عن تكاليف السلطان وخدمة الملوك، فمضى إلى حصن كيفا، وهناك عكف على البحث والدرس والتأليف. وربما اختار أسامة هذا المكان لما كان فيه من مكتبات ضخمة غنية. ولكن هذه العزلة التي ارتضاها أسامة قطعها عودة صلاح الدين إلى دمشق، وقد رأى فيه أسامة البطل المنقذ للبلاد، فمضى إليه واستقبله صلاح الدين استقبالاً حسناً، فقد كانت تربطه به صلات وثيقة عندما كانا معاً في بلاط نور الدين محمود، فأعطاه صلاح الدين داراً وإقطاعاً دارة، وجالسه وآنسة وذاكرة في الأدب، وكان يستشيره فيما يلم به، وإذا مضى غلى الغزو كاتبه، وأخبره بوقائعه، وكان صلاح الدين معجباً بشعر أسامة، مشغوفاً بقراءة ديوانه، وتأمل خواطره، واستحسان روائع قصائده، وكان ولده مرهف جليس صلاح الدين، وصاحبه في الحل والترحال.
عاش أسامة في دمشق يشكو الكبر، وقد ثقلت عليه الحياة، لطول عمره، حتى إذا كان الثالث والعشرون من رمضان سنة 584هـ (نوفمبر سنة 1188م) توفى أسامة بعد أن أربى على التسعين، ودفن في سفح جبل قاسيون، بدمشق.
- 2 -
ترك أسامة عدة كتب عرفنا منها:
1 - كتاب الاعتبار الذي نشره المستشرق الفرنسي هرتويغ درنبورج، وقد سجل فيه أسامة ذكرياته، ومشاهداته، من معارك حربية، وأحداث سياسية، في مصر والشام، ويصور الوقائع التي دارت بينه وبين الإفرنج في صدق وإخلاص، ويعلق على ما يرى، ويشيد بالبطولة،، سواء أكانت من المسلمين أم من الصليبيين، ويدون ما يراه من أعمال الأبطال، ولو كانوا من صغار الجند، ويقيد الحوادث الفردية والغربية، وينقل إلينا ضوضاء المعارك، ويصف صلة المسلمين يومئذ بالفرنج، في السلم والحرب، ويصور طبائع الإفرنج وأخلاقهم وعقائدهم، ويحوي تأملات لأسامة بشأن طول العمر، وألحق بالكتاب قصصاً ونوادر شاهد بعضها، وسمع بعضها من ثقة، وقيمة الكتاب في أن ما رواه من حوادث تاريخية ومعارك، سجلها بعد أن رآها، فكان فيها شاهد عيان، ولذا كان من أهم ينابيع التاريخ لتلك الحقبة من عصر الحروب الصليبية، وقد كتبه أسامة وهو ابن تسعين سنة.(884/27)
2 - كتاب لباب الآداب، نشره الأستاذ أحمد محمد شاكر، وقد رتبه مؤلفه على سبعة كتب: الأول في الوصايا، والثاني في السياسة، والثالث في الكرم، والرابع في الشجاعة، والخامس في الأدب بمعنى كرم الخلق، وقسمه خمسة عشر فصلاً، وهو يورد في هذه الكتب ما يتعلق بها، مما جاء في القرآن الكريم، ثم ما ورد من أحاديث تتصل به، ثم يورد المأثور من أقوال الحكماء. والكتاب السادس في البلاغة، تحدث فيه عن إعجاز القرآن، وأوردوا جوا مع كلم الرسول، ونماذج من كلام البلغاء، وجاء بكثير من محاسن الشعر الموجز البليغ الدال على مكارم الأخلاق، وقطعاً لأعراض مختلفة من الشعر. والكتاب السابع في الحكمة نهج فيه نهج سلفه من الأبواب، والكتاب يدل على اطلاع واسع، وذوق دقيق في الاختيار.
3 - كتاب العصا. وقد أورد فيه شواهد نثرية وشعرية تتحدث عن العصا التي عرفت في التاريخ، وأثبت فيه أيضاً كثيراً من شعره.
4 - كتاب البديع، وقد جمع فيه ما تفرق في كتب العلماء المتقدمين، المصنفة في نقد الشعر، وذكر محاسنه وعيوبه، وقد انتقد هذا الكتاب ابن أبي الإصبع في كتاب بدائع القرآن، ومن الكتاب نسخة خطية بدار الكتب.
5 - كتاب المنازل والديار، قالت عنه دائرة المعارف الإسلامية، إنه ترجمة كتبها عن نفسه عام 568هـ (1172م) في أثناء إقامته في حصن كيفا، والدافع له على كتابته زلزال أغسطس سنة 1157م، وهو يتضمن شواهد شعرية كثيرة عن المنازل والديار والأطلال والربع والدمن والرسم وغيرها، وبالمتحف الأسيوي بلننغراد نسخة منه.
6 - مختصر مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي.
7 - مختصر مناقب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي أيضاً. والكتابان مخطوطان بدار الكتب.
8 - تاريخ القلاع والحصون.
9 - أخبار النساء.
10 - التاريخ البدري، وقد جمع فيه أسماء من شهد بدراً من الفريقين.
11 - التجائر المربحة والمساعي المنجحة.
12 - النور والأحلام.(884/28)
13 - الشيب والشباب.
14 - التأسي والتسلي.
15 - ذيل يتيمية الدهر.
16 - أخبار النساء.
17 - نصيحة الرعاة.
وهذه الكتب العشرة قد نسبها إليه مؤرخوه، أو أشار إليها في كتبه التي بين أيدينا.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(884/29)
صورة من الريف
للأستاذ كامل السيد شاهين
الشيخ محمود العلمي من فقهاء قريتنا، يحفظ القرآن الكريم لا تشتبه عليه آية، ولا يؤخذ عليه لحن. ويروى فقه أبي حنيفة، لا يغيب عنه حكم، ولا تلتوي عليه فتوى. لم يختلف بعد الكتاب إلى معهد من معاهد العلم، فكان أستاذ نفسه في النحو، تنخل كتبه ونفضها. أستاذ نفسه في الأدب، وأستاذ نفسه في الكلام والجدل والتفسير والحديث؛ لكنه كان مع ذلك مستصغراً محتقراً، أسلمه إلى هذا الهوان جنايات تمالأت عليه، من الفقر وإرهاف الحس والحدة الرعناء!.
كنت استفتبىء إلى ظل السابعة، وكان هو مشرفاً على الثلاثين. وكانت معرفتي له آنذاك معرفة الحدثان بالشذاذ، فهم مغرمون بمتابعتهم والتصفيق وراءهم والتندر بهم. كنت لا أراه أنا وأترابي حتى نشد وراءه عدواً، فإذا انقلب إلينا راجعاً، تهاربنا تهارب الفيران، ولاذ كل منا بزقاق أو دار أو مسجد. وكان الشيخ محمود أعمى أو شبه أعمى، لا يفتأ يحدث نفسه وكثيراً ما تظهر انفعالاته في رفع يديه إلى صدره تفرك إحداهما الأخرى زهواً وإعجاباً، أو غيظاً وتحرقاً.
فتن الشيخ محمود بسعد زغلول، وكان سعد عنده أرفع من أن يمدح بالشعر المنظوم أو الخطب المرسلة، ولم يكن يليق به إلا سورة على نهج القرآن، تسير بها الركبان، ويتلوها الناس على مر الزمان.
وأصبح أهل القرية ذات يوم، فإذا الشيخ محمود عند باب المسجد جالساً متربعاً وقد تنحنح ثم سعل، ثم بصق عن يمين وشمال، ثم رفع عقيرته يتلو ويرنم هذه السورة الجديدة. (ع. د، إنك لمن المنصورين، إنا شددنا عزمك المتين، وآزرناك بمكرم المبين، واصطفينا لك النحاس الأمين، وباركنا عليك في الآخرين، سلام على سعد في العالمين، أنه من عبادنا المجاهدين.) ولو يتلو ويتمايل، ويؤتي المدحقة والغنة حقها، ويعدل النحاس مرة، ويميله مرة، ويحقق همزة الأمين تارة، ويخفيها تارة؛ ولو رأيته واضعاً يده على صدغه، مدخلاً سبابته في أذنه، وصدره يعلو ويهبط، وعروق رقبته تبرز وتختفي، لهالك هذا الجلال، ولأخذ بمجامع قلبك أخذاً. فلما فرغ من سورته قال: (صدق محمود الحكيم) فتناول الناس(884/30)
بما خف وما ثقل من عصا أو سوط أو حذاء أو حجر، فمن لم يجد فصفعة بكف، أو ركلة بقدم. فمن لم يستطع فبصقة من فم، أو مخطة من أنف. وكان أمره هذا أحدوثة الموسم. ولكن الشيخ محموداً استوحش فلم يعد يأنس لأحد ولم يعد يأنس إليه أحد.
وشببت عن الطوق، وشدوت شيئاً في المعرفة، واتصلت بالشيخ محمود، إذ كان يختلف إلى أبي ليوضح له مشكلاً، أو يستعير منه كتاباً، أو يقرأ عليه مقالاً، فأكبرت الرجل وعرفت له حقه. وجاء يوماً وقد دس صحيفة في كمه، ثم نشرها وقال: أقرأ، فإذا هو مديح للنحاس وللوفد، جاء فيه:
أستنصر الله للنحاس مأوانا ... نصر النبي الذي بالدين آوانا
وأسأل الله تأييداً لصحبته ... من أصبحوا تحت ظل الوفد إخوانا
لو خير الناس يوم الحشر مسكنهم ... لاخترت بيتك يا نحاس ديوانا
فلما بلغت هذا المكان من القصيدة قال: أكفف!، فكففت، ثم قال: أتظن النحاس باشا يعلم أن كلمة (ديوان) منقولة من الفارسية، وأن أصلها (دوان) قلبت الواو الأولى ياء شذوذاً؟ فأردت أن أمكر به، فقلت: إنا لله! إذا لم يعرف هذه فكيف يصح أن يكون رئيس الوفد، وخليفة سعد؟ ففرك يديه، وجال بعينيه، ثم قال: في الحق أنني أحترم النحاس باشا، ولكني أحب عبد الحميد عبد الحق، وفرق بين الاحترام والحب، فبعد الحميد صفى روحي، وإن كنت لم أره ولم يرني، وقد عتبت عليه ببيتين فقلت:
عبد الحميد كفى! فلست بعالم ... ماذا يثور اليوم في وجداني
والله ما هز الفؤاد وشفه ... إلاك - يا عفريت - من إنسان!
قلت: أو أرسلت بهما إليه؟ قال: سأبلغهما له بنفسي وعلى طريقتي. سوف استحضره الليلة قبل نومي، فإذا عن لي في الحلم، أنشدته إياهما، فيصبح وقد نقشا على قلبه نقشاً.
وكان الشيخ قد مال إلى دراسة الإنجليزية، فلقيته على فترة من السنين، فقلت له: ما أحدثت؟ فقال: أحدثت جللاً!، قلت ذلك هو العهد بك والأمل فيك. قال: نعم، وجدت صغارنا يتعبون في حفظ الإنجليزية، فرأيت أن أضمنها أبياتي، حتى تسهل وتهون. قلت: فعلت، فلله أنت!. ثم اتخذنا سبيلنا غلى بائع (جزر) على حمار، فالتفت الشيخ وقال: فما الامتحان (ببقلاوة) كمثل التي عند (يور فذر)! وما يستوي النابغ العبقري ومن كان يا ابني يبيع(884/31)
(الجزر)! قلت: الله أكبر!، هذا هو النبوغ العبقري لو كان يجد من يقدره، فزفر وقال: آه يا كامل:
لو كان خالي الهلالي ... أو طاهة بن حسين
ما (شخلعتني) الليالي ... وشفت ظهر المجن!
وتضاحكنا، وخبط الأرض برجله مرتين، وأصغينا إلى المذياع، فإذا عبد الوهاب يغني:
أما رأيت حبيبي ... في حسنة كالغزال
يطوف بالحب قلبي ... فراشة لا تبالي!
فطرب الشيخ محمود وكان طروباً وأخذ ينشد ويمطط، ويتأوه ويهز عطفه راقصاً، ويعارض في الأصوات كما يعارض بالأبيات ويقول:
بلى رأيت حبيبي=في (تخنة) كالشوال
إن قلت (ولعت) قلبي ... يقول لي: (ونا مالي)!
ومضت أعوام ثلاثة لم ألق فيها وجهه الكريم، وعدت إلى البلد بعدها، فلم يخف للقائي، ولم يستبشر بوجودي، ولم يعبأ بما كنت أخفض له من جانبي، وكأنه زهد فيما كنت أفيضه عليه من ثناء وأتحفه به من إقبال، وأكرمه به من تحية، فسألت عنه حين لم يسأل هو عني، فجاء متثاقلاً بطيئاً، وألقى تحيته في تعاظم وتكلف، وجلس في اعتزاز واستعلاء، وبدرت في عينه حمرة الشر، فلما استوى به المجلس، بدأت الكلام خائفاً أترقب وصحت بالخادم: هات شراب ليمون مشعشعاً بالثلج!، فقال: يا هذا، ما زلت تذهب إلى مصر وتعود، وأنت في ضلالك القديم، لا ينفتق عقلك عن جديد، وأنا هاهنا قابع في عقر (كفر عليم) ومع ذلك أثب كل يوم فأحك بيافوخي السماء. قلت: لا جرم إذا انحرفت فقومني، قال بلى، إذا طلبت ماء بليمون غلا تقل هات شراب الليمون، وإلا كنت ساقطاً تافهاً ركيكاً كهذا الذي يقول:
أكلت (بطاطة) وشربت ماء ... كأني ما شربت ولا أكلت
ثم يزعم أنه شاعر. ولكن قل هات الماء المليمن، وليمن الماء يا فتى!، وإذا خلط الماء بعصير البرتقال فهو مبرتق، والغلام يبرتق الماء. أما سمعتهم يقولون (الرز المفلفل) (والسمك المملح؟) فلماذا ندعهم يشتقون من الفلفل والملح، ولا نشتق نحن من الليمون(884/32)
والبرتقال؟ قلت: أفادك الله، فما زلت راشداً مرشداً. قال: ليس هذا في شيء وإنما الشيء ما أسوقه إليك، فقد هداني النظر الفاحص إلى ضرب من الشعر يفهمه العربي الذي لا يعرف الإنجليزية، والإنجليزي الذي لا يفهم العربية، واستوى لي ذلك وأنا أنظر في ديوان شعراء الجاهلية، قلنا: وكيف كان ذلك؟، قال: نظرت فوجدتني أقرأ البيت فأجد فيه الكلمة والكلمتين لا أعرفهما، ولم يسبق لي الوقوف عليهما، ثم أعيد النظر وأفحص الكلام، أتشمم فحواه، فأهتدي إلى معنى الكلمتين غير راجع إلى القواميس والمعجم. فقلت في نفسي لو جعلنا الكلمة العربية، وإلى جوارها الإنجليزية، فأنشدنا عربياً وإنجليزياً بيتاً على هذا النسق لفهما جميعاً، اسمعوا إلى قول الشاعر:
لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
فلو أتى نظمه هكذا: لها (بودي) برغوث (لجز) بعوضة= (وفيس) كوجه (المنكي) بل هو أقبح
لفهم الإنجليزي والعربي جميعاً، قال قائل: بل لضل الإنجليزي والعربي جميعاً، واستغرقنا ضاحكين، فتحسس العكاز وتلمس الباب، وخبط الأرض بقدمه، وانطلق فما نسمع إلا همهمته (حمير، جهال، سفلة). ونظرنا فلم نر أثراً.
وفي هذا العام سعيت إليه، ولم يسع إلي، فقد كان رهين جدثه ومثواه الأخير، ووقفت على قبره أنشد:
لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأيد
نمدهم كل يوم من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر بالسودان(884/33)
رسالة الشعر
التخنث
للمغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وهذه قصيدة أخري لنابغة الأدب السيد مصطفى صادق
الرافعي رحمه الله لم تنشر في ديوانه نتحف بها قارئ الرسالة
الغراء.
أبو ريه
أفي الشبان قد مسخ الشباب ... أم الدنيا اعتراها الانقلاب
غصون في رياض العلم تنمو ... وتثمر بعد ذلك بما يعاب
فلا يغرنك شكل العود وانظر ... فإن لناره صنع الثقاب
أمما علموا أن يستكينوا ... لدهرهم ودهرهم غلاب
أمما علموا أن يستميتوا ... على كسل ودنيانا اكتساب
أمما علموا أن يستهينوا ... بما قد أخطئوا وبما أصابوا
لنا دين يقوم به كتاب ... وغيهم كل ذي رأي كتاب
وقد جمعوا العلوم وقد أجيزوا ... وقد زاروا مواطنها وآبوا
ومنهم من أتانا مستضيئاً ... كما يهوي ليحترق الشهاب
(شهادات) ولا عمل يزكى ... كأن حضور حاضرهم غياب
وإن خبرتهم الأعمال يوماً ... رأينا السيف تكسره الرقاب
أرى قفلاً على باب كبير ... ولكن خلفه أرض خراب
فما علم الحساب وهم قعود ... وما الوقت عندهم (حساب)
وما علم اللغات وهم بلاء ... على اللغة الكريمة بل مصاب
وما نفع اليقين بما علمنا ... وفي الآداب شك وارتياب
وأفضل من علوم المرء خلق ... تحب به الفضيلة أو تهاب(884/34)
بأي معلم في الطير هذا ... حمام يستمر وذا غراب
بنفسك لا يعلمك أنت منا ... وأنت لنا ثواب أو عقاب
ألا إن الشراب له إناء ... فإن دنسته دنس الشراب
وألين ما يكون زمان قوم ... إذا احتملته أخلاق صلاب
لكان الليث أسهل ما ركبنا ... إذا لم يحمه ظفر وناب
ألا يا قوم للفتيان فينا ... وزينتهم وما حمدوا وعابوا
رأيت لبعضهم أمراً عجاباً ... وليس كمثله أمر عجاب
يسيل تخنثاً ويذوب لطفاً ... فهل في أرضنا رجل مذاب
(ولان) كأنه فينا اعتذار ... تقدمه حوادثنا الصعاب
(وهذبه) الزمان لمصر شعراً ... رقيقاً منه بينهما عتاب
على خديه للمرآة نور ... فهل في الحسن بينهما انتساب
ويحملها المخنث أين يمشي ... وبين الشكل والشكل اصطحاب
ويطرح وجهه فيها سؤالاً ... ليأتيه (على الوجه) الجواب
وفيه من الذكورة نوع حسن ... يتم به أنوثتها الكعاب
ومطمحه الذي يرنو إليه ... من (العمياء) نافذة وباب. . .
وهمته الثياب فليس يمشي ... إذا ما سار بل تمشي الثياب. . .
ملونة مصبغة لوجه ... له في لونه منها اقتراب
ولا عجب فذا قمر المعالي. . . ... (تسفل) والثياب له سحاب
يسائلني أتم الزي حسناً ... وظرفاً قلت بل نقص النقاب. .
كأن بلادنا قفر فمنهم ... ومن أثوابهم فيها سراب
كأن فحار مصر عاد أنثى ... قعيدة بيتها ولها حجاب
فأسودهم. . وأحمرهم حمال ... فذا كحل لمصر وذا خضاب
وما يمشي الفتى مغروراً منهم ... لأمر في عواقبه ثواب
تراهم تابعين لكل أنثى ... وبين الشبه والشبه انجذاب. . .
إذا طلعت طلوع الصبح فيهم ... بدا من برد وجوههم ضباب(884/35)
ومدوا في (حلاوتها) لحاظا ... أخف طبيعة منها الذباب
وفي أفواههم لفظ خبيث ... وهل أفعى وليس لها لعاب
إذا كان التراب قذى لعيني ... فبعض القول في أذني تراب
أذى أفعال من ولدته أم ... وهل أخطي وفي بيتي الصواب
أما في هذه الدنيا أمور ... سوى الشهوات تحرزها الطلاب
أما في هذه الدنيا أسود ... كما في هذه الدنيا كلاب
أما خافوا الطبيعة في صعار ... ستورثها الطبيعة ما استعابوا
وكم طفل يعاقب عن ذويه ... ولم ينفعه أن ذويه تابوا
كما خبثت أصول واستطابت ... كذلك فروعهم خبثوا وطابوا
وأية ذئبة ولدت خرافاً ... ومن أي النعاج أتت ذئاب
رويداً يا بني مصر رويداً ... وكونوا خير من شبوا وشابوا
متى ذهب الشبان سدى أقامت ... معائبه فليس لها ذهاب
طفولتكم لمصركم ديون ... وعهد وفائها هذا الشباب
مصطفى صادق الرافعي(884/36)
خواطر مرسلة
مروض القردة
للأستاذ حامد بدر
من الشعراء النظامين شاعر أسمه (مروض القردة) ووجه الشبه بين كل منهما أن هذا يكره الألفاظ والمعاني علة الخضوع، وقد تألبت عليه، فيأخذها مرة بالحيلة، ومرة بالعنف، حتى يتمكن من استخدامها راضية أو غاضبة، طائعة أو كارهة؛ وذاك يكره القرود على الخضوع كذلك، وقد تشق عصا الطاعة، وتخرج على إرادته، ولكنه يروضها أيضاً، تارة بالحيلة، وأخرى بالعنف، حتى يتمكن من استخدامها راضية أو غاضبة، طائعة أو كارهة، وكلتا الطريقتين صنعة لا تمت إلى الفن الخالص بصلة.
فإذا آمنت بأن هذا الشاعر - إن صح اعتباره شاعراً - قادر على النظم من كل بحر، ومن كل قافية، وفي كل مناسبة، وفي كل غرض، حسبما تقتضيه المنفعة، كمدح من يمنح، وهجاء من يمنع. . فلست مؤمناً بأنه يحس حين ينظم، وإن أحس فإنما هو إحساس بينه وبين نظمه تباين تام!
وإن آمنت بأن الإنسان يخضع القرود ويستخدمها ويروضها على ألعاب عجيبة، فلست مؤمناً أبداً بأن القرد يحب من يروضه، ولا بأن العلاقة بينهما طيبة، بل إنني أخشى على هذا الإنسان الجريء، من غدر القرد المسكين الذي حكم عليه الزمان، ووقع في حكم بني آدم! ولا شك في أن الوحشية كامنة في دمائه، وإن خدع إنساناً محدود التفكير بأنه يشبهه شكلاً ولا يختلف عنه إلا قليلاً!
ومروض قرود الألفاظ والمعاني ظلم نفسه، إذ حشرها في زمرة الشعراء، وغش نفسه بما يقدمه إليهم على أنه شعر، وما هو من الشعر غلا في أنه كلام موزون مقفى!
وكثيراً ما أرثي له إذا رأيته، وقد أكد العزم على نظم قصيدة عاجلة مستعجلة، محدودة الموضوع والزمان والمكان. . . بتكليف لا ينقذ من التكلف، ولا يعفى من قول نعم. . .
وقد يكون الشاعر في هذا الظرف معكر المزاج لسبب ما، والأسباب ما أكثرها! ولكن ما للناس وهذه الأسرار التي قد يحرص على إخفائها، ويضن بالبوح بها. . .
إن المزاج غبر رائق، ومرآة الذهن ليست صافية، هذا هو الأمر الواقع. ولكن لا بد من(884/37)
نظم القصيدة المطلوبة، أليس صاحبنا شاعراً قديراً، وخالقاً عبقرياً! أليس مالكاً لزمام البيان! فلماذا يترك هذا الزمام يفلت من يده لحظة واحدة؟!
إنه لن يأتي بما لم تأت به الأوائل، ولكنه سيحاول أن يأتي بكل ما أتى به الأوائل. ها هو الآن يتأهب للنظم، وبينا يفكر في المطلع إذا بأحدهم يطرق الباب فيستقبله:
- أهلاً وسهلاً. . تفضل. .
- شكراً
- هل فرغت من نظم القصيدة؟
- أكاد. .
- كم بيتاً باقياً لتكون القصيدة كاملة؟
- شيء يسير!
وينظر الزائر في الأوراق التي أمام صاحبنا ثم يقول:
- أنت لم تكتب شيئاً مطلقاً! فما لك تزعم أنك موشك على التمام!؟
- إن القصيدة كلها شيء يسير
- إذا كنت تعني أن نظم القصيدة شيء يسير عليك فلتكن قصيدة عصماء!
- وهل يأتي مثلي بغير العصماوات؟!
وابتدأ ينظم كالآلة، وهو مقطب الوجه، متصبب العرق. . وأقسم وأنا واثق من صدق يميني أن أول خاطر جال بفكره هو الخاطر: (ترى ماذا تكون النتيجة لو لم أفرغ من نظم القصيدة المنتظرة في الوقت المحدد. . يا للخجل. . . يا للورطة. . . لعنة الله على الشعر!).
هذا الكلام هو الذي جال حقيقة برأس الشاعر القرودي، وأما الكذب فهو ما يعالج نظمه. . . وأخيراً فرغ من منظومته في الميعاد المحدد. وتنفس الصعداء!
وصفق له الجهل تصفيقاً طويلاً. . وصفعه الفن صفعة واحدة تلاشى في صداها صدى التصفيق الطويل.
حامد بدر(884/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
اليوم، وأنا أعود بالقلم إلى هذا المكان الحبيب من الرسالة، أرى لزاماً علي أن أذكرك. . وإذا كنت قد عدت، فإنما هي استجابة لصدق محبتك ولطف مودتك، وما لمسته فيك من جمال الوفاء. . وكل تلك القيم النادرة في عالم الصداقة كان لها أعمق الأثر في نفسي، لقد دفعتني دفعاً إلى أن أحمل قلمي وأعود. . .
من حقك علي إذن أن أذكرك، لأنك ما فتئت تذكرني طيلة هذه القطيعة بيني وبين الرسالة. . . تذكرني بقلبك حين اقتصر غيرك على أن يذكرني بلسانه، وما أبعد الفارق بين لغة القلب ولغة اللسان! صدقني لقد كانت هذه القطيعة امتحاناً قاسياً لصداقة الأصدقاء وخصومة الخصوم، وما أكثر الذين (سقطوا) في الامتحان من كلا الفريقين. . . وصدقني أنه لا يهمني كثيراً أمر هؤلاء (الساقطين)، ولكن الذي يهمني هو أن أحبى الأصدقاء الأوفياء والخصوم الشرفاء، وحسبك أنك كنت في الطليعة من الفريق الأول!
أنت إنسان مخلص لصداقتك إخلاصك لفنك. . وأنا من الذين يربطون بين الوفاء للصداقة والوفاء للفن، لأنهما لازمتان من لوازم الحكم الصادق على طبائع النفوس إن جمال الصداقة لا يقل أبداً عن جمال الفن، والحق أن كليهما يا صديقي فن جميل. . . وكل فن جميل قطعة من النفس الشاعرة بخلود بعض الحقائق في كون كل ما فيه منته إلى الزوال.
أتذكر هؤلاء الذين صادفتهم يوماً ثم انقطع ما بينك وبينهم من أواصر الود وأسباب الصفاء؟ لقد اتهموك بأنك تنكرت للصداقة، وتخلفت عن الركب، وطمست بيديك سطور الذكريات. . . ولو أنصفوا الحقيقة والضمير لما اتهموك: لقد أغلقوا قلوبهم في وجهك فأغلقت قلبك، وكفوا ألسنتهم عن ذكرك فكففت لسانك، ومضوا في طريقهم لا يعرجون فمضيت في طريقك. . . وكأن الوفاء في رأيهم أن تلقاهم بعطر الزهور حين يلقونك بواخزات الشوك، وأن تحملهم إلى ارض الظلال وليس في أرضهم غير سفي الرمال، وأن تعترف بالماضي الأثير ولو دفنوه تحت أكوام التراب!
أتذكر هذا الذي كان؟ إنني أسجله هنا ليصحح بعض الناس موقفهم منك وماضيهم معك،(884/39)
على ضوء موقفك من صاحب هذا القلم وحاضرك معه. . . لقد كان آخر لقاء بيننا هو ذلك الذي لم تشأ أن تودعني فيه إلا بعد أن وعدتك بأن أعود إلى الرسالة. ولقد كان الأمر يهمك حتى لكأن القلم الذي انقطع عن الكتابة هو قلمك، وكأن القراء الذين انصرفت عن لقائهم هم قراؤك. . . وحسبي أن أقف في التدليل على وفائك عند هذا المعنى ولا أزيد!
أما الزيات الصديق فأنت أعلم الناس بما بيني وبينه من قرابة الروح وأصالة المودة. . ولولا هذه الأصالة وتلك القرابة لترتبت على اختلافك الآراء فرقة الوجوه والقلوب، ولكن هذه الفرقة لم تخطر لأحدنا فيبال، لأن اختلاف الرأي كما يقول شوقي العظيم لا يفسد للود قضية!
ولقد كنت أود أن أذكر بعض الخصوم الشرفاء في معرض التقدير ومجال التحية، ولكنني آثرت أن أمسك القلم عن ذكرهم خشية أن يتهمهم بعض الناس. . . بعض الناس الذين لا يقدرون شرف اليد التي تمتد لتصافحك - أنت الخصم القديم - وقد جردت يداك من السلاح! اشهد لقد صافحني بعضهم وأنا مجرد من سلاحي، وهو قلمي. وبذلك انتقلوا من صحراء الخصومة إلى دوحة الصداقة، وضمخوا بأرج العاطفة هذا القلب الذي يذكرهم، ويحمل لك ولهم اصدق الشكر وأخلص التحية.
جيل شهيد:
بالأمس أطلق طالب في كلية الطب رصاصة من مسدسه على أستاذه لينهي حياة تريد أن تهب له الحياة. . . إن دل هذا الحادث على شيء فإنما يدل على أن أخلاق هذا الجيل من الشباب الجامعيين لا تبشر بالخير! ولست أجد في وصف هذا الجيل الجامعي أصدق ولا أبلغ من أنه جيل شهيد. . ولو لم يكن جيلاً شهيداً لما أقدم أحد أبنائه على مهاجمة رجل ما كان اجدره بأن يحني له الرأس حياء من فضله وإجلالاً لأستاذيته!
أية جامعة تلك وأي شباب؟ أقسم لقد كدت أنفض يدي من الجامعة وما تهدف إليه رسالة، ومن الشباب وما يبتغون من مثل. . إن رسالة الجامعة كما أفهمها هي أن تقدم دعائم الأخلاق لتنهض عليها صروح العلم وإن مثل الشباب كما أعلمها هي أن يستضيئوا بنور من هنا ونور من هناك، وعلى هذين يتوقف تقدير القيم والمصير!
ولابد من سؤال يجيش في الخواطر لتهجر به الشفاه: من المسئول عن هذا الإهمال في(884/40)
تكوين مثل عليا من الأخلاق في نفوس الجامعيين؟ سيقول أناس إنهم الآباء. . هذا حق ولكنه ليس كل الحق، لأن هناك رجالاً يتحملون من تلك المسئولية أوفى نصيب، ونعني بهم الأساتذة الذين وكلت عليهم مهمة الإشراف الثقافي على هؤلاء الشباب. ويدخل الواحد منهم إلى قاعة المحاضرات وليس في جعبته غير شيء واحد، هو أن يلفي على الطلاب درساً في الطب أو درساً في الأدب أو درساً في الاقتصاد أو القانون، وتلك في رأيهم هي الأمانة العلمية، ولكن أين الأمانة الجامعية؟ الأمانة التي تصرخ في وجوههم بأن الجامعة ليست تثقيفاً بالعلم وإنما هي إلى جانب ذلك تهذيب بالأخلاق؟!
إن الجامعة هي مرحلة الإخراج إلى الحياة، مرحلة الإعداد للمستقبل، مرحلة التهيئة لخلق جيل يفهم ما له من حقوق ويؤدي ما عليه من واجبات، وتلك أمور لا يجدي فيها التلقين الذي ينشئ بناء العقول ما لم يقترن بالتوجيه الذي يصقل معادن النفوس!
لو أدرك الأستاذ الجامعي أي أمانة في عنقه نحو الشباب الجامعيين، لما اقتصر على أن يدفع إلى رؤوسهم بدروس الأدب والعلم والفن، وهم محتاجون إلى من يبث في نفوسهم معاني الحق والخير والجمال. . . إن علماً بغير خلق لهو سلاح مفلول في معركة المصير، وأسلوب منبوذ في لقاء الناس، وسراب نضلل في صحراء الحياة، وهذه هي الحقائق السافرة التي توجب أن يعلمها شباب الجامعة في هذه الأيام!!
حول مكتبة الإسكندرية:
في العدد (853) من الرسالة، وجه الأستاذ الفاضل كمال السيد درويش المدرس بالرمل الثانوية كلمة حول مكتبة الإسكندرية، ثم بقيت الكلمة حتى الآن في انتظار التعقيب ولعل الأستاذ صاحب الكلمة قد أدرك الظروف التي نشرت فيها كلمته وحالت بيني وبين الرد عليها في ذلك الحين، وهي الظروف التي أحاطت بوفاة الشاعر الصديق علي محمود طه، وفرضت على ذلك الدراسة المطولة لشعره قياماً بواجب الوفاء.
وأعود اليوم إلى لفتة الأستاذ درويش، لأن موضوعها ليس موضوع الأمس حتى تنتهي بانتهائه، ولكنه موضوع الأمس واليوم والغد بلا جدال.
(أردت النظر في ميثاق جامعة الأمم العربية وفي ميثاق هيئة الأمم، وقراءة بعض ما كتب من تعليق عليهما فتوجهت بطبيعة الحال إلى مكتبة الإسكندرية فهل وجدت من ذلك شيئاً؟(884/41)
كلا! بل خرجت منها وأنا أتساءل فيما بيني وبين نفسي: أيتجشم الإنسان مشقة الانتقال وضياع الوقت في الذهاب إلى المكتبة العامة ليقرأ رواية (اللص الظريف) أو (المرأة الغادرة)؟ وأين إذن أستطيع قراءة الوثائق والكتب العلمية إن لم أجدها في المكتبة العامة؟ ولم أطلب شيئاً عسيراً بل شيئاً مشهوراً لا تخلو من الحديث عنه صفحات الجرائد كل يوم. ثم دعاني داعي الإنصاف إلى الاعتذار عن المكتبة بعد ظهور كتب تتناول نشر الميثاقين أو الحديث عن الهيئتين. وأردت التأكد بنفسي فما هي إلا جولة حتى خرجت من عند بائع الكتب وأنا أتأبط كتابين، ولشدة حاجتي للإلمام بالموضوع دفعت فيهما ما يقارب من جنيهين.
وتساءلت مرة أخرى ألا يتمكن الفرد من معرفة ما يعرض له أثناء البحث على كثرة ما يعرض له إلا إذا كان يملك الوسيلة غلى الشعراء؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي حد تتحمل مالية الإنسان مهما عظمت تكاليف الكتب مع تعددها وارتفاع أسعارها!؟
وإذا كانت وزارة المعارف سامحها الله قد ألجأتنا بإقفار مكتباتها المدرسية إلى المكاتب العامة، فلا أقل من أن نجد لدى الأخيرة بغيتنا وإلا فنحن المبتدئين بالحجة التي لا تدفع عنهم لوم اللائمين ثم لنسلكهم بعد حين في عداد الجاهلين حقاً أنه لموضوع يستحق من قلم صاحب (التعقيبات) تعقيباً يكون له عند المسئولين صداه، عسى أن تستأنف المكاتب العامة سيرها في ركب الحياة).
هذه المشكلة التي يعرضها علينا الأستاذ درويش، هي كما قلت لك مشكلة الأمس واليوم والغد، وكل ما نملكه هو أن نعرضها بدورنا على من بيدهم أمر المكتبة العامة بالإسكندرية عسى أن يترفقوا بجيوب الراغبين في العلم والساعين إلى المعرفة، أولئك الذين نحن رؤوسهم غلى المعلومات وتفتقر جيوبهم إلى الجنيهات. . . الجنيهات التي لا يستطيع بغيرها الحصول على الكتب في هذه الأيام!
أما نحن فيما يختص بأمر المكتبات المدرسية فإن نقص الكتب النافعة فيها ليدعو إلى الأسى والأسف. . . ترى هل يستجيب معالي الدكتور طه حسين بك لرجائنا فيخص تلك المكتبات بشيء من رعايته؟ إننا نخاطب فيه الشخص الأديب قبل شخص الوزير، وفي يد الشخصيتين مزية التقدير والتنفيذ على كل حال!(884/42)
مشكلة النقد والنقاد
الدكتور أحمد فؤاد الإهواني صديق عزيز، ولكنني لن أجامله كما يجامل بعض أصدقائه فيسرف في المجاملة. . . أقول هذا بعد أن قرأت له مقالين في نقد ديوان من الشعر، ظهر أحدهما في الثقافة وظهر الآخر في الرسالة. ولا ضير في رأيي من أن يكتب الأصدقاء عن كتب الأصدقاء، ولا ضير أيضاً من الكتابة هنا والكتابة هناك، لأن لكل مجلة قراءها الذين قد يقتصرون عليها دون غيرها من المجلات. لا ضير من هذا كله مادام النقد الأدبي نقداً سليماً من الوجهة الفنية، أعني أن يكون رائده إبراز القيم التعبيرية في الأثر المنقود إبرازاً لا يتسم بالتجني ولا يتصف بالمغالاة!
ترى هل حقق الدكتور الصديق شيئاً من هذا الذي أشرت إليه؟ كلا. . بل اندفع وراء عاطفته يسجل المحاسن حتى لقد بدا الديوان وكأن لم يكن به مأخذ من تلك المآخذ التي يقف عندها النقاد! وليته قد رد تلك المحاسن إلى مصادرها من القواعد المذهبية في نقد الشعر، إذن لحمدنا له هذا الاتجاه وشكرناه. . ولكنه قدرها إلى الطريقة (الإنشائية) في النقد، تلك الطريقة التي تذكرنا بنقاد العرب القدامى عندما كانوا يقولون: أشعر الناس الذي يقول. . ثم لا يذكرون لنا لماذا كان صاحبنا أشعر الناس!!
أريد أن أقول للدكتور الإهواني أرجو أن يتسع صدره لما أقول إنني قد أحتمل المجاملة مادام النقد قائماً على أصول فنية، وإنني قد أحتمل المهاجمة مادام النقد مرتكزاً على دراسة مذهبية، وبغير هذا لا أستطيع أن أحتمل، ولا أستطيع أن أتقبل هذا الذي يكتب من حين إلى آخر! وقد يعتذر الدكتور الصديق بأنه رجل قد وجهت ملكاته إلى الاشتغال بالفلسفة وعلم النفس وما يدور في محيطهما من دراسات نقدية. إذا اعتذر بهذا فلا عليه إذا ترك ميدان النقد الأدبي لمن يحسنون الخوض فيه. . أما إذا خطر له أن يناقش هذه الكلمة ليثبت لنا أنه يحسن الخوض في نقد الآثار الأدبية، فنحن على استعداد لمناقشته، وبيننا وبينه موازين النقد وهذا الذي كتب. . وديوان الأستاذ محمد عبد الغني حسن!!.
أنور المعداوي(884/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حوادث الطلبة وانعدام المثل
وقعت في موسم الامتحانات الحالي حوادث من بعض الطلبة، كان بعضها دامياً وكانت كلها داعية إلى الأسى والأسف، فقد أطلق طالب بكلية الطب الرصاص على لجنة الامتحان، واعتدى طالب بكلية الآداب على أستاذ منعه من الغش، وهجم طلبة كلية التجارة على لجنة الامتحان ليختطفوا أوراق الإجابة وضبط طالب (كبير) في كلية الحقوق - وهو موظف في الدرجة الأولى بإحدى الوزارات - وهو ينقل الإجابة من كراسة كان يخفيها.
وقد كانت هذه الحوادث موضع أحاديث المجالس، كما كانت أنباوها من مواد الصحف الهامة في هذا الأسبوع، وقد ذهب المعلقون عليها مذاهب شتى، فمنهم من يمصص شفتيه أسفاً على ما وصلت إليه أخلاق الجيل الجديد، ومنهم من ينحي باللائمة على مناهج التعليم المزدحمة بما لا تساوي فائدته ما بتجشمه الطلاب في وحفظه بلا وعي، ومنهم من يذكر مضار الإفراط في تناول القهوة والشاي والأقراص المنبهة التي تنهك القوى وترهك الأعصاب.
وكل ذلك صحيح، ولكنها أعراض ظاهرة وأمور مباشرة يستطيع المتأمل أن يلمح وراءها عاماً قلقاً، فتلك الحوادث تجتمع كلها عند الرغبة في الأخذ الهين دون بذل الجهد الذي يقتضيه النجاح، وليست هذه الروح في جو الطلبة فقط، بل تجدها في مختلف الطوائف والطبقات، أنظر إلى هذا الموظف الطالب (الكبير) لم تكفه الدرجات التي نالها حتى وصل إلى الدرجة الأولى، بل (سمت همته) إلى الحصول على مؤهل عال بطريقة هينة لعله يقفز إلى وكيل وزارة مثلاً أو غير ذلك مما تداعبه به أحلامه. . .
فما مبعث هذه الظاهرة؟ ومن أين جاءت تلك الروح؟ وهل هي تنزل على نفوس الطلبة مثلاً من السماء أو تتسرب إلى نفوسهم من الجو المحيط بهم على سطح الأرض؟ ممن يتلقى الشباب مثلهم في مطلع حياتهم؟ أليس ذلك من الآباء والأساتذة والزعماء والحاكمين؟ أليست عيونهم تتفتح على الوساطات في دخول المدارس والجامعات وفي الإعفاء من المصروفات بل في النجاح في الامتحانات؟ أليسوا يسمعون عن حظوظ من سبقوهم في(884/44)
التخرج من الوظائف والترقيات، ى لجهودهم أو كفاياتهم بل للقرابات والمصاهرات وغير ذلك من وسائل (التنطيط) في مختلف العهود؟
والأساتذة - وهم الأدنون من الطلبة - شملهم الروح العام، فأصبحوا يبتغون الوسائل عن غير طريق البحث والإنتاج والابتكار لا تظفر بتشجيع ولا تقدير. والنتيجة المحتومة التي تدعو إلى الأسف أن تعي نفوس الشباب ذلك أكثر مما تعي مواد الدراسة، فيبعث في نفوسهم القلق، وهو في الحقيقة المفسد الأصيل لأعصابهم لا القهوة ولا الشاي ولا الأقراص المنبهة.
إن الشباب يقرؤون ويسمعون ما ينشر وما يقال عن مجرى الحياة في الغرب وتقدير القيم هناك بما يبعث الطمأنينة على الحقوق والمصائر وينشر العدالة والتماسك في المجتمع، ويقرؤون في تاريخ الإسلام ويسمعون من الأساتذة عن الأبطال وأعمالهم وتضحياتهم في سبيل المجموع. ثم يقارنون بين هذا وذاك وبين ما يقع تحت أبصارهم، فتهولهم الهوة الواسعة وتصدمهم الحقائق الراهنة المؤلمة إذ نحن لسنا من أولئك ولا من هؤلاء في شيء.
الداء كله في فقد الأسوة الحسنة وانعدام المثل الطيبة التي يحتذيها الشباب.
شهادة الموسيقى
تقدم أحد الموسيقيين للشهادة في قضية أمام إحدى المحاكم الشرعية فرد القاضي شهادته، لأنه موسيقي. . . محتجاً بالنص الفقهي القائل: (الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا يصح أن تسمع شهادته)
دهش الرجل الموسيقي، ودارت بينه وبين القاضي مناقشة، قال له فيها: إن الموسيقي فنان له اعتباره في المجتمع والدولة تعترف به وتقدره. فلما أورد له القاضي ذلك النص؛ قال الموسيقي: إذن فالمحكمة لا تقبل شهادة عبد الوهاب أو أم كلثوم. . . قال القاضي: نعم، وإنني معجب بأم كلثوم وأحب أن أسمع غناءها في قصائد شوقي، ولكن هذا كله لا يغير النص!
ونحن نرى أن موقف القاضي سليم من حيث تمسكه بحرفية النص، ولكن ما هذا النص؟ وما سنده؟ وهل يلائم حياتنا العصرية؟ أنه ولا شك من اجتهاد، الفقهاء ولابد أنهم قالوا به بعد أن نظروا في أحوال عصورهم، والأصل في ذلك ألا تقبل الشهادة إلا ممن يدل ظاهر(884/45)
حاله على أنه عدل، وقد رأوا أن حالة الطبالين والزمارين ومن إليهم من أهل اللهو في زمنهم لا تدل على العدالة.
والآن أين نحن من ذلك؟ إن الموسيقى والغناء والتمثيل فنون رفيعة، والموسيقيين والمغنين والممثلين لهم في المجتمع بحق مكانة ملحوظة، ومنهم أعلام ذوو أقدار كبيرة، فكيف ترفض شهادتهم لا لشيء إلا لأنهم موسيقيون أو مغنون أو ممثلون. نعم إن في بيئة المشتغلين بهذه الفنون بعض ذمي السلوك المنحرف، ولكنهم كغيرهم ممن لم ينص على عدم قبول شهادتهم، والعبرة بحال الفرد لا الطائفة.
لقد دهش ذلك الموسيقي حينما رفض القاضي قبول شهادته، بل لا بد أنه شعر بألم عميق في نفسه، لأنه وهو يشعر بقدره وسمو فنه يرى أن القضاء لا يعرفه إلى منزلة أي رجل عادي جاهل من ذوي الحرف والمهن التي لا تقبل المحكمة شهادته! فكيف يستطيع فنان محترم أن يوفق في عقله وفي شعوره بين منزلته الفنية والاجتماعية وبين تحقيره بعدم قبول شهادته في المحاكم الشرعية؟
هذا مثل لما وضع لزمن غير زماننا، وأصبح لا يوافق زماننا، ولا تمنع أصول الدين، بل تقتضي، أن نغيره إلى ما يوافقنا، بمقتضى إنزال الناس منازلهم وتحقيق الكرامة لذوي نفوس ومشاعر كريمة. وهو مثل نسوقه إلى علماء الدين، وفيهم من يحيون حياة عصرية يسمعون فيها الغناء والموسيقى ويشهدون التمثيل، ومنهم معجبون بأهل هذه الفنون، كذلك القاضي الفاضل، وقد سمعت مرة عالماً جليلاً يقول في مجلس يتحدث عن المغنين والمغنيات: نحن أم كلثوم. . إلى آخر كلامه، وهو يقصد أنه ممن يعشقون أم كلثوم في الغناء، وهؤلاء العلماء يخالفون في ذلك بحق نصوصاً فقهية تحكم بتحريم الغناء، وأذكر ما كنت قد قرأته في كتاب من كتب الفقه من (قول) لأحد الفقهاء مضمونه أن مجرد السماع حرام أما التلذذ بالنغمة فهو كفر!
ولا شك أنني أرى في مسلك علمائنا العصريين الذين يستمتعون بتلك الفنون ويعجبون بأهلها أي حرج، ولكن الذي آخذه عليهم أنهم يزاولون حياة (علمية) غير الحياة العلمية.
التكلم بالفصحى:
تناول بعض الكاتبين هذا الموضوع أخيراً على صفحات الصحف، وكان قد أثاره في(884/46)
(الأهرام) الأستاذ عمر عبد العال يوسف، إذ دعا إلى اتخاذ اللغة العربية السليمة لساناً للخطاب وللتعليم في المدارس، وعالج الموضوع علاجاً تربوياً منطقياً حسناً. وقد ردد الدعوة بعده آخرون، وكتب الأستاذ علي الجندي ذاهباً إلى أن اتخاذ الفصحى أداة للخطاب بين الناس غير ممكن.
وأحب أن أحصر الكلام هنا في نقطة أراها هامة في هذا الموضوع عرض لها الأستاذان الأنفان، إذ ندد الأول بالسخرية ممن يتحدث باللغة العربية الفصيحة ولا سيما المعلمون في المدارس، واتخذ الثاني هذه السخرية سبباً لما رآه من أن هذه المحاولة مخفقة، واستدل بأمثلة مأثورة عن بعض من التزموا التكلم بالفصحى كالشيخ حمزة فتح الله، فسخر منهم الناس. والواقع أن الناس كانوا محقين في هذه السخرية، لأن أولئك المتفصحين كانوا ينطقون ألفاظاً غريبة تدعو إلى الضحك والسخرية حقاً، ومن هنا جنوا على اللغة من حيث أرادوا أن يحسنوا إليها، ومن دواعي السخرية أيضاً بعض المشايخ الذين كانوا ينطقون القاف من أقصى الحلق في كلمات عامية. . . وقد تغيرت هذه الروح، بانقراض هذه الصور، وبانتشار التعليم ووسائل الاتصال بالجمهور، التي تتخذ الفصحى أداة للتعبير. فصار التحدث ببعض العبارات الفصيحة من المظاهر الدالة على الثقافة والأناقة اللسانية.
وإذا كنا نتحدث باللغات الأجنبية في بعض المواطن فإن مما يؤسف له أن الحديث الكامل باللغة العربية لا يوجد في مجلس من المجالس، حتى مجالس المثقفين والأدباء، بل إن كثيراً من هؤلاء يخطبون ويحاضرون بخليط من العامية والعربية، وأهم أسباب ذلك، التهاون، لا العجز؛ ولو أننا اهتممنا بأن نتخاطب ولو في بعض الأحيان بهذه اللغة التي تقرؤها ونكتبها لجرى عليها اللسان واستعذبها وإن تعثر في أول الأمر.
عباس خضر(884/47)
البريد الأدبي
كرد علي يسبح بذم المصريين
تلقينا من دمشق كتاباً لأستاذ فاضل ينقل فيه بعض ما يقيئه كرد علي في ذم مصر والمصريين نذكره بنصه. . .
(إني الآن في دمشق وفي هذه الأثناء زرت المجمع العلمي فوجدت السيد كرد علي وحوله بعض الناس، فسألني عن مصر وكنت قد علمت النقمة عليه هناك فأخبرته بها فثارت ثائرته. واشتد الحوار بيني وبينه، أنا أنتصر للمصريين وهو يحمل عليهم حتى خرجت غضبان أسفاً.
وأرى أن هذه الثورة بلسانه البذيء في هذه المجالس لا ينبغي أن تترك سدى، غذ أرى أن في ذلك ما يزيد بذاءته ونحن في أمس الحاجة أن لا يشيع مثل هذا التحامل ثم لا يسمع الناس تأديب من يشيعه في المجتمع. وعلينا أن يفهم المجمع وأعضاؤه سوء ما يأتيه رئيسه وأن هنالك من قومه وممن هم قريبون منه من لا يقره على قوله البذيء.
ولقد تطرف وتمادى في بذاءته حتى لم يتورع عن قوله بالنص: (إن هؤلاء المصريين الذين يحاولون السيادة في عالمي العلم والأدب لم يخرجوا عن كونهم كلاباً خلقت للتهويش). ذلك بعض ما رواه الكاتب الفاضل؛ وقد ثارت بي الحمية واندفعت أنبته كثيراً في المجلس ثم خرجت. .)
وقد تلقينا كثيراً من الكتب في هذا المعنى طلب مرسلوها الأفاضل أن يتسع لهم صدر الرسالة لرد مفترياته وصد هجماته. والرسالة تشكر لهم هذا الفضل وتعدهم أن تنشر ما يكتبون إزهاقاً للباطل وإحقاقاً للحق.
دمشق باب البريد
السيد جواد الزيات
ثم للحوماني
إلى الدكتور إبراهيم ناجي(884/48)
قرأت كتابك الجديد (أدركني يا دكتور) في شغف وإعجاب، فتبين لي بحق أن (ناجي) الشاعر الموهوب قد برهن على أنه كاتب مصور بارع، وباحث اجتماعي موفق، ومحلل نفسي حصيف. كما أثبت عملياً (أن الأطباء لو كتبوا أجادوا، ولو أذاعوا ما علموا لأحدثوا رجة في الأدب، وتغييراً في أساليب الحياة. . .).
غير أني لاحظت بوضوح أن قصتك قصة (ميلاد عبقري) هي نفسها قصة (ميلاد فنان) والأخيرة إحدى طرف القصصي الفرنسي الفذ (أندره موروا) مع شيء قليل من التغيير والتحريف فهل من إيضاح؟؟
هذا وأكرر إعجابي بسفرك القيم الممتع، راجياً ألا تغضبك الصراحة التي يزدريها العصر المودرن!! ثم السلام عليك من المشوق إليك.
محمد سلامة مصطفى
أساتذتي الإجلاء
قرأت ما نشر في مجلة الرسالة الغراء وأعجبني لأنه من هذا الطريق وحده نصل إلى الحقائق ويتضح الصواب، وخاصة لو كان نقاشاً حول تصحيح خطأ وقع في مسائل علمية، والمتناقشون من أساتذة ذلك الفن ضربوا فيه بسهم وافر وتتلمذ على أيديهم طوائف متعددة. ولكن يؤلمني كثيراً أن ينتقل الجدل بعد هذا إلى أمور شخصية؛ فمثلاً يذكر الأستاذ خفاجي أن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يأبى أن يرد عليه سلامة، أو أن يمد إليه يده؛ ثم يذكر بعد هذا أنه فعل ذلك لا غيرة على العلم ولا ضنابة بل لأن الأستاذ الناشئ خفاجي خرج على الكلية بكتاب في البلاغة في أم ذلك الأستاذ عبد المتعال الصعيدي لأن له كتاباً آخر يتناوله الطلاب ومر على حجرات الدراسة محذراً الطلاب من الكتاب الجديد. أقرأ ذلك متألماً فأجد المتخاصمين أستاذ جليل تعلمت العلم على يديه وأشهد الله أني ما رأيت منه إلا كل خير وما تعلمت منه إلا الخلق العظيم والأدب الكريم. وأما الأستاذ خفاجي فزميلي عاشرته في معهد الزقازيق فلم أر منه إلا كل ما يزين أساتذتي ما بال هذا وأنتم الأمة وضعناكم في البرج العاجي ثم اتخذناكم مثلاً تحتذي ونوراً يستضاء به.
محمود إبراهيم موافي(884/49)
يوميات طفل
قرأت بهلال شهر يونيو الصادر في أول هذا الشهر قصة (يوميات طفل) للكاتب الهنغاري (جوزيف بارد) وقد دهشت لزعم المجلة أن هذه القصة تقع في كتاب لحضه لها تحت عنوان (كتاب الشهر) الأستاذ حلمي مراد بينما ورد سهواً في التعريف بالكتاب - وهو تعريف مترجم عن الأصل المنقول عنه القصة - (يوميات طفل) هي أروع قصص الكاتب القصار - وهذه الحقيقة. . فإن (يوميات طفل) ليست سوى قصة قصيرة بعنوان (قصة طفل) كتبها جوزيف بارد باللغة الإنجليزية وهي تقع نحن خمس عشرة صفحة من الحجم الكبير فهي أذن أقصوصة وليست قصة طويلة تستغرق كتاباً بأكمله كما زعمت المجلة المذكورة.
وبقي أن نعرف هل هذا الذي زعمته المجلة خطأ غير مقصود أم أنه متعمد فإن كان الأولى فقد وجب على المجلة أن تبادر باستدراكه في العدد القادم وإن كانت الثانية فهي سقطة شنيعة لا يحمل أن تصدر عن مجلة من مجلات الخاصة (كالهلال) لأنها توحي بخداع القارئ والتغرير به. . . وهذا ما لا أحب أن يوحم به (الهلال) بمال من الأموال.
كمال رستم
إلى رجال التصوف
هل أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الخزار القواريري الصوفي الزاهد المشهور من أصل عربي؟؟ وإذا كان عربياً فهل هو من سلالة الأشراف؟
عبد الرؤوف الشريف
(الأبحاث)
مجلة تصدر عن الجامعة الأمريكية في بيروت أربع مرات في السنة
يحررها أساتذة الجامعة الأمريكية وغيرهم. وهي منبر حر للمفكرين في جميع الأقطار العربية.
اشتراكها السنوي في لبنان وسوريا 8 ليرات لبنانية أو سورية وفي الخارج اشتراكها(884/50)
السنوي جنيه استرليني واحد.
تطلب من سكرتير التحرير - الجامعة الأمريكية في بيروت لبنان.(884/51)
القصص
الخادم
للكاتب الروسي ص. سيمونوف
للأستاذ جمال الدين الحجازي
عاد جيرسيم إلى موسكو في زمن كانت فيه البطالة منتشرة في البلاد، وكان يأمل أن يجد عملاً، إلا أنه مكث يبحث ثلاثة أسابيع دون جدوى! وقد آلمه أن يبقى عاطلاً عن العمل وهو لا يزال في عنفوان شبابه وكامل صحته، فمكث مع بعض أقاربه القرويين مدة وجيزة عله يجد عملاً. كان جيرسيم قد قضى حداثته خادماً في أحد البيوتات، ثم اشتغل خادماً لأحد التجار إلا أن الخدمة العسكرية أجبرته على ترك عمله، ولما انتهى تدريبه عاد إلى موسكو، فآلمه أن يجد عمله منتهياً، وكانت كل ساعة تمر عليه يحس بها كيوم، إذ أن شوارع المدينة كانت قد أسأمته لكثرة تجواله فيها عبثاً، وكان يستوقف الناس في الشوارع ويسألهم عن إيجاد عمل له ولكن دون جدوى. وأخيراً شعر بأن أقاربه قد سئموا منه وشعر بأنهم يستثقلون ظله لكثرة التردد عليهم فآثر الابتعاد عنهم، مفضلاً الجوع والارتماء في الشوارع.
التقى جيرسيم في أحد الأيام بأحد الأيام أصدقائه وكان يسكن في ضواحي موسكو قرب سوكولنك ويعمل حوذياً لتاجر غني يدعى شاروف منذ مدة طويلة كان فيها مثال الرجل المخلص الأمين في عمله، فأحبه شاروف وأولاه ثقته التامة لاخلاصه وتفانيه في العمل وجعله مسئولاً عن جميع خدمة ولما وقعت عيناه على صاحبه حياه بحرارة ورجا منه أن يجد له عملاً فقد مكث مدة طويلة عاطلاً فسأل (ياجور) صديقه وهل رجعت غلى التاجر الذي كنت تعمل عنده ليعيدك إلى العمل؟
- أجل لقد رجعت إليه ولكنه كان قد أحضر شخصاً آخر بدلاً مني!
- وهكذا أنتم أيها الشباب لا تخلصون في أعمالكم وتكون عاقبتكم وخيمة وكان من الخير لكم أن تخلصوا في عملكم تكسبوا محبة رؤسائكم.
- نعم القول ما تقوله يا صديقي، ولكنك تعلم إن الإنسان ليس معصوماً من الخطأ وأنه ليس(884/52)
ملاكاً، فدعنا من هذا اللوم الذي لا يجدي نفعاً، وقد عهدك الصديق المحب للخير، فأرجو أن تجد لي أي عمل فأكون لك من الشاكرين! فابتسم ياجور من هذا الثناء وشكره على ذلك وطلب منه الانتظار قليلاً. . . رجع يا جور واخبر صديقه بأن سيده سيسافر إلى بلدته بعد نصف ساعة وأنه أعد الخيول لذلك وقال له:
- أترغب في أن تعمل خادماً معي عند شاروف؟
- وهل يريد السيد شاروف خادماً؟
- أجل إن خادمه السابق قد بلغ من الكبر عتيا وهو لا يقوى على أداء عمله.
أكون شاكراً لو تمكنت من إيجاد عمل لي إذ لا أستطيع أبقى طويلاً عاطلاً عن العمل.
- حسن! سأتحدث مع شاروف في هذا الموضوع فاذهب الآن عد غداً لأخبرك بما تم. فشكره على ذلك وسار في طريقه. . .
. . . أعد يا جور الخيل وارتدى ملابس الحوذية المعتادة وساق العربة إلى الخارج، وكان شاروف جالساً في العربة يسرح الطرف في مزارعه الواسعة وأمارات الغبطة مرتسمة على محياه، ولما رآه يا جور علة هذه الحالة وجد الفرصة سانحة ليحدثه عن صديقه فقال له:
- إن لي صديقاً في مقتبل العمر يا سيدي. وهو يرجو أن تجد له عملاً فقد مكث ردحاً من الزمن عاطلاً.
- حسن، ولكنك تعلم أنه لا عمل عندي.
- إن صديقي يجيد جميع الأعمال التي يقوم بها (بولكرتش) الذي أصبح مسناً لا يقوى على العمل!
- لا أستطيع ذلك فقد مكث خادمنا مدة طويلة وأفنى زهرة شبابه وهو يعمل عندنا وهو يعمل عندنا ويقوم بخدمتنا خير قيام وليس من العدل أن أطرده من عمله دون ذنب جناه.
- أنه ولا ريب قد ادخر بعض النقود التي يمكنه أن يعيش بها الأيام الباقية من حياته.
- لا. أنه لم يدخر شيئاً إذ أن راتبه لا يكفيه، وإن له زوجة تقاسمه العيش.
- أعتقد يا سيدي أنه من الخير الاستغناء عنه، إذ أنه لا يجيد عمله، وقد شوهد مرات عديدة وهو يشرب الشاي مع صحبه، تاركاً عمله، وراء ظهره. أليس من العبث أن نقدم له(884/53)
راتبه وهو لا يعمل شيئاً!
- لا أوافقك على ذلك أبداً - فليس من الحق ولا العدل أن نستغني عن خدمات هذا العجوز بعد أن مكث في خدمتنا خمسة عشر عاماً. إن الاستغناء عنه وهو في هذه السن جريمة لا تغتفر!
فألح ياجور على سيده بأن يجد لصديقه أي عمل كان، ولم يسع شاروف أخيراً إلا القبول وطلب منه أن يبعث إليه لمقابلته، فشكره على ذلك وأعلمه بأنه سيجده مثال الخادم النشيط.
وفي الغد عاد جيرسيم إلى صديقه كما وعده وتناولا الشاي معاً وبعد ذلك سارا إلى سيده شاروف، ولما وصلا سأل شاروف جيرسيم عن العمل الذي يجيده فأخبره بأنه يستطيع القيام بأي عمل يطلب منه، فطلب شاروف منه أن يأتي في الغد ليتسلم عمله الجديد.
فرح جيرسيم فرحاً شديداً. وأوصى ياجور صديقه بأن يقوم بعمله خير قيام حتى يكسب ثقة سيده فوعده خيراً. خرج جيرسيم ليهيئ بعض ما يحتاج إليه، ولما سار بضع خطوات وجد بيت (بولكرتش) وقد غطاه الثلج فلم يلق بالا إليه وواصل سيره، ولكنه سمع صوتاً من الداخل يقول: (وما العمل الآن يا بوالكرتش؟ وماذا سيكون مصيرنا؟ إننا فقراء لا نملك شروى نقير. لقد عملنا طويلاً وكان جزاءنا بعد هذه الأعوام الطويلة التي قضيناها غير شريف!) فأجابها زوجها بأن شاروف لا ينظر إلا لمصلحته الخاصة شأن غيره من الناس؛ وهو لا يختلف عن غيره من القوم الذين ينظرون إلى الطبقات الفقيرة نظرة ألد لعبده؛ فما دام العبد قوياً يستطيعون حلبه كالنعاج فهو بخير وإذا ما ضعف أو تقدمت به السن قليلاً شعروا بثقله عليهم وجعلوا يتحينون له الفرص للتخلص منه! فقالت زوجة، وكانت الدموع تبلل وجنتيها، إن يا جور قد سبب لنا كل هذا الضر - ولكني سأقوم بدوري في إبعاد هذا الشاب من الخدمة واتهامه بسرقة الشعير والكلأ وبيعه فنتمكن بذلك من التخلص منه ومن صديقه الذي أراد بنا سواءاً!
سمع جيرسيم كل ذلك فحزن حزناً شديداً إذ سبب لهذه العائلة الوادعة هذا الضيق وأبدلهما من بعد أمنهما وسعادتهما خوفاً وشقاء؛ فمكث مدة وجيزة شارد الذهن ثم سار حتى وجد نفسه إلا في بيت صديقه يا جور، فقال له وهو مطرق الرأس: (أشكرك يا صديقي على ما بذلته لي من خدمات ولكنني لا أستطيع أن اعمل هنا. . . أجل لا أستطيع أن أعمل(884/54)
وسأبحث بنفسي عن عمل آخر في غير هذا المكان!) فغضب يا جور غضباً شديداً وطلب منه الخروج من غرفته حالاً.
فلما خرج جيرسيم من الغرفة شعر بفرح وسرور عظيمين.
جمال الدين الحجازي ل(884/55)
العدد 885 - بتاريخ: 19 - 06 - 1950(/)
3 - أدب المجون
يسأل نرنسوا مورياك عن ثلاثة أسئلة عن أدب المجون، أولها عن نتائجه، وثانيها وثالثها عن أسبابه. فأما سؤاله عن نتائجه فما أظن جوابنا عنه يختلف عن جواب زملائنا الأوربيين في شيء؛ لأن خطر الأدب الماجن على الفرد والجماعة وعلى الأدب نفسه لا يماري أحد فيه لا منا ولا منهم. وهل يماري أحد في أن البهيم الذي يساكن الإنسان في جسد واحد إنما يروضه ويكبحه الأدب القائم على العقل والدين والعلم، تارة بالفطام واللجام، وتارة بالسياسة والملاينة، فإذا فسدت طبيعة هذا الأدب، فانقلب القيد سوطاً يلهب، والشكيمة مهمازاً يحث، أفلت البهيم من ربقته فأفترس الإنسان الذي يعيش معه، وحطم المجتمع الذي يضطرب فيه. والأدب الذي أطلق هذا البهيم بتمليق غرائزه وتحريض شهواته سينتهي أمره لا محالة إلى أن يصير آفة تتقى وجرثومة تحارب؛ لأن في ابن آدم محكمة داخلية نسميها الضمير، إذا تعطلت حيناً فأن تعطل أبد الدهر
وأما سؤالاه عن أسبابه، فالأمر بيننا وبينهم في جوابيهما جد مختلف. ليس في أدبائنا أديب تلقى عليه التبعة في انحطاط الأدب الحديث كسارتر، وليس في أدبنا مذهب يساعد على هذا الانحطاط كالوجودية؛ إنما هي العدوى انتقلت إلى مصر من مكان الوباء فصار فيها المرضى وحملة المرض. ولا أقصد بالعدوى عدوى حدوث المجون، فإن المجون كما قلت أصيل في كل نفس، عريق في كل أدب؛ إنما أقصد بالعدوى عدوى نشره في الصحف والكتب والتمثيل بتوعيه المحقق والمصور.
ليس على المرء من حرج أن يماجن صحبه الأدنين في مجلسه
الخاص؛ وليس عليه من حرج أن يعري في غرفة نومه أو في حمام
بيته؛ وإنما الحرج كله أن يماجن في ملأ أو يعري في شارع. والذين
يسمعونه مفحشاً ولا يعترضون، أو يرونه عارياً ولا يعرضون، لا
يقلون مجوناً ولا جنوناً عنه.
فالمسألة في أدب المجون مسألة ضمير في الكاتب والناشر، وكرامة في القارئ والناظر. في وجودهما عدمه، وفي عدمهما وجوده. كنا قبل أن نعرف أوربا نتحرج أن نرى المرأة(885/1)
في نافذة أو نماشيها في طريق، فأصبحنا نقبل أن نواجهها في دكان أو أن نجالسها في حان! وكنا قبل أن نقلد أوربا نذوب خجلاً إذا سقط قناع المرأة عن استحياء، أو انحسرت ذراعها عن غفلة، فأصبحنا نحترق شوقا إذا كشفت ظهرها في مرقص، أو خلعت ثوبها على الشاطئ!
ومن أعجب العجب أن نرضى رضا الغبطة واللذة إذا رأينا الأمهات والزوجات والبنات عاريات على (البلاج)، ثم نغضب غضب التقى والورع إذا رأينا الراقصات والممثلات والمومسات عاريات على الورق! لماذا نقبل ما يفعل في الشواطئ والحفلات، ولا نقبل ما يقال في الصحف والمجلات؟!
إن الطبيعة موضوع الفن؛ وإن الحياة مادة الأدب. والفنان الحق يصور بحق، والأديب الصادق يعبر بصدق. فإذا شئتم أن يطهر أدبكم من المجون والبذاء، فطهروا مجتمعكم من الفجور والرياء. إن الأدب صورة، جمالها من جمال الأصل، وقبحها من قبحه.
أحمد حسن الزيات.(885/2)
صور من الحياة:
قلب أب!
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 1 -
أتذكر - يا صاحبي - يوم أن عرفتك أول مرة فحن لك قلبي، وصبت إليك نفسي، ورقت مشاعري، يوم أن كنت عند مشرق الحياة صبياً ضاوي الجسم ناحل العود معروق العظم، تهاوى من ضعف وهزال، وتساقط من ضنى وحزن، فلا تجد اليد الرفيقة التي تمسح على أشجانك، ولا القلب الرحيم الذي يعطف على أسقامك، لأنك كنت قد فقدت أمك فما استطاع أبوك أن يصبر على الوحدة، وإنه ليحس التشعث والضياع، ويستثمر الضيق والملل، والدار من بين يديه خاوية تصفر، والخادم من أمامه لا ترعوى عن تراخ ولا عن إهمال، والدنيا في ناضريه تضطرب في حيرة وقلق، وقلبه يخفق بالأمل والرغبة وهو شاب في ميعه الصبا ووفرة المال، تتدفق في عروقه ثورة الشباب وتتألق في أعصابه دواعي الفتوة. . وضاقت به الحيلة، فانطلق يتلمس الخلاص في فتاة من ذوي قرابته يبوئها عرش داره وقلبه معاً لتملأ فراغاً خلفته أمك منذ شهور وشهور. وجاءت الزوجة الجديدة فأحست كأنها تزحمك بالمنكب وتدفعك بالقوة وتغلبك بالحيلة، لتستلبك من دارك ومن أبيك في وقت معاً، فحملت لها بغضاً؛ ثم انطويت على خواطر مضطرمة يتأجج لظاها في ذهنك.
واستحالت خفة الصبا فيك إلى رزانة كرزانة الشيخ عركته الخطوب وصقلته الحوادث، وتعكر صفو الطفولة في نفسك ممثل هم الرجل ينوء كاهله تحت عبء السنين العجاف؛ فانزويت تكتم أشجاناً غمرت حياتك على حين غفلة منك، وأنت ما تزال عند مطلع العمر.
وأفزع أباك أن يرى حالك تتغير، فتركن إلى الصمت وأترابك هناك في الشارع يملون الدنيا ضجة وصياحاً، وتسكن إلى الوحدة والدار تموج بالأهل من كل سن فلا تهدأ إلا ساعة القيلولة، وتستطيب الخلوة وأنت في سن الهرج والحركة تحبو إلى الشباب في غير ريت ولا جهل، وتنفض يديك من حاجات الغيط والدار فلا تسلى الهم بالعمل ولا تسرى عن النفس بالشغل. فجلس إليك - في خلوة - يحدثك حديث تجاربه، ويوحي إليك - وأنت(885/3)
أكبر بنيه الثلاثة - إنك رب هذا المال وسيد هذه الدار وصاحب هذا السلطان، ثم أقامك على بعض شأنه لترضى، فانفجرت أسارير نفسك وهدأت جائشة قلبك وانجابت عنك غمة أوشكت أن تعصف بك في غير رحمة ولا شفقة.
ورحت أنت تبسط سلطانك على شؤون الدار في شطط لا عرف الاعتدال، وتصرف الأمر في حمق لا يعرف العقل، وتلقي الرأي في طفولة لا تعرف الحصافة، غير أن أباك كان من ورائك يهدهد من غلوائك في رفق، ويكبح من جماح أهوائك في لين.
لقد كانت زوجة أبيك - ولا ريب - تطمع أن تكون سيدة الدار وصاحبة السلطان، وهي ترى الدار تفهق بالنعمة وتشرق بالثراء، ولكنك كنت تسد أمامها المنفذ في قسوة، وتغل يدها في غلظة، فما تنال من مال أبيك إلا بقدر لا يشبع التهم ولا يشفى الغلة، فراحت ترفقك في غيظ يحمل في ثناياه مقتاً وكراهية. وأبن أنوثتها أن تستلم وتخضع فهبت تحتال للأمر في مكر وخديعة، واندفعت تنفث سمومها في قلب أبيك في هوادة وفي رقة؛ وأبوك يلقي السمع حيناً ويغضى عن الحديث حيناً، والشيطانة لا تهدأ ولا تستكين، وأنت في لهو يشغلك الغرور وتعميك الغواية.
واستطاعت الزوجة أن تجذب إليها الرجل رويداً رويداً لينأى عنك رويداً رويداً، وأنت في لهو يشغلك الغرور وتعميك الغواية.
وسرت في أضعاف الدار ثورة مكفوفة توشك أن تنفجر فتبعثر الهدوء والراحة، وتذري السلام والأمن: فأبوك يجلس إلى زوجته كل مساء في خلوة يستمع إلى حديثها في صمت، وهو يستشف من خلال كلماتها روح الختل والخداع آناً، ويلمس فيه سمات الصراحة والحق آناً، فيتهم زوجه ويرميك أنت بالطيش والنزق. والزوجة تلبس ثوب الثعلب فتلقاك في بشاشة واستبشار على حين أنها تنشر من حواليك شباكاً محبوكة الأطراف لتعكر صفو ما بينك وبين أبيك، وهو يسلس وينقاد. وأنت. . . أنت أيها الصبي. . . لا يستطيع عقلك الصغير أن ينحط إلى بعض ما يدور حولك مما ينسجه عقل شيطان حصيف مرن على المداهنة والمكر، فلا ترى ولا تسمع، غير أنك تتشبث بسلطانك في الدار مثلما الطفل بلعبة عزيزة على نفسه يخشى أن يستلها مارد جبار من بين يديه الصغيرتين.
وسافر أبوك - ذات مرة - إلى المدينة لبعض شأنه، فجلست أنت في مكانه من الدار وقد(885/4)
صورت لك أخيلتك الطائشة أنك قد لبست ثوب الرجل الذي فيه، فاندفعت تأمر في كبرياء وجفوة، والفتاة تبسم في عبث ساخرة من نزواتك الطفلية ولكنها لم تمتنع عن رغبتك خشية أن تندلع من حماقتك نار حامية يلتهم أوارها سعادة تثر جاها في هذا الدار، فخضعت وهي تسر في نفسها أمراً. وجاءك الغداء - بعد ساعة - ينضم على أطايب الطعام: على البيض والسمن والزبدة والجبين والعسل و. . . مما يتحلب له الريق وتثور له شهوة البطن. . . وجلست إلى الطعام، بين أخويك، تريد أن تشبع النهم والكبرياء في وقت معاً.
ورأيت أباك يدلف إلى الدار - في هذه اللحظة - فقلت لأخويك، (انتظرا حتى يأتي أبي فينعم معنا بهذا الطعام الشهي، فهو - ولا شك - في حاجة إليه بعد هذا الضنى والنصب. أنه لا يلبث أن ينفي عنه وعثاء الطريق وعناء السفر) فأمسكا عن الطعام وأمسكت.
يا عجباً! هذه هي نوازع الصبية؛ صافية كالجوهر الخالص، نقية كالسلسبيل الطاهر، لطيفة كالظل الوارف ساعة الهاجرة، ندية كهبات نسيم الفجر الساحر، آه، لو عاش الإنسان عمره في سريرة الصبي وشعور الطفل، إذن لتوارت من الحياة شوائب تزعج النفس وتفزع القلب!
وخرج أبوك - بعد لحظات - من لدن زوجته يستحث الخطى نحوك وقد اكتسى وجهه بنبرات من الحزن والضيق لم تشهدها وأنت تهش للقياه. وأفزعك أن ترى على وجهه أثر الغضب فأمسكت عن الحديث. ولكنه أقبل في ثورة عارمة يأمر الخادم أن يرفع الطعام من بين يديك أنت وأخويك أحوج ما تكونون إليه. آه لقد وسوست الشيطانة، وأذهلتك المفاجأة فشرقت بريقك، وماتت الكلمات على شفتيك، ودارت الدنيا بك من شدة الصدمة فسقطت متهالكاً على كرسي بجوارك، وآذاك أن يبدو ضعفك بين يدي أخويك الصغيرين وأنت - كرأيك - رب المال وسيد الدار وصاحب السلطان، فتماسكت تماسكت لترى أباك والطعام يتواريان في طرفة عين، فنظرت إلى أخويك من عبرات حرى تتدفق على خديك تنطق بالأسى واللوعة واليأس جميعاً.
وبكى أخواك الصغيران فاحتضنتهما في عطف وحنان لتشعرهما بأنك أنت أمهما حين ماتت الأم، وأنك أنت أبوهما حين قسا الأب. واختلطت عبرة بعبرة، وخفق قلب لقلب، وتعانقت زفرة وزفرة، واجتمع الرأي على أمر، ثم اندفع الركب يسير.(885/5)
وبدا لك - يا صاحبي - إذ ذاك، أن أباك كان يختلك عن نفسك، وأن زوجته كانت تسخر من طفولتك، وأنت لست شيئاً في هذه الدار.
وتبعتكم - يا صاحبي - بعبراتي، وأنا - إذ ذاك - صبي مغلول اليد واللسان، فرأيت أطفالاً ثلاثة شردتهم القسوة ففزعوا عن دار أبيهم في ذله وانكسار، وقد هدهم الأسى وأضناهم الحزن وأرهقهم الجوع، على حين قد ترفعوا عن الشكوى فأبوا على وسموا على الخسف وتبعتكم بعبراتي، ولكن إلى أين - يا صاحبي - إلى أين؟
كامل محمود حبيب(885/6)
أبن تيمية والمنطقيون
للأستاذ إبراهيم الابياري
أتعرف الشيخ المحجاج المغلب حجة الحنابلة غير مدافع أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه. يعرفه الشوكاتي محمد بن علي فيقول: أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن الزمان سمح ما بين عصري الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما.
ويسبقه أبن حجر أحمد ابن علي فيقول فيه: وفاق الأقران وسار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول.
ومن قبله يقول الحافظ المؤرخ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أحمد الذهبي. واللفظ يكاد يكون لي: كان آية من آيات الله، السنة نصب عينيه، لم ير أشد منه استحضاراً للمتون، ولا أقدر في مسائل الخلاف.
وقريب من هذا ما قاله ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر، ثم ابن رجب الحنبلي عبد الرحمن بن أحمد.
وغير هذا فقد أفرد غير واحد كتاباً، فخصه المقدسي محمد أبن أحمد بالعقود الدرية في مناقب الشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وصفي الدين البخاري بالقول الحلي في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي، والكرمي مرعي بن يوسف بالكواكب الدرية في مناقب الإمام ابن تيميه.
وتقرأ للمستشرقين عنه ما كتبه (غولد زيهد) في دائرة المعارف. ثم تلك الدراسة الممتعة الجامعة للأستاذ الكبير (هنري لاوست).
وإن لم تغن فإليك جملة مما ألف الرجل تنبيك عن همة لا تفتر وقلم لم يجف وعمر حافل معمور الأيام والليالي ذكروا أنها تزيد على أربعة آلاف كراسة، كما قالوا أنها بلغت ثلاثمائة مجلد. أسمي منها. الجوامع في السياسة الإلهية والفتاوى، والإيمان. والجمع بين النقل والعقل، ومنهاج السنة، والفرقان في أولياء الله وأولياء الشيطان. والواسطة بين الحق والخلق، ومجموع رسائله، وقد أحصيت فيه تسعا وعشرين رسالة. ثم كتابه الذي هو قطعة منة عقله وفكره (الرد على المنطقيين).
ابن تيمية من هؤلاء النفر الذين أكدتهم عقولهم وعاشوا لما يدينون به ينفحون عنه(885/7)
ويجارون به، يستثمرون ما يعافه الوادعون، ويحلو لهم ما يمر على مذاق الخانعين، يصمدون للإحن لا يهنون، وللنكبات لا يريمون، ثم إذا هم باخرة قد اجتمع الناس لهم على الرأي الذي كافحوا له وغالبوا.
وكذلك كانت حياة ابن تيمية، سعى به بيبرس الجاشنكيز، فضمه السجن أعوام فما استكان، وكأنه ما خرج منه إلا ليعود إليه ثانية وثالثة، وهو هو إلى أن مات رحمة الله سنة 728 هـ وإذا الألسن كلها ثناء، وإذا ما كتب وألف متنه الأعين، وإذا ما رأى حديث المجالس.
جلست إلى أبن تيميه وهو آخذ بخناق المنطقيين في كتابه (الرد على المنطقيين) يبادلهم بالرأي رأياً، وبالحجة حجة، فآنست بالرجل عقله وتفكيره، وما كنت أعرف قبل ذلك أن أبن تيميه يقوى لأر سطو فيوهن من مقاييسه ويضعف من أدلته.
وأنت إذا استمعت إلى ابن نديم في الفهرست حفظت عنه كتب أر سطو الثمانية في المنطق وهي، المقولات، والعبارة، وتحليل القياس، والبرهان، والجدل، والمغالطون، والخطابة، والشعر. ثم إذا جريت معه قليلاً عرفت من ترجم هذه الكتب إلى العربية ومتى نقلت.
وتعجب حين لقى جمهرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء كتاب المنطق لأر سطو في حذر، وكادوا ينسبون من نظر فيه إلى الزندقة. ولن ننسى رسالة السيوطي جلال الدين في تحريم علو المنطق، ثم لا ننس تلك الحرب الصاخبة التي حمى أوارها بين المنقولين والمعقولين والتي خرج منها علماء المعقول زنادقة ملحدين.
وعز على صفوة من المفكرين أن ينتهي الخلاف بين النقليين والعقليين عند هذا فشمروا للتوفيق بين الرأيين. مؤولين ما استطاعوا إلى التأويل سبيلاً، متخففين من أقوال الحكماء ما لا يجد دليله من كتاب أو سنة، فمنهم من أبعد ومنهم من قارب. وقد كانت محاولات أدلى فيها بالدلو إخوان الصفا ومن لف لفهم كالباطنية والإسماعيلية. وإذا ذكرنا الإسماعيلية ذكرنا ابن سينا الذي تربى في حجورهم وغذوه بتعاليمهم وكان له جولة في هذا الميدان كان فيها كالظل لأر سطو.
وتمخضت الأيام عن شيخ من شيوخ الإسلام نشأ والباطنية في عنفوانها فجال في هذا الميدان جولات على نهج من التوفيق والجمع بين الرأيين، أسلم مغبة وأقرب إلى أنصاف أهل السنة وإرضاء المتدينين، وكان هذا الشيخ الحجة أبا حامد الغزالي.(885/8)
ويمضي الغزالي عام خمس بعد الخمسمائة والعالم الإسلامي في لهفة إلى مفكر يقف إلى أر سطو في منطقه موقفاً أكثر إرضاء وأقوى إشباعاً، فقد انطوت النفوس على شيء لم تملك برهاناً يغلبه وحجة تزلزله، ومضت مع راسخ ما تؤمن به وتعتقد تغالب ما يوسوس به الفكر ويهمس، وهي لا تجد بين يديها مفكراً يواجه أر سطو ويقف له.
وفي عام واحد وستين وستمائة من الهجرة ظفرت (حران) بمولود أسمه أحمد، لم يكن العالم يقدر أن فيه البغية المنشودة، ولكنه ما شب وترعرع وبدهت بوادهه حتى علقت به الآمال في ذلك المصال، ولم يكن غير أبن تيميه.
ومن قبل أبن تيميه كلف أبو البركات البغدادي بمحاجة أر سطو في منطقه وصال معه صولات. وتكاد تظفر بأول فرسان هذا الباب، وكتابه المعتبر فيه الكثير من هذه المواقف.
إلا أن ابن تيميه، وإن جاء لاحقاً، يكاد يكون المحجاج المعول عليه والند المكافئ، وبودي أن أشرك القارئ معي فيما أفدت، ولكني لم أجد في صفحات الرسالة ما يسعف، وحسبي من ذكره ما يحفز كل مفيد أن يرجع إليه، ليعرف عن أبن تيميه ما عرف لأر سطو.
إبراهيم الابياري(885/9)
دراسات أدبية:
موقف النقاد من الشعر الجاهلي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجة
1 - الشعر الجاهلي الذي اتخذه الشعراء في مختلف العصور أصلاً يحتذون حذوه، وينهجون منهجه، ويبنون عليه ويقلدونه في مناحيه الفنية والأدبية تقليداً كبيراً، هذا الشعر هو الذي نريد أن نتحدث عن موقف النقاد منه آرائهم فيه، ومذاهبهم حياله، حديثاً يجمع من الإيجاز أطراف هذا الموضوع المتشعب الدقيق.
2 - وأول ما نذكره في هذا البحث آراء الجاهلين أنفسهم في الشعر الجاهلي ونقده، وهذه الآراء كثيرة متعددة، طائفة منها تتحدث عن منزلة بعض الشعراء الأدبية في الشعر، وطائفة أخرى فيها نقد لبعض الشعراء.
فأنت تعلم أن كل قبيلة في الجاهلية كانت ترفع منزلة شاعرها على الشعراء، وتذهب إلى أنه إمامهم وأولهم في دولة الشعر، فكان اليمنيون يذهبون إلى أن امرأ القيس هو إمام الشعراء، وكأن بنو أسد يذهبون إلى تقديم عبيد، وتغلب تقدم مهللا، وبكر تقدم المرقش الأكبر، وأباد ترفع من شأن أبى دؤاد وهكذا. وكان أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة، وأهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، وأهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً، وكان العباس ابن عبد المطلب يقول على أمرؤ القيس وهو سابق الشعراء، ورأى لبيد أن أشعر الناس امرؤ القيس ثم طرفة ثم نفسه.
كما تعلم أن الجاهليين أنفسهم كانت لهم آراء كثيرة في نقد الشعراء. فكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ. فتأتيه الشعراء وتنشده أشعارها، أتاه الأعشى يوماً فأنشده، ثم أتاه حسان فأنشده، فقال: لولا أن أبا بصير - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والأنس، فقال: حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك؛ فقبض النابغة على يده وقال: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:
فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم أنشدته الخنساء:
قذى بعين أم بالعين عوار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار(885/10)
فلما بلغت قولها:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
قال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت ولا رجلاً
وحكومة أم جندب الطائية بين أمرؤ القيس وعلقمة الفحل الشاعرين، وتفضيلها علقمة على زوجها امرئ القيس، مشهورة ولا داعي لذكرها، فلها حديث آخر إن شاء الله.
ومر امرؤ القيس بكعب أخويه الغضبان والقعقاع، فانشدوه فقال إني لأعجب كيف لا تمتلئ عليكم ناراً جودة شعركم، قسموا بني النار.
وروى المرزباني في كتابه (الموشح) إن الزبرقان وعمرو وبن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي تحاكموا إلى ربيعة بن حذار الأسدي الشاعر في الشعر، أيهم أشعر، فقال للزبرقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن؛ لا هو أنضج فأكل، ولا ترك نيئا فينتفع به. وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر، نقص البصر. وما أنت يا مخبل فإن شعرك عن شعرهم وأرتفع عن شعرهم وارتفع كمزداة أحكم خروها فليس تقطر ولا تمطر.
كما روي أيضاً أن هؤلاء الشعراء اجتمعوا في موضع، فتناشدوا أشعارهم؛ فقال لهم عبدة! والله لو أن قوما طاروا من جودة الشعر لطرتم، فأما أن تخبروني عن أشعاركم وإما أن أخبركم؛ قالوا: أخبرنا، قال: فإني أبدأ بنفسي: أما شعري فمثل سقاء شديد وغيره من الأسقية أوسع منه، وأما أنت يا زبرقان فإنك مررت بجزور منحورة فأخذت من أطايبها وأخباثها
إلى غير ذلك من مواقف النقد والنقاد للشعر في العصر الجاهلي؛ والتي لا تخرج عن الاستحسان والاستهجان لشعر والشعراء.
3 - وجاء الإسلام فكان له ولرسوله الكريم موقف جليل من الشعر الجاهلي، أنكر بعضاً وعرف بعضاً؛ أنكر هذا الشعر الذي ينافي الأخلاق الكريمة والمثل العليا، من الغزل الفاحش، والمجون الخليع، والهجاء الكاذب، والمدح المغرق، والفخر الممعن في الغلو والمبالغة؛ وعرف هذا الشعر الذي يدعو إلى الفضائل والأخلاق والدين، ويحث على الأدب والطموح وأداء الواجب وحب الجماعة والتضحية في سبيل الأمة والإنسانية؛ فكان هذا(885/11)
الموقف الخالد للإسلام ونبيه العظيم توجيها جليلاً لرسالة الشعر، وتهذيباً نبيلاً للشعراء ليسموا بفنهم الرفيع إلى مجال الطهر والخير، ومجال الحق والعدل والحرية والنور، وكان نقداً عميقاً للشعر والشعراء والجاهليين، وإنكاراً لاتخاذ الشعر وسيلة للكسب وظهر أثر الإسلام والقرآن في تهذيب أسلوب الشعر وألفاظه، وفي البعد به عن الحوشية والغرابة وطبعه بطابع القوة والجلالة والروعة مع الحلاوة والبلاغة والسلاسة. كما ظهر أثر القرآن والحياة الجديدة في عقلية الشعراء وتفكيرهم ومعانيهم وخيالاتهم
4 - وفي عصر دولة بني أمية انتشرت العصبيات، وكثرت الخلافات السياسية والدينية، وتغير نهج حياة العرب وتفكيرهم، فعادوا إلى مذهب الجاهليين في الشعر، اتخذوه أداة للدفاع عن الرأي والعقيدة، ولساناً لإذاعة محامدهم ومفاخرهم، وشجعوا الرواة على رواية الشعر الجاهلي، والشباب على درسه وتعلمه والتأدب بأدبه، ووضعت في هذا العصر أصول النحو العربي، فأخذ العلماء ينقدون الشعر الجاهلي نقدا يتصل بالأعراب، (كان أبى إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان عليهم، وكان عيسى يقول: أساء النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع. ويقول موضعه: ناقعا).
5 - ومن أشهر رواة الشعر الجاهلي ونقاده في القرن الثاني الهجري. أبو عمر ابن علاء البصري م 154هـ، وحماد (الراوية الكوفي (75 - 156هـ)، وخلف (الأحمر البصري م 180هـ، ويونس البصري م 182هـ، والمفضل الضبي م 189هـ وهو أقدم من جميع المختار من شعر العرب في كتاب (المفضليات) وأول من فسر الشعر بيتاً بيتاً. ويقال أنه أول من جمع أشعار الجاهليين وإن كان الراجح إن حماد اسبقه في هذا الميدان. ومنهم ابن الكلى م 204، وأبو زبد الأنصاري صاحب كتاب الجمهرة م 215هـ، وأبو عبيدا البصري م 209هـ صاحب (النقائض) و (مجاز القرآن)، والأصمعي البصري م 216 هـ.
كان أبو عمر بن العلاء أشد الناس إكباراً للجاهليين وتعظيماً لشأنهم، جلس إليه الأصمعي عشر سنين فما سمعه يحتج ببيت إسلامي. ويروي عنه: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً. وكان لا يعد الشعر إلا للجاهلين، وكان كما يقول ابن سلام في طبقات الشعراء: أشد الناس تسليماً لهم وكان المأمون على رغم ثقافته الواسعة يتعصب(885/12)
للأوائل من الشعراء مع ملك بني أمية.
وكان الأصمعي مع تحامله على المحدثين وشعرهم معتدلاً في عصبيته للشعر الجاهلي، كان يحب الجيد منه، وينقد الرديء، عاب امرأ القيس في قوله في وصف الفرس:
وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
والخيفانة في الأصل هي الجرادة وتشبه بها الفرس في الخفة،
قال الأصمعي: شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريماً، كما عاب غير امرئ القيس من الشعراء. وكان يقول: ختم الشعر بالرماح، وهو شاعر أموي مشهور.
6 - وفي القرن الثالث الهجري نجد النقاد في موقفهم من الشعر الجاهلي طائفتين:
فطائفة تعجب بالجاهليين وشعرهم إعجاباً شديداً، ولا ترى الشعر إلا لهم، ومن هؤلاء ابن الأعرابي م 231هـ، وكان يزري بأشعار المحدثين ويشيد بشعر القدماء. وكان يعيب شعر أبي نؤاس وأبي تمام، ويقول: ختم الشعر بابن هرمة. وقال في بشار، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير من الشعراء. ومنهم إسحاق الموصلي م 240هـ، وكان في كل أحواله ينصر الأوائل، وكان شديد العصبية لهم، وكان لا يعتد ببشار. ولم يكن موقفه قاصراً على الشعر وحده، بل كان كذلك في الغناء، كان يتعصب للغناء القديم، وينكر تغييره ويعظم الأقدام عليه. ومثل التعصب للقديم موجود في الآداب الأوربية، فقد كان هوارس الشاعر الروماني يرى أن شعراء اليونان هم النماذج الذي يجب أن تدرس ليلاً ونهاراً، فإن الشعر يجب أن ينظم كما كانوا ينظمونه. وأعتذر البقلاني عنهم بأنهم إنما كانوا يميلون إلى الذي يجمع الغريب والمعاني. وأعتذر ابن رشيق عنهم بحاجتهم إلى الشاهد والمثل وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون. ولكن الجرجاني في الوساطة يذكر أن ذلك أثر لتعصب علماء اللغة ورواتها للشعر القديم، وإنكارهم لفضل المحدثين وشعرهم. (49و50 وساطة ط بيروت)
وطائفة أخرى من النقاد حكموا الذوق الأدبي والطبع وحده في الشعر، وحكموا بالفضل لمن يستحقه. جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، فلم يفضلوا الجاهليين لسبقهم في الزمن، ولم يغضوا من شأن المحدثين لتأخر عصرهم. ومن هؤلاء: الجاحظ م 255هـ وأبن قتيبة(885/13)
المتوفي 276هـ والمبرد م 285هـ وابن المعتز م 296هـ.
يقول ابن قتيبة في أول كتابه الشعر والشعراء: (ولا نظرت إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه، ولا للمتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه؛ فإني رأيت من العلماء من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه، ورأى قائله، ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوم دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده وجعل كل قديم منهم حديثاً في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل يعدون محدثين، وكان أبو عمر يقول: لقد نبغ هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.
قال المبرد: ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحد ثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطي كلاما يستحقه.
وأنكر ابن المعتز عصبية هؤلاء النقاد للشعر القديم وذمهم لشعر المحدثين، وقال أنها عيب قبيح، ومن فعل ذلك إنما غض من نفسه وجعل هذا ناشئاً عن جهل بنقد الشعر وتمييزه.
وكان الجاحظ هو السابق إلى إقامة نقد الشعر على أسس فنية خالصة، وحارب هذا التعصب الممقوت للقديم لقدمه، وآراؤه في ذلك كثيرة في (البيان والتبيين) و (الحيوان) وسواهما، ففي (الحيوان) ينكر الجاحظ على المتعصبين للقديم فعلهم فيقول: ولو كان لهم بصر لعرفوا موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان.
(للكلام بقية)
محمد عبد المنعم خفاجة.(885/14)
الشخصية والفردية
للأستاذ محمد محمد علي
كلمتان كثيرا ما يخلط بينهما، فتستعمل إحداهما في موضع الأخرى، وفي الواقع أن هناك اختلافاً بينهما. . فلقد زعم الأقدمون أن الشخصية قوة غامضة، لا يمكن أدراك كنهها أو تحليلها. إنما هي مجموع صفات الفرد، الموروثة والمكتسبة، فتشتمل على شكله الظاهري ودرجة ذكائه وثقافته واستعداداته ومواهبه، والمثل الذي يستهدف إليها، والمبادئ التي يعتنقها، والعادات التي يكتسبها، كل تلك العناصر والمقومات تؤلف الشخصية. وأحدث تعريف للشخصية هو أنها نظام متكامل من مجموعة الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والادراكية، التي تعين هوية الفرد وتميزه عن غيره من الأفراد تمييزا بيناً. وللشخصية جانبان. جانب ذاتي يعبر عنه بالآنية، وهذا الشعور يتطور من الشعور بالذات الجسمية فالنفسية والاجتماعية. والجانب الآخر موضوعي، ويعرف بالخلق وهو نظام متكامل من السمات والميول النزوعية تتيح للفرد أن يسلك - إزاء المواقف الخلقية وأوضاع العرف - سلوكاً متفقاً مع ذاته، على الرغم مما يواجهه من عقبات.
ومن دلائل النضج العقلي تكامل الشخصية، وهو عبارة عن تضامن مقوماتها المختلفة وتوافقها وتضافرها وانتضامها، حتى يكون سلوك الفرد ثابتا متزنا لا تنافر بين مظاهره، الأمر الذي يجعل الفرد يتكيف مع أفراد المجتمع الذي يعيش فيه. ويساعد على تكامل الشخصية؛ التربية الرشيدة مع التوجيه السديد في بيئة منظمة تكفل حياة هادئة. وليس أضر بتكامل الشخصية من التربية الغاشمة القاسية حيناً، والمتسامحة أحياناً، مما يميت في الطفل قوة الاعتماد على نفسه، في بيت محطم أنعدم الانسجام بين أفراده.
وليس من شك في أن الشخصية خير مقياس لنمو الفرد، ومكانته في المجتمع.
أما الفردية فهي صفة أو ميزة للفرد. وهي أن يسلك الفرد سلوكاً يختلف عن سلوك غيره. فلا يتأثر بالغير إلا قليلاً، وقلما يطيع العادات أو ينقاد إلى التقاليد. ذلك أن تأثره بالبيئة يكون مبنياً على فهم وتبصر بالغرض من سلوكه. وحتى لو اتبع أمراً اتبعه غيره، فإنما يفعل ذلك على عقيدة ودراسة وليس طاعة أو تقليد أعمى. ولا شك أن الحياة البدائية تعوق الفردية بتقاليدها الموروثة الجامدة التي تتبع نظام الطوطمي ينظر إليها البدائي نظرة(885/15)
الإجلال والاحترام يتخذها رمزاً للأب أو الجد الأعلى وتحميه من الأخطار) واللاماسات هي تحريمات وقيود تفرض بازاء إنسان أو شيء أو عمل.
ولولا الفردية لما كان هناك تقدم ولا مدينة. فلو أن الناس كانوا يفكرون تفكيراً متشابهاً ويعتقدون في أشياء خاصة ولهم أغراض وغايات واحدة، دون أن يتساءلوا عن صحتها أو يجتهدوا في تغييرها، لما كان هناك أمل في التطور والرقي. والفردية هي التي تدفع إلى التجربة والمخاطرة، والاختراع والابتكار. ولعل خير مقياس لرقي المجتمع هو مدى ما يعطيه للأفراد من فرص لظهور فردياتهم المختلفة. وكثيراً ما يحدث صراع بين التقاليد والفردية فتحدث اضطرابات خطيرة، وذلك حين تقف التقاليد حائلاً دون ظهور الفردية.
على أن للفردية بجانب هذه المنافع - أضرار، فقد كان لانتشار فكرة الفردية - وخاصة في أوائل القرن الماضي - أثر في تفكك أوامر الأسرة التي تسودها سيادة الأب - رجعية (مودة قديمة) وأن من الممكن أن ينكث الزوجان أو أخذهما العهود المقطوعة حيال الزواج.
ثم إن التمادي في الفردية يجعل الفرد ينظر إلى الأمور بالنسبة إلى آرائه وملذاته - مما يؤدي إلى الاستخفاف بنظام الأسرة. وهذه الروح المستهترة كان لها أثرها في زعزعة النظم الاجتماعية وعدم استقرارها.
محمد محمد علي(885/16)
صورة رمزية
رسالة إلى امرأة!
للأستاذ غائب طعمه فرمان
(الصراع بين الواقع والخيال صراع خالد. . فكثيراً ما يهرب المرء من واقعة المرير مع أحلامه إلى عالم الخيال الرحيب. . ولكن. . لا يستقر فيه إلا قليلاً حتى يرى الحياة في رحابه الفسيحة قاسية!!. . فيرجع إلى أحضان واقعة ليراه أشد مرارة من قبل!. . .)
هاأنذا جالساً لوحدي والدجى يرسم أمام ناضري عالماً رهيباً. . . هاأنذا صامتاً كأنني انتظر ساعة مفزعة، أو أرتقب حكماً قاسياً، والكون من حولي أخرس سكران بخمرة السكينة، والهواء البارد يلفح وجهي، ويبث القشعريرة في كياني، فأحس من أعماق نفسي بهمسة حائرة مضطربة، وتضطرب في نفسي لواعج وأشجان، وتختلج في رأسي أفكار وصورة قاتمة!.
هاأنذا جالساً على صخرة تعرفني، حبيبة إلى، عزيزة على نفسي. . . وقد صرخت من أعماق روحي قوة تدفعني إلى أن أقبلها وأبلل جسمها البارد بدموعي، وأركع تحت قدميها أستجدي الذكريات!.
والنهر أمامي يتهادى بسكون كأنه في موكب عزاء، وعلى سطحه لآلاء مرتجف كأنه مآل اليائس، وقد شعرت برهبة وخشية، فكأنني واقف على شاطئ مسحور. مجهول. . مبهم. . تلفه الأسرار، وتوغل في أرجائه أصداء مبهمة كأنها أرواح ضائعة تنشد أجسادها بين الرمم، أو كأنها أسئلة ليس لها ردوداً. وعلى يساري تلك الشجرة الأمينة كقلب أبيض، تصلي معي بخشوع وضراعة في محراب الوحدة المقدس، وقد سجدت أغصانها على النهر تقبله، وقد داعبتها نسمة حنون، فراحت تميل بطراوة!.
كل ما حولي عميق لأنه يطوي تأريخ قلبين فرقهما الدهر، فتاها في متاهات الحياة حائرين يبحثان عن مأمن رحيم. . . كل ما حولي حزين كأنه يبكي على مأساتنا، ويندب حضنا العاثر، ويبعث إلى قلبين ضالين سلوه وعزاء، وكل شيء يمر على ذاكرتي واضح المعالم، مؤثراً، مرهقاً، عميقاً، ويتجسم في هذا الفضاء اللانهائي لي شبح الماضي الجميل الكئيب! وتبرز لي ذكريات الأيام الماضية، تلك التي طمرها القلب، وأخرجها الإحساس المتوثب،(885/17)
وصرخ بها الضمير الغصوب!.
يا لها من ذكرى. . . تلك التي انطوت على شواظ من نار، ولفت ريقاً من العمر كان القلب، والعاطفة، والضمير قضاته العادلون.
إنني لأذكره. . وأنا وحدي أحييه، وأبعثه من أعماق قلبي على القرطاس، وأحاول أن أبث فيه من حياتي. روحاً، ومن جوانحي قبساً، ومن اضطراب فكري حركة!.
وأنت أيتها المرأة التي أخاطبك - أتمثلك جالسة وحدك على الشاطئ. . . شاطئ العالم المهجور، كأنك تنتظرين غريباً يؤوب إلى وطنه، أو أملاً يولد مع موج الأحلام المسحور!. . . أتمثلك غارقة في الظلمة كأنك تناجين الأطياف، وأتمثلك ساهمة كأنك تصلين، وأتمثلك غارقة في لجج الصمت الذاهل!.
أتذكرين ذلك اليوم الكئيب الجميل، القاتم المنير، الباكي المبتسم؟!. . عندما تقدمت إليك مدفوعاً برهبة وخشوع عظيمين، مدفوعاً برغبة وشوق آسرين، كأنني مدفوع إلى عالم المستقبل المكنون!!.
جئت إليك، وقد نفضت يدي من العالم، ومن كل رغبة من رغبات الحياة، ومن كل خفقة من خفقات الأمل، ومن كل شوق من أشواق النفس في الخوض في غمار الحياة!.
وكنا قد تواعدنا على القدر، واتفقنا على موعد! وقد هربت من جحيم حياتي، وإسار رقبتي. . إليك. . وأنت تعرفين أن الماضي الذي أتكلم عنه شيء قاس مؤلم.
تقدمت إليك بقلب واجف. . كأنني في حضرة من ملك حياتي، فرأيتك جالسة غريقة في بحر لجي من الهواجس والظنون ويدك ممتدة إلى الظلمة، أو إلى شعرك الفاحم!
وخيل إلي أنني أمام امرأة ساحرة تلفها الأسرار، كأنني لم أعرفك، ولم تتواشج الأواصر الروحية بيني وبينك. . . وسمعتك تتمتمين كأنك تقرئين تعويذة لطرد الأشباح المحيطة بك كأنها الأقدار. . وسمعتك أخيراً تقولين:
- أهذا أنت؟!
فأجبتك: - نعم. . أنا الوحيد الذي قطع كل صلة له بالعالم! فنظرت إلي كأنك تنظرين إلى شيء غريب. . بليد. . مبهم لا يعرف أمراً من أمور الحياة وقلت:
- هل ارتكبت الحماقة؟. .! هل اشترتك مملكة الشيطان!؟(885/18)
- نعم. . لقد فعلتها وأنا لست بنادم ولا خزيان. . نعم لقد فعلتها بكل إرادتي. . فإنني لا أحبها، ولا أشعر بميل نحوها بل أنا أمقتها كما أمقت الشيطان!.
وساد الصمت، وكلانا لا يعرف ما يقول. . كأن السكينة ألفت إسارها علينا. . ومشينا على الشاطئ. . ونحن مطرقان. . قلت:
- ولكنها زوجتك. . أم أولادك. . إن ضميري ليعذبني!!
- وليكن. . فأنا لا أقبل منطق الحياة الأعوج، فأنا أكره زوجتي أشد الكره
- ليتني ما عرفتك!!
- أتريدين الحق؟! إنني يئست من حياتي لولاك. . ومن يدري!. لولاك لفارقت لا حياة منذ زمن بعيد!.
يالك من امرأة غريبة كالجباة، غامضة كالموت. إنني لم أشعر بالإهانة والضعة مثل شعوري بهما في تلك اللحظة. . لقد حملتني الجريمة وحدي، وهربت أنت لائذة بالعفة والطهارة. . وليس هناك جريمة في الوجود يشترك فيها شخص واحد. . حتى السارق في جنح الظلام يشترك معه المجتمع في سرقته!.
قلت لك: - لا تثيري الماضي. . فالذي تلفه الأكفان لا تستقر فيه الحياة مرة أخرى. إنني ضحيت بكل شيء من أجلك. . أنت يا صورة أحلامي ولحن هواي. ضحيت بامرأتي وهي مخلوقة يائسة ضعيفة. . وضحيت بأولادي وهم محتاجون إلى من يأخذ بأيديهم. . . وضحيت بكل شيء من لأجلك. . فقد ضقت ذرعاً بحياتي الرتيبة، ودنياي الكثيرة الأوحال. . لقد ضقت ذرعاً بهذا الواقع المليء بالمتناقضات. . هذا العمر الذي يذبل بذلة. . واشتقت إلى عالم ثان اكثر بهجة وأنظر وجهاً. . وأنت جناحي الذي أحلق به في الأجزاء السامقة وارتفع به عما ينخر في جسمي ويستبد في فؤادي. . فتعالي معي ولا تثيري شجني لنتسلق هذا التل لعله يقضي بنا إلى العالم الجديد!.
وعندما تسلقنا المرتفع لنبلغ المدينة كنت تستندين إلى ذراعي وقد أيقضت حرارتك في روحي نشوة نائمة، وخيل إلي أن هذا الطريق طويل. . وهو طريق حياتنا. . وأنا أساعدك على السير فتغلبني العزة برجولتي، وأستجيب إلى دواعي نفسي، وأنصت إلى ذلك الإيقاع الروحي. . . إلى صوت قلبينا!. ونزلنا من الجهة الثانية ونحن صامتان. . . وبدت لنا(885/19)
المدينة كبيت مهجور مخيف تسكنه الأفاعي والوحوش!.
أيمكن أن ندخل هذه المدينة؟! إن الناس سيعرفوننا، وسيقولون هذا رجل لا ضمير له، فقد ترك زوجته ليعيش حياة مخجلة. . وتلك فتاة لا حياء لها فقد هربت مع رجل متزوج!. أما نحن فنصمت أمام تلك الأقوال الجائرة. . لأننا لا نملك القوة على مجابهة المجتمع والحرية في التعبير عن عواطفنا. . غير أننا يجب أن نصرخ في وجوه هؤلاء: إن الحياة أرفع من أن تعاش مع الملل، وأسمى من أن تذبل في صمت. . الحياة سر مقدس لا يكون في الأوحال، ولا أن ترهق تحت أعباء من أوضارنا. .
أنا رجل شقي يعرش حياتي الملل، ويستبد بي ضجر عميق. إن عيني ترى دائماً أشباح السآمة، وطيوف الضيق المهيمن على روحي. . فماذا لو حاولت أن أمسح عن روحي الملل، وأنقذ حياتي من دنيا الطيوف والأشباح؟!. . ماذا لو هربت بذلك السر المقدس إلى ملكوت من الصفاء والحرية؟! ماذا لو صرخت في عنصر الفناء صرخة الجريح المستغيث؟!.
غير أن الناس جروا على عادة سخيفة كأنهم شعروا بتفاهة أنفسهم فحاولوا أن يقنعوا أنفسهم بأن الحياة تافهة لا تستحق أية تضحية، ولا تستأهل أي أقدام!.
وأخيراً دخلنا المدينة، فراحت عيون الناس تلتهمنا، وتصعد فينا، كمجرمين هرباً من السجن، وعليهما شارته، وفي سيمائهما بريق الذل، وفي نظراتهما افتقار النفس إلى عزة!.
وقد تحيرنا إلى أين نذهب؟. . ونحن لا نملك الوقود الذي نحرقه قرباناً للمجتمع!. .
لقد حاولنا أن نعيش، وأن نتكئ على العاطفة التي أسرتنا، وأن نجعل الحب نبراساً يضيء لنا الطريق. . لقد حاولنا أن نعيش في أجوائنا السامقة دهراً، وأن ننسى الماضي والناس جميعاً، وأن نتغذى بالعاطفة المضطربة، ونسترشد بالإحساس المشترك، ونقيس الأشياء بمقاييسنا نحن. . تلك المقاييس التي صغناها من رحيق نفوسنا. . غير أن الهوة كانت سحيقة ظلت تصرخ فينا: مجرمون. مجرمون!.
وحاولت أن نتشبث بأسباب الحب. . غير أن حبل الحب قد رث ولم تبق أمامنا إلى حياة مظلمة. . وإذا الحب عملة زائفة في سوق المراوغة والخداع!.
ونحن - دائماً - نركض وراء الحب. ذلك المعبود الوهمي. . حتى يضنينا التعب، وينال(885/20)
منا الجهد. . حتى إذا ظفرنا به في النهاية. . رأيناه قائماً على منطق أعوج، وأدركنا أننا ارتكبنا في سبيله حماقة صارمة.
ولما لم نستطيع الحياة معاً حين بلغ بنا اليأس مبلغاً بعيداً. . تنصلت مني، وتنصلت منك. . وتركنا الحب كأثر من آثار الجريمة!.
ولم نملك حتى كلمات الوداع. فكأننا شعرنا بأن عاطفتنا أصبحت من التفاهة بحيث لا تقيم جملة من جمل الوداع!.
وهكذا انفصلنا. ورجعت إلى نفسي أحاسبها بعد رحلتي الطويلة. . وأخذت أستعرض الماضي بكل ما فيه من أشجان وآلام. . ورأيتني أمام صور واختلطت ألوانها، وتشابكت خطوطها. . وأصبحت لا تعبر إلا عن الخيبة!.
أتذكرين عندما التقينا أول مرة؟!. . لقد خيل إلي في ذلك الحين إنني سأضع حداً لاضطرابي وواقعي المر، وأبني حياة أكثر بهجة وائتلافاً. . وهكذا أنا أتمنى كل يوم أن أحيا حياة جديدة. أن عمري ملئ بالأخطاء حتى لأتمنى دائماً أن تكون لي القوة على نسيان الماضي جميعه، وتغيير مجرى عمري!. . فعندما رأيتك حطمت بكل جبروتي ماضي كله، ونسيت بما أملك من قسوة واقعي جميعه. . فلم أشعر بالدنس لأني متزوج، ولأن لي أولاداً. . ولكنني شعرت بالغبطة تطفح على وجهي، وأنت تتراءين لي أينما قلبت ناظري. . وكنت أتملى طيفك كأنني أرتشف روح السكينة!.
عندما عرفتك أنقلب بيتي إلى جحيم، وصارت امرأتي في عيني شيطاناً مريداً، وران التذمر على روحي، وضج الضجر في كياني.
أنني عندما أسترجع الماضي يهز نفسي ما تضمنه من خيبة جارحة أورثتني عدم الثقة في نفسي، وزرعت في بذور السخط الطائش!.
كنت أقول دائماً أن قلباً من غير حب كهف يرن في أرجائه فراغاً أبله. . ولكن متى ما يعلق الحب في قلباً يصبح كالطائر الجريح يخفق في جناحيه كأنه بنعم بالغبطة وكأنه لا يعرف أن قواه الخائرة ستهبط به من حالق!.
وهكذا أنا. . عندما علق حبك في قلبي لم أكن أشعر إلا بوجودك. . وطفقت أسعى لكي أدبر شيئاً في سبيل سعادتي ولو على حساب الآخرين!. . وكنت أنت تشجعينني وتذكرينني(885/21)
بالإسار الذي يطوق عنقي.
ومرة رجعت إلى بيتي بعد لقاء معك. . وكانت عندي فكرة ظالمة، فقد نويت أن أصرخ في وجه زوجتي: أنني لا أحبك بل أمقتك اشد المقت!!.
صدقيني لم تكن لي رغبة في مثل هذه الحياة، ولا في مثل هذه الزوجة. لقد كنت أتوق إلى حياة أرفع من هذه الحياة المليئة بالمتناقضات. . لقد كنت دائماً أحلم بالحوريات، وأغرق في نشوة حلمي. . لقد كنت دائماً أتصور تصورات زاهية مزهرة. . وابني القصور في مخيلتي. غير أن حلمي لم يتحقق، فقد جاء أبي بجبروته يمسخ حلمي، ويهدم تصوراتي. . فزوجني بامرأة بلهاء لا أحس نحوها بأية عاطفة!.
دخلت بيتي. . العالم الذي أمقته أشد المقت. . لكم هو كريه إلى نفسي ثقيل على قلبي مليء بالأشباح!!.
وكنت أنت يا من تصورتك حورية من حوريات أحلامي تزيدين كراهيتي لبيتي، ونفوري منه، وسخطي عليه. . وكنت أنا الهائم الذي لا يستقر على قرار. أمنيك، وابعث في نفسي الحرارة والقوة لكي أهم حياة أسرتي الآمنة. في سبيلك أنت يا من تركتني وحيداً منبوذاً في نهاية الأمر!
كان دخان الجريمة يملأ صدري بعد أن عرف الناس حبنا، وأصبحت حياتي في بيتي لا تطاق!.
وجئت زوجتي مرة فرأيت المنكودة تبكي على الحب الذي لم يخلق، ورأيتها تصرخ معولة:
- طلقني. . يا ظالم. يا حقود أنني لأن أتحمل كلام الناس!.
وفي تلك اللحظة وقف خيالك كالشيطان يدبر لي أمراً. . فقلت تلك الكلمة القاسية وخيل إلي أنها ستصنع لي جناحين لأطير بهما إلى عالمي السامي. . وخيل إلي كذلك أنها الكلمة السحرية التي ستنقلني إلى دنيا الحرية والأحلام!
وخرجت من البيت إلى غير رجعة. . وهربت من الجحيم إليك!!. وكان لقائنا في عشنا الأول. . على شاطئ النهر. . وقد ابتدرتني قائلة:
- أهذا أنت؟!.(885/22)
- نعم!. . أن الوحيد الذي قطع كل صلة له بالعالم
وكانت آمالنا كباراً في أن نحيى حياةً جديدة. . ولكننا لم نستطع. . وحاولنا أن ننسى الماضي ومرارته ولكن الماضي ظل يلاحقنا وينغص علينا حياتنا.
وبعد رحلة طويلة مضنية في عالم الأوهام انفصلت عني، وانفصلت عنك، إذا أنا وحدي أهيم في عالم غريب عني. . فقير إلى الرحمة والحنان الطاهر فقيراً، إلى الأمن والطمأنينة الجميلة، فقيراً إلى الراحة واستقرار الضمير!.
ولم تكن لي وجهة أتجه إليها، ما دمت قد قطعت كل صلة لي بالعالم.
يا ويحي!. . أهذا الحطام يستطيع أن ينهض بي من الهوة التي أتردى بها؟!.
يا ويحي!. أتلك الخطيئة تمحوها كفارة من حيرتي وعذابي؟!.
وأخيراً. دخلت مدينتي. . واتجهت إلى بيتي الذي هدمته بيدي لأشهد حطام حياتي الماضية، ورأيت البيت الذي يخيم عليه السكون!. زوجتي. . زوجتي. . شريكة حياتي، ضحية جبروتي. . أيتها المرأة المحطمة ها هو الجلاد. . جاء إليك. ولكن من غير سيف. . فقد حطمت الحياة سيفه. . لقد جئت إليك أحاول بناء حياتي من جديد. . انظري. . انظري. . ولكنني لم أسمع جواباً. لأن زوجتي تركت بيتها!!. فتسللت من الباب كاللص بعد أن زودت ناظري بمناظر المأساة وجئت إلى الشاطئ. . لا لأنني أحبه. . ولا لأنني مشتاق إليه. . ولكنني لا أملك ملجأً غيره. وها أنذا جالساً وحدي والدجى يرسم أمام ناظري عالماً رهيباً.
(القاهرة)
غائب طعمه فرمان(885/23)
أسامة بن منقذ وشعره
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
لم يكن معروفاً من شعر أسامة سوى ما تفرق في كتبه الاعتبار والعصا، ولباب الآداب، وما تفرق في كتب مؤرخيه كخريدة القصر، والروضتين، في أحبار الدولتين، وتاريخ الإسلام للذهب، وجمهرة الإسلام، وشذرات الذهب، وجمهرة الإسلام، ذات النثر والنظام، ولكن أسامة كان له ديوان جمعه بنفسه، وعنى به من بعده ابنه مرهف، وكان صلاح الدين مشغوفاً به كما ذكرنا، وقد رآه ابن خلكان، وذكر أنه بأيدي الناس، وقد عثرت دار الكتب على نسخة خطية من هذا الديوان.
وقد رتب أسامة ديوانه على حسب الأغراض، فباب للغزل وآخر لشكوى الفراق، وغيرهما للوصف، إلى غير ذلك من أغراض الشعر الغنائي ولكن ديوانه قد خلا من الهجاء، ويظهر أنه قد أصر على ألا يكون في شعره هذا اللون برغم الدوافع التي كانت تسوقه إلى أن يهجو، حتى لقد قال:
ظلمت شعري، وليس الظلم من شيمي ... يطيعني حين أدعوه، وأعصيه
يهم أن يذكر القوم اللئام بما ... فيهم، فأزجره عنهم، وأثنيه
وليس من خلقي ثلب الغنى وإن ... جنى، ولا ذكر ذي نقص بما فيه
وفي ذلك مسحة من ترفع الأمارة، التي تحول بينه وبين النزول إلى مستوى التشاتم والمهاترة.
ولما اختار أسامة أن يرتب ديوانه على الأغراض، كان يجزئ القصيدة الواحدة، فيضع غزلها مثلاً في باب الغزل، ومديحها أو فخرها في باب المديح أو الفخر، وكان هو يشير إلى ذلك حين يعرض قصائده، ولهذا النظام فائدته في تتبع الدراسة الفنية لكل فن من فنون الشاعر على حدة، وإن كانت الحاجة تدعو، عند دراسة بناء القصيدة، إلى دراسة أجزائها كلها، لمعرفة الجو الذي توحي به، وإدراك مدى الصلة التي تربط بين عناصرها.
ويبدو لأول ما تقرأ أن أسامة لم يدون كل ما قاله من الشعر، لأنه لم يرض عن كل ما يصدر منه، فحذف منه ما لم يرقه، حيث يقول:(885/24)
كلما رددت في شعري النظر ... بان ضعف العي فيه، وظهر
ليس يرضيني، ولا يمكنني ... جحد ما قد شاع منه، واشتهر
فأجيل الفكر في تقليله ... فإذا قل اختصرت المختصر
وبه فقر إلى ذي كرم ... إن رأي ما فيه من عيب ستر
وذاك يدل على تطلع أسامة إلى مثل أعلى، كان ينبغي أن يصل إليه مستوى شعره، ولا بد أن كان لذلك أثره، وأخذه إياه بالتقويم والتنقيح، حتى ظهر شعره في هذا الثوب من القوة والجزالة، مما يذكرنا بشعر الفحول الذين سموا بنفسهم عن أن يكون مظهر التلاعب بالألفاظ، أو الجري وراء محسن لفظي، من غير أن يكون في البيت معنى جليل، أو خاطر سام، أو شعور صادق، أما أسامة فلديه ما يقوله، في أسلوب قوي، وعبارة رصينة.
وتتدفق خواطر أسامة في قصيدته، ويرتبط بعضها ببعض، حتى يصبح البيت لبنته، في بناء ملتحم مؤتلف، خذ مثلاً قوله:
لا تجز عن الخطب ... فكل دهرك خطب
وحاثات الليالي ... مملة، ما تغب
تروح سلماً وتغدو ... على الفتى وهي حرب
ولا تضق باصطبار ... ذرعاً إذا اشتد كرب
فصبر يومك مر ... وفي غد هو عذب
كم صابر الدهر قوم ... فأدركوا ما أحبوا
وكل نار حريق ... يخشى لظاها ستخبو
ترى فيه التحام الخواطر وتسلسلها، ولا تجد ذلك في مقطوعاته القصيرة فحسب، بل في قصائده الطويلة أيضاً، حتى ليخيل إليك أحياناً أنك تقرأ قطعة منثورة، لا قصيدة منظومة؛ ويطول نفس أسامة أحياناً حتى تبلغ القصيدة تسعين بيتاً، كتلك التي كتبها على لسان نور الدين، يعدد فيها وقائعه مع الفرنج.
وينهج أسامة في كثير من الأحيان المنهج التقليدي، فيبدأ قصائده بالغزل، حين يفتخر، أو يمدح، أو يشكو، وحيناً يبدأ موضوعه من غير مقدمة غزلية، كالقصيدة التي بعث بها إلى معين الدين أنر، وقد لقى الفرنج، وهزمهم، فقال أسامة:(885/25)
كل يوم فتح مبين ونصر ... واعتلاء على الأعادي وقهر
ومضى في قصيدته:
ولكثرة ما اطلع أسامة على الشعر القديم، كان يضمنه بعض قصائده، حتى اتهمه بعض سامعي شعره بالسرقة من غيره، وليس فيما فعل أسامة سوى التضمين الذي تراه في قوله يخاطب معين الدين أنر:
وأنت أعدل من يشكي له، وله ... شكية أنت فيها الخصم والحكم
وما ظننتك حق معرفتي ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
لكن تقاتك ما زالوا بغشهم ... حتى استوت عندك الأنوار والظلم
وفي هذه الأبيات تضمين من قصيدة المتنبي: (وأحر قلباه ممن قلبه شيم). أما قصيدة أسامة التي مطلعها:
أطاع الهوى من بعدهم وعصى الصبر ... فليس له نهى عليه ولا أمر
فقد ضمنها من شعر أبي فراس، كهذا البيت، ومن شعر المتنبي، وأبي صخر الهذلي، وغيرهم، وليس التضمين بكثير من شعر أسامة، وأكثره ما جاء في هاتين القصيدتين.
تلمس في شعر أسامة الجلال والوقار، فلا هزل فيه، ولا مزاح، إلا قليلاً نادراً، وليس في باب الملح عقده، فضلاً عن قصره، سوى قليل من الفكاهة، ولعل من أرقها قوله، وقد كان له جار من الأمراء، يعرف بابن طليب، وقعت في داره نار فاحترقت، فقال أسامة:
انظر إلى الأيام، كيف تقودنا ... قسراً إلى الإقرار بالأقدار
ما أوقد ابن طليب قط بداره ... ناراً، هلاكها بالنار
4
وجدت الأحداث الكبرى التي مرت بأسامة صداها في شعره، وصورت آثارها في نفسه تصويراً قوياً، ولعل من أقوى هذه الآثار في نفسه، اضطرار إلى أن يفارق وطنه الأول (شيزر) الذي شهد مدراج طفولته، وملاعب صباه، وملاهي شبيبته، وقد وجد أسامة البقاء في هذا الوطن شقاء لا يطيقه، بعد أن جفاه عمه، وقلب له ظهر المجن، فكتب إلى أبيه قصيدة يحدثه فيها عما يعتلج في صدره من الهم، ويشكو إليه ما كدر صفاء عيشه، من الغدر، وما ناله من سوء العقوق، ويقول له:(885/26)
أشكو إلى علياك هما ضاق عن ... كتمانه صدري، وما هو ضيق
وطوارقاً للهم أقريها الكرى ... وتلظ بي صبحاً، فما تتفرق
وينبئه بأنه قد صمم على فراق دار الهون، ما دام الحقد عليه قد وجد سبيله إلى قلوب ذوي قرباه، فيقول له:
دعني وقطع الأرض دون معاشر ... كل ذي لغير جرم محنق
تغلي على صدورهم من غيظهم ... فتكاد من غيظ علي تحرق
أعيا على رضاهم، فيئست من ... إدراكه، ما النجم شيء يلحق
قد افسدوا عيشي علي وعيشهم ... فأما الشقي بهم، وأيضاً شقوا
فضل الأقارب برهم وحنوهم ... فإذا جفوني فالأباعد أرفق
وكان أسامة راضياً عن نفسه بهذا الارتحال، الذي نأى به عن الضيم، وبعد به عن أن يسام الخسف والهوان، واستقبل بعده عن وطنه، راضياً به، ما دام ذلك في سبيل احتفاظه بأنفته وعزة نفسه:
أأسام خسفاً، ثم لا ... آبي، فلست إذا أسامة
هيهات، لا ترضى المعالي ... صاحباً يرضى اهتضامه
وألقى أسامة بنفسه في المعارك تحت لواء عماد الدين زنكي، ولم ينغص عليه مقامه يومئذ سوى وشاة أوعروا صدر أبيه عليه، فاضطر أسامة إلى أن يرسل إلى أبيه استعطافاً، يزيل به من نفسه أثر هذه الوقيعة التي لم يحدثنا التاريخ عنها شيئاً، فكتب أسامة إليه:
يا ويح قلبي من شوق يقلقله ... إلى لقائك ماذا من نواك لقي
وناظر قرحت أجفانه أسفاً ... عليك في لجة من دمعه غرق
وبعد ما بي، فإشفاقي يهددني ... بشوب رأيك بالتكدير والرنق
وأن قلبك قد رانت عليه من الس ... واشين بي جفوة يهماء كالغسق
أما كفاهم نوى داري وبعدك عن ... عيني، وفرقة إخوان الصبا الصدق
وأنني كل يوم قطب معركة ... درية السمر والهندية الذلق
أغشي الوغى مفرداً من أسرتي وهم ... هم إذا الخيل خاضعت لجة العلق
وموضعي منك لا تسمو الوشاة له ... ولا لغيره كيسي، ولا حمقي(885/27)
وكان موقفه من دمشق حين نبت به، كموقفه من وطنه الأول، فارقها غير راض باحتمال الهوان، برغم ما ألمسه في شعره من حب لمعين الدين، يقول له:
ولست آسي على الترحال من بلد ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
تعلقت بحبال الشمس منه يدي ... ثم انثنت وهي صفر ملؤها ندم
أما حياته بمصر، فقد مر عليه بها من تقلبات الزمان، وعبر الأيام، وتنقل الملك والسلطان، وأصح أن يقول معه:
خمسون من عمري مضت لم أتعظ ... فيها، كأني كنت عنها غائباً
وأنت علي بمصر عشر بعدها ... كانت عظاه كلها وتجارباً
شاهدت من لعب الزمان بأهله ... وتقلب الدنيا الرقوب عجائباً
ولعل الأزمات السياسية التي مرت به في مصر، كانت تملأ صدره بالهم حيناً، والنقمة على الزمن الذي دفع به إلى مصر، فيقول:
يا مصر، ما درت في وهمي ولا خلدي ... ولا أجالتك خلواتي بأفكاري
ما أنت أول أرض مس تربتها ... جسمي، ولا فيك أوطاني وأوطاري
لكن إذا حمت الأقدار كان لها ... قوى تؤلف بين الماء والنار
ولكن أسامة برغم هذه الأزمات التي كانت تدفعه حيناً إلى الثورة، والتي لابد أن تلم بمن يخوض لجة السياسة وجد في مصر ما كان يصبو إليه من مال ومجد، كان شديد الأسف عليه، حين أفلت من يده، تحس بذلك في قوله:
نلت في مصر كل ما يرتجي الأمل من رفعة، ومال، وجاه
فاستردت ما خولتني، وما أسرع نقص الأمور عند التباهي
كنت فيه كأنني في منام ... زال منه سر عند انتباهي
فلا جرم، كان شديد الحنين إلى مصر، بعد أن فارقها، وكان يتمنى أن يلبي دعوات الملك الصالح التي وجهها إليه مرة بعد أخرى يدعوه فيها إلى العودة والعيش معه. وهنا يحسن بي أن أقف قليلاً أبين رأي الملك الصالح فيما اتهم به أسامة من المشاركة في قتل الظافر، فالصالح يبرئ أسامة براءة تامة من هذا الإثم، ويراه نقي الصفحة، طاهر اليدين، وها هو ذا يرسل إلى أسامة، يدعوه إلى مصر، ويحدثه عن الوزير عباس الذي قتل ابنه نصر(885/28)
الخليفة الظافر:
على أنه قد نال بالغدر من بني ... نبي الهدى ما لم ينله بنو حرب
وهل نال منهم آل حرب وغيرهم ... من الناس فوق القتل والسبي والنهب
غدا والغاً كالكلب ظلماً وحزبه ... دماءهم لإحاطة الله من حزب
وياليته لو كان فيه من الوغا ... لمالكه بعض الذي هو في الكلب
وحاشاكم ما خنتم العهد مثله ... ولا لكم فيما جرى منه من ذنب
ومن مثل ما قد نالكم من دونه ... يحاذر أن تدنو الصحاح من الجرب
كان لكثرة الترحال أثر في شعر أسامة، فكثيراً ما شكا الفرقة والاغتراب، وكثرة جوبه البلاد، وتحس في هذا الشعر لوعة الحرمان، وألم الشوق إلى الوطن المفارق، والآل الغائبين، فتسمعه يقول:
أهكذا أنا باقي العمر مغترب ... ناء عن الأوطان والسكن
لا تستقر جيادي في معرسها ... حتى أروعها بالشد والطعن
ويقول:
أين السرور من المروع بالنوى ... أبداً، فلا وطن، ولا خلان
عيد البرية موسم لعويله ... وسرورهم فيه له أحزان
وإذا رأى الشمل الجميع تزاحمت ... في قلبه الأمواه والنيران
فكان هذا الرحيل الدائم، مصدر ألم لأسامة، يؤرق حياته، وينغص عليه عيشه، وكان له أثر في مسح شعره بمسحة من الحزن والأسى، وكثرة حديثه عن الوداع والفراق.
كما كان لتبدد ثروته، ونهب بعضها عقب الحوادث التي جرت بعد مقتل الحافظ وغرق بعضها في البحر، عند خروج أسرته من مصر أثره البالغ من نفسه، وأثره القوي في شعره، شكا ذلك إلى الملك الصالح، وطلب منه المعونة، فقال له:
أنا أشكو إليك د هراً لحاعو ... دي، وأعراه، فهو يبس سليب
وخطوباً رمى بها حادث الده ... ر سوادي، كلهن مصيب
إذ هبت تالدي، وطار في الط ... اري، فضاع الموروث والمسكوب
فهو شطران بين مصر وبحر ... ذا غريق فين وذا منهوب(885/29)
ويظهر أن الفقر قد عضه بنابه حيناً من الدهر، حتى رأيناه يصف نفسه بأنه لا يفترق في حقيقة الأمر عن سائليه الذين يهرعون إليه، ظانين فيه الغنى واليسار.
ولكن مستوري كظاهر حالهم ... فما حيلتي، والحظ حرب الفضائل
وكان أكبر ما يؤلمه في حالة العسرة التي ألمت به، هو أن شمت به أعداؤه، فأخذ يطمئن نفسه بأن سوف يستعيد مع الأيام ماله المفقود، وحيناً يقول لهم:
متى رآني الشامتون ضرعا ... لنكبة تعرقني عرق المدى
هل بزني الخطب سوى وقري الذي ... كان مباحاً للنوال والندى
فإذا نزلت كارثة زلزال شيزر، فذهبت بملك أهله وبأهله، أخذ يبكيهم، ويندب حظهم، ويرثي منازلهم، ويسأل الزمن عن ماضي مجدهم ويتألم لبقائه من بعدهم، ويمدح ما اتصفوا به من سامي الخلال، وطيب الفعال، وبرغم ما كان بينه وبينهم من إحن وبغضاء، عز عليه فقدهم، وتمنى أن لو استمرت الحياة، واستمر ما بينه وبينهم من فرقة ونفور، فقد كانوا برغم ذلك مصدر فخاره، وينبوعاً لقوته واعتزازه؛ قال أسامة من قصيدة طويلة يصف فيها هذا الخطب، كيف كان له شديد الوقع في نفسه، فهو يتطلب الأسى، فلا يجد أسوة يقتدي بها:
قالوا: تأس، وما قالوا بمن، إذا ... أفرددت بالرزء، وما أنفك أسوانا
ما استدرج الموت قومي في هلاكهم ... ولا تحرمهم مثنى ووحدانا
فكنت اصبر عنهم صبر محتسب ... وأحمل الخطب فيهم عز أوهانا
وأقتدي بالورى قبلي، فكم فقدوا ... أخا، وكم فارقوا أهلاً وجيرانا
ويدفع عن نفسه أن يظن به ظان وقوفه من هذه الكارثة وقوف من لا يعني بها، ولا يأبه لها، فيقول:
لعل من يعرف الأمر الذي بعدت ... بعد التصاقب من جرأة دارانا
يقول بالظن إذ يدرسا خلقي ... ولا محافظتي من حان أو بانا:
أسامة لم يسؤه فقد معشره ... كم أوغروا صدره غيظاً وأضغانا
وما درى أن في قلبي لفقدهم ... ناراً تلظي، وفي الأجفان طوفانا
بنو أبي، وبنو عمي، دمي دمهم ... وإن، أروني مناوأة وشأنا(885/30)
كانوا سيوفي إذا نازلت حادثة ... وجنتي حين ألقي الخطب عريانا
وختم تلك القصيدة الباكية بالدعاء لهم، فقال:
سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت ... مثوى قبورهم روحاً وريحانا
وألبس الله هاتيك العظام وإن ... يلين تحت الثرى عفواً وغفرانا
ولما علت سن أسامة ووهن منه العظم، أخذ يشكو طول العمر، وثقل الحياة عليه، فحيناً يجد في الموت أعظم راحة تنقذه من ضعفه، وحيناً تنهال عليه ذكريات شبابه وصباه، ويوازن بين ضعفه اليوم، وقوته في عهده السالف، فقد كانت كفه مألفاً للسيف والرمح، فصارت تحمل العصا، يمشي بها كما يمشي الأسير مثقلاً بالكبل، وحيناً يأسف على أنه لم ينل في شبيبته من المتع والملاذ، ما كان جديراً أن يظفر به في عصر الشباب، إذ يقول:
وما ساء ني أن أحال الزما ... ن ليلي نهاراً، وجهلي وقارا
ولكن يقولون: عصر الشبا ... ب يكون لكل سرور قرارا
فوجدي أني فارقته ... ولم أبل ما يزعمون اختبارا
ومن أكبر ما أثر فيه يومئذ أنه رزق ابنة، بعد أن تجاوز أربعاً وسبعين سنة، فوجد اليتم ينتظرها، وكان تفكيره في يتمها وضعفها مجلبة لحزنه وبكائه:
رزقت فروة، والسبعون تخبرها ... أن سوف تيتم عن قرب وتنعاني
وهي الضعيفة، ما تنفك كآسفة ... ذليلة تمتري دمعي وأحزاني
وصور لنا أسامة نفسه محنياً على عصاه، قد تقوس ظهره، وصارت العصا وتراً لهذا القوس، يمشي مشي الحسير، قد آده ثقل السنين، فهو يمشي كالمقيد بعثاره، أو كالأسير في قيده، فلا جرم كان شديد الضيق والبرم، حين يرى نفسه عاجزاً عن تلبيته داعي الحرب إذا دعاه:
رجلاي والسبعون قد أوهنا ... قواي عن سعيي إلى الحرب
وكنت إن ثوب داعي الوغى ... لبيته بالطعن والضرب
وكان شديد الضيق والبرم أيضاً حين يرى نفسه وحيداً، قد مضت لداته وأترابه، فعاش غريباً في جيل غريب عنه، فكان يتأوه قائلاً:
ناء عن الأهلين والأو ... طان، والأتراب ماتوا(885/31)
ولبئس عيش المرء فا ... رقه الأحبة واللبدات
فالام أشقى بالبقا ... ء، وكم تعذبني الحياة
للكلام بقية
أحمد أحمد بدوي(885/32)
خواطر في كتاب الله
تربية الأمم في القرآن
للأستاذ محمد عبد الله السمان
الواقع أننا لسنا في حاجة إلى مسلمين يحملون كتاب الله في جيوبهم، ولا إلى مسلمين يعلقونه فوق صدور أبنائهم، ولا إلى مسلمين يتلونه تلاوة لا تتجاوز حناجرهم. ولا إلى مسلمين يتخذون منه الأحجية والتعاويذ والأدعية - ولكنا في حاجة إلى مسلمين ينفذون مبادئه، ويحققون مطالبه، ويتفهمون معانيه، وتشرب نفوسهم ما استوعبه من تربية راقية عالية.
وحاجة الأمم إلى التربية لا تقل عن حاجتها إلى المال والقوة والعدة - ذلك لأن الأمة لا يمكنها أن تشق طريقها إلى المجد، وتسلك سبيلها إلى العلاء، إلا إذا نالت نصيباً وافراً وقسطاً كبيراً من التربية السليمة، ولذلك كان اهتمام القرآن الكريم بتربية أمته اهتماماً بالغاً يسددها في خطواتها ويقومها في أعمالها.
اهتم القرآن بتربيتها على الأخوة المؤسسة على الاتحاد والتعاون والصفاء والإيثار: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم - وأصلحوا ذات بينكم - وتعاونوا على البر والتقوى - ولا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم - واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا - ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون).
وسما بها عن المواقف التي تجر إلى النزاع، وتزرع في قلوب أبنائها الشقاق:
(اجتنبوا كثيراً من الظن - ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً - لا يسخر قوم من قوم - ولا تلمزوا أنفسكم - ولا تنابزوا بالألقاب).
واهتم بتربيتها على العزة والحرية والنفور من الذلة والعبودية: (إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله وسعة فتهاجروا فيها. . .؟).
وحثها على الاستعداد، وظهورها بمظهر القوة حتى لا تمس حريتها أو تخدش عزتها.
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
وحذرها مواطأة العدو، والتودد إليه، ففي هذا تمهيد لوقوعها في هوة الذلة والاستعباد:(885/33)
(لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا - لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة).
واهتم بتربيتها على المغامرة لأنها من عوامل إنهاضها:
(يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة).
واهتم بتربيتها على العدل حتى لا يصيبها الاضطراب في شئونها:
(كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)
وحذرها عاقبة البغي والعدوان:
(ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم - ولا تطغوا أنه بما تعملون بصير).
كما حذرها البطر حتى لا تتسبب في زوال نعمتها:
(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس).
وكما رباها على العدل رباها على مكافحة الظلم لاستتباب حالها: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلوا منكم خاصة - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار).
محمد عبد الله السماق
مدرس بمدرسة علم الدين الابتدائية للبنات بالسيدة زينب(885/34)
رسالة الشعر
الشاعر
للأستاذ يوسف حداد
اقترحت زميلتنا (العصبة الأندلسية) على الشعراء أن ينظموا في موضوع (الشاعر) وارصدت للاقتراح جائزتين ماليتين للفائزين الأول والثاني، فجاءها تسع عشر قصيدة تخيرت منها لجنة التحكيم ثلاثاً جعلت الجائزة الأولى لاثنتين مناصفة وهما للشاعرين يوسف حداد وشبلي ملاط، والجائزة الثانية للقصيدة الثالثة كاملة وهي للشاعر كامل العطار، وهذه هي القصيدة الأولى
قبل أن أسكن الثرى ... كنت في كوكب أقيم
مثلما ينبث الكرى ... مثلما ينبع النسيم
مدن الله لي قرى ... قابض الروح لي نديم
زاد عيني حصى الذرى ... ماء قلبي لظى الجحيم
يوم أرنو ولا أرى ... خلف خط الضحى الوسيم
ظل صب من الورى ... في صحاري الدجى يهيم
قبل أن أتحف الزمان ... بالدواوين والرسوم
كنت أرعى وعول جان ... عند حورية النجوم
ونعاجاً من الدخان ... وخيولاً من الغيوم
في سراديب كل حان ... ضل عنها هدى الكروم
و (بعامورة) جنان ... لقطيعي وفي (صدوم)
والعصا جسم افعوان ... وجرابي عشوش بوم
أوفدتني إلى الأنام ... جنة السحر (عبقر)
في مهماتها الجسام ... يا لشيء يحير
كيف فيها الفتى ينام ... وهو يمشي وينظر
وبلغت الثرى بعام ... مثلما الفصل يعبر
ولدن ظلل الغمام ... والضباب المكسر(885/35)
قفف الريش والعظام ... رحت بالظل أعثر
ويحهم من سواي من ... جاء من سرحة الخلود؟!. . .
يحمل التاج والكفن ... للفراشات والورود
قبل أن يهزأ الزمن ... بالتوابيت والمهود
فغزا عرسه القنن ... وجنازاته الصرود
فهو إن رنم الفنن ... يطلب الشمس للسجود
وإذا أعول المجن ... عبد الغيم ظل دود. . .
إن نوحي بكل بر ... شرب الغيم من صداه
هل ترى الرعد ما انفجر ... لو فمي لم يجد بآه؟!
أبعدوني عن البشر ... قربوني من الإله
في يدي بيعة الصور ... في فمي مطهر الجباه
فلمن أكحل البصر ... ولمن أغسل الشفاه
واذبحوا بيننا القدر ... فهنا غور منتهاه
كل ما يشبع النظر ... قات مني ذرى الجفون
إن جوعي كوى الحجر ... ظمأى جفف العيون
نفسي رمد الشجر ... بصري قوض السجون
غرسوا في يدي الإبر ... فجنوا زهر زيزفون
كم طوى الكوكب الأغر ... لي رواقاً من السكون
أتت لولاي يا قمر ... لم تكن غير شطرنون. . .
حيثما أزرع النفس ... ينبت الصفح والندم
وحمى كل من غرس ... يضرب الرأس بالقدم
قل لمن قصرهم درس ... وطوى شمسه العدم
إن قلبي الذي أحس ... بخطاياه من قدم
إن جفني الذي عبس ... بالسلاطين والخدم
ويراعى الذي لمس ... ليس رفشي الذي هدم(885/36)
قل لدنيا المظلة ... والجناح الذي يطير
لا تباهى بقلة ... توجتها يد الأثير
نفضوا خيط حلتي ... فاكتسى النبع والغدير
هبه من غزل شلة ... لفه العث، حبل نير
غمزوا ضلع فلتي ... فرمى فيئها العبير
هبه من زهر تله ... شق عين الندى الضرير
من جلوسي على انفراد ... فوق تل العشية
وانحداري على الوهاد ... بالرؤى المخملية
نشأ الوحي في العباد ... كرجاء المنية
ويك لولا غني الوداد ... بكنوزي الخفية
حيث يلتفت بالرماد ... موسم العبقرية
ما حلا للمسيح زاد ... من يد المجدلية. . .
رب بيت نظمته ... بات تاريخ كل دين
رب سيف ثلمته ... لف جيل الوغى بحين
رب زهر شممته ... ناب عن غلة السنين
رب صدر لثمته ... شق أضلاعه الحنين
رب ثغر ظلمته ... بالمناجاة والأنين
حمل العدل صمته ... من عرين إلى عرين
أي شيءٍ صفا وطلب ... لفؤادي وناظري
ومضى دون ما إياب ... لم ينتف محاجري؟!. .
لا بظفر ولا بناب ... بل بشوك الخواطر
عند لمس الهوى المصاب ... هان نهش الكواسر
هكذا يلجم العباب ... في دمع المهاجر
ارم عينيك يا سحاب ... إن بكى قلب شاعر
أنا أشقى ليسعدا ... لي وراء الأنام جار(885/37)
وأغنى ليزهدا ... بهتاف الضحى الهزار
وأهز المهندا ... كي تلف القنا بغار
وأرش اللظى ندى ... على ريق اللمي يغار
ضاء شمعي ورمدا ... في الليالي الهوى القصار
كي يطيل البلى غدا ... شوق عظمي إلى النهار
إن طوى القبر أضلعي ... جنة التوت والكرز
ادفنوا غلتي معي ... كتب الشعر والرجز
ذخر قلبي ومدمعي ... خير ما ذو غنى كنز
إن يكن كل مقطع ... ميل المتحنى وهز
للحمام المودع ... والثكالى من الإوز
إن مخطوط أصمعي ... ليس من أصلعي أعز!.
اخفضوا الصوت ياحداة ... حيثما مدفني يكون
فلقد يقلق الرفات ... من الصدى رقة الجفون
كيف لو ضج بالبنات ... هودج الزهو والفتون
وحدا الظعن للفتاة ... وهي ليست مع الطعون
وهي قيثارة الحياة ... وهي عكازة المنون
فوعى الصخر والنبات ... قيمة الصمت والسكون؟
منشد الظعن والكثيب ... هل خطى النوق تفهم؟
أنت بين الورى غريب ... لوح نجواك طلسم
مثل أمية الرقيب ... وأسى الطير مبهم
كل أرض بدون طيب ... لك فيها مخيم
كل جنينة تشيب ... من صحاريك تنقم
كل ما صور المغيب ... بعض ما أنت ترسم. . .
يوسف حداد(885/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلة الفن والقيود:
(لا يحيا الفن بغير القيود)، مثل مشهور تبناه فريق من أدباء فرنسا وشايعهم فيه أنصار من مختلف بقاع الأرض. وأرى أنه ينطوي على شيء كثير من الخطأ والضلال، لأن إخضاع الفن للقيود يعني تقنينه وربطه بقواعد وأصول، وهذا ينافي طبع الجمال الذي هو غاية الفن وطابعه الرئيسي. ولو طبقنا المثل نفسه على الشعر العربي مثلاً لانعكست الآية وانقلب المفهوم رأساً على عقب فمما لا شك فيه أن القافية كثيراً ما تسوق الشاعر مرغماً إلى معنى لا يرتضيه ولكن ارتضته القافية، ومعنى هذا أن القافية تنطق الشاعر كلاماً لم يقصد إليه ولم يهدف إلى معناه، وما لا يقصده الشاعر ولا يهدف إليه يكون حتماً خيلا عليه فلا يرتضيه ولا يطمئن إليه، وفي هذا قال شاعرنا العربي عبارته الخالدة (ما أرضاه من شعري لا ياتبنى وما يأتيني منه لا أرضاه).
حقاً إن القافية تبتكر معنى جديداً لم يخطر ببال الشاعر، ولكن العبرة ليست في تغيير المعني وتزاحمها وإنما في قوتها وروعتها وجمالها، وكلها صفات لا تجتمع للمعنى الذي تبتكره القافية، إلا عن طريق الصدفة، والتعويل على الصدفة عند تكوين حكم عام عن الفن، أمر ينافي الحكمة ويجافي المنطق. . . ألا ترى معي بعد هذا بأنه ليس من المتصور أن تحيي القيود الفنون مادام القيد ينزع بطبعه إلى التحكم؟
هذا ما وددت أن أعرف رأيك فيه. . . ولك مني خالص الشكر والتحية.
فؤاد الونداوي المحامي
(بغداد - العراق)
يريد الأستاذ الفاضل فؤاد الونداوي أن يعرف رأينا في هذه المشكلة الفنية التي يعرض لها في رسالته، ونعني بها مشكلة الفن والقيود. ويبادر هو فيحكم على المثل الذي ينادي بالا حياة للفن إلا في ظل القيود. ويبادر فيحكم عليه بأنه ينطوي على شيء كثير من الخطأ والضلال، لأن إخضاع الفن للقيود في رأيه يعني تقنينه وربطه بقواعد وأصول، وهذا(885/39)
ينافي عنصر الجمال الذي هو غاية الفن وطابعه.
هذا هو رأي الأستاذ الونداوي. وخلاصته أنه يريد أن يحرر الفن من كل قيد وأن يعفيه من كل قانون، ليصل من وراء هذا كله إلى تحقيق ذلك العنصر الرئيسي في الفن، ونعني به عنصر الجمال. . . ومن هذا الرأي الذي يجهر به الأستاذ الونداوي تخرج بأن مضمون نظرته وجوهر دعوته يلتقيان حول معنى واحد: هو أن الجمال في الفن عماده الحرية.
نود أن نقول للأستاذ الونداوي إن إطلاق حكم عام على مشكلة من مشكلات الفن يتطلب شيئاً من التريث وأشياء من المراجعة. ولو تريث الأستاذ في دراسة المشكلة وراجع نفسه عند إصدار حكمه، لأدرك أن تحرير الفن من كل قيد معناه الحرية المطلقة، وأن الحرية المطلقة ليست هي الجمال الذي يتطلع إليه! إننا حين نفرض القيود على الفن فإنما نفرضها بغية أن نبث فيه روح النظام. وما هو الجمال في الفن إذا لم يكن هو النظام على التحقيق؟ وحين نرفض الحرية المطلقة في الفن فإنما نرفضها خشية أن نبث فيه روح الفوضى. وما القبح في الفن إذا لم يكن هو الفوضى بلا جدال؟ لا بد إذن من القواعد وأصول حين نحتاج في (تنظيم) الفن إلى تلك القواعد والأصول، ولابد إذن من القيود التي تقررها المقاييس النقدية لتحديد القيم الجمالية. ومع ذلك فنحن لا ننكر الحرية التي تتيح للفن أن يتنفس ليكون فناً، ولكنها الحرية المعقولة غير المطلقة، تلك التي تعمل في مجالها الطبيعي حيث قدر لها أن تكون! هناك إذن قيود مفروضة وقيود مفروضة. أما تلك القيود المفروضة فقد حددناها في مذهب (الأداء النفسي)، وهو مذهبنا في نقد الفنون عامة وفي نقد الشعر على الأخص، ولا بأس من أن نعيد اليوم بعض ما قلناه بالأمس، مادام الأستاذ الونداوي يريد أن يعرف رأينا في مشكلة الفن والقيود.
في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولابد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صوره من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم)، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل(885/40)
شيء مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود! وشبيه بتلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفضل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.
نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم (أصوله وقواعده) قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، ويتركز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد (نظاماً)، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد قمنا بناء الفن هذا التصميم الذي ندعو إليه ينظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى. هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي). لابد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء. . إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!
هذه يا صديقي هي القيود المفروضة التي تتيح للفن كل معاني الحياة. . أما تلك القيود(885/41)
الأخرى التي لا نرتضيها للفن لأنها تحد من حريته الطبيعية وحقه المشروع، فهي تلك الصيحات التي تنطلق من بعض الأفواه منادية بربط الفن إلى عجلة المجتمع أو مزجه، بأصول علم الأخلاق. وأصحاب المذهب الأول مغرقون في الخطأ أو مسرفون في الوهم، لأنهم يتخيلون أن المجتمع هو الحياة حين يتحدثون عن الصلة بين الفن والحياة! إن مصدر الخطأ هنا هو أن الحياة في مدلولها اللفظي وواقعها المادي، أوسع مدى وأشمل معنى من المجتمع الذي يريدون للفن ألا ينشر جناحيه بعيداً عن حماه. . إن المجتمع جزء من الحياة وليس هو كل الحياة، ونضرب لذلك مثلاً قصيدة من الشعر يصور بها الشاعر مجلي من مجالي الطبيعة أو نزعة (فردية) من نزعات النفس أو دفقه (ذاتية) من دفقات الشعور. أليس كل جانب من هذه الجوانب التي تخرج عن دائرة المجتمع، تعبيراً عن الحياة في وضع من أوضاعها الخاصة التي تفيض بالنبض وتزخر بالحقوق؟ إننا نستطيع أن نلتمس الحياة في شعر يتحدث عن الصحراء، وفي قصة تدور حول معالم الذات، وفي أدب معروف هو أدب الاعترافات. . . وكل هذه الألوان الفنية لا تدخل في نطاق المجتمع الكبير ومع ذلك فهي تؤدي رسالة النقل عن الحياة كأصدق ما يكون الأداء!!
هذا عن أصحاب المذهب الأول، أما عن أصحاب المذهب الأخلاقي في الفن فقد رددنا عليهم في مناسبة سابقة بكلمات للفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشة، وهي كلمات نؤمن بها كل الإيمان لأن فيها الحجة المقنعة والمنطق السليم. . وخلاصة رأي الفيلسوف الإيطالي في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، هو أن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً هابطة! فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولن يكون فناً أبداً!! ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فهي ليست قوام الإنسان الفنان، ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي.
بقي أن نقول للأستاذ الونداوي في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه، من الناحية أنها تفرض على الشاعر لوناً من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسي أن تلك القيود لازمه من لوازم الشعر(885/42)
ليكون شعراً، له ذلك القالب الفني الذي يميزه عن قالب النثر ويشير إلى ما بين القالبين من فروق!
موسوعة عن الأدباء المعاصرين
أتشرف باطلاعك على كوني أقصد أن أطيع في أقرب وقت كتاب (المختارات)، في ستة مجلدات ضخمة، تحتوي قطعاً نثرية وشعرية منتخبة لنحو ثلاثمائة من أشهر الأدباء المعاصرين، في كل أقطار العالم العربي.
أرجو أن تتحفني بشيء من مؤلفاتك لإدراجه في كتابي، صورتك الشمسية واضحة كل الوضوح، وملخص سيرتك الأدبية، أعني تاريخ ومكان ولادتك، المدارس التي تهذبت بها، جدول مؤلفاتك وأهم حوادث حياتك الأدبية.
أشكرك سلفاً، مع إهدائي لك فائق اعتباري ودمت.
رفائيل نخلة
(دير اليسوعيين - حلب - سورية)
ليس من شك في أن هذا العمل الذي يزمع أن يقوم به الأستاذ الفاضل رفائيل نخلة، وهو إخراج موسوعة ضخمة عن أشهر الأدباء المعاصرين في العربية، ليس من شك في أنه عمل يستحق الإعجاب من ناحية جدواه. . ذلك لأن جدوى الموسوعات الأدبية هي أنها تضع بين أيدينا خلاصة وافية لحياة من تعرض لهم من الأدباء، مما يتيح للدارسين شيئاً من العون حين ينشدون دراسة الإنتاج الأدبي على ضوء تلك الحياة. أما تلك المتعة الأخرى التي يمكن أن يستشعرها القارئ وهو يتنقل بين قطع مختارة من الشعر والنثر، فهي متعة تفسح مجالاً لا بأس به لجمهرة المتذوقين والنقاد.
هذا هو رأينا في الموسوعات الأدبية بمناسبة هذه الرسالة التي تلقيناها من الأستاذ الفاضل. . ولكننا نحب أن نلفت نظره إلى حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل، وهو أن الأستاذ مسرف في التفاؤل حين يتصور أن في الأقطار العربية ثلاثمائة من الأدباء! لا يا سيدي، إننا يجب أن نقيم الميزان للأديب الحق لا لكل أديب حمل قلماً وكتب. . . ومن هو الأديب الحق؟ هو صاحب (المذهب) المعروف لا صاحب الاسم المعروف، هو - في كلمة جامعة(885/43)
مانعة - صاحب الأصالة المبدعة لا المحاكاة الناقلة. . . إذا نظرنا إلى الأدباء بهذا المنظار فلا مفر من أن يهبط الرقم الذي تتصوره من ثلاثمائة أديب إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليدين!! معذرة يا سيدي فهذه هي الحقيقة، وكم نود أن تقنع موسوعتك بهذه الحقيقة لتظفر بما أشرنا إليه من جدوى الموسوعات الأدبية.
وعندما يوفق الأستاذ نخلة إلى اختيار هذا العدد الضئيل من الأدباء فلا بأس من أن يكتب إليهم من جديد. . .
وللأستاذ خالص الشكر على كريم تقديره.
رسائل أخرى من حقيبة البريد
لم تخل حقيبة البريد من عدد من الرسائل يدور موضوعها حول أمور شخصية، وهذا اللون من الرسائل يؤسفنا ألا نستطيع التعقيب عليه، لأننا نهدف من وراء التعقيب إلى الإجابة عن مشكلات الأدب والفن، تلك التي تهم أكبر عدد من القراء. . فإلى أصحاب تلك الرسائل نعتذر، راجين أن يقصروا أسئلتهم على المشكلات الأدبية لا الذاتية!
أنور المعداوي(885/44)
الأدب والفن في أسبوع
حق المحدثين في الوضع اللغوي:
يذكر قراء (الرسالة) المحاضرة القيمة ألقاها الأستاذ أحمد حسن الزيات في مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية عن الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه، والتي انتهى فيها إلى مقترحات أحيلت إلى لجنة الأصول بالمجمع لدراستها في ضوء المناقشة التي جرت بشأنها. وأذكر الآن أن هذه اللجنة تقدمت إلى مجلس المجمع برأيها في تلك المقترحات، وينحصر هذا الرأي في مقترحين اثنين:
الأول ناقشه المجلس وعدله ثم أقره على الوجه الآتي: تدرس كل كلمة من الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى في هذه الدراسة أن تكون الكلمة مستساغة ولم يعرف لها مرادف عربي سابق صالح للاستعمال.
والثاني: قبول السماع بشرط أن يكون هذا السماع من كاتب أو شاعر، أسلوبه العربي موضع الاطمئنان والثقة بعربيته مثل جيل بمعنى طبقة من الناس، وزهور جمع زهر.
ولما جرت المناقشة في هذا المقترح أدلى الأستاذ الزيات بالبيان التالي نصه: (يظهر أن بعد المسافة بين إلقاء المحاضرة وبحث المقترحات قد ألقي عليها ظلاً من الغموض، فإن بعض الأعضاء لم يلحظ الفرق بين الوضع والسماع فأراد أن يجعلهما واحداً، والمراد بالوضع إطلاق لفظ على معنى ابتداء، وقد يكون الوضع بالارتجال كالأب والأم والبحر والأرض والجبل، وقد يكون بالاشتقاق ككاتب وشاعر ومنشار ومفتاح وملعب، وقد يكون بالتجوز كإطلاق السماء على المطر والغيث على النبات والقهوة على المكان الذي تشرب فيه، وهذا الوضع بطرقه المختلفة كان يجري على قوانين مطردة نشأت من طبيعة اللغة وسليقة العرب وهذه القوانين هي ما نسميها بالقواعد والقياس، ولكن المتكلمين لأسباب طبيعية أيضاً يخالفون أحياناً هذه القواعد أو هذا القياس، وهذه المخالفة هي ما سميت بالسماع، والغرض منه مخالفة القياس في الاشتقاق أو النسب أو الجمع مثلاً، كقولهم يافع من أيفع والقياس موفع، وأموي بالفتح في النسبة إلى أمية وأهلون وأرضون وستون وعشرون وبابه في جمعها جمعاً مذكراً سالماً. وقد كان هذا السماع كالوضع من حق العرب الأولين والمراد الآن إعطاء هذا الحق للمحدثين فنقبل منهم ما خالفوا القياس في لفظه أو(885/45)
خالفوا المعاجم في مدلوله، كقولهم مثلاً من النوع الأول: (متحف) بالفتح والقياس الضم، و (مقهى) بالفتح والقياس الضم، و (ثلاجة) بدلاً من مثلجة، و (زهور) جمع زهر، و (نوادي) جمع ناد والقياس أندية، و (أحفاد) جمع حفيد والقياس حفدة، و (طبيعي) في النسب إلى الطبيعة والقياس طبعي، و (بديهي) في النسب إلى بديهة والقياس بدهي، و (طنطاوي) و (طهطاوي) في النسب إلى طنطا وطهطا والقياس طنطي أو طنطوي، و (قهاوي) في النسب إلى قها والقياس قهوي. وكقولهم من النوع الآخر (جيل) لطبقة من الناس واللغة جنس من الناس، و (فشل) للإخفاق واللغة والضعف، و (السمك) و (السميك) للتخمين واللغة: السمك بالفتح الرفع وطول الجدار من الأرض إلى السقف ولم يرد منه سميك، و (صدفة) بمعنى مصادفة، و (عائلة) (بمعنى أسرة).
وكان المجلس قد رد المقترح الثاني إلى اللجنة لإعادة بحثه. فنظرت اللجنة في الموضوع وفي ذلك البيان، ثم جعلت الاقتراح كما يلي: (ترى اللجنة قبول السماع المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدتها قبل إقرارها)
ولما عرض ذلك على مجلس المجمع وافق عليه.
تعقيب
نرى أن النتيجة التي أخذ بها المجمع في هذا الموضوع تنحصر في المادتين اللتين أقرهما، الأولى تدرس كل كلمة من الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى في هذه الدراسة أن تكون الكلمة مستساغة ولم يعرف لها مرادف عربي سابق صالح للاستعمال) والثانية: قبول السماع من المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدتها قبل إقرارها) والمتأمل في العبارتين يرى مؤداهما واحداً، وهو أن الكلمات التي يستعملها المحدثون يقبلها المجمع بعد دراستها، وهذه (الدراسة) تحفظ يشبه التحفظات التي ترد في التصريحات والمعاهدات التي ترد في التصريحات والمعاهدات التي تفرضها الدول الكبيرة على الأمم الصغيرة. فهي كلمة مطاطة، يمكن استغلالها عند بحث كل كلمة، فيقال مثلاً إنها تخالف القياس أو إنها على غير معناها في المعاجم، وقد أبدى ذلك صراحة في أثناء المناقشة الأستاذ إبراهيم مصطفى بك، إذ قال: (كان لي اعتراض على قبول كل سماع خالف القياس ولكن ما دامت اللجنة قد قررت أن كل كلمة ستبحث على حدتها فإني موافق على ذلك).(885/46)
ويمكن أن يقال إن (السماع من المحدثين) هو كما فسره الأستاذ الزيات مخالفة القياس في اللفظ والمعاجم في المدلول، ولكن هذا القيد أهمل في القرار إهمالاً اطمأن إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى!
ويماثل الأمم الصغيرة في ذلك (التحفظ) هذه الصيحات التي ترمي إلى تحرير اللغة وتطويعها لمقتضيات العصر، على أساس أنها لغتنا التي ورثناها عن الأسلاف ولنا حق التصرف فيها بما ينميها ويجعلها تساير الحياة، وليست (عيناً موقوفة) يلتزم فيها شرط الواقف. وخدمة اللغة لا تكون بالتشدد فيها والوقوف بها عند الحدود الجامدة، وإنما تكون بتسهيلها وتوسيع آفاقها، لتكون لغة مرنة محبوبة. والتجارب تداما على أن التشدد لم يجد نفعاً إزاء الاندفاع الذي يخضع للقوانين الطبيعية، فكم نبه المنبهون وكم صحح المصححون دون أن يلتفت إليهم أحد، فالمتحف لا ينطق إلا بالفتح، ولم تتجنب الألسنة والأقلام الزهور والنوادي والأحفاد والفشل. . . الخ، فماذا يضير اللغة لو أقررنا هذه الكلمات وأمثالها مما شاع جريانه على الأقلام واكتسب حق الحياة بكثرة الاستعمال؟ على أننا رأينا مدلول الكلمة الواحدة قد تغير وتطور في العصور المختلفة، فماذا لو أضفنا إليها مدلولاً جديداً؟
وهذا المجمع يعني نفسه بالمصطلحات الطبية والعلمية وغيرها منذ سنوات، وقد وضع من ذلك كثيراً، أكثره غريب ثقيل ليس من المنتظر أن تستعمله الجامعات والهيئات العلمية، ولست أدري لماذا لا تظل هذه المصطلحات بأسمائها كما وضعها أصحابها؟ ولماذا لا نسهل على كلية الطب مثلاً بإقرار هذه المصطلحات كأعلام للأشياء التي وضعت لها على أن تكون الدراسة فيها باللغة العربية من حيث التعبير والتركيب المكون للجمل العربية مع الاحتفاظ بالأسماء كما هي؟
وأنا لا أستطيع - بعقلي البحت - أن أفهم لماذا نغير الأسماء وقد وضعها أصحابها عند ولادة مسمياتها فصارت أعلاماً عليها. أليس من حق الوالد أن يسمي ولده بما يشاء؟ فكذلك الصانع والمخترع، إننا لا نغير أسماء الأجانب الذين يأتون إلى بلادنا فلماذا نغير أسماء الأشياء التي ترد إلينا من الخارج؟
وتبرز لنا هنا كلمة (التعريب) التي قالوا بأنها الملجأ الأخير لإدخال الكلمة الأجنبية في اللغة العربية، جرياً على ما فعله العرب في العصور المتقدمة. أريد أن أسأل: لماذا عرب(885/47)
العرب الكلمة المعربة ولم ينطقوها كما هي في لغتها ألم يكن ذلك ضرورة لسانية لعدم قدرتهم أو اهتمامهم بصحة النطق الأعجمي؟ وقد كانوا يفعلون ذلك بأسماء الناس والبلدان وسائر الأشياء. أما نحن فإننا نهتم بنطق اللغات الأجنبية ونجتهد في إجادتها، فلماذا إذن نعرب الكلمة الأجنبية؟ وما هي الضرورة الداعية إلى ذلك؟ ولماذا نقصر التعريب إذا كان له وجه على أسماء الأشياء دون أسماء الرجال والنساء والبلدان التي ننطقها كما هي ولم يفكر أحد أو لم ير أحد موجباً لتغييرها بتعريب أو غيره؟
إن حياة اللغة في تراكيبها وجملها، وليس يضيرها، بل يفيدها أن ننطق ونكتب الأسماء والأعلام والمصطلحات الأجنبية كما وضعها أصحابها، فإذا قلت سمعت الراديو، أو تحدثت بالتليفون، أو قدم المستر سميث: من لندن، فإنك تتكلم كلاماً عربياً فصيحاً لا شك في ذلك. ومن الصور العجيبة والمضحكة لذلك التشدد في اللغة، أن معلم الإنشاء في المدارس لا يقبل من التلميذ أن يكتب الراديو والتليفون والسينما، فإذا وجدها في الموضوع بدل بها المذياع والمسرة والخيالة. ووزير المعارف الحالي معالي الدكتور طه حسين يكتب الراديو والتليفون والسينما، فهل يخطئ التلميذ إذا كتب مثل وزير المعارف؟
عباس خضر(885/48)
البريد الأدبي
في النظم الجامعية
يحسب الناس - كما كنت أحسب مثلهم من قبل - أن أمر التعليم الجامعي الذي هو أرقى درجات التعليم العصري في بلادنا يسير على منهاج قويم لا عوج فيه لا من حيث المناهج والبرامج، فهذا ما ليس من حديثنا اليوم، ولكن من حيث النظم الإدارية، ولكن من يدنو من كليات الجامعة ويذوق مرارة أعمالها يجد أنها تسير على نظم عقيمة لا تتفق مع الروح الجامعية في شيء ويستيقن أنها وقد انقضى عشرات السنين على إنشائها لا تبرح تتبع في النظم ما يتبع في المدارس الابتدائية!
فهذا طالب ينطق تاريخه الدراسي باجتهاده ونبوغه، لم يقبل بالطب البشري بالإسكندرية من أجل نصف درجة! في علم لا يتصل بالدراسة الطبية في شيء، فشق عليه ذلك، وما كاد يعلم أن الدراسة الإعدادية بكلية طب قصر العيني عامة للبشري والأسنان معاً، وأن توزيع الطلبة فيها سيجري حسب ترتيب النجاح في امتحان هذه الدراسة حتى سارع إلى التحول إليها، ليزاحم بمنكب الجد طلابها، ولم يقنع في امتحان هذه الدراسة بأقل من درجة (جيد جداً) وهي درجة لم ينلها معه إلا قليل، ومن ثم أيقن أنه بهذا التفوق قد أصبح له الحق كاملاً في دراسة الطب البشري.
ولكن ما كان أشد دهشته لما وجد أن هذه الكلية تحول بينه وبين هذه الدراسة، وهاله أن يراها وهي تصده - على تفوقه - عن هذه الدراسة قد أتاحتها للمتخلفين وراءه في النجاح من زملائه حتى الذين لم يستطيعوا أن ينالوا إلا درجة مقبول. . . وما كان هذا الظلم والعنت لا لأنه كان يزعمها مقيداً بالإسكندرية على طب الأسنان أي قبل أن يحول إليها! كأن حسن إسلامه وصالح أعماله لم يضعا عنه وزر الجاهلية ولا أغلالها!! وتلقاء هذا العنت والظلم لم يجد ملاذاً يفزع إليه إلا أن يلجأ إلى مجلس الدولة لكي ينصفه في هذا الظلم المبين.
وهؤلاء طلاب من مختلفي الكليات يبلغ عددهم مائة أو يزيدون تمنعهم كلياتهم من أداء امتحاناتهم بحجة عدم حصولهم على نسبة الحضور التي جعلتها نظمها شرطاً لأداء الامتحان كأنهم لا يزالون أطفالاً لا يختلفون إلى دروسهم إلا بعد أن ينتظموا طوابير في(885/49)
دخولهم وخروجهم!
هذه أمثلة من النظم الإدارية التي تتبع في كليات جامعاتنا المصرية في القرن العشرين! وكأن الله لم يرد أن يذر أمر هذه الجامعة الكبيرة على ما هي عليه من تلك النظم العتيقة والقيود البالية فقيض لها أخيراً رجلاً أوفى على الغاية في فقه العلوم القانونية وبلغ درجة عالية من الثقافة الذاتية ذلك هو الدكتور محمد كامل مرسي باشا فإنه ما كاد يتولى أمرها حتى أنشأ يعمل بعقله الراجح وفكره الثاقب على صلاح نظمها وتقويم ما اعوج من لوائحها لكي تتبوأ مكانها الذي تستحقه بين جامعات الأمم. فتراه مثلاً ما كاد يعلم بأمر هذا الطالب الذي ذكرنا أمره حتى عز عليه أن ينظر أحد غيره في شأن من شئون الجامعة أو يفصل في أمر من أمورها وأسرع فأقام نفسه مقام مجلس الدولة في الفصل في قضيته وبخاصة فإنه قد كان من قبل رئيساً لهذا المجلس، ولما درس هذه القضية وتبين له حق هذا الطالب واضحاً قدم أمره إلى مجلس الجامعة الأعلى فأقر بالإجماع هذا الحق وبذلك حفظ مستقبل هذا الطالب المتفوق، ولو أن غير هذا العالم الجليل في منصب مدير الجامعة لسكت عن قضية هذا الطالب ولسوغ سكوته أن الأمر قد أصبح بين يدي القضاء.
أما هؤلاء المائة من الطلاب فقد رأى هذا العالم الجليل أن من الظلم أن يضيع عليهم ما حصلوه من علم لأمور شكلية وقضى بحكمته أن يؤدوا امتحاناتهم أسوة بسائر زملائهم.
وقد جرى بيني وبين هذا العالم الحجة حديث في أمر هذا الطالب خاصة وأمر هؤلاء الطلبة عامة فكان من كلامه أن من الظلم المبين أن يحرم طالب متفوق مثله ثمرة جده واجتهاده، وما شأنه بالإسكندرية وقد انقطعت صلته بها فدرس بالقاهرة مناهج غير مناهجها على نظم مغايرة لنظمها؟ ولو نحن هضمنا حقه لقضيتنا على مستقبله ولعقدنا عقدة نفسية عنده تظل طوال حياته تعتاده
هؤلاء الطلبة كيف تمنعهم من أداء امتحانهم وقد أذنا للمعتقلين من إخوانهم أن يؤدوا امتحانهم تحت حراسة الجلاوزة؟
هذا بعض ما سمعته من حديثه؛ القيم وإنا بعد ذلك لنرجو مخلصين أن يوفق هذا العالم الجليل في كل ما يبتغيه من صلاح لهذه الجامعة في نظمها وعلومها حتى تبلغ المكانة اللائقة بها.(885/50)
محمود أبو ريه(885/51)
القصص
الضمير. . .
للأستاذ كمال رستم
كانت له في كل يوم معركة مع ضميره. وقد ألف أن يخرج منها وهو مثخن بالجراح. أنه كان يحرص دائماً على أن يظل عامراً ما بينه وبين الله، وعلى أن يظل عامراً ما بينه وبين ضميره. وهل الضمير إلا الرقيب الإلهي في الإنسان؟ كل يوم كلما خلا إلى نفسه كان يقف خاشعاً بين يدي هذا الرقيب كأنه في صلاة ويجلد لحسابه العسير الشاق ويترضا. ولكم سكب في سجدة التقى والورع من الدموع يغسل بها قلبه ويطهره مما علق به من الآثام والأوضار. وما كان يبكي بعينيه حسب، بل ألف قلبه أن يبكي أيضاً. وكان قانعاً في عزلة روحه المؤمنة بعيداً عن ضباب الشهوات. ولكنه لم يكن سعيداً. ومتى أدت القناعة مفهوم السعادة؟
ولكن الصلة التي بينه وبين الله تعرضت آخر الأمر لامتحان رهيب. إنه منذ نزل على إرادة أمه، وبنى بالزوجة التي تخيرتها له، وهو يجتر الألم، ويحتضن الأفكار السود! بدا له أنه ودع حياة السعادة والأمل إلى غير رجعة؛ وأنه تناول بيده الراعشة الكأس التي مزاجها علقم وصاب؛ وأفرغها في جوفه! وأحس بعد خدرها أن بينه وبين الله بعيد بعد ما بين السماء والأرض. ولم يعد يجد في وحدته الشاعرة فردوسه المفقود. بل رأى بعينيه ريح الشهوات وهي تكاد تعصف بغرسه إيمانه. وأخرجت الذاكرة أحزانها كلها ونثرتها بين يديه! ذكر أنه لم يستشعر لزوجه أضعف الحب؛ وذكر أنه حاول أن يروض نفسه على حبها ويرضى بنصيبه المقدور. ولكن ذهبت محاولاته كلها قبض الريح! فإن زوجته لم تكن حتى على الجانب اليسير من الجمال.
وإنه لذلك بات يضبط في كل دقيقة نظراته المنهومة؛ متلبسة بجريمة اشتهاء وتطلع. أو ليس إنساناً قبل كل شيء؟ لقد حاول منذ تزوج أن يقتل الإنسان فيه ليظهر الملك! وأن يقطع صلته بالأرض ليصل بالسماء. ولكم يعاوده الجهد من جراء ذلك ولم يبلغ أربا.
وكل ما ناله أنه لم يعد في الناس واحداً منهم، ولم يرق إلى السماء ليصبح من أهلها. وآذاه أن يعيش هكذا حائراً بين المنزلتين ونازع نفسه التحرر من هذا الرقيب وأن يقضي في(885/52)
نفسه وطراً.
فتعب عيناه من جلال هذا الجمال الماضي ويقبس ومنه قبساً. . . وكان يجد نفسه في غير وعي ولا إدراك يقابل بين زوجه وبين ما يصادفه من النساء الجميلات ويخرج من المقابلة وقد أيقن أنه إنما يعيش على هامش الحياة. . . وكانت نظراته الراغبة تبدأ من الشعر المعقوص ولا تزال تنحدر على الجسد البلوري حتى تفنى مع القدمين الجادتين في المسير! ويعود من رحلة بصره وقد أحس برسيس الحرمان ومضاضة الألم، ويكاد يكفر بالقيم الخلقية التي يمرض بها نفسه. . . ويخيل إليه أن السبيل الوحيدة إلى التخفف من آلامه الممضية أن يلقي بنفسه بين ذراعي امرأة!
ولكنه لم يفعل ذلك فإن الحارس الضمير كان لا يغفل أبداً. كان يرصد سيئاته ويحاسبه على النظرة النهمة حتى ترتد منيبة مكفرة. . .
. . . حتى كان ذلك اليوم الذي شعر فيه أن الخواء الذي رافق حياته قد صاحبه عقم زوجه! لقد كان وكده أن يكون أباً. . . وأن تعزيه الأقدار عن حياته المنقبضة إلى جانب زوجه بطفل يؤنس وحدة روحه! ويسكب في حبه له عصارة الحنان الأبوي الذي لم تتدفق منه قطرة!
ولكن هذه الأمنية لم تشأ الأقدار كذلك أن تهادنه فيها. ويا لها من سخرية - قوضت حياته وأطلعته على الجدب الذي يمرع فيه! ويا لمنطق الضمير حين يتكلم فيه معتذراً عن زوجه بأن عقلها إن هو إلا إرادة عادلة وحكمة كبرى ليس للعابد القانت أن يناقش فيها أو يجادل. ولكنه كفر لأول مرة بمنطق الضمير. وراح يتلمس السبيل إلى الثورة المجنونة التي لا تبقي ولا تذر! لقد مني بزوجة عاطل من الجمال، وكأنما لا يكفي هذا! أبت الأقدار إلا أن تصيب الزوجة كذلك بالعقم والجفاف لتكمل مصيبته!. . ولكن الله أورثه الفرج من الضيق. وحرك بفيض كرمه الجنين في أحشاء الزوجة. .
وهاهو ذا. . . ينتظر بين دقيقة وأخرى أن تصافح عيناه وجه طفله الأول. لقد أطل على زوجته منذ لحظات. واستملى من وجهها نظرة عابرة وهي راقدة في الفراش مخرورة الجسد، منهوكة القوى. . . مهدومة!. . ورآها وهي تجالد آلام الوضع المبرحة. . . وتمتم وهو لا يقوى على أن يصعد إليها بصره:(885/53)
- يا لها من بطلة!
وتزاحمت الصور في رأسه، وبرزت من بينها صورتها منذ تحلل بها المرض ولزمت الفراش. لقد ألف أن يراها تعاني في صمت. . . لا تشكو ولا تألم. فقد كان يرى في عينيها المجهد حكاية الألم كلها مختصرة في نظرة!. ولشد ما قاسى وقتئذ من وخز الضمير. . . حتى ود لو يستطيع أن يهرب من نفسه وينزوي عن هذا الضمير في مكان بعيد. .
. . وأخرجه من تأملاته المطرقة صوت الخادم تنبئه بأن زوجه بعثت بها في طلبه. . ومضى إلى غرفتها وهو يتعثر في خطواته؛ وسمعها تقول في صوت كأنه من فرط الإعياء همس:
- إني أتألم. .
. . . وأجابها وهو يتلمس صوته:
- تشجعي. . . سأحضر الطبيب!
وأرتد عنها إلى غرفته وارتدى ملابسه وخرج!
وصحبته أفكاره طول الطريق. . . وقفزت زوجته إلى رأسه. . . واستعرض على ناظريه حياته الشقية معها. . . ذكر أنه لم يكن يحيا معها إلا بجسده فقط، فإن روحه كانت تعانق أشباح أحلامه! وآخته حيرة مضنية حينما فطن إلى ما هو بسبيل أن يفعله. . . أو ليس هو في طريقه إلى الطبيب ليسهل لزوجه وضع طفل يربط حياته بها إلى الأبد؟
- الطفل!
أو لم يكن وكده أن ينجب طفلاً يؤنس وحدته؟ فما باله لا يهتز الآن لمقدمه ولا يطرب؟ وأحس بكل شيء يتثاءب من حوله. حتى خطاه تثاقلت هي الأخرى وتقاربت حتى كأنه لا يمشي وغافلته خاطرة فذة إندست بين خواطره لها همس حبيب
- لو أن زوجه تموت في هذه اللحظة!
. . . وعبثاً جاهد في أن يتحرر من هذه الخاطرة الجديدة التي سكنت رأسه ورأى نفسه بعدها وقد استسلم لشعور وافد حبيب. . .
- نعم لو أنها تموت!. . . إذن لتزوجت بعدها من فتاة سابيه الحسن آسرة الجمال!
. . وكان قد بلغ منزل الطبيب فرد عنه أفكاره. . . وعاد به إلى البيت.(885/54)
وتقدم الطبيب من فراش المريضة ووقف هو على رجع البصر منها يثني إليها نظرة. . . رآها كما تركها راقدة في الفراش لا تقوى على حركة، في وجهها الألم، وفي عينيها أثر السهاد والأرق، وفي شفتيها زرقة رهيبة. . . وكانت تتنفس بصعوبة حتى خيل إليه أنها عدمت النفس. . . وشاءت أن تتكلم، إلا أن الكلمات ماتت: شفتيها وتمتم على ترى ماذا تريد أن تقول؟ وأحس كما لو كانت نظراتها أغلالاً تطوق عنقه. . . وأن جو الغرفة لم يعد صالحاً لتنفسه فتسلل هارباً إلى غرفته! ووقف وراء النافذة! وكان الهواء ساكناً فلم يرعش أوراق الأشجار القائمة على خفافي الطريق. . . والقمر على مستقره السماوي يبعث إليه إرسالاً من النور. . . وأشعل دخينة راح ينفث دخانها. . . وقد بدا له كل شيء الآن في إطراقه الصمت والسكون. . . حتى تفكيره كان هادئاً ساكناً فلم تبرق فيه فكرة، وأخرجه من هذا الصمت الذي أن على المكان صوت الطبيب يدعوه - فمضى إليه، وتهادى إلى أذنيه صوته وهو يقول:
- ينبغي أن أصارحك بأن الوضع عسير جداً. وأنا بين اثنتين إما أن أضحي بالطفل لأنقذ الأم، وإما أن أضحي بالأم وأنقذ الطفل. وقد رأيت التمس عندك صواب الرأي.
وشاعت الفرحة في قلبه فقد استجابت السماء آخر الأمر دعاءه وتسلف النظر إلى الأمام فتخايلت لعينيه حياته الجديدة الموهوبة. وأنصت إلى هاتف من أعمق قلبه يهتف به.
- قل: أنقذ الطفل. أو ليست هذه هي الفرصة الموهوبة التي لبثت على انتظارها الشهور الطوال. أو لم تكن تتشهى منذ لحظة أن يعجل الله بوفاتها لتنطلق من إسارها لتبنى بعدها بعذراء جميلة. تطارحك الحب - قيل أنقذ الطفل تملك ناصية السعادة وتحقق غارب أمانيك. وصعد إلى الطبيب رأساً أثقله الفكر وقال: سيدي. . أنقذ الأم!
كمال رستم(885/55)
العدد 886 - بتاريخ: 26 - 06 - 1950(/)
سياسة التعليم. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
ليس أجدى على الوطن من اتخاذ الوسائل لتحقيق الاستقرار شتى المرافق الحيوية، وبغير هذا تضطرب النفوس، وتنعدم الثقة، وتشتد حملات الانتهازيين. وعواصف المتربصين، مما يحدث خلخلة لا تؤمن عواقبها.
وسياسة التعليم أحق من أي سياسة بالثبات والاستقرار ولا سيما في جوهرها، إذ أن سنة التطور تجري على الأعراض والحواشي دون اللب والصميم.
ومصر التي تدور في فلك الديمقراطية، وتصدر في سياستها العامة عن وحي مبدئها العام (الأمة مصدر السلطات)، وتتميز بطابع الاستقرار، جدير بها أن تمضي إلى النهاية فيما نحن بسبيله من اعتبار القائمين بأمر التربية والتعليم مسئولين أولاً ن استجابتهم لروح الأمة في كل تشريعاتهم.
والمصدر الأول في للسياسة التعليمية هو: المعلمون أنفسهم، فهم - بما تزودوا به من علوم التربية، وبما اكتسبوه من تجارب مهدت لهم سبل النجاح في مهمتهم - قادرون على أن يغيروا المصادر العليا بآرائهم ومقترحاتهم.
ولن يتحقق هذا إلا إذا كان للمعلمين صحيفة شهرية - إن لم تكن أسبوعية يتبادلون فيها مشاكل المهنة، ويتناولون أحدث نظرياتها، على شرط أن تكون بعيدة كل البعد عن الميدان الحكومي البحت، بل يجب العمل علة كفالة حيدتها وحريتها، ونجاتها من الهزات الحزبية العنيفة
كما ينبغي عقد مؤتمرات دورية يتدارسون فيها أمهات المشاكل والتشريعات، لنضمن بذلك تنسيق الجهود بصدد القرارات المتخذة في كل وجه من وجوه الإصلاح.
وهذا يقضي كل معلم أن يقدم كل شهر تقريراً عن ملاحظاته ومقترحاته بصدد المادة التي يدرسها، والكتب المقررة فيها، ومدى تأثر المتعلمين بالبرامج الموضوعة، والنظم المدروسة، والنشاط الاجتماعي عامة، ومقدار التعاون بين المدرسة والبيئة.
ولن يثمر مثل هذا الجهد إلا إذا قامت الوزارة من جانبها بدراسة هذه التقارير وتحليلها وتنسيقها وتصنيفها حتى تكون أرقاماً ناطقة بلغة الإحصاء، وهذا ألصق باتجاه إدارة(886/1)
البحوث الفنية من أي جهد تضطلع به الآن. .
والمصدر الثاني للسلطة التعليمية هو الآباء والأمهات، فما أحوج المشرعين في النظم التعليمية إلى التعرف على شكاوى المنزل، والوقوف على ميول الفتيان والفتيات نحو المادة العلمية، وصنوف المعلمين، وألوان النشاط. .
والمدرسة والمنزل كلاهما مرصد يسجل فيه المعلمون والآباء بمعاييرهم الحساسة وقائع - إذا وضعت بمادتها الخام تحت النظر الفاحص أنبأت عن تيارات قد نرضاها فنطمئن إليها ونشجعها، أو نخشاها فنجهد في تجنبها وعلاجها بالحكمة والسداد.
ولما كان المتعلمون هم أصحاب الشأن الأول في الموضوع فقد وجب استخدام (منهج الاستفتاء) المعروف خطره في العلوم السيكولوجية والاجتماعية: وذلك بتوجيه أسئلة مطبوعة منظمة تنظيماً منطقياً نفسانياً، مع فحص الأجوبة عنها بكل عناية. . وبهذا لا يحرم المشروع من الاتصال المباشر بمن سيشرع لهم، وعندئذ تكون النظم المختارة ناضجة غاية النضج، لأنها في الغالب العام من أصداء النفوس في طوابعها ونوازعها.
ويبقى بعد كل ذلك ما يصح لنا أن نسميه (فلسفة التوجيه). فإنه إذا اقتصرت مهمة المدرسة على التلقين الإكراهي، وحشو الدماغ ثم استفراغه مما عسى أن يكون قد علق به من المعلومات طولاً وعرضاً، فليس يعدو الأمر أن يكون سخرة منظمة: إذ يتجرد المدرسون من ميكانيكاً لترويض حيوانات ناطقة على حساب التربية والتعليم والتثقيف دون اعتبار للكسب والخسارة.
والخطر محدق من غير شك بالمجتمع أولاً وأخيراً: ذلك بأن التعليم يجب أن يسير وفق (الروحانية) المرنة لا نحو (الآلية) الجامدة، وأن يتوخى (الإيحاء) لا (التلقين).
وإذا ننتهي إلى اللغة الإحصائية حسب المنهج الاستقرائي المتبع، نرى أنفسنا مقيدين بروابط طبيعية هي (القوانين) الصارمة التي لا مناص من الاعتراف بها، والعمل على تنفيذها في ثقة واطمئنان، وأمانة وتسليم.
ومن المحقق أن الآفاق التي تفترض القوانين أياً كان نوعها هي الأوضاع التي نشأت عنها المجتمع المتميز بخصائصه ومشخصاته جغرافياً واقتصادياً واجتماعياً مما لا يدع مجالاً للشك في أن كل تفرد بالرأي أو تقليد لنظام أو احتكار لسياسة أو التحكم في فرض، تحت(886/2)
حماية السلطة القائمة المخولة لن يقدم شيئاً في مجال التعليم، بل مصير ذلك خسارة في الوقت، وتقهقر إلى الوراء.
حقاً إن مصر قد درجت منذ كانت على الاستقرار أو بحكم أوضاعها، ومع ذلك فهي بحاجة إلى الأناة في استخلاص (الجوهر النفسي) من خاماتها التي تألفت منها وحدتها، وصيغ كيانها على مر السنين وتوالي الأحكام، وليس ما يمنع من الاقتباس ولكن بكل بحذر، ومن غير ارتماء في أحضان الأنظمة التي ترضي الثقافة الخاصة، والهوى الشخصي.
ولن تعوزنا بعد ذلك سبل الاختيار وبرامج التنفيذ، مادمنا نعترف بأننا أمة شرقية للفرعونية والإسلامية في دمائنا كرات حمراء وبيضاء، وللحضارة الحديثة أصداء غير شلاء.
أن التفاهم على معالي الأمور من أشرف ما تتسم به الروح الديمقراطية إن لم يكن من أقدس الواجبات الوطنية التي تتعالى على الأهواء والأشخاص.
وعلى هذا السنن درج السلف الصالح من الملوك والمربين (وأمرهم شورى بينهم) وليس أدل على هذا من كتاب هارون الرشيد إلى علي بن الحسن معلم ولده الأمين وفيه يقول (ولا تمعن في مسامحة فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالغلظة والشدة) وهكذا كان الملوك شركاء للمعلمين في تربية الأمراء. وهكذا يجب أن تتعاون جميع المصادر لوضع سياسة الاستقرار في التعليم وإلا فالنتيجة اللازمة مجرد آراء وردود وتعليقات وتحزب وتعصب، وتشكيك للرأي العام، وضياع للأجيال القادمة بينما أهل العقد والنقد بمنأى عن الأمر الخطير.
محمد محمود زيتون(886/3)
صور من الحياة:
قلب أب!
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
. . . وتبعتكم - يا صاحبي - بعبراتي، وأنا إذ ذاك صبي مغلول اليد واللسان، فرأيت أطفالاً ثلاثة شردتهم القسوة ففزعوا عن دار أبيهم في ذله وانكسار، وقد هدهم الأسى وأضناهم الحزن وأرهقهم الجوع، على حين قد سمت نفوسهم العالية عن الشكوى وتأبت نوازعهم الرفيعة على الضيم.
وترفعت رجولة الطفل فيك عن أن تنفض أحزان قلبك بين يدي أي رجل من ذوي قرابتك، لأنك في نفسك فوق كل رجل قدرة ويساراً، وأنفت من أن تتحدث بالحادثة الوضيعة لواحد من أهلك خشية أن تحطم كرامة أبيك أو أن تضع من كبريائه. فعشت ساهة من زمان تتخبط في تيه الأفكار المضطرمة لا تهدأ ولا تهتدي، ثم دفعك عقلك الصغير إلى العزبة التي خلفت لك أمك، وهي على خمسة أميال من القرية، فانطلقت أليها - في صحبة أخويك - تغذ السير كأنما كنت تهرب من شبح مخيف يتقصص أثرك. . شبح القسوة التي حرمتك الطعام أحوج ما تكون إليه.
اليوم صائف تتلهب وقدته، ويتوهج أواره، وتتضرم هواجره، وأنت على الطريق لا تستشعر لذة الفيء ولا هدوء الراحة، تطوي السبيل في عزم وشجاعة، يصيبك البهر والتعب فلا تنكص ولا تستسلم، وهمتك تدفعك إلى الغابة؛ وأنا أتبعك بعبراتي؛ وأبوك هناك على السرير يغط في نومه، يستجم من عناء ويستريح من نصب، ولا يحس شيئاً مما تجد أنت وأخواك.
وبلغت العزبة، غير أن الأقدام الصغيرة الناعمة كانت قد دمغها الطريق الوعر الطويل بعلامات ما تزال مرتسمة هناك تذكرك بهذا اليوم. . . باليوم الأغبر.
وهذا الوجه البض الرقيق كان قد زفرت عليه الهاجرة فصبغته بلون قرمزي يشهد بأن القسوة أخت القتل.(886/4)
وهذه الطفولة الفضة اللينة كانت قد تهالكت من اثر الجهد والعناء، وتضعضعت من طول الضنا والنصب؛ غير أنها استحالت عند نهاية الشرط إلى صلابة رجل شديد يصارع فيغلب ويناضل فيصبر.
وهبطتم العزبة التي تركت لكم أمكم لتأمر في صوت رقيق فيه رنات الطفولة، ولكنك كنت تجهد أن تنفث فيه صرامة الرجل وخشونته، وأنت ما تزال صبياً لم تبلغ بعد سن الشباب.
ورأى الفلاحون الذين غمرهم فيض أهلك، ولبسوا ثوب النعمة من سخاء أبويك. . . رأوا أبناء سيدهم يتكفأون من أثر الابن والضنا، وعليهم سمات الأسى والضيق، فنظروا ثم أطرقوا. وأطرق من بينهم شيخ كبير وهو يقول (لا حول ولا قوة إلا بالله) ثم تتابعت على خديه عبرات حرى لم يستطع أن يكفكفها ولم يستطع معها صبراً، فطار إلى ناظر العزبة يخبره خبر الصبية الأثرياء الذين أرغموا على أن يقطعوا الأميال الطوال سيراً على القدم، والحر ينضج جلودهم ويؤذي عيونهم ويرهق جلدهم؛ الصبية الذين ذاقوا على حين غفلة مس الجوع والقسوة والتشرد.
جاء ناظر العزبة مهرولاً يخب في ثوبه الفضفاض، واندفع نحو الصبية يربت على أكتافهم في رقة وحنان. ولا عجب فلقد كان هو - منذ زمان - طفلاً نبذه أبوه فما يسبغ عليه من عطفه، ودعته زوجة أبيه عن الدار التي ولد فيها فما تفيض عليه بلقمة ترد من سغبه ومن ذلته. ولكنك - يا صاحبي - ترفعت عن أن تستشعر روح الطفولة في وقت الشدة، فدفعته عنك في قوة فارتد وفي عينيه عبرات. ثم انتحيت ناحية تأمر بصوت أجش خشن (أنا الآن هنا سيد هذه العزبة!) فقال الرجل (نعم يا سيدي، ومن قبل). ورحت تأمره وهو يحاول أن يستشف جملة الخبر بين ثنايا طفولتك التي لا تعرف المكر ولا الخداع ولكنك كتمت عنه الحديث خشية أن تحطم كرامة أبيك أو أن تضع من كبريائه.
يا عجباً لهذه الرجولة الباكرة! إن صفعة واحدة من صفعات القسوة الجافية قد حلفت منك - با صاحبي - رحلا في أهيب طفل.
وأقبل الليل، فاستسلمت - في وحدتك - إلى خواطر هادئة لطيفة، والأفكار الجميلة تداعب روحك لأنك تنسمت روح الحرية والراحة، وبدا أنك نفضت عهد الإسار والخضوع عهد الحاجة والطلب، عهد الطفولة المقيدة بأغلال الأبوة الظالمة، وتراءى لك أنك أصبحت سيد(886/5)
هذه العزبة وسيد هذه الدار وسيد هذا القوم، وأنك تأمر فيخضع الصغير وتنادى فيلبي الكبير، وأن قلبك قد ملأته السيطرة وأن جيبك قد أفعمه المال. ولكن نفسك لم توسوس لك بأن تندفع في شهوة وضيعة، ولا أن تسعى غلى لذة تافهة، ولا أن تنغمر في نزق طائش، لأنك نشأت في بيت فيه الدين والورع فأنصرف قلبك عن الغواية وتحولت نوازعك عن المجون.
وعشت ساعة في خواطرك الجميلة الهادئة ثم غلبك النوم يا للطفولة البريئة! لقد نسى الصبي - حين شعر بالهدوء والراحة - أنه يعاني محنة ضخمة عاتية، نزلت به على حين فجأة فأفزعته عن أبيه وعن أهله وعن داره في وقت معاً. لقد نسى ما حواليه فاستقر في طفولته البريئة الصافية يحلم ويبسم.
أما في القرية فماذا كان هناك - يا صاحبي؟
كادت أستار الليل تنسدل فتلف أرجاء القرية في الظلام والسكون، وأبوك في شغل لم يجد فقدك، ولم يحس وقع القسوة التي ضربك بها منذ ساعة. وأنى له أن بفعل وهو يراك لا تطمئن - أبداً - إلى الدار إلا حين يصيبك النصب والجهد من طول اللعب والجري، ثم هو قد أمر زوجته أن تمسح غلطته فترسل إليكم الطعام الذي رفعه من بين أيديكم ولكنها أبطأت وتراخت. انسدلت أستار الليل والدار خالية من عبثك خاوية من لهوك وضجتك، فشعر أبوك بأنك لست هنا، فأرسل من يفتش عنك في أنحاء القرية. وجلس هو إلى نفسه وقد تيقظ ضميره وتقلب قلبه. . .
وترامى إلى خالتك أن أباك قد قسا عليكم قسوة أفزعتكم عن الدار، وأن الدار قد لفظتكم إلى حيث لا يعلم إنسان.
وصرخت خالتك من هول الخبر صرخة اهتزت لها أركان الدار، ثم اندفعت إلى الشارع عارية الرأس حافية القدم وهي تصرخ صراخاً فيه الفزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. اندفعت السيدة الثرية التي لم يرها الشارع منذ أن كانت طفلة إلا من وراء حجاب. . . اندفعت إلى الشارع عارية الرأس حافية القدم، لم يستطع واحد من أهلها أن يردها عن الغاية التي تريد. ودخلت خالتك بيت أخيها خالك تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى؛ وهو من بيت فيه السطوة والجاه، وفيه السلطان والثراء،(886/6)
وفيه القوة والشهامة وفيه الكرم والدين. . .
وارتجت القرية كلها لما كان فأنساب سيل من أهلك إلى داركم يستجلي الخبر وينحي باللائمة على أبيك الذي نسى أبوته ساعة من زمان، على حين قد صننت أنت بكرامته أن تخدش، وصنت كبريائه عن أن تتضع.
ودخل خالك داركم وقد أربد وجهه واضطربت أعصابه وحبس الغضب لسانه. . . دخل وهو يعجب مما سمع، وفي رأيه أن أباك رجل عقل وين لا ينحط أبداً غلى هذه الهاوية.
دخل خالك الدار التي لم يدخلها منذ أن ماتت أخته الصغيرة العزيزة أمك، دخلها هائجاً يهدر، فبدت له صورة أخته الصبية الشابة وهي تضطرب في أرجاء الدار جميلة نشيطة جذابة، فاستحال غضبه إلى حزن عميق يخز قلبه وخزوات قاصمة. ولكنها الآن تبدو في خياله لكي تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى؛ فاستشاط غيظاً وثورة.
فماذا كان منه - يا صاحبي - وماذا كان من أبيك!
كامل محمود حبيب(886/7)
صوم رمضان بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
يقبل اليوم قراء (الرسالة) الغراء في أطراف العالم الإسلامي على شهر رمضان ويعانون فيه جهاد النفس بالصوم الذي هو من أركان الإسلام ودعائمه. فلنتحدث عنه وعما ترك في الأدب العربي من اثر. ولنستعرض ما قاله علماء الفسلجة والأطباء في أثر عموم الصوم في الجسم. فما أحرانا أن نشارك القراء الكرام فيما هم فيه من هالة نفسية فنخوض غمار البيئة الروحية التي يعيشون فيها؛ ولنواكب خطوات شهر رمضان في الأجيال الإسلامية وما قاله الأدباء فيه في شتى عصور الإسلام وما أثار في نفوس المتمردين على شريعته الأدبية وقيودها ولجمها، وما بعث فيهم من ثمرة عارمة على شهر تحرم فيه اللذات الجسمية وتحدد إذ ينجرف المجتمع الإسلامي في تيار سلسلة من العبادات حيث يتغلب التزمت والقار على الخلاعة والاستهتار؛ ثم لنتحدث عما تضمنه الصوم من التربية الإسلامية إذا روعي فيه تقوية الوازع النفسي وكف غارب الشهوات وتقييد الأهواء الجامحة إذ لا ريب أن تقيد المرء نفسه باتباع نظام معين واستطاعته في تنفيذ تصاميمه وتطبيق خططه لأمر فيه أسمه مظاهر الفضيلة، فليس أغلب الرذائل التي تهوي في حمأتها النفوس إلا نتيجة جموح فيها فلا يجد المرء في طاقته كفاءة لكبح ثورتها وإرجاعها إلى مأمنها فإذا تدرب المسلم في الصوم على إلجام النفس وردعها عن شهواتها فقد قطع شوطاً بعيداً نحو المثل العليا وحلق عالياً عن مهامي كثير من الجرائم التي يبعثها تسلط العاطفة على العقل وتغلب الشهوة المتمردة والرغبة الحمقاء. وقد سبق الإسلام إلى تشريع الصوم شرائع سماوية قويمة وذلك ما تقوله الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم).
قال الطبرسي الشيخ أبو الفضل بن الحسن من القرن السادس الهجري في تفسيره (مجمع البيان) في تفسير هذه الآية أي فرض عليكم العبادة والمعرفة في الشرع ككتابتها على من سبقكم وفيه أقوال أحدها أنه أشبه فرض صومنا بفرض صوم من تقدمنا من الأمم أي كتب عليكم صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيام، فليس فيه تشبيه عدد الصوم المفروض علينا ولا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم أو وقته، وهو اختيار أبي سلم والجبائي. وثانيهما(886/8)
أنه فرض علينا صوم شهر رمضان كما كان فرض صوم شهر رمضان على النصارى، وكان يتفق ذلك في الحر الشديد والبرد الشديد فحولوه إلى الربيع وزادوا في عدده عن الشعبي والحسن. فالمراد بقوله الذين من قبلكم النصارى على قول الحسن والشعبي. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى على قول غيرهما.
وقال الشيخ نعمان أفندي آلوسي زاده من وعاظ الأتراك في كتابه (غالية المواعظ) في تفسيره الآية أي كما كتب على من سبقكم من الأنبياء عليهم السلام والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم. واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو فقيل قدر الصوم ووقته؛ فإن الله تعالى كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيروا. وقيل وجوب مطلق الصوم.
وأقول أنه لا ريب أن في الصوم تربية صالحة للنفس وفيه تدريب لها على العفة والكف عما لا تبيحه الشريعة الأدبية ويأباه النظام المتبع وأن شهر رمضان من خير الأوقات للتعود على ضبط النفس ونعني به اعتدال الميل إلى اللذائذ وخضوعه لحكم العقل وليس ذلك مقصوراً على اللذائذ الجسمية بل يشمل أيضاً اللذات النفسية كالانفعالات والعواطف فلا يسمى الشخص ضابطاً لنفسه إلا إذا اعتدل في لذاته الجسمية من طعام أو شراب واعتدل في انفعالاته النفسية فلم يغضب لأي دافع. وكثير من الرذائل يرجع سببه إلى عدم المقدرة على ضبط النفس الذي يدعوه الإنكليز
ويجعلون له إلاهيته الكبرى في صلاح سيرة المرء وسلوكه. وقد اشترط في كمال الصوم مراعاة آدابه ومنها كف الأذى عن الناس وضبط العواطف. وأن من الأمور التي تتردى في أوبائها إذا أضعنا ضبط النفس الشراهة والدعارة والطمع والإسراف والغضب والسخط والثرثرة والإدمان على المسكرات والقمار وارتياد المراقص ومسارح الخلاعة والتهتك. والصوم إذا عود المرء على ضبط النفس أداه إلى فضيلة عالية تجعله سيد نفسه وترفعه أن يكون عبداً لشهواته تسيره كما تشاء وقد حض الصائم على نبذ السفاهة وكف الأذى عن عباد الله ومن ذلك قول الشاعر الإسلامي جابر
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي من صومي هو الجوع والظمأ ... وان قلت أني صمت يوماً فما صمت
قال في المنجد: تصون وتصاون من العيب حفظ نفسه منه فالشاعر يدعو كف كل الحواس(886/9)
عن كل ما تقوم به من جرائم. قال في الغالية: واعلموا أن للصيام آداباً كثيرة فمنها أكل الحلال والإفطار على الحلال ومنها كف الأذى عن الناس ومنها عدم سماع اللهو والغناء المحرم وعدم سماع القصص المحرمة في الأماكن المذمومة وترك الكذب والغيبة والنميمة وغض النظر عن المحرمات وقد قال النبي (ص) من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ونقل الشيخ نعمان الآلوسي في (غالية الواعظ ومصباح المتعظ وقبس الواعظ) والشيخ شهاب الدين أحمد الأبشهي في (المستطرف في كل مستظرف) أنه قيل الصوم عموم وخصوص وخصوص الخصوص: فصوم العموم هو كف البطن والفرج وسائر الجوارح عن قصد الشهوة وصوم الخصوص هو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام وصوم خصوص الخصوص هو صوم القلب عن الهمم الدنية وكفه عما سوى الله بالكلية.
وجاء في تفسير الآية الكريمة من سورة البقرة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال الأردبيلي في (زيدة البيان) يعني أوجب الله وكتب أيها المؤمنون الصوم عليكم مثل كتابته على الذين من قبلكم، فما مصدرية ولعل التشبيه في أصل الصوم أو العدد والوقت أيضاً لكن غير كما في التفاسير - لحصول التقوى لكم به عن سائر المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة كما في الحديث من لم يطق الباه فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء: قال الطريحي في مجمع البحرين الوجاء بالكسر ممدود هو رض عروق البيضتين حتى تنفضخ فيكون شبيهاً بالخصاء وقيل هو رض الخصيتين شبه الصوم به لأنه يكسر الشهوة كالوجاء، والفضخ هو كسر الشيء الأجوف: روى ما تقدم في الكشاف للزمخشري وفي تفسير البيضاوي وقال الأردبيلي وأن في الصوم التغلب على القوة الغضبية وما يتبعها من الشرور إذ يحصل للنفس انكسار وعدم الميل وفقدان القوة والعزوف عما يضر ووجه ذكر وجوب الصوم على الأمم السابقة(886/10)
تسلية المؤمنين بهذا التكليف الشاق على النفس لأنه مناف لمشتهاها فيحاول توطين النفس على فعله وحسن قبوله. وقوله تعالى فمن كان مريضاً ظاهره مطلق المرض كما نقل عن البعض في الكشاف للزمخشري لكنه خصه بعض الفقهاء بمرض يضره الصوم كما تقتضي المناسبة العقلية وما يفهم من قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) قال الزمخشري في الكشاف وقيل هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه، ونقل عن الشافعي أن المريض لا يفطر حتى يجهده الصوم الجهد غير المحتمل. وقال الطبرسي في (مجمع البيان في تفسير القرآن) سأل هشام بن الحكم أبا عبد الله الصادق عن علة الصيام فقال إنما فرض الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، فأراد الله سبحانه أن يذيق الغني من الجوع ليرق على الضعيف ويرحم الجائع. قال الطبرسي والصوم في اللغة الإمساك ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد كل شيء سكنت حركته فقد صام صوماً، قال النابغة:
خيل صيام وأخرى غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي قيام، وصامت الريح أي ركدت وقال الآلوسي في الغالية: الصوم في اللغة مطلق الإمساك ومنه الآية الكريمة حكاية عن مريم العذراء إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً وسكوتاً عن الكلام كراهة لمجادلة السفهاء، ويقال أيضاً صامت الريح أي أمسكت عن الهبوب وصامت الفرس أي أمسكت عن العدو والركض ومنه قول النابغة المتقدم. وقال الطريحي في مجمع البحرين قوله تعالى (إني نذرت للرحمن صوماً) أي صمتاً، عن ابن عباس عن أبي عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام فهو صائم. وقال الفيروز بادي في القاموس صام صوماً وصياماً أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير فهو صائم وصومان وصوم جمعه صوام وصيام وصوم وصيم صيم وصيام وصيامي.
قال الطبرسي أن قوله تعالى فمن كان مريضاً الخ: فيه دلالة على المسافر والمريض يجب عليها الإفطار لأنه سبحانه أوجب القضاء ومن قدر في الآية (فأفطر) فقد خالف الطاهر وقد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب (رض) وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وعروة بن الزبير، وهو المروي عن الأئمة فقد روى أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً صام في السفر أن يعيد(886/11)
صومه وروي يوسف بن الحكم قال: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك ألا تغضب؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم.
ولقد اتخذ كثير من رجال الإسلام الصوم والجوع واسطة لتهذيب النفس وقمع شهواتها.
فمن كلام لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) يصف العارف أنه (قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه) وقد قال في شرحه ابن أبي الحديد سنة 655هـ أنه عليه السلام يصف العارف يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه وأمات نفسه بالمجاهدة ورياضة القوة البدنية بالجوع والعطش والشهر والصبر على مشاق السفر والسياحة حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف ولطف غليظه أي تلطفت أخلاقه وصفت نفسه فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد والبطنة كما قيل تذهب الفطنة.
وقد رأيت الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه (الإشارات) في الفلسفة وقد درسته في النجف الأشرف - يدعو إلى رياضة النفس وقمع شهواتها توصلا بذلك إلى رقيها ورفعها إلى مستوى العارفين.
وقال إبراهيم بن أدهم لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب النعمة ويفتح عليه باب الشدة، وقال أبو علي الروذباري إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالكسب. فتراه يطلب من الصوفي الصبر على الصوم الطويل وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله (ص) بكسرة خبز فقال ما هذه؟ قالت قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة فأكلها وقال أما أنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث. قال ابن أبي الحديد وكان يقال ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة. وقال يحيى بن معاذ لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.
وقال سهل بن عبد الله لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل وجعل في الجوع الطاعة والحكمة:(886/12)
وقال يحيى بن معاذ الجوع للمريدين رياضة وللتائبين تجربة وللزهاد سياسة وللعارفين تكرمة.
للكلام بقية
ضياء الدخيلي(886/13)
دراسات أدبية:
موقف النقاد من الشعر الجاهلي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي القرن الثالث أيضاً كثرت مؤلفات النقاد في الشعر والشعراء؛ وكتاب ابن سلام (طبقات الشعر) مشهور وهو أول عمل أدبي منظم في النقد، وقد قسم الجاهليين عشر طبقات وأضاف إليهم شعراء المراثي وشعراء المدن العربية، ووضع في الطبقة الأولى أمرؤ القيس وزهيراً والأعشى والنابغة؛ ولم يسبقه إلى هذا التقسيم الفني للشعراء الجاهليين وطبقاتهم الأدبية إلا أبو عبيده الذي قسم الجاهليين ثلاث طبقات ووضع في الأولى أمرؤ القيس والنابغة وزهيراً، وفي الثانية الأعشى وطرفة ولبيداً. ويذكر ابن سلام في طبقاته الشعراء الإسلاميين ويقسمهم طبقات عشراً أيضاً ولا يذكر أحداً من الشعراء المحدثين؛ بعكس ابن قتيبة الذي ألف كتابه (الشعر والشعراء) وذكر فيه الكثير من الشعراء المحدثين الذين عاشوا قبيل منتصف القرن الثالث؛ وهذا يدل على أن ابن قتيبة كان أكثر تقديراً للشعر الجيد وحده بصرف النظر عن ئله وزمنه. وهذا يذكرنا بجمع الفضل وأبي يزيد الأنصاري للشعر العربي؛ فقد جمع المفضل في كتابه مختارات لشعراء الجاهليين وللقليل جداً من الشعراء المخضرمين. أما أبو زيد الأنصاري ففي كتابه الجمهرة مختارات للجاهليين والمخضرمين والإسلاميين. ثم ألف ابن المعتز أيضاً كتاباً في طبقات الشعراء المحدثين طبع أوربا ويسير فيه نهج ابن قتيبة من حيث ذكر الشاعر وحياته ومذهبه الفني في شعره ونماذج من مختارات شعره، وأول ترجمة له في الكتاب هي ترجمة بشار م 167هـ، وأقصى شاعر من ترجم له ابن المعتز هو: الناشئ م 293هـ ومحمد الشيرازي الذي يقول فيه المؤلف: وهو اليوم شاعر زماننا، وجميع التراجم التي يحتوي عليها الكتاب والتي تبلغ أكثر من 130 ترجمة هي لشعراء عاشوا بين التاريخين، وهو أوفى كتاب في دراسة طبقة بشار وطبقة أبي نواس وطبقة أبي تمام والبحتري.
7 - والقرن الرابع الهجري كان أحفل قرن بالنقد والنقاد، وظهرت فيه أصول كتب النقد(886/14)
الأدبي مثل: نقد الشعر لقدامة م 327هـ، وأخبار أبي تمام للصولي م 336هـ، والموازنة للآمدي م 371هـ، وإعجاز القرآن للباقلاني م 405هـ، والوساطة للجرجاني م 392هـ؛ كما ظهر في القرن الخامس: ابن رشيق م 456هـ صاحب العمدة، وابن سنان الخفاجي م 466هـ صاحب سر الفصاحة، وكتاب الأسرار والدلائل لعبد القاهر الجرجاني م 471هـ.
وكان النقاد في هذين القرنين يسيرون على نهج الجاحظ، فلم يتعصبوا للشعر الجاهلي لتقدم زمنه، ولم يميلوا على المحدثين لتأخر عصرهم؛ بل حكموا الذوق وحده في كل شيء؛ حتى لقد وقفوا معددين لأخطاء الجاهليين، كما فعل الآمدي والجرجاني وابن رشيق وسواهم، قال الآمدي في كتابه الموازنة: (وما رأينا أحداً من شعراء الجاهلية سلم من الطعن ولا من أخذ الرواة عليه الغلط والعيب)؛ وقال صاحب الوساطة في أول كتابه: (ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية، فأنظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت من أبيات لا يمكن لعائب القدح فيه إما في لفظه ونظمه أو ترتيبه أو معناه، أو إعرابه، ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة لوجدت كثيراً من أشعارهم معيبة مسترذلة ومردودة منفية؛ لكن هذا الظن الجميل، والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى الظنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام)، ولو تصفحت ما تكفله النحويون لهم من الاحتجاج، وتبينت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة، التي يشهد القلب أن المحرك لها والباعث عليها شدة إعظام المتقدم، والكلف بنصره ما سبق إلية الاعتقاد والفته النفس)؛ وأزري الآمدي والجرجاني بوقف بعض النقاد المتعصبين على المحدثين كالأصمعي الذي أنشده إسحاق الموصلي:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروي الصدى ويشفي الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن تحب القليل
فقال: لمن تنشدني؟ فقال: لبعض الأعراب، فقال: هذا والله هو الديباج الخسرواني، فقال إسحاق: إنها لليلتهما. فقال الأصمعي: لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما؛ وكابن الأعرابي الذي أنشده بعض الناس شعراً وهو لا يعرف قائله فأعجب به إعجاباً(886/15)
شديداً وكتبه فلما علم أنه لأبي نواس أنكره.
ونقد الباقلاني في إعجاز القرآن قصيدة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
نقداً طويلاً، وهو أول نقد مفصل لقصيدة من الشعر العربي.
8 - وفي العصور الوسطى ضعفت الملكات وعقمت الأذواق وتعصب العلماء والأدباء للشعر القديم لقدمه، فكانوا يحيطون الشعر الجاهلي بهالة من التقديس والجلالة ولا يردن أحداً أحسن مثل إحسان الشعر الجاهليين ولا أجاد إجادتهم، ورأوا معصومين من الخطأ والعيب والنقد، واستمر هذا المذهب سائداً حتى العصر الحديث.
9 - وفي العصر الحديث تفاوتت ثقافات الأدباء والنقاد، فوقف أولو الثقافات العربية الخالصة موقف الإعجاب والتقدير البعيد للشعر الجاهلي، وهب جماعة من أولي الثقافات الأوربية يطعنون على الشعر الجاهلي ويرمونه حيناً بالضعف والتفكك، وحيناً بأنه منتحل مختلق. ومن الحق أن بعض نقد هؤلاء كان عادلاً منصفاً، وأما الكثير منه فكان مغالى فيه.
عاب العقاد على الشعر الجاهلي أنه لا يصلح أن يكون نموذجاً يقتدي به في النظم لأنه في الغالب أبيات مبعثرة تجمعها قافية واحدة يخرج فيها الشاعر من المعنى ثم يعود إلية ثم يخرج منه على غير وتيرة معروفة ولا ترتيب مقبول، وأن فيه غير التفكك وضعف الصياغة كثيراً من العيوب العروضية والتكرير الساذج والاقتسار المكروه والتجوز المعيب الذي يؤخذ من روايته أن الشعر لم يكن فناً استقل به صناعة الخبيرون به، وإنما كان ضرباً من الكلام يقوله كل قائل ويرور المحكم منه وغير المحكم على السواء، فنراه يعيبه بما يلي:
1 - ضعف وحدة القصيدة، ونحن في الرد على هذه الكرة نكتفي بهذين الكلمتين: قال نولدكه المستشرق الهولندي المشهور، (وفي أحوال كثيرة يحتفظ الشاعر الجاهلي بوحدة الفكرة في قصيدته بأن يجعل كل قسم من أقسامها خاصاً يوصف مناظر وحوادث من حياة الشاعر نفسه أو الحياة العامة التي يحياها البدوي في الصحراء؛ وقال جميل صدقي الزهاوي الشاعر المجدد: (وهناك شيء يستحبه الذين تشبعت أدمغتهم بالأدب الغربي، هو وجوب أن تكون القصيدة الواحدة خاصة بفكرة واحدة، أو وصفاً لشيء واحد، من غير(886/16)
خروج إلى غير الموضوع، ولو كان في فصل منعزل عن الأول، وهذا ليس من الشعر في أصله، بل هو تابع للأذواق ولطريقة الشاعر في شعره، ولا ينوع الشاعر المبرز في العربية الموضوع في كل قصيدة، فكثيراً ما يحصر شعره في القصيدة الواحدة في موضوع واحد، وإذا نوع الموضوع فهو يخرج إلى الثاني بمناسبة وبعد فصله الأول، مريداً بذلك أن تكون قصيدته كالروضة الغناء محتوية على مختلف الأزهار، وهذا أقرب إلى الطبيعة، وليس فيه ما يؤاخذ عليه غير كونه ينافي ما يفعله شعراء الغرب، ولكل أمة سياق ونزعة ليست لأختها، وأعتقد أن الكتاب الذين يزرون بشعر شعرائنا على الإطلاق لو أتيح لهم أن يكونوا شعراء لما خرجوا كثيراً عن النهج الذي يمشي عليه المبرزون من هؤلاء، والسبب هو ما قدمته من اختلاف ألوان الشعور عندنا عن ألوانه عند الغربيين، من جهة وقيد القافية وإعرابها عندنا وفقد أنه عندهم من جهة أخرى، وقد هم كثير من الشعراء المتضلعين من العلوم العصرية بتقليد الغرب في شعره، فلم يكن ما أتوا به غربياً ولا شرقياً، ولم يوفقوا إلا في ألوان من الشعور هي مشتركة بين الأمم جميعاً. ومهما تمرد الشاعر الكبير على الأساليب والتصورات في أمته فهو لا يستطيع أن يطفر مرة واحدة إلى تصورات وأساليب تخالف ما ألفه شعبه فيقطع الوشائج القوية التي تربط الحال بالماضي.
2 - ويعيب العقاد الشعر الجاهلي ثانياً بأنه لم يكن فناً استقل به صناعة الخبيرون به، وذلك لا يسير مع الحقيقة والواقع، فشعراء المعلقات ومذاهبهم الفنية في الشعر معروفة. ويقول الدكتور طه حسين بك في كتابه الأدب الجاهلي: وأما مضر فكان لها في الجاهلية شعراء يتخذون الشعر فناً يمثلون به نهضة فنية عقلية في هذا الإقليم من جزيرة العرب.
3 - ويعيبه ثالثاً بهلهلة صياغته وما فيه من عيوب عروضية وتكرير ساذج وتجوز معيب. وفي هذا مغالاة.
وكانت ثورة النقد الكبرى بين الدكتور طه حسين بك وبعض النقاد والباحثين حول الشعر الجاهلي ذات صدى بعيد في دراسات الشعر الجاهلي. ويؤيد الدكتور هذا الانتحال بأدلة كثيرة: فضلاً عن أنه لا يمثل اللغة الجاهلية نفسها لاختلاف اللغة الحميرية عن اللغة العدنانية الفصحى مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها ولم يتخذها لغة أدبية لهم قبل الإسلام مما يدل على انتحال هذا الشعر على هؤلاء القحطانيين، فوق أن الشعر الجاهلي لا يصور(886/17)
اختلاف اللهجات العدنانية التي لا شك فيه.
ويبني الدكتور على انتحال الشعر الجاهلي رفضه الشعر المنسوب إلى شعراء اليمن، لأن لليمن لغة تخالف لغة قريش وهجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولاً، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن، ثانياً، وشعراء المدينة ليسوا يمنيين بل هم مضريون، ويرى أنه ليس لليمن في الجاهلية شعراء. أما ربيعه من عدنان وكانت تسكن في الشمال فيرى الدكتور أن شعرها دون شعر المضريين لأنها لم تكن تتكلم لغة قريش وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فناً. ثم درس بعض أعلام الشعراء الجاهليين على ضوء نظريته في انتحال الشعر، ووضع مقاييس لتمييز المنحول من الشعر الجاهلي، وجعل الشعر أصلاً من مضر ثم انتقل منها إلى ربيعه فاليمن فإلى الموالي، وبذلك يعكس نظرية انتقال الشعر الجاهلي في القبائل، وهي نظرية معروفة ذهب إليها علماء الأدب المتقدمون.
وهذه الآراء والتعليق عليها موضوع بحث آخر ودراسة جديدة إن شاء الله. وقد ذكرت في كتابي (الحياة الأدبية في العصر الجاهلي) كثيراً من المناقشات الأدبية للفكرة نفسها بتفصيل.
وسيلي هذا البحث بحث آخر مكمل له عنوانه (دفاع عن الشعر الجاهلي) نرجو أن يكون فيه مزيد من الشرح والتحليل والنقد لموقف النقاد في الشعر الجاهلي وبالله التوفيق.
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس في كلية اللغة العربية(886/18)
أسامة بن منقذ وشعره
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
- 5 -
يصور لنا شعر أسامة صلته بأبيه وأخوته: بهاء الدولة منقذ، ونجم الدولة محمد قوية وثيقة، يضمر لأبيه الحب وخالص الإجلال، ويعني أكبر ما يعني بأن يكون راضياً عن خطواته وأهدافه. كتب إلى أبيه يستأذنه في فراق شيزر بعد أن ساءت حياته فيها قصيدة طويلة منها:
فاسمح ببعدي عنهم برضاك لي ... إن الذي ترضى عليه موفق
حتى إذا آثر أسامة البعد، كتب إلى أبيه قصائد يتشوق فيها إليه، ويحدث عن آماله في لقائه والحياة معه، حتى إذا سمع أسامة أن تغيراً عليه ألم بقلب والده، بعث إليه يستعطفه ويسترضيه، ومن ذلك قوله:
مالي، وللشفعاء فيها أرتجى ... من حسن رأيك في، وهو شفيعي
أعذبت لي من وجود كفك موردي ... فصفا وأمرع من نداك ربيعي
وبك اعتليت، وطلت من ساميته ... فخراً بمجدك، لا بحسن صنيعي
وقضي ببعدي عنك دهر جائر ... وإلى جنابك إن سلمت رجوعي
وكتب مرة إليه من مغتر به قصيدة منها:
بي لوعتان عليك يضعف عنهما ... جلدي من الأشواق والإشفاق
فالشوق أنت به العليم ... وغالب الإشفاق مما أنت في ملاقي
وقد أثرت هذه القصيدة في نفس والده، فكتب إليه:
أثرت أنى بعد بعدك باقي ... أجزى عن الأشواق بالأشواق
أأبا المظفر دعوة تشفي الظما ... مني، وإن أضحى بها إحراقي
لم أستكن أبداً لخطب نازل ... إلا لبعدك، فهو غير مطاق
فإذا أطعت الوجد فيك أطاعني ... قلبي، وبيدي إن عصيت شقاقي(886/19)
فإذا ذكرتك خلت أني شارب ... تمل سقاه من المدامة ساق
ولعل والده رأى هذه القصيدة غير مبينة عما يضمره قلبه لولده، من لاعج الشوق، فقام أحد مؤدبي أسامة بنظم قصيدة أرسلها إليه، يصف فيها حال هذا الوالد المعذب.
ولما شتت أخوته في البلاد، كانت رسائله إليهم تفيض بالحب وشكوى الفراق، فإذا عتب عليه أحدهم، تقبل عتبة بالعتبى، وصادق الحب والمودة. وحدث أن أخاه محمداً أسره الفرنج، وهو راحل من مصر عقب حركة عباس وابنه نصر فلم يمنعه ما كان بينه وبين ابن عمه بشيزر من صلة مقطوعة، وأن يكتب إليه مستعيناً به على فك أسر أخيه، مبدياً أرق ألوان الاستعطاف، إذ يقول من قصيدة:
أنا ابن عمك، فاجعلني بفك أخي ... من أسره، لك عبداً ما مشت قدمي
ولكن ابن عمه لم يتأثر بالشعر، ولم يسع في فكاك أخيه. أما صلته بعمه حاكم شيزر وابن عمه، فظهر أنه حاول جاهداً الإبقاء على الصلة التي تربط بهما، وبذل في سبيل ذلك ما استطاع أن يبذل من عنت ومشقة. ولعل خير ما يصوره موقفه في تلك الفترة قوله:
وما أشكو تلون أهل ودي ... ولو أجدت شكيتهم شكوت
مللت عتابهم، ويئست منهم ... فما أرجوهم فيما رجوت
إذا أدمت قوارصهم فؤادي ... كظمت على أذاهم، وانطويت
ورحت عليهم طلق المحيا ... كأني ما سمعت، ولا رأيت
تجنوا لي ذنوباً ما جنتها ... يداي، ولا أمرت، ولا نهيت
ولا والله، ما أضمرت غدراً ... كما قد أظهروه، ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا، وتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت
وبعد وفاة عمه حاول أسامة أن يصلح ما بينه وبين ابن عمه، وأن يعطفه عليه، ويلين قلبه، ولكن يبدو أن هذا الجهد لم يؤت ثمرته، فظلت النفرة بين أسامة وأهله، حتى مضى زلزال (شيزر) بهم، فبكاهم أسامة كما ذكرنا، وكل هذا يدلنا على ما امتازت به نفس أسامة من حب يضمره لأقاربه، ورغبة خالصة في أن يعيش بينهم يظللهم جميعاً الود والوئام، لو استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا ذنب عليه إذا هو أخفق في جهد كان جديراً به أن ينجح، وأكاد ألمس في شعره أنه لم يسع يوماً إلى فصم عروة مودة بينه وبين قريب أو صديق.(886/20)
- 6 -
ومن أكبر هؤلاء الذين اتصل بهم أسامة الملك الصالح طلائع بين رزبك، ودار بين الاثنين كثير من المراسلات التي تفصح عن ود مكين بين قلبيهما، وإعجاب كل بصاحبه أكبر الإعجاب، فمضت قصائد الصالح إلى أسامة تدعوه إلى مصر حيناً، وتعتب عليه إيثاره البعد عنها حيناً آخر، وتأخذ عليه أحياناً أنه مقل في رسائله، لا يوالي بعث كتبه، وكثيراً ما حدثه الصالح عما قام به من حروب مع الفرنج، ويطلب منه أن يكون وسيلته إلى نور الدين، كي يجتمعا معاً على حرب الصليبيين، وقد شارك الصالح أسامة فيما نزل به من أحاث قاسية في حياته، وكان الصالح معجباً بمواهب أسامة في الحرب والسلم، ويرى فيه محارباً شجاعاً، وشاعراً مفلقاً، وخطيباً بارعاً، وحكيماً في إبداء الرأي صائباً، ويقول له:
وجهاد العدو بالفعل والقو ... ل على كل مسلم مكتوب
ولك الرتبة العلية في الأمرين ... مذ كنت إذ تشب حروب
أنت فيها الشجاع مالك في الطعن ... ولا في الضراب يوماً ضريب
وإذا ما حرضت فالشاعر المفلق ... فيما تقوله ولخطيب
وإذا ما أشرت فالحزم لا ينكر ... أن التدبير منك مصيب
لك رأي مذ قط إن ضعف الري ... على حاملي الصليب صليب
وهو لذلك يراه من يحمل عبء الرسالة إلى نور الدين، يحرضه على أن يجتمعا معاً على حرب الصليبيين في وقت واحد، حتى تشتت وحدتهم، ولا يستطيعوا الحرب في الجهتين، وذلك كان رأي الملك الصالح. يجهز الاثنان جيشيهما، ويسيران معاً في وقت واحد إلى أرض العدو، وطلب من أسامة أن يبلغ ذلك الرأي إلى نور الدين إذ قال له:
فانهض الآن مسرعاً، فبأمثا ... لك ما زال يدرك المطلوب
والق عنا رسالة عند نور الدين ... ما في إلقائها ما يريب
قصدنا أن يكون منا منكم ... أجل في سيرنا مضروب
فلدينا من العساكر ما ضا ... ق بأدناهم الفضاء الرحيب
وعلينا أن يستهل على الشام ... مكان الغيوث، مال صبيب
فهو يعد هنا بالجيوش والمال، ويرى أن اجتماعهما معاً على حرب العدو كفيل بأن يلقي(886/21)
بهم في البحر، أرسل رسالة إلى أسامة، يقول فيها:
فلو أن نور الدين يجعل ... فعلنا فيهم مثالاً
ويسير الأجناد جهراً، ... كي ننازلهم نزالاً
وبقي لنا ولأهل دو ... لته بما قد كان قالا
لرأيت للأفرنج طرا ... في معاقلها اعتقالا
وتجهزوا للسير نح ... والغرب أو قصدوا الشمالا
وقام أسامة بدوره من تحريض نور الدين على الغزو والاجتماع على رأي الملك الصالح، فكتب إليه أسامة يقول:
بلغ العبد في النيابة والتح ... ريض، وهو المفوه المقبول
فرأى من عزيمة الغزو ما كا ... دت له الأرض والجبال تميل
وكان رأي أسامة كرأي الصالح في الاجتماع، ووحدة الكلمة، ومضى الملكين معاً إلى الحرب، وقصائده إلى الملك الصالح تحث على هذا التضامن والاتفاق، ولكن ذلك لم يخرج عن حد الأماني، ولو أنه نفذ يومئذ فربما كان قد تغير مجرى التاريخ.
كانت رسائل الملك الصالح إلى أسامة كثيراً ما تصف له ما نزل بالقدس من محن على أيدي الصليبيين، وما اتصف به هؤلاء من الغدر الذي لا يحول بينهم وبينه هدنة تعقد، ولا عقد يبرم، وكثيراً ما تحدثت الرسائل عن وقائع الصالح في الفرنج، وغزواته لهم.
ومضت قصائد أسامة تحمل الثناء على الملك الصالح، وتشكر أياديه، وكان الصالح يبره، ويرسل إليه خيره، ولم يكن أسامة يجد عضاضة في سؤال الصالح ولا الشكوى إليه، كتب إليه مرة يقول:
أشكو زماناً قضى بالجور في، ولم ... يزل يجور على مثلي ويعتسف
لحت نوائبه عودي، وأنفد مو ... جودي، وشتت شملي وهو مؤتلف
وقد دعوتك مظلوماً مرتجياً ... وفي يديك الغنى والعدل والخلف
ومن شكر أسامة له قوله:
والندى طبعك الكريم، فما أهـ ... ني نوالاً تنيله وتثيب
جاءني والبعاد دوني كما جا ... بت فيافي البلاد ريح موهوب(886/22)
وعجيب أن الواهب نسري ... ويقيم المسترفد الموهوب
- 7 -
ومدح أسامة غير الصالح معين الدين أنر، حاكم دمشق، عندما كان في كتفه، وبعد أن فارقه، وجاء إلى مصر؛ يثني عليه بالجود الذي تعبده، فيقول:
معين الدين، كم لك طوق من ... بجيدي مثل إطراق الحمام
وحيناً يثني عليه ببلائه في حرب الصليبيين، وانتصاره عليهم فيقول له:
أنت سيف الإسلام حقاً فلافل ... غراريك أيها السيف دهر
بك زاد الإسلام يا سيفه المخ ... ذم عزاً، وذل شرك وكفر
ومدح الوزير الأفضل عباس بن أبي الفتوح وزير الظافر، وابنه نصراً على نعمه، وما أولاه من الفضل والكرامة، وفي ديوانه قصيدة لا أدري لمن وجهها، مدح فيها بتشجيع العلوم وتوطيد أركان العلوم، أما رأيه في نور الدين محمود:
فهو المحامي عن بلاد الش ... ام أجمع أن تذالا
ومبيد أملاك الفرن ... ج وجمعهم حالاً فحالا
ملك يتيه الدهر والد ... نيا بدولته اختيالا
فإذا بدا للناظري ... س رأت عيونهم الكحالا
لكنه أخذ عليه شدة زهده، وحملة الناس على الزهد، حتى لقد أشبهت أيامه شهر الصوم في طهارتها وامتلأت بالجوع والعطش، وأسامة بهذا يدل على رغبة قوية في أن يستمتع بالمباهج الطيبة للحياة.
ومدح أسامة كذلك صلاح الدين، ذاكراً أفضله عليه وعلى الإسلام.
- 8 -
كان أسامة شديد الاعتزاز بنفسه في ميادين القتال، شديد الاعتزاز بأسرته، شديد الثقة بصيرة، وثباته وتجربته، وكان ذلك ينبوع فخره في شعره، فمما قاله مفتخراً بشجاعته:
لخمس عشرة نازلت الكماة إلى ... أن شبت فيها، وخير الخيل ما قرحا
أخوضها كشهاب القذف مبتسماً ... طلق المحيا، ووجه الموت قد كلحا(886/23)
بصارم من رآه في قتام وغى ... أفرى به المهام ظن البرق قد لمحا
أغدو لنار الوغى في الحرب إن خمدت ... يا لبيض في البيض والهامات مقتدحا
فسل كماة الوغى عني، لتعلم كم ... كرب كشفت، وكم ضيق بي انفسحا
وهو يعلم مكانته في السلم رهينة بما يبديه في الحرب من بسالة وإقدام:
إن يحسدوا في السلم منز ... لتي من العز المنيف
فما أهين النفس في ... يوم الوغى بين الصفوف
فلطالما اقدمت إق ... دام الحتوف على الحتوف
بعزيمة أمضى على حد ... السيوف من السيوف
وفي كثير من شعره افتخر بصبره على المكاره، وأحداث الزمان.
(للكلام صلة)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(886/24)
الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية
للأستاذ مصطفى عبد الله بعيو
(تتمة)
على أن موجة الفتح العربي هذه التي ربطت بين الأجزاء الثلاثة سرعان ما تلتها موجات أخرى عربية كان لها أثر كبير في تدعيم هذه الوحدة الجنسية. ومع ما لإقليم فزان من وقع جانبي بالنسبة لموجات القبائل العربية في طريقها إلى الغرب إلا أن الملاحظ أن الدم العربي يسود القبائل الفزانية. ولا شك أن هذا الأثر لم يصل إلى فزان مباشرة إلا عن طريق طرابلس كبقية المؤثرات السابقة التي أتت من الشمال ومن أظهرها وصول المسيحية إلى فزان في العهد الروماني.
وكان من أهم الموجات العربية التي أثرت في لوبيا هجرة بني هلال وبني سليم وقد أراد بعض الكتاب أن يتخذوا من استيطان معظم قبائل بني سليم في برقة وغالبية بني هلال في طرابلس وتونس مدعاة لاثبات اختلاف التكوين الجنسي لكل من افقليمين؛ ولكن فاتهم أن هذه القبائل جميعها عربية وإن اختلفت في التسمية، ولهذا يستبعد اختلاف تأثيرها خصوصاً وأنها تتحد في الأصل القبلي، إذ المعروف أن بني سليم وبني هلال يتحدون في الأصل بانتمائهم إلى مضر من بادية نجد. ولو كان بنو سليم من عرب الشمال وبنو هلال من عرب الجنوب لكان من الممكن التماس لهذا الزعم ولكنهم جميعاً من أصل وموطن متحد.
على أن هذه الموجات العربية التي أتت من الشرق وربطت بين أجزاء البلاد ما تنعتها موجات أخرى أتت من الغرب وزادت في قوة هذه الرابطة الدموية فمن المعتقد أنه بعد اختفاء المجتمع الإغريقي الروماني بعد الفتح العربي كانت مدينة (برنيق) المعروفة الآن ببنغازي غير مسكونة حتى القرن الخامس عشر الميلادي عندما عادت الحياة إليها من جديد بواسطة المهاجرين من جماعات التجار من مدن الساحل الطرابلسي ومن بينهم أولئك الذين أتوا من مسراطة وقد زاد عددهم على مر الأيام حتى أصبحنا نرى أخيراً في مدينة بنغازي شوارع تحمل أسماء قرى معروفة في مدينة مسراطة فهذا شارع (جزير) وذلك شارع (قصر أحمد) وهكذا وكلها أسماء لقرى ما زالت عامرة بأهلها في مسراطة قد نزح بعض أفرادها إلى بنغازي واستوطنوا حتى أصبح المعروف بين البادية أن كلمة (مسراتي) معناها(886/25)
ذلك الذي يسكن بنغازي. وربما تكون لغة الأرقام أكثر توضيحاً لارتباط عائلات مدن برقة بأصولها في مدن طرابلس إذا عرفنا أن قرية واحدة من قرى مسراتة متوسطة في عددها لها علاقات عائلية بستة وسبعين شخصاً من أفرادها المقيمين في برقة والذين يتولون بدورهم الإشراف على عائلاتهم الخاصة. وهذه درنة كذلك قد زاد عدد سكانها بإقامة التجار الآتين إليها من المدن الساحلية في طرابلس. وإذا عرفنا أن أهالي مدينة درنة ثانية مدن برقة أهمية ينقسمون إلى (تواجير) نسبة إلى تاجوراء وإلى (مسراته) نسبة إلى مسراته وإلى (ظليتنية) نسبة إلى ظليتن وإلى (قول اوغلية) نسبة إلى أبناء القرى الانكشارية أدركنا النسبة العالية التي ساهمت بها بعض مدن ساحل طرابلس في تكوين سكان درنة. وبهذا الشكل فيما يختص ببقية مدن برقة كتوكرة والمرح وطبرق وغيرها. وما زال هؤلاء النازحون على اتصال بأهلهم وذويهم في المدن الساحلية الطرابلسية والعكس بالعكس. ولنا أن نتصور مدى الصعوبة الاقتصادية والعلاقات العائلية التي يلاقيها سكان البلاد لو تحققت نظرية فصل الإقليمين عن بعضهما.
هذا من ناحية العلاقة البشرية أما إذا درسنا جغرافية البلاد الاقتصادية فإننا نلاحظ أن البلاد تصاب بأعوام الجفاف من سنة لأخرى فتتعرض للهلاك ولكن الملاحظ أيضاً أن سنوات الجفاف إذا حلت فهي في الغالب لا تشمل كل البلاد بشقيها فإذا قلت الأمصار في طرابلس كان مستواها فوق المتوسط أو متوسطاً في برقة والعكس بالعكس. وبمراجعة المجاعات التاريخية التي حدثت في البلاد ندر أن تكون قد عمت جميعاً وهذا مما يخفف من حدة الأزمة ويجعل البلاد تمر منها بسلام كما حدث في سنة 1936 (المعروف بعام ينغازي عند الطرابلسيين) عندما بعث أهالي طرابلس بحيواناتهم إلى برقة، وكما حدث في سنة 1946 عندما اعتمد أهالي طرابلس إلى حد كبير على شعير يرقة. وهذا أيضاً ما نلاحظه في هذه السنة فقد نشرت مجلة بطرابلس الغرب في عددها (121) بتاريخ 9 أبريل سنة 1950 أن قبائل برقة التي على الحدود الغربية أخذت تنتقل بحيواناتها إلى طرابلس نظراً لسوء موسم الأمطار هذه السنة في برقة.
ونحن إذا درسنا الجغرافية الاقتصادية للأجزاء الثلاثة لوجدنا مثلاً فزان تعتمد إلى حد كبير على شعير طرابلس كما أن موانئ طرابلس هي المنفذ الطبيعي لإمداد أهالي فزان بما(886/26)
يحتاجون إليه وتصدير ما يستغنون عنه أو ما يجلبونه من السودان إذ أن أقرب الموانئ إلى فزان هي موانئ طرابلس الغرب بعكس ما لو اتجه أهالي فزان إلى موانئ تونس والجزائر كما هي الحال الآن.
هذا والإنتاج المحلي لكل من طرابلس وبرقة يجد له سوقاً متبادلة يخفف من ارتفاع أسعار الحركة التجارية وإرهاق السكان مما لو استوردت مثل هذه الأشياء من الخارج.
وعلى أي حال فإن اقتصاديات البلاد كوحدة مجتمعة يمكنها أن تكفي البلاد إلى حد كبير. ولا عبرة بما كانت تطلبه البلاد من إنهاك عام بسبب الحروب والهجرة ولنا في هذه الإحصائية البسيطة مدى ما انتاب البلاد ومدى ما يمكن أن تصل إليه ثروة البلاد مع شيء من العناية.
الثروة الحيوانية لبرقة سنة 1910 الثروة الحيوانية لبرقة سنة 1933
أي قبل الاحتلال الإيطالي
أثناء الاحتلال الإيطالي
713. 000
رأس غنم
98. 00
رأس غنم
546 , 300
رأس ماعز
25. 000
رأس ماعز
83. 300
جمل
2. 600
جمل
23. 600(886/27)
بقرة
8. 700
بقرة
27. 000
حصان
1. 000
حصان
ولنرجع مرة أخرى للتاريخ القديم لنرى مدى علاقة طرابلس بفزان؛ فنحن نعرف أن الفينيقيين قد أتوا ساحل طرابلس وأقاموا المدن الثلاث؛ ولا شك أم وجود هذه المدن الثلاث وقيامها لم يأت عفواً بل لعوامل الجغرافية هي التي ساعدت على قيامها لدرجة تجعلنا نعتقد أن قيام هذه المدن كان لابد أن يحدث سواء أتى الفينيقيون إلى طرابلس أم لم يأتوا؛ لأن عوامل قيامها متوفرة وإن شاءت الظروف أن يحدث ذلك على يد الفينيقيين. هذه العوامل الجغرافية التي ساعدت على قيامها كان أهمها الطرق التجارية التي تربط هذه الأماكن بفزان ومنها إلى أقليم السودان. فصبراته مثلاً تقوم في نهاية طريق تجاري إلى الجنوب يمر بفدامس وطرابلس تقوم عند نهاية طريق تجاري قديم إلى الجنوب يمر إما عن طريق ترهونه وإما عن طريق غربان. ولقد كانت هذه الطرق التجارية خير رابط بين فزان وطرابلس وموحد بين هذين الإقليمين منذ العصور القديمة. وإذا كانت تجارة القوافل قد قلت أهميتها في الأعوام الأخيرة فما ذلك إلا لتغلغل الاستعمار الأوربي وفصله بين فزان والسودان، وفي فصل فزان عن طرابلس القضاء النهائي على بقايا هذه التجارة وهدم ركن هام في حياة البلاد الاقتصادية. وكان الأولى التفكير في ضم أقليم تمبكتو إلى فزان حتى تنتعش تجارة القوافل بعد كسادها مؤقتاً لا العمل على بتر فزان من طرابلس، إذ أن الجيوش الفرنسية قد دخلت فزان للتحرير كما دخلت جنود الحلفاء فرنسا نفسها بعد انهيارها أمام الغزو الأجنبي.
وإذا كانت واحة الكفرة على رغم موقعها المنعزل ورغم قلة أهمية تجارة القوافل التي تمر بها بالنسبة لما هو كائن بفزان وبرغم ظروف الحرب الأخيرة فإن الأستاذ يذكر لنا في(886/28)
كتبه الذي ألفه أخيراً عن واحة الكفرة أن عدد القوافل التي مرت بها سنة 1943 كان 75 قافلة كان عدد جمالها 2250 جملاً فماذا يكون الحال في فزان إذا أحكمت الصلة بينه وبين موانئ الشمال وضم إليه تمبكتو الملاصق للسودان؟
على أن هذه الصلة المتينة التي ربطت بين طرابلس وفزان قد أدركت منذ القدم، ولم يدركها الفينيقيون وحدهم، فبعد أن بسط الرومان سيادتهم على طرابلس اقتنعوا بصعوبة إخضاع هذا الجزء ما لم يتم الاستيلاء على فزان؛ فنرى كورنليوس بالبوس في عهد أغسطس يتولى قيادة حملة هامة لإخضاع فزان. وكم كانت فرحة أهل روما عظيمة عندما عاد إليهم بالبوس منتصراً بعد أن وصل إلى مدينة جرمة عاصمة فزان في ذلك الوقت. وكان الرومان يكررون إرسال هذه الحملات من وقت لآخر لضمان بقاء فزان حتى يضمنوا بقاءهم في طرابلس كما حدث في عهد الإمبراطور تيبروس عندما ذهب القائد فستس على رأس حملة حربية بدأت سيرها من لبرا إلى (بونجيم) فهون ففزان. ولم يتوانى الرومان عن إرسال الحملات إلى فزان حتى يضمنوا خضوعه لهم فأمنوا على طرابلس من الجنوب كما اتخذوا منه قاعدة للوصول إلى أواسط أفريقية.
لا شك أن هذه العوامل الجغرافية قد بينت لنا مدى ضرورة هذه الوحدة كما أننا إذا رجعنا إلى التاريخ وجدنا العصور الذهبية لتاريخ البلاد قد تمثلت لنا عندما كانت موحدة أو أقرب إلى الوحدة. ترى ذلك في السنوات المتقدمة من الفتح العربي، ونرى ذلك أيام حركة أبي الخطاب الأباضي التي لو قدر لحركته أن تستمر لتمت الوحدة على يديه على أتم ما يكون. ونرى ذلك أخيراً في العهد القره مانلي. ولولا وحدة هذه البلاد واستغلال مرافقها مجتمعة ما استطاع أحمد باشا القره مانلي أن يؤسس دولة كان لها من القوة ما أرعب الدول في الحوض الأبيض وما استطاع أبناؤه من بعده أن يسيروا على هذه السياسة ويرفعوا شأن لوبيا.
ولا شك أن البلاد بأجزائها الثلاثة تعاني أزمة خطيرة بسبب قلة السكان وهذه القلة لا تسمح بهذا التقسيم بل تنادي بضرورة التكتل والجمع بين هذه القلة المشطورة. ونحن نعرف من أبسط دروس التربية الوطنية التي تعلمناها في المدارس أن شروط قيام أي دولة هو وفرة السكان بشكل كاف حتى يمكن الحصول منهم على الدخل الذي يكفيها ويمكنها من إدارة(886/29)
شؤون الأهالي. وحتى يمكن اختيار من يصلح لإدارة شئونها إذ كلما كثر العدد زادت صلاحية الاختيار وقلت مصاريف إدارة هذه الدولة والعكس بالعكس.
وإذا كانت هناك بعض الفروق الجغرافية البسيطة بين أجزاء البلاد الثلاثة فهذه أشياء لا بد منها ولا تخلو منها أي بلاد وهذا الاختلاف البسيط ضروري لحيويتها. وإن لم يوجد لعمل الأهالي على إيجاده لكي يضمنوا بقاء البلاد وحيويتها. على أن هذه الفروق الجغرافية البسيطة مهما عظمت فلن تبلغ ما نراه من فروق جغرافية واضحة بين شمال إيطاليا وجنوبها من حيث الجنس والحياة والعادات والحرف والمناخ وطبيعة التربة. ويكفي أن الإيطاليين أنفسهم يشعرون بذلك ويتحدثون به. وكذلك إذا درسنا جغرافية فرنسا فهي في جنوبها تختلف عن شمالها الغربي وتختلف عن شرقيها من حيث المناخ والسكان؛ فبينما الجزء الجنوبي يتمتع بمناخ البحر الأبيض وسكانه من جنس البحر الأبيض نجد الجزء الشمالي الغربي ممطر طول، العام وسكانه من الجنس النوردي ذي القامة الطويلة. وكذلك تجد الجزء الشرقي ينتمي إلى إقليم وسط أوربا كما ينتمي سكانه إلى الجنس الآلي. أما بريطانيا فيكفي أن تعرف أنها تضم إنجلترا واسكتلندا وويلز. ومع كل هذا لك ينكر أحد وحدة هذه البلاد مع أن الفروق الجغرافية التي تسودها كفيلة بتمزيقها والقضاء على وحدتها. فهذه ويلز بموقعها الجغرافي المتفرق وطبيعة سطحها الجبلي وسكانها الذين يمثلون أقدم الأجناس الذين نزحوا إلى الجزر البريطانية وعقيدتهم الدينية الخاصة بهم التي دفعت الحكومة البريطانية لتدريسها في مدارس ويلز وتخصيص برنامج خاص بها للإذاعة المحلية. وإن كل هذا مما نراه من وحدة الجنس واللغة بأجزائها الثلاث. ولا شك أن العدل والإنصاف يتطلبان المحافظة على هذه الوحدة وتدعيمها ولنا فيما قررته هيئة الأمم المتحدة أخيراً ما يحقق تنفيذها.
مصطفى عبد الله بعيو
خريج جامعة فاروق ومعهد التربية العالي بالزاوية بطرابلس
الغرب(886/30)
رسالة الشعر
شوك ولهيب. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
كتبت لشاعرها تقول:
(أنها النغم الهارب من وتر الآلهة، الهاجع في آفاق الخيال. كيف هي لياليك في بغداد أما ليالي في باريس فقلب جريح ودمع مسكوب وسهاد طويل. . عاد الربيع ليبعث النشوة ويلهم الخاطر ويجدد الحياة ويحرك الجماد ولكنني وأنا في سجني لا أحس إلا بمعاني الخريف فليت ربيع دجلة يحرك قيثارتك فتسمعني ولو من بعيد أغاريد الطيور في الخميل النشوان) فأجابها بهذا اللحن الشاحب الكئيب.
يا (هنائي) أنا كالليل سجين الأمنيات
كلفاً بالوهم أقتات بصاب الذكريات
وأغني للأماني السود أشجى أغنياتي
عجباً إذ تسأليني عن مصيري وحياتي
أوما تغنيك أشعاري وفي شعري ذاتي
يا حياتي صرت من بعدك أصبو لمماتي
وتمنيت رمادي لو تقاضى جمراتي
وتمنيت لو أن الصحو يعنو للسبات
يا (هنائي) يا تراتيلي ويا شجو صلاتي
يومك البسام في (باريس) ينعى أمسياتي
لم أعد أحفل بعد اليوم بالروض النضير
ليمت زهري وعطري واختلاجات العبير
ولتبدد عاصفات الريح أكمام زهري
ولتحطم بسياط النار أكواب خموري
وليخلد ما وعى النسيان ألحان الطيور
المثلى همسات الطير في أذن الغدير(886/31)
أم لأجلي شجع الظل على لحن الخرير
يا غدي يا أملاً يزهو على كر الدهور
ما مصيري إن تولى الموت تدبير مصيري
منذ ركبت البحر نحو (السين) أدمتني الخطوب
وتولاني ذهول - لست أدريه - عجيب
فعلى عيني قطوب وعلى وجهي شحوب
وبكفي ارتعاش. . وبجنبي لهيب
لم تعد - يا صفو أيامي - أماني تطيب
نئت بالأوهام والأوهام شوك ولهيب
وإذا بي بين أحلامي وآمالي غريب
كنت لي يا جنة الأشواق فجراً لا يغيب
وسلاماً باركت زهر أمانيه قلوب
ونعيماً رجعت أصداءه السكرى طيوب
يا (هنائي) أنا والليل كلانا توءمان
وكلانا سرمدي الحزن مفجوع الأماني
وكلانا في مدى الأزمان شؤبوب أغاني
وكلانا حلم طاف بأوهام الزمان
وكلانا لوعة خرساء أوبث دخان
وكلانا موجة أفنى صداها الشاطئان
وكلانا كالغد المجهول مجروح الجنان
وكلانا كاحتضار النور أو لمح ثوان
وكلانا في ضمير الغد أصداء العيان
يا هنائي أنا والليل كلانا توءمان
أنت في (باريس) يطويك سلام أبدي
ويوافيك كأحلامي صبح عبقري(886/32)
وببغداد رهين القيد ملتاع شقي
أبداً يشجيك من أوتاره شعر شجى
هو لو تدرين والقيد بكفيه أبي
وهو لو تدرين قلب بأمانيه سخي
أنت عطر سكرت من فوحه الدنيا ذكي
وربيع حافل بالطيب مسحور شهي
إيه يا فتاتي والحب لغز سرمدي
حفلت دنياك بالري قلب ظمي
يا ربيعي أنا ما لي أن تجافاني الربيع
ملء كفي من الأحلام شوك ودموع
وجراحات وتسهيد وشجو ونجوع
يا ربيعاً لم تعد تدرك معناه الجموع
أنت في قلبي وإن كان على الأرض الصقيع
أنت في شعري وفي ثغري أغاريد تضوع
لست كالناس متى هاموا تولاهم ولوع
أنا لا أبكي إذا غابت شموس وشموع
لا ولا أشكو إذا لم يك في الناس سميع
أنا إن آين خضوعاً فلمغناك الخضوع
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(886/33)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول مشكلة النقد والنقاد
حياك الله وحي أدبك الرفيع وبعد
كان سروري بعودتك إلى تعقيباتك الفطنة الواعية في (الرسالة) الغالية سرور المنصف بعودة الحق إلى نصابه. . . ولم يحملني تعريجك على ديواني الجديد (من نبع الحياة) أن أنقص من فرحتي ذرة واحدة بعودتك إلى عشك الأليف في (الرسالة) لأن الحق عندي لا يتأثر بما قد يثار من غبار.
ولقد كان تعقيبك على مشكلة النقد والنقاد، وتعرضك لنقد الدكتور الأهواني لديواني الجديد مسألة من حق الأهواني أن يدافع عن نفسه فيها، فله قلم وفيه بيان، ولست أدعي الحرص على مركزه كناقد أكثر من حرصه على نفسه.
على أنني تبينت من كلمتك استعدادك لمناقشة الدكتور الأهواني حول ما كتبه عن ديواني (من نبع الحياة) في مجلتي الرسالة والثقافة، ولما كنت أخشى أن يكون حكمك على الديوان حكماً (غيابياً) لأنه فاتني - تقصير - أن أتشرف بإهدائه إليك. . . فإنه يسعدني أن أقدم الديوان بين يديك، راجياً أن يتيح لك من صدق النقد وإخلاص التوجيه ما أعده ضرورياً للكمال الفني.
وإني على ثقة أن مثلك في حسه الفني الأصيل لخليق أن يرحب الكتاب والشعراء بنقده، وأن يلتمسوا بعينه البصيرة ما لم يقع لعيونهم في ساعات التلقية والإلهام.
ولا أزيدك علماً يا أخي بأنني في كتابي (بين سطور) كنت أتوخى الحق دائماً فيما تعرضت له من نقد أساتذة إجلاء وأصدقاء أعزاء، ولكن الحق شيء والصداقة شيء آخر. وآفة النقد عندنا - على وجه العموم - أننا نميل مع الزمام لأحدهما على صاحبه.
فكن كما أعهدك، الناقد الذي يفرق بين الحق والمجاملة. ولا أقول الصداقة، لأن الظروف لم تسعدني بصداقتك. . . وإن كانت صلاتنا الفكرية تجمعنا في إخاء تالد والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد عبد الغني حسن(886/34)
نشكر للأستاذ محمد عبد الغني حسن جميل رأيه ونبيل عاطفته وكريم تقديره. ونبادر فنقول له: إننا حين عرضنا لمشكلة النقد والنقاد في عدد مضى من الرسالة، ولم لم تكن تهدف إلا إلى أن نقف إلى جانب الحق ولو أغضب الحق بعض الناس، وأخرجهم من صنوف الأصدقاء ودفع إلى معسكر الخصوم. . هذا الحق الذي وقفنا إلى جانبه عماد الحرص البالغ على أن تظل القيم منزهة عن الهوى مبرأة من الأغراض، وجوهره الدعوة الخاصة إلى أن يبتعد بعض الناس عن كل مجال لا يحسنون التعرض له ولا يجيدون الحديث فيه!
ودعوتنا إلى تقرير هذا الحق ليست وليدة اليوم حين طالعنا كلمة نقدية عن ديوان الأستاذ الفاضل، وإنما هي وليدة الأمس المسجل على صفحات الرسالة منذ عامين، هناك حيث وردت في مقالنا عن (عناصر الشخصية الأدبية) هذه الكلمات. . (. . . ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر. عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، وغني الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابة القصة فلا يوفق، وهذا القصاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء، وكل هؤلاء ينقصهم هذا العنصر الخطير من عناصر الشخصية الأدبية، ونعني به عنصر الدراسة الخاصة لقيم المواهب والملكات).
قلنا هذا بالأمس ثم عدنا فأدركنا الحديث حول معناه وما زلنا نصر على أن بعض الناس - ومنهم الدكتور الأهواني يقحمون أنفسهم في ميدان النقد وهم بعيدون عما ينبغي له من وسائل، ويكرهون أقلامهم علو وزن الشعر وهم مفتقرون إلى اكتمال الأداة! هذا الحق الذي نقرره بالنسبة إلى الدكتور الأهواني قد سبقتنا إليه (الرسالة) منذ عامين على وجه التحديد يوم أن تعرض الدكتور لنقد كتاب من كتب الأستاذ تيمور وهو كتاب (أبو الهول يطير)، ولقد عقبت (الرسالة) على نقده بهذه الكلمات: (آفة النقد عندنا الترديد والتقليد، فالدكتور الأهواني يردد نغمة قديمة لم يبق لها في الآذان رجع! كان النقاد يأخذون على أسلوب الأستاذ تيمور في نتاجه الأول أنه أقرب إلى العامية في ألفاظه وتراكيبه، فإنتقش هذا الرأي في أذهان الناس، وصرفهم الكسل العقلي عن استئناف النظر فيه بالموازنة والنقد، فلم(886/35)
يلاحظوا تطور أسلوب الكاتب على إدمان الجهد وكر السنين، ومن الابتذال إلى السمو، ومن السهولة إلى هذا الجمود العقلي أن الناس قد اعتقدوا في كا كاتب من كتابنا وزعيم من زعمائنا، رأياً لا يتحولون عنه ولا يغيرون منه. فلو كان عندنا نقد يجاري التطور، ولنا رأي يساير النهوض، لحكمنا على الكاتب بالقول ما يقول، وعلى الزعيم بآخر ما يعمل. ويظهر أن الأستاذ الناقد يخلط بين السهولة والابتذال فإن السهولة من الصفات الجوهرية للبلاغة، ولا يعيبها على الكاتب إلا جلف بالطبع أو متقعر بالصنعة.
هذا ما عقبت به (الرسالة) على طريقة الأستاذ الأهواني في النقد، ولعل الأستاذ عبد الغني حسن يوافقنا على أن هذه الكلمة الموجزة تغنينا وتغنيه عن كل تفسير وتعقيب. . أما نحن فنوافق الأستاذ الفاضل على قوله بأن تعرضنا لنقد الدكتور الأهواني مسألة من حقه أن يدافع فيها عن نفسه، هذا الحق وما زلنا على استعداد لمناقشة الدكتور فيما كتب، وبيننا وبينه كما قلنا موازين النقد وديوان (من نبع الحياة). ولعله لا يركن إلى الصمت المطبق طلباً للسلامة وإيثاراً للعافية.
ولقد تفضل الأستاذ عبد الغني حسن فأهدى إلينا ديوانه الجديد خشية أن يكون حكمنا على الديوان (غيابياً) كما يقول ألا يشعر الأستاذ الشاعر أنه قد اندفع بعض الشيء فأفلت منه زمام التعبير؟ إننا يا أخي لسنا من هذا الطراز من النقاد، أولئك الذين يحملون أقلامهم لينقدوا كتاباً ولم يقرئوا منه إلا فصلاً أو فصلين، أو ديواناً ولم يقفوا فيه إلا عند قصيدة أو قصيدتين. . لسنا من أولئك، وإنما نحن - في غير ما زهو أو استعلاء - أصحاب النقد الذي يعرف القواعد والأصول على خير ما تعرف القواعد والأصول. ولا بأس من أن نصفح عن هذه الزلة القلمية، نصفح عنها ما دام خلوص النية وسلامة القصد، وهذا ما يؤكد صدق الشعور في كثير من السطور.
ألا فليطمئن الأستاذ عبد الغني حسن إلى أننا أمناء على الحق حرصاء على القيم أوفياء للكرامة العقلية. . وكل هذه الأمور ستكون هي المنهج الذي نسير عليه ولا منهج سواه، هذا إذا قدر للدكتور الأهواني أن يناقشنا فيما أخذناه عليه من شطحات. ولن نتعرض لديوان الأستاذ بنقد أو تحليل إلا إذا أقنع صاحبه بأن يدافع عن نفسه، وما أكثر ما ينتظره في الطريق الوعر من عقبات!(886/36)
بقيت إشارة الأستاذ الفاضل إلى كتابه (بين السطور) وما جاء بها عن طريقته في نقد الأساتذة والأصدقاء، وهي الطريقة التي تؤمن بالوفاء للأمانة القلمية قبل الوفاء للعلاقة الشخصية. نحب أن نؤكد للأستاذ عبد الغني حسن وتشهد ندوة الرسالة منذ أسابيع - أننا كنا أول المعجبين بمسلكه هذا في النقد الأدبي، يوم أن طالعنا له فصلاً من فصوله النقدية في مجلة الثقافة عن آخر كتاب أصدره الدكتور الأهواني. . . لقد كان قاسياً كل القسوة على صديقه حتى لقد نعت الكتاب بأنه لا نفع فيه ولا غناء! هذا المسلك الرائع في معاملة الأصدقاء قد دفعنا إلى الإشادة به في ندوة الرسالة أمام أناس كان من بينهم الدكتور الإهواني. . ولسنا ندري لم نسى الدكتور (الناقد) ذلك الذي قلناه في تلك الليلة تعقيباً على نقد لأستاذ عبد الغني حسن لكتابه وقد كان توجيهاً له بأن يسير في نفس الطريق! لقد صدق الأستاذ حين قال: إن الحق شيء والصداقة شيء آخر، وإن آفة النقد عندنا - على وجه العموم - أننا نميل مع الزمام لأحدهما على صاحبه. .
حول ذكرى الموسيقار باخ
(سمع بعض مئات من الناس أول أمس في كاتدرائية ستراسبورج قطعاً من موسيقى جون سباستيان باخ، أثناء الاحتفال بمرور مائتي عام على وفاة ذلك الفنان الخالد.
وقد أضيء برج الكنيسة بالأنوار وزينت جدرانها بقطع ثمينة من السجاد، واشترك في عزف الموسيقى عد كبير من فناني فرنسا واركسترا راديو ستراسبورج. وكان هذا الاجتماع حفل الافتتاح بذكرى باخ. ويطول الاحتفال بها أسبوعين كاملين)!
هذا هو الخبر الذي نقلته إلينا (الأهرام) منذ أيام. . . وهو خبر لو رحت تحصي عدد كلماته، لوجدتها، تقل عن الخمسين! ومع ذلك، فأنت لا تستطيع أن تحصي أصداءه في النفس، ولا طلاله في ثنايا الحس، ولا معانيه في أعماق الفكر، ولا رواسبه في قرار الشعور!
أسبوعان ينفقان في تخليد ذكرى. . . ذكرى انقضاء مائتي عام على وفاة فنان. إن القوم هناك لا ينسون الفن، ولا يجحدون الفضل، ولا يشغلون على التهجد في محراب الذكريات. . . كل أيامهم وفاء، وكل غاياتهم مثل، وكل لآثارهم خلود. وهكذا تجد (باخ) حياً في الضمائر، ماثلاً في الخواطر، نابضاً في القلوب. . . ولو انقضى على وفاته قرنان من(886/37)
الزمان!!
نظرة إلى هنا. . . ونظرة إلى هناك. وقارن بيننا وبينهم. . . بين الذهول والوعي، بين الخمول والخلود، بين الوفاء والجحود، بين القبح والجمال، بين الموت والحياة! ترى هل تجد وجهاً للمقارنة؟ لا نظن. . ولكنه الشيء يذكرنا بنقيضه كلما خطر في البال شرق وغرب. . شرق ينسى الذاهبين من أصحاب الفن بعد شهور، وغرب لا يريد أن ينساهم ولو مرت قرون!
أتذكر يوم حدثناك عن تخليد الأمريكيين لمرجريت ميتشل، تلك الفنانة المبدعة التي ظفرت بالخلود لأنها قدمت إلى العالم قصتها الوحيدة الفريدة (ذب مع الريح). .؟ لقد كان التقدير للكاتبة العظيمة مظهر من مظاهر الكرامة العقلية في الولايات المتحدة، تلك التي يقال عنها إن دوي الآلات فيها قد طغى على صوت الفن، وإن ضجيج المادة قد أخمد سبحات الروح. . أما في فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية، فحسبك أن تعلم أنه ما من أديب كبير أو فنان معروف إلا وله تمثال يذكرك به في ميدان من الميادين، أو شارع قد أطلق عليه أسمه، أو دار قد حولت إلى متحف ينتسب إليه. . وما أكثر وسائل التخليد الأخرى التي تقوم بها الهيئات والحكومات.
عندهم هذا كله. . وعندنا الأدباء والفنانون يتضورون من الجوع ويضجون من الغبن، ويصرخون من الإهمال وهم أحياء، فإذا ماتوا. . اكتفينا في إحياء ذكراهم بحفلة تأبين تقام، ودمعة رثاء تذرف، وكلمة أسف تكتب ثم ينسى كل شيء بعد حين!!
قصيدة الشاعر للأستاذ يوسف حداد
قلت لنفسي بعد أن فرغت من قراءة القصيدة المنشورة في العدد الماضي من الرسالة: هذا شعر. . وعندما نقول إن قصيدة الأستاذ يوسف حداد شعر، فإننا نعني تلك الومضات الغادرة (من الأداء النفسي) الذي شرحنا لك بالأمس القريب أصوله وقواعده. ولا نريد بهذه الكلمة أن نطبق مذهب الأداء النفسي على قصيدة الأستاذ الحداد، ولكننا نريد أن نقدم إليه أخلص التهنئة وأصدق الإعجاب، على الرغم من بعض المآخذ التي لم تخل منها قصيدته المحلقة.
إن جناح هذا الشاعر ليعيد في رأينا من الأجنحة النفسية في أفق الشعر العربي الحديث. .(886/38)
ومن عجب أن هذه القصيدة التي نشرتها الرسالة هي أول أثر فني نطالعه للأستاذ حداد، وأعجب من هذا أننا لا نعرف من أي قطر من أقطار العروبة يصدح بشعره: أهو من لبنان أم من سورية أم من العراق. . . أم تراه من شعراء المهجر؟ سؤال لم نعثر له على جواب، لأن قصيدته المشورة لم تشر إلى موطنه حيث يقيم!
إننا نشعر بكثير من الأسف لأننا لم نقرأ شعراً للأستاذ حداد من قبل، ونشعر أيضاً بكثير من الحرج حين يدور في خلدنا أن بعض القراء قد يعرفونه حق المعرفة، في الوقت الذي لم تتح لنا الظروف أن نعرفه بعض المعرفة. مهما يكن ما أمر فإنه ليسعدنا كل الإسعاد أن يطلع الشاعر على هذه الكلمة، وأن يبعث إلينا بقطوف من شعره لنقضي معه لحظات أخرى معطرة بأرج المتعة الروحية الخالصة!
وللذين يوافوننا ببعض ما يعرفون عن الأستاذ حداد - إذا لم يقدر أن يطلع على هذه الكلمة - تحية ملؤها الشكر العميق.
أنور المعداوي(886/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عودة السفير الأدبي
عاد إلى مصر من أوربا معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف، يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، بعد الرحلة الثقافية التي مر فيها بروما وباريس وفلورنسا، وفي كل من هذه البلاد كان سفيراً أدبياً لمصر، أدى لها خدمات عملية ورفع رأسها في المحيط الثقافي الخارجي، وليس كل ما أداه في هذا العام جديد، فقد اعتاد كل صيف أن يرحل إلى البلاد الأوربية رحلات، ليست كلها استمتاعاً وتفريج عناء، فهو لا يخلص من مراد نفسه الكبيرة أينما توجه، والجديد في هذا العام هو الأعراض الرسمية التي كان أظهرها رياسته لوفد مصر في مؤتمر اليونسكو بفلورنسا، وقد اعتدنا منذ أنشئت اليونسكو، أن نكون جزءاً من مؤتمراتها، نصنع فيها ما يصنع سائر الأعضاء، يتحدث ممثلونا كما يتحدث ممثلو سائر اليلاد، تكتب بيانات وتلقي خطب وتوزع منشورات ثم يسدل الستار على المؤتمر المنقضي ويظل مسدولاً حتى يرفع من الممثلين في المؤتمر التالي، ولكنا في هذا العام كان ممثلنا طه حسين، الذي سخر من بعض أمر اليونسكو، وحاول أن يرد هذه الهيئة إلى أغراضها وما يليق بها، فنفي النعاس والتثاؤب عن الأعضاء، ولم يغادر مكانه في جنبات المؤتمر، الذي لا يزال منعقداً، أصداء من أحلام الإنسانية وأمانيها في مستقبل ثقافي تهيأ فيه سبل المعرفة لجميع الناس، وتتقارب فيه أفكار الجميع، وهي - كما قال الدكتور - صدور أمر يرجى تمامها، كما يرجى أن يبعث الأمل في تمام عواقبه يوماً من الأيام.
والجديد أيضاً في رحلة هذا العام أنها كانت قصيرة، أعجلته فيها الرسميات وما ينتظره هنا من الجلائل عن أن يأخذ لنفسه قسطاً من المتعة، ولكنه على رغم هذا القصر ومع هذا الحرمان قام بسفارته الأدبية قياماً عرفته مصر فابتسم له ثغرها (الإسكندرية) إذ تلقته الجموع هناك من رجال التعليم وغيرهم بما هو أهله من الحفاوة وروعة الاستقبال.
لقد كان طه حسين عنواناً لمصر في أوربا أمام ممثلي العالم، فكان خير دعاية لها، وكان بشخصيته مصداق قوله في المؤتمر: إن مصر قد سبقت إلى تحقيق الآمال الثقافية التي يسعى إليها الناس في هذا العصر، فهي تحقق الصلة بين الشرق والغرب وهي تأخذ من(886/40)
الغرب ما تأخذه فتذيعه في الشرق، لأن مصر ليست أثره، لا تحب أن تستأثر بالخير من دون جيرانها.
ما أكثر الذين يسافرون إلى بلدان أوربا وأمريكا من المصريين للمؤتمرات وغيرها، وما أكثر ما تنفقه مصر عليهم، وما أقل ما تجنيه من (نزهاتهم) وما أجدرهم أن ينظروا إلى هذا الرجل الدؤوب، طه حسين، ليتخذوه مثلاً يحتذي في جهوده المتواصلة المثمرة.
معجم فيشر
كان مجلس مجمع فؤاد الأول للغة العربية قد أحال مهمة فحص جزازات المرحوم فيشر إلى لجنة مؤلفة من الأساتذة أحمد العامري وعباس العقاد وإبراهيم مصطفى وقد قامت اللجنة بهذا الفحص وكتبت تقريراً قالت فيه إنها كانت تتمنى أن ترى وسيلة لاتمام هذا العمل العظيم فإن جهد الدكتور فيشر طول حياته في إعداد هذا المعجم جدير أن يسجل وألا يضيع شيء منه، فتأسف اللجنة إذ ترى استحالة تحقيق هذا الغرض الآن لأن الجزازات لم تتم وما تم منها لم يرتب، فالعمل مع ما تم منه لم يزل في حاجة إلى جهد عظيم ليس من اليسير تحقيقه بعد كارثة المعجم بوفاة الدكتور فيشر. واقترحت اللجنة لحفظ هذا الأثر والانتفاع به بما يلي:
1 - ترتيب الجزازات الموجودة في المجمع.
2 - السعي لاسترداد الجزازات الناقصة والتي اصطحبها الدكتور معه إلى أوربا.
3 - أن تفسخ هذه الجزازات بعد ترتيبها وتدون في كتاب جامع ليبقى محفوظاً للرجوع إليه والانتفاع بشيء منه.
4 - وعلى سبيل الاحتفاظ بقدر الإمكان بآثار الدكتور فيشر تشير اللجنة بأن تنشر المقدمة التي وضعها والجزء الذي راجعه في مجلة المجمع.
وقد ناقش مجلس المجمع هذه المقترحات في إحدى جلساته، فرأى الأستاذ الزيات أن المعجم الكبير الذي يقوم به المجمع يشبه معجم الدكتور فيشر وأن الاختلاف بينهما لا يتجاوز النظام والطريقة، ومن الفرق بينهما أن معجم فيشر يحرص على مراعاة التطور التاريخي للكلمة والمعجم الكبير يميل إلى الاستطراد والحشد.
وعلى ذلك يرى الأستاذ توحيد العمل في المعجمين. وقال الأستاذ إبراهيم مصطفى: إن(886/41)
المقترح الثالث من مقترحات اللجنة يتضمن المعنى الذي أشار إليه الأستاذ الزيات من الاستفادة بمعجم الدكتور فيشر، ويصح أن نضيف إلى المقترح عبارة (وتكون تحت تصرف يدي لجنة المعجم الكبير)
وبعد نقاش طويل وافق المجلس على قرارات اللجنة، وقد تضمنت القرارات أيضاً، أن ينظر مكتب المجمع في تعيين خمسة من الموظفين لترتيب هذه الجزازات وتدوينها، على أن يتم هذا العمل في نحو سنتين.
المرأة في نظر الإذاعة المصرية
في برامج الإذاعة المصرية برنامج اسمه (ركن المرأة) أكثر ما يذاع فيه عن المأكولات والمشروبات والملبوسات والمفروشات، مثل كيفية صنع (المكرونة بالفرن) و (الحمام المحشي) و (سلطة البذنجان) وكيف تنظمين هندامك يا سيدتي، وكيف تزيلين (البقع) من السجاد. . . إلى آخره وأحياناً يتحدث بعض الأطباء، فيتناولون موضوعات مثل آلام الحمل والعادة الشهرية. . . إلى آخره أيضاً.
وهكذا لا تخرج مواد ذلك (الركن) عن أمثال تلك الضرورات الحيوانية، فلا أدب ولا ثقافة ولا شيء من هذه الأمور التي تخاطب العقل والروح أو تمتع الذوق الفني. كأنهم يرون أن المرأة لا يعنيها غير الأكل والشرب وإزالة (البقع) ولو أنهم كلفوا أنفسهم النظر إلى برامج المرأة في الإذاعات الأخرى لرأوا فيها إلى جانب هذه الأشياء المنزلية ألواناً من الآداب والثقافات تقدم إلى المرأة باعتبارها إنساناً له عقل يحتاج كما تحتاج المعدة إلى الغذاء.
والأمر لا يحتاج إلى خبرة فنية إذاعية كالتي اكتسبها رؤساء الإذاعة أو التي يقال إنهم اكتسبوها من عملهم هنا أو رحلاتهم هناك. . فالمسألة يسيرة جداً ى تتطلب أكثر من أن ينظر أي موظف يعرف القراءة فيما تنشره مجلة الإذاعة المصرية نفسها من برامج الإذاعات العربية الأخرى، وهذا هو العدد الأخير نرى فيه (مراجعة كتاب غربي للدكتورة سهير القلماوي) و (برنامج اختبري معلوماتك للآنسة عناية رمزي) و (المرأة والفنون الجميلة للآنسة نلي نقادي) و (المرأة في الشعر والنثر) وغير ذلك من أمثال هذه الموضوعات.
فهل ترى الإذاعة المصرية أن المرأة (حيوان طابخ!)؟ ولم إذن لا تسمى ذلك (الركن(886/42)
(مطبخ المرأة)؟
مسرحية عزيزة هانم
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الصيفي من أول شهر رمضان الحالي في المسرح الصيفي الذي أعدته في مكان سينما حديقة الأزبكية، وذلك بمسرحية (عزيزة هانم) وهي رواية فكاهية من نوع (الفودفيل) التي يقوم على سوء التفاهم الذي تنشأ عنه المفارقات المضحكة، فعزيزة هانم إنما هي فرس يعالجها الطبيب البيطري الذي أفهم خطيبته أنه طبيب بشري، ويحدث بسبب ذلك ارتباك تفهم منه الخطيبة أن عزيزة اسم خطيبة أخرى للدكتور، ويتبين لها في آخر الأمر أنها من مرضاه. . .
والرواية لا يقصد بها غير التسلية، وهي وإن كانت لا موضوع لها بطبيعة هذا النوع إلا أنها فكاهة راقية لا ابتذال فيها ولا إسفاف، أعني أنها تسلي المثقف وصاحب الذوق من غير أن يصطدم بمناظر متكلفة أو حركات مبتذلة. والرواية حقاً ليست مما يناسب رسالة الفرقة المصرية ولكن عذرها أنها تقدم بضاعة للصيف في الهواء الطلق وأنها احتفظت بجمهور الراقي لعدم الابتذال ونوع الفكاهة.
على أنها ستقدم بعد هذه الرواية مسرحية (مدرسة النساء) اقتباس المرحوم عثمان جلال عن موليير وهي مسرحية فكاهية أيضاً ولكنها تعتمد على الطبيعة الإنسانية في منطقها وتحليلها.
ورواية (عزيزة هانم) أخرجها الأستاذ فتوح نشاطي فأحسن إخراجها وإن كنت آخذ عليه إظهار الفرس على المسرح ولا سيما أن منظرها ليس جميلاً فهي مما يجر العربات وحالتها تستدعي تدخل جمعية الرفق بالحيوان، وكذلك منظر العملية التي أجريت للحمار، فقد كان ذلك مملاً وممجوحاً لا يستريح إليه ذوق المشاهد، وكان يكفي الحديث عن هذه الأشياء في الحوار دون حاجة إلى إظهارها.
والحوار طبيعي ظريف مما ساعد على إجادة الممثلين والممثلات، فقد قام كل من هؤلاء بدوره خير قيام، وخصوصاً حسين رياض وأمينة رزق ونعيمة وصفي وفاخر فاخر، ولا يمنعني عدم معرفة اسم الممثل الذي قام بدور (أبو شوال) عن الإشارة إلى توفيقه في هذا الدور.(886/43)
عباس خضر(886/44)
رسالة النقد
المسرحية بين الكتابة والخلق
مفرق الطريق
للأستاذ يوسف الخطاب
يخطئ من يظن أن النقد رصد للأخطاء وتلمس لأوجه الضعف في العمل الفني. فمثل هذا النقد لا يصدر إلا عن ناقد عاجز لا يقوى على مجابهة العمل الناجح، لأن في نجاحه ما يذكره بعجزه، ويؤكد فيه ضعفه. وهذا الضعف من النقاد لا وجود له إلا في مجتمع بدائي يترصد الناس فيه بعضهم لبعض، وعلى عكسهم يكون الناقد الأمين الذي يتحدى جانب القوة في العمل الفني ويفرح بلقاء العمل الناجح ولا يضيق به. ومن هنا حق لنا أن نرحب بالترجمة الفرنسية لمسرحية الدكتور بشر فارس (مفرق الطريق) التي عرفت المسرحية قبل أن تأخذ طريقها إلى المطبعة فمثلت بنجاح على (مسرح الجيب وفكرت الصحف الفنية أن في النية إعادة تمثيلها في سبتمبر القادم. وظهرت هذا الشهر مطبوعة في المجلة العالمية لفن المسرح ونحن نرحب بهذه المسرحية لأنها لكاتب من كتاب الطليعة في النقد والأدب العربي، ومسرحية كانت من أولى المسرحيات الرمزية التي طالعت المكتبة العربية، ومثلت بنجاح على المسرح الفرنسي، وكم تقنا إلى مشاهدتها على المسرح المصري لنحكم أنها للتمثيل قبل أن تكون للقراءة.
وكنا قد يتصدى لنقد المسرحية، أقرر أني أعتمد على النص المطبوع في منا قشة بنائها المسرحي، أما الجانب التمثيلي فقد كفاني مناقشته نقاد باريس، ولنا عودة إليه حين تشهد مصر تمثيل هذه المسرحية كما شاهدتها فرنسا.
وقبل أن أبدأ النقد هناك حقيقة يجب أن نتفق عليها هي أنه إذا كانت الأعمال الفنية تحمل بين ثناياها مقاييس الحكم عليها، وأن الفنان يحدد اتجاهه بحكم ثقافة العصر الذي نشأ فيه فإن المؤلف هذه المسرحية جعل المسألة أكثر تحديداً وإلزاماً حين قدم لمسرحيته بتوطئة طويلة عن الرمزية وطبيعة تناولها لها. ومن هنا أرى أنه من التعسف أن يخضع الناقد الكاتب لاتجاهين هما حتماً مختلفان بحكم الثقافة والجيل.(886/45)
ونحن محتاجون للوقوف عند التوطئة لنتعرف إلى المسرحية واتجاهها الأدبي الذي يقول المؤلف أنه انتهى إليه بعد جهد ودراسة. وهذه الدراسة متى تجنب المسرحية كل ما ترمي به أكثر أعمالنا الأدبية من شيطانية وارتجال. ثم أن المؤلف لم يدلف إلى ميدان المسرحية الروزية إلا بعد أن عالج الرمزية في القصة والمقالة والقصيدة، فهو لم يصل إليها طفرة بل بطريق طبيعي كالصوفي حين يترقى في مراتب الوجد.
ومن تفسيره الرمزية في أعماله وأعمال الآخرين نعرف أنه من أنصار الرمزية النفسية السيكولوجي الموضوعي. فهي (استنباط ما وراء الحس من المحسوس. . . . يشرك في كشفها الإحساس. . . والإدراك. . والتخيل. .) وبقدر ما تتهم به الرمزية من غموض إلى حد التباس تعريفها على النقاد - حتى لنجد لها عند كل ناقد تعريفاً - فإننا لا نجد تعريفاً أكثر وضوحاً من تعريف المؤلف الذي يجد له سنداً من علم النفس. ويستمر المؤلف في بسط نظريته في الرمزية على هذا الأساس النفسي الفردي فيروي لنا الغاية التي يستهدفها وأنها سعي (وراء العالم الحقيقي عالم المجدان المشرق. . . عالم أمثل. . . يوفق بين الواقع والموهوم).
ثم يصور لنا طريقة الصياغة الرمزية فيقول أنه (يعرض عن الطريقة المألوفة في الكتابة بغية أن يجعل منها ركناً يغلب فيه الارتجال على الصناعة. . وحتى يخلص إنشاءه من الخطابة. والتحليل. . والوصف الواقعي. . . وحتى يسابق الزمن الذي أصبح فيه الإيجاز والإيماء أحب للقارئ العربي من الإطناب الطويل) لذا تراه يجمع في ألفاظ معدودة طائفة من الآراء والتأثيرات.
هذه هي الخطوط الفنية التي ترسمها المؤلف ننتهي منها لنخلص المسرحية ونوضح فكرتها إذا سلمنا بأن المسرحيات الرمزية ذات دلالة ظاهرة لباطن خفي يمكن إيضاحه بتخليص المسرحية كما تجري في الظاهر.
و (مفرق الطريق) كما تصورها الشخصيات بالملابس التي ترتديها، والحي البلدي الذي تدور حوادثها بجوار منازله القديمة تروي لنا علاقة امرأة بشباب أبله تملأ به فراغاً تركه حبيب ذو نزوات حسية نفرتها منه. ويظل الأبله قانعاً بها في صمت، وتظل هي مستسلمة لصمته - وإن كانت دائمة الثورة على هذا الصمت مشغولة بالإحساس القديم، ويأتي حبيبها(886/46)
الأول فيستعيد أن القصة ويدعوها لأن تذهب معه. وهنا ينبعث الإنسان الكامن في الأبله ويبكي لأول مرة في حياته. فلا يسع المرأة التي تخلصت من كل العواطف الساخنة إلا أن تدع الرجلين يأخذان طريقهما في الحياة العادية وتصعد هي في طريق التجرد من العاطفة البشرية.
هذه هي المسرحية كما ترى في الظاهر: قصة فيها من الواقع أحداث واقعية وأشخاص تنبض بالحياة وفيها من الرمز والإيحاء الشيء الكثير. ولكن الرمزية ليست بواقع الحياة الذي تصوره بل بدلالة هذا الواقع على النفس الإنسانية وتفسيره لمكوناتها المجردة. ولقد قدمنا أن النقاد يختلفون في تفسير الرمزين وأعمالهم ولا عجب. فالرمزية أكثر المذاهب الفنية ذاتية وحاول المؤلفون كساءها بالموضوعية.
ومع هذا فإن الرمزية - مفرق الطريق - تتضح عند عنوانها الذي يحدد طبيعة المسرح الذي تجدي فوقه أحداثها بأنه ملتقى العقل والشعور. ويتضح هذا التحديد في توطئة المسرحية التي كتبها المؤلف. وأخشى أن أقول أن الدكتور بشر فارس وقد مارس النقد خاف أن يأتي مخرج أو ناقد فلا يحسن فهم اتجاهه فقدم المسرحية بتوطئة طويلة وتبين لطبيعة المسرح ورسم للشخصيات ثم عاد مرة ثالثة فرسم المسرح والشخصيات كما تبدو في الواقع مبالغة منه في إيضاح المبهم من الأشياء. ولو رجعنا إلى هذا التبيين نجد أن المرأة تمثل النفس الإنسانية حين تضطرب فيتجاذبها عالم العقل الباطن - كما يمثله الأبله - والعقل الظاهر الذي يمثله حبيبها ذلك الإنسان العادي الذي لا يدرك المعاني المجردة.
هذه هي الشخصيات وما ترمز له من دلالات تجمع بينها الفكرة المسيطرة على الشخصية الرئيسية: وهي الصراع بين العقل الظاهر والباطن وضرورة التوفيق بينهما. ومن هذا الصراع الدفين أخذت المسرحية شكلها الدراماتيكي - وإن كانت المسألة ليست قصراً على الشخصيات والفكرة وحدها، فإن المواقف التي مرت بها لها دلالاتها لأن المؤلف يلونها بفكرته.
ونكتفي بهذا التفسير لرموزه المسرحية لننتقل إلى بنائها المسرحي. وهنا نجد المؤلف يبدؤها بمشهد من التمثيل الصامت يستمر مدة ليست قصيرة فيكسبها الشكل المسرحي الخالص. وهي التفاته فنية إلى طبيعة المسرح التي لا تقتصر على الكلام والحوار، ثم(886/47)
يعود فيكررها أكثر من مرة.
وإذا ربطنا هذا التمثيل الصامت وصوت الناي الذي يسمع مراراً أدركنا أن المؤلف أراد أن يوفر لروايته كل العناصر الجمالية التي عرفها المسرح منذ نهض عن الإغريق حتى وجود البالية. وهو حين يستخدم هذه العناصر لا يقدمها كإضافات تملأ فراغاً بل كدلالات أصيلة تشارك في الأحداث. ففي المنظر الصامت الذي تبدأ به المسرحية نجد الأبله يمسك عوداً من القصب وبينما يكسره على ركبتيه يشد العود إليه بقوة كان هناك من يريد خطفه. فتسأله المرأة (أيريد أحد خطف قصبك؟) وهنا تكون دلالة التمثيل على الحالة النفسية التي تبدو عليها الشخصية.
وإذا تركنا الصمت الموسيقي اللذين أعانا المؤلف على توضيح فكرته نجد الحوار عنده لا يقتصر على تأدية وظيفته اللغوية فحسب بل تعداها إلى ما هو أهم حين يقف به عند مجرد العرض بل يجعله يشارك في الأحداث باعتبار أن الحدث المسرحي في الرواية الرمزية يدور داخل النفس ولا يتجسد خارجها وأن وسيلة الحديث النفسي الحركة الباطنية التي يعبر عنها الحوار المار. وميزة هذا الحوار أن ألفاظه فيها من الشعر طابع الإيجاز واللطف.
ورغم الجهد الذي تتطلبه هذه المسرحية من الممثل والمخرج بل ومن المشاهد - فأنا نطالب بتمثيلها على مسارحنا باللغة الفرنسية من الفرق الأجنبية التي تأتينا كل من عام من فرنسا. وباللغة العربية من الفرقة النموذجية التي ستقدم عيون الأدب المسرحي.
يوسف الحطاب(886/48)
البريد الأدبي
تراث الرافعي
نشر الأستاذ منصور جاب الله كلمة بالعدد 783 من الرسالة الغراء تحدث فيها عن كتاب (أسرار الإعجاز) لنابغة الأدب السيد مصطفى صادق الرافعي ساق في آخرها رجاءاً إلى أبناء الرافعي حفظهم الله لكي يقوموا بطبع هذا الأثر النفيس، وكأنه ظن أن هذا ليس في وسعهم فتوجه برجائه إلى معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف لكي يأمر بطبعه على نفقة وزارة المعارف (حتى يتم به النفع وتتم به الفائدة المرجوة إن شاء الله)
وهذه الصيحة الكريمة يؤيدها ولا ريب كل من يعرف فضل الرافعي على العربية وبلاغتها، ويرجو مخلصاً أن يصغي معالي الوزير، ويحقق للعربية أمنيتها.
وإني بهذه المناسبة أجهر بأمر لا بد من بيانه، وذلك إن تراث الرافعي لما ينشر بعد على الناس كاملاً، إذ لا تزال عشرات المقالات مما أنشأه قلمه البليغ مبعثرة بين جوانب الصحف لم تجتمع في كتاب!
وأذكر أن الرافعي رحمه الله طلب مني في أوائل شهر يوليه سنة 1931 أن أرسل إليه ما لدى من وحي قلمه فأرسلت إليه سبعة وستين مقالة أتممها بما لديه - كما أخبرني - فبلغت أكثر من مائة مقالة! وهذه المقالات الكثيرة لم ينشر منها في وحي القلم إلا بضع مقالات! ولدي الآن غير ما أرسلت إليه أكثر من عشرين مقالة ويوجد نحوها في بطون الصحف وإني أعرف مكانها فأين ذهبت هذه المقالات كلها؟؟
ومن العجيب إنك ترى في آخر الجزء الثالث من كتاب وحي القلم (تم الجزء الثالث من وحي القلم وبه تم الكتاب)!!
هذا هو تراث الرافعي الذي إن لم نعمل على نشره ضاع كما ضاع غيره من ذخائرنا الأدبية والعلمية! فهل يقيض الله له من ينشره على الناس المتأدبين، ليبقى محفوظاً على مر السنين؟؟
المنصورة
محمود أبو ريه(886/49)
أدب المجون
تناول أستاذنا الجليل صاحب الرسالة في مقالاته الأخيرة الحديث عن (أدب المجون)، فعرض ألواناً من هذا الأدب الماجن، وقص علينا كيف كانت نهاية الشعراء والكتاب الماجنين، كبشار، وأبي نواس من شعراء العرب، وأوفيد من شعراء الرومان، وبودلير من شعراء فرنسا، فقد وجد هؤلاء الشعراء من يردعهم، ويحارب مجونهم، وضلالهم!
وأحب أن أعقب على هذه الأحاديث القيمة بكلمة أعرض فيها لوناً آخر من أدب المجنون، سرت عداوة في صحفنا ومجلاتنا العربية على نحو نشفق منه على الأخلاق، وندعو إلى محاربته درءاً لشروره وآثامه. . .
هناك صحف ومجلات تعتنق هذا المبدأ الماجن، فتملأ صحفها بالمواد التي تخرج القارئ من مطالعتها بدون ثمرة. . . لأنها تدور حول محور واحد. . . هو (المجون)!
ولقد كفت الصحف والمجلات المصرية زمناً من نشر الصور العارية إثر ضجة أثارها الغيورن على الأخلاق من أنصار الفضيلة، ولكن الكثيرين عادوا لما نهوا عنه، فتطالعنا الصحف على اختلاف نزعاتها الحزبية، بالصور الخليعة، تشغل جانباً كبيراً من أعمدتها قد تضن به على مقال أدبي، أو بحث علمي، أو موضوع اجتماعي يعالج مشاكلنا الاجتماعية الآخذ بعضها برقاب البعض!
ولقد جمعني مجلس ببعض أصحاب هذه الصحف ومحرريها، وأبديت لهم وجهة نظري ولكنهم أكدوا لي أنهم إنما يرضون قارئهم!!
إنهم يقولون إن القارئ لا يرضيه أن يشترى مجلة إلا إذا عرف أن هذه المجلة تعني بنشر الصور (اللطيفة)! وفي وسعهم إرضاء قارئهم - الذي يحرصون على إرضائه وتنويع المواد. . . والابتكار في اختيار الموضوعات الطريفة التي لا يملها!
ونعم. . . في مقدورهم أن يرضوا قارئهم فيقدمون له المواد الدسمة، والأبحاث الطريفة، والتحقيقات الصحفية التي تكشف له عن حقائق يجهلها. . . بدلاً من الهبوط بالصحيفة إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط الخلقي، وحسبنا ما نعانيه من انحلال الأخلاق، وتدهور القيم الخلقية!(886/50)
ومن المؤلم حقاً أن تجد هذه المجلات من الذيوع والانتشار ما لا تجده غيرها من المجلات التي تؤدي رسالة الأدب الرفيع، والعلم النافع، والفن الجميل!
إننا إذا حاولنا أن نقارن بين نسبة توزيع هذه المجلات وتلك لهالنا الفارق البعيد في الأرقام، ولأدركنا أن (العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول) كما قرر (جريشام) في نظريته الاقتصادية المعروفة!
هذه كلمة سريعة، أوحت إلي بها مقالات أستاذنا الزيات عن (أدب المجون) عرضت فيها لوناً من ألوان الأدب الماجن الذي نلمسه في معظم صحفنا ومجلاتنا المصرية!
فلعل أصحاب تلك الصحف، وحملة تلك الأقلام، أن يعملوا على النهوض بأدبنا وصحافتنا إلى المستوى اللائق بكرامتنا. . وديننا. . وصحافتنا!
بنك مصر القاهرة
عيسى متولي
الأطفال والأفلام
في بريد المحرر بعدد الاجبشان جازيت الصادر بتاريخ
1361950 رسالة من آنسة مصرية هي الآنسة (هدى برادة)
بعنوان (الأطفال والأفلام) تخضع قبل عرضها على الجمهور
لرقابة وزير الداخلية فإنها لذلك ينبغي أن تقسم قسمين. .
الأول الأفلام التي تناسب الأطفال من الثامنة عشرة فما دونها.
. والثاني الأفلام التي يشاهدها الكبار.
وقالت إن بالخارج دوراً للعرض تمنع دخول الأطفال من سن السادسة عشر فما دونها، وتسائلت عن السبب الذي من أجله لا تأخذ مصر بهذا النظام.؟ واقترحت حضرتها أن يكون عرض الأفلام التي تناسب الأطفال من الساعة التاسعة إلى الثانية عشرة مساء حتى(886/51)
يصبح من العسير عليهم الدخول في هذا الوقت ما لم يستصحبهم آباؤهم. . . بينما تعرض الأفلام الأخرى في الحفلات النهارية والمسائية الأولى. . وذكرت أن الغرض من منع الأطفال من مشاهدة الأفلام البوليسية والأفلام المثيرة كفيلم (جيلدا) هو أنها تترك آثار سيئة في نفوسهم وأنهم يتخذون من أبطالها مثلهم العليا. . وهذا كلام جميل. . وأجمل منه لو حضرة الكاتبة المصرية التي تحتفل كل هذا الاحتفال بالأطفال وتربيتهم عالجت موضوعها في صحيفة مصرية. . وكتبت كلمتها باللغة العربية التي ينبغي أن نعتز بها وتتعصب لها، والتي يمكن أن يفيد منها أبناء جنسها لا المستر هوايت ومسز بلاك من أبناء التاميز فالأمر إذن لا يعدو أن يكون واحد من اثنين إما أن تكون هذه الآنسة المصرية لا تجيد الكتابة بلغة قومها وهذه إحدى الكبر، وإما أنها تجيدها وتؤثر عليها لغة أجنبية تكتب بها ظناً أنها بذلك تدل على ثقافتها ومدى تمكنها من الكتابة باللغة الأجنبية. وليس شك في أن هذا تفكير سقيم لا يصح أن يصدر عن آنسة مثقفة تدرك أن بمصر صحافة مصرية تفسح صدرها لبحث المشاكل العامة والتماس الحلول لها بطريقة قومية.
المنصورة
أمينة رشدي(886/52)
القصص
قصة من فلسطين
خطيئة
للأستاذ علي محمود سرطاوي
فتحت سلوى عينها على الحياة على مدينة نيويورك، تلك المدينة التي تقوم فيها ناطحات السحاب، والبيوتات المالية التي تعبث بمقدرات العالم، وتسير التاريخ، وترسم له الاتجاه.
وكان والدها قد رحل إلى أمريكا قبل ذلك التاريخ، ووافته الفرصة فجمع مالاً وفيراً، وعاد إلى الوطن يفتش عن عروس في فلسطين أرادها أن تكون أسرته، فبنى بابنة عمه وعاد بها إلى أمريكا.
ولكن الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأهل ومراتع الصبا، جعل حياة الزوجة جحيماً لا يطاق، فما زالت به حتى قنع بالعودة بعد تصفية أعماله.
والحرية في مدينة نيويورك تختلف عنها في الشرق اختلافاً عظيماً، ذلك أن الفتاة والفتى يلعبان طفلين معاً، ويتعلمان شابين ولا يجدان في مسالك الحياة ما يغير ذلك. والتعليم في معانيه يحمل العقل مسئولية الخطأ في الحياة، وينير أمام الضمير الطريق، والفتى والفتاة في الخامسة عشرة يجتازان أشق مرحلة من مراحل الطيش، تلك المرحلة التي يعزف فيها الشيطان على قيثارة الشباب ألحان الجنون، وتصرخ الطبيعة في الجسد الغض بصوتها الذي يزلزل العقل ويدمر الإحساس، ويوقد بأبنائهم وبناتهم في هذه السن المبكرة، والآخذ بيدهم لاجتياز هذه المرحلة الموحشة.
عادت سلوى وهي في الخامسة عشرة من عمرها مع أمها وأبيها إلى أرض الوطن الذي لا تعرف عنه شياً، وإلى الأهل الذين تختلف طباعهم وسلوكهم وعاداتهم عما الفتنة في نيويورك، فرأت نفسها غريبة لا تفهم الناس ولا يفهمونها. تبصر النساء يسرن وقد وضعن على وجوههن أغطية شفافة سوداء فلا تفهم معنى المحافظة على الأخلاق عن طريق الثياب بدلاً من غرسها في صميم الروح.
ومات والدها بعد ستين من رجوعها إلى فلسطين، ولم يترك غيرها فكانت الوراثة الوحيدة(886/53)
لثروة كبيرة انفق الأب زهرة عمره الطويل في جمعها.
وكانت والدتها صغيرة السن، جميلة الملامح، مر في حياتها شاب بعد وفاة زوجها لوح لها بالحب فخدعها فانقادت إليه أسلمته قلبها وجسدها وحياتها وتزوجا.
وعاشت سلوى في المنزل الجديد، فكانت منقبضة الأسارير لم يرق في عينها زواج أمها، لأن ذكريات أبيها كانت عميقة في روحها، وكان يؤلمها أن ترى إنساناً آخر مع أمها تلك التي كانت قبل عهد قريب أحب الناس إلى أبيها.
وشبع الزوج وارتوت الحيوانية المتغلغلة فيه من جمال الأم، وراح لعلب نفسه المجرمة يسيل كلما رأى سلوى وهي كالوردة العابقة تملأ المنزل سحراً وفتنة وجمالاً وسعادة. وراح يتود إليها ويكثر من المزاح معها، ومن العناية بها، ويطيل في مداعبتها فأدركت الأم ذلك، وشعرت بكيانها ينهار وبعزيمتها تخور، وبقلبها يتحطم، وهي ترى ذلك الذي أسلمته قلبها، ووثقت بشرفه ومروءته ورجولته، يطارد ابنتها، فثار غضبها، وجرحت كرامتها.
وأرسلت سلوى إلى جدتها في مدينة أخرى. وكانت تلك الجدة في الخمسين من عمرها، مات زوجها وجميع أبنائها ولم يبق غير ولد واحد في العشرين من عمره، لا يعمل عملاً، وإنما يعيش مع أمه على ما كانت ترسله أخته أم سلوى لهما من نقود.
وجدت سلوى عند جدتها لوناً جديداً من الحياة الطليقة لم تألفه عند أمها التي كانت تقيد حريتها، فأحبت العيش عندها، إن خالها يملأ فراغها؛ يسيران معاً بين الحقول الخضراء والبساتين المثمرة، ويتسلقان الجبال، ويهبطان الأودية في نزهتهما اليومية، ويلعبان معاً، ويأكلان معاً، وينامان معاً في غرفة واحدة. . والجدة ترى ذلك فلا يداخلها سوء، ولا يمر بخاطرها مكروه، ولا تجد في ذلك ضيراً! أليس خالها؟ أو ليست محرمة عليه وهي ابنة أخته؟
ولكن الطبيعة النائمة في جسديهما قد استيقضت، والجسدان الجائعان - وقد أهاج فيهما الإحساس بالجوع الطعام الغريب الشهي - قد تحررا من قيود الحياء بعد أن كان كل الاحتشام يحول بينهما وبين ذلك الإحساس المدمر العنيف. ولكن اللقاء الدائم والخلوة المستمرة، والتفكير المتواصل، قد استحال إلى حب جارف متبادل بين القلبين؛ فمات العقل في ساعة من ساعات الشهوة العنيفة الطاغية من حنين الجسد إلى الجسد، فنزلا، وقادهما(886/54)
الشيطان إلى الغواية والخطيئة، وراحا يأكلان من الثمرة المحرمة، والعجوز على مقربة منهما منصرفة إلى صلاتها وأورادها وعبادتها، تدعو لهما وتبارك حياتهما، والنار حولها قد التهمت الأخضر واليابس وقد أحرقت أعز ما عند حفيدتها من طهر، ودمرت القوانين السماوية يد الشيطان الرجيم، وعلى أصوات آي الذكر الحكيم، تنبعث صلاة عميقة من روح العجوز إلى الله.
ومرت الأيام، فشعرت الفتاة بشيء يتحرك في أحشائها، ففاتحت خالها الشاب الأرعن فلم يفهم شيئاً ولم يعنها على فهم ما غمض عليها، ولعله لا يعرف. . . واستمر دولاب الزمن في دورانه فكثر الحنين وظهرت أعراض الحمل. . . وتنبهت العجوز بعد فوات الوقت، ولم يكن بد من ظهور الفضيحة، فحملت الفتاة إلى المستشفى وهناك وضعت طفلة.
واتصل بعلم الأم ذلك الإثم، فجن جنونها، وخولط عقلها، فلطمت وجهها، وهي في إرسال كريمتها إلى جدتها كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولكن بصيصاً من الإيمان العميق بالله وبالقضاء والقدر حالاً بينها وبين الموت. فأخذت طريقها إلى أمها وأخيها وبودها أن تسحقهما سحقاً. لقد انقلبت إلى وحش كاسر تريد الثأر لكرامة ابنتها! ولكن ممن! من أخيها - نعم من أعز إنسان لديها! تريد أن تنتأر لكرامتها الجريحة، والعار الذي لم يسبق له مثيل، والذي سيكون نصيب ابنتها البريئة الطاهرة في الحياة. لكنها لم تستطع أن تفعل شيئاً أكثر من وضع الطفلة في ملجأ والهرب بابنتها إلى منزلها لتكون تحت جناحيها.
ومرت الأيام وأحست الفتاة بفداحة الإثم الذي اقترفته فكرهت الحياة ونقمت على البشر، أظلمت الدنيا في عينيها فما عادت ترى غير أطياف سود من البؤس والشقاء وما عادت تشعر إلا بتلك الجراح العميقة في قلبها تلك الجراح التي لا تميت ولكنها لا تبرأ منها على حد تعبير اللورد بايرون في ملحمته (الفارس هارولد).
وتقدم لخطبتها شاب متعلم رأى أطياف سعادته تنعكس في عينيها الساحرتين، فأحبها حباً مبرحاً عنيفاً - ولم يكن يعرف شيئاً عن أحزانها ومتاعب روحها وراح يمني النفس بها، وبالسعادة معها. . كان ذلك ما يضطرم به قلب الشاب العاشق الذي كان يزور أمها، ولكن الفتاة وهي ترى حبه العميق بادياً في عنايته بها، وفي سؤاله عنها وفي نظراته لها، وفي رغبته فيها - كانت تعيش في عالم بعيد، لم تحس بوجوده في قلبها، الذي حطمته الآلام(886/55)
وأصبح لا يتسع للسعادة ولا يقوى عليها.
وتقدم يخطبها، وكان ذلك ما تمنته الأم فرضيت به ولكن الفتاة لاذت بصمت عميق.
لقد مات قلبها ولم تكن راغبة في أن تجر الشقاء معها شاباً أحبها بأقوى ما في القلوب من حس وشعور، إنها لن تحبه. زاحت الأم المسكينة تضع المستحيل لتردها إلى المنطق، ولتزين لها الحياة الجديدة، بعد أن تلاشى الماضي بكل ما فيه من دموع وذكريات.
كانت الفتاة تحب أمها حباً عميقاً فسكتت أيضاً وحسبت أمها أن ذلك إيذاناً بالقبول وزفت البشرى إلى الشاب ففرح فرحاً شديداً وتلق سلوى خطيبها في بشر مصطنع وهو يضع خاتم الخطبة في أصبعها، ويضع قبلة حملها كل ما في قلبه من عبادة وحب شديد على يدها البضة الناصعة البياض. وفرحت الأم فرحاً شديداً وتمت مراسيم الخطبة في الحفل رائع بهيج. وعين يوم الزفاف. ونامت العروس والغد ينتظرها والشاب العاشق يحلم بالسعادة في ذلك الغد بين ذراعيها.
وفتحت الأم غرفة العروس، بعد أن استبطأت نهوضها من النوم، فوجدتها جثة هامدة مضرجة بدمائها وهي في ملابس العرس. لقد قطعت إحدى الشرايين في جسمها لتستريح من آلام الحياة التي حملها عن روحها الموت.
المسيب - العراق
علي محمود سرطاوي(886/56)
العدد 887 - بتاريخ: 03 - 07 - 1950(/)
إنجلترا هي المثل. . .
نحن هنا نحارب الشيوعية، وفي إنجلترا يحاربون الشيوعية أيضاً. . ولكن السلاح يختلف عن السلاح والنتائج تفترق عن النتائج، حتى لنستطيع أن نقول إنهم مطمئنون وإننا غير مطمئنين. وحسبك دليلا هذا القانون الذي تفكر الحكومة في إصداره ونعني به قانون المشبوهين السياسيين!
ولقد نادينا على صفحات هذه المجلة بوجوب اختيار السلاح الملائم للقاء هذا العدو البغيض، وهو محاربة الفكرة بالفكرة، ومواجهة الحجة بالحجة، ومقاومة الدليل بالدليل. . هذا السلاح القاطع لو أخترناه، ثم استخدمناه، لأتينا بخير النتائج ولظفرنا بالكثير، ولأزهقنا باطل الدعاة حين يذيعون على الملأ أننا قد لجأنا إلى منطق الإرهاب في محاسبتهم حين عجزنا عن منطق الإقناع. . وتلك نغمة خبيثة يرددها اليوم أعداء النظام كما كان يرددها بالأمس أعداء الإسلام، حين نادوا بأن الدين الجديد قد فرض على خصومة بقوة السيف لا بقوة الدليل والبرهان!
قلنا هذا ونادينا به ودعونا إليه. . . وقلنا أيضاً في مجال الرد على المعترضين الذين لا يؤمنون بقوة هذا السلاح ولا يطمئنون إلى جدواه: إذا كنتم تعتقدون أن العلاج لن يقضي على المرض ولن يجتث جذوره من بعض العقول؛ تلك التي ستبقى على إيمانها بالأفكار المنحرفة لأن أصحابها تجار مبادئ وأصحاب أهواء وأغراض، إذا كنتم تعتقدون هذا فإن لدينا العلاج الحقيقي للمشكلة كلها، أو قل إنه السلاح الرئيسي الذي يرد أسلحة الدعاة وهي مفلولة لا تقطع ولا تدفع. . . إنهم ينفثون سمومهم في كل بقعة يلوح لهم منها شبح الفقر وتبدو معالم الحرمان، وفي كل مجموعة من الأحياء تجأر بالشكوى منادية برفع غبن أو مطالبة برد حق مهضوم.
وإذن فلنعمل جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا نفرق بين فرد وفرد وبين فريق وفريق. . . علينا أن نهيئ العلم للجاهل، والعمل للباطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح. عندئذ تذهب دعوة السوء صرخة فارغة في واد عميق، وتكسد البضاعة الزائفة حين تغلق في وجه المبادئ المنحرفة كل سوق من الأسواق!
هذا السلاح الأخير لن تجد إنسانا عاقلا يرفع صوته معترضا على نتائجه المادية(887/1)
والمعنوية. . . إنه السلاح الذي تشهره إنجلترا في وجه الشيوعية فتنهي المعركة بلا جلبة ولا ضوضاء، في ثقة المطمئن إلى إحراز النصر وجدوى العاقبة وسلامة المصير. وهذا هو العلاج الذي نود أن يتنبه إليه المسئولون في مصر. . وحسبهم أن إنجلترا هي المثل!
العدالة الاجتماعية هي الكفيلة برد العدوان. . وإذا قال لنا قائل إن نظام الطبقات في مصر لا يفسح الطريق لهذه العدالة فهو مسرف في الوهم؛ لأن نظام الطبقات في إنجلترا لا يزال قائما على قدميه، تمثله هذه الفئة من الأرستقراطيين والنبلاء، وهي فئة متميزة كل التميز ظاهرة في المجتمع الإنجليزي كل الظهور، تشير إليها على الأقل مدرسة هارو وكلية إيتون، وهما المعهدان العلميان اللذان لا يطرق أبوابهما غير أبناء الممتازين من الطبقة الاجتماعية، ونعني بها طبقة الأمراء واللوردات!
نظام طبقات في إنجلترا واضح كل الوضوح، وحرية رأي مكفولة كل الكفالة، وحزب شيوعي وآخر فاشستي، ومع ذلك فالشيوعية هناك بائرة لا تجد أذنا تسمع، والفاشستية حائرة لا تجد يداً تصفق. . لماذا؟ لأن العدالة الاجتماعية هناك قد هيأت العلم للجاهل، والعمل للعاطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح. . وإذا اجتمعت كل هذه القيم المثالية لمجتمع من المجتمعات، فلا حاجة به إلى الخوف الذي يدفع إلى سن القوانين وإصدار التشريعات!
إنجلترا هي المثل. . وليست إيطاليا التي أقلق نظامها تولياتي، أو فرنسا التي هز كيانها توريز!!
أ. م(887/2)
صورة من الحياة:
قلب أب!
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 3 -
. . . وأراد خالك أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك فما استطاع، لأنه تربه في الدار والغيط، وزميله في اللهو والعبث، وصاحبه في زمن الشباب والفتوه، ورفيقه في أيام الشدة والرخاء؛ ولأنه رأى فيه صمتاً استشف من ورائه الضيق والندم، وأحس من خلاله ثورة مكفوفة تجيش أحياناً ثم تتوارى في حزن وكمد، ولمس فيه أوبة حائرة مضطربة لا تكاد تبين عن رأي، ولأنه ألفى الدار تموج بأشتات من الناس تعلت نياتهم وسقمت ضمائرهم، فيهم اللؤم والشماتة، يتربصون بالرجل - أبيك - الدوائر لينالوا من كرامته ويتندروا برجولته. فجلس بازاء أبيك صامتاً وإن الثورة الجامحة لتوشك أن تجتاحه، وإن الحزن المرير ليكاد يعصف به، وإن الأسى العارم ليصعره عصرا. . .
واعتركت في نفس خالك عوامل الغضب والرحمة: الغضب مما كان من أبيك، والرحمة به لأن ألسنة وضيعة لاكت رجولته التي لم تخدش يوماً، ثم تراءت له خالتك وهي تصرخ صراخاً فيه فزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. . . تراءت له وهي تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى، فهب من مكانه ثائرا يريد أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك، ولكن. . .
ولكنه هب فجأة ليرى أمامه ناظر العزبة، لقد دخل الرجل على حين فجأة من الناس، وعلى وجهه سمات الشجن، وفي مشيته علامة الاضطراب، وراح يتحدث بكلمات حزينة متقطعة لا تكاد تفصح عن معنى. وقص الرجل على الملأ قصة الصبية الثلاثة الذين طاروا من دار أبيهم يقطعون الطريق الوعر الطويل يضنيهم الجهد وترهقهم الهاجرة ويقتلهم الضنا
وماتت الكلمات على الشفاه، ثم ما لبث الجمع أن انفض في صمت، وخلا المكان إلا من رجلين - أبيك وخالك - يتحدثان حديث الأخوة والصداقة، فرضى خالك
ثم صفرت الدار إلا من رجل واحد يلفه الظلام والسكون، رجل ينبض قلبه بالحنان وتخفق(887/3)
روحه بالرحمة وتضطرب نفسه بالندم، ثم شملته اللوعة الفوارة فطفرت من عينيه عبرات تشهد بأن قلب الأب لا ينطوي - أبداً - إلا على الرقة والمحبة، ولا ينضم إلا على العطف والشفقة. وأرقته الحادثة فما هدأ إلى مضجعه حتى مطلع الفجر
وهبت نسمات الفجر الندية توقظ أباك من غمرة الفكر وتزعجه عن نوازعه الأرضية، فانطلق صوب المسجد ليلف أتراجه في سبحات النور الإلهي التي تغمر القلب حين ينزع عنه ترابية الأرض ليعيش حيناً في دفقات النور السماوي. وبين يدي المحراب خلص أبوك من ضنا نفسه وخلع ثوب الأسى عن نفسه، غير أن عبرات حرى مازالت تترقون في محجريه
وخرج أبوك من المسجد وقد أفعم قلبه بالبغضاء والكراهية للفتاة التي أوحت إليه أن يرفع الطعام الشهي من بين يدي الصبية الصغار أحوج ما يكونون إليه، ليعيشوا حيناً في العناء والجهد والجوع.
الآن خسرت الزوجة الحمقاء - في لمحة واحدة - السعادة التي كانت تطمع أن تستخلصها لنفسها يوم أن تفزعك عن الدار التي ضمتك في حنان ونشأتك في عطف. . . خسرت السعادة لأنها فقدت قلب الزوج وعطف الرجل وهدوء النفس، فقضت عمرها في ضيق ونكد لأن نزوات شيطانية سيطرت عليها فدفعتها فارتكبت حماقة هوجاء افتضح أمرها فأقضت مضجعها وهدمت حياتها وحطمت أملها.
يا لعدل السماء! إن الحفرة التي حفرتها الفتاة لتقذف فيها بثلاثة من الصبية الأبرياء قد فتحت فوهتها في شره وغلظة لتبتلعها هي ولتبث فيها زهرة العمر تذوق وبال الوحدة والانكسار والألم جميعاً.
وفي بكرة الصباح هم أعمامك - وهم كثر - صوب العزبة يريدون أن يختلوا الصبية عن العقل، ويخدعوهم عن المنطق، ويسيطروا عليهم بكلمات براقة جوفاء. ودخلوا عليك وأنت تتناول طعام الصباح - بين أخويك - في لذة وشهية، في جو من المرح والمحبة، وقد طمت النشوة على أتراح الأمس. . . دخلوا فابتسموا وابتسمت. وأذهل الرجال أن يسمعوا في صوت هذا الصبي رنات الجد والحزم، وأن يجدوا في حركاته معاني الرجولة الآمرة المسيطرة. وأخذ عمك يزوق كلاماً فيه الرقة والطلاوة يريد أن يختلك عن العقل، ويخدعك(887/4)
عن المنطق، ويسيطر عليك بكلمات براقة جوفاء، فقلت له (ألست الآن رب هذه الدار وصاحب هذا الغيط وسيد هذا القوم؟).
قال عمك الأكبر (بلى، يا بني، ومن قبل!)
قلت (أليست دار أبي تشرق بالخير المتدفق من غلات هذه الأطيان؟)
قال (بلى، يا بني!)
قلت (والنعمة التي ترفل فبها زوج أبي، والرخاء الذي ينعم به أبي، أليسا من فضل هذا الحقل؟)
قال (بلى وربي!)
قلت (والطعام الذي رفع من بين يدي في قسوة وجفاء، أليس من جني هذه الأرض؟ لقد رفعت يدي - مرغماً - عن طعام تشتهيه نفسي في غير ذنب جنيته، على حين أنه من بعض مالي أنا لقد حرمت الطعام والطف معاً ففزعت إلى هنا لأجد المال والطعام والحرية جميعاً. فلا علي إن أنا فعلت!).
قال عمك الأكبر (ولكنك ابن أبيك، يا بني وهو أبوك!)
فقلت أنت (ولكنه أراد أم يقتلنا جميعاً دفعة واحدة على حين لم نقترف جريرة، ولم نحمل له في قلوبنا غير المحبة والاحترام)
فقال في رقة وهو يحاول أن يحبس عبرة تراود نفسها أن تطفر من بين محجريه (لقد جئنا لنعتذر عن عطلة أبيك حين ندم على ما كان منه. ولشد ما يؤلمه أن تظلوا هنا في منأى عنه وأنتم نور عينيه وسعادة قلبه ولذته العظمى في الحياة وأمله الرفاف حين يهي الجلد ويهن العزم ويذوي العود وتسري الشيخوخة الباردة في دمه. فهل كنت تطمع أن يطير هو إليكم ليعتذر؟)
وسمعت - يا صاحبي - كلمات عمك وهي تفيض حناناً ورحمة فتهاوت قوتك وانهارت عزيمتك، وأطرقت تكرر كلمات عمك في همس والعبرات تنهر من عينيك سلا ينبئ بأنك مازلت صبياً لم يدنسك الدغل ولا شوهك الغيظ ولا لوثتك المادة، ثم نظرت إلى الجمع من خلال عبراتك الطاهرة وقلت (لا ريب، فهو أبي. . . ولا أعصي له أمراً، فمر بما يريد)
وانطوت ساعة فإذا أنتم بين يدي أبيكم يضمكم في شوق، ويقبلكم في شغف، ويحدثكم(887/5)
حديث قلبه وقد اختلطت عبرة بعبرة وخفق قلب لقلب وتعانقت زفرة وزفرة، ثم اندفع الركب يسير.
وعشتم - يا صاحبي - في الدار أحزابا ثلاثة: الأب، وهو رجل دين وإيمان، في قلبه العطف وفي روحه الحنان؛ تتأرث الذكرى في جوانحه - منذ يوم الحادثة السوداء - قوية عنيفة، تذكره بالزوجة الأولى - أمك - التي ذاق إلى جانبها لذة العيش ومتعة الثراء وحلاوة الإخلاص؛ والتي يرى صورتها مرسومة - دائماً - على وجوهكم فيرى الزلة التي ارتكب على حين غفلة منه تتشبث به وتخز ضمير، فلا يجد شفاء نفسه إلا في أن يضمكم إلى صدره ضمات شوق وحنان، وإلا في أن يغمركم بالعطف والشفقة، وإلا في أن يبذل لكم من ماله ومن سلطانه، وإلا أن يعقد العزم على شأن يخصكم به ليكون كفارة ما كان. وانطوت السنون وهو لا ينسى. . . والزوجة، وهي فتاة حمقاء أعجزها أن تستميل قلب أبيك بعد أن انكشف خبثها وبدت شيطانيتها، فانكسرت شوكتها وعاشت بينكم غريبة تعاني مرارة الذلة وقسوة الخضوع، لا تحس الراحة ولا الهدوء ولا اللذة. . . أما أنتم فقد ربطتكم الشدة بروابط الصداقة وجمعتكم القسوة بأواصر المحبة، وأنتم ما تزالون في أول الطريق. . .
لقد عقد أبوك العزم على شأن يخصكم به ليكون كفارة الزلة التي ارتكب على حين غفلة منه، فماذا كان منه، يا صاحبي؟ وماذا كان؟
كامل محمود حبيب(887/6)
فلسفة الإصلاح
للأستاذ محمد محمود زيتون
ليس من العجيب أن تكون الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي قديمة قدم الإنسان، فقد كان العالم من قبل غير منسجم مع النزعات البشرية، لأن شيئا جديد طرأ على العالم وهو (العقل) الذي لم يكن شيئاً مذكورا.
أخذ الإنسان بهذا السلاح. وحاول استخدامه، وهو في موقف المقاومه، إزاء جميع القوى المحتشدة عليه، والتي ليس له طاقة بها. حينذاك شعر بأنه أقل من خصمه الحيوان: فالحيوان مسلح بظفره ونابه وقرنه، أما هو فليس له من ذلك شيء، وإذن فهو مضطر إلى تقليده ليدفع عن نفسه كل العوادي بحجر يرمي به أو غصن يتخذه رفيقا له أو ما شابه ذلك مما يقع تحت سمعه وبصره.
وهكذا كان الإنسان في بدء حياته (حيواناً صناعياً) لأنه ألغى سلاح العقل واعتمد سلاح الوحشية، ولا سبيل إلى إنقاذ الإنسان من هذه الوهدة التي تردى فيها والتي كادت تحشره في زمرة الوحوش إلا بالرسالات السماوية تعلو به إلى ما يجب أن يكون عليه من تسام بالروح، وعلو بالعقل، وترفع عن الحيوانية التي أساس العملة فيها الظفر والناب والقرن.
والحكمة من هذه الرسالات السماوية النهوض بالسلاح الإنساني إلى النواحي الإيجابية في الحياة، وتهذيب كل اللغات اليدوية فالروحية والمعاشية، على أحسن وجه وأقوم سبيل.
ولم تكن الرسالات في الحقيقة بدعا من الأمر، وإنما هي من صميم الحاجة الإنسانية وليست منها ببعيد، فإذا ضلت الإنسانية سبيلها، فما عليها إلا أن تعود إلى تعاليم الرسالات، فإذا اهتدت فليس معنى ذلك أنها جاءت بجديد، وإنما هي عادت إلى حيث يجب أن تعود.
وتاريخ الفكر البشري شاهد عدل على ذلك: ففلاسفة اليونان - والقدامى منهم بصفة خاصة - ظلوا ردحاً من الزمن حيارى إزاء ما هم فيه من فوضى في كل مرافق الحياة السياسية والاجتماعية والفردية والروحية. وهم عندما أرادوا لهذه الأحوال إصلاحا بدءوا بإصلاح العقل لأنه السلاح الذي إذا شحذ جيدا كلن أقطع وأمنع مما سواه، بل هو وحده الموصل الجيد للغرض المنشود، وأقرب المسالك إليه.
شاعت السفسطائية قبل سقراط؛ فسادت الفوضى، في الفكر والخلق والدين والسياسة، وإذا(887/7)
بسقراط يرمي أول سهم في هذا الميدان ويعلق تلك الحكمة الخالدة (أعرف نفسك) التي كان قد قرأها على باب معبد (دلف) وعندما سئل عن مبلغ علمه قال (كل ما أعرف هو أني لا أعرف)
وهذا من غير شك بدء طبيعي؛ لأن العارف لا يعرف وإنما سقراط (نبي غير رسمي) أراد أن يبشر برسالة الفكر فحطم كبرياء السفسطائيين وغرورهم وتعاليهم، فهو يعلن أنه لا يعلم شيئا لأنه عالم أما هم فيدعون علم كل شيء لأنهم جهال.
وبلاد اليونان جبال بينها شعاب تقوم فيها مدن منفصل بعضها عن بعض ومنذ ابتليت بالغزو الفارسي ذاعت فيها الفوضى من كل لون. فلما تعمق أثر هذا الجرح السياسي في خواطر المفكرين الأحرار، وضح سبيل الخلاص، وإذا بسقراط (المعلم) الأول يتحدث ويعلم ويمشي في الأسواق ويرتاد النوادي لينشر دعوته مؤمنا بسلاحه القوي وهو العقل فيتفلسف. وأول ما يتفلسف يقيم هيكلا فكرياً للعقل يسميه الفلاسفة (نظرية المعرفة) ويسير على نهجه من بعده أفلاطون وأرسطو، ويكمل اللاحق، منهم ما لم يتح للسابق.
ومن أجل هذا ترى دائما (نظرية السياسة) آخر حلقة من حلقات الفلسفة اليونانية، وقد سبقتها سلسلة طويلة عريضة من تمهيدات فكرية في الطبيعة والنفس والأخلاق).
والسياسة عند اليونان هي غاية الإصلاح، أما العقل فهو نقطة البدء والغاية هي التي تحفز على الحركة، وتبعث على العمل.
وكان أفلاطون أكثر تحمساً للإصلاح، وأغزر إنتاجا في مجاله، فقد رسم في (الجمهورية) رسما تخطيطياً بارعا للمجتمع اليوناني، وذلك بعد عرض لنظرية (المثل) التي محور ارتكازها العقل، والتي توحي بأسبقية الميزان على الموزون، وضرورة (القيمة) في (الحكم).
وليس أدل على نمو هذا الاتجاه، وصدق النية فيه، من إصلاح الفكر الذي نادى به أرسطو إذ وضع (آلة) لعصمة الفكر من الوقوع في الخطأ، وحرص على أن يكون (المنطق) وهو علم هذه الآلة مدخلا لكل علم، وأساسا لكل تفكير.
وما إن انحدرت البشرية إلى هاويتها السحيقة حتى انتشلتها الرسالات تباعاً، ونهضت بها إلى درجات السمو، فلما غفلت عنها أوربا المتخبطة في دياجير الظلم والظلام، عنت نفس(887/8)
الحاجة التي صادفت سقراط إذ خلقت منه ظروف بلاده مصلحا اجتماعيا.
وكذلك العالم الإسلامي في العصر الوسيط، إذ أراد الفارابي أن يقيم دعائم (المدينة الفاضلة) فاتجه إلى حقيقة النبي، والسر في صلاحيته للرسالة، ودرس نفاوت البشر في درجة الخيال وملكة الإلهام، فإذا أراد أفلاطون أن يكون الفلاسفة ملوكا والملوك فلاسفة، فقد أراد الفارابي أن يكون الفلاسفة المصلحون ورثة الأنبياء.
وأحاطت بفرنسا في القرن السادس عشر ظروف سياسية عنيفة كان العقل فيها وقفا على أهل الكنيسة والعلم احتكار الهيئة كبار العلماء. فقام (ديكارت) ليدلي بدلوه في الإصلاح بمناورة فلسفية يتخطى بها كل الحواجز والموانع التي تحول دون غرضه فأحصى في كتاب خاص (قواعد لهداية العقل) لأن شيطاناً ماكراً - على حد تعبيره - يعبث بأفكاره ويضلله ولم يلبث أن وضع كتابه الآخر عن (المنهج للبحث عن الحقيقة في العلوم) وقال فيه أول ما قال (العقل أعدل الأشياء توزعا بين الناس) فكانت هذه الجملة بمثابة القنبلة التي ألقاها (ديكارت) على الأرستقراطية المزعومة فحطم أوكار الاحتكار العلمي، وأخرج العلم من زوايا الأديار والصوامع، إلى ضوء النهار الساطع، ونجحت الثورة الديكارتية.
وجاء (فرنسيس بيكون) فحطم (أصنام العقل) التي لخصها فيما يلي: -
1 - أصنام القبيلة: كناية عما يرثه الإنسان من جنسه البشري كتصديق العرافين والمنجمين الذين إذا صدق أحدهم مرة ظن الإنسان أن النجمين صادقون، وكذب المنجمون ولو صدقوا.
2 - أصنام المسرح: كناية عن تأثر الشخص بالمشهورين قبله مثله كمثل المتفرج الذي يقلد الممثل إذا أجاد دوره.
3 - أصنام السوق: كناية عن العملة التي نتعامل بها في المجتمع وهي اللغة التي تستعبدنا ألفاظها ومعانيها.
4 - أصنام الكهف: كناية عما لكل فرد من مستودع سحيق، في قرارة نفسه تنحدر إليه مؤثرات من الخارج سواء من الوراثة أو البيئة أو ما سواهما.
ولكي نقيم أساس الإصلاح لابد من تحطيم هذه الأصنام التي تستعبد العقل وتستبد به، وتحول بينه وبين التبصر والتدبر مما لا يصلح معه نظام. وبناء المجتمع لا ينهض قوياً(887/9)
متيناً إلا إذا أتينا عليها من القواعد.
هذا عرض سريع لفلسفة الإصلاح منذ أقدم العصور وهو تاريخ جدير بالنظر والاعتبار.
فإذا نحن أردنا لهذا المجتمع الحالي إصلاحا، وقفنا منه على أشياء منها: أن المجتمع الآن نهب لأشتات النوازع الوحشية، والشهوات البهيمية، حتى نأى الفرد والمجموع معاً عن ينبوع الرسالة السماوية: فلم يعد للضمير وخز، ولم يعد للقلب ينبض بالخير والمعروف، وجمد العقل وعكف على أصنامه، ورانت غشاوة المادة على النفس الإنسانية، وتجمدت الأكباد، ارتكاناً على مخترعات (الحيوان الصناعي) الذي أعاد التاريخ ذكراه، وأصبح كل همه الآن: الهجوم أو المقاومة، ولا شيء غير ذلك. فالسياسة الآن كلها مكر الذئاب، وروغان الثعالب، ونباح الكلاب، وجبن النعاج، وتسلل الفيران.
والدين كذلك هو التراخي والتواكل والذل والهوان والاستكانة والعبودية، والعملة المتداولة كلها زيف وزور وبهتان ولا رأس ما لها من يدن أو قانون، ولا رصيد لها يحميها ويغطي الخسارة، أما المكسب فهو النهب والسلب والغصب والغبن والفحش.
والتربية هي الأخرى تخلصت من (العروة الوثقى) وتحللت من جميع القيود، فلا كبير ولا صغير، ولا وازع ولا رادع، ولا حرية للانطلاق، ولا حدود للحجر.
وهكذا في جميع مرافق المجتمع، والفوضى ضاربة إطنابها والغيورون في حيرة عجيبة؛ أيبدءون بإصلاح السياسة أم الاقتصاد أم التربية، أم يبدءون بإصلاح الفرد أم المجتمع؟ وهل يصلحون الدنيا ليصلح الدين، أم هل يصلحون الدين لتصلح الدنيا؟ وظل هذا التخبط وسيظل حتى يعود الأمر إلى نصابه.
والحق أنه ما دامت الأصنام قائمة في المعبد والمنزل والمدرسة والسوق فلن يصلح الفرد ولا المجتمع. وسبيل الخلاص معروف، ولا مناص من السير فيه لأنه طبيعي، وسهل ميسور: وهو أن نهدف إلى غاية واضحة نبيلة، وتتجه جميع الأنظار إليها وتستوعبها وتؤمن بها. والمنطق السليم يقول بأن هذه الغاية هي (الله سبحانه وتعالي، وهو الأول والآخر، وهو الذي خلق العقل أول ما خلق. والآن وبعد أن انحدرت الإنسانية إلى هذه الهاوية المادية وبعد إغفالها صوت العقل لا سبيل إلى انتظام الحال إلا بإصلاح العقل وتخليصه من أوهامه وإنقاذه من أصنامه، وهذا هو البدء الصحيح وصدق الشاعر:(887/10)
إذا أفسدت أول كل أمر ... أبت أعجازه إلا التواء
وهذا هو أقرب السبل إلى الغاية المنشودة فالعقل لا يدرك الأمور أحسن الإدراك، ولا يقدرها التقدير الصحيح، ولا يدفع الفهم إلى العمل النافع المأمون، إلا إذا كان هو نفسه سليماً، وكاملاً متكاملاً، أي حراً طليقاً في تأثره وتأثيره. كما أن العقل هو الذي يهدينا إلى الهدف، ويتحد له المناهج، ويتوخى الظروف.
فلنعد إلى العقل نستصلحه أولا لنطمئن تماماً على إصلاحه حتى إذا تم ذلك يعد أمام المصلحين إلا مجرى ممهد تماماً لتيار الإصلاح السليم (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له نور).
محمد محمود زيتون(887/11)
الاجتهاد في التشريع الإسلامي
لصاحب العزة محمد سعيد أحمد بك
- 2 -
قدمنا أن الأئمة الأربعة المعترف بهم من المسلمين السنيين قد أجمعوا على خطر الاجتهاد في التشريع الإسلامي، وعلى ذلك كان الاجتهاد والإجماع وهو اجتهاد الجماعة أصلين آخرين للإسلام بعد القرآن والسنة.
وتعرف الأدلة المستندة إلى القرآن والسنة بالأدلة القطعية، والأدلة المستندة إلى الاجتهاد بالأدلة الاجتهادية. وللاجتهاد محيط واسع جداً في التشريع الإسلامي إذ أنه الوسيلة الوحيدة لإيجاد الحلول لكل المسائل التي ينص عليها صراحة في القرآن أو السنة. وقد أستخرج المجتهدون الأحكام بوسائل سميت بالقياس والاستحسان والاستصلاح والاستدلال. وفيما يلي بيان مختصر عن كل وسيلة من هذه الوسائل نبين كيف تستخرج الأحكام بواسطتها.
القياس
وأهم هذه الوسائل القياس، مصدر قاس بمعنى قدر، ويستعمل مجازاً في التسوية. ويعرفه الأصوليون بأنه نظر يوصل إلى إثبات حكم الأصل في الفرع لمشاركته في علة حكمه. فقد تعرض على القاضي قضية ليس في القرآن أو السنة نص صريح للحكم فيها فيمكن إيجاده بالقياس على النصوص الصريحة. فالقياس تطبيق للحكم الوارد في الكتاب أو السنة على المسألة القائمة. والأحكام المستنبطة بالقياس ليست في قوة القرآن أو السنة. ولم يقل أحد من المجتهدين بأنه معصوم من الخطأ في وضع هذه الأحكام، ولذلك تجد الاختلاف كبيراً بين القضاة في أحكامهم، كما أن الأحكام القائمة على القياس قد يعمل بها في عصر ثم يبطل في عصر آخر.
الاستحسان والاستصلاح
الاستحسان معناه لغة عد الشيء حسناً؛ ويعرفه الأصوليون بأنه ما قابل القياس الجلي سواء أكان نصاًأم إجماعا أم قياساً خفياً. غير أنه غلب وشاع استعماله في القياس الخفي وهو الذي خفيت عليته(887/12)
وقد وضع الإمام أبو حنيفة قاعدة تنبئ أنه إذا لم يقبل حكم من الأحكام القائمة على القياس لكونه مخالفا للقواعد العامة للعدالة أو غير صالح للجماعة لعدم ملاءمته لهم يمكن للقاضي أن لا يأخذ بهذا الحكم ويستنبط حكماً آخراً أكثر مطابقة للعدالة وملاءمته لحاجات الناس. ولقد لقيت هذه القاعدة معارضة كبيرة من المذاهب الأخرى ولم يعمل بها إلا القليل من أتباع المذهب الحنفي. ولاشك أن هذا المبدأ سليم في ذاته ومطابق لروح القرآن. وزيادة في القول نقول إن التعرض للخطأ في تطبيقه قليل بالنسبة للقياس الذي يؤدي في بعض الأحوال إلى نتائج قد تتعارض مع الروح الواسعة التي تقضى بها أحكام القرآن. وللإمام مالك مبدأ مشابه لهذا وسماه الاستصلاح.
الاستدلال
أهم مصادر الاستدلال المعترف بها هي العرف والعادة وأحكام الشرائع المنزلة قبل الإسلام ومعلوم أن العرف والعادات التي كانت شائعة في الجزيرة العربية قبل الإسلام قد يؤخذ بها إذا لم يحرمها الإسلام. وعلى ذلك فكل العادات وما جرى عليه العرف في أي بلد يصح الأخذ به ما دام غير متعارض مع التعاليم الإسلامية ولم يحرمه القرآن أو السنة، إذ أن الإباحة هي الأصل ما لم يحرمها الدين. فإذا جرى العرف على أمر من الأمور كان هذا بمثابة إجماع الناس على قبوله وبذلك يكون له قوة تستبق قوة القواعد المستنبطة بالقياس.
وليس له من ضابط سوى ترك مخالفته لنص صريح في القرآن أو السنة. والمذهب الحنفي يعلق عليه أهمية كبرى كأصل من أصل التشريع الإسلامي. وقد ورد عن ذلك في كتاب الأشباه والنظائر قال: لقد أصبح العرف والعادة مصدرين لكثير من الأحكام حتى أصبح معترفاً بأنهما أصل من أصول التشريع الإسلامي. وأما ما يختص بأحكام الشرائع المنزلة قبل الإسلام فقد اختلف الفقهاء فيها؛ فبينما يرى بعضهم أن هذه الأحكام يجب التقيد بها ما لم يبطلها القرآن صراحة يرى البعض الآخر خلاف ذلك. ويرى أبو حنيفة أن هذه الأحكام مقيدة لنا إذا قررتها شريعتنا ولم ينص على بطلانها.
الإجماع
يطلق لفظ الإجماع على العزم والاتفاق؛ وذلك لأن في العزم جمع الخواطر، وفي الاتفاق(887/13)
جمع الآراء. وعند الأصوليين هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي. والإجماع إما أن يكون قولا بأن يتكلم جميع مجتهدي العصر كلاما يدل على اتفاقهم في الحكم، أو فعلا بأن يشرعوا جميعا في فعل ويمضون فيه، أو سكوتا بأن يفتي بعضهم أو يقضى في مسألة بحكم ويسكت الباقون عن الإنكار والرد عليه بعد علمهم بالحكم. ويشترط في الإجماع اتفاق جميع المجتهدين في أحكام الدين على الحكم فلا عبرة يقول العوام ولا يقول علماء فن يقضون بحكم في غير فنهم. ويرى بضعهم أن الإجماع ينعقد باتفاق المسلمين فيما عدا الصبية والمعتوهين على حكم من الأحكام. وهناك اختلاف في الرأي فيما إذا كان الإجماع مقتصراً على بقعة من البقاع أو عصر من العصور. ويرى الإمام مالك أن إجماع أهل المدينة وحدهم حجة مع وجود غيرهم من المجتهدين. ويردون على ذلك بأن اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها لا يدل على انتقاء الفضل عن غيرها. كما أنه لا يمكن القول بانحصار العلم والمجتهدين في أهل المدينة، فإنهم كانوا في عصر الرسول منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم في النظر والاعتبار سواء. والواقع أن الإجماع مبنى على الاجتهاد والنظر والبحث والاستدلال على الحكم وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ولا باختلاف البقاع. ويستبعد السنيون طائفة الشيعة من جماعة المجتهدين كما أن الشيعيين يقصرون الاجتهاد على أبناء الإمام علي. ويرى بعض السنيين أن الاجتهاد يقتصر على صحابة الرسول. ويرى آخرون أن يدخل التابعون في زمرة المجتهدين. والرأي الغالب هو أن الإجماع لا يقتصر على عصر من العصور أو قطر من الأقطار وإنما يكون بإجماع مجتهدي العصر الواحد في كل الأقطار.
واختلف الرأي كذلك فيما إذا كان الإجماع يتطلب موافقة جميع المجتهدين أو كثرتهم. ويرى معظم الفقهاء أن الإجماع يتطلب موافقة جميع مجتهدي العصر الواحد. على أنهم يرون أنه إذا كان المخالف نادراً فيكون الإجماع حجة، إلا أنه لا يكون قاطعاً. ويكون الإجماع العصر الواحد. ويشترط بعضهم انفراد عصر المجمعين لاحتمال رجوع بعض المجتهدين في الفتوى أو الحكم إذ أنه من الضرورة توفر شرط عدم الرجوع وهذا لا يكون إلا بانقراض جميع مجتهدي العصر الواحد.
وإذا انعقد الإجماع على مسألة فلا يصح الرجوع فيه إلا إذا رأى بعض فقهاء العصر الذي(887/14)
حدث فيه الإجماع رأيا يخالف الرأي المجمع عليه. والإجماع الذي ينعقد في عصر من العصور يصح الرجوع فيه بإجماع آخر في نفس العصر أو أي عصر لاحق له. ويستثنى من ذلك عصر الصحابة فلا يجوز الرجوع في إجماع حدث فيه بإجماع في عصره بعده يخالفه. ولقد تباين الرأي كذلك فيما إذا اختلف الصحابة في مسألة من المسائل فهل يصح الإجماع على رأي فريق منهم دون فريق. والمعترف به أن الصحابة ليسوا معصومين من الخطأ، وما دام الأمر كذلك فلا مانع من قبول إجماع يعارض رأي أحد الصحابة. وهناك مسألتين يجب عرضهما لتعرف قوة الإجماع في التشريع، فإنه يفهم مما تقدم أن الإجماع لا ينعقد إلا بجمع عدد كبير من المجتهدين على مسألة من المسائل؛ غير أن الفقهاء يرجحون أن يكون أقل عدد للإجماع ثلاثة لأنهم أقل الجماعة، فإذا لم يكن هناك مجتهدون غيرهم تحقق الإجماع باتفاقهم. وهناك رأي يقول بأنه إذا لم يوجد غير مجتهد واحد في عصر من العصور يتحقق الإجماع باجتهاده وحده.
ولننتقل الآن إلى السند الذي يقوم عليه الإجماع على قول الأئمة الأربعة. يقوم الإجماع على الكتاب أو السنة أو القياس ويقول المعتزلة بأنه لا يصح أن يكون الإجماع مبيناً على حديث الآحاد أو على القياس، وزادوا على ذلك أن سند الإجماع يجب أن يكون قاطعاً يعني أن حكمه لا رجعة فيه.
نرى ما تقدم أنه من الخطأ القول بأن الإجماع أصل مستقل من غيره من أصول الإسلام. فالإجماع حقيقة هو اجتهاد الذي وافق عليه جميع مجتهدي العصر الواحد أو غالبيتهم. ومن المتفق عليه أنه فيما عدا إجماع الصحابة يجوز الرجوع في إجماع مجتهدي العصر الواحد بإجماع غيره في عصر آخر. والواقع أنه كان من العسير إجماع المسلمين بعد عصر الصحابة حيث انتشر المسلمون في أقطار الأرض ولم يتيسر عملياً إشغالهم جميعاً في وقت واحد لبحث مسألة من المسائل وتقرير حكم فبها. كما أن الأمر لا يستلزم إشغال مجتهدي القطر الواحد كلهم في وقت واحد لبحث هذه المسألة. ونحن لا ننكر قوة إجماع كل المجتهدين أو غالبيتهم في مسألة من المسائل على اجتهاد مجتهد واحد. غير أن هذا لا يمنع أنهم غير معصومين ويمكن الرجوع في أحكامهم. والإجماع في الواقع لم يخرج عن كونه اجتهاداً بمعنى أعم شأنه شأن الاجتهاد في إمكان الرجوع في أحكامه في أي وقت من(887/15)
الأوقات.
ويمكننا القول بأن معظم مراتب الإجماع ليست حجتها قاطعة ويجوز مخالفتها وعدم الأخذ بها خلافاً لما يظنه كثير من المسلمين. فالاختلاف الشريف في الرأي أمر لا يستوجب مؤاخذة صاحبه. وقد ورد عن الرسول أنه قال (خلاف أمتي رحمة للناس) وإن زعم بعض المحدثين أن هذا الحديث ضعيف إلا أنه ينطبق على الواقع، ففيه وصف بأن الاختلاف في الرأي رحمة إذ أن ذلك يشجع الناس على استعمال ملكة العقل للبحث وراء الحقيقة، وقد اختلف الصحابة أنفسهم في الرأي. وهناك من الحوادث ما جهر بها الشخص الواحد بكل جرأة في مخالفته لرأي الجماعة. فقد ورد عن أبي ذر قول خالف فيه رأي الصحابة جميعهم ومع ذلك لم يقل أحد بأنه قد ارتكب إثما لمخالفته رأيه للإجماع. وقد شجع الرسول المجتهدين في الرأي بأن لهم جزائهم عند ربهم حتى ولو أخطئوا فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد واخطأ فله أجر واحد.
الاجتهاد ثلاث مراتب
يقول الفقهاء المتأخرون بأن الاجتهاد على ثلاث مراتب ولو أن ذلك ليس له أصل في الكتاب والسنة أو كتب الأئمة الأربعة. وهي اجتهاد في الشرع، واجتهاد في المذهب. واجتهاد في المسائل. والاجتهاد في الشرع قاصر على القرون الثلاثة الأولى. وقد اختص بها الأئمة الأربعة الذين وضعوا القوانين الشرعية كلها وفق ما نقل عن الصحابة والتابعين. وطبيعي أنه لم يذكر صراحة أن باب الاجتهاد في هذه الناحية قد أقفل بعد القرن الثاني للهجرة إلا أنه قيل أن الشروط اللازمة لمثل هؤلاء المجتهدين لم تتوفر لأحد بعد الأئمة الأربعة. وقيل أيضاً أنها لن تتوفر لأحد بعدهم حتى يوم القيامة. وهي وجوب أن يكون المجتهد محيطاً بالكتاب متناً ومعنى وحكماً وأن يكون محيطاً بالسنة كذلك متنا وسنداً عالماً بحال الرواة، وأن يكون محيطاً بالقياس قادراً على استنباط علل الأحكام من النصوص الخاصة والعامة. وليس هناك من سبب يدعو إلى القول بأن هذه الشروط لم تتوفر إلا قي الأئمة الأربعة في القرن الثاني للهجرة.
وذكروا أن الاجتهاد في المذهب مختص بمحمد وأبي يوسف من اتباع أبي حنيفة. وزادوا(887/16)
على ذلك بأنه يجب الأخذ برأيهم حتى ولو تعارض مع رأي الإمام أبي حنيفة.
والاجتهاد في المسائل قد اختص به الفقهاء المتأخرون الذين توصلوا إلى حل مسائل لم يسبق أن أثيرت من قبل بشرط أن يكون الحل مطابقاً تماماً لآراء خيار المجتهدين. وقد قيل أيضاً إن باب هذه المرتبة من الاجتهاد قد أقفل بعد القرن السادس الهجري. وقيل أنه لم يبق في عصرنا هذا غير المقلدين والنقليين هو قول بلا حجة وليس من طريق العلم لا قي الأصول ولا في الفروع. ويمكن للمقلدين أن يعطوا فتاوى مستمدة من أحكام المجتهدين المتقدمين إذا كانت هناك آراء متعددة واختاروا واحداً من هذه الآراء وأفتوا به بدون تعليق أو ترجيح.
نرى مما تقدم أن الاجتهاد الذي لم يقل أحد من الأئمة الأربعة واتباعهم بأنه حجة قاطعة قد أصبح مقيداً من الوجهة العلمية ولم يكن لأحد أن يكون أهلاً للاجتهاد في هذا الوقت. وسنتم إن شاء الله باب الاجتهاد في مقالنا اللاحق وهو يتضمن الكلام على أن باب الاجتهاد لم يوصد. وعن استقلال الفكر.
محمد سعيد أحمد(887/17)
صوم رمضان بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
- 2 -
ويقال إن أبا تراب التخشيبي خرج من البصرة إلى مكة فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباح (في معجم البلدان ذو النباح هضبة من ديار فزاره كذا جاء كتاب الحازمي) وأكلة بذات عرق (قال في القاموس المحيط وذات عرق في البادية ميقات العراقيين. وفي مجمع البحرين وذات عرق أول تهامة وآخر العقيق وهو عن مكة نحواً من مرحلتين وهو الموضع الذي وقت لأهل العراق في الحج) وقال أبو سليمان الدراني: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. قالوا وكان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوى، وإذا أكل ضعف. وكان من الصوفية من يأكل كل أربعين يوماً أكلة واحدة. قالوا واشتهى أبو الخير السعقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيأ له أكله من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك فقام وترك الأكل وقال يا رب هذا لمن مدي يده بشهوة إلى الحلال فكيف بمن يده بشهوة إلى الحرام؟ وفي الكتاب العزيز (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) فالجملة الأولى هي التقوى والثانية هي المجاهدة. وقال إبراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق؛ ثم حملت إلى وأنا بالشام غضارة (هي كما في المنجدة القصعة الكبيرة (فارسية) فيها عدسية فتناولت منها وخرجت فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا، فقال بعض الناس أتنظر إلى هذه وتظنها خلا؟ وإنما هي خمر، وهذه أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك، فقلت قد لزمني فرض الإنكار، فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان والجرار فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبه وطرحني في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الرباني المغربي أستاذي في ذلك البلد فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه فلما وقع بصره على: قال أي شيء فعلت؟ فقلت شبعة عدس ومائتي خشبه فقال لقد نجوت مجاناً.
قال ابن أبي الحديد وأعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع للنفس والأخلاق، والتجربة قد دلت عليه، لأنا نرى المكثر من الأكل يغلبه النوم والكسل وبلادة الحواس، وأن(887/18)
كثرة الأكل تزيل الرقة وتورث القسوة والسبعية. ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعاً قليلا، فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسية واضطرابها واختلال قواها، وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن لابد من إصلاح أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية، وتؤثره كثيرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل من قلة الكمية. ويحبب أن يكون الغذاء شديد الإملاء للأعضاء الرئيسية لأنها هي المهمة من أعضاء البدن، وما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء.
وأعلم أن الرياضة والجوع هي أمر يحتاج إليه المزيد الذي هو يعد في طريق السلوك إلى الله، فإن كان انقطاع الغذاء يسيراً وإلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الأضرار وكان ذلك غاية الرياضة التي أشار إليها أمير المؤمنين علي (ع) بقوله (حتى دق جليلة ولطف غليظه) وإن أفرط وقع الحيف والأحجاف وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف والسكين) هذا ما شرح به عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي لكلام الأمام (ع) وقد زانته الثقافة الإسلامية في ذلك العهد أي آخر حكم العباسيين وقد شهد الشارح سقوط بغداد بيد التتار وكانت العلوم التي نقلت إلى العربية في صدر الدولة العباسية قلما ينعت وازدهرت ثمارها في أواخرها وذلك في عهد ابن أبي الحديد ومعاصره نصير الدين الطوسي
ولقد وجدت من المتعارف في العراق في رمضان (وأظنه في باقي الأقطار الإسلامية أيضاً) أن يكثر الصائمون نهاراً الأكل ليلا فإذا وفد هذا الشهر على المدينة وفدت معه أفنين الأطعمة وأنواعها وتفننت المطابخ في تنويع الأكلات حتى انقلب شهر الصوم والجوع إلى فترة نهم وتخمة وقد سألت مرة أستاذي في (الكيمياء الحيوية) في كلية الطب العراقية (المستر هوكنز) عن رأيه في الصوم فاثني عليه من الوجهة الصحية والتهذيبية غير أنه انتقد المسلمين لإفراطهم في الأكل ليلا مما يتعب الجهاز الهضمي. ولا ريب أنه مصيب فإن للأمعاء قابلية محدودة في استيعاب الأغذية بحيث تتاح لعصاراتها الهضمية فرصة(887/19)
التأثير على مكونات الغذاء من زلاليات ودهنيات ونشويات وغير ذلك وفي حالة الإفراط المتعارف ليلا عند الصائمين تتعب الأمعاء وتمتلئ للنهاية ولا تعود الغدد الهضمية قادرة على تزويد قطع الغذاء وأجزائه بما يحلله كيماوياً من الخمائر الهضمية وتتعب المعدة وتتوسع ولاشك أن ذلك يؤدي إلى أن ينتاب المرض ذلك البطن الجشع النهم ولله در الأمام علي (ع) إذ قال (كم من أكلة تمنع أكلات) لقد أخذ هذا المعنى بلفظه ابن الحريري فقال في المقامات (يا رب أكلة هاضت الآكل ومنعته مآكل) وأخذه ابن العلاف الشاعر فقال في سنوره يرثيه
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالقدد
كم أكله خامرت حشاشره ... فأخرجت روحه من الجسد
والقدد جمع القدة وهي السير يقد من الجلد والقطعة من الشيء وتنطبق أبيات ابن العلاف هذه ليس على السنور فقط بل على (بعض الشيوخ) الذي يجدون في رمضان ميداناً فسيحاً للفتك بفراخ الدجاج في الولائم الرمضانية. . وفي المثل (أكلة أبي خارجة) قال إعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة اللهم ميتة كميتة (أبي خارجة) فسألوه فقال: ل بذجاً وهو الحمل وشرب وطبا من اللبن (والوطب هو سقاء اللبن) وتروى من النبيذ وهو كالحوض من جلود بنبذ فيه (نبذ النبيذ عمله) ونام في الشمس فمات فلقي الله شعبان ريان دفيئا. والعرب تعير بكثرة الأكل وتعيب بالجشع والشره والنهم وقد كان فيها قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية بن أبي سفيان قال أبو الحسن المدائني في كتاب (الأكلة) كان معاوية يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن ثم يتعشى بعدت بثريده عليها بصل كثير ودهن قد سبغها (أي غطاها) وكان أكله فاحشاً وكان يأكل حتى يستلقي وبقول يا غلام ارفع فوالله ما شبعت ولكن مللت. وإن هؤلاء المفرطين في الأكل خير علاج لهم الصوم الذي يلطف أجسامهم ويذيب الشحوم الزائدة ويريح جهازهم الهضمي ولا ريب أن هذه الطائفة من الناس وطأة رمضان ثقيلة على نفسها ثقيلة على بطنها.
نقل أبو هلال العسكري في (ديوان المعاني) وكان فرغ من تأليفه سنة 395 هـ قال حدث الصولي عن أبي عبيده قال أسلم إعرابي في أول الإسلام فأدركه شهر رمضان فجاع(887/20)
وعطش فقال الأعرابي يذكر ذلك:
وجدنا دينكم سهلا علينا ... شرائعه سوى شهر الصيام
وقال ابن قتيبة الدينوري في (عيون الأخبار) قدم إعرابي ابن عم له في الحضر فأدركه شهر رمضان فقيل له يا أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان قال وما شهر رمضان قالوا الإمساك عن الطعام قال أبالليل أم بالنهار قالوا لا بل بالنهار قال أفيرضون بدلا من الشهر قالوا لا قال فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا تضرب وتحبس فصام أياماً فلم يصبر فارتحل عنهم وجعل يقول:
يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم ... تهيأ أبا عمرو لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام
فبادرت أرضا ليس فيها مسيطر ... على ولا مناع أكل طعام
وقول ابن قتيبة الدينوري في هذه الحكاية (إنه أن لم يصم ضرب وحبس) ينافي ما نقله الشيخ نعمان الألوسي في (غالية والمواعظ) في أنه ذكر في (البزازية) أن من أكل في شهر رمضان متعمداً يؤمر بقتله، لأن صنيعه الفاحش دليل الاستحلال وأن الصوم من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ولذلك يكفر جاحد. . . وقيل لأعرابي أدركك رمضان فقال لأقطعنه بالإفطار وأدرك أعرابياً شهر رمضان فلم يصم فعذلته امرأته في الصوم فزجرها وانشأ يقول أتأمرني بالصوم لأدر درها وفي القبر صوم بالميم طويل
ولا ريب أن لهؤلاء الأعراب أشباها ونظراء في المجتمع الإسلامي ممن ضعفت إرادته وافرط في حبه التهام شهي الأطعمة. وإن رمضان من انفع الأدوية لهؤلاء الضعاف النفوس وهم أحوج المسلمين إلى صرامة تأديبه حتى يقوم معوجهم غازياً ضعفهم النفسي بتهاويل عقوباته الأخروية في جهنم الطافحة بالويل والثبور الكثيرة الأفاعي الجبارة والعقارب المرعبة وفيها القيود الملتهبة والمقامع من النار، هذا مضافاً إلى غضب جبار السماوات كل هذه العقوبات المخيفة واقفة بالمرصاد لمن يفطر شهر رمضان متعمداً الفسق والفجور مضافاً ذلك إن عقوبة السلطة الدينية فيسوق الإسلام الخير لهذه النفوس الضعيفة ويلجمها عن الطعام فترة من الزمن فيصلح من أبدانها بالعنف والجبر ويلزمها الاقتصاد والتقليل من إسرافها في الأكل المتعب لجهازها الهضمي، فكأن رمضان علاج كريه الطعم، ودواء مر(887/21)
المذاق، تساق إليه النفوس المريضة سوقاً؛ وكأن الإسلام قد خص شهر رمضان بالصوم لترويض النفس والتغلب على رغباتها الأمار بالسوء فهو بمثابة تدريب عسكري يشترك فيه القيام به أفواج المسلمين في فترة معينة من الزمن أو تمارين رياضية لتقوية النفي وتقويم الروح وتهذيب الأخلاق.
وللصوم فائدته الكبرى في علاج ضعف الإرادة في أولئك الذين لا يستطيعون أن يقاوموا أهوائهم وشهواتهم فهم مستسلمون لها راضخون لأحكامها تجد الفرد من أولئك يدفعه استرساله في سيره حلف شهواته السادرة في بيداء الضلال - فركب أسوأ الكبائر فاندفع إلى شرب الخمر وانجر إلى المقامرة بعد أن زلت بقدمه المغريات لأول وهلة فأصبح كالذي غاصت قدماه في حمأة من القار فكبلته وعاقته عن السير ولم يستطع أن يتخلص من شرها. وكثيراً ما كان على علم بسوء مغبة ما هو فيه ولكنه لا يستطيع أن يقاوم لضعف في إرادته ووهن في عزيمته؛ ولربما رأى الخير في شيء ورأى وجوب عمله، ولكن خانته إرادته فاستسلم وقد كبله الكسل وقعد به الضعف وسيطر عليه الخمول فحاول الإسلام وهو دين الإصلاح والعمران - أن يعالج ضعف الإرادة بالمرانة كما يتقوى الجسم بالرياضة البدنية والعقل بالبحث العميق الدقيق، فبإلزام النفس المسلمة بالصوم لذى يتطلب مشقة وجهداً تتقوى الإرادة وتتعود أن تتغلب على المصاعب والعقبات وتشعر النفس بالارتياح في مغالبة الصعاب وخضد شوكة الرغبات الجامحة والتغلب عليها كما يشعر ذو الجسم القوي بالارتياح عند قيامه بتمرين شاق من الألعاب الرياضية ونجاحه فيه. . . وكل مجهود يبذل في مقاومة هوى أو قمع شهوة ثم يؤول إلى التغلب عليها يكسب الإرادة قوة. ولا ريب أن الصوم من أجلى مظاهر هذا العراك مع النفس الأمارة بالسوء فإذا استطاع المرء أن يقودها إلى النهاية شعر بتغلبه على أهوائها وقدرته على الرضوخ والمثابرة على الأعمال الشاقة حتى نهايتها.
وهناك ناحية أخرى في الصوم يَراها طائفة من الفلاسفة والصوفية الذين يجدون لذة في إرهاق النفس وتعذيبها وحرمانها ويرون مع يوسف بن أسباط أنه (لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مغلق) فهم يريدون أن يخيفوا القلب بعذاب جهنم اللواحة بالشرر فيدرءوا مرضه بإجباره على الصوم ويقللوا من الشهوات العارمة التي فيها البلاء(887/22)
والدمار. وهم يرون أن الاسترسال في اللذات والشهوات جريمة لا تغتفر؛ فعلى المرء أن يقمعها ويلجم النفس بالصوم عنها إن هؤلاء الصوفية يجدون الفضيلة في حرمان النفس مما تشتهيه وصدم رغباتها وأهوائها.
روى ابن أبي الحديد أن إبراهيم الخواص قال: كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت منه فأخذت واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركت الرمان، فرأيت رجلا مطروحاً قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد علي باسمي: فقلت كيف عرفتني؟: قال من عرف الله لم يخف عليه شيء: فقلت أرى لك حالاً مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك من أذى هذه الزنابير. فقال وأرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك ويحميك الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة؛ ولدغ الزنابير يجد الإنسان ألمه في الدنيا: فتركته ومضيت على وجهي) ونحن نرى أن الفكرة التي تحكيها هذه القصة بعيدة عن روح الإسلام وهي أشبه بعبادة البراهمة من الهنود وتعذيبهم نفوسهم منها بروح التعاليم الإسلامية. ولا ريب أن الإسلام تأثر كثيراً بعبادات الأمم التي دخلته - وعلى كل حال فإن الناس تجاه لذات الحياة أصناف، فنمهم من دعا إلى الزهد، وقمع الشهوات: قال الماوردي في (أدب الدنيا والدين) (إن شهوات النفس غير متناهية، فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها تعدتها إلى شهوات استحدثتها فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي وعبد هوى لا ينتهي ومن كان بهذا الحال لا يرجى له صلاح) وأن طائفة من المتقشفين كما يقص علينا الدكتور أحمد أمين في (الأخلاق) نرى أن أرقى أنواع الحياة الأخلاقية ما حوربت فيها الشهوات، وهؤلاء لا يتزوجون مثلا ولا يأكلون اللحم ويعتزلون الناس جهدهم ولا يمكنون النفس من مأكل أنيق أو مقعد وثير أو ملبس جميل.
وقد شنع (سنيكا) وهو من الفلاسفة أتباع الرواقيين وكان في صدر الدولة الرومانية (6ق م - 65ب م) لقد شنع هذا الفيلسوف على من يشرب الماء مثلجا في أيام الحر: وقال قد انتزع الترف من القلوب ما كان بها من موارد الشفقة وأسباب العطف حتى صارت أشد برداً وقسوة من الثلج والجليد، فكأن هذا الفيلسوف يوصي بتعود جشوبة العيش وكأن يرمق في حديثه كلمة النبي (ص) المأثورة (اخشوا شنوا فإن الترف يزيل النعم) ولكنه أفرط وشط عن الطريق السوي. أما كلمة النبي (ص) فقد جاءت جامعة مانعة فيها عظة وتحذير(887/23)
وفيها تلويح إلى ما حدثنا به التاريخ من انقراض أمم هلكت لإغراقها في الترف كما وردت الآثار عن مصرع الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها بداء الترب.
ومالك تذهب بعيداً حسبك أن ترجع إلى تاريخنا العربي فإن الأمة الإسلامية عندما حادت عن تعاليم الإسلام وانغمرت في الترف وفساد الحياة الحضرية ذهبت منها صفات الرجولة ومعالم البطولة وماعت أخلاق بنيها فقامت عليها الأمم التي عنت من قبل لسطوتها فاستعبدتها. لقد انغمر آباؤنا في نعيم البلاد التي افتتحوها ونسوا وصية النبي (ص) بلبس جلد النمر لحوادث الدهر وكوارث الزمن وانغمروا في الترف فحق عليهم ما حذرهم منه المنقذ الأعظم (ص) فانقرضوا وتمزقت دولهم وذهبت ريحهم وعادوا عبيداً بعد أن سادوا بالإسلام شرق الأرض وغربها. ولا ريب أن في الصوم مظهر من مظاهر الأخشيشان وفيه فتوة تطبع النفوس على غرار الرجولة والبطولة وتشربها القوة والصبر والجلد. ولنعد إلى حديث مذهب أولئك الفلاسفة الذين أغرقوا في تعشق جشابة العيش وخشونة الحياة وقد قال أرسطو المعلم الأول: الفضيلة وسط بين رزيلتين: الإفراط والتفريط وفي الحديث الشريف خير الأمور أوسطها وفي الكتاب العزيز خطاباً للمسلمين (جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) قال بعض أعلام الإسلام - كما في مجمع البحرين للطريحي - كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان كالسخاء فإنه وسط بين البخل والتبذير. . . وبعد فقد أفرط البعض وبالغ جماعة من الزهاد فلم يكتف بعضهم بقمع الشهوات بل تعداها إلى تعذيب النفس وبالقيام بالشمس في أشد ساعات الحر والتمرنح على الرخام في الشتاء وغير ذلك من أساليب عنيفة نسمع بها كثيراً عن عبادات الهنود الشاذة المبنية على هذه الفلسفة الخاطئة الضالة ويعتقد بعض هؤلاء انهم بتعذيب النفس الصارم القاسي ترتفع نفوسهم وتعلو إلى درجات عالية في العرفان والقدسية وتتفتح لها أبواب الإطلاع والارتقاء عن مستوى البشر، إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الباطلة. ويسمي هؤلاء أسلوبهم هذا في أدراك المعرفة بطريقة الإشراق ويسمون أنفسهم الإشرافيين كما ذكره لنا أستاذنا في الفلسفة الإسلامية في النجف الإشراف (البنجردي) عند دراستنا عليه شرح منظومة السبزواري في الفلسفة. ويرى الدكتور أحمد أمين في كتاب (الأخلاق) أن هذا مذهب أكثر المعتنقين له من الناقمين على الحياة المتشائمين من كل شيء في الوجود(887/24)
المصابين بفقر الدم الذين ضعفت شهواتهم لضعف أجسامهم. وقد يرى هذا الرأي أيضاً من قويت صحته وكمل جسمه واشتدت شهواته ولكن كانت إرادته أشد وسلطانه على نفسه أقوى وأقوى ما يكون ذلك إذا أتى من ناحية الدين. . . والزاهد في الحقيقة ليس يرفض اللذة لأنها لذة هو يرفضها للذة أخرى أكبر منها في نظرة. هذا ما يقوله (خليفة بن خلدون) ويؤيده ما رأيت في شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي من قول الخواص (من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها). . .
ومن الزهاد من يرفض ان ينعم بالمأكل الشهي إذ نصبح النفس يرى ان الاستمرار في طلب اللذائذ بسبب آلاما إذ تصبح النفس شرهة، أطماعها كثيرة، وآمالها واسعة، وكلما نالت منها الكثير طمعت فيما هو أكثر منه، ثم هي تتألم الآلام الشديدة لما حرمت وتتجرع مع ما تنال غصصاً من الآلام. أضف إلى ذلك أن كثره التمتع باللذة يفقدها قيمتها ويذهب برونقها وجمالها. ويرى هؤلاء أن شعور الإنسان بأنه قادر على حرمان نفسه برفعها فوق حوادث الزمان فلا تصبح لها القدرة على إخضاعه، وهذا الشعور يحرره من ربقة الخوف وهو شعور فيه من اللذة ما ليس في الملذات الجسمية.
للكلام بقية
ضياء الدخبلي(887/25)
من الأشعار العربية
الشعر العربي في حضرموت
للأستاذ أحمد طه السنوسي
البيئة الحضرمية بيئة عربية قحة، وهذه أول ميزة وأول موجه للشعر الذي يقال فيها وينشده شعراؤها في حيزها، والميزة الثانية قد نتجت عن الميزة الأولى، فنحن نجد أن التخاطب في حضرموت بلهجة تقرب من اللهجة المصرية. ونجد في التخاطب الحضرمي أنه يستعمل ألفاظاً عربية أصيلة كثيرة مما لا نحس له وجوداً في تخاطب البلدان العربية الأخرى، ومما لا يذكر إلا في المعاجم عادة، ويرجع ذلك إلى امتداد الصبغة العربية القحة منذ فجر التاريخ الحضرمي إلى اليوم. ولم يستطع التطور الحديث أن يقتحم بقوته فيقضي القضاء كله على النزعة العربية والصبغة العربية الأصيلة في هذا البلد الحضرمي، على هذا فليس من عجب إذ ما ألفينا الشعر الحضرمي أقرب الأشعار إلى الأشعار القديمة وخاصة الجاهلية، وتلك ظاهرة لا يجد المرء نصبا في استشفافها والوقوف عليها حين اطلاعه على أشعار الحضارمة ولا يغيب عنا أن شاعرنا الكبير امرأ القيس نشأ في زمنه في هذا القطر وقال شعره فيه، فبيئته حضرموت إذا بيئة الشعر منذ أقدم عصوره وبيئة التفنن منذ فجر تاريخه كما إنها بيئة العربية ولهجاتها ومصادرها.
ولا نستطيع أن نقول إن الشعر الحضرمي الحديث قد بلغ شأواً بعيداً وذروة رفيعة من المجد الشعري الحديث على الرغم مما أبداه في عالم اللفظ من جمال وقوة، وما وصل إليه في عالم الوضوح من الرقي والرفعة؛ وذلك أرجعه إلى علل وأسباب أهمها أنه لا يتأثر إلا قليلا بالثقافة الحديثة، وأنه يغرق في اللفظ وضخامته وفخامته ثم يذر للنواحي الأخرى بعض الاهتمام، وهذا البعض يطوح به الأسلوب حينا ويتغاضى عنه الشاعر نفسه أحياناً. ثم إن هذا الشعر الحضرمي لا يمكن أن يجد فيه العربي خارج حضرموت لذة وجمالا، وإنما يجد هذه الأشياء الحضرمي في الذي يعيش البيئة الحضرمية فوق أرضها وتحت سمائها، وهذه البيئة لا يستسيغها بالطبع ذلك العربي خارج حضرموت، وبالتالي فتأثيرها على الشعر جعل هذا الشعر غير مستساغ في الجو العربي الخارجي. وبالرغم من أن هنالك شعراء تخلصوا من هذا الحيز ومن تلك السيطرة فأمكن لنا ولغيرنا أن نجد في(887/26)
شعرهم لذة وجمالاً وأخذنا نقبل عليه يزيدنا شوقاً إليه أن فيه الروح العربي الصميم مما لا نكاد نجد له المثيل في الإغراق في الشعر العربي الحديث نظراً لتأثر هذا الأخير بالثقافة الحديثة والتطورات الزمنية والبيئة الموجهة
على أننا نجد أن هنالك في حضرموت ككل بلد عربي شعراً شعبياً يدعى (بالشعر الحميني) وهذا النوع ينتشر في حضرموت ويرتقي ويجد رواجاً كبيراً، غير أنه أيضاً قد تأثر إلى حد بعيد بالصبغة العربية القوية للشعر الحضرمي، فلولا اللهجة وتحريفها وأساليبها لأضحى شعراً حضرمياً قحاً.
ثم إننا نلحظ شيئاً هاما في الشعر الحضرمي وذلك هو الصبغة الصوفية والنزعة الفقهية، ونحن لو درسنا الشعب الحضرمي وبيئته واتجاهاته نجد أن هذه الصبغة وتلك النزعة متأصلتان فيه، بارزتان واضحتان في أفكاره ومناحيه، فلا غرابة أن يبرزها إلى درب الشعر لتجد مسلكاً جميلا للبدو والانتشار، ولا غرابة أن يبديهما في ثوب الشعر لتستطيعا أن تجدا طريقهما إلى التأثير الصحيح والفائدة المطلوبة منهما، ولكن هناك فارقا هاما بين هذه الصبغة وتلك النزعة في الشعر الحضرمي وبينهما في الشعر العبي القديم؛ ذلك لأنهما في الشعر الحضرمي لا يزيدان على كونهما غلالة شفيفة تعكس هذا الشعر دون أن تطغى على لباس اللفظ ورداء الشعر وإن طغت في بعض الأحايين على رداء المعنى؛ وذلك لأن المعنى نفسه ليس في المرتبة الأولى إذا قسناه باللفظ في ذلك الشعر، فالمعنى لا يهتم به كثيراً سواء أضاعه اللفظ أو غشته غلالة الصوفية وكسته النزعة الفقهية. . .
لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نغمط الشعر الحضرمي حد الواضح في بلوغ ذروة عالية حين يحدثنا عن الألم ودواخل النفس وتأثرات الشعور فإنه بهذا يجمع إلى جمال الوشي استثارة المشاة ويضفي على الوصف الدقيق وعلى تصوير الدواخل والدوافع والاحساسات جميل اللفظ وبديع الأسلوب فيأتي بشعر جميل يقرأه المرء فيجد فيه صدقاً وإخلاصا في التصوير وتشويقاً في العرض وجلالا وجمالا في الإدلاء والإبداء.
ويقول لشعر الحضرمي في كل الأغراض التي قال فيها الشعر القديم، ويهمه أن يدلف درب ذلك الشعر ويحذو حذوه، ولا ينسى في بعض الأحايين أو يشاركه في الدمن والإطلال والاهتمام بالتجريد وذكر الآلات والأشياء المحيعة من بيئة الحضرمية.(887/27)
ولعل أهم الأمور التي جعلت الشعر الحضرمي على جلالة قدره ورفعة مرتبته غير معروف وغير مدروس في عالمنا العربي أن أغلبه لا ينتشر ولا يجمع، فهي البيئة الحضرمية التي تتداوله بالرواية وتملي عليه الخمول فلا يأخذ طريقه لنشر أو طريقه لذيوع ودرس في الحلقات الخارجية من الجو العربي. وما ينقصه إلا أن يعترف بأهمية القومية العربية الشاملة في قصائده ويتهم بها أن يقلل من إخلاصه للجاهلية من ناحية وأن يساير ركب المدينة ولا يبخل بالثقافة الجديدة والتطور الجديد أن يلج سدته ويهز سرجه بلجامه إلى الأمام. . . وهاكم بعض الأمثلة:
قال الشيخ عبد الصمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله باكثير الكندي في شكوى الحظ العاثر:
أراني إذا ما الليل جاشت كتائبه ... أبيت وقلبي حائر الفكر ذاهبة
أقضيه بالأشجان والهم والأسى ... ودمع على الأوجان ينهل ساكبه
تبيت أفاعي الهم في غيهب الدجا ... تساور قلبي بالعنا وتواثبه
وقال أيضاً:
يا عاذلي دعني وشأني إن لي ... قلبا بتير الحب لا يستأنس
كيف السلو عن الأحبة بعد ما ... دارت عليّ من الصبابة أكؤس
ويقول متألما:
خذ من قديم حديثي مبتدأ سقمي ... وما أقاسي من الأوصاب والألم
فمبتدأ خبري فعل اللواحظ من ... عيون خشف رمت سهما أراق دمي
رمى فشك الحشا من نبل مقلته ... بغير شك وقد أوهى قوى هممي
فطار يومي وبات همي يقلقني ... ومهجتي لمظي الأشجان في ضرم
وخالف النوم أجفاني وحالفها ... طول السهاد فلم أهدأ ولم أنم
محي الغرام سلوى واستباح دمي ... هوى الأغن فسرى غير منكتم
لي في الظلام أنين كلما سجعت ... ورقاق أرقت فوالهفي وواندمي
يرق لي كل من بالليل يسمعني ... فمن لصب عميد باللحاظ رمى
ويقول السيد شيخ بن عبد الله العيدروسي العلوي في قصيدة رثاء:(887/28)
تقضي فتمضي حكمها الأقدار ... والصفو تحدث بعده الأكدار
والدهر أبلغ واعظ بفعاله ... وكفى لنا بفعاله إنذار
وهو القائل في توسلية له:
يا من لقب بالصبابة ممتلي ... وأضالع يلظي القطيعة تصطلي
من ذا لما بي كاشف إلاك يا ... من قد مددت له أكف توسلي
ويقول السيد محمد مولى الدويلة العلوي:
الحب حبي والحبيب حبيبي ... والسبق سبقي قبل كل مجيب
نوديت فأجبت المنادي مسرعا ... وغطست في بحر الهوى وغدي بي
لي تسعة وثلاثة من تسعة ... والعقد لي وحدي وزاد نصيبي
ويقول محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي الحب الخطيب الأنصاري من محادثاته الشعرية:
تجنب أرضك الوبأ الوخيم ... وجانب سوحك السدم السديم
ومنها:
مجاج مياهها فيه شفاء ... إذا مجت على الأرض الغيوم
نسيم جنوبها أبدا صحيح ... وطبع الجو فيها مستقيم
وطبع مياهها في الصيف برد ... وأيام الشتاء هي الحميم
تعادل حرها والبرد فيها ... فلا برد يصر ولا سموم
وطبع البرد فيها فيه لطف ... بطيب نسيمه تنمو الجسوم
ويقول الأمير محمد على الكثيري:
إن جئت (عينات) فحي ثراها ... واستنشق العرفان من رياها
والصق جبينك بالتراب مقبلا ... شكراً لمن أولاك لضم ثراها
بلد أقام بها الكمال وحبذا ... بلد غدا الغوث العظيم حماها
واستقبل الشيخ المعظم خاشعا=في ذل نفس كي تنال مناها.
ويقول السيد عبد الله الحداد العلوي في حديث نفسي:
ألا يا نفس ويحك كم توانى ... وكم طول اغترار بالمحال
وكم سهو وكم لهو وهزل ... وكم ميل إلى دار الزوال(887/29)
وكم شغل بما لا خير فيه ... وكم حرص على شرف ومال
وكم تلوين عن محمود فعل ... وكم تقعين في قبح الفعال
وقال أيضاً:
أنا مشغول بليلي ... عن جميع الكون جمله
فإذا ما قيل من ذا ... قل هو الصب الموله
أخذته الراح حتى ... لم تبق فيه فضله
راح أنسي راح قدسي ... ليست الراح المضله
هذه بعض الأمثلة من ذلك الشعر راعينا في انتقائها تصوير الواقع وتسجيل الموجود علنا نستخلص من ذلك بعد كل هذا أن في حضرموت شعراً عربياً جديراً بالعناية قمينا بالالتفات والاهتمام.
أحمد طه السنوسي(887/30)
المسند
للإمام أحمد بن حنبل
أوسع كتب السنة، وأكثرها شمولاً وإحاطة. لا يستغني عنه العالم المحقق، ولا الطالب المجتهد. وهو حجة للمحدث، والفقيه، والمؤرخ، وصاحب اللغة. ألفه إمام المحدثين وزعيم أهل السنة وقدوتهم، وجعله مرجع العلماء وحجتهم، حتى لقد قال لابنه راوية وهو يوصيه (احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماما).
وهذا (الديوان الأعظم) بحر لا يدرك مداه، أعجز أكثر العلماء أن يصلوا إلى غوره حتى وفق الله الشيخ أحمد شاكر المحدث المصري فصنع له الفهارس الدقيقة المتقنة، من علمية ولفظية، وشرحه شرحاً فنياً على أوثق القواعد العلمية التي ميز بها الحفاظ صحيح الحديث من ضعيفه، ليكون مرجعاً حقاً لكل طالب وعالم.
ثم كان من توفيق الله وحسن صنعه لهذا (الكتاب الحجة أن حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، أسد الجزيرة وإمام أهل السنة في هذا العصر، الملك الإمام (عبد العزيز آل سعود أطال الله بقاءه، شمله برعايته السامية الكريمة حبا في نشر واحيائه؛ وتقربا إلى الله بعموم النفع به. فأصدر أمره العالي بطبعه على خير ما يستطاع من الإخراج والإتقان.
فنفذ الشارح الأمر الملكي المطاع بطبعه في أجزاء متتالية، طبعة ممتازة خاصة، وطبعة شعبية عامة ليعم النفع به كل الطبقات.
80 قرشاً ثمن الجزء الواحد من الطبعة الممتازة
30 قرشاً ثمن الجزء الواحد من الطبعة الشعبية
ملتزم الطبع والنشر
دار المعارف بمصر(887/31)
رسالة الشعر
على ضفاف الجحيم. .
للأستاذ صالح علي شرنوبي
(إليك يا قاهرة. إلى أضوائك القاسية التي طالما عذبت)
(عيني. . . وأنا قابع هناك. . في الجبل المضايف. . بصخوره)
(الحانية. . وكلابه العاوية. . . وصمته الكئيب. . .)
(ثم إلى هؤلاء المترفين الكسالى. الذين ينكرون عليّ)
(إيماني بالألم. . . وعبادتي للدموع. وإخلاصي للأحزان)
إني هنا. . . أيتها المدينة. .! ... الحرة الفاجرة المجنونة. . .!
أحبس في جفني الرؤى السجينة ... والأدمع الوالهة السخية
إني هنا. . . أغربل السكينة ... وأزرع الخواطر الحزينة
ملء ضفاف الوحدة المسكينة ... وفي يدي فجر. . . ستعبدينه
يوم تزول المحنة الملعونة
إني هنا. . . فعربدي. . . وثوري ... ملء عنان اللهو. . . والسرور
ومزقي بضحك المخمور ... غلالة ينسجها تفكيري
ليستر العريان من شعوري ... ويحجب اللافح من سعيري
الغاضب المدمر الضرير ... يود لو يعصف بالقصور
وساكنيها. . . عابدي الفجور ... النائمين في حمى الحرير
الغالغين عن أسى الفقير ... ولوعة المشرد المدحور
الوالغين في الدم المهدور ... من عصب الكادح. . . والأجير
إني هنا. . . يا جنة الحقير ... آكل جوعي. . . وأضم نيري
وليس لي في الأرض من نصير ... إلا ضميري. . . آه من ضميري
ألبسني ممزق الستور ... وجاء بي=حيا=إلى القبور
أقرأ في ظلامها مصيري ... وأعرف الغاية من مسيري
بعد احتراق الأمل الأخير ... وفرقة الصاحب والعشير(887/32)
هذا أنا. . . في العالم الكبير ... فوق ربى المقطم المهجور
متخذا من أرضه سريري ... من الحصى. والطين. والصخور
وتحت سقف الأفق المسيطر ... والعاصف المزمجر المقرور
أنام. . . نوم العاجز الموتور ... على نباح الكلب. والهرير
وقهقهات الرعد في الديجور ... تسخر من عجزي ومن قصوري
ومن ضراعاتي إلى المقدور ... وقلبي المحطم الكسير
وأنت. . . يا زنجية الضمير ... تدرين قدري. . . وترين نوري
فتفجرين ضحكة المغرور ... وترتدين كفن المقبور. . .!
هازئة. . . كالزمن العيهور ... من المثالي الفتى الطهور
فلتهزئي. . . فلست بالمقهور ... ولتغرقي هزءا. . . فلن تثيري
إلا دخان الحاقد المسعور ... وثورة المقيد الأسير
ولن تعيشي في فم الدهور ... إلا بفن الشاعر القدير
الحائر المضطرب الممرور ... تحية الخلد إلى العصور
وآية الجبار. . . في المجبور ... ونفحة الأقداس في الماخور!
الواحة السجواء. . . في الهجير ... تشرب نار الفدفد المسجور
لترسل الظل إلى المحرور!
إني هنا. . . أيتها المدينة. . .! ... الحرة الفاجرة المجنونة. . .!
أحبس في جفني الرؤى السجينة ... والأدمع الوالهة السخينه
إني هنا. . . أغربل السكينة ... وأزرع الخواطر الحزينة
ملء ضفاف الوحدة المسكينة ... وفي يدي فجر. . . ستعبدينه
يوم تزول المحنة الملعونة
صالح علي شرنوبي(887/33)
(وفاء)
للأستاذ محمد محمود جلال بك
أصابر نجمي من أشهر ... فحان المعاد على (دلدر)
على ربوة خضلت خضرة ... تطل على أزرق أخضر
تجازى البحيرة عن صنعها ... وتزكو الصنيعة بالشاكر
كقائد جيش لدى موكب ... يرد التحية للعسكر
تباركت يارب من مبدع ... تجلى بآيك للمنكر
وقصر تناهت له روعة ... يمد خيالك (للأقصر)
كخاطب قوم سما منطقا ... يسوق العظات على المنبر
به ما اشتهيت وفق المنى ... فحاسب مناك وقل أقصري
بخدمة قوم صباح الوجوه ... همو غرة في بني الأصفر
على أدب زان منهم حجى ... يقل الثناء على المكثر
تألق فيه وداد مضى ... فناج الودود به واذكر
فعيني تقر برفه المصي ... ف وقلبي يهفو لديسمبر
إذا البرء جادك حيى الضنا ... فبيعك حتم لكي تشتري
كذا العمر جدب بغير الوفاء ... فلا نضر العيش للغادر
(فدلدر) تحنو على (زورخ) = (وزورخ) تزهو على (دلدر)
محمد محمود جلال(887/34)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
جناية الفلسفة على العقول
جناية الفلسفة على العقول أمر لم نكن نؤمن به حتى أثبت لنا الدكتور الأهواني أنه حقيقة لا تقبل الجدل. . . إذا لم تصدق فاعلم أن هذا (الفيلسوف) قد آثر أن يشكونا إلى النيابة العامة بدلاً من أن يشكونا إلى روح طيب الذكر رينيه ديكارت!
وجناية الفلسفة على العقول قد تحققت بالنسبة إلى الدكتور الأهواني مرتين: الأولى حين أوهمته (فلسفته) أنه يستطيع أن يكون أديباً يشارك في هذا الذي يشارك فيه الأدباء، وناقداً يخوض في هذا الذي يخوض فيه النقاد. . . والثانية حين ألهمته هذه الفلسفة أن لقاءنا في ساحة النيابة أسلم مغبة له من لقائنا على صفحات الرسالة! ولم يفكر الدكتور الأهواني طويلا لأن منطق الفلسفة الأهوانية لا يعترف بمبدأ الإحجام عن أي أمر من الأمور. . . ومن هنا قرر (الفيلسوف) أن يكون أديباً رغم أنف النقاد، وعلى الذين لا يعترفون بمكانته الأدبية أن يواجهوا النيابة العامة!
ولم يكن هناك بد من أن نواجه النيابة العامة، أتدري لماذا؟ لأننا لم نشر إلى (الفيلسوف الأديب) بأطراف البنان وإنما أشرنا إليه بأطراف اللسان. . . ولعلك قد أدركت بفطنتك ما تحمل الإشارة الأخيرة من معان!!
وننتقل بك إلى مرحلة التحقيق أو مرحلة العقوبة والتطبيق. . . ولا تعجب إذا قلنا لك إننا قد رغبنا إلى المحقق في أن يمهلنا بعض الوقت، ليكون للضحك الساخر أو للسخرية الضاحكة أوفى نصيب! وكيف لا نضحك والدكتور الأهواني يدفعنا إلى الضحك دفعاً ويفرضه علينا فرضاً وكأنما يريد أن يشغلنا بفكاهاته عن حر الصيف ووطأة الصيام؟ سمها إن شئت فكاهة الفلسفة أو فلسفة الفكاهة. . . وقد تتفلسف الفكاهة أحياناً فلا تعبأ بمنطق ولا تؤمن بقاعدة ولا تخضع لشيء من هذا الذي تخضع له العقول!
هذه الفكاهة المتفلسفة عمادها في شكوى الدكتور الأهواني أننا قد تهجمنا على مكانته العلمية وأستاذيته الجامعية، وأنه لا تكافؤ بين الناقد والمنقود. . . فالناقد أنور المعداوي ليس دكتوراً حتى يحق له أن يتهجم على دكتور في الآداب، وليس أستاذاً في الجامعة حتى(887/35)
يحل له أن يتطاول على أستاذ في الجامعة، وفي هذا الاعتداء المعنوي ما يعاقب عليه القانون أو ما يجب أن يعاقب عليه! تواضع عظيم. وحسبك دليلا على هذا التواضع أن الدكتور الأهواني لم يشأ أن يتشدد مع النقاد، ولو شاء لطلب إلى النيابة العامة أن تطبق القانون على كل ناقد يتعرض له إذا ثبت أن هذا الناقد لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب!
تواضع عظيم لا شك فيه. . . ومنطق عظيم لا شك فيه أيضاً. . . وآية العظمة في هذا المنطق أن كاتبا له مكانته كالأستاذ العقاد لا يجوز له مثلا أن ينقد صاحب الفلسفة الأهوانية، لأن شرط التكافؤ بين الناقد والمنقود يا رعاك الله. . . غير موجود. ولا يستطيع الأستاذ العقاد أن يدعي بأنه دكتور في الأدب أو دكتور في الفلسفة، أو يزعم بأنه أستاذ في جامعة الفؤاد أو جامعة فاروق. . . هكذا تريد لنا الفلسفة الأهوانية.
دكتور في الفلسفة وأستاذ في الجامعة. . . هذا حق لا يمكننا أن نجادل فيه، ولكن بقي حق آخر لا يحتمل المناقشة، هو أن (الدكتوراه) التي يحملها الدكتور الأهواني كانت أول دكتوراه فيما نعلم يحصل عليها صاحبها مجردة من مراتب الامتياز ودرجات التفوق. . . ترى هل يستطيع أن يجادلنا في هذا الواقع الذي شهدناه بأعيننا يوم أن نوقشت رسالته، وقد كانت عن (التعليم في رأي القابسي)؟!
أغلب الظن أنه لا يستطيع. . . ومع ذلك فهو دكتور يزهى علينا بالدكتوراه، وأستاذ في الجامعة يفخر علينا بالأستاذية، ثم لا يجد ضيراً من أن يجهر بعدم التكافؤ بين الناقد والمنقود. . . أو بين المعداوي والأهواني!!
إن الحصول على الدكتوراه في مصر ليس أمراً عسير المنال كما تتوهم الفكاهة المتفلسفة، وبخاصة إذا روعي في الحصول عليها ذلك (التواضع) الذي يحرص على أن تكون الألقاب العلمية مجردة من تفوق المراتب والدرجات. . .
هذه كلمة نرجو أن يقرأها الدكتور الأهواني بعناية. . . ونحن في انتظار بلاغ آخر يتقدم به إلى النيابة العامة!
أزمة القراء وعصا الأستاذ الحكيم
(قالت العصا: هل رأيت هذه المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة، كيف تحولت(887/36)
أخيراً إلى حانوت للمرطبات؟! إن صاحبها هو صاحبها لم يتغير. ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من (كتبي) إلى (شربتلي)!. . . وعندما سئل في ذلك قال: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن. . . إنهم يريدون عصير الليمون!
قلت: هذا صحيح مع الأسف. . . وهي ظاهرة خطيرة تستحق العناية والعلاج. . . فإن انصراف الناس عن غذاء العقل نكبة كبرى لأمة في طريق التحضر. . . وما قيمة التعليم في أمة إذن، إذا كانت نتيجته تخريج زبائن للمشارب لا للمكاتب؟! إن أبقى درس وأهم كسب للطالب في المدرسة، ليس في تلك المعلومات المحددة لأنها ستنسى حتماً بعد حين، ولكنهما في غرس ملكة المطالعة التي ستلازمه في كل حين. . . لا خير ولا نفع في أرقى المدارس والجامعات إذا خرج منها الطلاب يلعنون كتبهم ويختمون على رءوسهم. . . بينما الطالب الذي ينشأ فيه حب المطالعة والاطلاع تنشأ في نفس الوقت جامعة كبرى نفسه، تزوده بالمعارف المتجددة طوال أيام حياته. . . ذلك واجب المدرسة الأول: تعلمنا حب القراءة. . . وتمرن عضلاتنا الفكرية على هضم أغذية العقل. . . ثم تدفعنا إلى الحياة نزدرد ثمرات الذهن. . .
قالت العصا: حقا. . . إن الإنسان يولد زبونا بالفطرة لعصير الليمون. . . ولكنه لابد أن يعد إعدادا ليصير زبونا لعصير الذهن!)
هذا هو الحوار البديع الذي دار منذ أيام على صفحات (أخبار اليوم) بين صديقنا الفنان الكبير الأستاذ توفيق الحكيم وبين عصاه. . . وأزمة القراء التي شغلت قلم الصديق فأجرت مداده بهذه الكلمات الطافحة بالمرارة والفياضة بالأسف، مشكلة عرضنا لها بالأمس على صفحات الرسالة محددين أسبابها الأصلية ودوافعها الطبيعية، معبرين عن مظاهر الأسف والمرارة كما استشعرها الأستاذ الحكيم!
ولا نذكر أننا التقينا مرة - توفيق الحكيم وأنا - إلا وعرجنا على هذه المشكلة وخصصناها بأكثر ما ينقضي بيننا من وقت وأغلب ما يدور بيننا من حديث. . . إنها مشكلة من مشكلات الساعة بلا جدال: جيل ينصرف عن القراءة المفيدة إلى فنون من اللهو والعبث لا تنفع ولا تفيد، ويضيق بعصارة الفكر التي تطفئ ظمأ العقل وترطب جفاف القلب ليقبل على كل ما من شأنه أن يذبل نضارة العقول ويغلق منافذ القلوب. . . هذا الجيل ماذا حدث(887/37)
له، وماذا نفعل من أجله، وكيف نهديه إلى معالم الطريق؟ إننا نستطيع أن ننفذ إلى مكامن الداء في جسم هذا الجيل المريض، ونستطيع أن نضع أيدينا على مصدره ونستطيع بعد هذا كله أن نصف العلاج الناجح والدواء المفيد. . . نستطيع أن نفعل هذا الذي قلناه، ولكن المشكلة التي تواجهنا ويتحول معها الأمل إلى يأس هي طبيعة المريض نفسه، طبيعته العقلية والنفسية، هذه الطبيعة التي لا تؤمن بقيمة الدواء ولا بجدوى العلاج ولا بنصائح الطبيب!!
وأين هو الطبيب المنتظر الذي يحمل الدواء إلى المريض في يد (والكرباج) في أخرى، حين يكون الكرباج هو السبيل الوحيد إلى الإقناع؟! أين هو ليجرع المريض العنيد عصير الذهن بدلاً من عصير الليمون، فإذا امتنع عن تجرع الدواء ألهب ظهره بسوط الجلاد؟! نحن محتجون إلى عهد الكرباج ليقرأ الناس. . . ولا شيء غير الكرباج يستطيع أن يقنعهم بأن الجد خير من الهزل، وأن الثقافة أفضل من الجهل، وأن النور أجمل من الظلام!
كل هذه الخواطر التي نسجلها في هذا المكان حول أزمة القراء، كنا ننتهي إليها وينتهي الأستاذ الحكيم كلما جمع بيننا لقاء. . . ويقول الأستاذ الصديق ذات يوم وكأنما اهتدى إلى علاج: ألا يكون ارتفاع أثمان الكتب سبباً من الأسباب الجوهرية في انصراف الناس عن القراءة؟ ونقول له رداً على ملاحظته المغلفة بإطار من الإيمان: لا نظن. . . فالقارئ الذي يريد أن يبسط عقله لا يقبض يده! ثم إن الكتب يا صديقي ليست هي الشيء الوحيد الذي ارتفع ثمنه في هذه الأيام، كل شيء قد ارتفع ثمنه وغلا سعره، ومع ذلك فما أكثر ما يقبل الناس ومنهم المتبلمون على الشراء ينفقون الجنيهات على المتعة الزائلة ويضنون بالقروش على المتعة الباقية. . . ينفقون على متعة الجسم والنظر ويضنون على متعة الذهن والروح. . . مائة قرش يدفعها الشاب الجامعي ثمنا لرباط رقبة، وعشرون قرشاً يستكثرها ثمنا لأثر من آثار الأدب والفن، ومن هنا عمرت محال (الكرافتات) وأقفرت من روادها المكتبات!
ويهز توفيق الحكيم رأسه هزات المؤمن بما يقول، ولكنه يريد أن يجعلها تجربة ليحكم في ضوء الوقائع المادية لا الآراء النظرية. . . ولم تمض أسابيع حتى أصدر الصديق مجموعتين من قصصه حدد لكل منها ثمنا قدره عشرة قروش بدلاً من خمسة وعشرين(887/38)
وعلى الرغم من أن توفيق الحكيم هو أكثر كتاب الشيوخ إقبالاً من القراء، فقد كانت نتيجة اليوم هي نتيجة الأمس. . . عشاق فنه وحدهم هم الذين أقبلوا على شراء قصصه الجديدة، نعني أن القروش العشرة لم تجذب قارئا جديداً لتضمه إلى قائمة قرائه المعجبين! والسبب. . . هو أن الذي يهوى القراءة ويعشق الاطلاع لا يهمه أن يكون ثمن الكتاب عشرة قروش أو مائة أما أولئك اللاهون والتافهون من وراد المراقص والمقاهي والحانات، فلن يقرئوا ولو حددنا أثمان الكتب بالمليمات!!
هذه حقيقة آمن بها توفيق الحكيم بعد التجربة كل الإيمان. . . ويقول لنا بعد أن عاد من رحلته الأخيرة إلى باريس. ما أعجب القوم هناك! إن حياتهم حياة. . . وحسبك أن العين قلما تقع على فتى أو فتاة من غير كتاب. . الكتاب دائماً يطالعك في أيدي الناس حيثما ذهبت: في القهوة، والبيت، والشارع، والمترو، وحلبة السباق. . لا يكاد يصرفهم عنه لهو أو متاع، في بلد كل ما فيه لهو ومتاع. صدقني ما أحسست بمدى الفارق بين الموت والحياة إلا بعد أن رجعت إلى مصر، وقارنت بين حال القراء هنا وحالهم هناك!
ولم نكن محتاجين إلى أن يقص علينا الأستاذ هذا الذي رآه، لأن بعض الحقائق تلمس بالعقل إن عز لسمها على الأنظار والأسماع. . . ومن هذه الحقائق الملموسة بالعقل أن القارئ الفرنسي يلتهم الكتب ن القارئ الفرنسي يلتهم الكتب التهاما ليضيف إلى عمره أعماراً أخرى عن طريق القراءة والاطلاع، ولولا هذا لما كانت الطبعة التي بين أيدينا من أحد كتب سارتر هي الطبعة الثالثة والتسعين. . . ولا تنس أن الطبعة الواحدة تقدر في حساب الناشرين بعدد من الألوف!!
هذا في فرسا، أما في مصر. . . فقد حدثنا الأستاذ الحكيم عن قصة صاحب المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة وكيف تحولت إلى حانوت للمرطبات. . . وعندما سئل الرجل في ذلك أجاب: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن. . . إنهم يريدون عصي الليمون. . . وياله من جواب ذلك الذي يعيد إلى الأذهان أسطورة نهر الجنون!
أنور المعداوي(887/39)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بين صديقي وبيني أو بين مصر وأمريكا
أخي عباس
صحت نبوءتك فتعافيت لا بفضل صديقتك الحسناء ولكن بفضل انتقالي من سان فرنسيسكو برياحها الرطبة المتغيرة أبداً، إلى مدينة صغيرة في وسط الوادي تسمى وقد شممت فيها رائحة مصر فعافيت!
أذكر أنك كتبت مرة عن الربيع وشعراء الربيع في مصر. أنا أوافقك على الشطر الثاني، أوافقك على أن شعراء الربيع في مصر (عره!) أما إنحاؤك على جو مصر، وترابه وعفاره. . . الخ فأؤكد لك أنه (بطر) بنعمة الله! هنا أمريكا التي ينشرون دعوة طويلة عريضة عن جوها وبخاصة جو كاليفورنيا، لا تقاس بشيء إلى مصر. ولا تسمع ما يقوله بعض الرقعاء عن جو فرنسا فبين يدي الآن رسالة من شاب مصري غير مخدوع، يعيش في فرنسا مفتوح العينين، يحدثني عن التقلبات والأنواء، ويتمنى نسمة مصرية، وهذا هو ما أتمناه أنا كذلك!
إننا ننقص من قدر أنفسنا حتى في الطبيعة، أما الأجانب فيعرفون كيف يقمون بالدعاية لبلادهم ليجلبوا إليها الناس، لغرض (مادي) هو الحصول على نقد أجنبي. وإن كان الذين زاروا مصر فهم يخجلون أن يقيسوا بلادهم إليها.
إننا نملك أشياء كثيرة ولكننا لا ننتفع بها ولا نستغلها. . . هذه هي المسألة، فإذا أنحينا باللائمة فلننح، لا على بلادنا، ولكن على تلك الحفنة الجاهلة المريضة الأنانية التي تتولى أقدارها، ولا تؤدي لها خدمة ما، ولا تستغل كنوزها، سواء كنوز الطبيعة الأرضية أو كنوز الطبيعة البشرية.
إننا نملك طاقات من الذكاء الخارق - حين نقارن شعبنا إلى شعب كالأمريكاني - ولكننا نهمل هذه الكنوز بالجهل والأمية والفقر المدقع القاتل لكل موهبة، وذلك لتستمتع حفنة من (الباشوات) و (الكروش) بترف لا تعرفه القرون الوسطى.(887/40)
هذا هو عيبنا؛ أما طبيعة بلادنا، وطبيعة شعبنا فهما فوق مستوى الشبهات.
قولوا - أيها الكتاب - للشعب حين تكتبون: إن المتحكمين فيكم يقبرون نبوغكم ويدفنون مواردكم، وأنتم تملكون ما لا يملكه شعب آخر في هذا الوجود.
وتحياتي إليك وإلى اللقاء.
أخي - بعد أن كتبت لك هذه وقرأته رأيته يصلح للنشر والتعليق، فإذا رأيت أن تجعله موضوع تعليقك فأنت في حل من نشره.
سيد قطب
أسارع أولا فأبين مسألة (صديقتي الحسناء) مسزفرو. . . لأنها تمس السياسة الداخلية في بيتي. . . المسألة أن إحدى رسائلي إلى الصديق الذي أوحوشنا وصلت إليه وهو في المستشفى فلفت نظر الممرضة الحسناء - كما يقول - ما عليها من طوابع مصرية مختلفة الألوان: أحضر وأحمر وأصفر. . . فأعجبت بهذه المجموعة العجيبة، ولعلها أعجبت أيضاً بخطي الرديء المكتوب على الغلاف! فاحتفظت به. . . ومالي ذلك يدان!
ليست هذه الرسالة الوحيدة، من رسائل الأستاذ سيد قطب إلي، التي تضمنت بعض الموضوعات العامة، فقد كتب مرة يقول: تصلح أمريكا أن تكون (ورشة العالم) فتؤدي وظيفتها على خير ما يكون أما أن يكون العالم كله كأمريكا، فتلك هي كارثة الإنسانية بكل تأكيد. فكتبت إليه فيما كتبت: إني يا أخي لا أرى لدينا روحية محبوبة، فنحن ماديون كالأمريكيين، وكل ما بيننا من فرق أن ماديتهم منظمة ونحن في فوضى، فجاء رده: لمحت في رسالتك ألي أنك، (قرفان) من مصر، ولهذا لا تستريح إلى ما أكتبه أنا عن أمريكا! إنني حين أكتب عن أمريكا ما أحسه من حقائق لا أعني أنني راض عن الحياة في الشرق وما فيها، ولكن هناك شيئاً واحداً لا يصح أن نغفله، إن أمريكا تستخدم كل رصيدها الممكن، وإننا نهمل رصيدنا فنبدو مفلسين! إن الحاضر الواقع في بلادنا لا يرضى أحداً ولكن الممكنات أمامها كثيرة لو وثقنا في أنفسنا وفي رصيدنا المكنون، وهذا هو مفرق الطريق، ولو أنك عشت في أمريكا بعض الوقت كما عشت لحمدت للشرق روحه رغم هذا الخمول الذي يعانيه.
وأنا أوافق الصديق الكريم على ممكناتنا ومكنوناتنا وأومن معه بشعبنا ومواهبه المقبورة،(887/41)
ولكنني أرى أن تلك (المكنونات) قد أصبحت كمحتويات دار الآثار نتحدث عنها ونطيل الحديث ولا شيء وراء ذلك، أما المواهب المقبورة أو كنوز الطبيعة البشرية المهملة في مصر فأمرها ظاهر وداؤها يبدو معضلا، وإذا كانت حفنة الباشوات والكروش تتحكم وتستغل فإن (حفنات) من الوصوليين يتخذون الأسباب المختلفة إلى أولئك، يسيرون في ركابهم ويصهرون إليهم وغير ذلك من أساليب، فيكتالون ويستوفون، وهناك مئات من ذوي الكفايات يقعد بهم الحياء وتحتجنهم الكرامة، فيهملون. . . وبذلك تحرم البلاد من خير أبنائها وأوفرهم حياء وكرامة، ويحرمون هم مما تلغ فيه الكلاب!
ولا أريد أن ألج في المقارنة بيننا وبين أمريكا، فإن الأستاذ سيد - بحكم وجوده هناك - أدرى منا بما يقول، ولكن من حقي أن أكون (قرفان) من جانب حالتنا التي لا تسر. . . والتي لا أجد فيها (روحا). وقل لي بالله يا صديقي: ما قيمة (الرصيد) الذي لا نستطيع أن ننفق منه، وما فائدة (المكنون) في دار العاديات؟
وألاحظ أن الصديق الكريم يختلج به حنين شديد إلى الوطن، فهو يتمنى نسمة مصرية، وهو يتعافى حين يشم جو كجو مصر. ولعل هذا الحنين دخلا في إشادته بجو مصر ولعل شوقه إلى حلوان الدافئة الجميلة المهملة. . . هو الذي أثاره على كاليفورنيا، ولعل بعده عن مصر في هذا العام الذي كثرت فيه التقلبات الجوية عندنا هو الذي جعله يظن أن سان فرانسيسكو هي ذات الرياح الرطبة المتغيرة أبدا.
وسلام عليك أيها الصديق العزيز، وإلى اللقاء في قدومك القريب.
مسرحية (مدرسة النساء)
هي المسرحية الثانية التي قدمتها الفرقة المصرية في هذا الأسبوع على مسرحها الصيفي بحديقة الأزبكية. كان قد كتبها بالزجل المرحوم عثمان جلال مقتبساً من موليير، ولم تقدم على المسرح المصري قبل الآن على رغم أنها كتبت منذ زمن غير قليل. وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة، وقام بالأدوار الرئيسية فيها فؤاد شفيق وعمر الحريري وزوزو الحكيم
والمسرحية تدور حول رجل سيئ الظن بالنساء لكثرة ما سمع من نوادر خياناتهن، وهو لذلك قد أتى بفتاة رباها من صغرها معزولة إلا عن خادم وخادمة، ذاهبا إلى أن عدم(887/42)
تعليمها وجهلها بأمور الحياة وعدم اختلاطها بالناس، تحفظها من الزلل وتصونها نقية طاهرة، وهو يعتزم أن يتزوج منها، فيأمن شر النساء المتعلمات المجربات. . . ولكن القدر يسوق إليه أو إليها فتى وسيما في مستهل الشباب، يتصل بها، ويساعد جهلها (وخاميتها) على أن تسعفه بالوصال وتلبي نداء الهوى وهي لا ترى في ذلك أي شيء غير طبيعي. ويصعق الرجل ويحاول أن يحول بين الشاب والفتاة في غير جدوى. وينتهي الأمر بأن يظفر الفتى بفتاته ويتركا الرجل في حسرته.
ويظهر لي أن موضوع المسرحية كان يتجه إلى تصوير غدر النساء وكيدهن وعدم استطاعة التخلص مما يدبرن. ولكن الإخراج وجهها بعض التوجيه نحو قضية أخرى، هي قضية القلب الإنساني والطبيعة البشرية، فإن الفتاة لم تلتفت إلى الشيخ الذي رباها في بيته ولم تعر حبه أي اهتمام، وجذب الشباب بصرها وغزا فؤادها، فتفتح قلبها، وتفتق عقلها، حتى غدت تحسن التحلل والتدبير من أجل الاتصال بحبيبها الشاب، وكان نصيب الخيبة والإخفاق، لأنه أراد أن يقف في وجه الطبيعة ويتعرض مجراها. وهذا الاتجاه هو الذي يوافق التفكير العصري ويتمشى مع تحليل البواعث النفسية التي لا تغير مجراها الحكم والمواعظ.
ولكن المسرحية مع ذلك ظلت مشدودة إلى الفكرة الأولى بحبل أسلوب الحوار وهو الزجل، وكانت تلك الفكرة (كيد النساء) أقرب إلى الأذهان في ذلك الزمن الذي وضعت فيه المسرحية. ومن هنا نرى جهد الإخراج الذي بذل في تحويرها حتى جاءت ملائمة للروح العصري.
وقد تتابعت فصول الرواية الثلاثة على المسرح في منظر واحد تحايل الأستاذ زكي طليمات على جعله منظرين: أحدهما داخل المنزل والثاني خارجه أمام الباب، وذلك بإسدال ستار يفصل الداخل عن الخارج، وبذلك كانت تنتقل الحوادث من أحد المكانين إلى الآخر انتقالا سريعاً يشبه الانتقال السينمائي، ولكني ألاحظ أنه جعل الرجل يلقي الشاب (الذي لم يكن يعرفه) وغيره من الناس أمام الباب، ويتحدث معهم حديثاً يطول ويقصر دون أن يدعوهم إلى الدخول إلا في المنظر الأخير. وأظن أنه كان يمكن أن يجعل الرجل والشاب يلتقيان في مكان آخر يبعد عن البيت كقهوة مثلا، ويكون ذلك أوفق من خارج المنزل الذي(887/43)
كان يلتقي فيه الفتى والفتاة!
وقد صورت لنا المسرحية الفتاة على أنها جاهلة يراها الشيخ أحسن من المتعملة وأسلم منها لأن الثانية تكتب إلى عشيقها الرسائل، ثم رأينا الفتاة بنفسها تكتب إلى حبيبها، ورأيناها تقرأ الرقعة التي احتوت النصائح التي قدمها إليها الشيخ! فأين تعلمت القراءة والكتابة وهي نفسها تقول في الحوار إنها لم تذهب إلى معلم ولا (كتاب)؟ نعم إنها قالت في الحوار إن الحب علمها ونور عقلها، ولكن عل الحب يعلم القراءة والكتابة بدون معلم؟
وقد كان فؤاد شفيق عصب الفكاهة في التمثيل بتعبيرات صوته ووجهه وحركاته، ونهض عمر الحريري بدوره، غير أني أنتظر منه أن يكون مبرزا في دور الشاب المحب أكثر من ذلك. أما زوزو الحكيم فقد كانت حقا الفتاة (الخام) بصوتها وحركاتها وإن كان وجهها غير معبر.
عباس خضر(887/44)
البريد الأدبي
في السرقات الأدبية
كان المغفور له الشيخ حمزة فتح الله مولعا بالغريب في شعره ونثره، حتى لقد أصبح قوله الألغاز والمعميات، وأغرت هذه الخلة به صديقه شاعر الجمال المرحوم إسماعيل صيري باشا، فنظم قصيدة بأسلوبه وعلى طريقته في شكوى شركة (كوك) البحرية، وأعطاها إلى صديقه شيخ العروبة المرحوم أحمد زكي باشا فكتبها مزوراً خط الشيخ فتح الله الذي كان ينزع إلى محاكاة إملاء أهل المغرب، وبعث شيخ العروبة بالقصيدة إلى صحيفة (المؤيد) فنشرتها في صدرها، وأحدثت بطبيعة الحال دوياً، واستمرت رجفتها شهراً كاملا يتناقل الأدباء أبياتها معجبين لأنهم لا يكادون يفهمون منها شيئا لشدة ولع (عميد المفتشين) بالغريت وحواشي الألفاظ. ونذكر من هذه القصيدة العجيبة هذه الأبيات الثلاثة:
أيا يذا (الفضل) المزجى زواجره ... صوب السفين وثوب السوس سربله
أشكوك (كوكك) كي نيكف عن نكب ... إذ كان كلا وكل مل كلكله
أباتني والجرشى حشوها ضجر ... إن مس شقي خشب الفلك قلقله
ولما طلع الشيخ حمزة فتح الله القصيدة في صدر (المؤيد) اعجب بها إعجابا شديداً، وحين هنأه عليها أصحابه لم يقبل التهنئة فقد كان رجلاً ورعاً تقياً وإنما قال (هذا الكلام كلامي ولكني ما قلته). ولما أطلع على أصل القصيدة في إدارة الصحيفة قال (وهذا الخط خطي ولكني ما كتبته) وبقي الأمر سراً حتى توفي الشيخ حمزة وعندئذ أفشاه شاعر الحب والجمال!
ونحن إذ نروي هذه القصيدة إنما نريد منها أن نعرف متانة خلق رجل من أعلام البيان أبى عليه ورعه أن ينسب لنفسه كلاما لم يقله، وما كان ضره لو هو سكت، وبخاصة أن صبري باشا الشاعر لم يكن بالرجل المشنع الكثير الكلام، وقد أراد رحمه الله أن يداعب شاعراً آخر من شعراء زمانه، فأرسل إلى إحدى الصحف قصيدة ممهورة بتوقيعه - توقيع الشاعر لا توقيع صبري باشا - ثم لقيه من غده فهنأه بالقصيدة، فقبل الشاعر التهنئة شاكراً!
فذانك برهانان، تروع الشاعر في أولهما أن ينسب لنفسه ما لم يقله وما لم يكتبه وفي الآخر(887/45)
لم يجد الشاعر باساً من سرقة أدبية هبطت عليه من السماء!
وعندنا أن السرقات الأدبية تسامت إلى حد كبير السرقات المادية واتجاه التشريع إلى حماية الملكية الأدبية اتجاه محمود، وسارق (الدجاجة) الذي يقضي في السجن عدة أشهر. ولو أننا بالغنا في حماية الملكية الأدبية لخلقنا جيلا من الأدباء مهذبا لا يتجانف لإثم سرقة الأفكار والآراء
واحسبني أرسلت في (الرسالة) كلمة قبل بضع سنين أعتب فيها على الدكتور زكي مبارك أن نسب لنفسه هذه القولة (الشهرة كالمال بعضها حلال وبعضها حرام) وقلت له إن هذه المقالة البليغة إنما هي من كلام المرحوم الشيخ يوسف الدجوي، فرجع الرجل إلى الحق وكتب معتذراً ولم يكابر ولم يصاول.
وكان صديقنا الأستاذ كامل كيلاني - ولا يزال - يرى وجوب حفظ الحق الأدبي لصاحبه، ولو كان هذا الحق يتصل بملحة أو نكتة أو (قفشة) فلا ينسب المرء لنفسه كلاماً ما سمعه من أحد، وإنما يرد القول لقائله على طريقة رواة الأحاديث، ولو أن هذه الطريقة اتبعت ما كذب أحد على نفسه ولا على الناس.
يبد أننا منينا في هذه الأيام بالسرقات الأدبية تتري علينا في صورة كتب تنشر أو مقالات تكتب، ولقد كنا نبصر في زمن مضى بالسرقات الأدبية تنصب على الموتى وحدهم، غير أننا نرى في هذه الآونة السرقات الأديبة قسمة قسمة عادلة بين الأحياء والأموات، وما نحب أن نذكر قبل أن يستشري الداء ويمسي العلاج شيئاً بعيد المنال.
ولسنا نعرض للكتاب الذي قيل لمن (مؤلفه) بدل عنوانه ومقدمته وقدمه إلى القارئين على نحو جديد، فقد يكون لصاحب هذا الكتاب مع طابعه شان آخر. ولكن نحب أن نفرض لهذه المقالات التي تنشر في صحفنا الدورية، فكثير من هذه المقالات سبق نشرها في هذه الصحف بعينها منذ سنين، ولكن بتوقيعات أخرى غير هذه التوقيعات التي نراها اليوم. ومن هذه المقالات مقالات مضى أصحابها إلى ربهم وقطعوا صلتهم بهذه الدار الفانية ومنها مقالات كتبها أناس ما زالوا يكابدون أوصاب الحياة، ولكنهم قطعوا ما بينهم وبين الحياة الأدبية، ومنها كتبها صاحب هذا القلم الضعيف في مناسبات مختلفة قبل بضع سنين!
والصحف - ولا شك - لا تلام على نشر ما تنشر لأنها لا تقرا الغيب ولا تقلب صحائفها(887/46)
في الماضي البعيد أو القريب، وإنما يلام أولئك (الكتاب) الذين لا يراعون الأمانة ولا يراقبون الضمير ولا يتوافون لشرائط الأخلاق ومراسم التقاليد!
إن سرقة مقالة أو قصيدة أشبه ما تكون بسرقة متاع من المتاع، وسارق المتاع يعتقل في حالة (التلبس) كما يقولون ويعاقب ويشهر به ويفقد (اعتباره) ومستقبله. ولكن صاحب المقالة أو القصيدة - وهو في الأغلب الأعم له نفس شاعرة - يعز عليه أن يشهر أو يشنع بمن سرق نتاج فكره، أفلا يتقي الله لصوص الأفكار، حتى لا يأخذهم القانون بما جنت أيديهم أسوة بإخوانهم من لصوص المتاع!
منصور جاب الله(887/47)
القصص
اشترك في الجريمة
لكاتب الفرنسي بول بورجيه
بقلم الأستاذ كمال رستم
. . . قابلت. . إدم ريمون - على إفريز محطة ميلان بينا كنت أصعد في أحد هذه القطارات التي يصفها الإيطاليون في زهو (بالبرق) مع إنك تجد نفسك متأخراً ساعتين في مسافة قدر زمانها خمس ساعات. . . وكيف تحرن؟ إنك إن شكوت أجابوك وقد جرت على شفاهم ابتسامة آسرة قائلين. (إنه القدر الإيطالي) أيسخرون من أنفسهم أم يسخرون منك. . وإنك لتغفر (للبرق) هذا الوقوف الذي لا يكاد ينتهي عند كل محطة انتظارا للبريد الذي لا يصل أبداً. . . ومرة أخرى فيم الحزن إذا كان كل الناس يحضرون ليشاهدوا (لويعي دي لا بريرا) الإلهية. . . وإذا كانوا يتهيئون من غدهم لزيارة. . . (القصر الأحمر) و (القصر الأبيض) في جنوا. . .
وكانت جنوا وجهتي حينما التقيت بادم ريمون وكان ماضياً إليها أيضاً!. . . وسألني قائلا:
- أتريد أن نقطع رحلة سوياً؟
أجبته وأنا ادفعه في رفق أمامي إلى الصالون:
- بكل سرور. . .
ولم أكن مخلصاً في قولتي هذه. . . وما ذاك لأن طبع ريمون يباين طبعي. . . فهو شاب لطيف للغاية وإن كان متكلماً هوناً ما وهو رفيق صادق الود فما كان يربطنا في صداقتنا التي أوفت على العشرين عاماً سوى أنبل الصلات وأطيبها. . وهو بعيد الأفق غزير العلم. . جم الثقافة. . . سمحت له ثروته بالتنقل والسفر. . . ولكنه إلى ذلك. . . كان ثرثارا. . . وإننا لندرك بدهياً آراء هذا النمط من الناس. . . في الأشياء التي هي مدار الحديث في الصالونات المنتشرة حول قوس النصر. .
وبالأمس أطروا قصصي تولستوي وأينزيو. . . واليوم يشهرون نحت (دودان) وتصاوير ببزنار. . وغداً من يدري؟. ولكنني عرفت منذ عهد بعيد كيف أميز في ثرثرات هذا(887/48)
الطراز من الناس الآراء التي ليست سوى الصدى الحاكي لآراء الغير. . . والقصص التي يمكن أن تكون أصيلة. وقد مضى على قصة من هذا القبل الأخير. . . أريد أن أقصها بدوري. . وهي تنتمي إلى مجموعة (حالات الضمير). . وطبقا لما قرر باسكال (إن لذة الحياة في هذه الوخزات وفي التماس الحلول لها. . .
قص على رفيقي هذه القصة. . . وقطارنا يقطع الطريق من (نوفي) إلى (سامبرد أرينا) وكنا قد تناقلنا طائفة من الآراء عندما بدهني بهذا السؤال:
- أين تقيم في جنوا؟
فعينت له فندقاً في ظاهر المدينة كنت أوثره على غيره لحديقته الرجيبة. . . أجابني بقوله:
- لسوف نفترق إذن. . . فإن هذا الفندق يرتبط في ذهني بذكرى مؤلمة جداً. . . وإني ليتلبسني اعتقاد باطل عسى بأن يجعلني أعزف عن الأماكن التي وقع فيها حادث مؤلم. . . حادث؟. . . إن الكلمة ضخمة. . . ومع هذا؟. . .
وانقضت فترة ثم استتلى:
أود أن أعرف ماذا كنت خليقا أن تصنع لو أنك كنت في مكاني؟. . . وسأتبدل بالأسماء الأصلية أسماء من عندي. . . هذا فضلا عن أنك لا تعرف أصلا أصحابها.!
. . . وأنشأ يسرد عليّ قصته فقال:
- كان ذلك منذ خمس سنوات. . . في زورتي الأولى لجنوا. . . وكنت حللت بهذا الفندق لنفس السبب الذي يدعوك إلى النزول فيه. وكنت قد زرت في نهاري القصور والكنائس وكل ما هو جدير بالزيارة في جنوا. . . وفي المساء بينما كنت جالساً في إحدى خمائل الفندق المذكور أقيد ملاحظاتي على انفعالاتي في يومي. . . إذ أرعدتني جلجلة صوت على قيد خطوات مني صادرة من الممشى الذي كانت تفصلني عنه شجرة فرعاء. . .
كانت ثمة امرأة تتكلم. . . حادسة أنه ليس من ينصت إليها. . . وكان ثمة رجل يمشي إلى جوارها.
وكانت العبارة التي انفرجت عنها شفتاها جداً مبتذلة توحي بأنها في ميعه الصبا وغضارة الشباب قالت:
- آه يا حبيبي العزيز. . . لم أكن أحلم بهذا. . . أن أكون هنا معك. . . أمام هذا البحر. .(887/49)
وتحت هذه السماء. . . وهذه الساعات اللطيفة في انتظارنا. . ثماني عشرة ساعة إذا استقل القطار عند الظهيرة!
أجابها قائلا:
- وكذلك أنا. . . لم أكن آما أن تعدي حرة طليقة. . . ولكن فلنتنقل. . . ولنعد إلى الفندق. . . فالجناح أمين. . . ولست آمل أن يقابلنا هنا أحد!. . .
تساءلت قائلة:
- ومن إذن؟. . . أنه لأمر جميل للغاية أن أستأنف هذا الهواء. . . وأني أشهد غروب الشمس معك
قال:
- إنني أوثر مع ذلك أن أنفذ للفور فكرتي. . . وأن أتحقق من ثبت النزلاء حالما أصل إلى الفندق.
قالت في نبرة يكسوها العتاب الرقيق:
- أتأسف أن أنتهب هذه الدقائق الخمس. . . أوه. . . لو أنك خليص في حبك لي. . . لما تعلقت هكذا
قال ولكن يا حبيبي أنه من جراك أن أتحامى المضايقات بأي ثمن!.
تأوهت قائلة: ليكن ما يكون. . . سأكون جداً سعيدة حتى ليتساوى عندي كل شيء. . . أتسمع. . . كل شيء. . .
. . . وجازا بي دون أن يثبتاني. . . والآن لتحكم على طبيعة انفعالي ومداه. إذ عرفت في هذه العاشقة الهلوك - التي لم تقو على أن تتمالك نفسها من أن تصيت هكذا بسعادتها - زوج صديق من أعز أصدقائي على نفسي. . . وأقربهم إلى قلبي. . . وسأدعوه لسياق قصتي (شارل روتيه) وسأدعو زوجه (مرجريت) أما الشريك في هذه المقابلة التي نمت في هذا الفندق السادر في جنوا فكان مجهولا لي!.
ولتعلم كذلك أنني كنت ذهبت في صبيحة هذا اليوم إلى دار البريد طلباً لبريدي. . . فألفيت هناك رسالة من روتيه نفسها عليها خاتم بريد باريس - وذكر لي روتيه في رسالته أن ابنة عم لزوجه دعتها إلى رحلة قصير غايتها خمسة عشر يوماً تقضيها ترويحاً عن النفس في(887/50)
فلورنسا وروما. . . وسمى لي إبنة العم هذه عرفاناً بالصنيع الجميل والسرور الذي أدخلته إلى قلب عزيزته مرجريت
. . . ولم يكن آل روتيه من السراة. . . بل كان شارل في مستهل حياته العملية كمحام. . . وقد أحرز نجاحاً. . . وأصاب صيتاً منذ عهد غير بعيد. . . وكانت إبنة العم على النقيض من ذلك. . . كانت تحصل على ربح يقدر بمائة ألف فرنك عرفت ذلك لأنني شهدت زواج شارك بوصفي شاهداً ثانيا. . . وكانت ابنة العم هذه هي نفسها التي منحتها في موكب الزفاف زراعي. . . مضى على ذلك الآن خمس سنوات. . . خمس سنوات صغيرة!. . .
. . . وكان العشيقان قد آبا منذ حين إلى فندق. . . ولا جرم أنها تناولا سوياً طعام العشاء في هذه المؤانسة الخطرة المسكرة. . .
ولو لم يكن روتيه صديقي الحميم لاستشعرت له الصخرية بديلا من الحزن. . . إذ أذكر الانهيار المريع لهذا الزوج البكر. . . على أن مجرد المفارقة بين مراسيم الزواج التي طافت ذكراها بذهني. وبين هذه المقابلة أفعمت نفسي بمرارة فذة! ولكن روتيه كان صديقي. . . وكان مسهبا بهذه السيدة التي بنت به على معارضة هينة من ذويها. . . وكنت أعرف أنه يكد ويكدح من أجلها. . . ومن أجل إسعادها. . . وأنه بعد إذ لم تنجب له طفلا بات ينتظره مقدمه في شغف وتطلع. . . تدبر هذا كله. . . تلم بالحصر والضيق اللذين دفع بي إليهما هذا الاكتشاف الفجائي!. . .
كانت هذه المرأة الزنبة تخون صديقي. . . فكم من الوقت استغرقته هذه الخيانة؟. . . وفي أي مكان التقت بهذا الفتى الذي لم أذكر أبداً أنني أثبته لديهم؟. وما الدور الذي لعبته ابنة العم؟. أكانت على اتفاق مع مرجريت أم أن هذه الأخيرة عرفت كيف تجد الوسيلة إلى مغافلتها كما غافلت شارل؟. وهل كان هذا هو اللقاء الأول للعاشقين أم قد سبقته لقاءات؟. ومن يدرينا أن هذا الطفل الذي كان صديقي يرقب بانفعال الأبوة الملهوفة مقدمه لم تتكون جرثومته هنا. في هذا الفندق أراه من خلل الأشجار الباسقة؟
فرضت هذه الأسئلة نفسها جملة على نفسي وتركزت في السؤال التالي؟.
- ما هو واجبي؟.(887/51)
هناك حكمة هندية تعرفها أنت كما أعرفها أنا. . . تقول (لا ينبغي ألا تضرب المرأة ولا بزهرة). وفكرة البطولة التي تحويها الحكمة مطبوعة في أعمق كياننا بفضل وراثة عريقة. . . ومتأثراً بهذه الحكمة الغالية تساءلت قائلا:
- أواجبي أن أصمت. . . أن أصمت؟. . .
. . . وفي تأملاتي المطرقة رأيت شارل روتيه كما رأيته دواماً مذنبي بمرجريت. . . منحنياً فوق أكداس القضايا. . . فيتلقاني في مكتبه بهذه الكلمات. . .
- لقد تضاعف عملي فما أستطيع أن أنهض لمصافحتك. . . وتضاعفت كذلك ثروتنا الضيئلة. . . فقط لو كان ثمة في تبذل من أجله هذه الجهود. . .
ثم يبدي لي صفحة. . . غضتها التعب والأين وقد شاعت فيها ابتسامة سعيدة!. . .
هكذا بينا كان يجهد نفسه ويبهظ أعصابه في العمل ليحقق الترف لزوجه كانت هذه تعبث مع سواه!.
وتبدد النقود في الأصباغ لتتراءى جميلة في عين آخر!. هذه النقود التي اكتسبها بالعرق زوجها الكادح!. وأنا بعد الذي سمعته هل أسمح أن يستمر استغلال امرأة عابثة لهذا الزوج الشريف النبيل.؟. . . أأصمت. لئن فعلت ذلك لعد أشتراكاً في الجريمة!. وانثالت دفعة واحدة على ذهني ذكريات صداقتي الطويلة لشارل منذ إن كان صبياً في العاشرة إلى أن تخرجنا سوياً في كلية الحقوق!. هذه الزمالة والأخوة اللتان تربوان على ربع قرن ثارتا في كياني ضد هذا التواطؤ في الصمت لأنالصمت. . . معناه مساهمة في الجريمة. . . إذا ماذا لو علم شارل بخيانة مرجريت ثم أنبأني بهذه الخيانة؟ هل أجيبه إذ ذاك بقولي:
- إني أعرف كل شيء. . .! وإذا كان هو جوابي. . . أما يغضب مني لأني لم أنبهه. . . أنبهه؟. . . أأشي بامرأة. . . أهذا ممكن؟. . .
وبدا لي أن أكتب لصديقي. . . ولكن يتحطم القلم خير من أن يخط قصة خيانة الزوجة. . .؟ ولكن شعوري بأن الخيانة وقد كانت على قيد خطوات مني!. . . وفي اللحظة ذاتها التي كانت فيها مرجريت بين ذراعي عشيقها. . . ربما في حجرة مجاورة لحجرتي أضاف هذا إلى العراك الخلفي المحتدم في نفسي رعباً جثمانياً أوفى في على العذاب!. . .
وفي الصباح كان قد استقر رأيي على الصمت. . .! ولن أشي بمرجريت ولم يعلم شارك(887/52)
شيئاً وسوف لا يكون في ذلك أول الأزواج المخدعون ولا آخرهم. . . إنه يتعبدها حباً ومعنى اطلاعي إياه على فاحشتها أنني أضع في قبضته سلاح الانتحار فالخير إذن في أن يظل جاهلا كل شيء. . . أما عن نفسي فقد أملت أن أنسى هذا الاكتشاف الذي ساقه إلى الاتفاق العجيب!. . . إن مرجريت روتيه لم ترني وهي تجهل أنني أعلم سرها وسوف تظل على جهلها أبداً.! وطبقاً لما قالته في ممشى الحديقة فإنها ستستقل قطار الظهر وإذ كان مفروضاً أن أستقل بدوري قطاراً في اتجاه مضاد فيما يقرب من موعد سفرها فقد أجمعت أمري على أن أرجئ رحيلي حتى لا أخاطر بمقابلتها. . .؟
غادرت الفندق في وقت مبكر جداً بعد هذه الليلة التي قضيتها وأنا مسهد أرق وقد حزمت رأيي على ألا أعود إلا في ساعة متأخرة عندما تكون مرجريت قد زايلت الفندق إلى المحطة ذلك أني آثرت ألا أراها!. وبعد أن مضيت على وجهي في طرقات المدينة دون قصد أو غاية أفضي بي المسير إلى (القصر الأحمر) فرأيت أن ألجه لأرى من جديد صور (فان ديك). . . ولك أن تحكم على انفعالي إذ تهادى إلى أذني من جديد في إحدى القاعات الهائلة لهذا المتحف المهجور الصوت الذي أقلقني أمس تحت أشجار الحديقة. . . كانت مرجريت هناك. . . وكانت تسأل فيجيبها صوت عرفت فيه صوت رفيق الليلة الماضية. . . وكنت لحظتئذ أتأمل صورة المركيزة باولا الشهيرة. وأحسست بهما يتهامسان. . . وفجأة سمعت وشوشة أعقبها تغيير في لهجة الخطاب ومجرى الحديث!. ذلك أن مرجريت رأتني وعرفتني. . . وليس شك في أنها أسرت لعاشقها هذه الكلمات:
- صديق لزوجي!
أكان ينبغي أن أعود أم كان ينبغي أن أحييها فأهبها بذلك فرصة تلمس المعاذير؟ وهنا أيضاً نزلت عند حكم السداد والحجا فتظاهرت بأني لم أحس وجودهما. وتلومت أتأمل الصورة وظهري إليهما. . . وبعد فقد انساب إلى صوت السيدة التعسة وهي تعلق على الصورة بكلام قصد إيهامي بأنها التقت بصاحبها في المتحف عرضاً. . . ثم كان أن زايد المكان سريعاً ورفيقها في إثرها!
وحاصل القول فإنني حينما تناءت عني خطوات مدام روتيه وخطوات صاحبها وشرعت أدرج في الطريق، رأيتني أقع فريسة لحالة وخز ضمير أتجاوز عن وصفها!. ذلك أنني(887/53)
بتظاهري أني لم أر مرجريت أتحت لها أن تعلم كما لو كنت قد وجهت إليها القول صريحاً أنني أعتبرها مذنبة. وليس شك في أن أول عمل قام به الفتى عند عودته إلى الفندق أن راجع ثبت النزلاء واستجلى فيه اسمي عندئذ أدركا الحقيقة أدركا أنني لا مشاحة رأيتهما وهما يطرقن ممشى حديقة الفندق، ولهذا السبب فإنني لم أبد دهشة ما عندما رأيتها في دهليز (القصر الأحمر). . . أدركت زوجة شارل أنني عرفت لها خليلا. . . ولذلك فقد عراني رعب المشاركة في الجرم! على أنني لو كنت تقدمت منها وقلت:
أهذا أنت يا سيدتي؟. . . لقدمت إلى رفيقها زاعمة أنها ألقت إتقافاً به في جنوا ولكتبت إلى زوجها كما قد تظنني فاعلا!: ولكن الموقف يختلف الآن. . . إذ يبقى عليها أن تصمت تجاه شارل حتى لا يتعارض موقفها مع موقفي!.
وكان من أثر هذا الموقف أني بقيت أسبوعين دون أن أطلب من شارل أخباره أو أكتب له بأخباري وتلبثت كذلك أسبوعين عند عودتي إلى باريس فلم أقم بزيارته. . . وقد أدركت أن جفوتي هذه كانت عملا غير صواب كسلوكي في دهليز. القصر الأحمر)!
وفي يوم. بينما كنت في المنزل وحدي إذ أنباني خادم بأن سيدة تطلب مقابلتي فأذنت له باستقبالها. إذ ذاك اجتليت مرجريت روتيه بعينها تدلف إلى غرفة الاستقبال وبادرتني بقولها. لقد ضعت!
وأردفت فجأة كمعتوهة!
- إن الصدفة وضعت سري بين يديك فلم توش بي لدى شارل. . . وأعرف أنك صدفت عن زيارتنا لهذا السبب أيضا. . . ولكنك تحمل بين جنبك قلبا كبيرا وستشفق على إنسانة تعسة أكرر لك أنني ضعت.
وهكذا لم تعد بعد المشاركة السالبة في الجرم ما تطلبه الشقية مني. . . بل هي المشاركة الموجبة وكانت قد عادت من إيطاليا منذ أيام ثلاثة فحسب. . . وبآيات بينات أدركت أنها حامل لشهرها وينبغي أن أضيف إلى ما سلف أنها اعترفت لي أيضاً وهي تنشج بأنها منذ ظفرت بخليل وهي تتعلل باعتلال الصحة لتعيش بمنأى عن بعلها. وإذ أنذرتها هذه الأمومة بالخطر الداهم وكنت ثمة أنا الصديق الحميم الذي أكاد أن أكون لزوجها أخا لأقص ما شهدته عيناي وما سمعته أذناي فقد فكرت في الفرار مع حبيبها ثم عدلت به إلى الانتحار.(887/54)
ولكن غريزة حب البقاء أطاحت بهذه الحافزة. وأخيرا لاذت بي في ارتباكها لأنني كنت محيطاً بسرها. وكما قالت لي لتتوسل بشفقتي إلى. إلى ماذا؟. آه. . . لقد رأيت إذ ذاك كم هو هش ورقيق وهو هش ورقيق هذا الحاجز الذي يفصلنا عن الجريمة! لقد فزعت إلى لأصحبها إلى طبيب لتسأله ماذا أيضا؟ مساعدة أثيمة ليوقف هذا الحم المفضوح.
أفي حاجة آنت لأن أقول كل بماذا أجبتها؟ لقد ضرعت إليها أن تعيش وألا تتعدى لا على أيامها. ولا على أيام الجنين الذي تحمله في أحشائها. . . وقلت لها في إصرار وعزم:
- أولى لك أن تعترفي لشارل بكل شيء. . . إنك لا محالة مثرية عنه وسيكون لديك ثروتك. . . وابنك ولن تعدمي سبيلا للطلاق وسوف تتخلى عنك هذه الوساوس الأبدية التي تلازمك كقاتلة. وأية قاتلة! وخرجت بعد أن أقسمت لي أنها لن تقدم لا على الانتحار ولا على الإجهاض.
وفي اليوم التالي كان قد تبدد من نفس كل تردد أقعدني عن العودة إلى زيارة شارل. وألفيتني لديه في الساعة العاشرة. وقد برهن لي احتفاؤه السعيد بي على أنه يرتاب في شيء من المأساة التي كان بيته مسرحها. وفي المساء تناولت لديه طعام العشاء إلى جانب الزوجة التي أعادت إلى ذكريات ذلك اليوم المشئوم.
ودرج شهر آخر. . . وقال لي شارل بينما كنت أتناول العشاء لديه.
- إنني جد سعيد يا صديقي. . . إن حلمي القديم بسبيل أن يتحقق. . . وأملي كبير في أن أغدو أبا. . . وستكون أنت الإشبين.
وفي أقل من ثمانية أشهر كانت مرجريت قد وضعت له طفلا وقد أعلن له الوالد المزعوم الكارثة بزهو قائلا:
- أجل يا صديقي. لقد قبل الموعد المألوف. . . في سبعة اشهر ونصف، أنه لأمر عجيب. . . وقد ساورني الخوف والقلق. . . ولكن الطبيب طمأنني وقد ظفرت مرجريت بعنوانه من قبيل الصدفة من إحدى صاحباتها عند عودتها من إيطاليا! بيني وبينك. . . لقد قاست طويلا وفقدت الأمل في أن أغدو أبا. . . مرة أخرى. . . أنا جد سعيد!!
وإذ كان يتحدث إلى. . . كنت أشعر بالخور والخزي فقد أيقنت أن مرجريت روتيه حالما خرجت من عندي مضت إلى أحد الأطباء وحدثته برغبتها في الإجهاض، فنصحها بأن(887/55)
تعود إلى زوجها. . . وتغريه! حتى إذا اقترب موعد الوضع أقنعته بقبول هذا التبكير فيه. . . وبعد فإن هذا أمر محتمل!
أكنت مصيباً أم مخطئاً أنني عدوت وجه الصواب في تراخي عن الحديث؟ أكنت مصيباً أم مخطئاً في صمتي الآن؟ أكنت مصيباً أم مخطئاً عندما أمسكت الطفل على جرن المعمودية. . . هذا الطفل الذي كنت أعلم حقيقة أبوته؟
. . . ومهما يكن من شيء فقد وجدت أمه في اقل من ستة أشهر من مولده الوسيلة للإيقاع بيني وبين شارل. . . ولم أحاول من جانبي أن أحول دون هذه الوقيعة لأن اختلافي إلى هذا المنزل كان قد غدا أمراً شاقاً على نفسي!
وأظنك عرفت الآن لم لن أرافقك إلى فندق (. .) في جنوا. . .
أينبغي أن أعترف بدوري بأنني مشاركة مني في عواطفي لأدم ريمون لم أنزل هذه المرأة في فندق (. .). . وطالما سألت نفسي ماذا كان ينبغي أن يكون سلوكي فيما لو كنت في مكانه كما طلب مني.؟ إن هذا الصمت بالقياس إلى صديق حميم لهو جريمة. . . والكلام أمر بالغ القساوة. . . هو هذا البرهان على أنه ينبغي دائماً أن نتجاهل بعض الأسرار! فإن ارشد جانب في الحياة أن يغمض الإنسان عينيه. . ويصم أذنيه حتى لا يدرك أخطاء الغير. . . هذه هي الطريقة الوحيدة كيما نعيش في الحياة نقيين وهي ليست بالطريقة السهلة دائما. . .
كمال رستم(887/56)
العدد 888 - بتاريخ: 10 - 07 - 1950(/)
الصيف ضيعت اللبن!
مثل أمريكا وإنجلترا في سياستهما للدول الصغيرة كمثل (الأشقياء) في الريف و (الفتوات) في المدن، يجمعون حولهم الأتباع من فتيان القرى وصبيان الحارات ممن يفتنونهم بمظاهر القوة، أو يخدعونهم بكواذب المنى؛ ثم يرمون بهم الأغراض التي يتوخونها، فينطلقون انطلاق الأبهم الصم لا إرادة لها ولا رادَّة عليها. فإذا أراد الأشقياء السطو على غني من أغنياء القرية، أو قرر الفتوات الإغارة على حي من أحياء المدينة، أرسلوا هؤلاء الأتباع يرودون الطريق، أو يجسون النبض، أو يجرون (الشكل)؛ ثم يكونون هم وقود المعركة؛ فإذا تم النصر أو تمت الهزيمة كانت النار دائما لمخالب القطط، والكستناء دائما لأنياب القردة! فإن أتفق مرة أن أبى أحد الأتباع أن يأتمر في الشر أو يشارك في الأذى، لأن له رأيا يريد أن يقره، أو قريبا يكره أن يضره، أو ضميرا يحب أن يرضيه، تغيروا عليه وتنمروا له وقالوا: خان العتوة، ونقض الميثاق وجحد النعمة، فحق عليه أن يبتر من الناس أو ينفى من الأرض!
حال هذا التابع من هؤلاء الأشقياء الذين حسبوه يسمع ولا يقول، ويخضع ولا يعارض، وينفذ ولا يقضى، أشبه بحال مصر من هاتين الدولتين الطاغيتين اللتين تزعمان أنهما تمثلان الديمقراطية والحرية، وتحميان المدينة والإنسانية! قالوا لنا تعالوا نكن إلباً على الشيوعية والإباحية والفوضى، وردءا للنظام والسلام والعدل، فقلنا: وهل يسعنا ألا نلبي ونحن أبناء الذين عقدوا فيما بينهم (حلف الفضول) ليقوض للضعيف حتى يقوى، وللمظلوم حتى ينصف، وللذليل حتى يعز؛ وخلفاء الذين جعلهم الله أمة وسطاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات؟ ولكن سرعان ما برح الخفاء وشفَّ الرياء عن الرأسمالية والشيوعية تتنافسان في سيادة العالم، وتتخاصمان على أملاك الناس؛ هذه باسم الحرية تسعى لتستعبد، وتلك باسم الشيوعية تسعى لتملك!
قلنا لهم يا قوم نحن زملاؤكم في مجلس الأمن، وحلفاؤكم على نصرة الحق، فأنصفوا النيل من السكسونيين، وفلسطين من الصهيونين! فقال ترومان خليفة ولسن صاحب المبادئ الأربعة عشر: إن سياستنا الخارجية تعضد الإنجليز، وسياستنا الداخلية تؤيد اليهود، وإن الاعتداء على المصريين أو على العرب أضعف من أن يخل توازنا أو يبطل تعاونا أو يعطل حركة؛ لأنهم لا يملكون القنبلة الذرية، ولا ينافسون أمريكا في الكيفية والكمية!! فلما(888/1)
نهض الدب الروسي ليلتقم كوريا الجنوبية من يد العام سام أضطرب ميزان العدل، وتكدر جو السلام، وقامت قيامة الدنيا، ووجب أن يجتمع مجلس الأمن على وجه السرعة ليقضي على الدول الأعضاء أن يقدموا المعونة لكوريا الرأسمالية على كوريا الشيوعية منعاً للعدوان وقمعاً للظلم!
فلما سألوا مصر أن تعين، وكان ظنهم بها أن تطيع وتستكين، أجابتهم بعزة الفراعين وأنفة العرب: زعموا أن شيخا من أغنياء البادية خطب امرأة في الصيف فردته ردا قبيحاً فلما أقبل الشتاء، وهو زمن القحط عند البدو، أقبلت عليه تطلب منه لبنا، فقال لها بلهجة المتهكم الشامت: لا يا سيدتي! الصيف ضيعت اللبن!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(888/2)
الشيخ محمد مصطفى المراغي
لمناسبة ذكراه الخامسة
للأستاذ عبد الجواد سليمان
في ليلة الرابع عشر من شهر رمضان المكرم منذ خمس سنوات مضت فاضت إلى بارئها روح المرحوم الأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشريف وشيخ الإسلام حينئذ فكان لوفاته أثر بالغ في نفوس محبي الإصلاح في أنحاء الأقطار الإسلامية لما كانوا يؤملونه على يديه من إصلاح ديني يتوج به ذلك الصرح الشامخ الذي شاد أسسه جمال الدين الأفغاني وأعلى بناءه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
ولد المرحوم (محمد مصطفى المراغي) في قرية المراغة من أعمال مديرية جرجا، وبفضل الشيخ الجليل ومساعي أبنائه الموفقة من بعده ارتقت هذه القرية فأصبحت مركزاً من مراكز مديرية جرجا تتبعه بعض البلاد الأخرى المجاورة؛ وأصبحت بها كذلك مدرسة ابتدائية تقوم على تهذيب النشء ونشر الثقافة بين أبناء البلاد.
نشأ الشيخ المراغي في بيئة علمية؛ فلقد كان أبوه ممن يلمون ببعض العلوم الدينية مما جعله موضع احترام أهل المراغة ومرجعهم في المسائل الدينية، فعمل هذا الأب على أن ينشئ أولاده نشأة علمية حتى يؤدي مالهم قبله من حقوق، وحتى يكونوا بالتعليم - مثله محترمين في أعين الناس.
وقد كان أكبر أبنائه السبعة الأستاذ محمد الذي نحن بصدد الكلام في ترجمته، وقد تربى خمسة منهم في الأزهر جنح أحدهم إلى دار العلوم، وكان الابن الكبير متوقد الذكاء مثابراً على درسه، وظل مثابراً عليها حتى نال شهادة العالمية بتفوق رشحه للتدريس في الأزهر؛ ثم عمل بعد ذلك قاضياً في مديرية دنقلة بالسودان فمفتشاً بديوان الأوقاف، ثم عين قاضياً لقضاة السودان بمسعى أستاذه المرحوم الشيخ (محمد عبده) ثم رئيساً للتفتيش بالمحاكم الشرعية فرئيساً لمحكمة مصر الكلية، ثم عضوا في المحكمة العليا الشرعية، فرئيساً لها سنة 1923 ثم شيخاً للأزهر بعد ذلك من سنة 1927 إلى سنة 1930 ثم أنقطع عن المشيخة مدة عاد بعدها إليها سنة 1934 وبقي حتى لحق بالرفيق الأعلى.
لقد كان الشيخ المراغي من تلاميذ الإمام بل أكبر تلاميذه الذين أشربوا روحه في الإصلاح(888/3)
والتجديد، وقد أظهر في كل هذه الوظائف التي تولاها مقدرة بالغة، وكفاءة ممتازة وإدارة حازمة ومنقطعة النظير بين الشيوخ، شهد له بها رجال العصر من العلماء المواطنين والأجانب. وقد أجمل وصفه الأستاذ العلامة الفيلسوف (أحمد لطفي السيد باشا) فقال يوم تشييعه إلى مقره الأخير: (كان رحمه الله منسجماً في كل شيء، عقله يوازي علمه، حتى جسمه وهندامه).
وأظهر ما نذكر به الشيخ (المراغي) تلك الصفات التي تفرد بها بين الشيوخ الذين تقلدوا قبله مشيخة الأزهر؛ أو بالأحرى مشيخة الإسلام، وأول هذه الأوصاف التي حفظها له تاريخ الأزهر، أن مشيخة الأزهر كانت قبله من الوظائف الروحية التقليدية البعيدة عما يجري في الحياة من تيارات عصرية، فخرج بها الشيخ المراغي من عزلتها، وألقى بها في غمار الحياة فأشعر الناس في الشرق والغرب بأن المنصب له خطره، ونبه إليها الأذهان في العالم الإسلامي، وبذلك ضرب بنفسه المثل الصحيح لرجل الدين، في أنه لم يخلق فقط للعبادة والعيش على هامش الحياة، بل لابد من أن يختلط بالناس فيفيد ويستفيد، وأن يكون له رأي يعتد به في الحياة العامة، يشارك به المفكرين من أبناء عصره ويساهم به في بناء المجتمع الإنساني، ويساعد في رسم الخطوط التي تسير عليها البلاد؛ لذلك رأينا الأستاذ المراغي يعمل على إعادة تنظيم الأزهر على نحو واسع النطاق حتى يتفق وحاجات العصر الحاضر في مصر وفعلا قد صدرت خطة الإصلاح التي وضعها في القانون المعروف بالقانون رقم 49 لسنة 1930، وقد لاقى - رحمه الله - الشيء الكثير من معارضة الإصلاحات التي كان يبغيها فاستقال من المشيخة.
وقد كان الأستاذ المراغي من أسس إصلاحه أن تنظم مناهج الأزهر وتطعم بالعلوم الحديثة لتكون على مثال مناهج المدارس المدنية، وأن تصلح كتب الأزهر، وتشذب مما حشيت به من الخلافات اللفظية التي لا جدوى من دراستها حتى يخفف العبء على الطلبة، وحتى تساير هذه الكتب نظريات التربية الحديثة فيتسنى لقارئيها أن يشاركوا في بناء نهضة بلادهم، وأن يفهموا الحياة على حقيقها، وأنها ليست فحسب تلك المتون والحواشي والتقارير خطت على الصفحات الصفر؛ بل هي عالم واسع المدى بعيد الحدود.
ومن أوصاف الشيخ المراغي فوق جدارته بالزعامة الدينية أنه كان رجلا (دبلوماسيا) يلبس(888/4)
لكل حال لبوسها، وينتهز الفرص السانحة التي يتمكن فيها من النهوض بالأزهر والكسب له، وبذلك تقدم الأزهر في عصره تقدما محسوساً. ولعل في إيفاده البعوث الأزهرية إلى جامعات أوربا أصدق دليل على عزمه الصادق في خدمة الأزهر ليجمع في ثقافته بين القديم والجديد، وليكون العالم في الدين عالما بعلوم الدنيا، والثقافات المعاصرة، فتكتمل له العدة في الحياة.
وفي المراغي صفتان أخريان لعل القدر الذي هيأه لقبول تعاليم أستاذه الشيخ محمد عبده هو الذي منحه إياهما ليكون الوارث الحق لصفات أستاذه؛ أما الأولى فجرأته البالغة الحد في الإصلاح، وجهره بآرائه متى أقتنع بوجاهتها، وعدم مبالاته بما يعترض سبيله من مقاومات ومعارضات من الجامدين المحافظين.
وأما الثانية فهي اعتزازه بنفسه، واعتداده بكرامته كرجل من رجال الدن اعتداداً هون عليه مرة منصبه الخطير فتخلى عنه ثمنا للكرامة.
بهذه الكفاية الممتازة أمكن للشيخ المراغي أن يخلق من أبناء الأزهر جيلا جديداً غير ما تقدم عصره من أجيال أزهرية، جيلاً أقل ما يقال فيه أنه بدأ يفهم تبعات الحياة التي يسأل عنها أمام الرأي العام رجل الدين، وبهذا الإخلاص للأزهر استطاع الشيخ المراغي أن يكون له مدرسة من أبناء الأزهر، يدين تلاميذها بكثير من تعاليمه، وإليهم يعزى فضل كبير في تقديم الأزهر، ومحاولته التطور والارتقاء، ورغبته في المساهمة في مجد مصر الثقافي.
ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن ننوه بما لقيه الشيخ المراغي من عطف المليك فقد شجعه ذلك على بث تعاليم الدين الصحيحة، ويتجلى ذلك العطف في دروس الشيخ الدينية التي رغب جلالة المليك في سماعها والتي ألقاها بين يدي جلالته، وهو تشريف جديد لم يحظ به شيخ قبل الشيخ المراغي.
لقد كان الشيخ المراغي كغيره من الزعماء المصلحين، له أنصار ومريدون يمدحونه ويصوبون خططه في الإصلاح، وينادون بمبادئه ويعملون على إذاعة فضله؛ وله إلى جانب هؤلاء حزب معارض مناوئ، لا يرونه رأيه في الإصلاح.
ومهما قيل في هؤلاء وهؤلاء فإن المناوئين للشيخ المراغي يشهدون في قرارة أنفسهم له(888/5)
بالنضوج الفكري والحنكة عند مواجهة الخطوب، ويقدرونه في قلوبهم وإن عجزت ألسنتهم عن إعلان هذه الشهادة. والآن قد أصبح المراغي في ذمة التاريخ، والتاريخ وحده هو الذي سينصفه ويظهر فضله ويبين عن شخصيته التي تمتع بها، ويبين مقدار قوة ذلك الإشعاع الذي كان ينبعث من نفسه، فيحيي الأمل عند بعض الناس في بلوغ الإصلاح وتحقيق ما كان يتمناه المخلصون منهم للإسلام والمسلمين.
ولكن الوفاء للعاملين واجب، فلو أنصف الأزهر شيخه لخلد ذكراه في مؤسسة نافعة تحمل أسمه. ولو عرف الأزهريون فضل شيخهم عليهم وعلى أزهرهم لاكتتبوا في مشروع نافع ينفق ثمرته على جهة خيرية تمجيداً للشيخ وتخليداً لذكراه. رحم الله الشيخ المراغي فلقد كان وفياً للناس، وقد كان من وفائه رغبته الصادقة في أن يخلد ذكرى أستاذه الشيخ محمد عبده فلقد جاء عنه في كتاب (الإسلام والتجديد في مصر) للدكتور تشارلز أدمز ما نصه (وكانت الصحف في سنة 1929 أي أثناء مشيخته للأزهر تكتب كثيراً عن أمر كان له حسن القبول هو تخليد ذكر الإمام، إما بالاحتفاظ بمنزله في عين شمس، وإما بالقيام بأي عمل آخر من الأعمال التي تدل على التقدير القومي، وكان من المتفق عله بشكل عام أن أليق الناس للنهوض بهذا هو الشيخ المراغي إذ هو شيخ الأزهر، وله بالشيخ عبده صلات قوية قديمة.
رحم الله الشيخ المراغي رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار. . .
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(888/6)
سر التعمير
ترجمها عن البرتغالية
الأستاذ سامي عازر
كل من يطلع على هذا المقال سيرغب، ولاشك، أن يضيف إلى عمره عشر سنوات على الأقل، وسينتظر مني أن أسرد أسماء الأدوية والمحضرات الحديثة التي يجب استعمالها لتحقيق هذه الغاية. بيد أن سر التعمير لا يكمن في (برشام) الصيدليات، ولا يختبئ في زوايا المختبرات الطبية، وإنما ينحصر بمعرفة ما نقدر أن نفعل وما يجب ألا نفعل. فإذا كنت ترغب في أن تعيش طويلاً فعليك أن تدخل على سيرة حياتك علماً جديداً قائماً على الاقتباس والوارثة، ومن نافذة هذا العلم يتكشف لك فن جديد هو فن الحياة. وهذا ألفن يحيطك علماً بعلاقة العوامل الحيوية بالتعمير، والعوامل الحيوية هذه تقوم على التغذية المنظمة واتزان الجهاز العصبي، والراحة والاستحمام، والتمرين العقلي والجسدي، والاستقرار النفساني. إن الطبيعة تتطلب منك ثمناً للسنوات العشر الإضافية وما تمنحك إياه أثمن بكثير مما تدفعه لها.
كان معدل عمر الإنسان في العصور القديمة ثماني عشرة سنة، وقد عُثر على خطوط مصرية منقوشة على مومياء يستدل منها على أن معدل عمر الإنسان كان، منذ الفي عام، اثنتين وعشرين سنة، وأرتفع المعدل في مطلع القرون الوسطى فبلغ خمساً وعشرين، ثم أرتفع في نهاية القرن المنصرم فأصبح خمسين، وزاد في نصف القرن الأخير خمس عشرة سنة فغدا، كما تقول إحصاءات الوفيات، خمساً وستين، بقليل من الاختلافات الطفيفة في بعض الأقطار عن البعض الآخر.
ويعزى هذا الارتفاع النسبي إلى كون المختبرات العلمية قد لعبت دوراً هاماً في حقل محاربة الأمراض الالتهابية في الأطفال بفضل المحضرات العجيبة كالبنسلين والفيتامين. ويحشد العلم، اليوم قواته الهجومية لحل المشكلة المتعلقة بضعف القلب والشرايين والدورة الدموية، بعد أن يتجاوز الإنسان العام الستين من عمره ويرى الدكتور ادغارل بورتز رئيس اتحاد الأطباء الأميركي إن عمر الإنسان العادي يجب أن يبلغ المائة والخمسين عاماً مستنداً برأيه إلى كون الإنسان يختلف كل الاختلاف عن سائر الحيوان، فهو يحتاج إلى أن(888/7)
يعيش عمراً يفوق ستة أضعاف عمره ليتم ارتقاؤه؛ فالحصان مثلا يتم نموه في العام الرابع وهو يعيش خمساً وعشرين سنة، والهر يتكامل نموه في سنة ونصف السنة ويعيش من التسع إلى العشر سنوات، والكلب يبلغ نهاية النمو في العام الثاني ويعيش اثنتي عشر سنة. أما الإنسان الذي لا يتم نضجه قبل تمام العام الخامس والعشرين فيجب أن يعيش على الأقل مائة سنة.
إن في الإنسان دليلاً قوياً على إمكانية إطالة حياته حتى العام المائة والخمسين، وهذا الدليل هو عيناه إن قوة العيون البشرية على البقاء تصلح لأن تكون مقياساً لإطالة الحياة، فهذه القوة تضعف تدريجياً مع السنين. وإذا تتبعناها، على ضوء الأرقام، وجدنا أنها تحتاج إلى ما يقارب مائة وخمسين سنة حتى ينطفئ نورها انطفاء كاملاً.
إن الإكسير الضمين بإطالة العمر أقرب إلينا مما نتصور، فمنذ سنوات قليلة وصلت من روسيا معلومات عن محضر جديد يدعى (مجدد الشباب) وقد اكتشفه البحاثة الشهير الدكتور إسكندر ل. بورفو موليتز، مدير معهد البيولوجيا (علم الأحياء) وعلم أسباب الأمراض (الباتولوجيا) في كييف. ويرى هذا العالم أيضاًأن إنسان القرن العشرين يجب أن يعمر مائة وخمسين عاماً. ويرجع في أبحاثه إلى المصادر التاريخية المتنوعة بغية العثور على شهادات تؤيد نظرياته. وقد اهتدى إلى كثير منها وهذه إحداها:
توماس بار، إنكليزي التبعة، عاش مائة واثنتين وخمسين سنة، فعاصر تسعة ملوك تعاقبوا على عرش بلاده، وتزوج وهو في العام المائة والتاسع عشر وهو، مع هذا، كامل الرجولة حتى أن زوجته كانت تشك في بلوغه تلك السن. وتوفي بار على اثر تناوله كمية كبرى من الطعام في وليمة أقيمت في القصر الملكي فكانت سبباً للقضاء على حياته. ولم يكن لموته أية علاقة بشيخوخته كما دل التشريح الطبي.
إن ستالين هو أحد الأفراد الأول الذين تعاطوا محضر بورغوموليتز بعد أن ثبت له خلوه من الخطر على حياة المصابين بداء القلب، وحالة ستالين الصحية مغمورة، كأعظم أسرار روسيا الحربية، بتكتم شديد. غير أن الأفراد الذين رأوا هذا المتوشالح الجيورجاني مؤخراً يؤكدون أنه يتمتع بصحة لا مثيل لها.
ويتوصل بورغوموليتز، في تجاربه لفهم أسرار الحياة والتعمير إلى نتائج تتنافى والعقاقير(888/8)
والمحضرات. فهو يقول إن الاستقرار النفسي هو عامل حيوي في التعمير كالتغذية والاستجمام والرياضة البدنية. وله أتباع كثيرون، حتى بين أطباء العالم الغربي يؤيدون نظريته ويعملون بها.
إن عالم الطب الحديث، الطب البسيكوزماتيكي، منهمك اليوم في درس الأمراض الجسدية المسببة عن اضطراب نفساني والمستوصفات (البسيكاتريكية) تعالج كثيراً من الأمراض بطريقة نفسانية تسفر في كثير من الأحيان عن شفاء تام. والقرحة التي تزعج المرضى والأطباء على حد سواء، والضغط الشرياني العالي إن هما سوى نتيجتين للآلام النفسية. ويعتقد علماء السرطان إن الأشخاص السريعي التأثر، المستسلمين لعاملي الغضب والحسد تهيأ في أجسامهم تربة صالحة لنمو السرطان. وقد لاحظ بعض العلماء، في روسيا، إن إزعاج الفئران يعجل ظهور السرطان فيها بينما يبطئ ظهوره كثيراً عندما يتسنى للفأر أن يعيش حياة هادئة
وهنالك أمر معروف، وهو أن حياة المتزوجين أطول من حياة الأعزاب. وفي إحصائيين روسيين ثبت أن مقابل كل مائة متزوج يموت مائة وأربعون عزبا، وتزيد نسبة الوفيات بين الأرامل والمطلقات عنها بين العزبات. ويعزو بعض المشتغلين في مسألة التعمير هذا الأمر إلى كون المتزوجين يعيشون في حالة نفسانية اكثر تنظيماً من حالة العزب. فالشاب العزب يحيا في جو من التصابي مشبع بالانفعالات النفسية؛ والفتاة العازبة المنتظرة، أبداً كلمة (نعم) من خطيبها، كثيراً ما تهد قواها انفعالات الانتظار وتسبب لها أمراضاً يصعب شفاؤها. أما الأرملة فتذوب كالشمعة ذوباناً بطيئاً تحت سعير العذاب النفسي. إن خفقان القلب السريع الصادر عن خوف أو حزن أو تأثيرات أخرى، يجهد القلب وينهكه، فينشأ عن هذا أن بعض الأعضاء الحيوية الأخرى تصاب بتسمم لعدم التنظيم الطبيعي في الجسم. وقد تمكن الأطباء من شفاء كثير من الأمراض القلبية التي كانت تعتبر، منذ وقت قريب، مستعصية لا أمل البتة في شفائها. ولم يتم لهم هذا بفعل الخوارق والمعجزات، بل توصلوا إليه بالقضاء على وسواس نفساني كان يلازم رؤوس المرضى.
إن في قبيلة (اليوغ) الهندية عدداً كبيراً من المشتغلين في درس مسألة التعمير. واليوغيون بصورة إجمالية يعمرون أكثر من مائة سنة، فاتزان الأعصاب والاستقرار النفسي والتمرين(888/9)
العقلي والجسدي هي من مميزات الحياة اليوغية. واليوغي الصميم هو رجل هادئ أبداً، لا يكره أحداً ولا يعرف الحسد إلى نفسه سبيلا، لا يقلق لأمر ولا تساوره المشاغل والهموم طويلا. ومن أقوال سبينوزا فيلسوف هايا الخالد الذي وجه حياة الهندوس توجيهاً خاصاً بفلسفته الرحمادية قوله باللاتينية:
, , لا تبك، لا تغضب، بل افهم. إن هذه النصيحة تتلاءم مع الحياة، وما يتلاءم مع الحياة يعيش طويلا
ومن البديهي أن تكون التغذية سبباً رئيسياً من أسباب الحياة، فمن لا يأكل فموته محتم، ومن يأكل بشراهة يسير على الطريق نفسه. أن غيليرد هوزر وهو من أعظم المراجع القائلة بتحديد كمية الغذاء يرى أن الحمية تؤخر حلول الشيخوخة وتضيف إلى حياة الإنسان بضع سنوات مفيدة. وقد توصل فريق من الإختباريين، بفضل ما قاموا به من تجارب في الحيوانات، إلى الجزم بإطالة الحياة عشرة سنوات إذا واظب الإنسان على تناول كميات كبرى من الفيتامينات. والفئران التي كانت تتغذى في جامعة كولومبيا بكميات من الفيتامين والكلسيوم زادت أعمارها أكثر من عشرة بالمائة عن أعمار سائر الفئران الأخرى. وقد قام (هوزر) بتجاربه في حفظ شباب أطبائه مدة طويلة فحدد لهم غذاء مؤلفا من أربعة ألوان لم يعرفها المطبخ قبلا، وهي: خميرة الجعة (البيرا) والزبادي البلغاري، وحبوب الحنطة، والعسل النباتي ولبن الزبادي البلغاري يحتوي على كمية كبرى من فيتامين وهو الطعام الرئيسي للأرياف البلغارية بالنسبة لحيويته ومساعدته على إطالة الحياة. أما خميرة الجعة الغذاء العجيب في كل المناسبات والأوقات فهي تحوي أحد عشر نوعاً من الفيتامين وستة عشر من حوامض (الامينو) وأربعة عشر من المعدنيات، من الحديد إلى الفسفور. والعسل النباتي المستعمل في المخابز لصنع الخبز العسلي يحتوي على كثير من المعدنيات التي تحفظ الحرارة وكميات كبرى من الفيتامينات لا تتهيأ في غير من الأطعمة. وفي حبوب الحنطة قدر هائل من الفيتامينات والمعدنيات ومحتويات البروتيك المدهشة، ولها نفس فعل خميرة الجعة.
أحذرو السمن الزائد
إن الموت يشن هجومه الأول على الأجسام السمينة ليشبع نهمه. فالسمن مبعث لكثير من(888/10)
أمراض القلب والشرايين والسرطان والانفجار الدماغي. وهذه الأمراض هي الشرور الأربعة العظمى التي يسقط يومياً عدد هائل من ضحاياها البشرية
ولا يشترط للتحرر من السمنة ممارسة رياضة بدنية عنيفة، فالبالغون لا يحتاجون إلى التقيد بهذا. ويكفي، كما يقول بورغو مولتز، أن يثابر الإنسان على عادة المشي في الهواء الطلق ليروض جهاز تنفسه. والتنفس البطيء المتزن يحرر الجسم من الفساد الدموي الذي من شأنه أن يقرب نهاية الحياة. أما أولئك الذين يتنفسون تنفساً سريعاً فلا يعيشون طويلاً
فيستدل مما قدمنا أنه ليس هنالك عامل واحد لإطالة الحياة بل عوامل مختلفة يقضي علينا فن الحياة أن نعرف كيف نوجهها فتوجهنا. علينا أن تتناول الطعام الذي لا نستسيغه إذا كان فيه كميات فيتامنية تنفعنا، ونقطع يومياً مسافات طويلة لتمرينات عضلاتنا، ونضحي بكثير من المتع الجسمية والروحية التي تعوقنا عن أن نأوي إلى فراشنا باكراً. لنتحرر من نقائص الغضب والحسد والكراهية، ولا نفكر كثيراً في الحياة والموت، وهذا الشرط الأخير يجب أن يظل نصب أعيننا، وإلا أصابنا ما أصاب طبيباً أمريكياً انصرف منذ بدء حياته الطبية إلى معالجة مسألة التعمير ودرسها. وقد شغلت هذه القضية معظم أوقاته وحملته من المتاعب ما هد قواه فسقط في ريعان الشباب صريع عدم الفطنة دون أن يتمكن من نيل أمنيته. إن عدم الاكتراث هو الوسيلة الأولى لإطالة حياتك. فعليك أن تبتسم مهما حف بك من خطوب وكرب، وبذلك تقطع المرحلة الشاقة ذات العقبات الكأ داء ويسهل عليك أن تنتقل منها إلى المراحل الأخرى وهي أسهل عليك وأخف وطأة.
(العصبة)
سامي عازر(888/11)
عهد
لصاحب العزة الأستاذ محمد محمود جلال بك
- 2 -
يعجب المرء حين يرجع لنفسه أثر صدمة أو مرض أو ذكرى فيجد فيما يشغل قلبه أو باله اتجاها جديدا أو لونا آخر لا يكاد يختلف عما يشغله، بل هو في واقع الأمر منه في أساسه أو على صلة يصعب فصمها. وكيف يتجلى هذا اللون أو يأخذ به ذلك الاتجاه ومنذ وقت قريب كان غامضاً أو كان مع الوجود عدماً.
ومرت أيام بور سعيد كعمر الحاسد الشافي سراعا، على حد قول المرحوم شوقي بك، وكلها ملأى بحديث الشاعر الشاب وما لونت من ذكراه محض المصادفة من لقاء الشاطئ الجميل ووفاء الأخ النبيل بقاع لم تطأها قدمه. فبلده على بحر يوسف، وذكره ينثر حياته النادرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بينما فرت روحه في جنات النعيم.
وفي خضم الذكريات وتداعي المعاني ذكرت حديثاً له معي أصيل يوم صائف في شرفة السلاملك ببلدتي (القيس) وقد جاء يزورني في سنة 1917 أو سنة 1918 زيارة كإحداها بيننا تسجل امتداد الوداد القديم الذي ربط الآباء كما ربط الأجداد من قبلهم.
ذكرت على شيء من الغموض إشارته ذلك اليوم إلى اعتزام صديق من أهل بلده جمع قصائده في ديوان. . . وأن الشيخ عبد الوهاب النجار قد يقدم له بكلمة. ومع توالي زياراتنا بين الريف والقاهرة لم يذكر بعد ذلك شيئاً في هذا الشأن.
كان شديد الحياء جم التواضع. ولست أشك أن هذا الخلق هو الذي قام دون إهدائه إلي نسخة من الديوان، وكل ذلك مهد لما أعده تقصيراً مني في جانبه.
مضت سنوات على وفاته. وبعد قليل لحق به أخو الأكبر الذي قام على تربيته وتدبير أمره. فأين السبيل إلى ذلل الكنز؟
غير أن شعوراً بالثقة وإيمانا بأن الله مثيب النيات الصالحة باعد بيني وبين اليأس مما قصدت، وكلما لاحقتني صعاب أثناء تفكيري لاحقها لطف من الله بنور الأمل.
وكيف لا يكون ذلك وقد ذكرت فحملت عهداً محبباً إلى النفس أن تقي به مهما كلف من مشقة. وهل يحس المرء مشقة في أداء عهد؟ ذكرني به صديق وفي عهد به إليه راحل(888/12)
وفي فالقصة كلها قصيدة وما أحرى الأدب بالوفاء!
ملك علي خوف التقصير مشاعري وأرهف تجدد الذكرى عزيمتي فظللت أبحث مستهديا كل من عرفت له صلة بالشاعر الراحل من قريب أو بعيد طيلة أعوام ثلاثة حتى كانت سنة 1947 فأمدني صديق قريب في مفاجأة ممتعة بالنسخة الوحيدة الباقية من الديوان، وكانت تحتفظ بها شقيقته الكبرى كأغلى تراث يقتنى وما عرفت بعنايتي وحاجتي إليها حتى سارعت إلى قرينها عليه رحمه الله وهو الذي سلمها إلى صديق ورفيق صباي أحمد الأزهري إذ كان زميلا له في العمل.
عددت وما وصلت إليه نعمة كبرى ما عددته جزاء وفاقا للحفاظ والوفاء.
أما النسخة - على أنها تحفة العمر - فسقيمة الطباعة كثير فيها الخطأ، قد امتدت إليها يد الزمن فمزقت من صحفها؛ ولكن هذا كله شحذ العزم على إبراز الشاعر وفضله ووضع شعره في المكان اللائق به. وليس أولى من الرسالة الغراء صحيفة الأدب الرفيع بنشر فضل كاد ينسى، وإحياء غصن ذوى في ربيعه. وأهلت علي سنة 1948 بأمراض وآلام اقتضتني أسفاراً وتوزعت أيامي بين مختلف البلدان. ولعلي أخذت الديوان مرة في رحلة آملا أن أرد به النفس إلى السكينة، أو أن أرد بأداء الواجب السكينة إلى النفس، ثم لم يرد الله، فانقضى عامان آخران قبل أن يحظى بهذا الأداء قلمي. وقد سلخت هذا المدى الطويل باعثاً معقباً بين شواغل الحياة وبلاء الأيام وقلة المصادر إلى قرب إمحاء، التمس مجموعة أو قصيدة من شعر صديقي المرحوم (أحمد توفيق البرطباطي) إذا لم أجد ديوانه لنكون عماد بحث كله خير وأدب وفائدة فكنت على حد قوله عليه رحمه الله
تعاقدت والأهوال عشرين حجة ... لهن قيام بالأسى وقعود
فلست أبالي بعدها ببلية ... قرى الخطب عزم للعلا وصمود
للكلام بقية
محمد محمود جلال(888/13)
شهر الكنافة والقطايف
للأستاذ محمد سيد كيلاني
الكنافة أحب شيء عند الشرقيين، وبخاصة في شهر رمضان إذ يتسابق الناس في شرائها والتفنن في إعدادها وحشوها بالزبيب والصنوبر والجوز والفستق. وإذا أقيمت وليمة في هذا الشهر المبارك فإن الكنافة من غير شك تحتل مكان الصدارة على المائدة، ولذلك يسمى شهر رمضان (شهر الكنافة والقطايف)
أما لفظ كنافة فلم يذكره أحد من أئمة اللغة. ولا تجد في الألفاظ اللغوية ما يصلح أن يكون مادة لها. فلعلها كلمة يونانية
روى السيوطي عن أبن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار أنه قال (كان معاوية يجوع في رمضان جوعاً شديداً. فشكا ذلك إلى محمد بن آثال الطبيب فأتخذ له الكنافة فكان يأكلها في السحر فهو أول من أتخذها)
وهذا الخبر يشك في صحته. وذلك لأن المؤرخين المتقدمين لم يشيروا إليه. ولم يذكر لنا أبن فضل الله المصدر الذي نقل عنه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنافة ليست الطعام الوحيد الذي يدفع به الجوع. وهي ليست علاجاً حتى يصفه الطبيب أبن آثال. وكان من الممكن أن يقوم الرقاق مقامها ويسد مسدها. فما رواه أبن فضل الله، في هذا الموضوع يجب أن يوضع موضع الشك.
ولو عرفت الكنافة منذ عصر معاوية لذكرها الشعراءفيما ذكروا من أطعمة. فقد رأينا الشعراء حتى العصر العباسي الثاني يذكرون القطايف والخبيص والفالوذج وغيرها من أنواع الأطعمة، ولم نر في شعرهم أثراً للكنافة وهذا دليل واضح على أنهم لم يعرفوها ولم يسمعوا بها.
وقد لاحظت أن الشعراء المصريين كانوا أول من لهج بذكر الكنافة في أشعارهم وأول من تغنى بها. ومن هؤلاء أبو الحسن الجزار المصري إذ يقول:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر ... وجاد عليها سكر دائم الدر
وتبا لأوفات المخلل إنها ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
ففي هذين البيتين نلمح نفسية الشاعر متبرمة ساخطة على أوقات الفقر والضيق التي لا(888/14)
يأكل فيها سوى المخلل: وفي ذكره كلمة (تبا) ما يدل على حالة نفسية خاصة. أما البيت الأول فهو دعاء للكنافة بالسقيا بماء الورد والسكر. هو يدعو لها لأنه يحبها فهو في دعائه يعبر عن شعور داخلي نستشف منه الجوع والحرمان.
وكان الفقراء من الشعراء يستهدون الكنافة من الأعيان والموسرين بشعر فيه إلحاح كبير ودعابة مضحكة وفكاهة مطربة.
فمن ذلك قول الشاعر المتقدم وهو
أيا شرف الدين الذي فيض جوده ... براحته قد أخجل الغيت والبحرا
لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجولها من سحب راحتك القطرا
فعجل بها جوداً فمالي حاجة ... سواها نباتا فا يثمر الحمد والشكرا
والظاهر أن هذا الصنف من الطعام كان له عند هؤلاء الشعراء المحرومين مكانة لا تدانى. فالشاعر هنا يمهد لطلبه بوصف الممدوح بالكرم ثم يشكو فقره واشتياقه إلى الكنافة. وفي البيت الأخير تتجلى نفسية هذا الشاعر المسكين، فهو يريد من الممدوح أن يعجل بإهدائه الكنافة. وقد خشي أن يعطيه شيئاً سواها وهو لا يريد غيرها. لذلك قال بان الكنافة وحدها هي التي تستوجب عنده جزيل الشكر وعظيم الثناء.
وكان الشعراء يتغزلون في الكنافة ويصفون محاسنها وجمالها ويتمنون دوام وصالها ويتألمون لهجرها وفراقها ويشكون من صدها وإعراضها. ونحن نقرأ ما قالوا في هذا الموضوع فنضحك، ومثال ذلك قول الجزار المتقدم وهو:
ومالي أرى وجه الكنافة مغضبا ... ولولا رضاها لم أرد رمضانها
عجبت لها من رقة كيف أظهرت ... على جفا قد صد عني جفائها
ترى اتهمتني بالقطايف فاغتدت ... تصد اعتقادا أن قلبي خانها
ومذ قاطعتني ما سمعت كلامها ... لأن لساني لم يخالط لسانها
ألا خبروها أنني وحياتها ... ومن صانها في كل در وزانها
ليقبح أني أجعل الحشو مذهبي ... فأفسد شأني حين يصلح شأنها
فالشاعر هنا يصور لنا افتقاره إلى هذا الصنف من الأطعمة في صورة مضحكة. فقد شخص الكنافة وهي معرضة عنه، هاجرة له ثم تساءل عن السر في هذه القطيعة وذلك(888/15)
الإعراض أكان ذلك لأنها اتهمته بحب القطايف والجري من ورائها فاعتبرته خائناً غادراً مجرداً من الوفاء؟ ثم أخذ ينفي عن نفسه هذه التهمة ويتبرأ منها. ويذكر أنه باق على عهده في حبه وإخلاصه لها. وأنه لا يفسد هذا الحب بوصل القطايف. وفي البيت الأخير تورية لطيفة في كلمة (الحشو) فهي بمعنى التشبيه والتجسيم والنسبة إليها (حشوى) وهو الذي ينتمي إلى طائفة (الحشوية) المعروفة وهي تشير في نفس الوقت إلى القطايف لأنها تحشى بالفستق والزبيب وغيره.
وهذا شاعر يتألم ويشكو لأنه لم يذق طعم الكنافة ولم ترها عينه إلا عند البياع في الدكان. قال:
ما رأت عيني الكنافة إلا ... عند بياعها على الدكان
فما أتعس هذا الشاعر المسكين! وما أحوجه إلى العطف والرثاء!
وشاعر آخر يذكر ليالي الكنافة الخالدة في عمره بالخير فيقول:
ولم أنس ليلات الكنافة، قطرها ... هو الحلو إلا أنه السحب الغر
تجود على كفي فأهتز فرحة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
فهذه الليالي التي نعم الشاعر فيها يأكل الكنافة اللذيذة باقية في ذاكرته ولن تفارقه مادام حيا. ففي تلك الليالي السعيدة في نظره كان حينما يمسك الكنافة بيده يكاد يجن من شدة الفرح ويهتز من فرط السرور كما يهتز العصفور الذي يبلله القطر.
وأنظر إلى قول هذا الشاعر.
إليك اشتياقي يا كنافة زائد ... فمالي عنى عنك؛ كلا ولا صبر
فما زلت أكلي كل يوم وليلة ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
فهذا تقديس للكنافة ليس بعده تقديس، ونوع من العبادة لهذا الصنف من الطعام، فالشاعر يعبر عن شوقه الذي لا حد له للكنافة ويذكر أنه لا يطيق فراقها ولا يستطيع عنها صبراً. فهي قبلته التي يتوجه إليها في الغدو والآصال لا يصرفه عنها طعام آخر ولا يلهيه عنها شيء مهما جل وعظم.
ومن الشعراء من وازن بينها وبين القطايف وفضل الكنافة عليها. ومنهم من أظهر الكنافة بمظهر الساخر من القطايف المحتقر لها. ومثال ذلك قول ابن عنين:(888/16)
غدت الكنافة بالقطايف تسخر ... وتقول أني بالفضيلة أجدر
طويت محاسنها لنشر محاسني ... كم بين ما طوي وآخر ينشر
لحلاوتي تبدو، وتلك خفية ... وكذا الحلاوة في البوادي أشهر
ففي هذه الأبيات ترى الكنافة تزهو بنفسها وتشمخ بأنفها وتتيه كبراً ودلالا، وتسخر من القطايف سخرية مرة. وتقول الكنافة هنا إنها أحق بالفضيلة من القطايف لأن محاسن القطايف مطوية وحلاوتها محشوة في جوفها، وهذا يغض من قدر القطايف في نظرة الكنافة التي تمتاز منها بظهور محاسنها وجمالها. فالكنافة متبرجة سافرة تتصدى للناس وتلفت إليها الأنظار ببهائها وحسن روائها فيعرضون عن القطايف وينهالون عليها. فهي ناجحة في كسب الزبائن بما تثيره فيهم من كامن الشهوة. وهذه ميزات ليست للقطايف.
وكان الشعراء يتبادلون الألغاز في هذا الموضوع. مثال ذلك ما كتبه أحد الشعراء إلى صديق له وهو:
يا واحدا في عصره بمصره ... ومن له حسن الثناء والسنا
أتعرف اسما فيه ذوق وذكا ... حلو المحيا والجنان والجني
والحل والعقد له في دسته ... ويجلس الصدر، وفي الصدر المني
فأجابه بقوله:
عرفتني الاسم الذي عرفته ... وكاد يخفى سره لولا الكنى
يقصد بالكنا (الكنافة)
هكذا تناول الشعراء الكنافة. وكان شعراء مصر أكثر تناولا لها من غيرهم. وقد أصبغوا على ما نظموه في هذا الموضوع الروح المصري الذي عرف بالخفة والمرح؛ وأولع بالدعابة والفكاهة.
أما القطايف فقد عرفت منذ العصر العباسي؛ وجاء ذكرها في شعر أبن الرومي وكشاجم وغيرهما، ومنهم من شبهها بحقاق من العاج، ومنهم من شبهها بوصائف قامت بجنب وصائف. ومنهم من شبهها وقد رصت في الأطباق بالمصلين الذين يسجدون وراء الإمام. فالشاعر الذي يقول:
لله در قطائف محشوة ... من فستق دعت النواظر واليدا(888/17)
شبهتها لما بدت في صحنها ... بحقاق عاج قد حشين زبرجدا
راعي المنظر العام لهذه القطايف ورأى أن كل واحدة منها تبدو في شكل حق له لون العاج بداخله حشو يشبه الذهب الخالص. والشاعر الذي يقول:
وقطائف محشوة بلطائف ... طافت بها أكرم بها من طائف
شبهتها نضدت على أطباقها ... بوصائف قامت بجنب وصائف
لم ينظر إلى لون القطائف ولا إلى شكلها ولا إلى ما حشيت به بل نظر إلى الطريقة التي وضعت بها في الطبق ولذلك قال. (شبهتها نضدت على أطباقها)
ومنهم من تناول القطايف ولا هم له إلا التلاعب بالألفاظ وإظهار القدرة على استخدام المحسنات اللفظية والمعنوية. ومثال ذلك قول القائل:
وقطائف رقت جسوما مثل ما ... غلظت قلوبت فهي لي أحساب
تحلو فما ثعلو ويشهد قطرها ال ... فياض أن ندى علي سحاب
ففي البيت الأول يصور القطائف رقيقة تكاد تشف عما تحتها. وقد بولغ في حشوها. والبيت الثاني قصد به المدح بالكرم لا أقل ولا أكثر.
ومنهم من جمع بين الكنافة والقطايف، ومن ذلك قول القائل:
وقطائف مقرونة بكنافة ... من فوقهن السكر المدرور
هاتيك تطربني بنظم رائق ... ويروقني من هذه المنثور
والظاهر أن المائدة التي جلس عليها هذا الشاعر كانت في منزل أحد الأغنياء لأنها جمعت بين الكنافة والقطائف، وهذا لم يكن متيسراً في ذلك الوقت ألا للأعيان وأصحاب الجاه. وقد رقص الشاعر طرباً، وكاد يطير من الفرح والسرور حينما رأى الكنافة وبجانبها القطائف. فأخذ يمد يده إلى هذه مرة وإلى تلك أخرى حتى ملا معدته.
محمد سيد كيلاني(888/18)
صوم رمضان بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
- 3 -
ومن الزهاد من عاف اللذائذ لإسعاد الناس كما فعل الأمام علي (ع) لم يشأ أن يمتع نفسه باللذات لأنه رأى أنه فعل ذلك توسع الولاة ومن بيدهم أمر الأمة الإسلامية في البذخ والنعيم حتى يرهقوا الرعية كما فعل من بعده الأمويون والعباسيون واتباعهم - فزهد ليسعد الناس، بل أنه اخذ ولاته بالزهد وترك الانقياد لأطايب الأطعمة كما فعل في استنكاره على واليه على البصرة عندما سمع بإقباله على الولائم الشهية فحذره من سوء المصرع بكتاب وانذره.
ومن الزهاد من عاف الملذات تديناً ناسياً إن الشرائع شرعت لإسعاد الناس فمن أتبعها رضي الله عنه لأنه عمل لإسعاد عباده وأن الله لم يجعل تعذيب النفوس سبيلا لرضاه. . .
وكان الكلييون من فلاسفة اليونان يعلمون الناس إن الآلهة منزهة عن الاحتياج، فخيركم من تخلف بأخلاق الآلهة فقلل من حاجاته جهد الطاقة وقنع بالقليل وتحمل الآلام واستهان بها واحتقر الغنى وزهد في اللذائذ. ومن أشهر رجال هذا المذهب (ديو جانيس الكلبي) مات سنة 323 ق. م وقد كان يعلم أصحابه أن يتركوا التكلف الذي اقتضاه اصطلاح الناس وأوضاعهم، وكان يلبس الخشن من الثياب ويأكل رديء الطعام وينام على الأرضويرى مع باقي الفلاسفة الكلبيين أن السعادة في الفرار من اللذة وتقليلها جهد الطاقة وهذا إفراط تأباه الشريعة الإسلامية. العملية التي سايرت المدنية والعلم وطبقت في مختلف بقاع الأرض فنجحت من صحراء الحجاز ونجد اليمامة إلى فردوس الأندلس وجنوبي إيطاليا وصقلية وغربي فرنسا وجنوبيها، إلى جنان مصر والعراق وسوريا وإيران وتركيا، إلى ما وراء النهر والهند والتبت وزنجبار وغربي أفريقيا واليمن - فلاءمت البدو والحضر في أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا (إن شاء الله)
ولا تنس إن مقابل أولئك الفلاسفة المتزمتين الذين قاطعوا الملذات وتحرجوا من معاقرتها - يوجد فلاسفة آخرون أفرطوا في ما ذهبوا إليه كما أفرط خصومهم، فهؤلاء يرون إطلاق المرء لنفسه العنان وأن يمكنها من كل ملذات الحياة، يرون أن الإنسان في هذه الحياة إنما(888/19)
خلق ليتنعم ولم يمنح العقل إلا ليبحث له عن وسائل النعيم وطرقه، فهو لذلك يعب اللذائذ عبا ويكرع من مجرها بإفراط، وينهمك في معاقرها ما استطاع. وهذا ضار بالفرد هادم للمجموع، فلو أبحنا لكل إنسان أن يتلذذ كما يشاء وألفينا حبل الفرد على غاريه يعبث كما توحي له أهواؤه ما انتظم شأن مجتمع ولتعارضت شهوات الأفراد وكانت الفوضى المطلقة. وان جمعية أفرادها ليسوا إعفاء أعني أنهم لا تحكمهم إلا أهواؤهم وشهواتهم الحسية - لتحمل معها بذور الانحلال والانحطاط. وهي آيلة إلى الدمار والتمزق لا محالة - وفضيلة العفة تتطلب من الإنسان القصد في اللذائذ، فإن هو افرط فأنهمك في شهواته أو فرط فأماتها وبالغ في الزهد فقد حاد عن سواء السبيل وابتعد عن نهج الإسلام الشريعة السمحة التي ترى خير طريق في الحياة أن نبيل المرء نفسه ملذاتها الطيبة ويعطيها مشتهياتها ما لم تخرج عن حدود الأخلاق فذلك أدعى إلى نشاطها وأقرب إلى طبيعتها، إنما يجب أن لا تتجاوز الحدود المشروعة ففي داخلها من الملذات ما هو أضمن للسعادة الفردية ولسلامة المجموع ونبراس ذلك الآيات الكريمة
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه)
(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين)
قال الطبرسي من القرن السادس الهجري في (مجمع البيان في تفسير القرآن) ثم خاطب سبحانه المؤمنين وذكر نعمه الظاهرة عليهم وإحسانه إليهم فقال يا أيها الذين آمنوا كلوا - ظاهره الأمر والمراد به الإباحة لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد وقيل أنه أمر في وجهين أحدهما يأكل الحلال والآخر بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس. قال القاضي وهذا مما يعرض في بعض الأوقات وقوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي مما تستلذونه وتستطيبونه من الرزق.(888/20)
وأقول أن من ينتبه إلى ما قيد به الصوفية أنفسهم وحرموا عليها ما أباحه الشرع الشريف من أطايب الطعام والشراب استصوب حمل (كلوا) على الأمر الإيجابي لهؤلاء الذين ضلوا عن سواء السبيل وتتكبوا نهج الطريق وكأنهم تأثروا بما نقل إلى اللغة العربية من إنكار الوثنيين من اليونان كالكلبيين أو من أديان الأمم غير المسلمة كالبراهمة من الهنود ثم حوروا تلك الفلسفات وفق تعاليم الإسلام وحوروا الإسلام فقها فنشأت ضلالات الصوفية وأباطيلهم وضاع جمال الإسلام شريعة العمران العملية. ومن وجهة ثانية لقد نهى الإسلام أن نندفع وراء الملذات اندفاعاً أعمى فقد تقودنا إلى المهالك. ونبراس ذلك الآيات الكريمة (ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى) (افرأيت من اتخذ إله هواه)
قال الطريحي في مجمع البحرين أي ما تميل إليه نفسه والهوى مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه ثم سمي به الهوى أي الشيء المشتهي محموداً أو مذموماً. ثم غلب على غير المحمود وقيل فلان أتبع هواه إذا أريد ذمه سمي بذلك لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية أي جهنم قال تعالى (وأما من خفت موازينه فأمه هاوية) قيل هاوية من أسماء جهنم وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً أي فمأواه النار. (وان كثيراً ليضلون بأهوائهم) أي باتباع أهوائهم وقال تعالى (أو كالذي استهوته الشياطين في الأرض)
فهذه الآيات صريحة في التحذير من الانجراف بتيار الأهواء والشهوات وأتباع خطوات شيطان العاطفة الحمقاء حيث تهوي بالإنسان إلى مصرع السوء ويلقى في النهاية جهنم عذاب الخطيئة وسوء مغبة الأجرام وعاقبته. وكما قدمنا إن الجرائم مبعثها الانصياع لرغبة الأهواء والشهوات الجامحة التي حذرنا الإسلام من موبقاتها وأنب الكارعين من أقذار حمأنها ولقد حاول الإسلام أن يدربنا بالصوم على عصيان الهوى وطاعة العقل، وكأن الإسلام حاول أن يكبح بالصوم جماح النفس ويصدمها ويعاكس أهواءها فهو بدلا من أن يساير فلسفة هؤلاء المعذبين أنفسهم ويتبعها على طول الخط - خصص فترة من الزمن لحرمان النفس من أهوائها وتصبيرها على المكاره وخشونة العيش، وعلم المرء كيف يقاومها ويجر لجامها وينهرها ويصرخ في وجهها، فكأنه تمشي مع مبدأ الأستاذ (جيمس) القائل بأنه يجب أن نحافظ على قوة مقاومة المصائب إذا حان حينها - بل الحق إن هذا(888/21)
المفكر الغربي هو الذي أقتبس فلسفته من الإسلام أخذها من حكمة الصوم؛ فأوريا مدينة للإسلام في يقظتها ورشدها وهدايتها ومنه أخذت النور والحضارة، وفلاسفتها تلاميذ على فلاسفة الإسلام كابن رشد والفارابي وأبن سينا ونصير أبن الطوسي وغيرهم.
وكيفما كان الأمر فإن الإسلام الذي حاول بالصوم تعليم أتباعه ضبط النفس لم يقصد بذلك القضاء على الرغبات والشهوات كما ظن الضالون من الصوفية فقد صرخ الإسلام بمتبعه (ولا تنس نصيبك من الدنيا) وإنما أراد وحاول تهذيبها واعتدالها وجعلها خاضعة لحكم العقل، ففي القضاء على الشهوات قضاء على الشخص وعلى النوع الإنساني وفي اعتدالها سعادتهما معاً.
وعلى كل حال إننا بالصوم نتعلم احتمال مكاره الحياة ومشاقها وجوعها وعطشها وحرمانها، ولم يقصد بهذه العبادة أن نضل ونفرط في تعذيب النفس بالجوع بل دعا الإسلام أن نكون أمة وسطا؛ ففي الوقت الذي أباح لنا التمتع بنعم الله وطيبات الرزق أراد أيضاً أن نواسي الفقراء والمعوزين واليتامى والمنبوذين في جوعهم وآلامهم ليشعر الأغنياء بما يلاقي البؤساء من مضض الحياة المرة وقسوة أحكامها الصارمة أحياناً على الفقراء والأرامل. وقد كان الإمام علي (ع) يكرر طلب ذلك من المسلمين في خطبه في جامع الكوفة ويستشهد بقول الشاعر
وحسبك داء أن تنام ببطنة ... وحولك أكباد تحن إلى القد
والقد هو سير يقد من جلد غير مدبوغ وهذا كناية عن فرط جوعهم حتى أنهم ليشتهون ويحنون إلى أكل الجلد اليابس. لقد حاول الإسلام أن يجيع الأغنياء ليذكرهم بجياع الفقراء واليتامى المعوزين حتى يواسوهم، وبذلك يزرعون في قلوبهم حبهم والميل إليهم فلا تبقى هذه النفرة بين الطبقات وتنفي وتنعدم أسباب الثورات الشيوعية كما حدثت ثورة القرامطة مؤلفة من الزنوج الذين كان يرهقهم أسيادهم، وقد حض السلام على إطعام الفقراء قال. الطبرسي في تفسير الآية الكريمة (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) خير الله المطيقين للصوم من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه. هذا مضافا إلى ما أمر به الإسلام من الصدقات.(888/22)
لقد حاول الإسلام أن يعيش الناس أخوانا، ودعانا إلى أن نتجرع نكد العيش اختباراً حكماً نافذاً على الجميع من دون تفريق إلا بالمرض والضعف، وأن نذوق بؤس الحياة بالصوم اختباراً حتى لا يصرعنا إذا حملناه كرها؛ ولكنه اشترط لصحة الصوم أن لايؤذي صاحبه لمرض فيه ولا يهدم بنيته بآثاره، فنهى أن يتجرع كأس الصوم المرضى والمسافرون الذين تكفيهم غربتهم في أتعابهم وترويض أنفسهم على مشاق الحياة وجشوبة العيش وخشونته ونبراس ذلك الآية الكريمة:
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؛ فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ولابد أن تستجلي رأي الطب الحديث في الصوم. . . لقد أجرى العلماء تجارب عديدة على الحيوانات لمعرفة تأثير الصوم فيها. وقد ذكرت تلك التجارب في كتب الفسلجة والكيمياء الحيوية المطولة. ويتلخص رأي الطب الحديث في أنه يرى الصوم واسطة لإراحة الجهاز الهضمي وإذابة الشحوم الزائدة في البدن، إذ أن الجسم يستهلكها عند انقطاع الزاد الخارجي - في توليد الطاقة الحرارية، وإذن فإن الجسم يستريح من الشحم الزائد ويكتسب البدن رشاقة الغزال الأهيف وخفة حركاته. وكذلك فإن جسم الصائم يسطو على ما اختزن من السكريات فيستهلكها. والجوع يرهف الحواس؛ ألا ترى أن الوحوش تضري إذا جاعت وتستيقظ قواها الحيوية للافتراس وخوض معارك الحياة؟ والأمم تنهض للفتح والغلبة ونهب خيرات غيرها إذا شحت أرزاقها فجاعت. ونرى قبائل البدو في الصحراء الغربية تشن غاراتها غازية من تتوفر في يدها الأنعام إذا أجدبت البادية. ولقد قامت القبائل العربية بأكبر غزو عندما جمع شملها تحت لواء الدعوة الإسلامية - فدكت إمبراطورتي فارس وروما وبسطت جيوشها على القسم المعمور من الأرض في فترة وجيزة، وعبرت من أفريقيا البحر إلى أوربا فاستولت على أسبانيا وتوغلت في فرنسا وحكمت نصف إيطاليا الجنوبي واستولت على ممرات جبال الألب وشنت غاراتها على أواسط أوربا في سويسرا - هذا في الميدان الغربي - أما في الشرق فقد ضربت حدود الصين وأخضع العرب أهم أمم آسيا وبسطوا نفوذهم على القسم المعمور المتمدن منها ومن شمالي أفريقيا. ولو دققنا النظر لوجدنا أن العامل البيولوجي الذي حفز(888/23)
العرب وأنهضهم إلى الغزو هو شح بلادهم وجدبها. وقد هداهم الإسلام بشريعته القويمة إلى الطريق المستقيم وأنقذهم من الفوضى والضلالة ووحدهم ودفع بهم إلى ينابيع الثروة في أخصب بقاع الأرض ليتخلصوا من جدب الصحراء وجوعها وعطشها. وهذا هو ما قالته السيدة الزهراء (ع) للعرب من أنصار ومهاجرين عندما خطبت يوم السقيفة في المدينة بعد وفاة أبيها الرسول (ص) فكان فضل الجوع على الإنسان جليلا فهو الذي يفتح العبقريات الراقدة - والحاجة كما قيل أم الاختراع - هذا من الوجهة الأدبية أما من الناحية الفسلجية الطبية فإن هليبرئون يقول في كتابه في الفسلجة في بحث الجوع إن الجسم يحرق في صومه المواد السكرية المخزونة فيه ويستهلك بتقتير النشأ الحيواني ولا ينال النقص القسم المخزون منه في العضلة القلبية وباقي العضلات، ولكن الشحم والدهن يحترقان بصورة واسعة ويمسيان أخيراً المنبع الوحيد للطاقة الحرارية، وأن الذي يحترق من المواد الدهنية من بدن الصائم هو الجزء المخزون في المستدوعات وفي محلات اختزانه لوقت الحاجة وذلك كما في الثرب وتحت الجلد وبين طيات الأمعاء تلك المواضع التي أعتاد البدن أن يحفظ فيها القسم الفائض عن حاجته من الأغذية ويعده لليوم الأسود؛ فليس الجسم بمحرق أثناء الصوم الدهون الداخلة في تركيب كيان الحجيرات الجسمية والمكونة لمادة البروتويلازم. أهذا ما يذكر في كتب الفسلجة وفي كتب الطب ذكروا الصوم كعلاج للسمانة المفرطة كما ذكره (سافيل) في كتابه في الطب التشخيصي وذكر (تايلار) في كتابه في مزاولة الطب إن المصابين بالسمانة الزائدة يصومون في فترات تمتد عدة أيام وقد سمح لهم بالخضر فقط مع الفواكه الطرية الجديدة مع قليل من السمك. وطبعاً أن هذا في حالة امتداد الصوم لعدة أيام فهو أشد من الصوم الإسلامي الذي ينتهي أمده في نهاية اثنتي عشر ساعة فقط فلذلك سمحوا له بقليل من الأغذية. وذكر الصوم كعلاج للسمانة في كتاب (برابس) في ممارسة الطب الذي ألفه جماعه من كبار الأطباء وقد جاء فيه: لمعالجة السمانة الطفيفة يحدد تناول النشويات والدهنيات مع القيام الزائد بالرياضة الجسمية وهذا هو أساس العلاج المنسوب إلى (بانتينك) وهذا هو رجل إنكليزي عاش (1707 - 1878م) وابتكر طريقته في معالجة السمانة، ويعتمد علاجه على استخدام الصوم عن الأغذية بنظام خاص. ويستمر المؤلف فيصف للسمانة المفرطة صوماً أشد. ولسنا بمقام(888/24)
التفصيل وإنما أردنا تقرير أن الطب أعتمد على الصوم إجمالا في معالجة السمانة.
للكلام صلة
ضياء الدخيلي(888/25)
أسامة بن منقذ وشعره
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
(تتمة)
ولأسامة نظرات صائبة في الحياة، أوحي إليه بها تجاربه، وطول عمره، وما تلب عليه من حوادث الزمان وعبر الأيام.
يرى أسامة لكل شيء في الحياة نهاية، فلا بقاء لأمر، ولا خلود لحادث، فللسرور غاية ينتهي إليهما، وللأحزان حد تقف عنده، وإذا كانت الحياة تجري على هذا المنوال، فمن الواجب استقبال حوادث الأيام بحسن الصبر، وقلة الأهتمام، فإن الشدائد إذا كانت ستنقضي وتزول، فمن البعث أن يزيد المرء في الآم نفسه:
خفض عليك، فللأمور نهاية ... وإلى النهاية كل شئ صائر
فاستقبل صروف الزمان بالصبر:
رالق إذا طرق ... ن بقلب محتسب صبور
بل إن هذه النظرة تنتهي بصاحبها إلى قلة الاكتراث بما في الحياة من سعادة أو شقاء:
لما رأيت صروف هـ ... ذا الدهر تلعب بالبرايا
يعلو بها هذا، ويهبط ... ذا، وقصرهم المنايا
ورايته مسترجعاً ... نزر المواهب والعطايا
متغاير الأحوال مخـ ... تلف الضرائب والسجايا
لا نعمة فيه تدو ... م ولا تدوم به البلايا
لم أغتبط فيه بفا ... ئدة، ولم اخش الرزايا
والمرء يتغلب على شدائد الحياة بالصبر:
إذا ما عدا خطب من الدهر فاصطبر ... فإن الليالي بالخطوب حوامل
فكل الذي يأتي به الدهر زائل ... سريعاً، فلا تجزع لما هو زائل
وليس الصبر وسيلة لتحمل المكروه، حتى ينقضي فحسب، ولكنه الطريق إلى نيل الأمل، والظفر بالأماني:
أصبر تنل ما ترتجيه، وتفضل من ... جارك شأو العلا سبقا وتبريزا(888/26)
أستطيع أن أعد أسامة بهذه النظرة إلى الحياة متفائلا، إذ هو عند الشدة واثق من زوالها، وإن كان الأمر على ذلك، فلا معنى لليأس، ولا خير فيه:
يا آلف الهم لا تقنط فأيأس ما ... تكون يأتيك لطف الله بالفرج
ثق بالذي يسمع النجوى، وينجي من البلوى ... ويستنقذ الغرقى من اللجج
وإذا كان كل شئ في هذه الحياة إلى انقضاء، فمن الواجب ألا يدع المرء فرصة السعادة تمر، من غير أن يأخذ منها بالنصيب الأوفى:
وتغنم اللذات إن ممرها ... مر السحائب
وأوحت إليه تجاربه في الحياة أن القرب من السلطان غير مأمون العواقب، ولا شهي الثمرة، فنادي بالبعد عنه، وإيثار العيش في خمول وهدوء:
أرض الخمول، تعش به في نجوة ... مما تخاف، ومن معاندة العد
أما الحياة في جوار ذوي السلطان ففي خطر دائم ثم، وقلق لا يهدأ:
لا تقربن باب سلطان، وأن ملأت ... هباته غير ممنون بها، الطرق
فإن أبوابهم كالبحر راكبه ... مروع القلب يخشى دهره القلب
وأسامة ممن يؤمنون بالقضاء والقدر، ويدين بالحظ ويرى الرزق مقسوما لا حيلة في تدبيره:
فوض الأمر راضيا ... جف بالكائن القلم
ليس في الرزق حيلة ... إنما الرزق بالقسم
دل رزق الضعيف وه ... وكلحم على وضيم
وافتقار القوى تر ... هبه الأسد في الأجم
أن للخلق خالقا ... لا مرد لما حكم
ولكن الناس جشعون، يتكالبون على الحياة، ولا يزهدون فيها إلا متكلفين مكرهين.
وافرد أسامة في ديوانه بابا للرثاء، خص جزءا كبيرا منه برثاء ولدهأبيبكر عتيق، وكان قد وصفه بين أترابه قائلا:
عتيق كالهلال، إذا تبدى ... لساري الليل من تحت الغيم
تقول إذا به الأتراب حفوا: ... أهذا البدر ما بين النجم(888/27)
وأكاد ألمس في تشبيهه بالهلال يبدو لساري الليل، أنه كان أملا لأبيه، طالما تمناه ليكون رفيقا لولده الآخر مرهف، في جرم كان لموته لذعة ألم في قلبه، أمضته، فمضى إلى شعر يشكو إليه وقدة الحزن، ولا سيما أنه نكب به وقد قارب الثمانين من العمر، لا أمل عنده في خلف يأتي به.
وأسامة يحدثنا عن شغل فؤاده الدائم بابنه الراحل فيقول
كيف أنساك يا أبا بكر أم كيف ... أصطباري، ما عنك صبري جميل
أنت حيث اتجهت في أسودي عي ... ني، وقلبي ممثل، لا تزول
ويصف لنا انصرافه بعد زيارة قبره، يملأ قلبه الأسى والشجن:
أزور قبرك والأشجان تمنعني ... أن أهتدي لطريقي حين أنصرف
فما أرى غير أحجار منضدة ... قد احتوتك، ومأوى الدرة الصدف
فأنثني، لست أدري أين منقلبي ... كأنني حائر في الليل معتسف
وقد أثار فيه هذا الحادث المؤلم ذكرى من مضى من أهله، فأخذ يندبهم، ويتوجع لمصيرهم، بل أثار فيه الألم لحياته القلقة المشردة التي لا تأوي إلى الوطن:
رمتني في عشر الثمانين نكبة ... من الثكل يودي حملها من له عشر
علي حين أفنى الدهر قومي، ولم تزل ... لهم ذروة العلياء والعدد الدثر
فلم يبقى إلا ذكرهم وتأسفي ... عليهم، ولن يبقى التأسف والذكر
وأصبحت لا آل يلبون دعوتي ... ولا وطن آوى إليه ولا وفر
كأني من غير التراب، فليس لي ... من الأرض ذات العرض دون الورى شبر
ولكن أسامة ينتهي بالتسليم للقدر، ما دام ذلك مصير الأحياء أجمعين، وإن الدنيا كلها، ما دام ذلك عقبى أمرها، لا تستحق عناء طلبها، ولا التعب في جمع ما يخرج المرء منها وهو صفر اليدين.
ليس في غزل أسامة هذه الحرارة القوية التي تشعرنا بقلب دلهه الحب، وأضنته لوعة الغرام، ولا أكاد أتبين له إحساسا تفرد به، أو لمحات أمتاز بها، وليس معنى ذلك أنه لم يذق الحب. بل أرجح أنه ذاقه، وإن كان لم يشغل قلبه كله. وقد استعار أسامة تشبيهات الأقدمين وأساليبهم في وصف عواطف الحب. ومما يلحظ على غزله أنه شاك حزين، لا تكاد تلمح(888/28)
فيه ابتسامة سرور، وقد يرق أسامة أحيانا، ويتخذ أوزانا مرقصة، وتحس ببعض نبضات الحياة في غزله كقوله:
قل لمن أوحش بالهجر ... جفوني من كراها
والذي أوهم عيني ... أن في النوم قذاها:
يا ملولا قلما استر ... عى عهوداً، فرعاها
يا ظلوما كلما استعطفته، صد وتاها
زدت في تيهك والشيء إذا زاد تناهى
تتقضى دولة الحسن، وإن طال مداها
راحتي لو سمع الشكوى إليه، ووعاها
غير أن الصم لا تسمع دعوى من دعاها
وهو لو نادى عظامي ... رمة لبى صداها
هذا، وكان أسامة عندما يبدأ غرضاً من أغراض شعره، يجعل روح غزله مناسبة لهذا الغرض، وأستمع إلى غزله في مفتتح قصيدة عتاب إذ يقول:
ولوا، فلما رجونا عدلهم ظلموا ... فليتهم حكموا فينا بما علموا
ما مر يوما بفكري ما يريبهم ... ولا سعت بي إلى ما ساءهم قدم
ولا أضعت لهم عهدا، ولا أطلعت ... على ودائعهم في صدري ألتهم
وعلى هذا النسق مضى، حتى قال:
وبعد، لو قيل لي: ماذا تحب، وما ... مناك من زينة الدنيا؟ لقلت: هم
هم مجال الكرى من مقلتي، ومن ... قلبي محال المنى، جاروا أو اجترموا
وهاك من غزله في قصيدة استعطاف:
أطاع ما قاله الواشي، وما هرفا ... فعاد ينكر منا كل ما عرفا
وعتاب أسامة فيه رقة ورفق بالغ، واستعطافه جدير أن يستل الضغائن من القلوب، تشعر فيه بحرارة العاطفة، وصدقها، يقول لأبن عمه يستعطفه:
هبني أتيت بجهل ما قذفت به ... فأين حلمك والفضل الذي عُرفا
ولا، ومن يعلم الأسرار، حلفة من ... يبر فيما أتى، إن قال، أو حلفا(888/29)
ما حدثتني نفسي عند خلوتها ... بما تعنفني فيه إذا انكشفا
وبعد، فشعر أسامة من النوع الجزل الفخم، لا تكاد تجد فيه من الهنات إلا ما يعد، ويحصى، فهو في عصره يوضع في مقدمة الشعراء الذين جددوا شباب الشعر، وكسوه حلة من الفخامة، والقوة، والجلال.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(888/30)
من الأدب الغربي
نداء الطبيعة
للأستاذ إبراهيم سكيك
ارتفع مستوى الحياة وكثرت نتيجة لذلك مطالبها وغدت الكماليات ضروريات لا غنى عنها، فبات الحصول عليها عبئاً ثقيلاً على كاهلرب الأسرة. وكان من أثر ذلك أن صار المرء يرى نفسه مرغماً على مضاعفة العمل وزيادة الجهود، فيكدح ويجد حتى يتمكن من السير في ركاب الحياة ومتابعة قافلة الزمن وتيار العصر.
وليس هذا الوضع بحديث أو مستهجن في هذه الأيام، إذ ظهرت بوادره عندما بدأ الانقلاب الصناعي في أوربا في القرن الثامن عشر، ذلك الانقلاب الذي غير الأوضاع وأدخل استعمال الآلات بدل الأيدي في المصانع والمواصلات فكان من جراء ذلك أن تقدمت الحضارة وتعددت مطالب الحياة.
وظهر على أثر ذلك شعراء عاطفيون تبصروا فيما حولهم فألفوا مواطنيهم منهمكين في العمل مكبين على الدرس والتحصيل، ورأوا في الوقت ذاته مناظر الطبيعة الجميلة ومشاهد الكون البديع فآلمهم إهمال قومهم لتلك المناظر وانشغال مواطنيهم عن تلك المشاهد، فأطلقوا العنان لألسنتهم وانبروا يحثون القوم على التمتع بالحياة والتلذذ بالطبيعة، وكان إمامهم في ذلك الشاعر الموهوب وليم وردز ورث (1770 - 1850) ومن قصائده في ذلك تلك التي يقول فيها:
صاح دع كتبك وأنهض قبل أن ينثني ظهرك،
قم وأرح بصرك ومتع عينيك. لم كل هذا الكد والنصب؟
لقد نشرت الشمس على هامات الجبال فيضاً من النور الوهاج
الذي يضفي عند المساء صبغة ذهبية على الحقول والمروج
أما الكتب فهي نضال بليد لا نهاية له. تعال هنا وأصغ إلى عندليب الغابة وشنف أذنيك بموسيقاه العذبة التي تحمل في ثناياها من الحكمة ما لا تحمله الكتب في طياتها.
أصغالآنوأنصت إلى غناء الكروان فهو أيضاً مرشد عظيم الشأن.
تعال وتغلغل في صميم الأمور، وليكن لك من الطبيعة خير معلم(888/31)
ففيها الكثير من الثروة الطبيعية معدة بحيث تستسيغها عقولنا وأفئدتنا
تلك هي الكمية الوافرة التي نستنشقها بأنفاسنا ونحن في خير وعافية
يكفيك إذا ما حصلته من العلوم والفنون وأغلق هذه الأوراق القاحلة،
وتعال معي حاملا قلبك الخفاق ليرقب ويتلقى مؤثرات الطبيعة
ثم أنظر إلى قصيدة قصيرة للشاعر ديفس الإنكليزي (1770 - 1940) وفيها يتساءل عن قيمة الحياة إذا خلت من جمال الطبيعة فيقول:
أي قيمة لهذه الحياة إذا أترعت بالعمل دون أن تبقي لنا وقتاً نقف فيه ونحلق في جمال
الكون. نقف تحت شجرة وارفة الظل ونحملق فيها كما تفعل الأغنام والأبقار. نتطلع حولنا ونحن نخترق الغابة حتى نرى السنجاب وهو يخفي حبات الجوز تحت العشب؛ ونرى في ضوء النهار مياه الغدران مرصعه بالنجوم كما تكون السماء في الليل. وننظر إلى روعة الجمال الإنساني لنظفر منه بنظرة خاطفة، ونرقب السيقان تتحرك في رقص رشيق والفم وهو ينفرج عن ابتسامة عذبة بدأت بها العينان.
فان كانت حياتنا حافلة الأعمال بحيث لا تمكننا من أن نقف وننظر ونتأمل فبئس الحياة.
ثم أنظر أيها القارئ إلى ما يقوله اللورد تنيسن (1809 - 1892) في قصيدة غنائية يدعو فيها إلى نبذ متاعب الحياة فيقول:
هنا موسيقى عذبة، ألحانها أرق من وقع الورد المتناثر عندما يسقطه النسيم على الأرض
الخضراء، وألطف من وقع قطرات الندى عندما تتساقط على مياه الغدير.
هنا ترى البرك العميقة المنعشة تزحف على جنباتها شجيرات اللبلاب، وترى الأزهار ذات الورق العريض تبكي فتنهمر دموعي في الغدير، بينما تتدلى أزهار الخشخاش على الحافة الصخرية كأنهما في سبات عميق.
لماذا أثقلنا كاهلنا بعبء ثقيل واستنفذنا طاقتنا بتحمل الكرب الشديد؟
بينما أرى كل الكائنات الأخرى نفضت عن نفسها عوامل الهم والإعياء وباتت مستريحة
البال. نعم كل الكائنات في راحة أبدية فلماذا نكد وحدنا نحن، نكد ونولد حولنا جواً من الكآبة والعويل الدائم، فيظل الأسى يلقي بنا من شجن لآخر دون أن نطوي أجحتنا ونكف عن تجوالنا في عالم الأحزان، ودون أن ننقع جفوننا في بلسم النوم المقدس، ودون أن(888/32)
نصغي إلى الترتيل الروحاني في أعماق نفوسنا وهو يقول: ليس هناك سرور إلا في الهدوء والاستقرار) فلماذا نكد وحدنا ونحن تاج في غرة الزمان؟
وهذا الشاعر الروائي ماريو (1564 - 1593) يخاطب حبيبة له على لسان راع يغري فتاته بالمجيء لتعيش بجواره ويتمتعا معاً بالطبيعة وما فيها من مباهج فيقول:
تعالي نعش معاً في حب وغرام، فهنا نتمتع بما تعرضه لنا التلال والوديان والحقول
والجبال من مباهج ومفاتن.
هنا نجلس على الصخور ونرقب عن كثب الرعاة وهم يرعون قطعانهم إلى جانب
الأنهار التي ينسجم خرير مائها مع تغريد الطيور
هنا اعمل لك فراشاً من الورد وآلافا من باقات الزهر ذات الروائح العطرية وقلنسوة من
الأزهار وعباءة مزدانة بأوراق الريحان وجلباباً من أجود أنواع الصوف الذي نأخذه من خيرة أغنامنا. وخفاً مخطط الألوان يقي قدميك الجميلتين برد الشتاء ومشابكه من الذهب الخالص وزناراً من القش مزداناً ببراعم الأزهار له مشبك من المرجان وأزرار من الكهرمان فتعالي إلي نعش معاً في حب وغرام.
ولنقتبس الآن أبياتاً من قصيدة رائعة كتبها الشاعر الذائع الصيت اللورد بايرون (1788 - 1824) بعنوان ما أحيلي وفيها يقول:
لشد ما تبتهج نفسك عندما تسمع غناء الملاح وصوت مجدافه وهو يمخر في جندوله
عباب البحر الأدرياتي، ذلك الصوت الرقيق الذي تزداد عذوبته كلما أبتعد عن الأنظار، ولشد ما يثلج صدرك عندما نصغي إلى الريح وهي تعصف في الليل زاحفة من شجرة إلى أخرى، وعندما تلقي ببصرك إلى قوس قزح وطرف منه في أفق المحيط وآخر في عنان السماء!
وليس ثمة أسر من نهوضك مبكراً على أغاريد القنبر، ومن نومك على أنغام خرير المياه واستيقاظك على أزيز النحل وصياح الصبية! وما أبهج فرارنا من مرح المدينة الصاخب إلى هناء الريف الهادئ!
ثم إليك نبذة من قصيدة شاعر الشباب كيتس (1795 - 1821) وهو يناجي بلبلا يغرد فيقول:(888/33)
ليت لي جرعة من خمر معتقة يحمل نكهة الربيع، ليت لي كأساً مترعة بل طافحة بخمر
الجنوب الحاد، أجرعها عل نغمات الأناشيد البروفنسالية والرقصات الرشيقة فأغادر العالم وأتلاشى منه لأطير معك وسط الغابة
نعم أريد أن أطير لأنسى بين أوراق الشجر تعب الدنيا وإزعاجها وأمراضها، تلك الدنيا التي لا يرى المرء فيها إلا أخاه يئن ويضجر، ويرى الرجال وهم شباب تذوي نضارتهم وتجف أجسادهم ويقضون نحبهم، ولا يمكن للمرء أن يفكر فيها وينعم النظر دون أن يعتريه الكدر والهم ثم اليأس والقنوط. فأبتعد أيها الطير إذا وسأطير معك من هذا العالم على أجنحة القصيدة)
وأخيراً أقتطف أبياتاً رائعة للشاعر اندرو مارفل (1621 - 1678) من قصيدة له بعنوان خواطر في بستان وفيها يقول:
لشد ما يبهر الإنسان ويملؤه غروراً فوزه بعد جهود مضنية بإكليل من الغار أو غصن من
الجريد! وإذ ذاك يرى جهوده تتوج من فرع شجرة واحدة كأنها بظلها القصير تؤنبه على جهوده التي ضاعت سدى، بينما أرى الرجل الذي يلجأ إلى بستان يجد جميع الأشجار والأزهار تتهادى وتتكاتف لتعطيه ظلا وارفا
أيها الهدوء الجميل! لقد وجدتك هنا أخيراً كما وجدت معك أختك الطهارة، وطالما كنت
مخطئاً حين بحثت عنكما بين جموع الناس العاملين لأنكما أبيتما أن تعرسا في غير هذا المكان بين الأشجار والأزهار
وأني لأعيش حياة هنيئة في هذا البستان: لأن التفاح الناضج يتساقط على رأسي، وعناقيد العنب اللذيذة تهصر رحيقها الخمري على فمي لتستقبله شفتاي بنشوة زائدة، وحبات الخوخ والأجاص اليانع تصل إلى يدي دون عناء، وأراني أتعثر بالبطيخ وتعرقلني الأزهار أثناء سيري حتى أهوى على العشب النضير
إبراهيم سكيك
معلم أول اللغة الإنكليزية بمدرسة الإمام الشافعي الثانوية غزة(888/34)
خواطر مرسلة
المال لا يغني النفوس الفقيرة
للأستاذ حامد بدر
كثر المال عند من يرونه كل شيء، ولا يرون معه محالا، فأقبلوا على إنمائه في نهم وحرص زاعمين إنهم به وحده وقادرون على امتلاك أطراف الأرض، ونيل أبراج السماء، وتسخير الأنس والجن
هذا هو زعمهم، فلم لا ينسيهم المال ما سواء، ويصرفهم عما عداه، وقد ضمنوا به كل مرغوب، وأمنوا به كل مكروه، فلا خوف من عوادي الدنيا، ولا حساب ليوم الحساب.
وإذا كان الغني حقاً هو من كفاء التعفف ريبة التهافت، وأبعده عن فضول الظنون، فإن المعيار الشائع في هذا الزمان، لا يعترف بأهمية العلو الخلقي في وزن قيمة الحياة، اعترافه بالدنيا مقبلة، والنشب نامياً، والذهب موفوراً!
والمال إن لم يأخذ بيد الإنسانية، ويشق لها في البر سُبلا كريمة، فهو لعمري - نقمة لا نعمة، وهو أشد النقم وأخطرها. أن أعان على أثم، وأبعد عن الله!
والنفس الفقيرة المنحطة، لا يغنيها المال ولا يرفعها، بل يقيم الدليل على تشبعها بالفقر المعنوي الوبيل، ويمكن لها في الانحطاط مستقراً فتردى في حمأته أيدا، إذ يتيح لها من الشهوات ما يعمي بصيرتها، ويصرفها عن التفكير فيما يبقى. إلى الإقبال على بلاء النعمة، والتشبث بما يزول!
وقد عاش كثير من ذوي النفوس الكريمة على هامش الحياة، يتململون إباء، ويتضورون حرماناً، ولكنهم ملكوا نفوسهم ولم تملكهم، وصرعوا الشهوات ولم تصرعهم، ولو خيروا بين حياتهم هذه وحياة مترفة تخرجهم على سلطان ضمائرهم لأبوا، لأن البون في تقديرهم يجل عن القياس بينهم وبين أولئك الأثرياء الذين لم يجنوا من وراء المال سوى الفقر والعمى، وليس في الفقر ما هو أشنع من فقر النفس، ولا في العمى ما هو أفظع من عمى القلوب!
والدنيا قد تقبل على الحوذي ويصبح من الأثرياء، فيزيد المال سوطه عنفاً وطغياناً، ويتجاوز به الحيوان إلى الإنسان، ويزعم أنه صار صاحب عزة، ناسياً أن المال الذي ظنه(888/35)
ينيل المحال، لم يعنه عن حمل سوطه، فهو يحمله اليوم كما كان يحمله بالأمس، ولكنه اليوم صار غنياً، وصار يستعمل السوط في غير موضعه!
حامد بدر(888/36)
رسالة الشعر
ميلاد شاعر
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أترعت يا دنيا كؤوس شقائي ... وتركتني ثملا بغير طلاء
وخدعتني بالأمنيات بوارقاً ... وقذفت بي في غمرة الأهواء
دلهتني فإذا الضلال مطية ... لشقاوتي والرجس من سجرائي
ما ضر لو ألهمتني سبل الهدى ... أو لم تبثي السم في أجوائي
أنا يا شقائي دفقة من أدمع ... تروي صدى وترى وتحبي نائي
عمر يدب بد السلال. . . كآهة ... حيرى تطوف بخاطر الظلماء
صحراء عمري لم أجد في ساحها ... ظلا يقيني لفحة الرمضاء
أنا في مهالكها سراب شارد ... كم ظنه الظامي اصظفاق الماء
سأظل مثل الشوك يحلم بالندى ... حتى يموت بغصه الانداء
لا تسخري مني فتلك مقادر ... رعناء مثل خلائق الأحياء
عشقوك يا دينا فلا تتبرجي ... فعيونهم عشيت من الأضواء
جاؤوك أنضاء فلا تتلكئي ... واسعي لهم كالحية الرقطاء
جاؤوك فانتخبي لكل سمه ... فلأنت أعلم منهم بالداء
ساويهم إن فرقتهم سنة ... وأسقى السعيد بأكؤس التعساء
لا تحسبيني منهم، أنا شاعر ... فردوس أحلامي رحاب سمائي
التائهون كتيبة ما حكمت ... إلا سعار الشهوة الخرساء
كم طوحتهم في المهالك لذة ... عمياء فانطرحوا من الإعياء
أغفوا وكف الموت يقظي لا تني ... تطويهم في نشوة الإغفاء
خذ حكمة الأيام من سفهائها ... والعبرة المثلى من الجهلاء
لا تخدعنك بهارج أعمارها ... كالموج لا يحيا لغير فناء
يا يوم ميلادي أذكراك الحيا ... أم أنت نار سعرت بدمائي
ما أنت في التاريخ؟ موكب أدمع ... أم غصة الظلماء بالأضواء(888/37)
لو لم تكن يا بن المصيف هجيره ... ما كانت إلا القر في بيدائي
يا يوم ميلادي أينتبه الدجى ... لي ضاحكاً عن ليلة قمراء
حالي مع الأيام حالة مومس ... باعت طهارتها بوهم هناء
من لي بلقب لا يرق ولا يفي ... عهداً كخاطر صخرة صماء
أشبهت في بلواي بلبل روضة ... شلت جناحيه يد الأرزاء
أأعيش في قفص اللئام مقيداً ... واليوم في روض من النعماء
سبحانك للهم كيف تحكمت ... بالليث فراساً ضعاف الشاء
يا جوع أيامي أتخنقني الصدى ... وهواك أنهار من الصهباء
لا تسألني عن سلافة أكؤسي ... عصفت بشذائي رياح شتائي
هات الكؤوس وجرعتني مرها ... فعلى يديك يلد لي إغفائي
يا جنة المأوى سعيرك في دمي ... ألوي بآمالي إلى الإظماء
أنا في جحيم الحب روح حائر ... قلق يحن لروضة سجواء
هاك الهوى هاك الأماني طاقة ... من شعري المخنوق بالأشذاء
أآلام والحب العفيف معارج ... للروح يجهلها بنو الغبراء؟!
الحب ديني وهو أنجع شرعة ... للعالم الموبوء بالبغضاء
أصبحت يطربني اسم عيسى مثلما ... أضحى يزكيني هوى العذراء
يا بنت من سن المحبة للورى ... كيف استحل لديك وأد رجائي
مازلت أرتقب السماء وإنها ... لبعيدة إلا عن الشعراء
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(888/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية:
أنتظر بفارغ الصبر أن تتموا كتابكم عن شاعر الأداء النفسي الأستاذ على محمود طه، وأن تدفعوا به إلى المطبعة ليأخذ طريقه إلى أيدي القراء في شتى البلاد العربية. وليس من شك في أنني سأجد فيه ما تميزتم به من دقة الحكم وجمال العرض وبلاغة الأداء. ولعل الفصول التي نشرتموها في الرسالة الزاهرة هي التي شوقتني إلى هذا الكتاب وجعلتني أتلهف إلى شرائه والاطلاع عليه، ونقده الذي يليق به ويليق بما جاء فيه من غوص وعرض وتحليل ونماذج، إننا لنشكرك على ما بذلت من جهد في هذا الكتاب القيم، ونرجو من الله أن يوفقك إلى إنجازه؛ فقد فكر النقاد في نقده وعرضه قبل أن يخرج كاملاً إلى وجه الحياة، وفي قراءته وهو ما عتم بين المحابر والأقلام.
بعد هذا أود أن أذكر لكم أنني أذعت حديثا عن الأستاذ توفيق الحكيم من محطة الإذاعة العربية بهلفرسم، وأنني أعقبت هذا الحديث بحديث آخر عن معالي الدكتور طه حسين بك، وقد بقي أن أكتب حديثا ثالثا عن الأستاذ الزيات في سلسلة أعلام أدبنا العربي الحديث. وبعد شهرين على وجه التقريب سيكون حديثي الرابع عن النقد والنقاد في مصر، وبالطبع سأبدأ بكم كناقد له أثره المعروف وخصائصه الممتازة. . . وفي خلال هذه الفترة أرجو أن تكتبوا - إن بدا لكم - عن نفسيتكم، إذا استطعتم أن تعرضوا هذه النفسية بشيء من التأمل الباطني والصراحة المحببة، حتى أرى رأيكم فيها وكأنها شئ تنقدونه وهو عنكم بعيد! ومع أنني قد وقفت على كثير من جوانب شخصيتكم الأدبية والإنسانية من خلال هذه (التعقيبات) التي تكتبونها للرسالة، إلا أن هذا الذي أطالبكم به سيعينني على أن أطيل الوقوف وأخرج ببعض الزوايا وأحدد بعض الخطوط ولكم خالص التحية من المخلص:
أحمد طه السنوسي
الأستاذ أحمد طه السنوسي صاحب هذه الرسالة كاتب من الكتاب المعروفين لقراء (الثقافة) فضلا عن قراء (الأهرام)، بما ينشره هنا وهناك من فصول قيمة في الشئون العربية(888/39)
والسياسية والاقتصادية. . . ولقد أتيح لنا أن نطلع على الحديثين اللذين أذاعهما عن الأستاذ توفيق الحكيم والدكتور طه حسين، وعلى هذا المقال الذي كتبه عن (الشعر العربي في حضرموت) بالعدد الماضي من (الرسالة). ومن هذه الأحاديث الأدبية نستطيع أن نطمئن إلى الملكة الناقدة عند الأستاذ الفاضل، إذا ما خطر له أن يقيم الميزان لناقد من النقاد أو أديب من الأدباء.
وللأستاذ أن يتقبل شكرنا أولاً على حسن ظنه، وأن يثق ثانياً بأننا ماضون في إنجاز الكتاب الذي وعدنا القراء بإنجازه، ونعني به تلك الدراسة المطولة لحياة الأستاذ على محمود طه وشعره؛ وهي الدراسة التي نشرنا بعض فصولها على صفحات الرسالة. . . ولقد كنا على وشك الانتهاء من هذا الكتاب وتقديمه إلى المطبعة، إلا أننا قد رأينا أن نرجئ إخراجه بعض الوقت تبعا لما طرأ من تعديل على منهج الدراسة ومما ترتب عليه من إضافة لبعض الفصول، نلتمس ضوئها ما نتطلع إليه من كمال فني يتناسب ومكانة الشاعر العظيم.
أما عن رغبة الأستاذ الفاضل في أن نقدم إليه شيئاً من الترجمة الذاتية التي تتصل بأدب النفس فإننا نقول له: إن دراسة الشخصية الأدبية مرتبطة بالشخصية الإنسانية أمر من ألزم الأمور لكاتب التراجم ودارس الأدب وناقد الفنون. ولقد سجلنا هذه الحقيقة الفنية في مقدمة دراستنا لشعر على محمود طه حيث قلنا على صفحات الرسالة منذ شهور: (لقد درسنا حياة على طه النفسية ودرسنا آثاره الفنية. . . درسنا هذه وتلك على طريقتنا التي نؤمن بها وندعو إليها كلما حاولنا أن نكتب عن أصحاب المواهب أو كلما حاول غيرنا أن يكتب عنهم: مفتاح الشخصية الإنسانية أولاً، ومفتاح الشخصية الأدبية ثانياً، والربط بعد ذلك بين الشخصيتين لننفذ إلى أعماق الحقيقة في الحياة والفن ومدى التجاوب بينهما منعكساً على صفحة الشعور المعبر عنه في كلمات)
ودراسة الحياة النفسية لأديب من الأدباء تقتضي من الدارسين أن يتصلوا اتصالاً مباشراً بهذه الحياة بغية المراقبة والملاحظة والتسجيل. وإذن فلا مناص من المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود، لتتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يشف عما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء. ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع(888/40)
الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعني بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب. . . وليس من شك في أن الأستاذ السنوسي يلتمس لنا بعض العذر إذ قلنا له إن الحديث عن النفس شيء عسير، ولا نقول شيء بغيض كما يحلو لبعض المتجرين بالتواضع أن يصفوه! عسير لأن المجتمع الذي نتنفس في رحابه سيتهمنا إذا نحن أنصفنا أنفسنا فذكرنا منها الجانب المضئ، وسيتهمنا مرة أخرى إذا ما عرضناها في صورتها الحقيقية وهي في كنف الظلام. . .
نحن إذن معشر الأدباء متهمون في كلا الحالين، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا ما كتب عنا الآخرون لأنهم في نظر المتجمع قضاة محايدون. هذا إذا قدر لهم أن يطلعوا على ما خفي وما ظهر في حياة المنقودين من شتى الميول والنزعات! لو كنا في بيئة غير البيئة ومجتمع غير المجتمع لتحدثنا عن أنفسنا حديث الفن لا يخشون لومة لائم ولا اتهام متهم، ولا جناية جان على حقيقة الطبائع النفسية كما فطرها الله وكما قدر لها أن تكون. . . ولكننا بهذه الأوضاع الاجتماعية في الشرق لا نستطيع، وإذا أتيح لنا أن نتحدث إلى الغير عن حياتنا الذاتية بجوانبها المشرقة والمظلمة، فهي الإتاحة التي تدفعنا إلى ذكر بعض الحق والتستر على البعض الآخر، وحياة كهذه يحال بيننا وبين التحدث عنها بكل الحق هي في رأينا حياة لا يطمئن إليها الدارسون! إننا نبغي من وراء الدراسة النفسية لحياة أديب من الأدباء أن نضع أيدينا على مفتاح شخصيته الإنسانية، ورب حادث تافه يتحرج الكاتب من ذكره فيدفع إلى حذفه من تاريخ حياته؛ رب حادث كهذا يقدم إلينا المفتاح الحقيقي لشخصيته حين يكتب في بضعة أسطر فلا تغني عنه مئات الحوادث في ألوف من الصفحات!
إن الحياة النفسية إذا أريد لها أن تعرض فلتكن في صراحة (الاعترافات) لروسو وجرأة (اليوميات) لأندريه جيد. . . ونقتطف هنا بعض ما قلناه من الاعترافات واليوميات نقلا عن مقال كتبناه للرسالة منذ سنتين، وكان عنوانه (دفاع عن الأدب): (الاعترافات واليوميات صورة واقعية لفترة من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية. . . وحسبك أن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة(888/41)
والأمانة والصدق؛ صفحات عارية لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير ولعمري إن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما حفلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم دون أن يخشى في ذلك نقداً أو لوماً أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأينا ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء. إن هناك كتاباً يتظاهرون بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون في حمأة الموبقات، فهل نستطيع أن نصف أدبهم بأنهأدبقوة؟ كلا. . . ولا نستطيع أن نرفع من قيمة هذا الأدب إذا ما قسناه بمقياس الفن الصادق، مقياس صدق التعبير عن الحياة، لأنه أدب يعبث بالحقائق ويشوه الوقائع ويكذب على الحياة والناس إن أندرية جيد لو لم يكن متأثراً في كتاباته بفيلسوف القوة نيتشه لما تهيأ له أن يتناول قلمه ليكتب ما كتب في اليوميات)
هذه فقرات مما جاء بمقالنا الذي كتبناه منذ سنتين عن روسو وأندريه جيد. ولا ينتظر الأستاذ السنوسي من أي كاتب في الشرق أن يتحدث عن نفسه بكل الحق كما فعل الكاتبان الفرنسيان، وليس كحديثهما حديث يرتجي منه صدق التعبير عن عالم النفس وأمانة النقل عن واقع الحياة.
بين ثقافة المدرسة وثقافة الحياة:
أنا من عشاق الأدب وقراء الرسالة ومشكلتي هي مشكلة الكثيرين ممن حال الفقر بينهم وبين مواصلة التعليم مات والدي وأنا طالب بالمدارس الابتدائية، ولم يترك لي من المال ما يعيني عل طلب العلم حتى النهاية. وحين حصلت على الشهادة الابتدائية بعد جهد عنيف حيال الظروف القاسية، لم أستطع أن أنظر إلى أكثر من هذا الذي حصلت عليه، لأنني كنت موزع الفكر بين واجبين: أولهماأن والدي ترك لي والدة وشقيقات ليس هناك من يكفلهن غيري، وثانيهما رغبتي في إتمام مرحلة التعليم شفغاً بالثقافة والمعرفة. ولم أجد بدا من الخضوع للواجب الأول نزولاً على حكم العاطفة ونداء الضمير، وكان أن التحقت بإحدى الوظائف الحكومية بمرتب ولو أنه ضئيل، إلا أنه يوفر لنا حياة تبعد عنا شبح الفاقة والحرمان.
واليوم وقد حالت الظروف المادية بيني وبي طلب العلم في المدرسة، فقد رأيت أن أطلبه(888/42)
في مدرسة أخرى هي مدرسة الحياة. . . فهل تقبلون أن تكونوا أنتم الأستاذ المشرف على ما يبتغيه تلميذكم المخلص من وسائل التوجيه والإرشاد؟ إنني أريد أن أدرس الأدب العربي دراسة وافيه، وكذلك أريد أن أتجه إلى التثقيف العام الذي يأخذ من كل شيء بمقدار. . . فأي الكتب أقرأ، وعلى أي منهج أسير؟ ودمتم عوناً للأدب ونصيراً للأدباء.
(شندى السودان)
عطيه حسن
بمصلحة البريد والبرق
من حق الأديب السوداني الفاضل علينا أن نحيي فيه هذه الروح الطيبة، روح الجهاد الذي يريد أن يشق طريقه ولو امتلأ الطريق بالأشواك، وروح التضحية في سبيل الأهل حين لا يكون هناك مفر من تحول التضحيات. . . إن الجهد الذي يبذل في سبيل المجموع خير عند الله وأبقى من الجهد الذي يبذل في سبيل فرد من الأفراد!
وإذا كان الفقر قد حال بين الأديب المجاهد وبين التعليم فإنه لن يحول بينه وبين التثقيف، ذلك لأن العلم يطلب في المدرسة وخارج المدرسة، ولن يستطيع أحد أن يقول بأن المدارس هي التي تخرج الأدباء وتصنع المثقفين. . . إن الفضل في تخريج هؤلاء وأولئك يرجع إلى المواهب الذاتية والجهود الفردية، هناك في مدرسة الحياة حيث يجد كل إنسان بغيته من ثمار الآداب والفنون وهل هناك ما يصقل العقول ويلهم النفوس أكثر من مصاحبة العلم في الكتب وممارسة التجارب في الحياة؟ بهذه وتلك يخلق الأديب ويوجد المفكر ويولد الفنان. . . وما أكثر الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم حين حرموا المرشد وفقدوا الموجه وحيل بينهم وبين إشراف المدرس ورقابة الأستاذ!
بعد هذا يريد الأديب الفاضل أن يدرس الأدب العربي دراسة وافية، ثم يطلب إلينا أن ندله على الكتب التي يقرؤها ليظفر بما يريد. . . الحق أن هذا مطلب عسير التحقيق، لأننا محتاجون إلى أن نصدر عدداً خاصاً من (الرسالة) يتسع لهذا العدد الضخم من أسماء الكتب وأصحاب الكتب من القدامى والمحدثين!! هناك طريق واحد يجب أن يسلك، وهو أن يقصد الأديب صاحب السؤال إلى دور الكتب العامة حيث تكون بين يديه شتى الفهارس(888/43)
للمصنفات والأعلام، وعلى هدى تلك الفهارس يستطيع أن يطلع على القديم والجديد إطلاع الدارس والمتذوق والناقد إذا أراد. . والأمر بعد هذا كله متوقف على جهده الشخصي ومدى قدرته على التفرغ والمثابرة واحتمال المشقات إن للأدباء المحدثين دراسات وافية للأدب العربي في عصوره المختلفة وخصائصه المتميزة، فعليه أن يرجع إلى هذه الدراسات التي تعينه على فهم هذا الأدب وتذوقه عن طريق المقارنة بين الدراسة والنص، أو بين النقد والمثال.
أما عن رغبته في التثقيف العام الذي يأخذ من كل شيء بمقدار، فإن الطريق ممهد إذا ما حقق هذا الذي قلناه بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال. . . ثم إذا تهيأ له أن يتقن لغة غير لغته ليستعين بها على النظر في شتى الآداب الأجنبية وآثار الفكر الغربي الحديث. ولن يكون المثقف مثقفاً بأوسع معاني الكلمة إلا إذا قرأ في كل شيء وحلق في كل أفق وطرق كل باب من الأبواب. . . نعني أن الأدب وحده ليس هو المجال الذي يقتصر عليه طالبوا الثقافة ليصبحوا مثقفين، ولكن المجال يجب أن يتعداه إلى ألوان أخرى من العلوم والفنون!
مذهب جديد في نقد الشعر:
قارئ من قراء الرسالة لم يشأ أن يذكر اسمه ولا اسم الشاعر الذي بعث إلينا ببعض شعره، ولكنه يقول لنا في رسالته:
لقد خرجت من دراستكم لشعر الأستاذ علي محمود طه رحمه الله، بأن هناك مذهباً في نقد الشعر هو مذهب (الأداء النفسي) الذي تنادون به ولا تعترفون بمذهب سواه. . . ولقد حاولت من جهتي أن أطبق مذهبكم هذا على شعر أستاذ من شعرائنا. الأحياء فخانني التوفيق، وحسبي أن أقدم إليكم نموذجاً من هذا الشعر لتروا فيه رأيكم عما إذا كان يستقيم ومذهبكم في نقد الشعرأملا يستقيم. . . قال شاعرنا مخاطباً صاحبته مشيراً إلى هذا الكون الذي يحيط بهما ويعيشان فيه:
حسبنا منه سماء لمعت ... فوق رأسينا بنور كوكبي
حسبنا منه وساد خشن ... تحت رأسينا وكوخ خشبي؟
هذه هي الرسالة الطريفة التي بعث بها إلينا الأديب المجهول. وردنا عليه هو أن هذا(888/44)
الشعر لا يمكن أن يستقيم ومذهب الأداء النفسي بحال من الأحوال، ولكنه يصلح للدراسة في ضوء مذهب آخر في نقد الشعر، هو مذهب (الأداء الخشبي). . . وحسب الشاعر الذي جادت قريحته بهذه (الأكواخ الخشبية) في الشعر الحديث، حسبه أنه وجه أنظار النقاد إلى مذهب جديد!!
أنور المعداوي(888/45)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قطية لا لإنسانية
أذاعت إحدى شركات الأنباء العالمية ما يلي:
فقد قطة أحد المزارعين الدانمركيين أطفالها غرقاً في أحد المجاري المائية. وقد اختفت القطة بعد هذا الحادث. وفي أحد الأيام عثر عليها المزارع وهي تطعم وترعى خمسة فيران وليدة. وظل المزارع يراقبها إلى أن عثر عليها ذات يوم وحيدة مكتئبة، وتبين فيما بعد أن الفئران الصغيرة غرقت في المجرى المائي. . .
قرأت هذا النبأ، فوقفت عنده طويلاً، بعد أن عبرت أنباء القتال الناشب في كوريا والذي يوشك أن ينقلب إلى حرب عالمية ماحقة. تلك جيوش تتأهب، وأساطيل تتحرك، وطائرات تغير وتنقض، وقنابل ذرية وهيدروجينية ترتعد الفرائض من هولها المرتقب - كل ذلك يعده الناس بعضهم لبعض، لتمزيق أواصر (الإنسانية) بينهم. وهذه قطة ترفعها عاطفتها فوق العداوة المأثورة بين جنسها وبين الفئران، فتحنو على صغار أعدائها وترعاها، ثم تكتئب لفقدها كما اكتأبت على صغارها. والناس - وهم لأب واحد وأم واحدة - لا يستطيعون أن يزيلوا ما بينهم من خلاف فيلجئون إلى وسائل التقتيل والتدمير.
ولقد اعتدنا أن نطل كلمة (الإنسانية) على الأعمال والتصرفات التي توجهها العواطف والدوافع الرحيمة في نفس الإنسان، واعتدنا أن نمجد هذه الكلمة ونعجب بآثارها في الآداب والفنون؛ فما أحرانا اليوم أن نقف عند هذه (القطية) الرفيعة. ونمجد تلك القطة الدانمركية العظيمة الجديرة بأن تأخذ مكانها بين دعاة السلام، بل تأخذ بينهم مكاناً ممتازاً، لأنها لم تخطب ولم تدبج مقالاً، بل ضربت المثل بالعمل إذ قلمت أظفار العداوة بين القطط والفئران، ورفعت في الميدان راية السلام.
هل بين القطط - كما بين الناس - أدباء وفنانون - يشيدون في إنتاجهم بدوافع الإنسانية ومظاهرها ويضمخون بعبيرها ما يكتبون وينشئون؟ وما أجزم، قد يكون في موائها شيء من ذلك، ولعله شيء نادر إلى جانب صرخاتها في الدعوة إلى افتراس الفئران، كما يدعو الإنسان إلى افتراس الإنسان. . . ولعل تلك القطة استجابت لذلك المواء النبيل فتجنبت(888/46)
الحرب وأرادت أن تعيش مع أعدائها في وئام.
وهل بين القطط - كما بين الناس - هيئة كهيئة اليونسكو تعمل للسلام وتهدف إلى القضاء على دوافع الحرب في العقول؟ إن كان ذلك فلا بد أن (يونسكو القطط) أنجح من يونسكو الإنسان، والدليل على هذا وقوع تلك الحادثة في الدانمرك، وهي حادثة قد يكون لها ما بعدها فيسود السلام عالم القطط والفئران. . . أما يونسكو الإنسان فقد اجتمعت قريباً وارتفعت فيها أصوات الدعوة إلى السلام، وقدمت لهذه الغاية اقتراحات، وأحسب أن قد وضعت لها خطط وبرامج، وما كاد مؤتمرها ينقض حتى انقضت كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية وتحفزت وراءهما القوى العالمية.
أو ترى ليس بين القطط أدباء ولا فنانون ولا يونسكو. . . لأن هؤلاء من مظاهر مركب النقص في الإنسان، إذ يشعر بالوحشية المكبوتة فيحاول أن يغطيها بادعاء ما يسميه (الإنسانية) وما القطط في حاجة إلى ذلك، إذا بغت الافتراس فعلت دون تمويه بهيئة أمم متحدة. . . وإذا جنحت إلى السلم وأرادت الأمن لم تضيع الوقت في جمع مجلس أمن يصدر قرارات تذروها الريح. . .
لقد شعرت بأن نبأ رعاية القطة للفيران الولائد، نسمة رقيقة تهب على النفس في هذا الجو الذي تختنق فيه الأنفاس بغبار السياسة ودخان الحرب.
دفاع كريم ولكن
عرض على مجلس النواب في الأسبوع الماضي مشروع القانون الذي يقضي بربط هيئات التدريس الجامعية بدرجات القضاة، فقال أحد النواب إن مدرسي الجامعة يعطون دروساً خصوصية وإنهم يطبعون المذكرات ويبيعونها للطلبة. فأحتج معالي الدكتور طه حسين بك على ذلك وقال: إن لوائح الجامعات لا تجيز للمدرسين الأساتذة إعطاء دروس خصوصية، ولو حدث هذا من مدرس لقدم إلى مجلس التأديب. وقد أحتد معاليه في هذا الدفاع حتى قال: أنه إذا استمر النائب في توجيه الاتهامات إلى رجال الجامعات فإنه ينسحب.
ولا شك أن هذا موقف كريم، وطبيعي أن يقفه الأستاذ الأول، زائداً عن حرم الجامعة وكرامة الجامعيين؛ وقد بذل جهده في تعزيز ذلك المشروع وبيان حقيته حتى ظفر بإقراره من المجلس.(888/47)
ولكني أريد أن أقول في الموضوع كلاماً كالذي يقوله أفراد الأسرة بعضهم لبعض، إن ما قاله النائب المحترم في مجلس النواب ليس إلا ترديداً لما يقال وقد كتب في الصحف مراراً، وكتبه مرة أحد الأساتذة في نقد زملائه. . . وفي الأمثال الدارجة. ليس هناك دخان من غير نار. وأنا أعزو بعض ما يقوله الطلبة إلى محاولة تبرير موقفهم في الامتحان، فهم يتقولون كثيراً على الأساتذة والمدرسين، ولكن هل ما يقولونه خيال واختلاق كله؟ وأريد أن أعتبر من الاختلاق ما قاله لي أحدهم وهو طالب في إحدى الكليات العلمية: إن درساً خاصاً وأحداً لقاء خمسة جنيهات كفيل بالنجاح في الامتحان العملي.
ما أحسب - أو لا أود أن أحسب - أن استفحال الغلاء في السنوات الأخيرة له دخل فيما نحن بصدده. وعلى أي حال فإن الجهود العظيمة التي يبذلها معالي الدكتور طه حسين بك في تحسين الأحوال لابد أنها ستثمر ما يوفر العيش الكريم لأهل العلم وبناة الجياة، ويبعث في نفوسهم الطمأنينة إلى العدالة وحسن التقدير.
يبقى بعد ذلك رجاء العمل على نفض الغبار عن (الأرواب) ونقاء الجو من تلك السحب المؤسفة. وما أخال ذوي الغيرة على كرامة الجامعة والجامعيين - وفي مقدمتهم معالي الدكتور طه حسين بك - إلا عاملين على ذلك.
فرقة التمثيل النموذجية
يشتغل الآن الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد العالي لفن التمثيل العربي، بمشروع تأليف فرقة نموذجية من الشباب الذين تخرجوا في المعهد وبعض الممثلين والممثلات القدماء، متوخياً في اختيار هؤلاء أن يكونوا من ذوي الثقافة الممتازة والشخصيات المتماسكة، بحيث تتكون الفرقة من أفراد مختلفي الأعمار، يصلح كل منهم للدور الذي يناسبه.
والفرقة (نموذجية) لأن هدفها تقديم الأدب القصصي الرفيع على المسرح بصرف النظر عن إيراد تغله، أي أنها يرجى أن تكون أداة لازدهار الأدب المسرحي باعتباره شعبة من الأدب العربي الحديث. وهو غرض جليل، إذ يتيح هذا العمل للجمهور أن يتلقى المتعة الأدبية الفنية وهو يتفرج. وتتجه النية إلى تيسير مشاهدة مسرحيات الفرقة، ليستفيد منها أكبر عدد من الجمهور وخاصة الطلبة، وستمثل بعض الروايات المقرر عليهم دراستها، ولذلك ستكون أسعار الدخول مساوية تقريباً لأسعار السينما.(888/48)
ويتضمن مشروع الفرقة برنامج عملها موزعاً على أشهر السنة، بحيث تقوم برحلة سنوية كل عام إلى بلد من البلاد العربية لتكون سفيرة أدب وفن بين أقطار العروبة.
ويتضمن المشروع أيضاً ضرورة الاهتمام بالتأليف المسرحي، ليكون أكثر ما تقدمه الفرقة مسرحيات مؤلفة، إلى جانب بعض المسرحيات العالمية المترجمة أو المقتبسة. ويتجه الأمل في ذلك أكثر ما يتجه إلى كبار المؤلفين الذين عرفوا بالإنتاج المسرحي كالأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ محمود تيمور بك.
أما الناحية المالية. وهي مهمة جداً بطبيعة الحال، فهي موضع بحث وتدبير، ويلاقي المديرون فيها عنتاً ومشقة، لأن الدولة لا تزال ضنينة على التمثيل، فكل عام يصطدم ما يقترح من المال لذلك الغرض باللجان المالية وخاصة في مجلس الشيوخ والنواب، وكثيراً ما يعارض أعضاء البرلمان في زيادة المخصص للنهوض بالمسرح، وقد يكون لحضراتهم العذر في ذلك، نظراً إلى ما يرونه من تفاهة الإنتاج المسرحي وما لابس المسرح على العموم من ركود وهزال في السنوات الأخيرة. ولكن ينبغي أن يكون مفهوماً أن هذه الحال أهم أسبابها الضن بالمال، كما أن أهم أسباب هذا الضن هي تلك الحال. . . فهو (دور) لابد من وسيلة للخروج منه، ولا يكون ذلك إلا بأن تكون الخطط واضحة والغايات مفهومة. ومما يدعو إلى الأمل والارتياح أن بعض الوزراء يعنون بهذا الأمر ويعاونون في سبيله معاونة جدية نافعة، وخاصة معالي الدكتور محمد صلاح الدين بك وزير الخارجية ورئيس لجنة ترقية التمثيل العربي، وهو دائب النشاط في خدمة الفن من قبل أن يتولى الوزارة.
وقد وصل المخصص لإعانة التمثيل حتى الآن إلى خمسة وعشرين ألف جنيه في ميزانية وزارة الشئون الاجتماعية، ويقدر الأستاذ زكي طليمات أن يخص الفرقة النموذجية من هذا المبلغ عشرة آلاف جنيه والباقي يوزع على الفرق الأخرى وخاصة الفرقة التي يؤلفها الأستاذ يوسف وهبي بك لتقدم اللون الذي عرف به الأستاذ يوسف لجمهوره على أن تمثل روايات جديدة. ويأمل الأستاذ زكي طليمات أن تعتمد وزارة المعارف عشرة آلاف تضم إلى عشرة الآلاف الأولى وهو أقل ما يمكن أن يدبر به شأن الفرقة الجديدة.
وعلى ذلك ينتظر أن يشهد الموسم القادم فرقاً مسرحية مختلفة، يرجى الخير للفن المسرحي(888/49)
من تنافسها ومن اختصاص كل منها بنوع من أنواع التمثيل، ولاشك أنها ستكون تجربة يتوقف على نجاحها حياة المسرح في مصر، والمرجو أن تبذل الدولة مساعدتها، لكي تتهيأ لفن التمثيل العربي فرصة يظهر فيها جدواه، ويثبت استحقاقه للرعاية والتقدير.
عباس خضر(888/50)
البريد الأدبي
من آثار الرافعي - الأدب والأديب
جاءنا رد مسهب من النابغة السيد مصطفى صادق الرافعي على علامة العراق (كلدة) اجتزينا عنه بالسطور التالية قال: -
(قال كلدة) (إن للأدب والأديب معاني قديمة. . . وإن معنى الأديب في عصر الجاهلية وأوائل صدر الإسلام هو الطيب الحديث الحسن الصورة الذي يؤنس السامعين بسحر مقاله ويجذبهم إليه برقة منطقه ولذيذ صوته) وأنا أطلب منه البينة على دعواه ولو شاهدا من كلام العرب يدل عليها أو رواية تثبتها أو أساساً من التاريخ يسوغ ما ذهب إليه ويخرجه، عن باب الوضع. إننا نقرر لهذا الفاضل أن عرب الجاهلية وصدر الإسلام لم يعرفوا معنى الأديب بمثل ما اصطلح عليه العلماء لا على الوجه الذي ذهب إليه من الطيب الحديث الخ لا على قفاء هذا الوجه، ولا جرت الكلمة في استعمالهم لأي معنى يدل على العلم أو الشعر أو البلاغة أو فنون القول أو المحاضرة أيهما كان، ولا يجوز أن يكونوا قد أخذوا هذا المعنى إلا وقد تكلموا به، ولا يمكن أن يعرفه هو إلا وقد وقف على شيء من كلامهم.
بالأمس قام لورد جسبرو في مؤتمر إسرائيل بلندن يزعم أن الإنكليز من بني إسرائيل، وأنهم حققوا النبوة التي ورد فيها أن هذا النسل يملأ الأرض، وأن الدليل على ذلك أن كلمة برتش التي معناها بريطاني هي من كلمتين عبرانيتين بريت أي العهد وأش أي الشعب، قال فالشعب الإنجليزي هو شعب العهد أي شعب إسرائيل. فلم ينكب العرب وحدهم بكلمتين يونانيتين بل نكب الإنجليز بكلمتين عبرانيتين. وأنه لمصعد سهل يثب إليه كل من أصاب مشابهة في مقابلة اللغات ولكن الإنجليز منه تندق فيه العنق) انتهى
طنطا - مصطفى صادق الرافعي
رحم الله ذلك النابغة الذي صفا الأدب العربي في قلمه وخلص ماؤه وزاد رونقه، وليكرم الله من يذكرون بأدبه فإنهم بهذا يقربون إلى الواقع (عالمية) العربية وأدبها. ولاتهن أمة يمجد فيها العباقرة وتنشر ذخائرهم فاللهم وفق من أعان على ذلك أو سعى إليه من كاتب أو عالم أو وزير.
محمود الطاهر الصافي(888/51)
دالي رجال التربية: -
مرت الأيام ودالت العصور وتغير الزمن، وتقدمت العلوم والفنون، وارتقت الأفكار والعقول وتنوعت طرق التربية، حتى أصبحت مذاهب متمايزة متعددة متعادية، ولكل مذهب وجهة خاصة وأتباع ينافحون عنه ويجادلون بل يزكون. . . وطريقة سبنسر وفرديل وغيرهما إلا مثل لهذا.
ولقد درج السلف في تعاليم على طريقة خاصة، وكلنا قد عاصرها وتعلم على منهاجها، وهي لو نظرنا إليها من ناحية العقل والمنطق لارتاحت نفوسنا إليها وظمأت قلوبنا بها.
وتلك الطريقة تبدأ بتحفيظ الحروف الهجائية مرتبة ترتيباً دارجا على التشابه الملحوظ في بعضها ثم تعيين تلك الحروف بالإعجام وغيره على سبيل الموازنة والمقارنة ثم معرفة الحركات من فتح وكسر ثم وصل تلك الحروف وإلحاق حروف المد بها ثم معرفة الشدة والتنوين. . .
وبعد معرفة هذه القواعد تكون كلمات بسيطة من حرفين ثم ثلاثة وأربعة. . . ويبدأ ذلك بمعرفة بعض أجزاء الجسم، وما يحيط الطفل من أسماء بنص الأشياء. . .)
وبعد أن يلم الطفل إلماما كافيا بما يقع تحت ناظره يبدأ بتعليمه فاتحة الكتاب ثم بقية السور من قصار المفصل وهكذا إلى آخر سورة في القرآن الكريم.
وأثناء قراءته للقرآن إن كان يعلم مبادئ الحساب والدين والإملاء بطريقة متمشية مع عقلية الطفل وفطرته!
والآن وبعد مضي تلك السنوات. وقد أصبحت تعد بالعشرات التي تنوعت فيها طرق التربية وتطاخت الأراء، رجعنا من جديد إلى طريقة آبائنا وأجدادنا الأولين، فهي الطريقة التي تتمشى وعقلية الطفل المحدودة.
وبالرغم من الطرق الكثيرة التي نستعملها في تعليم الأطفال فإني قد تركتها جميعها جانباً، واستعملت تلك الطريقة مع طفلي وقد حفظ جزءين من القرآن الكريم قبل أن يبلغ السابعة من عمره وهو الآن يشق طريقه بخطى ثابتة في التعليم الثانوي محرر العقيدة ثابت البنيان، وفي الطليعة!(888/52)
فما رأى رجال التربية في طريقة الأقدمين؟. . .
شطاتوف
محمد منصور خضر(888/53)
القصص
سراب المجد
الحب يقهر كل شيء
فرجيل
للأستاذ محمد محمود زيتون
جلس الرفاق على الشاطئ وأداروا وجوههم إلى البحر وكانت الشمس تهوى إلى الغروب. وفيما ورائها الأفق الجريح يتعثر في حواشيه الرقاق، صارخاً متشبثا بأذيال هاجرة لن تعود، وسرعان ما سيطر الذهول على الجميع فقال أحدهم: ليتك الآن بيننا يا (حماده) فتصوغ هذا المنظر شعراً من نبع خيالك: رحمك الله من نجم علا ثم هوى. وساد الصمت مرة أخرى ثم استطرد أنور يقول:
عرفته منذ كنا صغيرين في مدرسة القرية - خجولاً وادعا، والتقينا بمدرسة رأس التين الثانوية، ولكنه رغب في العباسية الثانوية. قال لي يومذاك. لن أبقى إلا هذا العام في رأس التين وسألحق بعده بالعباسية: بناؤها مهدئ لأعصابي. وموقعها على هذا التل المرتفع يوحي إلى نفسي بالسمو والرفعة.
وقضى حمادة بقية سنته الثانوية بالعباسية التي كشفت فيه عن طموح باكر، ونبوغ سابق الأوان فذاع اسمه في الثغر ونواديه ومجالسه الشاعر. الرياضي. الواعظ، الفنان. فقد كان بهلوان المتوازيين والعقلة، وشاعر الطلبة، وإمام مسجدهم، وخطيب كل إضراب. وواعظ القرية، وكان إلى هذا كله ممثلا وموسيقياً بارعاً ولمع اسمه في الصحافة.
ولم يفتني قط الاستماع إليه في كل مناظرة أو محاضرة، أو الاطلاع على خواطره المسكوبة في الصحف والمجلات.
شخصية محبوبة مرحة في غير ابتذال، وخلق كالجبل الأشم. أقام (حمادة) في حجرة على سطح منزل مرتفع. فعرفت أن هذا (البرج العاجي) هو مبعث إلهامه ومصدر فنه. وهناك أرهف حسه لتهاويل الطبيعة. فامتزجت بروحه وانداحت على وجهه بسمته وإشراقه.
والتحق بالجامعة، وطلب (الآداب) وأخلص بل تفانى في دراستها. وزاد تألقه ولمعانه بين(888/54)
زملائه، وذاع صيته، ولست أخفي ما كان يجيش في نفسي نحوه من عواطف شتى هي مزاج من حب الخير له، والغيرة منه، والعطف عليه، والانجذاب إليه، والدفاع عنه. . . مع قليل من الحسد كنت أكتمه وأضغطه وأدفنه جاهداً حتى أنحدر في نفسي إلى كهف سحيق عميق.
وكيف لا أغار ونحن من قرية صغيرة نكاد نكون الوحيدين من بين المتعلمين الذين أفلحوا وواصلوا التعليم. ثم كيف لا أنجذب إليه وهو ليس غريمي في شيء. وأخيراً قلت لنفسي: إن (حمادة) سيكون فخراً لقريته بل لوطنه، فهو جدير بحبي وإخلاصي، وكلما سئلت عنه لا أملك غير الإعجاب به والإكبار من شأنه.
وكنا معاً في إحدى العمائر القريبة من الحي الجامعي، بقينا به حتى تخرجنا، أما (حمادة) فقد ذهب إلى الإسكندرية يبحث عن أفق أوسع لميوله ومطامحه، وبقيت أنا تحت التمرين في مكتب محام شهير.
وفي هذه الفترة أحسست بالفراغ الذي تركه حمادة، وأخذت أطالع كل يوم أخلاطاً من الطباع والعقول والأرواح. فأحسست بمرارة الغربة عن كل من حولي، وانطويت على نفسي كالثعبان. والغربة المريرة والبد القارس سيان في هذا. . . ولا أدري ما وجه الشبه بينهما، ولكن هكذا كنت أحس. . . وهكذا كنت فعلا. . . ولا سيما يوم سرى الدفء في أوصالي. ياله من يوم. . . يوم اجتمعت مع الرفاق في منزل أحدهم. . . يوم عيد ميلاده هو وميلاد شقاوتي أنا. . . يوم أديرت الكئوس، وتطوحت الرءوس ورقصت الغانية عارية، إلا من ذلك الثوب الأحمر الشفاف. . . فلم يخف فتنة، ولم يشف لوعة. . . يالها من ليلة حمراء.
كانت هذه الليلة كالشرارة التي أطلقت نفسي من نفسي. . . فنفثت سمومها في كل وكر وبؤرة. . . حقاً كنت كالثعبان: أستبرد ما حوله، واستمرأ الفساد، وتمسكن حتى تمكن. . .
وعدت ليلتها أجرر أثقالاً من الآثام، ما ألبث أن أتعثر فيها حتى أجهد في إخفاء آثارها في الطريق الطاهر الذي كنت أطويه صبحاً ومساء في قدسية الراهب وبراءة الملاك.
وذاب العمود الفاصل بين الفضيلة والرذيلة أمام عيني. . . نعم ذاب كالثلج، وأحسست بلذعاته تحز في قلبي حتى تجمد في صدري. . . فلم يعد كما كان. . .(888/55)
واعتزلت، وتخلفت عن ركب الحياة أسبوعاً، ورحت أحسد الأحياء وأخبط في الظلام الملتوي المعقد، فتذكرت ذنب الضب الذي قالوا أنه أعقد شيء في الوجود.
وانطلقت ذات صباح إلى شرفتي، أتخفف من أثقال نفسي، فرأيتني كالسمكة تخبط في الشبكة. . . فقد ملأت هذه الفتاة مشاعري، وما إن غابت عن نظري في منعطف الطريق حتى عدت إلى مخدعي بفكر جديد أو قلب جديد. . . وأخذت أرقبها كل صباح ومساء ذاهبة آيبة إلى جامعتها، كتبها تحت إبطها، وعينها إلى الأمام، وكانت في خيالي كالفجر النادي يتمناه قلب شفه السقم، وأضناه الظلام. . . وسميتها (ريحانتي الطاهرة)، وما كان أليق هذا الوصف بمن صحا عليها قلبي بعد غفوة أنسته أحلام الربيع.
وذات صباح، طرق الباب طارق، فإذا بساعي البريد يحمل إليَّ من (حماده) خطاباً، أعتز به، فلا أتسلى عن همومي إلا بتلاوته، وإني لقارئ عليكم قصة أحلامه وأحلامي أودعتها وإياه حطام قلبين ذابا في سراب.
الإسكندرية في 20 أبريل
أخي أنور
أحييك وأرجو لك الخير كله. شاءت الأقدار أن تباعد بيني وبينك، فقد عينت معيداً بجامعة فاروق، وأنا الآن بصدد إعداد رسالة الماجستير في ميتافيزيقا الوجود الذهني،. . . وكنت أظن يا أخي أن الإسكندرية ستلقاني ببحرها الصافي وسمائها الباسمة ونسائمها الرقيقة، ولكنها تنكرت لي، وتجهمت في وجهي، وضاقت بي وضقت بها. . .
أخي: وفاؤك لي. وعطفك علي يدفعانني إلى أن أبثك الآن بعض ما بي لعلي واجد في رحابك ما يزحزح هذا الجبل الرابض على روحي.
أنور: أكتب إليك، وأنا ألقي بنظري إلى البحر من الميناء الشرقي، والعاصفة القائمة تلحفني سمومها، وتعوي أصداؤها كالذئاب، في أحناء ضلوعي، والسماء. . . نعم السماء التي كانت نزهتي في الليل والنهار، تلفعت بالسحاب الأسود، يقطر الدم من حواشيه، وأزهاو الشرفة قد جف ريقها واحترقت أنفاسها، وتبدل شذاها غباراً، (غصة في الحلق). . . لم أعد أطيق المكث هنا. . . ولا تحسبن جديداً في حياتي طرأ على نفسي. . . ولكن. . . ماذا أقول؟ منذ فارقت العمارة، فإن في النفس ذكريات. . . سأذهب إلى الريف أقضي(888/56)
يومين ثم أعود، والسلام،
حمادة
الجيزة في 23 ابريل
تحية الحب والوفاء، وبعد فقد ألمت بي محنة ألزمتني الفراش أسبوعاً، لم أصح منها إلا على خطابك. تلوته، فأفقت مما أنا فيه، ولست أتردد في أن أبعث إليك بخالص شكري على أن خصصتني يبث شكواك.
وإذ يصلك خطابي أرجو أن تكون قد نفضت عن نفسك غبار إعصار فيه نار.
حمادة
عرفتك ذا الوجه المشرق البسام، فلا تكن غير ذلك، وإياك أن تستسلم لأفكار عسى ألا تكون غير أوهام. ألا ترى أني كنت إلى حين تسلم خطابك فريسة لواعج فرت وبرت ما شاء مني، فكنت - بلا مبالغة - كفنار الإسكندرية يبعث نور الأمل لسفينة غارقة في أقباء الحلك.
أخي:
هات ما عندك، وأطرح عليّ بما شئت، فإنما أنت ذخير لا يستهان بها، وثروة في النبوع تزهي بها خزائن المجد. ولست من الهوان على أخيك حتى يتركك لما أنت فيه. وحذار أن تسترسل. وحذار أن تيأس.
أخوك أنور
الإسكندرية في 15 يونيو
ما توانيت في الرد عليك عن قصد، فقد أصبحت كالزورق الحيران لا شراع ولا مجداف، تناوحت به الريح، وتناهبه الأحداث. ولا سيما بعد أن خلوت من أعباء العمل، وصرت شلوا ألقي به إلى ذئب مسعور. تلك هي نفسي الضارية. ويلي منها. لقد صرت أمقتها وأنكرها. أهكذا تنهشني، وأنا الذي روضتها في المهد، فأحسنت ترويضها، فلما استقامت لي لم أحرمها من لذائذ الحلال شيئاً. يالها من خائنة!
أخي:
لن أفضي إليك برماد النار. بل بجذوتها. أرأيت العمارة التي كنا ولا تزال بها أنت. وأنت(888/57)
خارج من بابها إلى يمين. بعد منزل أو منزلين، أرفع بصرك إلى الدور الثاني. الشرفة الدائرة هناك يا أنور سر خفي لا أدري مدى تغلغله في نفسي.
تلك الفتاة كانت زميلتي في الدراسة. وقع عليها نظري فجأة فعرفت الحب من أول نظرة. كانت كالوردة لم تتفتح بعد. وإن الربيع يضفي عليها من الفتنة والجمال ما جعلني أسبح من يومها في بحر لا شطئان له. نتحدث بعد كل محاضرة، فكان لحديثها في نفسي موقع الماء من ذي الغلة الصادي. وما كنت أشعر بالوجود ولا بالزمن بل هي اللهفة تسوقني إلى النبع الصافي، فأرتوي، فما ألبث أن أظمأ من جديد
وكنت أعرض عليها بعض خدمات تقتضيها الزمالة الجامعية. . . فتشكرني بنظرة وبسمة أعدمها غذاء روحي في اليوم كله. . . وضقت بالمجد ذرعا، وسرعان ما انتقلت حياتي من عقلي إلى قلبي. . . من أعماق الكهوف، وأصنام الماضي إلى أحلام الربيع، وألحان الفجر. . . وقلت للمجد: وداعاً، عد. . لا حاجة بي إليك.
ومهدت لزواجي منها بزيارة لها بمنزلها حيث استقبلني خالها، فقد علمت أنها يتيمة الأبوين. وكانت هذه الزيارة لقلبي كالمرهم يهدهد جراحه الصارخة. وفاتحت أمي لأني خجلت من مفاتحة أبي في الأمر، فكان رده بالموافقة على رغبتي عذباً رقيقاً دمعت له عيناي، كالطفل أعطي لعبة هو في شوق إليها. . .
وتقابلنا بعدها، فإذا بي أتحطم على (النظرة الصماء). . . نظرة أودت بالرقة والحنان اللذين كنت ألقاهما منها كل صباح. .
هأنذا لا أطيق ذكرى هذه النظرة بل الصخرة. . . فهل أنا واهم يا أنور؟
حماده
الجيزة في 17 يونيو
أخي حماده
لك العذر في تأخيرك الكتابة إلى، واليوم تسلمت رسالتك فشفت نفسي مما تجد، وعرفت أنك معذب بلقبك الذي لا يطاوعك، وأيقنت أنك ماهر فيما وقع عليه رأيك، وأطمئنك مقدما إلى أني كنت قد عزمت على ما شرعت أنت فيه. وهي في الحقيقة فتاة لها مزاياها. . . ومسلكها مما يرضيك، ويتفق مع وجهتك. . . ولولا وفاة والدي ما أحجمت على مد يدي(888/58)
إليها. . . ولولا ضرورة القدر الذي ذهب بذلك العطر الحبيب. . . لتغيرت دنياي ودنياك. . . لهذا أنصح لك بالتروي والتريث. . . والصبر، فقد أجتاز الأمر دور العاطفة وأصبح في نطاق العقل وحده. . . أرجو أن تحتمل أكثر من صدمة.
أنور
وفي الصيف تقابلنا، فأنكرت ما رأيت من حال (حماده)، وكدت لا أعرفه من فرط ما بدأ عليه من إرهاق وهزال، وبادرني مغتبطاً متمرداً قال: -
أهكذا يا (أنور) تقلب لي ظهر المجن. . . ليتني لم أبح لك بسري. . . لولا أنك كنت تعدني ذخيرة لا يستهان بها، وثروة في النبوغ تزهي بها خزائن المجد. . . اليوم أفلست تلك الخزائن، وذهبت أسطورة النبوغ أدراج الرياح. . .
والتزمت الصمت، وكلفت نفسي عسرا لأصطنع ابتسامة. ولكن دون جدوى، حتى أعرض عني (حماده) وتولى كالعاصفة. ولقد خشيت - إن أنا بحث له بالأمر - أن يقع عليه كالصاعقة، فتأتي على ما تبقى من هيكله المهدود. ولكن آثرت كتمان خبر انتحارها، ورضيت منه بتهمة سوء الظن التي رماني بها رفيق الصبا. . . ولو كان في حطام نفسه بقية لأدرك ما كنت أعني بذهاب العطر الحبيب في خطابي الأخير
ولست أدري بعدها كيف بلغه الخبر، فذهب إلى قصر النيل والتف بذراع الموجة العذراء، وغاب في اليم بتراب الكأس الذي أحترق فيه نبوغ الشباب. . . وهنا تنفس أنور الصعداء. . . وأجهش للذكرى، ثم قال: أما أنا. . . فكتمت السهم في كبدي
محمد محمود زيتون(888/59)
العدد 889 - بتاريخ: 17 - 07 - 1950(/)
حيرة الشباب. . .!
حيرة الشباب، أو محنة الشباب، أو مشكلة الشباب، قضية من قضايانا الاجتماعية التي تشغل الأذهان، وما أحراها أن تشغل الأقلام. . . ولقد عرضت هذه القضية في ساحة زميلة صباحية كبرى منذ أسبوعين أو يزيد، ثم عقب عليها قلم واحد، ثم طويت القضية في بلد كل ما فيه يطوى، ونسيت في وطن كل ما فيه ينسى، وكأن الكتاب والمصلحين في مصر قد يئسوا من جدوى الكتابة حين لم يجدوا أذنا تسمع، فمضوا في طريقهم لا يلتفتون. . . ولا يعرجون!
قالت (الأهرام) وهي تعرض لحيرة الشباب باحثة عن دوافع المشكلة وأسباب المحنة: (أية مثل أو قيم أخلاقية يسعى إليها الشباب في بلادنا؟ هذا هو السؤال الذي يدور بأذهان الجميع اليوم، ويحتارون في الجواب عليه، والشباب أعظم حيرة، فإنهم يرون حولهم من الأحداث والحوادث ما هز في نفوسهم كل ما أستقر فيها من مثل وأفكار وقيم، وهذا هو أخطر ما يصيب شباب بلد من البلاد، أن تبهت في نفوسهم ألوان الأشياء، وتضعف في قلوبهم جذوة الحماسة، ولمعة الانطلاق! إن الشباب يرون حولهم قيم الأخلاق تضعف وتضطرب، والسباق من أجل المال والجاه والنفوذ يملأ العقول والإفهام والصدور، ويدمر في سبيلها كل ما هو جليل وسام وأخشى ما نخشاه أن يعديهم هذا السباق، فيحسبوا أنه المقصود بكل ما في الحياة من مثل وقيم وأخلاق. فعلى من تقع التبعة وكيف يكون إعداد شبابنا للمستقبل الذي نرجوه لبلادنا؟
إن الجيل الذي نشأ في سنة 1919 وما قبلها وما تلاها بقليل كانت تسيطر عليه مثل وتجذبه أهداف وتغريه تضحيات. . . كان جيلاً كله إيمان وصبر ورجاء، لم يكن عبد الشهوات ولكنه كان عبد المثل العالية والوطنية الرفيعة. فما هي مثل جيلنا؟ ما هي المثل التي تستهوي شباب سنة 1950، وأية مثل يرونها وأية تضحيات تقر في نفوسهم قيماً عالية لحياتهم كأفراد وحياة بلادهم كمجموع، وحياة العالم كامتداد لحياة الإنسانية جمعاء؟
هذه هي المشكلة الحقيقية وهي مشكلة الجيل كله. . . أين المفكرون والباحثون والدعاة بعهد جديد؟ أين الرواد في حقل التقدم والنظر في المستقبل؟ لكل جيل رواده وأفكاره ومثله، فأين رواد جيلنا وأفكاره ومثله؟ هل نحن أمة ترسم مستقبلها وتعبئ قواها وترسل طلائعها، أم أننا أمة نعيش بالصدفة وللصدفة، تنتظر من الحوادث أن تهزها وتنفي عنها البلادة(889/1)
والسكون؟ وعلى من تقع المسئولية في هذا. . هل تقع على الشباب أم على القادة؟ ومن المسئول عن تحطيم المثل والقيم العالية في هذه البلاد، هل هم الشباب أم القادة والزعماء؟
لقد اشتهر الشرق واشتهرت مصر منذ أقدم عصورها بأنها بلاد القيم الروحية، فأين ضاعت هذه القيم، ومن المسئول عن ضياعها؟)
هذه فقرات مقتطفة من مقال (الأهرام)، فيها تحليل صادق لقلق الشباب وتصوير ناطق بحيرتهم، ومقارنة عادلة وغير عادلة بين جيلين: جيل الأمس القريب وجيل الحاضر المشهود. . . والحق أن الصحيفة الكبرى لم تعد الواقع في كل ما نعتت به هذا الجيل من انحراف عن طريق المثل، وتنكر لمعاني القيم، وتنصل من تحمل التبعات والتضحيات!
ترى من يجادل في هذا كله والشباب يندفعون أمام أعيننا مع تيار المادة، وينغمسون في أعماق الشهوة، ويعيشون لأنفسهم لا للغير، وينظرون إلى الحاضر وليس للمستقبل في تقديرهم حساب؟ أين شعلة الإيمان بالنفس والإيثار للتضحية والأمل في الجهاد. . . من أطفأها في عقولهم وأخمدها في قلوبهم وتركهم يتخبطون في مجاهل الظلام؟ هذا الجيل الذي أحاطت به العواصف فزلزت عقيدته في كل ما هو سام وجميل، كيف اضمحلت قوته فلم يصمد، وانهارت عزيمته فلم يقاوم، واضطربت موازينه ففقد القدرة على الحكم الصائب والنظر الثاقب والتمييز بين ما هو ضار ومفيد؟!
من المسئول عن هذا كما يقول (الأهرام)؟. . . من المسئول عن تحطيم المثل الرفيعة والقيم العالية في هذه البلاد؟ هل هم الشباب أم القادة؟ سؤال ينتظر الجواب، ومع ذلك فالجواب ماثل للخواطر مثول السؤال نفسه، متكشف للإفهام تكشف المشكلة بكل ما يكتنفها من شتى المظاهر والأوضاع! لقد قارنت (الأهرام) بين جيلين وخرجت من المقارنة بتفضيل أحدهما على الآخر: من هذه الزاوية ننظر وعند هذه المرحلة من مراحل المشكلة نقف، لنبحث عن المسئول. أي الجيلين يشرف على صاحبه، وبوجهه، ويرشده إلى الطريق القويم؟ أي الجيلين يمسك بعضا القيادة، ويقبض على دفة الأمور، ويحمل المشعل ليبدد ما تراكم في جوانب النفوس من ظلمات؟ جيل الأمس القريب بلا جدال. . . الجيل الذي تخلى عن تأدية الواجب وتنحى عن تبليغ الرسالة، وأنصرف عن مهمة الأشراف والتوجيه!(889/2)
لو أمسك جيل الأمس بعضا القيادة كما يجب أن تمسك، وحمل مشعل الهداية كما ينبغي أن يحمل، لسارت أمور الشباب كما يشتهي لها المصلحون أن تكون. . . أليس القادة الحقيقيون من ذلك الجيل الذي نعنيه؟ أليس منهم الوالد الذي يضع منهج التربية في محيط البيت، والأستاذ الذي يحدد معاني الخير في رحاب المدرسة، والزعيم الذي يرسم طريق الجهاد في نطاق المجتمع؟ كل هؤلاء قادة، وكل هؤلاء من الجيل المتهم بالتقصير في حق هذا الجيل الذي تلاه. . . وهكذا تبدو النتائج واضحة في ضوء المقدمات!
ولقد قلنا إن المقارنة بين الجيلين كانت عادلة وغير عادلة. . . عادلة من وجهة النظر التي تقول لك: إن جيل الأمس القريب كانت تسيطر عليه مثل وتجذبه أهداف وتغريه تضحيات. ولقد كان ذلك بفضل الجيل الذي سبقه ومهد لوجوده وصهره في بوتقة التجارب ولم يبخل عليه بالتقويم والتهذيب. ولكنها غير عادلة حين نقارن مرة أخرى بيم ما لقي شباب الأمس من رعاية وبين ما قلي شباب اليوم من إهمال. . . وما أفدح التبعة الملقاة على عاتق الفريق الأول حين نحاسبه على تلك الدروس القيمة التي ورثها عن الأباء، ثم نسى أن يدفع بها إلى رءوس الأبناء!!
ومع ذلك فنحن لا نعفي شباب اليوم من التبعة حين يكون لهم من تحملها نصيب. . . ونصيب الشباب من التبعة يتمثل في أعراضهم عن حب القراءة والإطلاع وإقبالهم على فنون اللهو والمتاع. لو كانوا يقرءون لأدركوا في صحبة الكتب ما لم يدركوه في صحبة القادة، من آراء تأخذ بيدهم حين يحتاجون إلى العون وأفكار تسدد خطاهم حين يفتقرون إلى الثقة، وتوجيهات تلهب مسعاهم حين يعوزهم الإيمان. . . ولكنهم لا يقرءون، ولو قرءوا لتطهرت نفوسهم من أدران القلق والحيرة، وتجددت في شعورهم قيم الخلق والكرامة، واستقرت في أعماقهم مثل الحق والخير والجمال
وماذا يفعل المفكرون والباحثون والدعاة بعهد جديد، وأمور المتعلمين تعترض طريق الدعوة المخلصة وتحول بينها وبين منافاة العقول والأسماع؟!
ا. م(889/3)
صور من الحياة:
قلب أب!
للأستاذ كامل محمود حبيب
وعقد أبوك العزم على شأن يخصكم به - يا صاحبي - ليكون كفارة الزلة التي أرتكب على حين غفلة منه في اليوم الأسود، فدفعكم جميعاً إلى المدينة، إلى المدرسة. وأبتسم في رضى وهو يراك تتأنق في البذلة والطربوش وعلى وجهك سيما الخيلاء والزهو، وطرب حين ألفاك تختال في كبرياء وصعر. ولدى باب الفصل وقف أبوك يودعك وهو يقول (الآن - يا بني - أصبحت رجلاً تتلقى العلم وتسوس الدار وتحفظ أخويك وتدأب على العمل وتندفع إلى الغاية التي أصبو إليها. وهذا مالي ومالكم يهيئ لكم الحياة الكريمة والطعام الطيب والمسكن الجميل واللباس الجديد، وبين يديك الخادم الذي تناديه فيلبي وتأمره فيطيع. وإن بينك وبيني ساعة أو بعض ساعة فاكتب لي دائماً برغبات روحك وحاجات نفسك، لا تخفي عني شيئاً. . .) وودعك وفي عينيه عبرات ترقرق وفي قلبه وجيب يضطرب
وبدا للفتاة الحمقاء - زوجة أبيك - أن الدار قد خلت لها فاهتزت أعطافها من أثر النشوة والطرب، وراحت تتقرب إلى زوجها - أبيك - بأساليب شيطانية، وقد غاب عنها أن الأب لا يبيع أولاده بالثمن الغالي؛ ولكن قلب الرجل كان قد اطمأن فهدأت الثورة المضطرمة التي اجتاحته حيناً من الزمن، فاستقرت الحياة في الدار هوناً ما.
ومرت السنون تؤج فيك روح الرجولة القوية السامية، الرجولة التي تدفقت في نفسك يوم أن أحسست بالصفعة العنيفة تلطمك في جفاء وقسوة فتفزعت عن الدار والأب والأهل جميعاً؛ فعكفت على الدرس لا يصرفك لهو ولا تشغلك لذة ولا تلهيك متعة، وما في خيالك إلا أن تتسم الذروة فتبذ أهلك وذوي قرابتك، وما في رأيك إلا أن تنعم في القرابة بالاحترام وتستمتع بالسمو. وأبوك من ورائك يدفعك بالنصيحة ويزودك بالعطف، يلمس نوازع نفسك الطيبة فتطمئن أبوته وترضى، ويرى رغبات روحك السامية فتسكن مخاوفه وتهدأ، ويشهد فيك النزعة الجياشة إلى الرفعة فتسعد نفسه وتستقر
وجلست - ذات مرة - إلى أترابك، وأنت في سن الشباب، تحدثهم حديث الفاجعة التي(889/4)
مهدت لك السبيل إلى العلم والعقل. وترامي خبر الحديث إلى أبيك فابتسم في صمت، وأحس أن عاملين يتعاورانه في شدة وعنف. . . عاملين من الأسى والضيق، وقد تيقظت فيه الذكرى الحزينة - ذكرى اليوم الأخير فزلزلت جوانبه، لأنك تذكر الحادثة التي كان يطمع أن تكون قد نسيتها.
وتصرمت عوام الدراسة في غير وناء ولا بطئ، فإذا انتم ملء العين، ملء السمع، ملء الفؤاد، وإذا أبوكم الشيخ ينتشي يوم أن تخرجتم في الجامعة. . . ينتشي نشوة عارمة تنفث فيه روح الشباب الذي ولى منذ زمان، فيزهو في غير تحرج ويفخر في غير رزانة
آه، يا صاحبي، إن الحادثة السوداء ما تبرح وخزاتها تعتمل في قلبك الرقيق فتحول بينك وبين أبيك، رب الدار التي ضمتك في حنان ونشأتك في عطف، فتنطوي عنه إلا حين تصبو إلى عطفه فنطير إليه لتنثر على عينيه معاني الاحترام والمحبة، فترضى نفسه ويطمئن قلبه، وتسعد أنت باللقيا الحبيبة حين تراه يرفل في الصحة والعافية، وينطوي هو عنك إلا حين يدفعه الشوق إلى بنيه، زهرة العمر وفرحة القلب ونور الحياة، فينطلق إليك لينفتح أمامه باب دارك الأنيقة يستقبله في كرم ووفاء، في حب وإخلاص
وتصرمت الأيام على نسق فيه الهدوء والراحة، وفيه الاطمئنان والسعادة؛ لم تشبه حادثة ولم يعكره شجن؛ إلا يوم أن جاءت رسالة من أبيك تقول (. لست ادري، يا بني، وما يشغلك فيصرفك عن أن تزورني، على حين أني ارقب زورتك في شوق ولهفة، وما منعني عنك إلا أنني أعاني داء عضالاً يقعدني عن الحركة والنشاط. ولقد ظننت بادئ ذي بدء - أن الغمرة لا تلبث أن تنجلي وأن السقيم يوشك أن يبرا، فكتمت عنك الخبر خشية أن أفزعك بالخبر أو أن أعنيك بالسفر أما الآن وقد عز الدواء وطال أمد الداء، فلا معدي لي عن أن أكتب إليك علي أجد في رؤيتك شفاء الداء أو راحة الضمير. .)
وتلاقي الأخوة الثلاثة الذين صقلهم وشذبتهم التجربة. تلاقوا لدى سرير أبيهم المريض. وما أجمل الوفاء والرجولة والتضحية وقت الشدة!
ورأيتم - يا احبي - إلى جاب المريض سداً منيعاً يطمعأن يرد عن الرجل الواهي غائلة العلة ويجهد أن يدرأ عنه سقام البدن، لا يدخر الوسع ولا يضمن بالجهد؛ وهو بينكم يرمقكم بنظرات فيها الحنان والشكر.(889/5)
وجاء الطبيب يعلن رأي العلم فقال (لا بد من أجراء عملية جراحية فنظرت في ثبات وقوة وتقبلت الخبر المفزع بشجاعة وصبر.
واسر إليك أبوك بذات نفسه فقال (هاك، يا بني، مفتاح الصندوق الذي ينضم على وفر الشباب وذخيرة العمر، أحفظه معك ليكون مالي بين يديك. .)
فقلت وأنت ترد له المفتاح (لا عليك اليوم، يا أبت، فمالي كله فداء لك)
قال (لا ريب، يا بني أن الأيمان حين يتغلغل في القلب يصل بينه وبين السماء بخيوط من نور تدفعه عن الأرض وتجذبه إلى السماء فتصفو روحه فتستشف أشياء من وراء الغيب لا تستطيع الروح الترابية أن تسمو إلى شئ منها، وأنا من بيت فيه الدين والأيمان فلا عجب إن استشفت روحي أن النهاية تدنو مني رويداً رويداً)
قلت والعبرات تترقرق في محجريك (لا باس عليك، فما هي إلا غمرة توشك أن تنجلي)
قال (مهما يكن في الأمر من شيء فلا بد أن تأخذ هذا المال قبل أن تمتد إليه يد فتعبث به أو تبعثره)
وأصر هو وأصررت أنت، ولكن يدك لم تصل إلى قرش واحد من أبيك، عفة وسمواً
ووضع الطبيب المشرط ثم رفعه، فأحس أبوك أن الشيخوخة الفانية تتهاوى رويداً رويداً، فخلا إليك يحدثك حديثاً خافتاً فيه سمات الضعف والإعياء، قال (الآن - وأنت رجل وأب ورب أسرة تستطيع أن تفهم نوازع الأب وتقدر معنى الآصرة التي تشد بين قلب الأب وأبنه - أكشف لك عن أمر عاش في مسارب دمي عمراً يربى على العشرين سنة، يخزني في قسوة ويؤرقني في عنف، وأنا أكتمه في خلايا قلبي لا أستطيع أن أتحدث به لرجل من الناس خشية أن تتحطم في ناظريه كرامتي أو أن تتضع في نفسه كبريائي. ولكن لا أحس غضاضة في أنثره على سمعك ليبلغ نبضات قلبك وليتغلغل في خفقات روحك أتذكر، يا بني، يوم الحادثة السوداء، يوم أن أمرت فرفع الطعام من بين يديك - أنت وأخويك - أحوج ما تكونون إليه؟ فأنا منذ ذلك الحين وأنا لا أفتأ أفزع بالأسى وأروع بالحسرة لأنني طاوعت نفسي فأسلست لفتاة خرقاء في غير أناة ولا روية. ولطالما نازعتني نفسي إلى أن اكشف لكم عن خلجات ضميري وخطرات قلبي، لأتخفف من عبء ثقيل أرهقني طويلا، غير أن أبوتي الشامخة كان تترفع عن أن تهبط إليكم لقد أحسست الزلة التي ارتكبت على(889/6)
حين غفلة مني فأردت أن أكفر عنها فأرسلتكم إلى المدرسة لأرى فيكم الرجولة والسمو والتفوق، ولأنأى بكم عن دفعات الغيرة المضطرمة في صدر زوجتي، وها أنتم قد بلغتم الغاية التي كنت أصبو إليها، فهل تراني غسلت عن نفسي درنها؟)
فقلت أنت في رقة (وهل كان لنا، يا أبي، أن نجحد فضلك أو ننكر أبوتك؟ هذا أمر كان ثم مسحه عطفك الفياض ومحته أبوتك السامية)
قال (ولكنه طالما أقض مضجعي وأزعج نفسي)
قلت (هون عليك، فهذه الذكرى التافهة تزيد من وطأة المرض. أما نحن فلم نجد لذع الحادثة منذ أن أحسسنا عطفك وحنانك)
قال وقد هده الإعياء والجهد (رضيت، يا بني، رضيت)
وحين هوى أبوك تحت ضربات المرض القاسية تشبثت به وتشبث هو بك، واختلطت عبرة بعبرة وخفق قلب لقلب وتعانقت زفرة وزفرة ثم أسلم أبوك الروح بين يديك وأنت تعانقه في شوق وتبكي في مرارة. تعانقه وتبكي في غير شجاعة ولا صبر.
فيالقلب، يالقلب الأب!
كامل محمود حبيب(889/7)
من تاريخ الثورة الفرنسية
الإرهاب وقانون المشبوهين
للأستاذ محمد محمود زيتون
كان اغتيال لويس السادس عشر ملك فرنسا في 21 يناير سنة 1793 إيذاناً بتقدم الثورة الفرنسية نحو غايتها من غير تراجع وفي هذا المعنى يقول المؤرخ (لودج) ما معناه أن الثورة باغتيال لويس السادس عشر قد حطمت جميع العناصر خلفها وحكم المتطرفون البلاد؛ وتألفت (لجنة الأمن العام) وانتشرت فروعها لمواجهة الخطر الداخلي والخارجي معاً، ورأت اللجنة ومعها (المؤتمر الوطني) أن الإرهاب الوسيلة الفعالة لتثبيط همم المعارضة، بإشاعة القلق والاضطراب في صفوفها، وإرغام البلاد على التسلح ضد الأجنبي عن طريق الخوف حتى لقد قال (بيوفاءن) يجب أن يرف من الآن سيف داموقليس، قال (شومت) (فلنتخذ الإرهاب نظامنا اليومي) أي فلنجعله نظام الحياة اليومية.
وبدأت لجنة الأمن العام تسن القوانين إزاء العبث بالنظام والغلاء المستحكم. ففي 17 سبتمبر أعلنت اللجنة قانون المشبوهين وفي 17 من نفس الشهر أذاعت قانون التسعير الجبري بعد أن هددت المجاعة باريس التي لم يعد للحم وجود في أسواقها، حتى كان من الظريف أن يقترح (فرينو) على اللجنة أن تسن تشريعاً يسمى قانون الصوم الوطني بحيث يسري على فرنسا كلها
وكانت المهمة الأولى للجان الفرعية للأمن العام ملاحظة المشبوهين، وإعطاء الأوامر بالقبض عليهم واعتقالهم بينما كانت (محكمة الثورة) تنعقد في (قصر العدالة بباريس لمحاكمة هؤلاء المشبوهين محاكمة مشمولة بالنفاذ العاجل. ويتألف قانون المشبوهين من اثنتي عشر مادة تنص الأولى منها على كل من ينطبق عليه شرط الاشتباه، وإن كان بصفة عامة ينسحب على كل من لم يفعل شيئاً لصالح الحرية، ولو لم يفعل شيئاً ضدها (والثورة والحرية مترادفتان في عرف الإرهابيين حينذاك ويكون مشبوها كل من تلبس بواحدة أو أكثر من الأحوال الآتية:(889/8)
مناهضة الثورة ومبادئها وتثبيط الهمم عن طريق الخطب والتصريحات والأحاديث في النوادي والمجتمعات العامة.
تشويه الثورة في الأذهان بإثارة آلام الشعب ومصائبه تلميحاً أو تصريحاً أو بنشر الشائعات عن سوء الحال أو بإبداء الحسرة والأسى على مصائر الأمور.
التلون في القول والعمل حسب تغيير الأحوال.
إبداء الأسف على الشدة التي حاكمت بها الثورة كل متلاعب بالأسعار وفق الأسعار التي تفرضها اللجنة على الزراع والتجار والصناع المنتجين.
مخالطة أنصار الملكية والنبلاء والمعتدلين أو من على شاكلتهم سواء كان ذلك سراً أو علناً خصوصاً من كان يجري على ألسنتهم ذكر الحرية والجمهورية والإخاء والمساواة.
التشكيك في دستور الجمهورية أو التهوين من شأنه وتوقع الفشل له.
القعود عن مناصرة الثورة ومبادئها أو على الأقل الوقوف منها موقف الحياد.
وكانت الملكة (ماري أنطوانت) أولى ضحايا هذا القانون فقد نزعت من أولادها الذين سجنوا في المعبد وحجزت هي أكثر من شهرين فيما يشبه الكهف في قصر العدالة، وحكم عليها بالإعدام بعد محاكمة استمرت أكثر من عشرين ساعة ونفذ الحكم فيها بعد ساعات.
والضحية الثانية (بالي) عمدة باريس الأسبق وتلته الضحايا تباعا سراعاً، ومن بينهم (دوق أورليان) الذي عارض اللجنة وقرن أسمه باسم المساواة، ورفع عقيرنه بالاحتجاج على اغتيال قريبه لويس السادس عشر.
وكانت ضحايا هذا القانون الإرهابي لا تقع تحت حصر سواء في باريس أو في غيرها. ففي (ليون) كانت المساجين يقتلون كل مائتين معاً، وفي (نانت) أطلقت لجنة عسكرية رصاصها على أكثر من ألف وخمسمائة سجين، واستعان (كارييه) بعصابة من السفاكين واللصوص على إغراق حوالي خمس آلاف سجين في نهر (اللوار) بدون محاكمة، وذلك في مدى بضعة أشهر وكان منهم ثمانمائة في ليلة واحدة. وألقيت الجثث في بحيرة (نانت) التي أصبح ماؤها مسمما، فاضطرت البلدية منع بيع السمك. هذا والجيش يدفع عن حدود البلاد كل خطر، وعند ذلك رأى (دانتون) وهو من مضرمي النار. أن حركة الإرهاب أصبحت غير ذات موضوع وأنه قد آن الأوان للعودة إلى (عهد القوانين والعدل بين(889/9)
الجميع) ووافقه صديقه ورفيقه الخطر (كامي دي مولان) ومن ثمت تألف حزب المتسامحين أو (المعتدلين) منهما وممن لف لفهما ودار في فلكهما.
وقام في وجه هذا الحزب حزب آخر هو حزب (المسعورين) الذين لم يشبع سعارهم هذا العدد الهائل من الاغتيالات، فأعلنوا عن تنظيمات جديدة للإرهاب وبدأ يقوضون المذهب الكاثوليكي تحت معاول النظرات الفلسفية وقلبوا كل شيء رأساً على عقب؛ حتى الأيام والأسابيع وأسماء القديسين والقديسات استبدلوا بها أسماء الفواكه والزهور والخضروات المذكورة في الأعياد الدينية، وقرروا أن كل من يتسول أو يتعطل في أيام الآحاد والأعياد المسيحية يكون مآله السجن، وطالبوا بخفض أبراج الكنائس لأنها (تتعارض مع مبادئ المساواة إذ تتعالى على سائر المباني) وهددوا كل عبادة ليبنوا على أنقاضها (دين العقل)
وفي 10 نوفمبر احتفلوا بعيد (الحرية والعقل) بكنيسة نتردام ورمزوا لدينهم الجديد بإحدى راقصات الأبرا وعملوا لها تمثال (مريم العذراء) ولم تنقض أيام حتى أغلقت كل الكنائس وطرد القساوسة الذين رفضوا اعتناق دين الثورة وعقيدة الإرهاب
غير أن لجنة الأمن العام أخذت في مطاردة المسعورين في الأقاليم بلا هوادة، وأطلق دانتون على خزعبلاتهم هذه أسم (مساخر لا دينية) وتدخل الطاغية الجبار (روبسبيير) ليضع لهذه المساخر حداً إذ رأى الخطر محدقاً بالمجتمع من جرائها فما كان منه إلا أن شجع (المعتدلين) على التكتل ضد (المسعورين) وإن كان لا يزال ينطوي على أشد انفعالات المقت والحقد لكمي دي مولان. فهو الذي يقلل من انتشار صيته وذيوع إسمه؛ وهو الذي جرح كبرياءه وغروره، وهو الذي يقف حجر عثرة في طريق مطامحه السرية.
لهذا عزم على هدم الحزبين معاً، فلما كان يوم 5 أبريل كانت المقصلة قد أطاحت برأس دانتون، فلم يعد أمام روبسبير من يكبح جماحه، ويصد طاغوته.
ومضى الإرهاب قدماً لا يلوى على شيء ليصل إلى غايته المرسومة له منذ كان وهي خنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
ومن العجيب العاجب أنهم كانوا يرون في الإرهاب نظاماً يمهد لعهد (الفضيلة) أما المقصلة كما يقول (أولار) فقد استخدمت من أجل تصليح النفوس وعاد هذا النظام المزعوم على (روبسبير) بفائدة مزدوجة إذ تخلص من كل من يقلق باله ويعكر صفوه، كما أنه أصبح(889/10)
يثق في تزايد شهرته منذ ذلك اليوم الذي حطم فيه نظاماً بغيظاً عند الشعب كله، وهو الملكية
ومنذ 8 يونيو، وهو يوم عيد الكائن الأسمى نكست من طراز أعلام الإرهاب والارهابيين، ومع ذلك فإن أنصار روبسبيبر كانوا يعدونه محمد بني الإسلام وكرمويل لأن الفضيلة التي أرادها لفرنسا قد ضمنت (دين الدولة الرسمي)
احتفلت فرنسا بأول عيد للكائن الأسمى سار موكبه من (قصر التوبليه) إلى (الشان دي مارس) وتصدره روبسبيير في ثوب أزرق سماوي، وأمسك بباقة من الزهور والسنابل وأحد القساوسة ينشد، والجوقة تردد دعاءه (يا رب العالمين يا من وسعت كل شيء علماً) وأشعل روبسبيير النار في صنم الكفار.
وابتليت فرنسا بطراز عنيف من الإرهاب سمي الإرهاب الأكبر أستمر سبعة وأربعين يوماً انتهى بسقوط روبسبيير في 7 يوليو؛ وقد أحصيت فيه تحت المقصلة 1376 رأساً منهما (لاقوازبيه) الذي طلب مهلة حتى يتم إحدى تجاريبه العلمية فأجابه القاضي (ليست الجمهورية بحاجة إلى كيميائيين).
واقتيد المتهمون من غير تحقيق أو تثبيت من شخصياتهم حتى لقد كان الفتى يشنق باسم الكهل. وكانت الرءوس تتساقط كالحجارة كما يقول (فوكيه تانفيل) وبانتصار فرنسا على بلجيكا أعلن زوال الخطر الخارجي مما زاد في كراهية الشعب للارهاب، خصوصاً منذ نودي على روبسبير في ساحة المحكمة (فليسقط الطاغية) الذي لم يستطع حيله في الدفاع عن نفسه بعد أن قيل له في وجهه (إنك كرمويل الجديد) وعبثاً حاول أن يبرر أعماله ويضفي على نفسه لقب (عبد الحرية) و (الضحية الحية للجمهورية)
وأستمر الإرهاب عشرة أشهر انتهى بعدها يوم أطاحت المقصلة برأس روبسبيير الذي أجج النيران الحامية وكأنما كان صوت الشعب ينادي: (يا مضرمي النار أصبحتم لها حطباً)
ومن ثم بطل قانون المشبوهين وقانون التسعير الجبري وغيرهما من القوانين، وقام الحزب الملكي الجديد، وأخذ الإرهاب لو جدنا يداً إذ حل الإرهاب الأبيض محل الإرهاب الأحمر الذي ذهب بالدم القاني وأمتزج بماء الأنهار والبحيرات(889/11)
وكان هذا اللون الإرهابي الجديد كرد فعل طبيعي للوحشية السابقة. فأقلق ذلك لجنة الإنقاذ العام. وأتاح لها فرصة اتخاذ سياسة المقاومة في سبيل الجمهورية. فوقفت (ضد ستورد السنة الثالثة) الذي قصد به بطلان دستور سنة 1793 ذلك الدستور الذي وضعته للجمهورية لجنة الأمن العام؛ ولكنهم لم يعملوا به بل أوقفوه وقفاً تاماً واكتفوا بنظام الإرهاب وما تبعه من قوانين
ومع ذلك انهارت آمال الملكيين الذين توسلوا إلى استرجاعها بالعنف، وبالإعلانات ينشرونها في الشوارع: أيها الشعب الفرنسي أسترجع دينك ومليكك تظفر بالسلام والخبز
وفي 5 أكتوبر سنة 1795 تحرك الجيش وقوامه عشرون ألفاً وفي الغد كان نابليون بونابرت - ذلك القائد الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين - قد أستدعي ليكون حاكم باريس، فعاد الأمن إلى نصابه. ولم تغرب شمس يوم 26 أكتوبر حتى أعلنت لجنة الأمن العام أنتهاء أعمالها، بينما كان الهتاف يشق عنان السماء (لتحي الجمهورية)
محمد محمود زيتون(889/12)
صوم رمضان بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
وإذا طوينا النواحي العلمية لصوم رمضان وأقبلنا نتحسس صداه في الشعر ونتلمس أثره في الأدب العربي وجدنا رمضان عبئاً ثقيلاً على الشعراء المتحللين من قيود الإسلام الأدبية وإن كانوا اسماً في ربقة المسلمين، أقصد أولئك الشعراء الهائمين في وديان الغرام وراء الجواري والغلمان المترددين بكثرة على حانات الخمور ومواخير الفجور، قال أبو نواس يهجو رمضان ويتبرم من ظله الثقيل على أهوائه:
إلا يا شهر كم تبقى ... مرضنا ومللناكا
إذا ما ذكر الحمد ... لشوال ذممناكا
فياليتك قد بنت ... وما نطمع في ذاكا
لقد كان رمضان كابوساً على الشعراء السادرين في بيداء الضلالة الهائمين وراء اللذات في كل واد، ساحقين في سبيل متعتهم كل القيود الأدبية. ولم يقتصر عليهم ثقل الصوم فهناك نفوس لا تتحمل الجوع ولا ترضخ لهذه الرياضة النفسية والجسمية فتثور في وجه التقاليد وتعلن تمردها على أحكام الصوم ومن ذلك ما قاله أعرابي ألزم بالصوم في مدينة جاء يزور أقاربه فيها فلم يطق الصوم وأرتحل وهو يقول:
يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم ... تهيأ أبا عمرو لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام
فبادرت أرضاً ليس فيها مسيطر ... على ولا مناع أكل طعام
وقال إعرابي آخر حضته امرأته على الصوم فأباه:
أتأمرني بالصوم لا رد درها ... وفي القبر صوم يا أميم طويل
روى ذلك ابن قتببة الدينوري في عيون الأخبار. ولكن الشعراء الذين قيدتهم التربية الإسلامية وزجرتهم عن مهاوي اللهو والباطل والمغريات بالفساد كانوا يرحبون بهذا الشهر الذي فيه تدريب النفس وضبطها وكبح جماحها ففي غالية المواعظ لنعمان الألوسي قال شاعر يرحب برمضان:
قد جاء شهر الصوم فيه الأمان ... والعتق والفوز بسكنى الجنان(889/13)
شهر شريف فيه نيل المنى ... وهو طراز فوق كم الزمان
طوبى لمن قد صامه واتقى ... مولاه في الفعل ونطق اللسان
ولكن هذه الأبيات أشبه بكلام الفقهاء منها بشعر الشعراء. وشاء أبو نواس أن يشارك أهل الزهد في هداهم كما تبرز في ميدان الفسوق وفاق الخلعاء في غوايتهم وتهتكهم، ورغب تلميذ ولبة بن الحباب أن لا تخلو من سابقة حلبة شعرية فترك في التقوى والورع أبياتاً سيارة تنافي ما أشتهر عنه من فساد الطريقة، فمن ذلك ما رواه أبو هفان من أن العتابي لما تنسك نهي أن ينشد شعر أبي نواس فأظله شهر رمضان فدخل إليه رجل معه رقعة فيها
شهر الصيام غدا مواجهنا ... فليبهجن رعية النسك
أيامه كوني سنين ولا ... تفني فلست بسائم منك
فكتب العتابي البيتين وقال وددت أنهما لي بجميع ما قلته من طارفي وتليدي، فقال الرجل أنهما لأب نواس فمزق الرقعة ورمى بها. وكان أبا نؤاس بعد أن أغترف من معين اللذات بكلتا يديه عافها وزهد فيها زهد الملل والسأم لا زهد الورع والعفة فمال عن الدنيا وهو يردد بيتيه السائرين:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت مرح اللهو حيث أساموا
وبلْغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام
وفي ديوان أبي نواس باب واسع للزهد بحثت فيه عن هذين البيتين الذين أعجب بهما العتابي فلم أجدهما، وليس هما بالجودة التي تسبغها عليها القصة فلعلهما من وضع القصاصين قاصدين الغرابة والطرافة. ولقد صادف عنف أحكام المجتمع الإسلامي في رمضان على الشعراء المتمردين على الآداب العامة - رد فعل قوي فيهم فنتج أدب ثائر صاخب على هذا الكابوس الذي حال بينهم وبين ما يشتهون ومنعهم من الاندفاع في تيارات لهوهم ومعاقرتهم اللذات، ففي عصر ازدهار الحضارة الإسلامية يصرخ أبو نواس في بغداد عاصمة الخلافة العباسية ويصخب صائحاً ممزقاً ثوب ريائه الشفاف:
منع الصوم العقارا ... وزوى اللهو فغارا
وبقينا في سجون الصوم ... للهم أسارى
غير أنا سندارى ... فيه من ليس يدارى(889/14)
نشرب الليل إلى ... الصبح صغاراً وكباراً
وإذا غاب فتى ... منا شربنا (اليادكارا)
نتغنى ما اشتهينا ... هـ من الشعر جهارا
أسقني حتى تراني ... أحب الديك حمار
وقوله شربنا (اليادكارا) هذه الكلمة فارسية ومعناها الذكرى أي شربنا نخب الذكرى للغائب. . . لكن أبن المعتز يتراجع عن الحان ويرد السقاة على أعقابهم احتراماً لقدسية رمضان ويقول:
ونهاني الصيام عن سفه الكأ ... س فردت على السقاة المداما
فإذا تولى شهر حرمان النفس من شهواتها يهب ابن المعتز مصفقاً طرباً بحبيبته الخمر ويقول مبتهجاً:
أهلا بفطر قد أنار هلاله ... الآن فاغد على المدام وبكر
وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
ويشاركه القاضي الفاضل في فرحته بالعيد فيقول:
قضى تحبه الصوم بعد المطال ... وأطلق من قيد فتر الهلال
فدع ضيقة مثل شد الأسار ... إلى فرجة مثل حل العقال
وقم هائها مثل ذوب النضار ... وموج البحار وطعم الزلال
ويتبعهما بعد أجيال وقرون شوقي شاعر مصر بالأمس فيتغنى فرحاً بتخلصه من غل رمضان:
رمضان ولى هائها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كان أكثره على ألافها ... وأقله في طاعة الخلاق
بالأمس قد كنا سجيني طاعة ... واليوم من العيد بالإطلاق
ضحكت إلى من السرور ولم تزل ... بنت الكروم كريمة الأعراق
ويذكرني حنين الشعراء إلى الخمر في هذا الشهر المبارك الذي تحارب فيه الموبقات ووسائل الفساد بما نقله محمود شكري الألوسي في (بلوغ الأدب في معرفة أحوال العرب) من أن العرب في جاهليتهم كانوا يكثرون في شهر رمضان من شرب الخمر لأن الذي(889/15)
يتلوه هو شهور الحج التي يمتنعون فيها من السكر وكانوا يعتبرون رمضان أول شهور السنة وبه يبدؤنها ويسمونه (ذيمر) ولم يعدم المجتمع الإسلامي من الظرفاء من يتماجن متحدياً أحكام رمضان الصارمة فقد قال بعض الأدباء مستفتياً الفقهاء مازحاً هازلاً وعلى سبيل الدعابة:
هذا رمضان كلنا نخشاه ... من أجل الصيام
ما قولك يا فقيه في فتواه؟ ... عجل بكلام
من بات معانقاً لمن يهواه ... في جنح ظلام
هل يفطر عندما يقبل فاه ... أم صام تمام؟
فأجابه ظريف آخر لابساً طيلسان الفقهاء:
يا من سأل الفقيه في فتواه ... الشرع فسيح
إسمع لكلامنا وخذ معناه ... إن كنت فصيح
من بات معانقاً لمن يهواه ... إن كان مليح
لا يفطر عندما يقبل فاه ... بل صام صحيح
قال أبو هلال العسكري في (ديوان المعاني) كتب الحسين بن وهب إلى الحسن بن رجاء يوم شك وقد أفطر الواثق:
هززتك للصبوح وقد تهانا ... أمير المؤمنين عن الصيام
وعندي من قناني الخمر عشر ... تطيب بهن دائرة المدام
فكن أنت الجواب فليس شيء ... أحب إلى من حذف الكلام
وقال آخر:
أقول لصاحبي وقد بد لي ... هلال الفطر من تحت الغمام
سنسكر سكرة شنعاء جهراً ... وننعر في قفا شهر الصيام
وقال محمد الجعفري:
هل لك في صهباء مشمولة ... ليست من الدبس الذي ينبذ؟
فإن شعبان على طيبه ... درب إذا فكرت لا ينفذ
وقال أحمد بن يزيد:(889/16)
إلا فاسقياني من معتقة الخمر ... فلا عذر لي في الصبر أكثر من شهر
وإن كنتما لم تعلما فتعلما ... بأن زمان الصوم ليس من العمر
وحدث الصولي قال كتب علي بن جبلة إلى أبي دلف يستسقيه نبيذاً في يوم عيد الفطر فوجه إليه بما كفاه وبمائتي دينار فقال علي بن جبلة:
وأبيض عجلي رأيت غمامة ... وأسيافه تقضى على الحدثان
مددت إليه ذمتي فأجارها ... وأغنى يدي عن غيره ولساني
شربت ورويت النديم بماله ... وأدركت ثأر الراح من رمضان
وكان لشوال على ضمانة ... فكانت عطايا جوده بضمان
وقال أعرابي:
وجدنا دينكم سهلا علينا ... شرائعه سوى شهر الصيام
ويحدثنا الفرزدق الشاعر أن التبرم برمضان كان حتى في العصر الأموي على قرب عهدهم بصاحب الرسالة، وطبعاً أن ذلك الضجر كان من فساق المسلمين لا من أولئك الذين كانوا يتفانون في حب الجهاد حتى فتحوا شرق الأرض وغربها وأذلوا أقوى الأمم شوكة وأمنع الناس بلاداً وأكثرهم حصونا.
قال الفرزدق:
إذا ما مضى عشرون يوماً تحركت ... أراجيف بالشهر الذي أنا صائمه
وطارت رقاع بالمواعيد بيننا ... لكي يلتقي مظلوم قوم وظالمه
فان شال شوال نشل في أكفنا ... كؤوس تعادي العقل حين تسالمه
أشال الشيء رفعه وحمله قال أبو هلال العسكري في كتابه (ديوان المعاني) الذي فرغ من تأليفه سنة 395 هـ - ومعاني هذه الأبيات كلها مبتكرة لم يسبق إليها الفرزدق. قال وأنشدنا أبو أحمد عن الصولي عن الرياشي عن أبيه:
وقفنا فلوك أننا راضنا الهوى ... لهتكنا عند الرقيب نحيب
ومن دون ما نلقاه من لوعة الهوى ... تشق جيوب بل تشق قلوب
على أن شوالا أشال بوصلنا ... ومرتعه للعاشقين خصيب
وأنشد أبن بسام قوله يشكر رمضان إذ ساعده انشغال الناس فيه بالعبادات ففاز بأوطاره(889/17)
وأختلس من يهواه:
سقيا لشهر الصوم من شهر ... عندي له ما شاء من شكر
كم من عزيز فيه فزنا به ... أنهضه الليل من الوكر
ومن إمام كان لي وصله ... غلى كحيل العين بالسحر
لو كان يدري بالذي خلفه ... أعجله ذاك عن الوثر
وخلة زارتك مشتاقة ... في ليلة القدر على قدر
فأنصرف الناس بما أملوا ... وبؤت بالآثام والوزر
وأنشد المبرد للحارثي:
شهر الصيام وإن عظمت حرمته ... شهر طويل بطئ السير والحركة
يمشي الهوينا إذا ما رام فرقتنا ... كأنه بطة تنجر في شبكه
لا يستقر فأما حين يطلبنا ... فلا سليك يدانيه ولا سلكه
كأنه طالب ثأراً على فرس ... أجد في إثر مطلوب على رمكه
يا صدق من قال أيام مباركة ... إن كان يكنى عن أسم الطول بالبركة
وسليك وسلكة من عدائي العرب المتهورين والرمكة الفرس فالحارثي هذا يشكو ثقل رمضان وبطء سيره لأنه يكرهه وأعاب آخر على الناس ما يبدون من الرغبة وانقضاء رمضان وتصرمه وفي مروره بعجل التعجل بانتقاص أيام عمرهم
مضى رمضان محموداً ووافى ... علينا الفطر بقدمه السرور
وفي مر الشهور لنا فناء ... ونحن نحب لن ثفنى الشهور
وقد قال في نفس المعنى الشاعر الآخر
يسر المرء ما ذهب الليالي ... وكان ذهابهن له ذهاب
وعسانا أطلنا الحديث وشغلنا قراء (الرسالة) الغراء بالتحدث عن رمضان الذي شغل الأدباء والشعراء طوال العصور الإسلامية ولقد بقيت في نفوسنا بقية من الحديث عن رمضان ترجلا إلى العام المقبل فإلى الملتقى
بغداد
ضياء الدخيلي(889/18)
الطبيب المتمرن في المستشفى التعليمي سابقاً(889/19)
دفاع عن الشعر الجاهلي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
كثرت في العصر الحديث مقالات الأدباء والنقاد في الزراية بالشعر الجاهلي، وتنقصه، ورميه بالقدم والجمود، والدعوة إلى تركه والانصراف عنه؛ وعيبه حينا بخلوه من الشعر التمثيلي والقصصي، وحينا بتفككه وعدم وجود وحدة للقصيدة في آثاره الفنية الباقية، وباضطراب معانيه وعدم تمثيله إلا للبيئة البدوية الجاهلية وحدها، وحينا آخر يرمونه من ناحية الصياغة واللفظ والنظم بأكثر مما يعاب به شعر قديم أو حديث.
وقد حمل لواء هذه الدعوات أدباء كان نصيبهم من دراسة الأدب العربي أو الأدب الجاهلي وحده محدوداً ضئيلاً؛ وآخرون قرءوا الأدب الجاهلي فلم يطربوا له، ولم يرتاحوا إليه، ولم يفهموه حق الفهم؛ وفريق آخر تدفعه إلى ذلك الشعوبية الحديثة التي نرى نظهرها باديا في تنقص كل ما هو عربي أو قديم والتعصب لكل ما هو غربي أو حديث.
ولا شك أن في أكثر آرائهم جوراً في الحكومة الأدبية وإسرافاً ومغالاة كثيرين. (فلكل شعر جيد - كما يقول الدكتور طه حسين بك في الأدب الجاهلي - ناحيتان مختلفتان، فهو من ناحية مظهر من مظاهر الجمال الفني المطلق، وهو من هذه الناحية موجه إلى الناس جميعا مؤثر فيهم، ولكن بشرط أن يعدوا لفهمه وتذوقه؛ وهو من ناحية أخرى مرآة يمثل في قوة أو ضعف شخصية الشاعر وبيئته وعصره، وهو من هذه الناحية متصل بزمانه ومكانه؛ فازدراء الشعر الجاهلي غلو ليس أقل إمعانا في الخطل من ازدراء الشعر الأجنبي)
إننا لا ننكر أنه تحول دون فهم الشعر الجاهلي وتذوقه صعوبات كثيرة، أهمها صعوبة لغته وأسلوبه وبعد الأمد يصور البيئة العربية القديمة وألوان الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي ومشاهد الطبيعة والوجود إبان ذلك العهد البعيد. ولكن ذلك لا يمكن أو لا يصح أن يصرفنا عن هذا الجمال الفني الرائع الذي نجده في الشعر الجاهلي. فضلاً عما فيه من تخليد لآثار الحياة العربية الأولى وأحداثها ومظاهر التفكير فيها. ومع ذلك كله فإن الشعر الجاهلي أقوى دعامة للعربية وحفظها وخلودها بعد القرآن الكريم.
فهو من حيث أنه صورة من صور الفن والخيال والجمال، ومن حيث أنه أساس الثقافة الأدبية والعربية؛ لا يمكن لذلك ولغيره أيضاً الاستغناء عن هذا الشعر القديم ونبذه وراءنا(889/20)
ظهريا
في الشعر الجاهلي جمال، وهو أيضاً لا يخلو من هنات؛ وفيه روعة، وإن كنا لا نبرئه من العيب، ومع ذلك فإننا نستطيع أن ندرس المذهب الفني الذي يمثله الشعر الجاهلي، وأن نتعرف خصائصه وعناصره لنرى إلى أي حد يصح أن نجاري هؤلاء وهؤلاء من النقاد والمتعصبين على الشعر الجاهلي القديم، وإلى أي مدى يصح أن نسير في الدفاع عنه؛ فذلك اقرب إلى العدالة الأدبية في البحث والمناقشة.
أول ما نعرفه من خصائص الشعر الجاهلي البساطة والصدن والوضوح وعدم التكلف أو الإغراق في الأداء. وهذا شيء يسلمه النقاد للشعر الجاهلي تسليما، ويجزمون به؛ وهو ما يدفعنا إلى الإعجاب به واللذة الفنية حين نقرؤه ونستمع إليه، ولا يمكن أن يكون في ذلك ما يدعو إلى التهوين من شأنه، فالجمال أو أحد أسبابه لا يدعو إلا إلى الإعجاب والحب والمتعة. بل إن هذه الميزة الواضحة في الشعر الجاهلي هي نفس ما يدعو إليه نقادنا المحدثون ودعاة التجديد في الأدب العربي الحديث؛ (بعد أن أبعدوا المحدثون الشعر عن البساطة والإخلاص، وهما الصفتان اللتان كانتا حسناً له) كما يقول الدكتور ضيف.
ويمتاز الشعر الجاهلي أيضاً بالزهد في المحسنات وألوان التزيين الفني؛ وهذه سمة عالية عليه. وأدباؤنا المحدثون لا يزالون يدعون إلى هذا المذهب، ولقد كان الشعر المصري الحديث في أول نهضته مثقلاً بقيود الزخرف البديعي الموروث عن العصر التركي والعثماني وأواخر العصر العباسي، إلى أن أثر النقاد على ذلك المنهج ودعوا إلى الخلاص من آثاره، حتى برئ الشعر الحديث من عاهته، وسار طليقا إلى غاياته. وقد ظهرت في الآدب الأوربية أيضاً صبغة الزخرف الفني في العصور الوسطى، كما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر، وفي الأدب الإنجليزي بعد عصر اليصابات. أفنقول بعد ذلك إن الشعر الجاهلي يعاب لهذه الحسنة الظاهرة، ويزدري لذلك الفضل الظاهر؟
ومن خصائص الشعر الجاهلي متانة الأسلوب وقوته وجزالته وأسره؛ وللبيئة البدوية أثر بعيد في ذلك، وقد سار المحدثون في العصر العباسي على هذا النهج حيناً، وحيناً آخر أغرقوا في العذوبة والسلامة والسهولة إلى ورثوا بعضها عن العصر الأموي ومدرسة(889/21)
الغزليين التي شاعت فيه. وقد دافع بعض النقاد عن الجزالة والقوة كما دافع آخرون عن العذوبة والرقة، ووقف آخرون يحددون مواقف هذه ومواقف تلك كابن الأثير في المثل السائر وسواه، ولكن العصور الأخيرة كانت تعد العذوبة ضعفاً من الشاعر وميلا منه إلى العامية، وبهذه النظرة كانوا يحكمون على شعر البهاء زهير الشاعر المصري المشهور، ولكننا نقول للناشئين: ربوا ذوقكم الأدبي، وارهفوا مشاعركم الفنية، وتأثروا في حياتكم ومذاهبكم الأدبية بالحياة والحضارة التي تعيشون فيها، وستدركون بأنفسكم الحقيقة الأدبية في هذه المسألة الفنية. ولا شك أن عذوبة الأسلوب وسلاسته يجب أن تبرز في إنتاج الشاعر وفنه، لأثر الحياة والحضارة في نفسه؛ ومع ذلك فهذه العذوبة والرقة يجب ألا تنقلبا ضعفاً وعامية، وأن توشي بألوان من الجزالة في مواقف خاصة تستدعيها حياة الشاعر ونفسيته قبل كل شيء؛ كما يجب ألا تنقلب الجزالة حوشية وإغرابا وتعقيداً عند الشعراء الذين يحافظون على الجزالة. وأحسب أن شعراءنا المعاصرين الذين يتكلفون الألفاظ اللغوية الكثيرة البعيدة في قصائدهم إنما يفعلون ذلك تقليداً فحسب وفي مطلع حياتهم الفنية التي يكثر فيها الناشئون من التقليد؛ ولو كانت قصيدة - نهج البردة لشوقي مثلا - قد صيغت في أسلوب عذب رقيق سهل عن أسلوبها التي صيغت فيه، لكان أثرها الأدبي أعظم في نفس الأمة وذوقها ومشاعرها الأدبية، ونحن على أي حال لا يمكن أن نعيب الشعر الجاهلي لجزالته، فقد رأيت موقف النقاد من الجزالة وإعجاب الكثير منهم بها ودفاعهم عنها؛ فوق أنها أثر من آثار البيئة في الشعر الجاهلي.
ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضاً القصد إلى المعنى في إيجاز ويسر وقلة إطناب. ولا شك أن العصور الأدبية التي تلت العصر الجاهلي وتعددت فيها ألوان الثقافات ومظاهر الحضارات قد أبعدت الشاعر عن هذا الاتجاه، ودفعته إلى الإطناب وشتى ألوان التصوير؛ ووقف النقاد حيال ذلك طوائف: طائفة تدعو إلى الإيجاز وتراه البلاغة والبيان، وطائفة تشيد بالإطناب وترى فيه جمال الفصاحة وروعة التصوير، وأخرى تحدد للإطناب مواضع وللإيجاز مواضع كقدامة في نقد النثر وأبن سنان في سر الفصاحة. ونحن لا نقول للشاعر المعاصر: آثر الإيجاز أو اعمد إلى الإطناب؛ وإنما نقول: إن أساس الجودة الفنية أن تؤدي معانيك في رفق ويسر وقلة فضول. وفي الآداب الغربية الآن مذاهب تدعو إلى القصد في(889/22)
التصوير البياني والاكتفاء بشرح الأفكار الجديدة وحدها وترك ما عداها.
للبحث بقية
محمد عبد المنعم خفاجي
المدرس في كلية اللغة العربية(889/23)
في الشعر السوداني
الطبيعة
للأستاذ علي العماري
كنت كتبت منذ عام أبحاثاً في الشعر السوداني واتجاهاته وطبيعته ثم حالت ظروف دون إتمام هذه البحوث. والآن نستأنف الكتابة في هذا الموضوع، ونبدأ بالحديث عن تصوير الشعر السوداني للطبيعة السودانية.
الأدب طابع الأمة وصورة حياتها، ومظهر عواطفها، واتجاهاتها، وسجل تقليدها وعاداتها، وهو المميز لها (إن صدق) عن كل أمة أخرى غيرها، وتظهر فيه أرضها وسماؤها وجدبها ونماؤها؛ وشرها وخيرها، وحلوها ومرها. ولكثير من الأمم نوع من اللباس أصيل فيها ورثته عن القرون البعيدة، ويعرف في كل أمة باللباس الوطني لها، وتستطيع لأول نظرة إذا كنت خبيراً - أن تدرك وطن اللابس من ملبوسه، وأن تعرف جنسه من زيه، وكذلك الأدب ولا سميا الشعر، إذا استوحى فيه الشعراء بيئاتهم، ولم يقلدوا فيه غيرهم، كان صورة صحيحة لبلادهم، ومميزاً واضحاً لهم، وإذا كنت تجد من الثياب ما يصح لأكثر من واحد من الشعوب فكذلك تجد من الشعر، فأنت تقرأ مثلا قول الشاعر:
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تأوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب
فيقع في نفسك، بل تكاد تجزم أن هذا شعر سوداني، أو على الأقل يقوله شاعر يعيش في السودان. مع أن قائله شاعر نجدي
والطبيعة من أخص الأمور التي تصبغ أدب الأمة بصيغتها وتطبعه بطابعها، فليس من الممكن أن يكون الشاعر الذي عاش في صحراء يضرب فيها ممسياً ومصبحاً، وتروعه وحوشها ويلذعه حرها، وينتجع فيها مواطن الماء ومنابت العشب، كالشاعر الذي يعيش على شاطئ بحر أو نهر. يتنسم النسمات العليلة، ويروى من صور الآفاق والأرض والناس ما لا يرى صاحبه، ولن يختلط الشاعران أحدهما بالآخر إلا إذا خرجا عن دائرة الشعر الأصيل إلى دائرة الشعر التقليدية، حق الكلمات ودلالتها لها آثار بعيدة المدى في طبع شعر الأمة بطابعها. فكثير من الشعوب - مثلا - يعتبر الخريف فصل الجدب تتجرد(889/24)
فيه الأغصان، وتذبل الأزاهير، وتخلو الأرض من النبات، ولذلك يقولون للرجل إذا بلغ أقصى العمر أنه في خريف الحياة، ويقصدون من ذلك أن ما كان فيه من شباب وقوة ذهب ولكن الشاعر السوداني الذي يصدر عن عاطفة منساقة مع شعور قومه ومعبرة عما يختلج في حياتهم من خضب ونماء لا يستطيع أن يعبر عن الخريف إلا أنه شباب الزمن وفصل الحياة والنمو. كما عبرت عنه الشاعرة البدوية السودانية فجعلت فيه (الطبيعة الصامتة) والجمال الحبيب. فهذا السحاب يحثم في الشرق مؤذنا الأرض بعودة شبابها الأخضر. أو هو قد آذنها أمس وقبله، ويؤذنها الليلة بواكف مدرار. وتلك هي دجاجة الوادي ترجع كعادتها في الخريف إلى بيضها تحتضنه لتهب له الحرارة والدفء، ونقيق الضفادع يعلو في المشارع والمناهل، وأولاد الإبل تعدو مسرعات خلف أمهاتها فرحا بالخريف واستبشاراً به) وهذا في الحق تصوير رقيق لمظاهر الخريف ومباهجه التي تسري في الإنسان والحيوان على السواء.
ولسنا نعني من شعر الطبيعة أن يقول الشعراء - فقط - في المناظر الطبيعية التي تتراءى لهم في بلادهم، ولكنا نقصد أن تكون عواطفهم واتجاهاتهم مطبوعة بطابع هذه المناظر فنجد تشبيهاتهم وتخيلاتهم مستمدة من حياتهم؛ ولست تقضي العجب من هذا الشاعر الذي يتنقل بين (دادي هور) و (وادي كتم) و (صحراء العتمور) و (حدائق المقرن) ثم لا يذكر في شعره ألا ألبان والعلم والخيف من منى ووادي العقيق.
والشعر السوداني شعران: شعر الخاصة: والشعر القومي. والنظر الفاحص في شعر الخاصة يهدينا إلى أنه كغيره من شعر الأمم الشرقية مشدود إلى الشعر العربي بأربطة وثيقة ولا تكاد تجد له استقلالاً عنه. وإذا كان الشعر في بعض البلدان تحلل من تقليد الشعر العربي القديم فإنه لا يزال في السودان حفياً به مقتفياً أثره، متتبعاً خطواته، فالشعراء يبدون قصائدهم بالغزل كما كان يفعل القدماء ويقفون على الأطلال والدمن، ويستوقفون الأصحاب كما وقف القدماء واستوقفوا. . . وهكذا
وبطبيعة الحال لا تعدم في هذا الشعر الكثير الشاعر الصادق والشعر المصور فقد يصف الشاعر رحلته على الناقة، كما وصف القدماء، ويقف على الأطلال كما وقفوا، وهو مع ذلك صادق لأنه؛ مر بهذه التجارب الشعورية، وعاش فيها حيناً من الزمن فهذا الشاعر(889/25)
السوداني حين رحل إلى وادي هور (وهو أسم واد غرب السودان، وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة) رحل على ناقة لقي معها من عنت السفر أو مشقة الطريق ما لقي ولا شك أنه حين وقف على هذه الآثار فاضت عبراته. وتدفق شعوره، فصور ما وقع له، لم يقلد فيه غيره، ولم يصدر عن غير عاطفة، وهذا ما عرفناه من تاريخ حياته قال يذكر حبيبه:
لم أنسه إذ زارني ... منه خيال ما أستقر
زار الرحال وبيننا ... سير على البيد عسر
إيجاف شهر للمطى ... تخوض في كثب عفر
وسرى ليال لم تذق ... طعم الكرى حتى السحر
سبحان ربي أمين وا ... دي النيل من دادي هور
وادي الجحاجحة الالي ... عمروه في خالي العصر
وعواصم القلوم الذ ... ين بذكرهم تحلو السير
زرت الربوع فخانني ... صبري لذكرى من غبر
ما كان لي كبدا لسلو ... ولا فؤاد من حجر
بخل الجفون على ثرى الغا ... دين من إحدى الكبر
وهذا الشاعر معرم بوصف بلاده، وقد قال في كثير منها، وأشبه شعره بالشعر العربي قصيدته في (مليط) وهي مركز من مراكز درافور؛ ولا نتهمه في شعوره بل إننا نقول أنه مع هذا النهج القديم صادق الشعور.
حياك مليط صوب العارض الغادي ... وجادوا ديك ذا الجنات من وادي
أنسيتني برح آلامي وما أخذت ... منا المطايا بإيجاف وإيخاد
كثبانك العفر ما أبهى مناظرها ... أنس لدى وحشة رزق لمرتاد
فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ... ذيل السحاب بلا كد وإجهاد
وأعين الماء تجري من جداولها ... صوارما عرضوها غير إغماد
والورق تهتف والأظلال وارفة ... والريح ترفع ميادا لمياد
وقد نجد الشعراء المحدثين يتجهون اتجاهاً قومياً وإن كان بعضهم ترك الأفق الشرقي(889/26)
عامة، واتجه بعواطفه وميوله وشعره إلى أفق آخر لا يستقيم معه أدبنا. وعندي أن الأدب كالدين، فمن ترك ديننا فقد كفر بالله من ترك أدبنا فقد كفر بالوطن. وهؤلاء الشعراء المحدثون ينظمون - أحيانا. . في مناظر بلادهم. وللشاعر التيجاني يوسف قصيدة في جزيرة (توني) وهي جزيرة تقع بين الخرطوم وأم درمان خصيبة التربة. طيبة الهواء، وصفها الشاعر فأجاد، ومن قوله فيها:
يادرة حضها النيل ... واحتواها البر
صحا الدجى وتغـ ... شاك في الأسرة فجر
وطاف حولك ركب ... من الكراكي أغر
وراح ينفض عينيه من ... بني الأيك حر
فماج بالأيك عش ... وقام في العش دبر
كم ذا تمازح فن ... على يديك وسحر
يخور ثور وتثغو ... شاة وينهق حمر
وألبهم تمرح والزر ... ع مونق مخضر
تجاوب اللحن والط ... حن والثغاء المسر
وهب صوت النواعير ... وهو في الشجو مر
وكلها - وهي طويلة - على هذا النحو من التصوير الناطق والتعبير البسيط.
أما الأدب القومي فهو صورة صحيحة للحياة السودانية الطبيعية، ففيه الأحاديث الطوال عن السحائب الغر، التي تجود عليه بالمطر، وعن الأشجار الباسقة من سرح وسدر وجميز، وعن ضفاف النيل. وموارد الغدران والأودية، وعن الأطيار الساجعة فوق أغصانها؛ والظباء النافرة في فتن الجبال والغابات. ولنكشف هنا بمثال واحد يصور لنا أوائل الخريف وكيف أستقبله الناس والأنعام وكيف اهتزت به الأرض وربت. سأل أحد السجناء من أهل البطانة شاعرهم الحردلو عن أخبار مسقط رأسه وملعب صباه. وكان الحردلو شاعراً بدوياً مجيداً وله في الأدب القومي شأن أي شأن (وسنفرده ببحث خاص إن شاء الله) فأجاب صاحبه قائلا:
الخبر الجا قالوا البطانة أرشت ... وسارية تجود حتى الصباح ما أنفشت(889/27)
هاج فحل أمصر يصر والمنايح بشت ... ديت أم ساق على حدب الجميل انعشت
فالشاعر يجيب صاحبيه بأن الخبر الذي جاء والنبأ الذي وصل إليه خبر جميل طيب. قالوا البطانة أرشت، والبطانة المكان الواقع بين النيل الأزرق والانيرا وفيه مراع واسعة، وكانت فيه قديماً مملكة مروى الشهيرة في التاريخ، والآن ينزله أثناء الخريف عرب الشكرية والبطاحين والضباينة والجمران. والبطانة مشهورة بالخصب. والشاعر جاءه الخبر أنها أرست ونزلت فيها الأمطار. وأن سحابة مملوءة بالماء جاءت عليها طوال الليل وطلع عليها الصباح ومع ذلك فلا يزال فيها المطر الغزير (وسارية تجود حتى الصباح ما انفشت) فسرت الحياة في الأرض، ومشى البشر في نفوس الحيوانات، وبدأت علائم الخصب ونزعة الإنتاج في الأرض والحيوان سواء بسواء، فاهتاج الجمل للقاح (هاج فحل أمصر بمصر وهوت إخلاف النوق بفيوض من اللبن الحبيب (والمنابح كشت وكست الأعشاب أديم الأرض، حتى لتتعشى البكرة التي عبر عنها الشاعر ببنت أم ساق وأم ساق كناية عن الناقة وهي تكنية جميلة جداً. هذه البكرة تتعشى من الأعشاب المحيطة بالمنازل ومن عادة الفصلان ألا تتوغل في المزارع والأعشاب، وتكتفي بأن ترعي قريباً من المنزل، فإذا كان العشب القريب يكفي لعشائهم فمعنى هذا أن الخصب قد عم، وهذا ما أراده الشاعر.
ولو قيض لهذا الأدب القومي السوداني من يدرسه دراسة وافية، ويقف عند مواطن الحسن فيه لجاء الأدب واللغة بخير كثير.
(يتبع)
على العماري
مبعوث الأزهر بالسودان(889/28)
تطور الشعر العربي
التجديد بين البارودي وشوقي
للأستاذ حنفي داود
مضى الشعر حقبة طويلة من الزمن مهملاً، كان في أكثره لا يمثل ما وضع له: من تمثيل للشعور وتصوير لخلجات النفس وأحداث الحياة. فكان إبان عصري المماليك والأتراك أشبه بالحرفة المتبذلة منه إلى الفن الجميل الذي تهواه النفوس وتحن إليه الأفئدة، ومن أجل ذلك كانت هذه الفترة من حياة الشعر العربي تعد فترة ركود أو كمون إن صح هذا التعبير.
وإذا كان الأدب عامة والشعر خاصة يمثل التفاعل الوجداني بين الشاعر من ناحية وبين البيئة والزمن الذين يعيش فيهما من ناحية أخرى، فإن العملية الفنية التي يصدر عنها الشعر كانت مقطوعة الدائرة، مهلهلة الأوصال، ذلك لأن البيئة الأدبية في عصري المماليك والأتراك لم تكن من القوة المهيئة للفن في شيء فلم يكن حكام هذا الزمان ورجال الشأن في ذلك الوقت يشجعون الشعراء أو يحمدون ما يقدونه إليهم من قصائد يجودونها ولعل ذلك لا يقتصر على عجزهم على إدراك معاني الشعر، زهدهم عن التمدح به، فقد كانت اللغة التركية اللغة الرسمية للدولة تحتل الصدارة في هذه البيئات. كما كان الشعراء - وهم الذي يمثلون الطرف الثاني من حلقة التفاعل - محدودي الثقافة بسبب ضعف الحياة العلمية إغلاق أبوابها في وجوههم، وزهد المماليك والأتراك فيها واستهانتهم بها.
وفي أوائل القرن التاسع عشر أنسلخ العالم الشرقي من هذه الحقبة المظلمة وأستقبل عصراً جديداً هو عصر محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة، فأعاد للبيئة الشعرية في مصر خاصة والشرق العربي عامة ما كان لها من قوة ومجد، ووصل ما بين الحياة الأدبية قديماً وبين الحياة في عصره، ومن هنا رأب هذا الصدع وسد هذا الفراغ حيث شجع العلماء بالإكثار من البعوث العلمية والأدبية إلى الممالك الأوربية كما شجع طلبة العلم: بفتح المدارس ومساعدتهم على مواصلة تعليمهم. وبهذا استطاع محمد علي أن يجدد الحياة العقلية، وبالتالي أن يخلق أجواء جديدة من الحياة العلمية والأدبية في الشرق العربي. فنال الشعر ما نال غيه من تطور، وكان أن ظهر بعد ذلك - صدى لهذا الإصلاح - جماعة من الشعراء كان البارودي أنبههم ذكراً وأعظمهم شأناً وأحسنهم في عالم الشعر وتاريخه نسجاً(889/29)
وقدراً.
وأختلف النقاد حول مجدد الشعر في هذا العصر فقال جماعة: أنه البارودي بلا منازع. وقال آخرون: إن الشعر لم ينل حظه من التجديد إلا عند شوقي. واختلفت الأقوال في ذلك وتبلبلت أحكام النقاد، وكان مرد هذا التبلبل اختلافهم في مقاييس الحكم. والمنهج العلمي لا يعني بالتجديد الأبتر، بل يريد بالتجديد في الشعر كل ما يمسه من تصوير يتناول أنواعه، وأغراض تتناول موضوعاته، وأساليب تعالج ألفاظه وأخيلته، وما يأتي تباعاً لذلك من عواطف صادقة، ومشاعر حساسة.
نحن نؤمن أن للبارودي وشوقي آثاراً تجديدية في الشعر العربي لا يمكن إنكارها، ويكفيها قوة أن يعرضها المنهج العلمي في صورة تجريبية لا تقبل الجدل. ونحن في هذا نعرض الرجلين في ضوء المنهج العلمي لنحكم لها أو عليهما مقررين ما لكل من آثار في التجديد.
فقد استفاد البارودي من الشعر الجاهلي فأطلع على تراثه وقرأ في تضاعيف كتبه فأحيا ما لحقه من موات وما أصابه من بوار وكساد في السوق الأدبية. وقد كان الشعر العربي في هذا العصر مقبوراً مهجوراً لا تحيط به إلا بطون الكتب، وكان الشعراء في ذلك العصر لا يعنون بدراسة مسائله أو الانتهال من بحاره الزاخرة ومنابعه الأولى. فجاء البارودي واستطاع بثاقب فكره وثقافته العريضة أن يبعث الشعر العربي القديم من مرقده وأن يخرجه من مكمنه وبذلك أعاد للشعر سابق صولته وأهدى إليه عنفوانه وقوته ويكفينا دليلا على ذلك ما نقرؤه في ديوانه من قصائد في الفخر ومقطوعات في الرثاء ونتف في الغزل وشذرات في الوصف استطاع بها أن يكون أكبر مقلد للقدماء وأعظم مجود لأغراضهم بعد أن مضت عليهم عصور سحيقة وأزمان طويلة.
ويكفي أن تقرأ له هذه الأبيات في الفخر لتعرف كيف أوفى على القدماء في فخرياته حتى كاد يبز عمرو بن كلثوم، ومنها:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسطانه البدو والمغيرة والحضر
من النفر الغر الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر
إذا أستل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
فأنت ترى كيف جارى البارودي القدماء. ومع ذلك فلم يكن في تقليده مفلساً أو معيباً، ذلك(889/30)
لأن الصبغة التقليدية كانت قوية في نفسه، فامتدت عدوى التقليد من طريقة التفنن في الأغراض إلى عناصر القصيدة نفسها. فتراه يقتفي آثار الجاهليين - في صناعة الشعر فهو يبدأ قصائده بالغزل كما يبدءونها وينطلق في عناصر القصيدة ولا ينسى فيها الفخر بنفسه كما كانوا لا ينسون أنفسهم.
ونحن لا نعتبره مقلداً صرفاً لسببين: أولهما: الإجادة في أغراضه ومطابقتها لواقع الحياة. وثانيهما: أن نفسه - لما فيها من استعداد وراثي، ولما يحيط بها من أجواء دافعة - أشربت أساليب هؤلاء الشعراء حتى صارت طريقة البارودي أشبه بمشاعر الجاهليين المنبعثة من النفس بلا قصد ممجوج وتكلف ممقوت
ومن هنا نقضي بما قضي به المنهج العلمي: أن البارودي بعض الشعر الجاهلي من رقدته وإن لم يجدد فيه.
فماذا فعل شوقي؟
حين تقرأ لشوقي تحس أن التجديد قد بدا واضحاً في شعره، ذلك لأنه استطاع أن يتحلل من قيود الشعر الجاهلي ومن تقاليده العتيقة فهو ولا يبدأ القصيدة بالغزل كما بدأ القدماء وفعل البارودي، وهو لا يجعل الفخر منتهى همه ومبلغ مزاجه الأدبي كما فعل أسلافه، بل يضرب بإجادته في أطباق الشعر جميعاً وهو في ذلك فضلاً عن تحرره مبتدع، أمين على أساليب الشعر: فهو يسير في (وحدة القصيدة) على طريقة قويمة - يرتضيها المحدثون - فلا يقسم القصيدة أجزاء مفككة لا تآلف بينها، وتستطيع أن تلمس ذلك في وصفه (لحادث دنشواي) فهو حين تحدث عنه تكلم عن كل ما يتصل بهذا الحادث، ذكر الحادث، وذكر شهداءه، وذكر ما قاساه أبناء دنشواي من استعباد، وماجر إلى ذلك من ويل وثبور وتنكيل بالمظلومين فقال:
يا دنشواي على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا ... هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم في اللحود أهلة ... ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل بعد رجالها ... وبأي حال أصبح الأيتام
عشرون بيتاً أقفرت وانتابها ... بعد البشاشة وحشة وظلام(889/31)
فأنت ترى كيف وصل ما بين الأبيات في موضوع واحد هو (دنشواي) وهكذا إلى آخر هذه القصيدة. لا يكاد يخرج عن هذا الموضوع قيد أنملة كما أننا لا ننسى أن في شوقي عنصر خطيراً آخر من عناصر التجديد هو - الشعر التمثيلي - فقد استطاع شوقي بحسن ثقافته وسعة اطلاعه وبراعة تذوقه للأدب أن ينقل إلى الشعر العربي لونا جديداً من ألوانه وأن يطعمه بهذه التمثيليات التي تعد عنصراً دخيلاً في الشعر العربي، وقد كاد أن يكون خلوا منها اللهم إلا شذرات وخطرات جاءت فيه عفو وهي شاذة - والشاذ لا حكم له -
هذه التمثيليات قائمة على الحوار الشعري ومنها تمثيلية (كليوباترة) و (علي بك الكبير) و (مجنون ليلى) وغيرها.
وهذه البدعة الحسنة التي أستنها شوقي لا تزال سنة يحتذي بها الشعراء من بعده مكثرين ومقلين وخاصة المجيدين منهم؟ وبعد هذا كله لا يسعنا إلا أن نقول إن البارودي استطاع أن يبعث الشعر العربي من رقدته الطويلة، بينما استطاع شوقي أن يجدد فيه حتى ساير الشعر الغربي الحديث في كثير من شعابه ونواحيه
فماذا بعد شوقي من تجديد؟؟
(للموضوع بقية)
حنفي داود(889/32)
رسالة الشعر
محاورة:
بين ريح وشجيرة
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
مرت الريح علىحقـ ... ل، وفي الحقل شجيره
فاستقرت عندها حيـ ... نا، وقالت بعد فترة:
يا ابنة الحقل انظريني ... تنظري في الحقل حره
ليس لي مثلك قيد ... أشتكي لله أسره
خبريني يا ابنة الليـ ... ل، ويا أخت النهار
خبريني أي نفع ... لك في هذا القرار؟
كيف ترضين بعار الـ ... قيد، أو ذل الإسار؟
لم لا تحيين مثلي ... حرة في كل دار؟
أنا أعلى منك شأناً ... أنا أسمى منك قدرا
هل يساوي العبد من عا ... ش مع الأيام حرا؟
والذي عاش اختيارا ... دونه من عاش قسرا
إن للخالق في رفـ ... عة يعض الخالق سرا
أنا أطوي الكون براً ... وأنا أطويه بحرا
وأنا أصعد حتى ... ترجع الأبصار حسرى
ولقد أهبط حتى ... لا يرى غيري مقرا
إن هذا الكون داري ... وأنا بالدار أدري
أنا أمضي كيفا شئـ ... ت يمينا أو شمالا
ولقد أمضي جنوبا ... ولقد أمضي شمالا
ولقد أعصف حتى ... يرجف العصف الجبالا
ولقد أسري فما يو ... قظ مسراي الرمالا(889/33)
إنني أسري مع الليـ ... ل، ولا أخشى الظلاما
إنني أمشي على السهـ ... ل، وأجتاز الأكاما
كم تخذت الروض دارا ... وذرى البيد مقاما
غير أني لم أقم في ... موضع إلا لماما
إنني أحيا كما أهـ ... وى، وتحيين سجينه
أملأ الكون غناء ... بينما أنت حزينه
وقريباً سوف تطويـ ... ك يد الموت المكينه
ثم ماذا؟ ثم تبقـ ... ين مدى الدهر دفينة
هكذا حالي: غناء ... وانطلاق وبقاء
بينما حالك: صمت ... وقيود وفناء
إنني والله أرثي ... لك، لو يجدي الرثاء!
فاذرفي الدمع على حا ... لك، لو يجدي البكاء!
قالت الخضراء بنت الـ ... حقل في صوت رزين:
يا ابنة الآفاق يا حيـ ... رى بآفاق السنين
انظري حالك إن كنـ ... ت لحالي تأسفين
واذرفي الدمع على نفـ ... سك، لو يجدي الأنين،
إنني أحيا هنا في ... ذلك الحقل أميره
ليس يؤذيني عناء السير ... في الدنيا الكبيرة
كل ما أبغيه يأتي ... من يد الله القديرة
إن يكن ذلك أسراً ... فانأ نعم الأسيرة!
إن طلبت الماء لي ... رغبتي ماء السماء
أو أدرت النور حيتـ ... ني تباشير الضياء
أو رغبت الظل ذاب ... النور في ظل المساء
فلي الري الذي أهـ ... وى، ولي خير الغذاء
إنني نفع لغيري ... كسنا الشمس المنير(889/34)
فأنا أنشر ظلي ... وارفا وقت الهجير
فينام المتعب الحران في ظلي الكبير
وتغني الطير أسرا ... باً على شط الغدير
إنني ظل ظليل ... وثمار مشتهاة
أنا عش الطير تقضي ... فيه أيام الحياة
وأنا أحيا بدنيا ... ي كما شاء الإله
إن يكن ذلك قيدا ... ليس لي قيد سواه
عاندي الأقدار إن لم ... يك هذا مستحيلا!
فإذا اختارت سبيلا ... لك، فاختاري سبيلا!
وإذا شاءتك إعصا ... را، فكوني سلسبيلا!
وأقيمي في ظلالي ... حين تبقيك الرحيلا!
إن هذا الكون سجن=مترامي الجنبات
حاولي أن تخرجي منـ ... هـ إلى يوم الممات
أخرجي من أي باب ... قام في أي الجهات
أخرجي إن لم تكوني ... مثل باقي الكائنات
أنت في القيد، ولكن ... رب قيد غير ظاهره
رب قيد كان سرا ... بين أعماق السرائر
لا نره نحن بالأبـ ... صار لكن بالبصائر
فانظري قيدك يا حرة، يا بنت الحرائر!
صدقيني نحن في القيـ ... د، وفي الأسر سواء
كلنا نحيا لغايا ... ت أرادتها السماء
قد جهلناها فعشنا ... مثلما شاء القضاء
هكذا نحيا! ونمضي ... حينما يأتي الفناء
لا تقولي شأنك الخلـ ... د، وشأني للزوال
فأنا في الحقل أحيا ... منذ أعوام طوال(889/35)
وسأمضي عنه يوما ... لمصيري ومآلي
فإذا بي أتجلى ... للورى في غير حالي
فأنا العرش معدا ... لمليك أو أمير
وأنا الكرسي في غر ... فة منبوذ فقير
وأنا القصر الذي يعـ ... لو على كل القصور
وأنا الكوخ الذي يخـ ... شع ما بين القبور
وأنا عكازة الأعـ ... مى التي تهدي خطاه
إنها تهديه لكن ... لا يراها أو تراه
وأنا في بعض حالي ... صولجان في حلاه
فاسألي الأعمى أيغـ ... ني صولجان عن عصاه؟
وأنا المهد الذي يحـ ... مل أطفال الوجود
وأنا النعش الذي يمـ ... ضي بأبناء اللحود
وأنا العود الذي في ... عطره عطر الخلود
وأنا العود الذي يلـ ... قي لنيران الوقود
وأنا النار التي في ... طيها روح الحياة
وأنا في طيها النو ... ر مبيد الظلمات
وأنا الزورق يجري ... فوق نهر أو قناة
وأنا الطنبور يجري ... فيه ماء القنوات
وأنا أشياء أخرى ... لست أحصيها بيانا
غير أني لست خيرا ... منك، أو أسمى مكانا
فكلانا قالت الأقـ_دار كن شيئاً، فكانا
وكما شاءت له يحـ ... يا عزيزاً أو مهانا
إن هذا الكون لحن ... نحن فيه نغمات
إنه بحر رحيب ... نحن فيه قطرات
إنه قلب كبير ... نحن فيه خفقات(889/36)
وطريق عبرته ... قبلنا تلك الرفات
فاتركي الفخر، فما بالـ ... فخر يعلى المرء قدره
ودعي الكبر الذي ينـ ... فث في قلبك شره
وانظري الزهر الذي يـ ... كب في روحك عطره
واعرفي أمرك، فالعا ... قل من يعرف أمره
أطرقت من خزينها الر ... يح، وقالت في حياء
سامحيني يا ابنة الحقـ ... ل؛ فقد نلت جزائي
لم أكن أدري بما تد ... رين من سر البقاء
وكشفت الستر عن جهـ ... لي، فماتت كبريائي
سوف أمضي عنك يا أخـ ... تي، فقد حان الذهاب
فاعذريني واذكريني ... كلما طال الغياب
واعرفي أنك في قلـ ... بي ثناء مستطاب
ووداعا، ثم ألقا ... ك إذا حان الإياب
إبراهيم محمد نجا(889/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
لحضات جديدة مع مرجريت ميشيل:
شاهدت في الأسبوع الماضي فيلم (ذهب مع الريح) للمرة الرابعة ولا أذكر أنني شاهدت فيلماً من الأفلام أكثر من مرة واحدة. وهكذا يبدو الفن الجميل جديداً لعينيك دائماً، ولذوقك، ولمشاعرك! وحين تجتمع لقصة كهذه القصة عبقرية القلم وعبقرية الإخراج وعبقرية التمثيل، فقل إن الفن قد بلغ أوجه وأكتمل نضجه واستوى على عرش الخلود من أقر طريق!
ولقد قضيت مع مرجريت ميتشل لحظات جديدة، غير تلك التي قضيتها من قبل على صفحات الرسالة. . . والفضل في قضاء هذه اللحظات يرجع إلى الصديق الذي سألني بعد انتهاء العرض: كيف تعلل هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ القصة، ظاهرة النبوغ الذي أنبثق دفعة واحدة من أول عمل فني قامت به هذه الكاتبة الأمريكية؟! لقد تعودنا دائما أن تكون بداية الكتاب والفنانين خطوة متعثرة تدفع إلى خطوات، ولمعة باهتة تفضي إلى لمعات. . . ثم تقبل النهاية التي تنضج فيها المواهب بعد طول التجربة واكتمال المران. ولقد أتيح لي أن أطلع على أكثر القصص التي أستهل بها أغلب كتاب القصة حياتهم الفنية، فكانت ألمس بوضوح مدى الفارق بين إنتاجهم الأول وإنتاجهم الأخير، وهو الفارق بين النبع في مرحلة الانبثاق الأولى حين يقطر، ومرحلة الانبثاق الأخيرة حين يفيض. أما مرجريت ميتشل فكانت ظاهرة غير الظاهرة وطرازاً غير الطراز، وحسبها أنها حطمت القاعدة المألوفة التي سارت عليها موازين النقد ومقاييس النبوغ!
وقلت للصديق الذي سألني رداً على سؤاله: لو كنت تعلم أن لقصة (ذهب مع الريح) قصة لما سألتني. . . ومع ذلك فما أجدرك وأنت قصاص شاب يريد أن يشق طريقه أن تستمع لهذه القصة، وأن تعيها، وأن تتخذ منها درساً يهدي ومنهجاً يفيد. بل ما أجد الكثيرين من كتاب القصة أن ينتفعوا بهذا الذي أرويه لك. إذا أرادوا أن يكون لهم في مجال الفن مثل ينشدونها وغايات! لقد أنفقت مرجريت ميتشل من عمرها عشرين عاما في قراءة القصص قبل أن تمسك بقلمها لتكتب أول قصة. . . ولم يكن إقبالها على القراءة بقصد التسلية أو(889/38)
التسرية وإزجاء الفراغ، وإنما كان هدفها اللذة الفنية والمتعة الروحية، والرغبة في صقل الملكة القاصة بهذه الدروس التي تتلقاها على أيدي الأساتذة من حين إلى حين. وكان أساتذتها هم هؤلاء الذين تقرأ لهم. وتأخذ عنهم، وتقضي معهم أكثر وقتها مفتوحة العينين والقلب والذهن. وكانت في ترددها على هذا وذاك من أقطاب القصة في أدب العالم، أشبه بالنحلة التي تقع على كل زهرة وترشف من كل رحيق. لتمد خلية الفن بأشهى الألوان من كل طعم ومذاق!
عشرون عاما قضتها الكاتبة الأمريكية في القراءة والاطلاع والدرس. ومن وراء هذا كله ذوق مرهف بلهب الحواس فتتوهج، وحياة عريضة تحرك المشاعر فتنبض، وموهبة فطرية تنتظر الوقود لتحمل المشعل وتنير الطريق. لقد أصاخت مرجريت ميتشل لصوت الفن ممتزجا بصوت الحياة، حتى لقد شغلها الصوتان عن أن تستجيب لصوت آخر هو صوت الزوج. الزوج الذي كان يصرخ في أرجاء البيت مطالباً زوجته بأن ترعى حقوق الزوجية فيذهب صراخه مع الريح! وحقوق الزوجية في رأي الزوج (الأمريكي) هو أن الوقت الذي ينفق في طهو طعامه وكي ملابسه وتنظيف بيته، أجدى على المجتمع من هذا الوقت الذي يضيع في قراءة القصص ومصاحبة كاتب من أمثال بلزاك. . . وكم هتف الزوج وقد نفذ صبره: يا عزيزتي مرجريت، متى يقع الطلاق بينك وبين زوجك الآخر؟! وترفع الذكية النابغة رأسها عن الكتاب الذي بين يديها وتقول له: آه. . . أتقصد أو نوريه دي بلزاك؟ سأطلقه عند ما آخذ كل ما عنده واشعر بأنني لست محتاجة إليه!!!
وجاء اليوم الذي كان يحلم به الزوج، وخرجت إلى حيز الوجود (ذهب مع الريح). . . أول نفحة من نفحات الكاتب الفرنسي العظيم، أستاذ مرجريت الذي درست فن القصة على يديه، وأستاذ الأساتذة في فنه بلا جدال!
وسألني الصديق بعد أن أستمع في إعجاب بالغ إلى قصة القصة: وماذا أخذت مرجريت من بلزاك؟ فقلت مؤكداً للواقع ومصححاً للسؤال: الحق أنها لم تأخذ منه وإنما أخذت عنه. . . ولهذا يجب أن تكون صيغة السؤال: ماذا أخذت مرجريت عن بلزاك؟ والجواب يا صديقي أنها أخذت عنه كيف تكتب القصة الطويلة بما فيها من رحابة الأفق وامتداد الطاقة وسلامة التصميم. لقد كان بلزاك دارس نفسيات من الطراز الأول، حتى لتستحيل النفس(889/39)
الإنسانية تحت لمسات ريشته إلى غرفة مفتحة النوافذ والأبواب وكان راسم شخصيات لا نظير له، حتى لتطالعك النماذج البشرية في ساحة عرضه الفني كما تطالعك في ساحة العرض الكبرى وأعني بها الحياة. . . وكان يسخر الحوادث والشخوص لإبراز فكرته العامة التي ينسج خيوطها العرض والحوار، فإذا هذه الفكرة منشورة الجناحين على حدود القصة تمتد ظلالها من البداية إلى النهاية. . . وكان في التزامه لعنصر الواقعية الفنية مثلا أعلى للمراقبة الحسية والنفسية، حين تعملان في خط اتجاه فكري واحد ينتظم كل ماعداه من خطوط. . . وهكذا كانت مرجريت ميتشل!
أخذت عنه هذا كله، ومن العجيب أنها في اقتباسها من مواهبه واغترافها من مزاياه، تلتقي معه في ناحية نقص واحدة هي كل ما وقف عنده النقاد. هذا النقص الوحيد الذي يأخذه النقد على بلزاك ويأخذه على مرجريت، هو عدم التناسب بين طاقتين: طاقة التصوير وطاقة التعبير. أعني أن الأداء التعبيري عند الكاتب الفرنسي والكاتبة الأمريكية لا يرضي المثاليين من عشاق الأساليب، أولئك الذين ينشدون ضخامة اللفظ وفخامة العبارة. ولقد كان أسلوب بلزاك كما وصفه الناقد الإنجليزي الكبير إليوت، أشبه بأسلوب الكتاب الصحفيين!
معايير القيم في الصحافة الأدبية
ألم تقع في يدك مرة هذه المجلة الأدبية التي تصدر كل شهر في أحد الأقطار العربية الشقيقة؟ ألم تعجب إذ لا تجد فيها غير الغث والتافه من ذلك الأدب الذي لا يفهم، والذي يصر أصحابه على تسميته بالأدب الرمزي؟ لاشك في ذلك، بيد أن هناك في الصفحات الأخيرة زاوية خاصة، لو بحثت عنها لوجدتها تعلن أسماء أنصار المجلة خلال تاريخ معين، كما أنها تذكر أرقام المبالغ التي تلقتها من هؤلاء الأنصار تاركة قناع الحياء وهي تستجدي الليرات من أصحاب الأقلام، أو بالأحرى تبيعهم النشر بالمال! فما من أسم يذكر في هذه القائمة إلا وكانت له في المجلة قطع أدبية من هذه القطع الأدبية التي لا تفهم ولا تهضم. . .
أعرف قارئا في العراق أرسل إلى هذه المجلة قيمة الاشتراك السنوي فقط، فإذا برسالة تأتيه بخط صاحبها يبدي فيها شكره الجزيل، ويرحب به وبأدبه وبقلمه. . . في حين لم يكن له - ويشهد الله - أدب ولا قلم! ليس من شك في أن هذا الرجل قد جعله (الإدمان)(889/40)
على هذا المسلك الخاص لا يفكر في حقيقة المشترك، بل يفتح له صدر مجلته بمجرد استلامه بدل الاشتراك أو تلك (المعونة) التي يطلبها من (الأنصار)! ولا أدري لماذا، فإن هذه المجلة لو بيعت في كل مدينة تصل إليها عشرون نسخة منها لعادت على صاحبها بالربح، والربح الوفير. . .
وأعرف الكثيرين من أصحاب الأقلام المعروفة في العراق، يأبى صاحب هذه المجلة أن ينشر أي شيء لهم لأنهم لا يرفقون مع كتاباتهم قيمة الاشتراك السنوي أو قيمة الهبة التي ينتظرها من الأنصار. . . وقد سمعت أخيراً أن الرجل قد عزم على أن يهجر بلاده ومجلته ولا يأخذ إلا ما جمع من مال!
هذا ما لا ينبغي أن تسكت عنه، أنت أيها الرجل الذي وهب قلمه للدفاع عن قيم الأدب وكرامة الأدباء
كرنيك جورج
(البصرة - العراق)
رسالة الأديب العراقي الفاضل كما يرى القراء، رسالة تضج بالشكوى وتحفل بالاتهام. . . أما الشكوى فمن إهدار القيم في مجلة تمثل الصحافة الأدبية في قطر شقيق، وأما الاتهام فموجه إلى صاحبها الذي يسلك طريقاً خاصاً لا يقره عليه كل غيور على كرامة الأدب والأدباء!
ولا نريد أن نصدق هذا الذي يقصه علينا الأديب الفاضل، لأنه لو صحت هذه الوقائع التي ينسبها إلى هذه المجلة، لترتب على ذلك أن يفقد القراء ثقتهم في رسالة الصحافة الأدبية. . . إننا نريد للصحافة الأدبية أن تسمو رسالتها فوق مستوى الظنون والشبهات، فلا يتهم المشرفون عليها بما ينقص من قدرهم وقدر الأدب وقدر الكرامة العقلية! نقول هذا ولا نريد أن نصدق هذا الذي بلغنا عن زميلة تحرص كل الحرص على أن يظل مشعلها مضيئاً بنور الفن ونور الإيمان. . . الفن الذي لا يقبل أن تكون المساومة معبره إلى القلوب والأسماع، والإيمان بهذه الحقيقة مهما تنكر لها أصحاب المطامع والأغراض!
ونكتفي بهذا القدر من الدفاع عن رسالة الصحافة الأدبية، ونمسك القلم عن العرض لاسم(889/41)
الزميلة وأسماء المشرفين عليها إلى حين. . . نمسك القلم حتى نطمئن إلى صحة هذا الاتهام من جهة، ويطمئن الذين تمسهم كلمات الأديب العراقي إلى أننا نحرص على مكانتهم من جهة آخرى، نحرص عليها من الزلزلة التي تهتز معها المثل العليا وما يكتنفها من ثقة غالية هي ثقة القراء!
أما عن هذا الأدب الرمزي الذي أشار إليه الأديب الفاضل في رسالته، فقد أبدينا رأينا فيه وفي أصحابه يوم أن تناولناه بما يستحق من سخرية في (التعقيبات). . . وحسب الرمزيين والسرياليين ما تلقاه بضاعتهم الزائفة من إعراض هنا وهناك!
الإنتاج الأدبي بين الأصل والترجمة:
فكرة كثيراً ما راودتني وأردت تحقيقها فإليك أتجه بها؛ فكرة من لا يتقن من اللغات غير العربية ولم يهيأ له أن يلج بغيرها من اللغات، مع شوقه وشدة رغبته في الاطلاع على تلك الأفكار والمعاني الراقية لكتاب الغرب وغيرهم.
وأذكر أنك طالما ناديت بأن الإنسان لا يكون مثقفاً ثقافة كاملة إلا إذا أتقن لغتين أجنبيتين عن لغة بلاده، ليتمكن من تغذية عقله وفكره بتلك الروائع الناضجة. فهل تغني المؤلفات الأجنبية المترجمة إلى العربية بأقلام كبار الكتاب عن النص الأصلي؟ وهل لابد من وجود تفاوت بين الأصل والترجمة في الروح؟ وإذا كان موجوداً فما قيمته؟
صبرى إبراهيم النجار
(كلية اللغة العربية)
أما أننا قد نادينا بأن الإنسان لا يكون مثقفا إلا إذا أتقن لغتين أجنبيتين عن لغة بلاده فصحيح في جملته، غير أننا لا نتمسك بوجوب لغتين أو ثلاث حين تغني لغة واحدة عن بقية اللغات. . . فاللغة الإنجليزية في رأينا تعين من يجيدها على أن يطلع على أغلب الآثار الفكرية في أدب العالم، لأنها أكثر اللغات الأجنبية انتشاراً وأوسعها نقلا لمختلف الآداب والفنون. وفي الوقت الذي لا نستطيع أن نتذوق الكثير من ثمار الفكر الأوربي مترجماً إلى الفرنسية أو الروسية أو الألمانية أو الإيطالية، تيسر لك اللغة الإنجليزية هذا الأمر بما تدفع به بين يديك من ألوان الثقافات.(889/42)
وإذا كان الأديب الفاضل يريد أن يعتمد على المؤلفات الأجنبية المترجمة إلى العربية، فليس من شك في أن الاعتماد عليها غير كاف ولو أنه مفيد. غير كاف لأن اللغة العربية لم يترجم إليها غير النزر اليسير من آثار الفكر الغربي، إذا قيس هذا الذي نقله الناقلون إلى ما لم ينقلوه بعد ولم يتح للكثيرين أن يطلعوا عليه. غير كاف من هذه الناحية ومفيد من ناحية أخرى، وهي أن هذا العدد الذي ترجم من المؤلفات الأجنبية يعطي القارئ العربي فكرة عامة عن مناهج التفكير وطرائق التعبير عند الغربيين، فكرة عامة ولا نقول فكرة كاملة. . . ولكنها كسب معنوي على كال حال!
أما عن وجود التفاوت بين الأصل والترجمة في الروح فهذا أمر لا جدال فيه، لأن لكل لغة من اللغات خصائصها البيانية وقيمها التعبيرية وآفاقها المختلفة وأخيلتها المتباينة، وكل هذه الجوانب معرضة لشيء من التغيير الذي يمس روح النص إذا ما نقل إلى بيئة غير البيئة ووطن غير الوطن. . ولكن هذا التغيير متفاوت الأثر تبعاً لتفاوت الملكة الناقلة عند الكتاب المترجمين، لأن هناك من يقضي على روح النص بركاكة الأسلوب وضعف الأداء، أو بسوء الفهم وانحراف الذوق، أو بغير ذلك من العوامل المؤثرة على حركة اللفظ وحرارة العبارة. . وضع هذا الطراز من المترجمين في كفة، لتضع في الكفة المقابلة طرازاً آخر يمتلك القدرة على الترجمة الصادقة والأداء الأمين، بما أتيح له من الإجادة الكاملة للغته ولتلك اللغة الأخرى التي ينقل عنها في حذق ومهارة. ولكن مهما بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فإن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي لهذه الروح في لغتها الأصيلة التي يتذوقها المتذوقون!
أنور المعداوي(889/43)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تكريم الدكتور طه حسين بك
أقام المعلمون على اختلاف هيئاتهم يوم الثلاثاء الماضي احتفالاً كبيراً في ناديهم بالجزيرة لتكريم معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف.
أخذت طريقي إلى المكان الاحتفال، فما بلغت كبري قصر النيل وهبت علي نسمات النيل الرقيقات حتى أغرتني هذه النسمات بالتمهل، ورعى الله ليالي كنا (نتسكع) فيها على كبري قصر النيل، إذ لا نجد أرحب من أحضانه ولا ألين من أعطافه، وكما بثثنا النيل من بين قضبانه شكوانا، وكم أودعنا الموج آمالا كان حريصاً عليها، فلما بلغنا ما بلغناه منها لم نجده شيئاً.
ويظهر أن مشية الهوينى على ذلك الكبري تستدعي الخواطر وتبعث حديث النفس، هذه جموع المعلمين وغيرهم من المدعوين تتدفق إلى الجزيرة الفيحاء لتكريم طه حسين: قلت لنفسي: ترى لمن التكريم، ألطه حسين ذاته، أم لوزير المعارف؟ قالت نفسي: لكليهما، ألا ترى أن الرجل لم يكرمه أحد قبل أن تقبل عليه الوزارة، وأن هؤلاء المعلمين لم يكرموا وزيراً من قبله، وقد تعددت فيما مضى المناسبات التي كان طه حسين يستحق فيها التكريم قبل ذلك، وتعاقب وزراء لم يصنعوا ما صنع فلم ينهض أحد لتكريم أحد منهم، فالمسألة إذن فيها تفاعل، رجل يستحق التكريم والظروف مهيأة، وأقبلت علي نسمة يظهر أن مثيلاتها كانت تداعب أفكار الفلاسفة، إذ قفز إلى ذهني خاطر لا بأس به. طه حسين يكرم نفسه طول عمره بأدبه وعمله وقد بلغ بذلك ما بلغ، مما يقصر دونه كل تكريم، وهؤلاء المعلمون الذين يكافح هو من أجلهم، وقد أصابوا من كفاحه شيئاً وبقيت آمال في أشياء - يشعرون بواجب العرفان ودافع الوفاء لمعلم قام من بينهم وأنفلت إلى الصفوف الأولى وهو لا يزال يعيش معهم بوجدانه ومشاعره، فهم يكرمون فيه فكرة تتمثل في المعلم المكافح الساهر على مصالحهم وآمالهم في طريق المصلحة العامة والخير العام، وهو نفسه يشارك في هذا التكريم!
وأضم إلى ذلك ما قاله الأستاذ محمد رفعت بك في كلمته بالحفل إذ تساءل: لماذا لم يكرم(889/44)
رجال التعليم طه حسين قبل توليه الوزارة وأجاب بأن هناك نظرية في الاقتصاد السياسي تقول: قد تظهر في السوق عملة زائفة يروج لها أصحابها فتتغلب حيناً على العملة الجيدة التي تكاد تختفي، حتى يجيء الحاكم الحازم فيعيد إليها اعتبارها ويقضي على المزيف. وهذا المثل الذي ضربه رفعت بك يرمز إلى الأطوار الأخيرة التي مرت بها وزارة المعارف، إذ كان بها ناس وجاء غيرهم، ثم رجع الأولون. . .
ومهما يكن من شيء - كما يعبر عميد الأدباء - فهذه حفلة التكريم، وهؤلاء المعلمون على اختلاف معاهدهم وألوان ثقافتهم يجلسون إلى موائد الشاي على أرض النادي المكسوة بالحشائش في تلك الأمسية الجميلة، والموسيقى تصدح. . . ويقف الأستاذ سعد اللبان رئيس النادي فيلقي كلمة ضافية يلم فيها بالنواحي المختلفة لشخصية طه حسين وأدبه وآرائه في إصلاح التعليم ونشره وأعقبه الأستاذ محمود حسن إسماعيل فألقى قصيدة تحدث فيها عن آمال الشعب في التعليم وما كان من المساومة في بيع العلم وشرائه - حديثا شعرياً ممتعاً، وقد حفلت قصيدته بالصور الشعرية الجميلة المطربة حتى خيل للسامعين أنه يحلق بهم في سماء النادي، والحق أنني لم أسمع ولم اقرأ لمحمود شعراً رائعاً كهذه القصيدة، فقد كان في نظري هذه الليلة شاعراً جديداً.
وألقى الأستاذ محمود غنيم قصيدة طلية الديباجة، بدأها بقوله:
أعد يا شعر أحمد من جديد ... يصوغ ثناءه في أبن العميد
وأقسم ما رفعت بذاك طه ... فأين أبن العميد من العميد
وأنا اسأل الأستاذ غنيم: إذا لم تكن رفعت بذاك طه فماذا قلت إذن؟ ولماذا استسلمت للحلية اللفظية التي قضت بأن يكون أبن العميد مثلا؟ إنني أعتقد أن أبن العميد ليس شيئاً إلى جانب أي كاتب من كتاب الدرجة الثانية في هذا العصر. وقد قال الأستاذ في أبيات أخرى إن طه حسين يعيد عصر الرشيد! فهل قصارانا الآن أن نعيد عصر الرشيد؟!
ثم تحدث الأستاذ محمد رفعت بك المستشار الفني لوزارة المعارف، ويظهر أنه قدر أن المقام مقام بلاغة وبيان، فاصطنع السجع في كلمته ليجاري بها في الحلبة، ولكن الأستاذ رجل مفكر وأسلوبه سهل ولا بأس به؛ فما كان أغناه عن ذلك السجع!
وبعد ذلك وقف معالي الدكتور طه حسين بك فأرتجل كلمته التي بدأها بقوله: أيها الزملاء،(889/45)
وأريد بالزملاء الوزراء والمعلمين، فأنا منكم منذ عهد بعيد؛ وأنا وزير في هذه الأيام فكلكم جميعاً زملاء. ثم تحدث عن فضل رفعة رئيس الوزراء والوزراء في تقرير مجانية التعليم قائلاً إن الفضل الأول لتوجيهات جلالة الملك؛ وقال أنه يذيع سراً من أسرار الوزارة، هو أن الميزانية كما تعلمون ضيقة ومطالب الإصلاح كثيرة. ووزير المالية من شأنه أن يظهر الفقر والبؤس لزملائه كلما طلبوا إليه شيئاً. وقد أدى واجبه هذا نحو وزارة المعارف وخيل لوزير المعارف أن الحكومة مفلسة غداً أو بعد غد. وكان وزير المعارف قد وعد المعلمين بأن يسعى في إجابة مطالبهم، فوقف من فقر الوزير موقف الشاك أولاً والمتحدي ثانياً وقال له: إن كانت الدولة فقيرة فالمعلمون أشد منها فقراً. وأشتد الخلاف بين الوزيرين. فقلت له إن لم يبدأ الوزير بإنصاف المعلمين فسأستقيل؛ وأخيراً حل المشكلة رجلان أحدهما بكرمه وصفاء قلبه وحبه للخير، والآخر بلباقته وحرصه على التوفيق، أما الأول فهو رفعة مصطفى النحاس باشا؛ وأما الثاني فهو معالي فؤاد سراج الدين باشا
ومما قاله معاليه أيضاً: يريدني الأستاذ سعد اللبان على أن أفسر ما وصلت إليه من الانتصار على المصاعب، وأعترف مخلصاً وأقسم بين يدي الله أنني ما اعتقدت يوماً أنني انتصرت على شيء، وإذا كنتم تظنون ذلك فمرد هذا إلى أمرين اثنين؛ أولهما أنني لا أومن بأن لي حظاً من عظمة أو مجد؛ والثاني أن لي أصدقاء يدفعونني إلى حيث ترونني الآن.
وختمت الحفلة بكلمة طيبة من معالي فؤاد سراج الدين باشا.
مرتبة الشرف الأولى:
أشرت في عدد سابق إلى مسألة (الدكتوراه) التي منحت لقرينة عميد كلية الآداب مع مرتبة الشرف الأولى، فأثار ذلك حملة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. ولهذه المسألة قصة انتهت إلى حل.
أما القصة فيحكيها لنا هؤلاء الثائرون إذ يقولون إن اللجنة التي ناقشت رسالة السيدة التي قدمتها للحصول على الدكتوراه قررت منحها هذه الدرجة مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بأن تطبعها الجامعة على نفقتها واعتبارها من الرسائل التي تتبادلها الجامعة مع الجامعات الأخرى، وليس في قانون الكلية أن ترفق الدرجة بمرتبة الشرف الأولى، وجرى(889/46)
العمل على أن تمنح درجة ممتاز باعتبارها أكبر تقدير؛ فمنح درجة الشرف الأولى معناه أن درجة (ممتاز فقط) أقل منزلة؛ ومن تمام القصة أن السيدة عينت مدرسة في قسم التأريخ بالكلية، وقد أقترح تعيينها أستاذ بالقسم لا رئيس القسم وكان هذا من مواضع الاعتراض، ولما عرض الاقتراح على مجلس الكلية وكان رئيس المجلس هو عميد الكلية زوج السيدة طلب منه بعض الأعضاء أن يتنحى عن الرئاسة وعن عضوية المجلس، فلم يفعل، وصدر القرار بتعيينها.
واجتمع حملة الدكتوراه ثائرين، وأقترح بعضهم أن يأتي كل منهم بشهادته؛ ويحرقوا الشهادات في فناء الجامعة، وقدموا احتجاجات، ورتبوا الأمر على أن يرفعوا القضية إلى مجلس الدولة
ولكن جاء الحل على يد مجلس الجامعة الذي كان معروضاً عليه أن يوافق على ما قرره مجلس الكلية من منح السيدة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأول. . . الخ. قرر المجلس حذف (مرتبة الشرف الأولى) فبقيت درجة (ممتاز) نهاية التقدير كما كانت عليه الحال من قبل.
وبذلك انتهى الاعتراض القانوني على منح الدرجة، أما مسألة التعيين فما أظن الاعتراض فيها عدا الترشيح من غير رئيس القسم، قائماً إلا على ما أريد للعميد من التحرج، فليس في القانون أن يتنحى الرئيس عن الرياسة والعضو عن العضوية، لأن أمر تعيين زوجته معروض على المجلس، ولكن العميد لم يقبل وجهة نظر من أرادوه على التحرج، ولزوجته بغي الخير.
عباس خضر(889/47)
القصص
زوجة الشيطان
للفيلسوف السياسي - نيفولا مكيافيلي - الإيطالي
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
أعتاد نزلاء جهنم من الأبالسة أن يسمعوا من نزلائها من الرجال أن سبب شقائهم وتعاستهم معصيتهم التي جلبت عليهم غضب الله، فسلكهم في سقر، يرجع إلى غلطة كبرى ارتكبوها في حياتهم الدنيا، وهي أنهم تزوجوا وأحسنوا الظن بالنساء.
فاجتمع الأبالسة يوما بملكهم (بلتو) وتشاوروا في مصدر هذه الشكوى وهل الرجال صادقون في قولهم أم هم متجنون على النساء إذ لا يعقل أن تكون المرأة ذلك المخلوق الضعيف الذي أختصه الله بالرقة واللطف ومنحه الحنان والعطف وزوده بصفات الشفقة والرحمة، ووهبه الكثير من الجمال سبب كل هذه المصائب والشرور التي حلت بهؤلاء الرجال وغيرهم ممن سيفدون عليهم. وبعد مناقشات طويلة، قر الرأي على إرسال واحد منهم إلى أرض البشر، ينتحل صورة شاب وسيم ويتزوج من واحدة من بنات حواء، ويقيم معها على الأرض عشر سنوات، يعود بعدها إلى مقره في سقر ليذكر لزملائه الحقيقة بغير محاباة ولا تجن على ذلك المخلوق كسير الجناح ضعيف القوى.
فوقع الاختيار على الشيطان (تلفاغور) أحد المردة العتاة، فأرسل إلى أرض البشر بعد أن زود بقوة الشيطان وخبثه ورجسه وفسوقه، وقد حمل معه مائة ألف جنيه من الذهب، فلما نزل إلى الأرض، ظهر في صورة شاب له من العمر ثلاثون سنة وسمى نفسه (رودر بجو كاستيجليا) نجل أحد الأمراء الأسبان وأسمى الثروة عظيمي المكانة وقد تربى تربية عالية وتلقى من الثقافة الشيء الكثير.
ظهر في مدينة (فلورنسا) ليبحث فيها عن زوجة صالحة تشاركه المدة التي كتب عليه أن يقضيها على الأرض، فأتخذ مقامه في أرقى أحياء المدينة وأحاط نفسه بمظاهر العظمة والثراء، فأتخذ الخيل المطهمة والعربات الفارهة وأحاط نفسه بحاشية كبيرة من الخدم والأتباع، وهو ينفق عن سعة وسخاء عجيبين في إقامة الولائم والحفلات فلم يلبث غير(889/48)
قليل من الوقت حتى أصبح اسمه ملء السمع والبصر في المدينة، وسارع إلى صداقته أكبر البيوتات وأرقاها في فلورنسا، وخاصة من كان عندهم فتيات يرغبون في تزويجهن ويطعمونه في الجاه العريض والثروة الطائلة.
وسرعان ما وقع اختيار (رودريجو) على الآنسة (أوتستا) ابنة السيد (أمريجو دوناتي) من كبار أغنياء فلورنسا وأعيانها ومن أحسن الأسر وأطيبها وأرفعها نسباً. ولكن الدنيا قد أدبرت عنه ولم يبق له من ثروته إلا حطام قليل يظهره أمام الناس بالمظهر الكريم.
وتمت مراسيم الزواج في حفل عظيم من الأبهة والبذخ، قل أن تجد له مثيلا. . .
ولم يمض على زواج (رودريجو) شعر العسل بين أحضان عروسه حتى هام بها حباً وأصبح حبه لها جنونيا فلا يطيق أن يراها ضجرة أو بها سأم. حتى صار ذلك المارد الجبار، عبداً ذليلاً لها وأصبحت نزواتها أوامر لابد من طاعتها، ورغباتها أحكاماً مقدسة لا مفر من الخضوع لها، فوقف ذلك الشيطان المريد نفسه وماله وراحته على إسعادها وإدخال السرور على نفسها.
لم تكن (أونستا) امرأة ككل النساء، بل كانت شيطانة في صورة امرأة ذات نزوات طائشة لا حد لها وحيل غريبة لا تنفد، وكلما رأت من زوجها هياماً بها شطت في طلباتها وغالت في رغباتها. . . فأخذت تقيم الحفلات والمآدب ببذخ كبير وإسراف زائد بحجة الترفيه عن نفسها، وهي في الحقيقة تتخذ ذلك وسيلة لتهيئة الجو لزواج شقيقتها كما احتالت على ذلك الزوج المسكين حتى أهدى لكل من شقيقتيها مبلغاً كبيراً من المال ليغري شباب فلورنسا بالزواج منهما. ولم تكتف بذلك بل أجبرته على أن يمد يد المساعدة لأشقائها ليبدءوا حياتهم العملية في التجارة. وهذا غير مصاريفها الخاصة بالثياب التي لا حد لها.
كما كانت فظة غليظة القلب في معاملة الخدم حتى أن جميع الخدم رفضوا البقاء عندها وفيهم بعض أبالسة جهنم الذين جاءوا ليرقبوا أعمال (رودريجو) في حياته الزوجية، فقد فضلوا العودة إلى الجحيم الذي يعد نعيماً بالنسبة للبقاء مع هذه الشيطانة التي قهرتهم وغلبتهم على أمرهم.
وكان الزوج المسكين لا يجد في نفسه الجرأة على مخالفة أوامرها وإشاراتها، فإذا تجرأ على ذلك ولو عن طريق الكياسة واللطف، لجأت إلى سلاحها الناعم، فسارعت إلى الدموع(889/49)
المخزونة الجاهزة لهذا الغرض، وما أكثر ما كان يجتمع مجلس عائلة الزوجة المكون من الأب والأم والأخوة وقد ينضم إليهم بعض الجيران ليلقوا على الزوج درساً فيما يجب عليه نحو زوجته من احترام وضرورة إجابة طلباتها المتواضعة، لتستطيع الظهور بالمظهر اللائق ومركز العائلة الأدبي والاجتماعي، ولابد أن ينتهي الأمر باعتذار الزوج عما فرط فنه في حق زوجته والعمل على اكتساب رضاها ورضا العائلة بإجابة طلباتها وزيادة مع التعهد بعدم العودة إلى إغضابها مرة ثانية، وألا يتدخل في إدارة البيت ولا في شئونها الخاصة.
على هذا النمط سارت حياة (رودريجو) الزوجية حتى أستنفد كل ما جاء به من أموال والتجأ إلى الاستدانة، والزوجة من ورائه تدفعه دفعاً حتى تراكمت عليه الديون وكثر الدائنون وأصبحوا يطاردونه في كل مكان، وهو يرى أبواب السجن تنتظره، فلم يجد بداً من الفرار من وجه الزوجة العاتية ودائنيه القساة، ففي فجر يوم من الأيام أنسل من جانب زوجته واعتلى صهوة جواده وأرخى له العنان ممعنا في الهرب، وما أن انبلج نور الصبح حتى شعر بحركة خلفه فنظر فإذا زوجته والدائنون والشرطة يطاردونه، فخاف أن يلحقوا به. فالتجأ إلى كوخ رجل فلاح يدعى (جيوماتيو) فخبأه حتى مر مطاردوه، ولم يعثروا عليه، وبذلك نجا من هؤلاء المطاردين ولما عرف أنه أصبح آمنا مطمئنا، قص على (جيوماتيو) قصته من وقت أن ترك حياته الهادئة في جهنم إلى أن التجأ إليه طريداً لا يمتلك من حطام الدنيا مثقال ذرة، فرق الفلاح لحاله وتألم لما لقيه، فوعده (رودريجو) أن يكافئه على معروفه الذي قدمه له بحمايته من أعدائه وأنه سيسوق إليه الثروة والغنى من كل مكان. وأتفق معه على أنه عندما يسمع أن بنت أحد الأمراء أصابها مس من الشيطان وأن أمهر الأطباء قد عجزوا من مداواتها، فعليه أن يتقدم هو مظهراً استعداده لطرد الروح الشريرة التي تحتل جسم المريضة، فينجح حيث فشل الجميع، وعليه أن يطلب من الأجر ما يغنيه عن حياة الكد والتعب. وتركه وأنصرف وبعد قليل من الوقت شاع في المدينة أن ابنة السيد (أمبرجو أميدى) مسها الشيطان وسكن جسدها، وأم جميع ما بذله الأطباء ذهب هباء وأن ما أجرى لها من رقي وتعاويذ أخفق تماماً ولم يأت بنتيجة. حتى أن أهلها قد يئسوا من شفائها ولم يعد لهم أمل في نجاتها.(889/50)
وسمع (جيوماتيو) بذلك فذهب إلى السيد (أمبرجو) وطلب رؤيتها فلما أدخل على المريضة أخذ يتمتم بتعاويذ غير مفهومة وبقوم ببعض الصلوات ثم أقترب من أذن المريضة وهمس فيه قائلا (روديريجو) أما زلت عند وعدك؟ فرد عليه صوت خشن قائلا: إني مغتبط بحضورك وأنا خارج الساعة. فلم تمض لحظة قصيرة حتى انتفضت المريضة وعاد إليها عقلها وصحتها وكأنه لم يكن بها شيء. ولما سئل (جيوماتيو) عن الأجر الذي يريده طلب 500 جنيه. فأخذها وخرج مشكوراً من الفتاة وأهلها جميعاً. وفي الخارج التقى (برودريجو) فقال له هذا لقد تواضعت في طلب الأجر وهذا لا يغنيك ولا ينفعك، لهذا سأحل في جسم بنت الملك (كارلو) ملك نابلي وعندما تذهب لمداواتها، أطلب مبلغاً كبيراً يكفل لك الغنى مادمت على وجه الأرض وتصبح غير محتاج لأحد، على أنك لا تتدخل بعد ذلك في أعمالي، فرضي بذلك (جيوماتيو)
لم يمض وقت طويل على شفاء كريمة السيد (أمبرجيو) حتى أصبح أسم (جيوماتيو) يتردد في كل مكان من فلورنسا وما يحيط بها من القرى بل امتدت شهرة مقدرته على شفاء المرضى بهذا النوع إلى جميع أنحاء إيطاليا.
وبينما الناس يلهجون بذكر (جيومانيو) ويتناقلون أخباره اعترى ابنة الملك (كارلو) مرض من النوع الذي أصاب ابنة السيد (أمبرجيو) فطلب الملك الأطباء ورجال الدين وغيرهم فباءوا جميعاً بالفشل، فبعث الملك في طلب (جيوماتيو) فذهب إلى نابلي فلما دخل على المريضة وتممتم بضع كلمات سرعان ما شفيت من مرضها بمقدرة تشبه المعجزات، ففرح الملك وأهل الملكة جميعاً وأكرموا (جيوماتيو) وأغدقوا عليه المنح والعطايا حتى خرج من المدنية راضيا بما أصاب من مال كثير. وفي خارج المدنية التقى و (رودريجو) فقال له الأخير، لقد رددت جميلك مضاعفاً، وأنا الآن لست مدينا لك فإياك والتعرض لي بعد ذلك فإني سوف أنتقم من بنات حواء، في المدة الباقية لي على الأرض، فوافق (جيوماتيو) على ذلك وعاد إلى بلده فرحاً مغتبطا.
وبدأ (رودريجو) انتقامه، فحل في جسم صاحبة السمو الملكي ابنة الملك لدويج الثاني ملك فرنسا، فظهرت عليها الأعراض التي ظهرت على ابنة ملك نابلي، وكان أسم (جيوماتيو) قد وصل إلى فرنسا، فأرسل جلالة ملك فرنسا إلى جيوماتيو يرجو منه الحضور لمعالجة(889/51)
ابنته بما عرف عنه من مهارة فائقة، ولكن (جيوماتيو) أعتذر بضعفه وكبر سنه وطول السفر، فلم يجد الملك بدأ من اللجوء إلى ملوك إيطاليا ليحملوا (جيوماتيو) على الذهاب إلى فرنسا، فكان له ما أراد.
فلما وصل (جيوماتيو) إلى باريس ومثل بين يدي الملك، أخبره بخشوع أن مهارته في طرد الأرواح الشريرة محدودة إذ أن كثيراً منها تكون من الدهاء والخبث بحيث يتعذر عليه طردها. عند ذلك غضب الملك وهدده بالقتل، إن هو لم يستطع شفاء ابنته، فخاف جيوماتيو وارتعدت فرائصه فقبل أن يرى المريضة، فلما اختلى بها همس في أذنها قائلاً (أنت هنا يا روديجو) فسمع صوتاً ليس غريباً عنه يقول: (وماذا تريد؟) فجمع (جيوماتيو) شجاعته وتوسل إليه أن ينقذه من ورطته وينجيه من غضب الملك، ولكن الشيطان لم يلن قلبه، فأجابه في قسوة وعناد: ألم نتفق على ألا تعترض طريقي؟ وماذا تريد بعد أن نلت جزاء ما قدمت لك وأصبحت من الأغنياء المعدودين، فبأي حق تطلب مني مزيداً، وحق (بلوتوم) لن أتركها مهما عملت ولا يهمني أن يقتلك الملك صلباً أو حرقاً.
فلما رأى (جيوماتيو) أن تضرعاته ذهبت أدراج الرياح وأن توسلاته لم تجد نفعا مع هذا الشيطان المريد، ترك المريضة واختلى بنفسه يفكر في مصيره، فهداه التفكير إلى خطة يتبعها معه، فذهب إلى الملك وطلب منه أن يدعو جميع رجال الدين والأمراء وكبار رجال المملكة في احتفال كبير يقام فيه عرش فاخر موشى بالحرير ومطعم بالذهب، وأن يحضره هو ورجال حاشيته وأن تعزف فيه موسيقى الحرس والجيش وأن يكون الكل على استعداد صباح يوم الأحد. فأمر الملك بإعداد كل ذلك. وفي الوقت المحدد حضر (جيوماتيو) وأمر فرق الموسيقى أن تعزف أقوى الألحان صدى وأفظعها صوتاً ثم أحضرت المريضة وأجلست على العرش، فلما رأى (رودريجو) كل ذلك همس في أذن (جيوماتيو) قائلا: ما هذا؟ هل تظن أني أخاف هذا الجمع؟ وهل فاتك إنني تعودت قسوة نيران الجحيم وشدة عقاب جهنم؟ فهل هذا يرهبني أو يخيفني؟ سترى ما يكون.
وما كاد الشيطان يفرغ من كلامه حتى أشار (جيو) إلى الفرق فدقت الطبول وأرتفع صوتها وعلا صياح الأبواق في الجو وعزفت جميع الفرق نغمات مزعجة وهي تتقدم بخطى ثابتة إلى المكان الذي تجلس فيه سمو الأميرة، فسأل الشيطان صديقه عما حدث وما سبب كل(889/52)
هذه الضوضاء المزعجة؟ فأجابه (جيوماتيو) قائلا: ما كنت يا صديقي العزيز أريد إزعاجك وتكدير صفوك ولكن ما حيلتي وأنا أرى زوجتك مقبلة لتعود بك إلى منزل الزوجية بعد غيبتك الطويلة؟ فما كاد الشيطان يسمع أسم زوجته حتى فقد صوابه واضطربت حركاته وضاقت عليه الأرض بما رحبت فسأل صديقه (جيوماتيو) عما يفعل حتى لا يعود مع زوجته، فنصحه بأن يولي هاربا فلم يكد (جيوماتيو) ينتهي حتى شعر بطيف الشيطان يمر مسرعاً ورأى الأميرة قد صرخت بصوت عال، ثم عادت إلى رشدها دهشة مما ترى وسألت عن سبب هذا كله، فأخبروها كل شيء.
وعاد (رورديجو) ذلك الشيطان اللعين إلى سقر ليقص لمليكه وزملائه أبالسة الجحيم ما لقي من هذه الزوجة، وليرثي لأبناء آدم مما يلقون من بنات حواء.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ(889/53)
البريد الأدبي
ذكرى جبرائيل تقلا باشا
انطوت سبعة أعوام منذ مات المغفور له جبرائيل تقلا باشا، ومن عجب أن تطوى ذكرى هذا الرجل العظيم معه، فلا يجرى ذكره اليوم حتى على ألسنة الذين أحسن إليهم وبوأهم من الشهرة مكاناً عليا.
والحق أن تقلا باشا كان من الرعيل الأول الذين خدموا الصحافة العربية، وإذا كان قد سبقه رجال عظام من أمثال المرحومين الشيخ علي يوسف ومصطفى كامل باشا وأمين الرافعي بك، فقد كان جل اعتماد هؤلاء الأعلام على صحافة الرأي، أما الصحافة الخبرية فلم ينهض بها أحد مثل تلك النهضة التي أضطلع بها تقلا باشا.
ولقد وقفت النهضة الصحفية عند الحد الذي تركه هذا لم تتقدم خطوة واحدة، وكل الذي حصل أن القارئين لم يعودوا يعتمدون على صحيفة واحدة يطالعونها، ومن ثم لم يعد في وسع صحيفة بعينها أن تقول إنها الصحيفة الأولى. وإذا كان هذا ما عناه تقلا باشا في ثورته الصحفية فقد أحسن، فليس من مصلحة القارئ ولا مصلحة المحرر أن تستبد بهما صحيفة واحدة تلمي على الأول آراءها وتدفع في ذهن الآخر أن ليس لم مرتزق فيما سواها.
ولقد كان في وطاب الرجل مستحدثات أخر، أعجلته الحرب عنها فأرجأها حتى حين، ثم طواه الردى فماتت بموته إلى حين.
ولقد كان تقلى باشا صحفياً حتى أخمص قدميه، وكان يعرف كل شيء عن الصحافة، كما كان بصيراً بالصحفيين يكاد يحصي أسماءهم جميعاً ويحيط علماً بكل واحد منهم ويدرك مدى نشاطه أو خموله فهو قد أحاط بهذه المهنة ودرسها من كل أقطارها.
كان يعمل ساعات الليل الأخيرة، يسأل عن هذا المقال، ويبحث هذا الخبر، حتى إذا اطمأن أوى إلى فراشه قرير العين. واذكر أنني جالسته مرات فكان يقول لي: ماذا لا تكتب في موضوع كذا؟ أو لماذا تركت النقطة الفلانية في موضوع كذا؟ وهذا دليل على أن الرجل كان أديبا فوق زعامته الصحفية.
وأذكر أنه عتب عليّ إذ كنت أتناول الموضوعات الإسلامية في صحيفته بشيء من(889/54)
التحفظ، وأحسب أنه قال لي: إذا كنت أنا مسيحياً فإن جريدتي إسلامية.
ولعل الناحية الإنسانية أو الناحية الشخصية مغتمضة في رجل على غرار تقلا باشا لأن الناس لا يعرفون عنه سوى الناحية العامة، ولكن الإنسان إذا تبطن هذا الجانب من حياة الرجل فسوف يلقى عجباً.
وحسب الإنسان أن يدرك أنه ابتنى - وهو مسيحي - مسجداً في ضيعته بالمنوفية، وإذا قلت له في ذلك، قال إن الأجير الذي يتقي الله ويتعبد له لابد أن يخاف الله في عمله، فلا يعمل إلا بما يرضى الله.
ويحضرني الساعة أن سيدة جليلة من قريباته ماتت في الإسكندرية في مطلع عام 1940، فذهبت إليه أعزيه، ثم رأيته بعد أيام في الإسكندرية فإذا هو مشغول الذهن بأشياء لم أدر كهنها، ولكن لم يمض غير بعيد حتى عملت أن تقلا باشا ورث مالاً جليلاً من قريبته التي قضت، بيد أن شيئاً من هذا المال لم يدخل جيبه ولم يحتجزه لنفسه، وإنما فرقه بين الجمعيات الخيرية في الثغر، غير مفرق بين جنسياتها ولا بين أديانها ما دامت رسالتها - واحدة - هي رسالة الخير.
وقبل وفاته بأيام، زرته في مكتبه فإذا هو ينوء بأثقال من الهم، عرفت مظاهرها من وجهه، وغابت عني بواطنها، وإذ سألت في ذلك صفيه وخليله المغفور له أنطون الجميل باشا لم يحر جوابل، ولكن حين مات الرجل عرفت أن هذا الرجل العظيم كان يرهق نفسه في العمل، وهو واقع تحت ظروف شخصية لا يكاد يحتملها بشر.
ولا احسبني بصرت برجل يحترم معاونه ومساعده في عمله، وينزله من نفسه منزلة سامية، كما بصرت بتقلا باشا مع صديقه أنطوان الجميل باشا، فإنه لعمري ما كان يقدم على عمل دق أو جل حتى يستشير أنطوان باشا ويتلقى موافقته ومباركته، ولقد حدثني أنطوان باشا غداة موت هذا الرجل العظيم بأنه لم يختلف معه على أمر قط. ومما ساقه مساق المثل على مبلغ ما كان بينه وبين تقلا باشا أن وفداً من جمعية القرش زاروه - أي زاروا تقلا باشا - وطلبوا إليه أن يتبرع بمبلغ لمشروع مصنع الطرابيش فسألهم: بكم تبرع أنطون باشا؟ قالوا بجنيهين. فأجابهم: إذن فأنا أتبرع أيضاً بجنيهين.
ولو أن التقاليد الصحفية التي أستنها تقلا باشا بقيت لما أشتكى (قادة الرأي) من حيف لحقهم(889/55)
أو ظلم طاف بساحتهم. ولكن المؤسف المحزن أن هؤلاء الصحفيين الذين يجأرون اليوم بشكايات الناس ويطالبون بإصلاح الحال، هم أول الشاكين الذين تنو بظلاماتهم صحائف صحفهم!
ويوم مات تقلا باشا رأيت أنطوان الجميل باشا يتنزى ألم ووجيعة وكأنه المهجة الدامية والعاطفة الحرى، وقال يومها لمن عزاه من الناس: لقد فقدت صديقي الذي استخلصته من الدنيا وكذلك كان تقلا باشا من الآحاد الذين قل أن يجود بمثله الزمان.
منصور جلب الله
أفلامنا والرذيلة:
أعتقد أنني لا أكون مبالغاً إذا قلت أن كثيراً من أفلامنا تدعو للرذيلة وتحصن على الابتذال وأن الرجل الحريص على أخلاق أهله يجب أن يحول دونهم ومشاهدة مثل هذه الأفلام الخليعة.
ولا سيما هؤلاء الذين هم في دور التكوين وسن المراهقة حيث تتأثر العقول وتخفق القلوب حينما تظهر على الشاشة تلك المواقف المثيرة. . . عناق. . . وضم. . . وقُبلَ. . . وأغاني أقل ما يقال عنها أنها تحريض صريح للفجور. . . وأظن أننا لا ننسى أغنية مطرب كبير حيث يقول (كل شيء ممنوع في الدنيا إلا الحب). . ولقد روى لي مدرس أنه دخل السنة الثالثة الابتدائي فوجد الطالبات يرقصن ويرددن أغنية حديثة حيث تقول إحدى مطرباتنا فيها (رايداك والنبي رايداك). . . وقس على ذلك من (حموده فايت يا بنت الجيران) لغيرها من هذا القبيل. وفي أفلامنا يكشف البطل عن الطرق التي يستطيع أن يوقع فتاه في حباله كما تستطيع البطلة أن تكشف الحيل التي تستطيع بها أن تغافل أهلها لتخرج لمقابلة عاشقها وهكذا. . .
فما دامت شركات الأفلام لا يهما إلا ما تكسبه ولو كان ذلك على حساب الأخلاق. . . وما دامت الحكومة لا تعتبر هذه المناظر والأغاني خارجه عن حدود الفضيلة فإننا نتجه إلى الآباء الحريصين على أخلاق أولادهم وبناتهم ليتخيروا الأفلام الملائمة حتى لا نلقنهم عن طريق الأفلام طرق الرذيلة وحتى لا نعود فنندم حيث لا ينفع الندم إذا أنحرف الشاب أو(889/56)
انحرفت الفتاة تحت تأثير أفلامنا وأغانيها. . .
أنور عبد الملك
كلية الحقوق - جامعة فؤاد(889/57)
العدد 890 - بتاريخ: 24 - 07 - 1950(/)
الثقافة الشعبية
للأستاذ محمد محمود زيتون
الثقافة الشعبية في مصر موزعة بين هيئات شتى حكومية وغير حكومية؛ فهناك؛ وزارة الشئون الاجتماعية بمراكزها الاجتماعية، ومسارحها الشعبية. ومصلحة الفلاح، وكذلك وزارة المعارف بمؤسسة الثقافة الشعبية، ومراقبة الثقافة العامة، وإدارات خدمة الشباب، والنشاط الاجتماعي، والتسجيل الثقافي. وهنا أيضاً رابطة الإصلاح الاجتماعي، وجمعية نهضة القرى، وجمعيات الشبان المسلمين والمسيحيين، والجامعة الأميركية.
وكل هذه الدوائر تنشد للشعب ثقافة عامة يتماسك معها أفراده على أسس متوازنة من الرياضة والعلوم والفنون بحيث لا يتخلف الفرد عن الجماعة ولا تتنافر الطبقات بسبب الحرمان من معاهد العلم.
ونسارع إلى القول بأن هذه الجهود الكريمة التي تبذل في سبيل هذا الغرض النبيل بحاجة إلى تنسيق وتركيز بحيث لا يكون في اختلاف أساليبها صعوبة الحصول على الثمرة المرجوة ز ونستطيع هنا أن نرسم الخطوط الرئيسية التي تتكون منها شبكة الثقافة الشعبية ولعل في هذه المحاولة ما يعين على بيان ما نرمي إليه.
والرياضة البدنية أقوى عوامل الثقافة الشعبية، وليس أثرها وقفا على تنمية الأبدان لأساليب الرياضية المعروفة، وإنما يمتد هذا الأثر على أبعد من ذلك بكثير، فهي تدفع باللاعبين إلى الساحة الشعبية حيث تتخطى المنافسة حواجز المنفعة، وتنأى بهم عن التسكع والثرثرة وتدبير الجرائم وتعاطي المكيفات واللعب والشرب في المقاهي والملاهي.
ومن مزايا الرياضة الشعبية أخذ اللاعب بالروح الرياضية من ضبط النفس عند النصر، والثبات عند الهزيمة، وسرعان ما يندفع المتفرج لمشاركة اللاعب البارع أو الفريق الغالب ثم يهرع إلى منافسته فينعم بنشاط بدني وتفوق عضلي وتوثب نفساني.
ومن مزاياها ترقية الغرائز وتعليتها إلى مستوى كريم: ففي المصارعة عوض عن غريزة المقاتلة، وما ورائها من شرور، واللعب عامة غريزة ملازمة للإنسان في شتى أطواره، وإذا لم تتهذب هذه الغريزة كان الكبار كالصغار يلعبون بالنار.
والمباريات من أقوى عوامل التعارف بين الطوائف والجماعات والطبقات فتسود المساواة(890/1)
وتتطود المحبة بين الفرق والشعوب.
وتؤتي الرياضة الشعبية ثمراتها العاجلة في (البيئة المغلقة) المحرومة من جمال الطبيعة، النائية عن مظاهر العمران، ووسائل الترفيهية، ولذا يجب العناية بمثل هذه البيئة والإكثار من الساحات الشعبية بها.
وللفنون الجميلة في الأرواح ما الألعاب الرياضية في الأبدان من صقل النفوس وتهذيبها بالنغم الجميل، واللفظ اللطيف، والمنظر البهيج، وتسريح الخيال الحبيس في ملكوت السماوات والأرض، والترفيه عن الحواس والعواطف.
لهذه تستخدم المصانع الكبرى أجهزة الراديو لإذاعة الموسيقى والأغاني والأناشيد فتبعث في العمال نشاطا يزيد في إنتاجهم، ويقلل من قابليتهم للتعب.
والحفلات عامة ن والقروية منها خاصة، إنما هي جامعة شعبية يديرها شاعر البلد أو زامر الحي، ولهما في نفوس الشعب موقع الماء من ذي الغلة الصادي.
وكثيرا ما يتزاحم أهل القرى النائية على حفل تمثيلي شعبي أو غناء أو رقص بلدي لأن النظارة إنما يحتشدون ليروا في مرآة حياتهم ما ينعكس عليها من عيوب صاغها المؤلف سخرية، واعمل فيها مبضع الطبيب الذي يحرج مريضه ليشفيه تحت تأثير المخدر المشروع.
من أوجب الواجبات إذن دعوة الشعب إلى رحاب الفن لتهذب مداركه وترقى أذواقه، وتتعادل أمياله، ولا يكون كتلك الشعوب البدائية التي لا تتفاهم إلا في الظلام، لأن كل جريمة شنعاء، كما أنه يجعل الأفراد على أبعاد متساوية من الروح القومية، ويتيح للجميع حظا مشتركا من الآلام والآمال، وتخف أسباب النزاع بين المرأة والرجل.
ولما كان الفن في شتى أصباغه وألوانه تعويضا عن الجمال المفقود فمن الفن العملي تنظيم القرى والعناية بتخطيطها وتنسيقها لتكون لقاطفها بهجة في العيون، وراحة في القلوب، وهدوءاً للأعصاب وتدل الإحصائيات على أن القرية الجميلة اقل من غيرها مشاكل، وابعد عن الجرائم من القرية المهملة القياسية المناظر التي لا يرى في أهلها غير التبرم والسخط. والبلديات حين تقوم بالتنظيم والتنظيف إنما تؤدي واجبها في الثقافة الشعبية.
والدين يتحمل هو الآخر واجبه الأكبر في هذا المجال، ولا سيما عندما يوالي العلماء(890/2)
الوعاظ أبناء الشعب بالحكمة والموعظة الحسنة، ووصف الدواء على رغم قد الداء في غير أو ولا عسر، حتى يأطروهم على الحق أطرا كما يقول النبي الكريم.
وعندما ينطبع الفرد والشعب معا بطابع الخير والحق والسلام يكون الدين أسرع العوامل في التثقيف الشعبي، وأعمقها أثراً. والاجتماعات الدينية، فرص مواتية لبث التعاليم الطيبة، والمثل الكريمة وكم من أحقاد وثارات خمدت على اثر موعظة دينية. ولولا كلمة طيبة لحصدت مناجل العصبية كثيراً وكثيراً. وبذلك يعمل الدين في تهدئة الخواطر وتعلية الغرائز وتوجيه العواطف وضبط الأعصاب وامتلاك الزمام، والتزام الوسط العادل في كل الأمور.
ولقد ادى تبسيط العلوم للثقافة الشعبية نفعاً كثيرا، فأصبح من غير العسير تلقين الكهربائية لصغار الأميين كما لمس ذلك الأستاذ أمين كحيل بك مدير عام الجامعة الشعبية سابقاُ لدى زيارته أحد المراكز الثقافية في الصعيد.
نعم استطاعت الجامعة الشعبية تطويع العلوم لعامة الشعب سواء النظري منها أو العملي مما زاد الإقبال على الاستزادة منها عاما بعد عام. واذكر أن قد جمعتنا منذ عشر سنوات مناظرة بكلية الآداب موضوعها (تبسيط العلم للجمهور شر على العلم والجمهور) وكنت من المؤيدين للرأي في صف الأستاذ محمد مظهر سعيد بك، والآن لا أدري كيف أنكر فضل العلوم المبسطة على الثقافة الشعبية، غير أني أذكر قول سقراط (أتوني بغلام ساذج لم يتلق علما بعد، وأنا أستنبط منه نظريات الهندسة جميعاً)
ولقد أسهم الأستاذ علي حلمي بك مدير البحيرة السابق في هذا المضمار بأوفر نصيب، ولقد تمكن من تثقيف الشعب الدمنهوري بسلسلة من المحاظرات عن التربية النظامية، كما وضع تمثيلية تهدف إلى علاج المجرمين وكفاح الجريمة، مستنداً إلى خبر المدير، وثقافة المعلم، فضرب المثل الرائع لحكام الأقاليم في حرصهم على الاتصال المباشر بالجمهور في ساحة الثقافة الشعبية.
وكم يسعد الشعب إذ يرى حكامه وزعماءه وعلماءه ونواره وشيوخه يواسونه بين الحين والحين في المدن والقرى لا بمناسبة الانتخابات، ولكن في كل مناسبة تستوجب التنوير والتهذيب ابتغاء وجه الله والوطن.(890/3)
كان الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول وعضوا الشيوخ من احرص الأساتذة على إعداد الطلاب لمواجهة الجمهور حتى في اعمق البحوث الفلسفية وكان ذلك من مقاييسه المشهورة في تقدير درجة النجاح
وبعد فقد تبين لنا مم تأتلف العناصر العامة للثقافة الشعبية ومدى أهمية العمل على أذاعتها في الشعب على ضوء الخبرة النظرية والعملية، ولا شك في أن مضاعفة الجهود ستأتي بنتائج مرضية، يتوق إليها المصلحون، ويرضاها الغيورون.
فإذا كان ذلك كذلك وجب تركيز هذه الأفاق في يد مؤسسة الثقافة الشعبية أن ذلك من صميم رسالتها، أما عيرها فيتخذ من هذه الرسالة تكملة لنشاطه، وليس ما يمنع مطلقا من الاستعانة بالخبراء في كل ميدان، وإمداد الشعب والقائمين على ثقافته بكل ما ينهضه بالبلاد إلى أوج الكمال، حتى نكافح المرض بالرياضة ونقضي على الجهل بالعلم المبسط الميسر، ونستأصل الجريمة بتعاليم الدين وروائع الفن فلا ينخدع الفرد بالمبادئ الوافرة، ولا تتسم الجماعات بالأفكار الفاسدة، ولا يحرم الشعب الكريم من جهود ضحايا الفراغ.
محمد محمود زيتون(890/4)
طرائف من العصر المملوكي
سكردان السلطان
أو العدد سبعة
للأستاذ محمود رزق سليم
حيا الله مصر وبنياها، فقد كانت - ولا تزال - البلد الحنون العاطف المضياف! كم فاء إليها من لاجئ مجاهد وسكن إليها من غريب خائف مطارد، ضاق يه صدر بلاده، ونبا به المقام في وطنه، فوسعت له رحابها، وأمرعت له من جنابها، ولقيته لقاء الأم الروم ومدت له من حبال المودة، ما آنس قلبه وأقر لبه، وأستل من بين جنبيه الخوف، وأنزل فيه السكينة فنعم فيها بكرم العيش وبلهنية البال، في غير من منها ولا استكثار غير راجية لقاء هذا إلا المودة والبر، في غير عقوق أو مروق.
وقد عاونت الأحداث المعاصرة للعصر المملوكي على أن تصبح مصر - وكانت البلد الأمن الأمين، على ما بها - المهجر الموموق والمثابة المحبوبة لأبناء المسلمين والعرب في مشرق الأرض ومغربها فامتلأت فجاجها بالغرباء الراحلين إليها الساعين إلى أمانها الملتمسين الطمأنينة فيها، المرتجين رغدها ورخائها وسخائها.
ويضيق صدر هذا المقال لو رحنا نحصي عدد هؤلاء الغرباء وننوه بشتى مشاركتهم لهذا البلد في أدبه وعلمه مبينين كيف تأثروا بهما، وأثروا فيهما ولعل لنا إلى ذلك عودة في القريب.
وأحد هؤلاء الغرباء، شهاب الدين أبن أبي حجلة المغربي وأسمه أحمد بن يحيى التلمساني. ولد عام 725هـ بتلمسان بالمغرب. ورحل إلى الشرق فحج، واستوطن دمشق زمنا، ثم تجول إلى القاهرة، فأتخذها دارا، وظل حتى توفي عام 776هـ.
والفترة التي عاش فيها ابن أبي حجلة كانت فترة من الزمان مخصبة منجية، حفلت بعلية من الفضلاء، وحلبة سباقة من الأدباء، فترة عاش فيها الجمال بن نباته، والصفي الحلي، والصلاح الصفدي، والزين بن الوردي، وأبو بكر بن اللبانة، والنور الأسعردي، ثم البرهان القيراطي والعز الموصلي، وغيرهم من أهل الأدب والشعر وهي أدسم الفترات في(890/5)
حكم الناصر بن قلاوون وقد امتدت حتى عهد ابنه الناصر حسن.
وقد كان أبن أبي حجلة أديبا بارعا وشاعرا مبدعا ومؤلفا وجامعا. فلا غرابة أن ذكت نفسه ونشط بيانه وسط هذا الحشد العظيم من الأدباء؛ ولا غرابة أن جمعت بينه وبين الكثير منهم وشائج العلم والأدب؛ وهي أحنى وشيجة نجمع بين القلوب وتلائم بين النفوس.
وقد قيل إن ابن أبي حجلة كان يهوى إلى الحنفية ويقول أنه حنفي، ويدلف إلى الشافعية ويقول أنه شافعي، كما كان يسامر أهل الحديث، ويسير في مواكب الصوفية حتى أنه ولى إحدى مشيخاتهم. ولعل ذلك من قلق الفن، وهو يغري بالتنقل، أو من ظرف الأديب وحسن تأتيه، ولبق الشاعر وطوع قوافيه
وقد كان ابن أبي حجلة شاعر تياها بالشعر، يرفع صناعته فوق كل صناعة وله في ذلك أدلة وبراهين ويزهي بما ينظم ويفخر. سالكا في أساليبه مسالك المبدعيين من أهل عصره مؤتما في ذلك بابن نباته شاعر جيله، ذواقة نقادا. حتى لقد نعى على الصلاح الصفدي بعض شعره فقال مؤديا:
أن ابن ايبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
وهو يشير بذلك إلى أبيات للصفدي قالها في النسيم آخذا معناها من أبيات لمحي الدين بن عبد الظاهر.
هذا مع أن أبي حجلة نفسه لم يخل شعره من السرقات شانه في ذلك شان كثير من شعراء جيله. إذ كانت السرقة الشعرية متمكنة من نفوسهم. ولعل ذلك كان بدافع من الدعاية أو برغبة في التوسع في التضمين. .
ومهما يكن من شئ، فلابن أبي حجلة أكثر من ديوان شعري. وكثير من شعره في مدح النبي عليه السلام وقد عارض بهذا المديح قصائد ابن الفارض الشاعر الصوفي المعروف المشهور وقد كان أبن أبي حجلة كثير النقد له والنعي عليه
لم يقتصر ابن أبي حجلة على الشعر يعارض به أو يمدح ويقدح أو غير ذلك بل أقبل على الرسائل والمقامات والمقالات يدبجها، وعلى المؤلفات يروضها ويعالجها، حتى استقام له من ذلك جملة بارعة(890/6)
ويبدو أنه كان فطنا كيسا، ولبقا مؤنسا، عنده من بضائع الإيناس ألف صنف وصنف. ولهذا استطاع أن يحكم صلته ببعض الأمراء ويسبق إلى رحابهم ويمدحهم بقصائده ويصف مروءتهم وشجاعتهم وحروبهم. وممن مدحه منهم الأمير سعد الدين بشير الجمدار، والأتابكي كمجك والمفر السيفي يلبغا الناصري مملوك السلطان حسن، الأثير عنده وقد قال أبن أبي حجلة من قصيدة يمدح بها المملوك المذكور يصف بها شجاعته في حروب أعدائه:
أمير جيش غدت في كل نازلة ... لقومه في رؤوس القوم نزلات
ساقت عزائمه سحب الجيوش لهم ... وبريقها سيفه والرعد كوسات
لخيله وأعاديه إذا برزوا ... في موقف الحرب كرات وفرات
خليل إذا قرنت آذانها وظهرت ... لنصر راكبها منها قرانات
كم صح من يلبغا جبر لقاصده ... لكن لجيش الأعادي منه كسرات
وقد حظي ابن أبي حجلة - في هذا الزمان المستعجم - لدن سلطان عصره الناصر حسن حفيد قلاوون وقد كان ابن أبي حجلة أكثر من كتاب. ومن بين ما ألفه له كتابه المشهور (ديوان الصبابة) وأشار إلى ذلك بقوله في سباق قصيدة مدح بها.
ولي فيه من غر التصانيف خمسة ... وهذا الذي طوق الحمامة عاشره
وقد كنى بالشطر الثاني من البيت عن كتابه (ديوان الصبابة) إذا أن الباب العاشر منه هو باب طوق الحمامة. وهذا الكتاب في أخبار العشاق ومصارعهم وما جرى لهم من أحاديث وأشعار. وقد أحدث هذا الكتاب ضجة في بلاد الأندلس وألف لسان الدين بن الخطيب كتابا على غراره جعله في الحب الإلهي وقد سلك فيه مسالك الصوفية فزلق في بعض عياراته بما حوسب عليه حسابا عسيرا.
ويمتاز ابن أبي حجلة بحسن ابتكاره لموضوعات مؤلفاته وطرائقها، وابتكار الموضوعات، فن دقيق من فنون التأليف تتغاير فيه الخواطر، وله خطره وأثره، إذ هو الموجه للمؤلف من بعد، والموحي إليه بتشتيت أفكاره، ومختلف تصوراته، ومسالك عباراته
انظر إلى ابن أبي حجلة، وقد فطن إلى العدد (سبعة). . . فوضع فيه سفرا قيما أهداه إلى السلطان حسن وسماه (سكردان السلطان). . فكان من جملة ما ألف له.
وسكردان معناه (وعاء السكر) والكتاب - حقا - لذيذ ممتع. وموضوعة - كما نوهنا - هو(890/7)
العدد سبعة. ويحار المرء - قبل قراءته - فيما سيكتبه هذا الرجل في سفره عن هذا العدد. حتى إذا قراءه أتسع أمامه الأفق، ورأى في العدد سبعة معاني وخوصيصات، ندت عن ذكائه، وغابت عن خاطره. وإذا بالعدد سبعة أمام ناظريه يجمع من حوله، شتى من معلومات كان يظنها متنافرة فألف بينها. ومتباعدة فلائم بين شملها، بكياسة وظرف، وسياسة ولطف. وهذه هي عبقرية التأليف.
والمؤلف بين هذا الحشد الحافل من المعاني والأفكار والحوادث التاريخية والأدبية، والنوادر. ونحوها، له أسلوبه الخاص، يضفي عليه من ذات نفسه، ويسبغ فوقه من منهجه، فيبدوا فيه الحديث جديدا والغريب متأهلا، والفج ناضجا، والناعس العابس، يقظا بساما.
والكتاب - قبل هذا - مصري في صميمه. فقد عنى المؤلف بإبراز حياة العدد سبعة في الديار المصرية، مبينا ما لهذه الحياة من مناسبات وملابسات وصلات بها، مدللا على أن لهذا العدد نصيبا من الوجود ضخما، بهذه الديار، وبينه وبينها رابطة وثيقة العراء. وإذا كانت الأعداد قد تفرقت في الأمصار، واتخذ كل عدد منها لنفسه دارا، فإن العدد سبعة قد أختار مصر دارا له.
وقد دلل المؤلف على ذلك كله بحوادث لا تدع مجالا للشك في صدق ما لاحظه على العدد سبعة ووجوده بمصر. والحوادث التي ساقها، مع صدقها، كثيرة. وهذا يدل على ثقوب نظره وجليل ملاحظته.
وسواء أكان وجود العدد سبعة بالديار المصرية، وبروزه في حوادثها ومناسباتها، عارضا أم كان غير عارض، فقد استطاع المؤلف - بكتابه هذا - أن يركز في الأذهان المعنى الذي ذهب إليه، وهو أن العدد سبعة يحيا بالبلاد المصرية حياة موفقة سعيدة، أكثر مما يحيا في غيرها من البلاد، وانه إلى ذلك أشرف الأعداد.
وقد دلل المؤلف على صحة نظريته بأدلة لا تحصى، وهي ما بين حوادث تاريخية قديمة أخرى معاصرة، ونوادر أدبية، وغير ذلك. وقد نوهنا بان هذه المعلومات قد لا يجتمع إحداها بالأخرى - لأول وهلة - جامعة. ولكن المؤلف بلباقته، وجد بينها أصره قوية، وهي العدد سبعة. . .
واليك مثلا. فأية علاقة بين الحاكم بأمر الله الفاطمي، ويوسف الصديق عليه السلام، سوى(890/8)
أن كلا منهما من عظماء الرجال الذين مروا بمصر في تاريخها الطويل الحافل؟ ولكن أبن أبي حجلة لقي علاقة بينهما أخرى. . وهو العدد سبعة، فإنه ذو صلة بالرجلين وثيقة. . .
فالحاكم بأمر الله، لبس الصوف سبع سنين، وأوقد الشمع ليلا ونهارا سبع سنين، ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهاراً، سبع سنين وسبعة اشهر. وكان يقرا نسبه على المنبر كل سبعة أيام، وانه قتل وهو يلبس سبع جباة مزررة علية. . .
أما يوسف عليه السلام، فقد رأى الرؤيا وهو ابن سبع سنين، وعاش في بيت الذي اشتراه من مصر سبع سنين، ولبث في السجن سبع سنين. وقد رأى ملك مصر في أيام رؤياه المشهورة وفيها سبع بقرات، وسبع سنابل. ثم جاءت من بعدها سبع سنين زرعت دأبا، واختزنت غلتها بإشارة يوسف. ثم جاءت من بعدها سبع سنين عجاف المجدبة وهكذا. . .
وبهذه المناسبة نذكر أن أبي حجلة، انتهز فرصة حديثه عن يوسف الصديق، وعرض لتفسير سورة يوسف، فشرحها برمتها تقريبا، وفسر الكثير من غامض آيها، على وجوهها العدة، معتمدا آنا على أقوال المعشرين، وأنا على نفسه ورايه، مستطردا في سباق ذلك إلى أقوال طريقة وآراء جديرة بالنظر وهكذا استطاع ابن أبي حجلة أن يتخذ من العدد سبعة تكأة قوية يستند إليها في عرض جملة نافعة من فوائد جعبته، ولا سيما ما كان منها في الأدب والتاريخ. والحق أن كتابه معرض حافل لجملة من صفحات مصر التاريخية، قديمها ومعاصرها. وكثير من هذه المعاصرة، كان هو أول من لاحظه بثاقب بصره ودقيق استقرائه.
ومن ذلك - مثلا - ما لا حظه عن الملك الناصر حسن، سلطان عصره. فقد قال أنه وافق أباه الملك الناصر محمد بن قلاوون في سبعة أمور، هي: اللقب، وترك السلطنة، والعودة إليها، والجلوس على العرش في المرة الأولى يوم 14 في الشهر، والجلوس في المرة الثانية يوم2 شوال، وانه وزر له متعمم ورب سيف وانه حكم مدة بغير وزير أو نائب سلطنة.
هذا ويحسن بنا أن ننوه في إيجاز، بمشملات الكتاب فقد رتبه على مقدمة وسبعة أبواب ونتيجة، وان تنقسم النتيجة أيضاً إلى سبعة أبواب أخرى.
وفي المقدمة: اجمل ذكر عدة حوادث مما وقع بالديار المصرية من متسمات العدد سبعة.(890/9)
وتحدث في الباب الأول عن: خاصية العدد سبعة وشرفه ومزيته على غيره من الأعداد.
وفي الباب الثاني: عن العلاقة بين السلطان والعدد سبعة. وفي الثالث: عن إقليم مصر الذي عاش فيه العدد سبعة، ذاكر نبذة حسنة من أخبار هذا الإقليم، وحوادث القاهرة وأبناء النيل وما أتصل بذلك: وفي الرابع: عن السلطان حسن وانه سابع من جلس على سرير الملك، من أخوته مع نبذة يسيرة في أخبار من تقدمه من الملوك الترك بمصر. وفي الخامس: تحدث عن الملك الناصر حسن وعن أخوته وأبيه وعميه وجده وفي السادس: نوه بجملة حوادث عجيبة مما وقع لهؤلاء السلاطين، لم يسبقه إلى تأثرها أحد. وفي السابع فسر شيئا مما أجمله في خطبه الكتاب وفي الباب الخامس، متحدثا كذلك عن الآثار النبوية. وهو باب ملئ بالنكت الأدبية.
أما النتيجة فهو أوسع مدى مما تقدم، وأرحب صدرا، وابسط حديثا، وفيها تدليلات وتوضيحات وتفصيرت لما أبهم وأجمل في المقدمة. وهي تشمل على سبعة أبواب كذلك، فالباب الأول: في قصة يوسف، والثاني: قصة في فرعون وموسى. والثالث: بسط فيه الكلام عن ملوك مصر وعجيب حوادثهم ومتفقات حياتهم. والرابع: في سيرة التحاكم بأمر الله الفاطمي. والخامس في ذكر بعض حوادث مصر. والسادس: في ذكر حوادث القاهرة وضحاياها وفي الأهرام وغيرها. والسابع ذكر السبع الزهرات التي اجتمعت بمصر في صعيد واحد، وما قيل فيها من منظوم الكلام ومنثورة، وغير ذلك.
وحرص المؤلف على أن يختم كل باب بخاتمة خاصة به، مناسبة له. فمما سبق، يتبين لنا جهد الرجل فيما ساق من الحديث، وما عبابه إناء مسكرة أو (سكردانه) الذي أهداه إلى سلطانه.
فقد حشد له فيه أنواعا مما لذ وطاب، وغاب بالألباب. وحق له أن يقول عنه في خطبته:
(وسميته سكردان السلطان، لاشتماله على أنواع مختلفة من جد وهزل. وولاية وعزل. ونصيحة ملوك. وآداب وسلوك وسير وعبر، وتغيير دول. وانتحال ممل. وقطع طريق، وجر مجانيق. وأعمال سحرة. وبيان وتبيين ومدح وتأبين. ويقظة ومنام وبر وآثام وقال وقيل. وأهرام ونيل. وغرائب وعجائب. مما تلقفته من أفواه الشيوخ الآجلة. ورويته عن كقرة وقلة، وشاهدته بعين الحقيقة. والتقطته من التواريخ المعتمد عليها، التقاط الزهر من(890/10)
الحديقة. . .)
وبعد، فلعل في هذه الوجازه ما ينوه بابن حجلة المغربي وأدبه، وبكتاب قيم من كتبه.
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
محمود رزق سليم(890/11)
في التربية
التربية لوقت الفراغ
للأستاذ محمد حسن عبد الرحمن
التربية كلمة شاملة نريد أن نستخرج منها ما فيها لوقت الفراغ. فما هي؟ وما الذي نخصصه منها لوقت الفراغ؟ وما هو هذا الوقت الذي نسميه وقت الفراغ؟
ذلك ما نبغي شرحه وبيانه مع البحث والفحص لعلنا نصل إلى نور يستضاء به في هذا الباب.
التربية: عمل قديم قدم الأحياء الخليقة جميعها. كلهم أدوه ويؤدونه على صورة ما، ما اندثر منهم وما تطور، وما عليها الآن.
فهي خلق في نفس الأحياء كافة أودعه الله فيها، فالخالق لما خلق الإنسان والحيوان والنبات أودع كلاً أمانة التربية الجنسية، حتى إذا انجب النبات الأول والحيوان الأول والإنسان الأول تحركت هذه الأمانة المودعة فيه نحو نسله، فخالطه برعاية منه حتى اطمأن عليه ثم انفصل عنه.
دع الإنسان والحيوان فحلق التربية فيهما واضح، وانظر إلى النبات، نظر إلى الشجرة مثلا كيف تحتضن براعمها، وتمدها بالغذاء، وتدوم على حملها حتى تكبر وتطول وتخرج أزهارها فترعى هذه الأزهار حتى تتكون فيها الثمرة والبذر، وتستمر تغذيتها حتى تستكمل نموها وتنضج وحالتئذ فقط تمنع عنها الغذاء لتجف وتنفصل عنها، ولتسلك بعد طريقها في الأرض وعليها كما سلكتها أصولها الأولى. ألا يماثل هذا ما يفعله الحيوان نحو نسله؟ يرعاه حتى يستقيم عوده ثم يتركه يأخذ سبيله قادراً عليه. فالتربية هي جميع أعمال الرعاية التي يحاط بها الطفل لتنمو أعضاءه ومواهبه في اتجاهها الطبيعي فتساعده على أن يتخلص من كل ما يعترض هذا النمو أو يضره. وحتى إذا أكتمل نضجه يكون خبرة يمكنه أن يسلك طريقه في الحياة كما سلكناه أو أفضل منا وذلك ما نبغي.
والتربية الحديثة تشمل كل ما نعمله مع الطفل ولأجله حتى يسبر في مراحل نموه سيراً طبيعياً لا تعرقله عوائق ولا عراقيل تضره، ثم ما يساعده على أن ينمو نموا سليما لا تشوبه شائبة من كبت أو انحراف أو ضغائن. وإنما النشأة السليمة التي تمكنه من استخدام(890/12)
جميع ما وهبه الله من مواهب صالحة، ونحفظه من كل السيئات التي تضره أو تجعله ضارا بغيره. ويمكن أن ألخص هذا الهدف العام في القول بان التربية الحديثة تهدف إلى أن يكون تفكير الفرد جمعياً وتفكير الجماعة فردياً، فالواحد للكل والكل للواحد.
عرفنا ماهية التربية البدنية عامة ونعرف أننا أنشأنا لها المدارس والمعاهد والكليات وحقول التجريب والتدريب فهل ندخل في أثناء أعمال التربية في هذه المنشات توجيهات وتدريبات وخبرات يستفيد منها وبها الذين نربيهم من أوقات فراغهم، طبعاُ نعم.
فواجب مسلم به أن يهتم المربون بالفراغ في أوقات تلاميذهم. بل وان تهتم الحكومات بالفراغ في أوقات جميع طوائف الشعب وفرقه. فوزارة الشئؤن الاجتماعية أرى من اختصاصها أن تتدخل في تنظيم أوقات الفراغ لطوائف الشعب كافة كل طائفة على حسب مهنتها ومنطقها. ويسرنا أن نرى اتجاها سلكته وزارتنا في هذا السبيل فأنشأت الساحات الشعبية يقصدها أفراد الشعب أحرار في أوقات فراغهم حيث الكثير من أعمال الرياضة والعابها، وكم يكون أكمل لو نظمت فيها الأعمال الثقافية بجانب الرياضة في كل ساحة. ثم أريدها تتدخل لتحدد للزارع والصانع والعامل والموظف والتاجر أوقات وأيام ومواسم فراغه وحالتئذ يمكنها أن تصل بهذا الفراغ المنظم أن يكون خيراً كله للفرج وللمجموعة معاً.
فلنتعرف الفراغ ولنحصره - الفراغ هو الوقت الذي تبتعد عنك فيه المسؤولية المهنة أو تبعات الوظيفة ولو إلى حين. فعندما تنتهي من عملك المطلوب منك بحكم مهنتك كعامل أو وظيفتك كموظف أو تجارتك كتاجر أو بحثك كباحث أو عالم - حين هذا الانتهاء تشعر بشيء من الارتياح يسري فيك فيبعث في نفسك السرور ونشاطا قد يغطي ما اعتراك في أثناء العمل من نصب وكبد. ولا أجزم أن يشعر المنتهي من المسؤولية هذا الشعور السار المريح دائما، فهو شعور يتوقف على حالة الانتهاء وما سبقها من فوز أو فشل ومن توفيق أو خطأ.
وعليه فأرى أن الوقت الذي يصرفه الشخص في التخلص من حالة العمل والمسؤولية وفي الاستجمام الجسمي أو العقلي أو هما معاً، وفي التهيؤ لعمل جديد - أرى هذا الزمن بين العملين داخلا ضمن وقت العمل ولبس بفراغ. فالفراغ يبدأ من بعد هذا. والآن فلنوضح(890/13)
الفراغ بأنواعه وأوقاته.
أولا - فراغ مقيد - وهو الوقت القصير الذي يجده الطالب بين كل حصة وأخرى ويجده العامل مرة أو مرتين في أثناء العمل اليومي.
هذا الوقت يستغله صاحبه في قضاء حاجاته الجسمية العاجلة وفي استجمام بسيط يروح به عن نفسه بهدوء أو مطالعة سريعة أو حركة، كما فيه ينهي عمله السابق ويستعد لعمله اللاحق.
وأنتقد مصالحنا الحكومية في هذا الباب أنها لم تحدد لموظفيها في المكاتب والدواوين مثل هذا النوع من الفراغ الذي يتخلل العمل اليومي فاظطرتهم إلى حالات من الفوضى وعدم الاطمئنان
ثانيا فراغ يومي - يكون بعد انتهاء جميع الأعمال المهنية اليومية.
وهذا النوع من الفراغ له أهميته التربوية. وقديما كان يستغله الأستاذ استغلالا سيئا فيكثرون من الواجبات التي يكلفون بها تلاميذهم فلا يجد الطالب بعد العمل المدرسي وقتاً لنفسه بل ينتهي من هذا ليبدأ عمل الواجبات حتى يغلبه النعاس وهذا أسلوب ضار وغير مفيد.
فعلينا كمربين أن نوازن بين ما نكلف به التلاميذ من واجبات يومية وبين اتساع هذا الفراغ اليومي فلا نشغل منه أكثر من ثلثه.
ثالثاً - فراغ أسبوعي - وهو اليوم الكامل أو النصف يوم لبعض الطوائف. وأرى أن يترك المربون هذا الفراغ للطالب يتصرف فيه كيف يشاء، ويكتفون بالتوجيه إلى أصلح ما يعرفه فيه، بسؤاله عن عطلته الأسبوعية كيف قضاها والدخول في مناقشة تربوية للموضوع، أو يذكر الفراغات الأسبوعية ضمن الموضوعات التي نتدارسها خلال الأسبوع.
رابعا - فراغ سنوي - وهو العطلة الصيفية وللعطلات المقررة للموظفين. وأرى أن الفراغ أنسب ما يكون للقيام بالرحلات والمعسكرات الجماعية لمختلف المدارس والجمعيات والأندية فيجمل أن تنظم المدارس والهيئات والشعب التي في داخلية القطر رحلات إلى السواحل والشواطئ مثلا فتقضي شهرا أو اكثر أو أقل في معسكرات أو نحوها. كما أن(890/14)
هذه العطلات مناسبة لزيارة الأقطار الأخرى قريبة أو بعيدة فليس يخفى ما في ذلك من منافع يبتهج لها وبها التلاميذ ومن فرص عظيمة تمكن الأساتذة من التربية العملية الفعالة الناجحة.
والآن أجمل ما تربى عليه التلاميذ حتى يستفيدوا بفراغهم ويفيدوا مهما كان نوع الفراغ، إذ تكسبهم الخبرة والمران لتكييف استخدامهم لكل فراغ فيتصرفوا في كل بما يناسبه مقدمين العاجل على الآجل والأهم على المهم. وأرى أن نفرد لذلك في الزمن المدرسي حصصاً تتناول التربية لوقت الفراغ. واضع النواحي الآتية أسسا لها.
أولا - استكمال اللازم للمهنة التي يزاولها حسب ما دونه في مذكرته - فيوجه التلاميذ ليثبت كل في مذكرته ما يعترضه في دروسه من مشكلات أو موضوعات أو أشياء تستلزم منه بحثا أو دراسة أو تجرب أو استخدامها في مختلف النواحي الجسمية أو العقلية أو المادية فليستكمل بنفسه ما شعر أنه في حاجة إليه، وليتول بنفسه شراء ما يلزمه من أدوات ومؤلفات وخامات ونحوها. فمثلا أعترضك في أثناء قيامك بمهنتك مشكل كخبرة تلزمك في ناحية منه أو أداة تنقصك لتستخدمها مثلا، دون هذا في مذكرتك وعندما تدخل في فراغك استكمل ما تريد. فأرى لو أننا ربينا أطفالنا وعلى طلبتنا هذا النظام، واتبعه عمالنا وموظفونا وتجارنا لنهضنا نهضة سريعة وطيدة في جميع مرافقنا، وربطنا بين العمل والفراغ وبطاً فرديا شخصياً اختياريا حبيباً إلى النفس لأنه ليس فيه روح المسؤولية ولا تعنت الرئيس ولا رياسة الكبير ولا عقاب الأستاذ، بل هو سعى إلى الكمال صادر من الأعمال الباطنية.
قال الله تعالى - (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم - (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). وقال حكيم - (أننا لا نصل إلى الكمال إلا بإتقان التفاصيل)
ثانيا - واجبك نحو بدنك - فقم نحوه بما يلزمه من راحة ومن تغذية ومن رياضة ونظافة ومن علاج ونحوه. قال عليه الصلاة والسلام - (أن لبدنك عليك حقا)
وواجبك نحو عقلك من راحة وثقافة وخيرات ودرية وظاهر أن للعقول رياضة كما للأبدان(890/15)
رياضة وان العلم للعقول كالطعام للأبدان.
ثالثا - واجبك نحو ربك - من صلاة وعبادة وتثقيف ديني ونشر دعوته والعمل بأوامره واجتناب نواهيه؛ وتطبيق أحكامه وشرائعه في المعاملات جميعاً فتخلق المسلم بمكارم دينه خير دعاية له. قال عليه الصلاة والسلام - (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقال - (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقال الله سبحانه وتعالى - (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقراً ومقاما) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل أواب منيب) وغير ذلك من كثير مما يلذ لأولي الألباب وقد قرن الله تعالى بين وقت العبادة ووقت العمل، وحث الناس على الاستفادة من الأثنين فقال جل شانه (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) وقال (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله)
يعمرونها بأعدادها وباستكمالها، يعمرونها بمراعاتها وخدمتها يعمرونها بالعبادة فيها فلنرب أولادنا يؤمون بيوت الله في فراغهم فيؤدون واجب ربهم ثم ينظرون ما يستطيعون أداءه لعمارة هذه البيوت واستكمال طهارتها وأدواتها فيجودون بشيء من مالهم مثلا لشراء شيء يؤمن لزوما ته من أدوات تطهير أو أضاءه، أو يتبرعون لها بمؤلفات مما ينفع الجالسين فيها ويهديهم صراطا مستقيما وديناً قيماً. أو يقومون بالأذان فيها أو بشرح شيء للمسلمين بين الصلات المفروضة مما أفاء به عليهم من فقه أو أدب أو سيرة تنفع في الدنيا أو في الآخرة أو تنفع أو تنفع الوطن الخاص كوطننا المصري فهو خاص بالنسبة لنا، أو تنفع العروبة كافة أو تنفع الوطن العام أريد المعمورة كلها، فالناس اليوم يجب أن ينظروا إلى أوطانهم الخاصة باعتبارها عضوا في جسم واحد وباقي الأعضاء في هذا الجسم هي(890/16)
الأوطان الأخرى فيهمهم أن يسلم الجسم كله لأنه إذا تألم عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
فليسعدوا وطنهم أولا ثم ليسعدوا الأوطان معهم الأقرب فالأقرب عملا بالجيرة وحقوقها.
فقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالجار وجار الجار وهكذا: إذن فهذه الوحدة التي تنشدها الإنسانية اليوم هي مما دعا إليه الدين الحنيف. دعا إليها الرسول من نيف وسبعة وستين وثلاثمائة وستين سنة. رسولنا العظيم من هذا التاريخ السحيق يدعو لتكون الأرض كلها وطنا واحدا والأوطان الخاصة فيه متماسكة بحقوق التجاوز وترابط الجيرة تماسكا وترابطا متسلسلا يفضي بعضه إلى بعض بالأخوة والمحبة والرعاية (ما زال أخي جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) هذا التماسك والتودد وتلك الرعاية وما تنطوي عليه من تعاون في البأساء والضراء.
لا شك يفضي إلى ضم العالم كله في وحده واحدة هي ما يدعو إليه فلاسفة العرب ومربوه الآن.
وقال جل شانه (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا) نعم من تحق الله علينا أن نذكره. فلنرب أولادنا على ذكره تعالى حتى يأنسوا به في وحدتهم وفراغهم وفي جمعهم وشغلهم. فهو يقول (اذكروني أذكركم) وما اسعد من يذكره خالقه فليعرفهم كيف يكون في ذكرهم إياه وقاية من السوء وردع عن الشرور جميعا وهداية إلى الصالحات الباقيات (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق)
رابعا ً - واجبك الاجتماعي - أنت عضو في المدرسة عضو في الأسرة، عضو في جمعيتك، عضو في قريتك أو بلدتك، عضو في قطرك، عضو في الإنسانية عامة. أن لكل ناحية من هؤلاء ما تستطيع من واجبات حتى يشعروا بوجودك وبنفعك وقيمتك لهم، واجبات القرابة والجيرة والصداقة والزمالة: المودة والزيارات والتراسل. فلنرب أطفالنا من صغرهم كيف يزورون ويراسلون، وكيف يشكرون على الزيارة ويردون على المراسلات. وكيف يواجهون كل حالة في المجتمع وله بما يناسبها. والصحافة فلنصلهم بها يراسلونها ويبادلونها الرأي ويفيدون منها ويفيدونها.
خامساً - الكسب - يسارعون إليه في الإجازات السنوية الطويلة لا يثنون عنه أبدا بل وفي(890/17)
إجازاتهم الأسبوعية أو اليومية إن أمكن وأقول إن أمكن لأن مجتمعنا لم يرق بعد إلى تهيئة الحالات التي تساعدنا نحن المربين فيجد التلاميذ خارج مجتمعهم المدرسي، لا ما نحن عليه الآن: يرى التلاميذ ومنا ويسمعون عنا في المدرسة ما لا يمكنهم ولا يمكننا نحن أساتذتهم أن نحققه لهم خارجها. فمجتمعنا في حاجة قصوى لإصلاحات كثيرة تربط بينه وبين المدرسة، فلنواصل جهودنا لإصلاحه عن طريق من نربيهم للجيل الجديد. وفي هذا الباب من التربية لوقت الفراغ. وبالشراء وبالبيع، وبالمساهمة في الشركات والمصارف. . . الخ.
فهذه الصحافة مثلا، فلنوجههم لطرق أبوابها يذهبون إليها بأنفسهم يعرضون على أوليائها خدماتهم كل فيما تخصص فيه أو نبغ أو يهواه وله فيه مواهب خاصة أو عامة. ولا يأنف أحدهم من أي عمل حتى ولو كان تنظيف المكتبة أو أعداد أوراق الطبع أو تغليف المراسلات للمشركين وغيرهم أو إحضار البريد والذهاب به.
ولتوجههم إلى المعامل والمصانع والمزارع والشركات والفنادق المصارف والمصايف. . . الخ
فليبحث كل لنفسه في أي منها من عمل ولا يستنكف أن يزاوله في أوقات فراغه مهما كان ضئيلا أو مرموقا بغير الرضى والوقار في بلادنا الآن أو منظورا إليه باحتقار.
أولادنا سيسلكون كل هذه المسالك بإقبال ونجاح متى لمسوا أن كل كبير كان صغيرا وان سنة الحياة التدرج من البسيط إلى المركب ومن الضعف إلى القوة. قال تعالى - (وهو الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة).
انظروا إلى الشعوب الغربية وخاصة التي في المقدمة منها كأمريكا وإنجلترا وألمانيا تجدوا الطلبة فيها ينعمون بخيرات كثيرة مما تكلمت عنه في باب الكسب العالي. فمجتمعاتهم وأخلاقهم ونشأتهم تساعدهم مساعدة فعالة على الكسب والتكوين المالي. انظروا في هذا وفكر بعض التفكير تجد الطلبة هناك والمجتمع وحدة متماسكة متعاونة على الحياة والنهضة جميعا وسأضرب لذلك بعض الأمثال مما أتمنى أن تتحقق في بلادنا قريبا بأذن الله تعالى.
لا يعترف الشباب الأوربي بالفقر عقبة تعوقه عن إتمام دراساته لأنهم لا يجدون غضاضة في القيام بأنفة الأعمال في أثناء العطلة وفي أوقات الفراغ لتوفير المال اللازم، فالعمل مهما(890/18)
كان نوعه ليس عيبا وإنما العيب أن يقف الساب في منتصف الطريق فلا يكمل تعليمه أو أن يكون عالة على غيره.
فطلبة الآداب لا يستنكفون أن يوزعوا الصحف والمجلات في الأحياء التي يسكنون فيها ولا بد أن يدرسوا للصغار ولو بأبخس الأجور.
وطلبة التجارة يشتغلون بالدعاية وتنظيم حسابات المتاجر الصغيرة.
وطلبة الطب يقضون أوقات فراغهم في التمريض في المستشفيات والعيادات الخاصة أو المنازل.
وطلبة الزراعة يربون الدواجن والماشية ويعقدون الأسواق لبيعها ومنتجاتهم.
وطلبة العلوم والصيادلة يؤلفون فيما بينهم لجانا لصنع المواد الكيميائية والمداد الذي يحتاجون إليه ومعجون الأسنان والروائح العطرية وغيرها من وسائل التجميل.
وطلبة الهندسة تجدهم في فراغهم داخل المصانع يشتغلون مع العمال جنبا إلى جنب.
والطلبة نزلاء الفنادق يتفق كل منهم مع مدير الفندق أن يشتغل في الفندق أو لأجله كذا من الوقت كان يحضر ما يريد الفندق ويوزعه مثلا أو يراجع حساباته أو يعمل في المطابخ أو في البوفيه أو في التنظيف أو الكي أو الخدمة. . الخ. وبهذا يسدد بعض أو كل نفقات معيشته في الفندق وأحيانا يربح ما يفيده في مرافقه الأخرى.
وقد تألفت في جامعة برستون بأمريكا لجنة من الطلبة لرعاية الأطفال في المنازل عندما يغيب أولياؤهم فتستطيع كل أم أن تتصل باللجنة طالبة أحد أعضائها ليرعى طفلها فيقوم أحد المساهمين بالذهاب توا إلى المنزل للعناية بالطفل وبذل اللازم ليسعده خلال غياب أمه فيقدم له الغذاء في الوقت المحدد وبغير ملابسه عند الحاجة ويداعبه ويناغيه. مقابل عشره قروش في الساعة.
فلنعمل نحن المربين على نشر هذه الروح بين تلاميذنا فمرافق بلادنا في حاجة واسعة للأيدي والجهود والأعمال. فهذه صحراؤنا الشاسعة ما أحوجنا إلى إصلاحها واستعمارها، وهذه ثرواتنا الزراعية والمعدنية والمائية والحجرية والعلمية ما انفع أن نستعملها فيجد العاطل فيها مكسبه ويجد أولادنا فيها مصرف فراغهم بالربح الوفير للوطن ولهم
محمد حسن عبد الرحمن(890/19)
معهد التربية للمصلحين بالمنيرة بالقاهرة(890/20)
من فلسفة الإذاعة
الإذاعة فن وحياة
للأستاذ يوسف الحطاب
(تحية لمعالي الدكتور حامد زكي بك وزير الإذاعة بعد جولته الفنية في الخارج)
(الإذاعة فن وثقافة وحياة)
هذا هو التعريف الكامل الذي أطلقه الأستاذ راشد في تقريره الأخير عن جهوده المشرفة بالقسم الأوربي.
وكم كان بودنا ألا يقف عند هذا التعريف السريع مع صحته وان يتناوله بشيء من الشرح والتفسير، بما عرف عنه من روح العلم والتحليل، حتى يسد فراغا يلمسه نقاد الفن حين يحاولون تفسيره الظاهرة الإذاعية، والكلام عن وسائلها وعن القائمين بها. ويظهر أنه أراد أن يسلم هؤلاء النقاد الموضوع بكرا ليفتقوا جوانبه، ويجلوا بعض ما غمض فيه. ولكن إذا كان الناقد في مثل هذا المجال مضطرا إلى التوفير على إجلاء جوانب الموضوع - ما دام صاحب التعريف قد فتح الباب أمامه ودعاه إلى أعمال ذهنه في الفهم والتفسير - فإنه مضطر كذلك إلى مجاراة صاحب الموضوع في السرعة، فيعرضه بسرعة الصوت الذي هو وسيلة الإذاعة نفسها، وأن كان واجبه يحتم عليه الوقوف عند أطراف التعريف وقفه غير طويلة.
وأول ما يصح للناقد أن يقف عنده هو الطرف الأول من التعريف (الإذاعة فن) ولا شك أن هذا هو التعريف الجديد الذي تقدمه المدرسة الحديثة لفهم الإذاعة فهماً صحيحا. وهو فهم يرفض الرأي القديم القائل بان الإذاعة حرفة يمكن أن يشتغل بها كل إنسان عاطل من الموهبة الإذاعية. ولقد كان هذا الرأي القديم يبطل إنسانية الأذاعة، ويحييها إلى لعبة إليه يمكن أن يلهوا بها كل من أفسح الطريق أمامه، أو قرأ كتابا على هامش فن الإذاعة، مع أن هذا الفن عملية فكرية مركبة لا يمكن أن يجيدها إلا كل إنسان يحيا في نفسه حياة إذاعية، ويشعر بحاجة مجتمعة الحي إلى هذا اللون من الفن، وتكون عنده القدرة إلى تحقيق موهبته بالفعل، فليس فن الإذاعة نوعا من المهارة بل هو الحياة نفسها كما تبدو في الصلة بين المذيع والمستمع مهما كان لون الحديث الذي يقدمه.(890/21)
ويبدو أننا قفزنا إلى موضوعنا مرة واحدة بربطنا بين الإذاعة وحياة المشتغلين بها من جهة، وبينها وحاجة المجتمع إليها من جهة أخرى. والواجب يقضي بان تتعرف إلى طبعة الإذاعة نفسها ن وما تحمل من عناصر وجودها التي تلتقي مع هذين العنصرين: النفسي منهما والاجتماعي. وعندنا أن هذا الفن وقد دفعت إلى ظهوره الصورة الملحة والرغبة في الاتصال بجموع الناس، فإن طبيعته قد تحددت وسط زوابع الفنون الأخرى التي وجد المجتمع أنها لا تفي بحاجته في التعبير عن حياته - وحياته الإذاعية بالذات.
والحياة الإذاعية التي نقصدها هي التي تحدد طبيعة الإذاعة نفسها. وتتمثل في شعور المجتمع بان فيه وفي نفوس أفراده أشياء مكبوته، وظيفة الإذاعة هي الإفضاء بها بمعنى إفراغ مضمونها ورفع الحجاب عنها. وهذه حقيقة لها سند من التاريخ - الحقيقي لهذا الفن. والإذاعة لم تبرز إلى الوجود إلا بعد أن ظهرت نظريات العقل الباطن وروجت المدرسة النفسية لفكرة الكبت ونادت بضرورة التنفس وقدمت التحليل النفسي كعلاج. والظاهرة الإذاعية في حقيقتها قريبة من جوهر الاعترافات التي يطلقها المريض أمام المحلل النفساني.
وليس معنى هذا أن كل ما يذاع أمام الميكرفون اعترافات سيكوباثولوجية، بل في عملية إفضاء أو إفراغ نفسية لما يدور داخل النفس، وتصوير هذا العالم بالأصوات المعبرة. أو على الأقل هذا ما يجب أن يكون عليه شكل الإذاعات والطريقة التي يجب أن تذاع بها حتى تكون الإذاعة حديث نفس إلى نفس يربح كلتا النفسين من الدفين بها. وبهذه الطريقة وحدها تحقق الإذاعة وظيفتها وقدرتها الكاملة على التأثير في الفرد والجماعة. وتؤكد وجودها كفن قائم بذاته له طبيعته وخصائصه المنفصلة عن بقية الفنون.
ولا نريد أن نذهب بعيداً في التدليل على صحة نظريتنا، ونكتفي بان نقول إن وظيفة الإذاعة قريبة من وظيفة المسرح والسينما. وانهما إذا كانا يقومان بتطهير العواطف.
بشكل ما فإن الإذاعة تحقق هذه بشكل أوسع لأن الرغبة في الإفضاء طبيعية في نفس كل منا للكبت اللاحق بها. هذا الكبت الذي يحول دون أن يخلص كل ذاته مما يريد الإفضاء به. وحتى إذا استطاع أن يتغلب عليه فإنه تعوزه القدرة على التعبير - وهذا ما يحققه المذيع أو ما يجب أن يقوم بتحقيقه مهما كانت مادة الحديث الذي يقدمه - فإذا كان بحثا(890/22)
فكريا وجب أن يتميز بالحدة أو العرض المبتكر.
هذه هي مادة الإذاعة وطبيعتها، أما الشكل أو الإطار الفني الذي تقدم من خلاله هذه المادة فالواجب يقضي بضرورة اشتراكه معها في تلك الطبيعة الإذاعية ورغم ما يذهب إليه البعض من أن المادة تحتم الشكل وتصنعه، فإني أرى يجب ألا يترك الشكل خاضعا لها، فكثيرا ما يرتفع جانب الشكل بجانب المادة. وإذا اجتمعت المادة مع الشكل ثم الطرف الأول من عملية التعبير الإذاعية، ولم يبق إلا أن نعرف كيف تتم عملية التعبير كلها، أو تعرف على الأقل الوسيلة إلى إيصالها إلى الطرف الثاني وهو المستمع وهذا أمر لا يتم عن طريق الصوت والصوت وحده - لا الكلمات أو النغم. أقول هذا لمن أحالوا فن الإذاعة إلى حشد متزاحم من الكلمات التي تصدع الرؤوس، والنغمات التي تملأ فراغا يشعر به مقدم البرنامج - ويشكو الأستاذ واشد من ذلك الفراغ في تقريره مر الشكوى.
إن الإذاعة فن متفرد بذاته، وهذا التفرد يتمثل في الوسيلة التي يستخدمها، ولا تقصد بالوسيلة الصوت المجرد القائم على ذبذبات لا تحقق التعبير الذي تهدف إليه، بل أننا ما دمنا نريد إفراغ نفوسنا مما بها ن فلا بد أن يتخذ هذا الصوت شكلا فنيا مؤثرا يخضع للتقاليد الفنية السائدة في كل الفنون. وما دامت هذه الفنون تخضع وسائلها لتقاليد الفن فعلى الإذاعة أن تجاريها عند استخدامها وسيلتها، فلا تقدم الصوت الإنساني كما هو، عاريا من كل تأثير، بل لا بد أن يدخل الفن عليه، ويتناوله بالمعالجة، ويخضعه لطبيعة الإذاعة الدائرة حول الإفضاء بغية تحقيق التأثير الصوتي.
وقد يثور على هذا القول أصحاب المدرسة القائلة بضرورة أن يكون الفن صورة منسوخة من الحياة. والرد عليهم بسيط فالإذاعة ككل فن تستطيع أن تجمع في وقت واحد بين محاكاة الحياة وتظل خاضعة في نفس الوقت لمطالبات الفن ولن يحدث ما يطلبه أصحاب هذه المدرسة إلا حينما ينزل الميكرفون إلى الشارع ويدخل بيتي وبيتك، ويكشف عن حياتي وحياتك، ويقدم مأساة آسرتي وأسرتك - وهذا أمر يصعب تحقيقه الآن. وحتى يتم فإنا نطالب بان تعتصر الوسيلة الإذاعية حتى آخر قطرة فيها وتقدم الصوت في أدق صوره الفنية. وطرقنا إلى ذلك واضح بسيط يتمثل في الرجوع به إلى حقيقته الأولى، في الصورة التي ظهر عليها منذ بدء الإنسانية، منذ قرع الإنسان أول طبول الغابة حتى(890/23)
استخدمه العصر الحديث في نفير السيارة وصفارة الإنذار لينذر الناس أقوى تنبيه، في أقصر وقت، وبأقل جهد مؤكداً بذلك أن الصوت قادر على إبلاغ رسالته إلى ابعد حد، دون اعترافه بحوائل الزمان والمكان، أو وقوف عند الحدود الضيقة التي تقف عندها كلمات اللغة أو نغمات الموسيقى التي نستخدمها الآن.
ولو وفقت الإذاعة إلى استخدام الصوت بهذه الطريقة لالتزمت وسيلتها الحقيقية، وضمنت عدم انصراف الناس عنها ولما حدث لها مثل الذي حدث للسينما من انصراف الجمهور عنها حينما خرجت على وسيلتها التي تتمثل في الصورة. والناس على جهة في انصرافهم، لأن الفنون حين تثور على حدودها تفقد فنيتها
وإذا كنا نقيس الفن بمقدار تأثيره في الناس، وعدد من يحركهم، وطول الزمن الذي يظل تأثيره فيهم، فقد رأينا الصوت كانت له القوة على تحريك الناس في كل زمان وحضارة نحو الهدف الذي يريده مذيع الصوت، وسيظل كذا والشكوى من انصراف الجمهور عن سماع الإذاعة، النقد المتواصل لها، يحبهما حسن استخدام الصوت لأنه كفيل بحمل الجمهور الاستماع أليها، وتوجهه نحو الهدف الذي نريده له.
ومهما قيل من نقد لرأينا فيكفي للرد أن المستمع لا يعرف لصاحب الإذاعة تعرضاً مباشرا - كما هي الحال في الحياة - أنه يستمع إلى صوته أو أصوات الشخصيات التي يقدمها من عن طريق هذا الكائن الجديد الذي يوصل إليه مادة الإذاعة وتأثير هذا في المستمع يختلف كل الاختلاف عما لو استطاع مباشرة دون وساطة. ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن ناقد يعيش حاضره، ويتقبل الشكل الحالي للإذاعة دون استقراء لتاريخها الذي يحدده ويضع معالمه الصوت وحده حتى ليقال: مرحلة ما قبل الكلام، ومرحلة الكلام، ومرحلة ما بعد الكلام وكل نقاد الإذاعة العليمين يجمعون على أن الكلمة الملفوظة غير الكلمة المكتوبة، وان الإذاعية الكلامية اقل الإذاعيات تأثيرا. وان في التأثيرات الصوتية عوضا عن التأثير الكلامي. ولندرك أن ذاكرة الأذن للصوت أقوى من ذاكرة العين للتأثيرات البصرية. ولهذا السبب فإن قدرة كبيرة على التحريك العميق لمجموعات الناس، والتأثيرات التي تخلقها فيهم تظل طويلا معهم بل كثيرا ما تصبح جزءاً من كيانهم وثقافتهم. وحتى إذا أنعدم عنصر الكلام منها - وهذا ما لا ننادي به تماما. وستظل الإذاعة مشتملة على حوار ضمني(890/24)
بين المستمع والمذيع، ويبقى المستمع مدينا للمذيع يما يقدمه من شرح وتفسير، كما سيظل المذيع مدينا للمستمع بتقبله لما يقول.
وإذا كانت الإذاعة تخاطب في الإنسان حاسة واحدة هي السمع، وتتجه الفنون الأخرى إلى مخاطبة أكثر من واحدة، فإن المستمع أو المستمعة يجلسان بعيدين عن كل تأثير فني مصطنع: فأنت لا تستطيع أن تتذوق لوحة فنية إلا إذا صحبها جو فني معين، ولا نستطيع أن تستمتع بقراءة كتاب إلا إذا كنت في عزلة تامة، ولا أن نشاهد فيلما إلا في ظلام دامس، ولا مسرحية إلا بين جماعة من الناس - أما في الإذاعة فإن تستطيع أن تستمع بها على أية صورة وعلى أي وضع تكون عليه. وقد يكشف لنا هذا عن فردية الإذاعة، ولكنه يكشف لنا كذلك عن وظيفة الإذاعة في الحياة، وهي ضرورة بعث الروح الجماعية في المستمعين، لا تأكيد هذه الروح الفردية. ومن هنا كان على رجل الإذاعة الذي يريد أن يؤثر في مستمعيه تأثيرا مباشراٍٍ، أن يدرس نفسية الجمهور ويحاول قتل هذه الروح الفردية. وإذا حرك نفوسهم فلكي يدفعهم إلى عمل حي يفيدهم ويفيد مجتمعهم وهذا هو الجانب الخلاق الحي في عمل رجل الإذاعة. فإذا اجزنا له أن يسلبهم فليكن قصده التخفيف عنهم، وجعلهم اكثر استعدادا وقبولا للحياة. فالإذاعية الناجحة قلما تفشل في إعطاء المستمع قصة أو فكرة أو عاطفة أو عملا، يظل معه طول الحياة، يتردد في أذنه، وتردده جوانب نفسه. وذلك لا يتم إلا حينما تكتمل لها العناصر العضوية المتوفرة في الكائن الحي.
وبهذا وحده تكون الإذاعة: (فن وثقافة وحياة)
يوسف الحطاب(890/25)
دفاع عن الشعر الجاهلي
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
بقية ما نشر في العدد الماضي
- 2 -
في المقالة ذكرنا آراء النقاد الذين يتعصبون على الشعر الجاهلي، وحددنا موقفنا منهم، وذكرنا بعض خصائص الشعر الجاهلي لترى رأينا فيها أحسنه هي أم معيبة يصح أن يطرح الشعر الجاهلي من اجلها، ونتابع الحديث في الجوانب الأخرى الباقية من خصائص الشعر الجاهلي لنستطيع أن نحكم له أو عليه
لاشك أن أهم طابع للشعر الجاهلي بعد الذي ذكرناه سابقا هو هذا الطابع البدوي الواضح الذي يفجؤك في شيء القصائد الجاهلية، مما هو اثر للبيئة والحياة الجاهلية. ونحن ندعو كما يدعو كل منصف إلى ترك هذا الاتجاه في الأداء والتصوير فقد اصبح لا يلائم منهج الحياة في القرن العشرين، كما أن إبراز هذا الطابع البدوي في شعر الشاغر المعاصر يكون تقليدا سخيفا لا مبرر له، ويحول دون ظهور نزعاته الفنية ومواهبه الخاصة المستقلة في شعره، وهذا ضرر بعيد
ومن آثار هذا الطابع في الشعر الجاهلي شدة تمثيلية للبيئة البدوية، وقد سار بعض الشعراء المحدثين على هذا النهج، فملأ وأشعرهم بصورة الحياة البدوية، من وصف النقاد والشعراء ودعوا إلى التحرر منه فقال مطيع بن إياس:
لأحسن من بيد تحار بها القطا ... ومن جبلي طي ووصفكما سلعا
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما ... له مقلة في وجه صاحبها ترعى
وهذه دعوة جديرة بالعناية خليقة بالأيثار، وقد دعا المحددون في الأدب الحديث واكثروا من الدعوة إلى أن يكون الشعر صورة لحياة الشاعر ونفسيته وبيئته وعصره، وإلى أن يخلو من آثار التقليد للقدامى في أغراض الشعر وفنونه وموضوعاته وهذا اتجاه جليل قد سار بالشعر العربي الحديث خطوات واسعة نحو التجديد والجمال والروعة، فالشاعر الذي يكون غير مقلد في معناه أو في لفظه، ويكون صاحب هوية فنية في نفسه وعقله، ويتأثر ببيئته(890/26)
ويؤثر فيها، ويمثلها في جدها وفرحها وحزنها وسلامتها وحربها وألمها وأملها أتم تمثيل
ومن آثار هذا الطابع البدوي في الشعر الجاهلي أيضاً بدء اغلب القصائد الجاهلية بذكر الأطلال، ووصف الديار. وهذا مذهب أغلبية الجاهليين، لا يشذ إلا القليل، كعمرو بن كلثوم في معلقته التي بدأها بذكر الراح، وكتأبط شر في قصيدته اللامية المشهورة:
ن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل
والتي يسميها بعض المستشرقين نشيد الانتقام ويدافع ابن قتيبة في أوائل كتابه (الشعر والشعراء عن نهج الجاهليين دفاعا حارا، فقد صور نهج العرب في وحدة القصيدة وما كانوا يبدءونها به من ذكر الديار والآثار ووصلهم ذلك بالنسيب والشكوى وألم الوجد وفرط الصبابة ثم ذكر الرحلة إلى الممدوح تخلا إلى مدحه واستجلابا لرضائه وسني ألطافه، وقال: والشاعر المجيد من سلك هذه الاساليب، وعدل بين هذه الأقسام وقد سار الكثير من المخضرمين والإسلاميين على هذا النهج أيضاً فاكثروا من بدء قصائدهم بوصف الأطلال والديار كما اكثر الكثير منهم من بدأها بالغزل، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو نواس الذي دعا إلى بدء القصيدة بذكر الراح، قال:
وصف الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
وتبعه ابن المعتز فقال:
أف من وصف منزل ... بعكاظ فحومل
غير الريح وسمه ... بجنوب وشمال
وكان أبو نواس شعوبيا في مذهبه، أليس هو الذي يقول:
تبكي على الماضيين من أسد ... ثكلت أمك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ومن يمن ... ليس الأعاريب عند الله من أحد
ولكن ابن المعتز كان ناقدا يبحث عن الصلة بين الأدب والحياة ويحاول أن يلائم بينهما وينادي بتحضر الشعر وترك العداوة في وتمثيله لحياة الشاعر وآرائه في الحياة وقد ثار أبن رشيق على منهج الجاهلين في القصيد ورأى مع من رأوا لا معنى لذكر الحضري الديار وانه ليس بالمحدث من الحاجة إلى وصف الإبل والقفار لرغبة الناس في عصره عن تلك الصفات وعلمهم بان الشاعر إنما يتكلفها، وان الأولى وصف الخمر والقيان وقد(890/27)
تطفلت الحياة نفسها بصرف الشعراء المعاصرين عن هذا النهج الفني في القصيدة، فليس منهم والحمد لله من يبدأ قصيدته بذكر الإبل والقفار والديار والآثار بل أن ذلك لو فعله أحد الآن لرمي بالجنون ولكن معنى ذلك ألا يصف الشاعر المعاصر معاهد أهله وأحبابه في شعره أبدا، أو ألا يبدأ قصيدة من قصائده بذكر ها، ولكن نقول أن التزم بدء قصائده بذكر معاهد حياته وأحبابه ولم يتخل عن هذا المنهج، لم نحاسبه على ذلك، إلا إذا قيدها من حريته الفنية أو حبس مواهبه وملكاته الأدبية، فإنه يجب بحق ألا يقيد الشاعر نفسه بأي قيد لا تلزمه به لنفسه ومواهبه وملكاته الفنية وحدها، وإلا كان مقلدا لا نصيت له من الشعور بالحياة والإحساس بها والتمتع النفسي العميق بمشاهدها وصور وألوانها.
وهناك في الشعر الجاهلي ظاهرة أخرى نشأت عن الطابع البدوي الموروث وهي كثيرة الغريب والوحشي، ولا شك أن ذلك مذهب العرب القدامى وحدهم الأثر البيئة البدوية الجاهلية الخشنة في عقولهم ونفوسهم. وما أروع ما يقول صفي الدين الحلي الشاعر المتوفى في عام 750هـ:
إنما الحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس
لغة تنقر المسامع منها ... حين تروي وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر - الوحشي منها ويترك المانوس
اين قولي: هذا كثيب قديم ... ومقالي: عقنقل قدموس
إنما هذه القلوب حديد ... ولذيذ الألفاظ مغناطيس
وليس هناك أحد يدعو إلى استعمال هذه الألفاظ، أو يرف قلبه حين سماعها، فهي ألفاظ تاريخية يجب أن نفهمها فحسب.
بقيت بعد ذلك الصور البيان الأدبي نفسه. أصوغ أسلوب على الصور القديمة التي يمثلها الشعر الجاهلي، أم نستمد صوره من ألوان حياتنا وبيئتنا وثقافتنا وحدها. ولنضرب مثالا واحدا لذلك: لاشك أن الجمل كان عماد الحياة في العصر الجاهلي، وفي أساليب البيان صور كثيرة أستمدن منه، فقد قالت العرب ألقى الحبل على الغارب، واقتاد غارب المجد وسنانه، ووطئه بمنسمه وضرسه بأنيابه، والقي عليه جرأنه، وناء وأناخ بزمام الأمر.
وقد حاول النقاد والبلاغيين في العصور القديمة أن يدعوا إلى توليد صور البيان وتنميتها(890/28)
من مشاهد الحياة والبيئة التي تتجدد دائما.
فهل نأخذ صور البيان القديمة في أساليبنا لترضى العرب القدامى، أو نولد فيها لترضى عبد القاهر الجرجاني وسواهما؟
لست أدعو إلى الأول ولا احبه، وإن كنت لا أرى في الرأي الثاني ضيرا أو ضررا؛ وأوثر أن الأديب إلى الصور التي يولدها صوراً جديدة، يستمدها من حياتنا وبيئتنا وألوان الحضارة التي نعيش فيها، والاختراعات التي تجد دائما بيننا والتي نبعد اللغة عنها ونحاول ألا نستمد منها صورنا الأدبية
وبعد فهذه هي سمات الشعر الجاهلي ش، ووصف الصلة الفنية بينها وبين حياتنا الفنية الحاضرة، وما يصح أن نقلده فيه وما لا يصح.
ونحن لا ندعو إلى تقليد البلاغة القديمة، ولا إلى الشعراء الجاهليين تقليدا بعيدا عن مناهج الفن والشخصية والموهبة الأدبية فإن ذلك التقليد يبعدنا عن أداء رسالتنا الأدبية على اكمل وجوهها، وإنما نقول: افهموا هذه البلاغة فهما جيدا، وربوا ذوقكم الأدبي بالإدمان على قراءتها وقراءة ما سواها من البلاغات، لتصلوا إلى مرحلة الشخصية الذاتية في الأدب والشعر، ولتكمل مواهبكم وتستقل بالإبداع والتجديد في الفن والشعر والأدب والحياة.
محمد عبد المنعم خفاجي
المدرس في كلية اللغة العربية(890/29)
رسالة الشعر
من مناحي الهوى
للأستاذ حسين الظريفي
صراحة قلب في الهوى غير كاتم ... أطالت عليه اللوم من كل لائم
يحدث عنه نثر أفصح ناثر ... ويفصح عنه نظم أبلغ ناظم
وما نظرات العين إلا تراجم ... واكنها ليست ككل التراجم
ولم ترق البسمات إلا لأنها ... تشير إليه من خلال المباسم
وما لائم، عن قلبه غير فصح ... إلى مفصح عن قلبه غير لائم
بيان يه أعلى البيان مكانه ... وان كان يبدو في خفاء الطلاسم
يراه بعيني عقله كل عاقل ... يرى دائما في زائل غير دائم
نحب، وما تخلو من الحب ساعة ... كأعراق ملزوم لأعراق
وكل وما يهوى، فمن حب واله ... يهيم بمولود له غير هائم
يرى بمعانيه المعاني كلها ... ويبصر فيه عالما بعد عالم
ومن مستهام بالشجاعة والندى ... كثير العطايا ضارب بألصوارم
ومن مغرم بالمال يحلم دهره ... يجمع دنانير له ودراهم
وصب بهذي أو بتلك كأنه ... تعلق قلبا بين ريش القشاعم
وآخر أفنى في الزعامة نفسه ... فناء الليالي في بناء العوالم
وهيمان باستجلاء كل حقيقة ... طوتها يد الأيام من عهد آدم
يقوم عليها ليله ونهاره ... قياما به أربى على كل قائم
وكم من يد بيضاء جاد بها الهوى ... تعلم معنى الجواد أندى الغمائم
وكم من قتيل بالهوى قاتل به ... بدا غير كجرونم عليه وجارم
ويأرب حب آثم غير صالح ... إلى جنب حب صالح غير آثم
ضروب هوى، لم نمس منها ولم نكن ... لنصبح إلا في اشد الملاحم
وما المرء غلا أبت الهوى بالذي آتى ... ويأتي بماض من سنيه وقادم
له دافع منه بغير منازع ... يروم به أقصى مروم لرائم(890/30)
وكل صغير بالصغائر مولع ... وكل عظيم مولع بالعظائم
وقد تكذب العين الظواهر كلها ... كأضغاث أحلام أطافت بحالم
ويارب نفس لم تزايل وجومها ... تطل على وجه لها غير واجم
وباسم ثغر مالئ عين من يرى ... وما هو فكرت فيه بباسم
تحاربنا الأيام حربا خفية ... بغير نصول عندها وصوارم
ويبلى جديد أنا جديد حياتنا ... وما منهما شيء لدينا بسالم
لعمرك ما عهد المشيب إذا أتى ... بباق ولا عهد الشباب بدائم
تحول لعمري كل حال على الفتى ... وما هو في حال لها بملازم
وأعلم أن الدهر لا رأي عنده ... بإنزال مظلوم إلى جنب ظالم
وان لديه عالما مثل جاهل ... وان لديه جاهلا مثل عالم
حياة لعمري هون الحب عبئها ... على أننا منها بها في تخاصم
يهيب بنا الشوق الملح إلى المدى ... ويلهب مما عندنا من عزائم
فمن لا قح ساع بآثار سابق ... ومستبشر ناع على متشائم
وذلك منصور بعترك المنى ... وذاك به يمنى بشر الهزائم
حسين الظريفي(890/31)
على سفر
للأستاذ محمد محمود عماد
رحل القلب فهلا ترجعين
ليعود القلب للصدر الحزين
ليت شعري أين ذياك الحبين
مزج الدل لديه بالحنين
والحديث الحلو بالصمت الثمين
أقفر البيت وإن كنت ارى
في حناياه خيالا قد سرى
عزه الحسن لحين، فإنبرى
يكتب الحزن عليه أسطرا
وانزوى البشر، وغشاء السكون
وعثون زانها الزهر الجميل
مالها اليوم سرى فيها الذبول
بعد أن كنت لها نعم الكفيل
يالبؤساها. . . ستهوى بعد حين
ويح (بيجو) هو في قيد الألم
قد جلت عيناه ما أخفى البكم
ود لو يسمع من فيك النغم
فيلبيه. . . ويسعى للقدم. . .
ثم يرتاح إلى الصدر الحنون
فمتى تحيين باللمس الغصون؟
ومتى تأوين راعيك الأمين؟
ومتى يرجع للبيت الفنون؟
ومتى يسعد بالقرب الخدين؟(890/32)
ومتى. . . هل (لمنى) تستمعين؟
محمد محمود عماد(890/33)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
ثلاثة شعراء في الميزان: حداد والعطار والملاط
يا كاتب الأداء النفسي
تحية من صبا بردي أوق:
قرأت في تعقيباتك المنشورة في العدد (886) من الرسالة بتاريخ 26 يونيه، أنه يسعدك كله أن يوافيك قراء الرسالة بكلمة عن الأستاذ يوسف حداد صاحب قصيدة (الشاعر) المنشورة في العدد (885) من الرسالة. وساء ني أن تشعر بكثير من الحرج حين يدور في خلدك أن بعض القراء قد يعرفونه حق المعرفة في الوقت الذي لم تتح لك الظروف أن تعرفه بعض المعرفة.
هون عليك يا أنور فإن الخطب يسير، وها هي ذي قارئة من قارئات الرسالة توافيك ببعض ما تريد. بين يدي مجلة (العصبية الأندلسية) التي نقلت عنها الرسالة القصيدة، تشير في ختامها إلى أن الأستاذ (حداد) من لبنان - البقاع - تل زنوب
وقد لمع في ذهني أن أعيرك العدد رجاء أن تعيده إلي حرصا على مجموعتي، لأني أريد أن استمع إلى رأيك في هذه المباراة الشعرية الفريدة التي واقترحتها العصبة الأندلسية في موضوع (الشاعر) على شعراء العالم العربي. ولا أكتمك أني قرأت القصائد الثلاث فانتهيت إلى حكم كمناقض لحكم العصبة، ووددت لو أن اللجنة المحكمة عكست الأمر لكان ذلك اقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب.
لقد اشترطت العصبة الأندلسية في عددها ذي الرقم (7)
وبتاريخ 211949 أن تكون القصيدة سليمة اللغة والتعبير فلا
تحتاج إلى تصليح وتنقيح، وقصيدة الأستاذ حداد لا تخلو من
المآخذ وتحتاج إلى كثير من فالتنقيح، وسرني أن تشير إلى
هذا في تعقيباتك الصادقة البارعة. والعجب العجيب أن لجنة(890/34)
التحكيم رأت هذا وأغلفته حين قسمت الجائزة الأولى بين
الشاعرين شبلي ملاط ويوسف حداد، لما في القصيدة الأولى
حسن الديباجة وجودة الحبك، وفي الثانية من قوة الشاعرية
وخصب الخيال وقوة الشاعرية وحسن الديباجة وجودة حبك،
فكأنها تقر في حكومتها أن القصيدة الأولى حلو من الشاعرية
وأن القصيدة الثانية يعوزها الحبك!
وشاءت العصبة الأندلسية بعد ذلك أن تمنح الجائزة الثانية لقصيدة الأستاذ انور العطار، وانفراده بالجائزة الثانية دليل على أن قصيدته تقوم على قوة الشاعرية وحسن الديباجة، وإلا لقسمت الجائزة الثانية كما فعلت في الجائزة الأولى!
قرأت القصائد الثلاث ثم عدت إلى طبعي احكمه وإلى نزاهتي أسألها فانتهيت إلى الحكم الآتي:
1 - قصيدة الأستاذ شبلي ملاط لا أثر فيها للتجديد فهي عنيفة في أفكارها وصورها وأسلوبها، وهو لا يتحدث فيها عن الشاعر الذي يلهم الشعر إلهاما ولكنه يتحدث عن النظام الذي يكده اللفظ ويؤوده الوزن وتهده القافية، وإلا فما شان هذين البيتين:
وقد تنقضي ساعاته في نهاره ... وليس له إلا بتقويمه شغل
وفي الليل يقضي الليل إلا أقله ... يعالج سبك البيت والسبك مختل
والمقطع بكامله يصف رجل قريحة لا رجل عبقرية، ويعفى على مقطعة كله بيت المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
وفي القصيدة أسلوب فقهي في تحلية لفظه (كل) بال والفصيح تجريدها، وفيها خطيئة نحوية في قوله: (صلوا) بالضم وعليه أن يقول (صلوا) بالفتح، وذلك في البيتين:
1 - وتعصيه وقتا لفظه مطمئنة=ويعييه بعض البيت حينا أو الكل
2 - هلم إلى الدنيا الخلود وهيكل=إلى وجهه عباد صانعه صلوا(890/35)
وراعني كما يروع كل فتاة أن يكون الشاعر غير موحد في حبة وآلافا شان (نعم وجمل) في بيته:
فكان لنعم من شعاع قلادة ... وكان لجمل من سنا لؤلؤ مثل
لا يا أيها الشاعر العاشق! حبيب واحد ذخر). . .
والتوحيد في المرأة من نبل القلب وصدق الحب!
لا يا أيها الشاعر، إنك لتقلد عمر بن أبي ربيعية وما تجيد التقليد، وإلا فما شان هذه الأبيات:
وشبب ما شاء التشبب فيهما ... وشدت أواخي الود واستحصل الحبل
فغارات مليحات العشيرة منهما ... وطاب لها في الشاعر القدح والعذل
ووجهن تقريبا إليه كأنما ... هو الطعن في أحشائه أو هو النبل!
وقلن له خل العشيرة وارتحل ... وإلا ففيما بيننا القسمة العدل
أتظلمنا في منحك الشهد غيرنا ... ونحن الأزاهير التي امتصت النحل
وتنظم في نعم وجمل خوالد ... وما مثلنا في الحب نعم ولا جمل؟
على أنه حين يرتحل عن العشيرة يصبو إلى كل حسناء:
ويصبو إلى ممشوقة القد كلما ... بروضة زغلول تموجت النخل
لا يا أيها الشاعر الكبير شفيق معلوف، حين أعلن في مستهل قصيدته أن جنة السحر (عبقر) أوفدته إلى الناس.
أوفدتني إلى الأنام ... جنة السحر (عبقر)
وأراد الشاعر أن يقلد صاحب (أزهار الشر) بولدير، فاستعار قبح ألفاظه ولم يستمر عمق معانيه ولا جمال روحه، انظر إلى هذه الصورة:
والعصا جسم أفعوان ... وجرابي عشوش بوم
واراد أن ينحو منحى شعراء الرمزية وان يتقرب إلى (عزاها) فرلين فكتب ما لا يفهم، وإلا فما معنى هذا البيت:
وإذا أعول المجن ... عبد الغيم ظل دود!
وفي القصيدة أخطاء لغوية ونحوية، منها جمله (ورد) على (ورود) والصواب أن يجمع(890/36)
على (أوراد ووراد)؛ وتجريده جواب الشرط من الرابطة. . واستعماله (شلة) لكبة المغزل وذلك في الأبيات الثلاثة الآتية:
1 - يحمل التاج والكفن=للفراشات والورود
2 - إن طوى القبر أضلعي=ادفنوا غلتي معي إلخ
3 - هبه من غزل شلة=لفه العث، حبل نير
وتخلو القصيدة من الشعر ويتجهم لها البيان حين يستعمل الشاعر ألفاظا مستعارة من لغة التجارة والسياسة والبرقيات في قوله:
أوفدتني إلى الأنام ... جنة السحر عبقر
في مهماتها الجسام ... يالشئ يحير!
وبعد فالقصيدة هذيان محموم لكثرة ما تطفح به من وعول الجان ونعاج الدخان وخيول الغيوم. . وهي على تفاهتها مسروقة من قصيدة عنوانها (غيوم) لشاعر فرنسي فاتني اسمه كان يتحدث عن طفل أستلقي على ظهره في يوم غائم، فبصر بالسماء وقد أقبلت عليه غيومها بما يشبه الحملان تارة وبما يشبه الوحوش الكاسرة تارة أخرى؛ ثم بصر بثوب جدته الفضفاض وقبعتها المترهلة فاغمض جفنية واستسلم إلى الرقاد.
لا يا أيها الشاعر! إن الشعر لفظ ومعنى، ولن يستقيم إلا إذا ظفرت باللفظة الصافية والمعنى الواضح والمبنى حريص على التجديد في الأفكار ولكنه لا يغتفر لأحد أن يجدد في الأساليب، لأنها وحدها التي لغة من لغة وبياناً من بيان، وما عظمه الشاعر (شوقي) إلا لأنه نظم طريف الفكر في توالد اللفظ
3 - أما قصيدة الأستاذ أنور العطار فقد أرضتني كل الرضا وتحمست لها كل الحماسة، برغم أن عمريه الهوى في الشعر ذلك أنى أميل إلى شعر أبي ريشة أضعاف ميلي إلى شعر أنور العطار هذا ذوقي ولا جدال في الأذواق.
أرضتني بقوة شاعريتها وخصب خيالها وجودة سبكها وحسن ديباجتها، وشعرت كأنني أقرا شعرا من الجنة، أو كان روح شوقي ترقرقت على هذه القصيدة. . . والحق أنه ما من شاعر استطاع أن يترسم خطى شوقي وان يجيد صورة واناقة بيانه وصفاء ألفاظ وعذوبة جرسها وموسيقاها كما استطاع أنور العطار، وحسبي دليلا على ذلك هذه القصيدة الشاعر(890/37)
البارعة التي أرضت العصبة الأندلسية في خصب صورها وجودة حبكها، إن كل بيت من أبياتها بتحدث عن الشاعر حديثا حلوا وهاك بعد صورها:
1 - طافت الأرض في رؤاه تصاوير ندايا بجدة ورواء
2 - يشرف البشر في محياه نضرا=ومن البشر انفس الشعراء
3 - يا صدى الأنفس اللهيفة=يا حامل عبء الهموم والأدواء
تنقل البرء للآلي نشدوا البرء وفي القلب عالم من رثاء
4 - صور الرحمة التي تغمر الكون بفيض الأنداء والآلاء
صور الحب والحنان على الأرض ونجوى الأصداء للأصداء
طف كهذا الربيع نشوان فرحان غني العبير جم البهاء
لح كهذا الصباح يختال جذلان يعم الأكوان بالأضواء
5 - بابي العبقرية الفذة البكر تلف الحياء بالكبرياء
6 - غن يا ابن النجوم والقمر العاشق والسفح والرباء الشماء
غن يا ابن الغمام والجبل الملهم والظل والشذا والماء
غن يا ابن الليل الموشح بالنور ويا ابن الضحى ويا ابن السماء
غن فالعالم الرحيب تسابيح هيامي من نشوة الإيحاء
أنا نشوان من نشيدك هيمان فهات اسقني وزد في انتشائي
هدهد القلب والهوى والأماني بغناء باق على الإناء
وطن أنت ظاعناً ومقيما ... لست والله بالغريب النائي
إنما العروبة التي ما تقضي ... غربة الفكر والندى والعلاء
لا ادري ما الذي أخذ بقلمي للدفاع عن أنور العطار، وإلى إنزاله هذه المنزلة وإلى الإعجاب بقصيدته الذي أعلنه دون تورع ألانه ينظم الشعر بروح شوقي الخالد، أم لأنه يكتب بهذه اللغة الساحرة الشاعرة التي عنت لأستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات، هذا الأديب العظيم الذي يتحدث النبع الشادي في خلوة الوادي؟
وبعد، فيا كاتب الأداء النفسي. . يا من أتحدث إليه دون كلفة ولا مشقة كما يتحدث القلم إلى الورق، ما أريد إلا أن تعقب على هذه المباراة الشعرية وان تنشر القصيدتين الفائزتين في(890/38)
الرسالة، وان نرهف إليك أفكارنا لنسمع فصل الخطاب في هذه المباراة.
أحتفظ يا أنور بنسختي من مجلة العصبية الأندلسية واذكر إنها عارية يجب أن ترى، لأن ذلك يشجعني على أن أعيرك طائفة من كتبي الغالية علي، فأنت من الآن قسيمي في الفكر ورفيقي في الأدب، نتلاقى في الرسالة على تنائي الدار وسط المزار واختلاف الجنس وائتلاف الحس.
ولك تحياتي وإعجابي
من المخلصة هجران شوقي
دمشق - سوريا
كنت قد طلبت إلى قراء الرسالة أن يوافوني ببعض ما يعرفون عن الشاعر يوسف حداد. . . عن موطنه، عن شعره، عن حياته الشخصية والأدبية. وها هي ذي الأديبة السورية هجران شوقي تتطوع فتبعث إلي بهذه الرسالة المطولة، لا لتطلعني على علمها بشخصية الأستاذ حداد بل لتطالعني برأيها (الخاص) في شعره! ومن العجيب أن الأديبة الفاضلة قد بدأت رسالتها بنقد الشعراء الثلاثة ومن بينهم الشاعر الذي أسأل عنه، ثم ختمت هذه الرسالة برغبتها الخالصة في أن تسمع مني فصل اخطاب في هذه المباراة. . وكأنها بريد أن توحي إلي ببعض أشياء أن نؤثر في حكومتي الأدبية!
معذرة يا آنستي إذا قلت لك إنني لم أكن محتاجا إلى رأيك في الشاعر يوسف حداد وإنما كنت محتاجا إلى علمك به. . ومعذرة مرة أخرى إذا قلت لك إن رأيي اليوم في قصيدته هو رأيي الذي أعلنته بالأمس على صفحات الرسالة، ولن يغير من هذا الرأي ما بدا في رسالتك من تحامل مقصود لا يستند إلى (فنية) أصيلة من دعائم النقد الأدبي الذي أومن به. وعندما أقول النقد الذي أومن به فإنما أعني (الأداء النفسي) بأصوله وقواعده، بهذا (الأداء اللفظي) الذي يؤمن به بعض الناس!
لقد كنت أنتظر وقد رجعت إلى موازيني الخاصة في نقد الشعر عندما تحدثت عن شعر الأستاذ علي محمود طه منذ شهور، لا أن ترجعي إلى موازين القرن الرابع الهجري أن كان النقاد يزنون الشعراء بأخطائهم اللغوية والنحوية، فإذا أرادوا أن يثبتوا (فنيتهم) في(890/39)
النقد لم يجدوا أمامهم غير العبارة الخالدة: (شاعر متين السبك قوي الحبك مشرق الديباجة)، كما تعبرين أنت في رسالتك. أو كما كانوا يقولون: (شاعر أني بما أخجل زهر النجوم في السماء وأزرى بزهر الربيع في الأرض)
عفا الله يا آنستي عن موازينك عندما تصفين قصيدة الأستاذ حداد بالتفاهة أو بأنها هذيان محموم. صدقيني إذا مكان شعر الأداء النفسي من خلال منظارك هذيانا فإنني أرحب بهذا الهذيان ولن أقيم لغيره الميزان! ومعذرة للمرة الثالثة إذا قلت لك إننا لو جردنا نقدك من بعض اللمحات العابرة، لما بقي منه شيء ذو خطر يمكن إن يحدد مكان كل منهم تحديدا فنيا يقوم على قواعد وأصول إذا لم يجدد شبلي الملاط في أخيلته والفظه ومعانيه، قلت عنه أنه عتيق في إبكاره وصوره ولا أثر للتجديد في شعره. وإذا جدد يوسف حداد وحلق في آفاق يعز بلوغها على كثير من الشعراء، قلت عن هذا التجديد أنه تافه أو هذيان محموم! ألا توافقني على انك مضطربة في أحكامك متناقضة في آرائك من حيث لا تشعرين؟!
ثم من قال لك يا آنستي أنه ما من شاعر استطاع أن يرسم خطى شوقي أو يجيد صوره واناقة بيانه وصفاء ألفاظه كما استطاع أنور العطار؟ هل تستطيعين أن تقدمي لنا نموذجا من شعر هذا وآخر من شعر ذاك، لتثبتي لنا مدى التوافق بين أفق وافق وبين جناح وجناح وبين أداء واداء؟ أم أن هذه مسالة مفروغ منها بكلمة مماثلة لا تنهض على اساس، كما فرغت من الحكم على يوسف حداد بكلمة مماثلة لا تنهض هي أيضاً على أساس!؟ وإذا كان أنور العطار قرينا لشوقي كما تريدين لي أن أقتنع ن فهل أخرج من هذا الهوى أعاف ما أنت (عطاريته) كما تقولين؟!
اضطرب في أحكام ومناقض. . . بل وتحامل. ولو لم يكن همك تحامل لما تعمدت أن تقفي عمد ثلاثة أبيات أو أربعة من شعر الأستاذ حداد لتلغي في ضوئها بقية قصيدة أو بقية شاعريته وان تحرصي كل الحرص على اختيار عشرين بيتا من قصيدة الأستاذ العطار هي قلبها النابض بالحياة! هذه حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل. . ومن العجب أن الأبيات التي وقعت أنت عندها في قصيدة الأستاذ حداد هي قلبها بعض ما وقفت أنا عنده وسلكته في عداد المآخذ والعيوب، ولكنني على الرغم من هذه المآخذ وقفت عند مقطوعات أخرى أملت على أن اصف جناح الأستاذ حداد بأنه من الأجنحة النفسية في أفق الشعر العربي(890/40)
الحديث!
وكيف لا اصف الجناح بمثل ما وصفته به وهذه بعض تحليقات في بعض مقطوعاته:
أن نوحي بكل بر ... شرب الغيم من صداه
هل ترى الرعد ما انفجر ... لوفي لم يجد باه؟!
تبعدوني عن البشر ... قربوني من الإله
في يدي بيعة الصور ... في فمي مطهر الجباه
فلمن اكحل البصر ... ولمن اغسل الشفاه
واذبحوا بيننا القدر ... فهنا عور منتهاه
كل ما يشبع النظر ... قافات مني ذرى الجفون
إن جوعي كوى الحجر ... ظمأى جفف العيون
نفسي رمد الشجر بصري قوض السجون
غرسوا في يدي الإبر ... فجنوا زهر زيزفون
كم طوى الكوكب الأغ ... رلي رواقا من السكون
أنت لولاي يا قمر ... لم تكن غير شطرنون!!
من جلوسي على انفراد ... فوق تل العشية
وانحداري على الوهاد ... بالرؤى المخملية
نشا الوحي في العباد ... كرجاء المنية
ويك لولا غنى الوداد ... بكنوزي الخفية
حيث يلتف بالرماد ... موسم العبقرية
ما حلا للمسيح زاد ... من يد المجدلية!!!
رب بيت نظمته ... بات تاريخ كل دين
رب سيف ثلمته ... لف جيل الوغى بحين
رب زهر شممته ... ناب عن غسلة السنين
رب ثغر ظلمته ... بالمناجاة والأنين
حمل العدل صمته ... من عرين إلى عرين!(890/41)
أي شيء صفا وطاب=لفؤادي وناظري
ومضى دون ما إياب ... لم ينتف مجاجري؟!
لا بظفر ولا بناب ... بل بشوك الخواطر
عند لمس الهوى المصاب ... هان نهش الكواسر
هكذا يلجم العباب ... فئ دمع المهاجر
أرم عينيك يا سحاب ... أن بكى قلب شاعر!!
أنا أشقى ليسعدا ... لي وراء الأنام جار
واغني ليزهدا ... بهتاف الضحى الهزاز
واهز المهنا ... كي تلف القنا يغار
وارش اللظى ندى ... عل ريق اللما يغار
ضاء شمعي ورمدا ... في ليالي الهوى القصار
كي يطيل البلى غداً ... شوق عظمي إلى النهار!
هذا يا آنستي شعر. . . شعر لا نظير له عند أبي ريشة ولا عند العطار. . . . شعر فيه هذه (الرؤية الشعرية) الصادقة التي ترمز إلى الاستشفاف الدقيق للحقائق؛ سواء أكانت في حدود المنظور أم خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أم فيما وراء الوعي في نطاق الاستيطان النفسي أم في نطاق التناول الحسي وفيه هذه (الموسيقى الداخلية) التي تعبر تمام التعبير عن حالة شعورية خاصة طبعت أداء الشاعر بطابع صوتي خاص، تلمسينه في تهدج النفس الشعري وتموجه وفي إسراعه واندفاعه، أنها موسيقى النفس لا موسيقى اللفظ، تلك التي تتسلل إلى القوى الخفية المتناثرة في آفاق الشعور، والتي يعتمد على قيمتها الصوتية في النهوض بالأداء وفيه هذه (الواقعية النفسية) التي تشرف عليها ملكة (الوعي الشعري) وتنسج خيوطها من أعماق الهزة الوجدانية، وتعرض الفكرة من خلالها ملفعة بسبحات الروح أو موشحة بنفحات العاطفة، أو مدثرة بتلك الغلائل التي تكشف عن تفاعل الأصداء الكونية في ساحة الوجود الداخلي. . . . وفيه هذه (الملكة التخيلية) التي تجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كونا يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على اللمس صورة تداركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي(890/42)
وان تراها العيون! وفيه هذا (المزاج الفني) الذي يشرف على انتفاضة الذهن والقلب والشعور ويخلع أثوابه الدقيقة على هياكل الكلمات، ويسلط أضواءه الكاشفة على مشاهد التجربة، ويصبغ، الإطار الخارجي للصورة الوصفية بألوان النفس حينا وبألوان الحس حينا آخر!
في قصيدة الأستاذ حداد يا آنستي كل هذه المزايا الفنية يحفل بها شعراء الأداء النفسي. . وفيها مزية أخرى تفردت بها وتفوقت على قصيدة الأستاذ العطار، وهي انطباق (الحقيقة الفنية) على الموضوع ودورانها حول معناه. اعرض قصيدة الأستاذ حداد عارية من عنوانها على ناقد يتذوق الشعر ثم يسأله: أي عنوان يمكن أن ينطبق على موضوع هذه القصيدة ويصلح لها وتصلح له؟ أنه يجيبك على الفور: (الشاعر). . . بعد هذا اعرضي قصيدة الأستاذ العطار على الناقد نفسه ثم وجهي إليه نفس السؤال، وأنا واثق من أن شيئا من الحيرة سيحول بينه وبين دقة الجواب: من هذا الذي يطوف كالربيع ويلوح كالصباح وينتسب في بنوته إلى القمر والنجوم، والربا والسفوح، والغيم والجبل، والظل والشذى، والليل والنهار، والضحى والمساء، والوديان والينابيع؟ من هذا المخلوق الذي خلع عليه الأستاذ العطار كل هذه النعوت؟ إنها نعوت قد تنطبق على راع من الرعاة، أو على عاشق من العشاق، أو على شريد هائم على وجهه أريت إلى مدى الشقة بين (الحقيقة الفنية) وبين موضوع القصيدة؟!
ثم تؤكدين أن قصيدة الأستاذ حداد مسروقة من شاعر فرنسي فاتك اسمه لأن القصيدة الفرنسية قد ورد فيها تشبيه للغيوم بالحملان تارة وبالوحوش الكاسرة تارة أخرى. لقد كنت أحب أن لا يفوتك أسم الشاعر الذي أشرت إليه حتى يكون لاتهامك نصيب من الواقع. وإذا كان، فهلا التزمت الدقة في التعبير وقلت أن مقطوعة واحدة في قصيدة الأستاذ حداد قد ورد فيها مثل هذا التشبيه في قصيدة الشاعر الفرنسي، بدلا من أن ترمي القصيدة كلها بأنها مسروقة؟! شيئا من الدقة يا آنستي أو شيئاً من الحق والإنصاف!!
ولا بد من وقفة عند قولك معقبة على (هذيان) الأستاذ حداد: (والشعر العربي حريص على التجديد في الأفكار ولكنه لا يغتفر لأحد أن يحدد في الأساليب). . . ترى كم علامة من علامات التعجب تكفيني لأضعها في ذيل هذه العبارة؟ معنى هذا يا آنستي أن الشعر العربي(890/43)
لن يغتفر لشعرائنا المحدثين أن يخرجوا على طريقة التعبير عند الشعراء الجاهليين أو من يماثلهم من الشعراء الأمويين. ولا باس من أن يعبر أبو ماضي مثلا على طريقة جرير:
وابن اللبون إذا ما لز في قعس ... لم يستطيع صولة البزل القناعيس!!
بقي أن تطبقي هذا الرأي الجديد في نقد الشعر على النثر العربي الحديث. . . وإياك أن تغفري لصاحب هذا القلم أنه يكتب بأسلوب غير أسلوب القاضي الفاضل!!
ونعود إلى مآخذك اللغوية والنحوية لأنها تحتاج إلى تصحيح. . لقد أخذت على يوسف حداد جمعة لكلمة ورد على ورود، وصحتها أن تجمع على وراد وأوراد. أن هذا الجمع الذي أتيت به يا آنسة هو جمع الورد من الخيل: وهو ما بين الكميت والأشقر أن الأحمر الضارب إلى الصفرة، وليس جمعا للورد الذي أتى به الأستاذ الحداد قد ورد في بعض كتب اللغة وهو صحيح لا غبار عليه. . . وأخذت عليه أيضاً تجريده جواب الشرط من الفاء الرابطة في قوله:
إن طوى القبر أضلعي ... ادفنوا غلتي معي
أظن أن هذا ليس خطأ إذا التمسنا للشاعر جواز التقديم والتأخير جواز تقدير لفعل الشرط وجوابه، كان يقال مثلا: (ادفنوا غلتي معي إن طوى قبري أضلعي) وكان يقال من باب الاستدلال: (اذهب إلى عمر وإن مررت بداره)!
وأخذت على شبلي الملاط أنه أدخل (ال) على (كل) والصحيح تجريدها. . . الصحيح يا آنستي أنها جائزة، وقد جاء في كتب اللغة أن (كل) لا تدخل عليها (ال) إلا إذا كانت عوضا عن المضاف إليه أو أريد لفظها كما يقال (الكل) لإحاطة الأفراد. وإذا رجعت إلى بيت شبلي الملاط الذي يقول فيه:
وتعصية وقتا لفظه مطمئنة ... ويعييه بعض البيت حينا أو الكل
إذا رجعت إلى هذا البيت لوجدت أن (ال) هنا قد جاءت عوضا عن المضاف إليه ولذلك أدخلت على (كل)، والتقدير هو أن نقول: وبعييه بعض البيت حينا أو كل البيت!. . أخذت عليه أيضاً هذا الخطأ النحوي في قوله (صلوا) بالضم في هذا البيت الآخر من قصيدته:
هلم إلى وادي الخلود وهيكل ... إلى وجهه عباد صانعه صلوا
لقد افترضت أن الفعل هنا قبل ماض وان على الشاعر أن يقول) صلوا بالفتح، فلم لا(890/44)
تفترضين إن الفعل هنا فعل أمر، الذين يناديهم بالصلاة؟ وعلى هدى هذا الافتراض يصح أن تكون (صلوا) بالضم؟!
أتريدين فصل الخطاب في هذه المباراة؟ إنني أيقول لك في كلمات: إن قصيدة شبلي الملاط في ميزان (الأداء النفسي) هابطة، وإن قصيدة أنور العطار متوسطة، وإن قصيدة يوسف حداد متفوقة. . . ولست في حكمي على الشعراء الثلاثة إلا منصفا لشعورهم الذي بين يدي، دون أي اعتبار لجائزة أولى أو ثانية تقدم لهذا أو ذاك
ومعذرة أن كنت قد قسوت لأنني أشك كثيرا في شخصيتك الأنثوية، ويخيل إلى أن اسمك يا (آنسة) ما هو إلا قناع يختفي وراءه وجه أديب من الأدباء السوريين. . واغلب الظن أنه صديق للأستاذ أنور العطار!!
مهما يكن من أمر شخصيتك فإنه لا يسعني ألا أن اقدم إليك اخلص الشكر على جميل رأيك وحسن ظنك. أما (العصبة أل أندلسية) فلا باس من ردها إليك إذا كان لك في دمشق عنوان. . ولا داعي لأن تشغلي نفسك بإعارتي بعض كتبك الغالية، لأن لدي كتبا كثيرة في انتظار القراءة!
أنور المعداوي(890/45)
الكتب
كل عام وانتم بخير
مجموعة قصص للأستاذ محمود تيمور بك
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
عجيب أن أجد بين يدي - في غير تعمد - مجموعتين من القصص المصري في وقت واحد. . فاعكف عليهما في جلسات قصار على أجد فيهما متعة للنفس ولذة للقلب وسلوه للروح ومفزعاً من الحر ن، فلا أرم حتى آتي على ما فيهما، هاتان المجموعتان هما (كل عام وانتم بخير) للأستاذ محمود تيمور، (والأعماق) للأستاذ عبد الرحمن الخميسي. ولقد قرأت المجموعة الأولى فألفيت فيها الحادثة القوية مترابطة في قوة، متماسكة في دقة، مسلسلة في سهولة؛ وقرأت فيها التحليل النفسي الدقيق والرأي الفلسفي العميق. أما المجموعة الثانية، فلقد أحسست وأنا أتصفحها أن ذاكرتي ترتد - رويداً رويداً - إلى أيام الطفولة العزيزة، إلى السيدة العجوز التي كانت ترعانا وتقوم على شؤؤننا وتثرثر لنا - كل أمسية - بأحاديث شائقة طريفة تزوقها بالمغالاة وتطليها بالمبالغة تبهر بها السمع وتخدع العقل، فتنشر حوالينا أخيلة رفافة، ملائكية حينا وشيطانية حيناً، تبتغي أن تقذف بنا في متاهات ليست من الحياة فنسبح في عوالم لذيذة آناً ومفزعة آناً. وهكذا تستطيع السيدة العجوز أن تدفعنا إلى الهدوء في رفق، وان تسلط علينا رؤى تقذف بنا في لين إلى سبات عميق. وشعرت، وأنا أقرا (الأعماق) أنها بعض حكايات السيدة العجوز فيها المغالاة والمبالغة والتناقض فحسب.
ولست الآن بسبيل أن أقارن بين مجموعتين من الأقاصيص، فليس إلى المقارنة من سبيل، لبعد الشقة واختلاف المبدأ وتناقض الهدف. وفرق ما بين تعبير قوي رصين وآخر مهلهل يتداعى. ولكن المصادفة المحضة التي جمعت الكتابين في يدي في وقت واحد أما مجموعة الأستاذ تيمور فتنضم على قصص عشر، اتسمت جميعا بطابع التحليل النفسي والاستقصاء العقلي. وأن الكاتب ليعرض لنوازع النفس وخلجات الضمير فيصورها في صورة رائعة جميلة. هذا المذهب مذهب تحليل المشاعر النفسية والدفعات القلبية ينبت في ثنايا كل قصة(890/46)
فيحول بينها وبين السراد المجرد، وهو في ذلك كالمصور البارع يوزع اللون في نواحي الصورة في دقة ليضفي معاني الحياة والحركة
وليس أدل على ذلك مما جاء في قصة (كل عام وانتم بخير) حين تحدث المؤلف عن رجل ذرف على الأربعين من سني حياته، عاش عازبا يعكف على جمع الثروة ويأبى أن يبددها في التافه أو أن يبذرها في مالا غناء فيه، فيحدث نفسه قائلا (هي ثروة أسهر فيها جفني فسقيتها جهدي وتعهدتها بحيلتي. . . أأترك هذه الثروة نهبة لأولئك الحقدة والحساد من أقاربي الطامعين؟) ثم يصوره رحيم يفزع عن الزواج وما في ذهنه إلا الحرص على المادة) إلا أن عقلي ينهاني عن أن أرضى بهذا الزواج الذي يهدد ثروتي ويشفي بها إلى الخطر. . وهل الزواج إلا نفقات إثر نفقات، تستنزف الأموال وتهدد الثروات؟)
غير أنه يرى نفسه وحيداً منبوذا فيبدوا أمام القارئ في عزوبته رجلا ضائعاً مضطرب النفس يعيش في تيه من خواطره. ولا عجب إن كان العذب - في هذه القصة كما هو في الحياة تماماً - قلقاً لا ينعم بالهدوء ولا يسكن إلى الراحة. وأنى له أن يفعل وإن روحه لتفتقد القرار والأمان فهي تهفو إلى شئ، عمي عليه وتنزع إلى أمر أغلق علية فيطير - بعد لأي - إلى الزوجة.
وفي قصة (صراع في الظلام) نرى الضمير الحي يغفو حيناً حين تستهويه شيطانة من الأنس هي زوجة الأب الشابة فتنشر شباكها حوالي ابن زوجها الشاب فما يقر لها قرار ولا تطيب لها نفس إلا حين يقع في غرامها فيهوي إلى قاع الخطيئة والدنس. ثم يستيقظ الضمير بعد فترة فيغص الرجل بالزلة فينطلق يريد أن يكفر عن حماقته وغفلته بطريقة شيطانية مرذولة، يؤمن بان لا معدي له عنها، فيحرق الدار التي شب فيها وترعرع دار أبيه وهو يردد في صوت كأنه هذيان محموم (لا تقربوا الباب. دعوا الدار تأكلها النار). لقد حاول الفتى جهده أن يفر من الخطيئة لأن ضميره كان قد هيمن وطال أمده) فيفزع إلى الغدير ناظرا ً في صفحة تحت ضوء الكواكب فيتجلى له وجهه أمامه تكسوه اللحية المهندمة، فيلمس أطرافها بأنامله، ثم يريد أن يقتلع تلك اللحية من جذورها لا يبقى ولا يذر) ثم يحس الرجل العار في ما اقترف من جريمة وضيعة، فتستحيل حاله وينطوي على نفسه) وقد أتخذ لنفسه حياة طابعها عزلة الناس، فهو يتجنب مرآهم ما وسعه أن يتجنب،(890/47)
حتى ليحاول هو يسلك طريقه أن يتنكب مواجهة اقرب ذويه، وقد عات سحنته صلابة وجهامة، حلت محل ما كان قبلا من وداعة وتطلق. فاما عيناه فكانتا ترميان بنظرات تتلظى فيهما الشهوة والشر، بعد أن كانت هاتان العينان تترسل منهما نظرات الطهر والصفاء. إلى أي طريق في حياته هو مسوق؟ ترى أيه نهاية ترتقبه لتختم حياتة تلك؟)
وهذه صورة من الصورالحية النابضة التي تتالق في اصناف القصص. . وصورة رجل وقع تحت صفعات الضمير الحي فما استطاع أن يفر، ولا أستطاع أن ينسى
أما قصة (مجنون) فتتجدث في صراحة وإخلاص إلى الشاب الذي يبهره ألق المراة وبريقها، فلا يجد حرجاً في أن يتزوج من فتاة خالطها واغرم بها وبادلته هي الهوى بهوى وغراماً بغرام، فقصى إلى جانبها ساعات ذاق فيها لذة الهوى المحض وسعادة الحب الخالص، لا ريب في أن تاريخها سيتيقظ في دم الشاب بعد حين فيبذر فيه غراس الشك والريبة، فيؤذيه ويؤلمه
هذا طبيب تزوج من زوجة أحد مرضاه بعد أن مات تزوج منها بعد أن تغفلا الزوج حينا من الدهر فاختلسا معاً منه وقت الهناة والسرور. . . ثم فارت نزوات عقله فتكنفة الشك واخترمنه الريبة وتغلغلت فيه الحيرة، فأخذ يتحدث عن خطرات قلبه يقول: شرعت أتجسس عليها. على الزوجة: وما كان في طرقي ألا افعل، فقد دفعتني إلى ذلك دوافع نفسية ليس عنها محيص. . . وربما عاجلتني نوبة هياج، واندفعت في ارجاء العيادة أتصفح الناس واتصفح الأشياء، وما زال أدقق في البحث والتفتيش تحت المتكات ووراء الابواب، مدعياً اني فقدت شيئاً وإني أنشده، وتتراءى له أخيلة مزعجة فيقول (ويلي! ان زوجتي مصرة على أن تعيد الرواية كاملة الفصول)
وهكذا تتصفح هذه المجموعة كلها فترى صفحات خفاقة بالحياة نابضة بالمشاعر.
ولست أوافق المؤلف على أن ينشر على عيني القاري مقدمات فلسفية طويلة يوطئ بها لحوادث القصة مما ينفر الذهن. وان ذلك لنراه واضخا ً في قصص (مجنونة) و (في غفره الأقدار) و (هذه الحضارة) واشهد أن مثل هذه الآراء قد انبثت في خلال القصص الأخرى فلم تكد العقل ولم ننفر الذهن.
وبعد فإن مكانة الأستاذ محمود تيمور في القصة مكانة مرموقة وحسبه ما قاله الدكتور طه(890/48)
حسين بك عنه يوم أن قال (لم تكن القصص لتأخذ فحسب، وإنما كنت تحب القصص لتأخذ ثم تقلد ثم تلتمس شخصيتك، ثم تظفر بها، ثم تنتج فتملأ الشرق والغرب ادبا وحكمة وفقها لشؤؤن الحياة كأروع ما يكون الأدب والحكمة والفقه في شؤؤن الحياة.
كامل محمود حبيب(890/49)
رسالة النقد
النقد في أدبنا المعاصر
للأستاذ عادل سلامة
هل من العجب أننا نغرق النوم في الحديث عن أدبنا وماله من امتياز يجب أن نفخر به ونعتز كل الاعتزاز، ونحن قد ملأنا بضجيجنا السماء الهواء والماء ولم نكتف بذلك، بل غصنا إلى عمق البحر، وأتينا من قاعه بالعجب العجاب. فمنذ بدء هذا القرن، وقد أنتشر عنا في أرجاء الأرض أنه قد كان لنا أدب ميت فأحييناه، ولم يكن لنا - كما زعمنا - بد من ذلك؛ فنحن قوم قد أرهف شعورهم، وصقلت أذواقهم، وامتد لهم في محيط الفن صوت عريض مجلجل!
فإذا كنا كذلك، فلا بد لنا إذن، حين وقفنا على الأدب الغربية، وما تحمله إلى النفس من نفح طيب، وشذي معطر أن ننظر في أنفسنا، وان نقدر ما وصل إليه أدبنا العربي، من خمود هو أشبه بالماء الآسن منه بأي شيء آخر.
وقد نظر الناس منا إلى هذا الخمود، فأعلنوا الثورة، وتمخضت ثورتهم المتأججة، عن جدول رفيع سارب، ينساب من محيط الأدب الغربي، وأخذ يتدفق في بطئ نحو هذه الصحراء، الممتدة كل الامتداد؛ اخذ يرويها من أطرافها وانبت فيها شيئاً يشبه النبات الأخضر، ولم يكن لهذا النبات أن ينمو ويورق ويترعرع، فهذه الشمس المحرقة، شمس أنصار القديم - كما اصطلحوا على تسمية هذه الفئه، ترسل أشعتها صادية - ظامئة، فتذويه وتمتص ماء حياته. . .
ثم تقدمت الأيام رويدا رويدا، تمشي على اللوني كما يقول الشاعر القديم، واشتدت ساق هذا النبات المتضائل الضعيف، وكان لا بد من أن يقاوم، وان يصطرع من هذه الطبيعة المجدبة، التي يؤثر جذبها الموحش على الزهر اليانع النضر!
والذي حدث فعلا، أن مشكلة الأدب القديم، والأدب الجديد، بدأت هذه المشكلة منذ زمن، وهي ظاهرة إلى اليوم وستظل ظاهرة إلى أبد الآبدين. فنحن لا نتحدث الآن عن أدبنا ذاته، وإنما يهمنا من الأدب أن ينتمي إلى المدرسة القديمة، التي تقدس الماضي، أو ينتمي إلى المدرسة الحديثة التي تنظر بمنظار الحادث المستقبل. والنقد علم مقوم لفن الأدب فإذا كان(890/50)
حظنا من الأدب اليسر، فلا تنتظر - كما يرى العقل - نقدا ضخما بادي الضخامة. . .
ولكننا قوم نعقل الأمور وبسنتنا الطويلة المشتدة في الطول، بيدينا القصيرة الممعنة في القصر، وليس لنا عيون فننظر بها، ولا قلوب فنعقل بها، ولا آذان فنسمع بها، وإنما أدواتنا آلتي قد منحناها فقيرة من ذلك أشد الفقر، فإذا خرج علينا أحد من الأدباء - سواء أكان منهم - بأي أثر وان لم يكن له من الأدب إلا الانتحال لأسم الأدب كما يقول الجاحظ، تداولناه بالحديث، وجلسنا حوله كما يجلس القوم الجياع حول مائدة مليئة بالقصاع، وأخذنا نقلبه وندوره ونحوره، وننظر له من هنا ومن هناك، ثم بعد ذلك نصدر عليه حكمنا القاهر بأنه من اتباع المدرسة القديمة فينبغي أن يؤثر أوعية الزبل بهذا الأثر، ولو اشتدت ضخامته، وامتدت جسامته. أو أن نحكم عليه بأنه من المدرسة الحديثة التي قد تشبع أذواقنا المترفة، وتبعث في نفوسنا شيئاً من الانتعاش الفني الذي نستمتع به كل المتعة، فمن الخير إذن أن يبقى النشء، وان نفعل به كذا وكذا إلى ما لا ينتهي من حديثنا الفضفاض عن كل شئ. .
وليس غربيا أن أقول هذا، فبالأمس القريب، ظهر كتاب لقصصي مصري شاب بعنوان (بائع الحب) فثار عليه البعض، اتباع المدرسة المجددة، ولكن جوهر الخلاف يدور حول؛ هل هذا الكتاب أو بالأحرى الكاتب نفسه_من المنتسبين للقدماء أو المحدثين. فالأولون يرون أن الكاتب من اتباع مدرسة امرئ القيس والآخرون يقرنونه بشارل بولد ير وغيره من الكتاب الواقعيين في الآداب الأجنبية.
فقد وضح إذن أن (النقاد) عندما يقيمون نقدهم على غير أساس من علم أو من دراسة للآداب الغربية التي نفتقر إليها أشد الافتقار، وليعلم (النقاد) عندنا أن ليست مهمة النقد هي بيان مقدار انتماء الأثر الأدبي إلى القديم أو الحديث؛ وانما مهمة الناقد حقا أن يقدم الأثر الأدبي إلى قراء الأدب، وان يوضح لهم مزاياه وعيوبه من حيث هو عمل أدبي يحكم عليه، وان يبين قيمة هذا العمل في عالم الأدب. والنقد يتناول كل الآثار الأدبية ولا يرتفع بأي حال من الأحوال، خلافا لما قال زميل أديب عندما تعرض لنقد هذا الكتاب على صفحات الرسالة - فرسالة النقد إنما تتصل اتصالا وثيقا بالقارئ لا بالكاتب، فهو يهيئ نفس القارئ وعقله لقراءة الكتاب، واليوم بعد مرور ثلاثة قرون على وفاة شكسبير ما زال(890/51)
النقاد الإنجليزي يتعرضون لآثاره الأدبية. أستطيع أن أقول إن القارئ نفسه هو مدار الأدب وعماده، وإلا فلم الكتاب وافتن الأدباء، إن لم يكن كتب لإثارة المتعة الأدبية واللذة الفنية في نفس القارئ. .
والناقد الإنجليزي (ماتيو ارنولد يعترف في كتابه (الثقافة والفوضى أن غرض الناقد يهدف إلى خلق مجتمع اسمي، وانما يكون ذلك بتوخيه الملكات الفنية الممتازة، وتصفيتها مما يشوبها من نقائض وقد يبالغ أرنولد أحيانا، فيصل بالنقد إلى أنه قياد الأدباء في مختلف الأزمنة؛ لأن ضميره كان قد هب من سبات طال أمده) فإذا ارتفع النقاد بأفكارهم في عصر من العصور نضجت عوامل الفن في نفوس الكتاب والشعراء في ذلك العصر، وكان من ذلك نهضة فنية ممتازة.
فليس النقد إذن عند الغربيين، حلقة يصطرع فيها الناس، إما بالأفواه العريضة، والألسنة الطويلة، أو بالأقلام المدببة التي تكاد تمزق الورق. وأنما النقد عندهم آلة مهمة من آلات الأدب، لها غرض برئ من النزعات الشخصية , والمآرب الموقوتة.
واهم ما يوجه إليه الناقد الغربي نظره هو العمل الأدبي الذي بين يديه، يبين مقدار أصالته في الفن، ويكشف للناس عن نواحي الحسن والقبح فيه. ولقد تمر على الناقد مثلا شخصية أبداع الكاتب في تصويرها، فما أسرع ما تشتهر هذه الشخصية في عالم الأدب، حتى لقد تخفى اسم الكاتب نفسه في بعض الأحيان. ومن منا لم يسمع عن مكبث وهملت واوليفر تويست ومدام بوفاري وهاربا جون؟
والناقد الغربي لا تعنيه حياة الفنان إلا بقدر ما تنعكس على عمله الفني، فهو يبحث عن أثر ثقافته، وما مر به في حياته من حوادث. ولقد تعرض النقاد لتوماس هاردي في حياتة، وأستعانوا به نفسه
على تبين النوحي الثقافية في آثاره، والأماكن التي وصفها في كتبه، وليس أدل على هذا من مقدمة دونالد مكسويل - وهو فنان تعرض لوصف الأماكن التي وسمها هاردي في عشرة من مؤلفاته - في كتابه أقول تعرض النقاد له ولغيره من الأدباء والشعراء ومع ذلك لم يتعرض له أحد منهم بسبب شخصي أو مثل ذلك. أما إذا عدنا إلى أدبنا العربي الحديث، فاعلم أنني قرأت مرتين (لناقدين) من نقادنا بدءوا نقدهم بأنهم لم يشتروا الكتب التي(890/52)
سيعرضون لها شراء - وإنما أحدهم وقع الكتاب بين يديه - ولست ادري كيف وقع - والآخر اهداه إليه المؤلف من باب التملق لأنه معروف مشهور!
واهم عماد يقوم عليه نقدنا الحديث هو السباب والطعن الصريح في شخصية الكاتب وخصوصياته، وتلومه على الكتابة فيما ليس به شان، فكأننا أقوام بداءة جفاه قد أقفرت نفوسهم من الفن والشعر والأدب، فلم تنبت أصولها إلا عند هؤلاء النقاد، وهم مع ذلك يكابرون، ويدعون أن لنا أدبا يجب أن يقرا، وتلوموننا نحن الشباب على انصرافنا عنه انصرافا تاما. ونحن الشباب في حيرة دائما من امرنا؛ وعن يميننا وشمالنا فلا نجد إلا الصحراء، ويا أيتها صحراء مجدبة مقفرة، وانما في صحراء تحتلها الأسود الضواري المصطرعة، وقد امتلأت بالدماء من كل جانب. . ز
فهذه في حالة أدبنا ونقدنا، فما فائدة النفخ في قربة مقطوعة كما يقول المثل العامي؟ إذن فلنلجأ
إذن إلى الأدب الغربي نفسه، لا الذي يصوت لنا النقاد، ولنتفقده ونستمتع به، ولعل يوماً أن نجيء فنستطيع أن ننهض بأدبنا هذا الفقير كل الفقر، واما أن نبقي هكذا بين أيدي (النقاد) والسنة الأدباء كالمضرب والكرة فهذا شيء لا نرضاه لأنفسنا نحن القراء من شباب، وقد قال شاعرنا القديم
لعمرك ما في الأرض ضيق على أمريء ... سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
عادل سلامة
كلية الآداب بجامعة فؤاد
في ليلة عيد
للأستاذ أحمد حسن الرحيم
قرأت في العدد (876) من الرسالة الغراء قصيدة رائعة الأستاذ الأديب محمد سليم الرشدان، وقد أطلعت عليها متأخراً، وهي بعنوان: (في ليلة عيد) ولا أتفق مع الأستاذ الشاعر في قسم مما جاء في قصيدته. والنقد النزيه لا يرتضي الذوق كتمانه، فهو آية التعاون الفكري وسبيل التقدم والقصيدة عدتها خمسون بيتاً كل خمسة أبيات على قافية(890/53)
واحدة.
قال فيها:
فأصحابه مسرقات الصفاء ... وامساؤه ضاحكات السمر
والذي أدريه أن المساء وقت غروب الشمس والسمر حديث الليل، فكيف جمع الأستاذ بين شيئين متباعدي الزمن. فالسمر لا يكون مساء.
وقال:
تسير الهناءة في ركبه ... فينهل منها بشتى الصور
أما أن الهناءة تسير معه لينهل منها الشخص المعني بالقصيدة فهذا مما يتسع له الشعر، ولكن قوله: (فينهل منها بشتى الصور) وردت فيه (الباء) زائدة في قوله: (بشتى) والصواب أن يقول فينهل منها شتى الصور؛ لأن نهل لا تحتاج (الباء) وأعيذ الأستاذ أن يقول (فينهل منها بشتى الصور) كما نقول فيشرب منها بالإناء لما في هذا المعنى من تفاهة.
وقال.
ففي أم طفلته ما أفاء ... عليه الحبور وبرد الحياة
وبرد الحياة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي حياة باردة والأستاذ - كما افهم من معاني القصيدة. . . يقصد بها حياة الرغد وليست (الحياة الباردة) حياة الرغد بل هي حياة الضجر والسام
وقال الأستاذ:
وكر الزمان وئيد الخطى ... وطفلته شغله الشاغين
وقد مرت عشرة أبيات من القصيدة، كلها في الفرح والحبور فلا نزال في القسم المصور لحياة الرغد؛ إذن فكيف يمر الزمان (وئيد الخطى) وهو لا يمر وئيدا إلا في الأحزان والفجائع؟ وارى أن الصواب. فمر الزمان سريع الخطى كعادته في الأفراح ليسهو الإنسان عن مروره
ووصف الأستاذ فتاة الرجل المعنى بالقصيدة بان والدها أفاض عليها من ضروب النعيم وغمرها بالعطف وتجاوزت (صباها الغرير) فهي تميس في عجب.(890/54)
وتقبل في خطوات الشباب ... كظبي تأثره الحابل
والحابل هو ناصب الحبالة أي الشرك وتأثره أي تتبع أثره ولم أجد علاقة بين المشبه والمشبه به؛ فالفتاة أقبلت في شبابها كأنها (ظبي) تتبع أثره الصياد الذي ينصب الشرك، والأثر لا يتبع إلا بعد غياب صاحبه. فلوا اكتفى بما معناه: وكأنها (ظبية) لكان المعنى واضحاً، أما هذه الإضافة: (تأثره الحابل) فهي بؤرة الغموض واللبس، ولا أدري إن كانت الظباء مما يصاد
وقال الأستاذ:
ومرت خطوب تشيب الوليد ... بما حل من هولها المفزع
فيوم حصاد كيوم الوعيد ... أقضوا يه ساكن المهجع
ويوماً يساق أباة الرجال ... إلى محشر دافق مترع
والذي أراه أن كلمة (يوما) في أول البيت الثالث تقتضي قواعد النحو رفعها، فهي ليست منصوبة على الظرفية في هذا الموضع.
وقال الأستاذ:
فشيخ يعض على راحتيه ... ويندب في القوم صرعى بنيه
والشيخ هذا فلسطيني منكوب بتجبر اللئام؛ ولكن القريض لم يؤد من المعاني ما يرتضيه النقد، فالراحة هي باطن الكف وليس من المألوف أن يعض الإنسان على راحتيه في الأحزان. والمألوف أن بعض الإنسان سبابته من الندم أو الغم (وسبابة المتندم) شهيرة قال فيها الشاعر:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
ولكن الأستاذ الشاعر في تقديمه القصيدة يقول أنها واقعية فأصدق ذلك. أما قوله (ويندب في القوم صرعى بنيه) فلا تدري أهو يندب بنيه الصراع أم يندب من صرعهم بنوه من الأعداء. إن القرينة المعنوية تمنع المعنى الأخير أي يندب الشيخ الصرعى من أعدائه ولكن عبارة الشاعر تتسع لكلا المعنيين.
وقال عن الفتاة:
ولم تك تعلم أن الزمان ... يداهم بالحادث المطبق(890/55)
وقوله: (يداهم) خطأ صوابه يدهم فلم أجد فيما راجعت المعاجم الفعل (داهم) وليس هذا مما يتسع له باب القياس.
وقال:
وأن البلاد انتهت للعدو ... بكيد امرئ قط لم يتق
وانتهي إليه الشيء أي وصل إليه فأستعمل اللام عوض إلى وهو عوض لفظي مقبول في الشعر ولكن المعنى غير مقبول، فلا يقال. لأن البلاد ليس مما ينقل. أما قولة (بكيد أمري قط لم يتق) فقد ذكرني بشطر ابن جني. (قط لا يدفع عن السبق عراب) عوض قول المتنبي. (غير مدفوع من السبق العراب) ألا قاتل الله مواقف يغلب فيها رصف النحو ملكة الذوق.
وقال:
فيا ليته امتد هذا الرقاد ... وظلت بافاقه حالمة
فقد جعل ليت اسماً هو (الهاء) وجعل لها أسم آخر بدلا منه هو (هذا) وهو شبيه بلغة (أكلوني البراغيث). وآفاق الرقادلس مما يستسيغه الذوق، وليس كل استعارة سائغة.
وقال الأستاذ في البيت الأخير: -
وبادر عدوك في وكره ... وإلا أرتقب يومك الأغبر
فقد شبه العدو بالطير على سبيل الاستعارة المكنية بدلالة قوله (وكره) والعدو لا يشبه الطير، وليس في القصيدة ما يدل على أن يقصد الجوارح من الطيور. والتشبيه هذا فيه توهين للهمم من حيث لا يقصد الشاعر. فما دام الشاعر يريد أن يشحذ من همة الشعب المفتخر، فينبغي أن يكشف عن قوة العدو ومكره.
وبعد فالقصيدة - على كل هذه ألهناه اليسير رائعة الطلعة كريمة الهدف والعاطفة، فياضة بالشعور الحي، وللأستاذ الشاعر إعجابي بشعوره وصرخته الحارة.
الحلة (العراق)
أحمد حسن الرحيم
ليسانس بالأدب العربي(890/56)
القصص
من الأدب الإنساني الإنكليزي
والدان
بقلم الأديب محمد يحيى إبراهيم الرويدي
كان الوجوم مخيماً على البيت الكبير وكل ما فيه ينطق الأسى وقد أبعث من إحدى الغرف نشيج خافت.
وكانت أضواء القاعة الباهلية تلقي بصيصاً على نفر قليل من الناس نزلت دموع بعضهم على الوجنات وأخذ بعضهم يتمتم بعبارات تفيض باليأس والقنوط فقد حركت فيهم المصيبة كامن الشجن كما تفعل دقات أجراس الموت الحزينة في النفوس الحساسية. وفي إحدى طوابق البيت كان الكون كأبلغ ما يكون فلا حس ولا حركة كبحر انقلبت مياهه ألواحاً من الجليد.
وهناك في غرفة صغيرة اضطجعت على فراشها تلفظ ببطء أنفاسها الأخيرة، طفلة رائعة الملاحة، أبيض وجهها حتى أضحى أشد نصوعا من الكفن الذي كان في انتظارها، ليغيبها في لفائف، وبقرب الفراش انحنى والدها يغمران بقبلاتهما وجهها الجميل، وفي الجهة الأخرى من السرير وقف الطبيب صامتا ً واجماُ بعد أن أشد بلاغة من الدموع، وبجانبه وقف القس ممسكا بإنجيله يتلو فقرات منه بصوت خفيف.
واخيراُ لفظت الطفلة أنفاسها واصبح ذلك الجسد الذي كان ينبض بالحياة كقطعة جامدة من الرخام، وليس فيه دلائل الحيوية الماضية سوى تلك البسمة البريئة التي لم يقو الموت على انتزاعها من الشفتين الرقيقتين. أطبق القس كتابه أحنى رأسه المكلل بشعره الرمادي ووقف يرقب خاشعاً ما تتخطه يد الموت على الجهة الصغيرة.
أما الوالدان فقد شخصت إبصارهما في ذهول، فقبل دقائق قليلة كان أملهما معلقاً في ارتعاشه الشفتين واضطراب الصدر الصغير. أما الآن فقد انهدم كل شيء، ماتت! نعم ماتت وتركت عالما يضج بالحركة والحياة، كانت تفيض سلاماً والتي عاد القس إلى تلاوتها بصوته الهادي العميق لم تكن قادرة على أن تهب عاود قلبيهما سلاماً وتعزية فانكفأ(890/58)
الاثنان على وجهيهما وراحا في إغمائه، دون أن تمتد إليهما يد تحاول وفعهما؛ إذ أن الأصدقاء انسحبوا من الدار وتركوا الوالدان إلى رحمة الرب الرحيم، ولبث الوالدان هكذا ساعة وبعض الساعة وازدادت وطأة الصمت على البيت الكبير بعد أن مضى كل إلى شانه، وجلس الخدم يذرفون دموعهم في صمت، إلا تلك الممرضة التي دفعها شعور خفي إلى دفع باب غرفة المتوفاة لترى منظراُ عقد لسانها وأدهش عقلها. . الأم على فراش الطفلة وقد أحاطت بمناها الجسد الصغير الهامد وألقت برأسها على الوسادة ونامت هي الأخرى، ولكن. . إلى الأبد!
أما الوالد فلم يكن في الغرفة، إذ أنطلق هارباً تاركاً البيت إلى حيث أخذ يسير تحركة لا شعورية وق
الجم الحزن لسانه وجعل دموعه تتجمد في مآقيها، وانزل على ذاكرته ستاراً من النسيان. كان يمشي مسيراً لا مخيراً كان هنالك قوة خفية تدفعه نحو جبانة القرية
وهناك وقف جامداً كالصخر والمكان حوله تبعث على الرهبة: الكنيسة القديمة الملتفة بأرديتها الموحشة بالغيوم وأشعة القمر تحاول أن تسترق فرجة تطل منها على الكون العظيم، وبجانبه تأثرت النصب والقبور. . هنا مدينة الأموات، وهناك دنيا الأحياء وهو حائر بينهما، حائر ضائع محطم!
وألقى الرجل نظرة ذاهلة على القبور المتناثرة، ثم سار وجلس على قبر أخضر من الطحالب التي عليه ممتصة عناصر الأجيال، ونظر إلى السماء طويلا، ثم شعر بالدموع تسيل على وجنتيه في خطين غريرين وبدأت سحب النسيان تنجاب عن ذاكرته رويداً رويداً وانتقلت به الذكرى المريرة القاسية إلى (أميلي) وحيدته المسجاة. . . وهناك في المقبرة الصامتة الموحشة أنبعث صوت ثائر يخاطب الأشباح.
وارتفعت قبضته تهدد: لم فعلت ذلك يارب؟ ولم تدعوك رحيماً ما دمت تسترد ما تهب ولا تخلف لنا سوى اللوعة؟ ابنتي لتترنم على معاول الهدم؟ أتزرع لتنعم بالحصاد وحدك؟ أترضى لذلك الجسد الغض بالتواء تحت أحد هذه الأشجار الثقيلة؟ آه يا لقسوتك آيتها السماء. . وازداد الأسى بالرجل واخذ يصيح ويزأر كالوحش الجريح.
وفي تلك اللحظة تحرك في المقبرة شبح أسود، اخذ يسير بخطى خفيفة فالتفت الرجل ليرى(890/59)
فبالته، فآخذه الفزع وكف عن صراخه ووقف على قدميه منصتاً ونفذت أشعة القمر في تلك اللحظة وألقت شعاعاً باهتاً على القادم الغريب، فأجفل الرجل إذا لم يكن القادم سوى القس. . . القس الذي صلى على فتاته الصلاة الأخيرة. .
ووجم الأب ونظر بغرابة إلى القس الذي عقد يديه إلى صدره، وبشفتين مرتجفتين وصوت رجراج أخذ يقول: كفاك تجديفاً يا رجل! فالله كفيل بان يهب نفسك الثائرة القلقة أمناً وسلاماً فهو إذ يضرب بيمينه محكم ما، تمتد يسراه فتسمح ما ينز من عليها وتدفئها تحت قبر من هذه القبور.
ووضع القس يده في يد الرجل قائلاً. أركع وأتل معي ما تحفظ من صلوات. . وركع الرجل الذي يتناسى ربه في غمرة الأحزان والرجل الذي يزداد التصاقاً به كلما هبت في وجهه أعاصير الحياة؛ الثاني يردد صلاته، والأول يبلل بدموعه صفحة القبر الشاحب.
وارتفع صوت القس فجاه قائلاً: صل، أنت الآخر من اجلي، فإنا الآخر قد فقدت عزيزاً. كنت أتلو في مسامع ابنتك صلاتها الأخيرة بينما كانت ابنتي تموت في بطأ. . . وحيدة؛ كنت مضطرا إلى تركها ما دام واجبي يدعوني، ولم أشأ أن احرم فتاتك هذه التغريد، فحرمتني الأقدار وحيدتي (لوسي)، لوسي التي كنت أستيقظ على صوت ضحكاتها الرنانة، وأخشع وهي تتلو لي فصولا من كتابها المقدس الصغير، وابتسم وهي تروي على مسامعي أقاصيصها الساذجة، كنت أودها تعيش وتطبق بيديها عيني بعد وفاتي، فشاءت الأقدار أن أتولى أنا هذه المهمة التي قمت بها لأمها من قبلها.
ونظر الرجل إلى القس معزياً ولم يجد ما يقوله فسالت الدموع، أبلغ من كل كلام؛ ولكنه شعر للظى يحف في أعماقه، وبالأسى يتسرب شيئاً فشيء من نفسه بعد أن شاهد أمامه زوجته المتوفاة وبجانبه ملاكه الصغيرة؛ ثم رفع بصره إلى السماء، فشعر بالتعزية تنبثق منها. ونهض القس من ركوعه وقطع بصوته الأجش حبل أفكار الرجل قائلاً: غداً ستخرج جنازة واحدة تجمع ثلاثة، فإذا كنت تملك بقية من دموع فاذرفها الآن. . . هنا على هذا الأديم؛ أما أنا. . . فلا أملك سوى استسلامي والآن وداعاً. . .
وافترق الوجلان. . . . ابتلعتهما الظلمة وسار كل في طريقه. . . الرجل إلى بيته الصامت الحزين، والقس إلى كوخه المنعزل في أحضان الوادي الهاجع.(890/60)
القدس
محمد يحيى إبراهيم الرويدي(890/61)
العدد 891 - بتاريخ: 31 - 07 - 1950(/)
إسماعيل صدقي باشا
كان صدقي باشا رحمه الله عظيما ما في ذلك خلاف بين خصومه وشيعته، ولا بين أمم الناس وأمته وكانت عظمته من العظمات التي توهب مع الفطرة وتولد مع النفس، فليست من صنع الظروف ولا من عمل الحزبية ولا من أثر العصبية ولا من نتاج المال ولا من خداع المنصب نمت مع جسمه نمو العضو، وسمت مع نفسه سمو الروح، وترجمت عنها في جميع أطوار عمره، وفي شتى ضروب عمله، فحولة في تفكير، وبطولة في الجهاد، ورجولة في الحكم
تميز صدقي باشا على نظراته ببراعة الذهن وقوة الحجاج وسداد المنطق وشجاعة القلب؛ فكان في الأدب كابتاً في العربية والفرنسية عميق التصور دقيق التصوير، تقرأه وأنت خصمه فلا يسعك إلا أن تعجب له وتعجب به
وكان في السياسة عملياً واقعياً لا يتأثر بالعواطف ولا يؤثر بالأماني؛ إنما كان يقود الخاصة ويسوق العامة إلى الخطة التي ترسمها المنفعة، وإلى الغاية التي يحددها الواقع
وكان في الحكم عارماً حازماً يقظاً جريئاً يقود السفينة في العباب المضطرب والأفق المكفهر فلا تزعزع يديه القويتين عن سكانها وثوب إعصار ولا شبوب نار ولا مساورة حوت
وكان في العمل دءوباً كسوباً يشارك في الاقتصاد القومي بالرأي الصائب واليد المصرفة والجهد المنتج؛ فكان له في كل مشروع شرع، وفي كل شركة أعضاء، وفي كل جمعية إمامة
وكان صدقي باشا في تاريخ وطنه فصلا قيما لا تقرأ فيه غير الجد؛ وفي نهضة قومه رائدا صادقا لا تجد وراءه غير الخصب. وكان من سبقه في الجهاد أن نفي مع الثلاثة في مالطة؛ وكان من فضله في السياسة أن قبل مع الاثنين تصريح 28 فبراير؛ وكان من توفيقه في الحكم أن سن وحده قانون التسوية العقارية، وهذه هي الأركان الثلاثة التي قام عليها استقلال الدولة برفع الحماية، وسلطان الأمة بوضع الدستور، وعمران البلاد بحفظ الملكية وصيانة الثروة
ثم كان صدقي باشا مثلاً فذاً في رجال العصر قل أن تجد له أشباها فيما غير من الدهر الطويل. كان لا يشغل ذرعه بسفساف الأمور ولا بخسيس الأنصبة ولا بوضيع المطامع.(891/1)
وكان لا يحب الوقوف على الهامش ولا الدروج على الشاطئ؛ إنما كان يسير قدما في الصلب، ويسبح دائما في اللجة. ثم كان عزيمة لا تنكل حتى في ضراوة الخطب، وحيوية لا تفتر حتى في وقذة الداء، وعبقرية لا تخبو حتى في غشية الموت
ذلك هو الرجل الحق الذي يجب أن يجعله كهولنا مثلا ويتخذه شبابنا قدوة
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(891/2)
المستعمرة الذرية
للأستاذ محمد محمود زيتون
قالوا (العلم لا وطن له) وهم بذلك أرادوا ألا تدنس السياسة أقداس العلم، ومحاريب العلماء، بل أرادوا ألا يتأثر العالم في علمه وبحثه بأي عامل سياسي أو جنسي أو ديني حتى يتحقق للعلم استقلاله، ويؤدي رسالة النهوض بالإنسانية إلى ما يخفف عنها أعباءها، ويختزل الصعاب التي تواجهها.
وهذا ما يفهمه كل إنسان على ظهر هذا الكوكب المعمور، فليست عملية حسابية أو تجربة كيميائية أو ظاهرة طبيعية أو عملية جراحية مما ينسب إلى وطن بعينه، وإنما هو الفكر الواحد الذي يسود مظاهر العلم بعيداً عن حدود الزمان والمكان، ولذلك يقال في معرض التفرقة بين العلم والفن: العلم موضوعي الفن شخصي.
ومع ذلك تمخضت نزعة الجنس الألمانية عن (الكيمياء النازية) فكانت من الأصداء المعكوسة للاستقلال العلمي، فارتكست ألمانيا في قرار غير ما كانت تريد وتأمل مع ذلك العظمات التي شيدت أركانها وشدت بنيانها.
فإذا عرفنا أن الكون في شتى صوره ليس إلا شيئين هما: الإنسان والطبيعة، استطعنا أن نقول إن الإنسان في محاولته التعرف على الطبيعة إما راغب في معرفتها كما هي عليه فذلك هو العلم، أو كما يريدها هو فذلك الفن.
وتبدو الطبيعة للإنسان في بادئ عهده بها كلاً لا يتجزأ، فما يزال يتقرب منها حتى يدور حول هذا (الكل) ليعلم تفاصيله وأجزاءه، وبذلك ينتقل من إدراك الصورة الكلية (الجشتالت) إلى العناصر والأجزاء، ويكون هذا التحطيم من عمل الفكر، وإن لم يكن له في الوجود وجود، حتى إذا تحقق كان الفكر أسبق شيء إلى توهين القوى، وتحليل الكامل.
وما دام الإنسان في تصعيده قدماً في معرفة الطبيعة يعترف على نفسه بالجهالة كلما تبين له الخطأ فيما كان يزعمه صواباً، فلا شك أن هذا الجهل الذي لا يرضاه يحفزه بطبعه إلى التعمق والتفحص والتمرس بالطبيعة حتى يحطم كيانها، ويفتت أجزاءها، ويحلل عناصرها بعد أن كانت في نظره البدائي (طاقة كلية).
وهذا هو ما يعرفه كل متتبع للتطور العلمي، والتصاعد الفكري للإنسانية في شتى(891/3)
أعصارها. ألم تكن (الذرة) سراً خفياً، وجزاءا لا يتجزأ، ثم إذا بنا أمام ثورة فكرية هائلة على هذا الجمود، فطالعنا علماء الطبيعة بتحطيم الذرة وانقسامها، حتى لقد سارعوا إلى توكيد ذلك عملياً بما سموه (القنبلة الذرية) التي تشرفت بها (هيروشيما) البائدة فأصبح عاليها سافلها كأن لم تغن بالأمس، ثم انفضت الحرب، ووضعت أوزارها، فإذا بجزيرة (بيكيني) تهتز براً وبحراً وجواً، ومن يدري ماذا سيكون بعد الذي كان، وما لم يكن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟
لسنا نشك في أن (الثورة الذرية) ستغير من جميع أوضاع الحياة الإنسانية في مظاهرها تغييراً بدت آثاره بين ظهرانينا الآن، أما الأيام القادمة فليست غير توكيدات عملية صريحة لهذه الآثار.
كانت النظرة الإنسانية إلى الطبيعة شاملة غاية الشمول، عامة كل العموم. ثم صرنا نقول: الشرق الغرب، ولكل (كتلة) هو موليها، وهناك القارات فإذا بالقارة الواحدة تنقسم إلى قسمين، فأصبحت أمريكا أمريكيتين، وانشطرت من ثم كل واحدة إلى مالا عداد له من الولايات. وهكذا الحال في الهند والصين وفي غير الهند والصين.
قد يقال إن النواة البيولوجية هي أصل الانقسام، ولكن عاملا جديداً دخيلا له أكبر الأثر في كل انقسام وهو (الاستعمار) الذي وجد لنظرية (فرق تسد) مركبا سهلا وهو تحطيم الذر فأتخذها ذريعة للوصول إلى غايته.
لقد استأثرت أمريكا - وهي دولة الاستعمار العصري - بأسرار التحطيم الذري، ولم لا يكن لهذا السر أصداء بقيت هي في الواقع (ظواهر) للطاقة الكامنة. فالكهرباء كانت لا ندري عنها غير ما يظهر لنا من نور وحركة وحرارة، فانحطمت هذه الطاقة، وأنكشف سترها وخافيها، ولم تعد طلسما يعيب العقول ويحير الألباب.
وكذلك (الوحدة السياسية) التي توافر عليها كثير من العوالم الجغرافية والتاريخية والجنسية والاجتماعية، تأخذ هذه الوحدة في التقدم والنمو حسب مقدراتها الخاصة والعامة، ولكن كيف تقف أمريكا وغيرها من الدول الدائرة في فلكها إزاء هذه (الوحدة) في عصر الذرة؟ وكيف يصح في الأذهان الذرية أن يظل شعب واحد على ما هو عليه من تماسك وتضافر في عصر انحلت فيه كل قوة، وانشقت العصا، وحل التخاذل والانحلال مكان التساند(891/4)
والاستقلال؟ بل كيف يكون الفرد الواحد متماسك الوعي، ثابت الاتزان، متكامل الوجدان؟
شق ذلك على المستعمرين الذريين، فالتمسوا السبيل إلى تحطيم الفرد بتحطيم الأعصاب، فأصبح موزع الشعور، صريع الهوى، شتيت الفكر، غريب القلب والعقل واليد واللسان، ودفعهم إخلاصهم (لهذه البشارة) إلى تفتيت كل وحدة، وتحطيم كل قوة، وتفريق كل متماسك، وتصديع كل ما هو (كل)، وتفرعوا بهذه البدعة الجديدة من الحروب التي لا تعرف الزحف والأدبار، ولا الكر والفر، حرب لا يحمى وطيسها مبادئ، ولا يعقد ألويتها زعامة، ولا يحرص عليها إيمان، تلك هي (الحرب الباردة) التي توحي بها السياسة العقربية التي شعارها (تلدغ العقرب وتصئ).
ومظاهر التحطيم واضحة في كل مكان: فالحكام في البد الواحد معتدلون ومتطرفون، وفي البرلمان الواحد أصحاب يمين وأصحاب يسار، وفي الدولة الواحدة أُصلاء ودخلاء. فهذه دول مغلوبة على أمرها، توزع الاستعمار نفوذه فيها، ويزكي بعضه بعضا، ويدفع معور عن معور كما يقول الشاعر. وهذه فلسطين ظلت كتلة واحدة حتى دس الاستعمار أفاعيه، فشطرها إلى عرب ويهود، ثم إلى يهود من الشرق وآخرين من الغرب؛ وأخيراً إلى يهود عصابة شتيرن ويهود عصابة فيومي.
وهذا وادي النيل يعملون على فصل شماله عن جنوبه، وأندنسيا يقسمونها بين الهولنديين والوطنيين، واليونان يشطرونها بين الثوار والآمنين. واجتاحت الصين شيوعية حمراء تقاومها عناصر صفراء، وكوريا يفصلون شمالها عن جنوبها ويحرضون هؤلاء بهؤلاء.
وبينما تنتظم الكتل السياسية المزعومة تباعا في هذا العصر الذري مثل كتلة (الينلكسي) وكتلة البحر البلطي، والكتلة الغربية الديمقراطية في مواجهة الكتلة الشرقية الشيوعية، بينما يكون ذلك، نرى الخطر يحدق بالدول الصغرى التي ليس لها في هذا النزاع الدولي القائم، ناقة ولا جمل. ولعلها لا تنخدع بنخوة التكتل والتجمع، ونشوة التحالف المقنع. فليحذر دعاة الكتلة الأفريقية.
اللهم إن كل جامعة تقام بنيانها على غير أساس لا تقوم إلا على شفير منهار، إذ الأساس الذي يجب أن يدعم حقا هو الضمير النقي السليم الذي يستحضر مركباته من خوف الله، وحب الناس، وعمل الخير، ورعاية الحق، ودفع الشر، وهدم الباطل. بهذا لا تكون(891/5)
السياسة، وسياسة الأنانية بالذات، هي الباعث على التجمع والائتلاف، ويوم لا يكون هم العالم إلا الدفاع أو الهجوم فقل على الإنسانية وتراثها ألف سلام.
والأركان السليمة التي لا تتصدع مهما تكن عوامل التعرية إنما يدعمها الدين المتين، واللغة القومية، والهدف النبيل، والماضي المؤلف، والأمل المشترك، وتلك هي (الجامعة الإسلامية) التي وضع بعض لبناتها دعاة القوة في ماضينا أمثال: الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى كمال، والتي لن يكون للعالم المترنح خلاص إلا بها، فقد اكتملت معداتها، وتهيأ لها الفرد، واكتمل فيها الدستور، واتضحت الوسيلة والغاية، وتغلغل الإيمان بها في كل قلب، واستنار العقل بما عنده وعند غيره في الماضي والحاضر، وليس إلا دور النزوع والخروج من حيز الأمل إلى ميدان العمل، العمل الإيجابي المنتج في غير تراجع أو نكوص. أما (جامعة العرب) فلم يغمض الاستعمار عنها جفنة. ونحن لا نستطيع جدالا في أصالتها وتعمق جذورها، وستظل إلى وقت غير بعيد إرهاصاً يبعث جديد لأمها الكبرى (جامعة الإسلام) وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ولن يغيب عنا أن سياسة الاستعمار الذري أو التحطيم العصري تتربص بنا، وتنغل في الداخل والخارج بشتى الأساليب ما ظهر منها وما بطن، غير أن البداهة المنطقية تقول إن القوة لا تفنى إلا بالقوة و (لا يفل الحديد إلا الحديد) والحكمة تقتضي أن أتغدى بالعدو قبل أن يتعشى هو بي.
وليس ببعيد أن تقوم دول الاستعمار جملة لا فرادى، ومتضافرة لا منفردة، وقد رفعت بعض أحقادها وضغائنها على الرفرف ووضعت أيديها في يد الشيطان في سبيل الشيطان، وبذلك وحده تواجه أهدافها بقوة واتحاد، متحايلة حينا، صريحة سافرة حينا آخر، فتجتمع على الأسلاب والغنائم ثم تنصرف إلى أوكارها تتوزع الجراح، وتقتسم الأشلاء، والدماء الزكية الطاهرة تسيل من أشداق الوحشية الذرية. . .
هذه هي (هيئة الأمم المتحدة) هل تزيد صورتها شيئا عن (عصبة الأمم) وهل تغيرت مبادئ ولسون شيئا بتغير الزمن عن ميثاق الهيئة؟. كلا غير أن شيئا واحدا يجب ألا ننساه هو أن العصبة الجديدة قد تمخضت عن القرن العشرين أو قل القرن الذري. وأخشى ما نخشاه أن يتحول العالم في القريب غير العاجل إلى جزيرة بيكيني ليكون اسمه الجديد(891/6)
(المستعمرة الذرية).
وبذلك وحده يصبح العلم لا وطن له، والحضارة لا أصل لها، وتتناثر في الفراغ أجزاء الطبيعة وأشلاء الإنسان وأضواء العلم
وتلك سياسة مرسومة سهرت عليها شهوات أهل الباطل في غفلة من مفاخر أهل الحق وتكالب على تخاطيطها ورسومها شراذم الشذاذ والأفاقين، فلنبحث عنها في (قاموس الوحوش)
محمد محمود زيتون(891/7)
الشيخ محمد عبده كفاحه ونجاحه
للأستاذ محمود الشرقاوي
في يوم 11 يوليو من سنة 1950 توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، وقد بقي أسم الأستاذ الإمام بعد موته كما كان في حياته اسماً عالي الذكر حتى ليكاد يذكر إلى جانبه ما قاله المتنبي عن المجد:
وتركت في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
كان أسم الشيخ محمد عبده في حياته وبعد موته عالي الذكر، وكان شخصه في حياته وبعد موته عظيم الأثر.
فلم كانت للشيخ الإمام هذه المنزلة في الحالتين. . .؟
ترك الشيخ عبده مؤلفات كثيرة، منها شرحه على نهج البلاغة، وشرحه مقامات بديع الزمان، وشرح على البصائر النصيرية في المنطق، وتفسير جزء (عم) والإسلام والنصرانية، وهو مجموعة مقالاته في الرد على هانوتو جمعت في كتاب، وله كتاب ترجمه عن الفرنسية في النهضة الأوربية، ولكن هذه الكتب كلها ليس لها، في رأيي، سوى قيمة جزئية محدودة. وبعض هذه الكتب لا يعرفها ولا يقرؤها الآن أحد، حتى تفسيره الذي جمعه المرحوم الشيخ رشيد رضا، رغم قيمته الذاتية وشهرته، يصدق عليه أيضاً هذا الوصف الذي ذكرته عن بقية كتبه.
لم كانت، إذن، للشيخ هذه المكانة حياً وميتاً.؟
أعتقد أن شخصية الشيخ وكفاحه هما اللذان جعلا له هذه المنزلة في تاريخنا وتاريخ الشرق الحديث.
وقد كان يتخذ كتبه تلك ومحاضراته ودروسه ومقالاته وسيلة من وسائل كفاحه وتمكين دعوته الإصلاحية وبثها والعمل على نماء غرسها.
كافح الشيخ، عندما عين محرراً أول للوقائع المصرية، لإصلاح الأداة الحكومية وإرشاد الحاكم والمحكوم فكان من أقوى المكافحين.
وكافح، معارضا، الثورة العرابية، لأنه كان من دعاة التطور التدريجي، ولأنه كان متوجساً من الحركات العنيفة، ولأنه كان، أيضاً، سيئ الرأي في زعماء الثورة، وخاصة عرابي،(891/8)
فلما خرجت الثورة عن كونها حركة من الجيش ضد ما يراه ظلماً وهضماً، وانتقت إلى أن تكون حركة من الأمة كلها ضد الإنجليز، انحاز الشيخ إلى جانب الثورة مع وطنه، فكان في معارضته وتأييده من أقوى المكافحين. وحوكم، بعد فشل الثورة بوصف كونه من زعمائها وحكم عليه بالنفي سنوات ثلاث، وكان إذ ذاك في سن الثلاثين.
وكافح، مع أستاذ جمال الدين في بارس، حين أنشآ مجلة (العروة الوثقى) كافح مع أستاذه ضد الظلم وضد الأستعمار، وكانت مجلتهما هذه، التي لم يصدر منها سوى بضعة عشر عددا، من أكبر أسباب القلق عند الإنجليز والفرنسيين، ومن أكبر عوامل التنبه واليقظة عند المسلمين والشرقيين.
وكافح في لندن متحدثاً وخطيباً في مجلس العموم، وسفيراً غير رسمي لدى رجال السياسة والصحافة من الإنجليز، في سبيل استقلال مصر ووفاء الإنجليز بوعودهم في الجلاء عنها.
وكافح في بيروت في سبيل النهوض بالتفكير والتحرير الذهني، وبيروت كانت في ذلك الوقت قطعة من الإمبراطورية العثمانية، الإمبراطورية التي كانت يحكمها السلطان عبد الحميد وتخضع لجبروته وسطوة جواسيسه الذين لم يكونوا يكرهون شيئاً مثل كراهتهم لكل تفكير وكل حرية.
وكافح في سبيل إصلاح التعلم الديني في مدارس الإمبراطورية العثمانية وفي سبيل إصلاح ولاية سوريا، وكتب في هذا وذاك إلى والي بيروت وإلى شيخ الإسلام في الأستانة.
وكافح في سبيل أن تدرك الأمة الإسلامية، والإسلام عنده جامعه، أن تدرك هذه الأمة حقوقها قبل حاكميها. حتى قال هو عنه نفسه أنه كافح (والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظلم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد)
وكافح، في مجلس شورى القوانين، وكان عضوا، دائما فيه، في سبيل تمكين سلطة الأمة والتوفيق بين المجلس وأصحاب السلطة، وتنفيذ أكبر عدد ممكن من القوانين الإصلاحية.
قال، وهو في إنجلترا، عن الخديو توفيق (إنه مهد لدخول الإنجليز مصر؛ ولذلك لا يمكن أن نشعر نحوه بأدنى احترام، إننا لا نريد خونة، وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية.!؛، قال ذلك عن توفيق ونشره في صحيفة إنجليزية، وتوفيق يحكم مصر، وهو منفي عنها يتمنى لو يعود.(891/9)
وقف في وجه الخديو عباس، وكانت بينهما مودة، عندما أراد عباس أن يخلع على مفتى المعية، الشيخ محمد راشد، كسوة التشريفة، وكانت القوانين لا تجعله مستحقاً لها، رد على الخديو أمام شيخ الزهر والعلماء رداً قاسياً جعل الخديو يتغير وجهه غيظاً ويقف حتى ينصرف من حضرته الشيوخ.
ووقف موقفه المشهود ضد رغبة الخديو عباس أيضاً في صفقة البدل التي كان يريدها للخاصة.
وكافح كفاحه الأكبر في سبيل إصلاح الأزهر وإصلاح العقيدة. وفي الكلمة التي قالها الخديو عباس عند تنصيب الشيخ الشربيني على الأزهر وتعريضه الجارح بالشيخ عبده حتى حمله على الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر، في هذه الكلمات القاسية التي ألقاها الخديو عند ذاك ما يدل على ذلك المدى الذي بلغه كفاح الأستاذ الإمام في سبيل رأيه وعقيدته.
أي ملك في جلدك. . .؟
كلمة قالها السيد جمال الدين لتلميذه الشيخ عبده. ولعلها أقوى كلمة وأصدق كلمة وصف بها الشيخ، فقد كانت له أخلاق ملك.
شخصية قوية بل مسيطرة، ومروءة، وشجاعة، ووفاء، وكرم فياض، ومحبة للخير، ودؤوب في العمل للخير العام، وتجرد من كل منفعة وغاية ذاتية. ودماثة خلق، وسماحة، وبر بالضعيف، ورقة جانب.
تلك كانت صفات الشيخ عبده وخصائص نفسه، وهو بها، جدير بهذه المكانة المرموقة التي بلغها في مصر والشرق، وأجمع عليها الناس بعد أن أدركوا هذه الصفات عنه.
هل نجح الشيخ عبده في كفاحه هذا. . .؟
لقد كافح وتحدى وقاوم جميع القوى التي وقفت في طريقه وطريق دعوته الإصلاحية أو السياسية.
وأية قوى كانت. . .؟. كان منها الإنجليز أول الأمر، وكان منها الخديو ورجال السلطان في الأستانة، وشيوخ الأزهر، وعوام الناس، وطائفة كبيرة من الصحف. وكل من يمالئ هذه القوى ويتبعها ويتملقها ويسير في ركابها.(891/10)
كانت كل هذه القوى مجتمعة أحيانا ومتفرقة أحيانا، تصده، وتتحداه، وتنوشه، ولكنه كافحها جميعاً متفرقة ومجتمعة. وكانت خصومات هذه القوى للشيخ لا تخلو، في كثير من الأوقات، من العنف والقسوة والإسفاف، ولكنه غالبها جميعاً مغالبة الرجال. وهو، هنا، قد نجح.
أما نجاح دعوته فأعتقد أن دعوته الصحفية قد نجحت، من ناحية الأسلوب والمستوى نجاحاً كبيراً، ودعوته السياسية نجحت من الناحية النظرية، وكذلك دعوته لتنبيه الشعب إلى حقوقه. أما دعوته لإصلاح الأزهر وإصلاح العقيدة فقد نجحت خارج الأزهر أكثر مما نجحت في داخله.
لقد قال حافظ إبراهيم، يرحمه الله، في رثائه البارع للأستاذ الإمام هذا البيت: -
زرعت لنا زرعاً، فأخرج شطأه، ... وبنت، ولما نجتن الثمرات
وحقاً مات الشيخ ولما يجتن ثمرات كفاحه، وأعتقد أننا - بعد هذه السنين الخمس والأربعين من وفاته - لما تجتن ما ينتظر من ثمرات، ولعلنا نجني في المستقبل أكثر مما جنينا من الثمرات التي غرس بذورها الشيخ الإمام.
هذا الرجل المخلص، الشجاع، الجلد، المتفاني، الذي قضى عمره كله يكافح الجبروت والطغيان والفساد والجهل، مات فقيراً جهد الفقر. ولا يمكن، في وطننا، أن يموت رجل هذه صفاته، إلا فقيراً. وعاشت زوجه من بعده معيشة ضنكا، لم يرفه عنها في ختام حياتها سوى تلميذه الوفي أستاذنا المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرزاق، رحمه الله، ورحم أستاذه الإمام.
محمود الشرقاوي(891/11)
مع حافظ في ديوانه
بمناسبة ذكراه
للأستاذ عبد الفتاح بركات
سلام على شاعر النيل، مازال ذكره حبيباً، تهتز له المشاعر بالطرب والإعجاب، ولقد أطل (يوليه) فبدا لي كأنه طيفه الأغر على حافة الأفق، يدعوني إليه؛ وما هي إلا نقلة من قدم حتى وجدتني أجالس حافظاً في (الديوان) أستمع إلى حديثه، وكم في حديثه من عذوبة تخلب، وسحر يفتن. . . قلت. . . لقد تميز جيلكم بالثورة في كل شيء. . . في السياسة، والأدب، والاجتماع. فأحدثتم حياة جديدة هي منة في أعناق الاخلاف جعلت لكم حق التقديس والإكبار. . . ولعل قضية المرأة كانت أبرز معالم تلك الثورة إذ تناولها بالبحث والنظر كثير من قادة الفكر وأرباب الرأي، وإذ ذكرت تلك الصفوة الممتازة فشاعر النيل منها في الصف الأول. فماذا يرى؟
قال - رأيت في المرأة أنها الأصل والمجتمع أثر لها، متأثر بها، فهي الأم الوالدة، والأستاذة المرشدة، وأن أفضال الجماعة من غرسها، وأوزارها من بذرها؛
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
وتلك مقدمة نتيجتها أن تربى المرأة تربية صحيحة صافية، وطريقة ذلك إذا أردناه أن تكون الشرقية غربية في العلم والثقافة. بهذا خاطبت (ملك) حين بكيتها:
أني أرى لك سيرة ... كالروض أرجه الزهر
قد كنت زوجا طبة ... في البدر عاشت والحضر
غربية في علمها ... مرموقة بين الأسر
واسترسلت فمجدت في شخصها صواحب الرأي والفكرة: لله درك إن نثرت -. . . .
أما حريتها - يعني المرأة - فقد أردتها مقيدة محدودة بعرف الإقليم والدين.
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ... بين الرجال يجلن في الأسواق
يفعلن أفعال الرجال لواهياً ... عن واجبات نواعس الأحدافي
وبحيث لا تفيض شرقيتها وتضيع. قلت عن (ملك)
شرقية في طبعها ... مخدورة بين الحجر(891/12)
وكأنه أحس بي ميلاً إلى الكلام فأرتفع صوته بعض الشيء وهو يقول - حذار أن تظن بي رجعية تجذب نظرتي إلى الوراء فهذى قوافي الثوائر تنقض على راث التقاليد، وعتيق العادات هادمة محطمة، ترفع عن المرأة الإصر، وتفك من عنقها الغل،
ليست نساؤكم حلي وجواهراً ... خوف الضياع تصان في الأحقاق
ليت نساؤكم أثاثاً يقتنى ... في الدور بين مخادع وطباق
تتشكل الأزمان في أدوارها ... دولا وهن على الجمود بواق
وأنا بين التقييد والإطلاق لا أبغي غير الوسط والاعتدال.
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا - فالشر في التقييد والإطلاق وأن تكون التربية قائمة على أسس وطيدة من الفضيلة والأخلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها - في الموقفين لهن خير وثاق وعلى ضوء ما قدمت بين يديك طوقت أجياد نسوة المظاهرة أيام الثورة الكبرى بقصيدة صيغت كلها بالثناء والإكبار. وصفوة ما أقوله في المرأة أن البيت خير مستقر لها، وهو عالمها الأفضل، وبحال جهادها الأكبر.
في دورهن شئونهن كثيرة - كشئون رب السيف والمزراق
ولا يغيبن عن البال أن هذا هو ما قال فيلسوف الشرق والإسلام (جمال الدين).
قلت - ولكن قيل عند أنك كنت عائما على السطح لا تغوص في القاع وغالى أهل هذا الرأي فرووا عنك أبياتاً قلتها في رثاء (قاسم أمين بك) سلكت فيها مسلكاً حياديا فلم تتعرض لأفكاره في المرأة بالتأييد أو التفنيد وتلك هي الأبيات:
ورأيت رأياً في الحجاب ولم ... تعصم فتلك مراتب الرسل
الحكم للأيام مرجعه ... فيما رأيت فنم ولا تسل
فإذا أصبت فأنت خير فتى ... وضع الدواء مواضع العلل
أولا فحسبك ما شرفت به ... وتركت في دنياك من عمل
فقال - وماذا كان يراد مني يا فتاي. . . لقد أتيت بما لا يمكن غيره؛ فالقول رثاء يرسل لفقيد، ودموع تنثر على قبر، والرثاء من قديم مدح باك، وعلى هذا الدرب سار الشعر العربي حديثه وقديمه، لم يحد عنه. وما كان لمثلي أن يخرج على أسلافه القدماء وأقرانه(891/13)
المحدثين ليهدم رجلا يبكي عليه ويتحسر، أو ليهبه التأييد المطلق وهو يكن في نفسه رأيا خاصاً قد يخالف ما بغي (قاسم) وارتاه. فأكون كما قلت:
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
وما أسلفت كاف لتجريد الأبيات من وجه الاستدلال فلا تنهض حجة على أفكاري وآرائي، وإلا فلماذا لم يتكرر مثل هذا الموقف مع السيدة (ملك)؟
وإنه لواجب أن تحاط علماً بأن كتاب (قاسم) في المرأة أحدث هزة عنيفة، وقيل عنه حينذاك بأنه يدعو إلى الحرية المطلقة؛ وكم في هذه الدعوة من جرأة جديرة بأن تكون عذراً يصرفني عن قراءة الكتاب.
فالأمر لا يخرج عن كونه تبايناً بين رأيين. أما الرجل نفسه فعلم شامخ من أعلام نهضتنا الحديثة له قدره وخطره، وإثم في حق الوطن كبير لو لم أرثه وأبكيه إذ فقدناه، ولقد فعلت فوفقت. . . وتعابثت بشيء في يدي، وأنا أتلو بصوت خفيض - كأني أحدث نفسي. . .
لمحت من مصر ذاك التاج وألقمرا ... فقلت للشعر هذا يوم من شعرا
يا دولة فوق أعلام لها أسد ... تخشى بوادره الدنيا إذا زأرا
أعزي القوم لو سمعوا عزائي ... وأعلن في مليكتهم رثائي
وأدعو الإنجليز إلى الرضاء ... بحكم الله جبار السماء
وهنا التفتت إلي وفي نظرته القوية آيات الاحتجاج ثم قال - ماذا؟: ماذا تريد؟
قلت - أما أنا فلا أريد شيئاً. . . وإنما هناك من يريد أن يؤاخذنك على قصيدتين: إحداهما في مدح (إدوارو السابع) والثانية في رثاء الملكة (فكتوريا) ومنها هذه الأبيات.
قال - يا محدثي. . . إنما هي نزعة إنسانية جارفة تحكمت في شعري السياسي تحكم القضاء في أبن الفناء، فجعلتني أمدح العدو وأرثيه، ولا يستطيع منصف ناقد أن يعيب على مسلكي فقد مدحت الإنجليز في بلادهم وحاربتهم في بلادي عنيفاً قاسياً، وليس هذا في شرعة الحق بمستنكر، وهاتان القصيدتان إن دلتا على شيء فإنما تدلان على خصلة حميدة في شعب مصر تعلى من شأنه وترفع؛ فهو لا يحارب في الأجنبي جنسيته وإنما يحارب فيه أخس طباعه وهو استعماره للبلاد، واستعباده للناس. . . ولكل امرئ يعلم مقدار حبي لأمة اليابان وإعجابي بها، ولكن ذلك لم يمنعني مطلقاً من أن أقف في الحرب بينها وبين(891/14)
الروسيا موقفاً إنسانياً يفر منه الضمير، فنعيت على الفريقين أن يتخذا آلات التدمير والهدم.
عز ريل هل أبصرت فيما مضى ... وأنت ذاك الكيس الأمهر
كذلك المدفع في بطشه ... إذا تعالى صوته المنكر
ومثل ذاك كثير.
. . . وإلى هنا انتهت جلسة ممتعة هي في حساب العمر أسعد أوقاته؛ وما كنت أود أن تنقضي، ولكن من من الناس نال كامل مبتغاه.
طنطا
عبد الفتاح بركات(891/15)
إلى معالي وزير المعارف
للأستاذ كامل محمود حبيب
أرأيت - يا سيدي - يوم أن زفت لنا البشرى السعيدة، يوم أن تقلدت منصب الوزارة؟ لقد وجفت - إذ ذاك - قلوب، واستبشرت قلوب.
وجفت قلوب لأنها تعلم في غير شك أن فيك قوة جبارة إن قالت فعلت، وأن فيك صلابة عاتية إن وعدت أنجزت، وأن فيك جرأة عارمة إن هامت انطلقت، وأن فيك بطولة صارمة إن انطلقت مرقت. فاستولى عليهم الرعب خيفة البطشة الكبرى، وعصف بهم الفزع خشية الرجفة العظمى.
ولكنك كنت طيب القلب سمح الخلق كريم السجايا رقيق العاطفة، فقذفت بالنقمة جانباً، فقربت نفراً منهم إلى نفسك، وحبوتهم بالخير، وأغدقت عليهم من الفضل؛ فاطمأنت النفوس وهدأت القلوب ونام الجزع؛ غير أن أياديك البيض لم تستطع أن تستل غلاً قديماً سرى في العروق، ولا أن تستلب ضعفاً دفيناً اختلط بالدم.
فلا عجب - يا سيدي - أن تكون - كدأبك أبداً - سماوياً في رأيك، علوياً في خواطرك؛ ولكن لا تجعل الأفعى تحس بالدفء في يوم قر.
وبذلت جهد الطاقة لتحل قضية المعلمين، واستنفذت غاية الوسع لتهدئ من روعهم؛ وأحسوا هم منك العطف فشكروا لك الجهد الضخم، وشعروا بالحنان فحمدوا لك الهمة العالية. ولكن فريقاً من الذين وجفت قلوبهم لدى البشرى السعيدة اتخذوا من فضلك دعاوة يروجون بها لأنفسهم ويبهرجون بها لأشخاصهم، ابتغاء لمنفعة شخصية أو طلباً لمصلحة خاصة. وأنت تعلم ما يضطرب في قلوبهم وتسمع ما تخفق به أرواحهم.
فلا عجب أن تكون معهم - كدأبك أبداً - سماوياً في رأيك، علوياً في خواطرك؛ ولكن لا تجعل الأفعى تحس بالدفء في يوم قر.
وطفرت بالعلم الطفرة العظمى، الطفرة الموفقة التي عجزت القرون الطوال عن أن تأتي بمثلها، ففتحت باب المدرسة للمقل وذي الحاجة بعد أن أوصده الصلف وأغلقته الكبرياء. فاهتزت الدنيا واستبشر الناس. ولكن الذين وجفت قلوبهم لدى البشرى العزيزة. . . الذين وجفت قلوبهم - يا سيدي!(891/16)
ولا عجب أن تكون - كدأبك أبداً - سماوياً في رأيك، علوياً في خواطرك؛ ولكن لا تجعل الأفعى تحس بالدفء في يوم قر.
واستبشرت - يا سيدي - قلوب وجدت فيك - منذ زمان - العميد والأستاذ والمرشد واستخفها الطرب فهفت نحوك أرواحهم، وحاموا حواليك يباركون العهد الذهبي؛ ثم غمرهم السرور حين تفتحت أيامك عن مثل الزهر شذي وعطراً وشملتهم البهجة لأن يدك الرقيقة مسحت على الأرض الجرداء فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
فكن - كدأبك أبداً - سماوياً في رأيك، علوياً في خواطرك؛ فضمهم تحت جناحك وأفض عليهم من حنانك.
وأشرعت أقلام تستحثها قلوب استبشرت بالبشرى السعيدة. . أشرعت أقلام تحوطك بالإجلال في أخلاص، وتحفك بالإكرام في محبة، لا تبتغي إلا أن تكون أنت في السنام والرفعة.
فكن لهم - كدأبك أبداً - سماوياً في رأيك، علوياً في خواطرك؛ فضمهم تحت جناحيك وأفض عليهم من حنانك. . . وكن - يا سيدي - كدأبك أبداً. . .
(الإسكندرية)
كامل محمود حبيب(891/17)
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
لست حديث العهد بالإمام الجليل حجة الإسلام أبي حامد محمد الطوسي الغزالي. فقد قرأت له وقرأت عنه في ماضي السنين قراءات كثيرة.
ولكنني شعرت بالأمس وأنا أقلب صفحات كتابه النفيس (إحياء علوم الدين) أنني حديث العهد بناحية جديدة من حياة الرجل العلمية وهي ناحية معرفته النفسية. فاندفعت إلى بحث هذه الناحية في كتابه هذا بحثاً رجعت بعده معتقداً كل الاعتقاد بأن الرجل لم يكن مسلماً متصوفاً مجاهداً بقلمه ولسانه في سبيل يقينه فحسب، بل كان عالما نفسياً أيضاً بتأمله الذاتي الذي قضى فيه السنين الطوال مستعيناً بالعزلة الفكرية والخلو الجسمية في منارة جامع دمشق تارة وفي جوف الصخرة المشرفة في القدس تارة أخرى. يتأمل في ذاته ويدرس نفسه، يحلل عواطفه وسلوكه وخواطره ونزوعه. ولا نعني بقولنا أنه كان عالماً نفسياً ما نعنيه إذا قلنا إن فرويد أو ادلر أو يونج عالم نفسي. فالغزالي عالم إسلامي صوفي ذكي القلب عالي الهمة غزير المادة لمع في سماء العالم الإسلامي وهي ملبدة بغيوم الفوضى الدينية والاضطراب السياسي فرأى من واجبه أن يكون مصلحاً فأنبري للإصلاح الديني يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة فدفعته الرغبة في الإصلاح إلى التأمل في النفس البشرية التي يريد إصلاحها في الأمم الإسلامية المضطربة بين النزعات السياسية الداخلية القائمة بين طلاب الحكم من الفاطميين والعباسيين والغزوات والعسكرية الواقعة على البلاد الإسلامية من قبل السلاجقة والصليبين فرأى أن يبدأ بنفسه يتأملها فتكون نموذجاً لهذه النفوس البشرية الحائمة الحائرة بين الحياة والموت تطاردها الحوادث فلا تدري في أي أرض تحيا ولا في أي أرض تموت. فأوصله التأمل المتلاحق في الوقت الطويل إلى معرفة حسنة ببعض الخصائص النفسية والطبائع الإنسانية، ودراستنا لهذه المعرفة على نور علم النفس الحديث ترينا أثر المجهود الفكري قواعد نفسية تتماشى جنباً إلى جنب مع القواعد النفسية الحديثة. وإخراج هذه القواعد النفسية التي وصل إليها الغزالي بتأمله وتفكيره وبحثه ودرسه فدونها في كتابه إحياء علوم الدين ومقابلتها يمثلها من قواعد علم النفس الحديث ومصطلحاته هو الغرض الذي رمينا إليه في دراستنا لهذا(891/18)
الموضوع الجليل.
ولنشرف الآن على مدينة طوس بخراسان في منتصف القرن الخامس الهجري فنرى في بيت من بيوتها عائلة فقيرة يعلوها رجل غزال ولكنه متدين متفقه رقيق القلب. . . يبكي ويتضرع كلما سمع عظة فيها تهديداً ووعيد، يحس في نفسه بالخضوع والانقياد لله، ويحس برغبة التعبير عن هذا الخضوع والانقياد وعظاً وإرشاداً فيخونه جهله ومقامه الاجتماعي فيروح متمنياً على الله أن يرزقه أبناً واعظاً يسد به نقصه ويحقق بواسطته رغبة كبتها الجهل والفقر في نفسه، فمن الله عليه وضاعف في المنة، فرزقه بدل الولد ولدين فسمى الكبير محمداً وهو وموضوع بحثنا، وسمى الثاني أحمد وهو عالم كبير. حرك الوالد في نفس الطفلين الخضوع والانقياد لله ونقل إليهما رغبته في أن يكونا فقيهين واعظين. ولكن الوالد قد لحق بربه وخلف طفليه في الحياة الموحشة المضطربة القاسية ضعيفين فقيرين فكفلهما صديق للوالد فقير غزال، فأنفق الصديق الوصي على الطفلين ما تركه أبوهما من المال القليل ثم أدخلهما تحت ضغط الحاجة مدرسة ينالان منها القوت بصفتهما من طلاب العلم في تلك المدرسة الخيرية التي أسسها الرجل العظيم نظام الملك فيما أسس من المدارس الكثيرة في ذلك الزمان العصيب. كان الإمام أبو حامد الغزالي يشير إلى هذا بقوله: (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله). فأصبح الطفلان عالمين كبيرين وفقيهين عظيمين وواعظين خطيرين.
تعلم الإمام الغزالي في طوس ثم رحل في سبيل العلم إلى جرجان ثم إلى نيسابور حيث برع في الفقه والمنطق والفلسفة فتولى التدريس في المدرسة النظامية في بغداد مرة من الزمن انكمشت بعدها نفسه عن العمل فترك التدريس وذهب إلى بيت الله الحرام فحج ثم توجه إلى بيت المقدس فجاور الحرم القدسي حقبة من الزمن عاد بعدها إلى دمشق فاعتكف في زاوية بالجامع الأموي ولبس الثياب الخشنة وقلل طعامه وشرابه ثم رجع إلى بغداد واعظاً مرشداً ثم عاد إلى خراسان ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور مدة يسيرة عاد بعدها إلى طوس فاتخذ فيها إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وزاوية للصوفية وزع وقته وجهده عليهما حتى توفاه الله.
وما دمنا قد ألممنا هذه الألمامة العامة بحياة الغزالي فقد أصبح من الحق أن نعرض لهذه(891/19)
الحياة الحافلة بمواضع الدرس والتحليل على رغم قلة سنيها وضيق أفقها فندل على بعض ما فيها من مواضع تعين على فهم تلك النفسية التي أنتزع منها الغزالي أقواله التي رأينا فيها قواعد نفسية تنطبق على قواعد علم النفس الحديث انطباقاً إن لم يكن تاماً في العرض والجوهر فهو تام ولا شك في الجوهر كامل في المعنى.
نحن وإن كنا لا نعرف مما في أيدينا من الكتب عن شخصية الغزالي في أدوار حياته المختلفة ما يكفي لتحليل شخصيته تحليلا نفسياً صحيحاً ولكننا نعرف جيداً أن والد الغزالي كان فقيراً جاهلا يشعر بالضعف فساقه الشعور بالضعف إلى الله القوي القادر (سبحانه وتعالى) فاعتصم به وخضع له وأنقاد إليه وأعتمد عليه، فأنتقل هذا الشعور من الوالد إلى الولد بالذات في حياة الوالد، وبالواسطة بعد وفاته، وقد قوى اليتم والفقر في نفس الغزالي الشعور بالمضعف فزاد هذا الشعور غريزة الخضوع والانقياد تحركاً وهياجاً في نفسه فغدا سلبياً كل السلب، فاصطدمت سلبيته بإيجابية الحياة، وبهذا الاصطدام نشأت المعركة الهائلة بين هذه السلبية المسلحة بعقل من أقوى العقول وإرادة من أقوى الإرادات وبين الحياة الإيجابية الحافلة بالخير والشر والحلو والمر. رأى الغزالي ضعفه حقيقة ماثلة أمامه فآمن بهذه الحقيقة إيماناً تحول فيما بعد يقيناً آخذاً بمجامع قلبه مستولياً على جملة نفسه فدفعه يقينه بالضعف إلى الخضوع المطلق فسلك سلوكاً هو السلبية بعينها والانهزام النفسي بذاته. وظل يتدرج في هذا السلوك السلبي حتى أنقطع عن الدنيا انقطاعاً لا هوادة فيه وأعتزل الحياة اعتزالا لا رحمة معه. ونحن لا يعنينا الآن من حياة هذا الرجل العظيم شيء أكثر من ذلك التأمل الذاتي الذي كان مكباً عليه متعلقاً به ممارساً له بإرادته الصميمة سواء أحتك بالحياة أم أعتزلها، وسواء أجتمع بالناس أم اختلى بنفسه دونهم. وما هذا التأمل الذاتي الدائم إلا التنفيس عن رغباته المكبوتة بشعور الضعف وما يتبع الشعور بالضعف من الخوف والخجل والخضوع والانقياد وإلا التبرير لهذه السلبية المستحكمة في نفسه المأزومة؛ وهو فوق هذا كله محاولات وتجارب لحل العقد النفسية التي كان يحس بها إحساساً مبهما كلما صدمه مطلب من مطالب الحياة ودهمته ضرورة من ضرورات المجتمع. ويمكننا أن نجزم هنا أن ذلك الاضطراب الملحوظ في حياة الرجل الروحية والجسمية، المادية والأدبية هو مظهر واضح لهذه النفسية المصابة بالسلبية العنيفة في ذلك الزمن الإيجابي العنيف. أنظر(891/20)
إلى هذه السلبية ترها واضحة جلية في تصرفاته منذ نعومة أظفاره، فهو سلبي في انقطاعه عن التدريس في المدرسة النظامية في بغداد؛ وهو سلبي في تلك الجولة الطويلة العريضة التي قضاها بين مكة والقدس ودمشق حاجاً ومجاوراً؛ وهو سلبي في اختلائه تارة في الصخرة المشرفة في القدس وفي منارة الجامع الأموي في دمشق تارةً أخرى؛ وهو سلبي في انقطاعه السريع عن التدريس في المدرسة النظامية في نيسابور؛ وهو سلبي في إقامته الأخيرة في طوس بين مدرسة الفقه وزاوية الصوفية ورضاه بالحياة في هذه البلدة الصغيرة بعد أن لمع نجمه وعلا قدره فأصبح علماً من أعلام الهداية الإسلامية يهتدي به في تلك الظلمات ونوراً يقتبس منه في هاتيك الأيام الداجيات.
ويقيننا لو أن الغزالي كان إيجابياً مع فضل عقله وعلو همته لكان شأنه في الحياة غير ما نعرف وفوق ما نعرف ولكن شاءت الأقدار أن يعيش حياته سلبياً فتسوقه هذه السلبية إلى ذلك السلوك الذي لبس معه الثياب الخشنة وقلل من طعامه وشرابه وأرهق جسمه ونفسه بكل ما فيه إرهاق لذلك الجسم الضعيف وتلك النفس المتألمة. وانطوى على نفسه ذلك الانطواء الذي بدأ في أكبر أيام طفولته وانتهى بانطفاء سراج حياته رحمه الله.
حمدي الحسيني(891/21)
دراسات تحليلية
إبراهيم بن أدهم
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
على سرير الملك، وبين بريق الذهب الذي يخطف الأبصار وشتى ألوان العز والسيادة: ولد الزاهد الورع والثقة المأمون، إبراهيم بن أدهم بن منصور بن عمار بن إسحاق التميمي، من أعرق بيوت الملك في فارس والعراق. ولد في بلخ إحدى بلاد خراسان. وشب تحيط به أبهة الملك وجلاله، وحوله أنواع من اللهو والمجون، اللذان يصاحبان الترف والنعيم، فتوفر إبراهيم على إمتاع نفسه بمختلف الألوان وألقى لها زمام الهوى ترتع من أنغام المزامير والألحان، وتنتشي بحلو الأهازيج وعذب الأنغام.
وقد شهدت له البلاد أروع حلقات الرماية وأمتع مواكب الصيد، وهو على صهوة جواده الأشهب لا يعلق بغباره فارس ولا يجاريه في الرماية منافس، فهو الرامي الذي لا يخيب له سهم ولا ينجو من رميته صيد مهما أوتي من سرعة وخفة.
وشغل إبراهيم نفسه وترك أمر الملك الذي ينتظره، ومقاليد البلاد التي تتطلع إليه، وراءه ظهرياً، فهو وحيد أبويه ووارث ملك أبيه من بعده فتوجس الناس خفية من أن بلي الملك هذا الفتى اللاهي، ويتسلم مقاليدهم هذا الخليع المستهتر.
وفي يوم من أيام الجمعة بينما الناس خارجون من بيوتهم، قصدين بيوت ربهم، ملبين دعوة الداعي - حي على الصلاة - إذا موكب حافل يشق المدينة يتوسطه الفتى الفارس إبراهيم، يتهادى على فرسه، وحوله أبناء الأمراء وخاصته المقربون، خارجون إلى الصيد، فتهامس الناس في غضب وسخط: أما يرعوى هذا الخليع في يوم الجمعة المقدس، أفي مثل هذه الساعة يخرج إلى الصيد والقنص وكان أولى به أن يذهب إلى بيت الله؟ ومر إبراهيم بالمساجد الواحد بعد الآخر وعلى مآذنها المؤذنون يدعون الناس إلى الصلاة ويناجون رب السماء، فلم يلق بسمعه إلى ندائهم؟ وما كان لهذا النداء أن يرقي إلى سمعه وسط هذا الضجيج الذي تحدثه سنابك الخيل، ورنين السيف.
وخرج الموكب من المدينة مشيعاً من الناس بالسخط والألم لهذا الاستهتار الشنيع بأمور الدين والتحدي لحرمات الله سبحانه وتعالى في يوم من أيامه المقدسة.(891/22)
السهام تتطاير، وحمر الوحش تنفر، والظباء تفر خفيفة رشيقة، والفتى الفارس إبراهيم يفتك بكل ما يعترضه منها فلا يفلت منه صيد. وأسكرته نشوة المطاردة وأخذته لذة الظفر، فأبتعد عن حاشيته وتوغل في الغاب متأثراً صيداً ثميناً، حتى إذا أقترب منه وقوق إليه سهمه، وقبل أن يطلقه عليه ليرديه قتيلاً، سمع هاتفً وجف له قلبه وارتعدت له فرائصه، يهتف به قائلاً:
(يا إبراهيم! ما لهذا خلقت ولا به أمرت) فتفت حوله وجال ببصره ذات اليمين وذات اليسار فلم يجد أحداً، فهم السير يبغي صيده الفار، ولكنه سمع الصوت مرة أخرى، فتوقف عن السير وسرح طرفه في الفضاء ليرى ذلك المتطفل الجريء، ولكن لم يقع نظره على أحد فعجب لذلك وأمتزج عجبه بالخوف.
ولما صمت الصوت ظن أن سمعه قد خدعه، فأرخى عنان فرسه وهم بمعاودة المطاردة. وما كاد يتحرك حتى سمع المنادي يقول: (يا إبراهيم؟ ما هذا العبث (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)) فردد إبراهيم النداء في ذهول مما سمع بعد أن تردد هذا النداء في جوانب الغابة، وتجاوب في فؤاده كما تجاوبت في الفضاء أصداؤه، وأعاده بعد أن تنبه من ذهوله، فإذا هو أنشودة عذبة ونغم شجي، ولحن عوي أيقظ في هذا القلب الغافل السر القدسي الذي يخص الله به عباده المؤمنين، وفتح مغاليق هذه النفس الساودة في الغي والضلال، فرأت بعين البصيرة جمال الإيمان.
ما أحلى هذا النداء الجميل، والإنذار الرقيق: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً. .)
لا أننا لم نخلق عبثاً، ولم نوهب هذه العقول العظيمة والقلوب الكبيرة لنعيش بها لاهين عابثين، فهذه العقول إنما وهبناها لنلتمس بها عظمة الخالق عزته وسلطانه، وهذه القلوب إنما أعطيناها لتستقر فيها معاني الرحمة والحب والسلام؛ ولنطير بها إلى ملكوت الله شوقاً وطرباً وإيماناً ففي الإيمان راحة وسلام، وفي الحب الرباني سعادة وحياة. .
وأفاق إبراهيم من ذهوله على حوافر فرسه تضرب الأرض يستحث الفارس الذي يمتطيه إلى متابعة الصيد النافر، ولكن إبراهيم أجاب جواده هذا بجواب مختلف عن سوابقه، فلم يرخ له العنان ليتابع المطاردة، بل أجابه قائلاً: لقد انتهى ذلك العهد فقد جاءني نذير من رب العالمين. ثم لوى عنانه ليعود، فأنطلق به كالسهم؛ ولكن إبراهيم خفف من سرعته(891/23)
ولسان حاله يقول: لم نعد في حاجة إلى الإسراع، فالذي تقصد موجود أينما توجهنا وحيثما حللنا. أينما تولوا فثم وجه الله، أنه واسع عليم. حتى إذا وصل إلى أصحابه ورأوه يسير على مهل وقد عودهم أن يروه منطلقاً كالسهم يسابق الريح، هم أحدهم بسؤاله؛ ولكنه لمح في عينيه بريقاً آخر وفي وجه إمارات لم يعهدها من قبل. ثم ترجل عن فرسه الحبيب وربت على ظهره في رفق وحنان ومسح بيده عليه ليطوي التاريخ صحيفة من صفحات اللهو والمغامرة، ولينشر صفحة من الزهد والتقوى والرضا والقناعة، صفحات تشرق بالنور القدسي الجليل. . . ثم أتجه إلى أحبابه وسماره وأصدقائه وخلانه فودعهم. وسار يضرب في فجاج الأرض مجاهداً صابراً، فلقي في طريقه راعي غنم أخذ منه جبة وكساء وأعطاه ثيابه. ثم أعترضه خارج بلخ جبل فصعده، وكأنما يقول له: يا إبراهيم وطن نفسك على المشاق فكم في طريقك من جبال أصعب مني مرتقى وأقسى مني صلابة، حتى إذا وصل إلى مكان فيه كان التعب قد أخذ منه مأخذاً كبيراً فمال يبغي الجلوس في جوار حجر كبير، فرأى مكتوباً على الحجر:
كل حي وإن بقى ... فمن العيش يستقى
فأعمل اليوم وأجتهد ... وأحذر الموت يا شقي
وبينما هو واقف يقرأ ويبكي أحس يدا رفيقة توضع على كتفه، فالتفت، فإذا رجل أغبر، فسلم الرجل عليه.
وقال له: مم تبكي؟ فال إبراهيم، من هذا وأشار إلى المكتوب، فأخذ الرجل بيده ومضى به إلى صخرة كبيرة.
وقال له: اقرأ، ثم قام يصلي، فقرأ إبراهيم على جانب من الصخرة.
لا تبغين جاها وجاهك ساقط ... عند المليك وكن لجاهك مصلحي
وعلى الجانب الآخر:
من لم يثق بالقضاء والقدر ... لاقى أمورا كثيرة الضرر
وفي أسفلها:
إنما الفوز والغنى ... في تقى الله والعمل
فلما فرغ إبراهيم من القراءة التفت فلم يجد للرجل أثرا، فما درى هل أنصرف أو أين(891/24)
ذهب. وسار إبراهيم يطوف في الأرض ترفعه رابية ويخفضه سهل، يبيت على الطوى أياماً لا يذوق فيها الطعام إلا إذا أصابه من عمل يده ووصل إليه يعرق جبينه، فكان يشتغل فاعلا أو حارساً أو حطابا، ثم يشتري الطعام فيطعمه أصحابه وهو صائم قانع بطعام المحبة ناعم باللذة العظمى، لذة الاطمئنان والإيمان. فإذا أفطر أكل من رديء الطعام وحرم نفسه طيب المطعم، ليبر به الناس ويشبع به جائعي البطون تأليفاً لهم وتحبيباً وتودداً إليهم وتقربا إلى ربه، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: عندما سأله رجل أن يدله على عمل يحببه إلى الله وإلى قلوب الناس، فقال له عليه السلام: (إذ أردت أن يحبك الله فابغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فأنبذه إليهم).
ومرت السنون وإبراهيم هائم في حب الله يمسي في بلد ويصبح في آخر، يتلقى العلم من لدن حكيم عليم، ويشرب من كأس المحبة والصفاء، فترتوي نفسه ويأنس قلبه بنور ربة. وقد وهبه الله المعرفة وطوى له بساط الأرض؛ فيما تراه اليوم في بيت المقدس تسمع عنه ذلك في دمشق أو غيرها من البلدان المتباعدة.
حكى أبن عساكر قال: بينما أنا ببلخ إذا شيخ وقور حسن الهيئة جميل الطلعة أخذ منظره بمجامع قلبي فدعوته إلى الطعام فأتى، فقلت: من أين أقبلت؟ قال: من وراء النهر. قلت وأين تريد؟ قال: الحج. قلت في هذا الوقت؟. وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه، فقال: يفعل الله ما يشاء. فقلت: الصحبة. قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل، فلما كان الليل جاءني فقال: قم باسم الله. فأخذت ثياب سفري، وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان، ونقول هذه فلانة وهذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني، وقال: موعدك الليل، فإذا كان الليل جاءني ففعل مثل ذلك فانتهينا إلى مدنية الرسول، ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا، فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس. وقال إني عازم على الإقامة بالشام. فرجعت أنا إلى بلدي بلخ.
عبد الموجود عبد الحافظ(891/25)
من أسرار الإعجاز
للمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كنت أرجع إلى نابغة الأدب مصطفى صادق الرافعي في تفسير بعض آيات من القرآن الكريم لأستورى بذلك زند قريحته وأستدر ضرع بلاغته. وكان قلمه يجرى في هذا التفسير على القرطاس مسرعاً على غير عادته في سائر ما يكتب لي من رسائل مما يدل على تدفق المعاني التي يوحي بها إليه، وانثيالها من خاطره الفياض عليه. وإني أتحف قراء الرسالة الغراء بشيء من هذا التفسير البليغ المعجز.
محمود أبو ريه
تفسير آية (زين للناس حب الشهوات)
راجعت عن آية (زين للناس) تفسير الشيخ محمد عبده، وتفسير الألوسي فلم أر فيهما ما يهدي إلى السر في هذه الآية، والمفسرون جميعاً متفقون على أن (حب الشهوات) يراد به المشتهيات. والمعنى: زين للناس المشتهيات من النساء الخ، وهذا يجعل الآية موضع نقد ويذهب بسر التعبير (بحب الشهوات)
وإعجاز هذه الآية هو في لفظة (حب الشهوات، فلو قال: المشتهيات أو الشهوات، أو حب النساء لما كان ذلك شيئاً. والشهوات وظائف طبيعية في الناس فكونها زينت للناس أمر لا معنى له وليس فيد جديد؛ ولكن (تزيين حبها) هو السر كل السر لأن حبها هو سبيل الحرص عليها، والإكثار منها كالذي يجد مالا ينتفع به؛ فالمال في نفسه منفعة وليس في ذلك شيء عجيب؛ ولكن الذي يبتلى (بحب) المال تنقلب فيه هذه المنفعة ضرراً فيبخل ويبتلي بالحرص ثم يبتليه الحرص على المال بمحق حياته كلها.
فالشأن إذن ليس في المشتهيات ولا في الشهوات ولكن في (أحب الشهوات). ثم أن حب الشهوات متى كان سبباً في الحرص عليها والإكثار منها فهو خطأ وضرر، فإذا (زين) ذلك للإنسان كان أشد ضرراً وأمعن في باب الخطأ. وهذه هي حكمة استعمال (زين) فكأن هناك ثلاث درجات: الشهوة وهو عمل طبيعي، ثم حب الشهوة، وهذه إضافة جديدة من العقل تزيد فيها، ثم تزيين هذا الحب، وهي إضافة ثانية تزيد الزيادة وتضاعف الخطأ. وعلى هذا(891/26)
تلحق الشهوات في هذا الترتيب بالحد الخارج عن العقل، وهذا الحد هو أول الجنون، كما يشاهد في ذهاب أثر العقل وضعف حكمه عند (تزيين شهوة محبوبة) بحيث لا يبقى للعقل حكم ولا حكمة مع هذا التزيين!
وجعلت (زين) مبنية للمجهول لأن بعض هذا محبوب محمود فهو من زينة الله ويدخل في قوله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) وبعضه مذموم مكروه فهو من تزيين الغرائز الفاسدة، وبعضه حمق وجنون فهو من تزيين الشيطان.
والغرض من الآية تجاوز الحد المعقول من شهوات الدنيا، فإن تجاوزه يجعل الدنيا هي الغاية، ومع أنها وسيلة فقط، ولهذا قال (ذلك متاع الحياة الدنيا) ثم أنه قال (حب الشهوات) بالجمع، ولم يقل الشهوة فتكون (الشهوات) مختلفة متباينة تقدر كل واحدة باعتبارها الخاص في الأصناف التي وردت في الآية، فالشهوة للنساء غيرها من البنين، وهذه غيرها من المال، وهذه غيرها من الخيل المسومة الخ فكل واحدة ذات شأن خاص في النفس كما هو مشاهد، ولكن الجنون بها كلها متى (زين حبها في النفس) شيء واحد.
وانظر الحكمة العجيبة في الترتيب. فالنساء شهوات من الغريزة والعاطفة، والبنين شهوات من العاطفة والنفس، والمال الكثير من النفس فقط، والخيل المسومة والأنعام والحرث؛ هذه الثلاثة تارة جزاء من المال، وتارة جزاء من عاطفة النفس كما يغرم بالخيل بعض الناس أو بالأنعام أو بالزراعة، ولذلك جاءت في الآية بعد النساء والبنين لأنها لاحقة بالغريزة والعاطفة والنفس.
ويدخل في الخيل المسومة كل ما يقتنى للمباهاة والزينة أو لأغراض القوة على إطلاقها ومنه السيارات والطيارات الخ. ويدخل في الأنعام كل ما يقتنى للتجارة والكسب، وفي الحرث كل ما يقتنى للأعمال والإيجاد ومنه المصانع والمعامل الخ، فإذا حققنا هذا وجدنا هذه الأبواب جامعة لكل الشهوات الناشئة من جميع قوى الجسم الإنساني والنفس الإنسانية.
أما ما كان خاصاً بشهوات العقل فلا يدخل في الآية، وهذا من أعجب إعجازها، لأن أمور العلوم والفنون (لا تزين) إلا لفريق محدود من لناس، أي لا يزين حب الشهوات منها، وهذا الفريق عادة هم النوابغ العبقريون، وهؤلاء العبقريون في الحقيقة لا يجدون من العلوم والفنون (متاع الحياة الدنيا) ولكن مصائب الحياة الدنيا. . .(891/27)
تفسير أية (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا)
وسألناه عن موضع لفظ (شيئاً) من الآية الكريمة (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض - شيئاً - ولا يستطيعون) من سورة النحل فأجاب رحمه الله:
أما تفسير الآية التي سألت عنها فقد راجعت التفاسير أول من أمس فلم أر فيها ما يقنع. والذي ظهر لي أن (شيئاً) في الآية بدل (من رزقاً) وهذا الإعراب نبه إليه المفسرون وجعلوه ضعيفاً مع أن فيه كل القوة، لأن المراد من الآية أن هؤلاء (يعبدون من دون الله مالا يملك لهم زرقا من السموات والأرض) وهنا يعترض هؤلاء أنفسهم بأنهم يعتقدون أن معبوداتهم تلك ذلك وإلا فلم عبدوها؟ فجاءت لفظة (شيئاً) لبيان أن كل ذلك وهم وتخيل وضلال إذ لا معنى للرزق إلا إذا كان (شيئاً) لا وهم فقط، ولا شيء ترزقه هذه المعبودات من السموات والأرض فإذا كانت لا ترزق شيئا على الاطلاق، فهي على الإطلاق ليست شيئاً إلا ما توهموه منها، وهذا كالذي توهموه فيها فالأمر فيهم وفيها كله وهم وضلال، ولهذا جاء بعد ذلك (ولا يستطيعون) وعبر هنا بضمير الجمع والعاقل، مع أن أول الآية (مالا يملك) فدلت الكلمة الأخيرة على أن المراد أن هؤلاء العابدين ومعبوداتهم كالأوهام المحضة، لا هي تستطيع أن ترزقهم شيئاً كائنا ما كان من السموات والأرض أي ولو ذرة، ولا هم يستطيعون أن يجعلوهن قادرة على شيء من ذلك.
(فشيئاً) هذه معجزة الآية كلها، ويستحيل أن ينتبه إليها عقل بشري ويجيء بها في هذا الموضع. وتكون النتيجة التي ترمي إليها الآية بهذا التعبير: أن المعبود الحق هو القوة الأزلية المالكة للإيجاد المطلق، أي الواحد الأحد وهو الله لا غيره وما عدا ذلك فهو من اختراع أوهام الناس؛ موجود في الوهم معدوم في الواقع والمعنى. أليست هذه الكلمة الواحدة (شيئاً) تستحق أن يسجل لها أهل البلاغة يا أبا رية؟
أنقل هذا التفسير وأرسله في ورقة على حدة لنضعه مع مذكرات أسرار الإعجاز فإن هذه الكلمة التي تظهر كالزائدة في الآية، هي سر الآية كلها، وهذا كله كالإعجاز من الإعجاز (واكتب لي هذه العبارة أيضاً في ورقة التفسير
مصطفى صادق الرافعي(891/28)
أي قوة لأعظم من القنبلة الذرية!
للكاتب الأمريكي هاري امرسون فوزدك
(صوت هادئ قوي يخرج واضحاً من بين ضجيج الآلات وعجيجها ليفهم عبيد الآلة أن في الحياة ما هو خير وأقوى من الآلات، وشعاع من نور يتخلل سحب الدخان الكثيفة الفارة من الآلات ليهدي الناس إلى الرشد ويضئ لهم آفاقا من الجمال، ذلك الصوت هو صوت الشرق، صوت الروح، يردد صداه ويبين قوته الكاتب الأمريكي (0هاري إمرسون فوزدك) الذي يعرفه العالم أجمع والأستاذ والمؤلف الذي قدرته الجامعات في أمريكيا وأوربا ومنحته كثير منها درجات فحرية، والذي ترجم كثير من كتبه إلى جل لغات العالم. وهو كاتب نفساني مبرز، طرق العلاج النفساني واهتدى بكتابته النفسية الملايين من قرائه. ولعل فيما كتبه عقب الحرب الأخيرة وننقله اليوم، عبرة لهؤلاء الذين انسلخوا من شرقيتهم ففقدوا روحانيتهم، وراحوا يمجدون مادية الغرب ويدعون إلى عبودية من نوع جديد.)
المترجم
كتب هنري آدمز صاحب كتاب (تربية هنري آدمز) في سنة 1900 خطابا من باريس يقول فيه أنه كان يذهب عقب كل ظهر إلى (معرض العالم) حيث يصلي للدينامو، وأنه قد ترك كل شيء الإ عبادته. ولقد كان الدينامو أسمى شيء في العالم الحديث، وكتب كذلك (لماذا لا يكون الدينامو جديراً بالتقديس)
وإن ذلك أصبح تقريباً دين الملايين الحقيقي، لأن الإنسان في ثلاثة أجيال قد أخترع بأذهان نفاذة منهمكة وأنتج المعدات العلمية المدهشة في عالمنا الحديث، وقريباً في المدرسة التي تعلمت فيها، جامعة كولجات، حيث كانت تخصص دراسات لرجال الطيران كان شاب قد تأخر عشر دقائق عن ميعاد التسجيل، فكان رده على تأنيب الضابط (إني آسف يا سيدي أن أكون متأخراً ولكني كنت بالأمس في أفريقيا).
إن اختراعات العلم الباهرة لتذهل، والدينامو - كما في حالة هنري آدمز - مضافاً إليه القنبلة الذرية وعماتها وبنات عماتها قد خلقت الآلهة الجديدة للعالم الغربي.
وليس هناك في عصرنا من شيء بالغ الأهمية كتنبيه عقل الإنسان والضمير إلى إفلاس هذه العقيدة الجديدة.(891/30)
وفي سنة 1924 كتب ونستون تشرشل متنبئاً بأن العنصر البشري إذا لم يستفد من الفضيلة مقدراً إياها حق قدرها ولم يحظ بقيادة أرشد. . . فإنه بذلك قد وضع في يديه للمرة الأولى الآلات التي بها يستطيع أن يستأصل شأفة نفسه.
وفي هذا العمل الانتحاري الآخذة فيه المدنية الآن، ليست علة النكبة تدمير العلم المبتدع - وإن بدا هذا التنميق البلاغي مثيراً للدهش - ولكنه خسران روحي وخلقي مبين.
وهناك أشياء لا بد أن يرفع من قدرها إذا أرادت المدنية أن تبقى؛ القيم الخلقية أعني إحياء تقدير القوانين الخلقية السرمدية وإيجاد ثقافة روحية موحدة مؤسسة على فلسفة الحياة والإيمان المتصل بها ويدعم كل ذلك المبادئ الأخلاقية لأن ذلك سوف يضفي على الحياة معنى وغرضاً.
وكان الجيل الذي درجت فيه - معتقداً في الآلية والتقدم الحتمي - موسوماً بطابع التفاؤل العريض الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ، فقد كما نرى أنفسنا راقين فوق معراج سماوي أردنا أم لم نرد حتى (يصبح الإنسان، ليس ملكا فقط بل رئيس ملائكة) كما كتب صمويل بتلر.
ولكنا اليوم يواجه إحدى الأزمات الجد عصبية في التاريخ مع أن الإنسان لا يبدى أية دلائل على أنه سوف يكون رئيس ملائكة، وبين كل ذلك هذه الحقيقة: إن حل مشكلتنا لا يكمن في سيطرتنا على الناحية المادية كمونه في سيطرتنا على الناحية الروحية.
وحينئذ فلن نضع الروحية أولا، رغم أنه من الواجب أن تكون أولا إذا أردنا أن نحيا، بل علينا أن نعمل ما ندعوه تكون أولا (بالتربية على نطاق واسع) دون الإشارة إليها؛ وأن ندفع بمثل هذه المبادئ الأخلاقية والاعتقادات الدينية كما ندفع شهوة في حياتنا الخاصة مع أن القوانين الخلقية السرمدية والحقائق الكلية لم تنطبق على الحاجة الماسة للعالم أجمع.
إن عيوناً كثيرة مازالت مركزة على سيطرة الإنسان على المادة، وجميع الآلات النافعة التي سوف يكون لها أثر نتيجة لمواجهتنا مشاكل ما بعد الحرب المرعبة، مع أن ذلك لا يعني ضرب أوربا لنيويورك بقنابل تسير كأنها البشر، وما شابه ذلك من المروعات التي لا حد لها، ما لم تسد الإنسان المبادئ الأخلاقية والحقائق الدينية التي يخلص لها.
وينبغي أن تكون النازية معلمنا ومبصرنا في هذه النقطة، فلم يكن على الأرض من أمة(891/31)
أكثر كفاءة علمية من ألمانيا، ولكن لننظر إلى مآلها تحت قيادة هتلر الجنوبية، فإن النازيين قد أسلموا جميع المبادئ الأخلاقية وجعلوا (الجنس السيد) إلههم وأنكروا كل فلسفة ترفع من الكرامة الجوهرية للشخصية الإنسانية، واعتقدوا فيما يتعلق بالأخلاق المسيحية (أنها لا تصلح إلا للجبناء والضعفاء).
وفي قصة الإنجيل القديمة عن الطوفان، ذكر أول ما ذكر عن نوح، أنه سكر بعد أن غاص الطوفان، ومازالت الطبيعة الإنسانية ذاتها باقية، فإن نوحا ربما كان رائعاً حين الفيضان؛ وحين اللحظة الحرجة كان يصنع كل شيء في عراك مع الحياة والموت؛ ولكن حينما انتهى التوتر استرخى وأنزل كل شيء وجثا على ركبتيه ثم سكر.
ولقد فعلنا نفس الأمر عقب الحرب الأخيرة - فهناك طرق كثيرة للسكر علاوة على استعمال الكحول - فإن الملايين تفعل ذلك ثانية الآن، ولقد أصبح الإغراء بعد الكفاح بالاتضاع خلقيا عند الكثيرين على وشك ألا يقاوم: وإن الحقيقة عقب كل حرب لتحقق قول الفرد أدلر العالم النفساني: (أن نحارب من أجل مبادئنا أسهل من أن نعيش لرفعتها)
ولقد قال النبي العبري ميخا، كما في ترجمة الدكتور موفات له، إلى قومه (عليكم ألا تعبدوا بعد الآن الأشياء التي تصنعونها)، وإننا ليعوزنا ذلك أشد العوز بدرجة لم يحلم بها ميخا. ولقد نجمت كارثتنا عن خسران خلقي وروحي؛ ولن يأتي خلاصنا إلا عن إعادة تدعيم المبادئ الخلقية والروحية والمعتقدات.
وإن علينا أن نأخذ تلكم الحقيقة باهتمام مع مراعاة تربيتنا وديننا، ولقد انحدرت من بين جيلين من رجال التعليم وقضيت جل حياتي على صلة بالدارس والجامعات. وإني لأعطف من كل قلبي على المشاكل التي يواجهها المدرسون وأوافق على أنه ليس من العدل لومهم، لأن الناس ينقصهم فلسفة روحية موحدة ووجهة نظر واضحة تجاه المبادئ الأخلاقية الحتمية. وان مدارس تتأمل بكل بساطة الآراء السائدة عن ثقافتنا ككل واحد، وقد أصبحت أكثر فنية ومهنية فتخصصوا في كل شيء تحتاج الاختراعات العلمية.
إن شبابنا يستطيعون أن يلموا سريعاً بميراث الحقائق الأخلاقية العظيم وعن المعتقدات الفلسفية والدينية التي تجعل ممكنا أيا كان الصالح في ثقافتنا الغربية، وكما أجمل أحد خريجي الجامعة (النتيجة بقوله لقد أعطونا كلاما، ولكن دون محور)(891/32)
وإذا أدرنا أن نحفظ الديمقراطية فعلينا أن لا نستمر في تعليم الناس كل شيء عدا المعتقدات العظيمة والمبادئ الأخلاقية التي جعلت الديمقراطية ممكنة الوجود في المكان الأول. ولقد نبعت الديمقراطية من نهرين التقيا في ثقافتنا الغربية - اليهودية والمسيحية وميراث اليونان - فجعلا الديمقراطية ممكنة لأنها كشفاً عن سلسلة عظمى من أصل الخلق الحميد وعن قدسية الشخص الإنسانية، ومكانة الحرية الروحية وأسس القانون الأخلاقي طبيعة الله. وهذا هو المستوى الذهبي الذي بدونه لن تكون هناك ديمقراطية البتة، ونحن آخذون في تربيتنا في الانحراف عن المستوى الذهبي كأن بيننا وبينه ثأرا.
ولهذا السبب نواجه مستقبلا قائما العالم أقتصر على فن الصناعة ولكنه صفر من الإيمان والثقافة الروحية الموحدة، ومن وحدة الروح المؤسسة على معرفة وصدق في الفهم العام للحياة ومبادئ أخلاقية في السلوك فيها.
والحقيقة الواقعية أننا قد ملكنا في أيدينا علما حديث وأنه هنا ليدعم وينمي ويضع تحت سيطرتنا أكبر قدر ممكن القوة، وسيطرته على القوى الذرية - والكونية تزيد يومياً قدرتنا على رفع أو إبادة العنصر البشري، وتنتشر بسرعة في جميع الأجناس والأمم، وما لم تستطع أن تساير الخلقية الإيجابية والأخلاق الدينية السامية كل هذه القوة الجامحة وتولد وحدة روحية وإخلاصا عاما نحو المقاصد الخلقية التي تؤدي إلى العدل والصلاحية أولا فإن علمنا سوف يستعمل لهلاكنا.
إن أي فحص جدي لهذا الموضوع سوف يريك بوضوح حياتنا الشخصية وأوطاننا. وإنه من السهل أن نسلم أبناءنا وبناتنا معدات العالم وليس بهذه البساطة نستطيع أن نسلمهم ثقافة روحية غنية وميراث المعتقدات والمبادئ الأخلاقية العظيم الذي بدونه لا يكون شيء خيراً ولا شيء ينقد.
وفي غالبية أعمالنا لا نعمل صالحا، فإن مدارسنا وكنائسنا وبيوتنا وعمل الإنسان كله في الحياة العامة يثبت أنه غير ملائم للعمل أو بالأحرى معادلة، وإن نوع العالم الذي سوف يعيش فيه أحفادنا سوف يعتمد على ميزة روحية تسير كل القوى التي يديرها؛ قوى ضخمة حتى إننا الآن لا نقدر على تصورها، وإن هؤلاء الذين يعلمون ما يجري داخل بعض معاملنا ليسوا فخورين بهذا العمل ولكنهم مجدون، فهم يقولون أن القوى الجديدة التي سوف(891/33)
تكون في متناول الإنسان مروعة. وإنما الشخصية التي علينا أن نعتبرها أول ما نعتبر الآن - هي الشخصية التي تحفظها والمبادئ التي تسيرها والأغراض التي تكسبها بهاء وتعين لها غرضاً.
ترجمة
عبد الجليل السيد حسن(891/34)
من الأدب الغربي
من روائع (شلي)
للأستاذ إبراهيم سكيك
عرف (شلي) في الأدب الإنكليزي بميله للطبيعة ووصف مظاهرها وصفاً خيالياً رائعاً برقة وعذوبة، وهو يعالج ما يصوره الخيال ويبتدعه العقل بدقة تجعله يبدو مجسماً حقيقياً، وهو من هذه الناحية يخالف زميله الشاعر (كيتس) الذي يجعل من الأشياء المحسوسة الجميلة أطيافاً رائعة تسمو إلى الخيال.
نشأ شلي في بيئة أرستقراطية غنية، لكنه نبذ مظاهر الغنى وأنهمك في دراسة الأدب وقرض الشعر منذ كان في جامعة اكسفورد، ولم يعمر طويلاً حتى ينتج ديواناً كبيراً لكنه رغم ذلك كثير الإنتاج بالنسبة إلى سني حياته التي انتهت وهو في ريعان الشباب عندما غرق على ساحل لجهورن بإيطاليا.
وكانت أشعاره لا تثير اهتمام الأدباء والنقاد في زمانه كما أنها لم تترجم إلى اللغات الأوربية كأشعار (بايرن) لصعوبة ترجمتها لأن الأفكار لا يمكن نزعها من الألفاظ بسهولة. ثم بدأ الذوق الإنكليزي يستسيغ قصائده ويعجب بها لما تحويه من خيال رائع وأفكار فلسفية جديدة حتى غدا بين الشعراء في المنزلة الثانية بعد شكسبير وملتون، وله قصائد طويلة وروايات تراجيدية لكنه نال شهرته بقصائده القصيرة الرائعة التي سأقتطف منها نبذاً يستدل منها القارئ على عبقرية هذا الشاعر الموهوب.
وأشهر قصائده على الطلاق مرثية (ادونيز) التي تعد من اشهر المراثي في جميع اللغات، كتبها عندما جاءه نعي صديقه وزميله (كيتس) وفيها يقول: -
(صه، صه: ليس هو بميت ولا بنائم، وإنما صحا من حلم الحياة المريع بينما نحن التائهون في أحلام عاصفة، نجاهد ونكافح أطيافاً لا طائل من ورائها، وفي غيبوبة جنونية نطعن بخنجر أرواحنا معقدات لا وجود لها، ثم نضمحل كما تضمحل الجثث في القبور بعد أن يزعزع كياننا الحزن والخوف فيعملان على تحطيمنا يوماً بعد يوم.
وتنخر الآمال الباردة هيكلنا الطيني كما تنخر الديدان جثث الأموات.
لقد حلق في فضاء لا يصل إليه ظلام الليل السادل علينا(891/35)
وهناك: الحسد والحقد والبغض والألم وعدم الاستقرار الذي نسميه خطأ بالسرور لا تجد لها سبيلاً في دنياه فلا تصيبه ولا تضنيه
وهو هناك في مأمن من أن يصاب بعدوى الشرور الدنيوية.
ولن يندب بعد اليوم فؤاداً التاع أو رأساً أشتعل شيباً.
إنه يعيش ويصحو، والذي تلاشى هو (الموت) وليس (هو)
إذاً لا تندبوا أدونيز: لا تندبه أيها الفجر، أضف جلالك وعظمتك على قطرات الندى، لأن الروح التي تندبها لم تفارقك.
وأنت أيتها الغابات والكهوف كفي عن العويل
وكفي أنت أيتها الأزهار والينابيع، وأنت أيها الهواء الذي ألقيت بوشاحك على الأرض كما تلقي النادبة خمارها الأسود على وجهها، أكشف الآن هذا القناع عن العالم ليتمتع برؤية النجوم الضاحكة.
لقد أتحد الآن مع الطبيعة ليكونا عنصراً واحداً: فصوته يسمع في جميع أنغامها المنسجمة: في أنين الرعد وترتيل الطيور، ونحن نشعر بوجوده في الظلام والضياء وبين الأعشاب والصخور ينشر نفسه حيثما تتحرك القوة الإلهية التي أخذته إلى جوارها تلك القوة التي تعالج أمور العالم بمحبة وحكمة.
إنه كقبة الفلك العظيمة الشامخة علواً وارتفاعاً، وكالشمس يتطرق لها الكسوف لكنها لا تتلاشى، وكالنجوم تسير إلى مستقر لها لا تتعداه، والموت ضبابة كثيفة تحجز نور الشمس ولكن لا تطمسه أبداً.
وفي نهاية هذه القصيدة يشعر بدنو أجله بدافع غريزي عجيب ويدعو الموت الذي لم يمهله أكثر من عام بعد ذلك فيقول:
إيه يا قلبي! مالي أراك متثاقلا متوانياً.
لقد ذهبت كل آمالك وخلفتك وحيداً
فلنغادر هذا العالم إذا
هاهو وجه السماء الرقيق يبتسم، والريح الهادئ يهمس؛
إنه نداء من (أدونيز) فلأسرع إليه(891/36)
إذ لن تفرق الحياة بين من يمكن أن يجمعهما الموت.
وفي الدرجة الثانية قصيدته الرائعة التي يناجي فيها الريح الغربي وهي روح الكون التي يستطرد في مناجاتها حتى يدمج نفسه بها، وندع للقارئ الحكم على متانتها وبراعة تخيلاتها ومعانيها المبتكرة بعد أن ينعم النظر فيها!
أيتها الريح الغربية الهائجة، أنت زفير الخريف العظيم، أنت الذي تنساق أمامك أوراق الشجر دون أن تراك قد تفر بين يديك كما تفر الأشباح من ساحر جبار. ثم تفر تلك الأوراق الصفراء والسوداء والشاحبة والحمراء بجماهيرها الغفيرة.
أنت أيها الريح تشيع البذور التي تتطاير كأنها مجنحة إلى مرقدها الشتوي المظلم حيث تظل راقدة كما ترقد الجثة في قبرها وتظل كذلك حتى تهب شقيقتك الزرقاء وهي ريح الربيع التي تنفخ في البوق لتوقظ الأرض النائمة وتسوق الأزهار اليانعة كما يسوق الراعي قطعانه من الحظيرة إلى الفضاء فتملأ الربى والوهاد.
فأيتها الريح الهائجة المتحركة في كل مكان، أنت تدمرين الحياة وتصونينها في الوقت ذاته فأسمعي:
تتساقط على غديرك الغيوم المنحلة كما تتساقط أوراق الشجر فكأنك تهزينها من جذوع السماء وأغصان المحيط. وعلى سطح أمواجك الزرقاء الهوائية تتدلى خصل من العواصف المضطربة.
أنت تنشدين ترتيل جناز السنة المنتهية التي ستتخذ من قبة هذه الليلة السادرة الفسيحة مزاراً ومقاماً. وسينفجر من بخار أنفاسك مطر وبرق ورعد.
أنت التي أيقظت البحر الأبيض المتوسط من نومه بعد أن كان مستغرقاً في أحلام الصيف العذبة وهو نائم على أنغام أنهاره البلورية، فتقطعين عليه أحلامه وتشوهين تصوراته. وعندما تمرين بالاقيانوس الأطلنطي تشقين فيه أخاديد عميقة بعد ما تثيرينه من أمواج عاتية شامخة ويشعر بهزاتك كل كائن حتى ذرات النبات الراسبة في قاع المحيط، فتشيب فزعاً وتهتز اضطراباً.
ليتني أيها الريح ورقة ميتة تحملينها.
وليتني سحابة سريعة أطير معك، وليتني موجة ألهث من شدتك وأشاطرك قوة اندفاعك ولو(891/37)
كنت أقل حرية منك، أنت التي لا يسيطر عليك أحد.
بل ليتني مازلت في عهد الصبا زميلا له في تجوالك في أفق السماء.
أتوسل إليك الآن أن ترفعيني كما ترفعين الموجة أو الورقة أو السحابة لأني ملقي على أشواك الحياة ودمي ينزف بعد أن كبلتني ساعات الزمن الثقيلة وحنت ظهري بعد أن كنت مثلك سرعة وكبرياء!
اجعليني قيثارتك كما اتخذت من الغاية قيثارة تعزفين عليها أعذب الألحان.
فماذا يهمني لو سقطت أوراقي بعد أن تأخذي أنغامي وتنشريها في الكون كما تنشرين البذور لتحيا من جديد. هكذا أريد منك أن تنشري كلماتي وأشعاري بعد وفاتي بين جميع البشر كما تنشرين رماد الموقد بعد أن تخبو ناره. ويا ريح الخريف: إذا كان الشتاء قادماً فهل يكون الربيع بعيداً؟
وهناك مقطوعات أخرى كثيرة يجد فيها القارئ متعة ولذة وقد رغبت في تأجيل ترجمتها لعدد قادم لئلا أطيل كثيراً في هذا المقام
إبراهيم سكيك(891/38)
خواطر مرسلة
النائم اليقظان
للأستاذ حامد بدر
قال أخي: أراك مغفيا ما تفيق، مفيقاً ما تنام، كأنك دهري الكرى، أبدي السهاد!
قلت: ما هذا التناقض؟
قال: لا تناقض، فأنت في إغفائك عميق الاستغراق، جبار الوجوم، متصل التفكير، وأنت في استغراقك العميق، ووجومك الجبار، وتفكيرك المتصل، جوال فياف ووديان، غواص بحار وأعماق، قطاع أجواء وآفاق. . . فهل تزعم أن الكرى يلف بهدوئه أعصابك، وقد شد الزمن منها أوتاراً مضناة، وظل يعزف عليها بمطارق الألم ألحانه الباكية المبكية؟! أم هل تعتقد أنك تغفى إغفاءة المستريح، وقد تنازعت صروف الأيام ذهنك فبددته، ولم تترك جزيئاته المتفرقة لتجتمع لحظة واحدة؟!
قلت: آمنت بأن من كان ذا حس لطيف، وألم عنيف، فهو يقظان لا يستريح! ولكن كيف كان اليقظان دهرى الكرى؟!
قال: ما يقظة من يستعرض الرؤى، ساجي الطرف، شارد اللب، ساكن الهيكل، بعيداً عن الحياة، قريباً من الفناء؟!
ما يقظة من انصرفت حواسه عن لذات الدنيا ومسراتها، وأقامت تلك اليقظة بينه وبينها أمنع السدود؟!
إنها يقظة المحتضر الذي لم يشك في قرب فراق الحياة. وإن تباطأ الروح في طريقه، وتثاقل العمر في خطاه. وليست تلك اليقظة بأكثر من نومة عميقة، في مكان مدلهم سحيق؛ بل أنها يقظة تمت بالقربى إلى نومة عبود الذي زعموه نائماً في موتته، وهو ميت في نومته!
قلت: تعني أن أخاك في نومه يقظان، وأنه في يقظته وسنان، وتزيد على هذا أنه في إغفاءته الموهومة، ويقظته المضنية أقرب إلى الموت منه إلى الحياة!
قال: نعم!
قلت: لقد فصلت ما أجعلت، وفسرت ما أبهمت، وأقنعت أخاك بأنه وسنان ما يفيق، مفيق(891/39)
ما يغفى، وأنه دهرى الكرى، أبدى السهاد!
قال: اتفقنا على أن لا تناقض.
قلت: على هذا التفسير لا تناقض.
حامد بدر(891/40)
رسالة الشعر
بردى
نهر دمشق
للأستاذ أنور العطار
يردى سلسل الشفاء ولحن ... عبقري على المدى يتغنى
رف بين الحقول نشوان هيما ... ن وغنى الربا فجنت وجنا
مر كالعاشق المتيم بالرو ... ض وكالطير ويسلب الروح لحنا
قص أسطورة الليالي الخوالي ... بخيالات شاعر ما تجني
وروى قصة الغساسنة الغر ... وعهداً من بهجة الفجر أسنى
الآلي سطروا المحامد في الأر ... ض وعاشوا كرماً وكأسا ومزنا
واستطابوا الهوى ولذوا الهناءا ... ت وعبوا النعيم دناً فدناً
سكروا رافهين سكرة عان ... لم يفق مهجة ولم يصح جفنا
وحكى إمرة الغطارفة الصي ... د ومن أشرقوا على الملك يمنا
الحماة الأباة من عبد شمس ... شرفوا مغرساً كريماً ومجنى
أوسعوا جانب الحضارة حسناً ... ورعوا أمرها وأعلوه شأنا
وغذوها نباهة وائتلافا ... فانجلت خاطراً ورأياً وذهنا
ولقد طافت العصور عليها ... وهي عشواء تذرع الفكر ظنا
خلصت من عملية وضلال ... وعقول تعج جهلا وأفنا
ملكوا الأرض فاستقادت لهم طو ... عا ودان الوجود سهلا وحزنا
فتحوها مراحما وسماحا ... غير ما فاتحين ضرباً وطعنا
وبنوها على المكارم داراً ... فزكت بالأخاير البيض سكنا
غبر الناس في رؤى الدهر لفظاً ... وانطووا في الغيوب لفظاً ومعنى
زينوا الكون بالهداية والنو ... ر وأرخوا عليه علماً وفنا
ذكريات يحيا بها ونجاوى ... تركته مشتت النفس مضنى(891/41)
متعب الروح إن تذكر أنا ... موجع القلب إن تلفت جنا
ما عليه إذا جرى كالح الوج ... هـ كئيباً جم الهموم مرنا
بين جنبيه من صراع الليالي ... ما يعني وما يهيج المعنى
سارب في الفجاج ما يتروى ... راكض في الوهاد ما يتأنى
ما لنهر الخلود يجري مغيظاً ... محنقا مترع الجوانح ضغنا
أنراه اجتوى الذين أضاعو ... هـ فولى غضبان يعرض عنا
مفرعي في الخطوب إن شفني الهم ... ومر النهار يطفح حزنا
يجد القلب في حواشيه دنيا ... من فتون، ومتعة ليس نقنى
من نسيم يظل ينفح عطراً ... وندى كالغمام يهتن هتا
ورياض غنية بالغوالي ... حانيات علي غصنا فغصنا
وعيون سحاحة بالآلي ... ساكبات تغالب النوم ضنا
يستحم الصفصاف في ضفته ... ويناجيه ناعم الفرع لدنا
مستهاما يسلسل الروج دمعا ... ويصاديه عبقريا مفنا
بين أفيائه تمرغ ورحا ... بين أمواهه تبلل ردنا
يترامى عليه شوقا وحبا ... وهو أصبى إليه نفسا وأحنى
يقف الحور منهما مستريبا ... شاخصاً مقلة وقلباً وأذنا
وهما في تلازم وعناق ... يطويان الزمان قرنا فقرنا
لا يحسان للحياة ملالا ... تخذاها حملا حبيبا ومغنى
رشفاها رغادة وصفاء ... كرعاها خمراً وبشراً وأمنا
وهي ورد يشوى الضلوع أجاج ... مستسر يفيك رنقا وأجنا
برداي الحبيب يا فرحة الرو ... ح ويا منية الهوى ما نمنى
يا شفاء القلوب يا كوثر الخل ... د ويا منهلا يناسم عدنا
أنت نجواي إن أظلني الشج ... ووأنحى علي سقما ووهنا
وردك العذب من أمانيك أحلى ... جرسك الحلو من أغاني أغنى
أنت تجري في خاطري وضلوعي ... وتعيد الحياة روضاً أغنا(891/42)
وتثير الهوى فيهمي دموعاً ... وتهز الفؤاد ركنا فركنا
تنتجي جلق الحبيبة لهفا ... ن وتجري في مهدها مطمئنا
وهي في فرحة المشوق تلاقي ... ك وتحنو عليك صدرا وحضنا
وتحييك بالموائس لدنا ... وتناجيك بالصوادح لسنا
وتغني فيخفق النهر قاعاً ... وضفافاً خضراً نظافاً ومتنا
تتراءى في السهل تنساب فيه ... تتثنى ما شئت أن تتثنى
كشريط من فضة في وشاح ... سندسي يسبى النواظر حسنا
جوك السمح من شذا المسك أندى ... نفساً عابقاً وأشهى وأهنا
أنت للشعر ملهم يغمر للشع ... ر لحونا ويكسب الفن وزنا
يتغنى بك الهوى مستهاماً ... ليس يختار غيرك الدهر خدنا
يسرب الحب في حماك شهياً ... كل دوح يظل قيسا ولبنى
وتظل الطيور هيمى تغادي ... ك فرادى وتنثني عنك مثنى
ملء أرواحها حنان وشوق ... وضلوع على ودادك تحنى
برداي الذي حببت على الدهـ ... ر وأحللته فؤادي سكنى
أنت مني الحلم الذي أتشهي ... أنت مني الشعر الذي أتغنى
أنور العطار(891/43)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بين صديقي وبيني أو بين الكفاية والوصولية:
أخي عباس. . .
آسف أن أكون في حديثي إليك عن من فضلك! - قد مسست سياستك الداخلية في بيتك. فأنت الذي جعلتني أتحدث لك عنها باهتمامك الظاهر بها وبأخبارها، وبتفصيلات اهتمامها بخطك. . . الخ، وإلا فإن بيني وبينها الآن حوالي 500 ميل، ولم يشفي حسنها ولا جسن تمريضها، بقدر ما شفتني نسمات فيها من نسمات مصر مشابه وروائح!
وأفرغ من هذا إلى تعليقك على رسالتي إليك. . . عن تلك الحفنة من (الباشوات) و (الكروش) وعن تلك (الحفنات) التي تحدثت عنها من الوصوليين الذين (يسيرون في ركابهم ويصهرون إليهم وغير ذلك من أساليب؛ فيكتالون ويستوفون، وهناك مئات من ذوي الكفايات يقعد بهم الحياء وتحتجنهم الكرامة فيهملون. . . وبذلك تحرم البلاد من خير أبنائها وأوفرهم حياء وكرامة، ويحرمون هم مما تلغ فيه الكلاب) كما تقول
أنا لا أومن بهذا (الحياء) الذي يقعد بأصحاب الكفايات عن بلوغ حقهم، وترك (الكلاب) تلغ في الاستثناءات وغير الاستثناءات.
بل أنا أشك في (كفاية) هذه الكفايات، التي ترى حقوقها تؤخذ وتعطي (للكلاب) من الوصوليين، ثم تتقبل ذلك راضية وتستنيم!
لو أن كل هذه الجموع من الموظفين وغير الموظفين، التي لا تملك صهرا إلى وزير أو كبير، ولا تملك الوسائل الأخرى التي لا يرضاها الرجل الشريف، والتي تقفز بأصحابها فوق الأمناء الشرفاء. . . أقول لو أن هذه الجموع كانت لها (كفايات) حقيقية، لما سكتت على هذا الفساد، ولما تركت هذه الوسائل الملتوية تعمل عملها في داخل الدواوين وخارجها.
إن الذي يسكت على حقه - خوفاً من غضب وزير أو رئيس - ويدع (الكلاب) تقفز فوق رأسه بالاستثناء أو بأية وسيلة أخرى، تنقصه أهم أنواع (الكفايات) وهي الشجاعة الأدبية.
لو أن كل صاحب حق من هؤلاء أسمع الوزير أو الكبير صوت غضبه لتخطيه، لما جرؤ(891/44)
وزير أو كبير على أن يمضي في طريقه إلى حد التبجح أحيانا بالمحسوبيات والاستثناءات.
لست أنكر أن كثيراً من هؤلاء الموظفين الأمناء الشرفاء المتواضعين الذين تقفز على رؤوسهم (الكلاب) يضطلعون بأعباء عائلية، ويخشون نقمة الوزراء والرؤساء، ويخافون على لقمة الخبز أن تؤخذ من أفواه أطفالهم ومن يعولون من آباء وأمهات وأقرباء. . . ذلك حق. . . ولكنه لا يبرر السكوت.
ماذا يملك الوزير الذي يرقى مائة في وزارته بالاستثناء، لو أن مئات الموظفين الآخرين أسمعوه صوت غضبهم على تصرفه المعيب؟
إنه لا يملك أن يرقيهم جميعاً بالاستثناء، ولا يملك كذلك أن يطردهم جميعاً من وزارته. ولكنه يملك أن يتعلم أن هؤلاء الموظفين في وزارته ليسوا (عبيداً) في ضيعته. أعني أنه يملك أن يكون أكثر (أدباً) ولو أنه وزير!
إنني لا أملك أن أسمي سياسة القفز بالوصوليين والمحاسيب والأصهار إلا (سوء أدب) منشؤه أن التربية السياسة للشعب لم تنضج بعد، ليستطيع أن (يربي) أصحاب السلطة فيه، كما ينبغي أن يكون!
وهكذا ترى أن هؤلاء الأمناء الشرفاء من الموظفين مسؤولون عما يناله الوصوليون المحظوظون. فليجربوا مرة أن (يؤدبوا) ذلك الرئيس الذي يتخطاهم، ولن يكلفهم هذا إلا أن يبلغوه صوتهم متضامنين.
وتقول: (من حقي أن أكون قرفان) من جانب حالتنا التي لا تسر
لست أحاول أن أمنعك من (القرف)! ولكني أحب أن يستحيل هذا (القرف) سخطاً. نحن في حاجة إلى السخط على أوضاعنا الحاضرة لا إلى (القرف) منها. فالسخط معناه أن ننفض أيدينا من يائسين.
وإذا آمنا بأن لنا رصيد من كنوز الطبيعة الأرضية ومن كنوز الطبيعة البشرية. على السواء وأن حفنة من (الباشوات) و (الكروش) هي التي تهمل ذلك كله وتقبله؛ فإنه يكون أمامنا أن نضع شيئاً، أن نجمع كل العناصر الساخطة المتيقظة لتنشئ سياسة جديدة. وليس من الضروري أن ننتظر الحلول الجاهزة من (موسكو) كما يحاول أحيانا بعض المخدوعين(891/45)
في موسكو. إن حلولنا يجب أن تنبت من بيئتنا وظروفنا يجب أن تدرس أولا واقعنا ثم نجد الحلول المحلية التي تناسبنا.
وأنا أؤكد لك ما أنا واثق به إلى حد العقيدة: إننا نملك حلولا أهدى وأقوم من الحلول الواردة من لندن أو واشنطون على السواء.
إننا نملك (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وهي كفيلة بأن تنشئ لنا مجتمعا آخر غير هذا الذي نعيش فيه. مجتمعاً إسلامي متحضرا يؤمن بالسماء ويؤمن بالأرض، لا كما يحسب الجاهلون أن الدين تزهد وتقشف وتخل عن شؤون الأرض للمفسدين.
سان ديجو - كاليفورنيا
سيد قطب
جميل جداً يا أخي هذا الأسف الذي تبدأ به رسالتك. . . وأجمل منه هذا الذي سقته سببا يشبه الاعتذار. . . وهو اعتذار أجمل من (الذنب) فأنا الذي جعلتك تحدثني عن مس فرو باهتمامي بها و. . . الخ. وهذا الاهتمام وما بعده، من دواعي استتباب الأمن في بيتي! أليس كذلك يا رجل يا مكار. . .؟
ثم أليس يحملنا هذا على أن توقن بأن حسنها أو حسن تمريضها أو كلاهما، هو الذي شفاك؟ ولهذا تهتم بتصحيح لقبها، فهي (مس) لا (مسز). طيب يا سيدي. . . لعل لك في مصر من يسمع!
وأقصد بعد ذلك إلى الجد. أنت تنظر إلى موضوع الوصوليين من زاوية معينة، وهي نظرة سليمة من حيث هذه الزاوية، تنظر إلى جمهور الموظفين وغيرهم الذين يسامون الخسف ولا ينبسون فيهدرون حقوقهم بسكوتهم، ولعلك تعمل أن صنفا منهم وهم (الموظفون المنسيون) قد هبت زوجاتهم يطالبن بحقوقهم، فأنعكس الأمر وأصبح للرجال نساء يحمينهم ويزدن عن (الحريم) ولا شك أني لا أسمي هذا (حياء) ولا أصف أصحابه (بالكفاية) إنما أقصد ذوي الكفاية حقا الذين لا يتخطون لأنهم في وضعهم الرسمي العادي، ولكنهم يستحقون أن يتجاوزوه، ولكن أحد لا يقدرهم لأنهم لا يسيرون في ركاب ولا يتخذون سبباً آخر من أسباب الوصول المعروة، تمنعهم كراماتهم أن يصطنعوا ذلك، ويمنعهم حياؤهم أن(891/46)
يعلنوا عن كفايتهم، وهم لا يستطيعون أن يحتجوا بهذه الكفاية كما يحتج بالأقدمية مثلا أو بالشهادة، لأن الكفاية والجدارة والنبوغ وما إليها، أمور تلحظ فيمن يتصف بها ويمنع الحياء صاحبها أن يتقدم بها، إذ أيسر ما يقال له: دعي مغرور!
أولئك هم (كنوز الطبيعة البشرية) التي لا تحتاج إلى استخراج، لأنها ظاهرة لا يسترها إلا غبار المتسابقين من ذوي الوسائل الرخيصة، وهم الذين يعينيهم القانون حين ينص على أن كذا في المائة من الدرجات للاقدمية، وكذا للكفاية. ولكن (الكفاية) في التطبيق لها معان أخر لدى كبرائنا. . . إذ نرى أصحابها عندهم ممن يمتون أو ينفعون، وللنفع أساليب مختلفة. . .
هذا، وأنا يا أخي عندما تحب، عند السخط. . . ولم يكن (القرف) إلا تعبيراً مخففاً. وسلام عليك.
تطهير الإذاعة
يظهر أن معالي الدكتور حامد زكي وزير الدولة المختص بشئون الإذاعة لم يقصر اهتمامه على دور الإذاعة وإنشاء دار حديثة تجمعها، بل التفت التفاتا جديا إلى (من سكن الديارا) من أساطين الإذاعة المصرية الذين ظلوا يهيمنون عليها في السنوات الأخيرة رغم صيحات الرأي العام وشكوى الناس من الفوضى التي يعلنها (الميكروفون) صباح مساء. وهم قوم ليسوا من ذوي الثقافات الفنية الملائمة لشئون الإذاعة، إلى مسلكهم الشخصي في ادراتها من حيث تقديم (المحبين) والأقارب والأصهار في الوظائف وفي الاذاعات، حتى أصبح مقياس الكفاية في الإذاعة المصرية مقدار الصلة بالمتولين فيها ومقدار ما يرجونه أو يخشونه، وحتى تطور الحال إلى أن صار لبعض الفنانين والفنانات أنصار من أولئك المتولين. لم يقتصر الأمر على مساعدتهم الإيجابية بل تعدى إلى معاكسة الآخرين من أهل الفن الذين ينافسون المحظوظين المستأثرين بمودة المتولين، ويجري الآن تحقيق يتناول مسائل من هذا القبيل.
وليس مما يتهم به متولو الإذاعة - بطبيعة الحال - أن يستوعب برنامج الإذاعة أكبر عدد ممكن من ذوي المواهب الأدبية والفنية في البلاد، وقد يكون ذلك راجعاً إلى أنهم ليسوا من بيئات هذه المواهب ولا من أهل الحكم عليها، إذا فرضنا اجتهادهم في تحقيق الأغراض(891/47)
المنشودة، وأضرب مثلاً لذلك شاعراً كبيراً هو السيد حسن القاياتي عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية تقدم هذا الرجل - وهو من أعلام الأدب - إلى الإذاعة المصرية ببعض أشعاره لإذاعتها مبديا رغبته من أجر مادي لأنه مكتف بما عنده وليس من ذوي الأطماع المادية، فلم يعره أحد اهتماماً في الوقت الذي يأتون فيه بكل من يعرف القراءة من محبيهم ليقدم (قراءة أدبية) أي يقرأ في كتاب من كتب الأدب! فأصبح في الإذاعة نوع آخر من القراء إلى جانب قراء القرآن الكريم مع الفارق فيما يقرأ وفي أن الأخيرين يمتازون بالقراءات السبع!
فتح المدير العام للإذاعة الأستاذ محمد قاسم بك إجازة شهرين هو أسلوب يتبع مع كبار الموظفين غير المرغوب في استمرارهم في العمل، وقد طلب أن يمهل نحو خمسة عشر يوما قبل قيامه بالإجازة (لحلاوة الروح) فأجيب إلى طلبه، وقد انتهت هذه المدة، وبدأت الإجازة.
وهناك من يدعي (المراقب العام) الذي أستفحل أمره في ظل ذلك المدير، والذي أخذته العز بشخصية فنية كبيرة فأهان رجلا من رجال الموسيقى المعروفين، وبدرت مكن ألفاظ غير لائقة وأسندت إليه أمور أخرى، فأمر معالي الدكتور حامد زكي بإجراء التحقيق معه، وقد نشرت عدة صحف في (الاجتماعات) وبصيغة واحدة أن التحقيق يجري بناء على طلب المراقب. . . والنتيجة واحدة وهو أن التحقيق جار سواء أطلبه أم لم يطلبه، والطلب لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع.
وبعد فهل آن أوان الإفساح لذوي القدرة على النهوض بالإذاعة المصرية لتكون لسان مصر الناهضة الزاخرة بعناصر الفن والثقافة؟ نرجو أن يكون ذلك.
عباس خضر(891/48)
البريد الأدبي
أيقظة أم غفلة؟
بعدد المصور الصادر في الثالث عشر من هذا الشهر أقصوصة للسيدة أمينة السعيد بعنوان (يقظة) ما كدت استرسل في قراءتها حتى ذكرت أنني قرأتها قبل ذلك في لغة غير اللغة العربية. ورجعت إلى مكتبتي فوقعت على المجلة المنشورة بها القصة وهي مجلة سينمائية معروفة بإسم بعددها رقم 405 من المجلد السادس عشر الصادر في الخامس من شهر فبراير سنة 1927 وقد عرضت منذ سنوات على الستار الفضي بعنوان الأحمق
وما نأخذه على السيدة أمينة السعيد نأخذه كذلك على جمهرة القصصيين المصريين الذين يسقطون على القصص الأجنبي فيتناولونه بالمسخ والتشويه حتى غدت هذه الظاهرة من الظاهرات السخيفة الجديرة بالمحاربة ضناً على مجتمعنا من تلقيحه بالعادات الغربية والأخلاق الأجنبية - ذلك أننا نرى الواحد من هؤلاء القصصيين ينقل القصة الإفرنجية مع تغير لا يتناول غير أسماء الشخوص؛ فهي في القصة الأصلية شخوص أجنبية وفي القصة المنقولة شخوص مصرية؛ ولكن الناقل يفوته أن الشخوص المنقولة شخوص باهتة والجو الأجنبي يشي بالسرقة فتبدو القصة على الجهد المبذول لإخفاء السرقة أجنبية لحماً ودما.
ففي قصة (يقظة) التي نقلها السيدة أمينة السعيد عن قصة (الأحمق) السينمائية إخفاق تام في عرض الفكرة السيكولوجية التي تدور عليها حوادث القصة وهي فكرة (الخوف) وكيفية قهره على سند من علم النفس. . . هذا فضلاً عن أن (بارى) بطل القصة الأجنبية لم تستطع براعة الناقلة أن تجعله أحمد أو حسناً عند ما خلعت عن رأسه القبعة ووضعت عليه الطربوش للاختلاف الكبير بين العادات المصرية والأجنبية، ذلك الاختلاف الذي ظهر واضحاً في سلسلة الحوادث المفتعلة التي ساقتها والتي انتهت بمشهد التلاحم بالأيدي والأرجل في ناد راق من الأندية الرياضية الذي ينتظم في سلكه الجنسين؟.
. . وثمة بدهية أولية في فن القصة يجهلها أكثر النقلة عندنا وهي أن هذا الفن يقوم على دعامتين: دعامة الفن ودعامة الشخصية. . فلئن صح أن استطاع الناقل أن ينقل القصة نقلا سليما من الوجهة الفنية فإنه لا مشاحة ملغ شخصيته لأنه إنما ينقل شخصيات الكتاب الذين ينقل عنهم، وهكذا لا تكون له شخصية مستقلة أبداً. . . وهذا هو السر في أن أكثر(891/49)
كتابنا القصصيين ليست لهم شخصيات متميزة. . . وهو السر أيضاً في ضعف القصة عندنا. . .
كمال رستم
في محيط التربية: (بين الرغبة والرهبة)
بعد تلك المناقشات التي دارت بين رجال التربية في مشاكل الأطفال والشباب وها قد وضح الداء وأستفحل ولم نصل بعد إلى الدواء فقد عز وندر، مما يجعلني أنظر إلى الوراء قليلا فأسطر مأخوذاً بموقف آبائنا من المربين في تربيتهم وطرق تأديتهم، وما كان لهم من أثر ملحوظ، وهمة مشكورة، وروحانية شاملة.
ولا أكون مغالياً إذا قلت: إن المربين في العصور السابقة كانت لهم شخصيات خاصة تمتاز بالفراسة المبنية على التجارب دون الاستعانة بعلم النفس أو بغيره من العلوم الحديثة.
ذلك أنهم كانوا يأخذون بالشدة ومن غير هوادة أو لين من يرونه بالبداهة جامد الحس بليد الذهن تصلحه العصا وما يتبعها من توبيخ وتقريع، ويتركون غيره المزمن يصقله ويهذبه ممن يلمسون فيه نوعا من الفهم والحذق تلهبه البشاشة وتزكيه الكلمة الطيبة الصغيرة والمعاملة الحسنة التي تشير من طرف خفي إلى محاسن الأخلاق والعادات.
ويزداد عجبي أن تسير تلك النظرة بخطة ثابتة على مر العصور تفتش وتستوعب بل وتعالج ذلك التنافر والتباين بين الأطفال من كل طبقة ووسط.
ولقد كانت تلك النظرة الممزوجة بالفراسة، هي العلاج الموحي إلى عقول الأطفال، فهي تهذب وتعالج في صمت دائم، يحس بذلك الطفل، وقد نظر إليه معلمه نظرة مناسبة لحاله، تشير إلى تأنيب شديد أو عقاب صارم. وما أمر تلك الحكمة الخالدة يخاف علينا (عصا المعلم من الجنة) فتراه يحاسب نفسه) فيزن أعماله بالميزان الذي يسير عليه العالم الذي حوله.
ومن هنا يزداد الطفل إيماناً بأن لكل نفس مريضة دواءها، ولكل نفس تتوق إلى الشر والخمول عقابها، فتراه يقيس نفسه بمقياس ما يراه حوله - وتلك لعمري كانت حالنا في الأزمنة السابقة؛ أما حالنا اليوم وفي عصرنا الراهن فهو - مع الأسف الشديد - محاولة(891/50)
غمر الطفل بوابل من العطف والرأفة والرقة على حساب العلم، وإحاطته بسياج من الدلال وقوة القانون، ومن هنا شلت يد المربي فأصبح كالجندي الأعزل، حيث لم يحسب لميول الطفولة حسابها، وفيهم من تكفيه النظرة، ومنهم من لا يخاف ولا يرعوي إلا من العصا وما يتبعها من عقاب.
وقد نشأ عن ذلك ما نراه في هذه الأيام من تحلل في أخلاق الشبيبة، وعدم اهتمامهم بالقائمين على تربيتهم، إما بمعاكستهم وإغضابهم أو محاولة الاستهزاء بهم وإهانتهم بل وثورتهم على النظام والعلم، وما أمر تلك الحوادث المؤسفة التي حدثت أخيراً ببعيد.
وها نحن أولاء نشاهد تخلي الشباب عن القيم الأخلاقية وتحليه بما يسمونه الحرية وهي التي بعدت بهم عن العلم وآدابه، وبذلك رفع الإخلاص الذي كان حلقة اتصال بين المربي وتلميذه، فقل الاهتمام وزاد الجهل وغاض معين الوفاء وضاعت المروءة.
فيا ليت شعري أين نحن من الاحترام الذي كنا نحس به لمعلمينا الأماثل في الأزمنة الماضية، لقد كنا نحس بجلال وهيبة دونها جلال الوالدين. بل أين نحن الآن من تلك الآداب السامية وقد جرد منها - مع الأسف - أكثر شبابنا في هذه الأيام؟
على أنني لست أدري - وقد حفيت أقلامً الباحثين - ما منشأ هذه الحالة الأليمة التي وصل إليها شبابنا: أمن تطور الزمن وهو هو لم يتغير -؟ أم من آثار تلك الحرية التي أعطيت بلا حساب فكانت كسلاح حاد سلط على نحورهم وأخلاقهم؟ أم من تهاون المربين؟ أم من فساد الضمائر؟
لقد حيرني ما أراه بعيني في هذه الأيام فمن لي بمن بدلني على سبب ذلك الجحود وهذا الاستهتار الذي يباعد عن الاستفادة من العلم والاغتراف من مناهله العذبة:
ولكني أعتقد مع ذلك اعتقادا جازما بأن التربية الصحيحة والأخلاق المرضية تحيا وتترعرع في ظل الرغبة والرهبة على شريطة استعمالها استعمالاً صحيحاً مبنيا على الفراسة الملهمة والتجارب السديدة السليمة.
شطانوف
محمد منصور خضر(891/51)
جاسوس لا جسوس
كتب في العدد 42 من مجلة الشرق العربي، أحد الزملاء يقول: (يغلط كثير من المصريين في هذا الاسم فيقولون جاسوس والصواب جسوس بفتح الجيم وضم السين المشددة. . .) وأعتقد أن الاستعمال الأصح هو جاسوس لا جسوس كما يقول الزميل. فقد جاء في الصباح المنير مادة (جس): جسه بيده جساً من باب قتل واجتسه ليتعرفه، وجس الأخبار وتجسسها تتبعها، ومنه الجاسوس لأنه يتتبع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور، ثم أستعير لنظر العين؟ والجاسة لغة في الحاسة والجمع الجواس.
وكذلك جاء في القاموس ج2 طبع المطبعة اليمنية:
الجس: المس باليد كالاجتساس وموضعه المجسة، وتفحص الأخبار كالتجسس، ومنه الجاسوس والجسيس لصاحب الشر، والجواس الحواس، وفي المثل: أحناكها مجاسها؛ لأن الإبل إذا أحسنت الأكل اكتفى الناظر بذلك في معرفة سمنها من أن يجسها. وجسه بعينه أحد النظر إليه، والجساسة دابة تكون في الجزائر تجس الأخبار فتأتي بها الرجال.
وعبد الرحمن بن جساس من أتباع التابعين. وجس بكسر الجيم زجر البعير. ولا تجسسوا أي خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله عز وجل ولا تفحصوا عن بواطن الأمور وتبحثوا عن العورات. واجتست الإبل الكلأ رعته بمجاسها.
ومثل هذا ما جاء في لسان العرب وغيره من كتب اللغة. وللزميل تحيتي وتقديري
عبد الموجود عبد الحافظ(891/52)
القصص
وليم تل
مسرحية من شريدان
للأستاذ محمود علي السرطاوي
تقديم الكاتب
(ولد رتشارد برستلي بطلر شريدان في دبلن عاصمة أيرلندا في 30 - 10 - 1761من أم وأب يعشقان الأدب والفن الجميل، تعلم في هارو، واستقرت أسرته في مدينة باث، وتزوج في هذه المدينة اليزابث لينلي، أجمل نساء عصرها. كانت إلى جانب هذا الجمال النادر موسيقية لا يشق لها غبار في هذا الفن، فجمعت حولها جيوشاً من المعجبين والمفتونين والعشاق؛ وحلقت بهذا الزوج محمولا على أجنحة الحسن الأخاذ حتى وضعته على كرسي وزارة الخارجية عام 1728 وجعلته حديث الدنيا في محاكمة ورلن هاشنج حاكم الهند العام تلك المحاكمة التي أشتهر أمرها في التاريخ، وحينما أخذت ورود العز الحسن تصوح من الروض المعطار، أنفض عنها المعجبون، وهبت رياح الخريف على حياتها، فعاشت وزوجها في فقر مدقع ومات في 7 - 7 - 1816ودفن في كنيسة وستمنستر في مقبرة الخالدين في بلاد الإنجليز.
ومسرحيته (مدرسة الفضائح) المشهورة يعرفها عشاق أدبه الإنجليزي)
أشخاص المسرحية
جسلر: الحاكم النمساوي في سويسرا
وليم تل: قائد السويسريين في ثورة التحرر من حكم النمسا وقد وقع أسيرا مع أبنه البرت في قبضة جسلر
البرت: الن وليم تل وهو فتى في الثالثة عشر من العمر.
فرتر: صديق وليم تل
جنود: ضابط جمهور كبير من النساء والأولاد والرجال.
المنظر الأول(891/53)
جسلر: ما أسمك!
تل: اسمي؟ لا ضرورة لإخفائه عنك الآن. اسمي. . تل. .
جسلر: تل! وليم تل!
تل: أنه لكما تقول
جسلر: ماذا! ألست الذي أمتاز على أبناء جنسه بمهارته في السيطرة على قارب في البحيرة في يوم عاصف؟. . أولست الذي لم تخطئ سهامه أهدافها أبدا؟ لقد آن لي أن أنتقم منك انتقاماً طريفاً!. . أصغ إلى! سأمنحك وأبنك الحياة. . وأعفو عنكما. . . ولكن. . على شرط واحد!
تل: ما هو الشرط؟
جسلر: أريد أن تظهر مهارتك في تجربة تستعمل فيها قوسك الذي تحسن الرماية عنه!
تل: ما هي التجربة. . .؟
جسلر: أنك تنظر إلى ولدك: ويخيل إلي أنك قد فهمت بغريزتك ما أهدف إليه!
تل: أنظر إلى ولدي! ماذا تقول بذلك! أنظر على ولدي كأنني قد فهمت ما ترمي إليه! فهمت التجربة التي ستحملني عليها! فهمتها بغريزتي! أنت لا تعني. . كلا. كلا. . إنك،: لن تحملني على إظهار مهارتي على ولدي! مستحيل! أنني لم أفهم ما تريد. .
جسلر: أود أن أراك تصيب بسهمك تفاحة على مسافة مائة خطوة!
تل: هل تشترط أن يمسكها ولدي!
جسلر: كلا
تل: تقول كلا! إذن سينفذ سهمي منها
جسلر: ولكنها ستوضع على رأسه!
تل: يا إلهي! ماذا تسمع أذناي!
جسلر: أنك قد فهمت الآن ما عرضته عليك، وأنها الفرصة أنحتها لك لتظهر فيها مهارتك التي طالما تحدثت بها الركبان وليس أمامك غير الموت لك ولأبنك. . . فأختر لنفسك خصلة من الاثنتين. . . ولا مناص لك من الاختيار!
تل: أيها الوحش!(891/54)
جسلر: أتريد أن تختار!
البرت: لقد أختار!! لقد أختار!. . سيرمي التفاحة!
تل: (في ذهول. . .) أيها الوحش الضاري! أتريد من الأب أن يقتل أبنه بيديه!!
جسلر: حلوا وثاقه إذا قبل بما عرضته عليه. .
تل: (مستمرا في ذهوله) يقتل أبنه بيديه. . .!
جسلر: هل قبل!!
البرت: نعم لقد قبل!
(يشير جسلر إلى ضباطه فيتقدمون إلى تل ويحلون يديه من الأغلال وتل في ذهول عميق لا يحس ما يفعلون)
تل: (مستمرا. .) يقتل أبنه بيديه! نعم! يريد من الأب أن يقتل ولده! يا لرحمة السماء! أنه أمر فظيع تهتز منه رواسي الجبال!!. . . أنه أمر وهيب. . . يا إلهي. .! (يحلون جميع الأغلال فتسقط السلاسل على الأرض ويسمع لها صوت يعيد تل إلى وعيه) أيها الأوغاد ماذا كنتم تفعلون! أعيدوني إلى الأغلال أعيدوني إليها! إنني لم أقتل ولدي إرضاء لجسلر!
البرت (باكيا) أني!. . أني!. . أني. . .! إن سهمك لن يؤذيني!
تل: لن يؤذيك؟ كيف يمكن ذلك؟ إن لم تحطم السهم دماغك فسيذهب بإحدى عينيك! وإذا لم يذهب عينيك فسيمزق هذا الخد الذي طالما رأيت شفتي أمك تغمره بقبلات الحنان والشوق الشديد، والحب الجارف العميق. . لن يؤذيك يا إلهي!. . إن قلب أمك سيحطم لو مست شعرة من رأسك!
جسلر: هل رضيت!
تل: هل رضيت بقتل ولدي أيها الطاغية!
البرت: كلا يا أبي كلا! إنك بذلك تنقذني! أنني واثق من مهارتك وقدرتك على إصابة الهدف. . أبي! (باكياً) ألا تريد أن تنقذ حياتي.!
تل: إذن. . . هيا بنا. . . . هيا بنا. . . سأجرب هذه التجربة القاسية!
البرت: شكراً لك يا أبي!
تل: أتشكرني! امقدر أنت جسامة ما أنت مقدم عليه! كلا. . . كلا. . . لن أقبل بهذه(891/55)
التجربة! إنها تجربة تكون نهايتها أن أحمل ولدي بين ذراعي جثة هامدة إلى أمه!
جسلر: إذن فسيموت أمامك هذه اللحظة! وستكون أنت سبب ذلك. أتيحت لك الفرصة لإنقاذ حياتها فلم تهتبلها!
تل: حسناً! سأفعل! سأفعل!
البرت: أبي!
تل: صه! لا تتحدث إلي! لا تجعل لي مجالا لسماع صوتك
كن حيث اللسان! ليمت كل شيء حولي! الأرض والمخلوقات والانسام. . . أيتها السماء! أرسلي صواعق غضبك وامنعي وقوع هذا الجرم الفظيع. . .! إلى. . . إلى. . . بقوسي! وبجعبتي!
جسلر: ليس الآن! سيعطيان لك في الوقت المناسب!
تل: هيا بنا؛ إلى الجرمية الرهيبة؛ إلى العمل الوحشي الفظيع؛ إلى الموت.
المنظر الثاني
يدخل جمهرة من الرجال والنساء. والأولاد والبنات. . . يسيرون سيراً بطيئاً - جسلر - وتل - والبرت وجنود يحمل أحدهم قوس تل وجعبته، ويحمل الآخر سلة من التفاح)
جسلر: قف في هذا المكان. وستقاس المسافة من هذا الموضع مائة خطوة قيسوا المسافة؛
تل: هل المسافة مائة خطوة بالضبط
جسلر: ما شأنك وهذا؟
تل: وأنت ما شأنك أيضاً؛ قد يكون الخطأ صغيراً وصغيراً جداً. . . خطوة. . . وخطوتين. . . أو أكثر من ذلك. . . أمور تافهة! أتحسبني أفوق سهمي إلى ذئب!
جسلر: أحمد الله أيها الوغد الحقير! إنك تحت رحمتي! وأنا الذي منحتك الحياة التي أنت فيها الآن!
تل: سأكون شاكراً فضلك وجميلك يا جسلر! (يتلفت إلى الذي يقيس المسافة) أيها الوغد! إنك تقيسها في اتجاه الشمس!
جسلر: وما شأن الشمس في المسافة؟ ماذا تستفيد من ذلك إذا كانت المسافة في اتجاه الشمس أو في عكسها؟(891/56)
تل: أفضل أن تكون الشمس ورائي. ينبغي أن يشع نور الشمس على الهدف وليس على وجه الرامي. ليس في مقدوري أن ارمي والشمس في وجهي. . . ولن أفعل ذلك أبداً.
جسلر: ليكن ما تريد أن السبب الذي ذكرته قد حرك الرحمة في قلبي!
تل: سوف أذكر ذلك. . . أود أن أرى التفاحة التي ستكون هدف سهمي!
جسلر: قف أبى بسلة التفاح هي تلك
تل: أنك قد تخيرت أصغرها حجما
جسلر: لقد تعمدت ذلك!
تل: أو صحيح ما تقول لكن لونها معتم كما ترى! أفضل أن تكون بيضاء اللون لأراها جيدا!
جسلر: لا يمكن تبديلها. . . وستكون مهارتك عظيمة إذا أصبتها!
تل: نعم. . . نعم. . . إن ذلك لم يدر بخلدي مطلقا. . . أن العجب ليأخذني من هذا المنطق. . . أرجو أن تتيح لي فرصة أنقذ بها حياة ولدي، (يرمي التفاحة إلى الأرض بكل قوته) لن أقترف جريمة قتل ولدي إذا كان ذلك في استطاعتي. لو أفعل ذلك تخاذلا أمام مظاهر القوة التي لا تعرف الرحمة.
جسلر: إذن تخير التفاحة التي تريدها.
تل: (يحملق في الجمهور المحتشد حوله) أيها الناس الذين حولي أبينكم صديق؟
فرتر: (يتقدم إليه مسرعا) أنا الصديق ياتل!
تل: شكراً لك يا فرتر، أنك الصديق الذي أرسلته السم ليمد إلى يد العون في أحرج ساعات حياتي تهتز وتضطرب في أرجوحة القدر أمام عيني. أصغ إلى يا فرتر! مهما تكن نتائج هذه الساعة الحرجة، فعليكم الثبات إلى النهاية. لا تجعلوا نور الغد يشرق وعلم الطاغية يرفرف في الفضاء فرتر. فرتر. يا صديقي أتحسب أن لدى الولد شجاعة تجعله يحتمل ذلك الموقف الرهيب وهو في جفن الردى.
فرتر: نعم.
تل: (دون أن ينظر إلى البرت) كيف ترى ملامح وجهه
فرتر: طلق المحيا. كثير الابتسام، وإذا شككت في ذا فأنظر إليه؟(891/57)
تل: كلا! كلا! حسبي أن أسمع ذلك منه يا صديقي!
فرتر: أنه ليبدو في شجاعة لا تتناسب مع عمره!
تل: إنني أعرف ذلك. إنني أعرف ذلك!
فرتر: ويبدو في ثبات منقطع النظير!
تل: إنني متأكد من ذلك.
فرتر: وينظر إليك بعينين يفيض منهما الحب العميق والتقديس
تل: حسبك يا فرتر! كفى بربك! أصمت رحمة بي! لا تحدثني عنه بهذه اللهجة فأخانا أبوه الذي سيكون جلاده بعد لحظات! لا تحدثني عنه يا صديقي! سأحمل بين جنبي قلباً أقسى من الصوان! أقسى من الصوان! أقسى من قلب الطاغية! لا تجعلني أحس بعاطفة الأبوة! خذ البرت وأوقفه متجها بظهره إلى! دعه يركع على ركبته! وضع التفاحة على رأسه! وليكن عنقها في اتجاهي! أطلب منه أن يكون شجاعا! وأن لا يتحرك وأكد له أنني سأصيب التفاحة. . . قل به كل هذا بأقل الكلمات؟
فرتر: اتبعني يا البرت؟ (يمسك بيده)
البرت: ألا تسمح لي بالتحدث إلى أبي قبل السير؟
فرتر: كلا؟
البرت: أريد أن أقبل يديه؟
فرتر: يجب أن لا تفعل ذلك؟
البرت: يجب أن أفعل. . . لا أقوى على مغادرته دون ذلك؟
فرتر: أنه يريد منك أن لا تفعل شيئا من هذا النوع؟
البرت: أهي اراؤه؟ إنني راض بها. . . هيا بنا؟
تل: إذا كنت لا تستطيع أنت ترني قبل وداعي يا البرت فكي أحتمل ذلك أذهب الآن، وأذكر وأنت في موقفك الرهيب أن أباك يجيد الرماية. لا تتحرك فسأصيب التفاحة. . . أذهب يا بني. . . ليرحمني ويرحمك الله أذهب أذهب أين قوسي (يقدمون له القوس يخاطبه وهو نظر إليه) أحب أنك لن لا تخذلن في أرهب ساعة من ساعات حياتي يا قوسي لقد كنت الساعد والعون في الماضي وأنا واثق في إخلاصك إلى بجعبتي(891/58)
جسلر: أعطوه سهماً واحد فقط
تل: (ينظر إلى الجندي) أتجيد الرماية؟
الجندي: نعم
تل: أذن كيف اخترت لي هذا السهم أيها الصديق؟ ألا ترى أن رأسه غير مدبب، وأسفله مكسور (يكسره وبرميه إلى الأرض) هذا ما يصلح له. . . .
جسلر: أعطوه سمهاً آخر.
تل: أنه أحسن من الأول؛ ولكنه لا يصلح لهدف من هذا النوع. أنه ثقيل. أنني لن أرني به عن القوس. (يرميه إلى الأرض) اسمحوا لي بجعبتي - أحضروها. أنني لا تخير سمهاً من عشرين لأرمي به حمامة؛ فكيف بحمامة كالتي أمامي!
جسلر: أعطوه الجعبة ولا مانع لدي!
تل: (لفرتر) انظر إلى الولد هل هو مستعد!
فرتر: أنه كذلك.
تل: وأنا كذلك أيضا. أصمت يا فرتر إكراماً لله ولا تتحرك - وأبتهل إلى الله بصلواتك. أدعو الله وأشهد فيما إذا أصيب بأنني ما أقدمت على ذلك إلا حرصاً على حياته (يتلفت إلى الناس) أيها الأصدقاء. . . رحمة بي. . . لا تتحركوا وأصمتوا (يفوق السهم. تنبعث أصوات الفرح كهزيم الرعد من الجمهور يسقط على الأرض مغمي عليه. . .
فرتر: (مسرعا يا لبرت) لقد أنقذ الولد، ولم يمس السهم شعرة من رأسه.
البرت: (باكيا) أبي! أبي! لقد أنقذتني، أبي! العزيز! لقد أنقذتني من الموت! أبي! تحدت ألي! أستمع إلى صوتي!
فرتر: أنه لا يستطيع التحدث إليك أيها الصبي أصمت البرت (إلى جسلر) أوهبت له الحياة!
جسلر: لقد وهبت لكما الحياة.
البرت: وعفوت عنا؟
جسلر: نعم
البرت: شكراً لك يا إلهي شكر لك يا ربي(891/59)
فرتر: (إلى الجمهور المحتشد حول تل) أيها الناس ابتعدوا عنه افتحوا صداره دعوا الهواء الطلق ينفذ إليه (يفتح البرت صدار والده. يسقط سهم تحت الصدار فيراد جسلر. يعود تل إلى وعيه فيرى البرت منضمة إلى صدره.
تل: ولدي! ولدي! حبيبي!
جلسر: لماذا أخفيت هذا السهم في صدرك؟
تل: لا قتلك به أيها الطاغية إذا نفذ سهم القدر في ولدي!
أصوات الفرح تنبعث من الجمهور وتتلاشى رويدا رويدا ستار
دار المعلمين الريفية - بغداد
علي محمد سرطاوي(891/60)
العدد 892 - بتاريخ: 07 - 08 - 1950(/)
صور من الحياة
على الشاطئ
للأستاذ كامل محمود حبيب
قالت لي: بعد أيام يسافر أهلي إلى الإسكندرية، فيا حبذا لو رافقتنا فنفزغ من لفحة وتخلص من غبار القاهرة فنسعد هناك في الإسكندرية برقة النسيم ومتعة النفس وراحة الجسم وهدوء القلب!
قلت لها: يا حبذا لو فعلنا، فأنا في حاجة إلى أن يستجم جسمي من عناء العمل وأن ينفض عقلي شواغل الحياة؛ ولكنك ولا ريب تعلمين أنني عبد الوظيفة تقيدني بأغلال لا أستطيع منها فكاكا إلا أن يرضى الرئيس
قالت ومتى يرضى الرئيس؟
قلت: حين يخلص من تاريخه. . . تاريخ الذل الذي عاش فيه سنوات وسنوات فسرى في عروقه فاختلط بدمه فلا يجد منفذا إلا أن يتدفق كبرياء مصنوعة يضرب بها مرءوسيه في غير حق ولا سبب.
قالت: إذن أسافر أنا معهم وتلحق أنت حين تجد الفرصة قلت وكيف يكون ذلك ونحن زوجان لم نفترق مرة واحدة منذ سنوات سبع؟ لقد محت هذه السنوات الطوال من نفسي آثار العزوبة فما أستطيع أن أهيئ لحياتي حاجاتها ولا أن أسكن إلى دار تتراءى أمامي خربة خاوية تثير النفس وتزعج الفؤاد وتمض الروح
قالت لعلك نسيت أن الطبيب قد نصح بأن نبتغي لوحيدنا المريض نزهة على شاطئ بالحر ترد له نسمات الصحة وتبعث فيه روح القوة!
قلت لا لم أنس، وسنعمل حين نجد الفرصة.
قالت وماذا يضير إن أنا سافرت في صحبة أهلي ريثما تهيأ لنفسك فسحة من الوقت فتخف إلينا نقضي أياما فيها اللذة والمتعة؟
قلت: لا ضير؛ غير أني أوقن بأني سأعاني هنا - في وحدتي - ضيق النفس ووحشة الدار وجفوة العيش
قالت: ولكنك رجل تستطيع أن تحتمل وتصبر.(892/1)
قلت: أأعاني أنا هنا وأصبر، وأنت هناك تستمعين؟
قال: هذا خيال شاعر فيه المبالغة
قلت: إن الزوجة - في رأيي - إنسانة خلقت لتستفرغ الجهد في أن توفر للزوج الراحة وتلتمس له الهدوء وتعينه على وعثاء الحياة وتزيح عنه ضنى العمل، فإن هي ضاقت بوظيفتها فنفرت عنها أصبحت شيئاً غير الزوجة وغير المرأة وغير الإنسانة
قالت حقا، ولكن الرجل كثيراً ما ينكر عليها إنسانيتها فيغفل حقها في أن تهفو إلى الراحة أو تحن للمتعة، فيدفعها إلى أن تسعى هي لتوفر لنفسها الراحة والمتعة
قلت: والزوجة إن سيطرت عليها الأنانية الوضيعة فقدت روح الأنوثة والإنسانية معاً، وهذه أول ضرة جاسية من معول الحمق تسددها هي لتقوض ركن الدار وتهد عمار الأسرة)
قالت (وأي أنانية في أن أطلب لوحيدنا الشفاء والصحة؟)
قلت (سنفعل معاً، ولكني أخشى أن تذهبي من دوني فتتلقفك ذئاب الشاطئ وهي منبثة على طوله)
قالت (ذئاب الشاطئ؟ إذن أنت تتهمني في عقلي وفي كرامتي!)
قلت (لا، ولكني أعرف عقل المرأة، سبرت غوره وعجمت عوده!)
قالت (وأنا فتاة - كما تعلم - سموت بنفسي عن الشبهات. صقلت علي بالعلم، وشذبت تجاربي بالمعرفة، فترفعت عن الخطأ وعلوت عقلي الزلل)
قلت في تهكم (العلم! آه، العلم!)
قالت (وماذا في العلم؟)
قلت (هو داء الغرور الذي إن دخل عقل المرأة تفلسفت فيه الفضيلة. والفضيلة - إذ ذاك - تتفلسف لتخلق مذاهب منها الثورة على طبيعة المرأة، ومنها الحرية التي لا تحدها شريعة، ومنها الشارع. . . ومهما تكن المرأة فهي خلق يبهره الألق ويهزه الإطراء وتنطلي عليه الخديعة. . .)
قالت (وهب أنني من الغرور والجهل بحيث لا أستطيع أن أمسك نفسي عن الانزلاق إلى الجريمة، فكيف يتأنى ذلك وأنا بين أهلي: أبي وأمي وأخوتي؟ هذا كلام - ولاشك تزوقه(892/2)
في لباقة لتصرفن عن الغاية التي أصبو إليه. . . عن السفر في رفقة أهلي!)
قلت (الغاية التي أصبو إليها. . . الغاية التي اصبوا إليها!)
وأصرت هي وأصررت
وحين احتواني الفراش اكتنفتني خواطر متناقضة سلبتني الراحة، وحدثني الشيطان حديثاً طويلا حرمني لذة النوم. وتراءى لي من خلال أخيلتي أنني إن حبست زوجتي عن (الغاية التي تصبو إليها) لا تعدم أن تجد خلاصاً فتتغفلني فتطير إلى دار أبيها تتصنع الخصام وتأبى الصلح حتى يحين موعد السفر فتنطلق في ثنايا الركب، وأنا أرى ولا أستطيع أن أمد يدي ولا لساني، فيأكلني الغيظ ويطحنني الكمد لأن فتاة من بنات حواء سخرت مني وعبثت بي. . . عبثت بي أنا، فعقدت العزم على أن أستسلم رويداً رويداً ثم أحتمل وأصبر
وانطلق الركب إلى المصيف، إلى الحياة الرفافة، إلى الحرية الحيوانية. . . انطلق ليخلفني هنا - في القاهرة - أقاسي شدة القيظ وعنت العمل وفراغ الدار وضيق النفس وشعرت - لأول مرة - أن الزوجة هي روح الدار وبهجة الحياة وسكن النفس، وأحسست - أيضاً - بأنها شيطانة دربت على أن تسلك إلى حاجتها من منافذ فيها الختل والخداع. وقضيت أياماً أسلي القلب بالعمل فما يتسلى، وأصرف الهم بالمطالعة فيما ينصرف، واختلطت عليّ أمور الحياة وأمور العمل، فانحطت قوتي ووهي جلدي وثارت جائشتي، فقر الرأي على أن أنطلق إلى زوجتي أنزعها غضباً من بين أهلها. . .
وجلست إلى نفسي - ذات ليلة - أدبر الأمر، فخيل إلى أنني مريض أتقلب على الفراش وحيداً، لا أجد اليد الرفيقة التي تؤاسي، ولا القلب الرقيق الذي يعطف، ولا الرفيق الطيب الذي يرق، فطرت إلى دار أخي أتلمس العزاء والسلوى
وفي الصباح طلبت إلى رئيسي أن يأذن فأبدا إجازتي السنوية، فأنطوي عني في إباء وصلف، فرحت أصب خواطري على قرطاس أبعث به إلى زوجي عسى أن ترتد عن الغواية أو تثوب إلى الرشد، فكتبت إليها (. . . الآن لا استمرئ الطعام ولا أستعذب الشراب ولا أحس لذة الشباب ولا متعة العافية. وأرى الدار أمامي خاوية تصفر فأهرب منها خشية أن يفجأني مرض الكلى - وأنت تعلمين أنه يعاودني بين الحين والحين - فلا أجد العون ولا الساعد ولقد ساورتني الهموم فسدت على السبيل جميعا إلا سبيلا واحداً هو(892/3)
السبيل إلى دار أخي فأنطلق إلى هناك علي أجد الهدوء والسلوى؛ غير أني خشيت أن يكشف عن خبيئة نفسي فيحتقر رجولتي ويسخر من ضعفي، فرجعت إلى الدار التي تقذفني بالضيق والألم فتبعثر قوتي وتبدد خواطري. وأنا ألح على رئيسي. على غير عادتي - ليأذن لي فأطير إليك. فأصم أذنيه، فهلا تزلت عن أنانيتك ساعة من زمان؟. . .)
وجاءني خطابها فاترا مقتضباً؛ فتبلبلت أفكاري واضطربت أعصابي، فذهب إلى الرئيس - مرة أخرى - ورأى في كلماتي الإصرار، وأحس في جرأتي العناد، فخاف أن ينفد صبري، فألقي السلم عن يد.
وشملتني هزة من الفرح تبدت لي الحياة من خلالها باسمة تتألق، وسرى الدم في عروقي فواراً ينفث في قوة ونشاطا فقدنهما منذ أن خلفتني زوجي هنا - في القاهرة - أقاسي شدة القيظ وعنت العمل وفراغ الدار وضيق النفس. وتراءت لي زوجتي وهي تلقاني بعد غياب دام نيفاً وثلاثين يوماً. . . تلقاني في طرب يمسح عني العناد، وتضمني في فرح يمحو عني الجهد، وتراءى لي ابني الوحيد وهو يندفع نحوي في بهجة وسرور يطوقني بذراعيه الصغيرتين ويغمرني بقبلاته الحلوة البريئة، فتأججت روحي بالعاطفة الجياشة عاطفة الزوج والأب. فرحت أهيئ نفسي للسفر وأعد لزوجي هدية جميلة وأختار لابني لعبة طريفة. . . ثم انطلق بي القطار وأنا استحثه واستبطئه وبلغت الإسكندرية لدى الأصيل
وقال لي عقلي (هذه ساعة يفزع فيها الناس إلى سيف البحر يستروحون النسمات الطرية ويتنشقون الشذا الزكي ويستمتعون بغروب الشمس حين تغرب في عين حمئة فتلفها الأمواج المضطربة بين ثناياها في رفق ولين مثلما تضم أم ابنها الوحيد في شوق وحنان. .)
فجلست في مقهى على الشاطئ أستجم من تعب، وأهدأ من اضطراب، وأعد نفسي للقيا الحبيبة، وأتصفح وجوهاً تفيض بالبشر وتطفح بالسرور، وخيالي هناك عند زوجتي، وابني لا يبرح
وحانت مني التفاته فرأيت زوجتي فهممت في نشوة أريد أن ألقاها، غير أني شعرت بأن يدا عاتية تمسكني إلى الكرسي. . . شعرت بأن يدا عاتية تدفعني عنها لأنني رأيتها تسير مع رجل غريب، جنباً إلى جنب، وذراعاً في ذراع، ووجهها يفيض بالبشر ويطفح(892/4)
بالسرور. . . ونظرت ونظرت
آه، يا بني، برغمي أن أفزع عن الإسكندرية ولما أتمتع بوجهك الغض الجميل وبسماتك النقية الطاهرة وقبلاتك الحارة الخالصة ونشوتك الوثابة المتألقة. وبرغمي أن أذرك بين يدي هذه المرأة. . . هذه الفاجرة!
الإسكندرية
كامل محمود حبيب(892/5)
التربية الأدبية
للأستاذ محمد محمود زيتون
يحكى أن ملكا من ملوك الفرس غضب على وزير له إثر شائعات ودسائس حتى دنت رقبته من حبل المشنقة. وفي ساعة التنفيذ وقع نظر الملك على بنت الوزير وقد رآها سافرة على غير عادة الفرس من الحجاب، فبعث إليها من حاشيته من يقول لها:
مولاي يعجب كيف لم تتقنعي ... قالت له: أتعجبا وسؤالا
ما كان للحسناء تكشف وجهها ... لو أن في هذي الجموع رجالا
في هذا اللون من فن القول ما يكفي للدلالة على أهمية الأدب في الحياة الإنسانية، ذلك بأن الأدب يهتف في دوافعه ونوازعه بمظاهر الشعور، فاللفظ مسموعاً ومقروءاً أول ما يتصل بالإحساس الذي يوصله بدوره إلى الوجدان فتتفاعل فيه العناصر الأولى للعاطفة. فما يلبث الإنسان أن ينزع إلى إتيان أمر أو تجنب آخر
وإذ ذاك يكون الأدب غير دخيل على النفس. لأنه منها يستفرد، ومعها يجري، غير أن (للصورة الأدبية) لا تقف طويلا بباب الشعور، وإنما هي تحمل (جواز المرور) بما تأهلت له من جرس جميل، وخيال هائم ومعنى كريم.
بهذا يكون صاحب هذه الصورة قد وجد أصداء نفسه تتردد في جوانب غيره بطريق (الإيحاء) الذي يقوم بدور كبير في نقل التجارب من المعلم إلى المتعلم.
ولما كانت التربية الكاملة تقوم على علاج البدن والعقل والروح بحيث تتعالى الغرائز عن المستوى الحيواني، فقد بقي على التربية وتنسيق القوى النفسانية بحيث لا ينمو البدن على حساب العقل والروح أو عل العكس.
والأدب كفيل بتحقيق هذه الغاية، إذا هو يتفاعل أولا مع الروح، ومنها تنبثق مؤثراتها على كل من البدن والعقل. وقد أثبتت تقارير (علم النفس الطبي) أن معظم الأمراض التي تنتاب الجسم، مردها إلى انفعالات عنيفة. واستطاع تلاميذ (سيجموند فرويد) أن يعالجوا قلة اللبن في أثداء الأمهات بعزف بعض القطع الموسيقية، كما استكثر بعض الصيادين من السمك باستعمال الحاكي (الفوتوغراف) فتهافت السمك على النغم من كل مكان.
وقديماً قالوا (العقل السليم في الجسم السليم) وهذا خطأ، فقد فطن الأطباء السيكولوجيون إلى(892/6)
علاج الأمراض الجسمانية بالتحليل النفساني والتغلغل في أعماق العقل الباطن للكشف عن العقدة التي هي أصل كل داء وبلاء. وفي الحديث الشريف (من كثر همه سقم بدنه).
ومما يعرف عن (الفارابي) أنه ابتدع آلة موسيقية عزف عليها مرة فأضحك ثم عزف فأبكى، وأخيراً عزف فنام من أضحكهم وأبكاهم.
كما أن (ابن سينا) كان يعالج المرضى بالوهم، بالإيحاء النفساني، وقصته مع الرجل الذي أصيب بالمانخوليا فغلب على ظنه أنه بقرة، معروفة مشهورة.
كذلك الحالة العقلية ينتظم ميزانها غالباً وفق الحالة الوجدانية، فقد أجريت تجارب على أطفال، اصطنعت أمامهم عوامل الخوف ولوحظت نتائجها في إجاباتهم على أسئلة وجهت إليهم.
وقد يعجب الناس من هذه (الطاقة) الأدبية التي تنفذ أشعتها إلى أعماق الشعور وتتردد في جوانبه، والأعجب من ذلك، ما بين الكيمياء والأدب من صلة وثيقة حتى في الصيغة اللغوية: تفاعلات وانفعالات.
ولكن يزول العجب إذ نسمع مثلا الشاعر العربي يقول:
وإني لألقي المرء أعلم أنه ... عدو، وفي أحشائه الضغن كامن
فأمنحه بشرا، فيرتد قلبه ... سليما، وقد ماتت لديه الضغائن
فهنا تفاعل بين بسمة الشاعر، وضغن العدو، يستحيل به القلب سمحاً كريماً، وذلك هو الصدى الذي توحي به الآية (الكريمة) (ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) ولا شك في أن هذا الإيحاء الصادر عن تلك الطاقة هو السفير الشعوري الذي يقوم بهذا الدور المحمود.
ومن هذا الباب أيضاً ما يروى عن الأعرابية التي ولدت أنثى، فهجرها زوجها وظل وجهه مسوداً وهو كظيم، من سوء ما بشر به كعادة الجاهلية، فلما مر بخيمتها ذات يوم سمعها تقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
نراه في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا(892/7)
تا لله ما ذلك في أيدينا
فنحن كالأرض لغارسينا
ننبت ما قد غرسوه فينا
وإذا بهذا الأعرابي ينبض قلبه بالحنان، وينبثق بالرحمة - وهو الصخر الأصم - فيقبل صاحبته ويحتضن بنته.
ونحن بهذا لا نقوم بدعاية للأدب - وهو مشروع غير ممنوع - ولكنا بصدد التقريب بين رسالة الأدب، ومؤهلات التربية كوسيلتين للإصلاح، ولاشك أن الذوق السليم، والنفس الراضية المرضية من أعز المواهب التي تستكمل بها فضائل الإنسان، الذي يعرف أن له كرامة يجب أن تصان.
وما أسرع الأدب إلى تحقيق هذه الغاية: فإنه هو الذي يكفل للناشئ حياة مضمونة إذا درج على سماع الكلام الموزون، وإلقائه وتمثله وتمثيله، والاستشهاد به في بعض الأحايين.
وأول الطريق هو (الوجدان) الذي يكاد يشبه الكرة من المطاط إذا لم ينفخ فيها الهواء ركدت وأخلدت إلى الأرض، وكذلك القلب بحاجة إلى غذاء الروح، وهذا هو الغنى وتلك هي العافية للفرد والمجموع معا، والفقر ليس في الجيوب، ولكنه في القلوب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب)
وما أجدرنا بالبدء من هنا للقضاء على ما يسمونه بالمبادئ الهدامة، ولن يكلفنا الأمر أكثر من تغذية الفرد بتراثه العريق. من أمثال وحكم وتعليقات سلطانية، وقصص وملاحم، وقصائد وخطب، ومسرحيات، ومما يدخل الآذان بلا استئذان فيستقر في الوجدان، ولا سيما إذا كان من صميم البيئة ومن أصول العوائد والتقاليد التي قامت الأيام بتمثيلها على مسرح المجتمع.
وإذا كانت معدة الفرنسي تستسيغ أكل القواقع والفيران مما تتأفف منه نفس المصري وتعافه، فكذلك لكل شعب (معدة أدبية) خاصة وذوق لا يعيبه أنه يطرب للموسيقى الشرقية ولا يهتز للموسيقى الغربية، وتستهويه ألحان سيد درويش دون سيمفونيات بيتهوفن.
وهل ينكر أحد اثر خطبة طارق بن زياد في رجاله (البحر وراءكم والعدو أمامكم) تلك الخطية التي إذا أخذنا الناشئة على إلقائها انطلق عقال ألسنتهم وسلموا من رخاوة الحديث(892/8)
ورطانة الغرب، وأكبروا هذه الفلذة الحية من دماء ماضيهم التي دفعت القائد الجبار إلى إحراق أسطوله ليمضي قدماً إلى البرانس حيث اتصلت حضارة العرب بأوروبا وحتى استمد الشعر البروفنسي عناصر من حضارة العرب كما يقول جوستاف لوبون.
وهذا عقبة بن نافع يخوض بجواده المحيط الأطلسي فيقول: اللهم رب محمد لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمة الله. وهذه الأمثال العربية الناضحة بالحكمة، الزاخرة بالروعة مثل: حمى الوطيس، يا خيل الله اركبي، لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، كيف تصاحبني وهذا أثر فأسك، وكذلك التوقيعات السلطانية المحفوظة في سجلات الشرف والعزة مثل (كثر حاسدوك وقل حامدوك فإما اعتدلت وإما اعتزلت) ومثل (دع الضرع يدر لغيرك كما در لك). .
ولا شك أن هذه الروائع الأدبية من ألزم اللزوميات للزعامة الرشيدة والقيادة المستنيرة، فقد كان النبي عليه السلام ينشد لعبد الله بن رواحة رجزاً جميلاً وهو يعمل مع العاملين في حفر الخندق، في غزوة الأحزاب فيشتد أزرهم وتنشط قابليتهم للعمل، فلا يطغي التعب على مجهودهم، كلما رددوا وراءه عجز الرجز:
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن نادينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
ويكررون الكلمة الأخيرة من رجز الراجز:
سماه من بعد جميل عمرا.
وكان للبائس يوماً ظهرا.
على أن الخيال الذي قد يؤخذ على الأدب إنما هو دعامة العلم الثابت. . لميتدولوجيا (علم مناهج البحث) تحدثنا أن الاختراعات لم تكن قبلا إلا أخيلة في عقول أصحابها، وفروضاً هائمة اقتنصها أرباب الاختراع كما هو معلوم من تفاحة نيوتن، وحمام أرشميدس، حتى جاء الفيلسوف برجسون فأنتصر لعنصر الإلهام في مجال العلوم الخالصة.(892/9)
ولا حرج في القول إذن بأن أول مخترع للطائرة هو الشاعر العربي الذي تكنفته الجاهلية بأطباقها، ومع ذلك وصف فرسه فقال:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
وما أروع الصور الأدبية ذات الألوان والأنغام إذا عرضت
على السمع الذي لا يألف قول المتنبي وهو يمدح سيف الدولة:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
وكذلك وصف العربي لنفسه وهو يتهدج في لفظه من طول ما أخنت السنون عليه، وأناخت على عوده فيقول:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعد ما قوة أعزيها ... أصبحت شيخا أعالج الكبرا
وما أنجح تلك المحاولة التي قام بها الأستاذ الدكتور محمد صبري في تقريبه بين معلقة امرئ القيس وبعض اللوحات الفنية الأوربية لمشاهير الرسامين، وإن كنا نعلم أن (الشعر رسم ناطق، والرسم شعر أخرس) وهذا جبران خليل جبران يتصور فكرة الألوهية فيرسمها بيده الصناع فتخيلها في صورة كف مبسوطة وفي وسطها عين مبصرة. ومن حولهما سحاب الزمن تدور فيه الملائكة بأجيال البشر.
ومع هذا فأين هذه الصورة المرسومة من تلك الصور الشعرية التي عرضها جبران الشاعر عن الفجر إذ يقول:
هل شربت الفجر خمرا ... في كؤوس من أثير
وتنشقت بعطر ... وتنشفت بنور
وهل تنصل الخيوط المستطيلة والمستعرضة للأنسجة الجميلة التي اصطنعها شعراء العرب على نول الفنون؟ كلا فإنها لا تبلى على ممر الأيام، بل تظل تبهر العقل والوجدان، وتستثير الحس، وتستهوي الذوق، فقد أحكم صوغها، فاهتزت لها النفس واستجابت لها الإرادة طائعة مختارة فكأنما هي أسراب طائرة في فلك الجمال، تسبح فيه كما تشاء، وتهبط آخر الأمر على أرض الإنسانية فتزودها بنور الفضيلة، ما وسعها الزاد.(892/10)
هذا العربي الأبي النفس الكريم الخلق، يقول::
وأغض طرفي حين تبدو جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
وهذا العربي أيضاً يقول:
إذا كنت ربا للقواص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأركبه، فإن حملتكما ... فذاك، وإن كان العقاب فعاقب
والنفس الشرقية لابد مستجيبة لهذا الخلق لأنه من سجيتها وطبعها المغروس فيها المركب في سلوكها.
وهذا عنترة العبسي يدلي بدلوه في التربية الأدبية إذ يذكر عبلة وهو في المعمعة فينفث في قيثارته حب الرجل الذي لا يفقده غرامه معالم رجولته إذ يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... منى وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وفي أسطورة بشر بن عوانة حفز للبطولة، وإذكاء للهمة، ولن أنسى قط وقعها في نفوسنا يوم كنا نحفظها وننشدها عن ظهر قلب عندما كنا لا نزال تلاميذ بالمدارس الأولية، تلك القصيدة التي مطلعها:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
وأشهد أن روح القصيدة كان من أهم العوامل على تطلعنا إلى فهم مغلقات ألفاظها الجزلة، التي لم تعد الأذن تنكرها لسلامة الشعر، وعذوبة الروى، ونبالة الهدف.
وكلما تعمقت في الكشف عن سبب ميلي إلى الأدب، وصلت إلى ما كان يدعوني إليه جدي عليه رحمة الله كلما قدمه ضيف كبير فقد كان يطلب إلي وإلى أترابي من بني الأعمام إلى التنافس في إلقاء ما حفظناه من الشعر في المحفوظات، ونحن بعد تلاميذ بالمدرسة الأولية وكان يشجع الفائز بالتصفيق والتشجيع وبما وراء ذلك طبع من القروش والحلوى.
وللأدب مع ذلك كله رسالة خالدة قام بها أصحاب النفوس الكبار من أمثال محيي الدين بن عربي الذي نفض عن وجدان غبار التعصب، واخترق ضباب الحياة ليحلق في أمسى ذلك عرف القلوب إذ يقول:
لقد كنت اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه دين(892/11)
فأصبح قلبي قابلا كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيمان
وما أروع قول من قال في أخذ العدو باللين والسياسة بالعنف والجبروت:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصر
وإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فدعه إلى الوقت الذي أنت قادر
وسالم إذا ما لم تكن لك حيلة ... وأقدم إذا أيقنت أنك
على أننا لا نريد بالتربية الأدبية مجرد تلقين الآداب في ألوانها المختلفة وحفظها وتسميعها، ولكن نأمل العمل على توجيه المواطن منا نحو الفنون عامة من مهده إلى لحده. وعليه أن يتخير منها أقربها إلى ميوله ومشاربه؛ فإذا استطاب الأدب دفعناه إلى الإنشاء سواء في نظم القصيد أو ارتجال الخطب أو على الأقل إجادة التحدث إلى الناس، ومراعاة مقتضى الحال، والتزين البيان والبديع في كل ما يقول، وذلك أضعف الآداب.
ونأمل أيضاً العناية بالأدب المعاصر، وتوخي عناصر القدرة فيه، وجعل معظم الدروس الأدبية قائمة على ما يمس حياة العصر وحفز الناشئة على التحليل، ومحاولة الوصول إلى قواعد النقد وأصول الأدب. وذلك هو سبيل التبشير لا التنفير، في وقت سادت في المادية، وأغمضت العيون عن أفلاك الجمال، وجمدت العواطف عن الأدب الرخيص إن جاز أن يوصف بذلك أدب في الوجود.
وإذا أشمخر أصحاب الأبراج العاجية بأنوفهم قائلين (الأديب مطبوع لا مصنوع) فليس يعيب التربية الأدبية أن تعمل جاهدة على تربية الذوق وصقل الوجدان وتزكية العاطفة، وتنمية الملكة فضلا عن شغل الفراغ بما يبعث في النفوس كل شعور بالطموح، متى ساهم الفرد بقلمه ولسانه في أي أثر أدبي يستوجب التقدير والإكبار، وأياما كان فإنه سيظل مخلصا للأدب يتذوقه وينتجه
وما أشبه الإنسان بعربة يجرها جوادان أحدهما أسود والآخر أبيض فلا بد من حذوى ماهر يوفق بينهما، ذلك هو القلب الذي يستجيب للجمال في الموسيقى والغناء، والرواء الباهر، والانسجام الملهم، والتقاسيم الرائعة في بلد كل ما فيه يوحي بالأدب عامة، والشعر خاصة(892/12)
وهو فن الفنون.
وإذا ألمت بالمرء محنة كان لا بد له أن يتنفس وإلا انفجر المرجل، وليس غير الأدب هنا متنفسا يؤمن معه (صمام الأمن) وسرعان ما تستحيل غزيرة المقاتلة إلى أثر أدبي، فتهدأ العاصفة وتصفو الوجوه بعد الوجوم، كما أن الكبت إذا طال تسرب إلى كهوف الظلام، وأوغل في أوكار الفساد، ومن هنا تتداعى الانفعالات الوجدانية في صور رمزية فيها لصاحبها سلوان، وللشركاء ترضية وترفيه، وعلى السنة الطير والحيوان والأفلاك والأسماك متسع للجميع.
محمد محمود زيتون(892/13)
حول البردة
للأستاذ محمد سيد كيلاني
إذا ألقينا نظرة على المدائح النبوية عند البوصيري وجدناها تنقسم إلى قسمين: قسم نظمه قبل أداء فريضة الحج، وقسم قاله بعد أداء هذه الفريضة. ولكل قسم مميزات خاصة. وسنقدم الكلام على القسم الأول، ثم نتبعه بالقسم الثاني.
القسم الأول، قبل الحج
إن أداء فريضة الحج من أكبر الأماني التي تجول بخاطر المسلم. وقد عاش البوصيري طوال حياته في بلبيس يحن إلى زيارة قبر الرسول ويشتاق إلىرؤية الأماكن المقدسة. وقد أعرب عن تلك الأمنية في قصائده التي نظمها في مدح الرسول قبل أن تهيأ له أسباب الرحلة إلى الحجاز. ففي إحدى هذه القصائد يقول:
فهب لي رسول قرب مودة ... تقر به عين وتروى به كبد
وإني لأرجو أن يقربني إلى ... جنابك ارقال الركائب والوخد
ولما عزم على أداء فريضة الحج قال في قصيدته التي رد بها على النصارى واليهود:
فلأقطعن حبال تسويفي التي ... منعت سواي إلىحماه وصولا
نظم البوصيري قصائد أربعة في مدح الرسول قبل ذهابه إلى الحجاز: وهي القصيدة الدالية وسماها (ذخر المعاد على وزن بانت سعاد). والقصيدة الحائية. والقصيدة اللامية الثانية وسماها (المخرج والمردود على النصارى واليهود)
وامتاز هذا القسم بخلوه من الغزل والتشبيب بالأماكن الحجازية كسلع ورامة وذي سلم وغيرها. فكان يبدأ بالمدح رأسا كما في قصيدته الحائية، أو بالوعظ والإرشاد كما في قصيدته ذخر المعاد، أو بإظهار الأسى والحزن على ما أصاب المسجد النبوي من فعل النار، أو بمهاجمة النصرانية واليهودية كما في قصيدته (المخرج والمردود على النصارى واليهود)
القسم الثاني
أ - في الطريق إلىالحجاز:
صحت نية البوصيري على أداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول وقطع حبال التردد(892/14)
والتسويف، وسمحت له الأقدار التي حالت بينه وبين أمنيته الكبرى مدو من الزمن، أجل! لقد شد الرجل رحاله وامتطى ظهر العيس التي سارت به تقطع البيد سهولا وحزونا. وقط نظم وهو في طريقه إلى الأماكن المقدسة قصيدة مطلعها:
سارت العيس يرجعن الحنينا ... ويجاذبن من الشوق البرينا
داميات من حفى أخفافها ... تقطع البيد سهولا وحزونا
بدأ الشاعر هذه القصيدة بذكر الأحبة والديار وتخلص من ذلك إلىمدح الرسول وهي ستون بيتا.
ب - في حضرة الرسول:
ولما وقف البوصيري أمام الضريح النبوي أنشد قصيدته مطلعها:
وافاك بالذنب العظيم المذنب ... خجلا يعنف نفسه ويؤنب
وأخذ الشاعر يبكي ويستغفر ويتضرع ويتوسل وقد أطال الوقوف أمام باب الرسول، قال:
وقفت بجاه المصطفى آماله ... فكأنه بذنوبه يتقرب
وبدا له أن الوقوف ببابه ... باب لغفران الذنوب مجرب
ثم انتقل إلى المدح وختمها بأبيات في الاستغاثة بالله أن يغفر لم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأن يجعل الجنة مقره ومثواه.
(ج) في طريق العودة:
فرغ البوصيري من أداء فريضة الحج فأرضى نفسه بالسعي والطواف، ومتع ناظريه برؤية الضريح النبوي، وأطال الوقوف أمام أبواب الرسول، وأخيراً حزم أمتعته وشد الركاب وامتطى بعيره وسار قادماً إلىمصر. وقد نظم وهو في طريق العودة قصيدة مطلعها:
ازمعوا البين وشدوا الركابا ... فاطلب الصبر وخل العتابا
وأخذ يتغزل في سلمى ويذكر أشواقه إليها ويصف جمالها ومحاسنها. ولكنه أفرط في هذا الغزل وخرج به عن حدود الأدب الواجب في هذا المقام أعني مقام مدح الرسول. ومثال ذلك قوله:
سمتها لثم الثنايا فقالت ... إن من دونك سبلا صعابا(892/15)
حرست عقرب صدغي خدي ... وحمت حية شعري الرضابا
ويح من يطلب من وجنتي ال ... ورد أو من شفتي الشرابا
ثم تخلص من هذا الغزل الذي لا يناسب مقام النبي عليه السلام تخلصاً مرذولا. فقال:
حق من كان له حب سلمى ... شغلا أن يستلذ العذابا
ومن يمدح خير البرايا ... أن يرى الفقر عطاء حسابا
وقد شبه البوصيري نفسه بحسان بن ثابت. فقال يخاطب الرسول:
فادعني حسان وزدني ... أنني أحسنت عنه المنابا
(د) هذه الرحلة:
ولما رجع البوصيري إلى مصر نظم تلك الهمزية المشهورة وسماها (أم القرى في مدح خير الورى). بدأها بمدح الرسول ثم قص علينا تفاصيل رحلته إلى الحجاز وذكر لنا كثيراً من الأماكن التي مر بها. ومنها نرى أنه سلك الطريق البري الذي يمر بأيله وينحدر جنوبا إلى الحجاز. ولم يذكر في هذه القصيدة أنه ركب بحراً ثم أخذ يذكر لنا ما قام به من مناسك الحج كالسعي والطواف ورمي الحجار. ثم وصف وقوفه أمام أبواب الرسول. واستوعب البوصيري في هذه القصيدة كثيراً من أخبار السيرة النبوية وناقش النصارى ورد على اليهود، وبكى على آل البيت وأثنى علىأبيبكر وعمر وعثمان، وعدد كثيراً من مناقب هؤلاء الخلفاء وذكر جميع كبار الصحابة ولم يستثن منهم سوى عمرو بن العاص ومعاوية بن أبيسفيان فإنه لم يقل فيمها شيئاً ولم يذكرهما البتة. ثم ختم هذه القصيدة بالدعاء والاستغاثة والتوسل والتضرع.
(و) طيف الرحلة:
والظاهر أن البوصيري رأى بعد رجوعه من الحجاز بمدة من الزمن قوماً ذاهبين لأداء هذه الفريضة فتذكر رحلته التي قام بها ووقوفه أمام الضريح النبوي كما تذكر الأماكن التي مر بها في أثناء تلك الرحلة. وأخذت الذكريات تعاوده فأشتد شوقه وعظم حنينه وسالت الدموع من مآقيه ومن هنا نفهم السر في قوله:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
هل أصيب الرجل بفالج؟(892/16)
ذهب البوصيري إلى المحلة سعياً وراء الرزق. وهناك دعاه بعض أصدقائه من بني عرام إلى دخزله الحمام، فزلت به قدمه وفي ذلك يقول:
كونوا معي عوناً على الأيام ... لا تخذلوني يا بني عرام
إن كان يرضيكم وحاشا فضلكم ... ضري فحسبي زلة الحمام
وأصبحنا بعد هذا الحادث نرى البوصيري يشير في قصائده إلىتلك العلة التي ألزمته داره. أما هذه العلة التي أصيب بها صاحبنا فهي كسر وليست فالجاً كما يعتقد الناس. وقد أشار البوصيري إلىهذا الكسر بقوله:
ما ضركم جبر الكسير وحسبه ... ما يبتغي في الجبر من آلام
ومع أن الشاعر هنا يتلاعب بالألفاظ إلا أننا نستطيع أن ندرك أنه كان مصاباً بكسر عاقه عن الحركة مدة من الزمن.
وقال:
ما حال من منع الركوب وطرفه ... يشكو إليه رباطه محبوسا
وفي كلمة (طرف) هنا تورية. فالطرف بمعنى مؤخر العين. والطرف بمعنى الساق وهي من أطراف الإنسان. فالبوصيري قد عجز عن الركوبلأنساقه المكسورة كانت قد لفت عليها الأربطة والضمادات فتعذرت عليه الحركة. وعلاوة على ما تقدم فإن الفالج لا يربط. ومن هنا نستطيع أن ننفي إصابته بالفالج الذي أبطل نصفه نفياً باتا.
وأمر آخر نستطيع أن نبطل به دعوى إصابة الرجل بالفالج، وهو قوله:
وبليتي عرس بليت مقتها ... والبعل ممقوت بغير قيام
إن زرتها في العام يوماً أنتجت ... وأتت لستة أشهر بغلام
أو هذه الأولاد جاءت كلها ... من فعل شيخ ليس بالقوام؟
فالرجل يقول إنه مع وجود هذه العلة كان يباشر زوجته وينجب منها. فكيف تكون هذه العلة فالجا أبطل نصفه؟ وإذا انتهينا من هذا إلىأن البوصيري أصيب بكسر ولم يصب بفالج، أمكننا أن ننفي تلك القصص التي نسجت حول البردة.
روي ابن شاكر عن البوصيري أنه قال: ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني فالج أبطل نصفي ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافني(892/17)
وكررت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسلت ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فمسح على وجهي بيده المباركة وألقى علي بردة. فانتبهت ووجدت في نهضة فقمت وخرجت من بيتي. . . الخ)
وروى غير ابن شاكر أن البوصيري (جاء يوماً من عند أحد السلاطين إلى بيته فصادف شيخاً مليحاً فقال له:
أنت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في المنام؟ قال البوصيري: إني لم أر النبي في تلك الليلة. لكن امتلأ قلبي من ذلك الكلام بعشقه ومحبته عليه السلام فجئت إلى بيتي فنمت فإذا أنا رأيت النبي صلى الله عليه ومع الأصحاب كالشمس بين النجوم فانتبهت وقد ملئ قلبي بالمحبة والسرور، ولم يفارق بعد ذلك من قلبي محبة ذلك النور وأنشدت في مدحه قصائد كثيرة كالمضرية والهمزية)
فهذه القصة تزعم أن البوصيري رأى النبي مع أصحابه وأن الشاعر لم يكن في ذلك الوقت مريضاً بل كان في صحة جيدة وأن هذه الرؤيا هي التي أوحت إليه بنظم مدائحه في الرسول كالمضرية والهمزية ولم يذكر شيئاً عن البردة. وقد سبق لنا أن عرفنا أن البوصيري لم ينظم من المدائح النبوية قبل الحج سوى قصائد أربعة منها قصيدة (تقديس الحرم من تدنيس الضرم) ومنها (المخرج والمردود على النصارى واليهود). وسبق أن تتبعنا الظروف التي نظم فيها البوصيري قصائده النبوية الأخرى.
ولا نجد الشاعر قد أشار في همزيته إلى تلك الرؤيا التي تحدثنا عنها تلك الرواية فليس من العسير علينا بعد ذلك أن ننفي هذه القصة.
ثم استطرد الرواة فذكروا أن البوصيري قال (أصابني خلط فالج فأبطل نصفي وقطعني عن الحركة ففكرت أن أعمل قصيدة مشتعلة على مدائح النبي صلى الله عليه وسلم واستشفى بها من الله تعالى. فأنشدت هذه القصيدة ونمت فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فمسح بيده الكريمة على أعضاء الحقير فقمت من المنام ملابساً بالعافية من الآلام.)
وهذه القصة لا تذكر لنا أن البوصيري قال بأن النبي كان يتمايل عجباً حين سماعه للبردة، ولا أنه قال إن النبي ألقى عليه بردة. ومضى الراوي يحدث عن البوصيري أنه قال:(892/18)
(فخرجت من بيتي غدوة فلقيني الشيخ أبو الرجال الصديق لي فقال لي: يا سيدي هات قصيدتك التي مدحت بها النبي عليه السلام، والحال أني لم أكن أعلمت بها أحداً من الناس. فقلت: هي التي أولها أمن تذكر جيران بنى سلم=مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
فقلت أين حفظتها يا أبا الرجاء؟ وما قرأتها على أحد ممن جاء. قال: لقد سمعتها البارحة ننشدها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتمايل ويتحرك استحسانا تحرك الأغصان المثمرة بهبوب نسيم الرياح. فأعطيته إياها فنشر الخبر بين الناس.)
وهذه القصة تمتاز عن قصة ابن شاكر بأنها ذكرت لنا اسم هذا الفقير وهو أبوالرجاء. وأن هذا الفقير كان صديقاً للبوصيري. كأنما البوصيري كان نبياً يقول بأمور لا قصد فيها غير أبي الرجاء، ومن ثم أطلق عليه لقب (الصديق)
وتفيدنا هذه القصة أن أبا الرجاء الصديق هذا قد شارك البوصيري في رؤية الرسول وأنه كان حاضراً حينما أنشدها الشاعر ورأى النبي يتمايل تمايل الأغصان المثمرة. وأن هذا الصديق هو الذي رأى النبي وهو يلقى على البوصيري البردة. أي أن موضوع البردة هنا من عند أبي الرجاء الصديق وليس من عند البوصيري.
ولا شك في أن هذا كله مختلق وموضوع وأنه من نسج الخيال. ولقد أمعنوا في الكذب والاختلاق فرووا أن البوصيري لما وصل إلىقوله:
(فمبلغ العلم فيه، أنه يو - فعف) بشر فقال له النبي: قل يا إمام.
فقال البوصيري: (إني لم أوفق للمصراع الثاني) فقال النبي: قل يا إمام (وأنه خير خلق الله كلهم). فأدمج البوصيري هذا المصرع في قصيدته. وكل هذا إفك وبهتان. والعجب لمن لا يتورعون عن الكذب على رسول الله!
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(892/19)
فلنتفق على هدف الإسلام
للأستاذ أحمد الشرباصي
يا أيها الناس!. .
دعوني أسألكم: ما هو الإسلام؟ وقد يكون فيكم من يعجب أو يغضب لتوجيه هذا السؤال وبقول: أبعد ألف سنة من نزول القرآن، وبعد ألف كتاب في شرح الإسلام، وبعد آلاف من الخطب والمقالات والبحوث في توضيح شريعة محمد عليه الصلاة والسلام تسائلنا. ما هو الإسلام؟.
ولكن الحقيقة المؤلمة المرة أيها الناس هي أننا لم نتفق بعد على فهم الإسلام وتحديد معناه ومغزاه؛ فمنا مثلا قوم سيقت إليهم الدنيا بحذافيرها، فهم يتمتعون ويسرفون، ويطغون في شهواتهم ولا يتذكرون، ويتوسعون في فهم الإسلام توسعاً خاطئاً فيرونه دين تساهل وسماحة وتناس وغفران فحسب؛ ويرددون لتسويغ ما يرون: (إن الله غفور رحيم) (إن الله يغفر الذنوب جميعاً)، (ورحمته وسعت كل شيء)، ويستشهدون مثلا بأن سليمان عليه السلام سأل ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فلم إذن لا تكون دنيا هؤلاء مليئة بالرغبات واللذات؟!. وهكذا يسرفون في التأويل أو التحريف حتى يحتفظوا بما في أيديهم من قوة وجاه ومال ومتاع.
وفي مقابل هؤلاء قوم حرموا من الدنيا ولذاتها والحياة وبهجتها، فزهدوا زهد ضعف وافتقار، وتقشفوا عن عجز لا عن اقتدار، فتراهم يفهمون الإسلام فهما خاطئاً كذلك، إذ يعتبرونه دين ذلة ومسكنة، وفقر وبطالة، وكسل وخمول، وتراهم يرددون في ذلك قوله تعالى: (أعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) وقول الرسول: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها) وقوله: (حب الدنيا رأس كل خطيئة) وهكذا تراهم حين فقدوا الحياة العاملة يضيقون على الناس مسالكهم؛ ويشوهون أمامهم دنياهم، وكأنهم يأبون إلا أن يتساوى جميع الخلق معهم في العجز والافتقار!. . .
وبين هؤلاء وهؤلاء قوم حيارى مذبذبون، لا يستقرون على حال، ولا ينتهون إلى مآل. هم لا يجدون كل شيء، ولا يحرمون من كل شيء، فإذا وجدوا ما أرادوا تمتعوا ورتعوا، وعربدوا وأفسدوا، وضلوا في الاستشهاد فرددوا: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده(892/20)
والطيبات من الرزق)؟ وإذا جرت عليهم الأقدار يوما بحرمان، فحالت بينهم وبين ما يشتهون، نسوا رأيهم القديم واصطنعوا لهم في الدين رأيا جديداً، فتظاهروا بالتقشف كذبا وتحدثوا عن الزهد باطلا ورياء، ورددوا قول الرسول: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء) وهكذا يظل ذلك الفريق مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!
فهل يقال مع ذلك الاختلاف إننا قد اتفقنا على فهم الإسلام وتحديد مغزاه؟!
وهناك اختلاف كبير آخر حول الإسلام الغريب في بلاده فقوم ذوو بصائر يؤمنون بالإسلام ديناً ودولة، وقيادة وسيادة، ويجاهدون في سبيل ذلك بما يملكون، ويذوقون من أجله ما يذوقون، وينفسح أمامهم الطريق فيسيرون، وتحوطهم ظلمات البغي فيصبرون، وبجوارهم قوم آخرون أقل منهم قدراً واضعف شأناً، فهم يؤمنون في قرارة نفوسهم بأن الإسلام هو صمام الأمان ومضخة الإطفاء، وزورق النجاة وقارورة الدواء؟ ولكنهم خاشعون قانعون شغلتهم بوارق من دنياهم عن تبعات جلى تناديهم وخافوا الناس والله أحق أن يخافوه، فتراهم يسكتون ويسالمون ويتابعون وإن انطوت نفوسهم على غير ما يظهرون.
وفي مقابل هؤلاء وهؤلاء قوم ارتفعوا وامتلأوا وعلوا سواهم وهم يرون في سيادة الإسلام الصحيح عليهم وعلى غيرهم من الناس حداً من شهواتهم، ومقاسمة منه في بعض أموالهم، وتسوية لهم بغيرهم، ومؤدبا لجبروتهم وطغيانهم، وهم قوم قد استلذوا ما هم فيه سادرون، واشتروا الضلالة بالهدى، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وإذن فليكونوا حربا على الإسلام، وعلى كل من يدعو إلىالإسلام. . .
وتراهم في خبثهم يعملون جاهدين لكي يقتصر أمر الإسلام على ركيعات تؤدي أو خطبة تقال أو احتفال يقام، وكان الإسلام عندهم كهنوتية بالية أو رهبانية فانية؛ مع أنه جاء ليكون مصباح الظلام ومصدر الأحكام ومعقد الزمام: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من ابتع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بأدبه، ويهديهم إلىصراط مستقيم).
أفيقال بعد ذلك الاختلاف المبين إننا متفقون على معنى الإسلام؟
يجب أولا وقبل كل شيء أن نتفق في الإسلام على كلمة جامعة مانعة بعد أن ننفي عنه ما(892/21)
ليس منه، وبذلك نستبين طريق الرشاد. يجب أن نتفق على أن الإسلام عبادة وعمل، وجسم وروح، وتهذيب وحكم، وقيادة وسيادة، جاء ليصلح النفس ويقوم الفرد ويربي الأسرة ويسوس الأمة ويخفف الآم العالم!. . . جاء ديناً وسطاً عدلا، لا يفرط ولا يفرط، فأباح لك أن تجمع ولا تكنز، وأن تأكل ولا تتخم، وأن تنفق ولا تسرف، وأن تتجمل ولا تنحنث، وأن تكسب وتزكي، وأن نثرى ولا تتفحش، وأن تسمو إلى العلا وتعدل. وهكذا تراه يدعوك إلى كل ما ينفعك ويقومك، ويصدك عن كل ما يضرك ويرديك: (إن الله بالناس لرءوف رحيم)!.
جاء الإسلام ليعلمك أن تكون على خير في سائر أحوالك التي تتقلب عليك في دنياك، فغني مع شكر وإحسان، وفقر مع صبر وإيمان، وقوة مع تواضع واجتهاد، ومرض مع احتمال وعلاج؛ لأن الذي خلق الداء خلق الدواء، ورضا بالقضاء والقدر معه السعي والاكتساب، واتكال على الله مع أخذ بالوسائل والأسباب، وأنت في كل هذه الأحوال مأجور شكور، مؤيد بحفظ الله ورعايته، موعود بفضله ونعمته، قد سخر لك ما فيالأرضوالسماء، وأعانك في السراء والضراء، مادمت تخلص النية وتريد وجه الله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون. نزلا من غفور رحيم).
هذا هو الإسلام أيها الناس، ولو أنكم فهمتموه على هذا الوضع، ونفذتموه عن إخلاص، لكان لكم في الكون شأن غير هذا الشأن، وسلطان غير السلطان، ولعز المسلمون بين الأنام كما عز لهم أسلاف وأجداد من قبل، يوم كان القرآن هو أول صوت يسمع ويطاع، فإذا أمر الله فقد خضعت الرقاب وذلت الأعناق وانتهى الجدال.
إلى الإسلام أيها الناس!. .
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف(892/22)
الاجتهاد في التشريع الإسلامي
للأستاذ محمد سعيد أحمد بك
باب الاجتهاد لا يزال مفتوحا
لقد أخطأ من قال إن باب الاجتهاد قد أقفل بعد الأئمة الأربعة فقد أباح القرآن الاستنباط صراحة وهو الأصل الذي بنى عليه مبدأ اجتهاد المسلمين في وضع أحكامهم - وقد كان اجتهاد الصحابة شائعاً في عصر الرسول - وقد قررت المجالس المكونة من علماء الصحابة والتي أنشأها الخلفاء كثيراً من الأحكام الجديدة. وقد أضاف التابعون كثيراً من الأحكام إلى ما قررت الصحابة. وهكذا كان كل جيل يقرر بكل حرية الأحكام بما يناسب حاجات وسائله الخاصة به والتي لم يسبق تقرير أحكام فيها. ثم ظهر الأئمة الأربعة في أفق الاجتهاد في القرن الثاني للهجري الواحد تلو الآخر وكان لكل واحد منهم رأيه واجتهاده بما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام أباح للعقل حريته وللفكر استقلاله في وضع الأحكام التي تناسب حاجات العصر الجديد - فلم يقتنع الإمام مالك بآراء سلفه الامامأبي حنيفة وكذلك الإمام الشافعي كان له رأيه في المذهبين السابقين، وأما الإمام أحمد بن حنبل فإنه أخرج للعالم الإسلامي - الذي كان متعطشاً دائماً للازدياد من العلوم - ثمرة اجتهاده الشخصي مستقلا عن أسلافه من الأئمة على وضع الأحكام لمواجهة حاجات العصر الجديد بل إنهم اجتهدوا في الآراء الفقهية واختلفوا فيها ولم يعتقد أحدهم أن الآخرين كانوا معصومين من الخطأ - فإذا كان هذا اعتقادهم في أنفسهم فكيف نستسيغ لأنفسنا أن نقول عنهم أنهم معصومون من الخطأ بعد مرور هذه القرون العديدة، فلم لا نضع من القوانين الجديدة ما يلائم الأحوال الجديدة. وواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح باب الاجتهاد ولم يقل أحد بأنه أمر بأقفاله في وقت معين، كما أن الأئمة أنفسهم لم يقولوا بأقفال هذا الباب بعدهم ولم يحرموا على أحد اجتهاده ولم يقولوا أنهم معصومون ولم يذكر في أي كتاب من كتب الأصول أن اجتهاد الإنسان ممنوع بعد الأئمة الأربعة أو أن للاجتهاد حجة مثل حجة القرآن فلا يمكن الرجوع فيه. ولم يقل الرسول ولا الصحابة ولا المجتهدون أنفسهم بأن المسلمين ممنوعون من الاجتهاد في وقت معين؛ فالاجتهاد نعمة من نعم الله على المسلمين فهو المنفذ الوحيد لاستنباط الأحكام المناسبة للشعوب الجديدة التي دخلت في دين الإسلام(892/23)
والملائمة لحاجات الناس المتزايدة ولم يقل أحد ولن يقول إن الناس قد جعدوا ولن تكون لهم حاجات جديدة تحتاج إلى تشريعات جديدة بعد القرن التاسع الهجري - وكل ما حدث هو أن الأفكار قد اتجهت في القرن الثالث إلى الحديث ونقده وجمعه وتدوينه وأن الأئمة الأربعة قد ارتفعوا إلى مكانة في الاجتهاد تضاءلت أمامهم همم من داهم من المجتهدين فلم يجسر أحد أن يعطى رأيه مستقلا عنهم قد أدى ذلك إلى الحد من حرية الفكر والاجتهاد في الأحكام الذي دعا إليه الإسلام وإلى وقف النشاط التشريعي الذي دعا إليه تزايد حاجات المسلمين فأقفل بذلك باب الاجتهاد وحل محله جمود قي التشريع.
استقلال الفكر
قال الله تعالى: -
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول) 4 - 95
تتكلم هذه الآية عن طاعة أولي الأمر في سياق طاعة الله وطاعة الرسول في الشطر الأول منها ولم يذكر (أولو الأمر) في الشطر الثاني من الآية ليبين أن النزاع المشار إليه إنما هو نزاع مع أولي الأمر وفي هذه الحالة يجب رد النزاع إلى الله وإلى الرسول، أو بعبارة أخرى إلى الكتاب والسنة. ويدخل في معنى أولي الأمر كل سلطة في الإسلام سواء أكانت زمنية أم روحية، وعلى هذا فاستقلال الفكر أمر قائم بين المسلمين بحكم هذه الآية؛ فإذا اختلفوا وتنازعوا في مسألة وجب ردها إلى القرآن والحديث. ويدخل في نطاق أولي الأمر الصحابة والمحدثون والأئمة والأربعة والمجتهدون؛ فهؤلاء يجب طاعتهم وتقدير أحكامهم ما دامت هذه الأحكام مطابقة لما جاء به القرآن والحديث.
وبما أنه من المسلم به أن الحديث يحب أن لا يتعارض مع القرآن فيمكن القول بأن الإسلام قد أباح استقلال الفكر على شريطة عدم مخالفة المبادئ الإسلامية الواردة في القرآن.
ترى مما تقدم أن لأي جماعة من المسلمين الحق في أن يقننوا لأنفسهم القوانين الصالحة لهم بشرط ألا يخرجوا فيها عن المبادئ الإسلامية الواردة في القرآن والسنة وانه لا أساس للزعم القائم للعالم الإسلامي والقائل أنه لا حق لإنسان أن يرى خلاف ما رآه الأئمة الأربعة منذ ألف سنة ونيف مهما تكن الظروف، وتوسع العمران وازدادت حاجات الناس، فالاجتهاد(892/24)
حق طبيعي ومقرر لكل فرد بعد الرسول في حدوده المشروعة. وفي حرمان المسلمين من هذا الحق ضربة قاضية على حرية الفكر بل وعلى الإسلام نفسه. وفي هذه الأيام التي تغيرت فيها الأحوال بعد سير العالم ألف سنة ونيف كان المسلمون خلالها جامدين. وعلى هذا يجب على كل حكومة إسلامية وكل شعب إسلامي أن يستعملوا حكمتهم أمام هذه الأحوال المتغيرة ويحرروا أفكارهم ويعملوا على خلاصها.
محمود سعيد أحمد(892/25)
دراسة الأدب في المدارس
للأستاذ عبد الجواد سليمان
تقوم دراسة الأدب العربي في المدارس المصرية على طريقة ملتوية، ونهج غير وقويم وليس من شأن هذه الطريقة أن تخلق من الطلبة أديباً، أو حتى على الأقل تكون فيهم الذوق الأدبي.
وليس العيب عيب القائمين بدراسة هذه المادة، فهؤلاء جنود مأمورون مطيعون؛ ترسم لهم المناهج، وتوضع لهم الخطط، فينقذونها دون أن يسمح لهم بإبداء الرأي، أو يحسب حساب حتى لتجاربهم التي قد يكون بعضها صادقا صحيحاً، استخلصوه من تجاربهم بعد طول الدارسة والممارسة، لكن العيب هو عيب من تجاربهم على رسم الخطط وانتهاج الطرق ووضع المناهج.
لقد درجت وزارة المعارف المصرية منذ نصف قرن تقريبا على وضع مناهج الأدب لتلاميذ المدارس الثانوية وما في حكمها من معاهد التعليم: في صورة تاريخ يلقى في نظريات جافة، يستظهرها التلاميذ ويرددونها ترديداً لا يثير في النفس عاطفة، ولا يحرك شعورا، يستظهرونها ليجتازوا بها الامتحان فإذا ما خطوها على أوراقه، خرجوا ليحملوا أنفسهم جملا على نسيانها، وحق لهم ما يفعلون، فإن هذه النظريات الجوفاء لا خير في الاحتفاظ بها بل الخير كل الخير في نسيانها والتخلص منها، فهي معلومات لا يصدق عليها أن توصف بأنها أدبية بل هي في الواقع من قبيل الأدب الزائف، فإن الأدب فن من الفنون الرفيعة، وهذه لا تمت إلى الفن بسبب قريب أو بعيد فهي ظواهر اجتهادية وقوانينها عامة تصلح لكل عصر من العصور، وتنطبق على كل كاتب وكل شاعر، فلم تستبط من دراسة شعر الشعراء أو نثر الكتاب، فمن الظلم كل الظلم للتلميذ أن نحمله على الاحتفاظ بها.
وقد تطور كل شيء خضوعاً لسنة النشوء والارتقاء، وبقيت هذه المناهج في الأدب راكدة رتيبة، لم تجر عليها سنن الحياة.
لقد نادى جماعة من كبار العلماء في مصر ممن جمعوا بين القديم والجديد وتشعبوا بالدراسات الأدبية في الغرب، بأن الأدب فن من الفنون وهو فن رفيع، واصطلحت إحدى المدارس الأدبية في مصر على تسميته (بفن القول) وما دام الأدب فنا، فيرى هؤلاء،(892/26)
الأعلام في الأدب أن يخضع في دراسته للطريقة التي تدرس بها سائر الفنون، وأن يفصل فصلا تاما عن تاريخ الأدب، يفصل عنه في منهاجه، ويفصل عنه في مدرسيه، ذلك لأن الأدب ككل فن، فليس كل مدرس بقادر على مزاولة دراسته، والعمل على ترقية والنهوض به، بل هو في حاجة إلى عناصر تتولى دراسته من طراز آخر، في حاجة إلىشخصيات أدبية أو شخصيات يمكن أن يقال عنهم أنهم أدباء، لهم في الأدب ذوق ولهم فيه انتاج، ولهم آراء، نتبع مذهبا من المذاهب الأدبية المعاصرة، قديمة أو حديثة؛ حتى يمكنهم أن يوجهوا دراسة الآداب إلىوجهات سديدة يسير على هديها تلاميذهم فيقرءون النافع المنتج ويهجرون الضار العقيم.
حقا لقد استجابت وزارة المعارف في أول العام الدراسي السابق، إلى نداء هؤلاء الأدباء، فوضعت لأول مرة في تاريخها منهاج الأدب تتفق وهذا الاعتبار الذي يعد الأدب أحد الفنون فقررت على تلاميذ الفرقتين الأوليين من المدراس الثانوية منهاجا في الأدب كفن تعرض فيه النصوص من القرآن الكريم أو السنة الشريفة أو شعر العرب ونثرهم في مختلف العصور، ثم تناقش هذه النصوص مناقشة شرح ودراسة وتحليل، ثم تستنبط منها بعد ذلك الظواهر الأدبية، وهي طريقة استقرائية ناجحة، وهي وحدها التي رآها كبار الأدباء جديرة بالدراسات الأدبية الفنية، إذ فيها يعود الطالب على حرية الرأي، والاستقلال في الفهم، وتعينه على الملاحظة والنظر الصحيحين، ثم على الذوق والاستنباط؛ تغرس فيه حب الاطلاع على كنوز الأدب الزاخرة في مختلف العصور. لو بقيت هذه المناهج، لحققت لنا ما نصبو إليه من سلوك الاتجاهات الحديثة في دراسة الأدب ونقده، نعم لم تبق هذه المناهج بل عصفت بها الأهواء كما تعصف بكل مشروع نافع، فمحيت هذه المناهج من الفرقة الثانية وأعيدت إليها المناهج الأولى الجافة التي لا تمت مطلقا إلى الأدب بصلة، وبقيت في السنة الأولى، إلا أنها بقيت فقط في المنهاج، فلم توضع لها كتب يستضئ على ضوئها المدرسون. فأنتهز بعض محترفي التأليف الكتب المدرسية هذه الفرصة ووضعوا فيها مذكرات ألقاها كتاب جيداً، وأكثرها كان تافها قصد أصحابها من ورائها إلى المادي، فألفوها على عجل، وطبعوها على عجل فجاء الكتاب منها غثاء ممجوجا. . .
ومن الغبطة أن نذكر هنا أن أول من نادى بهذا الرأي دراسة الأدب وجار به في كتبه،(892/27)
ودروسه ومحاضراته هو مع وزير المعارف الحالي الدكتور طه حسين بك، وما دامت الفرص قد سنحت له لتحقيق آرائه، والأمر أصبح في يده، فمن حسب عليه، بل من حق كل ناطق بالضاد عليه أن يذكره بذلك لي النظر في مناهج الأدب المدرسة، حتى تصاغ هذه المناهج صورة نافعة ترضى الأدب أولا، فيرضى عنها الأديب ثانيا.
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(892/28)
رجل صغير
للأستاذ ثروت أباظة
رجل، إذا كانت معالم الرجولة شارباً ضخماً وجسما عريضاً. غني، إذا كان الغني مالا وفيرا وبسطة في الرزق. ذو سلطان، إذا كان السلطان خنوع الآكلين من يده وخضوع الطامعين فيه.
ولكنه طفل إذا كانت الرجولة اتساعا في الأفق وبعدا في النظر وتجربة في الحياة. وهو فقير إذا كان الغنى تقديرا للمال وإنفاقا له في أوجهه، وإذا كان الغنى أن يبسط الإنسان يده فلا يغلها إلى عنقه حتى ليكاد يختنق بها. وهو تابع ذليل إذا كان السلطان قوة في الشخصية لا في النفوذ، وصلابة في الجليل من الأمور لا التافه منها.
مسكين هو! وهب الله له من أسباب الرجولة والغنى والجاه ما يتمنى كل إنسان أن يوهب؛ ولكن ماذا يفعل؟ مات أبوه وهو لم ينل من الثقافة إلا حظا لا يقيم للعقل أودا، فأنحرف به تفكيره عن أن يكمل ما يجب أن يسير فيه، وأعماه الغنى العريض الذي ترك له عن الفقر المدفع الذي ينحط فيه عقب فصار كذلك. . . رجلا وهو طفل، غنيا وهو فقير، ذا سلطان وهو عبد.
هو ضيق العقل بطبيعته، وقد زادته ثقافته المبثورة ضيقا فهو لا يكاد يفعل أمرا ألا ليدل به على الغباء العميق والفكر الضحل. ولعل هذا داعية إلى بخله الشحيح على غناه الواسع فتراه يمد للاقتراض يده وفي وسعه دائما أن يمدها إلى جيبه وغباؤه وهو وسيلة أصدقائه إليه فهم يسخرون منه في أنفسهم وينفذون من غبائه إلى ماله فيعيشون على مديحه، يأكلون من ضعف نفسيته وشعوره بما هو فيه من نقص وهو منقاد لهم ويفهمونه أنه قائدهم، وعلى الرحب منه يفهم! رجل طفل، غني فقير، سيد عبد.
عرفته حين كان لا بد لي أن أعرفه، فهو زميل المكتب الذي لا بد له من اثنين ليجلسا إليه. . . كان معي في المدرسة الابتدائية ولا حقني إلى المرحلة الثانوية، وانقطع عن الدراسة في منتصف الطريق وذهب إلى أملاكه الواسعة ولكنه دوام على الاتصال بي، ولعلي الوحيد من الذين يعرفهم ويصر على معرفتهم دون ينال مديحاً أو إعجابا. عرفت ما ينقاد إليه، ورأيت إصراره على صحبتي فوجدت حتما على أن أنبه من غفلته فنبهتها ولم تنتبه،(892/29)
وظننت بعدها أنه منقطع عن صحبتي الناقدة البغيضة ولكنه أصر عليها فأصررت على التنبيه.
غاب إن لقائي أشهرا طويلة فحمدت الله في نفسي، فليس أثقل علي من أن أواجه مخطئا بخطأه، ولا يسعني أن أسكت وشخص يعتبرني صديقا يتردى في هاوية بعيدة لا أعلم إلى أين تنتهي به.
كان والده رجلا عظيما على أوثق صلة بكبار القوم؛ وقد استطاع هو أن يصل إلى صحبة هؤلاء عن طريق أبيه فأكرموا فيه ذكرى والده، واستطاع أن ينفذ من أبواب الحكام الموصدة فكان يقضي هناك أمورا. كان لا بد لأصدقائه أن يعرفوا اأيضاً هذه المكنة التي بيد صاحبهم فاستغلوها منه وصاروا يرجونه أن يتوسط ليقبضوا هم الثمن. وبلغتني هذه الأنباء في الشهور التي انقطع عمي فيها، وأخبرني من أبلغها أن الثمن يصل في النهاية إلى جيبه هو.
ألمت للوالد الكبير، يقضي عمره ليحيط اسمه بالسمعة الشريفة، ويقضي نحبه فيلوث الوارث السمعة. . . ألمت وحمدت الله ثانية أن انقطع عني فلم تصبح ثمة صداقة أنا ملزم أمامها بإخلاص النصح وإزجاء النقد.
ولكن لا. . . إن الصديق لم ينقطع عن عزوف. ولكنها مشاغل بين صحبة سريرة وعمل غير كريم - لم تكن صداقة مقطوعة ولكنها كانت صلة موقوفة.
قصد إلى حيث يجدني. . . على وجهه من الأسى أمارة ومن الغباء إمارات.
- سلام عليك!
- وعليك - خيرا! إفراغ جئت تملأه بهذه الجلسة
- بل هم جئت أجلوه بالجلوس إليك
عفوا. . . منذ متى أزيل أنا همك. . . اذهب إلى أصدقائك واصحبهم إلى ليلة معربدة ينطقون بمديح يبدل همك أفراحا. . . خبرني بربك - ألا تمل المديح.
- أراك قاسي القلب. . . حزين يقصد إليك فتسخر منه
- لا والله ما إليها قصدت ولكنني أسأل مخلصا في السؤال ألا تمل المديح؟
- ألا تسأل عما أنا فيه. . . أليس ذلك أولى بالصديق؟!(892/30)
- أتعرف الأولى بالصديق. . . أتعرف الصديق الأولى بالصديق أن يسمع النقد ولو على مضض، والأولى بالصديق أن يمحص القول وينعم فيه النظر. . . أجل أعرف انك على كره منك تجلس وتسمع، وأنا أيضاً على كره مني أقول وأطيل، فإنه يؤلمني أن يستغل اسم أبيك فيما يستغله أصدقاؤك.
- ماذا سمعت؟
- سمعت ما تعلم أنه يحدث وتسكت عنه لتنال ما ينهالون به عليك من مديح تعلم أنت في بعيد نفسك أنه كاذب.
- أذن فلهذا طردت
- طردت!
- أجل ذهبت اليوم لأقابل السيد بك. . . صديق أبي. . . نعم انك تعرفه ويعرفك، وأخبرني سكرتيره أن لديه أمرا يمنعني من الدخول.
- ولن تكون الأخيرة
- فماذا أفعل؟
- أعيد ما أعدت؟ - أقص السوء من أصدقائك، واصح تنقذ ما بقي لك من أبيك.
- أنها لم تنقص
- بل كادت تضيع - كانت ثروة ضخمة
- أي ثروة تلك. . . أنا لم أفقد فدانا واحدا
- وهل هذه ثروة. . . كانت سمعة كريمة فلوثتها. . . أدركها. . أدركها فإنها لا ترجع إن ضاعت، وقد ترجع الأفدنة
- أنت تعلم أنني لا أمد يدا لرشوة
- بل تمد أيادي لا يستطيع شخص واحد أن يمدها. . . إنها أيدي أصدقائك جميعا. . . تمد بإسمك، وبإسمك تنال ما تنال واسمك هو المهان. . . اقطعها والإضاع بناء بناه أبوك جميعاً. .
- أنت ما تزال ناقدا. . . ما ذنبي أنا به
- نعم. . . لا ذنب لك. . . سبحانه يعطي الغباء لمن يشاء من عباده وقد خلقك غباء لا(892/31)
يفهم وجمادا لا يحس. . . قم أيها الرجل. . . لا - لا تقم. . . بل أقم كما أنت فإني أنا الذاهب وأحذر بربك أن أراك فما أطيق.
وانصرفت. . . لقد بذلت جهد الصديق وجهد السليط ولم أفلح ولن أفلح. . . ما حيلتي؟. هكذا هو. . . غني فقير. . . سيد عبد. . . رجل طفل.
ثروت أباظة(892/32)
من وسائل البريد الجوي في الإسلام:
الحمام الزاجل
للأستاذ عطا الله ترزي باشي
لقد تحقق من دراسة العلماء الباحثين أن فكرة استخدام الحمام ظهرت منذ وجود البشرية على وجه البسيطة. واستنتج العالم الإنكليزي (داروين) أن المصريين القدماء استخدموا الحمام قبل الأسرة الفرعونية الخامسة. ويذكر (هوميروس) أن اليونانيين كانوا معروفين بتربية الحمام منذ العصور الغابرة، كما استفاد الرومان من هذه الوسيلة أثناء استيلائهم على بلاد اليونان ويشير المؤلف نفسه إلىأن استخدام الحمام عم في الهند حوالي سنة 1600م.
وأول إشارة وردت في الكتب المقدسة عن استخدام الحمام هو ما جاء في التوارة، فقد أطلق النبي نوح عليه السلام حماماً من سفينته أثناء الطوفان ليستدل به عما إذا كان الماء قد غيض. . ويشير أبو سفيان الثوري إلى ما ورد في القرآن حول كلمة (المؤتفكات) إلى أنها مدن جرت بينها المخابرة بالحمام الزاجل قبل الميلاد بألفي (راجع نجيب عاصم: كوجرجين بوسته سي (في اللغة التركية) ص11).
وقد قام الحمام الزاجل في العهود الغابرة بوظيفتي البريد والتلغراف. ويقال أن أول عهده بهذه الوظيفة كان في سنة 786 ق. م بأثينا؛ فقد أحضر أحد اليونانيين حمامة من جزيرة (أوجين) وبعد أن حضر مسابقة في الألعاب كانت له الغلبة فيها أرسل هذه الحمامة إلى أهله لتحمل إليهم خبر فوزه، فأحدثت هذه الرسالة فكرة استخدام الحمام في المواصلات البريدية ثم انتشرت هذه الفكرة في أكثر بلاد العالم (عبد الغني غنام: الحمام وتربيته ص8)
ولما أن بزغ فجر الإسلام أدخلت تحسينات كبيرة في طريقة استخدام الحمام الزاجل حتى امتاز المسلمون في ذلك على سائر الأمم. ولقد قيل أهم كانوا يستخدمونه في المواصلات البريد وخاصة خلال الحركات العسكرية بدرجة لم يبلغها الأوربيين في استخدامهم الحمام في الحروب الحاضرة (سياح كوكرج (في اللغة التركية) ص14)
وقد اجمع المؤرخون - كما جاء في كتاب الحيوان للجاحظ على أن المسلمين كانوا أول من استخدام الزاجل في الرسائل في القرن الثاني للهجرة.
ويبحث المؤرخ التركي عبد العزيز قره جلبي في كتابه المشهور (روضة الأبرار) عن(892/33)
استخدام الخليفة المتقي بالله في سنة 33 حمام الزاجل في بغداد؛ فقد أرسل هذا الخليفة خطاباً بواسطة الحمام إلى الأمير المصري آقشيد يدعوه إلىمعاونته علىتوزك ويبحث المؤرخ نفسه في حوادث 372هـ عن استخدام الحمام في أغراض غير الرسالة)
ورأى صاحب (التعريف) أن الزاجل نشأ في الموصل بالعراق وحافظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر وبالغوا حتى أقر له ديواناً وجرائد بأنساب الحمام. وللقاضي محي الدين بن عبدفي ذلك كتاب سماه بـ (تمائم الحمام).
وأما أول من نقله من الموصل فهو الشهيد نور الدين بن زنكي سنة 565هـ ففي هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام! الهواوي وهي التي يقال لها المناسيب وهي تطير من البلاد إلى أوكارها، وجعلها في جميع بلاده فساعدته كثيراً في حربه أيام الفرنج (عبد الغني غنام: نفس المرجع ص 11 وص 85)
والواقع أن السيد خليل داهري من مؤلفي القرن الثاني يحكي عن الأبراج التي شيدت في نقل الرسائل فصارت مدينة الموصل حينذاك مركزاً هاماً لشبكة واسعة من دوائر المراسلات. نور الدين بن محمود قد وسع هذه الشبكة داخل البلاد التي فتح لتلقى الأخبار في أسرع وقت ممكن، فأمر بتشييد الأبراج (البريد) في مصر وسوريا بأن لا تزيد المسافة بين كل برجين عن أثنى عشر ميلاً. وقد عين في هذه الأبراج حراساً يراقبون حركات الحمام طيلة الليل والنهار، وخصص من الخزينة المبالغ الكافية لإدارة شئون هذه التشكيلات. (نجيب عاصم: المرجع السابق ص 18).
وفي سنة 623هـ قام الخليفة العباسي (أحمد) بتأسيس شبكة أقوى وأحسن مما أسسه نور الدين كما سبق ذكره.
ومما يذكر في هذا الصدد أن أمير الجيش الإسلامي فخر الدين أعلن في سنة 648هـ حادثة سقوط مدينة دمياط من جانب (سن لويس) ملك فرنسا بحمام أرسله إلى السلطان صالح نعيم الدين.
ويذكر (جو واتويل) الكاتب الخاص لـ (سن لويس) أن المسلمين أبلغوا خبر ورود الصليبيين إلى بلاد السودان ثلاث مرات بالحمام الزاجل.
ويذكر صاحب كتاب (حمائل الحمامات) أن الرسائل كانت تحرر في ورق حريري خاص(892/34)
يسمى بورق الطير وتوضع في قوارير ذهبية خفيفة تعلق في عنق الحمام أو في ذيله وأحياناً كانت تربط بجناحيه، ويكتب في الورقة تاريخ يوم الإرسال وساعة حركة الحمام. وقد جرت العادة أن تكتب في أول الرسالة عبارة (الحمد لله) وفي آخرها (والله نكتفي).
وكانت المخابرات تجرى بين البلاد حينذاك كما يلي:
- بين القاهرة والإسكندرية، ودمياط، وغزة؛
- وبين غزة والقدس، والصفد، والشام؛
- وبين الشام وبعلبك، وحلب، وطرابلس الشام؛
- وبين حلب وبهسني.
وقد اعتادوا قديماً على إرسال نسخة ثانية من الرسالة تكون طبقاً لصورة الأصل وذلك لإزالة الخوف الناشئ من ضياع الأصل في الطريق.
وعند وصول الحمام إلىمحله يقوم الموظف المختص بقراءة الرسالة ووضع تاريخ يوم وصولها والساعة التي استلمها فيها.
وشاع استخدام الحمام في الحروب الصليبية؛ ففي سنة 4492هـ حينما حاصر الصليبيون مدينة القدس، قام القائد العربي في موضع (حصار) الوقع بين القدس وإنطاكية، بإبلاغ خبر تسليم المدينة بواسطة الحمام. وصادف أن وقعت حمامة بالقرب من (عكا) بيد الصليبين وفي عنقها رسالة فيها تفاصيل الحركات الحربية لدى المسلمين فاطلع الفرنج على أسرارها؛ وكان لهذه الواقعة أسوأ الأثر في نفوس المسلمين.
وكذلك استخدام السلطان صلاح الدين الأيوبي الحمام في أر سال التعاليم اللازمة إلى المحصورين في عكا فشيد برجاً في جبل (خروبة) للاتصال بهم، فكانت الاتصالات قوية حسب المرام مدة حولين كاملين (584 - 587هـ) (نجيب عاصم: نفس المرجع، ص 20).
ولقد أساء بعض الزعماء العابثين والرؤساء المفسدين في القيام باستخدام الحمام في أغراضهم الخاصة للوصول به إلى غايات شخصية بحت. ومن بين الوقائع غير المشروعة ما قام به (حسن بن صباح) رئيس الجمعية الحشيشية بالاستفادة من الحمام الزاجل في تحقيق الأغراض التي من أجلها أنشئت الجمعية. وفي سنة 595هـ تولى(892/35)
رئاسة هذه الجمعية (رشيد الدين سنان) الذي تمكن من تأسيس إمارة في سوريا باستخدام الحمام بصورة سرية وتزويد الأهلين بالوقائع التي تحدث في البلاد النائية قبل وصول أخبارها إلى الناس فكان بذلك يعتبر نفسه شيخاً كريماً وإماماً جليلا يرشد الناس إلىالخير ويأمرهم بإتباع طريقته.
وكان (عبد الله بن ميمون) رئيس مذهب الإسماعيلية يتنبأ بالحوادث قبل سماع الناس لها، باستخدامه الحمام الزاجل فكون له مركزاً ممتازاً بين أفراد حاشيته (نجيب عاصم: المرجع السابق ص 21).
ويذكر الأستاذ محمد كرد علي في مقال نشره في مجلة المقتطف (ديسمبر سنة 1902) أنه منذ سنة 1850 - 1860 بطل استعمال الزاجل بين الإسكندرونة وحلب لأن بعض لصوص الأكراد أطالوا يد التعدي عليها وقتلوا أكثرها. ويشير إلى أن بعض المؤرخين ذكروا أن الدولة العثمانية أبطلت استعمال الزاجل في أواخر القرن الحادي عشر بعد أن لبث زمناً مستعملا في بلادها فكان العثمانيون أبرع الناس في تربية الزاجل. . . بيد أننا لم نجد في كتب التواريخ العثمانية إشارة إلىأن الدولة العثمانية قد استخدمت الحمام في شئون الرسالة. ولا نقول بهذا جزافاً فإن العالم التركي المعروف نجيب عاصم يؤيدنا في كتابه السالف الذكر. فلا ندري من أين أتى الأستاذ محمد كرد علي بتلك المعلومات وما هي المصادر التركية التي اعتمد عليها في ذلك!
عطا الله ترزي باشي
(كركوك - العراق)(892/36)
جوالق الهمهوم
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
تستوعب الأساطير القديمة، قصة رجل كان يدلف في مرتقى جبل صليع، وأخذه البهر أثناء سيره من الجوالقين اللذين فدحاه. وناء تحت ثقلهما وخذلته قواه، واصبح لا تتبعه رجلاه، وهو يحاول أن يشق طريقه إلى الأمام. وأخيراً انقطع من الإعياء ولم يقدر أن يغالبه وتصدى له ملك كريم، فاستوقفه وسأله قائلا: (مالي أراك يا صاحبي الطيب تقاسي هذا الكبد، في توقل الجيل)؟
فأجابه الرجل: (إني أقاسي ما أقاسي، بسبب هذين الثقلين يا مولاي)
ثم انهد فوق صخرة ليستريح قليلا
فسأله الملاك قائلا: (أيمكنني أن استفسر منك عما وضعته في هذين الزفرين اللذين يروثانك كل هذا الجهد)؟
فقال: (آه أودع فيهما همومي).
فنظر إليه الملاك وقال له في صوت آمر: (أطلعني على محتوياتهما)!!
ففتح الرجل أحد الجوالقين ولكنه حين أطرق مع الملاك لاستنفاض محتوياته، لم يجدا شيئاً في داخله!
فسأله الملاك قائلا: (ماذا كنت تضع في هذا العدل)؟
فأجاب الرجل في دهشة قائلا: (كنت أضع فيه. هموم. . . أمسى. . .! ولكن يظهر أنها قد مضت وتولت). . .
فقال الملاك وهو يشير إلى العدل الآخر: (وماذا يوجد هنا؟)
فأجاب الرجل: (إيه! هنا؟ أني أودع هنا هموم. . . الغد!)
ثم حملق الرجل في الجوالق الثاني، فوجده خاويا فارغا كأخيه. . . ثم تابع كلامه قائلا: (ولكن يظهر أن لا وجود لها هنا بعد)
فوضع الملاك يده في رفق عل كتف الرجل وقال له: (دع جوالقيك كليهما. . . إن الأمس قد ولى ومضى ولن يمكنك أن تصنع به شيئا، فلا تحزن على ما فات، ولا يعظمن عليك فوته. . . أما الغد، فلم يأت بعد، فلا تستسلفن تأخره، ولا تستعجل ما هو آت. واعلم أن(892/37)
الذي يحمل أعباء يومه الحاضر، لا يحتاج إلى عدل يودع فيه همومه).
وترك الرجل ثقله وراءه، وانطلق لسبيله مبتهجاً قريراً.
هذا ولقد ثبت بالدليل المقنع، إن السعادة لا تستفيض في حياتنا إلا إذا كنا ننهض ذواتنا، لكي نحيا ليومنا الراهن فقط وننسى أخطاء الأمس ومنغصاته، ونعقد النية على أن نرجو أن يكون نصيب الغد من التوفيق والهناء أوفى وأرقى، وعلى أن نبذل ليومنا الران خير ما نملك من جهد وطاقة. ولله در من استعرض هذه الحكمة الرائعة، حين قال: (علينا أن نرجو الأحسن، ونتأهب للأسواء، ونتقبل كل ما يعرض لنا، في حلم راجح وخلق وادع، وصدر رحب، ووجه طليق، وحنان وقر).
ولقد قيل إن الهموم صنفان: صنف يسير قريب المنزع مذلل الأغصان. وصنف لا تبلغ إليه وسيلة، ولا يقع في حباله أمل فلا تناله حيلة محتال. ولا مرية في أنه يجدر بنا أن نصلح الأمور التي يمكن أن نرتاد لها نواحي الترصين والتجويد - وأن تحسم الأدواء التي يمكن أن ننفض لها سبل العلاج - وأن نتطلب الذرائع لكل معضل ممتنع وكؤود معجز. ومن اليسير أن يعرون ضرب من القلق والخوف، حين نعجز عن استخراج ودائع الغيوب، والنظر إلى المستقبل من وراء ستر رقيق، لنطالبه بعين السداد والتوفيق. بل إن من اليسير إن يهن منا العزم حين تخذلنا القدرة على وضع الخطط اللازمة لمآتي أيامنا. ولكن الله تعالى شأنه، كفيل بأن يوجه خطانا إن سلمنا له جميع طرقنا. . .
ترى هل خطر لنا أن نقف لحظة، ونستعرض الهموم التي رزحنا تحت أثقالها في بعض أيامنا، ثم أدركنا من بعد، ما كان يزاملها من سخافة وتفاهة، وسقم وغبانة؟! أعرف طالباً جامعيناً سويسرياً، ابتلي (بعادة القلق وحمل الهموم) وأبهظته هذه العادة الآسرة الفادحة، فرأى أن يأخذ العدة لمحاربتها والقضاء عليها. وما إن روي قليلا في الآلات التي ينبغي أن يستعين بها للانتصاب في هذه الحرب المقدسة، حتى هداه تفكيره إلىاستحضار كراسة، يعمد إليها في مستهل الشهر، ليدون فيها أنواع الهموم، التي يثيرها القلق في تقديره، ويسبقها التخمين إلى حسه، ويغريه التكهن بانتظار وقوعها، في الأسابيع الأربعة المقبلة. . . ثم يعود إليها في آخر الشهر، ويرى هل صدق في دائرة الواقع العملي شيء من هذه المظنات التي زاملته من قبل. . . وأقضت مضجعه!!(892/38)
وكان في مقدمة الأمور التي تروثه هماً ملحاً - افتقاره إلى سروال من الفانلا البيضاء، ليلبسه في رحلة ريفية احتفاء بمقدم الربيع، وأيقن أنه سيكون الشخص الوحيد الذي سيظهر في الحفلة - دون رفاقه بغير هذا السروال. وإلى جانب هذا الهم أرهقه هم آخر لا يقل عنه خطراً وإلحاحا. وذلكلأن عميد الكلية طلي إليه أن يتولى افتتاح اجتماع الرابطة الأدبية في مساء يوم الخميس المقبل، وطارت نفسه شعاعاً لهذا الطلب وهتك الخوف قميص قلبه،. . . وماذا عساء أن يقول في مثل هذا الاجتماع المهيب - ولم يتعود أن يتعلى المنابر - وأيقن أنه سيبيت بين رفاقه الطلاب - أضحوكة من الأضاحيك - وقد دفع في صدره العجز، وملكت الركاكة خطامه. . . وكان هذان الهمان أبرز ما في المجموعة التي سجلها في يوميات كراسته. وفي نهاية الشهر رجع الفتى إلى يومياته فما تمالك أن ضحك، وضحك حتى أغرب إذ ذكر أن نصف عدد رفاقه الطلاب، لم يظهروا في حفلة الربيع بسراويل بيضاء. ولقد هبت زوبعة شديدة يوم ذاك، وندم الذين كانوا يرتدون السراويل البيضاء لأنهم لم يختاروا سواها. ثم ذكر أن العميد انتحى به في الليلة السابقة للاجتماع العهود وأخبره أن سائحا من كبار الأدباء سيتحدث إلى الجماعة في المساء المقبل، وأن خطبته من ثم يجب أن تؤخر إلى أجل غير مسمى. وعلى هذا النحو كان نصيب غالبية الأمور التي سجلها ف كراسته، وربك ذاته بالاهتمام لها.
ولعله يحسن بالكثيرين منا أن نعد لذواننا مثل هذه الكراسة. وما الذي يمنع من أن نجري على أسلوب ذلك الطالب المجتهد ونأخذ أخذه؟!
تقول الكاتبة الموهوبة (الن. ج. هوايت) إن القلق أعمى، ويمكن أن يتبين المستقبل ويوضح معالمه ويستجلي رسومه. ولكن الله سبحانه وتعالى يرى النهاية من البداية، ويرصد الهبة لكل صعوبة! ويهيأ لكل ضيقة مخرجاً ومفرجاً!!
ويقول فاضل من أعلام الأدباء الاجتماعين العاملين في الغرب: إن القلق (أو حمل الهموم) يشبه الرمل الذي يتسرب إلى الزيت في سيارتك وكما يبلى الرمل آلاتها وأجزاءها، كذلك يستهلك الهم عناصر حيويتك شيئاً فشيئاً ويفنيها. بل إن القلق يشبه الصدأ الذي يأكل على الولاء بعض أجهزة المصنع في إصرار بطئ ولا يلبث أن يحدث تحت ضرب من ضروب الضغط صدعاً شديداً بل انقصاما أكبراً بل انفجاراً هائلا يجر في كثير من الأحيان(892/39)
مضرة فاجعة وخسارة قاصمة. ولاشك في أن القلق قد حطم عشرات الآلاف من الناس ولكن لو اجتمعت الأوبئة والحروب والمجاعات لما أمكن أن تفتك بالعباد، فتك القلق. والتاريخ مشحون بألوان الدمار التي ألحقها بالعالم هذا الثالوث الذي يتهاوى ويتضاءل أمام القلق.
إن القلق لا يوقد النار ولا ينفخ البوق ولا يضرب النفير ولا يدق الطبول ولا يترك صفوفاً من الأشلاء في الحومة ومنازل الوقائع منا تصنع الحروب. . . أنه لا يسقع المزارع ويدقعها كما يصنع القحط. . . أنه يشبه السوس الذي ينخر خلسه في الغلال ويفسد. . . أنه كالدودة التي تسطو في هدوء، على مزارع الأقطان وتيبسها. . . أنه يشبه اللص - ينسل خفية إلى عقلك وقلبك، ويبدأ عمله المهلك - وهو العمل الذي يفضي آخر الأمر إلى المرض والموت، ما لم تسارع إلى رد عرامه، حبس عنانه والضرب على يده. . . أفلا يجمل بنا بعد هذا كله أن نطرح عنا جوالق همومنا، ونحيا حياتنا، ونتقبل كل يوم من أيامها - كما يجئ!!
الزهره(892/40)
رسالة الشعر
(هواء وعلم)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(ألقيت في مهرجان العلم والمعلمين بالجزيرة احتفالا بالدكتور
طه حسين بك وزير المعارف)
غناء. . . وأشجى منه ما أنت قائله ... وسحر. . . وأعتى منه ما أنت فاعله
حشدت لك الإلهام من كل مهجة ... ومن كل نور أنت للفن باذله
ومن قمة للفكر أنت بفجرها ... شعاع من الرحمن هلت مشاعله
ومن صيحة للحق، تمضي زئيرها ... كأن بداً للغيب خفت تزامله
ومن أدب حر الأعنة سقته ... إلى الناس ركباً لا تجاري قوافله
مدتت لها الأرسان في كل وجهة ... لمحت بها ليلا، فطارت تقاتله
يمر على جدب العقول حداؤها ... ربيعاً جديد الخطو، غنت أصائله
له مذهب في السير، فالأرض كلها ... زمان وأفق يممته قبائله
ومن فرحة للعلم. . . هذا هديرها ... حواليك ضجت بالوفاء سواحله
تنادى لها طير الجزيرة بالهوى ... وأنطق ضجت الرياحين زاجله
وأصغي إليها النيل حتى حسبته ... أخا لوعة تهفو إليك خمائله
وسبح صمت النخل فيها، ولم تكن ... لتعرف في التسبيح شيئا أنامله
أكاد - ولو لم أصغ - أسمع بظله ... ترانيم طير بالحنين تساجله
فهل هو ممن يعشق الفكر قلبه ... وممن لأهل العلم تنمي سلائله!
ومن كل إيمان، وكل عقيدة ... وكل خيال طاوعته حبائله
حشدت رباباتي، وفني، وصاحباً ... هو الشعر لم تهدأ بأرض رواحله
وجئتك أبغي طيف سحر، فإنما ... بيانك يدري أين تخفيه بابله
بربك هبني بعض وحي لعلني ... لسمعك أشدو وبعض ما أنا حامله
فلا كانت الأوتار إن هز عودها ... هواك، ولم تشج الليالي بلابله. . .(892/41)
أتاك بناة العقل، من عهد آدم ... وهم حوله نبع نثر مناهله
يجيء لهم طفلا، غريراً مدثرا ... بثوب غرير الوعي، هبل غلائله
يمد يداً ظمآى، وأخرى لعلها ... تشير إلى رى بعيد تحاوله
تلفوه سفحاً جاهلا في مفازة ... بها عبهب الإظلام طنت مجاهله
عنيد الدحي، إن خالس النور ليله ... يضئ، وإن يفجأ حماه يصاوله
سقوا مهده خطو الرسالات رحمة ... وكدحاً صبوراً لا تئن معاوله
وشقوا ثراه، فاستحال يبابه ... حقولا، عليها العلم صافت سنابله
وخلوا جناها للحياة، فإنهم ... هداها، وهم في كل شعب دلائله
فإن شئت بعثاً للبلاد، فهذه ... يد الله فوق الجهل، هذى جحافله
بنان، وإيمان، ولوح، ووقفة ... وما بعد هذا، كله أنت خاذله.
أتوك. . . فجاء والذي سارق الحجا ... فخرت له أبراجه ومنازله
له منطق النور المبين، إذا هوى ... على الشك راحت تستجير مقاتله
يمزق بالتبيان كل مطلسم ... من الرأي حتى تستبين دخائله
وينفض أسرار النفوس بيانه ... كما لو رواها كل طيف تزاوله
إذا رق فالأسحار لحن بكفه ... وطير الربى ناي رخيم يغازله
وإن مس ظلماً، خلت ناراً وعاصيفاً ... وذكرى هشيم في الفيافي تقابله
يسير وحب النيل لحن مقدس ... يهز به سمع الضحى ويطاوله
تطوف على الدنيا خطاه، كأنها ... لمصر نشيد لا تكل فواصله
فكم رحلة للغرب طارت بذكرها ... وغنت بواديها العزيز رسائله
يحب ضنى الأسفار حباً لمجدها ... وتشجيه أشجان السرى وشواغله
رآي العلم مأسور الضياء، كأنه ... شقي على الأصفاد شدت سلاسله
أقاموه في سوق تعاوت دروبه ... وصدت أياديه وسدت مداخله
ونادى مناد فوق أعتاب بابه ... بصوت جهير الظلم بحث غوائله
هنا لألف العصماء، عود ممنع ... من العزة القعساء شيدت حوائجه
هنا الباء طير عبقري مجنح ... على طيفه يبكي من اليأس حابله(892/42)
هنا (ألف) (كالباء)، كل بدرهم ... ومن سام الأسعار لست أعامله
هذا كل حرف في وعاء مختم ... شحيح الرؤى، إياك يوماً تسائله
إذا كنت ذا مال فأقدم، وإن تكن ... فقيراً، فحلم الشمس ما أنت أمله
هنا كل سطر تحت قبر، فإن ترد ... نشوراً، فهات المال تخشع جنادله
هنا سد يأجوج، هنا العلم سلعة ... تباع وتشرى كالمتاع مراحله
وكم من يد جاءت تبكي لقطرة ... فقالت لها بيعي الدموع جداوله
وكم من أب في الكوخ أقعى شقاؤه ... وناحت عليه فأسه ومناجله
أتى ببنيه ضارعاً متوسلا ... لعل حظوظ العاجزين تغافله
فهب المنادي صائحا في عذابهم ... بصوت على الآفاق جوت زلازله
إلى الكوخ عودوا يا بني الفقر، واقنعوا ... فأولى بكم قطعانه وسوابله
أساطير عن (دنلوب) تروى وإنها ... لفتك بروح الشعب دقت وسائله
وقيد لمجد النيل طال هوانه ... وطالت عليه ناره ومشاكله
خطا نحوه (طه) العظيم مؤزراً ... بشعب من الأغلال ملت كواهله
وكر عليه فارساً، في يمينه ... شبل قلم للحق سنت مناصله
هواء وعلم. . . تلك أصداء صيحة ... تغنت بها راياته وحمائله
رماه بها، فإنها دليل مطنب ... من الجهل، ناءت بالضياء كلاكله
وذابت قيود العلم، واندك سجنه ... وراحت لكل الشعب تسقي هياكله
أبا الفكر، لم تلحق شعاعك مرة ... أواخره طول المدى وأوائله،
تنزلته فجراً، ولقنته ضحى ... أضاءت لأحرار العقول مشاغله
فمن شاء صحوا للشعوب ونهضة ... فهذا طريق المجد، هذى دلائله
رعى الله ما أسديت للنيل من هدى ... وبارك عهداً خلدته شمائله
وأبقى يد الفاروق نوراً وقوة ... بها الشعب يجني كل ما هو آمله
محمود حسن إسماعيل(892/43)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأدب المصري أدب عربي
كتب صديقي الدكتور عبد الحميد يونس مقالا في صحيفة (المصري) يوم الخميس الماضي، عنوانه (تراثنا الأدبي) نعى فيه إهمالنا الآثار الأدبية التي حلفها بعض أعلام الأدب في العصر الحديث، ثم تحدث عن الفكر التي دعت إلى إنشاء إدارة لإحياء التراث الأدبي في مراقبة الثقافة بوزارة المعارف، فأبدى خشيته من (أن يكون القوامون على الثقافة العامة في الدولة قد تورطوا في الخطأ المنطقي الذي يقع فيه كثيرون من المشتغلين بتوجيه الحياة العقلية، وهو أن مقياس الأصالة في الفن والفكر هو القدم أولا، والعروبة ثانيا) وندد بعناية إدارة التراث التي تابعت فيها (المشتغلين بالحياة العقلية) - بالأدب العربي القديم دون الأدب المصري بعد الفتح الإسلامي كما ندد بإهمال الأدب المصري الحديث.
والاهتمام بالأدب المصري قديمه وحديثه لا يمارى في وجوبه أحد، ولكنني أحب عندما ندعو إلى هذا الاهتمام، أن نفعل دون أن نستشعر العصبية الاقليمية، فقد قامت هذه العصبية للأدب المصري منذ ومن في بعض الأذهان، وكان مما صاحبها إنشاء كرسي للأدب المصري في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ولم يصنع هذا (الكرسي) شيئاً جديداً في هذا السبيل إلى الآن، ولعل ذلك راجع إلى الشعور بأن فكرة الاهتمام الجزئي الزائد غير طبيعيةلأن الأدب العربي، وفي جملته الأدب المصري، وحدة متماسكة لا تتزايل أجزاؤها.
وقد لمحت تلك العصبية في مقال صديقنا الدكتور عبد الحميد يونس، وهي نزعة أعرفها فيه. وكنت قد قرأت الذي كتبه في مجلة (الأديب المصري) بعنوان (أدب أمة لا أدب لغة) عزز فيه (الفكرة المصرية) وقال:
(مضى الزمن الذي كان الأدب فيه يدرس ويتذوق على أنه ثمرة لغوية لا أكثر ولا أقل، وانطمست النظرية القديمة التي كانت تحتفل بالصورة دون المصور، ولم يعد للفكرة الحرفية التي سيطرت على الآداب والفنون من السلطان ما كان لها في الماضي البعيد أو(892/44)
القريب) وهو يذهب بذلك إلى أن اهتمامنا بالأدب العربي غير المصري موجه إلى تذوقه كثمرة لغوية دون أن نحس بما يعبر عنه أو ننفعل بما يصوره، كأننا غرباء في الإحساس عن أهله!
والواقع أننا نحس الإحساس العربي العام ونشعر بالمشاركة والوجدانية لأولئك الأدباء المتقدمين الذين عاشوا في العراق والشام وغيرهما، ولا يقل شعورنا بهذه المشاركة عن شعورنا نحو أدباء مصر الذين عاصروا الدول الإسلامية التي قامت بها، بل أنا أعزم أن المشاركة الوجداني في أدب الأولين أكثر منها في أدب الاخرين، لأن هؤلاء كانت تستهلك الزخارف اللفظية طاقاتهم ويشغلهم التكلف عن صدق التعبير والنفوذ إلى الأعماق
فالأدب العربي، قديما وحديثا، ليسأدب لغة مشتركة فقط، بل هو أيضاً أدب أمة هي الأمة العربية. ولا أنكر الفوارق والسمات الاقليمية، ولكن الروح العام يصهرها جميعاً في بوتقة العروبة.
فالأدب المصري - كما أرى واشعر - جزء من كل، لا ينبغي له أكثر مما ينبغي لأي جزء آخر.
كما أنه يجب الاهتمام به مثل غيره. والحق أنه لم يكن معنيا به مثل غيره، ولكن الحق أيضاً أن ذلك لم يكن سببه أن مقياس الجودة (العروبة) كما يقول الدكتور عبد الحميد، وإنما هو راجع إلى أن النهضة الأدبية الحديثة قامت على أسس منها الرجوع إلى أدب المتقدمين للخروج من ركاكة العصور المتأخرة وهزال آدابها، فاتجهت حركة الإحياء إلى الآداب الأولي التي كانت قبل التكلف والركة، وخاصة آداب العصور الزاهرة كالعصر العباسي في بغداد.
وتصور أي مهزلة تكون لو قامت الآن في العراق مثلا حركة أدبية ترمي إلى الإعراض عن الأدب العربي الحديث في مصر، لأن الأدب العراقي في هذا العصر أولى بالعناية منه! أليس هذا كذاك؟
على أن الفكرة العربية العامة أدنى إلىالفكرة العالمية في الأدب والفن، فهل يريد هؤلاء المواطنون أن ننطوي على أنفسنا أدبيا ونتخلف عن ركب العالم؟ أو يريدون أن نزيح العروبة جانبا ونمشي في الركب. . .؟(892/45)
ولست أدري ماذا يضيرنا إذا نحن درسنا الأدب المصري وأحيينا آثاره على أنه أدبعربي، في هدوء دون أن نشغل أذهاننا بالفكرة الانفصالية ونتعب أعصابنا بالعصبية الإقليمية؟
الشاعرة (ن. ط. ع)
قرأت بإحدى الصحف اليومية في يوم من هذا الأسبوع نعى فتاة باسمها الكامل، أعرف أنها الآنسة (ن. ط. ع) الشاعرة التي نشرت لها (الرسالة) قصائد وقطعاً من أشعارها ونشرت لها صحيفة البلاغ كثيرا، كما نشرت لها (الأهرام) وكانت قد استرعت انتباهي فعقبت على بعض شعرها في العام الماضي، تعقيبا ختمته بما يلي (والفتاة الآنسة وإن كانت في أول الطريق إلا أنها على الجادة تهديها إلى الغاية موهبة صادقة مخلصة، فهيا يا آنسة ن. من يدري. . .)
أجل من يدري أنها كانت تسير إلىالغاية المحتومة بهذه السرعة، وكنا نرجو أن يكون ما كانت تصبوا إليه من صيد وخلود في عالم الشعر، كما كانت تقول:
هل يأخذ القبر ... مني سوى جسمي
والصيت والشعر ... لن يتركا اسمي
سأصير شاعرة ... من قادة الفكري
أنا لست ساخرة ... يا قلب من يدري
ولكن الموت أعجلها، فاحتطفها وهي على عتبة الخلود، فطوى أملها الذي كانت تعكف على التطلع إليه. وقضى على عالم من الإحساس المرهف كانت تنوء به، فحطت حملها ونامت بجواره، وليتها نامت قريرة بما كانت تؤمل من ترك اسمها وراءها يلمع في دنيا الأدب والشعر، ولكن الموت أعجلها ولعله أطلعها على أن ما كانت تطمح إليه أمر باطل وسراب خادع. . . من يدري!
لقد قرأت قصة هذه الفتاة فيما كانت تنشره من شعر، كانت حبيسة (التقاليد) تطل على الحياة من بين قضبان سجنها. . . تنظر بعين الأدبية الشاعرة إلى المجتمع الحافل الصاخب فتود لو شاركت الركب سيره، ثم لا تلبث أن تثوب إلى ما أخذت به في تربيتها المحافظة، فتقول:
ورجعت أدراجي ... أتجانب الناسا(892/46)
في برجي العاجي ... أتذوق الكاسا
كاس من الطهر ... وهناءة البال
والفن والشعر ... في برجي العاجي
ولكن (البرج العاجي) كان مضروبا عليها في قسوة يظهر اللم بين السطور وإن أظهرت ميلها إلى الاعتصام به مطاوعة لما جرت عليه السرة من الحجاب وشدة التحرز. فكان الصراع دائراً في نفسها بين ذلك الحجاب وبين ألوان الحياة التي تدعو إليها لا باعتبارها أية فتاة، بل لأنها فنانة، والفن يأبى الإسار.
لقد قلت في الكلمة التي كتبتها عنها: إنها في حاجة إلى مزيد من العناية من حيث إخضاع التعبير. ولما تتبعتها بعد ذلك ورأيتها تدر حول ذلك الصراع في نفسها، لا تخرج عنه إلا قليلا، عرفت أنها مشغولة بها عن تأمل ما عداه، فكان ينقصها أيضاً الآفاق الرحيبة التي تنتقل بينها. ولم يكن كل الأمر احتجابها، وإن كان هو بعض الأمر بلا مراء، فكان يمكن لو فرغت من ذلك الهم أو لو تحررت من تسلطه عليها كل التسلط أن تتصفح الحياة من حيث هي ومما تقرأ، ولكن حتى هذا القدر حرمته لانشغالها بالتفكير في آلام نفسها ومنازعتها القيود
ظلت شاعرتنا تكافح تلك النوازع النفسية، تثبها تارة في شعرها، وأحيانا تنطوي عليها، وهي ترجو أن تجد من الشعر والصيت فيه ما يعوضها، حتى كلت فأسلمت للمنية قيادها، وإذا نحن نطلع على وجه كئيب من نعهيا، فيبعث في النفس الألم والأسى، في الوقت الذي كنا نتفقدها، عسى أن تطلع علينا بجديد من الشعر.
وإذا كان القبر قد احتوى على جثمانها فلعل لتلك الروح الشاعرة من هذا الكلمة ما يرضيها بعض الشيء. ولقد كانت (السرالة) مجلتها الحبيبة في دنياها الأدبية، فالآن تبعث الرسالة إليها هذه الباقة، من حبيبة حزينة إلى فقيدة عزيزة.
السياسة العربية والتعاون الثقافي
نشرت (الأهرام) أن وزارة المعارف قررت وقف ندب المدرسين المصريين للعمل في معاهد العراق، وقال المحرر إن الوزارة اتخذت هذا الإجراء بعد دراسة مستفيضة، وإن العراق أساءت معاملة المدرسين المصريين، وإن ذلك القرار أتخذ بتوجهيه من وزارة(892/47)
الخارجية المصرية على ضوء التطورات الأخيرة للعلاقات السياسية بين البلدين.
وذلك كلام غير صحيح، ولا ندري لماذا يكتب! فلم تقرر وزارة المعارف شيئاً في هذا الصدد، ولم يطرأ على خطتها في التعاون الثقافي بينها وبين البلاد العربية أي تغيير. ولم يجد في العلاقات الثقافية بين مصر والعراق ما يجعل وزارة المعارف تدرس هذا الموضوع أية دراسة، لا مستفيضة ولا غير مستفيضة، ولم تتلق الوزارة أية شكوى من أي مدرس أسيء إليه في العراق. ولست أدري من اين أتت هذه الإشاعة العجيبة، فقد لقيت عدداً من إخواننا المدرسين العائدين من العراق فلم أجد عندهم شيئاً من ذلك، بل هم على العكس يذكرون ما لقوا هناك من تقدير وتكريم.
كل ما في الأمر أن وزارة الخارجية المصرية تلوح بهذا الموضوع في محادثاتها التي تتعلق بالشئون السياسية مع العراق. . . ووزارة المعارف ترى ذلك فتسكت، على سبيل التضامن السياسي.
والمأمول ألا يتعدى الأمر ذلك التلويح، فلا ينبغي للسياسة أن تتجاوز دائرتها إلى الشئون الثقافية، وخاصة أن ميثاق الجامعة العربية يكفل التعاون الثقافي بين البلاد العربية، وتنص المادة الثانية من المعاهدة الثقافية على أن (دول الجامعة توافق على تبادل المدرسين والأساتذة بين معاهدها العلمية بالشروط العامة والفردية التي يتفق عليها)
على أن ذلك التعاون الثقافي أقدم من جامعة الدول العربي، وآثاره ظاهرة في العلاقات التعليمية والأدبية الموطدة.
عباس خضر(892/48)
الكتب
كتاب الأعوام الحاسمة
الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنجلز
ترجمة الأستاذ علي بك حسن الهاكع
المراقب العام لمنطقة التعلم بالدقهلية
هذا كتاب نقله الأستاذ علي بك حسن الهاكع المراقب العام لمنطقة التعليم بالمنصور عن اللغة الألمانية إلى اللغة العربية وهو آخر كتاب أنتجه الفيلسوف الألماني شبنجلر قبل وفاته، وضعه سنة 1933 وتوفي سنة 1936 قبل اشتعال نار الحرب العالمية الماضية بثلاثة أعوام وتناول فيه قضايا العالم ومشكلاته وحضارته، فدرسها على ضوء الفلسفة الواقعية وصور الحاضر على أساس المشاهدة، وتنبأ بالمستقبل قياساً على الماضي. وعرض كله على الناس في وضع جلي واضح يفسر كل غامض، ويجلو كل مبهم. ويوضح نظراته في فكرة شاملة تنتظم كل مظاهر الحضارة وتختزلها في حيز محدود لا فخاء فيه ولا غموض.
وقد ضم الأستاذ الهاجع بك إلى المكتبة العربية بهذا العمل الجليل كتاباً يعتبر من انفس وأثمن ثروات الفكر الإنساني لا توزن بذهب الأرض، ولا تقوم بكنوز العالمين.
وكأني بالمترجم الفاضل، وقد رأى أن فلسفة شبنجلر ليست بالشيء الهين الذي يتناوله القارئ في يسر وسهوله، وأنها من العمق والأصالة بحيث تحتاج إلى مقدمة تقرب إلى الباحث مذهب شبنجلر ونظرياته الجريئة الجديدة، فوضع لهذا الكتاب مقدمة ضافية تعتبر كتابا بذاته، سماها (النظرة المصرية) أتاح فيها للقارئ أن يلم بمذهب الرجل وأن يدركه إلى الحد الذي يسمح له بتذوق ما يقرأ وفهمه على الوجه الذي قصده شبنجلر
وقد ذكر في هذه المقدمة أن كثيراً من المعاني السامية قد ابتذلت في هذه الأيام، ومنها الفلسفة، التي أصبحت إما نقلا أجوف لشتى المذاهب وفي مختلف الثقافات قديمها وحديثها، وهو نقل يقصى ما بينها وبين الإدراك السليم، ويجعل منها عبارات غامضة لا يتذوقها إلا طائفة محدودة تستأثر بها وبغوامضها، وإما لهواً ولعباً ينضم إلى سائر ضروب الشعوذة(892/49)
الأدبية التي ترمي إلى صرف النشاط الثقافي عن جوهر الأمر.
وإن هذا الذي يقوله الأستاذ الهاكع في مقدمته الرائعة ليذكرني بمحاضرته القيمة التي ألقاها عن شبنجلر قبل توزيع هذا الكتاب في قاعة المحاضرات بدار المركز الثقافي بالمنصورة وفيها بسط لنا معاني الفلسفة وقربها إلى أذهان المستمعين، وعرضها عرضاً مغريا جذاباً خالياً من التعقيدات، والمعميات،
وقال عن شبنجلر أنه ليس من هؤلاء المتفلسفين الذين جعلوا من الفلسفة عبارات غامضة تستأثر بتذوقها طائفة محدودة، وأنه ليس بالناقل وإلا باللاهي، وإنما هو مفكر أصيل جرئ حسن وأفكاره عصارة دمه قبل أن تكون وليدة فكره، ولذلك يعرضها عارية من كل ملطف، ويقذف بها في وجه العالم أجمع في صراحة مدهشة، وشجاعة عجيبة قلبت كثيراً من أوضاع الفكر المقرر. ومن أسس الفنون وسائر الاتجاهات العلمية والأدبية! فكم من هيكل فكري أو حكم راسخ حمته القداسة مئات أو آلاف من السنين قد انهار تحت معوله القاسي؛ وكفاك أنه حكم القضاء على المنطق المألوف - منطق العلمية - فنزع سلطانه وأخذ بمنطقه الخاص الذي أسماه منطق الحياة.
ولقد أحسن الأستاذ الهاكع بك كل الإحسان حين كشف لنا في مقدمته عن شخصية شبنجلر؛ وحدثنا عنه حديثاً مفصلا أظهرنا على مذهبه وفلسفته، واتجاهاته الفكرية؛ فقرأنا كتابه ونحن نعلم تمام العلم أن الرجل قد جاوز حد الإعجاز فيا كتبه وفيما وجهه إلى الحضارة الأوربية من لطمات، وأنه كشف لنا عن خفايا وأسرار هذه الحضارة وعوامل نهضتها وانحلالها ودورانها المحتومة، وأن تقديراته للمستقبل يلفت حد الروعة الفذه إذ أنه قدر الحرب الأخيرة قبل وقوعها وقدر نتائجها والساحة السياسية والحربية تقديراً عبقرياً. وإننا لنقرأ اليوم ما كتبه منذ سبعة عشر عاما كأننا نقرأ تصويراً للحاضر يستحيل على غير المعاصر أداؤه.
وأنا أعتقد أن الأستاذ الهاكع بك حين فكر في ترجمة شبنجلر عن الألمانية نفسها، فإنما ترجمه وهو متأثر به ومعجب بأفكاره ومذهبه إلى حد بعيد بالرغم من أنه احتاط لنفسه وقال: أنه لا يسلم بكل ما رآه، ولكن صراحته الألمانية الخشنة تفتح لنا فرجة إلى خفايا كلها فائدة وخير لنا.(892/50)
ولذلك فقد أطال الكتابة عنه، ولم يترك ناحية تتصل بهذا الفيلسوف عن قرب أو عن بعد إلا عرضها على القارئ عرضاً نموذجياً ناجحاً يحبب إليه اعتناق مذهب شبنجلر والتأثر به قبل قراءته.
وهذا نوع عجيب من عبقرية القدرة على الدعاية للمذاهب الفلسفية التي يميل إليها الكاتب القدير.
ألا ترى أنه يصور لك آراء شبنجلر تصويراً بديعاً يملك عواطفك ويهز جوانحك ويتغلغل في صميم نفسك حين يقول لك: (إنه يرى أن كل ألوان القياس والقضايا تسند في النهاية إلى بدهيات هي في ذاتها قضايا؛ ولكنها قضايا مسلم بها لا تتسع لأن تبنى على قضايا أخرى. شوهنا يتساءل: أليس كل التفكير إذن مرتكزاً على الاعتقاد؟ وأليس كل ما تعارفنا عليه من نظريات وأسس علمية مهما تبلغ من الدقة مبنياً على مسلمات هي في ذاتها عقائد؟ فإن كان الفكر في ذاته مبنياً على المسلمات والعقائد فما الفارق إذن بين التفكير والاعتقاد؟
أليس هو في الدرجة فحسب؟ أي في أن الفكر المألوف أبعد عن العقيدة الأساسية التي تطالعك مباشرة، وبدون أدنى وسيط أو تسلسل؟ وبهذا حول العلوم في أسسها إلى عقائد وقال إن ما يأخذه العلماء على الدين إنما هو مبهم مردود إلى راميه.
وهكذا هدم العلية المألوفة وحصرها في حيز ضيق واهتدى إلى أن وراء الحوادث ما يعلو على الأسباب السطحية! وراءها منطق الحياة والزمن، وراءها القضاء أو المصير بالمعنى الألماني.
القضاء الذي يملي على الفرد وعلى النوع وعلى الحياة ألوان النمو والتطور مما لا يمت بأي وشيجة إلى السببية، فهو يعتنق جبرية من لون جديدة تتصل بالجبرية الإسلامية وتختلف عنها، تتصل بها من حيث الحتمية، وخلوها من التدبير، وتختلف عنها من حيث ردها إلى مقدر بصورته الفلسفية الألمانية ذلك القدر الذي تلعب فيه الإرادة البشرية الفردية دورها. ومن العسير على غير من تذوق الثقافة الألمانية أن يتصور كيف نتسق صور القدر مع فكرة إرادية ذاتية خارجة عن الروح الكونية)
وما كان لغير علي بك الهاكع الكاتب المسلم الفيلسوف أن يعلق على رأي شبنجلر مثل هذا التعليق، وأن يوازن بين الجبرية الإسلامية والجبرية التي يعتنقها الفيلسوف الألماني،(892/51)
ويبين الفوارق الدقيقة ووجوه الشبه بينهما بمثل التفصيل البديع الذي يعقب عليه بقوله: (ومهما يكن لون هذه الجبرية التي أتى بها شبنجلر فإنها مع غيرها من أركان مذهبه كانت معولا جباراً أصاب المادية الحديثة في أرسخ جذورها وأفسح الطريق لضرب جديد من الروحانية ينظر إلى المرحلة الحضارية الحالية في القرب نظرة فيها لنا نحن الشرقيين رضا وتأس وبسط للأمل في المستقبل: فهو روحا أصيل قد نفذ ببصره الثاقب إلى ما وراء المادة واهتدى إلى أن الروح هي جوهر الأمور لا المظاهر المادية التي تلعب بالأحاسيس فتخدعها وتصرفها عن الحقيقة (الكافية) هذا هو شبنجلر كما يصوره لنا أستاذنا الجليل علي بك الهاكع في مقدمته بعبارته الخلابة، ومنطقه الصحيح، وذوقه السليم
أما شبنجلر حين يصور نفسه في كتابه (الأعوام الحاسمة) فلي فيه كلمة أخرى أرجو أن أوفق في كتابتها إن شاء الله.
المنصورة
علي عبد الله(892/52)
لنقاب
للأستاذ عبد الحميد جوده السحار
مما لا ريب فيه أن الأستاذ عبد الحميد جودة السحار في طليعة أولئك الشباب الذين يجاهدون في ميدان الدب القصصي ليخلقوا للقصة المصرية مكانة مرموقة. وقد تفاوت الناجح الذي أصابه في جهاده باختلاف أعماله القصصية الكثيرة. وإن كنت مقتنعاً أن روايته (في قافلة الزمان) تعتبر قمة نجاحه القصصي.
أما قصته الجديدة (النقاب) فلا أستطيعأن أصفها مصاف الأعمال القصصية الرائعة، ولكنهاقصة ناجحة ما في ذلك شك. وقد عالج فيها موضوعاً يتغلغل في صميم النظام الاجتماعي السائد، تناوله غيره من الكتاب بالبحث والدراسة، ولكنه أبدع فيه بما أضفى على القصة من جو نفسي رائع.
وتدور قصة حول شاب في العشرين من عمره ينتمي إلى أسرة فقيرة، وله أبنه عم ثرية، تواضعت أسرتها على اعتبارها خطيبة له منذ صغرهما. ولما كبر ظل كل منهما يمحض الحب لصاحبه، فكلما لاح خيال (علية) في خاطر (حسين) أحس بقلبه يهفو نحوها وبمشاعره تنصرف إليها. وكلما التقى (حسين) بـ (علية) فضحت عيناها ما تنطوي عليه جوائحها من وجد وهيام.
ودارت عجلة الأيام، واشرف حسين على التخرج من كليته - كلية البوليس الملكية - فأخذ ينتابه شعور غريب كلما جمعه مجلس بعلية. شعور مزيج من الضعة والهوان، والضيق والاشمئزاز. ولم يكن يفقه لهذا الشعور سبباً، بل كان يرغب رغبة صادقة في التحرر من ربقته. فقد كانت العناية التي يلقاها من بيت عمه، والمحبة التي يغمره بها أعضاء الأسرة من صغيرهم إلى كبيرهم، حرية بافتراع عواطف الحب من قلبه. ومبادلة الأسرة العطوفة وداً بود، ومقاسمة عليه مشاعرها الصادقة. ومع ذلك فقد ظل خيال عليه يراوده في أحلامه ويثير في قلبه العواطف المتقدة. وتفاقم نفوره من علية، وتأججت بيم جوانحه ثورة على القدر المسطور له في كتاب الزواج، فلماذا يتخذ من علية زوجة له نزولا على إرادة أبيه وعمه بينما أمحت صورتها من قلبه؟!
ثم ألقى نفسه ينحرف في حب فتاة التقي بها في بيت عمه، وإذا بها تستحوذ على مشاعره،(892/53)
ويحتل تفكيره وتملأ فؤاده. وأحس بشعور الغريق الذي عثر على حبل الإنقاذ أخيراً، أو إحساس التائه الذي اهتدى بعد لأي إلى السبيل. ورغم معارضة أبيه العنيفة فقد أصر على الزواج منها، وفضل مخاصمة أبيه على الاقتران بابنة عمه علية.
تزوج حسين من الفتاة التي اختارها بنفسه، ورحل إلى الإسكندرية لاستلام مهام منصبه الجديد بعد تخرجه من كلية البوليس. وعاش فترة من الزمن تزيد على العامين وهو يحاول إقناع نفسه بأنه مستمتع بالسعادة الحقة إلى جانب زوجته، وقد نجح في محاولته إلى حد بعيد، ولكن القناع سقط عن عاطفته المزيفة عندما أخبرته زوجته ذات يوم أن علية زارت المنزل في غيابه وسألت عنه ملحة في رؤيته. فجرى إلى شاطئ البحر يتفقد الموضع الذي اعتادت أن تتخذ منه كل صيف مستقراً، وما وقعت عليها أنظاره حتى أحس بلهيب العاطفة يضرم جسده، وبجمرات الحب تتقد بين وجانبه، ودب الوهن في عزيمته واجتاحته حيرة مضنية بين التقدم إليها أو التواري عن أنظارها، ثم لم يلبث أن تراجع بخطوات متلصصة حذراً من أن تكشفه عيناها، وقفل راجعاً والخيبة والمرارة تقسمان مشاعره.
مرت الأيام وعلاقة حسين بزوجته على خير ما يرام صفاء، إلى أن وجد نفسه في صباح يوم من الأيام أمام خطاب غفل من التوقيع يتحدث عن ماضي زوجته الحافل. ومنذ ذلك الصباح نبتت زهور الشك في قلبه، ومنذ ذلك الصباح تتالت الخطابات المغفلة من التوقيع تكشف النقاب عن ماضي الزوجة وتسقي زهور الشك بماء الغيرة حتى أينعت وحان قطافها، فكان الطلاق.
وأحس حسين حينما انتهت علاقته بزوجته كأنه يستيقظ من حلم مريع، أو كأن كابوساً هائلاً يرتفع عن صوره وداعبه شوق ملح لرؤيته علية. وطفق يستعيد في ذهنه صورتها، ويستعرض مشاهد حياتهما الماضية فيعجب كيف انصرف عنها إلى هدى، وكيف شاغل الإحساس بالنفور منها لحظة من الزمن وهي تكن له كل هذا الحب. واستقل الترام في شوق ولهفة إلى (الزمالك) ونزل مسرعاً صوب منزل عمه، ودفع باب الحديقة. ومشى بخطوات متلكئة نحو الباب الكبير، وما أن ارتقى آخر درجة من درجات السلم حتى خارت عزيمته، وإذا به يولي ظهره شطر الباب ويطلق العنان لقدميه هارباً من المنزل.
وهكذا تنتهي قصة (النقاب) وإن لم تحل العقدة النفسية التي ظل حسين يقاسي متاعبها(892/54)
ويتخبط بسببها في مسارب الحياة، نقاس جميعاً عقدها ومآسيها ومشاكلها. فنحن نرى إِذن أن حسين قد أخطأ الطريق إلى قلبه، ومهما يقل عن وضوح هذا الطريق فلا يسعنا إلا أن نلتمس له العذر في هذا الخطأ، فتلك هي قصة المجتمع ذي الفروق الطبقية الشاسعة، كما عالجها الأستاذ السحار من زاويته الخاصة.
وقد كان أسلوب الأستاذ السحار المتميز بالسلاسة والصفاء، سلاسة الينبوع المتدفق، وصفاء البحيرة الساكنة، واضحاً متميزاً في هذا الكتاب. ولكنه لم يكن في الحوار على عهدنا به، إذ كان حوار القصة على ما يلوح لي اضعف ما فيها. ويبدو أن أبطال قصته جميعاً مؤمنون بفضيلة (خير الكلام ما قل ودل) إذ كان حوارهم مقتضباً دائما. وهذا مثال صادق لحوار القصة: (وقعد في فراشه يرقبها وهي تتزاين ثم قال: - بدأت أغار. - مم؟! من المرآة. - لم تفدك نصيحة أبي. - افادتني. لفت نظري إلى ما كنت في حاجة إلى سنين لأكشف وحدي. - جعلتك تغار قبل الأوان. من هذا عيب النصائح، توقظ في نفوسنا ما كان نائماً. - لن أنصحك أبداً. - إنصحيني أن أسارع باترداء ثيابي، فقد حان وقت خروجنا. - لن نخرج معاً. - ولماذا كل هذه الزينة إذا كنا لا نخرج الليلة؟. - ستخرج وحدك - وأنت؟ - عندي ميعاد. - أين؟ - هنا. - مع من؟ - أناس يجب ألا تراهم. - قولي من؟. - أصدقاء.)
ويخيل إلي أن هذا الحوار - إلى جانب تكلف الاقتضاب فيه - في حاجة إلى قبس من الحرارة أيضاً لتدب فيه الحياة.
ولابد للناقد أن يعجب بسيطرة الأستاذ السحار على الجو النفسي في القصة رغم أنه الصراع النفسي فيها هو كل شيء. فبطل القصة - حسين - حائر بين مشاعر قلبه المبهمة التي تدفعه بيد خفية إلى الاتجاه نحو ابنه عمه، وبين مشاعر الأنفة والعزة التي توحي إليه أن علية لا تصلح شريكة لحياته لأنها من أسرة تبذ أسرته بالثروة والغنى، ومحمود أفندي - والد حسين - حار بين الموافقة على زواج ولده من هدى لتحقيق سعادته، وهو ما يهدد علاقته بأخيه بالدمار، وبين حمله على الاقتران بابنة عمه وتحطيم فؤاده، وفي هذا صيانة للأواصر بينه وبين أخيه. وهدى حائرة بين أن تفضي لزوجها بسر ماضيها أو أن تكتم عنه كل شيء وتسلم الأمر بين يدي المقادير.(892/55)
وهكذا نجد كل شخصية من شخصيات القصة مسرحاً للصراع النفسي العنيف. ولكن الزمام لم يفلت من قلم المؤلف في تلك المواقف جميعها.
وللأستاذ السحار لمسات إنسانية رائعة في هذه القصة، ويحضرني بهذه المناسبة حديث جرى بين الصديق الأستاذ أنور المعداوي وبيني في صدد الحديث عن هذا الكتاب وعن الأستاذ نجيب محفوظ. فقال المعداوي أن نجيب محفوظ أعمق خبرة بالحياة من عبد الحميد السحار، ولكن السحار أكثر إقبالا وتفاؤلا منه بالحياة. وقد وافقه على هذا القول، وأظنه حقيقة بينة، فما لا ريب فيه أن الأستاذ نجيب محفوظ أعمق كتاب الشباب خبرة بالحياة، بل لا اظنني مغالياً إن قلت أنه أعمق كتاب القصة العربية خبرة بالحياة. وهذه رواياته تثير دهشتك في عمق كاتبها وقوة فلسفته وفهمه الحياة فهماً حقاً. أما الأستاذ السحار فإنه ولا شك من أكثر الكتاب المصريين تذوقاً. للحياة العائلية ولعل باستطاعتنا أن نجد وجهاً للشبه في هذه الناحية بينه وبين الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. وبوسعنا أن نلحظ تلك اللمسات الإنسانية التي يتجلى فيها تذوق الأستاذ السحار للحياة في قصة النقاب في مواقف كثيرة، وأخصها تلك المواقف التي تجمع بين الوالد وولده والأم وأبنها والزوج وزوجته، والقصة بعد مليئة بمثل هذه المواقف.
وإذا غفرت للأستاذ السحار أن يزجني في موقف إنساني ويلمس أوتار قلبي، ثم ينتزعني منه على غرة قبل أن أرتوي من الاستمتاع به - كما حدث في عدة مواقف من القصة - فلن أغفر له أبداً إفساده عليّ وعلى قراء القصة أجمعين لذة. ذلك الموقف الإنساني الرائع (ص 275) الذي عرض فيه مشكلة فتاة ذات ماض معكر - تعكر بسبب بحثها عن زوج، وهي الأمنية الكبرى في حياة كل فتاة، - ودافع فيه عن هدى دفاعا حاراً ولكنه للأسف دفاع مبتور، سرعان ما نقلنا منه إلى موقف آخر كأنه يخشى أن يزج نفسه في مشكلة إنسانية ينتصر فيها للحق؛ وهو انتصار لاشك سيحمله لوم بعض من أغلقت عينهم عن عدالة الحياة.
ولست مغالياً إذا قلت أن المشكلة التي أثارها الكاتب في ص (275) توازي في خطرها المشاكل التي مرت بنا في صحائف الكتاب جميعها، وكان من الممكن أن تقفز إنسانية القصة فيها إلى القمة. فكيف أجاز الأستاذ السحار لنفسه أن يمر بها مرور العابرين؟ لست(892/56)
أدري.
أما شخصيات القصة فلم تكن على جانب واحد من القوة ولكن أقواهاً على ما أعتقد شخصية محمود أفندي بلا مراء. فقد كنت أتمثله يدب بين السطور بقامته الطويلة ووجهه المرح وهو زاخر بالحيوية والنشاط والحياة، وتليها شخصية حسين شابا فتياً معرضاً للأحلام اليقظة كغيره من الشباب، ولكن المؤلف اشتط في ذلك، وانطلق يدير الحوادث ويسوق الحوار بشكل مطول وفي مناسبات عديدة، حتى ليخيل إلى أن القارئ لابد أن يذوق شيئاً غير قليل من الملل والضيق. والشخصية التي أثارت اهتمامي وإعجابي أيضاً هي شخصية علية، هذه الفتاة العاشقة المسكينة التي لا تدري ماذا تفعل وكيف تتصرف لترضي فارسها الجميل. ولكنها لم تكن في قوة الشخصيتين السابقيتن، كما أنها لم تسلم من أحلام اليقظة المملة.
أما الشخصيات الأخرى فكانت باهتة الصور مطموسة الملامح لا تكاد نتبين فيها سوى أشباح تتخايل على الورق. على الرغم من أن البعض منها ذو دور هام في القصة كشخصية الضابط جمال أو شخصية إجلال صديقة علية.
ولست أنسى، قبل أن أختم هذا التعليق العابر، أن اذكر الأستاذ السحار أنه لم يكن في حاجة إلى أن يفترض بطأ الفهم في القارئ فيردف بعض الحوادث بالشروح والتعليقات، وأمثلة ذلك يزخر بها الكتاب.
القاهرة
شاكر خصباك(892/57)
البريد الأدبي
حول ثلاثة أبيات
في عدد مضى من (الأساس) كتب الأستاذ الكبير عباس خضر محمود العقاد مقالا فيما عنوانه (شعر العبيد) جاء فيه ما نصه:
(. . . في هذا الجيل تبغ نصيب مولى عبد العزيز بن مروان وكان الشعراء الفحول في عصره يقولون عنه أنه أشعر بني جلدته لينزلوه في منزلة دون التي يدعونها لأنفسهم وهي منزلة الشاعر الأول من العرب؛ فكان يقول لهم. نعم، وأشعر الإنس والجن وهو القائل وقد أجاد:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يركبون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب
إذا استوضحوا ناراً يقولون: ليتها ... وقد خصرت أيديهم؛ نار غالب
وشعره كله على هذه الطبقة من الجزالة. . . الخ)
وبهذا نسب الأستاذ العقاد هذه الأبيات الثلاثة إلى نصيب مولى عبد العزيز بن مروان، غير أن المتصفح للجزء الأول من (الشعر والشعراء) لأبن قتيبة يجد هذا النص:
(دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك) وسليمان ولي العهد ونصيب عنده، فقال سليمان أنشدنا يا أبا فراس، وأراد أن ينشده بعض ما امتدحه به، فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب منهم ... لها سلباً؛ من جذبها بالعصائب
سروا يركبون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب
إذا استوضحوا ناراً يقولون: ليتها ... وقد خضرت أيديهم؛ نار غالب
فغضب سليمان، فاقبل على نصيب فقال. أنشد مولاك يا نصيب فأنشده:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفاذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
فقال له سليمان: أحسنت، وأمر له بصلة، ولم يصل الفرزدق فخرج الفرزدق وهو يقول:
وخير الشعر أكرمه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيد(892/58)
هذا نص ما جاء في الشعر والشعراء) وقد ورد كذلك في (الكامل) وجاء أيضاً في (اللآلئ) والأبيات الثلاثة فوق ذلك كله وردت في ديوان الفرزدق ضمن قطعة في قافية الباء
ومن هذا يتضح لنا أن الأبيات الثلاثة المذكورة والتي وردت خلال مقال الأستاذ العقاد هي من شعر الفرزدق لا من شعر نصيب. . .
بور سعيد
محمد عثمان محمد
تزوبج النبي بأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان
1 - كانت أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي (ص) عند عبد الله بن جحش قبل أن تتزوج من النبي، وكان زوجها هذا قد هاجر إلى الحبشة معها ثم تنفر هناك وفارقها، ولما علم النبي بذلك أرسل إلى النجاشي ليخطبها، فزوجها النجاشي إياه بعد أن أصدقها من ماله، ولما عادت إلى المدينة بنى بها، وكان ذلك في السنة السادسة أو السابعة من الهجرة، ولما انتشر نبأ هذا الزواج قالوا لأبي سفيان: مثلك تنكح نساؤه بغير إذنه؟ فأجاب: ذلك الفحل لا يقرع أنفه! وكان في قوله هذا لأن الفحل اللئيم إذا أراد الضراب زجروه وضربوا أنفه بالعصا.
وبذلك يتبين أن النبي صلوات الله عليه قد تزوج أم حبيبة قبل إسلام أبيها، ومن المعروف أن أبا سفيان قد اسلم بعد فتح مكة الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة.
أما الحديث الذي رواه مسلم في كتابه بأن أبا سفيان طلب من النبي صلوات الله عليه يعد إسلامه أن يتزوج أم حبيبة، وأن يجعل معاوية كاتباً له، وأن النبي قبل منه ذلك هذا الحديث أنكره المحققون على مسلم لأنه يخالف أمراً اجمع الناس عليه.
وعلى أن هذا الأمر لا خلاف فيه فقد سمعنا حضرة صاحب العزة الشيخ عبد العزيز المراغي بك في حديث أذاعه قبل غروب يوم الجمعة الموافق 21 يوليه سنة 1950 يستشهد على فضل معاوية بما رواه مسلم في كتابه؛ والمستمع إلى هذا الحديث المذاع يفهم منه أن ما رواه مسلم صحيح، وأن أم حبيبة قد زوجها أبوها من النبي بعد إسلامه وهذا ينافي الحقيقة كما بينا(892/59)
2 - تاريخ وفاة البارودي
نشر الأستاذ الكبير عزيز خانكي بك بياناً في جريدة الأهرام عن تواريخ وفاة رؤساء الوزارات المصرية في العصر الحديث تحرى فيه اليوم الذي توفى فيه كل رئيس منهم، اللهم إلا البارودي رحمة الله فقد اكتفى بأن قال - إنه توفي في سنة 1905! ومن قبل قرأنا في المقدمة التي وضعها الدكتور محمد حسين هيكل باشا لديوان البارودي الذي أخذت وزارة المعارف في طبعه منذ أكثر من عشر سنين ولما تفرغ بعد منه. إن وفاته كانت (في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر سنة 1904)
وعجيب أن يفوت هذين المؤرخين معرفة اليوم الذي انطوى فيه هذا العلم الكبير! ولكن لعل المحن التي ألحت على البارودي في حياته، لا تزال تلاحقه بعد مماته، ولعل من هذه المحن أن يجهل الناس حتى تاريخ وفاته! ولعل منها كذلك أن ينقضي على موته حوالي نصف قرن ولما تفرع وزارة المعارف من طبع ديوانه، ويحرم الأدباء طول هذا الزمن من تذوق شعره وبيانه
وأنا وفاء بحق هذا الرجل العظيم وليكون الناس جميعاً على علم بتاريخ وفاته نذكر أنه انتقل إلى جوار ربه في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904 رحمه الله رحمة واسعة.
(المنصورة)
محمود أبو رية(892/60)
العدد 893 - بتاريخ: 14 - 08 - 1950(/)
جامعة فؤاد الأول
مواكب التاريخ في احتفالها بيوم اليوبيل الفضي
للأستاذ محمد محمود زيتون
يحق لكل مصري أن يفاخر اليوم بتاريخ أول جامعة مصرية انبثقت فكرتها في غمرة من الأحداث العاصفة، وأخذت تشق طريقها إلى الوجود بفضل ائتلاف عناصر الأمة، وبرغم أنف المستعمرين الذين جثموا على صدر الوادي، وكتموا أنفاسه بكابوس الاحتلال البغيض.
ولقد كان مصطفى كامل أسبق المواطنين إلى فكرة الجامعة إذ كتب في (اللواء) بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1904 يقول (مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في هذا الزمان حقيقة المركز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس، وتأسيس دور للعلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد أن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموال الأمة)
وانتهز مصطفى كامل مناسبة مرور مائة عام على توليه عاهل مصر محمد علي الكبير عرش البلاد (منذ 13 مايو سنة 1805) فاقترح في اللواء بتاريخ 8 يناير سنة 1905 أن تسمى الجامعة (كلية محمد علي) تخليداً لذكرى باعث النهضة العربية.
أخذت دعوة مصطفى كامل تلوح من جديد في جو كله غيوم، غبر أن روعة الفكرة، ونبالة القصد، والإيمان بالعزة والكرامة، كل ذلك جعل الأمير حيدر فاضل يحبذ الفكرة ويستنهض لها الهمم العوالي، كما أثار الأستاذ أحمد حافظ عوض على صفحات (المؤيد) مناظرة صحافية موضوعها (أي أنفع للقطر المصري في حالته الحاضرة: الكتاتيب أم مدرسة كلية عالية) وتوالت الآراء على هذه المناظرة بين التأييد والمعارضة.
ومما هو جدير بالذكر أن فكرة الاستعاضة بالكتاتيب عن الجامعة، كان مصدرها اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر الذي حنق على مصر وأهلها منذ بنت في الأفق الشرقي طلائع النهضة المصرية المستنيرة، فتمكن من دفع سراة البلدة إلى إنشاء المدارس الأولية والإكثار من الكتاتيب في القرى بحجة أن الأمة أحوج إلى هذا النوع من التعليم(893/1)
منها إلى التعليم العالي، وظناً منا أنه بذلك يناهض الجامعة، ويقضي عليها وهي لا تزال في مهدها.
وغلب على وهم عميد الاحتلال أنه يتمتع بتأييد (أصحاب الجلابيب الزرقاء)، لكن سرعان ما تبدد هذا الادعاء المصطنع على أثر حادثة دنشواي صيف 1906، تلك الحادثة التي وجد منها مصطفى كامل مادة غزيرة يروي بها زناد جهاده في الأوساط الأوربية، ضد الإنجليز في مصر، فاستطاع الرأي العالمي أن يقف على حقيقة الاحتلال كما يعرضها زعيم الشباب كاتبا وخطيبا من غير تزويق أو تحامل وحسبه أن يعبر في صدق عما يعتلج في نفوس المواطنين من بغض لشراذم البغي والعدوان الذين يتجرون بالشعور على مسرح السياسة.
وبدأ النفوذ البريطاني يتزعزع، وظله يتقلص في غير إبطاء تحت هذه الضربات القوية التي يسددها فتى النيل المجاهد سهاما من نار، حتى أن السياسة الإنجليزية قد أدركت هذه الحقيقة مجسمة بحيث لا تقبل التحوير والتأويل مما دعا إلى ابتداع لون جديد لمعاملة المصريين بالحسنى، على أساس التوسع في سلطة الوزراء، وفك الأغلال شيئا ما، حتى يقال فيما يقال، أن الإنجليز يأخذون بيد الشعوب تدريجيا إلى أن تحكم نفسها بنفسها.
وما كانت هذه البدعة الإنجليزية لتجعل المصريين ينسون جراحات الأمس القريب، ولا لتصرفهم عن هامات دنشواي التي تصيح حول المشانق في كل صبح ومساء: اسقوني اسقوني، بل كانت أصداء مصطفى كامل تجيش بها نفوسهم، وتخفق أفئدتهم فأخذت الحيوية تدب في المصريين، فتألفت لجنة لتكريم هذا الشاب الذي رفع لواء مصر خفاقا في المحافل الأوروبية، مندداً بالاستعمار وأصحابه، والاحتلال وأسبابه، واجتمع الرأي على تقديم هدية له في حفل كبير، لقاء ما أدى للوطن من عمل يذكر فيشكر.
وعلم بذلك مصطفى كامل، فبادر بالكتابة إلى زميله محمد فريد بتاريخ 24 سبتمبر سنة 1906، وفي هذا الخطاب المفعم بالوطنية الصادقة، يعتذر عن إقامة هذا الحفل، شاكراً للجنة صنيعها، وتقديرها لجهوده في رفع لواء الوطن الذي يتآمر عليه أعداؤه في حين (أننا نطلب الحياة والدستور والحرية والعقل والروية، ونسعى إلى إسعاد وطننا بالعلم والجهاد القانوني) ويستطرد قائلا: فخير هدية أقترح عليكم تقديمها للوطن العزيز، والأمة المصرية(893/2)
المحبوبة هي أن تقوم اللجنة التي شكلت بدعوة الأمة كلها، وطرق باب كل مصري لتأسيس كلية أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وتهب الأمة الرجال الأشداء الذين يكثرون في عداد خدامها المخلصين ممن لا يخافون في الحق لو ما ولا عتابا ويعملون لمداولة أدوائها، وجمع أمرها وبث روح الوطنية العالية في كافة أبنائها. . .)
ويمضي الخطاب على هذا النحو يهدر بالوطنية، ويزخر بالإخلاص، ويجيش بالإيمان، حتى يرسو على شاطئ المعرفة التي هي دعامة الإصلاح وبداية الاستقلال.
وفي الحق أن هذه الدعوة لقيت سميعا مجيبا، فقد هزت الأريحية مصطفى كامل الغمراوي بك أحمد سراة بني سويف فوجه نداء إلى الأغنياء للاكتتاب لهذا المشروع الوطني الجليل، وافتتحه بخمسمائة جنيه، واشترط فيها اشتراط ألا تختص الجامعة بجنس أو دين لتكون بالنسبة لجميع المصريين (واسطة للألفة بينهم)
وأبدى الخديوي عباس حلمي الثاني ارتياحا لهذه الدعوة النبيلة، واغتباطا باستجابة المواطنين لها، وتشجيعا على المضي في هذا السبيل، فاجتمع بدار سعد زغلول (بك) القاضي بمحكمة الاستئناف العليا يوم 12 أكتوبر سنة 1902 رجالات القضاء والعلم والسياسة وأصحاب الجاه، منهم قاسم أمين، وحفني ناصف، ومحمد فريد، وعلي فهمي، وعبد العزيز جاويش، وفي هذا الاجتماع تألفت لجنة تحضيرية انتخب لها سعد زغلول وكيلا، وقاسم أمين سكرتيراً وتأجل انتخاب الرئيس لجلسة قادمة، وتقرر تسمية الجامعة باسم (الجامعة المصرية). وبعد ثلاثة أيام من هذا الاجتماع قدم مصطفى كامل من أوربا، فقوبل بما هو أهله من الحفاوة والإكبار، وكان لقدومه أكبر الأثر في شد أزر اللجنة وتزويدها بنشاطه الفكري والعملي معا.
كل هذا واللورد كرومر يستعلن بمحاربة فكرة الجامعة ولا يستخفي، بل يعمل جاهدا على إحباط كل المساعي التي تبذل لتحقيق ما أجمعت عليه الأمة عن بكرة أبيها، ولا سيما في هذا الوقت الذي تدهورت فيه الثقافة المصرية إلى مستوى غير لائق ببلد له رصيد موفور من الحضارة تليدها وطريفها، ومرد هذا التدهور إلى الاحتلال بأساليبه، وفرضه لغته الدخيلة على التعليم الوطني فرضا، بينما أهل البصر من المصريين يهتفون بضرورة إصلاح الأزهر، ووجوب إدخال العلوم والأنظمة الحديثة فيه، ووضع حد لتوزيع الأعمدة(893/3)
على الشيوخ، وتخصيص كتاب لكل شيخ، وتخيير المجاور في شيخه ليستمع إليه (كما هو الشأن في كل عام أزهري، مما لا يتمشى مع ورح العصر، ونظم لتعليم.
وتحقيقا للسياسة الإنجليزية المرسومة، كترضية مقنعة للمصريين، صدر الأمر العالي في 28 أكتوبر سنة 1906 بتعيين سعد زغلول وزيراً للمعارف، فصادف هذا التعيين (مصريا مشهوراً بالكفاءة والدراية والعلم الغزير، وحب الإنصاف والعدل كما يقول مصطفى كامل في مقاله عن سعد المنشور في لواء ذلك اليوم.
وبهذا أصبح سعد رئيساً للجنة الجامعة، واستجدت المساعي لدى الخديو لاختيار رئيس لجامعة يرضاه الخديو ولا يرفضه كرومر، وبعد التي واللتيا، وقع الاختيار على سمو الأمير أحمد فؤاد، كما تألف مجلس لإدارتها من علية القوم.
على أن جلسات اللجنة - للأسف الشديد - قد أوقفت عن الانعقاد، منذ تولي وزارة المعارف سعد زغلول، بسبب اضطلاعه بشئون وزارته، وشعر الخديو بأن المعتمد البريطاني يعرقل سير مشروع الجامعة بكافة الطرق، فتقدم أحمد شفيق باشا وإسماعيل أباظة باشا لمقابلة سعد ولإبلاغه رغبة الخديو بالا يغفل أمر الجامعة، وبأن يستمر في إشرافه عليها، فوعد بالا ينساه
وفي 30 نوفمبر اجتمعت اللجنة بدار حسن جمجوم بك أحد أعضائها وحضر سعد ليعلن انسحابه من اللجنة لكثرة أعماله التي لا تسمح له بالاشتراك في المشروع.
وشهدت مصر في سنة 1908 وعيا وطنيا جديدا يطالب بالدستور، وأخذ التنافس سبيله إلى الأحزاب على خير وجه مسنون، فلما تولى (الأمير) أحمد فؤاد رياسة الجامعة، بعث فكرتها من جديد، تلك الفكرة التي لم تخمد جذوتها على الرغم من الضغن المبيت لها بقصر الدوبارة في الظلام.
وأنتهز الأمير فؤاد فرصة زيارة روزفلت رئيس الجمهورية الأمريكية لمصر فأقام له مأدبة عشاء، ودعاه لإلقاء محاضرة بالجامعة فلبى الدعوة في 27 مارس سنة 1910، وتكلم عن أهمية الجامعة في التربية الصحيحة، وتطرق إلى مسائل تخص المصريين وحدهم دون غيرهم، فقد استنكر عليهم مطالبتهم بالدستور، وأثنى على الإدارة الإنجليزية للسودان وكال المديح للورد كرومر وسياسته في مصر، مما أثار عليه عاصفة من المعارضة في جميع(893/4)
الصحف حتى ناله من شاعر النيل أعنف اللوم، إذ قال في قصيدة طويلة من أبياتها:
يا نصير الضعيف مالك تطري ... خطة القوم بعد ذاك النكير
يا نصير الضعيف حبب إليهم ... هجر مصر تفز بأجر كبير
وعلى الرغم من هذا الخضم الجارف من الأحداث الجسام، توالت الاكتتابات لجعل فكرة الجامعة في نطاق الحقيقة الوجودية فتبرع الأغنياء لها بأموالهم، ووقفوا عليها الكثير الطيب من أطيانهم، وجادت أريحة سمو الأميرة فاطمة هانم إسماعيل بجواهر قيمتها ثمانية عشر ألفا من الجنيهات فضلاً عن ستمائة فدان وقفتها على الجامعة، وستة أفدنه بجوار قصرها بالدقي لإقامة المباني عليها، وكذلك الأمير يوسف كمال إذ منح المشروح مائة وخمسين فدانا، وثلاثمائة جنيه لإصلاحها. .
وتدفقت المنح والهدايا العلمية من ملك إيطاليا، وإمبراطور ألمانيا، وسلطان مراكش، كما وافقت فرنسا وإيطاليا على قبول ثلاثة من صغار الطلبة لتعليمهم بالمجان بمدارسها.
وفي 30 مارس سنة 1914 وضع الخديو الحجر الأساس للجامعة في حفل تجلت في أروع آيات الوطنية، والوحدة القومية، وألقي فيه المطرب زكي عكاشة قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك
وتحدد يوم 4 مايو 1914 لامتحان العالمية، فتقدم الطالب المنتسب (الشيخ) طه حسين لدرجة الدكتوراه، فنالها بين إعجاب الحاضرين، وإكبار أعضاء اللجنة المشكلة لامتحانه من أساتذة الجامعة ورجال وزارة المعارف، فتقرر إيفاده في بعثة إلى فرنسا، ومثل قبل سفره بين يدي الخديو بقصر رأس التين فشجعه، وتمنى له النجاح.
ومما يدعو حقا إلى اعتزاز المصريين بذكرى الجامعة أن الروح القومية قد لازمتها من مهدها إلى رشدها، فقد عنى مصطفى كامل منذ سنة 1899 ببث التربية القومية في التعليم ووضع دستورها على أسس متينة من تعاليم الإسلامية الحنيف، ولغة العرب الأمجاد، وعوائد الشرق العهيد.
وفي مارس سنة 1907 أجمع أعضاء الجمعية العمومية مطالبة الحكومة بجعل التعليم في مدارس باللغة العربية، وإزاء هذا الإجماع الوطني الرائع، وقف الاحتلال مكتوف الأيدي، وباء كرومر وأذنابه بخيبة الأمل، حتى أسرعت حكومة بلاده إلى سحبه من مصر بعد شهر(893/5)
من ذلك التاريخ.
وقد أقامت له حكومة مصطفى فهمي باشا حفل توديع، خطب فيه شاكراً لأنصاره؛ غير أن استدرك فذكر فيما بينه وبين نفسه سخط الشعب عليه، فرمى المصريين بنكران الجميل، وقاتل فيما قال (إن أولاد العميان يولدون في العادة مبصرين) ولم يكتف بهذا الذم الملفوف بل رمى بآخر سهم في جعبته إذ قال: أن الاحتلال البريطاني يدوم إلى ما شاء الله، وتلك كما يقول أولي (حقائق الحالة المصرية) التي لطم بها وجوه من احتفلوا به وودعوه. . .
ومن ابرز معالم الروح القومية التي سايرت الجامعة نوع الدراسات التي احتفل بها طلابها منذ نشأتها الأولى، فقد نوقش طه حسين في موضوعات كلها تمت بصلة وثيقة إلى تراثنا المجيد وهي: علم الجغرافيا عند العرب، والمقارنة بين الروح الديني للخوارج في أشعارهم وفي كتب المتكلمين، وحياة أبي العلاء المعري.
كما أن هذه الدراسات قد جمعت بين الشرق والغرب كما يبدو من الموضوعات التي حددتها الجامعة لامتحانات سنة 1914 فقد اشتملت على آداب اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وتاريخ الأمم الإسلامية، وعلم تقويم البلدان ووصف الشعوب، وتاريخ الشرق القديم، وكان أساتذتها الأوائل من أساطين العلم في فرنسا وإنجلترا، وفطاحل المصريين من أمثال إسماعيل بك رأفت (عميد الآداب) والشيخ محمد الخضري والشيخ محمد المهدي ومحمود بك فهمي.
وهكذا تحققت للكنانة رغبتها الصادقة، بفضل هذا التآزر والتعاضد بين الشعب والحكومة والعرش، فسارت سفينة الوطن بأسم الله مجراها ومرساها، وشمخ صرح الجامعة ساميا سامقاً، وكتب التاريخ في أنصع صفحاته لمصر والمصريين مجداً تحفه أعز الذكريات التي تفخر بها الأجيال المتصاعدة، فتمضي قدماً في مرقاة المدنية، وتعلوا إلى أوج الكمال.
ويحق لهذه الجامعة أن تكون (أم الجامعات) في هذا الوادي المبارك، وإنه لوفاء صادق من مصر أن تسميها (جامعة فؤاد الأول) ذلك الملك العظيم الذي نفخ في مصر من روحه الوثابة، وعزمه الطموح، فاستخلص لها حقوقها من أشداق الغاصبين، وحقق استقلالها العلمي أميراً، واستقلالها السياسي ملكاً.
واليوم إذ تحتفل مصر باليوبيل الذهبي لهذه الجامعة، ترى لزاما أن تسعد بما حققته في(893/6)
مدى نصف قرن من إنشاء ثلاث جامعات أخرى، اقترنت أولاها باسم المليك الشاب (فاروق الأول) وعلى يديه قامت (جامعة محمد علي) ثم (جامعة إبراهيم) وأول الغيث قطر ثم ينهمر. . .
وكأنما جاد الزمان - وهو كثير ضنين - فلم يحرم ذوي الفضل ثمار جهادهم في سبيل الوطن، فيالها من لفتة كريمة إذ يشهد معالي الدكتور طه حسين بك في هذا اليوبيل عرضا سريعا خالداً وسجلا حافلا بالمكرمات لرجل كان بالأمس (ابن) الجامعة، واليوم يصبح (أبا الجامعات)، ويجعل العلم ميسرا للناس كالماء والهواء، فتحققت له آمال كبار، وفي ذلك له وحده أولا لذة ومتاع، وللأمة ثانيا فرحة بذكرى الوحدة القومية، وللشرق أخيراً رجاء في مطلع الفجر بالحرية والنور.
محمد محمود زيتون(893/7)
عهد
لصاحب العزة محمد محمود جلا بك
- 3 -
كان لأستاذي العظيم (الشيخ محمد عبد المطلب) أخذ فريد في تعليمي، فقد يسلخ الساعة والساعتين يتلو عليّ قصائد لمختلف الشعراء وفي شتى الأبواب، ثم لشاعر واحد، لا يترك لي فرصة أستوضح فيها معنى أو أسال تفصيلاً عن الشاعر، وأنا في إصغاء دقيق هو كل ما يطلب مني. وكان يقول في تبرير هذه الطريقة: (إنما أريد أن يعتاد سمعك شعر عصر معين؛ ثم نعود إلى مثل ذلك لشاعر بعينه! فتنشأ لديك ملكة تمييز بحيث ترجع ما تسمع ولأول ما تسمع إلى عصره. فإذا كانت الخطوة التالية وهي الاستماع لشاعر بذاته استطعت كذلك أن تتبين الشاعر من نفسه وطريقته والشائع من فنه).
ولن أشق على القراء فأجتزئ بأمثلة هي اقرب ما يصور روح الصديق الشاعر الشاب. وقد تسرني من مروءتهم المشاركة والتتبع، فأما الأولى ففضل من علمهم؛ وأما الأخرى فوفاء يجزي الله عنه في العاجلة قبل الآخرة. سيرون من خلال القوافي صورة الشاعر، وسيتبينون من القريض أسرار النفس، وسيكون في الاثنتين حين تتضامان تأريخ دقيق للشخصية.
وهنا نفتتح ديوانه بقصيدة في (حكيم المعرة) رحمه الله
عاذلي مكنتك مني نفس ... عقها الدهر واستباها الحياء
قد تجازوت في ملامك حدا ... والدوا قد يكون منه الداء
أي لوم على قرين حجاً يرنو ... لما لا تناله القرناء
ما عليها سوى المعالي أمير ... ولها انفس الكرام إماء
نفس حر لم يثنيها عن ذرا المج ... د صعاب ولم يعقها عناء
عهدت ألفة التوجع لا تخشى ... لخطب يضيق عنه الفضاء
ما تراني أسعى فاجهد نفسي ... ومن الخطب مدلهم عياء
أبدا أقطع الليالي بفكر ... يقطع الهم عزمه والمضاء
وكأن ليلي الطويل أماني ... فما أن يبين منها رجاء(893/8)
طال حتى مللته وأرى أن ... ليس تنجاب هذه الظلماء
وكأن الهلال فيه حبيب ... طال منه دون الحبيب الثواء
فمضى يذرف الدموع فذي ... الأنجم دمع تقله الزرقاء
ودموعي بمقلتي جوار ... ولكم قرح العيون بكاء
هذه توقظ النفوس من ... اليأس وهذي في مثلها البأساء
خفيت حكمة الآله عن الخ ... لق فكل بعلمها أدعياء
كلهم يزعم الحقيقة ما يعلم، ... لله ما يكن الخفاء
فأسألن ساكن المعرة هل ... ضاقت عليه يجمعها الغبراء
أي شيء قضى القضاء عليه ... وهو شيخ يحار فيه القضاء
سعد المرء لا يقر بعيش ... وحياة مصيرها الانقضاء
لا يغرنك ما ترمي في رحال ... من ثراء يضيق عنه الفضاء
قد ينال العلاء فيها أخو ألف ... قر ويزري بأهله الإثراء
إنما المجد هبة من سبات ... هو للمجد والأماتي داء
وأرني قضيت عشراً وتسعاً ... كان حظي في كلهن العناء
أنظر على من وقع نظره ممن خلد التاريخ يسهل عليك تعرف اتجاهه واذكر أنه ينطق بهذا الشعر وينبئ عن اختياره وهو في التاسعة عشرة؟ في السن تتميز بالمرح وتضليل الإفهام بما يحوطها من مفاتن الدنيا منعكسة على مرآة الغرور. ولم يكن مناص أن يأتي حكمه كما يجب أن يكون أثر هذه النظرة للدنيا واتخاذ المثال (سعد المرء لا يقر بعيش)!.
وفي التاسعة عشرة قل ألا يتحدث شاب عن الحب، بين لداته، أو في شعره أن رزق الشاعرية. وها هو (أحمد عبد اللطيف البرطباطي) يقول في (العذال والحب) ولكنك واجد بلا شك مع روح الاستقرار ريح الاعتداد بالنفس، أو بالأحرى ما قرت به عينه من أحكام على من حوله!
أزف البين واستطار الرجاء ... ليت شعري يا قلب كيف النجاء
أيها اللائمون ماذقتم الح ... ب وأنتم بكنهه جهلاء
ما كفى بعدما حملت من الدا ... ء فأرضي بعذلكم وهو داء(893/9)
أتصروني على الهوى أو دعوني ... يرتمي بي القضاء كيف شاء
أزعمتم بأنكم ففصحاء ... أنا منكم وإن زعمتم براء
ثم أنظر إلى هذا الوصف الرابع للحبيبة:
ملؤها الكبر والدلال وفيها ... أسهم ينتمي إليها المضاء
أي ذنب ذنب الدخيل فؤادي ... وعيوني جميعها الغرماء
ملكته مرعى خصيباً هنيئاً ... يرتع الريم فيه كيف يشاء
قد تضر الفتى جوارحه ... السمع والقلب بعضها إيذاء
كم جليل هوى لنظرة عن ... وذكي أبلى قواه الذكاء
إن في بعض ما نحب لهلكا ... والذي خلته رجاء عناء
وأجمل ما في قصيد الشاعر همزياته وهو فيها أطول ما يكون نفساً. ولعل في (الألف والهمزة) سراً يتصل بالطبيعة البشرية، فالنطق بهما - أقرب إلى تنفس الصعداء من هم وداء
ويتفق للشاعر وللكاتب أن يكون وزن معين وقافية بذاتها أدنى إلى ذوقه الموسيقي؛ وقد يحبب إليه اسم بذاته؛ فلعل أروع شعر المتنبي في ميمياته ودالياته وشوقي بك في همزياته ونونياته، وأكثر الأسماء حظوة عند أناتول فرانس (تيريز)، فهي اسم لقيمة داره؛ وعلم لصاحبة الدرر الأول في ورايته الغراميات الوحيدة (الزنبقة الحمراء).
(للحديث بقية)
محمد محمود جلال(893/10)
تعليقات على فعال
المغول في مصر وقوانينهم
للأستاذ أحمد بك رمزي
الأستاذ الدكتور محمد صالح بك من أساطين أساتذة القانون في
مصر كتب مقالاً عن قوانين المغول في مصر نشرته الأهرام
في عددها الصادر في 27 - 7 - 1950 وقد تضمن أراء
ناضجة رأيت أن أعلق عليها بما يأتي مع تقديري لعلم الأستاذ
ومكانته.
- 1 -
جاء في هذا المقال (اشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة من هؤلاء المغول سماهم البحرية ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز أيبك)
والمعروف أن العمز ايبك تركماني والمظفر قطز خوارزمي وكانا من اشد أعداء المغول جنسا، أما البحرية فأصلهم من أتراك روسيا التي كان يسكن الجزء الجنوبي منها قبائل القفجق وسلالتهم القوزاق وسكان روسيا وجزء من رومانيا وإليهم ينتسب الظاهر بيبرس وقلاوون وخلاصة أمراء الدولة التركية بمصر وقد سببت غارة أبناء جينجيز خان على جنوبي أوروبا تشتيت وهجرة هذه العناصر التركية وكان مجيء هؤلاء لمصر عن طريق البحر موانئ (بحر أزوف) (بحر الأزرق) فسمو بالبحرية لذلك ولو أن المقيزي يقول أن التسمية نسبة لجزيرة الروضة حين كانت قلاع الملك الصالح.
ويحاول بعض الكتاب المعاصرين الزج بالمغول في حياة مصر الإسلامية رغبة في الإقلال من شأنها وللحط ومن كرامتها. والحقيقة أن العناصر التركية خدمت مصر والإسلام أجل الخدم واعترف المؤرخون المعاصرون بذلك وكان ابتداء اتصال الأتراك بمصر من أيام المأمون والمعتصم والمتوكل ثم استقل بها آل طولون ثم آل الأخشيد وهما دولتان قامتا(893/11)
على شجاعة وكفاية رجلين عظيمين وكلاهما من وسط آسيا التركية.
ولما دخل المعز لدين الله الفاطمي مصر تأثر بما سمعه المشرق عن شهرة الأتراك في الحروب وله كلمة مع قائده جوهر (راجع الخطط صفحة 107 جزء 2) ولما ظهر العزيز بالله على هفتكين التركي اصطنعه سنة 380 وضم بعد ذلك منجوتكين ونشأت فرق من الأتراك في الجيش الفاطمي.
أما المغول الذين خدموا مصر فمعروفون في التاريخ من سلاطين وأمراء وقواد وأهمهم السلطان كتبغا الذي حارب في معركة شقحب مع الناصر محمد ضد بني قومه وجئ به للحرب محمولا على محفة وكل من أسلم من المغول حسن إسلامه وهم الذين نشروا الإسلام في ربوع الروسيا (جاء في السلوك صفحة 716) وصلت (لمصر) رسل تدان منجوبن طوغان بن باطو بن دوشي بن جنجبز خان ملك القيجاق بكتاب بالخط المغعولي يتضمن أنه اسلم ويريد أن ينعت نعتا من نعوت الإسلام.
- 2 -
وجاء ذكر وقانين المغول وأهمها السياسة في كتب المؤرخين المسلمين كما يأتي: المعروف عن جنجيز خان أنه صحاب (الترواً) و (اليسق) ويقول صاحب النجوم وهو تركي (إن التورا باللغة التركية المذهب واليسق هو الترتيب: والأصل في الياسة أو السياسة أن سي بالعجمي ثلاثة ويسا بالتركي الترتيب وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا وانتشر ذلك في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام ويقولون سي يسا فثقلت عليهم فقالوا سياسة على تحاريف أولاد العرب في اللغات الأعجمية).
والغريب أن هذه الكلمة شائعة بالريف في مصر فقد سمعت من يقول (احكم بالعدل يا فلان أنت شرع وسياسة) أي أنه يحل معضلات الأمور بالشريعة والسياسة وهو لا يعلم منشأ الكلمة في الأصل.
أنني لا أشك لحظة في أن العاهل المغولي صاحب التورا واليسق وهما قانون المغول ولكن هل هذه القواعد استعملها الترك قديما في بواديهم؟ وأن الذي جمعها جنجيز خان وألزمهم بصفته الخان العظيم بأتباعها؟ يحتاج الأمر إلى دراسة وتدقيق قبل إصدار حكم قاطع.
أما كلمة (سي ياسة) فيخيل لي أنها استعملت قبل مجيء المغول للمشرق سنة 618(893/12)
هجرية.
ولقد كنت معنيا ببحث هذه النقطة بالذات عقب اطلاعي على نص غامض في كتاب الروضتين جزء أول صفحة 187 عن حوادث 566 هجرية وظهور جنجيز خان كان حوالي 168 بآسيا الإسلامية فيكون بينهما نصف قرن وأكثر وهذا هو النص:
(لما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده واستبداد عبد المسيح بالأمور وكان يبغضه لما يبلغه من خشونته والمبالغة في إقامة السياسة. . .)
وأني اعتقد بأن النص أن صح كما ورد يحتمل أن السياسة كان معمولا بها قبل مجيء المغول غير أن المبالغة والإفراط في تنفيذ أحكامها كان مكروها لدى نور الدين الذي غلبت على طبعه التعاليم الإسلامية فأصبح ليناً رقيقاً. إن الأنابكة وهم من أتباع السلاجقة لابد أنهم نقلوا عوائد الترك وأنظمتهم في أواسط آسيا. وهذه العوائد خاصة بأنظمة الجيوش والاقطاعات ولا تمس الدين والمعاملات بشيء وقد جاء في صبح الأعشى جزء 4 ص 5 (واعلم أن الدولة الأيوبية لما طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية خالفتها في كثير من ترتيب المملكة وغيرت غالب معالمها وجرت على ما كنت عليه الدولة الأنابكية)
ويظهر مما كتبه ياقوت عن بلاد الترك أنهم كانوا أهل مدينة وأنظمة فهو يصف العمران في خوارزم وقرثمانة واشروسنة وما يطلق عليه الآن تركستان الصينية وتركستان الروسية وهو يقرر ويكتب ما رآه بنفسه ويقول أن خراب هذا العمران جاء بعد أن تملك خوارزم شاه البلاد وقضى بإجلاء السكان سنة 600 وإن إخلاء البلاد سهل على المغول القضاء على خوارزم شاه في سنة 617 فتخرب الباقي. فليس بمستبعد أن تكون لهم قواعد لضبط النظام بين الجيوش وأخذ الجنود بالشدة وإلا فما معنى قول ياقوت
(وهم أعظم الناس طاعة لكبرائهم وألطفهم خدمه لعظمائهم) ويقول صاحب النجوم الزاهرة ص 288 جزء 6
(ولما تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري أحب أن يسلك في ملكه بالديار المصرية طريقة جنجيز خان هذا وأموره ففعل ما أمكنه - واستمر أولاد جنجيز خان في ممالكه التي قسمها عليهم في حياته وعلى طريقته في (التورا) و (اليسق) إلى يومنا هذا)(893/13)
وعليه بأن دخول النظام المغولية على يد أقوى خصوم المغول.
- 3 -
وقد أطلعت في السنوات الأخيرة على بعض الأبحاث التي نشرت حديثا - والتي يحاول أصحابها لأسباب غير معروفة ولا مفهومة الحد من قيمة الخدمات التي أدتها مصر الإسلامية للعالم وخصوصاً الإقلال من شأن دولتي المماليك في مصر والشام وانتقاص قدر السلاطين العظام والطعن في شخصيتهم من ذلك قولهم عن دولتي المماليك أن السلاطين أوقفوا العمل بالشريعة الإسلامية بإيجاد نظام حجوبية الحجاب فتعدى الحاجب حدوده وأخذ يحكم في المواريث متخطياً ولاية القاضي الشرعي. وهذا غير صحيح إذ أن سلاطين مصر ضربوا مثلا رائعاً في احترام رجال القضاء الإسلامي ونزلوا على أحكامهم حتى فيم يخص صميم عمل الدولة وهي صفحة رائعة. أما نظام الجند وترتيب أمور الإقطاع وتدريب المستجدين من المماليك وجنود الحلقة فيحتاج لكثير من الشدة والعدالة وتوقيع العقوبات الرادعة وهذا ما أخذ به هؤلاء الملوك والقادة منذ قيام دولة آل سلجوق ووجدنا بيبرس يأخذ بنظام جنكيز خان ويطبق الشدة والعدالة لينتصر بنظام جنيكز خان ضد أولاده وأحفاده من المغول. وهكذا سارت الأمور إلى نهاية الدولة المملوكية.
والغريب أن النزاع بين الحجوبية والقضاء الشرعي لم يسمع به في الوقت الذي كانت أنظمة الظاهر بيبرس معمولاً بها ظهر حين تراخت الأحكام وتعذر تنفيذ العدالة وحصل التساهل في أخذ الجند والمماليك بالشدة اللازمة لهم وهو نزاع لا يفهم من قيامه أن الحجوبية أتت للقضاء على شرائع الإسلام.
- 4 -
ويفهم من مقال الدكتور محمد صالح بك أن نظام الحجومية أنشئ لجماعات المغول التي أتت لمصر واختلطت بأهلها مع أن الحجومية نظام قائم للجند أساسه فض المشاك الناشئة عن توزيع الإقطاع لأن الإقطاع ليس ملكاً للأمير يتصرف به تصرف المالك فلا يورث عنه وإنما هو منحة ليقوم الأمير بالجهاد في سبيل الله فعليه أن يستعد بجنده وسلاحه وممالكيه لهذا الواجب فإذا مات صاحب الإقطاع لزم السلطان أن يقوم بالمحافظة على(893/14)
حقوق الجند والمماليك الذين قام في الأصل الإقطاع على أسلحتهم ودمائهم فبقدر ما تطبق العدالة في تصريف هذه الشئون بقدر ما تكون جيوش المسلمين على أهبة للجهاد. وبقدر ما يسود الظلم وتعم الفوضى بقدر ما يفقد الجيش روح المقاتلة والكفاح. فالشدة توجد النظام والعدالة توجد القوة المقاتلة التي تبذل الدماء فلم يتحدث في تلك الأيام وبعد إدخال هذه الأنظمة أن زلت مصر أمام الصليبين أو ولى جنودها الأدبار في معركة قائمة أمام المغول أو غيرهم وإنما كان تاريخ مصر حلقة مستمرة من الانتصارات المجيدة ولذلك دهشت من مقال الأستاذ الذي يضع عهدا إسلامياً عظيما ويحشره بين عهود الرومان والبطالمة والأغارقة ثم يقحم بالعرب وسط هذه الشعوب الظالمة وأننا نؤمن بأن العروبة ومصر صنوان لا يفترقان فالعناصر التركية والمغولبة ذابت في بوتقة المصرية لأن مصر إسلامية عربية كما ذابت العناصر العربية في بوتقة الأتراك لأن تركيا إسلامية فلا محل إذن لوضع العرب وأمراء الإسلام وملوكه مع غيرهم.
- 5 -
جاء في المقال اسم بيرا وصحته (البيرة) بكسر الباء وسكون الياء وهي قلعة في البر الشرقي من الفرات وموقعها في تركيا واسمها الآن (بيرة جك) وجاء في التعريف (ولها منعة وعسكر) وكانت داخل أقاليم حلب في الدولة المصرية ولها حاكم وجند من مصر أما الحدود فكانت شمال ملاطية عند قلعة دريدة وقد جاء في صبح الأعشى أن نيابة البيرة تقدمة ألف وتوليتها من الأبواب السلطانية بمرسوم شريف.
- 6 -
تركت هذه الأنظمة الإقطاعية ألفاظا معينة في مصر منها كلمة عزبة ولا اختلاف على معناها وكلمة الوسية التي اختلف المفسرون على معناها جاء في السلوك (وفيها انتقل سعر الفول من ديار مصر من خمسة عشر دينار إلى ثلاثين دينار المائة إردب بحكم المشتري لعلوفة الوسية العادلية خمسون ألف إردب سنة 588هـ.)
وجاء في حاشية الدكتور زيادة (الوسية لفظ مشتق من اللفظة التركية أوسي ومعناها الدار وكل ما يتبع صاحبها من حاشية وحشم وحيوان) نقلاً عن بلوشيه ص 112 ويقول دوزي(893/15)
في قاموسه (الوسية هي المرعى المشاع) والصحيح الوسية نسبة إلى الوسي القبيلة الكبيرة أو مجموعة الشعب وتطلق على الاقطاعات المشاعة أو أراضي الشيوع أي التي تبقى مشاعاً بين الأمراء والجند فلا تدخل في إقطاع أحداً بل تبقى بيد السلطان لمساعدة من ينقص إقطاعه وقد استعملت إلى اليوم بالأرياف في مصر للدلالة على الأرض التي تبقى بذمة المالك فلا يزرعها أحد من المزارعين).
أحمد رمزي
مراقب عام التشريع التجاري والملكية الصناعية(893/16)
المعذبون
للأستاذ علي محمد سرطاوي
ليس العذاب في الحياة أن تجوع مرة وتظمأ أخرى، وأن تعرى حيناً وتتشرد أحياناً، وأن تنظر حولك في مسالك الحياة فلا ترى إلا الفراغ الهائل والوحشة في فترات الضيق، وأن تفتش عن الصديق الوفي فلا تجده في ساعات الشدة. . .
وإنما العذاب كل العذاب؛ في أن تجوع فلا تجد الرغيف، وأن تعرى فلا تجد الثياب، وأن تتشرد فلا تجد الوطن الذي يتحرك قلبه شفقة عليك لأنك جزء منه، وأن تتلفت حولك في مطارح الغربة فلا تجد القلب الرحيم الذي تطل من حنانه عليك رحمة الله، ولا اليد الكريمة التي تحمل البلسم لتدمل به جراحات القدر في حياتك، وأن تمد بصرك إلى آفاق الأمل فيرتد إليك الطرف خاسئاً حسيراً وقد تمشت في أوصالك قشعريرة الموت لأنك لم تعد تبصر شيئا.
وفصائل الحيوان أكثر حنواً على أنواعها، وأكثر تواصلا من بني الإنسان من مسارب الوجود؛ فالحيوان لا يستأثر بالغذاء من دون أفراد جنسه، ولا يفتك بغيره إلا إذا عضه الجوع، الخسف، ولا يسفك الدماء كما يصنع الإنسان حباً في الاستعلاء الحقير.
والشعور الكاذب الذي تصطنعه الأجناس البشرية نحو بعضها البعض ونحو الأجناس الأخرى ليس في حقيقته إلا لونا من ألوان الرياء الاجتماعي والنفاق الرخيص. قد أظهرت فترات المحن التي نمر بالحياة على أنه كذلك، وعلى أنه كسحابة الصيف لا يلبث أن يزول سريعا متى ذهبت الأسباب غير الإنسانية التي تدفع إليه.
جلس الفتى المشرد عن وطنه في تلك الغرفة الضيقة التي كانت نصيبه فيه في نهاية المطاف وقد حشرت معه فيها تلك الأسرة البائسة المضيافة التي لا تذكر أن الدهر ابتسم في وجهها مرة، أو طاف بها طائف من سرور في حياتها.
جلس ذلك الفتى أو ذلك الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة، وقد سجى الليل وهجعت العيون، وراحت النسائم الرطبة تهب من مياه البحر على المدينة الحالمة المتشحة بأردية النور فتلطف الحرارة.
ومد طرفه في نور السراج الضئيل فرأى بسمات الفرح تعلو ثغور الأطفال الثلاثة الذين(893/17)
يفترشون الأرض، وقد بدت سوآتهم من ثيابهم الممزقة، وهم يحلمون بالعيد، العيد الذي سيحمله إليهم نور الفجر الوليد بعد ساعات.
وعادت الذكريات بالصبي المشرد إلى مثل هذه الليلة في الوطن الجريح المستعبد الذليل؛ تلك الذكريات التي لا تميت جراحها في قلبه ولا تشفى، تلك الذكريات التي تنزف جراحتها الأحزان في عواطفه والتي عجزت دموعه عن غسلها من ذلك القلب الحزين سنوات ثلاثاً طويلة.
وفتح الباب الضيق وملأ رئتيه بالهواء العليل فأحس ببعض الراحة وعاد إلى مكانه فحملته الأفكار مرة أخرى إلى تلك الصورة البشعة في تلك الليلة الليلاء وقد رفد في مسقط رأسه بين أمه وأبيه وأخويه وأختيه، وبينما كانت الأحلام الجميلة تداعب هذه الأسرة السعيدة في ليلة العيد وإذا بعشرات من غلاظ الأكباد دفعهم القدر العابس، ممن تتلمذوا على حضارة الغرب ومبادئ حقوق الإنسان، يقتحمون المنزل ويمنعون بالأبرياء النائمين تقتيلا وتشويهاً حتى أخمدوا أنفاسهم وضرجوهم بدمائهم شأن الشجعان من غزاة القرن العشرين.
إنه لا يذكر كيف نجا، وإنه لعاتب على القدر لهذه النجاة، وكم ود أو أنه نام واستراح إلى جانب أبيه الشيخ في تلك الليلة، ولكن القدر الذي أتاح له الهرب من الموت، دفعه في طريق مفروشة بالأشواك والعذاب لا نهاية لها.
كل ما عرف من أمر نجاته أنه أفاق مذعورا وفر من باب خلفي فألفى المدينة بأسرها تذبح، والناس يتركون منازلهم في جنح الليل حفايا وعرايا، فاتجه مع المتجهين إلى السهل البعيد، فإلى الجبال ثم إلى حياة لا نهاية لها من عذاب الذل في هوان التشريد.
لقد ظل الإنسان هو ذلك الإنسان الذي عرفته الشمس في فجر الحياة البشرية، ولم تمح الحضارة من نفسه تلك القسوة العاتية التي ورثها من ضعفه يوم كان يهيم على وجهه في الغابات جائعاً عارياً يطارد الحيوانات وتطارده في الأحراج والكهوف والتي كثيراً ما كانت تتغلب عليه فتنكل به، والتي قلما تغلب إلا على الضعيف منها فقسا على ذلك الضعيف القسوة التي مازال يقسو بها على الضعفاء من بني جنسه حتى اليوم وحتى نهاية الحياة. والقسوة الموروثة في الإنسان البدائي أقل منها في الإنسان المتشح برداء مدنية القرن العشرين. لقد كان الغزاة القدامى يقتلون الأعداء ويضعون حد لآلامهم، أما الغزاة الذين(893/18)
يستظلمون بحماية الأمم المتمدنة ورعايتها فقد مضوا شوطاً بعيداً في تلك القسوة حين هدتهم المدينة الغربية إلى قتل البعض وتشريد القسم الأعظم ليموتوا موتاً بطيئاً لا يذوقون فيه كل ما في العذاب من ألم ومرارة وجحيم. . .
وراح الصبي المسكين يقلب الأفكار في رأسه مستعرضاً ما عرف من مآسي التاريخ التي تشبه مأساة قومه في سير الزمن على أيدي السفاحين في قصة الإنسان فوق الأرض، فبدت له شريعة الظفر والناب مسيطرة على ما يسمونه (بالضمير الإنساني)، وأن الإنسان إذا كان قويا فلن يضيره أن يدوس ذلك الضمير في سبيل الوصول إلى غايته، ما دام يجد أن الذين يمدون بصرهم إليه بالإعجاب، وأكفهم بالتصفيق، وحناجرهم بالهتاف لا يقيمون وزناً لما ينصع، بل لما وصل إليه.
وكم حز في نفسه أن يسمع تلك الوحوش البشرية تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان، ودماء الأطفال والنساء والشيوخ من بني قومه لا تزال تقطر من مخالبها وأنيابها.
وكم حز في نفسه أن لا يتحرك الضمير الإنساني لدى الأمم المتمدنة التي جلس فيها ممثل تلك الوحوش، لمأساة بني قومه مثلما أبصره ويتحرك للمعاني البعيدة عن الإنسانية في كثير من المناسبات.
وتعالت شمس العيد، وسمع صراخ الأطفال وهم يتأرجحون فرحين بملابسهم القشيبة، وأبصر من النافذة الناس يروحون ويجيئون والسرور باد على وجوههم، وسمع المقرئ يرتل في المذياع قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فأقفل النافذة مذعوراً وعاد إلى نفسه يذرف دمعة كبيرة على ضريح تلك الأمة التي كانت متمثلة في آي الذكر الحكيم، والتي كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، عزيزة لا تطلب إلا الشهادة في سبيل الله وإعلاء كلمة الإسلام. فانحنت أمامها الرقاب ودانت لها الدنيا وسجد لها التاريخ.
لشد ما يحاول هذا المسكين نزع الآلام من عواطفه، ولكنها عميقة الجذور لا يقوى على استئصالها! ولكم حاول أن يبدو كالبركان هادئ المظهر، وأن يضع على شفتيه ابتسامة مزيفة كعواطف البشر، ولكنه لم يقو على ذلك لأنه صبي لم تعلمه الحياة الخبث والمكر والخداع بعد.(893/19)
لن يعرف معنى الوطن وحب الوطن غير أولئك الذين ذاقوا مرارة التشريد دون أن يكون لهم وطن. فأيقنوا أن الحياة رخيصة جداً إذا بذلها المرء في الدفاع عن ذلك الوطن والفوز بالراحة الكبرى فيه.
إنه في وطنه الأكبر، وطن العروبة، لا يحس بالغربة، يهون عليه دائماً وقع المصيبة وهول الكارثة أنه كان مع بني قومه الطليعة التي قضى عليها العدو المتربص فتنبه الجيش إلى الخطر ليأخذ الأهبة، واستعد لمناهضة العدو القادر. كانت هذه المعاني تبعث في نفسه طمأنينة السماء، أن الفرد إذا مات في سبيل المجموع كان شهيداً، قد أدى واجبه نحو أمته ووطنه، ولا عليه بعد ذلك، إن ظل كالجندي المجهول لا يعرف الناس عنه شيئا، وإن لاقى في سبيل أداء هذا الواجب مالا تقوى رواسخ الجبال على احتماله والصبر عليه.
سوف يموت جيل العبيد الحاضر الذي اختار الحياة في معركة الشرف والدفاع عن كرامة الدين والعرض والمجد، حين تحدته قطعان من كلاب البشرية، فأقبل إليه الموت يحمل في يديه عار الأبد، وقيود الذل، والمهانة والازدارء والحقارة بين الشعوب الكريمة. . .
وسوف تندفع الأجيال الحرة المقبلة من أبناء العرب، من وراء الغيب، وقد حملت في أرواحها بطولة المسلمين وأمجاد الفاتحين وعزة المؤمنين، تطلب الموت في سبيل الله لتنهار الدنيا فما فيها من قنابل ذرية تحت أقدامها، وما يذل إنسان يطلب الموت. . .
ومشت ساعات الزمن، وانطلق الناس إلى غاياتهم، ومرت أيام العيد الثلاثة، فما أحس بالمعاني الإنسانية التي تفرضها روح الإسلام على المسلم نحو أخيه المسلم، وما أحس بوجوده أقرب البيوت إليه وبينهم من يتزيأ بزي علماء المسلمين.
وكان من سوء حظه أن تحدق به قصور المترفين، ولو كانت تحتاطه بيوت الفقراء لغمروه بحنانهم ورغائبهم، لأنهم يمرون بالآلام التي يمر بها. ولتهب عليهم رياح البؤس والحرمان من صحراء الحياة كما تهب عليه.
ترى لماذا اختار الله رسله وأنبياءه من الطبقة التي صهرها العذاب؟ ولماذا قدر أن يذوق المصلحون والعباقرة والفنانون كؤوس البؤس منوعة من يد الحياة؟
إن الذين يولدون على الذهب، ويشبون بين القصور في أحضان الترف، ويجلسون في المقاعد الأمامية في مسرح الحياة، لا يعرفون عن الحياة شيئا.(893/20)
أما الذين يعبثون في جحيم الحياة، ويبصرون صور العذاب، ويشربون كؤوس البؤس، هم الذين يحسون آلام الناس، وهم الأقلام الحساسة التي تنطبع عليها صور الرحمة والحنان بالناس جميعا. . .
ومن يدري؟ فلعل يد القدر وهي تعطي النضار والسيارات والقصور - تأخذ من تلك النفوس المعاني الإنسانية والرقة ونبل الشعور
بغداد
علي محمد سرطاوي(893/21)
التذوق الأدبي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
تقرأ قصيدة من الشعر أو كلمة من النثر فتعجب بها وتترك في نفسك أثراً يختلف من حين إلى حين شدة وضعفاً. وما دام الأدب تعبيراً عن خوالج النفس، تعبيراً عاطفياً، فإنه لابد أن يؤثر في نفس القارئ أو المستمع، تأثيراً لا نقول أنه هو ما في نفس الكاتب، بل يكاد يكون هو ما في نفس الكاتب. والأدب ككل فن من الفنون الجميلة، أن لم يتحدث إلى النفس بمنطقها الذي قد يتفق ومنطق العقل وقد يختلفان، فإنه يصبح شيئاً مرذولاً، ونتاجاً ثقيلاً، ليس أدبياً صرفاً ولا عقلياً خالصاً. فالفنون لا تخاطب العقل ولكنها تخاطب النفس. ومنطق النفس يصعب وصفه وتحديده، غير أنه في كثير من الأحيان مزاج يصعب فصل عناصره الأولى من المنطق العقلي والمنطق العاطفي.
وإذا كانت العاطفة تختلف من إنسان إلى إنسان، شدة وضعفا، تفاؤلا وتشاؤمنا، نبلا أو سفاهة؛ وإذا كان أسلوب التفكير لدى إنسان غيره لدى إنسان آخر، فإن التأثر الأدبي والفني يختلف من إنسان إلى إنسان تبعاً لاختلاف العواطف ومكوناتها وتبعا لاختلاف أسلوب التفكير.
فالأدب ليس وقعه واحداً في النفس الإنسانية، بل يختلف شدة وضعفاً، عمقاً وسطحية، استغراقاً وهامشية، من إنسان إلى إنسان. وهو في النفس الواحدة يختلف من وقت إلى آخر، لأن النفس يتحكم في تأثرها وحكمها على الآثار والأشخاص الظروف الطارئة، والآثار العارضة، والمواقف الجديدة.
فالتأثر الأدبي يختلف من نفس إلى نفس وفي النفس الواحدة يختلف من وقت إلى أخر. لذلك فإنه لا يكون واحداً في النفوس جميعاً، ولن يكون واحداً في النفس الواحدة، بل أنه أن كان واحداُ في جوهره، فإنه يختلف في حواشيه، وصوره، وما يستتبع من آثار، من وقت إلى أخر.
وهذا هو الخلود في الأدب والفن، فإنه لا يبلى، بل يتجدد دائما في الأصباح والأمساء. وكل إنسان يتذوقه بأسلوبه الخاص؛ أسلوبه العاطفي والمنطقي. هو واحد نؤمن به جميعا، ولكنني أومن به في صورة غير الصورة التي تراها أنت. إما جوهر العلم وحقيقته فإنا بها(893/22)
جميعاً في جوهر واحد وصورة واحدة.
العلم والفن يتكلمان عن الجواهر، يتكلمان عن الإنسانية الصافية الخالصة، في آمالها وطموحها وماضيها وحقائقها التي لا تتغير. هما يخدمان الإنسان، كل بأسلوبه المفيد وطريقته الفذة التي لا يقصر فيها ولا يجاوز طوره وصورته مختلفة، فإن حقيقة العلم واحدة وصورته واحدة أيضاً.
ومن هنا نجد العلم لا يختلف من إنسان إلى إنسان ولا من وقت إلى آخر. ومهما تقلبت الظروف بالإنسان فإن الحقيقة العلمية لا تتغير زيادة ولا نقصاً. بخلاف الحقيقة الأدبية فإنها تختلف من إنسان إلى إنسان، ومن وقت إلى آخر، وتستتبع من العواطف والصورة والأفكار ما يتغير من زمان إلى زمان.
والإنسان ليس هذا الذي تجده أمامك في هذه الساعة وأنت تخطئ في تقويم الإنسان حين لا تراه إلا هذا الحاضر بين يديك، المتحدث إليك، الناقل عنك والذي تنقل عنه. الإنسان ليس أبن اللحظة الراهنة، وليس أبن الماضي وحده، إنما هو أبن اللحظة الراهنة وابن الماضي وابن المستقبل أيضاً. هو أبن لآماله وطموحه، وابن لواقعه الذي هو فيه وابن لماضيه الذي أصبح شيئاً يؤسف عليه أو يؤسف منه.
وماضي الأفراد مختلف من فرد إلى فرد. ومستقبل الأفراد مختلف من فرد إلى فرد. وحاضر الأفراد مختلف من فرد إلى فرد. ولذا تجد الإنسان منا في حاجة إلى الخيال الواسع، والبصيرة المنيرة والحساسية النافذة، حتى يقوم زميله وأخاه، وحتى يحكم عليه حكما صوابا أو مقاربا إلى الصواب.
أنا ثقافتي أزهريه؛ فقد تخرجت في الأزهر، وتخرجت في معهد التربية. أما جاري فثقافته جامعية، تخرج في المدرسة الثانوية، وتخرج في كلية التجارة. وجاري الآخر نشأ فلاحاً يبذر بالبرسيم ويحصد القمح. فنحن مختلفون في نشأتنا، مختلفون في ماضينا، مختلفون فيما ينسج من آمال مستقبلنا، إننا أناس تجمع بيننا أسباب عارضة ليست في قوة الأساليب التي تجعل لكل منا فردية وحدة وشخصية مستقلة.
فالخلاف بين الإنسان والإنسان واسع. خلاف في العاطفة. خلاف في الفكرة. خلاف في الإحساس. خلاف في كيفية هذا الإحساس. خلاف في الحاضر. خلاف في الماضي. ومن(893/23)
غير شك خلاف في المستقبل. خلاف في أسلوب التعامل. خلاف في الفرح والرضى. خلاف في الحزن والبكاء. خلاف في أنفاس الحياة وتسوية البنان.
وهذا المدى الواسع من الخلاف يجعل لكل إنسان شخصية تتمايز عن غيرها من الشخصيات تمايزا ظاهراً. وهذا التمايز الظاهر يجعل لكل منا أسلوباً خاصاً في الفهم، والتعامل، والاستجابة لأحداث الحياة الدقيقة والجليلة. وهذا التمايز نفسه هو الذي تتعلق به آمال الطاقة البشرية في أن يبلغ كل فرد غاية إمكانياته للبذل في سبيل الإنسان.
والتذوق الأدبي يختلف على هذا المدى الواسع. فأنت تقرا قصيدة فتعجب بها وتذهب تصف إعجابك وتبرره. ويقرؤها غيرك وقد لا يعجب بها أو قد لا يعجب بها هذا الإعجاب الذي أعجبته، ثم يذهب يبرر مسلكه تجاه هذه القصيدة. وإن كتب على الناس أن يظلوا مختلفين فمن المحقق أن تذوقهم للروائع الأدبية لا يمكن أن يتفق، بل يظل مختلفاً أوسع الاختلاف وأشده. مختلفاً تبعاً لاختلاف الطفولة، واختلاف موارد الثقافة، واختلاف فلسفة الفرد في الحياة، واختلاف آمال المستقبل، واختلاف التركيب العضوي الذي يستتبعة في التركيب النفساني من فرد إلى فرد.
فالتذوق الأدبي مختلف من فرد إلى فرد وأن كنا نعلم الأدب يتكلم عن الجواهر، والجواهر لا تتغير - ولكن صورة الجوهر، والعواطف التي يثيرها، والآثار التي يستتبعها، تختلف من إنسان إلى إنسان، وان كان الجوهر في ذاته واحداً. فهذا الجوهر الواحد يقبل التشكيل فيما يخرجه الرجال المقتدرون من أنبياء الفن، ولكنه لا يقبل التشكل فيما يخرجه الرجال القادرون على البحث والتجريب.
قال أبن الدمينة:
وأنت التي كلفتنيدلج السرى ... وجون القطا بالجلهتين جثوم
وأنت التي قطعت قلبي حزازة ... وفرقت قرح القلب فهو كليم
وأنت التي احفظت قومي فكلهم ... بعيدا الرضى وإني الصدود كظيم
هذه الأبيات الثلاثة تتكلم عن حقيقة هي ما يلقاه المحب من عنت وإرهاق، وما يعترضه من عقاب في سبيل حبه هذه الحقيقة جوهر لا يتغير، ولا بد أن تظهر عليه إن توفرت أسبابه ودواعيه. ولكن أبن الدمينة أختار ألفاظا خاصة، وصوراً خاصة، وعاطفة خاصة،(893/24)
أقطع مؤكداً أن شاعراً غيره لابد أن يحور كل التحوير أو بعض التحوير في هذا المتاع الخاص بابن الدمينة لو أراد أن يظهرنا على ما يلقاه المحب من عنت وإرهاق وما يعترضه من صعاب في سبيل حبه.
ثم أن أبن الدمية نظم ألفاظه التي اختارها تعبر عما يريد نظماً خاصاً، ليؤكد هذه العقاب والمصاعب، وليرى لنفسه حق نستعطاف هذه التي تكلفه العقاب والمصاعب. فأنت ترى أنه بدأ كل بيت بضمير المخاطبة، وابتع هذا الضمير اسم الموصول للمؤنث، وفي البيتين الأولين أتبع اسم الموصول فعلاً مضعف العين - كل هذا ليكرر الإسناد الذي يدل على التأكيد. ثم أنظر في البيت الثاني إلى التمييز الذي استتم به الشطر الأول منه، وفي البيت الثالث إلى قوله (احفظت قومي) مضافاً إلى الضمير واسم الموصول تجد أن هذا الفعل كالزمردة المسحورة التي تكشف لنا عن احتدام قلوب القوم غيظاً وكراهية لهذا المحب المظلوم.
وما أخالك إلا قد استجاب حسك لهذه المقابلة السنية بين هذا الذي كلف دلج السرى وجون القطا الجثوم بالجلهتين، بين هذا المحب الأواب إلى ذكرى الحبيب ودياره وهذه القطا الآمنة الجاثمة في مكانها الدفيء. ثم لا أخالك أيضاً إلا استجاب حسك لهذا القلب الذي أصيب ويصاب كل يوم فهو كليم. وأ لست ترى صدود القوم وإشاحتهم عن أبن الدمينة كلما ألم ينادي قومه أو تجول في أحيائهم! وأ لست ترى هذا الغيظ الذي ترتسم سيماه على الوجوه وألست ترى هؤلاء القوم المحفظين يصبرون أنفسهم على سفه أبن الدمينة هذا!
كل هذا في عاطفة خاصة هذه العاطفة الخاصة ليست غاضبة على المحبوب إنما عي عاتبة عليه، وليست تقابل غيظ القوم بغيظ مثله لأنها واجدة لهم عذراً، وليست ترى في هذه الآلام إلا نوعاً من القربان يتزلف به المحب إلى من أحب لعله يرضى!
وهذه الأبيات الثلاثة تنشر لي صوراً من ماضي الذي انطوى وما إلى عوده من سبيل، صوراً لا أستطيع أن أعبر عنها في هذه السطور المعجلة - يوم كنت شاباً في أول خطوات الشباب أعب من معين الطبيعة أطرافاً من النهار وزلفاً من الليل، وأنصت إلى دقات الليل العميق يبارك أبناء الطبيعة الهجود - أرى على صفحة الأفق أبن الدمينة هذا متخذاً سمته إلى ديار حبيبته، وقد أبيض الأفق الشرقي إيذاناً بانبلاج الفجر الجديد.(893/25)
على مثل هذا النحو أتذوق أبيات أبن الدمينة، فثقافتي لها حظ، واستجابتي لصورها ومعانيها لها حظ ثان، وعاطفتي التي لاءمت عاطفة الشاعر لها حظ ثالث، وما بعثته في نفسي من صور واحساسات خاصة بي له حظ رابع. . . فأنا قد تذوقت هذه الأبيات بكيفية خاصة نابغة من نشأتي، وثقافتي، وما انطبع على صدري من مرائي الطبيعة، واستعدادي الشخصي لأن أستجيب لهذه العاطفة التي اتخذها الشاعر ثوباً لفكرته. وإني على يقين أن غيري يتذوقها على غير هذا النهج ولو كانت ثقافته كثقافتي ونشأته كنشأتي.
فالتذوق الأدبي ليس من الحق أن توضع له القواعد والحدود.
محمود عبد العزيز محرم
مدرس بالفصول الثانوية بالمنيا(893/26)
حول البردة
للأستاذ محمد سيد كيلاني
بقية ما نشر في العدد الماضي
لم سميت بالبردة؟
سبق أن رأينا البوصيري يطلق على قصائده أسماء معينة مثل (ذخر المعاد) و (تقديس الحرم من تدنيس الضرم) و (أم القرى في مدح خير الورى). ومن المؤكد أن هذه الأسماء لا تخفي وراءها أسراراً وأنه لم يقصد بها غير ظاهرها. وقد أطلق على قصيدته التي مطلعها.
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أسم (البردة) وذلك على سبيل المجاز. فهي في نظره قد استوعبت مناقب الرسول وفضائله. وقد شبه البوصيري شعره في أكثر من موضع بالبردة وبالحلة. فقال يخاطب النبي في قصيدته (ذخر المعاد).
ها حلة بخلال منك قد رقمت ... ما في محاسنها للعيب تخليل
جاءت بحبي وتصديقي إليك وما ... حبي مشوب ولا التصديق مدخول
ألبستها منك حسنا فازدهت شرفاً ... بها الخواطر منا والمناويل
لم أنتحلها ولم أغصب معانيها ... وغير مدحك مغصوب ومنحول
وقال في الهمزية:
هاك من صنعة القريض بروداً ... لك لم تحك وشيها صنعاء
فهذا البيت صريح في أن الرجل كان يرى أن مديحه للرسول يشبه البردة التي حوت جميع الصفات الحميدة التي أتصف بها النبي عليه السلام.
وقد ذكر البوصيري كلمة (بردة) في غير المناسبات السابقة ومثال ذلك قوله:
رسول الله دعوة مستقيل ... من التقصير خاطره هيوب
تعذر في المشيب وكان عياً ... وبرد شبابه ضاف قشيب
وفي قصيدته (ذخر المعاد) نظر إلى كعب بن زهير وقصته مع الرسول قال:(893/27)
وما على قوم كعب أن نوازنه ... فربما وازن الدر المثاقيل
فما تقدم نرى أن البوصيري أطلق على قصيدته اسم (البردة) ولم يرد منه سوى المعنى المجازي.
وللبردة اسم آخر وهو (البرءة) وذلك لأن البوصيري في زعمهم برئ بها من علته ولو ألقينا نظرة على هذه القصيدة لما وجدنا الشاعر قد ذكر علته ولا أشار إلى إصابته بمرض معين إشارة قريبة أو بعيدة ولم يتوسل إلى الله أن يشفيه من مرض أصابه ولا من داء ألم به.
فهذه التسمية مبنية على قصة مرض البوصيري بالفالج ورؤيته للنبي وشفائه عقب هذه الرؤية، وقد سبق أن ناقشنا هذه الروايات وفندناها. وكل ما يمكننا أن نقوله هو أن البوصيري ربما نظم هذه القصيدة عقب شفائه من الكسر الذي أصابه. وفي هذه الحالة يعوزنا الدليل على ما نقول.
وعلى ذلك فالأقرب إلى العقل والمنطق أن البوصيري رأى قوماً متجهين إلى الحجاز فتذكر رحلته فأنشأ هذه القصيدة وبدأها بقوله: أمن تذك جيران بذي سلم. . . الخ فإذا اقتنعنا بذلك أمكننا أن نقول أن إطلاق أسم (البرءة) على هذه القصيدة هو من وضع الرواة واختراع القصاص.
وقد سميت كذلك بقصيدة (الشدائد) وذلك لأنها في زعمهم تقرأ لتفريج الشدائد وتسير كل أمر عسير وهذا وهو باطل واعتقاد فاسد. وما البردة إلا قصيدة كغيرها من آلاف القصائد التي مدح بها الرسول. وليت شعري أي شيء في هذه القصيدة يشفي من الأمراض ويجلب الرزق ويذهب بالشدائد أهو البكاء على جيران بذي سلم وكاظمة وأضم والبان والعلم؟ أم ذكر إرتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان وسجو الأشجار، وهذا كله من الأساطير والخرافات؟ وفضلا عن ذلك فإن البوصيري ذكر هذه الخوارق في قصائد أخرى كما ذكرها غيره ممن مدحوا الرسول. فلم انفردت أبيات البوصيري في هذا المقام بشفاء المرض وتفريج الشدائد دون غيرها؟
أما التكلم عن جهاد الصحابة فهذا مذكور في كثير من كتب التاريخ، ولا يعقل أن الشعر الذي يشير إلى هذا الجهاد يشفي مرضاً أو يجلب رزقاً.(893/28)
لم تحور البردة عير هذه الموضوعات: الغزل والتشبيب بالأماكن الحجازية، ثم وصف لمناقب الرسول وذكر لكثير من العجائب والمعجزات، ثم الإشادة بكفاح الصحابة في سبيل الإسلام. ولا يستطيع عاقل أو نصف عاقل أن يدعي أن شعراً يقال في موضوع من هذه الموضوعات يجلب الغنى ويطرد الفقر ويذهب الضيق.
وأسم آخر أطلق على هذه القصيدة وهو (الكواكب الدرية في مدح خير البرية).
شروط قراءتها:
ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول هذه القصيدة بل شرعوا يضعون لقراءتها شروطاً لم توضع مثلها لقراءة القرآن. فمن هذه الشروط:
(1) التوضؤ (2) استقبال القبلة (3) الدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها (4) أن يكون القارئ عالماً بمعانيها (5) قراءتها بالنظم لأنها وردت منظومة لا منثورة (6) حفظها (7) كون القارئ مأذونا بقراءتها من أهلها (8) قراءتها مع الصلاة على النبي عليه السلام. ويلزم أن تكون الصلاة بتلك التي صلى بها البوصيري وهي:
مولاي صلي وسلم دائما أبداً ... على حبيبك خير الرسل كلهم
لا بغيرها وإلا فلا تكون مؤثرة.
وقال قوم آخرون أن من شروط قراءتها أن يصلي من أراد ذلك ركعتين بنية قضاء الحاجة لوجه الله تعالى. وأن يقرأ بعد الصلاة ثلاث مرات بأسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وثلاث مرات خير لنا وشر لأعدائنا. رب يسر ولا تعسر. رب تمم بالخير آمين رب العالمين. وثلاث مرات يا فتاح. وما النصر إلا من عند الله ثلاث مرات. الله أكبر، ألله أكبر، لا إله إلا الله. والله أكبر ولله الحمد. وأن يقرأ الآية الكريمة مرة واحدة مع البسملة الشريفة وهي قوله تعالى: فلقد جاءكم إلى آخر الآية وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة أعني بها اللهم صل أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم عدد معلوماتك، ومداد كلماتك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكر الغافلون.
ولا شك في أن هذا يدل على انحطاط في مستوى التفكير وضعف لا مثيل له في العقول. ووجه العجب في هذا أن المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم قد آمنوا بهذه الخرافات(893/29)
واتفقت كلمتهم في مشارق الأرض ومغاربها على التصديق والإيمان بما يقال عن هذه القصيدة لا فرق في ذلك بين سني وشيعي. والذي ساعد على هذا هو تفشي الجهالة بين الشعوب الإسلامية بعد أن ابتعدت عن العلم الصحيح وتركت تعاليم المعتزلة جملت واحدة واستسلمت للدجالين والمشعوذين الذي سيطروا على العقول زمناً طويلاً.
ويرجع الفضل في نشر هذه الخرافات بين المسلمين إلى رجال الطرق الصوفية الذين اتخذوا البردة نشيداً يتغنون بها في حفلات الذكر.
مناقبها:
ووضعوا للبردة من المناقب والفضائل مالا يقع تحت حصر. فهي تشفي من الرمد والفالج والحمى وغيرها من الأمراض. وما قرأها أحد عند نزول الشدائد إلا فرج الله عنه. وما قرأها على سفينة هال عليها الريح إلا سلمت من الغرق. وما قرأها مسجون إلا خرج سالماً. ومن قرأها في ليلة الجمعة يعد العشاء الأخيرة بطهارة كاملة رأى النبي في منامه. ومن مناقبها أنها تقرأ لإطالة العمر ودفع البلاء وجلب المنفعة.
هذه مناقب القصيدة عامة. ثم وضعوا لكل بضعة أبيات منها مناقب خاصة وفوائد معينة. فمن قوله:
أمن تذكر جيران بذي سلم
إلى قوله:
وما لقلبك أن قلت استفق يهم
يقول عبد السلام بن إدريس المراكشي أحد شراح البردة (خاصية هذه الأبيات الثلاثة إذا كانت عندك بهيمة لم تقبل التعلم فاكتبها في زجاجة وامحها بماء المطر واسقها للبهيمة فإنها تذل وتتعلم ما أنت تعلمها بسرعة. وإن كانت لك مملوكة أو مملوك من العجم، ولم يتعلم كلام العرب بسرعة فاكتب هذه الأبيات في رق غزال ثم علقه على عضده اليمن فإنه يتفصح بسرعة بإذن الله تعالى.)
ومن قوله:
أيحسب الصب أن الحب منكتم إلى قوله:
والحب يعترض اللذات بالألم(893/30)
قال الشيخ عبد السلام المتقدم ذكره: (خاصية هذه الأبيات عجيبة. وذلك أنك إذا كنت تتهم أحداً من النساء فأكتب هذه الأبيات في ورقة انزج وخلها حتى الوقت الذي تكون فيه نائمة، فضع الورقة على ثديها الأيسر واجعل أذنك عند فمها فإنها تنطق بجميع ما تفعله في غيبتك من مليح أو قبيح. هذا مجرب صحيح. وكذلك إذا شككت في أحد أنه أخذ لك شيئا وأنكره فاكتب هذه الأبيات في جلد ضفدع مدبوغا وخذ لسان ضفدع وصبيره في الجلد وعلقها في عنقه فإن المتهم الذي سرق لك شيئا يقر به من ساعته ويدهش ولا يستطيع أن ينكر ولا يخاصم أصلاً، فاعرف مقدار هذا السر العظيم).
وهكذا استغل المشعوذون والدجالون قصيدة البردة لابتزاز الأموال والاحتيال على بسطاء الأحلام وضعفاء العقول. واتخذوا منها تمائم وأحجبة وشرعوا يوهمون السلاح بفوائد هذه التمائم ومنافعها ويتقاضون على ذلك ما يملأ جيوبهم ومن الذي يستطيع أن يأتي بجلد ضفدع مدبوغ ولسان ضفدع ورق غزال وماء زعفران غير أولئك الذين خصصوا أنفسهم في مزاولة الاحتيال والنصب؟
شهرتها
وقد ترتب على ما تقدم أن سار ذكر البردة في الآفاق شرقاً وغرباً، وحفظها الخاص والعام، وتعنى بها الناس في الموالد والأذكار، وأكثروا من تلاوتها في شتى المناسبات. وقد ترجمت إلى بعض اللغات الشرقية كالتركية والفارسية والأردية. كما ترجمت إلى بعض اللغات الأوربية. فترجمها إلى اللغة الفرنسية المسيو رينه باسيه وطبعها في باريس سنة 1894. كما ترجمها إلى اللغة الإيطالية السنيور جابر يلي طبعها في فلورنسه عام 1901. وكذلك ترجمت إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية.
وأقبل الشعراء عليها فمنهم من يصدرها ومنهم من يعجرها ومنهم من يخمسها ومنهم من يسبعها، ومنهم من يتسعها ومنهم من يعشرها ومنهم من ينهج نهجها ويسنج على منوالها.
وأوسعها الكتاب شرحاً وتعليقاً ووضعوا لها المناقب والفضائل والكرامات على نحو ما ذكرنا. وفي دار الكتب المصرية مجموعتان كبيرتان، الأولى تحت عنوان تحاميس البردة المسماة (بالكواكب الدرية في مدح خير البرية) وهي تسع وستون تخميساً لم يعلم جامعها.
والثانية عنوانها: (الشهب المضية في تخميس الكواكب الدرية) وهي ثلاثون تخميساً لم يعلم(893/31)
جامعها.
ولا تخلو مكتبة في أوربا من شروح للبردة وتخاميس لها.
كيف اشتهرت البردة؟
أنت تعلم أن البوصيري من أصل مغربي، وأنه قضى بقية عمره في الإسكندرية مندمجاً في سلك أبي العباس المرسي، مجتهداً في نشر الدعوة للطريقة الشاذلية.
وقد كانت الإسكندرية في ذلك الوقت محط رجال كثير من المغاربة الذين كانوا يفدون عليها ويجدون من سذاجة الناس ما يشجعهم على الاشتغال بالنصب والاحتيال وادعائهم رؤية الطوال وعلم الغيب والقدرة على جلب الثروة وكشف المخبأ من الكنوز وغير ذلك من ضروب الغش التي استحلوا بها أموال الناس.
وطفق هؤلاء المغاربة بعد زوال الدولة الفاطمية يعملون على الاحتفاظ بمكانتهم الأدبية ومستواهم المادي الذي كانوا عليه أيام الفاطميين، وهكذا رأينا أقطابا من أصل مغربي يظهرون فجأة وتوضع لهم المناقب وتخترع لهم الكرامات ومن هؤلاء الأقطاب أبو الحسن الشاذلي فقد قال فيه أنصاره ما لم يقل مثله في أكبر الصحابة والتابعين. ورأى هؤلاء المغاربة أن يكثروا من عدداً لأقطاب طمعا في الثروة وجلبا للكسب فألفوا حول أبي العباس المرسي مثل ما ألفوا حول أستاذه الشاذلي، ثم ألفوا حول البوصيري المغربي الأصل مناقب كثيرة ولقبوه بالإمام وأقاموا له ضريحاً. وهكذا أخذت أضرحة الأقطاب المغاربة تكثر يوما بعد يوم فرأينا إبراهيم الدسوقي في دسوق، وأحمد البدوي في طنطا، وعبد الرحيم القنائي في قنا، يوسف أبا الحجاج في الأقصر. وأخذ المصريون يحملون إليها النذور ويقدمون لها القرابين ويتوسلون بها في قضاء الحاجات. وبهذا اغتنى القائمون على هذه الأضرحة وكلهم من أصل مغربي، واستحلوا أموال الناس يأكلونها بالباطل ولم يتورعوا عن استغلال الطرق المزرية وارتكاب المخازي والقبائح مع ضحاياهم ليستولوا بذلك على الأموال الطائلة. وأعانهم على ذلك جهل العام وعدم وجود حكومات تضرب على أيديهم.
وأتخذ المغاربة من (البردة) مجالا لنشاطهم، ووضعوا لها المناقب والفضائل، واحتكروا نسخها وتأجيرها وبيعها وشرحها وتفسيرها، كما كتبوا في خصائص كل بيت من أبياتها.(893/32)
وحفظها أتباع الطريقة الشاذلية وصاروا ينشدونها في الأذكار.
قيمتها الأدبية:
لا جدال في أن البردة من أروع القصائد التي قيلت في مدح الرسول. فهي قوية في أسلوبها غنية بالحكم الخالدة والتشبيهات الرائعة والاستعارات اللطيفة والمعاني التي عجز الشعراء عن الإتيان بمثلها والتي ضمنت للبوصيري ذيوع الاسم وخلو الذكر. وقد اقتبس الشعراء الذين جاءوا بعده كثيرا من المعاني الواردة في البردة. ومثال ذلك قوله:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
فأخذ هذا المعنى شعراء كثيرون منهم أحمد شوقي حيث يقول:
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
وقال:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم
فتداوله كثيرون ومن ذلك وقول أحدهم:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
وقد أجاد البوصيري إجادة تامة في قوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
في حين أن شوقي لم يجد في قوله:
ذكرت باليتم في القرآن تكرمة ... وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم
ولم يلحق بالبوصيري حين قال:
يا أيها الأمي حسبك رتبة ... في العلم أن دانت بك العلماء
ولم ينتفع الشعراء بمعاني البوصيري في هذه القصيدة فقط، بل انتفعوا بأسلوبه وأغاروا على طريقته ونقلوا كثيرا من عباراته. ولعل هذا يرجع إلى مظهر القداسة التي أحيطت به هذه القصيدة وإلى الإجادة التامة التي وفق إليها البوصيري في البردة. وما أصدق أحمد شوقي حين يقوله:
المادحون وأرباب الهوى تبع ... لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك حب خالص وهوى ... وصادق الحب يملي صادق الكلم(893/33)
الله يشهد أني لا أعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم
وإنما أنا بعض الغابطين ومن ... يغبط وليسك لا يذمم ولا يلم
محمد سيد كيلاني(893/34)
أنا. . . والبحر!
(مهداه إلى الأستاذ راجي الراعي)
للأستاذ صبحي إبراهيم صالح
(أيها البحر! أبها الملك الجبار، المحفوف بالأسرار!
إنني الساعة في ثبجك، أدنى ما أكون إلى عرشك، بعد أن تجرعت في عبابك ماءك الأجاج، ولقيت في سبيلك الأهوال من جنودك الأمواج. . .
لقد بلغتك بشق النفس لتقربني نجياً، فهل أنت طاردي أم ستكون بي حفياً؟
تبسم (ملك السواحل) ضاحكاً من قولي، وكأنما أدركته الشفقة عليّ، فأوحى إلى جنوده الأمواج: (أن انطلقوا جميعاً إلى الشاطئ القريب، ودعوني وحدي مع الفضولي الغريب. . .)
حتى إذا شرعت أمواجه تنحسر التفت إلى وقال: (تكلم ولا تخف إنك من الآمنين)
فتنفست ملء رئتي بعد أن احتبست من طول السباحة أنفاسي، وأنشأت أقول للبحر الأثبج معجباً بحلمه، فرحاً بما لقيت من كرمه:
- أتدري ملك السواحل أن أبرز سجاياك سعة صدرك، وشدة صبرك؟
- أجل. . . وبسعة صدري وشدة صبري استطعت أن أحتفظ بعرشي حين ثلت العروش، وأن أصون تاجي يوم حطمت التيجان.
- لقد رأيت عرشك أيها البحر في ثبجك. وما لاح لعيني تاج على لججك. . .
- وكيف يلوح الآن في الأصيل تاج لا يزين رأسي إلا قبيل الغروب؟ أن تاجي هالة حمراء من نور الشمس حين تروم المغيب في الأفق البعيد.
- أنظرني إذن إلى وقت غيابها، لعلي أرى هالتها تكلل رأسك الجميل.
عنجر البحر شفتيه، كأن طلبي الأخير لم يرق لديه، ثم قال:
- أنظرك؟. . . كلا. . . حسبك ما يأخذك الآن من سحرها، وما تحسه من اتقادها ووهرها فإني أغار عليها من نظرة الإنسان، ومن ملاطفة الهواء ومن نجوى السماء. . .
- لله درك من عاشق ولهان، ولله در لنلوك حين يعشون!
- نعم. . . عاشق أنا ومدنف؛ وإني لأصف معشوقتي بما لا يبلغ وصفه الشعراء. فعلى(893/35)
جبينها الوضاح نور يتألق، وفي عينيها الزرقاوين شرارة تلتهب، وبين شفتيها الحمراوين خمرة تفور. أما خدها الأسيل فزنبقة من الحلد، وأما شعرها الطويل فموج من ذهب، وأما خصرها النحيل فأرهفته يد الخالق الفنان.
- يا ليت شعراءنا يسمعون وصفك الخيالي ليعلموا أن أشعار الملوك ملوك الأشعار. وأنها تنطلق من أعماق القلب هازئة بالقوافي والأوزان.
- إن شعراءكم أيها الناس مغرورون، وكثير منهم كاذبون. يكتفون بتقطيع البحور ووزنها، ثم يصرون ما لا تدركه بصائرهم ويتخيلون مالا حقيقة له في أنفسهم، ويخدعونكم بزخرف ألفاظهم فتقعون له ساجدين.
- ولكن أعذب الشعر أكذبه أيها الملك الشاعر.
- وإن للكذب فنوناً وأساليب، أيها الفضولي الغريب، فلقد تتخيل ما تشاء من الأخيلة الكواذب وأنت - مع ذلك - صادق الشعور صدقاً فنياً لا خلقياً. وإن لك أن تكذب ما حلا لك على أن تتلو وحي قلبك، حين تفنن في كذبك.
- سأقول هذا لشعرائنا المعاصرين؛ ولكن. . . من لقنك هذا أيها البحر العظيم؟
- ملهمتي. . . أجل. . . الشمس التي تفيض على النور، فتجعلني مرهف الحس والشعور.
- الشمس - دائماً الشمس - ألست تبصر سواها في الوجود؟
- ومالي لا أغمض عيني عن سواها وهي ربة النور
- أنظر إلى السماء. . . إنها - هي الأخرى - فاتنة حسناء حين يصفو أديمها، ويتهلل وجهها، فتسر الناظرين.
- السماء؟! أكرهها
- لماذا أيها البحر؟
- لأن سحابها الثقال تحاول أن تحجب عب الشمس كلما تكاثفت، ولأن نجومها التياهة ودت لو تعوض لألاء شمسي كلما طلعت، ولأن قمرها المغرور ينكر الجميل ويحسب أنه ناسخ بنوره ضياء شمسي كلما سطع.
- أنت إذن تكره الظلام؟
- ومن لا يكرهه في الوجود؟ أن الظلام معلم النفاق الأول(893/36)
- وكيف ذلك؟
- إنه ستار صفيق، وحجاب ثقيل. أن المجرم ليتوارى في جنح الظلام فلا تدركه الأبصار؛ وإن ذا الوجهين لرابحة تجارته إذا عسكر الليل البهيم.
- بيد أن الحقائق لا تخفى طويلاً.
- لأن النور هو الذي يزيل خفاءها، ولو بقيت في الظلام أظل الناس جهلاء لا ينعمون بحقيقة، بلهاً لا يطلعون على سر.
- أرجو أيها البحر أن يكون في قلبك من الصراحة كفاء حبك لها وثنائك عليها.
- إن لي منها مقداراً عظيماً. الست تراني جارحاً والصراحة جارحة؟ أو لست تراني عاريا والصراحة عارية!
- أنت؟ أنت أيها الملك عار؟ وأين أبهة الملك وزينة السلطان؟ أأنت أيها الجالس على عرشك عار وإن الخدم بين يديك يلبسونك ما تشاء، وينتقون لك من الأزياء والألوان ما تريد، فهي تارة زرق صافية بلون السماء في اليوم الصائف، وهي تارة عكرة شواحب كلون السحاب حين يهدودر المطر، وهي أحياناً بيض نواصع من اثر الجليد في صنابر الشتاء؟. . .
- ها ها. . . أهذه أزياء وألوان، في نظرك أيها الإنسان؟ إنني - بالرغم منها جميعاً - عار لا يسترني لباس. إنها تعلن صراحتي وتفضح ما بنفسي، فكلما بدت مياهي زرقاً صافيات كنت ناعم البال رخي القلب، وكلما بدت عكرة شواحب كنت شتيت الخواطر قلق النفس، وكلما بدت بيضاً نواصع كنت جامد المشاعر خامد الإحساس. وما أستطيع - وفي حالة من هذه الحالات - أن أكتم تأثري وانفعالي، وتلك - لعمري - مزايا الصريح.
- ما أبرعك في الدفاع عن نفسك! ولكن. . . قل لي أيها الملك العاشق الشاعر الخطيب: متى ترضى ومتى تغضب؟
- أرضى إذا رضي أصحابي، وأغضب حين يغضبون.
- وما أوفاك!. . . ومن أصحابك؟
- كل صريح لا يداور، مخلص لا ينافق.
- ومن أعداؤك؟(893/37)
- ألد أعدائي الأنواء والرياح، فإنها تخرج أثقالي، وتقطع اوصالي، وتجعل بعضي يموج في بعض.
- والحرب؟
- ويل لي من الحرب؟ أنها تساعد الأنواء والرياح نكايتي واستفزازي، ولا سيما حروبكم الأخيرة التي مزقت أيها الناس لفائف قلبي وقطعت أمعائي، وعلمتني أن أكون كالغراب، آكل لحوم الأموات الخنزة وأواريها في أحشائي
- ولكنك أيها البحر الجروز تأكل لحوم الأموات حتى في غير الحروب.
- هذا كذب وزور.
- كيف وأنت في السلم تلتهم في جوفك الأب فتخلف أبناءه يتامى، وتبتلع في بطنك الحبيب فتفصله عن حبيبته، وتدفن في أحشائك الوحيد فتثكل بفقده أمه؟ إنك قاس أيها البحر مهما أظهرت اللين فاجتذبت القلوب، شرس ولو مثلت الوداعة فأجدت التمثيل.
- ماذا تقول؟
- أقول إنك تتظاهر بكراهية النفاق وأنت غريق فيه كواعظ ينهى على الخلق الذميم وهو يأتيه، وأقول انك تلبس مسوح الرهبان، ينقض على فريستك انقضاض التعبان.
- لقد أكثرت القول يا هذا وأنا صبور.
- وأقول إنك كساسة الغرب تصافح بيد من حرير. وأنت تبيت الغدر، وتمكر أشد المكر. . . أما كان خليقاً بك أن ترحم الملاحين الذين يمخرون عبابك، والرحالين الذين يضربون في مائك، والمسافرين الذين ينزلون ضيوفاً عليك، والسابحين الذين يغوصون في قاعك؟ أما كان جديراً بك أن تأخذ بأيديهم إلى الشاطئ بدلاً من أن تغيبهم في أعماقك، أو تهشمهم على صخورك، أو تلقي جثثهم عند أقدام جزرك، أو تحبسهم في مضيق خلجانك أو تجعل بقاياهم طعاماً لحيتانك؟!
- أيها الفضولي المتفلسف! إنك تجهل حقائق الأمور. ما ينبغي لي أن أغرق أحداً وما أستطيع. أن أعدائي الرياح والأنواء تأبى إلا أن تزيد في نكايتي واستفزازي فتثور في وجوه أحبابي، وتهوي بهم في مكان سحيق.
- ربما اقتنعت بكلامك لو وقفتني على سر هذه الطعوم التي تعدها لنا معشر الناس.(893/38)
- الطعوم؟ أية طعوم تعني؟
- أعني طعومك. . . أعني اللحوم الطرية التي تجول في صدرك، بل الحلي الجميلة التي تتدلى على نحرك. . . أعني الأسماك التي ترغب في اصطيادها، واللآلئ التي تولع باقتنائها. . . أو ما تكفي هذه وتلك لتكون طعوما لنا معشر الناس؟
- وما ذنبي إذا جئتم تغتصبون حيتاني فأغرقتكم في عبابي، أو أقبلتم تسرقون مرجاني فأوصد عليكم بابي؟ أن طمعكم يوردكم المالك أيها الناس.
- ولكنك أحياناً تعدو علينا من غير أن نأكل حيتانك، أو نسلب لؤلؤك أو مرجانك.
- ومتى عدوت عليكم؟
- كلما جن جنونك، وثارت ثورتك، فراحت قيضائك تدمر المدن الوادعة، وتدمدم على الدور الآمنة.
- لي بإقناعكم أن ليس هذا بعدوان مني أيها الناس من لي بإقناعكم أن العدوان لا يقوى عليه إلا ذو مرة وجبروت وأن ليس لي من القوة ما تزعمون؟ إنما فيضاني بكاء المهزوم المتراجع. أن عيوني لا تفيض إلا إلى حين تنتصر عليّ الأنواء العاتية والرياح الغاشمة. وأنتم أيها المساكين ضحايا دمعي المسكوب، فوا رحمتاه للضعيف المغلوب.
- كفى. . . كفى أيها البحر! ما برحت عند ظني بك، فإنك على قوتك تظهر الضعف، وعلى قسوتك تزعم اللين، وعلى نفاقك تدعي الإخلاص، وتريدنا معاشر الناس أن نؤمن بدعاويك وننخدع بزخرف ألفاظك.
ولم يدعني الحر أتم كلامي، فلقد تقبضت صفحة وجهه فقام على عرشه وقعد، ثم أرغى وأزبد، وأنذر وتوعد، ثم حشر جنوده الأمواج، وناداها، فأسرعن عاديات إليه من الشاطئ القريب، وأيقنت أني سعيت إلى حتفي بلظفي، فاستسلمت للأقدار وطفقت أسبح تارة على ظهري وتارة على جنبي، وأخبط طوراً بيدي وطوراً برجلي، وأريد أن أستغيث فلا تنطلق الاستغاثة من حلقي، ثم قبض الله لي الريح عدوة البحر فطردت فلول الأمواج إلى ناحية وأنشأت تدفعني بكلتا يديها إلى ناحية، حتى قاربت الشاطئ خائر القوى لاهث الأنفاس، فتلقاني بعض السابحين وأنقذني ومسرني ثم ابلغني مأمني.
ولما خرجت قدماي من المياه سمعت صوت البحر الأجش يجليل في الفضاء، شامتاً بما(893/39)
نالني من عناء: فإذا هو يقول وإن الأثير يردد صداه (لقد عدت أيها الإنسان إلى الشاطئ كما جئت إلى عرشي في موج كالجبال، وإنه لجدير بمن ظهر على أسرار الملوك أن يلقي الشدائد والأهوال!)
فلما نجوت إلى البر صحت بالبحر بأعلى صوتي:
(أيها الملك الجبار، المحفوف بالأسرار! لقد أصبحت الآن على رمل ساحلك، أبعد ما أكون عن عرشك، بعد أن عببت كرة أخرى ماءك الأجاج. ولقيت الأهوال من جنودك الأمواج!
كلا. . . لن أحاول أن تقربني نجياً؛ ولن أسألك أن تكون بي حفياً!. . .)
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم صالح(893/40)
خواطر في كتاب الله
الروح المعنوية
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كثيراً ما تتعرض الأمة لأخطار جسيمة تقض المضجع وتقلق الأفكار، وتنغص العيش وتسلب الهدوء - فعندئذ تكون في أمس الحاجة إلى تقوية روحها المعنوية حتى لا تنهار، ورباطة جأشها حتى لا يستولي عليها الجزع، وثبات قلوبها حتى لا يتملكها الروع والفزع.
وكثيراً ما تتعرض الأمة لأزمات مستعصية تدعها مسابحة في أجواء من الوهم، غريقة في بحار من الوسوسة، شاردة في بيداء من الحيرة، مستسلمة لكتائب القلق ونوازع الاضطراب
وكثيراً ما تحيط بها النوائب؛ وتحدق بها الشدائد، وتصوب إليها سهام المكائد، وتصب عليها الأرزاء فلا ينقذها من هذا سوى الصبر والثبات والأيمان العميق:
. . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون أن كنتم مؤمنين: أما إذا بدأت الأمة في كفاح يحفظ لها عزتها، ونضال يعيد إليها حربتها، وجهاد يدك معالم ذلتها، وراحت تدفع بأبنائها إلى المعمعة ليبذلوا دمائهم في سبيل استقلالها، وليقدموا مهجهم لتحقيق غاياتهم، وليجودوا بأرواحهم ليهبوها حياة طيبة وعيشة راضية فإنها عندئذ تكون أكثر افتقار إلى تقوية الروح المعنوية فيحثها القرآن على الصبر والثبات:
اصبروا وصابروا ورابطوا ... إذا لقيتم فئة فاثبتوا)
ويحذرها أن يتسرب الضعف إلى نفوسها:
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) ويبث فيها الثقة بالنفس ولو كانت قلة:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ويقوي في نفوس أبنائها الثقة بالنصر لأنهم يجاهدون في سبيل نصرة الحق ولأن للحق قويا مقتدراً كفيلاً بنصرة جنوده:
(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون - ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم - وليكم الله ورسوله والذين آمنوا - ومن يتولى الله ورسوله والذين أمنوا فإن حزب الله هم الغالبون(893/41)
ويذكر جنودها البواسل بأن الأعمار آجال محددة ليكون ذلك باعثاً لهم على الجرأة والإقدام والتضحية والمخاطرة.
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا - لكل أجل كتاب - ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها
ويكبر من شأن الهجرة في سبيل دعوة الحق والاستشهاد من أجل نصرتها:
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون - والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم
القاهرة
محمد عبد الله السمان
المدرس بمدرسة علم الدين الابتدائية للبنات(893/42)
مأساة حيفا
(من الحق أن ننعت الإنجليز بأنهم مثاليون في بلادهم، مثاليون
في قيم النزاهة، ومعايير الخلق وموازين الإنسانية والضمير.
. .
ومن الحق أيضاً أن ننعتهم بأنهم مثاليون في غير بلادهم ما مثاليون في الأنانية والجشع، وضعة الضمير والخلق، وانتفاء العدالة والإنصاف. . .)
أنور المعداوي
لعل الإنجليز أكثر شعوب الأرض أنانية وحب نفس؛ والمثل العليا والمبادئ الإنسانية وصوت الضمير ليست إلا ألفاظاً جوفاء، لا وجود لمعانيها في معاجمهم حينما تتعارض مع أنانيتهم ومصالحهم. والإنجليزي مغرق في برودة الطبع والحس والضمير، لا يعرف عدواً أو صديقاً، إنما يجري وراء رغيف الخبز كما يجري الكلب الجائع وراء من يحمل الخبز كائناً من كان.
ولعل أكثر الناس إحساساً بهذه المعاني ذلك النفر من الشباب العربي الذي تعلم في معاهد الإنجليز - ولا ندري أكان ذلك لسوء حظهم، أن لسوء حظ الإنجليز - ورآهم في صور مزيفة من المثل العليا والديمقراطية الكاذبة في بلادهم. أن هذا النفر من الشباب الذين تتلمذوا على الإنجليز وتثقفوا بثقافتهم لا يؤمنون بديمقراطية الإنجليز ومثلهم العليا. إنهم على النقيض من ذلك يرونهم محرومين من هذه المعاني حتى في بلادهم. هنالك الحواجز الفولاذية بين الطبقات في المجتمع: سيد وعبد، نبيل وخادم، تعليم محتكر لطبقة الحاكمين وتعليم لطبقة المحكومين. والقسوة والغطرسة والظلم ليست إلا صورة ثابتة لا تتغير في أخلاق الإنجليز في تاريخهم الحافل بالسيرة الحسنة في أيرلندة والهند والسودان ومصر وفلسطين، وفي كل مكان عاقب الله الناس بوجودهم فيه. أسمعت من التاريخ، بالفندال والهون والبرابرة الذين عاثوا بالحضارة الإنسانية فدمروها في مطلع التاريخ الوسط وطمسوا معالمها؟ إنهم لا يزالون يعبثون بكل ما فيهم من قسوة وبربرية وهمجية في جلود الإنجليز. ثار الأيرلنديون على الظلم زمن حكم الملكة اليصابات إبنة هنري الثامن فأرسلت(893/43)
إليهم جيشاً لإخماد الثورة، وحينما وصل إلى مسمعها الفظاعة التي تقشعر من هولها الأبدان والتي اقترفها الجيش مع الأيرلنديين بكت تلك الملكة وقالت كلمتها الخالدة: (حسبت أنني أرسلت إلى أيرلندا مخلوقات يتحرك فيها الشعور الإنساني، ولم يدر بخلدي أن الإنجليز ذئاب مفترسة جائعة لها جلود بني الإنسان). وذلك (ورن هاستنج) حاكم الهند العام الذي كان يؤجر الجيش البريطاني للفتك بالناس وتدمير حياتهم وإشاعة الذعر والهلع بينهم، وان كانوا أصدقاء للإنجليز!
لقد عاش كاتب هذه السطور بين الإنجليز في بلادهم، وخارج بلادهم فعرفهم حق المعرفة، ورأى وسمع واختبر وخرج من كل ذلك برأي صائب ونتيجة صحيحة، ذلك أن الإنجليز هم الإنجليز في بلادهم وخارج بلادهم. فالذهب لا يكون ذهبا في مكان ما ثم إذا انتقل إلى مكان آخر اصبح حديداً. هذه خرافة أثارتها الدعاية الإنجليزية لتستر خزيها ولؤمها وإجرامها في بقاع الدنيا، وإذا استمعت إلى الإنجليز في بلادهم وسألتهم الرأي الصحيح في (انهم مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق، وموازين الإنسانية، والضمير. . .) لشكوا في ذلك كثيراً، ولحسبوا أن غيرهم المقصود بهذه النعوت.
والإنجليزي إنسان شرس، متوحش الطبع، وقد زيف ظاهره ببرودة مصطنعة وتباله مقصود، يخيل لمن يراه أنه قديس من القديسين. وهو في بلاده مخلوق تافه حقير، وخارج بلاده إله يجلس على قمم الألب يحرم ويعطي، يرفع ويخفض، يذل ويعز. وهو في الحالتين المخلوق الذي يحمل بين جنبيه قلباً من الصوان ونفساً متعطشة للدماء.
ويحدثنا علم النفس أن الحياة لا تجمع بين قويين، فإذا كنت قويا بدا لك ذلك الإنجليزي هزيلاً حقيراً ذليلاً، وإذا ظهرت أمامه بالضعف - فالويل لك - انه يتغلب عليك في طرفة عين وكأنه وحش مفترس ينهش أحشاءك بالظفر والناب. وهو إذا أدبرت عنه تبعك، وإذا أقبلت عليه أدار ظهره إليك. هذه حقيقة لم يفهمها رجال السياسة عندنا - وهل عندنا رجال سياسة! - وقد فطن إليها أخصامنا فاستفادوا من ذلك وخرجوا بالمغانم لأممهم وقضاياهم.
ننتقل بعد ذلك إلى صورة رفيعة لعدالة الإنجليز ونبل ضمائرهم وسمو أهدافهم، وهي صورة من مأساة فلسطين. لا تتسع هذه المقالة للتفصيلات التي لا تسعها المجلات. وإنما ترسم بعض الخطوط الرئيسية رسماً سريعاً لتعين القارئ على فهم المأساة التي تقدمها مثلاً(893/44)
على عدالة الإنجليز.
حلم هرتسل في أواخر القرن التاسع عشر برجوع اليهود إلى أرضلميعاد، واستحال هذا الحلم على يد حاييم وايزمان - المحاضر في جماعة منشستر عام 1917 إلى وعد بلفور ذلك الوعد الذي يجمع بين الماء والنار: يعطي العرب الأمان والاستقرار في فلسطين، ويمنح اليهود دولة بكل مفهوم معاني الدولة وراء كلمات كاذبة سطرت في ذلك الوعد للخداع والتضليل. ذكر السر هربرت صموئيل - أول مندوب سام يهودي على فلسطين في مذكراته - أن اليهود طالبوا بوطن روحي وأن الإنجليز أصروا على إعطاء دولة يهودية، وقد احتج عقلاء اليهود على هذا الكرم البريطاني لعميق اعتقادهم أن إنجلترا لا تحفظ الود لإنسان في الدنيا، وإنهم إنما يدبرون كارثة رهيبة لليهود مجتمعين في مستقبل قريب أو بعيد.
وأقبل اليهود في ظل الحرب البريطانية، والعدالة السكسونية، والقوانين الظالمة، والبطش والجبروت والإرهاق بما لم يدر في خلد محاكم التفتيش - أقبل اليهود ومعهم الأسلحة، وراحوا يشيدون الثكنات الحربية والمعاقل باسم المستعمرات، ويملئونها بالأسلحة، ويؤسسون المصانع الفتاكة لإنتاج الأسلحة المختلفة، وراح الإنجليز يدربون جيشاً سرياً قوياً من اليهود، حتى إذا ما تم كل ذلك أرادوا أن يجربوا بأس ذلك الجيش، فغضوا الطرف عن إرهابية اليهود وتساهلوا حتى قتل الإرهابيون زهرة شباب الإنجليز. ولما برهن ذلك التلميذ النجيب على جدارته ودعه الأستاذ الماكر وتركه يحل المسألة بالطرق التي دربه عليها، وبعد أن وضع في يديه جميع الحلول.
وتقع مدينة حيفا على سفح جبل الكرمل على خليج عكا، وقد بنى الإنجليز جوفاً هائلا أصبح ممراً لتجارة الشرق والغرب، وانتهت إليه أنابيب الذهب الأسود من العراق يتكرر ويمد الدنيا بالوقود.
وبنى اليهود على سفح الكرمل وقمته أحدث مدينة وأجملها بالقياس إلى أحدث المدن العالمية سموها (هدار كرمل). وأقام الإنجليز في ذلك الجبل - المطل على الميناء تحصينات هائلة من مدفعية ثقيلة للمحافظة على المرفأ ورد الغزاة.
واختار الإنجليز أن تنسحب جيوشهم من مرفأ حيفا وأخذوا يتجمعون من أنحاء فلسطين(893/45)
ويركبون البحر، وأخذوا منطقة واسعة حول الميناء وحولوها إلى ثكنات تعج بالجنود والعتاد.
وقبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948 بأسبوعين أو ما يقرب من ذلك - راح الإنجليز يسلمون لليهود المراكز الستراتيجية المهمة قبل انسحابهم منها.
ومدينة حيفا - عروس البحر الأبيض المتوسط التجارية - كانت غاصة بالعرب وتجارتهم، وكان يسكنها مالا يقل عن ثمانين ألفا منهم. وكانت البضائع المكدسة على أرصفة الميناء للتجار العرب لا تقل أثمانها عن عشرين مليونا من الجنيهات، وكان العرب يملكون في تلك المدينة من نقود ومتاع ومجوهرات بما نقدر قيمته بثلاثمائة مليون من الجنيهات.
وأقبل المساء - ذات ليلة - وأقفل العرب حوانيتهم - وقد كان كاتب هذه السطور شاهد عيان في تلك الأمسية - وعادوا إلى منازلهم وناموا آمنين، لأن الجيش البريطاني بكل قوته يجاورهم في الميناء.
وفي الساعة الرابعة صباحاً أو ما يقرب من ذلك، سلم الإنجليز لليهود المواضع الحربية المهمة التي كانوا يحتلونها في المدينة وعلى جبل الكرمل بكل ما فيها من عتاد، وانسحبوا سراً في هدوء تام إلى منطقة الميناء وجلسوا يشاهدون التمثيلية.
وأوعزوا إلى اليهود، فراحت عشرات الألوف منهم، وقد حملت الأسلحة الفتاكة والأوتوماتيكية، تشد أزرها المدفعية الثقيلة التي وضعت لرد الغزاة عن الميناء - راحت المدفعية الثقيلة واليهود يشنون هجوماً مركزاً وحشياً على العرب النائمين في بيوتهم وما هي إلا لحظات حتى كانت الأحياء العربية بأسرها أتوناً يحترق. وأفاق من الناس مذعورين وراحوا يتراكضون إلى الشوارع عراة كما كانوا في فراشهم، وأخذ اليهود يفتحون لهم الطريق إلى الميناء بالرصاص ليموتوا غرقا - كل ذلك والجيش البريطاني يشاهد المأساة - مأساة ثمانين ألفاً من النساء والأطفال غير المسلحين يذبحون ذبح الماشية، فكان منظر نيرون وهو يشاهد روما بعد أن أمر بحرقها، أكثر إنسانية من منظرهم وتسامع العرب في المدن والقرى المجاورة بمأساة إخوانهم فهرعوا من كل فج عميق فوجدوا الطرق(893/46)
المؤدية إلى المدينة قد سدتها دبابات الجيش البريطاني الثقيلة، وراحت تطارد النجدات العربية برصاصها وتؤكد لهم أن الجيش في المدينة قابض على ناصية الأمن، وأن ليس في المدينة أي شيء يستوجب القلق والاضطراب، فعادت الجماهير على أعقابها مرغمة وهي تؤمن بصدق ما قيل لهم.
هذه هي المأساة التي شاهدها أكثر من أربعين ألفاً من الجنود البريطانيين، وهم يرون أمام أعينهم النساء والأطفال يجندلون ويحرقون وهم لا يحركون ساكناً، وكانوا إلى جانب المأساة ثملين يغنون على أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ ويراقصون الفتيات الإسرائيليات، ويفتكون بأعراض الفتيات العربيات المذعورات اللائى خرجن من مخادعهن نصف عاريات.
بغداد
(أمير)(893/47)
رسالة الشعر
عبقرية الفن
للأستاذ أنور العطار
وهبت لك الفكر الذي مضه الأسى ... فأغنيت أحلامي وجددت لي فكري
أيا زهرات الفن حييت من زهر ... ويا عطرها ما كان أبقاك من عطر
منحتك قلبي وارتضيب بشدوه ... وليس لدى العشاق سلوى سوى الشعر
وعذبني الشعر الطروب بدله ... فأيقنت أن الدل ضرب من السحر
فغنيت كالأطيار والفن روضتي ... كأن أهوى ما أغنى ولا أدري
وما كنت ممن هام بالخمر فانتشى ... ولكن إنشادي ألذ من الخمر
حمام على أيك، ونور على ندى ... ونحل على زهر، وعود على صدر
رفيف من الأحلام في هدأة الدجى ... يهيمن كالأذكار في معية الفجر
أطوف بحانات الفنون معربداً ... وما شفني سكري ولا رابني أمري
وأقتات بالأنغام والشعر هانئاً ... كأني خيال هام بالأنجم الزهر
مواكب من أحلى الليالي شهدتها ... أطلت تناجيني كطيف الهوى العذري
وقلبي بدنيا الحب غيان سادر ... يحلق في أوج السعادة كالنسر
فقير ولكني من الفقر في غنى ... وفي العسر ما ينسيك بحبوحة اليسر
أردد لحن الملهمين وأجتني ... من الشوك إكليلا بتيه على الزهر
ألا أيها اللحن الذي ظل عازفا ... بغيب به جهري ويبدو به سرى
وهبت لك الفكر الذي مضه الأسى ... فأغنيت أحلامي وجددت لي فكري
أقول لمي - والحياة علالة - ... ومية مهوى الروح في الوصل والهجر
ليهنئك أن وشيت عمري بالأسى ... ورصعته يا مي بالأدمع الحمر
لآلئ ما جاد الزمان بمثلها ... ولا عرفت أسراوها لجة البحر
تتوق إلى إحرازها كل غادة ... وترنو إلى أنوارها مقلة العصر
ولولاك ما حن الفؤاد ولا شدا ... ولا خط في القرطاس سطراً على سطر
فأنت التي أولتني نعمة الهوى ... كبيت يحن الشطر فيه إلى الشطر(893/48)
وأنت التي غنيتني الشعر خالداً ... ووشحت أحزاني بآياتك الغر
وصيرت أيامي ظلالاً رخية ... وقد كنت منها في محول وفي فقر
أعيش من الإبداع جذلان بالمنى ... وأحياء من الإلهام في نائل غمر
كأني هادنت الردى وأمنته ... فأمرع كرمي واستساغ الطلى ثغري
ربيع غنى بالأغاويه والشذا ... يميس من الإدلال باليانع النضر
ونهر من الآمال يجري بخاطري ... وفيض من النعماء في أضلعي يسرى
غبرنا على الدنيا تروعنا النوى ... كأنا خلقنا للعذاب وللذعر
فإن نحن جزناها صحاحا من الجوى ... فما حن مأسور إلى ربقة الأسر
نهارك يا دنيا كتاب محجب ... وليلك يا أخرى مطاف من البشر
ومن خبر الأفراح في عالم الرؤى ... أقام عليها لا يهنه بالزجر
بنفسي بقايا من حنين وغبطة ... تلوح كلمع الضوء في صفحة النهر
تدافعت الأمواه فيه كأنها ... عرائس أفكار مللن من الصبر
هنا الفرحة العظمى فكل لذاذة ... سوى لذة الإلهام تمضي مع العمر
فإن تتمن الخلد أو تبتغ العلا ... فعش للندى والبر في السر والجهر
ألم تر أن الله صاغك شاعرا ... وأقنع من جاراك بالبذل والفقر
وخلت الغنى لهواً لقوم تناهبوا ... وبدد أرباب القساوة والكبر
وما الأمر في الأحقاب إلا مفكر ... يظل بآيات النهي خالد الذكر
سلام على الدنيا فما هي نغية ... إذا أنت لم تشرب رحيق الهوى البكر
ولم نحن للإلهام والحق والعلى ... منيراً سماء الفكر كالكوكب الدري
فما أنت إلا صورة الخير في الورى ... تميل إلى عرف وتعرض عن نكر
وترسم للدنيا سبيلاً إلى الهدى ... لعل جمال الروح يقوى على الشر
تزينك أخلاق حسان كأنها ... خلاصة أزهار العدالة والطهر
يعيش بنو الدنيا بناب ومخلب ... وأنت بلا سهم يراش ولا ظفر
يحوطك أرواح لطاف حبيبة ... فمن حلل بيض إلى حلل خضر
فليت الفتى يلقي بأحلامه الغنى ... وتكسب من ألحانه أعظم الأجر(893/49)
كأن على قيثاره روح بلبل ... حبيس يمني النفس بالدوح والوكر
إذا حن سال الشعر لحناً مسلسلاً ... وظلت عيون الحب من قلبه تجري
إذا البدر لم ترسمه ألوان شاعر ... ولم تسقه سحراً فما هو بالبدر
وما الحب لو لم تجله كف بارع ... سوى الذل والهم المبرح والقهر
وما القلب ما هذا الصراع الذي به ... وهل هو إلا العفر عاد إلى العفر
وما أنت يا دينا ألست قرارة ... لما يفجأ الإنسان من أعجب الغدر
فيا حانة الأيام حسبي أنني ... كتاب العمر سكراً على سكر
نذرت لك القلب الرهيف من الجوى ... وما كان أغلى في سبيل الهوى نذري
وضعت لك الأشعار تندى عذوبة ... أحب إلى الأسماع من نغمة القمري
هو الفن قد ألقى على الكون ظله ... فاشرق وجه الأرض بالممتع المغري
وكم زال تاج واستبيحت ممالك ... ولكن تاج الفن باق على الدهر
دمشق
أنور العطار(893/50)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
فلم (الوعد الحق)
أشرت منذ أسابيع إلى مشروع فلم سينمائي يستقي من قصة (الوعد الحق) التي وضعها معالي الدكتور طه حسين بك ونشرتها دار المعارف في يناير الماضي. والذي فكر في هذا المشروع هو الأستاذ إبراهيم عز الدين على أثر عودته من الخارج، إذ كان يدرس فن السينما في إحدى الجامعات الأمريكية، فقد قرأ القصة، ثم اتصل بمعالي الدكتور طه وعرض عليه أن يعدها للإخراج السينمائي، فوافق معاليه بعد بحث الموضوع وبعد أن اقتنع بإمكان هذا العمل.
والقصة تتعرض أولاً بالتحليل والعرض لحياة طائفة من الأرقاء والمستضعفين الذين كانوا يعيشون في مكة قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، وتتبعهم من منشئهم وإقبال الطارئ منهم على مكة والعناية خاصة بعلاقاتهم بسادتهم وأحلافهم وإبراز الناحية الإنسانية في هذه العلاقات، والتمهيد في ثنايا ذلك لاستقبال هؤلاء الضعفاء الدعوة الإسلامية لدى ظهورها بشوق شديد، فهم قوم صفت نفوسهم واستعدت أرواحهم لتقبل هذه الدعوة، وقد تعطشوا إليها لما رأوا من ضلال سادتهم وما أنكروا من فوضى العقائد السائدة، ولما يرجون على يدي الدعوة الجديدة من المساواة والحرية والإخاء الإنساني إذ لا يفضل أحد أحداً إلا بعمله وكفايته
وتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية التي مهد لها، وهي ظهور الإسلام وإسراع أولئك إلى الدخول فيه. وهنا يلتفت إليهم التاريخ ليسجل في صفحاته ما أظهروه من الجلد وما أخذوا أنفسهم به من الصبر والثبات على اضطهاد طغاة قريش واستبدادهم بهم وتعذيبهم إياهم، لا يثنيهم شيء من ذلك عما أخذوا فيه ولا ينال من إيمانهم أي منال.
وتسير الدعوة في طريقها، ويقوى المسلمون، ويعز بالإسلام أولئك المستضعفون، ثم يصيرون أئمة وأمراء في الدولة الإسلامية الديمقراطية، ويتحقق ما وعدهم الله به، ووعده الحق، في قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا(893/51)
يحذرون)
ذلك موضوع القصة ومرماها، وقد وفاه قلم الدكتور طه حسين حقه من التصوير الأدبي والتبيين الكتابي. والمرجو أن يبرزه فن السينما بوسائله ويدينه من جماهير الناس ليرجع بهم إلى مثل الإسلام العليا، ونرجو أن يكون الوقت قد حان لأن ننتفع بهذه الوسائل الحديثة، التي تتخذ للاتصال بالجمهور والتأثير فيه وإمتاعه بالإنتاج الرفيع، في شؤوننا الجدية وتاريخنا المجيد. ولا شك أن هذه الفترة التي تعرض لها قصة الوعد الحق هي أعظم فترة في تاريخ المسلمين. وقد رأينا على الشاشة أفلاماً كثيرة تعرض نواحي مماثلة لموضوعنا في الدين المسيحي، وهي أفلام عالمية لا يقتصر الإعجاب بها على المسيحيين وحدهم، فقد شاهدناها نحن في بلادنا وأخذنا بروعة ما تعرضه من الكفاح والصبر والثبات على الإيمان. ونحن الآن مستبشرون بهذا المشروع لعله يتمخض عن فلم يعد من هذه الأفلام العالمية فيرفع شأن الفن المصري كما يرفع شأن الإسلام والمسلمين.
ومن حيث أن الفلم يقدم شخصيات جليلة كعمار بن ياسر وأبويه وبلال وصهيب وغيرهم، فقد اقتضى الأمر أن يستأذن في ذلك رجال الدين، فأذن صاحبا الفضيلة مفتي الديار المصرية الحالي والمفتي السابق، وأظهرا استحساناً شديداً له.
وقد أعد (السيناريو) وضعه أولاً الأستاذ عز الدين، ثم راجعه معالي الدكتور طه وأقره بعد جهد كبير. وسيبدأ بالتصوير والإخراج باستديو مصر في منتصف سبتمبر القادم، ويقدر لتمام هذا العمل نحو شهرين يكون الفلم بعدهما معداً للعرض، ويجري الحوار بلغة عربية فصيحة تجمع بين السهولة وسمات اللغة التي كان يجري الخطاب بها في عصر القصة.
وهو فلم ثقافي، لا تهريج فيه ولا ابتذال بطبيعة الحال، ولكنه لن يخلو من عنصر المرح، وذلك بسخرية الحوادث من أعداء الدعوة الإسلامية، وعرض بعض مباذلهم في الحانات وما فيها من غناء ورقص القيان، كما تقدم أغان بدوية.
والذي يقرأ القصة المكتوبة يتوقع ما سيكون عليه الفلم من سبك السرد والتشويق يحسن الترتيب والمفاجآت.
وستؤخذ بعض المناظر في الحجاز، على أن أكثر المناظر سيعتمد فيها على الوصف التاريخي كدار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان يجتمع فيها المسلمون في أول عهد الإسلام(893/52)
وكذلك ملابس البدو والحضر في زمان القصة.
ويشترك في التمثيل عدد كبير من الممثلين والممثلات ومما يهتم به الآن البحث في إسناد الأدوار إلى اللائقين لها، وهي ناحية مهمة جداً يتوقف عليها مدى النجاح في تقديم شخصيات القصة، وهي أيضاً ناحية عسيرة فقد جرى الأمر في الأفلام المصرية حتى الآن على أن يضع المؤلف القصة بحيث (يفضل) أدوارها على قدود الممثلين والممثلات الذين يشتركون في التمثيل، فهو يضع دوراً لهذا المضحك، ودوراً لهذه الراقصة و. . . الخ.
أما نحن الآن فبازاء عمل آخر، وضع كما جرت الحياة وكما اقتضى الانفعال الفني، فليس هنا إلا حسن التصرف في الاختيار وضع كل في موضعه والتوفيق هو أول وآخر ما يرجى.
بين الدكتور زكي مبارك وسكرتير تحرير الرسالة
كتب الدكتور زكي مبارك في (البلاغ) كلمة تعرض فيها لما كنت أخذته على الأستاذ محمود غنيم من تشبيهه معالي الدكتور طه حسين بك بابن العميد، وقد بدأ الدكتور مبارك كلمته بكلام ذكره قبل ذلك غير مرة، قال أنه كان يشترك في تحرير (الرسالة) ثم وقع بينه وبين صاحبها خلاف، وقال أن المجلة (الرسالة) لا تذكر اسمه لذلك. . . وأنا أعجب من الدكتور زكي مبارك كلما ذكر ذلك، فإن الأستاذ الزيات يحبه ويذكره بالخير دائماً، أما هو فتراه يتحدث عما بينهما من خلاف مزعوم، إلا أن يكون خلافاً من جانب واحد هو جانب الدكتور زكي مبارك! وقراء الرسالة يشهدون أن اسم الدكتور زكي مبارك ليس ذكره محرماً في المجلة. . . وكثيراً ما يرد في باب الأدب والفن خاصة وأذكر أن آخر مرة جاء فيها سام الدكتور زكي مبارك يوم قلت أن أنكر على الأستاذ محمد عبد الغني استعمال مجداف السفينة زاعماً أن كلمة (مجذاف) خطأ، وقلت أن هذه التخطئة لا تليق بالدكتور زكي مبارك الذي يطالب بعضوية المجمع اللغوي، لأن الاستعمال صحيح والكلمة معروفة لا تحتاج إلى الغوص.
ويسميني الدكتور زكي مبارك في كلمته (سكرتير تحرير الرسالة) وأنا لست إلا محرراً بها فقط.
قال الدكتور زكي مبارك: (القضية أن المعلمين أقاموا حفلة تكريم لمعالي الدكتور طه(893/53)
حسين بك في ناديهم، وأن الأستاذ محمود غنيم ألقى قصيدة زعم فيها أن الدكتور طه أعظم من أبن العميد. وهنا يقول سكرتير تحرير الرسالة ومن هو أبن العميد؟ أنه أصغر من أي كاتب من كتاب الطبقة الثانية في عصرنا هذا وسبحان من أنعم على سكرتير مجلة الرسالة بنعمة الجهل! أن أبن العميد سيظل أعظم كتاب اللغة العربية، وعلى ذلك الجاهل أن ينظر في كتاب النثر الفني وهو موجود بمكتبة الرسالة، وفيه أطلت الشرح لحقيقة الرجل الذي خلعوا عليه لقب الجاحظ الثاني)
وأنا إذا كنت (أجهل) أبن العميد فما أراني بحاجة إلى أن أعرفه من كتاب النثر الفني مادام صاحبه يقول عنه أنه أعظم كتاب الغلة العربية! وسبحان من أنعم على قائل هذا بنعمة العلم! ألا يعلم صاحب النثر الفني أن أبن العميد أستاذ المدرسة التي أفسدت الكتابة العربية؟
وأنا أعني بإنكاري على الشاعر التشبيه بابن العميد وجعله مثلاً في الكتابة - أن المقارنة لا وجه لها، لأن الكتابة العربية المزدهرة في هذا العصر أصبحت شيئاً آخر غير ما كان يكتب أبن العميد وأضرابه فالعصر غير العصر، والكتاب الآن يتناولون شئون الحياة ويعنون بأهدافهم من الكتابة على نحو بعيد جداً مما كان يصنع أولئك الكتاب.
وليت شعري ماذا ترك الدكتور زكي مبارك لنفسه حينما قال أن أبن العميد أعظم كتاب اللغة العربية؟! هل يستطيع أبن العميد أن يكتب صفحة (الحديث ذو شجون) بالبلاغ. .!؟ وهل أنا (جاهل) إذ أقول أن الدكتور زكي مبارك أكتب من أبن العميد!.
ويقول الدكتور زكي مبارك: (ويقول سكرتير مجلة الرسالة ومهما يكن من شيء - كما يعبر عميد الأدباء - فإن. . . ومعنى هذا أن عبارة (ومهما يكن من شيء) من مبتكرات الدكتور طه حسين، وليس هذا بصحيح، فهي من مبتكرات سيبويه في الكتاب).
وأنت تراه يفسر ويرد على تفسيره. . . فأنا أقصد أن العبارة من لوازم الدكتور طه حسين، ولم أقل إنها مبتكراته، ولكل كاتب أو لأكثر الكتاب، ألفاظ يكثرون استعمالها، وليست هذه الألفاظ من مبتكراتهم، وينفرد الدكتور زكي مبارك بلوازم أخرى غير تكرار الألفاظ، منها أن يكرر الخلاف المزعوم بينه وبين صاحب الرسالة، ومنها حكاية الحفلة التي أقامها المغفور له محمود بسيوني بك لإصلاح ما بينه وبين الدكتور طه، ومنها أنه من سنتريس. . . الخ.(893/54)
ولم يبين الدكتور زكي مبارك - لنستفيد من عمله - كيف أن عبارة (ومهما يكن من شيء) من مبتكرات سيبويه، وهل جاءت في سباق تعبيري، أو جاءت عند تفسيره (أما) بأن معناها (مهما يكن من شيء) وهل يعد هذا ابتكاراً ونحن في معرض الأسلوب الكتابي؟
ومن استطرادات الدكتور زكي مبارك في هذا الصدد قوله (وكان سكرتير مجلة الرسالة طفلاً يحبو حين نشرت في جريدة المقطم سنة 1927 مقالات بعنوان أغلاط سيبويه)
وماذا لو كان ذلك؟ لقد شببت بعد وقرأت له كثيراً ومازلت أسأل الله له طول العمر مع الصحة والعافية.
عباس خضر(893/55)
البريد الأدبي
حول الأزهر: اقتراح
ليعلم أستاذتي وإخواني الأزهريون أنني لا أريد إلا الخير للأزهر. وأنا
كأزهري يعتز بأزهريته أرجو أن يتقبل ما يكتبه الكاتبون حول إصلاح
الأزهر بقبول حسن. وليس من ضير أن بنقد الناقدون ويقترح
المقترحون. فالنقد وسيلة إلى الإصلاح. ونحن نريد أن يقابل هذا النقد
بصدر رحب ويدرس دراسة شاملة. بذلك يكون هناك تجاوب بين
الجهتين التي تنقد والتي تدرس النقد وتعرضه على بساط البحث.
أنا أعرف أن هناك طائفة من أساتذة الأزهر كلفة بالإصلاح داعية إليه من زمن بعيد. وقد لمسنا بأنفسنا ما أبداه الطلبة من رغبات ملحة في إصلاح برامج الأزهر؛ فلماذا لم يتضافر أساتذتنا الداعون إلى الإصلاح فيتقدموا باقتراحات تنهض بالأزهر وتنزله منزلة تليق بجامعة من أقدم الجامعات في العالم؟ ونحن نتقدم في هذا المقام باقتراح متواضع نرجو أن يحظى بالدراسة والقبول.
لكي ننهض بالدراسة في معاهد الأزهر الابتدائية والثانوية أرى أن يعلن الأزهر عن مسابقة يعلن فيها رغبته في تقديم مؤلفات حديثة في المواد التي تدرس في هذه المعاهد ورأيي أن هذا الإعلان يحدث منافسة محمودة بين أساتذة الأزهر ويمهد للإصلاح سيره الطبيعي. قم أقترح يا سادتي أن تدرس اللغات الأوربية ابتداء من السنة الأولى الثانوية، بذلك يخرج الأزهر علماء محيطين بثقافات مختلفة يشقون طريقهم في الحياة الاجتماعية بنجاح. وفضلا عن ذلك فإن الأزهر يستطيع أن يحقق رغبات الطلبة فيقنع وزارة المعارف بإنشاء أقسام للعلوم العربية في معاهد المعلمين الابتدائية يقبل فيها الطلاب حاملو الشهادة الثانوية من الأزهر.
أما عن الدراسة في الكليات فقد قلت سابقا أنه ينبغي أن ترتقي بهذا الجانب من التعليم الأزهري وتضفي عليه الصبغة الجامعية. وهنا أذهب بعيداً فأرى أنه يجب أن تطبق المنظم المعول بها في الجامعات المصرية على كليات الأزهر. ولقد رأى رأيي هذا بعض(893/56)
الأساتذة، ورأوا أن تهذب البرامج، ويتقدم أساتذة الكليات بمؤلفات حديثة توائم رقي العصر. ثم أرى أن تكون الشهادات التي تمنحها كليات الأزهر هي نفسها الشهادات التي تمنحها كليات الجامعات المصرية، ويستتبع ذلك أن توجد دراسات عليا على نمط مثيلاتها هناك، وأن توجه البعوث إلى مختلف الجامعات الأوربية ويكون أعضاؤها من حاملي الليسانس من كليات الأزهر
وبعد فهذا رأيت رأيته أجملت به ما رسخ في اعتقادي. وقد يراني إخواني غالياً في رأيي ولكني أعتقد أنه لا بد من هذا التجديد ليتحقق الإصلاح الحقيقي للأزهر معاهده وكلياته. بذلك نجد الأستاذ الصالح والكتاب الصالح ونساير ركب الحضارات ويقف جامعتنا الإسلامية الكبرى الخالدة في مصاف أرقى الجامعات.
أزهري عجوز
إلى الأستاذ أبورية
سلام عليك ورحمة الله ووفقك لاستخراج الكنوز الرافعية العبقرية الإسلامية لتتم بها نهضة العقلية الممتازة في الشرق.
وبعد فإن بشرى رسائل الرافعي قد لفتت قلوب الواعين فأثنوا عليك ثناء جميلاً وودوا لو انضم إليك في عملك النبيل بقية الفضلاء الأدباء الرافعيين ليكملوا نشر آثار إمامهم الفذ كما كان من عمل الذين حفظوا الأدبين الخالدين: أدب الشيح عبده وأدب تيمور، على أنهم يعلمون أن أدب الرافعي هو أدب الغد في تمامه ونضجه وأن مكان صاحبهم في العرب يقابل مكان إقبال صاحب (الباكستان) ولكن هذا هنالك وذلك هنا. . . انهم يعلمون أنه صاحب (أسرار الإعجاز) الذي بنى فيه علم البيان العربي بناء يناسب عصر الذرة كما يقول الصديق الأستاذ منصور جاب الله، وأنه لحق، فإن التحليل الرافعي لمسائل البلاغة هو تحليل ذري. . .
لقد قسم الذرة في بلاغة العربية، وما من ريب في أن الأستاذ الكبير سعيد العريان يعلم أن الرافعي حقق (ديموقراطية الأدب) في عبقريته الخالدة (أغاني الشعب) ومن يعرف هذا أن لم يعرفه سعيد؟ - أسعد الله به الأدب - فإنه جهينة هذا الأمر وأرجو أن يبقى كذلك دائماً.(893/57)
وبعد فيا أيها الأستاذ أبو رية امض قدما فقد سرت بك العربية والسلام.
محمود الطاهر الصافي(893/58)
العدد 894 - بتاريخ: 21 - 08 - 1950(/)
فلنهدم الجامعة. .!
للأستاذ محمد محمود زيتون
إذا أردنا أن نلغي بجرة قلم أربع جامعات مصرية رفعنا سمكها في خلال نصف قرن من الزمان. . . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نعود القهقري إلى استبداد (دنلوب)، وفتنة (كرومر). . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نرجع غل كهوف الكتاتيب، ونتحاشى أشعة برج الساعة. . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نتخلف عن مواكب المدنية، ونطمس في الوجود مجدنا الباذخ. . فلنهدم الجامعة.
الجامعة. . التي هي (جامعة فؤاد الأول). . فؤاد: ملك مصر المستقلة، وهادم الاحتلال بمعول العلم، ورافع اللواء الأخضر فوق الحصون والمنشئات، والطائرات والباخرات. .
الجامعة. . التي نستعد من الآن لعيدها الذهبي، فنذكر أيامها الخالدة، فتعاودنا ذكريات القبة الكبرى، وبرج الساعة العالي، وقاعات المكتبة الزاخرة، ووقار الأساتذة الأجلاء، ونشاط الشباب الأطهار.
الجامعة. . التي تمثلت فيها (الوحدة القومية) عند إنشائها، وائتلفت عليها عناصر الأمة المصرية، كما اجتمعت كلمة الأمة العربية على بناء الكعبة. . فكانت كعبتنا مثابة العلم، وموسم الأمن، مهبط القصاد من كل فج عميق.
الجامعة. . هي أخت الجامع في رسالة النور، وبنت النيل في الخلود الدافق، وأم الأمة في النشء والنشأة.
في دم كل خريج غليها حنين. . ولكل أزمة منها علاج. . وما أكثر بنيها وبناتها. . وما أسمى تعاليها على الأحداث، وارتفاعها عن صوت الفناء، أو كما يقول (بوجليه) المؤمنون يموتون والكنيسة تبقى , ' فإذا نحن تنكرنا لهذه الأم الولود الودود،. . فلنهدم الجامعة.
وإذا نحن أصخنا للأراجيف، واستجبنا للمتخرصين، واستنمنا للأحاديث الأباطيل. . فلنهدم الجامعة.
ذكريات مزاجها البطولة في الجهاد، وأصداؤها العزة والكرامة والوطنية.
هذا أديب العروبة طه حسين، رائد الشرق الحديث إلى منابع المعرفة، ورافع مشعل الحرية(894/1)
الفكرية، وحامل أختام الشرق والغرب، من منا سمحت له نفسه أن يطأ الحرم الجامعي قبل أن يكون قد قرأه في كل ما دبج وكتب، وسمعه في كل ما أذاع وخطب، طه. . الذي حطم حواجز الجمود بثورة الفكر، وقوة المنطق، وإيمان المناضل، فينقب عن امرئ القيس، ويتعقب أبا العلاء في محابسه، ويشك مه ديكارت، ويتفلسف مع أبن خلدون، ويتأمل مع يول فاليري، ويترجم لأرسطاليس.
طه. . . الذي توسط عقدا يتلألأ بأحمد أمين، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الوهاب عزام، وعبد الحميد العبادي، ومحمد عوض محمد، وكراوس وشاخت ولالاند، فتتسع المدارك، وينجلي التراث، وإذا بالعالم كله فراشات تحوم حول الأشعة الفضية، تزجيها إلى الدنيا شمس قدسها (إخناتون) وضفر منها عصابة (ابن العاص)
طه. . . عميد الآداب، الذي تقصده أم طالب في الزراعة، أرملة ترجوه أن يسعى لها لإعفاء ابنها من الرسوم الجامعية، ولكن اللائحة تصد طه، فيضع سماعة التلفون ويهنئ الأم بمجانية الابن، فتخرج له داعية بالخير، وإذا به يرسل سكرتيره على الفور ليدفع للزراعة ما أخرجه عميد الآداب من جيبه الخاص حتى لا يشعر الأرملة بجرح على جراح.
وأحمد أمين القاضي العادل، والمربي الفاضل، وتلميذ عاطف بركات، وسليل القضاء الشرعي، استقصى حياة الفكر في الإسلام من فجره إلى عصره، وبعث في الشباب الأحرار روح البحث عن الماضي، فتضوع كالعطر بين عطفيه، وانبثق كالماء من بين أصابعه وفلسف الأدب، وأدب الفلسفة.
هذا العميد الفنان الذي ملأ السمع بعذب حديثه، وزاخر علمه، لم يكن يرفض على جلال سنه دعوة إلى موسيقى بنادي كلية الآداب، ولا يضيق صدره الرحب بمعارضة من أبنائه الطلبة في مناظرة، وثغره يبتسم حتى يبدو ناجذاه، إذ يحاكيه أحد طلابه في حفل سامر.
وعبد الوهاب عزام يدرس الأدب الفارسي والتركي، ويشرف على أسرة الشعر، ويدعو سكرتيرها - كاتب هذه السطور - إلى بيته بالروضة ليعرض عليه برنامج الليلة الكبرى لمباريات الشعر بين الطلبة والخريجين، فيقول لهم فيما يقول:
(أبنائي الشعراء، كونوا شعراء عرباً، أو عرباً شعراء)(894/2)
أما بيته فهو - والحق يقال - (بيت من الشعر لا بيت من الشعر) إذ زينت جدرانه برسوم من رمال وجمال، وبصورة العروبة في محافلها ومحاملها، ومنها يستوحي التواليف التي جادت بها قريحته من ترجمة (الشاهنامه) للفردوسي، وتاريخ (مجالس السلطان الغوري) وغير ذلك وذاك.
وكنا طلاب فلسفة، فكيف ندع فرصة في حياتنا الجامعية دون أن ننتهزها؟. . لم يكن يهون علينا أن نتخرج قبل أن ننهل من كل الينابيع، وإن اختلفت شراباً ومذاقاً.
استمعنا إلى الخولي في البلاغة وأدب القرآن. وإلى غربال في الثورة الفرنسية، وإلى العبادي في التاريخ الحديث، وإلى مندوري في أساطير الإغريق، وإلى مصطفى عبد الرازق في الفلسفة الإسلامية، وإلى عفيفي في التصوف والمنطق والأخلاق، وإلى غالي في فلسفة الذرة.
وانتزعنا من الأزهر الملازم الصفراء، وانغمسنا في المخطوطات وتهنا بين الحواشي والمتون، ودرسنا مع الشيخ مصطفى عبد الرازق (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) للسيوطي وإن كانت حلقة في الدرس من أساتذتنا وطلبة الدكتوراه ولكن كيف يفوتنا درس الشيخ، مع أننا كنا لا نزال بالسنة الثانية من قسم الليسانس، وكيف لا تلتقي ثلاثة أجيال في ساعة. أنه العلم الجامع في رحبة الجامعة.
ونشهد أول درس في معهد الصحافة يفتتحه به الأديب الصحافي طه حسين. .
ونتعلم الألمانية على يدي (فراو يزج) التي كانت تقول لنا وهي العجوز الشمطاء (انطقوا بالألمانية كما تنطق المدافع بالقذائف.
ونقيم حفلاً فلسفياً يحضره القدامى والمخضرمون والمحدثون من الفلاسفة والمتفلسفين جميعاً، فيقف لطفي السيد ليقول كلمة في ذات موضوع، ويتحدث منصور فهمي عن مشخصات الفن وفلسفة الجمال، ويتكلم مظهر سعيد عن الفلسفة الكذابة.
ويحاضرنا مدكور وهو أستاذ الفلسفة وعضو مجلس الشيوخ ونخرج في الحديث معه عن (جدول الأعمال)، ونعالج مشاكل المجتمع، وليس في ذلك أدنى مخالفة للائحة المجلس والجامعة.
ونعقد مناظرة حول حق الطالب الجامعي في الاشتغال فأقول فيها مؤيداً ومرتجلاً: (أيها(894/3)
السادة، في مصر قبتان، الجامعة والبرلمان، ولعمري لئن ماتت الحرية في إحداهما أو كلتيهما فعلى الحرية وعلى مصر السلام)
ويرأس اللواء صالح حرب مناظرة بجمعية الشبان المسلمين موضوعها (نحن أحوج إلى القوة المعنوية منا إلى القوة المادية، يتولى التأييد طلبة الجامعة المصرية، ويتولى المعارضة طلبة الجامعة الأزهرية، عن كل كلية في الجامعتين طالب يمثلها.
وتخصص يوماً للشيخ محمد عبده يتولى برنامجه الدكتور عثمان أمين فنزور معه بيت الإمام بعين الشمس، وقد أهداه إليه مستر بلنت صاحب كتاب (سر الاحتلال الإنجليزي في مصر)، وفي هذا اليوم الراحل، تنكشف لنا مفاخر الإمام في الوطنية والفلسفة والإصلاح، وبذلك نتعلم في الرحلات كما ندرس بالقاعات، فنعيد ذكرى ارسطو والمشائين.
وإذا كان العقل نعمة الله على عباده، فليكن من موجبات شكر النعمة أن نتفهم المعنى الدقيق لقول الشاعر (وبضدها تتميز الأشياء) ولنذهب إذن في صحبة أستاذ علم النفس الدكتور الأديب والطبيب الفيلسوف مصطفى زيور إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، يعرض علينا ألوان المجانين، فنتعلم منهم ما لا نتعلم من العقلاء، وهنا فقط تكذب النظرية القائلة (فاقد الشيء لا يعطيه) ونحن حيارى إزاء هذا العقل: مفقود هو أم موجود؟ ولله في خلقه شئون.
ونمضي سراعاً إلى زكي مبارك يحاضر بجمعية الشبان المسيحيين في موضوع (تشريح آراء الدكتور طه حسين)، ويدعي أنه يكشف النقاب عن سر عظمة طه، التي مرجعها أساطير شاعت بين الناس كتلك القصيدة التي قالها طه في هجاء شيوخ الأزهر الذي أسقطوه في امتحان العالمية، والتي عنوانها (ساعة في الضحى بين العمائم واللحى.) هذا ونحن نجتمع في كل أسبوع إلى جميع أساتذة الجامعة على صفحات (الرسالة) الغراء وأختها (الثقافة) الزهراء، وفيهما للروح والقلب ما لذ وطاب.
وفي آخر العام الجامعي، نقيم الليلة الكبرى لمهرجان الشعر، فكأن عكاظ يبعث من جديد، في أرض الفراعنة، ويلقى فيه الأساتذة والطلبة من جميع الكليات، ما قرضوه من أشعار ولا يفوتنا أن نفاجئ الأوساط الأدبية بقصائد من نظم طه حسين ومصطفى عبد الرازق، ومحمد عوض محمد، ومحمد خلف الله، وعبد الرحمن بدوي.(894/4)
وتنظم جماعة الجرامافون بكلية الآداب سلسلة من المحاضرات في الثقافة الموسيقية يلقيها الدكتور محمد شرف يشفعها بنماذج من الغناء والموسيقى من الشرق والغرب، قديماً وحديثاً، فيجد فيها هواة الفنون متعة طيبة، وما أروع ساعة الإنصات إلى تلك الألحان، إذ ترى مساء الجمعة فئة قليلة بالنادي، كأنهم في صمت المصلين، ونشوة المتصوفين، وكلهم أذن صاغية، ونفس واعية
ثم نهرع من الجيزة إلى كلية العلوم بالعباسية نستمع إلى مشرفه يحاضر في (نظرية إينشتين) أو يناظر طه حسين، فيقف مشرفة يناصر الآداب، بينما يدافع طه عن العلوم.
ونأخذ حديثاً صحافيا لمجلة (القبس) التي يحررها الطلبة من المارشال الدكتور محجوب ثابت، نقتحم عليه صومعته بالدقي، فإذا به يأخذ علينا خط الرجعة، فنرجع القهقرى دون الدفاع، ثم ندق الإسفين، حتى يخاطبنا عن ظهر دبابة من القافات، ويأخذ بتلابيبي، ويسألني: من أي سلاح أنت؟ فأجيبه غير هياب ولا وجل: سلاح الفلسفة والآداب؛ يا أفندم.
وفي الصباح الباكر، نمتشق الحسام، ونتنكب البندقية، ونحتضن المدفع، نتدرب على الأعمال العسكرية لنكون ضباطنا احتياطيين في جيش الوادي، ونخرج إلى الميادين تتقدمنا الموسيقى والشعب على الجانبين يحيي ويهتف ويصفق، حتى إذا تخرجنا أشعلنا على العدو ناراً، وأزجيناها للعالمين نوراً وهدى.
وتحت إشراف أستاذنا الدكتور علي عبد الواحد وافي ندرس حالة قرية من قرى الجيزة لتطبيق النظريات الاجتماعية على الحياة المصرية، واتخاذ الوسائل الفعالة في الإصلاح، ولا نتخلف عن حضور البحوث الفنية التي تعرضها رابطة الإصلاح الاجتماعي برياسة العشماوي باشا في الجمعية الجغرافية الملكية.
ولإ يفوتنا أن نلبي دعوة الأستاذ مظهر سعيد والسيده حرمه نظلي هانم الحكيم لحضور الصالون الأدبي الأربعائي بدارهما القريبة من الجامعة، ويلتقي هناك قادة الفكر، وأهل الفن، ورجال الأدب والصحافة والسياسة، وأبطال الرياضة، وضباط الهند وأزواجهم، وخريجو جامعات أوربا وأمريكا، وطلبة وطالبات، وأساتذة إنجليز وفرنسيون، وبعد تناول الشاي، تدق السيدة نظلي الجرس الذي لا يفارق يمناها، ويبدأ الدكتور مظهر برنامج الصالون بدعوة الحاضرين للتحدث فيما يخصهم، في بساطة تامة، ويتخلل ذلك العاب(894/5)
بريئة لاختبار الذكاء، وموسيقى وغناء، حتى يستوعب البرنامج بنوده جميعا في الوقت المحدد، فينصرف المتسامرون وقد نهلوا من مختلف الغذاء الروحي ثقافة منوعة الأطباق والطعوم والألوان.
والجامعة مع ذلك ساهرة على تزويد طلابها بكل نافع لهم في أوقات الفراغ، فتدعو بين الحين والحين أساطين العلم، وجهابذة الأدب، وقادة السياسة، ورواد الصحافة، وأهل الفن، ورجال الدين، ليحاضروا في القاعة الكبرى للاحتفالات بجامعة فؤاد فما كانت تخلو من صوت لطفي السيد وطه حسين والعقاد والمازني، وغالي ووالي ومي وبنت الشاطئ، وأحمد إبراهيم وحسن البنا، وفتحي رضوان وأحمد حسين، ومنصور فهمي وأنطون الجميل وتوفيق دياب.
ونحن الطلبة علينا أن نتخير، وليس لنا أن نتحيز، وعلينا أن نستفيد ونميز وننقد ونستوعب، وليس لنا أن نتعصب وننحاز
ولا تضن الجامعة بعد ذلك كله بالترفيه على الطلبة والشعب جميعاً، فتنتخب أشهر الأفلام وأنفعها، لتعرضها بثمن زهيد جداً فلا يجد الطالب مشقة في الترويح عن نفسه ولا يبعد عن الوسط الجامعي، ولا يفارق الحياة الشعبية، واللهو البريء.
ويستن أحمد أمين سنة جامعية حسنة في بدء كل عام، إذ يعرض للبحث موضوع: (الجامعة كما رأَيتها وكما يجب أن تكون) يتناوب الكلام فيه زملائنا الكبار، من أساتذتنا المتخرجين في الجامعات الخارجية، ولا يخلو الميدان من طالب أو طالبة ليكون المجال جامعاً غير مانع.
تلك هي الجامعة في إطارها الطبيعي، كما عاصرناها، في مدى أربع سنوات انقضت من العمر كلمح البصر، وتفتحت على ربها زهرة الشباب، وتسامت على يديها همم الشباب إلى صهوات المجد، وعرفات العزة، فكانت حصن الأخلاق، ودرع الحياة، ودعامة المجتمع، وهمزة الوصل بين الأستاذ والطالب، والمدرج والشارع، والمنصة والمسرح.
ولم تكن معيشتنا خارج الجامعة إلا جزءاً من صميم البرنامج الجامعي، فقد كانت حياة جمهور طلابها حياة الألفة على أو سع نطاق، وذلك على الرغم من أزمة المساكن التي صادفناها في الحي اللاتيني المصري (بين السرايات)، كان الطالب يزور زميله فلا يكاد(894/6)
يكون فارق بين المصري والسوداني والسوري واللبناني والعراقي والحجازي والجاوي والهندي والأفغاني والمغربي، ولا يشعر الزميل نحو زميلته إلا بالأخوة وما فوقها، وللعلم كما للدين حرم، ومن دخله كان آمناً، وصدق نشيد الجامعة الذي وضعه الدكتور عبد الوهاب عزام:
جامعة ألفت القلوبا ... أبا ترانا وأخا محبوباً
واليوم نذكر أم الجامعات المصرية، فنعتز بذكراها في عيدها الذهبي، ونفخر بأفضالها. ولو قد أتيحت لنا في أيام دراستنا، هذه التيسيرات التي تمت وتتم سراعاً لطلبة اليوم في مدينة فاروق الجامعية، لطاولنا الجوزاء. فليهنأ جيل الفاروق بما يلقي وبما سيلقى، بعد أن أصبحت جامعة القاهرة أم النجوم الزاهرة، تتلألأ في ربوع الإسكندرية وأسيوط وطنطا والمنصورة وهذا جيش النور يكتسح فلول الظلام، حتى يسدل الستار على مأساة الجهالة.
وهذا شباب الوادي، يهرع إلى مناهل العلم في شتى جامعات العالم ليعود إلى الوطن المفدى نافعاً ومعيناً.
وهذا هو النشاط الجامعي كما عهدناه، وساهمنا فيه، فاغتذينا وارتوينا.
فإذا أردنا أن ننكص على أعقابنا، وأن نرجع إلى عصر الكتاتيب التي خيمت عليها عناكب الجهل، وآوت إليها خفافيش الليالي السود. فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نعود إلى عهد الاحتلال، عهد الاستعباد والاستذلال، عهد الأصفاد والأغلال. . عهد الفلكة والعصا. . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا أن نرمي بفلذات أكبادنا، وصفوة شبابنا، وعدة مستقبلنا بين أحضان الفتنة، ونقذف بهم في تيارات الفساد الجامح، والضلال الجاحم. . فلنهدم الجامعة.
وإذا أردنا لهذه الأمة الفتية ألا يقال لها عثار، وألا تنهض بعد كبوة. . وإذا أردنا لمعالم (القومية) أن تندثر إلى الأبد وإذا أردنا للإسلام العروبة والشرق أن تتلاشى جميعا. . فلنهدم الجامعة
محمد محمود زيتون(894/7)
في الفقه المقارن
طبيعة الالتزام في القانون المدني والفقه الإسلامي
للأستاذ نور الدين رضا الواعظ
يجدر بنا قبل المقارنة بين طبيعة الالتزام في القانون المدني والفقه الإسلامي، أن نلقي نظرة تاريخية لتطور فكرة الالتزام في الفقه المدني، حتى نكون على بصيرة بالمراحل التي مرت بها فكرة الالتزام إلى أن استقرت على أنها (رابطة قانونية ما بين شخصين دائن ومدين يطالب بمقتضاها الدائن المدين بأن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع من عمل)
ومجال استعراض تطور فكرة الالتزام هو للقانون الروماني الذي يعتبر منبعاً استقت منه القوانين المدنية الغربية أحكامها، وسارت على هداه - ولا يزال فقهاء القانون المدني يراجعون شروح القانون الروماني لتبرير بعض النظريات الفقهية المعقدة ولحل مشاكلها العويصة.
في القرون الأولى التي مرت على روما القديمة لم تكن فكرة الالتزام معروفة، ولا الأشخاص الذي يلزمون بأداء التزام ما، كان الملتزم عادة شخصاً مستقلاً بحقوقه، يعقله رب الأسرة ويسخره في خدماته، كما يسخر عبده تماماً، بمقتضى حكم رسمي صادر من القاضي؛ ويكون عادة مقترضاً لم يتمكن من سداد دينه في الأجل المتفق عليه، أو وطنياً ارتكب فعلاً ضاراً به ولم يؤد التعويض الذي قرره القاضي وفرضه على هذا الفعل. وقد كان الملتزم يسمى (مقيداً) إشارة إلى تلك السلاسل والأغلال التي كان يقيد بها عند دائنه!
أكثر من هذا وكان المدين الذي تعهد بالدين في عقد الاستدانة يصبح - إذا عجز عن الوفاء - معرضاً لأن ينفذ الدين على شخصه دون استصدار حكم قضائي، فيقبض عليه صاحب الحق ويحبسه عنده مقيداً بالأغلال مدة معينة ثم يبيعه أو يقتله! إلا أن هذا المزج بين الحقوق العينية والحقوق الشخصية، واعتبار الحق الشخصي سلطة مباشرة على جسم المدين، والنظر إلى الالتزام كسلطة تمنح الدائن حق تعذيب المدين دون استصدار حكم قضائي والتنكيل به، استمر مدة، ولكن بنضوج الأفكار وتوسع الأفق التفكيري لدى الفقهاء الرومانيين، أخذت بوادر التمييز بين الحقين بالظهور، فتقدمت الأحكام وتدرجت القواعد(894/8)
القانونية وتطورت فكرة الالتزام في العصر العلمي وهو عصر ازدهار الحياة القانونية لدى الرومان. فأصبحت القيود التي كانت تفرض على المدين تشمل جزءاً من حريته الشخصية؛ فبعد أن كان للدائن حق بيع وقتل المدين أصبح حقه مقصوراً على حبسه واستخدامه حتى يفي بدينه من ماله وثمرات كده. فالأغلال والسلاسل التي كان يرسف فيها المدين لم يبق منذ ذكراها إلا كلمة ومعناها ملتزم التي تطلق الآن على المدين. وقد استحالت الآن إلى قيود على جزء من الحرية الشخصية تسمى الالتزامات وأخيراً صدر قانون ثيودوز الأول في نهاية القرن الرابع بعد الميلاد بإلغاء المعافل الخاصة وإبدالها بنظام التنفيذ الجبري على مال المدين.
إن هذه النظرة الشخصية للالتزام في القانون الروماني قد وجدت لها أنصاراً من الفقهاء في الغرب وعلى رأسهم العلامة الألماني سافيني، إذ يرى (أن الالتزام عبارة عن سيادة الدائن، وهو وإن لم يكن سيادة تامة فإنه مظهر من مظاهرها، وقيد على حرية المدين لا على ذمته المالية فحسب، فالالتزام عنده صورة من صور الرق لا يشمل إلا جزءاً معيناً من حرية المدين. وقد تأثر بهذه النظرة الشخصية بعض الفقهاء الفرنسيين أيضاً منهم بلانيول وكابيتان وقد عرفت هذه النظرة في الفقه المدني: (بالمذهب الشخصي).
ولكن تجاه هذه النظرة الشخصية للالتزام ظهرت نظرة أخرى تناقض النظرة الشخصية ويرى أصحاب هذه النظرة (إن الالتزام علاقة مادية بحتة) وفرقوا بين عنصري المديونية والمسؤولية في المحل؛ فالمديونية هي تعلق الالتزام بالذمة وهذا لا يقتضي إجباراً، وأما المسؤولية فتقتضي الاستيفاء الجبري ووزعوا هذين العنصرين على ذات المدين الملتزم وماله، فاعتبروا شخصه مدينا، ولكن المسؤول عن التزامه (هو ماله لا شخصه) ولا حبس ولا إجبار على إيفاء الدين. وقد عرفت هذه النظرة في الفقه المدني (بالمذهب المادي). وقد يتبادر إلى الذهن هذا السؤال، ما الحكمة التشريعية التي من أجلها حاول الفقهاء أن يصبغوا الالتزام هذه الصبغة المادية، واعتباره منفعة مادية يمكن طرحها في السوق للتعامل؟!
الجواب على ذلك أن كثيراً من الوقائع القانونية لا يمكن تبريرها من الوجهة القانونية إلا إذا أخذنا بالمذهب المادي. كالالتزام بإرادة منفردة، والاشتراط لمصلحة الغير، وتحرير السندات لحاملها. . وغيرها.(894/9)
تقرير المذهبين المادي والشخصي:
رأينا أن المذهب المادي أكثر مرونة من المذهب الشخصي وأكثر ملاءمة للأوضاع الاقتصادية الراهنة؛ لأنه يسبغ على الالتزام صفة (التكيف) مع تعقيدات الظروف الراهنة التي تتطلب السرعة والسهولة،
على أنه لا يجوز في الوقت ذاته إغفال المذهب الشخصي إغفالاً تاماً، فلا يزال الالتزام رابطة بين شخصين، ولا تزال لشخصية المدين والدائن أثر كبير في تكوين الالتزام وفي تنفيذه. ونضيف إلى ما تقدم أن شخصية المدين - بنوع خاص - ضرورية في الالتزام لا عند تنفيذه فحسب، بل عند نشوئه أيضاً، وهذا ما يعترف به المذهب المادي ذاته.
طبيعة المذهبين في الفقه الإسلامي:
بعد أن استعرضنا تطور فكرة الالتزام، وطبيعته في المذهبين الشخصي والمادي. . . نسأل ما موقف الفقه الإسلامي من طبيعة الالتزام. . . أو ما هي طبيعة الالتزام في الفقه الإسلامي؟!
(الواقع أن الالتزام في نظرة الشريعة الإسلامية هو في ذاته علاقة مادية إما بمال المكلف كما في المدين، وإما بعمله كما في الأجير، فالصاحبان، أبو يوسف ومحمد، يريان الحجر على المدين لا حبسه - وهذا الرأي أخذت به مجلة الأحكام العدلية - فهما لم يقتصرا على فكرة الرابطة الشخصية بل أدخلا فكرة القيمة المالية إلى جانبها وجعلا للدائن سلطاناً على مال المدين لا على شخصه.
ولكن هذا الالتزام ترافقه سلطة شخصية تأييداً لتنفيذه، إذ لولاها لتعذر التنفيذ بمجرد إخفاء المكلف ماله وامتناعه عن عمله، فلذا شرع الإسلام الحبس والتضييق على المدين والأجير وكل من هو مكلف بعمل لمصلحة غيره وجوباً حتى يقوم بما عليه. ولكن هذه السلطة الشخصية لم يمنحها الإسلام الدائن كما كان في التشريع الروماني، بل منحها الحاكم وجعلها من صلاحيته موقوفة على طلب الدائن. وقد ورد في الحديث الشريف (لي الواجد ظلم يبيح عرضه وعقابه). أي مماطلة الغنى (المدين). . يحل الطعن في أمانته وذمته. ولكن هذا الإجبار والإكراه إنما يكون فيمن ظاهر حاله اليسار، والقدرة على وفاء التزامه، فإما(894/10)
المعسر والعاجز فلا يجبر بل ينظر حتى قدرته.
ولكن بعض الفقهاء يذهب إلى أن العلاقة بين الدائن والمدين تصطبغ بالصبغة (المادية البحته) حتى في دائرة المذهب الحنفي الذي يقول بحبس الدائن المدين مستنداً إلى أن هذا الحبس أن هو إلا وسيلة من وسائل الإكراه لجأ إليها المذهب الحنفي لإرغام المدين على أداء الدين من ذمته المالية بدليل أن هذا الحق لا يجوز استعماله إذا لم يكن المدين معسراً فالمفروض عند الحكم بالحبس أن للمدين مالا ولكنه متعنت في الدفع فيلجأ ألفقه الحنفي إلى قهر إرادته والتغلب على تعنته بالحبس حتى يضطر لأداء الدين
بعد أن أو جزنا موقف الفقه الإسلامي من طبيعة الالتزام يتضح لنا أن موقفه هو الاعتدال بين المذهبين الشخصي والمادي فقد غلبت عليه الصبغة المادية (أَي المذهب المادي) لأن الشريعة عرفت الالتزام بإرادة منفردة أي (الجعالة) في التعبير الفقهي الإسلامي. . وكذلك أجازت حوالة الحق، وحوالة الدين ولو من دون رضاء المحال عليه، كما أن الشريعة لم تهمل الصبغة الشخصية للالتزام لتكون ضماناً لحفظ حقوق الناس تجاه أولئك الذين يتخذون من مرونة المذهب المادي حجة يحجمون بها عن أداء الديون والامتناع عن إيفاء التزاماتهم فبهذا تتجلى لنا بوضوح عظمة التشريع الإسلامي واستيعابه لأحدث النظريات الفقهية. . حقاً (إنه تشريع أزلي سرمدي)
كركوك - عراق
نور الدين رضا الواعظ(894/11)
من نقد النقد
مسرحية الذباب لسارتر
للأستاذ يوسف الخطاب
لا أدري لماذا تحمست يوما لنقد ترجمة الدكتور القصاص لهذه المسرحية، ثم عدت فأحجمت عن نقدها، حتى قرأت كلمة عنها للدكتور شوقي ضيف، في مجلة الثقافة تحت باب النقد، ليس فيها من ورح النقد سوى عرض للمذهب الوجودي، لخصه عن مقدمة الترجمة، بدأه بسخرية من (اتحاد شركات سارتر وأصحابه) وكنا نظن أنه سيلتزم هذا الاتجاه، ويساهم في نقد الحركة الوجودية، ونقد المسرحية التي يعرض لها. ولكنه لم يخرج عن المقدمة التي كتبها المترجم، والتي لخص الدكتور القصاص في نصفها الأول كتاب سارتر الصغير: الوجودية هي الإنسانية دون أن يذكر اسم الكتاب الذي نقل عنه من باب تأكيد الوجود الذاتي على حساب صاحب المذهب نفسه.
ولقد تكلم الدكتور شوقي عن الخط الأول من خطوط الوجودية، فتناول الوجود وأننا نوجد أولا، ثم نصنع ماهيتنا حسب إرادتنا، لا حسب التأثيرات الطبيعية أو الاجتماعية. ثم تناول الخط الثاني، وهو خط الحرية، وكيف أن كلاً منا حر في تقرير مستقبله ومصيره ما دام كل يحيا كما يريد، مؤكداً إن الحياة ليس فيها جبر من بيئة أو تربية أو أشياء ماضية، ونفى كل التاريخ وقال أن الإنسان يسوي نفسه في الصورة التي تبتغيها مشيئته وإرادته، وأن هذا ليس وجوداً فردياً خالصاً، لأنه في وجوده الفردي يكتشف وجود الآخرين - وبذلك أكد الوجود الفردي الذي يريد الوجوديون نفيه.
وبعد هذا التلخيص الطويل الذي استغرق صفحة كاملة من صفحات المجلة، كنا ننتظر أنه لن يكتفي بالوقوف عنده، وأنه سيتناوله بالرفض أو التأييد، ويورد لنا أسباب هذا الرفض أو التأييد، فلم يفعل شيئاً من ذلك واتجه مباشرة إلى تلخيص المسرحية وإيراد نصوص منها تتضمن آراء وجودية أطلقها عل كل مسرحيات سارتر - وفي هذا تخلص عجيب من فكرة مسرحية (الذباب) نفسها، ولم يقل لنا لماذا أسماها سارتر (الذباب)، وأسماها صديقه الدكتور المترجم (الندم).
وأختم نقده بسطرين حكم فيهما على المسرحية من الوجهة الفنية قائلا (من يقرؤها يشعر(894/12)
أنه ليس لها نهاية محدودة إذ تسعى إلى رسم مواقف وأفكار دون رسم شخصيات) وأعتقد أن هذا التعليل للنهاية غير المحدودة غير سليم، وقد سبق لنا أن تناولنا تعريف النهايات في مقال لا نريد أن نعود فنكرر ما جاء من صورة ربط النهاية بالحياة. ثم عاد فقال (أعترف أني لم اشعر أثناء قراءتها لا بفرح ولا بحزن لأني كنت أقرأ عقلاً صرفاً له آراؤه لا قلباً له عواطفه) وليس هذا تعليلا صحيحاً للحالة النفسية التي يكون عليها من يقرأ أعمال سارتر، وصحته أن الوجودي يؤمن بالحرية، وأن الإنسان بعد أن خرج إلى هذا العالم صار مسئولاً عن كل ما يريد وعن كل ما يفعل، ولا هادي له في حريته سواه وحده، لا عواطفه التي تدخل في باب الجبرية وهي شيء لا يعترف به الوجوديون.
وانتهى إلى شكر الدكتور القصاص على ما بذل من شرح آراء سارتر وترجمة مسرحيته، وطالب بترجمة (الآثار الأخرى لكاتب الوجودية الأكبر) - ونحن مع احترامنا للكاتبين لا نريد أن نقول إن كلمة الدكتور شوقي مجاملة على حساب النقد وكان لابد من مناقشتنا لها، لننتهي منها إلى رأي يوضح لنا حقيقة المسرحية المترجمة، ما دام الناقد والمترجم لم يحققا ذلك، جين قصر الأول نفسه على التلخيص، ولم يساهم بفكرة أو تفسير للمسرحية والمقدمة، واستقى نهجه من عمل الترجمة الذي تصدى لنقده، وبهذا أوضح لنا اتجاه المترجم، وأنه كان مقصورا على التلخيص والترجمة فحسب حين توفر في النصف الأول من المقدمة على تلخيص محاضرة سارتر التي طبعها في الكتاب الذي ذكرنا اسمه وأغفل ملخصه ذكره. ولخص في النصف الثاني مقالة من الجزء الثاني من كتاب سارتر (مواقف - دون أن ينص على ذلك في ترجمته. ولا نريد أن نقول أن هذا يتنافى مع أمانة الترجمة، ولكنا نريد أن نتسائل لماذا قصر نفسه على هذين الكتابين بالذات، وهما لا يعدوان في مادتهما أدب المقالات التي ينشرها (سارتر) في مجلته (العصور الحديثة) وكنا ننتظر منه حين وعدنا في النصف الثاني من المقدمة بالكلام عن (مذهب سارتر الأدبي) ألا يتناول رأي سارتر في الشعر والنثر، وأن يورد لنا رأيه في القصة والمسرحية، فهذا ألصق بطابع الكتاب، باعتبار أنه مسرحية مقروءة تقف بين المسرح بالذات. وكان يسرنا أن يذكر لنا هدفه من ترجمة هذه المسرحية بالذات، ويورد لنا رأي سارتر في الترجمة عامة وهل حقق المترجم ما يدعو إليه سارتر من التزام؟(894/13)
ونحن مضطرون إلى الإجابة نيابة عن المترجم، وإلى الإجابة بالنفي عن هذه الأسئلة كلها، لأن هذه المسرحية - من بين مسرحيات سارتر - قائمة على أسطورة إغريقية قديمة، تعالج واقعاً خاصاً بعيداً عن واقعنا، وكأن المجتمع قد انتهى من مشاكله، واطمأن إلى حلها، ولم يبق إلا أن يعيش في عالم الأساطير. وهنا يتضح لنا هدف دعاة الوجودية، فهم جماعة من محبي الهرب، يهربون من المجتمع إلى ذواتهم ليحققوا وجودهم - ولو على حساب المجتمع. ويهربون من واقعهم إلى واقع قديم غريب عليهم، دون اعتراف بالزمن والتاريخ. ويهربون من واقع الحياة فيعيشون واقعاً مستمداً من فلسفتهم دون تفرقة بين عالم الفلسفة الفكري وعالم الحياة.
فإذا جاء الدكتور القصاص وترجم لنا مسرحية هذه صفة أصحابها، كان واجبه أن يذكر لنا هدفه من الترجمة، وأي نوع من القراء قصد بها، لا أن يعتذر في نهاية مقدمته ويقول (قد يدهش القارئ من أننا لم نقل شيئاً عن مسرحية (الذباب) نفسها) ونحن نؤكد له أن القراء لم يدهشوا لسكوته عن الكلام عن مسرحية الذباب بل دهشوا لخروجه عن المذهب الذي ألتزمه، فهم يعرفون حرص الوجوديين على إشاعة مذهبهم وتوضيح جوانبه، والتزامهم تحويل الجماهير إلى معسكرهم بتقديم أعمالهم ومعها تفسير يذهب بكل إبهام، حتى يحتضنها كل قارئ، ويعرف كيف يجيد الدفاع عنها. ومما يؤسف له أنه قد سبق ترجمة هذه المسرحية إلى العربية مسرحية وجودية أخرى ترجمها الأستاذ رميسيس يونان وكان أكثر حرصا من مترجم (الذباب) حين قدم لها بمقدمة عن المسرحية التي ترجمها، وأنهاها بكلمة عن المذهب الوجودي. وهكذا نستطيع أن نقول أن حقيقة الالتزام - الذي يتمشدق به الوجوديون - بعيدة عن ترجمة مسرحية الذباب الوجودية.
وما دام الالتزام هو الخرافة التي يتكئ عليها الوجوديون - دون تحقيق لها - فان كل عمل من أعمالهم يخلو من الالتزام، منقوض من أساسه. ومن هنا يصح لنا أن نهمس في أذن الدكتور القصاص أنه لم يعد في تقديمه لمسرحية (الذباب) دور المترجم الناقل، وفشل في لعب دور الرائد الذي سبقه غيره في القيام به، وأصبح هو لا يمثل بترجمته إلا المدرسة القديمة. ولو قرأنا رأيا كتبه الأستاذ علي أدهم عام 1929 في مقدمة ترجمته لمحاورات رينان لأدركنا قد مدرسة القصاص في الترجمة حتى على هذا لتاريخ قال الأستاذ أدهم:(894/14)
(والكاتب الكبير يتشرب عصره. . . تلقاء ذلك رأيت أن أنسب طريقة أمهد بها السبيل إلى فهم رينان، هي أن أكتب مقدمة موجزة، أشير فيها إلى موقفه من الحركة الفكرية التي قامت في القرن التاسع عشر، وأكشف عن تأثيرها؛ وهو بحث عويص مشعب الأطراف كنت أوثر السلامة على التورط في غمراته. ولكني أعلم العلم كله أن المترجم في هذا البلد من واجبه أن يكون شارحاً إلى حد ما. ومن استيفاءات عمله أن يضع القارئ على النهج وينير له الطريق).
فهل حقق الدكتور القصاص أول واجبات المترجم؛ وهل ربط بين أدب الوجودية وروح العصر؟ وهل ربط بينها وبين غيرها من الاتجاهات؟
إننا نورد هذا الرأي - وليس هذا لنا - ويؤلمنا أن نصارح به أي مترجم، ولكنا نقلناه حتى لا نتهم بالقسوة في النقد، وهذه الرغبة نفسها هي التي تسوقنا إلى أن نصارح الدكتور القصاص أننا سنتجاوز عن المقدمة وعما بها من متناقضات حتى نناقش الرواية ونعرف إلى أي حد تتوفر فيها المسرحية. سنتجاوز عن تسمية للوجودية بأنها فلسفة ذات مبادئ، وعودته مرة ثانية ونسخه لهذه التسمية. وسنتجاوز عن دفاعه عن الذاتية في الوجودية ثم نفيه للفردية عنها بإيراده لنظرية (تشابك الذاتية) وهي تعديل لحق المذهب الوجودي يتناقض مع طبيعته.
وسنتجاوز عن تسميته للقلق والهجران واليأس بأنها (كلمات) مع أنها مقولات) فلسفية. وسنتجاوز عن ترجمته للـ بالوضع الإنساني قاصداً بـ (مجموعة الحدود التي توجد بادئ ذي بدء وتخطط لإنسان معالم وضعيته وكلتا الكلمتين (وضع) و (وضعية) لا يعترف بهما رجال الفلسفة. وسنتجاوز عن تعريفه الحرية الوجودية بأنها انتصار المرء الدائم على شهواته وعلى نفسه وعلى طبقته الاجتماعية وعلى وطنه) وهو تعريف خيالي لا يتفق وطبيعة المذهب الوجودي الذي ينادون بأن يحيا الإنسان كما يريد!!. . . ولكن من يدرينا لعل معنى الانتصار على الشهوة عند الوجوديين هو الخضوع المطلق لها، والانتصار على الطبقة والوطن هو الفوضوية والخيانة!. . . وسنتجاوز عن نفيه للتجريد عن الوجودية مع أن في ارتداد الفرد إلى ذاته وتحقيق وجوده الذاتي عدم اعتراف بالواقع المتحقق، وارتداد إلى عالم ذاتي كل ما فيه تجريد خالص، بدليل أن المترجم ذكر أنه(894/15)
حرص على أن (يكون البحث خالياً من المصطلحات الميتافيزيقية) وعالم الميتافيزيقية كله تجريد مبعد عن العالم الفيزيقي.
سنتجاوز عن كل هذا وعن مناقشة الآراء الفلسفية لأننا هنا بصدد مناقشة نقد أدبي ورواية مسرحية يجب أن تتوفر على الكشف عن جوانبها الفنية. وليس تجاوزنا هذا من باب تجاوز الدكتور في مقدمته عن ذكر أسباب عداء الجماهير والأحزاب لسارتر وينسى أن من حق القارئ عليه أن يعرف جانبا منها. فقد قدمت المسرحية للتمثيل - كما يقول المترجم - وفرنسا ترزح تحت كلاكل الاحتلال الألماني وظلت تعرض على الخشبة أكثر من ثمانية عشر شهراً) ومسرحية توافق سلطات الاحتلال على استمرار عرضها هذه المدة يحق للجميع أن يعادي صاحبها، لأنه تعاون مع سلطات الاحتلال ولاقى منهم كل معونة في الوقت الذي كانوا يملئون فيه المعتقلات بالأحرار الذين لا يعمدون إلى إلهاء الناس عن واقعهم الأليم بواقع إغريقي لا يمت إليهم - كما فعل سارتر بهذه المسرحية الخائنة بل كما فعل بكل فلسفته. ولو قيل أن المسرحية لاقت نقد بعض الأدباء الألمان فإني أقول أنه كان نقداً مغرضاً قصده التعمية، أو أنه نقد بعض الأحرار الذين يرفضون كل أعمال الوجوديين أساسا لطغيان جانب الفكر فيها على جانب الفن، بل وقضاؤه على المقومات الفنية، وأن الفكر الذي تستند عليه مستمد من فلسفتهم المتداعية. وأنهم لا يقدمون هذا الفكر تقديماً فنياً فلا يعترفون بأن المسرح غير الكتاب، وأنه ليس مجالًا لعرض الأفكار وتعارضها بل مجال الحياة وصارع الأحياء وأن إيراد الفكر عندهم لا يكون بطريق الإيحاء والتلميح بل بحشو المسرحية بالفكر الفلسفية الجافة التي لا يكتفون بإيرادها صريحة بل يصوغونها في قالب خطابي مثل الخطب الطويلة التي تمتلئ بها هذه المسرحية، وإذا أرادوا إعطاءها الشكل الفني استجلبوا صوراً غريبة غرابة الفن السيريالي الذي ينقلونها عنه - وبهذا يهدمون لاستعانتهم بفنون غيرهم. وهذا واضح في الخطبة التي انتهت بها مسرحية (الذباب).
وإذا تركنا هذا الباب جانبا - ونقول (أنتقلنا) متأثرين بما صنعه مترجم المسرحية، فقد جعلنا نحس فرقاً كبيراً بين لغة المقدمة التي لخص فيها آراء سارتر ولغة المسرحية التي ترجمها. فمع أن وسيلتها واحدة وهي النثر فأنت تلحظ أن أسلوب المترجم فيهما مختلف. فبقدر حرصه في المقدمة على بساطة التركيب، واستخدام الكلمات استخدماً موضوعياً، نجد(894/16)
حرصه الكبير في ترجمة النص على تقيد التركيب واستخدام الكلمات استخداما جمالياً - ورغم أن هذا الأسلوب عدو المسرح، فإنه خروج على طبيعة النثر الوجودية، إذ يدخله في مجال الشعر، لأن الكلمات هنا تستحيل إلى (أشياء) نراد لذاتها. بل أنه أحياناً كان يعمد إلى السجع فيقول مثلاً (هنا نحن تحيط بنا وجوهكم وكل ما كان في هذه الحياة من متاع. وها نحن نلبس عليكم ثياب الحداد دون انقطاع) وهذا يجعلنا نقول في أسف أن ترجمة النص جاءت بعيدة عن روح سارتر أو طمست معالمها.
ويبدو أن الدكتور القصاص شعر بخفة وزن المسرحية التي يترجمها فكان حريصاً على أن يكسبها هذا الشكل البلاغي، أو أنه شعر أنه يقدم مسرحية مقروءة فاعتمد على بلاغة الكلمات لإحساسه بأن الرواية تعوزها مسرحية الأحداث والحركات. ونحن مع اعترافنا بأن مسرحية الذباب - سواء في النص الفرنسي أو الإنجليزي - لا تعد وأن تكون مسرحية مقروءة فإنها ستظل كذلك على الأقل في مصر، لاتكاء المترجم على الكلمات واستخدامها استخداماً بلاغياً لا مسرحياً. وبهذا أكد صفة القراءة في المسرحية ونفى عنها إمكانية التمثيل، لأن المشاهد العادي لن يستطيع متابعة حوارها البلاغي. ويبدو كذلك أن المترجم أدرك عدم قدرة المسرحية على اجتذاب الجمهور فتصرف في ترجمة عنوانها حتى يلفت أنظار الناس وسماها (الندم) وتنبه أخيراً فكتب بخط صغير (أو الذباب) على طريقة مترجمي القرن التاسع عشر. ويظهر أن هذا الشيء الوحيد الذي قدمه المترجم أو لعله أراد أن يلخص المسرحية في كلمة واحدة، كلمة تذهب بكل مقومات المسرحية؛ لأن المسرحية التي يمكن تلخيصها مهدومة من أساسها. أو لعل المترجم أراد أن يحاكي المؤلف حين أتخذ من أشخاصها أفواهاً يرددون كلماته حتى لا يفوت القارئ إدراكها. وكلمة الندم لا تتوفر الطبيعة المسرحية، وهي قريبة من طبيعة الصراع الذي أورده مؤلف المسرحية وجعله يدور بين الإنسان والإله، وهو صراع يتناقض مع طبيعة المسرح الحديث، لأنه موقف فكري معقد مجاله كتب الفلسفة أو المسرح الكلاسيكي القديم، وفيه تطرف، والمسرح قائم على عرض كل ما هو عادي متعارف عليه. وإخضاع مثل هذا الموقف للمسرح فيه قسر وجبر يتنافيان وعدم اعتراف الوجودية بأي لون من ألوان الجبرية.
وهذا هو الأساس الذي تستند عليه المسرحية - المسرحية التي لا جديد فيها رغم الضجة(894/17)
التي أثيرت حولها هنا وهناك. ونحب أن نقول كلمة أخيرة أنه على رغم تجديد سارتر في عالم القصة وهو فيها متأثر بالقصة الأمريكية - فإنه باء بالفشل في المسرح فلم يقدم إلا النزر اليسير. وهذه المسرحية نفسها دليلنا على ذلك؛ فهي في شكلها لا تعود المسرحيات الكلاسيكية من بنائها المسرحي وتقسيمها إلى مشاهد منفصلة ومراعاتها للزمان والمكان وقيامها على بطل تسلط عليه الأضواء من كل جانب بنسبة أكبر مما عداه من شخصيات. والتناقض واضح بين هذا الشكل الكلاسيكي ومضمون المسرحية الوجودي. وهي حين تعتمد على الأسطورة القديمة لا تقدم من جديد سوى (الذباب) وهذا فضل لا يرجع إلى سارتر بقدر ما يرجع إلى الكتاب المسرحي الكبير (جيرودو) الذي عالج الأسطورة نفسها في مسرحية (الكترا) وذكر الذباب صراحة فجاء سارتر وأملت عليه وجوديته أن ينقل عنه، ويضفي على مسرحيته ثوباً ممزقاً من فلسفته المتداعية. ولكن يعزي (جيرودو) أن هذه المسرحية لم يعد لها أهمية تذكر بعد خروج الألمان من فرنسا وتوقف الصحافة الأمريكية عن الطبل لها لاشتغالها بما هو أهم منها.
يوسف الحطاب(894/18)
اللغة العربية والإسلام في الداغستان
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
على الضفة الغربية من بحر الخزر، وعلى المنحدر الشرقي لجبال القوقاز، بلاد جبلية تذكرنا بمناظرها، وأشكالها الطبيعية، وحياة سكانها الاقتصادية جبال لبنان، لكنها أشد برداً منها وأكثر وعورة وأجمل منظراً.
وهذه البلاد الجبلية هي التي تعرف اليوم بالداغستان، أي البلاد الجبلية. وقد أطلق عليها العرب يوم احتلوها أسماء شتى منها الجبال، وبلاد الباب، أو الباب والأبواب، وبلاد صاحب السرير، وبلاد الخزر، إلى غير ذلك من الأسماء التي لم تكن تشمل كل البلاد، بل قسماً منها أو أقساماً بعضها مستقل عن البعض الآخر. وأكثره واقع في جنوبي الجبال، وكان داخلاً في حكم الفرس حتى الفتح العربي كما يؤخذ من البلاذري واليعقوبي والطبري وغيرهم.
ويحد بلاد الداغستان هذه من الجنوب جمهورية آذربيجان، ومن الشمال نهر (ترك)، ومن الشرق بحر الخزر، ومن الغرب جبال (أبرز)، و (قازيك) وممر (دريال) الشهير وجزء من بلاد الكرج واركس.
كانت هذه البلاد المجاز الذي يسلكه الفاتحون الآسيويون إذا أرادوا الإغارة على أوروبا، وبلاد الروس الصقالبة، ويعبره الروسيون والتتار من الشمال إلى الجنوب إذا أرادوا التوغل في أنحاء آسيا، ولذلك كانت - دائماً - محط أنظار الفاتحين والغزاة من قديم الزمان إلى يوم الناس هذا.
ولم تكد جيوش الإسلام والعرب تحتل أرمينية وأذربيجان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أصعدوا شمالاً نحو (باب الأبواب).
وكان أول من سار إلى تلك الجهات هو سراقة بن عمرو، ومعه عبد الرحمن بن ربيعة، وحذيفة بن أسيد، وبكير بن عبد الله، وسلمان بن ربيعة مع نفر من المجاهدين، فوصلوا إلى (دربند) - باب الأبواب - وفتحوها في سنة 22 هجرية وفي فتح (دربند) يقول سراقة بن عمرو:
ومن يك سائلا عني فإني ... بأرض لا يؤاتيها القرار(894/19)
بباب الترك ذي الأبواب باب ... لها في كل ناحية مغار
نذود جموعهم عما حوينا ... ونقتلهم إذا باح السرار
سددنا كل فرج كان فيها ... مكابرة إذا سطع الغبار
وأقحمنا الجياد جبال قبج ... وجاور دورهم منا ديار
وبادرنا العدد وبكل فج ... نناهبهم وقد طار الشرار
على خيل تعادي كل يوم ... عناداً ليس يتبعها المهار
ولكنهم لم يكادوا يجاوزونها إلى (بلنجر) حتى لقيهم خاقان الخزر في خيوله على نهر (بلنجر) فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً، وقتل قائد الجشس سراقة بن عمرو، فتولى القيادة بعده عبد الرحمن أبن ربيعة الباهلي، وواصل القتال، وجاء المسلمين مدد من أهل الشام بقيادة حبيب بن مسلمة فاشتد القتال بين المسلمين والخزر حتى قتل قائد الجيش الإسلامي عبد الرحمن بن ربيعة أيضاً، واستشهد معه خلق كثير، واضطر الباقون إلى الانسحاب إلى (درنبد) بعد أن أخذ الراية سلمان بين ربيعة الباهلي، وقاتل حتى استطاع أن يدفن أخاه بنواحي (بلنجر) وفي مقتل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي (بلنجر) وقتيبة بن مسلم بالصين يقول عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:
وإن لنا قبرين قبراً بلنجر ... وقبراً بصين استان يالك من قبر
فهذا الذي بالصين عمت فتوحه ... وهذا الذي يسقى به سبل القطر
وهنا يروي المؤرخون أن خلافاً دب بين جيوش المسلمين على من يتولى القيادة بدل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فأهل الكوفة يريدون تولية سلمان بن ربيعة الباهلي شقيق عبد الرحمن، وأهل الشام يريدون تنصيب أميرهم وقائدهم حبيب بن مسلمة وكادت تكون فتنة، حتى قال شاعر أهل الكوفة يومئذ يذكر هذا الخلاف، ويشرح أوجهة نظر الكوفيين:
فإن تضربوا سلمان نضرب جيبكم ... وإن ترحلوا نحو بن عفان نرحل
ولا تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أمير في القبائل مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته ... ليالي يرمي كل ثغر نوكل
وفي النهاية تم الاتفاق على تقليد سلمان بن ربيعة الباهلي إمارة الجيش مكان أخيه عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فعبأ سلمان جيشه، وسار نحو (بلنجر)، فلقيه على نهرها خاقان(894/20)
الخرز في خيوله أيضاً، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قتل سلمان بن ربيعة الباهلي أيضاً، وقتل معه خلق كثير من رجاله قيل أربعة آلاف قتيل، وأضطر المسلمون مرة أخرى إلى الانسحاب بعد أن حملوا معهم جثة سلمان بن ربيعة الباهلي وكثيراً من جرحاهم إلى (دربند) ولكن الجيوش الإسلامية المنسحبة في هذه المرة لم تقف في (دربند)، بل تفكك شملها، وتشتت في كل اتجاه.
وبعد هذا الانكسار الذي مني به المسلمون في هذه الجهة فترت حركة الحملات العسكرية إلى هذا الميدان النائي بفعل الحوادث الداخلية التي أعقبت مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحروب معاوية وعلي، وما تبع ذلك من الفتن حتى إذا ولي الخلافة الإسلامية الوليد بن عبد الملك جهز جيشاً كبيراً بقيادة مسلم بن قتيبة ووجهه سنة 89هـ إلى أرمينية، فالداغستان، فقاتل الخزر وفتح كثيراً من البلاد، وغنم الغنائم، ثم قفل راجعاً. ثم وجه الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش قوي إلى تلك البلاد أيضاً، فقاتل أهلها، وغلبهم على كثير من بلادهم، وغنم غنائم كثيرة، ثم رجع بها.
وفي سنة 105هـ وجه يزيد بن عبد الملك جيشاً إلى هذه البلاد بقيادة الجراح بن عبد الله الحكمي من مذحج، فسار إلى الخزر فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى وغنم، ثم رجع إلى جنوبي أرمينية، فجاشت الخزر، ولحقت به، فحاربهم في صحراء (ورشان) فانحازوا إلى ناحية أردبيل، فواقعهم على أربعة فراسخ مما يلي أرمينية، فاقتتلوا ثلاثة أيام، فاستشهد الجراح هناك، وقتل كثير من جنده، وتفرق الباقون، وتشتتوا في اضطراب. وسمي نهر هناك بإسم الجراح، كما سمي جسر عليه جسر الجراح أيضاً، ثم كان أن عاث الخزر في البلاد، وفقد العرب هيبتهم، فانسحبوا من أطراف أرمينية. حتى إذا ولي الخلافة هشام بن عبد الملك ولي أخاه مسلمة بن عبد الله صقر بني أمية، وبطلها المجرب أرمينية، وأمره أن يسير إليها برجاله وقواده ليطهر البلاد من الخزر، وممن طمع فيها بعد قتل الجراح، فسار إليها في سنة 112هـ وقد وجه على مقدمته سعيد بن أسود الحرسي، ومعه كثير من القواد بينهم الوليد بن القعقاع العبسي، وسار مسلمة مظفراً منصوراً حتى وصل إلى مدينة (باب الأبواب) وفتحها من جديد، وكان في قلعتها ألف أهل بيت من الخزر، فحاصرهم ورماهم بالحجارة، ثم عمد إلى غير ذلك من وسائل الهجوم حتى اضطرهم إلى الهرب، وإخلاء(894/21)
القلعة، فلما فتحها وغيرها من القلاع الحصينة أخذ يتقدم في البلاد ويحتلها إلى أن تم له فتحها كلها، فعاد إلى (باب الأبواب) بجيشه الذي استصحبه معه من الشام، وكان عدده أربعة وعشرين ألفاً، فأسكنهم المدينة المذكورة على العطاء ثم احتل مواقع أخرى هامة، وقبض على البلاد بيد من حديد.
وفي سنة 118هـ وجه هشام بن عبد الملك قائداً جديداً إلى هذه البلاد وهو أسد بن زعفر، فثبت ملك العرب وقوى سلطان المسلمين، وفي عصر الوليد بن يزيد بن عبد الملك أرسل الوليد إلى هذه البلاد مروان بن محمد - آخر الخلفاء الأمويين - على رأس جيش كبير، فكان أكبر مساعد على تثبيت مركز الإسلام، ودعم أسس الدولة الإسلامية العربية في تلك الربوع إذ لم يكن أقل من عمه مسلمة ثباتاً وعزماً وبعد نظر، فواقع الخزر، وأبلى بلاء حسناً، ولما أنصرف مسلمة إلى الشام بعد ذلك بقي مروان في أراضي (باب الأبواب) يتعهد ثغورها وأحوالها، ويوطد السلطان العربي الإسلامي فيها حتى أقر له القريب من القبائل وملوكهم والبعيد، وهابته الخزر وأخذت تتودد إليه، وتؤدي له الطاعة والجزية.
قال البلاذري: أنه لما بلغ عظيم الخزر كثرة من وطئ به مروان بلاده من الرجال، وما هم عليه في عدتهم وقوتهم نخب ذلك قلبه، وملأه رعباً، فلما دنا منه أرسل إليه رسولاً يدعوه إلى الإسلام أو الحرب، فقال: قد قبلت الإسلام فأرسل إلي من يعرضه عليّ، ففعل، فأظهر الإسلام، ووادع مروان، فأقره في مملكته، وسار مروان معه بخلق من الخزر، فأنزلهم ما بين السمور والشابران في سهل أهل (اللكز)، ثم دخل مروان أرض صاحب السرير، فأوقع بأهلها وفتح فيها قلاعاً، ودان ملك السرير وأطاعه، فصالحه على ألف رأس وخمسمائة غلام وخمسمائة جارية سود الشعور والحواجب وهدب إلأشفار في كل سنة، وعلى مائة ألف مد تصب في أهراء (الباب) وأخذ منه الرهن.
وهكذا كان يصنع مع جميع ملوك الجبل وما وراءه، فكان يحملهم على الصلح وتأدية الجزية، ثم يقرهم على ملكهم، فكان من نتائج هذه السياسة الحكيمة في تلك البلاد أن رسخت قدم العرب فيها، وانتشر فيها دينهم بسرعة عجيبة حتى لم يبق للأديان القديمة التي سبقته أثر يذكر، وانتشرت مع الإسلام لغته العربية، فأصبحت بعد قليل من الزمن لغة الكتابة والتعليم والتفاهم بين أهل الجبل المختلفي اللغات واللهجات، وهي لا تزال كذلك إلى(894/22)
اليوم مع تخاذل في بعض الأنحاء اقتضته الظروف والأحوال الحاضرة.
وكل ذلك يرجع إلى سياسة بني أمية الحازمة، وعلى الأخص سياسة هشام بن عبد الملك وأخيه مسلمة وأبن أخيه مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين.
وفي هذه المرة استطاع مسلمة بن عبد الملك أن يبسط سلطان الإسلام في هذه الربوع، فأكمل فتح أنحاء الداغستان، ولم تأت سنة 115هـ حتى كان سلطان الإسلام باسطاً جناحيه في كل قرية ومدينة، وحتى انتشر الدعاة والحكام والأمراء المسلمون يعلمون ويرشدون، ويبنون المساجد، ويقيمون منارات الدين والهدى في كل مكان.
ومن ذلك التاريخ أصبح هذا الإقليم إسلامياً يدين بالإسلام، ويخلص له، وأصبحت مدينة، (دربند) أو (باب الأبواب) ثغراً من ثغور المسلمين يرابط فيه في سيبل الله.
ولذلك لم تخرج هذه البلاد على العرب يوم شغلوا عنها بحروبهم الأهلية التي نقلت الملك إلى بني العباس، بل بقيت في أيديهم إلى ظهور السلاجقة.
وإذا كان سلطان العرب السياسي قد انكمش عن هذه البلاد بعد ذلك، فإن أهل البلاد حافظوا في جميع الأدوار التي مرت بهم وفي عصور جميع الفاتحين والغزاة لبلادهم بعد ذلك وإلى أن وقعت في أيدي الروسيين في أوائل القرن التاسع عسر - حافظوا بأمانة وإخلاص في جميع تلك الأدوار على شيء من استقلالهم الداخلي، ودينهم الجديد، وتقاليدهم الموروثة، وحافظوا على التفاهم باللغة العربية محافظة غريبة لا نعهدها في غير هذه البلاد. يدلك على ذلك أن اللغة العربية لا تزال إلى اليوم لغة التدريس والتأليف والتفاهم بين علماء الداغستان والطلبة، وهم يتكلمون ويكتبون بها كأبنائها، ولهم فيها مجلة شهرية تعنى بنشر الدين والأدب ينشرها الكاتب الشهير أبو سفيان.
البقية في العدد القادم
برهان الدين الداغستاني(894/23)
كشاجم
للأستاذ عبد الجواد الطيب
ما كان لنا - ونحن نؤمن بالإقليمية وأثرها في الأدب - أن نتحدث عن شاعر مثل كشاجم الفلسطيني المنيت والنشأة على أنه شاعر مصري، يكتب فيه بحث في الأدب المصري، لولا أن الرجل كان قد وفد إلى مصر فيمن وقد إليها من الشعراء كالمتنبي وأبي تمام وكثير عزة، وغيرهم من الشعراء الذين حدث بينهم وبين البيئة المصرية من التفاعل ما جعلها تتأثر بهم ويتأثرون بها.
وإذا كان شاعر كالمتنبي مثلاً أقام في مصر فترة من الزمن ثم رحل هنها متبرماً بها ساخطاً عليها، فإن شاعراً ككشاجم لم يتبرم بها هذا التبرم، ولم يرحل عنها إلا ليعود إليها، وقد شفه الوجد وأضناه الشوق:
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني ... والآن عدت وعادت مصر لي دارا
فهو إذن لم يلم بمصر إلماماً، وإنما أقام بها وقتاً جعلها حرية بأن تكون داراً له، ثم كاد يرحل عنها حتى عاد إليها صباً مشوقاً يتخذها مستقراً ومقاماً.
فنحن حين نتحدث عن كشاجم كشاعر مصري لا نفعل هذا لمجرد أن إقليم الشاعر كان تابعاً لمصر حياة كشاجم، فهو إذن مصري بالتبعية السياسية.
ليس هذا طبعاً هو الذي نعنيه، فإنه وإن كانت هذه التبعية قد يكون لها أثرها في الحياة الأدبية إلى حد ما، إلا أن أثر البيئة الجغرافية بحدودها ومعالمها أعظم من هذا خطراً، وأبعد مدى، ولهذا حين أتى كشاجم مصر واتخذها مستقراً له، وتأثر بطبيعتها، وظروفها المادية والمعنوية. . . يمكن اعتباره من هذه الناحية شاعراً مصرياً، أو على الأقل فيه جانب مصري جدير بالدارسة.
لقد يكون سر اختياري لكشاجم بالذات دون غيره كالمتنبي وأبي تمام. . . هو أن كشاجم لم يثر اهتمام الدارسين، ولم يحظ بما حظي به غيره من عناية الباحثين من القدماء والمحدثين، فالمتنبي مثلا كان موضع عراك، وأخذ ورد، ودوي هائل، ظل صداه بل ظل امتداده إلى الآن، فهو قد حظي بعناية القدماء كثيرا، والمحدثين أكثر. أما كشاجم فهو شاعر مغمور أو كالمغمور، فلا يجد المتتبع له إلا نتفاً مبعثرة هنا وهناك، ومع هذا فكلها حديث(894/24)
مقتضب، معاد: من أنه رملي فلسطيني، ولد فإذا هو طباخ في بلاط سيف الدولة، وإذا هو أيضاً شاعر ظريف، (كافه) من كاتب و (وشينه) من شاعر و (وألفه) من أديب. . . إلى آخر هذه الأحكام العامة التي تلقي جزافاً دون تحقيق أو تمحيص. فأما نشأته وثقافته، وأما أدبه وآثاره الأدبية. . . فليس كل هذا في نظرهم جديراً بالدراسة والعناية. . .!!
لهذا يجد الباحث لذة - وإن كان يجد عناء أيضاً - في أن يحاول أن يجلي صفحة من صفحات الأدب مطموسة المعالم أو هي كالمطموسة.
- 1 -
كشاجم: هو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك (وشاهك أم السندي لا أبوه، وكنيته أبو الفتح، أو أبو الحسين، وقيل بل أبو النصر، ولا يعنينا هذا الاختلاف في قليل ولا كثير.
وقد اتفقت جميع المراجع في اسمه واسم أبيه، وتكاد تتفق على اسم جده إذا ما صرفنا النظر عما أورده السوطي في حسن المحاضرة مع أنه: (محمود بن الحسين بن السدي بن شاهك) ولعل هذا تحريف لا يلتفت إليه بجانب ما أثبتته الكثرة من المصادر الأخرى، ولاسيما بعدما أورده السمعاني في كتاب الإنسان من قوله: (وأما السندي بن شاهك فهو كشاجم الشاعر، يقال له السندي لأنه من ولد السندي بن شاهك الذي كان على الحبس أيام الرشيد ببغداد). وقد يبدو في الظاهر أن هذا الاختلاف شكلي مثل الذي قلنا في الكنية، ولكن الواقع أن تحقيق النسب له أهميته من حيث معرفة السلالة التي انحدر منها الشاعر، مما قد يكون له تأثيره بشكل ما على ميوله واتجاهاته، وبالتالي على ما ينتجه من أثر فني، فالسندي بن هاشك هذا هو إذن جد كشاجم، وهو الذي ذكر الجهشياري أنه كان يلي الجسرين ببغداد في عهد الرشيد وقد ذكر أبن ميسر أنه كان هندي الأصل وكان صاحب الحرس.
هذا ما يتعلق باسمه وكنيته ونسبه وأصله.
أما اللقب الذي اشتهر به فهو (كشاجم) وقد قالوا فيه وفي تحليله: (إن الكاف من كاتب، والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من جواد والميم من منجم) وقد يكون لنا وقفة عند هذا اللقب وتحليله بهذه الصورة عند الحديث عن ثقافة الرجل في العدد القادم.(894/25)
- 2 -
ولد كشاجم بالرملة في فلسطين، وتاريخ ميلاده في غاية الغموض، إذا لم يحدده مرجع واحد من المراجع التي بأيدينا، كما أن طفولته ونشأته كذلك غامضة إلى حد كبير، ولا نعلم شيئاً ذا بال عن أسرة الشاعر، وهي بيئته الأولى التي ترعرع فيها، والتي أرضعته وغذته حتى تكون خلقاً سوياً جمع، ولاشك، في طوايا نفسه كثيراً آثار هذه البيئة الخاصة التي نشأ فيها أول ما نشأ، وهذه معلومات لا يستهان بها، وقد كانت حرية أن تسهل علينا مهمة الدرس والتحقيق، ولكن مما يؤسف له حقاً أن الرجل لم يجد عناية من كثير من المؤرخين، وأصحاب التراجم، ومن ترجم له منهم جاءت ترجمته مقتضبة كل الاقتضاب، ولا تلقي على حياة الشاعر إلا أضواء باهتة، لا تصور النواحي الهامة من حياته، وليس من شأنها أن تساعد على تصويرها تصويراً دقيقاً، ومع هذا فالباحث لا يسعه إلا أن يحاول الانتفاع بهذه الأشعة ثم يحاول بعد هذا أن يسد ذلك النقص بشيء من الأناة والصبر، وتعمق النصوص واستبطانها.
- 3 -
وإذا كان مترجموه قد أهملوا سنة ميلاده، فقد اضطربوا في سنة وفاته بين: سنة 360، سنة 350، سنة 330هـ، ولعل أضعف هذه الآراء هو الرأي الأخير، لما ذكره من تعرضوا لترجمته من أنه كان طباخاُ لسيف الدولة الذي لم يظهر على مسرح السياسة قبل هذا التاريخ، أما الرأيان الأولان فقد يصعب الترجيح بينهما وهما على كل حال متقاربان إلى حد ما، ولكن قد وردت في ديوان كشاجم إشارة عابرة فيها تعريض بكافور الإخشيدي حين يهجو غلاماً له أسمه كافور:
حكيت سميك في برده ... وأخطأك اللون والرائحة
فإذا صح أن هذا التعريض حصل في إثناء ولاية كافور (55 - 57هـ) فقد يكون في هذا الاحتمال ما يستأنس به في ترجيح الرأي، وهو أن وفاة كشاجم كانت سنة 360هـ. هذا عن وفاته، أما مولده فقد سبق أن قلنا أن أحداً من المراجع لم يلق ضوءاً عليه، وهذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاهتمام بتاريخ الميلاد - كانت شائعة في هذه العصور القديمة،(894/26)
التي لم تظهر فيها العناية بالمواليد والوفيات على أساس ثابت، كما هو الشأن عند الدول المتحضرة الآن. ثم أن التاريخ - فيما يبدو - كان أرستقراطياً لا يحفل كثيراً بغير الملوك والأمراء؛ فإذا ولد هذا الطفل أو ذاك من عامة الشعب لا يعيره أدنى التفاتة، ولكن إذا قدر لهذا الطفل أن يكون في مستقبل أيامه وزيراً خطيراً، أو عالماً كبيراً أو أديباً مشهوراً. . . فهنا يقف التاريخ في أرستقراطيته الساذجة، ويعير هذا الرجل شيئاً من عنايته؛ من هنا يجد الباحثون صعوبة ومشقة في تحقيق تراجم كثير من الأدباء والعلماء ودراسة آثارهم الأدبية والعلمية، فهم يجدون دائماًِ حلقة أو حلقات مفقودة، كم يودون لو عثروا عليها فتنير أمامهم الطريق.
وهكذا نجد التراجم قد سلكت عن مولد هذا الشاعر وطفولته ونشأته، وبيئته الأولى وفجأة يقفز إلى الوجود طباخاً في قصر سيف الدولة، أو شاعراً من وراء والده أي الهيجاء. وحتى هذا الذي ذكروه بحاجة إلى الوقوف عنده، فنحن نستطيع أن نفهم أن كشاجم حين يكون طباخاً لسيف الدولة ولا يأتي ذكره في شعره ربما يكون ذلك معقولاً، أما أن يكون شاعراً لأبي الهيجاء بينما لم يزد ذكر لأبي الهيجاء هذا ولو في قصيدة واحدة من شعر شاعره فهذا هو الذي لا نستطيع أن نسيغه!!
ومع هذا فالباحث لا يصح أن يقف مكتوفاً أمام هذه الصعاب، وإنما يجب أن يعمل عقله في النصوص التي بين يديه عساه أن يخرج منها بشيء مما ذكروه مشوهاً، أو أغفلوا ذكره إغفالاً.
فهذا ديوان الشاعر يحدثنا أنه مدح علي بن سليمان الأخفش النحوي، ويصفه بأنه أستاذه، وأنه قد تخرج عليه، ويحدثنا ياقوت في معجمه أن هذا الأخفش مات في شعبان سنة 315هـ والعني هذا أن كشاجم كان قد جاوز مرحلة الطفولة، ثم مرحلة الأولى - على الأقل - قبل هذا التاريخ، وإلى جانب هذا تراه يرثي محمد بن عبد الملك الهاشمي المتوفى سنة 312هـ، وهذا معناه كما قلنا أن كشاجم لم يكن في سن الطفولة الأولى إذ ذاك وأنه كان على الأقل في الحلقة الثانية من عمره، وهذا كله يقوى عندنا الظن بأن مولده كان في أواخر القرن الثالث الهجري، وإذا كان قد رجح في نظرنا ذاك الرأي القائل بان وفاته كانت 360هـ فمعنى هذا أن حياة كشاجم أربت على الستين، وهذا ما يؤيده ذكره للشيب(894/27)
والضعف في مواضع كثيرة من ديوانه.
عبد الجواد الطيب(894/28)
- الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
العقل
بينا في المقال السابق أن الغزالي رحمه الله لم يستطع أن يحل عقدة النفسية بالتأمل الذاتي فأنقلب ذلك التأمل مرضاً نفسياً مستعصياً وهو ما يسميه علماء النفس المعاصرون بمرض (التأمل الذاتي المستمر).
فزاد ذلك التأمل المستمر في آلامه وضاعف في شقائه وعذابه ولكنه على كل حال كان مؤمناً بضعفه أمام عظمة الله فخاف عذابه ورجا ثوابه فخضع لسلطانه الخضوع المطلق، وأنقاد لأوامره الانقياد الأتم. وقد دفعه هذا اليقين إلى العمل في سبيل نقل آرائه وأفكاره إلى المسلمين ليكون بها في نفوسهم إيمانا كإيمانه، ويقيناً مستولياُ على القلوب كيقينه، فكان له في هذا السلوك تنفيس وتسنام كانا سبباً في احتماله العظيم لمضاضة الحرمان وغضاضة الانزواء والنسيان. وليس من شك في أن أحسن أنواع سلوكه رحمه الله هو كتابة هذه الكتب الكثيرة القيمة. التي أودعها تجاربه وآراءه وأفكاره ومعتقداته لا سيما كتابه النفيس القيم - أحياء علوم الدين - الذي نعتبره من أثمن الكتب الإسلامية في الدين والآداب والأخلاق والتربية وعلم النفس. فقد دون فيه فصولاً متعددة لنتائج تأملاته الطويلة بدأ بعضها بألوان متألقة منسقه وبعضها الآخر بألوان متنافرة مختلفة. فكان في تدوينها خير للعلم وموعظة حسنة للتحليل النفسي والتأمل الذاتي.
ولنأخذ الآن بعد هذه المقدمة كتاب الأحياء الذي أودعه الغزالي نتيجة مجهوده الفكري وصفاوة تأمله النفسي فندرسه دراسة تصل بها إلى ما رمينا إليه من غرض، والله الموفق لما فيه الخير.
لا يزال علماء النفس مختلفين في ما هية العقل وحقيقته فلهم آراء كثيرة متضاربة ولكنهم جادون في البحث عن هذه الحقيقة. ونحن وإن كنا لم نقف لعلماء النفس إلى رأي إجماعي في موضوع العقل. فقد رأيناهم يعتبرون اللاشعور أو العقل الواعي بمثابة أجزاء للعقل، فالعقل في نظرهم هو اللاشعور بخيره وشره وهو الشعور بحلوه ومره.
ليس فيه هذا شيء غريب ولكن الغريب كل الغرابة أن يتفق رأي الغزالي في العقل مع(894/29)
آراء علماء النفس في العصر الحاضر.
فإننا نراه يتحدث عن اللاشعور ووحيد الشعور وشبه الشعور والشعور أو العقل الباطن والعقل الواعي كأجزاء للعقل. يقول في الباطن الجزء الأول من أحياء علوم الدين في بيان حقيقة العقل وأقسامه.
(أعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقاً على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان كما يطلق اسم العين ثملاً على معان عدة وما يجري هذا المجري فلا ينبغي أن يطلب الجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه (فالأول) الوصف الذي يقارن الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحرث أبن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل أنه غريزة يتهيأ بها أدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب يستعد لإدراك الأشياء (والثاني) العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائرات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد (والثالث) هو انتهاء قوة الغريزة إلى حد معرفة عواقب الأمور وقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة وقهرها. وهو الأسس والمنبع، والثاني هو النوع الأقرب إليه، والثالث فرع الأول والثاني والرابع هو الثمرة الأخيرة والغاية القصوى. والأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب. ولذلك قال علي كرم الله وجهه
رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع ... إذا لم يك مبطوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
نرى الغزالي في هذا القول قد رتب صفات العقل ترتيباً بديعاً وافق ترتيب علم النفس الحديث موافقة تامة. فقد جعل القسم الأول والثاني من أقسام معاني العقل يقابلان اللاشعور ووحيد الشعور. وقد وصفها بأنها الأسس والمنبع المتكونان بالطبع، أو هما العقل المطبوع الذي يقابل ما يسميه علم النفس الحديث بالعقل الباطن. وجعل القسم الثالث والرابع في مقابل شبه الشعور والشعور فقد وصفها بالثمرة الأخيرة والغاية القصوى للمعرفة التي تأتي(894/30)
بالاكتساب، أو هما العقل المسموع الذي يقابل ما يسميه العلم الحديث بالعقل الواعي. وواضح من تقسيم الغزالي العقل أنه يعتبر العقل هو المعرفة المتكيفة التامة، ولهذا بدأ في تقسيمه بأول درجات المعرفة وهي المعرفة الغريزية ثم ارتقى منها إلى ما بعدها من المعرفة المكتسبة. وقد أشبه الغزالي في تقسيمه هذا بعض المعاصرين في تقسيمهم العقل إلى أربعة عقول وهي العقل الحيواني والعقل الإنساني الهمجي والعقل الثقافي القديم والعقل الثقافي الحديث.
وننتقل الآن بعد الذي قدمناه عن العقل عند الغزالي إلى الأجزاء التي يتألف منها كل قسم من الأقسام الأربعة للعقل وهي في نظر الغزالي ثلاثة: (العلم والحال والعمل. فالشعور واللاشعور بل كل عملية عقلية تتكون عند الغزالي من هذه الأجزاء الثلاثة. وهذا ينطبق تمام الانطباق على ما يقوله علماء النفس المعاصرون في هذا (الموضوع يقولون: أن الشعور أو اللاشعور بل كل عملية عقلية تتألف من ثلاثة مظاهر أساسية وهي الإدراك أو المعرفة، أو الوجدان والعاطفة؛ والنزوع أو المحاولة، فالإدراك هو مجرد علمك بما في نفسك من الخواطر أو بما يحيط بك من الأشياء من غير أن تنفعل أو تتأثر. والوجدان هو ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك أو النزوع. والنزوع هو محاولة أو جهد يبذله الإنسان ليستديم الارتياح الذي وجده أو يبعد عما شعر به من ألم وضيق.
نرى في هذه المقابلة توافقاً تاماً بين تحليل الغزالي للعملية العقلية التي يتألف منها كل قسم من أقسام العقل والتحليل الحديث.
فالعلم عند الغزالي هو الإدراك أو المعرفة. والحال عنده هو الوجدان أو العاطفة أي الحال الذي كون عليه المتأثر المنفعل بعاطفته ووجدانه. والعمل عند الغزالي هو النزوع والمحاولة.
وننتقل بعد هذه المقابلة بين أجزاء العلمية العقلية التي يتألف منها الشعور واللاشعور عند الغزالي وعلم النفس الحديث إلى الجزء الأول من أجزاء هذه العملية العقلية وهو (العلم) أو المعرفة أو الإدراك لنرى ما عند الغزالي في هذا الموضوع فنقابله بما عند علم النفس عنه.
وهذا ما سنقوم به في المقال القادم أن شاء الله.
حمدي الحسيني(894/31)
الأزهر والاتجاه الحديث في التربية
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
كان للرأي الذي أذاعه الدكتور - محمد يوسف موسى - على
صفحات - الأهرام - في 681950 أثره العميق في أكثر من
بيئته. فقد أعلنه في صراحة؛ وجرأة؛ تعد أقوى ما وجه إلى
الوضع غير الطبيعي للأزهر من أزهري ومدرس في الأزهر.
غير أن هذا الرأي مع صدق منطقه؛ ونصاعة حجيته لا نقوى
على هضمه وتمثيله طبيعة البيئة الأزهرية لغير سبب واحد
ولأن الثورة على تلك الأوضاع التي رسخها الزمن ودعمتها
التقاليد قد توجد من المشكلات أكثر مما تحل والذي يمكن
عمله والدعوة إليه هو أن يعمل الأزهر على أن يستغل
ويستفيد من نتائج البحوث التربوية؛ والنفسية؛ وأن يؤمن بأن
ثروة الشعب الحقيقية لا تكن في جوف أرضه بل في نفوس
شبابه وفي مهارتهم في أعمال معينة وفي فوح ميولهم وفي
إعطائهم الفرص الطيبة للنمو الطبيعي وإعطاء كل فرد منهم
منزلة في المجتمع حسب قدرته واستعداداته حتى يمكنه أن
يحترم المجتمع على أحسن وجه ممكن وحتى يستفيد المجتمع
من مواهب أفراد بأقصى مما يمكن. فالاتجاهات الحديثة في(894/33)
التربية تنادي بأنه يجب أن تعلم الأطفال الاشتراك في العمل
مع الآخرين في نفس الوقت الذي يتعلم فيه كيفية التفكير
والاعتماد على نفسه من إصدار الأحكام، وأن طريقة التفكير
أهم من المادة التي يفكر فيها؛ وأن أصدق مقياس للتدريس هو
ما نشاهده من تطور في سلوك المتعلم؛ واحترام شخصية
الطفل فاحترامها مبدأ أساس فإن من شأن ذلك الاحترام أن
يجعل الطفل يثق بنفسه وأن يعرف أن له وجود أو أهمية.
والعمل على توحيد شخصية الطفل وترابطها يتطلب حياة
اجتماعية موحدة في المدرسة والهيئة الاجتماعية؛ وألا تقف
المدرسة بعيدة عن ميدان الحياة وإلا باعدت بين الكائن الحي
الذي هو الطفل وبين بيئته الحقيقية وهي الحياة وأن يعمل
المعلم على فهم الطفل النفسي فالتعليم الصحيح يعتمد على
المزاج والعواطف والانفعالات النفسية كما يعتمد على الكلام
والأعمال؛ ومعرفة الفروق الفردية وفقه عواملها ومعاملة كل
فرد حسب مواهبه وتبعاً لما يحتاج إليه. ومساعده التلاميذ على
اكتساب القدرة على التفكير الصحيح في جميع مشاكلهم سواء
ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو علمي ولا نعد(894/34)
مسرفين إذا قلنا أن كثيراً من الاضطراب في مدارسنا سببه أن
الطلبة لا يستطيعون أن يقاوموا بتفكيرهم الخاص الاتجاه
الجمعي الآتي لهم من الخارج وترمي التربية إلى تنقية البيئة
المدرسية وهي البيئة المختارة وتخليصها من كل ما يلوث
ويشبه البيئة الخارجية من الناحية الجسمية والعقلية والوجدانية
فالطفل يمتص من هذه البيئة كل ما فيها عن طريق التقليد
والإيماء والاستهواء والمشاركة الوجدانية. أما فيما يختص
بعملية التعليم فهو يقوم على مبدأ النشاط الذاتي للتلميذ؛
واستقلال غرائزه وميوله في كل مرحلة من مراحل نموه.
واتخاذها دعامة لعملية التربية واصبح مرشداً ومنظم فسقط أي
يعد المسرح ويترك التلميذ يقوم بدور فأساس التعليم الآن هو
إيجاد المشكلات المناسبة التي تستدعي التفكير وتتطلب الحل
أمام التلميذ وتركه يحاول ما أمكنه حلها والتغلب عليها وهي
تعن بالغذاء الفكري والوجداني الذي تقدمه لكل مرحلة من
حيث جودته وملاءمته حتى يسهل الانتفاع به.
فمن حيث المادة التي تقدم نجد العناية بألفاظها وأسلوبها فتعمل قوائم للألفاظ التي تستعمل في كل مرحلة مثل قوائم (ثور بدين) لتعرض المادة الملائمة لكل مرحلة في الأسلوب الذي لا يخرج كثيراً عن قاموس الطفل اللغوي وقد تعتني مظهر الكتاب من حيث الإتقان في(894/35)
الطبع والتلوين والصور كل هذا على ضوء علم النفس والتجارب التي أجريت على آلاف الأطفال؛ أما من الناحية المزاجية فأسمع كيف يعرض علماء النفس والتربية لأهميتها فيقولون: أن أهم عامل في استجابة الطفل للتعليم سواء أكان مبكراً أم متأخراً هو حالته المزاجية فعلى المدرس أن يسأل هل هذا الطفل (الذكي) سليم الجسم مملوء بالحيوية؟ فإذا لم يكن كذلك فالواجب تشجيعه إلى اللعب في الهواء الطلق وأن يقلل من عمله داخل الفصول؛ ومن الناحية الاجتماعية يسأل نفسه أيضاً هل الطفل الذي أظهر قدرة ممتازة في أعماله المدرسية منسجم في صلاته مع إخوانه؟ إن كثيراً من هؤلاء المتفوقين في الأعمال المدرسية مغمورون من الناحية الاجتماعية من حيث أتحاذ أصدقاء اللعب وهم يفشلون في حياتهم العامة لأنهم لم يستفيدوا من نباهتهم في تكوين الأصدقاء ومعرفة أساليب الحياة العامة. فإذا اكتشف المدرس هذا النوع من التلميذ فالواجب عليه أن يحثه على اللعب مع إخوانه على أن يلعب دوره جيداً في ملعب الكرة والتنس وغيرهما من الملاعب فإنها ذات قيمة في حياته تعود القدرة على حفظ درسه جيدا. . .
هذه بعض الخطوط العامة للسياسة التربوية كما تؤمن بها وتنفذها الأمم الحية. فماذا فعل الأزهر وهو جزء له كيانه البارز في هذا العصر إزاء هذه السياسة التربوية؟؟ الدراسة لا تزال تدور حول محور الطريقة الالغائية وتشنيط الذاكرة. أما مراعاة الفروق الفردية فلا يعرف عنها شيئاً ولا تزال الكتب من حيث أسلوبها ومادتها يعوزها الشيء الكثير حتى تفد في قدرتها الإثمار. أما العناية بالجانب الوجداني للتلميذ؛ أما تشجيعه على البحث؛ أما تكوين عادة فكرية سليمة؛ أما العناية بتفاعل الشخصية للتلميذ؛ فكل هذه أسئلة نترك للأزهر الإجابة عنها؟
هل آن للأزهر أن ينظر إلى تلك الوديعة التي استودعتها الأمة عنده تلك النظرة الإنسانية. ويعلم أنه مسؤول أمام الله؛ والوطن؛ والأجيال القادمة عن تنشئة هؤلاء على ما ينشأ عليه أبناء العصر، وكما ينشأ أبناء هؤلاء الذين يشرفون على سياسة الأزهر العلمية. وأنه مسؤول أيضاً عن هذه الأزمات الخلقية والعقلية التي مبعثها اختلاف عقليتين؛ وثقافتين؛ واتجاهين لأمة واحدة. وأن كل تقصير في هذا الإعداد هو جناية علمية؛ واجتماعية؛ وخلقية؛ تطبح من آثامها الأرض؛ وتشكو السماء(894/36)
محمد عبد الحليم أبو زيد
من علماء الأزهر الشريف ودبلوم فني في التربية وعلم النفس(894/37)
رسالة الشعر
لهب السنين
للأستاذ إبراهيم الوائلي
هل تسمعين
صوتا يقطعه الأنين؟
هل تبصرين
هذا المعذب في ركاب التائهين؟
هل تدركين
عبث الخطوب المستبدة في تقاطيع الجبين؟
هل تعرفين
أني أطوف بلا هداية؟
كأسير حرب ليس يدري ما النهاية
صديان ما أطفأت جانحه ولا أدركت غاية!
هل تسألين
عني وقد فني الشباب
بين الهجير وفي متيهات اليباب؟
أطوي القفار معللاً نفسي بأخيلة السراب
هل تعلمين
أني أسير بلا متاع؟
وعلى فمي أنشودة الأمل المضاع
أسعى وأبحث عنه في دنيا المفاوز واليفاع
هل تسمعين وتبصرين؟
لو تسمعين
لعرفت أسرار الأنين
لو تبصرين(894/38)
لعذرتني وعذرت سخط الشاعرين
لو تدركين
لشجاك أن جوانحي ذابت على لهب السنين
لو تعرفين
وقد استبد بي الطريق
وحدي أسير بلا دليل أو رفيق
لشجاك أن خطاي حملها السري مالا تطيق!
لو تسألين
عن حائر ضل المصير
ظمآن لا نبع يلوح ولا غدير
إلا الهجير وهل يعلل ظامئا لفح الهجير؟
لو تعلمين
لتركت تأنيبي ولومي
ووجدت حقاً أن شكوت ضلال قومي
يومي كأمسي قاتم وغدي سيأتي مثل يومي
لو تسمعين وتبصرين!
إبراهيم الوائلي(894/39)
لاستقبال باريس
يا جحيم الهوى
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أنا قد ذبت في هواك فطيبي ... واستلذي تفجعي ونحيبي
وأهنئ بالرقاد ولأسهر اللي ... ل، وإن طال فالسهاد نصيبي
واتركي للشجون والألم المسر ... شروقي، وللعذاب غروبي
إن تنعمت في الحياة (بباريس) ... وألهاك سحر لهوها المحبوب
فأنا في (العراق) أزرع عمري ... أمنيات حصادهن ندوبي
وأنا في (العراق) طير سجين ... ملء ألحانه عويل الكروب
وأنا في (العراق) أطوي جناح ... ي على غربة وجرح خضيب
وأنا في (العراق) حشرجة المي ... ت وأهات متعب مكروب
فالمآسي تناهشتني فأشجت ... لي ربابي وحطمت لي كوبي
جف زهر الصبا وكان ندياً ... وذوت نضرتي بكف الشحوب
كيف أهنأ، والبعد حطم أوتا ... ري، وثنى على نشيدي الطروب
أتسلي! هيهات بعدك تحلو ... لي حياة مشوبة بالخطوب؟
أتسلي! وفي دمي تعصف النا ... ر، وتخبو على النشيج الكئيب؟
كيف أسلو، وطيفك الحلو في عي ... ني شكوى موله منكوب؟
كيف أسلو وعطر حبك في ثغر ... ي أغاريد شاعر موهوب؟
كيف أسلو، وسحر عينيك ينس ... اب على خاطري انسياب الطيوب؟
يا رجائي الحبيب، يا فرحة العم ... ر، ويا وهج حبي المشبوب
يا (هنائي) والشك يغتال أحلام ... ي، فيقتات بالرجاء الخضيب
يا (هنائي) والليل ضلل خطوي ... فأنيري الدجى - ضللت دروبي -
أنا أدعوك في صلاة المحبين ... إذا ضج شوقهم في القلوب
وأناديك في ضراعات مأسو ... ر، وفي لهفة المشوق الغريب
وأناجيك في دموع المساكي ... ن، وفي غصة اليتيم الحريب(894/40)
فاستجيبي فقد سئمت وبح الص ... وت مني، أما كفاك أجيبي
آه ماتت على شفاهي التراتيل وأغ ... فت من لوعة - يا حبيبي -
غام أفقي وزورقي صرعته ... غمرة الموج في الخضم الغضوب
أدركيه من قبل أن تنطوي الأ ... يام في موكب الفناء الرهيب
وامددي لي يديك فالموج أدمى ... بسياط العذاب ظهر الغريب
يا جحيم الهوى، صهرت بحبيبك ... وطهرت في هواك ذنوبي
باركت تارك الكريمة آلامي، ... فذابت على لظاط عيوبي
أنا كالند كلما لفحتني ... جمرة الحب فاح للناس طيبي
وأنا جمرة وللوله القدس ... ي نوري، وللجمال لهيبي
النجاة النجاة يا (كوثر النور) ... ويا (هيكل الفنون) الرحيب
جئت أسعى إليك منطلق الرو ... ح، ندي المنى، طهور الجيوب
جئت ألقاك لا قيود بكفي ... لا ولا في فمي لهاث اللغوب
في السماوات طائراً، أطبق ال ... جفن على مأمل شهي ذهيب
فجري لي سناك أحتضن الأ ... ضواء مستلهماً شماء الغيوب
لست إلا سراً توشح سراً ... فاكشفي ستر حسنك المحجوب
وسلام عليك (يا كعبة الفن)
و ... يا (واحة الخيال) الخصيب
وسلام على الرفاق (ببغداد) س ... لام على الوزير (النجيب)
باريس
عبد القادر رشيد الناصري(894/41)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكرى المازني
كانت الذكرى الأولى لوفاة المغفور له الأديب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، يوم الخميس الماضي الموافق 10 أغسطس الحالي، وقد احتفلت أسرته بهذه الذكرى كما تحتفل أية أسرة بفقيد لها أما الهيئات الأدبية والثقافية رسمية وغير رسمية فلم تهتم إحداها بذكرى الأديب العظيم، ومتى اهتم أحد بذكرى أديب من أدبائنا الراحلين؟ وهكذا صارت ذكرى المازني في عداد الذكريات المنسية في مصر!
كأن لم يكن المازني أحد أركان النهضة الأدبية في العالم العربي الحديث، فإذا مات انحسر ذكره وأصبح كل ما هو جدير به في ذكراه الأولى أن تنشر بعض الصحف أن الأسرة الكريمة ستحتفل بهذه الذكرى في منزلها رقم كذا بشارع كذا، وانتهى الأمر. . .
ولكن كأني بالمازني يطيب نفساً - في عالمه الآخر - بهذا الإهمال، فهو يؤكد رأيه في الناس ونظرته إليهم وسخريته بما يصطنعون من مظاهر في حياتهم، وكأني به أيضاً غير لائم ولا عاتب لما يشيع في أدبه من روح التسامح والميل إلى تحليل الأعمال وكشف البواعث دون التشبث بالحكم عليها فقد كان ساخراً وكان الوقت نفسه رحيماً عطوفاً. وكان لا يبرئ نفسه مما يقع في الناس ولا يعفيها مما يوجه إليهم من سخرية واستخفاف.
كان المازني من أكثر أدبائنا خصباً وأصالة، ويبدو لنا من دلائل أصالته الأدبية أمران:
الأول ظهور شخصيته وحياته في أدبه، فلم يفن مشاعره في محصول عقله من الاطلاع والدراسات، بل نراه على عكس ذلك استخدم هذا المحصول وبثه في الحديث عن حياته ومضطربه فيها. وقد كان يتواضع أو يتفكه فيشبه نفسه بعربة الرس التي كانت تملأ لتفرغ، ولم يكن كذلك، إلا أن يمتلئ إحساسه ووجدانه بما يفيض به، أو إلا أن يتناول ما يهضمه ويتمثله فيتحد بما يملأ نفسه من خواطر يثيرها حوله من شئون الحياة.
الأمر الثاني هو أسلوبه في الكتابة، ذلك الأسلوب الذي يجمع البيان العربي الحر إلى دقة التعبير عن الحياة العصرية، فكان يرفع التعبير الدارج إلى ذلك البيان، فيأخذ هذا من ذاك نبض الحياة، كما يكتسب الأول من الثاني جمال الأداء. كان المازني يركب التعبير الفاره(894/42)
إلى حيث يريد، وبعض الكتاب يركب التعبير الهزيل، وبعضهم يمتطيه التعبير. . .
رحم الله المازني العظيم، وغفر لنا تقصيرنا ف حقه.
التفاؤل والتشاؤم في الأدب العربي
أذاعت محطة لندن العربية يوم الجمعة الماضي حديثاً مسجلاً لمعالي الدكتور طه حسين بك، موضوعه (التفاؤل والتشاؤم في الأدب العربي) وكان هذا الحديث خاصاً بعصر الترجمة الذي يبدأ في أوائل العصر العباسي وينتهي بأب العلاء المعري.
قال معاليه: تعقدت حياة المسلمين منذ اتصلوا بالحضارات الأجنبية تعقداً شديداً، وكان أول هذا التعقد أن أدباءهم والمثقفين وذوي الفكر منهم فطنوا إليه ونظروا إلى الحياة نظرة متعمقة ليست كنظرة من قبلهم إليها، فليست الحياة شيئاً ينتهي بالموت فحسب بل فيها أشياء تنغص على الناس عيشهم وتجلب لهم ما يسوؤهم من مرض بؤس وغير ذلك من الكروب والأحداث وهذه الفطنة لما في الحياة من تعقد حملت أولئك الأدباء والمفكرين على أن يتساءلوا: ما خطبها وما غايتها؟ وإذا كان عامة الناس يحتالون لمواجهة شئون الحياة بتدبير يذلل صعابها فإن ذوي الذكاء والفطنة والتبصر قد حاولوا أن يصلوا إلى أعماق الأشياء، وقد انقسموا إلى فريقين، فريق يحمله التشاؤم على الأخذ بما في الحياة من متعة ولذة والآخر زهده تشاؤمه في اللذات والمتع ولابد هنا من سؤال: ما خطب شاعر كأبي نواس؟ أكان مبتهجاً بالحياة يقبل على لذاتها هانئاً سعيداً، أم كان مبتئساً يائساً يسري عن يأسه وابتئساسه بما يأتيه من لهو وعبث؟ لن نجد لهذا السؤال جواباً شافياً يكشف لنا عن حقيقة ما كان في نفوس أولئك الشعراء من إضراب أبي نواس على أن شاعراً كأبي العتاهية قصته أيسر من قصة أبي نواس، فقد كان يقبل على اللذة واللهو في حياته ويعلن البؤس والألم في شعره، فهو مستمتع بالعمل يائس بالقول.
وقال معالي الدكتور طه: ثم تتقدم الحياة إلى القرن الثاني، ويظهر التشاؤم المنظم في شعر الشعراء، فابن الرومي يعلن أن الحياة بؤس كلها، وأن بكاء الطفل ساعة يولد إنما هو لما سيلقاه فيها من متاعب وآلام، والمتنبي يبلغ به تشاؤمه حد السخط والثورة، فهو يرى العرب بعيدين عن الحكم والسلطان ويرى غيرهم من العناصر الأخرى يتولون الأمور ويسودون، فيسخط ويثور مع القرامطة، ولكن ثوره تخمد فلا يتمكن من تنفيذ ما أراد(894/43)
بالفعل، فتحول نوازع نفسه إلى حزن يعبر عنه في كلام، ولا يقف المتنبي عند السخط على نواحي الحياة من اجتماعية وسياسية وخلقية وغيرها، بل يتجاوز ذلك إلى السخط على الحياة من حيث هي حياة، على أن المتنبي لم يقصر شعره على التشاؤم، بل هو يعالج فنون الشعر الأخرى، فيمرح ويسر ويرضى، ولكنه يظهر سخطه بين حين وآخر. ويبلغ التشاؤم غايته في أواخر القرن الرابع وفي القرن الخامس، إذ كان يعيش أبو العلاء الذي صبغ التشاؤم حياته كلها، وشاع في قوله كما تحكم في عمله؛ يرى أبو العلاء أن الإنسان مقضي عليه في هذا الحياة بالشقاء، فلا ينبغي له أن يجني على غيره ويكون سبباً في وجوده فيجلب له شقاء العيش. ويختلط تشاؤم أبي العلاء بالقلق، فهو لا يستقر على شيء في أمر ما بعد الموت، هل هناك حياة أخرى فيأمل فيها ويأخذ لها من الأولى، أو أن الأمر كله ينتهي بالموت. ويكون أبو العلاء نهاية السلسلة الذهبية سلسلة الشعراء المفكرين في شئون الحياة. وكأن تشاؤمه كان نذيراً لما حدث للمسلمين بعده من أحداث وما ساد بلادهم من الفوضى والظلام.
المؤتمر الثقافي العربي
ينعقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني، الذي دعت له الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، يوم 22 أغسطس الحالي بالإسكندرية في كلية الآداب بجامعة فاروق الأول، وسيفتتحه معالي وزير المعارف الدكتور طه حسين بك ويلقي كلمة الافتتاح، وتلقى كلمات أخرى من سعادة الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، ومن الدكتور أحمد أمين بك مدير الإدارة الثقافية، ومن رؤساء الوفود الرسمية
وبعد حفلة الافتتاح توالى اللجان التي تؤلف لبحث المسائل المعروضة على المؤتمر، اجتماعاتها، ثم تضع التوصيات التي توافق عليها الهيئة العامة للمؤتمر. وفي خلال مدة انعقاد المؤتمر، وهي أحد عشر يوماً، يلقي عدد من أعضاء المؤتمر محاضرات عامة في أماكن مختلفة بالإسكندرية.
وكانت الإدارة الثقافية قد وجهت أسئلة وزارات المعارف والمعاهد الثقافية والشخصيات البارزة في مضمار التعليم الثانوي والعالي في مختلف الأقطار العربية، تتعلق بسياسة التوسع في التعليم الثانوي والعالي وبإعداد التلاميذ للحياة العملية، وهما الموضوعان اللذان(894/44)
يبحثهما المؤتمر. وقد تلقت الإدارة ثلاثة عشر رداً على تلك الأسئلة أحالتها إلى لجنة مؤلفة من الدكتور عباس عمار والدكتور زكي نجيب محمود والدكتور عبد العزيز السيد والأستاذ محمد فؤاد جلال، فلخصت اللجنة التقارير المقدمة في موضوعي المؤتمر، ونظمت الإجابات على الأسئلة في جداول. وقد وردت هذه الإجابات من جمعية البحوث التربوية بالقاهرة، وكلية الآداب بجامعة فاروق الأول، ومعهد التربية العالي بالإسكندرية وكلية العلوم بجامعة فاروق الأول، والجامع الأزهر، وكلية الزراعة بجامعة فاروق الأول، وكلية الطب بجامعة فاروق الأول، ووزارة المعارف المصرية، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، والبروفيسور آتلي الأستاذ المنتدب بمعهد التربية العالي بالمنيرة، ووزارة المعارف الأردنية الهاشمية، والجامعة الأمريكية ببيروت، ووزارة التربية الوطنية اللبنانية.
ويتكون أعضاء المؤتمر من الوفود الرسمية وممثلي الهيئات الثقافية والأعضاء المشتركين بصفاتهم الشخصية. والوفود الرسمية هي الموفدة من وزارات معارف الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية. وكانت الدعوة وجهت أيضاً إلى باقي البلاد العربية غير الأعضاء، فلبث الدعوة الكويت والبحرين وبرقة. وهي البلاد التي قبلت الإدارة الأجنبية بها اشتراك ممثلي معارفها في المؤتمر.
ومن الهيئات التي أوفدت ممثلين لها في المؤتمر، الجامع الأزهر، وقد ذكرت بعض الصحف أن هذه أول مرن يشترك فيها الأزهر في المؤتمر الثقافي العربي. وليس هذا بصحيح، فقد أشترك الأزهر في المؤتمر الأول الذي عقد ببيروت في صيف سنة 1947 وكان للوفد الأزهري فيه نشاط ملحوظ.
ويبلغ مجموع أعضاء المؤتمر نحو ثلاثمائة عضو، بينهم كثيرات من الآنسات والسيدات، وهن من سوريا ولبنان ومصر، وبين السوريات مندوبتان رسميتان. والمشتركات المصريات معظمهن مرافقات لأزواجهن.
ومما يذكر أن الدعوة لم توجه إلى الهيئات النسائية وعلى رأسها الاتحاد المصري الذي يجب أن يكون له مندوبات في المؤتمر، ولا أدري أهذا نسيان أم إهمال؟
بنادق وخراطيش لإحياء التراث:
كتبت إدارة التوريدات بوزارة المعارف إلى إدارة إحياء التراث القديم، تعرض عليها أشياء(894/45)
لتختار ما يلزمها منها، وهذه الأشياء أسلحة وأدوات صيد. . . منها (بندقية بروح واحد عيار 12، وبندقية بروحين، وحمالة طيور صغيرة، وطبق للرماية، وخرطوش للبندقية. . . الخ)
وإدارة إحياء التراث القديم مهمتها مقصورة على تحقيق المخطوطات الأدبية ونشرها، وهي أحياناً تتلقى رسائل من مكتبات في مصر وفي الخارج خاصة بتلك المخطوطات، فقد تتلقى رسالة من مكتبة الاسكوريال مثلاً في شأن نسخة لديها من ديوان أبن الرومي. ولكنها لم تكن تتوقع قط أن يكتب إليها في شأن البنادق وخراطيش) وما حاجتها إلى ذلك وليست الطيور من أهدافها؟
يحكي أن رجلاً سمع قارئ قرآن يقول. وخر عليهم السقف من تحتهم! فقال له: إن لم تكن تحفظ فهندس. . . وهو يريد أن يقول له أن تحفظ الآية الكريمة فحكم عقلك لأن السقف إنما يخر من فوق.
وإدارة التوريدات كان يجب عليها أن (تهندس)! فإذا لم تعرف ما هو عمل إدارة التراث وهل يحتاج إلى بندقية بروح أو بروحين، أو لا شأن لها بذلك - فإن أسم الإدارة (إحياء التراث القديم) كان جديراً أن يمنعها من هذه الرماية الخطئة. . .
عباس خضر(894/46)
الكتب
(كانت لنا أيام)
شعر - المطبعة الهاشمية بدمشق 1950 128 صفحة
للأستاذ عمر النص
بقلم الدكتور سامي الدهان
أصاب الشعر العربي المعاصر في السنوات الأخيرة ركود مخيف تجاوز كل ركود في عصورنا الأدبية. فسكنت مصر بعد المطران والجارم وعلي محمود طه، وغاب شبح المهجر، وتلجلج لسان لبنان، وأحجمت بلاد الشام فتردد شعراؤها في نشر ما ينتجون، وراحت الصحف تحمل الفنية بعد الفنية قبساً من قصيد، ولمعاً من نظم.
وحار مؤرخ الأدب في تفسير هذه الظاهرة في البلاد العربية
فميدان الشعر ما يزال خصباً قوياً، وبواعث النظم ما تزال ملحة دافقة، سواء في ذلك ميدان السياسة أو ميدان الاجتماع، فقد ناضلت البلاد العربية وخرجت من نضالها على بأس مرير، وحزن قاتم، فكان هذا وحده باعثاً على خفقات الأسى ولوعات الضلوع والحشى، في أدب يائس، كالأدب الرومانتيكي في أوربة. ولف حياتنا الاجتماعية دوار، واختلفت إليه أمراض فانفتحت كوى واسعة بطل منها الشاعر على سقوط وتخاذل، وبؤس وشقاء، جاورت بلاد الشام تخوم العالم الراهم، فماتت العزلة، وأصبح من في هذه الربوع يشهد نضال أوربة، وشحناء أمريكة، والحرب الحارة والباردة - كما يقولون - وانقضت. بين أعيينا صور حرب مثيرة، ومع ذلك لم نسمع شعراً ولم نقرأ نظماً.
وما أحب أن أعتقد أن هذا كله مر من غير أن يحرك ألسنة شعرائنا، أو يثير كوامن نفوسهم، فهم قد نظموا من غير شك وقالوا وأحسنوا القول،، ولكنهم كارهون للنشر، بعيدون عن الضوضاء - فيما أحسب -، ولقد أردت لهم من قبل أن يظهروا على الناس بدواوينهم مطبوعة مبوبة، يعينون بها الدارس، وينيرون بها سبيل الباحث، ويعبدون الطريق لمن بعدهم، لا أستثني منهم أحداً، سواء فيهم الأستاذ شفيق جبري، أو الأستاذ عدنان مردوم بك، ولا أحب أن أعددهم جميعاً.(894/47)
وقد فرحت من قبل لديوان (ظلال الأيام) يظهره الأستاذ الشاعر أنور العطار، فيضيف مأثرة في الشعر. وبين يدي اليوم ديوان (كانت لنا أيام) لشاعر جديد أبادر فأعلن اغتباطي لصدوره، لأنه يشير إلى أن الحياة بدأت تدب في الشعر الشامي وإلى أن في الشباب من يحلق في جو الشعر، ويغامر في حلبة النشر، ويسجل فوزاً في كليهما يستحق التقدير والتنويه.
فالديوان منذ ألفه إلى بائه عاطفي رومانتيكي، يرمم خلجات الشاعر، ويعد زفراته، ويصف أساه وحزنه، ويحصي دموعه وبكاءه في قصائد تقارب الثلاثين، وكلها أسف للأماني الضائعة، والشباب الذي يجف، والهرم الذي يبعث، وأخيلة الموت التي تخيم، والشقاء الذي يلوح، والفراغ الذي يسيطر، والعمر الذي تبدده الرياح. والشاعر على ذلك كله شاب في الربيع من عمره - قد أخذ اليأس بجوانب نفسه، وتمسك الألم بنياط قلبه، فتمنى الموت في كل سطر، وانتظر القبر في كل شطر، ولاح له الشقاء في كل صفحة، وهو يجري وراء (ليلاه) فيقول: ص 58
وما الكون إن أنا أنسيتها ... وما أنا إن كنت لا أذكر
فو الهتاه ضاع صبايا
يا ظلام الأقدار رد صبايا
أرقصواألرقصوا على حدث الحل ... م وصبوا الشراب فوق ثرايا
في فضائي تحوس أخيلة المو ... ت وفي خافقي أحس شقايا
52وجف الشباب سباب المنى=وعاث به الهرم المبكر
55وما الغد؟ ما نحن؟ ما=الأمنيات وأي مصير لنا يذخر
ويقول أحسن من هذا كله في الصفحة (46) والصفحة (59) مما لا أستطيع روايته كله، وإنما أحيل القارئ إليه ليرى قوة وبياناً وشاهداً على ما أقول.
والغريب أن الأستاذ (عمر النص) شاعر الديوان يصف نفسه في يأس وحزن عجيبين فيقول: ص 111
أنا تائه في شباب الوجود ... أفتش عن أفق أوسع
أفتش عن نغم لا يموت ... وأبحث في الأرض عن مضجع(894/48)
إلى أن يبلغ حدود الموت فيقول:
إنه مات فاتركيه مسجى ... بملأ الشوق روحه وعيونه
ص 56
رماد أنا بددته الرياح ... فهل أستقر وهل أنشر؟
وإني لأجد الشاعر الشاب في مدرسة فوزي المعلوف وأبي القاسم الشابي، وأجد في شعره صورة من شعر الشقاء والألم الذي كان ينطق في كل بيت من أبيات الراحلين، وأرى قصيدته اللامية أقرب إلى قصيدة (شاعر طيارة) لفوزي المعلوف، إذ يقول: ص 39
لا تراعي فليس غير شقي ... يشرب الدمع بكرة وأصيلا
جاء يبكي على تراب أبيه ... ويروي الثرى دماً مطلولا
ويقول: ص 7
الربيع الذي أؤمل ولي ... في ذهول ورقبة واشتياق
أنا شيخ أدب في شعب الأ ... رض وأهذي بغربتي وفراقي
وما أحب أن أوازن بينه وبين هذين الشاعرين فليس هذا محله، وإنما أنشأت لأعرف بالديوان وصاحبه. وأقدم هذا اللون من الشباب الهرم، والحب الحزين - إذا صحت هذه التعابير - في أسلوب مشرق، وعبارة فصيحة لا تند عن عمود العربية، ولا تبعد عن فصيحها، في وحدة للقصيدة، ومنهاج بين، وقافية مسلسلة، لولا أن الشاعر شد على نفسه الآفاق الأخرى - وهي بكثرة - وجعل تحليقه في ميدان روحه، ونفسه فضاء.
ولعله فعل ليبدأ بنفسه ثم بثني بما حوله، ثم يعلو إلى فضاء الإنسانية جمعاء، ويقوم برسالة الشاعر على الوجه الذي يفهمه الغربي اليوم، فيحس بآلام أمة قلقة حالمة شرود، ويصور حزن شعب فقد الثقة بنفسه وبأصدقائه ويرسم البيت السوري بخيره وشره. ولكنه كثير على شاب ما يزال في الربيع، فلنبارك الخطوة الأولى، ولنثن على ما بذل في سبيلها من جهد في الشعر والنشر، أنه بذلك جدير.
الدكتور سامي الدهان(894/49)
البريد الأدبي
في أدب المحاضرة: (الله المصور)
دعينا إلى سماع المحاضرة (الحولية) التي يعدها في كل عام الأستاذ مصطفى شاهين برحبة نادي رمسيس الرياضي.
وكان الموضوع دقيق المأخذ، رقيق الملمس، يستدعي إحاطة شاملة بما اشتمل عليه هذا الكون من المشاهد (المصورة) بتصوير القدرة القادرة، فعانى المحاضر معاناة شديدة خشية أن ينأى به الرأي عن الروح الديني، وكان محتبس الأنفاس، تعيد الإحساس، يريد القول على سجيته؛ فيطويه في صدره، ثم يدينه من أحاسيس المتسمعين الذين يعزب عنهم ما يريد أن يتفرد به من اقتباس (المخلوق) المفتن كل ما أبدعه الفنان الأعظم!.
تحدث عن نظاهر الوجود كوحدة مرتبطة الأجزاء بينها الالتئام، والإنسجام، والتوافق ثم عدد هذه المظاهر، فأشار إلى أن الإبداع فيها متفق مع (البيئة) ومثل بروعة الجليد في سويسرا حينما يكون على أوضاع متباينة، وقال: أنه يظن أن (الجنة) ستكون في بقعة (لبنان) وأن الحياة في الريف المصري تمثل طابع النيل. مما يدل على أن الخالق يرسم على لوح الوجود رسماً يصور طبيعة الحياة!
واستطرد المحاضر يتابع (القمر) في حالاته - وهو في اكتماله -، ويوضح مدى جماله في كل حال، وأنه إذا استمر بدراً كل ليلة كان مدعاة إلى الملالة!؛ ثم استدنى عالم النبات؛ فأبان خصائص القدرة في كل نوع منه، في أسلوب أدبي، لا يخلو من صنعه الأداء اجتذاباً للأسماع.
واستمر يستعرض الصور المتعددة ويقرن بينها وبين تصوير المخلوق في اصطناعه عند إخراج صوره باعتماده على الظلال، وتوزيع الأضواء، وبراعة الإخراج ثم خلص إلى أن الفن مأخوذ عن (الطبيعة) المبتدعة بإبداع المصور الأول!
وكانت المحاضرة على دقتها، واستبهامها، وغموضها طريقة، تدل على استعداد طيب في التفرد بالرأي على الرغم مما يحيط به!.
أما لغة المحاضرة؛ فكان يغلب عليها الطابع الإنشائي في الأداء، والتعبير. مع التأنق، والاختيار، والتنابق.(894/50)
وقد كرر الأستاذ مرات متعددة كلمة (وحدة) بكسر الواو والصواب الفتح، ولم يجئ لفظ (لوحة) إلا في الأسلوب الحديث، ونعتقد تذكيره (في لوح محفوظ. . . هذا وإن المحاضرة قد صورت مدى اعتمال وجدان المحاضر بالمشاهد الوجودية فصورها. ووجه الأبصار التي تحسها لكنها بعيدة عن إدراك أسرارها الرفيعة!.
بور سعيد:
أحمد عبد اللطيف بدر
حول مقال قديم للأستاذ لبيب السعيد:
كان الأستاذ لبيب السعيد قد نشر في الرسالة ع 10 يناير بحثاً عنوانه (من شؤون الموظفين في النظم الإسلامية) وهو بحث فيه كثير من الاستقصاء والاستقرار. وكما بلونا الأستاذ السعيد في بحوثه الإسلامية الخصبة رأيناه في كل موضع من هذا البحث نقل فيه أو اقتبس يشير إلى مراجعة في أوفى دقة. وهذا ما يتيح للدارس المآرب العلمية الدقيقة التي يعرفها من يعينهم التحقيق العلمي الصحيح.
وقد نشر الأستاذ محمد بك البنا في مجلة (لواء الإسلام) ع 16 يوليو 1950 مقالاً بعنوان (الموظفون في الإسلام) وهو مقال يتراءى فيه للقارئ بسهولة جهد الأستاذ لبيب السعيد ومنهجه وفي بعض المواضع صياغته.
نعم أن النصوص التي ردها البنا بك عن الأستاذ لبيب لا ملكية فيها ولكن تأليفها بنفسها على نحو مقارب جداً من تأليفها السابق وإيرادها عن نفس الذهنية واتحاد الكاتبين في جوهر الموضوع ومنحاه فضلاً عن الكثير من ظاهره كل أولئك يجعل للسابق فضلاً لا ينبغي أن يتره اللاحق.
ولئن كان للبنا بك تعقيبات على بعض الأصول التي نقلها عن مقال الرسالة فهي تعقيبات يلمح القارئ مثلها أيضاً في ذلك المقال. ولن يطامن من هذا المعنى أن البنا بك ترك قصداً الحديث عن موضوعات معينة تناولها بحث الأستاذ السعيد. . .
ولولا أن تضيق الرسالة عن نشر أغلب فقرات المقالين الطويلين لنشرنا ما يتوثق به القارئ من صحة ما أوضحنا والمقالان - على أية حال - بين يدي القارئ يرى فيهما(894/51)
رأيه.
ومادام البنا بك انكأ على بحث الأستاذ السعيد وقضى منه وطراً واستغنى به عن التنقيب في شتى المراجع فقد كنا نحب له أن يسمي صاحبه. وما في ذلك يأمر على البنا بك بل هو الإنصاف الذي هو أحق به وأهله.
وللكاتبين الفاضلين التحية والتقدير.
الإسكندرية
السعيد محمود الحداد
إلى معالي الدكتور (طه حسين بك)
لاشك في أن معالي (الوزير) حريص أشد الحرص على المساواة التامة بين كليتي دار العلوم واللغة العربية. لأن رسالة الكليتين واحدة وثقافتهما واحدة. ولما كان الوزير الأسبق قد أباح لطلبة (دار العلوم) جواز الالتحاق (بمعهد اللغات الشرقية) فينبغي أن تمنح كلية اللغة العربية هذا الحق. فيصرح لطلبتها بالالتحاق بهذا المعهد ما دامت ثقافة الطلبة في الكليتين متحدة في اللغات الشرقية. وفي ذلك تحقيق للمساواة المنشودة بين الكليتين. وليس ذلك بعزيز على معالي الدكتور الذي ننتظر منه أن يخطو خطوات حاسمة في سبيل توحيد الجهة التي تخرج مدرس اللغة العربية.
مدرس بالمدارس الأميرية(894/52)
القصص
المقامر. .
للأستاذ كارنيك جورج
لفظه الباب إلى الشارع، فسار مسرعاً وفي أذنيه تتردد صيحات زوجه وأناتها، كما يتردد قول خادمته (أسرع يا سيدي. أسرع بالقابلة، إنها تعاني آلام المخاض)! إلام المخاض، وفي مثل هذا الوقت بالذات، وقت ذهابه إلى النادي لملاقاة أصحابه؛ لا! إن هذا لشيء مزعج مؤلم! ألم تجد تلك الآلام وقتاً آخر؟ كان الأحرى بها أن تأتي في الصباح وهو في مقر عمله، أو عند الظهيرة قبل أن يعود إلى البيت، أو عند الليل حين يكون في ناديه المعتاد، لا في هذه الساعة بالذات، هذه التي يفارق فيها زوجه وبيته ليسعى إلى متعته مع أصحابه. . .!
قال وهو يقلل من سرعة خطواته (ولماذا تلد؟ هل أنا بحاجة إلى ولد آخر. يكفيني واحد؟ لست بحاجة إلى اثنين! وهل وجدت في الواحد راحة لأجدها في الاثنين؟ وهل تمكنت أن أنام أثناء الظهيرة ساعة واحدة بهدوء لم يعكره هذا الولد العاق بضوضائه وصراخه؟! أنا لست راضياً عن واحد، فكيف أرضى عن أثنين؟ لا شك إنهما سوف يذيقني أصناف العذاب. وهاهو الثاني قبل أن يأتي وقبل أن أراه يجبرني على التخلي عن أصحابي لآتي له بقابلة، كأنما الملعون يأبى أن يأتي إلا إذا وضعت له من تستقبله بالترحاب، لكي ينزل على بيتي ضيفاً ثقيلاً إلى الأبد! يزعجني وهو صغير بعلله وبكائه، ويزعجني وهو شاب بتعليمه وتثقيفه، ويزعجني وهو كبير بتعجرفه وتكبره! وربما تحول عني وتركني عاجزاً جائعاً، ومضى وراء عاهرة أو فاجرة، أو شيء من هذا القبيل، ونسى أنني أنهكت قواي وبذلت أقصى جهودي لكي أربيه وأكبره. . .!
(لا. . . أن هذا لا يطاق. من الخير أن لا أطيل وأزمر لإستقباله، مادام سيتنكر لي بعد أن يكبر. لكن العاطفة التي وضعها الله في قلبي ترغمني على أن أضحي لأجله بهذه الليشلة ولأجل زوجي بالليلة المقبلة، زوجي التي تفهمني كما لم يفهمني أحد. إن ضميري لا يدعني أسد أذني عن صرخاتها وتأوهاتها وأناتها. . . سأدعو القابلة، وسأتخلف عن النادي وأبقى في البيت حتى ولادة ذلك الملعون الذي يعربد في أحشائها وهم لم ير النور بعد.(894/53)
فكيف به بعد أن يرى النور؛ أنه سيعربد في الدار عربدة لا هوادة فيها.
أنا لا أضحي بلبلتي هذه من أجله، ولا أدعو القابلة لاستقباله، بل أفعل ذلك لأجل زوجي فقط! وليذهب الملعون إلى الجحيم، على أن يترك لي زوجي بكامل صحتها.
وعندما بلغ النادي الذي يتردد عليه كل ليلة توقف قليلاً، وأرسل أنظاره من خلال زجاج إحدى النوافذ فرأى أصحابه مجتمعين حول منضدتهم الخاصة! لاشك أنهم يئسوا من مجيئه هذه الليلة فباشروا اللعب. هو ذا يرى كرسيه خالياً، كأنما ينتظره ولم ييأس، بعد من مجيئه. أنه لن يجعله ييأس، سيأتي إليه، سيجلس عليه، كما يجلس كل ليلة، لكن. . بعد ساعات! بعد أن يأخذ القابلة إلى البيت لتخلص زوجه من آلام المخاض، ومن ثم يعود! ماذا يهم زوجه لو تخلف عنها يعد زوال الخطر؟ وبعد ولادة ذلك الابن الصغير الذي يأبى الانتظار حتى الصباح. أنه سيعود، في آخر الليل، واللعب في آخر الليل يتخذ صيغة الجد! فلو حالفه الحظ وكسب هذه الليلة فإن ولده قد يكون سعيداً. وإن لم يكسب فلا. . . لكن! لماذا لا يجرب الآن؟ لماذا لا يدخل فيلعب (كاريه) واحد فقط، ويرى كيف يكون حظ ابنه القادم؟! إن هذا اجدى، ومن يدري ربما لا يتمكن بعد ولادته أن يأتي فينضم إلى جماعته ويجلس على ذلك الكرسي. فالولادة ربما أعقبها أمور أخرى، وربما أدى الحال إلى استحضار أحد الأطباء على أثر عجز القابلة، وربما رأى الطبيب ضرورة في نقلها إلى المستشفى، وربما. . . وربما. . .! فيكون الخاسر هو ولا سواه. إذ يخسر ما كان يجب أن يربح الليلة، أنه واثق أنه سيربح! وإنه واثق أنه لو (كاريه) واحد لما أدى ذلك إلى وقوع أي شيء مضر على بل النقيض سيربح، سيربح أجرة القابلة ومصاريف الولادة، وبذلك لا يكلفه وكده شيئاً، وبذلك يكون هو. . . القائم بمصاريف ولادته من حيث لا يدري أحد.! نعم. . . نعم، لو تأخر ربع ساعة لربح كثيراً، ولم يخسر شيئاً.
ووجد نفسه يرفع يده، ويدفع الباب الزجاجي ويدخل النادي. وما إن وصل إلى مكانه حتى هلل له أصحابه ورحبوا به. فجلس على كرسيه الخاص، ولم تلبث يده أن أخرجت من جيبه عدة أوراق مالية، وضعها على المنضدة، وشارك أصحابه اللعب. . .!
. . . ومضى ربع ساعة، وأعقبه ربع آخر. . . وهو جالس إلى جماعته وأثار العرق بدت واضحة على جبينه! فالحظ لم يحالفه لأول وهلة، لكنه سيحالفه، أنه سيجبره على محالفته،(894/54)
أنه لن يقوم إلا بعد أن يربح، وسوف يربح آخر الأمر. . .
واستمر عقرب الساعة يدور، واستمر العرق البارد يتقصد من جبينه، واستمرت الأوراق المالية تخرج من جيبه. وهو جالس لا يعي، ينظر إلى أمواله بنظرة الذئب الجائع إلى الطير الذي يملص من بين مخالبه: وما عاد يفكر في زوجه، ولا في ابنه، ولا في الساعات التي تمر، ولا في أي شيء آخر عدا إعادة ما خسر!
واستمر اللعب حتى لاحت أنوار الشمس مؤذنة بمجيء الصباح. . .! فقام الجالسون وقد أنهك اللعب أعصابهم، وأنهك السهر أجفانهم. حينئذ تذكر صاحبنا زوجه! التي تركها تعاني آلام المخاض في أول الليل. . . فتألم وكاد يبكي! فإن حظ ولده الذي لم يره بعد هو أتعس حظ لعب عليه حتى الآن! فقد خسر ما لم يخسر مثله منذ زمن طويل. . . فلعن الأبناء ولعن نفسه، فهرع مسرعاً ليرى ما حل بزوجه؛ ولكنه ما أن دخل البيت يسأل الخادمة حتى صفعته بخبر لم يتوقعه أبداً. فقد قالت له وهي تبكي:
البقية في حياتك يا سيدي. . . أين كنت طول الليل؟ لقد ماتت؟ لكنها ولدت توأمين وهما في صحة جيدة!.
العراق
كارنيك جورج(894/55)
العدد 895 - بتاريخ: 28 - 08 - 1950(/)
شاعر المعلمين
للأستاذ من أن يسهم في الدعوة إلى العلم ميلا)، فلا مناص من مجابهة
الواقع المرير، محمد محمود زيتون
حقيقة أجمع عليها كل من تعرض لأمير الشعراء بنقد، سواء كان له أو عليه، تلك هي أنه كان من (شعراء القمة) الذين سمت نفوسهم إلى المثل العليا، يقبسون منها لأوطانهم ما تستضيء به في حالك الأيام، ومد لهم الخطوب، فيطرحون عنها الألم الباهظ؛ ويبعثون فيها الأمل الجميل.
بلغ شوقي من الثقافة والرهافة ما بلغ، فحز في نفسه أن يرى الجهل فاشياً في أمته، فلا أقل بهذه الصرخة المدوية: لأن (الجهل لا تحيا عليه جماعة) ولأننا نخطو في العلم إصبعا (إن مشت الممالك
تلك الكفور وحشوها أمية ... من عهد خوفو لم تر القنديلا
وعار على أمة آباؤها وأجدادها بناة المسلة والأهرام، وأبناؤها متخلفون عن الإنشاء والإبداع و (لا يحسنون لإبرة تشكيلا)، فيكون حالهم في الحياة أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية، وأصحاب المصالح والأغراض يستخدمونهم كالأنعام، ويستغلون جهلهم كأنهم آلات جامدة.
وشوقي - إذ تستوقفه هذه المشكلة - يلتمس لها أقرب الحلول حسبما يمليه منطق الفيلسوف المجرب، ووفق ما تفرضه طبائع الأشياء. فيتجه من اقرب طريق إلى المعلم الذي يكاد في نظره أن يكون رسولا، ولم لا وهو (الذي يبني وينشيء انفساد عقولا) وحسبه شرفاً أن الله تعالى خير معلم وأنه سبحانه أخرج العقل من الظلمات وهداه إلى النور، وطبعه بيد المعلم (تارة صدئ الحديد وتارة مصقولا)، وأرسل الأنبياء الكرام مرشدين إلى الخير.
فما بال الشرق حيل بينه وبين شموس المعرفة ومشاعل الهداية؟ لقد (فقد المعلم نفسه) واصبح الذين يحمون حقيقة علمهم معذبين في الأرض، وعلى رأسهم فيلسوف اليونان الأول سقراط:
سقراط أعطى الكأس وهي منية ... شفتي محب يشتهي التقبيلا(895/1)
ومع ذلك فليحتمل المعلمون عنت الأستبداد، وليكونوا من البطولة والشجاعة، بحيث لا يكون في الناس أبطال غيرهم، بل ينعى شوقي على (شجعان العقول) قلتهم بين الشجعان، ممن تصرعهم دنيا المستبد، ويستعذبون (فيها العذاب وبيلا).
ولا غرو إذا كان المعلمون أحق الناس بحمل الأمانة في سياسة الناشئين، وتعليم الشباب المأمول لرفعة الوادي وإعالة شانه.
وأمير الشعراء في هذا المضمار صاحب فلسفة، لها مبرراتها ودواعيها، ولها منهاجها وغايتها، فإذا تساءلنا: ما هي الرسالة التي يريد شوقي للمعلمين أن يؤدوها؟ أهي العلوم والفنون وما تتطلبه الحضارة الحديثة من ضروب العرفان؟ أم هي الفضيلة التي هي قوام الفرد والمجموع؟ أم في شيء آخر غير هذا وذاك؟
وهنا تحتل الطرافة مكانتها من فلسفة شاعر المعلمين إذ أنه لا يبعد عن الفلك الذي يدور فيه، ولا يستلقي للتيار الجارف لأفكار العامة، كما أنه لا يرضى لنفسه أن يكون من أولئك الذين يجترون غذاء من سبقوهم.
آية ذلك، أنه ما دام الجهل والجهلاء سبباً في استبداد الطغاة، وضياع الأمم، وما دام الاضطهاد قد لازم الفلاسفة والدعاة والمرسلين، فلا غرو أن يكون (العدل) أولا وبالذات هو الرسالة الأولى التي يجب على المعلمين الاضطلاع بها
ربوا على (الإنصاف) فتيان الحمى ... تجدوهمو كهف (الحقوق) كهولا
فهو الذي يبني الطباع (قويمة) ... وهو الذي يبني النفوس (عدولا)
ويقيم (منطق) كل أعوج منطق ... ويريه رأيا في الأمور أصيلا
وإذا المعلم لم يكن (عدلا) مشى ... وروح العدالة في الشباب ضئيلا
من هنا كان شوقي صاحب فكرة أصيلة، وزعيما من زعماء الرأي في الإصلاح الاجتماعي. ونقلوها في غير حرج أنه في هذا الباب أقرب إلى الفلاسفة منه إلى الشعراء، بل أنه باتخاذه هدفا لا يحيد عن التصويب إليه، والحرص على تدعيم جوانبه، يعد فلتة من فلتات النبوغ، لم نعهد مثيلاً له في تهاويل الشعراء، ولا في مدارج الفلاسفة.
وفي الحق أنه سلك بتأمل الشاعر، نهج الفيلسوف وإلا فكيف يصح في الأذهان أن نطلب من المعلم جيلا سليما كاملا متكاملا، والمعلم نفسه موزع القوى، مشتت الملكات،؟ وهل(895/2)
الفضيلة إلا العدالة؟ وهل العدالة إلا وسط بين إفراط وتفريط؟
لهذا كان إعداد المعلم أول مطلوب:
ورب معلم تلقاه فظا ... غليظ القلب أو فدما غبيا
إذا أنتدب البنون له سيوفا ... من الميلاد ردهمو عصيا
إذا رشد المعلم كان (موسى) ... وإن هو ضل كان (السامريا)
هذه هي مؤهلات المعلم لحمل الرسالة المنوطة يه. وعلى صاحب الرسالة أن ينهض بين العواصف والزوابع، وعليه أن يحتمل كل ما سيلقي في سبيلها، بل من حقها عليه أن يكون إيجابيا لا سلبيا، فإذا طغى الظالمون قلوبهم، وإذا استحكم الظلم ناضل وكافح حتى يهزمه، رائده الجهر بالرأي، في حرية وطلاقة:
ورب تعلمين خلوا وفاتوا ... إلى الحرية انساقوا هديا
أناروا ظلمة الدنيا وكانوا ... لنار الظالمين بها صليا
وإذا لم يكن المعلمون وراد الحق، وضحايا الحرية، فماذا بقي لهم من مهمة؟ وليس شوقي ممن يلقون القول على عواهنه، ويضربون في الخيال إلى المثل الصعبة والمعاني الجامدة، لذلك لم يكلف المسلمين شططا، ولم يطلب إليها أداء ما لا يطيقون: فإنه ليعلم أن الأمهات في البلاد المتحضرة بما عندهن عن ثقافة واستعداد يساعدن المعلمين على مهمتهم في التربية، وبذلك يكون الناشئ وديعة مشتركة بين المنزل والمدرسة، وما كذلك الحال في مصر، لهذا هو يعذر المعلمين، ويرى عبئهم ثقيلا، وعملهم شاقا إذ فقدوا من يعينهم على الاضطلاع به:
وجد المساعد عيركم وحرمتمو ... في مصر عون الأمهات جليلا
وإذا النساء نشان في أمية ... وضع الرجال جهالة وخمولا
ويضع شوقي للمعلمين (خط السير) الذي يتبعه الناشيء من بيته حتى يصير مواطنا نافعا، يشارك في مجتمعه إذ يقول:
فرب صغير قوم علموه ... سما وحمى المسومة العرابا
وكان لقومه نفعا وفخراً ... ولو تركوه كان أذى وعابا
فعلم ما استطعت لعل جيلا ... سيأتي، يحدث العجب العجابا(895/3)
ولا ترهق شباب الحي يأسا ... فان اليأس يخترم الشبابا
ويناشد الشعب المصري ألا يبعثوا للبرلمان - وهو مرآة الشعب - جهولا، لأن التمثيل النيابي لا يكون كاملا، إذا كان الممثل ناقصاً.
فادعوا لها أهل الأمانة واجعلوا ... لأولى البصائر منهمو التفضيلا
وأولو البصائر الذين يعنيهم شاعرنا، ليسو إنصاف المتعلمين، الذين يكتفون من العلم بما يغني عن استقراء خطاب، واحتساب قروش، وصدق في المعنى رواية شوقي، علي الجارم
إذ يقول:
أنا في أمة جدول الضرب ... طغى سيله على الأذهان
إن رأوا صفحة بها بيت شعر ... تركوه يبكي على كل بان
وكان الله في عون أمة طغى (جدول الضرب) على أذهان معلميها، فلم يعد فيها المعلم إلا حاسبا لما ياخذ، غير محاسب على ما يعطي، وهذا هو ما يجب أن نتداركه قبل أن يفلت الزمام
محمد محمود زيتون(895/4)
التشبيه في القرآن
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أرى واجباً على قبل الحديث عن التشبيه في القرآن الكريم أن أتحدث قليلا عن بعض نظرات للأقدمين في هذا الباب، لا أوافقهم عليها، ولا أرى لها قيمة في التقدير الفني السليم.
فما أعتمد عليه القدماء في عقد الشبيه العقل، يجعلونه رابطاً بين أمرين أو مفرقاً بينهم، وأغفلوا في كثير من الأحيان وقع الشيء على النفس، وشعورها به سروراً أو ألماً. وليس التشبيه في واقع الأمر سوى إدراك ما بين أمرين من صلة في وقعها على النفس، أما تبطن الأمور، وإدراك الصلة التي تربطها بالعقل وحده، فليس ذلك من التشبيه الفني البليغ، وعلى الأساس الذي أقاموه أستجادوا قول ابن الرومي:
بذل الوعد للإخلاء سمحاً ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين، يأبى الإثمار كل الإياء
وجعلوا الجامع بين الأمرين جمال المنظر وتفاهة المخير، وهو جامع عقلي، كما ترى، لا يقوم عليه تشبيه فني صحيح، ذلك أن من يقف أمام شجرة الخلاف أو غيرها من الأشجار، لا ينطبع في نفسه عند رؤيتها سوى جمالها ونضرة ورقها وحسن أزهارها، ولا يخطر بباله أن يكون لتلك الشجرة الوارفة الظلال أن يكون لها ثمر يجنيه أو لا يكون، ولا يقلل من قيمتها لدى رائيها، ولا يحط من جمالها وجلالها، إلا يكون لها بعد ذلك ثمر شهي، فإذا كانت تفاهة المخير تقلل من شان الرجل ذي المنظر الأنيق وتعكس صورة منتقصة في نفس رائيه، فإن الشجرة لا يقلل من جمالها لدى النفس عدم إثمارها، وبهذا اختلف الواقع لدى النفس بين المشبه والمشبه به، ولذلك لا يعد من التشبيه الفني المقبول.
وقبل الأقدمون من التشبيه ما عقدت الحواس الصلة بينهما، وان لم يكن تعقدها النفس، فاستجادوا مثل قول الشاعر يصف بنفسجا:
ولا زوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
فليس ثمة ما يجمع بين البنفسج وعود الكبريت وقد بدأت النار تشتعل فيه، سوى لون(895/5)
الزرقة التي لا تكاد تبدأ حتى تختفي في حمرة اللهب، وفضلاً عن التفاوت بين اللونين، فهو في البنفسج شديد الزرقة وفي أوائل النار ضييها، فضلاً عن هذا التفاوت تجد الواقع النفسي شديد التباين، فزهرة البنفسج توحي إلى النفس بالهدوء والاستسلام وفقدان المقاومة، وربما اتخذت لذلك رمزاً للحب، بينما أوائل النار في أطراف الكبريت تحمل إلى النفس معنى القوة واليقظة والمهاجمة، ولا تكاد النفس تجد بينهما رابطاُ كما أستجادوا كذلك قول ابن المعتز:
كانا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نظير غرابا ذا قوادم جون
قال صاحب الإيضاح: (شبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص العربان، ثم شرط قوادم ريشها بيضاء لأن تلك الفرق من الظلمة تقع في حواشيها، من حيث يلي معظم الصبح وعمود لمع نور، يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض) وهكذا لم ير ابن المعتز من الدجى وضوء الصباح سوى لونيهما، أما هذا الجلال الذي يشعر به في الدجى، وتلك الحياة التي يوحي بها ضوء الصبح، والتي عبر القرآن عنها بقوله: (والصبح إذا تنفس) - فما لم يحس به شاعرنا ولم يقدره نقادنا، وأين من جلال هذا الكون الكبير، ذرة تطير؟!
وقبلوا من التشبيه ما كان فيه المشبه به خياليا، توجد أجزاؤه في الخارج دون صورته المركبة، ولا أتردد في وضع هذا التشبيه بعيداً عن دائرة الفن، لأنه لا يحقق الهدف الفني، فكيف تلمح النفس صلة بين صورة بين صورة ترى، وصورة يجمع العقل أجزائها من هنا وهنا، وكيف يتخذ المتخيل مثالاً لمحسوس مرئي، وقبل الأقدمون لذلك قول الشاعر:
وكأن محمر الشقيق إذا تصوب أو تصعد
أعلام ياقوت نشرن=من على وماح من زبرجد
ألا ترى أن هذه الأعلام من الياقوت، المنشورة على رماح الزبرجد، لم تزدك عمق شعور بمحمرالشقيق، بل لم ترسم لك صورته إذا كنت جاهلة، فما قيمة التشبيه إذا وما هدفه؟! وسوف أتحدث عن الآية الكريمة التي فيها هذا اللون من التشبيه لندرك سره وقيمته.
هذا، ولن نقدر التشبيه بنفاسة عناصره، بل بقدرته على التصوير والتأثير، فليس تشبيه لبن المعتز للهلال حيث يقول:
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أنقلته حمولة من عنبر(895/6)
وتلمس شبه له بهذا الزورق الفضي المثقل بحمولة العنبر مما يرفع من شانه، أو ينهض بهذا التشبيه الذي لم يزدنا شعوراً بجمال الهلال، ولا أنساً برؤيته، ولم يزد على أن وضع لنا إلى جانب الهلال الجميل صورته شوهاء متخلية. وأين الزورق الضخم من الهلال النحيل، وأن شئت فوازن بين هذه الصورة التي رسمها ابن المعتز للهلال وتلك الصورة التي تعبر عن الإحساس البصري والشعر النفسي معا حينما تحدث القران عن هذا الهلال فقال:
(والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) فهذا العرجون القديم اقدر على تصوير القمر كما تراه العين وكما تحس به النفس اكثر من تصوير الزورق الفضي له كما سنرى.
- 2 -
التشبيه لمح صلة بين آمرين من حيث وقعها النفسي، وبه يوضح الفنان شعوره نحو شيء ما، حتى يصبح واضحاً وضوحاً وجدانياً، حتى يحس السامع بما أحس المتكلم به، فهو ليس دلالة مجردة، ولكنه دلالة فنية، ذلك أنك تقول: ذاك رجل لا ينتفع بعلمه، وليس فيما تقول سوى خبر مجرد عن شعورها نحو قبح هذا الرجل، فإذا قلت أنه كالحمار يحمل أسفارا ً فقد وصفت لنا شعورك نحوه، ودللت على احتقارك له وسخريتك منه.
والغرض من التشبيه هو الوضوح والتأثير، ذلك أن المتفنن يدرك ما بين الأشياء من صلات يمكن أن يستعان بها في توضيح شعوره، فهو يلمح وضاءة ونوراً في شيءما، فيضعه بجانب آخر يلقي عليه ضوءاً منه، فهو مصباح يوضح هذا الإحساس الوجداني، ويستطيع أن ينقله إلى المسامع.
ليس من أغراض التشبيه إذا ما ذكره الأقدمون من بيان أن وجود المشبه ممكن وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه وقد استشهدوا على هذا الغرض بقول المتنبي:
فإن تفق الأنام منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وليس في هذا البيت تشبيه فني مقبول، فليس الأثر يحدثه المسك في النفس سوى الارتياح لرائحة الذكية، ولا يمر بالخاطر أن بعض دم الغزال، بل أن هذا الخاطر إذا مر بالنفس قلل من قيمة المسك ومن التلذذ به، وهذه الصورة التي جاء بها المتنبي ليوضح إحساسه(895/7)
نحو سمو فرد على الأنام، ليست قوية مضيئة، تلقي أشعتها على شعوره فتضيئه لنا، فإن تحول بعض دم الغزال إلى مسك ليس بظاهرة قريبة مألوفة، حتى تقرب إلى النفس ظاهرة تفوق الممدوح على الأنام، كما أن ظاهرة تحول الممدوح غير واضحة، ومدن ذلك كله يبدو أن الرابط هنا عقلي لا ننسى وجداني.
وليس من أغراضه ما ذكره الأقدمون أيضاً من الأستطراف، وفليس تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجة الذهب - تشبيهاً فنياً على هذا المقياس الذي وضعناه، فإن بحر المسك ذو الموج الذهبي، ليس بهذا المصباح الوهاج الذي ينير الصورة ويهبها نوراً ووضوحاً.
ولما كان هدف التشبيه الإيضاح والتأثير أرى الأقدمون قد أخطئوا حينما عدوا البلوغ من التشبيه ما كان بعيداً غريباً نادراً، ولذلك عدوا قوله:
وكأن أجرام النجوم لوامعاً ... درر نثرن على بساط أزرق
أفضل من قول ذي الرمة:
كحلاء في برج، صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب
(لأن الأول مما يندر وجوده دون الثاني فإن الناس أبداً يرون في الصياغات فضة قد موهت بذهب ولا يكاد يتفق أن يوجد (رقد نثرن على بساط أزرق)
وذلك قلب للأوضاع، وبعد عن مجال التشبيه الفني الذي توضع فيه صورة قوية تبعث الحياة والقوة في صورة أخرى بجوارها، وبرغم أن التشبيهين السالفين حسيان أرى التشبيه الثاني أقوى وأرفع، ولست أرمي إلى أن يكون التشبيه مبتذلا، فان الابتذال لا يثير النفس، فيفقد التشبيه هدفه، ولكن أن يكون في قرب التشبيه ما يجعل الصورة موضحة مؤثرة كما سنرى.
- 3 -
ليس الحس وحده هو الذي يجمع بين المشبه به في القرآن، ولكنه الحس والنفس معاً، بل أن للنفس النصيب الأكبر والحظ الأوفى.
والقرآن حين يشبه محسوساً بمحسوس يرمي أحياناً إلى رسم الصورة كما تحس بها النفس، تجد كذلك في قوله سبحانه يصف سفينة نوح: (وهي تجري يهم في موج كالجبال) ألا ترى(895/8)
الجبال تصوره للعين هذه الأمواج الضخمة، وتصوره في الوقت نفسه ما كان يحس به ركاب السفينة هذه وهم يشاهدون هذه الأمواج من رهبة وجلال معاً كما يحس بهما من يقف أمام شامخ الجبال. وقوله تعالى يصف الجبال يوم القيامة: (وتكون كالعهن المنفوش) فالعهن المنفوش يصور أمامك منظر هذه الجبال، وقد صارت هشه لا تتماسك أجزاؤها، ويحمل إلى نفسك معنى خفتها ولينها. وقوله تعالى (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) فهذا القمر بهجة السماء وملك الليل، لا يزال ينتقل في منازله حتى يصبح بعد هذه الاستدارة المبهجة وهذا الضوء الساطع الغامر، يبدد ظلمة الليل، ويحيل وحشته إنساً يصبح بعد هذا كله دقيقا نحيلا محدوداً لا تكاد العين تنتبه إليه وكأنما هو في السماء كوكب تائه، لا أهمية له، ولا عناية بامره، أولا ترى في كلمة العرجون ووصفها بالقديم ما يصور لك هيئة الهلال في آخر الشهر، ويحمل لنفسك ضآلة أمره معاً، وقوله تعالى (إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالة صفر) فالقصر وهو الشجر الضخم والجمال الصفر توحي إلى النفس بالضخامة والرهبة معاً، وصور لنفسك شرراً في مثل هذا الحجم من الضخامة يطير.
ويرمي أحياناً إلى واشتراك الطرفين في صفحة محسوسة، ولكن للنفس كذلك نصيبها في اختيار المشبه به الذي له تلك أشرنا إليه. فالقران قد شبه نساء الجنة فقال: (فيهن قاصرات الطرف عين، كأنهن بيض مكنون) وقال: (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) فليس في الياقوت والمرجان واللؤلؤ المكنون لون فحسب، وإنما هو لون صاف حي، وفيه نقاء وهدوء، وهي أحجار كريمة تصان ويحرص عليها، وللنساء نصيبهن من الصيانة والحرص، وهن يتخذن من تلك الحجارة زينتهن، فقربت بذلك الصلة واشتد الإرتباط، اما الصلة التي تربطهن بالبيض المكنون، فضلا عن نقاء اللون، فهي هذا الرفق والحذر التي يجب أن تعامل به كليهما. أو لا ترى في هذا الكن أيضاً صلة تجمع بينهما، وهكذا لا تجد الحس وحده هو الرابط والجامع، ولكن للنفس نصيب أي نصيب. وحينا يجمع بين الطرفين المحسوسين معنى من المعاني لا يدرك بإحدى الحواس، وقل ذلك في القرآن الكريم الذي يعتمد في التأثير أكثر اعتماد على حاسة البصر، ومن القليل قوله سبحانه: (أولئك كالأنعام بل هم أضل)، وصفته ضلال الأنعام من ابرز الصفات وأوضحها لدى(895/9)
النفس. وكثر في القرآن إيضاح الأمور المعنوية بالصور المرئية المحسوسة، تلقي عليها أشعة من الضوء وتغمرها، فتصبح شديدة الأثر، وها هو يمثل وهن ما اعتمد عليه المشركون من عيادتهم غير الله وهنا لن يفيدهم فائدة ما، فهم يعبدون ويبذلون جهداً يظنونه مثمراً وهو لا يجدي، ويبذل جهده في التنظيم، وهو لا يبني سوى أوهن البيوت وأضعفها، فقرن تلك الصورة المحسوسة إلى الأمر المعنوي، فزادته وضوحاً وتأثيرا، قال تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
وها هو ذا يريد أن يحدثنا عن أعمال الكفرة، وأنها لا غناء فيها، ولا ثمرة ترجى منها، فهي كعدمها فوجد في الرماد الدقيق لا تبقي عليه الريح العاصفة صورة تبين ذلك المعنى أتم بيان وأوفاه فقال سبحانه: (مثل الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد اشتدت يه الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد).
وليس في القران سوى هذين اللونين من التشبيه، تشبيه المحسوس، وتشبيه المعقول بالمحسوس. أما قوله سبحانه: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين) فالذي سمح بان يكون المشبه به خيالياً، وهو ما تراكم في هيئة بشعة مرعبة، وأخذت هذه الصورة يشتد رسوخها بمرور الزمن، ويقوى فعلها في النفس، حتى كأنها محسوسة ترى بالعين وتلمس باليد، فلما كانت هذه الصورة من القوة إلى هذا الحد ساغ وضعها في موضع التصوير والإيضاح، ولا نستطيع أن ننكر ما لهذه الصورة من ومما جرى على نسق هذه الآية قوله تعالى: (فلما رآها تهتز كأنها تأثير بالغ في النفس. جان ولى مدبراً ولم يعقب) فهي صورة قوية للجان تمثله - شديد الحركة لا يكاد يهدأ ولا يستقر.
والتشبيه في القرآن تعود فائدته إلى المشبه، تصويراً له وتوضيحاً ولهذا كان المشبه دائماً أقوى من المشبه به وأشد وضوحا وهنا نقف عند قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله(895/10)
بكل شيء عليم). فقد يبدو للنظرة العجلى أن المشبه وهو نور الله أقوى من مصباح هذه المشكاة، ولكن نظرة إلى الآية الكريمة، ترى أن النور المراد هنا هو النور الذي يغمر القلب، ويشرق على الضمير، فيهدي إلى سواء السبيل أولا ترى أن القلب ليس في حاجة إلى أكثر من هذا المصباح، يلقي عليه ضوءه فيهتدي إلى الحق، وأقوم السبل، ثم ألا ترى في اختيار هذا التشبيه إيحاء بحالة القلب وقد لفه ظلام الشك، فهو متردد قلق خائف، ثم لا يلبث نور اليقين أن يشرق عليه، فيجد الراحة والأمن والاستقرار، فهو كساري الليل يخبط في الظلام على غير هدى حتى إذا آوى إلى بيته فوجد هذا المصباح في المشكاة وجد الأمن سبيله إلى قلبه، واستقرت الطمأنينة في نفسه وشعر بالسرور يغمر فؤاده.
وإذا تأملت الآية رايتها قد مضت تصف ضوء هذا المصباح وتتأنق في وصفه، بما يصور لك قوته وصفاءه، فهذا المصباح له زجاجة يتلألأ كأنه كوكب له بريق الدر ولمعانه؛ أما زيت هذا المصباح فمن شجرة مباركة قد أخذت من الشمس أوفى نصيب، فصفا لذلك زيتها حتى ليكاد يضيء ولو لم تمسه نار. ألا ترى أن هذا المصباح جدير أن يبدد ظلمات الليل، ومثله جدير أن يبدد ظلام الشك ويمزق الكفر والنفاق. وقد ظهر بما ذكرناه جمال هذا التشبيه ودقته وبراعته.
يتبع
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية العلوم(895/11)
الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
الإدراك
تبين مما سقناه في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد حاول أن يفهم طبيعة العقل وكنهه. فعجز عن فهم هذه الطبيعة وإدراك هذا الكنه. (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فلجا إلي آثار العقل ومظاهره أو معانيه وصفاته. فوفق في فهم هذا كل التوفيق وإدراك من صفات العقل ومعانيه ما جاء موافقا كل الموافقة لما وصل إليه علم النفس الحديث في هذا الموضوع؛ فقد أدرك الإمام الغزالي ببصيرته النيرة أن في الإنسان استعدادا للفهم، وان هذا الاستعداد غريزي فطري، وانه كالنور الذي يقذف في القلب فيعين صاحبه على إدراك الأشياء، ثم راح يقسم هذا الإدراك للأشياء أقساما أعتبرها أجزاء العقل أو صفاته ومعانيه، فكان موفقاً أيضاً غاية التوفيق في ذلك التقسيم الدقيق الذي شمل المعرفة العقلية من ابسط أنواعها الغريزية إلى أرقى درجاتها الفكرية.
ثم أدرك الغزالي أن العقل وحدة تشمل خبرة الإنسان الماضية والحاضر وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وتتجلى هذه الوحدة العجيبة في الإدراك والوجدان والنزوع وعناصره البسيطة.
ولهذا رأيناه يتحدث في الجزء الأول من إحياء علوم الدين عن العلم والعقل في قسم واحد مما دلنا دلالة تامة على أنه كان رحمه الله مدركا ما قرره علم النفس الحديث من وحدة العقل الشاملة لخبرة الإنسان الماضية الحاضرة وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وأن هذه الوحدة تتجلى في مظاهر الشعور الثلاثة وهي الإدراك أو ما سماه هو (العلم) والوجدان وهو ما سماه (الحال) والنزوع وهو ما سماه (العمل).
ولندع الآن هذا ولنأخذ الجزء الأول من إحياء علوم الدين فنقلب صفحاته فنعرف لأول وهله أنه كتاب في علم النفس التربية والتعليم. إذ أكثر الكتب النفسية والتربوية الحديثة يفتتحها أصحابها بتمهيدات في معنى العلم وأغراضه، ومواضيع العلوم وغاياتها وأقسامها وأسمائها، وتعريف للنفس أو العقل أو الروح، وتقسيم للشعور والللاشعور، وتحديد للغرائز(895/12)
والميول وتبين للسلوك وأنواعه العادية والشاذة، وما يتبع هذا من المواضيع النفسية، فنرى الغزالي رحمه الله يبدأ كتابه الأحياء بالحديث عن المرتكزة على تلك المعرفة النفسية الواسعة المستمدة من تأمله الذاتي العميق وملاحظته الخارجية الدقيقة. وها نحن نراه يتحدث عن العلم في سبعة فصول يذكر فيها فضل العلم والتعلم والتعليم ويذكر أسماء العلوم ومواضيعها، وآداب المعلم المتعلم وآفات العلم والعلماء والعقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار
ولنصغ إليه وهو يتحدث عن فضيلة العلم، مندفعا بالمعرفة الغريزية والإيمان القوي والعاطفة المشبوبة: (أعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً. فما يطلب لذاته اشرف وافضل مما يطلب لغيره. وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رايته لذيذاً في نفسه مطلوباُ لذاته، ووجدته وسيله إلى الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به. وأعظم الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل ألا بالعلم؛ فاصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال)
يستمر الإمام الجليل مندفعاً في تبين فضائل العلم وتفاوت هذه الفضائل بالنسبة لخير الناس عامة ولسعادة المسلمين في الدنيا والآخرة بصورة خاصة. ونحن نلمح هنا في هذا القول الذي سطره قلم الغزالي عن فضيلة العلم أن الغزالي يشير إلى وحدة الشعور والعملية العقلية إشارة واضحة صريحة. يقول لن يتوصل إلى السعادة إلا بالعلم والعمل، فالعلم والعمل هما المظهران الأساسيان للشعور الإنساني؛ أما العاطفة فهي ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك والنزوع أو العلم. وهو يؤكد هذا المعنى فيما بعد بقوله الواضح الصريح (إن العلم ينقسم إلى علم مكاشفة وعلم معاملة والمعاملة، التي كلف العبد البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد وفعل وترك وهو يعني الاعتقاد العلم الأكيد الذي لاشك فيه. ويعني بالفعل والترك النزوع الإيجابي والنزوع السلبي، وما يسميه علم النفس الحديث (بالتوفيق والكف). وكأن الغزالي أراد أن يزيد هذا المعنى وضوحاً وتوكيداً، فقال في موضوع آخر: لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا ينقص عامل حتى ينقص يقينه). أما علم المكاشفة الذي ذكره الغزالي فهو وحي العقل الباطن وإلهام اللاشعور.(895/13)
ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي في هذا الموضوع:
(أعلم أن العلم قسمان، علم مكاشفة وعلم معاملة. أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وذلك غاية العلوم، وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة ويتكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسمائها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتضح إذا ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقة) ثم يقول: (ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى الحق في الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان).
وما دمنا نتحدث عن رأي الغزالي في العلم كجزء من العملية العقلية فقد وجب علينا أن نتحدث عن العقيدة والأيمان واليقين في نظر الغزالي لأنها أنواع من العلم تتخذ أشكالا خاصة في النفوس البشرية، وتولد فيها عواطف قوية تدفع بأصحابها إلى أعظم الأعمال، وتعينهم على تحمل أفدح الآلام. ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي في هذا الموضوع الجليل: (أعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين أما النظار المتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك. إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات.
(الأول) أن يعتدل التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك.
(الثاني) أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه لا يمنع ترجيح الأول وهذه الحالة تسمى ظناً
(والثالث) أن تميل النفس إلى التصديق بالشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره، ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله ولكن ليس ذلك مع معرفة محققة، إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز، اتسعت نفسه للتجويز وهذا يسمى اعتقادا مقرباً لليقين. (والرابع) المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق الرهان الذي لا يشك فيه. فإذا امتنع وجود الشك وامكانه يسمى يقينا. وأما الفقهاء والمتصوفة فلا يلتفتون في اليقين إلى التجويز والشك بل إلى استيلائه على العقل، فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى عليه حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع سمي ذلك يقينا). ولنسمع أيضاً ما يقوله الغزالي في الإيحاء الذي يتكون به الاعتقاد واليقين: إعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن ينكشف له معناه في(895/14)
كبره شيئاً فشيئاً. فابتدءوا الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به. وذلك مما يفعل في الصبي بغير برهان.
نقف الآن فنستعرض ما مر بنا من أقوال الغزالي استعراضاً سريعاًَ لنرى فيها نظريات نفسية معتبرة وقواعد علمية مقررة، نرى احسن وصف لمعاني العقل وصفاته واحسن تقسيم لهذه المعاني والصفات، نرى وصفاً دقيقاً للعقل الباطن والعقل الواعي والوحدة العقلية ومظاهر الشعور الإنساني. ويدهشنا حقاً أن نرى هذه المعرفة الزاخرة بأسرار العلم الحديث عن الاستهواء الذاتي الخارجي، وهو اليقين الذي يستولي على القلب، وما هذا اليقين الذي يستولي على القلب إلا ما يسميه على النفس الحديث بانقسام الشخصية أي انفصال الآراء والذكريات والعواطف والمعارضة للفكرة الموحى بها ووقوفها موقفاً سلبياً في حين أن الآراء والانفعالات المؤيدة هي التي تكون بارزة في الشعور ومتخذة موقفاً إيجابياً.
حمدي الحسيني(895/15)
الاتحاد البرلماني العربي
مشروع إنشائه وتنظيمه
وضعه الأستاذ أحمد بك رمزي
أغراض الاتحاد:
مادة 1 - تتألف هيئة تحت أسم الاتحاد البرلماني العربي الغرض منها أن تقرب بين الشعوب العربية وتحقق تعاونهم في الشؤون السياسية والثقافية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية رغبة في إيجاد اتحاد بين البلاد العربية: وهي مصر وشرق الأردن والعراق وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية واليمن وليبيا الموحدة وتونس والجزائر ومراكش والكويت والبحرين وإمارات الخليج الفارسي وإمارات المحيط الهندي وكل قطر لغته العربية ويرغب في الانضمام إلى هذا الاتحاد.
مادة 2 - مركز رئاسة الاتحاد البرلماني العربي مدينة القاهرة
هيئات المؤتمر البرلماني العربي:
مادة 3 - يتكون الاتحاد البرلماني العربي من الهيئات الآتية:
1 - المؤتمر البرلماني السنوي
2 - المكتب الدائم
3 - الرئاسة
4 - السكرتارية
5 - الهيئة المحلية في كل دولة عربية
الهيئات المحلية للاتحاد
مادة4 - تتكون هيئة محلية للاتحاد في كل بلد عربي
2 - يدخل أعضاء المجلس النيابية (نواب وشيوخ) بناء على طلبهم كأعضاء في الهيئة المحلية
3 - يجوز قبول الأحزاب السياسية والجمعيات العربية كأعضاء في الهيئة المحلية إذا(895/16)
كانت أهدافها تتفق مع تأييد فكرة الاتحاد البرلماني العربي، ويكون تمثيل كل هيئة قاصرا على أثنين فقط.
4 - الأفراد الذين سبق لهم أن اشتركوا في المؤتمرات العربية كممثلين لبلادهم ثم سقطت عضويتهم في المجالس النيابية يجوز لهم الاحتفاظ بعضويتهم بحكم القانون.
5 - يجوز للنواب والشيوخ السابقين أن يطلبوا الانضمام إلى الهيئة المحلية كأعضاء منتسبين.
6 - يجوز للهيئة المحلية ضم ممثلين عن المجالس والبلديات والجمعيات السياسية والعلمية والتجارية والصناعية والزراعية والجمعيات المسائية ونقابات المهن الحرة ونقابات العمال إلى عضويتها بحيث لا يزيد عدد الممثلين عن واحد لكل منظمة منها.
7 - لا يجوز قبول الأفراد والمؤسسات الجمعيات التي من برامجها أو من نشاطها العمل بمبادئ واتجاهات مخالفة لروح الاتحاد البرلماني العربي كأعضاء في الهيئة المحلية أو قبول أية مساعدة منها.
8 - تنظيم اللوائح الداخلية لكل هيئة محلية في نواحي نشاطها واجتماعاتها وماليتها، ووضع هذه اللوائح منوط بها تضعه باستقلال تام عن الهيئات المحلية الأخرى.
9 - تعمل الهيئات المحلية على تنفيذ قرارات ورغبات المؤتمر البرلماني العربي ومكتبه الدائم ولا يكون في عملها ونشاطها ما يتعارض مع هذه القرارات.
10 - تكون الهيئة المحلية على اتصال دائم مع حكومات بلادها ومع ممثلي البلاد العربية المعتمدين في بلادها.
11 - لا يتعارض نشاط الهيئة المحلية مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة ولا مع ميثاق حماية حقوق الإنسان.
المؤتمر العربي البرلماني
مادة - 1 - المؤتمر العربي البرلماني هو الهيئة العليا للاتحاد البرلماني، ويجتمع كل عام في أول سبتمبر في إحدى العواصم العربية ويحدد المكتب الدائم المكان، وترسل كل هيئة محلية قبل حلول ذلك التاريخ بثلاثة أشهر كشفاً لحكومة بلادها وللمكتب الدائم بأسماء مندوبيها في المؤتمر المزمع عقده.(895/17)
2 - ترسل كل هيئة محلية وفداً مكوناً من عشرة مندوبين على الأقل ولا يزيد عدده بأي حال من الأحوال عن ثلاثين مندوبا. ويصح أن يضم إليهم خبراء وسكرتاريون، ويختار المندوبون أولا من الأوساط النيابية ومن الجائز أن يستكمل العدد باختيار ممثلي المجالس المحلية والبلديات ونقابات المهن الحرة والأحزاب السياسية والجمعيات العربية المعتمدة لدى المؤتمر (مثل جمعية الاتحاد العربي - جمعية الوحدة العربية) ومن ممثلي الجمعيات النسائية المؤسسات والجمعيات العلمية والاقتصادية والاجتماعية.
3 - يكون نصف عدد أعضاء الوفد البرلماني للهيئة المحلية على الأقل من أعضاء الهيئات النيابية (النواب والشيوخ)
4 - لممثلي الحكومات العربية الدبلوماسيين المعتمدين في الدولة التي يجتمع فيها المؤتمر، وللمندوب الرسمي الذي تختاره هذه الدولة، ولممثلي جامعة الدول العربية المعتمدين لهذه الغاية الحق في تتبع أعمال المؤتمر بصفة مراقبين؛ ومن حقهم أن يشتركوا في المناقشات ولهم حق الاعتراض - كما أن لأعضاء الوزارة في الحكومة التي يجتمع لديها المؤتمر نفس هذا الحق.
5 - تدعى دائما جامعة الدول العربية وحكومات البلاد العربية المستقلة إلى إرسال أعضاء بصفة مراقبين كما يجوز دعوة مندوبين عن البلاد العربية غير المستقلة عن طريق جامعة الدول العربية وباختيارها.
مادة 6 - توجه الدعوة الاجتماع بواسطة رئيس المكتب الدائم للمؤتمر إلى الهيئات المحلية وإلى الحكومات العربية وإلى جامعة الدول العربية ومعها صورة من جدول الأعمال والتقارير والمستندات التي تتلقاها لهذا الغرض.
مادة 7 - 1 - تسند رئاسة المؤتمر إلى رئيس المكتب الدائم إلى حين انتخاب الرئيس الجديد.
2 - ينتخب المؤتمر رئيساً بناء على اقتراح المكتب الدائم من بين رؤساء الوفود بأغلبية الأصوات. ويكون رئيس المؤتمر رئيسا للاتحاد البرلماني العربي. وإذا لم يحصل على الأغلبية المطلقة يعاد الانتخاب بين المرشحين الذين حصلوا على أكبر عدد من الأصوات.
3 - يعتبر رؤساء الوفود الممثلة في المؤتمر وكلاء للرئيس طول مدة انعقاد المؤتمر.(895/18)
4 - يتكون مكتب الرئيس من الرئيس والوكلاء.
5 - تتكون السكرتارية من ستة سكرتارين وينتخب رئيس المؤتمر أحدهم ليقوم بأعمال الأمين العام للمؤتمر ولمكتب الرئاسة
6 - ينتهي عمل الرئيس بعد سنة من انتخابه. وإذا طرأ ما يمنع قيامه بها تسند الرئاسة إلى رئيس إحدى الهيئات المحلية بواسطة المكتب الدائم فيتولى رئاسة الاتحاد البرلماني والمكتب الدائم حتى يتم انتخاب الرئيس الجديد.
مادة 8 - توزع أعمال المؤتمر البرلماني العربي على اللجان الآتية:
1 - اللجنة السياسية
2 - لجنة القانون والتنظيم وتنسيق الأعمال
3 - تأكيد التعاون الاقتصادي
4 - التعاون الثقافي
5 - الشؤون الاجتماعية
6 - المواصلات والأشغال العامة
7 - دراسة الدساتير والأنظمة البرلمانية للبلاد العربية.
(2) للمؤتمر الحق بناء على اقتراح المجلس في تأليف لجان أصلية وأخرى فرعية.
(3) يمثل كل وفد عضوان على الأقل في كل لجنة
(4) للمجلس الحق في دعوة أية لجنة للاجتماع.
مادة 9 - 1 - اللغة العربية هي اللغة الرسمية للمؤتمر. ويجوز ترجمة المناقشات إلى إحدى اللغات الأجنبية إذا دعت الحاجة لكي يتتبع رجال الصحافة العالمية مناقشات المؤتمر.
2 - تكون جلسات المؤتمر علنية ويجوز للجان المؤتمر أن تسمح للصحافة والجمهور بحضور اجتماعاتها.
مادة 10 - 1 - تكون الجلسات العامة للمؤتمر ولجانه قانونية بحضور ثلاثة أخماس الأعضاء الممثلين فيها.
2 - تكون القرارات نافذة بالأغلبية المطلقة الأصوات.(895/19)
3 - إذا تغيب أعضاء أحد الوفود فيؤجل القرار إلى جلسة تالية.
مادة 11 - لكل مندوب صوت واحد، وإذا كان عدد مندوبي وفد من الوفود أقل من عشرة فلرئيس الوفود المذكور أن يعين المندوبين الذين يصح أن يكون لكل منهم أكثر من صوت واحد. وإذا زاد عدد المندوبين لوفد برلماني عن عشرة فلرئيس هذا الوفد الحق في أن يختار منهم أولئك الذين لهم حق إعطاء الأصوات بحيث لا يكون لأي وفد اكثر من عشرة أصوات.
مادة 12 - لكل وفد خمسة أصوات على الأكثر باللجان التي تمثل فيها ,
2 - في حالة غياب أعضاء وفد من الوفود عند انعقاد جلسة إحدى اللجان يؤجل قرار اللجنة إلى الجلسة التالية ودعوته للحضور
مادة 13 - يعرض في أول جلسة مشروع لائحة داخلية لتنظيم جلسات المؤتمر البرلماني العربي ولجانه، ويحضره المكتب الدائم.
مادة 14 - يختار المؤتمر البرلماني العربي بناء على اقتراح المكتب الدائم مكان الاجتماع التالي
المكتب الدائم
مادة 15 - 1 - يتألف المكتب الدائم من عضويين دائمين لكل هيئة محلية ويكون برئاسة رئيس الاتحاد البرلماني.
2 - يجتمع المجلس في الأسبوع الأول من شهر يناير من كل سنة بمناسبة رئيس الاتحاد البرلماني.
2 - يجتمع المجلس في الأسبوع الأول من شهر يناير من كل سنة بمناسبة انتقال الرئاسة ولتقرير أعمال المؤتمر التالي. ويجوز أن يتكرر انعقاده.
مادة 17 - يجتمع المكتب الدائم بناء على دعوة رئيسة أو على طلب سبعة من الأعضاء وفي حالات الضرورة القصوى وتعذر اجتماع أعضاء المكتب الدائم يجوز عرض المسائل المستعجلة واتخاذ قرار بشأنها بواسطة المراسلة. ومن حق المكتب الدائم أن يضع لائحته الداخلية وينظم أعماله بمقتضاها.
مادة 18 - يشرف الرئيس على تنفيذ قرارات المكتب الدائم ويعين الموظفين ويراقب(895/20)
أعمال السكرتارية ويوجه نشاطها.
مادة 19 - تتكون هيئة استشارية للمؤتمر لتنسيق أعماله بحيث تتلاءم مع السياسة جامعة الدول العربية والحكومات العربية مكونة من مراقبي الجامعة والممثلين الدبلوماسيين المعتمدين لدى الدولة العربية التي يلتئم المؤتمر لديها وتتصل الهيئة مباشرة مع رئيس المؤتمر.
السكرتارية
مادة 20 - (1) تتألف السكرتارية من الأمين العام وخمسة سكرتارين واحد منهم من أحد الوفود وتكلف بالأعمال الكتابية والنشر والدعاية وكتابة ملخص محاضر الجلسات والقيام بأعمال المحفوظات وتحضير ميزانية الاتحاد السنوية. كما تقوم بإصدار مجلة كل ثلاثة شهور تدعي الهيئات المحلية في كل بلد عربي للمساهمة في تحريرها والتعبير عن وجهة نظرها.
(2) يوزع الأمن العام أعمال السكرتارية على أقسامها المتعددة تبعاً لنواحي نشاطها المختلفة ويكون من حق المكتب الدائم وضع قواعد يابتة للسكرتارية للسير عليها.
مالية الاتحاد
مادة 21 - (1) يقرر المكتب الدائم النصيب السنوي الذي تدفعه كل هيئة محلية للاتحاد تبعاً للمصروفات التي يقررها المؤتمر.
(2) تقوم السكرتارية بأعمال حسابات الاتحاد البرلماني ويعتمد رئيس المؤتمر المصروفات.
أحكام نهائية
مادة 22 - من واجب الهيئات المحلية أن تقوم بكل ما في وسعها في داخل بلادها لتحقيق قرارات المؤتمر البرلماني العربي وتنفيذ المثل والأهداف التي يرمي إليها. ويجب عليها أن تبعث إلى المجالس النيابية عن طريق النواب الممثلين فيها قرارات المؤتمر وتقدم الهيئات المحلية تقارير سنوية عن أعمالها ونشاطها في تلك الناحية.
مادة 23 - يقرر الاتحاد البرلماني العربي شعاراً له يمثل نهضة العروبة وتمسكها بحقوق(895/21)
الإنسان وحرية الشعوب واستقلالها.
أحمد رمزي(895/22)
اللغة العربية والإسلام وفي الداغستان
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي عهد الخليفة العثماني مراد الثالث لجأ كثير من أمراء وأعيان هذه البلاد إلى السلطان العثماني يطلبون منه تخليص البلاد من طغيان الفرس الإيرانيين الذين كانوا يبسطون سلطانهم على تلك الجهات، ومذهبهم الشيعي الذي كانوا يحاولون فرضه على أهل البلاد بالقوة في تلك الأيام، فجرد مراد الثالث فوات كبيرة على تلك البلاد استولت عليها في أواخر القرن العاشر الهجري 986هـ (1578م).
وهنا بدأت صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد، فقد نبه احتلال العثمانيين لها أطماع الروسيين في الشمال أو إيقاظها من جديد لأن أطماع الروسيين في تلك الربوع قديمة. وحفزت الإيرانيين في الجنوب لاسترداد مركزهم وسلطانهم في تلك الربوع، فصارت مسرح أطماع هذه القوى الثلاث الجبارة تتنازعها هذه مرة وتلك مرة أخرى، وبعد معارك طاحنة، وحروب كثيرة طويلة، وبعد مد وجزر استمر أكثر من قرنين استقر الأمر هناك للروسيين في سنة 1221هـ و 1806م حين احتلها القائد الروسي الأمير (كينياز سبيانوف) وبسط سلطان الدولة الروسية على تلم الجهات، وقد قتل هذا القائد الروسي في تلك السنة بيد أحد أهالي الداغستان غيلة.
وقامت الثورات الوطنية في كثير من الأنحاء بمساعدة الإيرانيين تارة، وبإيعاز العثمانيين مرة أخرى، وأنفة من أهل البلاد أن يخضعوا للروس تارات.
ولكن كل ذلك لم يغير من احتلال الروس شيئاً، فبقيت البلاد في قبضتهم من ذلك التاريخ.
وقد تولى أكبر تلك الثورات وأحكمها تنظيماً الأمير المجاهد (سورخان خان) الذي جمع جميع علماء وأعيان وأشراف (غازي قمون) وسائر أنحاء الداغستان وكتب معهم عهداً وميثاقاً وطنياً دينياً لمقاتلة العدو الغازي المحتل، والمحافظة على أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا هو نص ذلك الميثاق الوطني الديني، وقد كتبوه - يوم كتبوه - باللغة العربية الفصحى:
(هذا بيان للناس من هذا اليوم، وهو اليوم الأول من ربيع الأول من السنة الثامنة(895/23)
والعشرين بعد الألف والمائتين.
إن الأمير الكريم (سورخاي خان) والقاضي صنفور القمقي وسائر أئمة بلدة (غموق) ورؤسائهم، وكبرائهم وعرفائهم وخواصهم وعوامهم تعاهدوا على أن يتعاونوا على البر والتقوى، وعلى أن يكونوا في أمر المقاتلة مع العدو سواء. واتفقوا على أن يكون دية كل قتيل من أهل الولاية خمسة وعشرين (توماناً) من فضة روسية أو قيمتها من غيرها، سواء كان القتل واقعاً قبل هذا البيان أو بعده وعلى أن يكون ثور فدية من سل سيفاً أو خنجراً أو سكيناً على مسلم، أو صاحب مثل الشخص المذكور لإعانة، وإن لم يسل هذا الصاحب شيئاً من المذكورات، وكذا الفدية ممن اشترى عرقاً، أو نبيذ عنب، وممن أعطى أو أخذ مالاً بقراض فاسد. كأن يدفع قروشاً إلى آخر سنة مثلا ليأخذ منه عند تمام السنة مع القروش رباً: كيل حب أو شيئاً آخر.
وهذا المذكور مما مضى به الحكم، وجف به القلم، فمن بدله لا يسمع قوله، ولا يمدح فعله)! هـ.
وبعد عقد هذا الميثاق الوطني الديني قام الأمير (سورخاي خان) بمحاولات جدية للوقوف أمام سيل جحافل الروسيين التي انتشرت في كل مكان، ولكن على غير جدوى، ولا طائل، فقد كان الأمر أخطر مما كان يقدر، فتم للروس الفتح، وبسط السلطان واضطر الإيرانيون أصحاب السلطان الأسمى على البلاد إلى موادعة الروسيين، وعقد الصلح معهم.
فاجتمع الجنرال (أنشق ريتشجوف) القائد الروسي الجديد في الداغستان، وممثل إيران أبو الحسن الشيرازي في مكان يقال له (كلستان) في (قره باغ) في الثاني عشر من تشرين الأول سنة 1228، وعقدا معاهدة صلح عرفت فما بعد (كلستان) وتنازلت الدولة الإيرانية بمقتضاها من كل حق لها في كورجستان وطالش وقره باغ وكنجة، وشكر، وشروان، وباكو، وقوبة، وجميع الداغستان، ولكن هذا لم يفت في عضد (سورخاي خان) فقد ظل يعمل ويجمع الجوع لقتال الروس الغزاة.
وفي سنة 1235 أصدر القائد الروسي في الداغستان الجنرال (يارمالوف) أمره إلى الجنرال (كينياز مدتوف) أن يتوجه مع جيش روسي كبير، ومن انضم إليه من جنود بعض الأمراء المحليين الموالين للروس مثل (أرسلان خان) حاكم (كورة) إلى جهة (غازي(895/24)
قموق) لقتال (سروخاي خان).
والتقى الفريقان في قرية (جراغ) في قتال شديد واستبسال، ولكن جموع (سورخاي خان) التي كان جمعها هناك لم تقو على الوقوف أمام قوات الروس، فتراجع إلى (غاري قموق).
وفي سنة 1236 تقابل الجنرال (مدتوف) مع (سورخاي خان) مرة ثانية بين قريتي: (جراع) و (خوشراك) إلا أن أنصار (سورخاي خان) أصيبوا في هذه المرة أيضاً بالانكسار واضطر هو ومن بقي معه من الجيش إلى الانسحاب إلى (غازي قمون) حيث أحذ منها أهله وعياله، ثم اسحب منها إلى جهة (عندال) في منطقة (آوار).
ودخل الجنرال (كينياز مدتوف) إلى (غازي قمون) بغير قتال ولا سفك دماء، وأعلن بين الأهليين ضم إقليم (غازي قمون) إلى إدارة حاكم (كورة) الجنرال (أرسلان خان) على شرط الطاعة للدولة الروسية.
وأما (سورخاي خان) فإنه توجه إلى طهران في بلاد العجم، وبعد محاولات كثيرة استغرقت نحو خمسة أعوام قضاها في إيران رجع إلى الداغستان مع حملة عسكرية قوية لقتال الروسيين من جديد.
ففي سنة 1342هـ اجتاز (شماخي) إلى (عندال) ومنها توجه إلى قرية (ثغراك) ولكنه انتقل إلى رحمة الله في (ثغراك) قبل أن يستطيع عمل شيء جدي، ودفن فيها رحمه الله. وأما أولاده فقد تركوا تلك الجهات نهائياً، وهاجروا إلى الدولة العثمانية بعد وفاة والدهم.
يقول مرزا حسن القداري في كتاب أثار داغستان: كان المرحوم (سورخاي خان) عالما فاضلا قوي المعرفة بالعلوم العربية.
وبعد دخول هذه البلاد تحت حكم الروس بمقتضى معاهدة كلستان) أو معاهدة داغستان المعقودة بي الإيرانيين والروسيين سنة 1816م أخذ الروسيون يجرون عليها أنظمتهم الإدارية العامة، ويحتلون بجيوشهم المواقع الحربية الهامة احتياطا لما عساه يفاجئهم، لأن الأمن لم يكن استتب في البلاد بعد. وأن بعض أمرائها لم يكن راضياً عن دخول البلاد في حوزة الروسيين، ولهذا كانوا ينتهزون الفرص للانتقاص والفتك بحاميات الروس الضعيفة، وكانوا قد ألفوا لذلك جمعية سرية حربية سنة 1818م إلا أن قائد الجيوش الروسية الجديد الجنرال (برمالوف) لم يعبأ بذلك وظل يسير بجيوشه إلى داخل البلاد يفتح ما بقي من(895/25)
حصونها المنيعة، ويحتل إمارة بعد إمارة إلى أن أذعنت له جميع الإمارات والمقاطعات المستقلة، وأدت له الطاعة؛ فخيل إليه أن الأمن قد استتب، فصاد يقلل من عدد الحاميات والجيوش، ولكن سرعان ما أظهرت الحوادث غلطه في حسن ظنه في الأهالي. إذا لم يمض على معاهدة داغستان بضع سنوات حتى هب في أوائل سنة 1240هـ أحد أبطال الجبل الغازي محمد الكمراوي الأواري في قرية (كمرا) في رأس من رؤوس الجبل، وثار على الحكومة الروسية، وعلى الأمراء المحليين الذين استسلموا للروسيين، وطالب أن تكون المعاملات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية لا للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام، وألف رسالة في وجب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع وسماها (إقامة البرهان على ارتداد عرفاء داغستان) وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية والشرعية. وهو الذي يلقيه الروسيون (بقاضي ملا)، ثم أخذ يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الدين والوطن ويوحد كلمتهم، فاجتمع لديه في وقت قريب جمع غفير من سكان الجبل، فبدأ في أوائل سنة 1242هـ يزحف بهم إلى القلاع المنعزلة ويحتلها، ويقتل حاميتها، ثم تحول إلى عاصمة البلاد (درنبد) وشرع في حصارها، واستنفر سكان (طبسران)، وأمة (الججن)، فنهضوا كلهم لنجدته وظلوا يحاربون الجيوش الروسية المنظمة حتى استشهد الإمام الغازي محمد الكمراوي في معمعة القتال بقرية (كمرا) في ثامن جمادى الأخر سنة 1248هـ (29 تشرين أول سنة 1832م) بعد حصار طويل. على أن استشهاده لم يضع حداً للثورة، ولا أوهنت عزيمة المقاتلين، فخلفه على قيادة الثورة، ورفع علم الجهاد من بعده الغازي الشهيد حمزة بك الذي قام بأهباء الثورة ونظم حركتها، واستمر يقاتل ويجاهد حتى استشهد بعد ذلك في أواخر سنة 1250هـ يقرب مدينة (خنزاخ) فخلفهما في القيادة إمام آخر أشد منهما مراساً، وأبعد نظراً وأكبر هيبة في نظر الجماهير من المجاهدين والأعداء على السواء، وأقوى على احتمال ويلات الحرب الجبلية وهو الإمام الشيخ (شامل) الذي طبقت شهرته الخافقين لما أبداه من البطولة، وحسن الإدارة، وتنظيم العلم، ثم بوقوفه أمام عدو عظيم جبار مدجج بالأسلحة الحديثة تلك المدة الطويلة من سنة 1250هـ إلى أوائل سنة 1276هـ أذاق خلالها جيوش الروس الأمرين وحملهم من الخسائر في المال والرجال ما يصعب تقديره.(895/26)
والشيخ شامل مثل الشيخ عبد القادر الجزائري خرج من المشيخة إلى الإمارة، وتناول السيف من طريق القلم - كما يقول المرحوم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان - ولم يكن الشيخ شامل في سعة علم سليفه - الغازي محمد وحمزة بك - ولكنه كان أحسن منهما إدارة للأمور، وبصرة بالحروب، فشمر عن ساق الجهاد، والتف ذلك الشعب الأبي من حوله، فذب عن حوض ملته نحو 25 سنة ظفر فيها بالروس في وقائع عديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، أو جلاهم عن جميع البلاد إلا بعض مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية، وكانت اعظم الدبرات التي والاها عليهم هي في سنتي 1843 - 1844م حيث افتتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال، وغنم منهم 35 مدفعاً، واعتاداً حربية، ومؤناً وافرة، وأخذ عدداً وافراً من الأسرى فجردت الدولة الروسية بعظمة ملكها وسلطانها جيوشاً جرارة، ونادت هي بالجهاد في الداغستان!. ونظم شعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب.
وما زالت توالي الزحوف حتى تمكنت من البلاد، ولكن بقي الشيخ شامل عشر سنوات أخرى يناوشها القتال في الجهات الغربية من الجبال، ولم يسلم هذا المجاهد العظيم للروس إلا في 6 سبتمبر سنة 1859م (من صفر سنة 1276هـ) فنقل هو ومن معه من عياله ومرافقيه إلى بطرسبوغ، فاستقبله القيصر إسكندر الثاني وأكرم وفادته، ثم نقل إلى كالوغا، ومنها إلى كييف. وبعد أن قضى - خلافاً للعهود التي كانت أعطيت له قبل التسليم من أنهم سيرسلونه إلى خليفة المسلمين في القسطنطينية - في الأسر عشرة أعوام أذن له بالسفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فسافر هو ومن معه إلى القسطنطينية حيث احتفل به السلطان عبد العزيز خان وأكرم وفادته، ومنها ذهب إلى مكة المكرمة حيث أدى فريضة الحج في 1286هت، ثم ذهب إلى زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وبقي فيها حتى لقي ربه قبيل غروب شمس يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1287هـ (28 مايو سنة 1870م) ودفن بالبقيع عليه رحمة الله ورضوانه في مواجهة قبر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.
وانتهت بذلك الحرب في الجبل تقريباً، ودخلت البلاد في دور جديد من حياتها نستطيع أن نسميه دور التقرب بين الحكومة الغالبة وبين الأهالي، ودور العمل على نشر الحضارة(895/27)
الجديدة بينهم فقد رأت الحكومة بعد ما عاينته مدة الحروب الأخيرة من تعلق سكان الجبل ببلادهم وحريتهم، وشيوخهم وأمرائهم - أن تتقرب من هذه الطبقة صاحبة السلطان الحقيقي في الجبل، فودت إليهم أملاكهم التي كانت حجزتها أيام الحرب، وأرجعت من كانت أبعدتهم عن مراكزهم أو وظائفهم إلى ما كانوا عليه وصارت تعاملهم بالحسنى، ثم إنها تساهلت مع الشعب فتركت له سلاحه، وأعفته من الخدمة العسكرية وأقامت له محاكم شرعية ثم حطت عنه بعض الضرائب وخصصت مبلغاً معلوماً ينفق سنويا على حاجيات البلاد من الخزينة المركزية مراعية في كل ذلك عواطف الشعب وعاداته القديمة، واقتصاديات البلاد، فتمكنت بذلك من إرضاء أكثر السكان، وإخماد روح الثورة إلى حد ما بين سكان البلاد إذا نحن صرفنا النظر عن بعض حوادث الثورة التي كانت تظهر بين الفينة والفينة هنا وهناك في بعض أنحاء تلك البلاد. وأهمها تلك الثورة التي حدثت سنة 1878م عندما كانت الدولة الروسية مشتبكة في حرب مع الدولة العثمانية، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد هذه الثورة بعد تصفية حسابها مع العثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على سكان الجبل الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير من سكان تلك البلاد الهجرة منها إلى تركيا فأنزلتهم حكومتها في بعض جهات الأناضول، وفي سوريه وفي شرق الأردن وفي العراق حيث لا يزالون يقيمون في تلك الأنحاء مواطنين مخلصين لأوطانهم الجديدة حيث يلقون من أهل البلاد وحكوماتها كل رعاية وعطف واحترام.
وبقي آخرون في بلادهم متمسكين بعرى أحكام دينهم وتقاليدهم واستمرت الحال على ذلك حتى كان الانقلاب الشيوعي الذي قلب القيصرية الروسية سنة 1917م.
هذا عرض موجز للأدوار التي مرت على الإسلام واللغة العربية في الداغستان قبل الثورة الشيوعية سنة 1917م وأرجو أن تتاح لي الفرصة للتحدث عن الإسلام والمسلمين واللغة العربية في الداغستان بعد طغيان الشيوعية الحمراء على تلك الربوع في وقت قريب.
حلوان
برهان الدين الداغستان(895/28)
من روائع (شلي)
للأستاذ إبراهيم سكيك
قدمت في مقال سابق قصيدتين من روائع قصائد الشاعر الشاب (شلي) وإتماما للبحث أقدم للقارئ قصائد أخرى ابدأها بمقطوعة على لسان السحابة وفيها يقول:
أنا التي أجلب وابل المطر للأزهار العطشة من البحر والأنهار
أنا التي أعطي ظلا خفيفا لأوراق الشجر عن الظهيرة وهي غارقة في أحلامها
أنا نروج أدرس حبات البرد فتضرب الأرض كأنها أسواط فأحيل السهل الأخضر إلى أبيض ثم لا ألبث أن أذيبه بزخات من المطر وأضحك بينما أسير والناس تصغي إلى رعودي.
أنا التي أغربل الثلج على الجبال وهي أسفل منى حين تئن أشجار الصنوبر وهي شاحبة، واقضي الليل على وسادة بيضاء وأنا بين ذراعي الريح العاصف يحركني أنى أراد. وأتنقل بين أبراج عرائشي السماوية مهتدية بنور البرق الخاطف.
وعندما يسدل الليل ستار الماء القرمزي على الأرض أطوي أجنحتي لأستريح على وكر من الهواء كما تستريح الحمامة المتعبة في وكرها، ويتوهج القمر مطلقا أشعته الفضية على سطحي المغطى بالقطن المندوف ندفته يد النسيم فيحدث في خيمتي الرقيقة ثقوبا تبص منها النجوم فأضحك وأنا أراهن يطرن حولي كسرب من النحل الذهبي.
أنا بنت الأرض والماء وربيبة السماء، ولم أخرج من الماء إلا بعد أن اخترقت مسام المحيط. فخرجت صافية وتغير شكلي مرات ومرات ولكني لا أفنى ولا أموت لأني بعد أن ينتهي المطر وتصفو قبة السماء الزرقاء ويهب الريح من فوقي وتخترقني أشعة الشمس أخرج من كهوف المطر كما يخرج الطفل من بطن أمه أو شبح من القبر لأبني نفسي من جديد.
وفي قصيدة ثانية كتبها وقت الضيق عندما كان هجر والده وسمع بانتحار زوجته الأولى التي تركها وتزوج أخرى دون قرار شرعي. في هذا الوقت من البؤس وتأنيب الضمير كتب القصيدة التالية وفيها يقول:
إن الزهرة التي تبسم اليوم، تذوي غداً(895/30)
وكل ما ترغب في بقائه يخدعنا ويولي عنا سراعا.
فأي بهجة في هذه الدنيا التي لا تضيء ' لا كما يضيء البرق الخاطف فهو يلمع بشدة ولكن لا يدوم، وهو يسخر من الليل الحالك ويختفي في الحال.
أنظر إلى الفضيلة تر أنها لا تثبت على حال وتتقلب كتقلب الأيام وإلى الصداقة نجد أنها نادرة الوجود
وأنظر إلى الحب تر أنه يبيع النعمة بالكبرياء والرحمة واليأس، وبعد فناء جميع المسرات والمباهج نرى أنفسنا في الوجود وعقولنا في التفكير، فما دامت السماء زرقاء صافية، والأزهار باسمة ماضرة، والعيون لم تتغير نظراتها قبل مجيء الليل تملأ النهار متعة وسروراً، وما دامت الساعات الهادئة تزحف ببطء: أفهمك في الأحلام التي لن تفيق منها إلا لتبكي حين ترى الحقيقة.
وفي قصيدة ثالثة يخاطب محبوبته بلغة الطبيعة وفلسفة الوجود خطاباً شعرياً رائعاً اقتبس معانيه من ظواهر الطبيعة التي شغف بها وأدمج نفسه وروحه فيها فيقول:
تتحد الينابيع بالأنهار، وتلتقي الأنهار بالمحيطات وتجتمع الرياح الآتية من المساء بعضها ببعض بعاطفة ورقة.
لا شيء في الطبيعة إذا يظل منفرداً بل يربطه القانون السماوي بشيء آخر ليتحد الاثنان، فلم لا يكون هذا حالي معك؟
انظري إلى الجبال وهي تقبل السماء العالية عن بعد، وإلى الأمواج وهي تعانق بعضها بعضا، وكذلك تفعل الأزهار والأغصان وهذه أشعة الشمس تحتضن الأرض وأشعة القمر تقبل البحر، فما قيمة هذه القبلات إن لم تقبلني مثلها؟
وفي قصيدة رابعة يخاطب الليل وهو يتصوره روحاً تسري في العالم فيناجي هذه الروح المحبوبة مناجاة شعرية رقيقة فيقول:
سيري بسرعة يا روح الليل وأنت تجتازين أمواج البحار الغربية بعد أن تخرجي من كهفك الشرقي الكثيف الضباب حيث تنسجين أثناء النهار أحلام الهناء والرعب مما يجعلك في نظرنا مزيجة من الخوف والمحبة، فأسرعي في سيرك.
اتشحي برداء أشهب نسجت خيوطه من النجوم، واحجبي بشعرك الفاحم الطويل عين(895/31)
النهار بعد أن تقبليه حتى تضنيه، ثم تجولي فوق المدينة والبحر والبر والمسي بعصاك السحرية المخدرة كل إنسان فهلمي أيتها الروح المرتقبة.
عندما نهضت ورأيت الفجر قد لاح تنهدت أسفاً عليك، وعندما ارتفعت الشمس في الأفق، وزال الظل عن وجه الأرض، ثم وقع الظهر ثقيلا على الأزهار والأشجار وأخذ النهار المتعب ينحدر ليستريح في مقره رأيت انك قد تأخرت قليلا فتنهدت من أجلك.
وآخر قصيدة أرغب في الاقتباس منها قصيدة رائعة مطبوعة بطابع (شلي) وتتجلى فيها عبقريته الفذة التي تنسج حول منظر صغير أو أمر بسيط نسيجاً قويا من المعاني المبتكرة والتخيلات الظريفة، فها هو يسمع غناء قبرة في مساء يوم من أيام الربيع فيناجيها مناجاة الشاعر الفنان الذي ينظر للأمور بمنظار دقيق فيرى ما لا يراه غيره من البشر وتقترن أحاسيس ومشاعر لا تعتري غيره فيعبر لنا عن كل ذلك في قصيدة قوية بقول فيها:
حييت أيتها الروح اللطيفة، إذ لا أتصور انك طير لأنك تسكبين قلبك كله في نغمات منسجمة من السماء القدسي أو من جواره.
وفي ضوء الشمس الذهبي عندما تميل للغروب وتصبغ الغيوم صبغة لامعة أراك تسبحين مسرعة في الفضاء كما تسبح موجة من الطرب في مخيلة الإنسان.
وأرى المساء الأرجواني الشاحب يذوب حوله فلك مسيرك كما تذوب نجمة في السماء طلوع النهار، فأنت لا نراك ولكنا نسع صوتك الحاد البهيج.
وها هي الأرض وما حولها من هواء قد أترع بصوتك كي يحصل في ليلة صافية عندما يمطر القمر أشعته اللؤلؤية فيفيض السماء بها.
أي شيء أنت؟ لسنا نعرف، ما أكثر الأشياء شبها بك!
هل أنت كالشاعر المنزوي وهو يستنير بأفكاره ويطرب بغنائه الذي لا يطلبه منه أحد حتى يرى العالم مترعاً بالآمال والمشاعر والمخاوف، ذلك العالم الذي لا يعبأ به!
أم أنت كفتاة رفيعة قابعة في برجها الحصين وهي تواسي روحها الرازحة تحت عبء غرام عنيف بموسيقى عذبة في ساعة خفية فتفيض أنغام الموسيقى التي تغرق قصرها؟
أم أنت كوردة تتظلل بين أوراقها الخضراء يفتحها النسيم اللطيف فترسل رائحة زكيه تجعل الفراش المتنقل حولها يغشى عليه لشتدتها وقوة عبيرها؟(895/32)
إن الموسيقى الصادرة منك لتفوق في جمال وقعها صوت قطرات المطر في الربيع وهي تتساقط على مرج أخضر لامع تفتحت أزهاره بعد أن أيقضها الغيث فجعلها في مرح وحبور.
علميني أيتها الروح أو الطير شيئاً عن أفكارك الخاصة لأني لم أسمع في حياتي قصائد غزلية أو خمرية أرسلت في نفسي طوفاناً من الطرب كما أرسلت أنت.
وإذا رنت صوتك بصوت جوقة ملائكية أو ترتيلة النصر الفرحة فإنها مقارنة فارغة أشعر بأن ينقصها شيء خفي.
أي موضوع تدور حوله ينابيع أنغامك السعيدة؟ أهي عن الحقول والجبال، أم عن الأمواج والسماء، أم عن بنات جنسك؟
وعلى كلاً فلا يمكن أن يكون في صوتك الطروب الحاد نغمة من نغمات الضعف أو ظل من القلق لأنك تحبين ولكن لا يبلغ بك الحب إلى درجة الوله وما ينتج عنه من أشجان.
لابد انك تفكرين في أمور حقيقة عميقة خلاف ما نحلم به نحن بني البشر، وإلا فمن أين لك هذا السيل البلوري من الأنغام!
أما نحن فإننا ننظر ونفكر فيما مضى وفيما هو آت حتى نذوي مما لا وجود له، ولا تصدر عنا ضحكة مهما كانت إلا وهي مشوبة بل مثقلة بالألم، وأعذب أغانينا تلك التي تتحدث عن الأحزان.
إيه يا من احتقرت الأرض وعلوت في الفضاء، علميني نصف الحبور الذي لا بد أن عقلك يعرفه حتى تنبعث من شفتي أنغام منسجمة كأنغامك وحتى يصغي العالم إلي) كما أصغي لك الآن.
هذا ما رغبت أن أعرض لقراء العربية عن الشاعر الموهوب الذي له مكان في قلب كل إنكليزي ليكون في قراءة تأملاته وأفكاره متعة ولذة راجياً أن أتمكن من متابعة الكتابة عن الأدب الغربي والسلام.
إبراهيم سكيك(895/33)
التعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مع الشاعرة السورية هجران شوقي:
يا كاتب الأداء النفسي
تحية خالصة ومودة دائمة:
ما أحب أن أعلق على تعقيباتك الأخيرة في العدد (890) من الرسالة حول (ثلاثة شعراء في الميزان)، فلكل رأيه ومذهبه، والأدب جمال، والجمال مقياسه الذوق، والناس يتفاوتون فيه، ولكن الذي لفتني في كلمتك الممتعة أن تشك في شخصيتي الأنثوية، وأن يخيل إليك أن أسمي أن هو إلا قناع يختفي وراءه وجه أديب من الأدباء السوريين! ما هذا الاستنتاج الغريب؟ والأغرب منه أن تكتب إليك فتاة تعلن رأيها في كثير من الصدق والشجاعة، وتمهر كلمتها باسمها الصريح فتظنها فتى وتحسبها أديباً من الأدباء، فما أعجب ما يطالعنا به الدهر، وما اشد ما يلقي الإنسان من أخيه الإنسان، ولكن الزمن وحده يحل العقدة ويكشف الطوية، ولله ما أصدق القائل: (الله أكبر حل العقدة الزمن)!
ولقد عزمت أن أزور القاهرة حلال انعقاد المؤتمر الثقافي الثاني في الإسكندرية في أعقاب أغسطس، وسنلتقي في إدارة مجلة الرسالة في ظل أمير النثر الأديب العظيم الأستاذ أحمد حسن الزيات وسأثير مناقشة القصائد الثلاث في حمى سيد الأدب، وسيحكم بيننا، وستعتذر أن كنت قاسياً في نقدك، وأن كان حكمك عليَّ عجيباً غريباً، حين أبادلك رأيا برأي، وحين ترى إلى فتاة تحسن النقاش وتملك مقاد الكلام، وتعيش في جو خالص من الحقيقة والحير والجمال، وتطمع أن تحببه إلى الآحرين، وما تدري لعل هذه الرسائل المتبادلة بيننا تذخر لنا لقاء قريبا في كتاب مشترك نطلع به على الناس. أما أنا فلقد حرصت على أن أراك حرصك على أن تراني، وأعجبني منك أنك وفي زمن مات فيه الوفاء أو كاد، ولقد تجلى لي وفائك في هذه الفصول الرائعة التي عقدتها متحدثا عن شاعر الصدق والجمال والحب: عل محمود طه.
مع هذه الرسالة قصيدتي (القمر) وهي لون جديد من ألوان مزج الغزل بالطبيعة، أحب أن تنشر في الرسالة دليلا على أدب الفتاة السورية الحديثة، وطمعا في محو ما ساورك من(895/34)
شك وما خالجك من ريب.
ولك تحيتي مشفوعة بإعجاب، وإلى الغد القريب.
(دمشق - سورية)
هجران شوقي
أشكر للشاعرة الفاضلة أدب الخطاب ولطف العتاب. وأبادر فأرد هذا التعقيب المتأخر إلى تغيبي عن القاهرة طيلة شهر كامل، وإلى أنني لم أتلق هذه الرسالة إلا منذ أيام ثلاثة، وكذلك الرسالة التالية في هذه التعقيبات وهي من أديب لبناني صديق.
بعد هذا أقول للآنسة إنني إذا كنت قد لقيتها بشيء من القسوة أو أشياء من العنف، فمرجع ذلك إلى ما وقع في الظن من أنها أديب من الأدباء السوريين يخاطبني من وراء قناع. . . وعذري في هذا الظن أنني لم اقرأ للآنسة شيئاً أستطيع على هديه أن أطمئن إلى شخصيتها الأنثوية؛ أعني أن اسمها لم تقع عليه عيناي في صحيفة من الصحف أو مجلة من المجلات، على كثرة ما أعرف عن طريق هذه وتلك من أسماء الأدباء والأديبات. . . من هنا خطر لي أن الذي يتحدث إليَّ فتى لا فتاة، لأنني لم اصدق أن هناك أديبة تكتب بمثل هذا الأسلوب الذي يتميز بالنضج والأصالة، ثم لا تعرفها الصحف الأدبية ولا يصل صرير قلمها إلى منافذ الأسماع! لتعذرني الآنسة إذن حين أشرح لها حقيقة هذا الظن الذي أثارته رسالتها الأولى ومحت ظلاله رسالتها الثانية وعدت من بعده كما يعود الخيال من رحلة طويلة ينفض بعدها يديه من خداع الأوهام ويلقي عصاه!
وإذا كنت قد قسوت فمرد القسوة إلى شيء آخر غير ما ذكرت؛ شيء أرجو ألا يغيب عن فطنة الأديبة الشاعرة وما أظنها إلا معترفة به وراجعة إليه، وأعني به هذا الهجوم الذي حملته إلى في نقدها سطور وكلمات. . . وكيف لا يكون هجوما ذلك الذي يتنكر لذوقي حين أحكم ولرأي حين أفصل ولموازيني حين تقام؟! إنني أشير إلى ما ورد في رسالتها من حملة ظالمة على الشاعر الذي أعجبت به ووقفت إليَّ جانبه، حتى لقد خيل إلى أن الدافع النفسي لهذا الهجوم لم يكن غير تلك العصبية الإقليمية التي لا تزال تشغل بعض الخواطر وتستقر في بعض النفوس، وتحاول أن تنتصف لبيئة بعينها دون غيرها من البيئات ووطن(895/35)
بعينه دون غيره من الأوطان. . . مهما يكن من شيء فإنني لا أحب أن يكون هذا الظن حقيقة؛ حقيقة محورها أن الأديبة (السورية) هجران شوقي يغضبها أن يكون الفائز الأول في المباراة الشعرية شاعراً لبنانياً هو يوسف حداد، وأن يكون الفائز الثاني في هذه المباراة شاعراً سورياً هو أنور العطار!!
أما عن عزم الآنسة الفاضلة على زيارة العاصمة الأولى والثانية في مصر، فإننا لنرحب بها زائرة عزيزة وضيفة كريمة، تلقى في هذه الأرض الطيبة أهلا غير الأهل ووطنا غير الوطن. . . وتستطيع الآنسة إذا ما صح منها العزم أن ترى الأستاذ الزيات في المؤتمر الثقافي بالإسكندرية وأن تراني في دار الرسالة بالقاهرة، وإنه ليسعدني أن أرى هؤلاء الذين يعيشون في جو خالص من الحقيقة والخير والجمال. . . وإذا كانت تريد أن تثير مناقشة القصائد الثلاث محتكمة في هذا النقاش إلى الأستاذ الزيات، فإنني أود أن أؤكد لها أن الموضوع في رأيي لم يعد يحتمل جدلا أو مناقشة بعد هذا الذي قالت وقلت. وبعد أن خاطبتني في رسالتها الأولى بهذه الكلمات: (ما أريد منك إلا أن تعقب على هذه المباراة وأن تنشر القصيدتين الفائزتين في الرسالة، وأن نرهف إليك أفكارنا لنسمع منك فصل الخطاب)!. . . لقد استجبت لرغبتك وعقبت يا آنسة، ورأيي الذي أبديته هو حكمي ولن بتغير، مع احترامي لرأي الزيات الصديق وتقديري لأدبه وقلمه!
أما عن الكتاب المشترك الذي تريدين أن نطلع به على الناس فأنا في انتظار مقدمك إلى دار الرسالة لنعقد مؤتمراً ثقافياً آخر نبحث فيه شئون الأدب والأدباء ومشكلة الكتب وأزمة القراء. . . وإلى عدد قادم من الرسالة حيث يكون لقصيدتك في صفحاته مكان.
بقي أن اشكر لك كريم تقديرك لتكل الفصول التي كتبتها عن شاعر صديق. . . إن الوفاء يا آنستي هو أجمل ما في الحياة!
دفاع عن مجلة الأديب:
قرأت في العدد (889) من الرسالة ما كتبته تعليقا عن رسالة كارنيك جورج عن مجلة (الأديب) التي لم تشر إليها نزولا على حكم الذوق وواجب الزمالة. وأنا هنا لا أريد أن أدافع عن (الأديب) ولكني أرغب في سرد بعض الحقائق التي قد تعينك على تكوين فكرة صحيحه عن هذه المجلة. فأنا وثيق الاتصال بصاحبها، وقد عتبت عليه يوما بعض ما قد(895/36)
يخطر على بال القارئ العادي، فوجدت أن عتابي في غير محله، وأن علينا أن نقدر فعلا هذه المجلة وجهاد صاحبها في إصدارها!
إن كلمة كارنيك هذه مملوءة بالمغالطات؛ فليس صحيحا أن جميع أنصار المجلة تنشر لهم المقالات، وحسبك يا صديقي أن تطلع على أسماء الأنصار لتجد أن كثيراُ منهم لم يكتبوا يوما في (الأديب)، وقد أراني صاحب (الأديب) عدة رسائل يعتذر فيها عن نشر بعض المقالات التي يرسلها الأنصار، فيكون نصيبه من ذلك أن يقطع هؤلاء عنه اشتراكهم فلا يبالي! وقال لي الأستاذ ألبير أن ما ذكره كارنيك عن ذلك القارئ العراقي الذي شكره صاحب (الأديب) على إرسال الاشتراك إلخ. . . كذب وافتراء. . . ومثل ذلك قوله أن المجلة لا تنشر لكثير من أدباء العراق لأنهم لا يرفقون قيمة الاشتراك، فالحقيقة أنه ليست هناك مجلة عربية تفسح صدرها لكتاب العراق مثل (الأديب)! وقلة الذوق تبدو في كلمة هذا الكاتب العراقي بأبشع صورها حين يقول: (إن الرجل قد عزم على أن يهجر بلاده ومجلته ولا يأخذ معه إلا ما جمع من مال)!
أنا أعرف الناس بحالة هذا الرجل المادية وما يقاسيه من ضيق، وأعرف أنه قرر مراراً أن يغلق مجلته ولكن إلحاح الكثيرين من أصدقائه - وأنا منهم - كان يصرفه عن تحقيق هذا العزم، وهو لم يطلب اشتراك الأنصار إلا بناء على اقتراح هؤلاء الأصدقاء، وليس في هذا ما يضير على كل حال، وحرام أن تنقطع عن الصدور مجلة أدبية كالأديب يجد فيها جميع أدباء سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والمهجر متنفساً لأفكارهم وعواطفهم. . . وليس صحيحاً أن المجلة تساوم وتربح، فإن ما يعود على صاحبها من مال لا يكفي أوده وأود أسرته؛ وليست (الأديب) على أي حال بأغنى من مجلة (المختار) التي اضطرت إلى الانقطاع عن الصدور بالرغم من أن رءوس أموال عظيمة ترفدها في أميركا!
بقيت هناك حقيقة يجب أن تذكر، وهي أن هذه الافتراءات التي كتبها كارنيك جورج مردها على مصلحة شخصية. . . فقد أرسل هذا الكاتب إلى (الأديب) عدة مقالات وقصص كانت تهمل. . وكأنه أراد أن (يرشو) صاحب (الأديب) لينشر له مقالاته فأعلمه أنه مرسل إليه مائتي نسخة هدية توزع على الأصحاب من مجموعة قصصية أصدرها بعنوان (دموع عذراء) على ما أذكر. . . وحين تلقى صاحب المجلة عشرين نسخة من هذا(895/37)
الكتاب (وهو كتاب قصصي سخيف على ما تبين لي لأنه أرسل إلي) كتب له يشكره ويرجوه أن يقف إرسال الباقي حتى يتم توزيع هذه النسخ العشرين التي لم يجرؤ على أن يهديها للأدباء من أصحابه، لأنها ضعيفة جداً من الناحية القصصية. . . وكان من الطبيعي أن يغضب هذا الكاتب العراقي ويرسل إليك هذه الكلمة الحافلة بالاتهامات والافتراءات!
ولقد كنت أود يا أخي أنور ألا تنشر رسالة الكاتب العراقي قل أن تتحقق من صدق ما جاء فيها بنفسك، بالرغم من أن تعليقك كان معتدلاً نزولاً على حكم الذوق وواجب الزمالة. . . أقصد أنه كان من المفضل أن تقوم بالتحقيق قبل نشر الاتهام. ولك خالص التحية من أخيك
بيروت - لبنان
(. . .)
أشرت في الكلمة السابقة من (التعقيبات) إلى أن هذه الرسالة من أديب لبناني صديق. . . وإن ما بيني وبينه من أسباب الود وأواصر الصداقة وطول المصاحبة، ليدفعني إلى أن أثق بروايته حول ما ذكره عن مجلة (الأديب) اللبنانية، وما يلقاه صاحبها من سبيل إصدارها من عبء العيش وإرهاق الحياة!
وأشهد لقد كنت حريصاً على إظهار الحق سواء أكان هذا الحق في جانب الاتهام أم في جانب الدفاع. ولهذا نشرت كلمة الأديب العراقي الفاضل لأتيح له أن يقول ما يشاء، ثم عقبت عليها بكلمة أقتطف منها هذه الفقرات: (ولا نريد أن نصدق هذا الذي يقصه علينا الأديب الفاضل. لأنه لو صحت هذه الوقائع التي ينسبها إلى هذه المجلة، لترتب على ذلك أن يفقد القراء ثقتهم في رسالة الصحافة الأدبية. . . إننا نريد للصحافة الأدبية أن تسمو برسالتها فوق مستوى الظنون والشبهات، قلا يتهم المشرفون عليها بما ينقص من قدرهم وقدر الأدب وقدر الكرامة العقلية. نقول هذا ولا نريد أن نصدق هذا الذي بلغنا عن زميلة نحرص كل الحرص على أن يظل مشعلها مضيئاً بنور الفن ونور الإيمان. . . ونمسك القلم عن التعرض لاسم الزميلة وأسماء المشرفين عليها إلى حين؛ نمسك القلم حتى نطمئن إلى حقيقة هذا الاتهام من جهة، ويطمئن الذين تسمهم كلمات الأديب العراقي إلى أننا نحرص على مكانتهم من جهة أخرى)!(895/38)
من هذه الفقرات يتبين للقراء مدى احترامي لحرية الرأي التي هيأتها للكاتب العراقي الفاضل، ومدى مراعاتي لواجب الزمالة الصحفية التي أملت على أن أهمل الإشارة الصريحة إلى اسم (الأديب) صاحب الأديب، ومدى حرصي على سماع كلمة دفاع من الجانب الآخر توضح حقيقة هذا الاتهام. . . واليوم وقد جاءتني هذه الكلمة، فإنه لا يسعني إلا أن أنشرها كاملة كما نشرت الكلمة الأخرى كاملة، متجاوزاً عما في الكلمتين من عنف الأداء وقسوته، ما دام رائدي أن يقارن القراء بينهما ليكشفوا عن جوهر الحقيقة؛ في ضوء الحرية القلمية التي أومن أنها من حق كل أديب!
أما عن قول الصديق العزيز بأنه كان من الأفضل أن أقوم بالتحقيق قبل نشر الاتهام فلا أوافقه عليه، لأنني لا أحب أن أعترض طريق رأي صاحبه أن يبلغ أسماع الناس. . . إن لكل إنسان الحق في أن يتهم وإن لكل متهم مثل هذا الحق في أن يدفع عن نفسه ما رمي به، ولن تظهر الحقيقة إلا إذا استمع الناس لشتى الآراء من هنا وهناك!
شاعرة مصرة تودع الحياة:
أشهد أن حياتها كانت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس. . . واشهد أنني قد حاولت جهدي أن أجدد في روحها ضياء الأمل، وأن أحبب إلى نفسها جمال الحياة. . . ولكنها آثرت أن تمضي هكذا مسرعة، تحث الخطى إلى عالم ليس فيه غير الظلام. . . والسكون. . . والعدم!
واليوم وقد رحلت هذه الإنسانة عن دنيا الناس إلى غير معاد، يتعثر القلم في يدي وأنا اكتب عنها هذه الكلمات. . . ليس ذلك لأن القدر قد ظلمها في حياتها كل الظلم، وقسا عليها في مرضها كل القسوة، وأذبل في موتها زهرة العمر قبل أن يتضوع منها عطر الشباب. . . ولكن لأنها قد طلبت إلى أكثر من مرة أن أكتب عنها كلمة رثاء!!
من هنا يتعثر القلم في يدي. . . وسيتعثر في الأسبوع القادم حين أتحدث عنها كظاهرة حزينة من ظواهر الوجود، أو كدمعة حائرة لم تجففها يد الزمن. . . إنها الشاعرة (ن. ط. ع) التي رحلت بحزنها عن دنيا الناس، ونأت بشعرها عن صفحات الرسالة!!
أنور المعداوي(895/39)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
التعليم بين التوسيع والتجديد في المؤتمر الثقافي العربي:
أشارت الصحف في الأسبوع الماضي إلى أن وفد مصر في المؤتمر الثقافي العربي أبدى ملاحظات على جدول أعمال المؤتمر، وذهب بعضها إلى التساؤل هل ينسحب الوفد من المؤتمر. . . ثم نشر أخيراً أن الأمر قد استقر على تعديل الجدول بما لا يخالف وجهة النظر المصرية.
ذلك هو ما نشر، وهو كلام مجمل يدفع إلى التساؤل عن حقيقة المسألة. وتفصيل الموضوع أن اللجنة التي كانت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية قد ألفتها لفحص الردود والتقارير المقدمة إلى المؤتمر، والتي ذكرت أسماء أعضائها في الأسبوع الماضي أخرجت كتيبا يشتمل على تمهيد للمسائل التي ستعالج في المؤتمر، و (تفريغ) للإجابات المختلفة التي وردت ردا على الأسئلة المرسلة من الإدارة الثقافية إلى الجهات والهيئات الثقافية، وتوصيات وضعتها اللجنة لتكون موضع مناقشة وبحث في المؤتمر.
بين الأسئلة التي وضعتها الإدارة الثقافية: هل يسير التوسع في التعليم وفقا لخطة مرسومة؟ ما الغرض الأساسي من تحديد التعليم؟ ما وسائل التحديد؟
وكانت وزارة المعارف المصرية - بطبيعة الحال - من الجهات التي وجهت إليها الأسئلة، ويظهر أنها شعرت من هذه الأسئلة بروح يخالف ما شرعت فيه - منذ تولى الأمر معالي الدكتور طه حسين بك - من التوسع في نشر التعليم، بل تعميمه وتيسيره لجميع المواطنين. وظاهر أنه لا مكان (للتحديد) فيما يجري بين الناس ميسراً للجميع كالماء والهواء، فلا مكان إذن للإجابة عن غرض أساسي للتحديد أو وسائل للتحديد. . .
شعرت الوزارة - على ما يبدو - بأن تلك الأسئلة (تستجوب) في أمور تجري عليها السياسة التعليمية في مصر، فظهر مكان إجابة وزارة المعارف المصرية في ذلك الكتيب أبيض. . . وبازائه تحت (ملاحظات) ما يلي (أشار التقرير إلى أن اللجنة الثقافية المصرية قررت أن تدرس هذه المسائل في جلسات خاصة توطئه لمناقشتها في المؤتمر).
أما (تمهيد) اللجنة و (توصياتها) فقد انبثت فيها أشياء (بيداجوجية) مما ضاق به الناس من(895/41)
قبل، لأنه كان يضيق مجال للتعليم أمام أبناء الأمة، فقد وجهت اللجنة ملاحظات، مثل التوسع في التعليم دون إعداد عدة ودون خطة مرسومة، وأوصت بالعناية بكيف التعليم وعدم الاقتصار على كمه، وألا يضحى بارتفاع المستوى في سبيل الزيادة العددية المجردة. . . غلى آخر هذه (البيداجوجيات) التي أشعبها معالي الدكتور طه حسين بك تهكماً وسخرية. . .
لقد ابتهج الناس في مصر، واستراح الرأي العام، إلى السياسة التعليمية الجديدة التي تقتضي تعميم التعليم، بل ترددت أنباؤها في أرجاء العالم مشفوعة بالثناء والإعجاب وقد كانت هذه السياسة استجابة لرغبة الشعب في تعليم أبنائه، وتلبية لإلحاحه، وأرواء لعطشه، والشعب يريد التعليم ولا يستطيع أن ينتظر الخطط (البيداجوجية) ولا شيء يقنع أحداً من الناس أن يظل ابنه خارج المدرسة حتى يتعلم غيره تعليما جامعاً لشرائط البيداجوجية، وما ينبغي لشيء أن يقنعه. فنحن الآن أمام حركة تعليمية هدفها التعميم قبل كل شيء، ثم يأتي بعده ما يأتي من تحسين ورفع مستوى وعناية بالكيف. . . إلخ.
ولقد اكتسبت تلك السياسة التعليمية صفة (القومية) لتأييد الرأي العام لها وفرح الأمة وانفعالها بها حتى تمثلتها وصارت جزءاً من كيانها، ولم تعد سياسة وزير فقط أو رأي مفكر فحسب، بعد أنت كانته.
وعلى ذلك لم يكن ينبغي للهيئات التي تحضر للمؤتمر أن تجعل (تحضيرها) لتلك السياسة التعليمية القومية. وقد يحتج بحرية الرأي من حيث أن اللجنة عبرت عن رأيها، ولكن هذا مؤتمر يمثل الرأي التعليمي العام في البلاد العربية، ولأفراد اللجنة أن يبدوا آراءهم الفردية في مجالات أخرى، على أنهم أربعة، وهناك عشرات بل مئات من رجال التعليم لا يرون رأي الأربعة، فهل من حرية الرأي أن يفرض رأي هؤلاء باعتبار أنهم لجنة مختارة تضع توصيات ليوافق عليها المؤتمر؟ ومن المعروف أن المؤتمرات تجيز في اجتماعاتها عادة معظم ما يحضر لها. وثمة سؤال آخر: ما الأساس الذي بني عليه اختيار اللجنة؟
وبعد فقد سلم الله. . . بالتوفيق بين وجهة النظر المصرية وجدول أعمال المؤتمر، وذلك بتوجيه مجرى المناقشة في المؤتمر إلى بحث الصعوبات التي تعترض نشر التعليم والتوسع فيه إلى جانب المسائل الأخرى التي يبحثها المؤتمر، وكان الفضل في ذلك لحكمة(895/42)
أعضاء وفد مصر، ولباقة المشرفين على إعداد المؤتمر ومرونتهم.
حول إنشاء مدارس مصرية في الباكستان:
نشرت (أخبار اليوم) في عددها الأخير، ما يلي: (أتهم محمد هلي علوبه باشا أمس الحكومة المصرية بأنها تركت يد الباكستان ممدودة في الهواء ولم تحقق طلبها الخاص بإنشاء مدارس مصرية في هذه الدولة التي يبلغ تعدادها ضعف عدد شعوب الجامعة العربية)
ونحن نعلم أن علوبة باشا كان قد اقترح على الحكومة المصرية حينما كان سفيراً في الباكستان - أن ننشئ مدارس مصرية هناك لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي. واستقال سعادته بعد ذلك من منصبه، ولكنه ظل يردد الدعوة إلى إنشاء تلك المدارس في خطبه بالحفلات التي يقيمها مكتب الصحافة والدعاية بسفارة الباكستان في القاهرة، وكانت آخر مناسبة لذلك الاحتفال الذي أقيم أخيراً لذكرى إنشاء دولة الباكستان.
وعلوبة باشا رجل طيب، وهو يصدر في ذلك عن عاطفة نشعر جميعاً بها نحو هذه الأمة الإسلامية، ولكن هذا الذي يقوله كلام غير عملي، فمصر الآن تواجه مشكلة تيسير التعليم وتعميمه، ووزير معارفها يتحايل على ميزانية الدولة تارة، وأخرى يشعر بضيق هذه الميزانية فيحث الأغنياء على إنشاء المدارس، والمصريون يترقبون آملين أن تتسع المدارس لأولادهم جميعاً، وفيهم متشائمون لصعوبة الأمر وكثرة الطلبات.
مع كل ذلك وفي هذه الظروف تطالب الحكومة المصرية بإنشاء مدارس مصرية بالخارج، في الباكستان أو غير الباكستان مع أن من يسمع ذلك الكلام الذي يلقيه علوبة باشا في الحفلات الباكستانية، يخيل إليه أن سعادته لا يعلم شيئاً من مسائل التعليم في مصر، ولعله يحسب أن الحكومة فرغت من تعليم المصريين جميعاً ولم يبق عليها إلا أن تنشر داعية تعليمية في قطر كبير العدد كالباكستان. . .
وإن استناد الحكومة الباكستانية أو سفارتها بالقاهرة إلى مثل تلك الدعوة، يدل على أنها غير جادة في هذا السبيل، لأن الطريق العملي هو أن تنشئ حكومة الباكستان تلك المدارس في بلادها وتستدعي للتدريس فيها مدرسين من مختلف البلاد العربية، لا أن تمد يدها في الهواء. . .
وقد كنت أتتبع أنباء تعليم اللغة العربية في الباكستان يأمل واستبشار، تلك الأنباء التي(895/43)
كانت تقول أن مدارس الباكستان أخذت في تعليم اللغة العربية، وإن الوزراء والكبراء أخذوا كذلك في تعلمها، وإن بعضهم تعلمها فعلا، وإن حاكم البنجاب أصبح يجيدها ويخطب بها. ولكن مر على ذلك ثلاث سنين ونحن لا نرى شيئاً من دلائل ذلك، فالسفير الباكستاني لا يزال يخطب في الجمهور المصري في القاهرة عاصمة العروبة باللغة الإنجليزية. . . فهل تمخضت الحركة كلها عن حاكم البنجاب. .؟
افتتاح المؤتمر الثقافي:
عقد المؤتمر الثقافي العربي جلسته الافتتاحية بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية يوم الثلاثاء الماضي. وقد بدأ الاجتماع بكلمة الأمين العام لجامعة الدول العربي عبد الرحمن عزام باشا، وقد افتتح بها المؤتمر ورحب بالأعضاء ونوه بالغرض الذي أقبلوا من أجله وهو البحث والمناقشة في شؤون ثقافية قائلا بأن التعاوني الثقافي بين دول الجامعة هو أهم ما يربط بينها، وأشار إلى الجهود الثقافية التي قامت بها الإدارة الثقافية بالجامعة. وتحدث عن الأمة العربية باعتبارها أنها أمة موحدة الثقافة تجمع بينها العروبة والإسلام اللذان كان لهما الفضل في عدم نشوء قوميات منفصلة.
وقد ختم سعادة عزام باشا كلمته باقتراح انتخاب معالي الدكتور طه حسين بك رئيساً للمؤتمر، وأيد هذا الاقتراح رئيساً وفدي سوريا ولبنان. وقد قوبل ذلك بعاصفة قوية من التصفيق كانت إيذاناً بانتخاب معاليه رئيساً للمؤتمر. فنهض معاليه وألقى كلمة ضافية بدأها بقوله لأعضاء المؤتمر: لا أرحب بكم لأنكم في وطنكم، ولكني أنا في حاجة إلى أن أهدي إليكم أصدق الشكر على تفضلكم باختيار مصر موطناً لمؤتمركم الثاني، وقد أتحتم لنا بهذا الاختيار فرصة أن يلقى بعضنا بعضاً ويتحدث بعضناً إلى بعض في أحب الشؤون إلى النفس وهي الشؤون الثقافية. ثم قال: أما بعد فإنكم لم تأتوا إلى هنا لنتهادى التحيات ولم نجتمع لنثني على أنفسنا، وإنما لننظر فيما قدمنا من شؤون الثقافة والتعليم، وإنه لقليل، والكثير ما بقي، إنكم تزورون مصر في هذا الوقت الذي تقف فيه مصر من التعليم موقفاً دقيقاً ونحن نحتاج إلى أن نسمع منكم كما أنكم في حاجة إلى أن تسمعوا منا، وأفاض معاليه في الحديث عن فتح أبواب التعليم في مصر على مصاريعها، ولما جاء ذكر مجانية التعليم قال: إننا لم نأت بالمجانية من أوربا كما يقول بعضهم، فالمجانية عربية قبل كل شيء،(895/44)
فمدارسنا التي كانت تعلم التلاميذ في العصور الإسلامية الأولى وفي العصور الإسلامية أثناء القرون الوسطى وفي أوائل العصر الحديث كانت كلها تعلم الناس بغير أحر، وكانت الدولة العربية ترزق المعلمين دائماً والمتعلمين في أثر الأحيان، وما عرفنا بدعة بيع التعليم وشرائه إلا حين اتصلنا بأوربا أثناء القرن الماضي، والآن أخذت أوربا بالمجانية، ونعود نحن إلى المجانية، فلا يجب أن يقال إننا نستعيدها من أوربا، وإنما ينبغي أن يقال إننا نحيي السنة العربية ونعود بالمجانية إلى العهد الأول ونجعل المدارس كالمدارس التي لا تزال محتفظة بمجانيتها منذ ألف عام.
ثم انتقل معاليه بعد ذلك إلى شؤون الأدب والثقافة العامة، فقال: تعرفون أيها الزملاء، وأنتم قادة الثقافة والأدب في البلاد العربية أن لنا تراثاً يجب أن نحتفظ به وتراثاً لا ينبغي أن نكتفي بالاحتفاظ به دائماً، وإنما يجب أن نضيف إليه، وتعرفون أن علينا حقوقا أهملت في الأجيال الماضية وينبغي أن ينقطع هذا الإهمال، وأن أجيالا قصرت في ذات العرب والعروبة والثقافة وينبغي أن ينقطع هذا التقصير وترد إلى العرب حقوقها، وتعرفون أن العرب في العصور الإسلامية الأولى لم يقنعوا بما كان عندهم، وإن كان عندهم كثير، وإنما اتجهوا إلى الأمم المتحضرة التي سبقتهم إلى الحضارة وأخذوا خلاصة ما عندها وأضافوا إليه وكونوا الحضارة العربية الممتازة، ولا أقول ممتازة فخراً ولا استكباراً واستعلاء، وإنما أقول الحق الذي لا شك فيه، هذه الحضارة العربية التي حملت الثقافة قروناً ونقلت نور الثقافة من الشرق إلى الغرب وأتاحت لأوربا أن تكون كما هي الآن، هذه الحضارة قصر العرب في ذاتها وقتاً، وآن لهذا الوقت أن ينقضي، وآن أن نسترد مجدنا، ونأخذ من أوربا صفوة ما عندها، ونعطي العالم خلاصة ما عندنا، وأن نكون في العالم أمة قوية عزيزة بنفسها، وقد انقضى الوقت الذي كنا فيه نأخذ ولا نعطي، وآن الوقت الذي لا ينقطع أخذنا فيه عن غيرنا، ولكن يجب أن نضيف إلى ما نأخذ، ويكون غيرنا محتاجا إلينا كما أننا محتاجون إليه. يجب أن نقرر هذا ونتدبر ونتشاور في الوسائل التي تتيح لنا أن نسترد مكانتنا، وتتيح لأدبنا أن يكون أدباً عالمياً لا أدبا مقصوراً على الغرب، وتتيح لعلمائنا أن يكونوا علماء عالميين.
وبعد ذلك تعاقب رؤساء الوفود الرسميون، فألقى كل منهم كلمته، ثم فتح باب المناقشة في(895/45)
جدول الأعمال، فانبرى عدد من الأعضاء في مقدمتهم الأستاذ محمد سعيد العريان وحملوا على الإدارة الثقافية وتصرفها في وضع موضوعات المؤتمر حملة شديدة، وقد رد عليهم الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية؛ وكان الوقت قد طال فأعلن معالي الرئيس انتهاء الجلسة على أن يستأنف الاجتماع غدا لمواصلة المناقشة في موضوعات المؤتمر. وأرجئ تفصيل ذلك إلى الأسبوع القادم.
عباس خضر(895/46)
البريد الأدبي
المؤتمر الثقافي العربي الثاني
هذا المؤتمر الثاني الذي تدعو إليه الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، وتشترك فيه وفود الدول الرسمية التي تمثل وزارات المعارف العمومية العربة والجامعات الرسمية والأهلية، كما دعي إلى الاشتراك فيه لفيف من رجال التربية الممتازين، وأتيح الانتساب إليه للأساتذة والمدرسين والمدرسات في مختلف الأقطار العربية.
وقد بلغ عدد المشتركين في المؤتمر زهاء أربعمائة عضو من بينهم حوالي مائة مدرسة من مدرسات المدارس الثانوية والعالية في مختلف القطار العربية، وقد لوحظ أن الضغط كان شديداً من المشتركات في سوريا ولبنان، وهذا دليل واضح على تقدم الحركة الفكرية والثقافية بين نساء هذين القطرين مولولا القيود المفروضة على تحديد الأماكن الخاصة بإقامة الأعضاء لكانت الإدارة الثقافية قد سعت لتلبية تلك الطلبات الكثيرة من المشتغلات بالتربية والتعليم في هذين القطرين.
وكانت جامعة فاروق الأول بالإسكندرية صاحبة فضل في إعداد مكان انعقاد المؤتمر بمبنى كلية الآداب بالشاطبي وإعداد أماكن السكنى المجانية لمعظم المشتركين والمشتركات من الأقطار العربية.
ومدار البحث والمناقشة العامة في هذا المؤتمر موضوعان هامان من الموضوعات الهامة التي تشغل أذهان رجال التربية في مختلف أرجاء العالم وبخاصة في الأقطار العربية في الآونة الحاضرة، وسيشترك في بحث هذين الموضوعين بحثا تفصيلياً كافة أعضاء المؤتمر من رسميين وغير رسميين؛ بيد أن هناك مسألتين سيقتصر بحثهما والاهتمام بهما على الممثلين الحكوميين دون سواهم وهاتان المسألتين هما:
1 - بيان الخطوات التي اتخذتها كل حكومة من الحكومات العربية في سبيل تنفيذ قرارات المؤتمر الثقافي العربي الأول.
2 - دراسة التقارير التي وضعتها وزارات المعارف العربية عن الأحوال والاتجاهات الثقافية والتربوية السائدة في كل قطر من الأقطار العربية.
وللمؤتمر جانبه الثقافي العام فضلاً عن جانبه الفني الذي أشرنا إليه آنفاً؛ فهنالك محاضرات(895/47)
عامة في شئون التعليم والتربية كلف بإلقائها أيام انعقاد المؤتمر لفيف من رجال التربية الممتازين. وقد حددت للمحاضرات العامة مواعيد تقع بعد الفراغ من أعمال اللجان التي سوف تستمر صباحا وبعد الظهر بغية الانتهاء إلى القرارات والتوصيات اللازمة.
وللمؤتمر كذلك جانبه الاجتماعي الذي من شأنه التخفيف من ضغط الجو العملي المتصل الحلقات فقد أعد برنامج للرحلات والمشاهدات والحفلات الشيقة.
ولاشك أن أهم ما نستخرجه من هذا المؤتمر هو أنه يتيح لعدد كبير من أبناء الأقطار العربية فرصة زيارة مصر والتعرف إلى معاهدها ومعالمها، كما يتح لها الاجتماع بإخوانهم المصريين في صعيد واحد، وفي ذلك خير فرصة لتبادل الآراء وتلاقي الأفكار وتمازج وجهات النظر، وهذا هو الكسب المحقق الذي يعود بالخير على الثقافة والتعليم في البلاد العربية.
الإدارة الثقافة
رشوة الشعوب!
تقول الأنباء الأخيرة أن جانباً كبيراً من الاعتمادات التي كانت مخصصة لمشروع ماريشال قد حول للأغراض العسكرية والحربية!. . .
ولا يخرج مشروع ماريشال هذا، الذي تغنوا به زمناً طويلاً عن كونه مشروع رشوة، يرمي إلى اجتذاب الشعوب، واكتساب عطفها، نظير تقديم مساعدات مالية، أو إمدادات من الغذاء والكساء. . . ومثلنا العامي يقول: (أطعم الفم تستح العين)!
ولقد جاء هذا النبأ الأخير، بتحويل اعتمادات المشروع للأغراض الحربية والعسكرية دليلا صادقا على صدق هذه النظرية إذ تحول مشروع ماريشال، بين عشية وضحاها، من مشروع قيل عنه أنه يهدف إلى مساعدة الدول المحتاجة، وإمدادها بما يعوزها مال، وغذاء، وكساء، إلى مشروع حربي وعسكري. . . تخصص اعتماداته للفتك. . والنسف. . والتدمير!. .
وأن تعجب فعجب قولهم إنهم إنما يعملون على توطيد دعائم السلم، وتجنب الشعوب ويلات الحرب وشرورها!. . .(895/48)
إننا نبغض (الرشوة) في المعاملات بين الأفراد. . . فكيف يقر الساسة رشوة الشعوب التي لم تعد تهضم ما تحفل به موائدهم من ألوان. . . وأصناف!.
عيسى متولي
تعقيبات - 1 - حول بيت:
تعرض الأستاذ محمد سيد كيلاني في مقاله - حول البردة - بالعدد 892 من (الرسالة) الغراء لبيت البوصيري أورده على سبيل الاستدلال على أنه - رحمه الله - لم يصب بفالج كما زعمت بعض الروايات، وإنما أصيب بكسر في ساقه، والبيت هو:
ما حال من نع الركوب وطرفه ... يشكو إليه رباطه محبوساً
وأبان أن في (كلمة (الطرف) تورية، فالطرف بمعنى مؤخر العين، والطرف بمعنى الساق وهو من أطراف الإنسان).
ولاشك أن التورية - على المعنى الذي قصد إليه الأستاذ لا تستقيم إلا إذا كان البوصيري قد مرض بمؤخر إحدى عينيه. كما مرض بإحدى ساقيه. . . إذ هناك فقط يمكن أن نصرف كلمة (الطرف) من معنييها المختلقين صرفا تاما مع ضمان استقامة التورية، وما دام لم يثبت شيء من ذلك، فالأوفق أن يؤخذ البيت على وجهه الوارد به، وأن تصرف الكلمة إلى المعنى الذي يهم الكاتب وهو (الساق).
ون الممكن أن يفسر البيت تفسيراً آخر مناسباً لو كانت كلمة (طرفه) قد رويت بكسر الطاء وسكون الفاء فإن معناها حينئذ يكون - الكريم من الخيل، كما جاء في معلقة امرئ القيس - على رواية الأصمعي - (ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه)؛ ويكون المعنى أن البوصيري كان عاجزاً عن ركوب جواده - لعلته التي أم تمكنه من ذلك والتي يدل عليها قوله (منع الركوب) - بينما جواده الكريم يشكو إليه طول بقائه مقيداً حبيساً، لا يركب ولا يمتطي، ولكن البيت - بهذا المعنى - يفقد قوته الاستدلالية.
2 - خبر الرؤيا
وذكر الأستاذ أيضاً قصة الرؤيا التي قيل أن البوصيري قد رآها وجاء منها (أنه لما وصل إلى قوله (فمبلغ العلم فيه أنه بشر) توقف فقال له النبي: قل يا إمام (!) فقال البوصيري(895/49)
إني لم أوفق إلى المصراع الثاني (فقال النبي: قل يا إمام (!) وأنه خير خلق الله كلهم) فأدمج البوصيري هذا المصراع في قصيدته)، ولقد قال الكاتب رأيه متضمناً تكذيب الخبر، وإني أتفق معه فيما ذهب إليه، وأضيف أن هناك أخبار رؤى كثيرة من هذا الطراز منبثة في بطون كتب الأدب القديمة - وكلها لا تعتمد على حجة ولا تستند إلى برهان - وقد اختلقها الشعراء أحياناً ليسجلوا لأنفسهم فضلا على غيرهم عن طريقها، أو اختلقها الرواة ليمجدوا بها شاعرا بعينه، يزجون في أشنائها المديح - إن صراحة وإن ضمنا - على لسان الرسول الكريم، وإلى القارئ العزيز خبراً منها:
قال السيد الحميري: رأيت النبي (ص) في النوم وكأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال، وإلى جانبها أرض كأنها الكافور ليس فيها شيء. فقال: أتدري لمن هذا النخل؟ قلت لا يا رسول الله، قال: لامرئ القيس ابن حجر، فاقلعها واغرسها في هذه الأرض ففعلت، وأتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه، فقال أتقول الشعر؟ قلت: لا. قال: أما إنك ستقول شعراً مثل امرئ القيس؛ إلا أنك ستقوله في قوم بررة أطهار. قال: فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر (!).
ففي هذا الخبر نرى أن الحميري عرف كيف يميز نفسه على سائر الشعراء بشيئين:
أولهما: تنبؤ الرسول له بأنه سيقول شعراً.
ثانيهما: تفضيل شعره على شعر امرئ القيس لأنه سيقال في قوم بررة أطهار.!
ولا يخفي أيضاً ما كان يرمي إليه من الإيحاء إلى ممدوحيه بفضل أخلاقهم؛ وروعة سجاياهم، لا لأنه قرر ذلك في مديحه لهم فحسب. . . فهو شاعر قد يمجد الظالم؛ ويحسن القبيح ويبجل المستبد لقاء عطاء أو رجاء صلة. . . بل لأن الرسول قرر هذا ضمناً في الرؤيا.
ونخلص من هذا إلى مطالبة الكتاب بتوجيه عنايتهم إلى تلك الكتب القديمة والعمل على تحقيق ما فيها من نصوص ونفي ما لا يتفق والمنطق السديد، والعقل الراجح، وملابساته التي قيل فيها، فإن هذا أجدى على الأدب والمتأدبين من المقالات الجوفاء التي لا تحمل في طياتها دسما يشبع نهم قارئ عادي فضلا عن قارئ ممتاز.
أحمد قاسم أحمد(895/50)
بيت للمتنبي
جاء في مقال الأستاذ الفاضل (محمد محمود زيتون) بعنوان (التربية الأدبية) في مجلة الرسالة الغراء العدد 892 بيت المتنبي الآتي:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت - محيية - إليك الأغصنا
وقد ذكر الأستاذ أن المتنبي قاله في مدح سيف الدولة. والمعروف أن هذا البيت لم يقله المتنبي في مدح سيف الدولة، لكنه قاله يمدح به (بدر بن عمار) في قصيدته التي منها:
أرج الطريق فما مررت بموضع ... إلا أقام به الشذ مستوطنا
ولن تنقص هذه الملاحظة قيمة المقال الأدبي الممتع خصوصا إذا جعلنا في تقديرنا مبلغ الصلة التي كانت بين المتنبي وبين أمير (بني حمدان) والتي أنطقت لسان الذاعر بكثير من القصائد في مدح سيف الدولة الحمداني، فكثرة هذا المديح قد توحي بأن أكثر شعر المتنبي في المديح قد قاله في سيف الدولة، وجل من لا يسهو وتحية إعجاب منى للأخ (محمد محمود زيتون)
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج
وفاة البارودي
جاء في العدد 893 في الصفحة 908 أن وفاة البارودي كانت في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904م. وقد جاء في ظهر الورقة (و) من مقدمة الجزء الأول من ديوانه المطبوع على ذمة ورثته أن وفاته كانت ليلة الثلاثاء سادس شوال سنة 1322 أعني ليلة 13 ديسمبر سنة 1904. وأهل الرجل أدرى بضبط وفاته لذا أرجو التكرم بنشر هذه خدمة للعلم مع خالص الشكر.
عبد السلام النجار
كتاب الإسلام والنصرانية(895/51)
للأستاذ الإمام محمد عبده والرد على هانوتو
ذكر الأستاذ محمود الشرقاوي في كلمته التي نشرها عن الأستاذ الإمام محمد عبده بجزء الرسالة الغراء رقم 891 وهو يبين مؤلفات هذا الإمام الكبير أن كتاب (الإسلام والنصرانية) هو (مجموعة مقالاته في الرد على هانوتو جمعت في كتاب) ولكن الحقيقة أن مقالات هذا الكتاب لم تكن رداً على هانوتو وإنما كانت رداً على الأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة رحمه الله إذ كان هذا الكاتب قد قال - وهو يترجم ابن رشد ويبين فلسفته في مجلته (إن المسيحية أكثر تسامحاً مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهاداً للعلم والفلسفة من النصرانية) فانبرى له الأستاذ الإمام وفند هذا الرأي في مقالات متعددة نشرت بمجلة المنار التي كان يصدرها العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله ثم جمعت بعد ذلك في كتاب طبع مراراً.
أما الرد على هانوتو فقد نشره الأستاذ الإمام في ست مقالات بجريدة المؤيد وكانت قد نشرت في عددين من أعدادها ترجمة مقالة هانوتو التي كان قد نشرها بجريدة الجورنال الباريسية - في الإسلام والمسألة الإسلامية - وقد أعيد نشر هذا الرد في الجزء الثاني من تاريخ الإسلام للإمام محمد عبده رحمه الله
هذه هي الحقيقة في أمر كتاب الإسلام والنصرانية - والرد على هانوتو نبينها للناس مع شكرنا للأستاذ محمود الشرقاوي على ما نشره عن أستاذنا الإمام محمد عبده في ذكراه الخامسة والأربعين.
(المنصورة)
محمود أبو رية
خطأ يقع فيه المترجمون
ترد كلمة سويا في الروايات المترجمة، أو القصص المترجم بكثرة. ويقصد بها المترجم عادة كلمة معاً كأن يقول المترجم: (وكان العشيقان قد آبا منذ حين إلى الفندق. ولا جرم أنهما تناولا سويا طعام العشاء يب هذه المؤانسة الخطرة المسكرة) وكلمة سويا بمعنى معالم(895/52)
ترد في كتب اللغة؛ إنما الوارد هو كلمة سويا بمعنى تام الخلقة، ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة مريم: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) أي أرسلنا إليها الوحي فرأته في صورة بشر تام الخلقة.
وكتب اللغة بعد هذا المعنى: (رجل سوي الخلق: أي مستو. ولا تزيد وتقول في التساوي. أو التسوية: قسمت الشيء بين الشريكين بالسوية.
وحينئذ فالذي تراه اللغة في مثل هذا أن تكون كلمة معا هي التي يليق بها أن تحل محل (سويا) لا العكس في الترجمة لكلمة فهي التي تؤدي المعنى المراد: اللهم إلا إذا كان ثم في كتب اللغة ما لم نطلع عليه، وفوق كل ذي علم عليم.
محمد غنيم(895/53)
القصص
بغير عنوان
للأديب الشاب محمد أبو المعاطي أبو النجا
أكان ذلك بسمة ساخرة من تلك البسمات التي ترتسم على شفتي القدر حين ينظر إلى أحلام الناس!؟
أم كان ذلك لفتة بارعة من تلك اللفتات التي يهديها الزمن إلى أولئك الذين يأملون تحقيق السعادة في أرض لم يكن نصيبها سوى الشقاء!
لست أدري يا صديقي. . . وسواء أكان هذا أم ذاك. . . فإن ذلك لن يغير من حوادث تلك القصة كما وقعت في دنيا الناس، ولن يغير من آثارها كما تركت في دنيا الشعور.
ستسمع قصتي يا صديقي وسمها أنت ما شئت من أسماء فإن المؤلف الأعظم حين وضعها في كتاب الحياة لم يحدد لها عنواناً خاصاً. . . وإن كان كتبها في تلك الصفحات التي أفردها لتحمل إلى الناس رسالة الدموع. . .
كنت وحدي. . . ولكنها لم تكن وحدها، كان بيدي مجلة أقلب أوراقها على مهل، وكانت معها فتاة تصغرها قليلا عرفت من اتفاق ثوبيهما في اللون واقتراب وجهيهما في السمات. . . أنهما أختان.
وكان اليوم من أيام (يونيو) الشديدة الحر التي يترقب الناس فيها نسمات الأصيل ليخرجوا إلى المتنزهات العامة. . .
وكنت في أحد هذه المتنزهات. . . أنقل خطاي فوق الأرض التي خضب الربيع ثراها بدمه الأخضر. . . وأنقل عينني بين الأزهار التي شعشع النسيم شذاها بردائه الفشيف، وكان يخيل إلى إذا ذاك أن هذه الأزهار وهاته الأعشاب إنما هي باقة حلوة صنعها الربيع قبل أن يموت ليضعها الناس على قبرة هذا الذي ترتفع فوقه أكوام من الهجير.
وهكذا يا صديقي كنت مرة مع الحديقة بناظري ومرة مع الخيال بفكري؛ ولك الآن أن تسأل كيف استطاعت تلك الفاتنة أن تخرجني عن كل أولئك. . . وأن تصرع في ميدان الإعجاب جمال الورود والأصيل والناس.
كانت جالسة على إحدى الأرائك، وكانت أختها إلى جوارها. هذا ما يقوله لك كل إنسان(895/54)
قدر له إذ ذاك أن يراها؛ أما أنا فقد كان يخيل إلى أن هناك صفاً من الملائكة يحرس تلك الهاربة من الجنة!!
كانت تلبس (فستانا) أبيض. . . كأنما أهداه إليها الصباح وكانت تضع؛ على عينيها نظارة من نظارات الشمس وكانت أشبه ما تكون بالزوج الغيور الذي يحبس زوجته الفاتنة وراء جدران بيته. . وكانت كل أماني إذ ذاك تنحصر في شيء واحد هو أن يحدث أمر غير عادي يجعلها تنزع منظارها لتراه. . . ولكن - الأمر غير العادي لم يحدث - فبقيت نظراتي الوالهة تتلمس في رفق شعرها الأشقر الجميل كأنما تبحث فيه عن شمس غاربة!
وكان ثغرها الدقيق الحلو يؤكد ببسماته الساذجة الصافية أن ملاكا من ملائكة الفردوس يسكن قلب هذه الحسناء! بالله يا صديقي لا تضحك مني حين تعلم أنني بدأت أسر خلف مقعديها جيئة وذهابا وأنا أتظاهر بقراءة المجلة لا لشيء إلا لأسمع حديثها الجميل. . .
أتدرك يا صديقي فيم كان هذا الحديث؟ لم يكن عن الأزهار التي نتمايل نشواي في حانة الطبيعة، ولا عن الأطفال التي تتناغي فرحة في أرض البستان. . . إنما كان عن مسرحية لكاتب (نرويجي) اسمها (بيت الدمي) كنت قد قرأتها وأعجبت بما فيها من لمحات إنسانية مشرقة كان يدور حولها حديثها الجميل!
تصور يا صديقي أنني كدت أطير من الفرح حين سمعت ذلك الحديث. . . أنا الإنسان الذي عاش ضارباً بينه وبين المرأة نطاقا من الجفاء وخلف قلبه في مصير الأشواق ينشد تراتيل الحرمان!!
ذلك لأنه لم يكن يؤمن بوجودها تلك المرأة التي تحترم خفقاته حين يرقص في ساحة السعادة، وتقدس أناته حين يبكي في مأتم العاطفة!!
تلك المرأة التي تتحدث في شيء آخر عير الأزياء، وتعجب بشيء آخر غير المساحيق وتحرص على شيء آخر غير اللهو. . .!
آه يا صديقي لا أريد أن أطيل عليك فأنت أعرف الناس بقلبي وبأحلامه. يكفي أن تعلم أنني بدأت أفكر بسرعة كيف أتحدث إليها. . .
وكان الشيء الأول في هذا السبيل هو أن تنتقل تلك الأخت الصغرى من مكانها. . . أن تذهب إلى أي مكان آخر! ولكن كيف ذلك. . . وهنا يا صديقي تدخلت الظروف لتجيب(895/55)
على هذا السؤال الذي كنت أخشى ألا أجيب عنه!!
كان ذلك حين حضر إلى الحديقة (حاو) من هؤلاء الذين يعرضون ألعابهم المسلية لقاء قروش زهيدة يبذلها لهم المتفرجون وارتفع صوته الرتيب المنتظم يعلن عن ألاعيبه!! واستخف صوت مزماره الطروب أعصاب الأخت الصغرى فانفلتت شأن الغزال لتتم الحلقة الملتفة حوله والمصنوعة من الناس!!
ولا أكتمك أنني اعترتني حيرة بالغة! لماذا لم تذهب مع أختها؟ أن الحلقة تضم أخلاطاً من الناس لا تقتصر على الصغار. ولا أكتمك أيضاً أنني ذهبت في تعليل ذلك إلى مذاهب شتى أحلاها جميعاً وأدناها إلى قلبي ذلك التعليل الذي ذهبت فيه إلى أنها آثرت البقاء لأن نظراتي الوالهة قد نالت منها وأثرت فيها!!
وبالرغم من أن الفرصة السانحة قد أقبلت، إلا أنني شعرت بشيء من التردد والخجل. ماذا أقول؟ وكيف أبدأ الحديث؟ أليس من الجائز أن يكون في حياتها إنسان آخر؟ واستحالت تلك الأسئلة إلى قيود ربطت قدمي فلا أتحرك. . . ولكن نظرة واحدة إلى الحاوي الذي أوشكت ألاعيبه أن تفرغ قطعت القيود وجعلتني أجلس إلى جوارها في جرأة لا زلت أحسد نفسي عليها، وقلت لها في صوت هادئ رقيق: هل لك أن تقطعي بعض الوقت في قراءة المجلة؟ وبعد لحظة. . . مدت يدها تجاهي في تردد رهيب. . .
واستطاعت تلك اليد التي أخطأت طريقها إلى المجلة، واستطاعت تلك الشفاه التي راحت ترتعد في كمد وحسرة، واستطاعت هاتان العينان اللتان راحتا تسدلان عليهما ستارا من الدموع (. . استطاع أولئك كله أن يهتف بحروف خرساء: إنها عمياء!
محمد أبو المعاطي أبو النجا(895/56)
العدد 896 - بتاريخ: 04 - 09 - 1950(/)
حاضر الأدب العربي
الكلمة التي ألقيت في المؤتمر الثقافي العربي الثاني
بالإسكندرية يوم 26 أغسطس سنة 1950
سيداتي، سادتي،
دعاني إلى الكلام في حاضر الأدب العربي أمران: أولهما أن الأدب العربي هو الجامعة الروحية الحق للعرب جميعاً؛ اتصل بها حبلهم حين تقطعت الأسباب، وانتظم عليها شملهم حين شتت الوحدة. ومزية هذه الجامعة إنها من وحي الله ومن صنع الطبيعة، فلا يوهي من عقدها تناقض رأي ورأي، ولا تعارض غاية وغاير. وفضيلة أعضائها أنهم كالأنبياء يبنون لتعمر الأرض، ويبذرون ليحصد العالم، ولا يؤثرون بجهدهم وطناً على وطن، ولا يخصون بخيرهم قوماً دون قوم.
لذلك كان من الخير أن يتحدث أعضاء هذه الجامعة بعضهم إلى بعض كلما واتتهم الفرصة لهذا الحديث.
أما الأمر الآخر فهو سؤال من الأسئلة التي عرضتها الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية للإجابة عنها في هذا المؤتمر، ونصه كما ورد في الصفحة الثالثة عشرة من البرنامج:
(ماذا يجب أن تعمله المدرسة للتغلب على النزعة الأدبية والكلامية المنتشرة في البلاد العربية، ولإشاعة روح التفكير العلمي بين شباب العرب) ولست أدري إلام يرمي هذا السؤال؟ أيرمي إلى قتل النزعة الأدبية في الشباب ليصبحوا جميعاً أصحاب علم ورجال عمل؟ وهل هناك تعارض بين الأدب والعلم فلا يجوز أن يكون للأديب من العلم ما يكسبه الضبط والدقة والوضوح، وأن يكون للعالم من الأدب ما يقيه المادية والثقل والجفاف؟ أم يرمي إلى أن الأدب كلام وأن العلم عمل، وشباب العرب وهم أحوج إلى النهوض المادي قد انصرفوا إلى الأدب عن العلم، ولهواً بالقول عن الفعل؟ إن كان ذلك ما يرمي إليه فإن الواقع يخالفه. ولعل في تهافت الطلاب على شعبتي العلوم والرياضة ما يدعو إلى التفكير في مستقبل كليات الآداب والحقوق.
على أن الكلام إذا كان ألفاظاً فارغة كان غثاء وثرثرة، فإذا كانت ألفاظه حافلة بما تمتع أو(896/1)
يقنع أو يفيد، كان إنتاجه عملاً مثمراً لا يقل خطراً عن صنع آلة أو اختراع قنبلة أو كشف دواء. ورجال الأدب الخليقون بهذه الإضافة أقل عدداً في كل أمة من رجال العمل والمال والسياسة، ووظيفتهم وهي التفكير والتعبير أقوى أثراً في رقي الأمم من وظائف أولئك جميعاً.
ومهما يكن من مرمى هذا السؤال فإنه هو والأمر الأول قد حرك في نفسي الكلام في حاضر الأدب العربي عسى أن يكون له من عناية المؤتمر نصيب أكبر، ومن رعاية رئيسه الأديب الوزير حظ أوفى
سيداتي، سادتي، حاضر الأدب العربي لا يطمئننا كثيراً على مستقبله. حظه من المنهج الحديث قليل. وهذه القلة نفسها مئوفة بسوء الطريقة في تعليمه، وقلة الرغبة في تعلمه؛ فلا المعلم على الجملة صادق الجهاد فيما يعطي، ولا المتعلم على العموم حسن الاستعداد لما يأخذ، والأثر المحتوم لهذا الحظ المنكود في كمه وفي كيفه، ضعف الملكة فيمن يكتبون، وفساد الذوق فيمن يقرئون، وإذا ابتليت أمة بضعف الملكة فلا تحسن أن تعبر، وبفساد الذوق فلا تعرف كيف تقدر، أصبحت لغتها بينها أشبه بالرموز اللفظية البدائية، لا تشعرها بجمال، ولا تحفزها لكمال، ولا تربطها بماض، ولا تصلها بمستقبل.
كانت علوم الأدب فيما مضى تدرس في الأزهر وفي دار العلوم وفي مدرسة القضاء وفي مدرسة المعلمين العليا وفي أشباهها من معاهد لبنان وسورية والعراق دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ، وفقه ما يعلم، وتعليل ما ينقد، وتحليل ما يذوق؛ فإذا اتصل النظر بالعمل، واقتران الحكم بالتطبيق، وصادف ذلك استعداداً في المتعلم، نبغ الكاتب الذي يكتب عن علم، والشاعر الذي ينظم عن فن، والناقد الذي يحكم عن تصور. أما إذا قوى الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهي الوسائل ويقرب الموارد ويوجه المواهب ويسدد الخطى. ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر، وتنمو لتنتشر، وتسمو لتخلد وكان من خريجي هذا المنهج القديم في التعليم، أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة، وجددوا شباب الأدب، وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة. ولا يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون(896/2)
آخر. فإذا ما خلت أمكنتهم من المجتمع بعد أجل طويل أو قصير، فهل يخلف من بعدهم خاف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟ ليس أمام الراصد الأدبي من الظواهر الواعدة ما يحمله على أن يجيب عن هذا السؤال بنعم. كل شيء يبعث على التشاؤم: منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد، كما كان المنهج السابق نظرياً يكاد يخلو من التطبيق. وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان بأية وسيلة؛ فالمطولات تختصر، والمختصرات تختزل، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة. وزهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد بالنشء عن تعيق الأصول وتقصى الفروع، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة، أو من شهادة إلى شهادة. فإذا ما تخرجوا عادوا كما بدأهم الله أميين لا يقرئون إذا قرءوا إلا السهل، ولا يطلبون هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة، حتى نشأ من إفراطهم في هذا الطلب إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ الذي لا ينفع، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع. ذلكم إلى طغيان الأدب الأوربي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول الناشئين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة، ففتنهم عن أدبهم، وصرفهم عن تاريخهم، وزين في قلوبهم أن الآداب الغربية من لوازم المدنية الحديثة، فكما تركنا في الأكل اليد إلى الشوكة والسكين، وفي اللباس الجبة والقفطان إلى الجاكتة والبنطلون، ينبغي أن نترك في الكلام اللغة العربية وأدبها إلى اللغة الأوربية وأدبها ليقال إننا متمدنون تقدميون نحفظ، هوجو ولا نحفظ المتنبي، وندرس فلتير ولا ندرس الجاحظ، ونقرأ لامرتين ولا نقرأ البديع! ومن هنا نشأت هذه التبعية المعيبة التي فرضت على أدبنا لأدب الغرب؛ فأساليب الشباب اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب، ومذاهب الأدب اليوم هي مذاهب الأدب في الغرب، حتى الرمزية بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان والمغمغم، يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح! وحتى الوجودية وليدة الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته عن سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل، ولا يتحداها وهو مؤمن.
ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم: الأدب للنفس والعلم للناس. الأدب مواطن والعلم لا(896/3)
وطن له. الأدب روح في الجسم ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلاً بنفسه، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزاً بأفراده الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد، والعلم شيء غير أولئك كله. فإذا جاز طبعا أن نأخذ عن غيرنا ما يكمل نقصنا في العلم، فلا يجوز قطعاً أن نرجع إلى هذا الغير فيما يمثل نفسنا من الأدب.
إن من أشد البلايا على الأدب الحاضر بليتين: العامية في اللغة والعلمية في الأسلوب. أما العامية في اللغة فلو كان الغرض منها إمداد الفصحى بما تزخر به لغة العامة من مصطلحات الحضارة وألفاظ الحياة العامة لقلنا نعم ونعام عين، ولكن الغرض الذي ترمي إليه الثقافة الضحلة والدراسة السهلة هي أن يكتب الكاتب كما يشاء، لا يتقيد بقاعدة من نحو، ولا قياس من صرف، ولا نظام من بلاغة. ولم يعرف قبل اليوم في تاريخ الآداب القديمة والحديثة من يعد في لغته كاتباً أو شاعراً وهو لا يعرف من وقواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه. وإذا كنتم تقرءون الصحف والكتب ولا تقعون على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش، فالفضل لأولئك الجنود المجهولين الذين يرابطون ليل نهار في دور النشر ويسمونهم المصححين، فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم، وعلى المعجم فيعرب، وعلى الركيك فيقوى.
وللعامية أنصار من بعض الكبراء الذين تعملوا في قصورهم على المربيات وهؤلاء لهم نفوذ معوق، ومن أشباه المعلمين الذين يتولون تعليم العربية في مدراس الأجانب وهؤلاء لهم توجيه ضار. حدثتني معلمة فاضلة أن أحد الأمراء رغب إليها في أن تنظر في تعليم ولديه، وفي المنهج الذي يدرسان عليه، ثم تكتب له تقريرا بما ترى. فكان مما لاحظته المعلمة أن الولدين يتكلمان العربية باللهجة التركية ولا يعرفان من قواعدها الضرورية شيئاً. فلما كلمته في ذلك أبتسم وقال لها ما نصه: (لا، مش عاوز كلام أزهر ولا كلام أولاد بلد). وحدثني معلم فاضل عين مشرفاً على امتحان النقل في مدرسة أجنبية، فلما أخذ يدقق في أجوبة التلاميذ قال له المفتش وهو رجل عربي من رجال الدين المسيحي: (حسبك يا أستاذ! إن تلاميذنا يتعلمون العربية ليكلموا بها الخدم)!
وأما العلمية في الأسلوب فلو كان الغرض منها اقتباس الروح العلمي في تحديد الفكرة وتصحيح القياس وتدقيق العبارة ونبذ الفضول وتوخي الفائدة لقلنا نعم ونعام عين؛ ولكنهم(896/4)
يقصدون بالعلمية بخس القيمة الجمالية للأسلوب، وخفض المستوى الرفيع للبلاغة فيكون الكلام جارياً على نهج العلماء في تأدية المعنى المراد في اللفظ السهل، أو على سنن التجار في ضغط المعنى المحدد في اللفظ المختزل، ولا عليهم بعد ذلك من الروح الذي يبعث الحياة في المعاني فتؤثر، ولا من الفن الذي يلقي الألوان على الصور فتمتع، ولا من الشعور الذي يشيع الهمس في الجمل فتوحي
إن الأسلوب العلمي أسلوب من أساليب التعبير لا هو كلها ولا هو خيرها؛ وإنما هو أسلوب تقتضيه حال كما تقتضي غيره أحوال؛ فالسعي لتغليبه على غيره من الأساليب مخالفة للطبيعة ومجافاة للطباع. والمعروف في تاريخ الآداب أن المذاهب الأدبية والأساليب الفنية هي التي تتنافس في الشيوع وتتفارس على البقاء؛ أما الأسلوب العلمي فله مجال آخر ورجال أخر: مجاله العلوم ورجاله العلماء. والعلوم والعلماء يتخذون من اللغة أداة ضرورية للفهم والإفهام، لا وسيلة كمالية للجمال والالهام؛ فأساليبهم في فن الكلام أشبه بالصور الجغرافية والخطوط البيانية في فن الرسم: بقصد بها البيان لا الزخرف، ويراد منها الحق لا الجمال. فإذا صح أن نقول للرسامين اقتلوا في أنفسكم ملكة التصوير الجميل لتصبح رسومكم كلها جغرافية أو هندسية، صح بالقياس أن نقول للكتاب اقتلوا في أنفسكم ملكة التعبير الجميل لتصبح أساليبكم كلها علمية أو فلسفية.
سيداتي، سادتي. هذه على الإجمال الخطوط البارزة في صورة الأدب العربي الحاضر، منها خطوط بيض تشرق عليها أشعة من أقلام الصفوة الباقية من رجال المدرسة القديمة والتابعين لهم بإحسان من الشباب المعتدل؛ ومنها خطوط سود تخفق عليها ظلال من المستقبل الغامض يساعد على مدها تساهل المدرسة الحديثة والتابعين لها من الشباب المتطرف. فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية، لأن أساليبها غالبة على السمع، وقواعدها جارية مع الطبع، فلا يحتاج تحصيلها إلى درس، ولا النبوغ فيها إلى ملكة. وتغلب الأساليب العامية معناه فصل الأدب عن الدين، وقطع الحاضر عن الماضي، وتوهين الصلات بين العرب. وفي اعتقادي أن أمر العربية وأدبها لا يصلح إلا بما صلح به أوله: فقه اللغة جد الفقه، وفهم قواعدها أشد الفهم، وحفظ آدابها كل الحفظ. وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم، والعلم والخبرة في وضع المنهج، وتوفير الزمن(896/5)
الأسبوعي لاستقصاء الدرس، وتنظيم الامتحان العام على النحو الذي يحرِّج ولا يخرِّج
وما أظنني أعدو الصواب إذا قلت إن الثقافة العامة للشاب إنما توزن بالقدر الذي يحصله من ثقافة لفته. فإذا استطاع بعد المدرسة أن يقرأ فيفهم، ويكتب فيحسن، استطاع أن يجد السبيل إلى كل علم والدليل إلى كل غاية. والمثقفون متى تركوا مقاعد الحياة المدرسية إلى مواقف الحياة العلمية، تبخر من رءوسهم أكثر ما تعلموه، فلا يكاد يبقى من ثقافتهم إلا ما حذقوه من اللغات وما شدوه من الآداب ذلك إذا كانت ثقافتهم الأدبية ثابتة الأصول نامية الفروع، فإذا كانت كغيرها من الثقافات الأخرى سطحية رخوة أني عليها النسيان فيصبحون أميين في المخطوط بعد أن كانوا أميين في الخط
أمامكم الساسة والقادة والزعماء والعلماء والمصلحون في كل أمة، هل تغني عنهم علومهم وعقولهم عند الناس شيئاً إذا لم يملكوا ناصية البيان فيقنعوا إذا كتبوا ويؤثروا إذا خطبوا؟ كلا يا سادة! إن العالم من غير أدب معمل ساكن. وإن الزعيم من غير بيان تمثال صامت. وإن المصلح من غير بلاغ مصباح مطفأ.
سيداتي، سادتي. لا بأس في أن نيسر النحو والصرف والبلاغة على الطلاب؛ ولكن البأس كله في المدى الذي بلغه هذا التيسير. لا بأس في أن نحذف الغث من التقديرات والتعليلات التي فلسف بها النحاة النحو، وننبذ الأوجه الإعرابية التي بقيت في اللغة أثراً من اختلاف اللهجات في الجاهلية، فبلبلت الألسن، وهوشت القواعد، وجعلت كل صواب خطأ وكل خطأ صوابا؛ ولكن البأس كله في أن نجرد علوم العربية من خصائص القوة والخصوبة والبراعة لتصبح أشبه بالهيكل العظمي، فيه الخفة والبساطة والشكل، وليس فيه العضل والعصب والروح.
إن ما يبقى من هذه العلوم يعد النقصان، وما يبقى من هذا المنقوص بعد النسيان، لا تحيى به لغة ولا يبقى عليه أدب. وإن استطاع يوما أن يجيز امتحاناً أو ينيل شهادة، فلن يستطيع أبداً أن يخرج أمثال من خرجهم الأزهر، كمحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين والمنفلوطي والبشري، ولا أمثال من خرجتهم دار العلوم كجاويش والمهدي والخضري والسكندري والجارم، ولا أمثال من خرجتهم مدرسة القضاء كأحمد أمين وعبد الوهاب عزام والخولي، ولا أمثال من خرجتهم مدرسة المعلمين العليا كالمازني وشكري وأحمد(896/6)
زكي وفريد أبو حديد، ولا أمثال من خرجتهم كتب الأزهر كالعقاد والرافعي وشوقي وحافظ في مصر، كاليستانيين واليازجيين والشدياق ومطران والخوري في لبنان، والمغربي وجبري والطنطاوي والأفغاني في سورية، وكالرصافي والزهاوي وكاشف الغطاء والراوي والانري في العراق، وكالنشاشبي والسكاكيني وغيرهما في فلسطين.
هذه يا سادتي مخاوف ألقاها في روعي ما أرى من ضيعة الأدب الحاضر بين تسامح القائمين عليه وزهادة الناشئين فيه، والأمل في عميد الأدب القائم عليه الآن في مصر، وفيكم يا حماة العربية ودعاة العروبة في كل قطر، ألا يتحقق من هذه المخاوف شيء. ومناط هذا الأمل أنكم تؤمنون جميعاً بأن العربية هي عماد ثقافتنا، ورباط جماعتنا، وبأن أدبها هو التراث الروحي المشترك الذي يثور في دمائنا لننهض، ويصرخ في آذاننا لنتحد، ويشتد في حدائنا لنلحق.
إن الأدباء في كل أمة هم الذين يحملون شعلة الفن والفكر وينقلونها بالتتابع، يسلمها السالف للخالف فيغذيها وينفخ فيها لتظل في طريق الأبد باقية نامية هادية. وأدباؤنا الشيوخ وهم خريجوا الماضي قد تسلموا شعلة الفكر العربي في أواخر القرن التاسع عشر من أدباء لم تهيئهم ثقافتهم ولا حضارتهم ليمدوها بوقود من عصارة الذهن ولا بقبس من نور الوحي، فكادت تنطفي؛ ولكن الله قد أتاح لأدبائنا الذاهبين من مواتاة الملكات وتهيئوا الوسائل ومعاونة الظروف واستكمال الأداة ما مكنهم من إذكاء هذه الشعلة، فأوقدوها بالزيت والكهرباء، وجلوا نورها السماوي في بلور كالكوكب الدري، فتألق سناها وتنشر هداها. وهاهم أولاء يكادون يسلمونها لشباب الغد خريجي هذا العصر، فليت شعري ماذا تصنع بها الأحداث، وماذا يخبئ لها القدر؟
أنا بالرغم مما أتوجس من المخاوف متفائل، لأن الله سبحانه الذي يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) قد ضمن للعرب بقاء البيان ببقاء القرآن. وفي هذه القلة البارة من أدباء الشباب في أقطار العروبة نرجو أن يحقق الله وعده، وان الله لهو خير الصادقين.
أحمد حسن الزيات(896/7)
التشبيه في القرآن
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 4 -
أول ما يسترعي النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمد عناصره من الطبيعة، وذلك هو سر خلوده، فهو باق ما بقيت هذه الطبيعة، وسر عمومه للناس جميعاً، يؤثر فهم لأنهم يدركون عناصر، ويرونها قريبة منهم وبين أيديهم، فلا تجد في القرآن تشبهاً مصنوعاً يدرك جماله فرد دون آخر، ويتأثر به إنسان دون إنسان، فليس فيه هذه التشبيهات المحلية الضيقة مثل تشبيه أبن المعتز:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
مما لا يستطيع أن يفهمه على وجه، ويعرف سر حسنه، إلا من كان يعيش في مثل حياة أبن المعتز، وله من أدوات الترف مثل أدواته.
تشبيهات القرآن تستمد عناصرها من الطبيعة. أنظر إليه يجد في السراب وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعاً، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم، حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئاً مما كانوا يؤملون. أنه يجد في هذا السراب صورة قوية توضح أعمال الكفرة، تظن مجدية نافعة، وما هي بشيء، فيقول: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ويجد في الحجارة تنبو على الجس ولا تلين، ويشعر عندها المرء بالنبو والجسوة، يجد فيها المثال الملموس لقسوة القلوب، وبعدها عن أن تلين لجلال الحق، وقوة منطق الصدق، فيقول: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو اشد قسوة) أولا نرى أن القسوة عندما تخطر بالذهن، يخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية؟
ويجد في هذا الذي يعالج سكرات الموت، فتدور عينه حول عواده في نظرات شاردة تائهة، صورة تخطر بالذهن لدى رؤية هؤلاء الخائفين الفزعين من المضي إلى القتال وأخذهم بنصيب من أعباء الجهاد، فيقول: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا،(896/8)
ولا يأتون البأس إلا قليلاً، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).
ويحد في الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفاً ثم لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلط، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه، يجد في ذلك صورة شديدة المجاورة لصورة أصحاب محمد، فقد بدءوا قلة ضعافاً ثم أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلب محمد بهجة، وقلب الكفار حقدا وغيظاً، فقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم،. . . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) ويجد في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، وفي الهشيم الضعيف الذواي، صورة قريبة من صور هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم فألقوا على الأرض مصرعين هنا وهناك، فيقول: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس، كأنهم أعجاز نخل منقعر) ويقول: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، فكانوا كهشم المحتظر).
فأنت في هذا تراه يتخذ الطبيعة ميداناً يقتبس منها صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها، فما اتخذ مشبها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتضر، والزرع الذي أخرج شطأه، ومما اتخذ مشبها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام. ومما اتخذ مشبها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب. ومن ذلك ترى أن القرآن لا يعني بنفاسة المشبه به، وإنما يعني العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها.
هذا ولا يعكر على ما ذكرناه من استمداد القرآن عناصر التشبيه من الطبيعة ما جاء فيه من تشبيه نور الله بمبصاح وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب دري، لأن هذا المصباح قد تغير وتحول؛ فإن المراد تشبيه نور الله بالمصباح القوي، والمصباح باق ما بقي الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل.(896/9)
ومن خصائص التشبيه القرآني، أنه ليس عنصراً إضافياً في الجملة، ولكنه جزء أساسي لا يتم المعنى بدونه، وإذا سقط من الجملة انهار المعنى من أساسه، فعمله في الجملة أنه يعطي الفكرة في صورة واضحة مؤثرة، فهو لا يمضي إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتي ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحاً قويا، وتأمل قوله تعالي: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، تجد فكرة عدم سماعهم الحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التي تهدي إليه، إنما نقلها إليك التشبيه في صورة قوية مؤثرة، كما تدرك شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضا وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، تدرك ذلك من قوله سبحانه (يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). وتفهم اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء - من قوله سبحانه: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة). وتفهم مدى حب المشركين لآلهتهم من قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله). وهكذا تجد للتشبيه مكانه في نقل الفكرة وتصويرها، وقل أن يأتي التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح كما في قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) وإذا أنت تدبرت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة لما في كلمة نتق من تصوير أن انتزع الجبل من الأرض تصويراً يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة فوقهم من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده في النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملاً إضافياً بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحي بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم.
ومن خصائص التشبيه القرآني دقته، فهو يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، وخذ مثلاً لذلك قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) فقد(896/10)
يتراءى أنه يكفي في التشبيه أن يقال: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً والتحاماً حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئاً، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.
وقوله تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) فربما بدا أنه يكفي في تصوير إعراضهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعاً يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب وتحثها عليه يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها , أو لا ترى في صورة هذه الحمر وهي تجد في هربها لا تلوي على شيء تبغي الفرار من أسد يجري وراءها، ما ينقل إليك صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة فارين أمام الدعوة لا يلوون على شيء، سائرين على غير هدى، ثم ألا تبعث فيك هذه الصورة الهزء بهم والسخرية؟.
ومن ذلك وصفه الخشب بأنها مسندة في قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) فهي ليست خشباً قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة في جدار، لأنها حينئذ تؤدي عملاً، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذاً منها أبواب ونوافذ لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحي بالغفلة والاستسلام والبلاهة.
ولم يكتف في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش إذ قال: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)، للدقة في تصوير هشاشة الجبال، كما لم يكتف في تشبيه الناس يخرجون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصفه بالمنتشر، فقال: (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)، حتى يكون دقيقاً في تصوير هذه الجموع الحاشدة خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.
ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختياره ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، وحسبي أن أشير هنا إلى بعض أمثلة هذا الاختيار.(896/11)