مجموعة من العمال الصناعيين والزراعيين المحنكين - إذا استعرنا الاصطلاح الفاطمي - لا يقلون في تفكيرهم عن أي مجموع أوربي أو أمريكي.
وفي تهيئة مجموعة من الموظفين الإداريين والمهندسين المختصين لهذه الأعمال يعملون بإخلاص.
إن حركة الصناعة لا تزال في دورها التمهيدي والتحضيري، وكذلك الإنتاج الزراعي المصري لا يزال متخلفا عن غيره بل لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يزال بدائيا.
وأكبر ما يؤخر نهضة البلاد هو أننا لا نزال نسير على غير هدى في التعليم: والسياسة التعليمية الراسخة الثابتة هي التي تخرج طبقات الأمة العاملة المنتجة التي نعرف كيف نجعل من العلم قوة ثائرة منظمة لتقطع مراحل التخلف التي تركتنا فيها الأجيال التي تقدمتنا. ومن حقنا أن نقول إنها سارت على غير هدى وكانت مقصرة في نهضة البلاد(901/6)
وخلفت تركة محملة بالأثقال.
أحمد رمزي(901/7)
من الحوادث الأدبية
يهرب من الحج
للأستاذ محمد سيد كيلان
لما عزم الخديوي عباس على أداء فريضة الحج في شتاء سنة 1909 قرر أن يصطحب معه فيمن خاصته شاعره الكبير أحمد شوقي. ولكن الشاعر كان في سريرته لا يرغب في أداء هذه الفريضة المقدسة ولم يستطع أن يصرح للخديوي بذلك.
فتظاهر بالموافقة وركب القطار مع أفراد الحاشية حتى إذا وصل الركب العالي إلى بنها غادر شوقي القطار خفية وانسل من بين الحاضرين دون أن يشعر به أحد؛ وذهب إلى منزل أحد أصدقائه بينها وقضي فيه مدة من الزمن ثم رجع إلى القاهرة وأخذ الخديوي وأفراد حاشيته يتفقدون شوقيا ولكن على غير جدوى. فلما رجع الخديوي من الحجاز وسأله عن السر في ذلك أجاب: كل شئ إلا ركوب الجمال يا أفندينا. وهذا عذر ضعيف يدل على استهتار بأداء الفرائض الدينية التي من بينها الحج. ولم يكن شوقي أكثر ترفا من بقية الحاشية. فإذا كان الخديوي عباس تحمل مشاق السفر فكيف عجز عنها شوقي؟ بل إذا كانت أم المحسنين ومعها وصيفاتها تحملت مشاق السفر فكيف عجز عنها شوقي؟ الحق أن تعليل هربه من أداء فريضة يصبوا إليها كل مسلم ومسلمة لا يدل على شيء سوى استهانة بأمر الحج. وشوقي كان إذ ذاك في ريعان شبابه تلوح عليه نضرة النعيم. وكان يقيم في دار بالطرية الحفلات الساهرة الراقصة حيث الكأس والطاس وغير ذلك مما لا داعي لذكره. ولم يقعده عن هذه الحفلات ضعف فكيف قعد عن أداء تلك الصحة؟ قال للخديوي: كل شئ إلا ظهور الجمال يا افندينا. وهذا ليس بعذر مقبول لأننا نعلم أن الشاعر كان يركب ظهور الحمير في القاهرة ويقطع بها مسافات طوالا. ثم إن سكة حديد الحجاز كانت قد افتتحت في ذلك الوقت وكان الناس يستقلون قطاراتها إلى المدينة. فلم تكن المسافات التي كان من المقرر أن يقطعها الشاعر بالجمال سوى تلك التي بين جدة ومكة والمدينة. ثم إن الركب الخديوي كانت به وسائل الراحة التامة. فنرى من ذلك أن هذا العذر لا يصح أن يقوم دليلا على عجز الشاعر عن تأدية الفريضة.
وهو يتمنى أن تكون هناك سيارة أو طائرة لتقرب إليه البعيد وتسهل أمامه السبيل. قال:(901/8)
ويا رب هل سيارة أو مطارة ... فيدنو بعيد البيد والفلوات
ولكنه هو القائل قبل ذلك في الطائرة (أركب الليث ولا أركبها) أما السيارات فقد أدرك عصرها. ولكنه لم يستقلها لأداء الفريضة.
والآن بعد أن ناقشنا هذه الأعذار وبينا أنها متكلفة وأن الشاعر أتى بها ليبرر استهانته بالحج، ننتقل إلى أبيات من قصيدته التي مدح بها الخديوي عباسا عقب عودته من الحجاز والتي مطلعها
إلى عرفات الله يا ابن محمد ... عليك سلام الله في عرفات
أما الأبيات التي نريد أن نقف عندها فهي
ويا رب هل تغني عن العبد حجة ... وفي العمر ما فيه من الهفوات
وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر ... ولم ابغ في جهري ولا خطراتي
ولا غلبتني شقوة أو سعادة ... على حكمة أتيتني وأناة
ولا جال إلا الخير بين سرائري ... لدى سدة خيرية الرغبات
ولا بت إلا كابن مريم مشفقا ... على حسدي ستغفرا لعداتي
ولا حملت نفسي هوى لبلادها ... كنفسي في فعلي وفي نفثاتي
وإني ولا من عليك بطاعة ... أجل وأغلى في الفروض زكاتي
أبالغ فيها وهي عدل ورحمة ... وبتركها النساك في الخلوات
هذه الأبيات وليدة هربه من الذهاب إلى الحجاز. وفيها يبرر عزوفه عن أداء فريضة الحج بمبررات واهية ضعيفة لا تستقيم مع أحكام الدين الحنيف ولا تنهض حجة أمام رجل حريص على أركان الإسلام، محترم لشعائره التي منها الحج. فلا طيبة النفس ولا حب الوطن، ولا الإشفاق على حساده ولا الزكاة ولا أي شئ مما ذكره يغني عن الحج ويقوم مقامه. فشوقي في هذه الأبيات يستوحي العقل ويحتكم إليه ضاربا بأحكام الشريعة الغراء عرض الحائط.
والشيء الذي لا مراء فيه أن شوقيا كان مهملا لفرائض الدين عدا الزكاة. فلم يعرف عنه أنه دخل مسجدا أو صام يوما يكفر عن سيئاته ويخفف به أوزاره. وكان في حياته ماجنا خليعا مفرطا في شرب الخمر مرسلا نفسه على سجيتها. ولو أن شوقيا نشأ في وسط حر(901/9)
طليق كواحد من عامة الشعب لظهر أثر الخلاعة والمجون في شعره بشكل فاضح لا يقل عما وصل إليه شعراء الخلاعة والمجون في العصر العباسي. ولكنه نشأ في وسط رسمي أرستقراطي فكان شاعر الخديوي ومادح السلطان عبد الحميد أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين. لذلك اضطر أن يضع حدا فاصلا بين حياته كفرد وحياته كشاعر.
فقد كان ينظم القصيدة - وهو ثمل - فلا ترى فيها غير البكاء على ما أصب الإسلام والمسلمين والدعوة إلى النهوض والاتحاد تحت لواء الخلافة والحث على التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق حتى لتحس كأنك أمام واعظ يهدي إلى سبل الرشاد. كان يفعل هذا عقب انصرافه من مجلس خمر أو مجلس خلوة يرتكب فيها فاحشة
فعدول الشاعر عن الذهاب إلى الحجاز لم يكن سببه الضعف ولكنه كان حلقة من حلقات إهماله لفرائض الإسلام. أما الزكاة التي يتحدث عنها الشاعر ويقول إنه يبالغ في أدائها فهي أيسر الفرائض على أمثاله من الأغنياء، إذ لم يكن يتكلف فيها مجهوداً ومبالغته في الزكاة يرجع إلى سبب نفسي هو اعتقاده بأن هذا العمل يعفيه من تأدية الفرائض الأخرى، ويجعل كفة حسناته ترجح كفة سيئاته ويغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولا فائدة لنا من مناقشة هذا الرأي وإظهار فساده.
على أن هرب شوقي من أداء فريضة الحج قد دفعه إلى نظم قصيدتين أجاد فيهما إجادة تامة. أما القصيدة الأولى فهي الهمزية النبوية. وأما الثانية فهي نهج البردة. وقد عنى في هاتين القصيدتين بالرد على أعداء الإسلام من المبشرين والمستشرقين. ومثال ذلك قوله حاكيا بعض المستشرقين
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... القتل نفس ولا جاء والسفك دم
ورد على هذا الرأي بأبيات منها
جهل وتضليل أحلام وسفسطه ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
سل المسيحية الغراء كم شربت ... بالصاب من شهوات الظالم الغلم
لولا حماة لها هبوا لنصرتها ... بالسيف ما انتقمت بالرفق والرحم
ثم أخذ بعد ذلك ينفى موضوع الصلب ويرفع من شأن الإسلام والمسلمين ويتغنى بماضيهم المجيد. والقصيدتان بالرغم مما فيهما من المحاكاة والتقليد تمتازان بظهور الطابع الحديث(901/10)
عليهما ظهورا تاما وبخاصة الهمزية.
محمد سيد كيلاني(901/11)
أستاذ الدعاة وزعيم المصلحين
شيخ الإسلام ابن تيمية
- 2 -
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
جهاده:
عاش ابن تيمية في أواخر القرن السادس الهجري وأوائل السابع، وقدمني العالم الإسلامي بكارثتين عظيمتين، لولا متانة أركانه لأتت عليه: الكارثة الأولى هي الحروب الصليبية، والثانية: هي الغارة التترية البربرية، وفي هذه المدة كانت الحروب الصليبية قد انتهت، وبدأت غزوات التتر تكثر وتشتد وتتوزع حتى عمت العالم الإسلامي.
ورأى ابن تيمية كل ذلك، وشاهد هذه الاغارات، وما كان في طوق مثله أن تمر عليه هذه الأحداث ولا يلقى إليها بالا كغيره من علماء هذا العصر الذين شغلتهم مناقشات لفظية لا طائل تحتها؛ وهو العبقري الذي تتلخص روحه في أنه غيور إلى أقصى حدود الغيرة على الإسلام والمسلمين؛ فوحد إلى أقصى حدود التوحيد في العقيدة مع كل ما يتبع هاتين الخصلتين من توابع.
انغمس ابن تيمية في تيار السياسة الإسلامية لأنه رأى أن حال المسلمين لن تستقيم. ما دامت سياستهم مموجة والإسلام عنده دين ودولة؛ وأبرز جوانبه السياسية العلمية دائب الحركة، يذهب إلى الأمراء والسلاطين، يستحثهم على الجهاد في سبيل الله، فيوما في مصر ويوما في الشام، ويوما عند هذا الأمير ويوما عند ذاك يذكى بروحه روح الجهاديين القواد والجند؛ يقف في المعركة فتارة يصول بسيفه، وأخرى يشجع الهالع ويثبته ويبشره ويظهر للناس فضل الجهاد ويحثهم عليه. هو قائد ملهم، يحارب في فتح (عكة) حتى يقال إنه بمشورته وفعله؛ فتحتها المسلمون.
يفتح التتار بقيادة (غازان) ملك التتار حينذاك - دمشق - ويعلم ملك الكرج، وهو أعدى أعداء الإسلام بذلك فيبذل لغازان النصار كي يمكنه من المسلمين في (دمشق)؛ ويعلم الشسخ بذلك، فيثور ويهب يبث الحماس في نفوس المسلمين، ويشجعهم ويمنهم بالنصر(901/12)
والظفر؛ ويروح بجمع الكبراء والوجهاء للذهاب إلى غازان، وهنا تتجلى قوة الشيخ وشجاعته التي قل نظيرها في التاريخ.
. . . تقدم الشيخ الجماعة؛ فلما حضروا مجلس غازان وقدم الطعام، رفض الشيخ أن يأكل دون الجماعة، فقيل له (لم لا تأكل؟ فقال الشيخ: (كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس. .!!).
. . . جلس الشيخ. . فكان يقرب من غازان سلطان التتار، وخليفة جنكيز خان، حتى تكاد ركبته تلاصق ركبته. . ويتكلم الشيخ فيعلو صوته على صوته؛ ورغم كل ذلك كان غازان مصغيا إليه مقبلا عليه، وأخذ الشيخ محدثه في كيف يسلط ملك الكرج على المسلمين، وللمسلمين حرمة، ودمهم حرام، وأخذ في وعظه وتذكيره وكان غازان قد أسلم، وهو أول من أسلم ن سلاطين التتار وطفق الشيخ يخاطبه بعنف وثبات أدهش غازان وأرهبه. . يقول الشيخ له (أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون - على ما بلغنا - فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا ما عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجرت).
ريع غازان بهذا الشيخ الجريء المهيب فسأل: من هذا الشيخ فأنى لم أر بين العلماء مثله، ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، وما رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه فدل على مكانة الشيخ وعلمه، وقد أجاب غازان الشيخ إلى ما طلب، فحقنت دماء المسلمين.
ولما هم بالانصراف طلب غازان منه الدعاء. . فقال الشيخ في دعائه: (اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قائل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك، فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع). . فكان يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه (يلاحظ أن التخاطب بينها كان عن طريق المترجم) وخاف من كان معه، واضطربوا حتى أنهم كانوا يجمعون ثيابهم خوفا من أن يقتل فيطرطش بدمه.
وفي عام سبعمائة رجع غازان للاستيلاء على الشام؛ فطار الشيخ على البريد إلى مصر واجتمع بأركان الدولة وحثهم على الجهاد، وحض عليه، ودعا الناس إليه، وأخذ يخطب في مصر مذكرا الناس بالجهاد وفضله، وبما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث.
رجع الشيخ إلى دمشق. . ولكن معه جيش من الغزاة المجاهدين، لملاقاة الأعداء الذين(901/13)
تجمعوا جماعات اتحدت على النيل من المسلمين. . ولكن الله حاربهم بالثلج والبرد والريح العاصف، فأعاق ذلك كله غازان وجنده فانصرفوا خائبين. . فأرسل الشيخ يقول: إن الله صرف العدو بثبات قلوب المسلمين وصدق نيتهم.
وفي سنة اثنتين وسبعين، كانت موقعة (شحقب) المشهورة بين التتار والمسلمين، وكانت موقعة فاصلة تعد من المواقع الحاسمة في التاريخ الإسلامي، وتعتبر كموقعة (عين جالوت) من حيث الأهمية، فأما نصر يزيل الغمة، وإما هزيمة تورث الذلة.
وحشدت القوات الإسلامية، وحضر الموقعة السلطان الناصر والخليفة، وكان ابن تيمية الداعية الأكبر للجهاد في العالم الإسلامي فكان يحض الناس ويحثهم ويستنفر الأمراء والعساكر، وما اكتفي بالدعوة للجهاد، حضر الموقعة، وجاهد بسيفه في الصفوف الأمامية، وطلب الاستشهاد ففر منه الموت، يسأل الشيخ الشجعان، ويجزع السلطان الناصر والخليفة إلا ابن تيمية، فهو ثابت واثق من نصر الله، يعدهما بنصره ويأمرهما بالتوكل عليه.
وتنكشف الغمة، وينصر الله المسلمين على عدوهم، ويذيع خبر شجاعة الشيخ بين المسلمين وجهاده، ويزداد الناس من الالتفاف حوله، والتبرك به، ويكثر أتباعه، ويطريه القوم، ويمدحون شجاعته، فيقول لهم متواضعا (أنا رجل ملة، لا رجل دولة).
وكان هناك. . خطر سري أعظم من خطر التتار والصليبيين، في قلب العالم الإسلامي ذاته: هو خطر هذه الطوائف السرية التي ظهرت من قبل ذلك، والتي كان من بين ثمارها (الدولة الفاطمية) وكم نال هؤلاء من الإسلام والمسلمين، فتارة يقتلون الحجاج، ويرمونهم في بئر زمزم، وأخرى يأخذون الحجر الأسود ويبقى عندهم مدة. وكانت هذه الحركات تبدو تحت أسماء مختلفة، كالإسماعيلية والقرامطة الباطنية والنصيرية.
وكان أهل جبل كسروان في الشام، من هذه الطوائف، وقد استفحل خطبهم، فتوجه الشيخ إلى هذا الجبل لقتالهم، وكتب إلى أطراف الشام في الحث على قتالهم، وأنهم غزاة في سبيل الله. . ثم ذهب، ومن معه من الرجال، ومعهم ولي الأمر نائب المملكة إلى الجبل لغزوهم واستمروا في حربهم وحصارهم، حتى فتح الله الجبل، وأجلوا أهله، وكتب أبن تيمية إلى السلطان يخبره بالفتح، وأنهم قوم أكفر من اليهود والنصارى، يعتقدون في عصمة علي، وكفر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يقرون بصيام، ولا صلاة، ولا جنة، ولا نار ولا(901/14)
يحرمون الدم والميتة ولحم الخنزير. . وغير ذلك.
وبالطبع، كان لا بد أن يوجس أولو الأمر منه خيفة، ويراقبوه، لأن قلوب الناس كانت معه، فلو طلب الملك ما بعد عنه، وأتباعه في كل مكان كثيرون، ولعل هذهالأسباب السياسية تبرر ما زال الشيخ من اضطهاد لأسباب دينية تتعلق بالعقيدة، وتدخل أولى الأمر فيما اعتوره من حبس وإطلاق، واعتقال وفكاك. ويتضح ذلك مما جرى بينه وبين السلطان الناصر، رغم إكبار الناصر للشيخ.
وشي عند السلطان الأعظم الملك الناصر، في حق ابن تيمية فطلبه السلطان، ولما حضر بين يديه قال من جملة كلامه معه: إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك) فلم يكترث الشيخ وقال بجنان ثابت ونفس مطمئنة، رغم أنه لا يدري أيخرج من هذا الموقف، ورأسه فوق جسمه أم فوق النطع: (أنا أفعل ذلك!! والله إن ملكك وملك المغول، لا يساوي فلسا عندي) فتبسم السلطان وقال مجلاله: إنك والله لصادق)
دعوته وآثارها:
كان ابن تيمية نسيج وحده في دعوته، وكانت دعوته دعوة فريدة بين الدعوات الإسلامية أيضا: كان من الضروري وجود أبن تيمية على أرض هذه الدنيا الإسلامية، بعد أن تغيرت أشياء في جوهر العقيدة، وبعد أن وجدت فرق، وتعددت دعوات، وكلها لم تجعل كتاب الله وسنة نبيه إمامها، بل سلطت التأويل على الكتاب والسنة حتى تغيرت الآيات بتغير التفاسير والتأويلات، فكان من عناية الله أن أرسل هذا العبقري الذي رجع بدينه إلى حقيقته الأولى وبساطته، وأوضح ذلك بكتب خالدة، فكانت عقيدة ابن تيمية توحيدا خالصا غير مشوب بشرك على أي صورة كانت، واستعادة لبساطة الدين ويسره. . . كل ذلك في حدود الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، ولذا كان أبن تيمية في التفسير إليه المنتهى، وفي الحديث لا يلحق، ويشهد على ذلك كتبه في التفسير والحديث.
عاش ابن تيمية، في عصر شاعت فيه الخرافات عند العامة، واستحكم فيه الجمود عند العلماء، وذاع فيه التقليد بين الفقهاء.
وكم كان سد باب الاجتهاد نكبة على الإسلام والمسلمين، وكم كان سببا في عدم انطلاق المدينة الإسلامية، في طريقها الذي اختطنه، وكم وقف سدا حائلا بينها وبين التطور(901/15)
والارتقاء -، فأتى ابن تيمية يدعو إلى أن الاجتهاد غير مقصور إلى الأئمة السابقين، بل إنه باب مفتوح المصراعين لمن حاز شروطه المعقولة. وكان هو نفسه مثالا للمجتهد المطلق، فليس شرطا لازما أن لا يحيد الإنسان عما قاله الأئمة الأربعة ما دام سنده الكتاب والسنة؛ ويؤيده العقل الراجح.
ولقد كان ابن تيمية لا يتقيد في فتاويه بمذهب من المذاهب الأربعة، ولا رأى إنسان أيا كان، إلا بكتاب الله وسنة نبيه. وعنده أن من خالف الإجماع فيما لم يرد فيه نص ليس بكافر، وباب الاجتهاد مفتوح لن حصل أدواته، وما كان ابن تيمية جامدا بل كان يستعين بالقياس فوق ذلك.
تنحصر دعوة ابن تيمية التي جاهد واضطهد من أجلها، في مبدأين اثنين، الأول: إفهام الناس حقيقة معنى (لا اله إلا الله) فلا يعبد ولا يدعى إلا الله، ولا ينفع ولا يضر إلا هو، ولا يملك أحد من الأمور العباد شيئا، فلا نبي ولا ولي ولا شيخ يملك من أمر العباد مثقال ذرة، ولا يقصد بحاجة إلا الله، ولا يغيث إلا الله والثاني: محاربة كل ما كان سببا في ضعف المسلمين، فجاهد في السياسة، وهاجم الأشياء التي كانت سببا في فرقة المسلمين، ودعا إلى نبذ ما جعلهم شيعا وأحزابا. ومن هذه الناحية كانت عداوته للفلسفة التي علمت الناس الجدل الذي ذهب بريح المسلمين، وكون منهم معتزلة، ومشبهة، ومجسمة، ومتصرفه وملحدة. . وغير ذلك من الفرق، ولهذا أيضا، كانت مهاجمته للفرق الإسلامية بلا استثناء.
وننحن لا نريد أن نعرض إلى آراء ابن تيمية تفصيلا، فإن ذلك يقتضينا جهدا كبيرا، وإنما نريد أن نعرض إلى النواحي التي امتاز بها ابن تيمية، والتي كانت سببا فيما نقمه الناس من أمره، والتي لولاها ما نال من اضطهاد ما نال، وخلود ذكر. وهي ثلاثة أشياء نعمتها عليه الناس، الأول: في زيارة القبور؛ والثاني: اتهامه بالتجسيم، والثالث: إفتاؤه في مسألة الطلاق.
أرسل الله الرسل لنعبده، لا نشرك به شيئا، فلا يدعو أحد أحدا غير الله (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا قي الأرض. . . وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير) (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له) فعبادة الله وحده هي أصل الدين. . . وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.(901/16)
فالذهاب إلى قبور الأنبياء والتمسح بها، والتمرغ على أعتابها شرك صريح. . وزيارة المشاهد الدينية، والسفر إلى المقابر حرام، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا،. ولا تبنى المساجد على القبور - (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (يحذو ما صنعوا) - وإن بينت فلا يجوز فيها الصلاة. والخلاصة: أن زيارة القبور إذ كانت بمواعيد ومراسيم ورحلة فهي حرام، أما زيارة قبر المسلم بقصد العظة والاعتبار فلا شئ فيها، وأما ما يعمله العامة من تعظيم القبور، والتمسح بها، وإن كان ذلك بقبر الرسول فهو شرك يستتاب صاحبه وإلا قتل،. . وأولياء الله هم المتقون المؤمنون (فمن اعتقد في بشر: أنه إله أودعا ميتا، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكل عليه أو سجد له، فإنه يستتاب. . فإن تاب وإلا ضربت عنقه)، وما ابن تيمية يبدع في دعوته هذه، فقد تابع فيها النخعي والشعبي.
انهم أبن تيمية بالتجسيم، حتى أن (دائرة المعارف الإسلامية) تقول: إنه كان مسرفافيه، ولذا كان يفسر الآيات حرفيا. وما كان ابن تيمية مجسما، وهو الذي حارب المجسمة والمشبهة والمعطلة بل أراد أن يقطع هذا الجدل الذي سبب الفرق بين المسلمين. .
فمن قائل أن ما ورد في الكتاب من نحو: يد الله، ووجه الله وعرش الله لا يؤخذ على ظاهره بل يؤول، وتتبذ به الناس بين ناف لصفات الله، ومثبت لها؛. . كل ذلك جعل ابن تيمية يرجع بالعقيدة إلى نقائها الأول الذي لا تعقيد فيه؛ ويدعو إلى عقيدة السلف رضوان الله عليهم. . فكان يكره التأويل، مبالغاً في الإثبات بما ورد فالكتاب والسنة، مؤمنا بالتشابه من الآيات، يبرئ من التشبيه والتجسيم والتمثيل؛. . (فالله فوق عرشه. معنى حق، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة؛ والله فوق سماواته على عرشه على خلقه رقيب عليهم. فعقيدته (الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله. من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل به.
أما مسألة: الحلف بالطلاق التي خالف فيها الأئمة الأربعة فهي كأن يحلف رجل بإطلاق ثم يقع يمينه فيكفر عنه كأي يمين عادية، ولا يعد طلاقا؛ وذلك مثل: لو أن رجلا حلف على أخيه بالطلاق أنه لن يعطيه هذه الحاجة. . ثم أعطاها له، فإن طلاقه لا يقع، لأنه ربما امتنع عن إعطائه ذلك لسبب. . ثم زال؛ أو فعل ذلك ناسيا أو متأولا؛ أو حلف بذلك من(901/17)
أجل صفة. . ثم تبين خلافها فعنده أن الطلاق الثلاث لا يقع. وقد دعا ابن تيمية إلى مهاجمة المسيحية واليهودية؛ لأن الإسلام إنما أتى ليحل محلهما، وقد أوقف على ذلك أربعة كتب وهي (1) (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) (2) (تخجيل أهل الإنجيل) (3) (الرد على اليهود والنصارى) إبرلين رقم 2084) (4) (الرد على النصارى) (فهرس المتحف البريطاني رقم 865، 1).
ولقد خالف ابن تيمية الفقهاء في مسائل كثيرة وقال فيها برأيه. وقد ذكر صاحب (الكواكب الدرية) له خمسة عشر قولا مما خالف فيها ابن تيمية الإجماع، أو الأقوال المشهورة. وقد قالوا إنه طعن في رجال يعتبرون حجة في الإسلام كعمر وعلي، ولكنه في الحقيقة لم يطعن فيهم، بل طعن في الغلوقي تعظيمهم بحيث يضاف إليهم من الأفعال مالا يضاف إلا إلى الله. . كما فعلت الشيعة مع علي بن أبي طالب،. . وقد هاجم ابن تيمية الفلاسفة والمتصرفة عموما. . . وهو يكفر الاتحادية وابن العربي خاصة.
وابن تيمية: زعيم (الإصلاح الاجتماعي الديني في الإسلام غير مدافع؛ فهو شيخ المصلحين الإسلاميين على الطلاق وإمامهم.
فلقد أثر ابن تيمية في علماء عصره ومصلحيه، ومن جاء بعده منهم من الأتباع، وحسبنا أن تلميذه هو (ابن قيم الجوزية) ومنذ أوائل القرن التاسع عشر ظهرت الدعوات الإصلامية في الإسلام؛ فظهر (محمد بن عبد الوهاب) في الحجاز، زعيم المذهب الوهابي وما كان محمد بن عبد الوهاب إلا مبعوثا. لتأدية رسالة ابن تيمية واستمرار الدعوته. . وقد عرف ابن عبد الوهاب الشيخ عن طريق دراسته الحنبلية، لأنه كان حنبلي المذهب وكذلك كان ابن تيمية، وقد اتصل ابن عبد الوهاب بعلماء دمشق الحنابلة منهم، وشغف بابن تيمية، وشفل بدراساته وأعجب به. بخط (محمد عبد الوهاب،. . ولقد هاجم ابن عبد الوهاب فدعا بدعوته. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل ابن تيمية الأولياء. والمشايخ والقبوريين، مثل أستاذه. ودعا إلى هدم الأضرحة، والى التوحيد الخالص، وإلى فتح باب الاجتهاد، كما فعل أستاذه تماما، ومن جراء ذلك رمى ابن عبد الوهاب كما رمى أستاذه بالكفر.
ولقد كانت دعوة ابن عبد الوهاب التيمية. . بدء الدعوات الإصلاح الديني في الشرق الإسلامي، فقد تأثر بها زعماء الإصلاح في الشرق الإسلامي. . ونادوا بالإصلاح الديني(901/18)
وفقا لدعوة الرسول مع اختلاف الدعوات باختلاف الدعاة والأقطار، ولكن جوهر هذه الدعوات هو الإصلاح الذي وضع أساس مبادئه ابن تيمية.
فظهر في المغرب الشيخ أبو العباس التيجاني، والإمام السنوسي، وفي مصر الشيخ محمد عبده، وفي اليمن: الإمام الشوكاني. . العلامة الفاضل الذي دعا بدعوة ابن تيمية وشرح كتابه (نيل الأوطار)،. . . ولقد أوذى هؤلاء جميعا بما لا يغيب عن الأذهان. وفي الهند أخذ الدعوة الوهابية، الزعيم الهندي الوهابي (السيد أحمد (1782 - 1831) - وهو غير الزعيم الهندي (السيد أحمد خان (1817 - 1898) - أثناء حجه إلى البيت الحرام، وقد نشر الدعوة الوهابية في الهند، ولاقى الإنجليز منه الأمرين.
هذا. . . ولن تخلو دعوة إسلامية يريد دعاتها الإصلاح الديني حقيقة من الرجوع إلى دعوة ابن تيمية ومبادئها.
وقد وصلنا من كتب ابن تيمية 64 مؤلفا، بين رسالة وكتاب؛ وقد طبعت له تسع وعشرون رسالة في القاهرة سنة 1323 تحت عنوان (مجموعة الرسائل الكبرى). وجل كتبه مطبوع عدا بعض رسائل متفرقة في مكتبات أوروبا.
عبد الجليل السيد حسن(901/19)
حول مقال
محمد رشيد رضا
لصاحب الفضيلة الأستاذ حامد محيسن
قرأت بإمعان مقالة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى، في مجلة الرسالة الذائعة، في ذكرى عالم ومصلح، هو السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار رحمه الله؛ فعنت لي ملاحظات أحب أن أسجلها للقراء على صفحات الرسالة. وإن كانت هذه الملاحظات لا تبخس الكاتب قدره، بل إنما تدفعنا إلى أن نضاعف شكره.
وأهم هذهالملاحظات هي:
أولا: أخذ الكاتب الأفكار التي دونها في مقالته من كلمة الشيخ الزنكلوني في حفلة تأبين السيد رشيد رضا التي أقيمت بدار الشبان المسلمين عام 1939، وكنت حاضرها بصحبة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وكانت الحفلة برئاسته. وقد نشرت كلمة الشيخ الزنكلوني في الصحف كلها حينذاك ومنها الجهاد (عدد 3 إبريل عام 1936 ميلادية) وهو تحت يدي الآن. وقد ألفاها بالنيابة عنه في الحفلة فضيلة الشيخ محمود شلتوت. وإن شئت فاستمع لهذا الاتفاق الظاهر!
قال المرحوم الشيخ الزنكلوني في أسلوب ساحر أخاذ: (طلاب الشيخ - محمد عبده - جميعا كانوا يغترفون من بحر واحد، وإن تفاوتت مراتب جهودهم واستعدادهم). فقال الكاتب: وبالرغم من كثرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل؛ فإن أحدا منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد رشيد، فكانوا على ضروب وأنواع - ثم أورد حديثا للبخاري وقال إثر ذلك - كذلك كان تلاميذ الشيخ محمد عبده: منهم من لم ينتفع في نفسه، لأنه مجدب الطبع، سبخ التربة؛ ومنهم من نفع غيره، فنقل مبادئ الشيخ لغيره، وإن كان هو لم ينتفع بها، أو قل انتفاعه؛ ومنهم من انتفع في نفسه وعم نفعه وغيره الخ). فالفكرة هي الفكرة ولكن الشيخ الزنكلوني عرضها عرضا سليما، من حيث أطنب الأستاذ، وذكر حديث البخاري دون مناسبة، وقاس أصحاب محمد عبده بأصحاب الرسول الأعظم، وأخطأ في عده من لم ينتفع بدروس محمد عبده ولم ينفع غيره نوعا من أنواع تلاميذ الأمام. ولا ندري معنى تعبيره في هذا المقام بقوله: (لأنه(901/20)
مجدب الطبع سبخ التربة)؛ وبقوله: ضروب وأنواع)
وقال الزنكلوني: (كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوى، وشخصية بارزة، امتد صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية الخ). فقال الكاتب: (اتخذ من المنار منبرا يدوي منه صوته في جميع بقاع الأرض في جاوة وسومطرة والهند والصين شرقا إلى أوروبا وأمريكا غربا)
وقال الزنكلوني: (ولما هوجم الأستاذ الإمام في آرائه الدينية والإصلاحية أخذ السيد رشيد يواجه خصوم الشيخ بقلمه ولسانه وينشر في محلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته وكان يتلقاها من دروس شيخه، وما كان يعلق عليها بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال الفكر). فقال الكاتب: لم يكن هذا التلميذ - السيد رشيد - مسجلا لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشا وممحصا وموجها). وقد أراد الشيخ أن يعبر عن كلمة الزنكلوني: (اتجاهاته)، فقال: (موجها)، فأخطأ فهم ما أراده الزنكلوني، كما أخطأ التعبير عنه. فهل كان السيد رشيد موجها لأستاذه؟ كلا، لأن العبارة الصحيحة عن ذلك أن يقال: (كان ينافس آراء أستاذه ويمحصها ويوجه الجمهور على هداها) مثلا
وقال الزنكلوني عن السيد رشيد: إنه كان من الأفذاذ الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد رشيد لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء والكاتبين. فقال الكاتب: (كل ذلك كان يقوم به وحده، فحقاً إن السيد محمد رشيد أمة، وغير ذلك من صنع رجل واحد، فإنه عندما جاور ربه حاولت هيئات كبيرة وجماعات محترمة أن تخرج للناس مجلة تسد فراغ المنار فلم يستطع أحد منهم على كثرتهم). وفي العبارة رغم ذلك قلق واضطراب كثير.
وقال الزنكلوني: وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف ومات على أثر تفسيره لها قوله تعالى: رب قد آتيتني من الملك الخ. فقال الشيخ عبد الجليل مخاطبا السيد رشيد: ألم يكن من علامات قبولك أن آخر آية من كتاب الله سطرت شرحها بخطك هي قوله تعالى: رب قد آتيتني من الملك الخ.
ثانيا: ومحور المقالة رمى كبار علماء الأزهر بمحاربة السيد رشيد ومعاداته، وإن شئت فاستمع قوله: كنت أعلم أن كثيرا من علماء الأزهر خصوصا الكبار منهم كانوا يحيطون(901/21)
السيد رشيد بهالة من الشك في تدينه، رغم أنهم لم يجالسوه أو يختبروا علمه أو حتى يكلفوا أنفسهم قراءة كتبه؛ ثم يذكر قصة ثلاثة من كبار علماء الأزهر تحايل كما يقول عليهم حتى ذهب بهم للمنار وحدثوا صاحبه وحدثهم، فأنكره البعض وعرفه الآخرون. ويقول الكاتب أيضاً؛ وكان السيد رشيد يحارب في ميادين أخرى علماء جاهلين مقلدين الخ.
أليس في ذلك ظلم للتاريخ، وجور على العلماء الذين عرفوا السيد رشيدا وأحبوه وشجعوه وأحاطوه بالإكبار؟ وإن مجالس السيد رشيد لم تخل يوماً من العلماء، كبارهم وصغارهم على السواء. ولا ينسى الكاتب التنويه بنفسه وأنه كان وحده من بين العلماء على صلة معروفة بالسيد رشيد؛ على ممر الأيام، فلم تقف في حفلة تأبيته راثيا مع الواقفين من أمثال الزنكلوني والعدوى والهراوي وعبد الله عفيفي وشهبندر ومحمد لطفي جمعة وغيرهم، بل ولم تكتب عنه إلا الآن؟
ثالثا: وفي المقالة تعبيرات طريفة مثل: ذهب مع الريح، صار شبيها بشريط تسجيل، وهي قذائف لا تكلف صفير النفس إلا أن يرسلها من فمه، كأن الأحاديث كانت في طبق أمامه يلتقط منها ما يريد، يحيطونه بهالة من الشك في تدينه، هذا العملالذي سجله السيد رشيد ألخ.
رابعاً: وفي المقالة أساليب وكلمات غير مستساغة ولا مقبولة لغة أو ذوقا،:
مثل قوله: العالم المصلح الذي يمكن الاستفادة منه، وصحتها الإفادة.
وقوله: أزكى فيه روح الثورة، وكررها بالزاي أيضا فقال: بجرأة وشجاعة أزكاها النفي والتشريد. والكاتب يقلم أنه يقال (أذكي النار: أشعلها، وأذكى الله المال: أصلحه وطهره، والمعنى الأول هو المناسب هنا فكان الأولى كتابيهما بالذل لا بالزاى.
ومثل قوله: ينفخ فيهم من روح اليقظة ما فتح عيونا عميا، وما هنا مفعول، ونفخ لا تتعدى بعد الجار والمجرور إلى مفعول، يقال: نفخ في النار ونفخها، ولا يقال: نفخ في النار ما جعلها تضئ في البيت مثلا، وإن كان يقال: مما جعلها تضئ.
ويقول في كبار علماء الأزهر الذين احتال عليهم حتى يلتقي الجمعان؛ والقارئ يعرف إذا كانت تصح هنا كلمة هذه الكلمة أولا تصح، وليرشدنا الشيخ الجليل إلى معنى كلمة الجمعين هنا.(901/22)
ويقول: أكتفي بذكر حادثة وقعت لي أنا شخصيا، وهو تعبير عامي مرذول.
ويقول في الأفغاني: فصار ينفخ فيهم من روح اليقظة ما فتح عيونا وآذانا صما، مما اعتبره الباحثون عود ثقاب أشعل به نارا على المستعمرين. والأسلوب يقتضي أن يقال: أشعلت به النار، ببناء الفعل للمفعول.
خامسا: وفي المقالة أخطاء تاريخية مثل قوله: (وهذا - أي الرمي بالزندقة - سلاح قديم حورب به الأنبياء والمصلحون ألم يقل ورقة بن نوفل للنبي (ص): ما جاء أحد يمثل ما جئت به إلا أوذى؛ وكذلك ذاق البخاري والغزالي) فهل رمى بها الأنبياء قبله، وهل رمى بها البخاري والغزالي؟ أليس ذلك افتراء على التاريخ؟
ويقول كان السيد رشيد يحارب سلاطين جائرين، وحاكمين ظالمين. والتاريخ ينبئنا أن السيد رشيد وقف حياته على نشر آراء محمد عبده وأفكاره في الإصلاح.
ويقول: لم يعتمد - السيد رشيد - على ملك ولا حكومة أو جمعية أو حزب. فهل نسى الكاتب اعتزازا السيد رشيد بعطف المغفور له الملك فؤاد عليه وأثر ذلك في نفسه؟
سادسا: ولا أنسى إن أقول أن نصف المقالة أحاديث شتى عن ما عدا ذكرى السيد رشيد رضا، وكان من الواجب ترك ما لا صلة بالموضوع.
وأخيرا فأنا نشكر لفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الجليل عيسى جهوده المباركة. وفقنا الله وألهنا الصواب.
حامد محيسن
عضو جماعة كبار العلماء ورئيس التفتيش بالأزهر(901/23)
الأدب المهني أو أدب أرباب المهن
للأديب خليل رشيد
- 1 -
إلى أولئك النفر القليل ممن جادت بهم الحياة ووهبتهم النبوغ والعبقرية الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وعرق جباهم نقدم هذا الحديث.
قبل الشروع في الحديث أود أن أبين السبب الذي دعاني إلى جمع ما تناثر من أخبار هؤلاء الأدباء ولم شعثهم في مدرج هذا الحديث. هي أمنية طالما اعتلجت بها النفس، واختلج بها القلب، أن أهدى ما ضل من تلك العقول الآسنة التي تجعل الأدب وقفا على الطبقة الممتازة وعلى البطالين من ممتهني الأدب الأفاقين الذين يأبون النزول إلى ميدان العمل بدعوى أن العمل لا يتفق وكرامة الأديب، وأن الأدب والعمل على طرفي نقيض. وهذا القرآن بصريح بيانه يقول (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم). وأن ليس للانسان إلا ما سعى). وفضلنا المجاهدين على القاعدين درجات). وفضلنا المجاهدين على القاعدين درجات). والقرآن ملئ بفضل العمل وشرف العامل وذم البطالة والبطالين. ومتى كان أديب التسول والاستجداء أرفع من الأديب المهني. ومتى كانت المهنة ضعة وحطة لممتهنها؟ وقد جاء في الحديث الشريف (إن الله يعطي العبد على قدر همته وفهمته) (اعملوا فكل مسير لما خلق له) (اعقل وتوكل) (أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ) (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (إذا قصر العبد في العمل ابتلاه الله بالهم) (أخشى ما خشيت على أمتي كبر البطن ومداومة النوم والكسل) مضافا إلى هذا وذاك وزيادة في الإيضاح نورد بعض ما ورد من حكم في هذا الباب.
قالت الحكماء.
(كلب طواف خير من أسد رابض) (البطالة تقسي القلب) (أطلب تظفر) (من عجز عن زاده اتكل على زاد غيره) (من العجز نتجت الفاقة) (الدعة ذل) (لا يفترس الليث الظبي وهو رابض).
وجاء في الشعر العربي قديما في تأييد ما ذهبنا إليه!
وما غلظت رقاب الأسد حتى ... بأنفسها تولت ما عناها(901/24)
وهذا أبو دلف يقول. -
ما للرجال وللنعيم وإنما=خلقوا ليوم كريهة وكفاح
وهذا السراح الوراق ينشدنا. -
دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معزل ... فالصفع موجود مع الراحه
وهذا خليفة من خلفاء الإمبراطورية الإسلامية يزيد بن عبد الملك يقول (ما يسرني أنى كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز).
ومن هذا القبيل كثير لا يحصيه عد ولا يحصره حد. ولا يدع إذا ما امتهن الأشراف بعض المهن من الصنائع ونبذوا التجارة وراءهم ظهريا إذ في التجارة فقدان مروءتهم ومنافات الشرف الذي إليه يسعون. ونكتفي بالتدليل على ذلك يقول ابن خلدون في مقدمته صفحة (395) ما هذا نصه وتحت عنوان (خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك). ثم يشرح ذلك قائلا (إن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا بد فيه من المكايسة ضرورة، فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعنى خلق المكايسة بعيدة عن المروءة التي تتخلق بها الأشراف، وأما أن استزل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الإيمان الكاذبة على الأثمان رسما وقبولا فاجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف، ولذلك نجد أهل الرياسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما تكسب من هذا الخلق.). ولم يكتف ابن خلدون بهذا القدر بل ذهب في تأييد ذلك بمقدمته أيضا صفحة (399) قائلا (قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد من ذلك في المكايسة والمماحكة والتحاذق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة.
فلا يدع إذن من أن ينبذ الأشراف التجارة وراءهم ظهريا لما فيها كما قدمنا من فقدان المروءة وخلق غير خلق الأشراف وهم بنبذ البطالة أحرى وأجدر لما فيها من ذلة وحطة. فما عليهم إلا أن يتخذوا صناعة من الصناعات كي تدر عليهم الرزق وتكفيهم مؤونة العيش.(901/25)
وما المهنة إلا شرف يتحلى له المرء. وقد امتهنها الأشراف من العرب وسادات قريش. واليك ما جاء في كتاب المعارف لابن قتيبة صفحة (249 و 250) تحت عنوان صناعات الأشراف فقال. . -
كان أبو طالب يبيع العطر وربما باع البر. وكان أبو بكر الصديق بزازا. وكان عثمان بزازا. وكان عبد الرحمن بن عوف بزازا. وكان سعد بن أبي وقاص بيري النبل. وكان العوام أبو الزبير خياطاً، وكان الزبير جزاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل حداداً، وكان عامر بن كريز جزاراً. وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكان عقبة بن أبي معيط خماراً، وكان عثمان بن طلحة الذي دفع إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مفتاح البيت خياطاً، وكان قيس بن مخرمة خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عقبة بن أبي وقاص نجاراً، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان محمد بن سيرين بزازاً، وكان مجمع الزاهد حائكا، وكان أيوب يبيع جلود السختيان فنسب اليها. وكان المسيب أبو سعيد زياتا، وكان مالك بن دينار وراقا، وكان أبو حنيفة صاحب الرأي خزازا. وقد جاء في مقدمة ابن خلدون ما يعزز المهن والصنائع في صفحة (383) بقوله (قالوا المعاش إمارة وفلاحة وصناعة وتجارة، أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات؛ وأما الصنايع فهي ثانيتها. وجاء أيضا بالمصدر نفسه (ص) 401 (إن رسوخ الصنايع في الأمطار هو برسوخ الحضارة وطول أمده). وورد أيضا بنفس المصدر (ص) 403 (إن الأمطار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع
وقد يذهب البعض من أدعياء الأدب على أن الأدب وقف على ذوي المراكز الممتازة والطبقة العليا ولا يحق لغير هذه الطبقة أن يدعيه. وإن ادعاه أحد غير هذه الطبقة فادعاؤه باطل وإن جاء بالمعجز المبدع. وإذا ما جاءهم أديب مهني من ذوي النبوغ والعبقرية بأدب رفيع ممتاز فلا يقابل أدبه بغير الاستهجان والازدراء ومط الشفاه، أقول، - متى كانت العبقرية بنت القصور والضياع ووليدة الغنى والثراء؟ ومتى كان الذكاء أليف الترف والنعيم؟ وكثيرا ما نرى التبلد الذهني والخمول العقلي حليف القصور وتوأم الترف والنعيم وقولهم يناقض العرف وما قيل قديما من أن العبقرية بنت الجوع. ولنعرف الأدب والأديب(901/26)
قبل الدخول في صلب الموضوع.
الأدب:
مرآة صافية تنطبع عليها انعكاسات المجتمع وصوره بما فيها من آلام وآمال. والأديب - هو العدسة اللاقطة لتلك الصور والانعكاسات فإذا ما تأثر الأديب بصورة من صور المجتمع أخرجها لوحة فنية ذات منظر أخاذ، وليس عليه ما تبعثه الصورة في النفس من ألم وانقباض أو بسطة وانشراح وإنما عليه أن ينقل الصورة بكل أمانة وصدق، يستطيع والحالة هذه التقاط صور المجتمع بما فيها من آلام وآمال إلا من الدس بين طبقات المجتمع وعانى ما يعانيه من بؤس وشقاء فمتى يستطيع ذو البرج العاجي حليف الخمرة والدن واليف الغيد من أبناء الترف والنعيم تصوير البؤس والشقاء وهي صور الأغلبية الساحقة للشعب؟ وكيف يستطيع أن يعطينا الصورة صادقة صحيحة من برجه العاجي من لم يتذوق البؤس والشقاء؟ فليس أديبا ولا فنانا من يصف لنا الحياة من دائرة ضيقة ولا يراها إلا من جهة واحدة. وليس الأديب إلا من يعطينا صور الحياة من جميع جهاتها بما فيها من آلام وآمال وسعادة وشقاء. ولا يستطيع هذا إلا الأديب الذي خبر الحياة وتذوق منها طعم اللذة والألم. وذاك أديب الواقع الذي يعيش بين طبقات المجتمع ويندس بين صفوفه، وهذا ينقسم إلى قسمين. قسم يفضل الراحة والهناءة فيتخذ من الأدب مهنة للكسب والعيش فيبذل ماء وجهه باستنداء الأكف وطلب الصدقات يتسكع على باب هذا وذاك في سبيل الحصول على العيش الرذيل. وهذا النوع من الأدباء يكون مهدر الكرامة مهان النفس فتأتي صورة مشوهة عن الحقيقة لابسة غير لبوسها حسب ما يقتضيه ظرفه وحسب ما تطلبه مصلحته. والأدب أرفع من أن ينزل إلى هذا المستوى إذ هو في رفيع سامي منزة عن الدنايا والهنات وإلا فهو الحقيقي سواء.
لنترك هذا النوع من الأدب والأدباء إذ لا خير يرجى من أدب وأديب ينزل إلى هذا المستوى الوضيع ولنتحدث عن القسم الثاني من الأدباء الواقعيين الذين نريد الحديث عنهم بعد هذه المقدمة. الأدباء الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وما يبذلونه من جهد وذلك باختيارهم مهنة تدر عليهم الرزق وتصون أديم وجوههم من الابتذال وتكفيهم ذل الحاجة والسؤال وتحفظ كرامتهم من الأمتهان وهذا القسم من الأدباء أولى بالذكر والخلود. - وها(901/27)
نحن نقدم لك طائفة من هؤلاء الأدباء المهنيين ممن انقادت لهم المعاني وأعطتهم قيادها مع شئ يسير من تراجمهم والشيء المختار من أشعارهم ونتاجهم الأدبي ومن الله نستمد المعونة والتوفيق.
للكلام بقية
خليل رشدي
العمارة - العراق
-(901/28)
رسالة الشعر
غناء
(مهداة إلى الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا)
للآنسة هجران شوقي
أتطمع أن تشدو بشعرك قينة ... تررده في آهة الدنف الصب
وأنت الغناء الصفو والحب والمنى ... وأنت صداح الطير في الفتن الرطب
وأنت سماوي القصيد قبسته ... من اللاعج المشبوب والمدمع السكب
تناجي به السمار في غسق الدجى ... وغنى به المشاق في البعد والقرب
ولما يزل سؤل النفوس وقصدها ... وشغل الليالي الزهر والأنجم الشهب
فيالك من شعر رقيق منغم ... يرف رفيف الطل في ناضر الشعب
ترقرق بالشكوى وضمخ بالأسى ... فجاد بما يغرى وجاش بما يصبى
أأنت من الوجدان والطبع صغته ... وأفزعته من حرقة الوجد والحب
وأشربته نجوى تذوب رهافة ... وتخضل بالتذكار والأمل النهب
يرى الواجد المكروب فيه عزاءه ... ويبصر فيه الترب يحنو على الترب
عزيزا! أيا وشي القريض وسحره ... ويا دمعة الذكرى ويا رثة العتب
دع الشعر للأيام تغلى فريده ... وتحفظه في مهجة الفلك الرحب
وترسله لحنا جديدا على المدى - يظل غناء الروح والفكر والقلب
تخلده الأحقاب في الطير شاديا ... فإما شدا بات المحب بلا لب
وفي الأمل المغضوب والحزن والجوى ... وفي الشوق والآهات والسهد والكرب
وفي الغائب النائي الذي لفه الردى ... ففاض حنانا وهو في زفرة النحب
غريب حريب لا يفر قراره ... إلى أن نرى في الخلد جنبا إلى جنب
فما الشعر إلا ابن المدامع والأسى ... تجود يه الأجفان غربا إلى غرب
إذا خاطب الأرواح رفت بشاشة ... ولو أنها في وحشة المهمة الجدب
يظل حداء الركب ترمى به النوى ... فينسيه ما يلقاه من مسلك صعب(901/29)
إذا طرب الحادي وهاجت شجونه ... فيا ليت شعري ما الذي حل بالركب
وهل سكر الدرب الذي ضم شملهم ... فثار الهوى وانساب من شفة الدرب
فما يبصر الغادون إلا صبابة ... تطوف إلى الكثبان والرمل والشعب
على القمر اللماح منها وضاءة ... مسلسلة بين الغمائم والسحب
نشاوى وما ملوا غناء ولا سرى ... ولا تعبوا أو قال قائلهم حسبي
دع الشعر يا ابن الشعر للدهر وحده ... فدهرك ماز الصدق من وضر الكذب
وما كل من صاغ الكلام بخالد ... ولا يملك الخلد الممنع بالغضب
إذا قلت هذا الشعر سؤلي فما ذنبي ... ويا قلب لا تحفل إذا لامني صحبي
فإن علاج الحب أن تعلن الهوى ... وتسفحه بين الرسائل والكتب
وأتعب خلق الله في الأرض عاشق ... تدثر بالكتمان والحذر والرعب
وللحسن إشراق، وللشعر فتنة ... وما كل شعر عزيز الهوى يسبي
هو أندى من الشعر الذي طاب نشره ... خلائق أصفى من معتقة الشرب
وقلب عن الكبر الذميم منزه ... تبرأ من داء المخيلة والعجب
شهدت لقد أنشدتنا الشعر خالدا ... كأن به حبا تغلغل في حب
فيالك صداحا ويا لك شاعراً ... تفرد بالتحنان والنغم العذب
- أنظر إلى القصيدتين المحلقتين (كيف أدعوك) و (عتاب) المنشورتين في عددي الرسالة (798، 898) اللتين أهداهما الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا إلى الآنسة (أم كلثوم) وسألها في تواضع العظيم أن تصنع فيهما لحناً بكلمة الإهداء الرائعة: (لقد خلدت الخالدين فتنزلي إلى المغمورين)
(دمشق)
هجران شوقي(901/30)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
على هامش الأدب والنقد:
تحية رائعة كأدبك، طيبة كإنسانيتك، وبعد
فلن تبكي وحدك الشاعرة المصرية (ن. ط. ع) التي ولدت مع الربيع وماتت مع الورد كما يقول (لامارتين)، ولكنني سأشاركك في الحزن عليها، وأقاسم (الرسالة) فجيعتها بها، فإن من حق الشعر أن يبكي الشعر، وما تعرف أسى الشاعرة إلا شاعرة، وها هي ذي (قمرية تموت) تهدي إلى روح الشاعرة المصرية (ن. ط. ع) التي تفتحت كما يتفتح الزهر وعاشت كما تعيش الفراشة ولكنها بركت عبقا وعطرا، وألوانا وأحلاما، فلئن استطاع الموت أن يمحو آثارها من الوجود، فلن يستطيع أن يمحو تذكارها من النفوس.
وأعود إلى نفسي فأقول: لقد وددت أن نتلاقى في كتاب مشترك نطلع به على الناس، وما تدري لعل هذه الرسائل التي نتبادلها على صفحات (الرسالة) ستؤلف فاتحة الكتاب، فهي غنية بهذا التجاوب الذي يجعل الرأي يسكن إلى الرأي، والفكرة تخلد إلى الفكرة، فدع الكتاب يؤلف نفسه، ويضم صفحاته، ولكن حذار أن تتهمني بالعصبية الإقليمية، فلئن شغلت هذه العصبية (بعض الخواطر واستقرت في بعض النفوس) فلن تشغل خاطري ولن تستقر في نفسي، فأنا أرى الفن وطنا وأحب أن يتلاقى الناس في هواه، وأمقت (من ينتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن بعينه دون غيره من الأوطان). ولعل الزمن وحده كفيل أن يكشف عن الطوية ويحسر عن الدخيلة، ويجعل الأعين تتطلع إلى قرارات النفوس، وحسب الأدب أن يعرب عما تكنه الأرواح وتخبئه القلوب.
ولقد قرأت تعليقك على رسالتي المنشورة في العدد (898) من الرسالة فسرني أن نتلاقى في وجهات النظر، فإن دل هذا التوافق على شئ فإنما يدل على ائتلاف في الأدب وامتزاج في الطبع واشتراك في التفكير. ولعل من سعادة النفس الإنسانية أن تظفر في هذه الحياة بمن يرى رأيها ويفكر تفكيرها ويشاركها في كثير من شعورها وعاطفتها، حتى تحس أن بينهما تجاوبا تاما يربطهما ربطا ويؤلفهما تأليفا واحدا.
ويسرني أن أعلمك أنى حين فرغت من قراءة القصيدة المحلقة (كيف أدعوك) المنشورة في(901/31)
العدد (897) من الرسالة والتي أهداها الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا إلى الآنسة أمن كلثوم، وسألها في تواضع العظيم وحياء الكبير أن تصنع فيها لحنا بهذا الإهداء الرائع (لقد خلدت الخالدين فتنزلي إلى المغمورين) صحت من أعماق قلبي قائلة: (لا يا أيها الشاعر! ما نرتضي لك أن تتنزل إلى وهدة المغمورين وأنت في سماء الخالدين. . إن الشعر الخالد لا يفتقر إلى من يصنع فيه لحناً بعد أن رددته القلوب وغنته الأرواح وأصبح إرث العصور للعصور.
وأنشأت قصيدتي (غناء) وأهدينها إلى الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا لأدله على هذا الأفق الرحيب الذي يحلق فينا شعره، والمدى البعيد الذي يسري فيه أدبه، وما كدت أفرغ من قصيدتي (غناء) حتى طلعت على الرسالة الأخيرة وفيها قصيدة (عتاب) وقد أهداها ثانية إلى أمن كلثوم، فقلت في نفسي: هذا كثير يا سيدي الشاعر! فإن من حق اللحن الخالد أو يتقرب إلى الشعر الخالد في كثير من التواضع والحياءيخطب وده ويطلب يده
ولقد قرأت كلمتك (بين عزيز أباظة وأم كلثوم) وأنت تعقب على قصيدة الشاعر الكبير (كيف أدعوك) وعلى عبارة الإهداء (المضخة بعطر التواضع وإنكار الذات) فسرني أن نتلافى في وجهات النظر وأن ننتهي إلى رأي مشترك هو أن الشعر الخالد يرفع من يغنيه، ولا يستطيع اللحن الخالد أن يرفع شعر الوهاد والسفوح إلى القمم والذروات!
بعد هذا أحب ألا يرجأ نشر قصيدتي (قمرية تموت) وأختها (غناء)، لأن من الشعر ما لو نشر في غير حينه لأضاع كثيرا من رونقه وجماله. . . ولك التحية والمودة.
دمشق - سورية
هجران شوقي
لقد ولدت مع الربيع حقا وماتت مع الورد. . . ولكن حياتها كما قلت، كانت أقباسا من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس!
إن روح ناهد تطل عليك من عالمها الآخر يا هجران، وتحفظ لك الوفاء، وتشكر لك هذه العاطفة النبيلة التي أملت عليك أن تذكري أختا لك في الأدب والإنسانية. . . ترى هل أدركت عن طريق الإلهام سر هذا الأسى الذي أطفأ نور الشباب في أبانه وأذبل زهر(901/32)
الربيع في ريعانه؟ أنه سر عميق. . . كمن بين الجوانح وطويت عليه الضلوع، وقدر له أن يستقر في تلك الحفرة الضيقة التي ينتهي إليها كل حي، ويستريح كل شقي، وتسكن كل حركة ويحدد في زحمة الوجود كل مصير!
يا رحمة الله لتلك الروح التي لقيت من دنياها ما لم يلقه الأحياء حسبها في ظلام القبر أن هناك من يذكرها بالقلب والقلم، يذكرها إنسانة وفنانة، وحلما قصيرا داعب أجفان الحيارى ثم صحوا من بعده على وخزات الجراح! ماذا أقول لك يا هجران وقد أثرت بشعرك ونثرك كوامن الشجن؟ أقول لك تلك الكلمة التي قلتها بالأمس: إن الوفاء يا آنستي هو أجمل ما في الحياة. . وحسب الشاعرة الراحلة هذه النفحات المعطرة تهب على ذكراها من (قمرية تموت)!
أنا معك في أن من الشعر ما لو نشر في غير حينه لأضاع كثيرا من رونقه وجماله. . ولهذا يسعدني أن أقدم شعرك إلى الناي، أنت يا أيتها الشاعرة (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار! إلى هذا العدد من الرسالة بقصيدتك الأولى (غناء) وأرجئ قصيدتك الأخرى إلى العدد الذي يليه.
أما عن هذا الكتاب المشترك الذي تقولين إن هذه الرسائل تؤلف بدايته فلست أدري أي حظ ينتظر نهايته. . إن لدي ثلاثة كتب مهيأة للطبع، ولكن أزمة القراء تصرفني عن التفكير في إخراجها إلى حين؛ إلى أن يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة أن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على قراءة الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال! ماذا نفعل إذا كان القارئ العربي قد أصبح قارئ مقالة، يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر قدوم صديق؟ هذا موضوع بحثته في عدد مضى من الرسالة وأحب أن تعودي إليه يا هجران. . وأن تحملي التحية الخالصة والشكر العميق إلى الأدبية السورية المطبوعة السيدة وداد سكاكيني، التي تفضلت بزيارتي في وزارة المعارف لتسألني عنك ولتقول لي فيما قالت ونحن نتحدث عن أزمة القراء: لو كنت تعرف منزلتك في الأقطار العربية عامة وفي سورية على الأخص، لما تأخرت في أن تقدم إلى قرائك ما لديك من كتب. . لست أدرى إذا كانت كلمات الأدبية السورية من قبيل المجاملة التي يفرضها الخلق الكريم أم من قبيل الحقيقة التي يؤيدها(901/33)
الواقع الذي لا أعلمه! مهما يكن من شئ فحسبنا اليوم أن نلتقي على صفحات الرسالة، لننظر ماذا يكون من أمر الغد القريب.
أما عن هذا الباب الذي فتحته من قبل وهبت منه رياح العصبية الإقليمية، فإنه ليسرني أن تطرقيه بهذه الكلمات: (إنني أمقت من ينتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن بعينه دون غيره من الأوطان، لأنني أرى الفن وطنا وأحب أن يتلاقى الناس في هواه). . صدقيني إنني أحب أن أسمع هذه الصيحة من كل قارئ وأديب في مصر ولبنان وسورية والعراق، وكل وطن تربطه بالعروبة أواصر وأسباب. أحب للكتاب والشعراء أن ينظروا إلى أسمائهم وهي مجردة من أثواب الوطن الصغير ليلفها علم واحد هو علم الوطن الكبير. . عندئذ تختفي من الأذهان هذه العصبية البغيضة التي تنتصف لعلي محمود طه في مصر لأنه مصري، وتقف إلى جانب أبي ماضي في لبنان! إن كليهما في رأيي ورأي الحق شاعر (عربي). وهذا هو العنوان الصحيح الذي يجب أن تدرج تحته أسماء أهل الفن هنا وهناك.
ولقد لمحت من وراء السطور في رسالتك سر إعجابك بشعر عزيز أباظة، كما لمحت من وراء الأبيات في قصائدك سر عطفك على شعر أنور العطار. . ودلتني هاتان اللمحتان على أن شعر يوسف حداد لم يظفر منك بشيء من هذا العطف وذلك الإعجاب لأنه نغمات تنبعت من وتر غير الوتر ورفات تنطلق من جناح غير الجناح! أريد أن أقول إن سر ميلك إلى الشاعرين مصدره أن شعرك يغترف ألفاظه وأخيلته وقوالبه من نفس المنبع الذي يغترفان منه. . وهنا مفرق الطريق بين نظرتين تفضل إحداهما شعر يوسف حداد وتفضل الأخرى شعر أباظة والعطار. ولست أريد من وراء هذه اللفتة العابرة أن أخرج شعر الشاعرين من دائرة الأداء النفسي، كلا! وإنما أريد أن أقول أن الوثبات الشعرية التي تحلق باللفظ والخيال فوق المستوى المألوف في أفق الشعراء، هي التي تدفعني إلى أن أزن قصيدة (الشاعر) ليوسف حداد بنفس الميزان الذي أزن به القصيدة (راقصة الحانة) لعلي محمود طه وقصيدة (الطلاسم) لإيليا أبي ماضي. . وهو مستوى من التحليق لم يبلغه بعد شعر عزيز أباظة ولا شعر أنور العطار! إن هناك يا آنستي لونا من الشعر يعجبني ولونا آخر يهزني. . . وكلا اللونين يرضى عنهما (الأداء النفسي) ولكنه الرضا الذي تختلف(901/34)
درجاته ومعانيه. وأرجو ألا يفهم القراء أن حكمي على يوسف حداد هو حكم عام على شاعريته، كلا! أنه حكمي على هذه الشاعرية في حدود هذه القصيدة الوحيدة التي لم أقرأ له غيرها من قبل. . وقد تكون (فلتة) من الفلتات التي يصعب أن تتكرر من حين إلى حين.
ليس من شك في أن الآنسة هجران ستشم من هذه الكلام رائحة اختلاف في الرأي. . لا بأس من أن نختلف في أمر ونأتلف في أمور، وحسبها هذه الأبيات التي قالها شوقي على لسان ابن ذريح.
ما الذي أغضب مني الظبيات العامرية
ألأني أنا شيعي وليلى أموية؟
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية!
ومعذرة لهذا التحريف اليسير في البيت الأول. إنه تحريف يقتضيه المقام!
مجلة (الأديب) في قفص الاتهام:
لقد كان موقفك نبيلا تجاه رسالتي السابقة، لكنك في التعقيب على الدفاع عن مجلة الأديب المنشور في العدد (895) من الرسالة الغراء، غيرت موقفك قليلا. وأحسب أن الصداقة التي تربطك بصاحب الدفاع هي التي جعلتك تنشر رسالته أو دفاعه الذي يحوي أوضع لاتهامات من غير أن تذكر اسم الكاتب! فهل أرضى ضميرك هذا العمل؟ إن النقد يا سيدي - وبالأخص مثل هذا النقد - لا ينشر من غير الاسم الكامل للكاتب، فكيف تجاهلت هذا؟ إنني ألومك، فأنت يجب أن تتمسك بالحق، دون النظر إلى الأمور الشخصية ودون الاعتبار بظروف الصداقة.
على أي حال أرجو أن يتسع صدرك وصدر (تعقيباتك) لردي هذا الذي آمل أن لا يحذف منه شئ. . والآن دعني أحدثك بهذه الأسطورة:
يحكي أن جماعة من الذئاب عصف بها الجوع فعقدت اجتماعا فيما بينها، وقررت أن تتغذى بكل ذئب أصابه الجرب كي لا ينتشر هذا المرض بين الذئاب. وكان في تلك الجماعة التي تضم خمسمائة من الذئاب ذئب واحد أصيب بالجرب، ما إن سمع هذا القرار حتى رفع صوته صارخاً (أنا لست أجرب) وما كان من الذئاب الأخرى إلا أن انقضت عليه وافترسته!(901/35)
أنت ترى يا سيدي أن ذلك الذئب لو لم يكن أجرب لما رفع صوته، ولما التفتت الذئاب اليه، ولما افترسته. . ومجلة الأديب تشبه في دفاعها عن نفسها دفاع الذئب الأجرب عن نفسه! فالكلمة التي سبق أن بعثت بها إليك قد نشرتها دون أن تذكر اسم المجلة، وجاء فيها أن المجلة تبيع النشر بالمال يجب أن تحارب. . فما كان من (الأديب) إلا أن رفعت صوتها - على لسان أحد أصدقائها - تقول إنها لا تبيع النشر بالمال! وغاب عنها أن دفاعها هذا ما هو إلا اعتراف لا يقبل الشك في أنها تبيع النشر بالمال!!
وإذا وجدتني أبالغ فيما أقول فدونك أعداد (الأديب)، تصفحها جيدا فستراها إلى جانب قائمة الأنصار تخاطب القارئ في افتتاحياتها بين حين وحين بكلمات مستجدية لا يمكن أن تستعملها مجلة لها كرامتها ولها مركزها الأدبي. وإذا صح ما يقوله المدافع عن (الأديب) من أن صاحبها (معذور) في الاستجداء السافر، فلماذا إذن الكد والتعب والإرهاق وما فائدة مجلة فاشلة لا تستطيع الاستمرار في الصدور إلا على يد الأنصار؟ أجل، ما نفع مجلة تفرض نفسها فرضا على القارئ في مطلع كل شهر بوجهها الأسود؟!
يقول صاحب الدفاع عن (الأديب) المختفى خلف نقاط ثلاث: (فليس صحيحا أن جميع أنصار المجلة تنشر لهم المقالات) عفوا يا أستاذ؛ نسيت أن أستثنى من جميع الأنصار نصيرا واحدا أو نصيرين! أهملت مقالاتهم لأسباب أخرى خاصة، بعيدة جدا عن النزاهة والحق! ويقول عن لسان ألبير أديب: (إن ما ذكره كارنيك عن ذلك القارئ العراقي الذي شكره صاحب الأديب على إرسال الاشتراك الخ. . . كذب وافتراء) وأنا أعجب أشد العجب كيف تهور الأستاذ ألبير فنفى ذلك هذا النفي القاطع. لاشك أنه لا يدري أن بإمكاني نشر تلك الرسالة التي أرسلها بخط يده، كي يطلع عليها القراء ويقفوا على نفسية هذا الرجل الغريب. والآن ليطمئن الأستاذ إلى أني لا أفعل ذلك، وسأكتفي بهذا التلميح كي لا يتهور ثانية ويتهمني بالكذب والافتراء!
وأحب أن تعلم يا سيدي المدافع أنه لو بدت قلة الذوق في كلمتي بأبشع صورها فإن قلة التبصر تبدو بأشنع صفاتها في رسالة ألبير أديب إلى أحد الزملاء حين يقول له: إنه يعاني أزمة في النشر، تجعله يفكر في هجر (الأديب) وهجر لبنان!
. . . أنت ترى يا سيدي المعداوي أن هذا الكاتب بعد أن يتهمني بقلة الذوق لأني كشفت(901/36)
الستار عن مؤامرة ألبير لا ينكر قولي ولا يكذبه. . . ومع ذلك يتهمني بقلة الذوق فهو يقول. (إن صاحب الأديب قرر مراراً أن يغلق مجلته، وإنه لم يطلب اشتراك الأنصار إلا بناء على اقتراح هؤلاء الأصدقاء). ومن كلام هذا المختفي خلف النقاط تستطيع أن تلمح آثار الحقيقة التي كشفت عنها الستار، فبأي وجه يلقاني حضرة المدافع المجهول؟ كأنما (الأديب) لم تفعل شيئا غريبا، وكأنها إذ تتوسل وتستعطف وتستجدي لا تخرج عن مقتضيات الصحافة في العصر الحديث. . ما هذا الهراء؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ متى كانت الصحافة تجارة؟ وفي أي جيل وأي عصر نقد الكاتب أو الشاعر، مبلغا من المال كي ينشر فكرة من الفكر في صحيفة من الصحف!؟ في الوقت الذي كان يجب أن تدفع (الأديب) من عندها للكتاب نراها تأخذ هي من الكتاب، لقاء نشر كتاباتهم. فهي تريد أن تجعل الأدب ملهاة يستطيع أن يمارسها كل من هب ودب من أصحاب الجيوب المنتفخة! أيها التاريخ سجل منزلة الفكر في هذا الزمن، واذكر مجلة الأديب بحروف من ذهب!!
ويعود حضرة المختفي خلف النقاط - بعد أن عجز عن الدفاع عن مجلته - فيخاطبك زاعما أنسبب (افتراءاتي) هو أني أرسلت إلى (الأديب) بعض القصص فأهملت، ثم عدت فأرسلت له من أحد كتبي مائتي نسخة كي (أرشوه). . ولا شك أنك صدقت قوله هذا كما صدقه سائر القراء، كما يجب أن يصدقه كل من لا يعرف الحقيقة على وجهها الصحيح، وهي غير ما ذكره حضرة المدافع المجهول. . . لا أنكر أنني أرسلت إلى (الأديب) قصة فأهملت نشرها، لا لأنها سخيفة كما وزعم الأستاذ، بل لأنني كنت متفائلا جداً بالأديب فلم أرفق مع قصتي (المعونة) المطلوبة!! ثم جاءني ناشر كتابي ذاك يخبرني أنه أرسل عشرين نسخة من (دموع عذراء) هدية لصاحب الأديب، على سبيل الإعلان، وأنه سوف يرسل إليه مائتي نسخة من ذلك الكتاب. . . ولما سألته عن سر ذلك أجابني بأنه قد عزم على أن يقدمها هدية لصديقه ألبير، فلم أتدخل فيما ينوي إذ لا شأن لي في الأمر! دعني أسألك هنا سؤالا واحدا: لو أن قصصي سخيفة وضيعة كما يقول حضرة المدافع المجهول، فهل يعقل أن يتهافت الناس عليها وهل؟ وتسألني: وهل تهافت عليها الناس فأقول لك: بمائتي نسخة من كتاب لم يربح منه؟!
وما رأيك في أن قصصي لم ترفض ولم توصف بالسخف إلا بعد ما رأيك في أن قصصي(901/37)
لم رفض ولم توصف بالسخف إلابعد أن اطلع ألبير أديب على كلمتي في (تعقيباتك)؟ أما قبل ذلك فتحت يدي رسالة كتبها ألبير إلى الناشر يطلب إليه الإسراع في إرسال النسخ الباقية التي وعده بها. . وحين اطلع على كلمتي بعد ذلك في (التعقيبات) كتب إلى ناشري يقول (أرجو عدم إرسال شيء من كتب كارنيك جورج إذ لا يليق توزيعها بأسم (الأديب) نظر لركاكتها وسخفها، ثم أن صاحبك هذا حقير النفس لا يستحق التشجيع كما طلبت مني، ألم تقرأ ما نشرته له مجلة الرسالة؟ تجد طياً كلمته المذكورة وتعليق الرسالة عليها)!
أرأيتيا سيدي كيف شوهت الوقائع وكيف لجأ صاحب الأديب إلى أمثال هذه العبارات الهابطة، لأنه قد عجز عن الدفاع عن نفسه وعن مجلته؟. . ألا ما أحقرها من طريقة تلك التي تذكرنا بقصة الذئب الأجرب فيما سبق من حديث!!
(البصرة - العراق)
كارنيك جورج
عملا بحرية النشر وتحقيقاً لرغبة الأديب الفاضل فقد نشرت هذه الرسالة كاملة، ولم أبح لنفسي أن احذف منها غير فقرة واحدة زج فيها بأسمي وكان يمكن أن تدخلني طرفا ثالثا في هذه الخصومة. . ويضيق الناطق عن هذا التعقيب في هذا العددان فإلى العدد القادم إن شاء الله.
هجوم في جريدة الزمان:
أشهد أنني على رأس المعجبين بالأستاذ محمد علي غريب محرر الصفحة الأدبيةفي جريدة الزمان. . ومن العجيب حقاً أن يهاجمني الأستاذ الفاضل ثم لا يخفف هذا الهجوم من حدة إعجابي به وتقديري له، في كل مكان يرد فيه ذكره إذا ما تطرق الحديث إلى قيم الأدب والأدباء!
وتسألني عن سر هذا الإعجاب فأقول لك: إنه إعجاب بهذه الموهبة الفذة التي أتاحت للأستاذ الفاضل أن يكون أديباً من الأدباء الممتازين! ولئن دلت هذه الموهبة على شيء فإنها تدل أن الذكاء الخارق يستطيع أن يصل بصاحبه إلى المجد الأدبي من اقصر طريق. . وهذا هو المثل الأعلى الذي سيشير إليه تاريخ الأدب في يوم من الأيام.(901/38)
صحفي لقي من الفشل في حياته ما يرفض معه الصبر وتتبخر قطرات العزاء، ومع ذلك فقد خلق من الفشل نجاحاً ليس له فيما نعلم نظير. . لقد سدت في وجهه أبواب الرزق في عالم الصحافة فتطلع بعين الطموح وعزيمة المقتحم إلى ميدان الأدب. وحين أدرك بفطنته أن الصحف الأدبية في مصر هي الرسالة والثقافة والمقتطف والكتاب والهلال، لم يفكر في أن يطرق أبوابها لأنه ذكي لماح. . ومبلغ العظمة في هذا الذكاء أن صاحبه لا يريد أن يفتضح، لأن المشرفين على هذه الصحف يعرفون اللغة العربية!
إلى أي مكان يذهب بقلمه ليصبح أديباً في عداد الأدباء؟ لقد فكر الأستاذ طويلا، ومرة أخرى لم يخنه الذكاء اللماح، إن هذا الذكاء اللماح وحده الذي قاده إلى جريدة الزمان. . وهناك أصبح أديبا ممتازا لسبب واحد، هو أن المشرف على هذه الجريدة لا يعرف اللغة العربية. . لأنه (الخواجة) إدجار جلاد!!
أقسم بالله العظيم إنه ذكي ومحظوظ. . ذكي لأنه وجد الخواجة الذي استطاع أن يقنعه بأنه أديب، ومحظوظ لأن هذا (الخواجة) قد اقتنع فأفرد له مكانا يكتب فيه. . قد تقول لي إن المسألة لا حظ فيها ولا ذكاء، لأن (الخواجات) بقيم الأدباء أمر يسير. لا يا سيدي! قد يحدث هذا بالنسبة إلى أدباء آخرين. . أما بالنسبة إلى الأستاذ محمد علي غريب فهو مستحيل حتى على الزنوج الأفريقيين!!
ومن هنا ينبع إعجابي به. ولن يقلل من تقديري له أنه أديب لا يعترف به غير الخواجة إدجار جلاد. . حسبه أنه يستطيع أن يقنع صاحب الزمان بإخراج كتاب يؤرخ فيه لأدب العربي الحديث. . وعندما يكتب (الخواجات) تاريخ الأدب المعاصر، فسيكون للأستاذ محمد علي غريب مكان أي مكان!!
أنور المعداوي(901/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأحاديث الإذاعية:
من الأحاديث الرسمية التي تقدمها الإذاعةالمصرية، أحاديث يلقها حضرة الأستاذ مدير دار الكتب المصرية كلما أخرج القسم الأدبيبالدار كتابا أو ديوانا أو جزءاً من كتاب أو ديوان. وقد سمعت بعض هذه الأحاديث، واسترعى انتباهي خاصة الحديث الذي أذيع عن ديوان كعب ابن زهير من حيث إنه كان كله عبارة ترجمة الشاعر، وكان يجدر أن يشمل أصل الديوان المخطوط وأين كان وكيف حقق وهل سبق طبع أو تحقيق له وما قيمته وما إلى ذلك.
ثم عرفت من تحركاتي - كما يقول زملاؤنا الصحفيون - أن تلك الأحاديث تحضر من مقدمات الكتب التي يضعها لها مصححو القسم الأدبي الذين يقومون بتصحيحها وتحقيق نصوصها وأن مطبعة الدار تطبع هذه الأحاديث ليلقيها المدير في الإذاعة من الأوراق المطبوعة، وحضرة المدير من كبار الموظفين الذين تحسب مكافآتهم في الإذاعة وفق درجاتهم العالية في الوظائف، لا كغيرهم ممن لم يحظوا بهذه الدرجات وتقدر لهم الإذاعة الأجر القليل مهما كانت بضاعتهم، وهم بطبيعة حالهم يتعبون في إعدادها، بخلاف الكبار من أشياء مديري العموم الذين يذيعون ما تعده إداراتهم ومصالحهم من منشورات ومطبوعات. . أي أن الأجر يعطي على قدر العمل والقيمة عكساً: من جد وحبر فجزاؤه ثلاثة أو أربعة جنيهات، ومن أذاع منشورا مطبوعا واكثر من اللحن والخطأ كان له خمسة عشر جنيهات جزاء غير وفاق!
نعود بعد هذا الاستطراد إلى دار الكتب، فنقول إن مديرها رجل فاضل وهو أستاذ من رجال التربية والتعليم، ولم نعلم عنه أنه اشتغل بالدراسات المتصلة بالمؤلفات والدواوين التي يخرجها القسم الأدبي بالدار، فالذي يليق به أن يكتب للإذاعة - إذا رأت الإذاعة أن تستفيد من فنه - في التربية والتعليم أو علم النفس مثلا، فيكون ما يقدمه من إنتاجه الأصيل الذي يستحق المكافأة المادية التي تدخل جيبه الخاص. وفي الوقت نفسه يفسح لموظفي الدار المختصين بموضوعات تلك الأحاديث ليقدموا ما سال عرقهم فيه ويأخذوا ما(901/40)
يستحقون عليه، ويتجوا للإذاعة شيئا من الاقتصاد الجائر! إذ تكسب فرق ما بين أجر الموظف الكبير والصغير. .
ثم نخلص من ذلك إلى وجهة عامة، فليس الأمر قاصرا على دار الكتب ومديرها، وإنما هي خطة إذاعية محكمة. . تسير عليها الإذاعة المصرية في استجلاب ما تسميه أحاديث رسمية، وهي أحاديث لا يهم أكثرها الجمهور، وكأنهم يعرفون ذلك ويعلمون أن الأجهزة تقفل وقت أحاديثهم فلا يهتمون بإجادتها وأن كانت الإذاعة تهتم بإجازتها. . نخلص إلى هذه الوجهة العامة لنتمنى أن تخلص الإذاعة من هذا الركود وتتجه إلى الاستقامة، فلا يكون همها موادة كبار الموظفين، بل تتجه إلى من تؤنس فيهم الكفاية والاهتمام بتقديم ما يفيد، من الأفراد، غير مراعية فيهم منصبا ولا درجة.
ومما يتصل بهذا الموضوع، هذا العدد الوفير من الأساتذة الجامعيين وبعض الصحفيين الذين يعلقون على الأخبار السياسية ويقولون أهم حوادث الأسبوع. . أساتذة إجلاء والسماء لامعة يحدثون الناس عما قرأه هؤلاء في الصحف أو وقعت أعينهم على عناوينه واختاروا الحسنى فلم يقرؤوه. . وأعجب العجب برنامج (أهم حوادث الأسبوع) لأن صاحبه المجدود يقول للمستمعين ما عرفوه منذ أسبوع. . وكل منهم يستطيع أن يقوله كما يقوله.
وكأني بأولئك الأساتذة لا يبذلون في أحاديثهم جهداً، لأنهم واقفون على طريقة الإذاعة في الإثابة العكسية على المجهود! وهم - لا شك - معذورون في عدم تقديم بضاعة مفيدة، لأن الإذاعة تطلب منهم ذاك النوع من الأحاديث، والإذاعة غالية وطلبها رخيص!
وموظفو الإذاعة المختصون بالأحاديث لهم نظر ثاقب. . وهو بأعينهم في كل عهد من عهود الحكم، إذ ينظرون إلى أنصار العهد الذي يكون حاضراً فيتقربون إليهم بطلب الأحاديث منهم وخاصة الصحفيين الموالين وفي هؤلاء الأنصار الموالين أساتذة يستفاد منهم، ولكن ليس هذا هو مقياس النظر الثاقب الذي لا يستطيع أن يمتد إلى هؤلاء الأساتذة في غير أوانهم. .
وبعد فأني اعلم إن معالي الدكتور حامد زكي وزير الدولة المختص بالإذاعة وسعادة كامل مرسي باشا مديرها بالنيابة، يهتمان بإصلاحها، ولكنني أراهما يجدان في تسيير الدفة والجرذان تقرض ألواح السفينة فتثقبها، والقصور الذاتي لا يزال يتحكم في اتجاهها.(901/41)
مشكلة القراءة:
كتب الأستاذ محمد علي غريب في جريدة (الزمان) عن مشكلة القراءة أو ظاهرة الأعراض عن القراءة المتفشية في مصر بين (المتعلمين) الذين وصفهم بأنهم (الذين يصبحون بعد تخرجهم في المدارس اشد أمية من الجهلاء).
وقد تناول الأستاذ الموضوع من جانب عرض تلك الظاهرة بين الموظفين ومن إليهم ممن يقضون أوقاتهم في الجلوس على المقاهي ولعب النرد ويستهلكون تفكيرهم في تفهم منشورات العلاوات وحسبان الاقدميات، ولا يفكر أحدهم في أن يقضي وقته في رفقةعبقري موهوب يقدم على صفحات كتابه أشهى ما يملك، فيفسح من آفاق فكره ويزيد معارفه وينمي ثقافته ويعرف أن في الحياة ما هو أجل من الترقيات والعلاوات وقد احسن في تصوير هذه الناحية بقلمه الحي الرشيق - ومقالات الأستاذغريب هي (ركن الأدب) الحقيقي في (الزمان) ولكنه لم يتعرض لأسباب هذه الأزمة، بل اقترح تأليف لجنة لبحثها، قائلا: (ومع أنني لا أومن بفائدة اللجان الحكومية وجدواها؛ فما لي حيلة في قبول أن تؤلف لجنة لبحث هذا الموضوع - لماذا نكره القراءة؟)
وأنا اشد من الأستاذ غريب يأسا من مثل هذه اللجنة التي يقترحها، إذ أخشى أن تؤلف - إن الفت - ممن لا يقرؤون. . فالمشكلة كلها آتية من طريقة التعلم وملابساته، فالمناهج المزدحمة والامتحانات التي تتجه إلى الذاكرة ولا تكاد تهتم بالإدراك، وإرهاق التلاميذ والمدرسين - كل ذلك يبغض في الكتاب، إذ لا يكاد التلميذ ينتهي من (سخرة) الامتحانات حتى يلقي بالكتب وهو يشعر بالسعادة لتخلصه منها. وبغضه للكتاب المدرسي يجره إلى بغض جنس الكتاب. فلا مكان إذا لحب القراءة من نفسه.
ومن أكبر الخطر أن المشكلة واقعة أيضا بين المدرسين أنفسهم. . أولئك الذين يرجى منهم أن يبثوا حب القراءة والاطلاع في نفوس الطلاب لأنهم أيضا ضحية هذا النظام المدرسي، ومن تميل نفسه إلى القراءة منهم لا يجد لها فضلة من نشاط بعد أن يكد يومه في التحضير والتدريس والتصحيح. وكثير ممن يلون مناصب التعليم الكبيرة مروا بتلك الأطوار، وقد اصبحوا في شيء من الفراغ يمكنهم القراءة، ولكنهم لا يزالون على ما تعودوه. ومن هنا خشيتي أن تؤلف اللجنة ممن لا يقرؤون. وما احسبني في حاجة لأن أقول أن هذا الكلام لا(901/42)
ينطبق على الجميع، فبين رجال التعليم كثير من المثقفين الممتازين الذين كان لهم من أنفسهم وظروفهم الخاصة ما عصمهم من الداء الفاشي.
في كل مدرسة مكتبة، ولكن هذه المكتبة لعلها المكان الوحيد في المدرسة الذي يشكو الفراغ، فقل أن تجد طالبا يقصد إليها لاستعارة كتاب أو قراءة مجلة من المجلات الأدبية التي تشترك فيها الوزارة للمدرسة، وقل أن يدلف مدرس إلى المكتبة ليرى ما تحتويه من نفائس الكتب ولو كانت في المادة التي يدرسها وكثيراً ما تجد المجلات لا تزال في أغلفتها الملصقة، أما الكتب فهي في غاية النظافة وأن كان يعلوها بعض الغبار. أليست مكتبة المدرسة إذن جديرة بان يكتب عليها (هنا ترقد بنات الأفكار في مثواها الأخير؟) وإن كنا لا نطمع أن يمر بها أحد من التلاميذ والمدرسين ليقرأ الفاتحة. .
ويبدو أن حركة تعميم التعليم وتيسيره لجميع المواطنين غير ملائمة لعلاج تلك المشكلة، لما تستلزمه من الإكثار من التلاميذ في المدرسة، ولكني أرى أن اصل الداء في المناهج المزدحمة وفي الكتب المدرسية وكيفية الامتحان فيها، مما يضيق المجال أمام الكتاب العام الذي يجب أن يتخذه الناشئ بجانب الكتاب المدرسي، ذلك أيضا يغرس في نفوس الطلاب أن الكتاب ضرورة مدرسية امتحانية يحسن التخلص منها بعد الامتحان. وإرهاق المدرسين ليس بكبر الجدول فحسب، بل يأتي أكثره من طريقة الشرح والتلقين، والتدقيق غير المجدي في تصحيح الكراسات، أي من إلقاء العبء كله على المدرس وعدم إشراك الطالب وتعويده على التفكير والتحصيل بنفسه، والمدرس لا يفعل ذلك مختارا، بل يزاوله بدافع طريقة الامتحان ودافع (المفتش) الذي يحتاج وحده إلى مقال. .
عباس خضر(901/43)
القصص
المعطف
مسرحية من كليفورد باكس
للأستاذ علي محمد سرطاوى
(إلى روح الشاعرة المصرية المأسوف على شبابها ناهد طه عبد البر التي خلع عليها الأستاذ أنور المعداوي برثائه البليغ في عدد الرسالة 896 حياة خالدة في الأدب العربي، ستقرأه الأجيال المقبلة على أنه الحان من السماء وألفاظ من اللؤلؤ المنثور، ومعان هي السحر يلين من كل كلمة تنبض بالحياة، وكل حرف يسكب الدموع). .
كاتب المسرحية
كليفورد باكس كاتب إنجليزي معاصر لم تسعفني المصادر التي بين يدي على تعريفه لقراء الرسالة بأكثر من أنه يعتز بهذه المسرحية ويقول أنها جعلت ملحدا يسير على قدميه عشرة أميال ليشاهد تمثيلها في بلدة مجاورة للمرة الثانية وأنها جعلته مؤمنا. .
أشخاص المسرحية: ملك، روح، فتاة ماتت حديثاً.
المكان: عالم الأرواح غير المنظور.
المنظر: ربوة مخضرة عالية، تحدق بها صخور هائلة، يوصل إليها طريقان: طريق إلى اليمين يوصل إلى السماء، وطريق إلى اليسار يؤدي إلى الأرض، وقد جلس الملك بين الطريقين على مقعد من صنع الطبيعة.
يقف الملك ويتلفت يمنة ويسرة، يدخل من اليمين روح في طريقه إلى الدنيا، يتحسس طريقه كالأعمى وكأنه في غرفة مظلمة يشعر الملك بحركته فينظر إليه.
الروح: لقد ضللت طريقي - ما في ذلك شك! إلى أين أمضي؟ أين الطريق؟ أأبقى متخبطاً في هذا الظلام؟ أم أعود أدراجي إلى السماء؟ إلى أين يقودني المسير! لست أرى شيئاً مما حولي. لست أدري هل يبدو الظلام دامسا لعيني على هذا الشكل لقرب عهدي بالسماء؟ ينبغي أن أنتظر قليلا لعل نظري يعتاد تدريجيا هذا النور الشاحب، نعم، لقد صدق ظني، ها أنا ذا أخذت أشعر بكل ما حولي، يخيل إلى إنني في مضيق بين جبال(901/44)
شاهقة، تتراءى من فوقها قمم السماء الزرقاء، ومن تحتي هوة رهيبة يبدو عليها عشب أطلت من أوراقه عيون الازاهير. أقطعت مثل هذه المسافة الهائلة في مثل هذا الوقت القصير؟ يخيل إلي إنني لست بعيدا عن الأرض التي سأعود إليها اليوم والتي كنت فيها مرة واحدة في الماضي. وإذا لم تخني الذاكرة، وإذا لم تكن العيون لتنظر إلى الأشياء هناك نظرة تجسم الجمال، فأنني ما زلت أتذكر أو كما يخيل إلي على الأقل، إحراجا كثيفة، وسماء صافية، وفجراً ساحرا، وغروبا بديعاً، والنور ينبعث من الشمس وكأنه شعاع ذائب من الماس؛ وما زلت أتذكر رجالا ونساء ترفرف السعادة عليهم؛ يحملون قلوبا رحيمة وعقولا متزنة. ما أجمل الرجوع مرة أخرى إلى الأرض في صورة فتاة أو شاب! ليتني أستطيع الاهتداء إلى الطريق.
الملك: إن الأرض بعيدة عنك مسيرة يوم واحد.
الروح: من ذا الذي يتحدث؟ أملك؟
الملك: نعم
الروح: تحية السماء إليك! لقد أرسلت إلى الأرض فهل أن تدلني على طريقها؟
الملك: أتريد الحياة في الأرض؟ أو لم تكن سعيدا في السماء؟
الروح: إنني جرة قد ملأتها السماء بالمحبة وفاضت على جوانبها، ولما لم يعد في استطاعتي الاتساع لشيء أكثر من ذلك السيل المتدفق من النعيم الإلهي، فهل يداخلك العجب، والحالة هذه إذا رأيتني أفتش عمن اقاسمهم ما لدي من هذا الكنز النفيس؟ هنالك أشياء لا شك إنني نسيتها عن الأرض التي ما تزال لها آثار حلوة في ذاكرتي، ولكنني كنت استمع من وقت إلى آخر، والدهشة تتملكني، من أولئك الذين رجعوا منها، أن الناس لم يستطيعوا إشاعة والسعادة في جوانبها كما هي في السماء، وهذا ما يدفعني إلى الاعتقاد بان هنالك مجالا متسعاُ للحب ليصنع المعجزة. إذا كنت تسير في اتجاه غير صحيح، أرجوك أن تدلني على الطريق.
إنني أعرف الكثير من الأرواح قد ارتعدت خوفاً وهي تدنو من الأرض، رهبة من شبح اليقظة والنوم هناك: لكنني لا أذكر أن مخاوفاً من هذا النوع دارت بخلدي وأنا العبث إلى الأرض للمرة الأولى.(901/45)
الملك. في استطاعتك من هذه الفتحة رؤية الكواكب الذي تفتش عته.
الروح: أين؟ أنني أرى نجوماً لا يحصيها العد - وكأنها فقاقيع على بحر من الظلام. لست قادراً على تمييز الأرض من بينها: أهي ذلك النبع الهائل المتدفق من اللهيب؟
الملك: كلا. إنها أقل لمعاناً. إنها دائرة صغيرة، ومكان متواضع لا يكاد يرى من الشموس في الفضاء.
إلا ترى الكثرة الهائلة في الناحية البعيدة من الدب الكبر، والتي ينبعث منها شعاع متعدد الألوان كالبجاد المرجل القشيب؟ من تلك النقطة اتجه ببصرك إلى المشرق واجعل نظرك ينفذ في استمهال إلى ما وراء المجرة.
الروح: ليس في استطاعتي أن أرى شيئا من ذلك الاتجاه الذي تشير إليه؛ إنما أرى ظلاما دامسا وفراغا هائلا.
الملك: أرجع البصر إلى تلك الجهة مرة أخرى
الروح: يخيل إلي إنني أرى نقطة شديدة اللمعان، أهي تلك الأرض؟
الملك: لقد ابتدأت ترى الاتجاه الذي تتحرك فيه الأرض. إن الذي رأيته ليس إلا الشمس التي يبهر نورها نظر الإنسان.
الروح: لكنني الآن أرى أقراصا شاحبة الضوء تدور على نفسها في شكل دائري، أنراها ذرات سابحة في الفضاء فتتحرك أمام عيني المتعبتين؟
الملك: أترى تلك الدائرة الثالثة؟
الروح: نعم. .؟
الملك: تلك هي الأرض ولكم تبدو للعين صغيرة، دامسة الظلام، ولكنها على الرغم من ذلك، مفعمة بكل شيء جميل، وكل شيء لا تقوى الأنفس على احتمال ما فيه من أحزان تطير لها الألباب شعاعاً.
الروح: ألا بربك خبرني كيف تكون الولادة التي يبعث فيها روح من السماء إلى الأرض؟
الملك: إنها أشبه ما تكون بنوم بطئ، وانحلال تدريجي، وجزر تنكمش فيه القوة على نفسها، وغرق في تيار الحياة، ثم يقظة مفاجئة على صراع عنيف في النفس بين الرغبة والحرمان وبين الدموع والابتسامات.(901/46)
الروح: اقسم بالذي خلق أن سوف لا يقف ما ذكرت عقبة بيني وبين الحب الذي سأتفق منه حتى نهاية الحياة نفسها.
الملك: لقد سبقتك إلى الأرض ملايين وملايين من الأرواح التي كانت تحمل في نفوسها هذا النور. من يدري فلعلك واجد لديك من القوة ما يكفي للثبات على هذه العزيمة، لكنني لا أرى بدا من أن أحذرك حين أقول لك إن الولادة أو البعث إلى الأرض تحمل في طياتها معاني تضائل روحانية السماء.
الروح: أرجوك أن تقودني إلى النقطة التالية لأمضي إلى الأرض؟
الملك: إنك تستعجل الذهاب في الوقت اللحظة التي انتظر فيها مواجهة عمل شاق جداً.
الروح: ماذا تعني!
الملك: إنني في انتظار فتاة ماتت منذ لحظات لأدلها على الطريق إلى السماء. إن الأرواح حينما تخلع اجسادها، أو كما يقول أهل الأرض حين تموت، تمر جميعها من هذا الطريق. إن الأرواح وهي تهبط من السماء إلى الأرض لا ترتدي غير هذا الزي البسيط الذي تبدو فيه أمامي الآن، ولكن مر السنين على الأرض لا يمكن العقل المكدود المرهق من أن يحيك للروح بردا من المثل العليا وإنما ينسج لها معطفا من الكبرياء والغرور والطموح، لا تستطيع عين الإنسان الفانية رؤيته فترتديه النفس، ويصبح ذلك المعطف الموشى بالذهب والدر والجوهر من سخافات الأرض حاجزا قوياً بين الإنسان وجوهره الإلهي الصحيح، كما يختفي لهيب النار والدخان عن العيون، وحين تموت تلك الأنفس لا تخلع هذا الرداء الذي ارتدته على الأرض، ويبقى عليها في طريقها إلى السماء وأنا في هذا المكان الذي يفصل السماء عن الأرض، أقوم بوجوب تعليم الأرواح وإرشادها إلى خلع هذا المعطف قبل دخول السماء لتعود إليه في بساطتها النورانية كما أنت الآن.
الروح: هل لك في جميل تطوق به عنقي؟
الملك: ماذا تريد؟
الروح: أن تتيح لي فرصة إقامة البرهان على إنني لم أتكلم عن الحب إلا كلام المؤمن بما يقول، وذلك عن طريق إنابتي عنك في تخليصها من ذلك المعطف.
الملك: إن الأمر ليس بالسهولة كما يخيل إليك. إنه أمر شاق عسير.(901/47)
الروح: كيف! أعسير علي أن أقنعها بخلع ذلك الرداء، وإن تعود إلى سابق عهدها؟
الملك: سأتيح لك الفرصة التي تريدها. تلفت إلى تلك الناحية - إنها قادمة، ولما تتخلص من المتاعب الأرضية. ها هي تمشي وهي في حالة متوسطة بين اليقظة والنوم، أشبه ما تكون بإنسان يحلم حلماً لا يستطيع الإنفكاك منه. (تدخل الفتاة من اليسار وقد ارتدت معطفاً طرزت على حواشيه رسوم معقدة زاهية الألوان، رائعة المنظر. يدل صوتها وخطوات سيرها على إنها نائمة).
الفتاة: كلا. . . لا تذهبي! ينبغي أن لا تتركني!. . . يخيل إلى إنني في غير فراشي، وعلى الرغم من أن الألم قد تاء بكلكله على رأسي، وإن الحمى قد استراح منها جسدي، فأنني أحس بأنني أصعد في عالم خيالي من قمة إلى قمة، غير مستطيعة الكف عن ذلك: اشعر بميل شديد للراحة فعلي أن استريح.
(تجلس على الأرض)
الملك مخاطباً الروح: إنها لما تستطع التخلص من أفكارها كما رأيت، ولا تزال مربوطة بتلك الحياة التي كانت فيها.
الفتاة: اقتربي مني، أريد أن أحدثك عن أمور لها خطرها عندي. أتسمعينني؟ أنني مدينة لأختي بمبلغ من المال، والخوف يساورها، وتحدث نفسها عن إمكان عجزي عن دفعه إذا استمر المرض طويلا. أكدي لها إنني سأدفع كل مالها، وأنني لن أموت، وأن هذا المرض سيزول كغمامة الصيف. . ويح نفسي!. . ما الذي حدث! لا أسمع مجيباً. . أتراني في نوم عميق!
الملك للروح: إن هذا الذهول الشديد الذي يعصر كل قوة فيها، اللحظة بعد الاخرى، سيصبح اقل شدة وعمقا.
الفتاة: ما هذه الصور التي تتراءى لي. . .! أتراني في حلم عميق!. . . الصور. . . والشمس المرتفعة. . . وقد دفنت أشعتها في الغيوم، فبدأ نصف السماء وكأنه اللؤلؤ المنشور. . . وتلك السفوح الخضر وقد غطتها الازاهير التي لا تتحرك. . . اقتربي قليلا مني. . . وإذا حدثتك اليوم عن النقود فعديها عني بالدفع حالما تذهب وطأة الحمى. . . أين ذهبت؟. . . يخيل ألي انك بعيدة عني آلاف الأميال. . . إن صخور الأحلام ترتفع أمام(901/48)
عيني مرة ثانية. . . ينبغي أن استمر في المسير. أشعر بضعف شديد وإعياء مفرط. . . حتى هذا المعطف الذي ارتديته قد اصبح يثقل رويدا رويدا فلا أكاد أقوى على حمله.
(تقف بصعوبة شديدة)
الملك للروح: لقد استيقظت الآن. اقترب منها. حل ذلك الطلسم الذي يربطها بالحياة حتى تخلع معطفها. . أسرع في عملك.
(يسير إلى اليمين)
الروح: لقد أتيت لمساعدتك. . . و. . .
الفتاة: وهل أنا في حاجة إلى ذلك! لقد كان كبريائي على الدوام يجعلني احتقر الاعتماد على الآخرين - ولكن - قل لي من أنت؟
الروح: لماذا؟ إنني روح في طريقي إلى الأرض من السماء.
الفتاة: لا يوجد شيء كالذي تتحدث عنه. . .
الروح: لكن. . . كيف؟ ألا تستطيعين تصديق ذلك الآن؟. . . أنظري. . . إنني أمامك!
الفتاة: أرواح بلا أجساد، أشياء غير معقولة. . . أنها أشبه ما تكون بآلة موسيقية لا أوتاد لها. . . ومع ذلك فأنني أرى لك شكر. . .
الروح: إن الشكل الذي تبصرينه إنما هو صورة جسدي هناك.
الفتاة: هنالك؟ أين؟ أتقصد الأرض!
الروح: إنني ذاهب إليها اليوم.
الفتاة: أتعني ما تقول؟ إذا كان ما قلته عن نفسك صحيحاً ففي أية حالة أكون إذن؟
الروح: إن جسدك قد مات، وأنت في طريقك إلى السماء.
الفتاة: أنا ميتة؟ ماذا أسمع؟ إذا كان قولك صحيحا فما أجهل الناس على الأرض بأسرار السماء. . إن البشر قد انصرفوا في السنين الأخيرة عن التفكير في هذه الاجور، واعتقدوا إنها خرافة، وأنها لا حياة أخرى بعد الموت.
الروح: أصحيح ما تقولين؟ ما أغرب ذلك! إن مرد استغرابي إلى عجزي عن تخيل الدنيا التي يعيشون فيها على حقيقتها.
الفتاة: أحسب أن هذه الصخور هي السماء؟ أليست كذلك؟(901/49)
الروح: وأسفاه! إن السماء بعيدة جدا عن هذا المكان الذي وقف فيه ذلك الملك ليفصل عالم المادة عن عالم الروح.
الفتاة: ما دام الأمر كذلك، فإن أحد الطريقين يوصل إلى السماء وحتما، إن طريقي هذا. .
الروح: أتحسين إن في استطاعتك الانطلاق إلى السماء وأنت على هذه الصورة التي كنت فيها على الأرض؟
الفتاة: لماذا لا يكون ذلك في استطاعتي؟
الروح: إن الأعمال التي كنت تقومين بها على الارض، ليست إلا عتاقيد من التعب قد جف منها الرحيق.
الفتاة: لو كنت ميتة كما يخيل إليك، لفقدت ثروتي وشهرتي - والآن - وأنا في السماء - على زعمك - تقول لي أنني سأجد تلك الإدارة الحديدية التي جعلت اسمي مصدر هلع الناس، وتلك الثقافة العميقة التي صقلت عقلي وجعلته نسيج واحد، تقول لي، أنني سأجد هذين مكنزين النفيسين الذين هما كل ذخيرتي، لا شيء أبدا. ومعنى ذلك أنني أصبحت كسائر الناس. إن رغبة عنيفة لا قدرة لي على الغلبة عليها تدفعني إلى دخول السماء، فماذا يجب أن افعل!
الروح: أول ما يجب عليك عمله أن تخلعي هذا المعطف؟
الفتاة: لكن لا تنس أنني بذلت حياتي وأنا أصنع هذا المعطف، لقدنسجته من آلاف الخيوط، وزينته بالرسوم المعقدة ولونته بألوان قوس السحاب. . إنه صورة صحيحة عن جهادي في الحياة، وقليل من البشر من يستطيع الحصول على مثله، ولا شبيه له عند الناس.
الروح: أقسم لك مؤكدا، بأن ليس في استطاعتك دخول السماء ما لم تخلعي هذا المعطف عنك:
الفتاة: لا أستطيع تصديقك. . . لماذا؟ أنني إذا تجردت عن ذلك لم اصبح شيئا.
الروح: إن هذا الذي يعز عليك خلعه ليس برداء.
الفتاة:. . . كلا. . . إنه أكثر من ذلك. . . إنه الشخصية التي أبدو فيها. . . إنه حياتي الماضية. . . وذكرياتي. . . وما وراء كل ذلك من أحلام وآمان وشعور. . . وإذا قضي علي بنزع هذا المعطف، فما الذي يبقى مني؟ ليت شعري ماذا أصبح إذا فقدت شخصيتي؟(901/50)
ومن أنا إذا غدوت واحدة من الملايين. . . أو مثل اللهيب المنبعث من الشمس؟ لن أكون في تلك الحالة، ما أنا عليه الآن. . . أبدا. . . إذا كنت ذاهبا إلى الحياة على هذه الصورة فاجعل أمانيك قليلة فيها. .
الروح: ماذا تعنين؟
الفتاة: أعني انك إذا لم تدبر حيلة تؤثر بها على أبناء جنسك فسوف يكون نصيبك البؤس والعذاب في الحياة حتى نهايتها. . . إنك ستكون موضع الازدراء. . . تطرد عن الأبواب وتنبذ كشيء حقير تافه.
الروح: ألا يساعد الناس بعضهم بعضا في الأرض؟
الفتاة: أتبدو علي هذه الصورة من الجهل والغباوة، وتتصدى لبيع النصائح!! إن الأرض بالنسبة إلي حب من طرازك مفروشة بالأشواك، ومفعمة بالآلام والدموع. . . إن الناس سينظرون إليك نظرهم إلى مستواه أو مأقون. . .
الروح: ما أغرب عالم يبدو فيه الخلق الكريم سخافة! أليس من الأنصاف للنور الذي يشع في ضمائرنا في السماء أن يكون الخلق الكريم كالهواء مشاعا للناس جميعاً. . لا يستغني عنه أحد كائنا من كان. . . لكن يريك خبرتي عن الحب. .؟ أليس له مكان في الأرض بين الناس؟
الفتاة: إنه كالنجم البعيد. . يرى وسرعان ما يغيب عن العيون. . .
الروح: أبتحارب الناس في الأرض، في ذلك المكان الذي أكل الدهر عليه وشرب؟
الفتاة: إنهم يقتتلون على ياردات قليلة من التراب، وعلى قليل من مادة براقة يسمونها الذهب. . .
الروح: أولا يزالون على ضلالهم القديم. . . لكن ماذا يفعلون في وقت السلم؟
الفتاة: عندئذ يجاهد كل إنسان في زيادة ما عنده من رزق كثير وأخذ اللقمة من فم الجائع. . .
الروح: أيقاتل الصديق صديقه، والأخ أخاه، على هذه الصورة؟ إذن كيف تتقدم الحياة خطوة واحدة على الأرض؟
الفتاة: كيف؟ إن ما فيها على التقدم، مرده إلى الصدف، لا إلى إرادة الإنسان.(901/51)
الروح: كنت أظن أن الناس يحملون قلوبا رحيمة، وأن العدالة طريقهم السوي في الحياة. . .
الفتاة: ولماذا تحسبهم كذلك؟ ألا يرون أنفسهم مجرد عابر سابح في فضاء الكون الفسيح. . .
الروح: ولكن كيف غاب عنهم انهم أرواح!
الفتاة: ومع ذلك فأن معظم الناس يبذرون الحياة في الحماقات وفي إثارة المنازعات. . .
الروح: وما أسقاه! إذا كان صحيحا ما أسمه منك، فإن الحياة جحيم. . . لقد ابتدأت أخشى الرجوع إليها.
الفتاة: إذا بقيت سليم الطوية هناك كما أنت هنا، وبقيت تعتقد أن الحب هو السلطان الذي تخضع له نواميس الكون، فإنك ستجد الناس في حقيقتهم. . . جنسا من المخلوقات ممعنا في الخبث واللؤم والقسوة والهمجية لا يحترم غير الأقوياء ولا يبجل غير الظالمين. . . يعذبون الضعفاء ويجيرونهم على تحمل الأذى والعنت والإرهاق. . . أنني أسدي إليك هذه النصيحة. . . فكن عاقلا. . . فكر في نفسك. . . وأنسج لك من الآن معطفا تتقي به الأذى، وتخفي ما فيك من طيبة وراء مظاهر القسوة فيه. . . إنك في الأرض أحد رجلين، رجل يفرض أرادته على الأخريين ويسوقهم كالإنعام أمامه، ورجل لا شأن له بين الناس ولا يقول (لا) يملء فيه، إذا سيم خطة الضيم. . . ولكن إذا اقتلعت جذور الإنسانية والرحمة من قلبك، وتركتها هنا في السماء وأنت في أول طريقك إلى الارض، فانك ستأخذ هناك كل ما تريد، وتدفع الآخرين عن طريق نجاحك وتخطف اللقمة من الجائع، لا لتأكلها ولكن لتحتفظ بها لترفك. . . عندئذ لا أرى مانعا يحول بينك وبين السعادة. . . وليست لديك وسيلة أخرى للنجاح في الحياة.
الروح: كنت أحسب أن في استطاعتي جلب الحب للإنسان على الأرض قبل حديثك هذا.
الفتاة: ليس للحب وطبيعة القلب مكان هناك.
الروح: أهذا هو السبب الذي حملك على عمل هذا المعطف لنفسك؟
الفتاة: الآن والآن فقط. . . أخذت تدرك قيمته بالنسبة لإنسان يعيش في الحياة. . . لكن بربك أخبرني عن الطريق الذي ينبغي أن أسلكه؟ يالها من مسالك مخيفة. . . هائلة(901/52)
الانحدار. . .
الروح: إنك لا تستطيعين التحرك من هذا المكان قبل أن تخلعي عنك هذا المعطف. . .
الفتاة: لقد أضجت مكاراً. . . داهية أيها الروح. . . إنك تسعى الآن. بطريقة خبيثة لتحصل على معطفي هذا لنفسك. . . إنها خطة ظريفة. . . لكن ما دمت لا تريد أن ترشدني إلى الطريق فسوف أسير كيفما تقودني قدماي. . .
(تتحرك سائرة إلى اليمين. . . لكن الملك يسد عليها الطريق)
الملك: إلى أين تريدين الذهاب؟
الفتاة: إلى السماء. . . إلى السماء. . .
الملك يجب أن تخلعي عنك أولاً هذه الكبرياء المتمثلة في نفسك الأمارة بالسوء. . .
الفتاة: وأنت أيضاً تقول لي هذا. . . يبدو بي أن شخصياتنا في السماء. . .
الملك: ليست إلا أحلاماً أرضية
الفتاة: والذكاء الذي كان يحملنا وراء أعقد المشاكل!
الملك: ستجدين في الآفاق العلوية ما لا يخطر لك على بال. . . سوف تتعلمين أصعب الأشياء بأسهل الطرق وأسرعها. .
الفتاة: كيف أيها الملاك!
الملك: إذا أحببنا شيئاً عرفنا كل ما تريد عنه سهولة عجيبة ويسر غريب. . .
الفتاة: لكن ليس معطفي الأنفسي. . . وأنت على الرغم من هذه الحقيقة تقول. . . ولكن لا أجدني قادرة على خلعه أبداً
الملك: تشجعي. . . وألقي بهذه النفس الأرضية بعيداً عنك
الفتاة: لن أفعل ذلك أبداً.
الملك: إذن لا مفر لك من البقاء في هذا المكان وعلى هذه الحالة المتوسطة بين الأرض والسماء، حتى يحين الوقت الذي يهديك الله فيه إلى الصواب فتكرهين هذه النفس وتودين التخلص منها. . .
الفتاة: وا أسفاه! ليست لي القدرة على البقاء لحظة واحدة في هذا المكان. . .
الملك: إذن. . . اخلعي هذا المعطف. . .(901/53)
الفتاة: أحس أن مخاوفي ورغباتي قد تساوتا. . . كلا. . . لكن يجب أن أخلع هذا المعطف مهما كان العمل مخيفاً. . .
(تخلع معطفها وترميه على المقعد. . . وتبدو في زي بسيط ساذج مثل الروح تماماً)
لقد أصبحت الآن حرة طليقة من القيود. . . ورجعت إلى عالم السعادة المطلقة بعد طول الرحيل في عالم الشقاء. . . وأصبحت جزءاً من الوجود. . . محمولة على أمواج النورانية كما تحمل أمواج البحر الزبد إلى الشاطئ القريب. . .
الملك: (يتلفت نحو الروح) وأنت. . .؟ وداعاً! إلى اللقاء بعد رحلة الحياة. . . إلى اللقاء.!. .
(يسير الملك والفتاة في الطريق المؤدي إلى اليمين. . ويبغي الروح في مكانه ينظر إليهما وهما ينوا ربان عنه. . . يدير وجهه إلى الجهة الأخرى فتقع عيناه على المعطف. .)
الروح: إن طريقي شاق مرهق طويل. . . لقد هزأت الفتاة من بساطتي. . . وأكدت لي بأن سأكون في دنيا البشر موضع التهكم والازدراء. . . ولكن ليت شعري ما الذي يحدث لو أنني أخذت معطفها! أحسب أنني سأكون قوياً، نافذ البصيرة موضع رهبة الناس واحترامهم جميعاً. . ينبغي أن ألبس هذا المعطف. .
(يلبس المعطف)
لن أكون بعد اليوم أحد أولئك الذين يكتفون بالفتات المتساقط من أيدي الآكلين في وليمة الحياة على مائدة الدنيا.
سأضحك من دموع المعذبين، وأغني على أنين المتألمين. . .
سأحكم الناس ولن يحكمني إنسان. . وسأضع الأثقال عن ظهور الآخرين وأسوقهم بسوط الظلم محملين في طريق طويل مفروش بالأشواك والعذاب. . .
سأثير الرعب والهلع في رحاب الأرض
ستعرفني الحياة حين أضع العمامة على رأسي
(يسير في الطريق الأيسر هابطاً إلى الدنيا. .)
الملك: بعد أن أخذ مكانه على المقعد بعد إيصال الفتاة إلى السماء لقد لبس المعطف. . ما في ذلك شك. . . وا أسفاه. . . لقد تبخرت أحلامه برسالة الحب إلى الأرض. . . مضى(901/54)
في الطريق التي رسمها القدر له. . . إلى دنيا البشر. . . إلى المكان الذي تختبر فيه الطبيعة في الطبائع. . .
(ينظر إلى اليمين)
أي روح سيهبط الآن من السماء إلى الأرض؟ ماذا سيكون مصير أحلامه؟ إن بعض الأرواح حين تصل إلى هذا المكان تنحل عزائمها، ويتبخر ما فيها من خير قبل وصول الأرض. . . ولكن بعض الأرواح يشرق فيها الحب إشراقاً قوياً لا تقوى ظلمات الأرض على طمسه فيها
علي محمد سرطاوي
دار المعلمين الريفية(901/55)
العدد 902 - بتاريخ: 16 - 10 - 1950(/)
مجانية التعليم والضمان الاجتماعي
خطوتان في سبيل النهضة: هما مجانية التعليم ومشروع الضمان الاجتماعي. أما الأولى فقد أصبحت حقيقة ناصعة وأما الثانية فقد أوشكت أن تكون. . وليس من شك في أن الخطوتين تقيمان صرح نهضة علمية واجتماعية تتطلع إليهما البلاد منذ أمد بعيد!
ومن التوافق العجيب أن تجيء الخطوتان متقاربتان لتكمل إحداهما الأخرى إذا ما حالت الحوائل بينها وبين بلوغ الكمال فمن الأشياء التي لا تقبل الجدل أن الفقير قد أعفى من عبء مرهق كان يثقل كاهله في مراحل التعليم، ونعني به المصروفات المدرسية التي كان يطلب إليه أن يقدمها فيعجز عن تقديمها في كثير من الأحيان. هذه حقيقة. . وحقيقة أخرى لا تقبل الجدل في هذا المقام، وهي أن أبواب المدارس قد تخلصت من تلك الأقفال الحديدية البغيضة التي كانت تصد عن العلم فريقا من الناس دون فريق. ومع ذلك فإن هناك أصواتا معارضة تقول لك: إننا نعترف بهاتين الحقيقتين ولكن. . ولكن هذه المجانية المطلقة لا تهيئ العلم لكل جاهل ولا تيسر مناهله لكل فقير، لأن المصروفات المدرسية لم تكن هي العقبة الوحيدة التي تعترض طريق الراغبين في العلم والساعين إليه. ماذا يفعل هؤلاء المعدمون في ربوع الريف حين يريدون لأبنائهم أن يستضيئوا بنور المعرفة، وهم لا يملكون ما تطالبهم به المدن من نفقات المأكل والملبس والمسكن لهؤلاء الأبناء؟!
ناحية من نواحي النقص بلا جدال. . ولكن وزارة المعارف ليست مسئولة عنها لأنها قامت بكل ما عليها من واجبات، وإنما المسئول عنها في تقدير الواجب الوطني هي وزارة الشئون الاجتماعية. ماذا نريد من وزارة الشئون أن تقدم عليه لتعين وزارة المعارف على جعل التعليم منحة طبيعية بأكثر حي، مثله في ذلك مثل الماء والهواء؟ نريد منها أن تعيد النظر في مشروع الضمان الاجتماعي. . إن هذا المشروع كما عرض علينا عن طريق الصحف والاذاعة، قد وضع ليحقق للعاجزين عن الكسب حياة كريمة تقيهم شر الحاجة التي تدفع بهم حينا إلى ذل السؤال، وتدفع بهم أحيانا إلى طريق الجريمة لتخلق منهم لصوصا ومعتدين. نعني أنها ستخصص لهم لونا من المساعدات المادية التي يمكن أن ترد عنهم غائلة الجوع وتدفع مرارة الحرمان، نعني مرة أخرى أنهم سيجدون ما ينفقون. . كل هذا جميل، وإنه لمفخرة من مفاخر الوعي القومي والاجتماعي والإنساني في هذه البلاد. ولكن أين مشروع الضمان الاجتماعي من هؤلاء الذين يجيدون ما ينفقون، ثم لا يجدون في(902/1)
هذا الذي ينفقونه ما يفيض عنهم ليتيح لأبنائهم أن يستعينوا به على التعليم؟ أين هذا المشروع من هؤلاء ليوفر لهم من العون المادي ما يستطيعون معه أن يضمنوا لأبنائهم نفقات الملبس والمأكل والمسكن، إذا ما انتقلوا من حياة القرية إلى حياة المدينة حيث يطلب العلم وتنشد المعرفة ويقام للثقافة كيان وبنيانه؟!
هذا هو الجانب الجوهري في المشكلة. وإننا لنرجو أن يعمل على استكماله وزير الشؤون الاجتماعية، حتى لا يحرم من جدوى هذا المشروع الاجتماعي العظيم مصريون لهم كل الحق في الانتفاع بجدواه. وأي حق أصدق وأكرم وأجمل من أن تعاون وزارة الشؤون وزارة المعارف على أن تجعل من التعليم منحة طبيعية، يصل إليها الفقير وهو مستند إلى أيدي القائمين على أمره في كل مرفق من مرافق الحياة؟
ترى هل يقتنع وزير الشؤون؟. . إن وزير المعارف كفيل بإقناعه لأن المشكلة قبل كل شيء تتعلق بمستقبل الثقافة في مصر!
أ. م(902/2)
الإسلام في الجزائر البريطانية
للأستاذ بدوي عبد اللطيف عوض
من العسير معرفة تاريخ وصول الإسلام إلى الجزائر البريطانية على وجه التحديد، وأكبر الظن أنه يرجع إلى نحو عشرات من السنين خلت.
ويمكن تلخيص قصة مجيء الإسلام إلى تلك البلاد فيما يلي. منذ أكثر من ستين عاما رغبت شخصية غنية من كبار الإنجليز في بناء جامعة للطلاب الهنود، ومعبد للهندوس، ومسجد للمسلمين، ومنزل لهم جميعا في إحدى ضواحي لندن التي تسمى (ووكنج) ولكن المشروع لم يتم منه إلا بناء المسجد، والمعبد.
ثم ظلت تلك الأبنية غير مستعملة، وقد تحول المعبد أخيراً إلى مصنع. أما المسجد فظل أمره مهجوراً.
ومنذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما حضر إلى لندن محام هندي مسلم يدعى (خواجا كمال الدين) فسمع بقصة المسجد المهجور، فعزم على الاستقرار في لندن، وتعمير هذا المسجد، وتنظيم جالية إسلامية هناك، وزاده حرصا على ذلك ما كانت تتيحه له ظروفه المالية من رخاء وثراء، يسرا له أن ينجح في هذا المشروع العظيم.
لقد أثمر مجهودات (خواجا كمال الدين) وكان لها آثار شتى ظهرت في هذه الحياة الجديدة، فقد جاءت الإرساليات الإسلامية الأولى إلى إنجلترا وتوالت الوفود تثرى، فنشروا الإسلام، وكانوا النواة الأولى لتكوين وحدة دينية نظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء هذه البلاد.
حقيقة لقد صادف المسلمون بادئ الأمر عقبات كثيرة، وإمعان في المناوأة لا من الحكومات وولاة الأمر هناك، ولكن من رجال الكنيسة الذين كثيرا ما تناولوهم وتناولوا الدين الإسلامي بالتجريح والطعن فيه، لكنهم اعتصموا بالصبر الجميل، وتذرعوا بقوة الإيمان الصادق.
كانت الصورة المعروفة عن الدين الإسلامي لمعظم العامة من الإنجليز، هي أن الإسلام لا يعرف إلا الانتقام والسيف لاقناع الشعوب والأمم باعتناقه، حتى أن البسطاء، والسذج منهم ظنوا أن هذه الوفود والإرساليات الإسلامية الأولى التي نزحت إلى الجزائر البريطانية، قد(902/3)
جاءت لخطف نساء الإنجليز وأولادهم وأن هذا بعض ما قصد إليه المسلمون.
كان من جراء ذلك أن رفض بعض المحال التجارية والمطاعم في تلك الضاحية (روكنج) أن يتعاملوا معهم مما اضطر المسلمين وقتا ما أن يستحضروا طعامهم وحاجاتهم من لندن.
ولكن سرعان ما تبددت هذه الخرافات بفضل جهود الإرساليات الإسلامية الأولى التي كشفت للإنجليز والشعوب المختلفة هناك حقيقة الدين الإسلامي، وذلك بالخطابة والقاء المحاضرات العامة، وإذاعة النشرات، والكتب الإسلامية. هيأت المقادير حينذاك شخصية عظيمة من كبار رجال الإنجليز البارزين اعتنقت الإسلام، وقدت جماعة المسلمين تلك هي شخصية (اللورد هادلي) الذي اعتنق الإسلام عن حق وصدق ويقين، حين ظهر له أن هذا الدين دين الأمانة والصدق، وعلو النفس، وحب البر، والرحمة، وأنه الدين الذي يرتفع بالقلوب والأرواح لتتصل بالله ليعبدوه مخلصين له الدين، ولينبذوا عبادة ما سوى ذلك، مما يجعل القلوب والنفوس أشد من الأصنام تحجرا وقسوة.
زاد هذا الحادث الفذ في مكانة المسلمين، وازدهرت الحركة الإسلامية بإسلام (اللورد هادلي) واكتسبت كثيراً من القوة والنفوذ؛ فتكونت الجمعية الإسلامية البريطانية برئاسته لنشر الإسلام وتعريف الإنجليز وسكان الجزائر الإنكليزية أحوال المسلمين وتاريخهم وعقائدهم، وأهاب الرجل ومن معه من المسلمين بمن اتصل به من الناس أن يدركوا ما في الإسلام من جلال وخطر وسمو عن كل وضيع، وتعال عن كل دون، وأنه الدين الذي تتجه سياسته إلى توفير الطمأنينة لمن يتبعونه، وكفالة حرية الرأي لهم في عقيدتهم، وأن المسلم والنصراني، واليهودي سواء في حرية العقيدة والرأي، والدعوة إليه، وأن الحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق على الباطل، وتقدم العالم نحو الكمال.
لفت هذا أنظار الإنجليز وغيرهم إلى الدين الإسلامي، وأعلمهم أن الخرافات التي تحيط به في أذهان الناس ورؤوسهم لا نصيب لها من الحق والصحة. وتبع ذلك أن أعتنق الإسلام كثير من الشخصيات البارزة الإنجليزية وغيرهم، وانتقلت الدعوة من دوائرها الضيقة المحدودة إلى أوسع منها، وفشا ذكرها، وذاع أمرها، في كل الجزائر الإنجليزية بعد أن كانت حبيسة بين نعض المدن والولايات.
استمر الإسلام والمسلمون يزدادون انتشارا وعددا، ولم يمر يوم إلا أسلم فيه بعضهم لله(902/4)
وجهه، وكان الفقراء والعمال أشد الناس على الإسلام إقبالا، حين عرفوا أنه يدعو إلى الحب والمروءة والتسامح، والحرية العزيزة على النفس إعزاز المرء حياته.
حقيقة أن الهجرات الإسلامية المتوالية من مختلف الأقطار الإسلامية إلى تلك البلاد طلباً للعلم أو الرزق أو التبشير، وحقيقة أن الطريقة الموفقة التي أنتهجها الدعاة في الدعوة إلى الإسلام، وعدم ما عسى أن يوجد في مثل هذه الظروف والأحوال من أنواع الأذى وضروب المقاومة، كل أولئك كان ذا اثر كبير في إقبال الناس على دين محمد واتباعهم إياه، وتقدم المسلمين والدعوة الإسلامية خطوة جديدة واسعة، فقد كان الدعاة يعتمدون حقا على أسمى الطرق التي وصلت إليها الإنسانية في سبيل تحرير الفكرة، تلك الطريقة التي تلزمك أن تمحوا من نفسك كل رأي وعقيدة سابقة لك فيما تريده من بحث ودرس وتمحيص، ثم تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم الاستنباط الناتج من هذه المقدمات العلمية، حتى تصل إلى النتيجة العلمية الخاضعة بالطبع لهذا البحث والتمحيص.
إنفسح المجال أمام المسلمين، وأخذوا ينشرون تعاليم دينهم في جميع الجهات التي نزلوا فيها، فتركت هذه التعاليم في النفوس أعمق الأثر حتى لقد أقبل كثير من السكان في على الإسلام.
والمسلمون في هذه البلاد يتكونون من شعوب وجنسيات مختلفة، الهنود الأندنيسيون، الأتراك، البولنديون، العرب، المصريون، الإنجليز، الإيرانيون، الشاميون، الأفريقيون، مثل تنجانيقا، ونيجريا، وساحل الذهب وغير ذلك كأهل الملايو، والمغارية، والصينيون.
لكن معظم هؤلاء جميعا يتكون من الباكستانيين، إذ بلغ عددهم حوالي ثلاثين ألفا في إنجلترا، أما العرب فهم نحو أربعة آلاف مسلم، منهم نحو ألفين يقيمون في (كاردف) وهؤلاء الكاردفيون لهم مسجد لإقامة الصلوات والشعائر الدينية وجمعية إسلامية لتنظيم أحوالهم.
أما عدد الإنجليز الذين أسلموا إسلاما حقيقيا في الجزائر البريطانية فحوالي أربعة آلاف نسمة معظمهم من العسكريين والعمال الذين قضوا شطراً من حياتهم في الأقطار الشرقية.
أما المصريون المقيمون فيم قلة، إلا إذا حسبنا أولئك الذين نزحوا إلى تلك البلاد في عمل تجاري، أو طلبا للعلم وهؤلاء يبلغون ألفا أو يزيد.(902/5)
كذلك توجد جاليات إسلامية في مانشتر وليفربول، وجلاسجو والمدن الأخرى الهامة مثل أكسفورد وكمبردج وهؤلاء يختلفون قلة وكثرة.
وأيا ما كان الأمر، فعدد المسلمين جميعاً غير معروف بالضبط ولذا كان تقديرهم غير دقيق، لأنه لم يحدث أن أجرى لهم تعداد أو إحصاء سابق، إلا أنه يمكن القول بأن عددهم اليوم حوالي ستين ألفا من الأنفس، وأن هذا العدد في ازدياد مطرد كل سنة، نتيجة للراغبين في الإسلام، ونتيجة لتزاوج المسلمين بغيرهم من الأجنبيات اللاتي يرحبن كثيراً بأن يكن على دين أزواجهن.
ويحمل بنا في هذه المقام أن نتحدث عن الجمعيات أو المراكز الإسلامية في الجزائر الإنجليزية بشيء من الإيجاز.
المركز الثقافي الإسلامي:
هو أهم المنشآت الإسلامية بإنجلترا، وهو يشغل قصرا من أفخم القصور وأكبرها في لندن وفي أحيائها العظيمة ويلاحظ فيه بذخ الرباش وفخامة الأثاث وبه حديقة واسعة الأرجاء، غنية بورودها وزهورها وأشجارها الفارعة وبهذه الحديقة ملعبان للتنس. .
وهو كذلك المكان الأول الذي يلقي فيه المسلمون المقيمون في إنجلترا ويستقبل الشخصيات الإسلامية الوافدة إلى لندن، فيهيئ لهم أسباب الراحة والاستقرار ويتيح لهم فرصة الاجتماع بالمسلمين المقيمين هناك.
والمركز الثقافي الإسلامي بلندن جزء من المشروع العظيم الذي شجعه، وما يزال يشجعه صاحب الجلالة مولانا الملك (فاروق الأول) أيده الله بروح من عنده، فقد افتتح جلالته اكتتابا عام 1940 بعشرة آلاف جنيه لإنشاء مركز إسلامي، ومسجد بلندن.
وتوالت التبرعات بعد ذلك من ملوك الدول الإسلامية وحكوماتها. ولما وضعت الحرب الأخيرة أوزارها أنشئ هذا المركز الإسلامي وزوده جلالة الفاروق أعزه الله بآلاف الكتب الإسلامية، ولا يزال في كل مناسبة يزوده بمختلف المؤلفات الدينية النفسية، ويوليه عنايته ورعايته.
ورئيس المركز الإسلامي هو فضيلة الأستاذ الدكتور علي حسن عبد القادر أحد علماء الأزهر الممتازين، وقد تخرج في جامعة برلين، ولندن، وهو واسع الثقافة والإطلاع.(902/6)
وقد استطاع بما عرف عنه من جد ونشاط ومثابرة أن يعد هذا المركز إعداداً طيباً وأن يجعله مركزا ثقافيا ممتازا.
ولما اتسعت أعمال المركز الإسلامي وتشعبت النواحي، وأزداد النشاط فيه، وذاع أمر الدعوة بين الإنجليز وغيرهم، بما جعل أمر الإسلام ينتشر ذكره في تلك البلاد، وأصبح المسلمون في حاجة إلى مزيد من العناية والتوجيه؛ لما كان الأمر كذلك رغب الأستاذ الدكتور علي عبد القادر ورغب معه رئيس الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى وبعض كبار المسلمين هناك إلى المسؤولين في مصر أن يزودوا المركز الإسلامي ببعض الأساتذة من علماء الأزهر، لنشر الإسلام، وتنوير المسلمين في شؤون دينهم، فلبى الأزهر هذه الرغبة الطيبة، وسمع لها، وقرر مجلسه الأعلى في نوفمبر سنة 1948 إيفاد أثنين من مدرسي كلية أصول الدين في بعثة دراسية إلى لندن هما فضيلة الأستاذ سليمان دنيا، وكاتب هذا المقال.
وأسند إليهما حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر العمل في المركز الإسلامي على تأدية رسالة الأزهر وإعلان دين الله وإعلاء كلمة الحق معه في هذه البلاد.
وقد حققت هذه البعثة بعض رجاء الإسلام والوطن والأزهر فيها، فنظمت بالتعاون مع فضيلة الأستاذ الدكتور علي عبد القادر النشاط الديني والثقافي في المركز الإسلامي، وبرز هذا النشاط في صورة كانت موضع الارتياح والاغتباط من الجميع في الحفلات التي يدعى إليها المسلمون وغيرهم من مختلف الأديان والأجناس.
كذلك فتحت المكتبة العامة للمركز الإسلامي أبوابها للزائرين في مواعيد مختلفة للاطلاع والانتفاع بكتبها القيمة وفنونها المختلفة.
والصلوات المفروضة أقبل عليها المسلمون كذلك في كثرة لم تعرف من قبل، ولا سيما في أيام الجمع التي يعتبرونها أعيادا لهم، يتبادلون فيها أنواع الأحاديث الشيقة وأسباب الأخوة الخالصة.
ونأمل أن يواصل الأزهر جهوده وبعوثه حتى يتمكن من تأدية رسالته على أكمل وجه وأفضله، بفضل رعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك (فاروق الأول)
حقا لقد سر المسلمون كثيراً إذ وجدوا في قلب لندن مكانا إسلاميا، بل جامعة إسلامية(902/7)
يتزودون بالعلوم الإسلامية ويبسطون فيه مشاكلهم الدينية، ويتشاورون فيما يطرأ عليهم من الأمور.
وسروا كذلك إذ وجدوا داراً تقام فيها المراسيم الإسلامية، ويعتنق الإسلام كل من يرغبه، وتعقد فيها الزيجات الإسلامية. وتحل المشاكل الزوجية.
مسجد لندن:
وأحسب أن المسلمين ستفيض نفوسهم بالغبطة وتمتلئ قلوبهم بالمسرة إذا رأوا مسجداً مشيداً بجانب المركز الثقافي الإسلامي، يكون مثابة للناس وإليه تكون وجهتهم في أمورهم وعبادتهم، وليؤدوا فريضة فرضها الله على الناس جميعاً.
إن الأرض الفضاء التي تبرعت بها الحكومة الإنجليزية بناء المسجد والتي هي بحق في أجمل مناطق لندن لا تزال فضاء.
إن المبالغ التي جمعت من الاكتتاب قد أنفق بعضها في تنظيم المركز الإسلامي وتأثيثه، والباقي قليل لا يكفي لبناء المسجد وتشييده.
إنه من الخير، والخير العظيم حقا أن تتضافر الجهود وتتعاون الحكومات الإسلامية، ومن أشرب قلبهم حب الخير والبر، على المشاركة في بناء مسجد لندن وأن يكون بناؤه عظيما وأن تكون عظمته لافتة أنظار الملايين من الناس الذين يمرون به ويزورونه، نريده مسجداً فخما، على طراز المساجد العظيمة التي شيدت في عصر المماليك، وعصر الأسرة العلوية الملكية (عصر النهضة العربية الحديثة) لأنه سيكون منارة الإسلام وقبلة المسلمين في العاصمة البريطانية بل في عاصمة الدنيا الحديثة.
إذا كانت مصر قد فكرت في إنشاء المركز الثقافي الإسلامي، ومسجد لندن، وساهمت بمعظم المبلغ الذي جمع من الاكتتاب، وإذا كانت مصر قد نجحت في تنفيذ فكرة المركز الإسلامي بفضل صاحب الجلالة مولانا الملك، وأن هذا النجاح قد أتاح لها مكانة رفيعة، ومقاما كريما في الأوساط الدينية والعلمية بإنجلترا؛ إذا كانت مصر قد فعلت ذلك، فأجمل بها أن تتم هذا المشروع العظيم، وأن يخصص القائمون بالأمر في ميزانية الدولة من المال ما يكفي لبناء هذا المسجد والإنفاق عليه حتى يستمر في أداء رسالته على أفضل وجه. وأكمل سبيل. وحتى تتناول الحياة فيه من صورة النشاط الديني والثقافي ما يوازي بينها(902/8)
وبين سمو الفكرة وتحقيق المثل الأعلى للإسلام والمسلمين في تلك البلاد.
البقية في العدد القادم
بدوي عبد اللطيف عوض
أستاذ في كلية أحوال الدين وعضو بعثة فؤاد الأول الأزهرية
بإنجلترا والملحق بالمركز الثقافي الإسلامي بلندن(902/9)
صورة من الحياة
هوى على الشاطئ
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 1 -
ما أتعس الطائر السجين إن انفلت يوماً من بين قضبان قفصه الضيق يبتغي الحرية والانطلاق! أنه سيحاول عبثاً أن يضرب الهواء بجناحيه ليستوي مطمئنا بين ثنايا الفضاء، لأنه - ولا ريب - سيجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فهو قد عاش عمره في سجن من حديد. أو قفص من ذهب , ولم يبل الفضاء ولا عرك الحياة.
أما صاحبي فلقد كان طائراً سجيناً أمسكته الحياة في أغلال من حنان أمه لا يحس إلا بنبضات قلبها الرقيق , وكبلته في قيود من عطف أبيه لا يستشعر إلا خفقات فؤاده الرحيم، وحبسته القرية في ظلمات من التقاليد العاتية تسدل على عينيه غشاوة تعميه عن أن يهتدي في مسارب الحياة ومسالكها، ومن ورائه أبوه يلقنه - فيما يلقن - مبادئ الدين الجافة. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام.
ودفعه أبوه الشيخ إلى المدرسة، ووقف ينظر إليه وهو يدلف في البذلة والطربوش يتعثر في مشيته لا يكاد يتماسك. وسرت النشوة في عروق الشيخ حين تراءى له هذا الصبي الضاوي من أعماق الخيال يوشك أن يصبح موظفاً في الحكومة. . موظفاً من ذوي المكانة والشأن، قد ذهب سمعه في الناس ودوى صيته في البلاد، له الأمر والنهي وعلى الناس الطاعة والخضوع؛ فأبتسم للأخيلة الجميلة.
وأحي الصبي - منذ أول يوم - بالعبء الثقيل يفدحه، فهو هنا في المدينة يفتقر إلى العائل الرفيق الذي يربت على كتفه ويغمره بالحنان ويهيأ له حاجاته في عناية ويدلّله في حب , وهو قد نأى عن أترابه في الملعب ونزح عن رفاقه في الغيط، فافتقد اللهو والمرح، ليحس - أذى الوحدة وضيق النفس، وليجد مس عصا المدرس وهي غليظة قاسية. وشعر بالأسى في أضعاف قلبه الغض - لأول مرة - يوحي إليه بأنه أمسى يتيماً ضائعا؛ فانطوى على(902/10)
نفسه ينشر أتراحه ويطويها، غير أنه لم يستسلم لخواطره السود إلا ريثما تنجاب عنه غمرات الوحشة التي اكتنفته منذ هبط المدينة.
ورأى الصبي - بعد لأي - أن لا معدى له عم أن يلقي السلم لما أراد أبوه. ولكنه كان يضطرب في ذعر وفرق كلما ذكر عصا المدرس وهي تفري جلده في قسوة وجفاء، وكلما ذكر كف الناظر الغليظة وهي تهوي على وجهه تصفعه في غير شفقة ولا رحمة. والمدرس في تربية الطفل طريقة تبذر في التلميذ غراس الكذب والمكر، وتنفث فيه روح الملق والخداع؛ وللناظر وسيلة في حفظ نظام المدرسة توحي إلى الصبي بأنه لا يستطيع أن يتقي قسوة المدرسة إلا أن يفزع عنها ليقضي صدر النهار في منأى عن العلم ليتعلم فنون الشارع وفنون السيما معاً.
وكان الصبي حديث عهد بالمدينة فما استطاع أن ينجرف في تيار الحضارة، وكان وحيداُ من الخلان فما استسلم لنزوات النفوس العابثة، وأراد أن يأمن كيد المدرس والناظر فعقد العزم على أمر، فراح يقضي وجه النهار في الفصل، يجلس في هدوء وصمت، لا تشغله نزعات الصبا ولا سفه الطيش ولا جهالة الحمق، وراح يقضي أول الليل في حجرته الصغيرة يستذكر درسه ويؤدي واجبه، عسى أن يرضى المدرس أو يستميل الناظر فما تلبث أن تصدر أترابه وبذ أقرانه وظفر - في غير جهد ولا عناء - بحب المدرس وتقدير الناظر واحترام الزملاء في وقت معا. غير أنه ظل يرسف في أغلال ثقلال من الدين. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام.
ومضت السنون تنفح في الصبي من روح الشباب، ومن ورائه أبوه الشيخ يثقنه - فيما يثقن - مبادئ الدين الجافة. فبدت سمات الشباب الجياش على وجه الصبي وتألفت آثاره في عقله، ولكن قلبه ما زال يرهب الحياة ويفزع عن موكيها، فعاش في وحدته يضطرب بين الحياء والخجل فلا يجد ملجأ يعتصم به إلا الكتاب والدرس
لطالما سولت له نفسه الشابة أمراً، ولكن أغلال الدين الثقال التي كبلته منذ شب عن الطوق كانت دائماً تمسكه عن أن يندفع
وانطوت سنوات الدرس فإذا الشاب فتى يتأنق في زيه الإفرنجي وخواطره ما تزال هناك(902/11)
في الريف تعيش بين الحقول والدين. وانكشفت أفكاره الفجة عن أمانيه من السذاجة والبله لم يهذبها الكتاب ولا شدبها الدرس. . أفانين من السذاجة والبله تغلغلت في نفسه لأنه عاش عمره في سجن من حديد. . . أو قفص من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة
وأراد الشاب أن يكون مدرساً فكان له ما أراد
ونسى الشاب أن المدرس رجل حبته الحياة بصنوف من البلاء أيسرها الإرهاق في العمل والإملاق من المال، وأقلها أنه رجل مغموط الحق موزع النفس يحاسب حساباً عسيراً على عمل من لا يحسن العمل ولا يستشعر المسئولية. أو لعله استمرأ الشظف واستعذب المتربة فأطمئن إليهما فأختار أن يعيش بينهما أبداً
واختار له أبوه، فتزوج الفتى من فتاة ريفية من ذوي قرابته فيها الجمال والرقة وفيها الثراء والقناعة وفيها الطاعة والوفاء. ووجدت الحكومة في الفتى اللين والانقياد فطوحت به في أنحاء البلاد تدفعه من قرية إلى قرية، وزوجته لا تحس العنت ولا الضيق، وهو صامت لا يجأر بالشكوى ولا يئن من ظلم. وأنى له أن يفعل وهو لا يجد الوسيلة ولا يحسن الزلفى ولا يعتمد على كبير من ذوي المكانة والجاه، فقضى عمراً طويلاً من عمره تتقاذفه النوى وتتجاذبه القرى
ورضيت نفس الفتى فأطمئن فأحس بالسعادة والنعيم
وابتسمت له الحياة فنقلته الحكومة إلى القاهرة ليعيش في المدينة الزاخرة على حيد الطريق بين زوجته وأولاده، مثلما يعيش القروي في قريته، لا يندفع في غمار المدينة ولا يغتمر في صخب الحضارة ولا عجب فنوازعه الريفية ما تزال هناك تضطرب بين الحقل والدين.
وفي القاهرة وجد الفتى رفاقاً في المدرسة ينزعونه من خلوته وهو يصبو إلى المتعة، وفي المقهى ألفى صحاباً يصرفونه عن الدار وهو يحن للحرية، وفي السيما أصاب أصدقاء يجذبونه عن الزوجة والولد وهو يهفو إلى اللذة. وأوشك الفتى أن يتردى في هاوية ما لها من قرار، ولكن روح الدين كانت تضطرم في نفسه - بين الحين والحين - فتردعه عن الغي وترده إلى الدار والزوجة والولد، غير أن شياطين المدينة كانوا ينفذون - دائماً - إلى نفسه بأساليب شيطانية لا يسفل إليها عقله الديني الساذج، فيخضع لنزواتهم حيناً بعد حين.(902/12)
وتعاوره الدين ورفاق السوء فما يسكن إلى دينه وهو يجد فيه معاني السجن ولا يطمئن إلى رفاقه وهو يلمس في عبثهم معاني الزلة الكبرى. والشباب المتأجج في قلبه يدفعه إلى غاية
وهبت نسمات الصيف تلفح القاهرة بوقدة الهاجرة، وجلس الفتى إلى رفاقه يسمع الحديث وقد تفتق فنوناً يصف سفعات الحر ويضيق بأيامه وهي تتلهب كأن فيها لظى من الجحيم، والفتى لا يضرب في الحديث بسبب، فماله بحر القاهرة من عهد منذ زمان، فهو يقضي شهور الصيف - دائماً - في القرية. وأجمع رأي المجلس كله - سوى صاحبنا - على أن يقضوا بعض أيام الصيف هناك في الإسكندرية على الشاطئ، عند الربيع الأزرق، يطلبون الجمام والراحة وينفضون عنهم عناء العمل وعناء التقاليد. وضاق الجمع بالفتى الصامت فانبرى واحد منهم يحدثه ليرى رأيه، فقال الفتى (أما أنا فقد دأبت على أن أقضي شهور الصيف كلها في القرية) فقال واحد (وإذن فإنك لم تر الإسكندرية من قبل) فقال الفتى (لا، لم أفعل أبداً، ولم يدر بخلدي أن أفعل) فقال آخر (لا ضير، فهذه فرصة سانحة تستطيع أن تجد فيها متعة النفس وراحة الجسم وفرحة القلب)
وتشقق الحديث، وانحط الجماعة على الفتى يزينون له الحياة في مرح الشاطئ وافتنوا في الحديث فلم تعجزهم الحيلة أن ينفذوا إلى قلب الفتى في سهولة ويسر، فالقى السلم لرغباتهم وهو يحدث نفسه: (لا ضير، فسأجد هناك الصحة والنشاط والمتعة)
وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الحبيبة. وانطلق الركب إلى الإسكندرية. فماذا وجد صاحبي هناك. . . وماذا رأى؟
كامل محمود حبيب(902/13)
بمناسبة ذكرى شوقي
شوقي وتاريخ مصر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
كان لتاريخ مصر القديم، وما خلفه بنوها من آثار خالدة ما بقي الزمن، أثر بالغ في نفس شوقي، ملأها بالإكبار والإعجاب بمقدرة المصريين القدماء، وما بلغوه في ميادين الحضارة من رفعة ونهوض، وبدأ هذا الأثر واضحاً جلياً في شعر شوقي، فهو لا يكاد يذكر مصر القديمة إلا محاطة بهالة من الإجلال والتكريم، وها هو ذا يستقبل طياراً وافداً على مصر، فيوصيه بأن يؤدي لمصر ما هي جديرة به من تعظيم وإكبار فيقول:
يا راكب الريح، حي النيل والهرما ... وعظم السفح من سناء والحرما
وقف على أثر مر الزمان به ... فكاد أثبت من أطواره قمما
واخفض جناحك في الأرض التي جملت ... موسى رضيعا، وعيسى الطهر منفطما
وأخرجت حكمت الأجيال خالدة ... وبينت للعباد السيف والقلما
وشرفت بملوك طالما اتخذوا ... مطيهم من ملوك الأرض والخدما
هذا فضاء تلم الريح خاشعة ... به، ويمشي عليه الدهر محتشما
ونظم قصيدة كبرى ألم فيها بالحوادث الكبرى التي ألمت بهذا الوادي العزيز، فكان إذا مر بعصر من عصور المجد والازدهار، امتلأ فخراً وتيهاً، ومضى يسجل هذا المجد في أسلوب تملؤه الحرارة وقوة الحياة. وها هو ذا في تلك القصيدة، يتحدث عن عصر بناة الأهرام فيقول:
وبنينا، فلم نخل لبان ... وعلونا، فلم يجزنا علاء
وملكنا، فالمالكون عبيد ... والبرايا بأسرهم إسراء
قل لبان بني فشاد فغالى ... لم يحز مصر في الزمان بناء
ليس في الممكنات أن تنقل الأج ... يال شماً وأن تنال السماء
أجفل الجن عن عزائم فرعو ... ن، ودلت لبأسها الآناء
شاد ما لم يَشد زمان ولا أنش ... أعصر، ولا بني بناء
فإذا مر بعصر مظلم امتلأ شعره بالأسى على ما حل بالوادي من تدهور وانحلال، ومضى(902/14)
يتلمس العظمة من حوادث العصر، فها هي ذي مصر وقد داس حماها الرعاة تضمر في نفسها الشر، ويتجمع بنوها حول لواء زعيمهم، ليخرجوا على ظلم العدو وقسوته، ويستخلص شوقي الحكمة من حوادث ذلك العصر في قوله:
إن ملكت النفوس فاتبع رضاها ... فلها ثورة، وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأس ... ر، فكيف الخلائق العقلاء
وهكذا يمضي شوقي في تلك القصيدة متنقلا من عصر إلى عصر، حتى انتهى به المطاف إلى العصر الحديث، يرسم الخطوط البارزة في تاريخ هذا الوطن، ويحدثنا في قوة عن شعوره إزاء هذه الحوادث العنيفة.
وعندما وقف شوقي أمام النيل، فأنشأ هذه القصيدة الخالدة التي بدأها بقوله:
من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق
أخذ يستعيد بخياله ما قام على ضفتيه من حضارة، وما شيد على جانبيه من آثار المجد، وهنا يستوقفه ما يروى من أن قدماء المصريين عبدوا النيل، فيرى هذه العبادة تنم على ما عرفوا به من وفاء ومروءة، وعلى ما للنيل جدير به من الحب والتقدير ويحدثنا عن ذلك شوقي في قوله:
دين الأوائل فيك دين مروءة ... لم لا يؤله من يقوت ويرزق
لو أن مخلوقا يؤله لم تكن ... لسواك مرتبة الألوهية تخلق
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة ... إن العبادة خشية وتعلق
دانوا ببحر بالمكارم زاخر ... عذب المشارع مده لا يلحق
متقيد بعهوده ووعوده ... يجري على سنن الوفاء ويصدق
يتقبل الوادي الحياة كريمة ... من راحتيك عميق تتدفق
وإليك بعد الله يرجع تحته ... ما جف أو ما مات أو ما ينفق
ويأخذ شوقي في الحديث عن حكمة الفراعنة وأسرار عقائدهم، وعن هذه الهياكل المنثورة على ضفتي النيل، وهنا يتجلى إعجاب شوقي بتلك الهياكل الشامخة ويصفها أروع وصف وأخلده، ويصور الفناء عاجزاً أمام جلالها، لا يستطيع أن يهتدي إلى مكان ينفذ إليها منه، واستمع إلى شوقي حين يقول في تلك القصيدة:(902/15)
ولمن هياكل قد علا الباني بها ... بين الثريا والثرى تتنسق
منها المشيد كالبروج، وبعضها ... كالطود وتضطجع أشم منطق
جدد كأول عهدها، وحيالها ... تتقاوم الأرض الفضاء وتعتق
من كل ثقل كاهل الدنيا به ... تعب، ووجه الأرض عنه ضيق
علا على باع البلى لا يهتدي ... ما يعتلي منه وما يتسلق
ويصور الخيال لشوقي تلك المواكب الفخمة المهيبة، يزيد من جلالها مقدم فرعون في جنده وحاشيته، فهذا موكب من مواكب النصر، أب فيه فرعون بجنده منتصراً سعيداً بنصره، وهذا موكب تحتفل فيه البلاد بوفاء النيل، وتلك مواكب الحج يقدم فيها الحجيج إلى طيبة من كل فج عميق، ولندع إلى شوقي يصف لنا أحد هذه المواكب في قوله:
كم موكب تتخايل الدنيا به ... يجلي كما تجلي النجوم، وينسق
فرعون فيه من الكتائب مقبل ... كالسحب قرن الشمس منها مفتق
تعنو لعزته الوجوه، ووجهه ... للشمس في الآفاق عان مطرق
آبت من السفر البعيد جنوده ... وأتته بالفتح السعيد الفيلق
ومشى الملوك مصفدين، خدودهم ... نعل لفرعون العظيم ونمرق
مملوكة أعناقهم ليمينه ... يأبى فيضرب، أو يمته فيعتق
وفي تلك القصيدة يتحدث شوقي عن الأديان التي عرفتها مصر، التي نبت فيها أصل الحضارة، وأنبثق نور المدينة، فكانت المهد الذي ولدت فيه الحكمة، وترعرع فيه العلم، وتأصل في نفوس بنيه الدين.
ويبدع شوقي أيما إبداع عندما يقف أمام صفحة من صفحات تاريخ المجد المصري القديم، ويصل في وصفها إلى أبعد الغايات وأسماها، والحق أن تلك الصحائف الخالدة من تاريخ مصر، والناطقة بمجدها القديم وهي تلك الآثار المنثورة هنا وهناك قد وجدت صداها في شعر شوقي، فأبدع وأجاد في وصفها وها هو ذا يقف أمام الأهرام فيقول:
قل للأعاجيب الثلاث مقالة ... من هاتف بمكانهن وشاد
لله أنت، فما رأيت على الصفا ... هذا الجلال ولا على الأوتاد
لك معابد روعة قدسية=وعليك روحانية العباد(902/16)
أسست من أحلامهم بقواعد ... ورفعت من أخلاقهم بعماد
أما أبو الهول فقد أفرد لمناجاته قصيدة طويلة أفرغ فيها ما مر به من خواطر وهو يقف أمام هذا التمثال الخالد الغامض، فسأله عن هذا البقاء المتطاول وإلى أية غاية ينتهي:
إلام ركوبك متن الرما - ل لطي الأصيل وجوب السحر
تسافر متنقلا في القرو - ن، فأيان تلقى غبار السفر
أبينك عهد وبين الجبا - ل، تزولان في الموعد المنتظر
ويسأله عن سره الذي يخفيه بين جنبيه، وقد تحير فيه وضل من بدا من حضر، ثم يمضي في سؤال أبي الهول عما رآه من أحداث وما شاهده من العبر:
فحدث فقد يهتدي بالحدي ... ث، وخبر، فقد يؤنسني بالخبر
ألم تبل فرعون في عزه ... إلى الشمس معتزيا والقمر
ظليل الحضارة في الأولي ... ن، رفيع البناء جليل الأثر
يؤسس في الأرض للغابر ... ين ويغرس للآخرين الثمر
وراعك ما راع من خيل قمب ... يز ترمي سنابكها بالشرر
جوارف بالنار تغزو البلا ... د، وآونة بالقنا المشتجر
ويظل يسأله عن كبار هذه الأحداث حتى ينتهي إلى العصر الحديث فيطمئن على مصير مصر التي تيقظ أبناؤها ومضوا يطالبون كبار الأمور وجلائل المعالي.
ومن أجمل الآثار التي وقف عندها شوقي، واستوحى لديها عظمة تاريخ هذا الوطن قصر (أنس الوجود) بأسوان، وقد أجاد في وصفها ووصف ما أوحت به إليه من خواطر شتى في تاريخ مصر القديم، ولا زلنا نحفظ لشوقي قوله في وصفها:
رب نقش كأنما نفض الصا ... نع منه اليدين بالأمس نفضا
ودهان كلامع الزيت مرت ... أعصر بالسراج والزيت وضا
وخطوط كأنها هدب ريم ... حسنت صنعه وطولاً وعرضا
وضحايا تكاد تمشي وترعى ... لو أصابت من قدرة الله نبضا
ومحاريب كالبروج بنتها ... عزمات عن عزمة الجن أمضى
ومقاصير أبدلت بفتات ال - مسك تربا، وباليواقيت قضا(902/17)
وقد أثارت فيه رؤية هذا القصر ذكريات من تاريخ مصر، فأخذ يتساءل عن هذا الملك العتيد، وما كان له من مجد، وعن فرعون ومواكبه، وإنريس وهوروس:
أين (إيزيس) تحتها النبيل يجري ... حكمت فيه شاطئين وعرضا
أسدل الطرف كاهن ومليك ... في ثراها، وأرسل الرأس خفضا
يعرض المالكون أسرى عليها ... في قيود الهوان عانين جرضا
وكان للكشف فن قبر توت عنخ آمون وما ينبئ عنه من حضارة رفيعة عميق الأثر في نفس شوقي، فمضى يسجل في شعره صفحة ناصعة من تاريخ هذا الوطن، ويصف تلك الحضارة التي أبان عنها كشف ذلك القبر. ومن أهم ما أثر فيه تلك الموازنة المؤلمة بين هذا الماضي المشرق بالمجد والعامر بالفخار، ويبين هذا الحاضر المليء بالضعف والتأخر، واستمع إليه يخاطب فرعون قائلا:
قل لي أحين بدا الشرى ... لك، هل جزعت على العرين؟
آنست ملكا ليس بالش ... اكي السلاح ولا الحصين
البر مغلوب القنا ... والبحر مسلوب السفين
لما نظرت إلى الديا - ر صدفت بالقلب الحزين
أقبلت من حجب الجلا - ل على قبيل معرضين
تاج الحضارة حين أش ... رق لم يجدهم حافلين
والله يعلم لم يرو ... هـ من قرون أربعين
وكان شوقي يتمنى نهضة شاملة تناسب تاريخها المشرق القديم.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول(902/18)
على هامش الحرب العالمية الأولى
1914 - 1918
كيف تستفيد مصر من دروس حملة فلسطين
للأستاذ أحمد بك رمزي
بين يدي كتاب عنوانه (دروس من تجارب الحرب العظمى)، وضعه الجنرال الألماني البارون فون فريتاج لودنجهوفن، وكان صاحبه من خيرة كتاب ألمانيا العسكريين وأطولهم باعاً، وأقدرهم في الكتابة عن الحرب من الوجهة النظرية. وهو بروسي الأصل ولكنه ينحدر من عائلة تسكن شواطئ بحر البلطيق، في تلك المناطق التي ضمت إلى روسيا، وهاجرت عائلته إلى ألمانيا، فأنضم في الحادية والعشرين من عمره إلى إحدى فرق الحرس البروسية وشغل قبل سنة 1914 وظيفة هامة في هيئة أركان الحرب العامة في برلين، وما لبث أن ذاع صيته في السنين التي سبقت الحرب الأولى، لاشتهاره بكتبه ومؤلفاته العسكرية، التي نشرها عن فن الحرب وتاريخ المعارك، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى رشحته خبرته وثقافته ليعين مندوبا عن الجيش الألماني وممثلا له، في المجلس الأعلى لهيئة أركان الحرب العامة لجيوش الإمبراطورية النمساوية المجرية.
وقد لمس عن كثب عند بدء الحرب ضعف الإمبراطورية، وأسباب تفكك جيوشها، ولكنه يلتمس الأعذار للعسكريين النمساويين، ويقول إن جموع الجيوش التي حشدتها دولة العرشين - عرش النمسا وعرش المجر - قد استبسلت في القتال وحاربت بشجاعة، وجاءت هزيمتها نتيجة للأخطاء التي سببتها الهيئات النيابية في البلدين وإهمالها لطلبات هذه الجيوش وقت السلم.
والمعروف أن فشل الخطط الهجومية الألمانية في الميدان الغربي أدى إلى اعتزال الكونت مولتكه من رئاسة هيئة أركان الحرب العامة، فتسلمها فون فالكنهين الذي دعا مؤلف الكتاب وعينه ضمن مساعديه.
واقتصر عمل مولتكه على رئاسة بعض الأقسام الفنية التي بقيت في برلين، أما الأعمال الأساسية التي من صميم عمل هيئة أركان الحرب العامة، فاستمرت في الميدان تحت(902/19)
إشراف القيادة العامة.
ولما أخفق الهجوم الألماني أمام حصون (فردان) طلب إلى المريشال فون هندنبرج في أوائل أغسطس 1916، أن يخلف فالكنهاين في منصبه وألحق مؤلف الكتاب كمساعد للجنرال لودندورف، يد هندنبرج، اليمنى، وقد بقي يشغل هذه الوظيفة حتى مات مولتكه في يونية من السنة التالية، فخلفه الجنرال لونجهوفن في وظيفته، أي شغل منصب الرئيس المنتدب برئاسة أركان الحرب بأقسامها التي بقيت في برلين، وكان عملها قاصراً على المسائل الفنية الصرفة ولا تتدخل في تنسيق العمليات الحربية وسير القتال في الجبهات.
وقد أنعمت عليه حكومته عقب توليه هذا المنصب بوسام الاستحقاق من طبقة السلم. فكان هذا الإنعام دليل تفوقه وأهليته وخير اعتراف رسمي له بأنه أقدر الكتاب العسكريين في الجيش البروسي.
والمعروف أن الذي أنشأ وسام الاستحقاق في طبقاته العسكرية هو فردريك الأكبر عاهل بروسيا، وقد جرت التقاليد بالإنعام به على القواد والضباط الذين يظهرون مهارتهم في الحروب، أما وسام الاستحقاق للسلم، فقد أنشأ فردريك وليم الرابع عام 1842 وأوقفه على من يظهر قدرته على الكتابة في الفنون العسكرية من الوجهات النظرية والعلمية البحتة، وعليه فإن حصوله على هذا الوسام دليل تقدير لمؤلفاته وأنها بلغت درجة كافية من النضوج تجعله أول ضابط حصل على وسام الاستحقاق من طبقة السلم في زمن الحرب.
لقد كتب المؤلف كتابه (دروس من تجارب الحرب العظمى) والحرب القائمة، ثم طبع بعد انهزام ألمانيا ولم يكد يظهر في عالم المطبوعات حتى تلقفته الصحافة بتعليقاتها المستفيضة، وقد لفت الأنظار إليه ما جاء في بعض فصوله عن مستقبل الجيش الألماني وخاتمته التي تقول (لا نزال مستعدين للحرب)
وأدى نشر فصوله على هذا الملأ أن أخذت الجرائد تناقشها بحرارة وحماس وتشرح بإسهاب الطرق التي لا بد أن تتبعها ألمانيا بعد انكسارها في الحرب لتستعد إلى دخول حرب أخرى، فاضطرت الحكومة الديمقراطية أن تضيق على الصحافة وأن تحول دون نشر تعليقاتها على الأفكار التي تضمنها الكتاب، ولكنها شجعت نشره في داخل بلادها ومنعت إرساله للخارج فلم يتعد ما تسرب منها إلى البلاد الأجنبية عدداً محدوداً.(902/20)
ونظرة لهذا الكتاب تجعلنا نحكم بأنه خطوة تمهيدية لتاريخ الحرب العالمية الأولى، فهو مؤلف موجه للشعب الألماني لا لرجال الجندية، ولذلك عده البعض شبيها بكتاب المارشال مولتكه الكبير الذي قاد الحرب الفرنسية الألمانية 1870 وخطه بقلمه وهو في ميدان القتال بفرنسا، وقدمه للشعب وللأجيال القادمة التي لم تكن وجدت في ذلك الوقت، فنشأ على قراءته وتربى على أفكاره ومبادئه جيل من الناس بأكمله، هو الذي عاش بين سنة 1870 وسنة 1914 ومن هذا الجيل نشأ الجيش الذي خاض معارك الحرب العالمية الأولى.
وكذلك كتاب الجنرال كتاب الجنرال لودنجهوفن أثر في الأجيال التي جاءت بين سنة 1918 وسنة 1931 أي بين هزيمة ألمانيا الأولى ثم قيامها تحت نظام النازية ودخولها الحرب العالمية الثانية: لأن الدعوة التي تبناها مؤلف الكتاب يقول بطرح المبادئ العالمية والإقلاع عن أفكار السلام الدائم، والأخذ بفكرة إنشاء نظام عسكري جديد لألمانيا موطد على دروس الحرب العالمية الأولى ومدعم بتجارب القاسية ومعتمد على تقديم العلوم الحديثة وتطور فنون الحرب، ويدعو إلى أن تخلق ألمانيا لنفسها من هزيمتها نصراً، وهذا ما وفق الشعب الألماني إليه بين حربين، إذ جعل من تعاليم صاحب الكتاب دوافع نفسية مكنته من تنظيم أكبر قوة عسكرية في العالم وأضخم آلة قتال رآها الناس في الفترة التي وقعت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وهو من القائلين بأن الحرب غريزة متمكنة من طبيعة البشر، فكما أن طبيعة الناس لا تتغير فالحرب ستبقى ملازمة للإنسان في مستقبل أيامه كما لازمته آلاف السنين وعشرات القرون.
وهذه عقيدة تملكت الشعب الألماني الذي ألف الحروب ونشأ مندربا تحت السلاح، ولذلك تقبلت هذه العقيدة عقيلة الجماعات، فأصبحت حقيقة منطقية ثابتة وإيمانا لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه التردد والضعف. وهو يقول أن الروح العسكرية ليست اختراعاً أوجدته بروسيا لنفسها أو عارية أخذتها عن الأمم الأخرى، وإنما الروح العسكرية هي بروسيا نفسها. ولما كانت بروسيا أقوى دول ألمانيا، فليس لدى الألمان أحزاب سلم وأحزاب حرب، وإنما هناك أمة واحدة تقدس الواجب، وتؤمن بعظمة الجيش، وكل اتجاه يخالف هذا القول يعد هراء من قبيل إضاعة الوقت، أو المناداة بفكرة لا يأبه لها ألماني واحد وهو(902/21)
يجهر في مقدمة كتابه بقوله (أن الواجب يفرض علينا أن نكون على بينة وتثبت من الدروس والتجارب والحوادث التي كانت نتيجتها وخيمة علينا، أنه فرض علينا أن نبحثها وندرسها ونحللها في أقسام الجيش وهيئات الحكومة، إننا دفعنا الثمن غالياً للحصول عليها في ميادين القتال، وفي داخل البلاد وخارجها، فعلينا أن نوجه كل نشاطنا القومي، وما تضعه بين أيدينا أنظمتنا العسكرية من وسائل، لكي نطيل الدرس ونقلب أوجه البحث من غير إمهال أو تردد، ولكن بعزيمة وبصيرة وبدون إضاعة وقت: إذ هنا يبرز الوقت كما يبرز في الحروب كعامل فعال له وزنه وقيمته).
(إننا لا نستطيع أن نستخلص الآراء الصائبة التي تنفعنا أو تحدد النتائج العلمية التي تصلح لنا، إذا قصرنا عملنا على النواحي العسكرية وحدها، فهي مع أهميتها القصوى لا نستطيع فصلها عن تطور السياسة العالمية إزاءنا، ولا نتمكن من الاستفادة من هذه الدراسة إذا أهملنا التدقيق في الأحوال الاقتصادية العامة وما أصاب بلادنا منها، فنحن أمام ما علينا ولا لنا، أي أمام انتصارات ونكبات، والتجارب التي هي في الحالتين مفيدة لنا نعم لكي نعمل في المستقبل على قواعدها ونسير بهديها
(إن الغاية من تأليف هذا الكتاب هو إعلام الجيش والشعب بالآراء الصائبة التي أثبتت الحروب مقدار صلاحيتها ووضع الحقائق والنتائج التي أقنعتنا دروس القتال بصحتها: فنحن أمام حوادث عسكرية منها ما هو من صميم فن الحرب وما هو من عمل السياسة؛ وما هو اقتصادي بحت ولكنها دروس تعلمناها، بدماء أبنائنا وتضحيتهم الكبرى وموتهم في سبيل المثال الأعلى للبلاد: فما أقنعنا الدليل بصحته تمكنا به، وما أظهرت الحرب بطلانه تجنبناه، ودعونا إلى الإقلاع عنه. وما ثبت نجاح شيء منه وبطلان بعضه عملنا على تحويره وإصلاحه ليغلب النجاح عليه.)
وعلى هذا النمط يسير المؤلف في شرح نظرياته وآرائه وتوجيهاته بوضوح وصراحة، فيعرض الحالة السياسية والاقتصادية مدة الحرب لدولتي الوسط - ألمانيا والنمسا - ويعطينا صورة للحالة النفسية للأمة معتمداً سيكولوجية الجماعات وأثرها في رجال الجيش ثم يتكلم عن القيادة وعملها.
وبعد هذه الفصول بأكملها كمقدمة للنتائج التي استخلصها وهي في القسمين الأخيرين من(902/22)
كتابه: (الجيش في المستقبل) ثم كلمته (لنبقى مستعدين للحرب) وهما عصارة تجاربه.
والذي دفعني إلى إعادة النظر والتأمل في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفات القائد الألماني. بعد أن بقيت على رف مكتبي أكثر من عشرين عاماً - هو ما يعاود الرأي العام المصري - من وقت لآخر - من الرغبة من تعرف نتائج الحرب في فلسطين، وأثرها في يقظة الوعي القومي بمصر، والعمل على استعادة القيم الخلقية التي يبدو لكثيرين منا أنها (انهارت بعد الصدمة الأولى
ولما كنت من المؤمنين بأن قيمة أي نظام ويقظة أي شعب يرتكزان على ما يبذله كل شعب من الشعوب من العمل الصامت المستند على إرادة وفكر للخروج من آثار الهزيمة الني عاناها حتى لا تهد من كيسانه - رأيت من أولى المسائل التي يجب أن يهتم بها الشعب المصري وأهل الرأي فيه هي مشكلة الحرب الفلسطينية وأثرها وما ألفته علينا من دروس.
فهل لدينا هيئة قائمة أخذت على عاتقها جمع المعلومات والوثائق وتبويبها ودراستها حتى نستخلص بعض الحقائق ونسجل على أنفسنا ما بدا من تقصير في صفوفنا وأنظمتنا؟
أظن أننا لم نفكر بعد في شيء من ذلك.
إذن أصبح واجباً على المفكرين وأهل الرأي أن يسدوا هذا النقص وأن يكتبوا وينشروا على الملأ ما يعلمون، حتى يشعر الشعب المصري بأن هزيمة فلسطين ليس معناها أن يستمر تحت كنفها وفي ظلها إلى الأبد.
إنما هي نتيجة سلسلة من الأخطاء السياسية والعسكرية تمت على أيدي أناس لا يمتون بصلة إلى الفن الحربي ولا يعرفون شيئاً عن أساليب السياسة الدولية.
أن المركز الخاص الذي وجدت فيه مصر والبلاد العربية يجب أن يشرح لها بإسهاب، وكذلك أماكن التجمع والحشد؛ ويستلزم الأمر بيان الأسباب التي جعلت زحف الجيوش العربية - ذات التفوق العددي - متلكئاً وغير مرتبط بالزمن. والإجابة على السؤال المعروف الذي طالما وجهه أحد قواد ألمانيا في مؤلفاته!
(هل يأتي الآخرون لشد أزرنا وهل ينضم حلفاؤنا إلى صفوفنا حتى يكون تدخلهم في المعركة الناشبة نافعا وكيف يأتي في الوقت الناسب).
إننا في حاجة إلى مثل هذا الكتاب الذي أشرت إليه، نعم في حاجة إليه، لكي نحتفظ نحن(902/23)
في مصر، بالروح العسكرية التي ورثناها عن أجدادنا: عن عمرو العاص وصلاح الدين والظاهر بيبرس. إن المحافظة على كياننا واستقلالنا تحتم أن نكون موضع ثقة واحترام في الأمم الكبرى، ولكي نصل إلى شيء من ذلك يجب أن نكون أقوياء، ولن نصل إلى القوة والنصر إلا إذا عرفنا أسباب هزائمنا وعلة تفككنا وعوامل نكبتنا.
أحمد رمزي(902/24)
الدب المهني
أو أدب أرباب المهن
للأديب خليل رشيد
- 2 -
إلى أولئك النفر القليل ممن جادت بهم الحياة ووهبتهم النبوغ
والعبقرية الذين أبوا العيش إلا من قوة أيديهم وعرق جباههم
نقدم هذا الحديث.
- السرى الرفاء -
السرى الرفاء - قيثارة الشعر وعبقري الأدب فلتة من وفلتات الزمن ونفحة فواحة من نفحات الطبيعة. جادت به الدنيا وقلما جادت بأمثاله، وان جادت فبالنزر القليل، لنتعرف عليه ونرى منزلته ومكانته الأدبية من المصادر التاريخية. ومن أقوال مؤرخي الأدب والثقات من رواته قبل الخوض في الموضوع لنضعه في مكانته اللائقة به على ضوء العلم والتاريخ لئلا نغمط الرجل حقه أو نعطيه فوق ما يستحق: قال الجلبي في كشف الظنو. كان السرى الرفاء مغرى ينسخ ديوان أبي الفتح كشاجم وهو إذ ذاك ريحان الأدب. وقال ابن النديم في الفهرست ص 241: السرى الرفاء بن أحمد الكندي من أهل الموصل شاعر مطبوع عذب الألفاظ مليح المأخذ كثير الافتنان في التشبهات والأوصاف. وجاء في اليتيمة للثعالبي من الجلد الثاني ص 103 ما هذا نصه. بلغني أنه أسلم صبياً في الرقائين فكان يرفو ويطرز إلى أن قضى باكورة شبابه. وجاء في دائرة معارف فريد وجدي ص 118 من الجلد الخامس تحت عنوان السرى الرفاء. هو أبو الحسن السرى بن أحمد بن السرى الكندي الرفاء الموصلي الشاعر المشهور. كان السرى الرفاء في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل وهو مع ذلك مولع بالأدب وبنظم الشعر؛ ولم يزل دائباً على ذلك حتى بلغ شعره غاية بعيدة من الجودة وحسن السبك، فقصد سيف الدولة ابن حمدان بحلب ومدحه وأقام عنده مدة ثم انتقل بعد وفاته إلى بغداد. وكان السرى الرفاء مطبوعا على الشعر رقيق(902/25)
الألفاظ متين المباني كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف ولم يكن له رواء ولا منظر حسن. وكان لا يحسن غير قرض الشعر وقد وقع ديوانه في ثلاثمائة ورقة ثم زاد عليه وقد رتبه بعضهم على حروف المعجم. وقد قال صاحب معجم الأدباء ياقوت في الصفحة 184 من جلد الـ11 قلما جاد شعره انتقل من حرفة الرفؤ إلى حرفة الأدب وأشتغل بالوراقة. وجاء في المعجم لأبي هلال العسكري في الصفحة 15. كان السرى الرفاء يطرز الخلق، ويرفو الخرق، وهو في ذلك يسترزق الإبرة، بنفس ملأتها الحسرة. فلولا مجهر مؤرخي الأدب ومدوني التاريخ لأحطنا بشيء كثير من الإبهام والغموض، ولظلت شخصية السرى مجهولة وهي شخصية شخصيتين شخصية العامل المجد الذي يكافح من أجل العيش. يطرز الخلق، ويرفو الخرق، يسترزق الإبرة، بنفس ملأتها الحسرة، فلا يكاد يجد الكفاف الخشن.
وشخصيته الأخرى تناقض هذه الشخصية كما ظهر لنا من تحت المجهر وبينها من النسب المنطقية التباين إذ نجده قائما ينشد سيف الدولة وهو مختال فخور فيقول - ألبستني نعما بها الدجى=صبحا وكنت أرى الصباح بهيما
فغدوت يحسدني الصديق وقبلها ... قد كان يلقاني العدو رحيما
فملأت آفاق البلاد بمنطق ... لولا الثناء عليك عاد وجوما
فسلمت من نوب الزمان ولا غدا ... شانيك من معنى السليم سليما
طلب الملوك شأوك فإنثنوا ... صفر اليدين وخادما وذميما
أن يمسحوا في الحين أن يتكلفوا ... كرم النفوس فقد خلقت كريما
وكأني به وهو ينشد قصيدة هذا ينثر الفضار عليه ويكافأ عن كل قصيدة بألف من الدنانير أو تزيد. وتحترق كلماته صماخ أذن سيف الدولة وهو مصغ لما يقول رغم من قال.
ودع كل صوت غير صوتي فإنني ... أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
ولسنا ندري بالضبط متى اتصل شاعرنا بسيف الدولة؛ ولكن الذي ندريه من ضوء المصادر التاريخية أنه لما حسن شعره وبلغ غاية بعيدة من الجودة وحسن السبك قصد سيف الدولة بن حمدان يحلب وأقام عنده إلى أن مات وانتقل بعد وفاته إلى بغداد. ولقد شق هذا الشاعر طريقه حتى تبوأ الصدر من دولة الشعر في زمن سيف الدولة بن حمدان ذلك(902/26)
الزمن الزاخر بالشعر والأدب المليء بالعباقرة والمغثيين أمثال الأمير الحمدان أبي فراس وعبقري الشعر ونابغة الأدب أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وغيرهم كثير. وقد استطاع الرفاء أن يأخذ طريقه دون أن يرتطم بتلك الصخرة الجبارة التي كثيرا ما حطمت من فحول الشعر ونوابغ الأدب صخرة أبي الطيب المتنبي. فتأتي مكانته بعد مكانة أبي الطيب مباشرة ثم نراه يمعن في إكرامه والإنعام عليه كما نراه يمعن في مديح سيف الدولة فيقول -
أما الخيال فما يغب طروقا ... يدنو يوصلك شائقا ومشوقا
وفي فحقق لي الوفاء ولم يزل ... خدن الصبابة بالوفاء حقيقا
ثم يقول منها
أهوى أنيق الحسن مقتبل الصبا ... وأزور مخضر الجناب أنيقا
راح الغمام به خفيفا ثوبه ... وغذا به ثوب النسيم رقيقا
هي غذرة للدهر غادرت الهوى ... بعد الوفاء مكدرا مطروقا
لا ألحظ الأيام لحظة وامق ... حتى يعيد زماننا المرموقا
وركائب يخرجن من غلس الدجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا
والفجر مصقول الرداء كأنه ... جلباب خود أشبعته خلوقا
أغمامة بالشام شمن بروقها ... أم شمن من بشر الأمير بروقا
ملك تسهل بالسماح يمينه ... حزنا وتوسع بالصوارم ضيفا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا
ما انفك يطلع بالحتوف على العدا ... صبحا ويطرق بالحمام طروقا
فإذا جرى للجد نال صبوحه ... سيفا ونال الناس منه غبوقا
وإذا طمى بحر الكريهة خاضه ... فأمات من عاداه فيه غريقا
مهلا عداة الدين إن لخصمكم ... خلقا بإرغام العدو خليقا
وهكذا تراه وقد انقادت إليه المعاني وشوارد الكلم فيصيره عقد نظيما من الشعر يلبسه جيد الدهر والخلود كأنه المعنى ببيت أبي الطيب.
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم(902/27)
ثم نراه قبل أن أطغته نعمة سيف الدولة وأبطرته وقد تفرغ من مشاكل خبزه إلى ما نزع إليه المترفون من لين الحياة وبلهية العيش فيتصرف للعبث والمجون وتحن نفسه إلى وسوسة الكؤوس وعزة القيان والغلمان فيقول في غلام يهواه. -
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام
ويلقاني بعزة مستطيل ... والقاه بذلة مستهام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
ثم يقول من خمرية له: -
ألا فاسقني الصهباء صرفا فإنني ... لمن لام فيها ما حييت مخالف
ألست ترى وشى الرياض كأنما تنشر في إرجائهن المطارف
ومشمولة شج السقاة كؤوسها ... فأشرق وجه الصبح والليل عاكف
ولاح على الكاسات فاضلها كما ... تلوح على خمر الخدود السوالف
ثن يتناسى أيامه الأولى. - أيام ضيقه وشقاه أيام قال فيها.
هي الأيام أن جمحت عندا ... أذلت كل جبار عنيد
تنام وتترك الإحداق يقظى ... ولوع للطيف بالركب الهجود
ويوم قال فيه. -
الدهر كالنشوان في إصلاحه ... ما راح يصلحه وفي إفساده
راع لنا يجتاح دثر سوامه ... = وأب لنا يسطو على أولاده
ويوم قال. -
سفرت رجوت به النهاية في الغنى ... فبلغت منه نهاية الإملاق
مثل الهلال أغذ شهرا كاملا ... فرماه آخر شهره بمحاق
ويوم قال. -
قوض خيامك من دار ظلمت بها ... وجانب الذل أن الذل يجتنب
وأرحل إذا كانت الأوطان مضيعة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب
كل هذا يتناساه شاعرنا الرفاء ويغمس نفسه باللذة انغماس المترف البطر الذي بسمت له الحياة فأنسته متاعب العيش وأوصاب الحياة لا يعنيه شيء من دنياه غير الغادة والغلام(902/28)
والخمرة وادن فيذهب منغمسا في لذته غير عابئ بالذل ممن جبلت نفوسهم على العذل واللوم وتكدر صفو من صفا له الجو وبسمت له الحياة فيقول: -
إن عن لهو أو سنح ... فأغد إلى اللهو ورح
رضيت أن أحظى بعز ... اليأس والعز منح
وصاحب يقدح لي ... نار السرور بالقدح
فرحت مطوي المنى ... لا أزجر الطير الروح
ولا أقول لامرئ ... ضن بمال أو سمح
ولا أرى من صبوة ... نهج التقى وأن وضع
تصافح الكأس يدي ... ما أرتد خطب أو صفح
في روضة قد لبست ... من لؤلؤ الطل سبح
يألفني حمامها ... مغتبقا ومصطبح
أوقظه بالعزف أو ... يوقظني إذا صدح
والجو في مسك ... طرازه قوس قزح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
كم جامع ممتنع ... خليته لما جمع
وكم عذول ناصح ... قلت له وقد نصح
أقصر فمن رام صلاح ... العيش بالكأس صلح
وكثيرا ما نراه يستلب المثل في شعره ومن شعره يستلب المثل، وهذه إن دلت على شيء فإنما تدل على نضج العقلية والقدرة المسيطرة على غرر المعاني ونوادر الكلم. ولم تتأت مثل هذه الناحية إلا لشاعر مطبوع قال من قصيدة في علة نالته وعاده فيها بعض أعدائه وقد انقاد المثل إليه
أصبر على مترادف الضراء ... فلعل ذلك مؤذن بشفاء
ما حال من لعب السقام بجسمه ... ظلما فعض نفسيه الأعضاء
حظر الطبيب عليه طيب غذائه ... وأباحه مكروه كل غذاء
ويعوده أعداؤه واشد من ... (مرض المريض عيادة الأعداء)(902/29)
إلى غير ذلك من الأمثال الرفيعة التي تتلاءم والنفوس وتنسجم وطبيعة الإنسان مما لا نستطيع ذكره بمثل هذه العجالة التي قد تستوعب من وقتك أكثر مما نعطيك من فائدة ولم نرد بهذه الكلمة غير إعطائك لمحة قصيرة عن حياة هذا الشاعر العبقري. ولم يقف شاعرنا وقد ملأ ذكره فم الدهر ومسمعه وصار أنشودة الزمن والخلود فكان لزاما عليه تحلية ديوان شعره بمديح آل الرسول (ص) فقال من قصيدة. -
الوارثون كتاب الله ينجدهم ... أرث النبي على رغم المعادينا
والسابقون إلى الخيرات ينجدهم ... عنف النجار إذا كل المجارونا
قوم نصلي عليهم حين نذكرهم ... حيا ونلعن أقواما ملاعينا
إذا عددنا قريشا في اباطحها ... كانوا الذوائب منها والعرانينا
أغنتهم عن صفات المادحين لهم ... مدائح الله في طه وياسينا
فلست أمدحهم إلا لأرغم في ... مديحهم أنف شانيهم وشانينا
أقام روح وريحان على جدت ... شلو الحسين به ظمآن آمينا
كأن أحشاءنا من ذكره أبدا ... تطوي على الجمر أو تحشي السكاكينا
مهلا فما نقضوا أوتار والده ... وإنما نقضوا في قتله الدنيا
آل النبي وجدنا حبكم سببا ... يرضي الإله به عنا ويرضينا
فما نخاطبكم إلا بسادتنا ... ولا نناديكم إلا موالينا
زكم لنا من فخار في مودتكم ... يزيدها في سواد القلب تمكينا
ومن عدو لكم مخف عداوته ... والله يرميه عنا وهو يرمينا
أن أجر في حبكم جرى الجواد فقد ... أضحت رحاب عساعيكم ميادينا
وكيف بعدكم شعري وذكركم ... يزيد مستحسن الأشعار تحسينا
ونثبت لنا قصيدته هذه أنه علوي النزعة والمذهب يدين بما يدين به آل الرسول ويذهب مذهبهم: ونراه يخالف معتقده ويمجن في أغلب الأحايين مجون النواسي الخليع أو هو أشد منه مجونا حين يقول. -
ليالي كان لي في كل يوم ... إلى الحانات حج واعتمار
فعن ذكر القيامة بي صدود ... وعن ساح المماجد بي نفار(902/30)
وهذا يناقض قوله سابقا. -
آل النبي وجدنا حبكم سببا ... يرضي الإله عنا ويرضينا
لا يهم من به صدود عن ذكر القيامة ونفار عن ساح المماجد رضي الله عنه أم غضب ولكنها هفوات شاعر لا يؤاخذ عليها في ساعة عبث ومجنون ولهو ولم يقلها عن عقيدة وإيمان كما قال قصيدته تلك المنبعثة عن إيمان راسخ ومعتقد قوي رصين حين يقول
فلست أمدحهم إلا لأرغم في ... مديحهم أنف شانيهم وشانينا
لسنا الآن بصدد هذا كله ولم نرد بحديثنا البحث عن معتقد السرى الرفاء وما يدين به، ولم نصل ببحثنا حتى الآن إلى الغاية التي من أجلها كتبت هذه الكلمة وجرى هذا البحث.
أقول هل يفضل السرى الرفاء عيشه الرضي الناعم هذا على عيشه المهني؟. . وهل عاوده الحنين إلى أيامه الأولى بعد أن قال
رفق الزمان بنا وكان عنيفا ... وغدا لنا بعد القراع حليفا
وهل عاودته ذكريات الماضي السحيق ذكريات أيامه الأول أيام كان يسترزق الإبرة بنفس ملأتها الحسرة؟. . وهل أنساه هذا النعيم الذي يرفل فيه أيام بؤسه وشقاه؟. . ألا يزال يحن إلى تلك الذكريات ذكريات أيامه الأول.؟ هذه أسئلة نطرحها على صفحات ديوانه. فيجيبنا الديوان بهذه القصيدة المملوءة شوقا وحنينا إلى بلد صبوته الموصل فيقول.
شباب المرء ثوب مستعار ... وأيام الصبا أبدا قصار
طوى الدهر الجديد من التصابي ... وليس لما طوى الدهر انتشار
ولم نعط المنى في القرب منها ... فكيف بها وقد شط المزار
صدود في التقارب واجتناب ... وشوق في التباعد وادكار
لحى الله العراق وساكنيه ... فما للحر بينهم قرار
وجاد الموصل الغراء غيث ... يجود وللبرق به اسفرار
ففي أيامها حسن التصابي ... وفي أقبائها خلع العذار
ويقول في قصيدة أخرى. -
أمحل صبوتنا دعاء مشوق ... يرتاح منك إلى الهوى المرموق
هل اقضين العمر بين عصابة ... سلكوا إلى اللذات كل طريق(902/31)
أم هل أرى القصر المينف معمما ... برداء غيم كالرداء رقيق
وتلألؤ الدير التي لولا النوى ... لم أرمها بقلى ولا بعقوق
إلى أن يقول. -
كلف تذكر قبل ناهية النهي ... ظلين ظل هوى وظل حديق
فتفرقت عيدانه في خذه ... إذا لا مجبر له من التفريق
ولم يكتف شاعرنا بهذا القدر من الذكريات. ذكريات الماضي من صباه، بل راح ينشد من صان ماء وجهه من الابتذال وحفظ شوا رد كلمه من سوق الرقيق ومن موقف لا يريده ولا يرتضيه موقف المستجدي الذي يطلب رشح الأكف بما يقول فقال وفي نفسه يحز الألم. -
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
حتى غدا الرزق بها ضيقا ... كأنه من ثقبها جاري
ونختم حديثنا هذا عن السرى الرفاء ببيت قصيده هذا؛ وإلى أبي الحسين الجزار في المقالة القادمة إن اتسع لنا صدر الرسالة الغراء. -
العمارة - العراق
خليل رشيد(902/32)
رسالة الشعر
(الشباب الدامي)
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
(إلى أستاذنا الجليل الزيات أولا وإلى صديقي الناقد الكبير الأستاذ أنور المعداوي وشاعر شباب دمشق أنور العطار ثانيا وإلى جميع شعراء الأقطار العربية ثالثا ليعلموا موقف وزارة المعارف العراقية من عودتي إلى فرنسا لإكمال دراستي في جامعاتها ولعلهم بشعورهم ذاك عزاء لهذا الشاعر الميت الحي. .)
سرت وحدي في موكب الأتراح ... أزرع الحب في القلوب الشحاح
في زحام الحياة أقطع عمراً ... لف من سقمه بألف وشاح
أسفح الدمع في محاريب ليلي ... وأبث الآهات صدر صباحي
وأجر الأوهام خلف ركابي ... وأسوق المنى أمام رياحي
ناثراً مهجتي على كل درب ... جزته في الغدو أو في الرواح
وورائي الأيام تضحك م ... ن جيفة قبر مبرقع بالأقاح
وهي حتى نهار أمس بقايا ... من شباب مخضب بالجراح
فعلى كل صخرة قطرات ... من دمائي وحفنة من جراحي
هكذا سرت متعباً أقطع البيد ... بشوق معذب ملحاح
أتحدى الأقدار لا أرهب المو ... ت بعزم من الشباب الضاحي
حالما أتبع السراب وفي الص ... در أمان كالعرس جد ملاح
ثم لما أفقت من سكرة الو ... هم وجدت الهشيم من أرباحي
هكذا ضاعت الثلاثون مني ... وهي عطر من الصبا الفواح
كنت كالنسر موطني القمة ... الشماء والسفح ملعب لمراحي
عالقاً بالخيال أحتضن الأفق ... وأهفو كالكوكب اللماح
فإذا صائدا من الأرض يرميني ... وينسل تاركا لي نواحي
فتهاويت الثرى ألثم الجرح وأحنو على ... يد السفاح
ويسمع النجوم همس بكائي ... وبقلب النسيم شجو صياحي(902/33)
وتبعت القطيع أسحب أقدام ... اً ثقالاً مشلولة الأندياح
والسياط الغلاظ تأكل لحمي ... وتعب الدماء من أقداحي
أينما دار بنظري لا أرى غ ... ير أسارى تحت القيود رزاح
فقد تهرت جلودنا فهي أنص ... اف مخاليق ذي سمات قباح
شوه الجوع حسنها فتراءت ... كسوخ قبيحة الأوضاح
تخذت عريها هياكل قدس ... وخناها مدارجا للنجاح
هكذا سرت مثلها أحمل الرفش ... وأحثو التراب فوق الأضاحي
تصرخ اللعنة المدماة واللي ... ل كقلب الخطاة يا للصباح:
أين مني فجر الخلاص ليودي ... بقيودي مع السنا اللماح
كفني يا حياة جثة أعوامي ... البواقي فقد مللت طماحي
وأحمل للتراب نعش أماني ... فيأسي أذل حتى جماحي
فالثلاثون جزتها عاثر الج ... د أقاسي مرارة الأتراح
حاملاً في حقيبة الأمل الباسم ... زادي وفي يدي مصباحي
لا أهاب الظلام إن طال إدلاجي ... ولا الوحش كامن في النواحي
أتوكأ على الصبا أن تلكأ ... ت فأنساق والشباب جناحي
مرسلا لحني الطروب على ال - كون طليقا كالبلبل الصداح
كان هذا من قبل واليوم قد ... مات شبابي فمات سر كفاحي
زمجر الموت في العباب وثارت م ... ن وراء السفين هوج الرياح
وانكفا الزورق الحبيب إلى ... القاع وأودى الخضم بالملاح
وتوارت حتى معالم دنياه، ... محتها يد العفاء الماحي
وانتهى كل مأمل كان يه ... واه وحلم عن الجفون مزاح
واستراح الوجود من ثورة رع ... ناء. هاجت والليل سكران صاح
ما بقائي من بعد ما ذبل ال ... عمر وماتت طلائع الانشراح
وأنطفت شعلة الرغائب في صد ... ري، وفرت مطامعي من راحي
دب في الملال وانتشر ... الرعب بقلبي وهشمت ألواحي(902/34)
فلماذا أعد درعي وحصني ... قوضته يد الأسى المجتاح
أنا سلمت للكآبة أيامي ... وألقيت للشقاء سلاحي
مرحباً بالمنون بالراحة الكب ... رى رسول السلام والأفراح
هو ذا صوته يرن بأ ... ذني كلحن مهدهد ممراح
فلأردد صداه قد ختم الع ... مر سراه وأومأت أشباحي
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(902/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(الأداء النفسي) وتطبيقه على الشعراء:
منذ أن تفضلت بالتعقيب على رسالتي الأولى وأنا أرجو الكتابة إليك والثناء عليكن ولكني أعتذر من هذه الفترة الطويلة التي انقضت دون أن أكاتبك فيها بسبب المشاغل والظروف: أما وقد جمع بيننا الإعجاب وربطت بيننا المودة، فلا داعي لأن أقول لك إن هذه المودة وذلك الإعجاب يسوغان هذا الاعتذار ويرجوان لديك القبول.
وأشكرك أولا بصدد ما كتبته عني وآمل أن أكون عند حسن ظنك. . أما ردك على مسألة أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية فقد أعجبت كل الإعجاب بما عرضته من حقائق، وبالطبع أرجأت الكتابة عن النقد والنقاد لأن من رأيك كما هو من رأيي (إلا مناص من المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود، لنتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يثف بما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء؛ ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعنى بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب)!
أريد بعد هذا أن أسجل هنا أن المذهب الجديد الذي أخرجته إلى عالمنا الأدبي في النقد الحديث، مذهب من الوجاهة والقوة بمكان نستحق عليه الثناء والتقدير والتخليد، ويسرني كثيراً أن ألقاك قويا في الدفاع عن مذهبك كل القوة مبدعاً في الذود عنه كل الإبداع. ولئن دل هذا على شيء فإنما يدل على قوة الذهن التي أنتجت مثل هذا المذهب، وبراعة القلم الذي فسر أصوله وقواعده وحلل مضمونه ومراميه. وإني لأستنتج من ذلك أن حركتنا الأدبية الحديثة بخير ما دامت قد أوجدت لنا مثل هذه الاتجاهات الفكرية والمذاهب النقدية، ونحن أحوج ما نكون إلى (المذهبية) السليمة في النقد الأدبي، لأنها تعصم هذا النقد من (اللخبطة) و (الرخاوة) و (المحسوبية) و (التفكك) ولأنها خير ضمان لإيجاد مدارس أدبية في النقد واتجاهاته ومبادئه. إن الميزان في النقد الأدبي يخلقه الناقد لنفسه ولا يحيد عنه، ومن النقاد من يتخذ هذا الميزان (كيلاً) ومنهم من يتخذه (ثقلاً) والكيل والثقل أصناف وأنواع ولكنهما لا يخرجان عن مبدأ (الميزان). . ولا أريد أن أتوسع في ميزان (الأداء(902/36)
النفسي) الذي اتخذته معياراً لنقدك وأساساً لحكمك، ولكن لست أدري أهو القلم الذي يدفعني إلى هذا القول أم هو الإعجاب الذي دعاني إلى التسطير!
ولقد طبقت مذهبك فتبين لنا نجاحه ومقدرته على الصمود والخلود، بيد أنك وفيت هذا التطبيق على شاعر كبير وفنان معروف هو الأستاذ علي محمود طه رحمه الله. . ولكن بقى فريق من الشعراء يستحق أن يظفر منك بمثل هذا التطبيق، حتى تظهر القيم الفنية على حقيقتها ويحتل كل شاعر من هؤلاء مكانه المنتظر! وإذا كنت قد قلت في كلمة سابقة إن المناسبة وحدها هي التي تدعوك إلى إبداء رأيك في بعض الناس، فإننا نؤمن بأن هذه المناسبات كثيرة وبأنها آتية ما في ذلك شك، إلا أن ذلك لا يشغلنا عن الهدف الرئيسي وهو مطالبتك بالالتفات إلى هذا الفريق من الشعراء. . وعسى أن يكون هناك برنامج لتلك التوفية في التطبيق، كما أحدثت في شعر الشاعر الكبير وفن ذلك الأديب الفنان.
هذا ما عن لي أن أثبته هنا من هذه الرسالة. . مع خالص التحية لك وخالص التهنئة للأداء النفسي، وإلى اللقاء.
أحمد طه السنوسي
الأستاذ الفاضل أحمد طه السنوسي هو صاحب هذه (الافتتاحيات) القيمة التي يكتبها كل أسبوع في الشئون السياسية والاقتصادية بمجلة الثقافة. ومن العجيب حقا أن يشغل الأستاذ السنوسي بأمثال هذه البحوث، ثم لا يشغل في الوقت نفسه عن تلك البحوث الأخرى التي تنبت في حقول الأدب والنقد هنا وهناك. وأعجب من هذا أنه صديق من هؤلاء الأصدقاء الروحيين الذين لا ألتقي بهم إلا بين السطور والكلمات. . على أي شيء تدل هذه الظاهرة؟ إنها تدل على أن الحياة الفكرية في مصر لا تخلو من النماذج النادرة في الوفاء للخلق والعقل.
ماذا أقول لهذا الصديق الذي أخجل تواضعي بثنائه دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء؟ بودي أن أقول له إنني لست عاتبا عليه هذا الذي يعتذر منه. . حسبنا يا أخي هذا اللقاء الفكري الذي يؤلف بين العقول والقلوب، ويقيم على دعائم الإخلاص للمثل العليا صداقة الأقلام!
أما ما جاء برسالة الأستاذ السنوسي من أنه قد أرجأ الكتابة عن النقد والنقاد بسبب هذا الرأي الذي أبديته من قبل واقتنع هو به، فلعل القراء يذكرون رسالته الأولى إلى حول(902/37)
أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية، يوم أن أعرب عن رغبته في أن يقدم عن كاتب هذه السطور حديثه الثالث من محطة هلفرسم للإذاعة العربية، في سلسلة أحاديثه التي بدأها بكلمة نقدية عن الأستاذ توفيق الحكيم أعقبها بكلمة أخرى عن الدكتور طه حسين. . لقد قلت للأستاذ الفاضل يومئذ وهو يطلب إلى أن أتحدث عن نفسي حديث التأمل الباطني والصراحة المحببة، لأعينه على أن يطيل الوقوف ويخرج ببعض الزوايا ويحدد بعض الخطوط؛ قلت له يومئذ في مجال الرد على رغبته الكريمة: (ودراسة الحياة النفسية لأديب من الأدباء تقضي من الدارسين أن يتصلوا اتصالا مباشرا بهذه الحياة بغية المراقبة والملاحظة والتسجيل. . وإذن فلا مناص من المصاحبة والمباشرة بين الناقد والمنقود لتتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يشف عما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء. ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعنى بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب. وليس من شك في أن الأستاذ السنوسي يلتمس لنا بعض العذر إذ قلنا له أن الحديث عن النفس شيء عسير، ولا نقول شيء بغيض كما يحلو لبعض المتجرين بالتواضع أن يصفوه! عسير لأن المجتمع الذي نتنفس في رحابه سيهمنا مرة أخرى إذا ما عرضناها في صورتها الحقيقية وهي في كنف الظلام. .
نحن إذن معشر الأدباء متهمون في كلا الحالين، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا ما كتب عنا الآخرون لأنهم في نظر المجتمع قضاة محايدون. . هذا إذا قدر لهم أن يطلعوا على ما خفي وما ظهر في حياة المنقودين من شتى الميول والنزعات! لو كنا في بيئة غير البيئة ومجتمع غير المجتمع لتحدثنا عن أنفسنا حديث الذين لا يخشون لومة لائم ولا اتهام متهم، ولا جناية حان على حقيقة الطبائع النفسية كما فطرها الله وكما قدر لها أن تكون. . ولكننا بهذه الأوضاع الاجتماعية في الشرق لا نستطيع. وإذا أتيح لنا أن نتحدث إلى الغير من حياتنا الذاتية بجوانبها المشرقة والمظلمة، فهي الإتاحة التي تدفعنا إلى ذكر بعض الحق والتستر على البعض الآخر، وحياة كهذه يحال بيننا وبين التحدث عنها بكل الحق هي في رأينا حياة لا يطمئن إليها الدارسون! إننا نبغي من وراء الدراسة النفسية لحياة أديب من الأدباء أن نضع أيدينا على مفتاح شخصيته الإنسانية، ورب حادث تافه يتحرج الكاتب من(902/38)
ذكره فيدفع إلى حذفه من تاريخ حياته؛ رب حادث كهذا يقدم إلينا المفتاح الحقيقي لشخصيته حين يكتب في بضعة أسطر فلا تغني عنه مئات الحوادث في ألوف من الصفحات)
هذا هو بعض ما قلته للأستاذ السنوسي في مجال الرد على رغبته. والحق أننا إذا نظرنا إلى حياة بعض الأدباء والمعاصرين، ثم خطر لنا أن نتخير بعض كتاب التراجم الذين يصلحون للتحدث عن هذه الحياة على هدى هذا المنهج الذي أوضحناه، لوجب أن يقع اختيارنا على العقاد ليكتب عن المازني، وعن الزيات ليكتب عن طه، وعلي الخولي ليكتب عن أحمد أمين، لأن هؤلاء جميعا قد أتيح لهم من الاطلاع على حياة أولئك ما لم يتح لغيرهم أن يطلع عليه. . ولعل تلك الدراسة النفسية التي كتبتها عن الشاعر علي محمود طه وما سيضاف إليها من فصول لم تنشر، تقدم الدليل على أن المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود أمر لا غنى عنه لكاتب التراجم ودارس الأدب وناقد الفنون!
بعد هذا أعود إلى المحور الرئيسي الذي تدور حوله رسالة الأستاذ السنوسي لأقول له: لقد طالبتني بتطبيق مذهب (الأداء النفسي) على شعراء آخرين غير علي محمود طه لتظهر قيمهم الفنية على ضوء هذا التطبيق. فمن هم هؤلاء الشعراء؟ إنك يا أخي لم تحدد العصور ولا المواطن ولا الأسماء، حتى أستطيع أن أتبين الهدف الذي تقصد إليه. . ترى هل تطالبني بتطبيق هذا المذهب على شعراء عصر بأكمله في كل موطن من مواطن الشعر العربي، أم أن هناك بعض الأسماء المختارة التي ترى أن شعر أصحابها تشع فيه ومضات من هذا الأداء؟
مهما يكن من شيء فقد أخرجت مذهب (الأداء النفسي) لأقدم عن طريقه وجهة نظر ذاتية في فهم الشعر وتذوقه ودراسته على أسس جديدة غير تلك التي ألفها الناس، وإذا كنت قد طبقته على شاعر واحد فلأنني أؤمن بأن هذا الشاعر هو من خير النماذج الفنية التي تمثل هذا المذهب في أفق الشعر العربي الحديث وما عنيت بقصر التطبيق عليه، وإنما عنيت بأن أقدم دراسة نقدية للشعر كما أفهمه وأتذوقه على أن يكون هذا النقد مقترنا بالمثال!
عتاب في غير موضعه:
طالع القراء في العدد الماضي من الرسالة كلمة للقصاص العراقي الفاضل كارنيك جورج،(902/39)
في الرد على ما كتبه أديب لبناني صديق دفاعا عن مجلة الأديب. أما هذه الكلمة فقد أستهلها الأستاذ كارنيك بشيء من العتاب لأنني لم أذكر أسم الكاتب اللبناني في ختام دفاعه، متخيلا أنني فعلت ذلك بدافع الصداقة. . أود أن أقول له إن هذا العتاب في غير موضعه، لأن الصداقة لا دخل لها فيما حدث من قريب ولا من بعيد! لقد طلب إلى الأديب اللبناني الصديق ألا أذكر أسمه وقد فعلت، لأنني لا أحب أن أعترض طريق رغبة من الرغبات سواء أكانت لصديق أم غير صديق. ولو أنني كنت متأثراً بدوافع الصداقة لما سمحت للقصاص العراقي بأن يقول عن صديقي إن دفاعه كان يحوي (أوضع) الاتهامات!!
إن منهجي الذي أسير عليه هو أن أتيح لكل طرف من أطراف هذه الخصومة أن يقول ما يشاء، ولهذا فسحت المجال لكثير من العبارات القاسية التي أغرق فيها الدفاع وأسرف فيها الاتهام بوجه أخص. ولا يهمني من وراء هذه الحرية المتاحة للجانبين إلا أن يقارن الناس بين حجة وحجة ويوازنوا بين دليل ودليل، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يسلكه السالكون ليصلوا إلى الحقيقة في وضح النهار! وإذا كان الأستاذ كارنيك يأخذ على أنني ملت إلى تصديق الأديب اللبناني فيما رمى به إنتاجه القصصي من الضعف والركاكة، فإنني أقول له أنه لم يقرأ كلمتي بعناية، لأن التصديق في تلك الكلمة لم يكن منصبا إلا على جانب واحد، هو جانب الإشارة إلى ما يلقاه صاحب (الأديب) من ضيق مادي في سبيل مجلته. وما عدا ذلك من أمور فقد تركته إلى القراء، لأنه ليس من عادتي أن أوافق إنسانا على رأيه الخاص في كتاب من الكتب دون أن أقرأ هذا الكتاب، ولو كان صاحب الرأي يحتل مكانة (سانت بيف) في المنقد الأدبي!
ترى هل يوافقني الأديب العراقي الفاضل بعد هذا على أن عتابه كان في غير موضعه؟ لقد أحتكم إلي في هذه الخصومة وكذلك احتكمت إلى (الأديب) على لسان أحد الأصدقاء. . ولقد قلت رأيي هنا وهناك وبقي حكم القراء.
دفاع عن السيريالزم:
بين يدي رسالة ثائرة من الأديب المصري مختار العطار (دبلوم الفنون الجميلة العليا ومحرر بمجلة القصة) يهاجمني فيها هجوما (عنيفاً) لأنني قلت عن المذهب السريالي في الرسم ما يحب أن يقال، ولأنه من أنصار هذا المذهب ومن دعاته في مصر. . لا بأس من(902/40)
أن يدافع الأديب العطار عن مذهب يؤمن به، ولكنه يجترئ كثيرا على الحق حين يقول لي: (مالك أنت والسيريالزم؟ أنه مذهب خاص بالرسم والرسامين لا يفهمه غيرهم وليس لكل إنسان أن يهاجمه إذا كان قد استعصى عليه فهمه، حتى ولو كان أديبا كبيراً مثلك)
أؤكد للأديب الثائر أنني أستطيع أن أتحدث عن المذاهب الفنية في الرسم خيراً مما أتحدث عن المذاهب النقدية في الأدب، وأنني أستطيع أن أحاضر عن السيريالزم ويكون هو في صفوف المستمعين. . هذه حقيقة لا يعلمها لأنه لا يعرف شيئا عن كاتب هذه السطور في ثقافته الفنية!
ويجترئ مرة أخرى على الحق حين يقول لي: (وأحب أن أصحح لك معلوماتك عن الرسام السريالي (بيكاسو). . لقد زعمت في مقالك عن الفن والقيود أنه رسام فرنسي والواقع أنه أسباني، وتلك حقيقة لا يجهلها غير المبتدئين في الفن). . أنا مع الأديب العطار في أن المبتدئين في الفن يعلمون هذه الحقيقة ولو لم يكن هو واحد من هؤلاء المبتدئين لما رقفت ثقافته (الواسعة) عند هذه الحقيقة الصغيرة. إن (بيكاسو) يا بني أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، أعني أنه تجنس بالجنسية الفرنسية منذ أمد بعيد، وأن مذهبه السريالي في الرسم قد ولد في مهد فرنسي ودرج فوق أرض فرنسية وانتسب إلى فرنسا حين ينتسب كل فن من الفنون إلى وطن من الأوطان. . أعني مرة أخرى أن أسبانيا اليوم لا تعتبره واحد من أبنائها ولا من فنانيها، وإذا لم تصدق فاسأل المفوضية الأسبانية في القاهرة أو المفوضية المصرية في مدريد!
وإذا اقتنعت. . فأرجو أن تتعلم قبل أن تتهجم!!.
أنور المعداوي(902/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
السجل الثقافي لسنة 1949
هذا هو السجل الثاني لمظاهر النشاط الثقافي في البلاد المصرية في جميع نواحيه، ما عدا الناحية التي تنهض بها معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية، وقد صدر السجل الأول في العام الماضي عن سنة 1948. وتقوم بإعداده إدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، وهي إحدى الإدارات المتفرعة من الإدارة العامة للثقافة، وقد أنشأت إدارة التسجيل سنة 1947 وكان مديرها الأستاذ محمد سعيد العريان وهو صاحب فكرة التسجيل الثقافي وواضع مشروع السجل، ومما يؤسف له أن ظهر السجل الأول ثم الثاني ولم يشر إليه في أحدهما بكلمة، على حين أشيد - في مقدمة السجل الأول التي كتبها الدكتور محمد عوض محمد بك - بفضل الأستاذين محمد عبد الواحد خلاف بك ومحمد فريد أبو حديد بك على أن السجل ثمرة جهودهما، لأنهما كانا - على التعاقب - مديرين عامين للإدارة العامة للثقافة قبل الدكتور عوض بك. والحقيقة التي يجب أن تذكر أن إشراف هؤلاء الأساتذة الكبار على أعمال التسجيل كان من بعيد جدا. . والعمل كله قام به موظفو إدارة التسجيل ومديرها الحالي الأستاذ أمين دويدار. ومن تمام الحقيقة أن يذكر فضل خلاف بك خلاصة في إنشاء السجل والعمل على تحقيق فكرته وقد اقتنع وتشبع بها، ولكنه نقل قبل أن يبدأ العمل المباشر في إعداد المواد.
ونعود إلى هذا السجل الثاني الذي صدر أخيرا، فأقول أنه يدل على جهود موقفه بذلت فيه، والموازنة بينه وبين الأول تظهر الفرق واضحا بينهما، ولا عجب في ذلك فقد كان السجل الأول باكورة العمل، ومما يذكر أن هذا التسجيل الثقافي اجتهد فيه القائمون به على غير مثال سابق، ودون قواعد موضوعة أو توجيه يذكر من رؤساء، بل كانوا يتهمون بأنهم يلعبون وهم يعملون في صمت، حتى أخرجوا السجل الأول، وترقبوا صداه، فانتفعوا بما وجه إليهم من نقد صادق وما نقدوا رأيه أنفسهم، وأشرف على ذلك وشارك فيه مشاركة نافعة الأستاذ محمد عبد الله عنان الذي عين مراقبا في الإدارة العامة للثقافة بعد إعداد السجل الأول. فجاء السجل الثاني خطوة كبيرة نحو الكمال في هذا الفن الناشئ في مصر،(902/42)
الذي هو جدير بالرعاية والعناية باستكمال أدواته وتوفير أسبابه، ليبلغ ما يرجى له في تحقيق أهدافه من التعريف بإنتاجنا الثقافي وبيان اتجاهاته ومراميه، وليدل على ما بلغته البلاد في مجال التثقيف العام.
كان السجل الأول يميل في أكثر الأبواب إلى مجرد الإحصاء، فمليء بالجداول التي لا تفيد غير السرد والعدد، ومما اتبع فيه ذلك الباب الكتب، أما في هذا السجل فقد عدل عن ذلك في المواضع التي تحتاج إلى بسط وتبيين، ومن أحسن ما تم فيه ذلك باب الكتب، إذ عنى فيه، إلى جانب أسم الكتاب والمؤلف أو المترجم والمحقق والناشر، ببيان موضوع الكتاب بيانا موجزاً أو مسهباً بعض الشيء على حسب الحال والأهمية، ورتب ذلك ترتيباً حسنا.
وكان السجل الأول جامعا مملوءا بما لا يستحق الالتفات إليه من التوافه وما ينشر عنه في الصحف لمجرد التظاهر، فقد حشد في باب المحاضرات كل من هب ودب ومليء بالعظات والخطب التي تلقى في الكنائس والمساجد يوم الأحد والجمعة. وكذلك الروايات السينمائية فقد ذكرت جميعها بما فيها من سخف وهذر، ومن فيها من شكوكو والكحلاوي وكميليا. الخ. أما السجل الثاني فقد مال إلى التمحيص والاختيار.
ويعتبر هذا السجل مرجعا هاما للوقف على مظاهر الإنتاج الثقافي المصري في الأبواب المختلفة من تأليف وترجمة وصحافة وهيئات ثقافية ودور كتب عامة معارض ومتاحف إلى آخر ما احتواه. وتستطيع مصر الآن أن تجيب على ما يراد معرفته من هذه الشؤون، فقد كانت الأسئلة ترد إلى الجهات المصرية من جهات أجنبية فيما يتعلق بتلك النواحي الثقافية، فلا نستطيع إلا أن نمسك عن الإجابة.
ولا بد من الإشارة إلى بعض الهنات التي نرجو أن يلتفت إليها، ففي باب المسرح والسينما عدل عن الشمول إلى اختيار روايات، وكان لا بد وفق خطة التعريف التي اتبعت في الكتب، من تقديم هذه الروايات بنبذ موجزة، وهذا حسن، ولكن الذي نلاحظه أن الروايات (المختارة) عرف أكثرها بملخص حوادثها لا بموضوعها، وليس العيب في ذلك راجعا إلى محرر السجل لأنه لم يجد موضوعا لهذه الروايات يتحدث به. وكان ينبغي إزاء ذلك أن تهمل هذه الروايات التي لا موضوع لها، ويقتضي ذلك أن يهمل 99 % منها، وليكن. في باب الكتب فنون مختلفة كالأدب والتاريخ عد منها (الفنون والصناعات) بابا واحدا، على(902/43)
بعد ما بين الصناعات والفنون الجميلة، فوضع مثلا إصلاح السيارات وأشغال (التريكو) مع مبادئ الموسيقى وتاريخ الطرز الزخرفية والفنون الجميلة. .
ولم تستوف كل الكتب بينها من حيث التعريف بموضوعها، ونفهم من المقدمة التي كتبها للسجل الدكتور عوض بك باعتباره المطبر العام للثقافة - أن التعريف الكامل بجميع الكتب لم يتيسر لأن (الميزانية) لا تسمح لإدارة التسجيل الثقافي بشراء كل ما يصدر من الكتب لاستيفاء الكتابة عنها، ورجا أن يعاون في ذلك أصحاب الكتب والناشرون بالإمداد بالمعلومات الكافية لتكوين الصورة الواضحة عن الكتب التي يخرجونها.
أما معاونة أصحاب الكتب والناشرين فلا شك أنها ليست محققة من الجميع، ولعل كثيرا منهم يرى أن الإدارة يجب أن نشتري نسخة بدلا من تبادل المكاتبة بينه وبينها، على أنه قد تكون المعلومات التي ترسل إلى الإدارة غير دقيقة أو غير وافية وخاصة من الناشرين.
ولست أدري كيف تضيق بشراء نسخة من كل كتاب بصدر في خلال العام؟ وخاصة أن ذلك ضروري للعمل، كما أنه ضروري لكرامة الإدارة والاحتفاظ بإسمها فلا يقلب إلى (إدارة التسول الثقافي!)
إنصاف المرأة
هو أسم كتاب جديد للكاتبة الأدبية العربية - ولا أقول السورية - وداد سكاكيني والكتاب يتضمن موضوعات مختلفة ينتظمها السلك النسوي فهو كما تقول المؤلفة في المقدمة (ينبثق من الموضوع الواحد الذي يمس المرأة في حياتها وحاجتها مسا قريباً، ويتحدث عن نفسها وجنسها، في البيت والمجتمع، في الثقافة والشمائل، في الانطواء والتحرر) وهي وإن كانت تتحدث عن المرأة عامة إلا أنها تتجه إلى العربية في ماضيها وحاضرها، وتخص السورية في أحوالها وأهدافها الحاضرة.
تتحدث الأستاذة وداد حديث الأدب والفن الهادئ أحيانا، فتتملى التاريخ أو تطالع الواقع الراهن وأحينا يثيرها ما يحيق بالمرأة من ظلم وجحود فتحمل على خصومها والزارين عليها والمنكرين حقوقها، سالكة في ذلك سبيل التفنيد والإقناع بالحجة. وهي في كل ذلك تمتع القارئ بسحر حديثها الذي يشبه ما تحدثت عنه في فصل (كيف نتحدث) الذي بدأته بما رواه أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، من أن جماعة من الكبراء سألوا معاوية(902/44)
عما هو أبقى في سرور الحياة وأجمل في النفس وأحلى، فقال: أنه الحديث. . . فقد ذقت الطيبات ونعمت باللذات وبلغت جهد ما يبتغي المرء من دنياه، فلم أجد أبقى في النفس ولا أمتع للفكر من حلاوة الحديث وسحر الكلام. ومن لطائف المؤلفة في هذا الفصل، ردها على من يتندرون على المرأة بأنها لا تجيد من الحديث إلا الكلام على الطعام وألوانه، والثياب وأزيائها، والخدم ومشاكلهم، والملاهي وسلواها_إذ قالت: (إن صبح هذا في أكثر نسائنا فإن الرجال مع سبقهم إلى الثقافة وكثرة تمازجهم وأتساع آفاق الحياة أمامهم، ما تزال أحاديثهم إذا جدوا لا تعدو اللغو في السياسية والأحزاب) وإني - على رغم هذا - أشكو إلى الله إنا لا نلاقي كثيراً أمثال السيدة وداد اللائي يخرج حديثهن عن الثياب وتفصيلاتها ومن تزوجت ومن طلقت. . . إلى آخر تلك الثرثرة الفارغة.
ثم لنعرج على هذا الفصل (أدب النسوة) فقد وجدت به ما يدعو إلى بعض المناقشة. ترى المؤلفة أن أدب النساء (هو في تصوير الحياة النسائية المبهمة والعادات المحجوبة عن الرجال فأي كاتب مهما بلغ وعيه واستفاض وحيه يستطيع أن يحيط بأسرار النساء وهي عندهن في آبار عميقة وتحت حجب ضيقة؟ فكثير من أحاديثهن لا يفضين به إلى الرجال ولا يقدر أن يستله منهن إلا الكاتب، فسر السحر والتعاويذ وضروب الكيد بينهن والحسد وستر المنكر وتزوير الجمال وتصوير الأمومة، كل هذا في عالم النساء لا يقيض للكاتب أن يجول فيه، أما للكاتبة فلها فيها جولات مجليات.
وأنا أولا لا أوافقها على تخصيص بعض مجالات الأدب للنساء وبعضها للرجال، فلا نعد موضوعا ما من اختصاص الأديبة لأنه من خصائص النساء لا ينبغي أن يتعرض له الأديب، وقل مثل ذلك في العكس، لأن مدار الأمر على انفعال الأديب أو الأديبة بالموضع ومقدار إطلاعه فيه ومعرفته لدقائقه، وإذا سلمنا بأن كلاً من الرجل والمرأة أدرى بحسنه وشؤونه فلا ينبغي أن ننكر على من يتعلق خاطره بموضوعات الجنس الآخر أن يتناولها. وأذهب - أكثر من هذا - إلى أن هناك ما تعرفه المرأة عن الرجل أكثر مما يعرفه الرجل عن الرجل، وقل أيضاً مثل ذلك في العكس.
ثم أقول: هل أسرار المرأة النساء وحياتهن المبهمة اللائي يحجبنها عن الرجال مما تكشفه المرأة في أدبها وتفضي به الكاتبة في كتابتها؟ أليس الذي يدفعها إلى حجبه عن الرجال(902/45)
يمنعها من البوح به فيما تكتب للجميع وفيهم الرجال؟ حقا هناك حياة خاصة بالنساء لا يعرف الرجل دقائقها كما تدركها المرأة. ولكن الحق كذلك أن الرجل أقدر وأجرأ على إذاعة ما يقف عليه من أطرافها
وبعد فلم أر في تحية هذا الكتاب القيم خيراً من أن أناقش بعض ما جاء فيه، ومن قيمة الكتاب أن تقدح الأذهان وتثير الخواطر وتدعو إلى المناقشة.
عباس خضر(902/46)
رسالة النقد
معجم ما استعجم من أسماء البلاد
لأبي عبيد البكري الأندلسي المتوفى سنة 487هـ
للأستاذ حمد الجاسر
صدر الجزء الثالث من هذا الكتاب القيم، مطبوعا بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومصححاً ومحققاً ومشروحاً بقلم الأستاذ مصطفى المساعد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. والكتاب غني عن التعريف، ومحققه الأستاذ السقا من المشتغلين بإحياء تراثنا العلمي القديم، وعمله في تحقيق هذا الكتاب لا يدرك مشقته إلا من عرف ما منيت به معاجم الأمكنة وقواميسها من التحريف والتصحيف، والغموض والقصور. حتى قل أن نجد بين تلك المعاجم - مخطوطها ومطبوعها - معجماً سلم من هذه السيئات. وإذا كانت الإشارة إلى نقص تلك المعاجم تعتبر مشاركة في إصلاحها فإن من واجب القائمين على نشرها وتحقيقها أن يتصفوا برحابة الصدر، وأن يقبلوا الحق وأن يحملوا ما يوجه إليهم من نقد نزيه أحسن محمل
وكلمتي هذه ليست من هذا القبيل، ولكنها إشارة موجزة إلى هفوات هينات وقعت في هذا الجزء لكي يتدارك الأستاذ السقا إصلاحها في الجزء الرابع - إن شاء الله -
1 - في صفحة 862 (صخر بن جعد الحضرمي). وعلق الأستاذ السقا في حاشيته قائلا: في (ج) الخضري، تحريف، وأقول: صخر بن الجعد الشاعر هذا من قبيل الخضر وهم أبناء مالك بن طريف بن خلف بن محارب، وسمو الحضر لأدمة ألوانهم. وقد ورد ذكرهم في ص 1016 من هذا الجزء نفسه، ولجعد الخضري قصة طريفة أوردها الزمخشري في أمثاله في مادة (من مال جعد وجعد محمود) وإذن فالصواب. الخضري - لا الحضرمي. (وانظر مادة خ ض ر) من تاج العروس وراجع كتب الأنساب.
2 - في ص 878 (يحيى بن أبي طال). وقال الأستاذ في الحاشية كل كلمة أبي ساقطة من (ج) وأقول. الصواب: إسقاطها فهو يحيى بن طالب أنظر ترجمته في الأغاني وسمط اللآلئ للبكري وراجع مادة (البرة) من معجم البلدان حيث تجد:(902/47)
وقولاً إذا ما توه القوم للقرى ... إلا في سبيل الله يحيى بن طالب
3 - في ص 722 (وبأزاء عن جبلان، أحدهما يقال له القفا والآخر يقال له بيش، وهو لبني هلال. وفي أصل بيش مادة يقال لها نقعاء، وبإزائها أخرى يقال لها الجرو، وعكاظ من هذه على دعوة أو أكثر قليلا. قال الشاعر:
وقالوا: خرجنا في القفا وجنوبه ... وعن فهم القلب أن يتصدعا)
هذا الكلام نقله البكري من كتاب عرام بن الأصبغ السلمي حرفاً حرفاً، ولم يصرح بذلك، وقد وقع في بعض كلماته تصحيف، وهذا تصحيح ما جاء فيه نقلا عن كتاب عرام (جبال تهامة ومياهها).
1 - بيش: صوابه: بس - أنظر هذه المادة في معجم البلدان والتاج وغيرهما - قال الشاعر.
بنون وهجمة كإشاء بس ... صفايا كثة الأوبار كوم
وهو جبل معروف بأسمه في هذا العهد، مطل على منهل (عشيرة) المحطة الثانية لقاصد نجد من مكة أما (بيش) فهو واد من أودية تهامة فيه قرى ومزارع، وهو بعيد عن هذه الأمكنة التي حددها البكري في سياق كلامه وقد أورد البكري أسم الجبل في المادتين (بس وبيش).
2 - نقعاء هي - في كتاب عرام وغيره - بقعاء بالباء (ووردت في هذا الجزء مرة أخرى ص 959 بالنون) ووردت أيضاً في حرف النون (نقعاء).
3 - الجرو هي الخدد - بخاء معجمة بعدها دال مهملة مكررة راجع معجم البلدان، وتجد في تاج العروس كلاما نقله المؤلف عن البكري في هذه المادة، غير موجودة في النسخ المطبوعة من البكري هذا.
4 - خرجنا في القفا. خرجنا م القفا
وفي ص 867 تكررت كلمة (هضب الأشق) وهو - كما في المعاجم وكما هو معروف الآن - بزيادة ياءيين الشين وبين القفا.
5 - ص 871 (عمود الكور) والصواب: الكود بالدال بدال الراء. وفي أصله ماءة تسمى الكودة، ويشاهد العمود من محطة (القاعية) وهي المحطة السادسة في طريق نجد من مكة.(902/48)
6 - في ص 876 - 877 وغيرهما - تكررت كلمة (الداءات) كأنها جمع داءة، وصحة هذه الكلمة (الداءات) بالدال المهملة المفتوحة بعدها همزة مشددة مفتوحة ممدودة فثاء مثلثة، وهو واد معروف في هذا العهد، وينطق إسمه مخففاً (الداث) بتسهيل الهمزة، كغيره من الكلمات المهموزة.
7 - وفي ص 959 (قال أبو عبيدة: عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له العتق)؛ صواب (العتق). الفتق بالفاء بدل العين - (وانظر هذه المادة من معجم البلدان، وتجد في صفة الجزيرة للهمداني ص 187 تحديداً دقيقا لهذا الموضع. وأنظر الأغاني ج 1 ص 149 طبعة المساسي وقد ورد كلام أبو عبيدة في تاريخ مكة للفاكهي، وللفاسي ووردت الكلمة فيهما صحيحة.
8 - في ص 873 (ثم ينحدر إلى التسرير حتى يخرج من أرض غني، حتى يصير في ديار بني غير، ثم يخرج في حقوق بني ضبة شرقي جبلة، ثم يغضي التسرير، فيخرج في أرض بني ضبة فيصير في ناحية دار عكل) كذا، وصحة هذه الجمل.
1 - (ثم ينحدر التسرير) بحذف كلمة (إلى)
2 - (ثم يفضي التسرير فيخرج من أرض بني ضنة). - (من) بدل (في) -
3 - (ضبة) صوابها ضنة - بالنون مكان الباء والضاد مكسورة - وهم بنو ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة، أما ضبة - بالباء - فبنو أدبن طابخة بنه إلياس، وبلادهم بعيدة عن التسرير، واقعة في شرقي نجد، والتسرير في عالية نجد، وقول البكري عن التسرير أنه (وقع موقعاً صار الحد بين قيس وبين تميم يدل على أن المراد هنا (ضنة) لا ضمة وفضنة من قيس، بخلاف ضبة. وقد وردت كلمة (ضنة) مصحفة بضبة في مواضع أخرى من كتاب البكري كصفحة 874 وغيرها
هذا ما أردت الإشارة إليه من الهفوات التي وقعت في هذا الجزء، وأكثرها مما وهم فيه المؤلف - رحمه الله - وله واسع العذر في ذلك، فهو يكتب عن بلاد بعيدة عنه، وينقل من كتبها.
القاهرة
حمد الجاسر(902/49)
البريد الأدبي
أنقد هذا أم حقد؟
رجعت إلى قراءة ما كتبه صاحب الرسالة في النقد ومنه قوله (كاد الأدباء الناشئون في مصر ينصرفون عن الإنشاء إلى النقد. وأريد بالنقد هنا معناه العامي أو مدلوله الأعم، فإن النقد المنطقي بمعناه الأخص إنما هو ملكة فنية أصلية، وتربية أدبية طويلة، وثقافة علمية شاملة) إلى أن قال (وهذا الذي تقرأه في الصحف العربية من حين إلى حين لا يدخل في هذا الباب إلا كما يدخل المجنون في نطاق الجد، أو العبث في سياق المنطق، كالرجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين فيقف نفسه موقف القائد الحصيف يلمز هذا ويتندر على ذاك. . . . . .)
لهذا عجبت عندما رأيت الرسالة تجيز نشر الكلمة التي وقعها المعداوي
والتي شاء له فيها أدبه الرفيع أن يقول (إن أم كلثوم غنت لشوقي
العظيم المشهور فلم نضف إليه مجداً فوق مجده؛ وغنت لمصطفى عبد
الرحمن الشاعر المغمور فلم تستطع أن تنتشله من مهاوي الخمول أو
زوايا العدم، ولو غنت له ألف مرة لبقي كما كان) إلى أن قال لا فض
فوه (ولكنها تنسى شعر علي محمود طه مثلا لتصدح بشعر مصطفى
عبد الرحمن! ماذا أقول في هذا الذوق الهابط. . . سواء أكان منسوبا
إليها أم كان منسوبا إلى مستشارها الفني أحمد رامي. . .؟
وأحب أن يعرف الناس أن أم كلثوم أديبة صاحبة ذوق سليم تختار لنفسها ما تتغنى به دون الرجوع إلى أحد.
وقصة قصيدتي التي غنتها هي أنني تقدمت بها إلى محطة الإذاعة فلما استمع إليها صديقي الأستاذ محمد عبد الوهاب طلب في إلحاح أن أتصل بالأستاذ محمد بك فتحي مدير الإذاعة وقتئذ ليغنيها هو، فلما اتصلت بفتحي بك قال إنها لدى الآنسة أم كلثوم إذ أن الأستاذ علي بك خليل المراقب العام للإذاعة أعجب بها فقدمها إليها فطلبت من فتحي بك أن تتعرف إلي(902/51)
فأعتذر بلباقة لأن الإذاعة أرسلت مع قصيدتي قصيدة أخرى في نفس الموضوع لشاعر كبير لتختار هي ما يحلو لها وكان أن اختارت قصيدتي:
أيقظي يا طير نعسان الورود ... تنهل قداح من خمر الندى
وترى في بسمة الفجر الجديد ... مولداً باليمن والسعد بدا
أشرقت آمال مصر في سناه
ومشت للمجد في نور اليقين
حقق الفاروق للنيل مناه
في ظلال اليمن والعز المكين
وبنى للشعب أسباب الحياة
ورعى الآمال فياض اليمين
فهل قرأ المعداوي هذه القصيدة ليرى فيها هذا الرأي أم سمع أن أم كلثوم غنت لمصطفى عبد الرحمن فغص حلقه. ثم هل عرف أن الرسالة عرفتني قبل أن تعرفه ونشرت لي قبل أن تنشر له.
أما رامي فهو الذي نقل شعر الغناء المصري من (أرخى الناموسية وأحبكها وشبكها بمتين دبوس وأعض وابوس) إلى
كيف مرت على هواك القلوب ... فتحيرت من يكون الحبيب
وأخيراً أحب أن أهمس في أذن المعداوي ببيت لشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي.
ملئوا صدور الصحف حقدا ... والحقد قد سموه نقدا
رحم الله الزهاوي ... وهدى المعداوي
مصطفى علي عبد الرحمن
على هامش الدراسات العليا في مصر:
كثر الكلام في هذه الأيام حول الحركات الإصلاحية في الأزهر مما بعث الأمل إلى نفوس المشفقين على هذه الجامعة الإسلامية الكبرى وخاصة بعد أن طالعتنا الصحف بتأليف لجان مختلفة من رجال الأزهر لدراسة شتى المقترحات للنهوض به. ويهمنا كثيراً أن نقدم هذه(902/52)
اللجان تقريراتها وتوصياتها قبل ابتداء العام الدراسي لكي يتبين الرأي العام أن الأزهر يستجيب دائما لحركات الإصلاح والنهوض والرقي، ونرجو أن يهتم المسؤولون في الأزهر بآراء المفكرين وأعلام الثقافة في مصر. فليس من الخير أن تهمل آراؤهم، بل من الواجب أن ينظر إليها بعناية ودقة. ثم هناك من الأزهريين من درس في أوربا، ومنهم من له نظريات في إصلاح الأزهر، فجدير بهؤلاء - الدكاترة - أن يكونوا أعضاء عاملين في هذه اللجان. لقد سبق أم أوضحت كيف يكون إصلاح الأزهر وكيف السبيل إلى رفع المستوى التعليمي والنهوض به. ولقد تكلم غيري في هذه الناحية. فما مبعث هذا الكلام؟ وما الدافع إليه؟ ليس من المعقول أننا نتجنى على الأزهر حتى يفهم كلامنا على غير وجهه؛ إذاً فما هو السبب المباشر؟ يعلم الله أنه الحرص الشديد على رقي الأزهر والأمل القوي في النهوض به إلى المنزلة السامية التي هو لها أهل وبها جدير. هذه همسات عابرة ننتقل منها إلى الدراسات العليا في الأزهر. لقد كتب الأستاذ (محمد عبد المنعم خفاجي) كلمة حول هذا الموضوع في (الرسالة الغراء) استعرض فيها تاريخ هذه الدراسات إلى أن تلاشت من الأفق الأزهري في عام 1941 وختم كلمته داعياً إلى إعادة هذه الدراسات من جديد تؤدي رسالتها العظيمة في خدمة الدين والثقافة وتجديد مناهج البحث العلمي الحر. ثم ناشد ولاة الأمر أن يوقظوا الأزهر من هذا الوقود، ويدفعوه لأداء رسالته.
نحن لا يسعنا إلا أن نشكر الأستاذ (خفاجي) على كلمته، وإلا أن نحبي فيه هذه الروح الجامعية الوثابة. إذ لا شك أن الدراسات العليا لها خطرها ولها أثرها الجبار في رفع مستوى هيئات التدريس في كليات الأزهر. ولو كانت هذه الدراسات قائمة لما كان هناك مجال لهذه الصيحات التي كان لها صداها هنا وهناك والتي كان من نتائجها نقل بعض مدرسي المعاهد إلى التدريس في الكليات. كنا ننتظر من الأستاذ (خفاجي) أن يبين على أي أساس تعاد هذه الدراسات العليا؟ فقد قال إن مدة الدراسة في هذا القسم لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء مدة الدراسة في الكلية. ونحن نقول إن هذه السنوات قد تصل إلى سبع سنوات أو ثمان فهل هذا نظام صالح لاستئناف هذه الدراسات؟ لسنا نأخذ على الأستاذ تقصيراً في كلمته لأنه بصدد عرض سريع لتاريخ هذه الدراسات، ولكنا نعضده ونؤيده وندعو معه إلى إعادة الدراسات العليا، ولكن على أسس جديدة ودعائم حديثة ونهج يتفق(902/53)
ونهج الجامعات المصرية. نريد أن نقول لولاة الأمور: أعيدوا هذه الدراسات على نمط مثيلاتها في جامعتي فؤاد وفاروق حتى تؤتي ثمارها المرجوة، وتغذي كليات الأزهر بخريجيها. لقد أشرت في عدد مضى من الرسالة إلى الأسس القويمة التي يجب أن تقام عليها الدراسات العليا في الأزهر. وتقدمت باقتراح مفصل في هذه الناحية. وأهدف من رواء ذلك إلى أن يحمل رجال الأزهر مختلف، لجامعات على الاعتراف بالدرجة العلمية التي يحصل عليها المتخرج في هذه الدراسات، والتي تعادل في الوقت نفسه درجة الدكتوراه.
فإن لنا أملاً قوياً في إعادة الدراسات العليا وتنظيمها على نحو ما هو متبع في الجامعات المصرية وإنا لمنتظرون.
(أزهري عجوز)
مقال مزور
حضرة الأستاذ الجليل صاحب الرسالة الغراء
السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
فإن أحب مجلة إلي في نشر مقالاتي هي مجلة الرسالة. فإن لصاحبها في نفسي تقديراً يسره. غير أن هذا لا يمنعني من أن أواجه بأمر لم ترتح إليه نفسي. فقد نشرت بأسمى في المجلة كلمة بعنوان محمد رشيد رضا تحتوي انتقادات لمقال كتبه صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل عيسى. والحقيقة أني لم أقرأ ما كتبه فضيلة الأستاذ حتى أوجه إليه هذه النقدات التي لا تتفق وما اعتدته فيما أكتب؛ فأني لا أكتب إلا متحرياً جهدي شأن من لا يبغي من وراء ما يكتب إلا تجلية حقيقية أو دفعا عن حق.
وإني لمنتظر أن تنشروا ذلك في مجلتكم. ولكم الشكر والسلام عليكم ورحمة الله.
حامد محيسن
(الرسالة) نعتذر للأستاذ الجليل من ذنب لم نرتكبه، وإنما أرتكبه رجل صغير دفعه اللؤم إلى التجريح، ومنعه الجبن عن التصريح، فأظهر لؤمه وأخفى أسمه.(902/54)
القصص
(دموع)
للقصصي الشاب أبو المعاطي أبو النجا
لا شيء، لا شيء، غير أن الأقدار أرادت أن تسخر فلم تجد غيري لتسخر منه، أو أنها أرادت أن تمثل مأساة ساخرة فلم تجد غير قلبي مسرحا يصلح للتمثيل!!
لا شيء غير ذلك؛ وإذا لم تصدقني فأستمع قصتي. . .
كانت أواصر القرابة الوثيقة هي التي تجعلني أتردد على منزل (فتحية)، وكانت نفحات جمالها الساحر هي التي تجعلني أكثر من هذا التردد. . ولم يكن جمالها وحده هو سر تلك الجاذبية التي تنفرد بها عن سائر الفتيات، والتي تجعلها أملاً حلواً يخطر في قلوب الشباب. . . ولكن شيئا آخر هو الذي جعلها كذلك. . . شيئا آخر يتمثل في عذوبة الروح وخفة الظل ورشاقة التكوين لم أكن ألقاها حتى أشعر بأن في عينيها بحيرة هادئة ضل فيها زورق السعادة، فهو لا يفتأ يروح ويجيء ى يعثر على الشاطئ المنشود. . . أما ثغرها الحلو الفاتن فكأنما عشقته البسمات فهي لا تزال تعانقه في شغف ملح دائم. . .
وكان يكفي إن تتكلم حتى تود أن تستحيل كل جوارحك إلى آذان مرهفة كي تسمع كل ما تقول من كلمات!! كلما ما كان أبرعها في ابتعاث الضحكات من الشفاء، وما كان أروعها حين تتناول بالتعليق شخصية من الشخصيات أو حادثة من الحوادث. . .
لا أظنك تدهش إذن حين تعرف أنني كنت دائما أحرص على أن ألقاها مفتعلاً لذلك أوهن الأسباب. . . وأنني كنت أتعمد أن أطيل معها الحديث وأن أظهر لها من ضروب الاهتمام وألوان الود ما جعلها تأنس بي وترتاح لرؤيتي وتغرقني معها في فيض ذاخر من المسرة والإمتاع.
ولكنك سوف تدهش من غير شك حين أؤكد لك أنني لم أكن أحبها. . . أجل يا صديقي لم أكن أحمل لها ذلك الشعور النبيل الجميل الذي يسمونه الحب. . . هذا الحب الذي كان يجب أن يبعثر كلماتي حين أتحدث إليها، وأن يشرد نظراتي حين أتحدث عنها، وأن يحيل حياتي إلى إطار جميل لا يبرر إلا صورتها الفاتنة هذا الحب يا صديقي لم أكن أكنه لها. هذه هي الحقيقة التي يسهل عليك وحدك أن تتصورها. تعرف يا صديقي أن قلبي لا يهتز(902/55)
لشيء في الوجود مثلما يهتز لرأي الدموع. . . إنها الدليل الفذ على أن القلب يملك رصيدا موفورا في دنيا المشاعر والأحاسيس، وأنه يمت إلى الإنسانية بأوثق الصلات. . . وتعرف أيضاً أن دموع المرأة هي المحراب الوحيد الذي يمنحه قلبي أخلص صلواته وأحر دعواته، ويقدم إليه من أحلامه أثمن القرابين
ولعلك تذكر أنني حين كنت أحدثك عن فتاة أحلامي كنت أطيل الحديث عن نظراتها المبللة بالدموع وعن قسماتها المغلفة بالأسى والشجن. . . كنت لا أخفى هيامي بالبسمات السائحة حين تفر في دروب الخجل، والكلمات الهامسة حين تختبئ في زوايا الصمت، والجمال الفاتن حين يبدو إلى العين في إطار حزين!! أظن أنه من السهل عليك الآن أن تتصور لماذا لم أكن أحبها. . لأنها في نظري فتاة فارغة؛ وهل تستطيع ضحكاتها المرحة اللاهية أن تحدد مكانتها في دنيا الشعور إلا كما تحدد رنات الطبلة الضخمة مكانها في دنيا الموسيقى؛ ومع ذلك فإنني كنت دائما أتعمد أن أطيل معها الحديث وأن أظهر لها من ضروب الود وألوان الاهتمام ما جعلها تأنس بي وترتاح لرؤيتي وتغرقني معها في فيض ذاخر من المسرة والإمتاع!!
ولا تعجب يا صديقي فأنا كما تعلم أطرق بعصا الشباب أبواب العشرين. . . والشاب في تلك السن يجد نوعا من الزهو وأنواعاً من اللذة حين تؤثره عذراء بالحديث وتخصه بالود وتعطر حياته بأنفاس سبابها الغض النضير
ومن هنا يا صديقي تدخل القدر ليجعل من تلك التسلية الساذجة غراما تحترق فيه القلوب ولا تجد ما يطفئها غير الدموع!
كان ذلك حين أراش (كيوييد) اللعين سهمه الطائش إلى قلب (فتحية) الفتاة التي عمر الزهور. . وفتحت المسكينة عينيها لتراني فتاها المحبوب وهواها المأمول ورجاءها الباسم!!
وفتحت أنا عيني لأرى وجهها الجميل تلك الخميرة الخفيفة التي هي أشهى ما تقدم المرأة على مائدة الشباب. وأرهفت أذني لأسمع في صوتها المرح تلك الربكة الظاهرة التي هي أصدق ما تقول المرأة في قصة الحب.
وفتحت عيني مرة أخرى على قلبي فإذا به هادئ ليس كهذه القلوب التي يهزها الحب(902/56)
ويذبلها الغرام
وهنا يا صديقي أغمضت عيني حتى لا أرى المصير المظلم الذي ينتظر المسكينة هناك في نهاية الطريق!
ماذا تريدني أن أقول بعد ذلك؟
اقسم لك أنني ما أحسست بالألم الممض العميق مثلما أحسست به وأنا أراها تحت خطى الأحلام في صحراء الوهم وتنثر حبات الأمل في حقول الخيال!!
كنت أعرف أنني الدليل الخادع الذي يقود تلك القافلة من الأحلام نحو المصير المجهول. . .
كنت أحس لنظراتها التي يرتع فيها الأمل ولكلماتها التي يخفق فيها الحنان ولبسماتها التي تنبض فيها السعادة. . . كنت أحس لكل أولئك وخز الإبر ووقع السياط
وما اعنف الآلام يا صديقي حين يقدمه إلى القلب ثغر يبتسم، أو عين تختلج، أو أمل يخطر في قلب عذراء.
كان يجب أن أضع حداً لهذه المهزلة وأن أجد حلا لهذه القصة يخرج بها عن دائرة المأساة. . . كنت أعلم أن كل يوم يمضي جناية لا تغتفر في حق هذه الأحلام العذراء. . . هذه الأحلام التي تنسج خيوطها على نول الأوهام!
حاولت أن أخرج من حياتها برفق ولكن قلبها كان ساحراً فلم يترك باباً واحداً أخرج منه، وحاولت أن أحبها وأن أفتح لها أبواب قلبي وروحي، ولكن قلبي كان عنيدا فلم يترك لها باباً واحد منه تدخل!!
لم يكن هناك غير باب واحد كنت أعلم أن الضوء الذي سينفذ منه سوف يوقظ من غير شك تلك النائمة في فراش الأوهام. كان ذلك حين قابلتها ذات صباح وأنا أضغط على أعصابي حتى لا أرتعش، ورحت أقول لها في صوت تعثرت حروفه وهي تنطلق بين شفتي. . . يا لك من صديقة مهملة لا تعرف حقوق الأصدقاء! فأجابت في لهفة كيف ذلك؟ فقلت وأنا أنظر إلى الأرض حتى لا أرى أثر الصدمة على قسماتها البريئة. . . لماذا لم تأت ليلة أمس لتهنئتي؟! ألم تعلمني أني خطبت (. . .) بنت عمي. وحين رفعت وجهي رحت أحملق فيها بذهول غريب. . . كانت شيئا آخر لا يمت إلى الفتاة الأولى بصلة. . .(902/57)
العيون التي كنت أرى فيها بحيرة هادئة ضل بها زورق السعادة ماذا بها؟ لكأن الزورق عثر على الشاطئ المنشود وخلف البحيرة الهادئة تصخب بأمواج الدموع!
الثغر النشوان الذي عشقته البسمات ما له ينتقض كأنه جناح طائر خضبه دم السكين!!
أين يا رب ذهبت فتحية الأولى؟ ومن أين جاءت تلك الأخرى؟ أجل تلك الأخرى لم أرها من قبل! أوه لم أرها من قبل؟ ذاك محض افتراء. أنني رأيتها، أجل رأيتها ولكن أين كان ذلك؟ أفي الحلم؟ أم في اليقظة؟ أم في الخيال؟. . . آه يا رب أنها هي. . . فتاة أحلامي التي كنت أصفها في الخيال تلك التي كانت تقف دائما وراء قلبي لا تترك الفتاة الأولى تدخل فيه. . .
العيون المبللة بالدموع، القسمات المغلفة بالأسى والشجن، الجمال الفاتن حين يبدو إلى العين في إطار حزين. . . كل ذلك أصبح الآن أمامي يهز قلبي في عنف. . . ولكنني لا أستطيع أن لأمد يدي إليه. . . يدي التي كانت منذ لحظات توصد أمامه أبواب الأمل. . لم أفق من تأملاتي الثائرة إلا حين أرادت هي أن تنفلت في هدوء وهي تتمتم بصوت جريح مبروك. . . مبروك. . . حاولت عبثا أن أستبقيها بين ذراعي وأنا أهتف بها كالمجنون أقسم لك أنني أحبك. . . أحبك: ولكن أعظم قوة في الوجود لا تستطيع أن تقنعها بأنني أحبها، ولست أعطف عليها فقط وإلا؛ فما الذي دفعني إلى هذا المسلك؟!
وهكذا ترى أنني حين حاولت أن أستبقيها بين ذراعي كنت أشبه بمجرم يحاول أن ينكر اعترافه أمام حبل المشنقة. . . لقد ذهبت يا صديقي وخلفتني وحدي لأقول نفس القافلة إلى المصير المجهول، ولأهمس في أذنيك هذا الهمس الحزين: لاشيء، لا شيء غير أن الأقدار أرادت أن تسخر فلم تجد غيري لتسخر منه، أو أنها أرادت أن تمثل مأساة ساخرة فلم تجد غير قلبي مسرحا يصلح للتمثيل. . .
محمود أبو المعاطي أبو النجا
مجمع فؤاد الأول للغة العربية
لجنة الأدب
مسابقات مجمع فؤاد الأول للغة العربية الإنتاج الأدبي سنة 1951 - 1952(902/58)
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية توزيع جوائزه لتشجيع الإنتاج الأدبي على النحو الآتي:
أولا: تخصص مائتا جنيه لكل فرع من الفروع الآتية على أن يكون المتسابق من أدباء وادي النيل وحدهم.
(ا) أحسن ديوان شعري لا يقل عن ألف بيت في الشعر الوصفي أو القصصي أو فيهما معاً.
(ب) أحسن بحث مستوفي مبتكر يسير على المنهج العلمي الحديث في (أحمد فارس الشدياق) وأثره في اللغة والأدب وفي وضع المصطلحات الحديثة. أو في (الشيخ حسين الوصفي) من حيث حياته وتأليفه وأثره في النهضة الأدبية الحديثة، على ألا يقل عدد صفحات كل من هذين البحثين عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة فيه عن مائة وثمانين كلمة.
(ج) أحسن تحقيق علمي على النمط الحديث لكتاب عربي قديم قيم في اللغة أو الأدب لم ينشر من قبل - على أن تقدم له مقدمة علمية في قيمة الكتاب والتعريف بمؤلفه ونسخه التي روجعت الخ ويقدم هذا التحقيق للجنة مطبوعا أو معداً للنشر.
ثانياً: تخصص لأدباء وادي النيل وغيره جائزة قدرها مائتا جنيه لمن يقدم أحسن قصة تعالج مشكلة اجتماعية شرقية باللغة العربية الفصحى بحيث لا يقل عدد صفحاتها عن مائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة منه عن مائة وثمانين كلمة.
وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع أربع نسخ مطبوعة أو مكتوبة على الآلة الكاتبة كتابة واضحة في الموضوع المقدم للحصول على الجائزة قبل أول أكتوبر سنة 1951.
وللمتبارين أن يذكروا أسماءهم أو يختاروا أسماء مستعارة، وعليهم أن يكتبوا عنواناتهم واضحة وأن يوقعوا على كل نسخة يقدمونها ولا يجوز أن يدخل مسابقات المجتمع الأدبية من سبق أن أجازه المجمع على إنتاج له في فرع المسابقة المتقدم إليه، ولا أن يعاد تقديم أي إنتاج أدبي سبق أن قدم للمجتمع أو لأية مباراة عامة أخرى أو لمناقشة عامة للحصول على لقب أو درجة عملية.(902/59)
ويشترط في مسابقة تحقيق كتاب قديم ألا يكون قد نشر قبل أكتوبر سنة 1950 ويشترط في غيره من الموضوعات ألا يكون قد طبع قبل سنة 1946، وسيحتفظ المجمع بنسخة من كل ما يقدم إليه من الإنتاج الفائز وغيره. وترسل الموضوعات بعنوان لجنة الأدب بمجمع فؤاد للغة العربية شارع قصر العيني 110 - القاهرة.(902/60)
العدد 903 - بتاريخ: 23 - 10 - 1950(/)
مثال يحتذي في الحكم
هنأ مجلس الوزراء في جلسة من جلساته الأخيرة صاحب المعالي الدكتور طه حسين بك على انتصاره المبين الحاسم في معركة صال فيها الجهل والتجهيل قرنا وبعض القرن فلم تعرف مصر فيها غير الهزيمة منذ أدارها القائد الأول مصطفى مختار الدويدار سنة 1836 حتى اليوم، فكانت هذه التهنئة الرسمية اصدق كلام عبرت به الحكومة عن رأي الشعب.
والواقع أن ما صنعه وزير المعارف لأمته في هذه المدة القصيرة يستحق رضا الله وارتياح المليك وشكر الحكومة وتقدير الوطن: يستحق رضا الله لأن مجاهدة الجهل كمجاهدة الكفر عمل من أعمال الرسل تبذل فيه قوى النفس، وتهجر في سبيله راحة القلب، ولا يصبر عليه إلا أولو العزم، ولا يقصد به غير وجه الله.
ويستحق ارتياح المليكلأنمجانية التعليم في كل مدرسة، وتيسير التعلم في كل جامعة، هما أول الوعود التي أنجزتها الحكومة من خطبة العرش على هذه الصورة الفريدة.
ويستحق شكر الحكومة لأنهذه الوثبة الجريئة التي وثبتها وزارة المعارف في فترة هذا الصيف قد حركت الأيدي، وشغلت الألسن، وأذهلت القلوب، فلم يقطن الناس لهذا العطل الذي أصاب أداة الحكم في الوزارات الأخرى. ويستحق تقدير الوطن لأنوزير المعارف قد حقق الاشتراكية في العلم فجعله كالماء والهواء لا يحول دونه قصور آلة ولا ضعف حيلة، ولا تصد عنه قلة مال ولا تقدم سن. ورخص الأمية والجهالة عن كرامة مصر أمر له ما بعده من يقظة الوعي واطراد التقدم واستكمال السيادة وشيوع الرخاء وضمان السعادة.
يا عجبا أشد العجب! وزارة المعارف هي وزارة المعارف، والموظفون هم الموظفون، و (المالية) هي المالية، و (الأشغال) هي الأشغال، والمطبعة هي المطبعة، فكيف كان هؤلاء جميعا يقفون من مشكلة التعليم وقفة الحائر أو الجائر أو السهوان، يقولون ولا يفعلون، ويضطربون ولا يسيرون، ويسألون ولا يجيبون! وكيف أصبح هؤلاء جميعا وقد وقفوا من هذه المشكلة نفسها موقف المؤمن المصمم اليقظان، يفعلون ولا يقولون، ويقدمون ولا يحجمون، ويجيبون ولا يسألون؛ ففي أربعة أشهر يدبر المال، وتبنى الفصول، ويحشد المعلمون، وتطبع الكتب، وتعد الأدوات، فلا يقبل اليوم الأول من العام الدراسي حتى يجد كل طالب مدرسته ومعلمه وكتبه وأداته، من غير أجر يعطى، ولا تعب يكابد ولا وجه(903/1)
يبتذل! الفرق بين تلك الحال بالأمس وهذه الحال اليوم زيادة رجل واحد، ذلك الرجل لا يتبع الروتين لأنه حر الفكر، ولا يعرف المستحيل لأنه شجاع القلب، ولا يتملق الحكم لأنه طه حسين!
أحمد حسن الزيات(903/2)
الأزهر الشريف
منارة العلم والعرفان في العالم الإسلامي
للدكتور حسين الهمداني
حفلت البلاد الإسلامية منذ انبثق فجر الإسلام بدور العلم ومعاهد العرفان في وقت كانت ظلمات الجهل تجثم فيه فوق ربوع العالم العربي، ومع أن هذه الدرر كانت تقسم بطابع خاص هو الطابع الإسلامي فإنها كانت تتوسم في نظامها واتجاهاتها الحرص على توفير أسباب الطمأنينة في نفوس طلاب العلم وتوثيق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وإشاعة تلك الروح الجامعية التي يجب توافرها في معاهد العلم العليا مثل ما يشاهده المرءالآن في أعرق الجامعات العربية.
ويلوح أنه لم يكن ثمة مناص من أن تغدوا المساجد والجوامع مقر لنشر المعرفة كما كانت وما زالت مصدرا لبث الهداية والرشد في نفوس الناس في الوقت ذاته. ولم يكن هناك تعارض في اضطلاعها بالمهتمين؛ فإن الدين الإسلامي الذي يأمر بالتسامح والمساواة يحث على طلب المعرفة ولو اقتضى الأمر الاغتراب في مشارق الأرض ومغاربها ما كان ليجد خيرا من المساجد بجوها القدسي لغرس العلم والمعرفة في نفوس المسلمين، بل إن اختيار المساجد لهذا الغرض يحمل في طياته الإقرار بقداسة العلم ووجوب تطهيره من حمأة الأغراض الدنيوية والبعد به عن كل جو ينحرف به عن قدسيته.
وقد ظهر في الإسلام معاهد علمية عظيمة القدر رفيعة الاسم. وكان الحكام يتنافسون في إنشائها، فأنشئ الأزهر في عام 361هـ (971م) وأنشئت الكلية النظامية في عام 459هـ (1066م) وأنشئت الصالحية في القدس عام 583هـ (1187م) وكان الغرض من إنشاء هذه المعاهد هي وغيرها بادئ الأمر - وباستثناء المستنصرية - هو تدريس المذاهب الدينية والدعوة لها، فأنشئ الأزهر لتدعيم المذهب الشيعي في مصر بعد فتحها على يد الفاطميين.
وأنشئت النظامية هي والصالحية لدعم المذهب الشافعي بينما أنشئت المستنصرية لتدريس المذاهب الأربعة وكان بها كلية لتدريس الطب وأخرى لتدريس الرياضيات واللغات. وقد اختفت هذه المعاهد العظيمة واندثرت وعفا عليها الدهر فيما عدا الأزهر الذي ظل راسخا(903/3)
كالطود بالرغم مما مر به من أحداث بل واضطهاد في بعض العصور. ولعمري أن المرء ليتساءل ماذا كان يصيب اللغة العربية وآدابها وما يتصل بهما من علوم ومعرفة لو أن الأزهر أصابه ما أصاب غيره من معاهد ولم يصمد للحوادث طيلة هذه الأجيال؟ لقد كان هذا الأزهر وما يزال - وأرجو أن يظل على ذلك أبد الدهر - دعاية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي. وقد أراد الله بالأمم الإسلامية خيرا حين كلأ هذا الجامع بعنايته ورعايته وصانه من غوائل الدهر ومن الانهيار.
ولم يكن الأزهر بناء أو جدرانا لا حياة فيها. بل كان على الدوام فكرة نابضة وروحا متسامية وحياة فكرية ومبادئ حية. بدأ جامعا فأنقلب جامعة لها خصائصها وتقاليدها وسمعتها وطابعها؛ وقد ظلت هذه التقاليد والخصائص والطابع والسمة تلازمه على مر العصور. وكان من خير هذه التقاليد أن الطالب يظل يتلقى العلم حتى إذا آنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم أذاع ذلك بين زملائه وشيوخه فتعقد في ديوان الأزهر حلقه من العلماء النابهين يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي تدرسها وفي جميع المواد المتصلة بها، فإذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة منح حق التدريس. وهذا التقليد يذكرنا بما هو متبع في الجامعات العريقة وفي مناقشة رسالات الدكتوراه فيها في عصرنا الحديث.
وإذا كان الأزهر قد صعد نيفا وأنف عام للأحداث وظل راسخا في أداء رسالته في دعم أركان الدين الإسلامي ونشر العلوم الإسلامية، واستطاع أن يحتفظ بمكانته المرموقة كدعامة قويا للإسلام ومنارة لنشر العلم والعرفان، فإن مثله يجب أن يحتذي في كافة الأمصار الإسلامية فليس في وسع سكان الباكستان أو غيرها من البلاد الإسلامية أن يفدوا بقضهم وقضيضهم ليتزودوا من منهل الأزهر الذي لا ينضب وينهلوا من مورده العذب، على أن الباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية لا تستطيع أن تترسم الروح الأزهرية الفذة أن ننوه ببعض ما يجول في نفوس بعض العلماء من مخاوف بشأن اضمحلال هذه الروح بسبب تلك النظم الحديثة التي أدخلت في الأزهر مثل نظام الامتحانات وتحديد المقررات وكثرة المواد الدراسية التي لا تتصل بالدراسات الإسلامية - حتى أن بعض يعتقد أن مستوى التحصيل في الأزهر قد انخفض انخفاضا ملموسا بسبب انصراف الطلبة إلى(903/4)
إحراز الإجازات التي تعتبر سلاحا للتوظيف دون الرغبة في التزود بالعلم لذاته والتعمق في المعرفة. وقد كان النظام الذي سلكه الأزهر خلال القرن الماضية نظاما جامعيا بحتا وكانت الروح العلمية تسيطر على جوه، فكانت صلة الطالب بمدرسته صلة وثيقة دعمتها العلم والرغبة في اعتراف مناهله. وحسبك أن تعلم أن الجامعات الغربية تهيأ الآن هذا التهيؤ لتأدية رسالتها. ولكن ما لبث النظام (المدرسي) الجديد الذي ادخل على الأزهر أن اضعف من هذه الرابطة مبين الطالب وأستاذه. ثم أن هذا النظام يعمل على شحن ذهن الطالب لا طائل تحتها ولا يدع له وقتا ولا ميلا للتعمق في نوع معين من المعرفة الإسلامية تعمقا من شأنه أن يخلق لنا علماء من طراز الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرزاق والشيخ المراغي وإضرابهم من جهابذة العلماء الذين يفخر العالم الإسلامي بهم. والحق أن النواة لأمثال هؤلاء العلماء موجودة فإن الطلبة الأزهريين ما زالوا يتسمون بالروح العلمية العميقة. وقد علمت من أحد القائمين على إدارة المعهد البريطاني في القاهرة أنه وجد في الطلبة الأزهريين الذين يتلقون اللغة الإنجليزية في المعهد المذكور استعدادا وإدراكا وتعمقا وغيرة وإقبالا على العلم بما هو جدير بطلبة هذه الجامعة العريقة. ونعتقد أن خير ما يمكن أن يفعله الأزهر هو أن يعمل جاهدا للعودة لذلك الجو العلمي البحث الذي عرف به وأن يقضي على نظام الامتحانات أو يعد له بحيث ينصرف الطلاب للعلم وحده دون النظر للإجازات العلمية كهدف يتعين عليهم تحقيقه للحصول على الوظائف.
وبودنا لو عنى رجال الأزهر الأعلام الألمعيون بأمر جدير بعنايتهم وهو تعليم الفتيات، فالشاهد أن الأسر الإسلامية كثيرا ما تدخل فتياتها في المعاهد الأجنبية التبشيرية، ولسنا نجد مبررا لحرمان الفتيات المسلمات من الثقافة الدينية الإسلامية ولا من خطاه ما لم يمد يده لمعونتها. والواقع أن رسالة الأزهر لا تقتصر ولا يجب أن تقتصر على مصر وحدها بل رسالته أعم وأشمل. ومن حق البلاد الإسلامية أن تطالبه بأن يمد رسالته عبر البحار لا إلى البلاد الإسلامية فحسب بل وللبلاد غير الإسلامية أيضا. ومن حسن الطالعأنلا يكون هذا هو رأينا وحدنا بل هو رأي الحكومة المصرية نفسها بدليل ما وفق عليه مجلس الوزراء في إحدى جلساته الأخيرة من فتح الاعتمادات لإنشاء معهدين إسلاميين في مدريد وطنجة.(903/5)
وفي وسع الأزهر أن يساهم مساهمة أدبية ومادية في إنشاء معاهد العلوم الإسلامية والدينية في البلاد الإسلامية فيبعث بعلمائه إلى هذه الأمصار التي ستلقاهم بصدر رحب وتحلهم منها مكانة الصدر والإعزاز ببثون فيها تلك الروح الفقهية والعلمية العميقة التي أنفرد الأزهر بها منذ حوالي عشرة قرون ويضعون برامج الدراسة في هذه المعاهد وفق النهج الذي مارسه الأزهر منذ إنشائه ويعملون على نشر اللغة العربية ودعمها في البلاد الإسلامية غير العربية. ولسعادة علوية باشا مشروع في هذا الشأن يستطيع علماء الأزهر دراسته وتنفيذه كله أو بعضه.
أما بالنسبة للبلاد غير الإسلامية فإن واجب الأزهر يقتضيه - بوصفه دعامة العلوم الإسلامية ومنارة الدين والهدى - أن ينشئ المعاهد الإسلامية في عواصمها ومدنها الكبرى وأن يزودها ببعض زملائه الذين يتقنون اللغات حتى يكون في مقدورهم نشر العلوم الإسلامية في هذه البلاد. وإذ كانت بعض الجمعيات الإسلامية قد أحرزت توفيقا في هذا المضمار فأحرى بالأزهر وهو المؤسسة التليدة العريقة أن يصيب نجاحا عظيما بما يتوافر لديه من اعتبارات وعوامل تكفل له التوفيق والنجاح في القيام برسالته. ويستطيع الأزهر مثلا أن ينشئ معاهد في لندن وبرلين وباريس وروما وواشنطن وغيرها من المدن الكبرى على غرار ما نره من المعاهد الأجنبية التي تنشئها الدول الغربية بين ظهرانينا. ونعتقد أن مثل هذا العمل يستدعي إنشاء معهد خاص للغات الأجنبية في الأزهر نفسه يدرس فيه العلماء والطلاب تلك اللغات بتوسيع وتعمق في وسط أزهري يكفل لهم تغلغل الروح الأزهرية العالية في نفوسهم. ونود ونحن بصدد الكلام على تلك تخصص بعضهن في العلوم الإسلامية. وأعتقد أن في مقدور الأزهر أن ينشئ معهدا للفتيات يتلقين فيه العلوم الإسلامية ويتخصصن فيها فيكون لدينا في القريب عالمات فضليات تزهو بهن البلاد الإسلامية.
إن الأزهر هو كعبة العلوم الإسلامية التي يحج إليها طلبات العلوم من كافة البلاد الإسلامية من الباكستان حتى نيجيريا، ومن الصين حتى الجزائر. ونحن نحب الأزهر ونحب أن تستطيل رسالته حتى تبلغ مشارقالأرضومغاربها. ولا شك في أنه يستطيع تحقيق آمالنا فيه. وفق الله رجاله إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين أنه السميع المجيب.(903/6)
حسين الهمداني(903/7)
الإسلام في الجزائر البريطانية
للأستاذ بدوي عبد اللطيف عوض
بقية ما نشر في العدد القادم
ولا ريب أن إنشاء مسجد في لندن يؤدي فيه المسلمون صلواتهم الجامعة بدلا من الصلاة في الفضاء، وفي حديقة سيعود على الإسلام والمسلمين بالخير العظيم، والفائدة الشاملة، ويستوجب الثناء الوفير والذكر الحسن الجميل من المسلمين المقيمين في إنجلترا، بل من المسلمين جميعا في أنحاء العالم، وسيجعل للإسلام مكانا بين الأديان التي قامت معابدها في عاصمة بريطانيا، مكانا تعلوه منارة شاهقة، يقف فيها المؤذن ويهتف من أعماق نفسه بالإسلام ونبي الإسلام، محمد الذي نطقت باسمه الكريم ملايين الشفاه، واهتزت له ملايين القلوب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا.
والذي ستنطق باسمه وتهتز له كذلك ملايين القلوب إلى يوم الدين.
إن ما يبذل من مجهودات، وتضحيات، وأموال في سبيل الدعوة لدين الله والدفاع عنه، سيفتح باب العزة لدين الله وكلمة الحق، وقد يكون كذلك باب العزة، والسمو لبلاد المسلمين، والعرب بالوحدة السياسية المتينة. (جمعية) (ووكنج)
كذلك يوجد في وهي ضاحية تبعد عن لندن نحو خمسة وعشرين ميلا، مركز أو جمعية إسلامية وبها مسجد ذكرنا من قبل أمر إنشائه وتعميره.
وفي عام 1936 تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فاروق الأول حين كان وليا للعهد، وحين كان يتلقى علومه في إنجلترا بزيارة هذا المسجد، وأدى فيه فريضة الجمعة.
ولما كان الكثير من السكان المسلمين المقيمين في لندن يجدون بعض الصعوبات في الانتقال لتأدية الصلوات في المسجد لبعده، فقد نظمت صلوات الجمع في جناح بأحد المنازل القريبة من محطات فكتوريا.
وإمام هذا المسجد هو الدكتور عبد الله، الذي كان لسنوات كثيرة إماما لمسجد برلين بألمانيا.
والدكتور عبد الله إمام مسجد (ووكنج) باكستاني كريم النفس جم التواضع، دائم النشاط والحركة، والعمل، في الدعوة إلى الإسلام، يقضي هو ومساعدوه معظم أوقاتهم بالدعاية(903/8)
والتبشرة، وليس هذا في لندن فقط، بل وفي الجهات المختلفة في إنجلترا، فهناك يخطبون ويلقون المحاضرات عن الإسلام وتعاليمه، وعن نبي الإسلام عليه السلام.
أما في لندن فيقومون بذلك مع إلقاء دروس منظمة في أيام السبت من كل أسبوع.
ولهم كذلك نشاط أوسع، وجاليات متعددة في أوربا كبرلين، وهولاندا، وفي العالم الإسلامي كمصر وسوريا والعراق، وفلسطين، وجدة. . . والصين والعجم.
ومنذ عهد قريب أستدعي الدكتور عبد الله إمام مسجد ووكنج لإلقاء محاضرات عن الإسلام وتعاليمه للتلاميذ في المدارس الإنجليزية الهامة. وهذا يعتبر حقا أول شيء من نوعه يستدعي الأهمية والالتفات.
والمسجد إمامه ومساعده يعتمدون جميعا في نفقاتهم على التبرعات والاشتراكات الخيرية التي يأتي معظمها من الباكستانيين، وبيع الكتب وتوزيعها على الراغبين في الإسلام والجزء الأكبر من هذا المال يأتي من الجالية الأحمدية في لاهور.
ومما ينبغي ملاحظته أن الجمعية الإسلامية في ووكنج أو الأحمدية اللاهورية تختلف تماما عن الأحمدية القاديانية. هذه حقيقة مقررة، لمستها بنفسي حين زرت مقرهما ووازنت بين الجمعيتين وتناقشت مع رئيسيهما. والمتتبع لتاريخ الطائفتين، والمدقق في علاقاتهما واتجاهاتهما الآن، لا يجد مجال للريب البتة في أنهما جد مختلفتين.
كنت أود أن أتحدث عن ذلك في إسهاب وأتحدث كذلك عن القاديانية وكيف نشأت ومتى تشعبت، واصبح لها نشاط ظاهر في جميع الأقطار الإسلامية وغيرها، كنا نود ذلك البحث الطريف، ولكن ليس هنا مجال لبسط القول فيه. على أنيأستطيع أن أقول أن القاديانية من النحل الهندية التي مضى على تأسيسها نحو ستين عاما. وهي تقول بنبوة رجل من مدينة قاديان يدعى غلام أحمد أدعى أن الله يوحي إليه كما كان يوحي إلى الأنبياء من قبل وأنه أتى برسالة إلى الناس عامة.
ولد غلام أحمد عام 1252هـ وتعلم العلوم الدينية والعربية والفلسفية ثم تقلد بعض المناصب الهامة لمدة غير طويلة، ثم تركها ورحل إلى جهات كثيرة ناشرا مذهبه، ودعوته، لكنه كان يجد في كل مكان ينزل فيه تحديا من العلماء وثورة عليه.
مات غلام أحمد عام 1326، فانتخبت أتباعه للرياسة نور الدين، ولما مات نور الدين عام(903/9)
1914 اختير للرياسة بشير الدين محمود بن غلام أحمد نفسه وهو القائم بأمر هذه الطائفة اليوم.
كانت القاديانية أيام غلام أحمد، وأيام خليفته نور الدين جماعة واحدة ومذهبا واحدا، ولكن في أخر حياة نور الدين دب الخلاف بينهم، وانقسموا على أنفسهم، فتشعبوا إلى شعبتين أو طائفتين، شعبة لاهور، وزعيمهم محمد علي الذي ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية. وشعبة قاديان التي رئيسها بشير الدين محمود بن غلام أحمد.
وهؤلاء الجماعة أو الطائفة الأولى في إنجلترا غير الطائفة الأحمدية القاديانية؛ ذلك لأن الأحمدية يعتقدون أن المؤسس لطائفتهم أو جاليتهم هو غلام أحمد، وهو لا يعدو أن يكون رجلا مجددا أو مصلحا، ويعتقدون أن النبي محمدا علية الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء ولا نبي بعده مطلقا.
لكن الأحمديه القاديانية تقول بنبوة غلام أحمد بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وأنه أتى برسالة إلى الناس كافة، وأنه مسيح الأمة الإسلامية.
ولقد اتصلت ببعض زعماء ورؤساء الطائفتين في لندن كالدكتور عبد الله والمستر باجوا وتحدثت معهم كثيرا في بعض المسائل الدينية، فوجدت أن الطائفتين جد مختلفتين، وهما عدوان لدودان يكره كل منهما الآخر، ولا يقول بتعاليمه ومذهبه بل أن الأحمدية القاديانية يكفرون الأحمدية اللاهورية، ويكفرون كل مسلم لا يقبل دعوتهم. وأن الذين يكذبون غلام أحمد أحط درجة من المنافقين.
ومما يؤسف له أن بعض الناس لا يعرفون ذلك يلتبس عليهم الأمر ويختلط، ويعتبرون أن الطائفتين على شاكلة وعقيدة واحدة.
ومركز الجمعية القديانية في سوتفيلد قرب بوتنى بلندن ولهم مسجد، ومدرسة ملحقة به لتعليم الأولاد بعض سور القرآن ومبادئهم.
وهم كالمسلمين في ظاهرهم يصلون الصلوات الخمس، ويصومون رمضان ويؤدون صلوات الجمع بانتظام لكنهم لا يصلون مطلقا خلف إمام آخر لا يكون على مذهبهم وشاكلتهم ولهذا لا يذهب أحدهم مطلقا إلى مسجد آخر لتأدية الصلاة فيه.
ولهم محاضرات منظمة يلقونها مرتين في كل شهر بدار مركز الجمعية كما يقومون بإلقاء(903/10)
محاضرات، وخطب في الحدائق والمنتزهات العامة في لندن وقد انضم إليهم بعض الإنجليز وغيرهم، وأصبحوا مسلمين على طريقتهم وشاكلتهم. ولهم في جلاسجو جالية، ومسجد ولهم إمام إنجليزي يؤم الناس في الصلوات.
ولهم كذلك حركات نشيطة في الدعوة إلى مذهبهم في معظم الأقطار الإسلامية كالعراق، ومصر وسوريا، وفلسطين، وجدة ولهم دعاة في الصين والهند، والعجم، وغير ذلك من البلاد.
أمام هذه الطائفة يسمى باجوا وهو هندي يقيم في منزل خاص به وبأسرته، كما يوجد منزل آخر بدار الجمعية خاص بضيافة الطلبة الغرباء، ينزلون فيه مدة إقامتهم بلندن.
والإمام يظل في وظيفة الإمامة لنحو أربع سنوات، فإذا ما انتهت تلك المدة استبدلت الجالية القاديانية الرئيسية بالهند به إماماً آخر.
هم متدفقون، شديدو التحفظ في عاداتهم ومعتقداتهم، وهم أكثر تحفظا في وجهة نظرهم نحو المرأة. فهم لا يصافحونها، ولا تستطيع الخروج إلا بوضع نقاب كثيف على وجهها.
كذلك توجد جمعية إسلامية في شرق لندن؛ ولقرب هذه المنطقة من بناء لندن نجد أن معظم المسلمين فيها من البحارة ولها مسجد، ومدرسة لتعليم الأطفال بعض سور القرآن الكريم، ومبادئ الدين الحنيف، وتقوم الجمعية بتنظيم المحاضرات المختلفة عن الإسلام والدعوة إلية في لندن وخارجها. . .
إمام مسجد شرق لندن باكستاني، ويسمى كأني وقد كان رئيس وزارة لإحدى الولايات في الهند، وهو في موضوع التقدير والاحترام بدرجة كبيرة بين المسلمين جميعا في هذه المنطقة. معرفته بالعربية قليلة ويحفظ بعض سور القرآن الكريم للصلاة وإمامة الناس.
ومعظم المسلمين المواظبين على الصلوات في هذا الجامع من الباكستانيين وهم لا يعرفون من العربية إلا ما يمكنهم من قراءة الفاتحة والسورة في الصلاة.
الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى:
وإلى جانب هذا توجد الجمعية الإسلامية في بريطانيا، ورئيسها هو المستر إسماعيل ديورك. ولد في إنجلترا فأكتسب الجنسية الإنكليزية، وهو فوق هذا من الحسب والنسب في الذروة، فتربطه بمصر صلات القربى والمصاهرة. وهو شاب في الأربعين من عمره، من(903/11)
كبار المحامين في لندن وأشهرهم، جم التواضع عذب الحديث.
كرس مستر ديورك معظم وقته لخدمة الإسلام والمسلمين وقد بذل في هذا الميدان جهودا طيبة متواصلة لا يستطيعها إلا أولو العزم من الرجال. وربما كان من أروع ما قام به في هذا الأفق الديني هو ذلك الأثر العظيم الذي أحدثه في أذهان من حوله من الإنجليز وغيرهم. فقد استطاع أن ينشر بينهم الأيمان بقيمة الدين الإسلامي، والتحمس البالغ له.
ولن نحاولالآنتقدير أعماله ومدى جهوده نحو الإسلام والمسلمين لأن هنا ليس مجال لذلك. ولكن الحقيقة البارزة التي لا يسعني إلا تسجيلها هي أن المستر إسماعيل ديورك يعتبر بحق من مؤسسي الحركة الإسلامية في بلاد الإنجليز ومن الذين يتعهدوها، وما زالوا يتعهدونها في جميع الموطن برعاية والعناية حتى تمكن من إنشاء طبقة إسلامية مثقفة قادت المسلمين إلى نهضة كلها خير وبركة.
مركز إدارة هذه الجمعية في لندن وهي تقوم بتنظيم إلقاء المحاضرات والدروس الأسبوعية لتعليم الدين ومبادئه والدعوة إلى الإسلام. وغالبا ما تكون هذه المحاضرات مرة أو مرتين في كل شهر.
وتقوم كذلك بتهيئة الأماكن المختارة للمقابلات والاحتفالات حيث يستطيع المسلمون أن يقابل بعضهم بعضا في المناسبات المختلفة، وتهتم بصفة خاصة بعيد ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام فتنظم له احتفالا مهيبا في إحدى القاعات الفخمة بلندن يدعى إليه آلاف المسلمين وغيرهم من العظماء ورؤساء التحرير والجمعية مفتوحة لجميع المسلمين وغيرهم الذين يهتمون بالإسلام وشؤونه، لكن هؤلاء لا يستطيعون أن يشتركوا في إدارتها أو سياستها أو تدبير أمورها.
والغاية الصحيحة لهذه الجمعيات دينية محضة وأنهم يطلبون أن يعرف الناس، والإنسانية كيف يسلكون سبيلهم إلى الكمال الذي دل عليه الإسلام. وأدرك هذه الغاية أظنه ميسورا إذا اهتدى الإنسان إلى سبيله بمنطق عقله، ونور قلبه راضي النفس منشرح الصدر.
وللمسلمين في إنجلترا نشرات وصحيفة إسلامية تصدر باللغة الإنجليزية لقد كانت من قبل قاصرة على الموضوعات الدينية. لكنها الآنأخذت مكانا ووضعا أليق، فزاد عدد صفحاتها وحليت بالصورة وحسن الطبع وتناولت علاوة على الموضوعات الدينية بسط(903/12)
الأحوال السياسية والثقافية في العالم الإسلامي.
مقابر المسلمين
كذلك لهم بالقرب من لندن جبانتان واحدة في ووكنج وقد خصصتها الحكومة الإنجليزية لدفن عساكر المسلمين الذين يموتون في إنجلترا، ومدفون بها لآن كثير من الهنود والعرب والبولنديين وغيرهم، وهذه الجبانة متوسطة الحجم ومحاطة بسور مرتفع وأبوابها مقفلة، ومفاتيحها محفوظة مع الدكتور عبد الله إمام مسجد (ووكنج).
والجبانة الثانية أكبر من الولي وتوجد (بروكوود) وتبعد عن ووكنج خمسة أميال. وعن لندن بنحو خمسة وعشرين ميلا. وهذه الجبانة على نظام الجبانات الإسلامية، وقائمة على قطعةأرضضمن جبانة كبيرة عامة لجميع الأفراد من الديانات الأخرى. وقد دفن بها كثير من الجنود المسلمين الذين أصيبوا أو استشهدوا في بعض الحروب الماضية من الأتراك والبولنديين وغيرهم. كما دفنت بها تلك الشخصية الإنكليزية البارزة التي كان لها أثر محمود في نشر الإسلام في هذه البلاد والتي تكلمنا عنها سابقا وهي شخصية لورد هدلي.
كذلك توجد جبانات أخرى متفرقة بالبلاد حيث يقطن المسلمون من أشهرها جبانة كارديف التي تبعد عن لندن بنحو مائتين وخمسين ميلا.
المجلس الإسلامي في المملكة المتحدة:
وللجمعيات الإسلامية في هذه البلاد مجلس إسلامي مكون من ثمانية أعضاء اثنان يمثلان المركز الثقافي بلندن هما فضيلة الأستاذ الدكتور علي حسن عبد القادر، وكاتب هذه الكلمة.
واثنان يمثلان الجمعية الإسلامية في بريطانيا العظمى هما الوجيه المستر إسماعيل ديورك والمستر سليمان جته.
واثنان يمثلان الجمعية الإسلامية في ووكنج هما الدكتور عبد الله والمسيو عبد المجيد رئيس تحرير المجلة الإسلامية.
واثنان يمثلان الجمعية الإسلامية في شرق لندن هما المستر اليدام والمستر شاه.
أما الجمعية القاديانية فليس لها ممثلون في هذا المجلس وليس يرجع ذلك إلى خلاف الرأي وكفى، ولكنه يرجع قبل ذلك وأكثر إلى أنهم يعتبرون أن الجمعيات الإسلامية الأخرى لا(903/13)
تمثل تعاليم الإسلام الصحيحة.
ورئاسة المجلس، وسكرتاريته، وأمانة صندوقه تكون بالانتخابات لمدة عام، ويتحتم أن يتجمع المجلس مرة على الأقل كل ثلاثة شهور وقد يجتمع أكثر إذا كان هنالك حاجة ملحة تدعو إلى ذلك. وغاية المجلس بصفة عامة، هي النظر في الأحوال والمسائل التي تتعلق بالمسلمين والإسلام في المملكة المتحدة. . .
لكن يجمل بنا أن نسجل هنا أن هذا المجلس الإسلامي ليست له القوة التي يمكن الاعتماد عليها في تنظيم الأمور وتنفيذها ولأجل أن يكون المجلس قويا يؤدي مهمته على خير وجه وأن يقي المسلمين ما يصيبهم من تفرق الكلمة ومرارة الخلاف، ينبغي أن يكون له صفة رسمية يؤمن بها المسلمون جميعا ويؤمن بها قبل ذلك أولو الأمر في هذه البلاد. وذلك كما هو الشأن في بعض الجاليات الدينية الأخرى التي اعترفت بها الحكومة الإنجليزية والتي تسمع إلى مطالبهم ذات الصيغة الدينية.
الهيأة الإسلامية:
الواقع أن الجمعيات الإسلامية في الجزائر الإنكليزية لا يزالون حتى اليوم لا يعرفون لهم رابطة أو هيئة موحدة عليا كالذي نعرفه، يخضعون لنظامها وتوجيهاتها وإشرافها. ومن ثم نجم وينجم في كثير من الأحيان خلاف بين وجهات النظر، الأمر الذي أثر ويؤثر بطبيعة الحال إلى حد كبير في حدتهم وجلب بعض المتاعب والمضايقات لهم، ويبقي الدعوة الإسلامية سائرة في طريق بطيء.
والأمر الذي لا ريب فيه أن تنظيم صفوة المسلمين وتوكيد وحدتهم في هذه البلاد للقضاء على ما عسى أن يثور بينهم من الشبه والخلافات أمر ضروري ومنهم غاية الأهمية إذ أن ذلك يخلق لهم حياة فيها من السكينة ما يجنبهم الخلاف والحزازات، وما يهيئ لهم في المستقبل طمأنينة يطمعون معها أن يكونوا أوفر قوة وأعظم اقتدار.
وهذا ما أرجو أن تتجه إليه سياسة ولاة الأمر والمسلمين معهم حتى تزدهر الدعوة الإسلامية، وحتى يعلو دين الله وتعلو كلمة الحق معه في هذه البلاد.
هذه دراسة خاطفة للإسلام، والمسلمين في بلاد الإنجليز، اعتزمت القيام بها منذ سفري إلى هذه البلاد وأرجو أن يكون ذلك تمهيدا لدراسات إسلامية أكثر استفاضة وعمقا.(903/14)
(ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا)
بدوي عبد اللطيف عوض
أستاذ في كلية أصول الدين وعضو بعثة فؤاد الأول الأزهرية
بإنجلترا والملحق في المركز الثقافي الإسلامي بلندن(903/15)
صور من الحياة
هوى على الشاطئ
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
. . . وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الجبلية. وانطلق الركب إلى الإسكندرية يحدوه الأمل ويدفعه الرجاء، وفي النفوس النشوة والمتاع، وفي القلب المرح والشباب.
لقد طاروا جميعا إلى الإسكندرية ليتخففوا من عبء اليأس الذي يواري السوءة ولينفضوا أغلال التقاليد التي تسمو بالكرامة، وليضعوا عن أنفسهم أصر الأخلاق التي هي سمة الإنسان، وليندفعوا في خضم من الحيوانية الجامحة لا تغسلها إلا عبرات الشتاء حين تنهمر مدرارا لتمسح على دعارة الصيف وفجوره.
أما صاحبي. . . الفتى الساذج الذي عاش عمره في سجن من حديد. . . أو سجن من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة، وطوى زهرة الشباب يرسف في أغلال ثقال من الدين. . . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفوس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام. . . أما صاحبي هذا فقد أذهلته الحياة وهي تضطرب حواليه موارة تزخر بصنوف من العيش الوضيع فتقززت لها نفسه ونفرت منه روحه، وبدت له دنيا الشاطئ سوقا تعرض فيها المباذل في غير خجل ولا استحياء. وشعر بأنه هنا غريب يحس الضيق والملل لأنه لا يستطيع أن ينسى تأريخه فينغمر في هذا الخضم وقد دنسته الخطيئة ولوثته الرذيلة، ولا يستطيع أن يطوي أيامه وحيدا على هامش الحياة. وحدثته نفسه - غير مرة - بأن يطير عن هذا الجو الذي يخنق الفضيلة ويقتل الشهامة، غير أن رفاقه كانوا يمسكونه أن يفعل فيستخذى لهم في ضعف ويستسلم في فتور.
يا عجبا! لقد فزع الناس إلى الشاطئ يطلبون - كرأيهم - الصحة والعافية والجمام، أما هو فقد جاء ليقاسي ألم الضيق ويعاني أذى الوحدة.
وخشي الرفاق أن تسري فيهم روح هذا الفتى فتنسرب إلى نفوسهم خواطره فيحسون(903/16)
كراهية الشاطئ الحبيب، وهم يرونه منكفئا - أبدا - على نفسه يسبح في تيه من الظلومات لا يطرب للذة ولا يهتز لمتعة ولا يستبشر لفرحة، فانطلقوا إليه يوسوسون بأمر:
وظفر شيطان من الناس - بعد لآي - بالفتى فجذبه إلى الشاطئ في برنسه وتبانه. لقد خلع الفتى ثوبه ولكنه لم يستطع أن يخلع الحياء، فوقف بازاء الماء يهم أن يخلع البرنس فيمسكه الخجل وقد أكتنفه الندم على أن طاوع رأي صديقه الشيطان. وتردد حينا غير أن صاحبه لم يدعه يفكر طويلا فجذبه - على حين غفلة - من برنسه، فإذا هو في تبانه يضطرب، ونظر حواليه فرأى عيونا رمقة، فأندفع في الماء يشق الموج بذراعين فيهما القوة والفتوة والشباب. وانطلق الرفاق على آثاره يمجدون الطفرة المباركة واهتزت نفسه لكلمات الإطراء فأنطلق يصارع الموت.
وأحس الفتى أن رفاقه يتساقطون من حوله واحدا بعد واحد من أثر ألاين والفرق، وراعه أن يجد نفسه وحيدا وهو في منأى عن الشاطئ، فهم يريد أن يرتدي فما أمسكه إلا أن رأى فتاة في ميعه الصبا وفورة الشباب تشق الموج شقا. ونظر الفتى ونظرت الفتاة ثم ابتسمت. واستولى الحياء على الفتى فأراد أن ينطوي عنها ولكنها حذرته أن يذرها وحيدة بين طيات الموج فاتأد واقتربت الفتاة وهي تقول (أنك سباح ماهر!) فهمهم الفتى يقول (شكرا لك). وصحب الفتى الفتاة على كره منه. واطمأنت الفتاة إلى الفتى حين أحست فيه شيئا ساميا ليس في شباب الشاطئ، أحست فيه الشهامة والهدوء والتأبي، فما بلغا الشاطئ حتى قد أخذت عليه موثقا أن يقطعا هذا الشوط معا كل صباح.
وصحا قلب الفتى حين وخزته النظرات الآسرة وحين غمره الحديث الرقيق، فما تعوق ولا تمنع.
ومرت الأيام تمسح بيد رقيقة على آثار الضيق في نفس الفتى لأن ابتسامة الفتاة الجميلة كانت تشرق في جنبات قلبه، وتمحو سمات الخجل من تاريخهلأن روح الفتاة كانت ترف رفيفا جميلا في ثنايا فؤاده، وتنزع عنه ظلمات الخواطر السود التي رانت عليه زمانا لأن جبين الفتاة لواضح كان ينير له السبيل وتحبب إليه الحياة على سيف البحر لأنه كان يستمتع هناك بالمتعة الخالدة. . . باستجلاء الطلعة المضاءة. ونسى صاحبي الدين. . . الدين الذي غل قلبه ولسانه حينا من الزمان ففقد اللذة والسعادة والمرح.(903/17)
وغدا الفتى رجلا آخر غير من عرف في نفسه، فهو يتشوق لساعة الصباح في شوق ولهفة لينطلق إلى الشاطئ لا يمسكه الخجل ولا يدفعه الحياء، وهو يذرع الشاطئ في تبانه لا يبالي الأعين ولا يخشى الألسن؛ وهو يخلو إلى صاحبته ساعة من صدر النهار يكشف لها دوافع قلبه في حديث يفيض بالعاطفة ويفهق بالهوى لا يشوبه إلا ما كان يخشاه من أن تستشف من خلاله أنه زوج وأب ورب أسرة - وهو سره هو - فتنفر منه على حين أنه ضنين بها حريص على حبها؛ وهو يتأهب للقيا الحبيبة أصيل كل يوم فيقف طويلا أمام المرآة يستشيرها خيفة أن تقع الفتاة منه على ما يؤذي عينها أو يمجه ذوقها. وعرف الفتى - لأول مرة - معاني النظام والزينة الأناقة. . . عرفها لأنه عرف النشوة في الهوى والشباب.
وأحس الفتى - لأول مرة - أن في المرأة فنونا من الإغراء لا عهد له بها، فنونا من الدلال والأناقة والتطرية والعطر، فنونا صاغتها يد الحضارة الصناع في دقة وإتقان فوجدها جميعا في فتاته الشابة وافتقدها جميعا في زوجته الريفية التي حبستها التقاليد القاسية بين أسوار من العمى والجهل. ولمس في المرأة معاني أخرى حبيبة إلى نفسه، معاني غير الخضوع والاستسلام والضعف، معاني غير الجهل والسفه والحمق، معاني غير اللذة الرخيصة والشهوة الوضيعة. فهو يجلس إلى فتاته فتحدثه حديثا فيه الرقة والجاذبية، وتناقش الرأي في هدوء وتجادل الفكرة في هوادة، ثم هي تهديه إلى الصواب في لباقة إن غرب عنه، وتبصره بالحق في رفق إن عمى عليه. فوجد - بعد حين - فرق ما بينها وبين المرأة التي تزوج لتكون بعض متاع الدار، لا رأي لها في الأمر ولا قيمة لها في الأسرة ولا نصيب لها في الحياة.
ولصقت الفتاة بالفتى حين لمست فيه خصالا عزت على أترابه، فهو عف اليد واللسان، وهو رفيع النفس لا يستنزل إلى الدني من القول ولا ينحط إلى الوضيع من العمل، ثم هو رجل فيه الرجولة والإنسانية والشهامة. وراقها أن تراه طيب القلب هادئ النفس سهل الطبع، ولذ لها أن تجده يندفع إليها في غير صبر ويهفو نحوها في غير أناة، فصبت إليه ورضيته صاحبا ورفيقا، وقلبها يتفتح له رويدا رويدا.
وأنطلق الفتى على سننه والفتاة إلى جانبه تجذبه إليها في رفق وتسيطر عليه في هوادة(903/18)
وتلقاه في بشر، ثم فتحت أمامه باب السينما ومهدت له السبيل إلى المسرح، وهو ينقاد لها في سهولة ويسر. واطمأن واطمأنت فما يفترقان إلا ليتلاقيا على ميعاد.
وانطوت أيام وحانت ساعة الوداع. . . حانت ليتلاقيا - بعد أيام - في القاهرة فماذا كان منك - يا صاحبي - وماذا كان من الفتاة؟
كامل محمود حبيب(903/19)
ما رأيت وما سمعت
في سوريا ولبنان
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 2 -
لا خوف من الكلام الذي يقال جهرا، إنما الخوف من الأقوال التي تهمس همسا، ومن الإيماءات والأشارات والغمزات التي بتبادلها الناس في سوريا، ومن أحاديث المجالس الخاصة، ومن صمت العامل والمزارع والتاجر، ومن همهمة الطلبة ودوي الشبيبة المتعلمة.
لقد رأيت كثيرا، وسمعت كثيرا جدا، وفتحت لي أبواب وصدور، ووقفت على أمور عزيز على سواي الوقوف عليها، لا لأني من البقية الباقية ممن عملوا في كل ميدان من ميادين الجهاد، ولا لأني تباعدت عن موائد الغنيمة، بل لأني اغتسلت من دم الثورة بدمائها، ولأني، بعد أن ضمدت جراحي، نذرت الانطواء على نفسي كما انطوى الكثيرون أمثالي على أنفسهم عزة وكبرياء، أقول.
من الأمور التي سمعتها في سورية ما يخلق بي أن أتناولها بالكلام الصريح البعيد عن اللبس، ومنها ما يحسن أن ألمه لمسا رقيقا بغية أن (يفهم) من يهمهم أمر البلاد إن الشعب ينزع من حاكميه وزعمائه منزع التأفف والضجر، ومنزعا آخر لا أدري كيف اسميه ومعناه (دعهم في جهالتهم يعمهون وعلى الغنائم يتكالبون، وعلى مقاعد الحكم يقتتلون).
الأوضاع السياسية في سورية لم تستقر بعد، وقد لا تستقر إلا إذا أزيلت موانع لا محيد البتة من زوالها، وذللت عقبات لا مناص، من تذليلها مثال ذلك.
1) يوجد حتى اليوم طائفة من الرجال الذين عملوا في جميع أو في بعض ميادين الجهاد للاستقلال، منهم من جاهد بعقله ومعارفه، ومنهم من قاتل ومنهم من أدار القتال، ومنهم أيضاًمن كان ذيلا لهؤلاء، وأكثرهم، بل أكاد أقول جميعهم قد بلغ من العمر أرذله، إلا من خصهم الله بمواهب عالية لا يحوزها إلا أفذاذ الرجال، هل من منطق السياسة وسنة التطور أن يستأثر جميع هؤلاء بمقاعد الرئاسة ودسوه المجالس، لا لشيء إلا أنهم من(903/20)
المجاهدين؟
2) في البلاد طائفة أخرى انتهازية ماشت جميع الحكومات التي تقلبت على البلاد من ترك وعرب وفرنسيين وسوريين، وتلونت كالحرباء بكل لون، وما برحت تدخر مئونتها من الأصباغ للتلون، فتكون مثلا جمهورية مع الجمهوريين، وهاشمية مع الهاشميين، وديكتاتورية مع الديكتاتوريين، وشيوعية مع الشيوعيين. ولا عجب إذا رأيتها تتدثر مرقعة تجمع أعلام هؤلاء جميعا، هذه الفئة الضعيفة التي لو أعوز الشيطان وجها رقيعا جديدا لم يخطر نمطه أو وضعه وشكله بباله، لابتدعوه له ابتداعا واختلقوه بطرفة عين!! هذه الطائفة الخبيثة مازال أفرادها تعج بهم دوائر الحكومة، وتحفل بهم مجالس النيابة والبلديات والمحافظات.
عرفت (تيمور لنكا) منهم أعرج يتخطر في الجمعية التأسيسية، رأيته بنساب ويتلوى بين (الحوراني والحلي) فنفرت، لا من عرجه وعواره، بل من شره القديم، وأصالته في الخدمة الأمنية لأسياده الأتراك ومن بعدهم الفرنسيين، وقيل لي، أنه اليوم العبد اللين المطواع لأسياده الإنجليز والأميركان، وهو ينادي بأنه هاشمي نوري، ويقول أنه الخادم الأمين للشعب في المجلس التأسيسي الذي سيحوله إلى مجلس نيابي.
هذا نمط عجيب (ونمرة) نموذجية لعشرة أمثاله رأيتهم يتباهون في المجلس التأسيسي ويختالون عجبا.
3) لم أسمع كلمة رددها كل لسان في سورية مئات المرات غير كلمة (الوعي القومي) لقد سمعت هذه الكلمة الحلوة من السيدات والآنسات المثقفات فوفقت منهن على تفسير طريف لمعنى (الوعي القومي).
سمعت الوزراء ورجال الجمعية التأسيسية يجتهد كل ذات من ذواتهم الكريمة في تعريف (الوعي القومي).
سمعت هراء كثيرا من الشعب فيه فيض دفاق، ووصف حار مبعثه العاطفة الملتعجة بحب (الوعي القومي).
تذكرت الصديق الكريم الدكتور قسطنطين زريق مدير الجامعة السورية واضع كتاب (الوعي القومي). فقلت ما أكثر ما يقرأ الناس المؤلفات فتهتز مشاعرهم دون عقولهم!!(903/21)
تلفت حولي على أجد أثرا أو ملامح أو قسمات أو مظهرا واحدا من مظاهر (الوعي القومي) فلقيت - يا للحزن والخجل مما لقيت - لقيت أهالي حلب وحماه وحمص، رأيت دوائر الحكومة تغص بالحلبيين الشماليين، ولم أسمع أني جلست مجالس الرجال العاملين، إلا لهجة حلبية وأضراسا صلبة تقضم لحوم الدمشقيين، سمعت أقوالا في (الشاميين) تكفيني الإشارة إليها كفاية المغصوص بجرعة من الماء.
لقد عاب الشعب على حكومة الثورة فعالها فأسقطها بعد أن رجمها بالحجارة لا بحجر واحد، لقد أسقطها (المجنون) لقلة خبرتها ومرانها بالحكم. لقد أسقطها (الضباط) ليسلموا مقاليد البلاد إلى (الارتجاليين)، لقد ذبح الارتجاليون الحرية في سورية بأسياف الجيش، وكسروا الأقلام التي تخط حروفا تؤلف (الوعي القومي).
4) لست بآسف على تسميتي (ديكتاتور) سوريا بالمجنونلأن حسني الزعيم، يرحمه الله، لم يكن ينقصه من صفات الزعامة وخصائص الدكتاتور، سوى العقل والمعرفة ولا شيء سواهما، وبرغم هذا النقص البسيط كان وما زال معبود الشعب، وأن كثيرا من الناس في سوريا يبكونه ويذكرون عهده الرخي وأيامه الرغدة.
أي والله، لقد رأيت في سورية أناسا يبكون الزعيم وهم لا يدرون أنهم يبكون كرامتهم وحريتهم وإنسانيتهم وقيمتهم الاجتماعية، وعجبت لهذه المتناقضات والأوضاع المقلوبة، أنه لمن المؤسف حقا أن يجول في الخاطر السوري ما يسيء الظن بالتفكير السوري الموسوم بالسليم.
قاتل الزعيم الرشوة وسوء الإدارة بقلب الأوضاع الثابتة انقلابا، أصيب الطاغية برعن الحكم فمات بيد حساده من ضباط الجيش، انقلب حساده جبابرة وهم أقزام، طاب لقزم من الضباط أن يقلد زعيم الأتراك مصطفى كمال فأخذ يسكر ويسكر، يحكي ويحكي، وطاب له مرة ثانية أن يمتحن مبلغ سلطانه ليؤمن بنفسه وهو سكران، تناول الضابط العظيم سماعة التلفون وخاطب كبير الوزراء داعيا إياه إلى الاستقالة فاستقال، صحا السكير فقرأ في صحف الصباح خبر استقالة الوزارة فدهش، وأراد عندما استفاق، استدرك عبثه ولكن بعد فوات الوقت، ولم تجد وساطة رئيس الجمهورية بين العازل والمعزول!!
في سورية اليوم إدارتان للحكم، مستترة وظاهرة. لست أريد الكلام في الإدارة المستترة(903/22)
لأنجل رجالها العظام هم من أصحاب السيرة المعروفة في طول البلاد وعرضها، وهم من العصاميين الأفذاذ الذين أوصلتهم شجاعتهم وبطولتهم في ظلمات الليل ومنعرجات الخطط والتواليف وتواريخ عظماء الرجال الفاتحين، وهم بكلمة واحدة أولئك الذين اشترى الفرنسيون شغبهم ببدل عليها أشرطة ونجوم وتعاويذ.
5) قال لي زعيم من زعماء المجلس التأسيسي أنه عزم هو وأقرانه على تحويل المجلس التأسيسي إلى مجلس نيابي، قال لي ذلك يعيد فشل الاجتماع الذي عقده أقطاب أبناء الشمال والجنوب.
أريد بأبناء الجنوب، رجال تلك الأحزاب المعارضة التي أضربت من الاشتراك في الانتخابات للمجلس التأسيسي تفاديا، في الظاهر، عن الاعتراف بالأمر الواقع، ومن تزكية الانقلاب الذي طوح برئيس الجمهورية السيد القوتلي، وهربا، في الباطن، من فشل كان محققا آنذاك. أما أبناء الشمال فهم أكثرية رجال الوزارة القائمة ومن يؤازرها ويساعدها من الأنصار والمحاسيب والطفيليات والمرتزقة.
طلب الدمشقيون إعادة السيد القوتلي إلى رئاسة الجمهورية، وبإعادته نزول الأوضاع الشاذة التي نجمت عن الانقلاب العسكري.
رفد الحلبيون هذا الطلب، وارتأوا لتعود الحياة الطبيعية للرجال العاملين وللبلاد أيضاً أن تبقى رئاسة الجمهورية للسيد الأتاسي مدة ستة أشهر، واشترطوا تحويل المجلس التأسيسي إلى مجلس نيابي. وبعد انقضاه المدة تستفتى البلاد مرة أخرى.
لما شام الحلبيون تمسك الشاميين بمطلبهم ضربوا بهم عرض الحائط. وقد استأسدوا وتنمروا للشاميين، لا بحولهم وقوتهم هم، بل بقوة وسطوة (الإدارة المستترة) وأعلنوا رسميا صيرورة التأسيسيين نوابا، وهؤلاء النواب هم الذين انتخبوا الشيخ الجليل السيد هاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية السورية.
للكلام بقية
حبيب الزحلاوي(903/23)
شجاعة مردية!.
للأستاذ كامل السيد شاهين
مظلومون أولئك الشعراء الذين كانوا يلوذون بقصور الخلفاء ويغشون مجالسهم، ويعمرون نواديهم بالمؤانسة والمطارحة، والمهارشة والاستثارة، ثم هم لا يستطيعون أن يحبسوا ألسنتهم عن قول الحق إذا عرضت قول الحق، ولا يستطيعون أن ينكروا ذواتهم، ويفنوا في الخليفة فناء مطلقا ليرضوا غروره، وبشعوره بأنه هو ولا شيء معه، مما يمشي على ظهر الأرض، أو يسبح في جو السماء.
مظلومون أولئك الشعراء لأنهم كانوا يقدمون على الخلفاء دون أن يدرسوا نفوسهم، ويتعرفوا على ما أصابهم من الغرور الذي لا يسمح لشيء أن يقول: هاأنذا!
ولقد يحدثنا التاريخ عن كثير من الشعراء كانوا فريسة سهلة لبعض الخلفاء، وما كان لهم من جناية إلا أنهم عرفوا أنفسهم ولم ينكروها، وتحدثوا عنها دون تحرج أو مخشاة، فأصابهم من ذلك ما أصابهم من إهانة وحرمان، أو ضرب وإعنات، أو هلاك وإتلاف.
وفي الحق، إن الخلفاء كانوا بذلك ينشرون النفاق على أشنع صورة وأبشع وجه، وكانوا يحبذون الملق في أوسع مدى، وبأقوى أنواع الاستحثاث؛ حتى صارت صحيفة الشعر العربي ربداء دكناء بشعة، وصار قوامه الملق المزري، والتزلف المقيت وحتى كاد يخرج عن حدود الشعر، بعدم انبعاثه من الشعور وبانبثاقه عن نبع الطمع والملق، لا عن إعجاب بالممدوح، أو حب صحيح له.
لقد فهم الشعراء أنهم حين يسعون إلى الخلفاء، ينبغي أن تتوجه عيونهم وعقولهم، وأن تتوجه ألسنتهم وقلوبهم، وان تتوجه شهادتهم وأحكامهم، ينبغي أن يتوجه ذلك كله إلى مرضاة الخليفة، وإشاعة السرور في نفسه، وإدخال المرح على قلبة، وإلا فليس هناك إلا السطوة المردبة والبطشة الكبرى.
هذا الفرزدق بن غالب، وقومه من تميم من هم، حيث العدة والعديد، والبذل والجود، والشهامة والأنفة، دخل على سليمان بن عبد الملك فرغب إلية سليمان أن ينشده، فظن الفرزدق أنه يريد شعرا صادقا، فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة، من جذبها بالعصائب(903/24)
إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
ماذا دهاك - يا فرزدق - فتذكر غالبا أباك، وتثني على كرمه هذا الثناء الحر، لقد غاظ ذلك سليمان بن عبد الملك فبرم بالفرزدق، وتغير لونه، وأشار إلى نصيب أن ينشده فأنشده حتى أرضاه، مدحا كذوبا مزورا، وخرج نصيب يحمل سني الجوائز، وخرج الفرزدق صفر اليدين، ليقبض جوائزه من أبيه الجواد، كما سخر منه بذلك سليمان.
وربما كان الخذلان والحرمان أهن ما يلاقي شاعر تحدثه نفسه أن يظهرها أمام خليفة جائع إلى كذاب التمداح، وربما كان الفرزدق من عشيرته الباذخة المجد ما يحميه من صولة سليمان إذا ما فكر سليمان أن يصول عليه، وربما كان لسياسة أميه في الرفق ولتحلم مندوحة عن السطو والتهور.
ولكن يحدثنا التاريخ كذلك أن هشام بن عبد الملك، دخل عليه - إسمعيل بن يسار فاستنشده فقال:
إني وجدك ما عودي بذي خور ... عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به ... ولي لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب ... من كل قوم بتاج الملك معموم
جشاجح، سادة، بلج، مرازية ... جرد، عتاق، مساميح، مطاعيم
ويستمر إسماعيل يغالي بنفسه، ويعرف لقومه حقهم. وهشام يتقدم قومه غيظا منه، ويغلي صدره حفيظة عليه، ويفكر ويطول تفكيره في البطش به. ثم يجبه بهذه القولة المائنة الشائنة، الظالمة الغاشمة (أعلى تفخر؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاح قومك؟!) ثم لا يطفئ غضبته، ويهدئ ثائرته، إلا أن يأمر بغطسه في الماء، حتى لتكاد روحه أن تخرج ثم تخرجه الزبانية - وهو يشر - لينفي من وقته إلى الحجاز.
وربما زعم بعض المؤرخين أن هذا إنما هو أخذ على يد الشعوبية، وكسر لهذه العصا الأعجمية التي ترتفع في وجه العرب، وظني أن هذا يصح كعذر يتخذه الذين يجنحون لتبرئه هشام وحمل عمله هذا على بعد النظر السياسي، ولكن ماذا ترون في قولة هشام: أعلى تفخر، وتتمدح بأعلاج قومك: ماذا نرى إلا هشاما كبر عليه أن يرى الشاعر نفسه شيئا وأن يثبتها في حضرة الخليفة الجليل، وقد كان الخليفة ينتظر من الشاعر أن يصرف(903/25)
كل مديح إليه، وينسى للناس كل فضيلة بين يديه.
وإذا وقف الأمر بإسمعيل بن يسار عند الغط في الماء والنفي إلى الحجاز، فلقد أتى الفخر في حضرة الخلفاء على نفس بشار، وأورده مورد الهلكة. ولقد يقول القائلون: إن بشار قضت عليه الزندقة، ويذهبون في ذلك مذهبا ينطلي على عامة الناس وربما أيدوا مذهبهم ذاك بما روى عن واصل بن عطاء، من استعداء على بشار حيث يقول (أما لهذا الأعمى المشنف، المكنى بأبي معاذ من يقتله، والله لولا أن الفيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف بيته. . .) فما كان يحمل وصلا أن يقول هذه القولة الهائجة المهيجة في حق بشار لولا ما لمسه من زندقته وتحريضه على الفسوق، وإغرائه بالمناكر.
ولقد يسلم مثل هذا القول من النقد لو كان بشار وحده من بين شعراء عصره هو الخارج عن حدود الله، البائح في الغزل المتهالك، المغري للشباب بالفسوق والفجور. إذن لسلمنا واسترحنا وأرحنا. ولكنه كان يضطرب في بغداد مع بشار من هم أشد من بشار مجونا، وأكثر منه غلوا في إفساد الشباب، وذكر السوءات وأبعد مدى في العكوف على اللذات، وكانوا يغدون ويروجون ويعمرون المجالس ويغشون الخلفاء فلا يعرض لهم أحد بشر، ولا يحرص عليهم أحد بقتل أو بمج، فهذا حماد عجرد. وهذا أبودلامة. . يشربان ويطربان، ويقولان في الشراب وفي الدين وفي اللذة ما يقولان، مجاهرة ومعالنة، ثم يغدوان في أمان من الخليفة، وأمان من الخلفاء جميعا وربما انقلبا بكريم الهدايا، وسني الجوائز وقشيب الثياب.
ولقد يسلم هذا القول في بشار. لولا أن العلماء كثيرا ما يكونون (مخالب القطط) التي يتخذها الخلفاء والملوك، يهيئون لهم، ويسايرون أغراضهم، كما يشاء الملق وحب الدنيا، تغريرا بالعامة، وإيقاعا بالبسطاء، فإذا ما أثاروا وصل الحفائظ على بشار، فلما يرى من أحتضائهم، ودالتهم على الخلفاء. وقد حق علينا أن نبدي ما أبرم الخليفة ببشار، فحمله على أن يسطو به هذه السطوة النكراء، حتى يلفظ روحه تحت بطون السياط.
لقد كان بشار عجب مفرط، واعتزاز بالنفس، وإقدام على القول، فإذا بدت له صفحة الكلام نطق، لا يجمجم ولا يتوقف ولا يراجع نفسه، ولقد عرف لنفسه حقها بين يدي الخليفة، كما عرف لها حقها بعيدا عن قصر الخليفة. ولم يعتد الذلة والبذل ماء الوجه حتى في السؤال(903/26)
والاستماحة. فهو دائما العزيز الكريم، وهو أبدا الأبي الأشم.
وأنه لعند المهدي ذات يوم إذ سأله: فيمن تعتد يا بشار؟، فقال: أما اللسان والزي فغريمان، وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري: -
ونبئت قوما بهم جنة ... يقولون من ذا وكنت العلم
ألا أيها السائلي جاهدا ... ليعرفني، أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر ... فرومي، وأصلى قريش العجم
حتى قال:
فأني لأغني غناء الفتى ... وأصبى الفتاة فما نعتصم
وكان أبو دلامة حاضرا، وكان الملق كذلك حاضرا، فقال كلا!، لوجهك أقبح من ذاك، ووجهي مع وجهك!. قال بشار: ما رأيت رجلا كاليوم أصدق على نفسه، وأكذب على جليسه منك. والله أني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، للعين فيه مراد. ثم يسأله المهدي: من أي العجم أصلك؟ فيقول: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران. أهل طخارستان!
ليت شعري ما يكون شعور الخليفة على هذا الذي يتزيد ويتعالى، ويحدث عن نفسه وقومه هذا الحديث الغالي أمام خليفة لا يرى فيالأرضيدا فوق يده ولا أحدا مع ذاته.
ولكنها نحيزة بشار في ذهابه بنفسه ومعرفة حقها.
ولم يكن طنزه بخال الخليفة وسخريته منه إلا ضربا من احترام النفس. فقد حدثوا أن يزيد بن منصور الحميري، دخل على المهدي وبين يديه بشار ينشده شعرا، فلما فرغ بشار أقبل عليه يزيد، وقال له: يا شيخ! ما صناعتك؟ فقال بشار ساخرا: أثقب اللؤلؤ!، فضحك المهدي ثم قال لبشار: أغرب ويلك أتتنادر على خالي! فقال: وما أصنع به، يرى شيخا أعمى ينشد شعرا، ويسأله ما صناعته؟.
إذن لم يهتم بشار لاستنكار الخليفة، ولكنه مضى في تبرير سخريته وهزئه من خال الخليفة، ولعمري ما يكون هذا إلا من نفسه مرة لا تلتوي ولا تتعوج، ولكن ذلك ولا شك تارك من السخيمة عليه في نفس الخليفة ما هو تارك!
هذا الحفاظ المر والخلق الوعر، ولا يصلح قط للاتصال بالخلفاء والاحتكاك بهم. لأنه(903/27)
يورث الذل والعتب، بل يورث الانتقام من الخليفة إذا ما عرض كرامة الشاعر للجرح والثلم. وإن الخليفة لتنفلق نفسه دون بشار يوما، وأن بشار ينشده فيحرمه الخليفة، فينطلق الشاعر إلى بيته فيتفتق ذهنه عن هذه القصيدة الحلوة المرة، الغافرة اللامزة النازلة من الشعر الحر بأرفع منزل:
خليلي إن العسر سوف يفيق ... وإن يسارا في غد لخليق
وما كنت إلا كالزمان: إذا صحا ... صحوت، وإن ماق الزمن أموق
خليلي إن المال ليس بنافع ... إذا لم ينل منه أخ وصديق
وكنت إذا ضاقت على محلة ... تيمعت أخرى ما على تضيق
ثم يختمها بهذين البيتين الرفيعي الشأو الآخذين بذؤابة الإحسان:
وما خاب بين الله والناس عامل ... له في التقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفف ... ولكن أخلاق الرجال تضيق!
وتمتلئ نفس الخليفة سخيمة على بشار، فما يكاد يشي به يعقوب بن داود إلى المهدي، حتى يتذرع هذا باسم الزندقة، ويأمر به فيضرب بالسياط حتى تنقطع أنفاسه.
فيالك من شجاعة تورد صاحبها المتالف، وتحمله على أوعر المراكب ولو قد أبصر بشار لقد نجا!
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر إلى السودان(903/28)
الغزالي وعلم النفس
اللاشعور والعقل الباطن
للأستاذ حمدي الحسيني
- 6 -
أما وقد انتهينا من التحدث عن الشعور ومظاهره الثلاثة: الإدراك والوجدان والنزوع في نظر الأمام الجليلأبيحامد الغزالي، فقد وجب علينا أن نتحدث عن اللاشعور في نظره أيضا. وسترى في معرفة هذا الرجل العظيم باللاشعور أو العقل الباطن ما يستثير إعجاب ذوي الألباب من العاكفين على الدراسات النفسية الحديثة، العارفين بأن اللاشعور أو العقل الباطن لم يكن معروفا عند علماء النفس إلى أواخر القرن الماضي حتى نشر العالم النمساوي العظيم سيجمند فرويد نظريته في اللاشعور والتحليل النفسي.
أجل، كان علماء النفس يعتقدون أن ليس في حياة الإنسان النفسية غير الشعور ولكن علماء اليوم لا سيما مدرسة (فرويد) يعتقدون أن الشعور ليس سوى جزء صغير من حياة الإنسان النفسية، وأن سلوك الإنسان في حياته ليس نتيجة هذه الخواطر والأفكار التي يكون الإنسان شاعرا بها بل هو نتيجة تفاعل عوامل نفسية كثيرة. ولذلك لا يكون الإنسان عالما بها الجليد في البحر. فإن الجزء الظاهر منه فوق سطح الماء صغير جدا بالنسبة إلى الجزء المغمور فيه؛ فالتيارات السفلية هي التي تؤثر في حركة جبل الجيد وتوجه تسييره. ولهذا قد يرى سائرا ضد التيارات البحرية السطحية رغم إنها قد تبدوا قوية أحيانا. فالتيارات السفلية والجزء المغمور في الماء تستبه اللاشعور وأثره في شعور الإنسان وتوجيه سلوكه.
ولنر الآن هذا اللاشعور أو العقل الباطن في نظر الغزالي. ونحن لا نستطيع أن نعرف رأي الغزالي في هذا الموضوع الجليل قبل أن نعرف أن الغزالي تصدى لتفسير معاني القلب والروح والنفس والعقل فأعطي هذه الأسماء الأربعة معنى واحدا مشتركا بينها جميعا وهو ما نسميه نحن بااللاشعور أو العقل الباطن ويسميه هو باللطيفة الربانية التي لها بالقلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهي المدرك العالم العارف من الإنسان والمخاطب والمعاقب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني.(903/29)
وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه هذه العلاقة. وأن تعلق القلب بها يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات والمستعمل للآلة بالآلة والمتمكن بالمكان ثم يتعمق الغزالي في هذا المعنى فيقول (أنه يراد بالنفس المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان وهي الصفات المذمومة التي تحتاج من أجلها إلى مجاهدة وكسر. ويراد بالنفسأيضاًتلك اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا سكنت تحت الأمر وكايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة، وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للشهوات معترضة عليها سميت النفس اللوامة. وأن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات سميت النفس المارة بالسوء. وعلى هذا فتكون النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم وبالمعنى الثاني محمودة غاية الحمد. ثم يقول أن العقل قد يراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله العقل والثاني قد يكون تلك اللطيفة التي ذكرت من قبل. ولا شاعرا بأثرها. فإن الإنسان يعمل في هذه الحياة ويتحرك مدفوعا بعوامل نفسية كثيرة مختلفة خفية عنه مستقرة في قرارة نفسه. ولا سبيل إلى تسلطه عليها. لأنها ليست خاضعة لإرادته وليس له علم بها.
فااللاشعور إذن هو قرارة النفس وقاعها. تتجمع فيه ذكريات قديمة منسية وغرائز حيوانية ضارة لا يرتضيها المجتمع كالقوة والشره ومحبة الناس. ومخاوف كثيرة متعددة متضاربة. وعواطف وأمان وعادات تتفاعل بعضها مع بعض. توجه سلوك المرء على غير علم منه. ولهذا يمثل العلماء هذه الحالة النفسية بجبل.
ونحن نرى في هذه اللطيفة التي يفسر بها الغزالي معاني القلب والروح والنفس والعقل اللاشعور واضحا جليا ونرى العقل الباطن (في تفسيره للنفس بأنها المعنى الجامع لقوة الغرائز ونيارات الميول الإنسانية) ظاهرا نقيا. وكأن الأمام الغزالي أراد أن يعطينا صورة واضحة لعلاقة العقل الباطن بالسلوك الإنساني فلجأ إلى التشبيه بالجميل وضرب المثل الحكيم فافترض أن للقلب أو العقل الباطن جنودا كثيرة منها ما يرى بالأبصار ومنها ما لا يرى إلا بالبصائر، فوضع العقل في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، أما الجند المشاهدة بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة(903/30)
والباطنة جميعا خادمة للعقل الباطن مسخرة له فهو المتصرف فيها وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزمه الحكم به تكلم. فجملة جنود العقل تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعت ومستحث إما إلى جلب المنافع وأما إلى منع الضار، وقد يعبر هذا الباعث بالإرادة. والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويعبر عن هذا بالقدرة. وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس، وهي مبثوثة في أعضاء معينة ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع وقوة البصر إنما هي بالعين وكذا سائر القوى. والجند المدرك بعضه قد أسكن منازل ظاهرة
كالحواس الخمس وبعضه أسكن منازل باطنة كتجاويف، الدماغ فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينيه فيدرك صورته في نعسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الحافظ ثم يتفكر فيما حفظه فيركب الجند بعض ذلك إلى بعضه الآخر ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات ففي الباطن حسن مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ. ثم يذكر الغزالي العقل الواعي وهو عقل المعرفة وعلاقته بالعقل الباطن في تدبير سلوك الإنسان فيعطي العقل الواعي حق الرقابة على رغبات العقل الباطن وتصرفاته وسلوكه فيعمل كل هذا بدقة متناهية تدل على فهم عميق لنفسية الإنسان العجيبة يقول (أن جند الغضب والشهوات قد ينقادان لعقل انقيادا تاما فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه. وقد يستعصيان عليه استعصاء بني وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه وفي هذا هلاكه) وللعقل جند آخر وهو (العلم والحكمة والتفكر) وحقه أن يستعين بهذا الجزء على الجند الآخرين؛ فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب وبقية الشهوات هلك يقينا. ثم يضرب الغزالي الأمثال على هذا فيقول: مثل نفس الإنسان في بدنه اعني النفس اللطيفة كمثل في مدينته ومملكته ملك، فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها وقواها، ومدينتها وجوارحها،(903/31)
بمنزلة الصناع والعملة، والقوة المفكرة له كالمستشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة؛ والغضب والحمية له كصاحب الشرطة، والعبد الجالب للميزة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، ودينه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستعينا في تدبيراته بوزيره ومستشيرا له ومعرضا عن إشارة هذا العبد الخبيث مستدلا بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه وأدبه وجعله مؤتمرا له ومسلطا من جهة هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنضاره حتى يكون العبد مسوسا لا سائسا ومأمورا لا آمرا استقام أمر بلده وانتظم العدل في مملكته، فكذا النفس متى استقامت بالعقل وأدبت بحمية الغضب وسلطتها على الشهوات واستعانت بإحداهما على الأخرى، تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مغتصباتها اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها).
نرى فيما تقدم من القول أن الغزالي قد أدرك ببصيرته النفاذة وتأمله العميق هذا الشيء الذي سماه فرويد فيما بعد بالعقل الباطن إدراكا تاما، وعرف حقيقته معرفة صحيحة، واطلع على وقائعه وخفاياه إطلاعا واسعا حتى يخيل لنا ونحن نقرأ ما كتب الغزالي عن العقل الباطن وأسراره ومكوناته أننا نقرأ لفرويد أو أحد تلاميذه في القرن العشرين لا للغزالي في منتصف القرن الخامس للهجرة. ويبدو لنا جليا فيما سقناهالآنمن أقوال الغزالي أن الغزالي عرف جيدا أن العقل الباطن في الإنسان هو الإنسان نفسه بما فيه من غرائز قديمة وميول فطرية وعواطف كامنة ورغبات مكبوتة وذكريات مستقرة. وأنه المدرك العالم العارف، وأنه المخاطب والمعاقب والمطالب. وعرف جيداأيضاًالعقل الواعي وحقيقته وأنه ليس إلا العلم والحكمة والتفكر، وأن العلم والحكمة والتفكر بمنزلة المشير الناصح والوزير العاقل من العقل الباطن، وعرف الصراع العنيف الذي يكون بين رغبات العقل الباطن ورغبات العقل الواعي.
وقد وصف هذا الصراع وصفا دقيقا جميلا. وفوق هذا كله فقد أعطى قاعدة جليلة الخطر في التربية وتوجيه السلوك الإنساني وهي قاعدة الكف والتوفيق: كف الرغبات الضارة عن(903/32)
إشباع نفسها وكبتها عن تحقيق ذاتها وتسهيل الطرق للرغبات النافعة للفرد نفسه أو لجنسه فتتبع نفسها وتحقق ذاتها يقول (أن النفس متى استقامت بالعقل أي العقل الواعي عقل العلم والحكمة والتفكير) وأديت بحمية الغضب، ويعني بحمية الغضب غريزة التغلب والسيطرة وسلطتها على الشهوات، واستعانت بإحداها على الأخرى أي بغريزة على أخرى تارة بأن تقلل وثبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمعها وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها اعتدلت قواها (أي مجموعة النفس الإنسانية) وحسنت أخلاقها (أي سلوكها).
حمدي الحسيني(903/33)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
قارئ صديق يدافع عن القراء:
أنا واحد من أولئك الذين يعيشون معك - في عالم الأدب والفن - تحت سقف واحد من المشاركة الفكرية والمشابهة الوجدانية. فكم عرضت لقضايا الأدب وعالجت من شئون الفن بما يوائم خلجات مشاعري كل المواءمة، وبما تتجاوب معه هزات أفكاري ورفات خواطري اشد التجاوب. سوى فارق واحد هو أنني لو أردت أن أتمخض عن هذه الارهاصات الفكرية المشتركة وأشعل - في الأفق ثقاب تلك الومضات الشعورية المتشابهة، لما وآتاني ذلك الوهج الساحر والفن القادر والجمال الشاعر الذي يتدفق من نبع براعتك الآسرة، وينبجس من غدير مدادك المسحور؛ ولأعياني - كما يقول شاعر الفن الخالد علي طه - ولأعياني دبيب الحياة في مخلوقي. ولكم ضمني مجلس من مجالس السمر واحتوتني ندوة من ندوات الفكر، في هذا الجانب البعيد من ذلك (الجانب من الثري) كما يسميه شاعر البيان الخالد شوقي، فرحنا ندير كئوس الحديث حول الأدب والفن والحياة. وقليلا ما كنت ألمح لخمري في نفوس الندامى أطيافا من رضا وأصداء من هوى، وإذ يرغبون إلي في أن أريق ما أعتصر من قطرات الرأي على مائدة الورق وخوان الصحف، أفتدري ماذا يكون جوابي؟ نعم إنك تدري. فصاحب هذه القيثارة النفسية المرنان والحنجرة الفكرية المدوية بأروع الأصداء وأعذب الألحان، لا ينقصه الإلهام الشفاف والحساسية اللاقطة والحدس المرهف. يكون جوابي: أيها الندامى! أيها العشاق! لا يسقى وباخوس في المدينة! يطالعكم بأشهى أسلاف وأعذب خمر في أبهى كأس وأبدع قدح. . ويفهمون للحال من اعني، فليس فيهم يا أخا الروح من يجهلك!
من هؤلاء الندامى وأمثالهم في بقاع الضاد. . من أجل هؤلاء القراء - وأنا واحد منهم قبل كل شيء - سأختلف معك، هذه المرة، في أمرهم، وسأحمل لواء المعارضة عنهم، وسأستعين، في كسب قضيتهم وإثبات براعتهم، بك عليك!
أجل يا سيدي! فلقد رميت القراء - وعممت - بهذا الاتهام الجائر الذي لا افرك عليه ولا اتفق معك فيه. وذلك حين تقول: (إن لدي ثلاثة كتب مهيأة للطبع، ولكن أزمة القواء(903/34)
تصرفني عن التفكير في إخراجها إلى حين؛ إلى أن يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة إن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على قراءة الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال! ماذا نفعل إذا كان القارئ العربي قد أصبح قارئ مقالة، يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر قدوم صديق)؟
أجل يا سيدي! إنني لا أرى رأيك هذا ولا أفرك أنت ولا غيرك عليه، إذ لو فتشت في مطاويه ونفذت إلى خبايه فطالعك مستقبل الثقافة العربية أشد ما يكون علهلة وركاكة، ولا وجب أن تهيأ للغتنا الحية الأكفان وتشق لها الملاحد. . (لقد أصبح القارئ العربي قارئ مقالة يريد أن ينتهي منها وهو يحتسي قدحا من الشاي أو يترقب وصول الترام أو ينتظر صديق). . أجل، هذا حق. . وهذه ظاهرة صادقة. . اتخذتها أنت مقدمة صائبة إلى نتيجة خاطئة. إذ لم لا تكون هذه الظاهرة الصادقة نتيجة لا مقدمة؟ لم لا تكون نتيجة لنمو الوعي الثقافي وأثرا من آثار الإقبال على القراءة عامة وارتياد روافدها جميعا؟ أي أن القارئ لا يريد أن يترك حتى أضيق أوقاته وأسرعها خطى. . أوقات احتساء الشاي وترقب الترام وانتظار الصديق. . دون أن يشغلها بما يستدعيه المقام ويتطلبه مقتضى الحال؟ إنني لأسألك أنت بذات: ماذا تقرى في ساعة. . بل في دقائق احتساء الشاي وترقب الترام وانتظار الصديق؟ أتقطع هذا الوقت العابر بغير المقالة العابرة؟ أم تجد في مثل تلك اللحظات الخواطف ما يتسع لمعالجة مشكلة الأداء النفسي ودراسة علي طه وسارتر وتشريح جان جاك روسو؟
لا. . لا. . يا سيدي. فلتعد النظر في اتهامك مرة ثانية، ولتحسن ظنك بنا معشر القراء، فما زال في السويداء قراء، وما زالت سوق الأدب الثمين والفن المحلق تجد من الرواج والإقبال ما يهون معه بذل الوقت والجهد والمال، ومازالت لك - ودعني أخجل تواضعك - في نفوس القراء في جميع الأقطار العربية، مازالت لك تلك المنزلة الممتازة التي كشفت لك عنها الأديبة السورية المطبوعة وداد سكاكيني. ولا تحسبن حدثها ذاك من قبيل المجاملة. . بل هو الحقيقة التي يؤيدها الواقع. . الواقع الذي يعلمه الناس حق العلم ويعرفونه حق المعرفة. . فلا تظلم الواقع إذا ولا تظلم القراء، ولا تتأخر في أن تقدم لهم ما(903/35)
لديك من كتب. ثم ماذا؟ ثم إنني لا أريد أن أبرح هذه المنصة، قبل أن ألقي إليك بالدليل الحاسم القاطع من أدلة النفي، نفي اتهامك للقراء، مستعينا - كما قات لك من قبل - مستعينا بك عليك، فأنت الخصم والحكم. وفي يدك وحدك، وأيدي القراء أيضا، إثبات هذا الدليل. . هذا الدليل هو أن القراء على استعداد تام، وبرهانهم فوق أيديهم، أن يشتروا منك كل كتبك منذ الآن. قبل طبعها! فهل أعنتهم على تحقيق بغيتهم واستجابة طلبتهم؟
وحين يتم طبع كتبك. ويعييك أن تستبقي لنفسك خاصة ولو نسخة واحدة من كل كتاب، ستعرف أي ظن آثم رميت به القراء وأي اتهام ظالم هم منه براء. . والسلام عليك والتحية إليك:
من القارئ
(طهطا) ع. ع. ص
لست أدري لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي أسمه؟ لو علم مباغ إعجابي بأدبه وتقديري لوفائه لما آثر أن يتحدث إلي من وراء قناع. . أنه ليسرني يا صديقي أن أعرف إسمك، ليس ذلك لأنك أسرفت في الثناء على هذا القلم، ولكن لأنك أديب يستحق أن يعرفه الناس، وأنا لا أحب لأمثالك أن يظلوا أدباء مع إيقاف التنفيذ!
لقد دافعة دفاع حارا عن القراء، لأنك قارئ مثالي ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . ألا ليت القراء كانوا في مثل شغفك بالقراءة وولعك بالإطلاع ووفائك للأدب. لو كانوا كذلك لما يئس من مستقبل الثقافة في مصر كل صاحب قلم، ولما جفت في حائق الفكر الرفيع ثمرات العقول! أنه كما قلت لك قراء مقالة، يريدون أن ينتهوا منها وهم يحتسون أقداح الشاي أو يترقبون وصول الترام أو ينتظرون مقدم صديق. أعني - وهذا هو الذي لم يتضح لك - أنهم أبناء عصر السرعة والعجلة وعدم التريث والاحتشاد. أعني مرة أخرى أنهم يستمدون ثقافتهم من مقال عابر أو رأي طائر، بقدر ما يسمح لهم الصبر الذي أنهكت قواه أسباب المادة والوقت الذي عصفت بقيمته توافه الأمور!
إنني حين أتحدث عن أزمة القراء لا أقصد قراء المقالة، فهم بخير والحمد لله. . لأن المقالة لن تجور على الوقت (الثمين) الذي يقضونه في أماكن الله والجلوس في القهوات، ولن(903/36)
تجني على (الميزانية) المخصصة للأقمشة الحريرية عند بعض المتشبهين بأبناء الذوات. . من اليسير جدا أن ينفق القارئ المصري عشر دقائق من وقته في قراءة مقال، وقرشين من جيبه ثمنا لمجلة تحمل إليه هذا المقال، ولكنه يضيق كل الضيق وينفر كل النفور من صحبة كتاب نفيس، لأنه يضن عليه بالوقت الذي لن يتعدى الساعتين وبالقروش التي لن تزيد على عشرين! أنا إذا لا أشكو من قراء المقالة يا صديقي العزيز، لأنني ألقاهم كل أسبوع في هذا المكان، ولكنني أشكو من قراء الكتب وأشفق من لقائهم في ومقبل الأيام. . إن عيبي - وقد يكون هذا العيب مزية - وهو أنني أعيش حياتي كلها في عالم الواقع، وعالم الواقع هو الذي يدفعني إلى أن أزن الأمور بميزانها الصحيح، وأن أقول لنفسي اليوم كما قلت لها بالأمس: تريث قليلا حتى يقدر الله لهذه الأزمة أن تنجلي ولهذه الغمة أن تزول، ويجد القراء من وقتهم ومالهم وجهدهم ما يعينهم على شراء الكتب التي تستحق بذل الوقت والجهد والمال!
لا تظن أنني وحدي الذي أشفق على مستقبل الكتاب المصري وأنظر إليه هذه النظرة القاتمة، حسبك أن ترجع إلى تلك القصة التي تحدث عنها توفيق الحكيم يوما في (أخبار اليوم) ثم عرضت لها بالتعقيب على صفحات (الرسالة): ترى هل تذكر تلك القصة التي رواها الأستاذ الحكيم عن تلك المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة، كيف تحولت أخيرا إلى حانوت للمرطبات؟! إن صاحبها كما يقول هو صاحبها لم يتغير، ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من (كتبي) إلى (شربتلي). وعندما سئل في ذلك قال: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن، ولكنهم يريدون عصير الليمون!!
ماذا أقول لك بعد هذه القصة! حسبك أن العقاد يشكو، وأن توفيق الحكيم يسخط، وأن أصحاب دور النشر يضجون من كساد الكتب وإعراض القراء. . وحتى الأسواق الخارجية التي كنا نعتمد عليها في الترويج للكتاب المصري - وأعني بها أسواق سورية ولبنان والعراق وشرق الأردن وفلسطين والحجاز - قد أغلقتها في وجوهنا وزارة المالية المصرية، حين قررت أن يدفع أصحاب المكاتب هناك أثمان الكتب قبل أن تتصفحها الأيدي وتتملاها العيون. . أرأيت قرار أعجب من هذا القرار؟ لقد ترتب عليه أن أمتنع أصحاب تلك المكاتب عن التنفيذ، لأنهم ليسوا مغفلين حتى يدفعوا أثمان كتب لم يعرضوها(903/37)
ليعلموا مدى حظها من إقبال القراء!
ألست توافقني على أنه من الخير أن أرجئ طبع ما لدي من كتب، حتى يكون للأدباء نقابة كنقابة المحامين والصحفيين تدافع عن حقوقهم المهضومة؟. . إن الأمل الوحيد أمام الأدباء المصريين هو أن يعملوا على تحقيق هذه الأمنية، ما تحققت وفتحت الأسواق العربية أمام الكتاب المصري من جديد، فإن هذا القلم سيجد من أصدقائه العديدين في مختلف أقطار العروبة ما يدفعه إلى أن يقدم للمطبعة ما لديه من ومضات الفكر وهمسات الشعور!
صرخة الفن الشهيد في العراق:
هي صرخة الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري. . أطلقها منذ أيام على صفحات (الرسالة) فهزت قلوب المشاعر!
ماذا أقول للعراق؟ العراق الذي يريد لشعلة الفن أن تنطفئ ولرسالة الشعر أن تضيع؟ العراق الذي يعيش فيه بعض أبنائه وهم غرباء. غرباء الفكر والقلوب والروح؟ إن عبد القادر وتر من الأوتار الصادحة بأنغام الحق والخير والجمال، فلماذا يريد العراق لهذا الوتر أن تخمد أنغامه وهو يغني له ويتغنى به؟ أهو يضيق بصوت الحق فلا يسمع، وبمعنى الخير فلا ينظر، ويسر الجمال فلا يطرب، وبصرخة الفن الشهيد فلا يستجيب؟!
ماذا أقول للعراق؟ العراق الذي أرسل عبد القادر ليعب من مناهل العلم في (السربون) ثم عاد فأبعده عن المنهل العذب ليشكو حرقة الظمأ ومرارة الحرمان؟ إنها مأساة. . مأساة أن أرى العراق يحول بين أحد شعرائه وبين نور العلم، وهو بهذا النور سيضيء لوطنه أقباس الأمل ومشاعل الرجاء!
أن مصر المثقفة التي تنادي اليوم بجعل التعليم حقا مشروعا لكل حي مثله في ذلك مثل الماء والهواء، مصر هذه تعلن من فوق هذا المنبر - منبر الرسالة - أنها غاضبة وعاتبة. . غاضبة لأن هذا الشاعر المظلوم قد حيل بينه وبين حق هو أقل ما يجود به وطن على فنان. وعاتبةلأنهذا الحق المشروع قد سلب في عهد رجل يقف في الطليعة من رجال العراق خلقا وثقافة، وهو معالي الأستاذ (خليل كنه) وزير المعارف في القطر الشقيق.!!
ويضيق النطاق اليوم عن عرض هذه المأساة، فإلى العدد القادم من (الرسالة) حيث أوجه الخطاب إلى معالي الأستاذ (خليل كنه) باسم الشعراء والأدباء في مصر والأقطار العربية.(903/38)
أنور المعداوي(903/39)
قمرية تموت. . .
(إلى روح الشاعرة المصرية (ن. ط. ع) التي عاشت كما
تعيش الفراشة: (ولدت مع الربيع وماتت مع الورد)
للآنسة هجران شوقي
أنوح على قمرية المورد العذب ... وأبكيك يا دنياي بالمدمع السكب
وأرثيك بالأشعار تقطر رقة ... كأنك مني لوعة الوجد والحب
وأسأل عنك النجم، والنجم حائر ... تمهل لا يسري وجمجم لاينى
وأستحلف الليل الكتوم لعله ... تسمع منك السر في زفرة النحب
فألقاك في الآهات فاض بها فمي ... وبالدمعة الحمراء جاد بها قلبي
وبالسهد يدنيني من السقم والبلى ... وبالكرب يا ويلي من السهد والكرب
كأنك آمالي اللواتي افتقدتها ... فيا مهجتي ذوبي على الأمل النهب
شهدت لقد أذوى الردى روضة المنى ... ونفر عنها طائرا شدوه يصبي
تغنى بمعسول الرجاء حياته ... وعاش كعمر الزهر في الفنن الرطب
وطافت على أنغامه صورة الأسى ... وسالت على أنفاسه رنة العتب
فبات يناجي الشهب، والشهب لمع ... كأن به شوقا إلى لامع الشهب
فيا أيها اللحن الحبيب الذي انطوى ... ورنم في سمعي وأشرق في لبي
ستحيا إلى جنبي ولو كنت رمة ... تهاوت بها الأيام في وحشة الترب
وأصفيك ودي - والحياة ودادة - ... وأسقيك دمع العين غرباً إلى غرب
وأنشدك الأشعُار تندى عذوبة ... وتنشدني من رائق الشعر ما يسبي
وألقاك في وادي الكرى، ويزورني ... خيالك في بحبوحة الحلم الرحب
كأنك روح قد تأبى على الردى ... فطرف إلى طرفي وجنب إلى جنبي
نقمنا على دنيا الصدور وضمنا ... لقاء يحيل البعد منا إلى قرب
دمشق:
هجران شوقي(903/40)
تحية الشعر
للأستاذ أحمد الحسيني أبو الردس
إلى الدكتور طه حسين بك بمناسبة تعميم مجانية التعليم
أرسل الله للمعارف (طه) ... فزها غرسها وطلب جناها
ظفرت بالمنى فلقد جاء كالغيث زعيم البيان يحيي ربها
جاء بالمعجزات فلينظر الشعب قريبا إلى بعيد مداها
حي (مستقبل الثقافة في مصر) وحي الوزير شمس ضحاها
جعل العلم كالهواء مشاعا ... كل نفس تنال منه مناها
غاية قد خطا إليها حثيثا ... قبل هذا واليوم تمت خطاها
فاطو ذكرى مريرة لعهود ... طال بالناس ليلها ودجاها
كمأبضاق بالمصاريف ذرعا ... حار في قسطها الثقيل وتاها
ويتيم كم تشتكي أمه الضيق دهاها من خطبها ما دهاها
أتبيع الأثاثأمترهن الثو ... ب فتدمى القلوب من شكواها
وإذا هاتف يزف إلى الأسماع بشرى كالعيد رن صداها
ابشروا ابشروا بعهد جديد ... فلقد قلد المعارف (طه)
لن تئنوا من المصاريف بعد اليوم، ... إن الوزير قد ألغاها
تلك آيات عهده قد تحلت ... عطرات يفوح طيب شذاها
عاش للعلم ناصرا ورعى الله مليك البلاد رمز علاها
أحمد الحسيني أبوالردس
مدرس بمعلمات الورديان(903/42)
رسالة النقد
ثقافة النقد الأدبي
تأليف محمد النوهيهي
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
من الكتب ما يستهويك بطرافة الفكرة وجمال الأسلوب وحسن الاختيار فتقبل عليه راغبا، وإن خالفك مؤلفه أحيانا في الرأي والاتجاه. ذلك لأنالجديد الطريف يبعث فيك الشوق إلى المتابعة، ولذة الأسلوب تمتع نفسك المخلصة للفن، وحسن الاختيار يوقظ إحساسك وينبه عواطفك.
ومن الكتب ما يستل منك الصبر، ويفسد عليك حاسة التذوق للجمال؛ لأنك تجد نفسك في كل لحظة أمام رأي مسبوق أو تطويل مخل، أو فساد في التعبير، أو لغة غير مهذبة في النقد والتعليق.
وقد اجتمع في (ثقافة الناقد الأديب) للدكتور محمد النويهي من ألوان الفساد ما لو شئت أن أعدده وأفصله لطال بي الكلام وأدركني الملال، ولهذا آثرت الإشارة العابرة إلى موطن الضعف ورجوت أن أعين القارئ على الاستقصاء إن أراد ذلك، وقدر له أن يقرأ الكتاب.
ادعاء:
إلا دعاء المريض الذي لا ينهض على أساس صفة ظاهرة في المؤلف؛ فهو يحاول أن يرغمك في كثير من المواضع على الإصغاء إليه حين يثنى على نفسه ثناء لم نعهده من أكبر الكتاب، فهو مثلا يقول مخاطبا النقاد جميعا: (فليس غرضي أن أهول عليكم الأمر ولا أن أفخر عليكم فخرا مستورا بمبلغ علمي أنا وسعة إطلاعي، إنما غرضي الوحيد أن أنصحكم مخلصا بما أعتقد أنه الحد الأدنى الذي يلزمكم معرفته).
ولم لا يفخر عليهم فخرا مستورا أو مكشوفا؟! وهو واحد من عشرة في الشرق العربي، أو واحد من خمسة، أستغفر الله بل واحد من ثلاثة. أليس هو القائل: (فما أظن أن في الشرق العربي كله - من غير المتخصصين في علم الفلك - عشرة يفهمون معنى البيت المشهور لامرئ القيس:(903/43)
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
أو هذا البيت لأبي ذؤيب:
فوردن والعيوق مقعد رابئ ... الضرباء فوق النظم لا يتتلع.
ألم يقل في مكان آخر: (وما أظن في الشرق العربي كله من رجال الأدب والنقد خمسة يفهمون وصف علقمة للظليم الذي يبدأ بقوله:
كأنها خاضب زعر قوادمه ... أجني له باللوى شرى وتنوم
ألم يزعم أنه واحد من ثلاثة حين دعا النقاد جميعا - ما عدا الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد - أن يمسكوا عن الكتابة والتأليف خمس سنين، حتى يتثقفوا ويعدوا أنفسهم إعدادا صالحا (فخير ما تفعلون وأجمل خدمة تستطيعون أن تقدموها للأدب، هي أن تنقطعوا عن التأليف في هذا الأدب بل عن قراءته للسنوات الخمس القادمات. وتلتفتوا فيهن إلى دراسة الأدب الغربي). أما هو فلا ضير عليه أن يؤلف (ثقافة الناقد الأدبي) لأنه ثالث ثلاثة، وقد شاء الله أن يهبه من الثقافة والبيان ما لم يؤت عيره من بني الإنسان.
وليس عجبي من هذا الادعاء بأقل من عجبي من هذه الأحكام التي يلقيها جزافا دون تحقيق ولا تمحيص، فكيف عرف أن الذين يعرفون ذلك خمسة؟ وكيف نطمئن إلى ما أصدر في كتابه من أحكام؟! بل كيف نعتده مؤلفا يرشد النقاد إلى ما يعملون؟!
تطاول ومغالطات:
إنك لتجد تناقضا عجيبا بين مسلك صاحب الكتاب وبين ما يدعو إليه؛ فبينا يثني على أحد الكتاب فيقول: (فهو يقدس كل جزء من ثقافته التي حصلها ودليل هذا التقديس واحد لا يخطأ: نظافته التامة أعني ترفعه عن المغالطة والمهاثرة، إذا بك تراه يتطاول على أعلام الأدب بكلمات لا تليق من ناقد مثقف. فاستمع إليه معلقا على كلام للأستاذين الزيات والإسكندري: (ما أشبه هذا الكلام بهذيان المحمومين وهراء المخمورين. إن كان زهير قد تميز حقا بقلة السخف والهذر، فإن هؤلاء السادة قد امتازوا بكثرتهما. . .). ويقول عن الأستاذ العقاد:
(العقاد هنا ليس العقاد الذي نعرفه، بل أشبه بصبي المدارس الذي يندفع في حرارة وجهل معا إلى إلقاء التقريرات العلمية. . .).(903/44)
وأنا أسيء إلى الأدب والذوق معا، إذا ما استرسلت في تصيد المهاترات التي حفل بها الكتاب، ويكفيني هذا القدر للتدليل على الجرأة البغيضة التي لا تحدها رزانة ولا يكبحها تواضع. وظني أنه فعل ليثير أعلام الأدب فيكتبوا عن كتابه ويطيلوا الكلام ولكنهم - على ما يظهر - اخلفوا ظنه وأفسدوا تدبيره.
والكتاب بعد ذلك مليء بالمغالطات التي لا تليق بباحث ناقد قد يكون من ألزم صفاته الأمانة العلمية وتحري الحق والصدق. ومن الأمور التي تكشف عن هذه الصفة كشفا واضحا ذلك التعليق المتلوي على كلام للأستاذ السباعي:
قال السباعي شارحا لنشأة الشعر والنثر: (وهنا نسأل نواميس الطبيعة والكون وعوامل النشوء والارتقاء أيهما لذلك يجب أن يكون أسبق كونا وأقدم وجودا فيكون الجواب لا محالة ما أجبنا به آنفا من أن النثر أسبق من الشعر).
فقال المؤلف من كلام له: (لكن الذي يحيرني جدا هو أن الأستاذ سألأيضاًعوامل النشوء والارتقاء. أيؤمن هذا الأستاذ الفاضل إذن بعوامل النشوء والارتقاء؟ أولا يؤمن بالخالق؟ أولا يؤمن بأن الله خلق النبات والسمك والضفدع والثعبان والفأر والنمر والجمل والحصان والقرد والإنسان خلقا منفصلا لكل جنس منها على حدة؟ أيؤمن إذن بأن أجناس الحياة (نشأت) و (ارتقت) وتسلسل بعضها عن بعض؟ أيؤمن بأن عوامل الطبيعة المتعددة هي التي أبرزتها إلى الوجود في ألوف الملايين من السنين دون تدخل قوة إلهيه؟ وكيف يوفق الأستاذ إذن بين هذا الاعتقاد وبينما تنطق به الآيات القرآنية وما تقرره عقائد السلف؟ أما لعله من القلائل في الدنيا الذين استطاعوا أن يوفقوا بين دينهم وبين حقائق العلم؟).
إنني أعتقد أن القارئ سيقف حائرا أمام هذا الكلام لا يدري ماذا يريد المؤلف؟! أهو جاد فيما يقول مقتنع بصواب تعليقه؟ أمهو مضلل أراد الخداع والمغالطة؟ إن كان جاد فقد وهم حيث لا يجمل الوهم بمؤلف، وإن كان مضللا كانت البلية أشد وأعظم. فهل رأى أن كلمتي النشوء والارتقاء محرومتان لا تذكران في أي كلام؟ وهل رأى في ذكرهما مروقا عن الدين وإمعانا في الإلحاد؟ وهل جهل أن كل علم ينشأ ضئيلا محدودا ثم يرتقي على مر الزمان؟ أي جريمة اجترها السباعي حينما قال إن فنا من الفنون قد خضع لعوامل النشوء والارتقاء؟(903/45)
وإذا كان ذلك كذلك فلم أباح المؤلف لنفسه المروق والإلحاد حيث قال (أما علوم الأحياء فتدرس نشوء الحياة وتعددها وتطورها) ثم هو يدعو الأدباء إلى تعلم هذه العلوم.
وفي مكان آخر من الكتاب يشرح أبياتا لابن الرومي ويحس بعد الشرح أنه سطا على كلام الأستاذ سيد قطب فيعتذر في ذيل الصفحة قائلا:
(كتبت تحليلي لهذين البيتين في الأسبوع الأخير من مارس سنة 1949 ثم بدأت الليلة (13 أبريل 1949 أتصفح كتاب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) للأستاذ سيد قطب لقراءته فستوقفتني صفحة 73 إذ رأيت فيها البيتين. . .
إلى أن يقول: (يرى القارئ من هذا أن الأستاذ سيد قطب قد رأى في الفكرتين الأساسيتين اللتين عرضتهما. . . بل يرى القارئ تشابه تعبيرينا عن نفس الفكرتين).
وربما كان التعليق على هذا الكلام مما يفسد صورته في ذهن القارئ فلنتركه هكذا واضح التلفيق بين الادعاء.
ثم هو يضع من خياله حوارا طريفا زعم أنه دار بينه وبين طالب في دار العلوم ولكنه لم يحبك القصة حبكا محكما فدلت على وضعه وتلفيفه.
قال: (قلت (أي الطالب) جميل جدا ولكن ألم تدرسوا الشعر الأموي خارج هذا الكتاب؟
قال: درسناه في كتب هاشم عطية والزيات وغيرها)
وأنا بعد أن قرأت هذا الحوار أرجوه مخلصا أن يدلني على كتاب هاشم عطية في الشعر الأموي لأنني لم أهتد إليه حتى الآن.
ولا شك في أن المؤلف قد هدف من هذا الحوار إلى غاية بعيدة؛ فقد أراد الإشارة إلى سعة إطلاعه في الأدب العربي وإحاءته بما تضمنته المراجع وألمت به الموسوعات. وأنا أشك في هذا الادعاء أو على الأقل. . أشك في استفادته من هذه المراجع: فركاكة أسلوبه وكثرة أغلاطه تؤكد في نفسي هذا الشك تأكيدا.
مصادر الكتب:
لا ننكر أن للمؤلف بعض الجهد في كتابه، ولكنه جهد يتراوح بين التفصيل والتعليق والشرح والترجمة، أما الخطوط الرئيسية في الكتاب ففي وسعك أن تردها إلى أراء الكتاب. طه حسين والعقاد والمازني. فبحوثه في الباب الأول تلتقي مع بحوث الدكتور طه(903/46)
حسين في كتب الأدب العربي وتدريسه بل أنها لتستمد منها الأمثال أحيانا فما مثل النويهي بأستاذه في التعليم الثانوي اعتباطا ولكنه رأى مثل ذلك في كلام الدكتور طه حسين مع خلاف يدل على اتجاهيهما فقد نزع إلى التشفي من أستاذه على حين أشفق الدكتور على أستاذيه رعاية لحقهما.
وكنت أود أن أرجع كل أصل من أصول هذا الباب إلى مكانه من كتابة الدكتور طه حسين لولا ضيق المجال؛ غير أني أشير إلى ناحية أرى من الخير الإشارة إليها لأنها تلقي بعض الضوء على مسلك المؤلف واتجاهه. فبينما يرى الدكتور طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي) أن التمرس بالعلوم اللسانية كالنحو والصرف والبيان وفقه اللغة أمر لا بد منه لدارسي الأدب وناقدي نرى المؤلف لا يشير من قريب أو بعيد، بل أنه ليرى دراسة (المخ والمخيخ) من الثقافة المهمة لدارس الأدب العربي فيفصلها تفصيلا ويرى البلاغة والنحو: (من طلاسم السحر وتمتمات الشعوذة) وقد لا يبعد بنا الفهم إذا قلنا أن هذا الاختلاف بين الاتجاهين راجع إلى اختلاف الثقافتين: فالدكتور طه حسين قد درس هذه العلوم دراسة استيعاب، فهو يدرك فائدتها لنقد الكلام، أما المؤلف فلم يصب منها إلا القليل والناس أعداء لما جهلوا.
أما الباب الثاني فترجمة لا ينكر حرفتها المؤلف فقد قال: (بقلب وجل أقدمالآن على موضوعات لم أتقنها إتقان المتخصصين ولا أعرف عنها إلا ما يصل إلى المنقب المطلع متضرعا إلى الله أن يقيني مواطن الزلل. . .) ولست أدري لما عنى نفسه هذا العناء؟ أتراه ظن أن غيره من الناس لا يعلمون من أمرهم شيئا أمتراه ترجم ما ترجم ليطبقه على أبن الرومي؟
أن كانت الأولى فقدوهم أشدالوهملأنكل مدرس قد ثقف هذا العلم على جماعة من المتخصصين فلم تعد به الحاجة إلى مثل هذه الترجمة؛ وأن كانت الثانية فإننا ندرك جهده ومحاولته في إثبات ضعف الجهاز الغدي عند ابن الرومية، ولكنا ندرك مع هذا عجزه البين في هذه المحاولة فقد قال: (ولست أحب مرة أخرى أن أقحم نفسي في مجال لم أدرسه دراسة المتخصصين فأقرر أن العلة الحقيقية هي اختلال جهازه الغدي واضطراب إفرازاته فقد يكون السبب سببا جسمانيا آخر، وقد يكون سببا مركبا من علل جسمانية شتى). ونعود(903/47)
بعد هذا الكلام نبحث عن النتيجة فلا نرى لها أثرا فنقنع بما سبق أن عرفناه من العقاد وغيره من أن به اضطرابا عصبيا.
والمؤلف - ولا شك - معذور في هذا العجز ولكنه غير معذور في التورط والإطالة والإملال، وكان بودنا أن يدرك أن هذا الجهد لطائل تحته: فلو أن ابن الرومية عاد إلى الحياة جماعة من المتخصصين في الأمراض العصبية لما اتفقوا على رأي واحد: فما باله يحاول ما يحاول وهو مترجم (يخشى الزلل).
أما ما بقى من أبواب فتعليق على ما كتب العقاد والمازني مرة بالموافقة والأخرى بالمخالفة، وكنا نود مخلصين أن ينزع إلى الابتكار فلا يترسم خطأ أن العقاد في التشخيص و (العطف على الأقارب) و (أنواع الهجاء) وهكذا وكم كنا نود أن يدرس شاعرا أخر لندرك مكانته في السبق والاستقلال.
أخطاء:
ذكرت الكاتبة القديرة (بنت الشاطئ) في الأهرام من أخطاء المؤلف كلمات قليلة وقالت أنها في الصفحات الأولى من الكتاب؛ ثم أبدت عجبها من أن يحدث هذا الخطأ من رئيس الشعبة العربية بكلية غردون وأنا لا أريد إعادة ما ذكرته، ولا أود الاستقصاء ففيه إطالة غير محمودة؛ ولكني أذكر ألوانا من الخطأ: أذكر الخطأ الصحيح الذي لا يقبل جدلا، والشاذ الذي لا يقاس عليه، وأذكر ما لا يجوز إلا في الشعر، ثم أترك الكشف عن أسرار ذلك كله للمؤلف أن استطاع:
يقول: (فتخيلوا وأنتم تدرسون هذا العصر أنكم لستم باحثين أدبيين بل رسامون.)
وقال: (والحق أن تفسير هذه الملكة ليست ما يقوله العقاد نفسه) وقال أيضا: (إياهم إياهم أن ينسوا)
وهو القائل: (فلا تظنوا أنكم تفهمون هذه الطريقة ولا تتفنونها طالما حصرتم اهتمامكم في كتب قواعد النقد الغربي)
ومن قوله: (فلو ظلت الزرافة تمط عنقها طوال حياتها وظل أحفادها يمطون عنقهم آلاف السنين لما طالت أعناقهم ملليمترا واحدا، لن طول العنق الذي يكتسبه أحدهم من مده عنقه في حياته لا يمكن أن يرثه عنه ابنه)(903/48)
ومن قوله (ثم العقد الجنسية البدائية التي يقررها علماء النفس الحديثون وخصوصا الفرويديون)
ومنه أيضا: (فمعظم الكتب التي يعثر عليها هي أيضاً كتب رديئة وليست منها إلا قلة ذات قيمة)
أسلوب الكتاب:
ليس للمؤلف أسلوب محدد المعالم بين الصوى: فهو يقتبس تارة من أسلوب الدكتور طه حسين فيعلو، ويعتمد على نفسه تارة فيهبط؛ ويحاول تقليد الدكتور ثالثة فيقعد به العجز ويدركه البهر فلا يبقى في قلمه إلا كلمة (حقا) يكررها ونظائرها فتبدو شائهه قبيحة.
ولست متجنيا على المؤلف فما أعتقد أن من عشاق الأدب من يقول: (أما الدراسات الإنسانية أو ما يسمونه أنثروبولوجيا فتستلم هذا الإنسان من حيث تتركه علوم الأحياء).
ولا يعد من الكاتبين من يعلق على كاتب قال: (أنظر في حركة الرومانتيك ومنابعها وثورة أصحابها. .) بقوله: (ليس أنظر في شعر الرومانتيك. لا!). ولا أشك في أن القارئ يحتاج إلى بيان المراد من عبارة المؤلف. فلقد أراد أن يكون النظر إلى الشعر نفسه لا إلى حركته والله أعلم.
ومن الأمثلة التي توضح ضعفه في الأداء قوله: (فالحشرات والأسماك والبرمائية ومعظم الزواحف تستقل أطفالها ما أن تخرج من البيضة وتركته يفقس وحده، فلما خرج الطفل من البيضة خرج كاملا).
ومن أمثلة الضعفأيضاًقوله: (قلت في نفسي: إن قالوا هذا لفتهم إلى أن بعض هذه المقالات تدرس ليس الأدب الغربي الحديث بل الأدب القديم. .)
وقد لا تعجب بعد هذا إذا علمت أن صاحب هذا الأسلوب السقيم يفرق من الأسلوب الجميل وينعته بالضعف والرداءة فهو يسوق مثلا كلاما لأحد الأدباء جاء فيه: (في بلاد نجد وفي رباها المعشبة وأوديتها الفريضة كان ذلك الشاعر صبيا عربيا يله مع لدانه ويمرح في أعطاف الصبابين رعية أبيه، وما كان يدري أنه بعد قليل سيفضي إلى الدنيا بسر من أسرار العظمة ولا أنه سيضع على جبين الزمن ذلك الإكليل الفاخر من الخلود والشهرة. . الخ).(903/49)
يسوق هذا الأسلوب ثم يقول معلقا عليه: (هذا ما يسمونه تاريخا أدبيا! بهذا الأسلوب الإنشائي الرديء الذي يذكرك بموضوعات الإنشاء يكتبها صبيان المدارس يسترون جهلهم بفن تاريخ الأدب. . .).
نعم. هذا الأسلوب يذكرنا بإنشاء صبيان المدارس ولكن قول المؤلف: (ليس أنظر إلى شعر الرومانتيك! لا) فيذكرنا بكتابة الفحول من البلغاء.
تذوق الشعر وشرحه:
المؤلف مبتدع لطريقة جديدة في شرح الآبيات تعتمد على الاستطراد وسرد الحكايات عن نفسه وأهله وضرب الأمثال الكثيرة من واقع الحياة؛ وطريقة هذا شأنها يختلط فيها الصالح والفاسد والغث والسمين وتصل أحيانا إلى الابتذال المرذول.
ولا نستطيع أن نسوق مثالا لهذه الطريقة، فالبيت الواحد يحتاج إلى صفحات، غير أنا نشير إلى أنها أشبه ما تكون بالموضوعات الإنشائية التي يطلب فيها الحديث عن بيت من الأبيات فإذا قال ابن الرومي:
طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيدا على قرب قريبا على بعد
كتب المؤلف ثلاث صفحات فيها دعوة القارئ إلى تذكر الأعزاء الذين فقدهم، وفيها انتقال إلى ارتباط الأدب بالحياة وعيب على الشراح الذين يلمعون من قريب أو بعيد إلى (الطباق أو المقابلة). وفيها غير ذلك وصف لأجزاء الطفل الميت (. . . وهذه عينه وهذا أنفه الصغير الظريف وهذا فمه الدقيق الحلو وهذه رقبته البضة الرشيقة. . . الخ. . .
ثم ماذا؟ ثم كلام عن الأم عقب وفاة ابنها وذكر لكلماتها التي تقولها: (. . . مات! كلام فارغ!. . . من ذا الذي يزعم أنه مات؟ ولدنا مات! مستحيل!. . .) ويتبع هذا كلام عن خالته التي فقدت ولدها في سن العشرين استغرق صفحة ونصف الصفحة. ونعتقد أن الكثير من هذا الشرح لغو لا طائل تحته ولا يزيد إحساسنا بالحياة ولا ينبه فينا الشعور بالجمال - فالأمور التي تضمنها بدهيات لا تغيب عن عامة الناس. وكنت أود من المؤلف قبل أن يقدم على هذه الطريقة أن يكلف الطلاب كتابة موضوع إنشائي: (عن تصوير حالأمفقدت ولدها) ثم ينظر بعد ذلك إلى الآفاق التي امتدت إليها أقلامهم، وأعتقد أنه سيقنع بعد هذا بتجاربهم فيقلع عن هذا التطويل.(903/50)
وإذا شك المؤلف في هذه الحقيقة فليجرب، وليطلب إليهم أن يسوقوا أمثلة يوضحون بها سوء الحظ أو معاكسة القدر وليحكم بعد ذلك على هذه الأمثلة وعلى مثاله الذي قال فيه: (وها هي زوجتي تقبل علي شاكية باكية فأضطر للتوقف عن الكتابة وأسألها ما الخطب؟ فتقول: إنها اليوم نسيت للمرة الأولى من أسابيع أن تضع على سرير طفلتنا ملاءة المطاط التي تضعها عليه وقاية للمرتبة من البلل. فتأبى طفلتنا في هذه المرة الوحيدة إلا أن تغرق السرير كله أعراقا، وهي يندر جدا أن تفعل هذا).
خاتمة:
لا أريد أن أشق على القارئ فأسرف في الإحصاء ويكفيني أن أنبه المؤلف إلى أمور مجملة أرى من الحكمة تنبيهه إليها:
أقول للمؤلف إنك أهملت كثيرا من عناصر الثقافة العربية إهمالا فلم تدع إليها ولم تتحمس لها، ثم أردت أن تخدع الناس وتشككهم في قيمة هذه الثقافة فزعمت أن الشراح من المدرسين يقفون عند الإعراب والبديع والبيان وكأنهم لا يفهمون من الشعر إلا أنه نماذج للتطبيق، ولونت هذا الزعم بالمغالطة فبدا مسلك المدرسين منفرا. ويقيني أن القراء لن تخدعهم مغالطتك ولن يخفي عليهم اتجاهك إذا وقعوا على أخطائك ولمسوا ضعف أسلوبك بل إنهم سيدركون حتما أنك واحد من الذين عناهم الأستاذ الزيات بقوله: (ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة هو أن يكتب الكاتب كما يشاء لا يتقيد بقاعدة من نحو ولا قياس من صرف ولا نظام من بلاغة. ولم يعرف قبل اليوم في تاريخ الآداب القديمة والحديثة من يعد في لغته كاتبا أو شاعرا وهو لا يعرف من قواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه. . .)
ثم زعمت أنك درست عصرا وشاعرين في أدب أجنبي فكان من حقك أن تنقد وتؤلف بل تعلم الأدباء ضروب النقد وأصول الأدب، وكان على غيرك أن يمسك عن التأليف حتى يعلم ما علمت.
ونحن قد نقبل هذا الادعاء، ونزعم معك أنك أديب في هذه اللغة الأجنبية، ولكنا لن نؤمن بك كاتبا في الأدب العربي، وأنت في هذا المستوى من الثقافة العربية وهذا الضعف البادي في الأسلوب.(903/51)
وأخيرا نرجو أن تطامن من الغرور، وأن تتريث حتى يكشف الواقع وأحكام الناس عن مكانتك. فلا تسرف في الفخر ولا تمد بصرك إلى آفاق لم تتزود لها بأسبابها. واعلم أن الغرور في كل عمل سر العجز وعلامة التقصير.
حنتوب - وادمدني
أحمد أبو بكر إبراهيم(903/52)
البريد الأدبي
(ساهم والأقلام الحمر)
قرأت في الرسالة الغراء) 879 (تحريا في اللغة للأستاذ عبد الجواد سليمان قال فيه أنه (يرى أن كلمة (ساهم) تؤدي معنى الاشتراك، ولا غبار علينا إذا استعملناها في هذا المعنى) وذكر الأستاذ دليله على ذلك بيتا لشاعر أموي هو الحكم بن معمر الخضري وبيته: -
تساهم ثوباها ففي الدرع غادة ... وفي المر طلغاوان ردفهما عبل
وأضاف الأستاذ إلى ما سبق قوله (ولا يمكن أن يكون معنى (تساهم) هنا إلا الاشتراك في الاقتسام. فلعل الأفلام الحمر ترحم هذه الكلمة وتهبها حريتها لتعيش) وأقول أن ما أستنتجه الأستاذ من معنى (تساهم) صواب وقد ذكرته المعاجم جاء في المنجد (الطبعة التاسعة 1927) في مادة (سهم) تساهموا الشيء: تقاسموه) والأفلام الحمر لا خصومة لها مع (تساهم) لأنها شرعية التكوين، ولكنها ستستمر في مطاردتها (ساهم) فلم تثبت لها المعاجم أصلا ولم يجد الباحثون في ما يحتج به من الشعر ما يبرر قبولها، أما قول الشاعر الخضري فقد ورد في حماسة أأبيتمام (1) على هذه الرواية:
تساهم ثوباها ففي الددرع رأدة ... وفي المرط لغاوان ردمنهما عبل
وتساهم فعل ماض أي اشترك ثوباها الخ. وجاء عن هذا البيت في الموجز من شرح التبريري على حماسة أبي تمام: (التساهم: التقاسم) فدلنا بالمدر على صيغته الماضيةلأنصيغة (التفاعل) لا تأتي إلا من (تفاعل). ولو كانت رواية البيت: (يساهم ثوباها) لصح أن يكون شاهدا أي ألا يكون مضارعا لساهم.
الحلة (العراق)
أحمد حسن الرحيم
جهود أديب مصري في أمريكا:
الدكتور أحمد زكي أبو شادي أديب مصري معروف، ورائد من رواد حركة التجديد في الشعر الحديث.(903/53)
وهو منذ سنين يشغل منصب أستاذ الأديب العربي في جامعة آسيا بنيويورك.
وهو فوق ذلك دائم العمل والنشاط في سبيل أداء رسالته الثقافية والدعاية لمصر وأدبها في أمريكا الديمقراطية.
فهو يحرر في المجلة العربية الموسومة (أمريكا) التي توزع في العالم العربي، ويحاضر في محطة إذاعة (صوت أمريكا) العربية فيلقي فيها محاضرتين كل أسبوع، في دراسات تتصل بالتاريخ والأدب والشعر والفن في أسلوب قوي، وعرض شامل للفكرة. وتنقل محطة لندن كثيرا من هذه المحاضرات فتذيعها في برامجها العربية. ومن محاضراته في (صوت أمريكا) حديثه (الفتان الجبار)، وحديثه عن الشاعر أحمد نسيم الذي أذيع في 31 أغسطس الماضي تحية لذكرى ميلاد وهذا الشاعر الجليل (ولد أحمد نسيم في 31 - 8 - 1878م)، وقد تمنى الدكتور أبو شادي أن يصدر مربدوه الجزء الثالث من ديوانه.
والدكتور أبوشاديالآنيعد محاضرات عن أستاذه حمزة فتح الله وغيره من أعلام النهضة العربية الحديثة.
وفوق إذاعاته فهو يعمل في مراجعة تأليف تترجم في مصر أو في الولايات المتحدة، وفي التعليق على أفلام ثقافية، وفي غير ذلك من الأعمال الثقافية والأدبية. وقد أصدر هناك عدة دواوين شعرية منها ديوان جديد سماه (من السماء).
فجزاه الله عن مصر وعن الأدب العربي خير الجزاء.
محمد عبد المنعم خفاجى
أستاذ بكلية اللغة العربية
اذكروا محاسن موتاكم:
قرأت في (الرسالة) مقالا عن (شوقي) في مطلع أسبوع ذكراه، كتبه الأستاذ (محمد سيد كيلاني)، فسرني أن يذكر الأدباء أمير الشعراء، وأن يمجدوا ذكرى شاعر عبقري، ألهب الشعور الوطني، وتغنى بمصر، وماضيها، وعلم أبناء الجيل بلغة القوافي دروسا في الوطنية لا تنسى. . .
وما كدت أقرأ المقال حتى فوجئت بما لم يكن في حسباني. . . وإذا بالمقال عن قصة(903/54)
(هروب) شوقي من الحج مع الخديوي وركبه. . . وإذا بالكاتب يروي عن صاحب الذكرى ما لا يصح أن يروى. . فقد هرب من الحج. واعتبره مقصرا في أداء الفرائض الدينية. . وأنه (كان يقيم في داره بالمطرية الحفلات الساهرة الراقصة حيث الكأس والطاس وغير ذلك مما لا داعي لذكره). . ولا شك أن (غير ذلك مما لا داعي لذكره) تحمل الكثير من المعاني، التي لا تخفى على ذكاء القارئ!. . .
ثم يتابع الكاتب حديثه عن (شوقي) فيقول:
(والشيء الذي لا مراء فيه أن شوقيا كان مهملا لفرائض الدين عدا الزكاة، فلم يعرف عنه أنه دخل مسجدا أو صام يوما يكفر عن سيئاته ويخفف به أوزاره، وكان في حياته ماجنا خليعا، مفرطا في شرب الخمر، مرسلا نفسه على سجيتها). . .
ولا يقف عند هذا الحد، بل يواصل حملته فيقول:
(فقد كان ينظم القصيدة وهو ثمل فلا ترى فيها غير البكاء على ما أصاب الإسلام والمسلمين والدعوة إلى النهوض والاتحاد تحت لواء الخلافة والحث على التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق حتى لتحس كأنك أمام واعظ يهدي إلى سبل الرشاد. كان يفعل هذا عقب انصرافه من مجلس خمر أو خلوة يرتكب فيها فاحشة).
بهذا الأسلوب، وبتلك العبارات، سطر الكاتب مقالة عن (شوقي). . فأقام من قلمه حسيبا على الشاعر، معددا سيئاته، كأن حياة الرجل كانت كلها عبثا، ومجونا، وفسقا، وفسادا؟!.
لقد آلمني هذا التعريض والتجريح الذي فاض به المقال عن أمير الشعراء، في مطلع أسبوع ذكراه. . فهل هذا هو التمجيد لذكراه. . أو بهذا تمجدون ذكرى الشعراء؟!. . .
ومن منا يل سيدي معصوم من السيئات؟!. . ولماذا لا تفسر اعتذاره عن تأدية فريضة الحج - وأقول اعتذاره ولا أقول هروبه! - بعذر آخر!. .
وحسبي أن أهمس في أذن الكاتب الفاضل بالحديث الشريف فأقول: (اذكروا محاسن موتاكم)!. .
عيسى متولي(903/55)
القصص
الراقصة مارجو
للأستاذ نجاتي صدقي
تدب الحياة في حي الملاهي بعد الساعة الثامنة مساء فتشتد فيه الحركة وتتلألأ الأنوار الملونة في جميع أرجائه، منها ما يشير إلى الإعلان، ومنها ما هو خاص بلافتات المحال التجارية، ومنها ما يدل على الملاهي والمراقص، ويضاف إلى ذلك أنوار السيارات التي تخترق الشوارع طولا وعرضا. . . هذه هي أنوار الأرض الاصطناعية.
وأما في السماء فتنتشر النجوم الساطعة منها ما يلتقي شرفا بأضواء لبيوت الجبال الشاهقة فتهبط وإياها برفق على السفوح وتتملك المرء الحيرة في أمر هذه السماء التي تشبه ستارا من نور ينسدل على الأرض.
وذهبت ذات ليلة مع صديق إلى مرقص يقع في هذا الحي لنرفه عن نفسنا قليلا ولنمتع النظر بالمشاهد الفنية التي تقوم بها الراقصات اليونانيات والإيطاليات والمجريات وغيرهن.
وبعد أن أتمت الراقصات أدوارهن انتشرن حول الموائد وأخذن يتحككن بالحضور ويطلبن منهم السماح لهن بمجالستهم ومداعبتهم لقاء (كأس) من الخمر فقط.
ولا أدري كيف جلست مارجو إلى مائدتنا كما أنني لا أدري من الذي دعاها إلى مشاركتنا مسرتنا. . . وأخذت مكانها بيني وبين صديقي وصفقت بيديها طالبة من الخادم كأسا من الويسكي.
والراقصة مارجو هذه في الثلاثين من عمرها جميلة الصورة، وشعرها أقرب إلى لون الخرنوب منه إلى السواد، وعيناها ترسلان إشعاعا ساخرا، وفمها عنابي صغير الحجم، وشفتاها منفرجتان قليلا، وأنفها معتدل جميل الهندسة، وهي على الجملة ضحوك لعوب سريعة التعرف إلى الناس.
وعكفت مارجو تحدثنا دون تكلف وتمازحنا وتماجننا وتروي لنا النكت بلغة عربية مشوهة يلذ للمرء أن يستمع إليها طويلا.
ثم صفقت بيديها ثانيا وطلبت كأسا أخرى من الويسكي واستمرت مارغو تروي لنا النكت(903/56)
ونحن نضحك ثم راحت توزع علينا عطفها فتارة تميل إلى جانب صديقي وتقبله في عنقه، وتارة تميل إلى جانبي وتقبلني في وجنتي. تطوقنا بذراعيها العاريتين وتسألنا بالتناوب: أتحبني؟. فأخذتنا النشوة وكنا نقول لها معا: نحبك. . ونعبدك. . ما أنت فلأي منا تميلين ذلك أكثر؟ فتقهقه وتجيبنا أنتما الاثنان أعز لدي من روحي. . . وتغمرنا بالقبل الحارة.
ثم صفقت بيدها ثالثة وأمرت الخادم قائلة، هيئ مائدة العشاء.
وسألتنا أيمكنني العشاء معكما؟ فتحركت فينا النخوة العربية وقلنا لها لا يجوز لكي أن تطرحي علينا سؤالا كهذا. تفضلي واطلبي ما تريدينه من عشاء.
وكان العشاء مزيجا من لحم الديك الرومي والبطاطس المحمرة والخضار المشكل والسمك المقلي، والسلطات، والحلويات ثم رفعت الصحون وعدنا إلى شرب الويسكي.
ويبدو أن مارغو قد ثملت قليلا ودبت الحرارة في شرايينها فصارت تصفق بيديها بين الفينة والفينة، وتطلب كأسا من الويسكي. وأخيرا مالت علي وقالت: أي نور عيني - لقد سئمت الويسكي أتسمح لي بطلب زجاجة من الشمبانيا؟ أرجوك. فاحمر وجهي خجلا، وصعب علي أن أرى فتاة تستعطفني، فقلت لها: تفضلي واطلبي. . فصفقت مارغو بيديها ونادت بأعلى صوتها: جورجي! إيتني بزجاجة شمبانيا في صطل ثلج.
ومما أثار دهشتي ودهشة زميلي أن جميع الراقصات وأصحاب المحل والخدم كانوا يرقوننا بنظرات غريبة هي مزيج من الازدراء والشفقة.
وجاءت زجاجة الشمبانيا وأفرغناها في أجوافنا، وهنا شعرت أن زمام الأمر انتقل إلى يدي مارغو فراحت تأمر وتنهي كما تشاء. . فطلبت زجاجة ثانية من الشمبانيا. وألحقتها بزجاجة ثالثة. . والخدم يلبون أوامرها ويكدسون أوراقا مقلوبة على وجهها تحت صحن اللوز والبندق. . ولما قاربت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل صفقت مارغو بيديها وقالت: جورجي. . . هات حسابك.
فجاء جورجي مسرعا ومن ورائه أصحاب المحال والعازف على (الأوكرديون) زأخذ يجمع ويضرب وقال: - ستون جنيها وأربعة وأربعون قرشا.
فتطلعت إلى صديقي فرأيت عينيه تدوران في الحدقتين. . ثم أخرج من جيبه أربعين جنيها وأخرجت أنا المبلغ الباقي. . . وأدينا الحساب ثم قالت لي مارغو: اعطني عشرة جنيهات،(903/57)
خمسة فخمسة!. قلت: ولماذا؟. . قالت لا تسل!. فامتثلت لأمرها ونقدتها عشرة جنيهات خمسة فخمسة. فصرخت قائلة: جورجي. خذ هذه الجنيهات الخمسة لك. ثم نادت اليكس فاقبل العازف على الأوكرديون ونقدته خمسة جنيهات أيضاً وقالت له اعزف لنا ألحانا شجية. . وشرع اليكس يعزف (سريناد الحب) لنوبرت، (الرابسودية المجرية) للبست، و (فالد الدانوب الأزرق) للستراوير. ثم نهضت مارغو ونادت بأعلى صوتها: أوركسترا اعزفوا (فوكستروت) عنيف. . وأخذتني من يدي وقادتني إلى حلبة الرقص ولم يكن فيها أحد غيرنا، وكنت أدور معا فاقد الوعي من أثر الخمر، وأصابني دوار شديد، وكانت هي تطوقني بذراعيها وتدور، وأنا أضحك كالأبله وهي تصرخ. . أوركسترا اعزفوا بعنف. . بسرعة. . فاختلطت الأنوار في رأسي بالألحان الموسيقية وبالراقصات وبالموائد والخدم. . نم وقعت على الأرض فرفعني الخدم وأعادوني إلى كرسي. ومارغو تضحك وتترنح ذات اليمين وذات اليسار وتقول: يا لعيبك. أتقع!.
وقدمت لنا القهوة المرة فصحونا قليلا وشعرنا بأننا ارتكبنا حماقة لا مثيل لها، وشعرت مارغو بأننا أسرفت في الاستخفاف بنا، فأحبت أن تواسينا وقالت: لا تحزنا فنصيحتي إليكما ألا تقدما في مرة أخرى على دعوة راقصة إلى مائدتكما. . احضرا إلى هذا الملهى إذا شئتما، وتفرجا على المشاهد الفنية، ولكن لا تجالسا الراقصات.
ثم راحت مارغو تروي لنا قصة. . قالت: (أنني حقيرة في نظركما أليس كذلك؟. . آه يا عزيزي سامحني على ما بدا مني، أنني شقية مسكينة. . كنت في صباي على قدر وافر من الجمال فعشقني شاب وسكنت وإياه في بيت فرش بأفخر الفراش وكانت لنا سيارة وكان لنا خدم وكنت أتصرف بماله كما يحلو لي. وقضيت ثلاث سنوات وأنا أعاشر ذلك الثري فألححتعليه أن يتزوجني زواجا شرعيا فكان جوابه أن هجرني ونبذني. .
فصدمت في آمالي وشبابي وانتقمت من الحياة ومن نفسي بأن التحقت بالملاهي. . وما أناالآنإلا فتاة من فتيات الملاهي، وحياتي هذه تفسر لكما عطفي على الخادم والعازف على الاكورديون، ومنحي لكل منهما خمسة جنيهات. . انهما فقيران مثلي ومسئولان عن عائلتين كبيرتين. . لا تحزنا أيها الصديقان العزيزان. . هيا بنا الآن فقد شارفت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.(903/58)
أما صديقي فقد نهض على عجل ولبس معطفه وقال أسعدتما صباحا. . واختفى وتشبثت بي مارغو وهي تقول: لا تقتف أثره. . خذ هذا مفتاح نزلي وهو يقع في شارع البوارديه رقم 13. . اذهب فانتظرني عند الباب الخارجي. أفهمت قصدي من ذلك؟ أنني لا أريد أن يشعر صاحب المحل أو الخدم أن في الأمر ما يسيء إلى سمعتي!.
واستأجرت سيارة أوصلتني إلى بيت مارغو فاستفهمت من السائق عن هذا البيت فقال لي هذا سكن بعض بنات الملاهي. . فانتظرت قليلا عند الباب الخارجي وإذا بفتاة تلقت بمعطف أبيض تحاول الدخول إلى السكن لكنها سرعان ما ارتدت على عقبيها عندما رأتني مستندا إلى الباب وأنا أدخن لفافة من التبغ. . وبعد خمس دقائق عادت هذه الفتاة وبرفقتها ثلاثة حراس، فلما صاروا بالقرب مني قالت لهم: ما الذي يدعو هذا الرجل إلى الوقوف عند نزلنا؟. . أن قلبي يحدثني بأنه يتربص بي أو بإحدى زميلاتي. . أنه أحد الناقمين علينا. . فتندم حارس مني وساءلني بلهجة شديدة: ماذا تفعل هنا لا في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟. فأجبته بلسان معوج، أد. . أد - تظرما. رغو!.
فقالت الفتاة للحراس. . أسمعتم. . فاقتادوني إلى المخفر عنوة وقضيت فيه ليلة ليلاء!
نجاتي صدقي(903/59)
العدد 904 - بتاريخ: 30 - 10 - 1950(/)
معاني الهجرة
للأستاذ واصف البارودي
نحن اليوم في سنة 1370 من هجرة محمد بن عبد الله، النبي العربي، المختار من ربه، الخالق المنعم، لدخول قدس أقداس الحياة السرمدية. . . فاطلع على أدق أسرارها خفاء في الأزل، وعلى ألطف معانيها خلودا في الأبد، وأكتشف ما في الحياة من نواميس تتحقق بها سعادة الإنسان بتحقق إنسانيته، فردا ومجتمعا، في دنياه وآخرته!. . .
1369 سنة مضت على هجرة محمد بن عبد الله، باعث نهضة العرب ومحقها، وهو المصطفى من رب العالمين، جلت حكمته، لحمل رسالة إلهية تنير ظلام الأفئدة، وتهز كيان الأرواح في الأجساد، فتتجه النفوس، في أتباعها طائعة مختارة، إلى ما تقتضيه تلك النواميس الإلهية، نواميس الحياة، من إيمان وثبات وإقدام، وعزم وتضحية وإخلاص، تنعم بها إنسانية الإنسان في تحقيق ذاتيتها!. . .
نحتفي اليوم بذكرى مرور 1369 سنة على هجرة محمد بن عبد الله، العربي المتحرر، بإرادة علوية قديرة، ليكون الهادي لطريق الحق الذي يتحرر في سلوكه عباد الله، من قيود الوثنية الظالمة، ومن طغيان أوثان المستعبدة - أوثان الحجر وأوثان البشر وأوثان النفوس، وقد اتبع ما أوحاه إليه ربه في كتابه الحكيم - قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي. . .) هذا ما أمره به ربه! فلا مندوحة له إذن عن تحمل أعباء الرسالة وفق نواميس الحياة البشرية. . سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا!. . .
الدعوة دعوة إلى الله، والدين دين الله. . ومهمة صاحب الرسالة تبليغ تلك الدعوة، وتثبيت أركان ذلك الدين!! فهل يتم له ذلك، وهو بشر، إلا بالصبر على الأذى وبتحمل المكاره، أولا، ثم بالجهاد، في أوسع معانيه - من جهاد نفس، تثبيتا للجنان في مواقف الضعف والهوان، وجهاد قتال، دفاعا عن الحرية، وحماية للحق الذي يجب أن يصان؟. . .
رسالة النبي رسالة تجدد وتحرر. وقد تسامت رسالة محمد بن عبد الله في الدفاع عن حرية الإنسان إلى درجة أبت معها أن تكره أحدا على إتباع الدين، وقد تحمل صاحبها ما تحمل في سبيل الدعوة إليه، وفي سبيل نشره وتثبيت أركانه في القلوب!. . فأوحى إليه ربه(904/1)
صريح قوله - (لا إكراه في الدين). . . فتقررت بذلك حرية العقائد بين البشر، ما دامت العقائد تحترم الحرية، وما دامت متحررة في طغيان الأوثان ومن قيود طاغوتها.
وقد كان محمد بن عبد الله، صاحب هذه الذكرى، خير قدوة للبشر في التحرر، وخير معاني أوضح معاني الحرية على حقيقتها، في التفكير وفي الشعور وفي النزوع، قولا وعملا. ولم يكفه هذا، وقد تحمل في سبيله أنواع الأذى والآلام، بل عقد النية على الجهاد في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان، فهاجر هجرة الجهاد.
والجهاد، ليس هو، في حقيقته، مطلق الحرب والقتال! وإنما هو حرب في سبيل الله دفاعا عن مثل عليا، من حق وخير وجمال، الله جامعها. وهو قتال لا هوادة فيه، صونا للحرية من أن تشوه حقيقتها، أو أن يعتدي على قدسيتها طغاة الأوثان. فليس التعدي على حقوق الغير جهادا، وليس في الضغط على حرية الإنسان، في تفكيره وشعوره ونزوعه، وفي التعبير عنها، أي معنى للجهاد؛ وإنما هما قتال عدوان وطغيان أوثان!
فالجهاد الذي تغذيه المثل العليا، المتحررة المحررة، هو من المعاني الأولى التي تتضمنها هجرة الرسول العظيم وصحبه الميامين. فما وجدت في القرآن الكريم آية ذكرت فيها الهجرة، إلا ذكر معها الجهاد في سبيل الله. فقد ورد، مثلا في سورة البقرة، قوله تعالى - (أن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم) وهكذا في سورة آل عمران والأنفال والنحل والحج. ففيها جميعها آيات بينات تقرن الهجرة بالجهاد وتنص دائما على أن تكون في سبيل الله، أي في سبيل المثل العليا، والله جامعها، لتحرير البشر من تحكم الاغيار ظلما واستعبادا!. . .
فالهجرة إذن هجرتان - هجرة جهاد في سبيل الله وهجرة سعي في سبيل الدنيا للذة والاقتناء. والنية هي قوام التميز بين الهجرتين. وقد أوضح ذلك نبي الهجرة في قوله - (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
فليست هجرة السعي وراء الكسب أو العيش هجرة جهاد؛ وليست هجرة الالتجاء هجرة جهاد؛ وإنما تكون هجرة الجهاد بتبييت النية، وبالتكتل الصادق، والاستعداد الصحيح للدفاع(904/2)
عن حرية الإنسان في حياته، وللتضحية في سبيل حرية المواطن ' في بلاد ورثها عن آبائه وأجداده، ولمحاربة طغيان الأوثان، ومكافحة الظلم والاستعباد.
ولهذا كان على من يرغب في هذه الهجرة أن يستبقها بهجرة روحية، هي هجرة النفس إلى ربها، تحقيقا للآية الكريمة - (فآمن له لوط، وقال إني مهاجر إلى ربي، إنه هو العزيز الحكيم) وبهذه الهجرة يتحقق الإيمان الصحيح، دون التواء ولا نفاق.
وأنت إذا تأملت في آية الهجرة التي وردت في سورة البقرة - (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله). لوجدت أن الهجرة قد ذكرت بين حالتين - حالة الإيمان وحالة الجهاد. فالهجرة إذن، في حقيقة معناها نتيجة طبيعية للإيمان تستلزم الجهاد. وهي هجرة رياضة روحية، تتصل بها الروح بربها لتنقذ من قيود التقاليد البالية، ومن تعسف طغيان الأوثان، على أنواعها، وهجرة نشاط عملي يتنقل بها الإنسان إلى حيث يتسنى له الاستعداد للجهاد الذي تستلزمه، إنقاذا للحرية الإنسانية التي أرادها الخالق لعباده.
ولا فرق بين أن يكون المكان بعيدا أو قريبا، فالشأن كل الشأن في وجود الأنصار الصادقين، وفي التكتل والانسجام في إيمان صحيح، وبنية خالصة. وهذا ما جرى للرسول الأعظم وصحبه الميامين، تحقيقا لرسالته الإنسانية، المنسجمة مع حكمة الله في نواميس الحياة.
فليست أهمية هجرة الرسول في الانتقال من بلد إلى بلد، وإنما تتجلى أهميتها وتبرز أدق معانيها السامية في اختيار الوقت الملائم بعد تركيز عقيدة الإيمان، وتثبيتها في نفوس نساء ورجال، يتكونون بها تكونا إنسانيا جديدا، فيولدون ولادة ثانية، يتحررون معها مما يرسفون فيها من قيود التفكير والشعور، وينقذون بها من إرث الاستسلام لطغيان الأوثان: أوثان النفس في داخل كيانها، وأوثانها في صلتها مع كون هو خارج عن وجودها الذاتي، أي مع محيطها. أولئك النساء وأولئك الرجال هم أناس يعرفون كيف يبيعون نفوسهم في سبيل الله، أي في سبيل العقيدة التي انعقدت عليها قلوبهم في صميم الأفئدة، وفي سبيل المبادئ والمثل العليا التي تستلزمها تلك العقيدة. وبذلك وحسب تستكمل الأمم نهضتها وتحقق أمجادها. .
إن الإسلام وقد كان الحافز القوي للعروبة في وثبتها لتحرير البشرية، وفي نهضتها لتكوين حضارة إنسانية محررة، تصل الأجيال في ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ إن هذا الإسلام(904/3)
كان في زمن الهجرة، عند مفترق الطريق. فأما وثوب وتقدم، واعتلاء ومجد، وإما إنكماش وتقهقر وتلاش وفناء!. . . فالوضع كان إذن، بالنظر إلى المسلمين العرب، أو العرب المتجددين، وضع موت أو حياة. فجاءت الهجرة محكا يميز الخبث من الطيب. ويفرق بين النفاق والإخلاص. ولا قيام لمبدأ قويم، ولفكرة صحيحة، إلا بجهود المخلصين من المؤمنين! فلا يتعلق أمر النجاح على الكمية، وإنما على الكيفية وحدها يتوقف النجاح في الجهاد.
فمعنى الهجرة أوسع مدى من أن يحصرها حديث، ولعلها تتلخص في إستلزام الجهاد لفكرتها بعد إيمان صحيح وعقيدة راسخة؛ ونجاحها في حسن اختيار الوقت الملائم مع الاستعداد التام للحوادث، وفي اكتشاف المؤمنين المخلصين والمؤمنات المخلصات، وفي الاعتماد على هؤلاء مهما قل عددهم؛ ولا اعتبار للكمية في الحياة. والهجرة مع ذلك كله عزم وإقدام وثبات وتضحية وإخلاص.
فهل لنا، وندائي للمواطنين في البلاد العربية جمعاء، مسيحيين ومسلمين. . . هل لنا وقد استدار الزمن وأصبحنا في وضع يجب فيه أن نتعاون جميعا على نهضة وطنية قومية صادقة، أن نستمد من معاني الهجرة قوة نستعيد بها المجد الضائع؟. . . أم سنظل على زهونا في ترديد الألفاظ وتبادل المجاملات، نتسابق في حلبة الإطناب في الأقوال، والافتخار بما نقول؟. . . كأني بنا وقد أصبحنا نرى أن لا واجب علينا بتجاوز حدود هذه الأقوال، والزهو بما فعل الأقدمون!. . . وقد أصبح الذكي العبقري فينا من يعرف كيف يستغل تلك الذكريات العظيمة لمصالح خاصة حقيرة، بالنسبة لما يجب أن يتحقق بها في ذات إنسانية الإنسان، من معان ومن أمجاد!. . .
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد بن عبد الله، وعلى صحبه الميامين، من مهاجرين وأنصار، وقد أمرتهم بالهجرة، فأجابوا داعي الله. اللهم اهدنا سبيلك، ووفقنا لتفهم حقيقة التحرر في معاني تلك الهجرة التي غيرت وجه التاريخ! وأرشدنا للعمل الصالح لنا ولجميع البشر، لتهنأ الإنسانية بالسلام والطمأنينة والسعادة! وأنقذنا، اللهم من قيود عقولنا، ومن استسلام نفوسنا، حتى ندرك معنى قولك، وقولك الحق، في كتابك المنزل -
(إن الله لا بغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).(904/4)
صدق الله العظيم!. . .
بيروت
واصف البارودي
المفتش الأول في وزارة التربية الوطنية(904/5)
ذكرى كربلاء
دم الحسين
للأستاذ علي العماري
في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وقع حادث عظيم ارتاعت منه قلوب المسلمين، ولا تزال ترتاع منه القلوب كلما جاء ذكره في اليوم العاشر من المحرم، ذلكم الحادث العظيم هو قتل الحسين بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة.
وكان المسلمون من شيعة علي يحتفلون بذكرى مقتل الحسين، يتمكنون من ذلك في بعض السنين، وفي بعض البلدان، ويمنعون من الاحتفال بهذه الذكرى كلما وقعوا تحت سلطان حاكم لا يتشيع لأهل البيت، وظلوا كذلك حتى كانت دولة البويهيين في بغداد، فجعلت الاحتفال بذكرى مقتل الحسين أمرا رسميا يلزم به جميع الناس، فقد أمر حاكم بغداد معز الدولة ابن يويه في سنة 532هـ (أمر الناس أن يغلقوا دكاكينهم وأن يبطلوا الأسواق، والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن، ويبكين على الحسين بن علي رضي الله عنه، ففعل الناس ذلك، وصارت عادة توارثها الناس.
وقد أردت أن أجول جولة تاريخية، وأؤلف بعض الأخبار لأحيي ذكرى مقتل أبي الشهداء.
كان النزاع قديما بين بني هاشم قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين بني أمية قبيلة أبي سفيان أبن حرب، وكانت بنو هاشم أعظم وأشرف - فلما جاء الرسول منهم زادهم رفعة وشرفا، وكما قال معاوية بن أبي سفيان وقد قيل له: أخبرنا عنكم وعن بني هاشم فقال: بنو هاشم أشرف واحدا، ونحن أشرف عدداً - فما كان ألا كلا، ولا، حتى جاءوا بواحدة يذت الأولين والآخرين. يريد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقوله: أشرف واحدا: عبد المطلب بن هاشم، ولم يستطع الأمويون أن يرفعوا رؤوسهم في عهد رسول الله، ولا في عهد الخليفتين من بعده. فلما كانت خلافة سيدنا عثمان - وهو منهم - استطاعوا أن يتحكموا في سياسة المسلمين، وظلوا كذلك حتى قتل عثمان، ثم قام النزاع بين علي(904/6)
ومعاوية، ذلك النزاع الذي انتهى بقتل أبن أبي طالب كرم الله وجهه، واستقرار الملك لابن أبي سفيان، وظل معاوية في خلافة المسلمين عشرين عاما، وقد رأى قبل وفاته أن يجعل الملك وراثيا، فأخذ البيعة لابنه يزيد، ولكنه كان يعلم أن في المسلمين رجالا تتجه إليهم الأنظار، وتدين بحبهم القلوب، لذلك أوصى يزيد عند احتضاره فقال: (يا بني أني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وأني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك ألا أربعة نفر من قريش؛ الحسين ابن علي، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فأن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فأن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فأن له رحما ماسة، وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل أن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليس له همة ألا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد وبراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير، فان هو فعلها بك فقدرت عليه، فقطعه إربا إربا).
وتولى يزيد الخلافة، ولم يكن بالخليفة المحبوب من المسلمين، فثارت عليه مدينة رسول الله، ولكنها لم تنجح في ثورتها، فهزمتها جيوش يزيد، ودخلتها، وأباحتها ثلاثة أيام. على أن أعظم حادث في عهد يزيد بل في عهد الدولة الأموية كله ما وقع للحسين بن علي وآل بيته، فان الحسين لم يرض عن سيرة يزيد وكان يرى أن من واجبه أن يجاهد هذا السلطان الجائر، المستحل لحرم الله، المخالف لسنة رسول الله، ووجد في العراق متسعا لدعوته، وميدانا لجهاده، بعد أن كثرت رسائل العراقيين إليه، يدعونه، ويلحون في دعوته، فما هو ألا أن انتهت أيام الحج من تلك السنة سنة إحدى وستين حتى خرج يريد الكوفة، ومع أن الحسين سمع في طريقه ما يشككه في نوايا أهل العراق وإخلاصهم إلا أنه كما قال الشاعر:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
لما خرج من المدينة لحق به أحد كبرائها فقال: أين تريد؟ قال: أريد العراق، قال له: ارجع، فأبى، فقال: أحدثك حديثا ما حدثت به أحدا قبلك، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وأنكم بضعة منه، فوالله لا يليها أحد(904/7)
من أهل بيته أبدا، وما صرفها عنكم ألا لما هو خير لكم، فارجع فأنت تعرف غدر أهل العراق، وما كان يلقى أبوك منهم، فأبى الحسين، فاعتنقه وقبله وبكى، وقال: استودعتك الله من قتيل!
ولما خرج من مكة لقيه الفرزدق الشاعر مقبلا من العراق، فقال: إلى أين يا حسين؟ قال: إلى الكوفة، قال: ارجع فمالك فيها خير، قال: بين لنا خير الناس، قال: قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال الحسين: لله الأمر، يفعل ما يشاء. ثم حرك راحلته وسار، وما لاقى الحسين في طريقه أحدا يعرف إخلاصه وصدقه ألا نصحه بالرجوع، وأكد له أن ليس له في العراق خير، ولكنه عزم وصمم لأمر أراده الله، والله بالغ أمره.
كان الحسين في عدد قليل من أصحابه لا يبلغ المائة، وكان جيش العراق الذي قابله أربعة آلاف، فوجد أنه لا طاقة له بالقتال، فعرض عليهم أن يقبلوا منه واحدة من ثلاث، أما أن يرجع إلى مكة، أو يذهب إلى يزيد الخليفة في الشام، أو يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين يحارب فيه حتى يموت، وهنا تظهر الأحقاد القديمة، فيتمثل ابن زياد بقول الشاعر:
الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص
فلا يقبل الجيش منه إلا أن يذهب إلى الوالي عبيد الله بن زياد ليرى فيه رأيه. يا سبحان الله، الحسين بن علي بن أبي طالب ابن فاطمة الزهراء صاحب السبق والسابقة في الإسلام يذل فيكون أسيرا في يد ابن زياد الذي لا يعرف له نسب! لذلك أبى الحسين - وكان أبياً - أن يجيبهم إلى ما طلبوا، وقال: كلمته النبيلة: لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. ثم تظهر الأحقاد القديمة مرة أخرى، فيكتب ابن زياد إلى قائد جيشه: أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فحالوا بينه وبين الماء، ذلك الماء الذي يشرب منه اليهودي والنصراني والمجوسي يمنع منه ابن بنت رسول الله! ويعجبني ما كان يفعله الصاحب بن عباد، فانه كان إذا شرب ماء باردا حمد الله ثم قال: اللهم العن من منع الحسين الماء.
وجد الجد، وأمكن الناس دم الحسين، ولكن أكثرهم تهيبه. ومن قبل عرض علي والي(904/8)
المدينة، وكان ابن عم الخليفة أن يقتل الحسين أن لم يبايع فقال: والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسينا. سبحان الله! أقتل حسينا أن قال لا أبايع، والله أني لأظن أن أمرا يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان.
وقد طال تردد رجال الجيش، وكان كل واحد منهم يتمنى أن يبوء غيره بدم الحسين، حتى تقدم شقيهم فأصاب الحسين، ثم تقدم الأشقى فذبحه - رضي الله عنه - كما تذبح الشاة.
وتصور لنا كتب التاريخ ما أصاب الذين اشتركوا في دم الحسين، فقد كان دمه شؤما على كل الذين أصابوا منه، فالفارس الذي احتز رأس الحسين لم يمهله الله إلا ليلة واحدة، فانه حمل الرأس، وذهب جذلان فرحا إلى والي الكوفة، وهو ينشد:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... أني قتلت الملك المحجبا
خير عباد الله أما وأبا
فقال له الوالي: يا أحمق، إذا كان خير عباد الله أما وأبا فلم قتلته؟ اضربوا عنقه. والفارس الذي منعه الماء مات عطشان بالرغم من أنه كان يسقى الماء حتى يبغر، ثم يعود يشرب حتى يبغر، وما زال كذلك حتى لفظ أنفاسه. والشقي بحر بن كعب - وقد سلب الحسين لباسه - كانت يداه في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وأما عمر بن سعد قائد الجيش فقد قتل - فيما بعد - في داره. وأما عبيد الله بن زياد والي العراق فقد قتل في ثورة المختار الثقفي، وذهبوا برأسه إلى علي بن الحسين فوصلوا إليه ظهرا، وهو يتغدى فقال: سبحان الله، ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة. لقد أدخل رأس أبى علي عبيد الله بن زياد وهو يتغدى. وفي بعض الكتب أنه لما انتهب عسكر الحسين وجد فيه طيب فما تطيبت به امرأة إلا برصت. ثم خرجت الخلافة من أسرة معاوية بعد قليل، وكذلك كتب عبد الملك بن مروان لقائده الحجاج يقول: جنبني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين.
(وبعد) فإلى أي حد بلغت فظاعة هذه الجريمة؟ أن بعض السلف يجيبنا عن ذلك فيقول: لو كنت فيمن قتل الحسين ودخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجيبنا عنه بعض اليهود حيث يقول لبعض المسلمين: أن بيني وبين داود سبعين أبا، وأن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي، وأنه ليس بينكم وبين نبيكم ألا(904/9)
أب واحد قتلتم ابنه. ثم ماذا، ثم ننشد مع السيد الحميري.
امررعلى جدث الحسين وقل لأعظمه الزكيه
يا أعظما لا زلت من وطغاء ساكبة رويه
وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطيه
وأنك المطهر للمطهر والمطهرة النقيه
كبكاء معولة أتت يوما لواحدها المنيه
ألا رضى الله عن الحسين، ولعن الذين منعوه الماء، وجازى قاتليه بما هم له أهل
علي العماري
المعهد العلمي - أم درمان(904/10)
صور من الحياة:
هوى على الشاطئ
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 3 -
. . . وانطوت أيام وحانت ساعة الوداع، فوقف قلب - لدى الشاطئ - إلى جانب قلب يناجيه بكلمات تتأجج فيها زفرات اللوعة وتنبعث منها مرارة الأسى. وتعانق القلبان ساعة من زمان ثم افترقا ليتلاقيا - بعد حين - في القاهرة.
غادر الفتى الأسكندرية، مسرح الهوى والغرام، ومهد السعادة والرضا؛ غادرها وفي قلبه غصة وفي فؤاده شجن، فانقبضت أساريره وغامت الدنيا في ناظريه، وغم عليه وجه الرأي، فانطوى على خواطره حينا يتلمس الخلاص فلا يجده، ويطلب السلوى فتعز عليه.
ورأت الزوجة في زوجها أمراً غريباً عنها. رأته جهم الوجه مقطب الجبين ساهم الفكر، وبدا لها أن صدمات من الضيق والأسى توشك أن تخترمه فتعصر روحه وتقتل أمله، فراحت تحوم حواليه تريد أن تستشف خلجات ضميره أو أن تنفذ إلى أغوار سره فما استطاعت، وهي فتاة قروية تعوزها الحيلة وتفتقر إلى الدهاء، فأمسكت على مضض وإن قلبها ليحدثها بخطر ذي بال، والصبية إلى جانبها ينكرون إهمال الرجل لهم وانصرافه عنهم، وهو كان بهم حفيا رحيما، يداعبهم حتى تستقر نفوسهم، ويلاعبهم حتى يغمرهم البشر. أما هذه الدار فقد حال حالها، فهي الآن تعتمد على أسس واهية من نزوات طائشة تفعم قلب الزوج فتستلبه الرأي والصواب، وتقوم على عمد متداعية من الشك الذي تفهق به نفس الزوجة فينتزع عنها الراحة والهدوء. والصغار بينهما يعانون الإهمال والضياع في غير ذنب.
ومرت الأيام تذكر الفتى الساذج بتاريخه يوم أن كانت روح الدين تضطرم في نفسه فتردعه عن الغي وترده إلى الدار والزوجة والوالد؛ على حين كان الزمن يسدل أستار النسيان - رويدا رويدا على لذاذات الشاطئ التي تشق عبيرها الجذاب ورشف رحيقها الحلو، هناك في الإسكندرية على حين غفلة من الدين والزوجة، فسكنت نوازع الحماقة في(904/11)
قلبه، وهدأت نزوات الطيش في فؤاده، غير أنه لم ينس فتاته. . . الفتاة التي تفتح لها قلبه أول مرة فرأى فيها فنونا جميلة من المرأة صاغتها يد الحضارة الصناع، فنونا جميلة جذابة أفتقدها في زوجته الريفية التي حبستها التقاليد القاسية بين أسوار من العمى والجهل.
وهبت أول نسمات الشتاء تحمل طياتها خبر قدوم الفتاة التي أحب فهب يلقاها في نشوة وطرب، وتلاقتا على ميعاد.
واستلب الفتى من وعيه - فنسى عقله ودينه، فانطلق على سننه والفتاة إلى جانبه تجذبه إليها في رفق وتسيطر عليه في هوادة وتلقاه في بشر، وتفتح أمامه باب السينما وتمهد له السبيل إلى المسرح وهو ينقاد لها في سهولة وسير، فانشغل في الدار والزوجة والولد، وطار إلى المتعة لا يعبأ بشيء، ومن ورائه زوجته تتقلب في حرقة الوحدة والريبة، وتتلظى بنار الأسى والضيق، ثم لا تستطيع أن تجذبه إلى الدار ولا أن ترده عن الغواية.
وتيقظ ضمير الفتى - ذات مرة - فأحس بأنه استعبد لفتاة من بنات حواء فشعر بمعنى القيد في رجله والغل في عنقه، فأراد أن ينزع عنه ربقة الذل، ولكن شيطانه هب - إذ ذاك - يتفلسف له فلسفة شيطانية ويوسوس له قائلا - لا عليك - يا صاحبي فهذه هي زوجة القلب تجد إلى جانبها النور والسعادة والمتاع، وتلك هي زوجة العقل تلمس في ظلها السكون والعون والخادم. ولا ضير عليك إن أنت جمعت بين زوجين في آن، لتستشعر لذاذات حرمتها زمانا) فاطمأن الفتى للخاطرة، والفتاة إلى جواره تطمع أن تكون للفتى وأن تكون هولها. وما ترامي لها - بعد - أن الفتى زوج وأب زوج وأب، فراحت تحتال الأمر بطريقة شيطانية صاغتها يد الحضارة الصناع في دقة وإتقان.
وتناهي إليها - بعد حين - أن فتاها زوج وأب فما أزعجها الخبر وما أقعدها عن الغاية التي تصبو إليها فشمرت تبتغي الوسيلة في غير ضعف ولا فتور. ولا عجب فأن في المرأة روح شيطان مارد درب على الختل والخداع والشر يبتغى الغاية فلا تعجزه الوسيلة.
وهمت الفتاة إلى غايتها تتلمس الطريق، ومن ورائها أمها العجوز تدفعها وترسم لها السبيل، وتحدثها (لا بأس عليك فهو يندفع إليك في غير صبر، ويهفو نحوك في غير أناة، ولن يحس عنتا في أن يفتديك بزوجته وأولاده)
وتظاهرت الفتاة وأمها على الفتى الساذج فختلاه عن عقله وعن رجولته، فألقى إليهما السلم(904/12)
في ضعف، وقد أعماه الهوى الجامح عن الهوة السحيقة التي يوشك أن يتردى فيها.
ودخل الفتى دار الفتاة - لأول مرة - فألفى يد المدنية قد انبثت بين ثناياها فرتبتها على نسق يثير الدهشة والإعجاب، ووجد آثار النعمة قد تغلغلت في أضعافها فهي تتألق في كل مكان وتنبعث من كل ركن، فانجذب لها قلبه وعقله في وقت معا، وما له عهد بما يرى ويحس، فتمنى - في أعماق نفسه - لو أن له مثل هذه الدار فينعم بما فيها من ترف وثراء، ونسى أن بهرج الحضارة زيف لا قلب له ينبض، وغاب عنه أن ألق المدينة سراب لا عقل له يفكر به. وإلى جانبه أم الفتاة تمكر به في لباقة فتخدعه عن أهله وتختله عن نفسه.
آه، لقد أحس صاحبي بالحرية طفرة واحدة، الحرية التي لا تعرف الأخلاق ولا تؤمن بالكرامة ولا تسمو إلى الإباء. لقد انطلق الطائر السجين من بين قضبان القفص الضيق يبتغي الحرية والانطلاق فوجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فما استطاع أن يرد على نفسه المكر والخداع حين راحت عجوز من النساء توسوس له وهو يندفع على آثارها في حماقة وغي. والتاث عقل الفتى فانطلق - ذات مساء - إلى دار الفتاة التي أحب ليكون زوجا لها؛ وليكون ربا لدار التي انجذب لها قلبه وعقله في وقت معا؛ وليذر من خلفه زوجة فيها الوفاء والإخلاص، وفيها الطاعة والاستسلام، ليذرها وحيدة بين الصبية تعاني شدة القر وألم الوحدة ولذع الخيانة.
وشعر الفتى يوم أن خلا به وبفتاته المكان. . . شعر بأنه دخل الجنة التي كان يطمع فيها ونسى الزوجة الأولى هناك بعصرها الضيق ويفريها الأسى وتعركها الغربة. وعز عليها أن تعيش طويلا في هذا القيد فأرسلت إليه تقول (إذا لم تكن في حاجة إلى فسرحني سراحا جميلا ودعني أسافر إلى أهلي في القرية، فأنا هنا - كما تعلم - أجد مس الغربة والوحدة ولا أستطيع أن أتشبث بسوي رجولتك لأنني بعيدة عن أهلي وعن ذوي قرابتي أفتقد العون والساعد ولا أعرف الطريق. وأنت أخذتني من بين أهلي يوم أن أردتني لك زوجة، واليوم - حين عافتني نفسك أهيب بشهامتك أن تدفعك لترافقني إلى هناك. وهذا - ولا ريب أمر هين لا أخالك تظن به على)
وانتفض الفتى للفكرة، وجاء تاريخه الطويل يعرض نفسه وهو يسمع صرخات الدم(904/13)
وصيحات الدين وثورات العقل، يسمعها جميعا تتعالى في جلية عنيفة لتوقظه من سبات عميق ران عليه شهورا، فأحس بالزلة الكبرى، وتبدت له أفانين المكر والخداع التي لفته بين طياته، تعميه عن الصواب وتدفعه إلى الهاوية، غير أن عزيمته المتداعية ضعفت عن أن تذر الفتاة التي أحب أو أن تهجر الدار التي أغوته. وتعاوره أمران، ثم عقد شيطانه العزم على أن يسرح الزوجة الأولى.
ثم دخل الفتى الدار التي سعد بها زمانا ثم هجرها حينا. . . دار الزوجة الأولى. . . دخلها فتدافع نحوه الصبية الأبرياء يتعلقون به في شوق، ويغمرونه بالقبلات الحارة في شغف، ويلصقون به في عناق طويل حبيب إلى النفس. وهاجت شجون الفتى الساذج وتيقظ عقله ليرى الزلة الكبرى التي هوى في قرارها حين غم عليه الأمر، فتحدرت من عينيه عبرات والزوجة الأولى ترى، فثارت عاطفتها الخالصة فاندفعت إلى حجرتها لتواري خلف الباب ضعف نفسها وبكاء قلبها. . . تحدرت العبرات من عيني الفتى لتمسح على تاريخ قصر من الحماقة والجهل والعمى، تاريخ باع فيه صغاره الأحباء بالثمن البخس، بفتاة ما فيها سوى بهرج الحضارة وزيف المدينة، بفتاة خدعته فسرقته من زوجته وأولاده.
وباتت اللصة التي تستتر وراء فنون من الدلال والأناقة والتطرية والعطر. . . تسترت وراءها جميعا لتسرق الرجل من زوجته وأولاده. . باتت اللصة تنتظر عبثا عودة الزوج الغر. . .
وطار الطائر السجين إلى قفصه حين آذاه النور وآلمته الحرية فتخبط بينهما حينا ثم ارتد إلى عشه الأمين: إلى زوجته وأولاده وهم نور عينيه وفرحة قلبه وبهجة حياته!
كامل محمود حبيب(904/14)
تروتسكي
أحد مؤسسي النظام الشيوعي في الروسيا
للأستاذ احمد بك رمزي
كان تروتسكي أول ضحايا (استالين)، وفي مقدمة الذين اضطهدتهم الشيوعية الروسية بعد وفاة زعيمها لينين، مع أن تروتسكي أدى للثورة أجل الخدم. وليس لنا أن نتساءل ماذا سيكون موقف السوفيت ولا مستقبل النظام الشيوعي لو بقى تروتسكي حيا يرزق، أو لو قدر له أن يحتل مركز الزعامة، كما أنه ليس لي ولا لغيري أن يصدر حكما في صالحه أو ضده، وإنما أكتفي بأن أنظر إليه كرجل اضطهد ونفى، وتحمل أشد أساليب الضغط على حريته، وأبعد من محيط العمل السياسي والثوري في بلد يدعي أنه أقام الثورة الكبرى ضد الرأسمالية، وحطم القيود والأغلال، لكي يهب السعادة والرفاهية والعمل الصالح لأكبر عدد ممكن من سكناه: فإذا به يضطهد رجلا كان من أشد أنصار هذا النظام القائم الآن في السوفيت: خدمه كثوري وكاتب وخطيب ومؤلف، ثم كانت نهايته الملاحقة والتفنن في تعذيبه وهو في غربته، ثم قتله بصورة لا ترضي الإنسانية ولا يسلم بها العقل. فأنا إذا كتبت عنه أشيد به كرجل مثقف لقي من أنصار النظام الذي أقامه غير ما يستحق.
بين (بولتافا) و (كيرسون) نشأ ليفي دافيد وفتش برونشتاين، هناك حيث المروج الخضراء والغابات، وفي السهول التي يطلق عليها أسم (كورجان) والتي تحفظ أسم (نوجاي) التتري، أو نوجايسكايا بالروسي؛ هناك رأى الطفل اليهودي الذي حمل أسم (تروتسكي) النور، إذ ولد في قرية يهودية تقع بجوار (كيرسون) في 16 أكتوبر سنة 1879، فتروتسكي أسم لا علاقة له به وائما غلب عليه، ويدل أسم والده على تأثره بالجرمانية ولو أن يهود هذه المنطقة يغلب عليهم أنهم من سلالة (الخرز) فهم أقرب ما يكون إلى الآسيويين أو إلى الشعوب الطورانية منهم إلى الشعوب السامية، وإن كنت أعتقد أن تقاطيع تروتسكي تدل على انحداره من أصل إسرائيلي صميم.
ويقول تروتسكي في ترجمة حياته إن والده ينحدر من أسرة يهودية، كانت تقطن قرية بجوار (بولتافا) في اوكرانيا، - وهذه المدينة هي التي نسب إليها في التاريخ القائد العثماني الشهير بالطجي باشا، وصحته بولتاجي باشا، الذي أسر بطرس الأكبر ثم فك حصاره. وقد(904/15)
هاجر والد تروتسكي متجها إلى الجنوب ومعه بعض المال، فاشترى مزرعة بجوار مدينة كيرصون، الواقعة على شواطئ البحر الأسود.
والمتتبع لتاريخ اليهود وفرقهم وسحنتهم، يلمس من أول نظرة الفرق الكبير بين يهود البلاد العربية، إذا قارنتهم بيهود أوروبا، ولكن هناك فريقا ينفرد بميزات خاصة عن يهود أوروبا هو فريق يهود الروسيا. أنهم عنصر قائم بذاته، لأنه يأتي من بلاد لا تزال القرى والمدن فيها تحمل أسماء تترية آسيوية، فهو من هذه الناحية يختلف تماما عن غيره من يهود العالم لأنه يمتاز بشدة المراس والشجاعة. والغريب أن ينشأ صاحب القلم الثوري في وسط غير عمالي، فهو يقرر أن والده كان في سعة من العيش، وأنه لم يذق قط في حياته شظف الحرمان، وأن الثورة التي دعا إليها وكافح طول عمره من أجلها، انتهت بحرمان والده من مزرعته وتشتيت أفراد عائلته الذين اضطهدوا في عهد القيصرية ثم من جيوش دنيكين وفرانجيل بحكم قرابتهم له طول أيام الحروب الأهلية، ولما جاءت جيوش البلاشفة اتهموا كرجال رأسماليين، فكان نصيبهم سيئا في الحالين.
إنني لا أزال أذكر جيدا، كيف قرأت له لأول مرة في حياتي، فقد كنا نقيم طول أيام الحرب العالمية الأولى في ضاحية المعادي، وفي سنة 1920 بعد انتهاء الحرب كنت بمحطة باب اللوق، حينما وقع نظري على كتاب بعنوان (الثورة الروسية) بقلم ليون تروتسكي، وهو على ما أذكر أول كتبه، ورغم أنني كنت في السنوات الأولى بمدرسة الحقوق بمصر، ومعلوماتنا في اللغات الأجنبية كانت محدودة، فقد استهواني الكتاب وقرأت فصوله التي تحدث فيها عن الثورة الروسية، ومحاولات عقد الصلح بين روسيا من جهة ودول ألمانيا والنمسا وتركيا وبلغاريا من جهة أخرى ولا أخفى القارئ أنني تأثرت من كتابة تروتسكي وقلمه، فانطبعت في مخيلتي الثورة وحوادثها ومآسيها، وتعرفت على أسماء البلاد الروسية وأشخاص السوفييت، فاستعملت كل ذلك في محادثاتي مع الكثيرين من الضباط الروس الذين جاءوا لمصر، كانوا يملئون شوارعها عقب هزيمة القوات الوطنية، التي حاولت إخماد ثورة البلاشفة.
كان هذا أول اتصال لي بتروتسكي، الكاتب المؤرخ للثورة الروسية التي قامت سنة 1917.(904/16)
ثم رأيته رأى العين، وكان ذلك في استنبول حينما نفى إلى تركيا، فقد كنت أتناول الغذاء في مطعم روسي بحي (بيوغلى) حينما جاءت المضيفة وهي سيدة من الروس البيض، وأسرت إلى بأن أنظر إلى مائدة عليها جماعة من الناس، تحيط بها عدة موائد مشغولة برجال يظهر على سحنتهم أنهم من رجال الأمن، ثم قالت: ها هو تروتسكي بين الجالسين قالت هذا والفرح يشع من عينيها. أنها كانت تنتظر هذا المصير لجميع رجال البلاشفة، والعودة إلى وطنها حيث ذكريات الماضي، أنها كغيرها كانت تحلم بالفردوس المفقود. . .
ولما توجهت لتلك الناحية بناظري، رأيت عن قرب الرجل الذي كتب المذكرات التي رافقتني في ذهابي وإيابي بقطار حلوان قبل ذلك العهد بأكثر من عشر سنوات، رأيته جالسا أمامي على بعد خطوات مني، فكان أول ما لفت نظري تلك اللحية المدببة على وجه أصفر اللون، أظهر ما فيه النظارتان ثم العينان، أن لهما لونا خاصا بين الزرقة والخضرة الفاتحة، أنه قريب الشبه بالصور المنحوتة على بعض المعابد المصرية القديمة، والتي تمثل جماعات الآسيويين في هجرتهم من آسيا إلى أفريقيا. . .
رأيته رقيق الجسم أقرب إلى القصر منه إلى الطول، يحوطه شيء من الغموض والانكفاء على نفسه، فهو قليل الكلام مع من معه، مقتر على نفسه حتى في تناول الطعام.
جاء تروتسكي إلى تركيا بناء على اتفاق سابق مع السوفييت، بعد أن ضيق هؤلاء الخناق عليه إبتداء من أوائل سنة 1928، فبعثوا به إلى أواسط آسيا حيث قضى سنة على حدود أراضي الصين، ولما خفتت أصوات أنصاره وتبين للسلطات أنه لم يعد ينفع ولم يعد يضر، سمحوا له بمغادرة البلاد، ووافقوا على أن يقيم بتركيا، فنزلها في فبراير 1929 واختار أن يسكن في منزل بسيط بجزائر الأمراء، الواقعة أمام الشاطئ الآسيوي.
وكنا كثيرا ما نذهب لقضاء يوم بطوله في تلك الجزر الجميلة وفي أحد الأيام طرأت علينا فكرة زيارة تروتسكي والتحدث إليه، وجاء الاعتذار عن لسانه بالتلفون رقيقا، مما يدل على أن الزعيم قد أعطى كلمة الشرف، على ألا يستقبل غير أهله واخصائه في منفاه، وهكذا رأيت تروتسكي وضاعت مني فرصة التحدث إليه والسماع لأقواله ونظرياته.
يحدثنا تروتسكي عن نفسه في كتابه عن تاريخ حياته، فيقول أن الطبيعة قد قضت عليه منذ نشأته: أن يكون ثوريا انقلابيا، فهو قد ولد ونشأ وعاش وكافح من أجل أفكار ومبادئ(904/17)
وآراء معينة، تثبتت في مخيلته وتملكت نفسيته وملأت روحه فلم يستطع أن يحيط عنها، أو يجد عنها حولا طول السنوات التي عاشها.
وقال أنه نشأ وترعرع في وسط غمرات تعاليم الثورة، فلم يشعر في قرارة نفسه بأنه ملك شعب من الشعوب أو جنس من الأجناس أو دين من الأديان، فانتهى به الأمر أن أصبح أمميا، أي ملكا للأمم كافة، لا يعرف سوى مذهب العالمية، هذه العالمية التي جعلت منه في النهاية بعد سنوات النفي بولشفيا، يقود أكبر ثورة عمالية على الأرض في وسط بلاد تعد أكثر البلاد تمسكا بالرجعية.
وقال (أنه يؤمن بالثورة على حد أنها تغيير بطيء أو عنيف يصيب الكيان السياسي والاجتماعي والدستوري، نتيجة لتبدل الأسس الاقتصادية والإنتاجية لأمة من الأمم) وهو التفسير الذي وضعه كاوتسكي قبله في كتابه الثورة الاجتماعية.
ولكن زعيم الانقلاب الروسي، كان يعلم في داخلية نفسه أن أكثر من تسعة أعشار الشعوب الروسية ضده، وأن عنصر المفاجأة والتضليل والدجل على الجماعات هو الذي مكنه من الحصول على انتصاراته الأولى: وقد كان إذ كسب الجولة الأولى. .
فما الذي ساعده على الوصول إلى مقام الزعامة بجوار لينين ثم ما الذي أنزله من مكانته؟ إن القلم الذي يحمله تروتسكي، كان ثوريا إلى النهاية في كل قطرة من مداده،. . . لهذا أقر الناس بأن كتاباته هي أقوى أسلحته وأشدها فتكا وأعمقها أثرا فهو قد بلغ أعلى المراكز وقدم للثورة أعظم الخدمات، وأنشأ الجيش الأحمر وانتصر به في الحروب الداخلية وفي رد العدوان الخاص عن أراضي السوفييت، ومع ذلك وضع في الصف الثاني بعد وفاة لينين، وأبعد من المناصب التي يؤهله علمه وعمله وجهاده لها، فمال للعاطفة حينا حتى أخرج للناس كتابه عن ثورة عام 1917، فإذا أهم ما فيه سبعون صفحة جعلها نقدا وتحليلا لحوادث ثورة نوفمبر من تلك السنة، كانت بمثابة تتويج لعمله الثوري الانقلابي في الثورة الروسية، حيث أبرز فيها ما قام به من أعمال. . .
وهنا قامت قيامة الحزب الشيوعي عليه فسلقه رجاله بألسنة حداد إرضاء (لاستالين) هنا وكتبوا عنه في لجانهم ومجتمعاتهم:
(أنه يضع المقاييس لنفسه ولأقرانه، ويصور بقلمه الجبار صورته للناس ويشيد بعمله كي(904/18)
يخرج من كل ذلك أنه الصانع الأول وصاحب القدح المعلى في ثورة نوفمبر ولولاه هو لما قامت ثورة البلاشفة).
ترى لو تركوه ماذا كان يحدث في أراضي السوفييت؟
سؤال لم يترك له الوقت لأنه ما لبثت أن انقلبت الصحافة عليه، في أنحاء الاتحاد السوفييتي تدعو إلى جمع كتبه وحرقها وقالت:
(أنه كشف النقطة الضعيفة في درعه. . . أن الثائر للكبير قد تملكه الغرور، وهو داء رأسمالي لا يعرف طريق الولوج إلى قلوب الثوار، أن تروتسكي يحاول أن تقتن به الناس وأن تخضع لعظمته الجماعات، أن طابع الغرور والأنانية ومحبة الذات من بقايا العصور البائدة، أما رجال الثورة فيعيشون من أجل الثورة لا من أجل أنفسهم). ثم تساءلوا. . .
(من هذا القزم الذي يحاول أن يضع نفسه على مقعد الزعماء الخالدين؟ فيحط من قدر إخوانه وزملائه في الجهاد، ويحاول أن يجعل من مقاييس الثورة المنبثقة من تطور التاريخ وكفاح السوفييت وتأييد الجماعات، غشاء لا رضاء نفس متحيرة مترددة ضعيفة. . .)
(أنها نفس تقبل على عاتقها أن تحط من جلال عمل كبير، وأن تنسب إلى جهودها إخراج المستحيل والوصول إلى عظائم الأمور وأصعبها وأنه (لولاها لما قامت للثورة قائمة).
(أن هذه النفس مريضة وفيها بقايا الإنسان الرجعي)
ويعذرني القارئ إذا قلت أن تروتسكي لقى جزاء سنمار بعد هذه الحملة التي جعلته عدوا للنظام القائم الذي أخذ يتتبع أنصاره واتباعه ويبعدهم واحدا بعد الآخر عن مناصب الدولة.
ثم جاءت الخاتمة. نعم أن الرجل الذي أفنى عمره في سبيل الثورة وأتاه نبأ احتضار والده، وهو يرأس لجنة شؤون الحرب بقصر الكرملين، لم يشأ أن يوقف عمل اللجنة ليودع والده الوداع الأخير، بل استمر في رئاستها يناقش أعضائها.
وجاء وقت دفن أبيه فلم يشأ أن يقوم من مقعده. أنه يعتبر نفسه قد تحرر من أمراض الرجعية، ويريد أن يضرب بنفسه مثلا لما يجب أن يكون عليه رجل الثورة الذي لا تشغله الغرائز ولا تجد العواطف أو الواجبات مدخلا لقلبه، ولكن ماذا كانت خاتمته؟ كانت النفي والتشريد ثم القتل بعيدا عن الثورة، وعن الفردوس الذي تصور أن يقيمه بيديه، وانتهت حياته في المكسيك، ولم يحظ برثاء أو تقدير من هذا النظام الذي أقامه وتعهده وكافح من(904/19)
أجله. . .
لقد قرأت خبر نكبته وفعلته ووضعت أمامي ما كتبه هذا الزعيم في أوائل الحكم الشيوعي: -
لقد كان من نتائج هذه الحرب (14 - 1918) أن تزعزعت أركان الرأسمالية فأخذت تنهار، وها نحن نبرز إلى الوجود بجرأة وعزم فلا يمكن لقوة في العالم أن تقهرنا. ألا يشبه هذا ما يقوله دعاة السوفييت اليوم؟ إنهم يحلمون بالثورة الكبرى كما كان يحلم تروتسكي، ويرددون قوله: إن السور المحكم الذي يحاول الأعداء من قوى الاستعمار والرأسمالية أن يحيطونا به، سنحطمه تحطيما. . . أنهم ستأخذهم رجة واحدة وسوف تلبي الجموع دعوتنا وتأتي صفا صفا إلينا، لإنشاء العالم الجديد؛ بإرادة لا تعرف التراجع، لأن القوة العمالية المركزة تحت عزيمة ثابتة لن تقف أمامها عقبة. ولن يحول دون انتصارها حائل. وهكذا استمر الزعيم يتنبأ كتنبؤات بني إسرائيل فقال: (ألا فأعلموا. أن التاريخ يحارب في صفنا، والزمن حليف لنا، أن الثورة الاشتراكية ستنشب حتما في كل من أوربا وأميريكا، مهما بعد الزمن أو قرب) ومر الزمن فلم يحدث شيء من ذلك. لقد أسكرت نشوة الظفر تروتسكي فإذا بنى الشيوعية يغرق في غمرات الأحلام والآمال، وبقى راديو موسكو يردد نبوءات تروتسكي ثلاثة وثلاثين عاما، ولم تقم الثورة العالمية الكبرى، ولم ينشب الجموع أظفارهم في رقاب الطبقات الحاكمة: لقد كان تروتسكي يقيس العالم بما رأته عيناه في روسيا، فإذا بها تنفرد وحدها في طريق والعالم في طريق آخر: -
لقد مات تروتسكي، وإذا بأحلامه أبعد عن التحقيق اليوم من سنة 1917، وإذا نحن في بداية النهاية. إن الثورة التي أحسن أدارتها من مكتبة في مدرسة بالعاصمة الروسية سنة 1917 قد خمدت وهي تتطور وتسير نحو الانكماش، وقد يأتي يوم تسير فيه إلى المنفى كما سار هو من قبل.
كان كارل ماركس ولينين من جبابرة الفكر، وكان تروتسكي من جبابرة الثورة، وقد تركوا من الأنقاض والخرائب في الروسيا وغيرها ما يشغل جيلا، أنها خسائر المادة. أما ما تركوه من الآلام وضياع الآمال فلا سبيل لإصلاحه. إنها كانت تجربة قاسية دفعت ثمنها الإنسانية غاليا (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم رشدا).(904/20)
أحمد رمزي(904/21)
ما رأيت وما سمعت
في سورية ولبنان
للأستاذ حبيب تلزحلاوي
- 3 -
أجملت في مقالي السابق بعض المسائل الهامة التي تدور في سوريا اليوم، وقد كان من الضروري شرحها وتبسيطها ليقف القارئ على حقيقتها، أما آلا وقد زالت الأسباب التي الجأتني إلى الإجمال دون التفصيل، وذلك بنقل شركات الأنباء أخبار الاعتداء على العقيد أديب الشيشكلي، زعيم الانقلاب الثالث والمؤامرة التي دبرت لرئيس الوزارة والمجلس، فقد صار من الواجب علي أن أتبسط في الشرح، لاعتقادي أن الأحداث المقبلة قد لا تقف عند حد إطلاق الرصاص على ضابط كبير، بل هي أعظم وأخطر من التآمر على حياة وزير أو رئيس.
ليست سياسة الحكم، ولا حب الاستئثار بمقاعد الحكم، ولا اختصام الأحزاب على موارد الكسب عن طريق الحكم، هي سبب الاضطراب والقلق والخوف الذي يحسه كل سوري، ولا هي العثرة في طريق الاستقرار المنشود، إنما مرد ذلك إلى نقرة قائمة بين جيلين يرى الواحد مالا يمكن أن يراه الآخر تعصبا وعنادا، وينكر عليه كل عمل يعمله ادعاء وعنجهية لا لأن أعمال هذا أو ذاك فاسدة أو صحيحة، بل لأن الجيل الجديد يعمل بروح لا تقوم للملك قائمة بدونه، وأن هذا الروح لا أثر له البتة في نفوس وعقول أبناء الجيل القديم. ومن العجب العجاب أن ضباط الجيش قد حشروا ذواتهم حشرا في هذه الخصومة الطبيعية. لا باعتبار أنهم بعيدون عن المؤثرات النفسية ودوافعها، بل لأنهم في مستوى عقلي يجعلهم غرباء عن أبناء الجيل المتقلب بين الميوعة والتحجر، وعن ابن الجيل الجديد المتوثب للعمل المجدي.
صحيح أن السوري من أبناء الجيل السابق قام بأعمال باهرة مجيدة في ميدان الكفاح والدفاع أبلغته، بعد لأي وجهاد، الغرض الذي صبا إلى تحقيقه وهو (الاستقلال) ولكن ما قيمة هذا الاستقلال - في نظر ابن الجيل الجديد - ما قدره والأهواء السياسية تتقاذفه(904/22)
وتتلاعب به وأن المتلاعب المساوم هو الرجل الذي دافع وكافح لنواله؟؟!!
يحسن أن نرفع اللثام قليلا لنبين طرفا من وجه المسألة المشكلة التي أحدثت النفرة بين الجيلين، أي النفرة المستحكمة بين الوالد والولد، فأن فعلنا نجد أن مسألة (سورية الكبرى) هي المشكلة الكبرى والسبب الأوحد في كل ما وقع ويقع وسيقع وسوف يقع بين أبناء سورية من جهة واحدة، وبينهم وبين أبناء العراق وشرق الأردن ولبنان، نعم ولبنان أيضا من جهة ثانية، وأن العلة أو المشكلة ستبقى قائمة ما دامت سياسة الاستعمار البريطاني لم تبلغ كل أغراضها بعد، ومادامت الأيدي (العربية) المأجورة لأجل تحقيق هذا الغرض عاجزة عن تحقيقه.
ما هو هذا الغرض الذي ترمي إليه سياسة الاستعمار البريطاني؟
ليس الرد على هذا السؤال بالعسير حتى على رجل الشارع في دمشق وبغداد وعمان وبيروت، لأن سياسة الاستعمار البريطانية التي جعلت من الوطن القومي اليهودي (دولة إسرائيل) غير المعترف بها من الدول بعد، وجعلت من لبنان (جمهورية مسيحية) ضمن سلامتها وتعهد بقاءها في وضعها الحالي، كل من إنجلترا وأمريكا وفرنسا، تريد أن تجعل من (سوريا الكبرى) مملكة إسلامية هاشمية.
من يراجع خطب المطران مبارك، بل من يراجع الكتاب الأزرق الذي رفعه السيد نوري السعيد إلى وزير الدولة البريطاني مستر كابسي، والذي تطوعت جمعية (الاتحاد العربي) في مصر بطبعه وتوزيعه على نفقتها، هذه الجمعية التي تدعو إلى (اتحاد عربي إسلامي) يرأسها المرحوم توفيق دوس باشا القبطي، ويدير أعمالها بحنكة ونشاط (الشيخ المحترم خليل ثابت بك رئيس تحرير المقطم الأسبق يعاونه الخواجه أرفش أيضا، أقول من يراجع كتاب السيد نوري السعيد يجد أسبابا اقتصادية واجتماعية وسياسية وجيهة دفعته إلى رفع تقريره إلى وزير الدولة البريطاني بشأن (سورية الكبرى) وبه يقول (. . . ويحتاج العراق إلى منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط لنفطه ومنتجاته، وتحتاج فلسطين التي تتحول بسرعة إلى قطر صناعي إلى أسواق لمنتجاتها، وتحتاج إلى نفط ووقود لمعاملها. . ويكتفي دولته بهذه الأسباب الاقتصادية لحلف سوريا الكبرى لتمد فلسطين أي دولة إسرائيل التي تحولت إلى قطر صناعي تحتاج معامله إلى نفط العراق ويسكت عن السبب الآخر الذي يجعل من(904/23)
سوريا الكبرى مملكة هاشمية تقف سدا في وجه المملكة السعودية العربية التي يتحكم الأمريكان في نفطها وينعم أهلها بالدولار والذهب، ناهيك بوضع شرق الأردن السياسي ومعاهدته المعهودة مع الإنجليز، وبالفرق بين وضع سوريا المستقلة السياسي.
لقضية سوريا الكبرى جوانب أخرى خلاف الجانبين السياسي والاقتصادي، ولعل الجانب العاطفي فيها هو أكثر الجوانب حساسية لاتصاله المباشر بالدين الحنيف، ولالتصاقه بمجد العرب الذي يتشوق كل مسلم إلى استعادة عزه وسلطانه.
من هذا الجانب الحساس، يتقدم العراقي المسلم من سوريا المسلمة، ومن هذا الجانب الشعوري تتقرب وفود جمعية (الاتحاد العربي) وهم مسيحيون كما عرفت، من أبناء سورية المسلمة، ومن هذا الجانب الديني المقدس يتودد دعاة البيت الهاشمي إلى رجالات سورية؛ ولكن إلى أي فئة من أبناء سوريا يتقدم هؤلاء الدعاة وسورية كما عرفت منقسمة قسمين، جيل قديم يضع رجله في حفرة القبر وتتطلع عينه إلى متع الحياة الغرور، وجيل جديد يؤمن بمستقبله، ويعمل له، ويكافح من أجله، ويشيد بناءه لبنة لبنة، وهو مجد في تكوين ذاته تكوينا (إدولوجيا) ببعده من مخاطر الخوف والقلق واليأس، ويدنيه من الاعتماد على النفس بالتربية السياسية وتقويم الأخلاق.
هنا نرى الدعاة المأجورين يتخطرون في مشيتهم، ويشمخون بأنوفهم، ويبشون بشاشة ناصلة اللون عندما يتقدمون من الشيوخ السوريين الواضعين أرجلهم في حفر القبور يحملون لهم الذهب الإنجليزي. والجنيه الإنجليزي، والتعضيد الإنجليزي، ثم الأجر العظيم المرتقب عند الله في اليوم الآخر لكل عامل في خدمة الدين وعز الإسلام، ومجد العرب!!!
وترى هؤلاء الدعاة أنفسهم، ينكصون على أعقابهم بوجوه شاحبة كاحلة كلما حاولوا الدنو من الشباب المتعلم، الذي لا يخامره شك في أن هؤلاء الدغاة، إن هم إلا خدام أجراء لأسياد غاصبين مستترين وراء ستار شفاف (هم الإنجليز) الذين لا يريدون بهذا الشرق العربي خيرا إلا الخير الذي يعود على رس العزبة أو الإقطاعية.
هنا يصطدم الولد بالوالد في حدود التقاليد العربية وعادات الأسرة. هنا تقف الفتاة إلى جانب أخيها تشد عضده وتوازره وتسانده في رد أبيه إلى صراط الوطن، وعز القومية، وشرف الإنسانية، ودفع غائلة الأجنبي المستقوي.(904/24)
هنا يقف الوالد من أولاده، يضحك من اعتزازهم بالعلم واعتزازهم به، ويسخر من جدهم في أمر الوطن والقومية، ويسخط على هذا الجيل الذي لم يتعلم ما تعلمه هو في ميدان الجهاد والمنافع.
ليست الفوارق بين جيلين، ولا اصطدم عقليتين، ولا اصطرع الأحزاب، ولا انصراف التاجر والزارع والعامل إلى عمله الخاص، ولا قرارات النواب، ولا إلزام السلطة التنفيذية الأمة بقرارات النواب، ولا وقوف الجيش يساند هذه الفئة من أبناء الأمة ويناصرها أو يخذل تلك الفئة ويتخلى عنها، ليس كل هذه الأمور مجتمعة هي التي ستدنى أو ستحول دون وقوع (شجار أهلي) منتظر مرتقب، إنما الذي سيدنيه أو يحول دونه أي دون (اضطراب داخلي) هي القوة العسكرية التي ستفرض سلطانها فرضا تعسفيا على سورية والسوريين، فتهد عرشا قوامه الآمة، وتقيم عرشا ليس في وسع الأمة إنكاره أو التنكر له، وأن هذه لا تكون حتما عراقية وأردنية ولا سورية أيضا بل تكون من المرتزقة من جميع هؤلاء، وأن موعد ظهور هذه القوة في ميدان العمل، ليس رهنا بمشيئة الأمم العربية، إنما هو رهن بالاتفاقات وتبادل المنافع، وبالظروف السائحة، وانتهاز الفرصة. وأزعم أن الإنجليز لا يخطون بسرعة هذه الخطوة الحمقاء.
هل في وسع شباب سورية الحيلولة دون وقوع هذه النكبة؟
حبيب الزحلاوي(904/25)
زائرة الحمى
(إلى شاعرة العواطف النبيلة الآنسة الفاضلة فدوى عبد الفتاح
طوقان. . تحية إعجاب وتكريم)
للأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو
أهلا بزائرة الحمى!. أهلا بمقدمك الأغر!
بأحب شاعرة تطالع خاطري بأحب شعر
ينهل من شفق العواطف والخيال المستسر
أنى حللت من الحمى. . حيتك جانحة وعين
وهفت تقبل خطوك ألحاني شفاه الضفتين
أهلا بزائرة الحمى. . عفوا. . فلست من الزوائر
لست الغريبة عن حماي، وإن تباعدت المخاضر
عفوا. . فأنت شقيقتي في الروح، في نسب المشاعر
وحماك - والهفى عليه من الذئاب، من الدخيل
هو - ما علمت - جوى حماى ودمع أهداب النخيل
أختاه! أية فرصة طافت على وتر القلوب؟
فترنمت خفقاتها - طربا - بمقدمك الحبيب
أهوى أعبر عن شعور النيل بالكلم الرغيب
فأرى مقاليد البيان لدى عاصية مدله
فلتعذريني إن عييت فلم أبن إلا أقله
لوددت لو أني قدمت إليك من جوف الصعيد
أروى النواظر بالتلاقي والخواطر بالنشيد
لكنها بعض القيود، وبعض أغلال الوجود
وشواغل قصت خطاي. . وزهرتاي الآدمية
وهما رغابى في الحياة. . هما وأنغمك الشجية(904/26)
أختاه! هذي مصر في حلل الصباحة والرواء
والنيل نشوان الضفاف يتيه من فرح اللقاء
فترشفي كأس الهناء، ورددي لحن الصفاء
وانسي به شكوى الزمان فقد يؤوب إياب نادم
قدح المقادر لم يزل متنقلا فوق المباسم
لم تشتكين من الحياة. آثرت آلامي بنفسي؟
لم تشتكين من الزمان، وما عدوت حدود أمس؟
لا تنصتي لليأس، ما خلق الشباب نديم يأس
من كان مثلك في يديه معازف الدنيا الجميله
جعل المسرة في الحياة وفرحة الدنيا سبيله
أختاه! ألف تحية لك من قلوب تخفق
لو كان ينبوع البيان على فمي يتدفق
لنظمت ما زخر الفؤاد به وألوى المنطق
إن لم تكن كل المنى ذي، فلتكن رمز المنى
شتان بين جناحك الضافي، وخافيتي أنا
أهلا بزائرة الحمى، أهلا بمقدمك الأغر
بأحب شاعرة تطالع خاطري بأحب شعر
ينهل من شفق العواطف والخيال المستسر
أنى حللت من الحمى، حيتك جانحة وعين
وهفت تقبل خطوك الحاني شفاه الضفتين
(طهطا)
عبد الرحيم عثمان صارو(904/27)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى معالي وزير المعارف في العراق:
سيدي الأستاذ
سألت عنك، فقيل لي إنك أحد هؤلاء الممتازين خلقا وثقافة. وحين علمت هذه الحقيقة، قد قررت على الفور أنك تقرأ (الرسالة) وتألف صرير القلم، وتستجيب لدعوة الحق، ولهذا كتبت إليك. . فليس أحب إلي من أن أتحدث إلى رجل ممتاز أو أخلو إلى كتاب ممتاز، لأن كليهما لن يضيق بصحبة الأدب ولن يتنكر لرسالة الوفاء!
وأحمد الله أنك في المكان الذي أحب لأمثالك من الممتازين أن يكونوا فيه، وأشكر للعراق فطنته في اختيار الذين يحملون ألوية العلم ويشرفون على تربية الجيل، وينثرون في أرض المعرفة بذور نهضة فكرية يشتد منها العود وينضج الثمر. من حقك علي إذن، ومن حقك على (الرسالة) ومن حقك على كل صاحب قلم يربطه بك سبب من أسباب الفكر أو صلة من صلات اللغة أو آصرة من أواصر الجوار، أن نبعث إليك بأخلص التحية وأصدق التقدير، مع الأمل المصحوب بحرارة الرجاء. . ومن حقي عليك، وحق (الرسالة) وحق هؤلاء الذين أتحدث إليك باسمهم هنا وهناك، ألا تخذل ثقتنا بك ورجاءنا فيك، لأن القضية التي نعرضها عليك هي قضية الشعر المظلوم والحق المهضوم والفن الشهيد، فوق ثرى هذه الأرض الطيبة التي أنبتتك. . أرض العراق الحبيب!
قضية اليوم التي نتقدم بها إلى ساحتك، هي قضية الشاعر العراقي المطبوع الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري. . ترى هل استمعت إلى صرخته التي أطلقها منذ قريب على صفحات (الرسالة)؟ أننا نرجو أن تكون هذه الصرخة قد حطمت السدود والقيود، وعبرت الآماد والأبعاد، لتصل إلى سمعك وتنفذ إلى قلبك. . وندعو الله أن يكون سمعك قد ألتقط صرخة الشعر وأن يكون قلبك قد أهتز لزفرة الشاعر، كما التقطتها الأسماع هنا واهتزت لها القلوب!
مصدر هذه الصرخة يا سيدي هو أن العراق - ممثلا في شخص وزير المعارف الأسبق السيد نجيب الراوي - قد عطف يوما على عبد القادر فأرسله إلى جامعة باريس ليطلب(904/28)
فيها العلم. . وقبل أن أمضي في طريقي لأعرض عليك أدوار هذه القضية، أود أن أقف لحظة لأخفض قلمي تحية للسيد نجيب الراوي، هذا الرجل الفاضل الذي يسعدنا نحن المصريين ويثلج منا الصدور أن يكون اليوم بيننا ممثلا لبلاده أخفض قلمي تحية له لأنه عطف على عبد القادر حين لمس في شعره الموهبة وطالعته منه دلائل النبوغ، فأشفق على الفن أن يختلق في الظلام فأخرجه إلى رحاب النور، وبعث به إلى باريس ليتعلم على نفقته الخاصة. . لم يظن السيد نجيب الراوي على الشاعر بماله، بل جعل من هذا المال حقا كريما لأصحاب المواهب والملكات. وأوشك أن يزيد من فضله حين عزم على أن يشرك الدولة في تقديره لرسالة الفن، وذلك بأن تقدم وزارة المعارف لهذا الشاعر منحة سنوية تعينه على استكمال دراسته في أروقة السوربون، ولكن الأقدار تتدخل فتحول بين الوزير وبين أن يحقق للشاعر ما كان يتطلع إليه من الأمل المرتقب في ظلال الوعود.
استقالت الوزارة التي كان فيها السيد نجيب الراوي وزيرا للمعارف قبل أن يتم التصديق على الميزانية التي أدرج فيها الوزير تلك المنحة السنوية للشاعر، وأعقبتها في الحكم وزارة السيد توفيق السويدي التي أحلت محل السيد الراوي وزيرا آخر هو السيد سعد عمر. ومن باريس كتب الشاعر إلى الوزير الجديد يشكو إليه حاله، حال المكافح الباسل في طلب العلم حين تقسو عليه الحياة وهو غريب الأهل والدار، حال المواطن الصادق حين يفزع إلى وطنه مطالبا ببعض ماله على هذا الوطن من حقوق! ولكن العراق ممثلا في شخص الأستاذ سعد عمر لم يستمع لصرخة الفن الشهيد يطلقها عبد القادر، فأغلق دونها منافذ القلب والسمع والشعور. . واستمر عبد القادر يكافح، يكافح وحيدا، لا يد بالعون تمتد إليه، ولا صديق بالذكر يعطف عليه، ولا نسمة رخية من أنسام الوطن البعيد ترطب من حوله جفاف الحياة. وحين فقد آخر منحة من فيض السيد نجيب الراوي، وأخر أمل في إنسانية السيد سعد عمر، وآخر مورد من موارد الرزق الشريف، وآخر قطرة من سيل العرق والدموع قفل راجعا إلى العراق. . قفل راجعا ليبكي (شبابه الدامي) على صفحات الرسالة!!
واليوم تنطلق هذه الصرخة المدوية ومعالي الأستاذ خليل كنه وزير المعارف في العراق. ماذا أقول لهذا الرجل الممتاز وأبصارنا شاخصة إليه وأفكارنا متعلقة به؟ أقول له تلك(904/29)
الكلمات التي قلتها في هذا المكان منذ أيام، وهي أن عبد القادر وتر من الأوتار الصادحة بأنغام الحق والخير والجمال، فلماذا يريد العراق لهذا الوتر أن تخمد أنغامه وهو يغني له ويتغنى به؟ أهو يضيق بصوت الحق فلا يسمع، وبمعنى الخير فلا ينظر، وبسر الجمال فلا يطرب وبصرخة الفن الشهيد فلا يستجيب؟! أنها مأساة. . أن أرى العراق يحول بين أحد شعرائه وبين نور العلم، وهو بهذا النور سيضيء لوطنه أقباس الأمل ومشاعل الرجاء!
أننا نعيذ العراق من مثل هذا الاتهام في عهد هذا الرجل المثقف الممتاز. . خليل كنه! أن عبد القادر يا سيدي منكم منصبا من المناصب، ولا لقبا من الألقاب، ولكنه يطلب منكم أن يغترف من مناهل العلم، وهذا - كما قلت أيضا بالأمس - هو أقل ما يجود به وطن على فنان!
ترى هل أنتظر لهذا الشاعر خيرا على يديك؟ إنني أريد أن أسجل لك هذه المنة على صفحات (الرسالة)، وأذهب إلى أبعد من هذا حين أربد أن يسجلها لك تاريخ الأدب. . صدقني أن تاريخ السياسة ليغفل أحيانا عن تسجيل بعض المآثر لبعض الممتازين، ولكن تاريخ الأدب من الوفاء بحيث لا يقفل عن أمثال هذه المآثر حين يعرض لها بالذكر الجميل. وهذا هو موقف التاريخين من وزير المعارف المصري محمد محب، حين غفل عن مأثرته التاريخ الأول وذكرها التاريخ الأخير. . محمد محب الذي أكرم الفن في شخص حافظ إبراهيم حين أنتشله من مهاوي البؤس فكرمه تاريخ الأدب وعطر بمداد التقدير خلقه وذكراه!
أن تاريخ الأدب العربي الحديث لا يذكر حافظا إلا وذكر في مجال الحديث عنه محمد محب. . لأن هذا الرجل الكريم كان نفحة صادقة من نفحات الكرامة العقلية في مصر؛ الكرامة الوفية للخلق والمخلصة للقيم، حين تنشد في ضوء المثل العليا أقدار الرجال! وأي وفاء للخلق وأي إخلاص للقيم أصدق من أن يمد هذا الوزير المصري يد العطف والرحمة إلى حافظ إبراهيم لينقله من حياته المشردة في الشوارع والقهوات، إلى حيث يوفر له من رغد العيش واستقرار النفس وراحة الجسم ما يليق بمكانة شاعر. . هناك حيث قدر لحافظ إبراهيم أن يكون مديرا لدار الكتب المصرية؟!(904/30)
إننا نقدم هذه القصة المثالية لمعالي وزير المعارف في العراق. . نقدمها والأمل يملئ نفوسنا بأن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه؛ تاريخ الأدب العربي بعد أن تنصف وزارة المعارف العراقية هذا الشاعر، ويجيء اليوم الذي تخصص فيه بعض صفحاته للحديث عن مثلين نادرين من أمثلة الكرامة العقلية: هما محمد محب هنا وخليل كنه هناك!!
أن تاريخ السياسة كما سبق أن قلت، قد يسهو عن أن يثبت هذه المأثرة لمعالي الأستاذ خليل كنه، لأنه تاريخ لا يسلم من أن تعبث بسطوره يد الأهواء والأغراض. . أما تاريخ الأدب يا معالي الأستاذ، فهو أشرف قصدا وأنبل غاية، وأكثر بقاء على الزمن وصمودا على الأيام!
لحظات مع الرسام (الفرنسي) بيكاسو:
طالعت في العدد (902) من الرسالة، ما كتبتموه ردا على الأستاذ مختار العطار الذي يقول عن الرسام السريالي (بيكاسو) أنه أسباني وتخالفونه بقولكم أنه أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة وتجنس بالجنسية الفرنسية منذ أمد بعيد، وأن أسبانيا اليوم لا تعتبره واحدا من أبنائها ولا من فنانيها.
ومع إعجابي بكم واحترامي لكم، أقول أنه لم يجترأ على الحق في رده عليكم، ذلك لأن (بيكاسو) قد ولد عام 1881 وتعلم الرسم عن والده ودرس في مدرستي مدريد وبرشلونة للفنون الجميلة. وفي عام 1900 سافر إلى فرنسا، أي أنه أمضى تسعة عشر عاما في أسبانيا وأقام في فرنسا نهائيا وتجنس بالجنسية الفرنسية كما تقولون.
أما قولكم بأن أسبانيا لا تعتبره اليوم واحدا من أبنائها ولا من فنانيها فهو قول يخالف الواقع، لأنه لو كان كذلك لما عرضت الحكومة الأسبانية بعض لوحاته في معرض الفن الأسباني هذا العام مع زمرة الفنانين الأسبان. إننا حين نقول إن (بيكاسو) أسباني نكون أقرب إلى الصواب مما إذا قلنا أنه فرنسي. وختاما لكم احترامي وتحياتي.
مصطفى أحمد
طالب بالفنون الجميلة العليا قسم التصوير
أشكر للأديب الفاضل أدبه في الخطاب واهتمامه بالتعقيب، وأقول له: إن هذه المعلومات(904/31)
التي حملتها إلى رسالته عن الرسام السريالي (بيكاسو) معلومات لا غبار عليها من الناحية التاريخية، ولكنها في حاجة إلى أن نزيل عنها الغبار من الناحية الفنية! لقد قلت عن (بيكاسو) إنه أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، ومع أنني أعلم أنه أمضى في أسبانيا تسعة عشر عاما من سنى حياته التي أشرفت على السبعين مع هذا فقد قلت عنه ما قلت. لأن نشأة الفنان لا تقاس بهذه الفترة الصغيرة التي لا تنضج فنا ولا تعلي قدر ولا تسلك اسماً من الأسماء في عداد المشهورين! فإذا قلنا إن (بيكاسو) فرنسي النشأة، فإنما نعني النشأة (الفنية) الصحيحة التي تهيئ للفنان أن يكون فنانا، له أسمه وشهرته ومكانته. . . ومعنا هذا، أن تلك الأعوام التسعة عشر التي قضاها (بيكاسو) في أسبانيا، تعد بالنسبة إلى الحياة الفنية الحقة (مولد فنان)؛ ولكن تلك الأعوام الخمسين التي قضاها في فرنسا هي التي تعد بالنسبة إلى تلك الحياة (نشأة فنان). . ترى هل فهمني الأديب الفاضل وأنا احدد الفوارق الفنية بين (المولد) و (النشأة) في حيا ' الفنانين؟!
أريد أن أقول له إن شهرة (بيكاسو) الواسعة، وأسمه اللامع، ومذهبه الكلاسيكي القديم ومذهبه السريالي الجديد، كل هذه القيم الفنية لم يقدر لها أن تكون حقيقة ملموسة إلا في ضل هذه النشأة الفرنسية التي امتدت خمسين عاما. . أما قبل ذلك، فقد كان صبيا صغيرا يتلقى الأصول الأولى لفن الرسم في المدارس الأسبانية، وهي أصول لم تستطع أن تخلق الفنان الذي طبقت شهرته الآفاق. إن التسعة عشر عاما لم تصنع (بيكاسو) الذي يعرفه الناس، ولكن الخمسين عاما هي التي صنعت المعجزات. . هو إذا أسباني المولد ولكنه فرنسي النشأة، ولا أحب للأديب الفاضل، طالب الفنون الجميلة، أن يجادل في هذه الحقائق الفنية!
أما عن معرض الفن الأسباني الذي أقيم في القاهرة فقد زرته وشاهدت ما فيه من لوحات. . وأود أن أقول للأديب الفاضل إن بعض لوحات (بيكاسو) قد أقحمت إقحاما في هذا المعرض، بقصد الترويج للفن الأسباني على حساب هذا الفنان الفرنسي. . لأن رجلا مثل (بيكاسو) قد تجنس بالجنسية الفرنسية منذ خمسين عاما، وسجل أسمه ضمن مجموعة الرسامين الفرنسيين في متحف (اللوفر) بباريس، ولا يتحدث عنه (سارتر) و (جان كوكتو) إلا ويقولون عنه: (الفنان الفرنسي) مثل هذا الرجل (تتمسح) فيه الحكومة الأسبانية حين(904/32)
تقحم بعض لوحاته في معرض الفن الأسباني بقصد الترويج لهذا المعرض بلا جدال!
وأزيد على ذلك فأقول: إن الحكومة الأسبانية قد أقدمت على أن تفعل ذلك في مصر، ولا أعتقد أنها تستطيع أن تقدم على مثل هذا العمل في بلد مثل إيطاليا أو فرنسا أو إنجلترا أو غيرها من البلاد الأوربية. . . ذلك لأن لوحات (بيكاسو) المحفوظة - ولا أقول المعروضة - في متحف (اللوفر) مسجلة كما سبق أن قلت ضمن مجموعة الفنانين الفرنسيين، لان صاحبها فرنسي باعترافه واعتراف الحكومة الفرنسية واعتراف الدوائر الفنية في العالم. وقد يسألني أحد القراء لماذا تحفظ لوحات (بيكاسو) في متحف اللوفر بباريس دون أن تعرض، فأقول له: إن عرض اللوحات في هذا المتحف العالمي غير جائز للفنانين الأحياء، فإذا ما انتقلوا إلى العالم الآخر فقد أصبح من حقهم أن ينتقل إنتاجهم الفني من (الحفظ) إلى (العرض) أعني من مكانة في (المخازن) إلى أمكنته من الجدران.
شعراء في الميزان:
أنا من المؤمنين بأن النفس الإنسانية هي الحوض، بل المحيط الذي يجب أن تغترف منه أقلام الشعراء؛ وأن الوجدان هو الأفق الذي يجب أن يضرب فيه جناح الشعر. . ولا أدين بغير هذا الفن الذي يؤدي عن النفس ولست أومن بغير هؤلاء الفنانين الذين يقبسون من الوجدان. ولا أكاد أدري أي شيء هذا الذي يجعلني أعتقد أني جئت إلى هذه الدنيا، وفي هذا الإيمان؛ وأني سأنصرف عنها ولا إيمان لي - في الأدب خاصة والفن عامة - غيره!
قد لا يعنيكم شيء من ذلك كله، ولولا أنها الرسالة الأولى، أو الشذرة الأولى، أكتبها إليكم، لسعى القلم إلى ما يريد دون توطئة له بهذه الكلمات. . . غير أنني قد قرأت تعقيبكم المعجب على رسالة الآنسة هجران الأخيرة، فوقفت فيه عند رأي من آرائكم تبدونه في بعض الشعر، وحكم من أحكامكم تطلقونه على بعض الشعراء.
بدا لي أنكم بهذه الكلمة تميزون في شعر (الأداء النفسي) بين لونين من الشعر: لون يرتفع فيه اللفظ بالخيال فيعجب؛ ولون يرتفع فيه الخيال باللفظ فيهز. . شعر قوامه العبارة الموحية، وشعر قوامه الوحي المعبر. . وأشهد لقد حالفكم في هذا التمييز التوفيق كل التوفيق!
على أني ألفيتكم تضعون قصيدة (الشاعر) للحداد، وقصيدة (راقصة الحانة) للشاعر الخالد(904/33)
علي محمود طه، وقصيدة (الطلاسم) لأبي ماضي، في مستوى واحد، وتنسبون القصائد الثلاث إلى هذا الشعر الذي يتمثل وحيا معبرا، قوامه الحركة النفسية، والدفقة الوجدانية، والوثبة الخيالية، هذا الشعر الذي ما إن تقبل عليه حتى تشعر أنه ينقلك إلى جو كله رفيف، وكله أمل، وكله سلام. . جو من الأحلام، واللذائذ، والأناشيد المرقصة. . وأشهد مرة ثانية لقد أصبتم محجة الصواب في هذه المقابلة!
ثم. . . رأيتكم تجمعون في الطرف الآخر بين عزيز أباظة وأنور العطار، في صعيد واحد! وهنا أسمح لنفسي أن أختلف وإياكم بعد اتفاق، اختلف وإياكم في أمر العطار، بعد اتفاق تام معكم في كل ما رأيتموه في شاعريته، اليوم عند تمييزكم لشعره عن شعر الفئة الأولى، وأمس عند تمييزكم لقصيدة الحداد على قصيدة العطار. . وهنا أبادر بالقول إن شعر العطار ليس - على ما أرى في ظبقة شعر عزيز أباظة، ولا يمكن أن يبلغ مستواه!
أقول ذلك، وأنا قد قرأت الكثير من شعر أباظة: فهزني، وأطربني؛ وأثارني، وأشجاني، وحلق بي في جواء من الجمال والجلال والتسامي. . وأقوله، وأنا قد قرأت الكثير أيضا من شعر العطار الذي نشره، بل وقد سمعت العطار نفسه يلقى بعضه، في بعض المجامع والمناسبات. فلم أشعر بتلك الهزة، ولم أجد في نفسي أثر تلك اللذة، ولم يحفزني شيء فيه إلى التهويم مع الشاعر في واد، أو التدويم على جناحه في أفق!
شعر العطار - الذي عرفناه له على الأقل، شعر صناعة وألفاظ. . شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انفطعأت فيها الألوان وخمد البريق، ومعان أكرهت على السكون بعضها إلى بعض، فلم تكد تأتلف، ولم يكد يأنس شيء منها بشيء. . وهل نحن بعيد وعهد بقصيدته (بردى) و (عبقرية الفن) اللتين نشرتهما له (الرسالة) منذ قريب؟ إنهما قصيدتان نموذجيتان من شعره، تدلان أصدق دلالة وأوضحها على شاعرية الشاعر. . فهل يخرج منهما القارئ بشيء؟ اللهم إلا بهذه الطائفة الفنية (حقا) من مختارات الألفاظ. . كأنما الشعر الجميل ديوان المفردات الجميلة، أو قاموسها!! وبعد، فشعر العطار كما أراه، عمل ذهني، وجهد لغوي، لا يمت إلى شعر (الأداء النفسي) بصلة. . ولا كذلك شعر أباظة.
ووقفة أخرى وقفتها عند إشارتكم إلى قصيدة (الشاعر) للحداد، وتعقيبكم على هذه الإشارة بقولكم: (وقد تكون فلتة من الفلتات التي يصعب أن تتكرر من حين إلى حين). . نعم، قد(904/34)
تكون هذه القصيدة المحلقة للحداد فلتة من الفلتات. . نعم ولا بد للناقد الحصيف من مثل هذا التحفظ في إطلاق الحكم على شاعرية شاعر لم تعرف له غير قصيدة واحدة. . ولكن هل ألمح من وراء هذا الكلام شيئا من تراجع عن ذلك الحكم الألمعي الذي حكمتم به من قبل للقصيدة. . أو شيئا من فتور في ذلك الحماس الكريم الذي اقترن به حديثكم السابق عن الشاعر. . أم هذا الذي يخيل إلى أضغاث أوهام؟ أرجو أن تصدق الأخيرة!
وتقبل أيها الأستاذ الناقد أصدق آيات الثناء على جميل أدبك من المعجب:
(دمشق - سوريا)
محمد الأرناؤوط
أشكر للأستاذ الفاضل ثنائه العاطر، وأعتذر إليه من أن تضيق صفحات هذا العدد من (الرسالة) عن التعقيب، لأنه طرق من زوايا الفن الشعري ما يحتاج إلى شيء من التحليل والتحديد. . إن موعدي معه في الأسبوع القادم إن شاء الله، وأرجو أن يتسع النطاق لبعض الرسائل الأخرى في حقيبة البريد.
أنور المعداوي(904/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكرى شوقي:
كانت ذكرى وفاة أمير الشعراء أحمد شوقي بك في الأسبوع الماضي، فقد توفى في 14 أكتوبر سنة 1933. وقد كان مظهر الذكرى في هذا العام أبرز مما كان في السنوات الماضية، فقد كتبت فيها أكثر الصحف والمجلات كل على طريقتها، وإن كان ذلك لا يعد شيئا بالنظر إلى مكان الشاعر العظيم ومنزلته في النفوس.
ومما استرعى الأسماع في هذه المناسبة ذلك البرنامج الضخم الذي قامت به محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية، فقد بدأت الاحتفال بهذه الذكرى من أول أكتوبر، فخصصت الأوقات المعينة لمسرحيات شهر أكتوبر جميعها لإذاعة طائفة من مسرحيات شوقي يقوم بأدائها وتمثيلها نخبة من الممثلين الذين مرنوا على تمثيلها كأحمد علام وجورج أبيض وفاطمة رشدي، وتخلل البرنامج في هذه الفترة غناء قصائد كثيرة من شعره واهتمت بيوم الذكرى (14 أكتوبر) اهتماما خاصا، ومما قدمت فيه برنامج خاص بالشاعر الكبير عنوانه (في وادي الخلود) من تأليف أحمد رامي وإخراج السيد بدير.
أما محطة الإذاعة المصرية التي اعتادت أن تحيي ذكرى شاعر مصر الخالد بحديث واسطوانات عبد الوهاب - فقد ضاعفت جهدها هذا العام، فأضافت إلى الحديث آخر، وإلى اسطوانات عبد الوهاب أغنية (النيل) لأم كلثوم. .
ولا شك أن شاعرنا الكبير حرية ذكراه باحتفاء لم نقم به. وفي الأمم الأخرى تحيا ذكريات أمثال شوقي عندهم على نحو يستفيد منه الناس ويشعرون فيه بجلال أصحابها، فتقام الحفلات والمهرجانات أسابيع تلقى فيها الدراسات وتمثل المسرحيات، ويحج الناس إلى مقبرة الشاعر أو إلى مسقط رأسه، فيشعر الناس بدنيا الأدب والشعر وقيمة الأدباء والشعراء، فيقرءون لهم وتحلق أراحهم في أجوائهم العالية ويحسون بالآدمية المرتفعة فوق مطالب الحيوانية.
فأين نحن من كل ذلك؟ الجواب: لا شيء، ونحن مع ذلك نعيش في الشرق الروحاني. . كما يقولون.(904/36)
لما لا تقوم الحكومة (وزارة المعارف أو وزارة الشؤون) بإحياء هذه الذكريات! وماذا تفعل الجمعيات الأدبية الثقافية إن لم تقم بذلك؟ وأين وفاء المسرح لشوقي لقاء ما قدم له من روائع المسرحيات؟ أولم يكن يجدر أن يفتتح موسم التمثيل بالأوبرا في 14 أكتوبر بتقديم مسرحية شوقية، وقد اصبح عندنا الآن فرقتان: الفرقة المصرية وفرقة المسرح الحديث فكان يجب أن تقدم كل منهما رواية لشوقي في ذكراه مما تمرنوا عليه ومثلوه من قبل، ثم يأخذون بعد ذلك في برنامج العام الجديد. ولندع ما فات فهل يفعلون بما هو آت؟
طي السجل:
جرت وزارة المعارف على أن تهدي السجل الثقافي إلى الهيئات والشخصيات الثقافية الكبيرة بمصر والخارج، وتخصص لهذا الإهداء أكثر الكمية المطبوعة، أما الباقي فيودع إدارة التوريدات بالوزارة كي يباع لمن يطلبه. وقد بيع من السجل الماضي (سجل سنة 1948) سبع نسخ! والسبعة الذين اشتروه أبطال. . . يستحقون التنويه بما بذلوا من جهد في الحصول عليه! يذهب أحدهم إلى إدارة التوريدات فيصعد إلى الدور الخامس، وكثيرا ما يكون المصعد معطلا فيضطر إلى الصعود على قدميه، وعندما يبلغ مكتب المدير لاهثا يطلب منه أن يكتب طلب الشراء وقد يلصق به (ورقة تمغة) وقد يضطر للهبوط إلى الشارع ليشتري الورق والتمغة ويصعد ثانيا. . ثم (يؤشر) المدير على الطلب، فينزل الطالب إلى الدور الثالث حيث الموظف المختص بالبيع، فيظفر بنسخة من السجل لقاء أربعين قرشا. .
ولم يستطع أحد غير أولئك السبعة الشجعان أن يفعل ما فعلوا وأنا أشك في أنهم سيستعيدون شجاعتهم في هذا العام ليسعوا إلى السجل الجديد (سجل سنة 1949) وما أشك في أن وزارة المعارف تريد نشر السجل لا طينه واختزانه، فليس هناك إذن إلا أحد أمرين: إما أن تهديه كله أو تتبع طريقة أخرى في نشره، والأمر الأول لا ينفع لأن الإهداء لن يستوعب كل من يريد الحصول عليه. فليس هناك في الواقع إلا أمر واحد وهو الأمر الثاني، وهو اتخاذ طريقة تيسره للناس كما تيسر التعليم لكل الراغبين فيه؛ وأنا أقترح عليها أن تعهد به إلى دور النشر كما صنعت بكتاب (تاريخ العالم) الذي تترجمه إدارة الترجمة بالوزارة وتنشره مكتبة النهضة، ودار النشر تستطيع بوسائلها أن تيسر نشره(904/37)
وتدني نفعه وفي هذا تدليل لصعوبة أخرى هي أجراء مناقصة بين المطابع في كل عام لطبع السجل، وتستنفد إجراءاتها وقتا طويلا يؤخر صدوره عن أوائل العام وذلك لأن دار النشر التي تنشره هي التي تطبعه دون حاجة إلى مناقصة، ولا بد أن تسرع في طبعه وتحسن إخراجه لتضمن رواجه. وفي كل ذلك ما يحقق الأهداف التي ترمي إليها وزارة المعارف بإخراج السجل الثقافي.
اتجاه الأدب وواقع الحياة المصرية:
أذاعت محطة لندن العربية يوم الأحد الماضي، حديثا لمعالي الدكتور طه حسين بك، عن اتجاه الأدب وواقع الحياة المصرية الحاضرة، قال معاليه: كانت مصر قبل العشرين سنة الأخيرة تفكر تفكيرا مصريا بحتا، وقد كان ما يكتبه الأدباء المصريون ينتشر ويتداول في الأقطار العربية الأخرى، ولكن الموضوعات التي يتناولونها ومجال آراءهم ومدار أفكارهم - كل ذلك لم يكد يتجاوز الحدود المصرية. ولكن تطور الحوادث والاتجاهات بعد ذلك أخذ يحول التفكير إلى مجرى الحياة العربية العامة وأخذنا نفكر ونكتب باعتبارنا عربا لا باعتبارنا مصريين فقط ولم يقف الاهتمام بالحياة العربية عند المشرق وحده، بل انتقلنا بعد ذلك إلى طور آخر اتجهت فيه أنظارنا إلى المغرب، فأولينا البلاد العربية الغربية عنايتنا وعنينا بشؤونها ومسائلها.
وقال معاليه وكنا ننظر إلى الأمم الغربية في أوربا وفي أمريكا على أنها أمم متفوقة في الحضارة والقوة وأننا قوم متخلفون، ننظر إلى ما يرد إلينا منها على أنه شيء فائق معجز ولكن هذه النظرة دخلت بعد ذلك في طور آخر، هو أننا نعتبرها حقا أمما متقدمة في الحضارة وفي القوة، ولكننا أخذنا نشاركها، تأخذ عنها حينا وننقدها في أكثر الأحيان ونحن الآن ننتج في الأدب ألوانا كالألوان السائدة في الغرب فتكتب في الأنواع التي يكتبون فيها من دراسات وبحوث وقصص ومقالات، حتى الشعر، يجري فيه شعراؤنا على مناهجهم في التفكير والنظر إلى الأشياء، وأن كانوا يحافظون على نسقه الشكلي القديم. ولا شك أن الفضل في اتصالنا بتلك البلاد الغربية يرجع إلى الجامعات والأساتذة الذين نستقدمهم من الخارج والبعوث التي نرسلها سواء التي توفد للدراسات بالمعاهد والذين يشتركون في المؤتمرات والهيئات الدولية وشيء واحد هو الذي نفترق فيه عن تلك الأمم الغربية، وهو(904/38)
أنها تخلصت من قيود الحرب الماضية، ولكننا لا نزال نشعر بآثارها، فأتيحت لهم بذلك حركة وطلاقه، ويوم يتاح لنا أن نتخلص من ضباب الحرب الباقي عندنا لا بد أن نلحق بهم، فأنا متفائل جدا بمستقبلنا القريب، يوم نفكر في أشياء لم نفكر فيها بعد. أو يفكر فيها بعضنا ولكنها لم تخرج إلى حيز الوجود.
مكافحة اللغات الإسلامية في الهند:
تنشر الصحف بين آونة وأخرى تصريحات لبعض ساسة الهند تتضمن أن الدولة الهندية ترعي حقوق الأقلية المسلمة التي بقيت في بلادها بعد أن تكونت دولة الباكستان من أكثرية مسلمي الهند، وقد قرأت أخيرا تصريحا لأحدهم يطلب فيه أن تتعاون مصر مع الأربعين مليون مسلم الموجودين في الهند وأن تهتم بشعورهم (وخاصة أن لهم مدارس تعلمهم اللغة العربية) وقد جاءت هذه العبارة المحصورة بين الأقواس في خلال التصريح دون مناسبة. فأن اهتمام مصر بمسلمي وشعورهم لا يتوقف على أن يكون لهم مدارس تعلمهم اللغة العربية. إنما المقصود - على ما يبدو لي - أن يقال ذلك لتغطية شيء، هو ما أردت الكشف عنه بهذا الموضوع.
لقد وقف العالم على ما كان من نزاع وتطاحن بين الهندوس والمسلمين قبل أن تنقسم البلاد الهندية إلى الدولتين الجديدتين، وعلم الناس أمر المشكلة الهندية المشهورة التي محورها (البقرة) التي يقدسها الهندوس ويذبحها المسلمون، ولم تفلح إنسانية غندي في التوفيق بين التقديس والذبح، فلم يكن بد من الانقسام، وكان المسلمون في الهند قبل هذا الانقسام نحو مائة وعشرين مليونا، وكانوا أقدر على مقاومة الاضطهاد من المسلمين الباقين في الهند الذين أصبحوا أقلية منتشرة في البلاد لا حول لها ولا طول؛ وكم نود أن نفهم أن دولة الهند الحديثة المستقلة التي قامت على مبادئ الحرية والعدالة أمكنها أن تحول التيار وتبدل الناس غير الناس أو تتصرف هي على الأقل تصرفا يدل على الاهتمام بشعور المسلمين في الهند. فهل تحقق ذلك أو أننا هنا نسمع لباقة من الساسة وتظاهرا ليس وراءه ما يسنده؟
في العام الماضي قرر المجلس التشريعي الهندي استبعاد الألفاظ العربية والفارسية والتركية من لغاتها وإحلال السنسكريتية محلها، وهذه الألفاظ التي تقرر استبعادها تكون الجزء الأغلب في اللغة الأردية، وكان دخولها فيها نتيجة للفتح الإسلامي وتتابع الدول الإسلامية(904/39)
في الهند، وهذه اللغة الأردية التي تكونت من الهندية القديمة ومن العربية والفارسية والتركية استعملت في قرون متتابعة كانت فيها لغة الحضارة والثقافة الإسلامية هناك وتغلغلت بوساطتها الآداب الإسلامية ونظمت العلاقات بين الأفراد وبين الفرد والجماعة، وسادت في البلاد الهندية جميعها بين المسلمين وغيرهم ونقل إليها الكثير من المعارف الغربية.
فما هو الدافع إلى ذلك القرار؟ هل هو توحيد اللغة بين أهل البلاد وتسهيل التخاطب بينهم؟ أن كان هو الغرض فأن الأردية أصلح له، لأنها لغة الجميع السائدة في شتى أنحاء الهند. ليس هناك إذن إلا محو الآثار الإسلامية التي استقرت هناك بفعل التاريخ وصبغت القوم بصبغتها، وليس هناك أيضا إلا أن تخنق اللغة التي تصل المسلمين بثقافتهم وما يمت إليها. فيجب لذلك أن تصبح الهندستانية (المبرأة) من الكلمات الإسلامية لغت الهنود!
ولا شك أن الأقلية المسلمة الموجودة الآن في الهند لا تستطيع ذبح بقرة، فهل حرمت عليهم أيضا ألفاظ القرآن الكريم وهل جاء (العذاب الروحي) من قسمهم مقابل (العذاب البدني) عند الهندوس. .؟
عباس خضر(904/40)
البحرية الإسلامية
تأليف الدكتور علي محمد فهمي شتا
للأستاذ منصور جاب الله
العنوان الكامل لهذا السفر القيم (البحرية الإسلامية في شرق البحر المتوسط من القرن السابع إلى القرن العاشر بعد الميلاد)، ومنذ عامين قدم الدكتور علي محمد فهمي شتا المفتش في وزارة المعارف هذا الكتاب إلى جامعة لندن، رسالة نال بها الدكتوراه الفلسفية في مادة التاريخ. وفي مطالع هذا الصيف طبع الرسالة باللغة الإنجليزية، وهو الآن بسبيل إخراجه باللغة العربية لتتم به الفائدة. وكتاب البحرية الإسلامية يتضمن سردا وافيا للتنظيمات البحرية في شرق البحر المتوسط بين القرن الأول والقرن الرابع بعد الهجرة، ولا نحسب أن كاتبا من الكتاب طرق هذا الباب من قريب أو بعيد سوى في العربية أو في غيرها من اللغات.
ويؤيد هذا الزعم الذي ذهبنا إليه أن الأستاذ (وستنفلد) جزم في تقريره الذي قدمه إلى جامعة جوتنجن عام 1880بإن أحد من الباحثين لم يطرق باب النشاط البحري عند المسلمين. وفي عام 1946أكد الأستاذ جاتو هذه الحقيقة في مقال نشرته مجلة (ريفيو أفربكان) مشيرا إلى أن انعدام المراجع لم يغوي أحدا من الباحثين على التوغل في ذلك الميدان.
وكذلك ضل تاريخ البحرية الإسلامية مغلوفا في غلالات من النسيان، وبقى الباحثون عنه في تيه سر مدى، ودفن دقائقه مع المؤرخين الإسلاميين القدامى الذين غيبوا عنا من زمن بعيد.
وقد وقفنا طويلا نتساءل عن سر اهتمام رجل مثل الدكتور شتى - وهو من رجال التعليم - بالمسائل البحرية، هذا الاهتمام الذي تجلى في كل سطر من سطور كتابات النفيس، وماله لم يلق هذا العبء على غيره من رجال البحر المثقفين عندنا؟ ثم عدنا نجيب بأن مرد ذلك إنما يرجع في الأكثر إلى العقل الباطن في المؤلف فهو من أسرة سكندرية عريقة، وأنه ليرى في مراحه ومغداه المنشآت في البحر كالأعلام، فينبع السؤال من قلبه: كيف نشأت؟ وكيف كانت؟ ثم كانت رسالته العلمية جوابا على خمسة فصول يبحث أولها في(904/41)
دور الصناعة عند العرب والقواعد البحرية عند المسلمين معتمدا في ذلك على أوراق البردي وكتاب العرب القدامى. وقد بدأ بتحقيق ذلك في مصر وبين أهمية مرافئ القلزم والإسكندرية ودمياط ورشيد والقواعد البحرية الأخرى ثم عرج على تاريخ أول (ترسانة) إسلامية في مصر، وهي تلك التي كانت في حصن (بابل) وحدد موقعها تحديدا يذهب كل لبس. ثم عكف على معالجة دور الصناعة في الشام وتحدث باسم أب عن دار الصناعة في طرسوس.
وتناول الفصل الثاني مراكز قيادة الأسطول الأفريقي في برقة، وتحدث عن الصناعة البحرية في تونس، وأثبت أن أقريطش (كريت) كانت مركزا بحريا مهما في فجر الإسلام إذا قورنت في جزيرة قبرص.
أما الفصل الثالث فيتضمن وصف أدوات صناعة السفن ومنها أنواع الخشب المختلفة، ومناسبة كل نوع لغرض بحري، ثم أشار إلى توفر الخشب - في ذلك العهد - في كل من مصر وسوريا، وتناول بعد ذلك صناعة الحديد والسلاسل النحاسية والحبال وغيرها من الأدوات التي تستعمل في الصناعات البحرية.
ودرس في الفصل الرابع مسألة تنظيم الأساطيل الغازية وهي أسطول مصر وأسطول الشرق وأسطول إفريقيا، وأدلا بمعلومات خاصة عن قوة كل أسطول وميزانيته، ثم تطرق إلى الكلام عن الضرائب والسخرة والتجنيد وطرائق جمع البحارة والمقاتلة والصناع، وبعد ذلك تفرغ إلى البحث في مسائل التموين والذخيرة والأجور إلى أن انتهى إلى مسألة الفارين من الجندية البحرية الإجبارية وكيفية عقابهم وطرق استتابتهم.
أما الفصل الأخير في هذا الكتاب النادر فيتحدث عن الطابع الذي تمتاز به سفن البحر المتوسط - أو بحر الروم كما كان يسمى عند العرب - ونوازن بين السفن الإسلامية في ذلك البحر والسفن الإسلامية في بحر الزنج أو المحيط الهندي، ثم يتبع ذلك دراسة شاملة عن أنواع السفن البحرية والعاملين فيها، وأخيرا يردفها بالتعليمات الرسمية التي أصدرها الخليفة العباسي متعلقة بمهام قائد الأسطول.
وبعد تمام الكتاب أضاف إلية مؤلفه العالم ثلاثة تذييلات أولها عن الغابات في مصر والأمكنة التي كانت توجد بها وطرائق العناية بها وصيانتها وثانيها عن أسماء السفن في(904/42)
عهد الدولة الطولونية، وآخرها عن أسماء السفن كما ذكرها المقدسي.
ومن خلال هذا العرض الموجز يعرف مدا المجهود الذي بذله المؤلف الشاب في كتابه الفريد في بابه، وكثرة المراجع التي أخذ نفسه بدراستها، ويزيد الأمر غرابة أن المؤلف لم يشتغل بالشؤون البحرية ولم تكن له دراية بها، ومن ثم يكون عمله هذا فذا في نوعه طريفا في بابه، يستحق عليه الإعجاب والإكبار.
منصور جاب الله(904/43)
في رحاب الصوفية
تأليف الأستاذ أحمد الشرباصي
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
الكلام في الصوفية لغير الخاصة محتاج إلى براعة فائقة تقرب مدلولاتها للأذهان، وتدنى رموزها من القلوب. ولقد أتخذ بعض (المتواكلين) كلمة (التصوف) سبيلا إلى المتاجرة بها على أسلوب من الزهادة المصنوعة، وجعل لها (طقوسا) يخدع بها الساذجين من العامة، حتى يسيروا في ركابه، ويتمسحوا بأعتابه!
وقد عمد الأستاذ (الشراصي) إلى الوجازة المفيدة في تعريف الصوفية ليكشف الحقائق عن حقيقتها ليتعرفها من يعرفها مشوهة، ناقصة، ذات بريق خداع!
واستهل صاحب الرسالة بحثه الخاطف بشطحات يحلل بها السلوك الصوفي على أسلوب من الترغيب، لكنه لم يتعرض إلى معنى كلمة (التصوف) بحسب ما أراده بأسلوبه المقرب، مع أن المقصود من إيراده كشف الغطاء عن تلك الكلمة التي يخدع الخادعون بها البسطاء!
لم يكن المقصود من التأليف هذه العجالة العمق، والتخصص والإحاطة، لأنها ليست مرسلة للخاصة كما قلنا، لكنا نعتقد أن الحومان حول الكلمة ذاتها في استهلال البحث أدعى إلى المعرفة (الساذجة) من العرض الذي عرضه من دون تنبيه الأذهان!
لا ننكر لباقيه حينما تعرض (للشطحات) وصورها بأسلوب السلس الدفاق، الملئ بالجاذبية، والوضاءة، والألمعية، لكنا لا زلنا عند رأينا في ضرورة الإفصاح عن مدلول كلمة (التصوف).
بتغلغل في الريف جماعة لا هم لهم إلا اصطياد السذاجة في أحبولة الخداع؛ فيقع في شراكهم كثير من طالبي الحاجات يطلبون الخير والبركة، ويلتمسون العفو والمغفرة، ويأنسون إلى المخادعة والمنافقة!
إن الإشارة إلى هؤلاء البغاة على الأيمان فقيدة في الرسالة الصغيرة، وكان حريا بالأستاذ الشرياصي - وهو القوي الأيمان - أن يصور بقلمه الثائر الجوانب التي يعيش فيها المرتزقة باسم التصوف، لكنه تغافل وجودهم اكتفاء باستعراضه الصور الوضيئة للمتصوفة.(904/44)
على أن هذه الرسالة - على صغرها - قد دعت إلى التمسك بأهداب الدين، والعمل وفق ما دعا إليه، ومحاربة حب الظهور، ومداواة العيوب، وملازمة الزهادة، والصبر على الشدائد، وآداب الدعاء، وطرق الاستجابة وكبت الشعور، والتكشف عن الذات العلية!
لقد ساق هذه اللمحات في صفحات؛ فصورها بأسلوبه اللامع الذي يزيل عتمة القلوب!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(904/45)
(حول مقال التشبه في القرآن)
كتب الأستاذ الفاضل أحمد أحمد بدوي مقاله القيم (التشبيه في القرآن) بالعدد (895) من مجلة الرسالة الغراء، ومن يقرأ هذا المقال لا يملك أن يكتم إعجابه بما للأستاذ من ذوق فني سليم، وحس أدبي مرهف، ولا يمنعني إعجابي بالمقال من أن أتوجه إلى صاحبه بكلمة لا تغض من قيمته: بعد أن قرار الأستاذ أن القرآن ليس فيه سوى تشبيه المحسوس بالمحسوس، وتشبيه المعقول المحسوس تعرض للآية الكريمة: (طلعها كأنه رءوس الشياطين) وتكلم عنها كلاما يفيد أن المشبه به هنا أكتسب قوة المحسوس فأصبح في حكمه، وبعد هذا أجرى مجرى هذه الآية قوله تعالى: (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبر أو لم يعقب) ثم قال: فهي صورة قوية للجان تمثله - شديد الحركة لا يكاد يهدأ ولا يستقر. والواقع أنه إذا كانت رءوس الشياطين قد صارت من الشهرة بحيث أرتسم لها في أذهان الناس شكل خاص، فأن اهتزاز الجان وشدة حركته لا يباغ بحال أن يصل في شهرته إلى أن يكون محسوسا أو كالمحسوس. . فلعل الأوفق ألا نجري هذه الآية مجرى سابقتها، إذ أن المشبه به محسوس فعلا، ولا يحتاج إلى مثل هذا التأويل؛ فالجان هنا ليس الجان بالمعنى الذي تطرق إلى ذهن الأستاذ، وإنما هو حية أو ثعبان، ولا تنطق بهذا كتب المفسرين وحدهم، وإنما تشهد بذلك كتب اللغة: يقول الجوهري في الصحاح: والجان أبو الجن، والجان أيضا حية بيضاء، وهذا المعنى الأخير لا يكاد يخلو منه كتب اللغة. . .
ومالنا نذهب بعيدا، والقرآن نفسه - وهو الذي يكمل بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا - يقول موضع آخر: (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) سورة الأعراف: آية 106 - ثم يقول أيضا: (قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى) سورة طه آية 19 وهكذا يتبين لنا أن المشبه به شيء محسوس فعلا لا يحتاج تأويلا أو قياسا، ولعل هذا الذي ذكر هو أكثر اتساقا ومسايرة لمنهج الأستاذ في بحثه، فالعصا في شكلها وحركتها واهتزازها اقرب إلى الثعبان منها إلى الجان. وأخيرا فللأستاذ إعجابي وتقديري.
عبد الجواد الطيب
إلى الأستاذ عباس خضر
لا يا سيدي، ليست روحيتنا في التواكل والأوهام والخرافات بل أنها على العكس تدعونا(904/46)
إلى النهوض مما نحن فيه في تكاسل وتناوم جعلنا - نحن الشرقيين - ذيلا للشعوب، وإنما هي تنصحنا بأن يكون نهوضنا عمليا لا يكتفي فيه بطنطنة جوفاء لا تؤدي إلى غاية. وهي تدعونا إلى الخروج على ضلال الأوهام والخرافات الذي لا زال الكثيرون يعمهون فيه فلا يستطيعون التفريق بين حق وباطل.
وليست روحيتنا في التنجيم والفنجان والكف وما دعوته باستحضار الأرواح. . . إلى آخر ما آداك إليه علمك بالروحية، فهذه الخزعبلات لمن عرف الروحية على حقيقتها ليست من الروحية في شيء. والواقع أن دعوتنا لم تقم إلا لتنقية جو الروحية من هذه الصغائر وجلاء حقيقتها الكبرى ليراها الناس، بعد أن عجزت العقول المشغولة بحب المادة عن استخلاص النتائج الدالة على هذه الحقيقة في المقدمات الطبيعية.
ولقد كان يحق لك أن تعترض على عمل (جماعة الأرواح) التي تنظر إلى وجودها بين مصدق ومكذب لأنك لا تلمس أجسامها بيديك، لو أنك كنت قد استطعت بنفسك أن تجعل في عالمك هذا، بعد أن تسلمت قياده وتوليت أمره، عالما تتسع فيه الحياة للناس جميعا، فلا تسمع فيه استغاثة محتاج ولا أنه مريض، ولا يرى فيه تخبط جاهل في ظلمات جهله؛ أما وقد فشلت يا صديقي في أن تحقق في هذا العالم ما توجبه للإنسان إنسانيته، بدليل هذا الفساد الشامل والاضطراب الواقع، فما هو إذا وجه اعتراضك على عمل هذه الجماعة التي وجهها الخالق إلى إخراج عباده مما هم فيه من ضلال وإنقاذهم مما هم صائرون إليه من سوء المآل؟
ومن الأنصاف أن نذكر أنه ليس بمستكثر ممن باعدت ميوله المادية بينه وبين الروحية أن يقع في الخطأ الذي وقعت فيه. ولو كنت اقتربت من الروحية لرأيت أن غايتها أن يتخلص الإنسان من متاعبه ويستكمل وسائل راحته، وأنها تسعى به إلى هذه الغاية بتوجيهه إلى أتباع ما وضع لانتظام الكون في قوانين لم يشذ في السير عليها إلا هذا الإنسان نفسه. وإنما تحارب الروحية فعلا تلك المادية التي تدفع الناس إلى سوء استعمال ما وصل إليه علمهم من هذه الوسائل.
ولقد عجبت من أنك تريد للضعفاء والفقراء أن يعوا أسباب ضعفهم وفقرهم ليتخلصوا منها ثم لا تدلهم على الوسيلة الفعالة التي يستطيعون بها ذلك؛ بعد أن جردتهم - بإنكارك وجود(904/47)
القوى الروحية - من تلك القوة التي تمد السماء بها الضعيف ليصبح قادرا على التغلب على من يريد أن يطفى عليه.
وزاد عجبي حينما رأيتك تعود، بعد افتخارك واعتزازك بالانتساب إلى المادية، لتتعلق بأستار الروحية فتقول إنه لا زال في نفسك معناها الحقيقي الذي (هو شعور الإنسان بجمال المعاني النفسية والسلوك الإنساني الكريم، ذلك الشعور الذي يخلق في المرء روح التعاون والتكافل الاجتماعي، على أن يكون ذلك ممتزجا بالواقعية في مواجهة مسائل الحياة وبالمنطق المعقول في فهم الأشياء). فهل علمت يا صديقي أن الروحيين جعلوا للروحية معنى غير هذه المعاني التي رجعت تقول بها بعد أن اعتقدت (أن قانون الحياة الذي لا يدافع هو أن يستطيع الإنسان أن يأخذ حقه من الإنسان، لا أن ينتظر حتى يشعر بالعطف عليه)؟
أرجع يا سيدي إلى الكتاب فاطلع عليه إلى نهايته! أرجع إليه، وفقك الله، فدقق النظر فيه، بتدبر معانيه ومتابعة مراميه لترى فيه معنى الروحية الحقيقي، ولتعلم أن كاتبه لم يتعد الحق حينما ذكر أن موضوعه ليس من وضعه وأن عبارته ليست من بنائه.
فان أبيت إلا انصرافا عن جد الأمر إلى هزله، فطلبت روحا ليقنعك، أو يداعبك، فليس ببعيد ذلك اليوم الذي سترى فيه من الأحداث الجسيمة والوقائع العظيمة التي كتبها الله على العالم ما يجعلك تقتنع كل الاقتناع بأن (الوساطة الروحية) لم تأت في أمر هين ليكون موضوعها مادة للتظرف والتفكه.
عبد اللطيف محمد الدمياطي
الدراسات العليا في الأزهر
تحت هذا العنوان كتب صديقي الأستاذ عبد المنعم خفاجي في العدد (900) من الرسالة الغراء مقالا انتهى منه إلى أمرين.
(أولهما) إعادة الدراسات العليا في الأزهر متمثلة في تخصص المادة.
(ثانيهما) أن هذا التخصص قد قام بواجبه في خدمة الثقافة الأزهرية خير قيام، وقد فتح للثقافة الإسلامية آفاقا واسعة.(904/48)
ولما كان الأزهر مقبلا على عهد جديد، ولما كانت مثل هذه الكتابات تنبه الأذهان، كان من الواجب على الحريصين على سمعة الأزهر، والراغبين في الإصلاح الحقيقي أن يناقشوا هذه الآراء.
ولا أدري لماذا يكره كثير من الأزهريين الكلام في إصلاح الأزهر، أو النقد لما ينتجه الأزهريون من كتب، وما يطبعه أبناؤه من مؤلفات، وما - يجمعونه أحيانًا - من الكتب القديمة ويسمونه تجديدا؟
وطالما تردد في نفسي أن أكتب عن كتب أزهرية، أو أشترك في المجادلات التي دارت وتدور حول إصلاح الأزهر، أو أبدي رأيي في تخصص المادة بالذات، ولكن كان يمنعني أن بعض الأزهريين يضيقون أشد الضيق بالصراحة والحق فكنت أسكت على مضض، فلما كان مقال الأستاذ خفاجي رأيت الفرصة سانحة لأن أجهر بحق طالما كتمته.
وقبل أن أخوض في الموضوع أحب أن يفهم الذين يعنيهم هذا المقال أني لا أقصد الجميع، وإنما أقصد المجموع على حد تعبيرنا الأزهري، وأن من بين الذين تخرجوا في تخصص المادة من هم في الطليعة بين أساتذة، الأزهر وأني أحمل للجميع كل مودة واحترام، ولكن لنستجيب مرة لصوت الحق.
وأعود إلى الموضوع فأقول: أما أن إعادة الدراسة في هذا التخصص واجبة فلا ثم لا، وأما أن هذا التخصص أخفق في أداء رسالته فنعم ثم نعم.
لقد فكر الشيخ المراغي عليه سحائب الرحمات في إنشاء هذا التخصص، وكان يأمل أن يخرج منه أبو حنيفة في الرأي، ومالك في الفقه، وعبد القاهر في البلاغة، وسيبويه في النحو. . وهكذا، فلما حضر مناقشة الفرقة الأولى، ورأى ما هم عليه اعتراه بعض الشك.
أما الرسائل التي يقول الأستاذ خفاجي أن فيها جهدا كبيرا، وألوانا جديدة من البحث والتحليل، فيؤسفنا أن نقول أن البلاغة العربية لا تزال كما قعدها السكاكي، وأن النحو العربي لا يزال كما وضعه نحاة البصرة والكوفة في القرنين الثاني والثالث، ونقول مثل ذلك في الفقه والأصول والتفسير والحديث والكلام، وأن هذه الرسائل لم تضف مسألة جديدة إلى العلم. نعم إن في بعض هذه الرسائل جهودا، ولكن هذه الجهود ليست في الاجتهاد والإصلاح، ولكنها في الجمع والتأليف، على أن الأستاذ خفاجي يضطرنا إلى أن(904/49)
نقول في هذا الموضع: إن عالما أزهريا هو الآن في الكويت قد تنفس قلمه - على ما يقال - عن كثير من هذه الرسائل بل أن بعض الرسائل من وضع لجنة من الأساتذة، وليس لأصحابها فيها إلا وضع أسمائهم الكريمة على غلافها. وإني لأقول عن يقين أن هذا القلم الضعيف قد ألقيت عليه رسالة ليست في البلاغة ولا في الأدب كما يمكن أن يفهم لأول وهلة، بل في الفقه. وليست في الفقه الحنفي كما هو المنتظر، ولكنها في الفقه الشافعي. ولك أن تقدر، وللقراء أن يحدسوا ماذا تكون رسالة ضاقت السبل على مؤلفها الشافعي فلم يجد إلا حنيفا تخرج في كلية اللغة العربية ليلقي عليه عبء إصلاحها، وإنشاء بعض فصولها!!
وأما أن الأساتذة الذين تخرجوا في هذا التخصص حملوا بجدارة مناصب التدريس في كليات الأزهر ومعاهده فأمر يسأل عنه الطلاب، وما أظن أن رأيهم يوافق الأستاذ خفاجي كثيرا، بل ما أظنه يشرف. على إني أعتقد أن الأستاذ الفاضل لا يجهل رأي الأساتذة الذين أشرفوا على الامتحانات في هذا التخصص، وإن لم يقنع كلامي هذا صديقنا خفاجي فليرجع إلى التقريرات التي كتبت في هذا الشأن، وسيحمد لي أني لم أطلب نشر تقرير واحد منها.
وأعود فأقول إن من بين المتخرجين في هذا التخصص من يفخر بهم الأزهر، ولكن مع قلتهم لم يكن نبوغهم وليد الدراسة في هذا القسم، وإنما هي جهود شخصية، وظني أنهم لو لم يضيعوا زهرة شبابهم في هذه الدراسة لكانوا أحسن مما هم.
ثم أقول: لو أراد رجال الأزهر أن يعيدوا الدراسات العليا فيه، فليفكروا في كل شيء إلا أن يفكروا في إعادة تخصص المادة. فانهم جميعا - بحمد الله - ممن يؤمنون بأن هذا التخصص، لم يبلغ الآمال التي كانت ترجى من إنشائه، وأنه كان مضيعا لمن درسوا فيه، وأن النفع منه كان قليلا بل أقل من القليل.
(وبعد) فلعلي أكون جهرت بكلمة يعرفها كل الأزهريين، ويودون الجهر بها. ولعلي لا أكون أغضبت أصدقائي ممن درسوا في هذا التخصص، فإني ما أريد إلا الخير والإصلاح والحق والإنصاف، وقديما قال أرسطو لصاحبه: أنت صديقي والحق صديقي، ولكن الحق أولى بصداقتي، وإني أعيد ما قلته آنفا: إني أتكلم هنا عن الكثرة الغالبة، أما النوابغ فمكانهم(904/50)
محفوظ.
ع.
تعقيب على مقال
قرأت في العدد 881 من مجلة الرسالة الزاهرة مقالا قيما بعنوان (السيدة نفيسة) للأستاذ أحمد رمزي بك وطالما أتحفنا الأستاذ بأحاديثه القيمة الممتعة على صفحات الرسالة الغراء ولكن الشيء الذي لفت نظري واسترعى انتباهي هو استعماله كلمة خصيصا حيث قال (. . . اركب خصيصا لهذا المقام ألخ. . .) ولا يخفى أن صيغة فعيل بمعنى المفعول ليست من المقيسات بل هي مما يؤخذ بالسماع ولم ينقل عن العرب خصيص بمعنى مخصوص. وقد جاء في بيتين قالهما أبو الرقممق جوابا لأصحاب دعوة إلى الصبوح في يوم بارد وسألوه أين طعام يريد أن يضعوا له ويقال أنه كان فقير الحال ليس لديه كسوة تقيه عادية البرد أما البيتان فهما.
أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة ... وأتى رسولهم إلي خصيصا
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
ولقد ورد في كتاب معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص كلمة خصوصا لا (خصيصا) وقد أيدني في هذا مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن(904/51)
امرأة معذبة
للأستاذ يوسف يعقوب حداد
جاء بغداد يبحث عن المتعة لنفس حرمت المتع منذ عهد بعيد، جاء بغداد ينشد فيها حياة جديدة، حياة ممتعة، بعد أن مل الحياة على وتيرة واحدة، كأنها اسطوانة واحدة، تتكرر كلما أشرقت الشمس وغابت!
وكانت ليلته تلك في الفندق، أول ليله له ينام فيها وحيدا، غريبا، فما سبق أن ألف حياة الوحدة والغربة.
ودقت الساعة الكبيرة المائلة أمامه عشر دقات، فوجد نفسه ضجرا، قلقا، لا يدري أين يقضي سواد هذه الليلة، وقد اعتزم من قبل ألا يترك لحظة واحدة من أيام إجازته القلائل تذهب مأسوفا عليها!. . . وفجأة تذكر أن فتيات (ملهى الأنوار) ينزلن هذا الفندق، فتساءل بينه وبين نفسه، لم لا يذهب إلى (ملهى الأنوار) ويتعرف على جاراته الحسان؟. . . لم لا يمضي هذه الليلة بين كأس ووتر؟!. . .
وفي طرف منعزل من حديقة الملهى، كان يشرب (بيرة) مثلجة، ويسمع نغما عابثا، ويتطلع بعينيين جائعتين إلى أربع وعشرين ساقا، تلمع كالسيوف الصقيلة، تحت أشعة المصابيح الصغيرة الملونة!. . .
ولفتت نظره واحدة منهن، كانت تشرب الكؤوس متتابعة، وتتدلل بإفراط، قد كشفت عن صدرها وظهرها في إسراف، فظل يرمقها في مجلسه، لا يكاد يحول عينيه عن جسدها العاري، أو ينقل نظراته عن صدرها العاجي، وكم اشتاق إلى صدرها العريض ليربح عليه رأسه المتعب. . .
كان من عباد الجمال الغربي، يثيره منه الشعر الأشقر كأنه سلاسل من ذهب، والعيون التي كأنها بحار من لازورد، والجسد الرشيق كأنه رمح صقيل، والنهود النافرة كأنها تتحدى السماء في عجرفة وكبرياء!
وكان صدره يتمزق آسى وحسرة حين وجد هذه الغانية اللعوب تغازل الشيوخ وقد عرفت في محافظهم انتفاخا مغريا، وتعزف عن الشباب وقد أدركت أنهم لا يملكون في جيوبهم غير مناديلهم المعطرة!. . . أحس أنه يشتهي هذه الغانية. . . ولكن دنانيره الهزيلة أضعف(904/52)
من أن تستطيع الوصول به إليها، فأسرع يغادر الملهى، ليدفن رأسه بين طيات وسادته، ويصم أذنيه عن صدى أغاني الراقصات الهنغاريات المثيرة، ويغمض عينيه عن طيف (جانيت) الفتاة البوهيمية اللعوب التي أبث ألا أن تظل ماثلة أمام عينيه بدلالها، وجسدها المملوء فتنة، المتفجر حيوية!
وأوشك أن يتغلب على الشيطان الذي يحاربه، أوشك أن يصرع الوحش الهائل الذي هاج في أعماقه ويستسلم لنوم عميق هادئ، لولا أن رن جرس الباب رنينا متصلا، مزعجا، إطار النوم الذي كان يغالب خفنيه، فاعتدل يحاول أن يتبين الوقت في ساعة يده الفسفورية، فألقى عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل.
وتعالت عليه من أسفل السلم ضحكات ناعمة رن صداها في أذني المرهفتين، فتذكر فتيات الملهى، ثم ما لبث أن رأى (جانيت) تلك الفتاة التي أثارته بأنوثتها الحية وجسدها المغري وهي تدلف بخفة ورشاقة إلى غرفة التلفون المقابلة لغرفته، وتتحدث بلغة إنكليزية ركيكة إلى خادم الملهى تسأله أن يرسل إليها زجاجات من (البيرة) المثلجة! فأدرك من التواء الكلمات في فمها، وتعثر الألفاظ على شفتيها أنها ثملة، وأنها فقدت السيطرة على أعصابها!
ولأول مرة رآها من قريب، فراحت عيناه تلتهمان لحمها العاري المتورد وقد انحسر عنه الثوب، ولكنه استطاع أن يقاوم ثورته وتشبث بسريره بقوة وظل صدره يرتفع وينخفض بشدة، وأحس بقلبه يخفق في عنف!. . . لقد أوشك أن يجن في اشتهاء هذه المرأة، وكاد صدره يتمزق حسرة؛ لأنه لا يستطيع إرواء غليله منها!. . . لأول مرة شعر أنه يكره من أعماق قلبه أغنياء الناس، يكرههم، ويحسدهم، مع أنه عاش حياته قانعا بنصيبه من النعمة، يحب الناس وتحبه الناس!
ولم يطل الصمت بعد أن أوت كل فتاة إلى غرفتها وأسلمت نفسها لأحضان فراشها وهي تلهث كالحيوان المتعب، فقد رن جرس الباب مرة أخرى ذلك الرنين الطويل المزعج وأقتحم الفندق ثلاثة من أبناء الذوات، قد أفقدتهم الخمر شعورهم، وفيما هم يجادلون خادم الفندق جدالا سخيفا، مملاً، إذا بتلك الفتاة تخرج من غرفتها عارية إلا من ورقة التوت التي استترت بها جواء، فما كادت عيون الشباب السكارى تقع على محاسنها المكشوفة، حتى ثارت في عروقهم وحوش الشهوة، فتشبثوا بها يريدونها لمتعتهم سواد تلك الليلة، ولكن(904/53)
الفتاة أبت، وحاولت أن تتملص من الأذرع الفولاذية، ولكنها لم تستطيع - فالفريسة قد وقعت بين أنياب الوحوش الكاسرة!. . . غير أن (جانيت) لم تشأ أن تستسلم لهم، كالشاة الذليلة إلى المجزرة - فثارت فيها تلك اللبوءة الجاثمة في أعماقها، وراحت تسمى للخلاص بكل قوتها، وما كان منها وقد كادت تخور قواها، إلا أن تصوب من كفها الرخصة، صفعة قوية إلى أشدهم قسوة، تكفي لإرهاب الوحوش، وإبعادهم عنها، ولكن هذه الصفعة التي تناهى رنينها إلى غرفة الفتى - قد أثارت نشوة الشاب المصفوع، وأحس بأن كرامته قد أذلتها امرأة - يستطيع أحقر الرجال أن يذل كرامتها، ويشتري شرفها وعزتها، فتناول الفتاة بالضرب المبرح حتى أدمى جسدها.
وسمع الفتى صوت (جانيت) وهي تستغيث بصوت باك يقطع نياط القلب، فقفز من فراشه وقد ثارت حميته، وخف لنجدة المرأة المستغيثة. . . وحين لحق بها، وجدها مرفوعة في الهواء، على ذراعي أحد الشباب السكارى، يريد أن يقذف بها من حالق!
وأنقذ الفتاة من موت محتم. . . ثم عاد إليها ليجدها وقد أسلمت نفسها لبكاء مر يفتت الكبد ويذيب الحجر!
لم تكن الفتاة تبكي من جراحها الدامية أو من ألم الضربات المبرحة، وإنما كانت تبكي حظها، تبكي طهرها، تبكي عفافها. . . كانت تبكي لأنها فقدت الطهر والعفاف، وصارت واحدة من بنات الليل، تفرش عفافها تحت أقدام اللذة المنهومة وتعرض جسدها للمذلة والمهانة!. . . كانت تبكي في مرارة مؤلمة وتنشج في حرقة وحرارة؛ لأنها امرأة ضعيفة تعجز عن الانتقام لكرامتها والدفاع عن نفسها. . . كانت تبكي لأنها عند الناس بائعة هوى رخيصة يستطيع كل من يملك ثمنها أن يؤجرها لمتعته وهواه!. . . نعم، كانت تبكي لأنها في هذا البلد امرأة غريبة ليس لها من يحميها وقد حرمتها الحرب زوجها وطوح بها القدر الساخر إلى عالم داعر فاجر تتوائب في ساحته ذئاب ضارية وتتحفز لتقطع عنقها وتفترس جسدها!. . . جرح الرصاص زوجها، واختطف الموت طفلها - وساقها القدر من بلد إلى بلد وتنقل بها من ملهى إلى ملهى، تبيع لطلاب المتعة، وتشتري لنفسها الحياة!
كانت تشكو للفتى ظلم الحياة وقسوة القدر، وتمزج حديثها بالدموع وتنفث من أعماق صدرها الزفرات، وهو جالس أمامها وقد فاض قلبه بالعطف والحنان، ولولا الحياء لمزج(904/54)
دموعه بدموعها، كان رقيق القلب، سريع التأثر إلى حد بعيد! وسألته متوسلة أن يتحدث إلى خادم الملهى يستحثه على إرسال زجاجات (البيرة) فقد اعتادت أن تذيب همومها في كؤوس الخمرة، ولكن الفتى أشفق عليها من كثرة ما شربت تلك الليلة، فأبى عليها أن تشرب، وأقنعها بان تذهب إلى فراشها وتحاول أن تنام. . . إن الإنسان لا ينسى همومه إلا إذا نام أو مات!. . . غير أن الفتاة ألحت وتوسلت وكادت تقبل يديه من أجل كأس واحدة تخفف بها بعض أساها، ولكنه سألها في تأثر بالغ وهو يدفع بها إلى مخدعها في رفق - ولكنك ستقتلين نفسك يا سيدتي. . . أنك تنتحرين! فرفعت إليه عينين ذابلتين بللتهما الدموع، وأجابته في صوت خافت ذبيح النبرات - يا ليتني يا سيدي استطعت. . . ليتني وضعت حدا لهذه الحياة الذليلة، حياة العار والمذلة!
وعاد إلى غرفته. . .
كانت الساعة تعلن النصف بعد الرابعة حين سمع الفتى صوت بابها وهو يفتح، ويرى ظلها أمامه على الحائط المقابل لغرفته وهي تضع كأسا على شفتيها، ودق قلبه دقات مضطربة وهو يسمعها تبكي بكاء مخنوقا وتسعل سعالا مكتوما، فغادر غرفته ليستطلع أمرها، وكم كان ارتياعه شديدا (حين رآها تتجرع كأسا من حامض الفينيك كان خادم الفندق يعقم به الغرف والممرات)!
وأسرع إليها كالمجنون ينتزع الكأس من بين شفتيها انتزاعا، ثم دس سبابته في فمها ليرغمها على إخراج ما أدخلت في جوفها من سم زعاف!
كانت الفتاة بين يديه كالخرقة البالية. . .
كانت كالغصن الذابل المقطوع من شجرة. . .
كانت جسدا متخاذلا جامد الأطراف. . .
أن هذه النائمة على صدره المستسلمة لذراعيه - العارية بين يديه هي نفسها تلك المرأة التي اشتهى أن يمد يده إلى لحمها العاري ليتحسس نعومته وطراوته. . . أنها نفسها تلك المرأة التي أشتاق منذ ساعات إلى صدرها العريض ليريح عليه رأسه المتعب. . . ولكنه بحث عن تلك الرغبات في نفسه فلم يجد لها أثراً. . . كانت قد ماتت في صدره كل الرغبات ولم تعد تختلج أو تتحرك!. . . أن ذاك الوحش الذي كان قد ثار في صدره بعد(904/55)
أن رآها لأول مرة في الملهى قد خمدت ثورته وشلت كل حركة فيه!. . . ذلك الوحش الهائل نفسه قد عاد الآن إنسانا تختلج في قلبه عاطفة نبيلة إنسانية كريمة!
وأسرع يلف جسدها العاري بملاءة فراشه، ويحملها إلى اقرب طبيب!
ولم يبقى في ذلك الفندق أكثر مما بقى، فقد كانت تلك المرأة كلما وقعت عليه عيناها تذكرت تلك الليلة المشؤومة فتنهمل الدموع من عينيها، وتنكأ الجرح العميق الذي خلفته في قلبها. . .
أشفق عليها من مرارة الذكرى، وغادر الفندق إلى الأبد!
عراق. . . بصرة
يوسف يعقوب حداد(904/56)
العدد 905 - بتاريخ: 06 - 11 - 1950(/)
الأزهر في طوره الجديد
إصلاح الأزهر كلمة تناقلتها الأفواه منذ استهل هذا القرن. وكان المطالبون به يومئذ كالمطالبين بالدستور، أمامهم خاصة لا تريد ووراءهم عامة لا تعي. والشأن في إصلاح الدين عن طريق الأزهر، غير الشأن في إصلاح الدنيا عن طريق البرلمان: إصلاح الحكومة زعامة يقوم بها فرد قوي أو حزب كبير، وإصلاح العقيدة إمامة لا يضطلع بها إلا رجل عمله سنة وقوله حجة ورأيه فتوى. وكان الإمام الذي دعا هذه الدعوة أول الناس عسا أن ينهض بهذا الإصلاح لولا أنه كان من سياسة القصر على حد منكب. والجامع الأزهر وقصر الخلافة بناهما جوهر الصقلي من حجر واحد في آن واحد! لذلك استطاع الخديوي أن يخفت صوت المفتي في جلبة شانئيه ومناوئيه من كبار الشيوخ. ولكن دعوة الإصلاح الديني كانت من مخلفات الأستاذ الإمام فحرص عليها مريدوه، وتظاهر بها مقلدوه، فكانوا يديرون بها ألسنتهم بين الحين والحين تشبها بالإمام أو تنزها عن الجمود، حتى انفجرت مسافة الخلف بين قديم الأزهر وجديد العصر، فلم يكن بد من شعور الأزهريين بتخلفهم عن ركب الحياة؛ فجأروا بالإصلاح، وانضووا إلى لواء المراغي في مشيخته الأولى، ورسمت خطة الكفاح للإصلاح. ولكن أولي الأمر لم يباركوا هذه الحركة، فطوى اللواء وعزل القائد وتفرق الجند. ثم أخذ الأزهر بنمط من الإصلاح عجيب: جدد في الشكل دون الموضوع، ولها بالقشر عن اللباب، وعني بالكم لا بالكيف، وامتحن في المقروء لا في المقرر؛ وكاد الأزهر مملا من هذه المعامل الثقافية همه أن يخرج لا أن يخرِّج. وضج الغير حفاظا على أقدم الجامعات وأقدسها فطالبوا بإصلاح الإصلاح. وكان الذي تولى زعامة هذه المعارضة الشريفة الإمام عبد المجيد سليم.
فلما تغيرت الأوضاع واتسقت الأمور وعاد الإمام المراغي إلى مشيخة الأزهر انتعش ما ذوي من الأمل، وقال الناس إن الوسائل قد تهيأت كلها لخليفة الإمام ليصلح الأزهر؛ فالقصر يسنده، والحكومة تعضده، والأمة تؤيده، والأساتذة والطلاب يلقون إليه المقادة ويحملونه الأمانة، والشيخ عبد المجيد وشيعته يخلصون له النصح ويشاركونه التبعة. ولكن المراغي لأمر يعلمه الله أراد أن يكون صاحب سياسة، فاستحب المداراة وآثر العافية.
وبقي الأزهر في انتظار المصلح، تتعارض في جوفه التيارات المختلفة، وتتناوح على سطحه الرياح النكب. وكان هذا المصلح المنتظر قد هيأه الله بالفطرة، وجهزه بالعدة،(905/1)
وادخره لهذا اليوم، وأقامه على مقربة من (عين شمس). فكلما خلا كرسي المشيخة لهجت بذكره الألسن، واتجهت إلى مثواه القلوب؛ ولكن للسياسة مشيئة كمشيئة القدر تطغي على كل إرادة، وتنبو على كل منطق!
وأخيرا أراد الله لكلمة (إصلاح الأزهر) أن تجد معناها الصحيح الصريح بعد نصف قرن، فأتاح الفرصة ليتولى تفسيرها ذلك المصلح المنتظر وهو الشيخ عبد المجيد سليم. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(905/2)
إبراهيم عبد القادر المازني
للأستاذ حسني كنعان
من حق الرسالة أن تعتب على حملة الأقلام وملوك القول في مصر لتقصيرهم في (سنوية) المازني، ومن حقنا هنا معشر السوريين الذين عرفنا الفقيد حق المعرفة أن نشارك الرسالة في هذا العتاب والملامة؛ لأن المازني الخالد الذكر له في ربوعنا تلاميذ، وله مدرسة، فالمعجبون بأسلوبه والمرتشفون مناهل ينابيعه والمترسمون خطاه كثر بين ظهرانينا.
ولقد لمع نجمه في بلادنا منذ عهد مجلة السياسة الأسبوعية التي كان يصدرها حسين هيكل بك، وأحبه الدماشقة في زياراته المتكررة لبلادهم، وعشقوه من هذه الصولات القلمية التي دافع بها عن أوطانهم يوم كل أمير الفرنسي يحز في أعناقنا، ولذا بات من حقهم مشاركة اللائمين في تقصيرهم بإقامة حفلة لإحياء ذكرى وإن كانت ذكراه ماثلة للعيان في آثاره الأدبية وكتبه المنتشرة في كل قطر عربي. . . إن من حق الصحف العربية في جميع أقطارها أن نملأ عقولها اليوم بذكرى جاحظ عصرنا الحالي الفقيد المازني وتعدد مناقبه لما له على لغة الضاد من بيض الأيادي، وأن الأقلام العربية على غزارة مادتها وتنوع مناهجها لم تشهد منذ عهد الجاحظ كاتبا ملك من أسلوب الصياغة وإشراق الديباجة مثل الذي ملكه. فهو عبقري في فنه يتناول أبحاثه بأسلوب الساخر المتهكم، فيحدث من هذه الناحية في جسوم خصومه جراحات دامية فيصرعهم صرعا. ويدق أعناقهم دقا بأسلوبه اللاذع المرير، وإلى هذا فإن من أدبه الجم من أي النواحي أتيته لمادة ثرى جديرة بأن يكتب عنها إحياء للذكرى، وإني شخصيا على شدة هيامي بأسلوبه، وحزني على فقدانه لم أجد ما أقوله فيه بهذه (السنوية) سوى ذكرى زيارته الأولى لدمشق سنة 1943 وذكرى تشرفي بمعرفته، إذ ما كاد يذاع وقتئذ في عاصمة أبناء عبد شمس الغر الميامين خبر قدوم زعيم الثورة الأدبية وحامل لوائها حتى خف أدباء العاصمة ومتأدبوها شبابا وشيبا لمقابلته والتعرف عليه، وكنت بين هؤلاء الذين حجوا النزل لزيارته. فأول ما تبادر إلى ذهني قبل رؤيتي الرجل أني سأرى ماردا من مردة الجان لكثرة ما كنت أسمعه عنه وكثرة تحدث الناس عن أدبه الجم وأسلوبه العجيب، فقلت في نفسي لعل هذا المازني الذي نسمع به ونعجب بشهرته الأدبية الواسعة يكون على عظم هذه الشهرة أضخم من عرفنا وأطول(905/3)
وأعرض ممن رأينا في حياتنا من البشر.
دخلنا المنزل ونحن جد مشوقين لرؤية الأديب الكبير، سألنا عنه أحد عبيد النزل فأشار إلينا ذلك العبد الذي يشبه فحمة الليل بطرف موقه إلى إحدى القاعات، فدخلناها، وما كدنا نضع أقدامنا في وصيدها حتى شدهنا وأخذنا بدهشة الداخل المرتاب، وما لبث أن هدأ روعنا عندما أبصرنا عصبة من الأدباء الذين نعرفهم متكوفين حول رجل ضئيل ضاو هزيل؛ وعلى مقربة منه من المسلمين عليه الدكتور إبراهيم الساطي المرحوم وهو سميه كما ترى، وكان من المعروفين بالبدانة وضخامة الجسم وثقله، فسألت الجالسين أين هو الأستاذ المازني؟ فخف من جانب الدكتور الساطي رجل نحيف قميء لا تكاد تحمله قدماه لنحافة جسمه تنم ملامح وجهه وبريق عينيه على ذكاء حاد وذهن متوقد، فمد يده مسلما علينا قائلا:
أنا ذا هو المازني بقضه وقضيضه، ونضه وفقهه، وعجره ويجره. فضحك من في القاعة حتى استلقوا على ظهورهم، فاستحييت ومن معي من الرفاق وتمنينا أن تملئ علينا الأرض، ثم انطوينا على أنفسنا وهممنا بالعودة من حيث أتينا ظانين أن القوم يسخرون منا ويهزءون بنا، فتورد وجهي الذي ما رأيته متوردا طوال معرفتي به من جراء هذه اللقيا غير المنتظرة؛ فأشفق علينا بعض الحاضرين وتلطف قائلا:
لا تخجلوا يا أخوان مما لقيتموه وسمعتموه، فهذا هو المازني كما تعرفونه، وهذا هو شأنه من الدعابة إن جدا وإن هزلا.
فكتمت أمرا في نفسي وأزمعت الانتقام بيد أني جلست أخيرا كاتما ما في نفسي مع الجالسين نسمع طرف الرجل الأدبية ونوادره. وإني والحق أقول ما رأيت - وسني سني - منظرا أثر في نفسي مثل منظره جالسا على يمين سميه الدكتور الساطي لنحافته وقصر قامته؛ وبدانة ذاك وضخامة جسمه. فسبحان جامع الأضداد وشتان في الأجسام ما بين الإبراهيميين.
جلست في الحلقة وكان فيها فرجة فطبقتها، وجعلت أحدق بالمحتفى به وأنا في شك من أمره. أهذا هو المازني بعينه صاحب خصاد الهشيم، وقبض الريح، والرحلة الحجازية، وخيوط العنكبوت، وإبراهيم الكاتب، وغيرها من المؤلفات والروايات الكثيرة والقصص(905/4)
الرائعة؟ أهذا صاحب الأشعار الرقيقة ورئيس تحرير السياسة والبلاغ؟ أهذا هو المجلي بين كتاب الرسالة؟ فمن كانت هذه مؤلفاته وهذه كتاباته وهذه شهرته بحب أن يضارع على الأقل سميه الساطي بضخامة جسمه، وعوج بن عناق بطول المفرط وعنترة بن شداد أخا عبس بشجاعته وقوته. إن قائدا كبيرا من قواد الأدب وفاتحا عظيما من فاتحي القلوب يجب أن يضمه جسم غير هذا الجسم إذا قيست عظمة الأعمال بعظمة الأبدان. . . حقا إن المازني يعد بكبير عمله مع ضآلة جسمه من الأعاجيب. قلبت يومئذ صور الأشخاص الذين أعرفهم والذين وقع نظري عليهم عساني أرى لهذا المخلوق العجيب شبيها من الصور التي أعرفها؛ فتمثلت أمامي صورة الشقي الفلسطيني المعروف المسمى (أبو جلدة) فقلت بنفسي ما أشبه هذا بذاك. فكتبت مقالا للانتقام بهذا الشبه ودفعته للمازني بيده فضحك رحمه الله كثيرا وكان المقال طريفا للغاية جاء في بعض فقراته. . . أجل إن المازني يشبه أبا جلدة من وجوه عدة مهما تنصل من هذا التشبيه واتخذ الألوان والأصباغ ليدرأ عن نفسه هذه التهمة.
فذاك كان مليك الصحاري والقفار، ومخيف السلطات في جبال النار، وهذا مليك الأقلام وصاحب المراوغات والمصاولات الأدبية المخيفة. ذاك كان سارق الجيوب وقاتل النفوس ومزعج السلطات والإقطاعيين البخيلين، وهذا سارق العقول بأساليبه الغريبة، وخالب الألباب، وقاتل الدجالين من المتأدبين بنقده المرير، ومزعج الأدباء من خصومه بتهكمه المرير ومنجله الحاصد. فويل (لخفافيش الأدب من هذا المنجل العضب، وويل للدجالين من هذا القلم الجموح الخالق المبدع).
ولقد كنا نسمع بأعمال أبي جلدة عن بعد فنعجب به، ولما تكشفت لنا حقيقة جسمه وضعفه وهزاله ازددنا به عجبا لصدور هذه الحوارق من رجل هزيل مثله.
كما أنّا كنّا نقرأ كتب المازني ومقالاته فنعجب بها ونسحر، والآن قد ازددنا سرورا وعجبا عندما أبصرنا أن هذه المنتوجات الأدبية تقوم على جسم نحيل ضئيل كجسمه. فحيا الله تربة أنبتته وأما حفلت به وأرضعته ثدييها، فلقد فتح لنا بأسلوبه التهكمي ودعابته الجميلة طرفا في الأدب لم تكن من قبل معروفة في لغة الضاد منذ عصر الجاحظ، فإنه (جاحظي) في أسلوبه وسخريته وكتاباته؛ لذا فهو قمين بزعامة الأدب في هذا العصر، وحق له(905/5)
التتويج والخلود.
وبعد فإني لا أجزع على نفسي فيما إذا مت الآن، لأني بلغت أمنيتي ورأيت المازني الذي عشقته منذ نعومة أظفاري وهمت به. ولما تقدمت إليه بالمقال دسه في جيبه بعد أن نظر نظرة خاطفة إلى عنوانه الذي جاء فيه (أبو جلدة بيننا ولا ندري) فضحك وقال: نعم التشبيه تشبهك، وقد علمت فيما بعد أنه كان للمقال أثر بليغ في نفسه.
دمشق
حسني كنعان(905/6)
الألعاب العربية
للأستاذ محمد محمود زيتون
- 1 -
لم يكن العرب بمعزل عن الحضارات التي أحاطت ببلادهم، بل كانوا على اتصال وثيق بها، في الأخذ والعطاء. على أن الرمال السوافي، والجبال الرواسي، والبطاح المترامية، لم نحجب عن العرب أصداء الفرس والروم والأحباش والهنود والسريان والمصريين.
ويخطئ من يظن أن العرب لم يحتفلوا بالألعاب الرياضية احتفال الرومان والفرس بها. وفي الحق أن العرب عنوا بالرياضة لا باعتبارها لهوا ولعبا؛ ولكن على أنها تربية ذات طابع قومي، ونهج واضح، وغاية رفيعة.
والتراث العربي حافل بهذا اللون من التربية، سواء في كتاب الله، وسنة رسوله، ودواوين الشعراء، والقواميس والمعاجم، مما أضاف إلى الحضارة العربية ثروة جديدة ذات قيمة نادرة، وإن كان الدارسون منا ومن المستشرقين لم يلمسوا هذه الزاوية في قليل أو كثير، إلا أنها لا تقل أهمية عن مظاهر هذه الحضارة التي نعتز بإذاعتها في الناس.
ولنذكر أولا في هذا البحث الألعاب المشهورة عند العرب ليقف القارئ البصير على مقدار نفعها البدني، وغايتها في تربية الفرد وأثرها في المجتمع، ولنا بعد ذلك وقفة عند موقف الإسلام الحنيف من هذه الألعاب التي نستخرجها من كتب اللغة والأدب والسيرة ونذكر منها:
المفايلة: لعبة لفتيان العرب يخبئون الشيء في التراب ثم يقسمونه فإذا أخطأ المخطئ قيل له فال رأيك.
الجثة: تشبه المفايلة هي أن يختبئ الصبيان شيئا تحت التراب ثم يصدع صدعين ثم يضرب أحدهم بيده على أحدهما أو على بعضه؛ فإن قبض على الخبء فيه قمر.
عظم وضاح: لعبة الصبيان بالليل وهي أن يأخذوا عظما أبيض شديد البياض فيلقوه ثم يتفرقوا في طلبه فمن وجده منهم ركب أصحابه.
خراج: يمسك أحدهم شيئا بيده ويقول لسائرهم اخرجوا ما في يدي.
الخطرة: وهي اللعب بالمخراق.(905/7)
الضب: وهي أن يصور الضب في الأرض ثم يحول أحدهم وجهه ويقول: ضع يدك على صورة الضب، على أي موضع من الضب وضعته فإن أصاب قمر.
النقيري: وهي لعبة بالتراب، ويقال الصبيان ينقرون أي يلعبون النقيري.
المقلاء والقلة: عودان يلعب بهما الصبيان فالعود الذي يضرب به يسمى المقلاء وهي خشبة قدر ذراع - والقلة هي الخشبة الصغيرة - والقلو لعبك بالقلة وذلك رمها في الجو ثم ضربها بمقلاء في اليد فتستمر القلة ماضية فإذا وقعت كان طرفاها ناتئين على الأرض فتضرب أحد طرفيها فتستدير وترتفع ثم تعترضها بالمقلاء فتضربها في الهواء فتستمر ماضية - والفعل قلا يقلو قلوا.
المقلاع: معروف ويستخدم في رمي حجرة إلى مكان بعيد.
العرعار: لعبة للصبيان أيضا.
الخذروف: شيء يدوره الصبي في يده بخيط فيسمع له دوي - قال امرئ القيس يصف فرسه في شدة جريه:
درير كخذروف الوليد أثره ... تتابع كفيه بخيط موصل
الكرة: معروفة ويقال كرا الكرة يكررها ومقطها يمقطها أي يضرب بها الأرض ثم يأخذها.
الطبطابة: مضرب الكرة.
الصاعة: البقعة الجرداء ليس فيها شيء، يكسحها الغلام وينحى حجارتها ويكرو فيها بالكرة.
الكجة: يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة فهو يكج أي يلعب بالكجة.
التوز: الخشبة تلعب بها الكجة.
البكسة: خرقة يلعب بها وتسمى الكجة.
الصولجان: المحجن وهو قضيب يثنى طرفه.
الميجار: شبه صولجان تضرب به الكرة.
القفيزي: خشبة ينصبها الصبيان يتقافزون عليها.
النفاز: لعبة يتنافزون عليها أي يتواثبون.
الحوفزي: أن تلقي الصبي على أطراف رجليك فترفعه - والفعل حوفزي.(905/8)
البنات: التماثيل الصغار يلعب بها وهي المعروفة في الفرنسية باسم:
الربيعة: حجر تمتحن بإشالته القوى.
الزحلوقة: مكان منحدر مملس.
الأرجوحة: خشبة توضع على تل ثم يجلس غلام على أحد طرفيها وغلام آخر على الطرف الآخر فتترجح الخشبة بهما وتتحركان فيميل أحدهما بالآخر - والفعل ترجح يترجح على الأرجوحة.
الحمص: هو الترجح والفعل حمص يحمص حمصا.
الجعري: أن يحمل الصبي بين اثنين على أيديهما.
المقثة: خشبة مستديرة على قدر قرص يلعب بها الصبيان تشبه الخرارة.
الخرارة: عود يوثق بخيط ويحرك الخيط وتجر الخشبة فيصوت.
المطثة والمطخة: خشبة عريضة يدقق أحد رأسيها يلعب به الصبيان.
الحجورة: يخط الصبيان خطا مستديرا ويقف فيه صبي ويحيط به الصبيان ويضربونه فمن أخذ منهم أقامه مكانه.
الجماح: سهم يجعل على رأسه طين كالبندقية يرمي به الصبيان.
التخاسي: الرجلان يتخاسيان أي يلعبان بالزوج والفرد يقال: خساً أو زكا أي فرد أو زوج.
الأمبوثة: هي أن يحفر الصبيان حفيرا ويدفنون فيه شيئا فمن استخرجه فقد غلب.
الدعلجة: لعبة يختلف فيها الصبيان للجيئة والذهاب.
الحوالس: هي أن يخطو خمسة أبيات في أرض سهلة ويجعلوا في كل بيت خمس بعرات وبينها خمسة أبيات ليس فيها شيء ثم يجر البعر إليها وكل خط منها حالس.
المخراق: منديل أو نحوه يلوى فيضرب به.
الرجاحة: حبل يعلق ويركبه الصبيان.
الجنابا أو الجنابى: هي أن يتجانب اثنان فيعتصم كل واحد من الآخر.
ردت الجارية: أي رفعت رجلا ومشت على أخرى تلعب.
يتبادح الصبيان: أي يترامون بالبطيخ والرمان والكرين ونحوها.
البوصاء: عود في رأسه نار يديرنه على رءوسهم.(905/9)
المخزق: عوبد في طرفه مسمار محدد يكون عند بياع البسر بالنوى وله مخازق كثيرة فيأتيه الصبي بالنوى فيأخذه فيه ويشرط له كذا وكذا ضربة بالمخزق فما انتظم له من البسر فهو له قل أو كثر، وإن أخطأ فلا شيء له وذهب نواه.
التضرفط: أن تركب أحداً وتخرج رجليك من تحت إبطيه وتجعلهما على عنقه.
الرهان والمراهنة: هي المخاطرة والمسابقة على الخيل.
الوجب: السبق في الرمي، وهم يتخاطرون أي يتراهنون في الرمي.
الميسر: اللعب في القداح.
هذا فضلا عن الكعب والشطرنج والنرد والدامة والمصارعة والرماية والفروسية والمسايفة والمبارزة والسباحة والرقص واللعب بالمشاعل والرماح والحراب مما يدخل في باب اللعب الذي هو ضد الجد والذي هو أحيانا اللهو.
ومن مادة (لعب) اشتق العرب الاصطلاحات الآتية:
اللعبة: وهي ما يلعب به.
اللعاب: وهو الرجل الذي حرفته اللعب.
اللعب: وهي تماثيل من عاج.
تلعب: لعب مرة بعد أخرى.
ورجل تلعابة. كثير اللعب. التلعاب: اللعب واللعب.
الملعبة: وهي الثوب لا كم له يلعب به الصبي.
الملعب: المكان الذي يلعب فيه الصبيان.
وكذلك قالوا:
برحى: للمخطئ في مرمى.
مرحي: للمصيب في الرمي.
الطالع: وهو السهم الذي يقع وراء الهدف.
الشعوذة: وهي خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين، والرجل مشعوذ.
النيرج والنيرنج: وهي الشعوذة.(905/10)
وبرزت عناية العرب بسباق الخيل وابتدعوا المصطلحات الوفيرة له منها المصلي والمجلي كما سموا الأخير باسم الفسكل وأجازوا الحائز لقصب السبق ومنحوه نوط الجدارة والصرة وهي البدرة من المال. وقال الشاعر يصف الخيل في السباق:
ترى ذا السبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان
وبلغ من عنايتهم بالتشجيع وإفساح المجال أمام الضعيف أن قالوا: (وعند مستبق الزود تسبق العرجاء) ليكون باب الأمل مفتوحا على مصراعيه، وافتخروا بنشأتهم على ظهور الخيل فقالوا:
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربي ... من شدة الحزم لا من شدة الحزم
فكانوا حقاً وصدقا رهبان الليل وفرسان النهار.
وتعمقوا في دراسة الخيل من كل وجه فدرسوا أعضاءها وأطوار حياتها وطباعها وألوانها وفصائلها وتناسلها وألفوا في ذلك الموسوعات التي من أشهرها كتاب (جر الذيل في علم الخيل) واحتفل بها القرآن الكريم وأقسم بها رب العزة فقال في كتابه العزيز (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغريات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا) وأمر الله بإرهاب العدو بكل ما يستطاع من قوة (ومن رباط الخيل) وما أبلغ النبي العربي بقوله (يا خيل الله اركبي) وليس بعجيب أن يأمر النبي المسلمين بتربية الخيل وإعدادها للجهاد نهيا عن اتخاذها لمجرد الزينة والتفاخر قائلا بعد ذلك (الخير تحت أقدام الخيل) وقد قرن المتنبي عزة الفارس بفضل الكتاب فقال:
أعز مكان في الدنى سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
وكان العرب كذلك أسبق الشعوب إلى حركة الكشف فهم المشهورون بقص الأثر والتعرف على الخصائص الدقيقة لصاحبه بمجرد النظر إلى ما خلفه قدمه على الرمل السافي أو صفاة الجبل فيعرفون إذا كان رجلا أو امرأة، عذراء أو حاملا. وكذلك هم المشهورون بالنار وإشعالها بالليل لهداية الضال وإكرام الضيف وتحدي العدو فقالوا (ناركم منار غيركم) وجاء في الحديث الشريف (إن الرائد لا يكذب أهله.) وكانوا حراصا على تنشئة فتيانهم على المجازفة والمخاطرة فكان منهم أسود البحار الذين قهرت عزائمهم كل قوة وسادت تعاليمهم كل مصر؛ وحتى نعتهم رسول الله بأنهم (الملوك على الأسرة) فذلت لهم(905/11)
رقاب العمالقة والفراعنة، ودانت لهم عروش القياصرة والأكاسرة وبهذا كان العرب جادين حين يلعبون - وبالإسلام صاروا أصحاب رسالة تتجلى آثارها في حركاتهم وسكناتهم وتنضج بها شعائر دينهم ومظاهر دنياهم حتى أصبحوا أصحاب اللهو المشروع الذي لم يتخلف قيد أنملة عن مجال الدعوة المحمدية في أقطارها البعيدة.
(يتبع)
محمد محمود زيتون
(ممنوع النشر والنقل والترجمة إلا بأذن الرسالة)(905/12)
من الأدب الغربي
عندما يسأم الشاعر الحياة
للأستاذ إبراهيم سكيك
يتعرض كل إنسان لفترة من الزمن تطغى عليه في خلالها موجة من اليأس يرى الحياة وهو يخوض عبابها عابسة ممطرة لا يتلذذ بجمالها أو يبتسم لمفاتنها؛ ولا يؤخذ بسحرها أو يبهر بروعتها، فتبدوا له بدائع الكون كئيبة قاتمة تبعث على الملل والضجر فينبعث منه أنين خافت وتأوه مكبوت، ويتردد في نفسه خاطر الحزن واليأس، وتستعر بين جوانحه لوعات الشجن والأسى، ويلم بخياله طيف الموت والفناء، ولا يزال على هذا الحال من العذاب والشقاء حتى ينبعث نور من الأمل يبدد دجنة الحياة وديجور اليأس.
وقد مرت هذه الفترة اليائسة بكثير من شعراء العاطفة والوجدان فأذكت قرائحهم الشعرية وألهبت حواسهم الشعرية فنفحو الأدب بما جاد به براعهم من نظم ونثر. وفي هذا الموضوع من الأدب الإنكليزي أترجمه إلى قراء العربية:
أقتبس أولا قصيدة للشاعر المعروف (ملتون) الذي كثيرا ما يشبهه الأدباء بالمعري قالها عند ما كف بصره وتسرب اليأس إلى نفسه وهذه ترجمتها:
عندما أفكر في نفسي كيف فقدت نور بصري قبل أن أقطع نصف الشوط الذي قد اقطعه في هذا العالم المظلم الرحيب، وكيف أن تلك الموهبة الأدبية التي تكمن في نفسي ولا ريب أن في كبتها قتل لتلك النفس التي ترغب في استغلالها لخدمة خالقها وتقديم واجباتها إليه لئلا ينحى عليها باللائمة، عندما أفكر في كل ذلك اتساءل بلهف: هل يتطلب الله مني العمل في حين أنه يضن على بنور البصر؟.
بيد أن (الصبر) يوقف هذه الشكوى ويبدد حيرتي فيجيب على تساؤلي قائلا (ليس الله في حاجة إلى عمل الناس ومواهبهم، وأن أولئك الذين يتحملون نيره اللطيف ليخدموه الخدمة الكبرى. نعم يخدمه أولئك الذين يقفون منتظرين قضاءه من غير ضجر أو ملل. أما هو جل جلاله ففي غنى عنا؛ لأن ملكوته عظيم يسعى في مرضاته ألوف الملائكة الذين يجوبون البراري والبحار دون تعب أو نصب.!!
وهذا الشاعر الروائي (سكوت) (1770 - 1832) يصف منظر رائعا بفقد روعته التي(905/13)
اعتادها لأنه كان في أواخر أيامه في ضيق مالي شديد اضطره لإجهاد نفسه وأخيرا لإرهاق جسمه والقضاء عليه في أيام بائسة وصف في أثنائها هذا المنظر بقوله:
أرى الشمس على سفح تلة (وردلو) تغوص لتغيب وراء وادي (إترك) والريح الغربية هادئة لا صوت لها، والبحيرة ترقد نائمة عند أقدام التلة. غير أن هذا المنظر بجلال روعته لا يحمل بين طياته تلك الألوان البراقة والجاذبية الخلابة التي كان يحملها في زمان سلف وعهد غبر.
مع أن يد المساء تطلي بوهيجها شاطئ (إترك) فتكسبه صبغة أرجوانية. ألقيت نظرة على ذلك السهل لأرى تيار نهر (نويد) الفضي ينساب متماوجا في مجراه، وأنقاض هيكل (ملروز) قائمة في كبرياء إلى جانب البحيرة الوادعة.
لكن الهواء العطري والتلة والغدير والبرج والشجر، مالي أراها تبعث الملل؟ هل هي كما كانت بالأمس، أم أن التغيير هذا في نفسي فقط؟.
ويلاه! كيف يمكن للوح المقوس المحطم أن تزخرفه يد الدهان؟ وكيف يمكن للقيثارة ذات الأوتار المتشنجة غير المنسمة أن تتناسق أنغامها مع صوت المطرب الشادي؟
هكذا كل منظر رائع تتضاءل روعته في نظر العين المتألمة.
وكل نسمة عليلة من الهواء اللطيف تبد وللمحموم زوبعة قارصة.
وكل عرائش البادية وجنات عدن قاحلة كهذا المنظر في نظري.
وهذا شاعر الطبيعة وليم وردزورت (1770 - 1850) وكان شاعر البلاط في عهده يصف جمال الكون وهو في شيخوخته وصفا مشابها لوصف (سكوت) فيقول: لقد مضى زمن كان فيه المرج والبستان والغدير والأرض وكل منظر اعتيادي يظهر لي موشحا بنور قدسي.
وكأنما أفقت من حلم مروع فأراها الآن مغايرة لما كانت عليه في سالف الأزمان؛ وإني وجهت نظري في الليل أو النهار تظهر أمامي الأشياء التي كنت أراها من قبل يظهر قوس قزح ثم يتلاشى، وتفتح أزهار الربيع الجميلة ويضيء، حولها القمر الساطع في الليالي الصافية، ويتلألأ ماء الغدير في تلك الليالي المقمرة، وتشرق الشمس فتخلب الألباب، بيد أني أينما ذهبت أشعر بأن مجدا سالفا قد زال عن وجه الكون.(905/14)
ويقارب هذا الوصف ما نظمه زميله الشاعر (شلى) وهو يتحسر على الماضي ويتألم لحاضره فيقول:
أيها العالم، أيتها الحياة، أيها الزمن، يا من أقف على آخر درجات سلمك وأنا أرتجف فرقا حين أنظر إلى أسفل حيث درجات الماضي البعيد.
متى يعود مجدك وعظمة أيامك التي ولت؟
آه! لن تعود! لن تعود!
إن السعادة قد طارت من أيامي وليالي.
فالربيع الجميل والصيف النضير والشتاء الأبيض تحرك في فؤادي مشاعر الأشجان دون أن تجلب شيئا من المسرة والابتهاج. فمتى يعود لنفسي المرح والحبور:
آه! لن يعود! لن يعود!
وفي فترة من اليأس الشديد مرت بهذا الشاعر السيء الحظ عندما كان بعيدا عن وطنه يقاسي مرارة الغربة وألم البعد عن الوطن وفرقة الأحباب بعد أن خرج على والده وهجر وطنه فتكبد مشقات لا توصف، في هذه الفترة نظم قصيدة يدعو فيها نفسه إلى العودة لأرض الوطن فيقول:
هيا فإن المرج مظلم حالك بعد أن امتصت السحب آخر أشعة المساء الشاحبة.
هيا فإن الرياح المتجمعة تنادي الظلام؛ ولا ريب أنه سيلبي النداء فيغطي جميع أنوار السماء كما لو كان كفنا شديد السواد.
لا تتريث فقد مضى الوقت، وكل صوت في الطبيعة يناديك بالإسراع لا تغرينك دمعة من صديق أو نظرة من حبيب مهما بالغت في توسلاتها؛ لأن الواجب يدعوك لأن تعود إلى العزلة والانفراد.
هيا أسرع، أسرع إلى وطنك الهادئ الحزين، وهناك اسكب الدموع المريرة على موقده المهجور، وارقب ظلاله القائمة وهي تتحول من هنا إلى هناك كالأشباح، وانظر إلى نسيج غريب هناك سداه الكآبة ولحمته المرح. إن السحب التي تسير في السماء لتخلد إلى الراحة في منتصف الليل عندما تسكن الرياح المتعبة، وكما تسكن هذه الرياح فإن القمر كثيرا ما يريح نفسه فيغيب عن عالمنا المترع بالأحزان، وهذه البحار والمحيطات تجد لنفسها فترات(905/15)
تريح فيها أعصابها من الاضطراب المستمر.
كل ما يتحرك إذا أو يكد أو يحزن لا بدله من إغفاءة مريحة.
أما أنت فلن ترى الراحة إلا في القبر حيث الخلود الأبدي.
غزه
إبراهيم سكيك(905/16)
الغزالي وعلم النفس
الإلهام
- 7 -
للأستاذ حمدي الحسيني
بعد أن ظهر جليا في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد عرف اللاشعور وحقيقته والعقل الباطن وأسراره؛ نرى من الحق أن نتحدث عن بعض أسرار هذا العقل الباطن أو اللاشعور، تلك الأسرار التي وصل إليها الغزالي في دراساته للنفس البشرية، وقد يكون الحيال من أهم أسرار العقل الباطن في نظر الغزالي، ولهذا فقد أخذنا هذا الخيال الذي ذكره الغزالي في سياق حديثه عن العقل فوجدناه قد ألم به الماما حسنا شأنه في بقية المواضيع النفسية التي عالجها. وقد رأيناه يتخذ في بحثه هذا قاعدتين ثابتتين يرتكز عليهما في معالجاته لهذا الموضوع، وهاتان القاعدتان هما الإلهام والوسواس. وها نحن الآن نتحدث عن الإلهام مرجئين التحدث عن الوسواس إلى المقال القادم إن شاء الله.
والتخيل كما يصفه النفسيون هو استعادة الإنسان في ذهنه ما حصل عليه بالحس من قبل، وهو نوعان: التخيل الاستحضاري وهو أن تستحضر في نفسك ما كنت قد أدركته بحواسك من قبل غير قاصد التبديل فيه أو التغيير. وأما التخيل الإبداعي والابتكاري فهو التغيير في تركيب أجزاء المدركات الحسية السابقة ابتغاء شيء جديد. والأخيلة التي من هذا الطراز لا تدخل العقل مبتكرة وإنما تدخل العقل بجميع أجزائها من صور مختلفة متعددة معهودة إليه من قبل فيرتبها ترتيبا جيدا، وهذا ما يميز العباقرة في الفن والموسيقى والعلم والصناعة عن سائر الناس، على أنه مهما بلغت قدرة الفرد على الاختراع والابتكار في العلم أو في الصناعة أو في الأدب لا يأبى بشيء، كل ما فيه جديد. لأن الإنسان لا يخلق شيئا من عدم، وهذا التخيل الابتكاري يقسم إلى سلبي وإيجابي.
ففي التخيل السلبي لا يكون الإنسان مشرفا بإرادته إشرافا عمليا على عملية التخيل، ولا يكون لديه غرض معين يشعر به ويقصد إليه في تخيله، بل يمتطي خياله فيجمع هذا الخيال إلى الأماني والأوهام والوساوس وأحلام اليقظة. أما التخيل الإيجابي فالإنسان يرمي(905/17)
فيه إلى غرض محدود ويوجه تخيله في طريق معين ويجعله تحت رقابة عقله فيكون شاعرا كل الشعور بالعناصر التي يختارها، وأنه يوجه عملية التخيل نحو غرض معين، وهذا الغرض هو الذي يتحكم في اختيار العناصر والصيغة النهائية التي تصب فيها، ودرجة الإنشاء والاختراع فيه تختلف اختلافا كبيرا حسب اقتراب التخيل من الممكن أو بعده عنه. وكلما بعد التخيل الإيجابي عن الممكن اقتراب من الأوهام والوساوس.
وأما الإلهام فهو كما يقول النفسيون أيضا: يقولون هو التخيل اللاشعوري الذي يبرز فجأة من اللا شعور فيتجلى في الشعور واضحا بدون أي جهد يصرفه في سبيل تبيينه واستجلائه.
وهذا الظهور الفجائي ليس فجائيا كما يظن؛ وإنما هو نتيجة عمل طويل للا شعور، فعدم الشعور بالجهد فيه هو الذي يجعلنا نراه فجائيا ونعده إلهاما ووحيا وهذا الإلهام يسبق كل تحليل وتركيب فيمن الخاطر للعبقري، فجأة ثم يأخذ هو في تحليله وتركيبه من جديد.
ولنسمع بعد هذا كله ما يقوله الغزالي في هذه المواضيع يقول - لو فرضنا حوضا مجفورا في الأرض ويحتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فتفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم. وقد يكون أغزر وأكثر، كذلك العقل مثل الحوض، والعلم مثل الماء، والحواس الخمس مثل الأنهار وقد يمكن أن تساق العلوم إلى العقل بواسطة الحواس، وقد يمكن أن تسد هذه الأنهار؛ بالخلوة والعزلة فيعمد إلى عمق العقل حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله. ويقول أيضاً إن العقل تحصل فيه حقيقة الشيء تارة من الحواس مما سماه اللوح المحفوظ - أي من العقل الباطن - كما أن العين تحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابلها ويحكي صورتها. فإذا للنفس بابان باب مفتوح إلى الحواس الخمس، وباب مفتوح إلى العقل الباطن. وأما انفتاح النفس للاقتباس من الحواس الخمس فلا يخفى على أحد أما انفتاح الباب الداخلي فيعرف يقينا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل وما كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس.
ولنسمع الغزالي يتحدث عن حصول العلوم بالتجارب والتفكير في عقل الإنسان يقول: إن(905/18)
حصول العلوم المكتسبة في عقل الإنسان بالتجارب والفكر، فتكون هذه العلوم المكتسبة كالمخزونة عنده فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشرا للكتابة مع قدرته عليها وهذه غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى بتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها إذ تحصل بعض العقول بالإلهام.
ولنصغ الآن إلى الغزالي يتحدث عن هذا الإلهام في الفصلين الكبيرين اللذين عقدهما على هذا الموضوع في الجزء الثالث من كتابه الجليل - إحياء علوم الدين - يقول إن العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في العقل في بعض الأحوال تختلف الحال في حصولها؛ فتارة تهجم على العقل كأنها الغيث فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعليم. فالذي يحصل بغير طريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في العقل بغير حيلة وتعلم واجتهاد ينقسم إلى ما لا يدري الإنسان كيف حصل له ولا من أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب اذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب، والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروح، والثاني يسمى وحيا، والأول تختص به الأولياء والأصفياء، والثاني تختص به الأنبياء. وأما العلم المكتسب بطريق الاستدلال فيختص به العلماء.
ولا بد هنا قبل أن نستمر في إيراد أقوال الغزالي من أن نبين أن الغزالي يستعمل في هذا البحث لفظة القلب بدل العقل، والعقل بدل العقل الواعي أو الشعور، واللوح المحفوظ بدل العقل الباطن أو اللاشعور، ولهذا فإننا نورد أقواله مع التصرف في هذه الألفاظ توضيحا للمعنى المقصود. يقول الغزالي. إن العقل مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الأشياء كلها وبحال بينه وبينها بأسباب تكون كالحجاب المسدل بين الشعور واللاشعور، وتجلى حقائق العلوم من مرآة الشعور يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها والحجاب بين المرآتين.
وقد ينكشف الحجاب عن عين الشعور فيتجلى فيها بعض ما هو منظور في اللاشعور ويكون ذلك تارة عند المنام وتارة في اليقظة. وانكشاف الحجب عن عيون الشعور ليتجلى فيها بعض ما هو مستور في اللاشعور يذكرنا برأي للعلامة النفسي الكبير (ينج) وقعنا عليه في تحليل له لبعض الشخصيات الكبيرة التي عرفها بذاته؛ وهو أن سر عبقرية ذلك الرجل(905/19)
كان في ائتلاف عقله الواعي مع عقله الباطن ائتلافا تاما بحيث ترد على عقله الواعي خواطر عقله الباطن تواردا حرا فيوافق عليها عقله الواعي موافقة تامة، ويشترك في تنفيذها اشتراكا كاملا. ويدهشنا جدا التوفق بين رأيي الغزالي قبل ثمانية قرون ورأي (ينج) قبل ثماني سنين في الإلهام الذي هو سر العبقرية وروح البطولة.
وأما طريق الحصول على هذا الإلهام في نظر الغزالي فهي صعبة شائكة لا يقوى على سلوكها إلا من توفرت فيهم الأسباب لمثل هذا الأمر العظيم. وأما الطريق فهي أن يستعد الإنسان الراغب في هذا الأمر بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب؛ بل بتفريغ النفس من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الهدف وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بالانقطاع للهدف بالكلية وتفريغ النفس عن كل ما سواه، وبقطع الهمة عن الأهل والولد والمال والجاه والولاية حتى يصبح في حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه. ثم يخلو بنفسه ويجلس مجموع الهم ولا يفرق فكرة بالقراءة والتأمل؛ بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى هدفه فلا يزال بعد جلوسه في خلواته ذاكرا بلسانه هدفه حتى ينتهي إلى حالة يترك معها تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر على ذلك إلى، أن يمحي أثره عن اللسان ويظل قلبه مواظبا على ذكر الهدف ثم يواظب عليه إلى أن تمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة. ويبقى معنى الكلمة مجردا من قلبه حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد. وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في نفسه.
ولا شك في أن هذه الطريقة التي ذكرها الغزالي للحصول على الإلهام هي الطريق التي تسلك أيضاً لإيجاد اليقين الذي يستولي على القلب. وعلى كل حال فهي الاستهواء الذاتي بعينه ولكنه من النوع القوي الذي يؤدي إلى ذلك الشيء الذي يسميه علم النفس الحديث بانقسام الشخصية.
حمدي الحسيني(905/20)
من أدب التاريخ
سفارة موسيقية
من مصر إلى مراكش
للأستاذ محمد سيد كيلاني
كان عام 1904 نهاية التنافس الاستعماري بين إنجلترا وفرنسا فعقد بين الدولتين اتفاق ودي بمقتضاه تسيطر إنجلترا على مصر في نظير اعترافها لفرنسا بحق السيطرة على مراكش. وقد قلقت النفوس في مصر ومراكش من جراء هذا الإنفاق واضطربت الخواطر وسادت الكآبة وعم الحزن. وبينما كان الناس متجهين بعواطفهم نحو مراكش، يرقبون في جزع شديد ما سوف يقع على هذا الشعب المسكين من بطش الاستعمار الفرنسي وجبروته إذا بصحيفة المؤيد تطلع على الجمهور بعددها الصادر في 9 مارس سنة 1904 تحت العنوان المتقدم بالنبأ الآتي:
(هذه السفارة ليست من حكومة مصر بل من رعايا دولة الغرب الأقصى في مصر إلى مولاي عبد العزيز سلطان تلك الدولة وهي مؤلفة من ثمانية أشخاص بين مغن ومغنية وموسيقى قد اتفق معهم حضرة الحاج محمد شقرون وكيل دولة الغرب الأقصى سابقا في مصر على السفر بالمرتبات التي تقررت لهم وهي المذكورة بإزاء أسمائهم ولولا أن أحد محرري الجريدة شاهد بعينه أوراق السفر في الدرجة الأولى والعقود المختصة بذلك ما صدقنا الخبر الذي يراه كل إنسان ملم بأحوال دولة الغرب الأقصى، ومشاكلها المالية والسياسية الآن في غاية الغرابة.
وقد استلمت جوقة الطرب المصرية جوازات السفر وتذاكر الوابور في الدرجة الأولى لجميعهم وأجرة ثلاثة أشهر مقدما على الحساب الآتي:
المرتب الشهري بالجنيهات
الأسم
الصنعة
45(905/22)
علي الرشيدي
عواد
65
مرسي بركات
قانوني ومغني
25
فربد شلهوب
كمنجاتي
30
محمود حمدي
مغن
20
محمد السيد
مغن
145
نظيرة سلطانة
عوادة ومغنية
60
لطيفة سلطانة
مغنية
وربما كانت هذه الجوقة أكبر وفد مصري ذهب إلى بلاد مراكش بألطف معنى من معاني التواد والتواصل بين الأمم وبعضها، فعسى أن تكون هذه السفارة فاتحة خير بين المملكتين وعسى أن يتعود مولاي عبد العزيز بعدها على رؤية الوفود تأتيه من البلاد المشرقية فينتفع منها لكل أرب بعد هذا الطرب).
وما كاد الناس في مصر يقرئون هذا الخبر حتى وقفوا أمامه متعجبين مندهشين وثارت(905/23)
خواطر الغيورين على صالح المسلمين ضد سلطان مراكش وشرع الكتاب ينشرون المقالات ناقدين مسلك السلطان نقدا عنيفا مرا، حاملين عليه حملة قاسية، وقد اضطلعت صحيفتا اللواء والمؤيد بعبء تلك الحملة التي ساهم فيها مصطفى كامل بقلمه ونفث من روحه عبارات حماسية رائعة ضد السلطان عبد العزيز وكال له التوبيخ والتقريع ووفي الكيل. وإلى جانب ما في هذه المقالات من نقد وتجريح ترى مقالات أخرى يغلب عليها روح التهكم والسخرية ومثال ذلك ما جاء في المؤيد بتاريخ 28 مارس من تلك السنة وهو: (يظن أن أنباء صدى جوقة الطرب وصلت إلى عظمة مولاي عبد العزيز سلطان مراكش في الوقت الذي وصلت فيه إلى عظمته أنباء بوادر الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي بشأن مراكش. وقد ذكر لنا ثقة أن مكاتب البلاط المراكشي في مصر بعث إليه يقول إن الاتفاق قد تم مع أحسن جوقة طرب مصرية كل فرد من أفرادها صفوة أهل فنه. فمتى وصلت إلى الحضرة السلطانية المراكشية وصدع موسيقارها وغنى مغنيها قالت الحضرة الشريفة على الدنيا كلها السلام.
أما مكاتب التيمس في طنجة فقد بعث لجريدته يقول إن أنباء بوادر الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي بشأن مراكش قد وصلت إلينا وأرسلت إلى سلطان المغرب، وكبار الأهالي ينتظرون بقية التفاصيل انتظار الظمآن للماء. . . الخ)
صدى جوقة الطرب:
تحت هذا العنوان أفسحت المؤيد مكانا للشعراء فأخذوا يتبارون في نظم المقطوعات وكلها تفيض بالهجاء الموجع والنقد المؤلم والتهكم والسخرية وإظهار الأسى والحزن على ما وصلت إليه أحوال البلاد المراكشية. قالت صحيفة المؤيد (وجاءتنا مقطعات كثيرة من بعض أفاضل الشعراء في هذا الباب فمنعنا عن نشرها غلو أصحابها في الألفاظ الموجهة لسلطان الغرب.
فعلى الذين يجودون بأدبهم على القراء من هذا المعنى الجديد أن يراعوا مقام من يتعلق به الكلام، ولكل مقام مقال.)
وهذه العبارة تكفي للدلالة على الأثر السيء الذي تركته في النفوس تلك السفارة الموسيقية التي أقام بها سلطان مراكش فرحا في وسط المآتم والمحازن التي كان يقيمها أفراد شعبه.(905/24)
ومع ذلك فإن الشعر الذي نشر في ذلك الوقت يفيض بالأسى والحزن ويعرب عن حقد شديد على هذا السلطان العابث. ومثال ذلك قول حافظ إبراهيم:
عبد العزيز لقد ذكرتنا أمما ... كانت جوارك في لهو وفي طرب
ذكرتنا يوم ضاعت أرض أندلس ... الحرب بالباب والسلطان في اللعب
فاحذر على التخت أن يسري الخراب له ... فتخت سلطانة أعدي من الجرب
وفي هذه الأبيات يقف الشاعر حزينا متحسرا لتلك الحال التي ذكرته بما كانت عليه الأمور في بلاد الأندلس من اختلال، متوقعا لمراكش نفس المصير الذي لاقته بلاد الأندلس من قبل نتيجة لانغماس ملوكها في اللهو واللعب، وإهمالهم لشؤون الملك حتى ضاع من أيديهم فناحوا بعد ذلك عليه كما تنوح النساء ولم يجدهم ذلك نفعا وذهبت البلاد من أيديهم. وقد حاول حافظ أن يسوق هذه الذكرى المؤلمة لسلطان مراكش لعله ينتفع بها ويقلع عن غيه ويعمل لما فيه صالح رعيته قبل أن يغرقه الطوفان.
وقال آخر:
قالوا الخليفة في فاس أحق بها ... من فرع عثمان فرع الفضل والحود
فقلت إن صدقت دعواكم النمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود
شر الخلافة ما قد بات صاحبه ... ما بين (مرسي وشلهوب ومحمود)
وبين (سلطانة) لا بين سلطنة ... تلهية عن كل تدبير وتسديد
يا مرخيا لهوى النفس العنان أفق ... واشفق على رمق باق به تودي
هلا نهاك اتفاق (الدولتين) غدا ... عن اتفاق مع القينات والغيد
وهذه الأبيات تمتاز بأنها تتناول حال سلاطين تركيا وحال سلاطين مراكش بالموازنة. والشاعر هنا يرد على من يريدون نقل الخلافة من سلاطين تركيا إلى سلاطين مراكش الذين يدعون الانتساب إلى الرسول فيسفه آراءهم ويخطئ أفكارهم ويقول لهم انظروا إلى هذا السلطان المراكشي الذي يريدون تنصيبه خليفة للمسلمين فهو عاكف على اللذات منغمس في الشهوات منفق المال بغير حساب على المغنيات. ومثل هذا السلطان لا يصلح بالطبع لأن يشغل منصب الخلافة. ثم ختم هذه الأبيات بالوعظ والتذكير والتوبيخ والتقريع الذي ساقه إلى السلطان في غير رفق ولا لين.(905/25)
وقال أحمد الكاشف:
من كعبد العزيز أقوى على الده ... ريلاقي الخطوب سمحا لعوبا
زلزلت أرضه فغنى على زا ... زالها ناعم الفؤاد طروبا
وفي هذين البيتين سخرية مرة وتهكم شديد. فالشاعر يظهر العجب من شدة بأس السلطان وقوة احتماله. فهو لم يجزع للخطوب ولم يتحرك للحوادث الجسام التي أحاطت به، بل قابل الشدائد باللهو واللعب. ولما زلزلت الأرض تحته لم يفزع ولم يخف بل جلس على أنقاض هذه الزلازل يستمتع بالغناء والرقص والخمر.
وقال:
لا تلوموا خليفة الغرب في اللهو فما غيره عزاء لنفسه
نظر الخطب وهو لا بد منه ... فتحاشاه في مجالس أنسه
ربما مثلت له حبب الكأ ... س شهابا فظنه بعض بأسه
وفي البيتين الأولين يصور الشاعر السلطان في صورة من يهرب من الحزن والغم إلى مجلس أنس ليبعد عن نفسه متاعب الأحزان وآلامها، ويجد في الخمر والغناء عزاء لنفسه وتسلية لها حتى لا تسترسل في الهموم فتهلك. وفي البيت الأخير يسخر الشاعر من السلطان سخرية مرة ويتهكم منه تهكما قاسيا مضحكا. وقال:
عبد العزيز علام تلهو بالصبا ... لهو المؤمل أطول الآجال
وإلى م تسمع مطربيك وقد علا ... صوت النذير بأعجل الأهوال
فلقد أجرتموه ثلاثة أشهر ... هلا أجرتموه ثلاث ليالي
وفي هذه الأبيات لا نسمع سوى التوبيخ والتعنيف والتقريع الشديد المؤلم؛ والتحذير والترهيب من سوء العاقبة.
وقال آخر:
إيه عبد العزيز أي شهاب ... أنت في ظلمة القضاء المخيف
يرسل الخطب كل يوم نذيرا ... فتراه بالناظر المكفوف
كيف يصغي إلى النذير فؤاد ... ملأته (سلطانة) بالعزيف
أنت كالقدر تبلغ النار منها ... فتغنى كالواله المشغوف(905/26)
خطر حاضر وآخر آت ... وحتوف نذيرة بحتوف
وعدو إلى اغتيالك ظام ... ظمأ الصب للمى المرشوف
هو في حومة وأنت بأخرى ... بين بيض كبيضه وصفوف
فالدم الراح والجنود سقاة ... وقراع الظبا رنين الدفوف
فانظر إلى ما في هذه الأبيات من الصور والمعاني وعبارات الهجاء اللاذع كما في قوله (أنت كالقدر. .) وإلى ما فيها من التهكم والسخرية، والموازنة بين حالة الفرنسيين الذين كانوا يجسدون في امتلاك مراكش وما يقابل ذلك من غفلة السلطان وقعوده عن الذود عن بلاده، واشتغاله بتوافه الأمور وركونه إلى اللهو واللعب. وأنه لم يجد أمامه ما يفعله بإزاء تلك الخطوب التي حاقت ببلاده سوى إنفاق الأموال الطائلة على المغنيات في الوقت الذي اضطربت فيه الأحوال المالية في بلاده اضطرابا مهد للفرنسيين السبيل لبسط حمايتهم على البلاد وإذلالها.
وقال أحمد نسيم:
ليتني قادر على اللهو يوما ... فيه يشجى الفؤاد نقر الدفوف
عن عبد العزيز في كل خطب ... هذه عيشة الفتى الفيلسوف
لم يستطع أحمد نسيم وكان أجيرا لسلطات الاحتلال في مصر في ذلك الوقت أن يقول أكثر من هذا. وماذا يقول وهو الذي كان يشيد بفضل الاحتلال البريطاني ويسبح بحمده؟ والاتفاق الودي أثر من آثار هذا الاحتلال. وفيه اعترفت فرنسا لإنجلترا بمركزها في مصر كما أطلقت بريطانيا يد فرنسا في مراكش. فأحمد نسيم اعتبر سلطان مراكش فيلسوفا يعيش عيشة الفلاسفة. وهو يحض السلطان على سماع الغناء والانغماس في اللذات في أوقات المحن والخطوب. فإن هذا العمل في نظر أحمد نسيم شاعر الاحتلال من الأعمال المحمودة التي تليق بالفلاسفة في نظر هذا الشاعر هم الذين يتركون شعوبهم تموت جوعا، بينما هم ينغمسون في الشهوات دون حسيب أو رقيب.
وقال إمام العبد:
لاموا الفتاة وما سرت بطبولها ... غلا لتوقظ أمة نعسانه
لما رأت سلطانهم في نشوة ... راحت ثدير شؤونهم (سلطانة)(905/27)
ومن قال الإمام العبد إن الأمة المراكشية كانت نعسانة، وأنها كانت في حاجة إلى العود والقانون لتستيقظ على أنغامهما؟ أما قوله إن السلطان كان في نشوة فهذا صحيح. أما قوله (راحت تدير شؤونهم سلطانه) فخطأ محض؛ لأن الفرنسيين لم يقفوا متفرجين بل كانوا قابضين على ناصية الأمور بيد من حديد.
على أنك لن تجد من الشعراء من قال فأضحك وأبي بالنكتة اللاذعة التي اشتهر بها الحشاشون غير إسماعيل صبري فإنه قال:
يا المراكش وفد الغناء أني ... من مصر يسعى لمولاكم على الراس
لا تنكروا نكتة في طي بعثته ... فالعود أحسن ما يهدي إلى (فاسي)
ففي كلمة العود تورية. فهي بمعنى الآلة الموسيقية المعروفة وبمعنى عود البخور. وكذك في كلمة (فاسي) تورية فهي إما نسبة إلى مدينة فاس أو اسم فاعل لا يخفى معناه. وهكذا تناول إسماعيل صبري الموضوع على هذا الوجه المضحك. وقد بقيت صحيفة المؤيد تنشر هذه المقطوعات مدة من الزمن ثم أقفلت الباب فجأة منوهة بما يصلها يوميا من الأشعار، ذاكرة أنها نشرت ما فيه الكفاية.
ولكن هذه الحملة التي شنها الكتاب والشعراء لم تغير من موقف سلطان مراكش ولم تترك في نفسه أثرا. فقد جاءت الأخبار بوصف حفلات الغناء والرقص التي أقيمت في البلاط السلطاني، كما وردت الأنباء بالهدايا والتحف التي وهبها السلطان لضيوفه.
محمد سيد كيلاني(905/28)
كشاجم
للأستاذ عبد الجواد الطي
- 3 -
إذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن ثقافة الرجل، فمما يتصل بهذا الموضوع أن نعرف شيئا عن أساتذته وتلاميذه، أو من تأثر بهم وأفاد منهم، وإن لم يبلغوا مرتبة الأستاذية، ومن تأثروا به، وإن لم يكونوا بالفعل تلاميذه.
ومما يؤسف له، أن مرجعا من المراجع التي بين أيدينا لم يحدثنا عن شيء من ذلك يذكر، حتى ليحار المرء فيما نسبوه إليه من ألوان العلم والمعرفة، دون أن يشيروا - ولو إشارة عابرة - إلى بعض مصادر هذه المعرفة وأصولها!.
وإذا كانت هذه حال المراجع التي ترجمت للشاعر، فليس لدينا إذن إلا أن نستهدي شعره عساه أن يوصلنا إلى شيء مما نبتغيه.
يحدثنا شعر كشاجم أنه قد اتصل ببعض الأطباء والمنجمين من معاصريه وقد مدحهم وأثنى على علمهم وإنتاجهم، ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن إبراهيم المعروف بابن الجزار، الذي أثنى عليه كشاجم حتى بعد وفاته وذكر كتابه المعروف (بزاد المسافر)
أبا جعفر أبقيت حيا وميتا ... مفاخر في ظهر الزمان عظاما
رأيت على زاد المسافر عندنا ... من الناظرين العارفين زحاما
ثم هذا الأخ الصديق الذي يقول فيه:
الحمد لله قد وجدت أخا ... لست مدى الدهر مثله واجد
أسكن في صحتي إليه فإن ... مرضت كان الطبيب والعائد
طبايعيا منجما جدلا ... يجمع منه الكثير في واحد
فإنه وأن كانت صلة الشاعر بهذين وأمثالهما لا تبلغ أن تكون صلة الأستاذ والتلميذ، فإنهما على كل حال صلة الصديق بالصديق. والإنسان قد يفيد من معارف الإخوان والأصدقاء، لا من طريق التعليم والتعلم، وإنما من طريق المصادفات والمناسبات التي يتطرق إليها الحديث - والحديث ذو شجون - فتحصل الإفادة والاستفادة من طريق غير مباشر.
وليس لنا أن نقلل من قيمة هذا الاتصال كوسيلة من وسائل الثقافة لها أهميتها التي تزيد أو(905/29)
تنقص تبعا للظروف والملابسات، ولكنها لا يمكن أن تتلاشى أو تنعدم، فنحن نرى أن حافظ إبراهيم كان من المصادر الهامة في ثقافته اتصاله بالأستاذ الإمام، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، وقاسم أمين. . فكان يفيد من مجالسهم في النواحي العلمية والاجتماعية، والسياسية ما ظهر أثره واضحا في شعره. حقا إن صلات حافظ كانت من طراز آخر غير صلات كشاجم، فجعلت من شاعر النيل شاعرا خلق لعصر جديد له نزعاته وميوله واتجاهاته التي لم تكن من سمات ذلك العصر الذي وجد فيه أمثال كشاجم.
وقد اتصل شاعرنا بأديب من معاصريه هو أبو بكر الصنوبري المتوفي سنة 334هـ، وقد نشأت بينهما صداقة قوية تنعكس واضحة في شعر الرجلين، وإذا شئت أن تتبين شيئا من ذلك فإنظر في قول كشاجم:
لي من أبي بكر أخو ثقة ... لم أسترب بإخائه قط
ما حال في قرب ولا بعد ... سيان منه القرب والشحط
جسمان والروحان واحدة ... كالنقطتين حواهما خط
أبا بكر اسلم للعودة والصفا ... فودك باق لا يحول ولا ينضو
متى يشق خل بالتغير من أخ ... خؤون فحظي من مودتك الخفض
فالصنوبري - كما ترى (أخو ثقة) لحميمه كشاجم الذي لم يشك يوما في إخلاصه ووفائه، فهو لم يتغير ولم يتنكر لهذا الحب سواء نأت داره، أو قرب مزاره، وإنما هو مخلص في كلا الأمرين، ووده باق في كلا الحالين، ولا يتحول ولا يحول، فإن كانا في عالم المادة جسمين اثنين، فهما في عالم الحب، والمثالية في الوفاء روح واحدة تجمع بين هذين الجسمين جميعا.
ثم هما قد يتبعان كما يفعل الخلصاء حين يحدث بينهما ما يدعو إلى ذلك، فنجد هذه الأخوة بارزة في هذا العتب الأخوي.
أتنسى زمانا كنا ... به كالماء والخمر
أليفين حليفين ... على الإعسار واليسر
مكبين على اللذات في ... الصحو وفي السكر
نرى في فلك الآداب ... كالشمس وكالبدر(905/30)
ثم إن الصنوبري عزيز على صاحبه أثير لديه إلى الحد الذي يقول معه:
ولو سفكت يداه دم ابن عمي ... أو ابني لم أثره ولم أعاده
ولو قتلى أراد قتلت نفسي ... له عمداً ليبلغ من مراده
ولا يخفى ما في هذين البيتين من مبالغة غير مقبولة، ولكنهما على كل حال يصوران هذه الأخوة الوثيقة بين الرجلين.
وإذا كنت قد لمست آثار هذا الحب بادية في شعر كشاجم، فأنظر معي في قول صاحبه:
إذا انتسب الثقاة إلى وفاء ... فحسبك بانتسابي وانتسابه
على أني وإن حزت الثريا ... فلست أقاس بعد إلى ترابه
ولو أقسمت أن المجد شيء ... له دون البرية لم أحابه
خليل كنت إن واريت شخصي ... رأت عيناك شخصي في ثيابه
حمامي في تنائيه ولكن ... حياتي حين يقرب في اقترابه
فأنت ترى أن الصنوبري قد أسرف في مجاملة صاحبه فلم يقتصر على أن غض من نفسه ورفع من قدر صديقه، ولكنه لو أقسم أن المجد شيء قد خص به كشاجم دون العالمين ما حنث في يمينه، ولا حابى صاحبه، وهذه لا شك مغالاة قد توحي - في بعض جوانبها - بأن الامتزاج والاختلاط بين الصديقين لم يصلا إلى درجة يسقط معها هذا التكلف، ولكن المسألة في ذاتها ربما لا تعدو أن تكون مبالغة شاعر ولا تعني شيئا غير الحفاوة بصاحبه والتعبير عن حبه له وتفانيه في إكرامه، كما يتفانى هو الآخر في إعزازه وتكريمه، ومع هذا فأنت تلمح - إلى جانب هذه المغالاة - آثار هذه الأخوة معتدلة مقبولة، لا تكثر فيها ولا تزيد، فإذا كان للثقاة أن ينتسبوا إلى الوفاء فهما خير من ينتسب إليه. . . فأنت إذا افتقدت أحدهما رأيته في شخص صاحبه.
ولعل هذه العلاقة القوية بين الرجلين كان لها أثرها في شعرهما ولا سيما في شعر كشاجم، الذي كان يجل صاحبه، فقد كان - على ما يبدو - أكبر منه سنا، وأشرف مهنة حينما اجتمعا في بلاط سيف الدولة حيث كان كشاجم طباخه والصنوبري خازنه. وربما دخل في حسابنا - إلى حد ما - أنه يعلوه أيضاً في الأصل والمحتد، فهذا عربي منسوب إلى ضبة بينما ذاك أعجمي. ثم إن له عليه من الأيادي البيضاء ما يردده كشاجم في شعره:(905/31)
كم نعمة منه حليت بها ... لا الشنف يبلغها ولا القرط
ويد له بيضاء ضاحية ... مثل الملاءة حاكها القبط
ولعل قائلا يقول: ما شأن هذا كله وتأثره بصاحبه في الناحية الأدبية؟ ولكن الواقع أن هذه الأشياء كلها تهيئ جوا نفسيا خاصا يلعب دوره في إكبار الرجل لصاحبه، وتأثره به، أو تأثره إياه، هذا إلى ما عساه أن يجده في صاحبه، أو في أدب صاحبه من محاسن يجدر - في نظره - احتذاؤها والنسج على منوالها، ولكن الجو النفسي يضفي عليها هالة تزيدها جمالا وجلالا، ومن هنا تدرك سر إعجاب كشاجم بأدب صاحبه وعلمه:
ذاكره أو جاوره مختبرا ... تر منه بحرا ما له شط
وجنان آداب مثمرة ... ما زانها أثل ولا خمط
ولعل النعم التي حلى بها كشاجم من صاحبه، والأيادي البيضاء الضاحية التي أسبغها عليه، والتي رددها كثيرا في شعره كما رأينا، لعلها لم تقف عند الناحية المادية وحدها، وإنما تعدتها إلى ما عساه أن يكون قد أفاده منه في الناحية الأدبية الصرفة، فأنت إن (ذاكرت) صاحبه وجدته البحر علما وأدبا، وإن (جاورته) وجدته البحر جودا وكرما، وهكذا نرى أن المسألة ليست مسألة المادة وحدها؛ وإنما هي مسألة العلم والأدب أيضا، وهكذا المعنى الذي نلمحه في شعر كشاجم إزاء صديقه الصنوبري نراه يصرح به تصريحا في مدحه للحسين بن علي التنوخي:
علمت عبدك أن يصعر خده ... كبرا وأبهة على أصحابه
بمواهب ضاعفن من أمواله ... ومذكرات زدن في آدابه
وإنا حين نشير إلى تأثر كشاجم بصاحبه الصنوبري هذه الإشارة الخاطفة، إنما نرجئ الكلام المفصل في ذلك إلى الحديث في شعر كشاجم فيما يلي ذلك من فصول، غير أننا نستطيع الآن أن نقول إن الصنوبري حين أفاد كشاجم من طريق إيجابي، أفاده أيضامن الناحية السلبية، فهو أحيانا ينتقد شعره ويكايده وليس في شك في أن هذا العمل من شأنه أن يطلع المرء على عيوبه التي قد تخفي عليه، ويدفعه عن طريق غير مباشر إلى سد هذا النقص، ومحاولة الوصول إلى الكمال:
وكايدني ولم أرقط أحلى ... من المعشوق لفظا في كياده(905/32)
معنى في انتقاد حلى شعري ... وفضل الشعر يظهر في انتقاده
ولو حاولت أن تزري ببدر ... طلبت له المعايب من سواده
ومهما يكن فإن الشخص الذي صرح كشاجم بأنه قد تلمذ عليه فعلا هو علي بن سليمان الأخفش النحوي المتوفى سنة 315هـ حين يقول في ثنايا قصيدة في مدحه:
وكي يمنحني تأديبه المحض وتخريجه
ومن أولى بتقريظي ممن كنت خريجه
فيبدو من هذا أن كشاجم كان تلميذا للأخفش، وإذا علمنا أن الأخفش كان نحويا أكثر منه شيئا آخر، عرفنا أن كشاجم قد أصاب على يده شيئا من النحو إلا يكن كفيلا بأن يسلكه في عداد النحاة، فإنه يكفيه إلى الحد الذي يحتاجه الأديب ولا يستغني عنه، وقد يطالعك هذا الجانب النحوي من ثقافة الرجل في هذه الأبيات التي قالها متندرا بهذا الذي يدعى النحو، وليس من النحو في شيء:
تشبه في النحو بالأخفشين ... فجاء بأعجوبة مطرفه
ولم يسمع النحو لكنه ... قرا منه شيئا وقد صحفه
فإن لم يكن أخفش الناظري ... ن فإن الفتى أخفش المعرفه
وقد سمع الأخفش أبوي العباس ثعلبا والمبرد، وفضلا اليزيدي وأبا العيناء الضرير. . . ودرس النحو واللغة وشيئا من الأدب. . . ولكنه لم يتوفر على الدراسة الأدبية توفره على الدراسة النحوية. ومع هذا يذكر ياقوت في معجمه نقلا عن المرزباني في المقتبس: (لم يكن (الأخفش) بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئا ألبته ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر، وانتهر كثيرا من يواصل مسألته ويتابعها. وشهدته يوما وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رآه قال له:
حياك ربك أيها الحلواني ... ووقاك ما يأتي من الأزمان
ثم التفت وقال: ما نحن من الشعر إلا هذا وما جرى مجراه
وهكذا يتبين لنا أن كشاجم لم يفد من أستاذه كثيرا - وربما لم يفد شيئا - في الناحية الأدبية، إن لم يكن قد أضر به ذوق أستاذه الذي ليس هنالك في الميدان الأدبي.
وإذا كان كشاجم قد تأثر بهؤلاء الذين ذكرنا، فقد وجد بعض من تأثر به، ولا سيما السري(905/33)
الرفاء، الذي يقول فيه ابن خلكان: (وكان السري مغري ينسخ ديوان كشاجم الشاعر المشهور وهو إذ ذاك ريحانة الأدب، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب. .) وقد بلغ من إعجابه به وتعصبه له، وكراهته للخالديين المعاصرين له أنه (كان يدرس فيما كتبه من شعره أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويغلي شعره. . .)
عبد الجواد الطيب(905/34)
خواطر في كتاب الله
تربية الدعاة
للأستاذ محمد عبد الله السمان
إن المهمة الملقاة على كواهل الدعاة شاقة خطيرة، ولذا كانت عناية القرآن بتربيتهم عناية كبرى تضيء الطريق أمامهم إلى قلوب الناس، والرسل جميعا - صلوات لله وسلامه عليهم - هم المثل الكامل للدعاة، وتعتبر تربيتهم أنموذجا للتربية الرفيعة السامية، لا سيما وأن مربيهم هو الحكيم الخبير.
ولما كان الداعية في حاجة إلى أسلوب سهل ممتزج باللباقة والسياسة في عرض دعوته، فقد راح القرآن يربي الدعاة تربية سياسية دبلوماسية رفيعة تعينهم كثيرا على نجاح دعواتهم:
(لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فقال يا قوم اعبدوا الله، ما لكم من إله غبره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين، قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون؟).
(وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين، قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين، أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة، فاذكرا آلاء الله لعلكم تفلحون).
(قل يا أيها الناس: أني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون).
وتلمس لدعوة إلى المرونة بارزة واضحة في أساليب الآيات القرآنية مما دل على اهتمام القرآن بهذا النوع من التربية. الذي يتوقف عليه نجاح الدعاة في كثير من الأحايين:(905/35)
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة الموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن - ولو كنت فظا غليظ القلب لا انفضوا من حولك - قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. أنه لا يفلح الظالمون - وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون - فإن تولوا فقل أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ - فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى - وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون).
وللمنطق أهميته الكبرى في مناقشة الدعوات، ولذلك نراه متجليا في أساليب الدعاة:
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر).
(قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق بعيده؟ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون، قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي؟ فما لكم كيف تحكمون.)
(يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
(قال فمن ربكما يا موسى؟ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).
(وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؛ بلى، وهو الخلاق العليم).
ويوجه القرآن الكريم الدعاة إلى التذرع بالصبر والاحتمال في سبيل دعواتهم) فانتظروا إني معكم من المنتظرين - فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين - قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا - فاصبر على ما يقولون. فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم).
ويطبع القرآن الدعاة بطابع الشجاعة فهي من أهم مقومات الدعوات، ولأنها مما لا يستغنى(905/36)
عنها داعية يريد أن يشق طريق النجاح لدعوته:
(واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله، فعلى الله توكلت، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون) (قالوا يا هود ما جئنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، قال: إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم).
(إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).
(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)
ويكافح القرآن الغرور في الدعاة. فهم لم يزيدوا عن كونهم بشرا ألقى الله على عوائقهم مهمات ثقالا، وبهذا تكون دعواتهم أقرب إلى قلوب الناس وأبعد من نفورهم.
(ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك)
(قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)
ويكافح القرآن في الدعاة مرض اليأس الخطير حتى لا يلحق هممهم الضعف، ويصيب جهودهم الفشل؛ وتمنى دعواتهم بالخيبة:
(وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون).
(وإذ قال موسى لقومه. إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد)
(وإن كان كبر عليك إعراضهم، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين)
للبحث بقية
محمد عبد الله السمان
مدرس بعلم الدين الابتدائية للبنات بالسيدة زينب(905/37)
رسالة الشعر
قصة واقعية
دمية
(إلى روح الطفلة فوزية)
للأستاذ إبراهيم العريض
مدت لها الأم راحتيها ... كأنها صورة الحنان
صبية عرشها الحنايا ... ما جاوزت دولة الثمان
خفيفة الظل، ذات زهو ... تنعس في جفنها الأماني
ما أنضر الروض في صباها ... وكل ما فيه وردتان
عالمها - لو ترى - صغير ... لكن لها فيه ألف شان
تعقد أعراسها، فتلفي ... ما شئت في العرس من أغان
بلا معان. . وإنما السحر ... كله حيث لا معان
تسمعها دمية. . جلتها ... والعرس معقولة اللسان
كحلاء. ترنو لها بصمت ... إذا استقلت بها اليدان
تفتح العين لاستماع ... وتغمض العين بعد آن
تجد في حبها وتلهو ... فالجد واللهو توأمان
حتى إذا رنقت عياء ... مال بها النوم في ثوان
بين يديها الحياة حلم ... فهي من الليل في أمان
جاءت إلى الأم ذات صبح ... فطوقتها براحتين
وبادلتها بقبلة - لم ... تجاوز الشعر - قبلتين
(أماه! ما بال خالتي لا ... تأتي به كي تقر عيني
أود أن أرتديه حالا ... فإن للعرس جلستين
فالريح مجنونة، وأخشى ... إذا تمادت في الضحكتين
- ضحكتها تعبر الصحاري ... كأنها ثورة الحسين(905/38)
وضحكة. . والنخيل تومي ... برأسها؛ بينها وبيني -
أخشى. . على دميتي أذاها ... وما أحق الدمى بصون
قالت: (دعيني بنيتي! في ... أشعة الشمس غمضتين
فالبرد في لذعه شديد ... بل أنا منه في شدتين
فربما احتاج نظرة ثو ... بك الموشي، أو نظرتين
وعدك ألا يحين وقت ال ... صلاة حتى أفي بديني
فتمرحي من صباك بضا ... بين الصبايا بحلتين
ما أدبر الظهر في ارتعاش ... كأنه مدرة وقور
حتى أنت كالمهار تعدو ... لأمها ثغرها بنير
(أماه، أماه، طالعيني ... في بخنقي، أنه كبير
ألا يرى شكله جميلا ... على في الريح إذ يطير؟)
قالت لها: (لبسة العوافي! ... عشت كما عاشت الزهور)
هاهي تختال في العذارى ... بحلة يلقى بها السرور
ودمية الجبس في يديها ... قد لفها البخنق الصغير
لا تسمع الأذن حيث زفت ... غير زغاريد، يا طيور!
أو تبصر العين حيث حلت ... إلا جنانا فالحور حور
حتى إذا الأفق حال وردا ... وماج فوق الخضم نور
كأنه ضحكة المرايا ... في يد حسناء تستخير
وجاء يعدو بموكب الليل=- بعدها - الكوكب المنير
عادت إلى البيت، كل خود ... تود لو أنها الأخير
وسوت الأم مهدها في ... ركن، وعادت إلى الحنيه
فأبصرتها، وفي يديها ... دميتها، لم تزل أبيه
فالتفتت نحوها، وقالت: ... (ألا تكفين يا صبية؟
كفاك طول النهار لعباً ... هيا إلى النوم كالبقية)
أواه ما أرخص الغوالي ... عند الذي يجهل القضيه(905/39)
فلملمت ذيلها امتثالا ... وضاحكت أمها نقيه
(أماه! هل تسمحين لي أن ... أنام في بخنقي العشيه
فدميتي لن تنام إلا ... معي هنا، إنها حييه
لقد قضينا النهار أزجي ... لها، فتزجي لي التحيه
إني لأرجو لها، كما قد ... ترجو، من النوم، لي هنيه
والبرد يسري إلى عظامي ... كأنه البرد ذاب فيه
فدثرينا معا من الليل ... ، فهي مثلي تخشى دجيه
يا دميتي! أنت ذات عرش ... فلا تجوري على الرعيه. .)
وداعب النوم جفنها في ... لمح. فكفت عن منتجاها
وأنزلتها الأحلام، في زو ... رق، من الخلد في رباها
فأبصرت نفسها توالي ... في جنة سيرها شداها
فتحتها العشب حيث داست ... فتح نواره وتاها
وفوقها الورق كل ورقاء ... ذوبت نغمة حشاها
وحفها الورد. . كل ورد ... ينفح في ردنه شذاها
وخرخر النهر من بعيد ... يحصى على شله خطاها
وحلقت حولها لدات ... من كل كحلاء في صباها
كأنها النرجس المندي ... تكاد تلقي لها نداها
يجذبنها تارة، وأخرى ... يدفعن في جنبها سواها
حتى تراءت. . وثغرها في ... افتراره، معلن رؤاها
وأين عنهن من رعتها ... حبا بحب. . لم لا تراها
فضمت الدمية التي لم ... تزل إلى جنبها، يداها
وظلت الريح من قريب ... تسمعها نوحة الثكالى
كأنها في الركاب شخص ... ثار على الحق، فاستطالا
أرسل للفتك خيله. فهو ... لا بني يطلب النزالا
تلهب بالسوط ظهر بيت ... يأبى لها ركنه امتثالا(905/40)
وعاود الحلم جفنها ثا ... نيا، فتاهت في الحلم حالا
فأدركت نفسها على شا ... طئ، وأمواجه تلالا
وكلما أومضت لها بر ... قة، همى غيثها انهطالا
ولم يكن مزنه كماء ال ... سماء، بل كاللظى اشتعالا
حتى دنت لجة، وكادت ... تمضي بها. . صفها تعالى
وغام في وجهها ضباب ... يخنق أنفاسها سعالا
فأفلتت من يمينها عر ... سها، فألقت لها الشمالا
واستفزعت أمها بصوت ... من ظمأ جف واستحالا
فاكتنفتها (روح) أحست ... في حضنها الدفء والظلالا
دوى مع الريح صوت ناع ... قد طعن الليل في سكونه
فالأم إذ تستفز، تلقى ... من أرضعته على جبينه
وهالها أن ترى لسانا ... قد سله الموت من كعينه
يلحس أطراف كل شيء ... في البيت من سقفه لطينه
حتى غدا البيت في لظاه ... كنقطة النون وسط نونه
فالريح نار. . . في وجهتيه ... والنار ريح. . . على متونه
غلغل في ثوبها، ولما ... يسر إلى الرأس في قرونه
وبادرت للرضيع ولهى ... بمسكة العقل في جنونه
واختطفته توا أنجري ... به على النار، أم بدونه؟
وتدفع الباب دفعة، غا ... درته محنى على عرينه
للريح في سمعها دوي ... كنكسة الطفل في أنينه
وأبصرت حولها رجالا ... كل يداري على قرينه
فولولت: (أدركوا فتاتي ... يا غصنها اللدن في أتوته!)
واحتملوها في غشوة، لم ... تطل - على البرد - غير ساعه
فاسترجعت وعيها، لتلفى ... رضيعها باسطا ذراعه
يلتمس الثدي فوق صدر ... وكلما مسه أضاعه(905/41)
فاحتضنته بلا شعور ... قد جمدت عينها ضراعه
كم سمعت باسمها يناي ... فانتفضت. لو لها استطاعه
فما استبانت إلا وجوهاً ... يذري عليها اللظى قناعه
وقال من قال (بتها ... قد نجت!. (ولم تنتظر سماعه
فساءلت (أين خلفوها؟ ... من ذا رآها من الجماعة؟
فوزيتي. . ليتني فداها ... ألا كريم يمد باعه
لحملها، فاللهب يمعي! ... أخشى على عينها شعاعه
وكم أرادت - وما أرادت - ... تنعى على عمرها ضياعه
لولا نساء حسر، لديها ... ناشدتها الصبر والقناعه
وحولها الخلق في هياج ... يبدون سمعا لها وطاعه
وصعد الناس - بعد حبس - ... أنفاسهم، إذ خبا الشرار
ظلوا إلى الصبح في انتظار ... والآن لا ينفع انتظار
وأقبلوا يبحثون خبطاً ... فالطين والماء حيث داروا
فلم يكد - بعدهم - لبيب ... يدور للبحث حيث داروا
وزحزحت كفه سياجا ... ما زال للجمر فيه ثار
حتى اعترت جسمه قشعري ... رة، ودارت به الديار
فغمض من طرفه ارتياعا ... يا هول ما غيب الغبار!
لقد رأى تحته فتاة ... جللها في الردى الوقار
قد مست النار حاجبيها ... ولم تمس اليدين نار
في حضنها دمية، حمتها ... عن الأذى، راحة تغار
قد لفها بخنق جديد ... لم يبق منه إلا الصدار
مغمضة العين في حماها ... طاب لها قربها الجوار
دميتها! قد مضى بها من ... له على الأنفس الخيار
فرجعي لي، والأم تصغي
كيف انقضى ذلك النهار!(905/42)
إبراهيم العريض(905/43)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
من حقيبة البريد:
هذه رسالة متواضعة، أطمع أن تنشرها كاملة، ولعل صدرك الرحب لا يضيق بها ولا يتولى عنها، فربما كانت لمثلك فقيرة الوعاء مصدوعة البناء خاملة العبارة مبهورة الأنفاس. . ولكن ما ذنبي والأدب كالدين سمح كريم يغفر ويعفو، والكرام الكاتبون في تواضعهم وعظيم أخلاقهم وكياستهم كالأنبياء والأولياء والمصلحين يحتفون ويقربون، أو لم ينبه الله تعالى رسوله الكريم إلى أنه: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ليقول له: (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى)؟. . . هذا سر ما شجعني على الكتابة لك، وما يدريك يا سيدي لعلى أزكي، أو أتخرج على يديك وبفضل توجيهك وتشجعك لي، أديبا أو شاعرا أو ناقدا ألم تتفتح بالأمس زهرة (الشاعرة ناهد) بفضل هذا التشجيع والإدناء؟. ولكن للأسف قد اقتطفتها يد المنون على حين غفلة ولما تزل تنضح بالعطر، وتلك وردة أخرى (هجران) نفحتنا بأول نفحة من أريج أوراقها وبفضل رعايتك أيضا. . . وهل أكون مخطئا إذا اعتبرت هذا وسميته تخريجا على يديك وتوجيها منك، مادام الأمر مرتهنا بكلمة تزجيها إلى الشاعر المبتدئ أو الأديب الناشئ فيهتز لها جنانه وتنبعث الثقة في نفسه، فتشرق شمسه من بعد ظلمة يأسه، ويعمل على ملء تلك الثقة دؤوبا مجتهدا مواصلا ليلة بنهاره حتى لا يهان عند الامتحان؟ فكأن إشارتك له بمثابة نداء منك أن يهب من رقدته ليمضي في الطريق غير هياب ولا مختشع، إلى أن يصبح رهن أمرين كقول الهمذاني في مقدمة كتابه الألفاظ: (إما التعلق بالسماك مضاء ونفاذا إن ثابر حتى نهاية الطريق، وإما الانتكاس في الحضيض تخلفا ونقصا إن قعد به العجز عند أول أشواطه)!. . . وهل ننسى يا سيدي مذهب (الأداء النفسي) ودراساته الفنية العميقة، المحدثة المبدعة؟. . كلا والذي علمك البيان. على أية حال نخرج من هذا الكلام مراعاة لوقتك الثمين إلى سؤال أطمع في الإجابة عنه إجابة تبرد الحرقة وتشفي الغليل، وهو: ما الذي قعد بك عن متابعة نشر فصول كتابك عن شاعر الأداء النفسي على محمود طه في رسالته حتى يتم الكتاب؟ أتراك استجبت لرأى أحد أصدقائك على حد قولك؟ وهل صحيح أن نشرك الكتاب كله في الرسالة(905/44)
الغراء يفقده كثيرا من بهجته وجدته حين تخرجه للناس كتابا كاملا بين دفتين؟ وهل كان يفعل مثلك الزيات في كتبه التي كان ينشرها فصولا متتابعة في الرسالة ككتابه (دفاع عن البلاغة) وغيره؟
وأختتم هذه الرسالة منتهزا تلك الفرصة الطيبة لأبعث إلى شباة القلم الفذ، بتحية التقدير والإعجاب والحب.
(السويس)
عبد الرحمن
هذا أديب آخر لم يشأ أن يذكر اسمه، وآثر - كما فعل أخ له من قبل - أن يختفي وراء قناع. وما قلته لأديب الأمس أحب أن أقوله لأديب اليوم، وهو أنني أفضل أن ألقي الأصدقاء الأدباء في وضح النهار. . أما أديب الأمس الذي نشرت كلمته في العدد (903) من الرسالة فقد ظهر على حقيقته في العدد الذي يليه، وأعني به العدد الذي ظهر منذ سبة أيام. لقد ظهر هذا الصديق في صفحة الشعر وعرفته هذه الصفحة قبل ذلك مرات. . . أليس القارئ (ع. ع. ص) الذي كتب إلي من (طهطا) مدافعا عن القراء، هو الأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو الذي طالعنا بقصيدته (زائرة الحمى) في العدد الماضي من الرسالة؟ لقد أدهشني هذا الشاعر الصديق بروعة وفائه، ثم عاد مرة أخرى فأدهشني برقة شعره، ومن حقه على أن أذكر له هذه القيم الجميلة التي يشرف بها الخلق والفن. . ولا بأس أن آخذ عليه قوله: وزهرتاي الآدمية!
بعد هذا أقول لأديب اليوم بعد شكره على كريم تقديره إننا هنا لا نضن على المواهب بذكر ولا نبخل على أصحابها بالتشجيع، لأننا نؤمن كل الإيمان بأن كلمة تقال أو صدرا يرحب أو يد تمد، يمكن أن تخرج الكنوز من باطن الأرض وتفجر الينابيع من أعماق الصخر، وتحيل صحارى الفكر إلى جنان ورقي الظلال ميادة الغصون. . وليس في هذا الصنيع إن نحن أقدمنا علية شيء من الفضل، ولكنه الواجب الذي تفرضه علينا كرامة العقل ورسالة الذوق وديمقراطية الأدب! أننا ننكر هذا الأرستقراطية الأدبية التي تعترض طريق المواهب حين لا يسطع من ورائها شعاع اسم كبير، لأننا لدينا بهذه الكلمة الصادقة التي تقول لك: لا تنظر إلى من قال، ولكن أنظر إلى ما قال إننا لا نلتفت إلى ضخامة الاسم(905/45)
بقدر ما نلتفت إلى ضخامة العقل، ولا نعترف بسعة الشهرة بقدر ما نعترف بسعة الأفق، ولا نهتم بعلو المكانة بقدر ما نهتم بعلو الثقافة، ولا نحفل باكتمال الصيت بقدر ما نحفل الأداة. . هذا هو مذهبنا الذي نؤمن به ودستورنا الذي نسير عليه، وعلى أصحاب المواهب أن يطمئنوا إلى أننا أمناء على الحق حرصاء على القيم. . ولن نحيد يوما عن الطريق.
أقول هذا وأعلم أن هناك كتابا وشعراء سيواجهونني بصيحة من العجب وأخرى من الإنكار، لأنهم بعثوا إلى بفيض من النثر والشعر غضضت عنه الطرف وصرفت الفكر ومسكت القلم. . إلى هؤلاء الاعتذار، لأن اتجاههم الأدبي يعوزه شيء من الصقل وشيء من النضج وأشياء من التجربة والمران. وليس عليهم من بأس إذا ما عمدوا إلى فنون من الجد والمثابرة واحتمال متاعب الطريق ليبلغوا من هذا الطريق منتهاه! كل ما أرجوه لا يتسرب إلى قلوبهم اليأس، وألا يتطرق إلى نفوسهم القنوط، وألا يغلقوا في مجال الطموح تلك الكوى الخفية التي تهب منها رياح الأمل. . الأمل الواثق من القدرة القادرة في الغد القريب.
أترك هذا الجانب من الإجابة على الشق الأول من رسالة الأديب الفاضل لأعرج بالتعقيب على الشق الأخير. . وخلاصة هذا التعقيب أن ذلك الكتاب الذي يشير إليه سيكون يوما بين أيادي القراء. ولن يضير قضية النقد وعشاق الأدب أرجئ نشر الفصول الباقية إلى حين، إلى أن تقع عليه أعين الناس كاملة بين دفتين. وليس هناك من سبب لهذا الإرجاء غير ما ذكرت، وهو أن نشر الكتاب كله على صفحات الرسالة سيغني القراء عن أقتنائه ويعفيهم من مشقة السعي إليه حيث ينقلونه من ضيافة الرفوف إلى ضيافة العقول!
أما الأستاذ الزيات فقد فعل مثل ما فعلت في مثل هذا الكتاب الذي أومأ إليه الأديب الفاضل وأعني به (دفاع عن البلاغة). . وليس من شك في أن وجهتي النظر تلتقيان حول حقيقة واحدة وهي أن نشر الكتاب كاملة على صفحات المجلات يفقدها عنصر الجدة التي تنشدها عين المتشوقة إلى كل جديد. وجوهر الطرافة التي يلتمسها ذوق المتطلع إلى كل طريف. . ولا حاجة بنا إلى الألفاظ في ذكر ما يلقاه الكتاب من قراء هذا الزمن!!
شعراء في الميزان:
في العدد الماضي من الرسالة كلمة الأديب السوري الفاضل محمد الأرناؤوط، يختلف فيها(905/46)
معي حول رأي في شعر الشاعرين: عزيز أباظة وأنور العطار. وجوهر الخلاف أنني وضعت الشاعرين في طبق واحد فلم يقتنع الأديب الفاضل، ومضى يرفع من الشعر الأول ويخفض من الشعر الأخير؟ أو يدخل شعر أباظة في دائرة (الأداء النفسي) ليخرج منه شعر العطار! ومما جاء بكلمته في هذا الصدد قوله: (إن شعر العطار فيما أرى ليس في طبقه شعر عزيز أباظة ولا يمكن أن يبلغ مستواه. أنه شعر صناعة وألفاظ، شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انطفأت فيها الألوان وخمد البريق، ومعان أكرهت على السكون بعضها إلى بعض فلم تكد تأتلف، ولم يكد يأنس شيء منها بشيء. . أنه عمل ذهني وجهد لغوي، لا يمت إلى شعر (الأداء النفسي) بصلة، ولا كذلك شعر عزيز أباظة)!
من هذه الكلمات لتبين للقراء أن الأديب السوري يريد أن يجرد شعر العطار من كل ما يسلكه في إعداد الشعر. . . إلى هنا واقف قليلا لأقول له: إني لا أحب لملكته الناقدة أن تنزلق إلى طريق التجني وأن تندفع إلى سبيل الغلو، لأن كليهما يطمس الحقائق الفنية ويوحي إلى الأذهان بأن الأهواء وحدها هي التي تقود الرأي وتوجه الإبهام!
أنني حين قلت أن هناك لونين من الشعر يعجبني أحدهما ويهزني الآخر، لم أشأ أن أخرج اللون الأول - ومنه شعر العطار - من دائرة (الأداء النفسي) لأن ومضات هذا الأداء منبثقة في شعر هذا الشاعر بمقدر. ومعنى هذا أن وجودها بنسبة معينة أمر لاشك فيه. وعلى مدار هذه النسبة الفنية لتلك الومضات، أعني على مدار ما فيها من قوة وضعف أو من زيادة والنقص في شعر العطار وكل شعر، يتحدد المعنى الذي قصدت إليه حين قلت إن هناك شاعرا يعجبني بأدائه وآخر يهزني بهذا الأداء!
وإذا كنت قد قلت إن شعر العطار من ذلك اللون الذي يعجب ولا يطرب، فأرجو أن يفهم القراء أنني أتحدث عن هذا الشاعر منسوبا إلى كل شعره وليس إلى بعض القصائد أو بعض الأبيات، أعني أن الحكم الذي أصدرته كان حكيما منصبا على الشاغر في مجموعه، وهكذا يجب أن تكون كل الأحكام. . إن قصيدة (الشاعر) للعطار مثلا لا تهزني، وكذلك لا يهزني الكثير من شعره، ومع ذلك فإن إنتاجه الفني لا يخلو من الفلتات الشعرية الملحقة في بعض الأحيان، ولكن العبرة كما قلت هو أن ننظر إلى الشاعر في جملته، أعني أن نربط هذه النظرة بملكته الشعرية العامة لا الخاصة، وأن نركزها على طاقته الفنية التي تحددها(905/47)
الكليات لا الجزئيات؟
هذا الميزان الذي أقيمه هنا بالنسبة إلى شعر العطار، وهو نفس الميزان الذي أقمته بالنسبة إلى شعر عزيز أباظة، وهو بعينه الذي دعاني إلى شيء من التحفظ وأنا أقصر الحكم على شاعرية يوسف حداد، في نطاق هذه القصيدة الوحيدة التي لم أقرأ له غيرها من قبل. . . وليس هناك شيء من التراجع أو شيء من الفتور نحو إعجابي الذي لا يحد بقصيدة الشاعر اللبناني كما خيل إلى الأديب الفاضل، ولكنه الحرص البالغ على أن تكون الأحكام النقدية العامة على شاعرية الشعراء مرتكزة على الإنتاج العام!
ولا يمكن بحال أن أوافق الأديب السوري على مجموعة آرائه في شعر العطار، لأن من هذه الآراء ما لا يتفق مع الواقع كقوله أنه شعر صناعة وألفاظ، أو شعر عبارات مات فيها الجرس، وصور انطفأت فيها الألوان وخمد البريق. . لا يا صديقي! إن أنور العطار من أحلي الشراء جرسا ومن أكثرهم لمعان صور وإشعاع بريق، ولا أستطيع أبدا أن أضمه إلى قائمة الشعراء المصنوعين. . أنه في رأيي ورأى الحق شاعر مطبوع، كل ما ينقصه هو أن يتخلص من هذه القوالب الكلاسيكية التي يصب فيها شعره في كثير من الأحيان، وأن يعني بعض العناية بصدق الرؤية الشعرية في ألفاظه ومعانيه، وأن يهتم بملكة المراقبة النفسية أكثر من اهتمامه بملكة المراقبة الحسية. . وما أقوله هنا عنه يمكن أن أقوله عن عزيز أباظة!
لحظات في دار الكتب:
لحظات لم أقضها في القراءة والإطلاع، وإنما قضيتها في زيارة رسمية للأستاذ أحمد رامي. . ولعل القراء يذكرون موقفي من الأستاذ الفاضل في عدد مضى من الرسالة، ويعجبون كيف تم هذا اللقاء بيني وبينه بعد ذلك الذي كان!
الحق أنها كانت لحظات حافلة بالعجب عامرة بالطرافة. . . ومصدر العجب فيها هو أن نلتقي وجها لوجه، ويكرم الرجل وفادتي ويهش لمقدمي على الرغم من تلك الحملة القاسية التي شننتها عليه منذ أسابيع. ومرد الطرافة فيها إلى أن رامي لم يكن يعرف شيئا عن ذلك الزائر الغريب، سوى أنه مندوب رسمي للدكتور طه حسين بك وزير المعارف. . . ومن هنا أصر على ألا أبرح مكتبه حتى أتناول فنجانا من القهوة، تحية وترحيبا ومودة!(905/48)
إنني أكتب هذه الكلمة لأقدم عن طريقها أخلص الشكر للأستاذ أحمد رامي وكيل دار الكتب المصرية، على كريم ضيافته وجميل حفاوته. . وأشهد أنه كان نفحة من نفحات الذوق حين أمر بإنجاز ما جئت من أجله في يومين وكان مقدارا له أن ينجز في أيام. . أشكره هنا على صفحات الرسالة لأنه لم يكن في طوقي أن أشكره في دار الكتب. . أقصد أنه لم يكن في استطاعتي أن أقدم إليه شكر صاحب (التعقيبات)، وإنما الذي أمكنني أن أقدمه إليه في ذلك اللقاء. . هو شكر مندوب وزير المعارف!
ترى ما الذي سيقوله الأستاذ أحمد رامي لنفسه بعد أن يطلع على هذه الكلمات؟ ليس من شك في أنها ستكون مفاجأة له، ومفاجأة طريفة. . أتراه سيحس شيئا من الأسف على كريم ضيافته وجميل حفاوته، وذلك الفنجان من القهوة الذي قدمه إلي ولن أنساه؟ الجواب في بطن الشاعر!!
سهو من الذاكرة:
طالع القراء في العدد الماضي من هذه المجلة حديثا موجها من كاتب هذه السطور إلى معالي وزير المعارف في العراق ومن المؤسف أن تجمع الذاكرة بين وزيرين مصريين ثم تسهو من الذكر أحدهما لتثبت ذكر الآخر، في مجال يقتضي أن يحل الوزير المقصود بالذكر محل صاحبه الذي ورد اسمه في الحديث وأعني به محب باشا. أما ذلك الوزير المصري الذي كان يجب إثبات اسمه في معرض العطف على شاعر النيل حافظ إبراهيم، فهو حشمت باشا وليس محمد محب! فإلى القراء أولا والتاريخ ثانيا أقدم أخلص الأسف وأعمق الاعتذار.
أنور المعداوي(905/49)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بين التعليم والثقافة
تناولت (مشكلة القراءة) في عدد مضي من (الرسالة) فنظرت في أهم أسبابها، وهو طريقة التعليم عندنا وملابساته، من حيث المناهج المزدحمة والامتحانات التي تتجه إلى الذاكرة ولا تكاد تهتم بالإدراك، وإرهاق التلاميذ والمدرسين، فكل ذلك كما قلت (يبغض في الكتاب، إذ لا يكاد التلميذ ينتهي من (سخرة) الامتحان حتى يلقي بالكتب وهو يشعر بالسعادة لتخلصه منها، وبغضه للكتاب المدرسي بجره إلى بغض جنس الكتاب، فلا مكان إذن لحب القراءة من نفسه)
قلت ذاك، وقلت أيضاً (من أكبر الخطر أن المشكلة واقعة أيضاً بين المدرسين أنفسهم. . أولئك الذين يرجى منهم أن يبثوا حب القراءة والإطلاع في نفوس الطلاب، لأنهم أيضاً ضحية هذا النظام المدرسي. . . الخ) وحين قلت هذا وذاك لم تكن تغيب عني جهود الرجل العظيم طه حسين في وزارة المعارف التي يبذلها في تيسير التعليم وتعميمه وإنصاف المعلمين وبعث الطمأنينة في نفوسهم والحق أنني كلما تناولت مشكلة ثقافية لأكشف عن نواحي التقصير فيها يخالجني شعور الإشفاق على ذلك الرجل لما ينهض به من أعباء أثقلها الإهمال والتواني في الزمن الماضي، وأشعر في الوقت نفسه أن تلك المسائل الثقافية غير خافية عليه، ولعله يتحين لها الفرصة بعد الفراغ من إنصاف المظلومين وإتاحة فرص التعليم لجميع المواطنين. وقد لمحت بارقة من ذلك في خطبته التي تحدث بها إلى المعلمين في الحفلة التي كرمهم بها في الوزارة، إذ قال أنه يود أن يرى المعلم ينتفع بالعلم قبل الطلاب. ثم راعني هذا الغيث الذي انهمر في حديثه إلى مندوب الأهرام الأستاذ محمود العزب موسى الذي أثار كامن نفسه عندما سأله عما أعده من مشروعات للنهوض بالتعليم بعد الفراغ من التوسع في قبول التلاميذ والتوسعة على رجال التعليم. وقد كان الأستاذ العزب موفقا كل التوفيق في هذه الإثارة التي حدد نقطها، وكان منها (قصة الامتحانات ومستقبل الثقافة في البلاد).
لقد كان الحديث حديث أستاذنا وزميلنا الأديب الناقد الدكتور طه حسين بك. . إذ حمل على(905/50)
ما تتبعه وزارة المعارف من سخافة في الامتحانات وما تجترحه بذلك من تبغيض المتعلمين وتنفيرهم من العلم والتعليم، قال، بعد أن بين ما يلاقيه من جهد في فحص المظالم ولقاء الآلاف من المظلومين وأصحاب الحاجات، وبعد أن ذكر ما أخذ فيه من تيسير المناهج لتكون أوفى إلى عقول التلاميذ وقلوبهم: وفكر في محنة الامتحان، فسترى أنها العلة التي لا يستقيم معها التعليم ولا بد من أن نصل إلى علاج مصر منها، فالتلاميذ يتعلمون ليمتحنوا آخر العام، والأساتذة يعلمون لينجح تلاميذهم في آخر العام، ويصبح الامتحان هو الغاية الأولى التي أنشئت المدارس والمعاهد من أجلها. . وما أعرف أن بلدا وصل من السخف إلى مثل ما وصلنا إليه في أمر الامتحانات. امتحانات النقل يشقى بها التلاميذ من أول يوم في العام الدراسي: أسرته تشعره دائما بأن عليه أن ينجح، وأساتذة يشعره دائما بأن عليه أن ينجح، فيشغله النجاح عن فقه ما يلقى إليه من الدرس، ويعنى بذاكرته، ويعطي عقله وقلبه إجازة أثناء العام الدراسي) وقال: (والامتحان العام نفسه نقدم عليه كأنما نقدم على عمل مقدس يجب أن نعدله عدته، في نفوسنا، وفي مظاهر حياتنا نفسها، ثم نعقده تعقيدا لا حد له) ثم رد على من يظنون أن تعقيد الامتحان هو الوسيلة الوحيدة لرفع مستوى التعليم بقوله: (فتعقيد الامتحان إن أدى إلى شيء فإنما يؤدي إلى تكوين المواطن الآلي الذي لا يفكر ولا يتعمق، وإنما يحفظ ما يلقى عليه، ثم يؤديه كما حفظه، ثم ينجح فيصبح مواطنا عقيما، أو يرسب فيصبح كلا على المدرسة، فإن اطرد رسوبه أصبح كلاً على الشعب. إن الذين يريدون أن يرفعوا مستوى التعليم حقا، يجب أن يحببوه إلى التلاميذ لا أن يبغضوه إليهم إن كنت تريد أن ترفع مستوى التعليم فاجعل أمور ميسرة، يقبل عليها التلاميذ عن حب لها ورغبة فيها، ويجدون الوحشة حين ينصرفون عنها في الإجازات. كل هذه أمور لا بد من التفكير فيها والفراغ لها، وقد فرغت لبعضها، وأرجو أن يتاح لي تحقيق ما أريد منها)
وهكذا نجد الرجل مشغولا بما كنا نمسك عن مواجهته به ومطالبته بتحقيقه، يثارا للاصطبار والانتظار، والواقع أن معاليه جند الجنود وحشد الحشود ووزع الأعطيات ونظم الأرزاق، ولكن بقي (التكتيك) بقي أن يوجه التعليم إلى غايته، بقى أن يوفق بين التعليم وبين الثقافة، وينهي الخصام الذي لا يزال قائما بينهما في عقول (المتعلمين) ولست أدري(905/51)
ما فائدة التعليم إذا لم يفتح أبواب المعرفة أمام المتعلم ويغرس في نفسه حب التزود ومداومة الإطلاع.
لقد أفسدت الطريقة الآلية في التعليم، هذا الجيل، وجعلت التعليم المدرسي غاية في ذاته، فلم يتخذ - كما ينبغي - سببا إلى التثقيف الذاتي الذي يأخذ به المتعلم نفسه ويكمل نقصه، فيشعر أنه طول عمره محتاج إلى وجبات الثقافة كما هو محتاج إلى وجبات الطعام. وإنه ليعييك البحث عن المثقفين الحقيقيين بين (المتعلمين) الذين اجتازوا الامتحانات وظفروا بالشهادات، إذ لا تجد من أولئك غير أفراد بهم مناعة ضد آلية التعليم مثل المثقفين في مصر كمثل الفرق الرياضية فيها، قلة ممتازة تفصلها عن الكثرة الغالبة هوة بعيدة القرار.
لقد ضاع جزء كبير من أعمارنا في حفظ أشياء لا قيمة لها، ولقد سخروا عقولنا في مواد لم نجد لها أي أثر في حياتنا بعد التخرج، ولقد كان بغضنا لها داعيا إلى تعمد نسيانها بعد. . ويقولون أن الطالب في مصر يحصل على ورقة الطلاق من العلم بحصوله على الشهادة، ومن الإنصاف أن يقال أيضا: بعض المتعلمين يحصل على ورقة الطلاق من السخافات بفكاكه من التعليم المدرسي. .
والتعليم عندنا يفترض في كل إنسان قوة الحفظ ويفرض عليه أن يحفظ، فإن كان كذلك فحفظ ووعى ما تمتلئ به المناهج من سخافات، برز وتقدم ونال أعلى الدرجات وأكبر التقديرات، وفضل في الوظائف وأرسل في البعثات وتكون النتيجة أن يلي الأمور هؤلاء الآليون.
ولقد سافر أولئك المبعوثون وجاؤوا، لم يفيدوا شيئا، لأنهم ذهبوا بعقولهم الآلية وعادوا بها. حفظوا شيئا مما هناك لمجرد الحفظ، فلم ينتفعوا به في بحث ومقارنة وتعمق. وها نحن أولاء ما زلنا نشكو من عقم التعليم على الرغم من كثرة من أوفدنا إلى أوربا لدراسة التربية والتعليم!
أن العلة كلها تنحصر في البرزخ الكائن بين التعليم المدرسي وبين الثقافة العامة. واليوم الذي يزال فيه هذا البرزخ هو اليوم الذي يقال فيه إن التعليم يؤتي ثمراته ويؤدي إلى غايته.
إلى فضيلة شيخ الأزهر:(905/52)
لم تنقطع عني رسائل طلبة الأزهر منذ كتبت في موضوع الكتب التي تدرس في الأزهر، وهي تدور حول لرغبة في مواصلة الكتابة في هذا الموضوع والإيهابة بالمسئولين أن يهتموا بإصلاح هذه الناحية في الدراسة الأزهرية، ويحسن بعضهم الظن أو يقوي أمله في أن يضع كل شيء وفق ما يكتب الكاتبون.
الآن وقد تولى مشيخة الأزهر شيخ جديد هو فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم، فطبيعي أن تتجه إليه الآمال لينتقل بالأزهر خطوة جديدة في سبيل تأدية رسالته، وهذا هو الطالب الأديب (عبد الصبور السيد الغندور بالمعهد الديني بشبين الكوم) يرجو أن يفسح له ليطل من (الرسالة) على الشيخ الأكبر، يقول:
(سيدي شيخ الأزهر - لقد استبشرنا باختيارك لنا، فمرحبا بقدومك، وأهلا بمعهدك الذي نرجو الله أن يجعله ميمونا سعيدا على الإسلام والأزهر. نتوجه إلى فضيلتكم فنضع بين يديكم ما يأتي:
1 - لقد وعدنا الجميع بإزالة الكتب المقررة على المعاهد الدينية، لعدم صلاحها مطلقا وإبدال أخرى بها تكون ملائمة للعصر الذي نعيش فيه، فهل ستبحث فضيلتكم هذا الموضوع الشائك الذي من أجله شرد الكثيرون وبحت أصوات الباقين؟
2 - لقد آمنت وزارة المعارف بالحكمة القائلة (العقل السليم في الجسم السليم) فأمرت بصرف الغذاء لجميع طلبتها أفلا تأمرون بصرف الغذاء لأبنائكم؟
3 - لماذا يتسلم أبناء وزارة المعارف كتبهم المقررة والأدبية ونحرم نحن طلبة الأزهر ذلك؟ ألسنا من أبناء الأمة؟ ألم يصبح التعليم كله بالمجان؟ فلم هذا الفارق؟
نسأل الله تعالى أن يجعل نجاتنا على يديكم بعد أن أشرفنا على الغرق وإنا لمنتظرون)
ونحن نستبشر بما صرح به فضيلة الأستاذ الأكبر للصحفيين من أنه معنى بدراسة كتب المتقدمين والاستغناء بها عن بعض كتب المتأخرين، على ما في هذا التصريح من تحفظ قد يقتضيه المنصب الكبير، ونعده مقدمة لخير كثير نرجو أن نعتبره المرحلة الثالثة في إصلاح الأزهر بعد المرحلتين اللتين تمتا على يدي الإمامين عبده والمراغي، كما سبق أن أوضحنا.
ولا شك أن الاستغناء بكتب المتقدمين الموضوعية البليغة عن كتب المتأخرين الشكلية(905/53)
المعقدة، أمر مفيد، وهو واجب لربط الثقافة الأزهرية والإسلامية على العموم بماضيها ولكن هناك التأليف بأسلوبي العصر والتطبيق على مسائل العصر، فقد أصبح مما يعرفه الجميع أن أساس التعليم - على اختلاف أنواعه - ملاءمة بين ثقافة المتعالم وبين حاجات عصره.
وهذا يستلزم أن يكون التأليف الجديد أهم ما تعتمد عليه الدراسة في الأزهر وخاصة في المرحلتين الابتدائية والثانوية، فالنهضة التي ينتظرها الأزهر أو ينتظرها الناس من الأزهر في الوقت الحاضر، تنحصر في كلمة واحدة هي (التأليف)
ذكرى الزين:
يظهر هذا العدد من (الرسالة) في يوم الذكرى الثالثة للمغفور له الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين.
ولقد كان الزين شاعرا كبيرا من شعراء العربية المبرزين في هذا العصر، قرأ له الناس قصائد ممتعة في الأهرام والرسالة والثقافة، وكان رحمه الله قد جمع شعره في ديوان مخطوط، على عزيمة أن يطبعه في الفرصة المواتية. وتوفي قبل أن تواتيه هذه الفرصة. وقررت لجنة التأليف والترجمة والنشر، طبع ديوان الزين، على أن تقوم بنفقاته وتخصص ممن ما يباع منه لليتيم الذي تركه الفقيد.
وها قد مضت سنوات ولم يخرج الديوان. . لماذا؟ لأن اللجنة لا تزال تطلبه ممن هو عنده. فهل فقدنا الزين وفقدنا ديوانه؟!
أكتفي اليوم بتحية طيبة أبعث بها إلى روح فقيدنا الكبير في يوم ذكراه، وفي الأسبوع القادم إن شاء الله قصة ديوانه الذي يوشك أن يلحق به. . .
عباس خضر(905/54)
البريد الأدبي
هل حققت هيئة الأمم وعودها
احتفلت هيئة الأمم المتحدة، في الأسبوع الماضي، بالذكرى الخامسة لتأسيسها، وقد أسست هيئة الأمم في وقت آمنت فيه الدول بضرورة تكوين رابطة دولية، تعمل على توطيد دعائم الأمن، ونشر ألوية السلام، بفض ما عساه أن يقوم بين الدول من نزاع، لتجنب العالم ويلات الحروب وشرورها. . . واختارت هيئة الأمم لها علما خاصا، يرمز إلى مهمتها، يتوسطه غصنان ممتدان من أغصان الزيتون، يعانقان الكرة الأرضية. . . فهل حققت هيئة الأمم وعودها؟!. .
هل استطاعت هيئة الأمم أن توطد دعائم السلم، وتنشر ألوية السلام، فتجنب العالم شرور الحرب وويلاتها؟!. . .
هل استطاعت هيئة الأمم أن تعالج المشاكل التي عرضت عليها، من الدول المغلوبة على أمرها، علاجا حاسما؟!. . .
هل استطاعت هيئة الأمم أن تنصف الدول (الصغرى). من الدول الكبرى). . وتصون حقوقها. . وتذود عن حريتها؟!.
هل استطاعت هيئة الأمم أن تكفل حريات الشعوب التي لاذت بساحتها، في ساعة العسرة، تستجير. . وتستغيث؟!. .
هل استطاعت هيئة الأمم أن تحذف من قاموس السياسة، تلك الكلمة البغيضة التي يحاربها الأحرار. . كلمة (الاستعمار)؟!
هل استطاعت هيئة الأمم أن تأخذ بيد الضعيف حتى ترد إليه حقه المسلوب. . وتقف في وجه القوي، وتصد عدوانه؟!.
هل استطاعت هيئة الأمم أن تعدل بين الأمم، يوم لاذت بها فلسطين والدماء تنزف منها. . ويوم عرضت عليها مصر قضيتها العادلة؟!. . .
هل استطاعت هيئة الأمم أن تحقق العدالة يوم قررت تقسيم فلسطين. . وتمزيقها. . ويوم أعرضت عن سماع شكوانا؟!. . .
إذن. . ماذا فعلت هيئة الأمم، في تلك السنوات الخمس؟!(905/55)
لقد عقدنا عليها الآمال، يوم تبوأنا مقعدنا في صفوف أعضائها فإذا بآمالنا كنسج العنكبوت. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت!
وما كادت (كوريا) تنادي، حتى لبت هيئة الأمم النداء، وراحت تعد لها المعدات، وتعبئ لها الجيوش من مختلف الأقطار، وزلزلت الأرض زلزالها، وقامت الدنيا وقعدت!. .
وهكذا تكبل هيئة الأمم بكيلين. . . فهل بهذا تحقق العدالة الدولية أيها الساسة العباقرة؟!. . .
إنكم تعيدون علينا قصة (عصبة الأمم) الغابرة. . . لا طيب الله لها ثرى!. . .
ومن عجب أن بعض هيئاتنا قد ساهمت في الاحتفال بذكرى تأسيس تلك الهيئة التي خذلتنا. . . ففيم هذا الاحتفال يا سادة؟!.
أتساهمون في تكريم هيئة تصامت عن سماع صوتكم، يوم لذتم بها، وفي أيديكم قضية لم يشهد التاريخ لها مثيلا؟!. . .
أتساهمون في تكريم هيئة مزقت وحدة العرب، وقسمت وطنهم، وأخرجتهم من ديارهم وأموالهم بغير حق. . فهاموا على وجوههم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟!. . .
أتساهمون في تكريم هيئة إن تمسسكم حسنة تسؤها، وإن تصبكم مصيبة تفرح بها، وتريد بكم العسر ولا تريد بكم اليسر؟!.
أتساهمون في تكريم هيئة لا تكرمكم. . ولا تحفل بكم. . مالكم كيف تحكمون؟!. . . أف لكم، ولما تكرمون؟!. . .
إننا لا نستطيع أن نحتفل بذكرى هيئة الأمم إلا إذا أقامت لنا الدليل ساطعا على حسن نواياها. . وأكدت لنا - بالفعل لا بالقول - أنها جديرة بأن نحتفل بذكراها، ونشيد بمآثرنا، وصيغها!. . .
وإلى أن تحقق هيئة الأمم وعودها، نرجو لها التوفيق، وندعو لها بالخير، لتعمل على توطيد دعائم السلم، ونشر ألوية السلام!. . .
عيسى متولي(905/56)
القصص
الشجاع. .!
للأديب كارنيك جورج
ما إن استلقى على سريره ووضع رأسه على الوسادة، حتى انتبه إلى حركة غريبة في الغرفة التي ينام فيها وحده! ما معنى تلك الحركة؟ وما هو تفسيرها؟ وتوقف فكره. . بل أنه جاهد حتى أوقفه عند هذا الحد خوف الوصول إلى التفسير الذي لا يقبل الشك. . وكان يجاهد أيضاً في أن يهدئ من روعه، وأن يخفف من خفقان قلبه. . خشية افتضاح أمره عند. . عند من يشاركه الغرفة في تلك الساعة الرهيبة!. . وبكثير من الجهد حول عينيه يبحث عن مصدر تلك الحركة. وعندئذ ارتاح إلى أنه لم يطفئ النور بعد.
وقعت أنظاره على صوان ملابسه فقال لا بد أن اللص فيه. . فازدادت رهبته، لكنه اطمأن قليلا إذ تبين موقع اللص منه، ولم يلبث أن انتبه إلى نفس الحركة وهي تصدر من مكان آخر. فالتفت إلتفاتة غريزية سريعة، فلمح على الأرض، عند طرف السرير، شيئا يتحرك! فما أنعم النظر تبين أنه غطاء فراشه الملقى على البساط شأنه في كل يوم. ومن حسن حظه أنه لم يفطن إليه عندما استلقى، فلو أنه فطن لدفعه ليتدثر به. . ولحلت الفاجعة. . التي لا يمكنه تصورها. . فاللص الذي كان في الغرفة قبل دخوله إليها قد اختفى، اختفى تحت الغطاء بمجرد أن سمع وقع خطواته في الدهليز! يا للهول، كيف لم ينتبه إلى ذلك أول ما دخل؛ ليته تأخر هذه الليلة، وترك للص الحرية، كي يسرق ما يشاء. فذاك أهون من أن يحتبس معه داخل غرفة ضيقة!!
ظل يرتعش. فتخشب جسده والتصق بالسرير، وظل حائرا وجلا لا يدري كيف النجاة من هذا الشر الذي تربص له في غرفته الآمنة وضاق صدره حتى خيل إليه أنه يختنق، كما لو أن اللص قد أفسد هواء الغرفة بطريقة خاصة. لكنه مع ذلك ظل جامدا لا يتحرك، وبقيت أنظاره وجلة مترقبة، ترمق ذلك الغطاء المنطوي على أخطر ما كان ينتظر.!
بيد أن الحركة لم تتكرر، فاطمأن. . وزال عنه بعض الخوف:
- هذا لا ينبغي، الأوفق أن أنقض عليه، وأشبعه ضربا وركلا، حتى يعجز عن المقاومة فيستسلم. فأوثقه بالحبال، ثم أخرج فأدعو أهلي، وأدعوا كافة الجيران. . . لعل أن تأتي(905/57)
(صبيحة) مع ابنتها نجوى. ليطلعا على فعلي، وقد تتأكد نجوى من أنني بطل، لا كما توهمت، فسخرت مني عندما نبح أحد الكلاب الضالة علي بغتة فلذت بالهرب، ولجأت إلى البيت، فإذا بقهقهات ساخرة تترامى إلى أذني فارتعشت أكثر مما ارتعشت عند نباح الكلب. فقد عرفت صاحبة القهقهة الساخرة. . . إنها نجوى بالذات. فرأيت أني لا يجب أن أتراجع وألوذ بالبيت، وأبدوا أمامها كالوجل من نباح كلب حقير، فانتظرت برهة لأجمع رباطة جأشي، ثم دفعت الباب وخرجت، أتلفت يمنة ويسرة، فصرخت نجوى من نافذتها التي تشرف على (المحلة) (امض فقد ذهب الأسد) صفعتني عبارتها، ووددت لو أني ما خرجت تلك الساعة، ولا صادفني ذلك الكلب، ولا كانت نجوى في شرفتها. .! والله لو أني تنبأت بما سيقع، أو علمت أن نجوى تراقبني، لما تراجعت ولما ذعرت حتى لو قابلني أسد جائع لا كلب ضال.
(تلك الفتاة المغرورة الساخرة، ستتعجب! إذ تراني أوثقت اللص بالحبال. سألطمه على وجهه لطمات قوية أمامها. كي تغير رأيها فيّ. وتدرك أنني بظل حقا. وأنني أستحق الإعجاب منها. كبقية الأبطال الذين تعجب بهم وهي لم ترهم. أولهم (أرسين لوبين) هذا المنافس الغريب الذي يأتي إليها من خلال سطور الروايات فيسلب عقلها في حين أنني ما فتئت أحاول جذب نظرها إلي. نظرها الجدي. فتأبى هي إلا أن تنظر إلي بسخرية، ويأبى القدر إلا أن يمهد لسخريتها حادثة مضحكة، كحادثة الكلب، وحادثة السيارة، وحادثة أولاد الحارة الصغار. .
(كفاني سخرية، فإني لا أستحق سوى الإعجاب. إن هذه الفتاة المغرورة سوف تراني إلى جانب أرسين لوبين عملاقا.! إذ أنه يطالعها من خلال الأكاذيب، في حين أني أطالعها أنا من خلال حقائق ثابتة.! من قال إن ذلك الأجنبي يملك من الدهاء والقوة أكثر مما أملك؛ هيه، إني لأقوى منه، إني لأدهى منه، وسأثير اهتمام نجوى وأملك مشاعرها بمجرد أن أوثق هذا الدخيل المتدثر الخائف. . وهو خائف بلا شك، وإلا لظهر أمامي من دون غطاء. وعلي أن أنتهز الفرصة فأنقض عليه، وبذلك أرفع اسمي، وترفع نجوى عني لقب (الجبان) الذي منحته لي وتمنحني لقب (الشجاع).! ومن ثم سآخذ أسيري إلى أقرب نقطة للشرطة، ولا شك أن الشرطة سيفغرون أفواههم دهشا، معجبين بشجاعتي وإقدامي. ولا شك أن(905/58)
كبيرهم سيشد على يدي مهنئا، ومن يدري لربما أنعم على بشيء، بهدية. . أو توسط عند رؤسائي للترقية، فأنا أستحق كل ذلك. . لأنني شجاع! ولأني قمت بمهمة وطنية تستلزم التشجيع! ولسوف تنشر الصحف اسمي وقصتي في صفحاتها الأولى، كما تنشر صوري أيضا. . وبعدئذ يشتهر أمري عند الرجال. . ويشتهر جمالي عند النساء! فيفدن إلى. ويقبلن علي، معجبات مغرمات. . ولسوف ترى نجوى كل ذلك، ولن أهتم بها أبدا، فأتركها فريسة للغيرة والندم. .)
وشهق شهقة عبرت عن مدى فرحته وابتهاجه بتلك الفكرة. بيد أن الغطاء الملقى على البساط ما لبث أن تحرك! فتوقف عن التفكير. وشابه بعض القلق. . ثم اتجه إلى وجهة أخرى. .: - لقد بدأ يتحرك، ما أمره؟ لعله قد فطن إلى ما سيحل به. فاحتاط مقدما. أليس من الخطورة أن أهجم عليه وليس في الغرفة سوانا؟ لا ريب أنه مسلح بينما أنا أعزل.)
انزعج لهذه الفكرة، لكنه لم يقدر أن ينحرف عنها، ليواصل أحلامه الحبيبة، لأن الغطاء تحرك مرة أخرى.
لا ريب أن الملعون يستعد لما سيقع فإذا أنا هجمت عليه لاقاني رأس خنجره قبل أن يلاقيني جسده المرتعش. أوه هذا مخيف، رأس خنجره يدخل صدري فينبثق الدم أحمر قانيا. . حتى تخمد أنفاسي. . ف. . فأموت. . ضحية مكيدة قذرة دبرها لص جبان! وقد يصبح موتي أيضاً سخرية في فم نجوى، لا. . إن هذا لمزعج، مخيف، يجب أن أستعد أنا أيضا. فهذه ساعة خطيرة قد لا أنجو فيشتهر أمري ويرتفع اسمي. . الأوفق أن. . أن آني له بسلاح، بأي سلاح، بسكين على الأقل، فالسكين أحسن من لا شيء! لأغادر الغرفة، إلى المطبخ، فإني بذلك السكين الكبير المعد لتكسير العظام! والأجدر أن أدعو كلبنا (جاكي) ليساعدني إذا احتجت إلى المساعدة، إن جاكي لكلب شجاع، فهو بالرغم من منظره وضآلة جسمه، وبالرغم من انزوائه وصمته يملك قوة خارقة. . مثلي تماما. فأنا أيضاً لا ينبئ مظهري وانزوائي بما أملك من قوة وشجاعة. كلانا سيكشف عما يذخر من قوى في هذه الساعة بالذات، والويل لهذا اللص الغبي الذي لم يحسن اختيار ضحيته، فوقع في شركي. الويل له. . إني سأجرب فيه قوتي وبطشي ويا ويله من قوتي وبطشي.)
وهنا ألقي نظرة ترفع واحتقار على الغطاء وهو ينسل بخفة من فراشه، ويستوي واقفا.(905/59)
وقبل أن يستدير للخروج، تحرك الغطاء! فجمد هو في مكانه، فرأى أنه لو استدار فاللص قد يهجم عليه من الخلف، فعليه ألا يتمهل، وألا يرفع عينيه عنه. ومن ثم استطاع أن ينقل قدمه ببطء شديد، وبخوف شديد. . إلى الوراء خطوة قصيرة، ثم نقل إليها قدمه الأخرى، وهكذا استطرد ينسحب من الغرفة، دون أن يستدير. وكان الاضطراب قد بلغ منه مبلغا عظيما، بحيث جعله يذهل عما حوله، وينسى عتبة الباب، فإذا بقدمه تصطدم بها، فيعثر، فيسقط على وجهه. .! وفي اللحظة الأخيرة جاهد كي لا يقع على الغطاء الذي اختفى اللص تحته، وكان أن سقط على كرسي بجانبه، فمال الكرسي، فوقع على الغطاء بقوة!! فإذا بصرخة قوية تهز الغرفة. . فقال هو في نفسه (لقد مت)! لكنه لم يمت تماما. فقد تبين أن الصرخة التي أذهلته لا تشابه صراخ إنسان. . إنها تشابه إلى حد بعيد صراخ جاكي. وهنا رأى بعينيه الكلب وهو يثب من تحت الغطاء مذعورا وهو يعوي.!
العراق - بصرة
كارنيك جورج(905/60)
العدد 906 - بتاريخ: 13 - 11 - 1950(/)
الأزهر الكبير في طوره الجديد
- 2 -
نعم كان الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم هو المصلح الذي يرجوه الأزهر وينتظره، لأن الله جمع فيه من المواهب والمكاسب ما لا بد منه لكل مصلح. فهو أزهري مكتمل الأزهرية في دينه وخلقه وعلمه؛ وهو سلفي معتدل السلفية في عقيدته وطريقته وفهمه؛ وهو تقدمي متئد التقدمية في اجتهاده وإصلاحه وحكمه. فإذا أخذوا على الشيخ محمد عبده أنه أنكر القديم، وسبق الزمن، واستكره التطور، وتجاهل العوائق، واحتقر الخصوم، وتحدى الحاكم؛ وأخذوا على الشيخ مصطفى المراغي أنه وصل الأزهر بأسباب السياسة فجمع كما تجمع، وفرق كما تفرق، وصانع كما تصانع، ورأى غاية الإصلاح أن يسترضي الغضبان بالوعود، ويستمهل العجلان بالمنى، فلن يأخذوا على الشيخ عبد المجيد إلا أنه رجل جعل همه للأزهر ووكده للعلم وجهده للدين. ومن استولت على قلبه هذه الأمور امتنع عليه في سبيلها أن يداري في حق أو يهاوي في باطل.
وشيخ الأزهر الجديد خاتم طبقة من العلماء المحققين المتقين كانت لهم في النفوس جلالة، وفي القلوب مهابة، لأنهم حفظوا كرامة العلم فحفظ الناس كرامتهم، واعلوا مكانة الدين فأعلى الله مكانتهم. شهر أيام الطلب بالملكة النادرة في فقه الشريعة، يتعمق أصولها ويتقصى فروعها، ويستبطن دخائلها، بالذهن البارع والفهم الدقيق، فكان مرجع رفاقه في تفسير ما أعضل من المسائل، وتوضيح ما أشكل من التراكيب، وتوجيه ما تعارض من الآراء. يجد في ذلك متعة نفسه ورباضة عقله ومتابعة هواه. وظل شغفه بالبحث وكلفه بالاستقصاء آثر اللذات عنده، وأظهر النزعات فيه، حتى تولى منصب الإفتاء للديار المصرية فصرف هذه القدرة العجيبة إلى استنباط لأحكام الشرعية من مصادرها المتعددة ومظانها المختلفة لكل ما جد من شؤون الحياة وعرض من أحوال الناس، فلم توجه إليه مسألة من مسائل الدين، ولا مشكلة من مشكلات العيش، إلا كان له فيها قول مبين أو رأي منير، حتى أربت فتاويه وحده على فتاوي المفتين جميعا. فلما بلغ سن المعاش نقل مكتب الدرس والبحث والفتوى إلى داره. فكان له كل يوم مجلس حافل يندوا إليه علماء الفقه فيدور عليهم بلفائف التبغ وأكواب الشاي، ثم يقدم إليهم، كتابا من الكتب، أو مسألة من(906/1)
المسائل، فيقرءون أو يناقشون، والشيخ من ورائهم محيط بسر الكتاب، أو عليم بوجه المسألة، يقول فيستمع قوله، ويرى فيتبع رأيه. فهو حجة الوقت في علم الفقه وأصوله ما في ذلك خلاف.
ذلك علمه؛ أما خلقه فشذوذ في أخلاق العصر، ولعله كذلك شذوذ في أخلاق الدهر! فإن سلوك الطريق الذي نهجه الله، والوقوف عند الحدود التي أقامها الشرع، أمران لم يؤتهما الله إلا صفوة من عباده المخلصين جعلهم في خلال القرون أعلاما في مجاهل الأرض، ونجوما في غياهب السماء. حدثني أقرب الناس إليه أن شركة الترام بالقاهرة أهدت إليه وهو يتولى الإفتاء تصريحين مجانيين أحدهما لنفسه والآخر لتابعه. فأما تصريحه فالأمر فيه واضح، أغلق عليه الدرج لأنه يركب السيارة ولا يركب الترام، وانتفاع غيره به وهو مقيد باسمه حرام. وأما تصريح التابع فالأمر فيه مشكل! من التابع الذي يجوز له أن ينتفع بهذا التصريح؟ أهو الكاتب أم الساعي أم الخادم؟ الكاتب لا ينتقل من دار الإفتاء إلا إلى داره. وانتقال الموظف من عمله إلى سكنه ومن سكنه إلى عمله، انتقال خاص لا يدخل في حساب المصلحة العامة. والساعي والخادم لم يخطرا على بال الشركة طبعا حين أعطت التصريح في الدرجة الأولى؛ لأنهما بحكم العادة من ركاب الدرجة الثانية. إذن ليبق التصريح مصونا في المكتب لا تقع عليه عين، ولا تمتد إليه يد، حتى يأتي التابع الذي يستحقه.
وفي أحد الأيام أمر خادمه أن يشتري له بعض الأشياء من السوق، فلما عاد الخادم بما اشترى، وقدم إليه الحساب بما أنفق، قال له: لم لم تحسب أجرة الترام؟ فأجابه الخادم الأمين: ركبت بالتصريح. فقال له الشيخ وقد فار دمه من الغضب: وكيف تستحل هذا والأشياء لي والتصريح ليس لك؟ ولم ينتظر الشيح جواب الخادم وإنما نهض فركب في سيارته حتى نزل في شارع محمد علي؛ ثم وقف في محطة من محطات الترام وأنتظر حتى جاء أحد القطر فاشترى من (الكمسري) تذكرتين من تذاكر الدرجة الأولى ثم مزقهما وانصرف! وتستطيع أنت أن تعرف بالحدس ماذا فهم الكمسري وماذا قال الركاب!!
أليس هنا الخلق شذوذا في بلد لا تصبحك فيه الصحف ولا تمسيك إلا بخبر عن اختلاس ضخم، أو تزوير فاحش، أو سرقة فضيعة، أو رشوة فاضحة، أو خيانة عظمى؟(906/2)
ألم يكن موقفه المعروف من تعيين صديقه الحميم المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخا للأزهر غريبا في مألوف هذا العصر الذي أبطل الحق بالمجاملة، وعطل القانون بالمحاباة؟ لقد كان الحق أعز عليه من الصداقة، والقانون أقوى لديه من الحكومة. وفي سبيل الحق والقانون تعرض الشيخ لما يتعرض له الأحرار الأبرار من طغيان الهوى وسلطان القوة.
مثل هذا الرجل، بهذا الدين، وفي هذا الخلق، وعلى هذا العلم، جدير بأن تناط به الآمال في إنهاض الإسلام وإصلاح الأزهر؛ لأنه بفضل دينه لا يؤتى من قبل نفسه، وبفضل علمه لا يؤتى من قبل قومه، وبفضل خلقه لا يؤتى من قبل سلطانه.
تحدث الأستاذ الأكبر عن منهاجه الإصلاحي في مؤتمر صحفي عقده في دار المشيخة قال: (إن مهمة الأزهر ذات شقين: أحدهما - تعليم أبناء المسلمين دينهم ولغة كتابهم تعليما قويا مثمرا يجعلهم حملة للشريعة، وأئمة الدين والفقه، وحعاظا حراسا لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح. أما الآخر فهو القيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته وإقامة حجته ونشر دينه؛ وأنه على رعاية هذين الشقين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه).
أما السبيل إلى إصلاح خطة التعليم (فمبدأها أن يكون العلم هو الغاية، والتزود من المعرفة هو الشعار. والعلم الذي أقصده هو الذي يطبع صاحبه بطابع الفضيلة والخلق الكريم، وتظهر آثاره في الأشخاص وأعمالهم، قبل أن تظهر في كتابتهم وأقوالهم. والوسيلة إلى ذلك هي العناية بالكتاب فستؤلف لجان من جماعة كبار العلماء وأساتذة الكليات والمعاهد، والمختصين في شؤون التعليم، لمراجعة الكتب الدراسية واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره) وأما السبيل إلى تبليغ الدعوة فوجهته ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية وكتابة أبحاث في الفقه تساير الروح العلمي الحاضر، وتبرز ما في الشرع الإسلامي من مبادئ العدل والرحمة؛ ووضع مؤلفات في اللغات الأجنبية تكشف عن حقيقة الإسلام وتعرف بمزاياه؛ ثم العناية بالبحوث الإسلامية لتفقه الناس في الدين، وتوثق العلائق بين المسلمين. . .)
تلك هي المقاصد العامة لخطة الإصلاح نذكرها اليوم مجملة، لنعود إلى درسها وتحليلها(906/3)
غدا مفصلة.
أحمد حسن الزيات(906/4)
عهد جديد للأزهر
للدكتور محمد يوسف موسى
الحمد لله! ذلك ما كنا نبغي، شيخ للأزهر له فكرة واضحة ناضجة عن الإصلاح، ويقبل المنصب الثقيل التبعات لتنفيذ هذه الفكرة، ويجمع إلى الجلالة في العلم الاستقلال في الرأي، ومن ثم لنا أن ننتظر بحق من أستاذنا الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم الخير الكثير للأزهر والإسلام، مادام متمتعا - إلى ما ذكرنا - بتأييد مولانا جلالة الملك، وتقدير الحكومة وعونها.
وهذه الاتجاهات الإصلاحية التي طالعتنا بها الصحف، والتي استوحاها فضيلته من التوجيهات الملكية السامية الحكيمة يوافقه فيها الأزهريون جميعا بلا ريب، ففيها خلاصة ما يرجوه كل محب للأزهر وإصلاحه، وليس لنا ما نزيده عليها إلا بعض التفاصيل.
ذلك بأننا نستطيع أن نقول بأن رسالة الأزهر في رأينا ذات نواح خمس:
1 - ناحية دينية بالعمل على فهم الدين فهما عميقا، وتنقيته مما أضافه إليه الزمن مما ليس منه، ثم تجليته (عقيدة وتشريعا وأخلاقا) للناس جميعا في الشرق والغرب باللغة العربية واللغات الأجنبية، وهذا الواجب الذي يجب أن نضطلع به مراقبة البحوث الفنية.
2 - ناحية خلقية، بصيانة الأمة من الانحلال الخلقي، وتثبيت الخلق الصالح بالقدوة الطيبة، وهذا ما لا يكون إلا إذا أخذنا أنفسنا، ومن نلي أمورهم من الناشئة، بالمثل العليا والإقبال على المعنويات.
3 - ناحية علمية، بالعمل على نشر عيون التراث الإسلامي والإفادة منه، ومما يضاف إليه من المعارف الحديثة، في صوغ عقول النشء وتوجيههم للخير والحق والجمال في القول والعمل.
4 - والأزهر، يعد هذا، هو رباط ما بين الشعوب الإسلامية والمركز الثقافي الإسلامي الأكبر الذي يفد إليه كل عام الآلاف من البلاد الإسلامية، لذلك يكون من رسالته العمل على أن يفيد هؤلاء الوافدون إليه أكبر فائدة، حتى يكونوا متى انقلبوا إلى بلادهم رسل خير وصلاح، وسفراء لمصر والإسلام أينما وجدوا؛ وهذا لا يكون إلا بالعناية بإصلاح مراقبة البعوث الإسلامية إصلاحا جادا، وتعرف حاضر العالم الإسلامي بلدا بلدا، ليكون من(906/5)
الممكن بعد ذلك معرفة حاجة كل بلد من الثقافة الإسلامية لونا وقدرا.
5 - والأزهر، مع ذلك كله، جامعة، بل أقدم الجامعات العالمية وأمجدها تاريخا، ولكل جامعة طابعها وأهدافها وتجاربها وتطوراتها، وربما شركتنا بعض الجامعات الأخرى، في الشرق أو الغرب، في بعض ما نهدف إليه من غرض وغاية، وإن خالفتنا في الطرق والوسائل. على الأزهر إذا باعتباره جامعة عالمية أن يحرص على الاتصال الصحيح بهذه الجامعات، وإنه لواجد ولا ريب من ذلك خيرا كثيرا: تعاون في الوصول إلى هدف مشترك، وقوف على تطور بعض العلوم التي نعني بدراستها وعلى ما جد فيها من حقائق جديدة، إلى غير هذا وذاك مما نربحه من اتصالنا الحق بهذه الجامعات وهنا أيضا مجال كبير لنشاط مراقبة البحوث الفنية.
وبالإجمال، إن للأزهر رسالة يؤديها للأمة الإسلامية في مصر، وأخرى خارج مصر.
إن عليه في مصر أن يخرج للأمة جيلا من الناس يتميز بفهم الإسلام وتعاليمه الأصيلة فهما عميقا؛ كما يتميز بعدم الاحتفال بالدنيا وزينتها، وبالحق يصدع به وإن أغضب هذا أو ذاك، حتى ليستطيع الواحد منهم أن يقول كما قال سلف له من قبل: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. إن مصر في حال انحلال خلقي، وتنأى عن الدين وتعاليمه كل يوم بخطى رتيبة وليس يمكن أن تخرج من هذا الحال الأليم إلا بالأزهر حين يربي رؤساؤه ناشئته على القول الحق والعمل الطيب.
وإن على الأزهر خارج مصر، متى تم له إعداد هذا الجيل يستعين بأبنائه في الدعاية للوطن والتبشير بالإسلام ونشره في كافة أرجاء الأرض. إن أفراد هذا الجيل يكونون سفراء لمصر والإسلام ينفذون بأقوالهم وأعمالهم إلى القلوب، ويصلون إلى الأوساط التي لا يمكن للسفراء الرسميين الوصول إليها، ومن هذا يكون لهم من التأثير الحسن الحاسم ما لا يكون مثله لهؤلاء.
كلنا نعرف أن هناك في العالم المسيحي ملايين وملايين من الناس ضاقوا ذرعا بالمسيحية وأسرارها التي تعجز العقول، وصاروا لا يستطيعون التوفيق بين حضارتهم القائمة على المادة والقوة وبين وصايا المسيحية القائمة على التسامح والروحية. إنهم لهذا وذاك يلتمسون دينا آخر يسير على العقل فهمه، وفيه من المادة ومن الروحية، ويرون أن هذا(906/6)
الدين - على ما يسمعون - هو الإسلام، ولهذا يريدون أن يصلوا لفهم هذا الإسلام، ولكن يحول بينهم وبين ذلك جهلهم باللغة العربية وعدم وجود كتب سهلة التناول تعرض هذا الدين عرضا طيبا، ولقد سألني كثير من هؤلاء وأنا بباريس وحين زيارتي لألمانيا: لماذا لا يعمل الأزهر على تقريب الإسلام لهم بوضع كتاب عنه من نواحيه المختلفة، ثم يترجم هذا الكتاب لكل لغات العالم ويوزع في أقطار الأرض كلها.
وبعد، فهذا بعض ما كتبت عن رسالة الأزهر صيف هذا العام، في تقرير أرجو أن أوفق قريبا لنشره، وإن كان هذا الذي كتبت لا يخرج في جوهره عن بعض ما وفق الله تعالى إليه مولانا الأستاذ الأكبر.
والآن لا نستطيع إلا أن نضرع لله أن يؤيد مولانا الأستاذ الأكبر، هو ومن يعاونه من كبار رجال الأزهر، بروح من عنده؛ وأن يوفق الجميع لإصلاح هذا المعهد الخالد، ففي ذلك كل الخير للإسلام والمسلمين.
الدكتور محمد يوسف موسى
أستاذ بكلية أصول الدين(906/7)
الألعاب العربية
للأستاذ محمد محمود زيتون
- 2 -
ومن البداهة أن الألعاب العربية - وأن كان بعضها في الأصل فارسيا - قد أدت مهمتها في شغل أوقات الفراغ لدى صبيان العرب وصباياهم. مما يدل على أن قسوة الصحراء وخشونة العيش وعنجهية الطبع كل ذلك لم يمنع من إعطاء الحياة لونا زاهيا يشيع معه الفرح والمرح ويهدف إلى تسلية النفس وتسرية الخاطر وترفيه الروح حتى أنتجت مصانع العروبة فوارس الغارات وحماة الثغور.
ولا يخفي ما في هذه الألعاب من استجابة للغريزة البشرية عامة وللبيئة العربية خاصة، ولعل كثيرا وكثيرا جدا غير ما ذكرنا من ألعاب - كان سائدا في تلك البيئة التي نبع منها الشعر وفاضت به البحور.
والشعر ليس إلا نوعا من اللعب كان يلهو به العربي كلما ترامى بين يديه الزمان والمكان جميعا، ولعل معالي أستاذنا الدكتور طه حسين بك كان موفقا كل التوفيق إذ اعتبر (لزوميات ما لا يلزم) نوعا من اللعب الذي كان يزجى به أبو العلاء المعري وقته وهو رهين المحبسين.
ومن هنا تبرز القيمة الحضارية للألعاب العربية فلا ينبغي لها أن ينظر إلها الدارسون على أنها عاديات (أنتيكة) ولكنها في جوهر الحقيقة معالم حظارة، ومعارف حياة: فيها عرق ينبض، ودم يجري، ونسيم يرف، ورمال تسفو، وبعر يتفتت، وشباب يجد ويلعب.
وإلى جانب هذا نرى الإسلام يسجل للألعاب العربية ما تستحقه من ذكر؛ مشجعا على النافع، مبغضا في الضار، كالقمار والميسر والأزلام وغيرها.
ومقياس النفع والضرر في العرف الإسلامي لا يشذ عن روح هذا الدين المتين وهو إعلاء الغريزة البشرية كأساس للتربية الصحيحة الكاملة لكل من الفرد والجماعة.
وأقرب مثل لذلك أن النبي كان يلعب وهو صغير بعظم وضاح مع الغلمان فمر به يهودي فرأى مهارته في اللعب وميزته على رفقائه فدعاه اليهودي وتوسم فيه البراعة وقال له: لتقتلن صناديد هذه القرية.(906/8)
ومن هذا يتضح أن الكبار من العرب لم يكونوا ينظرون نظرة العابرين إلى ألعاب الصبيان وإنما كانوا - وهم أصحاب الفراسة - يتفحصون (شخصية اللاعب) أثناء اللعب حتى إذا جاء الإسلام ذهب بغريزة اللعب إلى أبعد مدى تستقيم معه كرامة الإنسان.
أشاد الإسلام بمبدأ (القوة) لأن الله تعالى (ذو قوة) وهو سبحانه (القوي) (أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
والمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه إنما هي (قوى) بل كوى تتجلى منها آيات صاحب الحول والطول حتى يعلم العبد المحدود في إمكانياته أنه (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومن هنا أكبرت بنت شعيب قوة موسى إذ قالت لأبيها (أن خير من استأجرت القوي الأمين) وناجى موسى عليه السلام ربه فقال (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) فاطمأن موسى إلى تأييد ربه إذ (قال سنشد عضدك بأخيك فنجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا، أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال أيضا كليم الله يلتمس القوة من رب القوة ليستعين به على فرعون وملئه (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري وأشركه في أمري).
وهذا محمد عليه السلام يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) وينزل عليه من السماء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ويرى عمر بن الخطاب رجلا يتنطع ويتماوت فيضربه ويقول (لا تمت علينا ديننا أماتك الله). .
وكان النبي يقول وهو يدخل مكة حاجا في العام السابع لهجرته (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) وكان يقول عند دخولها في عمرة الحديبية (أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم) وهذه هي المناورة المشروعة في الإرهاب المشروع.
سئل أعرابي: لم تسمون أبنائكم بشر الأسماء: نحو كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسن الأسماء: نحو رزق ومرزوق ورباح فقال: إنما نسمي أبنائنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا.
وهكذا عنى العرب بالقوة حتى في تسمية أبنائهم لينشئوا أقوياء الأجسام ومن هنا قال النبي الكريم (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا) وذلك بقصد ربط الخلف بالسلف برباط وثيق من الرمي كمظهر على القوة والشجاعة.(906/9)
وكان الأنصار يستقبلون النبي يوم هجرته فيقولون: يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة - وكل بني دار يدعونه إليهم معتزين بما عندهم من عدد وعدة وسلاح وخلائف ودرك.
ولم يمهل نبي الإسلام وأمام القوة والإيمان حقوق البدن فقال: (إن لبدنك عليك حقا) ذلك البدن الذي هو (بناء الله) كما سماه سرول الله إذ يقول (من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون) وكان النبي يتمنى في بدأ الدعوة أن يعز الله دين الإسلام بعمر بن الخطاب لأنه كان رجلا طوالا عراضا أوتي بسطة في الجسم. فلما اكتمل به عدد المسلمين أربعين خرجوا من مخبأ الأرقم في صفين على رأسيهما حمزة وعمر وقد انتضيا السيف وقريش تنظر مخلوعة القلب وقد أخذ الإرهاب من صناديدها ما أخذ.
ومر رجل على النبي فرأى الصحابة من جلده ونشاطه ما حداهم إلى القول: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
والمعروف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع الحدود لكل لهو مشروع؛ فقد عصم الله تعالى نبيه منذ نعومة أظفاره يوم دفعته الغريزة والصبا إلى الربوة ليستمع إلى لهو السامرين وعزف العازفين في عرس بمكة ذات ليلة فضرب الله على قلبه فنام حتى الصباح ولم يتدنس طبعه بفساد.
وكان المسلمون في عصر النبي ينتظرون عودة دحية الكلبي من تجارته وهو القسيم الوسيم فيستقبلونه بالطبول والزمور حتى لقد كانوا يتركون النبي قائما على منبره ويخرجون إلى دحية فنزلت (وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة).
وإنه لتوجيه سليم لسائر الأجيال الإسلامية ينفرد به رسول الله من بين معلمي الخير وأساتذة الإنسانية إذ يقول (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) ويقول المربي الأكبر عليه السلام (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل) كما يقول (تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة).
وحث على مواصلة تعلم الألعاب فقال (من تعلم الرمي ثم نسيه فقد عصى) وقرن تعلم(906/10)
الألعاب بتعلم القرآن إذ قال (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني؛ ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس مني) وفي رواية أخرى (فهي نعمة جحدها).
ويزيد هذا الحديث إيضاحا وتبيانا قوله الكريم (كل شييْ ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة).
وكأنما أدرك رسول الله أن الألعاب ليست وقفا على الفراغ عند العرب في أول عهدهم بالدعوة فدعا إلى مزاولتها مهما اتسع نطاق حياتهم وامتدت رقعة دعوتهم وخرجوا بفتوحاتهم من البداوة إلى الحضارة فهو يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهوا بأسهمه).
وإنه لدرس نافع من النبي المرشد إذ يقول (كل شيْ يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته).
وعلى الجملة فإن الرسول الكريم إنما يهدف إلى صقل الروح وتهذيبها والبعد بها عما يثقل الكاهل من هموم وأحزان فيقول (من كثر همه سقم بدنه) وباللعب يتفادى المرء هذا السقم.
وعندئذ يبدأ مرحلة جديدة من التربية هدفها امتلاك النفس عند الغضب، وإحكام زمامها خشية الزلل، وقيادتها نحو معالي الأمور.
فإذا كان الصرعة هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال فإن رسول الله كان أول من دعا بالفطرة الخالصة إلى تعلية الغريزة وكبح جماح النفس إذ يقول (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهذا هو الجهاد الأكبر: جهاد النفس المركبة من شتى الغرائز حتى لقد سئل النبي: ما الهجرة؟ فقال: (أن تهجر السوء) ثم سئل فأي الهجرة أفضل؟ فقال (الجهاد) قيل وما الجهاد؟ قال: (أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وقال أيضا (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ذلك بأن الجهاد منهج المؤمن في سبيل انتصار الحق وانتشار الخير وصدق رسول الله (اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
ومن أجل هذه الغاية البعيدة وذلك الهدف الرفيع كان العربي يعلم ابنه الرماية كل يوم إذ يقول:(906/11)
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وفي غزوة أحد أخذ قائد الإسلام ونبي الجهاد يستعرض الصفوف وإذا برافع بن خديج وهو غلام حدث - يشب بقدميه ليبدو طويلا فلا يحرم من الجهاد والاستشهاد فرده النبي لصغر سنه فبكى رافع، فقالوا للنبي: أنه رام، فشفعت له الرماية وأنتظم في سلك المجاهدين. ثم مر النبي القائد بسمرة بن جندب فرده أيضا لصغر سنه فقال أبوه: يا رسول الله إنه يصرع رافعا - فأمرهما النبي فتصارعا فأحسنا المصارعة فأجازهما وقاتلا أحسن القتال.
وفي هذه الغزاة كان نساء قريش يحرضن الرجال ويذمرنهم على القتال وقد اتخذن المعازف والدفوف بينما الأناشيد والأراجيز تلهب ظهور المحاربين حمية وحماسة.
وأخذ أبو دجانة سيف النبي بحقه واعتصب بالموت الأسود وأخذ يتبختر فأنكروها عليه فقال النبي (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) وجاءت إلى النبي أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأله في جهاد النساء وأغلب - الظن أنها وغيرها قد سمعت أم عمارة في دفاعها عن النبي يوم أحد - فقال النبي (انصرفي يا أسماء واعلمي أنك من النساء إن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وأتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال) من سعي وجهاد وشهود للجنائز والجماعات.
وكان النبي أعرف الناس بفوائد السفر ومنافع الرحيل فقال (سافروا تصحوا وترزقوا) وكان يسافر إلى الشام صغيرا مع عمه كما كان يتاجر وهو شاب في مال خديجة فأفاد من كل ذلك فوائد جمة. وكان رسول الله مثلا يحتذي في حياته المليئة بكل ما يدفع الإنسانية إلى الرفيع من كل أمر؛ فقد حدثت أم المؤمنين عائشة قالت (خرجت مع النبي في سفر من أسفاره فنزلنا منزلا فقال: تعالي أسابقك، فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلا فقال: تعالي حتى أسابقك فسبقني، ثم ضرب بيده بين كتفي وقال: هذه بتلك).
وكان عليه السلام يقول (إذا أعيا أحدكم فليهرول فإنه يذهب العياء) ولحكمة أسنن الله السعي بين الصفا والمروة هرولة وجعلها من مناسك الحج.
ومن هنا تبرز صفحة جديدة في الإسلام عنوانها (لهو المؤمن) ليتبين المسلم ما أحل الله له وما حرم عليه من صنوف اللهو واللعب، وفي هذا الباب يقول نبي الإسلام (خير لهو المؤمن السباحة وخير لهو المرأة المغزل).(906/12)
ومما يروى عنه عليه السلام أنه - وله من العمر ست سنوات - أقام بدار النابغة مع أمه وحاضنته أم أيمن، فلما نزل قصر بني عدي بن النجار بالمدينة نظر إلى ذلك القصر وقال: (كنت ألاعب أنيسة - جارية من الأنصار - على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائرا كان يقع عليه) ثم نظر إلى الدار وقال: (هاهنا نزلت بي أمي؛ وفي هذا الدار قبر أبي عبد الله ابن عبد المطلب؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).
وكان اليهود يختلفون عليه وهو يستحم مع الصبيان في البئر فيقول أحدهم - كما تروي أم أيمن - هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته.
وفي الحق أن رسول الله قد مارس كثيرا من ألعاب العرب منذ صباه الأول مما كان له أكبر الأثر في نشاطه الجسماني، ورقيه النفساني. وتروي عنه مرضعته حليمة السعدية وتقول (. . . ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان).
وجاء في كتاب (آداب الإسلام) لابن زمنين أن النبي خرج مع أصحابه حتى انتهوا إلى غدير فسبحوا فيه فقال (ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه وأنا أسبح إلى صاحبي) فسبحوا وسبح النبي إلى أبي بكر.
وإذن فقد أخذت الألعاب على يدي النبي طابعا خاصا فأصبح منها ما يمكن أن نطلق عليه: (السباحة الإسلامية) كمظهر من مظاهر لهو المؤمن، إذ أن روح الإسلام لا تفارق كل عمل يدعوا إليه رسول الله؛ فإذا كانت مهمته عليه السلام هي (المؤاخاة بين الناس) فإنه لم يتخلف عنها حتى في وقت السباحة.
(يتبع)
محمد محمود زيتون
(ممنوع النشر والترجمة إلا بإذن الرسالة)(906/13)
ما رأيت وما سمعت
في سورية ولبنان
- 4 -
للأستاذ حبيب الزحلاوي
لا محبذ للباحث في شؤون سياسة البلاد العربية التي قسمتها معاهدة سايكس ـ بيكو إلى مناطق نفوذ، وصيرت في تلك المناطق دويلات تنقصها أكثر المرافق الطبيعية، والخصائص الضرورية لقيام الدولة، أقول لامناص له من الإطلاع على أغراض الدول الكبرى صاحبات الأطماع الاستعمارية والأغراض المتشابكة المتضاربة، خصوصا أغراض الدولة البريطانية صاحبة النفوذ والسيطرة على هذا الشرق المبتلى بها. ولابد له أيضا من الاسترشاد بالخطط التي وضعها أقطاب الاستعمار، والاستئناس بالرأي الصحيح الذي بسطه ويبسطه ساسة العالم سواء في مؤلفاتهم أو في مذكراتهم، وهي معروضة في المكاتب وفي متناول يد الكاتب والباحث والطلعة والمتطفل، ولأن من أوائل أغراض المستعمر إيقاف السواد الأعظم من المتعلمين من أبناء البلاد على نياتهم ومقاصدهم التي هي كالبلاء النازل الذي لا مفر منه، والقضاء المحتوم الذي لا مرد له، ولأن من أوجب واجبات الكتاب ومن إليهم من قادة الفكر والساسة المحترفين إيقاف الشعب على ما يحيط به من أمور وما يدبر له من شؤون، أما سياسة إهمال الشعب وخداعه وتضليله وتخدير أعصابه فهي سياسة ضارة بليغة الضرر، سيئة العواقب. وإن من أوائل ما يجب معرفته الآن، الآن فقط هو ما يأتي.
1 - أن الخطة التي رسمتها أطماع الإنجليز، بعد إجلائهم الفرنسيين عن سورية ولبنان، والتي صيرت سورية ولبنان والعراق وشرق الأردن ودولة إسرائيل في أوضاعها الحالية، لم يبق على تنفيذها لتكون تامة كاملة سوى اعتراف الدول رسميا بدولة إسرائيل.
2 - أن الخطة الجديدة التي يضطلع بتنفيذها الجنرال كلايتون، مازالت في دور المناورات، وستبقى تدور في محيط المحاولات حتى تزول الحوائل العسيرة التي تحول دون تنفيذها فورا.(906/14)
3 - أن تلك الحوائل ليست سهلة كما يتوهم الناس استنادا إلى الصداقة الإنجليزية الأميريكية، بل هي صعبة عسيرة بالنسبة لهذه الصداقة الأميركية الإنجليزية، وأن عسرها، ويسرها موقوف على قرب أو بعد الحرب المقبلة، المقبلة حتما.
4 - أن الحوائل سواء أكانت يسيرة أو عسيرة ستذلل قبل وقوع الحرب المقبلة، أما إذا رضا الشعب السوري أن يتغاضى عن الأميركان، وألا يلتفت إلى ألاعيبهم، وأن يسير مع الإنجليز مدفوعا مع عواطفه، وأن تتحد كلمة رجالاته وهيئاته على مد يدهم إلى العراق وإلى شرق الأردن ضاربا بالفوارق الأساسية والنظم القويمة لبناء الدولة، فعندها فقط تكون (سوريا الكبرى) لا جمهورية سورية ولا عراقية، بل ذيلا للمملكة العربية الهاشمية التي ربطت مصيرها بدولاب عربة الإمبراطورية البريطانية.
هذه هي الخطوة الاستعمارية الإنجليزية الجديدة التي سميتها تجوزا خطة الجنرال كلايتون.
إذن هناك حوائل تحول دون ربط العراق والأردن بسورية فما هي تلك الحوائل؟
- لست أدري كيف أسمي تلك الحوائل أو العراقيل الأمير كية ولا كيف أنعتها، لأنها أقرب إلى ألاعيب الصبية منها إلى المناورات الدبلوماتية.
يقول الأمريكان جهرا أنهم أبناء الإمبراطورية البريطانية البكر، وورثتها الشرعيون، وأن مصلحتهم التي قضت بوضع يدهم على بلاد اليونان والأتراك من جانب وعلى دولة إسرائيل والمملكة السعودية من الجانب الآخر تقضي أن تمتد إلى لبنان ليتم الاتصال من الجانبين. ويقولون ويجهرون بعدم رضاهم عن اتحاد عراقي سوري أردني يعرض وضعهم الساحلي للخطر، ولهذا تراهم يعملون على إحباط خطة سورية الكبرى عملا يماثل مساعي التي يبذلها الجنرال كلايتون وأعوانه على القد والمثل، يسخرون رجالا كرجاله من سوريا ولبنان والعراق منهم المسلم السني والشيعي والمسيحي الموراني والكاثوليكي والأرثوذكسي، والدر زي واليهودي أيضا.
هذا هو الواقع الذي رأيته ولمسته وسمعته، ولكني برغم ذلك أعتقد أن الأميركان لا يعملون أي عمل سياسي أو غير سياسي بغير حلفائهم الإنجليز، وكذلك لا يعمل الإنجليز عملا انفراديا بدون حلفائهم الأميركان. وأكبر ظني أن تلك الألاعيب أن هي إلا ضحك من السوريين، وأن الغرض منها أبعد كثيرا من غاية الضحك نفسها، وقد ألمس الحقيقة أو أدنو(906/15)
منها إذا قلت أن الغرض الحقيقي هو إظهار العرب بمظهر غير الكفؤ لإدراك معاني الحياة الديمقراطية، وتقدير المسئولية الاجتماعية، وجهل السياسة إطلاقا.
سميت حوائل الأميركان ألاعيب صبيان، ويحسن أن أسميها ألاعيب أميريكانية على الطريقة الأميريكية وإلى القارئ مثلا أورده للتسلية والترفيه.
للبنانيين والسوريين جاليات موزعة في جميع أنحاء العالم هاجرت منذ زمن بعيد، واستقر بأكثرها النوى في أمريكا بلاد الاجتهاد والمغامرات والكسب، وقد صار لها فيها نشاط اقتصادي ملحوظ، ومكانة في التجارة محترمة، وسمعة في الأخلاق طيبة. ولكن هاتيك الجاليات، وعددها في ولايات أميركا المتحدة وغير المتحدة أكثر من عدد سكان لبنان، برغم البعاد البعيد، والمسافات الشاسعة الفاصلة، تحن دائما أبدا إلى الوطن وساكنيه، لا تألو جهدا في إمدادهم بالمال المعونة، كلما دعاها داع وطني أو قومي، أو استنجد بها مستنجد، حاكم أو هيئة أو راع ديني.
من هذه الجاليات، ولأول مرة في تأريخ الهجرة، قيل لنا بلسان الصحافة اللبنانية في الوطن والهجرة أن جمعيات لبنانية سورية، عددها حوالي الأربعين عقد رؤساؤها الأفاضل، مؤتمرا عاما في نيويورك أطلقوا عليه اسم (الأحلاف السورية اللبنانية لولايات أميركا الشرقية) قرروا فيه دعوة إخوانهم الأعضاء لزيارة الوطن والأهل.
لبى الدعوة نحو من ألف سيد وسيدة منهم الثري واسع الثراء، ومنهم المتوسط الحال، وأكثرهم من المتقاعدين عن العمل، وفيهم الصبي اليافع والفتاة الناضجة.
رحبت الحكومتان اللبنانية والسورية بالفكرة وتبنتاها، واتفقنا على تسمية هذا الحجيج الأول (بمؤتمر المغتربين) ونظمتا برنامجا للاحتفال بالمغتربين أضياف الحكومتين وقد رصدتا لهم مبلغا من المال وفرا ينفق بسخاء على إخواننا وأبنائنا (العائدين برؤوس أموالهم الضخمة يستثمرونها في بناء المصانع والمعامل وأحياء أرض الوطن).
لبيت أنا الدعوة، فلمست الذوق اللبناني الرفيع يتجلى في الدعوة التي أقامها لبنان في (عالية)؛ وتذوقت السخاء العربي والأنس البهيج في الحفلة التي أقامتها سورية في متحف آل العظم بدمشق، ورافقت المغتربين وحضرت أكثر الاحتفالات والاجتماعات والدعوات والزيارات المدبرة، وسعدت بلقاء إخوان وأصدقاء ومعارف لم يكن يخطر ببالي أن سألقاهم(906/16)
بعد أن فرقت بيننا سبل العيش، وانتبهت إلى سماع ردود المغتربين على أسئلتي ودونتها على مذكراتي، ووعيت أقوال الخطباء من أركان الحكومتين السورية واللبنانية، وتيقظ ذهني لكل كلمة وردت في خطاب رئيس المغتربين، وعنيت بعض العناية بما نشرته أكثر الصحف. ولما عدت إلى نفسي وذاكرتي، وقفت حيران لا أدري كيف تكون المقارنة بين أقوال الداعين والمدعوين، ولا كيف السبيل إلى التوفيق والتوحيد بين من يريني السهى فأريه القمر!
لقد رحب لبنان رسميا (بالمغتربن العائدين بأموالهم يستثمرونها في إحياء أرض الوطن) ورحبت سوريا بأبنائها (الذين غادروا البلاد عندما كانت تحت وطأة الحكم الأجنبي. . . ولم ينسوا أهلهم أيام محنتهم وجهادهم للاستقلال. . بل أمدوهم وأعانوهم وشاركوهم بالألم والأمل) وهي تعترف لهم بلسان رئيس الوزراء (بنصيبهم من أسباب الحياة القومية المتقدمة) ويدعوهم (مع المحافظة على ولائهم لأوطانهم الجديدة، إلى أن يبقوا صلتهم بالوطن قوية فعالة للخير المشترك والمصلحة الشاملة. . . لتكون مؤدية لما تنشدون وننشد من دعم نهضة وتوطيد محبة وأخوة).
أما الخطاب الذي ألقاه رئيس مؤتمر المغتربين في الجامعة السورية بحضور رئيس الجمهورية ووزراء من سورية ولبنان، وعدد من أعضاء الجمعية التأسيسية ومن هيئات تمثل جميع الطوائف والأعيان وسفراء الدول كان خطابا جامعا لتاريخ الهجرة، وجهاد المهاجرين، وما عملوا وما أفادوا وكيف تطوروا فصاروا شركاء مع الأمريكان في الحياة الديمقراطية، وتعريفها (أنها في جوهرها طريقة في الحياة أساسها الإيمان الوثيق بقيمة الفرد وكرامته) ثم أخذ يشيد يتقدم سورية العظيم في نهضتها الاقتصادية والعمرانية وأنها (موضع فخرنا وثقتنا بإخلاص الشعب السوري لقضية بلاده) وقال:
(كلنا يعلم أن في الاتحاد قوة. . . ونحن متأكدون أن شعبي سورية ولبنان وزعماءهما سينهجون سياسة تعاون مستمر بين البلدين. . . لأن سلامة أي منهما متعلق بالآخر).
أنتقل الخطيب إلى موضوع أخر وهو ما ألفت نظر القارئ إليه قال ما نصه:
(ومنذ أمد وجيز تألف اتحاد إقليمي يضم سائر الأحلاف في الولايات الأمريكية. . ولي وطيد الأمل أن تكون اجتماعاتنا هذه في سورية ولبنان بما تضمه من مندوبين عن(906/17)
المهاجرين في مختلف أرجاء العالم، (خطوة تمهيدية لتشكيل منظمة دولية لكافة المغتربين). . (ومؤتمرنا المنعقد في سورية ولبنان قد أتاح لنا فرصة نادرة لتوطيد العلاقات الوثيقة بين الأمم، وخاصة بين الولايات المتحدة وسورية ولبنان). . (والمهم في الأمر هو أن نكون بعملنا هذا، أداة فعالة في وضع الأسس لمشاريع أخرى في المستقبل تساعد على نشر التفاهم وحسن النية مع شعوب العالم).
تلفت حولي أسأل نفسي عن المراد بتشكيل منظمة دولية لكافة المغتربين وما الغرض منها؟ وعن سنوح الفرصة النادرة لتوطيد العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية ولبنان، وكيف تتطور العلاقات بينهما وبين الولايات المتحدة وهي تناصر اليهود وتشد أزرهم على عرب فلسطين الذين نزعت بلادهم منهم وطردوا منها؟ وعن كيف تكون جمعيات المهاجرين أداة فعالة في وضع الأسس لمشاريع تساعد على نشر التفاهم وحسن النية بين شعوب العالم، وأي عالم هذا الذي ليس بينه وبين سورية ولبنان تفاهم وحسن نية غير دولة إسرائيل ربيبة ترومان وشعب العم سام؟
وددت لو أستعين بمن تمرنوا على قراءة ما بين السطور أو ألفوا التعابير المرنة والصياغات المتنوعة للمعنى الواحد، ولقد كنت استعنت بسواي من غير تردد لو أن حكومة أمريكا هي القائلة هذا القول بلسان وأحد من رجالها، ولكني تذكرت قول الصديق الكريم أحمد رمزي بك في رجال يرددون ما يلقنون تلقينا، وليس ببعيد أن يكون هؤلاء من أولئك.
يممت زحلة موطن أجدادي للاستجمام والراحة، وإذا بي أتلقى ساعة وصولي دعوة من شخصية رسمية لبنانية كريمة إلى حضور مؤتمر لبناني يضم جميع رؤساء الجمعيات التي كونت مؤتمر المغتربين لم أستغرب الدعوة بل استغربت اجتماع هؤلاء الرؤساء في مدينة زحلة وبرنامج الاحتفالات في سورية لم يتم بعد!
لبيت الدعوة ونفسي تحدثني بوقوع مفاجئة مسرحية تحل عقدة الرواية.
سمعت خطبا عدة كلها إشادة بالعبقرية اللبنانية وسمعت رئيس المؤتمر يشرح لرؤساء الجمعيات معاني الجمل التي وردت في خطابه وكيفية تفسيرها، ورأيت الأستاذ سعيد عقل الشاعر المعروف بألمعيته وجرأته، يقف فيرتجل خطابا حمل فيه حملة شعواء على أولئك(906/18)
الذين يلعبون بعبقريات الرجال لعب القط بالفار، وعلى دولة إسرائيل التي لا حد لأطماعها وتوسع دولتها وعلى الدولة العاتية التي تريد أن تغرر بنا باسم النصرانية والإسلام وهي لا تحترم العرب ولا تقدر نهضة الشرق ويقول، أن كتابا قد أتم تأليفه سينشره قريبا، وعندها يعلم الأمريكان أي أثم يجترحونه في إضعافهم العرب وتقوية اليهود، وأي جريمة اقترفوها في فلسطين.
لقد وجم الحاضرون وسكتوا احتراما لمكانة الخطيب الشاعر ابن زحلة المحبوب.
لا داعي إلى ذكر ما حدث بعيد خطاب الأستاذ عقل وارفضاض المؤتمر، وما أوردت هذه الخلاصة المقتضبة إلا لأظهر العقلية الأمريكية الطفلة كيف تلعب بعقليات وعبقريات الرجال الطفلة أيضا على طريقتها الأمريكية، وهي تلعب في سورية كما تلعب في لبنان وبالمهاجرين أيضا.
حبيب الزحلاوي(906/19)
رسالة الشعر
يا أحباي!
إلى الأستاذ المعداوي
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا أحباي عذبتني رغابي ... وسقاني الحرمان كأس عذاب
أنا حران والرحيق المصفى ... بيد أفلحت بسكب شرابي
وترى أخرس وكأسي ظمأى ... فكأني شوك بقفر يباب
وصباحي شبيه ليلي داج ... - كجناح الغداف - أغبر كاب
كلما لألأت بروق الدياحى ... قطبت بسمة الأماني العذاب
المسرات هَّجد وهمومي ... حَّشد، رتَّع بزهو شبابي
والأسى حارس على الدرب يخشى ... أن تمر الأفراح مراً ببابي
أنا والهم توأمان، بكفي ... صاح شوك، وفي فمي كأس صاب
ضاع يومي ضياع أمي ويحي ... وغداً. . يومض الفؤاد ارتيابي
فحياتي وهم. لقد ضاع عمري ... يا أحباي، فاتزعوا أكوابي
صدمتني الحياة بالواقع المر وألوت بمنيتي للتراب
لا تلمني إذا تأوه شعري ... إن شعري يروي مرير اكتئابي
أنت أججت خافيات شجوني ... فاستمع، (أنور) نواح الشباب
في غد نلتقي فلا تأس أني ... حافظ للود، ذاكر لصحابي
أنا في وحدتي سميري شعري ... - لا أبالي - وخير صحبي كتابي
خلق الناس من تراب مهين ... وخلقنا من السنا الخلاب
أنا بالأمس قد طلبت المعالي ... وأنا اليوم قانع بالسراب
كلما شمت في سمائي سعداً ... عاد نحسا. . يا للحظوظ الكوابي
فاقصر اللوم - في فمي أنا ماء - ... كيف أحتال كي أبثك ما بي
(بغداد)(906/20)
عبد القادر رشيد الناصري(906/21)
قصة قلب. .
للآنسة هجران شوقي
(ليست قصة قلب بعينه، ولكنها قصة القلوب جميعا تتحمل عن أصحابها فجاءة، وتعود إليهم فجاءة، ولكنها تعود من رحلتها مجرحة مهشمة، تحب وتخفق في حبها، ثم تعيش بذكرى هذا الحب، وتتغذى به طول حياتها، لا تصحب أملا أو لا تملك رجاء وإنما تصحب الألم وتملك العذاب. .)
(هجران شوقي)
جلست أمني النفس بالقمر البدر ... وقد سال فضياً على صفحة النهر
فأشرقت الدنيا بأنواره رؤى ... ورفت رفيف الثغر يهتف بالشعر
يردده لحناً فتحسبه صدى ... لأحلى نجاوى القلب في سالف الدهر
ألوف من الأحلام قد حاكها الهوى ... وألبسها أبهى المطارف والأزر
ووشحها بالشجو والحب والمنى ... وضمخها بالنور والعطر والسحر
قرأت بها ماضي فأهتز خافق ... وأفلت من صدري وطار بلا حذر
. . . إلى أين يا قلبي؟! أتهجر مضجعاً ... أراحك في حلو الحياة وفي المر
إلى أين يا ابن الحب والشعر والأسى ... أتطمع في صدي وترغب في هجري
وقد كنت لي اللحن الذي ذاب رقة ... وكنت لك المثوى البريء من الغدر
وسحت دموع من جفوني غزيرة ... كأن بدمعي بعض ما جاش في فكري
فقال ابن جنبى: إنني اليوم مزمع ... إلى حيث أدري من زماعي ولا أدري
فما الحب أن نختار أو نملك الرضا ... ولكنه ألا نقر على أمر
وأن نطوي الأيام شوقا ولوعة ... وتطوينا الأيام قهراً على قهر
وأقفر صدري لا ربيع ولا شذا ... ولا جدول يجري ولا نغم يسري
سوى أنة مكلومة ملؤها الجوى ... تردد ما بين الترائب والنحر
ومرت ليال لست أملك عدها ... ولكنها أشقى ليالي من عمري
وكان مساء لا يفيق كآبة ... رأيت به قلبي يعود إلى صدري
وجيعا تحاماه الأساة مجرحا ... كأن به عيناً على حبه تجري(906/22)
دمشق
هجران شوقي(906/23)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بين أزمة الكتب وأزمة القراء:
(لست أدري لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي اسمه؟)
بهذا السؤال المشرئب إلى جوابه بدأت تعقيبك اللبق على دفاع قارئ صديق عن القراء. ثم تفضلت فأبديت رأيك في الدفاع (شكلا) وفي القارئ (موضوعا). فما كان أكرم شعورك وأحسن ضنك إذ تقول (لقد دافعت دفاعا حارا عن القراء، لأنك قارئ مثالي ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . . ألا ليت القراء كانوا في مثل شغفك في القراءة وولعك بالإطلاع ووفائك للأدب. .) وحيال هذه العبارة النبيلة يجمل بي أن أنيخ مطية الوقوف بعض الوقت. . . لأسوق إلى رحابك هوادي الشكر أطلق في جوائك طيوب الثناء؛ ولأن جنين الإجابة على سؤالك السالف إنما يكمن في أحشاء هذه العبارة النبيلة؛ وبالأصح في نقيض هذه العبارة النبيلة. اجل يا سيدي؛ فلو عرفت أن حرارة إحساسي بعدالة قضيتنا نحن القراء كانت أشد تلهبا في أعماقي وأقوى اشتعالا في مسارب ذاتي من شعوري بحرارة الدفاع نفسه، لأدركت لماذا آثر هذا القارئ الصديق أن يخفي اسمه. أما أنت فقد كنت تنظر إلى المسألة من الزاوية الأخرى. . كنت تراها قضية خاسرة أحسنت الدفاع عنها، فلا غرو أن تشيد بالدفاع، وأن أيدت الحكم، وأن تطري المدافع، وإن أدنت المتهم.
ربما كنت قارئا مجدا، بل ربما كنت أكثر من قارئ في بعض الأحايين، ربما كنت ذلك القارئ الذي يقتات من ثمرات السماء - أعني ثمرات الفكر - أكثر مما يقتات من ثمرات الأرض، ويتناول من وجبات المطالعة والتثقيف أكثر مما يتناول من وجبات الطعام والشراب. ربما كان هذا واقعا من الواقع وحقيقة من الحقائق، إلا أن هنالك واقعا آخر وحقيقة أخرى يجريان في ظني مجرى العقيدة الواغلة واليقين المتغلغل؛ هنالك آلاف غيري من القراء المثاليين ممن يتضاءل بجانب شغفهم بالقراءة شغفي، وولعهم بالإطلاع ولعي، ووفائهم للأدب وفائي. لشد ما يحز في نفسي ويدهشني إذن أن تقول (. . وحتى الأسواق الخارجية التي كنا نعتمد عليها في الترويج للكتاب المصري - وأعني بها أسواق سوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن وفلسطين والحجاز - قد أغلقتها في وجوهنا وزارة(906/24)
المالية المصرية) كأنما خلت الكنانة من رواد القراءة وطلاب المعرفة، ونضبت الأذواق في المشاعر وجفت الأرواج في القلوب. إن من طائفة المعلمين خاصة ولا أقول المتعلمين عامة، إن فيها آلافا وآلافا من أبناء هذه الطائفة وحدها. أي هم لهؤلاء - ولو بحكم الصنعة كما يقولون - غير التهافت على ثمرات العقول وتلقف ما تقذف به أحشاء المطابع؟ أم أنهم لا يطالعون غير الكتب المدرسية وحدها ولا يعيشون إلا بها ولها؟ أنا لا أصدق، أو لعلي لا أحب أن أصدق هذا، وإن ترامى إلي من أحد أبناء هذه الطائفة الكريمة نفسها. فلعله أن يكون واحدا مثاليا ينظر إلى غيره على أنه نسخة صادقة منه. . . مثاليا في طموحه القاصر وقصوره المعيب ولا قياس للشواذ ولا حكم للنادر.
يخيل لي يا سيدي العزيز، بل أعتقد، أن التسمية الصحيحة لأزمتنا هذه إنما ينبغي أن تكون (أزمة الكتب) لا (أزمة القراء) فالكتب هي التي تعاني أزمة الكساد ومحنة الركود ما في ذلك ريب. أما القراء - قراء الكتاب وغير الكتاب - فلا يزالون على وفرة في العدد وشغف بالقراءة وولع بالإطلاع ووفاء للأدب. وأعني بالكساد هنا - كي أبعد عن قولي شبح التناقض - ذلك الكساد المادي على وجه التخصيص. ولن يكون القارئ بحال هو المسئول الوحيد عن هذا الكساد. فالكتاب أنفسهم مسئولون عنه متلبسون به متسببون فيه. فلقد أوشكوا - لأمر ما - لا يدعون للقارئ فسحة من الوقت يلقاهم فيها على صفحات كتاب. . . لكثرة ما يزحمون من وقته ويشغلون من زمنه بالمقال العابر والرأي الطائر على صفحات الورق السيار.
ودور الكتب الحكومية وفروعها من المسئولين - فيما يخيل لي - عن أزمة الكتاب أيضا. فأنا أعرف عشرات من القراء لا ينفقون مليما واحدا في شراء كتاب رغم شغفهم بالقراءة وولعهم بالإطلاع ووفائهم للأدب، لأنهم يجدون في هذه الدور بالمجان ما يكفيهم مؤونة الشراء ومشقة البذل، ولا معتب على القارئ ولا ملام إن هو لجأ إلى تلك الطريق كي يوفر لنفسه ثمن القميص الحريري الهفهاف والرباط العنقي الثمين فليس من السهل - كما هو الحال في الكتاب - أن يستعير هذا القميص أو ذاك الرباط (استعارة داخلية أو خارجية) ولقد غدت هذه الأشياء المظهرية إحدى، أن لم تكن أولى - ضرورات الحياة في هذا العصر. . . العصر الأمريكي. . . أو عصر الدنيا الجديدة، إن صحت هذه التعابير. سيدي(906/25)
لست أعني أن تغلق دور الكتب أبوابها - أستغفر العقل - ولكنني أرى ألا تتيح للقارئ الإطلاع على أي كتاب حديث الطبع قبل أن يمضي عام أو أكثر على عرضه في الأسواق.
ودور النشر العامة، أو لعلها المكتبات التجارية خاصة، مسئولة بدورها عن هذه الأزمة ذهبت مرة لشراء بعض الكتب من إحدى تلك المكتبات المنبثة بين الأعمدة القائمة على إفريز شارع محمد علي بالقاهرة، وما أن تعارفنا - صاحب المكتبة وأنا حتى أشعرني إشفاقه علي (ماليتي الضائعة) في شراء الكتب، وأردف هذا بفكرة سعيدة موفقة يضرب لي فيها عصفورين بحجر أن يعيرني ما أرغب بمطالعته أو نسخه من الكتب لقاء قروش معدودات. وبهذا - على حد قولي - يمكنني أن أطالع ستة كتب مختلفة بثمن كتاب وأحد. ومعنى هذا أيضا، معناه الآخر، أن نعمل عل كساد ستة كتب مختلفة كسادا ماديا بالغ الأثر قوي الوضوح.
أفلا توافقني أنت إذن على أنها أزمة الكتب وليست أزمة القراء، وأن التبعة ينبغي ألا تلقى على كاهل القارئ وحده وألا يتحمل فيها قسوة الحكم بمفرده. ولا أقل من أن نوجد له شركاء في (التهمة) حتى تخف العقوبة عليه حين تتوزع عليهم.
وبعد. . فكم أود يا سيدي أن تنتهي إلى لقاء في الرأي على قارعة هذه المسألة. . . يفضي إلى لقاء آخر قريب على صفحات كتبك. كم أود أن أقول لك: ليس من الخير، ولو بالنسبة إلى أصدقائك العديدين في مختلف أقطار العروبة، أن ترجئ طبع ما لديك من كتب، حتى يكون للأدباء نقابة أو لا يكون. ليس من الخير أن تعيش حياتك كلها في عالم الواقع حتى لا تفقد عالم الخيال! وما أجمل الخيال، ما أجمله من عالم! ليس من الخير أن تشكوا من قراء الكتب، كتبك أنت بالذات. ليس من الخير أن تشقق من لقائهم في مقبل الأيام، فإنهم - كما قلت لك في رسالتي الأولى - على استعداد تام، وبرهانهم فوق أيديهم، أن يشتروا منك كل كتبك منذ الآن. قبل طبعها. فهلا أعنتهم على تحقيق بغيتهم واستجابة طلبتهم؟
كلما أرسلت النظر إلى رفوف المكتبة العربية، حيث تشع منها هذه الأسماء اللوامع: طه حسين، العقاد، هيكل، أحمد أمين، الزيات، الحكيم، تيمور؛ طالعني فيها رف شاغر يومئ إليك ويهيب بك أن تسد رمقه وتروي ظمأه وتملأ فراغه.(906/26)
وسلاما لك، ممن يشرفه أن تعرف اسمه وتحية ومحبة:
من القارئ
(طهطا)
عبد الرحيم عثمان صارو
مرة أخرى أشكر للأستاذ الفاضل ثناءه ووفاءه، وأقول له إنني حين أشرت إلى اسمه في العدد الماضي (من الرسالة)، لم أكن قد تلقيت بعد رسالته الثانية. . ومن هنا كانت الإشارة في صيغة السؤال المترجح بين الشك واليقين في انتظار الجواب. أما وقد ثبت أن القارئ الصديق هو الشاعر الرقيق، فلا حرج بعد الآن إذا ما وجهت إليه الحديث نقاشا وتحية!
ماذا أقول للأستاذ عبد الرحيم وهو يدافع عن القراء بقلبه وقلمه؟ ثق يا أخي أنني أنقل فيما أكتب عن الواقع، وأتهم وبين يدي الدليل، وأحكم ونصب عيني شهود الإثبات. . فالواقع الذي لا مريه فيه أن الكتب في مصر مكدسة لا تجد القارئ، والدليل لذي لا نقض له أن المكتبات خاوية لا ترى الزائر، وأن شهود الإثبات على صدق هذا القول أحياء يرزقون! هل يتفضل الأستاذ الشاعر فيزورني يوما في القاهرة لأطلعه على كل عجيب وغريب؟ سأمضي به أولا إلى جامعة فؤاد الأول؛ تلك الجامعة التي تعد مركز الفكر وموئل الثقافة ومناط الأمل، في تخريج جيل يدرك أثر القراءة في بعث العقول وشحذ المواهب وصقل الآفاق والأذواق. سأمضي به إلى هناك، وعليه أن يختبر الأيدي التي تحمل الكتب والأذهان التي تختزن العلم، والمثل العليا التي تتطلع إلى لقاء الحياة. سيجد الأيدي خالية إلا من الكتب المقررة، والأذهان فارغة إلا من بقايا المحاضرات، والمثل العليا الفكرية تروح وتغدو حول سهرة المساء! إن كل همهم هو أن ينظروا في هذه الكتب وحدها لينجحوا في الامتحان، وأن ينجحوا في الامتحان ليظفروا بالوظيفة، وأن يظفروا بالوظيفة لينعموا بهدوء الفكر وراحة البال!
أين نبحث عن القارئ المثالي، قارئ الكتاب النفيس، إذا لم نبحث عنه بين جدران الجامعة؟ هل نبحث عنه في الطرقات أم نلتمسه هناك بين الجالسين في القهوات؟ إن عابر الطريق في مصر وقد يكون من خريجي الجامعة - يمر وهو في طريقه بمكتبة على(906/27)
اليمين وأخرى على اليسار، فلا يكلف قدميه مشقة الوقوف ولا عينيه عناء النظر، إلى تلك العيون الرانية إليه من وراء الزجاج. . عيون الأدب الخالد والفن الجميل! وإن (زبون) القهوة في مصر - وقد يكون هو أيضا من خريجي الجامعة - يمر عليه بائع الكتب وهو جالس في مكانه، فيفضل عصير الليمون على عصير الذهن، وتصفح الوجوه على تصفح الأفكار، وصحبة (الدومينو) و (الشيشة) على صحبة العقاد وتوفيق الحكيم!!
هذا هو حال القارئ في. . فهل يدهش الأستاذ الشاعر إذا قلت له إننا نعتمد في الترويج للكتاب المصري على البلاد العربية؟ أؤكد له أنها حقيقة لا تقبل الجدل، وأنني لا أحس شيئا من الحرج وأنا أعلنها سافرة بغير قناع! إن الكتاب المصري الذي يطبع منه الناشر عددا من الألوف، يخصص منه الجزء الأكبر لأسواق سورية ولبنان والعراق وغيرها من أقطار العروبة، وتخصص البقية الباقية لمصر حيث يوجد الأستاذ الفاضل وغيره من القراء المثاليين!
وأعود إلى الجانب الآخر من جوانب المشكلة لأقول للأستاذ عبد الرحيم، بالله لا تذكر طوائف المعلمين في مثل هذا المجال. . لو كان المعلم المصري يقرأ لأصبح الطالب المصري صورة أمينة لأستاذه. هل تصدق أن معلما له حظ من الشغف بالقراءة والولع بالإطلاع والوفاء للأدب، ثم لا يعكس أصداء نفسه وأضواء حسه على أفكار طلابه؟ لو عثرت على الطالب الذي يقصر زاده على ثمرات الفكر ومتاعه على نفحات العلم وصحبته على صفحات الكتب، فاعلم أن من وراءه الأستاذ الذي قبس له من فكره وأفاض عليه من علمه وفتح لقلبه وعينيه منافذ الضياء! ولكن أين هذا الطالب؟. . ابحث يا صديقي عن النتائج في ضوء المقدمات!
بعد هذا يريد الأستاذ عبد الرحيم أن يثبت أن الأزمة متعلقة بالكتب وليست متعلقة بالقراء، لأن قارئ الكتاب موجود لاشك في وجوده، وبخاصة في دور الكتب العامة حيث يجد هناك ما يكفيه مشقة البذل ومؤونة الشراء. . إن ردي عليه هو أن أسأله: كم عدد المترددين على أماكن القراءة والإطلاع وكم عدد المترددين على أماكن اللهو والمتاع؟ إن شيئا من المقارنة لكفيل بأن يضع أيدينا على هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن عدد الوافدين إلى دور الكتب إذا ما قيس بعدد المتسكعين في الطرقات، لأسقطناه في معرض النسبة المئوية من كل حساب.(906/28)
ثم بماذا نخرج من هذا الدليل الذي يسوقه إلينا ليثبت لنا أن قارئ الكتاب موجود؛ قارئ الكتاب بلا مقابل؟ أفي هذا ما يشجعنا نحن الأدباء على أن ندفع إلى المطبعة بما لدينا من ثمرات العقول؟ سمها إن شئت أزمة كتب، ثم أرجعها على التحقيق إلى أزمة القراء، فما أكثر ما يعج به هذا البلد من أزمات!
ثم هذا الاقتراح الذي يعرضه الأستاذ الشاعر ليحل به الأزمة ويفض المشكلة ويحسم النزاع، وهو ألا تقدم دور الكتب العامة لروادها أي كتاب جديد قبل مضي عام أو أكثر على عرضه في الأسواق. . إن دور الكتب يا صديقي تزخر بها مدينة مثل باريس حيث يقصد إليها الألوف من كل مكان، ومع ذلك فإن تلك الدور لم تقلل من عدد المقبلين على اقتناء الكتب الأدبية، وحسبك أن بعض كتب (سارتر) قد طبع ثلاثا وتسعين مرة!! أريد أن أقول للأستاذ الفاضل إن الذين يريدون أن يقرءوا لا يحول بينهم وبين القراءة حائل. . وإن القارئ الحق هو الذي لا يكتفي بقراءة الكتاب منقولا من أحد الرفوف أو مستعارا من أحد الأصدقاء، ولكنه الذي يبذل من وقته ليستوعبه وينفق من ماله ليقتنيه، حتى يصبح ولديه مكتبة يرجع إليها من حين إلى حين، ليجد في ضيافتها المثلى غذاء العقل والقلب والروح!
وليس من شك في أنني لا ألقي التبعة كلها على القراء، لأن هناك بعض العناصر المسئولة عن هذه الأزمة التي استفحل أمرها وعظم خطرها واستعصت على كثير من الحلول. . ولقد عرضت لهذه العناصر منذ عام مضى على صفحات الرسالة ولا أحب أن أعود إليها من جديد، ولكن الذي يهمني أن أعود إليه هو قول الأستاذ عبد الرحيم بأن الكتاب يحملون شيئا من هذه التبعة، لأنهم يصرفون القراء عن قراءة الكتب بكثرة ما يشغلون من وقتهم بالمقال العابر والرأي الطائر. . يا أخي أن المكتبات عامرة بكتب الشرق والعرب يدفع بها إليها الكتاب من هنا وهناك، ولكن القراء - كما قلت لك من قبل - هم الذين (يربحهم) أن ينفقوا عشر دقائق من وقتهم في قراءة مقال، وقرشين من مالهم ثمنا لمجلة تحمل إليهم هذا المقال. ثم يضيقون كل الضيق بصحبة كتاب نفيس، لأنهم يضنون عليه بالوقت الذي لن يتعدى الساعتين وبالقروش التي لن تزيد على العشرين. . إن أعصاب الأدباء بخير يا صديقي العزيز، ولكن المسئول هو أعصاب القراء!!
أما ذلك الرف الشاغر الذي يومئ إلى من رفوف المكتبة العربية كما تقول، فليس هنالك بد(906/29)
من ملئه في يوم من الأيام. كل ما أرجوه هو أن يكون الغد القريب لا الغد البعيد هو موعدي معك ومع غيرك من الأصدقاء. . وأحبب به من لقاء!
مباراة شعرية وأخرى نقدية:
مباراة شعرية جرت بين الشعراء: شاهين وميشال معلوف وفوزي وشفيق معلوف، في دار شقيق الأولين وخال الآخرين، بمناسبة سقوط فنجان قهوة من يد قرينته إيزابيل معلوف ربة الدار، فجعلت للفائز الأول جائزة ثمينة وهي ساعة ذهبية. . وفيما يلي أبيات الشعراء الأربعة التي تقدموا بها إلى المباراة).
قال شاهين:
ثمل الفنجان لماَ لامست ... شفتاه شفتيها واستعر
وتلظت من لظاه يدها ... وهو لو يدري بما يجني اعتذر
وضعته عند ذا من كفها ... يتلوى قلقا أنى استقر
وارتمى من وجده مستعطفا ... قدميها وهو يبكي فانكسر!
وقال ميشال:
عاش يهواها ولكن ... في هواه يتكتم
كلما أدنته منها ... لاصق الثغر وتمتم
دأبه التقبيل لا ينفك حتى يتحطم!
وقال شفيق:
إن هوى الفنجان لا تعجب وقد ... طفر الحزن على مبسمها
كل جزء طار من فنجانها ... كان ذكرى قبلة من فمها
ونظر فوزي المعلوف إلى الفنجان فإذا هو لم ينكسر فقال:
ما هوى الفنجان مختارا فلو ... خيروه لم يفارق شفتيها
هي ألقته وذا حظ الذي ... يعتدي يوما بتقبيل عليها
لا ولا حطمه اليأس فها ... هو يبكي شاكيا منها إليها
والذي أبقاه حيا سالما ... أمل العودة يوما ليديها!
هذه المباراة الشعرية قدمها إلى صديق أديب، منتظرا رأيي في شعر الشعراء الأربعة،(906/30)
وحكمي لأيهم بالسبق والتفوق، على أن يكون هذا الحكم مستندا إلى ما في (الأداء النفسي) من حيثيات. . أما أنا فقد كونت الرأي وأصدرت الحكم، بعد أن أرسلت الذوق وراء كل كلمة، وحشدت النفس خلال كل بيت، وأطلت المراجعة بعد كل مقطوعة. وقبل أن أسجل هذا الرأي على صفحات الرسالة، أود أن أستمع إلى الرأي العام الفني ممثلا في قراء العربية ما بين كاتب وشاعر، لأنني أريد أن أجعل من هذه المباراة الشعرية مباراة نقدية!
وأحب أن أقول لقراء الرسالة هنا وهناك، إنني في انتظار نقدهم لهذا الشعر، على أن يكون حكمهم للشاعر الأثير لديهم مشفوعا بأسباب التفضيل والإيثار. (وإذا كان الفائز الأول من الشعراء قد ظفر بساعة ذهبية، فإن الفائز الأول من النقاد سيظفر من هذا القلم. . بكلمة ذهبية!!
علي محمود طه في يوم ذكراه:
يوافق الأسبوع القادم ذكرى مرور العام الأول على وفاة شاعر مصر الحديثة، وشاعر العروبة الخالد، الصديق العزيز الأستاذ علي محمود طه رحمه الله. وفي مثل هذه الذكرى الغالية تخفض الأقلام حدادا على العبقري الراحل، وتحنى الرءوس شجنا على الشاعر الفنان. ولكن العزاء الذي يملأ المكان الشاغر في دنيا الشعر، هو أن القيثارة المحطمة ستظل تبعث أنغامها إلى الأبد، فتحيل الموت إلى حياة، والصمت إلى غناء، والذكرى إلى خلود!
وفي الأسبوع المقبل أقدم إلى الروح المطمئنة إلى جوار الله. . همسة القلب وتحية القلم.
أنور المعداوي(906/31)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قاص يحبس ديوان أخيه:
كتبت في الأسبوع الماضي كلمة عن (ذكرى الزين) أجملت فيها الكلام عن ديوان المرحوم الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين. وقد فهم القراء مما ذكرته أن هناك شخصا يحتجز هذا الديوان لديه ويأبى أن يدفعه إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي قررت طبعه ونشره.
وقد رأيت أنه لا بد - لحق الأدب ولحق اليتيم الذي تركه الشاعر - أن أذكر الحقائق التي تتعلق بهذا الموضوع والتي تتضمنها القصة العجيبة التالية:
على أثر وفاة الشاعر الفقيد توجه إلى منزله أخوه الشيخ محمد الزين القاضي الشرعي بمحكمة الزقازيق، وهو يعلم أن أخاه الشاعر قد ترك ديوانه المجموع المخطوط وهو يحتوي على شعر نشر وشعر لم ينشر، وتلطف الشيخ محمد مع زوجة أخيه المتوفى، وطلب منها الديوان ليطبعه وينشره، فأسلمته إياه وهي واثقة من حسن نيته. ومرت الأيام ولم يطبع الشيخ الديوان، وكلما سألته عنه زوجة أخيه أجابها بمختلف المعاذير.
وفي خلال ذلك رأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تعمل شيئا لتخليد ذكرى صديقها أحمد الزين وتقدير جهوده في أعمالها الأدبية، فقررت طبع ديوانه ونشره على أن تتنازل عن حصتها في ثمن ما يباع من الديوان لابنه الصغير. ثم سألت اللجنة عن الديوان لتبدأ في العمل، فعلمت أنه لدى أخيه الشيخ محمد الزين، فكتبت إليه بما قررته وطلبت منه أن يرسل إليها الديوان، فلم تتلق منه أي رد إلى الآن رغم مضي نحو سنتين على هذا الطلب.
وتبينت السيدة مماطلة أخي زوجها وعم ولدها اليتيم، في تسليم الديوان، فلا هو طبعه ولا هو دفعه إلى اللجنة، وفي الوقت الذي تشعر فيه بالحاجة إلى ما يساعد على ضرورات العيش، وترجوا أن تحصل من الديوان على شيء يضاف إلى النزر اليسير الذي تتبلغ أسرة الشاعر الكبير! وهنا موضوع آخر تبعث إثارته الألم والأسى، أرجئ تناوله إلى وقت آخر.
تبينت السيدة ذلك، فها لها الأمر، وأحزنها أن يطوي ديوان زوجها الراحل الذي كان اسمه يملأ الآفاق في عالم الشعر العربي الحديث، فراحت تتوسل إلى الشيخ بأصدقائه، بعد أن(906/32)
أعياها رجاؤه، دون أن يجدي ذلك شيئا. ولعلك تسألني: ماذا يقول الشيخ وبم يعلل موقفه؟ قال لها مرة: إن الديوان عند رفعة النحاس باشا!! لأن رفعته ينوي عندما يتولى الوزارة (وكان ذلك قبل أن يتولى رفعته الوزارة) أن يسدي إلى ذكرى الفقيد عارفة بطبع ديوانه على نفقة الحكومة. ولما تولى رفعة النحاس باشا الحكم استبشرت السيدة الطيبة القلب. ولكن. . . مر الزمن الطويل ولم يظهر ما يدل على اهتمام الحكومة بالديوان، فعاودت مفاتحة الشيخ في الأمر ليذكر رفعة النحاس باشا بوعده فاضطر إلى أن يقول لها إن الديوان ليس عند النحاس باشا. فبكت ورجت، واستعطفت، وهو ساكن ساكت حتى فرغت، ثم نطق:
- أترين هذا الكرسي وهذه الكنبة وهذا الدولاب؟
- نعم.
- هل أحست بشيء مما قلت. .؟
- لا
- أنا كذلك!!
سبحان خالق الناس وقاسم الحظوظ وجاعل الأخ مختلفا عن أخيه! فقد كان الأستاذ الشاعر أحمد الزين وافر الحظ من دقة الإحساس ورقة المشاعر، بل كان ذلك ثروته التي أودعها شعره، ولعل بعض القراء يعرف أن الشيخ محمد الزين ينظم قصائد ويحاول أن يسير في ركب الشعراء فهل يحس أن شعره خال من الأحاسيس وينبغي أن يستمد من ديوان أخيه ما يسد به نقصه في الشعر؟
وإذا كان الشيخ محمد الزين حسن النية نحو ذلك الديوان، فلماذا لا يوضح ما يريد أن يصنع به لأم اليتيم صاحب الحق الوحيد في ديوان أبيه؟ ولماذا لم يرد على اللجنة ليبين لها وجهة نظره في الموضوع؟
على أنه من حق الرأي العام أيضا أن يقف على نية الشيخ إزاء هذا الديوان، فهو أثر أدبي لشاعر من شعراء العصر، يعد جزءا من أدبنا المعاصر، تجب صيانته من الضياع.
والشيخ محمد الزين قاض شرعي يحكم بين الناس بالعدل أفلا يستنكف فضيلته أن تقاضيه أرملة أخيه أمام المحكمة وخاصة أن هناك شاهدين على أنه أخذ منها الديوان؟(906/33)
وهل يرضى معالي وزير العدل أن يحكم قاض من قضاة العدل بالحبس على ديوان شاعر يتعلق به حق يتيم؟
وفاة برناردشو:
مات الكاتب العالمي الكبير جورج برناردشو يوم الخميس الماضي (2 نوفمبر سنة 1950) عن 94 عاما، وكان يعيش في منزله الريفي بإحدى القرى الإنجليزية عيشة ظاهرها الهدوء والعزلة، ولكنه كان يحيى بفكره وحسه وخواطره في حياة الناس، متجردا من نوازع المحلية، محلقا فوق العالم كإنسان ممتاز. كان يكتب عن الإنسانية، ويكتب لها، في كل مكان، فشع أدبه للجميع، وترجم إلى جميع اللغات الحية، ومثلت مسرحياته على أهم المسارح في مختلف الأقطار، وقد مثل هو أكبر دور على مشهد من العالم أحمع، وهو دور الكاتب الحر الذي كشف حجب الظلام وسخر من غرور الناس وانتصر للحق. ولم ننس ولا ننسى له - نحن المصريين - موقفه من حادثة دنشواي التي ندد فيها بوحشية الجيش الإنجليزي في مصر، ولا تبصيره إيانا بنيات قومه الإنجليز نحونا ونصحه بعدم الاعتماد على المباحثات السياسية واللجوء إلى الهيئات الدولية في نيل استقلالنا وحريتنا، قائلا بأن السبيل الوحيد إلى ذلك هو أن نستخلص حقوقنا بأيدينا.
وقد كان برناردشو كاتبا ساخرا ولم يسلم الشعب الإنجليزي نفسه من سخريته، وهو شعب ذو تقاليد ومقدسات، ولكن شو لم يعبأ بذلك، لأنه لم يكن إنجليزيا فقط، بل كان فوق ذلك أنسانا. وكان بعيش في الحياة وكأنه فارق الأحياء، يطل عليهم روحا يضحك من أفعالهم ويسخر من أوضاعهم. ولم يزد بموته على أن قطع ضحكه وسخريته عن الأسماع!
ولد برناردشو بمدينة دبلن بايرلندا من أبوين فقيرين، وقد رحل إلى لندن وهو في العشرين من عمره، ولاقى في أول حياته بها متاعب كأديب ناشئ، لا يعبأ به، ولا تجازيه الصحف على ما يكتب فيها إلا بالقليل، ولكنه ظل يكافح حتى وصل إلى القمة، وقد رفض الألقاب، وأبى قبول جائزة نوبل المادية، لأنه لم يعد بحاجة إلى شيء من ذلك. وقد شبه جائزة نوبل التي منحت له بطوق النجاة الذي يلقى إلى من وصل إلى الشاطئ.
مات برناردشو، فكان لموته صدى في أرجاء العالم، واعتبرته كل أمة فقيدها، لما له في حياة العالم كله من آثار خالدة.(906/34)
تحريف بيت لأبي العلاء:
كتبت السيدة (بنت الشاطئ) في الأهرام يوم الأحد الماضي (29 أكتوبر) مقالا بعنوان (عاشروا العالم أو فارقوا) قارنت فيه بين جمال البقاع في أوربا وبين الإهمال والقذارة في بلادنا. والذي يهمنا من هذا المقال ما ختمته به إذ قالت (ألا رحم الله أبا العلاء، ما أكثر ما نذكر هنا قوله منذ أكثر من ألف عام:
هذي بضاع العلم معروضة ... فعاشروا العالم أو فارقوا
تأملت هذا البيت كما أوردته الكاتبة فلم أجد له معنى. ما هي أو ما هو (بضاع العلم)؟ الذي نعرفه أن بيت أبي العلاء - وهو من اللزوميات - هكذا:
هذي طباع الناس معروفة ... فخالطوا العالم أو فارقوا
هذا هو (نص أبي العلاء) وفيه تظهر المناسبة بين طباع الناس على علاتها وبين مخالطتهم على ما هم عليه أو مفارقتهم. وهذا المعنى العلائي لا ينسجم مع مضمون المقال الذي سبقت الإشارة إليه، فلا بد إذن أن الكاتبة الفاضلة أرادت أن تطوعه بمناسبة ما عرضته، ولكنه بالصورة التي ظهر بها غير مفهوم على أي حال. قلت في نفسي: لابد أنها أرادت أن تجعل البيت هكذا:
هذي بقاع العالم معروضة ... فعاشروا العالم أو فارقوا
أي أن تلك البقاع الأوربية التي زارتها وأعجبت بها هي التي وصفت، وعلينا نحن المصريين - أن نجعل بلادنا مثلها إذا أردنا أن نكون مثل ذلك العالم الراقي، أو. . . لست أدري ماذا نفعل. .
وجاءت المطبعة فجعلت (بقاع) - (بضاع)، وجاء المصحح فوجد البيت مكسورا ولمح موضع الكسر في كلمة (العالم) فجعلها (العلم) ليستقيم الوزن، ولعله رأى خلو العبارة من المعنى ولكنه آثر أن يكون البيت موزونا ولا معنى له على أن يكون كذلك وهو مكسور، وأمر واحد أخف من اجتماع أمرين.
وعلى ذلك ظهر البيت كما ظهر، وإذا لم يكن هذا الافتراض صحيحا فماذا عسى أن يكون؟!
ثم ذكرت يوما حضرت فيه مناقشة رسالة قدمتها الكاتبة الأديبة لنيل درجة الدكتوراه،(906/35)
موضوعها تحقيق نص رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقد شرحت للجنة الامتحان ما لقيته من عناء في ذلك التحقيق وأكدت محافظتها في النص وتقديسها إياه، وكانت تجيب على بعض الأسئلة بأن (النص هكذا) وقد أفرطت في ذلك حتى خلنا أن (المنهج الجامعي) الذي سارت عليه ليس مغايرا (للفوتوغرافيا) ولم يكن ذلك فقط، بل إنها حملت على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران لأنهم (لم يحافظوا على النص) وشغلت بهذه الحملة نحو سبعين صفحة من الرسالة، مما جعل الدكتور طه حسين بك رئيس اللجنة يصفها بالزهو والغرور.
فما بال الدكتورة قد تخلت عن منهجها في المحافظة على النص إذ نسبت إلى أبي العلاء ما لم يقله! لقد تحدث أبو العلاء عن طباع الناس وخير بين معاشرتهم على علاتهم أو مفارقتهم، والمحقق أنه لم ير بقاع سويسرا حتى يحثنا على التشبيه بأهلها، ولو لم تقل الدكتورة (منذ أكثر من ألف عام) لفرضنا أن ثمة شاعرا آخر معاصرا غير المعري اسمه أبو العلاء. . .
ولو أن أحدا آخر غير الدكتورة فعل ذلك ببيت أبي العلاء، لكان الأمر أهون، لأنها ترى بل تعتز بالمحافظة على (النص) والشأن كما قال أبو العلاء في أول الأبيات التي جاء فيها ذلك البيت:
ما ركب المأمون في فعله ... أقبح مما ركب السارق
فسرقة السارق المعتاد على السرقة أمر عادي، أما المأمون المفروض فيه الأمانة فخيانته لا تغتفر. والدكتورة لما علمناه من حرصها على النص، في مكان (المأمون) فلم يكن يليق بها أن تصنع ببيت أبي العلاء ما صنعت.
عباس خضر(906/36)
رسالة الفن
مسرحية شجرة الدر
تأليف: عزيز أباظة باشا. إخراج: الأستاذ فتوح نشاطي.
تمثيل: الفرقة المصرية على مسرح دار الأوبرا الملكية.
تحليل ونقد بقلم الأستاذ أنور فتح الله
افتتحت الفرقة المصرية موسمها التمثيلي بهذه المسرحية الشعرية. ولقد كان المؤلف موفقا في اختيار شخصية شجرة الدر لتكون موضوعا لمسرحيته. ذلك لأن شجرة الدر شخصية بارزة في التاريخ المصري. ولأنها أول ملكة مسلمة اعتلت عرش مصر. في وقت كان الصليبيون فيه يهددون استقلالها، والمماليك في الداخل يتآمرون على عرشها. . ولعل عصر المماليك الزاخر بالأحداث والدسائس هو أصلح العصور التاريخية لأن يكون مادة للمسرح المصري.
وأحداث المسرحية التاريخية تقع بين اعتلاء شجرة الدر عرش مصر وقتل عز الدين أيبك. وقد سلط المؤلف أضواءه على هذه الفترة التاريخية ليكشف عما يرقد تحت خطوط التاريخ من دوافع نفسية تسلطت على أبطال التاريخ وسيطرت على أعمالهم السياسية.
وشجرة الدر في نظر التاريخ كانت جارية من جواري الملك الصالح أيوب، فأحبها وتزوجها. وكانت تعيش في عصر تعصف به الأهواء والأطماع السياسية. وعندما تقدمت السن بزوجها اعتلى عرش مصر، فكانت خير مشير له، وكان الصليبيون يحاربون في داخل البلاد عندما مرض الملك، فتولت شجرة الدر وحدها شؤون السياسة والحرب، ومات الملك، فأخفت خبر موته حتى لا يفت ذلك في عضد الجيش، وعندما انتصرت جيوش مصر، وأسر الملك لويس التاسع في المنصورة، أعلنت شجرة الدر موت الملك، وأرسلت في طلب ولي العهد (طور أنشاه) من الشام وبايعته بالملك. وكان ضعيفا سكيرا غارقا في الملذات. وعندما أراد التخلص من شجرة الدر قتله أنصارها وبايعوها بالملك. وأرادت شجرة الدر وهي الخبيرة بشؤون السياسة والحكم أن تجمع المصريين والمماليك من حولها، لتقضي على التحزب الذي يهدد الملك، فأثار هذا حفيظة المماليك، وتمرد عليها أمراء الشام(906/37)
ولجئوا إلى خيانتها مع الفرنسيين، فأطلقت سراح ملك فرنسا، وشكاها الأفراد إلى أمير المؤمنين في بغداد، فقرر عزلها. وتولى الملك الأشرف عرش مصر، وعين عز الدين أيبك وصيا عليه فألقى بالملك في السجن، وقبض على زمام الملك، وانصرف عن زوجته شجرة الدر. وعندما علمت أنه سيتزوج ابنة صاحب الموصل أغرت بعض خدمها فقتلوه في الحمام.
ولنبين ما أضافه المؤلف إلى التاريخ، ومدى تمسكه به، علينا أن نستعرض المسرحية.
بدأ المؤلف مسرحيته، فأبرز الأمير نجم الدين (الملك الصالح فيما بعد) وهو جالس في خيمته في الصحراء، وإلى جانبه زوجته شجرة الدر، وقد دخل عليه رجاله، بيبرس، وقطز، وقلاوون، وعز الدين أيبك. . ثم يدخل العراف فينبئهم بأن كلا منهم سيتولى عرش مصر. . فيسخرون منه، فيخرج وهو ويقول:
قلت حقا وكان ما لم أقله ... إن بعضاً منكم سيأكل بعضا
ولقد كانت هذه المقدمة لفتة بارعة من المؤلف، ذلك لأنها تمهد لجو الدسائس والمؤامرات وهو الجو العام للمسرحية، وترمز إلى ما حدث في التاريخ، وتقدم أبطال المسرحية إلى المشاهد. ومن الناحية الفنية، فإن عرض المقدمة في شكل مشهد تمثيلي أقرب إلى طبيعة المسرح من المقدمةِ التي كانت في بداية المسرحيات الكلاسيكية وبعض المسرحيات التاريخية الحديثة، والتي كانت في صورة منلوج يلقيه ممثل قبل بداية التمثيل ليعرف المشاهد بموضوع المسرحية، أو في صورة ديالوج ليؤدي نفس الغرض.
. . ويبدأ الفصل الأول وشجرة الدر ملكة على مصر. . فنرى الجارية هيام تتآمر عليها. . وتسعى إلى استمالة قائد الجيش (أقطاي) إلى جانبها. . ونرى بيبرس وقلاوون وقد عادا من الشام ليخبرا الملكة بأن أمراء الشام قد أجمعوا على خيانة مصر. . وهنا تعلن شجرة الدر بأن مرغريت ملكة فرنسا قد قدمت إليها كتبا من أمراء الشام تثبت خيانتهم، ولهذا رأت أن تطلق لويس التاسع من أسره. . ويخرج الأمراء بعد أن تكلف بيبرس بمهمة في بغداد. . ثم تستبقي عز الدين أيبك. . فنراه يؤيد رأيها، ويمجد تدبيرها ويبوح لها بهواه. . ويلح في طلب الزواج منها. . فتعده بالزواج، وتطلب منه أن يكون عونا لها على أعباء الملك، فيجيبها بقوله:(906/38)
لا بل تبيعك ما حييت فمهتد ... يهداك محتشد لما يرضيك
. . . وفي الفصل الثاني. . تبدو هيام وهي تستطلع أخبار بيبرس من علا. . وتعرف من حديثهما أن الملك لويس التاسع سيمثل بين يدي شجرة الدر. ونرى (أقطاي) ساخطا يرمي شجرة الدر بالاستبداد، ويدخل المصريون وعلى رأسهم القاضي فينتحون ناحية، وسرعان ما يثير أقطاي أسباب النزاع بين المصريين والمماليك، فيهدئهم القاضي، ويدخل أيبك وقد أصبح زوجا لشجرة الدر فيعلن قدومها. . . ويخبر القاضي بأن الملكة قد عينته قاضيا لقضاة النيل، واختارت بهاء الدين وزيرا لها.
وتدخل شجرة الدر ومعها ملكة فرنسا، ويقدم إليها ملك الإفرنج فتستقبله وتعقد معه ميثاقا. ويأتي بيبرس فيخبرها بأن رسول أمير المؤمنين قد جاء ليبلغها أنه إذا لم تسترض أمراء الشام فسيعزلها، فترفض شجرة الدر طلب أمير المؤمنين لأن في ذلك سبة لمصر. . . ويدخل الرسول فتقول له شجرة الدر
أنا وازنت بين ملك وعرض ... فهداني ربي الصراط القويما
إن في مصر أمة تكبر الر ... أي وتأبى في عرضها أن تسوما
ويخبرها الرسول بأن مولاه يقبل اعتزالها فتعلن اعتزالها، فيغضب أيبك، ويثور المماليك والمصريون، فتقول لهم شجرة الدر:
لا تزلوا إن التحمس تعمي ... عن هداها الوضئ فيه العقول
نحن نبني الدولات تبقى على الده ... ر وأما أشخاصنا فتزول
وعندما يسألونها عمن تختار ليخلفها، تعلن اختيارها لعز الدين أيبك، والأشرف موسى، فيوافق الجميع على رأيها ماعدا أقطاي، فتنهاه شجرة الدر عن إثارة الفتنة، ويعلن أيبك سياسته بقوله:
نحن قوم إذا عهدنا وفينا ... والتزام الوفاء بالحر أحرى
نحن قانون والمآثر عمر ... يتخطى الفناء، والناس ذكرى
يحفظ لله من شقاق وخلف ... شعب مصر ويحفظ الله مصرا
. . . وإلى هنا تنتهي حياة شجرة الدر الملكة. . وتبدأ حياتها كامرأة. . وفي هذا القسم من المسرحية ساير المؤلف خطوط التاريخ. . وربط بين الأحداث بالصراع السياسي الذي(906/39)
صوره بين أمراء الشام ومن ورائهم أمير المؤمنين من جهة، وبين شجرة الدر من جهة أخرى، وقد انتهى هذا الصراع باعتزال شجرة الدر الملك. ولأن الصراع هنا لم يتخذ صورة بصرية، بل كان في صورة القصة على لسان بيبرس وقطز والرسول فقد غلب على هذا القسم جانب العرض التاريخي. على أن هذه الغلبة لا تنسينا أن نذكر للمؤلف توفيقه في ربط الأحداث التاريخية وتنسيقها في صورة فنية مشوقة؛ فكل مشهد لاحق نتيجة للمشهد سابق. وقد صب المؤلف المعلومات التاريخية في مشاهد مرئية كل مشهد منها يتضمن حادثا، وكل حادث مليء بالحركة فلم تطغ هذه المشاهد التاريخية، على الحركة المسرحية.
. . . وتدور أحداث الفصل الثالث في قاعة العرش بقصر القلعة. . . فنرى هيام وأقطاي وقد اتفقا على الإيقاع بين الملك عز الدين أيبك وشجرة الدر الزوجة. وتأتي شجرة الدر فنسمعها تحدث نفسها. . وتعاهد الله على أن تحمي مصر، وتعمل على إبعاد كل من تحدثه نفسه بالإساءة إليها. . وتخرج شجرة الدر. . ويأتي أمراء المماليك والمصريون. . فيطعن أقطاي في المصريين فيحدث النزاع بين الجانبين من جديد، ويدافع قاضي من القضاة عن المصريين. . وتدوي الأبواق. . ويأتي الملك عز الدين فيجلس على العرش. . ويحييه نائب عن المصريين. . فيرد عليه الملك. . وفي رده الزهو على مصر. . والطعن في شجاعة المصريين. . واتهامهم بالفرار من ميدان القتال: فيدفع قاضي القضاة التهمة عن المصريين. . فينهره الملك. . ويأمر المصريين بأن يمضوا في شأنهم حتى يصدر أحكامه فيهم. . ويثير أقطاي حفيظة الملك عليهم. . فيعلن أنه سيذيقهم نقمته وسيعزل قاضي القضاة والوزير. . وهنا يطلب منه أقطاي أن يتمهل حتى لا يغضب شجرة الدر!. . فيتراجع عز الدين. . ويطلب منه أقطاي أن يأخذ رأيها!. . . ويهم الملك بالخروج، فتدخل هيام. . وتخلو به. . وتخبره أنها رسوله من قبل زوجه أم علي. . وأن ولده مريض. . فيضطرب ويخبرها بأنه سيزورها. . فتطلب منه أن يحاذر حتى لا يغضب شجرة الدر، فلا يبالي بتحذيرها. . . وتأتي شجرة الدر لترده عن استبداده بالمصريين، وتسدي إليه النصح فلا يستمع لها. . وينكر عليها تدخلها. .
وفي الفصل الرابع. . نرى شجرة الدر تنظر في مرآتها، متحسرة على الشباب الذي ولى.(906/40)
ويأتي الملك فتستقبله في حفاوة المرأة بزوجها. . ولكنه يراوغها. . ويطلب منها أن تسلمه كنوز الملك الصالح. . فتأبى. . فينفجر فيها ثائرا. . ويخبرها بأنه سيتزوج عروسين من بنات ملوك الشام. . ويتركها وقد جردها من نفوذها. . وكرامتها. . وحطم قلبها بمعارك الغيرة. .
ويدخل عليها قاضي القضاة، وبيبرس، وقلاوون ويلحون في قتله لتخلص مصر من ظلمه فترفض. وعندما تعلم أنه يطردها من قصرها. . تدعم لرأيهم. . وترسل إليه خطابا تتوسل إليه فيه أن يقضي ليلة في جناحها. . . ويأتي الملك إليها. . فتستقبله في حفاوة. . . وعندما يذهب إلى الحمام تأمر أعوانها بقتله.
. . . وفي هذا القسم من المسرحية، نرى المؤلف قد ساير التاريخ في تصوير الجانب السياسي من حياة شجرة الدر. وأضاف إلى التاريخ بتصويره الجانب الإنساني من حياتها، وبربطه بين تاريخ والإنسانية خلق على المسرح عالما فنيا نابضا بالحياة.
وفي هذين القسمين، استطاع المؤلف أن يرسل نقداته، وبصب تجاربه ومثله وآراءه في ذلك الإطار التاريخي، فنفذ إلى الواقع، وربط المشاهد بعالمه الفني. هذا، والجديد من هذه المسرحية، هو أن المؤلف لم يتابع ما سار عليه المرحوم جورجي زيدان وغيره ممن أنشئوا أعمالا فنية من شجرة الدر من إهمال. تصوير الجانب المصري من أعمالهم، بل عنى بتصوير المصريين في مسرحيته فصور آمالهم، وآلامهم، وبهذا ربط بين الواقع التاريخي والحاضر الواقعي.
ولعل الدافع الذي حدا بشوقي بك إلى كتابة مسرحية عن كليوباترا، هو نفس الدافع الذي حدا عزيز باشا أباظة إلى اختيار شجرة الدر لتكون موضوعا لمسرحيته. ولعل السبب في هذا الاتفاق بين الشاعرين، هو التشابه بين الملكتين، وبروزهما في التاريخ المصري. بل إن هناك تشابها كبيرا بين شخصية أوتوبيس الكاهن المصري، وبين شخصية قاضي القضاة، وكلاهما كان موضع ثقة مليكته ومشيرها. وكلاهما وطني يعمل لصالح وطنه. ولقد دافع شوقي عن كليوباترا لأنه رآها أكبر مما صورها به المؤرخون، ودافع عزيز باشا عن شجرة الدر لأنه رآها أكبر مما صورها به المؤرخون. فالشاعرية التي ألهمت شوقي الكتابة عن كليوباترا، هي التي ألهمت عزيز باشا الكتابة عن شجرة الدر.(906/41)
والصراع المسرحي الرئيسي في هذه المسرحية يقع بين عز الدين أيبك وشجرة الدر، ولم يبدأ هذا الصراع إلا بعد اعتزال شجرة الدر الملك واعتلاء أيبك العرش. وذلك لأن شخصية أيبك كانت تابعة لشخصية شجرة الدر الملكة، ولم تنفصل عن هذه التبعية وتتحرر إلا بعد اعتزالها. فقد بدأ أيبك متملقا، طموحا، إلى أن تزوج شجرة الدر، ثم أصبح متفانيا في خدمتها إلى أن اعتزلت، وبعد أن أصبح ملكا، بدأت شخصيته تنفصل عنها، وبدأ الصراع بينهما إلى أن انتهى بقتله. ولو أحسن المؤلف استغلال شخصية الجارية هيام، وأقطاي، في النصف الأول من المسرحية، بقدر ما أحسن استغلالهما من الإيقاع بين شجرة الدر وأيبك في النصف الأخير منها، لكان توفيق المؤلف في بناء المسرحية كاملا، ذلك لأن هيام وأقطاي على الرغم من كراهيتهما لشجرة الدر وتآمرهما عليها في النصف الأول من المسرحية، فإنهما لم يؤثرا على الأحداث ولم يتقدما أية خطوة إيجابية بالفعل المسرحي. هذا، ولم نستطع أن نتبين من المسرحية الدافع الشخصي الذي يدفع هيام المرأة إلى محاربة شجرة الدر؛ بل إن المؤلف قد جانب الصواب عندما جعلها - وهي المرأة - تعمل على التفرقة بين أيبك وشجرة الدر لحساب امرأة أخرى هي أم علي. ولو قارنا بين شخصية هيام عند عزيز باشا، وشخصية سلافة عند جورجي زيدان، لوجدنا أن تصوير الثانية أوضح وأصدق من تصوير الأولى، وأثر الثانية على الأحداث أبرز بكثير من الأولى. كذلك جعل المؤلف شخصية أقطاي حائرة مترددة في النصف الأول من المسرحية وكان في مقدوره أن يستغلها في تقوية الصراع المسرحي لو جعل تأثيرها إيجابيا على الأحداث في هذا القسم.
وإذا تناولنا الجانب الإنساني من هذه المسرحية، وجدناه صادقا من حيث التصوير النفسي. فقد انبثق الصراع المسرحي من داخل نفس عز الدين. تلك النفس الطموح التي تتملق شجرة الدر لتحوز رضاها. وتتفانى في خدمتها لتجتذب أنظارها. وتتربص بقلبها المحروم لتنفذ إليه. حتى إذا ما أصبح زوجا لها، بدأ يتظاهر بالغيرة والحماس، ليرقي سلم المجد، وليبدوا في نظرها جديرا بالملك. فإذا ملك، بدأ يتخلص منها ليملك فعلا، ولكنه وهو العبد الذي تعود الطاعة يخشى بأسها، وإزاء تحريض اقطاي وهيام، وطعنهما في كرامته، طغت عليه كبرياء الضعيف، وكرامة الذليل، فانفجر ليعوض النقص الذي في شخصيته. فعندما(906/42)
كان عز الدين يخفي حقيقة نفسه، كان الصراع مخيفا في أغوار نفسه، وعندما تغيرت الأوضاع، فارتفع الوضيع، وانخفض الرفيع، بدأت حقيقته تظهر وبدأ التعارض بين نفسه، ونفس شجرة الدر. وعندما وصل الصراع إلى القمة لجأت تلك النفس الخيرة إلى الشر لتزيل الشر. وبتجسيم هذه الخطوط النفسية الدقيقة استطاع المؤلف أن يوصل المأساة إلى نفس المشاهد.
وكان المؤلف موفقا في تصوير شخصية شجرة الدر، فقد بدأ بها ملكة وانتهى بها إلى امرأة ككل النساء، تحب وتغار، وتحزن. ولعل ما أظهره المؤلف فيها من ضعف بشري، حتى عندما سمعت صراخ زوجها فترددت وحاولت إنقاذه، هو الذي ساعد على بعث الحياة في هذه الشخصية، لأنها استمدت حياتها من المشاعر الإنسانية.
والذي نلاحظه أن المؤلف تمسك بإظهار أعلام التاريخ في تلك الفترة كأقطاي وقطز وقلاوون وبيبرس. وقد أدى تعدد الشخصيات إلى عدم التركيز في تصويرها، فبدت في المسرحية شخصيات مكررة لتشابهها في موقفها من الأحداث وتأثيرها عليها. . فأقطاي وقطز في صف عز الدين أيبك، ولم تظهر حقيقة ذلك إلا في نهاية المسرحية، لهذا، كان على المؤلف أن يكتفي بأحدهما، ويبرز بوضوح معالم شخصيته، ويشركه في الصراع إلى جانب عز الدين من أول المسرحية. وكذلك بيبرس وقلاوون فهما في جانب شجرة الدر، وتأثيرهما على الأحداث واحد، فكان من الخير أن يقتصر المؤلف على أحدهما حتى لا يؤدي تعدد هذه الشخصيات إلى تشتيت انتباه المشاهد. وكذلك في تصويره للمصريين، كان من الواجب عليه أن يقتصر على شخصية قاض القضاة وهي الشخصية الأولى بين المصريين. ومن الإنصاف أن نقرر أن شخصية قاضي القضاة قد رسمت في دقة وعناية، وأن المؤلف قد شحنها بالوطنية المصرية، فكانت معبرة عن الآمال والآلام المصرية، وكانت من أهم العوامل في ربط التاريخ بواقعنا الاجتماعي. وكان تأثيرها قويا في إحداث التجاوب بين الممثل والمشاهد.
ومن حيث التصوير العقلي للشخصيات، كان المؤلف موفقا في تصوير عقلية شجرة الدر، وعقلية عز الدين أيبك. إلا أنه قد أنطق بعض الخدم كسنجر وسلافة بالحكمة والفلسفة في بعض المواقف، وبهذا جاوزت هذه الشخصيات حقيقتها الإنسانية. كذلك وزع المؤلف آراءه(906/43)
وتجاربه العامة، على شخصيات الرواية، فأنطقها بها، فبدت أغلب الشخصيات في مستوى عقلي واحد، وكان على المؤلف في هذه الحالة أن يخصص شخصية واحدة، لينطقها بآرائه، ليفرق بين رأيه ورأي الشخصية الروائية في الموقف المسرحي. كما فعل ألفريد دي فيني في مسرحية (شاترتون) حيث كانت شخصية (كويكر) هي شخصية المؤلف.
وكما فعل بومارشية، في مسرحيته (زواج فيجارو) حيث جعل فيجاروا ينادي بآرائه التي أراد أن يوصلها إلى الشعب الفرنسي.
وفيما عدا هذا، فالمسرحية تعد جزءا للمسرحية التاريخية، من حيث تصوير الشخصيات والبناء الفني، والأسلوب الشعري.
وقد أخرج المسرحية الأستاذ فتوح نشاطي، فصدر في إخراجه عن وعي كامل بالمسرحية وجوها، وعصرها التاريخي. وقد هداه هذا الوعي إلى خلق الحياة التي رسم تصميمها المؤلف في النص المكتوب؛ فالمناظر كانت رمزية في بعض الفصول، واقعية في البعض الآخر. وهي في كلتا الحالتين تشيع الجو التاريخي للمسرحية. وقد بدت الأبهاء والأعمدة والعقود العربية الرائعة في صور طبيعية بعيدة عن الصنعة والافتعال. وكانت ألوان هذه المناظر هادئة حتى لا تجذب انتباه المشاهد فينصرف عن الممثلين. وكانت الثياب ذات ألوان قاتمة لتشد نظر المشاهد إلى الممثل. ولقد ساعدت الإضاءة على خلق ذلك الجو التاريخي الساحر فكانت جزءا مكملا للمنظر. وكانت طبيعية في مسايرتها للوقت.
وليس من شك في أن للمخرج الفضل الأول في تحريك الممثلين في هذه المسرحية الزاخرة بالحركة، وكذلك في تنظيم مجموعة الممثلين الثانويين وبعث الحياة فيها.
ولقد بدا مجهود المخرج في وحدة كاملة طابعها الطبيعة والصدق حتى ليتعذر على العين الناقدة أن تتلمس خطأ أو مغالاة في أية حركة أو منظر. وإنه لمن الإنصاف أن نقرر أن المخرج قد عبأ كل ما يملك من فهم وموهبة وفن في إخراج هذه المسرحية فكان ممتازا في إخراجه.
وقامت الآنسة أمينة رزق بدور شجرة الدر. وهذا الدور هو العمود الفقري للمسرحية من بدايتها إلى نهايتها وقد أحست أمينة رزق بخطر هذا الدور فحشدت له عقلها وإحساسها المرهف وعاطفتها الحارة وفنها الصادق فجسمت الألوان المختلفة التي تصور معالم(906/44)
الشخصية التي تمثلها. وكانت موفقة في إشراك المشاهد معها واجتذاب قلبه إليها في الأزمات التي كانت تقاسيها على خشبة المسرح. وإذا كانت أمينة رزق ممثلة ناجحة، فقد بلغت في هذه المسرحية درجة من النجاح لم تبلغها من قبل.
وقام الأستاذ أحمد علام بدور عز الدين أيبك. والشخصية التي مثلها ناعمة ملساء تخفي ما تبطن من القسم الأول من المسرحية. وفي هذا القسم كان علام يضغط على العبارات التي أراد المؤلف بها إبراز معالم شخصيته المتملقة الطموح. وفي القسم الثاني عندما بدأت شخصية أيبك تظهر بوجهها الحقيقي ارتفع علام إلى القمة وظل محتفظا بهذا المستوى حتى نهاية المسرحية.
وقام الأستاذ منسي فهمي بدور قاضي القضاة فصدر في أدائه عن إحساس قوي بأهمية هذه الشخصية في ربط الواقع التاريخي بالمجتمع الحاضر. فكان يلهب القلوب بإيمانه الوطني، ويهز المشاعر بنبراته المرتعشة التي تفصح عن غضبه الكظيم.
وبعد. . . فهذه هي الفرقة التي كادت أن تعصف بها الأهواء. وتلقي بأفرادها في زوايا النسيان. . وقد أثبتت اليوم أنها جديرة بالحياة. . .
أنور فتح الله(906/45)
ربع قرن في خدمة القصة
خمسة وعشرون كتابا قصصيا
بقلممحمود تيمور
1) كل عام وأنتم بخير
2) ملامح وعضون
3) اليوم خمر
4) إحسان لله
5) المخبأ رقم 13
6) فن القصص
7) أبو الهول يطير
8) سلوى في مهب الريح
9) خلف اللثام
10) حواء الخالدة
11) كليوبترا في خان الخليلي
12) شفاه غليظة
13) بنت الشيطان
14) نداء المجهول
15) عطر ودخان
16) مكتوب على الجبين
17) فرعون الصغير
18) سهاد
19) عوالي
20) المنقذة
21) أبو شوشة والموكب
22) قنابل(906/46)
23) قال الراوي
24) شباب وغانيات (تحت الطبع)
25) ابن جلا (تحت الطبع)(906/47)
البريد الأدبي
إلى حضرات الأساتذة الجامعيين:
هذه قضية الجامعة، قضية الكلية التي تغاضت عن رسالتها السامية وأغفلت مبادئها الجامعية فنسيت أنها خلقت لتعلم العلم والثقافة والحرية جميعا فجحدت حق رجل من المصريين فأهملت شأنه. . . رجل ليس مغمورا ولا نكرة ولا متخلفا في ركب الحياة، تخرج في مدرسة المعلمين العليا حين تخرج فلم يدع العلم ولا انصرف عن الكتاب فأصاب ثقافة عالية أخرى، نالها من طول ما قرأ ومن طول ما اطلع، ووصل أسبابه بأسباب الصحافة ينشر خواطر قلبه حينا وأفكار عقله حينا. وغير زمانا ثم ضاق بالوظيفة أو ضاقت هي به فتقدم إلى كلية من كليات الجامعة يطمح أن يكون طالبا بين شبابها بعد أن طوى عمر الشباب، فجاءه رد (المسجل) يقول (. . . ونأسف لعدم إمكان قبولكم بالقسم المذكور إذ أن القبول به قاصر على الطلاب الحاصلين على الشهادة التوجيهية. . .)
وخيل للرجل أن (المسجل) لا يملك أن يطرد طلبه على حين يقبل تلامذته فكتب إلى عميد هذه الكلية يقول (. . . ولقد رأيت في هذا الرد وثيقة علمية جامعية، وثيقة فريدة في بابها؛ وهي - إلى ذلك - ذات قيمة خاصة لي ولكل من توسوس له نفسه أن يلتحق بالجامعة طمعا في الاستزادة من العلم فحسب فأردت أن أنشرها أمامكم لأرى رأيكم)
ولبث الرجل حينا ينتظر رأي العميد، ولكن (صاحب السعادة) أصم أذنيه فلم يلق بالا إلى الأمر ولم يلق السمع إلى الشكوى. ولست أدري أكان ذلك سهوا منه أم إغفالا منه أم امتهانا لشأن الرجل الذي لم يعرفه بعد.
ورأيت أنا في هذا التعنت وهذا التغاضي ما يمس الروح الجامعية الحرة مسا عنيفا يشوه معاني الحرية والعلم التي اتسمت بها الجامعة منذ أن كانت. فأردت أن أجد الرأي الذي عزب عني في حضرات الأساتذة الجامعيين الإجلاء، وفي رأيي أنهم لن يضنوا بالرأي وهم قادة الرأي، ولا أن يبخلوا بالفتوى وهم نبراس الهدى.
وعجبت أن تقبل الكلية (الطلاب الحاصلين على شهادة التوجيهية) وترفض طالبا حصل على دبلوم المعلمين العليا، وأشكل على الأمر فخيل إلى أن دبلوم المعلمين العليا - في رأي الجامعة - أقل من شهادة التوجيهية. فبدا لي أن هذه المشكلة العلمية الجامعية مشكلة ذات(906/48)
بال تقف بازائها عقول أساتذتنا العظماء حينا من الزمن. وأنا الآن في انتظار الرأي الذي يطمئن الخاطر أولا فلا جناح علي إن أنا بحثت هذا الأمر على نطاق واسع أفصل فيه ما أجملت هنا ولي قلم لا يتعثر يعرفه كل مثقف يغار على الروح الجامعية ويضن بها عن أن تنهار في أكبر جامعات الشرق.
كامل محمود حبيب
أين شعراؤنا؟. . .
تمر بنا مناسبات قومية كثيرة، وأحداث وطنية هامة، ويموت عظماء وقادة، ونستقبل أعيادا وطنية، فلا نسمع شاعرا يصور لنا بالقريض احساسات الشعب وشعوره، فيسجل تلك الأحداث في قصيدة ينظمها!. . .
فأين شعراؤنا؟!. .
وهل يعيشون في واد غير وادينا؟!. .
ومالهم صامتين. . لا نحس منهم من أحد، أو نسمع لهم ركزا؟!. . .
ترى. . هل هجرتهم شياطينهم. . أم ملت نفوسهم القوافي؟!. .
لقد ترك الشعراء السابقون تراثا من الشعر، سيظل خالدا مادامت السماوات والأرض. . فهذا (شوقي) لم يترك مناسبة من المناسبات، داخلية كانت أو خارجية، إلا قال فيها الشعر عذبا، طليا. . .
وكذلك كان (حافظ إبراهيم). . وكذلك كان (خليل مطران). . وكذلك كان (علي الجارم). . وكذلك كان (علي محمود طه). . فأين خلفاؤهم في مملكة القريض؟!. .
كيف لا تحرك كل تلك الأحداث مشاعر الشعراء وتلهمهم قول الشعر، فيرتلون من آياته ما يروي ظمأنا!. . .
أين أنتم أيها الشعراء؟!. .
ليحمل كل منكم قيثارته. . . فكلنا شوق إلى هذه القيثارة!. . .
عيسى متولي
رد على نقد: في رحاب الصوفية(906/49)
تفضل الصديق الأديب الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر فخص كتابي (في رحاب الصوفية) بكلمة تعريف في الرسالة الزهراء، ولم تصده زمالته السابقة ولا صداقته الباقية عن النقد والوخز الخفيف، وقد كنت أود لو أسلم للبدر ما كشف بضوء بيانه من مؤاخذة، إذن لسلمت راضيا، ولكن معذرة إليه إذا ما رأيت في تعريفه بالكتاب ما يستحق الرد أو التنفيذ.
فهم الأستاذ بدر أن الكتاب لغير الخاصة وهذه مجانبة للحقيقة والواقع، وأظن أن البحث في شطحات الصوفية ودرجاتها المقبولة والمرذولة، والكلام في وجوه التفسير الإشاري التصوفي للقرآن، وفي شروط الدعاء وأهدافه العامة والخاصة في الإسلام، ليس من الحديث للعامة، بل هو من خصائص الخاصة؛ وهناك في الكتاب فصول توفر لها (العمق) الذي يفتقده الأستاذ، ومن أمثلة ذلك استخلاص الصوفية للخير من مواطن الشر، وما في مناجاة ابن عطاء الله من أسرار، وما في ورد الصباح وورد المساء من رموز وتركيز.
ولا يمنع هذا أبدا من أن يكون المؤلف قد حاول بما استطاع أن يدني مسائل الكتب الدقيقة العميقة من الألباب بوضوح الخطاب!.
ويأخذ الناقد على الكتاب أنه لم يذكر معنى كلمة التوصف؛ وقد فاته أن خطة الكتاب كما جاء في المقدمة أن يكون جولة في رحاب الصوفية محرضة على متابعة الجولات، والحديث بعد هذا عن معنى الكلمة مستفيض مشهور، وقد طال الكلام عن اشتقاقها أو استقائها من الصفة أو الصفة أو الصفاء أو الصوف أو قبيلة صوفه، أو غير ذلك؛ وللمؤلف قبل هذا بحث طويل منشور عن (التصوف والإسلام) وفي كلمة (تصوف) حقها من البحث، ولو في ظنه هو على أقل تقدير!.
ويتمنى الناقد لو أن الكتاب تعرض لأدعياء الصوفية في القرى، وأظن كما يظن أن مجال البحث العلمي يترفع عن مثل هذه المجالات، وفوق هذا فإن المؤلف لم يسر في كتاب الصوفية على الدوام، بل نقدهم وميز بين طيبهم وخبيثهم، وذكر لهم شطحات وصفها بأنها طائشة شاذة غريبة، وفي ص 30 قال ما نصه: (وهؤلاء الأدعياء هم أخطر الناس على المجتمع وعلى الحياة وعلى الأحياء وعلى المسلة الكريمة. . .) الخ وفي ص 61 قال عن تراث الصوفية: (ولطبيعة الحال سترى تراثا ضخما شتيت الأصناف والألوان، وسترى فيه ما يعجبك وما يغضبك وما يروقك وما يعوقك) الخ. . .(906/50)
أليس هذا دليلا على أن المؤلف لم يطلق المدح للصوفية، بل خصه بالصادقين الطاهرين الطيبين منهم؟.
أما بعد فقد فهمت من كلام الناقد أنه يزن الكتاب بميزان اللحم، والكتاب المنقود المضغوط في طبعه، الدقيق في حروفه، لو طبع كما يطبع البارعون في تكثير القليل كتبهم لملأ عينه كبره ومبناه، كما أعجبه موضوعه ومغزاه؛ وأنه لمشكور على كل حال!
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف
بيتان لحسان بن ثابت: -
جاء في كتاب (من أضواء الماضي) الذي نشرته دار المعارف في أول أكتوبر سنة 1950 للأستاذ (سامي الكيالي) بيتان من الشعر نسبهما لابن عباس وهما:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
والواقع أن هذين البيتين ليسا لابن عباس رضي الله عنه، وإنما هما لشاعر الرسول (حسان بن ثابت)، قالهما عندما فقد بصره. وقد ورد البيتان في ديوان (حسان بن ثابت الأنصاري) الذي شرحه المرحوم الأستاذ (عبد الرحمن البرقوقي) والذي نشره صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر، في صفحة 165.
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(906/51)
القصص
على الشاطئ المجهول
للأستاذ أحمد شاهين
قال الزاهد الرحالة أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الخواص. .
. . . وفي يوم جميل صفت سماؤه واعتدل هواؤه ركبت البحر في لفيف من الصوفية نريد بعض البلاد الإسلامية التي انتهى إلينا من أخبارها ما حبب إلينا السفر إليها وزيارة العارفين وأهل العلم فيها؛ أولئك الذين فرقهم الله في الأرض كما فرق النجوم في السماء للنور والهداية. ودلالة الخلق على الخالق؛ ونحن في التماس النور عند هؤلاء بالتنقل والأسفار أشبه بالتجار بيد أن بضاعتنا لا تكون من زهرة الدنيا ومتاعها بل هي من زاد الآخرة وكفا والسفر عندنا بعض أساليبنا الصوفية في رياضة النفس المؤمنة على الرضا بالقدر وقبول الحياة الدنيا في مختلف أشكالها وأحوالها. ومن سنن الحياة الثابتة أنها لا تثبت على حال؛ وقد لا يشق على النفس إذا اعتادت التحول عن مكان إلى آخر ومفارقة الأهل والأحباب وما ألفت من العوائد والمشاهد أن تتحول مع الحياة على الحلو والمر؛ وأن تصبر لصروف الدهر فلا يغرب عنها صوابها أو يضل ضلالها إذا جرت عليها الأحداث والمكارة. . . بلى. . . وأن من سنن هذه الحياة أن لا تستقيم للأحياء على الأرض إلا بنور من السماء، فإذا ما حادت منهم جماعة عن ذلك النور السماوي تناولتها سنة بقاء الأصلح بالمحور والانقراض فلم تبق منها إلا آثارها لتحدث أخبارها لأمثالنا من السائحين في الأرض للنظر والمعرفة والاعتبار.
. . . وسارت بنا السفينة باسم الله مجريها ومرساها في جو صحو وماء رقراق، وذهب قرص الشمس يتهادى بجوارها على صفحة الماء الفضية التي رفت عليها أشعة الأصيل فتماوجت بألوان كبريق الذهب والفضة وراح الشاطئ الأخضر يتباعد رويدا رويدا حتى اختفى وأمسينا بين الأزرقين. . . البحر والسماء، ثم أقبل الليل فتوارى عنا قرص الشمس كأنما خر عن الأفق الفاني إلى أعماق المحيط، وما أروع الطبيعة إذا خلعت بياض النهار وغشيها الليل بظلامه المطبق وصمته الرهيب.
. . قال أبو إسحاق. . . وفي روعة الجلال السافر ومظاهر الإبداع الباهر وجمال الطبيعة(906/52)
الساحر نسينا نفوسنا وحلقت أرواحنا في ملكوت السموات والأرض، وغنى الملاحون حبورا بهذا الجو الجميل وتعالت أصواتنا بالتهليل والتكبير والثناء على رب هذا الكون العظيم فإنما الطبيعة لدينا محراب كبير تتجلى فيه مظاهر القدرة الأزلية في شتى المرائي والصور، فلا تكون نظرات العارف في مشاهد الطبيعة إلا كتأملاته في سور القرآن. والطبيعة كتاب الله المنشور والقرآن كتابه المسطور، وكلاهما تعبير عن وجود الله وكماله، بيد أن التعبير هنا بالآيات والسور المحكمة، وهناك بالمناظر والصور المجسمة؛ ومن ثم نجد القرآن كثيرا ما يحيل العقل في فهم معانيه وتحقيق براهينه على كتاب الطبيعة الخالد.
. . . قال وإنا لكذلك في نشوى وتأمل، وخشوع وتبتل، وقد فاتنا أن البحر أشبه ما في الحياة بالحياة فما ينفك يتلون ويتبدل وتتعاقب عليه المكارة والأهوال، ودوام الحال فيه من المحال، إذا بالسماء الصافية وقد غارت نجومها وتلبدت غيومها، وإذا بالريح الرخاء تهب علينا عاتية هوجاء، فهاج البحر وماج، وعج العجاج وتلاطمت من حولنا الأمواج وترنحت الفلك وجعلت الأعاصير الهوجاء تصارعها والأمواج الثائرة تتقاذفها هنا وهناك وهنالك. . . هاجت الريح فهاجت بنا المخاوف وأرعدت السماء فارتعدت الفرائص واضطربت القلوب بين الجوانح، وأشرفنا على الغرق واشتد الهول فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، هنالك أقبلنا على الله منيبين إليه تائبين، وبسطنا أيدينا بالتوسل والدعاء، ولو أن أشد الناس عنادا وأظلهم إلحادا ركب البحر فجاءته ريح عاصف وأحاط به الموج من كل مكان وبدا له شبح الموت الرهيب يسعى إليه في اللجة بين ريح عاصف ورعد قاصف وبرق خاطف وسحاب مركوم لانجابت الغشاوة عن بصيرته ولآمن لساعته؛ ذلك بأن دواعي الإيمان تلم آنئذ بأمراض النفس الضالة كما تسقط أشعة الشمس على قطع الجليد. من هنا دعا الإسلام إلى الإيمان بالرحمة والخوف، وناضل عن الحق بالبرهان وبالسيف. . . ثم وقعت الواقعة وارتطمت السفينة واندفعت بها الأعاصير إلى صخرة عظيمة فتحطمت وتناثر في اليم أشلاؤها وركابها جميعا.
. . . قال أبو إسحاق: تحطمت سفينتنا ولكن لم تتحطم ثقتنا بالله ورحمته ولطفه فتشبثنا بحطامها وجرفنا التيار الزاخر فجعلنا نغوص ونطفو والأمواج تتقاذفنا وقد غبنا عن الوجود حتى انتهينا إلى شاطئ لا ندري أي شاطئ هو فوقعنا على البر ساجدين شكرا لله الذي(906/53)
نجانا من هاته المحنة الرهيبة، فلما أصبحنا وجدنا أنفسنا بأرض كأنها واحدة من هاتيك السيارات الوعرة التي بخلت عليها الطبيعة بالحياة؛ فإذا رأيت ثم رأيت هضابا شامخة وكثبانا عريضة وصخورا متراكمة وصحراء قاحلة تترامى حتى كأنها تلتقي بالسماء عند الأفق البعيد، وكأن البحر قد اغتال متاعنا كما اغتال سفينتنا فانتشرنا في هذه الأرض المجهولة باحثين عن شيء يمسك علينا رمق الحياة من صيد أو نبات، وذهب النهار وذهبت جهودنا أدراج الرياح وعدنا من حيث أتينا وقد أنهكنا التعب وألح علينا الجوع فقضينا على الطوى ليلة أخرى، وعند مطلع الفجر قمنا إلى الصلاة ثم تفرقنا في جهات شتى بحثا عن القوت حتى انقضى اليوم ولم نعثر على شيء فبتنا بليل أليم. فلما تنفس الصبح وصلينا الفجر لبثنا في موضعنا منهوكين حيارى حتى قال قائل منا ما ينبغي لنا أن نستسلم للموت هكذا ولن نرزق ونحن هاهنا قعود يائسون ولكن يطلب الرزق بثلاثة: العمل والأمل والتوكل على الله، فانتشروا في الأرض ينشر لكم ربكم من رحمته. وقال آخر تعالوا نجعل لله على أنفسنا شيئا إن هو خلصنا من هذه الشدة؛ فنذر بعضنا صياما ونذر بعضنا صدقة. وقال آخر أصلي كذا وكذا ركعة، ونذر بعضنا حجا إلى أن قال كل منا شيئا وبقيت أنا مطرقا لا أتكلم، فقال أحدهم. ما لك لا تجعل لله عليك نذرا فعساه يفرج ما بك فإنك حري بأن تطلب الخير إن نؤتيه وإلا فإنك لا تجني من الشوك العنب؛ فقلت لله على أن لا آكل لحم فيل أبدا، فتصايح رفاقي غاضبين وقالوا: أو تهزل في مثل هذا الظرف العصيب؟ قلت تالله ما الهزل أردت ولا قصدت بقولي مزاحا ولا دعابة ولكنني فكرت مليا فيما أدعه لله فما خطر ببالي ولا جرى على لساني إلا هذا النذر العجيب. ولعله وقع مني كما وقعنا نحن على هاته الأرض الغامضة لأمر يراد؛ فانظروا ماذا بعدها مما كتبته لنا الأقدار على صفحات الليل والنهار.
. . . قال وتفرقنا في فجاج الأرض وتوغلنا في مسالكها حتى مال ميزان النهار واصفر وجه الشمس وطفقت تطوى ذيولها الوردية عن الآكام والرمال حتى توارت بالحجاب. وعاد رفاقي تباعا دون أن يجدوا شيئا إلا واحدا منا أبطأ في العودة حتى ظننا أنه قد هلك في أحشاء الصحراء من فرط التعب والإعياء. فارتمينا على الأرض منهوكين حيارى لا نكاد نقوى حتى على الكلام وإنا لكذلك إذا بصاحبنا الغائب مقبلا علينا يلهث ويرتعد مما به(906/54)
من التعب فألقى عن كاهله شيئا وإذا هو ولد فيل صغير فاجتمع عليه رفاقي فاحتالوا به حتى ذبحوه وجعلوه سليخا مشويا وأقبلوا ينهشون من لحمه إلا أنا فقد لزمت موضعي فقالوا تقدم وكل ولا عليك من نذرك السابق فإن لك فيه عذرا. . . قلت إني لأعلم أن الضرورات تبيح المحذورات ولكن قلبي يحدثني أن من وراء هذا الاتفاق العجيب سرا في ضمير القدر، وقد علمتم أني تركت لحم الفيل منذ ساعة تقربا إلى الله وما كنت لأرجع في شيء تركته له ومن يدري. فقد يكون هذا الذي جرى على لساني وأنكرتموه مني إنما هو لحضور أجلي من دونكم لأني ما أكلت شيئا منذ أيام وما أطمع في شيء آخر وما يراني الله أنقض عهده ولو مت وأني لمؤمن بالقدر راض بتصاريفه مهما تراءت الآن عجيبة قاسية فصبر جميل حتى يبلغ الكتاب أجله. . واعتزلتهم وأكلوا حتى فرغوا وسرعان ما غشيهم النوم فراحوا في سبات عميق وارتفع غطيطهم وبقيت وحدي ساهرا أتململ مما في أحشائي من آلام الجوع وهيهات يأوي النوم إلى عين استبد بها الخوف أو برح بها الألم وألح عليها الجوع القاسي؛ فذهبت أتشاغل بالإنصات إلى صفير الرياح في الصحراء وهدير الموج في البحر الخضم وأتأمل البدر المتألق في صدر السماء العاري وهو يرسل أشعته الفضية على الرمال والآكام ويشق طريقه بين النجوم متثاقلا واجما كأنه يرثي لحالي التعسة وقد ساد السكون وخيم الليل الموحش على المكان فتولاني خشوع عميق شغلني بعض الوقت عما أعانيه من الحيرة والألم.
قال أبو إسحاق وفي جوف الليل الصامت وسكون السحر الرهيب ترامى إلى سمعي صياح بعيد جعل يقترب ويرتفع في الفضاء سريعا وإذا أنا بفيل ضخم أقبل يقتفي أثر ولده حتى وقف علينا وعاين أشلاء ولده الذبيح فصاح صيحة نكرا. أفزعت رفاقي من سباتهم بيد أنهم لم يستطيعوا النهوض أو الفرار مما أخذهم من الفزع والذهول؛ فأقبل عليهم الفيل وجعل يمد خرطومه إلى الواحد منهم فيشمه فإذا وجد منه ريح لحم ولده رفع رجله فوضعها عليه وتحامل حتى يهشم أضلاعه فيقتله ثم يميل إلى صاحبه فيفعل به كذلك وقد انطرح القوم على الأرض وذهبوا يرددون الشهادة التي هي آخر الزاد من الدنيا. ورحت أنظر الفيل وهو يبطش برفاقي واحدا واحدا وقد جمد الدم في عروقي وانعقد من الروع لساني وخارت قواي ونضح جسدي بالعرق البارد وطارت نفسي شعاعا فرحت أتمتم بالاستغفار والشهادة(906/55)
التي أشرقت بها روحي المودعة حتى انتهى إلي الفيل فمد خرطومه إلى فمي فانخلع قلبي ووجدت ريح الموت من أنفاسه فشم كل مكان في جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي ثم رفع خرطومه وصاح صياحا منكرا خلت أنه زلزل الصحراء ثم أقبل علي ثانيا يقلبني ظهرا لبطن ويشمني هنا وهناك وقد غبت عن الوجود. . . وأخيرا لف علي خرطومه فرفعني في الهواء فقلت حضر الأجل ولكنه وضعني على ظهره ثم انكفأ راجعا فجهدت أن أثبت مكاني وانطلق بي الفيل يشتد عدوا فتارة يصعد بي في الهضاب وتارة ينحدر بي في الأودية ويسعى في الدروب الملتوية ويقتحم الأحراج والأدغال الكثيفة والليل الحالك مخيم على الوجود وصفير الرياح يقرع أذني في جوف الغابة الحالكة كأنه عزيف المردة التي تريد أن تتخطفني من كل مكان؛ وكان الفيل يهدأ أحيانا فيساورني الأمل الضئيل قي النجاة ثم يشتد عدوه فأتوقع أنه سيثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار والتشهد.
. . . قال وانتهى الفيل إلى أرض عريضة وكان الفجر قد أطل على الدنيا ونشر أشعته الفضية الحالمة فاستبانت لي طريق تشق المزارع الخضراء إلى حيث لا أدري؛ فدنا منها الفيل فرفعني عن ظهره فقلت إنا لله جاء الموت؛ بيد أنه أقامني على الطريق ثم ولى مدبرا. واتخذ سبيله في الأرض هربا فما عدت إلى صوابي إلا حين برزت الغزالة من خدرها وأضاءت المكان بنورها الذهبي الجميل فانبعثت أعدو في الطريق وأنا لا أصدق بالخلاص حتى بلغت قرية آويت إليها فعجب مني أهلوها وسألوني عن أمري فقصصت عليهم ما كان فزعموا أن الفيل سار بي في هذه الليلة مسيرة أيام واستطرفوا سلامتي فلبثت فيهم أياما حتى صلحت حالي من تلك الشدائد، وتندى بدني وعادت نفسي سيرتها الأولى. ثم خرجت في نفر من التجار إلى بلد على شاطئ البحر فركبته وأقلعت بنا الفلك في يوم طيب. ورزقني الله السلامة إلى أن عدت إلى بلدي وبقيت نفسي مليئة بهذه الذكريات الحزينة. ما عشت فلن أنسى أولئك الرفاق البررة الذين طالما طوفت معهم في الآفاق حتى ألقوا عصا التسيار. وأطبقوا جفونهم إلى الأبد على الشاطئ المجهول.
أحمد شاهين(906/56)
العدد 907 - بتاريخ: 20 - 11 - 1950(/)
علي محمود طه في يوم ذكراه
(تناولت أمس بالبريد مجموعة (زهر وخمر) للشاعر الساحر علي محمود طه فصار عندي من مجموعاته الخمس اثنتان: الملاح التائه وزهر وخمر. أما ليالي الملاح التائه، وأرواح شاردة، وأرواح وأشباح، فستصلني بالبريد حالما يقع نظر أخي الشاعر على هذه الكلمة، فأنا أحبه وأحب شعره. ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه. . فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نورا، وفي أنوفهم عطورا، وفي قلوبهم شعورا، فلن يستطيع لساني!! فيا خصوم علي محمود طه: ستموتون ويبقى هو حيا، فغراب الموت البشع ينعب في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده.
ألا تعرفون حكاية الضفدع والحباحب؟ إذن فأسمعوها:
رأى ضفدع يوما حباحبا يلمع على حافة غدير، فخرج إليه قذرا ساخطا وراح يبصق عليه. فقال الحباحب: ماذا فعلت بك؟ من أين جاءك هذا الغضب؟ فأجابه الضفدع: وأنت من أين جاءك هذا اللمعان؟!
على أن ما يعزيني ويطربني ويملأ نفسي رجاء أن الإقبال على شعر علي محمود طه كبير، وفي هذا دليل كاف على أن الشعور بالجمال مطرد النمو في مصر كما هو في لبنان!
فيا أخي الشاعر علي محمود طه: أنا أقطن أجمل بقعة في الأرض: ورائي صنين شيخ الجبال، وأمامي وحولي أروع أعذب ما مهرت به الطبيعة بلدا من بلاد الله: شاطئ كشعرك ذهب وفضة. . فضة حين أتركه في الصباح إلى المدينة، وذهب حين أعود إليه في المساء وخليج كله فتنة كشعرك في (الجندول) وفي (كليوباترا) فاتنة الدنيا وحسناء الزمان. ورواب كشعرك شماء وادعة. وسماء. . سماء كأنها شعرك: جمال وحب والهام. وجو كله كشعرك غناء. وماذا أقول بعد؟
في هذه البقعة الطيبة، في هذا الإطار الساحر، قرأت شعرك أو قل تغنيت به وأحببتك. . ويقيني أنك ستجيء يوما إلينا، فأصعد بك إلى الشيخ صنين وننحدر معا إلى الروابي فالخليج فشاطئ الذهب والفضة. ويقيني أيضاً أن هذا الجبل سيظفر منك بأغنية أشجى من أغنية لامرتين في شاطئ سرنته!)
إلياس أبو شبكة(907/1)
هذه الكلمة المشرقة إشراق الفجر، المحلقة تحليق الشعر، الهادرة هدير القمم، وجهها شاعر لبنان المبدع إلياس أبو شبكة إلى شاعرنا العبقري علي محمود طه بعد أن فرغ من قراءة ديوانه (زهر وخمر). . وكان ذلك منذ سبعة أعوام!
وقعت عيناي على هذه الكلمة، فأثارت في نفسي من الخواطر الحزينة ما أثارته ذكرى الشاعر الصديق. . ألأنها تصل اليوم بالأمس، أم لأنها تصور الواقع فتصدق، أم لأنها نفحة من نفحات الوفاء؟ قد يكون هذا كله مبعثا لتلك الخواطر الحزينة، ولكن الموجة الأولى التي غمرت شواطئ النفس بالأسى القاهر والأسف المقيم، هي أن أبا شبكة قد ودع الحياة فلم يملأ مكانه شاعر في لبنان، وأن علي طه قد فارق الدنيا فلم يشغل فراغه شاعر في مصر!!
مات شوقي هنا فقال الناس من بعده: لقد مات الشعر. . . قالوها وهم لا يرجون خيرا من الشيوخ ولا يعقدون أملاً على الشباب، لأن رفة الجناح الضخم عند شوقي وامتداد أفقه الرحيب لم يكن لهما في ذلك الوقت شبيه ولا نظير. أما الشيوخ فقد ظل شوقي طاغيا عليهم بشعره، مخمدا لأصواتهم بذكره، ساخرا من أصدائهم برجع صداه! وحين برز من بين صفوف الشباب شاعر جهير الصوت رصين الأداء شجي النغم، تطلعت إليه العيون وخفقت القلوب واشرأبت الأعناق. . كان علي طه في ذلك الحين لا يزال يشق الطريق؛ يشقه في قوة المؤمن وعزيمة المجتهد وأمل الواثق من بلوغ ما يريد. وكان الطريق تحت قدميه مفروشا بالصخور والأشواك: صخرة من حاقد، وشوكة من حاسد، وغمزة تنطلق من وراء لسان، وأخرى تنبعث من مداد قلم.
ولكن صيحات العطف والإعجاب كانت تغطي على صيحات الحقد والإنكار. . ومضى الزاحف المظفر وعيناه إلى الأمام، لا يلقي إلى الخلف نظرة، لأنه كان يؤثر ألا يمد عينيه إلى المتخلفين!
وكان الذين يغارون منه ويحقدون عليه، فئة من الشباب وحفنة من الشيوخ. . أما أولئك فقد راعهم ألا يسطع من بينهم غير أسم واحد، وألا يخرج من صفوفهم غير شاعر فرد، وألا يلحق به منهم لا حق في مضمار. وأما هؤلاء، فقد هالهم أن يملأ المكان الشاغر صوت ينبو على سمعهم لأنه صوت جديد، وجناح يشذ عن أفقهم لأنه منقطع الأواضر بالأمس(907/2)
البعيد. . وكأن النبوغ في رأيهم لا يحسب بعدد المواهب والملكات، وإنما يحسب بعدد السنين والأيام!!
وها هي أمواج الأثير تنقل الصدى في ذلك الحين من مصر إلى لبنان، فتهز عواطف الشعر في نفس إلياس أبي شبكة، وتشحذ بين يديه شباة القلم، وتطلق من بين شفتيه هذه الكلمات: (ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه. . فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نورا، وفي أنوفهم عطورا، وفي قلوبهم شعورا، فلن يستطيع لساني)!!
كان ذلك بالأمس. . أما اليوم، وقد انقضى على وفاة علي طه عام في حساب الزمن، فلا أظن أن الموت قد مسح بيد النسيان ما علق ببعض النفوس من أحقاد. ذلك لأن الموت حين أخذ علي طه لم يستطع أن يأخذ شعره. . وبقى هذا الشعر راسخا في الضمائر، ماثلا في الخواطر، نابضا في القلوب! وأهتف في يوم ذكراه كما هتف إلياس أبو شبكة منذ أعوام: (فيا خصوم علي محمود طه: ستموتون ويبقى هو حيا، فغراب الموت البشع ينعب في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده9!!
وسلام عليك يا صديقي. . . سلام عليك في الخالدين.
أنور المعداوي(907/3)
الألعاب العربية
للأستاذ محمد محمود زيتون
- 3 -
رأينا في المقال السابق كيف التقت التربية البدنية بالتربية الدينية عند مبدأ الإخاء حيث تسود الألفة بين المتلاعبين.
ويحرص النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكون الناس في جدهم ولهوهم إخوانا وزملاء فهو القائل (تآخوا في الله أخوين أخوين).
والقائل (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده) ولهذا كان المسلمون في شتى مراحل الدعوة المحمدية أخوين أخوين.
وخرج عمر بن الخطاب يوما في سفر فقال لمن كان معه (ألا تزاملون) وزامل بين كل اثنين.
وحول هذا المحور من الإخاء دارت الألعاب الإسلامية فكان دورها حلقة ذات مكانة مرموقة في تعاليم الإسلام؛ ذلك الدين الذي الآن من عنفوان عمر حتى قال (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي فإذا التمس ما عنده كان رجلا) وكذلك حقا كان عمر مع أولاده الصغار فقد كانوا يركبونه ويسحبونه ويسوقونه وهو أمير المؤمنين وفاتح الأمصار، وما كان أسعده بهذه اللحظات من اللهو البريء الذي هو اللعب المشروع من غير تناقض مع وقار الخليفة وجلال الخلافة، فلما دخل عليه أحد الولاة ورآه على هذا النحو الذي ذكرناه أستنكره منه وعندما سأله عما يفعله هو في بيته قال بما يفيد جفوته مع أهله فعزله أمير المؤمنين.
ومن هذا الباب أيضاً ما قاله علي بن أبي طالب (سلوا هذه النفوس ساعة بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد) وهل تكون هذه التسلية إلا باللهو واللعب الذين هما جلاؤهما وصقالها؟
وفي هذا يقول أبو الدرداء الصحابي الجليل (أني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونا لي على الحق).
ولما كان من أغراض التربية الكاملة تهذيب النفس بترويض الأعضاء على الفنون(907/4)
والصناعات فإن القائمين على شؤون التعليم قد رفضوا دروس الأشغال في المدارس، وبهذا اللون من التربية اليدوية اتسمت حياة النبي الكريم.
سئلت عائشة: كيف كان النبي إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس؛ وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضاحكا بساما.
وسئلت. ما كان يصنع في بيته: فقالت: ما يصنع أحدكم: يرقع ثوبه ويخصف (يخرز) نعله ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة؛ وكان يعمل عمل البيت وكثر ما يعمل الخياطة.
وكان رسول الله (ص) يضمر الخيل ليسابق بها، وهو الذي جعل للسباق حدودا لا يتعداها لهو المؤمن إذ قال (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) وما أرفع الغاية التي ينشدها نبي الإسلام للمؤمنين إذ يقول لهم (الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلضة) وتلك من غير شك غاية التربية البدنية، وما أنبلها من غاية.
وتقول عائشة أيضا: كان رسول الله يخصف نعليه وكنت أعزل
وسواء كانت هذه الصناعات اليدوية الصغرى مقصودة لذاتها أو لمجرد اللهو وسد أوقات الفراغ أو مقصودة للكسب المادي فإن كلا الأمرين شريف ومشروع وإن كنا لا نزال نعتقد أنها من ألزم اللزوميات لكل الناس ولا سيما ذوي الهيئات. ونحن نعلم عن مستر تشرشل وقد كان ولا يزال من مديري دفة السياسة البريطانية بل العالمية أنه من المغرمين بالرسم وكثيرا ما يذهب إلى سويسرا لرسم المناظر الطبيعية بريشة الفنان بحيث يستجم لنفسه في مهمته السياسية وما أثقل أعباءها.
وعندنا نحن من النماذج الإسلامية ما يزاحم الرءوس الكبار بما كان لها من أثر فعال في تغيير وجه التاريخ تغييرا شاملا؛ فهذا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وقد عرف عنه أنه كان يذهب وحيدا بعيدا في صيد الوحوش الكواسر وطالما طالع أهل مكة بقوامه الفارع وشبابه المتوثب وهو يتقلد سيفه يتنكب قوسه وينتضى في يديه السهام ويختصر الحراب.
وكان عمر من المهتمين بالتربية عن طريق الأشغال اليدوية والألعاب الرياضية إذ يقول (من خط وخاط وفرس وعام فذاكم الغلام) وبهذا لم يهمل هذا النوع من الأشغال الذي يسمى بالإنجليزية (هوبة). وكان رسول الله يشجع على توجيه الصغار نحو مشاهدة الطبيعة(907/5)
وتأمل الأحياء؛ فقد دخل على أم أنس بن مالك فوجد ابنها أبا عمير حزينا مغتما فقال لها: (يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا؟) قالت: يا رسول الله مات نغيره (عصفوره) فتلفت النبي إليه وقال: (أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان كلما رآه قالها له مداعبا.
ولا شك أن نوع اللعبة تحدده الغريزة الجنسية. كما أنها تستجيب لغريزة حب الاستطلاع، ثم هي مجال طبيعي يتعرف فيه الناشئ على خصائص الحيوان، وفيه تمتد آفاق الخيال، وتتكشف الانفعالات والعواطف نحو الحياة والأحياء في أبسط صورة.
وغريزة اللعب هذه ملازمة للإنسان من المهد إلى اللحد لا تبرح سلوكه ولا ينفك عنها نشاطه.
فلا تعارض بين اللعب والسن مهما يكن من هيبة ووقار.
فقد دخل النبي على عائشة وعمرها تسع سنين، وكانت لعبتها في يدها، ومعها صواحبها في أرجوحة بين نخلتين، فأنزلتها أمها من الأرجوحة لتزفها إلى رسول الله.
ولم تنس عائشة لعبها بعد أن أصبحت زوجة فهي تقول (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو حنين فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع. قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت. جناحان. قال: جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه)
والإسلام يقر اللهو البريء الذي لا يفسد الطبع ولا يصرف عن الجد، وما أصدق روح الإسلام في بيت البارودي إذ يقول:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب=وغيري باللذات يلهو ويلعب
إلى ما في هذه القصيدة من اعتزاز بالدأب على طلب العلا، وافتخار بنفس أبية لها بين أطراف الأسنة مطلب، ولها مع الوحوش صراع، فلا عجب إذا أصغرت هذه الهمامة كل مأرب.
واستقبلت جويريات بني النجار رسول الله بالمدينة بالأناشيد والمعازف؛ كما أخذ الأحباش يلعبون بالحراب بين يديه، وأخذت جاريتان تضربان بالدف في بيته فلم ينكر عليهما ذلك حتى إذا دخل أبوبكر منعهما فقال له النبي: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا.(907/6)
وذهبت عائشة يوما إلى عرس في بيت للأنصار فلما رجعت سألها النبي: (أهديتم الفتاة إلى بعلها؟) قالت: نعم. قال: (فبثتم معها من يغني؟) قالت: لا. قال: (أر ما عملت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم=فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا_ء لم نحلل بواديكم
والعرب تطلق كلمة (المقلس) على الرجل يلعب بين يدي الأمير إذا قدم المصر.
والمداعبة والمضاحكة مما يدخل في باب اللهو واللعب بغية التسلية والترفيه، كما كان يفعل النبي، فقد قال لعجوز: (انه لا يدخل الجنة عجوز) فحزنت، ولكنه لم يلبث أن تلا عليها قول الله تعالى (عربا أترابا) فضحكت واستبشرت. لأنها سترتد في الجنة صغيرة السن عذراء حسناء، وذلك ما تتمناه المرأة للطبع المركب فيها.
وليس المزاح من المداعبة في شيء، لما له من أسوء الأثر في النفس، لهذا نهى النبي عنه. ويروى أن رجلا أخذ نعل رجل فغيها وهو يمزح فذكر ذلك للنبي فقال: (لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم) وقال في حديث آخر (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا) كما نهى عن المزاح بالسلاح فقال: (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان يترع في يده فيقع في حفرة من النار).
وكان الإسلام حريصا على صيانة السباحة من الابتذال، فحرم على النساء أن يسبحن عاريات حتى لا تكون فتنة.
ولما دخلت الحمامات بلاد العرب وضع رسول الله حدودها فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) وقال (شر البيوت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات) ودخلت نسوة من الشام على عائشة فقالت لهن: أنتن اللاتي تدخلن نساءكن الحمامات. سمعت رسول الله يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)
ويوم أن سار العرب في حماماتهم على هدى التعاليم الإسلامية صانوا كرامتهم، وشهد لهم جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) فقال (حمامات الشرق أفضل من حمامات الغرب صحة وراحة؛ وهي عدا ذلك محل للاجتماع والمحادثة ولا تقل شأنا عما كان لها(907/7)
أيام الرومان)
والخلاصة أن الإسلام عندما اقر البريء من العاب العرب وشذب بعضها لم يهدف إلى اكتناز العضلات وصلابة العود، ولم يقصد إلى إطالة العمر، ولم يدفع إلى المضارة على الضعيف بالتذرع بحجج أوهى من نسيج العنكبوت مثل (شعب الله المختار) وإنما وضع الرياضة البدنية موضع الاعتبار بأن جعلها (تربية) ذات غرض نافع وهدف رافع.
كان عصر إسيرطة يعد الفتيان للحرب كفاية تقصد لذاتها، وكان أبناء الرومان يقاسون زمهرير الشتاء وذل النفس لينشئوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، أما الأسبان فقد جرت دماء الوحشية في عروقهم إذ اتخذوا من (مصارعة الثيران) مسلاة وملهاة، كلما رأوا اللاعب ينجو من غدر خصمه (الثور) عاجله بطعنة من خنجره فيخر مضرجا بدمائه.
والحق في جانب العرب في الحكم لهم بارتفاع الغريزة عما يشينها من حيوانية صارخة وشهوة عارمة، فهم قد عرفوا رياضة الإنسان وترويض الحيوان، فلما طالعهم الإسلام أحل الله لهم صيد البر والبحر وحثهم على الرفق في الأمر كله، ونهاهم عن المثلة ولو بالكلب العقور فكانوا طرازا نادرا في البطولة والرجولة.
طيروا الحمام الزاجل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. وأطلقوا الصقور بين يدي نبالهم تنقض على الصيد المباح، وامتلكوا نواصي الخيل. واعتلوا صهواتها. فأكرموا غاية الإكرام وركبوا سفينة الصحراء تشق بهم الوهاد والنجاد. وتربصوا للأسود الضارية والأفاعي الحاوية، فصرعوها في كهوفها، فتطهرت السبل من أذىالإنس والجن.
وكانت العاب العرب في جملتها وتفصيلها مسايرة لمطالب الطبع البشري، فلم يقهروا الغريزة قهرا، - ولو أرادوا لفعلوا - ولم يهربوا من الطبع الغلاب، بل واجهوا الحياة بما هو في الإمكان للسير بها قدما نحو الشرف والرفعة، حتى إذا لم يعد في الطاقة مكان، استسلم المرء للواقع المرير، وفي القلب الكسير حسرة على الماضي القوي، والشباب الصبي، فذلك قول شيخ العرب، وقد ذوى عوده، وانطوى ظله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا=أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به=وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعدما قوة اعز بها=أصبحت شيخا أعالج الكبرا(907/8)
ولو شاء العربي أن يرمز إلى الحياة الجامحة فإنما تكون نفسه أقرب ما يسعفه إلى غرضه، بل تكون (الناقة) أقرب إليه والى الحياة من نفسه؛ فهي محور الأرض والسماء، ومرصد الشاهد والغائب، ومدار القوي والضعيف، ومقياس الشرف والصفة، ورمز العافية والضياع. ولهذا كان اغلب التعبيرات العربية عن النفس مشتقة من الناقة التي هي سفينة الحياة. وطالما كنى بها العربي عن نفسه في كل مظاهر الشعور.
فكان العقل من قولهم: عقل البعير، والعقل والعقال ما يعقل؛ والعائلة هي العاقلة أي القبيلة لأنها تعقل البعير في أداء الدية عن المعتدي الأثيم من أفرادها. وما أبرع تورية النبي لصاحب الناقة إذ قال (اعقلها وتوكل)
والعربي يرخى لنفسه العنان كما يفعل بناقته ثم يأخذ شكيمتها ويكبح جماحها. ويزجرها عن هواها، ويثنيها عن غربها وشموسها ويأخذ بناصيتها، ويمتلك سنامها، وتميل نفسه إلى ولده متأثرا بحنين الناقة إذا طربت في أثر ولدها، وإذا أناخها فبركت، فإنما هي نفسه التي ينيخها فتبرك. وكذلك حين يسوقها ويقودها ويحثها ويحدو لها فهي ذلول لا شرود، ما دام في يده خطامها يشد عليها زمامها، فيلزمها غرز الفضيلة وتنص به في ركاب الفضلاء، رائدة الخير لها، ينتجه صادرا وواردا.
تلك هي حياة العربي الذي يتخذ من الناقة سفينة إلى معالي المثل ومكارم الأمور، حتى إذا نفض يديه من حطام دنياه لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، لا تخدعه فيها خضراء الدمن.
ولعمري إن الإنسان الذي يتوصل إلى ما بلغه العربي من مجد لأحق بالتمجيد والتخليد، وحسبه شرفا أنه سلك كل وعر، وامتطى كل صعب، حتى ألان الدنيا لأرادته. فكانت طوع أمره، وراض بدنه لنفسه، وروض جوارحه للمعالي، فكان صاحب السيادة.
ومفتاح هذا الظفر أنه اتخذ من الجمل مطية لكل غرض؛ فأصبحت الحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وصار من المألوف المعروف عنه أن يقول (فلان يتخذ الليل جملا).
وانه لمجتمع كريم ذلك الذي يدرك فلسفة الحياة في كلمتين هما:
(الغاية والوسيلة) ويدرك حقيقة البطل في صورة فيها الجسم الجميل، والنفس الكاملة، والغرض السامي.
ولا شك أن الألعاب العربية في هذا الغرض الذي أبديناه قد أوفت على الغاية، واختارت(907/9)
المسلك القريب، فزاحمت بذلك أصحاب الحضارة، وأثبتت أصالتها وعراقتها كلما تعرضت للمقاييس النزيهة مما نعرفه، ولم نعرفه بعد.
محمد محمود زيتون
(ممنوع النقل والنشر والترجمة إلا بأذن الرسالة)(907/10)
بعد عام
علي محمود طه
لقد مضى الزمان بنا يخب، حتى صرنا على بعد عام من (علي محمود
طه). . ولكنا ما زلنا نرى الزورق سابحا. مبسوط الشراع، يجري
على كف الموج، في أنهار الخلود؛ لا يطويه أفق، ولا يحجبه بعد.
- 1 -
كان (علي طه) فردا آتاه الله الرهافة في الحس، والحدة في الشعور، والرقة في الذوق؛ فانطلق جوابا في الآفاق يستعرض آيات الله في جمال الطبيعة ومفاتنها.
معهدي هذا المروج وأست ... اذي ربيع الطبيعة الفينانة
وقف أمام (كومو) واهتز لها فقال.
ها هنا يشعر الجم - اد ويوحي لمن شعر.
ولولا وفاه طبعت به الفطرة، وحب لبني النيل الأعزة؛ لركن (الملاح) الرحال إلى أحضان هذا الشاطئ، يحرسه بعينيه، ويطربه بموسيقاه.
آه لولا أحبة ... نزلوا شاطئ النهر
ورفات مطهر ... وكريم من السير
لتمنيت شرفة ... لي في هذا الحجر
أقطع العمر عندها ... غير وان عن النظر
فلقد فاز من رأى ... ولقد عاش من ظفر
ولقد عاش حياته شاعرا غير الشعراء. فلم يتواضع لجني من عبقر يستجديه القصيد، وإنما راح يستهبط الوحي من ملائكة السماء ليندفع بعد ذلك شاديا. ينظم الحس أغاني، ويرسل بالجمال أهازيج، وإنه بذلك لخلاب باهر ينغم الأعماق بالإعجاب، ويشتمل العواطف بالطرب.
وسماء للشاعر الفذ منها ... يستقي الشعر وحيه وبيانه
وأنا الشاعر الذي افتن بالحس ... ن وأذكت يد الحياة افتنانه(907/11)
فبوركت يا علي انك فنان
ضارب في الخيال ملق عنانه ... ملك الوحي قلبه ولسانه
- 2 -
. ومن خلف عشرة عقود هبت على الوادي الأمين، أنسام المجد، تحمل في أحنائها ريح (إبراهيم)، وعطر ذكراه فوجدت بين جنبي الشاعر رئة مفتوحة تفيض بالحس، ورود تنتشي للنبوغ في القتال. كما تنتشي للتفوق في الجمال، ولنطرق صامتين لنسمع.
في كفك السيف فأحم الأهل والدارا ... وادفع به الظلم، واضرب حيثما دارا
اضرب بسيفك لا تسمع لمعتذر ... لم يترك البغي للباغين أعذارا
لم يفهموا في قراب السلم منطقه ... فجاءهم عاري الحدين بتارا
دعا بهم ورماهم عن معاقلهم ... جرحى وصرعى وأشلاء وأحجارا
والحرب شتى فنون أنت سيدها ... إن حانت السلم، أو لاقيت غدارا
وهذا هو يقف لتحية أبطال القتال في (الفلوجة) ويسائلهم في أسلوب شيق جميل عن وقفتهم الخالدة، في القرية المحصورة.
هاتوا حديث الحرب كيف تطاحنت ... لكمو منازعها، وهان عصيها
في قرية محصورة كسفينة ... في لجة هاج وماج غضوبها
لم تدر فيها الريح أين قرارها؟ ... والشمس أين شروقها وغروبها
وهكذا في كل ناحية نجده موهوباً راسخ القدم.
- 3 -
أما شعر الفقيد بين معالم النهضة فطفرة جريئة. أحدثت روحا جديدة، لها لونها الخاص، ومذهبها الممتاز. بدت تباشيرها بظهور (الملاح التائه) وصارت ضحى فتيا قد اشتد وهجه وعلا سناه بإخراج (لياليه)؛ وإذا كان الشعر الحي: هو الذي ينبثق عن العاطفة، ملونا بظلال النفس، نابضا بتدفق الحياة، فشاعرية (علي طه) بارعة فنانة، تأتي بالصورة الدقيقة في البيت الرصين فيظن أنها تحت الباصرة مرئية واقعة، وإلا فأسبح مع الشاعر الحالم في سماواته العلى حين يقول:(907/12)
إذا ارتقى البدر صفحة النهر
وضمنا فيه زورق يجري
وداعبت نسمة من العطر
على محياك خصلة الشعر
حسوتها قبلة من الجمر
يالها ألوانا مسكرة مخدرة، تطير بالروح هياما ونشوة، وتسيل بالنفس سحرا وغبطة. . .
بل يا لوعة الفن الرفيع إذ يخلفه ربه وحيدا أسيفا،
القاهرة
بركات(907/13)
ما رأيت وما سمعت
في سوريا ولبنان
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 5 -
يستوي عندي غضب الغاضب ورضى الراضي. ولست أبالي بأولئك الحكام الذين أزعجهم فأقلقهم، وأثارهم فأغضبهم كلامي المستمد من الحقائق، وهي جارحة. وقد قلتها للشعب،
لا لمأرب ذاتي، ولغاية حزبية، بل أردته لسبب واحد هو (ضرورة إيقاف الشعب على الحقيقة) وهذا أول واجبات الكاتب.
صحيح أن الحقائق نسبية، وأن ليس كل ما يعلم يقال، والأصح من ذلك أن تكون الحقائق مجردة، والأذهان مهيأة، والخطط واضحة مبسوطة لمن كان حاله ووضعه كحال السوريين واللبنانيين ووضعهم على التخصيص، وحال ووضع شعوب دول الجامعة العربية بالنسبة لما هي منكوبة به من احتلال واقعي ومن تدخل وبسط سيطرة ونفوذ هو بمثابة احتلال مبرقع.
وإيقاف الشعوب العربية على الحقائق السياسية فرض محتوم وواجب مقدس، لا على الحاكم المسؤول الذي يريد أن يسير بأمته في طريق الإصلاح والتقدم والاستقرار فقط، بل هو أيضاً فرض محتوم وواجب مقدس على الكاتب الذي يعاون الحاكم بقلمه، وعلى قادة الرأي من الرجال العاملين والذين بمؤازرتهم، وعلى ضوء آرائهم يسير الحاكم بخطى وطيدة مع الشعب لتحقيق رسالته. بهذا تكون الصلة وثيقة، والروابط قوية بين الحاكم والمحكوم. أما إذا كان الحاكم غير ديمقراطي بالنزعة، وكانت له قواعد وقوانين دستورية كما هو الحال، وكان ممن يلبس الوجه البشوش والثغر الباسم للأجنبي المستقوي الطامع، ويطاطيء له الرأس كما هو الواقع، ويلبس للشعب جلد الأسد الهصور المكشر عن أنيابه، يعمل بالسر عكس ما يقول ويعلن، وكانت له صحافة طيعة المراس لينة العجينة، يتسابق كتابها في إيقاد أقلامهم فيجعلون منها نارا هادئة تحرق البخور العطر للحاكم وتظليلا للشعب كما هي الحقيقة، فقل السلام والرحمة على ذلك الشعب المسكين، وأعلم أن نكبته(907/14)
بحكامه وصحافته أظلم وأدهى من نكبته بالمستعمر الطامع، وأن مصيره بعيد عن الغاية التي أوهموه أنه صائر إليها.
وقف فلان من صديقه الحاكم يقول له في معرض الحديث (أن الحاكم القوي بعمله لا يخشى صاحبة الجلالة، محلية كانت أو غير محلية، ووددت لو يزداد في عهدك عدد الأقلام المعارضة فتكون لك خير نبراس للهدى) فيؤمن الحاكم النير الذهن ويعد بأن يشجع الصحف المعارضة ليسترشد بها، وإذا بهذا الحاكم النير الذهن يوعز إلى زبانيته في قلم مراقبة المطبوعات أن تنزع من صحيفة الرسالة الصفحات التي فيها مقال (ما رأيت وما سمعت في سوريا ولبنان)
من هو الحاكم؟ الحاكم في حكومة جمهورية فرد من أفراد الشعب توفرت لديه الكفاية من موهبة وعلم وعزيمة؛ ينتخبه نواب الأمة للعمل في خدمة الشعب. والحكام الذين تداولوا مقاعد الرياسة في سورية على نوعين، نوع اختارته السلطة الأجنبية المحتلة، وفرضت رياسته على الشعب فرضا كالشيخ تاج الدين الحسيني ومحمد علي العابد وسواهما، ونوع اصطفته الأمة، وولته الرياسة تولية شرعية دستورية لا غبار عليها كالسيد شكري القوتلي، وكل حاكم يعتلي مقعد الحكم سواء أكان رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزارة صنم تعبده الجماهير وأصحاب الغايات والأغراض.
عبادة الأصنام صفة أصيلة في الطبيعة الشرقية وهو يلائم مزاجها ويدغدغ سريرتها.
وعبادة الأصنام تماثل عبادة الموتى، وكل ميت سواء كان عزيزا علينا أو غير عزيز، تسمو قيمته بعد الموت، ويجل قدره، ويصبح له شخصية وأن كان إمعة، وتاريخاً وأن كان نكرة،
سمعت فيما سمعت في سوريا أحاديث الناس في الحكومة القائمة، سمعت شكوى من نصرتها فئة من الشعب على فئة من الشعب، وسمعت حمدا لها لموقفها الحازم في لبنان تصفي مشكلتها معه في المصالح المشتركة، وسمعت انقساما في الرأي حيال موقفها من الجيش يزجرها عن الإقدام عن الانضمام إلى العراق وشرق الاردن، وسمعت ثناء على نشاطها في السعي للسير قدما في بناء ميناء اللاذقية وإزالة العراقيل التي تؤخر استلام القرض السعودي، وفي موقفها تصد الحكومات العربية عن التدخل في شؤونها الداخلية،(907/15)
وسمعت أشياء كثيرة عن الحكومة القائمة تؤيد قول أبن الوردي القائل:
أن نصف الناس أعداء لمن ... ولي الأحكام هذا إن عدل
وسمعت الإطناب في امتداح أعمال الوزير السابق السيد خالد العظم لدقته في تصريف الأمور الإدارية على أكمل وجه، وسمعت نقدا لعدم على قدرته الجمع بين دقة الإدارة ودقة السياسة، وسمعت من يعطف عليه ولم أرى من بكى بعده عن الحكم.
ورأيت ناسا يبكون حسني الزعيم، لا لصفات فاضلة فيه، بل لأنه كان يريد أن يعمل، ولأن الشعب قد سمع أن صلاح الشعوب متوقف على وجود (مستبد عادل) وكان مرجوا أن يكون الزعيم ذلك (الرجل المنتظر) ولكنه ذهب فليرحمه الله، وليحسن إليه.
وسمعت من يهلل للسيد شكري القوتلي ويتحزب له، ويطالب بعودته إلى الحكم، ورأيتهم يغسلون آثامه بدموعهم، ويطهرونه من الخطيئات بنيران قلوبهم، ويغتفرون له ما تقدم من جرائمه وما تأخر من أجرامه، ونسوا أنهم هم الذين هللوا يوم أسقطه الزعيم من أريكة الرياسة، وهم الذين كبروا يوم سجنه الزعيم في سجن اللصوص والقتلة، وهم الذين طلبوا رأسه، وهم الذين نصبوا الزينات في شوارع البلد ونشروا ألوية الفرح ابتهاجا بسقوط شكري القوتلي الذي فعل كذا وكذا وكيت وكيت.
كل حاكم في كل بلد صنم يعبده الناس ويرجمونه، ومن سخرية الزمن أن عباد الحكام ينقلبون إلى كافرين ومجرمين، وان أتباع الحاكم يتطورون ساعة سقوط الحاكم إلى زبانية ومجدفين ثم لا يلبث غضبهم أن يؤول إلى رحمة وشفقة بالحاكم الصريع، يقيلون عثاره، ويمسحون دموعه، وينشفون عرقه، ويضمدون جراحه، ويواسون آلام نفسه، ثم يهملونه وينسونه.
هذه صورة لمصير كل حاكم في كل شعب، وفي كل زمان، ولكن هذه الصورة لا تنطبق على حال السيد شكري القوتلي بدليل أنه بعث بعد أن مات، وتقمص بعد أن فنى وأضمحل.
وأنا أقول إن الذي يهوى ويسقط لا تقوم له قائمة. وأن الصيحات التي نسمعها هنا وهناك، فينة بعد فينة، إن هي إلا صراخ صبية في ريعان الصبى ترملت بعيد الزواج معناه الإعلان الصريح عن حياة جديدة مع زوج جديد، أما الزوج الميت فلا يبعث.(907/16)
الرئيس القوتلي في نظري هو من آخر من يستأهل الرحمة من كافة طبقات الشعب، لا لأنه السيد شكري القوتلي صاحب الصفحات المسطورة في تاريخ الجهاد الوطني منذ انبثاق هذا القرن، ولا لأنه صاحب الجلد القوي والعزيمة الجبارة في محاربة العثمانيين ومقاتلة الفرنسيين والاستعانة عليهم بالألمان تارة وبالإنجليز تارة أخرى، ولا لأنه كان (الحركة المستديمة) كما كنا نسميه، وأذ كان يقطع آلاف الأميال متنقلا بين الشام ومصر والحجاز والرياض واليمن في العمل المتواصل لاستقلال سورية وإزاحة نير الفرنسيين عنها، ولا لعشرات من الحسنات تسطرها الوطنية له بحروف من الفخر، وبرغم هذه الحسنات وسواها مما يعرفه له كل سوري؛ أقول أنه إلا يستأهل الرحمة ولا الغفران لأنه أجرم في حق نفسه، ثم في حق وطنه ثم في حق دستور بلاده؛ ولذلك يحسن أن يستمع إلى نصيحة الأمة تقول له بمودة وإشفاق (اذهب أيها الإنسان إلى منفاك لأنك لعبت دورك ففشلت).
الحكم الدستوري تقليد لا تخليد، ولكن السيد القوتلي وهو أول رئيس جمهورية لسورية المستقلة، قد عبث بالدستور، وسخر نواب الأمة فجعلهم يفتعلون له مادة في صلب القانون الأساسي تبيح إعادة انتخابه للرئاسة أكثر من مرة. فهذا العبث الصارخ جرأ الأمة على الاستهانة بدستورها وعلى تحويره وتبديله كلما طاب لشيطان من الشياطين إشباع شهوته من الحكم، وهذا العبث الإجرامي هو الذي مهد السبيل للانقلابات الثلاثة. وهو الذي حمل ضباط الجيش على ذبح بعضهم بعضا. وهو الذي بذر بذور فتنة أسال الله أن تختنق في مهدها. وهو الذي ألقى (خيوط الحرير في الشوك) وقال لأعدائه أن يتشبثوا بمطالبة الحكومة القائمة بإلغاء الدستور، ومحو القوانين التي سنها النواب للمحاكم، واعتبار ما قام على الفاسد فهو فاسد، وإعادة ما كان أيام حكمه السعيد إلى ما كان عليه، وأن يسرحوا النواب ورئيس الجمهورية ويتبعوهم ليعود فخامته إلى مقر حكمه، وصولجان ملكه.
قليل من العقل يا رجال دمشق. قليل من الرصانة التي عرفتم بها، لا تضيعوا الوقت في مماحكات أفلاطونية وعنعنات لا طائل تحتها، إن سورية لا تموت وهي ما برحت تنجب الرجال؛ فلا تعبدوا الأصنام ولا تبكوها إذا هوت وانطرحت في الرغام،
حبيب الزحلاوي(907/17)
من الحوادث الأدبية
روزفلت في مصر
للأستاذ محمد سيد كيلاني
في شهر مارس سنة 1910 جاء مستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة سابقا إلى مصر عن طريق السودان بعد أن أمضا فترة في الصيد في غابات السودان. ونزل في أسوان والأمصر وزار ما فيهما من آثار.
وقد أراد المحتلون أن ينتفعوا بنفوذ روزفلت الأدبي في تثبيط همم المصريين وأضعاف عزائمهم حتى يرضوا بالاحتلال وينصرفوا عن طلب الاستقلال. فأوعزوا إليه أن يخطب مطريا الحكم البريطاني محبذا بقاءه. فقام في الخرطوم وألقى خطبة أشاد فيها بمزايا هذا الحكم وفوائده؛ كما أشاد بمزايا الدين المسيحي وفضائله وتواترت الأنباء بهذا إلى أذهان المصريين فتأثر الرأي العام بما سمع. وقد نظم المرحوم أحمد شوقي قصيدة فريدة هي قصيدة (أنس الوجود) وأهداها إلى الرئيس الأمريكي مرفقة بخطاب جاء فيه (. . . أنت اليوم تمشي فوق مهد الأعصر الأول، ولحد قواهر الدول. أرض أتخذها الإسكندر عرينا، وملأها على أهلها قيصر سفينا، وخلف أبن العاص فيها لسانا وجنسا ودينا، فكان أعظم المستعمرين حقيقة وأكثرهم يقينا. وهو الذي لم يعلم عليه أنه بغى أو ظلم أو سفك الدم أو نهى أو أمر إلا بين الرجاء والحذر، من عدل عمر، الذي تنبيك عنه السير.
(قمت أيها الضيف العظيم في السودان خطيبا فأنصت العصر، والتفتت مصر، وأقبل أهلها بعضهم على بعض يتساءلون: كيف خالف الرئيس سنة الأحرار من قادة الأمم وسواس الممالك أمثاله فطارد الشعور وهو يهب، والوجدان وهو يشب، والحياة وهي تدب في هذا الشعب. ومن حرمة العواطف السامية ألا تطارد كأنها وحوش ضارية، على صحراء أو بادية، كما طارت السباع بالأمس نقما من طبائعها الجافية. . . الخ) وقد وفق شوقي في هذه القصيدة توفيقا كبيرا وأجاد إجادة تامة. ولا ريب في أن عاطفته القوية وإحساسه المتدفق وشعوره الفياض كان حافزا له على التجويد. واهتم الشاعر في هذه القصيدة بالتنويه بمجد مصر القديم وحضاراتها ومدنيتها وما كان فيها من العلوم وما تركه الأقدمون من العمران. وقد كان قوي الأسلوب متين العبارة. وأراد الشاعر أن يكسب عطف هذا الرجل الأمريكي(907/18)
حتى ينصر لمصر والمصريين ويعينهم بنفوذه الأدبي في قضيتهم الكبرى؛ قضية الاستقلال.
ومن قوله مخاطبا روزفلت:
يا إمام الشعوب بالمس واليو ... م ستعطى من الثناء فترضى
كن ظهيرا لأهلها ونصيرا ... وابذل النصح بعد ذلك محضا
قل لقوم على الولايات أيقا ... ظ إذا ذاقت البرية غمضا
شيمة النيل أن بقى وعجيب ... أحرجوه فضيع العهد نقضا
لم يشأ شوقي أن يلوم روزفلت أو يعتب عليه على ما تفوه به في الخرطوم من مدح للإنجليز وإطراء لهم. وذلك لأنه كان يطمع في أن يضمه إلى جانب المصريين فرأى أن يخاطبه فيأدب جم ورفق ولين، وأن يستميله إلى ناحية مصر بالتغني بهذه الآثار التي شاهدها روزفلت في الصعيد، ومما تدل عليه من عبقرية ونبوغ. وشعب كهذا جدير بالتقدير والاحترام، خليق بالحرية والاستقلال
أما حافظ وغيره من الشعراء فإنهم قابلوا روزفلت بالعتاب المر واللوم الشديد والتقريع والتعنيف، وقدموا له الأدلة والحجج على فساد آرائه وخطأ أفكاره وبعده عن جادة الحق،
أنظر إلى حافظ حين يقول:
يا نصير الضعيف مالك تطرى ... خطة القوم بعد ذاك النكير
لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم ... في حماكم من دونهم ألف سور
أنت تطريهم وتثني عليهم ... نائما آمنا وراء البحور
ليت شعري أكنت تدعوا إليهم ... يوم كانوا على تخوم الثغور
يوم كانوا قذى بعين (نيويور ... ك) وداء مستحكما في الصدور
يوم نادى واشنجتون فلبا ... هـ من الغيل كل ليث هصور
يوم سجلتمو على صفحات الد ... هر تاريخ مجدكم بالنور
ووثبتم إلى الحياة وثوبا ... ونفضتم عنكم تراب القبور
إنما النيل والمسيسبي صنوا ... ن هما حليتان للمعمور
وعجيب يفوز هذا بإطلا ... ق وهذا في ذلة المأسور(907/19)
هكذا خاطب حافظ روزفلت.
والشاعر في هذه الأبيات يرسل القول من أعماق فؤاده ممتزجا بدمائه. ويقول له إنكم لم تصبروا على حكم الإنجليز ولم تطيقوا بقائهم في بلادكم بل قمتم عليهم وأجليتموهم عن دياركم وطاردتموهم حتى خلت منهم أقطاركم ونلتم حريتكم واستقلالكم. ثم أخذ يسأله قائلا: هل كنت تمدح الإنجليز وتتغنى بفضائلهم يوم كانوا مرابطين في ثغوركم؟ هل كنت تمدحهم يوم قام واشنجتون يدعو إلى كفاحهم وجهادهم؟ يوم أن كانوا قذى في عين نيويورك وغصة في حلقها؟ لا شك في أن روزفلت لا يجيب عن هذا السؤال لأنه لم يرد خدمة الحق؛ بل أباح له ضميره الميت أن يحكم على شعب مجيد بالذل والهوان في سبيل منفعته الخاصة.
لقد دعى الجل إلى الخطابة في الجامعة المصرية فألقى خطبة طويلة ردد فيها آراء المحتلين في عدم صلاحية المصريين للحكم الدستوري والاستقلال ومما جاء فيها قوله (. . . فإنك لا تجعل الإنسان متربيا ومتعلما تعلما حقيقيا بمجرد إعطائه دروسا معينة، وكذلك لا تجعل أمة صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها بمجرد إعطائها دستورا على الورق؛ بل تربية الفرد وتعليمه حتى يصير صالحا للعمل في العالم تستغرقان أعواما طويلة. وهكذا تربية الأمة وإعدادها حتى تنجح في قضاء واجبات الحكومة الذاتية لا يتمان في عشر سنوات أو عشرين بل يلزم لهما أجيال متعاقبة.) ثم قال (. . . فإن بعض الدجالين الجهلاء يزعمون أن مجرد إعطاء دستور على الورق ولا سيما إذا جعلت له مقدمة ترن ألفاظها في الآذان يجعل الأمة قادرة على الحكم الذاتي. وليس الأمر كذلك أبدا. . . الخ)
ظن روزفلت أنه قادر بمثل هذه الأقوال على القضاء على الروح الوطني عند المصريين وإخماد أنفاسهم وتدمير عزائمهم فيقبلون حياة العبودية والاحتلال راضين مطمئنين. ولكن خيب الله ظنه وأخزاه فلم يفلح في ما سعى إليه بل باء بفشل عظيم. ولم يكن الشعب المصري من الغفلة والسذاجة بحيث ظن، بل كان يقضا حساسا. وعلى هذا فإن خطبة روزفلت أثارت حفيظة المصريين أجمعين وأشعلت في قلوبهم نيران الحقد والبغض للمستعمرين وأنصارهم. فكأن الرئيس الأمريكي والحالة هذه قد أساء إلى المحتلين وأثار في وجوههم زوبعة عنيفة. أنظر إلى ما قالته صحيفة الأهرام في عدد 31 مارس سنة(907/20)
1910 وهو (ما خطر لنا في خاطر أن المستر روزفلت يمر بهذه البلاد مرور العاصفة تترك وراءها دورا كبيرا، أو مرور الصاعقة تهز أعصاب البلاد هزا عنيفا. بل لم يخطر لنا بخاطر أن تكون زيارته مثارا يثير كوامن الأقلام ومحظأ تحرك به نيران الأحقاد فنسمع بعد رحيله عنا من فرقنا كلاما طالما أنكره العقلاء وتبرأ منه ومن إثارة زوابعه الفهماء. ولكن أبى روزفلت إلا أن يقول كلمة هاجت من الناس شجونا وحركت سكونا وأبرزت كامنا. . . الخ) فمن هذه الفقرة تدرك مقدار ما أثارته خطبته من آثار سيئة في النفوس.
وقد شمر الكتاب والخطباء والشعراء للرد على الرئيس الأمريكي فامتلأت الصحف بالمقالات الطويلة في هذا الموضوع، والظاهر أن الكتاب وجدوا فرصة للدعوة إلى الحكم الدستوري فكتبوا وأطنبوا شارحين الخطأ العظيم والضلال الكبير الذي وقع فيه روزفلت عامدا متعمدا. وهكذا ارتدت سهام المستعمرين إلى نحورهم وثبت المصريون على حقهم بل ازدادوا قوة وحماسة في المطالبة بالحكم الدستوري والاستقلال.
ولو عقل المستعمرون لما قاوموا هذه الرغبة ولما وقفوا في وجه تلك النهضة؛ ولكن شهوة الاستعمار أعمتهم وأضلتهم عن سواء السبيل. وكيف يعقل أن يسكت الشعب المصري على الذل والهوان في الوقت الذي تمتع فيه الترك وأمم البلقان بالحرية والدستور وهم أقل من المصريين ثقافة وحضارة؟ لقد أشتد تطلع المصريين إلى الدستور منذ اليوم الذي ظفر الأتراك به. قلنا إن الشعراء ساهموا في الحملة على روزفلت. فمن ذلك قول أحمد نسيم
سدد سهامك عند كل خطاب ... لست الذي ترجى ليوم مصاب
أمبشر يهدي العباد لدينه ... أم ضيفن مذق اللسان محابي
برح الخفاء وبان روزفلت لنا ... من أبغض الأعداء لا الأحباب
برح الخفاء فلا تكونوا أمة ... تدع الدخيل يعضها بالناب
أياكموا أن تركنوا لزخارف ... تثنيكم عن مجلس النواب
أني أرى الدستور يخطر بينكم ... لا تتركوه فإنه بالباب
وقال آخر
روزفلت آلمت العواطف منكرا ... كرم الوفادة مرضيا إنكلترا
ما هكذا الرجل العظيم تميله ... عن مبدأ الأحرار أغراض الورى(907/21)
ما أصدقوك رواية عن حالنا ... بل كان ذاك القول افكا مفترى
هلا سبرت شعورنا من قبل ما ... تلقى الخطابة بيننا مستهترا
أنسيت تاريخا لكم ولغيركم ... شغلت به تلك المظالم أعصرا
حكم النفوس على النفوس مصيبة ... عظمى أيمدحها الرئيس مكررا
حكم ضميرك يا رئيس وبعدها ... فأحكم بما يرضاه عنك مسطرا
وقال الأستاذ علي الغاياتي
لعمرك لست بالرجل الهمام ... إذا عد الهمام من الكرام
كرام الناس أصدقهم حديثا ... وأبعد عن أكاذيب اللئام
فمالك لم تقم بالنيل إلا ... لتسمعنا أباطيل الكلام
لقد كنتم لأهل الأرض نهبا ... وكانت أرضكم أرض اغتنام
وكان الإنجليز لكم رؤوسا=فهل رفعوا لكم هام احترام
وهكذا أفرغ الشعراء غضبهم على السائح الأمريكي الذي جر على نفسه ذلك الغضب. والشعر الذي قيل في هذا الصدد شعر عاطفي صادق كل الصدق. ولم يكتف أحمد نسيم بلوم الرئيس روزفلت وتعنيفه، بل أتجه إلى المصريين وحثهم على احتقار أقوال روزفلت وازدرائها وحرضهم على مواصلة الجهاد والكفاح في سبيل الدستور الذي آن أوانه واقتربت ساعته كما قال في شعره. وهذه روح طيبة تدل على سمو صاحبها وعلى أنه لا يعرف اليأس ولا القنوط.
أما أبيات الغاياتي فإنها امتازت بالشدة والقسوة. فهي هجاء لاذع وطعن فاحش، ولكنه لا يقاس إلى جانب طعن روزفلت في المصريين. فهو مثلا في قوله (. . . فان بعض الدجالين الجهلاء يزعمون أن مجرد إعطاء دستور. . . الخ) عنى رجال الحزب الوطني الذين كانوا يلحون في طلب الدستور ليل نهار. والأستاذ الغاياتي كان وما زال من رجال الحزب الوطني، فلا لوم عليه إذا قابل وقاحة روزفلت بما تستحق، وجزاء سيئة سيئة مثلها.
وقال إسماعيل صبري:
إذا سيق تبر إلى مسمع ... تعسر خالصه في الرغام(907/22)
وإن ساق روزفلت ما دونه ... إليه تنحى كلام الكرام
صدقتم وأخطأ من لم يقل ... كلام الرئيس رئيس الكلام
وقد استهجن الناس هذه الأبيات وأطلقوا ألسنتهم في قائلها بألفاظ نابية، فأضطر إسماعيل صبري إلى إعادة نشرها ثم علق عليها بكلمة جاء فيها: (. . . وما البيت الثالث الذي هو مظنة المدح والإطراء إلا تهكم على من يقدرون الكلام على حسب مقدار قائله.) ولكن الذي لا شك فيه أن إسماعيل صبري لم يكن موفقا في هذه الأبيات.
وقد تألفت مظاهر وسارت إلى فندق شبرد الذي نزل فيه روزفلت وأخذت تهتف ضده فأضطر إلى الرحيل عن البلاد ولما وصل إلى الإسكندرية قابلته الجماهير بالشتائم والسباب.
ومن الغريب أن الجامعة المصرية بالرغم من شعور السخط الذي سببه روزفلت بخطبته قد منحته الدكتوراه الفخرية متحدية بذلك الرأي العام مع أن مركزها لم يكن ليسمح لها بذلك. إذ لم تكن جامعة بالمعنى الصحيح، بل كانت قاعة صغيرة لإلقاء محاضرات في بعض المواد، وعلاوة على ذلك فإن حداثة عهدها لا تخول لها حق هذا المنح.
وقد كانت هذه الحادثة تصرف الرأي العام عن الجامعة والقائمين عليها ووجه إلى رجالها نقد عنيف وطعن شديد؛ كما أن بعض الكتاب حثوا الجمهور على عدم التبرع للجامعة حتى تسحب درجة الدكتوراه الفخرية التي منحها للرئيس روزفلت وكانت أول درجة فخرية منحتها تلك الجامعة الناشئة.
ولم يكتف روزفلت بما ساقه في مصر من مطاعن في أهلها، بل وقف في دار البلدية بلندن وألقى خطبة ملأها بالشتائم والسباب على المصريين. فأنبرى له الكاتب الإنجليزي المرحوم برنارشو وصفعه بمقال عنيف جاء فيه (. . . فلئن كان من واجبنا نحن الإنجليز أن نحكم مصر لمصلحة مصر بدون اخذ رأي أهلها المصريين كما يقول مستر روزفلت لقد كان من واجبنا العظيم أن نحكم أمريكا بنفس نصيحة مستر روزفلت.)
قلنا إن شعور الوطني في مصر في ذلك الوقت كان ينذر بالانفجار عن ثورة ضد الاحتلال والمحتلين. وقد ظهر ذلك واضحا حينما رفض المصريون أجمعون المشروع الذي عرضته شركة قناة السويس لمد أجل امتيازها.(907/23)
وهذه الفترة من تاريخ مصر حافلة بقصائد الشعر السياسي الذي كانت تغذيه عاطفة ملتهبة وشعور متدفق
محمد سيد كيلاني(907/24)
شعراء معاصرون مغمورون
للأستاذ الدكتور محمد كامل حسين
1 - حسن طنطاوي سليم
روى ابن خلكان في حديثه عن ربيعة الرأي أن بكر بن عبد الله الصنعاني قال: أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، وكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذلك الطاق؟ فأتينا ربيعة فأنبناه، وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال نعم. قلنا: أنت الذي يحدث عنك مالك ابن أنس؟ قال نعم. قلنا: كيف خطر بك مالك وأنت لم تخطر بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم!!!
هكذا استطاع ربيعة الرأي بهذا الرد المفحم أن يسكت من جاء يؤنبه، وكانت كلماته هذه أصدق تصوير لما عليه المجتمع في كل العصور، وكل البيئات، فقد أدرك ربيعة أن العام لا يعظم قدره إلا إذا اتصل بذي سلطان، وأن الشاعر لا ينبه ذكره إلا إذا عاش في كنف عظيم، وأن الأديب لا يحمد أمره إلا إذا حظى بصحبة من بيدهم الأمر. والتاريخ يحدثنا بأنه قل أن نجد عالما قدر علمه في حياته، أو شاعرا سار شعره، أو فنانا علا صيته إلا وجدنا وراءه صاحب أمر يقدمه إلى الناس، وعندئذ فقط يلقى من الجماهير تقديرا لفنه، وإشادة بذكره وإعجابا بمواهبه، أما هؤلاء الذين وهبوا ملكات علمية أو فنية ولم يستطيعوا الاتصال بعظيم أو كبير فهم يعيشون منطوين على أنفسهم، منزوين في عقور ديارهم، لا يشعر بهم أحد، ولا تعرف ملكاتهم ولا تقدر مواهبهم. فمنهم من لا يقوي ملكته الفنية لأن الناس حوله لا يشعرون به، ومنهم من يغذي مواهبه وملكاته إرضاء لنفسه دون الحاجة إلى إرضاء الناس وهؤلاء هم الذين سنتحدث عنهم محاولين أن نظهر شخصيتهم الفنية، لأن هؤلاء أولى بالحديث عنهم لأن الفن أصيل عندهم. وهم كما قال أرسططاليس يعيشون للفن فقط، ومن هنا كان فنهم أرفع وأرقى من فن كثير ممن حظوا بشهرة واسعة، واسما عريضا، ونالوا تقدير الجمهور وإعجابه.
وأول حديث لي عن الشعراء المغمورين، هو الحديث عن شاعر معاصر هو الأستاذ حسن الطنطاوي سليم مدرس اللغة العربية بمدرسة المنيا الثانوية، فقد سمعت منذ شهور قطعة من شعره كان يحفظها صديق زميل، فأعجبتني تلك المقطوعة لما فيها من شاعرية وفن(907/25)
أصيل، لاحظت أن الشاعر لم يكن من المتكلفين ولا من المنمقين، إنما يرسل الشعر عن طبيعة فنان متمكن من فنه في ألفاظ سهلة يسيرة ليس بها غموض ولا تعقيد، فهو يقول في هذه المقطوعة
رأى في اللهو متسعا ... فخلى الزهد والورعا
وأقسم لا يرى قمرا ... بدا، إلا به ولعا
فصار الحب مذهبه ... وعاد لغيده تبعا
وصرف الدهر شيبه ... وصير رأسه شيعا
ودق الهم أعظمه ... فما تاب ولا امتنعا
عذاب الحب شرعته ... رضينا بالذي شرعا
حقيقة أرى كثير من الشعراء المتقدمين تناولوا الغرض في شعرهم، وذكروا أمثال هذه المعاني، ولكن الشاعر الحديث أرق من القدماء، ولا سيما البيتين الأخيرين.
طلبت المزيد من شعر هذا المغمور، وأردت أن أعرف شيئا من ترجمة حياته، فكان من حظي أن ألقاه وأتحدث إليه ويتحدث الي، فعرفت أنه رجل عصامي حقا، نشأ في أسرة فقيرة، ولكنه كافح في الحياة، وذاق الحلو والمر، واضطر إلى أن يلتمس قوته في الوقت الذي كان يهيئ نفسه فيه للحصول على الشهادات الدراسية، يشتغل مرة كاتبا عند صائغ، ومرة أخرى كاتبا عند محام، ثم يحصل على كفاءة التعليم الأولى فيعين مدرسا إلزاميا، فناظر إلزاميا أيضا، ولكن لم تقعد به همته عند هذه الوظائف بل درس وجد في الدرس حتى حصل على دبلوم التجارة الليلية في نفس السنة التي حصل فيها على شهادة تجهيزية دار العلوم، وقد ساعدته مواهبه وملكاته على أن يحصل على هاتين الشهادتين من المنزل دون أن يتلقى العلم عن مدرس بالرغم من كده في أعماله الأخرى التي اضطرته إليها الحياة، واستمر في كفاحه حتى حصل على إجازة التدريس في دار العلوم وتقلب في مناصب التدريس بالمدارس الابتدائية والثانوية حتى استقر به المقام في بلده الذي نشأ فيه، وأصبح قانعا بما وهبه الله من سعة في الرزق. فازدادت إكبار له وإعجابا بنشاطه وهمته، واستمعت إلى أشعاره، فعجبت كيف يغمر مثل هذا الفن، ويجهل مثل هذا الشاعر المكافح المجاهد في الحياة. أنشدني قطعة من قصيدته (معجزة القرآن الكريم) وفيها يقول:(907/26)
قالت أتطرب بعد فوت أوانه ... وترى حليف البشر بعد زمانه
وأراك في مرح الصبا وكأنما ... عاد الشباب إليك في ريعانه
قلت أسمعي يا عز لا تتعجبي ... إني سمعت الله في قرآنه
والجن قد سمعت به فتعجبت ... من رشده، وصغت إلى رحمانه
(عمر) الذي قد كان جد معاند ... للمسلمين يلج في طغيانه
لما تلا (طه) استعاد صوابه ... وأتى الرسول يموج في إيمانه
وأنا الأديب تلوته ووعيته ... فسجدت عجزا عند سحر بيانه
(ومحمد) لم يختلقه وإنما ... مولاه يسره لنا بلسانه
الله غازله وناسج برده ... والمصطفى البزاز في دكانه
لا يبتغي أجرا على تبيانه ... فالله آجره برحب جنانه
قد أعجز الفصحاء منذ نزوله ... حتى يصير الدهر في أكفانه
إن كنت تنكر ذاك، فأت بسورة ... من مثله وانزل إلي ميدانه
أو فانطح الصليب فإنما ... مولاك وازنه على ميزانه
أين السفينة؟ أين بعض حطامها؟ ... يروى لنا ما كان من طوفانه
أين العصا؟ تحكي لنا بلسانها ... ما كان من فرعون أو هامانه
أو طين عيسى فيه ينفخ داعيا ... فإذا به طير على أفنانه
بل أين ناقة صالح في شربها؟ ... ولهيب إبراهيم تحت دخانه
فنيت جميع المعجزات ولم يزل ... حيا يشير إلى الهدى ببنانه
من هذه القصيدة الجميلة نرى الشاعر يتأثر بالقرآن الكريم، ويجري لسانه بالحديث عن إعجاز القرآن حديث رجل امتلأ بنور الهدى والفرقان، فاقتبس في قصيدته بعض آيات القرآن، وضمن قصيدته معاني آيات أخرى، نظمها في هذا الشعر السهل الرقيق، ثم نرى الشاعر وفق في اختيار الألفاظ التي تلائم المعنى الذي يقصده ملائمة تامة ولا سيما في البيتين الرابع والخامس، ففي البيت الرابع يتحدث عن عمر قبل الإسلام فقال إن عمر كان (يلج في طغيانه) وفي البيت الخامس يتحدث عن عمر بعد الإسلام فقال أنه تموج في إيمانه ولعلك معي في إن الشاعر أحسن كل الإحسان في اختيار هذه الألفاظ التي تدل على(907/27)
ما يرمي إليه مع ما فيها من الموسيقى اللفظية التي تلائم المعنى. وجميل من الشاعر أن يتحدث في آخر بيت من القصيدة عن معجزات الأنبياء وأنها فنيت وليس لها أثر الآن، ولكن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي لا تزال بل ستظل باقية إلى أن يشاء الله.
وشاعرنا مصري تتمثل فيه خصائص البيئة المصرية، وتتجلى شخصيته الفنية في مقطوعاته الفكاهية، ومداعباته لإخوانه، أو حديثه عما يحيط حوله من ألوان الحياة، والمصري كما قال بعض النقاد - يميل إلى الفكاهة ويتذوقها، ويقهقه لسماعها، والأدب المصري منذ أقدم العصور مليء بالفكاهات الشعرية وغير الشعرية، حتى لتعد الفكاهة ضرورة من ضرورات الحياة المصرية، والشاعر حسن طنطاوي سليم ضرب بسهم وافر في هذه الناحية حتى لتكاد تذهب إلى أن شعره كله في الفكاهة بل في المجون، ومتى كانت الفكاهة المصرية خالية من المجون؟ - استمع إليه وهو يداعب معالي عبد الحميد عبد الحق باشا وزير التموين سابقا إبان أزمة السكر، وكان الشاعر أصيب بمرض البول السكري.
قل لعبد الحق إن لاقيته ... لا تخف نقصا يصيب السكرا
إن عندي منه قدرا هائلا ... يغرق الأمصار طرا والقرى
أشرب الماء نقيا صافيا ... فإذا السكر فيه قد سرى
أبيض اللون فإن حللته ... صار في الأنبوب شيئا أحمرا
مالكم ترجون (عبودا) وفي ... مصر من سكره يكفي الورى
أو استمع إليه وهو يصف (السويس) إبان الحرب وقد تزاحم فيها الناس، واشتد بها الغلاء، وتساقطت عليها القنابل، كل ذلك في صورة متلاحقة سريعة يتلو بعضها بعضا كأننا نشاهد عرضا سينمائيا.
خرجت من السويس وفي فؤادي ... قروح ما لها قط التئام
لأن بها غلاء لا يدانى ... حلا في جنه الموت الزؤام
وأزمة مسكن دون انفراج ... فليس بها لمغترب مقام
زحام ما رأيت له مثيلا ... تعالى أن يقال له زحام
كأن الناس (سردين) فبعض ... على بعض - وإن كرهوا - ينام(907/28)
ترى في ساحها سمكا ولكن ... على أمثالنا سمك حرام
يكاد الفول فوق السوس يجري ... من الأطباق حتى لا يرام
كسيارات بترول عليها ... صهاريج بسيرها همام
شهدت بها الليالي كالحات ... يضيء سوادها فحمتها ضرام
قنابل في شظاياها فناء ... وفي نيرانها رقص الحمام
فتلك جواؤها، أما ثراها ... ففيران يسابقها (الترام)
جيوش في بطون الأرض تجري ... وفي جدران أدؤرنا قيام
لبسن الليل ثوبا من سواد ... أليس الشر موطنه الظلام
تكاد على أسرتنا تناجي ... وترقد لا تخاف ولا تضام
كأن القط حالفها - أمينا ... فبين كلاهما أبدا ذمام
ذواهب آمنات راضيات ... كأن قد ضمها البيت الحرام
ألست معي في أن فكاهات الشاعر حسن طنطاوي هي فكاهات تتمثل فيها الروح المصرية المرحة، وأن شعره يتناسب مع البيئة المصرية اللينة الهادئة التي تميل إلى البساطة في كل شيء فإذا بألفاظ الشاعر مطبوعة بهذا الطابع المصري اللين البسيط، وأنه يحاول أن يحلي شعره ببعض ألفاظ وتعبيرات مصرية خالصة مما يستعملها الناس في حياتهم العامة، ولا يبالي الشاعر إذا كان هذا اللفظ عربي الأصل أو غير عربي ما دامت هذه الكلمة قد دخلت إلى لغتنا العربية واستعملها الناس وفهموا مدلولها، شأنها في ذلك شأن آلاف الكلمات التي دخلت قواميس اللغة العربية في العصور السابقة وعرفت بأنها دخيلة ولكن الشعراء استعملوها، وأجازها النقاد والأدباء، فشاعرنا لم يتقيد بقيود علماء اللغة العربية، فهو يحافظ على اللغة وسلامتها من ناحيته، ويجدد فيها ويعيد إليها الحياة باستعمال بعض كلمات اصطلح الناس على تسميتها بالعامية، فشأنه في ذلك شأن الشاعر البهاء زهير الذي لم يتردد في أن يكثر من استخدام التعبيرات العامية المصرية في أشعاره وإن أغضب في ذلك نحاة عصره ولكن النقاد الأدباء فتنوا بشعره، ولا يزال النقاد إلى الآن يعجبون به، ولنا رجعة إلى الحديث عن الشاعر مرة أخرى.
محمد كامل حسين(907/29)
في موكب الذكرى:
أبو القاسم الشابي
(بمناسبة ذكراه السادسة عشرة)
في توزر، تلك البلدة الجميلة بتونس، وفي صباح يوم من أيام عام 1909، فوق فراش وثير، وفي بيت مجد وجاه، رزق الشيخ محمد بن أبي القاسم الشابي طفلا أسماه (أبا القاسم)، تيمنا باسم جده.
فيا ترى هل علم المهد الوثير، والبيت الكبير، والشيخ الوالد، أن هذا اليوم كان يوم ميلاد شاعر عبقري، خلقه الله ليكون شاعرا وحسب، وأوجدته الطبيعة قطعة منها ليصوغها نغما شجيا، وهتافا ساحرا على أوتار القلوب الحساسة والعواطف الجياشة. . . حفظ أبو القاسم القرآن، شأن كل طفل يولد في بيت إسلامي، وبلد إسلامي في ذلك الحين، ولما شب التحق بجامع الزيتونة وهو صورة مصغرة من الأزهر في تونس.
أخذ شاعرنا يدرس علوم العربية على نظامها البالي العتيق، من متن وشرح وحاشية، وسار بخطى موفقة يعززها ذكاء وقاد، وميل طبيعي إلى القراءة والاطلاع، حتى نال شهادة (التطويع) عام 1916م، ثم التحق بكلية الحقوق التونسية، ونال إجازتها متفوقا، وأراد أن يتم دراسته، فتصدى له مرض الصدر جبارا عنيدا، قائلا: مكانك، فعكف الفتى على علاجه، ورجع مبتسما هادئا يتعلم في مدرسة الحياة. . . ويكب على القراءة والاطلاع إكباب المنهوم على الطعام، يقرأ في الأدب القديم باستيعاب وتفهم ويعب من نبعه الصافي، حتى أسلست له اللغة قيادها، وأتته طائعة مختارة، يقبل على الأدب الحديث، إقبال المشوق المستهام، بذهن صاف ومزاج شاعري كأنه المرآة يميز بين الغث والسمين في سهولة ويسر؛ وكان من نتيجة قراءته للقديم وإقباله على الحديث أن أخرج كتاب (الخيال الشعري عند العرب) وهو دراسة للأدب العربي في جميع عصوره على ضوء النقد الحديث. ولم يتعلم أبو القاسم لغة أجنبية، وهو بالرغم من ذلك مجدد، بل زعيم من زعماء المجددين في العصر الحديث. . . يعرف ذلك كل مطلع على شعره متذوق له، وهي ناحية من نواحي عبقرية شاعرنا المجيد.
وكان أبو القاسم مغرما بأدب المهجر؛ وبخاصة مدرسة جبران خليل جبران؛ ومع ذلك فقد(907/31)
كان رحمه الله نسيج وجده منفردا بمدرسته.
. . . ولقد اشتدت عليه وطأة المرض حتى طواه الردى في فجر يوم 9 أكتوبر سنة 1934 ولما يتجاوز الخامسة والعشرين بعد.
كان أبو القاسم - رحمه الله - شاعر طبع رقيق، وعاطفة متقدة، وإحساس نبيل، أذاقه المرض من ويلات الحياة الكثير، وقد ظهر أثر ذلك في شعره جليا فكنت تحس فيه الألم العميق العبقري، والشكوى المريرة التي قنعها بقناع جميل من خياله الفسيح، فسمى قصائده: قلب الأم، وألحاني السكري، والجنة الضائعة. . . الخ وغير ذلك مما يدفع القارئ أن يظن لأول وهلة أنه إنما كتبها وصفا لغيره، وما هو في الحقيقة إلا وصف عميق لأغوار نفسه الكبيرة.
ولأبي القاسم أكثر من ناحية في شعره فهو تارة فيلسوف ساخر، وأخرى ثائر جبار، وثالثة يائس مستسلم، كل ذلك يعبر عنه في همس شاعري رقيق، وأداء نفسي جذاب، وتصوير فني ممتاز؛ فأبو القاسم الفيلسوف الساخر الذي يقول:
لست يا أمي أبكيك المجد أو لجاه
سلبته مني الدنيا، وبزتني رداه
فأنا أحتقر المجد وأوهام الحياه
هو نفسه أبو القاسم الثائر الجبار الذي يقول في (نشيد الجبار)
سأعيش رغم الداء والأعداء ... كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس الكئيبة هازئا ... بالسحب والأمطار والأنواء
وأقول للجمع الذين تجشموا ... هدمي وودوا لو يخر بنائي
ورأوا على الأشواك ظلي هامدا ... فتوهموا أني قضيت زماني:
إن المعاول لا تهد مناكبي ... والنار لا تأتي على الأعضاء
وهو نفسه أبو القاسم اليائس المستسلم الذي يقول في قصيدته (في ظل وادي الموت).
قد رتعنا مع الحياة طويلا ... وشدونا مع الطيور سنينا
وعدونا مع الليالي حفاة ... في شعاب الزمان حتى دمينا
وأكلنا التراب حتى مللنا ... وشربنا الدموع حتى روينا(907/32)
ثم ماذا.! هذا أتاصرت في الدني ... ابعيدا عن لهوها وغناها
في ظلام الفناء أدفن أيا ... مي ولا أستطيعحتى بكاها
وزهور الحياة تهوى بصمت ... محزن مضجر على قدميا
جف سحر الحياة يا قلبي البا ... كي فهيا نجرب الموت هيا
أو يقول في قصيدته (ألحاني السكري) معبرا عن حبه العميق للحياة:
أيها الدهر! أيها المن الجا ... ري إلى غير وجهة وقرار
أيها الكون! أيها الفلك الدوار ... بالفجر والدجى والنهار
أيها الموت! أيها القدر الأعم ... ى قفوا حيث أنتموا أو فسيروا
ودعونا هنا تغني لنا الأح ... لام والحب والوجود الكبير
ولكنه يشعر بقلبه الكبير أن الدهر، والزمن، والكون، والموت لن يتركوه تغني له الأحلام والحب والوجود الكبير فسيستدرك استدراك الحس الرقيق:
وإذا ما أبيتمو فاحملونا ... ولهيب الغرام في شفتينا
وزهور الحياة تعبق بالعطر ... وبالسحر والصبا في يدينا
حقا! إن كل إنسان محب للحياة. . . ولكن هناك تفاوت في سمو الحب بمقدار تفاوت النفوس البشرية. . .! وأبو القاسم صاحب نفس رقيقة نبيلة يحب الحياة في أرق شيء فيها وأنبله، أنه يحبها في الحب نفسه، فيود أن يموت وعلى شفتيه لهيب الغرام وزهور الحياة والصبا في يديه. ولأبي القاسم ولع بالطبيعة فنفسه الشاعرية مرآة صافية وبيئة سواء في (توزر) أو في (عين دراهم) بيئة طبيعية الجمال، فلا عجب إذا انعكست صورها في مرآة نفسه، فاستمد تشبيهاته منها وصورها لنا تصويرا خليقا بالإعجاب في جل شعره إن لم يكن في كله. . .!
يقول في قصيدته (صلوات في هيكل الحب).
عذبة أنت كالطفولة كالأح ... لام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القم ... راء كالورد كابتسام الوليد
ويقول فيها: -
في فؤادي الرحيب تخلق أكو ... ان من السحر ذات حسن فريد(907/33)
وشموس وضاءة ونجوم. . ... تنثر النور في فضاء مديد
ويقول في قصيدته (قلب الأم).
يصغي لنغمتك الجميلة في خرير الساقية
في أنه المزمار في لغو الطيور الشادية
في ضجة البحر المجلجل في هدير العاصفة
في لجة الغابات في صوت الرعود القاصفة
في فتنة الشفق الوديع وفي النجوم الباسمة
في رقة الفجر البديع وفي الليالي الحالمة
في رقص أمواج البحيرة تحت أضواء النجوم
في سحر أزهار الربيع، وفي تهاويل الغيوم
في مشهد الغاب المجرد والورود الهاوية
في ظلمة الليل الحزين، وفي الكهوف العارية
وهكذا. . . هكذا، صور وتشبيهات خلابة، استمدها من الطبيعة، وأضفى عليها من روحه الحية الكثير، مما يحمل القارئ على الظن بأن هذا اللون من الشعر جديد في بابه، بالرغم من إيغاله في القدم.
ووحدة القصيد من المميزات الواضحة في شعرأبي القاسم؛ فلا يكاد القارئ يحس، من مطلع القصيدة إلى ختامها، لنشاز بيت واحد أو نبوه أثرا. وهو مجدد في تعبيراته فضلا عن أفكاره، ألمس ذلك في كل شعره، وأحسه كلما أقبلت عليه أقرأه في أي موضوع كان.
يقول في قصيدته (يا شعر) واصفا الموت:
يأتي بأجنحة السكون كأنه الليل البهيم
لكن طيف الموت قاس، والدجى طيف رحيم
ويقول فيها أيضا:
أرأيت أزهار الربيع وقد ذوت أوراقها
فهوت إلى صدر التراب وقد قضت أشواقها
ويقول في (صلوات في هيكل الحب).(907/34)
وحياة شعرية هي عندي ... صورة من حياة أهل الخلود
أو يقول في (الجنة الضائعة).
لا نسأم اللهو البريء وليس يدركنا الفتور
فكأننا نحيا بأعصاب من المرح المثير
فأجنحة السكون، وصدر التراب، والحياة الشعرية، والأعصاب التي هي من المرح المثير. . . كل تلك التعبيرات الرقيقة في ألفاظها، تحمل ما تحمل من عمق الفكرة وسمو الأداء.
وشعر المناسبات عند أبي القاسم قليل إن لم يكن معدوما، بيد أن له في الوطنية شعرا رقيقا قويا.
ومن أقوى ما قاله في شعره الوطني قصيدة (ليتني) المنشورة بالعددين (70، 664 من الرسالة) التي يقول في مطلعها:
أيها الشعب ليتني كنت حطابا ... فأهوى على الجذوع بفأسي
ومن شعره القوي في هذا الموضوع قصيدته التي يقول فيها: -
إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسر
أما بعد: فما قصدنا بكلمتنا إلا إشارة عابرة إلى تلك العظمة في عالمها النوراني الساحر؛ وعلى كل حال فأفضل من عجز المحيط طاقة المشير.
وإنا لنتجه بمناسبة هذه الذكرى إلى أدباء العربية قاطبة في جميع بلدانها من مصر إلى المهجر الأمريكي، ومن فلسطين إلى تونس آملين أن يقوموا بواجبهم آراء هذا الشاعر الشاب الذي هوى من علياء سمائه وهو لا يزال في ميعة العمر، وريق الشباب، فيخرجوا للحياة (من أغاني الحياة) لتأخذ طريقها إلى المكان اللائق بها في المكتبة العربية الحديثة.
ألا رحم الله تلك الروح، وضمها إلى أفيائه وفي ظلال جناته، وجزاها على ما قدمت لأمتها خير الجزاء.
رجاء عبد المؤمن النقاس(907/35)
رسالة الشعر
رقدة الملاح
للأستاذ حسن كامل الصرفي
(نظم الشاعر هذه القصيدة لتلقى في حفلة التأبين الكبرى التي أقيمت لصديقه الشاعر الخالد علي محمود طه بمدينة المنصورة منذ شهور. . وحال بينه المرض وبين السفر إلى هناك لينشد قصيدته فطويت إلى حين، إلى موعد هذه الذكرى الغالية التي يحييها بأناته وأبياته!)
لم يبق لي في طريق العمر أحباب ... خلا الطريق وأحباب الرؤى غابوا
كانوا خيالا، وكان العيش حلم كرى ... مضى به قدر للعمر نهاب
لم آنس آخر لقيانا وقد دمعت ... شمس الأصيل ورقت منه أطياب
وأنت في حجرة كان الشفاء بها ... وهما، وخلف صراع الطب وثاب
كدمعة في جفون العين بارقة ... حتى يحين لها في الخد تسكاب
روح تشف عن الأحلام حائرة ... والجسم قد شفه سقم وأوصاب
ترنو إلى الأفق لدامي فتحسبه ... فتى من الحزن قد خانته أعصاب
تقضي لياليك بعد الأنس منفردا ... لم يهو ساحك خلان وأتراب
سأمان ترقب أياما مغربة ... كما تحول نحو الغرب جواب
كحانة في ظلام الليل نائية ... جفت على صدرها المهجور أنخاب
في عزلة لم يقصر ليلها سمر ... ولم تكشف دجالها الجهم أكواب
قد لفها الصمت إلا بعض همهمة ... كما تهمهم في ظلمائها الغاب
قاسيتها محنة ما كاد غاشمها ... ينزاح عن كتف الغاني وينجاب
حتى تحطم في استنهاضه أمل ... وانهار في مثل لمح الطرف إطناب
كان اللقاء وداعا، والحديث صدى ... من عالم الغيب لم تدركه ألباب
نشكو جراحاتنا والدمع يحبسه ... عن أن يسيل أبي النفس غلاب
نرجو ونأمل والأقدار ترقبنا ... والموت يحجبه عن وهمنا الباب
يا مرسل النغم العالي صدى ورؤى ... ينصب في أذن الدنيا وينساب
غنت به ضفتا الوادي ورجعه ... من ألسن الشرق أشهاد وغياب(907/36)
أضعت عمرك في الأوهام تجرعها ... كأسا مزاج طلاها الشهد والصاب
ما الزهر والخمر فيها غير مائدة ... ألقى عليها ظلال الحزن مرتاب
ظننتها أنت جنات منضرة ... وهي الخرائب فيها البوم نعاب
خدعت فيها بألوان مزيفة ... وسوف تخدع أجيال وأعقاب
طوت مجاليك واغتالت مشاهدها ... كطائر الأيك قد أصماه نشاب
فنمت والحلم الزاهي على مقل ... غشى عليها ظلال النور إظباب
ومت والنغمة الكبرى على شفة ... لما يتح لصداها العذاب إعراب. . .
الليل معتكر، والموج صخاب ... وزورق الحلم في الهوجاء هياب
ملاحه بعد طول التيه قد عقدت ... أجفانه سنة أطيافها آبوا
موسد لم يزحزح جفنه ألم ... ولم يسهده إظناء وإتعاب
ألقى المجاديف وهنى والشراع لقى ... يطويه من سطوات الريح جذاب
كم صارع الموج جياشا ومضطربا ... ولم يزعزعه إعصار وإرهاب
منقبا عن جمال الكون تفتنه ... جداول وخميلات وأعشاب
وفتنة من جفون الغيد تشرعها ... إلى القلوت - هوى - منهن أهداب
والحسن ينبوع فن ظل يقصده ... من عالم الشعر وراد وشراب
أوحى الخوالد في الدنيا إلى نفر ... تفتحت لهمو في الخلد أبواب. . .
رسام سحر المجالي، أين ريشته ... يفوح منها على القرطاس أطياب؟
كم لوحة من مرائيه منمقة ... فيها من اللمحات الغر خلاب!
قد عطل الموت فنا خالصا غنيت ... به على كرة الأجيال آداب
حملت والصفوة الأحرار ألوية ... خفاقة تتحدى كل من عابوا
للفن ما اهتز من آمالهم وربا ... والفن مذبح قربان ومحراب
تبتلت في جلال الفن أنفسهم ... كما تبتل في المحراب أواب
كل له غاية يسعى ليدركها ... وكم تحقق غايات وآراب. . .!
تشاءم القوم حينا وادعوا خرصا ... أن القريض ثوى إذ مات أقطاب
وأن دولة هذا الفن قد ذهبت. . . ... والشعر لم يتوقف منه دولاب(907/37)
والشعر مسبح أرواح مجنحة ... إن غاب سرب تبدت فيه أسراب
إن لم تقم لبناة الفكر أنصاب ... فقد أقيمت لهم في الفكر أنصاب
وحسبهم من خلود الأرض أنهمو ... لها إلى جنة الفردوس أسباب
هم رفهوا عن أساها وهي عابسة ... لهم، وقد نضروها وهي مجداب
هم الألى وهبوها حلى زينتها ... وكم يحارب مناح ووهاب!
إن نادموا الليل فيها، قال قائلها: ... بنو خيال لكأس الوهم طلاب!.
حقائق الأرض ما أوحى خيالهمو ... قد صبها في اختيار العلم أحقاب
عاشوا بها غرباء الروح تلمحهم ... هالات نور عليها الليل جلباب
مروا خيالا، وكانوا في دجنتها ... كواكب النور لما ضوأ واذابوا. . .
(على!) كان غروب الشمس موعدنا ... يوم الخميس؛ فمالي منه أرتاب!؟
أطارد الوهم عن نفسي وبي وجل ... كما يطارد وحش الغاب هياب
حتى تلقيت هول النعي فانتثرت ... خواطري في ظلام الحزن تجتاب
لم يبق منعاك لي جهدا أفيك به ... حق الرثاء ودمع العين منساب
ما أعجب القدر اللاهي بعالمنا ... إذ تبسم أبدى الشرة الناب!
إن فرق الموت جسمينا فإن لنا ... في عالم الروح لقياليس تنجاب
حسن كامل الصرفي(907/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
برناردشو في الميزان:
الذين يعرفون (شو) على حقيقته، يعرفونه من وراء هذه (اللافتات) الضخمة التي تكشف عن جوانبه وتشير إليه: لافتة العقل الساخر، ولافتة القلب الشاعر؛ ولافتة الكبرياء النفسية، ولافتة الطاقة الفنية. . وليست هي باللافتات التي تعلو إنتاج غيره من الكتاب فتلفت منك النظر دون أن تدفعك إلى إطالة الوقوف، ولكنها اللافتات (المضيئة) التي تجذب نظرك وفكرك، وتختبر أشعتها على القرب والبعد فلا يخبو لها بريق. وبهذه اللافتات (المضيئة) كما قلت لك، استطاع برناردشو أن (يبصر) مواضع قدميه في طريق الفن. . وطريق الحياة!
والسخرية في حياة (شو) هي المع اللافتات جميعا، بل هي الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة وهي في فنه نقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي الممتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك. . وهي في حياته وفنه معا ذلك المعبر العظيم لإنسانية القلب وكبرياء النفس وأصالة الموهبة. وتضغط أنت على (زر) نفسي واحد لترسل التيار الكهربائي إلى هذه اللافتة الكبرى لتصبح (مضيئة) وتفسر على (ضوئها) ما تحمل اللافتات الأخرى من (ألوان) نفسية. . ما هو هذا الزر النفسي الذي يضيء لافتة السخرية عند (شو)، أو ما هو (مفتاح النور) لهذه الملكة الفذة التي غطت على غيرها من الملكات؟ أنه السخط. . السخط المتأصل في أعماق النفس منذ القدم على بعض القيود والأوضاع!
هذه الملكة النادرة عند هذا الكاتب العظيم، أنبتتها (الوراثة) وأنضجتها التجربة، وتولتها الموهبة بالعرض والتقديم. . لقد ولد في مهد العاقة فسخط، وبدأت حياته وانتهت وهي سلسلة من السخط المدثر بأثواب السخرية لقد سخط على الأغنياء لأنه تذوق طعم الفقر وسخط على الاستعمار لأنه نشأ حر الفكر، وسخط على العاجزين لأنه شجاع يؤثر الغلبة والاقتحام. . ثم أفرغ هذه الطاقة الساخطة في ذلك القالب الساخر؛ الساخر من شتى المثل والقيم والتقاليد!(907/39)
لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو)، لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقلية من مظاهر الإنكار. . وما هي السخرية على التحقيق إذ لم تردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطا عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقله مهذبة، هدفها التحطيم بالقلم واللسان، ومادتها السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط. . هو ساخر في حياته وساخر في فنه، وبهذه السخرية القادرة نظر إلى الحياة والفن من زواياه الخاصة، وسلط عليهما أضواءه الخاصة، وأختلف مع كل المصورين في لقطاته البصرية والنفسية!
ولم تكن سخرية (شو) هي سخرية العاجزين حين يشكو النقص فيتندر على القادرين، ولكنها سخرية المشرف على الدنيا من فوق قمة عالية، تريه الأشياء صغيرة مسرفة في الصغر ضئيلة مغرضة في الضآلة. ومن هنا أمتزجت السخرية في دمه بالكبرياء، سخرية العقل بكبرياء النفس، ثم أنصهر هذا المزيج العجيب في بوتقة الحياة فنشأت عنه هذه النزعة الإنسانية التي تتسم بالعطف على الشعوب الفقيرة والمحتلة على حد سواء. إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوما على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى الطريق (الاشتراكية)، وناء يوما بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار!
ولا بد من التفرقة بين التهكم والسخرية وبين المرح والدعابة في حياة الموهوبين، أعني لا بد من هذه التفرقة بين كاتب مثل برناردشو وبين كاتب آخر مثل مارك توين. . إن (التريقة) عند (شو) أساسها الطبيعة الساخرة المتركزة على أطراف كلمة ساخرة، هدفها رفع القناع عن وجه مشوه من وجوه الحياة. ولكن أساسها عند مارك توين هو الطبيعة المرحة التي تنشد المزاج لغرض بريء، وهدفها أن النكتة قد (حبكت) فلا مفر من تسجيلها ليضحك هو ويشرك معه الناس ولكي نوضح الفارق بين الطبيعتين نقتصر هنا على نادرتين من حياة هذا وذاك على سبيل الموازنة بين الدعابة والسخرية: أما النادرة الأولى فتصور لنا مارك توين سائرا في أحد شوارع نيويورك مع نفر من أصحابه، حين تقدم إليه(907/40)
أحد مشوهي الحرب ليهمس في أذنه: سيدي، هل تتصدق على رجل (فقد) ساقيه؟ وينظر إليه الكاتب (المرح) متظاهرا بالدهشة وهو يقول: عجيب كيف لم تعلن في الصحف عن هذه الأشياء المفقودة؟. ويغرق هو في الضحك ويغرق معه أصحابه، ويبتسم الرجل معجبا بالدعابة ثم يمد يده ليأخذ من مارك توين نفحة مالية كأجر للإعلان أما النادرة الثانية فتصور لنا برناردشو في أحد مسارح لندن، يرقب من مقصورته عرض إحدى مسرحياته الناجحة، ويصغي في ختام العرض إلى هتاف بعض أبناء وطنه: تحيا أيرلندة. . وحين يتناهى إلى سمعه هتاف آخر ينطلق من بعض الحناجر الإنجليزية: تحيا جهنم. . يقف الكاتب (الساخر) ليعقب على الأصوات المتنافرة بقوله: أيها السادة، لا يسعني إلا أن أحيي الفريقين، لأن كليهما يهتف لوطنه. . ويذهل الخصوملأنالصفعة القاسية قد وقعت على غير ترقب وانتظار.
أرأيت إلى الفارق بين المداعبة البريئة وبين السخرية اللاذعة؟ إن مارك توين هناك يريد أن يداعب وأن يضحك وان يمزح، ولكن برناردشو هنا يريد أن يغمز وأن يلمز وأن يجرح وهي بعد ذلك سخرية موشحه بالترفع ملفعة بالكبرياء. ومن مظاهر الكبرياء في حياة (شو) أن يهاجم التقاليد الإنجليزية في كل مناسبة تدعوه إلى الهجوم، وسخر من المثل الإنجليزية في كل فرصة تهيئ له أسباب السخرية، في الوقت الذي كانت فيه أيرلندة وطنه الأول، تئن تحت ضغط الاستعمار البريطاني. . ثم لا يقف بكبريائه عند هذا الحد المقبول ولكنه يندفع بها إلى ما وراء المعقول فيمتدح الشيوعية الروسية وينعت قطبها الأكبر (ستالين). . بأنه خير الناس ترى هل كان (شو) يؤمن بهذا الذي يجهر به أم أن سخطه على الرأسمالية عامة وعلى الشعب البريطاني خاصة هو الذي كان ينطقه بغير ما يعتقد ويظهره بغير ما يريد؟ الحق أنه السخط من جهة والإيمان بالرأي من جهة أخرى. . وليس هناك شيء من العجب إذا ما أحدثت كلمات (شو) في نفوس البريطانيين أثرها العميق، لأن هذا الكاتب الساخر يخفض من كل ما لهم في الحياة من مثل ويرفع من كل ما لهم في الحياة من خصوم، ويبعث التاريخ من مرقده حين يعيد إلى أذهانهم قصة قديمة، قصة (بايرون) شاعرهم الطريد، يوم أن خلد عدو الإمبراطورية في عدد من قصائده المحلقة في (تشايد هارولد) لقد أعجب بايرون بنابليون وأعجب شو بستالين، وفر الأول من سخط(907/41)
الشعب البريطاني بعد أن شيعه الرجال باللعنات وودعته النساء بالبصقات. . ومات - وهو الإنجليزي - فوق أرض يونانية! وصمد الأخير في وجه هذا السخط لأنه كان أقدر القادرين على الصمود. . ومات - وهو الايرلندي - فوق أرض إنجليزية!!
ومن العجيب أن يفقد (بايرون) عطف الشعب الإنجليزي واحترامه ويخرج من بلاده وهو منبوذ طريد، وأن يحظى (شو) باحترام هذا الشعب ويعيش بين أبنائه وهو مرهوب الجانب مرفوع المقام. . ويبطل العجب حين تفسر هذه الظاهرة على هدى هذه الحقيقة النفسية؛ الحقيقة التي تقول لك على لسان (سلم الخاسر) في بيت واحد من الشعر كأنما كان يعني (بايرون) بشطره الأول ويقصد (شو) بشطره الأخير:
من راقب الناس مات غما. . وفاز باللذة الجسور!!
هذه هي اللافتات المضيئة في حياة (شو): لافتة العقل الساخر، ولافتة القلب الشاعر، ولافتة الكبرياء النفسية. وتبقى بعد ذلك هذه اللافتة الأخيرة، لافتة الفكر في الكاتب المفكر أو لافتة الفن في الكاتب الفنان.
هل هو فيلسوف حقا كما يذهب إلى خلع هذه التسمية عليه كثير من الكتاب؟ إن لبرناردشو آراءه القيمة وأفكاره الناضجة بلا جدال، له هذه الآراء والأفكار في محيط السياسة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق، وطالما تعرض له هذه الشؤون المعقدة في عصره بالنقد والتعليق والتوجيه، يصبها في أسلوبه الساخر اللاذع الهدام الذي يحاول أن يقيم بناءه الخاص على ركام الأنقاض. . . ومن هنا يتحدث الكتاب عن فلسفته السياسية والاقتصادية والخلقية والاجتماعية إلى آخر ما يضيفون إليه من فلسفات!
أما أن (شو) كان مصلحا اجتماعيا فأمر لا يجادل فيه ولا يختلف عليه، فهو من هذه الناحية صاحب رسالة يؤديها على الوجه الأكمل ويقف في سبيل الذود عنها موقف كل مؤمن راسخ العقيدة برسالته قوى الإيمان. ولك أن تعده في الطليعة من أصحاب الرأي في عصره، حين يكون للرأي قيمته في عرض ما يزخر به العصر من ألوان المشكلات. كل هذا حق يعترف به المنصفون حين يضعون الرجل في كفة المواهب الفكرية والإنسانية؛ ولكنه على مدار هذا كله كاتب مفكر وليس بفيلسوف. . إن كل فيلسوف يجب أن يسلك في عداد المفكرين وليس من الحتم أن يسلك كل مفكر في عداد الفلاسفة! هذا إذا حددنا الفلسفة(907/42)
بأنها (المذهب) الفكري الكامل في ناحية من نواحي الحياة، المذهب الذي تتكون منه الأصول والفروع وتتولد عنه البحوث والأفكار، وتقام عليه الفوائد والنظريات وتحدد له الأهداف والغايات. . فإذا أمكن بعد هذا (التحديد) أن نساير بعض الكتاب حين ينسب (الفلسفة) إلى برناردشو أمكن أن نجاري البعض الآخر حين يلصق (الفلسفة) بأبي العلاء!!
ونعرج بعد هذا على الكاتب المسرحي الذي قدم للمسرح من الأعمال الفنية ما يربى على الخمسين. . ما هي قيمته في رأي الفن وميزان النقد؟ أما أنه يفهم الأصول الفنية الكاملة لكتابة المسرحية الحديثة فأمر لا يجادل فيه أيضاً ولا يختلف عليه، وحسبه في ذلك أنه تلميذ مخلص لعميد الأدب المسرحي الحديث (هنريك أبسن)! لقد أخذ (شو) عن (أبسن) وتأثر به وتتلمذ عليه، حتى أصبح النقاد لا يذكرون اسم هذا إلا مقترنا باسم ذاك، لما بين الاسمين من صلات الفن وقرابة الروح. . كل ما يأخذ النقد على (شو) أنه سخر فنه المسرحي لخدمة آرائه الخاصة ونقل أفكاره الخاصة؛ تلك التي تدور حول فهمه الخاص لمشكلات العصر وما فيها من قيم لا يرضى عنها وعادات ومعنى هذا أن الواقعية في مسرحيات الكاتب الأيرلندي واقعية لا يقبلها منطق الحياة في بعض الأحيان، لأن منطق الحياة هو منطق المجتمع العام في كل ما هو معروف ومألوف من المثل والأوضاع!
هذه كلمة لا تعطيك صورة واضحة لشخصية (شو) كما هي في واقع الفن وواقع الحياة، ولكنها تقدم إليك المفاتيح الصادقة لهذه الشخصية لتعالج بها ما شئت منأبواب. . وبخاصة وقد أصبح الرجل العظيم في ضيافة الخلود!!
أنور المعداوي(907/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكرى علي محمود طه:
كانت الذكرى الأولى لوفاة المغفور له الأستاذ علي محمود طه في هذا الأسبوع، فقد توفي - رحمه الله - يوم 16 نوفمبر سنة 1949. وها قد مضى عام ولم تبرح ذكراه نفوسنا، ولا يزال حر اللوعة على فقده يضطرم في أفئدتنا. وكيف ينسى (علي) وقد كان صادق الود وباعث الأنس؟ كيف ينسى مالئ دنيا الناس بأشعاره ومعطر الرجاء بفنه وظرفه؟ لن ينسى علي طه ما بقيت خوالد شعره، وما بقى الأحياء الذين ترك في نفوسهم أجمل الآثار وأطيب الذكريات.
لقد كان علي طه أحد القلائل الذين يجتذبون الناس إلى قراءة الشعر في هذا العصر. كان إذا غرد لنفسه أطرب، يصور الحب والجمال فتهفو النفوس إلى قوله، إذ تجد فيه أجمل مما يصوره. . تجد فيه جمال الفن وروح الشاعر الصافي؛ وكان إذ شارك قومه أعجب، شاعر يرنو إلى أهداف الجماعة، ويخفق قلبه بحب الخير وهو في هذا أيضاً ينشد الحب والجمال، فالخير جميل، وحبه حب. . .
سلام عليك يا شاعر الحب والجمال، سلام على روحك أيها الفقيد الصديق، سلام عليك كما تفقدناك فأوحشتنا طلعتك، سلام عليك كلما حزب أمر أو دعا داعي الوفاء، سلام عليك كلما تطلع عشاق الشعر إلى السحر والفتون.
سلام عليك أيها الملاح التائه، بل سلام عليك وقد وصلت إلى الشاطئ المجهول.
سلام عليك أيها الحلم الذي رأيناه، ولا نزال نغفى ليتصل. . .
هناك وهنا:
تلقى الأستاذ العزيز الإسلامبولي أمين مكتبة نقابة الصحفيين الكتاب التالي من إدارة الأنباء بالسفارة الأمريكية في القاهرة:
(نتشرف بإبلاغ حضرتكم أننا تلقينا طلبا من أحد المؤلفين الأمريكيين يشتغل الآن بوضع كتاب جديد بجامعة راتجرز عنوانه (دراسات توماس مان في خمسين عاما من سنة 1901(907/44)
إلى 1950) ويعتقد المؤلف أن توماس مان زار مصر منذ أكثر من عشرين عاما مضت، ويذهب أن الصحف لا بد قد نشرت عنه بعض المقالات في ذلك الوقت، وظهر تبعا لذلك كثير من الأبحاث التي تناولت ترجمة حياته أو نقد أعماله، سواء كان ذلك في كتب أو نشرات أو مقالات في الصحف أو المجلات أو غيرها، ويود المؤلف المذكور الحصول على أسماء مؤلفي هذه الأبحاث وعنوانات المقالات التي نشرت وأرقام أعداد الصحف التي نشرتها وأسماءها ومكان تاريخ نشرها. ويكون من دواعي امتناننا لو تكرمتم بإحالة هذا الطلب إلى الإدارة المختصة في مكتبتكم لمراجعة الفهارس والسجلات التي تكشف عن البيانات المطلوبة. ونحن إذ نقدر لكم هذه المعاونة الكريمة، نود أن نؤكد لحضرتكم امتنان المؤلف لمساعدتكم له، ونرجو أن تتفضلوا بقبول وافر الاحترام)
أعجبتني هذه الروح العظيمة، وأشفقت ألا تصل هذه المعلومات ' إلى طالبها، فقد لا يتيسر لمكتبة النقابة - وإن كان الأستاذ الإسلامبولي أبدى استعدادا وتحمسا للمعاونة - أن توافي بكل المطلوب، ولا بد أنه قد أرسلت هذه الرسالة إلى هيئات أخرى في مصر كدار الكتب المصرية، وأشفقت أيضاً أن (تندشت) هذه الرسالة في المكاتب الحكومية التي يستطلب فيها الكسل والنوم - فأحببت أن أنشرها هنا، رجاء أن يهتم بها من يستطيع الإجابة عنها، فيسد عنها ثغرات. . .
وخطر لي هذا السؤال: ترى ماذا يحدث إذا طلب مؤلف مصري مثل هذا الطلب من إحدى السفارات المصرية؟ ولست أدري أي شيطان جعلني أتخيل الجواب على الوجه التالي: تحول السفارة الطلب إلى وزارة الخارجية، وهذه تحوله إلى وزارة الداخلية، وهذه تحوله إلى قسم البوليس التابع له المؤلف. . ويستدعي المؤلف إلى القسم، ويفتح له (محضر) يسأل فيه عن اسمه وصناعته وسنه، ومحل إقامته وشيخ حارته. . . الخ، ثم يسأل: كيف تجرؤ وأنت من (الأهالي) على أن تكلف جهة (أميرية) بمثل هذا الكلام الفارغ. . وأخيرا يفرج عنه بضمانة شيخ الحارة. . .
المطلوب تصحيح أوضاع:
ليست هي الأوضاع الدستورية التي يتحدث عنها المعارضون السياسيون والتي ضمنوها عريضتهم المعروفة، وإنما هي كما ترى في الرسالة الآتية:(907/45)
وبعد فإننا نتوسل إليكم سيدي - وأنت الذي لم ترد لنا رجاء - أن تتكرم بإفادتنا عن الحكم في هذه المشكلة أو (التقليعة) الجديدة التي تفتت عنها العبقرية الأزهرية في عصر الذرة.
ليست هذه المشكلة هي بناء المدينة الأزهرية وسط المقابر والتلال! ولا في إحجام الشيوخ عن إخراج العلم للناس في ثوب قشيب! ولا في عدم مساعدة الطلاب صحيا أو اجتماعيا أو خلقيا!! لا يا سيدي، ليست مشكلتنا اليوم من هذه الأنواع فالكلام في هذا، يعد في عرف كثير من شيوخنا، خروجا على العقيدة. . وقد يشطب الطالب من كليته لمثل هذا. .
وإنما مشكلتنا بسيطة للغاية، وهذا ما دعانا إلى الالتجاء إليكم، أنشئت كلية الشريعة في (خرائب الدراسة) ومع أن الشرائط الصحية، لا تتوفر في كثير من فصولها، تجد أمرا عجبا. . تجد أن الألواح السوداء، وأعنى (السبورات) موضوعة خلف الطلاب!!
ورجونا المختصين كثيرا لتصحيح هذا الوضع، وجعلها أمام الطلاب؟ ولكن لأمر لا نعلمه، تصر إدارة الكلية على هذا الوضع الشاذ! وليس بعسير على سيدي، أن يتصور حالة الطلاب، حينما يريدون أن يتتبعوا شرح المدرس لمسألة ما، هي السبورة، ويلووا أعناقهم إلى الوراء!!
لا أدري أهذا منظر مضحك، أم محنق، ولكن الذي أدريه أن إلحاحنا لجعل هذه الألواح أمامنا، باء بالفشل، وكثيرا ما سمعنا من بعضهم أنهم كانوا يتلقون العلم - وهم على الحصر - فلا يشكون! أما نحن طلاب اليوم. .؟
. . وانتهينا إلى هذا الحد. .
ولو كان هم واحد هان خطبه ... ولكنه هم وثان وثالث.
متعك الله بالصحة والسعادة لخدمة المجتمع البائس الحائر
ضياء الحائر
بكلية الشريعة
لك الله يا ضياء! إنك لست (حائرا) من قليل. . فقد تكشفت لنا حيرتك منذ شهور عن (حيرة الجيل الجديد في الأزهر) إزاء المؤلفات القديمة المعقدة، تلك الحيرة التي أرجو أن(907/46)
تزول على يد فضيلة الأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم.
أما الموضوع الذي يحيرك اليوم فأمره بالغ العجب. . ولولا ثقتي بك ما صدقت هذا الذي تصف. على أنك لم تبين لنا وجهة نظر (المختصين) في وضع السبورات وراءكم ظهريا. . فقد يرون مثلا أن في ذلك تمرينا لعضلات العنق بتحريك الرأس للنظر إلى الوراء!
وقد يكون الغرض أن تحدسوا ما على السبورة وهي خلفكم، على طريقة اللعبة التي تعصب فيها العينان! وقد اكتفيت بما سمعته من بعضهم أنهم كانوا يتلقون العلم على الحصر أما أنتم فاحمدوا الله على أنكم جالسون على مقاعد، فما أشد طموحكم! أتريدون مع ذلك أن تكون السبورة أمامكم. .؟
في الأمور التافهة ما يبعث أحيانا على التأمل، ووضع السبورات خلف الطلاب في كلية الشريعة من هذا القبيل، وأنا لا أزال أتخيل هذا المنظر الطريف وأتأمل. . . إنني أيضاً حائر. . .
حول مشكلة القراءة:
قرأت بالعدد 901 من الرسالة الغراء ما تفضلتم بكتابته تعليقا على مقال للأستاذ محمد علي غريب بجريدة الزمان عن مشكلة القراءة أو ظاهرة الإعراض عن القراءة المتفشية بين المتعلمين. وقد أرجعتم ذلك إلى طريقة التعليم من إرهاق التلاميذ والمدرسين مما يبغضهم في الكتب. وإني إذ أؤيد ما تفضلتم بذكره أضيف إلى ذلك أن الأستاذ غريب ناقض نفسه حين عرض لاستهلاك الموظفين تفكيرهم في تفهم منشورات العلاوات وحسبان الأقدميات بدلا من قراءة كتاب لعبقري موهوب.
إذ كيف يطلب من مثل هذا الموظف الذي يضني نفسه وتفكيره في محاولة زيادة دخله ولو قروشا معدودات، أن يدفع من دخله هذا الذي لا يكاد يكفي قوته وقوت أولاده ما يكفي لقوت فكره وعقله. أليس الأجدر من ذلك طبع الكتب طبعة شعبية إلى جانب الطبعة المرتفعة الثمن، وإذا أردتم اختبار مدى نجاح ذلك فهاكم سلسلة أقرأ التي تقدمها دار المعارف، وغيرها. ففي ذلك تسهيل لغير القادرين من محبي القراءة وتشجيع لغيرهم علاوة على الكسب المادي والأدبي الذي يصيب الكاتب نفسه.
ولا يفوتني أن أذكر في هذا المجال أن هناك كتبا كثيرة لكتاب أفاضل طبعت ووزعت(907/47)