ألم تقتبس أبياتا من قصيدة قلت أنها (جيدة) أي فوق الدون والوسط من الشعر الذي أنشده شعراء الحفلة أليس معنى تلك الأبيات، إذا ترجمت إلى لغة النثر هي الإهابة بالناس المترقبين عودة صاحب الملاح من الشاطئ المهجور والقول لهم (لا تحلموا بمجيئه لا تحلموا)
لندع الشعراء جانبا لأنهم في واد غير وادينا، ولأننا نفهم نحن غير الشعراء أن حفلات التأبين إنما تقام لذكر المناقب وغير المناقب التي أحدثت حدثها وتركت أثرها في الناس، واسمع ما قاله (الزيات صاحب الرسالة) في صديقه علي محمود طه، وكيف عرفه وأحبه، وقد رأى انطواء الفيلسوف المفكر والشاعر الحالم ثم كيف لقيه في زحمة الحياة وقد تشعبت فيه أصول الجمال والحب واتسع في قلبه الحب للخير والإخاء والمروءة، وكيف كان طاغي الشخصية مستبدا بالحديث وكان شعره صورة لشخصه ومرآة لنفسه؛ ثم قارن ما ذكرته أنا من صفات عرفتها في الفقيد، في حالتين متباينتين، في الخصومة الأدبية العنيفة، وفي الصداقة الطيبة والعربدة أيضا، تجد أننا اتفقنا - أنا والزيات - في رسم الخطوط الرئيسية لمن يتوفر على دراسة لشاعر الصديق علي محمود طه. وأزعم أن صدر الأستاذ الزيات ينطوي على معلومات في حياة الفقيد الخاصة والعامة، تماثل وتزيد على معلوماتي عنه، وإن من الخير أن نشر تلك المعلومات ليتيسر للباحث الكلام عن الشاعر الذي خلده شعره.
كلمة أخيرة أقولها للأستاذ عباس، إن جميع حفلات التكريم والتأبين في وقتنا الحاضر إنما تقام للإعلان والظهور، وأن ليس للإعلان معنى غير النفاق والرياء والمجاملات الكاذبة، وأن من أوجب واجبات الكاتب محاربة الطبالين والزمارين في حفلات التكريم، والندابين النواحين في المآتم، وأعتقد فيك الكفاءة لشن هذه الغارة.
حبيب الزحلاوي
حول الأزهر - إلى ضياء الحائر
ليس عيبا أن نرى شكاة لطالب نجيب مثلك يا ضياء. يبعثها ضيق بتلك المواد العقيمة التي تدرسها في كليتك. ولكن العجب أن لا تجد هذه الشكاية ومثيلاتها آذانا مضغية لدى(872/48)
المهيمنين على شئون الأزهر.
إن مناهج الدراسة في كليات الأزهر مبنية على أسس غير سليمة، ذلك لأن العنصر الأول الذي تقوم عليه الحياة الجامعية - وهو حرية البحث - ليس له أثر في تلك الكليات. ولن ترى إلا كتبا - هي بدار الآثار الأولى -. وهذه الكتب يكلف الطلاب دراستها. ويقع العبء الأكبر من ذلك على كواهلهم ولكن ما الحيلة والطالب لا يستطيع فهمها منفرداً؟
إذا فليتسلح ليلتهمها التهاما وليذهب بصره، ولتضعف صحته ولتنهد قواه، وما هو ببالغ شيئا من الفهم الدقيق، والاستيعاب الذي يقوم على التحليل والتفصيل. فطالب الأزهر مثله كمثل شخص لا يعرف (السباحة) ألقيته في (البحر) ثم قلت له اسبح يا عزيزي.
وإذا كان هذا شأن الدراسة في كليات الأزهر - ونحن في عصر التخصص - فما بالك به في معاهده؟ هناك العجب العجاب هناك ما يبعث الحسرة في النفوس، ويطبع اللوعة في القلوب. هناك ويا هول ما هناك: ملكات تقبر، ومواهب تقتل، وعقول تسخر، فأول ما يفاجأ الطالب في أول عام من التحاقه بالأزهر أن يكلف بحفظ ما يتلقاه من علوم. ويدرس دراسة يعوزها التوجيه والإرشاد. ولهذه الطريقة أثرها السيئ في حياة الطالب فلا يلبث - بعد أن تتقدم به الحياة الدراسية - أن يرى ظلالا قائمة تنعكس على حياته. مما يبعث على تشاؤمه وحيرته.
لا بد للأزهر أن ينظر في برامجه نظرة تربوية - على وفق ما تسير عليه وزارة المعارف - وليس بضائرنا أن نقلد ما دمنا نروم الصالح للجيل الجديد؛ فنحن حياله مقصرون جد التقصير، ونحن محاسبون عن ذلك أشد الحساب.
ولدى ضياء: عنى المفكرون وأعلام الثقافة في مصر بإصلاح الأزهر. وكأني بهم قد أسفوا لما لحق بالأزهر من ركود وتخلف عن ركب الحياة. وكانت لهم آراء سديدة لها وجهاتها وأصالتها. ولو أخذ بها لكان للأزهر شأن أي شأن. ومنزلة سامية بين جامعات العالم الحديثة.
أي بني: لا يصلح الأزهر إلا بالمدرس الصالح، والكتاب الصالح ونحن لا نقول عن المدرس إلا أنه - في ثقافته وإنتاجه - مازال عالة على غيره وإلا فإمامنا الكتاب والمؤلفون والمفكرون في مصر أفلا نرى أن جلهم من أبناء الجامعة. تلك التي طغت على(872/49)
الأزهر ظهرت عليه. والفرق بينهما أنها سايرت العصر وواكبت الحياة، ونهلت من ثقافة الغرب، فوقفت في مصاف الجامعات الأوربية. أما الأزهر - أقدم الجامعات في العالم - فقد على عض كتب القدامى بالنواجذ. ولم يتصرف فيها بشيء من التهذيب والتنظيم. وفضلا عن ذلك فإنه لم يراع ظروف الحياة ولا تقدم العصر. فتأخر عن الصفوف ورجع القهقرى، أما الكتاب الصالح فلن تجده في الأزهر. وتبعة ذلك تعود على المدرسين. يا ضياء لك من اسمك ما يهديك. فلم الحيرة يا بني؟ هذه هي حياة الأزهر فاعتصم بالصبر وسر على بركة الله في الدراسة واستمد منه العون في استذكار دروسك. ولا تجعل للحيرة إلى قلبك سبيلا.
أزهري عجوز
حول (حيرة الجيل الجديد في الأزهر)
شيئان يعيبان التعليم في الأزهر وهما سبب ما يعاني الشباب الأزهري من حيرة وتعب، الكتب الأزهرية العتيقة: وليست مشقتها في تعقيدها فقط بل هي أيضا تفاهتها وخلطها بين مختلف العلوم في سياق واحد وفي بعدها عن الحياة ومجافاتها روح التعليم بل التربية. ثم منهج التعليم نفسه؛ فهو يحرص على قطع الصلة بين المتعلمين والبيئة التي يعيشون فيها ويعني عناية كبرى بالمواد التي تتوقف على الحفظ ويعني في هذه المواد أيضا يحفظ التعريف والشروط والأقسام بينما يهمل النواحي التطبيقية التي تدرب الناشئ على الفهم والإنشاء والجغرافيا والحساب والهندسة والجبر تدرس بصورة شكلية وأكثرها درس في الأقسام الابتدائية ثم يتفرع المنهج للعلوم النظرية الكلامية وفي تلك الكتب التي تعنى بمضغ الألفاظ وإثارة الجدل الكلامي فيما لا جدوى منه
وهذا هو سبب شعور الطالب الأزهري بالغربة عن مجتمعه وإحساسه بعدم القدرة على الاندماج في الناس لأن آراءه وأفكاره ومناقشاته تتأثر بطريقة تعليمه وهي طريقة غريبة على الناس في هذه الأيام - ثم هو يشعر في قرارة نفسه بنقص ثقافته وضيق أفقه في التفكير وعدم قدرته على تعليل الأشياء بعللها الحقيقية. وهذا أيضا هو سر اعتكاف الأزهريين حتى بعد تخرجهم فهم يعيشون في محيط خاص ولا يقربون الناس إلا بحذر.(872/50)
ويبدو أن الشباب الأزهري بدأ يتمرد على هذا الأسلوب العتيق من التعليم بعد أن كثر المدرسون الأزهريون في المدارس ورأوا نمطا من التربية ونظما من المناهج والكتب خيرا مما درسوا ولعل المسؤولين في الأزهر ومن بيدهم الأمر فيه يستجيبون لصوت الشباب فيتخلوا عن كتبهم التي لم تعد تصلح للتعليم ولا عيب على الأزهر أن يستعين في درس علومه بكتب غير أزهرية مما ألف حديثا في كليات الجامعات الأخرى.
إن هذه الكتب الأزهرية لا جدوى ورائها غير ضياع الجهد والوقت وإنفاق أيام الشباب وزهرة العمر رخيصة في هذا السبيل ولكن هل يقرأ شيوخ الأزهر شيئا من شكوى الشباب؟
معهد سوهاج
عصام الدين شلبي(872/51)
القصص
حماري الأسود الصغير
للكاتب الأيرلندي يادرباك اوكنير
بقلم الاستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
حدث ذلك في كنفارا عندما تعرفت على حماري الأسود الصغير. كان ذلك اليوم يوم السوق. فرأيته واقفا بجوار حاجز لا يبالي بالعالم، ويبالي العالم به. وأعجبت به منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيناي عليه. وكنت في رغبة للحصول على حمار. فقد كنت متبرما من التجول على قدمي. ألا يكفي هذا الرفيق الصغير ليحملني وحقيبتي وحاجاتي؟ وفكرت: لعلي أستطيع الحصول عليه بثمن بخس.
ثم سألت عن صاحبه: بيد أني نقبت عنه في كافة أرجاء البلدة قبل أن أجده يتسكع أمام دار العمدة. كيف! يبيع الحمار؟، ولماذا لا يبيعه مادام أنه سيحصل على ثمنه؟ نعم ثمنه إنه لا يرغب في قرش زائد عن ثمنه. لولا هذه الأيام العجاف ما فارقه عنه مطلقا - لا لا خوف منه؟ إنه حمار صغير جميل يستطيع أن يقطع في سهولة عشرين ميلا يوميا. لو استطاع أن يطعمه الشوفان مرة واحدة في الشهر، فلن يفوقه أي جواد!
وجعلنا نتباحث في طباع الحيوان. وما أبرع مدح صاحبه! ليس هنا حمار، منذ أن حلت الحمير بأيرلندا، في مثل نشاط هذا الحمار، وعقله وبعد نظره!
وقال لي ذلك الأستاذ - في المديح (أتعرف عاداته؟ إذا أعطيته حفنة من الحبوب صباحا، فإنه يحتفظ ببعضها عندما لا تكون هناك حبوب - بحق كتب روما السماوية أنه يفعل ذلك) وهنا ضحك أحد الموجودين، فواجهه الرجل قائلا (ما الذي يضحكك أيها الأبله؟) ثم قال لي (أليس من العقل أن يحتفظ بجزء من طعامه؟ ألم يحدث لي في بعض الأحيان أن أكون في حالة عسر فأسطو على طعامه؟ لو لم يكن هذا الحيوان لمت جوعا أنا وأولادي الإثنا عشر)
وسألت في حذر: هل في استطاعة هذا الحمار العاقل أن يميز بين حنطة صاحبه وحنطة جيرانه. فأجاب الرجل (إنه أمين أمانة الكاهن. لو كانت كل الحيوانات مثله، لما كانت هناك حاجة إلى تشييد حواجز أو حفرات أو أسوار. لم تكن هناك حاجة إلى مثل ذلك(872/52)
مطلقا.)
وتكاثر حولنا جمع غفير، وكان من بينهم أولاد الرجل، ولا أدري أكانوا ألاثنى عشر جميعا موجودين. بيد أن من كان موجودا منهم لا تجد له مثيلا في أية بقعة من بقاع أيرلندا. كانوا مهللي الثياب قذرين كل واحد منهم يفوق أخاه في سوء السلوك. وكانت زوجته واقفة هناك. عارية القدم، بلا قبعة.
وقالت له (أتذكر يابيتر اليوم الذي سبح فيه في النهر وأنقذ ميكلين عندما جرفه التيار؟)
فأجاب (وكيف لا أذكره؟ نعم ياشابي، أتذكرين اليوم الذي دفع لي فيه مبلغ خمسة جنيهات؟) فالتفتت إلي قائلة (خمسة جنيهات. نعم لقد وضعوا في يده خمسة جنيهات ذهبية) فقاطعها الرجل قائلا (أقسم لك هذا ما حدث! لقد كادت الصفقة تتم، وكانت النقود في يدي -).
فقاطعته زوجته بدورها (ولكنه عندما شاهد الحمار المسكين يذرف الدمع لأنه سيفترق عنه، لم يطاوعه قلبه على بيعه، والابتعاد عنه) فصاح زوجها (صه! تكلمي في هدوء. فلا توجد كلمة تقال إلا وفهمها. ألا ترى يا سيدي أذنيه الواقفتين؟)
وبدأت الشراء بجنيه واحد ثمنا لهذا الحيوان البديع. فعوى الرجل قائلا (جنيه!) وصرخت امرأته (جنيه!) وهدر الأولاد في صوت واحد (جنيه!).
كم كانت دهشتهم! وتجمعوا حولي يتفحصونني. وأمسك صبي بسترتي وآخر بسروالي امسكني أصغرهم من عنقي. ووضعت فتاة يدها في جيب سترتي. كانت المخلوقة بطبيعة الحال تحاول أن تبحث إذا كنت حقا أمتلك جنيها - بيد أنها حصلت على ضربة على أذنها بدلا من الجنيه - ولم تكن الضربة من والدها.
كنت قد أعجبت بالحمار إعجابا شديدا. فقد كان وفق ما أشتهي. إنه سيحملني في طريقي. ثم أستطيع بيعه في أي وقت إذا ما شعرت بالضجر منه.
وقلت مرة أخرى (جنيه).
فأجاب الرجل (جنيهان).
وأعولت المرأة وهي تقول (أواه! أواه! حماري الجميل يباع بجنيهين) وانفجرت تنشج في بكاء وعويل.(872/53)
وألححت قائلا (جنيه).
فقال الرجل (إذن جنيه - وست بنسات لكل طفل).
وتمت الصفقة أخيرا. وناولته الجنيه. وأعطيت ست بنسات لكل طفل من أطفاله المصطفين حولي. وجعلت المرأة تستدعيهم سيتين، ندين، تايمين، وغيرهم ممن لا أذكرهم.
ولم يبق واحد من المتسولين لم يستحضر أولاده. كانوا جميعا يهددون ويصرخون. وكم من الضوضاء أثاروا! اشتكى أحدهم أنه لم يستلم البنسات الستة مع أن النقود كانت في هذه الآونة تحت لسانه. وقال آخر -
ولكن لم يكن أحد يعي ما الذي يقوله الآخر، أو ما يحاول أن يقوله. فقد كان ضجيجهم يطغي على كل شيء.
وندمت لأني لم أدفع للرجل جنيهين في بادئ الأمر، وبذلك كنت أجتنب هؤلاء الحاضرين الذين كونوا عائلة لا نهاية لها.
وأخيرا تركت القرية وحالي حال. كنت ممتطيا الحمار، وقد سار على يمينه صاحبه قابضا على مقوده، ومشت زوجته على يساره، والأولاد يصخبون حولنا.
وتبعنا بعض صبية القرية، كل منهم يزودني بنصائحه. أن الحمار لا يقارنه أسرع جياد السبق، ولذلك يجب أن أكون متيقضا وإلا أفلت مني واختفى إلى الأبد. يجب أن أعطية كذا وكذا من أنواع الطعام. وهكذا كان يخيل للرائي كأنما لم يسبق له أن رأى ما يضحك عليه، إلى أن شاهدني ممتطيا حماري الأسود الصغير.
ولكن لماذا أهتم؟ ألم أحصل على الحمار - الحيوان الذي كنت أود الحصول عليه منذأيام عديدة؟ كيف أستطيع أن أصف مشهد افتراقي والحمار عن هذه الشرذمة. كان كل واحد منهم يشد على يدي تسع مرات. وأخذوا مني عهدا أن أكون لطيفا معه وشفيقا عليه. وان أهبه قبضة من القمح كلما استطعت وأعطيه حفنة من الشعير كل ليلة. وأقسمت لهم ألا أستعمل العصا معه. وعندما افترقنا أرتفع عويلهم بدأه الأب وساعدته الأم وشاركها الأولاد حتى أصبحت الغابة حولي تعج ببكائهم. . . وأخيرا أصبحت وحيدا - وحيدا مع حماري الأسود الصغير؟
ثم انطلق يعدو بي إلى أن خلفنا الغابة. وعندئذ شعرت بأني قد قمت بصفقة طيبة. أين(872/54)
يستطيع المرء أن يجد حمارا في مثل نشاط حماري الأسود الصغير؟
بيد أنه عندما ابتعدنا عن الغابة، حدثت قصة أخرى. إذ لم يقبل الحمار التحرك خطوة واحدة، ذلك الحمار الفريد! وظننت أنه قد يلين إذا ما دللته بعبارات متملقة، فلم يأبه بي. وفكرت أن أحركه بعصا فلم يتحرك، بل وظل واقفا هناك وسط الطريق.
ومر علينا الناس الذين كانوا في السوق، أقبلوا في حال من البهجة. فنصحوني أن أفعل كذا، وأصنع كذا. بيد أنه عندما نصحني مازح منهم أن أضع الحمار على ظهري، فرغ صبري، وقذفت ذلك الوقح بالحجارة.
وأخيرا، اضطررت أن أترجل وأسحب الحمار في الطريق رغما عن أنفه. وما أكثر الشتائم التي أمطرتها على ذلك اللص الذي باعني هذا الوحش الثمين!
ولكن سرعان ما لاحظت ظاهرة غريبة. رأيت الحمار في حالة عصبية، وبدا لي أنه يجفل من تلاعب الريح بالأفنان. فعندما مر تحت أذرع الشجر النامي على جانبي الطريق، تلاشى كسده، وأصبح من المتعذر كبح زمامه، وقفت أذناه في بادئ الأمر، ثم هز نفسه كما يفعل الكلب عند ابتعاده عن الماء، ثم انطلق كأنه الزوبعة
يا لحظي، لقد كشفت سره.
وقيدته على باب كوخ ثم ذهبت إلى الغابة، وانتزعت كمية من الحشائش وأوراق الشجر، وكونت منها حزمة، ثم وضعتها على مقربة من عنقه، فوق أذنيه.
يا للحيوان المسكين! إنك لن ترى له مثيلا في سرعته لما عدا. فقد كان يظن، بسبب ما يسمعه من موسيقى منبعثة فوق أذنيه، أنه لا يزال في الغابة. وعندما وصلنا إلى باليفهان، قامت القرى لتشاهد الأعجوبة - أنا وحماري الصغير الأسود المتحلي بتاج من أوراق الشجر.
إني لا أزال أملك ذلك الحمار الأسود الصغير، وسأظل أحتفظ به مدى الحياة. لكم رحلنا أميالا طويلة في الطريق الموحشة، وفي مختلف الأجواء. وكان يهتدي إلى طريقه في مهارة، مع أن سيده للأسف قد فشل في ذلك. وإني أعتقد أن المتشرد الصغير كان يعرف أن سيده ليست له المقدرة على الاهتداء. ولكنك لن تشاهد مثل كبريائه عندما ابتعت له مركبة خضراء جميلة وعاد المخلوق المسكين أصغر سنا مما كان، منذ أن قيدته بالمركبة.(872/55)
محمد فتحي عبد الوهاب(872/56)
العدد 873 - بتاريخ: 27 - 03 - 1950(/)
الشيوعية على المصطبة
من عادتي في المجلس ألا أتكلم إلا مضطراً، كأن أحيا فأرد، وكأن أسأل فأجيب؛ أما إذا خليت لطبعي فأني أحبس لساني عن الكلام، وأجعل أذني لكل متكلم. لذلك تركت أخوان المصطبة يخوضون في كل حديث، ويعلقون على كل حادث: فمن حديث الباشا العظيم الذي يكره فلاحيه ومستأجريه على أن يتبرعوا بأقوالهم لأعمال الخير ثم يعلن التبرع باسمه على وجوه الصحف وهو لم يشارك فيه من ماله بقرش، إلى حديث النائب المحترم الذي قطع العهود على نفسه لدائرته أيام الانتخاب أن يجعل لهم البحر طحينة، والحياة كلها متاعاً وزينة؛ فلما وضعوه على كرسي مجلس النواب ظل موضوعاً عليه كالجرة الفارغة لا تنضح حتى بالمش! إلى حديث الشيوعية التي تعد الفقير بالغنى، وتمني الشقي بالسعادة، وتزعم أنها تنصف الفلاح من أمثال هذا الباشا الطماع، وتؤمن الناخب من أشباه هذا النائب الخداع. وحينئذ قال الشيخ مصباح للشيخ مفتاح وهو يحاوره في خير الشيوعية وشرها:
لعلك لم تسمع الكلمة التي أذاعها (الأستاذ) بالراديو منذ أيام، في
الشيوعية والإسلام. إنك لو سمعتها لكسعت أملك باليأس ورجاءك
بالخيبة. إن الشيوعية لا تملك الناس أرضاً ولا توسع عليهم رزقاً، ولا
تهيئ لهم حرية. فبهت الشيخ مفتاح ونظر إلي نظرة المستفهم المشدوه.
فقلت له: صدق الشيخ مفتاح! إن الشيوعية تأخذ لنفسها إلا الناس،
وتدعو إلى باطلها لا إلى الحق. إنها لا تسوي بين الخلق في الغنى
والحرية، وإنما تسوي بينهم في الفقر والعبودية. تجعل الغني فقيراً
بانتزاع ما يملك، ولا تجعل الفقير غنياً بامتلاك ما يستأجر. تصادر
الأرضين لتكون خالصة لها من دون المواطنين، ثم تستغلها بتسخير
الأيدي العاملة فلا تعطي الزارع غير أجرته، ولا تؤجره إلا على
حسب قدرته. فهي تنزع منك يا مفتاح نصف الفدان الذي تستثمره،
لتصبح كعلى رمضان الذي يستأجره. ذلك فضلاً عن كفرها بالدين(873/1)
الذي رضيه لك الله، وإباحتها للزوجة التي ربطها بك الشرع.
فقال الشيخ مفتاح وهو يكرش من وجهه ويزم بأنفه ويستعيذ بربه: كل شيء تغني الحيلة فيه إلا نصف الفدان! إن عقيدتي في نفسي، وإن نخوتي في رأسي، وليس في العالم قوة تستطيع أن تعبث بهما إلا برضاي. أما الملك وهو الضمان والأمان والمتعة والغبطة والمنزلة والغاية، فليس إلى الاحتفاظ به مع الشيوعية من سبيل. فقال الفتى محجوب وهو يضرب بيده على يد فأسه: إنك تعارض الشيوعية لأن لك نصف فدان، فأما الأجير الذي لا يملك من دنياكم غير هذه الفأس فكيف يعارضها وهو لا يتصور أنه ينقلب إلى حال أدنى من هذه الحال؟ قالوا للقرد: إن الله سيمسخك. فقال: لعله يجعلني غزالاً!
فقال الشيخ مفتاح: وإذا أقطعتك الحكومة ستة قراريط؟ فصاح محجوب وصاح معه جميع الجلوس: حينئذ نلعن الشيوعية في كل صلاة، ونحاربها بكل قوة، يا أخي، ملكونا تملكونا!
أحمد حسن الزيات(873/2)
عبد العزيز البشري
بمناسبة ذكراه السابعة
للأستاذ منصور جاب الله
بين تخوِّن الظروف وطغيان الحوادث، عدا الموت قبل سبع سنين على نابغة البيان العربي في عصره، فطويت صفحة المغفور له الشيخ عبد العزيز البشري بعد ما أمضّه المرض الوجيع وأضناه حقبة من السنين.
وإذ قضى الشيخ البشري في مارس من عام 1943، كانت المجزرة العالمية ما تبرح طامية صاخبة، تفرّق المنايا باليمين والشمال، وتلعق الدم بالأيدي والأرجل جميعاً، ومن ثم مضى شيخنا إلى برزخه غير مذكور إلا من قلة عرفوا فضله ولم يجحدوه، ودرسوا أدبه ولم يجتووه.
ويوم مات أستاذنا لم ترسل في تمجيده المقالات الضافية، ولا القصائد الباكية، لا عن كنود ولا عن نكران، وإنما هي (الاستحالة المادية) التي جاءت بها تلك الحرب الزبون فحدّت من حجم الصحف وصيرتها أشبه ما تكون بنشرات عسكرية تكاد تكون مقصورة على أنباء المعارك وأخبار الانتصارات والهزائم!
وكذلك كان البشري هو الأديب المصري الواحد - إذا لم تخن الذاكرة - الذي لم يعقد له حفل تأبين يتوافى إليه أصُدقائه ليرسلوا فيه المقال شعراً ونثراً. وما بنا أن نرد هذا إلى قصور أو إهمال، فالعذر القائم إنما ينصب على الحرب وويلاتها، فالحرب هي التي جنت على الشيخ البشري يوم وفاته، وهي التي جنت على ذكراه فغدا اليوم في المنسيين، وضاع في أطوار الزمن أدبه الرفيع، وذهبت أصداء تلك الضحكات التي تكاد تخلع الأشداق إذ يرسل دعاباته ومفاكهاته بأسلوبه الذي لا يُبارى.
عرفت البشري عن كثبُ وصادقته زماناً إذا قيس إلى العمر الإنساني عد طويلاً، وكان بيننا في الإسكندرية جيرة قريبة، ومن خلال مجاورتي لهذا الرجل عرفت الكثير عن أديب من أدباء العربية الذين قل أن يجود بمثلهم الزمان.
كان رحمه الله من حواريي المدرسة الأدبية المحافظة التي نشأت في أعقاب الثورة العرابية، تأثر أكثر ما تأثر بأسلوب المرحوم إبراهيم المويلحي بك، ثم بأسلوب ابنه محمد(873/3)
المويلحي من بعده، وأسلوب (المويلحي الصغير) يبين أكثر ما يبين في كتاب (حديث عيسى بن هشام) وكان الشيخ البشري يرى في هذا الكتاب البيان العربي المثالي، وقد طالما سمعته يقول: وددت لو أكتب سطراً في مثل أسلوب حديث عيسى بن هشام! وكان هذا القول تواضعاً منه - رحمه الله - فقد بصرنا به في بعض كتاباته يحلق ويحلّق حتى ليكون المجّلى على أستاذه ويقنع أستاذه بأن يكون مع المصلين!
وعبد العزيز البشري - كما يعرف سائر الناس - نشأ في بيت علم ونعمة وحفاظ، فأبوه الشيخ سليم البشري شيخ جامع الأزهر في عهد من أينع عهوده، ولقد أراد ابنه على أن يكون من شيوخ الأزهر، فلم يشأ (البشري الصغير) أن يخالف عن تقاليد أسرته فانخرط في سلك طلاب الجامع العتيق على تكره منه واستثقال، فقد أخذته أضواء النهضة الحديثة التي كانت تتوامض أضواءها في أفق الأزهر بين الحين وبعد الحين، وهو إذ يحضر جلسات الدرس إنما كان يحضرها بجسده، أما ذهنه فكان يشرد بعيداً، إذ يقلب الطالب الشاب عقله ولسانه في بلاغة المويلحي التي تطالعه بها كل أسبوع صحيفة (مصباح الشرق) وكذلك فتن شيخنا البشري بالأدب وعزف عن حلقات الفقه في الأزهر الشريف، ودأب على مراسلة الصحف الأدبية القائمة حينذاك، حتى إذا ظفر بإجازة العالمية أبى أن يكون في عداد مدرسي الأزهر شأن أنداده وإنما انكفأ إلى وزارة المعارف ليعمل محرراً فنياً فيها.
وكان رحمة الله شديد الولوع بالفن، أغرم به من مشرق الصبا، وكانت له صحبة ومخالطة بأهل صناعة الغناء، وحدثنا فيما حدثنا أنه وقد أدرك من كبار المطربين عبده الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وإضرابهم، كان لا يفوت مجلس من مجالسهم المونقة، ولكن ما كان ينفذ إلى هاتيك المجالس وهو ناشئ صغير إلا بشق الأنفس، لأن الناس في ذاك العهد كانوا ما يبرحون على الحفاظ والاحتشام، ودون مجالس اللهو حفظة وأحراس!
وقال لنا رحمة الله إنه كان في صباه يمضي الليل ساهراً، ولا ينام إلا غراراً مع مطالع الصبح، فتحطم من ذلك جسمه، وتضعضعت في الكهولة صحته. وكذلك طوى الأعوام العشرة الأخيرة من حياته مريضاً ما يكاد ينقه حتى تعاوده العلة فيرتكس حتى وطأتها(873/4)
ويستحث شبح الموت والموت منه بعيد!
وإذ كان الشيخ البشري موظفاً حكومياً، فقد قيدته الوظيفة الحكومية بأمراس من حديد، واشتد شعوره بالقيد الحكومي بعد أن عين قاضياً شرعياً، فما كان يستطيع الكتابة بتوقيعه الصريح؛ بيد أنه وقد خشي أن تنسب مقالاته إلى غيره من الكتاب، كان يعمد إلى مطالعة كل مقال يكتبه على ملأ من الصحاب ممن يتذوقون الأدب، فإذا دفع المقال للنشر وطالعه الناس من مصبحهم في صحيفة سيارة، أدركوا أن هذه الجزالة اللفظية وهذا الترف البياني وهذا الترصيع الإنشائي، كل أولئك من صنعة عبد العزيز البشري!
ورسائل (في المرآة) التي كانت تنشرها صحيفة (السياسة الأسبوعية) قبل خمسة وعشرين عاماً، فترن رنينها، وتحدث دويها، وتتصل رجفتها الأدبية أسبوعاً بعد أسبوع لم تكن ممهورة بتوقيع عبد العزيز البشري، ولكن قارئاً من القارئين لم يكن لينسبها لغير عبد العزيز البشري.
وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، ولكنها تتقاصر حينما يمزح أو يداعب. ولما أراد أن يسوي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً أذكى النساخين في المكتبات العامة فجمعوا له قدراً صالحاً مما كتب، فقد كان - أحسن الله إليه - لا يحتفظ بشيء مما يكتب، ثم جعل ينخل مقالاته نخلاً ويغربلها بغربال دقيق، حتى استوى له كتاب (المختار) في مجلدين. ومن حق التاريخ على الشيخ البشري أن نقول إنه لم يحرف في مقالاته شيئاً، فهي كما نشرت لوقتها في الصحف لم يغير منها حرفاً.
وقال البشري الشعر في شبابه الأول، وكان ينشر قصائده في جريدة (الظاهر) التي كان يصدرها المرحوم محمد أبو شادي بك، هجواً في المغفور له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد تشييعاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكن قبل بضعة عشر عاماً أسمعنا قصيدة باكية قالها رثاء في صديق له مات وهو في مشرق العمر وريق الشباب، ثم لم يقل بعدها شعراً إلى أن وافاه الأجل المقسوم.
وبعد وفاة الشيخ البشري جمعت إحدى دور النشر مقالاته التي لم يضمها (المختار) وطبعتها للناس طبعاً أنيقاً فكان ذلك وفاء لذكرى أديب أجدى على الأدب الشيء الكثير، ولكن هذا المجهود الفردي لا يكافئ أدب البشري، فهناك قصائده في صحيفة (الظاهر)(873/5)
ودعاباته في مجلة (الكشكول) ويومياته في (السياسة الأسبوعية) وكل هذه تبين خصائص أدب البشري، بما يتميز به من فكاهة وعمق وتدسس إلى مداخل الأشياء، لو أن هذه الذخيرة جمعت لأجدت على الأدب ولأفادت الأدباء.
رحم الله شيخنا البشري فقد كان أديباً ملء إهابه، وأفسح له المقام في دار المقام.
منصور جاب الله(873/6)
فيرون
زعيم الشكاك اليونان
للأستاذ محمد محمود زيتون
ولد فيرون بن بلستارك الفقير حوالي سنة 365 ق. م. في (إبليس) بلد السفسطائي، (فيدون تلميذ سقراط. اشتغل نقاشاً منذ نعومة أظفاره، وانصرف عن النقش إلى الفلسفة؛ غير أنه نشأ ومات فقيراً، وعمره تسعين عاماً.
وقد ذهبت الآراء في (فيرون) مذاهب شتى، محور ارتكازها جميعاً أنه صاحب مذهب الشك الأخلاقي الذي نسب إليه وعرف به وهو (الفيرونية الذي امتد في المكان والزمان ودار مع الفلك حتى انقسم شطرين: الفيرونية القديمة، والفيرونية الحديثة. ومجرد التسمية يقفنا على أن فيرون هو الجد الأول للشك وزعيم الشكاك اليونان.
عرف (فيرون) بالتقوى والورع، وعاش مع أخته وكانت أعقل منه. كم كانت تشفق عليه، وترثي لسلوكه العجيب، وتناقضه في الحياة: فقلما كان يوجد في داره، وقلما كان يرى بين صحب أو رفاق، وكثيراً ما كان يحب الخلوة بنفسه وارتياد الحدائق النائية، والأماكن التي لا يؤمها الناس. وكان من عادته أن يترحل دون أن يعلم به أحد، فيسير كيفما اتفق إلى حيثما اتفق، غير عابئ بشيء ولا مكترث لشيء. حكى عنه (ديوجين لائرس) أنه كان مرة في سفينة تتقاذفها الأمواج، وتتلاعب بها العواصف، حتى أوشك الركاب على الغرق، فهاجوا وماجوا، واضطرب حبلهم، وتوقعوا الموت في أحضان البحر، وشحبت وجوههم. أما فيرون فلم يبال ولم يهتم، بل استمر في برود تام وهدوء لا حد له، ثم وقف يقول (ذلك هو الهدوء الذي يجب أن يمنحه العقل والفلسفة لأولئك الذين لا يريدون أن يستسلموا للخطوب).
وكان صديقه (انكسارك) في صحبته يوماً فسقط في مستنقع، فلم يعبأ به (فيرون). ولم يمد له يد المساعدة بل تركه ومضى في سبيله لا يلوي على شيء، وبقدر ما لامه الناس وأوسعوه ذماً وتقريعاً، هنأه انكسارك على ثبات جنانه، وعصمته من التألم.
ويقول عنه (شيشرون) إنه لم يفرق بين الصحة التامة والمرض الأليم. وكان سواء عنده أن يعيش وأن يموت، وكثيراً ما كان يجري على لسانه قول (هوميروس) (ما أشبه الناس(873/7)
بأوراق الشجر) وقوله الآخر (أما أنت فستموت بدورك، فلماذا تتحسر؟ مات قبلك (باتروكل) وهو خير منك)، واتخذ شعاره (لا شيء أفضل من شيء).
كان (فيرون) محباً للرحلات، اصطحبه (انكسارك) في حملة الإسكندر إلى الشرق، فعرف أخلاق الهنود وطقوسهم وعاداتهم، فتركوا في نفسه أبعد الأثر. ويقال إنه عرف الكثير من العادات والأخلاق الشرقية عند السوريين والميديين والمصريين والفرس.
وبعد موت (الإسكندر) عاد إلى وطنه وأسس مدرسته حوالي سنة 321 ق. م. وقد أكبره مواطنوه فلقبوه (الكاهن الأكبر) وأقاموا له تمثالاً بعد موته، ثم إنه عاصر (أرسطو)، وعرف كتبه وتناقش مع ابن أخيه (كالستين)، وتتلمذ لصغار السقراطيين والميغاريين خاصة، وتذوق مذهب (ديمقريطس) عن طريقهم وتعلم على يديهم الجدل، ولكنه بغض إليه، وعرف السفسطائيين وعاصرهم وصاحبهم وواطنهم، ووقف على أسرار الشرق وروحانيته. وبذلك استوعب التراث الفلسفي من منابته الأولى.
والمعروف أن (فيرون) لم يكتب شيئاً عن مذهبه، ولم يلق محاضرات، وكل ما كتبه قطعة فنية للحث على الغزو منحه الإسكندر عليها عشرة آلاف قطعة من الذهب. وكل ما انحدر إلينا عنه نذر يسير في مقطوعات احتفظ بها معاصروه وتلاميذه وعلى رأسهم (تيمون الوفي.
وقد لخص (أرسطقليس مذهب فيرون تلخيصاً وافياً فقال: (فيرون الإبلى لم يترك مكتوباً، ولكن تلميذه تيمون يقول: إن من أراد أن يكون سعيداً فليعتبر ثلاثا: ما الأشياء في ذاتها؟ وما موقفنا حيالها؟ وماذا نجني من وراء ذلك؟ الأشياء كلها بلا استثناء غير حقيقية على الإطلاق، وليست أحكامنا ولا مشاعرنا بقادرة على أن تمثل لنا الحق أو الباطل. لذا وجب ألا نركن إلى الحواس ولا العقل. وإنما يجب أن نظل بدون رأي لا نجنح إلى ناحية دون أخرى. بهذا لا يتطرق إلينا الألم، فإذا عرض لنا شيء وجب ألا نثبته أو ننفيه، وألا نثبته أو ننفيه معاً، وعلى هذا الوجه نصل إلى تعليق الحكم 1 ينتج تعليق اليقين ' ثم ننتهي إلى الطمأنينة التامة '
ولكي نزيد ذلك بياناً نتساءل مع تيمون ونجيب مع فيرون فنقول:
أولاً: ما الأشياء في ذاتها؟(873/8)
يقر فيرون بأن الوقت نهار، وأنه حي يرزق، وأنه يرى بعيني رأسه، وأن ذلك الشيء يلوح له أبيض، وأن العسل يبدو له حلواً، وأن النار تحرق كما يرى، ولكن هل الشيء في ذاته أبيض، وهل العسل حقاً حلو، وهل من طبيعة النار أن تحرق؟؟
يجيب فيرون: لا أدري.
فهو لا ينكر المرئيات والمسموعات وسائر المحسوسات، ولكن ما حقائقها؟ لا يدري. فالحواس هي كل ما يملك فيرون من هذه الدنيا، وهو يعتز بها ويؤيدها بقوة، وظواهر الأشياء وأعراضها هي كل ما يدرك من معرفة. ولكن هل هذه الظواهر هي هي بعينها حقائق الأشياء؟ كلا، فما الحقائق إذن؟ لا يدري. ولهذا يقول (تيمون) (إن المظهر ملك حيثما وجد) فإذا كان ذلك هو أمر الأشياء، فلنسأل مع تيمون هذا السؤال الثاني:
ثانياً: ما موقفنا حيال الأشياء؟
كل الناس أو على الأقل (فيرون) يستطيع أن يثبت للشيء صفة، وأن ينفي عنه نفس الصفة بمقدار واحد، لأن النفي والإثبات في كفتين متعادلتين لا مرجح لأحدهما دون الآخر: الشهد حلو، والشهد ليس بحلو. هذان الحكمان لا يثبتان في العقل، لأن أحدهما يمحو الآخر، فلا يعود لهما وجود، كالنار تختفي في الخشب الذي تلتهمه. فلا يمكن القول بأن هذا الشيء شريف أو سخيف، وأنه صحيح أو غير صحيح، وأن هذا الشخص هو تيمون أو غير تيمون. لماذا؟ لأن الأضداد متعادلة في تقلبها على الأشياء، ليس فقط في المحسوسات بل في المعنويات أيضاً من فضيلة ورذيلة وعدل وظلم وغير ذلك. ولا يمكن القول بأن الشهد أحلى من العنب، لأن التفضيل يتضمن الإثبات، ولا يمكن القول بأن الشهد ليس أحلى من العنب، لأن ذلك يتضمن نفي الحكم عن شيء وإثباته لآخر. والنفي والإثبات لا وجود لهما لأنهما متعارضان، وبالتالي يفني أحدهما الآخر.
فالأحكام المضافة إلى الأشياء والمعاني لا وجود لها في الواقع، وكذلك الأحكام المسلوبة منها، سواء كانت تقريراً أو تقديراً، لأن الناس في عرف فيرون (إنما يخضعون في أحكامهم للقانون والعرف. فيجب أن نلتزم الحياد التام من هذه الظواهر والأعراض، والخير كل الخير في تعليق الحكم). هذا هو الموقف التوقفي الذي يريده لنا فيرون حيال الأشياء، فماذا نفيد من ذلك؟ هذا هو السؤال الثالث والأخير فلنسأل:(873/9)
ثالثاً: ماذا نجني من تعليق الحكم؟
لا يشغل الناس في حياتهم إلا التردد بين الشيء وضده، والحيرة بين الخير والشر. وهم كثيراً ما يجلبون الهم والغم لأنفسهم بأنفسهم فيتألمون أنهم محرومون مما يعتقدون أنه الخير الذي إن وجدوه أشفقوا من أن يفقدوه، ثم هم يتألمون لأنهم مرتكبون لما يعتقدوا أنه الشر الذي إن أصابهم تحسروا على أن قد ارتكبوه، فلا هم بالخير فائزون، ولا هم من الشر سالمون. فالرغبة حرمان، والحرمان ألم، والألم إتيان، والإتيان رغبة. فاجتنب الاعتقاد بالخير والشر تختفي كل الوساوس والهواجس، فإن الشك هو الخير الحق، ومتى استراح الناس من كابوس الخير والشر، فليضربوا بالحياة كيفما شاءت لهم الحياة، لا يفرحون ولا يحزنون، يأكلون حين يجوعون، ويشربون حين يظمئون، لا يطمحون ولا يتحسرون. راحتهم في أنهم لا يبالون، لأنه لا شيء في الحياة ذو بال.
هذا هو فيرون يعلق الحكم وينفي الأضرار ويتجاهل الخير والشر فيشرع لا يبالي بشيء ولا يهتم بشيء، لأن شيئاً بالغاً ما بلغ لم يعد يطرف عينه، أو يهز عطفيه ولو سقط انكسارك ولو أوشك هو على الغرق.
الشرور واقعة، ولكن لا نستطيع ولا يستطيع أحد أن يبيدها، وما على المرء إلا أن يخفف من وقعها عليه، وأن يهون على نفسه منها. وليعيش كسائر الطغمة الدهماء، خاضعاً لقوانين الدولة وعوائدها ودينها، لا يثور عليها، فقد لاقى سقراط جزاء ثورته، فامتلأت النفوس خوفاً ورعباً، وتجمدت الإرادة خنوعاً ومسكنة، حتى قال تيمون (أما نحن فلا نخرج عن العرف). وبهذا التوقف الاعتقادي نصل إلى الطمأنينة التامة والسعادة المطلقة حيث لا شر ولا ألم. وهل السعادة إلا غياب الألم؟ وهل ينشد الإنسان إلا السعادة؟ وهل من سبيل إليها إلا في تعليق الحكم وعدم المبالاة؟
(فالأشياء مظاهر لا ندري حقائقها، فلنقف منها على الحياد غير مبالين بشيء فنستريح ونطمئن ونسعد).
وإذا كان فيرون يلتمس السعادة في الشك، فإنه ينخرط في سلك المفكرين بهذه الطرافة الغائية التي أفسحت له مكاناً بينهم؛ ذلك بأن الناس إنما يختلفون في وسائلهم إلى غاياتهم أكثر من اختلافهم في غاياتهم. ولشد ما يكون الاختلاف إذا اتحدت الغايات. وإذا كانت غاية(873/10)
الغايات عند الجميع هي السعادة، فقد توسل لها سقراط بالعلم، وأفلاطون بزكاة النفس، وأرسطو بالحكمة، وأبيقور باللذة، وديوجين بالفوضى، أما فيرون فوسيلته تعليق الحكم أو اللاأدرية. ولهذا يقول (وادنجتون في كتابه عن (فيرون والفيرونية):
(إن أساس مذهب فيرون أنه اتخذ من الشك آلة للحكمة والاعتدال والعزلة والسعادة) أي أن فيرون اتخذ من الشك آلة للشك.
يقول الجرجاني (الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك) وذلك هو اللاأدرية عند فيرون.
ويستطرد الجرجاني يقول: (وقيل الشك ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما) وعند أبي البقاء وقيل الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده بالنقيضين أو لعدم الأمارة فيهما) وذلك هو تعليق الحكم عند فيرون.
ويقول الجويني: (الشك ما استوى فيه اعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما إلى درجة الظهور الذي يبني عليه العاقل الأمور المعتبرة) وذلك هو الشك الاعتقادي عند فيرون.
ويقول التهاوني (الظن عند الفقهاء: التردد بين أمرين استويا واستدل على ذلك بذكر هذا المعنى في (الحواشي العضدية) وفي (السلم)، وعلى ذلك فالشك مرادف للظن. وجاء في (كليات أبي البقاء) (الظن يكون معناه يقيناً وشكاً، فهو من الأضداد كالرجاء يكون خوفاً وأمناً، وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، بمعنى اليقين والاعتقاد).
ومادام الشك مرادفاً للظن، والظن يقين وشك، فالشك يكون معناه اليقين، واليقين عند أبي هلال العسكري (هو سكون النفس بما علم) وذلك هو الطمأنينة التامة غير فيرون.
ومن هذا نرى أن مذهب فيرون ليس من السفسطائية في شيء، وبذلك يكون ابن حزم مخطئاً إذ اعتبر اللاأدرية مذهباً سفسطائياً، واللاأدرية ليست مع ذلك إلا جزءاً من (الفيرونية) الذي يتلخص في ثلاث وثلاث:
ما الأشياء في ذاتها؟. . . لا ندري
فما موقفنا حيالها؟. . . تعليق الحكم(873/11)
فماذا نجني من ذلك؟. . . الطمأنينة
على أن تعليق الحكم وعدم المبالاة ليسا من أساليب الحياة في قليل ولا كثير. إذ التقدم ظاهرة الحياة، وكل شيء في الوجود يسعى إلى كماله ويتوق إليه، ويشقى به، أما التوقف فنكوص على الأعقاب، ونحن في حركة دائمة ما دمنا نفكر حتى لقد قال (ديكارت) (النفس تفكر دائماً ' والسكون في نظر (هرقليطس) هو الموت والعدم، ونحن لابد لنا من أن نختار يميناً أو شمالاً ? وصدق السيد المسيح عليه السلام: (من لم يكن معي كان علي).
(للكلام بقية)
محمد محمود زيتون(873/12)
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الزهاوي
ويحتج الشاعر على هذا المنع:
بأي كتاب أم بأية سنة ... أصد مهاناً عن طريقي وأمنع
ولكن هذا الاحتجاج الصارخ لما يقابل بشيء غير التجسس ورفع التقارير إلى السلطات الحاكمة:
فما نبسوا لي بالجواب وإنما ... أعدوا جواسيساً ورائي تتبع
تراقب أفعالي وكل عشية ... إلى (يلدز) عني التقارير ترفع
ويتضح لنا أن الشاعر كان قد ذهب إلى تركيا مع رفاقه مطالبين بالحرية ورفع الظلم عن البلاد العربية وبخاصة العراق وقد كان لهذه المطالبة صدى معكوس في الدوائر الحاكمة. ويتضح لنا أيضاً أن الشاعر كان ذا خطر يخشى منه الحكام ويخافونه فلم يأمنوا جانبه إذا بقي في تركيا هو ورفاقه ولم يأمنوا جانبه إذا عاد إلى بلاده حراً طليقاً لذلك أعدوا له الأرصاد وبثوا له العيون وضيقوا عليه منافذ عيشه حتى أرجعوه محوطاً بالقوة التي لا ترحم وبالجواسيس الذين لا ذمة لهم، ولم يكن نصيب أصحابه بأقل من نصيبه فقد نفي كل واحد منهم إلى مكان وأبعد إلى منأى وعومل بمثل ما عومل به الشاعر. وهنا نترك مجال التعبير للشاعر نفسه يحدثنا عن مشهد من أشق المشاهد وأفجعها عليه وهو مشهد التوديع وما يبعثه من أسى ولوعة، مشهد الشاعر يودع أصحابه بقلب واجف مضطرب ودمع سخي متدفق، ومشهد أصحابه وهم يودعونه بمثل ما ودعهم به وكل واحد منهم محوط بفريق من الشرطة يسرعون به في طريق النفي والإبعاد:
أودعهم والقلب ممتلئ لهم ... حناناً وجفن العين بالدمع مترع
يشيعهم قلبي يسير وراءهم ... وقلبهم يمشي ورائي يشيع
يحيط بنا من كل صوب وجانب ... فريق من (البوليس) يسعى فيسرع
نبعد منفيين كل لبلده ... وما ذنبنا إلا نصائح تنفع
إذاً فلم يكن ذنب الشاعر حين لاقى ما لاقاه هو وأصحابه إلا الدعوة إلى الإصلاح ورفع(873/13)
الحيف عن الشعوب المكبلة بالأغلال.
وتنتهي هذه القصة المؤلمة بالاستنكار لهذا الوضع الجائر ولتحمل الأذى والظلم، ووصف ما كان يلاقيه الشاعر من تهديد بالموت الذي هو خير من هذه الحياة الداكنة:
إلى أي وقت نعبد الظلم خشية ... فنسجد للقوم البغاة ونركع
حملنا الأذى حتى حنى من ظهورنا ... وقيل لنا لم يبق في القوس منزع
يهددني بالموت قوم وأنه ... لدون الذي من عسفهم أتجرع
وللموت خير من حياة مهانة ... يرى الحر وجه السوء فيها ويسمع
ويرسم لنا الزهاوي صورة أخرى لهذا الظلم. وقصة من تلك القصص التي تتجدد كلما تجدد والي أو حاكم. قصة الأحرار المشردين، والسكاكين التي تشحذ كل يوم، والرعية التي تساق سوق الأغنام، والرشوة التي قضت على معالم العدل وغيرت مجرى القوانين. كل ذلك نجده في قصيدته (الظلم والعدل):
تأن في الظلم تخفيفاً وتهويناً ... فالظلم يقتلنا والعدل يحيينا
يا مالكاً أمر هذي الناس في يده ... عامل برفق رعاياك المساكينا
لهوت عنا بما أوتيت من دعة ... فابيض ليلك واسودت ليالينا
ثم يستعرض بكاء الأرامل وتقتيل الشباب، وقسوة الولاة والرشوة وضياع العدل:
كم من نسوة قتلت ظلماً بعولتها ... فصرن يهملن دمعاً قبله صينا
وكم شباب من الأحرار قد هلكوا ... وللإرادات قد صاروا قرابينا
قست قلوب ولاة أنت مرسلهم ... كأنما الله لم يخلق بها لينا
تراهم أغبياء عند مصلحة ... وفي المفاسد تلقاهم شياطينا
وضاع في الملك عدل يستظل به ... ما بين إغماض مرشي وراشينا
إن الرعية أغنام يحد لها ... عمالك المستبدون السكاكينا
ولكن:
ما جاءنا الشر إلا من تهاوننا ... ما عمنا الظلم إلا من تغاضينا
إن في ديوان (الكلم المنظوم) كثيراً من هذا النغم الثائر الحزين الذي يتدفق عن حرارة ولهفة وينبع من أعماق النفس، وكله لا يختلف من حيث العاطفة المشبوبة والموسيقى(873/14)
اللفظية. ونكتفي بهذا القدر الذي سقناه مما نظمه الزهاوي أيام الاستبداد لنتحدث عن شعره بعد إعادة الدستور ولنرى موقفه من هذا الحادث العظيم في تاريخ الدولة العثمانية.
لم نجد للزهاوي قصائد كثيرة في مناسبة الدستور وإنما كل الذي وجدناه لا يصل إلى ما وصل إليه ذلك الذي نظمه أيام الاستبداد؟ وهذا المقدار القليل كاف لأن يفسر لنا مذهب الشاعر وموقفه حيال الدستور وهو موقف الفرح المستبشر والراضي المطمئن. ففي (الكلم المنظوم) قصيدة عنوانها (التعاون) قالها بعد إعلان الدستور - أو بالأحرى إعادته - وتلاها يوم انعقدت جمعية الاتحاد في بغداد، والقصيدة لا تتجاوز خمسة وعشرين بيتاً نجتزئ منها ما يأتي:
حزب التعاون في الدنيا هو الناجي ... نمشي على ضوئه في ليلنا الداجي
قد أفلحت أمة في قصده نهجت ... فأنه للترقي خير منهاج
إن الذي أصبحت عيني تشاهده ... قد أبهج القلب مني أي إبهاج
قد أعلنت للورى حرية فمضى ... زمان سخرة ذي آمرو (قرباج)
وأطلقت كل نفس من أسارتها ... هذا الذي كان يرجو نيله الراجي
ثم يؤرخ هذه المناسبة:
فقال في وصفها شعري يؤرخها: (تحرر الناس من أسر وإحواج) ويصادف هذا التاريخ سنة 1326 هـ.
وقصيدة أخرى عنوانها (عيد ومأتم) قالها في هذه المناسبة وقد صادف أن مات رجب باشا صديق الشاعر أيام إعادة الدستور فجمع الشاعر بين الفرح والحزن:
عم البلاد سرور لا يكدره ... إلا وفاة أبي أحرارها رجب
أفراحنا برزا يا ناقد اختلطت ... فقلت: قد طابت الدنيا ولم تطب
ليس هذا الذي تحدثنا عنه بقريب على الزهاوي وقد نفي وشرد وأبصر بعينه ما يجري في العراق وغير العراق من سوء المعاملة وما تعانيه هذه الأقطار من فقر وجهل وما يقع على الأحرار والأبرياء من تنكيل واضطهاد. ليس بغريب على الزهاوي أن يثور على عبد الحميد وولاته وأن يستبشر بعودة الدستور ولكن الغريب أن عبد الحميد الذي يقول فيه الزهاوي:(873/15)
أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والنبي المبجل
وجدناه في شعر الزهاوي حامياً للدين الإسلامي رافعاً منار الشريعة كما في قصيدته (الفتح الحميدي):
نهنيك بالفتح المبين الذي به ... تسامى منار للشريعة واستعلى!!
ولنا أن نعتذر عن الشاعر بما فسرنا به موقف الكاظمي من العاطفة الدينية التي استجاب لها الزهاوي حين رأى انتصار عبد الحميد على أوروبا الشرقية فاهتز لهذا الانتصار كما اهتز له غيره من الشعراء. وإلا فأي رافع لمنار الشريعة ذلك الذي حاد عن سنن النبي والكتاب؟.
إبراهيم الوائلي(873/16)
عدو الشعب الجاشنكير
للأستاذ عطية الشيخ
تتمة
في قلعة الكرك:
وقف إعرابيان على باب قلعة الكرك واستأذنا في الدخول على الناصر ذاكرين أنهما من مصر. فلما مثلا بين يديه كشف ابن قراسنفر لثامه فعرفه السلطان وقال له: محمد؟ فقال لبيك يا مولانا السلطان، وقبل الأرض وقال لابد من الحلوة، فصرف السلطان من حوله، وآنئذ حدثه محمد باتفاق أبيه مع قبجق وأستدمر على مناصرته، وسلم إليه كتاباً من الثلاثة الموالين مضمونه لوم الملك على النزول عن العرش ووعده برجوع ملكه إليه، فلما قرأه قال يا محمد، ما لهم قدرة على ما اتفقوا عليه، فإن أمراء مصر والشام قد اتفقوا على سلطنة بيبرس، والشاعر يقول:
كن جريا إذا رأيت جباناً ... وجباناً إذا رأيت جريا
لا تقاتل بواحد أهل بيت ... فضعيفان يغلبان قويا
ولن يتم لنا الحال إلا بالحيلة وحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور، وأرسل مع ابن قراسنقر جواباً لأبيه نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله تعالى نعمة المقر العالي الأبوي الشمسي ومتعنا بطول حياته، فقد عملنا ما أشار به وما عول عليه. . . وهذا الأمر ما ينال بالعجلة. . . وإن حضر إليك من جهة المظفر أحد، وطلب منك اليمين فقدم النية أنك مجبور واحلف، ولا تقطع كتبك عني) وهكذا بدأ الناصر يتصل سراً بمن يستطيع إفساده من الأمراء وأعيان الدولة.
عقارب السعاية
وأخذت عقارب السعاية تعمل بين المظفر والناصر، توغر بطانة كل قلب صاحبها ليسرع إلى الوقيعة بالآخر، حتى بعث المظفر للناصر بالكرك يطلب ما عنده من الخيل والمماليك، ويهدده بالنفي إلى القسطنطينية إن لم يجب، فغضب الناصر غضباً شديداً وقال: (أنا خليت(873/17)
ملك مصر والشام لبيبرس، فما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي ومملوك لي، ارجع إليه وقل له! (والله لئن لم يتركني، وإلا دخلت بلاد التتار وأعلمتهم أني تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي، وهو يتابعني ويطلب مني ما أخذته) فأغلظ له رسول بيبرس القول حتى اشتد غضب الناصر وصاح به، ويلك! وأمر أن يرمى من سور القلعة. ثم ثاب إلى رشده واكتفى بحبسه، ثم طرده ماشياً من الكرك، وقد استغل الناصر ما حدث لاستدرار عطف الناس فكتب إلى جميع الأمراء بالدولة المصرية وإلى النواب بالبلاد الشامية كتباً سيرها مع العربان يستنكر سلوك بيبرس معه، وفي آخر كل جواب (إما أن تردوه عني وإما أن أسير إلى بلاد التتار لاجئاً مستغيثاً).
بداية النهاية
كانت الأفكار مهيأة من قبل عند أمراء الشام بزعامة قراسنقر فكتبوا إلى الناصر بأنهم طوع أمره، أما أمراء مصر وقوادها فأخذوا يهربون إلى الكرك وينضمون إلى الناصر بمماليكهم وأموالهم وأسلحتهم، تاركين أولادهم بمصر، فبدأ الشك يساور بيبرس، وارتاب في جميع المماليك بسبب ذلك، وزاد الأمر حرجاً أن البرجية، وهم أعوان بيبرس استغلوا ظروفه الحرجة وأخذوا يظهرون جشعهم، ويطلبون ثمن إخلاصهم، ثم استبد الخوف بيبرس وارتاب في أخلص الناس إليه، وقبض على كثير من الأمراء والمماليك، وقطع رواتبهم وأرسل كتاباً شديد اللهجة إلى الملك الناصر ليعيد من هرب إلى مصر، وأغلظ فيه وأفحش على غير عادته، ولكنه الضعف دائماً، وحرج المركز، يسببان الشعور بالنقص، فيعوض الإنسان هذا الشعور، بالتكبر والتعالي مرة، ويبذىء الألفاظ مرة أخرى، وبالوعيد والتهديد آناً آخر، وقد أشارت بطانة الناصر عليه، أن يرد على بيبرس رداً ليناً إمعاناً في الخديعة، حتى يتم الاستعداد، وينفض عنه الجميع.
رد مخادع
كتب الناصر إلى بيبرس جواباً على طلبه من هرب من الأمراء هذا نصه: (المملوك محمد بن قلاوون يقبل اليد العالية المولوية السلطانية المظفرية أسبغ الله ظلها، ورفع قدرها ومحلها. . . لما علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة وسيرت إليهم ألومهم على ما(873/18)
فعلوه. . . وعلمت أنهم إنما هربوا خوفاً على حياتهم، واستجاروا بالمملوك، والمملوك يستجير بظل الدولة المظفرية. . . والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل، والله تعالى قال في كتابه الكريم، وهو أصدق القائلين (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
عرش يتهاوى
وصل هذا الجواب للملك المظفر فاطمأن خاطره، واستنام إلى الخديعة، ولم يقرع له ناقوس الخطر إلا كتاب وصل إليه من الأفرم نائب دمشق بأن الناصر خرج من الكرك بقضه وقضيضه، وأن كل أمراء الشام قد انحازوا إليه بعساكرهم وأموالهم، وأن منابر الشام بدأت تدعو للناصر ومنعت اسم بيبرس من الخطبة، وشاع خبر خروجه في مصر، فازدادت حركة الهرب والانحياز إليه من المماليك والأمراء، ثم أخذ المظفر يرسل الجيش تلو الجيش لمحاربة الناصر فيفر الجنود والأمراء ويلتحقون بجيش الناصر في الشام.
يجني عليه اجتهاده
هال المظفر ما يدور حوله، وشعر بحرج مركزه فرأى تجديد البيعة لنفسه، واستدعى الخليفة، وحلف بين يديه الأمراء، واستكتبه عهداً جديداً ليتلى في المساجد على مسامع الشعب، ونسخة العهد: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي إلى أمراء المسلمين وجيوشها (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وإني رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفر ركن الدنيا نائباً عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية وأقمته مقام نفسي لدينه وكفاءته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحكمت بذلك الحكام الأربعة، واعلموا رحمكم الله أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا صاغر عن كابر، وقد استخرت الله تعالى ووليت عليكم الملك المظفر فمن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى أبا القاسم ابن عمي صلى الله عليه وسلم. وبلغني أن الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم وشتت(873/19)
شملهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية لسبي الحريم والأولاد، وسفك الدماء وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك. . .
وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي اللواء الشريف. . .
ولما قريء هذا العهد على منابر مساجد القاهرة وبلغ القارئ اسم الناصر صاحت العوام نصره الله نصره الله، ولما وصل إلى اسم الملك المظفر صاحوا لا لا، ما نريده، وقامت ضجة وحركة في القاهرة ومصر بسبب ذلك.
حتى ختنه وصديقه
كان بروغلي قائد قواد بيبرس وزوج ابنته لما رأى العسكر والقواد يفرون إلى الناصر طلب إلى المظفر أن يقود الجيش بنفسه فتعلل بيبرس بكراهيته للفتنة وسفك الدماء، واكتفى بتجديد البيعة وعهد الخليفة، فلم يرق ذلك في نظر بروغلي، وقال له على لسان الرسول (يا بارد الذقن هل بقي أحد يلتفت إلى الخليفة؟) ثم هرب مع جيشه وانضم للناصر وإذ ذاك سقط في يد المظفر وعلم بزوال ملكه، وظهر عليه اختلال الحال وأخذ خواصه يلومونه على أخطائه، ككل ملك يأفل نجمه فيكثر ناقدوه وتعد حسناته سيئات، وكان أكثر لومهم له في إبقائه سلار، وإغضائه الطرف عنه، مع أن جميع ما حصل من اختلال الدولة بسببه؛ فإنه لما فاتته السلطنة وقام بيبرس فيها حسده على ذلك، ودبر عليه، واشترك في إثارة الفتنة مع دسائس الناصر (وبيبرس في غفلة عنه فإنه كان سليم الباطن لا يظن أن صديقه يخونه).
ويل للمغلوب
بلغ من انحلال أمر بيبرس أن العوام كانوا يعلنون سبه في الشوارع، ويهتفون به تحت أسوار القلعة، فلم يجد بداً من أن يكتب للناصر بتنازله عن الملك وقال في كتبه (إن حبستني عددت ذلك خلوة، وإن نفيتني عددت ذلك سياحة، وإن قتلتني كان ذلك شهادة) ثم فكر في ترك القاهرة خلسة والسفر إلى أسوان للاحتماء ببلاد النوبة، لأنها من قديم مهرب لمن هوى نجمه من أمراء مصر وحكامها (فكأنما نودي في الناس بأنه خرج هارباً، فاجتمع العوام وعندما برز من باب الإسطبل صاحوا به وتبعوه ثم تجاوزا الحد في إهانته وشتمه(873/20)
بل أخذوا يقذفونه بالحجارة.
في ساعة العسرة
عز على مماليك بيبرس السبعمائة ما فعلته العامة بسيدهم فثارت ثائرتهم، وهموا بوضع السيف فيهم، ولكن بيبرس الذي لاقى ما لاقى في سبيل خدمة الشعب والمحافظة على ماله لم يقبل أن يسيء إلى أحد، ونهاهم عما هموا به، وطلب إليهم أن ينثروا ما معهم من الذهب على العامة لينشغلوا بجمعه عن السب والإهانة والجري وراء الركب، وقد نفذ مماليكه أمره، وأخرج كل منهم حفنة من الذهب ونثرها على الشعب، ولكن العامة لم تلتفت للذهب ووجدت في القسوة على هذا العزيز الذي ذل مغنماً أكبر من الذهب؛ وبذئ الألفاظ دائماً أشهى إلى نفوس العامة من كل طعام آخر، فاستمروا يعدون خلف الملك، وهم يسبون ويصيحون؛ ولما علم خطباء المساجد إلى الوجه القبلي أسقطوا اسمه من الخطبة، وأعلنوا على المنابر اسم الملك الناصر.
لعن الله الدنيا:
كان أتباع المظفر يتناقصون كلما أوغل في السير للجنوب وما وصل إلى إخميم حتى كان أكثر مماليكه قد فارقه، فانثنى عزمه عن الوصول إلى أسوان وعاد أدراجه في طريقه إلى السويس ليذهب منها إلى بلاد الشام. وأرسل السلطان في طلبه بعض الأمراء برياسة قراسنقر فأدركوه في غزة وأراد من بقي حوله من المماليك أن يدافعوا عنه ليخلص من الطلب فقال (أنا كنت ملكاً وحولي إضعافكم ولي عصبة كبيرة من الأمراء وما اخترت سفك الدماء) ومازال بهم حتى كفوا عن القتال وسلم نفسه لقراسنقر وكذلك سلم مماليكه السلاح. . . وفي طريق عودة الجميع إلى القاهرة لمقابلة الناصر قابل الركب في الخطارة بمديرية الشرقية رسول آخر من الملك، أنزل المظفر عن فرسه، وقيده بقيد أحضره معه فبكى وتحدرت دموعه، فشق ذلك على قراسنقر وقال: لعن الله الدنيا! يا ليتنا متنا وما رأينا هذا اليوم! ورمي قلنسوته على الأرض من شدة الألم، مع أن قراسنقر كان أكبر الساعين ضد المظفر والعاملين على زوال ملكه. وبلغ الناصر ما أظهره قراسنقر من العاطفة نحو بيبرس فطلبه ليقتله، ولم يجد مجالاً للخلاص إلا الهرب إلى بلاد الشام. وليت شعري كيف(873/21)
يعاقب الإنسان على عاطفة أثارتها حوادث دامية يتفتت لها الجلمود الأصم.
محاكمة:
مثل المظفر بين يدي السلطان، وقبل الأرض فعنفه الناصر، وأخذ يعدد ذنوبه على مسامعه ويقول: (تذكر وقد رددت شفاعتي في حق فلان، واستدعيت نفقة في يوم كذا فمنعتها، وطلبت مرة حلوى بلوز وسكر فمنعتني، ويلك! وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي) فلما فرغ كلام السلطان قال المظفر: وإيش يقول المملوك لأستاذه؟ فقال السلطان: أنا اليوم أستاذك وبالأمس طلبت إوزاً مشوياً، فقلت إيش يعمل بالإوز؟ أيأكل عشرين مرة في النهار ثم طلب السلطان وتراً ليخنق به بيبرس أمامه فالتمس المظفر وضوءاً ليتوضأ، ثم خنق المظفر حتى كاد يتلف، ثم ترك حتى فاق وأخذ الملك يعنفه ويزيد في شتمه، وكرر الخنق والإفاقة والتعنيف حتى مات المظفر تحت العذاب فأنزل إلى الإسطبل على درابزين وغسل وكفن ودفن خلف قلعة الجبل وأخفى قبره، وكذلك مثل الملك بابنته وزوجه وصادر أموالهما وحتى جواهرهما بتحريض بطانته، وعلى قمة هذه المأساة وقف الشاعر يقول:
تثني عطف مصر حين وافى ... قدوم الناصر الملك الخبير
فذل الجشنكير بلا لقاء ... وأمسى وهو ذو جأش نكير
إذا لم تعضد الأقدار شخصاً ... فأول ما يراع من النصير
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا(873/22)
في تقسيم النفس
التوافق الفكري
بين سيجموند فرويد والغزالي
للأستاذ نور الدين رضا الواعظ
قد يبدو غريباً إذا قلنا، إن التقسيم الثلاثي الجديد للجهاز النفسي من قبل العلامة فرويد لم يكن حدثاً جديداً، ولا إبداعاً علمياً، لأنه سبق أن تطرق إليه العلامة الغزالي فعندما نقول هذا القول لا يعني أننا نمقت فرويداً ونتعصب للغزالي، أو نريد أن نحط من قيمة فرويد العلمية حتى نرفع من شأن الغزالي لأن كلاً من العلامتين في غنى عن المدح والقدح. ولكننا نريد أن نبحث عن الحقيقة أينما وجدت ونتخذ (خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت) لأن التفكير العلمي يقتضي التجرد عن التزمت، والابتعاد عن التعصب، وإلا اختل (التوازن العلمي) الذي يجب السير بهداه، أثناء البحث والتنقيب عن الحقائق العلمية. . .
وعناصر التقسيم الثلاثي لجهاز النفس عند فرويد هي:
1 - ألهو - وهو ذلك الجانب من النفس الذي يسود فيه مبدأ اللذة. . . بمعنى أن فيه كل الغرائز الفطرية والميول والنزعات الأولية (أو الحيوانية) التي ورثها الإنسان من حياته البدائية ومستقر هذه النزعات هو اللاشعور. وأساسها (الغريزة الجنسية) بمعناها الواسع التي (تشمل كل ما يهدف إلى اللذة في الكائن الحي).
(وألهو في بحثه عن اللذة يخبط خبط عشواء لا يعرف المنطق ولا التبصر ولا وزن الأمور، وإنما هو يندفع في قوة وعنف لإرضاء دوافعه وإشباعها لا يرعى حرمة ولا يكف لحظة).
2 - الأنا. هو الجانب الشعوري من النفس، وهو يدين بمبدأ الواقع، ويتكون من تحول جزء من (ألهو) نتيجة الاتصال بالحياة الخارجية، أي أن هنالك (عملية تفاعلية بين مبدأ اللذة المتمثل في ألهو. . ومبدأ الواقع المتمثل في الأنا، تنتهي بتكوين الأنا تدريجياً). والأنا يقوم بأعماله وفق المنطق والعقل، خلافاً لما عليه (ألهو). ويتأمل في عواقب الأمور(873/23)
ونتائجها، ويزنها بميزان الدافع. . والأنا يطابق ما يسمى بالنفس أو الذات الشعورية). الأنا الأعلى. وهو بمثابة المرشد للنفس ينصحها ويهديها سبيل الرشاد، ويساعد الأنا في صراعه مع ألهو، وينهال عليه بموج من الترغيب والترهيب، ليصمد أمام نداءات (ألهو) الشهوانية، ويردها على أعقابها. والأنا الأعلى يتكون من الدوافع الدينية الموروثة، والتعاليم الأخلاقية، وعن العادات المشتقة من الأبوين، والمربين وعن أوامرهم ونواهيهم.
فيظهر من كل هذا إن الأنا هو الجزء المعذب من النفس لأن كلاً من ألهو والأنا الأعلى يضغطان عليه، هذا بطلباته الشهوانية الهمجية، وذاك بطلباته المثالية الرفيعة. ومن الطبيعي أن الأنا يقف حائراً بين هذه الأصوات المرعبة التي تزن في أذنه فلا يؤمل له الفلاح إلا إذا تمكن من إيجاد توازن في نفسه بين هذه الدوافع والأصوات. . فإن لم يجد توازناً بين هذه الدوافع، فإن العاقبة ستكون وخيمة عليه.
وعناصر النفس عند الغزالي ثلاثة كذلك: ولكن يجب أن نصرح، أن جوهر التقسيم مختلف بينه وبين فرويد. . وهي:
1 - الأمارة بالسوء من النفس: ويراد بها ذلك القسم من النفس (الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان) والتي (تركث الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان وهي مذمومة غاية الذم. . . لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى فأنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
2 - اللوامة من النفس:
ويراد بها ذلك القسم من النفس الذي (لم يتم سكونه، ولكنه صار مدافعاً للنفس الشهوانية ومعترضاً عليها، لأنه يلوم صاحبه عند تقصيره في عبادة مولاه) والنفس اللوامة محمودة (لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات).
3 - المطمئنة من النفس:
(وهي التي سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات) وهي لطيفة ربانية روحانية. وهي المدركة من الإنسان، والمخاطبة؛ والمعاتبة، والمعاقبة والمطالبة. جريانها في البدن وفيضانها فيه، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت، فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به.(873/24)
ولإيضاح علاقة هذه الأقسام الثلاثة من النفس ببعضها، يورد الإمام الغزالي عدة أمثلة، نقتبس منها مثالاً واحداً. . . نوضح به العلاقة القائمة بين هذه الأقسام من النفس:
(إن مثل نفس الإنسان أعني النفس اللطيفة - أو (الأنا) على حد تعبير فرويد - كمثل ملك في مدينته ومملكته، لأن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها؛ وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعمال، والقوة العقلية - أي النفس المطمئنة (أو الأنا الأعلى) على حد تعبير فرويد. . . له كالمشير الناصح والوزير العاقل. . والشهوة. . أي النفس الأمارة بالسوء أو (ألهو) على حد تعبير فرويد. . كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة.
والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد السوء (ألهو) الجالب للميرة، كذاب خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح، وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدته وعادته منازعة الوزير الناصح (أي الأنا الأعلى) في آرائه وتدبيراته، حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الملك في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره ومستشيراً له ومعرضاً عن إشارة العبد الخبيث مستدلاً بإشارته، على أن الصواب في نقيض رأيه حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً ومأموراً مديراً لا أميراً مديراً استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه.
كذلك النفس متى استعانت بالقوة العقلية المدركة (المطمئنة) أو (الأنا الأعلى) وأدبت حمية الغضب وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى. . تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة يقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة، كان كمن قال الله تعالى فيه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم).
فلست أدري، بعد هذا. . هل أنا مصيب في قولي إن الغزالي قد تطرق إلى التقسيم الثلاثي للنفس قبل أن يتطرق إليه فرويد أم لا؟!
نور الدين رضا الواعظ
كلية الحقوق. بغداد(873/25)
من أدب الشباب
خذلان
يا صديقي العزيز:
لشد ما أتألم حين أتصور وجهك الهادئ المنبسط تغضنه يد الألم،
وروحك الوادعة الساكنة تعصف بها نوبة من الشجي المرير وأنت
تقرأ هذه الخطاب!. . . ولشد ما يزداد ألمي حين أذكر إنني كاتب هنا
السطور وباعث هانه الآلام!!
أنا يا عزيزي ذلك الإنسان الذي كان يحشد لك في رسائله كل رائع وجميل، ويقطف البسمات من ثغور الناس ليحيلها إلى كلمات تبعث المسرة في نفسك، وتوقظ النشوة في عواطفك، وتحمل إليك من معرض السعادة أجمل الصور وأنضر الألوان!!
ولكن الذي يشجعني أيها العزيز أن ما أذكره الآن حقائق لها في دنيا الشعور صيد كبير، وما أجدرنا أن نحترمها مهما كانت قاسية!!
يا صديقي العزيز ما أظن أن فترة في تاريخ صداقتنا الغالية تظفر منك بالاهتمام والتقدير مثل تلك الفترة التي كنا نعمل فيها جادين لدخول مسابقة أدبية عقدتها إحدى الهيئات الثقافية بالقاهرة!
لقد كنا إذ ذاك في لغة الطبيعة نسرين لا ينظران غير الأفق، ولا يجيدان سوى التحليق؛ وفي لغة الصداقة قلبين عرف الحب فيهما نعمة الخلود، وعرف الوفاء بهما نعمة البقاء. وكنا كما شاءت لنا أحلام الشباب، وما أروع ما تشاء تلك الأحلام وتريد!
وما أظن أن يوماً في تلك الفترة ترعاه ذكراك مثل ذلك اليوم الذي كنا نتسابق فيه إلى بائع الصحف لنقرأ رأي لجنة التحكيم في نتاجنا الأدبي الباكر!
لقد تخاطفنا الجريدة إذ ذاك من يد البائع وراحت نظراتنا تنهب صفحاتها في سباق جنوني. . . وتحت عنوان خاص تلاقت نظرتان: أما نظرتك فقد استحالت إلى إطار من الأمل المشرق يضم في حناياه ذلك الاسم المحبوب الذي يزهو في قائمة الفائزين؛ وأما نظرتي فقد ارتدت مذعورة لتدفن أساها في فيض من الدموع. . الدموع التي أرسلها قلبي لتنوب(873/26)
عنه في مأتم الخذلان!!
آه يا صديقي لقد جفت دموعي إذ ذاك والتفت إليك وعلى ثغري ابتسامة قلقة هي أشبه ما تكون بممثل يصعد خشبة المسرح لأول مرة!! ورحت أشد على يدك في حرارة بل، وامتد ثغري إلى جبينك يترجم التهنئة إلى لغة القبلات!
آه يا صديقي لقد عدت أنت إلى منزلك لتضيف إلى أمجادك صفحة ناصعة، وانزويت أنا في منزلي أتلمس معاني الخذلان في هذا الوجود!!
النجوم تتراءى أمام عيني وكأنها تستعطف الليل أن يسدل عليها أستار الغيوم. . أجل فلاشك أنها تستشعر الخذلان أمام هذا البدر المشرق الذي لا يفتأ يزهو عليها بأضوائه الألاقة الزاهية.
ولكن ألا يجوز أن يكون هذا البدر هو الآخر مخذولاً ينشر العزاء في رحاب الليل، وأن تكون تلك النجوم دموعه الحارة الذليلة! أجل فلاشك أنه يستشعر الهوان إلى جانب الشمس تلك التي لا تزال تميس بأنوارها كلما أقبل النهار. . أيها الليل إنني أنا الآخر مخذول! ألا يوجد لديك مكان يسعني لأذرف فيه دموعي!!
تلك يا صديقي هي الخواطر التي كنت أتقلب على لظاها في ذلك المساء القلق حتى حمل إلي البريد صباح ذلك خطاباً منك كان ولاشك أثراً من آثار تلك الأحلام التي أغفت أفكارنا الشابة في رحابها الرخية الوارفة!! وها أنت ذا تقول في خطابك: (الآن يا صديقي آمنت أن الصداقة تفعل المستحيل. إنها السائل العجيب الذي يستحيل فيه الصديقان إلى إنسان واحد، وتستحيل فيه آمالهم الرحيبة إلى أمل واحد! أجل يا أخي لا تتردد في قبول ذلك الرأي فأنت أول دليل ألتمسه له. ألم أفز أنا وتخفق أنت في مسابقة واحدة، وبالرغم من ذلك كنت أحس النشوة الغامرة ترعش أناملك وأنت تشد على يدي والفرحة، الفائرة تلهب شفتيك وأنت تقبل جبيني. . لقد كنت أود أن أشكرك أيها العزيز ولكني سوف أشكر الصداقة - الصداقة التي تفعل المستحيل!!).
وهنا يا عزيزي أيحزنني أن أقول لك أن هذه الحرارة التي تحدثت عنها لم تكن إلا حرارة القلب الذي يحترق، وأن هذه الرعشة لم تكن إلا رعشة الطائر الذبيح، وأن اسمك الكريم، أسمك الذي كنت أهتف به حين أراك مثلما يهتف العاشق بأغنية كانت ترددها حبيبته. .(873/27)
اسمك هذا لم يكن ثقيلاً على نفسي مثلما كان ذلك اليوم. لقد خيل إلي أنه اغتصب ذلك المكان الذي كنت أهيئه لاسمي أنا وتربع فيه ولكن على أنقاض أمل نضير!!
أنا أحبك يا صديقي؛ هذا لاشك فيه، ولكني قبل ذلك أحب نفسي تلك هي الحقيقة التي ضلت طريقها إلى قلوبنا وتركتها تعبد الوهم في دير الأحلام!
حسب الصداقة يا أخي أنها أحالت ذلك الشعور بالخذلان، ذلك الشعور الذي يلون الوجود بألوان المقت والكراهية حسبها، أنه تحيله إلى بسمات لا يفيدنا أن تكون مسرحية؛ فالواقع يا صديقي أن العالم مسرح كبير!
المنصورة
محمد أبو المعاطي أبو النجا(873/28)
رسَالًة الشِّعر
أشواق حائرة!.
للآنسة فدوى طوقان
ماذا أحس؟ هنا، بأعماقي ... ترتج أهوائي وأشواقي
بي ألف إحساس يحرقني ... متدافع التيار، دفاق
ألف انفعال، ألف عاطفة ... محمومة بدمي، بأعراقي
ماذا أحس؟ أحس بي لهفاً ... حيران يغمر كل آفاقي
جفت له شفتاي وارتعشت ... إظلاله العطشى بإحداقي
نفسي موزعة، معذبة ... بحنينها، بغموض لهفتها
شوق إلى المجهول يدفعها ... متقحماً جدران عزلتها
شوق إلى ما لست أفهمه ... يدعو بها في صمت وحدتها
أهي الطبيعة صاح هاتفها؟ ... أهي الحياة تهيب بابنتها؟!
ماذا أحس؟ شعور تائهة ... عن نفسها تشقي بحيرتها!.
قلبي تفور به الحياة وقد ... عمقت ومدت فيه كالأمد. .
فتهز أغواري نوازعه. . ... صخابة، دفاقة المدد. .
ويظل منتظراً على شغف. . ... ويظل مرتقباً على وقد. .
أحلام محروم تساوره ... متوحد في العيش منفرد!
ويود لو تمضي الحياة به ... للحب، مصدر فيضها الأبدي!
وهناك تومئ لي السماء وبي ... شوق إليها لاهف عارم
فأحس إحساس الغريب طغى ... ظمأ الحنين بروحه الهائم
وأرى كواكبها تعانقني ... بضيائها المترجرج الحالم
تهمي على روحي أشعتها ... وتلفه بجناحها الناعم
فأود لو أفني وأدمج في ... عمق السماء ونورها الباسم!
مالي يزعزعني ويعصف بي ... قلق عتي، جائح الألم
تتضارب الأشواق حائرة ... في غور روحي، في شعاب دمي(873/29)
الأرض تعلق بي وتجذبني ... وتشد قبضتها على قدمي!
وهناك روحي هائم شغف ... بالنور، فوق رفارف السدم
مستحقر للأرض تفزعه ... دنيا التراب وهوة العدم!
روحي يلوب بدار غربته ... عطشاً إلى ينبوعه السامي
فهناك أصداء يسلسلها ... سوت السماء بروحي الظامي
وهنا هنا في الأرض يهتف بي ... صوت يقيد خطو أقدامي
صوتان، كم لجلجت بينهما ... يتنازعان شراع أيامي
وأنا كيان تائه. . قلق. . ... يطوي الوجود حنينه الطامي!. .
نابلس
فدوى طوقان(873/30)
إلى الحبيب
للشاعر الشاب طالب الحيدري
صاحب (ألوان شتى)
إلى القدح الذي تحطم على شفتي
إلى الوتر الذي أغفى على يدي
إلى الربيع الذي ألهمني ديواناً من الشعر
إلى الذي قال: أنالك. . وسرعان ما انقلب!
هموم نفسي تكاد تقتلها ... فهل لقاء به أعللها؟
إن غراماً أقام في كبدي ... أقسم بالله ليس يرحلها
آمنت أن القلوب أبردها ... أقفرها من هوى وأعطلها
وأن أفكارنا التي صدئت ... يرهفها حبنا ويصقلها
وأن هذي الجسوم أصدقها ... صبابة في الغرام أنحلها
ما لجفون الملاح أفترها ... أصرعها للفتى وأقتلها!
وليلة بتها على علل ... غيري من الناس ليس يحملها
شهرتها: لا السكون يغمرها ... ولا هلال الدجى يكللها
وسادتي: والأنين يحرقها ... يطفئها الدمع إذ يبللها
يا هاجري لو وصلت لازدهرت ... نفس على الملتقى معولُها
تلك اللييلات هل ستذكرها ... ذاكرتي أم أنت سوف تغفلها؟
لي طلعة أثر السهاد بها ... والهجر حتى لكدت تجهلها
أبعد هذا الغرام تهجرني ... خابت إذن ساعة أُؤملها
تحمل النفس فوق طاقتها ... تفديك تلك التي تحملها
عدت على العكس لا الهوى قبل ... نعلها بيننا وننهلها
ولا الليالي كالعهد ساهرة ... نقطعها لذة ونقتلها(873/31)
ولا الأحاديث كلها أمل ... يسكرنا عذبها وسلسلها
ولا الأويقات وهي غالية ... نشربها بيننا ونأكلها
ولا المواعيد وعي باسمة ... في الليل أو في النهار نجعلها
ولا الترانيم وهي راقصة ... نبعثها في الهوى ونرسلها
ولا الأماني التي نحققها ... ولا الصعاب التي نذللها
ولا العيون التي نكحلها ... ولا الخدود التي نقبلها
نفسي وهي التي أضن بها ... بل وعلى غيرها أفضلها
ثق أنني في الهوى أقدمها ... وفي سبيل اللقاء أبذلها
نفسي فدى خصلة مجعدة ... كان نسيم الصبا يرجلها
نفسي فدى ريقة معطرة ... أرشفها خمرة وأنهلها
كأنها والعبير يغمرها ... حديقة قد ذكا قرنفلها
نفسي فدى مقلة معربدة ... يثملني سحرها ويثملها
كنت إذا استغرقت أهدهدها ... كطفلة أمها تدللها
نفسي فدى وجنة موردة ... كنت متى أشتهي أقبلها
بحمرة الجلنار أصبغها ... بماء الورد الرياض أغسلها
صلني فنفسي يكاد يسقمها ... هجرك، لا، بل يكاد يقتلها
عللت نفسي بالصبر مجتهداً ... هيهات فالصبر لا يعللها
بغداد
طالب الحيدري(873/32)
اللقاء الأخير
للشاعر الروسي إيفان تورجنيف
ترجمة الآنسة سلوى الحوماني
كنا حبيبين سعيدين. . . ثم جاءت اللحظة المشئومة فافترقنا كالأعداء.
وكرت سنون عديدة. . وفي ذات مرة، عندما كنت أزور المدينة التي يسكن فيها حبيبي، علمت أن اليأس من لقائي قد حطمه.
ذهبت إليه، ودخلت عليه، وتلاقت أعيننا.
ولأياً استطعت أن أعرفه. . يا لله! أي مرض خبيث قد عصر حبيبي؟. . شحوب. . ارتعاش. . ذبول
ورأيت جسم حبيبي يذوب تحت ثوبه المهلهل
بدا لي في قميصه الممزق كأن جسمه الواهي لا يستطيع تحمل ضغط الثوب. . وبجهد مد إلى يده المرتعشة التي تنوء بحمل عظامها، ونفث بضع كلمات غامضة. . خرجت حائرة تتعثر بين السلام والملام
وكان لهاثه يكاد يمزق صدره الهزيل المضني. . وكذلك إنساناً عينيه تقلصا حتى كادا أن يتلاشيا
وتفصدت من عيني حبيبي الذاويتين عبرتا أن تكسرتا على وجهه الشاحب
انفطر قلبي لمرأى حبيبي. وجلست إلى جانبه يتنازعني الألم والرعب من شبح المرض الجاثم عليه.
وداخلني شعور عميق بأن هذه اليد التي تصافح يدي ليست يد حبيبي، وخيل إلي أن امرأة طويلة كاللانهاية، صامتة كالأبدية، باهتة كالعدم تجلس بيننا. . هي ملتفة من رأسها لقدميها بكفن كبير، عيناها الحادتان الغائرتان الشاحبتان تحدقان في الفضاء، وشفتاها الصارمتان المطبقتان الباهتتان لا تنفرجان عن كلمة. هذه المرأة لمست أيدينا. . ووفقت بيننا إلى الأبد، نعم هو الموت الذي وفق بيننا!
سلوى الحوماني(873/33)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
سيرة الجيل الجديد في الأزهر
نشرت في العدد السابق من (الرسالة) ما تلقيته من الطالب (ضياء الحائر بكلية الشريعة) متضمناً شكواه من كتب الدراسة الأزهرية. ولم أتوسع في التعليق عليها، انتظاراً لما عسى أن يبدي من آراء ووجهات نظر تنير جوانب الموضوع ونستطيع أن نتبين في ضوئها اتجاه الرأي العام الأزهري فيه.
ولم ألبث حتى جاءت الرسائل تترى من الطلبة، تعبر عن الارتياح لإثارة الموضوع، وتهيب بي أن أجيل القلم فيه، وتفيض بالألم والشكوى مما يعانونه منها. وكتب بالعدد الماضي من (الرسالة) اثنان يعطفان على (ضياء الحائر) ويؤيد إنه فيما أبداه، كما كتب الأستاذ سليمان دنيا مقالاً عالج فيه الموضوع على نحو يقوي جانب تلك الكتب، وسيأتي الكلام على ما تضمنه هذا المقال بعد النظر في رسائل الطلبة الذين يستصرخون، وهم الجيل الجديد الحائر الذي ينبغي أن يتوجه الاهتمام إليه، عسى أن يؤخذ بيده ليسير نحو مستقبل يرجى له وللثقافة الإسلامية على العموم.
يقول (ص. أ. ج بمعهد طنطا) في رسالته الطويلة: (قرأت اليوم العدد781 من مجلة الرسالة وتصفحت خطاب الأستاذ الحائر فشممت منه رائحة العواطف المحترقة والمشاعر المحتضرة، واطلعت على تعليقك على كلمة (الحائر) وأغلب ظني أنها من الحيرة التي تكتنفنا جميعاً وكان الواجب عليه أن يعبر بلفظ (الحائرون) لأن البلية طامة) وينقل إلى عبارات من الكتب المقررة منها، ما قاله صاحب النهاية المقررة على طلبة السنة الثانية الابتدائية بعد أن عرف التيمم: (والأصل فيه آية وإن كنتم مرضى أو على سفر وخبر جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهورا، وسوغ الاستدلال بهذا الخبر قرينة سياق الامتنان وكذا الانتقال إلى التخصيص بعد العموم إذ مفهوم اللقب مع القرينة حجة كما صرح به الغزالي) ومنها ما جاء في كتاب آخر (ولضاب الذهب الخالص ولو غير مضروب عشرون مثقالاً وهو لم يتغير جاهلية ولا إسلاماً والمثقال اثنتان وسبعون حبة وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال) ثم يقول: (وليس الأمر(873/35)
مقصوراً على كتب الفقه، وإليك عبارة من كتاب البلاغة بالنص: (فإن قيل هو أي وجه الشبه مشترك فيه ضرورة اشتراك الطرفين فيه فهو كلى ضرورة أن الجزئي يمتنع وقوع الشركة فيه والحسي ليس بكلى ضرورة أن كل حسي فهو موجود في المادة حاضر عند المدارك ومثل هذا لا يكون إلا جزئياً ضرورة فوجه الشبه لا يكون حسيا قط - قلنا المراد بكون وجه الشبه حسياً أن أفراده أي جزيئاته مدركة بالحس كالحمرة التي تدرك بالبصر جزيئاتها الحاصلة في المواد) أواه! أواه من أي التفسيرية وما فعلت بعقولنا وما أنهكت من جسومنا وهدت من قوانا إن كان قد بقي فينا شيء من قوة!).
ولا أريد أن أطيل بعرض محتويات بقية الرسائل، وهي من (أحمد السيد خضر طالب بكلية الشريعة) و (فتحي محمد عبد الحافظ بمعهد طنطا الثانوي) و (السيد عوض محمود الجعفري بمعهد فاروق الثانوي) و (رفاعي خاطر بكلية الشريعة).
وكلها تعبر عن القلق والحيرة والألم، وتفصح عن التطلع إلى التعديل والإصلاح ومسايرة الزمن، ومما يقوله الطالب فتحي عبد الحافظ (هذا رأينا نحن الطلاب وأما رأي أساتذتنا الأفاضل فيكفيك أننا كنا نقرأ هذا الموضوع أمام أحد الأساتذة الإجلاء فكان جوابه أن هذا كلام ليس له ظل من الحقيقة، وحجته في ذلك أن هذه العلوم المعميات تفتق الذهن وتوسع مدارك الفهم، وكيف تأخذ رأي أستاذ عاشر هذه الكتب طول حياته وأصبحت هي غذاءه الوحيد؟).
وأنا والله لا أدري كيف تفتق تلك المؤلفات الذهن وتوسع مدارك الفهم! كيف يدرك الطالب في السنة الثانية الابتدائية أن الذي سوغ الاستدلال بالخبر قرينة سياق الامتنان إلى آخر ما صرح به الغزالي. . حتى يكون ذلك مدعاة إلى تفتيق ذهنه وتوسيع مداركه؟ ثم ما (لضاب الذهب) الخالص مضروباً أو غير مضروب، وما الشعيرة المعتدلة التي لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال؟ ما هذا وأمثاله، مما وضع في العصور الماضية، من إفهام ناشئين في القرن العشرين بمصر حيث يتعامل الناس بالجنيه والقرش والمليم! وهذه البلاغة من قال بأنها بلاغة وصاحبها لا يكاد يبين؟.
هل المقصود من دراسة تلك المؤلفات ما فيها من علم أو هي نفسها المقصودة؟ فإذا كان العلم هو الغرض فلماذا يصرون على حبسه بين جدرانها المغلقة، ولماذا لا يستخرج ما فيها(873/36)
من (الخير الكثير) ويجلي لأهل العصر في أسلوب العصر، ويوجه الجهد الذي يبذل في فهم العبارات الغامضة إلى ألوان المعرفة المتعددة أو إلى التطبيق على مسائل الحياة العصرية الواقعة.
يذهب الأستاذ دنيا إلى أن (الخير كل الخير للأزهر في أن تكون دراسته مستوعبة تتناول المؤلفات منذ عرف المسلمون التأليف والتدوين، تدرسها وتتبين أسلوبها ومنهجها وموضوعاتها) ويقيس ذلك بأن العلماء من غير الأزهريين يدرسون الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ ليعرفوا أسلوب تفكيره وطريقة بحثه والموضوعات التي استرعت انتباهه فأخضعها لتفكيره وبحثه الخ. فهل يريد الأستاذ أن يدرس الطلاب جميعاً من البدء إلى النهاية على نمط أساتذة قليلين معنيين بدراسات خاصة؟ وهل يريد أن تكون الدراسة بالأزهر كلها تاريخ مؤلفات وطرائق مؤلفين!
نحن أمام علوم ذات حقائق معينة، فهل ندع هذه الحقائق لندرس عبارات المؤلفين ونجهد في تفسيرها أو نعمد إلى الحقائق نفسها فنكشف عنها وندنيها من الإفهام والعقول وننميها بإضافة ما استحدث بعدها؟ لقد عالج الأستاذ الموضوع معالجة فيلسوف يجلس في البرج العاجي، معالجة بعيدة عن الواقعية والأغراض التربوية.
سألت في كلمتي السابقة: (هل انتفع الأزهريون بما حصلوه من العلوم الحديثة وما رأوه من طرائقها في ثقافتهم الأزهرية الأصيلة!) وأنا لا أقصد السؤال عن فائدة العلوم الحديثة في ذاتها، كما فهم بعض من كتبوا إلي، وإنما أعني أثرها في عرض العلوم الشرعية والعربية بالأزهر، ولماذا لم يحتذ الأساتذة الأزهريون حذوها في تأليف علومهم بحيث تكون قريبة المنال ملائمة للعصر داعية إلى التجاوب فيها مع البيئات الأخرى. إن هذه العلوم الحديثة روافد للتثقيف العام بالنسبة للأزهريين، وقد جرت في الأزهر ومعاهده على أيدي المصلحين العصريين، فاستفادوا منها ولاشك، ولكن لا يزال بينها وبين العلم الأزهري الصميم من شريعة ولغة حاجز قائم، إذ لا يزال هذا العلم على حاله القديم لم يتأثر بطرائق العلوم الحديثة. وأنا أعتقد أن باب الإصلاح الحقيقي في الأزهر ما زال مغلقاً، ولم تدخل شمس الإصلاح الحديث إلى ذلك العلم الأزهري الصميم إلا من كوى ضيقة، نفذت هذه الشمس إلى النحو قليلاً، فلم يعد الطالب يبدأ بإعراب (بسم الله الرحمن الرحيم).(873/37)
أما علوم الشريعة وما يسمونه (بلاغة) فلا تزال في ظلام دامس من طرائق العصور الماضية التي لا تتفق مع العصر الحاضر.
والأمر كله يتلخص في أمرين، الأول الكتب القديمة المعقدة التي يفرض إدراك مراميها الخفية المستعصية على طلاب يتلقون معارف كثيرة، مختلفين عن أسلافهم على الأقل في أن الأسلاف كانوا متفرغين لها غير مطالبين بتحصيل ما جد من العلوم والمعارف، والأمر الثاني هو وقوف العلماء المحصلين لهذه الكتب أنفسهم عندما وقفوا عليه منها، معرضين عن تنميتها بما يلائم واقع الحياة الحاضرة.
ولا يقتصر ضرر ذلك على طلبة الأزهر، بل هو يمتد إلى المحيط الإسلامي كله، لأن استغلاق الدراسة الإسلامية في الأزهر يباعد بين هذه الدراسة وبين المتعلمين في خارج الأزهر لأنهم يجدونها صعبة المنال بل مستحيلة التحصيل، فكان من ذلك انفصال عقلية المتعلمين المسلمين من غير الأزهريين عن الحقائق الإسلامية. وهذا من أسباب عدم التجاوب بين المجتمع وأبناء الأزهر.
بعد كتابة ما تقدم وصلتني رسائل من حضرات (جمعة الباكي بكلية الشريعة ومحمد عبد العزيز عمر طالب بمعهد أسيوط وعبد الصبور الغندور ومحمد السعيد بكلية الشريعة) ويظهر أن ما تضمنته سيحملني على معاودة الكتابة في الموضوع. وعلى ذلك يعتبر الباب مفتوحاً. . .
مسابقة المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بإعلان نتيجة مسابقته الأدبية لسنة 1949 - 1950 بدار الجمعية الجغرافية الملكية يوم الأحد الماضي فألقى الأستاذ إبراهيم مصطفى كلمة عبر فيها عن سرور المجمع بهذا اليوم الذي يعد من أيامه ومواسمه. وتحدث عن مكافأة المجمع على الإنتاج الأدبي فقال إنها كانت في أول الأمر هبات من نفوس كريمة ثم رصد لها المجمع في ميزانيته 800 جنيه كل عام. ثم تحدث عن موضوعات هذه المسابقة فقال إنها كانت تشمل القصة والبحث الأدبي، فأما القصة فإن المجمع لم يتلق من آثار المتنافسين ما يرضاه لسمو هذا الفن. وأما البحث الأدبي فقد شمل تحقيق كتب عربية قديمة وقد فاز منها أربعة حققها دارسون مجدون قادرون، وفاز في الدراسات الأدبية بحث عن (رفاعة(873/38)
الطهطاوي) وهو أحد الموضوعين اللذين حددهما المجمع ليلتفت بالكاتبين إلى درس أدبنا الحديث.
وقد عرف الأستاذ بالكتب المحققة الفائزة ومكانتها الأدبية، كما عرف برفاعة الطهطاوي موضوع الدراسة الفائزة ثم أعرب عن اغتباطه بفوز السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) قائلاً إنها أول فائزة بجائزة من المجمع. وقد فات الأستاذ أن أول فائزة بجائزة من المجمع هي السيدة سهير القلماوي على بحثها في ألف ليلة وليلة. ثم قال إنه يأمل أن يجد في المجمع اللغوي زميلات يعملن مع الأعضاء العاملين. . . ولعل الأستاذ يتيح بذلك للسيدات المطالبات بالحق السياسي أن يطالبن أيضاً بالحق اللغوي. . . ولعلهن بعد أن ينلن هذا الحق يرضين عن نون النسوة التي كن يطالبن المجمع اللغوي بإلغائها. . .
ولم يدع الأستاذ إبراهيم مصطفى النحو، أو لم يدعه النحو، فعندما أراد أن يزجي التهنئة إلى الفائزين جعل يخرج كلمة (تهنئتي) هل من إضافة المصدر إلى فاعله أو من إضافة المصدر إلى مفعوله، وعلى هذا الإعراب يكون المعنى (نهنئ أنفسنا).
ويلاحظ أن الكلمة في مجموعها كانت (سائحة) إذ لم يوجه الأستاذ همه إلى ناحية أدبية يأتي فيها بغير ما يشبه تقارير اللجان، ومن أمثلة هذه الناحية ما ألقاه الدكتور طه حسين بك في تقديم إحدى المسابقات الماضية عن (البحث الأدبي) وما ألقاه الأستاذ العقاد في تقديم إحداها عن (مدارس الشعر المعاصر) وما ألقاه المرحوم المازني في إحداها أيضاً عن (الشعر الوسط).
وبعد أن فرغ الأستاذ إبراهيم مصطفى من كلمته، وقف الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي مراقب المجمع فأعلن نتيجة المسابقة كما يلي:
يمنح الأستاذ عبد السلام محمد هارون الجائزة الأولى المخصصة للنشر والتحقيق وقدرها مائتا جنيه عن مجموع جهوده القيمة في تحقيقه ونشره لكتابي الحيوان للجاحظ ومجالس ثعلب لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب.
تمنح جائزة ثانية للتحقيق والنشر قيمتها مائتا جنيه على أن تقسم مناصفة بين السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) لتحقيقها ونشرها رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وبين الأستاذ طه الحاجري لتحقيقه ونشره كتاب البخلاء للجاحظ، تقديراً لما بذلاه في تحقيقهما(873/39)
من مجهود.
يمنح الأستاذ أحمد أحمد بدوي الجائزة المخصصة لأحسن دراسة لرفاعة الطهطاوي بك وأثره في وضع المصطلحات الأدبية، وقدرها مائتا جنيه عن بحثه (رفاعة الطهطاوي بك) تقديراً لما بذل فيه من جهد قيم.
عباس خضر(873/40)
الكُتُب
جنة الحيوان
تأليف الأستاذ طه حسين بك
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(الفن للفن) و (الفن لخدمة المجتمع)، نظريتان تؤثران أعمق التأثير فيما ينتجه الأدباء والفنانون المعاصرون من ألوان الفن والأدب، من حيث طبيعة هذا الإنتاج، والمنابع التي ينبع منها، والمؤثرات التي يتأثر بها، والأهداف التي يهدف إليها. ولكل نظرية من هاتين النظريتين أدباء وفنانون يتشيعون لها، ويخضعون في إنتاجهم لمناهجها المقررة، ومبادئها المحررة، وأهدافها المرسومة، إن صح أن يخضع الفنانون والأدباء للمناهج والمبادئ والأهداف!
فالذين يذهبون في إنتاجهم مذهب الفن للفن يتسم إنتاجهم بالذاتية، ويمتاز بالتجارب الخاصة. وهم لا يريدون بإنتاجهم شيئاً غير التنفيس عن مشاعرهم وأحاسيسهم بالتعبير عنها تعبيراً يكفل لأنفسهم الهدوء والراحة، بعد القلق والعناء، دون أن يقصدوا إلى إمتاع الناس أو نفعهم، وإن كان أدبهم في ذاته يحقق بعض ذلك أو كله للناس.
والذين يذهبون في إنتاجهم مذهب الفن لخدمة المجتمع يعرضون في هذا الإنتاج لما يفيض به المجتمع الذي يعيشون فيه من المشكلات الكثيرة المتنوعة، سواء أكانت هذه المشكلات مادية أم مذهبية أم نفسية. ولا يبغون من وراء ذلك إلا أن توجد الحلول المناسبة لهذه المشكلات فيتحقق بذلك نفع الناس وخدمة المجتمع ولا يعنينا هنا أن نوازن بين أدب هؤلاء وأدب أولئك، وإنما يعنينا أن نذكر هذين اللونين من ألوان الأدب والفن لنقول إن القراء يختلفون اختلافاً شديداً في الإقبال على هذا اللون دون ذاك؛ فبعض القراء يؤثر اللون الذاتي الذي يحقق له المتعة النفسية الكاملة، ويكلف به، ويقبل عليه، وبعضهم الآخر يؤثر اللون الاجتماعي الذي يجد فيه صدى قوياً لحاجاته المادية، ومطالبه الاجتماعية، ويعرض عن سواه مما لا يجد فيه شيئاً من ذلك.
نعم، ولكن هناك لوناً فريداً من ألوان الأدب استطاع أن يلائم بين هاتين النظريتين ملاءمة(873/41)
قوية ناجحة، فاستطاع بذلك أن يجمع هاتين الطائفتين المختلفتين من القراء على الإقبال عليه، والإعجاب به، والتشييع له؛ لأنه جمع بين المتعة الفنية الكاملة التي يحققها التعبير الرائع، والتصوير البارع، والعرض الخلاب، والمنفعة الاجتماعية التي يجلبها تصوير المشكلات الاجتماعية المختلفة تصويراً دقيقاً، والدعوة القوية إلى حياة تقل فيها المشكلات إن لم تنعدم، وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية، والحرية الإنسانية، على نحو يرتفع بالحياة البشرية عن المستوى الذي نزلت إليه.
وهذا اللون نادر في أدبنا العربي المعاصر. ولا يوجد في هذا الأدب ما يمثل اللون الفريد النادر كما يمثله أدب طه حسين في كتبه الكثيرة المنوعة.
من هذه الكتب التي تمثل هذا اللون من ألوان الأدب، كتاب (جنة الحيوان) الذي أخرجه عميد الأدب العربي للناس منذ قريب. وهذا الكتاب إنما هو صور نفسية دقيقة لبعض الشخصيات المعاصرة التي عرفها الكاتب العظيم معرفة خبرة وتجربة ثم صورها بقلمه الساحر القدير هذا التصوير الدقيق الذي يخلع عنها ما تصطنعه من العظمة، وتتكلفه من المظاهر، فتبدو أمامنا عارية إلا من مباذلها ونقائصها.
ومن خلال هذا التصوير الدقيق لتلك الشخصيات المعاصرة تظهر لنا الأفكار الإنسانية السامية، والمبادئ الاجتماعية النبيلة التي يعتنقها الكاتب العظيم عن يقين وإيمان، ويدعو إليها في قوة وإخلاص. وقد أصبحت هذه الأفكار والمبادئ في غنى عن التعريف بما أذاع عنها الأستاذ العميد، ودعا إليها في الصحف والمجلات والمنتديات.
وموقف الكاتب من شخصياته التي يصورها في هذا الكتاب يختلف تبعاً لطبيعة هذه الشخصيات، ومكانها من نفسه.
فهو يسخر من بعضها سخرية مرة، ويتهكم به تهكماً لاذعاً، كما يبدو في حديثه عن (ثعلب) و (الطفل) وأمثالها من الصور النفسية والنماذج البشرية. وهو يداعب بعضها مداعبة محرجة، ويعاتبه عتاباً مؤثراً، كما يبدو ذلك في (حديث القلوب) وهو في كل ما تحدث به في هذا الكتاب، صاحب القلب الإنساني الكبير الذي يقول بعد أن يعرض لما تشقى به بعض الأسر من دفع نفقات التعليم، ولما يفعله بعض كبار وزارة المعارف الذين تعلموا على نفقة الدولة، ثم يريدون أن يحرموا غيرهم من أن يتعلموا على نفقة الدولة كما تعلموا:(873/42)
(اللهم اشهد إني ما ذهبت قط إلى الجامعة أو إلى وزارة المعارف إلا كانت هذه القصة ملء قلبي، وإلا ذكرت أني كنت سعيداً حين تعلمت على حساب الدولة، فمن الحق أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر، ولو استطعت لأتحتها لهم جميعاً. ومن يدري فما لم نستطعه أمس قد نستطيعه غداً. ولابد أن يبلغ الكتاب أجله، ولابد لمصر من أن تظفر بحقها من العدل في يوم من الأيام).
هذه كلمات لا يقولها إلا من كان ممتلئ النفس بحب الإنسانية، قوي العزم على العمل لتحقيق العدالة الاجتماعية. بل هذا اعتراف لا يصدر إلا عن صاحب (الأيام) وأمثاله من ذوي العظمة النفسية، والضمائر الحية.
وأسلوب طه حسين في هذا الكتاب هو أسلوبه في كل ما كتب. . . أسلوب سهل المفردات، واضح التركيب، ينساب في حرية، ويسترسل في طلاقة. وميزة هذا الأسلوب كامنة في موجاته الموسيقية الطويلة التي هي من خصائص الموسيقى التصويرية، ولهذا استطاع طه حسين أن يصور بهذا الأسلوب ما يشاء من المشاعر والأفكار تصويراً دقيقاً رائعاً مؤثراً. ومن عجائب هذا الأسلوب أن القارئ حين يقرؤه يظن بنفسه القدرة على الإتيان بمثله، فإذا حاول ذلك انقطع وتحير، وأنه يحتفظ بكل خصائصه الفنية حتى حين يتناول مشكلات المادة، وشئون المعيشة، ومطالب الموظفين!.
ونستطيع أن نقول إن أسلوب طه حسين هو خير نموذج للشعر الحر الذي يخلص من قيود الوزن الموحد، والقافية المشتركة: ولهذا فقد استطاع صاحب هذا الأسلوب أن يجعل نثره شعراً. . . شعراً موزوناً مقفى سواء أراد ذلك أم لم يرده؛ فقد بدأ الفصل الذي عقده في كتابه وسماه (الفانيات) بهذه العبارات المنثورة التي ننسقها تنسيق الشعر، ونسميها (طيف)، ونوردها فيما يلي:
من أين أقبلت يا ابنتي؟ ... من حيث لا تبلغ الظنون!
ماذا تريدين يا ابنتي؟ ... أقول ما لا تصدرون!
كيف تقولين يا ابنتي؟ ... أقول ما لا تصدقون!
أسرفت في الرمز يا ابنتي ... بل مالكم كيف تحكمون؟
وينظر الشيخ حوله ... فلا يرى من يحاوره(873/43)
وينكر الشيخ نفسه ... ولا شكوك تساوره
فقد رأى شخصها الجميل ... تظله هذه الغصون
ولم يزل صوتها الضئيل ... يثير في نفسه الشجون
وكانت الشمس قد تولت ... كالأمل الخائب الكذوب
وظلمة الليل قد أظلت ... كاليأس إذ يغمر القلوب
أما بعد، فخلاصة ما يقال في هذا الكتاب أنه صور نفسية دقيقة لبعض الشخصيات المعاصرة، وأنه يجمع بين التصوير الفني الذي يحقق للنفس المتاع، والهدف الاجتماعي النبيل الذي يجلب للناس الخير. ولهذا فقد لازم بين النظريتين المختلفتين، وجمع بين الطائفتين المختصمتين!
وليس ذلك بعزيز على عبقرية طه حسين، ومقدرته الفنية الفائقة.
إبراهيم محمد نجا
ابن المعتز
وتراثه في النقد والأدب والبيان
سفر جديد ألفه الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي الأستاذ بكلية اللغة العربية، ونشرته مكتبة الحسين التجارية بأرل السكة الجديدة بمصر لصاحبها محمود توفيق، في أربعمائة صفحة من الحجم الكبير على ورق أبيض مصقول.
تناول مؤلفه فيه، هذا العالم الفذ، والشاعر العبقري، والكاتب البليغ، والناقد الأديب، والعالم المجلى في حلبة العلم والعلماء، والمؤلف الممتع فيما كتبه من مؤلفات وبحوث؛ في تفصيل واسع، وتحليل دقيق، لحياته وشخصيته وشعره وأدبه وأثره في النقد والبيان.
وهو أول كتاب في الأدب العربي، يؤلف وينشر في حياة ابن المعتز الخليفة العباسي م 296هـ وآثاره الفنية والأدبية والعلمية ويمتاز بدقة البحث وعمق الفهم والاستنتاج وكثرة المصادر وتنوعها وتعدد ألوان التجديد في الدراسة الأدبية.
وقد صدره مؤلفه بكلمة عن عهد الفاروق الزاهر، وفيض رعايته وتشجيعه وعطفه على النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في وطننا الخالد وفي شتى بلاد الشرق العربي.(873/44)
ولاشك أنه سفر نفيس، جدير بالاهتمام وبعناية القارئ وحرصه على اقتنائه.
وفيات الأعيان لابن خلسكان
يعد هذا الكتاب موسوعة تاريخية قيمة، ومرجع من أوثق المراجع في تراجم الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي منذ فجره إلى القرن السابع. ويعد مؤلفه من خيرة من كتبوا في التراجم من حيث تحري الدقة في البحث، والأمانة في النقل، وذكر المراجع التي يأخذ عنها، وعدم تحكيم عواطفه الخاصة في كتاباته. ولعل مرد هذه الخصائص يرجع إلى طول اشتغاله بالقضاء. غير أن هذا الكتاب قد أصابه من التحريف، ورداءة الطبع، وندوة بسخه ما جنى على قيمته، ونال من مكانته، كمرجع من أهم المراجع التاريخية للباحث. وقد توفر على مراجعة هذا الكتاب، وتحقيق نصوصه وضبطها، وشرحها ووضع فهارس له فضيلة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد وتسنى له إخراجه في سبعة أجزاء. والعمل الجدير بالتنويه والشكر هو دقة فهارسه وشمولها. ومن أهم ما تحتاج إليه أمثال هذه الموسوعات هو الفهارس الدقيقة الشاملة فهي بمثابة المعالم التي تحدد المواقع وترشده إلى الأهداف وتعيين السالك في فجاجها، تعصمه في مناهاتها من الضنى أو الضلال. وقد ركز أستاذنا - جهده فيما يستحق الجهد من عمل هذه الفهارس، فقد وضع فهرساً عاماً تناول فيه الأعلام بحسب اسم الشخص وأبيه وجده وما اشتهر به من كنية أو لقب. وفهرساً للقرون يذكر فيه شخصيات كل قرن، ثم فهرساً للطبقات العلمية يذكر فيه كل طبقة على حدة - طبقة الشعراء والمغنيين والقضاء والولاة والمتكلمين وغيرهم كل طبقة في إطار فهرسها الخاص، ثم فهرساً بالكلمات التي ضبطها المؤلف نفسه من نسبة أو اسم بلد أو علم غريب أو كلمة لغوية أو مثل. فمتى يتاح لذخائرنا أن تبعث ولتراثنا أن يحقق وينشر؟
محمد عبد الحليم أبو زيد(873/45)
البَريدُ الأدَبي
الأدب المنتحر
الأدب العربي - اليوم - يقاسي محنة مريرة، ويعاني تجربة قاسية، أسأل الله أن يجتازها بسلام.
ذلك أن نفراً من المبتلين بداء التقليد يطلعون علينا كل يوم بصورة من صور الإفلاس الكبرى، والمجاعة العاطفية.
فتراهم يحاولون تقليد المذاهب الغربية الهاربة من نعيم الحياة الحاقدة على المجتمع، المنزوية في كهوف من الأوهام العاجزة المريضة.
وفي لبنان مجلة تقرأ في كل عدد من أعدادها نماذج من تلك المذاهب، وأنا أورد ثلاثة نماذج من تلك الصور البشعة للأدب البغيض.
أحدها من قصة عنوانها (مواطن جديد) قال كاتبها في أولها:
(آه. . تنبعث من زاوية الكوخ فيرفع الرجل رأسه، ويرنو إلى زوجته القابعة على بقايا حصير، ثم يتطلع إلى وجهها الشاحب الباهت ويتساءل (هكذا) - ما بك؟. - الجنين، أحس ألماً شديداً في أحشائي، يبدو أن ساعة الوضع قد دنت، إن الشقي يتأهب للنزول إلى الحياة، ليأخذ نصيبه من الألم والعذاب، نصيبه من الشقاء والبؤس. . . ويدير ببصره إلى باب الكوخ، ظلام. . الظلام يكتنف الكون. . . لا. . . الأكواخ. . . فقط. . . إن كلمات زوجته تهبط على رأسي كالمطارق فهلا كفت عن الشكوى؟
أمعك عود ثقاب؟!. . يلتفت الزوج. . إن النور الضعيف الذي كان ينبعث من ذبالة السراج قد مات. . . تلاشى. . فملأ السواد جانب الكوخ. . انطفأ. . ويمد الرجل يده إلى جيبه، لا شيء. . إنه مثقوب. . الجيب الآخر. . فتصطدم ببعض الأجسام الصغيرة يعرف بينها علبة الثقاب لكنه يتمهل فلا يخرج يده. . بل ظل يعبث بتلك القطع ويمر بأصابعه على أطرافها، هذه القطعة التي جوانبها ملساء. . فلس. . وهذه الصغيرة التي بأطرافها نتوء. . أربعة. . أما هذه الكبيرة قليلاً. . فعشرة. . خمسة عشر فلساً. إنه يتفحصها للمرة العاشرة دون أن تزداد قليلاً. يقولون إن النقود تأتي بالنقود والذهب يأتي بالذهب، أما النحاس؟ وينهض الرجل متثاقلاً فيتحسس بأقدامه الأرض. . . . . . ويحمل الرجل(873/46)
السراج متذمراً ويهزه بيديه هزاً عنيفاً.
نضب. . الغاز نضب. . إن السراج خال من الغاز. تئن الزوجة. . ويطلق الزوج ضحكة قصيرة. . - حتى الغاز أيضاً. . هه
تضحك وأنا أتألم
أجل أضحك وأنت تتألمين. يجب أن نضحك ونحن نتألم، هكذا يريدوننا، أما الشكوى فكأي شيء آخر في الحياة محرمة علينا. . (يريدوننا أن نضحك ونحن نموت)
وهكذا تمضي القصة مفككة لا هدف لها، كاذبة على الحياة، متفلسفة في جو لا تعيش فيه الفلسفة، زائغة عن القصد. .
أما النموذج الثاني فشعر بديوان (نعش تائه) للطفي جعفر أمان يقول فيه:
ليل. . ومقبرة. . ومنبوذ بلا خفق طريح
هفت الرؤوس لنعشه. . وتنفست صمتاً وريح
في كأس جمجمة يريق شبابه يأساً جريح
فترف نازفة النطاف بحتفها ولهى تصيح
بُعث العدم. .
في جنة تلظى يلف ربيعها فجر أصم
أنبته حياً. . فأزهر واضطرم
وأرقته عطراً أغم
ناراً ودم
والقصيدة كلها غموض وتفسخ وألفاظ لا معنى لها ولا رواء، أما ثالث النماذج فبعنوان
(حزني) لمنير وبس يقول فيه:
بي حزن عميق، مظلم
يحتضر في ضباب ابتسامي فيضيع
تجف في عطش
في خلاء اكتفائي
يحتضر فيضيع(873/47)
عذب، حنون، كأنفاس الحبيبة
كرطوبة الضباب يغمر الأزهار
به سكون، به دموع، به حنان، به حنين عذب
أعذب من آلام المخلص، فالآن قوة وظفر
أما حزني فنغم هائم في نسيان
شعاع يتلاشى في نور، ضعف يرتعش في حياة
حزني أنين، بليد، بليد، كالأحلام، كالرقاد
أنفاس قبور. . لقاء حبيب. . ودموع أم أنين
مدنية. . بليد. . بليد كالنعاس)
إلى آخر هذه السفسطة البليدة.
غائب طعمة فرحان
حول مقال الجارم الشاعر:
قد اطلعت في الرسالة الغراء بالعدد (872) بتاريخ 20 مارس سنة 1950 على مقال الأستاذ عبد الجواد سليمان بعنوان الجارم الشاعر وقد سرني هذا البحث القيم الذي يدل على وفاء الباحث لأستاذنا الجارم بيد أن الأستاذ ذكر البيت الآتي:
بيت له عنت الوجوه خواشعاً ... كالبيت يمسح ركنه ويُزار
وقال: (وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) لمن التوريات الطريفة الخ. . .) وأنا أخالف الأستاذ فيما ذهب إليه، وأرى أنه ليس في البيت تورية ولكن فيه تشبيه مرسل، يشبه الشاعر البيت العلوي الكريم بالبيت الحرام الذي يمسح ركنه ويزار. والتورية هي أن يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويُراد البعيد اعتماداً على قرينة خفية ولذلك تسمى (الإيهام) أيضاً لأن الأديب أو الشاعر يقصد بالتورية أن يوهم السامع أنه يريد أمراً غير ما يقصده فيدفعه إلى التأمل والتفكير ليدله على براعته ولهذا اشترط أن تكون القرينة خفية ومن أمثلة التورية قول المعري:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا نخفي وإن كذب الخالُ(873/48)
أراد بالجد الحظ وبالعم عامة الناس وجماعتهم وبالخال المخيلة. وقد أوهمنا المعري انه يريد الجد والعم والخال أقارب الإنسان مع أنه لا يريد ذلك.
إبراهيم عبد الفتاح(873/49)
القَصَصُ
أقصوصة عراقية
بدور ابنة عمي
للقصاص العراقي شاكر خصباك
صحيح أن بدور لم تكن تعدو عن كونها ابنة عمي، ولكنني مع ذلك كنت أحبها بقدر محبتي لوالدتي وهي كل ما أملك في الحياة. كيف أنسى تلك اللهفة التي كانت تلهب نفسي إلى رؤيتها ورؤية أبوي حين كنت أقوم بمهام وظيفتي الحكومية في (البصرة)؟ وعندما عدت إلى بلدتي لقضاء إجازتي السنوية. . رباه، كيف يغيب عن خيالي ذلك الموقف؟! لكم أثار منظرها في نفسي من غبطة وحبور حين تهادت نحوي في خفر وألقت علي تحية اللقاء بلسان لعثمة الحياء ووجه أضرجه الخجل! ولأول وهلة كذبت عيني وأنا أتفرس فيها مأخوذاً، قبل عشرة شهور فقط خلفتها طفلة ساذجة، أما هذه فامرأة، امرأة فاتنة تتضوع سحراً وإغراء! أهي بدور حقاً هذه الشابة الرائعة ذات القامة الفارعة والجسد الممتلئ والنهدين المتوثبين؟! سبحانك اللهم. .!
لكم تمنيت في تلك اللحظة لو تطول الإجازة لأستمتع بالحياة الهنيئة في هذا الجو العائلي الجميل الذي يظلله بالحنان المضطرم أبواي العزيزان، وتنيره بالبهجة بدور العظيمة. أية أيام تلك التي هنئت بها في مطلع عودتي؟! لقد طفح قلبي بسعادة مشرقة. . سعادة فياضة لم أذق لطعمها مثيلاً في الإجازات السابقة، ووجدتني مسوقاً إلى الاهتمام ببدور أكثر من أي وقت مضى. ولست أدري ما الذي أوحى إلي أنني كنت مقصراً في محبتها أثناء الأعوام المنصرمة مع أنني محضتها أعظم الحب كما لو كانت شقيقتي الوحيدة، عندما انتقلت إلى منزلنا وهي في السابعة من عمرها عقب وفاة أبويها وكأن هذا الخاطر كان مدعاة لي لتلافي ذلك التقصير فاندفعت في رعايتها اندفاع المهووس في شكه، وشغفت بمرآها شغف الطفل بلعبه! وكنت أحس بينبوع من الهناءة يتدفق في قلبي حين أراها تخطر في الدار بوجهها الطاهر الصبوح وشعرها الأشقر الطويل وقوامها الأهيف الرائع.
لا أذكر كم من الأيام لبثت أنهل من ينبوع السعادة الفياض، عندما بدأ ذلك الينبوع يفيض(873/50)
شيئاُ فشيئاً حتى جفت مياهه. ولعلها كانت أياماً طوالاً في حساب الزمن لكنني أحسست كما لو كانت يوماً واحداً. ولا أعلم أيضاً متى بدأ النبع يجف؛ أفي تلك الساعة التي لمحت فيها مهدي متكئاً على سور السطح المشرف على دارنا وعيناه مثبتتان على سطح منزلنا كأنه يترقب ظهور شخص معين؟ أم في تلك الأمسية التي وافيت فيها بدور إلى السطح فألفيتها متشاغلة عن العمل ترصد سور السطح المجاور في لهفة وقلق؟ أغلب الظن أنه بدأ يجف في تلك الأمسية، فلا زلت أتصور كيف حدقت إلى الناحية التي تتجه إليها أنظارها فارتسمت في خيالي في التو صورة الشاب المتكئ على السور وفي عينيه شوق حائر. وانبعث في أعماقي شعور داخلي يشي بوجود صلة تربط الاثنين.
وبين يوم وليلة تفتحت عيناي على حقائق مرة. . إن بدور لم تعد تلك الصبية الحيية الهادئة التي عهدتها بالأمس. . كل همها اليوم أن تبدو جميلة فاتنة! في الصيف الماضي لم تكن تعبأ بالوقوف أمام المرآة. . وفي هذا الصيف دأبت على مناجاتها دون كلل أو ملل. ماذا جرى بالله يا بدور؟! ماذا جرى؟!
لم يكن الأمر مغلفاً بغموض يعوزه التأويل. . إنه مهدي. . ذلك الشيطان! كانت تنذر أوقات فراغها للتبرج له. . له وحده. . وكانت تخلق الأعذار الواهية لتخف إلى السطح وتنشر زينتها أمام عينيه. وكم اختلست إليها النظر وهي تخطر على مرأى منه في رشاقة وخيلاء، وتطلق موجات الإغراء من مكمنها في الشعر الساحر. . تارة تتهدل بعض خصلاته على جبينها فتلقي برأسها إلى الوراء في دلال متكلفة إبعادها، وطوراً تتدلى ظفيرتها على الصدر الأشم فتقذف بهما إلى كتفيها في حركة فاتنة، وحيناً تتناثر الشعيرات المتوهجة كأشعة الشمس على وجهها تغمره القبلات فتمد إليها يدها وتداعبها في حنان. بدور. . بدور. .، لماذا اخترت مهدي من دون الناس جميعاً لتغرقيه بفيض فتنتك؟؟ إنه لم يكن أهلاً للاختيار فهو شاب سيئ النوايا لا يعرف للحب الصادق معنى. وكنت كالزهرة العبقة المتفتحة في مطلع الشمس فاشتهاك كما تشتهي الفراشة الزهرة الزاهية، وكما تنبذ الفراشة الزهرة بعد أن تمتص رحيقها بتمتع الشباب العابثون من طرازه بالفتاة ردحاً من الزمن لينبذوها بعد حين، وقد أشفقت عليك من هذا المصير التعس يا بدور، فلماذا تجاهلت غرضي، لماذا؟(873/51)
كان غاية همي أن أصرفها عن سلوكها الشائن الذي لم أشك لحظة واحدة أنه سيوردها موارد الهلاك، فعقاب زلة القدم لا رجوع فيه، لكنها تسلحت بالصمم حيال نصائحي المتواصلة. بدور، إن التعرض لأنظار شاب غريب بهذه الهيئة الفاضحة مضر بسمعة العائلة، بوسعك أن تلبسي هذا المظهر أمامي فأنا ابن عمك ولا حرج عليك في ذلك، ولكن مهدي شخص غريب. . بل إنه شاب خبيث يا بدور، أفلا تفهمين؟! أرجوك. . أرجوك يا بدور. . تجنبي فضوله.
لكنها لم تتجنب فضوله، كانت على يقين أنني عاجز عن الوقوف في وجه نزواتها عجز الطير المقصوص الجناحين عن الطيران. فالواجب المنزلي يقتضيها الصعود إلى السطح كل عصر لتنظيفه وتهيئة أسرة النوم وبذلك تتهيأ لها رؤيته. وكانت تلك الحقيقة الكاوية تلذع مشاعري بنيران الغيظ، فأحس كلما غدوت على فراشي ليلاً بوخز يلسع ظهري كما لو كنت راقداً على حزمة من الشوك. وذات أمسية، بينما كنت مستلقياً على الفراش وذهني عاكف على مراجعة غرامها الطائش تراءى لي أن أسلوب اللين الذي أعالج به طيشها لن يجدي شيئاً، وقرَّ في عزمي أن أهجر ذلك الأسلوب. وفي صباح اليوم التالي أمرتها بلهجة حازمة أن تتلفع بالعبادة كلما ظهرت على السطح. ولم يخف على ما بدا على صفحة وجهها من تجهم واحتجاج وإن لازمت الصمت ولم تفه بكلمة اعتراض. ولكنني كنت كمن ينتظر أن يهجر البلبل التغريد ويمتنع الريحان عن نشر أريجه!
ومضت أيام. . .
وكان من عادتي أن أبرح الدار في مساء كل يوم لأتنزه في شوارع المدينة بصحبة صديقي زكي، ثم أعود أدراجي حين يهبط ستار الليل، وخرجت تلك الأمسية في ساعتي المحددة، وبدلاً من أن استصحب صديقي زكي تجولت في الشوارع منفرداً، ثم قفلت راجعاً - قبل ميعادي - وكانت رغبة قوية تدفعني نحو المنزل. . . وتلك لحظة لن تمحى صورتها من مخيلتي أبداً، حين ظهرت أمام بدور، وجمدت في مكانها كالتمثال وراحت ترسل إلي النظر في ذهول يشوبه الرعب كما لو كنت عفريتاً انشقت عنه الأرض تعالى فوقها بهامته! وكان كل شيء كما تجسم في أعماقي منذ البداية. . . كانت تخطر على السطح بدون عباءة وشعرها الأشقر منثور على كتفيها في إهمال يثير كوامن الإعجاب كأنها إحدى حوريات(873/52)
البحر المنطوية في ضمير الأساطير.
واستولت علي مشاعر وحشية وانثالت علي سيول من الغيظ الجارف، فانقضضت عليها كما ينقض الوحش الكاسر على فريسة ضعيفة، وجررتها من شعرها إلى غرفة السطح وأقفلت بابها، ثم انهلت عليها ضرباً وركلاً وصفعاً. . . يا إلهي، لم غرست في قلبي هذه العواطف المتدفقة بالشفقة والحنان؟! أفلم تكن تستأهل ذلك العقاب فما الذي دعاني إلى الاحتراق في لهيب ألمها؟! كنت أحس بكل صفعة تهبط على خدها تقفز إلى خدي، وبكل ركلة أسددها إلى جسدها تتحول إلى جسدي وكانت صيحاتها الفزعة رصاصاً يمزق سمعي، ودمعها المتدفق شواظاً يحرق قلبي. ومع ذلك لم يكن بوسعي تلك اللحظة أن أكبح جماح الرغبة الجبارة التي استحوذت علي بالإمعان في إيلامها! كنت كاليائس من الحياة الذي يفضل الموت فيواصل طعن قلبه حتى يكف عن الوجيب.
ومنذ ذلك الوقت لاحت في عيني بدور صورة لمشاعرها الغائرة. . . صورة خطوطها المقت والعناد وإطارها الاستهانة والازدراء وتمادت في غيها كأنها تتعمد معاكستي. وضاعفت عنايتها بزينتها في الساعة التي تتأهب فيها للظهور على السطح استعداداً للقاء الحبيب. وكنت حين أرقبها وهي تقف أمام المرآة وتمشط شعرها في عناية وتمهل ثم تضفره أو تعقصه أو تدعه منثوراً على كتفيها أستشعر موجات من الرغائب المتناقضة تتدافع في صدري. ففي الوقت الذي تتملكني فيه رغبة في قص ذلك الشعر عن آخره، تساورني رغبة أخرى في العناية به بنفسي وتزيينه بيدي. . .!
كنت أبغي لها الخير على أية حال، فلم واجهته بالشر؟! ولماذا كانت تجد لذة في إثارة الألم في نفسي؟! كانت تعلم حق العلم بما تجر علي تلك الساعة من عذاب حين يقترب أوان العصر ويناديها السطح لإعداده. ومع ذلك كانت تحاول أن تذكرني بها جهد استطاعتها لتغذي شعلة عذابي، فإذا ما حان الوقت خفت خطواتها على بلاط الدار حتى لتكاد تتحول إلى رقص، وحلق فوقها نغم غنائي صامت ينبعث من شفتيها في عذوبة ومرح، وتلألأ شعرها وازداد بريقه، واشتدت حركتها ونشاطها، فتروح وتجيء وتدخل وتخرج، وتتعمد المرور على مقربة مني دون أن تنظر إلي أو أن تلقي علي نظرة عابرة كما لو كنت قطعة تافهة من أثاث الدار لا تستوقف النظر، وكانت تلك الخطوات الخفيفة والنغم المرح(873/53)
والحركة الدائبة والشعر المتوهج تتجمع في مخيلتي وتتجسم حتى لتبدو شخصاً متكاملاً له ملامح مهدي الشريرة وابتسامته الخبيثة التي توحي بالمكر وتبيت الغدر. أيها الناس: من باستطاعته أن يتلقى سلوك بدور في رزانة وهدوء؟! ومن بقدرته أن يشهدها تغازل فتى غريباً أمامه وهو ابن عمها؟! وصحيح أنها لم تبادل مهدي كلمة واحدة، وصحيح أن محاولات مهدي الغرامية لم تتجاوز النظرات المشوقة، كل هذا صحيح، ولكن من في إمكانه أن يضمن تفاديهما الخطيئة إلى النهاية؟! من في إمكانه، من؟!
وبدت لي الحياة مظلمة قاتمة، وانقلبت الأوضاع في عيني، وشرعت أنظر إلى الأمور بعين المستقبل كما لو كانت الكارثة قد وقعت بالفعل. ولم لا تقع؟ إن أية قوة في الأرض لم تكن قادرة على ضبط عواطف بدور وتقويم سلوكها، بينما لبث مهدي قائماً على عهده؛ يترصد ظهورها على السطح ليلتهم شعرها الأشقر وصدرها الناهد ووجهها الفاتن بنظراته الأثيمة. كم مقت ذلك الفتى الخبيث بل الشيطان الرجيم الذي أرسلته أبالسة الجحيم ليعكر هنائي في تلك الإجازة التي بشرتني بادئ الأمر بسعادة طافحة. وأصبحت سجيناً في الدار رهن مخاوفي، ولم أعد أطمئن لوجودي بعيداً عن بدور. فضلت سجن الدار على سجن الشكوك والتهاويل. . وأي سجن؟! كنت أتنزه على السطح في عجاجه الغبار الذي تثيره بدور أثناء الكنس في الوقت الذي يهرع فيه الناس إلى الشوارع الجميلة. وكم كان يشق علي أن أراقبها في تلك اللحظات عندما أرى عباءتها تنزلق عن رأسها بين حين وآخر فتكشف عن شعرها المتوهج بلون الذهب الصافي وتفسح له سبيل الإغراء!
آه منك يا بدور. . كم كنت عنيدة قاسية! لقد أعجزتني. أقسم لك أنك أعجزتني فلم أعد آمل إلا بكف ذلك الوقح عن غزله الصفيق. وفكرت أن أذهب إليه وأستعطفه عله ينصرف عنك. تصوري! أوشكت أن أكون كمن يتوسل إلى اللص ليعيد إليه ماله!
ولكنني وجدت نفسي، حين رأيته صباح اليوم التالي على رأس الزقاق، أجذبه من (ياقة) سترته بعنف وأبادره بلكمة ألقته على الأرض صريعاً وأنا أصرخ مهدداً إياه بالقتل إن لم يكف عن البحلقة في سطحنا. . .
ما أعظم السعادة التي تغمر المرء حينما تستجاب له رغبة قد يئس من تحقيقها، وما أعظم الفرحة التي اجتاحت كياني حينما أقبلت الأمسية التالية فلم يلح لمهدي ظل على السور،(873/54)
وأمسيت واثقاً أن أثر وعيدي قد سرى في نفسه. ألم تر السجين وهو ينطلق من باب السجن لأول مرة بعد أعوام طويلة طواها بيت القيود والأغلال؟! هكذا كنت حين ارتديت بدلتي على عجل وهرعت إلى دار صديقي زكي لأحتفل بالمناسبة السعيدة بشرب كأس من الخمر بعيداً عن أعين الرقباء. وكم دهش زكي من تلك البهجة التي أشربت جوانبي بالخفة والمرح وأثارت وجهي بالبشاشة والارتياح وهو الذي عهدني كئيباً مغتماً كسجين ينتظر ساعة إعدامه على حد تعبيره ولازلت أذكر كيف كان يرمقني باستغراب وأنا أرفع الكأس إلى ثغري في ضجة وصخب وألقى الفكاهات المحطمة في حماس ثم اندفع مقهقهاً ولازلت أذكر أيضاً أنه سألني في دعابة - وأنا في غمرة نشوتي - إن كنت قد ربحت الجائزة الأولى ليانصيب (جمعية المواساة الخيرية) فانطلقت أحشو إذنيه بمحاضرة طويلة مضمونها أن قيمة المال تافهة بالنسبة للحياة الحقَّة، وأن العواطف المتقدة الجميلة التي تهبها لنا هي الكل في الكل ولا أخاله فهم شيئاً من محاضرتي لأنني كنت كمن يحدث نفسه حديثاً خاصاً.
وتوالت الأيام دون أن يظهر مهدي على السور وتلقت بدور اختفاءه في الأمسية الأولى بهدوء وعدم اهتمام. وفي الأمسية الثانية تسللت إلى صدرها هبة من رياح القلق عبر الفجوة الصغيرة التي تفتقت في أحاسيسها. وأخذت الفجوة تتسع وتتسع على تعاقب الأيام والرياح تتكاثر وتتكاثف حتى ملأت صدرها. وعندئذ انقلبت إلى مخلوقة جديدة لا تمت إلى بدور بصلة سوى الشبه في الملامح والتكوين. أما بدور القديمة. . . بدور بروحها المرحة ووجهها الطلق وعينيها المتألقتين وشعرها المترفع فقد باتت حلماً عابراً في نومة هانئة.
يا لتلك الحياة الجديدة التي ولدت لها. . حياة أشبه بتلك التي تمنح لوليد كتب له العيش في الظلام. كانت تتحرك وتروح وتجيء ولكنها تمثال. . . تمثال نحت رمزاً للكآبة واللوعة والحزن وأصبح منظر شعرها كئيباً قاتماً كأنه يشاركها في مصابها، ولم يعد يذوق للمشط طعماً بل بات يترامى على كتفيها في إهمال ويتجمع على بعضه ويلتف في مذلة وخذلان ولم أكن أتصور أن تخلف غيبة مهدي في نفسها ذلك الأثر، فقد كنت أحسب أن ألمها سيكون كسحابة صيف تحجب الشمس لساعات ثم لا تلبث أن تتبدد سريعاً. ولكن الأمر تبدى لي أعمق مما تخيلته بكثير، وما كان هذا الوضوح إلا ليضرم ألمي ويأسي وموجدتي. ووجدتني في موقف أحسد فيه نفسي على حياتي الماضية. وكان من الواضح أن بدور(873/55)
تتهمني بإقصاء مهدي. . كانت كل حركة تبدو منها تعلن ذلك الاتهام في صراحة صارخة وكنت أقرأ ذلك الاتهام في عينيها واضحاً سافراً في الأيام الأولى حين كانت تهرع إلى السطح ساعة العصر في لهفة لا تعد لها لهفة الأم وهي تخف لاستقبال ولدها الغائب، وتقف حيال سور المنزل المجاور ترنو إليه بعيون حائرة ساهمة والأسى ينضح من ملامحها. ثم تحول إلي أنظارها لأطالع فيها اتهامها المغلف بالغيظ والمقت والازدراء، كما لو كنت أقرأه في كتاب.
لكنها لم تلبث طويلاً حتى حرمتني من آخر أثر كان يشعرني بصلتي بها فكفت عن مطالعتي بنظراتها الساخطة. ماذا دهاك يا بدور، ماذا دهاك؟! أفيستأهل ذلك الصبي الأخرق الذي لم يكن ليتجاوز مراتب الطفولة كل هذا الحب والهيام؟! أفمن العدل أن يؤدي بك خبثه إلى كراهيتي وأنا الذي رعاك بحبه وحنانه منذ أن وطئت قدماك أرض الدار؟!
وعدت أتمنى أن تحدجني بدور بنظراتها الفياضة بالبغض والازدراء. . . أجل، فقد أصبحت تواقاً إلى أن أحس لنفسي وجوداً في دنياها بأي شكل كان! ولكن ذلك الصمت، وذلك الجمود، وذلك التجاهل. يا إلهي، ليس في طوقي أن أحتمل هذا كله.
وراحت تتحاشى مواضع وجودي في إصرار عجيب، ومضت تتجنب النظر إلي في عناد غريب! ولبثت حائراً معذباً في زحمة العواطف التي تتصارع في نفسي تجاه سلوكها الفظيع. تارة أحس بالغيظ والحقد حين يخطر في ذهني أن صبياً خبيثاً كمهدي استطاع أن يثير في نفسها تلك الزوبعة المروعة. وطوراً استشعر حزناً عميقاً حين أتمثلها تدب في ساحة الدار في تخاذل والصمت والكآبة والذهول تدثرها بغطاء كثيف. وحيناً تسعر بين جوانبي نيران ثورة مكتومة على تلك القوة المجهولة التي تسير أحداث الحياة وتجد اللذة في معاكسة الإنسان وكانت تلك الثورة تخفف عن كاهلي عبء ما أحسه من كراهية واحتقار لنفسي بسبب قسوتي على بدور، إذ تدعوني إلى تبرير سلوكي وسلوك بدور ومهدي وإلقاء التبعة كلها على القوة المجهولة. . . إنني لست ملوماً على تصرفي هذا فأنا مرغم على اتباعه. . . يجب أن أدافع عن شرف الأسرة تجاه أي محاولة لثلمه، وبدور ليست ملومة على سلوكها فهي تحب مهدي. . . ما ذنبها إذا كان قلبها قد هفا إلى ذلك الشاب؟! ومهدي ليس ملوماً على غرامه ببدور. . . لقد عثر على فتاة كاملة الجمال تبادله(873/56)
الإعجاب فاتجهت إليها عواطفه. إن أي أحداً منا - في الثلاثين - لا يؤاخذ على سلوكه الخاطئ. . . إن الملوم وحده تلك القوة المجهولة التي رتبت مجريات الحياة في صور متنافرة الألوان. أفلم يكن بوسعها أن تحمل بدور على الوقوع في غرامي بدلاً من التعلق بشاب غريب؟! لو حدث هذا لما اضطر أي أحد منا إلى سلوكه الخاطئ، فأنا ابن عمها ولا ضير عليها إن حاولت أن تستولي على عواطفي بأية طريقة كانت، أما أن تحاول اجتذاب شاب غريب ونحن في مجتمع يتزعم القيم الاجتماعية فيه والشرف الجنسي، فهذا هو الخطأ عينه، ولكن هكذا تريد تلك القوة الساخرة.
وظلت الشمس تشرق في الصباح وتغيب في المساء وحياتنا مدثرة بجمودها الكئيب، إلى أن حلت تلك الساعة، وكانت الشمس قد تأهبت للمغيب وبساط السماء الأزرق قد صبغ بحمرة قانية، أشبه بساحة معركة خضبت بدماء المتقاتلين، وكنت أذرع السطح بخطوات متمهلة وبين يدي كتاب أحاول القراءة فيه، في حين انكبت بدور على عملها وهي تتحرك في صمت وجمود كأنها آلهة صماء. وفجأة، وبدون أن أصدق عيني، رأيت مهدي يظهر في موضعه على السور! وتسمرت قدماي في موضعهما وانطلقت أحدق فيه مذهولاً كأنني أشهد حدوث كارثة مروعة لا تدخل في نطاق التصور، ومضى هو يرمقني بنظرات تفيض بالتحدي والازدراء وعلى ثغره ابتسامة احتقار! وجف حلقي حتى تعذر علي أن أبتلع ريقي، وشحب وجهي حتى أخاله بات بلون التراب. وهبت بين جوانحي عاصفة تزأر بالحقد والخيبة والقنوط، وطفت علي رغبة جارفة بتحطيم شيء ما أياً كان!
ثم حولت أنظاري إلى بدور فإذا هي مسمرة في مكانها وهي تحدق في السور منتشية سكرى كأنها في وادي الأحلام لا في عالم الحقيقة، وكان وجهها قد شع بنور ألاق فبدا رائقاً صافياً كسماء الشتاء المدلهمة حين تنقشع عنها الغيوم. ومكثت جامداً في موضعي وأنا أنقل النظر بينها وبين مهدي بفكر تائه وعواطف صاخبة.
ثم بدأت المناظر تختلط أمام عيني ولم أعد أميز ما يجري حولي بوضوح. رأيت بدور تتحرك من موقفها وتنتقل في ساحة السطح بحركة رشيقة كالرقص وعيناها موصولتان بعيني مهدي. ثم اتجهت فجأة نحو السياج المنخفض المشرف على الدار وانحنت عليه، وجن جنوني في تلك اللحظة حين تراءى لي مهدي يتلقفها بين ذراعيه ويغمر وجهها(873/57)
وشعرها بقبلات نهمة، واندفعت نحوها حانقاً لأنتزعها من بين ذراعيه، ولكنني توقفت بازائها مشدوهاً حين رأيت جسدها يترنح على السياج في عنف، ودوت صرخاتها في أذني فزعة هائلة، ومددت يدي لأجذبها نحوي ولكنها هوت إلى الأسفل.
وحين أفقت من ذهولي وجدتني منحنياً على السياج وأنا أحملق كالمخبول في جثة بدور المحطمة على بلاط الدار، ولم أفهم ماذا حدث بالضبط هل اختل توازنها وهي منحنية على السياج المنخفض فانقلبت على رأسها، أم أنني، أم أنني دفعتها بيدي؟؟ لست أدري - لست أدري!
شاكر خصباك(873/58)
العدد 874 - بتاريخ: 03 - 04 - 1950(/)
صور من الحياة:
قلوب من حجر!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: خرجت من الدار - منذ أيام - وقد شغلتني حاجات الدار والولد، واكتنفتني شواغل الوظيفة، فأنا بينها مضطرب العقل موزع الذهن، لا أستقر على حال ولا أقيم على رأي؛ فانطلقت مفزعاً علي أجد متنفساً في الشارع ملهاة لخاطري ومسرحاً لفكري. ورحت أضرب في أنحاء المدينة لا أبتغي هدفاً ولا أصبو إلى غاية، أقلب النظر في حياة المدينة وفي قفزات الحضارة وفي مشاغل الناس. . . فما راعني إلا أن أرى كلباً ملقى على الطوار يئن أنيناً خافتاً فيه الألم والاستسلام، ويرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والخوف، فنظرت فإذا ساقه مكسورة وإذا الدم ينزف متدفقاً في شدة وعنف، وإذا الناس يمرون بازائه في غير عناية ثم يندفعون كل إلى هدفه، وما فيهم من يعبأ بالجريح الطريح على الطوار. ونبض قلبي بالرحمة واختلج فؤادي بالحنان فاندفعت إليه. . . ولكن ولشد ما آلمني أن أراه ينبح نباحاً عالياً متواصلاً، وأن أجده يجر نفسه بعيداً، وفي نظراته الخوف وعلى سماته الفزع! فقلت لنفسي (يا ويح قلبي! لأمر ما فزع مني هذا الكلب الجريح!) ورحت أروضه في هدوء، وأذلله في عطف، حتى اطمأن إلي وسكن رعبه فاستكان واستسلم، وأنا في حيرة من أمره أجيل فيه البصر والفكر معاً؛ وتراءى لي أنه يحدثني حديث صديق حبيب، وسمعت من وراء أناته كلمات ترن في مسمعي كأنها تقول (آه يا صاحبي) كم في هذا الناس من يغرك بمظهره ويخدعك بروائه، تراه يزهو في ثيابه ويتألق في بهائه، تخشع النفس من هيبته، ويعنو القلب لأبهته، ويستأسر الفؤاد لصعره، على حين أن في إهابه روح خنزير وفي رأسه عقل حمار! أما قصتي - يا سيدي - فهي أنني غيرت ساعة من الزمان وأنا طريد صبي من أولاد الشارع يقذفني بالحجارة في غير ذنب جنيته، ويضربني بالعصا في غير جرم اقترفته؛ لا يزيده فراري إلا تشبثاً بي، ولا يدفعه نباحي عن أن يستأسد علي، ولا يصرفه تحرشي به عن أن يوسعني أذى وتعذيباً. ونظرت إلى وراء لأرى عذري فرأيت إنساناً تخلى عن إنسانيته فبدت فيه حيوانية جياشة تبطش بالعقل والحيلة. ولا عجب - يا سيدي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع(874/1)
فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية! وراعتني شراسة الصبي فانطلقت أشتد في غير وعي ألتمس الخلاص والمهرب فقذفت بنفسي في عرض هذا الشارع أريد أن أخترقه، وهو - كما يرى - مكتظ مزدحم بالعربات والسيارات والترام جميعاً، فصدمتني سيارة كسرت ساقي ثم مرقت مثلما يمرق سهم عن قوسه. . . مرقت وخلفتني هنا أنادي غير مستمع. واستطعت - في لمحة واحدة - أن أرى السيارة التي أبطرها الغنى فرأيتها تفهق بالكبرياء وتشرق بالغطرسة وتزهو بالنعمة، ورأيت فيها رجلاً واحداً يقودها. . . رجلاً تعرى عنه الإنسانية لينحط إلى أوضع مراتب الحيوانية. . .
ورنت الكلمات الحزينة في مسمعي تصاعد من وراء أنات الكلب الجريح، تخترق شغاف قلبي وتسيطر على نوازع نفسي، فتشغلني عن حاجات الدار والولد والوظيفة، وتجذب خيالي إلى الوراء. . . يوم أن كنت صبياً أعاني قسوة أبي وأقاسي غلظة زوجته التي ليست أمي، يوم أن لبثت نيفاً وعشرين يوماً موثقاً إلى فراشي لا أبرحه إلا لماماً، أجد برحاء المرض ولوعة الوحدة، أفتقد القلب الرحيم الذي يعطف، واليد الرفيقة التي تواسي، لا أستطيع أن أبوح بالشكوى التي ترفه عن النفس، ولا أطمع في أن أرى الطبيب الذي يطب للمرض. . . ثم هدأت سورة المرض ساعة فتسللت إلى المستشفى وفي رأيي أني طرت إلى الدار التي أجد فيها شفاء دائي وشفاء نفسي.
ووضع الطبيب يده ثم رفعها وهو يقول (عملية!) فانطويت على نفسي أحدثها حديثاً فيه الطمأنينة والرضا فقلت: (الآن أفوز بإحدى الحسنيين: إما الموت، فأشفى من داء الحياة. . . الحياة التي تصفعني منذ زمان - بالعنت وتعصرني بالشدة، وإما البرء من سقام أمضني طويلاً فأعيش فتى فيه القوة والفتوة، لا يعجزني أن أكسب قوت يومي) واستسلمت.
وفي المستشفى رأيت عجباً من العجب، رأيت أجساماً مريضة ينهكها السقام، ونفوساً سقيمة يقتلها اليأس، وقلوباً قاسية يصرعها الشره. وتنشقت روائح متناقضة تصاعد في أرجاء الحجرة فتملأ أنفي فتتقزز لها نفسي. وسمعت أصواتاً مدوية يجأر بعضها بالشكوى ويرتفع بعضها بالصياح. . . أصواتاً تصك السمع وينخلع لها القلب. ووهت عزيمتي فراودتني نفسي أن أفر من هذا المكان الموحش تحت سترين من الليل ومن الهدوء، غير أن الألم حال بيني وبين أن أفعل فاستسلمت.(874/2)
هذا هو المستشفى، الدار التي كانت تتراءى في خيالي مهبط الرحمة ومسكن الشفقة لأنها أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . هذه الدار نفضت عن نفسها الآن عبار الحيال المموه فبدت أمام ناظري سجناً يضيع المرض في ظلماته، ويتيه السقيم في مضلاته، وتتلاشى الصيحات المدوية في فجاجه، ثم لا يحس واحد فيه الحنان ولا العطف!
أسدل الليل سجوفه وأنا أتقلب على فراش خشن قذر، وعيناي لا تجدان من الكرى، وإن روحي لتفزع مما يتراءى لها من أخيلة شيطانية مخيفة، وإن قلبي ليضطرب من أنات تحوم حواليه في هدأة الليل خافتة حيناً وصارخة حيناً، وإن نفسي لترتاع من أثر الرهبة والفرق، فشملني خوف أورثني الأرق الممض، ومضى يومان. . .
وفي حجرة العمليات أحسست بالمخدر يسري في عروقي فيستلبني الحركة والحس، وشعرت ببرد الراحة والخمود يتدفق في مفاصلي، ثم اغتمرت في سبات عميق.
وحين انجابث عني وطأة المخدر استشعرت ألماً عاتياً يعركني عركاً شديداً. . . ألماً طاش له صوابي وبدا فيه ضعفي، فندت عني صيحة ارتجت لها أركان المكان، فخف نحوي الممرض يأمرني في كبرياء وقسوة أن أخفف من غلوائي وأن أهدئ من ثورتي، وأرغمني على ما لا تهواه نفسي ولا يرضاه ضعفي، ثم قدم إلي قطعة من قماش قذر وأرادني على أن أحشو فمي لتمنع الصوت عن أن يرتفع، وتكتم الصيحة فلا تدوي، فألقيت السلم خشية أن ينالني عنته وهو فظيع، أو يصيبني بطشه وهو قاس.
ولأول مرة في حياتي علمت أن الممرض في المستشفى الحكومي رجل جبار النزعة غليظ الكبد جافي القلب، مرن على الجفوة ودرب على القسوة. وهو - إلى ذلك - صاحب السلطان المطلق في المستشفى، وصاحب الرأي الأعلى في العنبر، وصاحب السيطرة العارمة على المريض، والمرضى يأخذون ما يعطي الممرض في غير نقاش، ويذرون ما يكره في غير تمنع، ويأتمرون بما يأمر في غير تردد، ثم هو لا يفعل شيئاً إلا أن يستلب المريض من طعامه، ويسرق السقيم من دوائه، وينزع عن المستشفى ثوبه السماوي الذي تسربله منذ أن أقيم. وهو في الحكومة خادم مطيع، وفي رأي نفسه السيد الذي لا يخضع إلا للدرهم ولا يتعبد إلا للدينار، يرتدغ - دائماً - في حماقته لأنه أمن الرقيب.(874/3)
وأنشب الألم أظفاره الجافية في جسمي فما تمالكت نفسي عن أن أقضم قطعة القماش القذرة بأسنان فتية حادة، فأحسست برائحة النتن تصاعد من ثناياها، فألقيت بذات بطني على صدري وإلى جانبي الممرض ينظر ثم لا يمد يداً. ونظرت إليه نظرات فيها التوسل والرجاء فقال لي في كبر: (هات كذا قرشاً وأنا أزيح عنك الخبث) فأشرت إليه من خلال آلامي أنني لا أملك شيئاً، فانصرف عني وخلفني أعاني ضنى الألم ومضض القذارة. ومضت أيام.
واستصرخته - ذات مرة - ليعينني على بعض شأني فما ألقى إلي السمع، فنزلت من على السرير أتحامل على نفسي، فما برحت أن دارت بي الأرض فاقد الوعي لا أجد الرحمة في قلب ولا أحس الشفقة في فؤاد.
وغبرت أياماً في الدار التي أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . غبرت أياماً أعاني الوحشة وأقاسي الضياع، لم تهف نفس أبي نحوي ولا رفت علي أبوته.
آه لطالما قضيت الليل سابحاً في أمواج من العبرات. . . عبرات الشباب العابس الحزين حين ينطوي عنه أحب الناس إلى نفسه وأقربهم إلى قلبه.
وجاء عمي - بعد أيام - يزورني فتكلم لسانه كلاماً طويلاً ولكن يده لم تبض بدرهم واحد أشبع به نهم الممرض أو أستجدي عطفه، فودعته - حين ودعني - بعبرات قلبي.
وجاء الطبيب يزورني، فهمس الممرض في أذنه بكلمات دفعته إلى أن يكتب على بطاقتي (يخرج اليوم!).
آه! ما للقلوب الإنسانية قد تحجرت فصفرت من الإنسانية وخلت من الرجولة! أأخرج من المستشفى إلى الشارع ولما أتماثل للشفاء؟ وطردت - بعد ساعة من المستشفى. . . من الدار التي أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . خرجت لألقي بنفسي على طوار الشارع أرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والألم.
لا عجب - يا قلبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!(874/4)
كامل محمود حبيب(874/5)
نظرات في الأدب والفن
بحث مقدم إلى مؤتمر اليونسكو
للأستاذ إبراهيم جمال الدين الرمادي
قبل أن نلقي هذه النظرات الجديدة على الأدب والفن نحب أن نتساءل ما هو الأدب وما هو الفن. أما الحديث عن الأدب من الناحية اللغوية فأكبر الظن أنه حديث معاد قد قتل بحثاً وتمحيصاً كما يقولون، ولكن هذا لا يمنع أن نلم بهذا الحديث إلماماً. فقد قيل إن كلمة أدب أصلها دأب والدأب هو العادة وقد جمعت على آداب على حد قولهم آبار في جمع بئر كما يقول نلينو. وقيل إن كلمة أدب من المأدبة وقيل غير ذلك أما الحديث عن الأدب من الناحية التعريفية فهناك تعريف يكاد يجمع عليه جمهور الأدباء وهو أن الأدب أن تجمع من كل شيء بطرف، فلا يصح للمرء أن يكون أديباً إلا إذا كان ذا معرفة بالمعارف العامة سواء كانت في اللغة وفروعها من نحو وصرف وبلاغة، أو كانت في الدين من قرآن وتفسير وحديث، أو في الفلسفة والسياسة والأخلاق؛ بل لقد تجاوز التعريف في عصر من العصور كل هذه الحدود فشمل المعرفة بألعاب النرد والشطرنج وما إليها. ولست أكتب هذا البحث لأتحدث عن الأدب بهذا المعنى إنما أكتبه لأتحدث عن الأدب من الناحية المعروفة في جميع اللغات وهو أنه الشعر والنثر.
والحديث عن الفن من الناحية اللغوية أكبر الظن أنه حديث معاد أيضاً، ولكن لا بأس من أن نلم به إلماماً ونعرض له عرضاً. فالفن في اللغة النوع، والأفانين الأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه. والرجل المتفنن هو الرجل ذو الفنون، وأفتن الرجل في حديثه أو في خطبته بمعنى جاء بالأفانين. والفن في اللغات الأوربية هو المقدرة والبراعة في أداء عمل من الأعمال كالنحت أو الرسم؛ أو هو الملكة التي ترتفع عن الملكات الإنسانية المعتادة في أداء لون من الألوان.
والحديث عن الفن من الناحية التعريفية حديث طويل مستفيض لكن قبل أن نخوض في هذا الحديث نحب أن نفرق بين لونين من ألوان الفن: الأول هو الفن المجرد والثاني هو الفن الجميل. أما الفن المجرد فهو الناحية التطبيقية والمرانية للعلم؛ فالصباغة مثلاً فن لعلم الكيمياء لأنها تطبيق ومران على المواد الكيميائية. والبناء مثلاً فن لعلم الهندسة لأنه تطبيق(874/6)
ومران على الرسوم الهندسية وهلم جرا. ولهذا أطلقت كلمة فن على كثير من الحرف والصنائع كالتجارة والحدادة والتدريس والخطابة. ولكن الفن الجميل هو الترجمة عن الشعور بالجمال أو بالقبيح. وتنقسم الفنون الجميلة إلى الحفر والنحت والتصوير وهي فنون تمتع النظر فهي فنون بصرية، وإلى الموسيقى والشعر وهي فنون تمتع السمع فهي فنون سمعية. وقد جاء في لاروس أن الفن معروف عند العامة من الناس بجمع أو تركيب أشياء محسوسة بوساطة اللمس أو السمع لغرض الانتفاع منها مادياً أو أدبياً؛ فالصائغ مثلاً يجمع حبات الدر النضيد وقطع الذهب البراق كيما يصوغ منها قلائد وأقراطاً ابتغاء الزينة. وقل مثل هذا عن النجار الذي يصنع من قطع الخشب مناضد ومقاعد جميلة ابتغاء الجلوس وابتغاء الزينة بعد ذلك. أما في الموسيقى والشعر والحفر فالأمر يختلف فيها عنه في الصياغة والبناء؛ فالفنان لا يؤدي عمله ليترجم عن عاطفة جاشت في صدره أو لإحساس خلج قلبه، وهذا العمل قد لا يجدي نفعاً للإنسانية مثلما يجدي مقعد النجار أو بيت المهندس. ونعني بالفائدة الفائدة المادية لا الفائدة المعنوية، لأن الشعر والموسيقى فوائد معنوية كبرى لا يمكن أن يتطرق إليها النكران أو يرقى إليها الشك. . .
وأحب هنا أن أسجل ملاحظة لابد منها عن هؤلاء الشعراء أو أولئك الموسيقيين الذين يتكسبون بفنهم والذين يتخذون الفن وسيلة لعيشهم وذريعة إلى قضاء مآربهم؛ فهؤلاء الشعراء الذين يقفون على أعقاب الملوك والخلفاء والأمراء يكيلون لهم المديح كيلا براء من الفن، لأنهم لا يفكرون فيه بقدر ما يفكرون في العطايا والهدايا! حدثني بربك أي فن يتمثل في هذا البيت:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار=فأحكم فأنت الواحد القهار!
حدثني بربك أي فن يتمثل في هذا البيت وفي أمثاله ثم قل لي ألا يهدم هؤلاء الشعراء صرح الفن هدماً ويحطمونه تحطيماً. . .
هل فعلوا كما فعل لودفيج بيتهوفن عندما دعا إلى تأليف لحن موسيقي يصور انتصارات نابليون وعظمته وقوته وجبروته لقاء قدر عظيم من المال فألف هذا اللحن ثم لم يلبث أن لاح أمامه شبح الفن فمزق اللحن تمزيقاً.
العمل الفني إذاً تعبير عن شعور الفنان؛ ولكن ينبغي أن نقرر هذه الحقيقة وهي أن الذوق(874/7)
يلعب في الفن دوره، ولكنه مع هذا يلتقي عند جل الفنانين التقاء جمال وروعة وبهاء. وقد عرف بودلير الذوق أنه تطلع إنساني نحو جمال أسمى. وينبغي أن نقرر هنا حقيقة أخرى وهي أن الفن ليس تقليداً للطبيعة كما كان يظن أرسطو إنما هو إبراز ما هو جميل في الطبيعة وحذف كل ما هو مشوه، فقد يرى الرسام شجرة من الأشجار ويريد أن يرسمها فلا يرسمها بهيئتها التامة وشكلها الكامل إنما يرى من الفن أن يقلم بعض أفنانها ويقطع بعض أوراقها حتى تخرج أكثر ملاءمة للفن الجميل.
فالفن إذاً كدوحة سامقة قد رسخت أسافلها في الطبيعة وامتدت فروعها في الخيال. ولما كان الشعر قسيماً للنثر والشعر، والنثر مكونان للأدب والأدب فن من الفنون فإني أوثر أن نتحدث بعض الشيء عن تعريف الفن عند الفلاسفة والعلماء. قال أفلاطون الفن عبارة عن إظهار ما هو غامض في الطبيعة. وقال أستاذه أرسطو الفن تقليد للطبيعة. وقال فرنسيس بيكون الفن روح الفنان مضافة إلى الطبيعة. وقال ريزنج الفن هو المظهر الخارجي للآلة. وقال أميل زولا الفن هو الطبيعة ترى خلال شعور الفنان. وقال كوزان الفن هو التعبير الحر للطبيعة. وقال تين: الفن إخراج خاصيات الأشياء وإظهارها في شكل بارز. وقال جيته: الفن الجميل كقوس قزح لا يرتسم إلا فوق سطح معتم، ولهذا كان الحزن عنصراً مناسباً للعبقرية.
أما حديث أوسكار وايلد عن الفن فهو حديث ذو شجون: وقد قدم به مجموعة من أقاصيصه الرائعة في الأدب الإنجليزي فقال الفن صانع الأشياء الجميلة. وغاية الفن أن يكشف عن نفسه وأن يخفي شخصية الفنان؛ وما من فنان يشتكي الحدب أبداً. فالفنان يستطيع التعبير عن كل شيء في الحياة. وأرقى الفنون من ناحية القلب الموسيقى، وأرقى الفنون من ناحية الشعور التمثيل، وللفن ظاهر مكشوف ورمز مستور؛ ومن يتجاوز الظاهر يجازف بكل شيء، ومن يفهم الرمز يجازف بكل عزيز والفن ليس صورة الحياة بل صورة المستعرض للحياة وليس للفن نفع على الإطلاق!
ونحن أمام هذه التعاريف المختلفة والتعابير العدة عن الفن نكاد نخرج بنتيجة واحدة، وهي أن الفن ترجمة عن الجمال والقبح سواء اتصل هذا الجمال أو القبح بالعالم الداخلي وهو النفس، أو العالم الخارجي وهو الطبيعة. والفن وأعني به الفن الجميل لا يسعى وراء منفعة(874/8)
ولا يجري وراء غاية سوى اللذة الفنية التي يشعر بها الفنان.
وقد قال جوليان هكسلي رئيس لجنة التربية الثقافية بمؤتمر اليونسكو إن الفن إبداع فردي يقام فيه وزن للكيف والقيمة والفنون جزء من المعنى الثقافي للحياة أما العلم فيهدف إلى وحدة المعرفة وإلى إثراء كمي في العالم. ولكن جوليان فإنه أن يذكر هذا الفن الذي يمكن أن تتذوقه الأمم جميعاً وهو الفن الذي سنتحدث عنه بعد حين. لكن قبل الحديث عن الفن بمعناه الواسع أحب أن أتحدث عن الأدب بوصف الشعر فناً من الفنون.
من الباحثين من ينظر إلى الأدب عندما يؤرخه نظرة زمانية فيقول هذا أدب جاهلي وهذا أدب أموي وهذا أدب عباسي وهلم جرا أو هذا أدب كلاسيكي وهذا أدب رومانتيكي. ومن الباحثين من ينظر إلى الأدب عندما يؤرخه نظرة مكانية فيقول هذا أدب مصري وهذا أدب أندلسي وهذا أدب عراقي أو هذا أدب ريفي وهذا أدب ايرلندي وهلم جرا. . .
ومن الباحثين من ينظر إلى الأدب عندما يؤرخه نظرة تجمع بين الزمانية والمكانية. والفريق الذي ينظر إلى تاريخ الأدب نظرة زمانية إنما يجري الزمان الذي يمر عليه والأحداث التي تحدث له. والفريق الذي ينظر إلى تاريخ الأدب نظرة مكانية ينكر أثر الزمان؛ فالزمان لا وجود له، والمكان هو الاسم للظرف المادي أو الوجودي. والبيئة المادية مؤثرة في الأدب من حيث أنها وعاء محسوس يؤثر تأثيراً حاسياً مادياً عملياً يمكن إحساسه ويمكن قياسه وربما تأثر هذا الفريق بفكرة إلغاء الزمان أو بفكرة الزمان الوجودي إن أردت الدقة في التعبير؛ تلك الفكرة التي دعت بعض الفلاسفة إلى إلغاء الحاضر إلغاء. فالطفل لا يدري متى ينمو ولا كيف ينمو؛ والكلمة التي يتفوه بها الإنسان في الحاضر لا تلبث أن تكون ماضية فلا يمكن أن تجزم بوجود الحاضر. هذا في الفلسفة. أما في الأدب فالزمان اعتبار لا أكثر ولا أقل عند هذا الفريق. والبيئة هي المؤثر الأول في الأدب؛ فبيئة بلاد العرب تختلف عن بيئة مصر، ومن ثم كان أدب بلاد العرب يختلف عن أدب مصر: أما الفريق الثالث كما قلت فهو الفريق الذي يقف وسطاً بين المذهبين فتارة يميل إلى جهة اليمين وتارة يجنح إلى جهة اليسار!
وعندي نظرة جديدة إلى الأدب والفن بل إلى تاريخ الأدب والفن أيضاً، وهذه النظرة لا تعبأ بالزمان ولا تعبأ بالمكان ولا تعبأ لشيء مطلقاً قدر ما تعبأ بذاتية الأدب وذاتية الفن.(874/9)
والشيء الذي أدعو إليه هو أن أوجد أدباً عالمياً يمكن أن يقرأه المصري ويقرأه الفرنسي ويقرأه الإنجليزي ويقرأه الأمريكي فيعجب كل منهم به، وأن أوجد أدباً عالمياً أيضاً فيقرأ رجل القرن العشرين نتاج أدب القرن الأول أو ما قبل القرن الأول فيعجب به أيضاً وأنا عندما أُريد أن أوجد هذا الأدب لا أوجده من العدم لأنه موجود فعلاً. فلا يزال كتاب التراجيديا يأكلون من فتات مائدة هوميروس كما يقولون. وما زلنا نقرأ الإلياذة والأوديسة فتعجبنا هذه العواطف المتطاحنة وهذه الانفعالات الصاخبة في شعرهما. ولا زلنا نقرأ شعر الغزل المصري القديم فنجد فيه رقة وعذوبة وجمالاً. ويكفي أن أذكر قطعة غزلية مصرية قديمة لتكون دليلاً على هذا القول ومن احتاج إلى أكثر من ذلك فليرجع إلى كتابي شعراء الحب في العالم. اسمع قول الشاعر
(إذا قدمت خفق قلبي وطوقتها بذراعي فشعرت بالسعادة في أعماق قلبي. وإذا دنت مني وفتحت ذراعيها إلي شعرت كأن أزكى روائح العطور تغمرني. فإذا أدنت شفتها من شفتي ولثمتني فهناك السكر ولا خمر!)
ومن الشعراء العرب من تحدث عن سقيا الخمر بالنظرات وعن رضاب حسناه برود وما شابه هذا مما لا داعي لتفصيله في هذه العجالة.
بل من منا من لم يقرأ قصيدة لامارتين البحيرة التي صور فيها أوقات الهوى مع حبيبته جوليا فوق صفحة البحيرة الرقراقة وتحت أضواء النجوم! المتألقة في السماء الزرقاء وبين إيقاع لمجاديف وهمسات الأمواج فلم يعجب بلامارتين وقصيدته قدر أو أكثر من إعجابه ببركة البحتري ووصف معالمها وأركانها!
بل من منا من لم يقرأ قصائد أدجار ألن يو المترجمة أو ماشوز الشاعر الأمريكي الرائع ولاسيما في الغزل فلم تنضح عيناه بدمعة ولم يتأوه قلبه بحسرة ولم يتحرك لسانه بآهة!
بل من منا لم يقرأ شكسبير ومسرحياته الروائع التي اقتحمت البلاد جميعاً ووجد فيها الشرقي والغربي أشخاصاً يشعرون بشعوره ويحسون بأحاسيسه؟! بل من منا من يسمع أقوال لقمان الحكيم منذ فجر الزمان وحكم الفرس فلم يعجب بالحنكة والخبرة ودرس الزمان! بل من منا من لم يقرأ حكم طرفة وزهد المعري وأبي العتاهية الذي يصدق على كل آن ومكان؟ إن الناس مهما اختلفت أذواقهم وطباعهم فإنهم لابد ملتقون سواء رضوا أم(874/10)
لم يرضوا في الإنسانية. فغرائزهم واحدة وتفكيرهم في منشأه واحد. ولهذا كان أقرب أبواب الأدب الذاتي إلى ذوق العالم بابا الغزل والحكمة، لأن الأول يختص بالعاطفة والثاني يختص بالعقل. أما الأبواب الأخرى في الشعر فتتأثر بعوامل أخرى أكثر وضوحاً وبياناً. . . وكان أقرب أبواب الأدب الموضوعي إلى ذوق العالم أدب القصة والمسرحيات.
بينت حتى الآن أن هنالك أدباً عالمياً نعجب به جميعاً، ولكني أحب أن أقرر شيئاً وهو أنني لا ألقى بهذه لنظرة لتكون قضية مسلماً بها فهذا لا يكون في الأدب. لأن الأدب لا ينتهي عند قرار كما هو الحال في العلم، فنحن عندما نقول مثلاً إن قيس ليلى زعيم مدرسة شعر الحب العنيف، وعمر بن أبي ربيعة زعيم مدرسة شعر الحب الصريح، لا نعني من لفظة مدرسة المعنى المعروف في الفلسفة مثلاً. فأنا أعرف شعراً لقيس ليلى يدخله في دور الفاحشين، وأنا أعرف شعراً لعمر بن أبي ربيعة يدخله في دور المتورعين. فالمسألة في الأدب ميل غالب بدلاً من أن نترك الأدب كالبحر الخضم الذي ليس له شاطئ وليس له قرار. فعندما أقول إذن إن هناك أدباً عالمياً لا أعني أن هذا الأدب يجب أن يعجب جميع أفراد العالم، إنما أعني أن الإعجاب يكاد يكون الميل الغالب بين الأمم نحو هذا الأدب. وهذه الفكرة موجودة في الطبيعة أيضاً فعندما نقول منطقة الغابات المدارية تليها منطقة السافانا لا نعني أن النباتات تأتي عند حد فتختلف اختلافاً عظيماً وهو الاختلاف بين الغابات المدارية والسافانا، إنما تتدرج النباتات المدارية حتى تصبح من نباتات السفانا. فليس الخط الفاصل بين المنطقتين إذن إلا خطاً وهمياً يعصم من الالتباس، وهكذا الحال في الأدب فالقضايا ليست إلا قضايا تقريبية إن صح هذا الضرب من التعبير عند المناطقة.
إذن فهنالك أدب عالمي لا يدرس بالزمان ولا بالمكان؛ وإذن هنالك شعراء عالميون لا يدرسون بالزمان ولا بالمكان؛ بل هنالك شعر عالمي إن أردت أن تكون أكثر دقة، فالشاعر قد يبدع حيناً؛ وقد يسف حيناً آخر، وقد يرتفع تارة إلى آفاق البلاغة وينحدر تارة إلى أعماق الركاكة لاختلاف مزاجه وتباين عاطفته. ومهمة الأديب في العصر الحديث بل مهمة اليونسكو في العصر الحديث يجب أن تكون البحث عن هذا الأدب وهذا الشعر لنشره بين الناس جميعاً وترجمته بجميع اللغات. فأوديب الملك مثلاً استمرت تغزو الأدب الأوربي زمناً طويلاً فتأثر بها كورني وفولتير وفيكتور هيجو، ومسرحية فاوست لكرستوف مارلو(874/11)
تأثر بها جيته فيما بعد ولازالت تمثل حتى اليوم على المسرح فيعجب بها الجمهور إعجاباً شديداً ويتعجب منها ومن الشياطين العابثة بالأرواح عجباً عظيماً. بل لم نذهب بعيداً ونحن نجد إقبال الجمهور المصري على السينما الغربية وهي فن من الفنون يزداد على إقباله على السينما العربية بأضعاف وأضعاف.
وكما أدعو إلى أدب عالمي أدعو إلى موسيقى عالمية يحاول الموسيقار الحديث بل تحاول هيئة اليونسكو إبرازها إلى الوجود. ولست أعني بالموسيقى العالمية هي تلك الموسيقى الصاخبة الداوية في المراقص أو الفالس والتانجو والرومبا والفوكس تروت إنما أعني الموسيقى التي تطمئن إليها النفوس جميعاً سواء ارتفعت إلى تصوير شوبان وشوبير وتشيوفسكي أو انحدرت إلى صفير الصافر أو زفير الزافر أو عزيف العازف على الناي على ضفاف البحيرة أو حافة الغدير! فقد يصفر الفلاح الرقيق الحال في نايه فيخرج منه نغم حلو طروب يهز أوتار القلوب يعجب الفلاحين في مصر والمثقفين في مصر كما يعجب الفلاحين والمثقفين من القوزاق في روسيا أو غير روسيا. ومهمة اليونسكو إذن هي البحث عن هذا النغم ومهمة الموسيقيين من وراء اليونسكو البدء في العمل.
وحينئذ يمكن أن تتفاهم الشعوب وحينئذ يمكن أن تتآلف الأرواح بين الشعوب ويتجنب العالم قدر الاستطاعة الحروب لا لشيء إلا لأن الأمم استطاعت أن يفهم بعضها بعضاً عن طريق الأدب والفن.
إبراهيم جمال الدين الرمادي(874/12)
فيرون
زعيم الشكاك اليونان
للأستاذ محمد محمود زيتون
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وفضلاً عن ذلك، فأن التوقف لا يؤدي إلى الغاية التي ينشدها فيرون، فإذا كانت تلك الغاية هي السعادة. والسعادة شعور النفس بها عند الانتقال من ضدها وهو الشقاء، فإن انعدام الشقاء انعدام للشعور بالسعادة، وصدق الشاعر (وبضدها تتميز الأشياء). وفيرون إنما سعد ليشقى.
ثم إنه لم يفهم الألوهية، ولم يحاول فهمها، وقد أوتي وسيلة الفهم وهي العقل، وبذلك عطلها وأسقطها من حسابه، أما الخضوع للعرف والدين والقانون خضوعاً آلياً فذلك مما لا يبرره عقل صحيح لأنه إذ يعترف بأنها أمور اتفاقية اصطلح الناس عليها فيما بينهم فقد اعترف ضمناً بأن للفرد حظاً مشتركاً في إقامة صرح القانون، فما أشبه فيرون هنا بعابد الصنم وهو من صنع يده.
وشك عندي في أن فيرون قد تأثر كثيراً بالمذاهب الهندية القديمة، وآية ذلك ما يقوله (فيكتور كوزان (كانت الحقيقة المطلقة عند (كاريكا هي الإفطار المطلق) كما أن الآلام عند البرهميين لا تأتي إلا من الآمال، فالتزموا العزلة، والفارق مع ذلك واضح بين الفيرونية والسفسطائية: كان السفسطائي منكراً لكل شيء، ولكن فيرون لم ينف ولم يثبت. والسفسطة هدم العلم، والشك الفيروني توقف، والسفسطائيون كانوا يبتغون العز والجاه والأناقة وزهد فيرون كل ذلك. وهم لم ينتهجوا نهجاً حين يسفسطون، وهو على نهج واضح حين يشك.
وفيرون كان تلميذاً لمترودور (لا نستطيع أن نعرف شيئاً بل نحن لا نستطيع أن نعرف إن كنا نعرف أو لا نعرف) وهو أيضاً تلميذ لديمقريطس القائل (نحن لا نعرف من الحقيقة إلا ما يعرض لنا بحسب الحالة التي عليها أبداننا، وبحسب طبيعة ما يرد على حواسنا وما يصدر عنها).(874/13)
والفارق بعيد أيضاً بين فيرون وسقراط. فقد كان كاهن إيليس شكاكاً بينما كان فيلسوف أثينا مؤمناً اعتبر سقراط العلم ورده إلى العقل، ورد إليه الأخلاق. أما فيرون فقال باللاأدرية وردها إلى الحس، ورد إليها تعليق الحكم. وكان سقراط مضطهداً بينما كان فيرون محترماً. وكلاهما - مع ذلك - زهد الحياة، وبشر بتعاليم جديدة أثر الشخصية في بثها أشد وأقوى من الثورة والدعوة، وكلاهما خضع للعرف، ولم يجار العامة في ديانتهم. توسل سقراط إلى السعادة بالعلم والفضيلة، وتوسل لها فيرون باللاأدرية واللامبالاة.
وأفلاطون اتهم الحواس التي لا يملك فيرون غيرها. وأنكر أفلاطون الجزيئات وهي الموجودات عند فيرون، حقائق الأشياء هي المثل عند أفلاطون، وهي غير معروفة إطلاقاً عند فيرون. والسعادة عند أستاذ تيمون في اللامبالاة، وعند أستاذ أرسطو في الموت، وهو التطهير، الخير عند فيرون وتلميذه صريع الشر وهو عند سقراط وتلميذه متحقق في أعماق النفس تحس به.
وأرسطو يقول بالاعتدال في كل الأمور، وفيرون يقول بالتوقف والحياد، وإزاء هذا المذهب الفيروني العجيب يقف تيمون يناجي أستاذه فيقول:
(فيرون: أيها الكهل النبيل! حدثني كيف وبأي وسيلة عرفت سبيل التخلص من نير المذاهب المستعبدة، والتعاليم السفسطائية الباطلة؟ حدثني كيف حطمت قيود الباطل، والاعتقاد التقليدي. وأنت الذي لم يأل جهداً في البحث عن طبيعة الهواء الذي يحيط ببلاد اليونان، وعن طبائع الأشياء وعن غايتها التي تنتهي إليها جميعاً).
ونرى من هذا كيف أن طرافة المذهب الفيروني ترجع إلى جريان المذاهب السابقة عليه في دمه، واستحالتها إلى لون جديد انتبه له المفكرون بعد أن نصلت الأنسجة السفسطائية وبهتت ألوانها.
على أن الشك من مستلزمات الفكر الحر ومن موجبات تقدمه، فأنبياء الله ورسله داخلهم الشك، آمن إبراهيم عليه السلام بربه، ولكن لم يطمئن قلبه حتى رأى من آيات الله ما رأى، وموسى عليه سلام الله ناجى ربه: (رب أرني أنظر إليك) ومحمد عليه الصلوات قال (أنا أولى بالشك من إبراهيم) ونحن ألسنا أولى بالشك من الأنبياء؟. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزالون تسألون عمن خلق الله، فقولوا: إن الله خالق كل شيء، وهو قبل(874/14)
كل شيء، وبعد كل شيء). وإذن فلا تنافي بين الشك والدين، كما لا تنافي بين الشك واليقين، لأن اليقين لا يزال بالشك كما يقول العسكري.
ومن فلاسفة الإسلام من اتخذ الشك المنهجي عكازاً إلى نور اليقين وزعيمهم فخر الرازي، فقد كان أستاذنا المرحوم (كراوس) المستشرق الألماني يعتبره زعيم المتشككين في الإسلام. وقد اصطنع المنهج الشكي أو الشك المنهجي حجة الإسلام أبو حامد الغزالي كما هو واضح في كتابه أو اعترافاته (المنقذ من الضلال). وعند الواقفية من الجهمية مسحة من الشك في تعاليمهم لاتصال جهم بن صفوان بالشكاك الهنود، وسميت بالواقفية لأنها لم تقل بأن القرآن مخلوق أو ليس.
وكان الغزالي يعمل للعامة اعتباراً فوضع (إلجام العوام عن علم الكلام) وكتب السيوطي (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) وما أكثر تآمر الجهل والجمود على العلم والحرية، فقد اتخذ ديكارت منهجاً للشك بغية الوصول إلى الحقيقة والكشف عن القوانين العامة للعلوم وثار على خزعبلات المشايخ هيئة كبار العلماء في عصره. وكانت ثورته الفكرية قوامها هدم احتكار العلم فافتتح (المقال عن المنهج) بقوله (العقل أكثر الأشياء توزعاً بين الناس بالعدل) وإذ خشي انقضاض العلماء الرسميين عليه قال (من أحسن الهروب عاش سعيداً) وكان لقواعد منهجه في الشك أبعد الأثر في توجيه الفكر الإنساني إلى أبعد الغايات، وتابعه (كانت الذي نقد العقل، وبيكون الذي هدم (أصنام العقل) ليبني على أنقاضها منهجاً جديداً للتفكير والبحث في العلوم. وكذلك (بيل و (مونتني و (هيوم وغيرهم من الشكاك المحدثين والأقدمين.
هذا هو نفوذ المذهب الفيروني في كل ما جد من بعده من أفكار حصرناها على نطاق واسع جداً يضيق المقام هنا عن ذكر تفاصيله وتفاريعه. أما أثر فيرون فقد كان مباشراً في تلاميذه الذين انخرطوا في مدارس للشك لكل واحدة لونها وصبغتها، وإن كانوا يسمون كانوا رواد الحقيقة، فلما حاولوها ولم ينالوها سموا تحيروا وتوقفوا حيالها سموا فعلقوا أحكامهم، فسموا لم يطمئنوا إلى وجود الحقيقة التي أشكلت عليهم.
وكان أركاسيلاس وكاريناد أشهر المدرسة الاحتمالية، وكان أنسيدام وأغريبا أشهر المدرسة الجدلية، ثم جاءت أخيراً المدرسة التجريبية التي اشتهر فيها مينودوت وسكستوس من(874/15)
الأطباء الشكاك أو الشكاك الأطباء الذين كانوا حرباً على الفلاسفة والمناطقة والفيازقة ورجال الأخلاق وانتهوا إلى مذهبهم التجريبي في الشك الذي يقضي بالخضوع لتكاليف الطبيعة والرضوخ لقوانين الوطن وعوائده ومزاولة بعض الفنون، واتباع ما تأتي به الظواهر.
محمد محمود زيتون(874/16)
أحاديث عن جنوب الجزيرة
للأستاذ طه أحمد السنوسي
برهوت:
ذكر الإمام أبو محمد عيسى الأندلسي في كتابه عيون الأخبار حكاية كان من بينها هذه العبارة: (ولكن سر إلى اليمين إلى واد في عدن يقال له (برهوت) وفيه بئر. . . ويقول أبو محمد عبد الله الطيب بن عبد الله بن أحمد أبي مخرمة في مؤتنف الجزء الأول من تاريخ ثغر عدن بعد أن أورد حكاية الإمام أبي محمد عيسى الأندلسي:
(كذا نقله عنه القاضي محمد بن عبد السلام الناشري في كتابه الموسوم بموجب دار السلام في صلة الوالدين والأرحام، والمشهور أن برهوت واد بحضرموت، وأن أرواح الفجار تأوي في بئر برهوت، فإن صح ما ذكره الأندلسي أنها بعدن، فلعله السبب في اختصاص عدن بخروج النار الطاردة للناس إلى المحشر.
. . . ومن هنا نفهم أن ابن أبي مخزمة قد بنى استنتاجه باختصاص عدن بخروج النار الطاردة للناس إلى المحشر على كلام الأندلسي من أن برهوت واد في عدن، وهو كلام واه لا يستند إلى حقيقة، وابن أبي مخزمة نفسه يعلم أن برهوت واد بحضرموت، ويقول إن ذلك مشهور، ولكنه يريد أن يتلمس سبيلاً لتعليل علة اختصاص عدن بخروج النار، فيستوقف ما ذكره الأندلسي، ويتلمس منه علة واهية متداعية الأركان. . .
أما القزويني فيقول في كتابه (عجائب المخلوقات) إن بئر برهوت على مقربة من حضرموت. . .
أما الذي أريد أن أقوله هو أن برهوت في حضرموت على مقربة من قبر سيدنا هود عليه السلام، وهو كهف من الجير، وقد قامت منذ قديم الزمان شتى العقائد والخرافات حول هذا الكهف، وقد صدقها المؤرخون العرب، كما أخذها عنهم الكتاب الغربيون دون تعقيب أو تحقيق. . .
وقد حقق صاحبا كتاب (حضرموت) وهما درميلن وويزمان البحث في بئر برهوت ذاك، وعللا الروائح الخبيثة التي تنبثق منه بأنها ناشئة عن تبول الخفاش الذي يقطن هذا البئر، ثم عن التحلل الصخري فيه، وكانت هذه الروائح الكريهة مصدر اعتقاد بأنها نذير بموت(874/17)
الكفار، بل إن البئر نفسها في المعتقدات القديمة مستكن أرواح الكفار، وأرهب نقطة على سطح الغبراء.
جنوب شبه الجزيرة في كتاب (الإسلام في العالم):
وقد اطلعت منذ أمد ليس ببعيد، على كتاب بالإنجليزية للدكتور زكي علي تحت عنوان (الإسلام في العالم) وقد توقفت تجاه ما كتبه الدكتور الفاضل عن جنوب الجزيرة العربية في فصل (تحرير الإسلام) فرأيته يقول ما تعريبه:
بلاد العرب الإنجليزية:
بالرغم من أن اسم بلاد العرب الإنجليزية لم يظهر رسمياً في أطلس جغرافي، فإنها توجد في الحقيقة وتغطي أقاليم عربية كبيرة وهامة على الساحل الجنوبي لبلاد العرب ومنفذ البحر الأحمر وعلى طول ساحل الخليج الفارسي، وكذا عدن ومحمية عدن مشتملة حضرموت ومسقط وعمان ومشيخة قطر والكويت وإمارة البحرين تحت الإدارة البريطانية.
عدن:
وتقع شبه جزيرة عدن على الساحل العربي قرابة مائة ميل شرق باب المندب، وكانت عدن مضافة كممتلكة بريطانية في عام 1939، وكانت سابقاً محكومة من الهند، بيد أنها أصبحت مستعمرة بريطانية في أبريل 1937، وهي تحكم المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتمتلك أهمية استراتيجية عظيمة، فهي كائنة كجبل طارق للبحر الأحمر، وقد سما مدخل قناة السويس بعدن إلى مركز ذي أهمية تجارية، وهو مخرج قيم للتجارة مع بلاد العرب والبلاد القريبة، وهو أيضاً يشمل جزيرة بريم ومحمية عدن مقسمة إلى قسمين: محمية عدن الغربية ومحمية عدن الشرقية، والأولى تحتوي على تسع عشرة سلطنة، وسلطان لحج رئيس المحمية الأول وتشمل محمية عدن الشرقية حضرموت (محتوية دولة القعيطي لشهرا والمكلا ودولة الكثيري لسيام) وسلطنة مهرة لكش وسوكترا وسلطنات الواهيدي لبيرعلي وباليهاف ومشيخات أركاوهورا. . وسلطان شهر والمكلا هو رئيس محمية عدن الشرقية، وحضرموت هي الأكثر أهمية والأحسن نظاماً لهذه المساحات، وحددت(874/18)
حضرموت من الشرق بسلطنة المهرة ومن الغرب بسلطانات الواهيدي.
ومن الاتصال الطارف بالعالم الخارجي والنضارات الحديثة ما هو داخل في هذا البلد الصحراوي، وكل هذه السلطنات تقع في محمية معاهدة الصداقة مع الحكومة الإنجليزية، وتحت إدارة المستوطنين الإنجليز أو الحكام - كما في عدن -)
ولسنا نعلم فيما نعلم هذا التقسيم الذي وضعه الدكتور المؤلف لعدن شرقية وغربية، وهل الإنكليز في نظره قد اتخذوا جنوب الجزيرة محمية واحدة أطلقوا عليها محمية عدن، ثم قسموها قسمين: الشرقية والغربية؟ وهل يجوز أن نمحي أسماء حضرموت ولحج وغيرها لنضع فوقها اسم عدن، ما دام الإنجليز يحتلون عدن الصغيرة.
ويرى الدكتور زكي على أن محمية عدن (الغربية) تحتوي على تسع عشرة سلطنة، ونحن نعلم أن سلطنات جنوب الجزيرة عشرة سلطنات، فلو زدنا - على رأي الدكتور - عدد سلطنات محمية عدن (الشرقية)، فنظن أن المجموع سيكون أربعين أو خمسين سلطنة.
وبعد ذلك أقول إن ما ذكرته من كلام صاحب (الإسلام في العالم) قول أدعه لأهل الجنوب ليروا فيه رأيهم.
فقرات عدنية:
. . . يقول الشيخ أبو مخرمة: (أعلم أن عدن بلدة قديمة يقال أن قابيل لما قتل أخاه هابيل خاف من أبيه آدم، ففر من أرض الهند إلى عدن وأقام هو وأهله بجبل صيره، وأنه لما استوحش بمفارقة الوطن غيره، تبدى له إبليس ومعه شيء من آلات اللهو كالمزامير ونحوها، فكان يسليه باستعمالها، فهو أول من استعمل ذلك على ما قيل). . . وإن كان إبليس أول من استعمل آلات اللهو في عدن، فكان من المحقق أنها تصير في أيامنا هذه آلات شر وشؤم لا آلات فن بديع، وعلى حد قول أبي مخرمة ليس من الضروري أن نثبت أن إبليس هو أول من استعمل تلك الآلات وهو الذي كان يلهي قابيل (لما قتل أخاه هابيل وخاف من أبيه آدم).
والذي نريد أن نقوله إن عدن هذه التي كان لها التاريخ الطويل القديم، قد بدأت اليوم نهضتها نابضة حية وستجلوها الأيام عن قريب في ثوب قشيب من الحضارة والمدنية والرقي.(874/19)
ولقد سعدت بكلمات الأستاذ الفاضل أنور المعداوي عن نهضة عدن حيث قال في إحدى تعقيباته بالرسالة الزاهرة: (الله يشهد أنني سعيد بهذه النهضة؛ لأنها وثبة رائعة من وثبات الشباب العربي في جنوب الجزيرة، ومتفائل بها كل التفاؤل، لأنني أومن كل الإيمان بأن النهضات الأدبية ما هي إلا مقدمات طبيعية لنهضات أخرى). .
ويمتاز الشباب العدني بالوعي العربي والشعور الصميم، ويقص لي أحد الشبان العدنيين المخلصين ما صنعوه باليهود بمناسبة فلسطين، فيبعث إلي ويقول: (وهاك بعض مناظر لمنازل اليهود المحروقة التي دمرناها هي وساكنيها مع أننا لا نملك سلاحاً؛ لأن السلاح في مستعمراتنا ممنوع، وإذا اكتشف أحد من السلطة أن لدى أحدنا مسدساً يأخذه مباشرة ليقضي في السجن بعض السنين، وعندما نشبت الحرب في فلسطين، أضربنا وكان ذلك في يوم الأربعاء 20 ديسمبر سنة 1948 وقمنا بمظاهرات إلى حارة اليهود - عليهم اللعنة - وعندما شاهدونا في هذه المظاهرة أغلقوا منازلهم وجلسوا في منافذهم مستعدين للقتال، مع أنه من المسموح لهم أن يحملوا السلاح، ونحن العدنيين ليس لدينا سوى عصيان الكشافة، وعندما ظهرنا في أول سكة من سكك اليهود وهي بالقرب من سكة شركة الطيران رميت القوارير فوق رؤوسنا، وأصيب منا اثنان، وعلى هذا دارت الدائرة عليهم، وأخذنا كمية من البترول وأحرقنا جميع سياراتهم الفخمة، وكان ذلك بالمساء، أما في الصباح فقد خرجنا أيضاً في مظاهرات أخرى وقد خرج إلينا الجنود البريطانيون بأسلحتهم ومصفحاتهم على أهبة الاستعداد لتدميرنا، فلم نبال بشيء من هذا كله ومضينا وعندما مررنا بسكة من سكك اليهود لاحظنا الجند الإنكليز، ولكن يهودياً من فوق نافذته أخذ غدارته أطلق ثلاث رصاصات على ضابط بريطاني فقضى عليه، ومن ثم سمح الإنكليز لنا بالهجوم، وكان النصر حليف العدنيين تلك الثلة العربية الموفقة. . .)
المحميات على لسان الجفري:
أسدل ستار من التمويه والخطأ على (المحميات) وتسميتها ووجودها، لذا رأيت أن أورد في هذه الأحاديث نص ما ذكره السيد الجفري مستشار عظمة سلطان لحج عنها في مذكرة سلطنة لحج التي قدمت إلى الوزارة المصرية في 18 فبراير سنة 1948: (تقع مملكة اليمن في الركن الجنوبي من جزيرة العرب، وإلى الجنوب منها تقع محمية عدن، وسلطنة(874/20)
لحج وسلطنة حضرموت إلى إمارات أخرى اشتهرت على ألسنة بعض الكتاب منذ عهد غير بعيد باسم (المحميات) وهي تسمية لا تطابق الوضع السياسي الصحيح لتلك البلاد التي يتمتع كثير منها بنوع من الاستقلال والحرية.
وقد كان لهذه التسمية الخاطئة أسباب ودوافع، بل أغراض ومطامع؛ فلاشك أنه مما يسر بريطانيا أن تمنح ما ليس لها بحق حين يقال إن هذه المحميات تابعة لها خاضعة لسلطانها، فذلك كسب استعماري كبير تطمع أن تناله، كما أن بعض الذين يحاولون توجيه السياسة اليمنية يرجون من وراء هذه التسمية أن يقع في وهم العرب أن تلك السلطنات أو الإمارات المستقلة في جنوب شبه الجزيرة هي أجزاء من مملكة اليمن اقتطعها الاستعمار عن وطنها الأم ليفرض عليها سيادته، وسلطانه ومن الحق والواجب أن تعود إلى أحضان اليمن كما كانت.
وقد وقر هذا المعنى الخاطئ في نفوس كثير من الناس، وساعد على استقراره انعزال هذه السلطنات أو الإمارات في ركنها الجنوبي منطوية على نفسها لا تحاول دعاية في بلاد العرب ولا في غير بلاد العرب.
على أن بعض الدعايات المعادية قد نشطت منذ قريب لتشويه الوضع السياسي لسلطنة الجنوب تحقيقاً لبعض ما أشرنا إليه من الأغراض والمطامع، بدأ ذلك جلياً حين تقدمت سلطنة لحج وإلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية طالبة قبولها عضواً في الجامعة، أو تمثيلها في بعض لجانها الثقافية، فقد بدر يومئذ صوت معارض يزعم أن سلطنة لحج (محمية) لا يسوغ لها الانضمام إلى الجامعة، وأنها ليست إلا جزءاً متقطعاً من بلاد اليمن لا يسوغ أن يكون له ممثلون في الجامعة).
أحمد طه السنوسي(874/21)
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الرصافي
لا نستطيع أن ننكر ما للرصافي من أثر كبير في نهضة الشعر الحديثة في العراق وما لصوته من الصدى المدوي في دنيا العرب، فقد حمل قيثارة الشعر يداعب أوتارها المتنوعة ويرتل عليها أنغامه المختلفة هاتفاً بمجد أمته منادياً بوحدتها واستقلالها داعياً لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة الحائرة في بيداء الحياة.
كانت أنغام الرصافي تنبعث من أعماق القلب حيناً ومن آفاق العقل حيناً آخر؛ فهو حين يندمج بالحياة الاجتماعية ويواكبها في ساعات الألم ولحظات الهدوء ويستوحي عاطفته وإحساسه فتستجيب له العاطفة ويواتيه الإحساس فيترجم تلك الانفعالات نغماً حزيناً باكياً ولحناً مرح المقاطع هادئ النبرات، وحين يخلو إلى الطبيعة في عزلة من صخب المجتمع وضوضاء البشر يستلهم عقله وتفكيره ويعرج إلى آفاق السماء فيصف الكون وما فيه من صور وأعاجيب ونجوم وأفلاك، ويهبط إلى الطبيعة من حوله فيتحسس جمالها ومنابعها وما فيها من فنون وروعة ويتمتم ويتغنى ويفصح عن خلجات وجدانه بما يواتيه من تعبير وأداء.
كان الرصافي عاطفياً حساساً حين ينظم في السياسة والاجتماع، وحين يتغزل ويمدح أو حين تصفو له الأجواء لحظة من لحظات العمر. وكان وجدانياً حين يصف الطبيعة وما فيها من مباهج وصور ومنابت وأطيار وجداول ومروج، أو حين يصف حريقاً أو مخترعاً جديداً. وكان فيلسوفاً حين يتجرد إلى عقله وتأملاته الكونية، ولكنه في الثانية والثالثة يخاتل حياته ويخالس طبيعته فلم يؤلف من وصفه وفلسفته ما يناهض تيار العاطفة وتموجات الإحساس فقد خلق الرصافي عاطفي النبع يتحدث إلى قلبه ويتحدث قلبه إلى موسيقاه ومن ثم تعبر هذه الموسيقى عن خواطر وأحاسيس تمثل روح الشاعر وقلبه وما في هذه الروح وهذا القلب من صور حية نابضة بالحركة والألوان.
ويجب أن نحدد مسارب هذه العاطفة عند الشاعر ونسير معها إلى ينبوعها الأكبر لنضيق دائرة البحث في مركز واحد.(874/22)
إن عاطفة الرصافي تستمد صورها من السياسة والاجتماع والغزل والمدح وما يشبه هذه الألوان. ولكن الينبوع الأكبر لعاطفة الشاعر هو السياسة والمجتمع إذ فيهما تبدو هذه العاطفة جلية واضحة وتكثر صورها الشعرية. أما موطن هذه العاطفة في أكبر ينابيعها فهو ذلك القلب الذي تفتح في دنيا كثيرة الصخب قائمة لآفاق عارمة الزوابع، دنيا تعبث بها سياسة قاسية هوجاء ومسلطون جائرون فلا عدل ولا إصلاح ولا علم ولا حرية؛ فقر وحرمان، وظلم واستهتار، وخضوع وذل، ووشاية ورشوة، وسجون ومعاقل، وشباب يقدمون قرابين على مذابح الشهوات، وسياط تتخضب بدماء المتون والظهور في المدن والقرى، وطبقات لا يؤلف بينها منهج ولا نظام. تلك هي دنيا العراق حين أطل عليها الرصافي فكان من البديهي أن يتأثر ذلك القلب ويتألم ويعبر عن تأثره وألمه بعد أن اكتملت الأداة عند صاحبه وطاوعته الموسيقى اللفظية أحسن مطاوعة. وهكذا ثار الرصافي وندد بالسلطان والولاة ووصف السجون وما فيها من ظلام وتعذيب، ودافع عن المرأة والعامل والفلاح.
وإذ نحن بصدد البحث هنا في شعر الرصافي الذي نظمه أيام الاستبداد العثماني وحين عودة الدستور فلا يسعنا إلا أن نقصر البحث على ما نحن بصدده تاركين الألوان الأخر إلى فرصة ثانية.
لاشك أن الرصافي مر في أدوار عدة من تاريخه السياسي أو مرت به أدوار سياسية متعددة مختلفة فقد نشأ النشأة الأولى في بغداد وهو محدود الفكر ضيق الشعور لا يعبر إلا عما تقع عليه عينه في بغداد وما حواليها ولا يتأثر إلا بما يسمع من الأحاديث ويقرأ من الصحف والمجلات وهي قليلة في ذلك الوقت. ثم طاف بالبلاد العربية وبخاصة سوريا وفلسطين، وسافر إلى تركيا وشاهد مواطن البذخ والترف على البسفور والدردنيل فأثرت في نفسه تلك الفوارق الاجتماعية بين رعايا مغرقين في تيار الذل والحرمان وبين أسياد يعيشون في أبراج الذهب والحرير، بين رعايا مكبلين بالحديد والأغلال وحكام تتمرغ أنوفهم بعطر الحياة وتدوس أقدامهم أشلاء العبيد الصاغرين فإذا الرصافي يثور على الظلم والاستبداد، وإذا بهذه العاطفة التي كانت حبيسة في أفق ضيق محدود قد تغيرت وتبلورت بهذا الأفق الرحب ومشت في ركاب الحياة الواقعية الصريحة تندد بالخليفة الجائر والولاة المستبدين(874/23)
وتنفخ روح الثورة في الجماهير المظلومة الصاغرة. ثم جاء دور الأحرار ودعاة الدستور فاتصل بهم الرصافي وشاركهم في شعورهم وأيدهم في مواقفهم حتى إذا أعيد الدستور تلقاه فرحاً مستبشراً وحياه بأكثر من قصيدة ومجد زعماءه وأنصاره. حتى إذا كانت نهاية الأتراك على يد الاحتلال الإنكليزي في الحرب العالمية الأولى أخذت عاطفة الرصافي تموج وتضطرب وتثور ولا تستقر لأنها أحست بلفحة النار تسري في الوطن العراقي الجريح، وتتمشى في الأفق العربي الداكن، وتتمدد في البلاد الإسلامية المنكوبة؛ فمن حق الرصافي أن يثور ويضطرب حين وجد الحياة داكنة مدلهمة تعصف بها الزوابع والأعاصير من كل جانب وتعبث بها السياسة العثمانية الجائرة. ومن حق الرصافي أن يهدأ ويطمئن حين عاد الدستور فعادت الحرية إلى طلابها وشداتها. ومن حقه أن يعود إلى ثورته وجيشانه حين جاء الإنجليز فاتحين مستعمرين وظلوا فاتحين مستعمرين يعدون ولا يفون، ويأخذون ولا يعطون، ويشاركون في كل رأي ويتدخلون في كل أمر وفي كل مرفق. فكان بديهيا أن يقف الرصافي منهم موقف الساخط الثائر، وكان بديهيا أن يحن إلى الأتراك وقد ذاق حلوهم كما ذاق مرهم ولم يجد من الإنجليز ما ينسيه عهدهم. وهذا هو السر الذي جعل الرصافي يعيش أواخر عمره وقد سدت عليه منافذ الحياة وضاقت دونه مسارب العيش إلى أن ودع الحياة بين خصوم يتهمونه بالنزعة التركية والتمرد على بعض العادات، وبين أصدقاء معجبين فهموا شعره وقدروا فيه عاطفة الشاعر العميق الإحساس الذي يملي أفكاره ونزعاته ولا تملي عليه الأفكار والنزعات.
إن خصوم الرصافي يأخذون عليه تودده للأتراك في بعض المناسبات ومدحه لبعض ملوكهم وولاتهم ودفاعه عنهم في بعض حروبهم، وبكاءه عليهم حين تقلص ظلهم من العراق إلى جانب ثورته عليهم. ثم مواقفه التي لا ترضي بعض الحكام في تاريخ العراق الجديد وقد فات هؤلاء الخصوم أن عاطفة الشاعر - كأي شاعر أصيل النبع - لا يمكن أن تستقر على حال أو تجنح إلى شاطئ واحد بل هي متنقلة متحولة من الشمس إلى الظل ومن الجبال إلى السهول كالطائر الذي لا تسع جناحيه الآفاق ولا يستقيم له وكر.
إن الشاعر العاطفي الحساس قد ينظر إلى الحياة والأشخاص وما حوله من الصور والألوان نظرة تختلف عن غيره من سائر الناس فقد يحس باللذة في موطن الألم، وبالجمال في(874/24)
موطن القبح، وبالصخب في مجال الهدوء، وقد تنعكس هذه الصور عنده وما عليه إذا غضب الناس أو رضوا مادام يعيش في عالمه ويستجيب لقلبه وعاطفته. وبمثل هذا الرأي نستطيع أن ندافع عن الرصافي في مواقفه التي كبرت على خصومه وظنوا أن بها استخفافاً ببعض المظاهر الاجتماعية وخروجاً على بعض التقاليد ناسين أن الشاعر الذي يستوحي خلجات نفسه وهواجس قلبه لا يقيم وزناً لمذهب (بلوتارك) الذي يريد من الشاعر أن يكون أخلاقياً فحسب!!. وليس الرصافي واعظاً على منبر أو خطيباً في مسجد. وحتى الوعاظ والخطباء قد يكون لهم من اللحظات ما يشعرون فيه بوجود آخر غير وجودهم الديني فكيف الشعراء؟
وإذا كان لابد من الدفاع المادي عن مواقف الرصافي السياسية التي أغضبت بعض الناس فأن الدراسة التحليلية لشعره كفيلة باستجلاء الحقيقة لأن شعره يدل على أنه لم يكن ليستجيب للأفراد على حساب الجماعات أو يرضخ للتنويم المغناطيسي يفعل به ما يشاء فجميع مواقفه التي فسرها الخصوم تفسيراً سطحياً لها ما يبررها وليس فيها ما يؤيد دعم هؤلاء الخصوم كما سيأتي، ولو أراد الرصافي لنفسه موقف المصانع الموارب - أن في عهد الأتراك أو عهد الإنجليز - لكانت حياته المادية غير التي قضاها.
يضاف إلى هذا أنه لم يكن وحده مؤيداً لسياسة الأتراك - وهي سياسة في مجال الدستور - بل شاركه في مجال التأييد الزهاوي والكاظمي وشوقي وحافظ وغيرهم حتى بلغ من تأييد حافظ للأتراك تهجمه على الثائرين في الحجاز على الدولة العثمانية.
إن الرصافي قد أدى رسالة الشعر في حق الشعر. وأدى رسالة الشعر في حق العراق والبلاد العربية، وأدى هذه الرسالة في حق المسلمين والإنسانية عامة.
هذه كلمة موجزة عن حياة الرصافي السياسية كما وجدناها في شعره وفي الظروف والملابسات التي رافقها والأدوار التي اجتازها وقد وقفنا منه موقفاً يتردد بين التحليل والدفاع مستندين في ذلك إلى طبيعة الشعر وعنصره العاطفي وإلى السياسة التي كانت آنذاك في تبلبل واضطراب، وسنترك للنماذج التي سنختارها وندرسها تعزيز الرأي وإيضاح الدراسة مقتصرين من هذه النماذج على مرحلتي الاستبداد وعودة الدستور ثم ما قاله الشاعر في مدح الأتراك ومقدار صلة هذا المدح بالواقع الذي يبرره والظروف التي(874/25)
تحتمه.
للرصافي قصائد كثيرة في الثورة على الاستبداد العثماني وفي ثورته عنف وشدة. وقصيدته (إيقاظ الرقود) أبلغ دليل على هذه الثورة العنيفة فقد جاء فيها:
إلى كم أنت تهتف بالنشيد ... وقد أعياك إيقاظ الرقود
فلست وإن شددت عرا القصيد ... بمجد في نشيدك أو مفيد
لأن القوم في غي بعيد
إذا أيقظتهم زادوا رقادا ... وإن أنهضتهم قعدوا وئادا
فسبحان الذي خلق العبادا ... كان القوم قد خلقوا جمادا
وهل يخلوا الجماد من الجمود؟
هؤلاء هم قوم الرصافي وأبناء وطنه كما يراهم فهم لا يتنهون من غفلة ولا ينهضون بعد قعود ولا يثورون على حكومة جائرة عانية فهم كالجماد الذي لا يحس. ثم ينتقل إلى وصف هذه الحكومة وينذرها بعاقبة الظلم والجبروت:
حكومة شعبنا جارت وصارت ... علينا تستبد بما أشارت
فلا أحد دعته ولا استشارت ... وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الحدود
ويشير إلى أن هذا الجور والسكوت عليه لم يكن سببه إلا الجهل حتى أدى هذا الجهل إلى تحكم عبد الحميد:
سكنا من جهالتنا بقاعا ... يجور بها المؤمر ما استطاعا
فكدنا أن نموت بها ارتياعا ... وهبنا أمة هلكت ضياعا
تولى أمرها عبد الحميد
وهنا تشتد الثورة في نفس الشاعر وتطغي العاطفة الحانقة فيخاطب عبد الحميد بلهجة عنيفة:
أقول وليس بعض القول جدا ... لسلطان تجبر واستبدا
تعدى في الأمور وما استعدا: ... ألا يا أيها الملك المفدى
ومن لولاه لم يك في الوجود(874/26)
أنم عن أن تسوس الملك طرفا ... أقم ما تشتهي زمرا وعزفا
أطل نكر الرعية خل عرفا ... سم البلدان مهما شئت خسفا
وأرسل من تشاء إلى اللحود
تنعم في قصورك غير دار ... أعاش الناس أم هم في بوار
فانك لن تطالب باعتذار ... وهب أن الممالك في بوار
أليس بناء يلدز بالمشيد؟
للكلام بقية
إبراهيم الوائلي(874/27)
الشعر المصري في مائة عام:
علي الليثي
للأستاذ محمد سيد كيلاني
1822 - 1896
- 1 -
ولد الشيخ علي الليثي بمدينة القاهرة. وقد نسب إلى الإمام الليث لأنه كان يقيم في مطلع حياته في ضريحه.
التحق الليثي بالأزهر وظل مشتغلاً بطلب العلم حتى وفد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصداً أداء فريضة الحج فاتصل به وأخذ عنه الطريق وحج معه. ولما عاد إلى مصر لم يفارقه بل سافر معه إلى جنبوب، وأقام هناك مدة يطلب العلم. ثم فارقه وعاد إلى مصر واتصل بأم عباس باشا الأول فجعلته شيخاً على مجلس دلائل الخيرات عندها ثم اتصل أيضاً بالأمير أحمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا الكبير وشقيق الخديوي إسماعيل فاعتقد فيه وأطلعه على خزانة كتب عديدة.
وقد اتهم بالاشتغال بفنون السحر والشعوذة والزايرجة والإخبار عن الغيب والكشف عن الطالع وغير ذلك مما هو مشهور عن المغاربة. فنفي إلى السودان في عهد سعيد الذي أمر بجمع كل من يأكلون أموال الناس بمثل هذه الخزعبلات وإبعادهم إلى السودان. فبقي هناك مدة من الزمن ثم عفي عنه فرجع إلى مصر.
والظاهر أنه كان قد عرف الخديوي إسماعيل حينما كان يتردد على منزل أخيه الأمير أحمد رفعت وذلك في عهد سعيد. فلما تولى هذا الخديوي قرب الليثي إليه وجعله هو والشيخ علي أبا النصر نديمين له يحضران مجالس أنسه وتزول الكلفة بين الحاضرين فيتبسطان في القول ويملآن المجلس فرحاً وسروراً بالنوادر المطربة والفكاهات المضحكة. وقد بلغ من شغفه بهما أنه خصص لهما قاعة بالديوان الخديوي يجلسان فيها كأنهما من المستخدمين. وقد تقرأ في الوقائع المصرية مثل هذه العبارة: (قصيدة فائقة للشيخ علي الليثي المنشئ بديوان المعية السنية) وتقرأ مثل هذا عن الشيخ علي أبي النصر، فتظن(874/28)
أنهما كانا يقومان بالكتابة الإنشائية والواقع أنهما لم يزاولا الكتابة قط، إنما هو لقب منح لكل منهما.
وقد تمتع الليثي بجاه كبير في عهد الخديوي إسماعيل. فكان الناس يلجئون إليه متوسلين به ومتشفعين في قضاء الحاجات. وظل الشاعر محتفظاً بمكانته في أيام الخديوي توفيق. وكان قد انضم إلى الحركة العرابية فلما قضي عليها نظم قصيدة تبرأ فيها من تهمة العصيان فعفا عنه الخديوي وزاده قرباً منه.
ولما بنى الخديوي توفيق قصره في حلوان كان ينتقل إلى ضيعة الليثي بشرق اطفيح ويقيم عنده يوماً. ولهذا اعتنى الليثي بضيعته فشيد فيها قصراً وغرس الحدائق والكروم.
ولما تولى الخديوي عباس أعرض عن الليثي، ولا عجب في ذلك. فقد كان صاحبنا في العقد السابع من عمره على حين كان الخديوي في الثامنة عشرة. ثم إن عصر الليثي كان قد انتهى فأقام في ضيعته وكان كثير من الأدباء يزورونه هناك أو في داره بباب اللوق فيكرم مثواهم ويحسن لقاءهم. وبقي على ذلك حتى مات في عام 1896.
شعره
لا يوجد بين أيدينا ديوان الليثي. ولا نعرف أنه قال شعراً قبل عصر إسماعيل. وقد اعتمدت في حديثي عن شعره على ما نشر في الوقائع المصرية. وتنبعث شاعريته في عهدي إسماعيل، وتوفيق.
قال يمدح الخديوي إسماعيل:
أنعم بطيب ليال لحن كالغرر ... في جبهة الدهر تسمو عن سنا القمر
بها تزف الأماني في مواكبها ... لكل راج ويرعاها أخو السمر
علا بها الدهر شأناً وهي تتحفه ... بحلية المجد حتى فاز بالوطر
قد قلدت كل جيد من بدائعها ... وأنعمت بمراد السمع والبصر
كأنها والليالي الغر سالفة ... ليلات قدر توافينا على قدر
وقفت أمام هذه الأبيات وحاولت أن أستكشف ما حوته من المعاني فلم أظفر بشيء. واجتهدت في إخراج الصورة الشعرية التي تخيلها الرجل حينما نظم هذه القصيدة فلم أخرج بصورة ولا شبه صورة. ليال لحن كالغرر بها تزف الأماني لكل راج. وما معنى(874/29)
قوله (ويرعاها أخو السمر) ولم خص أخا السمر؟ (علا بها الدهر) وهنا كرر كلمة الدهر. وهذه الليالي تتحف الدهر بحلية المجد. فما معنى هذا؟ وكيف فاز الدهر بالوطر؟ وما هو المعنى الطريف في قوله (وأنعمت بمراد السمع والبصر)؟ ثم قال (كأنها والليالي الغر سالفة) فكرر كلمة (الغر). لاشك في أن هذا لغو لا طائل وراءه. وهذه الأبيات على طولها لا تحمل غير معنى تافه جداً. يريد أن يقول إن هذه ليال سعيدة فأسهب على غير جدوى.
وقال:
وكيف ولا خديوي مصر ألبسها ... ثوباً من الطول مأموناً من القصر
تجر أذيال إعزاز بمقدمه ... حتى بها مصر سامت كل مفتخر
وفاخرت كل إقليم يناظرها ... وقد جرى النيل عند الفخر بالخبر
فأي معنى تحمله هذه الأبيات؟ أراد الرجل أن يقول إن البلاد فرحت بقدوم الخديوي وابتهجت بعودته فلم يوفق في إبراز هذا المعنى البسيط في ثوب قشيب. فجعل الليالي تجر أذيال إعزاز وقال (حتى بها مصر سامت كل مفتخر) ثم كرر هذا المعنى في قوله:
(وفاخرت كل إقليم يناظرها) وما هو المعنى الطريف أو الصورة الشعرية التي في قوله (وقد جرى النيل عند الفخر بالخبر)؟ لن نخرج من وراء هذا الكلام بفائدة لا كثيرة ولا قليلة.
ثم قال:
أهلا بمقدم روح القطر من سعدت ... به الرعية واستولت على الظفر
مليكنا المفرد الساري إلى نسق ... في العدل مسراه أعيى كل مقتدر
لقد خلعت على الألقاب ثوب علا ... وشرفت بك بين البدو والحضر
حتى غدا أعظم الألقاب مفتقراً ... إليك كي يرتقي في عالم الصور
ولو يقول بلغنا قدر قدركم ... أهدى اللسان ثناء الآي والسور
ومفهوم أن يقول إن الرعية سعدت بمقدم الخديوي. أما قوله (واستولت على الظفر) فغير مفهوم ولا مقبول ولا مما يستقيم ولا مما يستساغ. ومعنى البيت الثاني تافه. وأراد أن يقول في الأبيات الثلاثة الباقية إن الألقاب ارتفعت بالخديوي وتشرفت فأنى بهذا المعنى الضئيل في ثلاثة أبيات كلها عبث وهراء.(874/30)
ثم قال:
فلا عدمنا أياديك التي عظمت ... في مصر حتى غدت للملك كالأسر
وازينت بقدوم جاء يقدمه ... طير المسرات بين الزعر والزهر
وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً ... فاق الدراري سنا في رائق الدهر
والبيت الأول تافه المعنى. أما البيت الثاني فإنه جمع بين تفاهة المعنى وضعف التأليف. ولا أظن شاعراً يحترم نفسه يقول (بقدوم جاء يقدمه). والبيت الثالث خلو من المعنى.
ثم قال:
والأنس دار بأقداح السرور وقد ... حيا الرعية واستملى أخا النظر
فكل ذي فكرة أبدى نتائجها ... في مدح علياك لكن غير مبتكر
تملي عليه معانيك الحسان فما ... يجيد شيئاً سوى تنظيم منتثر
لازال ذا الدهر يسعى في رغائبكم ... وما أردتم مراد الدهر والقدر
أما قوله (والأنس دار بأقداح السرور) ففيه صورة من حياة الندماء التي لازمته في ذلك الوقت. وقوله (حيي الرعية واستملى أخا النظر) خلو من كل معنى. والأبيات التالية تافهة المعنى.
وقال:
والملك يبسم عن عدل يقارنه ... تمام فضل وإحسان مدى العصر
ما أختال ذا القرفي برد الأمان بكم ... وكف بالصفو كف البغي والكدر
وردت باريس سر الود تعلنه ... وقد صدرت حميد السعي والسير
وعدت في فتية فاقوا النجوم سناً ... منك استمدوا وهم في الدهر كالغرر
ومعنى البيت الأول قد تقدم قبل ذلك بأبيات. وكذلك صورة ابتسام الملك فقد وردت في قوله (وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً). وليس في الأبيات التالية من المعنى ما يستحق الذكر. وقد امتازت هذه الأبيات دون سائر القصيدة بظهور الصنعة اللفظية فيها. فهناك طباق بين (أمان) و (بغي) وبين (صفو) و (كدر) وجناس بين (كف) و (كف). وطباق بين (ورد) و (صدر).
وأول ما نلاحظه على هذه القصيدة أن الشاعر كرر بعض المفردات فذكر كلمة (الدهر)(874/31)
ستة مرات. وقد كرر ذلك بعض التعابير. ومثال ذلك قوله (تسمو عن سنا القمر) و (فاق الدراري سنا في رائق الدهر) و (عدت في فتية فاقوا النجوم سنا) وقوله (وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً) و (الملك يبسم عن عدل يقارئه). كما كرر بعض المعاني على تفاهتها فإذا أضفنا إلى ما تقدم ضعفه المتناهي في الصياغة استطعنا أن نقول إن الليثي لم يك شيئاً في عهد إسماعيل.
والآن ننتقل معك يا علي لنرى كيف كنت تقول الشعر في زمن توفيق.
بعد أن فشلت الثورة العرابية شرع المصريون يتبرءون منها ويتنصلون من تبعتها. ومن كان منهم قد انضم إلى صفوفها أخذ ينتحل المعاذير ويذكر أنه اضطر إلى الانضمام إلى الثوار تحت الضغط والإرهاب. ولعبد الله فكري قصيدتان طويلتان نظمهما عقب الاحتلال البريطاني نفي فيهما ما نسب إليه من ميله إلى الثوار. ولليثي قصيدة أنشأها في هذا الغرض. ولكن الليثي في قصيدته يبدو أنبل نفساً وأسمى شأناً من عبد الله فكري. وقبل أن نتكلم عن قصيدة الليثي نريد أن نشير إلى ملاحظة صغيرة؛ وهي أن العلاقة بين الشاعر وبين الخديوي إسماعيل كانت قد فترت في الأيام الأخيرة من حكم هذا العاهل. والدليل على ذلك أن الليثي كان قد شد رحاله إلى ضيعته. وهناك وصلت إليه قصيدة من عبد الله فكري يبشره فيها بخلع إسماعيل. ومما جاء فيها قوله:
واقرأ على الشيخ الجليل تحية ... مقرونة بالشوق والتبجيل
وقل البشارة مصر ولي أمرها ... توفيقها من بعد إسماعيل
ولو لم يكن عبد الله فكري يأنس في الليثي ارتياحاً لمثل هذا الأمر لما أسرع يزف إليه ذلك النبأ، وجعل من خلع إسماعيل بشارة يبعث بها إلى الليثي. والدليل على ذلك مذكور في نفس هذه القصيدة وهو:
حتى إذا استأنست من تصديقه ... بعلائم التكبير والتضليل
فانهض به في الحال نهضة مسرع ... للعود لا يلوي على تعليل
وعلائم التكبير والتهليل لا تبدو إلا ممن يطغى عليه الفرح والسرور. هذه مقدمة أتينا بها تمهيداً للكلام على قصيدة الليثي التي نظمها بعد هزيمة العرابيين والتي بدأها بقوله:
كل حال لضده يتحول ... فالزم الصبر إذ عليه المعول(874/32)
يا فؤادي استرح فما الشأن إلا ... ما به مظهر القضاه تتنزل
رب ساع لحتفه وهو ممن ... ظن بالسعي للعلا يتوصل
قدر غالب وسر الخفايا ... فوق عقل الأريب مهما تكمل
غاية العقل حيرة وعقال ... واللبيب الذكي من فد تأمل
وهذا كلام لا يقال في قصيدة يريد ناظمها أن يعتذر فيها عما نسب إليه من تهمة خطيرة، ويتبرأ من ذنب عظيم، ويطلب الصفح والمغفرة وهذا الاستهلال أليق بقصائد الرثاء، ففيه حث على التزام الصبر، وحض على الرضى بالقضاء والقدر. ولم يكن المقام يستدعي ذلك. فقد كان الخديوي توفيق في حالة فرح وسرور يعد انتصاره على أعدائه واطمئنانه على عرشه وملكه فكان من المناسب أن يبدأ الشاعر قصيدته بالتهنئة أو الاعتذار. ولكنه لم يفعل ذلك بل افتتحها بهذه الأبيات التي يظهر عليها طابع الحزن والأسى والاستسلام الذي يتمثل في قوله:
يا فؤادي استرح فما الشأن إلا ... ما به مظهر القضاء تنزل
فمم استوحى الليثي هذه الأبيات؟ وما هو الدافع النفسي الذي حرك لسانه وأنطقه بهذا المطلع؟ ومن هذا الذي خاطبه بقوله (فالزم الصبر إذ عليه المعول)؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نذكر أن الأحوال في أوائل عهد توفيق لم تكن تسمح بعقد مجالس الأنس والطرب التي لا تظهر مواهب الليثي في غيرها فلم تكن العلاقات بين الشاعر والخديوي في السنوات الأولى من حكمه كالعلاقات التي كانت بينه وبين إسماعيل إبان عظمته ومجده. ولو كانت الصلة قوية بين الليثي والخديوي لصحبه إلى الإسكندرية فيمن صحبه من خاصته. ويتضح من هذا المطلع الحزين الباكي أن الشاعر انضم إلى صفوف العرابيين اعتقاداً منه أن حركتهم ترمي إلى صيانة الوطن والدفاع عنه ضد الإنكليز. والليثي أزهري، والأزهريون قد انضووا تحت لواء العرابيين مدفوعين بالنعرة الدينية والعاطفة الوطنية فمن المعقول أن يحذو الليثي حذو إخوانه ويندمج في صفوف العرابيين. ويشجعه على ذلك ورود الأنباء الكاذبة المنبئة بانتصار الجيش المصري وانهزام الإنجليز.
ولاشك في أن الليثي قد خاطب نفسه في هذه الأبيات وحثها على الصبر، وحضها على(874/33)
الرضى بما جاءت بها المقادير وبكي عليها ما أصاب البلاد من الكوارث والخطوب.
ثم قال:
كيف ننسى وحادثات الليالي ... فاجأتنا بكارث ليس يحمل
أذهبت أنفساً وغالت نفيساً ... وذوي مربع الحظوظ وأمحل
كان أقليمنا رياض صفاء ... فيه للواردين أعذب منهل
للكلام صلة
محمد سيد كيلاني(874/34)
رسَالَة الشِّعر
في درب العمر
(لا تصافح كل من لاقيت في طريقك. . .)
(إن من الناس من يحب أن لا تمد)
(إليهم يداً، بل مخلباً ناشباً. . . . . .)
زرادشت: نيتشه
للآنسة فدوى طوقان
أتيت درب العمر مع قلبي ... أغرس زهر الحب في الدرب
غرق الناس بأشذائه ... تنهل في دفق وفي سكب
ليغمر الصحب بعطر الهوى ... فينعموا في فيئه الرطب
فبعثروا زهري بأقدامهم ... ووطئوه في الثرى الجدب!.
وارتج قلبي خلف صدري أسى ... ولج في دق وفي وثب
فقلت: في أهلي وفي أخوتي ... غني عن الخلان والصحب
وخلتني ملأت منهم يدي. . ... وخلتهم قد ملأوا قلبي. .
وفلم يطل وهمي حتى هوى ... خنجرهم، وغاص في جنبي!
وضحكت نفسي في سرها ... هازئة مني، ومن حبي
وسرت مع قلبي وحيدين، لا ... شيء سوى الأشواك في الدرب
نابلس
فدوى طوقان(874/35)
أخاف أن أنسى. . .
للأستاذ عمر النص
يد الأيام. . . كم أخشى ... على دنياي من غدرك
مضى الحلم. . ولم ينج ... سوى ماضي من أسرك
فما آثرت أن أطغي ... ولا تقت إلى سحرك
بل ارتحت إلى اليأس ... وقلت أفر من شرك
مضى الحلم. . . ولم تبق ... سوى ذكراه في نفسي
أخاف أخاف من يوم ... يميت فراغه حسي
واصحوا فوق أنقاض ... من الأوهام والحدس
تذل الزهو في حدقي ... وتلقى السم في كأسي!
تركت الأرض للناس ... ورحت أعيش في جرحي
فلم أرتح إلى ليل ... ولم أركن إلى صبح
يريد الدهر أن أنسى ... فهلا كف عن نصحي؟
وهل أبقى لي اليوم ... سوى الوحشة والقبح!
أخاف أخاف أن أنسى ... ويذهب رونق الماضي
وأن يستيقظ القلب ... على سأم وإرماض!
إذا ما هزه الشوق ... وأقبل بعد إعراض
تلفت يذكر الأمس ... فلم ير غير أنقاض!
أخاف أخاف أن يطوي ... ظلام اليأس ليلاتي
ويتركني على الأرض ... بلا ماض ولا آت
سليب العزم. . . أستجدي ... من الحرمان أبياتي
إذا ما أومأ الفجر. . . ... نثرت عليه فلذاتي!
أخاف أخاف من عيشي ... تؤود النفس أعباؤه
وتعصف بالذي أبني ... من الأحلام أنواؤه
إذا ما قلت: لن أنسى ... ولن يفلح إغراؤه. .(874/36)
رمت أشواكه كبدي ... وعاثت فيه أقذاؤه!
فديتك أيها القلب ... أأنت نراع من ذهرك؟
أأنت تخاف أن تنسى ... أأنت تشك في صبرك. .
لقد جد بك النأي ... فماذا كان من أمرك؟
وقد روعك الدهر ... فكاد يجن من كبرك!
فديتك أيها القلب ... فقد أذكيت بي البأسا
قهرت الغم. . . والأيا ... م. . والنسيان. . واليأسا
ورحت تجدد العهد ... ونحضن ذلك الأمسا
وكدت تستمر الدهر ... فكيف تخاف أن تنسى؟!
دمشق
عمر النص(874/37)
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
عمل عظيم:
أذكر بمزيد الغبطة والسرور قرار مجلس الوزراء الذي يقضي بمنح زوجة وولدي المرحوم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني معاشاً قدره ثلاثون جنيهاً على أن يؤول نصيب الولدين عند بلوغهما سن الرشد إلى الزوجة. وهكذا تتحقق مسعى الإنسان العظيم عميد الأدباء الدكتور طه حسين بك، وهذا القرار يعتبر مبدأ جديداً في تقدير الأدباء تقديراً خالصاً من أي اعتبار لغير أدبهم وأثرهم في خدمة البلاد.
ولقد كان من أشنع الجحود أن تهمل أسرة الكاتب العظيم - وليس لديها ما يوفر لها العيش الكريم اللائق بها - دون رعاية الدولة وعنايتها.
ولقد هزني ذلك القرار الحكيم وبعث إلى فؤادي نشوة، إذ استشعرت فيه أمرين إلى جانب أثره في تخفيف أعباء العيش عن أسرة الأديب الراحل، الأول أنه محا عن مصر سبة العقوق لأعلامها الأدباء، والأمر الثاني أننا صرنا إلى حال يتجه فيها أولو الأمر إلى الحق الصرف، وقد اعتدنا أن نرى تدخل الحزبيات في المنح والمنع.
أما عميد الأدباء - رعاه الله - فماذا أقول فيه؟
لقد قلت إبان توليته وزارة المعارف بعد أن أجملت برنامجه كما فهمناه من كتاباته ومحاضراته - قلت إننا لن نتوانى عن مطالبته بتنفيذ هذا البرنامج، وداخلني عند ذاك شيء من الإشفاق وأنا أستحضر ما عهدنا من بلادة الرسميات، فقلت: ليس كل ما يكتبه الكاتب يستطيع تحقيقه إذا ولي الأمر. فالكاتب يضع المثل والتنفيذ شيء آخر، ولكنا نرجو أن يعمل ما وسعه العمل. قلت ذلك وأنا لا أتوقع أنه سيصنع ما صنع من عظائم الأمور ولما يمض غير قليل. أما الآن فإنني أكرر أني لا أدري ماذا أقول فيه. ولكني أرى الرجل قد زهد في ثناء الكلام فاتخذ من الأعمال مثنيات لا ترائي ولا تنافق.
وكثيراً ما يداخلني شعور بأن لا أسرف في الحديث عن الدكتور طه حسين لأن مكان معاليه في الوزارة يثير التهمة بالملق، وليس كل الناس يعلم أني بعيد عنه. ولكن ما حيلتي؟ هل أقول له مثلاً: لا تعمل على تقرير معاش لأسرة المازني وتعليم أولاده بالمجان في(874/38)
التعليم العالي؟
الحقيقة أننا حين نتحدث عن طه حسين فإننا نتحدث عن (معنى) أو (مثل) أتيح للبلاد أن تظفر به في هذه الفترة من حياتها المضطربة. ألسنا إذن نتحدث عن نعمة الله فينا؟
المعوقات الثقافية للأدب:
ابتدأت محطة لندن العربية إذاعة سلسلة من الأحاديث لمعالي الدكتور طه حسين بك في موضوع (معوقات الأدب الحديث) وقد أذيع أول هذه الأحاديث يوم الجمعة الماضي، وقد تناول فيه واحداً من هذه المعوقات، وهو الخاص بالثقافة، فقال: إنه يأتي من أن الثقافة ليست منتشرة في الشرق العربي كما ينبغي، فالتعليم لا يزال محدوداً، وقراء الأدب تبعاً لذلك قليلون، فالكاتب لا يجد صدى كبير لما يكتب، ولا يجد ما يغنيه من الكسب المادي. وقد كان الأدباء في القديم وفي أوائل الحديث يتكسبون بأدبهم من الأمراء والكبراء، أما الأديب المعاصر فقد عزف عن ذلك واتجه إلى الاعتماد على أدبه في كسب عيشه، وإن كان الأدباء قد اضطروا إلى الرجوع إلى الحماية بعض الشيء، وهم يكتبون في الصحف ويعملون في خدمة الدولة لأن الأدب وحده لا يقوم بحاجتهم، والأديب في حاجة إلى أن يفرغ لأدبه، يقرأ كثيراً ويكتب قليلاً، فلو كثر القراء وأغنوا الكاتب عن اللجوء إلى الوسائل الأخرى لكان للأدب في الشرق العربي شأن آخر. وهناك ناحية أخرى لهذه المسألة، وهي أن ثقافة الأدباء وثقافة القراء قليلة التنوع، وذلك آت من طريقة التعليم، فإن التعليم في الشرق العربي لا يتيح للمتعلمين إلا تعلم لغة أجنبية واحدة أو اثنتين، فالكاتب الذي لا يلم بالثقافات المختلفة لا يتعمق موضوعه؛ والمثل الأعلى في ذلك أن يكون في الأمة من يترجمون إلى لغتها كل ما يجد في الأمم الأخرى من ألوان الثقافات، فيجد الأدباء والقراء من هذه الثقافات ما ينمي أفكارهم ويوسع آفاقهم.
حفلات زحلاوية:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى كلمة الأستاذ حبيب الزحلاوي التي عقب بها على ما جاء خاصاً به، وعلى غير ما يخصه، فيما كتبته عن حفلة تأبين المغفور الأستاذ علي محمود طه بالمنصورة.(874/39)
وأسارع أولاً فأشكره على ثنائه، وأذكر فضله فيما هيأ لنا من جو المرح والدعاية في تلك الرحلة بسعة صدره وقوة أعصابه الحديدية.
وأوثر أن أعرض عما تطاير في كلمته من شرر أورى وخبا دون أن يصيب هدفاً، فمن المفهوم أني لم أحذ حذوه في الخصومة كما قال، إنما هي مشاكله في التعبير، كما أني لا أشعر بحاجة إلى إقناعه بأني أتقنت (القفش والتنكيت) وما أنتظر منه دعوة إلى مزيد من انتباه وإتقان - أوثر أن أعرض عن ذلك كله، لأقصد إلى جلاء المعالم الأدبية فيما تناوله.
يقول أني تعثرت في الخطوة الأولى، ويزعم (أن الذي يتعثر ويكبو في الخصام قد لا يهتدي إلى السبيل المؤدي إلى الفوز والنصر) مهلاً يا صديقي! ولا صارماً في حكمك هكذا. . فإن الذي زعمته تعثر وكبا والذي هو أنا قد ينهض من عثرته وكبوته ويأخذ في السبيل إلى النصر. . إلا أن يكون ذلك مستحيلاً في منطقك الحديدي! ثم ما هي العثرة أو الكبوة التي أضلتني سبيل نصر ليس في بالي وحسباني؟ ألأني قلت إن وصفك للشاعر الذي اجتمع الناس لتأبينه بالبوهيمية غير لائق بالمقام! كنت أحسب أن هذه الإشارة تكفي، وقد تلطفتُ أيضاً فوصفت كلمتك التي ألقيتها بالحفل، حفل التأبين، بأنها لم تند بماء العاطفة. فجئت تقرر مذهباً جديداً في التأبين يسوغ أو لعله يوجب أن لا يقتصر على ذكر محاسن الشاعر والإعراب عن عواطف الأسى لفقده، بل لعل هذا المذهب الجديد يلغي المراثي من الأدب ويمنع التأسي والتفجع، فإنك تقول (ما جئت أبكي صديقي الراحل، ثم ما قيمة البكاء على الميت؟ وهل إذا نديت كلامي بماء العاطفة كنت أضفت صفة جديدة إلى الصفات التي اجتمعنا للاحتفال بها) فلم جئت إذن يا صاحبي؟ ألتقول إن الشاعر كان عربيداً ماجناً؟ وبذلك أضفت صفة جديدة إلى الصفات المحتفل بها! وأكسبت الحفل قيمة أي قيمة! إذ أخرجته عن ندب الندابين وبكاء البكاءين إلى. . . إلى ماذا يا ربي؟! أأقول إلى شتم الشاتمين؟ يا أستاذ زحلاوي، إن حفلات التأبين إنما تقام للتأبين أي ذكر محاسن الفقيد وتعديد مناقبه، وحفلات التكريم هي أيضاً تقام للتكريم لا للتهزيء، فإن بالغ قوم في هذا أو ذاك إلى درجة الكذب واختراع صفاته غير موجودة في المؤن أو المكارم فهذا شيء آخر غير ما كنا فيه بالمنصورة، وهو خروج عن الأصل لا حاجة بنا إلى زجه في مناسبتنا الكريمة اللهم إلا إن كنت تريد أن تبتكر نوعاً من الحفلات طبقاً لمذهبك السالف(874/40)
الذكر، حفلات لا عهد لأحد بها، وهي جديرة بأن تنسب إلى مخترعها فتسمى حفلات زحلاوية. .
وما ذنب الشعر يا صديقي حتى كدت تصهره بنارك أو تعالجه بالمطرقة والسندان وهو فن رقيق كالأزهار تتلقاه المشاعر كما يلمس البنان الزهرة في رفق وحنان؟ فالشاعر صاحب القصيدة الجيدة يتخيل أصحاب الشاعر قد ذهلوا لأنه غادر الشاطئ وأوغل في اليم، فوقفوا مذهولين يحلمون بعودته، ولكن الذاهب لن يعود.
قل للرفاق الحلين تيقظوا ... ودعوا الأماني الكواذب عنكمو
حلم من الأحلام عودة ذهب ... لا تحلموا بمجيئه لا تحلموا
فماذا يضيرك يا سيدي من أن يقال إن هذا كلام جيد؟ هل عيبه أنك ألقيت كلمة في الحفل يجب أن تسطع شمسها فتحجب سائر النجوم والكواكب؟
ورأيتك يا صديقي تأتي بأقباس من كلمة الأستاذ الزيات وتطلب مقارنتها بما قلت أنت لتخرج بالنتيجة التي أردتها وهي أنك رسمت معه (الخطوط الرئيسية لمن يتوفر على دراسة الشاعر الصديق علي محمود طه) وقد علمنا ما قاله الأستاذ الزيات، فهل وصفك الشاعر بالبوهيمية والعربدة هو الذي كمل هذه الخطوط دون كل ما قيل في الحفل من نثر وشعر؟!
هلا رسمت مستقلاً خطوط هذه الدراسة، ولعلك تفعل الآن وأنت في حل من أن تذكر عن الشاعر الفقيد كل ما تريد في غير مقام التأبين، وقد ذكرت أنك تعرف عنه كثيراً، وإني أفترض فيك الكفاية، فهيا. . . وأرجو لك الهداية إلى سبيل الفوز والنصر.
معرض الفن الأسباني:
يقوم هذا المعرض الآن في قصر إسماعيل على شاطئ النيل وهو يمثل الفن الأسباني في الرسم والتصوير والنقش والنحت في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويحوي أعمالاً فنية لفناني هذه الفترة الأسبانيين وعلى رأسهم الفنان العظيم (جوبا) الذي تحرر من الجمود في عصره وعبر بحرية تامة عن نوازعه الإنسانية وثار على الأوضاع وسخر من أهل الرذائل والنقائص، يعبر عن كل ذلك بريشته كما يعبر الكاتب بقلمه ومن هؤلاء الفنانين أيضاً (جوليو أنطونيو) الذي تعمق طبائع الإنسان مع(874/41)
الوضوح والصفاء، ومنهم (زو كواجا) الذي يتميز بالقوة والثقة والتجديد، و (دالي) الذي أبدع جمالاً أروع من الوقع في لوحته (المرأة في النافذة).
ويشعر الإنسان في هذا المعرض أنه أمام حرارة فائرة ونصاعة باهرة، ولا أخال كلتا الصفتين إلا منحدرتين من الدم العربي الأندلسي الذي لا يزال متغلغلاً في تلك البلاد، فالحرارة الفائرة هي حرارة الشرق، والنصاعة هي البيان العربي المشرق قد تحول على الريشة إلى خطوط وألوان. وإنك لتقرأ في هذه الأعمال الفنية قصائد ومقالات، أبدعها قصائد الغزل. . فالمرأة تمثل أهم اللوحات والتماثيل، وهي المرأة العربية بسحنتها وسماتها مع ما اكتسبته هناك من النضارة الزهراء والبشرة البضة الملساء، وترى فيها غزل عمر بن أبي ربيعة وأصحابه كما ترى نسيب العذريين ممثلاً في تعبيرات النفس المحبة والعواطف المتأججة.
وتبرز في هذا الفن الأسباني الناحية الاجتماعية والإنسانية أكثر من مظاهر الطبيعة، فالغالب فيه تحليل النفس الإنسانية واستخراج الموضوعات المختلفة من صورة الإنسان. مثل (أهوال الحرب) و (الثورة) و (محاكم التفتيش) وغيرها. ويبدو فيها تمجيد الإنسانية العالية ونقد الأوضاع المنحرفة والسخرية منها. ولكنني حرت أمام صور المصارعة الثيرانية، فإني أقشعر من هذه المناظر وأشعر بوحشيتها، ولكن لم أجد على اللوحات تعبيراً يماثل ما بنفسي، بل أجد الأمر على خلاف ذلك، وكل الطاقة الفنية منصبة على المهارة في إبراز الأوضاع المختلفة لهذه المصارعة، ولكنني لست أسبانياً، والفنان الأسباني إنما يعبر عن شعور الأسبانيين في اعتزازهم بهذه (الفروسية) ومع هذا فقد كنت أرجو أن أجد هناك فناناً يرتفع عن هذه الظاهرة القومية إلى ذروة الإنسانية. . .
عباس خضر(874/42)
البَريدُ الأدَبي
حول الأزهر: على رسلكم يا سادة
في عدد مضى من (الرسالة الغراء) أعطيتك صورة مجملة عن البرامج الدراسية في الأزهر - معاهده وكلياته - وقلت إنها لم تقم على أسس تربوية سليمة. وصورت لك ما يعانيه الطالب من ويلات ومشاق في تحصيل علومه وترجيع ضمائرها وحل طلاسمها ذلك لأن الجانب الأكبر في فهم تلك العلوم يقع على كاهل الطالب. فلا نعدو الحقيقة إذا اعتبرناها طلاسم تقوم على المعاياة والمماحكات اللفظية والجدل العقيم. واليوم أحدثك عن أمر عجب يبين مدى ما يعانيه الطلبة من إرهاق وإهمال.
كنا ننتظر أن تكون هيئة من مدرسي الأزهر لتبحث في تهذيب العلوم الأزهرية وتنقيحها، بل لتتقدم بمؤلفات حديثة وافية تتسق وتقدم العصر وتتفق ورقي الحياة، لا يشوبها شيء من التعقيد المخل، ولا شائبة من التعقيد الممل. وإنما تيسر المعلومات للطالب وتبسطها أمامه خالصة سائغة يتقبلها ونفسه راضية مطمئنة هذا هو الطريق السليم الذي كان ينبغي أن يسير عليه مدرسو الأزهر. ولكن يظهر أنها مهمة شاقة لا قبل لهم بها. وما لهم ولهذه الجهود وقد ألفوا هذه الحياة المريحة وتحرروا من التبعات التي يؤاخذ بها زملاؤهم في وزارة المعارف. وأخذوا يباركون هذه التركة الخالدة التي حفظتها لهم الأجيال ليتقبلوا في نعيمها العريض. أبعد هذا تنتظر أن يضطلع هؤلاء بالإصلاح المنشود؟ يبدو أن هناك سراً خفياً يصرف تفكيرهم عن كل هذا الذي نتحدث عنه. وإلا فأين ثمرات خمسة عشر عاماً بين جدران الأزهر؟
على أني لست أعرف سبباً في التمسك بحرفية تلك العلوم والحرص عليها. مع أن ذلك طعن صريح في عقولنا وتفكيرنا وثقافاتنا؛ أفليس فينا من يستطيع أن يؤلف في تلك المواد كتباً قيمة؛ ثم أليس يجدر بنا أن ننشئ في الأزهر مدارس فكرية حديثة. كل ذلك في الإمكان ولكن سيقولون ليس في الإمكان أبدع مما كان. وما ترك الأوائل لنا شيئاً. وجوابنا عليهم ما قاله الجاحظ (إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه ما يريد أن يفلح) وأقول إن الدراسة الأزهرية تخلف عقداً نفسية، وتترك وراءها آثاراً قائمة من اليأس المبرح والهم المقيم. ومن هنا نستطيع أن نكون رأياً وهو أنه ليس من البعيد أن(874/43)
يكون تقاعد الأزهريين عن التفكير في إصلاح الأزهر إنما هو ثمرة لتلك الحياة الطويلة التي قضاها كل واحد منهم في الأزهر.
ولا أدل على ذلك من أن معظمهم يعلم أولاده في المدارس لماذا؟ لأنه ذاق الأمرين في الأزهر. فلا ينبغي أن يتعثر الولد بدوره في حياة مظلمة لا يعرف لها نهاية.
وبعد، فإن مما يؤسف له أن ينتهي بنا الحال إلى هذا الموقف المخجل. ونترك الطلبة تعاني الآلام من تلك الكتب العتيقة. ونشغل بسفاسف الأمور فتتعالى صيحاتنا بأن يكون لمدرسي المعاهد حق التدريس في الكليات. على رسلكم يا سادة فقد أضحكتمونا كثيراً، وشر المصائب ما يضحك.
أزهري عجوز
بيت للفردوسي:
للفردوسي الشاعر الفارسي الذائع الصيت بيت في الشاهنامه يكاد يعتبر من أجمل وأروع أنواع المبالغات الشعرية في الأدب الفارسي إن لم يكن أجملها وأروعها إطلاقاً. . . فهو إذ يصف الخيمة التي ضربت في ساحة المعركة لأحد أبطال روايته وأحسبه (اسفنديار) يقول ما مؤداه:
(إن أعلى الخيمة قد بز القمر في ارتفاعه. . . وإن أسفل الرمح - أي العمود المقام في وسط الخيمة والذي بلغ في علوه رقماً فلكياً كما علمنا - قد اخترق الأرض من أعلاها إلى أسفلها، ثم نفذ من بين قرني الثور مستمراً في طريقه، ولم يكتب له التوقف والاستقرار إلا على ظهر الحوت. . .
والنص الفارسي لهذا البيت الرائع:
فروشد به ماهىء برشد به ماه ... بن نيزو قبسهء باركاه
وقد نقلته إلى العربية فقلت:
أدرك الحوت وجاز القمرا ... أسفل الرمح قباب الخيم
الترجمة حرفية، وكل جزء من بيت الفردوسي يقابله الجزء نفسه في النص العربي. . . نمير أن القول الفصل هنا لأستاذنا المبجل أديب الشرق الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام(874/44)
بك حفظه الله للعرب والشرق أجمعين. . .
(العراق - أربيل)
أحمد مصطفى
إلى الأستاذ الجليل أزهري عجوز:
باقة من الورد والرياحين، قطفتها من خفقات قلبي، ومن خلجات روحي، ومن أصداء نفسي، أقدمها إليك، يا من أحسست بضيقي، ولمست حيرتي، وعرفت مبلغ ما أعانيه من ألم واضطراب. فيالك من إنسان كريم، قد أفعم قلبه بالخير والحب والمروءة، فأفضيت على فيضنا من نورك يشرق علي في محبسي، وأنار جوانب مظلمة في نفسي، وأضاء أنحاء معتمة في حياتي، ويعلم الله أنني ما تأثرت لرسالة في حياتي، كما تأثرت بهذه الرسالة!
ماذا أقول - أيها الملك الرحيم - الذي لم يفتك أن ترشدني إلى الطريق السوي، وهو أنه لابد من الصبر، فحياة الأزهر هي هذه الحياة! نصيحة كريمة من أب كريم، فأنى لي بالشكر أزجيه إليكم، وإن الكلمات على كثرتها وتزاحمها، لتضطرب في نفسي، وتتعثر في قلمي، وإني أعتقد أنكم ستقدرون ضعفي فتعتبرون العجز عن الإعراب إعراباً.
شيء واحد - أي أستاذي الكريم - لا يزال يحيرني، ومعذرة إن أنا جشمتك سماعه، وهو: لم يشقى طلاب القرآن مع أن الدين يسر؟ ثم ما هي رسالة الأزهر؟ وما هي مهمة العالم الديني؛ أهي حفظ المتون والشروح وغيرهما، أم هي خدمة الدين واللغة؟ فإن كانت الأولى فما أحقرها رسالة وما أدونها؟ وإن كانت الثانية، فلم لا نتسلح بالعزيمة القوية، وننظر في البرامج نظرة تربوية، تفيد الطلاب، وتعود عليهم وعلى الدين وعلى العالم أجمع بالخير العظيم؟
إنه ينبغي ألا ننحى باللائمة على الكتب العقيمة، ولا على المؤلفين القدامى؛ فإنهم على أية حال، بذلوا جهداً مشكوراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهم لم يكلفونا بأن ندرس كتبهم ولا أن نحفظ عقولهم في أدمغتنا، بل ينبغي أن يلام هؤلاء الشيوخ لوماً عنيفاً لأنهم عالة على غيرهم، ولأنهم قتلوا أعظم ما يملكه الإنسان وهو العقل. وأقول قتلوا، ولا أقول عطلوا لأنني اعتقد اعتقاداً لا يرقى إليه ريب أننا معشر الأزهريين لم نعمل بشيء من(874/45)
الدين مطلقاً، بل أضعنا العمر فيما لا يجدي، ونسينا أن الزمن يسير، وأن الدنيا تدور، وأن العالم يعيش الآن في عصر الذرة، وقطعنا كل صلة لنا بالعالم الخارجي، وصرنا كالذي يقول فيه القائل:
لو قيل كم خمس خمس لاغتدى ... يوماً وليلته يعد ويحسب
ولهذا ولتخلفنا عن الركب نجد أن الشيوخ أنفسهم توجهوا وجهة أخرى غير الأزهر، ونسوا أن الله سيحاسبهم أشد الحساب على هذه الأمانة التي بأيديهم، وعلى الدين الذي أضاعوه، بجمودهم وعصبيتهم العمية.
وثمة ظاهرة أخرى يجب الالتفات إليها، وهي أن قاصدي الأزهر من مختلف الجنسيات، وأن الأجانب يلاقون صعوبة شديدة في فهم العبارات، فينفرون من التعليم ويمقتونه، فإذا ما رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم فلابد أن يكونوا أشد مقتاً وشنآنا. وكم سمعت من كثير منهم كما سمع غيري عبارات الألم، لأنهم يريدون أن ينتفعوا ويفهموا ويتثقفوا، لا أن يصموا ويحفظوا فقط، ولعلهم على حق كبير في هذا؟
أبتاه هل يعود ذلك اليوم الذي أرى الأزهر فيه وقد تبوأ مكانته السامية بين الجامعات، ونشطت فيه الحركة العلمية وآمن به الشيوخ قبل غيرهم، وأمه الأغنياء قبل الفقراء، وأشرق بضيائه على العالم في هذا العصر، كما أشرق بنوره من قبل. . وقت أن كان ولاشيء معه من المدارس أو الجامعات!
معذرة - أيها الأب النبيل - إن أرهقتك بسماع كلمتي هذه، المملة، وأتعبتك قبلاً بالكتابة إلي، عذري أريحتكم الكريمة، التي أبت أن تستولي الحيرة علي والامتحان قد أزف وعطفكم وحنانكم الذي دفعكم إلى الكتابة إلي، فأزحتم عن كاهلي عبئاً ثقيلاً، وهماً طويلاً، وإني لمتدرع بعونه تعالى بالصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
والسلام عليكم - أبتِ - ورحمة الله
الأقصر
ضياء
إحصاء عن التعليم(874/46)
عدد طلبة الجامعتين والتعليم العام
أذاعت وزارة المعارف بياناً عن عدد طلبة وطالبات جامعتي فؤاد وفاروق، وعن عدد المدارس المختلفة وما تضمه من التلاميذ والتلميذات.
ويؤخذ من البيان أن عدد طلبة الجامعتين يبلغ 17 , 384 في مختلف الكليات، من هذا العدد 16 , 332 من البنين، و1052 من البنات.
المدارس الأولية. . .
وإن جملة المدارس الأولية 4263 مدرسة، منها 748 مدرسة تابعة للوزارة وتضم 95 , 094 من التلاميذ و67 , 397 من التلميذات. و3515 مدرسة تابعة لمجالس المديريات وتضم 351 , 242 من التلاميذ و285 , 658 من التلميذات ومجموع ما في هذه المدارس جميعاً 799 , 39 تلميذاً وتلميذة.
ورياض الأطفال
ويبلغ عدد مدارس رياض الأطفال 52 مدرسة؛ تضم 13 , 301 من البنين والبنات.
والمدارس الابتدائية
وعدد المدارس الابتدائية للبنين 548 مدرسة منها 239 مدرسة تابعة للوزارة وتضم 75 , 689 تلميذاً و309 مدارس حرة وتضم 81 , 140 تلميذاً.
أما عدد المدارس الابتدائية للبنات فهو 220 مدرسة منها 75 تابعة للوزارة وتضم 19 , 711 تلميذة و145 مدرسة حرة 24 , 327 تلميذة.
والمدارس الثانوية
وعدد المدارس الثانوية للبنين 132 مدرسة، منها 65 تابعة للوزارة وتضم 44 , 943 تلميذاً، و67 مدرسة حرة تضم 13 , 17 تلميذاً.
وعدد المدارس الثانوية للبنات 21 مدرسة، منها 10 تابعة للوزارة وتضم 5336 تلميذة و11 مدرسة حرة تضم 1133 تلميذة.
المعاهد الأخرى
وهناك 14 مدرسة لفنون التطريز تضم 3261 تلميذة، و14 مدرسة للثقافة النسوية تضم(874/47)
2444 تلميذة، و31 مدرسة للتجارة الليلية تضم 5974 طالباً، و9 مدارس للتجارة المتوسطة تضم 3842 طالباً، و10 مدارس للزراعة المتوسطة تضم 1901 من التلاميذ، و23 مدرسة صناعية تضم 8360 طالباً، و17 مدرسة للتربية النسوية تضم 2024 تلميذة، و10 مدارس أولية راقية للبنات تضم 1385 تلميذة، و15 مدرسة للمعلمات الأولية تضم 1898 طالبة، و11 مدرسة للمعلمين الأولية تضم 1719 طالباً، ومعهد واحد متوسط لإعداد المعلمات ويضم 32 طالبة، و3 معاهد عليا للمعلمات تضم 1121 طالباً، و9 معاهد عليا للمعلمات تضم 851 طالبة، و8 معاهد عليا فنية تضم 2253 من الطلبة.(874/48)
الكتب
من وحي فلسطين
تأليف الأستاذ أحمد رمزي بك
بقلم الأستاذ كامل السواقيري
كانت مأساة فلسطين، وما ترتب عليها من نتائج صدمة عنيفة للأمة العربية، وضربة قاصمة للكيان العربي دفعت الكتاب والمؤرخين لتحليل أسبابها، وبحث نتائجها ومحاولة علاجها.
وانبرت أقلامهم تصور الفاجعة، وتصف الكارثة، وتلفت أنظار الساسة والزعماء في الأقطار العربية إلى ما يتهدد العالم العربي من أخطار جسيمة بسبب قيام دولة إسرائيل التي أنشأتها بريطانيا، واحتضنتها أمريكا واعترفت بها وجعلت منها دولة ذات حدود.
ومعظم هؤلاء الكتاب لم يكتبوا عن المأساة إلا بعد حدوثها ولم ينهوا الأذهان إلا بعد أن وقعت الواقعة، ودهمت الكارثة.
ولكن هناك كتاباً كانوا بعيدي النظر، ثاقبي الفكر، درسوا المقدمات، ورتبوا النتائج، وتنبئوا بالأحداث قبل وقوعها، وأحسوا بالخطر قبل حدوثه فكاشفوا أممهم بما في الجو من سحب، وبصروها بما تضمر الليالي، ونبهوها إلى السبيل الذي تنهجه لدرء الخطر، والحيلولة دون حدوثه فلم تشعرهم الآذان الصاغية ولا القلوب الواعية وفي طليعة أولئك الكتاب الاماجد علم من أعلام الأدباء في مصر، وحجة من أفذاذ التاريخ في هذا العصر، وركن من أركان النهضة العربية هو الأستاذ أحمد رمزي بك الذي أتاحت له خبرته ودرايته أن يلم بالمشكلة الفلسطينية، ويستقصي أسبابها ودوافعها ويتنبأ بهذه النتيجة التي وصلت إليها حيث كان قنصلاً عاماً لمصر في فلسطين وشرقي الأردن مدة تقرب من ثلاثة أعوام استطاع في غضونها، وهو العالم الأديب، أن يدرس ويحقق بعقل المؤرخ، وخيال الأديب، ونظر السياسي نواحي المشكلة وأخذ يومئذ ترسل الصرخات في أجواء العالم العربي، ويديح المقالات، ويذيع الأحاديث والمحاضرات ليوقظ الأمة من سباتها، ويحذر الساسة والحكام في هذا الشرق العربي من الخطر الصهيوني الرابض في فلسطين، ويهيب بأشبال العروبة(874/49)
أن يستأصلوا شأفته، قبل أن تمتد جذوره، ولم يكن ذلك الخطر يومئذ قد تفاقم أمره أو استفحل شره على الصورة التي نراها الآن.
ثم جمع الكاتب الفاضل تلك المقالات، وزاد عليها أبحاثاً لم تنشر ونسقها وأخرجها كتاباً سماه من وحي فلسطين.
وقد صدر الكتاب بمقدمة جليلة لمؤرخ نابه الذكر، وسياسي عظيم الخطر هو العلامة الكبير الأستاذ محمد توفيق السلحدار بك. وقد تصفحت الكتاب فوجدت المؤلف يحلق في أجواء بعيدة، ويتنقل في رياض متعددة، ويطرق نواحي مجهولة، ويضيء جوانب مظلمة ويقدم للقراء طعاماً شهياً، وماء نميراً من أدب قيم وفن رفيع، وحكمة سامية وفلسفة عالية وتوجيه سديد وإرشاد نافع، فتقرأه أدبياً يعلو خياله ومؤرخاً يصدق حكمه، وجغرافياً تتضح مصوراته، وفيلسوفاً تصدق نظرياته، ومرشداً تؤثر عظاته، وعالماً يغوص بك في أعماق المجهول.
فهو لا يكتفي بسرد الوقائع - وتسجيل الأحداث، وإيراد الحجج التي تؤيد أقواله، وتدعم آراءه، ولا يقف عند رواية الحوادث وتسلسلها بل يحلل الدوافع، ويحلي ما غمض، ويوضح ما اسبتهم حتى لترى الحقائق ظاهرة أمامك ظهور الشمس في رائعة النهار.
ولعل أهم ظاهرة برزت في ثنايا سفره هي الصراحة المطلقة التي اتسم بها أسلوبه حين نعى على الشرق انحلاله وتخاذله، وتهافت أبنائه على المصالح الذاتية، وتكالبهم على المنافع الشخصية مما أضعف عندهم المثل العليا والقيم الروحية، وجعلهم في معزل عن ضياء العلم، ونور الحضارة فلم يجاروا العصر الذري يعيشون فيه، ولم يسايروا الزمن بل ظلوا جامدين أمام عصر الآلة، قانعين بالسير على الخطوات التي عفا عليها الزمن.
(أن الشرق العربي الذي عاش مدة من الزمن تتناوبه السياسات والأهواء المختلفة نتيجة لتنازع الدول الكبرى والذي استمر أهله ينعمون بتجانس في الميول والآمال والأغراض فقنعوا بالسير على خطوات الحضارة الزراعية البطيئة والاكتفاء بالقليل قد ووجه بحقيقة جديدة هي ظهور الصناعة الآلية المعتمدة على العلم والمال.
إن مجيء الصهيونية تستعمر بلاد العرب كان بمثابة هزة عنيفة لهذا الشرق النائم فهل تكفي لإيقاظه من سباته حتى يقف ويستعد لمواجهة هذا الخطر الجديد ليدفعه بالقوة التي(874/50)
تتفق مع تاريخه القديم وأثره في قيادة هذا العالم).
وهو حين ينعى على قومه تخبطهم في خضم السياسة، وتيههم في صحاري الضلالات وارتجالهم في علاج المشكلات، لا يحاول تثبيط الهمم، ولا إضعاف العزائم بل يريد إيقاظ روح العمل، وبث الكفاح، ويدعو إلى استجلاء العظة والاعتبار بالدروس التي تلفتها هذا الشرق خلال ربع قرن من الزمان.
ويقسو قلم الكاتب، وتلتهب عباراته حين ينكر على الشرق إهمال الكفاءات العلمية والآلات الحديثة التي تمخض عنها القرن العشرون مع أن الحرب في هذه الأيام صراع فكري، ونضال عقلي، قبل أن تكون حرب طائرات ودبابات وقنابل ومتفجرات.
(أننا إزاء قوة تتطلب حشد كل ما لدينا من وسائل تحتم علينا أن نقف لمحاربتها بعقل وفكر وإرادة ولا يكون ذلك بغير العلم. العلم الذي هو قوة ثورية هائلة والذي يمكن صاحبه من القدرة والغلبة والانتصار. نعم سيكون العلم سلاحاً قاطعاً فيصلاً لحل مشاكلنا معهم).
ويشفع للكاتب في قسوته صدور كلامه عن قلب مفعم بالوطنية الصادقة، زاخر بالإخلاص للعروبة، فياض بالإيمان الثابت. ولذا نجده يرسم الطريق للوثبة العربية، والنهضة الإسلامية، مذكراً سكان هذا الشرق بمجدهم الغابر، وعزهم السالف وقوتهم المرهوبة يوم أظلتهم جميعاً راية الإسلام، ورفرفت عليهم أعلام الوحدة، وجمعتهم أواصر الدين.
ونورد هنا بعض الأبحاث التي تناولها الكتاب.
1 - فلسطين بين العرب والصهيونية 2 - أثر الكفاح من أجل فلسطين في يقظة العرب 3 - رأس النقب وخليج العقبة 4 - مصر العربية 5 - الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي 6 - العالم العربي والسياسة الدولية 7 - وحدة العالم الإسلامي في البحثين الأول والثاني يعرض الكاتب تاريخ الحركة الصهيونية والدوافع إليها، والأهداف التي ترمي إليها اليهودية العالمية من إنشاء وطن لليهود في فلسطين، ودعائم الاقتصاد اليهودي والوكالة اليهودية، وموقف بريطانيا من العرب واليهود. والصناعة اليهودية في الشرق. ثم يعقد مقارنة بين المعسكر العربي والمعسكر الصهيوني والقوة التي يستند إليها الجانبان. ومدى ما يمكن لكل قوة أن تفعله، وأساليب الحياة عند الجانبين، وإظهار الخطر الصهيوني، ونظرة اليهود للشرق.(874/51)
يستهل المؤلف البحث الأول ببيان أهمية موقع فلسطين الجغرافي ومركزها الحيوي، وتوسطها بين أجزاء العالم العربي فيقول: (أنه يتوسط العالم وتظهر أهميته للعرب لأنه يقسم بلادهم شطرين الشطر الأسيوي والشطر الأفريقي فهو يتحكم في مصير الأمة العربية، وبوسعه أن يحول دون تحقيق أهداف الجامعة العربية) وينتقل بعد ذلك إلى بيان الروابط المتينة والأواصر القوية التي تجمع بين مصر وفلسطين وهي ناحية على جانب من الأهمية فيقول (من العبث الكلام عن هذا فهو معروف ثابت، وأهم منه أننا في مصر ننسى أو نحاول أن ننسى حقيقة ثابتة واضحة هي أن مصر وفلسطين عاشتا أكثر من ثمانية قرون معاً ولا يذهب المؤلف إلى العهود الفرعونية بل يقول (إن فلسطين عاشت مع مصر طوال الأيام الطولونية والإخشيدية والفاطمية وفي عهود الدول الأيوبية والتركية ودولة الجراكسة).
ويتحدث عن الخطر الصهيوني، ويوجه اللوم للذين يقللون من شأنه، ولا يصارحون الأمة بحقيقته لتقاومه فيقول:
(والحق أن الاكتفاء بالنبوءات لم يعد يكفي في حياة عالم دائم الحركة والتطور والتنقل ومع ذلك وقف جماعة من أهل هذا الشرق يحاولون الإقلال من شأن الحركة الصهيونية ومراميها وأهدافها وكان الواجب عليهم وضع الحقائق ظاهرة واضحة أمام جماهير الشعوب العربية، وكان فرضاً عليهم تفتيح الأذهان والعمل على جمع الشمل وحشد القوى المبعثرة، وتركيزها جميعاً نحو غرض واحد هو محاربة الصهيونية بأسلحة القرن العشرين. وكان أول عبء على المخلصين هو تفهم هذه الحركة ومراميها ثم الانتقال مرة واحدة إلى العمل المجهد الشاق وهو الأخذ بأسلحة الخصم لإمكان التغلب عليه. ولم يكن هذا السلاح سوى الأخذ بأنظمة جديدة لكيانها الاقتصادي أي الخروج من الحياة التي ألفناها إلى تنسيق نظام صناعي ومالي وثقافي يتفق مع القرن الذي نعيش فيه لكي ندخل المعركة ونحن على قدم المساواة في التنظيم والتعبئة والتسليح وهذا ما لم نوفق في الوصول إليه) وعن نظرة الصهيونية للشرق وسخريتهم من استقلال شعوبه يستشهد بما أدلى به موسى شرتوك وزير خارجية إسرائيل حالياً ورئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية في عهد الانتداب أمام لجنة التحقيق سنة 1946.(874/52)
(البلاد العربية فقيرة، وعدد سكانها قليل، ولا صناعة فيها، وزراعتها متأخرة جداً ومواردها غير مستغلة، فاستقلالها السياسي إذن لا قيمة له ولا معنى؛ لأنه لا تطور ولا نماء فيها، والاستقلال الحقيقي هو استمرار النماء والبناء والتطور.
وعن رأيهم في أقطار الشرق يقول: (أن هناك حقيقة يجب أن ندركها تماماً وهي أن الصهيونيين ينظرون للشعوب العربية والشرقية كافة نظرة الأوروبي للشعوب التي لم تنضج بعد ولم تستكمل وعيها وفهمها لحقيقة الأشياء).
وهكذا يمضي الكاتب في كتابه متنقلاً من بحث إلى بحث ومن موضوع إلى آخر في أسلوب يمتاز برشاقة الألفاظ، ورصانة الكلمات، وجمال التعبير، ودقة الأداء ويقدم للقراء ثمار دراسته العالية، وثقافته الواسعة.
وبعد فأظنني قد قدمت للقراء لمحة عن هذا السفر الجليل وما به من عرض تاريخي، وتوجيه سياسي، ولا يسعني في ختام كلمتي إلا أن أعرب لحضرة المؤلف الفاضل عن تقديري لمجهوده العلمي فيما رجع إليه من أسانيد، وما قرأ من مراجع وأوجه لحضرته جزيل شكري على ما قدم لأمته من آراء، وما رصع به جبين العروبة من حلي، وما ألبسه للوطن العربي من حلل لن تبليها الأيام.
كامل السواقيري
ليسانس كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول(874/53)
القَصَصُ
حديقة الذكرى
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأستاذ زكريا أحمد قليبو
قال جون بربدللي: لقد خانني الحظ قليلاً.
قضيت زمناً طويلاً في أيام العزوبة شاهدت فيها حرباً شعواء استطعت خلالها أن أكون واسع الخطى فوق أجساد الموتى دون شفقة ولا رحمة، وذلك دأب الطبيعة البهيمية، فقد لمعت حقائق جلية وآلام غامضة وخيانة خفية كانت سبباً في إثارة هذا العالم وبلبلة أفكاره حيث فتح هذا الباب السري على مصراعيه لنقاسي فيه ما قد قدر أن يكون. إنه لأمر جلل وخطب مدلهم وداء عضال أخذ يزداد تعمقاً وتشبثاً فكأننا نستحق هذا الجزاء فلا وزر من لسع هذا الشوك وقد ازداد التشبث واضطرمت النيران ووضعت الحرب أوزارها مما جعلنا نهذي كهذيان الممسوس، وصارت الأرواح تحوم فوق الأجساد تئن وتتألم، فساد الحزن البلاد وكدنا خلاله أن نفقد وعينا وإحساسنا لولا أن رضنا قلوبنا على مقاومة هذا التيار الجارف الخطير وتحطيمه.
أجل، لقد نجحت تلك المقاومة، وإنها لصورة باهرة من صور الحياة.
ويجول في خاطري شيئان يؤثران في إحساسي العميق لولا أن العاطفة قد تخفف عني شيئاً من هذا التهيج والانفعال السريع، وسأسرد لك شيئاً واحداً من هذين، وهو حادث خيالي قد انطبع في مخيلتي وطالما يعاودني كأنه حصل لي بالأمس.
أنني أتجاوز الخمسين من العمر ولقد كنت يومئذ شاباً في ريعان الشباب ينتابني شيء من الأسى والأرق وكثير من أحلام الشباب التي كادت تذهب مع الرياح.
لقد شغلني ملهى كان يتألق بغاداته الحسان حيث كنت كثير التردد عليه.
وهذه الحياة على ما يكتنفها من غموض حافلة بالجمال وأي جمال. الجمال الذي لا يسير على أسلوب واحد، بل الذي يتغير باستمرار.
وفي يوم من الأيام نهضت باكراً وأخذت أتجول في حديقة الأطفال في لوزيمبرغ، كانت(874/54)
تلك الحديقة جداً جميلة على رغم تقادم عهدها، يكتنفها سور مزركش بديع التركيب يتوسطها صفان منفصلان على خط واحد من الأشجار التي شذبت أوراقها بانتظام وتحف بها الأزهار على أنواعها المختلفة، تلك الأزهار التي تفتقت أكمامها كأنها تبتسم للحياة، فحياها الندى بقطرات انتثرت عليها كأنها الماس لمعاناً، فيالها من حديقة غناء يطيب التنزه فيها والجلوس تحت ظلال أفنانها، وكان أحد أركانها يغص بخلايا النحل المصنوعة من القش والتي تنفصل عن بعضها بمسافات متباينة حيث تنقذ الشمس من ثقوبها الصغيرة ويعطر أريجها جميع أرجاء الحديقة، والنحل تحلق فوق تلك الخلايا ولها دوي مستمر، وعمالها يخضعون لأمر سيدتهم مسالمين في أعمالهم، وذلك مثل أعلى في منهاج الحياة.
ولشد ما دهشت لمنظر الحديقة الخلاب فصرت أختلف إليها في أغلب الأحايين وخصوصاً في الصباح، وأجلس حيث يطيب لي الجلوس أطالع بعض الكتب، فتغمرني النشوة وتدور في رأسي الأماني الحلوة التي يهفو لها قلبي الظامئ إلى ري من طمأنينة، فأرى خلالها الوجدان اليقظ والانفعالات النفسية الجياشة بالعواطف السامية والمثل العليا، وبينما أنا غارق في تلك الأحلام إذ رمقت خيالاً يقترب من مدخل الحديقة فأدركت بأنني لست الرجل الوحيد الذي يتردد إليها، فنهضت من مكاني لأتحقق من هذا الخيال وإذا به رجل مسن ينتعل حذاء فضي اللون ويرتدي لباساً أحمر ضارباً إلى الصفرة قليلاً، وعلى رأسه قبعة من الصوف يبرز منها زغب كالريش، هزيل الجسم مقطب الوجه تظهر عليه إمارات الكبر، وعيناه متوقدتان كأنهما تنظران بحذر شديد، وبيده عصا مزخرفة مقبضها من ذهب تدل على أنها تذكار قديم، فاسترعى انتباهي ذلك المنظر، وبدا السرور على محياي، فاسترقت الخطى خلف جدار تغطيه أوراق من الشجر، وأخذت أراقبه عن كثب.
وحدث في صباح يوم من الأيام أن التقينا في المكان نفسه، فقبعت تحت شجرة متستراً بأوراقها، وقد اعتقد في نفسه أنه الوحيد في هذا المكان، فبدأ يشير إشارات واحدة تلو الأخرى ثم عن أسرار متعارفة، وأعقبها انحناء وقفز إلى الأمام قليلاً، ثم عاد إلى مكانه محتفظاً بمركزه، وأخذ يترنح كأنه وريقة غصن ينفخها النسيم، فدهشت من هذا الرقص الشاذ الهزلي، ثم أعقبها بحركات قوية فوق طاقة جسمه الهزيل كأنه ألعوبة من الورق تطيرها الرياح أنى تشاء، لا تستقر على أية حالة. فبقيت في مكاني ذاهلاً من هذا الفصل(874/55)
المضحك أسائل نفسي عمن فقد وعيه منا أهو أم أنا. . .
وسرعان ما توقف عن الرقص وتقدم وانحنى في التحية كأنه أحد الممثلين البارعين فوق المسرح، ثم ارتد خطوات إلى الوزراء وقد ارتسمت على محياه ابتسامات تعبر عن قلبه الساذج، وأشار بيده نحو صفي الأشجار الجميلة.
وبعد ذلك استأنف خطاه باهتمام. ومنذ ذلك اليوم لم أتخلف عن هذه الحديقة قط لأشاهد تمثيله العجيب حيث كان لا ينقطع عن تمرينه الخاص صباح كل يوم، وقد حفزتني الرغبة للتعارف به، فاندفعت إليه بالتحية قائلاً أنه ليوم سعيد يا سيدي، فرد علي التحية قائلاً أجل أنه ليوم سعيد حقاً، ومنذ تلك اللحظة أصبحنا صديقين وفيين، وعرفت قصته فقد كان الراقص الأول في الأوبرا منذ عهد لويس الخامس عشر؛ وعصاه الجميلة كانت هبة من الكونت دي كلير يمونت، وكان عندما يتحدث عن الرقص تغمره النشوة والفرح.
وذات يوم أسر لي حاجة في نفسه، قال - لقد تزوجت لاكاستريس وسأحضرها معي كي تراها إذا رغبت في ذلك، فهي لا تأتي مبكرة إلى هذا المكان، وهذه الحديقة التي نتمتع برؤيتها هي مبعث أمانينا ووحي ذكرياتنا، وهي حديقة بعيدة العهد قل أن تشابهها حديقة أخرى.
وكثيراً ما كنت أتردد وزوجي إلى ذلك المكان في وقت الظهيرة يومياً. وفي يوم من الأيام نهضت باكراً، وأخذت أتجول من مكان إلى آخر ومن شارع إلى شارع، إلى أن حان وقت الظهيرة، فاستأنفت العودة إلى الحديقة المعهودة حيث الجو ثمل حافل بالرقص والسرور فرأيت الحبيبين العاشقين، امرأة مسنة ترتدي ثياباً سوداء، وصديقي المحب الذي كان له اليد الطولي في ذلك الاحتفال المهيب. وكانت تلك الراقصة لاكاستريس حيث كانت حاذقة بفن الرقص، فهي عشيقة الملك ومحظية الأمير.
وما إن انتهى ذلك الاحتفال اتخذنا مقعداً فوق غصن شجرة جميلة، وكان الفصل ربيعاً. لقد هب النسيم على الغصون مشبعاً بروائح الزهور المعطرة، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتحيي تلك الزهور، وقد انعكست أشعتها فوق ما يظللنا من أوراق الشجرة نافذة من خلالها إلى دوائر صغيرة، بينما ثوب لاكاستريس الأسود قد تحول إلى بريق شديد حيث الجو هادئ والحديقة خالية وصوت العربات يسمع باستمرار.(874/56)
قلت للراقص الأول:
ألا توضح لي شيئاً عن هذا الاحتفال؟
فقال: - الاحتفال هو ملكة الرقص ورقص الملكات، أما تعلم أن الرقص قد فقد بهاءه وجماله منذ ذلك الحين. . . وصار يتمتم بعبارات غامضة لم أفهم شيئاً منها. وقد اضطرب في وضعه، ونزل عن الغصن وسارت أمامه عشيقته لاكاستريس، فحدقت ببصري إليهما، وأنا مضطرب النهى فاقد الإحساس والشعور، فاعتراني الحزن لمنظر ذلك الشبح المحزن، وسبحت في فكر عميق.
فاستمرا واقفين لحظات، وقد أتما دورة الرقص، وأخيراً ابتسما ابتسامتهما المعروفة، وتعانقا عناقاً حاراً، وتنهدا تنهدات عميقة، ثم فارقتهما.
وغادرت المدينة بعد ثلاثة أيام، ولم أعد أراهما، فرجعت إلى باريس بعد سنين ورأيت الحديقة وقد خيم عليها الذبول، وساءلت نفسي عن حالة هذين الزوجين الحبيبين وما كان من أمرهما بعد ذبول تلك الحديقة الغناء، هل توفيا أم لا يزالان على قيد الحياة، وهل يرقصان في مكانهما المعهود؟. . .
لقد عاودتني تلك الذكرى، واستقرت جروحها في فؤادي، وإني لأرى فيها أغواراً عميقة لمصابيح الروح التي تعبر عن خلجات نفسي، عرفت الحياة وآمنت بأنها متاع الغرور، وكيف!. . .
لا أستطيع القول، ستجده مضحكاً جداً بلا ريب. .
زكريا أحمد قليبو
مدرس ومدير مدرسة الحكمة بفلسطين(874/57)
أقصوصة رمزية:
الليل. .!
للأستاذ عبد العزيز خانقاه
ارتعد الطفل خائفاً مذعوراً، فالتصق بصدر أمه الحنون. . فكأن معجزة حدثت فأنطقته:
- أماه! إنني خائف. .
فأجابت الأم:
ليس هناك ما يدعو إلى الارتياع يا صغيري. .
وما هذا الصوت الرهيب الذي ينبعث من بعيد؟
انه نباح كلاب وعواء ذئاب!!
ولم تعوي في مثل هذا الوقت؟
شراسة وجوعاً. . . نم يا حبيبي!!
ألا تعوي في غير هذا الوقت؟
في الليل غالباً. . .
وفي النهار؟
قلما. . .
عجباً!! أتعلمين يا أمي العزيزة الأسباب؟
نحن الآن في جوف الليل. . . والظلام مخيم. . فنم. .
ولم ينطق العواء البعيد من الكلاب والذئاب ليلاً. .؟ هاأنذا أسمعه. . انه مفزع يا أماه!! أليس كذلك؟
بلى. . وان ضوء النهار الرائق يخنق الأصوات الناشزة القذرة. . وفي الليل حين يتلبد الجو بغمائم خانقة، ويهبط القتام. . وتعمى البصائر ووقر فظيع يصيب آذانها، فيحلو لمثل تلك المخلوقات البغيضة أن تنبح وتعوي وتطلق صراخها المزعج. .
وهل تأكلنا إذا خرجنا إليها؟
أجل. . بعد ما تنشر في الكون الهلع وتبذره في القلوب ويزرع في النفوس القلق والزعزعة، عند ذاك. . . من الأفضل أن ترقد يا ولدي!(874/58)
والطفل كان فاغر الفم، جاحظ العين، يرمق في لهفة شديدة، أمه وهي مسترسلة في حديثها وحين كفت عنه. . . عاد إلى تساؤله بقلب أكثر إصراراً فقال:
ليس يأتيني الرقاد، فالخوف قد زال بعضه من نفسي، فحدثيني يا أماه هذا الحديث الشيق! كلما جن الليل، بل أعيديه على مسامعي، فذلك خير وأولى من الاستغراق في النوم اللذيذ!
فضمت الأم وليدها إلى صدرها، تمطره قبلاً خالصات طافحات بالإعجاب، فقالت:
بورك فيك يا بطلي الصغير. فاسمعني، وإليك بقية الحديث. . .
كلي آذان، فأنا مصغ بكليتي. . .
أجل. . . عندما تتزعزع تلك النفوس يلج فيها الانهيار والشلل، فتنكفئ على وجهها عائدة، تلوذ بالهزيمة؛ وهي في منتصف الطريق فلا تلبث أن يغلبها الإعياء ويأكلها الهلع. . . فتقبل الذئاب الضارية والكلاب العابثة الجائعة فتلتهمها وتأتي عليها في هنيهات من الزمن قصار. .
ولكن. . أليس هناك من يقارعها ويناصبها العداء ويقف في وجه الزوبعة؟
بلى، يا فلذة الكبد. . بيد أن البعض منهم قد دنت آجالهم فلقوا حتفهم، فضمتهم الأكفان والبعض الآخر مازال يصارع في بطولة بقوة وبطش ولكنهم. .!
أراك يا أماه، ركنت مرة أخرى إلى السكوت. . ولكن ماذا؟. .
انهم يرتقبون انجلاء الليل. . لتزول هذه الغمة. .
وهل لا نزال في الليل. .؟
نعم. . إنه ليل طويل. .
وهل لا ينجلي هذا الليل الكريه الأسود؟
كيف يا بني؟ فكل ليل يطل عليه فجر منير ويغمر الكون من بعده، نهار مشرق، عيق الشذى!؟
ومتى ذلك يا أماه؟ أني لفي شوق إليه لجوج. . .
صبراً. . . نم يا صغيري. .
لا، لا، لن أنام، سأرتقب ذلك الفجر يا أماه!!
عراق - كركوك(874/59)
عبد العزيز خانقاه(874/60)
العدد 875 - بتاريخ: 10 - 04 - 1950(/)
أدبنا في السماع!
كانت الإذاعة ليلة ألامس مفتوحة على آذان العالم كله. وكان الحفل مقاماً للسمر والترفيه في دار من دور العلم، فلم يشهده إلا أستاذ أو طالب أو رجل بين ذلك. وكان المغني يرسل النغم حلو الإيقاع صافي الرنين، فيشيع الطرب في النفوس، ويبعث اللذة في المشاعر؛ ولكنه كان قبل أن يقف وقفته الفنية لدى التقطيعة أو الترجيعية، تنفجر حلوق السامعين بالآهات المدوية فتطغى عليه كما تطفي زمجرة العاصفة على سجع الحمامة!
(آه)، أو (عاه)، هو الصوت الجماعي الذي تنشق عنه الحناجر الطروبة في مجلس الغناء فيكون عند انطلاقه أشبه بهزيم الرعد أو خوار الثور، ثم يكون عند ارتداده أشبه بتفجع المحزون أو توجع المريض. وتلك شعيرة من شعائر الطرب ينفرد بها المصريون من بين خلق الله في الشرق والغرب!
رغبت الكاتبة الفرنسية (فلنتين دسان بوا) أن تشهد حفلة من حفلات أم كلثوم. فلما خرجت من مسرح الأزبكية سئلت عن رأيها في الغناء العربي والموسيقى المصرية، فقالت: والله لقد أختلط الأمر على فلم ادر أفي مسرح كنت أم في مستشفى! فلو كنت في مسرح فلم كانت هذه الآهات؟ ولو كنت في مستشفى فلم كانت هذه القهقهات؟ ولو كان السامعون يضجون من فرط الإعجاب والسرور، فلم كانوا يقذفون المغنية بالطرابيش لا بالزهور؟!
والحق أن مجلس الغناء عندنا نمط من المجالس عجيب! في مجالس التثقيف والتكريم أو التأبين يهيمن على غرائز الناس ضابط من الوقار المطبوع أو المصنوع فلا تكاد تميز فيها الجاهل من العالم، ولا الجلف من المذهب، ولا الأحمق من الرزين؛ ولكن مجالس اللهو تحدث في الأعصاب ضربا من النشوة، يخف فيكون حماسة، ويثقل فيكون عربدة. والطرب في مصر أكثره من الوزن الثقيل! يستخف الطبع المرحة حتى يخرجها عن التكليف، ويبعدها عن الحشمة! لذلك صارت حفلاتنا الغنائية كما ترى وتسمع: زفير وشهيق، وصفير وتصفيق، وحركات في القيام والقعود، كحركات اليهود في برص القعود. ثم تلويح بالأذرع، وتنافس في الزياط، وتراشق بالنكت، حتى أصبح التهريج والضجيج سنتنا في السماع، فلا يجيد المغني الغناء إلا فيه، ولا يحسن السامع الإصغاء إلا به! ولقد ذهب مغنينا الأكبر إلى العراق - وكنت هناك - فلما وجدهم يسمعون في سكون، ويتمتعون في وقار، ظن إنهم لا يطربون، ففتر نشاطه وتعثر فنه!(875/1)
فاتقوا الله يا قوم في سمعتنا المدنية، فلقد كنا نسمع المغني وحدنا بين أربعة جدران، فأصبحنا اليوم نسمعه مع كل إنسان في كل مكان!
أحمد حسن الزيات(875/2)
البحث عن المطلق
للأستاذ صبحي شفيق
بديهي أن كل فنان يعتمد في تصوير مجالاته الفنية - بما تستنفذه وتبعثه من تجارب - على رمز من الرموز. فالفظ، واللون، والنغم، كلها وسائل تهدف إلى المعنى الحائش خلفها، فليست هي غايات في حد ذاتها، لأنها تضمحل في ذات الوقت الذي يصل أثرها إلى الآخرين، تتلاشى تماما من عالم الحس، بعد أن خلقت في وجداننا صوراً مترابطة تمام الترابط، متجسمة تمام التجسم، هي عالم الفنان الذي نشاركه هذه المشاركة الوجدانية.
وحينما نعجب بهذا الأثر أو ذاك، لا نفطن إطلاقاً إلى مشكل نقدي يمكن خلف حكمنا العام هذا. إننا نعكس الآثار الفنية على أنفسنا، وقد نسينا هذا الذي خلقها: أي طريق قطعها من اجل الوصول إلى هذه الصورة الخالصة التي نتملاها في لحظات؟. . أي إحساس ملك كيانه حتى تمت هذه المشاركة لوجدانية؟. . ولو حاولنا رد هذا التساؤل إلى أصوله في النفس الفنانة، لأضفنا الكثير إلى ذواتنا المتذوقة، ولأخرجناها من موقعه الحكم الذاتي، والنقد التأثري، إلى مجالات أخرى أهمها تحديد قيمة الأثر الفني مجردا من الأهواء: فكيف يكون ذلك؟. .
لنرجع إلى فناننا ذاته. إننا نجده مهموماً، وهمه لا ينقطع، من أجل الوصول إلى فن خالص. يريد أن يكون فناننا قبل كل شئ، وأثره يريده كذلك فناً قبل كل شئ، ولابد من طريق يسلكه. لابد من اتجاه يتحدد امامه، وكلما جال ببصره في الماضي وجده لا يعطيه الكثير، وكلما اتجه إلى المستقبل، وجد الناس أخلاطا متمايزة، كل منهم يريده فناناً على هواه الخاص، يعطيه ما يوائم مزاجه وحده دون سواه فكيف يعبر وهذا الضجيج يحتاج كل ملكاته ويسلمه إلى قلق واضطراب شديدين؟. .
وفنانا لا يجهل ما يراد منه إنه يعرف أن عليه توصيل ما يضطرب في دحيلته. . وهذا حقاً مشكل هين حي نتأمله من الخارج، ولكنه كل شئ لدى الفنان. ومع توافر وسائل الأداء، ونضوج الموضوع، فإنه يتردد، يتردد كثيراً فإن الصورة النهائية التي تنهي إليها مجالاته العاتية، نسميها في يسر: أثراً فنيا. . ليست إلا هذا الشيء الذي يحنو عليه بكل ما يجرفه من مشاعر، يريدها شيئاً كاملا لا تشوبه شائبة تنجم عن نقص هنا، أو عثرة هناك،(875/3)
فهو في كلمة واحدة، يريد أن يصل إلى فن خالص. .
وإزاء هذه الرغبة التي يعرفها كل فنان، يترسب في طواياه شعور بالواجب، عليه أن يكون (أميناً) في التقاط كل الانفعالية لحركات وجدانه المحلل هذا الذي تصل إليه صور المدركات الحسية، وصور كل التجارب التي ينفعل لها، مستمدة قيمتها لا مما تطبعه في الدفعة الواحدة، ولكن من هذه التجزئة التي تحدد الأجزاء متتابعة، وتربط الصور ربطاً متسقاً، تبرز التجربة وتجسمها بما يكتنفها من نتوء وسطوح ومنحنيات.
وهنا يحدث الصراع بين موضوعين متعارضين: فلو ساير وجدانه وحده لعقد هذا العنصر الآخر الكامن في نفسه، وهو الذي سميناه واجب الفنان، فمسئوليته عن الأثر تجعله يقف إزاء طواياه المستترة وعالمه الآخر: هل كل شئ يقال؟. . هل يعبر عن هذا الشكل الجائش؟. . ولو عبر عن هذا فهل يصل إلى الفن الخالص الذي يريد؟. .
وفناننا لم يصل إلى موضع التقاء بين خطين متعارضين: بين الفن الخالص والمسئولية. . هو متردد بعض الشيء لأنه لم يكتشف طريقه بعد وها هو ذا يجد كل هذا التوتر النفسي قد تبلور في رغبة أخرى غامضة كحلم، ولكنه اخطر من كل ما مر بعوامله المتشابكة الكثيرة الاهتزاز: هذه الرغبة: ما هي؟. وكيف يلقى أمانيه فيه؟. لقد سمع النقاد يرددون: أتخذ لك طابعاً. غلف أثرك بغلاف شكلي يشتمل على الشكل والجزء في آن. أبرزه في قالب يتوفر فيه عنصر التناسق!. . . وهنا يواتي فنانا الحائر هذا النوع من الارتياح يعرفه السائر في الطريق المجهول حينما يلمح فجأة الضوء الخافت يكشف له الخطوط الممتدة مرمى البصر ينبثق منها الأمل القريب.
ولكن: أثره وجد آماله في هذا؟.
لقد أراحه هذا في الناحية واحدة، وكان قاصراً عليه دون مناحيه كفنان، هي ناحية الشكل، ناحية الظل البادي في هذه الزاوية، والخافت المتدرج في الأخرى، والنور الملقى بضوئه في سائر الأجزاء. أما الداخل؟؟. أما هي الكيان نفسه،. أما في المضمون الفني. فما زال إحساسه قلقاً، ولكن بهارج الزينات التي يضيفه الطابع على ما حوله، قد أنسته حيرته بعض الشيء.
وما دام يتحسس الشكل، فيده لم توضع إلا على الأبعاد الوهمية للفن دون الداخل. تلك التي(875/4)
يحاول بعض النقاد تحديد الأثر بها. وإخضاعه للتجزئة على هذا القياس، كما يصل إلى النمط المتسق الذي يخدع المتذوق تمام الخديعة فهم يدركون حقيقة كامنة في الفعل المليء بالقوى، الفائض بالطاقات الحيوانية، هذا الفعل الذي نسميه مشاركة الوجدان. وهذه الحقيقة المرتبطة بكل هذا، هي الراحة النفسية التي يحسها الآخرون. فنجدهم يرددون في لهث متقطع: أعطوه ما يرتاح إليه نحن أيضاً.
ولا تحدث الراحة النفسية إلا إزاء ما تطبعه فينا الأشياء من شعور بالتحرر، بأنها نازعة أبداً إلى الصورة النقية. قف قليلا أمام منزل سقطت واجهته، وبدا عارياً من كل أتساق. إنك تجده يبدو كخط متكسر، أو كجملة خطوط متكسرة، فمجالاتك البصرية لا تجول في أبعاد فسيحة متسقة. خط يعترضك هنا. زوايا تصدم حرية بصرك هناك. فتجد نفسك قد شعرة بنوع من القلق، نجد نفسك لا ترتاح إلى انطباق الأفق والأرض في ساعات المغيب. وما التحرر الذي نستشعره إلا في كون ما نراه هو هذا الشيء الذي لا يوقفنا قليلا لو عورة هنا. وخطوط هشة هناك إننا نميل للمنحنيات بفطرتنا، نميل إلى الأشياء التي تغلف الجوهر، وكل ما يتفرع منه بغلاف ليس فيه من بروز شوهاء. . . أما الخطوط المتكسرة، فهي تقطع تجاوبنا النفسي، وتعاطفنا نحوه. إننا لا ننتقل معها بمشاعرنا في انسياب ابداً، ولا تحركنا معها مفسحة مجالاتنا النفسية، ولا تجعلنا نستشعر الوحدة في هذا الانحدار الحر. بغير عائق وعلى هذا الأساس تقوم العلائق بيننا وبين شتى الفنون.
وهنا تحدث الخديعة، إذ تختلط المعطيات الحس والوجدان لدى الفنان والمتذوق على حد سواء، فلا تفرقة بين (شكل) و (مضمون)، فهما يحسبان الاثنين أشياء تستوي لدى المتأمل والمعبر بغير افتئات، كلاهما مطلب من مطالب الراحة الوجدانية، وكلاهما تعاطف بلغ أوجه الاتساق.
وحقيقة أننا نجد في هذه الفنون الشكلية الألوان المنسحبة من سطح إلى سطح، في وحدة وترابط تثير انفعالاتنا. ونجد كذلك الأصوات في إيقاعها الرتيب تجرف مشاعرنا، وكذلك الألفاظ في ترادفها وتتابعها تحدث هذا النوع من التعاطف الجمالي ' ولكن كلما نفذنا إلى كنه المسألة، وجدنا كل هذا طلاء. طلاء مروع أشبه بالغشاوة تحجب أعيننا، وتتركنا في حال من تداعي الصور لذيذ، فنحن لا نخرج من كل هذا إلا بالخدر، بالمسكن الوقتي. أما(875/5)
التيار في عمقه وقوته فلم يصلنا بعد، لأن فناننا كان حائراً في استكشاف المنبع والأصل، كان يضرب في طريق يحيطها الوهم الرومانتي إلى حد الغثيان، وكان كل ما يريده عالق بالشكليات.
ومن هذه لخديعة وجدت الدعوات الكثيرة التي أنهت إلى قالب من قوالب فلسفة الفن، فالفن عند البعض لعب راق، وعند البعض متعة لاذة، وعند البعض حدس غيبوبي، فيكل هذا يخفت المنطق وتستطيل العبارات الشاعرية، ويدور الإنسان مع نفسه في تأمل واستكشاف لما فيها، في تداع نرجسي.
وما كان هذا التضارب في الآراء، إلا حيرة الكائن الحي في فهم مضمون نشاطه. إن هذا الخدر المنطوي في اللاشعور، يريد أن يخرج إلى مجالات الإدراك، ولكنه يتعثر دائماً، ويحدث كل هذا الخلط في تحديد القيم.
لقد كانوا جميعًا، نقاداً وفنانين أشبه براكب السيارة يحاول الوصول إلى بؤرة المرآة التي أمامه، يريد اللحاق بصورته المتجمعة فيها، وحواسه تخدعه، فتهيأ له الحركة الوهمية، بينما المسافة ثابتة بينهما، وكل الخلاف في الزمن القياسي.
كانوا جميعاً غارقين في بؤرة الأبعاد الشكلية، في الحين الذي يحل فيه المشكل يتدرج النظر بين البؤرة ومكان الجالس، بين (الشكل) و (لجوهر)، هذا الذي لا يمكننا أن نمسكه ونضعه في أنبوبة اختبار، ولكن نستشعره في المضمون الخالص.
فكيف نصل إلى هذا! أين نجده؟
إننا نجد الشيء دائماً في طوية موضوعه، ولكننا ننسى هذه الحقيقة الكبيرة، فنعش في الخارج، غافلين عن ملكاتنا التي تستطيع الملاحظة والربط والاستدلال.
وموضوعنا هو كيان النشاط الفني، إنه يمنحنا ما يفسح الطريق على مداها، وفي ذات الفنان الخالقة نلقي مادة بحثنا، فكل ما نريده في الداخل، وفي الداخل دائماً.
وما دمنا قد بعدنا عن الأبعاد الخارجية، فإنا نلقي الذات الخالقة، من - ذات الفنان - كل منافذها متفتحة لتأخذ وتعطي. ولا بد من منظم قوي لنشاطها، فليس الأخذ والعطاء هنا عملية حسابية في برصة الأوراق المالية. إنه عالم النفس الإنسانية. وكل منظم قوي نريده، نقصد به حل مشكلة واحدة، هي قلقلة الاضطراب السائد في دخيلة الفنان، هذا الاضطراب(875/6)
الذي يرجع إلى حالة التوتر بين (واجب) و (تعبير) في الأنة الواحدة، في الزمن الذي يتسرب فيه النشاط ليتكامل المضمون.
وإذا وصلنا إلى هذا المنظم القوي وامتلأت نفس الفنان به، لا يحدث القلق ولا المنحى الشكلي: وما هو المنظم إذا لم يكن الوصول إلى الموضع الفاصل بين حدي التوتر، بين تحديد قيمة (التعبير) وتحديد قيمة (المسؤولية)، إلى مركز حركتين متعارضتين، ولكنها متشابكتان؟.
كيف نصل إليه؟ كيف؟
نلاحظ أن أكثر الفنانين يعطوننا فناً مريضاً. فيه صرخات جوفاء، وفيه عويل ونحيب. إنه أشبه بجنازة طويلة لا ينتهي فيه البكاء. وهذا في جملته ليس عالمك أنت ولا عالمي أنا، ولا عالم سائر البشر الموجودين، إنه حالة تشبه بالإغماء، أشياء لا يفهمها إلا خالقها، وهو يعبر عنها تعبيراً فيه الكثير من حرق البخور، والترهب، ومناجاة الأرواح الخفية. إنها حالة فيها التداعي إلى حد نفاذ (الوعي الفني) الذي يستحيل الوجدان به شيئاً محللا، وتتم به عملية الروابط وتتحدد بالوضوح إذا ما توافر لديه.
وتتم به عملية الربط وتتحدد به عملية التصور، ويتميز الفن
وما السبب في هذا؟؟. . .
ليس من سبب إلا أن فناننا هذا، صاحب الفن المريض، كان يعيش وحده. ليست له عيون كالعدسة ترقب وتلتقط وتعكس، وتعطي كل ما تستنفذه إلى مدركات حسية، ترتبط برباط الفن،
لا، لم يكن هذا طابع المسألة، وإنما فناننا مصاب بالنرجسية الراقية، وحقيقة إنه لا يعجب بنفسه، ولا يتأمل محاسنه، ولكنه دائر مع نفسه في صورة أخرى منعكسة على أثر فني يريد إخراجه. هو يجول مع هذه المشاعر النرجسية. متأملا نفسه، مطلا عليها من عالمه وحده. ولنفس السبب نجد أكثر الآثار الفنية يبدو كأنها آتية إلينا من عالم غريب، ليس عالمنا. إننا نحس في القصص أو الأشعار التي تدخل في هذا النطاق، بأن ثقل أوراق كتبها يعيدنا إلى عالم المحسوسات حولنا بين الفنية والفنية، وفي أحيان كثيرة يصرخ البعض: لا نستطيع أن نستمر في قراءة هذا. إذ هذه اللوحة غريبة عني، أو هذه القطعة الموسيقية لا(875/7)
تخاطبني.
ولماذا يقول هذا؟ إن الفن تعبير، وكل تعبير يعني الوضوح، فكل الناس تدور مع نفسها، ولكن الفنان - كما أسلفت - هو الذي يخرج هذه العوالم المغلقة على ذواتها، إلى الخارج الموضوعي.
ولا يمكن أن يصل إلى هذا الموضع إلا إذا سقطت عنه أقنعة النرجسية. . . لأن الرابط بين كل الحواس، يبدو واضحاً في حد ذاته لديه. إنه يعطيه التوازن في الربط، والتناسب في معطيات الوجدان، والتعاطف بينه وبين موضوعه، لأنه يحس حينئذ بأن ما يخرجه هو مسؤول عنه، إنه مولوده البكر يصرخ متلمساً موضع حنان.
ولكن: كيف تسقط النرجسية الراقية هذه؟؟
لدينا حكمة قديمة، ولكنها متجددة نابضة على مر القرون، حكمة قالها حكيم اليونان: اعرف نفسك. . . وإذا حصرنا حكمته في دائرة الفن، نجد المقصود بها أن يتجرد الفنان من خيالاته وأوهامه، يحلل كل قضاياه، يعرف كيف ينبع التيار النفسي أو من أين ينبع
ومتى عرف ذلك استطاع أن يضع نفسه موضع الآخرين، فتصبح ذاته - وقد تحللت - هي الذات التي تفهم تجارب النوع الإنساني كله.
فالفن في أبسط تعاريفه، تجربة وانفعال في مضمون واحد، وإزاء هذا لا بد أن نكون صادقين حينما نحس، وحينما نتأمل، وحينما نعبر، هذا الصدق الذي لا يصور الواقع تصويراً فوتوغرافيا، ولكنه يبدو في الإحساس بالواقع - مجردا من كل نفاق: وهل كان النفاق في عالم الفن إلا العجز الناجم عن غموض الموضوع لدى الفنان نفسه؟ هل كل سوى العجز الذي يعني أنه لا يفهم نفسه ولا يفهم موضوعه، ولا يمكن أن يكون صادقاً بغير فهم لهذين.
وهذا هو الصدق الفني.
وبوصولنا إليه نجد أنفسنا إزاء النتيجة الأخيرة في هذا الموضوع المتشابك: فالتعبير الصادق، يدفع بجزئيات الموضوع في تتابع صادق، ومتى شاركنا الفنان في فنه الصادق هذا نحس بالراحة النفسية بغير خديعة.
إن الفن هنا هو عالمنا. إننا ننتقل مع الموضوع في انسياب دائم، لا يواتيه تكسر أو(875/8)
خطوط شائهة، بينما كنا لا نحس الراحة النفسية في (الفن النرجسي)، لأننا نصدم بالنفاق في أكثر المواضع. كنا نصدم بأشياء غريبة عنا، أشياء لا نفهمها على نحو من الأنحاء.
وما دام هذا الفن عالمنا، فهو هذا الشيء المجرد من العوائق، هذا هو الشيء الحر، هو هذا الشيء الذي يحدث الراحة النفسية الصادقة، هو هذا الجميل، بل هو في كلمة واحدة: المطلق!!. . .
صبحي شفيق(875/9)
أخوان الصفا ورسائلهم
للدكتور حسين الهمداني
الدكتور حسين الهمداني أستاذ متخصص في التاريخ
الإسلامي، وهذا البحث مما عني بدراسته عناية خاصة، وقد
ألقاه في رابطة الأدباء بالقاهرة، ومما تخصص فيه الدكتور
الهمداني بحث الدعوة الإسماعيلية باليمن. وآثاره في هذين
الموضوعين معروفة في البيئات العلمية العربية والاستشراقية
وله بحوث قيمة في عدة مؤتمرات عقدت بلندن وبألمانيا.
اعتقد أن البحث عن (أخوان الصفا ورسائلهم) - على رغم كثرة ما تعرض له الكتاب طيلة مئات السنين الفائتة، برغم تعدد الآراء والنتائج التي استخلصت منها - لا يزال بحثا غامضا يشوبه كثير من الابهام، ويكتنف جنباته مزيد من التشكك والارتياب سواء كان ذلك من ناحية شخصية الأخوان أنفسهم الذين ألفوا الجماعة، أو كان من ناحية الأهداف التي كونوا أنفسهم وعاهدوا الله على تحقيقها. . .
ولم يصادف التاريخ في حقبة من حقبه جماعة كهذه الجماعة، ظل أمرها خافيا على الناس ملتبسا عليهم. وكثيرا ما قامت في الشرق والغرب جماعات سرية، دينية أو علمية أو سياسية أو إرهابية وكثيرا ما كانت تعمل في الخفاء، لا تعلن عن نفسها، ولا تفصح عن حقيقة أعضائها، ولكنها بعد وقت، طال أو قصر ظهرت، وعلم الناس من أمرها كل خافية. . . إلا جماعتنا هذه، فإنها بقيت إلى اليوم موضع الشك ومثار الإبهام والجدل وموطن الدهشة والغرابة.
ولكن يمكن أن يقال نتيجة لما اتصل بنا من بحوث الأقدمين وأحاديث الرواة، إن هذه الجماعة كانت مجموعة من علماء البصرة، تعاهدوا فيما بينهم في أواسط القرن الرابع الهجري، على إحداث حدث جديد، يقلب الأوضاع التي كانت سائدة، والنظريات المتواترة، دينية كانت أم سياسية عقلية أو نظرية أو مادية. . . وأول من قال بهذا الرأي أبو حيان(875/10)
التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) ثم جاء بعده جمال الدين أبو الحسن القفطي المصري فأورد في (تراجم الحكماء) كلاما طويلا، بل تسجيلا كاملا للحديث الذي جرى عام 983 ميلادية بين أبي حيان وبين وزير لصمصام الدولة، الذي خرج منه بنتيجة هي أن زيد بن عارفة تعهد وهو بالبصرة مع جماعة بينها أبو سليمان محمد بن معشر السبتي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن على بن هرون الزنجاني. وأبو احمد القفطي كان أميناً وحذراً في الرواية، فانه لم يخف في كتابه شكة في حقيقة لجماعة فقال: (ولما كتم مصنفوها أسماءهم، اختلف الناس في الذي وضعها. فكل قوم قالوا قولا بطريق الحدس والتخمين،، فقوم قالوا: هي من كلام بعض الأئمة من نسل على بن أبي طالب كرم الله وجهه واختلفوا في اسم الإمام الواضع لها اختلافا لا يثبت له حقيقة. وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول). والغريب أن القفطي اعترف بإمكان نسبة الرسائل إلى الأئمة العلويين، كما اعترف بوجود مذاهب أخرى، مع أنه استند كثيرا فيما قال إلى كلام أبي حيان.
ولكن يتبين من كل هذا أن تاريخ إنشاء الرسائل تراوح بين سنة 334 و373 هجرية وأن مدينة البصرة كانت مركزاً للجماعة. ولكن لو بعدنا عن القفطي لأعوز هذه النتائج كثير من الأدلة والشواهد. ومم يذكر أن الأخوان تحاشوا ذكر اسم البلدة كما لم يذكروا التاريخ.
وهناك رأى في أن هذه الرسائل ألفها مسلمة المجريطي سنة 398 هـ لأنه قال في كتاب (رتبة الحكيم) ما يأتي: (وقد قدمنا من التأليف في العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية رسائل استوعبناها فيها استيعابا، لم يتقدمنا فيها أحد من عصرنا البتة. وقد شاعت هذه الرسائل فيهم وظهرت إليهم فتنافسوا في النظر إليها وحضوا أهل زمانهم عليها، ولا يعلم من ألف ولا أين ألف غير الحذاق منهم. . .
ونحن لا نستطيع أن نسلم بهذه النظرية؛ فكتاب (رتبة الحكيم) ثابت أنه ليس من تأليف المجريطي، بل هو منسوب إليه فقط فقد اثبت العلماء أن هذا الكتاب ألفه شخص غير المجريطي لا نعرف اسمه بعد قرن من وفاة المجريطي. ومن الجائز أن يكون صاحب كتاب (رتبة الحكيم) يشير إلى رسائل أخرى ألفها على نمط رسائل أخوان الصفا، وعلى كل فلو افترضنا انه من يريد من التأليف رسائل أخوان الصفا فالمجريطي ليس هو(875/11)
صاحب هذه التأليف.
وهناك رأى أخر وهو ما نادت به الدعوة الفاطمية باليمن وهو ينصب على أن هذه الرسائل ألفها أمام من الأئمة الفاطميين المستورين قبل ظهور المهدي بالمغرب هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق في أيام الخليفة المأمون العباسي، وأول من قال بهذا الرأي الداعي علي بن محمد الوليد الأنف المتوفى سنة 613 هـ (1216) ومن بعده الداعي إدريس عماد الدين المتوفى سنة 872 هـ (1467م) ولاشك أن هذا الرأي يلقي ضوءاً على الصلة بين الرسائل والحركة الفاطمية الإسماعيلية ولكننا لا نعرف شيئا عن هذا الأمام المستور وليس هناك ذكر لهذه الرسائل، فضلا عن ذكر مؤلفها، في الكتب التي ألفت في أيام الفاطميين في مصر أو في غيرها من البلاد الإسلامية.
ومما يثير شيئا من الدهشة أيضاًأن الرسائل كانت خالية تماما من ذكر الفاطميين مع انتساب هذه الجماعة إلى دعوة أهل بيت النبي؛ ومع أن الدعوة الفاطمية طرف متصل بالدولة الفاطمية التي بدأت في المغرب وتسربت حتى مصر وسوريا فليست هناك شواهد داخلية أو خارجية ترمي إلى إثبات هذه النظرية أو إلى صحة هذه العقيدة إلا أن يقال أن الصلة قوية بين الآراء والتعاليم التي تتضمنها الرسائل وعقائد الإسماعيليين، وإلا أن الرسائل كانت مصطبغة تماماً بالصبغة الإسماعيلية نفسها. وقد وصل إلى هذا الرأي كل المستشرقين أمثال كازانوفا، ودى بور، وجولد تزيهر، وغيرهم. .
هذا وقد وجدت رسائل أخوان الصفا كلها كاملة فيما عدا (الرسالة الجامعة) وتعتبر أهمها، حتى جاء المستشرق الفرنسي كازانوفا في أواخر القرن الماضي، وأعلن عثوره على نسخة خطية منها فريدة، كانت صفحاتها الأولى بما تحمله من تعريف بها مفقودة تالفة، فأخذ يدرسها ويبحثه حتى خرج من البحث إلى أنها (الرسالة الجامعة) وهنا أخذ العلماء يدرسون الرسائل من وجهة أخرى حتى اتجه الفكر أخيراً كما قال الأستاذ عبد اللطيف الطيباوي إلى وجود صلة بين الفلسفة أخوان الصفا من جهة وعقائد الإسماعيلية من جهة أخرى وهناك نسخ خطية من هذه الرسائل توجد في مكتبة ميونيخ في ألمانيا وفي دار الكتب المصرية ومكتبة المغفور له أحمد باشا تيمور وفي خزائن ولي الدعوة الفاطمية باليمن والهند. والغريب أن كل هذه النسخ منسوبة إلى الحكيم مسلمة المجريطي ماعدا النسخ المحفوظة(875/12)
في اليمن. وكانت الدعوة الفاطمية اليمنية تهتم برسالة الجامعة منذ أواخر عهد السلاطين الصليحيين اهتماماً بالغاً. وقد عرفت الرسالة عندهم منذ القرن السادس وكانت تعرف باسم (الجامعة) وهم لا ينسبونها إلى المجريطي، بل يقولون إن الرسالة الجامعة لب الرسائل وروحها؛ وهي الرسالة المذكورة في رسائل أخوان الصفا. وكان الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557 هـ أول من أشار في كتابه (كنز الولد) إلى الرسالة الجامعة في عدة مواضع ونقل منها عبارات كثيرة.
ولهذه الرسائل أثر كبير في اليمن، حتى لكان الدعاة يعتبرونها بمثابة (قرآن الإمامة) وقد ذكر الشيخ السيفي أنه سمع بعض العلماء يقول: أن رسائل أخوان الصفا هي القرآن بعد القرآن وهي قرآنالعلم، كما أن القرآن قرآن الوحي؛ وهي قرآن الإمامة، وذلك قرآن النبوة.
وقد ادعى أخوان الصفا أن الرسائل تتضمن علوم بيت النبي (صلعم). ويظهر هذا في قولهم: (واعلم يا أخي بانا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الأدب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج، لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هو مقرون بها من تفضيل أهل بيت النبي (صلعم) لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات تبين لهم تصديق ما يعتقدون فهم من العلم والمعرفة. . .)
وقالوا كذلك (من أراد أن يدخل مدينة العلم وجنة الدين فليأت الباب كما قال النبي: أنا مدينة العلم وعلى بابها. ومن أراد أن يستفيد من هذه العلوم فعليه أولا معرفة الباب. وهي معرفة الحدود، ومن عرف حدود الدين فقد دخل الجنة، جنة الدعوة والدين الاختياريإذ لا إكراه فيه)
كل هذا الغموض وهذا الإبهام الذي اكتنف هذه الرسائل مبعثه عدم إفصاح الأخوان عن حقيقتهم، وهذا طبيعي، لأنهم كانوا جماعة سرية غرضها قلب النظام السياسي السائد في العالم الإسلامي وقتئذ عن طريق التأليف، أو عن طريق الأغراء على اعتناق الفكرة. لهذا سعوا إلى بث دعاياتهم في رسائلهم هذه عن طريق الكلام، متفادين اللجوء إلى أي إجراء آخر مما قد يعتمد عليه في الانقلابات التي ذخر بها التاريخ - ولقد أرادوا تغير الأوضاع وقلب النظريات عن طريق إنشاء فلسفة جديدة تخلق جواً وافقاً جديدين بال نسبة للفرد(875/13)
وبالنسبة للجماعة. وكانوا في هذا كله يسعون بجد واهتمام إلى هدم بناء الدين القديم وتأسيس دولة الخير؛ يصرف الأمور فيها علماء حكماء أخيار. وكانت كل أعمالهم ومحاولاتهم هذه تتم عن طريق خفي مقنع، يمكن أن نقول عنها إنها أعمال كان يشوبها الغموض من كافة نواحيها.
وكانوا كذلك يحاربون أهل الفكر المتزمت، ويطالبون بحرية الفك وحرية القول وحرية الفرد. والغريب إنهم كانوا يطلبون بتحقيق أمور هي في يومنا الحاضر هدف الناس وهدف الساسة؛ وكأنهم استشفوا مغاليق الغيب وعرفوا أن العالم لا ينصلح إذا وضع زمام الأمور في أيدي الشيب (الذين اعتنقوا الآراء الفاسدة والعادات الردية والأخلاق الوحشية مع استبعاد الشباب السالمي الصدور، الراغبين في الآداب، المبتدين بالنظر في العلوم.)
والكلام عن الرسائل وما جاء فيها كلام طويل، إذ تضمنت كثير من العلوم الفلسفية والهندسية والشرعية والأدبية كما تضمنت غرائب الحكم وطرائفها ولسنا اليوم بسبيل التحدث عنها وإنما ستطيع أن نتكلم عن ناحية أخرى من هذه الرسائل ولو أنها ليست في صميمها، وإنما تدور حولها.
فقد قصد الأخوان من وضع الرسائل الدعوة المذهب سياسي وديني جديد، ولكنهم عرفوا إنهم إذا ما قاموا بدعوتهم سافرة فإنها تكون عرضة للقليل والقال، كما تكون عرضة للجدل الرخيص. فأثروا أن يبثوا دعوتهم في تضاعيف أمور أخرى ويقدموها دواء للناس داخل غطاء، فكانوا يبثون دعوتهم في صور مقالات أدبية، وطورا في مباحث دينية، لا تحمل صبغة الدعاية ولكنها تظهر بمظهر البحث العلمي أو الأدبي.
وغريب أن يصل هؤلاء المتقدمون إلى ما وصل إليه العلم الحديث اليوم من تفضيل بث الدعوة في شئ من الغموض أو اللف والدوران، ونحن نجد اليوم الدول الحديث وأصحاب الأفكار ويقومون بنشر ما يريدون عن طريق كتب أو عن طريق المجلات أو الصحف، أو عن طريق معاهد يؤسسونها باسم العلو والدرس والثقافة. وها نحن نرى بيننا وحولنا كثيراً من هذا مما يضيق المقام عن سرده. وكأني بهؤلاء الأخوان قد توغلوا في النفس البشرية حتى وصلوا إلى النقطة الحساسة فيها فعرفوا قبل مئات السنين هذه الحقيقة وعرفوا الطريق الذي يصل بهم إلى الغاية.(875/14)
وليس فينا من ينكر عليهم أدبهم وغوصهم لالتقاط المعاني واستخلاص الآراء. ولسنا ننكر عليهم توسعهم في المعرفة وامتلاكهم لناصية الكلام والبلاغة والبيان. ولكننا نعرف أنهم كانوا يريدون بث دعوتهم على نطاق وسع ونشرها بين الناس على كافة طبقاتهم، غير مقتصرة على طائفة ولذلك عمدوا إلى وضعها في أسلوب بسيط ممتع تستطيع العامة قبل الخاصة أن تفهمه وأن تستوعبه.
وثمة حقيقة أخرى تظهر بوضوح مدى التفكير البعيد الذي سبقنا الجماعة إليه قبل مئات السنين، فقد حدث أنه بعد أن ألفت الرسائل أرسلت سرا وبواسطة مبعوثيهم إلى بعض الدول الإسلامية. وفي وقت وفي ساعة متفق عليهما ظهرت هذه الرسائل في مساجد هذه البلاد المهمة وأمكن الاطلاع على ما فيها. وقد يكون هذا جائزاً في عصرنا الحالي، عصر السرعة، حيث يقوم التليفون واللاسلكي والطائرة. أما يوم كانت واسطة الانتقال الوحيدة الدابة والجمل فإنه أمر يدعو إلى الدهشة وإلى أعمال الفكر. . . وهكذا سبقنا أخوان الصفا إلى كثير مما عمدنا إليه اليوم، وهكذا سبقونا في الفكرة ثم في كيفية التنفيذ.
حسين الهمداني(875/15)
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الرصافي
وفي قصيدة للرصافي (رقية الصريع) استعراض لموظفي الأتراك والطرق التي يسلكونها لبلوغ المراكز الحكومية والوصول إلى كراسي الوظائف. وتبدأ هذه القصيدة بالحنين إلى العدل الذي طال انتظاره وضاق الصبر عنه، وبالسخط على هذه الحكومة التي انحرفت عن الطريق المستقيم فنشرت الفظائع وكتبت صكوك العدل حبراً على ورق، وجعلت الوظائف سلعة تباع وتشترى، فلا يستطيع شراءها إلا الغني الجاهل بما نهب وارتشى، ويعجب الشاعر من أن هذه السوق التي تباع بها الوظائف وتشري تسمى دار الخلافة:
يا عدل طال الانتظار فعجل ... يا عدل ضاق الصبر عنك فأقبل
كيف القرار على أمور حكومة ... حادت بهن عن الطريق الأمثل
في الملك تفعل من فظائع جورها ... ما لم نقل ونقول ما لم نفعل
ملأت قراطيس الزمان كتابه ... للعدل وهي بحكمها لم تعدل
أضحت مناصبها تناع وتشترى ... فغدت تفوض للغنى الأجهل
تعطى مؤجلة لمن يبتاعها ... ومتى انقضى الأجل المسمى يعزل
فيروح يسري ثانيا وبما ارتشى ... قد عاد من أهل الثراء الأجزل
فيظل في دار الخلافة راشيا ... حتى يعود بمنصب كالأول
سوق تباع بها المراتب سميت ... دار الخلافة عند من لم يعقل؟!
ويعود الشاعر إلى رأيه السالف في هذه الحكومة المستبدة:
أبت السياسة أن تدوم حكومة ... خصت برأي مقدس لم يسأل
مثل الحكومة تستبد بحكمها ... مثل البناء على نقاً متهيل
ويتفق الرصافي مع الزهاوي في مروق الخليفة العثماني عن هدى النبي وتركه أحكام القرآن. ينفقان في الفكر والأسلوب والاستفهام الذي ينطوي على استنكار شديد لأعمال هذا الخليفة، فقد رأينا الزهاوي يثور على الخليفة ويشجب أعماله وذلك بقوله:
أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والنبي المبجل(875/16)
ونرى الرصافي هنا يعيد هذه الثورة:
أيكون ظل الله تارك حكمه المنصوص في آي الكتاب المنزل؟
أم هل يكون خليفة لرسوله ... من حاد عن سنن النبي المرسل
وقصيدة عنوانها (آل السلطنة) وقد نظمها على اثر المرسوم الذي صدر بزيادة رواتب البيت المالك ومن يمت إليهم بالمصاهرة والقرابة في الوقت الذي كانت تركيا تعاني فيه نقصاً في الخزانة ومن هذه القصيدة:
هم يعدون بالمئات ذكورا ... وإناثا لهم قصور مشاله
أما حياة هؤلاء فإنهم:
يأكلون اللباب من كد قوم ... أعوزتهم سخينة من نخالة
وهم في حيتهم هذه قد:
حملونا من عيشهم كل عبء ... ثم زادوا أصهارهم والكلالة
وهذه الحالة تدعو إلى الألم:
هي منهم دناءة وشنار ... وهي منا حماقة وضلاله
وقصيدة عنوانها (تنبيه النيام) وهي لا تقل ثورة وسخطا على القصائد التي مرت:
عجب لقوم يخضعون لدولة ... يسوسهم بالموبقات عميدها
وأعجب من ذا أنهم يرهبونها ... وأموالها منهم ومنهم جنودها
ولا نريد أن نطيل الأخذ من قصائد الرصافي أيام الاستبداد العثماني فهي كثيرة وكلها على وتيرة واحدة في الحث على النهوض وتحطيم الأصفاد وأغلال العبودية، وفي وصف الظلم الذي كان يقع على العراق وغير العراق من الخلفاء العثمانيين وولاتهم.
والآن ننتقل إلى المرحلة الثانية من شعره السياسي هي مرحلة الدستور. وسنجد الرصافي في هذه المرحلة باسم الثغر مطمئن النفس، هادئ الأعصاب لا جموح ولا ثورة، ولا سخط ولا تذمر لأنه استقبل عهداً جديداً كان يتمناه الأحرار ويعملون من اجله فجاءت الأمنية ناضجة دانية القطوف.
ونحن أن نجتزئ من شعره في هذه المناسبة ما يسمح به البحث وما يكفي في مجال الشاهد. قال في قصيدة عنوانها (بعد الدستور):(875/17)
سقتنا المعالي في سلافتها صرفا ... وغنت لنا الدنيا تهنئنا عزفا
وزفت لنا الدستور أحرار جيشنا ... فأهلا بما زفت وشكرا لمن زفا
ولاحت لنا حرية العيش عندما ... أماطت لنا الأحرار على وجهها سجفا
وهي قصيدة طويلة يتعرض بها لكامل باشا الصدر الأعظم الذي لم يعط هذه الصدارة حقها واختص بالحكم أنصاره ومعاونيه ونسي البلاد وأهلها حتى اغضب الدستور والأمة فثارت عليه.
نحا أن يتم الدست فيها لحزبه ... علينا وظن الأمر فيما نحا يخفى
لقد اغضب الدستور فعلا ونية ... ومن أعلنوا الدستور الشعب والصحفا
ثم يخاطب الصدر الجديد ومجلس النواب ويذكره بالعراق وما يجري به:
فيا أيها الصدر الجديد اتعظ به ... فإياك أن تطغي وأن تثني العطفا
ويا مجلس النواب سر غير عائر ... إلى المجد لا تلقي كلالا ولا ضعفا
ولا تنس مغبر العراق وأهله ... فإن البلاء الجم من حولنا احتفا
وقصيدة أخرى عنوانها (تموز الحرية) وتموز هو شهر يوليه وفيه كانت عودة الدستور:
إذا انقضى (مارت) فاكسر خلفه الكوزا ... وأجفل بتموز إن أدركت تموزا
أكرم بتموز شهرا إن عاشره ... قد كان للشرق إكراما وتعزيزا
شهر به الناس قد أضحت محررة ... من رق من كان يقفو إثر جنكيزا
ومن المصادفات الجميلة أن شهر تموز كان فيه انتصار الفرنسيين على الحكومة وهدمهم سجن الباستيل، فالرصافي يتحدث عن هذه المصادفة ويقارن بين انتصار الفرنسيين الثوار وبين انتصار الأحرار الدستوريين في تركيا:
سل أهل (باريز) عن تموز تلق لهم ... يوما به كان مشهود لباريزا
كانت لهم فيه لما ثار ثائرهم ... بسالة هدت الباستيل مبزوزا
وأن تموز شهر قام فيه لنا ... على البقاع لواء العز مركوزا
في شهر تموز صادفنا لم وعدت ... بيض الصوارم بالدستور تنجيزا
هي المساواة عمتنا فما تركت ... فضلا لبعض على بعض وتمييزا
ويستمر الرصافي على هذا النسق في مدح تموز حتى يتمنى أن ينظم النجوم ويخلطها(875/18)
بأقلام من الماس ومداد من الذهب على الأفق الرحيب مدحاً لهذا الشهر المبارك.
وقصيدة (المجلس العمومي) وفيها يشير إلى مجلس النواب التركي الذي كان انعقاده نتيجة للدستور:
يا شراق بشرك أبدى شمسك الفلك ... وزال عنك وعن آفاقك الحلك
أضحى بك القوم أحرار قد اعتصموا ... من النجاة بحبل ليس ينبتك
والقصيدة طويلة يدعو فيها الشاعر إلى نشر العلم والتعليم وتشييد المدارس لأن كل مدرسة تهدم سجنا لمن افسدوا في الأرض أو فتكوا.
ولا نستطيع بهذه المناسبة أن نغفل الإشارة إلى قصيدته: (وقفة عند قصر يلدز) وقد نظمها بعد خلع السلطان عبد الحميد ونفيه إلى سلانيك. وهنا يظهر الشاعر كل ما في نفسه من حنق وغيظ إزاء هذه القصر الذي شهد كثيراً من مصارع الأحرار كما شهد أقصى درجات البذخ والترف:
لمن القصر لا يجيب سؤالي ... آهلات ربوعه أم خوالي؟
مشمخر البناء حيث تراءى ... باليا مجده بللا الأطلال
لم تصبه زلازل الأرض لكن ... قد رمته السماء بالزلزال
ثم يخاطب القصر:
قصر عبد الحميد أنت ولكن ... أين يا قصر أين عرش الجلال
أين خاقانك الذي كان يدعى ... قاسم الرزق باعث الآجال
ويشير إلى فترة الثلاثين سنة التي مرت بين إلغاء الدستور وعودته:
قد تخونتنا ثلاثين عاماً ... جئت فيها لنا بكل محال
تلك أعوام رفعة للأداني ... تلك أعوام حطة للأعالي
وبعد وقفة طويلة إلى جنب القصر يودعه بمثل ما حياه:
فابق يا قصر عانس الوجه كيما ... ينهض العدل ناشطا عن عقال
إنما نحن أمة تدرأ الضيم وتأبى أن تستكين لوالي
ويلاحظ أن الرصافي حين يتحدث بضمير المتكلمين في كل قصائده مما يدل على أن ميله للدستوريين وانحيازه إلى جانبهم لم يكن في حدود الشعور والتفكير فحسب وإنما كان في(875/19)
مجال العمل والسعي أيضاً.
هذه نماذج استعرضناها شاهدا على موقف الرصافي من الدستور وهي جزء مما نظمه في هذه المناسبة وقد دلت على ميله الشديد إلى الدستوريين وتأييده لمواقفهم.
هذا الشاعر الذي ثار على الاستبداد غير هباب ولا جل وحمل معول الشعر يهدم به صرح عبد الحميد مع الهادمين حتى استتبت الأمر وأعلن الدستور فاستبشر به وفرح وغنى مجد وجدناه إلى جانب ذلك يمدح الأتراك ويتقرب إلى بعض ولاتهم، وهذه هي النقطة الثالثة التي نحب أن نشير إليها عند الرصافي وندرسها على ضوء شعره لنرى إلى أي حد كان يميل إلى العثمانيين وفي أي نطاق كان يمدحه منهم. الذي تجب الإشارة إليه أن المدح الذي نقصده هنا لا يعني شعره في عودة الدستور الذي كان يستلزم أن يمدح به أنصار الدستور من الأتراك أنفسهم وإنما يعني المدح الذي قاله في غير هذه المناسبة حتى نستطيع أن نعد هذا الشعر مرحلة قائمة بذاتها ولونا يتميز عن الألوان الآخر.
للرصافي في مدح الأتراك قصائد نظمت في مناسبات خاصة كانت تستدعي الشاعر أن يستجيب لها ولم يكن في هذه القصائد كما يبدو - مدفوعاً بدافع الطمع أو الزلفى ولا مأخوذا بالمدح المجرد بل اتفق أن وجدت بعض الحوادث التي هزت إحساس الشاعر وأهابت به إلى أن ينظم فيها. ومن هذه القصائد قصيدة في مدح (حازم بك) والي بغداد وعنوانها (السد في بغداد) وكانت مناسبتها انكسار أحد السدود وتسرب المياه إلى بغداد وقد بذل هذا الوالي أقصى ما تستطيع لدرء الخطر عن المدينة ولم نحد في هذه القصيدة إلا وصفا للسد وحوادث الغرق التي نجمت عن انكساره؛ وفيها بعض الأبيات التي تشير إلى ما بذل الوالي من جهد يستحق التنويه به. وليس في القصيدة أي مدح للدولة العثمانية.
وقصيدة عنوانها (عند سياحة السلطان) نظما في مدح السلطان رشاد عندما ساح في بلاد الألبان ومقدونية إبان الفتن التي كانت تشعلها الأقطار البلقانية وكان للعرب نصيب كبير في إخماد تلك الفتن فكان أن تعرض الشاعر لهذا الحدث ومجد العرب ومواقفهم:
أما بنو العرب فالإخلاص يرفعهم ... إلى مقام على الأقوام ممتاز
إذ هم عماد لعرش أنت ماسكه ... فاضرب بغاث العدا منهم بأبواز
ولم يكن الشاعر ليمدح السلطان إلا لأنه كان متمسكا بالدستور:(875/20)
ماذا على ملك الدستور من وطن ... لو جال منه بأطراف وأجواز
فالقصيدة أذن مستوحاة من العقيدة الدينية والعاطفة القومية والمبدأ الدستوري وهذه المنابع الثلاثة تكفي لأن يبرر موقف الشاعر هنا.
وقصيدة عنوانها (الوطن والجهاد) قالها عندما الدولة العثمانية في الحرب العالمية الكبرى وقد دعا فيها العرب والمسلمين إلى الجهاد وقد شاركه في هذه كثير من الشعراء آنذاك، ولا لوم على الشاعر في هذه الصرخة ما دام المهابون هم الإفرنج وما دامت البلاد المغزوة هي بلاد المسلمين، وما دام الحكم التركي دستوريا:
يا قوم إن العدا قد هاجموا الوطنا ... فانضوا الصوارم واحموا الأهل والسكنا
إن لم تموتوا كراما في مواطنكم ... متم أذلاء فيها ميتة الجبنا
لا عذر للمسلمين اليوم إن وهنوا ... في هوشة ذل فيها كل من وهنا
ويندد بموقف السلطان حسين كامل ووزيره حسين رشدي باشا في مصر لأنهما شايعا الإنجليز في هذه الحرب ولم يساعدوا الحكومة العثمانية في حربها مع الأعداء:
قل للحسيني في مصر رويدكما ... قد خنتما الله والإسلام والوطنا
شايعتما الإنجليز اليوم عن سنه ... فالله ما كان هذا منكما حسنا
كما ندد حافظ بثورة الهاشميين على الأتراك بتأييد الإنجليز.
وقصيدة عنوانها (نواح دجلة) وقد نظمها جواب على عتاب الشاعر التركي سليمان نظيف وكان هذا الشاعر قد نظم قصيدة يعاتب بها بغداد على أثر سقوطها بيد الإنجليز فأجابه الرصافي عليها، وقصيدة الرصافي هذه على ما بها من مدح للعثمانيين يبررها كونها مجاملة شاعر لصديقه وكونها نظمت بعد احتلال الإنجليز الذين لم يستقبلهم الشاعر - كأي شاعر آخر - إلا كما يستقبل أي فاتح مستعمر. ويظهر شاعرنا في هذه القصيدة بمظهر الوفي المحافظ على العهود فدجلة بعد العثمانيين قد أصبحت نهبه للعدو الجديد فلا مساؤها مساء ولا صباحها صباح وإنها تتمنى لو يغيثها أولئك الذين ألبسوها تاجاً من فخارهم ووشحوها براية الهلال:
كيف يغضون عن إغاثة واد ... زانه من ودادهم اوضاح
فعليه من فخر عثمان تاج ... وله راية الهلال وشاح(875/21)
ومع هذا فان الرصافي لم يترك عاطفة الوفاء تتغلب على نزعته الواقعية التي كانت تهاجم الأتراك وتثور على سياستهم بين حين وآخر؛ فهذا نهر دجلة يتحدث على لسان الشاعر قائلا:
أنا باق على الوفاء وأن كان ... بقلبي ممن احب جراح
فإليهم ومنهم اليوم اشكو ... بلغيهم شكايتي بأرياح
وإذا كان لا بد أن نقف لحظة مع المنددين بمواقف الرصافي إلى جانب الأتراك فإنما نقف معهم في قصيدته يمدح بها (مصطفى كمال) عندما انتصر على اليونان سنة 1923م أي في الوقت الذي كان يعيش فيه الرصافي تحت ظل الحكم الوطني في العراق وليست مآخذنا على الشاعر أن يمدح مصطفى كمال وهو محرر تركيا من استبداد السلاطين، ولا أن يمدحه في هذا الوقت والعراق ينتقل من استعمار إلى آخر وإنما نأخذ عليه اندفاع العاطفة في أقصى أشواطها إلى تهجين اليونان ونكران تاريخهم القديم وفضلهم على العقل البشري فيقول:
هم اليونان ألأم كل قوم ... وأخوف في الوغى من فرخ قبج
أرق سجية منهم وأرقى ... حمير الوحش سارحة بمرج
فلا تغررك أوجههم بياضا ... فان طباعهم كطباع زنج
وقد يكون عذر الشاعر أن هؤلاء الذين حاربهم مصطفى كامل هم من أوشاب اليونان.
هذا هو الرصافي في مواقفه السياسية؛ وهذا هو الرصافي الشاعر العاطفي كما عرفناه في حدود العاطفة التي لا تخضع لمقياس ولا تسير في خط واحد بل هي كصفحة الغدير تتموج في موكب النسيم وتثور في هبوب العاصفة وتهدأ حين تصفو الأجواء.
ولو أننا درسنا الرصافي في نطاق المتزمتين والسطحيين لأخرجنا الشعر عن طبيعته والشاعر عن مكانته، وليس هذا من النقد النزيه في شيء ولا من حق الشاعر في مكان.
إبراهيم الوائلي(875/22)
هذا الخط المستقيم الذي يفصل بين الوادي
للأستاذ محمد صبحي الحكيم
إنه لمما يلفت النظر الأول وهلة لمن يطلع على خريطة سياسية للقارة الأفريقية تلك الخطوط المستقيمة الحمراء التي اعتبرت وما زالت تعتبر حدودا سياسية. وخاصة ذلك الخط الذي يفصل بين شطري وادي النيل، مصره وسودانه.
وليس الغريب هنا أن يقسم وادي النيل بواسطة خط مستقيم فحسب، ولكن الأغرب من هذا اعتبار الأرضي الواقعة جنوبي هذا الخط قطراً كيانه الدولي. وقد يعجب القارئ إذا عرف أن كلمة (السودان) لم تكن تعني حتى آخر القرن الماضي ذلك الجزء من وادي النيل المعروف بذلك الاسم في الوقت الحاضر؛ ولكن تلك الكلمة كانت اعم وأشمل وقد كانت تطلق على جزء كبير من قارة أفريقيا يمتد من البحر الأحمر في الشرق حتى المحيط الأطلسي في الغرب، وينضوي تحت تلك التسمية ما يطلق عليه الآن أفريقية الغربية الفرنسية والتي مازال يطلق عليها في الأوساط العلمية السودان الغربي.
وقد نص في اتفاقية 1899 على ما يدعم كلامنا هذا؛ فقد جاء في المادة الأولى منها ما يأتي:
(تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض)
وهكذا أنشأ لوفاق حدوداً صناعية من الطراز الأول بين الشمال والجنوب، وليس أدل على (صناعيتها) من أنها قد حددت بأحد الخطوط العرض في الكرة الأرضية.
ثم اصدر قرار يجعل نهاية الحدود بين مصر والسودان خطاً يمتد غربي النيل على مسافة مائتي متر شمالي البرية الكائنة بناحية أدندان.
وكان نهر النيل قد أبى أن يقطعه خط صناعي مستقيم فكان هذا التجويف في الحدود الذي يدخل حلفا داخل السودان ويخرجها من الأراضي المصرية، وكأن سكان ودي حلفا (سودانيون) ومن يسكنون شماليا (المصريون).
وسواء كان هذا التجويف أو لم يكن فقد فصلت تلك الحدود بين جماعات ترتبط بروابط الدم واللغة والدين هي الجماعات النبوية التي تسكن الجزء من وادي النيل الممتد من(875/23)
أسوان في الشمال حتى بلدة الدبة في الجنوب. ففي الشمال - داخل الحدود المصرية - بين أسوان وبلدة المضيق يعيش الكنوز الذي يبلغ عددهم 43 , 000 نسمة. ثم يحتل الفضيكية القرى الواقعة بين كرسكو ووداي حلفا ويقدر عددهم بنحو الثلاثين ألفا. وإلى الجنوب منهم يمتد وطن السكوت والمحس من وادي حلفا حتى قرب دنقلة؛ وهؤلاء كثيراً ما ينتقلون إلى مصر طلبا للرزق، ثم يليهم الدناقلة الذين يسكنون جنوبهم حتى بلدة الدبة.
وإخواننا النوبيون وإن كان المستعمر قد فرق بينهم بواسطة (خطه المستقيم) إلا أن لغتهم تربط بين جماعاتهم المختلفة كما تربط بينهم كذلك وحدة الدين، فقد كان النوبيون أيام الفراعنة يدينون بالدين المصري القديم؛ وفي أيام المسيحية بمصر دخلة الديانة المسيحية بلادهم. ولما دخل العرب مصر بلاد النوبة برمتها بعيدة عن التأثير العربي الإسلامي وتأسست بالنوبة دولة مسيحية بقيت مدة طويلة مستقلة عن البلاد المصرية إلى أن اعتنق أهلها آخر الأمر الدين الإسلامي، وإن كانت اللغة العربية لم تجد الطريق أمامها سهلا معبدا في بلاد النبوبة، فقد ظل النوبيون حتى الوقت الحاضر محتفظين بلغتهم النوبية المتعددة اللهجات
وليت الأمر قاصر على أن فصل هذا الخط بين النوبيين، ولكنه فصل كذلك بين جماعات البشاريين التي تسكن الصحراء الشرقية وتمتد شمالا حتى بلادة دراو وتعيش شعبة منهم شرق أسوان. وقد فرق (هذا الخط المستقيم) بين بطونهم دون مبرر، وفكك وحدتهم دون داع، وخلق المشاكل بينهم بسبب تقسيم الآبار ومناطق الرعي التي تعودوا أن يستفيدوا منها فائدة مشتركة، وجرى العرف بينهم على أن تكون مصادر الماء وأماكن الرعي ملكا مشاعاً للجميع.
وكأن الطبيعة قد أبت مرة أخرى أن يظل هذا الخط مستقيماً، ولكن المستعمر حار في أمر هذه القبائل فأبقى على الخط المستقيم (سياسيا) واختلق حداً آخر إلى جانب الحد السياسي، أو بالأخرى اختلق نوعا آخر من الحدود لم تعرفه دولة من دول العالم قبل ذلك، وهو الحدود الإدارية، وهو خط منكسر يتجه قليلاً في جنوب الحدود السياسية ثم ينحرف كثيراً في شمالها حتى يصل إلى البحر الأحمر، والغرض منه ضمان توحيد الإدارة في أرض القبيلة الواحدة، إما تحت إشراف حكومة السودان وأما ضمن الإدارة المصرية في(875/24)
الصحراء الشرقية، وإقامة نوعين من الحدود في هذا الجزء أن دل على شئ فإنما يدل على أن الحدود العائمة غير طبيعية، أو بمعنى آخر أن الطبيعة في هذا الإقليم لا تسير الاصطلاح على حدود فاصلة من النوع المعروف الذي تتمشى فيه مقتضيات السيادة القومية مع الضروريات الإدارية المحلية.
ولعل من الطريف أن نلحظ أن مساحة المنطقة التي سلخت من الإدارة المصرية أضيفت إلى إدارة حكومة السودان تبلغ أكثر من تسعة أمثال ما أضيف إلى الإدارة المصرية من أراضى السودان، ومع أن هذا الأمر قد لا يكون ذا خطر كبير أو صغير من وجهة النظر المصرية السودانية إلا أن المصورات والخرائط الجغرافية التي تطبع حديثا في بريطانيا بل التي تقوم بطبعها حكومة السودان ذاتها كثيراً ما تغفل أمر الحدود السياسية ولا تثبت إلا الحدود الإرادية؛ ومع ذلك فان المنطقة التي سلخت من مصر غنية بنباتها، وهناك احتمال أن تكون غنية أيضاًببعض المعادن، فهي قرب البحر الأحمر ويوجد بها جبل علبة وغيره من المرتفعات، فإذا اكتشف بها بعض المعادن كانت مواقعها ومناجمها تابعة للسيادة المصرية من جهة، وخاضعة للإدارة (الثنائية) من جهة أخرى، وفي ذلك ما فيه. وإن كان المستعمر قد حاول أن يتجنب المنازعات بين القبائل والبطون على مياه مراعيهم فهو قد فرق بهذه الخطوط المتداخلة بين جماعات تجري فيها دماء واحدة وهي الدماء الحامية، وتتكلم لغة واحدة هي اللغة البدوية. هذا مع ملاحظة أن جماعات البشاريين إنما هي وحدة ترتبط بباقي قبائل البجاه الأخرى التي تسكن في مصر الصحراء الشرقية بأكملها ويعيشون في السودان الشرقي حتى الحدود الفاصلة بين السودان والحبشة من الناحية وبين السودان وأرتيريا من ناحية أخرى.
وهكذا يتضح جليا أن المستعمر قد تجاهل كل تلك الحقائق في سبيل تحقيق أغراضه ومراميه، وأخيراً قد تجاهل كذلك التاريخ. ولسنا بصدد إثبات تلك الوحدة بين شقي الوادي منذ اقدم العصور ولكن يكفي أن نذكر أن مصر والسودان - منذ أن فتح السلطان سليم الأول جنوب وادي النيل أول مرة عام 1520م ووصلت جيوشه إلى الشلال الثالث، حتى وضع الإنجليز أقدامهم في السودان، كانت مصر والسودان خلال تلك الفترة الطويلة قطراً واحداً لا تفصل بين شطريه حدود، تديره حكومة واحدة، ويخضع لسيادة واحدة، ويذود عن(875/25)
إقليمه جيش واحد وتسري في شرطيه قوانين واحدة وتشرف على تنفيذها سلطة واحدة ويستمع فيه سكان الجنوب وسكان الشمال بحقوق واحدة. ويلتزمون بواجبات وتبعات واحدة
حقق الله هذه الوحدة المباركة حتى نسمح (هذا الخط المستقيم) من خرائطنا، ويمسحونه من خرائطهم.
محمد صبحي عبد الحكيم
ليسانسيه في الآداب(875/26)
الشعر المصري في مائة عام:
علي الليثي
للأستاذ محمد سيد كيلاني1896 - 1822
- 2 -
في هذه الأبيات يعبر الشاعر عن إحساس داخلي مفعم بالحزن، ويترجم عن شعور صادق فياض بالأسى على ما حاق بالوطن من نكبات الجسام، ويتحسر على أيام الرخاء والصفاء. ويندب مريع الحظ والأنس الذي أقفر. ولا شك في أننا نرى مظاهر الحسرة والألم بادية بوضوح في قوله:
كان إقليمنا رياض صفاء ... فيه للواردين أعذب منهل
بساطة في التعبير ولكن لا نكلف ولا تصنع.
وقال:
من رآه يقول توفيق مصر ... أبصر الناس بالأمور واعدل
قد أمنا الزمان فيه ونمنا ... آمنين الخطوب لا نتململ
وهنا يذكر فترة الرخاء القصيرة التي أشرقت على البلاد قبيل جنوح الحركة العربية إلى الطيش الذي اضر بالأمة المصرية ضرراً بليغاً. وعبارة البيت الثاني ضعيفة، ذلك لأنه قال (أمنا الزمان) ثم قل (ونمنا آمنين الخطوب) والجملتين بمعنى واحد.
وقال:
نتهادى في ضل أسمى مليك ... من سجاياه كل خير يؤمل
فسرت أعين الحوادث فينا ... فاطرحنا الوقار والأمر أعضل
البيت الأول تامة المعنى. وفي البيت الثاني انتقل إلى لاعتذار فزعم أن الدهر قد حسد المصريين فتركوا ما طبعوا عليه من الهدوء والسكينة. وفي تعبيره بضمير المتكلم في قوله (فاطرحنا) اعتراف صريح منه باشتراكه مع العرابيين في حركتهم. ويظهر في البيتين شعور الحزن والدم. ورد الحركة الغربية إلى الحسد الدهر أمر لطيف واعتذر جميل وقال:
ورأى غرنا من الحلم أمراً ... غره فابتغى الذي لا يحصل(875/27)
وإذا المرء كان بالوهم يبنى ... فخيال الظنون ما قد تمثل
وبح قوم سعوا لإدراك أمر ... دون إدراكه الجبال تزلزل
والغير هو عرابي الذي اظهر جهلا عظيما وقصر في نظر الشؤون السياسية. ومعنى البيت تافه. والبيت الثاني جيد المعنى أراد أن يجريه مجرى الحكم. أما معنى البيت الثالث فقد ورد في البيت الأول.
وقال:
ما أصروا عليه إلا اضروا ... بناس من نابه ومغفل
ذاك يسعى على التقية خوفا ... وسواه يسعى لكما يجمل
لو أصابوا الرشاد عند ابتداء ... كانت الغاية الجميلة امثل
ذكر في البيت الأول أن العرابيين بإصرارهم على خطتهم قد الحقوا الضرر بالناس أجمعين. وفي البيت جناس بين (أصروا) و (أضروا) وطباق بين (نابه) و (مغفل). وفي البيت الثاني يذكر أن الذين انضموا إلى العربيين كان منهم متطوعون المؤمنون بما يدعو إليه عرابي وزملاؤه ومنهم المكرهون الذي أرغموا على تأييد تلك فشايعوها رهبة لا رغبة. ومعنى هذا البيت مأخوذ من الواقع لا من الخيال.
وفي البيت الثالث يقول لو أن العرابيين منذ بداية أمرهم وفقوا إلى الصواب لحمدت العاقبة. وهو في هذا يستمد من الواقع ويستوحي القول من الحقيقة المرة التي صمدت الأمة. وفي البيت الأخير نرى روحاً وطنياً سامياً. إذ نظر الشاعر إلى هزيمة العرابيين أمام الإنجليز على أنها معرة لحقت بالأمة في حين أن المشايعين للخديوي والراغبين في التزلف إليه اعتبروا هزيمة الجيش المصري في نصر الله الذي جاءهم والفتح، وراحوا يتغنون بفوز الإنجليز وبنجاح أسطولهم وجيشهم في القضاء على العرابيين.
ثم قال:
آه من رقده الحلوم ودهر ... أيقظتنا صورفه إذ تبدل
كانت الناس في ظلال نعيم ... تجتني من ثمار غصن تهدل
ما لنا لم نقم بجد وتدعو ... من عدا للهدى وننصح من ضل
ما لنا كلنا سوى القل منا ... قد سلكتا سبيل غار مضلل(875/28)
قد تساوى الغبي والمتغابي ... وعليم من جاهل صار اجهل
هذه أبيات مؤثرة لأنها صادرة من أعماق الفؤاد فيها تأوه وتوجع وتحسر وتفجع وبكاء على ما أصاب الوطن وأهله. ويلوم الليثي العقلاء من المصريين لأنهم لم يسمعوا في إزالة الشقة التي فصل بين الخديوي والعرابيين والتي كانت نتيجتها الوبال والخسران. وهو من غير شك صادق في شعوره، مخلص الإخلاص كله فيما يتحدث به. وفي هذه الأبيات يعترف الشاعر بان المصريين - سوى أقلية منهم - قد أن خرطوا في سلك العرابيين وهو محق فيما يقول:
ثم قال:
قد جبنا وصاحب الجبن جان ... وهو بالطبع في الأنام مرذل
لو رزقنا السداد لانسد باب ... وحقنا دماء قووم تحلل
كان يا قوته المذاب مصانا ... فسقينا به الثرى إذ تهيل
كم غرسنا جماجماً وجسوما ... وجنينا الأسى بزلة من زلة
من يقرا هذه الأبيات ولا يذكر الدماء الغزيرة التي تلطخت به ارض الإسكندرية والمحمسة والقصاصين والتل الكبير؟ أجل لقد بكى الليثي بكاء الوطني على هته الدماء التي سفكت والأرواح التي أزهقت. وناح على الأبرياء الذين قتلوا وخلفوا الأسى والحزن وقال:
يا ترى من يقوم عنا بعذر ... إذ أطعنا الغواة في كل محفل
حيث حدنا عن المليك وخفنا ... سطوة من عداه والقطر مقبل
حيث لا يرفع البريد شكاة ... وسلوك السلوك صار معطل
حيرة أدهشت ولى اللب حتى ... ما اهتدى للصواب منهم مجمل
ذاك سر القضا وليس عجيباً ... أن يحار الأريب فيه فيذهل
في هذه الأبيات اعترف الليثي بأنه أطاع العرابيين ومالأهم. وعذره في ذلك الخوف وعجزه عن إيصال شكواه إلى الخديوي لانقطاع الأسلاك البرقية بين المصر والإسكندرية، وتعطل البريد. وهذا ليس بعذر. فقد كان في استطاعته أن يلحق بالخديوي كما لحق غيره. وكان في قدرته أن ينزوي في ضيعته متمارضاً كما فعلبعض الناس. وهو دون ريب متكلف في هذه الأبيات يقول غير الواقع ويحاول أن يخلق لنفسه عذراًيبرر به مسلكه.(875/29)
وأخيراً أحال الأمر على القضاء والقدر، وعزا اندفاعه في تأييد العرابيين إلى سر خفي من الأسرار الإلهية. وماذا كان قائلا غير هذا؟ أجل! لم يجد الرجل أمامه غير ما تقدم.
وقال:
غير أنا لما فقنا أرقنا ... من شؤون لعيون دمعاً تسلسل
وبسطا اللسان في ذم قوم ... إن ذكراهم نغص ونخجل
ومددنا أكف ذل لمولى ... شأنه البر كم علينا تطول
آل مصر بغيره لا تلوذوا ... إذ هو الملجأ الملاذ لمن ذل
يا عظيم الجناب يا خير ملك ... سعده قد أباد من قد تغول
في هذه الأبيات يذكر الليثي أنه لما انتهت الأمور بهزيمة العرابيين أفاق من أحلامه واصطدم بالواقع فبكى ندماً على ما فرط منه. وأخذ يلعن زعماء الحركة العرابية لما جنوه على أنفسهم وعلى مواطنيهم بجهلهم وقصر نظرهم ورعونتهم وطيشهم والليثي في قوله (وبسطنا اللسان. . . الخ) يصور المصريين وقد تنكروا لتلك الحركة وشرعوا يتقربون من الخديوي بالقدح في زعمائها. وفي البيت التالي تصوير لبعض من اتهموا بموالاة العرابيين وقد هرعوا إلى ساحة الخديوي طالبين العفو والصفح. ثم انتقل بعد ذلك إلى مدح الخديوي فخاطب المصريين وحثهم على أن يلوذوا بجانب الخديوي إذ هو خير ملاذ وأطيب ملجأ. وما أظن الليثي قصد مخاطبة المصريين الذين تسابقوا من تلقاء أنفسهم إلى ساحة الخديوي رغبة أو رهبة. إنما أراد أن يظفر بالعفو فنهج نهجاً فيه إغراء للخديوي بتحقيق أمنيته التي يصوب إليها. وذلك بتقريره أن الخديوي هو الملجأ والملاذ لمن ذل. فهذا التقرير فيه حث وإغراء. وفي البيت الأخير يخاطب الخديوي ويمدحه ويقول إن حظه الحسن قد أعان في القضاء على من شق عصر الطاعة من العرابيين. ومن الطبيعي أن يذكر الشاعر شيئاً كهذا في ذلك المقام.
وقال:
من بغى الوغى ثار فحكم ... في طلاه الحسام فالطيف فيصل
وأجعل العدل عادل الرمح فيهم ... نافذاً قدر ما يعمل وينهل
وأسقهم كالذي سقيناه إنا ... قد شربنا من بعد بعدك حنظل(875/30)
كان الخديوي توفيق يرتاح لمثل الأبيات. ولذلك أكثر الشعراء من تحرضيه على قتل زعماء الحركة العرابية، وإهدار دمائهم. ولو ترك له الأمر لما تردد في قتلهم. وقد جاء الليثي إلى الخديوي من الناحية التي يرتاح إليها، وضرب على الوتر الذي يسره. وذلك لا حقداً منه على هؤلاء الزعماء بل استرضاء للخديوي واسترداد عطفه وهو لم يرى في ذلك بأساً فمصير الزعماء كان قد تقرر. فتحريضه لا يقدم ولا يؤخر، ولا يغير من هذا المصير. وعلاوة على ما تقدم فإن الليثي في هذه القصيدة لم يحزن على الزعماء ولم يبك على ما أصابهم إنما حزن وبكى على ما أصاب المصريين من الكوارث والخطوب التي دهمتهم من جراء قيام الحركة العرابية. أما قوله:
(واسقهم كالذي سقيناه. . . الخ) فظاهر فيه الكذب، وأي حنظل هذا الذي سقيه؟ وكان في استطاعته أن يعتزل في ضيعته. وما قال هذا إلا ليصور للخديوي أن يد العرابيين امتدت إليه بالأذى وأنه قاسى منهم الأهوال وشرب الحنظل، فيرثى للخديوي له ويعطف عليه ويقربه منه إكراماً له وتقديراً على ما أصابه من شر العرابيين.
وقال:
وأغتفر ذلة لمن رغماً ... لبلاه ولا منيع يؤمل
كم مليك عفا وأنت المفدى ... فوقهم همة فلا تتعجل
وأمنح الناس من سجاياك عطفاً ... واجعل العفو موضع الشكر واعمل
فجدير بمجد ذات الخديوي ... كل فضل وليس للعذر محمل
ذكر في البيت الأول أنه أرغم على الانضواء تحت لواء الحركة العرابية. ثم أخذ بعد ذلك يلتمس العفو في عبارات في منتهى البساطة لا غلو فيها ولا مبالغة، ولا إمعان في التذلل والخضوع. ثم قال:
فابق واستبق من رعاياك قوماً ... أملوا العفو من حياك المسبل
إن تدقق تدق أعناق ألف ... بل مئين من الألوف تقتل
والرعايا تضيع بين عدو ... وولي له الفخار المؤثل
هكذا ختم الليثي قصيدته هذه، مستمداً ختامه من الواقع. فالذين اشتركوا في الحركة العرابية كثيرون أو كما قال:(875/31)
ما لنا سوى القل منا ... قد سلكنا سبيل غاو مضلل
فلو أن الخديوي قد تشدد لقضى على حياة مئات الألوف. وقد أجاد في الجمع بين بقاء الخديوي واستبقائه لقوم من رعاياه أملوا عفوه. ووفق في استخدام كلمة (رعايا) في هذا المقام. وكأنه أراد أن يقول إن الذين تعفو عنهم ليسوا بأجانب إنما هم وطنيون وممن ترعاهم. فإذا لم يستشعر الخديوي الحلم هلكت الرعية، وكيف يبقى الراعي بغير رعية؟ وكل هذا إغاء للخديوي على ترك الغلو والمبالغة في معاقبة من انضموا تحت لواء عرابي.
هذه القصيدة وإن كانت ضعيفة الأسلوب، واهية العبارة إلا أنها خير ما نظم الليثي. ذلك لأنه لم يكن فيها متكلماً ولا متصنعاً. إنما كان معبراً عن إحساس داخلي وشعور كامن في نفسه. وإذا قارنت هذه القصيدة بقصيدة عبد الله فكري التي نظمها في هذا الصدد لأدركت الفرق بين الرجلين فالليثي بدا في هذه القصيدة وطنياً مخلصاً. بكى على ما أصاب الوطن، وناح وتألم وتوجع وتحسر، وذكر الضحايا والشهداء وقرر أن هزيمة الجيش المصري معرة كبرى لحقت بالأمة أما عبد الله فكري فقد بكى على نفسه وشرع يستدر عطف الخديوي بعبارات الشحاذين. ومثال ذلك قوله:
أيجمل في دين المروءة أنني ... أكابد في أيامك البؤس والعسرا
وقوله:
وحسبي ما قد مر من ضنك أشهر ... تجرعت فيها الصبر أطعمه مرا
(للكلام صلة)
محمد سيد كيلاني(875/32)
مصر بين التكتل والحياد
للأستاذ ثروت اباظة
(يا عم واحنا مالنا) تعبير يطلقه قوم منا، يحافظون على جهده وما سعهم الجهد، يكفي الفرد منهم أن يلقي إلى داره نظرة وإلى جيبه أخرى حتى إذا اطمئن إلى قوت يومه ورأى قوت الغد على بعد يحتاج منه إلى أيسر محاولة لوى عنه عنقه وأغمض عينيه وأطلق القولة المستكينة (يا عم واحنا ما لنا).
ونحن اليوم نتساءل أنشارك في المعترك الدولي ونصير دولة تؤيد وجودها بالعمل إلى جانب الأمم أم نقبع، في شمالنا الشرقي من أفريقيا ننظر، فإذا أعجبنا أمر استل كتابنا أقلامهم يمدحون، وإن غضبوا شحذوها ناقدين. نتساءل فيما لا تساؤل فيه إن كنا نريد العالم ليقول عن مصر إن شعارها الأوحد (يا عم واحنا ما لنا) فنوما، أو يقظة المتفرج لا يشارك بغير التصفيق أو السخط. . . وإن شئنا من العالم نظرة ترفعنا إلى مستوى الأمم العاملة في الحياة، المشاركة فيها بالسيف والثقافة، وإن شئنا أن نثبت للعالم أن جيوش الفراعنة ومحمد علي هي هي جيوش الفاروق، وأنها ليست - كما يظنون - جيوشا حسها من القتال السير في التوديع والاستقبال. . إن شئنا ذلك فلهم!
ويا أيها الشباب أني أعيذكم وأنتم بواكير الأمل أن تمدوا إلى الأماني أدرعا مسترخية لينة، فإنها - لا عفاها الله - قتالة الحسن، فتاكة الجمال، تبدو في الملاحة المشرقة وتقتل في السكرة المنتشية والإيناس البهيج، ها هي ذي تشير إلينا نحن الشباب أن نهب خلفها مرددين إن مصر قوية بجيوشها، عتيدة برجالها، جبارة بعتادها. . . كلام إن قلناه فارت منا الدماء وثارت فينا الوطنية بعاطفة حادة لا سبيل لنا عليها - حتى إذا أطلقنا فيها العقل وقيدن منها الثائر وجدنا قولنا قولا لا برهان وراءه، فإن أكبر الجيوش اليوم لا تستطيع مطلقا أن تعتمد على نفسها دون مؤازرة الغير.
إن ميزانية تركيا تقارب ميزانية مصر. وتركيا تنفق على جيشها نصف ميزانيتها، وهذه أكبر نسبة تنفقها دولة على جيشها، وقد استطاعت تركيا بذلك أن تكون جيشا يقف مع أكبر جيوش العالم على قدم، ومع ذلك فتركيا تعترف أن جيوشها لا تستطيع إلا أن توقف العدو حتى يدركها المدد. . . فهي في حاجة إلى مدد، وهي في حاجة إلى سند، وهي بذلك(875/33)
تعترف.
أيها السادة، قال القدماء: إن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من ملك ربه، فإذا كان الإنسان هذا المخلوق الصغير لا يستطيع ذلك. فما ظنكم بالدولة؟ هل يمكنها أن تخرج من ملك ربها؟. . . إننا إذا أعلنا هذا الحياد كنا كمن رأى معركة ثائرة تتقاذف فيها الكراسي وتتطاير الأطباق وتتلاحق الهراوات، فجاء هو وجلس بين المتشاجرين، وصاح بأعلى صوته أنا لا شأن لي بعراككم فلا تصلوا إلي بأذى، ثم أغمض عينيه، وأقفل أذنيه، وأطبق شفتيه وأطمئن. هكذا يكون حيادنا. . حياد تحول بيننا وبينه طبيعة الأمور ومجريات السياسة الدولية.
حيادا نريد؟ فما هي الوسائل الواجب علينا لذلك؟ يجب علينا أن نعلن للدول الأخرى بموقفنا هذا، وأصبح لزاماً عليهم أن يخضعوا للقانون الدولي فلا يمدوا إلينا عدوانا. . ولكن إذا اعتدت علينا واحدة من الكتلتين. . . ماذا نفعل؟ نعلم أنه خرق للقوانين واعتداء على الحرمات الآمنة، وانحطاط في المعاملات الدولية. . نعلم ذلك ولكن ماذا نفعل؟. . نرد العدو ونذود عن الحياض، ونمنع الدمار. . ولكن. . وحدنا!! نستعين بالكتلة الأخرى. . لقد كنا محايدين. . سوف نقول لها دافعي عن الحرمات الدولية. . دافعي عن الشرف الحربي. . أدركي السلام العالمي بالحرب المدمرة. . قد تجيب هذه الكتلة وأن يكون الدافع لها واحدا من هذه الأسباب. . ستجيب ولكن لتقتضي الثمن. . الثمن الذي ما نزال نبذله حتى اليوم ولم نوفه. . حريتنا ثم حيادنا. . أي ثمن! تجربة عرفناها. . أنعيدها؟ الأمر لكم.
قد يرد على هذا بأن الأيام غير الأيام، وأن الذي حدث في الماضي لا يحدث اليوم، ولكن ألا ترون إلى موقفنا ونحن نلجأ إلى المدافع عنا كالطفل تمنع عن مساعدة صديقه حتى إذا تعثر صرخ إليه يستنجد فإذا أنجده فإنه لا يلبث ينفض عنه التراب ويسخر منه: (ألم أقل لك. . ألم أحذرك. . أنظر الآن ماذا فعلت بنفسك) كرامة مبذولة. . وخزي كبير!
قد تسارع الكتلة الأخرى إلى النجدة ولن تفعل إلا عن أنانية. . تسارع ولكن هذه المسارعة لن تكون مضمونة النتيجة؛ فهم لم يدرسوا في السلم وسائل الدفاع فرد العدو سيكون أمرا يقرب إلى الاستحالة وحجتهم في يدهم هكذا كان الأمر مع بلجيكا وهولندا.
أيها السادة. . أنحن الآن على حياد؟ أنشارك في كل هذه المؤتمرات ونقتبس من الغرب كل(875/34)
هذه الثقافات ونسمي أنفسنا على حياد؟ أي حياد؟
لعلكم نسيتم ذلك الحياد الذي إلتزمته بعض الدول في الحرب العالمية الأخيرة فكان هتلر يلتهمها الواحدة بعد الأخرى. . إن الأمم المحايدة حبات من الذرة يمر بها الديك فلا يبذل غير نبشة مخلب وانحناءة رأس ليلتقطها. . أما هذا الديك فقد أثبتت الحوادث العالمية وما تزال تثبت أنه ما تكون إلا من تكتل وتضامن.
إن الحياد أيها السادة أصبح تقليدا عتيقا أشبه ما يكون بموظف ترك الخدمة فأصبح ولا عمل له إلا قهوة وطاولة في انتظار الصباح، وجريدة وشيشة في المساء. . فهو يقضيها أيام انتظار بلا أمل. . ويقطعها أمسيات نوم بلا غد. . ولن تصبح مصر أمة على المعاش وشيوخها شيوخها، وشبابها أنتم، ومليكها الفاروق.
ثروت أباظة(875/35)
الأزهر في مفترق الطرق
للأستاذ احمد الشرباصي
من شرائط الوصول إلى الحق، والتوفيق لكلمة الصدق، القصد في النقد، والاعتدال عن الحكم، والنزاهة في الرأي، والنأي عن الاستجابة لعاطفة قوية أو غي جامح! وكم من حقوق ضاعت بين الهوى المفرط والبغض المفرط؛ وكم من صيحات إخلاص بعضها مخلص ضاعت فلم يستجيب لها أهلها بسبب ما اكتنفها من شدة أو إسراف!. .
لقد فسحت (الرسالة) الزهراء صدرها الرحيب للأقلام الناشئة والقديمة على السواء لكي تصولوتجول في الحديث عن الأزهر والأزهريين، واشترك في هذا الميدان الأزهري الشاب والأزهري العجوز والأزهري الوسط؛ وتلك عناية مشكورة تبديها الرسالة الغراء بالأزهر، أو بمعنى أدق تعيدها، فليست الرسالة بجديدة العهد والصلة بالأزهر، فمنذ سنوات وسنوات وهي تهتبل الفرص والمناسبات لتذكر بخير أو تدعو الأزهريين إلى معروف، فشكر الله لها، وجزاها خير كفاء ما قدمت وتقدم.
لكني لاحظت على كثير ممن كتبوا أنهم غضبوا لنقص موجود أو عيب أو حق مضيع، فشرعوا رماحهم المسنونة، بدل أن يشرعوا أقلامهم الرفيقة الرقيقة؛ فشنوها حربا قاسية على الأزهر. والأسلوب إن حمدناه عند دواعي اليأس والرغبة في إثارة الهمم واستنهاض العزائم، فلن نحمده حين يكون المقام مقام بحث عن حقيقة، ووصول إلى فكرة، وتحديد لهدف، واتفاق على وجهة إصلاح!. . وكيف يتأتى ذلك والأقلام المشبوبة قد صورت أن الأزهر قد خلا من معناه، ومن رجاله الجدراء به، ومن الكتاب الصالح فيه، ومن المدرس الصالح له، ومن الطالب المعتز به، و. . . ماذا بقي بعد هذا من الأزهر المسكين حتى يحكم عليه بالوجود، أو بعدم الوجود؟. . لم يبق اللهم إلا هذه الأحجار المرصوصة التي نالت منها يد الزمان ما نالت، ونالت منها يد المصلحين أو المبدلين ما نالت هي الأخرى، وما أهون هذه الأحجار مجردة في نظر الناس ونظر التاريخ!. .
وهل حقيقة أفلس الأزهر كله من رسالته وجماعته وكتبه ومدرسيه؟. . فلنتريث في الجواب حتى نعرف فصل الخطاب!. . لا جدال في أن الأزهر الشريف كان قبل النهضة المعاصرة يغط في سبات عميق، وكان مقطوع الصلات بالحياة والأحياء، وكان أشبه بالأثر(875/36)
الكريم العزيز على قومه، لا ينتفعون منه ولكنهم يبقون عليه إجلالا للماضي وهيبة من التبعة ورجاء للمستقبل. . ثم تنادي الغير المصلحون بوجوب إخراج الأزهر من عزلته فخرج بلا شك. . صدرت من أجله القوانين وغير ت النظم واستحدثت الوسائل وجددت الأشكال والمظاهر، وحذفت كتب وجاءت كتب، وطمعت طرق التدريس فيه بما طمعت.
وخدع الأزهر بريق التجديد فأنطلق في سبيله عجلان لا يتلبث، وأسرف في هذا التجديد بلا تحديد، أو بلا تفرقة بين التجديد في المفيد والتجديد البعيد عن الجوهر والأصل، حتى أشفق بعض الناس على الأزهر الشرقي العربي الإسلامي المصري من هذه الوثبة الواسعة التي لا تطيقها قدماه اللتان طال بهما الوقوف والسكون، فدعوا الأزهر إلى التأني والالتفات إلى الوراء، لعله ترك خلفه ما هو أولى بعنايته واهتمامه مما يخطف بصره من بريق يتطلع إليه في الأمام.
ووقف الأزهر حائر مبلبل الفكر تائه اللب، يريد أن يرضي دعاة التجديد فيسمى نفسه جامعة، ويرسل بعوثه إلى أوربا، وينشئ كليات ومعاهد، ويقيم معامل وملاعب، وغير ذلك من أشكال وأنماط، ويريد أن يرضي أيضاًدعاة القديم فيدرس كتب القدماء، ويعني بالمتون والشرح والحواشي والتقرير، ويتزمت في التقيد بآراء السالفين حتى فيما تحسن فيه الحرية كالأدب والبلاغة وعلوم البيان. . ومن هنا يستطيع من يريد أن يلتمس للأزهر وجوه محافظة وإيثار للقديم أن يجد ما يريد من الشواهد والبراهين، كما يستطيع من يريد أن يصف الأزهر بالتجديد أو بالتجديد في الشكل دون الجوهر والأصل أن يجد ما يدلل به على ما يقول.
ونستطيع نحن أن نقول إن الأزهر الآن في فترة بلبلة واضطراب، فلا هو بالقديم ولا هو الجديد، وحتى اليوم نستطيع أن نقل إن الأزهر قد عرف طريقه المستقيم بين أنصار القديم وأنصار الجديد؛ فقد جدد فعلا ولكن التجديد في الغالب كان في الأساليب والأوضاع لا في المنهاج والأهداف، واستحدث فعلا ولكن على سبيل الاقتناع أو الاستقلال. وحسبك دليلا على هذا أن الأزهر في الغالب ينتظر حتى يتصرف سواء ثم يسير على خطاه!
والأزهر محافظ فعلا رغم هذا التجديد، فروحه وكتبه وأفكاره وطرزه في تناول الأشياء وأحكامه على أمور الحياة وخاصة عند الكبار، كل هذا لا يزال وثيق الصلة بالماضي،(875/37)
عريق الجذور في تربة السلف!. .
لكن هل معنى هذا أن الأزهر مختلف أو جامد أو ميت؟ لا، فالأزهر سائر حتى يأخذ طريقه إلى ما يريد، أو إلى ما يراد له، يستقيم على طريقة حينا، ويتعثر في خطواته بسب الأعاصير أو الأضاليل أحيانا، ولا أزيد!
وهل معنى هذا أن الكتاب في الأزهر لم يتغير ولم يتبدل؟. كلا، فقد تبدلت الكتب وتغيرت، طبعت الكتب الصفر طبعة جديدة، ونقحت وهذبت وعلق عليها وترجم لرجالها، وحدث فيها بعض التغيير والتجديد، وإذا كان هذا لم يخرجها بأكملها عن صورتها الأولى فليس ذلك بضائرها في فترة نعتبرها فترة تجربة وانتقال من حال إلى حال في تاريخ الأزهر الطويل. . . كذلك ظهرت في الأزهر كتب جديدة لها قيمتها العلمية، وأنشأها رجال في الأزهر لهم مكانتهم وثقافتهم، ونستطيع الآن لكي نقتنع بهذا أن نتذكر كتب أمثال الأساتذة الإجلاء شلتوت ومحمد يوسف موسى والصعيدي وغلاب وحامد مصطفى والبهي وماضي وعنتر ومحيي الدين والمدني والنجار ويوسف الشيخ وحامد عوني وغيرهم.
كذلك في الأزهر بلا شك اليوم كوكبة معجبة من الأساتذة المدرسين، وأغلبهم من الشباب، وهؤلاء فيهم الثقافة والدرية وسعة الأفق والشوق إلى العمل والاصلاح، ولكن حوائل كثيرة تقف في وجوه هؤلاء فلا تمكنهم من تحقيق ما يريدون من أحلام وآمال؛ فإذا أردت إيقاعي في (شر عملي) وسألتني ومنذا الذي يقيم تلك الحوائل؟. قلت لك: ارتفع في الصفوف العليا ثم اسأل!. .
قد تسألني: وما عيوب الأزهر إذن؟ فأوجز لك قائلا: عيوب الأزهر هي الحيرة بين القديم والجديد، انقطاعه عن متابعة الحياة، وتفرق وجهات النظر فيه، وتوتر العلاقات الداخلية بين أهليه، ومتابعته متابعة التسخير لسواه، وانصراف الطلاب عن رحيقه لانشغالهم بغيره من جاذب الحياة؛ فمن للأزهر بعد كل هذا؟. . له الله!. .
احمد الشرباصي
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي(875/38)
رسالة الشعر
لقاء على بعد
للأستاذ محمد محمود عماد
تلاقينا؟ نعم! دون اتفاق ... وما كنا لنأمل في التلاقي
لقد رضنا النفوس على فراق ... وكانت لا تقر على الفراق
رضينا بالذي يرضاه منا ... عذول، عذله مر المذاق
عجيب يا منى قلبي لقاء ... يريني البدر في وقت المحاق
هما القلبان قادانا لحفل ... فجمعنا على غير اتفاق
فأيقظت الصبابة وهي وسني ... وآذنت اللواعج بانطلاق
ولم أنظر إليك إذا نظرت ... وما أوحيت ما يوحي اشتياقي
خشيت على العيون إذا تلاقت ... تسر بما تسر إلى الرفاق
خصصت بنظرتي كلا عداك ... ولست، ومن عداك، على وفاق
ووجهت التفاتي كل صوب ... ولكن، غير وجهك لم ألاق
ومرت محنة عانيت فيها ... صراعاً بين قلبي والمآقي
تجاهلت التي اصبوا إليها ... وذلك بدء عهدي بالنفاق
لقد لاقيتني فلقيت شوقي ... وقد خلفتني والشوق باق
محمد محمود عماد(875/39)
مناجاة نفس. . .
(مهداة إلى الناقد العربي الكبير الأستاذ أنور المعداوي)
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا نفس كفى الأنين ... واحتفلي بالنغم
هذا المساء الحزين ... يوحي إليك السأم
ما لك لا تهجعين ... وتقبرين الندم
أأنت ماء وطين ... أم زفرات الضرم
ما أنت إلا جنين ... على ضفاف الألم
والروح إلا سجين ... فاستبشري بالعدم
يا حلماً في السنين ... طاف ولما ينم
حبك لو تعلمين ... من حي لحم ودم
يا نفس كفى الأنين ... واحتفلي بالنغم
هذا المساء الحزين ... يوحي إليك السأم
ما لك لا تهجعين ... وتقبرين الندم
يا نفس حب الحياة ... حب لعوب هلوك
أتعبدين الإله؟! ... كما عبدت الملوك
نحن كآل الفلاه ... أو كضباب الشكوك
أحلامنا. . ويلتاه ... نجم هفا للدلوك
كما تلظت شفاه ... والقلب نبع ضحوك
يا نفس كفى الأنين ... واحتفلي بالنغم
هذا المساء الحزين ... يوحي إليك السأم
ما لك لا تهجعين ... وتقبرين الندم
يا نفس عمر الورى ... ذبالة تحترق
فاستعصمي يا لذرى ... وحلقي في الأفق
لا تستحبي الكرى ... ولا تلبي الغسق(875/40)
صبراً فكم في الثرى ... قبر لنجم خفق
لتنتهي في السرى ... أحلامنا يا شفق
يا نفس كفى الأنين ... واحتفلي بالنغم
هذا المساء الحزين ... يوحي إليك السأم
ما لك لا تهجعين ... وتقبرين الندم
يا نفس كفى الدموع ... ما لك كالذاهلة
كما ستفنى الجموع ... تفين يا جاهلة
نمضي وما من رجوع ... قافلة. . . قافلة
أما كرهت الهجوع ... والوحدة القاتلة
انطلقي فالربيع ... أفراحه حافلة
يا نفس كفى الأنين ... واحتفلي بالنغم
هذا المساء الحزين ... يوحي إليك السأم
ما لك لا تهجعين ... وتقبرين الندم
يا نفس ولى الشتاء ... واستيقظ البرعم
هيا لرشف الضياء ... صفيك الملهم
لبي السنا والسناء ... ليلك لا يرحم
روحي تهوى الصفاء ... وهي به تحلم
فضمها باشتهاء ... يا غيم يا أنجم(875/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حيرة الجيل الجديد في الأزهر
أمامي الآن كومة من رسائل الطلبة في كليات الأزهر ومعاهده، أمطرني بها البريد في هذين الأسبوعين منذ أثرت موضوع المؤلفات القديمة التي يعتمد عليها الأزهر في دراسة العلوم الدينية واللغوية. وقد عشت ساعات مع أصحابها في آلامهم ومشاعرهم وليست حالهم التي يصفون غريبة عني، فقد كنت قريباً منها ومررت بها وبلوتها، وأحمد الله على أن ضقت بها وطلبت منها الفكاك، وكان لي ما أردت، ولكن هذا الموضوع الذي أثرته في (الرسالة) وهذه الرسائل الكثيرة التي يتحدث إلي فيها هؤلاء الشباب حديث الصراحة والصدق والألم جعلتني أندمج في هذه المشاعر وأحس كأني معهم فيما يعانون.
هذا (جمعة الباكي) بعد (ضياء الحائر) وكلاهما في كلية الشريعة، يبكي جمعة مما يحير ضياء. يبكي مما يلقاه في كتاب (الهداية) من أبواب العتق والتدبير ولا ستيلاد، ولا عتق ولا تدبير ولا استيلاد في هذا العصر، ويبكي من (التلويح على التوضيح على التنقيح) الذي تعاقب فيه ثلاثة، وصح ثانيهم ما نقح الأول، ولوح الثالث على توضيح الثاني، وقد نشط هؤلاء في التقيح والتوضيح والتلويح من نحو سبعة قرون، لنعيش نحن الآن عالة على ما صنعوا بلا تنقيح أو توضيح أو حتى تلويح. . .
وهذا (أحد ضحايا الكاكي بمعهد فاروق) يبدأ رسالته بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. . لأنه يشعر أن الشك بدأ بداخله بعد أن قرأ كتاب (الجوهرة) في علم التوحيد! وقد كان من قبله قوي الأيمان، فأصبح لا يكتب رسالة إلا صدرها بالإقرار بالشهادتين ليطمئن نفسه بأنه ما زال مؤمنا. . وهو يشكو من (الكاكي) وأقواله في المجاز العقلي من الشكوى.
وكثير من الطلبة ينقلون إلي نتفا من تلك الكتب، يستدلون بها على ما فيها من تعقيد وعقم وبعد عن الحقائق العلمية المسلم بها في عصرنا وعما يجري في واقع حياتنا. يقول (ع. م. ج بمعهد طنطا الثانوي): إن في الأزهر كتبا يقول فيها أصحابها إن الأرض يحملها حوت اسمه بهموت! ويقول بعضهم في (تفسير النسق) إن (ن) في قوله تعالى (ن والقلم وما(875/42)
يسطرون) هو اسم ذلك الحوت! ويورد (محمد عبد العزيز عمر الطالب بمعهد أسيوط) مسائل غريبة من الفقه، منها: مات رجل وترك نصف بنت أو نصف بنت الابن فما نصيب كل من الميراث؟! ومنها: لا يجوز لحيوان البحر أن يتزوج إنسية. . . ومنها: لو وجد الإنسان قشر رمان أو نواة ملقاة على الأرض يجب عليه أن يحتفظ بها وينادي على أصحابها أربعين يوما! وأقول إنه لم يترك أحد نصف بنت، ولن يجرؤ (السيد قشطه) على أن يخطب بنت حارسه في حديقة الحيوان، ولكن الذي ينادي على من فقد قشرة رمان ومن سقطت منه نواة، فانه سيقضي بقية الأربعين يوما وما بعدها في مستشفى المجانين بالعباسية، ما في ذلك شك. وقد ذكر أيضاًفرضا فقهيا مضحكا تمنع الآداب العامة من شره. وجاءت هذه المسائل أيضاًفي رسالة (سلطان بمعهد أسيوط) يستدل (ح. ي. ع بمعهد الإسكندرية) على ما يعي الطالب الصغير من الخلط بين مسائل الفقه والنحو والصرف، والتاريخ بعبارات لا يستطيع إلا حفظها من غير فهم، قال المصنف في المتن (العاقلة أهل الديون) فجاء صاحب الحاشية يقول شارحا: (وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان، وهو جريدة الحساب، وهو معرب، والأصل دوان فأبدل من المضعفين باء للتخفيف ولهذا يرد في الجمع إلى أصله فيقال دواوين ويقال إن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب أي رتب الجرائد للعمال كما في المصباح) ثم قال المصنف (يؤخذ ذلك من عطاياهم) فجاء صاحب الحاشية يشرح: (جمع عطاء وهو اسم لما يخرج للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين والرزق ما يخرج لهم في كل شهر وقيل يوما بيوم جوهرة لأن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء أولى من إيجابها في أصول أموالهم لأنها أخف وما تحملت العالقة إلا للتخفيف) وإني والله لأعجب أشد العجب، لا من مؤلفي هذه الكتب، فقد كانت تلك مسائلهم، وكان ذلك عصرهم وطابعهم العلمي، ولكن العجب من هؤلاء (المعاصرين) الذين يقولون بأن هذه الكتب تقوي المدارك وتنمي المواهب! لنفرض أن المعجزة وقعت وفهم الطالب الصغير تلك العبارات، فما هو الخير الكثير أو القليل الذي يحصل عليه منها! وكيف يوفق بين ما تدل عليه من أن الذين يتحملون دبة القتيل هم زملاء القائل في الجيش. وبين ما يجري عليه معالي الفريق حيدر باشا في تنظيم الجيش المصري الحديث؟ فهل هذا يقوي المدارك والمواهب أو يحيرها ويحطمها؟ لكم الله أيها(875/43)
الحائرون!
ويعجب (ح. س. ع) أيضاًمن إصرار كتب الصرف على تصغير (قهبلس وشمردل وهبخ وحبنطى) وحق له العجب، فهو إن عرف مدلولات هذه الكلمات فأنه لا يجدها في حياته مكبرة أو مصغرة، ولو نطق بها في خارج الأزهر لسخر منه الناس.
ويقول عبد العزيز محمد قاسم بكلية الشرعية: (إن الطالب في كلية الشرعية يدرس المعاملات ضمن مقرر الفقه، ولا تظن يا سيدي أنه يعرف شيئا مما حدث ويحدث من معاملات في أيامنا، وأقرب مثال لهذا أننا ندرس (الشركة) وكل ما نعرفه أنها تنقسم إلى عنان ووجوده ومفوضة، أما الشركات المساهمة وشركات التأمين وغيرها من الشركات القائمة وهل هذه تحت تلك وما حكم هذه الأنواع في الشريعة الإسلامية، فكل هذا لا نعرف عنه شيئا).
ويعبر (حسين علي ريحان بمعهد الإسكندرية) عن متاعبه في تلك الدراسة بعبارات شاعرية مؤثرة، ويعتب على الأستاذ (دنيا) لأنه (وصف ما يقوي السعال لا ما يزيل الصداع) ويدعو الله أن يسامحه.
وفي الرسائل نقد لاذع للأساتذة والرؤساء، على نحو ما بين الأستاذ (أزهري عجوز) في العدد الماضي من (الرسالة) ويبلغ بعضه حد العنف، ويدل ذلك على روح السخط الشامل، كما يدل على الهوة السحيقة التي تفصل العقلية الجديدة عن العقلية القديمة. وينصف بعضهم الأساتذة الذي تخرجوا حديثا، يقول (م. م. ح بكلية اللغة العربية): (ومع ذلك فهناك طائفة من الأساتذة التي تخرجت حديثا ولم تحرم نفسها من الاغتراف من منهل الثقافة العصرية والعلوم والمعارف الحديثة. هذه الطائفة وإن تكن قليلة جداً في هذا الجيش اللجب إلا أنها يرجى منها الخير وينتظر على يديها الإصلاح لو سلم لها زمام القافلة وشاركت في إدارة الأزهر، ولكن متى يتاح لها ذلك؟ إن كل من يشتم منه رائحة التجديد والإصلاح في الأزهر يقصى إقصاء تماما. . . الخ)
والرسائل على العموم ناطقة بروح التوثب والتطلع إلى مجاراة العصر، وفي كثير منها رغبة حارة في تعلم اللغات الأجنبية. وهي في جملتها تدل على وعي وحسن تقدير للأمور، وفيها شعور بالمدى الواسع بين ما يقضي عليهم به من (النفي العقلي) إلى عصور التأخر(875/44)
التي ألفت فيها تلك الكتب وبين ما يجدونه من تقدم العصر في العلوم والفنون والآداب، وفيها غير ما أنيت به من الملاحظات السديدة، وهناك رسائل أخرى كثيرة عدا ما أشرت إليه، ويؤسفني أن تحول دون عرض كل ذلك خشية الإطالة.
وبين هذه الرسائل الكثيرة رسالتان من طالبين (مجتهدين) أحدهما (محمد السعيد بكلية الشريعة) وهو يرجع شكوى (ضياء الجائر) إلى قرب الامتحان وإهماله الاستذكار في أثناء العام الدراسي. . . ويقول إن رسالة الأزهر هي المحافظة على هذا القديم والثاني (مأمون يس عبد الملا بمعهد أسيوط) وهو يقول: لا تلوموا العلوم نفسها ولوموا إن استطعتم من زدها تعقيدا عن مشايخنا المدرسين، فذلك قول الحق الذي فيه تمترون) ويقول (فإن أنكرتم بعد هذا قولي وقلم أساطير الأولين اكتتبها، فنقبوا في الوجود عن عباقرة الأدب العربي ثم ارجعوا إلي وهاتوا ما عندكم من علم إن كنتم صادقين، سئلوا العقاد والدكتور طه عميد الأدب والأستاذ أحمد حسن الزيات أمير البيان؛ هل منهم من لم يقرأ كتب الأزهريين، لا، لا تسألوا هذا ولا ذاك فقد حكمتم حكما قديرا، ما أخاله إلا وقرأ كتبكم وزيادة عليها، ألا وهو الأستاذ عباس خضر (هنا ثناء يخجل ذكره تواضعي!) وأنا منتظرون)
حقا - يا سيدي عبد الملا - إن هؤلاء قرءوا كتب الأزهر ومنهم من كان في الأزهر فعلا، ولكنهم ضاقوا بها وكان لهم عراك معها، وقد خلصوا منها إلى الأدب والثقافة العصرية، ولو أنهم ظلوا عاكفين عليها لكانوا كمن ذكرت من المشايخ، ولكن الله سلمهم، فكانوا من المنتجين النافعين، نفعنا الله بآدابهم آمين ذلك كله، وفي نفس بقية.
مناظرة في الحياد والتكتل
أقام الاتحاد العام لجامعة فؤاد الأول يوم الأربعاء الماضي بدار الحكمة مناظرة برئاسة معالي الدكتور محمد صلاح الدين بك وزير الخارجية، موضوعها: (من مصلحة مصر التمسك بسياسة الحياد في الوقت الحاضر) أيد الرأي سعادة الأستاذ فكري اباظه باشا والأستاذ أحمد هيكل والآنسة ثريا الحكيم، وعارضه الأستاذ حسين كامل سليم بك والأستاذ ثروت اباظه والآنسة ثريا الجبالي.
ويخيل إلي أني لمحت (بين السطور) هذه المناظرة معاني قد تكون مقصودة الموضع من موضوعات الساعة، والرئيس وزير الخارجية، والوزارة وزارة شعبية، فهل أريد دس(875/45)
المسألة على نمط أدبي، ومعرفة رأي الجمهور من المثقفين؟ أولا يدل قيام المناظرة على أننا الآن غير مرتبطين بما يجعلنا مع هؤلاء أو هؤلاء، وإنما نحن، وقد أبطلنا ما استنفد أغراضه، ندير الرأي فيما ترى المصلحة في الأخذ به.
بدأت المناظرة بكلمة الأستاذ مبروك نافع رئيس لجنة المناظرات والمحاظرات باتحاد الجامعة، فأعرب عن اغتباطه لتقدمنا في الديمقراطية حتى صار الوزير يرأس المناظرات العامة، ثم أراد أن يقدم المتناظرين، ولكن الرئيس ينهض قائلاً: يظهر أن ديمقراطيتنا وصلت إلى أبعد من رآسة الوزراء للمناظرات، وصلت إلى أن يهمل الوزير وهو رئيس المناظرة فلا يترك له حتى أن يرد على الشكر. .
واتبعت طريقة جديدة في تقديم المتناظرين، فأبتدئ بالأقل. . وقد حار الأستاذ نافع في التمييز. . فأسعفه أحدهم قائلا: الأقل سناً، وجاء ترتيب الأستاذ فكري اباظه باشا في الآخر! فهل كان ذلك مدبراً لشاغبته. .؟
وقد وفق جميع المتناظرين في تناول الموضوع، وكان حديثهم منسقا، وعبارتهم فصيحة، وخطاباتهم بارعة، وكانت الآنستان مدعاة للإعجاب، وخاصة الآنسة ثريا الحكيم فهي خطيبة معبرة بنبرات صوتها وحسن جرسها مع فصاحة في النطق والتعبير. وكان من مظاهر الديمقراطية في المناظرة أن اتخذ الأستاذ ثروت اباظه مكانه في الصف المعارض أمام عمه فكري اباظه باشا، وقد جال جولته في موقف خطابي بارع، ولكنه لم يسلم من طعنات عمه التي سددها إليه وإلى زميلته الآنسة ثريا الجبالي، ولم يكف فكري باشا عن الخطابة بعد أن جلس. . فقد كانت إشاراته الصامتة الناطقة تدحض كل حجة يأتي بها معارضه حسين كامل سليم بك وكان الأستاذ أحمد هيكل لبقاً عندما قال إنه واثق من وطنية المعارضين وأنهم يرون فيما بينهم وبين أنفسهم ضرورة الحياد لكنهم يريدون أن يهيئوا الفرصة لمناقشة كل ما يمكن أن يقال في معارضته.
وقد كانت حجة المؤيدين - على وجه الإجمال - أننا لا مصلحة لنا في الانحياز إلى أحد، وأنه الخير لنا ألا نعرض أنفسنا للأخطار والأضرار التي تأتينا من الجهة التي ننحاز ضدها، وأن خطر الحرب والاعتداء علينا محقق إذا انضممنا إلى أي فريق ولكنه متوهم إذا وقفنا على حياد، فكيف نسعى إلى الضرر المحقق خوفا من المتوهم؟ وأن موقع مصر(875/46)
في مفترق الطرق بين أمم العالم، وموقع قناة السويس منها، يحتم لسلام العلم أن تكون مصر محايدة، ومن الظلم أن تقوى جانبا لهزم آخر لا جريرة له عدها. وضرب المؤيدون لأمثال بالأمم المحايدة، مثل تركيا وسويسرا وأسبانيا، التي تجنبت بحيادها ما لحق بالأمم المحاربة من الخراب والتدمير. وقد تساءل فكري باشا: إلى من ننحاز؟ إلى الإنجليز ونحن نجاهد للتخلص منهم، أم إلى الأمريكان مؤيدي إسرائيل في فلسطين، أم إلى روسيا سعياً إلى فوضى الشيوعية، وقال: لسنا استعماريين ولا رأسماليين ولا شيوعيين، فما مصلحتان إذن في الانضمام إلى أي من هؤلاء؟
أما المعارضون فقد قالوا بأنه لا ينبغي أن نظل بمعزل عن المعترك حتى يدهمنا الخطر، فنضطر إلى ارتجال الخطط، ولن نستطيع وحدنا أن ندفع العدوان فنستنجد بمن يقتضينا الثمن من كرامتنا وحريتنا. وضرب المعارضون الأمثال بالدول التي كانت محايدة، مثل بلجيكا وهولندا، وظنت أن حيادها ينجيها، ولكن هتلر التهمها واحدة بعد واحدة. وقد شبه الأستاذ ثروت اباظه المحايد بموظف ترك الخدمة يقضي وقته بلا أمل في القهوة بين الجريدة والنرد والنرجيلة، قائلا إنه لا يجوز أن تصبح مصر أمة (على المعاش).
وقد طلب فكري باشا من كبير المعارضين، وهو عميد كلية التجارة، أن يجيبه عن مصلحة مصر الاقتصادية في التكتل، ولكن الأستاذ العميد لم يعرض لهذه الناحية، ومما قاله أن التكتل أمر لابد منه، وأن مصر آخذة به فعلا بتكتلها مع الدول لعربية، وأن الجميع متفقون على ضرورة ذلك. وواضح أن هذا ليس هو المقصود بالتكتل، لأن موضوع المناظرة خاص بالانضمام إلى إحدى الكتلتين العالميتين أو عدمه. وأخيراً أخذ رأي الحاضرين فكانت الأغلبية الساحقة مع الحياد.
عباس خضر(875/47)
البريد الأدبي
من وحي فلسطين:
جاءنا من الأستاذ الجليل محمد توحيد السلحدار بك هذا الكتاب
تعقيبا على كلمة الأستاذ كامل السوافيري في كتاب من وحي
فلسطين وهذا نصه بعد الديباجة:
في العدد 784 من الرسالة الصادر في الثالث من أبريل هذا العام، مقالة لحضرة الأستاذ الكريم كامل السوافيري خص بها كتاب أحمد رمزي بك (من وحي فلسطين).
استشف الأستاذ الماهر هذا الكتاب المفيد، ونوهت به مقالته الصادرة عن بصيرة وإخلاص؛ وأعجبه الموضوع واطلاع المؤلف وإقدامه على التصريح بحقائق في إظهارها خير وفي إخفائها شر، فاستجاب الأستاذ بمقالته لإعجابه، وأوحت إليه أريحيته بصفات تعتني بها عند ذكره مقدمتي للكتاب، فأنا شاكر له حسن ظنه وقصده جزيل الشكر.
وأرى من حقه علي، وهو يحسبني خليقا بتلك الصفات السامية، أن اقرن شكري الصريح بالتعرف إليه: لست مؤرخا، ولا سياسيا، ولا علامة، ولا من أصحاب الرتب، ولست أقول ذلك عن تواضع، بل أقوله عن الواقع واليقين وتفاديا من تقليد أولئك المصريين الذين يجهلون أنهم بعيدون عن علم العلماء وفقه الفقهاء وفضل الفضلاء في الشعوب المتيقظة! وحسبي أن اعد من المصريين المتعلمين في تفاوت بينهم، غير المحرومين من حساسات العفة ومن الشعور بواجبات التضامن القومي والمصلحة العامة. وإذا لاح في فكري خاطر، أو نبهتني مناسبة إلى موضوع أو كتاب وكانت حالي الصحية مسعدة، ربما كتبت بشأنه ما أظن أن نشره قد لا يخلو من فائدة لبعض القراء، ولا تكون لي عندئذ رغبة سوى أن ينظر القارئ، إن هو قرأ لي، إلى المكتوب وليس إلى الكاتب.
وبودي لو يتضاعف عدد الأقلام التي تعالج إنقاذ الغارقين في غمرة لما يصل إليهم في أعماقها نور القرن العشرين. بودي حقا لو يكثر ظهور المؤلفات من أنواع (الوعي القومي) و (معنى النكبة) لقسطنطين زريق، و (الاستعمار الفرنسي) و (من وحي فلسطين) لأحمد رمزي و (في أصول المسألة المصرية) لصبحي وحيدة. فهذه كتب، أصابت كل الإصابة أم(875/48)
أخطأت بعض الخطأ، تفتح عيونا وتوقظ قلوبا مدت الأيام لأصحابها في الغرور والضلال، ففتنتهم مغانم التهويش والتضليل على حساب الشعب. وعسى أن يأتي انتشار هذه المؤلفات وأمثالها بالفائدة المطلوبة، ومن هنا كانت إشادة الأستاذ البصير بكتاب رمزي بك خدمة للمصلحة العامة ومحمدة تذكر وتشكر.
محمد توحيد السلحدار
حفلات التأبين - إلى صديقي الأستاذ عباس خضر:
إذا كنت من اتباع دعاة المحافظة على القديم وقصر حفلات التأبين على ذكر محاسن الفقيد وتعديد مناقبه تكون من الراضين أيفاق الشعراء وكذب الخطباء في هذا العصر، ومن المتساهلين في سماع الشعر الوسط وما هو دون الوسط كالذي سمعته في حفلة المرحوم علي محمود طه.
وإذا كنت ممن لا يؤيدون ما أدخل على حفلات التأبين من مقالات - ومبالغات في تعديد المناقب وافتعال الصفات لكل فقيد كما هو واقع الآن، فأنك تكون قد جاريتني في إقحام أكثر الشعراء والخطباء في زمرة الندابين المأجورين.
أما إذا كنت ممن يقدرون نهضتنا الأدبية ومن العاملين في وضع لبنة واحدة في بنائها - وأنك لكذلك - فكان الأخلاق بك أن تنكر معي على شعراء وخطباء حفلات التأبين تباكيهم وتفجعهم المكذوب وإلحاحهم في النواح الممجوج، وأن تدعوهم - لا بالمطرقة والسندان - إلى سلوك السبيل التي يسلكها الأدباء في الأمم الراقية.
هكذا يكون الرثاء:
مات الشعر فلان فأقام له أصدقاؤه الأدباء حفلة تأبين، ولما اعتلى رئيس الدعوة المنبر قال (يتكلم أربعة من الخطباء في أربع ناحيات من شعر الفقيد) وتكلم الخطباء ففاضوا في تعديد تلك النواحي، وإني لأرجو الأستاذ عباس أن يصدقني أن أحد أولئك الخطباء لم يكتف في الكلام على بوهيمية ذلك الشاعر فحسب، بل أفاض في تحليل ناحية الشذوذ فيه - وهل يخلو من شاعر من شذوذ؟ وأنهض الدليل، وهو مستمد من شعر الفقيد، فلم يسع أرملة ذلك الشاعر إلا تغطية خديها بكفيها والاستعاذة بالله من جرأة النقاد الذين يلمحون فيخمنون(875/49)
فيصيبون، ويحللون فيصدقون، ولم يتورع ذلك الخطيب، أعود فأقول لم يتورع ذلك الخطيب عن الاعتذار إلى تلك الأرملة بقوله (لقد أصبح الشعر الذي كان زوجك ملكنا نحن الذين نرسم الخطوط للمؤرخين (وأنت يا مناظري الكريم إذا تفحصت أية مجلة أدبية غربية تجد أن التأبين ليس معناه (ذكر محاسن وتعديد المناقب) كما يطيب لك أن يكون.
أنت تشك يا صاحبي في أني رسمت مع الزيات خطوطا رئيسية لمن سيتوفر على دراسة الشاعر الصديق علي محمود طه وتدعوني إلى (الاستقلال برسم خطوط للدراسة).
يحسن بي قبل أن أقول لبيك أن أسألك: ألم تكن صورة خطابي معك؟ لم لم تقارن كلامي بكلام الزيات فتطمئن بعد المقارنة إلى ما يؤيد دعواي، ويدحض ادعائي، ويزول عنك الشك أويبقى؟ ألم تسمعني أتكلم في خصومة الأدباء ومزاياها وصداقتهم ومطاويها؟ ألم تقرأ في خطابي كلاما عن (الحب) في شعر علي طه. وأنه - يرحمه الله - قد أحب مرة واحدة، وأنه صور ذلك الحب العارم في قصيدة واحدة هي كالمنارة في بحور شعاره؟ أليس في كل هذا خطوط كخطوط الزيات؟ لقد تواضعت برغم كبريائي فاستشهدت بالخطوط الرئيسية التي رسمها الزيات وسكت عن نفسي، أما كان يجدر بك أن تذكرها أنت وتنشر نتفاً منها؟ لقد سكت عن كل هذا وتشككت لماذا؟
الجواب: لأنك تعلقت بأذيال (البوهيمية) لتظهر أمام الناس معمماً بعمة خضراء وقداسة بيضاء، وجبة سوداء لتقول مع المتوقرين المستقدمين (اذكرا محاسن موتاكم) ولكن أن الشاعر لا يموت.
وأخيرا مالك يا صاحبي توهمني بأن كلمتي التي ألقيتها في ذلك (يجب أن تسطع شمسها فتحجب سائر النجوم والكواكب)؟ ثم من هم نجوم تلك الحفلة ومن هم كواكبها؟
- الشعراء ولا شك!!
أما أكثر الشعراء يا صاحب فقل معي يرحمهم الله.
حبيب الزحلاوي(875/50)
القصص
ضيف غريب
للكاتب السويدي الفكه المعروف هاس زيتر ستروم
بقلم الأستاذ احمد مصطفى
كنت قد فرغت منذ لحظات من تناول فطوري ودلفت إلى الشرفة. . . كان الخليج ينبسط أمامي بشطئانه الفسيحة المترامية، ولونه الأزرق الداكن، وتتألق فوق مياهه شمس متوهجة تتقد اتقاداً.
وبعد أن ثبت مقعدي بحيث أواجه مهب الريح، أخذت استمتع بالنسيم الرخي الفاتر فشعات في حنايا قلبي دواعي الغبطة والابتهاج. . .
ناولني الخادم برقية. . . وقد شعرت وأنا أتناولها منه بأنني سأجد فيها حتما ما يضايقني وينغص علي عيشي رغم أنني كنت اجهل بطبيعة الحال ما قد تتضمنه بين ثنايا سطورها. . .
صعدت زوجتي أيضاًإلى الطابق الذي كنت فيه. فقلت لها
- وصلتني برقية. . . فهل لك أن تحزري ما فيها؟. . .
- ليس لدي الوقت الكافي لحل الألغاز وفك الأحاجي. . . فضها وأنظر ما فيها. . . فضضت الغلاف فقرأت:
بحثت عنك في المدينة. . . سأتحرك في الرابعة والثلاثين. . .
تحياتي لزوجتك
(فردريك)
قلت لزوجتي
- هل تعرفينه؟. .
- كلا!. . ومن يكون فردريك هذا؟. .
لا أعلم. . . أنا أعرف شخصاً واحداً بهذا الاسم وهو ليس ممن يطيب له أن يبحث عني أويخطر له ببال أن يشخص إلى. . .(875/51)
- لعل البرقية ضلت طريقها إلينا:. . .
- لا!. . . فالعنوان كامل ليت شعري أي فردريك هذا؟. . إنه سيتصل في السابعة. . . يجب أن ترتدي ثياباً لائقة، ثم اغسلي الأولاد قبل ربع ساعة فقط من الموعد ليمكن إبقاؤهم نظيفين. . .
غادرتني زوجتي، فخلوت إلى نفسي وإلى أفكاري. ثم نسيت فردريك تماماً إذ فقدته بين زورقي البخاري والجزيرة التي لجأت إليها التماساً للراحة والهدوء. . .
كان النهار رائعاً حقاً. . .
وفي أثناء تناول الغذاء قلت لزوجتي:
- الساعة السابعة بالضبط. . . ألا يجب أن نذهب لاستقبال فردريك؟
هبطنا إلى الميناء. . .
كان المرفأ يموج بعلية القوم الصلفاء الذين تعودوا تمضية أوقاتهم فيها على الدوام عابثين ساردين. . . وكان هناك المصور الشاب ذو القبعة الحمراء والمشية الوئيدة المتزنة، كما كانت هناك النساء اللائى درجن على أن يصدقن بسذاجة متناهية كل ما يقال لهن:
وما إن رمقني هؤلاء بعيونهن الزرق الواسعة التي حملت إلى قلبي كل ما في أرواحهن من معاني الوداعة والدلال حتى ابتدرت مخاطباً إياهن:
- نشبت ثورة عظيمة في باريس هذا الصباح، وأعلنت الأحكام العرفية، وقد بلغ دوي المدافع والانفجارات من العنف والشدة بحيث تعذر على السكان أن يسمع الواحد منهم صوت محدثه. لهذا فقد أضطر الجميع إلى تخلية المدينة والخروج إلى الأرض الفضاء لمواصلة ثرثرتهم ولغوهم هناك. . .
صرخت إحداهن بصوت حاد مؤلم وكانت أمها تقيم بباريس:
- أمي!. . . أمي!. . .
فقلت مسلياص إياها
لا تخافي ولا تحزني!. إنهم نقلوا النساء والأطفال جميعاً إلى ساحة معشوشة خضراء قبالة المدينة. . .
أخذت الباخرة تقترب شيئا فشيئا وكان القول قد تبعه العمل. . .(875/52)
قلت لزوجتي:
- عاملي فردريك بمنتهى الرقة واللطف
التصقت الباخرة بالميناء. . . فحياني قائدها، كما حيا المصور الشاب، والسيدة التي هتفت بهبقولها: هل من أخبار جديدة؟.
خرج من الباخرة رجل وخط الشيب رأسه، ونال الزمان من فوديه، فقلت في نفسي:
أستبعد أن يكون فردريك هو هذا. . . ثم عرفته على التحقيق. لقد كان الرجل الذي تزوج حديثاً سيدة تملك متجراً في المدينة لبيع القمصان، وقد أبت صاحبته مغادرة عملها لأن موسم الصيف ملائم جداً لبيع أكبر عدد من باقات القمصان. . .
ثم خرجت إلى البر سيدة وبنتها. لقد عرفتهما أيضاًولوحت لهما بيدي. . .
وعلى أثر هؤلاء الثلاثة غادر السفينة رجل غريب، ضخم الجثة، متين البنيان، عريض ما بين المنكبين، يرتدي بدلة في غاية الأناقة وتوحي مشيته بالجرأة والاعتداد بالنفس. . .
وما إن لمحني حتى تقدم نحوي ووضع يده على كتفي وقال بصوت يمازجه الود والمرح؟
- ها! قد حضرت أخيراً أيها الشيخ الماجن!. . .
بات لزاماً أن يكون هذا هو فردريك بالذات. . .
تولتني الحيرة والذهول. . . إنه لم يسبق لي أن رأيت هذا الرجل في حياتي من قبل. ومع ذلك فهو يعرفني، بل ويتحدث إلي كما لو كنا صديقين حميمين منذ سنين. انغمسنا في الثرثرة وتبادلنا (الماجن، غير مرة. إلى أن قال أخيراً:
- والآن كيف أنت؟. هل الأطفال بخير؟. وكيف حال مرتا؟. .
إلهي. إلهي! إنه يعرف حتى اسم زوجتي.
- شكراً لك. . . إننا جميعاً بخير. . . إننا جميعاً بخير.
شكراً لك. . . شكراً لك. . .
مد إلي حقيبة كان يحملها:
- خذ هذه أنت بنفسك. أما الحقيبة الكبيرة فستأتي بها العربية بعد قليل. يبدو لي أن حضوري كان مفاجأة لك. أليس كذلك؟
وهنا لحقت بنا زوجتي أيضاً.(875/53)
انبسطت أسارير وجه فردريك وأبرقت عيناه، وانحنى أمامها، حتى كاد أن يمس الأرض بناصيته ثم قال مخاطباً إياها.
- في كل مرة أراك أجمل مما كنت في المرة السابقة!
رمقتني زوجتي بنظرة شزراء مريبة ولكنني استدركت الموقف فلقت لها:
- ستأتي حقيبة فردريك الكبيرة في العربة بعد قليل. . . لفردريك حقيبة غير هذه التي أحملها بيدي لفردريك حقيبة كبيرة. . . ثم أخذت أتمتم بهذه الكلمات الأخيرة بغير وعي أو شعور. . .
أما زوجتي فقد كانت جامدة كالصنم، قاسية كالصخر.
ارتقينا ثلاثتنا التل إلى (الفيلا) التي كنت أقيم فيها. فقطع علينا فرديرك الصمت وقال موجهاً الحديث إلي:
- ما أجمل المكان الذي اخترته لنفسك! بكم استأجرته؟.
ثم استدرك قائلا: ولكن لماذا أسأل هذا السؤال؟. . . أي غرفة ستخصص لي؟. . .
- اختر أي مكان تشاء! أي مكان تشاء أيها الفتى الماجن؟.
قال لي فرديرك:
- عهدي بك لم تتغير كثيراً
فأجبت مرتبكا
- يؤسفني لا تكون أنت كذلك.
- ماذا تقول؟ ثم ما هذا الهراء؟ هل كبرت حقاً؟.
إن وزني لا يزال ثمانين كيلو وهو وزني بعينه منذ ست سنوات. . .
ثم أدار رأسه إلى زوجتي
- أتجدينني الآن أسمن مما كنت عليه سابقاً يا مرتا؟
أجابت زوجتي بجفاء ظاهر
- لا، لم تسمن إلا قليلا
اصطحبنا فرديرك إلى غرفة الاستقبال، وعندما غادرنا الغرفة قالت لي زوجتي بحدة
- ومن يكون هذا الطفيلي؟(875/54)
- هذا هو فرديرك، الرجل الذي ابرق إلينا نبأ حضوره هذا الصباح.
- حسن جداً: وهل. . . سيبقى. . . هنا. . . في بيتنا؟
- هذا ما تدل عليه قرائن الأمور الآن. أو هذا ما يراه هو نفسه على الأقل.
كنا واقفين في فناء الدار، فأطل فرديرك برأسه من النافذة:
- أريد صابوناً فحقيبتي الكبيرة لم تصل.
التفت إلي زوجتي وقلت:
- مرتا! احضري له قطعة من الصابون سريعاً.
ولكن مرتا لم تحفل بكلامي بل ولت بوجهها شطر غرفة النوم، وذراعاها إلى الأعلى ثم ألقت هناك بنفسها على السرير.
كان هذا ديدنها في حالات الغضب والهياج. . .
فاضطررت إلى أن أحضر الصابون بنفسي
- كان فرديرك وقد خلع عنه سترته منهمكا في تنظيف ثيابه إصلاح شأنه، وعندما رآني مقبلا عليه ابتدرني قائلا:
- لم كان سعيدا في حياتي الآونة الأخيرة كما قد تظن. لقد هزتني (ألما) هزة عنيفة وهدت من كياني.
- أعرف ذلك تماماً. . .
وهنا أخذت اسأل نفسي. . . من هي (ألما) هذه يا ترى؟
أمتزوج هذا الرجل أم هو يحدثني عن خطيبته فحسب؟. . .
- النساء هكذا شأنهن دائماً
- أجل!. . . أنهن هكذا دائماً
- آلك ما تشكو منه؟. . .
- ليس كثيراً!. وأما الآن فليبس لدي ما أشكو منه إطلاقاً
- ألما، تقوم برحلة الآن
- هيه، هذا حسن
- نعم نعم إنها هي التي طلبت ذلك.(875/55)
- وهذا أحسن طبعاً.
فرغ ضيفنا من ارتداء ثيابه فدلفنا إلى الشرفة. وما إن افرغ كأساً من (البنج) في جوفه حتى كانت زوجتي أيضاًقد لحقت بنا وشاركتنا حديثنا.
كان فرديرك في ذروة نشوته ومرحه. يمزح، يثرثر، يثير قهقهة إثر قهقهة حتى لقد أوشك أن يغمى على زوجتي ثلاث مرات من فرط الضحك.
وصلت الحقيبة الكبيرة، وكان أول عمل قمت به هو أنني هرعت إلى السلم لأقرأ عليها على الأقل العنوان الذي قد يرشدني إلى هوية صاحبها.
فرديرك لندنهولم.
هذا هو الاسم الذي وقع عليه بصري وأنا أتفرس جيداً في أحد جانبي الحقيبة.
لم يتبدد شيء من الظلام الذي يكتنف ذهني.
وعلى هذا المنوال أقام فرديرك لندنهولم هذا بيننا. غير أنه لم تكد تمر سوى ثلاثة أيام فقط متى كانت قد استحكمت بيننا وبين ضيفنا أواصر الألفة والمودة، واشتدت الوشائج التي تربط كلا منا بالآخر.
كان فرديرك قد أصبح عنصراً ضرورياً في حياتنا اليومية لا يمكن إغفال أمره أو الغض من أهميته. فهو حيناً يداعب الأطفال ويلاعبهم، وطوراً يساعدني في قيادة زورقي البخاري.
وقد استطاع بظرفه وخفة روحه أن يكسب حتى قلب زوجتي وثقتها.
قالت لي زوجتي ذات يوم:
- ليتك أنت أيضاًمثل فرديرك دائم المرح، بادي البشاشة، مستعداً لمعونة الغير في أي لحظة! إن الإنسان ليكاد لا يشعر بأي ضجر أو سأم عندما يكون قريباً منه.
استسلمت لبحر من التأمل والتفكير العميقين، بينما مرت الحياة رتيبة هادئة في بيتنا لا يكدر من صفوها وإشراقها شيء يستحق الذكر.
وبعد مضي ثمانية أيام تسلم فرديرك خطاباً، وما فضه وقرأه حتى قطب جبينه وبدت على قسمات وجهه علائم الجهد والاهتمام ثم قال:
- أصدقائي الأعزاء. لقد انتهى عملي هنا، يجب أن أسافر غداً صباحاً بدون إبطاء. إن(875/56)
(ألما) قد عادت من رحلتها وأظنكم تفهمون معنى ما أقول.
- نعم! نعم! أفهم ذلك حق الفهم - ولكنني أيضاًآسف أشد الأسف على فراقك أيها الصديق العزيز. لقد قضينا معا أياماً سعيدة. هل لك أن تعدنا بالعودة إلينا ثانية؟
أجاب فرديرك
هذا محتمل! ربما!
وعندما سمعت زوجتي نبأ اعتزام فرديرك العودة، وإن (ألما) كانت هي السبب في ذلك قالت والتأثر باد على صوتها:
- إن (ألما) هذه لشريرة مستهترة!
وفي صباح اليوم التالي شيعنا فرديرك إلى الباخرة، ولم يتأخر أي واحد منا في النوم برغم أن الوقت كان مبكراً جداً.
صعد فرديرك إلى سطح الباخرة، وعندما دنا موعد الرحيل ظل يلوح لنا بمنديله الأبيض إلى أن ابتعدت السفينة وتوارت عن الأنظار.
قفلنا راجعين إلى البيت واجمين وكأن على رؤوسنا الطير، وعندما وصلنا باب سور الحديقة توقفنا عن المسير لحظة. فابتدرت زوجتي قائلة:
- قل لي بربك من كان هذا الرجل؟.
- لا أعلم.
كنا قد أحببناه دون أن يعرف أحدنا الآخر. وعندما فراقنا خيل إلي أنني قد فقدت شيئاً ثميناً جداً وأحسست بالفراغ يحيط بي من كل صوب.
وفي غرفتي وجدت على المنضدة خطاباً فاختطفته في مثل سرعة البرق وتلوثه وأنا أكاد التهم ما فيه التهاما. ثم أعدت تلاوته من جديد وأنا مطرق ساهم غارق في لجة من التأمل العميق.
وإليك ما جاء فيه:
سيدي الأديب!
بينما أنا جالس ذات يوم مع زمرة من الأصدقاء في أحد الأماكن نتحدث عن أحسن مكان أستطيع أن اقضي فيه عطلتي الأسبوعية إذ ذكر أحدهم اسمكم وأثنى على جمال البقعة(875/57)
التي تزلون فيها وأوصاني حتى بالنزول في ضيافتكم. ولكني اعتذرت لعدم وجود تعارف سابق بيننا. غير أنه لمعت في ذهني في تلك اللحظة فكرة طريفة فقلت لأصدقائي: هل تراهنونني على أن اذهب إلى هذا الرجل دون أن يعرفه بي أحد أو أتلقى دعوة منه، فأمكث في ضيافته طول أسبوع كامل؟. . فقبلوا ذلك وتقرر تنفيذ الفكرة. التقطت عنكم وعن أسرتكم بعض المعلومات ثم حدث بعد ذلك ما أنتم به أدرى وأعرف. لقد كسبت الرهان اليوم. ولكنني أستشعر خجلًا شديداً كلما تذكرت ما جرى. اضطررت إلى أن أعترف لكم بالحقيقة. سامحوني. لن اقبل رهاناً كهذا بعد الآن وبخاصة إذا كنتم أنتم طرفاً فيه.
المخلص
فرديرك
خرجت من الغرفة وناولت الخطاب إلى زوجتي فألقت هي الأخرى أيضاًعليه نظرة خاطفة ثم صاحت: مدهش: مدهش!. وأعادت تلاوته ثانية.
وبعد أن أرسلت مرتا تنهيدة عميقة أدارت رأسها نحوي وقالت:
- مهما يكن فقد كان إنساناً نبيلاً حقاً!.
أحمد مصطفى(875/58)
العدد 876 - بتاريخ: 17 - 04 - 1950(/)
صور من الحياة:
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
قلت لصاحبي: ما بال هذا الفتى يصعر خده في كبر ويتطاول في صلف، وينظر إلى هذا الناس في احتقار كأنه يرمق بعوضة ضاوية عرجاء؛ ثم هو يتأنق في زينته ويزهى في إهابه؛ على حين أنه ما برح في أول الطريق لم يبلغ الغاية التي تصبو إليها نفس، ولا سما إلى المنزلة التي يفرح بها قلب.
فهمهم صاحبي في أسى كأنما يحدث نفسه: آه لو انشق عنه أعاب الإنسان لرأيت من خلاله صورة كلب! إن الإنسانية - يا أخي - حين تتهاوى تسل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
قلت: وماذا عسى أن يكون شأنه؟
قال: إن له لقصة فيها عبرة للعقل وعظة للقلب.
فقلت: هاتها.
قال: آه لو رأيت هذا الفتى وهو صبي في فجر الحياة يضطرب في دار عمه، يفتش في زواياها عن حنان الأم فلا يجده، ويبحث في أركانها عن عطف الأب فلا يلمسه، لأنهما ماتا عنه طفلا وخلفاه بين يدي عمه. وشعر الصبي - منذ أول العمر - بأن الحياة خاوية من الرحمة خالية من الشفقة، لا تنبض بالسعادة ولا تخفق باللذة، فنزل عن طفولته كارها، وعاش في دار عمه حيناً من الزمان، وعمه رجل فيه قسوة الطبع وجفاء الخلق، يحس وطأة الضيق ويستشعر شظف العيش، ومن ورائه أولاده يستحثونه إلى غاية فهو يستل قوتهم من برائن الفاقة في جهد، وينتزع اللقمة الجافة من مخالب الفقر في كد، وهولا يرى في أبن أخيه إلا عالة تثقل كاهله وتكثر من عياله، فرماه بالجفوة واخذ بالعنف. وسرى داء الأب إلى أبنائه فتدافعوا إلى أبن عمهم يقذفونه بالسباب ويلطمونه بالقسوة، يدعونه عن لطعام ويدفعونه إلى العمل، فعاش عبداً بين سادة غلاظ شداد يتمنى الخلاص فلا يبلغه،(876/1)
ويرجو المفر فلا يناله، وإن في قلبه أسى يسلبه القرار، وإن في نفسه ذله ترغمه على الصبر.
وأحس الصبي بالضوى من أثر الجوع، وشعر بالضنى من أثر الإرهاق، وأصابه الكلال من شدة الغلظة، فانطوى على كراهية تؤج في صدره، وانضم على مقت أبنائه مقتاً ينفث فيه روح الشر والانتقام، ثم عقد العزم على أمر وإلى جانبه صبي في مثل سنه يعينه على شأنه ويزين له الرأي ويسول له أن يطيرا معاً إلى غير غاية.
وعند مطلع الفجر هب الرجل - كدأبه - ينادي أبن أخيه، عبد الدار، ليقذف به - كشأنه أبداً - في غمرة العمل الشاق العنيف، فما راعه إلا أن يرتد إليه صدى صيحاته ثم يتلاشى في سكون الدار. وأزعجه أن يرى الصبي العاق يصم أذنيه عن ندائه لأول مرة في حياته، فأندفع يزمجر يريد أن يبطش بالصبي اليتيم، غير أن الصبي كان قد فر من بين يديه الغليظتين، فثارت ثائرته وأضطرم غضبه على أن ينفلت الطير من شباكه وهو يرى ولا يستطيع أمراً.
وأحس الأسير الذي ولد مكبلاً في قيود ثقال. . . أحس بالحرية التي لم يتذوقها أبداً فأنطلق يشدو ويثب ويضحك وإلى جانبه صاحبه يشاركه نوازع نفسه الطروب، ويشاطره أفراح قلبه الغض
وهبط الصبي القاهرة - بعد أيام - فتاه في لجة المدينة، وتقاذفته أمواج الحياة، لا يستقر في مكان ولا يهدأ إلى عمل، ثم ساقه الحظ إلى دار سيد من ذوي الثراء والجاه، فراح يقلب ناظريه فيما حواليه من رواء وأناقة وقد خلبته أبهة المكان وسحرته روعة الدار وأذهلته هيبة العظمة، فامتلأت نفسه رهبةً وخشوعاً. ووقف أمام سيده، سعادة البك، فاضطربت روحه من خوف، وارتعدت فرائصه من فرق، وتلجلج لسانه من فزع، ورأى البك الصبي القروي يوشك أن يتناثر من رعب فهم من مجلسه يريد أن يهدئ من روعه؛ ولكن خيل للصبي أنه هم يبطش به حين آذاه ما سيطر عليه من ارتباك وخوف، ففزع خشية أن يصفعه السيد في غلظة مثلما كان يصفعه عمه من قبل، فزلت قدمه فهوى فأنطرح على الأرض؛ فابتسم سعادة البك لما رأى، ثم أخذ يسكن من جأشه بكلمات فيها الرقة والعطف حتى أفرخ روعه واطمأنت نفسه. لقد شهد الصبي - إذ ذاك شيئاً لم يره أبداً فقال لنفسه (يا(876/2)
عجباً! أفي الناس رجل يعطف علي أنا الضائع المسكين؟ لطالما شعرت بأن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس أشياء لمستها في عمي الفظ الغليظ!
واندفع الصبي في عمله يتوثب نشاطاً ويتألق إخلاصاً، لايني عن الطاعة ولا يتريث عن الخضوع، حتى رضى سيده واطمأن فحصه بفضل عنايته وشمله بفيض من عطفه، فسرت سمات الحياة في عروقه، وتوهجت علامات العافية في وجهه، وانسربت معاني الصحة في دمه، فبدا وثيق الأركان صلب العود جياش الحركة خفيف الظل.
ورأى البك في الصبي القروي شمائل حببته إليه وقربته منه، فعهد إليه أن يحرس أبنه الأوحد في غدواه ورواحه ليدفع عنه الأذى ويصد عنه السوء. وأبن سعادة البك واهي القوى من الترف، مضعضع العصب من دلال، رخو العود من رخاء، مسلوب العزم من رفاهية.
ثم تغالي السيد فألحق القروي وأبنه المرفه في مدرسة واحدة ليدرأ واحد عن واحد شر التلميذ وعادية المدرسة، فانطلقا معاً والخادم يتبع سيده في ريث ويقلب البصر في لباسه الإفرنجي الأنيق يتيه في زهو ويتخلع في خيلاء وهو لا يكاد يصدق أنه قذف عن كاهله أعباء الريف وشقاء الحقل ليكون أفندياً يتأنق في زيه ويختال في أبهته. . .
وانطوت السنون فإذا الصبي القروي ينكب على الدرس في نهم لا يهمل ولا يتمهل فيسبق أقرانه في سهولة ويسمو على أترابه في يسر. وإذا أبن النعمة يتراخى من ضعف وينحط من كسل فيتخلف عن الركب فيبغض المدرسة ويمقت الكتاب ويحتوي القراءة، ثم يندفع في شبابه الأول ليرتدغ في أسباب له والعبث وسبله من أمامه معبدة ميسرة، ثم ينصرف عن المدرسة إلى غير رجعة
ورأى البك فرق ما كان بين أبنه الغض الجميل وبين أبن القروي الفض الغليظ، فغاضه أن يسبق الخادم سيده، وأن يسمو الوضيع على الرفيع، فتكشفت إنسانيته الرقيقة عن حيوانية جارفة تصفع الخادم وقد شب ونما غرسه وشدا طرفاً من العلم. . . تصفعه فتذيقه فنون من القسوة والغلبة، ثم تجذبه من المدرسة إلى الدار، ثم تدفعه من الدار إلى الشارع
واستحالة صورة البك، السيد الطيب الرقيق. . . استحالة صورة - في لمحة واحدة - في(876/3)
عيني الفتى القروي إلى صورة بغيضة إلى نفسه كريهة إلى قلبه، هي صورة عمه الفظ يوم أن كان يذيقه فنوناً من القسوة والغلظة في غير ذنب ولا جريرة
الآن، بدا للفتى القروي أن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس، أشياء لمسها - زمان - في عمه الفظ الغليظ.
وتاه الفتى القروي مرة أخرى في لجة المدينة - وتقاذفته أمواج الحياة، ولكنه لم يلق السلم وفي نفسه أن يسعى ليكون في مثل ما كان فيه من نعمة وترف في دار سيده. ولم لا! وهو قد سبق ابنه في الدرس وغلبه في التحصيل وفاز عليه في العلم، فراح يفتش عن عمل يسد به رمقه ولا يحول بينه وبين المدرسة.
وذاق الفتى بين عمله الجديد وبين المدرسة. . . ذاق مرارة الضيق ولذغ الحرمان، ليرضى بالقليل ويقنع بالتافه ويصبر على الشدة، ومن أمامه أمل جياش يفعم صدره فيصرفه عن بعض ما يقاسي من فاقة وشظف، فأندفع إلى غايته في غير هوادة ولا لين
واشتاقت نفسه إلى لقمة طرية ناعمة، فأخذ يدخر من عوز ويوفر من فقر، حتى جمع - في أيام - قروشاً اشترى بها قطعة من لحم لا تغني من جوع ولا تسمن من غثاثة - غير أنها بعثت في نفسه روح البهجة والطرب، فأنطلق إلى حجرته الضيقة المظلمة، يطهوها بنفسه لنفسه وفي قلبه السعادة والغبطة وفي روحه اللذة والفرج. وامتلأت الحجرة بروح الشواء وروح المرح في وقت معاً
يا للعجب! إن قطعة من اللحم لا تشبع طفلا قد أترعت حياة الفتى المحروم اللذة والسعادة!
وأعد الفتى لنفسه مائدة شهية لا تنضم إلا على قطعة من اللحم ورغيف واحد، ثم أخذ يمتع نفسه بالنظر إليها حيناً وينسم ريحها العبق حيناً أخر، فما أفاق إلا على قط فظ غليظ ينقض عليها فيلتهمها دفعة واحدة، فهب الفتى المحروم من مكانه مذعوراً ثائراً يقذف الحيوان الشره بما حواليه في غير وعي ولا عقل.
ورأى الفتى غريمه ملقى على الأرض يصرخ من شدة الألم فأندفع إليه في غيظ يشد وثاقه وفي رأيه أنه قد سلبه متعة نفسه وحرمه لذة بطنه. ثم سيطر عليه جنون الشهوة. . . الجنون الذي بعث فيه روح الشر والانتقام من حيوان ضعيف، الجنون الذي نزع عنه ثوب الإنسانية الرقيق ليتبدى في أوضع مراتب الحيوانية. ووضع الفتى المحروم القط الضعيف(876/4)
في هاون ثم اندفع يدق عظمه في غلظة وفضاضة وتناثر الدم يلطخ ثوبه ووجهه ليصمه بالخسة والضعة، ويلصق بجدار الحجرة ليشهد أن إنساناً قد صفرت نفسه من الرحمة وخوي قلبه من الشفقة فأنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية.
ولا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية.
كامل محمود حبيب(876/5)
تصحيح تصحيف وتحرير تحريف
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
إذا كان الإقرار بالمنة واجباً فالشكر عليها أوجب، وأقولها كلمة صادقة مخلصة مدوية غير غال فيها ولا مفرط: أن للأستاذ الأديب المحقق (عبد السلام محمد هرون المدرس بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول) على اللغة العربية وآدابها منناً غراً وأيادي بيضاً يجب على كل من يمت بصلة للغة الضاد أن يشكرها ويثني عليها؛ فقد دأب على خدمة هذه اللغة بتنقيح المفيد من كتبها وتحقيقه وشرحه، ولقد بذل قبل اليوم جهداً جاهداً في (كتاب الحيوان للجاحظ) فأحيا مواته وأبرز محاسنه، ومهد للناس سبل الانتفاع به، وقد كان الطريق إلى هذا الكتاب قبل أن يبذل فيه ذلك الجهد المشكور طريقاً وعراً شائكا يصد المتأدبين عنه في أسف وحسرة.
كم من رياض لا أنيس بها ... تركت لأن طريقها وعر
ثم أخرج للناس بعد ذلك من ذخائر العرب (كتاب مجالس ثعلب) وكانت نسخته المحفوظة بدار الكتب المصرية مشوهة سقيمة قد عبثت بها أيدي البلى، فحرم الناس ثمرة الاستفادة منها، فتصدى لها الأستاذ نضر الله وجهه، واستعان بعقله وفكره وأدبه وغزارة مادته وكثرة إطلاعه وبالكثير الجم من المراجع المختلفة من كتب اللغة وعلومها وآدابها وغير ذلك من المصادر والكتب القيمة في شتى العلوم والفنون، وقدمه للقراء بعد ذلك يانع الثمار داني الجني في حسن معرض وسلامة ذوق.
ولما كانت المطالع العربية لا تخلو من تقصير ولا تسلم من زلل مهما عني بإصلاح نماذجه - هذا إلى ما في نسخة الكتاب الأصلية من تشويه - رأيت في ذلك الكتاب بعض كلمات محرفة آثرت أن أنبه القراء إلى تصويبها مع اعترافي بالفضل العظيم للأستاذ (عبد السلام) جزاه الله خير الجزاء وجزاء الخير.
(1) في صفحة 7 بيتان لعبد الرحمن القس في صاحبته سلامة، وصدر البيت الأول
(أهابك أن أقول بذات نفسي) وصوابها بذات كما في الأغاني وغيره وكما يقتضيه المعنى، وهذا تحريف سهل ظاهر
(2) ص 39 في أول السطر العاشر ضبط اسم (مربع) هكذا (مربْع) بفتح الميم والصواب(876/6)
أنه (مربْع بكسرها) وفي القاموس وشرحه (تاج العروس) ما يأتي:
(ومربع) كممبر لقب وعوعة بن سعيد بن قرط بن كعب أبن عبد بن أبي بكر بن كلاب رواية جرير الشاعر، وفيه يقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتلُ مربْعا ... أْبشر بطول سلامة يا مربْع
(3) في ص 185: وأنشد أبو العباس لأبي محمد (اُلحدَلي) وعلَّق على كلمة (اُلحدَلي) المحرفة بأنها نسبة إلى حُديلة من الخروج. . . والحق أن كلمة (اُلحدَلي) محرفة على (اُلحذلي) وقد ذكر هذا الاسم صواباً في صفحتيي 232، 234 مصوبة عن تحريفها بكلمة (الحندلي) ونقل الاسم صواباً في الصفحتين من لسان العرب - وأبو محمد الحذلي هذا هو عبد الله بن ربعي بن خالد الفقعسي راحز إسلامي مكثر مجيد
(4) حكيم بن معية الربعي: ضبط في الكتاب ص361 بفتح الحاء وكسر الكاف (حكيم) على صيغة التكبير، والصواب أنه بضم الحاء وفتح الكاف (حكيم على صيغة التصغير - وفي القاموس وشرحه (تاج العروس) في مادة (حكم) في المسمين باسم (حكيم) على وزن (زبير) ما يأتي: وحكم بن معية الربعي شاعر راجر أموي كان في زمن جرير والفرزدق والعجاج - وكذلك ضبطه بصيغة التصغير أبو عبيد البكري صاحب التنبيه على آمالي القالي، وكذا ضبط في (النقائص) ص 10 عند قول جرير من قصيدة:
ستعلم ما يغني حكيم ومنقع ... إذا الحرب لم يرجع لصلح سفيرها
(منقع) أحد بني نضالة من بني ربيعةأيضاًوكان كذلك يعين على جرير. وروى صاحب الأمالي ج3 ص76 قال: ومن شعر حكيم يرثي أخاه عطية بن معية:
ولو لم يفارقني عطية لم أهن ... ولم أعط أعدائي الذي كنت امنع
شجاع إذا لاقى ورام إذا رمى ... وهاد إذا ما أظلم الليلُ مصدعْ
سأبكيك حتى تنفذ العينُ مائها ... ويشفى مني الدم ما أتوجع
ونسب هذه الأبيات المرحوم الشيخ سيد بن علي المرصفي في شرحه للكامن للفرزدق يرثي صديقه ونديمه عطية بن جمال من سادات بني تميم ونقل ذلك من الكامل وشرحه جامع ديوان الفرزدق (لأستاذ الصاوي). غير أني أرجح رواية الأمالي وأن الأبيات لحكيم أبن معية يرثي أخاه كما أقر ذلك شارح الأمالي على أن المبرد صاحب الكامل نسب(876/7)
الأبيات لرجل قال: (أحسبه نميمياً) ولم يسمه، فزاد بعضهم قولهم (هو الفرزدق) وعلق عليه المرحوم الشيخ المرصفي بقوله:
يرثي صديقه ونديمة عطية بن جمال. . وأرى أن المعاني في الأبيات الثلاثة ليست مما يقصدها أبو فراس في رثائه فإنه لا يقر بوهن أو هوان، ولا يعترف بخنوع أو ضعف، أو إن مات أكرم الناس وأحدبهم عليه، فهو قوي جلد حتى في رثائه، عزيز أبي حتى في أحزانه، منيع صليب حتى في مصائبه، وأسمع قوله في رثاء أولاده وبنيه (وموت الولد يوهي القوى ويفت في العضد ويقرح القلب والكبد):
فلا تحسبا أني تضعضع جانبي ... لفقد امرئ لو كان غير تضعضعا
بني بأعلام الجزيرة صرعوا ... وكل امرئ يوماً سيأخذ مضجعا
لعمري لقد أبقى لي الدهر صخرة ... يُرادًي بيّ الباغي ولم أك أضرعا
ويقول لزوجه (نورا) من قصيدة في رثاء ابنين له منها:
فما ابناك إلا ابن من الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنينُ المآتم
والبغدادي صاحب (خزانة الأدب) لم يتعرض لضبط حكيم وإنما ضبط اسم (معية) مع وضوحه
والحكيم بن معية هذا أبن شاعر راجز كأبيه اسمه عمر ذكره المرزباني فالمعجم ونسب له البيتين:
خليلي أمسى حب حرقاء عامدي ... وفي القلب منه وقدة وصدوع
ولو جاورتنا العام خرقاء لم نُبل ... على جدْ بنا أَلا يصوب ربيع
وفي كتاب (الصناعتين) في باب المبالغة ص290، قال: ومن جيد المبالغة قول عمرو بن (حاتم): خليلي أمسى حب خرقاء. . . البيتين ثم قال: قوله: على جدينا) مبالغة جيدة، وكلمة (حاتم) في الصناعتين مصحفة عن اسم (حكيم) وربما ذكر هذان البيتان ضمن قصيدة عينية روى بعضها أبو على القالي في الأمالي ص 3 ج1 ثم يختلف في نسبتها إلى عمرو بن حكيم أو إلى أبيه أو إلى قيس بن ذريح، ونسبها القالي في ص 60 ج2 للضحاك بن عمارة، والحق أن هذه القصيدة مزج فيها أبيات لهؤلاء الشعراء اتفقت في البحر والقافية والروى، وأكثر أبيات القالي تنسب إلى الضحاك بن خفاجة العقيلي(876/8)
(5) وفي ص 447 ما يأتي:. . . دخلت أنا وأبو محمد التيمي وأشجع بن عمرو وأبن رزين (الحراني). . . وعلق في الهامش بقوله:
(3) في الأغاني (الخراساني) والحق من وراء الحراني والخراساني وإنما هو (الخزاعي) والمراد الشاعر المشهور محمد بن عبد الله أبن رزين الخزاعي المعروف بأبي الشيص بن عم دعبل بن على بن رزين الخزاعي، والحكاية التي ورد فيها هذا الاسم المحرف مذكورة في الأغاني ج17 ص 32 في ترجمة أشجع بن عمرو السلمي سمى أبو الشيص فيها (أبن رزين الخراساني). والراجح في نسبه أن أبو جعفر محمد بن عبد الله بن رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الله أبن بديل بن ورقاه الخزاعي، وجده أبو علي بديل بن ورقاء صحابي جليل تقدم إسلامه وكان من كبار مسلمة الفتح فقد أسلم هو وأبنه عبد الله يوم فتح مكة وشهد كلاهما حُنينا والطائف وتبوك، وتوفي بديل قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأبنه عبد الله بن بديل ورد هو وأخوه محمد في عسكر علي بن أبي طالب حيث سارا إلى صفين وقتلا هناك. وجده الأدنى رزين بن عثمان كان مولى عبد الله ابن خلف الخزاعي البصّري والد طلحة شهد وقعة الجمل مع السيدة عائشة وولى سجستان فتوفى بها سنة63هـ - وقد ترجم لأبن عمه دعبل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وصاحب الأغاني وأبن خلكان في وفيات الأعيان، وصاحب كتاب (معاهد التنصيص وغيرهم ونسبه في تاريخ بغداد مخالف لما في الأغاني والمراجع الأخرى التي نقلت عنه ومنها معجم الأدباء لياقوت، وقد رجحت ما في تاريخ بغداد لأنه ذكر جماعته من أقرباء دعبل وأبي الشيص ينتهي نسبهم إلى بديل بن ورقاء
وقد ذكر ياقوت النسبين ثم قال: والأكثر على هذا الذي ذكره الخطيب البغدادي. وفي الأغاني ج15 ص 204 ترجمة لأبي الشيص نقلها عنه صاحب معاهد التنصيص وقال أنه: محمد بن رزين ابن سلمان. -
والذي رجحه المحققون أنه محمد بن عبد الله بن رزين وأنه أبن عم دعبل أبن دعبل أبن علي لا عمه، وكان أبو الشيص من شعراء عصره متوسط المحل فيهم غير نبيه الذكر لمعاصرته لمسلم بن الوليد وأبي نواس وأشجع بن عمرو السلمي فحمل بالنسبة إليهم وانقطع إلى وانقطع إلى أمير الرقة عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي فمدحه بأكثر(876/9)
شعره، وقلما يروى له في غيره، ومدح الرشيد فلما مات رثاء ومدح ولده الأمين، ومدح أيضاً الأمير أبا دلف (القاسم بن عيسى العجلي أحد قواد المأمون ثم المعتصم، وتوفى أبو دلف ببغداد سنة 226). وكانت وفاة أبي الشيص سنة 296هـ وهو من أسرة عريقة في الشعر فقد عرف به كثير من أفرادها وإن لم تكن لهم نباهة ذكر، وحسبك بأبن عمه دعبل بن علي وأبنه علي بن دعبل شاعر، ومن هؤلاء بن أخيه علي أبن رزين بن علي، وقد ذكره المرزباني في المعجم، ومنهم أبن عمه سلمان بن رزين ابن علي. ومن هذه الأسرة إسماعيل بن علي أبن علي بن رزين (بن أخي دعبل) وكان متهماً بوضع بعض الأحاديث، ولد سنة 259 وتوفى سنة 352 بمدينة واسط، وله ترجمة في تاريخ بغداد -
ولأبي الشيص الأبيات الرقيقة المشهورة التي لو لم يكن له سواها لاستحق بها التقديم واستوجب التفضيل: وهي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أحد الملامة في هواك لذيذة ... شغفاً بذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
وكل الأدباء على نسبة هذه الأبيات إلى أبي الشيص كما في الشعر والشعراء والعقد الفريد والأغاني (ج15 ص 205) وشرح مقامات الحريري للشريشي، وفوات الوفيات وغير ذلك من كتب الأدب ولكن الأصفهاني في الأغاني (ج29 ص 242) نسب هذه الأبيات إلى علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن محمد ابن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان شاعراً غزلاً (في عصر المتوكل) وعجيب أن يرجح ذلك أبو عبيد البكري - ومن لطيف شعر أبي الشيص قوله:
يا حبذا الزًّوْرُ الذي زارا ... كأنه مقتبسٌ نارا
مر بباب الدار فاجتازها ... يا ليته لو دخل الدارا
نفسي فداء لك من زائر ... ما حل حتى قيل قد سارا
ومنه قوله:
وقائلة وقد بصرت بدمع ... على الخدين منحدر سكوب(876/10)
أتكذب في البكاء وأنت خلو ... قديماً ما جسرت على الذنوب
قميصك والدموع تجول فيه ... وقلبك ليس بالقلب الكئيب
نظير قميص يوسف حين جاءوا ... على لبانه بدم كذوب
فقلت لها فداك أبي وأمي ... رجمت بسوء ظنك في الغيوب
أما والله لو فتشت قلبي ... لسرك بالعويل وبالنحيب
دموع العاشقين إذا تلاقواْ ... بظهر الغيب ألسنة القلوب
ومن جيد شعره قصيدة يمدح بها ممدوحه عقبة بن جعفر، ولم أجدها مجموعة في كتاب فبذلت جهداً في لم شعثها وجمع ما تفرّق منها حتى اجتمع لي منها 25 بيتاً التقطتها منثورة من جملة مراجع منسوباً بعضها لأعرابي، ومهملا بعضها عن النسب (ومن هذه المراجع كتاب الصناعتين وأمالي ابن الشجري، وشرح الأمالي، وشرح المقامات وعيون الأحبار، ونكت الهميان للصفدي وغيرها: ومطلعها
لا تنكري صدىً ولا إعراضي ... ليس المقلُ عن الزمان يراضي
شيئان لا تصبو النساء أليهما ... حلي المشيب وحلة الأنفاض
حسر المشيب قناعة عن رأسه ... فرمينه بالصد والإعراض
ولربما جعلت محاسن وجهه ... لجفونها غرضاً من الأغراض
. . . ولقد أقول الشيبة أبصرتها ... في مفرقي فمنحتها إعراضي:
عني إليك فلست منتهياً ولو ... عممت منك مفارقي ببياض
هل لي سوى عشرين عاماً قد مضت ... مع ستة في أثرهن مواضي
ولقلما أرتاع منك وإنني=فيما هويت وإن ورعت لماضي
فعليك ما استطعت الظهور كلمتي ... وعليَّ أن ألقاك بالمفراض
ومنها يذكر المطايا التي حملته وحملت قاصدي ممدوحه:
كل الوجبتين لحومها ولحومهم ... فأتوْك أنقاضا على انقاض
ولقد أتتك على الزمان سوا خطا ... ورجعنا عنك وهن عنه رواضي
أن الأمان من الزمان وريبه ... يا عقبى شطَّا بحرك الفياض
بحر يلوذ المعتفون بسيله ... فعْم الجداول مترع الأحواض(876/11)
لأبي محمد المؤمل راحتا ... ملك إلى أعلى العلا نهاض
فيد تدفق بالغنى لصديقه ... ويدٌ على العداء سم قاض
هذا ولأبي الشيص أبن اسمه عبد الله (ذكره الخطيب البغدادي) كان من شعراء بغداد، وروي عنه بعض شعره عمرو بن بحر الجاحظ وغيره، وكان مولعاً يهجو أبي سعد المخزومي الشاعر (واسمه عيسى ابن خالد بن الوليد من ولد الحرث بن هشام المخزومي). ورثى محمد الجواد بن علي بن موسى الرضا المتوفى سنة 220 ورثى أبا تمام حبيب بن أوس المتوفى سنة 231
وعم أبي الشيص علي بن رزين والد دعبل شاعر مقل ذكره المرزباني ومن شعره قوله:
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن أمراً قد ظن منه بمنطق ... يسد به فقر امرئ لضمين
وقوله: أقول لما رأيت الموت يطلبني ... يا ليتني درهم في كيس مياح
فيا له درهماً طالت صيانته ... لا هالك ضيعة يوماً ولا ضاح
(مياح) اسم رجل يهجوه ويرميه بالشح.
(6) في ص600 سطر 9: أنشدني علي بن عبد الله للفضل ابن العباس اللهبي هكذا ضبط (اللهبي) بكسر اللام وسكون الهاء نسبة إلى لهب، والصواب أنه (اللهبي) بفتح اللام والهاء نسبة إلى أبي لهب، (كما هو القاعدة في النسب إلى المركب الإضافي المبدوء بابن أو أب كالبكري نسبة إلى أبي بكر) يريد الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب (واسمه عبد العزى) بن عبد المطلب بن هاشم أحد أعمامه صلى الله عليه وسلم. وكان الفضل هذا أحد شعراء بني هاشم المذكورين وفصحائهم المشهورين. أسلم جده عتبة يوم الفتح وشهد يوم حنين والطائف، وهو هاشمي الأبوين، وأمه آمنة بنت العباس بن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم، والفضل هو قائل الأبيات المشهورة التي أولها
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
يريد ببني عمه بني أمية بن بد شمس بن عبد مناف كما في الحماسة والكامل للمبرد وغيرهما. ولقد اتصل الفضل بعبد الملك بن مروان وابن الوليد ومدحهما. وله ترجمة في الأغاني وفي أول الجزء الخامس عشر.(876/12)
ومن شعره قوله (كما في شرح نهج البلاغة):
زعم ابن سلمى ضرني حلمي ... ما ضر قبلي أهله الحلم
إنا أناس من سجيتهم ... صدق الحديث ورأيهم حتْم
لبسوا الحياء فأنت تحسبهم ... سقموا ولم يمسسهم سقْم
أني وجدت العدم أكثره ... عدم العقول فذلك العدم
والمرء أكثر عيبه ضرراً ... خطل اللسان وصمته حكم
أما بنو لهب بالكسر فهم قبيلة من الأزدفي اليمن تنسب إلى لهب بن أحجن بن كعب بن الحرث بن عبد الله بن نضر بن الأزد، وهم أهل العيافة والزجر، وفيهم يقول كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد رد علم العائقين إلى لهب
ويقول غيره:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرْت
فهم بعيدون عن أن يفتخروا بمثل هذه الأبيات التي في المجالس ص600 وإنما يفخر بها البيت النبوة. على أن هذه الأبيات تنسب أيضاً للفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم كما في معجم المرزباني نقلاً عن أبي البكر الباقلاني وقد شهد الفضل هذا يوم الفتح وحنين وثبت معه صلى الله عليه وسلم حين أنهزم الناس وشهد معه حجة الوداع وكان رديفه يومئذ وتوفى في طاعون عمواس بالشام سنة 28هـ
(تنبيه) عقبة بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي ممدوح أبي الشيص المتقدم من أسرة سرية، وجه جعفر كان من أماثل بغداد وسراتها وكان أخوه العباس بن جعفر من ولاة الأعمال للرشيد، ولدعبل فيه مدائح كثير، وكان أبنه الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الكوفي أديبا شاعراً ولي الأهمال الجليلة في الدولة العباسية وكان مع هذا قائداً مضفراً منصوراً (معجم المرزباني ص322).
وأختم القول كما بد أنه بأن أهدي الثناء الجميل والشكر الجزيل للأستاذ النابغة البارع (عبد السلام) ومني عليه أطيب التحية وأزكى السلام
أحمد يوسف نجاتي(876/13)
الأستاذ سابقا بدار العلوم وكلية اللغة العربية ثم بدار المعلمين
وكلية الملكة عالية بمدينة بغداد(876/14)
الشعر الذي أريده. .
للأديب غائب طعمة فرمان
للكاتب الفرنسي (أندريه موروا) أقصوصة ممتعة، وجد طريفة. . فحواها أن رساماً أصاب رسومه الكساد، وأعرض الجمهور عن شرائها والإقبال عليها، فغرض من هذا الحال، وغمه الأمر، وتعاقبت على صدره الهموم. . فذهب إلى صديق أديب يستشيره في الأمر، ويطلب حكمته في ساعة الحرج واختلاف المصائب عليه!، فأوعز إليه الأديب الأريب أن يغير أسلوبه في الرسم، ويعقد ما وسعه التعقيد، ويغمض مسرفاً في الغموض، فبدلاً من أن يرسم وجهاً فيه لآلاء الجمال، وفتنة التناسق، وإغراء الواقع، يشذ فيرسم وجهاً ذا أربع أعين وأنفاً تحت فم كبير، وإذناً ملتصقة في الجبين!!. . وهكذا يطلق لمخيلته العنان، ويصفع وجه الواقع، ويلعن أبا الحقيقة!. . وعجب الرسام المسكين من هذا الاقتراح، وعده مزاحاً ودعابة لولا لهجة الأديب الصادقة، وحماسه الملتهب!
وقفل الرسام إلى مرسمه عاملا بنصيحة الأديب، مبدياً كل شذوذ واغراب، حتى إذا تم له الأمر، وهيأ صوراً غامضة مغرقة في الغموض أعلن بمساعدة الأديب في الصحف عن ميلاد رسام عبقري من طراز غريب، سيبدل مجرى الفن، وتقف الإنسانية مذهولة مما أنتجه. . كما أعلن أن هذا الرسام العبقري الفذ سيفتح معرضه في اليوم الفلاني!
وأثار الإعلان فضول الناس، وحبهم لكل عجيب وغريب، وتهافتهم على مواطن الشذوذ والغرابة، فإذا بالمعرض يزدحم بآلاف من الناس، كلهم دهش من هذه الصور العجيبة، قادح زناد ذهنه ليظفر بالغابة منها!. . والظاهر أن الأديب كان من طراز عجيب أيضاً في الحيلة وسعة الدهاء، فقد عرف أن الجمهور لا بد من أنه سيسأل الرسام عن حقيقة هذه الرسوم ومغزاها البعيد المدى، فلا بد من جواب مدهش، فأتفق الاثنان على أن يكون الجواب: (هل رأيت في حياتك نهراً؟!). وقد وقع ما كانا ينتظرانه، فقد سأل الرسام عن هذه الرسوم فوقف وقفة صارمة، وقال بلهجة غامضة (هل رأيتم في حياتكم نهراً؟!) وانصرف، تاركا الجمهور المسكين في غيبوبة عن الوعي، مذهولا مما يرى. . . سبحان الله! إن هذا الرسام لمن طراز أعجب من العجب. فما أشد غرايته، وما أشد سلوكه، وما أعجب تفكيره. . لا. . لا. . لابد أن يكون من وراء جوابه الغامض سر محير تكمن فيه(876/15)
العبقرية والموهبة الفلسفية، ولابد من أن يكون لهذه الرسوم معان غامضة لا يستطيع العقل المتوسط أن يدركها، ويبلغ شاطئيها الساحرين. وفي اليوم التالي كانت الصحف تتحدث عن مولد هذا الرسام العبقري العظيم!!
وأغلب الظن أن بعض إخواننا الشعراء يؤمنون بهذا المبدأ إيماناً مفرطاً تتداعى أمامه كل حقيقة من حقائق الدنيا. . ومع أن الزمن يتقدم، والحياة تعرض علينا في كل يوم شيئاً جديداً، فإن الأخوان - حفظهم الله - يدخلون في هياكل غزتهم، ويطلقون في جنباتها بخور الأحلام العاجزة، والأوهام الواهية، ويعيدون على مسامعهم قصة الرسام وطريقة ظفره بالشهوة وذيوع الصيت يحاولون تقليدها بتكلف الغرابة وافتعال الغموض. .
هؤلاء الناس يجب أن يسقطوا من حساب الشعراء، فهم كالنباتات الطفيلية تعيش في رياض الأدب الفيحاء. . . والحياة ذاتها لا تقبل هذا الغموض فهي دائماً سهلة المآخذ، طيعة الفكر. وكل شذوذ عن الحياة ومخالفة لمنطقها يخفى نقصاً في الإدراك ومرضاً في القلب. . وخير العواطف الإنسانية وأعمقها وأكثرها صدقاً، وأرحبها آفاقاً تلك التي تصدر عن قلب سليم حساس.
إذن فنحن مطالبون بإهمال هذا الغموض، وإسقاط كل تعقيد من الشعر، لأننا بذلك نسقط كل تكليف وكذب ومراوغة وشذوذ. . والبساطة تحيط بنا أينما سرنا، فآفاق الشاعرية في الكون الجميل المتناسق العذب النغمات، وفي أعوار النفس البشرية التي لا نجد فيها إلا كل سهولة ويسر لا في تلك النوبات الهستيرية عند بعض خلق الله! ولا وراء اللعب بالألفاظ، والتقعر في المعاني، وخوض اليم لاستخراج الصور الغريبة. . وأعذب النغمات تلك التي تنساب في اتساق ونعومة؛ تلك التي تغمر القلب الإنساني بفيض من العذوبة والحنان؛ تلك التي تعمر الجانب المهدم من الإنسانية بمعاول البغضاء والشنآن!
ودعاة الغموض في الشعر مشغوفون لحد الجنون بالصور الشعرية يخلقونها من أية مادة كانت، ويمتاحونها من أي نوع من المياه حتى ولو كانت مستنقعاً، ويسلكون إليها سبلا مليئة بالأشواك! هم يحاولون أن يخلقوا عوالم جديدة من الصور ولو كان أساسها من رمال، وجدرانها من قش!! هؤلاء ليسوا بعيدي النظر، ولا دقيق التفكير؛ لأنهم يبدءون عملهم الأدبي من حيث يجب أن ينتهوا إليه؛ فلا يدركون قيمة الألفاظ ولا قدسيتها، فقد أقعدهم(876/16)
العجز وفساد الطبع عن أسكناه العوالم التي تخلقها الألفاظ. فاللفظ الشعري إذا وضع في موضعه واتسق مع موسيقاه ومعناه الوضعي خلق وحده صورة شعرية جميلة تنطلق في الأجواء الوجدانية بشائر لأحاسيس جديدة. والشاعر الحق كما يقول شارلتن (من تميز عن سائر خلق الله بإدراكه لقيمة الألفاظ، ولما فيها من قوة وإبداع) فهم - إذن - في نظر شارلتن ليسوا شعراء!
وما دامت آفاق الشاعر في الحياة والكون وليست في الألفاظ التائهة والتعابير العمياء فهو مكلف بخلق أشياء جديدة أو قل نغمات جديدة. . فلقد آن لنا أن ننادي بإخراج الشعر العربي من القوالب القديمة التي تصب معاني متبلورة لا طعم هلا ولا لون! لقد آن لنا أن نهم أن القصيدة الشعرية صورة لتجربة وجدانية لا خلاصة من خلاصات التجربة، صورة يجب أن تبرز في جميع معالمها، وتتألف جميع ملامحها وألوانها في التعبير عن التجربة الشعورية. . فالتجربة الشعورية ليس القصد منها استخراج قانون، أو الاستفادة من موعظة! فتلك وجهة نظر الأخلاقيين لا الشعراء.
والشعر العربي فقير إلى الإخراج. ومن هنا أنفتح باب كبير شغل النقاد العرب زمناً طويلاً وهو (باب السرقات). . ذلك لأن تلك المعاني المودعة في ألفاظ قليلة كمعاني حكية، أو كنتائج لتجارب وجدانية مجهولة، سهلة السرق يتصرف بها أي شاعر وينقلها في ثوب جديد!
أنا مؤمن بأن النفوس الإنسانية تتغاير سمات وملامح، وتختلف أمزجة وطبائع. . فمن الحماقة تطبيق علم النفس على التجارب الوجدانية. وإذا كان لابد من استعماله بعض الشيء فيكون بعد انتهاء التجربة على النصوص الأدبية لا قبلها لإدراك بعض الخصائص العامة فحسب. . ونحن سنجد أن احتفال الشاعر بطريقة من طرائق التعبير أو بلفظ من الألفاظ الشعرية راجع إلى دخيلة نفسه وطوايا ضميره وقد لاحظ النقاد أن (بودلير) كان يستعمل كلمة (أسود) وما يؤدي معناها كثيراً في شعره. ولا شك في أن هناك صلة وثقى بين حياة بودلير البوهيمية الصاخبة وخروجه من معترك الحياة محطم النفس، خائر القوى تتناهبه عوامل السأم والضجر والخيبة المريرة، وبين تلك الألفاظ التي تعبر عن واقع حاله وآلام نفسه. . وكذلك كان اوسكار وايلد الذي لقي من المجتمع اضطهاداً منكراً، وجبروتاً(876/17)
مؤلماً، ونفوراً مقيتاً، نراه يستعمل لفظ (المجتمع الحاضر) أو العصر الحاضر كثيراً في مسرحياته وأقاصيصه، ويستعمله بسخط وازدراء، وفي موضع تشف وانتقام وكراهية!
وما دام الأمر كذلك فإننا سنجد عند الشعراء العظماء شخصية فنية متمايزة بخصائصها لها لونها الخاص، وكيانها المحدد وأدع القارئ يفتش عن الشخصية الفنية بين هذا الجمع الزاخر من المتشاعرين لعله يظفر بما لم أظفر!!
الحق أن الشخصية الفنية في خطر. وإذا قلنا هذا فقد قلنا إن الشعر العربي يمثل الآن مجاعة في الوجدان. . إن الشعر العربي يقاسى أقسى أزمة؛ ذلك لأن الذين يعالجون قرض الشعر لم يفهموا حتى الآن ما يسمى بالصدق الوجداني. . فهم لا ينفذون إلى أعماق نفوسهم ليكتبوا عن انعكاسات العالم فيها، واستجابتها لما يحيطها من الأشياء. . بل علموا كالأوراق اليابسة فوق السطح ليجتروا عواطف غيرهم، ويعيدوا على مسامعنا تجارب الآخرين بصورة مشوهة، ونغم بال. . واختفت في عالم الشعر الشخصية الفنية ولاح شاعروا واحد فجع بشيء لا اعرفه فظل يبكي بدموع غزار!
وأصبح نقادنا حفظهم الله - يطلقون الألقاب جزافاً، ويصفون الشعراء صفات مبهمة. وأصبحت كلمات الإبداع والعبقرية والصدق والرفعة في الأسلوب، والسمو في العاطفة حقيرة رخيصة تباع بالجملة في أسواق الوساطة والشفاعات
يخيل إلي أننا لم نظلم كلمة مثل ظلمنا لكلمة (العاطفة) فقد شاء ربك أن تصبح هذه الكلمة القدسية مبتذلة تلوكها الألسن، ولا تفهم حقيقتها العقول!. نحن نصف العاطفة بالصدق تارة، وبالضيق أخرى، وبالإبهام تارة أخرى. . فما هي تلك العاطفة؟!
العاطفة عندي هي الإدراك الوجداني تقابل الفكر وهو الإدراك العقلي. . فالعاطفة هي العين التي تهدينا قلبياً إلى ينبوع من الحقيقة والجمال. . ونحن في حياتنا الوجدانية نستشير قلوبنا أكثر مما نستشير عقولنا!! وما دامت العاطفة إدراكاً وجدانياً فهي تختلف آماداً، وتتباين في عمقها واتساعها. . فهناك إدراك ضيق مريض يدور حول نفسه ولا يخرج إلى رحاب الإنسانية الطليقة؛ كذلك الإدراك الوجداني القائم على اللذة وحب الذات حين ينشأ الحب بين فتى وفتاة ينحصر في حدود ذاتهما، ويتلون بلون مزاجهما، فذلك اللون من الإدراك أناني مفرط في الأنانية. ونحن نعلم حين يصاب شاعر من شعرائنا بهذا المرض(876/18)
الوبيل يبيع العالم بثمن بخس، ويخيل إليه الوهم والإدراك الضيق أن العالم كله في كفة، وهو وحبيبته في الكفة الأخرى!. وكم من شاعر قدم العالم المسكين قرباناً لقدمي محبوبته بوقاحة وعدم مبالاة كان لديه مصائر البشرية. . . لهذا فإنا أحقد على هذا الحب؛ أولاً، لأنه إدراك فاسد وأنانية محضة، وثانياً: لأنه قصير الأجل يترك وراءه حقداً على العالم وكراهية للبشر، وثالثاً: لأنه يصرف الشاعر عن الإدراك الكلي للوجود، وبسجنه في دائرة لا تتعدى محبوبته فيظل يسبح بحمدها، ويقدمها إلى حد العبادة. . وهو بعد ذلك لا يخلو من كذب ورياء ومبالغة وخداع!
فأنا أكره هذا الحب الضيق كما أكره التعقيد. . بل أريده حباً أوسع أفقاً، وأبعد غوراً، وأرفع إدراكاً.
أنا لا أنكر على الشاعر أن يجب، وان يفرط في الحب، وأن يضطرم بين جوانحه عواطف وأحاسيس، وأن تنبت في روض مخيلته أمال وأحلام. . ولكن الجميل في الشاعر أن يجعل من حبه المحدود الضيق وثبته إلى عوالم جديدة من التعاطف الوجداني. . أن ينبثق في أعماقه ذلك الهيام الصوفي في حب أعم وأكثر شمولاً، وأوسع عاطفة فيتحول غزله إلى معنى رمزي جميل هو حب الإنسانية كلها والوجود جميعه. . هنالك تشرق في دنياه شموس من الأمل والرجاء. . هنالك يحلق في سماوات من الرفعة والسمو، وتصبح كل قصيدة من قصائد شعره كما قال شارلتن (كشفاً جديداً وتنبؤاً لحوادث المستقبل).
لا بأس بأن يتغزل، وأن يرسل من أعماق قلبه نغمات وألحاناً عذاباً، ويقدم من عصارة روحه رحيقاً لأرواحنا الظامئة - دائماً - إلى الخمرة الخالدة. خمرة الحق والجمال! وعند ذلك يولد الشعر الذي يستحق أن ينشد في موكب الإنسانية وهي سائرة قدماً إلى الشاطئ الجميل. . والإنسانية دائماً مشتاقة تواقة إلى مثل هذا الشعر كما تحتاج الجموع المجهدة إلى الراحة والظل الظليل، وكما تتوق النوق الظامئة إلى النمير العذب. .
هناك تتحطم الحدود أمام الشاعر، وتزال العقبات، وتصبح روحه ملكاً للبشر جميعه لا لوطن بعينه ولا لأمة واحدة. . وحينئذ تختفي أمامه الحزن والقنوط، وتلوح لناظريه بشائر الأمل والرجاء الجميل، ويأنف من البكاء - كالأنثى!! - على أطلال آمال ضيقة، وأحلام حمقاء! وهذا ما نراه عند الكثرة المطلقة من شعرائنا الأكرمين: عويل وبكاء كأنهم في مأتم(876/19)
يندبون الدنيا التي أوشكت أن تزول. . . ولكنهم كالنائحات المستأجرات ينوحون في كل مأتم، ويبكون إثر كل ميت، ويذرفون الدمع كأرخص ما يكون الدمع، وأسخف ما يكون البكاء!!
هؤلاء يظنون البكاء نغماً جميلاً يأخذ سحره بالألباب!، وأن البكاء عبقرية وفهم بينما يقترن دائماً بمعنى الجهل وقصر النظر، وضعف النفس، وأنوثة الخلق وما إلى ذلك. . والبكاء - كما قيل - أسهل بكثير من الغبطة والانشراح. . ذلك لأن النفس مكلفة بالإدراك الكامل، واستعمال العقل والدارية حين تضحك ويصيبها الانشراح، بينما البكاء لا يكلفها إلا دعك العينين لاستخراج الدموع!
البكاء بعد ذلك معنى ضيق يتصل بمطالب الذات، ومسراتها الغانية في حين أن الإنسانية دائماً تسير نحو النور.
ليت شعري ألا يوجد في العالم العربي شاعر واحد يحس بالانطلاق، ويتحرر من رقبة الأوهام، ويحطم تلك الأبواق التي أزعجتنا وناحت على مأتم لا وجد له، ليملأ بالأمل، وينشد لنا أناشيد الفرح والسرور.
إن الشعر كما أريده إدراك واسع للكون والنفس الإنسانية، وألوان مختلفة من الشعور، وعمق في الإحساس لا تحدده غاية قصيرة، ولا تستبد به أوهام عاجز مقبول، وتعبير رفيع من غرابة ولا تعقيد، ونغمات تفصح عن طوايا النفس تشعر بالأمل، وتسري في أرواحنا عذوبة غامرة، وفيضاً من الاطمئنان العميق.
سيقول بعض الناس: إنك تقيد الشاعر، وتسلبه حريته في التعبير. وجوابي على هؤلاء أنه لو كانت الحرية غلواً في التعقيد، وشذوذاً في التعبير، وتكلفاً مقيتاً، ولهواً بالقشور، والوقوف على أي طلل للبكاء والنحيب، والاندفاع وراء كل رغبة مجنونة، فلتذهب الحرية إلى الشيطان
غائب طعمة فرمان
-(876/20)
نظرات في المذاهب الهدامة
(. . ولكن أصحاب النحل الخبيثة وذوي المطامع لم يرضهم في الزمن الغابر، ولا يرضيهم في الزمن الحاضر، أن يعيش الناس وادعين راضين في ظلال النظم المشروعة، فهبوا يعارضون أوامر الله ووصايا الرسل بتسليط الغرائز وتحكيم الشهوات، فتمردوا على الدين، وتحللوا من الخلق، وتحرروا من القيود.)
الزيات
تقوم الحياة الاجتماعية للشعوب والأمم، على سنة ثابتة من الرقي والتطور التدريجي الذي يسير في طريق طبيعي منذ القدم. ومن الوهم، استطاعة نقل حياة الناس من حال إلى آخر بنظام يبتكر أو مذهب يتخيل فيه واضعوه أية سيطفر بهذه الشعوب مرة واحدة. وقد رسخ في وهمهم أن الجماعات الإنسانية لو قامت على هذه النظم وسارت على تعاليمها، لوصلت إلى حالة أرقى وعيش أسعد، مما عليه حياتها القائمة.
وقد انتشر كثير من هذه النظم والمذاهب في هذه الأيام، فأطلق أصحاب هذه المذاهب العنان لخيالهم الذي أتى بكثير من الانتاجات التي تعتبر وصمة عار في جبين الإنسانية المتحضرة في القرن العشرين. والعجيب أن تنبع هذه المذاهب الهدامة والنظريات المتوحشة، من أوربا المتمدينة التي يدعي شعوبها أنهم أكثر الناس إنسانية وحضارة؛ هذه المذاهب التي تقول بإبادة الضعفاء والمرضى وأصحاب العلل والعاهات حتى لا يبقى إلا الأقوياء القادرون على الكفاح في الحياة، فلا يكون أولئك المرضى الضعفاء عقبة في سبيل التقدم، بإعالة المجتمع لهم وصرف بعض الجهد في سبيلهم.
واكثر هذه المذاهب تطرفا (الشيوعية) التي أخذت تغزو بعض الشعوب فتقلب أمرها رأسا على عقب، تزلزل بنيانها وتهدم أركانها.
يقوم هذا المذهب على أركان رئيسية ثلاثة: (1) أن تكون أرض الوطن وما عليها ملكا للأفراد والأمة على السواء، وذلك بمحو الملكية الفردية وإبطال الحقوق المكتسبة بالجهد والسعي. وفي هذا ما فيه من إضعاف روح الجد والطموح إلى العلا. فهم يتوهمون أن العقر المنتشر بين الطبقات وفي الشعوب سببه سوء توزيع الثروة بين أفراد الشعب، وهم بهذا يريدون أن يرجعوا بالناس آلاف السنين إلى الوراء يوم أن كانوا في العصور الهمجية(876/21)
الأولى لا يعرفون شيئا عن الملكية فكانوا يعيشون على ما يصطادونه من الحيوانات أو ما تصل إليه أيديهم من الأعشاب.
فلما ارتقت حالهم وزادت معرفتهم بالزراعة والصناعة وغيرها، عرفوا الملكية فعرفوا ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. فحينما ينادون بمحو الملكية الفردية وإبطال حقوق الأفراد فيما يجمعون، يريدون على حد زعمهم أن يمنعوا بعض الأفراد من أن يتناولوا فوق ما يكفيهم من الثروة العامة فيكتنزوه في خزائنهم، ليفرقوه على الذين لا ثروة لهم، وفاتهم أن هذه الوسيلة عديمة الجدوى ضعيفة الأثر في تحسين الحالة الاقتصادية وإخراج الناس من الأزمة التي يرزحون تحت كلكها.
وفاتهم أنهم بعملهم هذا يقضون على روح التنافس المشروع بين الأفراد ويقتلون في نفوسهم النشاط والرغبة في العمل، ما دام كل ما يجمعونه سيذهب إلى أيدي غيرهم ممن لم يبذلوا مجهوداً ولم تتصبب جباههم عرقاً، ولم يجهدوا عقولهم في التفكير فيما يجلب لهم المال والثروة. فيتقاعد العاملون ويتكاسل أصحاب الهمم العالية ويصبح الناس سواسية في الفاقة والاحتياج، وتعود الخسارة على العالم عامة والوطن خاصة لتوقف المشروعات العظيمة والعمال النافعة التي يقوم بها ذوو الهمم الجبارة ويتولاها أصحاب الكفايات الممتازة سعياً وراء الكسب المشروع وزيادة ثروة البلاد.
(1) أن تكون الحكومة قيمة على الأعمال قائمة بجميع المشروعات التي تكون كلها ملكاً للدولة، أي حذف رءوس الأموال الفردية. وهم بذلك يستهوون الفقراء ويجتذبونهم إلى صفوفهم لما يوهمونهم به من معسول الكلام، بأن العمل بهذا سيجعلهم في رغد من العيش ويحسن حالتهم، ويقضى على هذا العدو الناشب أظفاره فيهم كما يقول عالم من علماء الاقتصاد الروس (إن الفقر لا يعالج عن تقسيم الثروة بين الناس لسببين واضحين أحدهما أن الثروة التي يراد تقسيمها لا تكفي حاجات للناس جميعاً. وقد عرف ذلك عن طريق الإحصاءات. فلو صودرت الأرباح الفردية التي تزيد عن 10000 فرنك ووزعت بين الذين يقل دخلهم عن هذا المقدار، فإن كل فرد لا يحصل على أكثر من 12 % من دخله تقريباً، وبما أن الناس لا يصلون إلى رغد العيش المرجو إلى إذا ارتفع دخل كل منهم إلى عشرة أضعاف ما يحصل عليه حالياً، عرفنا أن مشكلة الفقر لا تعالج بتقسيم ثروة الأغنياء(876/22)
على الفقراء. فالعامل الذي دخله خمسة فرنكات ويشكو الفقر والعوز، فإن حاله لن تتغير عما هي عليه إذا حصل على الـ 12 التي تخصه من الاستيلاء على أموال الأغنياء وذلك لأندخله لا يرتفع في الحالة الثانية أكثر من ربع فرانك يومياً وهذا فرق ضئيل لا يأتي بالتحسين المطلوب الذي يقصد من تقسيم الثروة بين أفراد الشعب جميعاً.
والسبب الآخر أنه إذا كان دخل أحد الناس في السنة 50 مليوناً من الفرنكات وصودر هذا المبلغ لتوزيعه على الفقراء المحيطين به فإن كلاً منهم لا يحصل على أكثر من فرنك، وهذا مقياس لجميع الأغنياء، كما أنه لو أفاد هذا العمل مرة فلن تتكرر هذه الفائدة فمن سيدفع عن الفقراء حاجاتهم التي تتجدد يوماً بعد يوم؟
ذلك لأن الشخص الذي كافح وجاهد وأكتسبالـ50 مليوناً لن يعمل على كسب مثلها في السنة التالية لأنه حرم لذة هذا الجهاد وحرمت عليه ثمرة ما بذله، فيكتفي بما يسد به حاجاته الشخصية ويكفل له العيش) ثم يقول: (إن حالة البشر المعيشية سيئة جداً، وإننا فقراء مدقعون وذلك لأن منتجات الأرض السنوية تعجز عن سد حاجة البشر من الغذاء والملبس. فهل هذا لأن الأرض لا تنتج ما يفي بما هو ضروري لنا، إن كان الجواب على هذا بالإيجاب فعلينا أن نرضى بحظنا من الحياة وما قسمه الله لنا، وأن نعتبر أن الفقر كالموت أمر لا مفر منه ولا محيض عنه، ولكن لحسن الحظ أن هذا الافتراض لا مصيب له من الصحة لأن الأرض في مقدورها أن تدر علينا من المحصول أضعاف دخله، لأن ينابيع الثروة لا حد لها على الإطلاق. .)
3 - الركن الثالث أن الدين ألد أعداء الشيوعية وما يتبعها من المذاهب الهدامة، المتسلطة على عقول العامة، لأنه يدعو إلى مبادئ تخالف الشيوعية وتحارب مبادئها التي تعمل على جعل الأرض فردوساً موهوماً على أشلاء ضحايا البشرية؛ لذلك يعمل الشيوعيون على استئصال أثر الدين من نفوس المجتمع، لأن الذي يؤمن بالدين يستحيل على المبادئ الهدامة أن تجد لها مكانا من نفسه ومن تفكيره. وفي هذا بقولي أبو الشيوعية كارل ماركس في تعاليمه: (إن الدين هو تنهدات الجماعة المظلومة) أي أنه لولا ما يقع على هذه الجماعات الفقيرة من ظلم واضطهاد لما التجئوا إلى حظيرة الدين يطلبون حمايتها، وعلى هذا الزعم الباطل، لو محي الظلم من بين هذه الطبقات بالوسائل التي يدعو أليها، لما وجد(876/23)
للدين أثر بين الناس.
ويقول غيره من الداعين إلى هذه المذاهب: (لا يتولد الدين إلا تحت تأثير النير الاقتصادي، ولا يكون ذلك إلا في المجتمعات التي تقوم على أساس الطبقات) ثم يقول: (إن الشروط الاجتماعية التي كانت تنشأ عنها العقائد الدينية قد بادت، وأن الدين قد أضحى كائنا ميتا لا حياة فيه ولا أثر له في اقتصادنا ونظامنا الاجتماعي الذي تتطلبه حياة التقدم والرقي.)
هذه هي المفتريات التي يوجهها هؤلاء الواهمون إلى القوانين السماوية، ليجتثوها من النفوس فيصبح العالم فوضى لا ضابط له ولا نظام فيه، وهي مفتريات باطلة، كما يراها المتأمل في التعاليم الدينية بعين البصيرة، البعيدة عن الأهواء والزيغ، فإن الذين يرزحون تحت كلا كل الظلم، والذين ما نرى ذوي السلطان وأصحاب الموال ومن يتمتعون بمكانة اجتماعية ممتازة، أكثر تمسكا بالدين من أولئك الفقراء المظلومين، بل هناك من الملوك والأمراء من نزلوا عن عروشهم وتنازلوا عن إماراتهم تورعا في الدين وزهداً في متاع الحياة الدنيا، فهل هؤلاء يرضون تحت وطأة الفقر والحاجة؟ وقد توهم الشيوعيون أن في مقدورهم تقويض سلطان الدين لأنهم ظنوا أنه يستمد سلطانه من فقر الجماعات وجوعها ووقوعها تحت سلطان القادة المتجبرين يسومونهم سوء العذاب، وفاتهم أن الدين يستمد سلطانه من أكرم ما يوحيه العقل وأشرف ما يبعث من عواطف في النفس.
والإنسان الذي يكون كل همه السعي في طلب القوت وكل تفكيره منصرفاً لاستنباط الحيل للحصول عليه، لا يجد وقتاً يساعده على التأمل في الدين وتعاليمه أو التفكير في مصيره. بل إن الإنسان إذا أشتد به الظلم والفقر، كثيراً ما يؤدي به هذا إلى الكفر والخروج على طاعة الدين ومخالفة أوامره.
هذه نظرة عجلى في أركان المذهب الشيوعي نستطيع أن نستخلص منها أن الشيوعيين قد خيل لهم وهمهم أن الإنسان كائن لا يهمه إلا امتلاء بطنه، وأن همه الأكبر لا يخرج عن هذا العمل فهو لا يسعى للبحث عن المثل العليا ولا عن الغذاء الروحي الذي يغذي النفوس والتي هي دائماً في تعطش إليه، ما دام قد وجد ما يشبع كرشه
(أسيوط)(876/24)
عبد الموجود عبد الحافظ(876/25)
الشعر المصري في مائة عام:
علي الليثي
للأستاذ محمد سيد كيلاني
1822 - 1896
- 3 -
ولليثي قصيدة نظمها في حادثة قمر النيل المشهورة واستقالة وزارة رياض باشا. وهي لا تقل عن تلك التي تحدثنا عنه في صدق العاطفة وقوة الإحساس. ومطلعها:
العيد وافي وحسن الحال منتظم ... والأمن عم وكل الناس قد نعموا
وإنجاب عن مصر ليل مد غيهبه ... تنميق واش بنصح صبحه حكم
يا طالما قد سعي الساعون وارتقبوا ... شق العصا وزفير الغيظ محتدم
لولا الأناة ولولا الحزم لابتهجت ... نفوسهم وعرى التدبير تنقصم
كل له غرض فيما ينقعه ... والألمعي يرى ما ضعه الكلم
ماذا عليهم إذا ما سيد كرما ... أغضى وأرضى رعاياه وسرهم
هكذا بدأ الليثي قصيدته، فهو في هذه الأبيات فرح مبتهج لحلول الأمن والطمأنينة بعد فترة من الخوف والهلع سادت بين المصريين قبيل حادثة قصر النيل، ويشير إلى دسائس العنصر الجركسي وبخاصة عثمان رفقي باشا وسعيهم في الإيقاع بين الخديو والعرابيين. وينوه بحلم الخديو وعفوه. وهو في هذا غير متكلف ولا متصنع بل أنه ليرسل القول من أعماق فؤاده.
ومنها:
الصفح والعفو أولى ما يزول به ... داعي التنافر والأحوال تلتئم
هذا فتى الحلم توفيق الزمان بدا ... من حلمه ما انثنت عن حلمه الأمم
فهل رأيت مليكاً في شبيبته ... قد سهل الصعب حتى كاد يتهم
سمح الخليقة رحب الصدر ذو أدب ... لم يعمل السيف فيما يعمل القلم
حرصاً على العدل لم يعجل ببادرة ... عند الحفيظة حيث الغير ينتقم(876/26)
وليس في هذه الأبيات من المعاني سوى مدح الخديوي بالحلم وقد أطنب في هذا كما ترى ولعل السر في ذلك هو الفرح الذي طغى على المصريين حين تخلصوا من وزارة رياض وظفروا بوزارة شريف التي عملت على إرضاء الشعب بانتهاج خطة الإصلاح. فلا عجب إذا اندفع الليثي يشيد بحلم الخديوي ويطيل في الإشادة.
ومنها:
لما رأى جنده من شبهة عرضت ... قد عارضوا واتقوا بالحزم واحتزموا
يوم العروبة إذ شوال منتصف ... راموا انتصافا وكاد السلم ينحسم
أجاب سؤلهم وهو الجدير به ... فقابلوه بحسن الحمد واحترموا
وقبلوا سدة سادت بأخمصه ... في موقف تتقيه العرب والعجم
وعاضهم من رياض غرس أنعمه ... وهيئة في نظام الملك قد خدموا
وفي هذه الأبيات ترى الشاعر يقف في صفوف العرابيين فيصف ثورتهم وهجومهم على قصر النيل بأنها شبهة لهم ويدافع عنهم بقوله (راموا انتصافاً). فهو يقرر بأنهم كانوا مظلومين مغبونين، وأنهم قاموا لإزالة ما هو واقع بهم من الجور والطغيان
ولا شك في أن الشاعر قد أغضب الخديوي في هذه الأبيات التي كشف فيها عن موقفه من الحركة العرابية. وتتجلى عاطفة الليثي بصورة أوضح في هذه الأبيات:
وهب لجندك ما قد كان وارعهم ... بعين أروع سيما طبعه الكرم
هب أنهم أخطئوا لم يستخف بهم ... خوف به ثورة الأحشاء تضطرم
فكان ما كان من أمر مغبته ... والحمد لله لم يلمم بها ألم
رفقاً وعطفاً وبالصفح الجميل أعد ... عادات بر لهم في عودها عشم
فهم لملوك أنصار وهم عدد ... عند الوغى ومثار النقع مرتكم
وهم سيوفك في يوم يفر به ... قلب الجبان وموج الحرب يلتطم
وهم دروع رعاياك الذين لهم ... في وصف معناك ما تعنو له الأمم
حاشاك مولاي أن تصغي لذي غرض ... لديه سيان من يحيى وينعدم
لن تجد شاعراً واحداً دافع عن العرابيين في هذا الموقف غير الليثي. وهو يظهر في هذه الأبيات في الثوب الوطني المخلص الذي يفيض حباً لبلاده وغيرة على وطنه. فهو يخاطب(876/27)
الخديوي محاولاً التهوين من شأن تلك الحادثة الخطيرة، مجتهداً في التقليل من قيمتها.
ويذكره في نفس الوقت بأن الجيش هو درعه الوحيد الذي يلجأ إليه عند الشدائد والخطوب. فلا بد من العطف على رجال الجيش والإحسان إليهم وعدم الالتفات إلى الوشايات التي كان يسعى الجراكسة بها في حق المصريين. وهذه من غير شك وقفة مشرفة من وقفات الليثي انفرد بها دون سواه من شعراء عصره.
وقد مدح الليثي الخديوي توفيق في أغسطس من عام 1883 م بقصيدة مطلعها:
ساعد الجد والمراد تيسر ... وصفاء الزمان كالصبح أسفر
ثم بنا ننتشق حدائق أنس ... روحها بالذي يسرك نور
ننتهز فرصة فليل الأماني ... بعد يأس قد استنار وأقمر
وفي هذه الأبيات يبدو الشاعر فرحاً مسروراً، متغنياً بالصفاء الذي جاء بعد الكدر، والرخاء الذي أعقب الضيق، وانبثاق نور الأماني بعد انقشاع ظلمات اليأس. وذلك على أثر تحسن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية عقيب الاحتلال. وقد تغنى شعراء كثيرون بما أصاب البلاد من الرخاء. والليثي أحد هؤلاء الذين نسوا الاستقلال المفقود وألهاهم الصفاء والرخاء عن تحكم البريطانيين في مرافق البلاد. ثم قال:
شنف السمع واطرب الجمع وانثر ... من بديع المقال حبات جوهر
وانعت الحالة التي أنت يفها ... ناعم البال بالسرور مؤزر
في زمان حلا كرشف رضاب ... من حبيب بغير وعد تيسر
أو مدام أدارها بدر تم ... من رأى شمسها فلا يتكدر
فالتواني حليفه العجز فانشط ... للتهاني عساك بالأنس تظفر
نشأ الليثي في مجالس اللهو والسرور، وطبع على حياة المرح والطرب بين المغنيين والمغنيات، فلذلك تراه يكثر في شعره من ذكر العبارات والصور التي يستمدها من هذا الجو المرح الطروب كتشنيف السمع، وإطراب الجمع، ورشف رضاب الحبيب، وشرب المدام، وذكر النديم، وأخي السمر ومجالس الأنس ووقت الصفاء، إلى غير ذلك مما توحيه إليه بيئته التي عاش فيها وقد أثرت هذه البيئة في شعره وخياله وأفكاره ومعانيه، وطبعته بطابع خاص انظر إليه حين يقول:(876/28)
حديثه بين أرباب النهى سمر ... يعزوه للمجد منقول ومعقول
أوحين يقول:
فاسمح فديتك فالأوقات آنسة ... والحظ اقبل بالإسعاد طالعه
أوحين يقول:
بها تزف الأماني في مواكبها ... لكل راج ويرعاها أخو السمر
والأنس دار بأقداح السرور وقد ... حيي الرعية واستملى أخا النظر
تجده يذكر (السمر) و (الأنس) و (أقداح السرور) وهذا من غير شك وليد الوسط الذي درج فيه
وكانت مجالس الأنس والسرور تعقد في الحدائق بين الأزهار والرياحين والجداول والطيور والأشجار. وقد أثرت هذه المناظر في خيال الليثي فأكثر من التغني بها في شعره، ومثال ذلك قوله:
والدهر وافي بما كنا نؤمله ... والروض غنت كما تهوى سواجعه
طافت جداوله بالدوح ساقية ... كأنه طفلها تحنو فترضعه
تشدو على عودها الورقا كائن لها ... إلفا يردد شكواه تراجعه
وبلبل الأيك أبدى لحنه طرباً ... فرنح الغصن حتى قام راكعه
وللنسيم بهاتيك الربا أرب ... إن مر يحلو ونفح الطيب ضائعه
فهذه الصور التي جاء بها هنا قد أخذها من الواقع الذي يحيط به في حدائقه الخاصة وبساتينه، وفي حدائق إسماعيل ومتنزهاته ورياضه، وفي حدائق الأمراء والكبراء الذين كان يغشى دورهم. وقد أعجبني من هذه الأبيات قوله:
طافت جداوله بالدوح ساقية ... كأنه طفلها تحنو عليه فترضعه
فتشبيه الجدول حين يسقى الدوح بأم ترضع طفلها يحمل صورة شعرية جميلة تجعلنا نعطف على تلك الأم وذلك الطفل.
وللشاعر قصيدة في رثاء عبد الله فكري مطلعها:
نذم المنايا وهي في النقد أعدل ... غداة انتقت مولى به الفضل يكمل
تخطت أناساً من كثير نعدهم ... وغالت وحيداً من قليل يحصل(876/29)
ونحن بني الدنيا نباين فعلها ... فلا تنتقى حراً عليه يعول
كأن المنايا في انتقاها خبيرة ... بكسب النفوس العاليات تعجل
وليس في الأبيات معنى جديد، بل هي بعض المعاني القديمة التي سبق إليها منذ قرون، لم يحسن أدائها، ولم يوفق إلى صياغتها في أسلوب جيد ولا في عبارة قوية. وقد شاع بين شعراء هذا الدور افتتاح قصائد الرثاء بمثل هذه الديباجة التي يذمون فيها المنايا ويتحدثون عن خبرتها في انتقاء الأخيار والأفاضل
ثم قال:
فّتم لها من منتقى الدر حلية ... بها العالم العلوي أنساً يهلل
وتم نظام العقد وازينت به ... نحور يدور الحور وهو مفصل
وكل بعبد الله فكري مهم ... ينافس فيه غيره حيث ينزل
فما شغلته عن شهود مليكه ... ومن كان عند الله لا يتحول
دعاه بشير القرب أن جد للقا ... لتحظى بما قد كنت ترجو وتأمل
فأهداه طيب الروح وارتاح للبقا ... ومن يطلب الأعلى له النفس يبذل
وحل مقاماً لا يحيا بمثله ... سوى مهتد يرعى الكمال ويعدل
في هذه الأبيات انتقل الليثي عن الدنيا إلى الآخرة وشاهد عبد الله فكري وقد التفت حوله حور العين وتنافسن في القرب منه والظفر بوصاله. وهذا عبث وهراء. وفضلاً عن ذلك عباراته جاءت في منتهى الضعف والسقم. وما أثقل قوله (نحور بدور الحور). ومن مظاهر إفلاسه اللغوي قوله (فتم لها من منتقى الدر حلية) وقوله في البيت الثاني (وتم نظام العقد) فكرر الفعل (تم) في بيتين متتاليين. وكذلك قوله (انتقت مولى) و (فلا تنتقي) و (كأن المنايا في انتقاها) و (فتم لها من منتقى فكأن اللغة وقد نضب معينها وضاعت مترادفاتها فلم يجد أمامه غير فعل واحد هو (انتقى) وقد اتخذ هذه الأبيات مقدمة مهد بها لانتقاله إلى وصف مناقب عبد الله فكري التي استحق بها هذا النعيم المقيم فقال:
غراس مساعيه جناه تنعما ... ومن ماء رحماه يعل ويتهل
لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا
لقد كان ذا بر عطوفا مهذبا ... سجاياه صفو القطر بل عي أمثل(876/30)
رقيق حواشي الطبع سهل محبب ... إلى كل قلب حيث كان مبجل
كريم السجايا لا الدنايا تشينه ... عظيم المزايا إذ يقول ويفعل
شمائله لو قسمت في زماننا ... على الناس لازدانوا بها وتجملوا
وهذه كلها من المعاني التافهة التي يحوم حولها الشعراء في مثل هذا المقام، ولا نحتاج إلى القول بأنها متكلفة مصطنعة.
ولن تجد الشاعر مهما بلغ به من الضعف مشقة في سرد مثل هذه النعوت. والذين رثوا عبد الله فكري اشتركوا في هذه المعاني فمنهم من أوجز ومنهم من أسهب. ومثال ذلك قول حفني ناصف:
باللطف واللين والدين الرصين له ... مقام سبق عليه قط ما غلبا
ما روح النفس بالدنيا مفاكهة ... إلا قضى من فروض الدين ما وجبا
قضى الحياة ونصر الدين دبدنه ... لا ينثني رهباً عنه ولا رغبا
وكان مغرى بفعل الخير يحسب في ... إسدائه أنه قد أدرك الأربا
وقد أطال الليثي على غير جدوى، وأتى بالمعنى القليل في لفظ كثير. فالمعنى الذي في قوله (رقيق حواشي الطبع. . .) هو عينه الذي في قوله (كريم السجايا. . .) وقول الليثي:
لقد كان ذا دين قويم وعفة ... بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا
قريب جداً من قول حفني ناصف:
يا للطف واللين والدين الرصين له ... مقام سبق عليه قط ما غلبا
وعبارة حفني ناصف وهي (مقام سبق عليه قط ما غلبا. . .) أقوى بكثير من عبارة الليثي (بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا. . .)
ثم انتقل الليثي بعد ذلك إلى الإشادة بمكانة عبد الله في عالم الأدب فقال:
فقدنا محياه ولكن بيننا ... بديع مزاياه بها نتمثل
فكم من أدب غض وحسن ترسل ... لآياته عبد الحميد يذلل
فما الفاضل القاضي إذا جاش صدره ... وأبدع في معنى عليه يفضل
ومهما صبا الصابي وأبدى بدائعاً ... فإن ضجيج الحور منه لأكمل
وما أبن هلال حيثما حل بدره ... وأطلق مر الفكر إلا مكبل(876/31)
هكذا أمضى الليثي في غير تحفظ ولا احتراس يزري بعبد الحميد الكاتب، والقاضي الفاضل، وأبي إسحاق الصابئ، وأبي هلال الصابئ وهو من اجهل الناس بهؤلاء الكتاب. ولولا ضيق في خياله وضعف في تفكيره لما جاء بهذا اللغو الذي لا خير فيه. وأفضل منه قول مصطفى نجيب.
أقمت من الآداب نهجاً مسدداً ... قويماً فكل في الرثاء أديب
قلنا إن الليثي أزرى ببعض القدماء؛ أما حفني ناصف فقد كان اعقل بكثير من الليثي، فلم يحط من شأن القدماء، إنما حط من شأن معاصريه. والفكرتان تقومان على السلبية أي نفي وجود الأمثال والأشباه، ولم يزد الليثي على هذه الأبيات فاكتفى بالسلبية. أما حفني ناصف فكان كما سترى فيما بعد سلبياً وإيجابياً إلى حد بعيد. ولم يصدق لا في سلبيته ولا في إيجابيته.
وقال:
مدى من فقدناه عزيز مناله ... وآثاره فينا تضوع وتنقل
فلو أنصفتنا أنفس علقت بنا ... لحامت على نعش به البحر يحمل
يا لهف الخلان حيث فقدنه ... ويا لهف الأقران ماذا تحملوا
ويا لهف الآداب بعد عميدها ... ويا لهف الكتاب إن عن معضل
ويا لهف الإيناس من بعد نأيه ... ويا لهف الجلاس إن غص محفل
فو يا لهف مثلى وهو أولى تلهفاً ... على فقد من كنا به نتجمل
هكذا ندب الليثي عبد الله فكري وناح لموته ورثى لحال هؤلاء الذين فجعوا به من الخلان والأقران كما رثي لحال الآداب والكتاب والإيناس والجلاس. ولا يظهر على هذه الأبيات شعور داخلي مبعثه الأسى والحزن، بل ظهر عليها التكلف والتصنع. وكرر الفعل (فقد) فقال (مدى من فقدناه.) و (حيث فقدته) و (على فقد.) وهذا يدل كما ذكرنا سابقاً على خلو جعبته من المترادفات.
وقال:
خليلي الذي قد كان أدرى بخلتي ... وبدر أعنى الحادثات ويحمل
والليثي في هذا البيت يقول غير الواقع. ذلك لأنه كان أقرب الناس إلى الخديوين إسماعيل(876/32)
وتوفيق. وكانت داره كعبة يحج إليها أصحاب الحاجات. فهو الذي درأ الحادثات وحملها وجمع بين (خليل) و (خله) و (أدري) و (يدرأ) وهذا مما يوجب الثقل على اللسان والأذن. ثم قال:
نأى عن محبيه وأقسم جازماً ... بأن لا يؤوب الدهر ما طاب منزل
وأقسم كل من أخلاه موقناً ... بأنا إلى لقياه شوقاً سنرحل
كلانا بصدق بر عند يمينه ... وبالرغم ما قلنا وقال المكمل
وهذا لغر وعبث. يقول بأن عبد الله فكري أقسم ألا يعود ما صفا له العيش في الجنة. وأقسم خلانه على اللحاق به شوقاً إليه.
ويقول إن كليهما صادق في يمينه. وهذا هراء لا طائل وراءه.
وقال:
ولولا أمين المكرمات الذي إلى ... مخايله سر الأبوة ينقل
فتى المجد والعلياء والصدق والحيا ... وأوفى أمين يرتجي ويؤمل
يشم شذا المرحوم منه ويجتلي ... بغرته اليمن الذي يتهلل
لذبنا أسى مما عرانا من النوى ... ونحنا كما ناح الهديل المبتل
وفي هذه الأبيات انتقل الشاعر من البكاء على عبد الله فكري إلى التحدث عن أبنه. ولم يوفق إلى معنى جديد ولا إلى صورة لطيفة بل هوى إلى الحضيض. وقوله (يشم شذا المرحوم) من تعابير الدهماء. وقال:
عزاء عزاء أيها الشهم واحتسب ... وأيقن بأن الله ما شاء يفعل
تجلد ولا تبد التضجر والأسى ... فانك ممن للمعالي يؤهل
فمثلك من يسلي سواه إذا جنت ... عليه الليالي واعتراه التغول
ومثلك من يرعى شئون مراعه ... ويسعى لعان قلبه يتململ
وأنت بحمد الله أول عارف ... بأن الكريم الحر لا يتزلزل
فلو أن شخصاً أمياً أراد أن يعزي آخر لما عزاه بأقل من هذه العبارات. ومن المدهش أن يصل الليثي في أسلوبه إلى مستوى الأميين وأن ينحط في عباراته إلى درجة سحيقة من الضعف والركة. وما قوله (وأنت بحمد الله أول عارف) إلا مما يجري على ألسنة الدهماء.(876/33)
وقد أسرف في هذه السوقية فقال:
فكن ثابتاً عالي العزائم مقبلا ... على شأنك الحالي عداك التنزل
فإن مصاباً حل قد حل وانقضى ... ونحن بما يأتي نسام ونشغل
فقوله (إن مصاباً حل قد حل وانقضى) من تراكيب العامة ثم انتقل من التعزية إلى التحدث عن رجال الفقيد في الجنة وما يتمتع به من حور عين وخمر وغير ذلك. قال:
ومن بان عنا في الفراديس ناعم ... بظل ظليل دوحه ينهدل
يغازل ولداناً وحوراً على صفا ... وفي حسنها من لطفه يتغزل
وليس مما يستحسن أن يقال في حفلة تأبين (يغازل ولداناً وحوراً. . الخ) ولكن هكذا كانت عادة الشعراء في هذا الدور. فقال أحمد عبد الغني:
فالحور والولدان قد فرحوا به ... واستقبلوه بالسرور وتاهوا
غير أن عبارة (قد فرحوا به) أخف بكثير من عبارة (يغازل) ولم يتعرض حفني ناصف لذكر الحور والولدان. بل اكتفى بقوله:
في جيرة الله في دار النعيم ومن ... يحلل بها بلغ الغايات أو كربا
وإلى هنا نترك الليثي.
محمد سيد كيلاني(876/34)
مكافحة الأمية بين الكبار
أوجه النقص في النظام الحاضر وأوجه الإصلاح المرتقبة
للأستاذ هاشم عساف
تعنى وزارة المعارف في الوقت الحاضر، وعلى رأسها العالم الجليل، معالي الدكتور طه حسين بك، ببحث أنظمة التعليم في البلاد، ومن بينها بغير شك التعليم الأولي ومكافحة الأمية.
ولما كنت وثيق الصلة بموضوع تعليم الكبار بوصفي مديراً لأحد المراكز الثقافية التابعة لمؤسسة الثقافة الشعبية، فإني أبادر إلى الإدلاء، فيما يلي، ببعض الملاحظات والمقترحات عساها تلقى بعض الاعتبار لدى ولاة الأمور عند النظر في هذا الموضوع الخطير
1 - الواقع أن جميع من ينطبق عليهم قانون مكافحة الأمية، هم من الفقراء الذين لم تساعدهم ظروفهم في السنين الأولى من حياتهم على الالتحاق بالمدارس الأولية، وهي بالمجان، إما لجهل والديهم بقيمة التعليم، أو لحاجتهم إليهم في اكتساب القليل من القروش لمعاونتهم في معاشهم، أو لفقد عائليهم واضطرارهم إلى كسب قوتهم مبكرين. وحسبنا لإدراك ما هم فيه من فقر أن نعلم أنهم لم يكونوا ليستطيعوا، إبان طفولتهم، الاستغناء عن ساعات يقضونها كل يوم في المدارس الأولية؛ فكيف بهم الآن وقد أصبحوا يافعين، وقويت سواعدهم على العمل، واشتدت حاجتهم لكسب القوت؟
2 - المعروف حتى الآن أن الجهات الرسمية مازالت تنظر إلى مكافحة الأمية من معناها الضيق. أي أنها تقصرها على معرة القراءة والكتابة، وتجعل ذلك غاية لا وسيلة؛ فالطالب في هذه السن، وحالته المادية كما ذرت، غالباً ما يكون مرهقاً بالعمال والكد في سبيل العيش لنفسه ولمن يعول، فلن تجديه المدة التي يقضيها في التعليم نفعاً سواء أطالت أم قصرت، والتعليم على هذه الصورة المعهودة من الجفاف، وهو إذ يذهب إلى المدرسة يذهب مرغماً بحكم القانون، ولكنه يتمنى أن يترك وشأنه ليستغل هذا الوقت في اكتساب قرش أكثر له ولعياله بدلا من ضياعه سدى في شيء يراه كمالياً بالنسبة لحالته. وكأني به يحدث نفسه فيقول: (ما هي الفائدة التي سوف تعود على من تعلم القراءة والكتابة؟ أهي في قراءة الكتب والجرائد والمجلات؟ أم هي في تحرير الرسائل وإمساك الدفاتر؟. إنني في(876/35)
غنى عن ذلك جميعاً. . إنني في حاجة إلى ما يقيم الأولاد ويغني من الجوع. . الأجدر بكم أيها الحكام أن تتركوا الأميين أحرارا ليكدحوا في هذه السويعات، ويبتغوا من فضل الله لعلهم يرزقون.
3 - لهذا عمد هؤلاء الأفراد إلى التهرب بشتى الوسائل والحيل من الانتظام في مدارس مكافحة الأمية، بل لقد تحملوا بعض الغرامات ولكنهم لم يعدلوا عن رأيهم في هذا النوع من التعليم، وتمادوا في العصيان حتى اضطر القائمون بالأمر إلى تغطية الموقف بوسائل ليس هنا مجال سردها، ولكن أقل ما يقال عنها أنها بعيدة كل البعد عما قصد إليه القانون. وإن كانت هذه الوسائل قد أكسبت النظام مسحة ظاهرة من النجاح، فإن حقيقة الأمر أن المظهر يخالف المخبر على خط مستقيم. ولو أعطى هؤلاء السادة حرية في القول وسئلوا عما في دخيلة أنفسهم لأجابوا بغير تردد أن هذا النظام فاشل ولم يؤد رسالته.
4 - إن المفروض، على رغم ما في نظام المكافحة الحالي من عيوب، أن يتناقص عدد الأمين عاما بعد عام ولو بنسبة ضئيلة؛ ولكن الحقيقة المؤلمة، أن عدد الأميين، على عكس ذلك، يزداد زيادة مطردة بما يضاف إلى قائمتهم في كل عام من أشخاص تعدت سنهم حد الإلزام، ولما يستطيعوا، لسبب أو لأكثر، تعلم القراءة والكتابة!. . هؤلاء هم معاول الهدم في مكافحة الأمية، ولن يستطيع أي نظام بالغاً ما بلغ من دقة وأحكام، أن يصل إلى الغاية المرجوة، ما دام هذا النبع يغذي بغيضة الذي لا ينفد جحافل الأميين!
5 - إن الآراء الحديثة قد توسعت في تعريف الأمية توسعاً كبيراً حتى صارت هذه الكلمة تطلق على الجهل بأي نوع من أنواع العلوم والفنون أو الصناعات. فإلى جانب الأمية الأبجدية أو الهجائية، توجد هناك أميات اجتماعية وسياسية وصحية وفنية ومهنية وهكذا. . ويعتبر على هذا القياس أمياً كل من كانت به جهالة للعلم في أي ناحية من نواحيه المعروفة. وكلما كثر هؤلاء الأشخاص في أمة من الأمم، قيل إن الأمية من نوع كذا تتفشى بين أفرادها ووجب على أولى الأمر مكافحتها.
6 - على ضوء هذا المعنى يجب أن تعالج المكافحة. واغلب الظن أن هذا هو الاتجاه الذي تتجه إليه هيئة اليونسكو في الوقت الحاضر. فلقد قامت هذه الهيئة بجهود جبارة لمكافحة الأميات مجتمعة في وادي (ماريبال) بجزيرة (هاييتي) إحدى جزر الهند الغربية أتت(876/36)
بأحسن النتائج وأطيب الثمرات.
ونحن في مصر، ما أكثر هذه الأميات في بلادنا! فإذا أريد الإصلاح حقا، وإذا أريد أن يكون الإصلاح شاملاً، وإذا أريد أن تكون المكافحة مجدية، فليكن نصب أعيننا وضع ضمان لكسب القوت. . ولن يتأتى ذلك إلا إذا كوفحت هذه الأميات، وبينها الأمية الهجائية، مجتمعة في آن واحد. وتوضيحاً لذلك أقول:
إذا علم الرجل الأمي، وهو فقير طبعاً، أنه حينما يذهب لمدارس المكافحة، يتعلم إلى جانب القراءة والكتابة، صناعة أو حرفة، تفتح له أبواب الرزق الحلال، وتقيه شر العوز؛ وإذا علم أنه سوف يتلقى دروساً مبسطة في الدين والأخلاق والصحة والاجتماع مثلاً، لترفع من شأنه كإنسان، وتجعله مواطناً صالحاً نافعاً لنفسه ولأهله ولوطنه. . إذا علم كل ذلك، أقبل برغبة صادقة، بل بشغف ونهم، على تعلم القراءة ولكتابة، ولأصبحت القراءة عنده والحالة هذه وسيلة يستعين بها على تفهم واستيعاب ما يلقى إليه من دروس.
ومتى استقر هذا الرأي في الأذهان، ورؤى الأخذ به، فإني أرى، قبل البدء في تنفيذه، العمل على تحقيق ما يأتي:
(1) تعديل نظام التعليم الأولي تعديلاً جامعاً بحيث لا يتأنى لأي شخص أن يفلت منه في نهاية المدة وهو على ما كان عليه من الأمية الهجائية. .
(2) تعديل قانون مكافحة الأمية بحيث يشتمل على الدراسات الآنف ذكرها.
(3) جعل مدة الدراسة في المكافحة ثلاث سنوات بدلاً من سنتين حتى يصير الطالب في نهايتها ملماً في القراءة والكتابة متقناً للصناعة التي تخيرها.
(4) جعل سن المكافحة تبدأ من السادسة عشرة، وأن يتمشى قانون التعليم الإلزامي مع هذا التحديد.
(5) جعل مناهج الدراسة مرنة بحيث تتفق والبيئات وحاجات البلاد.
(6) السير بالتدريج في تطبيق القاعدة الجديدة بحيث تبدأ أولاً في المدن الكبيرة، وعواصم المديريات، ثم تنتقل إلى المدن الصغيرة فالقرى.
(7) أن تتكفل الحكومة بجميع الخامات والأدوات اللازمة للعمل.
(8) صرف أجور الطلاب عن إنتاجهم بالورش على سبيل التشجيع.(876/37)
(9) تقديم واجبات خفيفة لهم أثناء الدراسة أسوة بتلاميذ المدارس الأولية.
(10) إعطاء شهادات لهم في نهاية الدراسة، غير ملزمة للحكومة بشيء، كي تساعدهم في البحث عن عمل.
7 - هذا النوع من التعليم يختلف اختلافاً بينيا عن تعليم الصغار الذي تقوم به مراقبة التعليم الأولي أو المراقبات الأخرى بالوزارة. ولقد عينت به الدول الراقية عناية كبيرة، فخصصت له دراسات ومناهج معينة، وحتمت الإلمام بها على الأشخاص الذين سيوكل إليهم أمر تعليم الكبار.
والهيئة الوحيدة في مصر الآن التي تمارس هذا التعليم، واكتسب رجالها خبرة ومراناً في هذه الناحية، ولقد جاء في المرسوم الملكي الخاص بإنشائها ما يلي:
(العمل على نشر الثقافة العامة بين أفراد الشعب) كما جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع إنشائها (. وهي في هذا تهدف إلى تعليم الكبار وتثقيفهم.) وفي موضع آخر (. بل ترمي إلى أن يمتد نشاطها إلى سائر المدن ويتغلغل بقدر الإمكان إلى صميم الريف. كما تهدف إلى توجيه من يشاء توجيهاً مهنياً مثمراً.).
وما دامت هذه هي مهمة مؤسسة الثقافة الشعبية، وتلك هي أغراضها، وذلك هو عملها، فلماذا يوكل أمر تعليم الكبار القراءة والكتابة إلى غيرها؟ ولماذا تتعدد الأيدي التي تعالج هذا الموضوع فتتوزع الجهود وتذهب جفاه
ألا يجدر بأولى الأمر أن يعملوا على توحيد الجهود وتركيزها في إدارة واحدة، تقوم بالإشراف على هذا النوع من التعليم في شتى نواحيه حتى يؤتي الثمرة المطلوبة؟
إن الصالح العام، وكل الظروف، فنية كانت أو إدارية، تقتضي أن تكون مكافحة الأميات المختلفة، هي المهمة الرئيسية لهذه المؤسسة. ويجب أن يدور على هذا المحور كل نشاطها. أما مهمة تزويد القارئين فعلاً بالثقافة العامة فينبغي أن تكون في المحل الثاني.
وعندي أنه متى أخذت الحكومة بهذا الرأي، وبدأت المعاهد والمراكز الثقافية في العمل على النحو المقترح، فأخرجت للبلاد بعد ثلاث سنوات عدداً لا يتجاوز الألف في جميع أنحاء القطر من أفراد يجيدون القراءة والكتابة، ويتقنون صناعة ما، ثم يلمون بنبذة من تاريخ بلادهم، ولمحة عن المسائل الصحية والاجتماعية الضرورية، وجملة من مبادئ(876/38)
الدين والأخلاق لكان. . . ذلك العدد مع ضآلته، نواة صالحة ستزداد على مر الأيام، لخلق مجتمع ناهض قوي، مزود بكافة الأسلحة التي تعينه على رفع مستواه، وإبراء نفسه بنفسه من أعدائه الثلاثة وهي الفقر والجهل والمرض. والله ولي التوفيق
هاشم عساف
مدير مركز سوهاج الثقافي(876/39)
رسالة الشعراء
في ليلة عيد
كثيراً ما يستلهم الشاعر قصة شعره من عالم الخيال ليجعلها مسرحاً لمعانيه. ولكنني - في هذا الذي بين يديك - كنت في غنى عن ذلك. فلقد نقلته من دنيا الواقع، إذ شهدت نهايته في لبنان، وعرفت بدايته هناك. . . (في البلد الذي تخف به حدائق الليمون). فقضى شيطان الشعر أن أسرده ففعلت.)
تناهت به سالفات الذكر ... إلى عالم من نعيم غبرْ
يهيم بأفيائه الوارفات ... وقد أغلفته صروف القدر
فأصباحه مشرقات في ركبه ... فينهل منها بشتى الصور
وبمرح ملء رداء الشباب ... فؤاد خلي وعيش نضر
إذا ذكر الصب عهد الحبيب ... وما ذاق من صده أو رضاه
وحدث عن أمسيات اللقاء ... وجفوة معشوق إن جفاه!
ففي أم طفلته ما أفاء ... عليه الحبور وبرد الحياء!
وجنبه موبقات اليسار ... وشط به عن مغاني هواه!
فعاش صدوقاً نقي الأزار ... بعيد الأماني فيما ابتغاه
وكر الزمان وئيد الخطى ... وطفلته شغله الشاغلُ
يفيض عليها ضروب النعيم ... ويغمرها عطفه الشامل
فتعبر دنيا صباها الغرير ... وبيرحها عهده الآملُ
وتقبل في خطوات الشباب ... كظبي تأثرَّه الحابلُ
تميس ببرد جمال مهب ... يسانده خلق كامل. .
ومرت خطوب تشيب الوليد ... بما حل من هولها المفزع
فيوم حصار كيوم الوعيد ... اقضوا به ساكن المهجع
ويوماً يساق أبات الرجال ... إلى محشر دافق مترع
فنمهم اذاقوه مر العذاب ... ومنهم تولى فلم يرجع
ومن قام يتلو نشيد السلام ... أفاق على نغم المدافع(876/40)
وأقبل يوم كئيب الصباح ... بغيض المحيا لما جاء فيه!
فشيخ يعض على راحتيه ... ويندب في القوم صرعا بنيه
وطفل بدا هدفاً للرصاص ... فخر على مشهد من أبيه
وقوم حيارى أضلوا السبيل ... فكل أخ ذاهل عن أخيه
مضى بينهم ليس يدري المصير ... إلى هدف لم يكن يبتغيه
وفي أرض لبنان بعد العناء ... وطول السرى كان غب المسير
تناجيه (ليلى) غداة استقر ... أحلفت أمي وما من نصير؟
فيمضي يعللها بالمنى ... إذا أردفت بأين صوت الضمير!
غداً يا ابنتي الجحفل اليعربي ... يذيق أعاديك سوء النكير!
غداً يجمع الشمل بعد الشتات ... متى انقض جيش (العزيز) المغير
وتغمض إغماضة المطمئن ... وتغفو على الأمل المشرق
صباح غد هو عيد الأضاحي ... فكيف يطل ولم يألق!
ولم تك تعلم أن الزمان ... يداهم بالحادث المطبق!
وان أباها حليف الطوى ... يبيت من الهم في مأزق!
وان البلاد انتهت للعدو ... بكيد امرئ قط لم يتق. .
مواكب شتى من الذكريات ... تعيد له الصور الدامية
توالت عليه إزاء الغروب ... فكانت هي الظلمة الثانية!
لقد حطم اليأس آماله ... فخلفها مزقاً بالية
وأنحى عليه الضنى ما استطاع ... بقبضة سورته العاتية
فخر على وجهه للثرى ... وأسلم أنفاسه الواهية. .
فيالك عيداً تكالب فيه ... عديد من المحن القاصمة!
فأصبح يجمع أشثاثها ... لتحدق بالغادة النائمة!
فيا ليته امتد هذا الرقاد ... وظلت بآفاقه حالمة!
متى قاومت عاصفات الرياح ... وطغيانها الزهرة الناعمة!
هو الدهر أسلمها للهوان ... فآثرت الطعنة الحاسمة. .(876/41)
ومتع بالعيد أصحابه ... وإن وسدوا الهالكين الثرى!
أما رددوا - إن قضى لاجيء ... (لقد باع أوطانه فاشترى)!
فيا أيها الشعب حتى متى ... يضللك الخصم فيما افترى!
تدبر أمورك قبل الضياع ... فها هو ذا العلج قد دبرا!
وبادر عدوك في وكره ... وإلا ارتقب يومك الأغبر!
محمد سليم الرشدان(876/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
في مناقشة رسالة جامعية
نوقشت الرسالة المقدمة من السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) للحصول على الدكتوراه في الأدب من جامعة فؤاد الأول يوم الخميس الماضي بكلية الآداب، وكانت لجنة المناقشة مكونة من معالي الدكتور طه حسين بك، وهو الأستاذ المشرف على الرسالة، ومن الأستاذ إبراهيم مصطفى والدكتور زكي حسن والدكتور فؤاد حسنين والأستاذ مصطفى السقا.
وموضوع الرسالة (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري - تحقيق ودرس) وقد بدأت السيدة صاحبة الرسالة بالحديث عن موضوعها، فقالت إن ما حببه إليها واسترعى اهتمامها به هو الحياة الإنسانية عند أبي العلاء، وهي تتجلى خاصة في رسالة الغفران، وذكرت جهدها في جمع النسخ المخطوطة ومقابلتها وتفسير ألفاظها والتعريف بمن جاء فيها من الأعلام وما ورد بها من الأماكن، ثم بينت أهم الموضوعات التي تناولتها بالدراسة، من دراسة حول النص، والمعالم الكبرى في رسالة الغفران، وموضوعات هذه الرسالة، وخصائصها، ومكانها من أدب أبي العلاء، ومقارنة هذا اللون من الأدب بأشباهه في الأدب الأوربي. وما إلى ذلك.
والموضوع - كما ترى - خشن. . . وخاصة تحقيق النص؛ فكان موضع العجب ومثار الإعجاب أن تنهض بأعبائه سيدة ويظهر أن قيامها بهذا العمل قد أغرى بها الأستاذة الممتحنين، فاشتدوا في مناقشتها وحاسبوها حساباً عسيراً أشبه بمواقف الحساب في العالم الآخر الذي تحدثت عنه رسالة الغفران. . . كما يظهر أن هذا الجهد العسير قد حملها على الاعتزاز به - قبل المناقشة والمحاسبة - فكانت تتحدث عنه مزهوة ولم تنتظر حكم المحكمين ولم تعبأ بكل ما قيل عن التواضع ومزاياه. . . فأنبري لها معالي الدكتور طه حسين بك وسلقها على هذا المسلك، ولكنها صمدت له، وكان المظنون أن تنسحب باكية، فكان صمودها موضع العجب ومثار الإعجاب مرة أخرى، وظلت تلاقي المكاره التي حفت بها (جنة الدكتوراه) حتى ظفرت بها أخيراً بتقدير ممتاز(876/43)
وقد بدأ الدكتور طه حسين بك مناقشته بالثناء على هذا العمل الأدبي الذي قامت به السيدة، فوصفه بأنه عمل خطير، قائلاً: إنها قدمت نصاً محققاً ميسر الفهم قد بعد أشد البعد عن التشويه والاضطراب، وقد كانت دراسة أبي العلاء مهملة فحمل عليه كثير من الأكاذيب، وقد أحسنت بهذا العمل إلى أبي العلاء وإلى العلم، وقدمت إلى عالم الأدب خدمة جليلة تستحق عليها شكراً أي شكر وثناء أي ثناء، وتغيرت نبرة معاليه في صوته المعبر وهو ينتقل من هذا الثناء، فيقول: كل هذا لاشك فيه، وإنما الشيء الذي فيه شك هو أنك تشعرين شعوراً قوياً بجلال العمل، وهذا أول ما تؤاخذين به من نقد، فأنت أثرة مستأثرة جئت تلتمسين الموافقة على جهدك وقد وافقت أنت عليه من قبل، ولم تنتظري التشجيع فشجعت نفسك بنفسك، وأثنيت عليها ثناء مسرفاً، وليس أبغض إلى الله من الثناء على النفس لما فيه من الرياء والغرور، وكنت أحب أن تقبلي علينا متواضعة راضية، بما قدمت من جهد منتظرة رأينا فيك وفي عملك، وأنت لا تكتفين بذلك وإنما تهاجمين غيرك في الموازنة بين النص الذي تقدمينه وبين ما نشر قبله. وكان يجب أن تتركي لنا هذا، ولكنك تأبين إلا أن تتناولي النصوص مشنعة، وليس التشنيع من الحث العلمي، وإنما هو أقرب إلى الصحافة وإلى الصحافة المهوشة. . وعسى أن تكون خطورة هذه المسألة من أنك لم تنسى بعد ما يتصف به الطلاب الشبان من الطموح إلى التفوق والحرص على السبق وإرضاء الأستاذ فكأنك حريصة على أن تكون الأولى كما يفعل التلاميذ في المدارس الثانوية. عقلك عالم ولكن خلقك شاب، والشاب الذي لم يجرب هو الذي يريد أن يسبق. والنصيحة التي أقدمها إليك تنحصر في جملة واحدة قد أخذناها عن شيوخنا في الأزهر وهي: من تواضع لله رفعه.
وبعد ذلك لاحظ معاليه أنها تذكر كلمة (المنهج) مطلقة من غير إضافة لشيء كالجامعة مثلاً، وخاطبها قائلاً: مادمت حريصة على المنهج فتعالي أناقشك، وناقشها في عدة مسائل، منها أنها تحدثت عن سياسة العرب الإسلامية أيام رسالة الغفران من أفق عال من حيث التحدث عن الملوك والأمراء، وأهملت عنصر الحياة الشعبية والاجتماعية مع ما لهذا من أثر في أدب أبي العلاء، كتشاؤمه الذي يرجع إلى اضطراب الحياة الاجتماعية واختلاف الطبقات. ومما ناقشها فيه قولها: إن أبا العلاء رجل محروم مكبوت، لأنه لما يئس من العفة تشاءم.(876/44)
قال الدكتور طه: إن أحداً لم يسيء إلى أبي العلاء كما أسأت إليه بهذا القول، هل كان أبو العلاء حريصاً على الاستمتاع ثم زهد عن عجز؟ تقولين هذا ثم تدعين أنك تكبرينه، ولم تأت بنص واحد يثبت أن كان حريصاً على اللذات، لقد كان أبو العلاء يرى أن اللذات الكبرى هي التي لا ألم وراءها كان يرى الإنسان حقيراً وحياته لا تستحق العناية، كان يقول:
ولم أعرض عن اللذات إلا ... لأن خيارها عني خنسنه
لقد خدعك ما يكتبه الأوربيون عن الكبت والحرمان وقد سمعت في مصر وفي الشام ما قيل من أن أبا العلاء حمل على المرأة لأنه لم يستطع أن ينالها، وهذا ليس من الإكبار لأبي العلاء في شيء.
وأذكر أني قرأت هذا الرأي الذي أشار إليه معالي الدكتور طه حسين بك، في كتاب (رأي في أبي العلاء) للأستاذ أمين الخولي، وقد سمعت ما قاله الدكتور في تفنيده وتفنيد ما جاء متصلا به في الرسالة موضوع المناقشة، فلم تقتنع نفسي بهذا التفنيد، لأن تحقير أبي العلاء للذات الحياة لا يمنع أن تكون رغبته فيها كامنة، ولا أقول بأنه يرائي، إنما كان تحقيره قائماً في شعوره الظاهر على سطح ما استسر في غريزته، وعلى ذلك ليس من الممكنات الإتيان بنص يثبت حرصه على اللذات، وليس ما يقوله في الزهد والإعراض عنها دليلاً على عدم الرغبة لما كبتت ولدت النفور. ولست أدري لماذا لا نأخذ في هذه المسألة بما يكتبه لأوربيون عن الحرمان والكبت والشعور الظاهر والعقل الباطن.
ولولا أن صوت الدكتور طه حسين معبراً لما وقفت عند ذكره الصحافة في مقابل البحث العلمي. ولست أريد أن أعرض لما عساه أن يكون قد قصده من أن اشتغال صاحبة الرسالة بالصحافة غلب عليها في جزء من دراستها وهو الخاص بالطعن والتشنيع على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران، ولكني أقول إن فضل الصحافة في تقديم الأدب إلى الناس لا ينكر، وإن قسماً كبيراً جداً من إنتاج أدبائنا وخاصة كبارهم رآه القراء أول ما رأوه على صفحات المجلات والجرائد، وأقول أكثر من ذلك: إن كل أدبائنا الكبار منسوبون إلى الصحافة وقد كاد العميد الكبير أن يكون نقيب الصحفيين كما يعرف القراء مما جرى في آخر عهد الوزارة السابقة، ولعل اسم معاليه لا يزال إلى الآن مقيد في جدول الصحفيين.(876/45)
لم هذا الشعر الرمزي؟:
في عدد أبريل الحالي من زميلتنا مجلة (الكتاب) كلام للدكتور بشر فارس، عنوانه (الشاطئ الحافل) وأوله:
أنا السيد الأعلى للشاطئ الحافل
إليه من مواغل الأرض تقبل الضمائر
ذوات الرغبات الخساس
عاجزات، غيارى
فتموت.
وقد كتب تحت العنوان (شعر) لكي يلقى القارئ باله إلى - أن هذا الكلام شعر. . . أو لكي يزول عنه الشك في أنه شعر وإن كانت هذه الكلمة غير كافية لإزالة الشك، فلا أقل من أن يقال: والله العظيم أنه شعر! وقد علق عليه الأستاذ عادل الغضبان بكلمة أنكر فيها نسبة هذا الكلام إلى الشعر، حتى الشعر الرمزي القائم على التعريض والكناية، بل هو (إبراز المضمر واستنباط ما وراء الحس من المحسوس وتدرين اللوامع والبوادء) وماذا يعني؟ والله أعلم! خذ مثلا (إبراز المضمر) هل أبرز في ذلك (الشعر) مضمراً؟ ألست تراه - على العكس - زاده إضماراً على إضمار؟ وأنا أفهم أن ما يقع عليه الحس هو المحسوس، أما ما وراء الحس فكيف يكون محسوساً؟ وأما (اللوامع والبواده) فكل شاعر يدونها، ولكنه كلام غريب! والمطلوب أن يدهش وأن تصرف غرابته عن طلب ما وراءه!
أقصد بعد ذلك إلى الأستاذ إبراهيم الأبياري الذي كتب في بي نفس العدد مقالا بعنوان (الرمز في الشعر العربي) وغاية المراد هي الرمزية في شعر الدكتور بشر فارس، وقد (بدهني) من هذا المقال أن الأستاذ الأبياري تحول فيه من الأغراب اللغوي إلى الأغراب ب (اللوامع والبواده). عرف الأستاذ (الرمزية البشرية الفارسية) بأنها (رمزية الصورة وهي أن ينعقد فكر الشاعر على حقيقة ما فيحليها خيالاً، يختار له صورة تتفق ومعناه ثم يذهب يضم إليها ما يشبع نواحي تلك الصورة المتخيلة إشباعاً) وكل شاعر ينعقد فكره على حقيقة يحيلها خيالاً يصوره ويشبعه إشباعاً، فما الجديد؟
وليقل الأستاذ الأبياري ما يقول، ولينجز ما وعد أو توعد به من إطالة الحديث في هذا(876/46)
الباب والتقعيد له. . إنما أريد أن أقف معه إزاء (الشاطئ الحافل) أو (الشاطئ الحافي) كما ينبغي أن يقال ليكون أشد إمعاناً في الرمزية! ولننظر في الفقرات السابقة التي نقلتها من أول (القصيدة) ما هي الحقيقة التي أنعقد عليها فكر الشاعر. . الخ؟ ولنفرض أننا استطعنا - بعد الكد وحمل النفس على مالا تستطيب - أن ندرك ما يرمى إليه القائل، فما غاية هذا العناء؟ وما محصوله! وهل فيه جمال من جمال الفنون!
لطالما أسمعني الدكتور بشر فارس من أمثال ذلك (الشعر) - عفا الله عنه لحسن نيته! - وأنا أقول له: إني لا أفهم شيئاً، فيحاول أن يبين، وكنت أحياناً أصل إلى أنه يريد شيئاً، ولكن لا أجد هذا الشيء يستحق كل ذلك الشقاء، شقاءه وشقائي. . وقد رثيت لهذا الصديق الطيب وأشفقت عليه مما يعانيه، ولكني أرى العدوى تصل إلى صديق آخر طيب أيضاً، هو الأستاذ الأبياري، وقد بئست من الأول، وبقى لي أمل في الثاني، لعله يبين لنا الحقيقة والصورة وما أكلت منه حتى شبعت، على أن يذكر فائدة هذا اللون من الكلام وهل فيه ما نطلب في الشعر من متعة فنية، أو هو كلام غير مألوف والسلام. . .
شكاية أديب:
(طالعت في كشكولك الأسبوعي قولك (إن الأدباء هم الطائفة الوحيدة التي ليس لها شمل ملتئم، وهم في البلد الذي تنال فيه الحقوق بقوة الجماعات) ولقد أثارني هذا القول، فإن جريدة الأهرام - كما قد تعلم - أخرجتني من وظيفتي بوزارة المعارف لأتفرغ للتحرير فيها، ثم تخلت عني دون مبرر ولا موجب، فلجأت إلى نقابة الصحفيين - وأنا عضو فيها - ولكن النقابة لم تنصفني، بل ولم تأذن لي بمخاصمة الجريدة المذكورة، فهل رأيت في الدنيا موقفاً أعجب من هذا؟! لبثت قضيتي مطروحة على مجلس النقابة أكثر من ستة اشهر، حتى لم يعد في قوس الصبر منزع، وأخيراً لجأت إلى القضاء مطالباً جريدة الأهرام بتعويض مقداره خمسة آلاف جنيه وسوف تعرض الدعوى على محكمة الإسكندرية الابتدائية في 16 أبريل، فأين يا أخي عباس الطائفة التي تدافع عن الصحفيين بعد أن خذلتني نقابة الصحفيين التي ادفع اشتراكها السنوي وأقوم بالتزاماتها جميعاً؟!)
منصور جاب الله(876/47)
هذا بعض رسالة تلقيتها من الأديب الفاضل والصديق الكريم الأستاذ منصور جاب الله. وأنا حقاً أعلم قصته مع (الأهرام) وهي قصة يعرف مطلعها القراء، من مقالاته وتحقيقاته الصحفية، التي تدل على الاطلاع الواسع والذوق المصقول. وقد كان يوالي الكتابة بالأهرام وهو موظف، وكان المغفور له أنطون الجميل باشا يعرف قدره، وقد طلب إليه في سبتمبر سنة 1947 الانقطاع للتحرير بالجريدة، وكان الأستاذ منصور حريصاً على الإقامة بالإسكندرية لملاءمة جوها لحالته الصحية، فاتفق معه على أن يكون محرراً مقيماً بالإسكندرية، وعلى ذلك استقال من الوظيفة الحكومية، وظل يراسل الأهرام ويكتب إليها من هناك. وفي نوفمبر سنة 1948 أصدرت الجريدة إليه أمراً بالانتقال إلى القاهرة وإلا عدّ مفصولاً، فلما أعتذر بأن هذا مخالف للاتفاق انقطعت عن موافاته بمرتبة ثم قررت فصله.
وأنا لا أريد أن أتعرض للأمر من الناحية القضائية ولا من ناحية النقابة، وإنما أنظر إليه من الناحية الأدبية بالنسبة إلى الصحيفة الكبيرة ذات الماضي النبيل في معاملة محرريها وسائر موظفيها وبالنسبة للأستاذ منصور الذي خدمها متطوعاً وضحى بوظيفته ليكون من جنود صاحبة الجلالة بها، وإذا هو أخيراً يجد نفسه على قارعة الطريق. .
ما كان ضر الأهرام لو أبقته يوالي عمله بالإسكندرية كما كان؟
وليت شعري كيف يضيق صدرها الواسع بكاتب مثل منصور جاب الله؟ لقد عرفنا الأهرام مثالا لحسن المعاملة وتقدير العاملين بها، وكان يضرب بها المثل في ذلك بين الصحف، فماذا جرى؟ ما كان ينبغي قط أن يصل الأمر بينها وبين أحد لا إلى النقابة ولا إلى القضاء.
ولقد ترددت في إثارة هذا الموضوع هنا، ولكن الكاتب الأديب الأستاذ منصور جاب الله في محنة، ومن حقه أن يرفع صوته بالشكوى.
عباس خضر(876/48)
خواطر مرسلة
حديث التراب
(إلى المتكبرين الذين نسوا أنهم من تراب خلقوا وإليه يعودون
ومنه يخرجون)
للأستاذ حامد بدر
قلت لصاحبي: هل سمعت حديث التراب؟ قال: وهل يتكلم التراب؟ قلت: نعم يتكلم بصوت يسمعه من كان له قلب، وآثر على الشموخ بأنفه، الإطراق برأسه، ممعنا في التردد إلى الأرض، بعد أن عرف أن نعيم الدنيا وشقاءها يزولان بزوالها، كما تزول عند الأفاقة طيوف الأحلام؛ وأن السعادة التي يتنافس من أجلها المتنافسون، والشقاوة التي يستعيذ بالله منها المتقون، هما السعادة والشقاوة اللتان لا تنفدان ولا تنتهيان.
قال صاحبي: فما حديثه؟ قلت: كلما وطئ المتكبر الأرض بقدميه قال له التراب: أنت ظلوم جهول. . . ترى الحق وتعمى، فإن لم تعم تعاميت! وأنت حقير مغرور. . . تتعالى من فوقي ناسياً أنني رفيق الآباد، ومتحدي القرون بهذا الظاهر المنبسط الغامض، وذاك الوجه الأشعث الأعفر، وذلك السطح الرحب الصبور، جاعلا صدري مهادا لأقدام المثقلين بعظائم الخطايا، المفاخرين بكبائر الذنوب. . .! وقليل من يدرك أسراري، ويتدبر عظاتي.!!
أنت تنظر إلي نظرة سطحية فارغة قصيرة لا تتجاوز قدميك؛ ولو استطعت أن تنظر نظرة نافذة مليئة بعيدة المدى، لرأيت في تواضعي قوة الجبار، وفي سكوني ثبات الواثق، وفي احتمالي أناة الحليم، وفي صمتي عظة الحكيم، وفي ركودي عفو القادر، وفي هبوبي - الفينة بعد الفينة - آية للغافل الوسنان.!
وأنك إذا تأملت قليلاً ما شككت في أن في باطني قوة تفتت الجماجم، وتذيب الجلامد، وتصهر الحديد. .!
كم ثار من فوقي طاغية. . . وأخيراً لاذ بي جثة فارقتها الحياة، ونفر منها الأحياء؛ ولولا سعة صدري لاشمأز منها الأقربون!
وكم من شمخ بأنفه صادماً بقدميه تواضعي، فحملته حياً، واحتضنته ميتاً، ليرى مصيره،(876/49)
وينزل منزله!
عرفت شأني من قديم الدهور، فلم أحفل من داسني بنعله، ولكني أنهاك أيها المغرور - نهي الناصح - عن التمادي فيما أنت فيه من غفلة وعمى وسوء أدب. . فما أنت مني سوى ذرات! وأنك أن عرفتني عرفت أصلك ومرجعك، وأن ضربت الأرض بقدميك، ورمقت السماء بعينيك، وذهبت منتفخاً، ورجعت منتفخاً فقد أتعبت نفسك وأشقيتها، ثم عدت تطلب الراحة في مهادي الوثير، فينبو بك لأنك عققته، وحق عليك غضبه!
حامد بدر(876/50)
البريد الأدبي
المدرسن أولاً
قرأت في مجلة الرسالة الغراء كلاماً كثيراً حول مناهج الدراسة في الأزهر، وركود الحركة الفكرية، فيه وآخر ما قرأت من ذلك كلمة في العدد (874) بإمضاء (أزهري عجوز).
والكلام في هذا الموضوع ليس أبن اليوم فكل ما كتب الآن إنما هو ترديد لما كتب في السنوات الأخيرة. وقد كانت النية ألا أسترك في هذا الجدل مكتفياً بما كتبته في مجلة الأزهر وما قدمته للرؤساء من تقارير حول هذا الموضوع، ولكن كلمة الأزهري العجوز أثارت عجبي، فرأيت أن أعقب عليها بهذه الكلمة القصيرة.
إذا أردنا أن نقيم الدراسة في الأزهر على أساس علمي سليم، وأن نظفر بإنتاج أزهري قويم، فعلينا أولاً أن نعنى بالمدرس العناية التامة، فإن إعداد المدرس وتكوينه والعناية به هي التي توجد لنا الدرس المفيد أولاً، والكتاب النافع ثانياً.
والمدرسون في الأزهر الآن ثلاثة أصناف، فصنف تمرسوا بالكتب الأزهرية القديمة، وأطالوا فيها النظر، وفهموها حق فهمها، وهضموها، وهؤلاء يقومون بأداء رسالتهم على خير وجه، وصنف آخر درسوا على النظام الحديث، فدرسوا علوم التربية، وعلم النفس. وهؤلاء خير من يستطيع بسط المعلومات وتنظيمها، وإيصالها إلى أذهان الطلاب في يسر وسهولة. أما الصنف الثالث فدرسوا دراسة علمية ولكنهم لم يتح لهم الزمن الذي يجعلهم يهضمون الكتب القديمة، ولم يظفروا بدراسة شيء من أصول التربية وعلم النفس، وهؤلاء في حاجة ماسة إلى أن يدرسوا ويطيلوا الدرس حتى يلحقوا بواحد من الفريقين الأخيرين، فإن من الأمور الثابتة التي لا يختل فيها اثنان أن النجاح في التدريس لا يرجع إلى كثرة المعلومات وحشدها، وإنما يتوقف على تنظيمها، وأسلوب إلقائها. و (الأزهري العجوز) يؤمن بهذه النظرية، ولذلك يقول في أول كلمته بوجوب بناء المناهج الحديثة على أصول تربوية سليمة، ولكنه في آخر كلمته يناقض هذا الذي بدأ فهو يندد بتعالي الصيحات التي تنادى بأن تفتح أبواب الكليات لمدرسي المعاهد، فهو يعرف أن هؤلاء المدرسين المبعدين عن الكليات هم - وحدهم - الذين درسوا أصول التربية، وأنهم أقدر من غيرهم على معالجة الكتب، وتسهيل صعبها، ولكنه يخاف من ذلك، ويريد أن تبقى الكليات احتكارا(876/51)
للذين لم يدرسوا حرفاً واحداً من هذه العلوم، وليس لهم فضل إلا في كثرة المعلومات التي حشوا بها أذهانهم
وأنادي بها عالية مدوية أنه لا إصلاح للأزهر ما لم يمكن المدرس الكفء من أداء رسالته. أما أن يقبر الأكفاء، وأن تبقى الدراسة في الكليات موقوفة على طائفة معينة، أو مرهونة بإغراض أخرى غير الكفاءة والاستحقاق، فذلك ما يضعف الأمل في التقدم.
وقل لي بربك كيف تقبل نفس المدرس على العمل أو على التأليف وهو يرى نفسه كما قال الأول:
تقدمتني أناس كان خطوهم ... وراء خطوي لو أمشى على مهل
أعدوا المدرس الصالح أولاً، وقد أعددتموه فمكنوه من أداء رسالته، وهؤلاء الذين جعلتم له لحق في احتكار التدريس بالكليات قد علتموه بالعلم، فعلموهم كيف يدرسونه.
أم درمان
علي العماري
نداء من الهيئة المصرية لمؤتمر العالم الإسلامي الدائم
1 - إن المسلمين في إبان تاريخهم الطويل وما تركوه من أثر في قيادة العالم لم يصلوا بعددهم في وقت من الأوقات إلى مثل عددهم في العصر الحاضر.
فهم يكونون الآن من مجموعات كبيرة موزعة في قارتين من الأرض وأخرى موزعة على بقية القارات وعددهم يتكون من مئات الملايين.
وتسكن بعض الأمم الإسلامية لها أهميتها الجغرافية والتاريخية لأنها تتوسط قارات العالم القديم. ويؤيد من أهمية المسلمين في نظر بقية العالم أن بعض أراضيهم تعد من أغلى بقاع الدنيا - لا من ناحية خصب التربة وخيرات الزراعة وحدها، بل لما تحويه داخل التربة من ثروات معدنية وخيرات لم تصل إليها يد الإنسان بعد، فهم من ناحية موقعهم الجغرافي تسيطر بلادهم على أهم طرق المواصلات العالمية، ومن ناحية ثروتهم الزراعية وما تحويه أقطارهم من ثروات معدنية عرضة لتغيير كبير وتطور جارف قد يجعلهم في مقدمة أمم الأرض في النصف القادم من القرن العشرين.(876/52)
2 - ومع كثرتهم العددية التي أشرنا إليها وما ينتظرهم من مستقبل باهر نتيجة موقع بلادهم وما تحويه تربتهم من غنى وخيرات لم تستغل بعد، ومع وصول عدد من دولهم إلى الاستقلال التام عقب الحرب العالمية الثانية، ومع مظاهر الوعي القومي وبعض الوعي الديني، فيهم ومع انتشار أقليات منهم من بلاد كثيرة، لم يتمكنوا بعد من تأسيس هيئة إسلامية عالمية تستطيع أن تخدم الإسلام وتنشر الحقائق عن أهله وبلاده وتشير إلى أهميتهم كمجموع كبير وعنصر من عناصر الرقي والتقدم.
ولما اجتمعت الهيئات الدولية عقب الحرب واهتمت بالشئون الدينية والروحية كعناصر من عناصر بقاء الإنسان وتطوره، أخذت الأديان الأخرى تتقدم بهيئاتها المختلفة إلى منظمة الأمم المتحدة ولم تجد بينها هيئة واحدة إسلامية تتحدث باسم المسلمين ترفع لهم صوتاً مسموعاً في هذه المحافل بين الهيئات الغير الحكومية التي تتكلم باسم الأديان والمذاهب الأخرى مع أنها لا تقاس بأهمية المسلمين وكثرتهم العددية في العالم.
3 - لهذا كله فكر عدد من أهل الرأي والفكر في مصر في سد هذا النقص وعملوا على تأسيس هيئة مصرية لمؤتمر العالم الإسلامي الدائم يكون من أهم أهدافها:
توثيق الروابط الدينية والعقلية والروحية بين المسلمين في العالم - ثم العمل على تحقيق الاتصال بين المسلمين للتعارف والتفاهم وإبراز مبادئ الإسلام التي تتعالى عن فوارق اللون والجنس والقومية.
4 - ولقد نظر القائمون بهذه الفكرة إلى أن الوحدة الإسلامية في نطاقها الديني والروحي لا تحارب الوحدة الإنسانية بل تكلمها لكي يؤدي الإسلام رسالته الخالدة فيتعاون مع سائر الأديان الأخرى للمحافظة على القيم الروحية التي لا يمكن للإنسانية أن تتخلى عنها وهي في عنفوان نهضتها وتطورها واندفاعها نحو تأسيس نظام جديد لعالم المستقبل.
5 - وتمر الإنسانية في أوقات صعبة إذ تحاول بعض القوات السائدة على الأرض أن تقلل من أثر الأديان وأهميتها في قيادة شئون العالم وأن تضعف من عمل القيم الإنسانية والروحية في تطور البشر ويقظتهم.
لذلك كان بقاء المسلمين بعيدين عن هذه اليقظة الشاملة لا يفيدهم، بل أن واجبهم الأول هو دخول هذه المعركة القائمة بين الأديان من جهة، ودعاة الإلحاد من جهة أخرى، حتى تبرز(876/53)
القوى الكامنة في الإسلام كدين عالمي فيه كل وسائل الانطلاق والبعث والدعوة إلى خير الإنسان وإسعاده على هذه الأرض.
ولذلك فإن عمل مؤتمر العالم الإسلامي الدائم لن يقصد منه محاربة دين من الأديان، وإنما يدعو إلى كلمة سواء بين المسلمين مهما اختلفت أنظارهم وألوانهم ومذاهبهم وجنسياتهم ولغاتهم ثم، يرمي إلى تأكيد مبادئ التفاهم والتكاتف والتعاون والمحبة والسلام بين الناس جميعاً وهي المبادئ التي ما انفك الإسلام يدعو إليها منذ نشأته الأولى.
وبعد اجتماعات دامت عدة أسابيع وضعت اللجنة التحضيرية بهذه الهيئة نظاماً للعمل وعرضته على جمعية عامة وافقت عليه وأخذت تنفذه، وقد رأت الهيئة أن تتقدم إلى الرأي العام الإسلامي في مصر وفي سائر البلاد بندائها حتى يتعرف المسلمون الوجهة الصحيحة التي ترمي إليها الهيئة المصرية لمؤتمر العالم الإسلامي والأغراض السامية التي تدعو إليها، فينضم للهيئة من يشاء ممن يلمسون في نفسه رغبة المساهمة في هذا المشروع الجليل.
وقد وزعت أعمال المؤتمر على ثلاث لجان:
(1) لجنة للدعاية
(2) لجنة رشاد
(3) لجنة للمالية
وقد بدأت كل واحدة منها تعمل في إنطاقها ويرحب القائمون بأمر المؤتمر وهيئته الإسلامية بكل من يود الاشتراك في عضوية الهيئة المصرية من المشتغلين بالشئون الإسلامية والداعين إلى تحقيق أهدافها والذين تدفعهم الغيرة للمحافظة على قيم الإسلام ومبادئه وتراثه في خدمة الإنسانية والحضارة.
اللجنة التحضيرية للمؤتمر(876/54)
القصص
القبلة
للكاتب الأسباني أوسيبيو بلاسكو
في سجن من السجون ليس يعنينا اسمه، كان أحد المجرمين العتاة سجيناً. والحق أنه لا ينتظر في مثل هذا المكان أن يجد عدداً من خيار الناس، بيد أنه من بين الستمائة سجين الذين كانت تضمهم جدران هذا السجن الذي نسوق الحديث عنه، كان هذا السجين أشدهم خطراً.
كانوا يدعونه (الذئب). وكان في الستين من عمره، وقد أمضى من الستين اثنتان وأربعين سنة في سجون مختلفات. وكان منذ شبابه يتنقل من دار قصاص إلى دار قصاص، وقد حكم عليه بسبب السرقة حيناً، وبسبب القتل آخر حيناً. وإنه لمن المحال أن يقدم كشف جامع لجرائمه، وقد حكم عليه آخر مرة لجريمة أشنع من سابقاته كلها، بالسجن لمدة تزيد على البقية الباقية من حياته.
ولقد كان على قدر كبير من الضراوة، وسوء الخلق، حتى أن بقية السجناء كانوا يتحاشونه. وكان كلما مر بأحدهم نأى عن سبيله جهد المستطاع، إذ كان (الذئب) بطبعه شرساً عسر الخليقة. وقد حدث أكثر من مرة أن عض من اقترب منه كثيراً أو ركله بقدمه، أو شكه بالإبرة، وكان دائب العمل في جوارب من الصوف. وكان أكثر شراسة من غالبية القوم، متعطشاً للدم كأكثر الحيوانات المفترسة.
وكان يقضي الأيام والأسابيع في صمت قاعداً على الأرض، وأمامه عمله، وهو مطرق برأسه. وكان رأسه مغطى بشعر أسود، ولحيته التي سمح له أولوا الأمر بالاحتفاظ بها بدافع الخوف أو التحمل، مشعثة الشعر مهملة، وكانت عيناه سود قاسيتين، ونظرته مخيفة مهددة، وكان برغم سنيه الستين شديد القوى، وثيق عضلات اليدين، وكان مبعث الرعب الصامت في المكان كله. إذ كان لا يبادل الحديث أحداً، ولا يشارك الآخرين مزاحهم الآثم، ولكنه كان يحافظ على سمعته الذي كان الجميع يعترف به ويحترمه، وكان كلما رفع بصره، وألقى الطرف حوله إلى نزلاء السجن الآخرين، أشاحوا برؤوسهم، أو رفعوا أبصارهم إلى السماء بدلاً من لقاء نظرته.(876/55)
وعين مدير للسجن جديد كان من أولى النشاط، حازماً لا يستهان به. وأخذ المسجونون بسبب صمته هذه يحدجونه بنظرات آثمة، ويتذمرون تذمراً منه دون سبب حقيقي.
وكان لهذا المدير طفلة صغيرة تدعى أورورا، لم تبلغ الخامسة بعد حين عين أبوها مديراً للسجون. وذهبت عصر يوم مع أبيها إلى فناء السجن ساعة الغداء. وبينما كان يقوم بوزن غداء السجناء ذهبت الطفلة في شجاعة الأطفال وأخذت تحدثهم، وكلمتهم جميعاً وضحك نفر منهم، وطلب البعض منها أن تشفع لهم عند أبيها، ولكن فريقاً منهم تمتم بألفاظ نابية ضد الأب وابنته.
وكان الذئب وحيداً، بعيداً عن الآخرين، جالساً على الأرض وظهره مسند إلى الحائط، وغداؤه موضوع بجانبه لم يؤكل نصفه، وكان يعمل بسرعة تبعث الدوار في صنع جورب. وكان مطرقاً برأسه ولم يرفع بصره حتى عند ما أصبح الوالد وطفلته على قيد خطوتين أو ثلاث منه. ونظر بطرف عينه، لحظة لا غير، إلى الرئيس وابنة الرئيس.
وحولت البنية أن تقترب منه، ولكن أباها منعها.
وقالت أورورا (أريد أن أقترب منه، وأتفرس فيه.)
فقال الأب (كلام أنه شرير جداً، خطر جداً، ربما يلطمك)
فقالت الطفلة (أنظر، أنظر، يا أبت، كيف يبدو! وأنه ليصنع جورباً!) فقال الأب:
(إنه ليصنع ذلك على الدوام؛ وقد أخبرني المدير السابق أنه شديد الخطر، وقد قضى في السجن كل حياته تقريباً. وله الآن هنا ثلاثون عاماً.) فقالت الطفلة
(ثلاثون عاماً! يا للمسكين! يا للرجل المسكين!)
ولما سمع (الذئب) الكلمات (يا للمسكين! يا للرجل المسكين!) رفع بصره، ورمق الطفلة بعينين محملقتين، ولكنه لم ينقطع عن العمل بإبرته، وكان المدير على وشك أن يقول لأبنته الصغيرة كلاماً، ولكنها انفلتت إلى الأمام وهي تصيح (سأمنحه قبلة.)
وقد فعلت ذلك. واقتربت من (الذئب) وقبلته دون اشمئزاز أو خوف، قبلة في وجهه تماماً، وهي تقول (خذها، ولا تكن شريراً بعد!)
وكأنما أصابت (الذئب) صاعقة. ولم يفه ببنت شفة، ولكن خرج من حنجرته صوت حشرجة، كالمشلول الذي يود الكلام فلا يستطيع، لما بلغ الأب وابنته الباب المؤدي إلى(876/56)
سكن المدير، التفت المجرم العجوز نحوهما وحدجهما بنظره.
ومر العصر، ثم المساء، وذهب (الذئب) ككل حيوان إلى عرينه.
وتعاقبت الأيام والأشهر، ولم يحدث في السجن المنظم شيء ذو بال. ولكن قامت ذات يوم من شهر يوليو عاصفة في اليم خارج السجن، وثارت في نفوس السجناء ثورة تجاوب العاصفة، وارتفع نذير العصيان، ورفض الرجال تناول الطعام الذي قدم إليهم، وانفجرت المؤامرة التي كانت تضطرم بكامل قوتها.
وهتف المسجونون (اطردوا الضباط! ليسقط الضباط! لنأخذ السجن!)
وقفز المدير كالفهد من غرفته حيث كان يقيل، وفي طريقه إلى الفناء أغلق باب مسكنه على طفلته حتى لا تتبعه. ولما دخل فناء السجن وجد أمامه ثلاثمائة رجل مسلح بملاعق خشبية كبيرة دببت أطرافها وأرهفت حتى لتقتل كالسكاكين
وأطلق الطلقات الست من غدارته، ولما أطلق الطلقة الأخيرة رأى وحشاً حقيقياً مقبلاً نحوه، رجلاً أشعث الرأس، كأنه رأس دب، وهو يصيح (لا تخف! أنني هنا!) وكان هو (الذئب).
وأمسك المدير من حزامه، ودفعه إلى الحائط وأوراه بجسمه، وأمسك في يمناه مدية كبيرة الحجم، لا يدري أحد كيف حصل عليها، وبدأ والمدية في يده يستقبل العدو، وهو يسدد طعنات صائبات حقي أن كل من اقترب من متناول يده سقط ميتاً عند قدميه.
لما وصل إلى نجدته الحرس المسلحون والشرطة، وانتهت المعركة، وهدأ كل شيء، ونجا المدير، سقط (الذئب)، وقد أثخنت الجراح رأسه وجسمه وكان في حشرجة الموت. وادخلوه سكن المدير بناء أمره، وأرقدوه على سريري ناعم وثير رقد على مثله لأول مرة في حياته. ورقد هنالك، يقلب الطرف حوله، بعينين باحثتين متوقعتين. . وتكلم (الذئب) بصوت متقطع وهو راقد هناك بين الحياة والموت، وهو يرمق الرجل الذي أنقذه من الموت.
وقال (الطفلة. . الطفلة).
وفطن المدير في لحظة إلى السبب الذي حمله على الدفاع عنه، أجل أجل لا ريب أن ذلك هو السبب! وجرى نحو مسكنه الذي أغلق بابه على ابنته، وقد نسى أن يفتح الباب حتى(876/57)
الآن وكانت الطفلة تبكي من الرعب. وأخذها بين ذراعيه وعاد بها إلى الغرفة التي كان الرجل العجوز يلفظ أنفاسه الأخيرة فيها. وكان (الذئب) العجوز راقداً وعيناه مفتوحتان محملقتان، وما زال لديه فسحة من الوقت لرؤية المخلوق الوحيد الصديق الذي لقيه في حياته، وليقول:
(مرة أخرى! مرة أخرى!)
ورفع الأب أورورا بين ذراعيه، وسمع صوت قبلة، قبلة وضعتها شفتان ملائكيتان لطفلة صغيرة على ذلك الوجه المفضن الذي لفحته السنون.
ولما غادر القس المكان، وما زال يتمتم بالصلاة وهو يحمل الزيت المقدس، ظل المدير ورجال الشرطة، ورجال الحرس، ركعاً أمام الجسد في صمت رهيب، وأخذت الفتاة الصغيرة بناء على كلمة من أبيها تقول في صوت حلو، رقيق، صوت الطفولة:
(يا أبانا الذي في السماوات، نقدس أسمك. .)
محمد سليمان علي المهندس(876/58)
العدد 877 - بتاريخ: 24 - 04 - 1950(/)
حياتي
(حياتي) هي حياة صديقي الدكتور احمد امين بك، ألفتها الوراثة والبيئة والظروف والمواهب والأخلاق والجهود في مدى أربع وستين سنة، فجاءت فصلا متميزاً من كتاب الحياة العام. وقليل من الناس من يتهيأ بفطرته وعبقريته ليكون مادة من مواد هذا الكتاب. أما الاكثرون فأكثرهم ينكرهم المؤلف الأعظم إنكاره للمعدوم، واقلهم يذكرهم إما لحقا في حاشية وإما عرضا على هامش.
هذا الفصل الطويل الحفيل لخصه أحمد أمين بقلمه فجاء قصه من قصص البطولة النفسية في ثلثمائة وخمسين صفحه من الحجم اللطيف، تقرأها وأنت ترجو ألا تشغل عنها، وتفرغ لها وأنت ترجو ألا تفرغ منها!
قرأتها في جلستين اثنتين على كلال بصري ووهن أعصابي، فكنت كأنني أشهد بخيالي وذهني فلما ثقافيا عجيب المناظر مختلف الألوان جم الصور يمتع العقل والقلب جميعا.
كان ما أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (حياتي) لأحمد أمين، يشبه ما كنت أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (الأيام) لطه حسين: شوق ولذة من نوع غريب الطعم والاثر لم أذقهما في حياتي الادبية قبل هاتين المرتين في هذين الكتابين. وليس معنى ذلك أن (حياتي) و (الأيام) يشتركان في مذهب فني واحد، بل معناه انهما يشتركان في أجتذاب النفوس وامتلاك المشاعر بشيء اخر غير الفن. قد يكون ذلك الشيء في الجمال النفسي الذي يتجلى في الصدق حين يجوز الكذب، وفي الصراحة حيث تنقذ الكتابة، وفي التفصيل حيث يسهل الاجمال.
وقد يكون في الروح القوى الذي يهيمن على الكتابين، فيظهر هناك في عمق الشعور، كما يظهر هنا في عمق الفكر وقد يكون في التصوير الدقيق البارع لتربية روحية مسخها المادة، وبيئة شعبية نسخها المدنية، ولا يزال لهما في النفوس أثر وفي بالقلوب نوطة.
وقد يكون في أولئك كله، إلا الصفات الجوهرية التي لابد منها للمكتوب الصحيح وللكاتب الحق
عبر صادقا عن نفسك تتجاوب أنت والناس، وأنقل أمينا عن بيئتك تتعارف أنت والطبيعة.
قال لي صديقي ذات يوم ونحن جالسان في المجمع. سأبعث إليك بأول نسخة تخرجها المطبعة من كتابي، وسأمضي فيه على رأيك ولو كلفني ذلك تفريق ما جمع وتمزيق ما(877/1)
طبع، فأني ضعيف الثقة بما أعمل. فلما مضيت في الكتاب تبين لي أن ضعف الثقة في الصديق لم يأته من اشتباه الحق ولا من التباس الصواب، وإنما أتاه من اتساع المسافة في نفسه بين ما يريد وبين ما يستطيع، ومن شدة الاختلاف في رأيه بين ما يجب وبين ما يكون.
ولقد كان صديقي في هذا الكتاب بالذات شديد التردد في كتابته، كثير التشكك في افادتة، فهو يقول في المقدمة: (لم أتهيب شيئا من تأليف كما تهيبت في أخراج هذا الكتاب؛ فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض، أو غيري الموصوف وأنا الواصف. أما في هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف. والعين لا ترى نفسها ألا بمراّة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته. والنفس لا ترى نفسها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة التجريد وتوزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما اشق ذلك وأضناه!). . . (وترددت أيضا في نشره: ما للناس و (حياتي)؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، ومخباّت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ؛ ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العلم فحاول وصفة وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاها وزاد بعمله في ثروة الادب وتاريخ الفن، ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والامراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا علية أحيانا، وسعد وشقي، وعذب واكرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة , وينشر مذكراته لتكون درسا. لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر حياتي؟)
ومع ذلك استطاع أحمد أمين بوزانة عقلة ورزانة خلقه أن يقول لحق أصرح ما يقال، وأن يصدر الحكم أعدل ما يصدر: كما استطاع بقوة شعوره وقوة تصويره أن يحقق الفائدة للقارىء، فجعل من تاريخ حياتة تاريخ حياة لمصر في الربع الاخير من القرن الماضي، والنصف الأول من القرن الحاضر، فوصف عادات كادت تزول، وسجل حوادث كادت تنسى، وصور وجوها كادت تغيب؛ فالحال الاقتصادية بسخرتها وقسوتها وثقل ضرائبها وسوء جبايتها في قرية (سمخراط) بالبحيرة؛ كانت هي الحال في كل قرية من قرى(877/2)
الاقاليم. والحال الاجتماعية بطبقاتها وعاداتها واعتقاداتها في (حارة العبادية) بالمنشية، كانت هي الحال في كل حارة من حارات القاهرة. والحال الشخصية بتربيتها ونفسيتها وعقليتها في نفسه وأهلة وصحبه وجيرته، كانت هي الحال في كل فرد من أفراد الشعب. وإن في تصويرة البيت والسقاء والمحدث والكتاب والازهر، وفي وصفه لأبويه وأخويه، وصديقيه عبد الحكيم محمد وعلي فوزي، وأستاذيه عاطف بركات ومس بور، لنماذج من البيان المطبوع الذي يشرق بنور العقل وينبض بروح العاطفة. وإن من أجمل ما في الكتاب تلك البراعات الذهنية التي تبدهك بين الصفحة والصفحة في تحليل نفس، او تعليل حادث، أو تأثير شخص في شخص، أو موازنة حالة بحالة. على أن مثل (حياتي) في انبثاقها من البيت والحارة والكتاب والازهر، وفي تفرقها بعد ذلك في نواحي العمل ووجوه الارض وأشتات الامر، كمثل الدوحة العظيمة، تكون عند الجذع قوية غليظة مكتنزة، تضطرب بالحياة وتزخر بالخصب وتستمد غذاءها من جذورها الضاربة في جوف الثرى؛ فإذا تفرعت على ساقها انتشرت الاغصان وتشعبت الافنان فتوزعت الحياة، وتقسم الري، وخفت الحركة، ولكن فيها مع ذلك الجمال والظلال والزهر والثمر؛ فالقسم الأول من (حياتي) كأصل الدوحة عميق وثيق مكتنز لاستمداده من أعماق النفس؛ والقسم الآخر كفروعها هش الافنان منبسط الجوانب لامتداده في آفاق الطبيعة.
والكتاب بعد ذلك قد كشف عن سر من أسرار الصناعة في كاتبه. ذلك سر القصة. والنفس الفنانة عميقة كالكون. سحيقة كالابد، فلا تنتهي أسرارها حتى ينتهي المجهول، ولا تنقضي عجائبها حتى تنقضي الحياة!
أحمد حسن الريات(877/3)
صور من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
هبت نسمات الربيع تدفعني إلى الماضي الجميل، فحن الفؤاد إلى مراتع الطفولة، وصبا القلب إلى ملاهي الصبا، ونزعت الروح إلى ملاهي الذكرى، هناك في القرية حيث الربيع الغض يمد سحره الرفاف، فينشر على البر بحرا سندسي الحواشي، مرح الاعطاف، يبسم لهبات النسيم في رقة، ويصافحها في لين، ويعانقها في شوق، حيث الغدير العذب ينساب إلى غير غاية، يترنم بأناشيد الهوى ويشدو بألحان الغرام، وهو يضم بين حبات قلبه صفية الحبيب: شعاع الشمس الذهبي الذي يدفىء حناياه بزفرات الشوق والحنين؛ حيث فيء شجره التوت يتهادى ليهدهد من أنات الثور المعنى ونواح الساقية الشجي؛ حيث أهلي الذين أتشوف إليهم برغم أن شواغل المال قد جرفتهم فجف فيهم الحنان وذوى العطف ونضب الصفاء؛ حيث الفلاح الذي يئن تحت وقرين من ضنى العمل ورقة الحال. . .
وجذبتني نوازع النفس إلى القرية فطرت إليها أستجم من عناء وأتدع من كلال وأهدأ من صخب، فخلت أول شيء لباس المدينة وهو ضيق يرهق الجسم ويحبس الدم ويخنق الحركة، ثم انطلقت وحدي إلى مكان ذي ظل وهدوء، على أجد نفسي وخواطري معا.
وتكبكب الفلاحون يحيون الضيف الذي حل ديارهم على حين فجأة بعد سنوات من نأي كادت تمحو ورته من الذهن، وتمسح سماته من الخاطر، وتطوي تاريخه من الوعي. . . الضعيف الذي نقض عنه - في لمحة واحدة - أثر المدينة فلبس ثوب الفلاح في غير تمنع، واستلقى على ثرى أرضه في غير تحفظ، وأكل طعامه في غسير تفزز، وشرب شرابه في تكمش. ومستنى روعة المكان وروعة الاخلاص المتدفق من أغوار النفوس الطيبة الزكيه التي ترفل في دثارين من الرضا والقناعة؛ فأخذت معهم في حديث راح يتشقق فنونا، وإن فيه العذوبة والذكرى. ومضت ساعة من زمان وأنا أرقب رجلا منهم نفر من الجماعة فانتحي ناحية فما شارك في الحديث ولا هش للمجلس، ولكن ظل في منأى عنا منطويا على نفسه وعليه آثار الأسى وفيه علامات الحزن؛ وتراءى لي كأنه يحمل على عاتقه أعباء السنين العجاف، وراعني أن ينقض السامر ولما أكشف عن طوايا نفسه أو أنقذ(877/4)
إلى أعماق قلبه، وإني لأعرفه فتى طروب النفس خفيف الحركة قوي العضل. . . أعرفه منذ أن كان أبي رب هذه الارض وصاحب هذا الغيظ وسيد هذا الناس، ومنذ أن كنت أنا صبيا أرفل في عبث الطفولة وحماقة الصبا.
وناديته فلبى وجاء يتوكأ على عصا0 وقد حطمته السنون فبدا هيكلا يتداعى من وهن وضعف، ثم سألته (ما لك لا تنغمر في الحديث ولا تندفع في السمر ولا تهتز للطرب؟)
فقال (يا بني إن أبناء المدينة لا يفهمون لغة الريف ولا يستمرئون شكوى المظلوم)
قلت (وي كأنك نسيت أنني ابن الريف وربيته، لم تصرفني عنه إلا نوازع العيش ولا تدعني عنه إلا دواعي الوظيفة!)
قال (ولكنك جئت ترفه عن نفسك وللذة الهادئة، وتلتمس السكون والراحة من صخب المدينة، فما كان لي أن أعكر صفو المتعة بشوائب الشكوى، ولا أدنس سعادة المرح بأنات الاسي
قلت (لا بأس عليك! هات حديثك عسى أن أجد لك فرجة من ضيق أو برءاً من سقام)
فقال في صوت شاع في نبراته الاسى وافحم رناته الحزن: (أما قصتي فهي قصة الضعف تعصف به القوة العارمة، قصة الفقر يعبث به الغنى الجارف.
(لعلك، يا بني، لا تذكر يوم أن تركت غيط أبيك إلى ضيعة سعادة البك! لقد فعلت وإنه ليتراءى لي أنني أفر من ضيق إلى سعة ومن شظف إلى خفض. وكنت - إذ ذاك - فتى في الطمع والطموح في وقت معا) ونسيت أن الثراء العريض لا يرقق القلوب القاسية، وأن النعمة السابقة لا تداوى الانفس الشح، وأن المال الوفير لا يلين العقول الجافة؛ ولكنني طرت إلى عزبة البك
(وتقبلني سعادة البك ورجالة بقبول حسن، وتقبلت أنا العمل بشوق وأمل، وانطوت الايام فاذا أنا أقرب الناس إلى قلب البك، يسبغ على من نعمته ويحبوني بفضل رعايته، ثم يقيمني رئيسا على عماله
(ووجدت في عملي الجديد معاني السيطرة والسلطان، وأنا - حينذاك - رجل صقلتني التجارب وشذبتني الحياة، فرحت أبذل غاية الجهد وأستنفذ وسع الطاقة لاكون أهلا لثقة البك، وعشت بين العمال أخا وصديقا وصاحباً، وعشت في الغيط أمينا ومخلصا، وعشت(877/5)
في دار سعادة البك خادماً وعبداً؛ لا أتطاول إلى طمع ولا أتشوف إلى جشع، ورضيت ورضى أهلي، وأحس أولادي بالخفض والسعة، فاطمأنت نفسي وسكنت جأشتي واستنامت خواطري، ولكن الحوادث لم تنم. . .
(وعلى حين غفلة أصاب ابني ألاكبر داء عضال، فتفزع قلبي واضطربت حياتي لانه عوني وساعدي ولأنه أبني. . .
(وطرت إلى الطبيب أستشيره وأستعينه على أمري، وتحث الطبيب حديثاً ثلج به صدري وتطمئنت له لوعتي، ثم بدأ يطب لمرض المريض وأنا أدفع الأجر من عرق الجبين وأجزل العطاء من عناء العمل
(ليت شعري هل كان الطبيب يسخر من غفلتي ويهزأ من جهلي حين راح يمد لي في الأمل ويفسح لي في الرجاء ليخدعني عن مالي ويستلبني من كد العمر. آه، يا بني، لقد ظل أبني بين يدي الطبيب شهوراً لا يجد الراحة ولا الشفاء والطبيب يمكر بي ليستنفذ طاقتي حتى لصقت يدي بالتراب ولم يبق في داري سوى صابة تشوك أن تنضب، ولكن الامل. . . ومرت الايام فاذا انا لا اجد قوت يومي، وإذا الطبيب ينذرني في جفاء وغلظة. . . ينذرني بأن يقذف أبني إلى عرض الشارع إن أنا لم أشبع نهمه أو أرد غلته
(يا لقلبي ما أغلظ أكباد قوم سيطر عليهم سعار المال فصرفهم عن معاني الانسانية الساميه ودفعهم عن رقة الرحمة والشققة
(وانطلقت إلى سعادة البك - سيدي - أقص قصة أبني المريض وهو يقاسي برحاه المرض عند الطبيب، وأنا أعاني مس الفاقة هنا بين يديه، وطلبت إليه أن يعينني ببعض ماله. . . بخمسة جنيهات.
(وحدجني ألبك بنظرات قاسية ثائرة ثم قال (وإذن فقد شغلك أبنك عن عملي شهورا. لا بأس فهذا أمر أستطيع أن أغفره لك. أما الجنيهات، فمن ذا الذي أوهمك بأن داري هي بعض التكايا فتطمع أن تجد فيها مالا غير أجرك الذي تستحق).
(وأنكشف لي قلب سعادة ألبك عن حجر لا ينبض برحمة ولا يخفق بشفه فقلت له في توسل (ولكنني خادمك منذ زمان وهذا أبني بين يدي طبيب غلط الكبد قاسي الطبع خدعني عن كل مالي وهو ألان يوشك أن يقذف به مريضاً إلى عرض الشارع لأنني لا أجد ثمن(877/6)
العلاج ولا ثمن الدواء).
فقال في قسوة (لا عجب أن تمن علي بعمل نلت أجره مرتين. أما الطبيب، أما أبنك فلا شأن لي بهما، فأخرج وإلا. . .)
(وخرجت من لدن سعادة ألبك وأنا أذرف عبارات الأسى واليأس وقد ضاقت على نفسي وضاقت على الارض بما رحبت، وحدثتني شجوني بأن ألقي بنفسي في أليم لأخلص من حياة لا أحس فيها إلا قلوبا قدت من حجر فما امسكني إلا أبني المريض الذي يترجى عودتي)
(وأنفت نفسي - منذ تلك الساعة - أن أعيش في كنف البك الذي تكشف لي عن وحش مفترس يتأنق في مسلاخ إنسان، وترامى الخبر إلى البك فأقام حارسا) على داري، ثم طردني وحبس قوتي وقوت عيالي فما استطعت أن أحمل معي الذرة ولا القمح. . . ولا العيش. وتركت الدار التي كنت أسكن في عزبة البك. . . تركتها يوم أن مات أبني)
(وأحر كبدي لقد عشت ساعة على قارعة الطريق أذرف لوعة قلبي وحرقة فؤادي أمام جثة أبني المسجاة في أسمال لان سعادة البك رفض أن ندخله في داره، وأني في قسوة أن يمد لي يده في ساعة العسرة، ولكن عماله أعانوني في الشدة وساعدوني في الضيق.
(ولا عجب - يا بني - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!)
كامل محمود حبيب(877/7)
الأخلاق الديكارتية
بمناسبة مرور 300 سنة على وفاة الفيلسوف ديكارت
ديكارت فيلسوف، حظه في الفلسفة رحب الجوانب مترامي الأطراف، وله من الالمام بالتراث الفلسفي القديم نصيب موفور. فقد أحاط خبرا بسابقيه إحاطة تختلف سعة وضيقا، ومع هذا كله فله مذهبه الخاص به في كل ضرب من ضروب الفلسفة. إذ الفيلسوف الحق إنما تخلد آثاره لا بما فهم وهضم من تراث ماضية فحسب، بل بما أضاف من جهد له قيمتة إلى هذا الماضي إضافة من شأنها أن تجعل المذهب الفلسفي كالكائن الحي له صفات النمور والنشور
هكذا كان ديكارت، فإن له لآثاره وابتكاره اللذين تميز بهما ولا سيما فيما نحن بصدده أي الأخلاق ولا بأس من عرض سريع للتعرف على ميزة الأخلاق عند القدامى قبل استيضاح معالم الأخلاق عند ديكارت.
نعم كان علم الأخلاق عند القدامى عمليا يفترض إحاطة تامة بشتى ضروب المعرفة من الطبيعة وما وراءها، والسيكولوجيا وغيرها، فسقراط يقول (اعرف نفسك بنفسك) وينشد أفلاطون (العدالة) النفسية ليبني عليها العدالة السياسية، ويقيم أرسطو بنيان أخلاقه على علم النفس، ولا يشذ عن أستاذه في نشدان (الفضيلة التي ليست شيئا آخر غير الوسط العل بين طرفين) فهم ثلاثتهم يقصدون إلى (الخير) كما عند سقراط، أو (السعادة) كما عند أفلاطون، أو (الحكمة) عند أرسطو.
وعلى هذه الوثيرة سار التابعون لفلاسفة اليونان والآخذون عنهم من رواقيين وغير رواقيين وامتد الشعاع من الرواقية حتى وصل إلى ديكارت فتلمسه ثم تآثر به سلبيا وإيجابيا.
وإذا أحس ديكارت بضرورة الحاجة إلى إتمام صرحه الفلسفي كان لابد له من أن يصنف العلوم تصنيفا هو بمثابة الهيكل أضلاعه مرتبه على جوانبه، فقد ارتأى أن العلم شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق، وهو آخر مراتب الحكمة والعلوم لانه يتطلب البحث والإحاطة التامة بكل ضروب العرفان، فهو لذلك أعتقد العلوم، أما وقد جد في الطبيعيات والميكانيكا والطب ولم ينته بعد من هذين الاخيرين(877/8)
فقد أثر ديكارت الانتظار.
ومن أجل تجديد المسكن الذي ارتأى وجوب القيام فيه، وجب قبل هدمه أن يأوى إلى أخلاق موقوتة هي بمثابة السكن المؤقت حتى يتم له هدم ما أزاد هدمه، وبناء ما أراد بناءة، فماش ديكارت وما ترك لنا الا هذا المسكن الموقوت الذي سكن إليه ريثما يتمم الاسس، فلم يتح له ذلك. ومع هذا فإن هذه الأخلاق تستحق العناية لامكان لاستدلال منها على كثير من جوانب الحياة التي أكتنف ديكارت في شخصه ومجتمعه معا.
وثمة مسألة لها قيمتها وهي الخاصة بالعلاقة بين الفلسفة والحكمة من ناحية، والأخلاق والسعادة من ناحية أخرى. أما الحكمة فإنها مرتبطة بالفلسفة ارتباطا وثيقا. يقول في كتابه عن (القواعد) وكلمة فلسفة تعني دراسة الحكمة وليست العلوم بأسرها إلا الحكمة الحكمة الإنسانية التي تبقى هي دائما)، والحكمة - فضلا عن تضمنها للحكمة العلمية -، فإنها المعرفة التامة بكل الأشياء التي يتسنى للإنسان المعرفة بها. وإذا كانت الفلسفة هي دراسة الحكمة فهل اللفظان مترادفان؟ كلا. فالفلسفة هي (الحكمة) من حيث هي (عملية) والأخلاق هي آخر درجة وأبعدها في الحكمة، كما يقول ديكارت في مقدمة كتابة (المبادئ).
وبين الأخلاق وعلم النفس صلة وثيقة، فلنتعرف على أحوال النفس وأحوال البدن ثم على ما بينهما من تفاعل. وكل ذلك نلتمسة بوضوح في رسائل ديكارت إلى الملكة كرستين والاميرة إليزابيث فضلا عن (بحثه في الانفعالات)، وفي هذه الينابيع الثلاثة عرف ديكارت لب الأخلاق من حيث هي السلوك الإنساني على أساس قوي من السلوك النفساني.
وعند ديكارت ألفاظ أخلاقية هي: الكمال والخير الأسمى والسعادة والنعيم المقيم واللذة والنظر والعمل والحرية والفضيلة والمعرفة والإرادة. ودراسة هذه الألفاظ ومدلولاتها عنده والصلة بينها وبين بعضها كل ذلك إدراك للعقد التي تجمع بين أطراف الأخلاق الديكاراتية:
يعرف ديكارت الخير الأسمى بالكمال إذ الخير الأسمى هو الحصول على كل الكمال الذي كل فعل خلقي خليق به والخير الأسمى لا يتضمن أي وسيله للسعادة، ولذلك هما متباينان أشد ما يكون التباين، ولا يتردد ديكارت لحظه في الفصل بين الحيز الأسمى وبين الله فيقول (من الممكن اعتبار طيبة كل شيء في ذاتها بدون ربطها بغيرها مما يكون معناه(877/9)
واضحا، لدرجة أن الله هو الخير الأسمى لانه اكمل الموجودات حيث لا شبيه له في هذا) ثم هو كذلك يبعد معنى الخير الأسمى عن المعنى الأفلاطوني أي المثل الأعلى والمعيار الثابت للعمل الإنساني. . . وعندما نراعي فكرة الخير لاستخدام قاعدة لاعمالنا فإنا نأخذها على أنها الكمال التام).
ويفرق أيضا بين السعادة والنعيم المقيم حظ سعيد قد لا يكون من فعلنا، أما النعيم المقيم فهو نتيجة الحكمة، وهو يقوم على السرور. وليست المسرات على درجة واحدة من القيمة، فالسرور كعلاقة ونتيجة للكمال يجب تقديره بحسب ماله من سبب. وبحسب هذا تعدل مسرات الإنسان المركب من جسم وروح لان مسرات الانفعالات معرضة للظهور مقدما أعظم مما سوف لا تؤول إلية. ولهذا فهي تخدعنا. والمسرات عامة تعطينا من الارتياح أكثر من حقيقتها أي هي متعلقة بالكمال الحقيقي، و (لنعرف تماما كيف يمكن لكل شيء أن يعين على ارتياحنا يجب اعتبار الأسباب التي تنتجها)
هناك نوعان من اللذة: فمنها ما يتعلق بالنفس وحدها. ومنها ما يتعلق بالإنسان أي النفس من حيث اتصالها بالبدن، وهذه الأخيرة تظهر غالبا اكثر مما هي عليه، وقبل حيازتها يكون الأصل في جميع الشرور وجميع الأخطاء في الحياة. وبمقتضى العقل يجب أن تقاس كل لذة بمقدار الكمال الذي ينتجها. وإنه لكذلك حين نقيس تلك التي أسبابها معروفة لدينا معرفة واضحة. وغالبا ما يجعلنا الانفعال نعتقد بعض الأشياء الحسنة والمرغوبة. وإن لم تكن هي كذلك. على أننا إذا أصبنا كثير من الألم وفقدنا فرصة الحصول على خيرات أكثر تحققا فا المتعر تعرفنا الأخطاء. ومن هنا تأتي العوامل الداخلية كالحسرة والندم، ولهذا كانت مهمة العقل امتحان القيمة الصحيحة لجميع الخيرات التي يبدو أن الحصول عليها يعتمد بشكل ما على تصرفنا لكيلا نحتاج أبدا إلى استعمال جميع غاياتنا إلى محاولة أن نتابع تلك المرغوب فيها أكثر من غيرها.
فالنعيم المقيم يؤدي إلى اللذة، ولمعالجتها يجب معرفة كيف تتميز هذه اللذات، ولما كنا لا نستطيع القول ضمنا بأن النعيم المقيم ليس هو الخير الأسمى فانه ليس إلا نتيجة له والنعيم المقيم بعبارة أخرى هو الاتجاه الذي يحتم علينا أن نتبع الخير الأسمى الذي هو الوسيلة لهذه الغاية العليا. وهكذا نرى كيف يتميز ويرتبط كل من السعادة والخير الأسمى.(877/10)
كيف نعرف الخير الأسمى أو مثال الكمال الذي نتوصل إليه إليه بأتباع اللذة؟ يفرق ديكارت بين المثال الغامض والعام عند الكال الإنساني. وهذا ما يجب على كل فرد أن يفترضه. أي يفترض المثال الذي يوافق طبيعته، وفضلا عن هذا فإن الخير المتعلق بالفرد وحده خير الكل وإنما هو الخير المتعلق بالفرد وحده.
ولما كان من الضروري أن نفرق بين الخيرات الخارجية وبين الخيرات التي تتعلق بنا، فان كل الأشياء لمتساوية عند الغير. والخيرات الخارجية تضيف شيئا إلى الكمال والسعادة الدائمة. ولما كانت الخيرات الخارجية لا تدخل تحت نطاقنا فقد وجب أن نركز رغائبنا في الخيرات الخاصة بنا. والذي يخص المرء أولا وبالذات هو إرادته. والكمال الذي يجب أن نبحث عنه هو كمال الإرادة على نحو ما ينتهي الخير الأسمى إلى الفضيلة فيتحد معها.
وإذ ننزع بالإرادة نحو الكال نكون قد فعلنا كل ما نستطيع فعلة لمعالجة الخير الأسمى الذي قد حصلنا عليه فعلا حينما أدركنا معه كل ما يتفق مع طبيعتنا أي حينما نكون قد استحوزنا على الخير الأسمى الحقيقي وحده من الخير الذي هو ملك لنا.
أما الفضيلة فهي مجهود الإرادة. وهي ليست استعدادا طبيعيا، ولا وظيفة من وظائف الذهن ويهتم ديكارت بالنية فهو يخرجها حتى تقرب أحيانا من الشخصية الأخلاقية، فالنية الحسنة الأساسية هي نية معرفة الخير. وثمة فضيلة هي أن يتفق الشخص والموضوع.
والعقل عند ديكارت هو النفس المنفعلة، والنفس مرآة عليها تظهر الأفكار والحقائق من أشعة النور الإلهي. وعنده أن الانفعال غير مستقل عن العمل لا في النفس ولا في العالم الجسماني، ولا يمكن أن يفهم أحدهما بدون الآخر، فأنهما اسمان مختلفان لحقيقة واحدة ينظر إليها من وجهين. والعقل ليس وحده كل النفس، ولكنه مزدوج بالإرادة، وديكارت يستخرج الحقيقة واليقين من العقل والإرادة معا.
وديكارت لا يقيم للحرية الاعتباطية وزنا لأنها لا توجد، وإن وجدت فإنها أحط درجة للحرية على أن للحرية تعريفا وردفي (الرسائل السادسة) وهو (أنها ملكة وضعية للجنوح إلى أمر، وأجتناب آخر، أي اتباعة وتفادية، وبعبارة أخرى العزم على أمر او رفضه. وإذن فالحرية هي ملكة الاختيار بمعنى أننا إما أن نقبل الشيء او نرفض ولما كانت الارادة والحرية شيئا واحدا فإنهما يعتمدان على الافكار (فنحن لا نريد شيئا لا نعلم عنه(877/11)
شيئا)، وشيء هام جدا هو ان العقل محدود، أما الارادة فلا حدود لها فالعقل لا يتأمل إلا جزاء فقط من الحقيقة، أما الارادة فإنها تتعلق بكل شيء سواء في مظاهرها أم في حقائقها.
ثم يتسامى ديكارت إلى أفق الميتافيزيقا فيفرق بين الحرية الإنسانية والحرية الإلهية، فالأولى تبحث عن الحقيقة التي خلقتها الثانية. والإرادة والمعرفة عند الله شيء واحد، وعند الإنسان: الإرادة مقدرة مطلقة دون المعرفة.
والأيمان - عند ديكارت وعند معظم معاصريه - يكفي لتوجيه الحياة، وهو يقول (بما أن أرادتنا لا تهتم إلا باتباع أمر أو عدم اتباعه حسب ما يصوره لنا العقل حسنا أم سيئا، فإنه ليكفي أن نحسن الحكم لنحسن العمل. وأن نحكم أحسن ما نستطيع أي للحصول على جميع الفضائل).
هذا هو موجز التخلق عند ديكارت، فإجادة الحكم هو إجادة العمل، وبما أن الوضوح هو القاعدة الأولى لاحكامنا، وأن الوضوح علامة الحق، فكذلك أعمالنا لها ما لعزماتنا من القواعد، فليس هناك حقيقة علمية تنظم روابط أعمالنا، وإنما الحقيقة واحدة نظرا وعملا، فالإرادة الحرة تحددها أفكارنا التي ليست نظرية وعملية، هي شيء واحد ولا فضل لاحداهما على الأخرى. إذ الأولى قيمتها في العظمة، والاخرى قيمتها في الكمال كما يقول ملبرانش.
ومن أجل الطرافة التي اتى بها ديكارت بشأن حرية الارادة استحق أن يسمى (فيلسوف الحرية). وكلمة الحرية هنا وعند ديكارت ذات معنى حر إذ تمتد من النفس الانسانية حتى تنتهي إلى الحرية السياسية.
وبهذا تكون الأخلاق اليكارتية ترجمة لنظريته في المعرفة، إذ يرى - وقد سبقه سقراط - أن الجهل والرذيلة شيء واحد.
كما أن العلم والفضيلة شيء واحد، فرؤية الحق بوضوح هي إرادة الخير مباشرة، والرذيلة خطأ، والخطأ ناشئ عن معميات وأوهام وأضاليل، فنحن لا نرى الشر بوضوح، والشر الذي نرتكبه يتمثل دائما في صورة الخير (فإذا نحن رأيناه واضحا كان محالا أن نأثم حين رأيناه على ذلك النحو، ولذا قيل الخطأ جهل، وكل خطأ يرجع إلى آرائنا ونزعاتنا ورغباتنا. ومهما يكن من شيء فنحن لا نقدر إلا على أفكارنا).(877/12)
وتتضح بذلك خصائص الأخلاق الديكارتية وتتركز في كونها (معرفة عاملة) فضلا على أنها علم معياري لانه يضيف الحرية ومثالا واضحا للواقع، بل هي علم للنظام المثالي.
والتخلق هو أن كل موجود وكل فعل يجب أن يضع في نصابه، والوظيعة الأخيرة للإرادة هي أن نتوسل بالنية إلى هذا النظام، ومعرفة هذا النظام هي إذن ذات الشأن العظيم، فالرغبة في معرفة النظام، ثم الرغبة في اتباعه هو أساس التخلق عند ديكارت، وإذن فالبرجماتزم على اوضح صوره متحقق في الأخلاق الديكارتية العملية.
ويعنى ديكارت بالانفعالات بغية ترويض النفس تبعا لمعرفة هذه الانفعالات. وبذلك نستفيد منها في غرس عادة جديدة ونزع أخرى ولا سيم أن النفس الانسانية هي القابلة للتعود والتخلق.
والانفعالات بطبيعتها توجه ألا راده قبل العقل لكسب معارف جديدة (الدهشة)، والبحث فيما هو نافع لنا (الحب) والهرب مما هو غريب عنا (الكره)، ولكن هذه الاتجاهات تستمد أيضا من الأحكام على الخير والشر، وهذه الأحكام شأنها شأن الانفعالات التي تبقى في حدودها الطبيعة، وإنما هي أحكام حقه، ولكن يندر أن تكون كذلك.
وبعد، فهل من سبيل إلى التعرف على سلوك ديكارت، ونحن نعلم أن مذهب الفيلسوف قطعة من حياته؟ الحق أن قراء ديكارت يختلفون كثيرا على نص واحد يكتبه، فهو في المقال عن المنهج بصدد الحديث عن القسم الأول يقول (وآمل أن يكون هذا الكتاب نافعا للبعض دون أن يضر أحدا، وان يرضي عني الجميع لصراحتي). هذه الجملة البسيطة، تحمل من اللفتات التهكمية اللاذعة ما لايستطيع قارىء أن يمر به مر الكرام. إذ هو يتواضع تواضعا جما في عرضه لارائه على الناس، وهو إذ يقصد إلى أن يتنع الناس جميعا هذا المنهج الذي أنتهجه نراه يتخفى وراء هذه الغابة فيتخذ من تواضعه ما يشف عن رغبته هذه. وهو أيضا يعبر عن نفسه بأنه صريح. والواقع أن هذه ليست صراحة، إنما هي تقنيع للفكرة التي لا يريد التصريح بها حذر الوشاة والخراصين.
وديكارت بهذا يقوم - كما يقول كوييربية بدور (المناورة السقراطية) ومصداق ذلك قولة (. . . لم اكتسب من اجتهادي في التعليم الا تيبني جهالتي شيئا فشيئا) ولقد سئل سقراط عما يعرف فقال (كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا).(877/13)
ثم هو إذ يعرض للفلسفة يتناولها بالتجريح في لباقة وحرص لأنها (تعطينا وسيلة. . . لكسب الإعجاب ممن هم اقل منا علما) وهو تهكم بالسفسطائيين المعاصرين له.
ويعرض ديكارت بفساد النظم السياسية المعاصرة فيقول (أما ما في نظم الدول من عيوب - إن كان في نظمها عيوب، والخلاف بينها كاف لاثبات كثير من العيوب في كثير منها - فإن التطبيق قد لطفها كثيرا بلا ريب، بل هو جنب من عيوبها، وتلافى منها رويدا رويدا ما لم يكن مستطاعا بالحكمة. ثم إن تلك العيوب تكاد تحتمل دائما أكثر مما يحتمل تغييرها كالطرق الملتوية بين الجبال تتمهد شيئا فشيئا لكثرة التردد عليها. وخير للسائل لأن يذهب في طريق أكثر استقامة، متسلقا فوق الصخور منحدر إلى بطون الوهاد).
وفي هذا من الغمز والتعريض ما لو شرح لفقد قيمة التعريبية والتفكيرية معا. وهو لهذا يعد صاحب (ثورة سياسية) لا (ثورة فكرية) فحسب، كما يرى بعض المؤرخين اعتمادا على افتتاحية المقال عن المنهج. فإن ديكارت - في نظري - كفلاسفة اليونان إذ نشدوا الإصلاح الاجتماعي فبدءوا بتغيير عقيلة المجتمع على أسس فلسفية؛ وكذلك كان ديكارت.
واختلف الناس في لمر هذا الثائر الجبار الذي اتخذ شعاره (عاش سعيدا من احسن الاختفاء)، ولم يحاول أحدهم ظان يعذر ديكارت من مناوراته الفكرية.
ومع ذلك فإنه إذ ينشد الإصلاح يرى أن (من المفيد أن نعرف شيئا عن أخلاق الأمم المختلفة يكون حكمنا على أخلاقنا أصح، وحتى لا نظن أن كل ما خالف عاداتنا هو سخرية، ومخالف العقل كما هو دأب الذين لم يروا شيئا) الذين لم تتجاوز معارفهم حدود بلادهم. لهذا ساح ديكارت حول (الكتاب الأكبر) واستفاد من أسفاره ما حقق له غرضه.
وما كان ديكارت ليعشق الجاه، بل لقد بغض إليه - على ما أوتى من بساطه في العيش - ولم يكن يحفل بمنصب يناله، ولا بجمال زائف غير جمال الحقيقة؛ حتى لقد آثرها علي جمال التي هوفى بيتها. ولم يغفل ديكارت الصدى المر الذي تردده مأساة جاليليو، فآثر الحيطة في كل ما يقول ويكتب، ولكن ألم يذكر حقا غير الأخلاق الموقوتة التي ذكرها في المنهج لانة لم يكن قد انتهى بعد من إقامة هيكل العلوم؟
الحق أن ديكارت أتخذ من الأخلاق الموقوتة سكنا موقوتا حتى يتم له هدم القديم لبناء الجديد. فهل تم له الهدم والبناء. وإذا لم يكن ذلك فكيف كتب هذه البحوث المستفيضه في(877/14)
الاخلاق، وهو لم ينته بعد من العلوم التي افترض وجودها قبل الأخلاق؟
الواقع أن ديكارتاضطر إلى ذلك اضطرارا. اولا ليرضي رغبة الاميرة. وثانيا ليظهر مجهوده الأخلاقي قبل أن تعاجله المنية فتخرج فلسفة إلى التاريخ مبتورة من عضو هام هو الأخلاق. وكل فيلسوف - فيما نعلم - لا بد أن يردف الأخلاق بالسياسة فأين السياسة من فلسفة ديكارت؟ الجواب على ذلك معاد، وهو أنه لم يرد أن ينبه الأذهان في رفق إلى فساد استغرق العصر دون ظان يعكر مزاجة ويخرج هدوءه صخب النيا، فضلا عن نداء المجازر والمشانق لكل متمرد ثائر.
من أجل هذا اطمأن صاحبنا إلى منزله المؤقت المبنى على قواعد ثلاث هي: -
1 - طاعة قوانين البلاد واحترام عوائدها، والثبات على ديانتها في اعتدال اجمع عليه اعقل المعاصرين.
2 - الثبات في العمل، وتجنب الشك والتردد في السياسة.
3 - مغالبة النفس التي لا نقدر ألا على أفكارها إذ لا تحكم لنا في الأقدار. وهي أخلاق لها أهميتها - كما يقول (مزنار) لأنها تمكن النفس من الاستمرار في البحث عن الحقيقة في أمان، والاستمرار في كسب العلوم، ثم هي تكفي للأخلاق المضطربة التي تمثل مشاكل الحياة العملية في كل لحظة.
محمد محمود زيتون(877/15)
احتكاك الحضارات
منذ ظهر الإنسان على وجهة الأرض وهو دائم الحركة لا يقر له قرار، إذ دأب على الهجرة والارتحال، مما أدى إلى انتشار الأجناس البشرية وتعميرهم مختلف بقاع هذا الكوكب. وهو من الحيوانات المقلدة ولكن ليس تقليده آليا. فإذا ما أنتقل من بيئة إلى أخرى فإنه لا محالة ناقل معه مظاهر حضارته وتقاليده. وكما يحدث تزاوج بين الأجناس واختلاط بين العناصر، كذلك يحدث امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، نتيجة الأخذ والعطاء، وتبادل الآراء. وحركة الإنسان هذه لها فائدة مشتركة؛ فانتقاله إلى بيئة جديدة يمكن هذه البيئة من الاستفادة منه، كما يستفيد هو الآخر منها، إذ ينقل إلى موطنه بعض مظاهر الحضارة الجديدة.
ولقد تعقدت حركة الإنسان على مر الزمن، فتدرجت من مجرد هجرات سلمية إلى غزوات حربية وفتوحات استعمارية على أشكال شتى وألوان متباينة. وتبع هذا التطور في الحركات: تطور في الاحتكاك الذي ساعد على شدته وتعقده في الأزمنة الحديثة سهولة المواصلات وظهور المخترعات وانتشار الصحافة وعنى ذلك. فلم تعد هناك عزله بين الحضارات.
والكلام في هذا الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الطرق التي يتم بها احتكاك الحضارات، ثم النتائج التي تنجم عن ذلك، وأخيرا أمثله من اتصال العرب بالشعوب الأخرى بعد انتشار الإسلام، واحتكاك الأوربيين بالجماعات البدائية: الإسكيمو في الشمال وزنوج البانتو في الجنوب، واخيرا لمحة عن الذي حدث بين الشرق والغرب في الماضي والحاضر.
وسائل الاحتكاك
ليس احتكاك الحضارات أمرا مقصورا على الماضي، ولكنه طاهر مستمرة على مر العصور. ويرى الأستاذ دنكن أن الاحتكاك بنوعين من الطرق: طرق منظمة وأخرى غير منظمة.
الطرق المنظمة: يمثلها التبشير والتجارة والاستعمار والحروب.
1 - المبشرون(877/16)
ويرتبط تأثيرهم بالنواحي الدينية والروحية. وتعتبر المسيحية أكثر الأديان تبشيرا. ويقال إن السبب في إرسال المبشرين هو القضاء على الوثنية ونشر المسيحية. والذي يحدث في الواقع محاولة احتلال الحضارة الأوربية الجديدة محل الحضار الأصلية البدائية. فيعقب وصول المبشرين تغيرات في الملبس والمسكن والعادات والتقاليد واللغة، ذلك لأن المبشر يعمل على تعليم الناس لغة قومه قراءة وكتابة. وينظر الأهالي إلى المبشرين أول الأمر على أنهم إنما يأتون أعمالا غير شرعية، لكنه سرعان ما ينبذ التقاليد القديمة وينشر النظم الجديدة التي يعتمد انتشارها اعتمادا كبيرا على مدى تذوق الأهالي لها، وكثير من القبائل في جنوب أفريقيا وجزيرة مدغشقر ونيوزيلند قد تحسنت أحوالها على أيدي المبشرين. ولقد كان الغرب في الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرين يعلمون أبناءهم مبادئ العلوم واللغة القومية مع إحدى اللغات الغربية، وجعلوا من بيروت أس حركاتها، يبثون في عول النشء المبادئ التي رأوا فيها مصالح أممهم الدينية. ونقوم الإرساليات الأمريكية بقسط كبير من التبشير الديني.
2 - التجار
يأتي التجار غالبا في إثر المبشرين. ومع أن التاجر يكون عدوا للمبشر إلا أن الاثنين يعملان معا على نشر الحضارة الجديدة؛ فالمبشر يعمل على محو الوثنية ونشر المسيحية، وأما التاجر فيبيع الكماليات مثل الشاي والسكر والأسلحة للأهالي. على أن البضائع التي تباع للأهالي هي من أحط الأصناف وفي الواقع يلحق التجار كثيرا من الضرر بالسكان، فمثلا حملوا جماعات الإسكيمو على احتساء القهوة وتناول الخبز واستعمال الطباق وتعلقوا بها حتى إنهم اضطروا إلى بيع الجلود التي هم في حاجة أليها - لكي يحصلوا على هذه المواد، فأصبحت الحاجة ماسة إلى الجلود الأمر الذي أدى إلى سوء الأحوال: وفي ساحل الذهب بغرب أفريقيا استطاع التجار أن يحصلوا على الكاكاو - أهم غلات هذا الإقليم - وذلك مقابل إعطائهم الخمور التي ولع بها الزنوج لذلك قال وكادو كوت (إن المسيحية لم تر في التوسع الاوربي عملا مساعدا بل وجدتة معرقلا لها.) وليس من شك في أن الربح من التجارة كان اساس احتكاك الاوربيين بغيرهم. ويحدث عادة انقسام بين الاهالي إزاء(877/17)
البضائع الجديدة، فمنهم من يقبل عليها ومنهم من يحجم عنها. ويتوقف نجاح التجار على مدى إحاطتهم بعادات أهل البلاد وتقاليدهم. والقاعدة العامة أنه كلما كان التجار اسمى حضارة كان تأثيرهم قويا، حتى ولو كانوا قليلي العدد. مثال ذلك: العرب في الملايو، إذ استطاعوا أن ينشروا الثقافة الاسلامية في هذة الاصقاع رغم قلة عددهم - ولو أن التأثير الجنسي كان ضئيلا بالطبع.
3 - الاستعمار
وهو انتقال جماعة من الناس من موطنهم الاصلي إلى منطقة اخرى بقصد السيطرة عليها واستغلال مرافقها او الاقامة فيها. وقد يكون الباعث اقتصاديا او سياسيا او هما معا. ولقد كان لمعظم الدول الاوربية نصيب في استعمار المناطق البدائية. وحيثما حل المتعمرون فإنهم ينشرون حضارتهم. ويعتبر محل إقامتهم مركتزا للمبشرين والتجار. وكثيرا ما يحدث امتزاج بين حضارتي المستعمرين والاهالي، أي أن كلا الطرفين يستفيد من صاحبة؛ فقد أخذ الامريكيون عن الهنود كثيرا من أسماء المدن والانهار، وفي لغتهم كلمات هندية كثيرة. وإن جزءا كبيرا من غذاء الاوربيين مأخوذ من الهنود، حتى قال احدهم: (لو أننا حذفنا من الاوربية كل الاصول الهندية فإن ذلك يترك ثغرة كبيرة. ولولا الاتصال الدائم بالموطن الاصلي لحدث التشابة التام بين الحضارتين.) وأحيانا يحتفظ المستعمرون بمقومات حضارتهم ويعزلونها عن الاهالي فلا يختلطون بهم؛ ولكن هذا الامر لا يطول. ويتميز الاستعمار الحديث بميزة سوداء، ألا وهي إبادة كثير من العناصر الأصلية، هذه الإبادة على ثلاثة أشكال.
أ - إبادة مباشرة: وهذه تتم بالقتل كما حدث في تسمانيا
ب - إبادة غير مباشرة: وذلك بتسليمهم الأسلحة التي يجهلون استخدامها فيقتل بعضهم بعضا، أو نشر الأمراض كما حدث بين الإسكيمو.
ج - إبادة هادئة لطيفة بإسكانهم في المناطق غير المنتجة كما في استراليا أو وضعهم في حضائر - كما عومل الهنود في جنوب أفريقيا.
وإذا نظرنا إلى أعمال الدول الكبرى يمكن القول إن للاستعمار سياستين: سياسة التلاشي داخل الوحدة وهذه سياسة الدول اللاتينية وعلى رأسها فرنسا، وتعمل على فرض حضارتها(877/18)
بشيء من القوة مع القضاء على الأصلية وسياسة التنوع داخل الوحدة وهي سياسة الدول السكسونية وفي مقدمتها إنجلترا، وتحاول إيجاد نوع من الاحتفاظ بالشخصية ويكون ذلك في الناحية الدينية غالبا مع إبقاء الأمور الاقتصادية تحت سيطرتها توجهها كيف شاء لها الهوى , وليس من شك في أن هذه السياسة أكثر تضليلا، على أن الأهالي قد يقاومون أو قد يرضخون.
4 - الحروب
للحروب اثر كبير في احتكاك الحضارات، إذ أن كلا من الفريقين يستفيد من صاحبه. وقد أدت حروب الاسكندر الاكبر إلى وقوع احتكاك بين التيارين الثقافيين في الشرق والغرب. وكانت خطة الاسكندر هي إقامة وحدة حضارية عالمية قائمة على الحضارة اليونانية، والسبيل إلى ذلك إنشاء مراكز ثقافة تدرس فيها علوم اليونان وتحكم بنظمها، فكانت الاسكندرية من أعظم المراكز الثقافية التي يشع منها نور الحضارة الاغريقية.
ويختلف الكتاب في مدى احتكاك المغلوبين والغالبين:
فيرى ابن خلدون أن المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب في شعارة وزية ونحله وسائر أحواله، ذلك لأن المغلوب يعتقد الكمال، فمكنه ذلك من الغلب، بمظاهر حضارته وبأنف من الاختلاط بالمغلوب كما فعل العرب في مصر أول الأمر لكنما هذه العزله لا تستمر طويلا. أو أن يحتفظ المغلوب بمقومات حضارته كراهية منه للغالب كما فعل المصريون مع الهكسوس والفرس.
ويرى الأستاذ ريفرز أنه كلما كانت حضارة المغلوبين راقية كان التأثير عليهم بطيئا وبسيطا. والفرق عظيم بين تأثير الأوربيين في الهند والصين وبين تأثيرهم على العناصر البدائية التي تتأثر بسرعة لأنها اسلس قيادا واكثر طواعية.
وترى مس سمبل أنه إذا كان الغزاة أسمى حضارة - حتى ولو كان عددهم قليلا - فإن الغزو يتمخض عن اندماج المغلوبين تدريجيا مع الغزاة: في النظم الاقتصادية ومختلف نواحي الحياة، مع التسليم بتأخر الاندماج في النواحي الروحية، فقد استطاع الإغريق أن يصبغوا شرقي البحر الأبيض المتوسط بالصبغة الإغريقية، وتمكن العرب من نشر الثقافة الإسلامية في سواحل شرق أفريقيا حتى موزنبيق - مع قلة عددهم هناك، وذلك لارتفاع(877/19)
مستوى حضارتهم وسموها.
وقد استفاد الشرق والغرب استفادة عظيمة من الحروب الصليبية إذ عرف الصليبيون صنائع أرقى من صنائعهم، وحبب إليهم تسامح المسلمين الهجرة والترحال فربطوا صلات تجارية مع الشرق. وارتفع عن أذهان الغربيين ما كان دسه رؤساؤهم عن الإسلام حتى عاد بعضهم بشرح المعتقدات الإسلامية بضبط ودقة، كما استفاد المسلمون كثيرا من ذلك.
محمد محمد علي
البقية في العدد القادم
ليسانسيه في الآداب(877/20)
اتين سانت هبلير
من علماء الحملة الفرنسية
للكاتب الفرنسي رنيه سموا
طفولة عالم
في يوم قائظ من سنة 1784 شوهد فتى في الثانية عشرة من عمره، منهمكا في البحث عن النباتات والحشرات. كان يتأبط حقيبة يضع فيها باعتناء ونظام الازهار والاوراق التي يقع اختياره عليها، وكان معه علبه لصون الحشرات التي تستحق العناية.
ولما انتهي عمله من جمع النبات والحشرات من نوع الخنافس جلس في ظل سنديانة، وجعل يدرس مجموعته الجديدة بنظارة خاصة ثم كان يدون ملاحظاتة في دفتر صغير وكان مستغرقا في درسه حتى انه لم ينتبه لوجود الشيخ الذي كان يراقب حركاته باهتمام واعجاب
رفع بصره لسماعه تحطيم غصن يابس، وجعل الشاب يلتفت إلى مصدر الصوت فبادر إلى اخذ لوازمه واستعد للرحيل لانه راى شيخا واقفا بالقرب منه (قال له ذلك الشيخ لا ضير عليك يا بني) لا تقطع عملك لأنه يهمني كثيرا، وأني لسعيد في تزهتي هذه لأنها دفعتني إلى التعرف بك، وادركت تماما بانك مشغوف بالتاريخ الطبيعي، لاني كرست معظم حياتي لتعليم وتدريس هذا العلم. فاجابه الشاب: (نعم يا سيدي - لأنه آنس بكلماته المشجعة - أني أحب النبات والحشرات المختلفه كثيرا باشكالها والوانها. على أنه ليس لدي سوى معلومات اولية من التاريخ الطبيعي. وعليه فاني اغتنم العطلة الكبرى لأكون مجموعة من نباتات هذا البلد ومن حشراته.) قال له الشيخ (هل لك أن تريني نتيجة ابحاثك؟. . فاجابه الفتى: سمعا وطاعة، يا سيدي، ارجوك أن تنفر لي قصوري لأني مستجد في هذا العلم!)
فأخذ الشيخ المجموعة والدفتر، وأخذ يتأمل بأعجاب دراسة هذا الحدث ثم قال. (يا بني أنك متواضع جدا لأنك تطلب مني الصفح عن قصورك، بيد أني ارى هنا طريقة البحث واضحة ومعلومات وملاحظات هي فوق سنك. كل هذا حسن؛ ولكن قل لي أين تعلمت المبادىء الاولية للتاريخ الطبيعي؟ قال له الحدث. اعطاني أبي الدروس الاولى وأكملت(877/21)
دروسي في كلية (ايتمب).
فاستغرب الشيخ قائلا: وهل تسكن عائلتك هذه المدينة؟ فاجاب الحدث بقوله. نعم يا سيدي، ان والدي هو نائب عام هذه المدينة -
ما أسمك يا بني؟
اسمي جوفروا سانت هيلير
قال الشيخ، لا عجب بان تكون ذا ميل شديد للعلوم الطبيعية. لأن ثلاثة من هذه الأسرة يدعون بجوفروا سانت هيلير كانوا اعضاء في الجمع العلمي فرع العلوم، وكان الاخير يسمى باسمك: اتين سانت هيلير وكان احد الاساتذة الممتازين لحدائق النبات (حديقة الملك).
قال الفتى: - أراك يا سيدي واقفا على تاريخ اسرتي، مع أني لم أشاهدك قط في بيتنا! فاضاف الشيخ قائلا: صدقت با ولدي ولكن أعلم باني مطلع على تاريخ العلماء النابهين في العلوم لأني استاذ في حديقة النباتات وفي كوليج فرانس.
فاضطرب الفتى من هذه المصادفه حتى انه ما تجرأ ان يسال الشيخ عن أسمه.
ولما عاد إلى البيت قص على ابيه ما توقع له، فتبسم ابوه وقال أن ما صادفت هو العالم (دوبنتون الذي طبق اسمه اوربا كلها. أني مسرور منك لاهتمامك بالعلوم، ولكن لا تنسى أن رغبتي ورغبة أمك هي أن تستعد لتعلم امور الدين كي تصبح يوما من حزب الاكليروس)
مولده
ولد اتين جوفروا سانت هيلير، في (اتيمب) في 15 نيسان سنة 1772 من والدين عريقيين في الشرف، متوسطي الحال مثقفين ثقافة عالية، جدير بأن ينتسب لهذه الأسرة الكريمة التي انجبت علماء في العلوم الطبيعية والفيزيائية في غضون القرن الثامن عشر.
فاعتنى الوالد بثقافة ولده، ولا سيما جدته التي كانت ترى فيه مخائل الذكاء فقد كانت له خير موجه ومدرس اذ شرحت له منذ نعومة اظفاره كتب أعاظم رجال اليونان والرومان وكذلك ما ألف في عصر لويس الرابع عشر. حتى انه تفهم أعاظم الرجال للمؤرخ (بلوتارك) على يديها في سن الحادية عشرة من عمره. نعم لقد ظهرت آثار هذه الثقافة فيه(877/22)
واكسبت نفسه قوة وشجاعة شديدة المراس.
حدث له إذ كان في العاشرة من عمره انه يتيما كان يتنزه مع رفاقه في ضواحي المدينة سمع صوت اعوال وصراخ من أناس كانوا يطلبون الفرار فأسرع (اتيين) إلى المكان، فشاهد ويا لهول ما شاهد! نظر فتاة قد هاجمها كلب والسكينة جامدة مكانها لا حول لها ولا طول والا البكاء فاسرع صاحبنا إلى كرمة واخذ من تحتها شعبا وارتمى على الكلب ضاربا إياه بشدة حتى ولى الحيوان الادبار وتوارى في الاجمة القريبة.
وبعد أن أتم دراسته المنزلية على ابوية وفي مدرسة مدينة أيتمب، نال كرسيا مجانيا في كلية ناقا في باريس، وتابع دراسته الادبية بسهولة وتقوى بالعلوم تحت ارشاد اساتذه علماء وهنا محا من فكره كل انتساب للاكليروس. وأقدم بقواه جميعها على استقاء العلوم المحببه اليه. فتسجل طالبا في حديقة النباتات وفي كوليج ده فرانس، حيث التقي ثانية بصديقة القديم دوبنتون وتتبع دروسه بكل رغبة ونشاط.
أما الدور الذي مثله اتيين اثناء دراسته المنزلية على ابويه وفي مدرستة مدينة ايتمب، نال كرسيا مجانيا في كلية ناقا في باريس، وتابع دراسته الادبية بسهولة وتقوى بالعلوم تحت ارشاد اساتذة علماء وهنا محا من فكره كل انتساب للاكليروس وأقدم بقواه جميعها على استقاء العلوم المحبذه اليه. فتسجل طالبا في حديقة النباتات وفي كوليج ده فرانس، حيث التقى ثانيتا بصديقه القديم روبنتون وتتبع دروسه بكل رغبه ونشاط.
أما الدور الثاني الذي مثله اتين اثناء سنوات الارهاب في الثوره الفرنسية فقد كان في اخر سنه 1792 وعمره أذ ذاك عشرون سنة.
وكان مستغرقا في دروسه حين قطع عليه الارهاب سلسلة دراسته، على انه لم يقطع اطيب الصلات واقواها مع اساتذتة في كلية ناقار، وخاصة مع هاري العالم في المعادن ولا هومون النحوي الشهير وعدد كبير من العلماء.
وكل هولاء الأعلام قد اوقفوا وزجوا في غياهب السجون لانهم كانوا متهمين بعملهم للملكيه.
فسعى غاية جهده ولم يدخر وسيله لانقاذهم من هذا المأزق باذلاً النفس والنفيس حتى تكللت جهوده بالنجاح.(877/23)
وعهدت إليه حكومة الكونفسيون (بتدريس مادة العلوم الطبيعية بناء على اقتراح صديقه) دوبنتون فصار زميلاً لهؤلاء الاعلام. (أمثال لاسبيد - وبرنارد ده سان بيير - وكوفيه، وكلهم اكبر سناً منه.
وكانت حديقة الحيوانات. قد تلاشت في الثوره المشهوره واخذ العالم الجديد (اتين) يجدد هذه الحديقة فقام بوظيفته خير قيام وعلى أكمل وجه.
اتيين والشرق
ولما تسلمت حكومة الادارة الامور عهدت الى الجنرال نابليون بونابرت غزو مصر سنة 1798 لقهر انكلترا التي لا يمكن مهاجمتها في جزيرتها الصخريه=وبعد أن أتخذ قائد الحملة عدتة قرر أن يستعين ببعثه من العلماء أمثال (مونج - وبرتوله - ودونون) فقام برتوله وعرض على العالم الشاب اتيين بأسم بونابرت وعلى زميله كوفيه ليكونا من أعضاء البعثه.
ولما تم احتلال مصر شرع (اتيين) في أماله في التاريخ الطبيعي فجمع مجموعة طيور من ذوات الريش العجيب. وكتب في مذكراته (في هذا الفردوس الأرضي ينسي المر نفسه بانه ينبغي عليه ظان يسكن المساكن لمقفرة وأن يسعى وراء قوتة مثل الحيوانات التي يدرسها. فكان يقوم كل منا بدوره بوظيفة الطاهي. ولكن عندما يكون دوري يضطر الرفاق إلى تناول المجففات).
بيد أن الأمر لم يطل كثيراً لأن الأوامر صدرت من كليببروده سيكس بضرورة الجلاء عن أرض الكنانه؛ ولكن (إتيين) على رغم قرب الاحتلال الانجليزي وفشل حملة بونابرت لم ينفك عن العمل في مخبره كأن الأمر كان طبيعيا إذ لم يوقفه لحظه واحده انفجار القنابل وازيز الرصاص. كما كان أرخميدس في حصار سيراكوك!.
دخل مخبره يوما زميله العالم فوريه وقال له. (يا صديقي أنقطع عن العمل لأن الجنرال (منو) وقع على وثيقة التسليم، وستعود بعثتنا إلى فرنسا. - فأجابه حمدا لله! إن مجموعاتي جاهزه سأعطي الاوامر لشحنها، إن حملتنا لم تذهب سدى لأن العلم يملك النتائج الطيبه فحسب. - فقاطعه قائلا. بكل أسف أن أعمالنا سيستولي عليها الانكليز وبذلك تذهب جهودنا عبثا. فأجابه (اتيين) من فوره: كلا، سنقابل القائد الانكليزي وسوف نقنعه بأنه(877/24)
مخطىء في تنفيذ فكرته بشأن الماده السادسة عشرة القاضية بتسليم الجيش الفرنسي كل معداتة. - فرد عليه (أتيين) بقوله ليس هذا عملا حربيا، أتما هذه أعمال قام بها العلماء خدمة للعلم، فأجابه (هوتشنسون) لقد وقع على المادة السادسة عشرة وليس في إمكاني عدم تنفيذها.
فأجابه أتيين: ما دام الأمر كذلك فأننا نرفض أن نسلمكم ثمرة جهودنا. ونستلف كل هذه الثروة التي جمعناها قبل أن يدخل جيشكم هذه المدينه. ولدى مجيئكم لا تجدون سوى رماد هذه الكنوز. فأيد أعضاء البعثه قوله (أتيين) قائلين سنتكلف كل ما لدينا.
وزاد (اتيين قائلا - ستعلم أوربا كل شىء. لقد أحرقت فيما مضى مكتبة الاسكندريه؛ وتعبت أنكلترا اليوم بأعمال العلماء الرائعة المجيدة في ميدان العلوم فلن تنسى عملعا الاجيال.
فأثرت بلاغة هذا العالم الشاب في القائد الانكليزي وألغى المادة السادسة عشرة ورجع العلماء بكنوزهم إلى فرنسا. ورافق بعدئذ نابليون في حملة البورتغال واسبانيا وزاد في ثروة العلم بما عمله من اكتشافات في ميدان التاريخ الطبيعي.
ومات سنة 1844 بين أسرته مأسوفا عليه من أبناء وطنه ومكرما من كل أوربا.
ترجمة وديع شحيد
أستاذ اللغة العربية في مدرسة التجارة الثانوية بدمشق(877/25)
الشعر المصري في مائة عام
علي أبو النصر
. . . - 1880
للأستاذ محمد سيد كيلاني
ولد السيد علي أبو النصر بمدينة منفلوط في تاريخ لا نعرفه. ورحل إلى القاهرة والتحق بالأزهر. ويقرن أسمه عادة باسم زميله الليثي، فقد كانا تد يمين للخديوي إسماعيل. غير أنه كان أسبق من صاحبه في الظهور في ميدان الشعر وفي الاتصال بالحكام. فقد روي أن محمد علي باشا أرسله ضمن بعثة إلى الأستانة لحضور فرح أقامه السلطان عبد المجيد، ثم اتصل بسعيد ومدحه ورثى أبنه طوسون بقصيدة طويلة. ثم أتصل بإسماعيل وأصبح من ندمائه المقربين إليه. وقد قيل إنه كان طيب المفاكهة والمجالسة، لطيف المسامرة والمؤانسة، حاضر الذهن لا يغالبة في المناظرة من حادة. وكان له مطايبات مشحونة بالنكت الأدبية مع الحشمة والحذر مما تأباه النفوس الأدبية. وقد صحب الخديوي إسماعيل في بعض رحلاته إلى دار الخلافة. ومات في أوائل حكم توفيق.
وله ديوان شعر مطبوع منه بعض نسخ بدار الكتب المصرية
أمتاز أبو النصر علي الليثي بولعه العظيم بالمحسنات اللفظية من تورية وجناس وطباق. وكان أمتن أسلوبا من صاحبه إلا أنه كان يشبهه من حيثالإفلاس في المعاني والمفردات اللغوية. ومن قوله يمدح سعيدا:
أشرقت أنوارا إقبال السعيد ... فازدهى روض التهاني بالصعيد
وابتهاج الأنس أضحى شاهدا ... بانتظام الشمل في عز مديد
والليالي بالأماني أقبلت ... باسمات الثغر عن در نضيد
ويلاحظ هنا أن الشاعر ذكر (الروض) و (الأنس) و (الليالي الباسمات) و (لأماني). وهو بهذا يذكرنا بصاحبه الليثي في قصيدته التي يقول فيها:
أنعم بطيب ليال لحن كالغرر ... في جبهة الدهر تسمو عن سنا القمر
بها تزف الأماني في مواكبها ... كل راج ويرعاها أخو السمر(877/26)
إلا أن النصر كما ترى أجود قولا من صاحبه. والصورة الشعرية في قوله:
والليالي بالأماني أقبلت ... باسمات الثغر عن در نضيد
خير بكثير من الصورة التي في قول الليثي:
بها تزف الأماني في مواكبها ... لكل راج ويرعاها أخو السمر
ولم يقف أبو النصر عند المدح طويلا، بل اكتفى بهذه الأبيات الثلاثة. ثم أنتقل إلى ذكر الجيوش السعيدية. وقد أجاد في الانتقال. فبعد أن ذكر الليالي المقبلة بالأماني، قال:
معربات عن جيوش تزدري ... بالآلي في العقد الفريد
سادة إذ شيدوا بيت العلا ... لم يزل مدحي لهم بيت القصيد
إن بدت أعلامهم في موكب ... جاءت البشرى على خيل البريد
أو تبدى طيفهم يوم الوغى ... مزقت منه العدى خوف الوعيد
والذي يظهر لي من هذه الأبيات أن الشاعر وضع نصب عينيه عبارات (العقد الفريد) و (بيت القصيد) و (خيل البريد) ثم شرع ينظم كل بيت بحيث يتفق مع إحدى هذه العبارات. ولذلك كانت معانيه تافهة. وما قيمة خيل البريد هذه بجانب الأسلاك البرقية وقد عرفت في مصر منذ عهد محمد علي؟ ووصف الجيوش بأنها تزري باللالىء في الحسن والجمال. ولكن عبارة (العقد الفريد) قد استهوته وسيطرت على تفكيره فساقته إلى هذا الوصف وكذلك قوله:
سادة إذ شيدوا بيت العلا. . . الخ فلم يذكر بيت العلا إلا ليقول بيت القصيد. ثم أستطرد في وصف هذه الجيوش في أبيات ذكرناها عند الكلام عن عصر سعيد.
وقد لاحظنا أن الليثي كان يبدأ المدح بذكر الليالي والأماني والأنس ويأتي بصور الرياض والأزهار والطيور والجاول وغير ذلك. أما أبو النصر فكان يبدأ في الغالب بغزل طويل متكلف ممل، ثم ينتقل إلى المدح الذي لا يستغرق فيه سوى أبيات قليلة قد تصل إلى أربعة أبيات أو خمسة. ومن قوله يمدح أسماعيل:
إليك خديوي مصر تصبو المحامد ... ومنك ترجى للأنام الفوائد
وعنك حديث المجد يروى صحيحة ... وفيك لآيات الفخار شواهد
وأنت أخو العليا وأنت أبو الفدا ... وأنت لكف الدهر لكف وساعد(877/27)
وجودك للأوطان عز ونعمة ... وجودو بحر فيه تحلو الموارد
إلى ملك الدنيا تود انتسابها ... لما علمت في الكون أنك واحد
وما مصر في الأقطار إلا كجنة ... وذكرك فيها في المكارم خالد
وعد لك في كل الممالك ثابت ... فكل مليك شاكر لك حامد
وليس في هذه الأبيات سوى مدح الخديوي بالمكارم والتفرد بالمجد ونشر العدل. وقد بالغ في هذا مبالغة ظاهرة؛ فجعل الدنيا تود أن تنتسب إلى الممدوح لما لم تجد له شبيها. وجعل عدل الخديو مشهورا في جميع ممالك الأرض حتى أن ملوك العالم قد شكروه وأثنوا عليه لما سمعوا بأنصافه وهذا عبث وهراء لأضطره إليه ضيق المجال.
وقال:
تعودت عن أقطار ملكك رحلة ... بها سارت الركبان والسعد قائد
وسرت فطاف النصر حولك ساعيا ... وغيرك من درك المآرب قاعد
والمعنى تافه كما ترى. والطواف والسعي يكونان حول شيء ثابت. والصورة المنتزعة منهما لا تتفق مع الصورة التي توحي بها كلمة (سرت) ولو قال (وسرت فسار النصر فوقك ساعيا) لكان موفقا. والظاهر أنه كره أن يكرر الفعل ثلاث مرات في بيتيين متتاليين. فإن صح هذا فقد كان بوسعه أن يقول (وسرت فكان النصر حولك ساعيا.)
ثم قال:
وصلت إلى دار الخلافة زائرا ... مليكا له بالمكرمات عوائد
مليك حباك الود في غابة الصفا ... وشاطرك الآرا ونعم المقاصد
والمعنى في منتهى الضعف. وقوله (في غاية الصفا) من عبارات الدهماء. وقوله (وشاطرك الآراء ونعم المقاصد) خلو من المعنى. وقال:
هنالك شاهدت المحاسن كلها ... ولا زلت للصنع الجميل تشاهد
ومعناه قد بلغ الغاية في التفاهة.
وقال:
ولكن إلى مرآك مصر تشوقت ... ومنها إليها صادر الشوق وارد
نأيت فكاد النيل يبخل بالوفا ... وعدت قوافي جبره وهو زائد(877/28)
وقوله (ومنها إليها) من رديء التراكيب وليس في البيتين من المعنى ما يستحق الذكر. ويلاحظ أنه يكثر من تشبيهه جود الممدوح بالبحر. وقال من قصيدة أخرى:
فهو المليك الذي علا مآثره ... وفائض الجود من جدواه إمداد
المفرد العلم الأسمى علا شرفا ... وفاض بحرا فكم ترجوه وراد
كالغيث جاد بما يغني الأنام بلا ... من فجدواه إنجاز وإيجاد
وليس في هذه الأبيات سوى مدح الخديوي بالكرام
محمد سيد كيلالي
للكلام بقية(877/29)
الربيع
للشاعرة الإنجليزية آن وومر زلي
ها قد صح الآن مقدم الربيع، يا من لعلك تذكرينني الآن مثل ذاكري لك، فخلع على كل واد لوناً؛ وأقام عند كل شعب محراباً من محاريب الجمال؛ ونفخ في كل خلية روحاً؛ وأوحى إلى الطير بأغاريد الفجر الجديد والفصل الضاحك؛ فاستخف بذلك كله أهل الحي الذين خفوا يلتمسون آثار هذه المباهج، وطفقوا يستجيبون لذائذ هذه الحياة في موسم انتعاشها وانبعاثها وازدهارها. .
هاهي، يامن عليك القدر الصارم إلا أن تتناسيني، كل مفاتن هذه الطبيعة ومباهج هذا الربيع، خليقة أن تضيء النفس بأقياس الهناءة، وخليقة أن تصل القلب بأسباب السعادة. .
هاهي ذي كلها قد استحال عليها أن تجعل مني أحد أولئك السعداء. . . وأنت يا حبيبتي بعيدة عني. .!
في الجو، هنا، عصفور غرد فح، يروح ويغدو، فوق رأسي، وفوق الشجر. .
وهناك، عند أقصى الحديقة، تطل حمامة مطرقة برأسها الجميل، من بين السياج، وهي ترسل من حين إلى أخر هديل قلبها الصغير بحب فراخها، يتردد رقيقاً صافياً مع النسائم الندية. .
وهنالك، في الناحية المقابلة، تلك العرائش الخضر المذهبة، ذات الحواشي البيض، التي تعرفينها جيداً، والتي طالما انطلقتا عندها خفيفين نمرح على سجيتنا، في براءة الأطفال، وطهارة المحبين. .
إنها جميعاً ترد إلى ذهني ذكريات حبنا العتيد. وما كان أجملها واحفلها ذكريات!
وهي في الحق، إنما تحيط وحدتي بشيء من أنس وإشراق، وتجعلها أقل ايحاشاً وترويعاً - حين لا تكونين بقربي، أنت أيتها الحبيبة!
أجل، هي كذلك، ولكن الحب موهبة الطبيعة لأبناء الحياة، وهو بهذه الصفة حق طبيعي لكل مخلوق، وملك خالص لكل حي. .
ألم ترى - مرة - إلى زوجين من الطير يتباثان أشواقهما الغريرة، وإلى زوجين من الناس يتطارحان رغباتهما البريئة. . .؟ أم قد غاب عنك كيف يسعى كل حيوان، وكيف يحاول(877/30)
كل إنسان، أن يعالن قرينه بحبه ويكاشفه بلواعجه. . في أيام الربيع هذه. .؟
وفي أيام الربيع هذه. . كنت أن أتوقع أن يهيئ لي حظي من حبي نعيم نجو المحببة، ونعمى قبلاتك الحلوة، ولكنك لست هنا، أيتها الحبيبة!
فأنى لي أن أتشوف إلى السعادة؟ ولم أحتفل بالربيع وشيه، وألوانه ما دام ذلك القدر الصارم قد حرم علي تلك السعادة؟!
(دمشق)
محمد الأرناؤوط(877/31)
رسالة الشعر
هتاف الروح
(في ليلة دافئة من ليالي كاليفورنيا)
للأستاذ سيد قطب
في الجو يا مصر دفء ... يدني إلى خيالك
وتستجيش حنيني ... إلى الليالي هنا لك
للأمسيات السكارى ... نشوي ترف خيالك
ونسمة فيك تسري ... ريانة من جمالك
نجواك ملء فؤادي ... ترى خطرت ببالك
النيل والموج سار ... يقبل الشطئان
والبدر والنور ساه ... كحالم وسنان
وفي الجواء حنين ... مجنح حيران
ومن هنالك لحن ... يهفو إلى الآذان
صداه ناء عميق ... في ناي هذا الزمان
في النفس يا مصر شوق ... الخطرة في رباك
لضمة من ثراك ... لنفحة من جواك
لومضة من سماك ... لهاتف من رؤاك
لليلة فيك أخرى ... مع الرفاق هناك
ظمآن تهتف روحي ... متى تراني أراك؟
سان فرانسسكو
سيد قطب(877/32)
يا حياتي!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ألا يا حياتي مللت الشبابا ... فهلا طويت الشباب اقتضابا
وعفت خداع الأماني الكذاب ... فردي إليك الأماني الكذابا
وهاتي المشيب، لعلي به ... أبدد من عالمي الاضطرابا
فيقمر نفسي هدوء رحيب ... وينساب في خلجاتي انسيابا
ويذهب عني نزوع عجيب ... إلى كل سر دعاني وغابا
وشوق إلى عالم ذي حجاب ... أريد لأكشف عنه الحجابا
حلمت به في ليالي السهاد ... رؤى باهرات، وفنا وعجابا
فلما انتبهت، وبي نشوة ... من الحلم، طابت لقلبي وطابا
وأبت إلى عالم عفته ... تمنيت أني عدمت الإيابا
وحب ظمئت إلى وردة ... ليسقني، فسقاني السرابا!
وسر طواني، ولم أطوه ... وعذبني، فاحتملت العذابا
شربت المرارة من كأسه ... فيا للمرارة صارت شرابا!
وسرت به في رحاب الحياة ... غريبا، فضاقت حياتي رحابا
ويحرق روحي لظى عاتيا ... ويمتد في أفق عمري ضبابا
أحدث نفسي به خاليا ... أكتمه حين ألقي الصحابا
رماني به قدر صارم ... فيا ليته إذ رمى ما أصابا
وكنت ولي رغبة في الحياة ... فلما رماني. . . ثكلت الرغابا!
وكانت لقلبي مني حلوة ... فذابت دموعا بقلبي، وذابا
وها أنذا قد ألفت البكاء ... فأرسلت قلبي دمعا مذابا
بكيت حياتي وغنيتها ... وبعض الغناء يكون انتحابا
وكل يترجم عما به ... ويكشف عما لديه النقابا
ولو كنت أملك سر الغناء ... لأرسلته نغما مستطابا
ولكنما ملكتني الشجون ... فأرسلنني شجنا واكتئابا(877/33)
نصيبي الذي أطلقته الحياة ... فحوم في أفق عمري غرابا
زرعت بعمري ورود المنى ... فلما جنيت. . . جنيت اليبابا!
وأسأل نفسي السؤال الرهيب ... وإني لأعرف عنه الجوابا
أقول لها: كيف أجني العقاب ... ولم أجن ذنبا، وما قلت عابا؟
لعلك أذنبت في عالم ... بعيد، فهلا احتملت العقابا؟
إذن سوف أحمل ما تكرهين ... وأرضي بما تفكرين. . . احتسابا
وأجعل عمري أسى كله ... وأملؤه وحشة واغترابا
وأنثر في الأرض زهر المنى ... فأشعر أني نثرت الشبابا
وأجني من العمر شوك الضنى ... كأني زرعت بعمري الصعابا
وأمضي بلا رغبة في الحياة ... أرود الوهاد، وأطوي الهضابا
على الشوك أمشي ولا أشتكي ... وفوق الرمال تشع التهابا!
لعلي أرى الموت مستعلنا ... بقربي، فأزداد منه اقترابا
أناديه: حتى متى الارتقاب؟ ... أما ضاع فيك الشباب ارتقابا؟
طلبتك إذ عذبتني الحياة ... فحسبي عذابا، وحسبي طلابا
حياتي قشور، وأنت اللباب ... ويا موت إني أريد اللبابا
فأسمع صوتا كرجع الصدى ... يقول - وما قال إلا صوابا: -
لقد آن يا موت أن يستريح ... وفي دينه، واقتضينا الحسابا
وكل إلى أصله صائر ... فقل (التراب): ستغدو ترابا
إبراهيم محمد نجا
* * * نقص * * *(877/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مناظرة بين الأدب العربي والأدب الغربي:
جرت يوم الحد الماضي مناظرةفي قاعة المحاضرات بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، كان موضوعها (يجب أن يستلهم الأدب العربي الحديث الأدب الغربي الحديث أكثر مما يستلهم الأدب العربي القديم) أيد الرأي الدكتور محمد القصاص والأستاذ عبد الرحمن الخميسي والطالب غايث لطف الله والآنسة كليوباترة خليل، وعارضه الأستاذ عمر الدسوقي والأستاذ حامد داود والطالب محمود مكي والآنسة بشرى جنينة.
والموضوع - كما ترى - يقتضي أن يستلهم الأدب العربي الحديث كلاً من الأدبين العربي القديم والغربي الحديث، ولكن الخلاف على الكمية. . . فطبيعة الموضوع تفرض على كل من المتناظرين أن يقر فائدة الأدبين وحسن أثرهما في أدبنا الحديث، وليس له إلا أن يقول بالإكثار من هذا والإقلال من ذاك، فالمسألة بهذا الوضع مسألة بدهية من حيث أنه ينبغي الأخذ والاستفادة من هذا ذاك، فنستلهم مثلاً الأدب الغربي بنسبة تسعة وأربعين في المائة، أو العكس، أو تنقص هذه النسبة أو تزيد عن تلك؟
ولكن حماس المتناظرين ورغبتهم في الصيال والجولان وميل كل فريق إلى أن يظفر بتأييد رأيه، كل ذلك جعلهم يتعدون تلك الحدود الضيقة العقيم. . . وكأنهم أدركوا تفاهة المسألة وقلة خطرها من حيث تعيين القدر الذي ينبغي استلهامه من كل من الأدبين. . . وبذلك تحولت المناظرة إلى مقاتلة بين الأدب الغربي الحديث والأدب العربي القديم، فحمل كل من الجبهتين على الآخر، يثلب أدبه ويشيد بما يناصره، وقد يمتد الرشاش إلى الأشخاص، فهذا جاهل لم يطلع على الأدب العربي القديم وهذا رجعي متأخر. . . الخ
وعلى ذلك راح مؤيدو الرأي يشنون الغارة على الأدب العربي القديم، يقولون إنه أدب بعيد عن حيتنا الحاضرة وهو أدب أجوف يعتمد على فخامة اللفظ والتركيب وأدباؤه فريدون، ولم تكن فيه وحدة القصيدة. وقالت الآنسة إنه صعب خشن لا يلائم حياتنا الناعمة. . واستشهدت بأبيات لعنترة يتغزل فيها بعبلة على أن الشعر العربي شعر حسي لأن عنترة لم يعجبه في حبيبته إلا جمالها وصفاتها الحسية ولم يهتم بروحها. . وقال الأستاذ عبد الرحمن(877/35)
الخميسي إنه أدب جهارة! وجعلت درجة الحرارة في خطبة الدكتور القصاص تميل إلى الصعود تدريجياً. . فسفه تفكير العرب والفلاسفة الغربيين. . . وارتفعت درجة الحرارة فجأة إلى أقصى حد إذ قال إن الأدب العربي جزء من التاريخ الميت ويجب أن نبحث له عن متحف من متاحف الآثار الميتة!!
وعلى ذلك أيضاً طفق معارضو الرأي يكيلون للأدب الغربي قدحاً بقدح، يقولون إنه أدب منحل لا يناسب بيئاتنا الشرقية وإنه إنما يصور حالات في تلك الأمم تختلف عن حالاتنا، وقد نشأت فيه مذاهب بظروف خاصة نتيجة لاضطراب الخواطر وقلق النفوس من أثر الحروب وغيرها، وهي مذاهب معقدة ملتوية كالرمزية والسريالية، وقد أفاض في ذلك الأستاذ عمر الدسوقي، وعرج على شعراء العرب المحدثين الذين قلدوا تلك المذاهب، وأني بأمثلة من أشعارهم وكان لقصيدة (الشاطئ الحافل) للدكتور بشر فارس مكان في هذا المجال. وجعل يبين ما في بعض هذه الأشعار من خلط وما في بعضها من سخف، كما أفاض الأستاذ الدسوقي أيضاً في عرض كثير من القصص الغربية التي رأى أنها تدافع عن النقائص والرذائل. وارتفعت درجة حماسه ضارباً على وتر الفضيلة والقومية حتى دوى له التصفيق في أرجاء المكان.
ولم يفت هؤلاء أن يردوا طعنات أولئك، التي وجهوها إلى الأدب العربي، وكذلك صنع الأولون بما وجه إلى الأدب الغربي. وكان الدكتور القصاص قد استهل كلمته بالإشارة إلى ما حدث بفرنسا على أثر هزيمتها في الحرب الماضية، إذ جعل القوم يفكرون في أسباب هزيمتهم، فلم يرجعوها إلى خطأ في السياسة أو في خطة الحرب، بل قال قائلهم إن التبعة فيما أصاب فرنسا على أساتذة السوربون والأدباء الذين لم يحسنوا توجيه الجيل، واستطرق الدكتور
من هذا القول بأن أدب العرب لا يصلح للتوجيه في هذا الزمن فيجب أن نتجه نحو أدب الغرب ونغترف من علومه وثقافاته.
فلما تكلم الأستاذ الدسوقي قال معقباً على ذلك: كيف نستلهم الأدب الفرنسي وهو الذي أدى إلى هزيمة فرنسا؟
ودافع الدسوقي عن الأدب العربي وأتى بروائع منه واستشهد بأقوال فيه لبعض(877/36)
المستشرقين، ومما قاله أن وحدة القصيدة كانت موجودة في كثير من القصائد في الجاهلية والإسلام على أن لكل أمة طابعها الخاص في أدبها. وقد عقب الخميسي على ما قاله الدسوقي في أدب الانحلال الأوربي فدافع عن القصص التي ذكرها الدسوقي بأنها تصور الدوافع الإنسانية وان الأخلاق شيء آخر غير الفن.
ومما يلاحظ أن اكثر المتناظرين لم يكن نطقهم العربي سليماً وخاصة الطلبة، وكانت الآنسة المؤيدة مثالاً في ذلك، وهي - نعم - من القسم الإنجليزي، ولكن ألم تسمع مرة من أحد الأساتذة أو غيرهم أسم أبي نواس الذي نطقته كما ينطقه العوام (أبو النواس) واعتقد أن هناكقدراً من تقويم الألسنة في اللغة القومية ينبغي أن يأخذ به كل متعلم مهما كان نوع تعليمه. وقد خرج الأستاذ عبد الرحمن الخميسي من هذا المأزق باللغة العامية الخالصة.
وقد طلب إلى الحاضرين - بعد إنهاء المناظرة - أن يقف منهم من يؤيد الرأي فوقفت أقلية، ولما طلب وقوف المعارضين وقف أكثر الحاضرين وكان حماس الدسوقي في الدفاع عن الفضيلة والقومية لا يزال سائداً عليهم إذ كان أخذ الرأي عقب كلمته. ولم أقم أنا مع المؤيدين ولا مع المعارضين لأني أرى أن نأخذ من هذا كما نأخذ من ذاك. . ولست أدري لماذا أهملوا هذا الجانب! ولعل عذرهم في ذلك أنهم لم يجعلوه طرفاً في المناظرة، ولكن لماذا ما دامت المسألة مسألة تحديد القدر؟ أليس من حقي مثلاً، وقد يكون لي أمثال في الحاضرين، أن نجعل النسبة 50 في المائة لكل من الأدبين!!
ثم لماذا قصر الأمر على الأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث؟ لماذا لا نأخذ ونستفيد من الأدب الغربي القديم، ومن الأدب الهندي ومن الأدب الصيني ومن كل أدب في هذه الدنيا قديماً وحديثاً؟ أنا لا اعرف للثقافة والمعرفة جداً، والأديب العصري يجب أن يأخذ من كل شيء أحسنه، ولا يقف عقله على جديد لأنه جديد ولا يغلقه دون القديم لأنه قديم.
ومما يلاحظ أن المناظرة لم يكن لها نتيجة، وهذا من طبيعة الموضوع، فهي أشبه بما كانوا يقولونه قديماً في السيف والقلم وما يهيئه معلمو الإنشاء في المدارس من الصراع (الفكري) بين الطيارة والسيارة، ولا شك أن كلاً من السيف والقلم والطيارة والسيارة لازم مطلوب في موضعه، وكذلك الأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث. فلم يكن يليق بالجامعيين(877/37)
أن يستهلكوا جهدهم على لك النحو مضحين بما عرف عنهم من البحث (المنهجي) عن حقائق الأشياء.
مسرحية (أصدقاؤنا الألداء)
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الثاني على سرح الأوبرا الملكية بهذه المسرحية، بعد انتهاء الموسم الأجنبي بهذا المسرح، كتبها الأستاذ فتوح نشاطي ويقال إنه أقتبسها، وتبدو آثار الأصل بها من حيث دلالة الحوادث على البيئة الغربية، كما سأبين بعد، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، وقام بأهم الأدوار فيها الأساتذة حسين رياض واحمد علام عمر الجابري وفؤاد شفيق والسيدة زينب صدقي وروحية خالد ونعيمة وصفي.
والقصة تتلخص في أن صالح بك برهوم (حسن رياض)
رجل مسماح يعيش في ضيعته بمشتهر، يشغل وقته برعاية مزارعه وحديقة قصره، واستقبال ضيوفه من الأصدقاء الذين يكثر منهم ويغتبط بوفودهم عليه ويسرف في إكرامهم والإغداق عليهم، وهم أنماط مختلفة، فهذا زميل الدراسة آتي وزوجته إلى ضيافة رفيق الصبا، وهذا صديق عزيز جاء هو وولده كذلك، وذاك ضيف في طرابلس ينزل على الرحب والسعة دون سابق معرفة. الخ
وفي البيت امرأتان هما فوزية (زينب صدقي) زوجة صالح بك، وفاتن (روحية خالد) ابنته من زوجة متوفاة، وفيه أيضا الشاب خورشيد (عمر الحريري) ابن عم الزوجة، وهو شاب وسيم فاسد الخلق، يستغل كرم الزوج وطيبته ويحاول استمالة الزوجة وإغراءها، وهو يتمارض ليطيل أقامته، ويستدعي الدكتور عزمي (احمد علام) لعلاجه، فيظهر أن بينهما معرفة قديمة، وتتعلق الفتاة فاتن بالدكتور عزمي. وتقع حوادث يعمل فيها الأصدقاء الضيوف على تنغيص حياة صديقهم المضيف وتكدير صفوه بمختلف الوسائل، ويرقب الدكتور الحالة وهو ساخط عليهم، كما يراقب العلاقة بين الزوجة وابن عمها، ويتخذ من التدابير ما يفسد به أمرهم جميعا وينقذ الزوجة من نوايا الشاب الاثيم، ويكشف رياء الأصدقاء، فيثبت لصالح بك، أن ما يدعيه أولئك (الأصدقاء الألداء) من الإخلاص والود والوفاء لا حقيقة له، وإن الدكتور عزمي الذي لا يكاد يذكر كلمة الصداقة هو الصديق المخلص حقا الجدير بان يزوجه ابنته.(877/38)
وتمتاز القصة بأنها محبوكة ومتسلسلة في منطق مستقيم وتكاد تكون عديمة الفجوات. وهي كما ترى قصة اجتماعية، تعالج هذا الموضوع، موضوع الصداقة والأصدقاء، من حيث كثرة المرائين وقلة المخلصين بل ندرتهم، ولكنك تشعر وأنت تشاهدها أن الموضوع يتطلب علاجا ابرع مما بذل فيه، كما تشعر في عرض التفصيلات بالجدب في الالتفاتات الجزئية التي تعتبر مثل هذه الرواية مجالا خصبا لها، وذلك ناشئ - فيما يبدو لي - من أن الكاتب غير منفعل بالبيئة التي عرض لها، وهو أن اظهر لنا بعض الشخصيات ذات الملامح المصرية المعروفة ألا أن الصورة الأصلية، وهي صورة صالح بك أسرته المنقطعين الريف المحبين له السعداء فيه، اقرب إلى صورة الريف في أوربا
والمسرحية فكاهية، وهي كذلك بجهود الممثلين وحركاتهم أكثر مما هي بالحوار، فأنت تحس في المواقف المختلفة بالمادة (الخام) التي لم يصنع منها ما تصلح له من الفكاهة، فالحوار ضعيف فاتر من هذه الناحية وأن كان الممثلون يبثون فيه شيئا من الحرارة، وكان يخيل إلى أن الممثل الظريف فؤاد شفيق يعاني ضيق الحيز الذي وضع فيه فيحاول أن يوسعه ولكنه ينطبق عليه.
أما إخراج الرواية فهو الذي كسا عظمها لحما وجعل لها روحا، من حيث تنسيق المناظر وتوزيع الأضواء وتحريك الممثلين والممثلات، فقد بدت المناظر موافقة رائعة معبرة، فالمشهد يرسل بصره إلى المسرح في المشهد الأول حيث بهو الاستقبال في القصر ومن ورائه حديقة غناء، فلا يخالجه شك في حقيقتها وما هي بطبيعة الحال إلى رسوم وأضواء، ومن المناظر العجيبة منظر الشرفة تبدو منها حمرة الشفق تارة ويرسل أليها القمر أشعته تارة أخرى، والإبداع الفني في تهيئة المناظر للموقف وملاءمته لأحوال من يتحركون فيه والاستعانة به على التعبير وإبراز المقصود منه. وللأستاذ زكي طليمات طريقة لطيفة في تقديم شخصيات ثانوية صغيرة ينعكس عليها جو الرواية، فالجو هنا كله رياء ونفاق، وهذا الغلام (رضوان) الذي يقول أبوه أنه ملاك طاهر والذي يغضي ويطرق أمام السيدات، وهو يسير أيضا في ركاب الرياء، بل يجسمه، إذ هو لا يلبث أن يسطو على الخادمة اللعوب ويهرب معها.
وقد أدى الممثلون والممثلات أدوارهم بجد وإخلاص، ووفق أكثرهم، فكان حسين رياض(877/39)
بارعا في تصوير الشخصية التي تدور عليها المسرحية وقد اندمج فيها كل الاندماج. وكان احمد علام موفقا في تمثيل الرجل الحازم الحذر كما كان ظريفا في شاراته ونبرات صوته ذات المعنى الذي يلوح فيه، ولكنه كان فاترا أمام الفتاة التي تحبه ويحبها. أما عمر الحريري، وهو من خريجي معهد التمثيل، فقد اثبت إنه دم جديد نابض. وكانت زينب صدقي طبيعية مجيدة في تمثيلها وان كان الدور غير ملائم لها، وهو دور امرأة تغري شابا وتدفعه إلى محاولة اقتناصها، وقد أمكن أن تبدو رشيقة خفيفة الحركة ولكن الصوت وظلال الشخصية كانت بعيدة عما يتطلبه الدور من بعض الصبا والشباب.
عباس خضر(877/40)
الكتب
مدارس علم النفس المعاصرة
تأليف العلامة: روبرت ودورث
ترجمة: الأستاذ كمال دسوقي
نشرته: دار المعارف بمصر سنة 1950
الكتاب الذي أقدمه اليوم لقراء العربية من وضع العلامة روبرت وردورث ولد في بلخرتون من أعمال ماساتشوستس في 17 أكتوبر سنة 1869. وهو يحتوي على طائفة من المحاضرات ألقاها المؤلف سنوات عدة، أبان اشتغاله بالتدريس في جامعة كولومبيا عنوانها (نظرة في علم النفس المعاصر) ونشرت بنيويورك لأول مرة سنة 1931 تحت هذا العنوان (مدارس علم النفس المعاصرة).
ويحاول المؤلف في مستهل كتابه أن يحدد موضوعه وأن يرسم خططه الرئيسية، فيقول في مقدمته (ويحاول هذا الكتاب أن يلقي نظرة موضوعية على علم النفس المعاصر، بالقدر الذي يتعلق بمدارسه، وما تضيء به للإنسانية من أنظار. وهو لا يريد آراء المؤلف الخاصة في أي صورة مذهبية، وإن لم يمتنع عن شروح شخصية هنا وهناك. ثم هو لا يهدف إلى نقد شامل للمدارس المختلفة، ولا إلى تقدير هام حتى يتأدى بالقارئ إلى واحدة منها ويبعد به عن الأخرى، وإنما غرضه أن يقدم صورة لهذه المدارس لا محاباة فيه، حتى يتهيأ للقارئ أن يقف على المعالم الرئيسية لكل منها في غير توسع مربك، ولكن بالقدر من التجسيم الذي يعطي لونا لهذه الصورة.)
وهذه المدارس المعاصرة التي تتوزع ميدان علم النفس فيما بينها، أن دلت على شيء، فعلى حداثة هذا العلم، وعلى أن موضوعه لم يتعين، ومنهجه لم يتضح، وغايته لم تتحدد بعد. ولابد أن تمر عشرات السنين قبل أن يتأدى الصراع القائم بينها إلى موضوع لعلم نفس محدود، منهج واضح، وغاية معلومة، يتفرغ العلماء بعد الوقوف عليها إلى تناول موضوعات جزئية لها صيغة موضوعية داخل هذا الإطار الذي تكون معالمه قد وضحت كما هي الحال في العلوم الطبيعية.(877/41)
والكتاب يقع في سبعة فصول:
الأول: ما وراء خلافاتنا الجارية
الثاني: سيكولوجيا الاستبطان والمدرسة الوجودية.
الثالث: السلوكية.
الرابع: سيكولوجيا الجشطلت أو الشكلية:
الخامس: التحليل النفسي والمدارس الملحقة.
السادس: مذهب القصد أو علم النفس الهورمي.
السابع: وسط الطريق
ويستهل المؤلف كتابه بالحديث عما يسميه (النظام القائم) كان يسمي وقت انتشاره وذيوعه، علم النفس الحديث، تمييزا له عن سيكولوجيا العصور الوسطى وسيكولوجيا ديكارت وهوبز وليبنتس وغيرهم. وهذا (النظام القائم) ارتباطي في أساسه. والارتباطين في علم النفس هم الذين حاولوا في القرن الثامن عشر، ومستهل القرن التاسع عشر أن يردوا جميع العمليات العقلية على عملية الارتباط التداعي وحدها، بدلا من ردها إلى أساس عام من الحركة كما فعل هوبز مثلا، حينما فسر هذه العمليات تفسيرا (جعلها في صف واحد مع العمليات الفيزيقية. . . فالحركة الخارجية تقع على أعضاء الحس فتتصل بالأعصاب والمخ والقلب؛ والحركة الداخلية - عندما تبدأ - تستمر بحكم القصور الذاتي هيئة ذكريات وأفكار)
ويعرض المؤلف لما كان لعلمي الكيمياء، والفيزيولوجيا من تأثير كبير على مناهج علم النفس في القرن التاسع عشر، بعد أن عرض علينا ما كان لعلم الطبيعة من اثر واضح عليها فالكيمياء أوحت بفكرة (كيمياء العقل) التي تحلل مركبات العقل، كما تحلل الكيمياء المادة إلى عناصرها الأولية ويعد إرهاصا لما سمي بالتحليل النفسي فيما بعد. أما الفيزيولوجيا فقد أوحت بفكرة (التجريب) في علم النفس، فكان ميلاد أول معمل لعلم النفس التجريبي، أنشأه فنت في ليبتسك سنة 1879 وكانت ثورة السيكولوجيا التجريبية على النفس السابق عليها من حيث منهجه ومستواه العلمي أكثر منها على نظيرته. فبينما قنع عالم النفس السابق بإن يستعين على البرهنة بالذاكرة وخبرته الشخصية العامة مع ما فيها(877/42)
من عدم ثقة، إذا بعلم النفس الجديد يصر على أن تقوم حقائقه على ملاحظات مسجلة ومحددة).
ويتابع المؤلف حديثه علة المؤثرات الخارجية المختلفة، التي استهدف لها علمنا الناشئ. فيعرض لكل من البيولوجيا العامة - وعلى الخصوص نظرية التطور - وما كان لها من ثورة على علم النفس القديم؛ ولعل الطب العقلي كان من انقسام أطبائه إلى معسكرين: نفسيين عن أسباب المرض في العقل، وجسميين إلى اضطرابات في المخ. ثم يبين ما كان من جانب علماء النفس من محاولات جدية - كرد فعل لهذه المؤثرات الخارجية - لفصل هذا العلم عن الفلسفة، وعن غيره من العلوم التي لها به صلة قريبة أو بعيدة.
وقد كان علماء النفس في أواخر هذا القرن يعرفون علمهم بأنه علم الشعور وبالتالي كانوا يتخذون الاستبطان منهجا لهم. ثم جاء القرن العشرون الذي حاول المشتغلين فيه بمسائل علم النفس أن يثوروا على هذا (النظام القائم) في القرن الماضي متلمسين ما فيه من مثالب وهنات؛ (فتمزقت بينهم أربا سيكلوجيا القرن التاسع عشر القديمة المسكينة تمزقا لطيفا، ونشأت مدارس تعارضت مع بعضها البعض تماما كما تعارضت مع علم النفس القديم) ونجم عن ذلك فترة نشيطة جدا ذات نظام لم يقرر بعد) ص57 وحاولت كل من هذه المدارس أن تحدد موضوع علم النفس، وإن تتخذ لنفسها منهجا خاصا يتادى بها إلى نتائج حقيقية حاسمة. وهي قد أجمعت - وأن اختلفت في الوسيلة - على إعلان الثورة على هذا (النظام القائم) الذي يصور علم النفس باعتباره (دراسة للشعور) متخذا (الاستبطان) منهجا يستخدمه في دراسة الإنسان.
فعلم النفس كما يراه السلوكي مثلا (هو شعبة تجريبية موضوعية خالصة من العلم الطبيعي. وهدفه النظري هو تنبؤ السلوك وضبطه. وليس الاستبطان جزءا رئيسيا من مناهجه، ولا القيمة العلمية لحقائقه تقوم على استعدادها لأن تعبر عن نفسها بألفاظ الشعور. . . ولعله لابد قد حان الوقت الذي يطرح فيه علم النفس كل إشارة إلى الشعور. إذا لم تعد به حاجة بعد إلى أن يخدع نفسه في حسبان أنه يجعل الحالات العقلية موضوعا لملاحظته.)
وبينما السلوكيون يحاولون أبعاد الشعور عن ميدان علم النفس ويقصرون دراستهم على(877/43)
السلوك وحده، نرى فريقا آخر من العلماء، لم تنشأ مدرستهم عن علم النفس ذاته، وإنما نشئت عن أبحاث الطب العقلي تلك هي مدرسة التحليل النفسي، وعلى رأسها العلامة فرويد، التي أطرحت الشعور جانبا واتخذت ما يجري في اللاشعور، من ذكريات وأحلام، موضوعا لدراستها بوسائلها الخاصة.
ولقد حاولت مدرسة أخرى جديدة هي مدرسة القصد رأسها مكدوجل، أن تتخذ لعلم النفس موضوعا من الدوافع الإنسانية - من غرائز وعادات وانفعالات وأفعال ثائرة بذلك على النزعة العقلية التي كانت تسيطر على هذا العلم وعلى الأيمان بأن منهج الاستبطان هو وحده المنهج الصحيح في علم النفس.
وليس معنى هذا أن علماء النفس القائلين بالشعور موضوعا وبالاستبطان منهجا لعلم النفس، قد قنعوا بالثورات المختلفة المتلاحقة من جانب هذه المدارس على مذهبهم، وإنما يعدلون فيه بالقدر الذي يظهرهم وسط الميدان وكأنهم أصحاب مدرسة جديدة؛ فإلى جانب أيمانهم بالاستبطان قالوا بإن علم النفس هو علم خبرة (وصف هذه الخبرات وتحليلها، ومقارنتها، وتصنيفها، وترتيبها في نظام دقيق. فكانت الخبرات تدرس وكأنها موجودات أخرى، أن علم النفس الوجودي كان يجد متعة في الفرد كصاحب وليس كقائم الفعل
وثمة مدرسة أخرى هي مدرسة الجشطلت مدرسة الصيغة ثارت على المذهب الارتباطي من حيث عنايته، على خصوص، بالجانب العقلي من الحياة، ومن حيث إنه (اخذ بالاحساسات البسيطة على إنها العمليات الأولية، التي منها تتركب الخبرات والأفكار المركبة). كما أن هذه المدرسة - على العكس من السلوكية التي نادت بتحليل السلوك لا خبرة - قد اطرحت، 35 - 34 على الإطلاق، منهج التحليل، سواء منه ما اختص بالسلوك أو الخبرة. وقد رفضت هذه المدرسة كذلك فكرة المعاني باعتبارها فكرة مظللة، كما رفضت الاحساسات، وعلى الأقل الأولية منها على إنها عناصر للخبرة التي سبق لها أن رفضتها هي الأخرى.
تلك هي الخطوط الرئيسية لمدارس علم النفس المعاصرة، التي عرض لها ودورث في كتابه الذي لم يشأ مؤلفه أن يقف به عندها، دون أن يعرض علينا شذرات من مذاهب لعلماء مبرزين في ميدان علم النفس، ولكنهم مع ذلك لا ينتمون إلى هذه المدرسة أو تلك.(877/44)
ففي بريطانيا: نجد الأستاذ سبيرمن بجامعة لندن الذي ولد سنة 1863، والذي احتدم الجدل بينه وبين ثورانديك حول طبيعة الذكاء. كما نجد الدكتور. ش. ص. ما يرز بلندن كان مديرا لأول معمل سيكلوجي في بريطانيا - معمل كمبردج ثم عين مديرا لمعهد علم النفس الصناعي القومي.
وفي ألمانيا: نجد الأستاذ فليكس كريجر (ولد سنة 1874)، الذي يعارض الجشطلت (فيبين أن الشكل الذي ندركه في أية لحظة هو ذاته متضمن في شعور كلي؛ فالشعور عنده حقيقة أكثر جوهرية من الصورة الخلفية). كما نجد الأستاذ. ا. اشبرانجر برلين (ولد سنة 1882). ومن تلاميذه ميلر اثنان هما فيينش في ماربورج، ودافيد كاتس في رستوك. كما يذكر المؤلف الأستاذ وليم استرن ابنجهاوس.
وفي سويسرا: نجد الأستاذ كلابارد أنشأ معهد روسو لدراسة الأطفال.
وفي إيطاليا نجد السابق بجامعة بادو. كما نجد الأستاذ بتخصصه في الأمراض العصبية والنفسية! والأستاذ كيسوا الذي كان تلميذا، قديما لفنت. والأستاذ بقياسه للمجهود وبدراسته للتعب.
وفي فرنسا: نجد الأستاذ هنري بيبرون المولود في سنة 1881. كما نجد الأستاذ جورج ديماس بأبحاثه الخاصة بالانفعالات.
وفي روسيا: نجد تيارا جديدا ينادي بدراسة الفرد (كعضو في طبقة اقتصادية ومهنية؛ ويتزعم هذا التيار علماء نذكر منهم الأستاذ كورنيلوف المولود في سنة 1879، ومدير علم النفس التجريبي في جامعة ولاية موسكو.
ونحب هنا أن نشير إلى أن مؤلف هذا الكتاب، هو نفسه من بين علماء وسط الطريق أو أن هؤلاء العلماء لا يقفون من المدارس المعاصرة في علم النفس موقف متفرج، بل انهم يقومون بمهمة التوفيق حينا، وحينا آخر يقومون باختيار ما هو احسن، واقرب إلى الصواب عند كل من هذه المدارس، ليسيروا به قدما، تاركين المدارس في تنزعها وتضاربها. فعلى يدي علماء وسط الطريق يجب أن نتوقع من الكشف والاستقلال في الموضوعات والمناهج على السواء أكثر ما نتوقع من المدارس.
وبعد فهذا رسم تخطيطي للكتاب الفذ الذي اضطلع بمهمة ترجمته إلى العربية الأستاذ(877/45)
الشاب (كمال دسوقي) بما عرف عنه من حماس للعلم منقطع النظير. ولا يفوتني هنا أن اشكر لصديقي الأستاذ هذا المجهود الجبار الذي يبذله، من يوم بدا يترجم كتابه طالبا بالسنة النهائية ن قسم الفلسفة بكلية الآداب. وتتجلى آثار هذا المجهود في مقدمته التي يلخص فيها أهم التيارات التي تجاذب علم النفس، والتي يورد فيها ترجمة وافية دقيقة لمؤلف الكتاب وثبتا لمؤلفاته، كما يتجلى في التعليقات المسهبة التي يعقب بها المترجم على كل فصل من فصول الكتاب) وهذه ميزة لا نعرف أن المؤلف قد سبق أليها من قبل. وفي ثبت المراجع الذي ذيل به الكتاب فضلا عن المراجع التي أوردها المؤلف، كما تتجلى كذلك في أمانة النقل، ودقته، مع ما في أسلوب الكتاب من التواء وغموض.
وختاما أرجو لعلم النفس على الخصوص، وللفلسفة بوجه عام، خيرا كثيرا على يدي المترجم وغيره من الشبان المشتغلين بهذه الدراسات في مصر والشرق العربي، عن طريق الترجمة والتأليف على السواء.
المنصورة
مصطفى احمد فوده
ليسانسييه في الفلسفة
ومدرس بالمدارس الأميرية بالمنصورة(877/46)
القصص
قلب كبير
(إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي إعجابا بقلبه الكبير)
للأستاذ شاكر خصباك
من كان يتصور هذا؟! من كان يتصور أن ذلك القلب الصغير يتسع لكل تلك العواطف الكبيرة الزاخرة بأسمى مشاعر الحب والوفاء؟! أجل، من كان يتصور هذا؟! ومع ذلك فقد جرى كل شئ في بساطة مدهشة.
كان المنزل الذي اتخذته مقرا لي في القاهرة يعج بالمغريات، وكنت أحاول إقناع نفسي باستئناف حياة جديدة خالية من عنصر النساء - بعد أن جر على متاعب جمة - فانطلقت أنقب عن أسرة صغيرة أشاركها العيش علني اسكن إلى حياة رزينة. وهكذا عرفت تلك الأسرة الفرنسية الطيبة. وكان قوامها زوجين في العقد الرابع من عمرها وصبية في ربيعها الثالث عشر ذات حظ موفور من الحسن بشعرها الأصفر الذهبي وعينيها الزرقاوين الواسعتين وملامحها الدقيقة الساذجة.
وانطويت على نفسي في الأيام الأولى، فلم أتبادل مع الأسرة سوى أحاديث قصيرة على مائدة الطعام. وفيما عدا ذلك كنت اعتكف في غرفتي منصرفا إلى القراءة والدرس. لكنني ما لبثت أن استشعرت الوحشة في هذه الحياة الرتيبة، وحننت إلى دنيا اللهو والمرح. وخشيت أن يفلت الزمام مني فعقدت العزم على الاندماج في الأسرة لو أد هذا الحنين. ولقد شجعني ما لمسته في الزوجين من طيبة ونبل على المضي في قراري قدر الإمكان.
وشرعنا ننتظم كل مساء في جلسة هادئة لنتحدث في شتى شؤون الحياة. وكنت انصرف إلى الزوجين أثناء تلك الجلسات غير معين بتوجيه الحديث إلى فلورا. واحسب أنني لست ملوما على ذلك السلوك، فقد كانت هي عونا لي على تجاهلها بما كانت تبديه من جمود اقرب إلى النفور. وكان يحدث لي أحيانا أن التفت نحوها عفوا فأراها معلقة الأنظار بوجهي وهي سارحة الفكر، وتلتقي عيناي بعينيها وسرعان ما تغض طرفها في ارتباك وتعلو وجنتيها حمرة خفيفة.(877/47)
وضقت بجمودها ذرعا فسألت والديها عما يدعوها إلى النفور مني، فأكد لي أنها شديدة الخجل وأنها في حاجة إلى مدة كافية ريثما تألف صحبتي. فحفزني هذا الكلام على انتهاج خطة جديدة للتقرب أليها، وبدأت أوليها نصيبا كبيرا من عنايتي. وسرعان ما أخذت فلورا تتحرر من جمودها شيئا فشيئا وإن لم يزايلها خجلها الشديد.
(إن فلورا طفلة عجيبة). تلك هي الفكرة التي نبعت في أعماقي وتسربت إلى جوارحي رويدا رويدا حتى تشبع بها كياني. إنها عجيبة بوجهها البريء وخجلها الساذج وسلوكها المثير. وكلما ازددت بها معرفة اشتدت محبتي لها. شيء معين فيها كان يضرم حبي. أهي تلك النظرة الوادعة التي تطل من عينيها دوما؟! أم تلك الحمرة الوردية التي تصبغ وجنتيها أبدا بصبغة الحياء؟! أم تلك الملامح العذبة التي تعبر أدق تعبير عن طهارة الطفولة وجمالها السامي؟! لا ادري بالضبط، ولعل تلك الأسباب مجتمعة كانت تحببها ألي. وحمدت الله حين بدا لي أن نفورها القديم مني قد اختفى تماما. وعجبت كيف ألفت صحبتي بتلك السرعة المدهشة حين غمرتها باهتمامي. واصبح من الواضح أنها تحمل لي بين جنبها مودة عميقة. لكن هدوءها المتناهي وخجلها الشديد كانا يطبعان حركاتها بطابع التزمت. ولعل الشيء الوحيد الذي كان يعلن عن تلك المحبة هو عينيها. . . عيناها المنطويتان على بحر جياش بالعواطف المضطرمة. ومع إنها كانت تحب أن تجلس إلي دوما، إلا إنها لم تكن تقتحم علي غرفتي أبدا، بل كانت تنتظر في لهفة أن أسالها ذلك بنفسي. واعتدت بدوري أن استدعيها إلى غرفتي عصر كل يوم حين تعود من المدرسة، لتقص علي ما مر بها من الحوادث النهار. وقد يصادف أن يضيق وقتي عن الاستماع أليها بعض الأحيان، فاضطر إلى القراءة والتظاهر بالاستماع، فكانت تكف عن الكلام وتركن إلى الصمت رغم احتجاجي. وتتجمع على نفسها في مقعدها، ويصبح كل وجهها عينين. . حنونتين تتعلقان بوجهي في شرود! لكنها رغم كل شيء كانت تحرص على قضاء العصر معي، فتتعمد المرور أمام باب غرفتي - ساعة رجوعها من المدرسة - وتخاطب أمها بصوت عالي ليبلغ مسامعي، حتى ادعوها ألي.
والواقع أنني لم استشعر الضيق من إقبالها على صحبتي بهذا الحماس العظيم، بل كنت أشجعها على ذلك غاية التشجيع، حتى إنني أقبلت حين سألتني ذات يوم في إلحاح أن(877/48)
ادرسها اللغة العربية في الفرص السانحة. فقد كنت آمل أن تصرفني صحبتها عن الصديقات اللاهيات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كنت أحس نحوها بحب صادق ومودة عميقة، وحملني ذلك على ملازمتها دوما، بل دفعني إلى استصحابها في نزهاتي خارج الدار، حتى صار من المألوف أن تكون فلورا برفقتي كلما رغبت في نزهة أو قصدت إلى سينما. وكم كانت تحس بالغبطة والسرور لتلك النزهات، فكان شعلة سحرية من السعادة تتوهج في أعماقها فيفيض وجهها بشرا وهناءة! غير أنني في الحقيقة لم اكن دائم الرضى عن هذه الحياة، بل كانت تتملكني أحيانا مشاعر آسى ويرمضني حنين ملح إلى حياتي اللاهية. لكنني كنت أسارع إلى الإفلات من شراك تلك المشاعر فيعاودني الاطمئنان وهدوء البال.
وذات أمسية كنت أتنزه مع فلورا في شارع فاروق المحاذي للنيل فالتقيت بصديقي حمدي، وكنت لم أره من مدة بعيدة، فهتف في دهشة ممزوجة بالفرح: ماذا جرى لك يا سلمى؟! لم يعد بوسع أحد أن يراك.
فأجبته معتذرا: أنها ظروف الحياة لعنها الله. . حقا أنني مشتاق لرؤيتك.
فصاح مازحا وهو يرمي فلورا بنظرة استغراب: لعلك مشغول بهذه الطفلة. . ولكنني لا ارتضي لك هذا المصير الأليم بعد مغامراتك الرائعة مع الغيد الحسان.
وربت على كتفي مداعبا وانصرف مع رفاقه ضاحكا. وتابعت التنزه مع فلورا وعباراته الساخرة تموج في أعماقي. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . أنا مشغول بهذه الطفلة. . كل وقتي وقف على هذه الطفلة. . لم اعد اعرف معنى للمرأة الناضجة. . فلورا تسرق شبابي. . فلورا تسرق شبابي. .!
مرت أيام وأنا مرهق الذهن بتلك الأفكار الثائرة. وعادت صور الماضي المغرية تراود مخيلتي في إلحاح. وضجت أعماقي بالسخرية المرة. . ما انفه عقلي واسخف سلوكي! كيف بددت وقتي طيلة هذه الأسابيع برفقة طفلة صغيرة نابذا الفتيات الناضجات اللواتي يقدمن كل ما تتوق إليه نفسي؟!
ثم تحطمت القيود التي كبلت بها رغباتي منذ أن هبطت على دار الأسرة الفرنسية، وجددت الصلة بنفر من صديقاتي القديمات وتبعا لذلك تغير منهج حياتي. لم يتبق هناك وقت(877/49)
للانظمام إلى أفراد الأسرة في جلستهم اليومية بعد العشاء. ولم يعد بإمكاني أيضا أن أرى فلورا عصرا، إذ طفقت أغادر الدار قبل أن تؤوب من المدرسة. وبدأت أحاول أن اقتصد في الوقت الذي اقضيه في المنزل فأقصره على القراءة والدرس. واقتضاني ذلك أن أتجنب الاجتماع بفلورا جهد الإمكان.
لم يعبا الزوجان بالانقلاب الذي طرأ على حياتي كثيرا، أما فلورا فانقلبت حياتها تبعا لانقلابي. وطبيعي أنني لم اعد أراها كثيرا في عهدي الجديد لأعرف الشيء الكافي عن حياتها، لكنني أستطيع أن أعلن ذلك الحكم وأنا مطمئن إلى حقيقته. فقد أدركت كل شيء من عينيها. . ذلك الكتاب المفتوح الذي كانت صحائفه تعكس صدى عواطفها في صراحة وصدق. تعكر البحر الصافي العميق الأغوار بنظرة حزينة، وامتزجت العذوبة الفياضة في الوجه البريء بمسحة كدرة. كان يكفي أي شخص أن يلقي نظرة عابرة ليوقن إنها طفلة معذبة. واحسب أن عواطفي قد تحجرت تلك الآونة فلم يثرني عذابها كثيرا. أو لعل اندفاعي في تيار اللهو كان يستغرق كل اهتمامي. فلورا. . تلك الطفلة العذبة. . أية قسوة كان ينطوي عليها قلبي لأندفع في إيلام مشاعرها دون أدنى اكتراث؟! كان لابد لها أن تراني وان لم اعد ادعوها. وبدأت تتسلل إلى غرفتي في خطوات مضطربة وتقف أمامي وهي خافضة النظر. وارفع رأسي وانظر أليها في شيء من الضيق، فتبادرني قائلة بلسان متلعثم: إلا يمكنني أن أحدثك عن المدرسة قليلا؟!
فارد عليها في لهجة مبرمة: من فضلك يا فلورا. . في وقت آخر.
فتعكر صفاء وجهها بتقطيبه اكتئاب وتلتوي شفتاها، ثم تنسحب بهدوء وفي عينيها نظرة كسيرة. أما الدرس العربي فقد باعدت بين مواعيده حتى اصبح في حكم المنعدم. لكنني لم اكن دائم القسوة معها، بل كنت أجيبها إلى سؤالها احينا، فاصحبها في نزهة أو إلى السينما، وان اعتذرت عن طلبها في غالب الأحيان وحملتها من عذاب الخجل مالا تستطيع حمله.
وذات أمسية غادرنا دار السينما بعد مشاهدة فلم غرامي، وسلكنا شارع سليمان باشا عائدين إلى المنزل. وكانت فلورا تسير إلى جانبي والسرور ينير وجهها، وهي صامتة تائهة كأنها تحت سلطان قوة خفية! وفجأة التفتت ألي في تردد وسألتني بصوت راعش والدم يندفع إلى وجهها لاهباً: ماذا يعني وقوع المرأة في غرام الرجل يا سامي؟(877/50)
فنظرت أليها دهشا، ثم أدركت على الفور أن عنف المواطن في (الفلم) قد أثار فضولها. فقلت بلهجة متلطفة: لا تستعجلي الأمور يا عزيزتي فلورا. . هذه عاطفة يصعب على الصغار فهمها، وستدركين معناها - عندما تكبرين - من تلقاء نفسك.
فقاطعتني بلهجة احتجاج: ولكنني أستطيع فهمها الآن فأنا فتاة كبيرة. أنت لا تعرف عمري الحقيقي. . أن لي خمسة عشر عاما.
فأجبتها مازحا: حقا؟! لقد كنت اعتقد انك في الثالثة عشرة من عمرك. أنت تبدين اصغر من سنك كثيرا.!
فصاحت فرحة: هذا صحيح. . إنني أبدو اصغر من سني كثيرا، وفي وسعي أن افهم كما تفهم الفتيات الكبيرات.
فقلت لها في لهجة جدية: اسمعي يا فلورا دعي السؤال عن مثل هذه الأمور حتى تكبري، فأنت الآن طفلة صغيرة لا يصح أن تلقي هذه الأسئلة على الآخرين.
وما كدت افرغ من قولي حتى سمعت صوتا يهتف في حرارة: (هالوا سامي!). والتفت، وإذا بي أمام صديقتي (سوسو) التي كنت قد أخلفت موعدي معها قبل أيام. وراحت (سوسو) تتفنن في عتابي متهمة إياي بتفضيل صديقاتي الأخريات بينما انطلقت فلورا ترقبها في غيظ واشمئزاز. واستطعت أن أتخلص من عتابها أخيرا بالاتفاق على موعد اخر، فانصرفت وهي تحذرني من إخلاف الموعد مرة أخرى. وتابعت السير مع فلورا في صمت، وعبثا حاولت وصل الحديث بيننا، إذ تمسكت فلورا بصمتها وقد ارتسم على وجهها شتيت من عواطف الخيبة والمرارة والغيظ.
تغير سلوك فلورا تجاهي منذ تلك الليلة تغبرا عجيبا ولم تعتد تحتفظ لي بمودتها القديمة. فقد صادف في اليوم التالي أن كان ميعاد درسها العربي، فاستدعيتها إلى غرفتي لتستمع إلى الدرس. ولشد ما دهشت حين قرأت على صفحة وجهها دلائل قسوة وعنف ولمحت في عينيها نظرة صارمة يمتزج فيها الغضب بالنفور بالأسى. وانتصبت أمامي شامخة الأنف مقطبة الوجه، فنظرت أليها متعجبا وقلت باستغراب: اجلسي يا فلورا. . . الست مستعدة لدرسك العربي؟!
فأجابتني بلهجة جامدة: كلا. .(877/51)
فسألتها في دهشة: لماذا يا فلورا؟! يجب أن اعرف فالأمر يهمني فانفجرت صائحة في غضب: أنت تخدعني فالأمر لا يهمك إنني لم اعد احب هذه اللغة. . لا احبها. . لا احبها. . ولن استمع إلى درس عربي آخر.
وروعتني ثورتها فلبثت ارقبها صامتا مشدوها. وقبل أن استفيق من ذهولي هرعت إلى غرفتها وأوصدت وراءها الباب. في رفق. هىء. . هىء. . ماذا؟! أفتبكين يا فلورا؟! ساد الصمت برهة، ثم تناهى إلى سمعي صوت مرتعش يهمس: (أرجوك. . اذهب) فقفلت راجعا إلى غرفتي تنازعني مشاعر الألموالإشفاق.
انطوت فلورا على نفسها، وباتت تحتجب عن عيني دوما. ولم اعد أراها إلا على مائدة العشاء وهي مقبلة على طعامها موردة الخدين خافضة النظر. وحين تلتقي أنظارنا عرضا يحمر وجهها وتلمع عيناها ويزوغ بصرها عن وجهي في قلق وارتباك. وأيقنت إنها عادت إلى نفورها القديم مني، فقد أصبحت كل حركة من حركاتها وكل لفتة من لفتاتها تعبر عن هذا النفور، ولكن عينيها ظلتا مشحونتين بأسى عميق ووجهها مغلفا بكآبة قاسية.
ومضت الأيام وان مشغول بصديقاتي اللاهيات غير عابئ بأمر فلورا. وظلت هي تحرص على الابتعاد عني فتؤازرني في إهمالها، ألي إلى أن حل ذلك المساء. ورجعت إلى المنزل على غير ميعادي، وما كدت افتح باب غرفتي حتى ألفيتني وجها لوجه أمام فلورا.! ألم يحدث لك أن فاجأت لصا يهم بمغادرة المكان بعد أن سرق اثمن محتوياته؟! تلك هي حالتها بالضبط حينما باغتها بدخولي. تقلصت ملامحها واكفهر وجهها واشتعلت عواطف الخوف والحيرة والخجل في عينيها القلقتين. ماذا بك يا فلورا؟! ما الذي يروعك؟! خطوت نحوها في بشاشة فاندفعت صوب الباب بلهفة طائر سجين فتح له القفص سهوا. . . كلا، لن ادعك تخرجين. وقبضت على ذراعها وأنا أقول في لطف: مرحبا بك يا فلورا. . . لماذا تسرعين؟!
فانطلقت تناضل لتخليص ذراعها من قبضتي وهي تردد بصوت مخنوق: دعني اذهب. . . أرجوك، دعني اذهب.
لكنني أجلستها على أحد المقاعد عنوة وأنا أقول في رقة: مهلا يا عزيزتي فلورا. . . لا داعي للعجلة. .(877/52)
فصاحت في لهجة غاضبة وهي تتململ على مقعدها: أنا لست غزيزتك. . . دعني اذهب.
فواصلت كلامي ضاحكا: لا تثوري يا فلورا، فانا اعلم انك غاضبة علي. والآن أنبئيني؛ أجئت لتزوريني أم لتستردي كراسة اللغة العربية؟!
فرمقتني لحظة بنظرات متأملة، ثم غمغمت بلهجة متعثرة: اعطني دفتر اللغة العربية.
فاتجهت إلى المكتب صامتا ومضيت اقلب الكتب والدفاتر وهي ترمقني بنظراتها المبهمة. وحين قدمت أليها الكراسة حدقت في وجهي مليا ثم قفزت على قدميها ثائرة وانهالت على الكراسة تمزقها بأسنانها وهي تصرخ في لهجة معذبة: إنني أكرهك. . . أكرهك. . . أكرهك.
وألقت القصاصات على الأرض في عنف ومرقت من الباب! وتهافت على المقعد مذهولا وصراخها يدوي في أذني. . . تكرهني؟! لماذا؟! وأي دافع ساقها إلى غرفتي أذن؟! ولماذا امتلكها الفزع ساعة رؤيتي؟!
وبدا سلوكها الغريب يثير في رأسي عشرات الأسئلة، وطفقت احسب له ألف حساب. والظاهر أنني إنسان من طراز خاص يشذ عن الإنسان العادي. فمع أنني أفلحت في التخلص من صحبتها، ومع أنها غابت عن أفق حياتي، كما شاءت رغبتي، إلا إنني بدأت أحس اثر تلك الليلة بالضيق والحنق من تصرفاتها الغريبة. واكتسبت حاسة جديدة لنقد سلوكها اتجاهي. لماذا تتهرب من لقائي؟! ولماذا تحاول أن تنأى عني؟! أتكرهني حقا كما أعلنت ذلك؟ يالها من طفلة مزعجة. كان المرء لا عمل له في لحياة سوى العناية بها، فإن لم يفعل، فعليه أن يتلقى كراهيتها. طفلة شاذة تثير الأعصاب بتصرفاتها السخيفة. إذ التقيت بها في ردهة المنزل فرت من أمامي كما يفر الحمل من الذئب. وان جلست إلى والديها اعتكفت في غرفتها ولم تبارحها إلا بعد أن أخلي المكان. لماذا؟! أانقلب وحشا مفترسا؟! أين تلك المودة التي كانت تغمرني بها؟! أن الحياة لا تطاق في هذا المسكن. . لا تطاق. ما الذي يشدني أليه؟! أخلت القاهرة من منازل مريحة؟! يجب أن اتركه، يجب أن أغادره إلى نزل آخر.
انتهيت إلى ذلك القرار أخيرا لكنني لم أدرك دوافعه الحقيقية حتى الآن. لماذا ضايقني ابتعاد فلورا عني مع أنني كنت راغبا فيه؟! وماذا يضيرني أن تحتجب عني عيني طفلة لا(877/53)
شان لي معها؟! بل لماذا دفعني ذلك إلى اعتزام الخروج مع إنني سعيت لإبعادها بنفسي؟! لا ادري بالضبط - والذي حدث بعد ذلك أن رغبتي تحققت عقب أيام قليلة، فتركت المسكن، ولكن لا إلى مسكن اخر، بل إلى إحدى المستشفيات الخاصة حيث سقطت صريع المرض.
أنفقت بضعة أيام في المستشفى لا أكاد أصحو حتى افقد وعيي وكنت أرى - كلما فتحت عيني - فلورا وأبويها إلى جانب سريري. وفي خلال أيام اشتداد المرض مررت بفترة قاتمة لا أكاد أتذكر منها سوى أخيلة باهتة يغلها ضباب كثيف. ومن بين ذلك الضباب المتكاثف يبرز زوجه فلوريا قويا واضحا بلون شاحب وعينين قلقتين وقسمات تتفجر غما واسى ولا اذكر متى حدث ذلك وفي أي ساعة من النهار أو الليل، ولكن الذي أتذكره أنني صحوت على صوت بكاء عنيف، وفتحت عيني في صعوبة فطالعتني صور أشخاص ملتفين حول سريري. لم استطع بادئ الأمر أن أميز أحدا منهم، إذ ابدوا أمام عيني كالأطياف. ثم تركزت ملامحهم شيئا فشيئا حتى تبينت فيهم الطبيب وفلورا وأبويها. لكن عيني تعلقتا بوجه واحد من وجوههم هو وجه فلورا. كانت الدموع تنحدر على خديها في غزارة وصوت نحيبها يثير في القلب اعمق الشجن. وهالني أن أراها شعلة ملتهبة من الحزن والألم، فابتسمت لها. وحينئذ حدث مالا يمكن أن يبرح ذاكرتي مدى الحياة. انطلقت تضحك في فرح جنوني وهي تحدق في وجهي كالمخبولة والدموع تنهمر من عينيها مدرارا. وتناهى ألي صياحها كأنه آت من بعيد وهي تهتف بصوت متهدج: (انه لن يموت. . . لن يموت. . . ألم ترونه كيف فتح عينيه وابتسم؟! لن يأخذه الله. . . إنه ليس شريرا. . . سيشفى بعد أيام قليلة وسأراه كل يوم. . . أليس كذلك يا ماما؟! لن يموت يا ربي. . . لن يموت). ثم ابتعد الصوت المتحشرج عن مسامعي وبهتت صورة وجه فلورا المائلة أمامي حتى لم اعد أتبين أو اسمع شيئا.
وتلك هي الذكرى الوحيدة التي ظلت واضحة في خيالي أيام الغيبوبة. ثم انقضت تلك الأيام وبدأت أثوب إلى رشدي، وما كان أسعدني بالنجاة حينما أنبئني الطبيب أنه يئس من حياتي حتى مملة ذلك اليأس على مصارحة العائلة الفرنسية بنهايتي الحتمية. وانه سعيد جدا إذ خاب ظنه أخيرا.(877/54)
وانتظرت في لهفة زيارة فلورا وأبويها، فطال انتظاري حتى استبد بي القلق. فرجوت الممرضة سميرة - التي تشرف على تمريضي - أن تقوم باستجلاء الأمر. ولشد ما ذهلت حين أعلنت لي في اليوم التالي انهم اعتذروا عن زيارتي بكثرة المشاغل! واستولى علي الشعور بالاستياء. والقلق ولبثت أيام عدة أتوقع زيارتهم في شوق متدفق وأنا القي على نفسي عشرات الأسئلة الحائرة دون أن ابتكر لأحدها جوابا معقولا. ثم اخذ اكتراثي بالأمر يتضاءل يوما عن يوم اثر العلاقة الغرامية التي نشأت بيني وبين سميرة واستغرقت كل اهتمامي.
مرت الأيام بطاء كسالى وانزاحت عني سمات المرض تجاه بشائر الصحة. وكنت قد عقدت النية على مبارحة المستشفى في صباح اليوم التالي حين اقبل علي رسول من صاحب المنزل ينبئني برحيل الأسرة الفرنسية إلى فرنسا ويطلب ألي إخلاء الدار من متاعي. وللمرة الثانية اجتاحني الذهول والاستغراب، وانطلقت أسائل نفسي عن سبب هذا التصرف في حيرة وغضب.
وفي صباح اليوم التالي قصدت المنزل لأنقل متاعي إلى أحد الفنادق ريثما اعثر على مسكن آخر. صعدت إلى الدار بصحبة البواب ليساعدني في حزم الحقائب. وما كدت اجتاز الباب حتى هاجمتني وحشة قاتمة وطغت على مشاعري أحاسيس تفيض بالشوق والأسى. دخلت غرفتي وأنا أجيل النظر حولي حزينا آسفا. وبينما انصرف البواب إلى ترتيب كتبي وملابسي في الحقائب وقفت مشلول الحركة استعرض مشاهد حياتي منذ أن دخلت الدار حتى غادرتها إلى المستشفى. وفجأة وجدتني التفت إلى البواب واسأله بلهجة مرة: لماذا رحلوا يا عبده؟!
فتوقف البواب عن العمل، ونظر آلي في حزن وأجابني بلهجة كئيبة: أفلا تعلم يا أستاذ سامي؟! لقد ماتت فلورا فكره أبوها المعيشة من بعدها في مصر. . . ماتت ميتة أليمة تحت عجلات (المترو) بينما كانت تستقله صباح أحد الأيام إلى المدرسة.
وصمت لحظت ثم أردف يقول بلهجة ارتياب: لقد سمعت من البعض إنها انتحرت من اجل شاب أصيب بمرض خطير افقد الأطباء كل أمل في إنقاذ حياته وإنها لم تسقط من العربة قضاء وقدرا. . . ولكنها مجرد إشاعة كاذبة ولا شك.(877/55)
وأصبت بذهول أدنى إلى التحجر وأنا استمع إلى البواب، وتبلد ذهني حتى تعذر على أن أتابع ما يقوله. وطفقت اهمس في لهجة تائهة: فلورا ماتت. . . فلورا ماتت. . . فلورا ماتت. . .!
ثم لاحت مني التفاته إلى زاوية الغرفة فلمحت الهدايا التي كنت قد قدمتها أليها في شتى المناسبات. اقتربت منها بخطى ذاهلة، وجعلت اقلبها بين يدي وخيال فلورا مائل أمامي وسمعي يتجاوب بتلك العبارة التائهة. وأصدمت يدي بصورة فوتوغرافية صغيرة، فنظرت أليها في إهمال، وإذا بي أمام صورة لي كنت قد فقدتها من أمد بعيد. . .!
وداهمني خور غريب وأنا أحدق في الصورة مشدوها، وسرى ضعف شديد في ساقي فلم يعد بوسعها حملي، واحتبس الهواء في صدري حتى شعرت بالاختناق. وفجأة تهافت على الأرض وعيناي تمتلان بالدموع!
القاهرة
شاكر خصباك(877/56)
العدد 878 - بتاريخ: 01 - 05 - 1950(/)
(حياتي) و (مذكراتي)
أما (حياتي) فقد علمت أنها ترجمة لحياة الكاتب الاجتماعي الكبير الدكتور أحمد أمين بك، كتبها بقلمه الصريح الصادق فجاءت صورة لقلبه، وشهادة على غيبه، ومرآة لبيئته. وما كان لكاتب (حياتي) أن يقول على نفسه غير الحق، لأنه كتبها وهو واحد من الآحاد البارزين الممتازين في الأدب والفضل؛ فهو غني بجمال حاضره عن تمويه ماضيه، وبصدق واقعة عن تزوير حقه وأما (مذكراتي) أو مزوراتي فهي ترجمة في ثلاثة أجزاء للصحفي السوري المعروف محمد كرد علي؛ كتبها حين رد إلى ارذل العمر وعاد لا يعلم بعد علم شيئاً؛ فهي رواسب من أكدار السنين التسعين تقاطرت على قلمه سوداء كالحقد، نتنة كالغيبة، كدرة كالغضب، فارغة كالإخفاق، فألفت هذه الصفحات المئات، تقرأها فلا تجد أسلوب يمتعك ولو بالزخرف، ولا رأيا يقنعك ولو بالخداع، ولا قصصا يلهيك ولو بالباطل، فتلقى الكتاب من يدك وتسأل: لماذا نشر الرجل على أعين الناس هذا الغسيل الرث الفذر؟ فيجيبك من يجيب: إنها الشيخوخة!
ذكرت (الأيام) حين قرأت (حياتي)، لأن بين الكتابين جهتين جامعتين: هما الاتحاد في صدق الموضوع، والتضايف في جمال العرض وذكرت كتاب كرد على حين قرأت كتاب أحمد أمين، لأن بين الكتابين جهة جامعة ثالثة هي النضاد. فالترابط بين (حياتي) و (مذكراتي) هو الترابط بين الحياة والموت، والصدق والكذب، والطلاوة والغثاثة.
وجد طه حسين وأحمد أمين في نفسيهما وفي تاريخيهما رجلا ومجدا، فحلالا هذا الرجل، وحلالا ذلك المجد؛ أما كرد على فلم يجد في نفسه ولا في تاريخه شيئا من هذين، فحاول أن يخلق الرجل بالدعوى والغرور، وأن يصنع المجد بالاختلاق والزور. ومن قبل حاول القرد أن يقلد علو الإنسان، فتسلق شجرة غيناء من شجر المشمش في (الغوطة)، وأخذ يرمي السابلة بالنوى؛ فإن التفت أحد إليه نب وشب وقال: أنظر! أنا هنا! أنا فوق! ولكن حركات القرد تلهى وتضحك، وكلمت كرد علي تغْني وتمل! كل ما في (مذكراتي) على طولها تفاهة وسفاهة وادء. فمن تفاهتها قوله في (الحورعة) وهي دعوة الحصادين إلى وليمة: (يذهبون إلى حمام (القيشاني) وهناك كتب أفرك ظهور أجرائنا. . .) وقوله: (وكان الكهلات والشابات والعجائز من تلك النسوة، الفلاحات منهن والبلديات، يضممنني إلى صدورهن ويقبلني، وأضمهن وأقبلهم. وأحسن ما كان يشوقني الجلوس في حجورهن(878/1)
والعبث بنهودهن ومن سفاهتها أنه لم يترك عالما ولا أديبا ولا فاضلا في مصر والشام وتركيا إلا أخذ بلسانه، وتناوله بهتانه وكان من نصيبي أنه شتمني ونزني بالفلاحة والتجارة والعقوق. لأني لم أنوه بفضله في مقالة، ولم أبادل مجمع دمشق بالرسالة. ومن ادعائها أن يزعم أنه قطب الرحا في السياسة؛ فتركيا تستثيره وتعرض عليه المجد وفرنسا تستنصره وتلوح له بالذهب؛ ولكن كرد على الزاهد العابد يرد على تركيا الشرف والأمارة، ويرفض من فرنسا المال والوزارة!! لا أدري لماذا خطر ببالي الساعة ابن زيدون وابن عبدوس والرسالة الهزلية؟!
أحمد حسن الزيات(878/2)
سطور زرق
للأستاذ راجي الراعي
وقفت أمام البحر أسأل عن رعشته. . لماذا يرتعش البحر؟
أيرى نفسه على رحابته وعظمته سجيناً في مكان رسم له في الأرض لا يستطيع أن يفلت من قضبانه ليهجم على اليابسة عدوته الأزلية فيرتعش رعشة الأسد السجين يقف الحديد بينه وبين أطماعه؛ رعشة القوى الشاعر بقوته ولكنه لا يمارسها؟
أم هو يرى جريمة في بقايا الأبطال من غرقاه فير تعش رعشة الخاطئ الذي حالف الموت فأعطاه مكانا يلقى فيه بعض الخلائق التي حصدتها مناجله وضاقت بها الأضرحة؟
أم هو يضمن بدوره المستقرة في قلبه ويخشى عليها من حيتانه فيرتعش رعشة الغنى أمام الأيدي الجريئة التي تمتد حول خزائنه؟ أم هو يرى يومه الأخير الذي يسدل فيه على روايته ستارها الأزرق ويعود إلى اليابسة فيرتعش رعشة الحي لتشبث بيومه الخائف من غذه؟ لماذا يرتعش البحر؟
أهو شاعر عبقري روحاني نوراني خلق ليعيش في عالمه بين أفكاره وأحلامه وعواطفه بعيداً عن الإنسان والإنسانية قريباً من نفسه ومن خالقه، وليكون جزيرة بارزة مستقلة عن أبناء التراب في بحر الوجود، يرى نفسه ملكاً لسواه، وساحة عامة يطأها العابرون، وصدراً مفتوح الرئتين القلب والضلوع تشقه السفن والدارعات والطرادات والنسافات على مختلف أسمائها وألوانها، وتنفث فيه دخانها وتصيح صيحاتها وتلقى مراسيها فيرتعش رعشة العبقرية التي أقامت لنفسها الهياكل العاجية فاستبيح حماها واسود عاجها، رعشة الشاعرية التي سدلت الستار على آلهتها فمزقتها الأيدي القاسية الأثيمة؟
أم هو يرى في مائة تلك الدموع التي التقطها من العيون الباكية، وأنه من أجل ذلك يحسم اليأس، وأن كل كئيب يصب فيه ثمالة كأسه، وأنه الثمالات في كأس واحدة، والدموع في عين واحدة، فترتعش فيه ألوهية الألم التي اتخذته لها معبداً؟
أم هو يحدق في إلهه (نبتون) ويؤمن بأنه إله الآلهة فيرتعش رعشة العبادة والإيمان؟ أم هو بين موجته المجنونة وغايته المجهولة رجل أضاع عقله فارتعش رعشة المجنون؟
أم هو يشرب خمرة الزبد البيضاء فيرتعش رعشة الثمل؟ أم هو المرأة ذات العينين(878/3)
الزرقاويين يراها (كيوبيد) إله الحب منتهى حبه وإطار خياله، ويمسح بثوبها الأزرق دم كل سهم من سهامه التي رمى بها العشاق فترتعش الرعشة الكبرى، رعشة الرعشات؟
لا أدري لماذا يرتعش البحر ولا هو يدري. هو البحر ومع ذلك لا يعرف نفسه، ولعله لا يعرفها لأنه البحر. .
وأرهفت أذني للموجه الزرقاء فسمعت أصواتاً تقول لي: أنظر كيف تشق عبابي السفينة، ويلعب بأحشائي الغواص، وكن مثلي رحب الصدر صبوراً - صارع صخورك كمرجاتي وكن وثاباً، وإذا استرحت فلتكن راحتك تأهباً لوثيقة الغد - أنا مع عظمتي أسير تقيده الشواطئ فاذكر دائماً أنك مهما علوت وشمخت وحملت الصوالجة وركبت العروش لا تستطيع أن تكون حراً؛ وأن الحياة جهاد للتملص من ربقة الشاطئ الذي يقف في طريق النفس الهائجة فيمنعها من أن تتجلى بكل ما فيها من أنوار ونيران لتحقق أحلامها وتسكب خمورها - أنا وادع ثائر عاقل مجنون، فكن مثلي حكيماً وفرق بين سيفك ونداك. .
وسمعت صوتاً صارخاً يقول: أيها المشرف على عالمنا المتفرس في حياتنا البحرية، أنظر إلي أنا السمكة الصغيرة تبتلعني السمكة الكبيرة لأنها القوة ولأنني الضعف! وإليك أشكوها أيها الإنسان؛ فهل لك أن تحول بطشها عني وتضع في قلبها شيئا من الرحمة والحنان؟ فقلت لها: أيتها المستجيرة بي، بنا على الشاطئ مابك في الماء، نحن أسماك الأرض يأكل كبيرنا صغيرنا، ويقتل قوينا ضعيفنا فسيف القوة مصلط في البر والبحر؛ وكأن الأقوياء فيهما يؤلفون عصبة واحدة ويتنادون؛ فكلما ربح الظلم فريسة في بطن الماء ربح أخرى على سطح الأرض. الظلم يا سمكتي الصغيرة قديم، والظلم في كل مكان. فلا تستجيري بأبناء الأرض، ولا تحسبي انك إذا خرجت من الماء أفلت من قبضة الأقوياء. .
ودرت حول البحر أسأله: هل هناك ما يشبهك في الأرض؟
فقال: تشبهني الصحارى ولكنها بحور جامدة، والليالي ولكنها بحور سود. .
وسألته: كيف أنت والأفق؟ فقال: شقيقان لفظتنا أحشاء امرأة هي الطبيعة؛ والصلات التي تجمعنا عديدة. فلوننا واحد هو الزرقة، وجيوشنا لا تعد ولاتحصى؛ فللافق نجومه ولي موجاتي، وكلانا رمز العظمة واللانهاية؛ ولكل منا وجهة الغضوب. فللأفق صاعقته التي يعطس بها أنفه، ولي بركاتي الثائرة، وفي قلبينا تستقر الدرر. .(878/4)
وسألته: كيف أنت والصياد؟ فقال بلهجة الفائز: أنني آخذ أكثر مما أعطى. إن غرقاي الذين أغنمهم أوفر عدداً من الأسماك التي يغنمونها مني. . .
وسألته: هل أنت عصامي أيها البحر؟ فحنى رأسه وقال: أن عيبي الوحيد هو أنني استعير مجدي وقوتي من سواى؛ فلولا تلك الينابيع والأنهار والجداول لم أكن. أنها تموت في لأحياء، وتصب في كنوزها لأصبح ثرياً. . أنها تعطيني جنينها لأتجبر؛ وتضع في صدري الملايين من القلوب ليظل نابضاً إلى الأبد. . أنا كالقمر يستمد نوره من الشمس ولولاها لم يكن القمر. أنا البحر ولكني رجل مدين لا يستطيع أن ينطح السحاب بأنفه الجبار.
نقص
وسألته: هل للشعر مكان فيك؟ فأجاب: شاعريتي في رعشتي، وصور خيالي المتوالية المتعاقبة في هذه الموجات. . .
وسألته عن البراكين فأجاب: عندما أغضب الغضبة الكبرى وتعجز الموجة عن أن تسعها، أطلق بركاني، ومن عجائبي أنني أخرج النار من مائي. . .
وسألته: كيف أنت والجبل؟ فقال: الجبل ضيق وأنا فسيح. الجبل مقطب الجبين وأنا طلق المحيا صخرة وأنا رعشة. الجبل عقل صارم وإرادة باطشة، وأنا قلب خفاق وشعور صارخ، وإذا كان للجبل عقبانه على قمته، فلي كنوزي في أعماقي.
وسألته عن الغزاة الفاتحين فقال: إن لهم بحورهم ولكنها من دماء. .
وعن الفلاسفة فقال: أنا في كل كرة من كرات شكهم ويقينهم. انهم يموتون صرعى بين أمواجهم التي تغمر كيانهم. .
وعن المنتحرين فقال: انهم يؤثرون موجتي الهائجة على التراب البليد الصامت. .
وسألته: كيف أنت والخيانات؟ فقال: إني أعرفها. فكم من عقيدة طرحها في صاحبها ولم يسأل عن غده.
وسألتهم: من هم أعداؤك الألداء؟ فقال: القناعة والتشاؤم والبخل والعقم. .
وسألته عن الأمجاد فقال: إنها موجات في بحر الخلود. .
وسألت وسألت حتى خشيت أن يستهويني البحر. وقبل أن تركت الشاطئ وعدت إلى صلابة الأرض سجدت أمام (نبتون) وصليت صلاتي الزرقاء فقلت:(878/5)
يا رب السماء! ضع من قلبك في قلبي فتتسع دائرته ويغزر دمه. وأضرب بموجاتك الصخور القائمة في طريق خيالي وأحلامي. .
غدا إرادتي لأحطم كآبتي وضعفي، وارفعني إلى مستواك لأبسط كتابي في العالمين. .
افتح عيني لتسعك وأذني لتسمعك. . جملني بالعظمة والصبر، واجعل صدري رحباً ليسع الناس ولؤمهم والأفدار وظلمها. .
أغرق في الوجه القبيح من إنسانيتي وابق لي وجهها الجميل وزده جمالاً. .
أغرق صحرائي واجعلني بحرا وخذني أنت لا سواك في يومي الأخير، وأرحني من وطأة ذلك ألحجر البادر الثقيل اللثيم أيها الكريم الرحيم. .
راجي الراعي(878/6)
حكاية الشعر الرمزي
للأستاذ حبيب الزحلاوي
نشر الأستاذ عادل الغضبان في المجلة التي يتولى رئاسة تحريرها، مقطوعة رمزية من قلم الدكتور بشر فارس.
ليس إبراد الخير على هذا الوضع بالأمر الغريب، وإنما الغرابة في أن الأستاذ عادل لا يؤمن بالشعر الرمزي، وله فيه رأي لا يرضي الرمزيين ولا مطاياهم. وهو برغم هذا يفتح صدر مجلته لمقطوعة الدكتور بشر فارس، ويعلق عليها، ويدع الأستاذ إبراهيم الأبياري يدافع به عن المذهب الرمزي.
هنا وجه الغرابة، بل هنا مجال الشك والتساؤل.
كان من المنتظر - لولا هذا الوضع المستغرب - أن تسلك المقطوعة الرمزية الجديدة السبيل الذي سلكته أخواتها من قبل، لتصل إلى ذات القبر الذي دفن فيه، أما الأثر المفروض حدوثه وهي طريقها بين المهد واللحد، فهو معروف عند جميع الأدباء، فكاهة تفسح مجالا للتندر والسخرية. إشفاق على جهود تهدر في الالتواء والمرض، وعياذ من انتقال وباء الرمزية إلى أدبنا، أو هروب الشاعر إلى بلاد الله الواسعة، يلعن أدباء مصر في الشام، ويسفه أدب الشام في العراق، ويوقع في لبنان بين المسحيين والمسلمين، ويزدري الشرقيين في بلاد الغربيين.
كان هذا المرتقب وقوعه بالقياس على الوقائع الماضية، ولكن لباقة الأستاذ عادل الغضبان نحت هذه الظنون، ونأت بهذه الاستنتاجات بعيداً، بموقفة من الدكتور بشر فارس إذ يقول له: سواء كانت هذه المقطوعة من عالم الشعر أم من عالم النثر فليس هذا موضوع الخلاف، وإنما هو فيما تضمنته من رموز خشينا معها أن تند عن عمود الشعر العربي) ويستطرد وهو الرزين المتمكن: (إن الشعر، معنى وشعور وموسيقى، يتعاون اللفظ والأسلوب والوزن والقافية على إخراج ذلك المثلث، فمن شاء من الشعراء فصل لها من النصوع والوضوح، ومن شاء ألقى على هيكلها وشاحاً رقيقاً من الإبهام، ومن شاء رمز وكنى) وبعد أن ضرب الأمثال وأنهض الأدلة قال: (إن هذه المقطوعة لا تنحدر إلى القلب إلا بعد تمنع، ومتى انحدرت إليه ملأته بالعبرة والإعجاب (؟!!) ولعلها لا تثير فيه هزة(878/7)
الطرب والانفعال).
كلام مقبول موزون لا مرية فيه، ولكن أنى لداعية الرمزية المنادى بنفسه إماماً لها ورسولا أن ينصت إلى معلمه، وقد كان تلميذا له فيما غير من الأعوام؟ أنى للتلميذ الذي سبق معلمه بمراحل أن يقبل ماهو مقرر من قواعد الشعر وهي معروفة ثابتة من مئات السنين؟ لذلك يقف الدكتور بشر فارس وهو يبتسم ابتسامة المشفق على معلمه المتخلف عن ركب الحياة ويقول له (إن تعريفك للشعر إنما هو التعريف المتقادم الضيق، المحصور في الشكل وحده، وأن العمود الشعري الذي أكبرتموه وقدستموه فإني مستطيع إبعادكم عنه) ولم يكتف بما قال بل راح يدل كعادته، على ما قال وكتب ونشر في الصحف السيارة ويهدي إلى فهارس وأسانيد نثبت خطل تعريف الشعر العربي القديم، ويدعى أن تعرفه الحديث (هو إبراز المضمر، واستنباط ما وراء الحس من المحسوس، وتدوين اللوامع والبدائه)
ضحكت منه ذا التعريف المصري، والضحك مفتاح الغضب، ولكني تمهلت ريثما اطلع قراء (الرسالة) على (المقطوعة) مثار الموضوع، لعلي أنا الذي عيبت عن فهم الرمزية؛ وعنوانها (إلى زائرة) تلك التي وقف منها الأستاذ الزيات في كتابة (دفاع عن البلاغة) موقفاً سأعود إليه. أقول تمهلت لعلي أدرك المغلق من الرموز، وأحل عقد الطلاسم والأحاجي. وإلى القارئ المقطوعة (البشريه) أوالقصيدة (الفارسية) وعنوانها (الشاطئ الحافل).
(أنا السيد الأعلى للشاطئ الحافل، إليه من مواغل الأرض تقبل الضمائر ذوات الرغبات الخساس، عاجزات، حيارى، فتموت.
(في اللجة يمتد سلطاني. فراشي رجراج بالمآسي، فيه يقترن الفكر بالغوص. ولا مناص لأحدهما عن الآخر، هنا الحياة.
(حياة وعبث رشيق بالموت الحقير، شاعر أزلي ذو أنامل ماهرة، يبغي التلهمي عن غصة الزخارة، فيلعب لعب المشعوذ بأوعية ذهب، ترقد فيها إلى غير إفاقة، ضمائر لا عظمة عندها.
(يا للعلم باللانهاية! سير لأقصى اللطف الشارد) في زرقة الفضاء، ذات الحدقات الصوافي، تنور الشاطئ الحافل برفات الرغبات) ماتت في ركن موقوف للقوافي الخوالد، قواف نسل(878/8)
في ساعات الاستجمام، في ضمائر لا عظمة فيها ولا غور)
القاهرة 3 فبراير 1945
بشر فارس
هل أنعمت النظر أيها القارئ في هذه الجريدة التي فجرها ذهن الشاعر المقلق الدكتور بشر فارس؟ هلا استغنيت عن المعنى والشعور والموسيقى بعد أن قام الشاعر الرمزي المغلق (بإبراز المضمر، واستنباط ما وراء الحس من المحسوس، وكيف يكون تدوين اللوامع والبواده)؟ أما أنا فأعترف لك صراحة بأني عصرت يافوخي، وكددت ذهني، واجتهدت في تحميل اللفظة والكلمة والجملة والشطرة الواحدة وعلامات الاستفهام أو التعجب وكل حركة وردت في هذه (المقطوعة) ما تحمل ومالا تحمل من المعاني بغية الاهتداء إلى (مالا يحتاج إلى شرح) كما قال أحد مطايا الرامز)؛ ولكن أقسم أنى لم أفهم، وهل الأم على جهلي حل الألغاز، وأي تثريب على من لا يفقه الطلاسم والأحاجي؟
لا يهولنك أيها القارئ أن تكون غبيا مثلي، اعلم بأن صديقا لي - يحفظه الله - هالته بلاهتي، فراح يربت كتفي، ويطيب خاطري، ويشرح لي (المقطوعة) بغير ما عناء أو تكلف كأنه يقرأ للمتنبي أو البحتري أو ابن الرومي ولكنه قطع أربع ساعات فقط في هذا الشرح والتفسير والتخمين والاستنساخ.
وإليك الشرح كما وعته ذاكرتي.
(أنا السيد الأعلى لشاطئ هذه الحياة التي تعج فيها الضمائر والرغبات الخسيسة، العاجزة الغيرة الميتة.
(أنا السيد يمتد سلطاني على لجج النهر الحافلة بالمآسي التي لامناص من وجودها في الحياة لأنها تقترن بفكري.
(أنا شاعر أزلي أعبث عبثا رشيقا بالحياة وبالموت الحقير، وأتلهى بقصص الناس، وألعب لعب المشعوذ بهؤلاء الناس العظماء بالمال فقط بيد أن ضمائرهم ليست عظيمة، وهم النيام أبداً وقد لايفيقون.
ثم يتوجه بالخطاب إلى العلم فيقول (يا للعلم! باللانهاية أين أنت؟ ها أنا الشاعر، أسير(878/9)
الحكمة الشاردة في الفضاء فأرى بعيني الباصرة وببصيرتي الصافية، رفات ورمم أصحاب الرغبات الخسيسة ملقاة في ركن عند حافة شاطئ الحياة، وقد اتخذت منها، أنا الشاعر الأزلي، في ساعات استجمامي موضوعا لبعض قصائدي الخالدة)
هل انبثق النور الرمزي من كوى هذا الشرح؟ هل تسللت خيوط شمس المعرفة إلى ذهني فأنارت ما فيه من الظلام؟ قلت للشارح المجتهد وهو صديق كريم أحبه وأجله وأعتز بصداقته، لا عليك في الاجتهاد في التفسير والتأويل بشرط ألا تحملني على الاعتراف بطيب مذاق عصير الفسيخ.
قال: أول واجبات الناقد تلمس نفائس المنقود لا نقائصه. أليس نفيسا تشبيه اللجنة بفراش رجراج؟ أليس جميلا عبث الشاعر بالحياة بأنامل ماهرة عبثا رشيقا بالموت الحقير؟ ألم تره يلعب لعب المشعوذ ليستل القوافي الخوالد؟ ثم لا يغرب عنك أن القصيدة إنما هي صرخة وجع وألم، وإذا عدت معي نستعرض حياة الدكتور بشر فارس من خلال الأعوام الماضية نجد أنها لقيت من الصدمات ما لا يحتملها سوى شاعر جبار كبشر، ولا يصمد لمثلها إلا من قدت أعصابه من صخرة صوانة. ألم تر كيف حورب في أدبه، وكيف أقصى عن المعقد في الكلية، وكيف دفع عن المجتمع اللغوي، وكيف أبعد عن تحرير المقتطف؟ إذا عرفت هذا وقدرت إحساسه وشعوره قدرت ولاشك معنى هذه الصرخة المكبوتة والقصة المخنوقة، ولكنت قرأت وفهمت ما قرأته أنا وفهمته!!
أقف من صديقي وقفة المشدوه حيال هذا الاجتهاد في التخريج، والتعسف في التأويل، أو أنى تارك تعليل صديقي لفطانة القارئ لعلله يقتنع بما لم أقتنع به بعد، وإني حبا بصديقي الكريم وتطمينا لباله أقول أنه ما من أديب واحد ممن تصدوا لأدب الدكتور بشر فارس، أو حاربوه أو سخروا منه، أحس أن في هذه المقطوعة المختنقة، ما يمسه من قريب أو من بعيد، لأن الضمائر المستترة أو المدفونة في صدر الشاعر إنما هي حشرات تدب في رمة، ولا تنس أن القصيدة نظمت سنة 1945.
قيل لنا إن الشعر بيان يكشف لنا أقنعة المعاني، وأن مدار غاية الشاعر الفهم والإفهام، لا يكون إلا بالبيان) أما الشاعر بشر فيرى أن الشعر (طيرة مرتجلة بأجنحة من نور رفاف) فأي القولين هو السليم المدرك؛ قول الأساتذة القدامى أم قول الدكتور؟!(878/10)
قال الأستاذ إبراهيم الأبياري يعرف الشعر الرمزي وينافح عن الشاعر الرمزي (لا يهولنك أن يعنى فكرك) ويكد خيالك، ويجد عقلك، فلهذا كله خلقت الرمزية) ويقول (إذا عرفت اللغز وحياته عرفت الرمزية في الصورة) ويقول لا فض فوه (المراد بالرمز أن يمضى بك الرامز إلى آخر المطاف تاركا لعقلك أن يلتمس السبيل إلى مراده كاداُ جاهداً) بيد أن الناقد جول لمتر يقول (الصورة الرمزية لا تصبح برهاناً على الشاعرية إلا حينما يكيفها هوى سائد أو أفكار أو صور بعثها ذلك الهوى) وحينما ينقل إليها الشاعر من روحه الخاصة حياة إنسانية وذهنية) فهل رمز بشر فارس يرمي إلى إجهادنا وكدنا وإرهاقنا أم يروم به أن ينقل إلينا من روحه الخاصة حياة إنسانية وذهنية فخاب في هذه المحاولة؟
الشعر كما عرفنا تعبير عاطفي يضرمه خيال الشاعر (قال الناقد هزلت: الشعر لغة الخيال بالمعنى الدقيق، والخيال هو تلك القوة التي تمثل الأشياء لاكما هي في نفسها ولكن كما تكيفها أفكار ومشاعر أخرى. إلى تنوعات من الهيئات وإمتزاجات من القوى لا نهاية لها، وليست هذه اللغة قليلة الأمانة للطبيعة وأكثر أمانة إذا نقلت التأثير الذي يتركه في العقل الشيء الواقع تحت سيطرة الهوى).
هل في مقطوعة (الشاطئ الحافل) أو في لغتها أمانة للطبيعة انتقل تأثيرها إلى عقل القارئ فخملته على الاتصال بالنفس الإنسانية فجعلت القارئ يسربها ويفرح؟
هل الرمز فن؛ وهل يصلح الرمز أن يكون أداة للتعبير عن الفن؟
مالي أسأل الشاعر الرمزي عما نحاه في طريقه ومحاه من معجم ما سموه الشعر لأن الشاعر الرمزي كما يقول الدكتور بشر (إنما يعمل في الظلمة، ظلمة الخلجات، فهو يبين بقدر ما يخلص النور إلى زواياها، ثم أنه لقاط أو هام تشغل الناس ولا يستوضحونها، فهو يرسم خيالات ملامحها لبصائرهم لا لأبصارهم)
مالي أرى الدكتور بشر السهى فيريني القمر؟ مالي أدعوه إلى السير في النور فيأبى إلا التخبط في الدياجير الحاكمة، يتطلب من الشوك عنبا ومن العوسج (كما قال السيد المسيح) وهو يتوخى أن يعكس التهاويل على أخيلته سحباً شفافة تنقشع عن جبريل عصري ينقل إلى الدكتور بشر فارس (الوحي) العبقري من ينابيعه السماوية؟ ما باله يتعامى عن الطبيعة وعن الحياة الإنسانية ويأبى الارسم (ظلمات) الخلجات التي تعتلج في صدره؟(878/11)
يحسن بي الانتقال من موقف التخصيص إلى موقف التعميم لأسأل: ما هو الإرث الأدبي الخالد، وما هو الأثر الذي تركه الشعر الرمزي في تاريخ الأدب؟
حكى أن شاعرا اسطوانة من أساطين الرمزية أنفق ستة أعوام من عمره في نظم قصيدة واحدة، وأن مطية من مطايا الشعراء الرمزيين كرس تسعة أشهر لحل طلاسم تلك المعقلة، وقد استطاع ذلك الشارح - يرحمه الله - أن يفسر الماء بعد الجهد بالماء.
وبودي لو أطيل الكلام وأسوق الأدلة، وأستشهد بأقوال كبار النقاد الغربيين في فساد المدرسة الرمزية، ولكن لا يسعني إلا لفت نظر الأدباء إلى فصل رائع في الرمزية، ولكن لا يسعني إلا لفت نظر الأدباء إلى فصل رائع في الرمزية ورد في كتاب (دفاع عن البلاغة) للأستاذ الزيات صاحب (الرسالة) جاء في ختامه: (الرمز نوع من الحذلقة والأغراب يصيب بعض النفوس الماجنة فيجدون لذتهم وفكاهتهم في أن يغربوا على عقول السذج بهذه الألفاظ الفارغة والجمل الجوف، وأن يروهم يحملقون في الفواصل وفي الأبيات كما يحملق الأطفال في الغرفة المظلمة أو في البئر المعطلة وسوى كان منشأ الرمزية عندنا هذا الأمر أو ذاك، فقد اقتبسوا مذهبها حين أصبح ضرباً من المعاياة يجوز أن يقصد به أي شئ ماعدا الإفهام والإبانة. وسأضع أمام عينيك مثالين من هذه الرمزية الغريبة أحدهما قصيدة للدكتور بشر فارس عنوانها (إلى زائرة)، والآخر مقال للأستاذ البير أديب عنوانه (حياتنا)؛ وسأدع لك الوقت لتمتحن صبرك على كشف هذه الرموز وحل هذه الأحاجي. ولن أسألك عما فهمت، فإنك إن أجبت فإن جوابك لن يزيد على جوابي، وأن أخطأت فإن خطأك لن يختلف عن صوابي)
ليس هذا إلا بعض ما أريد قوله في المذهب الرمزي، وفي مطايا الرمزيين الذين يؤجرون أقلامهم وضمائرهم لخدمة الباطل في الأدب، وسأعود إلى الكلام مرة ثانية.
حبيب الزحلاوي(878/12)
تطور اللغة العربية
للأستاذ محمود محمد بكر هلال
جاءني مبهور الأنفاس، مسجور الحماس، كأنه خرج لتوه من معركة حامية الوطيس، ثم قال لي:
لقد حذفتها بالقلم الأحمر، وطمست حروفها فلن تظهر!
فقلت له: ماذا حذفت، ومن هي التي طمست على قلبها؟؟
قال: كلمة (زهور)! فلقد كتبها التلميذ في موضوع الإنشاء، ولكنني فتشت عنها كثيراً، ونقبت عنها طويلا، فلم أعثر لها على أثر!!
فقلت له: هون عليك ياصديقي؛ فالأمر أهون كثيراً مما تظن! ولست أغير على اللغة العربية من فقيد اللغة العربية؛ الأستاذ المرحوم مصطفى صادق الرافعي! ولست أكثر حفاظا عليها من أستاذنا الكتاب البليغ، أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة، وعضو المجمع اللغوي الملكي؟
قال: ماله الرافعي؟ قلت: لقد قال رحمه الله: عرض لي يوما أحد اللغويين فأنتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى جلالة الملك فؤاد، وتمحل في نقده، ودلل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه (لفظا الأزاهر والورود) فقال: إنهما ليسا من اللغة، ولم يجريا في كتبها. وكان من ردي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه. وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها؛ فالزهر والورد عند المولدين والمحدثين، أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين. ثم هما من خاص الألفاظ المولدة؛ فلنا نجمعها على كل صور الجمع التي يسوغها القياس؛ لأن هاهنا العلة الموجبة التي لم تكن مع العرب فيها فمن الصحيح أن نقول: زهور وأزهار وأزاهر وأزاهير إلخ. . . فلما لقيت الدكتور يعقوب صروف، بعد نشر هذا الرد هنأني به، ثم قال فيما قال: يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة، وليس غيرها ما أستجمل وما استنوق. . .!، أما هذا الدهر الطويل العريض، فليس عندهم شيئاً! وهم يستطيعون أن ينكروا على المولدين ألف كلمة ولكن هل في استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألف سنة؟ فذكرت له الأصل الذي قرره أبو على الفارسي، في العربي الصحيح(878/13)
نفسه: من أنه ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخرج به سماع؛ فإذا أخذ إنسان على طريقة العرب، وأم مذهبهم؛ فلا يسأل: ما دليله، وما سماعه، وما روايته؟ ولا يجب عليه من ذلك شئ.
حتى قال أبو على: لو شاء شاعر أو متسع أن يبنى بإلحاق اللام (زيادة حرف من جنس لام الكلمة وإلحاقه بها) اسما وفعلا وصفة؛ لجازله ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خرجج أكثر من دخلل، وضربب زيد عمراً، ومررت برجل ضربب وكرمم ونحو ذلك! قال تلميذه ابن جني: فقلت له: أترتجل اللغة ارتجالا؟ قال:
ليس بارتجال، لكنه مقيس على كلامهم، فهو إذن من كلامهم!
ومن أثر هذه الطريقة التي لاتتحجر، ولاتمنع القياس في اللغة، وتلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب، ما جاء في ص 235 من شرحأدب الكاتب لابن قتيبة وهو باب لم يستوفه غيره، ولا تجده إلا في كتابه! وهذه عبارته: قولهم: يدي من ذلك فعلة: المسموع منهم في ذلك ألفاظ قليلة، وقد قاس قوم من أهل اللغة على ذلك فقالوا: يدي من الإهالة سنخة، ومن البيض زهمة، ومن التراب تربة، ومن التين والعنب والفواكه كتنة وكمدة ولزجة، ومن العشب كتنة أيضا، ومن الجبن نسمة، ومن الجص شهرة، ومن الحديد والشبه والصفر والرصاص سهكة وصدئة أيضا، ومن الحمأة ردغة ورزغة، ومن الخضاب ردعة، ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة، ومن الخل والنبيذ خمطة، ومن الدبس والعسل دبقة ولزقة أيضا، ومن الدم شحطة وشرقة، ومن الدهن زنخة، ومن الرياحين ذكية، ومن الزهر زهرة، ومن الزيت قنمة، ومن السمك سهكة وضمرة، ومن السمن دسمة ونسمة ونمسة، ومن الشهد والطين لثقة، ومن العطر عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الغسلة والقدر وحرة، ومن الفرصاد قنثة، ومن اللبن وضرة، ومن اللحم والمرق غمرة، ومن الماء بللة، وسبرة، ومن المسك ذفرة وعبقة، ومن النتن قنمة، ومن النفط جمدة.
فأنت ترى أن المسموع من هذه الألفاظ، لا يتجاوز سبعة، والباقي كله أجراه علماء اللغة، وأهل الأدب على القياس، فأبدع القياس أربعا وثلاثين كلمة! فدل ذلك على اتساع اللغة تبعا لتعدد الأغراض، وتطورها تمشيا مع تطور الحياة!!
قال صاحبي: وما رأى صاحب الرسالة الأستاذ الزيات؟(878/14)
قلت: لقد تقدم إلى المجمع اللغوي باقتراح يشتمل على؛ فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة من الارتجال والاشتقاق والتجوز؛ وإطلاق القياس في الفصحي ليشمل ما قاسه العرب ومالم يقسوه، فإن توقف القياس على السماع يبطل معناه، وإطلاق السماع من قيود الزمان والمكان؛ ليشمل ما يسمع من جميع طوائف المجتمع!
ورأى صاحب الرسالة أن في إقرار هذا الاقتراح دفعا لمعرة العقم عن اللغة العربية الكريمة التي وصفت في القرن الخامس ناقة طرفة، عضوا عضوا، ونعتت أوضاعها وضعا وضعا، في أربعة وثلاثين بيتا من معلقته! ثم نراها في القرن العشرين، تقف أمام سيارة (فورد) بكماء بلهاء، تشير ولاتسمى، وتجمجم ولا تبين!!
ويقول صاحب الرسالة أيضا: إن اللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرسا وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان، لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء!! ويرى الأستاذ الزيات - ورأيه سديد - أن للمجمع وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية، يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة، وقوالبها الموروثة، أن يزيد عليها وينقص فيها، ولكنه يعطل مختارا هذه القدرة التي لم يؤتها غيره، باستشارة القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقرره! واستشارة الماضين في شئون الباقين، مع تبدل الأحوال، وتغير الأوضاع، وتقدم العلوم، وتفاوت العقول، واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة!
لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسيلم؛ أن منافقا نال من عروبة سلمان الفارسي؛ فدخل المسجد مغضبا وقال: أيها الناس: إن الرب واحد والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي!
وما إن وصلت إلى هذا القدر من الآراء الحقة ألجريئة، والأفكار المشرقة الوضيئة، من اقتراح الأستاذ الكبير صاحب الرسالة، حتى فغر الزميل فاه، وقال: ولكن حضرات المفتشين يضيقون علينا الخناق، ويحاسبوننا على هذه الكلمات، ويفرضون علينا بعض(878/15)
الأساليب والعبارات! حتى لقد حدا الخوف ببعض أساتذة اللغة العربية في المدارس الثانوية، وإلى أن يغيروا ويبدلوا في قصيدة الأستاذ محمد الأسمر (فرحة الشرق) بعد أن سمعها الناس مسجلة في الشرق والغرب آلاف المرات، فجاء مطلعها في مذكرة النصوص للسنة الأولى الثانوية هكذا:
زهر الربيع يرى أم سادة نجب وروضة أينعت أم محفل عجب؟ واستبدلوا كلمة حفلة بكلمة محفل؛ لأن بعض المفتشين لا يقر كلمة (حفلة) لعدم ورودها في معاجم اللغة العربية!
فقلت له: وهل يتسع وقت حضرات المفتشين لغير المحاسبة على النقط والهمزات، وترك الإنسان وزيادة الألفات؟!
محمود محمد بكر هلال
المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية القديمة للبنين(878/16)
ذكرى أبى الأسود
للأستاذ حامد حفني داود
إن ذكرى وفاة أبى الأسود الدؤلي تبعث إلى الذاكرة فكرة خطيرة هي تدوبن (علم النحو) وهو أول ما دون من علوم العربية. ولا أكون مبالغاً إن قلت أول ما دون العلوم قاطبة في الإسلام.
وهي بهذا القدر ذكرى عزيزة علينا تحرك النفس وتجدد الأمل إلى دراسة (تاريخ علوم اللغة) التي طالما نادينا بتحقيق دراستها، ولاسيما وأن المستشرقين أنفسهم - بعد أن رسموا بعض المناهج في دراسة - (تاريخ الآداب العربية) عجزوا عن تأريخ علوم اللغة، وفي مقدمتها تأريخ علم النحو. ولعل ذلك راجع إلى ما بين هذا العلم ونفسية العربي الخالص من صلبة قوية فلا يتم تأريخه بدون تحقيقها. أريد أن أقول: أنه لا يستطيع تأريخ هذا العلم العربي عارف بأسرار اللغة وقواعدها المتشعبة دارس لها دراسة الممحص المدقق، ملم بكل ما وصل إلى أيدينا من تراث الأقدمين وذلك ما دفعني إلى أحياء ذكرى أبي الأسود علينا من ذكراه نستلهم درات تاريخ العلوم العربية
في سنة 69هـ منذ ألف وثلاثمائة سنة توفى أبو الأسود الدؤلي وقد كان علما من أعلام العربية ورجلا من رجالاتها السابقين الذين وضعوا الأسس ودونوا المسائل. وقد كان تلميذاً للأمام علي بن أبي طالب، وعنه تلقى كثيرا من المسائل الدينية أو العربية قبل أن تصبح علوماً مبوبة على النحو المصطلح عليه عندنا.
وبعد وفاة الإمام علي سنة 40هـ مكث أبو الأسود في العراق وكان من أوائل المتصدرين لدراسة علوم العربية والبحث في مسائلها. ولكنه اشتهر بوضع (علم النحو) وإليه نسب وضعه.
وحول أبي الأسود دارت خلافات كثيرة من حيث وضع علم النحو وطريقة وضعة.
فقد شك بعض العلماء في نسبة وضع النحو إليه. فمن قائل أنه أول واضع له، ومن قائل إن واضعه نصر بن عاصم المتوفى سنة 89 هـ، ومن قائل أنه الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170 هـ. وذهب علماء الشيعة إلى الإمام علي وهو الواضع لعلم النحو.
وتخبط بعض المحدثين في تعيين الواضع الأول متأثراً بما ذكره ريكندورف في دائرة(878/17)
المعارف الإسلامية حيث نفى ذلك بقوله (وليس حقاً ما يقال أنه واضع أصول النحو العربي) وظن هؤلاء أن واضعه الخليل بن أحمد. وهو قول مردود بالأدلة العقلية والنقلية.
الدليل الفعلي: أن المنهج العلمي ينص على (أن الأدلة العلمية لا توصف بالبطلان مالم تقم الأدلة القطعية على بطلانها.) فتحقيق المسائل العلمية في نظر المنهج العلمي هو البناء لا الهدم. بينما يأخذ أمثال هؤلاء المتخبطين بالقوانين الهدامة التي أبتدعها فرنسيس بيكون واحتذاها المستشرقون من بعده. فأنت ترى أن شعار هؤلاء بطلان كل شيء ما لم يقم الدليل التجريبي على صحة المبطل بينما شعار المنهج العلمي الذي وضعنا أسسه التصديق بالقضايا العلمية المروية عن القدماء ما لم يقم الدليل المادي على بطلانها. وشتان ما بين المذهبين. فالفرق بينهما - كما ترى - كالفرق بين منيبني ومن يهدم.
والدليل النقلي: تواتر الرواية القديمة على نسبة الوضع إلى أبى الأسود وليس هناك أحد من القدماء والمتأخرين من أنكرها. وليس بعد قصة أبى الأسود مع علي، وقصته مع زياد بن أبيه، وحديث أبنه حرب من دليل نقلي. وقد قال الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ (أبو الأسود معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم مأثور عنه الفضل في جميعها، كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين. . .)
ولم يبق هناك من خلاف بين القدماء إلا فيما إذا كان أبو الأسود تلقى هذه الأصول من الإمام علي أم اعتقد فيها على دراسته الخاصة - لدوافع مختلفة سنتحدث عنها في فرصة أخرى - ولعل ذلك لا ينفي أن يكون أبو الأسود واضع علم النحو بإرشاد الإمام دفع إليه ورقة فيها أصول ذلك العلم ثم قال له: انح هذا النحو فسمى ما وضعه نحواً.
وإلى مثل هذا ذهب الشيخ خالد الأزهري المتوفى سنة 905 هـ (وقد تضافرت الروايات على أن أول من وضع علم النحو أبو الأسود وأنه أخذه أولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه)
وقال الشيخ عبد القادر البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ (وهو واضع علم النحو بتعليم علي رضي الله عنه)
فكأن أبا الأسود وضع هذا العلم مستنيرا بالأصول التي دفعها إليه الإمام. ومن هنا ترى أن(878/18)
الخلاف بين آراء الشيعة وآراء غيرهم شكلي محض لا يمس الجوهر. فنسبة النحو إلى علي نسبة الموجه والمرشد ونسبته إلى أبى الأسود نسبة المدون والواضع.
والخلاف الثاني: ما هي الأصول الأولى التي نسج أبو السعود على غرارها وما هي المسائل التي عالجها في كتابه الأول، وما طريقة ذلك؟
ظن كثير من العلماء أن أبا الأسود كان يجيد السريانية، وكان يخالط السريان والكلدان في أرض العراق، وقد كان للسريان نحو قريب الشبه من نحونا وقواعد تشبه قواعد العربية، وكلاهما من اللغات السامية. هذه ظنون جالت بأدمغة المفكرين ممن حاولوا التفكير في تاريخ علوم اللغة. فقالوا: إن أبا الأسود درس اللغة السريانية واستنبط قواعدها وطبقها على اللغة العربية.
ويدعم هذا الرأي عذرهم أن قواعد اللغة السريانية وضعت في القرن الخامس حين وضع يعقوب الرهاوي المتوفى سنة 460م كتابا في قواعد السريانية، بينما وضعت قواعد اللغة العربية في القرن السابع. وإذا كان أبو الأسود قد توفى سنة 689 هـ تقريباً عرفنا أن محاولة تدوين قواعد العربية كاتب بعد أكثر من قرنين من المحاولة الأولى التي أجريت على السريانية.
والراجح في نظر المنهج العلمي أن أبا الأسود لم يتأثر بالسريانية ولم ينقل شيئاً من قواعدها إلى العربية؛ وأن التشابه بين اللغتين مردود إلى ما بين طبيعية العربية وطبيعة السريانية من صلة وانتمائهما إلى أصل واحد هو اللغة السامية. ويعزز هذا الرأي الذي ذهبت إليه نماء النحو في اللغة العربية وجموده وانكماشه في اللغة السريانية وغيرها من الفصائل السامية الأخرى. كما أنه ليس هناك من دليل مادي يؤيد دعوة المخالفين وهي دعوة ظنية لا يعتمد بها المنهج العلمي.
فنحن لا ننكر نسبة وضع النحو إلى أبى الأسود لأنه ليس هناك من دليل مادي يرد هذا النقل، ونرفض كل الرفض تأثره بالسريانية لأنه ليس هناك دليل مادي يؤيد هذا الظن.
هذه ذكرى أبى الأسود - وقد مضى على وفاته ثلاثة عشر قرناً. وإني لأرجو أن تثير في نفوس المفكرين الحمية إلى دراسة علوم اللغة دراسة تاريخية تفصيلية. وإني لأرجو أن أعيد هذه المحاولة في (تاريخ النحو) وقد بدأت مثيلتها بالأمس القريب في (تاريخ البديع).(878/19)
حامد حقي داود الجرجاوي
دبلوم معهد الدراسات العليا(878/20)
احتكاك الحضارات
للأستاذ محمد محمد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
الطرق غير المنتظمة
تنتشر الحضارات بين الجماعات البدائية بطريق الاحتكاك الابتدائي أو الأساسي، ولكنها تنتشر بين المتحضرين بطريق الاحتكاك الثانوي والأساسي أيضاً
الاحتكاك الأساسي: ويتمثل في حركات السياح والرحالة والمهاجرين والجوالين.
1 - السياح
وهم يعبرون عما أطلق عليه تومس الرغبة في تجديد التجربة، لا أنهم من طبقة عليا - وتتلخص أعمالهم في زيادة الأماكن ذات الشهرة الواسعة ولاسيما الآثار المصرية القديمة. ويتحدثون إلى الناس ويتعرفون على أحوالهم ويدرسون حياتهم في مختلف نواحيها الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والدينية، ثم يعودون إلى أوطانهم بنظرة إلى الحياة جديدة وأفكار حديثة فيؤثر ذلك في التقاليد والنظم المختلفة. وقد كان للسياح أثر عظيم في احتكاك الحضارات وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
2 - الرحالة
هناك حركة من جزء إلى آخر في نفس الإقليم، كحركة الفلاح الأمريكي من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، وهي تحدث أزمة في الحياة الشخصية إذ تولد رغبة في تغيير النظم والعادات. وهناك تنقلات من الريف إلى المدن وهذه آخذة في الزيادة حتى أن أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة يعيشون في المدن، وكذلك الحال في كثير من البلدان الصناعية. فالمدينة عبارة عن بوتقة تنصهر فيها الآراء وتختلط العناصر.
3 - المهاجرون
إن اكتشاف العالم الجديد وتقدم الملاحة البحرية قد زاد من الهجرات وضاعف المهاجرين. وتتميز الهجرة عما سواها من الحركات بأنها سلمية، وهي استجابة لدافع الرغبة في(878/21)
تحسين الأحوال الاقتصادية والظروف الاجتماعية، وغالباً ما يكون للأقليم الجديد (جاذبية) اقتصادية واجتماعية. وكلما عظمت درجة التشابه والاندماج زاد الميل إلى التزاوج الداخلي. ويخلق المهاجرين في مهجرهم مشكلات اقتصادية وسياسية ودينية، الأمر الذي دعا الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقييد قوانين الهجرة فقسمت المهاجرين إلى ثلاث طبقات: المرغوب فيهم بلا قيد ولا شرط مثل سكان غرب أوربا، والمرغوب فيهم بشروط مثل سكان بقية أوربا، وغير المرغوب فيهم وهم العناصر الصفراء، كما حددت لكل دولة عدداً سنويا من المهاجرين. ولا ينبغي أن ننكر ما للمهاجرين من فوائد. فقد نقل المهاجرون إلى أمريكا - مع ما نقلوا - الأفكار الديمقراطية والتسامح الديني وحب الحرية، فكانوا عوامل فعالة في النزاع بين المستعمرات ثم في الكفاح لنشر فلسفة الثورة الأمريكية بين الطبقات وكما ينقل المهاجرون معهم محاسنهم كذلك ينقلون مساوئهم.
واللبنانيون أكثر أهل الشرق حبا للهجرة ورغبة في المغامرة، ولهم جاليات نشيطة في الأمريكيتن، ولعل للظروف الجغرافية أثراً في ذلك. ويحدث أحياناً أن يعيش المهاجرون في عزلة عن السكان الأصليين فيقوى عندهم الميل إلى الاحتفاظ باللغة والدين والتقاليد، ويرفضون التزاوج مع السكان. وهذا بطبيعة الحال يضعف من احتكاك الحضارات. ولكن بعد مرور فترة من الزمن نرى المهاجرين يجنحون إلى الاختلاط وينبذون حياة العزلة.
الاحتكاك الثانوي:
لاشك أن لسهولة المواصلات والمخترعات الحديثة أثراً كبيراً في احتكاك الحضارات. فقد نتج عن ذلك مثلا إمكان (التعليم بالمراسلة) الذي ظهر حديثا. كما لعبت الصحافة والإذاعة دوراً عظيما في هذا المضمار. وللأدب أهمية كبيرة، إذ أن الإنسان لا يتعلم لغة قوم إلا إذا أخذ فكرة عن حضارة هؤلاء القوم وفي العصور الوسطى أثرت الآداب العربية في عقول أهل أوربا وأفكارهم، فكان لذلك أكبر الأثر في نهضة أوربا الحديثة.
واللغة الإنجليزية أكثر اللغات انتشارا. فقد قدر أحد العلماء في عام 1910 عدد المتكلمين بالإنجليزية بنحو 27 % من سكان هذا الكوكب، وأكثر من نصف جرائد العالم تطبع بها.
ولما اخترعت أوربا البخار سهل السفر في قطارات البر وسفن البحر وزاد اختلاط الفرنج بالشرق. ولا تقتصر فوائد المخترعات على المنطقة التي اخترعت فيها بل إنها تعم بقاع(878/22)
العالم: ومن أهم ما استفادت منه الإنسانية المكتشفات الحديثة في الطب. وكم أفضل الغرب على الناس أجمعين بمطعوم الجدري وكان يهلك به أطفال كثيرون. وكم من خدود جميلة ببثوره تشوهت
نتائج الاحتكاك
ينتج عن احتكاك الحضارات نوع من التفاعل، فليست المسألة استعارة، بل هنالك ظاهرة ديناميكية. . غليان ثورة. . .! فحينما ينتقل تيار حضاري إلى مجتمع من المجتمعات، فلا بد من أن يواجه مقاومة في أول الأمر. وتعتمد هذه المقاومة اعتماداً كبيراً على عاملين: طبيعة المجتمع، ومظاهر الحضارة الجديدة. فبقدر رقي المجتمع تكون مقاومته للمؤثرات الجديدة، وهي قليلة في المجتمعات البدائية. ويلاحظ أن النواحي الروحية من الحضارة تلاقي مقاومة أكثر من النواحي المادية. لأن الإنسان سريع في اقتباس وتقليد النواحي المادية على أن المظاهر الجديدة يسهل اقتباسها إذا كان هنالك ما يستدعى الاقتباس وتغيير العادات ويمكن تلخيص نتائج احتكاك الحضارات فيما يأتي:
1 - اختلاط وامتزاج بين الحضارة الأصلية والحضارة الجديدة ونشوء حضارة حديثة. مثال ذلك ما كان يحدث في مصر بعد الغزوات المختلفة التي كانت مصر سريعة في هضمها. وما حدث في أمريكا في العصور الحديثة.
2 - تلاشي الحضارة الأصلية وذلك في المجتمعات البدائية بسبب الانقلابات التي يحدثها المتحضرون.
3 - أن تقتبس الحضارة الأصلية من الحضارة الجديدة ما يلائمها وهذا خير المواقف في احتكاك الحضارات. وحبذا لو كانت مصر فعلت ذلك إزاء احتكاكها بالحضارة الغربية. ولكن هل في استطاعة الأمة أن تقوم بذلك؟
4 - المقاومة: وهذه قد تكون إيجابية أي ثورة على الجديد. أو سلبية وفي ذلك إبقاء على مقومات الحضارة الأصلية، مثال ذلك ما فعله المصريون بعد غزوة الهكسوس وغزوة الفرس، إذ أنهم أنفوا من تقليد الغزاة. ويحدث هذا بسبب العداء بين تصمد أمام القوة بعد الفتح التركي في القرن السادس عشر، ففرضت عليهم الحضارة الجديدة، وضاعت بذلك شخصية مصر حتى ظهر محمد على الكبير.(878/23)
أمثلة الحضارة الإسلامية
ضرب الإسلام بجرانه وانتشر المسلمون في بقاع الأرض، ودخل الإسلام أمم كثيرة من أجناس مختلفة وعناصر متباينة. فكانت ساحة الإمبراطورية الإسلامية في العصر العباسي الأول وعاء تصهر فيه العناصر وتتفاعل فيه الأجسام. هذه الأمم تختلف في الصفات الجثمانية وفي الأهواء السياسية والميول الاجتماعية. وكما يحدث تزاوج واختلاط بين الأجناس، كذلك يحدث امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، فنمت الحضارة الإسلامية على أساس العلم الواسع بكافة شئون الحياة من طب وهندسة وجغرافية ونظام حكم وأدب لغة. . كانت هنالك أربع حضارات: الفارسية والهندية والإغريقية والعربية. وكانت كل ثقافة في أول الأمر تشق لنفسها جدولا خاصا له طعمه ولونه ثم لم تلبث أن التقت جميعا وكونت نهراً عظيماً. وقد التقت في هذا الميدان الرحيب الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام. واختلف الناس فمنهم من يرد جدولا معيناً ومنهم من ينهل أكثر من جدول.
وقد تمثل امتزاج الثقافات بأجلى معانيه في ثلاثة أعلام: الجاحظ، وابن قتيبة وأبو حنيفة الدينوري. وكان للحضارة الفارسية الفضل في إنشاء منصب الوزارة وكان غالباً يسند إلى الفرس، ولم يكن معروفا قبل العباسيين. وتغلغلت العادات الفارسية في النفوس مثل عيد النيروز ولبس القلنسوة ومجالس اللهو والغناء. وقد لاحظ ابن خلدون أن حملة العلم في الدولة الإسلامية كان أكثرهم من العجم لأن العلوم من الصناعات وهي من خصائص الحضر.
ومن هؤلاء سيبويه وأبو حنيفة النعمان وبشار بن برد والكسائي والفراه وغيرهم. أما تأثير الحضارة الهندية فكان في شيوع الإلهيات (المقالات الدينية) والرياضيات والنجوم والقصص والحكم. ويذهب كثير من الباحثين إلى أن الهنود هم واضعوا الشطرنج ومنهم أخذ المسلمون وانتشر في العالم. أما عن الحضارة اليونانية فقد كانت هناك مدارس ومراكز ثقافية أشهرها في الإسكندرية وحران. وقد نقل الكثير من فلسفة اليونان وعلومهم في الفلسفة والطب والمنطق. ولعل لأهم ما نتج عن احتكاك الحضارات ما أخذه الخلفاء من مظاهر الأبهة ودلائل النعيم في قصورهم، فكان الخليفة لا يقل عظمة من قيصر الروم أو(878/24)
ملك الفرس.
الإسكيمو
حدث الاحتكاك بين الأوربيين والإسكيمو في شمال أمريكا الشمالية عن طريق صيادي الحيوانات ذات الفراء. وأقبل التجار، فباعوا للأهالي أسلحة حديثة أحسن من تلك القديمة فأدى ذلك إلى نقص في الكاريبو في جرينلند ودلتا نهر ماكتري لكثرة الصيد مما أثر في غذاء الأهالي. وقد أتى الأوربيون بالسكماليات مثل الشاي والسكر والطباق والصابون - فضلاً عن الأسلحة. ولكي يحصل الأهالي على هذه الأشياء. أصبح لزاما عليهم أن يبيعوا الجلود اللازمة لهم في حياتهم وأصبحت الحاجة ماسة إلى الخيام والملابس. وفي أثناء الحرب العظمى الأولى امتنعت الموارد الأوربية فلم يجد الأهالي مندوحة عن الرجوع إلى الأساليب الأولى في حياتهم. وقد لاقوا صعوبات من جراء نسيانهم عاداتهم. ومن أسوأ نتائج الاحتكاك بين الأوربيين والإسكيمو: انتشار الأمراض والأوبئة ففي منتصف القرن الثامن عشر هلك من الجدري عدد كبر، هذا فضلاً عن انتشار مرض السل. وليس أدل على فداحة خطر الأوربيين من المقص المربع في عدد السكان. ولقد شعر الأوربيون بخطرهم، فأسرعت الدانمرك إلى غلق مواني جرينلند في وجه البواخر الأوربية لسنوات معدودات. إذن فاحتكاك الإسكيمو بالأوربيين لم يكن في صالحهم ولقد قال جرينفول إن إسكيمو لبرادور في طريق الفناء. وقد بدأت حكومة كندا تولي الأهالي هناك عناية واهتماماً إلا أنه يشك في تعمير الإسكيمو إلى زمن طويل.
زنوج البانتو بجنوب أفريقيا
كان للمبشرين كبير الفضل في الاحتكاك بين الأوربينوزنوج جنوب إفريقيا، إذ عملوا على إدخال المسيحية على أساس القضاء على الوثنية، وتبع المبشرين التجار وأصحاب الحرف. وقد انقسم الأهالي حيال الحضارة الأوربية إلى ثلاثة أقسام: فريق بقى على حالته الأولى في مستوى الحضارة الأصلية، وفريق آخر غالى في الاقتباس والتقليد. وبينهما فريق ثالث آثر أن يعيش وسطاً يأخذ من كل ما يشاء وتتلخص نتائج الاحتكاك فيما يلي:
النتائج الاقتصادية(878/25)
1 - تحسنت الأحوال وارتفع مستوى معيشة الفرد.
2 - سهلت عملية الصيد بسبب وجود البنادق التي جلبها التجار.
3 - حدوث التبادل بين الأهالي والتجار. يأتي بالبضائع الأوربية ويبيع الأهالي منتجاتهم التي درت عليهم رزقا كريما.
4 - ظهور صناعات جديدة، فانتشرت ماكينات الخياطة تعمل عليها النساء في المنازل.
6 - أخذ الأهالي طرقا جديدة في المحافظة على حيواناتهم والعناية بها وأصبح الحقن واجباً.
النتائج الاجتماعية
1 - انتشرت اللغة الإنجليزية وذلك عن طريق التعليم.
2 - تفككت روابط الأسرة بسبب تنقل الأهالي وراء الصناعة، وكثيرا ما كانت الزوجة تسأم طول انتظار زوجها فتتخذ لها خليلا.
3 - استنشق الشبان نسيم الحرية مما أودى بالسلطة الأبوية فانغمسوا في اللهو وركبوا خيل المجون، وتأنقوا لجذب أنظار العذارى آلائي يقعن في شباك الإغراء غالبا.
4 - تغير موقف القبيلة إزاء الفتيات إذ كانت العذراء التي تحمل تلاقي عقوبات شديدة وتذوق ألوانا لاضطهاد، وكان الأطفال غير الشرعيين يقتلون. أما الآن فإن هؤلاء العذارى (آلائي يحملن) توجه إليهن عناية؛ وكذلك أطفالهن لهم الحق في الحياة الطبيعية ولو أن لداتهم يعيرونهم. وأصبحت هذه الأمور تقع كأنها أمور عادية لا غرابة فيها!
5 - لم يعد هناك احترام للتقاليد، وأصبح للشباب من الجنسين حرية الاختيار في الزواج.
الشرق والغرب
كان للاسكندر الأكبر وحروبه فضل كبير في اختلاط الشرق والغرب. وعندما انتقلت الآداب العربية إلى أوربا في العصور الوسطى أثرت في نهضة الآداب والفنون - خصوصاً بعد أن وصل المسلمون إلى جبال البرانس. أي أن الغربيين أخذوا من الشرقيين ما نفعهم يوم نهضتهم. وزاد الاختلاط شدة سهولة المواصلات وانتشار المخترعات وهجرات الشرقيين خصوصاً أهل الشام إلى العالم الجديد. وقد استفاد الشرق كثيراً من(878/26)
الغرب في العصور الحديثة إذ تعلم الشرقيون: معنى الوطن والوطنية وحب الجنس والقومية، ونقلوا بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية. وأخذوا أصول الصحافة التي كان لها أثر عظيم في إدخال الأفكار الجديدة وتبديلها من النظم القديمة. وتجلى أثر ذلك واضحاً في تنوير ذهان الشرقيين وثورتهم على الاستعمار في السنين الأخيرة وذلك لانتشار الآراء الثورية.
وكان احتكاك المصريين بالفرنسيين في القرن الثامن عشر أول احتكاك علمي مع الفرنجة. وممن كانوا في طليعة المستفيدين مؤرخ مصر في ذلك الحين الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وشيخ الأزهر حينئذ الشيخ حسن العطار؛ إذ علموا بعض علماء الحملة الفرنسية اللغة العربية وتعلموا منهم ما لم يكن لهم به عهد من العلوم المادية. وقد أبدع الجبرتى - في تاريخه - في التعبير عن شعور الشرقيين تجاه هذه العلوم، وقام فريق من علماء الحملة بدراسة مصر من كافة نواحيها. ويعتبر كتاب (وصف مصر) أوفى دراسة وأحسن مرجع للحياة المصرية في ذلك الحين. ولما تولى محمد علي الكبير حكم مصر أوحى إليه ذكاؤه أن الانعزال مبعث التأخر فأبقى على التعليم في الأزهر وأدخل التعليم الحديث وأرسل في استدعاء الأساتذة والأطباء، بيد أنه رغب في الاستغناء عن الأجانب والأخذ عن الغرب مباشرة فأوفد البعثات العلمية إلى إيطاليا ثم فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها. وقد نهج محمد علي خطة حميدة وهي الأخذ بمحاسن الغرب مع الإبقاء على تراث الشرق بل إحيائه. على أن احتكاك الشرق بالغرب قد جلب الكثير من المساوئ منها انتشار المسكرات وفتح أبواب الفجور والاستخفاف بأمور الدين.
خاتمة:
بعد دراسة احتكاك الحضارات وعرض أمثلة له، يمكن القول بوجه عام إنه ليس في مقدور أمة أن تعيش بمعزل عن سائر الأمم فلا بد من التأثير والتأثر. ومما هو جدير بالذكر أن للاحتكاك مساوئه ومحاسنه إلا أن الأمة الحريصة هي التي تستفيد من تجارب غيرها، وتعمل على أن تتخلص مما طرأ عليها من أضرار وشرور نتيجة احتكاك الحضارات.
وقد نتج عن ذلك - نتيجة ما اتصف به الإنسان من الهجرة والتقليد كما ذكرنا في بداية هذا البحث - أنه لم تعد هناك حدود فاصلة بين الأجناس البشرية، لذا قيل بحق: إن الجغرافيا(878/27)
الجنسية لا تعرف الحدود. ويظهر ذلك بجلاء في اختلاط العناصر وامتزاج الدماء في ربوع وادي النيل.
محمد محمد علي
(ليسانسيه في الآداب)(878/28)
حول دراسة العربية
تعقيد (التعقيد). .!
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
قرأت ما دار حول تدريس العربية في الأزهر، ولقد أثرت هذا الموضوع في جريدة المقطم في 26 - 8 - 1937، فلم يبد أحد رأيا حوله، لوقوف الاتجاهات الفكرية، وعدم الخروج عن دائرة التزمت العلمي، لكن الأيام تغير الأفكار، وتلاين الصلابة الفكرية، فيعاد تساؤلنا الذي بسطناه حينئذ: (هل تلك التواليف المتعددة. . على تباينها - قد حصرت القواعد حصرا يمكن الأخذبها؟ أو أنها تناثرت واضطربت وكانت عقبة يتعذر بها على متشوف العلم التفهم والاستقلال في التعرف؟!. . . (أن التصانيف الموضوعة في هذه العلوم على ركاكة أسلوبها، وتنافر بحوثها غير مجدية غير مجدية في باب الإنتاج العلمي، والمدارسة في مجموعها سائرة على غرارها، ويكاد الآخذون يرددون ألفاظها من دون أن يجعلوا للابتكار والتفنن في التعابير وظيفة يعتمدون عليها في إيضاح الطريق وكشف الأسرار عن المعميات الملغزة بألاغيز ومناقشات جوفاء لا تمت إلى البحت العلمي بأدنى صلة، ثم (التقيد) بتعابير موضوعة كالقوانين التي لا يتصرف فيها أقل تصرف، فغدت القواعد تحاكي (الاسطوانات) المكرورة - وبقيت اللغة محرومة من المقايسة المعقولة وحددها المصنفون الأعاجم ذوو البيان الملتوي، والمنطق الأبكم تحديد وضعها في الأغلال، ولم ينظر إليها المحدثون نضر البصير بل ازدادوا في تمحلاتهم والعصر يتطلب السهولة، والبراعة، والسرعة وطلاقة الفكر، والتجديد، ومراوضة العقول على كيفية التعقيل. . .)
(إن الحياة تتطلب ألوان من التفكير تابعة لألوان الأيام. وإذا كان الكاتبون في علوم البلاغة، والنحو، والصرف، قد أنتجوا إلى الناحية اللفظية وخلطوا، واضطربوا، فليس لنا أن نأخذ منهم طريقتهم، لأن عصرنا يخالف عصرهم والأفكار تتمشى بطبعها مع العصور. . .
برمت العقول بما تحدثة (الحواشي) وأثباهها من الافتراضات البعيدة الذاهبة بحقيقية العلوم إلى ما وراء الخيال، ووقفت الإفادة إلى حد المناقشة في أسلوب التعاريف البلاغية والنحوية ونقد حدودها بأسلوب يحتاج إلى النقد، وبدى أن طالب الاستفادة لا يشغله غير ما(878/29)
يدله على موطن استفادته، أما الأوهام التي يدل عليها قولهم: (فإن قيل)، فليس لها مدخل في الصميم فمتى تشذب هذه التواليف وتؤخذ الزبدة حتى تكون سائغة مقبولة؟
(إن الأعراب كانوا ينطقون بالسليقة والفطرة، فلم يعرفوا التنافر وضعف التأليف، والحركة الظاهرة والمقدرة، والإظهار، والإضمار، والاتصال، والانفصال - بل كانوا يرسلون القول إرسالا).
(إن معرفة الآراء واجبة، لكن التكليف والإرغام، والموافقة والاستسلام، لا يجب أن تكون حاجزا بين المناقشة وطرد مالا تستسيغه العقول فليس واجبا حصر العقول في خلافات سيبويه والكسائي والفراء وابن خروف وابن جنى، أو متابعة أقوال السكاكي والزمخشري والقزويني - لأن بحوثهم استطرادية). . .
(الطريقة المثلى التي يجب أن تدرس بها علوم اللغة تكون في الاقتصار على الاستشهاد من أقوال العرب الخالصين بالقواعد التي وضعها الأقدمون ثم الإشارة إلى المواضع التي اختلفت فيها الأقوال).
(يجب أن يقوم بعض المضطلعين بعلوم اللغة، والواقفين على أسرارها بوضع كتب علمية خالصة تحمل القواعد في أسلوب بعيد عن التلوى والتأويل، والتجوز، والمحاورة).
وقلت في جريدة (الجهاد): إن لغة التأليف في كتب الأزهر تقوم على التلوى والمداورة، والتأويل، والتحوير، والإلفاز والتعمية - واللغة العربية هينة لينة بعيدة عن التكلف والغموض بل هي احفل اللغات في التوسع والتجوز، وحفلت الفاظها بالمترادفات، وكثرت التعابير المجازية والكنائية في سلاسة وقرب مأخذ.
لكن السادة المؤلفين - رحمهم الله! - كانوا يرون البراعة من حيث الإعراب ويعدون الدقة في فصل العبارات بعضها عن بعض وتقديم الصفة على الموصوف والمتعلق على ما تعلق به، وعود الضمير على المتأخر في اللفظ والرتبة، والاستطراد، والإشارة البعيدة، والرمز الخفي، إلى غير هذه الأمور (المصطنقة) في التأليف العلمي.
هذا وكان الوقوف عند القديم وتمسك القائمين على التعليم في الأزهر (بالعبارة العلمية) المقصود بها (الحفظ الأعمى لا الفهم المبصر).
مما سبب عدم العناية بتلك التواليف الجامعة بين الورود والأشواك!! وبعد؛ فالحياة قد(878/30)
تغيرت، والعقول تفتحت، والمواهب تععدت؛ وليس عسيرا على أصحاب الوعي من علماء الأزهر تكوين هيئة تبرز العلم الصحيح في أسلوب واضح، سلس، شائق.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(878/31)
الشعر المصري في مائة عام
علي أبو النصر
. . . - 1880
للأستاذ محمد سيد كيلاني
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومدح الخديوي توفيق بقصيدة مطلعها
روض الأماني تغنينا سواجعه ... فكل راج لها تصغي مسامعه
وكيف يرتاب من لاح اليقين له ... في جبهة الدهر أو من يخادعه
لم يبدأ الشاعر هذا المدح بالغزل كعادته. وإنما بدأه بذكر الأماني والآمال التي كانت تدور بخلد الناس حينما تولى الخديوي الجديد. والبيت الأول جيد المعنى والعبارة. أما البيت الثاني ففيه رد على اليائسين من الإصلاح ومعناه جيد. وقال:
وهل على من سعى يوما إلى غرض ... لوم إذا منحت منه موانعه
يقول إن من شمر العزم لتحقيق بعض الأهداف وفشل في ذلك فلا لوم عليه ولا تثريب. وهو بهذا يرد على المرتابين. والبيت جيد المعنى والتركيب. وفيه حجة مفحمة. وقال:
نحن الألى سلقتنا ألسن نطقت ... في عتبنا بملام عم شائعه
قالت لقد عصفت فيكم رياح هوى ... أمالكم عن سماع النصح ذائعه
تبنون من غير أس في تصرفكم ... ومحكم الأمر فاتتكم مواضعه
أضغاث أحلامكم كادت تؤولها ... آمالكم بحديث ضل رافعه
حيث الخواطر والأفكار خامرها ... من الحوادث ما عمت فظائعه
وجندت جندها الأيام عادية ... وجردت سيف غدر صال قاطعه
هذه القصيدة هي من أجود ما نظم أبو النصر. فلم يكن الرجل فيها متكلفاً ولا متصنعاً، ولا كاذباً ولا متملقاً. ولا مرائياً ولا منافقاً. وإنما كان وطنياً مخلصاً يعبر عن شعور داخلي كامن في نفسه ويترجم عن إحساس دفين بين جوانحة. وقد نسى الشاعر نفسه وتجاهل مصالحه الخالصة والنعم الكثيرة التي أغدقت عليه في أيام إسماعيل، ونظر إلى الأمور(878/32)
نظرة المشفق على ما فيه خير الأمة، المتألم لما أصاب البلاد من الكوارث والخطوب. وقد أطلق للسانه العنان فنطق في غير خوف ولا وجل، وانتقد في جرأة عجيبة. والأبيات جيدة المعاني والتراكيب.
وقال:
وكل من رام تدبيرا ولاح له ... جند الجرائد هالته طلائعه
هذا البيت مأخوذ من الواقع. وربما كان فيه إشارة إلى الصحف الأوربية التي أكثرت من مهاجمة الخديوي إسماعيل في أواخر أيامه. والمعنى جيد غير أنه كرر صورة واحدة في بيتين وهي صورة الجيوش في قوله (جندت جندها الأيام) وفي قوله (جند الحرائد) كما أنه كرر كلمة (جند) في بيتين متتاليين. وهذا غير جيد. وقال:
وما أجبتم سؤال المحدقين بكم ... كأنما القطر لا تغنى وقائعه
كم نزهتكم رباه في مراتعها ... فأصبحت وهي للراثي بلاقعه
أكرمتم الغرباء النازلين بكم ... لكن فلاحكم ضاقت مزراعه
هذه أبيات جميلة لأنها صادرة عن شعور فياض بالحزن على ما أصاب البلاد. وفيها موازنة بين الرخاه الذي كان في زمن سعيد وأوائل عهد إسماعيل وبين الضنك والبؤس الذي خيم على البلاد في أواخر حكم إسماعيل. وفيها إشارة إلى الضرائب الباهظة التي أثقل بها كاهل الفلاح فاضطرته إلى الاستدانه من المرابين أو إلى الفرار وترك الأرض قفرا لا زرع فيها ولا ضرع. وفي البيت الأخير بكاء شديد على ما أصاب الفلاح المسكين. وقد أجاد الشاعر في المقابلة بين الأجانب الذين تمتعوا بكل خيرات البلاد وبين الفلاحين الذين كانوا محرومين من ضروريات الحياة.
والأبيات الثلاثة جيده المعنى والأسلوب. وقد أسبغ عليها الحزن روعة وأكسبها جلالا. ومن قرأ البيت الأخير لا يسعه إلا أن ينحني إكبارا لأبى النصر الذي كان أول شاعر في العصر الحديث يعبر عن آلام الفلاح ويتعرض لذكر ما يعانيه من ضيق وفقر.
وكان أبو النصر كثير الاختلاط بالفلاحين فرأى من آلامهم ومتاعبهم ما ظهر أثره في هذه القصيدة فوقف فيها كما نرى موقف المدافع عن هؤلاء القوم، المفاضل عنهم، رافعا عقيرته بطلب الإصلاح. وقال:(878/33)
فمن لكم أن تروا عدلا أخاهمم ... يسركم بقدوم العدل طالعه
وهذا البيت تمهيد للانتقال من وصف الأحوال المحزنة التي أشرنا إليها إلى التنويه بالفرح المرتقب على يدي توفيق. وهذا التخلص جيد إلا أن أسلوب البيت ضعيف.
ثم قال:
فقلت مهلاً فكم من أزمة فرجت ... وأعقب الليل صبح ضاء لامعه
وإنما اليسر بعد العسر منتظر ... وأحسن الصبر ما ترجى منافعه
دعوا الأراجيف فلأوهام ليس ترى ... إلا خيال سراب غاض ناقعه
ولا يغرنكم منا الفتور فقد ... يسابق الركب في الفيفاء طالعه
في هذه الأبيات يرد على المرتابين في الإصلاح واليائسين من الفرج. وقد حاول أن يقنعهم بأن الفرج آت لا محالة. وقد أجاد إذ سلك طريق الحوار لعرض آرائه وبسط آماله وأمانيه.
ففي الأبيات الأولى أجرى الحديث على ألسنة المرتابين في الإصلاح، وعظم من شأن ما كانت تئن منه البلاد. وفي الأبيات الأخيرة أجرى الحديث على لسانه فأعرب عن رجائه في اليسر بعد العسر، وفي الفرج بعد الشدة. ثم انتقل من هذا إلى مدح الخديوي وخاطبه بهذه الأبيات:
نرجوه إنجاز إصلاح الشؤون عسى ... يصفو به الملك دانيه وشاسعه
فإن آمالنا أمته جارمة ... بأنها لا ترى شهما يضارعه
فكن مجيبا أبا العباس دعوتها ... فباب عطفك يلقى البشر قارعه
ووال فضلك يا خير الولاة لمن ... وإلى لأمرك يشقى من يراجعه
واستنتج الرأي إصلاحا فقد حجبت ... شمس الهدى بسحاب فاض هامعه
وطهر الملك من عات ومتهم ... تقوده للقضا جهلا مطامعه
هكذا وقف أبو النصر من الخديوي توفيق موقف الناصح الأمين والمرشد المخلص. ووقف كذلك موقف الوطني الغيور على مصلحة أمته فطالب برفع المظالم وتطهير الأداة الحكومية من اللصوص والمرتشين. وهذه الأبيات من أصدق الشعر الذي قيل في ذلك الوقت. ففيها تعبير عن رغبة شديدة كمنت في النفوس، وتطلعت إلى تحقيقها القلوب. وكان أبو النصر ممن ترجموا عن هذه الرغبات الكامنة ونطق بما ترجوه الأمة من الإصلاح ورفع المظالم.(878/34)
وختم الشاعر قصيدته الرائعة بقوله:
فإن رعيت وراعيت الحقوق فما ... أولاك بالمدح يتلو الحمد بارعه
وفي هذا البيت تظهر جرأة الشاعر في مخاطبة سيد البلاد.
فهو يقول له إنك لن تكون أهلا للمدح والثناء إلا إذا قمت بما تتطلبه البلاد من الإصلاح ونشر العدل. ولا ريب في أن الشاعر قد وقف وأجاد حينما ختم قصيدته بهذا البيت المؤثر. وهذه القصيدة وإن قيل إنها نظمت في مدح الخديوي الجديد إلا أن ظاهرة المدح فيها لا تكاد تذكر. وطغت عليها ظاهرة الإلحاح في طلب الإصلاح. وهي أروع ما نظم أبو النصر، بل من؛ أروع ما نظم في ذلك الدور على الإطلاق.
وهكذا اشترك أبو النصر في التمهيد للحركة العرابية التي ظهرت بعد وفاته.
وللشاعر طريقة خاصة في الرثاء. فهو يبدأ بالتحدث عن الموت فيذكر أنه غاية كل حي، وأنه السبيل الذي يسلكه كل مخلوق. ويشير إلى إستحالة الخلود. ثم يتعرض لذكر الأصاغر والأكابر الذين ماتوا. ثم ينوه بالخطوب التي تصيب الناس بفقد العظماء. ويتلخص من ذلك إلى القول بأن أجل خطب في عصره هو وفاة فلان. ثم يشرع في التنويه بمناقب الفقيد. فلما رثي السيد مصطفى العروسي أورد الديباجة التي أشرنا إليها ثم تخلص منها بقوله:
وأجل خطب غصت الدنيا به ... في عصرنا فقد العروسي مصطفى
ورثى أحد العلماء فسلك الطريقة عينها وتخلص بقوله:
وأجل خطب ساء أرباب النهى ... فقد أن من تزهو به وتفاخر
وفعل مثل هذا في رثائه لعالم آخر وتخلص بقوله:
وأجل خطب هالنا وأهمنا ... أن غاب عنا ذو الفضائل أحمد
ونهج هذا النهج في رثائه للشيخ علي القوصي، فقال:
وأجل خطب غصت الدنيا به ... موت الإمام السيد القوصي علي
وهو ابن عبد الحق من حاز العلا ... شرفا وعلما وهو أستاذ ولي
فالرثاء عند أبى النصر صورة معادة وتكرار لبعض المعاني في عبارات تكاد تكون متشابهة. وليس في هذه المراثي ما يستحق أن نقف أمامه إذ أنها متكلفة مصطنعة. فكلما(878/35)
رثى شخصاً ادعى أن موته كان أجل خطب أصيبت به الدنيا. ولذلك لن نخسر شيئاً إذا تركنا هذا الباب من شعره.
ولأبى النصر قصائد قليلة يظهر فيها صدق الشعور والتهاب الإحساس وانتقاد العاطفة. ومثال ذلك قوله وهو بالأستانة يتشوق إلى مصر:
أبدا تشوقني لمصر ظلالها ... ويطوف بي مهما رحلت خيالها
ولنيلها أصبو وعذري واضح ... عذبت مناهلها وراق زلالها
هي منتهى أملي وأقصى بغيتي ... هي قبلتي والواجب استقبالها
ولطالما سرحت فيها ناظري ... وحلت إلى سهولها وجبالها
وجمعت بين رياضها وحياضها ... وسرت إلى جنوبها وشمالها
أرض المستفيد عوارفا ... تسدى النوال يمينها وشمالها
بلد بها وطني فلا لأبغي بها ... بدلا ولو بعدت وعز وصالها
لكن رأيت عزيزها طلب السرى ... منها إلى بلد يروق جمالها
ونظرت في شأن البدور وإنها ... لولا تنقلها لفات كمالها
وكذا اللآلي لو ثوت في كنزها ... مالاح في تاج العروس هلالها
فرغبت في الترحال وهي بخاطري ... مطبوعة منظومة أشكالها
ودعتها وفمي يقبل ثغرها ... ومدامعي يحكي الحيا استرسالها
هذه أبيات نقرأها فنعجب بها ونقف أمامها متأثرين بما فيها من روعة وجمال. فلم يكن الشاعر متكلفا ولا صانعا للشعر ولا ناظما جل همه البحث عن المحسنات اللفظية. وإنما كان ناطقا بما في أعماق نفسه وفرارة فؤاده، معيراً عن شوقه لبلاده، مترجما عن مبلغ تعلقه بوطنه تعلقا جمله يتخذه قبلة يولي وجهه إليها أينما سار. ولم تلهه عن بلاده مظاهر الجمال والمروعه التي يشاهدها كل من رحل إلى الأستانة؛ بل إن شوقه لبلاده وما فيها من رياض وحياض وسهول وجبال ونسيم عليل قد سيطر على ذهنه وطغى على كل شئ أمامه فلم يعد يرى غير مصر إليها يصبو ويحن، فهي كما قال منتهى أمله وأقصى بغيته. وفي كل بيت من هذه الأبيات تلمس قوة في التعبير. ومثال ذلك قوله: - أبدا - تشوقي لمصر ظلالها، ويطوف بي - مهما - رحلت خيالها، هي - منتهى - أملي، - وأقصى -(878/36)
غايتي، هي - قبلتي -، - فلا أبغي بها بدلا ولو بعدت -. وأنظر إلى البيت الأخير وهو:
ودعتها وفمي يقبل ثغرها ... ومدامعي يحكي الحيا استرسالها
فإنك لاشك متأثر بما فيه من روعة، تتخيل الشاعر وقد هوى على أرض الإسكندرية يقبلها ويبكي بكاء شديداً لهذا الفراق فتعطف عليه وتبكي لبكائه.
وكان أبو النصر مغرما ببعض أنواع البديع يحشدها في قصائده حشداً، ومثال ذلك قوله:
لي في ربا الشوق انهام وانجاد ... إلى الأحبة إن ضنوا وإن جادوا
وفيه طباق بين (انهام) و (انجاد) وبين (ضنوا) و (جادوا) وفيه جناس بين (انحاد) و (جادوا).
ومن تلاعبه بالألفاظ قوله وهو بحضرة شيخ الإسلام في تركيا:
وكما ترى مصر السعيد جنة ... ونحسبها دون البلاد هي العليا
فلما رأت دار الخلافة عيننا ... علمنا يقينا أنها لهي الدنيا
ففي كلمة (الدنيا) تورية لطيفة تدل على البراعة والاقتدار في الصنعة.
وللرجل شعر ينحط في أسلوبه إلى العامية. ومثال ذلك قوله.
سده واجب أكيد وإني ... أبتغي في مسافة الشهر سده
وقوله:
مني عليكم كل يوم تحية ... وسائراً أحبابي الكرام ذِي المجد
كذا جملة الأخوان شرقا ومغرباً ... متى سألوا عني ولو أخلفوا ودي
وهذا كله من تعابير الدهماء.
وحاول صاحبنا أن ينظم في باب الحكم. وله قصيدة قلد فيها صالح بن عبد القدوس فأخفق إخفاقاً تاما. ومن هذه القصيدة قوله:
حسن الخليفة للخليفة يوجب ... حسن الرضا عنهم ونعم الموجب
والعلم يزفع قدر من عملوا به ... والعاملون بغير علو كذبوا
والمدعي ما ليس فيه جهالة ... لاشك عند الامتحان يكذب
وهكذا كلام خلو من المعنى. وفضلا عن ذلك فإن عبارة المبيت الأول في منتهى الضعف وقد كرر القافية في قوله (كذبوا) و (يكذب) وهما من فعل واحد.(878/37)
وحاول أن ينظم في باب الحماسة فجاء شعره متكلفاً مكذوبا.
ومثال ذلك قوله:
بليت بلا الهبا إن لم أصابر ... ولو يلقى على ظهري ثبير
فكم جبت المفاوز للمعالي ... على قدمي وقد ند العبير
ووسدت الصفا شرقا وغربا ... وعافتنى النمارق والسرير
وهذا افتراء عظيم. وليس في تاريخ الرجل ما يدل على أنه قطع مغازة واحدة أو ركب بعيراً.
ومما عبته عليه قوله في الخديوي إسماعيل
وإذا تشرف من يراك النعمة تهدي إليه سوى رضاك فقد كفر قفيه تكلف ومغالاة تخرج به إلى حد الكذب الصريح.
ولاشك في أن الرجل كان ضئيل الحظ من الاطلاع على آثار الفحول. ومعظم شعره في المدح. وحسبنا أن نقف في حديثنا عنه عند هذا الحد.
محمد سيد كيلاني(878/38)
نهاية الملحمة
للأستاذ إبراهيم الوائلي
يا شعوبا نسيت أمجادها ... واحتواها عالم الوهم الذميم
إسألي القبة من ذا شادها ... فأضاءت حلك الليل اليهيم؟
قد تعثرت وما جزت الشعاب ... وتلكأت وقد غض الطريق
وتنابذت، وقطعان الذئاب ... تتلاقى في ذرى البيت العتيق
فإذا كل مساعيك ضباب ... مزقته الريح في الوادي السحيق
لا تقولي: أبن يافجر الحياة ... كيف نلقاك وفي أي مجال؟
بعدما تهت بأجواز الفلاة ... وتناثرت على شوك الرمال
يا شعوبا صيرنها مزقا ... أمة ما عرفت غير الفساد
عبرت والنجم يطوى الغسقا ... وأفاقت فإذا النار رماد
دعم الظلم لها ما لفقا ... عصبة تحلم في (أرض المعاد)
وتراجعت وقد قيل اندثر ... حلم (إسرائيل) في الوادي الأمين
فإذا أنت فلول وزمر ... تتحداها وحوش الطامعين!
يا شعوبا كم أرتنا عجبا ... سيرا شتى وعهداً لا يطاق!
سيرتها للمآسي ملعبا ... أرؤس تحيا على غير وفاق
آن يا تاريخ ألا نكذبا ... فلقد طال بنا عصر النفاق
إن أقوامي قد ضلوا الطريق ... واستجابوا لأباطيل الخصام
وتناسوا ذمم العهد الوثيق ... يوم ثار الدم في أرض السلام
هذه الطعنة في القلب الجريح ... سوف تبقى رمز ذل الصاغرين
وضحايا الغدر في مهد المسيح ... شارة الخزي على كل جبين
والعصابات على الوادي الذبيح ... قهقهات تتحدى الحاكمين
يا شعوبا قوضت منها الهمم ... واستحالت مسرحاً للدخلاء
اعبدي الوهم وطوفي بالرمم ... ثم قولي: إن ذا حكم القضاء!
يا شعوبا كان ماضيها العتيد ... شعلة تشرق في دنيا الظلام(878/39)
تستسيغ الموت في ظل الحديد ... وتناجي الحب في ظل السلام
أنت أصبحت طعاماً للعبيد ... وسيبقين لمن شاء الطعام
فخذيها من خرافات العصور ... ضحكة تبقى على ثغر السنين
وألفي الصمت فما يجدي الغرور ... أمة تسعى وراء الفاتحين!
يا شعوبا أسست وحدتها ... لغة عظمى ودين ودم
ودعاها باعثا نهضتها ... من بني العرب يتيم معدم
كيف أغضيت فأحيت (سبتها) ... فئة هانت لديها الذمم
ثم ناديت بمن لا يستجيب ... وترافعت لأوهي (مجلس)
فاستعدي إن في الآنى القريب ... قصة أخرى عن الأندلس
علمتني الحقد - والحقد مشين ... أمم تسعى لتهويد العرب
فتنفست عن الحقد الدفين ... ثورة تذكو بأنفاس اللهب
وسأبقى ثائراً في كل حين ... كلما أبصرت عباد الذهب
والعصابات بوادي (أورشليم) ... تتغنى بأناشيد الظفر
وحواليها من الغرب الأثيم ... بشر ينكر تاريخ البشر
يا شعوبا سجلت خذلانها ... وتناست ثورة الأمس القريب!
قد أطاعت في الدجى ربانها ... وهو بين الموج يطفو ويغيب!
أي صبح فتحت أجفانها ... (بنت إسرائيل) في (تل أبيب)؟
وأفقنا فإذا بالحائرين ... في صحاري البيد في دنيا القفار
إية يا من سيروا هذي السفن ... انتم أولى بأمواج البحار
روعت (حيفا) بأشتات الطغام ... فانحنى يبكي عليها (الكرمل)
وانطوت (يافا) على الداء الحسام ... فشكا القدس وناح (المجدل)
وعلى (الرملة) و (الل) السلام ... يا شعوبا خاب فيها الأمل
لا ورب ما لهاتيك الشعوب ... أي ذنب لا ولا ثم عتاب
إنما يعرف أسرار الذنوب ... مازج العلقم بالشهد المذاب
ألف وعد لم يف الخصم به ... ولبلفور بوعد قد وفى(878/40)
فتغاضينا ولم ننتبه ... لشباك نصبت طي الخفا!
يا بلادا لم نجد من مشبة ... لك في ظل ركاب الحلفا
أنت آمنت بمن لم يؤمنوا ... بسوى الغدر و (فرق تسد)
فإذا دنياك ليل أدكن ... ليس للفجر به من موعد؟
نبعة قد غرست ف (لندن) ... وتلقت من (نيويورك) الظلال
وسقتها بصبيب نتن ... يد (جنبول) وعاشت في الرمال
ثم ألقت ظلها في الأردن ... وترامى شوكها حول (القنال)
وأراها في غد أو بعد غد ... سوف تمتد بشر مستطير!!
وبنو قومي في صمت الأبد ... لا يبالون وإن ساء المصير!
ألأبناء القصور العالية ... جيلنا الراسف في أغلاله؟
أم لشذاذ البحار النائية ... عالم يقضى على آماله؟
أم لهاتيك الوحوش الضاريه ... ريع حتى الطفل في أسماله؟
أم لمن يا رب تلك الصرخات ... تملأ الآفاق آنا بعد آن؟
فابعث الرحمة الأرض الموت ... أو فأحرقها بنار ودخان
يا رفاق الثورة الأولى أحذروا ... فتنة الدس وكيد الخائنين
فلقد بان الصباح المسفر ... عن خبيئ وتجلى عن كمين
هوم الركب فلا تنتظروا ... غير أن يزحف ركب الثائرين
وابعثوها صيحة تحتدم ... في قضاء الله في عرش السماء
فلقد آن لكم أن تختموا ... هذه القصة لكن بالدماء
إبراهيم الوائلي(878/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكرى إقبال:
دعت السفارة الباكستانية إلى الاحتفال بذكرى الشاعر الفيلسوف المغفور له الدكتور محمد إقبال، في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الماضي. ولم يكن هذا الاحتفال قاصرا على إخواننا الباكستانيين في مصر، بل كان في أغلبه احتفال مصر بالشاعر الإسلامي الكبير، على أنه كان أوسع من ذلك إذ إقبال لم يكن شخصية إسلامية كبيرة فحسب بل كان شخصية عالمية. .
افتتح الحفل - بعد تلاوة من القرآن الكريم - سعادة السيد عبد الستار سيت سفير الباكستان فرحب بالحاضرين والمشتركين في الاحتفال وأشاد بصاحب الذكرى وفضله في العمل على قيام دولة الباكستان. وأعقبه سعادة الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بكلمة طيبة قال فيها إن الباكستان ولدت بغتة على يدي بطل من أبطال الإسلام هو شاعرنا العبقري محمد إقبال. وقد ولدت هذه الدولة كبيرة بفضل رجالها الذين جاهدوا في سبيل إنشائها وعلى رأسهم إقبال، ونحن إذ نكرمه فإنما نفعل قياما بالواجب نحونا، إذ أننا حين نكرم هذا الرجل العظيم فإنما نقدمه للشبان أسوة حسنة، فقد كان ذا هدف شريف وهو العمل على رفعة الإسلام.
وألقى الأستاذ مظهر سعيد كلمة عن فلسفة إقبال قال فيها إن هذه الفلسفة مزيج من الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية وإنها ترمي أفي الخير والكمال في ظل الإسلام. وألقى الدكتور إبراهيم ناجي قصيدة جيدة مطلعها:
حيا وميتا قلدوك الغارا ... ما أروع الأيام والتذكارا
وتوالى بعد ذلك خطباء وشعراء منهم الشيخ الصاري شعلان الذي ترجم كثيرا من شعر إقبال من الأردية والفارسية إلى العربية، وكان فضله في ذلك ظاهرا، إذ كان كل ما استشهد به الخطباء مما ترجمة هو والأستاذ محمد حسن الأعظمي واختتم الاحتفال بكلمة الدكتور حسين الهمداني الذي قال إن الشكر على المشاركة في إحياء هذه الذكرى ليس لي فقد سمعتم من الخطباء والشعراء أن شاعرنا الفيلسوف لم يكن شخصية محلية، لقد كان جزاء(878/42)
من التراث الذي قدمه المسلمون للعالم
وقد أصدر قسم الصحافة بالسفارة الباكستانية عددا خاصا بالشاعر محمد إقبال من مجلة (رسالة الباكستان) التي تصدر بالقاهرة. وأذاع راديو كراتشي برنامجاً خاصاً بهذه الذكرى.
وقد استطعنا مما نشر وأذيع عن إقبال وما ترجم من أشعاره إلى العربية أن نقف على كثير من حياته واتجاهه الفكري ونستمتع بنفحات شاعريته، ومما يذكر أيضاً أن الأستاذين الشيخ الصاوي والأعظمي قد أنجزا كتابا عنوانه (فلسفة إقبال) نقلا فيه إلى العربية ديوان إقبال، والكتاب على وشك الظهور. ولاشك أن هذه الجهود كأنها تضيف إلى الأدب والثقافة والمكتبة العربية الحديثة أقباسا منيرة منذ ذلك الأفق المشرق.
ولد محمد إقبال سنة 1873 في أسرة نراهمبة بقرية لوهار بكشمير، وقد اعتنق أحد أسلافه الدين الإسلامي وأصبحت الأسرة بعد ذلك أسرة إسلامية وتعلم إقبال في المكاتب والمدارس الهندية حتى أتم دراسته بكلية الحكومة بلاهور، واتصل فيها بالمستشرق توماس أرنولد أحد أساتذتها إن ذاك. ثم رحل إلى أوربا سنة 1905 قاصداً كمبردج ثم هيدلبرج بألمانيا ثم ميونخ حيث حصل على الدكتوراه برسالة موضعها (تطور الفكرة العقلية في إيران) وعاد إلى وطنه في سنة 1908. ولم يلتحق بخدمة الحكومة لضعف بصره، فوجه جهوده إلى الإنتاج الفكري الحر، حتى توفى سنة 1938.
كان إقبال شاعراً وفيلسوفا، ولكنه لم يكن من أصحاب الأبراج العاجية، بل كان شاعراً بآلام قومه وآمالهم، وكان فيلسوفاً ينظر في أحوال أمته ويعالج شؤونها ويخطط لها طريق المستقبل الزاهر، يجمع شعره بين الأهداف السياسية والاجتماعية وبين المتعة الفنية والغناء الشعري كان يتغنى بمآثر الإسلام وأمجاد المسلمين فيطرب الأسماع ويذكي الحمية ويشعل نار الهمم، وكان يقرع الأعداء بغضب قوله فإذا أغراضهم في إذلال البلاد الإسلامية تنكشف وتتهاوى، وإنما تبعث الأمم المغلوبة على أمرها بالتنوير والتنبيه والتحذير في أول الأمر، وبعد ذلك يفعل الرأي الحازم المستنير كل شئ.
نظر إقبال فرأى الأوربيين يعيشون في صراع وتتكالب على المادة، ونظر أيضاً فرأى تواكل المسلمين وجمودهم، ولاحظ مع ذلك اتجاه هؤلاء إلى الثقافة الأوربية، فلم يجد في ذلك ما يخشاه إلا أن يؤخذ بالظاهر البراق دون النفوذ إلى الجوهر الصحيح - نظر إلى(878/43)
ذلك ثم ناشد المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم ليتأملوه من جديد في ضوء الفكر الحديث كي يقيموا حياتهم على أسسه الروحية العلمية ومن أسرار عظمة إقبال أنه اغترف من الثقافة الغربية ما انتفع به في تعزيز مقوماته الأصلية، ولم تجر وراء الغربيين بأخذ عنهم كل شئ ويزدري قومه كما يضع كثير مما رأيناهم فتنوا بذلك السراب، وإنما رجع إلى قومه بما يفيدهم من تلك المدينة والثقافة على أن يبعثوا من إمكانياتهم الكامنه ما يوجههم وجهة أجدى على الحياة الإنسانية مما يشاهد في الغرب من اندفاع نحو الأنانية والصراع المادي.
وهاك شيئاً من نفحات تلك الشاعرية في هذه القطعة التي قالها في فلسفة الألم وهي من الترجمة المنظومة التي قام بها الشيخ الصاوي شعلان:
إن الذي لم يدر أنات المساء ... ولم يسامر عينيه نجم السماء
ولم يحطم جام قلبه الأسى ... ولم ينر ظلام ليله البكاء
والسادر اللاعب طول عمره ... لم يستمع إلا إلى عذب الغناء
والعاشق المحروم في غرامه ... من لوعة الذكرى وحسرة الجفاء
ومجتنى الزهر الذي لم تختضب ... يداه في الشوك بحمرة الدماء
جميع هؤلاء مهما سعدوا ... من نعم الحياة بأمن ورخاء
فان أسرار الحياة تختفي ... عنهم وهم عنها دوامل في اختفاء
مهرجان الأدب الشعبي
أقامت الجامعة الشعبية يوم الأحد الماضي مهرجاناً ثانياً سمته (مهرجان الأدب الشعبي) ولعل القراء يذكرون ما كتبت عن مهرجانها الأول، وكان مما لاحظته فيه أ، بعض الخطباء تناولوا موضوعات داروا فيها حول الروح الشعبي والديمقراطية في الأدب، وقلت أنه كان ينبغي أن يكون للمهرجان موضوع أو فكرة يدور حولها. وفي هذه المرة أسجل للمشرف على الدراسات الأدبية في الجامعة الشعبية وهو الأستاذ علي الجمبلاطي فضله، ومن حيث أثبت أنه ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فقد جعل لهذا المهرجان محورا هو (الشعبية) وأضافه إلى الأدب الشعبي. وقد قال الأستاذ في افتتاح المهرجان إن روح الاتجاه إلى الشعب قد أصبحت تسود الآداب في العالم الحديث، وإن الأدب لحقيق بذلك، فإن كان للخواص عقول تدرك فإن للعامة قلوباً تحس. ثم قال إن هذا البرنامج يقدم أدباً(878/44)
عامياً. وقبل أن أناقش موضوع المهرجان ننظر في البرنامج.
كان من المقرر أن يبدأ البرنامج بموضوع للدكتور أحمد أمين بك عنوانه (في الأدب الشعبي بلاغة) ولكنا أسفنا لمرض الدكتور وتخلفه عن الحضور، شفاه الله وعافاه. وقد ألقى الأستاذ كامل كيلاني كلمة بعنوان (الفكاهة في الأدب الشعبي) تناول فيها شخصية جحا وفكاهاته أو فلسفته الفكاهية وساق بعض نوادره، وجحا - كما حقق الأستاذ الكيلاني - شخصية ذات سمات خاصة، وهي مكررة في كثير من الأمم، فجحا العرب هو أبو الغصن دجين بن ثابت، نشأ بالكوفة وعاصر أبا مسلم الخرساني، وقد علم بأمره أبو مسلم فاستدعاه، فأراد جحا أن يتباله أمامه لينجو من أذاه، وكان مع أبي مسلم رجل اسمه يقطين، فنضر إليهما جحا وقال: أيكما أبو مسلم يا يقطين؟ أما جحا أيرلندا فقد كتب إلى صاحبته يقول لها: إنني سيئ الظن بالبريد فلست واثقاً من وصول كتابي هذا إليك. فإن لم يصلك أرجو الإفادة! وأما جحا إنجلترا فهو جورج الذي عزم على أن يقلع عن شرب الخمر فامتنع عنها أربعة أيام، ثم جعل يتمشى حتى كان أمام خمارة، فوقف يخاطب نفسه: مرحى يا جورج! لقد أمضيت أربعة أيام دون أن تذوق خمراً، أنك تستحق كأسا مكافأة لك! ثم دلف إلى الخمارة!
وتحدث الدكتور عبد الحميد يونس عن (ملاحمنا الشعبية) فقال إن النقاد ومؤرخي الأدب درجوا على القول بأن الأدب العربي خال من الملاحم والقصص التمثيلية، إذ قال المستشرقون ومن تابعهم من العرب: أنه أدب غنائي كله، والواقع أن هذا القول خطأ جاءه من أنهم لم ينظروا إلى الأدب العربي نظرة تشمل اللهجة الشعبية التي أنشئت بها قصة (سيف بن ذي يزن) و (عنترة) وسيرة بني هلال، وغيرها، وقد نشأ هذا اللون من الأدب عندما شعرت الأمة بتغلب العناصر الأجنبية عليها، فلجأت إلى البطولة المستمدة من تاريخها لتشبع اعتزازها وكرامتها. وقد بين الدكتور عبد الحميد خصائص هذه الملاحم وفن المنشد الذي يسمى (الشاعر) في التعبير عن معانيها، وخلص من هذا البحث القيم إلى أنه يجب الرجوع إلى هذه الملاحم ليتخذ منهها - بعد التعديل والتهذيب - فن تمثيلي مستمد من البيئة قائم على تلك المثل. وأعقبه المنشد الشعبي سيد فرج السيد فأنشد على الربابة موقعة من موقع أبى زيد الهلالي مع الزناتي خليفة، وقد أطرب ونال الإعجاب بتعبيره(878/45)
القائم على تنغيم الصوت في مواضعة ورفعة وتشديده عند الحديث عن الشجاعة ومعاني العزة. والواقع أن هذا فن جدير بالأحياء (والتطوير) فهو من الفنون الجميلة المعبرة، ولو أنه جاءنا من أوربا لكان له شأن آخر!
وكانت بقية البرنامج أزجال، وهي طبعاً أدب عامي، ولكن بحث الدكتور عبد الحميد يونس وموضوع الأستاذ كامل كيلاني، ليسا من الأدب العامي، وإنما تحدثا عن ألوان شعبية حديثا أديبا فصيحاً - وقد عقب الأستاذ مظهر سعيد في نهاية المهرجان بأن المؤسسة (الجامعة الشعبية) قامت في هذا المهرجان بحق الأدب الشعبي كما قامت في المهرجان السابق بحق الأدب العربي الفصيح، ونعت الأول بأنه أدب الفصيح لا يعبر عن الأمة، والثاني بأنه أدب الخواص. . .
وبعد فهل الأدب الفصيح لا يعبر عن الأمة؟ وهل اتجاه الأدب إلى الشعبي العامي، ونحن نقبلها على أنها نوع من القول المعبر لا بأس به، ولاشك أن فيها كثيراً مما يعجب ويمتع ولكن ليس معنى هذا أن الاتجاه الشعبي في الأدب طريقة العامية وليس الأدب الفصيح قاصراً عن التعبير عن الأمة. وإلا ففيم هذه الجهود التي تبذل بالتعليم وبالتأليف وبالصحافة وغيرها لتعميم اللغة العربية بين أفراد الشعب، تلك الجهود التي لا تخفي ثمراتها. فنحن إذن نتيجة إلى هدف لغوي هو اتخاذ اللغة العربية الفصيحة لسانا معبراً عن الأمة، وقد يسرناها بالوسائل الحديثة حتى صارت (شعبية) محبوبة، ومن هنا يجب أن تكون الشعبية غير العامية، كما أنها - ولابد - غيرها في تسمية (الجامعة الشعبية) أو (مؤسسة الثقافة الشعبية).
عباس خضر(878/46)
البريد الأدبي
الذكرى السنوية لميلاد شكسبير
احتفلت بريطانيا في يوم 23 أبريل الحالي بمرور 386 عاما على ميلاد الكاتب الروائي الخالد شكسبير. وقد شاركتها في هذا الاحتفال معظم أمم العالم التي ساهمت هذا في التكريم بأن نشرت أعلامها في وقت واحد على امتداد الشارع الرئيسي الذي يوجد فيه المنزل الذي ولد فيه هذا العبقري في مدينة ستراتفورد أون آفون. ويبلغ عدد الأمم التي اشتركت في تكريم ذكرى شكسبير 80 أمة. وكانت أعلامها ترفرف في منظر خلاب على ضوء شمس الربيع الساطعة.
وقد أشترك في الحفلة التي أقيمت بهذه المناسبة 16 سفيراً ممن يمثلون الدول الأجنبية وعدد كبير من الدبلوماسيين. وقد اقترح المستر لويس دوجلاس السفير الأمريكي شرب نخب هذه الذكرى الخالدة كما تقضي بذلك التقاليد في أثناء حفلة الغذاء التي أقامها عمدة مدينة ستراتفورد اون آفون. ثم أزاح السفير الأمريكي بعد ذلك الستار عن اللوحة التذكارية على ضفة نهر أفون.
وقد سجلت على هذه اللوحة عبارات التمجيد والإطراء للمساعدة الأمريكية التي قدمت لاعادة بناء هذا المسرح المشهور، كما إنها تشيد بكثرة عدد الزيارات التي قام بها الرجال والسيدات الذين حضروا من الولايات المتحدة إلى بريطانيا خلال سنوات الحرب الماضية. وقد تحدث المستر دجلاس عن المنح العظيمة التي قدمها هذا الشاعر للعالم فقال (إذا كان أبناء بلدي من رجال ونساء قد ساهموا في إعادة بناء هذا المسرح كدليل منهم على تقديرهم لذكرى ويليام شكسبير فما ذلك إلا لأنهم يعرفون حق المعرفة أنه ليس في الإمكان تقديم أي مقابل لتلك المنح الجليلة التي قدمها ذلك الشاعر للجنس البشري.
إلى الأستاذ الشرباصي. . .
قلت ما كتبته في الرسالة الزهراء بعنوان (الأزهر في مفترق الطرق). .
ولقد كان لمقالك أثر كبير في نفسي، وشعور ممزوج بالثناء والتقدير، مشوب بالعتاب واللوم. . لأني أنظر إليك وإلى أمثالك في المحيط الأزهري. نظرة التائه في الصحراء إلى الواحة، تتعلق بكم الآمال، وتتحقق على يديكم الأحلام، لأنكم أنتم الفئة التي جابهت روح(878/47)
العصر، وسايرت ركب الحضارة، وتابعت قافلة الزمن، ففهمتم القديم، ونهلتم من الحديث، فجمعتم الأمرين ونلتم الحسنيين. . . وأعتب عليك يا أستاذي على ما ورد في مقالك (وظهرت في الأزهر كتب جديدة لها قيمتها العلمية أنشأها رجال في الأزهر لهم مكانتهم وثقافتهم) ثم ذكرت منهم عبد الحميد والصعيدي. . وفي الحق أيها الأستاذ الفاضل أننا ننظر إلى مؤلفات عبد الحميد مثل التوضيح لابن هشام في النحو وكتاب السعد في البلاغة، والخبيصي في المنطق للصعيدي، فلم نجد فيها ما يجلو الصدأ، ويمحو التعقيد. فإذا كان نقل الكتب من ورق أصفر إلى أبيض هو التأليف والتجديد. . فيا لضيعة التأليف والتجديد في الأزهر. . . لأنه لم يحدث فيها ما ينقلها من طور إلى طور ومن قديم إلى جديد وللأستاذ الشرباصي تحية إعجاب وتقدير.
محمد القاضي خليل
بمعهد فاروق الثانوي بقنا
اكتشاف لوحة قيمة لأستاذ رفائيل
توجد في (ورويا كاستل) بإنجلترا مجموعة من أندر اللوحات الزيتية في العالم. وقد اكتشف بينها أخيراً لوحة (العذراء) التي رسمها (بيترو بيروجينو) - أستاذ رفائيل - في النصف الأخير من القرن الخامس عشر.
وقد ظلت هذه اللوحة في القصر 150 عاما؛ ويرجع اكتشافها إلى المصادفة المحضة. فقد كان الفنان البريطاني الشهير (هنري هاب) يعمل في تجديد مجموعة اللوحات القيمة الموجودة بالقصر عندما لاحظ وجود لوحة قديمة انطمست معالمها نظراً لطول العهد الذي مر بها.
وعندئذ بدأ المستر (هاب) في إزالة الغبار عنها بكل دقة وعناية - لدرجة أنه كان يخشى أن يعمل أكثر من ساعة واحدة في اليوم - إلى أن تم له أخيراً كشف هذه الدرة الغالية لأستاذ رفائيل.(878/48)
الكتب
ساعات السحر
للدكتور أحمد زكي بك
هذا نموذج ناضج لأدب المقالة الدسمة ذات الموضوع الخصب. فليست هذه المقالات من هذا الطراز الذي كل هدفه إظهار المحصول اللغوي ولا شيء وراء هذا لضآلة موضوعها وفجاجته، ولا هي من هذا النمط المتهافت الأسلوب العامي الأداء.
ولكن ما هي السمات التي تطبع أدب الدكتور زكي بك؟
فالمقالة قد تتحد في جودة الأسلوب، ودسامة الموضوع، ثم هي تختلف في لباب الفكرة؛ وتتباين في جوهر الموضوع، فهناك المقالة التي تأخذ سندها قيضها من شاعرية الوجدان؛ وهناك المقالة التي تتخذ المنطق وسيلتها؛ والمقالة التي تستوحي روح العلم وتسير بوحي من هداه. ومن هذا الطراز مقالات هذا الكتاب. والذي أعنيه بروح العلم هو استشفاف روحه؛ واصطناع أسالبيه في البحث؛ فهو لا يسبح بك في تلك الأجواء المزيج من النور والظلام، أجواء الصوفية الوجدانية، ولا بلح الحاح أصحاب المنطق وعشاق التفلسف، بل أنت معه في ضوء العلم ووضوحه، وانآده ورزانته. وليس معنى هذا أنه يدخل بك في ميدان العلم وجفاف موضوعيته؛ كلا، بل هو يستوعب ويتشرب روح الموضوع عن طريق فكرة، ثم يأخذ في التفنن والإبداع الفني في تصوير معانيه وتجسيدها وابرازها وإشاعة الحياة في كل ما يعرض؛ فإذا هي قطع فنية من حيث العرض والتصوير علمية من حيث اعتمادها على دعائم الفكر. فإذا قيل أن بعض الكتاب يؤدب الفلسفة، وبعضهم يفلسف الأدب فالدكتور زكي يعلم الأدب ويؤدب العلم؛ لأنه قد وفق في تطعيم الأدب بروح العلم، أو في عرض العلم بحيوية الفن وجاذبيته. هذه هي السمات التي تطبع تلك المقالات التي جمعها الدكتور زكي في كتابه الأخير (ساعات السحر) فأنظر كيف يتناول موضوع الشباب فيلم به من جميع أطرافه في مقالة (يعجبني الشباب إذا) فيقول: (يعجبني الشباب إذا هو تأنق وترقق في غير أنوثة. فيعجبني فيه الوجه الطليق النظيف والشعر الممشوط، فتلك زينة خليقة بابن آدم. ومع هذا فهو عند العمل يخلع التأنق وينبو عن الترقق، فإن كان العمل زيتا أو فحما انغمس في الفحم والزيت ولم يشح بوجهه عن الأعفرة) وبصور دور(878/49)
الشباب إذا أدرك أن الصبا عهد متعة وكذلك عهد تحصيل. أما المتعة فلأن الشباب أقدر على متعة وأحس لذته، وكل لذة عنده جديدة، وعمره بعد ذلك كعمر الورد قصير. وأما الدرس فلأن الدرس متعة الإنسان لنفسه، وعلى عمد يقيم بناء مستقبله، ومستقبله إذا ساء بكي عليه وبكي وحده وبكى حين لا ينفع بكاء.
ثم لأن الدرس حصة الإنسان في مواصلة المدينة ووفاء بمسؤولية للقبيل وللامة والجيل) وعلى هذا النسق من اتزان الفكر وعمقه وطلاوة العرض ودقته بقدم مقالاته عامة ومقالات هذا الكتاب خاصة.
محمد عبد الحليم أبو زيد
ملائكة وشياطين
للشاعر عبد الوهاب البياتي
ظل الشعر في العراق أقرب فنون الأدب إلى العراقيين. . .
ذلك لأنه قريب من ذلك المزاج العربي الأصيل الذي حفل بالشعر وجعله معبراً عن عواطفه وإحساسه.
وجاءت دوافع السياسة، وبواعث الحرية والاستقلال في أوائل القرن العشرين فأصبح الشعر معبراً عن آلام الملايين وأحلامهم، موقظاً الحماس، راسماً لهم الطريق السوي للانتصار في معركة الحرية، فرأينا موجة الشعر السياسي التي درسها صديقي الأستاذ إبراهيم الوائلي، ممثلة الثلاثة الأعلام من الشعراء العراقيين الكاظمي، والرصافي، والزهاوي. فطغى على سائر أغراض الشعر وظل الشعر السياسي في المقام الأول بعد الثورة العراقية، وإنشاء الحكومة الوطنية، ذلك لأن العراقيين الطامحين إلى حكومة مستقلة تمام الاستقلال، لم يرضوا بحكم تسيره يد خفية وتوجهه وفق مصالحها وأهدافها الخاصة، فضج الشعراء بالشكوى وناضلوا ضد طغيان الحكومات وتدخل الدخلاء، واضطراب الحياة الدستورية. . وما زال بين الشعراء العراقيين من يترصد الحوادث على مسرح الحياة السياسية ليعبر عن رأيه شعر!!
ولا تظن أن العرق أتصل بالثقافة الغربية، والحضارة الأوربية منذ أمد بعيد؛ فالظاهر أن(878/50)
حوادث السياسة، وتناحر الناس، ونضالهم لتأسيس نظام حكومي متقن صرفهم عن التطلع إلى تلك الآفاق البعيدة في محيط الغرب. غير أن الحرب العالمية الثانية في الفكر والثقافة وأمور الحياة. ففتح الجيل الحاضر عينيه على بيئة قاسية على نفسه، بيئة يتراكم في أرجائها ترأت عظيم من التقاليد الشرقية المحافظة. وهو بعد ذلك يسمع ويقرأ مما عبر إليه الآفاق الرحبة، والآماد البعيدة، وثارت نفسه على تلك البيئة التي لم تحترم هواه، ولم تنفس عن أماني نفسه.
فنشأ عندنا الشعر المنطلق في تعبيره، المنطلق في إحساسه.
وهو بعد أثر من آثار الكبت العاطفي، والحرمان الطويل. .
ولا يكلفك التنقيب عن ذلك مشقة. فسأحدثك عن شاعر شاب يمثل تلك الفئة وهو الشاعر الشاب عبد الوهاب البياتي.
وأول ما يبهجني أن ديوان الشاعر يعطيك صورة واضحة لنفسه. صورة تكون لك الشخصية الفنية في أروع صورة، أدق ملامح، وأرهف تعبيراً.
فالشاعر المنعزل لا تفوتك صورته وهو في محراب العزلة حاملاً على عاتقه رفات أحلامه، وأوراقاً يابسة من آماله وأمانيه:
يا قلب ماذا!. . . كل لحن مات في قيثارتي
اليأس والأوهام والحلم الوجيع ودمعتي
حتى خيالات الجنون تنفست في عزلتي
ولهاثها المسنوم أمطار تسيل بظلمتي
هذا اليأس المرير، والنغم الباكي يلاحظان في كل قصيدة من قصائد الديوان.
وفي كل قصيدة من قصائده تجد هذه العناصر مجتمعة: أسى ومرارة وحرمانا وظمأ ولهفة روحية وضيقاً بالواقع، وخيالا نخلقه تلك النفس التواقة إلى الحرية. حتى حبه الذي يطالعنا به الديوان خيال، وجبيبتة فكرة بلورتها تلك اللهفة الظامئة أنظر إليه كيف يصور محبوبته في قصيدة بعنوان (إليها)
فكرت أنت جسمت أشواقي ... وأضاءت بنورها أعماقي
واستحمت من قبل ميلان فكري ... في خيال الطبيعة الخلاق(878/51)
صورة أنت من قديم الزمان ... رسمتها مدامع الحرمان
وشعاع الخلود أضفي عليها ... رائعات الظلال والألوان
فالحب عنده تلك اللهفة إلى المجهول، وذلك الشوق الهائم إلى الصدر الحنون والقلب الرءوم، والنفس الحادية التي تفيض ظلالها العذبة على الشباب المحزون. والديوان كله لا يعطيك صورة لامرأة بعينها بحيث تحس بكيانها المميز، وشخصيتها الواضحة. بل هي فكرة من الفكر. . أو عاطفة من عواطف الشاعر الظامئ إلى صورة مثالية تتكون ملاحمها من الرقة العذبة، والحنان والحب!!
فهذا الحرمان الواضح في الديوان مد الشاعر بقوة على الخلق الفني الممتاز، وأرهف حسه، وجعله يهيم في عوالم من خياله، وانسراح عاطفتهّ. . وفي الديوان رحلات جميلة في عالم الشعور. . . رحلات الحالم المنزوي بصومعة من أحلامه:
وما ذلك الحالم النزوي ... بصومعة الفكر إلا خيال
يحس بصوت الحياة البغيض ... يناديه في قسوة أن تعال
فيمعن في حلمه ساخراً ... بأطيافها الشاحبات الثقال
بمهزلة قيل عنها: الشروق ... بأفكوهة قيل عنها: الزوال!
وأغلب قصائد الديوان صور وهياكل لصور بعضها موقف أعظم التوفيق لنقل الإحساس إليك. ولا تنتظر مني أن أنقل إليك بعض تلك الصور لأنني أود أن تطالعها هناك في الديوان لتطلع على ناحية مشرقة في الشعر العراقي الحديث. . .
إلى هنا أقف مع الشاعر الشاب لأنفذ إلى بعض المآخذ في الديوان!
وأهم تلك المآخذ ذلك الاضطراب الذي تلاحظه في بعض القصائد، وهو راجع إلى تلك الصور المبهمة التي يخلقها الشاعر، وإلى ذلك الانطلاق في التعبير، والانسياق مع عاطفة غامضة، أو شعور يحسبه ولا يبينه. . وأحس صورة لذلك الاضطراب (حانة الشيطان) فهي قصيدة (سائحة!) لا ترتبط مقاطعها برابطة، ولا تنتظم بوحدة من فكر أو شعور. . تقرأها فسرعان ما تحس بتواكب الصور التي تدفعك في اتجاهات مختلفة، وتنقلك من محل إلى آخر وأنت لا تعرف على أي نظام تسير!
ففي بداية القصيدة تصور بعينين (أطلق جفنها السهر) - يقصد جفنهما! - و (فم على(878/52)
الأقداح يحتضر!). . ويختتم المقطع الأول بأن جراح الكأس نكأت فارتعشت (آه) يقص جناحها الضجر! وفي المقطع الثاني يصف هذه (آه) كأنها المصباح في الحان، أو كأنها عينان من حجراً - ولا نعرف الصلة بين المشبه والمشبه به!! - وعلى مثل هذه الرابطة تمضي القصيدة. . .
وليس هذا كل ما يلاحظ في الديوان. فهناك تشابيه متضاربة لشيء واحد مثل قوله:
عيناك عاصفة هبت وما تركت ... على صباي سوى طيف من السقم
عيناك مقبرة في صمتها نسجت ... عناكب اليأس أكفانا من الظلم
ولك أن توفق بين العاصفة والمقبرة الصامته!!
وفي الديوان كثير من التعابير لم أستسغها من نوع (النجم) فيه ضحكة سوداء أيبسها الأوام) و (حيث الأزاهير لا تضيق إلا على همس الطريق) وآه (كأنها عينان من حجراً أهدابها أنفاس سكران)!! ومثل هذه التعابير.
ولكن هذه المآخذ القليلة لا تمنعنا من أن تقول: أنه شاعر موهوب.
غائب طعمة فرحان(878/53)
القصص
دموع من الماضي
للأستاذ أحمد شفيق حلمي
وهرعت إليك يا سيدي العمدة، لأنفض بين يديك جل أمري، من همومي وأتراحي. . . وأنا حطيم القلب كسير الخاطر. وأنت تعرف كيف يقتل القلب الحزن المضيء والبكاء الأسيف! وكيف يعصر الروح أنين الثكالى والنواح الحزين!
(فرج الله) ولدي الوحيد يا سيدي العمدة. (فرج الله) ربيعي في الخريف العابس! أظنك تعرفه جيداً! لقد حدثتك عنه ودموع الفرح تتراقص في عيني. . . بل أنت نفسك قد ساهمت في وجوده! لقد ولد بمالك المبارك، فأرسلت للقابلة أن تأتي، وزوجتي (فطومة) تعاني آلام المخاض، وتتلوى كالثعبان! أرسلت في طلبها من أجلي أنا الأجير المسكين. فاكتحلت عينا طفلي بالنور على يديها المباركتين الصالحتين. . . واندفعت وقتذاك نحوها بفرح ألح عليها أن تأخذ بطة سمينة، وثلاثة أقداح من الذرة، وهي كل ما أملكه حينذاك! كدت أذوب خجلاً وأنا أتقدم إليها بالهدية المتواضعة. ولكن ما العمل وضنك العيش بدفع بنا إلى الفاقة!؟
وأظنك تذكر ذلك الفرح العظيم الذي أقمناه، وقد أتم (فرج الله) سبعة أيام من عمره. . جاءت المولدة في الصباح، ومعها من البخور أصناف شتى من المسك والكافور، وبعض أنواع النباتات الخضر. وأقبلت نحو فطومة، وقبلتها في وجهها، ثم جعلت تتمتم بدعاء خاص. . . وهي تهز شيئاً تحمله فوق رأسها، ثم أنهضت فطومة، فأطلق البخور. . . ولفت حوله سبع مرات والأطفال تتصايح في مرح، وراحت المولدة تطوف في أرجاء الدار، والطفل بين راحتيها، والنسوة من حولها يلقين الملح على الرءوس، ويهللن بالأفراح!
وتقدمت أنا وألبست الطفل حجاباً يحفظه من الأرواح الشريرة، وأخبرتني بعض النسوة أن أحمل معي ليلة الجمعة الميمونة ملابس الطفل إلى ضريح الشيخ الأتربي، وهناك أغمسها في الماء المبارك الذي غسل به المقام الطاهر كي يطيل الله في عمره، ولكني في غمرة الفرح بطفلي نسيت أن أفعل وأسفاه.(878/54)
- 2 -
وكانت فرحة لم تتم، وبشر ذاب في موجات الأسى والحزن.
إني أذكر يا سيدي العمدة، ما قالت القابلة وقتذاك. . .؟ فانتزعنا فرج الله من بين أحضان أمه الحبيبة، وهي من الأسى ترسل الدموع سخينة حارة من أجل فرج الله، وقد ضرب بينها وبينه بحجاب، فهي لا تراه وهو لا ينعم بها. وما العمل وقد فرق المرض اللعين بين أم ووليدها!
وطفق الصغير ببكي في لوعة، وأنينه اللهيف إلى أحضان أمه الحبيبة لا تنقطع أسبابه أبداً. . لا تسألني وهو الوليد منذ ليال كيف يبكي؟ كيف يفهم أن هذه المرأة هي أمه؟ بربك لا تعجب! فهذه صلة الأرحام، وحكمة عالم الغيوب!
كان فمه الدقيق كفم الثعلب ينفرج في بطء، ويداه اللدنتان كريان البرسيم تضربان الهواء بعنف، وقدماه العاريتان تحاولان الخلاص من الغطاء السميك، وقد أحكم حول جسده خوف الزمهرير. .
كان يبكي من أجل الرضاع، من أجل ثدي أمه الرءوم، وقد انتزع منع انتزاعاً! فعلت المستحيل لأسكن من بكائه الدائم، فطرت إلى الغيط جزعاً ملهوفاً، وعدت فرحاً بقدر مملوء باللبن والحليب. وتقدمت نحوه بقلب واجف، وخطى خفيفة، ولساني يلوك الدعاء لولي بلدنا الصالح الشيخ الأتربي. إني أخشى أن يصرخ. إني أخشى من كل شئ أن يمسه بسوء، وحملته بحنان بين راحتي، وتحسست الحجاب الملتف حول عنقه الصغير، وأنا أبتهل للأولياء الصالحين ألا يبكي فيمزقني ألماً وحسرة. واحتضنته بناظري متوسلاً مشفقاً، واقتربت أصابعي بالزجاجة من فمه الصغير. لم يبك فملأني الفرح، ولبستني الشجاعة، وانسابت قطرات اللبن في فمه الصغير. . . آه يا قلبي! لقد صرخ، وضرب بيديه الهواء بعنف، فانفلتت الزجاجة من بين أصابعي، وسال اللبن على الحصير القذر، فوسدت ولدي الفراش، وتركته يائساً وأنا ملتاع النفس حزين!
- 3 -
خرجت إلى الطريق، وقلبي أشبه بقلب كل أب، رقيق كالغصن الأخضر، صاف كعين(878/55)
الديك، حنانه يحاكي حنان الأم! خرجت أتعثر في الحارات، أضرب أخماساً في أسداس، وأنا أسير تحت كابوس مفزع ثقيل الوطأة. . . رأسي أشبه بساقية تصر في نواح كئيب، قدماي من فرط الضنى تنوءان بحملي. . .
وجعلت أخبط كالأعمى في مماشي الحقول، وقد نبت فيها السريس والجلوين. رأيت جماعة من الفلاحين في ظلال وارفة تنبسط تحت شجرة جميز ضخمة، والبشر باد على محياهم، والسلام ران على قلوبهم. . . رأيتهم يأكلون مشاً وبصلا وحزمة جلوين! ولمحت إلى جانبهم ثوراً وجاموسة يلتهمان عيدان ذرة. لشد ما أتلهف اليوم إلى ذلك السلام العجيب، وقد لفع القرية بوشاح المحبة والأمن الخير. . . وأنفاس الريف الهادئة تنفث في سكانها الحياة! الشمس ساطعة، والحقول الخضر منبسطة أمامي على مدى الطرق. . .
والديكة تنبش الأرض وتصيح. . . والأوز يعوم في القنوات المعشوشبة، وأبو قردان يحط في أسرابه البيضاء على هام النخيل، يرقب عن كثب ثوراً يحرث الأرض، وصاحبه يحثه على العمل وهو صبور يغني. . . يا لله! الكل فرح راض بما قسمت له يا رب، أما أنا الحزين المهتاج فقد كدت أسقط في جدول ينساب في حقل باشا عظيم!
وأخيراً وصلت إلى امرأة عجوز صالحة، ونفضت بين يديها ما ناء يحمله قلبي. قالت لي: لا تحزن يا بني، وإني لأعجب كيف يعصر اليأس قلبك، وبركة الشيخ الأتربي تعم القرية، وتفيض على شاطئيها)!!
ثم استطردت تقول: أتعرف أم عمروس جارتنا الصالحة المؤمنة؟ اذهب إليها فهي طيبة القلب، ويداها مملوءتان بالبركة، علها تعود معك فتشفى طفلك السقيم، وخذ معك لها من (الدوار) فطيراً وبلحاً). . .
- 4 -
وبقلب طيب خاو إلا من رحمة الله، اتخذت طريقي إلى مقام الشيخ الأتربي. وهناك توضأت من المبضأ النظيفة، وصليت لله ثم تلوت بعض الأوراد، ولم أنس أن أقبل قضبان الضريح، وأن أطوف حوله سبع مرات، وأنا أهمس بكلمات من ذوب قلبي ثم خرجت من المقام، وأنا أحس بالريف الحبيب! حقوله الخضر فسيحة كالأمل. . . يمرح فيه المساكين! هواؤه المنعش، ندى كحبات الطل، يهمس للزهور في غمرة الخريف! الدنيا كلها ترقص(878/56)
فرحة طروبة
ووصلت إلى كوخ مسقوف بالبوص تسكنه (أم عمروش) المرأة الورعة المتواضعة. أخبرتها بما حدث، ثم ناولتها فطيراً مندى باللبن الرائب، وتوسلت إليها أن تعود معي إلى الطفل المسكين، فسألت (كم أجري؟ وأين مسكنك؟) فقلت: أما المسكن فهو قريب من هنا، وأما النقود فأنا مفلس منها!! أرجو منك يا أم عمروس أن تنقذي ولدي، استحلفك بيوم الحصاد وهو قريب، أن تعودي معي، وهنا قد يأتي الفرح فأعطيك ما سوف أستدين!
وطالت المساومة، واعتدم الجدال، وهي لا تلين ولا تستجيب لرجائي. فهممت أن أرجع يائساً أمري لخالقي حلال المشكلات!
ولما ابتعدت عنها نادت بصوت مرتفع: انتظر يا عم مخلوف سأذهب معك، والله يفك كربتي كما أن أفك كربة الناس! وطرنا إلى البيت أنا فرحان مطمئن، وهي لاهثة تحث الخطى ورائي
- 5 -
طفلي الحبيب يطعم بعد جوع، ويسمن بعد هزال!؟ لك الله يا طفلي، وقد نادت أيامك السبع بالأتراح. وأنت تخطو وتيداً على أبواب دنياك! وما ذنبك أيها الحبيب الغالي والدنيا شرور وآثام!؟ أمك وأبوك يعضهما الفقر ويعصرهما الحرمان.
أبوك يا (فرج الله) فلاح مسكين يروي الحقل بعرقه ويحصد الهشيم آخر السنة! صاحب الحقل يلح في طلب الأجر، ومالك الماشية يقصدنا مع الهلال العربي كأنهما على ميعاد!. والدائنون النهمون يزمجرون في غضب، ويتوعدون بحقد مرير وليس للفرار منهم من سبيل! كم يبقى له بعد ذلك إلا الحزن يضنيه. والأسى يعصره. . . وهموم العيش ترمي به في أحضان الحرمان!؟
ولكن (فرج الله) سيجعل ظلامي فجراً باسماً. . سوف يأتي الرغد يحث الخطى خلف صفحته المضيئة. . تكثر الآمواه في الترعة، ويزدهر الحقل، ونجى الثمر فيكون خيراً عظيماً.
. . . وأفقت يا سيدي العمدة على عتبة داري، والنحيب المحرق يطرق مسمعي بقسوة، وزوجتي (فطومة) تصرخ وتصيح: (ولدي! ولدي)! والنادبات من حولها يلطمن الخدود،(878/57)
ويضربن على الصدور، ويتمايلن كالمجنونات!
ورفعت رأسي الأشيب لأشهد ما جرى، ثم أطرقت إلى الأرض، وتحدرت على وجهي الشاحب دموع سخينة. .
وساد المكان صمت كئيب ثم استرطد يقول:
(أعرفت ماذا جرى أيها العمدة؟)
ثم أشرقت عيناه بالدموع. . وهو يتثبت بخيط رفيع من الماضي يقص منه مأساة دنياه:
(وهناك في الحقل لمحني الناس أخبط في طريقي، إلى أين؟ لست أدري! وعلى الأعشاب الخضر في مماشي الحقول كنت أحث الخطى كأنما تقول لي أنفاس خفية! إلى هناك. . .؟ وبعد هنيهات تسلك قدماي إلى مقام الشيخ الأتربي، وغمر الكون حين ذاك تسابيح عطرة، تنساب مع سكون الريف إلى أعماق الناس! تدعو لمبدع السكون بالصلاة.
أحمد شفيق حلمي(878/58)
العدد 879 - بتاريخ: 08 - 05 - 1950(/)
صور من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
. . . سمعت حديث الفلاح الذي حطمته رزايا الحياة وطحنته بلوى الزمن، فأحس مرارة العيش حين مكر به الطبيب فاستنيه من قوت عياله ومساك روحه لبذر ابنه بين يدي الإهمال يتهاوى تحت صفعات المرض القاسية حتى لفظ نفسه الأخير؛ وحين قسا عليه سعادة البك فامتص زهرة شبابه وغضارة عمره ثم ضن عليه بفضلة من المال كان يترجاها عسى أن تشبع شره الطبيب فيحنو على ابنه المريض المعنى؛ وحين طرده رب العزبة من رحمته فقذف به إلى عرض الشارع وحبس عنه صبابة من رزق تقيم الأود وترد غائلة الجوع. . . سمعت حديثه فتدفق في قلبي أنات نفس آدها الحزن وأمضها الأسى، فران على المجلس - مثلما ران على - صمت فيه روح الرثاء، وشمله سكون فيه معنى العزاء، وتراءى الشيخ في حديثه كأنما يوقع ألحان روحه على وتر أصابه الوهن والبلى فهو يوشك أن ينقد من طول ما عانى لولا بقية من عزم وإيمان، وأحس كل واحد من رفاقي بتاريخ نفسه المكلومة يهتز فيهب من غفوة ويصحو من سبات، وهفت الأنفس إلى أن تنفض شكاتها على عيني وإن لكل واحد قصة بتوثب الظلم من جلالها ويفور الجشع من أضعافها ثم تظفر ثورة القوة باستخذاء الضعف وتصرع كبرياء الثراء ذل المسكنة، ولكني أطرقت في صمت كأني أستروح من تعب وأتنفس من ضيق.
يا عجباً! هذه النفوس التي كانت - منذ ساعة - تتألق بالبهجة وتهتز بالمرح، قد استحالت - في لمحة واحدة - إلى زفرات حرى تفعم الجو بالشجا والشجون لأن الماضي العقيم قد صحا فيها فنسفها نسفاً!
وآذاني أن أجلس في هذا المكان الجميل، في مهرجان الربيع، بين الصمت والإطراق أسمع أنات صامتة وأحس شكوى مكتومة، فقلت (ما بالكم قد سيطر عليكم الأسى وغمركم الوجوم كأنكم كنتم تجهلون؟
فقال قائل (آه - يا سيدي - إن الضلوع هنا لتنضم على حسرات مرمضة لو زفرت على هذا الربيع الأخضر لاستحال - دفعة واحدة. . إلى هشيم تذروه الرياح، وإن النفوس لتكتم(879/1)
أشجانا لو اندلعت لاضطرمت الدنيا بجحيم يتلهب أوارها، ولكن الصبر. . . الصبر والإيمان، يا سيدي!)
وقال آخر (عزيز علينا أ، ننشر عليك من خبت الحياة ما يزعجك فيفقدك متعة كنت تتمناها هنا).
وقال ثالث (إن اليد التي تلوثها الجريمة مرة واحدة هي آثمة لا ترحض تستطيع مياه الأرض أن تغسل عنها الرجس، وإن القانون الذي يكبل بالحديد من يسرق كيزان الذرة ليرد بها سغب أولاده الجياع ليعجز عن أن يردع اللص. . . اللص الذي يتسربل بالغنى والجاه فيستلب من الفقير قوت يومه وهو أحوج ما يكون إليه!)
وتناثر الحديث حوالي يئن بالشكوى حيناً ويغلي بالثورة حيناً، فقلت (وي كأن في الحياة سراً قبيحاً بتواري خلف أستار الطبيعة الوضاحة وهي تتألق بالحسن والجمال!)
فقال قائل: (لو شئت لكشفت لك عن أسرار من الشجن، ولهتكت حجاباً عن خفي من الألم).
فقلت: (هاتة)
قال: أما قصتي فهي قصة الغلظة التي لا تعرف الرحمة، قصة القسوة التي لا تؤمن بالشفقة.
لقد غبرت زماناً أعيش في عزبة رجل من ذوي الثراء والجاه أقنع بالكفاف وأرضى بالشظف، أغدو إلى الحقل لأنزف قوة الشباب وفراهة الفتوة، وأروح إلى الدار لأسكن إلى عطف الزوجة وحنان الولد، لأجد إلا أجر يومي وإلا غلة قراريط تافهة أستر بها عورة الأهل، وأرد بها شماتة العدو. وأنا - إذ ذك - فتى في فوره النشاط وذروة الصحة، لا أنكص عن عمل ولا أنكل عن جهد. وتناهي خبري إلى صاحب العزبة فشملني بعطفه وغمرني بفضله فأحسست بالرخاء والخفض، ولمست الهدوء والراحة.
وغاظ رئيس العمال أن أفوز بحظوة رب هذا الأرض وأنا عامل حقير، في رأية؛ وخشي أن أستلبه مكانته أو أن أنتزعه من مركزه فأنطلق ينفت سمومه حولي ويدرس لي السم في الدسم، وأنا في لهو عن نوازع نفسه الشريرة، وفي غفلة عن دوافع روحه الوضيعة.
وذهبت جهود الرجل هباء حين أعجزه أن يسول لصاحب العزبة برأي، أو يوسوس له بأمر، فانطوى على هم يتنزى في صدره فيسلبه القرار والسكينة، وهيت روح الشر في(879/2)
نفسه جياشة تدفعه إلى غاية، فراح يرهقني بالعمل ويضنني بالجهد ويتعهدني بالإهانة، وأنا أحمل النفس على الصبر وأكرهما على الصمت.
وضاقت حيلة الرجل فركب رأسه فدس لي رجلاً من العمال يتحرش بي - أثناء العمل - في قسوة، ويثير كوامن نفسي في سفاهة، فلما حاولت أن أرد الكيد نحسر صاحبه لم يرعني إلا كيف العامل الأجير تهوى في عنف على وجه رفيقه. . . وجهي أنا. . . فطار للطمة حلمي، وثارت كرامتي، اندفعت صوبه أذيقه وبال جهله وغفلته. واستصرخ الرجل رفاقي فجاءوا يحمون الظالم من المظلوم، وأقبل رئيس العمل يتهدد ويتوعد، فأغلقت سمعي من دون كلامه ثم تركت العمل - توا - إلى حيث صاحب العزبة، رب هذه الأرض، وسيد هؤلاء الناس.
ووقفت بين يدي صاحب العزبة أقص قصة المعركة التي اجتاحت العمل والعمال هناك، في الغيط. ونفضن صاحب الأرض بنظرة قاسية ثم قال: (أحقاً ما تقول؟)
قلت (إي وربي)
ثم تزامر الناس في صحن الدار، وجاء العمال - رفاقي - يزورون حديثاً يبتغون به مرضاة الرئيس، ووقفت مرتبكاً أنظر حوالي في ذهول، أفتش عن الحقيقة وهي تتوارى خلف سجف من الزور والبهتان، فما وجدت في هذا الجمع رجل صدق وإيمان، وأسقط في يدي فملكت عن الحديث واستسلمت.
فقال في ثورة (إذن حكمنا عليك بكذا وكذا من الجنيهات تدفع بعضها عاجلا والباقي آجلا، وموعدنا محصول القمح).
فقلت في توسل (وأنى لي - يا سيدي - بهذا المبلغ الكبير وأنا رجل فقير؟) فقال في كبر: (لست أقبل مراوغة ولا مماطلة ولا دفاعاً) قلت (ولمن يكون هذا المبلغ الجسيم؟) قال (ومالك أنت ولهذا؟ ألا تعلم؟ إنه لصاحب الأرض التي امتهنت كرامتها واستجدت حرمتها وعبثت بحماها، لصاحب العمل الذي ضيعته وبذرت فيه الفوضى، لي. . .) وعجبت لحديث هذا الثرى الشره فأردت أن أقذف في وجهه كلمة عنيفة جاسية، فقلت (أو ترضي - يا سيدي - أن تنتزع مني قوت عيالي ومساك روحي غضباً؟) فقال في ترفع (هذا كلام رجل خلو من الأدب خلو من الحياء، أخرج فأنت مطرود منذ الساعة).(879/3)
وخرجت من لدن صاحب الثراء العريض أجرر أذيال الخيبة والفشل وأحس مس الفاقة والضياع.
وجذبني الأمل إلى رفاق سيدي وإلى ذوي قرابته، أستعينهم واستعطفهم، عل واحداً يشفع لي لديه فيخفف من حكمه ويرد علي عملي، ولكنني وجدت قلوباً صماء لا تلين، وعقولاً مغلقة لا تتفتح، وأبواباً موصدة بأقفال من الكبرياء والترفع، فرجعت إلى أهلي أحمل في نفسي همين. هم التعطل وهم الجوع.
وانطوت الأيام تنضج قمحي وفي النفس أمل وفي البطن شهوة، فما راعتي الأعمال صاحب العزبة يبكرون إلى حقلي - على حين غزة مني - يحصدون القمح ويحملونه إلى حيث يكون بيدراً صغيراً بين بيادر كبيرة. ووقفت أنظر ومالي بهم من يد فأدفع الظلم أو أظفر - عنوة - ببعض قمحي وهو جهد السنة وأمنية القلب.
ونظرت حولي فإذا الناس يهتزون من فرحة أيام الحصاد ويستمتعون بلذة الجني، إلا أنا. . . فيا لقسوة الحرمان! ويا لمرارة الضيق!
ولا عجب - يا بني - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
كامل محمود حبيب(879/4)
صحائف مطوية في السياسة العربية
محاضرة عن الإسلام
للأستاذ أحمد بك رمزي
في يوم من أبام شهر يناير سنة1936، وكنت أشغل وظيفة قنصل مصر في مدينة القدس، زارني وفد من هيئة جمعية الشبان المسيحية، وقدم إلى برنامجاً عن محاضرات العام، وأشار الوفد إلى دعوة حضرة الأستاذ أحمد بك لالقاء محاضرة عن الإسلام في دار الجمعية.
وذكر لي أن العادة جرت عند تشريف أستاذ مصري ذي مكانة خاصة، أن يرأس الاجتماع قنصل مصر لتقديمه، ولذلك عرض الوفد أن يكون الاجتماع برئاستي، فإذا قبلت هذا وجهت الدعوة مع ذكر اسمي عليها، وقد تمهلت في القبول؛ فلما لمس الوفد ترددي، أطلعني على نماذج من بطاقات الدعوات السابقة فقرأت عليها أسماء من تقدموني في هذا المنصب. هنا لم أجد ما يدعو إلى رفض هذه الرئاسة، وهي بطبيعتها شرفية أوقل ذات طابع صوري، وليس فيها ما يدعوا إلى تحضير كلمة مطولة؛ وإنما يقتصر التقديم على إلقاء عبارات معينة معروفة. فوعدت الوفد بتلبية دعوته وخرج من عندي وقد اقتنعت من جهتي بأن المسألة قد انتهت ولم يعد هناك ما يبرر العودة إليها.
ولكن في يوم الاثنين 20 يناير سنة 2936 وقد بدأت عملي كالعادة، وجدت على مكتبي عدة برقيات فيها ما يأتي.
(ترؤسكم جمعية الشبان المسيحية التبشيرية الاستعمارية، إساءة إلى عرب فلسطين ومسلميها، الذين يرون في هذه الجمعية خطراً يهدد كيانهم الديني والسياسي).
وقرأت في برقية بإمضاء الأستاذ عجاج نوبهض ما يأتي:
(عرب فلسطين مقاطعون جمعية الشبان المسيحية منذ الاحتلال، لكونها رائداً مقنعاً للاستعمار وللان لم يقف خطيب عربي مسلم على منبرها، فخطبة الأستاذ أحمد أمين تحت رئاستكم، جارح لكرامة مليون عربي؛ فأحرار شباب العرب باسم الكرامة القومية يرجونكم العدول).
ولم أكد أقرأ هذه البرقيات وما يحتويه بريد الصباح، حتى جاء وقت المقابلات والزيارات،(879/5)
فإذا في مقدمة الحاضرين وفد عربي، يتقدمه حضرة نبيه بك العظمة والأستاذ الصديق سامي السراج، ولما انتظم المجلس، بدأ الحديث عن المعرض الزراعي الصناعي الذي كانت تقيمه الجمعية الزراعية الملكية في ربيع سنة 1936، وعن رغبة أهل فلسطين العرب في زيارته، لما لهمن أهمية خاصة في توطيد علاقتهم مع مصر الشقيقة الكبرى، ثم انتقل الحديث وكأن لا صلة بين الموضوعين إلى المحاضرة، التي أزمع الأستاذ أحمد أمين بك على إلقائها بجمعية الشبان المسيحية، فكان من رأي الوفد المبادرة إلى الاعتذار عنها. أما أنا فقد أكتب للوفد أنني سأمكن أكبر عدد من أهل فلسطين من زيارة المعرض المصري، والتعرف إلى إخوانهم المصريين. أما فيما يخص الاعتذار عن إلقاء المحاضرة، فقد أبنت لهم بوضوح أنني قد وضعت كلمة لتقديم لمحاضرة أنني قد ارتبطت مع هيئة لجمعية وسأقوم إلقائها على كل حال سواء حضر المحاضرات أم اعتذر عن إلقاء محاضرته، وكان مما قلته لحضراتهم وهم يذكرون ذلك جيداً (من أين تأتون لي بفرصة أخرى نتكلم عن الإسلام في قاعة جمعية مسيحية؟ أوجدو إلى هذه الفرصة في مكان الجمعية كما تقولون أو أي مكان آخر ينطبق وصفها عليه من ناحية التبشير والاستعمار كما تقولون، وأنا مستعد للتراجع وجعل الإلقاء في هذا المكان الذي تختارونه. أنني لا أنظر إلى المسألة من هذه الوجهة بالذات وإنما أقول أن فلسطين في حاجة ماسة إلى جمع كل القوى التي يمكن أن تلتئم مع عمل القائمين بنهضة العرب وكفاحهم.
ولا أشعر بأن هذه الجمعية ضدنا بل هي أمام تيار الصهيونية الجاف من مصلحها أن تقف في صف العرب، ومن مصلحتنا أيضاً أن يجعلها في صفنا؛ وان لم تقف معنا الآن فسيجرفها التيار حتما ويقتلع جذورها معنا).
وفي صباح يوم 23يناير قابلت المستر فرنس وكان يشغل وظيفة مدير المطبوعات لحكومة فلسطين - التقت به في ردهة فندق الملك داود فاخبرني بأنه اطلع على جرائد الصباح العربية وقال (إنها قد خصصت جزءً كبيراً من أعمدتها للاحتجاج عليك وعلى الأستاذ أحمد أمين بك. فماذا سيكون أمام هذه الحركة؟). قلت قد أعددت كلمة لتقديم الأستاذ وسأحضر لالقائها في الموعد المحدد كما اتفقنا، وللآن لا أعلم عن مجيء الأستاذ شيئاً.)
ولما ذهبت إلى دار القنصلية المصرية وجلست لعملي أعطيت لي مكالمة تليفونية مع(879/6)
حضرة الأستاذ أحمد أمين بك وكنت لم أتشرف بمعرفته بعد، فقال لي (أنه حضر إلى القدس وهو يسعده أن يقابلني) فلما سألته أين ينزل حتى أقوم بزيارته أولا، لم يشأ أن يعلمني بالمكان الذي نزل فيه وإنما اخبرني أنه سيحضر لزيارتي في الساعة الثالثة. ولما حضر في الموعد قال لي (أعذرني لما سببته لك من متاعب).
قلت له (لا محل للاعتذار إذ أنني لم أتعب نفسي لشيء بعد) وهنا التفت إلي وقال أنه مستعد لإلغاء المحاضرة إذا كان الاستمرار في مواجهة الحالة القائمة قد يسبب متاعب لي.
قلت له: (أننا غير مسئولين عما تأتي به الأقدار، ولقد وضعنا في هذا الموقف فعلينا أ، نقبل به ونسلم، وأن نواجه المتعنتين بالمنطق الذي يتفق مع الموقف).
وهنا قلت له: (ترى لو دعي مبشر للخطابة عن المسيحية في مسجد إسلامي، أتظن أنه يترك هذه الفرصة تفلت من بين يديه؟ أقول هذا وقد اطلعت على ما نشر عن بعض المبشرين الذين أقحموا أنفسهم ومن غير دعوة سابقة، فتقدموا للخطابة وسط الجماهير الإسلامية عند انتهائهم من صلاة الجمعة، فكانوا في موقفهم هذا دعاة يدعون إلى دينهم بطريقة لا يستسيغها العقل. ومع ذلك فنحن مدعوون، فكيف نعتذر عن انتهاز فرصة مثل هذه؟ أما من ناحيتي فقد عزمت على تقديمك بكلمة وسألقيها على كل حال). فلتفت ألي وقال (نعم ليس من الرجولة في شئ أن نعتذر الآن) قلت (أنني أن أتردد من تقديمك ولكني أن أعلمك بأن تقديمي سيأتي في كلمة أطول من المعتاد. حتى أرد على هذه الحملة القائمة والتي أعتبرها هامة جداً في نظري بحيث إذا لم أوقف في الرد عليها فلن أستطيع أن أقوم بأي عمل إنشائي في هذا الحقل العربي هنا).
وافترقنا بعد أن أعلمني أنه سيلقي كلمة في نادي مدرسة روضة المعارف الإسلامية (لا جمعية المقاصد الإسلامية كما ذكرها عزته في الصفحة 247 من كتاب (حياتي) فإن جمعية المقاصد الإسلامية هي في بيروت وليست بالقدس) وسئقدمه هناك لجمهور المستمعين المسلمين حضرة الأستاذ حسن الأستاذ حسن أبو رحاب.
وجاء موعد المحاضرة في دار جمعية الشبان المسيحية، وهي دار جمعية الشبان المسيحية، وهي دار فخمة متسقة الأرجاء - أرجو أن يكون للمركز العام للشبان المسلمين مثل هذه الدار في مدينة القاهرة - وقد خصص لالقاء المحاضرة البناء الذي يشغله المسرح،(879/7)
فامتلأت مقاعد بالمحاضرين وتقدمت بإلقاء كلمة لا أجد غضاضة في نفسي من نشر بعض مقتطفات منها. وقد حدث فعلاً أن الجرائد العربية التي وجهت اللوم إلينا نشرت في أعدادها الصادرة في يوم الجمعة 24 يناير وفي مقدمتها جريدة اللواء وجريدة الدفاع كلمة التقديم وأشارت إليها وإلى أهميتها كما نشرت بقية الجرائد العربية مقتطفات من هذه الكلمة. ومن تلك اللحظة شعرت بان صلاتي مع هذه الكلمة. ومن تلك اللحظة شعرت بان صلاتي مع الجرائد العربية في فلسطين قد دخلت عهداً جديداً من الثقة والتفاهم والتعاون. وأحاطني الكثير من أهل الرأي بتشجيعهم وعطفهم.
وأنى أنقل للقارئ بعض ما جاء في مقدمة هذه الكلمة لأنها من أثمن ما اعتز به في حياتي:
قلت: لقد جاء الإسلام بدعوة عالمية، نشرت بين الناس ديناً وتعاليم وأفكار، جاء بدعوة نفخت فيهم روحاً جديدة، جعلتهم يلتمسون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم، حينما أخذوا يتطلعون إلى حياة أرقى بما كانوا فيها، حياة يطمئن إليها العقل ويرتاح إليها الإيمان.
ولم تمض غير سنوات قليلة على أتباع هذه الدعوة وأنصارها، حتى أصبحوا قوة هائلة أخذت تفرض نفسها على جزء كبير من العالم المعروف وقتئذ.
فأثرت في حركته وسيرة وتطوره، وبرزت قوة الإسلام في تاريخ الإنسانية واضحة ظاهرة لا يمكن إخفاؤها أو التقليل من شأنها.
ومنذ ذلك التاريخ لفتت هذه الدعوة الأنظار، وأخذ الباحثون ينقبون عن منشأ هذه الحركة، ويتعرفون أسباب نجاحها وانتشارها ومدى أثرها وسر بقائها إلى اليوم.
(والإسلام ككل حركة عالمية، انقسم الناس في الحكم عليه إلى فريقين: فريق يشمل أصدقاءه وأتباعه وأبصاره ومن أراد أنصافه من غير أهله. والفريق الآخر يجمع الخصوم والأعداء أو الذين لم يجدوا في أنفسهم، ما يدفعهم إلى التعرف على محاسنه أو الافرار بتراثه).
(فمن أولى البديهيات أن نعمل على أ، يتعرف غير المسلمين حقيقة هذه الدعوة ومراميها وأهدافها وما أحدثته هذه الرسالة من نتائج).
(ومن أحق من أهلة أن يحدث الناس عنه؟ وأن يظهروا محاسنه؟ وأن يزيلوا ما علق خطأ بأذهان الناس عنه؟ نتيجة دعاية الافتراء عليه والتسليم بعدم إنصافه.(879/8)
لهذا كله لبيت هذه الدعوة، وكان أمامي ثلاثة دوافع لو جاء واحد منها على انفراد لكان وحده كافياً للتشجيع إلى أجابتها من غير تردد أو توقف:
أولها - واجب الرجل المؤمن الذي لا يخشى إلا الله في عمله وتصرفاته.
ثانيها - مكانة الأستاذ المحاضر ومقامه العلمي وثقتنا فيه.
ثالثها - ما أظهرته الجمعية بدعوتها لنا من التقرير للإسلام كدين من الأديان الكبرى، فضربت لنا كما قلت مثلاً لحرية الفكر وأظهرت نية طيبة، أن أوسعت لنا صدرها لأنصاف الإسلام في دارها فيجب علينا أن نقابل هذه النية وأن نلبيها)
وأظن أنني قد عرضت بهذه المقدمة إلى أهم ما يدور بخلد كل فرد مسلم منصف، وهنا رأيت ألا أتأخر بعد حديثي عن الإسلام أن أشير إلى تأكيد العلاقة القائمة بين مصر والأقطار العربية وفلسطين بصفة خاصة فأوضحت ما يجول بخاطري بالكلمة الآنية:
لست بحاجة إلى تقديم الأستاذ إليكم، فهو رجل معروف بعلمه وثقافته في الأقطار العربية؛ إذ هو في طليعة المجاهدين في خدمة الأدب العربي وبعثة. ولقد سبقته شهرته إلى هذه البلاد ككاتب ومؤلف وأستاذ فهو ليس إذن بحاجة إلى التعريف والتقديم)
(بل أقول أكثر من هذا: أنني لا أشك لحظة واحدة بأن في هذا الجمع كثرين في استطاعتهم أن يحدثونا عن علم الأستاذ وأثره ومؤلفاته بأسلوب وبيان أعجز عنهما).
(ومع هذا فإني نظرت إلى هذا الحفل فإذا هو مكون من خيرة أفاضل الناس في قطر عربي عزيز على قلب كل مصري، لأن أهله باختلاف نزعاتهم وأديانهم تربطهم بنا روابط لا انفصام لها ولكن أعلاها وأبقاها مع الزمن وحدة اللغة والتفكير والثقافة. لهذا شعرت بأنني لن أكون غريبا هنا. بل أنني سأجد بينكم ما يشجعني على إلقاء هذه الكلمة وأنا واثق من أن شعوركم معي وانه سيشفع لديكم إذا اختصرت في ناحية أو تلعثم لساني أمامكم مرة ومرتين. فالأستاذ أحمد أمين لا أقدمه كأستاذ مصري فأعده ملكا للكنانة وحدها، بل أقدمه إليكم كأديب عربي أدبه وعلمه من حق الناطقين بالعربية كافة. وأقول لكم إن ما أحرزه من نجاح وتوفيق نعده نحن معاشر المصريين نجاحاً وتوفيقاً للأدب العربي ونصراً للثقافة التي تجمعنا بكم وللفكر العربي الذي نشترك فيه وننحدر منه ونعتز به، وفي هذا أيها السادة ما يثبت أقدامي أمامكم ويجعلني مطمئناً من أن الأستاذ المحاضر سيلقي من ترحيبكم ومودتكم(879/9)
في القدس ما سبق أن أحيط به من ترحيب ومودة في كل قاعة ألقي محاضرة فيها).
ولقد كان بوسعي أن أقف عند هذه الخاتمة لولا أنني أردت أن أشير إلى مكانة فلسطين وما كنت أنتظره لها من مستقبل وما كانت تحيط بنا من غيوم متلبدة وقتئذ، فأردت أ، أتحدث عما يجول بأنفسنا من رغبة في دفع موجة التشاؤم التي كانت سائدة وقلت ما يأتي:
(في هذه البلاد المضيافة، وعلى أرضها المقدسة للأديان المنزلة جميعاً: هنا حيث استلم الشرق هداية العالم يوماً ما حينما ظهرت إلى العالم معلم الناصرة عيسى أبن مريم منذ ألفي عام؛ هنا حيث ينظر أتباع الديانات الكبرى إلى قدسية هذا المكان، هنا يحدثنا الأستاذ بحرية تامة عن الإسلام وأثره في وقت كثر فيه عدد المتشائمين الذين يشكون في عظمة هذا الشرق ومستقبله - أولئك الذين لم يلمسوا إلا آثار الجمود والتسليم ومظاهر الضعف والفقر البادية في كل مكان فكأنهم لم يروا إلا ظلمات بعضها فوق بعض).
(أننا نقول لهم كذلك كانت السنوات والعصور التي سبقت دعوة الإسلام كانت لياليها ظلماء لا أثر لنور الأمل فيها، وكانت عوامل الفناء والتفكك تعمل في كل مكان، حتى لقد كان يخيل إلى من عاشوا في القرن السادس الميلادي أن الشعوب الشرقية التي ورثت مدنيات مصر وقرطاجنة وآشور وبابل وفينيقيات. قد شاخت وهرمت وفقدت شخصيتها وميزاتها وقوتها الدافعة فأصبحت فريسة مدنيات أقوى منها من صنع روما وبيزنطة، ولكن هذه الشعوب نفسها التي غلبت على أمرها نراها وقد استحالت مرة واحدة أمماً فتية فكأنها بعثت بعثاً ونشرت نشراً. والفضل في نهضتها لتعاليم الإسلام حين تحرر الشرق من جبروت روما وخرج للعالم بشخصيته واستقلاله الفكري للعمل مرة أخرى كقوة عظيمة تزحف على العالم وتؤثر في حركته وتاريخه وسيره وتطوره).
(وهانحن اليوم نعاني نفس ما عاناه أسلافنا، فهل لنا أ، ننظر إلى ماضينا، وإلى تلقى دروسه لنتخذ من ذلك دعامة للمستقبل ولنتعرف القوى الكامنة فينا ليكتب لها الانطلاق والخلود؟)
(على أي أساس اخترنا لنهضتنا سواء كان ذلك في نطاق القومية أو العالمية فإننا في حاجة إلى بعث جديد وقوة معنوية تحركنا للعمل للوصول إلى حياة أعلى وأكمل وأعظم شأنا من ظروف الحياة التي نعيشها في الوقت الحاضر).(879/10)
(أننا إذاً اكتشفنا هذه القوى الكامنة فينا وعملنا على تركيزها وتنظيمها نكون جديرين بحمل الأمانة التي حملها الشرق من قبل وتسلم رسالته الخالدة، ويصبح الشرق جزاءاً هاماً واعياً مكملاً للإنسانية المنتبهة المتيقظة العاملة في بناء صرح مستقبل هذا العالم).
هذه بعض فقرات من حديث تلك الليلة وهو حديث - كما قلت - تفضل رجال الفكر في فلسطين بالترحيب به، ونشرته أغلب الجرائد وأشارت إليه. ولقد كنت أود أن يشير حضرة صاحب العزة الأستاذ أحمد أمين بك إلى اشتراك القنصلية الملكية المصرية العامة في القدس معه في هذا الموقف الذي قال عنه (أنه كان عجيباً حقاً مربكاً حقاً). فقد قرأت كتابة الممنون بأسم (حياتي) ولفت نظري صديق عزيز علي هو الأستاذ محمد عبد الغني حسن إلى حادث القدس وكيف أفرد له الأستاذ ثلاث صفحات من كتابه فلم يذكر كلمة واحدة عن الذين شاركوه في هذا الموقف الذي كان فيه من العناء الشيء الكثير على حسب تعبيره. ولذا رأيت من واجبي أن أنشر هذه الصفحة المطربة ولا أجد ما أقوله سوى أنني وغيري ممن ألقي عليهم واجب تمثيل مصر في تلك الفترة لقوا في أثناء قيامهم بواجباتهم الكثير من هذه المواقف: أذكر واحدً منها حينما أقمت حفلة للأستاذ أسد رستم بمناسبة إخراجه أول مجلد من كتاب (وثائق الشام) وكيف حملت بعض الجرائد علىَّ حملة مثل هذه فكان للقنصلية الملكية المصرية العامة ببيروت موقفاً يشبه موقف في القدس.
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية(879/11)
سيرة عالم
للدكتور سامي الدهان
كان عامة الجمهور في (حلب) يعجبون لهذا الرجل الغريب، يجدونه عند كل حجر عتيق من أحجار المدينة، يتسلق الضخر، ويعلو الجدران القديمة، والأسوار المتهدمة، وبيده ورقة وقلم، يخط سطوراً، لا يبالي بالهامس حين يمر أو الساخر حين يتحدث إليه ساعات من نهار، يستنطقه عن الماضي القديم، ويستخبره عن الأجيال السالفة.
وكان منظر الرجل يثير كذلك دعابة حينا ودهشة حيناً آخر، فقد أرسل لحيته، ولبس البسيط من الثياب، وجلس جلسة ابن البلد إلى الحجر والتراب، يقتلع العشب عن الحجر، ويمسح عنه الغبار، كأنه شحيح ثناياه عن كنز مدفون وثروة مخبوءة. على أن الناس يمرون بهذا الصخر والحجر عشرات المرات لا يبالون ولا يأبهون، فقد ألفوا أن يروا في سبيلهم كتابات عريضة لم يحاولوا أن يقرءوها، وتواريخ مسطورة لم يجربوا أن يفهموها، ومالنا ولهذا الجنون الأوربي إذ يكلف بالغريب ويعكف على العجيب؟
وكان الرجل على ذلك كله ماضياً في عمله لا يهمه تهامس الناس حوله، ولا نثنيه نظراتهم المريبة شكلهم الملح، فهم يرمونه بالجهل إذ يضيع أيامه بما لا ينفع الحياة ولا يجلب المال.
وظل على ذلك سنين انتهى بعدها إلى كتاب صغير نشره بالفرنسية صور فيه الأبنية الأثرية، ورسم مصوراً لهذه الأبنية، وخلص إلى نظرية جديدة هزت المستشرقين طرباً، فقد وقفوا على صورة (حلب) كما كانت قبل ألف عام، أو تزيد، وحدد أماكن الجدران والأسوار من هذا المصور. وبين مواقع المساجد والجوامع والتكايا، وكأنه قد بنى المدينة على الورق من جديد، ولم يبق إلا أن يرسم هؤلاء الذين عاشوا بين جدرانها تتقلب عليهم الحروب، وتهزهم الغزوات، وأن يعين أماكنهم وحاراتهم.
وعرف المؤرخون الغربيون عن حلب ما لم يكونوا يعلمون؛ فقد رسم لهم المستشرق (جان سوفاجه) مواقع المعارك التي دارت خلف الأسوار، وصور لهم بلاط الحمدانيين والمرداسيين والأيوبيين والأتراك.
واشتركت مصر في تعريف هذا الجهد! فنشرت للرجل في مجموعاتها ما عثر عليه من كتابات، ونشرت إلى جانبها الترجمة الفرنسية والتعليقات العلمية. وتنبه المؤرخون كذلك(879/12)
إلى ما تحويه حلب في حاضرها من بناء قديم يرى المستشرق أنه أقدم ما بقي في سورية من الآثار، حتى أنه اكتشف على أحد جدران المباني كتابة هيروغليفية يعود تاريخها إلى ألفي سنة سلفت.
ولم يقف عند هذا حتى كتب رسالة للدكتوراه درس فيها تطور البناء في حلب على مدى الأجيال. فعرض للمدينة في عهد اليونان والرومان والعرب؛ وتوجت هذه الرسالة بكثير من الثناء، وهتف المستشرقون للدارس الباحث، وقد قضى شطراّ من عمره في بلد الشام يتقرب إلى تاريخه، ويتفهم ماضيه العمراني. ونشرت الرسالة في جزأين كبيرين أولهما في دراسة هذه المدينة والثاني في المصورات والصور التي تتحدث - على عادة الغربيين - عن ماض قديم قربه الرجل أوفر الرجل ما يستطيع عالم أن يفعل.
ولما سكن سوفاجه دمشق كتب كذلك عن أبنيتها وحاول أن يصنع لها ما يضع لشقيقها حلب، ونشر بحثاً وبحوثاً عن الأبنية في دمشق على عهد الأيوبيين.
وتابع دراساته، وواصل نشر كتبه حتى بلغت العشرين، فنقل رمن الربوع التي أحبها، وعاش بين جدرانها، إلى باريس وعين أستاذاً في (الكوليبح دفرانس) وهي مرتبة لا يبلغها إلا الصابرون المجاهدون من العلماء في فرنسة وعين كذلك مديراً للدراسات العليا في التاريخ الإسلامي بالسوربون. ولم تحبسه محاضراته وواجباته الجامعية عن متابعة التأليف والترجمة، فنشر كتابا بالفرنسية يعد أقوى مرجع في التعرف إلى (مصادر التاريخ الإسلامي) ذكر فيه الكتب العربية والغربية المخطوطة والمطبوعة التي تبحث في تاريخ الإسلام. ثم نشر كتاباً عن أخبار الصين والهند بالعربية وترجمة إلى الفرنسية. وأرسل إلى المطبعة منذ شهور ترجمة لأحد مؤرخي حلب في القديم. والكتاب ما يزال في سبيله إلى النور، بينما كان مترجمة يقاسي غصص الموت ويتوجه إلى الخلود.
وكأني بالعالم المؤرخ - وهو يبلغ الخمسين من عمره - قد أنهكه الدرس وحطمة الجهد، وأخذت منه المؤلفات ما أخذت من عباقرة الباحثين فنال منه المرض، ولم يثنه نصح الأطباء ورفق الأصدقاء حتى اختطفه الموت وهو يترجم ويصحح كتبه عن الشام والمسلمين، فقضى (وملازم المطبعة) بين يديه وترجمة التاريخ الإسلامي تحت وسادته، وأغمض عينيه على مصور الشام الذي صنع يزين غرفته وهو أشد ما يكون اطمئناناً إلى(879/13)
أنه مات بعد أن قضى للربوع التي أحب ما وجب، وللتاريخ الذي عشق ما استطاع.
فبكاء أصدقاؤه الذين عرفوا فيه التسامح والإخلاص، وبكاه طلابه الذين رأوا فيه دماثة الخلق وتواضع العلم وتفاني الأستاذ. ولاشك في أن حلب الشهباء ستجزيه أجر ما عمل، وتفيد من درسه، وتقتبس من بحثه، فتكمل ما لم من نص، وتنشر ما لم يتم من مخطوط. ولاشك في أن المؤرخين والباحثين عندما سيجدون في سيرته سيرة تحتذي وأسلوباً يقتفى وطريقة تتبع.
الدكتور سامي الدهان
القاهرة(879/14)
في الصداقة والصديق
للدكتور أحمد فؤاد الاهواني
وقع الخضر في كشكوله من (الرسالة) يقول أنه لاحظ أنني كلما أخرجت كتاباً كتب عنه الأستاذ عبد الغني حسن، وأن العكس صحيح، يريد أنه كلما أخرج كتاباً أو ديواناً كتبت عنه. والتوقيع على إيجازه وإن كان صحيحاً يحمل معنى التعجب، أو هو خبر ينطوي على استفهام، وإشارة تحتاج إلى تفسير وبيان.
وبيان هذا التبادل أنه دليل على الصداقة أو هواية الأخوة. ولكاتب التوقيع أن يعجب في زمن أصبحت فيه الصداقة أندر من الكبريت الأحمر، فإذا رأى أحد شخصين قد ائتلف قلباهما على محبة، وقامت العلاقة بينهما على المودة، لفت ذلك نظره لغرابته وشذوذه، وبعده عن المألوف، وانفراده من المتعارف الشائع المعروف. ولقد حكى الحكماء أن المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي. فإذا كان الخلان الأوفياء قد عز وجودهم في قديم الزمان، فوجودهم أعز اليوم وأندر، مع فساد الزمان، وانتشار موجة المادية، والتمسك بأسباب الدنيا ومتاعها وزينتها ومنافعها.
فإذا عثر الإنسان على الصديق كان كالذي اهتدى إلى المستحيل وعثر على كنز ثمين. وقد قوموا الناس بالمال، فوزنوا مهرجا الهند، وقدموا المهور إلى الحسان، ولكن الصديق الحق إذا أخلص وبرئ على المصلحة، كان أثمن من الذهب فلا يقومه مال ولو عد بالملايين. وللعامة من الناس تشبيه مادي طريف، قالوا: الناس أجناس، ذهب وفضة ونحاس، أما الإنسان الذي كالذهب فكلما عبر سنوات الزمان زاد جوهره ولم تنقص نفاسته ولم يذهب بريقه أو ينطفئ رونقه. وأما الإنسان الذي كالنحاس فإنه يخدمك بمنظره هو المعدن الخسيس تطليه فلا يلبث أن يصدأ، وتجلوه فيأتي الجلاء ويعود إلى الانطفاء والصدأ، وهذا هو جوهره لا يستطيع عنه حولاً، أو نحيزته لا يستطيع لها تبديلاً. ولذلك كان العثور على الصديق الصادق عسير المنال لقلة الذهب وكثرة النحاس، والناس كذلك منهم النفيس ومنهم الخسيس.
والصديق الذي كالذهب تعتز بصحبته، وينفعك في محنتك، ويقبل عليك في وقت شدتك، ثم تأمن إلى جانية وتركن إلى معونته، وتفضي إليه بحملة نفسك وأنت مطمئن إلى حفظ السر(879/15)
وحمل الأمانة، فإذا برئت النفوس من المنافع، وتخلصت من الأطماع وتجردت عن الأهواء ثم آثرت الإيثار، اتصلت النفوس وائتلفت الأرواح، وهذه هي الصداقة في أعلى مراتبها، وأفضل صورها، وما ينبغي أن تكون عليه.
والصداقة فضيلة تأمر بها الأخلاق وتحث على توثيقها. وأفضل الأخلاق ما طلب صاحبها الفضائل لذاتها، ولأنها واجبة في نفسها كما ذهب إلى ذلك كانط الفيلسوف الألماني. فنحن نعمل الفضائل طلباً للمنفعة أو اللذة أو السعادة، وبذلك تخضع الفضيلة لغاية أخرى فينصرف المرء إلى تحقيق هذه ولو امتطى ظهر الرذائل وصورها في صور الفضائل. لذلك ينبغي أن تطلب الصداقة لذاتها، وحينئذ يحس المرء بلذتها.
والصداقة من أقوى الروابط التي يقوم عليها دعامة المجتمع، فإذا شاعت في أمة تماسكت، ثم قويت لتماسكها، ثم علا شأنها لقوتها، فتصدرت سائر الأمم لعلو شأنها والاعتراف بمنزلتها. وكان هذا هو حال الأمة الإسلامية في بدء نشأتها. وأنت تعلم أن الدعوة الإسلامية قامت على اثنين من الرجال، النبي عليه السلام، وأبي بكر، الذي سمي لصدق وفرط تصديقه بالصدق دلالة على المبالغة، فقالوا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وإذا أطلعت على سير الرجال من أهل الإسلام في عزة وعنفوانه، وفي أوجه وعلمه وسلطانه، يوم أن كانت أوربا تعيش على علوم الشرق وتعترف من عمرانه، رأيت أن الروابط بينهم قامت على الصداقة، وعلى التفاني والوفاء، رأيت أن الروابط بينهم قامت على الصداقة، وعلى التفاني والوفاء، وعلى الإخلاص والإثيار، والإثيار أعلى مراتب الصداقة. حكت كتب القدماء أن عشرة من المسلمين وقعوا جرحى في قتال في إحدى الغزوات، وكانت مع أحدهم شربة ماء لا تكفي إلا واحداً لتهبه الحياة، فآثر بها صاحبه ومات، وآثر بها الثاني صاحبه ومات، وهكذا حتى مات الجميع.
ونحن نرى أن الجماعة تحتاج إلى ترابط يربط ما بين أفرادها، وليست هذه الروابط مادية يمكن أ، ترى، فليس هناك حبل يربط بين فلان وفلان، ولو كانت الروابط حبالا لتقطعت وبقيت الصداقات الصادقة لأنها أوثق، ثم لا تبلى مع مرور الزمان بل تقوى على الأيام.
ومن المشاهد أن الشرق منحل الأواصر، كثير التنابذ، يشيع الحسد بين الناس، وتشتد العداوات الشخصية حتى لتشغل أوقات الناس وتصرفهم عن المصالح العامة. وهذه هي(879/16)
أخلاق الجاهلية الأولى التي جاء الإسلام ليحل محلها المودة والسلام
والصداقة والعداوة مما ينشأ مع الطفولة، ويبث بالتربية، الأسرة بين الأشقاء، وتظهر في المدرسة بين الأنداد، ولكننا في مصر قد أهملنا التربية فتركنا الحبل على الغارب، أو سلمنا الأمر لله، مع أن الله قد أودع فينا العقل للتمييز. وقد أثبت مذهب التحليل النفساني أن الأحوال النفسية التي تصاحب الناس في كبرهم تمتد جذورها إلى زمن الطفولة الأولى. والصغار في بيوتهم في شقاء لجهل الآباء والأمهات بأصول التربية وأسرار النفس، فهم يمنعون الطفل من اللعب، ويحسبونه في البيت، ويكثرون من ضربه وإبدائه وانتهازه فينشأ على الحقد والبغضاء، ثم يغرون الأخ بأخيه، ويفضلون الشقيق على شقيقة فيظهر في أنفسهم الحسد وهو شر ما يبلى به الإنسان، وهو أمة الصداقة
المدرسة المصرية دار تحضر الطالب للامتحان والحصول على الشهادة وليس المجتمع المثالي الصالح الذي يؤلف بين القلوب، ويقوم فيه التعليم على المشاركة والتعاون بين التلاميذ. وقد سمعنا عن طلبة يأبون إعطاء مذكراتهم لزملائهم نفاسة واحسد وانفراداً بالامتياز، فكيف ترتقب من المدرسة أن تنشئ جيلاً من الأصدقاء وهذه حالتها؛ وكيف تزعم أن الروابط بين أفراد الشعب وثيقة مع انعدام الصداقات؟
أحمد فؤاد الأهواني(879/17)
العقل. . . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
ما أكثر ما يعرف الإنسان! ولكن ما أقل ما يعرف عن نفسه. ولعل حكمة سقراط (اعرف نفسك بنفسك) لم تتغلغل في الأجيال المتصاعدة كما كان ينبغي لها. ولئن صح أن معرفة الإنسان يبدأ بما حوله ثم تنتهي به إلى نفسه، فمعنى ذلك أن الإنسان لما يفرغ بعد من معرفته الخارجية حتى يخلص لمعرفته الداخلية. فلحياة تنمو وتتسع، وتستطيل وتستعرض، وما يزال هو هو المتعجب من أحوالها. ومهما يكن من تقلبات الحياة، فإنه لا بد له من أن يعرف نفسه ليتابع سير القوافل الإنسانية تخب في صحراء الزمان متعبة كليلة. . إذن ليعرف الإنسان نفسه بنفسه.
حقا لقد شغلت الإنسان حياته، فعرف منها ما عرف، وأبقى ما لم يكن يعرف، وظل مرتبطاً بهذه الحياة ينمو معها وتنمو معه، تعلمه وتعمل له، وهو بدوره يعلمها ويعمل لها، غير أنها كانت قبله شيئاً آخر غير ما صارت إليه، بعد أن ملكته عليها طوعاً أو كرها، فقد كانت فوضى لا تجاوب ولا انسجام. غابات ودياج، صواعق وجبال، أمواج وأمطار، كلها رهيب، وكلها غريب. وهل حياة مع الغربة والرهبة؟ وهل حياة مع الوحشة والفوضى؟ لا بد إذن من (عقل) يؤلف بين هذه الكائنات أحياء وأمواتاً. لا بد من عقل يتفهم غايتها ورسالتها. لا بد من عقل للحياة. لا بد من (إنسان).
شرف الإنسان يوم أصبح عقل الحياة، وازداد شرفاً يوم صار عقلاً لنفسه، وإذن فقد مر بتاريخ طويل عريض، وتاريخ الحياة جزء من الحياة. مرت الإنسانية في نظر (كونت بمراحل ثلاث: اللاهوتية، والميتافيزيقية، والعلمية. وهذا التطور - وإن كان غير صحيح إلا أنه غير باطل، لأن اللاهوتية والميتافيزيقيا والعلمية مظاهر تبدي فيها العقل الإنساني حيناً وأحياناً، ومظاهر الإنسانية لا تحصى، إذ لم يكن العقل من زجاج حتى يحطمه التفكير العنيف، بل لم تعهد فيه الوقوف إزاء الحواجز والموانع صاغراً راهباً. وإنما اعتد بنفسه، وكان لا بدله من هذا الاعتداد ليكون تفاوتت درجة الاعتداد بالذات فهبط إلى حد التواضع والتوقف عن العمل والعلم في ثوبي التصرف والشك وبلغ هذا الاعتداد حد الاعتداد على الذات كما عند نيتشه. وابتغى العقل أحباناً طريقاً وسطا بين هذين الطرفين.(879/18)
فلنحاول الوقوف على شتى أنظار الإنسان إلى العقل، ومدى ما وصلت إليه الدوائر الفكرية من تحديد نطاقه. . سواء في ذلك الفلاسفة والمناطقة، ورجال الدين والمتصوفة. والأخلاقيون ورجال الاجتماع والسياسة، وعلماء النفس والحياة، وأصحاب الرياضة والطبيعة وأهل الفن.
أما الفلاسفة فقد تنالوا أعمال العقل، وتأملوا الإحساس كأول مظهر لهذه الأعمال يقول هرقليطس: (الحمار يفضل العلف على الذهب. والكلب ينبح كل ما لا يعرفه) فما سبب هذا؟ السبب هو أن الحواس شهود غير عدول حينما تعمل في النفوس غير العاقلة، فلا يستطيع الحيوان أن يميز بين المحسوس والمعقول لأنه ليس مزوداً بما به يستطيع ذلك.
والإنسان - في بدء حياته - لم يكن يستطيع هذا التمييز، لأنه امتزج بالحياة امتزاجاً كلياً انتهى به إلى التوحيد بين الموجود والفكر توحيداً ناماً. فهو صورة للحياة، والحياة صورة له. أو كما يقول (فردريك رتزل الإنسان روح في الطبيعية، والطبيعة روح في الإنسان:
وأنبا ذو فليس يفسر الإحساس بأنه تقابل الأشباه، وإدراك الشبيه للشبيه. ويقول إن مركز الفكر هو القلب، قد سبقه ألفميون زعيم مدرسة أقروطونا الطبية في سقلية بأن المخ مركز الفكر.
وعلى العموم فإن أنبادوقليس وديمقريطس وأنكاغوراس كانت عندهم المعرفة العقلية هي الحسية، وهم إن ميزوا بين العقل والحس فإنما كان هذا من حيث محتويات كل منهما إذ كلاهما وظيفة عضوية
وكانت تلك أول خطوة نقدية خطاها اللاهوتيون والطبيعيون القدامى نحو المعرفة العقلية أعقبتها موجة السفسطائيين الذين أدوا للعقل أكبر خدمة كان سقراط أول وارث لها.
اتجه سقراط نحو العقل في ذاته بقصد الكشف عن شرائط المعرفة الحقيقية: دعا إلى أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، بأن يكتشف من معرفته بنفسه جهله بها، ذلك الجهل الحافز على الفكر والذي ينتهي إلى العلم بخصائص العقل الرئيسية التي هي التعريف والاستقرار. ولما كان الحق هو الخير وكلاهما في العقل أو هما العقل فإن العلم فضيلة، والجهل رذيلة.
وتبنى أفلاطون نظرية أستاذه في فطرية المعرفة، وقال بوجود معرفة لأهل الكهف كانت(879/19)
لهم قبل أن تغشى عيونهم بنور الشمس رمز الحق والخير والجمال. فلن تزكو النفس إلا بتذكر ماضيها المجيد، ولن تبلغ سموها بالعلوم التجريبية البالية وإنما بالحساب والموسيقى والهندسة والفلك تتيقظ على عالم المثل الباقية الخالدة والتي هي أسباب المعرفة والوجود جميعاً، التي تذكرها علم، ونسيانها جهل. ويقول في (فيدروس) و (عندما تعجز النفس عن طلب الحق وتفشل في الحصول عليه، يسقط منها الجناحان، وتهوى إلى الأرض. . أما النفس التي لم تر الحق قبلاً فلن تأخذ الصورة البشرية، لأنه لا بد للإنسان من معرفة بالكليات وقدرة على الانتقال من الجزئيات الحسية إلى المعنى العقلي، وذلك هو استجماع هذه الأشياء التي كانت النفس قد رأنها من قبل في سبيلها إلى الله عندما رفعت رأسها تستشرق الموجود الحق).
لم يستطع أفلاطون أن يتعرف خصائص العقل في ذاته، فولى وجهه شطر مصدره الأسمى وهو الله مثال المثل. وإن كان في طريق النفس إلى المثل صاعدة ومنها نازلة قد رسم أفلاطون سبيل الخلاص بالتزكية النفسية وهو سبيل إن كان حظ الحقيقة فيه أقل من حظ المثال إلا أن المثال نفسه من خلق العقل وابتكاره.
أما أر سطو فقد نظر إلى العقل. فعنده العقل المنطقي في (البرهان)، والعقل الأخلاقي في (الأخلاق) والعقل الاجتماعي في (السياسة) والعقل السيكولوجي في (النفس)، والعقل من حيث هو عقل في (الميتافيزيقيا) حيث قسمه إلى أربعة: عقل بالقوة، عقل بالفعل، عقل مستفاد، عقل نعال. وسار بنظرية العقل، بنظرية العقل حتى وصل بها إلى الله (عقل العقل) الذي يتأمل ذاته لأنها أشرف ذات. وشرف العقل إنما جاء من شرف موضوع لعقله، والموجودات تنزع إلى كمالها بالاشتياق إلى الله. وبذلك تفادى أر سطو مشكلة، كيف يتصل آلا حسي بالحسي؟
وبهذا المجهود العنيف كان أر سطو جديراً بأن يخلع عليه لقب (العقل) أو (عقل المدرسة). ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى تطور فكرة العقل الأرسططاليسي عند تلاميذ أر سطو وشرحه وأنصاره وخصومه من المسلمين وغيرهم في القديم والوسيط والحديث. وذلك لاختلاف الأنظار في فهم عقل أر سطو اختلافاً لم نشهد له مثيلا في تاريخ المسائل الفلسيفة.(879/20)
ولقد اطرد التيار الأرسططاليسي الواقعي، وإلى جانبه التيار الأفلاطوني المثالي، وتراوح المفكرون بينهما، فمن جانب أفلاطون انحاز إلى أر سطو، ومن جانب أر سطو انحاز إلى أفلاطون.
وتبلبلت الأفكار في عصر السقارطة الصغار كرد فعل للحياة ومستلزماتها حتى لقد خلط إقليدس الميغاري بين الله والعناية والعقل وكلها أسماء للخير عنده. وظهر العقل عند الرواقعية في ثوب أخلاقي: إذ العقل هو أكمل الطرق لتحقيق أسمي الغايات، وبالعقل يدرك الحكيم أنه جزء من الطبيعة الكلية، والله عندهم هو (العقل) منبثاً في العالم، هو روحه المادية اللطيفة، وعليه تتوقف الغاية والضرورة المطلقة وقوانين الواجب.
أما الأبيقوريون فقد تحرروا من كل عقل، وانهمكوا في الملدات دون وعي بواجب أو قانون، وانحدرت المثالية الواقعية جنبا إلى جنب نحو الأفلاطونية الحديثة، وفيها لم يخلف ما لأفلاطون وما لأر سطو. فالعقل والمعقول شيء واحد، والعقل هو التفكير صار فعلاً محضاً، وكما ينطوي على عدد من النفوس الفردية تهبط إلى الأجسام (كما لو كان صوت منادي ناد بها) ولكنها في هبوطها قد تذكر سرورها في حال أصلها، ناسية إياها الذي في السماء، وهي إن خرجت من الجسد لتعود إلى الله لا تفصلها قط عن النفس الكلية، مقامها دائماً في العقل، ولترجع النفس إلى الله يلزمها أن تخرج عن نفسها بالزكاة النفسية والتأمل في المثل أولاً وأخيراً،
وإدمان النظر في الحياة، واضطراب مجرياتها في الوجدان أدى إلى الشك؛ فالحواس خادعة، وليس لدى العقل ضمان للحقيقة واليقين فتوقف الشكاك عن السلب والإيجاب وآثروا تعليق الحكم، واستمرءوا الحيدة في السلوك.
وانطوى القديس أوغسطين على نفسه حين أراد أن يعرف ربه، لا بالميزيقيا الحقيرة، وإنما بالوجدان والعلم الباطني، فمتى عرف العقل الإنساني أنه متغير، وفي نفسه لو عرف أن لديه فكرة عن الحق الثابت الباقي، فليس على العقل إلا أن يسمو على نفسه ليرقى إلى منبع كل نور وأصل كل خير، إلى العقل الذي ينيرنا إلى الله، وهو المبدأ الباقي لكل التقاويم التي يظهر فيها حلقه
ولا بد من لإشارة إلى الجدال العريض الذي دار حول أسبقية الكليات بين الواقعيين(879/21)
والاسميين من فلاسفة المسيحية في القرون الوسطى. قال (القديس أنسلم) وهو من الواقعيين الأفلاطونيين (الكليات أسبق من الموجودات) وقال (كما أن الفكر هو الواصل بين المرء نفسه، فكذلك المثل هي الواصلة بين الله وذاته) الله مصدر كل معرفة هو الحق الأسمى الذي يخلق كل حق، وهو الطيب الذي يمنح كل طيب، والمطلق الذي منه وحده ندرك النسبي الذي لابد لنا من نماذج سابقة عليه نتمثلها حتى توازن أو نحكم. وهكذا بإدراك النسبي اتخذ أنسلم برهاناً مباشراً على المطلق وهو الله.
وعارض هذه النزعة جماعة الواقعيين الأرسططاليين من أشهرهم (ألبرت الأكبر) و (توماس الأكويني) و (دنز سكوتس) وقالوا بأن ليس للكليات وجود جوهري خارج الأشياء، بل هي - كما يقول أر سطو - لا توجد قبل الأشياء وإنما في الأشياء , وبذا لانهار القول بالمثال. والقديس (توماس الأكويني) يميز العقل والنفس التي هي الملكة العليا للمعرفة والحدس، وإن كان أصلها في طيعة النفس واحداً.
أما الأسميون فقد رفضوا المعاني العامة، وقالوا بأن العقل ما دام بالقوة فلا يمكن أن يفضي إلى الإيمان. منهم (وليام الأخامي) الإنجليزي (القرن 14)، وعنده أن العالم في العقل لا في الأشياء، وأن ليس للمعاني وجود في عقل الله، ولا سبيل إلى المعرفة إلا الحدس بنوعية الحسي والوجداني. ولما كان الحق نسبياً وقائماً على الحدس الشخصي فليس للعقل إذن وجود مطلقاً.
ولقد اهتم فلاسفة الإسلام بنظرية العقل متأخرين، فتح الباب لهم (الكندي) في رسالة (معنى العقل عند الأقدمين) وتبعه (الفارابي) في (مقالة في معاني العقل) وعالجها (ابن سينا) في الصدور أو الفيض، وكذلك (الغزالي) في معظم كتبه وأهما في هذا الباب (معارج القدس في معرفة مدارج النفس) وكذلك (ابن رشد) في (منهاج الأدلة).
وهؤلاء جميعاً حولوا عقل أر سطو إلى عقل إسلامي، جانبه الفلسفي معروف، أما جانبه الإسلامي فأصله الديث المروي (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز إلى منك، بك أعز وبك أدل، وبك أعطي وبك أمنع). وقد ذكر الشهر ستأتي أن الحايطية - أصحاب أحمد بن حايط المعتزلي - أولت حديث رؤية الله يوم القيامة بأنه العقل الفعال أو العقل الأول الذي يعنيه الحديث.(879/22)
(للكلام بقية)
محمد محمود زيتون(879/23)
من الحياة
الصديق الضائع
للأستاذ منصور جاب الله
كان لي صاحب ما شهدت له نديداً فيما رأيت من الصحاب. كان أكبر الناس في عيني، وكان رأس ما أكبره في عيني أني ما عرفت عنه غميزة تميل به إلى جانب الغرور، على ما به من مزايا فاضلة، وعلى ما كانت تفيض به جوانب نفسه من البصر بفنه والعلم القائم على أساس وطيد، وعلى ما كان بتدافع في شرايينه من دم الشباب النضير. وفي كل أولئك حوافز الذهاب بالنفس والتكاثر بالسطوة إلى مدى بعيد.
وكان في عقدي أن من رأى هذا الصديق نظرة أجله، ومن خالطه معرفة أحبه. وجدت فيه ما افتقدت في سائر الصدقان: تواضع على علم، وحياء في ورع، وسذاجة من غير تكلف، وبساطة تنأى عن التعقيد. وكل أولئك محبب إلى النفس، وكل أولئك شئ عزيز المنال.
ولازمت خدبنى هذا ملازمة شديدة، توثقت عناصرها على الأيام، حتى حسب الناس أ، فكاك لازدواجنا، وأن أحدنا لا غناء له عن رفيقه. وكذلك كنا لا نفترق ظغلاً على موعد من لقاء قريب، في الإصباح والإمساء، وإذ كنا متجاورين في السكنى. لم تفرق بيننا إلا المضاجع، وما أثقل الساعات التي تتجرم على بعادنا، وما أطول اللحظات التي تنقضي دون لقائنا.
هنالك بين ربوع الإسكندرية الماعمة، كنا نساحل على شاطئ البحر الجميل في أخريات الربيع وفي ذرور الصيف ومطالع الخريف، وكانت لنا ثم ملاعب ومرابع. لا يرنق صفاءنا اعتكار، ولاينال من عشرتنا لسان، إذ كان قوامها لإخلاص المتبادل، وعمادها المودة المشتركة، ومن ثم كانت أحاديثنا ومسامراتنا لا تنصرف إلا لما يتغشى الناس من أحداث، وما يتوسمه العالم من حدثان. وكانت آراؤنا في الحياة - على سذاجتها وسطحيتها - مطبوعة بطابع من الهدوء والبعد عن الاعتساف.
وإذا كنا على سفر، تواعدنا على اللقاء في القطار، ثم تجمعنا الصحبة في المنزل، وقد نتقاسم الغرفة الواحدة في بعض الأحيان، ونشارك في الطعام والشراب، ويمضي معي لشأني، كما أصحبه لفضاء ما يريد.(879/24)
كانت تلك حالنا إلى أن فرقت بيننا تصاريف الزمان، فأنحدر صاحبي إلى الجنوب في عمل له، وبقيت أنا أتماور المقام بين القاهرة والإسكندرية. بيد أننا لم نفترق إلا بالجسم فقد اتصل قلبانا وروحانا، فكنا نتناجى بلغة الأرواح كما كنا نتنادى بلسان البريد، ثم نتصل وننفصل والأيام لا تزيد علائقنا إلا توثقاً واتصالاً.
وإذ قامت علاقتنا على الصدق والإخلاص، كان لي أن أزجي النصح إلى صديقي، إذا تجانف لإثم أو خيل إلى أنه كذلك، وأي الناس ترضي سجاياه كلها، ولقد كان يتقبل مني النصح المبذول لعلمه أن مصدره الإخلاص، وتلك حالي معه.
وفي إحدى زوراته المتباعدة لي توجهت إليه باستصلاح ما أنكرت منه، فشهدت منه بوادر الامتعاض على بساطة المؤاخذة مع داعي الإخلاص، وتظاهر بالقبول بل تظاهر بالرضي والاقتناع.
وكانت تلك هي المرة الأولى رأيت فيها صديقي يظهر غير ما يبطن، فلم يحاول بعد ذلك أن يلقاني، وإن كنت سعيت إليه - علم الله - مراراً، إذ عز على أن تهدر صداقتنا بمثل هذه السهولة، وقد عملت في تكوينها السنون الطوال، ورواها الإخلاص وسقتها النزاهة. كاتبته مراراً فأبى أن يتنزل إلى الإجابة على، فعلمت أنه يروم قطيعتي والازورار عني، فأمكنته مما يريد وفي النفس موجودة حرى، وفي القلب أسى لا يطاق.
وبالأمس كنت أسير في بعض الطريق فلمحت على مبعدة مني رجلاً عرفته غير أنب أنكرته، عرفت فيه شيئاً وأنكرت منه أشياء، عرفت فيه وجهه الذي لا أنساه، فقد كان وجه صديقي الضائع، وأنكرت منه طرفاً من سلوكه مع الناس ومعاملته لمن كان في صحبته من الرصفاء، حتى لقد هممت أن أعانقه وأقبله وأفول له: لقد كان لي صديق وجهه يحاكي وجهك، ولباسه يشبه لباسك، وكلامه مثل كلامك، ولكنه يخالف عنك يا صاحبي فيما عدا ذلك فمن تكون؟
ولكنني جبنت دون ذلك ولم أفعل، وبصرت به برامقني شزراً من بعيد، فبادلته النظرة وانصرفت لطيتي مترحماً على ماضي الصديق الضائع!
بعد هذا بسنين، تلقيت معناه هذا الصديق، فما احسبني تفجعت كما تفجعت لفقده، ولا بكيت مثل ما بكيت لموته. لقد فقدته مرتين: مرة يوم قاطعني، ومرة يوم مات عني، فكأنه مات(879/25)
ميتتين. سقي الله جدثه وتدراكه برحماته.
منصور جاب الله(879/26)
خواطر مرسلة
النعجة السوداء
للأستاذ حامد بدر
(تلك قصة قصيرة، سمعتها من رجل قروي فلخصتها في هذه السطور)
في مكان ناء عن العمران، حيث السكون سائد لا يشوبه ضجيج، والهواء طلق لا يعرقه بناء، والفضاء رحب لا يحد من سعته شئ، والقبة الزرقاء تتحدى كل القباب بروعتها وجلالها، وتفيض على الأرض من خيرها وبرها، ونورها وظلها. . وفي إعفاء يقظي، تنيم النفس أمنا، وتوقظها إيماناً، وفي هذه خالصة مخلصة يرجع فيها من خلق إلى من خلق، يستجم العقل المكدود المحدود. . . كان أحد الملوك مصطحباً وزير ابتغاء النزهة الهادئة الطليقة، المجردة من مظاهر السلطان والجاه. وبينما هما سائران إذا براع يرعى عنها، وقد افترش من الأرض مكاناً خشناً، مستظلاً بصفصافة حانية، في جوار قناة جارية، وبين يديه لقمات يابسات، يتناولها في رضا واطمئنان، ثم يميل على التميز الجاري، فيروى ظمأه ويحمد الله. وبعد قليل يخرج من جيبه قصبة تشبه الناي، ويطلق صغيره في الفضاء، فيقطع السكون السائد بلحن حلو طروب، له في كل ناحية صدى، وكأنه يملك الدنيا بأسرها!
تعجب الملك ووزيره لهذا القانع الراضي، الذي لم يعكر صفوه شي من اكدار الحياة، فناداه الملك وسأله: كيف حالك؟ فقال: كما ترى يا سيدي، أحمد الله على ما أعطاني من نعمة، وما وهبني من عافية. قال الملك: ما أحسن إيمانك، وما أجمل شكرانك! ولكن أما يزعجك في حياتك الهادئة شئ؟ قال: لا شئ سوى هذه النعجة السوداء، فكثيراً ما تشذ عن زميلاتها، وتستعمل قرنيها في الأذى، وتكدر صفوي. . .! ففكر الملك قليلاً ثم قال: طابت حياتك أيها الرجل لولا النعجة السوداء،
وبعد أن ابتعد عن الراعي رأي الوزير الملك مفكراً، كأن أمراً شغله، فقال: أعزك الله يا مولاي، وجعل السعادة ظلا لملك العزيز، ليت شعري ما يشغل بال الملك؟ أرجو ان يكون خيراً فأومأ الملك شاكراً، وظل في تفكيره برهة ثم قال: ماذا تركت في نفسك هذه النزهة من أثر؟ وهل رأيت فيها شيئاً من الغرابة؟ قال الوزير: ل اغرابة - يا مولاي - في جمال(879/27)
النزهة وترويحها وهدوئها، ولكن الغرابة في قصة الراعي. لقد دلت الأرض التي افترشها، واللقيمات التي طعمها، على الخشونة والشظف. ودل الغناء والصفير على السعادة والسرور، ودات النعجة الشاردة على أن السعادة لاتصل إلى حد الكمال! فعقب املك على جواب الوزير قائلاً: اعلم أيها الوزير أن المال والجاه والقصور والحدائق والخزائن والملك كل هذا لا يثني النفس عن استسلامها لشاغل ما، ولا يحول بينها وبين هم يشوب سرورها، أو يطغي عليه، فلكل امرئ - وان علا - نعجة سوداء!
حامد بدر(879/28)
منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
للأستاذ محمد خليفة التونسي
يقول الحكيم الهندي رابندرانات تاجور (إن كل طفل يولد دليل على الله لم ييأس من الإنسانية بعد).
ولا علينا أن تزيد (وكل عبقري ينبغ دليل مائل يكشف حكمة الله في عدم يأسه من الإسلامية).
وما جدوى الإنسانية من البقاء، بل ما جدوى الحياة والطبيعة كلها إذا كان بقاؤنا في ضيقه ورتابته وانحطاطه كبقاء الأرضات في سرداب الأرض المظلمة أو مملكة الظلام كما قال موريس مترلنك الشاعر البلجيكي؟
ماذا في ميلاد طفل؟
إنه دليل على تمسك الله بالإنسانية، إذ لم ييأس منها، وعلى أنها لا تزال أهلا لأن يرفعها باستعدادها لقبول نعمه، ولكن الحكمة في عدم بأسه منها خافية، والدليل على استعدادها عنا مستور.
وماذا في نبوغ عبقري؟
إنه دليل على ذلك كله، وعلى شئ فوق ذلك كله.
دليل على تمسك الله بالإنسانية، واستعدادها لتقبل ما يفيض عليها من نعمة، وصلاحها لأن يرفعها إلى أفق أرفع من أفقها الذي هي فيه عن رضا وطواعية، ودليل أيضاً على قبولها نعمة فعلاً وتحقيق صعودها إلى أفق أعلى راضية طيعة. فحكمة الله في عدم يأسه من الإنسانية هنا بينه، وحجته لنا ظاهرة.
إذا كان ميلاد طفل دليلاً على استعداد خفي في الإنسانية لنعم الله، وعلى حكمة خفية علينا في استمساكه بها، فإن نبوغ عبقري دليل على بروز نعمة وحكمته من عالم الأمر إلى عالم الخلق، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بلغة القرآن الكريم، أو من عالم المثال إلى عالم الحس بلغة أفلاطون، أو من عالم القوة إلى عالم الفعل بلغة أر سطو، أو من عالم الفكرة إلى عالم الإرادة بلغة شوبنهادر.
وشتان في وجودنا المحدود بين الشيء أملالم يتحقق، والشيء نفسه حقيقة قائمة، ومهما(879/29)
يتساويان في قدرة القادر، وإبداع المبدع بل في علم العالم أزلاً فليسا سواء في وجودنا الزماني الناقص، وهذا هو ما يعنينا نحن أبناء الزمان الفانين.
نبوغ عبقري دليل على تحقيق بعض الآمال التي ناطها الله بالإنسانية ورفعة إياها من أفق إلى أفق أعلى وأرحب وأجمل، ونسخها من شكل إلى شكل أصفى وأصدق تمثيلا لقدرته وإبداعه، وأفصح تعبيراً عن حكمه، وأشد تحقيقاً للقوى الكامنة التي بثها فيها، وأدنى إلى الغايات التي يجذبها إليها خلال سيرها نحو الكمال المقدور للمخلوقات الفانية في شوقها إلى الله.
إن الخلق هو أعظم النعم ولا ريب كيفما كان.
ولكن تمام هذه النعمة لا يتحقق إلا بالامتيازات التي يسبغها الله على من يصطفيهم من مخلوقاته على مقتضى حكمه، وهو يخلق ما يشاء ويختار. فإذا هؤلاء الممتازين أنس الحياة وجمالها ومسوغها، وحجة الخالق التي يمتحن بها المنكرون، ويزداد بها المؤمنون إيماناً ويقيناً واطمئناناً.
لا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور.
ولا يستوي الذي لا يعلمون والذين يعلمون.
ولا يستوي الأموات والأحياء
ولا تستوي الإنسانية ضالة ضائعة قبل نبوغ العبقري فيها، والإنسانية رشيدة شاعرة بمكانتها بعد نبوغ العبقري.
وإذا استجاب الإنسانية إلى دعوة العبقري طهرت أرواحا من أكدارها، وانكسرت عن قواها أغلالها، وزالت عن أبصارها عشاواتها، وانسلخت عن قلوبها أر كنتها، فشعرت بالصلات الوثيقة التي تربط كل شئ فيها بكل شئ، والصلات الوثيقة التي ترابطها كلها بالوجود كله من وراء تلك الصلات أو من خلالها؛ وانطلقت بهدى العبقرية نشيطه في حياتها، مندفعة نحو الغاية التي أريدت لها، عاملة بكل القوى التي بثها الله فيها. وإنها لتعمل وسعها واو لم تعرف الغاية الصحيحة من وراء عملها أنها مدفوعة إلى العمل بقوى جبارة تنفجر من أغوار النفس البعيدة فلا سلطان لها عليها، ولأنها تجد في العمل لذة اللعب أو الرياضة وجمالها، وحسبها ذلك من غاية لأعمالها، ولتكن عندها من وراء ذلك أو لا تكن غاية(879/30)
ظاهرة أو خفية.
تاريخ الإنسانية هو تاريخ عباقرتها وآثارهم فيها، فلو انتزعوا من تاريخها لم يبق لها تاريخ.
تاريخ الإنسانية عمل فني، عنصر الفن الأصيل فيه وينبوعه هو العبقرية، ولذلك لا يحسن كتابة تاريخها إلا فنان.
تاريخها صور العبقريات المشرقة، وانعكاسها من نفوس الناس.
وتاريخها عزف لأصوات العبقريات وأصدائها في نفوس الناس.
وما لم يكن نور فلا انعكاس، وما لم يكن صوت فلا صدى.
ومن لم يشعر بالتاريخ شعور الفنان لم يع من التاريخ حرفاً، ولو استوعب الزمان والمكان من البدء إلى النهاية. ومن لم يعبر عنه كما يعبر الفنان عن شعوره بما يجيش في نفسه لا يكتب منه حرفاً، ولو أن ما في الأرض من شجر وغيره أقلام، ومياه البحور مداد، والأرضين والسماوات صحائف يسود وجوهها بجهله وغبائه.
لا يستجيش في نفس الإيمان الكامل الخالص شئ في الإنسانية إلا العبقرية.
ولا يستحوذ على أيماني كاملاً خالصاً أحد من الناس إلا العباقرة.
وما ساورني شك في أنه لا توجد نفس إنسانية أبداً تخلو كل الخلو من نور العبقرية أصيلاً فيها، وكل الفرق بين العبقرية الشامخة والعبقرية المطموسة هو الفرق بين نور قوى عظيم يتدفق في النفس فيجرف السدود والحدود؛ ويفيض على الجوانب فيظهر ويبهر، ونور ضعيف ضئيل يبض قطيرة فقطيرة في غور سحيق من وراء سدوده وحدوده المطبقة عليه أطباقا، فلا تراه عين، ولا تسمع بخبره أذن حتى يتلاشى في التراب. وبين هاتين المرتبتين مراتب لا يحيط بها إلا علم الله، تظهر أو تظهر حسب قوتها والظروف المهيئة لها.
إن العبقرية أهل للتقديس على اختلاف مشارقها: كيفما أشرقت، وأينما أشرقت، ومتى ما أشرقت.
لا يختلف في تقديس عبقري عن عبقري باختلاف ميدانه ولا مكانه ولا زمانه ولا آثاره، ولكن بحظه من العبقرية.(879/31)
وإذا قيل: إنما ينعم الله بالعبقرية لمصلحة الناس، فاتخذنا آثارها التي هي من شأنها سواء أظهرت أم لم تظهر فعلاً مقياساً لتمييزها - لوجب أن نقدم من بين رجالها عباقرة العقائد الذين يؤمنون ويعملون الناس بالإيمان، أو يثيرون في نفوسهم الإيمان.
عبقرية العقيدة من شأن صوتها أن يكون صداه أوسع انتشاراً بين النفوس، وأن يكون أثره في النفس القابلة لترديده أقوى واعمق وأشمل تأثيرا فيها من كل صدى سواه.
1 - فعبقري العقيدة - حين يعلم الناس عقيدته - يفجر في نفوسهم بواعث الايمان، فتتفجر فيها في وقت واحد بواعث الجياة، وبواعث الفضيلة، وبواعث الشعور، وبواعث الفكر، وسائر البواعث الكامنة في بنيتها، ومن ثم يكون أثر العقيدة في النفس أتوى وأعمق وأشمل من سائر الآثار.
2 - ليس لزاماً في المستجيبين للعقيدة أن تكون لهم ملكات إنسانية ممتازة، ولقد تكون الملكات العقلية الممتازة حائلا دون الاستجابة للعقيدة، وبخاصة إذا لم تقابلها ملكات نفسية تكافئها ونحفظ للنفس أريحيتها كي تستجيب للواجب إذا دعاها وتحبب إليها أو تهون عليها البذل والفداء.
وحسب الناس أن تكون لهم ملكات نفسية عادية قابلة للتفجر أو الاستجابة حتى يكون لعبقري لعقيدة أثره في نفوسهم، كي يفجر فيها بواعث الإيمان تلبية لعقيدته، فتتفجر معها شئ البواعث الكامنة في بنيتها في فترة واحدة، كما تتفجر كل الذرات في القنبلة الذرية بتفجر ذرة واحدة فيها.
والملكات النفسية العادية - وهي كل ما يلزم لتقبل العقيدة - موفورة لكثير من الناس العاديين، وما كانوا عاديين إلا لأن ملكاتهم عادية، ومن ثم كان صوت عبقرية العقيدة أوسخ انتشارها في الناس من صوت غيرها.
3 - وإذ أن الدخول في العقيدة لا يستلزم من الإنسان مواهب ممتازة، بل حسب الإنسان فيه تسليم وسلوك بسيطان - فإن اعتناق العقيدة يخول صاحبه فيما بينه وببن نفسه وفيما بينه وبين الناس امتياز يرضي كبرياء، ويشيع غروره، ويمد له في الطموح والرجاء، ويجعله هو ومن هم أسمى منه مكانة بأي سبب من الأسباب متساوين في التعصب للعقيدة والغيرة عليها والتمتع بحقوقها وحمل مسئولياتها، من غير أن يكلفه ذلك أن يكون مستحوذاً(879/32)
على مواهب سامية كمواهبهم، أو كفاية عظيمة ككفاياتهم، بل قد لا يكلفه ذلك إلا مجرد التعصب لها، وحسبه
ذلك الامتياز من جزاء عاجل في الدنيا فضلا عن الجزاء الموعود في الدنيا أو الأخرى أو الاثنتين معاً مادام معتصماً بعقيدته وما أسخى العقائد بالوعود إلى الصبر والمثابرة والعزاء.
4 - معتنق العقيدة لا يشعر ولا يفكر ولا يعمل في معزل عن الجماعة، ولو كان خالياً بنفسه، بل هو يشعر ويفكر ويعمل كعضو في بنية الجماعة، وذلك كفيل بأن يثير فيه كل كفاياته الفردية والاجتماعية معاً ويشعره على الدوام بصلات قوية تربطه بالمجتمع، فيكون أشد شجاعة وصلابة في آرائه ومذاهبه، وأعظم استعداد للبذل والمفاداة، وأدق معرفة بما يأخذ وما يدع من الإنسان الذي يحيا بغير عقيدة، والإنسان يحيا بعقيدة بالية قد فترت وباخت في نفسه، وذو العقيدة يشعر كذلك بالاطمئنان والأنس والعزاء أعظم مما يشعر غير ذي العقيدة إذ يحس نفسه مبتور الصلات بالمجتمع، وأعظم مما يشعر ذو العقيدة البالية الفاترة إذ يحس بتهافت الصلات بينه وبين المجتمع. وفي إحساس هذين النوعين ما فيه، ومعه ما معه من إحساس باللعنة والبلية والاضطراب والتيه، وكله مما يثبط الهمم،، ويغشى البصائر، ويفرى بالجبن والحرص والانكماش. فالإنسان هو - وهو يحس بالمجتمع، ويستجيب لدواعيه - أقوى وأبصر وأشجع منه وهو محروم الإحساس به مصروف عن تلبية دواعيه. إذ لا قوة ولا بصر ولا شجاعة إلا بإيمان.
هذا إلى أن العقيدة تربط الجماعة أقوى مما تربطها رابطة اجتماعية أخرى أساسها الاشتراك في رأي، أو عمل، أو مهنة، أو مكان، أو نحو ذلك مما يشعر الجماعة بوجود مصلحة مشتركة بين أفرادها لا غنى لهم عن التعاون عليها؛ فالعقيدة تثير كل القوى وتستوعبها، وتحدد الغاية والوسيلة، وتتسع حتى تشمل الحياة وقد تمتد إلى ما وراء الحياة، ولا تدانيها في ذلك رابطة اجتماعية أخرى ولا باعث حيوي آخر.
5 - وعبقري العقيدة يعي من خفايا النفوس الإنسانية بداهة أوضح وأكثر مما يعيه غيره بالتفكير الطويل بالغاً ما بلغ من الذكاء والدرية والبصر، لأن ن نفس العبقري صورة شاملة للنفس الإنسانية على اختلاف قواها وأحوالها ونزعاتها واحتمالاتها، ومن ثم يعي هذا العبقري كل صغير في الناس وكبير، ويعي حقه وواجبه الذي ينبغي له. وطريقة الذي(879/33)
يصلح له ويغني فيه، وما يحس معه أو يسوء من السياسات، فيسوس كل نفس بسياستها الخاصة، ويشرع لها شريعتها الملائمة بلا بخس ولا محاباة.
6 - وشخصية عبقري العقيدة وسيرته مثل حي مجسم لعقيدته، فهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا على هذى من عقيدته، ولا يدعو إلى ما دعا نفسه مثله أو أشق منه، وهو في طاقة المستجيب بعد أن أمدته بواعث الإيمان بكل ما في نفسه من استجابة تكفل السمع، وتكفل الطاعة، ومن ثم تكون شخصية عبقري العقيدة وسيرته وأقواله مصدر حياة وإيمان وتشريع، وذلك كفيل باستمرار حياة عقيدته في المستجيبين إليه، وبتنقلها في طبقة إلى طبقة، وفي جيل إلى جيل.
وتتمثل عبقرية العقيدة في الدعاة إلى العقائد الدينية كالأنبياء، والدعاة إلى العقائد الوطنية أو السياسة أو العنصرية كالزعماء، والدعاء إلى العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية كأصحاب المذاهب النظرية ذات النزعات وكل منهم صاحب عقيدة لها مقاييسها الخاصة، وكل منهم مؤمن بعقيدته معتصم بها يدعو الناس إلى الإيمان بها والتزامها في مضمار من مضامير الحياة، وهم جميعا معتقدون، ومعلمون لما يعتقدون.
للكلام بقية
محمد خليفة التونسي(879/34)
رسالة الشعر
فكري
لسعاد عزيز أباظه باشا
(قصيدة عائلية ألقت عن سعادته في الحفل الخاص الذي أقامته
العائلة الأباظية تكريما لسعادة فكري باشا)
قبلوا الباشا وضموه أشد الضم عني
واسكبوا في أذنيه هذه الهمسة مني
ليست الرتبة شيئاً وهي حلم المتمني
إنه المعنى الذي تحمل يجزيك فيغنى
لم تنلها في حمى مال ولا جاه وسن
لا ولا بالحسب المعتقد من بطن لبطن
لا ولا بين زحام الناس قرناً فوق قرن
انك الواحد لا أظلم نفسي فأثنى
واحد الكتاب في لونك تبكي فتغنى
تبدع الفن الذي يقصر عنه كل فن
قلم من سرحة الخلد مغذ متأنى
رف واستعلى فإن سومي يضني ويغنى
سال كالطل إذا انهل على أكمام غصن
قاطعاً في غير طعن مبرئاً في غير من
قاسياً في غير فدح، ليناً في غير وهن
مرسى الفكرة والرأي على أمتن ركن
وخطيب أيقظ الأمة بالصوت المرن
أو حدى اللحن تزجيه فيشأو كل لحن
تنشد الحق وتسمو عن حزازات وضغن(879/35)
يكتر المنبر ما أوتيت من سحر ووزن
ود لو يسعف بالنطق فيثنى ثم يثنى
يا لداتي وضأ الله لكم جنات عدن
كل غصن جفف الموت نداه إثر غصن
قلب الدهر علينا بعدكم ظهر المجن
ثم والى بعد حيف وارعوى بعد تجن
سبحوا في رفوف الخلد بقلب مطمئن
أكرمت مصر أخاكم وحبت في غير ضن
إيه يا فكري ومن يعرفه أكثر نمي
كنت لي خدنا إذا ضيع عهدي كل خدق
ما تهيجت ودادي، لا ولا أخلقت ظني
أنت إشراقة روحي، أنت إغفاءة جفني
ماثل في حبة القلب في إنسان عيني
إن أهنئ فبمن أبدأ؟ بالله أغني
أنت نفسي يا أخا العمر فنفسي من أهني
عزيز أباظة
أطلال راقصة. . .
للشاعر صالح علي شرنوبي
(إليها. . . إلى المسكينة التي نبذتها الحياة) (وما زالت تعيش
على ذكرياتها. . .)
طرقي. . . أطرقي، فقد ضمك الليل ... . . . وألقي عليك ثوب ظلامه
اطرقي. . . فالحياة في قلبك المظلم ... ماتت. . . موءودة في حطامه
يا ابنة الفقر. . . مزقتك سوافيه ... . . فلا تذكري أسى أيامه(879/36)
واقبعي في غياهب الليل. . حتى ... بشرق الفجر من وراء غمامه
اقبعي هاهنا. . . ولا تفغري فا ... ك بقول. . . مستحدث. . . أو معاد
اودعي الليل مثلما جاء يمضي ... والبسي من جاء. . . ثوب حداد
ودعيني أصغي إلى همسة الحا ... ئر. . . بين الأزل. . . والآباد!
لا تضجي. . . ولا تضيقي بصمتي ... فهو زادي وعدتي وعتادي
دونك الكأس. . فاشربيها. . وذوقي ... لذة الموت. . . في ثنايا الرحيق
أشربيها. . . فأنت قصة دنيا ... ها. . . ونامي في حضنها. واستفيقي
واسأليها. . . فعندما علم أيا ... مك. . . منذ التقيتما في الطريق!
اسأليها. . . ولا نكفي بكاء ... فوق أطلال فجرك المشنوق
قصة الكأس. . أنت مثلتها يو ... ماً فقد كنت مثلها. للجميع!!
يوم كان الزمان فيك ربيعاً ... عبقرياً. . . وكنت روح الربيع
دفنت عطرك الأعاصير يا بله ... اء. . فابكي. . واستمتعي بالدموع
وإذا شئت أن تعيشي على الوه ... م. . فغني. . . قبل انطفاء الشموع
لا تثوري على الحياة. . فقد جف ... ت. . . زهور الحياة. في راحتيك
كنت. . . والحسن والشباب. فأ ... صبحت. . . وما من أولاء شئ لديك
فاعذري الناس إن مضوا عنك لايل ... وون. . . فالنور مات في عينيك!
ودعي الذكريات. . تقتات ما ... أبقت أفاعي الظلام. . . في شفتيك
لم يعد فيك ما يسر العيونا ... فاعذري العابثات. . . والعابثينا
نسلت ربشك المنايا. . . وأبقت ... جسدها لكما. . . وروحاً جزينا
وبقايا قلب. . . وأشلاء نفس ... وشعاعاً - تحت الرماد - سجينا
وحطاما قد عضمضته الرزايا ... يتنزى مدامعاً. . . وأنينا
فإذا ما أعياك خبث الغواني ... فاغمري كيدهن صفحاً ولينا
وإذا أيقظت شجونك حورا ... ء وأغرت بقبحك الشامتينا
فاسخري من جمالها. . وصباها ... واحقريها بكثرة العاشقينا!
أو. . عظيها. . فرب شيطانه منكـ ... ن قالت فأبكت الواعظينا(879/37)
حدثيها عن الهوى. . . والرفاق ... والليالي، والخمر، والعشاق
وجسوم أشقيتها بالتنائي ... وجسوم أسعدتها بالتلاقي
حدثيها عن كل شئ سوى الح ... ب. . . فما عندكن غير النفاق
حديثها عن الفتى الناعم المم ... راح، أعمى العواطف، الأفاق
كيف أغراك ذات ليل. . . وولى ... هارباً من عفافك المهراق
تاركاً ثوبك الممزق للنا ... ر. . وعصف الرياح والأشواق
حديثها. . مادام في كوكب العص ... ر. . شعاع مهدد بالمحاق
ثم غيبي عن زحمة الموكب الأع ... مى. وعيشي للحزن. والإطراق
صالح علي شرنوبي
كلما. .
كلما أسمع لحناً عبقري النغمات
أو أرى الأنداء تحبو الزهر عذب القبلات
أو أجيل الطرف يا نجواي بين الصفحات
أتمنى لو تكونين معي في خلواتي
فهنا أشعر حقاً بخبايا الكلمات
ومعاني النغمات، وغرام الزهرات
أنت لو تدرين قد أمسيت مقياس حياتي
فبك الكون يولى، وبك الكون يؤتى
أنت. . من أنت؟ وهل في قدراتي أعرف ذاتي؟!
محمد محمود عماد المحاصي(879/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
معركة القزويني في الأزهر:
هي معركة طريفة بين أستاذين من أساتذة كليه اللغة العربية بالجامع الأزهر، هما الشيخ عبد المتعال الصعيدي والشيخ محمد عبد المنعم خفاجي، وتدور رحا المعركة على كتاب (الإيضاح) في علوم للخطيب القزويني. وذلك أن للأستاذ الصعيدي شرحاً لهذا الكتاب بتداوله الطلاب منذ سنين، فجاء الأستاذ خفاجي ووضع له شرحاً آخر أخذ طريقه أيضاً إلى أيدي الطلاب، فأصدر الشارح الأول كتاباً اسمه (تنوير الطلاب) نقد فيه مسلك الشارح الثاني في وإخراج الكتاب تعليقاته عليه، وقال: أنه عنى بنقل عبارات الحواشي ومما حكاتها اللفظية بأسلوبها الذي لا يليق بعصرنا. . فهب الشارح الثاني يدفع الغرة بمثلها، فأصدر نشرات تحمل عناوين مثل (بيني وبين الناقد العالمي البروفسير الأستاذ الصعيدي) و (بيني وبين زعيم المجددين في البلاغة) وقد ذهب في هذه النشرات إلى أن الأستاذ الصعيدي خشي من منافسة شرحه الذي كان الميدان خالياً له من قبل. ومما قاله: (والطريف حقاً أن ناقدنا الكبير يرى أن الإيضاح ملك له وأنه كان حجراً محجوراً على سواه أن يتناوله بالشرح والتعليق، لأن عمل الناقد فيه معجزة الأجيال ولأنه قد فرضه على الطلاب المساكين فرضاً وحمله إليهم حقيقته صباح مساء)
وتعودات النشرات والحملات بين الأستاذين الحليلين، بعضها في التجريح الشخصي، وبعضها في مسائل (العلم) من نحو إستاد ليت من الشواهد إلى غير قائله أو تحريف فيه أو توجيه لقول (المنصف) ومما اختلفا عليه: هل مقدمة (الإيضاح) مقدمة كتاب أو مقدمة علم! وكم في ذلك من نظر!
ويقول الأستاذ الصعيدي: (ويا ويل الأزهر في عصر الذرة إذا علم الناس أنه لا يزال يبحث في متعلقات الفعل، آلامها مكسورة أم مفتوحة) فماذا يقول الناس إذن إذا علموا أن أساتذة الأزهر - في عصر الذرة - لا يزالون يستنفدون جهودهم في العراك على إيضاح القزويني؟ وليت الأستاذين الفاضلين بذلاً هذه الجهود في تأليف بلاغة أخرى غير بلاغة الإيضاح، تجدي على الطلاب في تنمية ملكاتهم الأدبي على البحوث التي يحويها الإيضاح(879/39)
وأمثاله مماحكات لفظية وأنها لا تليق بعصر الذرة، فلم إذن يشغل نعسه بشرحها والتعليق عليها والعراك من أجلها؟
والعجيب أن يضيع الأستاذ ذلك وله نشاط معروف في الكتابة والتأليف؛ ولكن يظهر أن المؤولين عن مناهج الدراسة في الأزهر هم المسئولون عن ذلك، فإن التمسك بتلك الكتب جعل الأساتذة - حتى المنتج منهم - يدورون حولها ثم يتنازعون عليها، وكان الأولى أن تصرف هذه الجهود في العمل المنشود لإحياء التأليف الملائم للعصر بالأزهر.
ويبدو لي أن تلك المعركة لا يفضها إلا أحد أمرين، الأول أن تلغى دراسة الإيضاح من الكلية، فيرفع (اللحاف) من بين المتنازعين عليه، وبهذا تخلص العقول الجديدة من تنافره وتعقيده. الأمر الثاني أن تبلغ مجلتنا (الرسالة) إلى (قزوين) حيث يعلم بالأمر أحد أحفاد الخطيب القزويني. . فيطالب بحقه في (الإيضاح) الذي ألفه جده الكبير. . .
شكوى شاعرين من (الشاعر)
شكا إلى شاعران من مجلة (الشاعر) التي يصدرها الزميل الكريم الأستاذ محمد مصطفى المنفلوطي، وهما الشاعر العراقي الأستاذ إبراهيم الوائلي والشاعر السوداني أبو القاسم عثمان. يقول الأول: (جاءني ذات يوم صديق شاعر وطلب مني أن أسهم في عدد خاص من مجلة اسمها (الشاعر) وقال لي: إن العدد الخاص سيكون عن الربيع، فاستجبت لرغبة الصديق بقطعة عنوانها (ربيع النيل). وجاءني العدد الخاص فإذا القصيدة قد حذف أجمل ما فيها، فتمزقت وحدتها. وقال لي صاحبي: إن صاحب المجلة فعل ذلك لأن الصفحة الذي خصص للقصيدة لم يتسع لها، فكان الحذف والبتر)
ويشكو الثاني نفس الشكوى فيقول: إن قصيدته كانت ثلاثين بيتاً أسقط منها أربعة، لأن الصفحة لم تتسع لأكثر من ست وعشرين، ويقول: (ولما لم يكن هناك عذر في عدم نشر القصيدة كلها إلا ضيق المقام فإن ذلك عجيب من مجلة تحمل أسم (الشاعر) ذلك الاسم العظيم الذي لا يعرف الحدود ولا القيود)
وظاهر من كلام الصديقين الشاعرين أن المجلة عمدت إلى ذلك التصرف محافظة على نظام الصفحات. . ولاشك أن وقوع ذلك من مجلة خاصة بالشعر غريب، فإن أعز ما يتمسك به الشاعر العصري هو تسلسل معانيه وارتباطها، وإذا اقتضى بعض التنظيم(879/40)
الصحفي تحيف الموضوعات لتظهر الصفحات على نسق معين، فإن ذلك لا ينبغي أ، يكون في المجلات الأدبية التي يراعي فيها الموضوع قبل الشكل ولا أخال الأستاذ المنفلوطي - وهو الشاعر صاحب (الشاعر) - إلا ملاقياً عتاب زميليه الشاعرين وتعقيبناً بقبول حسن.
على أنني مع ذلك لا أخفي شمتي بالشاعرين فيما جرى لشعرهما الذي قالاه في هذا الربيع لزعوم في مصر. ولو لم تكن قصيدة الوائلي عنوانها (ربيع النيل) لفهمت أنه يعبر عن إحساسه بجمال الربيع في العراق؛ أما أبو القاسم فلا أدري أين شاهد الربيع، وليس في السودان ربيع غير الشتاء الدافئ، فهناك الآن الحر اللافح، كما أن هنا الآن في مصر تقلب الجو الذي حيرنا بين التخفيف والتثقيل، ونالنا من شره قذي في العيون وبرد في الأجسام مختلف الألوان. وعلى رغم كل ذلك لا يزال إخواننا الشعراء في مصر مصرين على التغني بالربيع!
المسرح المدرسي:
أتيح لي في هذا العام أن أكون على مقربة من النشاط المسرحي في المدارس الثانوية بالقاهرة، وأن أشهد الحفلات التي أقيمت لنيل كأس وزارة المعارف في المباراة المسرحية. وقد رأيت فرق المدارس تبذل غاية وسعها في هذا السبيل، كما لمست الجهد البارز الذي تبذله مراقبة المسرح في الإشراف على هذا النشاط وتوجيهه، وهو جهد مثمر ولكنه محدود وقليل الوسائل.
وقد اختير للمباراة في هذا العام مسرحية (عزة بنت الخليفة) للمرحوم إبراهيم بك رمزي، وهي رواية تاريخية تقع حادثتها بمصر في عهد الخليفة الحافظ الفاطميين، ولا يقصد منها وقائع ولا حقائق تاريخية وإنما هي قصة تحليلية إنسانية تدور حول عزة بنت الخليفة التي فقدت بصرها وهي صغيرة، ويحبها أمير من الشام إذ يرى جمالها ونبالة نفسها، ولا يغض من حبه أن يعلم أنها ضريرة، وفي القصة أيضاً عاطفة الأب الذي يحنو على ابنته ويبتئس لفقد بصرها ويعمل جاهداً على إرجاعه إلى عينيها. وقد لاحظت أن الطلبة لم يبلغوا الشأو المطلوب في المسرحية لأنه يحتاج إلى أكثر من شباب يتمرن، كما لاحظت أنهم - على وجه العموم - لا يجيدون في الروايات التاريخية مثلما يجيدون في الروايات العصرية، فقد قدمت الفرق المدرسية إلى جانب تلك الرواية مسرحيات أخرى مختلفة. وذلك يرجع فيما(879/41)
أرى إلى ضعف التحصيل التاريخي مما يصعب عليهم معه الاندماج في بيئة الرواية ويرجع كذلك إلى ضعفهم أيضاً في النطق العربي وقلة مرانهم على الإلقاء الفصيح.
وكثير من نظار المدارس يتخذون من هذه الحفلات مجالاً للإعلان عن أنفسهم، فيزحمون البرنامج بالخطب، فإما أن يخطب الناظر معدداً مفاخره. . في إدارة نواحي النشاط بالمدرسة! وقد عمدت إحدى المدارس إلى (إخراج فلم) يصور الناظر يستعرض (الطوابير) أو يتفقد المطعم ويفحص (الحلل. .) وهكذا نرى عين عزته على كل شئ في المدرسة. . . كما قال المدرس الذي كان يصاحب العرض بصوته.
ومهما يكن من شئ فهناك حقيقة مهمة، وهي التربية المسرحية الفنية في بيئات المدارس، وهي الغاية التي يتجه إليها الأستاذ زكي طليمات مراقب المسرح في وزارة المعارف، فإننا نجد الطلبة مقبلين على هذا الفن بشوق ونشاط، سواء في ذلك المشتركون في التمثيل والمشاهدون. وذلك يدل على طواعية هذا الجمهور الناشئ وصلاحيته للاستفادة من المسرح الذي هو مجمع للفنون المختلفة من أدب وتمثيل وتصوير من توجيه اجتماعي وثقافي وتربية وطنية وخلقية. ولا أحسب وزارة المعارف إلا مقتنعة بهذه الفوائد، وخاصة في عهد وزيرها الحالي الأديب الفنان. ولكن يبقى بعد ذلك أن نلاحظ أن ما تبذله من العناية في هذا السبيل لا يساوي ولا يداني ما ينشد من غايته، وهو لذلك يقصر دونها، فقد رأينا الفرق المدرسية يعوزها المدربون الفنيون الأكفاء، وهذا العدد القليل من خريجي معهد التمثيل لا يكفي، على أنهم يعاملون بالمكافأة المادية القليلة، وهم يعملون على هامش النظام المدرسي، فليسوا موظفين دائمين، بل تصرف لهم المدرسة مكافآتهم الزهيدة من مال النشاط المدرسي. فمالها الدولة لهؤلاء الشبان الفنيين جزء من عدم عنايتها بالمسرح على وجه العموم. على أن كل ذلك المجهود المحدود قليل الوسائل إنما هو في مدارس القاهرة، أما بقية مدارس القطر فإن الإشراف الفني على النشاط المسرحي يكاد يكون معدوماً فيها وهذه الظاهرة المسرحية المدرسية توازي الظاهرة المسرحية العامة فليس في مصر فرق تمثيلية يعتد بها غير القاهرة.
إنني أعتقد أ، وزارة المعارف هي التي تستطيع أن تغذي أو تبعث النهضة المسرحية في هذه البلاد، وذلك بتربية الجيل الناشئ على تذوق الفن المسرحي وحبه، وبإعداد المشتغلين(879/42)
بالفن من الشباب المتعلمين، ولكنا نراها مع الأسف تسير في ذلك سير السلحفات، والمظهر الجدي الوحيد لاهتمام الوزير بالتمثيل هو معهد التمثيل العالي. أما مراقبة المسرح فهي مدمجة في إدارة عامة أنشئت حديثاً اسمها إدارة النشاط الاجتماعي والرياضي، فكأن الوزارة بهذا الوضع تعتبر فن التمثيل أحد أنواع هذا النشاط الذي لم نر منه إلى الآن إلا رحلة في الصيف إلى الإسكندرية ورحلة في الشتاء إلى الأقصر. . . وهذه الإدارة جديدة لا يزال موظفوها يكتبون المذكرات ويضمون الخطط، ونحن نرجو لها التوفيق في خدمة الشباب، ولكن هذا كله غير فن التمثيل الذي توضحت معالمه وأرسى القائمون به قواعده.
عباس خضر(879/43)
البريد الأدبي
ذكرى الرافعي
في هذه الأيام تظلنا الذكرى الثالثة عشرة لفقيد العروبة والبيان العربي المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي، فقد لقي وجه الله في اليوم العاشر من مايو عام 1937.
ولقد كنت أهم بإعداد مقال مسهب عن هذه الذكرى العاطرة، بيد أني حين رجعت إلى كتاب (حياة الرافعي) وجدت أن أديبنا المتمكن الأستاذ محمد سعيد العريان لم يترك زيادة لمستزيد، وبخاصة أن جزءاً كبيراً من كتابة نشر منجما في (الرسالة) سنة مات الرافعي.
واليوم إذ تنطوي الأحقاب على ذكرى أديب العروبة الكبير نفتقد مكانه في الأدباء فنجده شاغراً، ولا نجد في أدباء الشباب من يسير على غراره ويقتفي أثره، فقد كان الرافعي - رحمة الله - يدعو للغة العربية (المسلمة). ويتعصب (للعبارة القرآنية) وكان إذا هم بالتابة فزع إلى عربي مبين ليقوم أسلوبه ويجربه على سنن الفصحى.
ولقد أشاد مصطفى صادق الرافعي بأمجاد العروبة، وحلق في الآفاق بتراث الشرق فبز المتأخرين وما قصر دون المتقدمين.
ولقد كانت بيني وبين الكاتب الكبير جيرة في رمل الإسكندرية يوم كان يصطاف سنوات متوالية، فحمدنا الجوار، وشكرنا الصحبة، وفيما نحن نرتقب الأوبة إذا بالنعي الأليم يطالعنا مصبحين!
ولقد أرسلت هذه الكلمات تحية لذكرى الكاتب والصديق العظيم، والمرض الوجع يعرقني والحمى تعاودني حيناً بعد حين، فعفوا - أبا سامي - ووالله ما تؤدي كفاء حقك علينا ولا على العروبة، وإنما لك عند الله حسن الجزاء.
منصور جاب الله
بين الحساب والعتاب
طالعتني من روضة الرسالة الفيحاء كلمة الأديب الأزهري المتوثب محمد القاضي خليل الموجهة إلى شخصي، وفيها الثناء الكريم والشكر المحمود والظن الجميل؛ ومع تقديري للدافع النبيل الذي دفع بالأديب إلى هذا الشكران والتعليق، أهمس ف أذنه بأنه استخلص(879/44)
من حديثي ما لم أرده، وحمل عبارتي عن المؤلفات الأزهرية ما لا تحمله، إذ ظن أنني أعتبر هذه المؤلفات الجديدة هي غاية القصد والمراد من شيوخنا الإجلاء، وأعلام نهضتنا الأزهرية المرموقة، مع أن ذلك لم أرده ولم أقله؛ فعنوان المقال: (الأزهر في مفترق الطريق) يدل على أن الأزهر لم يبلغ بعدما يريد وإن كان يسير، ولهجة المقال كله تنادي بالقول بأن الأزهر حائر مضطرب مزلزل الخطا، لا تزال في دور الانتقال، ولا يزال يتعرض لمحنة الذبذبة بين القديم والجديد. وقد أقمت من الشواهد على ذلك ما أقمت، ثم عرضت لموضوع الكتب الأزهرية عرضاً سريعاً موجزاً، ذكرت قيه أن كتباً جديدة قد ألفت بأفلام أزهرية، وأن هذه الكتب فيها بعد قليل على الأمد، ويطيب عندها قطف الثمر والاستمتاع بالحصاد؛ ولعله من العسير - إن لم يكن من المستحيل - أن تطلب إلى أسير ظل مقيداً أجيالاً مباشرة في عدو وجرى متتابع! ليس هذا من سنن الحياة أو الأحياء في شيء!
وإذن فلنعتبر - كما حاولت أن يفهم القارئ من كلامي السابق - هؤلاء السابقين من المؤلفين رواداً يكشفون لنا الطريق، ولا يعيهم أبداً أن تكون لهم عثرات أن هفوات، أو تؤخذ عليهم ملاحظات، أولاً يقسم عملهم التأليفي بالكمال والتمام، فإنهم جنود الطليعة، وهم بلا شك يتعرضون لمعاطف الطريق وفجاءات السبيل.
والمهم هنا أيها الشبل المتوثب أن يتصل سبب الإنتاج والإخراج والتحسين والمضي إلى الأمام، وحينئذ تنتهي فترة الانتقال والاضطراب، وتبدأ مرحلة الاستقرار والبناء!
إن الأزهر من دعائم دين الله في أرضه، ولعله اليوم أقواها وأعلاها، فلنحطه بالرعاية والعناية ودسن التوجيه، بله أن نتطاول عليه بصريج الهجوم وعنيف التحطيم، وكان الله للأزهر!
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي
ولكن لوموا أنفسكم. . .!
لقد أحزنني وحز في نفسي، أن أرى تلك المنارة الشامخة التي تهدي الناس على مر(879/45)
العصور إلى طريق الحق، تصبح بين آونة وأخرى غرضا لسهام أناس لم يعرفوا للأزهر جلاله، ولم يفطنوا إلى أن للنقد اللين الرقيق من الأثر مالا يحتاج إلى برهان! فضلاً عن أنه من العوامل الهامة في الإصلاح المنشود.
وأبكاني ولست أزهرياً - أن يأتي النقد على صور مفزعة تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ومن تلك الصور من يأتي بنتف أبواب في أصول الفقه قد قرأها ولم يستسغها - وكأنه يريد أن يكون مشرعاً - فبني عليه رأيه، وثار تلك الثورة التي لا يكون من ورائها إلا بلبلة الأفكار وزلزلة العقيدة، فيا ليت شعري، كيف يصبح عالماً ذلك يريد أن نحتاج إليه ندرسه، أو كان الجديد إلا من صميم القديم.
ما ضركم يا طلاب الأزهر أن تدرسوا وتتفقهوا وتطهروا قلوبكم من تلك الاعتراضات الزائفة والتي تظهر عوار الكسول والتي لا يكون من ورائها إلا العبد عن العلم وآدابه وقد قالوا أن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك). فمن أعطى العلم حقه من اليقظة والمنافحة والأدب حاز الفلاح والنجاح.
لا لوم على الأزهر، وإنما يقع اللوم على تلك النفوس التي تتمسك بالقشور وتترك اللباب، وقد ركنت إلى الكسل ولم تتطهر وتتأدب بآداب الدين.
فمن للدين - يا إخواني - إن كنتم كذلك، ومن لحمايته - وأنتم حماته - إن كنتم من عوامل هدمه.
على أنني أنكر أن الأزهر في حاجة إلى عناية القائمين عليه، وقد بينها أستاذنا الزيات في مقالاته في الرسالة الزاهرة، وصورها. بصورة تقر العين وتشرح الصدر.
حيا الله الأزهر وأبقى ذكراه في الخالدين.
شطانوف
محمد منصور خضر
في اللغة: - ساهم - وأسهم
يرى بعض الباحثين في اللغة أن الفعل (ساهم) لا يؤدي إلا معنى المقارعة، ويستدلون على ذلك بالآية (فساهم فكان من المدحضين) ويرون أنه يؤدي معنى الاشتراك، وعلى ذلك(879/46)
يخطئون لفظة (المساهمة) في قول القائلين مثلاً (شركة مساهمة) ويصوبونها بقولهم (شركة مسهمة) من أسهم بمعنى اشتراك. . . وحجتهم في ذلك أن كلمة (ساهم) لم ترد في القواميس العربية إلا بمعنى المقارعة. . . ولما كانت هذه القواميس تحتج لصحة الكلمات التي توردها وتورد اشتقاقها بكلام العرب شعراً ونثراً في عصور قوة الفصحى وقبل تسرب الدخيل إليها، كالعصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي؛ فإنني أرى أن كلمة ساهم تؤدي معنى الاشتراك، ولا غبار علينا إذا أسمعناها في هذا المعنى؛ فلقد عثرت على استعمالها في هذا المعنى (والاشتراك) في شعر إسلامي أموي للشاعر الحكم بن معمر الخضري إذ يقول في وصف امرأة: -
تساهم ثوباها ففي الدرع غادة ... وفي المرط لفاوان ردفهما عبل
ولا يمكن أن يكون معنى (تساهم) هنا إلا الاشتراك في الاقتسام. فلعل الأقلام الحمر بعد ذلك ترحم هذه الكلمة وتهبها حريتها لتعيش في أمن وسلام، فهي صحيحة في معنى الاشتراك كأختها (أسهم) وإن لم توردها القواميس؛ ولعلها تزيد على كلمة (أسهم) أنها أخف منها وضعاً، وأكثر استعمالاً وقد دربت عليها الألسنة وتقبلتها الأسماع. . .
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(879/47)
رسالة النقد
القضايا الكبرى في الإسلام
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
للدكتور زكي المحاسني
سألت وأنا أجول في صحن الجامع الأزهر عن الشيخ الصعيدي. قلت لعلي أجده تحت رواق من الأورقة التي علت، فأظلت. فدللت على مكانه البعيد، لا في الصعيد. ولكن في كلية اللغة العربية. وكنت أذكر أن أحد عشاق الأسفار من الغربيين كان يقول: من زار باريس فليكتف منها بأن يرى برج إيفل والمسيو أندريه تارديو. وقد مر بالخاطر هذا القول وأنا أبحث في مصر عن الأزهر الذي رأيته كثيراً قبل أن أراه.
كنت وأنا أجوس خلال الصحن أتمثل حلقات الدرس التي لم يبق منها إلا الفلول، فلقد انتقل التعليم من فناء الأزهر فوق الحصير إلى أبنية شيدت بحديد يجلس فيها التلاميذ أهل العمائم والجيب على مقاعد مرصوفة كالتي في المعاهد المتحضرة. ثم لا ضير عليهم أن يبدؤوا علم الأزهر مع حفظ الكافية والأجرومية بشيء من الفرنسية والإنكليزية، وأن يؤلفوا بين الفقه والأصول بضرب من الكيمياء والكهرباء.
وقد لقيت الشيخ بعد لأي في دار من دور الطباعة فأذكرني لقاؤه بموعظة نطق بها ابن المقفع وهي قوله: لا يجعل بالمرء أن يرى إلا مع النساك متعبداً أو مع العلماء جاهداً. وقد لقيت هذا العالم الأزهري العظيم حيث يجمل أن يكون اللقاء بمثله.
بدأ طوالا عريض المنكبين متسق الوجه. ولو أن للمعرفة أشعة لحسبتها تتلألأ في عينيه. واليوم وأنا أتحدث عن كتاب من أجل كتبه وهو القضايا الكبرى في الإسلام أعيد للبال سمته الجليل ومنظره الكريم خافقاً بعمامة وجبة يستدير عنقه فوق جلباب نقي سابغ.
والقضايا الكبرى اسم مر على أسلات الأفلام المعاصرة، فألف في بابه الأستاذ محمد عبد الله عنان كتاباً اسمه قضايا التاريخ الكبرى، جمع فيه كبريات من الحوادث في الشرق والغرب.
وكلا المصريين نال لما صنع المؤلفون الغربيون فقد ألف نقيب المحامين الفرنسيين الغابر(879/48)
(هنري روبير) كتاباً بهذا الاسم. وفي فرنسة مكتبة حقوقية أصدرت مجموعة سنوية كبرى تسمى قضايا العالم الكبرى '
أما كتاب القضايا الكبرى في الإسلام الذي أنا بسبيله في هذا الحديث فهو للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي. ويمتاز هذا العلامة من زملائه الأعلام الأزهريين بأنه يجمع العلم الديني إلى الأدب الإنساني. فقد أذكر أن له رسالة قديمة كتبها في أبي العتاهية الشاعر العالمي درس فيها حياته وشعره، كما نشر ديوان الهاشميات لشاعر العصر المرواني الكميت بن زيد الأسدس بتحقيق دقيق، ورأى رصين.
وكتابه عن القضايا الكبرى في الإسلام يبدأ بعصر الرسول فيصور مؤثرات المنافقين، وقذف عائشة وطلاق زينب، ويتحدث عن مجرمي الحرب في فتح مكة. وإذا هزني حديث الإفك فجعلت أتململ على مثل النار لما اعترى عائشة من الحزن يوم ذاك، فإني ليهزني ذكر الخوارج الصلاب الشداد، وقد وقفوا يوم التحكيم مثل أسود لا تخدعها الثعالب، فراحو يهتفون: لا حكم إلا الله. حتى إذا انحدرت في قراءة هذا الكتاب إلى عصر بني أمية والمروانيين راعني مقتل سعيد بن جبير. إذ يعرضه الأستاذ الصعيدي أذهب مذهباً يخالفه في أمر سعيد بن حبير، فإن قلق الحجاج كان لا يزال يعاود خيالي فأنصوره وقد قتل أزهد عالم في الإسلام، وأوعى فقيه من التابعين لعلوم الدين. ثم أتصور هبوبه من نومه فزعاً مرتاعاً يصيح في خدمه وحشمة في قطع من الليل منبهر الأنفاس، يخيف الحراس فيقول صائحاً:
- لقد رأيت في المنام ابن جبير يقول لي: كيف قتلتني يا حجاج وكأنه كان يأخذ بعنقي ليخنقني.
لكن المؤلف مد بيانه، وبرهانه، إلى رأيي فبدل ما كنت أذهب إليه من مذاهب في شأن ابن جبير، فلقد أفسدت السياسة علم هذا الحنيف كان والياً على عطاء الجند سنة ثمانين من الهجرة في جيش جهزه الحجاج لغزو رتبيل ملك الترك مما وراء النهر بعد فارس. وولى عليه عبد الرحمن بن الأشعث الكندي. فلما توغل عبد الرحمن في بلاد وطاع له العباد اجترأ على الحجاج فحلع طاعته وطاهرة على ذلك ابن جبير، وكان ابن الأشعث الكندي خواناً حين ارتد على المسلمين يقاتلهم ويسد عضد أعدائهم يوم الفتح. وقد جرت حروب(879/49)
بين لبن الأشعث والحجاج أزهقت من المسلمين نفوساً كثيرة لو صرفها أصحابها إلى الفتوح لأوغلوا في البلاد. وانتهت هذه الحروب بظفر الحجاج، فأمكنه الله من سعيد بن جبير بعد أن نقض العهد وبايع لبن الأشعث، ففتله بعد أن حاكمه، وكان خصمه وحكمه.
ويختم المؤلف على العصر الأموي بخاتم البحث، ليفتح باب العصر العباسي على مصراعيه كما يفتح باب المحكمة عن بهوها الكبير وحكامها الجبابرة، فأدخل على القضايا العباسية الكبرى.
وكنت أوثر لأدب، فيجتذبني بشار بن برد إلى قضيته، فأشهد محاكمته مع الزنادقة في عهد الخليفة المهدي.
وقد كان المؤلف أشبه عندي بالمدعي العام، يصور للمحكمة جرم المتهمين حسب رأيه ووفق نظريته، ثم يحملهم على غوارب الحكم حملاً. وهاهنا لم يجتذبني المؤلف ولم يغير من رأيي في مقتل بشار فلقد راح بجمع النصوص من شعر بشار، وأخبار الزنادقة وشرطة الملحدين الذين كانوا مكلفين بالتتبع يحملون أخبار العقول والألسنة إلى الخليفة، وقد صنع المؤلف كل ذلك ليهيئ الحكم على الشاعر بأنه قتل من أجل هجائه وفحشه أو بسبب زندقته وإلحاده. والصحيح عندي أن الذي قتل بشاراً السياسة. فقد استبد الوزير يعقوب بن داود بالكم دون المهدي. وكان بشار من الأحرار لم يستعبده أدبه فما تملق الخلافة ولا ذل للسلطان وكان شعبياً يؤثر أن ينفخ في الأمة بوق الثورة من أجل حياة أسمى. فكان من قوله:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود
كذلك أخطأ التاريخ، وظن المؤرخون ووهموا. فقتل عندهم بشار بن برد من أجل الزندقة والفحشاء. وقتل عندي من أجل السياسة والثورة. لقد كان طيب الفؤاد فلم يهج غير من استحق الهجاء. ظلمة مجتمعة فنقم لنفسه من ذلك المجتمع الظالم ومن مس العقرب لسمته إبرتها. بذلك نفي الحق بين الأنام. لقد وجد ناس في إسقاط بشار بعد موته هذه الكلمة النبيلة:
- إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم، فذكرت قرابتهم من رسول الله عليه وسلم،(879/50)
فأمسكت إجلالاً له.
على أنه فرط منه هجاء لآل سليمان - والظاهر أنه كان فيه مترفقاً بهم من أجل تلك القرابة فقال فيهم.
دينار أل سليمان ودرهمهم ... كالبابليين حقا بالعفاريت
لا يبصران ولا يرجى لقاؤها ... كما سمعت بهاروت وماروت
ومن القضايا الكبرى في هذا الكتاب قضية خلق القرآن وما جرت من الفتن وضرب الرقاب، وفتنه الحلاج وكنت أبحث في كتابة عن قضية سيبويه والكسائي فلم أجده قد ذكرها. وكانت منه أملوحة لو أضافها في كتابه وجلاها في تصويره الفني.
ثم مضى المؤلف في ذكر القضايا من كبريات الحدثان في الأندلس وعهد كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي يوم قامت قيامة القوم على عبقري الشرق الذي أخرج الأدب من صحن الأزهر إلى مقاعد الجامعة.
كذلك طوفت في قصر العدالة الإسلامية الذي بناه الشيخ عبد المتعال الصعيدي الأستاذ في كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف وصوره في كتابه. فتنقلت فيه من حجرة إلى حجرة أشهد المحاكمات، وأسمع المرافعات فأحن إلى ماض أفل عني وكنت فيه من المحامين، ذاكراً طلعة الأزهري الحكيم الذي زانه العلم، وجمله الأدب، وحلاه التواضع.
زكي المحاسني
بائع الحب
كتاب لاحسان عبد القدوس
للأستاذ أحمد قاسم أحمد
قرأت الكتاب الأول - صانع الحب - للأستاذ إحسان عبد القدوس وقضيت في قراءته وقتاً لم أرد أن أقضيه في جد. . . وما كنت أعتقد حينذاك بأنه كتب للأدب. . .! لقد قرأته على أنه صور - كما يجب أن يسعى إنتاجه - تستطيع أن تسمها بما تريد. . . إلا بالأدب. . . ووقع بين يدي كتابه الثاني - بائع الحب - وأجلت نظري في مقدمته فاستوقفني دهشاً حائراً قول الكاتب: (وقد سبق أن أصدرت مجموعة من هذه الصور بعنوان (صانع الحب)(879/51)
فأثارت ضجة أدبية على صفحات الصحف، وهي ضجة تقوم كلما حاول الأدب العربي أن يخطو خطوة إلى الأمام. . .) إذن فالأستاذ إحسان قد أخرج كتابيه لا كإنتاج أدبي رفيع فحسب، بل كخطوة يخطوها الأدب إلى الأمام. . . وما كنا نعلم أن نهضة الأدب تكون على راح تلك الصور الواهية المبتذلة، التي لا تجيد إلا وصف الشفاء الداعية في نهم، والنهود البارزة في ثورة، والأجسام المغرية في إلحاح. . .! فإن أصر الأستاذ على ادعائه فأنا نقول له. إنك في ذلك مسبوق لا سابق، والذي سبقك هو ذلك الشاعر الذي تهكمت به وبشعره في مقدمة (صورك) هو أمرؤ القيس فإنك لم تزد على أن شرحت قوله:
فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
وقوله:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدي الستر إلا لبسة المتفضل
خرجت بها أمشي تجر وواءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرحل
بطريقتك الخاصة في القرن العشرين. . .!
و (بائع الحب) لا ينتقد! لأن النقد يرتفع في حالتين:
الأولى: أن يتسم الأدب ذروة الروعة والكمال، فيتقاصر دونه النقد.
والثانية: أن يهبط إلى مهار عميقة من السخف والتبذل، فيتعفف النقد أن يلاحقه في أغواره. . .!
ويستطيع القارئ - طبعاً - أن يعرف لماذا لا ينتقد (بائع الحب) المسكين. . .!
وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إن الأدب متعة الروح، لا متعة الجسد، وغذاء الألباب الناضجة، لا الحيوانية المنحطة، وإن مصير صورة كمصير غانياته اللاتي يلقي بهن إلى عرض الطريق بعد أن يقضي منهن وطراً. . فان القارئ لن يعود إلى قراءة صورة منه لأن المتعة الخالدة معدومة فيها، ولأن جدتها قد بليت، وخمدت أنفاسها إلى الأبد، بل تطايرت في الهواء مع نفثات لفافات قارئيها. . .!!
وأحب أن أقول له أيضاً: إن الصحافة أجدى عليه من الأدب، وإنه ليس أشقى من الأدب، وعزاؤه أنه يعمل لوجه الفن الخالد
ويذكر الأستاذ في إحدى صورة أنه انهال على صاحبته لطما وضربا ولعن آباءها وأجدادها(879/52)
باللغة العربية. . . . وأنى لأرجو أن يذكر أنه - بكتابيه - قد مثل نفس الدور مع الأدب العربي. . .
وأن يذكر أيضاً أننا نستطيع أن نعتبره صحفياً ناجحاً ولا نستطيع أن نعتبره أديباً ولو ثابت صاحبته الصهيونية. . .!)
أحمد قاسم أحمد(879/53)
القصص
قصة لقاء. .
للأستاذ عبد الله نيازي
هذه قصة لقاء بين جميل بن معمر العذري وحبيبته بثينة. . . وهي صورة صادقة من صور الحب في البادية - ولون من ألوان الغزل البريء. . . ففي الوقت الذي يقطع فيه العاشق المتيم المسافات البعيدة، وبتجشم المخاطر والصعاب - ليرى من شفقته حباً. وملأته هوى، لا يطمع ساعات، ثم يرجع وهو من النشوة يكاد أن يطير، لماذا؟ لأنه تحدث إلى حبيبته - وتحدثت إليه - وبثها لواعجه بألطف لفظ وأعفه. وشاركته نجواه بأرق لفظ وأعذبه عليها تجد طريقها إلى شباب هذا العصر الذي رق عندهم الحب وأصبح المفهوم من هذا اللفظ - هو رشف الثغور، وشم التهود، وأرضاه الغرائز
قال معبد الغني المشهور وقد ذهب إلى الغريض ليسمع عنه، فقرع الباب إلا أن أحداً لم يكلمه - فسأل بعض الجيران فقالوا: هو في الدار، فرجع وغني لحنا في شعر جميل:
علقت الهوى منها وليداً فلم لا يزال ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
فما شعر إلا بصائح يصيح: يا معبد المغني - افهم وتلق عني شعر جميل الذي تغنى فيه يا شقي النجفة - وغنى - وحين أراد معبد الانصراف إلى المدينة، سمع بصائح يصيح يا معبد - انتظر أكلمك - فدخل وسلم - ثم جلس - وتحدثا قليلا - وخرج معبد من عنده - ورجع إلى المدينة - فتحدث بحديثه - وعجب من فطنته وقيافته! قال معبد وذكرت جميلا وبثينه فقلت: ليتني عرفت إنساناً يحدثني بقصة جميل وخبر الشعر فأكون أخذت بفضلة الأمر كله في الغناء والشعر، فسألت عن ذلك فإذا الحديث مشهور، وقيل لي: إن أردت أن تخبر بمشاهدته فأت بني حنظلة، فإن فيهم شيخاً منهم يقال له فلان يخبرك الخبر، فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم، بيننا أنا في أيلي في الربيع إذا برجل منطو على رحلة كأنه جان فسلم على ثم قال: ممن أنت يا عبد الله؟ فقلت أحد بني حنظلة؛ قال: فإنتسب؛ فإنتسبت حتى بلغت إلى الفخذ الذي أنا منه؛ ثم سألني عن بني عذرة أبن نزلوا؛ فقلت له: هل ترى ذلك السفح؛ فإنهم نزلوا من ورائه؛ قال يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه إلى؟ فو الله ما أعطيتني ما أصبحت تسوق من هذا الإبل ما كنت بأشكر مني عليه به. فقلت(879/54)
نعم، ومن أنت أولا؟ قال: لا تسألني من أنا ولا أخيرك؛ غير أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم - فإن رأيت أن تأتيهم فإنك نجد القوم في مجلسهم تنشدهم بكرة إدماء تجر خفيها غفلا من السمة، فإن ذكروا لك شيئاً فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن المرأة والصبي قد يريان مالا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحداً تصبيه عينك ولا بيتاً من بيوتهم إلا نشدتها فيه، فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضاني. فلم يذكروا لي شيئاً، فأستاذ نتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان مالا ترى الرجال، فأذنوا، فأتيت أقصاها بيتاً ثم استقر فيها بيتاً بيتاً أنشدهم فلا يذكرون شيئاً، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف، حانت مني التفاقة فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي: سوءة! وثق بي رجل وزعم أن حاجته تعدل مالي ثم آنية وأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات! فانصرفت عامداً إلى أعظمها بيتاً، فإذا هو قد أرخى مؤخره ومقدمة، فسلمت فرد علي السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: يا عبد الله. قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب. قلت أجل؛ قالت: أدخل، فدخلت فأتتني بصحفة فيها تمر من تمر هجر، وقدح فيه لبن، والصحفة مصرية مفضضة والقدح مفضض لم أر إناء قط أحسن منه؛ فقالت: دونك؛ فتجمعت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت يا أمة الله، والله ما أتيت اليوم
أكرم منك ولا أحق بالفضل ... فهل ذكرت ما ضالتي شيئاً؟ فقالت: هل ترى هذه الشجرة
فوق الشرف؟ قلت نعم، قالت فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها ثم حال الليل بيني؛ وبينها؛ فقمت وجزيتها الخير وقلت: والله لقد تغديت ورويت! فخرجت حتى أتيت الشجرة فأطفت بها، فو الله ما رأيت من أثر. فأتيت صاحبي فإذا هو متشح في الأيل بكسائه ورافع عفيرته يغني، قلت: السلام عليك؛ قال: وعليك السلام ما وراءك؟ قلت؛ ما ورائي من شئ. قال: لا عليك! فأخبرني بما فعلت، فاقتصصت علية القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت؛ فقال: قد أصبت طلبتك؛ فعجبت من قوله وأنا لم أجد شيئاً. ثم سألني عن صفة الإناءين: الصحفة والقدح، فوصفتهما له فتنفس الصعداء وقال: قد أصبت طلبتك ويحك! ثم ذكرت له الشجرة وإنها رأتها تطيف بها، فقال: حسبك!(879/55)
فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، وجلس مني بمزجر الكلب، فلما ظن أني قد نمت رمقته فقال إلى عيبة له فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر، ثم انطلق عامداً نحو الشجرة. واستبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهن، وإذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس؛ فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قط وأبعده من كل ريبة. وسألته مثل مسألته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاماً. فلما أكل وفرغ، قالت أنشدني ما قلت: فأنشدها:
علقت الهوى منها وليداً فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
فلم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشاً ولاهجراً، حتى التفتت النفاقة فنظرت إلى الصبح، فودع كل واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قط ثم انصرفا. فقمت فمضيت فقمت فمضيت إلى ابلي فاضطجعت وكل واحد منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه. فجاء بعدما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم. حتى متى تنام؟ فقمت وتوضأت وصليت وحلبت إبلي وأعانني عليها وهو أظهر الناس سروراً، ثم دعوته إلى الغداء فتغدى، ثم قام إلى عيبة فافتتحها فإذا فيها سلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما وقال: أما والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك. وحدثني حديثه وانتسب لي، فإذا هو جميل بن معمر والمرأة بثينة، وقال لي: إني قد قلت أبياتاً في منصرفي من عندها، فهل لك إن رأيتها أن ننشدها؟ قلت: نعم! فأنشدني:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نفسي أمصر تريد
ثم ودعني وانصرف، فمكثت حتى أخذت الإبل مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت البرد وأتيت المرأة فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالباً واليوم زائراً، أفتأذنون؟ قالت: نعم، فسمعت جويرية تقول لها: يا بثينة عليه والله برد جميل، فجعلت أثني على ضيفي وأذكر فضله. وقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة حتى أنظر إليك؟ قالت: نعم، فلبست ثيابها ثم برزت ودعت لي بطرف. ثم قالت: يا أخا بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها فأخرجت لي ملحقة مروية(879/56)
مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومن إلى كسر البيت ولتخلعن مدرعتك ثم لتأتزرن بهذه الملحفة فهي أشبه ببردك. ففعلت ذلك وأخذت مدرعتي بيدي فجعلتها إلى جانبي. وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثنا طويلاً من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبرد جميل ونظرة من بثينة. . قال معبد: فجزيت الشيخ خيراً وانصرفت من عنده وأنا والله أحسن الناس حالاً بنظرة من الغريض واستماع لغنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة فيما غنيت به وفيما غنى به الغريض على حق ذلك وصدقه، فما رأيت ولا سمعت بزوجين قط أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومني. .
وهذه أبيات من القصيدة التي قالها جميل. .
علقت الهوى منها وليداً فم يزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
وأفنيت عمري في انتظاري نوالها ... وأفنت بذاك الدهر وهو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيد يبيد
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد
ولا قولها لولا العيون التي ترى ... لزرنك فاعذرني فدتك جدود
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... تولت وقالت ذاك منك بعيد
بغداد
عبد الله نيازي(879/57)
العدد 880 - بتاريخ: 15 - 05 - 1950(/)
أنا وابن الغرب
للأستاذ راجي الراعي
أنا الشرق أراك تختال علي يا ابن الغرب فبماذا تختال، بماذا؟
أبينا بيعك في التاريخ وقد ولد آدم في أرضنا؟
أبشرائعك وحمورابي من أجدادي؟
أبدخان معاملك وهذا دخان أحلامي؟
أبإيمانك ونحن مهد الأديان؟
أبجبالك وهذا لبنان؟
أبصدرك الرحب وعندي كل هذه الصحارى؟
أبأنهارك ولي دجلة والفرات وبردى والنيل؟
أبأمجادك والمجد مجدنا القديم؟
أبآثارك وهذه هياكل جبيل بعلبك وتدمر والأهرام؟
أبشمسك وأنا الشرق؟
أبشعرك وخيالك ونحن أخوان النجوم وأخوال القمر؟
أبمروجك وحدائقك وفي بلدنا أقام الله جنته الأولى؟
بماذا تختال علي أنا الشرق، بماذا؟
أبعدلك وساعة العدل عندنا خير من ألف شهر عبادة؟
أبلغتك وأين هي من فخامة الضاد وجمال العين وجلال الطاء؟
أبقمرك وأنت لا تراه وقد حجبه عنك البناء الشاهق الضخم؟
أبهياكلك وهياكلي لا تعد ولا تحصى؟
أبدهائك ونحن الدهاء كله؟
أبأبراجك وهذا برج بابل؟
أبأشجارك وأنا صاحب الأرز، أرز الرب، والنخيل؟
أبأهوالك وتهاويلك وهذا (أبو الهول)؟
أبحكمتك وفلسفتك وعندي كونفوشيوس وبوذا وبراهما وكريشنا وهرمس؟(880/1)
أبفنونك وفي سمائنا ما لا تجده في متاحفك؟
أبخيراتك وخزائنك وأنا صاحب الآبار، آبار النفط في الحجاز؛ ومالك الذهب، ذهب
الأقبية في الهند وقد ضاقت به الخزائن.
أبالأخلاق وفي معجمي كلمة هي (المروءة) لا أجد ما يقابلها في معجمك ويأتي بسرها
ومعناها البعيد.
أبكهربائك والكهرباء قديمة لم تخترع سرها الذي كان وما يزال في العيون وفي الأدمغة
والقلوب.
أبكؤوسك وخمورك والخمرة المعتقة لا تجدها إلا في هذه الديار والأديار.
أبعبقريتك وعبقر الموضع الكثير الجن الذي ينسب إليه العبقري يقع تحت هذه السماء.
أبميراثك ونحن لم تبق أمة في الأرض ما ورثناها.
أبرياحينك وهذا عبير الشرق يضمخ السماء والأرض؟
أبعددك وأمامك الهند والسند والصين؟
بماذا تختال علي أنا الشرقي، يا ابن الغرب؟
لك نظرتك في الحياة ولي نظرتي. . .
لك تاريخك ولي تاريخي.
لك صفحتك من الكتاب ولي صفحتي. . .
أنت الغرب وأنا الشرق فليس لأحدنا أن يشمخ على الآخر ولا مجال بيننا للتيه
والغطرسة.
إن الله لا يؤيد غير الحق، ولا يحب غير الوادعين المنصفين. . .
راجي الراعي(880/2)
الرافعي اللغوي
للأستاذ محمود أبو ريه
من المصادفات الطيبة أن تنشر هذه الكلمة في وقت الذكرى الثالثة عشرة لوفاة شيخنا الرافعي رحمه الله، ولا يسعنا بهذه المناسبة الكريمة إلا أن نبعث إلى روحه الظاهرة في فردوسها عند بارئها بأطيب التحية سائلين الله سبحانه أن يسيغ عليها من رحمته ورضوانه أنه سميع مجيب.
نشرت مجلة الرسالة الغراء كلمة للأستاذ محمود محمد بكر هلال بعنوان (تطور اللغة العربية) نقل فيها كلاماً لشيخنا الرافعي رحمه الله يشير فيه إلى مذهبه في الاجتهاد اللغوي، وقد رأينا أن نعزز هذا الكلام بأقوال أخرى لهذا الحجة الكبير تزيد مذهبه وضوحاً.
كان الرافعي رحمه الله إماماً في اللغة كما كان إماماً في الأدب. وقد وصل بهذه الإمامة إلى درجة الاجتهاد في اللغة لا يقلد أحداً ولا يتابع إنساناً.
قرأت له في أحد كتبه أنه نسب إلى (الأخلاق) فكتبت إليه أن النسبة - كما تقضي قواعد النحو - إنما تكون للمفرد لا إلى الجميع، فجاء منه خطاب مؤرخ أول يونيه سنة 1927 جاء فيه (ملاحظتك على النسبة إلى الأخلاق ليست في محلها، فإن النسبة حقيقة للمفرد ولكن في مثل هذه الكلمة يكون الأفصح أن ينسب إلى الجمع؛ لأنهذا الجمع أصبح كالحقيقة العرفية الدالة على مفرد؛ فالأخلاق علم معروف متميز بنفسه وبهذا صار كالحقيقة المفردة وكانت النسبة إلية أدل على المعنى المقصود، وتأتي الكلمة أبلغ، وتنزل من الأسلوب منزلة ترضي. والمدار عند العرب على الاستخفاف والاستثقال، فلو خالفوا القياس لهذه العلة لتكون الكلمة أخف وأفصح لكان ذلك وجهاً صحيحاً، فكيف وههنا الحقيقة العرفية التي ذكرتها لك)
واستعمل في كتاب أوراق الورد كلمة (أوحى لها) فكتبت إليه أن الأفصح كما جاء في القرآن الكريم أن فعل (أوحى) يتعدى (بالى) فجاء منه خطاب مؤرخ 14 ديسمبر سنة 1932 قال فيه (أما - أوحى لها - فهي بنصها كلمه شاعر أوراق الورد في مقالة له، فربما كان سبب وضعها هو تذكره وهي في موضعها أفصح من (إليها) كما يظهر لك من نطق الجملة من أولها مرة (بلها) ومرة (يا ليها) وأنا عادة أراعي موقع الحرف في(880/3)
الأسلوب فإن كانت (اللام) أقوى استعملتها، وقد أراعي اعتبارات أخرى)
ولما ترجم لشوقي بك رحمه الله في المقتطف انتقد هذا البيت من شعر شوقي:
إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء
وكان نقده أن شوقي رفع جواب الشرط وأن صواب (تميل) (تمل) فرد عليه الأستاذ العقاد وقال، إن كتب النحو قد أجازت ذلك. ولما أطلع الرافعي رحمه الله علة هذا الرد بعث ألي بخطاب مؤرخ 21 ديسمبر سنة 1932 قال فيه:
(العقاد انتقد في المقتطف كلمة كنت خطأت فيها شوقي، وهي: جواب الشرط حين يكون فعل الشرط ماضياً، والنحاة جميعاً أجازوا هذا فأنتهزها العقاد، ولكن النحاة في رأيي مخطئون، وقد كتبت رداً طويلاً. . .)
وقد جاء في هذا الرد الذي نشر في المقتطف ما يلي:
(يشير الكاتب إلى القاعدة المذكورة في كل كتب النحو من أن الجواب يرفع أو يجزم إذا كان الشرط ماضياً لفظاً أو معنى، والجزم هو المختار عند قوم والرفع جائز، وعند قوم العكس وعند آخرين يجب الرفع. ولم يقل أحد من النحويين إنهما (على السواء)
ولكن مع ورود هذه القاعدة في كل كتب النحو لا يزال بيت شوقي عندنا غلطاً لأننا لسنا من (الذين يعرفون النحو) معرفة النقل في الكتب والتقيد بالرأي خطأ وصواباً، ولا هذا مذهبنا في الأدب ولا في اللغة، ولا نقلد أحداً ولا نتابع أحداً بل لأن يمر ما في الكتب من هذا الرأس بدياً فيجئ مجيئه الأول من ناحية أهله، ثم مجيئه الثاني من ناحيتنا، وسنعرض هنا كل أقوال النحاة في رفع جواب الشرط على نسق من القضايا ونعترضها بالنقد
(1) لا يمكن أن يجعل رفع الشرط في تلك الصورة قاعدة يقتاس بها إلا إذا سمع في الكلام المنثور دون المنظوم، إذ النظم محل الضرورة في أشياء كثيرة معروفة، أما النثر فهو على السعة ولا يجوز فيه إلا الجائز. فما هي الأمثلة التي نقلها النحاة عن العرب لتلك القاعدة، وعن أي القبائل سمعت؟ وهل هو السماع الذي يعضده القياس أم السماع الضعيف؟
(2) لم يزيدوا في كتبهم على أن قالوا إن ذلك مسموع ولميزد سيبويه في كتابه على هذه العبارة وفيه تقول (تأمل) إن أتيتني آتيك أي آتيك إن أتيتني قال زهير:
وأن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم(880/4)
فأنت ترى أن سيبويه يضع مثالاً ويأتي بالشاهد عليه من الشعر والشعر محل الضرائر يجوز فيه ما لا يجوز في الكلام ولا اضطرار في بيت شوقي، إذ يستطيع أن يقول: إن رأتني تصدعني. فلا شاهد في كلام سيبويه على رفع الجواب
(3) إن أداة الشرط تجزم فعلين، فإذا كان الجواب مرفوعاً قيل في إعرابه أنه فعل مضارع مرفوع في محل جزم، فإذا لم تكن ثم ضرورة من الوزن فما الذي يمنع الجزم أن يظهر على الجواب في كلام هو من لغة النهار والليل، وما علة تقدير الجزم ولماذا يقدر في مثل: إن زرتني أكرمك وأنت تستطيع أن تقول أكرمك؟
(4) من أجل هذه العلة يقول سيبويه ومن تبعه إن (أكرمك) في مثل هذه الصورة ليست هي الجواب بل الكلام على نية التقديم أي الأصل (أكرمك إن زرتني) فالجواب محذوف. وفي هذا الرأي (وهو أقوى الآراء وأسدها) لا يقال أن جواب الشرط مرفوع. ثم إن فرقاً في البلاغة بين قولك أكرمك إن زرتني وقولك إن زرتني أكرمك فلماذا يقلب سيبويه إحدى العبارتين إلى الأخرى على حين قائلها لم يرد إلا وجها بعينه. وما هي ضرورة التقديم ما دام الكلام على السعة؟
ومن أجل هذه العلة أيضاً يقول الكوفيون والبرد من البصريين أن (أكرمك) ليست هي الجواب والكلمة على تقدير الفاء؛ فالأصل إن زرتني فأكرمك؛ وبهذا يكون الجواب جملة اسمية. ولكن ما هي ضرورة حذف الفاء وتقديرها في وقت معاً والكلام ليس موزوناً يختل معه الوزن إن ذكرت الفاء، وقائلها لو أرادها لذكرها لأن الجملة من الكلام المبتذل الذي لا يراد منه شاهد في البلاغة؟ وهم قاسوا ذلك على مثل قوله تعالى: ومن كفر فأمتعه قليلاً. ومن عاد فينتقم الله منه. ومن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً. ولكنهم غفلوا عن سر هذه الفاء فقاسوا عليها ذلك أمثال المبتذل
(6) ويقول بعض من ذهبوا إلى أن سبب رفع الجواب تقدير الفاء إن هذه الفاء تقوم في إفادة الربط مقام الجواب. . . فيصح رفعه وترك جزمه استغناء عنه بالفاء. . . وهذا كما ترى من الخلط
(7) قال قوم من النحاة أن الكلام ليس على نية التقديم، ولا على تقدير الفاء ولكن لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضياً ضعف عن العمل في الجواب. وهذا(880/5)
على مذهب أن فعل الشرط هو الذي يجزم الجواب وهو غير الرأي الذي عليه التحقيق إذ يلزم أن يكون الجواب معمولاً لأداة الشرط لفظاً ولا تقديراً. والجزم وليس قوة ميكانيكية. . . بطل تأثيرها إذا انتهى إلى فاصل لا يتأثر بها فلا تتعدى إلى ما وراء هذا الفاصل. ثم أن فعل الشرط إذا كان مضارعاً مبنياً كان كالماضي في عدم ظهور الجزم فيه ومع ذلك لا يرفع الجواب بعده. فبطل هذا الرأي كله.
(8) إن القرآن الكريم وهو أفصح الكلام لم يأت في رفع الجواب مطلقاً بل جاء بالعكس في قوله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها. وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها فيخلص من كل هذا أن أقوال النحاة ساقطة كلها وأن الأساس الذي ينبت عليه من السماع مجهول لم يأت به أحد وأنه لم يفرق لأحد منهم عن علة مقنعة في زعمهم رفع الجواب بل عارض بعضهم بعضاً، ومتى تعارضت الأقوال تساقطت. وأن الأصل الصحيح الذي بين أيدينا وهو القرآن الكريم ينكر هذه القاعدة فلم يأت بها ولا مرة واحدة وأتى بخلافها مراراً، فكيف يكون التأويل بعد هذا وما هو الوجه الصحيح وكيف يدفع السماع الذي نصوا عليه وكيف يكون الدفاع عن هؤلاء النحاة وهم قد عجزوا عن البرهان القاطع؟) آه
هذا قليل من كثير من آراء شيخنا الرافعي رحمه الله في الاجتهاد اللغوي نجتزئ به اليوم ولعل الله يعيننا على أن نأتي يوماً بكل آرائه وأن نحصى كل ما وصل إليه باجتهاده.
المنصورة محمود أبو ريه(880/6)
العقل. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
امتاز القرن السادس عشر بنزعة التحليل، ولعل (فرنسيس بيكون) كان حامل لوائها، فهو في القسم النقدي من (المنطق الحديد) يصف ما يسميه (أصنام العقل) وهي أغاليط تنتاب العقل وتحول بينه وبين الصواب ويسميها بيكون: أصنام الكهف، وأصنام السوق، وأصنام القبيلة، وأصنام المسرح. ولكي يكون العقل منتجاً لا بد من هدم هذه الأصنام.
وجاءت فلسفة ديكارت ثمرة طيبة لثورة بيكون، تأمل ديكارت في نفسه وفيما حوله، فشك في كل شيء طائعاً مختاراً حتى اهتدى إلى أول حقيقة هي (أنا أشك فأنا موجود) وعرف عن خاصية نفسه أنه (شئ يفكر) ورأى أن الناس سواء في (العقل) هو أعدل الأشياء توزيعاً بين الناس، ولكنهم متفاوتون في الوصول إلى الحقيقة لاختلاف مناهجهم، فاختط لنفسه (منهجاً لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم) ولئن لم يصرح ديكارت بأن منهجه إنما قصد به القضاء على المنطق المدرسي العقيم إلا أنه ينم عن هذه النزعة الثائرة، واستفاد حقاً من المنطق المدرسي ومنطق بيكون والتحليل الهندسي جميعاً.
وعلى كل حال فإن منطق أرسطو، وأرجانوم بيكون ومنهج ديكارت كلها آلات تعصم مراعاتها من الوقوع في الخطأ والزلل. وهذا اتجاه فكري له أصالته في تاريخ العقل من غير شك.
وما كان ديكارت - وهو المفكر الجريء - بقادر على أن يهدم التراث الفكري دفعة واحدة، فقد اصطلحت عليه العوامل الدينية والواجبات المدنية والتكاليف الاجتماعية فلم يقدر على دحضها، وإن كان قد مسها مساً هيناً ليناً. وبحسب العقل عنده أن يكون قوة الحكم الصحيح أي القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والجميل والقبيح بشعور داخلي تلقائي مباشر. وأيا ما كان من سلوك ديكارت فإنه فوض كل تفسير إلى الله، وترجم بذلك عن روح مسيحي خالص.
ولقد سار على هذا النحو (بوسويه) فهو يقول: (الفهم حيث يبدع ويتداخل يسمى روحاً ومن حيث يحكم ويوجه نحو الحق والخير والجمال يسمى عقلاً أو ثم أن العقل حيث يجنبنا شر الإنسان الذي هو الخطيئة يسمى الضمير ويقول في نفس الكتاب (العقل هو(880/7)
الذي أعطانيه الله لهدايتي) وموضوع هذا العقل الحقائق الباقية، وهي في الله بل هي الله ذاته، ويذكر من هذه الحقائق الباقية: حقائق الرياضة وقوانين الحركة والأصول الأخلاقية. ويقول: إن هناك صلة وثيقة بين القانون والعقل ولا يمكن أن يوجد نظام بين الأشياء ما لم يكن في العقل هذا النظام الذي نستطيع أن نفهمه بالعقل فقط، وما القانون إلا سبيل العقل وموضوعه المباشر).
ويقول أيضاً (نحن نتلقى توا وعلى الدوام عقلاً هو أسمى منا كما نستنشق الهواء الذي هو غريب عنا) ويستطرد قائلاً (كل منا يحس في نفسه عقلاً محدوداً ومتغيراً، وهو لا يصحح خطأه إلا إذ اتصل بعقل أسمى كلى لا يتغير. أين هذا العقل السامي؟ هو الله الذي أبحث عنه، هو ذلك الموجود الكامل كمالاً لا نهائياً يتمثل في نفسي مباشرة عندما أدركه، وذاته هي الفكرة التي لدي عنه)
وقد تأثر (فينيلون) (بوسويه) عن (وجود الله) وصبغ نظريته صبغة صوفية مثالية، وبوسويه وفينيلون وملبرانش متفقون على أن كل صلة بين العقل والحق الخالد هي صلة مباشرة بين العقل الإنساني والله. وليس يهمنا هنا ما كان بينهم من تعاوت تفريعي غير أن ملبرانش أنكر كل ما سوى الله، وكأنه يقول بلسان عربي قويم (ألا كل شئ ما خلا الله باطل)، فالله وحده هو الذي ندركه مباشرة وهو مصدر الحقيقة، ومحل المعاني، وحينما نفكر بوضوح وجلاء أو بلغة ملبرانش حينما (نصلي صلاة طبيعية) نكون في الله ونراه. فيه انطوى العالم المعقول.
ويقسم (سبينوازا) إلى أنواع أربعة: سمعية، وتجريبية، وحدسية، وعقلية. والمعرفة العقلية هي المعرفة الحقة لأنها لا تعتمد على الأفكار العامة، وإنما تعتمد على خواص مشتركة يمكن تجريدها من كل تجربة حسية كالامتداد والشكل والحركة. ووظيفة العقل هي أن يعمل على ربط الأشياء بهذه العناصر المعقولة، والعقل كان تحت تأثير الحس والتخيل، إن كان يولد حركة الطبيعة من الفكر الإلهي الذي عنه يصدر كل شئ.
وحين يعترف (ليبنتز) الفطرية يستلزم التجربة قبل أن يصل ما لدينا بالقوة إلى الفعل، أي بأسبقية التجربة الحسية على التعقل.
أما (لوك) عارض مذهب المعاني الفطرية، وانعكس على نفسه، وبالقياس التمثيلي انتهى(880/8)
إلى فكرة عقل خالق، وبتوسيع معاني القوة، والدوام والعلم والقدرة إلى ما لا نهاية ننتهي إلى تكوين فكرة عن الله. العقل عنده هو ملكة التجريد التي ليست للحيوان. وأوضح ما نستدل به على معنى العقل عند (لوك) قوله (إن القوة التي تكتشف الوسائل وتطبقها على صواب لكي تكتشف الحقيقة في إحداها، والاحتمال في الأخرى، تلك القوة هي ما يسمى: العقل
ويضع للعقل أربعة درجات:
الدرجة الأولى وهي أرقاها: اكتشاف الحقائق.
الدرجة الثانية: تميل إلى ترتيب هذه الحقائق ترتيباً منهجياً لتحقيق قوتها والصلة فيما بينها وإدراكها في وضوح ويسر.
الدرجة الثالثة: إدراك هذه الصلة.
الدرجة الرابعة: عمل النتيجة الصحيحة.
وهذه الدرجات كما يقول (لوك) يمكن مشاهدتها في البرهان الرياضي، ثم هو يجعل الأشياء بالنسبة للعقل ثلاثة: -
1 - أشياء وفق العقل: كالقضايا التي نكتشف صدقها باختيارنا وبتتبع الأفكار التي لدينا عن الحس والتفكير، وبالاستذلال الطبيعي تكون إما حقيقية أو محتملة.
2 - أشياء فوق العقل: وهي القضايا التي صدقها أو إمكانها لا نستطيع استنتاجه من هذه المبادئ.
3 - أشياء ضد العقل: وهي القضايا التي تتنافى مع أفكارنا الواضحة. وعليه يكون وجود إله وفق العقل، ووجود أكثر من إله ضد العقل، وبعث الموتى فوق العقل.
وقد عنى (هيوم) الإنسانية، وعالج الشك واليقين، وأنكر العلية التي ليست في نظره عادة عقلية، وبذلك تبنى الحركة الإلحادية بطريق فلسفي سيكولوجي.
أما (كانت) أيقظه (هيوم) من سباته، فكان أول ناقد منظم للعقل، يقول (أقصد بالعقل كل ملكة سامية للمعرفة.) والعقل النظري والعملي عنده هو (صورة العمومية) أما الفهم ينتج عن الأول باتصال هذه الصورة بالمكان والزمان والحدس الحسي.
وللعقل خاصية اللانهائي، وللحدس خاصية النهائي، وبذا يميز بين العقل والفهم تفرقة هي(880/9)
عمود المذهب العقلي عند كل من (كانت) و (هيجل).
وكما أن العقل هو القوة السامية التي تؤلف بين المدركات الذهنية، كذلك الفهم يؤلف بين العناصر الحسية، وهو يعرف العقل في مواضع مختلفة من (نقد العقل النظري) بأنه القدرة على التفكير وبأنه القدرة على الحكم. العقل إذن هو قوة المطلق الذي لا يتقيد بزمان ولا مكان ولا إنسان ولا فلك. أما صلة العقل، ولا نبحث في الأشياء عن قوانين العقل.
ولقد وجد كل من فخت نقد (كانت) وفلسفته إلى القول بالأنا المطلق أنكروا الأشياء ما داموا لا يعرفون عنها شيئاً. الأنا المطلق هذا هو مصدر اليقين، والعقل بالتجريد يحصل على الشعور بالأنا المطلق باعتباره الحقيقة الوحيدة ومبدأ المبادئ. وزاد (شلنج) بألا فرق بين الشيء والشخص ولا بد بين المعرفة والوجود، كل شيء متضمن في العقل متحد بالمطلق ذاته، ومنه يستنبط كل شيء، وظيفة العقل هي العلم المطلق، وقال (التفلسف في الطبيعة هو خلق الطبيعة)
ويقول (هيجل) بأن مقولات الفهم تتناقض إذا ما أريد تسويتها بالعقل، فإذا تغير الفهم كان للعقل أن يحدد اتجاه هذه التغيرات كما يحدد التغيرات التي في قواعد الأخلاق، ثم هو لا فرق عنده بين الميتافيزيقا والمنطق، بين الواقع والمعقول
ويقول (فيكتور كوزان) كتابه (الحق والجمال والخير) ما يأتي (نحن نتوصل إلى حكم خلو من أي استدلال وإلى بداهة مباشرة هي البنت الشرعية لقوة الفكر الفطرية كإلهام الشاعر، وبراعة البطل. . . وما الاستدلال إلا مسرح للمعارك يسببها العقل بالشك والسفسطة والخطأ. . . ولكن فوق التفكير علم من النور والسلام، فيه يدرك العقل الحقيقة من غير أن يدور حول نفسه، وبهذا وحده تكون الحقيقة حقيقة، وذلكلأن الله قد خلق العقل لندرك به كما خلق العين للنظر، والأذن للسمع). والعقل عنده تلقائي وغير شخصي، وإذا كان قوة فردية كان حراً كالإرادة، أو متغيراً ونسبياً كالحواس، وما العقل التلقائي إلا الإلهام.
أما (رافيسون) وحد بين العقل والشعور، بين مبادئ المعرفة ومبادئ الوجود، وجعل للشعور قوة ميتافيزيقية بينما سبقه (مير دي بيران) أن الشعور يعطينا معنى السبب الذي يصير مبدأ للسببية.(880/10)
ويعرف (كوليردج) بأنه (قوة اليقينيات الكلية الضرورية، ومصدر وجوهر الحقائق التي هي أسمى من الحس بعد حصولها على الجلاء فيما بينها).
أما (برجسون) ميز بين العقل والغريزة وافترض تشابها بين الغريزة والحدس، هذا الحدس غريزة مفكرة إذ يقول: (إن الحدس يقودنا إلى صميم الحياة نفسها، وأقصد بذلك أن الغريزة وقد أصبحت مفكرة ومنفعلة قادرة على الانعكاس على موضوعه وتوسيعه إلى غير حد)
وبرجسون في معالجة السيكولوجية للجهد العقلي قد فتح باباً جديداً لمعرفة خصائص العقل عن طريق الكشف عن وظائفه.
وثمت مدرسة الأمريكان أصحاب (البرجماترم الذين رفضوا العقل كوسيلة للحقائق، وكأداة للمعرفة، رفض (هربرت سبنسر كل فكرة ليس لها صورة حسية فأنكر الحرية والاختيار كمعان عقلية، وجاء (برس) ورفض كل فكرة غير صالحة للعمل، وما الفكرة عنده إلا مشروع لعمل وليست في ذاتها حقيقة، ثم زاد عليه (وليم جيمس) بأن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية فهي مقبولة وتوسع في دائرة النتيجة الحسنة فأتخذ من العقل وسيلة للمحافظة على الحياة أولاً، وتنميتها واطرادها ثانياً وإذا بالإنجليزي (شيلر) يتخذ من الإنسانية مقياساً لصحة الفكرة.
هذه لمحة خاطفة طرقنا بها أبواب المدارس الفلسفية، ومنها تبين لنا أن صرخة سقراط لم تذهب مع الريح، بل وجدت أصداءها بين الفلاسفة في شتى العصور، ولكل وجهة هوموليها
أما رجال الدين، فالعقل عندهم وسيلة لمعرفة الله، التي (بالعقل تحصل وبالسمع تجب). وما كان رجال الدين ليرفعوا من قيمة العقل حتى يطغي على الوحي الذي هو مصدر العلم اللدنى. ومعنى العقل بوجه عام هو مجموع الملكات الروحية من فكر وعاطفة وإرادة، ففي القرآن الكريم: العقل والقلب مترادفان، وقد ورد في الإسلام أن العقل حجة الله على عباده، ودل القرآن على أن هذا العقل أمانة عرضها الله سبحانه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. هذه الأمانة هي العقل، وكل أمانة لا شك عبء لا يتحملها إلا كل نبيل، وإن كان في تحملها ظلم لنفسه،(880/11)
وجهل بما قدر له الحجاب. . .
ولا قيمة للعقل عند المتصوفين عامة، لأنه وسيلة العوام، أما خير وسيلة فهي الحدس والكشف، فلا بد من رياضة النفس وأخذها بالمجاهدة والتجرد حتى تتصل بالمنبع الأصلي وهو الله.
سئل (ذو النون المصري) كيف عرفت ربك؟ فقال (عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي) وقال (أبو الحارث المحاسبي) في كتابه المخطوط (مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه) ما نصه (إن العقل عند الله تعالى لا غاية له لأنه لا غاية لله عز وجل عند العاقل بالتحديد بالإحاطة بالعلم بحقائق صفاته ولا بعظيم بقدر ثوابه ولا عقابه)
وثمت جانب هام في التصوف هو اعتبار النفس الإنسانية سراً وكل سر لا سبيل إلى معرفته أو التعريف به إلا باللغز، ومن هنا كانت الكتب الرمزية مثل (حي بن يقظان) لابن طفيل و (سلمان وأبساله) التي ترجمها عن اليونانية (حنين بن إسحاق) ورسالتا (الطير) لابن سينا والغزالي، و (غربة الغربية) للسهروردي، ولقد امتزج في هذه الرمزيات العقل والروح والعمل والوحد.
والأخلاقيون اعتمدوا على معرفة النفس وقواها في كسب الفضيلة وهجر الرذيلة، واتخذوا من العقل مقياساً للأحكام الخلقية، ورتبوا عليها الأوامر والنواهي. ويعتبر (كانت) أول عالم أخلاقي صميم في تمييزه بين الأحكام المعللة، والأحكام المطلقة التي لا تتعلق بقوالب الزمان والمكان، وإنما هي من شأن العقل المطلق، ولا شك في أن هذه نزعة مثالية إلى أبعد حد مردها الأخير إلى العقل لأنه وسيلة الحكم على السلوك بالخير والشر والقبح والجمال.
ورجال الاجتماع فطنوا إلى وجود روح هي نتيجة تفاعل الأفراد والجماعات؛ وهذه الروح خاصيتها أنها ملكة التقويم الاجتماعي وتسمى في عرفهم (العقل الجماعي
وزعيم هذه الفكرة (دور كيم) صاحب المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة.
ورجال السياسة نظروا إلى الحاكم نظرتين مختلفتين: الذكاء والدهاء. فافترض بعضهم في الحاكم أن يكون ذكي القلب حسن التدبير، بصيراً بالأمور النظرية والعملية وافترض البعض الآخر أن يكون الحاكم داهية مراوغاً مصانعاً غير عابئ بالأوضاع المرسومة إذ(880/12)
الغاية تبرر الواسطة، هذه هي السياسة الميكافيلية المعروفة في كتابه (الأمير)
ومن فلاسفة الاجتماع السياسي (منتسيكو) الذي كاد يتفق مع ابن خلدون على وجوب اشتقاق القوانين من (روح القوانين) وهو ما قال بهأيضاً (جوستاف ليبون).
وثمت مدرسة تعاونت على تفهم العقل كملكة إنسانية لها قيمتها. فاستعانوا بالتشريح على هذه الغاية فعرف البيولوجيون الجهاز العصبي في نشوئه وارتقائه، ووقفوا على تكامله الداخلي والخارجي، وتتبعوا الأمخاخ في كل الفصائل الحيوانية حتى عرفوا مراكز المخ، وبذلك ساعدوا رجال علم النفس على رد أنواع السلوك إلى مراكز كانت من قبل وهماً وضرباً من التخمين. غير أن علماء النفس لم يهتموا بالعقل إلا على أنه ملكة الإدراك العام، ودرسوه باسم أما الفيزيقيون فقد استقرءوا الظواهر وتوصلوا إلى قوانين ضرورية ثابتة هي غاية ما يطمح إليه العقل البشري، وهم بوسائلهم المعروفة في النظر والتجريد والاستدلال أعانوا على كشف الحياة والسيطرة عليها؛ غير أنهم لا ينكرون الفكرة السعيدة التي تأتي الواحد منهم في ساعة التجلي والتجرد فيلهم الجواب على المشكلة التي طالما عصر من أجلها ذهنه، كما أتاحت لنيوتن فرصة كشف قوانين الجاذبية، وكما اكتشف أرخميدس قانون الضغط إذ هو في الحمام.
أما أهل الفن فقد نظروا إلى الناحية الوجدانية من النفس الإنسانية دون الجوانب الأخرى فعبروا عن أصداء الحياة في النفس تعبيرات شتى بالتصوير والنحت والنقش والموسيقى والغناء والشعر. وكل واحد يتمنى لو طار بجناحين إلى ذلك الوادي الذي يومض إليه من حين إلى آخر بومضات ينفذ إليها الخيال مسترقاً ما يستطيع من روائع الفن وآيات الجمال.
وبعد: فهل للعقل وجود حقيقي؟ لا شك أني موجود، ولاشك أيضاًفي أني أعرف أني موجود. وهل معرفة من غير عقل؟ قد يقال إن الحيوان يعرف أنه موجود، فهل معنى ذلك أنه ذو عقل؟ نقول: لو ظل الإنسان كالحيوان في مجرد معرفته الواهمة - كما قول ابن سينا - لما زاد عليه شيئاً. وإنما الإنسان يعرف ويعرف أنه يعرف، ولا كذلك الحيوان.
ولكن إذ نحاول معرفة هذا العقل نحن نرجع إلى العقل. أليس في ذلك دور كما يقول المناطقة: نريد أن نعرف ما لا نعرف بهذا الذي لا نعرف. نحن إذن واهمون في هذه الحياة، وكل ما لدينا من معرفة هو أننا واثقون من هذا الذي نحن فيه واهمون.(880/13)
ومع هذا فإن العقل يدعى معرفة الحياة وما وراءها ويدعي الحرية والطلاقة، أليس في هذا مرة أخرى دليل على أن العقل كلما ازداد وثوقاً بنفسه ازداد وهما لو كان لدينا محك للنظر لاستطعنا التخلص من هذا الوهم، ولكن شاء العقل أن يتوهم من نفسه مقياساً على نفسه. ولو أن الغزالي عرف سبب حيرته ما بقى في حيرة كما يقول في (المنقذ من الضلال) ولكن يجب على العقل أن يعرف حدود نطاقه فلا يتعداها، وما أشبه العقل - كما يقول ابن خلدون - بميزان الذهب في دقته، فهل من العقل أن يتخذ هذا الميزان المرهف الحساس في وزن الجبال؟ كذلك يجب ألا يتطال العقل على الآفاق الإلهية فيدعى معرفتها ويقتحمها في ادعاء صارخ.
اصطحب موسى الخضر فعلمه ثلاثاً هي في حدود العقل مرذولة ولكنها في علم الله غير ذلك، وحسب الإنسان (ترضية فكرية) تطمئنه في عجاج الحياة، فلئن هفاً إلى ما فوق الحياة فلن يكون كموسى عليه السلام إذا تجلى ربه للجبل فحر موسى صعقاً.
محمد محمود زيتون(880/14)
(كذلك) في القرآن الكريم
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
وردت (كذلك) في القرآن الكريم، في أكثر من مائة موضع. ولوجود الكاف، وهي للتشبيه، فيها ظن كثير من العلماء أنها لا تكون إلا للتشبيه ومضى في كل آية ورد فيها هذا التعبير، يبين التشبيه في الجملة، وفي كثير من الأحيان لا يبدو معنى التشبيه واضحاً، فيلتمس مقوماته، ويتكلف تفسيره تكلفاً. يوحي بضآلة هذا التشبيه، وأنه لم يزد المعنى جلاء، وهو الغرض الأول من التشبيه.
وقد تتبعت هذه العبارة فيما وردت فيه من الآيات، فوجدتها أكثر ما تأتي لمعان ثلاثة:
أولها التشبيه، وذلك عندما يراد عقد الصلة بين أمرين ولمح ما بينهما من ارتباط، وهنا يؤدي التشبيه رسالته في إيضاح المعنى وتوطيده في النفس، تجد ذلك في قوله تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)؛ فالصلة وثيقة بين بعث الحياة في الموتى، وبين بعث الحياة فيالأرض الميتة، فتنبت من كل الثمرات. وإن فيما نراه بأعيننا من هذه الظاهرة الطبيعية التي نشاهدها في كل حين، إذ نرى أرضا ميتة لا حياة فيها، ثم لا يلبث السحاب الثقال أن يفرغ عليها مطره، فلا تلبث أن تزدهر، وتخرج من كل زوج بهيج - إن في ذلك لما يبعث في النفس الاطمئنان إلى فكرة البعث، والإيمان بها، فلا جرم انعقد التشبيه بين البعثين، وزاد التشبيه الفكرة جلاء.
واقرأ قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الحنة، إذ أقسموا ليصر منها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون، ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين، فلما رأوها قالوا: إنا لضالون، بل نحن محرومون، قال أوسطهم: ألم أقل لكم لولا تسبحون، قالوا: سبحان ربنا، إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون، كذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر، لو كانوا يعلمون)، أرأيت أصحاب هذه الجنة وقد أقسموا أن يستأثروا بثمر جنتهم، وأن يجنوا ثمارها مبكرين في الصباح، ولم يدر(880/15)
بخلدهم الاستعانة بالله في عملهم، وبينما هم يستعجلون قدوم الصباح، ويحلمون بالثروة التي ستدرها عليهم حديقتهم، طاف على تلك الجنة طائف أباد ثمرها وهم نائمون، وفي بكرة الصباح أسرع بعضهم ينادي بعضاً أن الخير في البكور، فانطلقوا لا تكاد تسمع لأقدامهم وقعاً، يتهامسون وهم يتحدثون، كي لا يسمع مسكين صوتهم فيتبعهم، ولقد وصلوا إلى حديقتهم، واطمأنوا إلى أنهم سيقدرون على إحراز غلنهم. ومنع المساكين منها، فما راعهم إلا أن وجدوا أشجارهم بلا ثمار، وجنتهم جرداء مقفرة؛ هنالك ملأ الندم قلوبهم، وأخذ بعضهم يلوم بعضا، يتحسرون على أمل قد ضاع، وعلى ما اقترفوه من ظلم وطغيان. أرأيت هذا العذاب الذي صار إليه القوم، عذاب من فقد أمله، وقد كان قريباً من يده، وعذاب من يؤنبه ضميره على جرم اقترفه، وقد رأى جزاءه أمام عينيه. ألا ترى أن هذا العذاب النفسي الأليم جدير بأن يكون مثالاً ينذر به الله كل من يتصرف تصرف أصحاب هذه الجنة.
وهي أيضاً للتشبيه في قوله سبحانه: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً؛ تبتغون عرض الحياة الدنيا، كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم، فتبينوا)، وقوله تعالى: قالوا: بل وجدنا آباؤنا كذلك يفعلون (وما على نسق هذه الآيات، مما تعقد فيه الكاف صلة بين أمرين.
وتأتي كاف (كذلك) في كثير من الآيات بمعنى مثل، في قولك: مثلك لا يكذب، تريد: أنت لا تكذب، وفائدة مجيء مثل الإشارة إلى أن من له صفاتك لا يليق به أن يكذب. تجد ذلك في مثل قوله تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم، كمثل جنة بربوة، أصابها وابل، فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير، أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب، تجرى من تحتها الأنهار، وله فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار، فاحترقت؛ كذلك يبين الله لكم الآيات، لعلكم تتفكرون)، فالمعنى على أن الله يبين الآيات، ذلك البيان الجلي الواضح المؤثر، لعله يثمر ثمرته، فيدعو سامعيه إلى التفكير والتدبير، ذلك هو ما أفهمه من هذا التعبير، ولا أفهم أنه يريد أن يبين آيات غير هذه الآيات، بياناً يشبه بيان الآيات السالفة، وإذا أنت حاولت عقد التشبيه على حقيقته، رأيت فيه تفاهة وقلة غناء. وخذ قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها، لا تفتح لهم أبواب(880/16)
السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين)، فليس المراد - على ما يظهر لي - أن المجرمين يجزون جزاء يشبه الجزاء المصوف في الآية الكريمة، وإنما يجزون هذا الجزاء نفسه ومن غلق أبواب السماء في وجوههم وأنهم لا يدخلون الجنة أبداً. واقرأ قوله تعالى: (تلك القرى نقص عليك من أبنائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين)، تر المراد أن الله يطبع على قلوب الكافرين، ذلك الطبع الذي يحول بينهم وبين الإيمان بما كذبوا من قبل. وإذا أنت حاولت عقد تشبيه، لم تجد فيه كبير غناء، إذ يصير المعنى، يطبع الله على قلوب الكافرين طبعاً يشبه طبعه على قلوب الكافرين وفي ذلك ما فيه من ضياع قيمة التشبيه.
فمن هذا يبدو أن التشبيه في هذه الآيات وأمثالها غير ملحوظ، وإنما يراد توجيه النظر إلى ما سبق هذه الأداة فحسب وتأتي الكاف حينئذ إشارة إلى أن ما ذكر في الآيات وأشير إليه، قد بلغ من الكمال مبلغا عظيما لدرجة أنه صار نموذجاً كاملاً، يمكن أن يتخذ مثالاً، يشبه به سواه، فقد أفادت الكاف بلوغ المعنى تمامه.
وتأتي (كذلك) أيضاً لتحقيق المعنى وتثبيته، ولا يبدو فيها التشبيه، كما تجد ذلك في قوله تعالى: (قالت: أنى يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر، ولم أك بغياً، قال: كذلك، قال ربك هو على هين، ولنجعله آية للناس، ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً).
ومحاولة خلق تشبيه من هذه العبارات لا يؤدي إلا إلى التكلف والتفاهة معاً. ويقدر بعض العلماء في مثل هذا التركيب أن كذلك خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كذلك، ونحن نوافق على هذا التقدير وليس في كذلك تشبيه هنا، وإنما المراد: الأمر هو ما أخبرت به لا ريب فيه، ومن (كذلك) هذه التي للتحقيق والتوكيد، تولدت كلمة (كده) في اللغة العامية للدلالة على التحقيق أيضاً، ونحن نستخدمها في ذلك المعنى عندما نقول: الحق كذلك، تريد الحق والصواب هو ذلك، ولعل السر في المجيء بكاف التشبيه هنا هو بيان تمام المطابقة بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الكلامية، أي أن ما يكون في الواقع يطابق ما دل عليه الكلام.
تفيد (كذلك) التحقيق إذا كونت هي ومبتدؤها جملة مستقلة كما في الآيتين السالفتين وما على شاكلتهما. وتفيد التحقيق وتأكيد الجملة في غير هذا الموضع أيضاً، ويكثر ذلك عندما(880/17)
يليها فعل ماض، كما في قوله تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون، وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميناً، ليمكروا فيها؛ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)؛ فلا تجد للتشبيه موضعاً في هذه الآية، وإذا أنت حاولته وجدته لا يعي في التصوير شيئاً، (وكذلك) هنا تؤدي معنى (قد) ولها أمثلة كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تصرفون. كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون)، وقوله تعالى: ثم ننجى رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين)،: (وقوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب، كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك)، وربما جاءت إفادتها للتحقيق من كثرة مجيئها لبيان التطابق فتنوسى ذلك التطابق، واستعملت في لازم معناها الأصلي الذي تنوسى.
واستعمال (كذلك) للتحقيق والتوكيد، لا يقل عن استخدامها في التشبيه، وكثير من المفسرين يتكلف جعلها في تلك المواضع أيضاً للتشبيه، فيتمحل، ويمضي في تأويلات لا نصيب لها من البلاغة، وقوة الفن.
ومما ذكرناه يبدو أن تلك العبارة لا تقف عند حد الشبيه، بل لها هذه المعاني الثلاثة التي شرحناها.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(880/18)
منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
للأستاذ محمد خليفة التونسي
وإذا مضينا في اتخاذ المقياس السابق: وهو تمييز العبقرية بآثارها التي من شأنها أن تؤثرها في الناس سواء أظهرت هذه الآثار أملمتظهر فعلاً - لكي نميز بين عباقرة العقائد - لوجب أن نضع في الصف الأول عباقرة العقائد الدينية وهم الأنبياء، لأن آثارهم في المجتمع وصلاتهم به من الوجوه الستة التي فصلناها قبل أوضح وأعمق وأشيع مما هي عند غيرهم من عباقرة العقائد. وفوق ذلك فإن وضع امتيازهم يختلف عن وضع غيرهم من العباقرة:
1 - فالنبي حين يعلم الناس عقيدته الدينية، ويفجر في نفوسهم بواعث الإيمان بالروابط التي تربطهم بالكون وما وراءه، فتتفجر معها كل البواعث في بنية النفس الإنسانية - يبدو كأنه روح جبار تجسد لتخليص أرواح الناس من ضعف البشرية المطبق عليهم، ويظهرون هم بإيمانهم كأنهم مردة ولدوا ولادة جديدة، وهذا التغير الشامل لا تحققه إلا العقيدة الدينية.
2 - والملكات الأزمة للدخول في العقيدة الدينية هي الملكات النفسية المفرطة في العادية، وليست كذلك الملكات اللازمة مثلاً لقبول العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية ونحوها، ومن ثم كان من شأن العقيدة الدينية أن تلقى من الرواج بين النفوس أكثر مما يلقى غيرها، وكانت العقائد الدينية موجهة إلى الكافة لا إلى طبقة ولا فئة خاصة، لأنها في مداخلها البسيطة إنما هي دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، لا عويص فيهما على العقول، ولا مشقة فيهما على النفوس، وبخاصة إن كانت الدعوة إليها في بدء أمرها على يد عبقريها الأول الذي جاء بها، فهو يملك من أمرها ويملك من صياغتها في الصورة المناسبة للطبائع والقوى والأموال ما لا يملك القائمون بها بعده، كما أنه يفهم الطبائع والقوى والأموال خيراً مما يفهمها القائمون بها بعده. فهذه فروق ثلاثة بين حال المؤسس وحال التابعين ينبغي الالتفات إليها هنا. ولكن ليس معنى أن مداخلها بسيطة، وأنها دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، وأنه لا عويص في فهمها ولا إحساس يثقل في حمل تبعاتها، وأنها موجهة إلى الكافة - أنها لا تصلح للممتازين، فإن من وراء مداخلها البسيطة آفاقاً سامية من الشعور والذوق والفكر لا يعيها إلا الممتازون، وفيها لهم شاغل ورضاً.(880/19)
3 - والداخل في العقيدة الدينية يرى نفسه صورة مصغرة من النبي له كل حقوقه وعليه كل واجباته، غير دعوى النبوة، وخليفة الله في أرضه بين عباده ينطق لهم بلسانه ويبلغهم رسالاته وفي ذلك ما فيه من عزاء لنفسه مهما تكن مواهبه تافهة، وإرضاء لكبريائه، وإشباع لغروره ورضاه عن نفسه، فهو يشعر بأنه ند فيها وفي امتيازاتها والتعصب لها والغيرة عليها، والدعوة إليها لأعظم المنتسبين إليها حتى النبي، وله بعد ذلك مكافأتها في الدنيا، وثوابها في الأخرى، وليس ثواب أعظم من الثواب الموعود به في العقائد الدينية ولا سيما الثواب الأخروى.
4 - وإذا كان صاحب العقيدة بعامة لا يشعر ولا يفكر ولا يعمل في معزل عن الجماعة، ولو كان خالياً بنفسه، وفي ذلك ما فيه مما وضحناه قبل، فصاحب العقيدة الدينية بخاصة إنما يشعر ويفكر ويعمل وهو على أوثق الصلات بالجماعة وبالكون كله وبما وراء الكون أيضاً، فالداخل في العقيدة الدينية يشعر ويفكر ويعمل وهو مستند إلى الله، مراقب له، مطمئن إليه، منفذ لأمره، مهتد بهديه، مستغرق في حبه، فإن فيه. هذا إلى صلاته القوية بالمجتمع الذي يظهر فيه، ونظرته إليه نظرة شاملة، وإحساسه به إحساساً عاماً. والعقيدة الدينية تربط الجماعة أقوى مما تربطها عقيدة أخرى، وتشعر الإنسان بروابط أقوى وأكثر مما تشعره عقيدة أخرى، ومن ثم كان صاحب العقيدة الدينية أشد شجاعة واطمئنانا وأعظم استعداداً للبذل والمفاداة، وأصبر على احتمال المشقات، وأدق فهما لغايته منهجه من كل من عداه ولو كان من المعتنقين لعقيدة أخرى وطنية أو عنصرية أو سياسية ونحوها. فهو لا يحس بالوحشة ولا القلق ولا الضعف ولو تبرأ منه جسمه الذي يلبسه، أو قدم روحه فداء لعقيدته، فهو يستشهد وعلى فمه ابتسامة النصر، وفي قلبه فرحته.
5 - والنبي في وعيه البديهي للنفس الإنسانية خوافيها وظواهرها، وتقديره لكل شيء فيها قدره يبدو كأنه روح سرمدي وعي إبداع لله إياها، وتقديره أقدارها، ووعي إبداع الله الحياة كلها، وتقديره لكل شيء فيها قدره، فلا تخفى عليه خافية من جانب ولا وظيفة لجزء في النفس ولا الحياة، فلا جهل بشيء، ولا جهل بطاقته ولا بوسائل استثارته، ولا خطأ في تقدير حي ولا في التشريع له، ولا تضارب بين التنديرات والتشريعات المختلفة أشد الاختلاف. فالنبي - يشرع للنساء والأطفال وهو رجل، وللمستعبدين وهو حر، وللضعفاء(880/20)
وهو قوي، وللقاصرين وهو رشيد، ولكل الطوائف والمراتب الذين ليسوا من طائفته ولا مرتبته كأحسن ما يمكن أن يشرع هؤلاء المختلفون عنه لأنفسهم لو وكل إليهم التشريع لأنفسهم والتزموا ما يلتزم من الحزم والعزم والعدل والضبط والتوفيق بين وجهات النظر المختلفة لشتى الطوائف في شتى الدرجات. فهو إنسان كامل له أن يحس بكل ما يحس به كل إنسان وأن يفكر فيما يفكر فيه كل إنسان مهما اختلف عنه في خلقه وتفكيره وشعوره وطاقته على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
6 - والنبي - في شخصيته القوية الشاملة وسيرته العالية وأقواله النابغة يبدو كأنه روح جبار تجسد ليطبع الناس على صورته طبعاً لا فكاك لهم منه، ويظل ماثلاً للناس حتى بعد موته كأنه خالد لا يموت، وكأن كل إنسان من أتباعه صورة مصغرة ناقصة له فيما يأخذ به نفسه في شخصيته وسيرته وأقواله وهو يحتذى نبيه سواء أكان بين الناسأم خالياً بنفسه، وكأنما النبي رقيب عليه ملازم له يحصي كل أعماله وأقواله ونياته.
وكأنما النبي فيما يكشف للناس بشخصيته وسيرته يكشف لهم من ناحيتين متقابلتين أوسع وأسمى ما يمكن أن تمتد إليه الإنسانية حتى تتصل بالسماء، وأضيق وأدنى ما يمكن أن تنكمش إليه حتى تتصل بالأرض، وفيه تنكشف لهم الصلة كلها من أقصى طرفها بين السماء والأرض، أو بين الله والإنسان وأمثاله من الأحياء. وبانكشاف هذين الجانبين ينداح الأمل من جانب أمام أصاغر الناس حتى لا يفقدوا ثقتهم بأنفسهم ولا ييأسوا من روح الله، كما يتقاصر الغرور والكبرياء من جانب أمام أعاظم الناس حتى لا تبلغ بهم الثقة بأنفسهم حد التأله وعدوان الحدود البشرية، والاستعلاء على غيرهم من البشر فيخسروا بذلك أنفسهم ويخسرهم المجتمع. فالنبي يحمي كل صغير من السقوط إلى حيث يتحطم، ويحمي كل عظيم من التحليق إلى حيث يضيع ويتبدد، كما تحفظ جاذبية كل كوكب ما عليه من أجسام.
7 - والامتياز مثار الحسد والحقد، ولا سيما الامتياز الذي يكون مرجعه اختلاف عنصر الممتاز عن غيره، فهو امتياز لا أمل فيه مثله مهما أسرف طالبه في الجد والمثابرة، لأن الامتياز لاختلاف العنصر موجب للغربة والبعد بين الممتاز وغيره فيما لا حيلة لهما فيه من الطبائع والأمزجة والمشاعر وغيرها مما لا يقبل التغيير.
وإذا كان امتياز الأنبياء من هذا القبيل الذي يستلزم بطبيعته إثارة أشد الحسد والحقد إلا أن(880/21)
وضع النبي يختلف عن وضع غيره من العباقرة
فالعباقرة مشغولون غالبا بإخراج آثار عبقرياتهم عن مزاحمة الناس على مناعم الحياة ولذائذ الدنيا. وما من عبقري شغله ما يشغل غير العباقرة وزين له كما زين لهم (حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث) لأنله في تحقيق رسالته المستمدة من عبقريته شاغلاً يستغرق كل اهتمامه أو يكاد، عن كل هذه المطامع العابرة التي تستغرق كل اهتمام من لم توكل إليهم رسالة من رسالة الغيب، وقد تذهل العبقري رسالته عن أموره الخاصة، فيزهد في كل ما في أيدي الناس مما لا يعنيهم غيره. وفي هذا الزهد ما يخفف حسد الناس وحقدهم على العباقرة، بما يتركون لهم من التفوق عليهم في الأمور التي تعنيهم، وعدم منازعتهم إياهم في ميادينهم التي تستلفت كل اهتمام، ولا حيلة لهم ولا مطمع في التبريز إلا فيها كجمع الأموال واقتناء العقار والقبول عند النساء وترف المعيشة وتحصيل العلوم ونحو ذلك مما يخرج عن نطاق الرسالة وليس ركناً فيها ولا شرطاً من شروطها، وقد ينزلون عن أملاكهم وسلطانهم، وفيها من كان ملكاً فعدل عن أن يسوس رعيته سياسة الملوك، وساسهم سياسة الأب أبنائه أو الأخ أخوته في تواضع وزهد ومحبة، وتمسك بنشر عقيدته كما يؤمن بها معرضاً بذلك ملكه ونفوذه الدنيوي للضياع فداء عقيدته.
ووضع النبي يختلف أمام الناس عن وضع غيره من العباقرة ولو كانوا من دعاة العقيدة من حيث حسد الناس إياه على ما يتمتع به من امتياز، لأن امتيازه بالنبوة - كما يفهم هو ويفهم من حوله ليس إلا منحة من الله لا فضل له فيها، وهو في غيرها - كما يفهم هو ويفهم الناس حوله - ليس إلا إنساناً مثلهم لا يميزه منهم فضل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وفي ذلك ما فيه مما يهون أو يمحق حسد الناس إياه وحقدهم عليه في فضله عليهم بالنبوة.
هذا إلى أن النبي أزهد من كل من عداه من العباقرة في تلك المطامع التي أشرنا إليها قبل، فهو يعيش عيشة إزهاد المتقشفين في طعامه ولباسه ومركبه وأداته وسائر حاجات حياته اليومية، ويلزم أهل قرابته معيشة كمعيشته، مما لا يصبر عليه إلا (أولو العزم) ولو نشئوا على الترف والبذخ في قصور السيادة والإمارة وهو في سعة أفقه الروحي، ومعرفته البدهية للناس أكثر من معرفتهم أنفسهم، وعلمه بما ينطوون عليه من ضعف وسخافة(880/22)
وقصور، وحرصه المخلص على منفعتهم - إنما ينظر إليهم نظر الأب الكريم إلى أطفاله القاصرين لا إلى انداده الراشدين، ويعاملهم كما يعامل الأب أطفاله لا أنداده، فيتواضع لهم، ويرحمهم في ضعفهم وغرورهم ويتصاغر لهم وهو يشرف عليهم من عل دون أن يشعرهم إلا بأنه طفل مثلهم أو دونهم، ويفسح لهم إلى جانبه أوسع ما يمكن أن يفسح تشجيعاً لمواهبهم على الحرية والعمل، بينما هو يأخذ نفسه - إذا ضيق عليهم أو شدد - بأضيق وأشد مما يأخذهم به، بل هو يضيق على نفسه ويوسع عليهم، ويحمل نفسه عبئه وعبئهم، ويكون لهم ملجأ وسكناً في كل محنة، فيرون أنفسهم أكثر منه مغانم واقل مغارم، وأنعم حالاً وأهدأبالا مهما غلوا وأسرفوا على أنفسهم في التحنث والتعفف وفي ذلك ما يلطف نيران الحقد ويسكت شياطين الحسد والموجدة عليه فيما يمتاز به عليهم مهما يبلغ امتيازه من السمو والجلال.
وأقرب العباقرة إلى الأنبياء أشبههم به في هذه المزايا العالية التي تستغرق الإنسانية والحياة وتتطلع إلى ما وراء العالم المشهود طبيعة وعملاً.
ولا شئيفجر في النفس الإيمان الكامل الخالص إلا العبقرية لا سيما الدينية، ولا أحد يغدق عليه هذا الإيمان إلا العباقرة ولا سيما الدينيين.
الإنسانية بعباقرتها عالم سماوي جميل شريف خير حقيق بالحب والتقديس.
والإنسانية بغير عباقرتها عالم طيني كريه حقير لا يستحق إلا المقت والاحتقار.
ومزاولتنا الحياة في رعاية العبقرية لعب طليق تتفتح له الرغبات وتنشط به القوى، فيشتهى ويستزاد.
ومزاولتنا الحياة في غير رعايتها كدح ذليل في الأغلال يميت الرغبات، ويشل القوى، فيعاف ويستعجل الخلاص بالموت منه قبل الأوان.
محمد خليفة التونسي(880/23)
لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل
للدكتور محمد يوسف موسى
من الظواهر الاجتماعية التي تراها في كل عصر وبيئة. ظاهرة الفعل والانفعال، أو التأثير والتأثر، أو بكلمة واحدة ظاهرة التقليد، فانفعال الطفل بأبويه واخوته، وانفعال التلميذ بمعلمه، وانفعال المريد بشيخه؛ كل ذلك، وما منه بسبيل، مشاهد غير منكور
وإذا كان لكل ظاهرة سبب أو مجموعة أسباب، تظهر بظهورها وتذهب بذهابها، فإن سبب هذه الظاهرة مزيج من القوة أو التفوق من جانب، وضعف الإرادة أو الشخصية من جانب آخر وقد يضاف إلى هذا وذاك كسل العقل الذي يمنع من التفكير والاستقلال في الرأي.
على أنه قد يكون الشخص الواحد منفعلاً أو متأثراً في بعض ما يذهب إليه بآبائه والعلية من قومه المعاصرين له، وإن اعتقد مع هذا أنه من المستقلين في الفكر والرأي، ومن المحافظين على هذا الاستقلال والمعتزين به، وذلك واضح لا يحتاج لضرب الأمثال.
ومع هذا لا عاب في التأثر بالغير في فكرة من الفكر، أو مذهب من المذاهب، أو طريقة من طرائق الحياة. بل إن هذا قد يكون ضرورة أحياناً كثيرة، في حياة الفرد أو الجماعة، ضرورة يمليها الواقع وتفرضها الطبيعة.
يتأثر الطفل بأبويه، ثم يتأثر بلدانه، ثم يتأثر - متى صار تلميذاً - بمعلميه ويتخذ منهم مثله العليا. وهذا الضرب من الانفعال بالغير على هذا النحو، أمر لا بد منه ولا حيلة فيه. إنه ضروري ليصل الصغير إلى معرفة كثير من الأمور، ثم لينفذ من ذلك إلى تكميل نفسه فيما بعد؛ بمعرفة أن له شخصية مستقلة يجب أن تتكون وأن تكون مستقلة على قدر ما يمكن أن يكون هذا الاستقلال؛ وبمعرفة أن له عقلاً يجب أن يفكر به ليصل إلى إدراك أن هذا العمل شر وقبيح وإن أجمع عليه أبواه ومعلموه والناس جميعاً، وإن ذاك خير وجميل وإن كان قليل الأنصار. والنتيجة لهذا أن ينأى عن التأثر بالغير إلى درجة التقليد، وأن يأخذ في الاستقلال في التفكير والرأي والعمل.
ومن الواضح، يعد هذا، أن الانفعال بالغير في هذه المرحلة من الحياة بصفة خاصة سنة من سنن الطبيعة لابد أن تنزل على حكمها. ثم علينا متى تقدمت بنا السن ونضج العقل، أن نحد منها، وبمقدار ما نحد منها تتكون الشخصية ويظهر الاستقلال.(880/24)
والانفعال بالغير كما نراه على أشده في المراحل الأولى من حياة الفرد الذي لا يزال في دور تكوين الشخصية، تراه في حياة الجماعات في أول أمرها، وفي حياة الأمة التي تحس ضعفها إزاء غيرها من الأمم. وفي هذا كله، قد يكون التمثل بالغير في الخير، كما قد يكون في غير الخير. وإلينا بعض المثل.
كان الأزهر إلى مفتتح هذا القرن العشرين شخصية خاصة به تتمثل، فيما تتمثل فيه، في طابعه الخاص في دراساته وامتحاناته ينتسب إليه من يريد غير مقيد بكثير من القيود التي نعرفها اليوم، ويتلقى فيه العلم الذي يريد على من يحب من الشيوخ، ثم متى أحس أنه وصل من المعرفة والعلم إلى ما يجيز له أن يكون من علمائه تقدم للامتحان. شأنه في ذلك، إلى حد كبير، شأن (السوريين) أو كلية الآداب بجامعة باريس هذه الأيام!
ثم أرادت الحكومة إصلاحه (أو إفساده لا أدري!)، متأثرة بثورات الطلاب ومطالبهم، فأدخلت عليه - في الانتساب والدراسة وشئون الامتحانات - الكثير من القيود شيئاً فشيئاً متمثلة بذلك وزارة المعارف في معاهدها ودور التعليم بها، حتى أصبحنا في هذه الأيام نجده يحتذيها في كل شئ تقريباً: مثل عدد سني الدراسة ونظمها ونظم الامتحانات، وبهذا - في رأيي فقد الأزهر الكثير من شخصيته وطابعه وأصالته.
أما انفعال الأمة كلها بالغير في كثير من أمورنا العامة، والخطيرة، فأوضح من أن نحتاجلأن ندل عليه. ومع هذا، فإني أشير إشارة عابرة إلى أثر ذلك في التعليم والدستور والقوانين ونظم القضاء. وليس ببعيد منا ما كان من فرض قانون مدني جديد قدمه واضعه بعد أن صاغه من مزق مختلفة من قوانين أمم مختلفة من أمم أوربا. متناسياً أن ما تصلح بهأمة في الغرب قد لا تصلح بهأمةأخرى في الشرق، لاختلاف الدين والتقاليد وإن كان في هذا قدر كبير من الإثم على الأزهر، إذ لم ييسر كتب الشريعة الإسلامية للراغبين في معرفتها، والمعنيين بدراستها، من غير الأزهريين.
على أنه من الضروري أن تنتفع الأمم بعضها ببعض في الفكر ونظم الحياة، ولكن الخطر أن يكون التأثر من طرف واحد دائماً.
إن الانفعال أو التأثر بالغير بإفراط يضيع استقلال من منى به فرداً أو جماعة، ويذهب باستقلال الفكر وأصالة الرأي والعمل. ذلك بأن من يتطلع دائماً إلى غيره ويسأله ماذا يرى(880/25)
وماذا يعمل، يجعل من نفسه مادة يصورها ذلك الآخر كما يريد، ويجعل نفسه في رتبة البهيمة يصرفها الحدث من الغلمان على ما يشاء ويهوى. إنه بذلك يلغي ما وهبه الله له من عقل يستطيع به، إن أراد، أن يجعل له حياة خاصة وفكراً مستقلاً به ولكنه رضى لنفسه أن يفكر له الآخرون، وأن يخط له هؤلاء الآخرون مجرى حياته التي تضطرب فيه. إن هؤلاء الذين يتبعون دائماً الأغيار، يجعلون من أجسامهم مقابر لنفوسهم التي أماتتها التربية السيئة والتقليد المقيت، بدل أن تكون هياكل لنفوس إنسانية لها حريتها واستقلالها. والجناية في هذه واضحة، وإنها جناية على الفرد والجماعة والدين نفسه.
ذلك، بأننا نجمع على أن الإسلام دين كل زمان ومكان، دين صالح لكل عصر وبيئة. ومع هذا فقد منعنا إتباع الماضين، والجمود على ما كتبوا عن الإسلام لعصور غير هذا العصر الذي نعيش فيه، من أن نحاول عرض الإسلام كما يجب: عقيدة وتشريعاً وأخلاقاً واجتماعاً واقتصاداً وأقول: (واقتصاداً) عامداً، لأن الإسلام، وهو تشريع عام شامل، ما كان يستطيع أن يهمل هذه الناحية الخطيرة التي تعتبر بحق مشكلة أمس واليوم والغد في العالم كله.
إن علينا أن نكتب كتباً جديدة نعرض فيها الإسلام من تلك النواحي، ونبين فيها كيف يجب أن نعمل لتحقيق العدالة الاجتماعية؛ فإنه لا تزول هذه الفوضى، ولا تتقي الشيوعية إلا بالقضاء على سبيلها الوحيد وهو الظلم الاجتماعي. تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
بذلك، وبذلك وحده، نكون قد أديناً واجباً كبيراً للأمة للإنسانية كلها، وبذلك نكون صالحين للتعاون مع ممثلي المسيحية في تكوين جبهة لمحاربة الاتحاد والمبادئ الهدامة. أما بالعكوف على القديم باعتباره وحده الحق، وبالتقليد في كل شئ حتى في التفكير ومناهج الدرس، فإننا لن نستطيع أن نصل إلى خير، ونكون جناة على أمتنا وأبنائنا، وتلك جناية يثقل علينا حملها ووزرها. نعم، إنها جناية نكراء أن نجمد على ما ورثناه من تراث، فلا نتناوله بالتوسعة والتعديل بما يناسب حاجات هذا العصر الذي نعيش فيه. وهل فعل أئمة التشريع من المسلمين، الواحد بعد الآخر، غير هذا؟ إن هؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم لو كانوا متبعين جامدين على ما ورثوا مقلدين لمن سبقهم، لما كان لناالآن إلا مذهب واحد في التشريع، بينما صار لنا من ذلك بفضل استقلالهم واجتهادهم في الرأي مذاهب عديدة،(880/26)
مذاهب نرجوا أن تتجدد وتزيد حتى نجد فيها توسعة وتلبية لحاجات الزمن في العالم الإسلامي كله.
وهنا أجد من الواجب أن نرفع الصوت عالياً بأن كل من تقدمنا في الحياة، ما عدا الأنبياء والمرسلين، فيما أرسلوا من أجله، يخطئون ويصيبون. لا معنى إذاً للتأثر والإتباع في كل شئ، ولعل بعضنا يكون أفهم للأمر وأقرب للحق وأهدى إلى الصواب من كثير من هؤلاء السابقين. ومن أجل ذلك يكون فرضاً على كل منا أن يعنى باستعمال عقله وأن يطلب لنفسه الاستقلال في الرأي الذي يتبعه الاستقلال في الشخصية، وإلا كان مقصراً في طلب الكمال الذي جعل الله وسائله.
(للكلام بقية)
محمد يوسف موسى(880/27)
ولي الدين يكن
للأديب عبد الخالق عبد الرحمن
هنالك صحائف مطوية لشعراء عاشوا في العصر الأخير لم يذكر لنا الكتاب عن سيرتهم ما يروي الغلة وقد أثرت أن أجمع بعض الأشتات فأكون مقالة عن الشاعر الأديب المرحوم ولي الدين يكن. فهو شاعر في كلا الفنيين المنظور والمنثور يصوغ كلامه المرسل كأنه شعر موزون ويسبك الشعر كأنه النثر سهولة وطلاقة وطبيعة وانقياد قواف، حتى لو حللت نظمه ما جئت بأسهل منه، فأنت بين هذا النثر الأنيق وذلك الشعر الطلى لا تدري أولي الدين أشعر في هذا أمفي ذاك، لازمه لأنه لم يجر قلمه إلا بما خفق به قلبه. وهو في كلا الفنين ذو القلب المتألم مما حوله ولمن حوله. ولأنه قلب حساس شريف تخدمه مخيلة ترى ما لا يراه الغير حتى أصبح كما قال هو عن نفسه
قلبي يحس وهذه عيني ترى ... ما حيلتي فيما يحس وما يرى
كان ولي الدين شاعراً في قصائده العصماء يحلق في عالمه العلوي بجناحي الخيال والشعور، وينظم في سلك بيانه الابتسامات والدموع درراً أين منها الجواهر التي تزين النحور.
كان شاعر في (معلومة ومجهولة) وقد ضمنه مذكراته عن منفاه فظهر كأنه المغلوب الغالب والمقهور القاهر.
كان شاعراً في (صحائفه السود) وهو يئن من الظلم الذي انتابه والحيف الذي لحقه، والجهالة التي سدت عليه منافذ الحرية، فكان في أنينه دوي التهديد، وفي شكواه وعد الوعيد.
كان شاعراً في (تجاريبه) وما استفاد تجربة - ككل مجرب - إلا وقد امتلكها بشيء يخسره من الأمل حتى جاءت كما يقول وكما هي (ألام مصوره وشكاوى متجسدة)
كان شاعراً ملء روحه الشعرية وملء قلمه الفصاحة، يستهوى النفس بسلاسة ألفاظه ورقة قوافيه وعذوبة أسلوبه، ويملك القلب بلطف معانيه التي يصورها تصويراً كله سلامة في الذوق ونزاهة في الفن وجزالة في التعبير الرائع، وقوة في التركيب الفني وموسيقية الألفاظ المنتقاة فتراه يسترضي القارئ ساعة حتى ليملأ قلبه سروراً وصفاء. ويستبكيه حين(880/28)
يبكى ويتألم حتى ليجعله يلمس دموعه لمس اليد ويحس بناره تتأجج من خلال ألفاظه.
لقد مازجت شاعرية ولي الدين يكن نفساً عزيزة حساسة وقلباً شريفاً رقيقاً فكان إذا تأثرت نفسه وخفق فؤاده قال الشعر فيرسله دون أتعاب فكر ولا إجهاد قريحة. وقد ظهرت خصائص هذه الشاعرية في امتداد نفس القول لديه امتداداً لم يدرك فيه عاطفته المندفعة ضعف ولا فتور، وفي استقصاء الموضوع استقصاء يشمل جميع نواحيه في روعة الأسلوب الذي يهز المشاعر هزاً عنيفاً ويترك في النفوس أثراً عميقاً.
هذا قليل من كثير وغيض من فيض عن ولي الدين الشاعر الكبير. أما ولي الدين الحر الشريف المخلص بين أشرف الأحرار فلا تقل منزلته عن منزلة ذاك.
كان حراً في تفكيره وأقواله. كان في طليعة أحرار الشرق متعطشاً إلى الحرية والاستقلال والانعتاق من القيود التي ثقلت عليه فقد صهر أغلال التقيد فكسرها ورفع فوقها علم الاستقلال الفكري عالياً خفاقاً فكان لا يقول إلا ما يوحيه إليه يقينه ووجدانه حتى كان كالشاعر الملك الضليل أمرئ القيس لا يقول الشعر رهبة ولا رغبة فأمكنه أن يباهي فيقول:
إذم فلا أخشى عقاباً يصيبني ... وامدح لا أرجو بذاك ثواباً
وهكذا كان شأنه في كل ما كتب ونظم وهذا ما كان يريد أن يكون لسان حال الغير قال (لا أبالي الثناء ولا أبالي الهجاء وإنما أبالي أن يصدق في أحدهما) ولطالما أضرت حريته هذه بمصلحته بين قومه بل وبين عشيرته كما يعرف ذلك معاصروه. ولو شاء ولي الدين أن يضحي ولو بالقليل من حرية رأيه واستقلاله الفكري لكان له شأن كبير في تركيا أولاً وفي مصر ثانياً؛ ولكنه أثر على كل ذلك أن يعيش حراً طليقاً فيقول:
وأعتلى كرسي مستكبرا ... كالملك فوق العرش إذ يعتلى
فكان جزاؤه على ضفاف البسفور النفي سبع سنوات؛ وكان جزاؤه على ضفاف النيل أن يستكن في داره منسياً أحياناً من أقرب الناس إليه ولكنه لم يطأطأ رأساً ولم يحن ظهراً ولم يحد قيد شعرة عن مبدئه وسنته
وقلما تخلو قصيدة من روائعه أو صفحة من كتاباته عن مثل هذا الإباء المجسم وتلك الأنفة العالية. والحقيقة أنه كان حراً في سياسته كما كان حراً في كتابته.(880/29)
(بغداد)
عبد الخالق عبد الرحمن(880/30)
رسالة الشعر
الشاعرة
للآنسة الفاضلة ن. ط. ع
نفس هذه الشاعرة فيعه الهوى تنزع إلى سماء الأدب، وتطمح إلى مجد القريض؛ ولكن عزلتها التقليد جعلتها تسير في فلكها الضيق لغير مستقر، وتطير في جوها المحصور إلى غير مدى. وفي هذه القصيدة التي كتبتها وهي تكابد سام النفس القاتل، وألم الجسم المبرح ما يعبر عن هذه الحال.
إلى أين مسراك يا شاعرة ... متى تهتدي روحك الحائره
إلام انجذابك نحو السماء ... وتغضين عن نفسك الثائره
وما المجد إلا خداع المعاني ... ألم تسأمي النظرة الساخره
رأيتك مذ كان فجر الشباب ... يهيمين بالمثل العاليه
وفي زورق حالم تبحرين ... ونفسك واثقة راضية
وأنت تخالين وادي الكمال ... قريباً وأثماره دانيه
وقلنا سلاحك، هل من سلاح؟ ... لديك به تقهرين العباب
طريقك أختاه وعر طويل ... وسوف تلاقين شتى الصعاب
فقلت سلاحي صدق الوفاء ... وهذا الطموح وهذا الشباب
وفي الزورق ما يروق النفوس ... ويبعث فيها الرضا والسرور
مجاريه مكفولة بالهدى ... مراسيه موكولة للضمير
يرف عليه لواء القريض ... فيدنوا له كل قاص عسير
وسار الشراع بأثقاله ... وقلب يضيق بهذا العذاب
يجوب الحياة فتمضي السنون ... وتذوي الأماني ويبلى الأهاب
وما من شعاع ينير السبيل ... ويهدي النفوس خلال الضباب
وصاح الفؤاد ضللنا الطريق ... دعيني أسير هذا الشراع
وأمضي به نحو شط النجاة ... وأعفيك من هول هذا الصراع
فأنت تسيرين ضد الرياح ... بهذا اليفاع وهذي البقاع(880/31)
أأنت على موعد صادق ... تجيلين في العابرين النظر
ألم تيأسي من خداع الليالي ... ألم تسأمي مجدك المنتظر
ألم تسمعي وقع خطو الزمان ... ألم تفزعي من نداء الحفر
لقد مالت الشمس نحو المغيب ... إلى أين مسراك يا فانية
فما زال شعرك رهن القيود ... وكلت مجاديفك الواهية
فلا نلت بالشعر ما تنشدين ... ولا عشت هانئة راضية
نشدت الخلود مع الخالدين ... ولكن أسأت اختيار السبيل
فهيهات بالشعر أن تدركي ... من الدهر غير العناء الطويل
فلو كنت في زمرة الراقصات ... لأثنوا عليك الثناء الجميل
وأطنب في مدحك المادحون ... ونجمك أمسى حليف الصعود
وقالوا إلهة شتى الفنون ... وأعجوبة في سجل الخلود
وذلل فنك كل الصعاب ... وهون شقوة هذا الوجود
ن. ط. ع(880/32)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الإصلاح الحقيقي للأزهر:
نشرت الأهرام منذ خمسين سنة ما يلي: (ارتأى فضيلة الإمام الشيخ محمد عبده، بعد أن درس (بروغرامات) تعليم الأزهر وغيرها من (بروغرامات) الدروس، إدخال تعديلات كثيرة على (بروغرام) الأزهر، فقدم تقريرا بذلك، وضمنه (البروغرام) الواجب التدريس بمقتضاه، ومن أحكامه إدخال جميع العلوم، من كيمياء وفلسفة وهندسة وغيرها، ورفع هذا التقرير إلى السدة الخديوية، فأحالته إلى لجنة العلماء المؤلفة من ثلاثين إماماً من الأزهر الأفاضل، فاجتمعت هذه اللجنة برياسة حضرة المفتي، لأن سماحة العلامة المفضال شيخ الأزهر الرئيس الشرعي لهذه اللجنة ترك رياسة هذه الجلسة لفضيلة الشيخ محمد عبده، ليكون أطلق يدا في تأييد مبادئه الجديدة المعارض لها شيخ الأزهر)
كان ذلك منذ خمسين سنة، وكانت تلك أول خطوة نحو إخراج الأزهر من عزلته ليساير ثقافة العصر الحديث. أدخلت العلوم الحديثة إلى الأزهر منذ ذلك الحين، وقد تحايل المصلحون إذ ذاك على جذب الطلبة إليها بمختلف الوسائل، فألفوا فيها ودرسوها على الطريقة الأزهرية القديمة، فكانوا مثلا يعرفون مصطلحات علم الحساب كالجمع والطرح ويخرجون محترزات التعريف فالجمع هو ضم عددين أو أكثر من جنس واحد لينتج ناتج يسمى حاصل الجمع، و (الأس) هو عدد صغير يوضع فوق عدد آخر للدلالة على حاصل ضربه في نفسه مرة أو أكثر. . . وهكذا. وقد نظم بعض الطلبة مسائل الجغرافيا ليسهل عليه حفظها كما يحفظ المتون المنظومة، ومن ذلك قول الناظم:
أفريقيا يا عالما بالحال ... تحد بالبحر من الشمال
وتعاقب أساتذة العلوم الحديثة في الأزهر، حتى كان عهد المغفور له الشيخ المراغي الذي نقل الطلبة من المسجد إلى أبنية مدرسية، وجعل برامج دراسة العلوم الحديثة مطابقة لبرامج المدارس الابتدائية والثانوية، واحضر لتدريسها نفس أساتذة هذه المدارس، وأدخل كذلك على مناهج الدراسة في الكليات ما يناسبها من الدراسات العصرية وندب لتدريسها أساتذة من الجامعة وبعض المدارس العالية.(880/33)
وصار الأزهر - كما نراه الآن - يدرس العلوم الحديثة بفضل ذينك المصلحين العظيمين، وقد خطا كل منهما الخطوة (الممكنة) في زمنه. ولكن هل هذا هو الإصلاح الحقيقي المنشود للأزهر؟
قلت فيما مضى إن العلوم الحديثة في الأزهر (روافد) ثقافية، وأقصد بذلك أنها تمد المجرى الأصيل وهو علوم الشريعة الإسلامية، ولن يكون الأزهر حديثاً ومسايراً لركب الزمن ومحققاً لما يطلب من جامعة إسلامية في القرن العشرين، إلا إذا عرض هذه العلوم بأسلوب حديث وطبق أصولها على مسائل العصر الحديث. وهذا هو ما أعنيه بالإصلاح الحقيقي للأزهر، وهو يتطلب مصلحاً (ثالثاً) يخطو الخطوة (الثالثة) وهي الخطوة التي ستكون في الصميم.
إن الأزهري الحديث يشعر بأنه ذو شخصية مزدوجة: من قديم ومن حديث، فهو يشارك الناس في المجتمع العصري كثيرا من ألوان النشاط العصري، على اختلاف حظوظ الأشخاص من ذلك، ويسايرهم فيها، ويجيد في بعضها. ولكنه مع كل ذلك يشعر بشخصية ثقافية قديمة لا يكاد يبديها لأنها لا تلائم العقلية التي تحيط به. ولو أنه تلقى ثقافته الإسلامية بطريقة عصرية، وبتطبيق عصري، لما أحس بهذا الحاجز القائم في عقله بين ثقافتين مختلفين.
وأريد أن أقول لأولئك الذين كتبوا كلمة هنا وكليمة هناك: إن الأزهر ليس مقصوراً على من ينتسبون إليه ويحملون شهاداته، بل هو للجميع باعتباره منبع المعرفة الإسلامية، ولم أقصد فيما أوردته من رسائل الطلبة وما عقبت به إلا الصالح العام عن طريق تكوين جيل إسلامي جديد يعرض الثقافة الإسلامية عرضاً جديداً ويلائم بينها وبين مقتضيات العصر.
وقد قصدت في كتابتي السابقة أن أشرك الطلبةوأفسح لهم كييعبروا عن مشاعرهم ويبدوا أفكارهم، وأتبعت الطريقة (الأستنتاجية) فاستنبطت منهم عناصر الموضوع حتى بدا تناوله جديداً وإن كانت الأقلام تعاورته من قبل، وقد قصدت بذلك أن أستحث الجيل القائم من علماء الأزهر على أن يخرج كنوزه للناس، فقد قضوا أشطاراً من أعمارهم في دراسة تلك الكتب وإدراك مراميها، وهؤلاء العلماء هم الذخيرة الحية الباقية والطلبة في هذا العصر تؤودهم المناهج المزدحمة وقد أصبحوا لا يسيغون أساليب التأليف القديم وصارت نفوسهم(880/34)
منصرفة عنها فلن يقبلوا عليها مثل أسلافهم، فواجب أولئك العلماء أن يؤدوا الأمانة التي تلقوها عمن قبلهم بطريقة تناسب العقلية الجديدة عقلية من يراد منهم أن يتسلموها، ولا ينبغي أن نيأس من قعود الأساتذة عن هذا الغرض، فإنا وإياهم ننتظر المصلح الثالث الذي قد يكون شيخا للأزهر، وقد يكون رجلاً آخر من رجال الأزهر يفسح له الشيخ الأكبر، وإن كان يعارضه، ليكون أطلق يداً. . .
واحدة بواحدة:
تتجه وزارة المعارف الآنإلى العمل على نشر الثقافة الفرنسية في مصر، وذلك بجعل اللغة الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى في بعض المدارس إلى جانب اعتبار الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في البعض الآخر وبالإكثار من البعوث العلمية إلى فرنسا وخاصة بعد التوسع في إنشاء الجامعات المصرية وما يقتضيه من الحاجة إلى الأساتذة، وبمساعدة المدارس والهيئات الثقافية الفرنسية الموجودة في مصر على تأدية رسالتها.
والتمكين للمصريين من الانتفاع بالثقافات الأجنبية المختلفة وعدم الاقتصار على بعضها هو رأي معالي وزير المعارف الدكتور طه حسين بك، ومن الطبيعي أن يعمل على تنفيذه وتحقيقه في النطاق الرسمي وهو على رأس وزارة المعارف، كما دأب على العمل به في الميدان الأدبي العام.
هذا جميل ومفيد، ولكن هناك شيئاً آخر يعرفه معاليه ولا أحسبه إلا يوليه اهتمامه ذلك أن السلطات الفرنسية في شمال أفريقية تمنع وصول الثقافة المصرية والعربية إلى هناك وقد طلبت بعض البلاد المغربية أخيرا من وزارة المعارف المصرية أن تنشئ فيها مدارس تسير على المناهج المصرية، وأن تمدهم بطائفة من الكتب الأدبية والعلمية والفنية لتكون نواة لمكتبات عامة يتردد عليها أبناء تلك البلاد. ولكن السلطات الفرنسية عارضت - كدأبها - في إجابة هذه المطالب، وجرت اتصالات بين الوزارة وبين تلك السلطات الفرنسية في هذا الشأن لم تنته إلى حل.
وقد استطاع معالي الوزير الأريب أن يحل مسألة مراقب التعليم المصري في السودان على وجه أرضي الكرامة المصرية، فسافر المراقب إلى السودان بعد ما وقف الإنجليز في سبيل دخوله إليه. وهذا المثل يجعلنا آملين في أن يستغل معاليه مركز الثقافة الفرنسية بمصر في(880/35)
حمل الفرنسيين على التعقل وعدم الوقوف في وجه الثقافة المصرية المتجهة إلى شمال أفريقية، تلك البلاد التي تجمعنا بها روابط لا انفصام لها.
مسابقة مختار في النحت والتصوير والرسم
احتفل يوم الثلاثاء الماضي بافتتاح معرض الأعمال الفنية التي قدمت إلى مسابقة مختار في النحت والتصوير والرسم، وهي المسابقة السادسة عشرة التي أقيمت لتخليد ذكرى مثال مصر الأول، وذلك في متحف الفن الحديث بشارع قصر النيل بالقاهرة. وقد استقبلتنا في مدخل المتحف بالحديقة تماثيل مختار نفسه معبرة موحية، كأن الفنان العظيم هو الذي يستقبلنا في الاحتفال بذكراه. .
والمعرض يحتوي على ثلاث مسابقات، الأولى في النحت وموضوعها (اللاجئون العرب) والثانية في التصوير الزيتي وموضوعها (الطفولة المتشردة) والثالثة في الرسم، ولم يحدد لها موضوع، ولكن رسومها تتجه أيضاً نحو الطبقات المعذبة، وقد فاز بالجائزة الأولى فيها رسم يمثل فرقة من الشحاذين يشاركها في طعامها التافه كلب على طوار بجوار مسجد، فالمعرض كله يصور البؤس والألم فهو جدير بأن يسمى معرض البؤساء
وأعمال هذا المعرض متوسطة، وبعضها جيد، وهي وإن كانت خالية من الروائع الفنية الممتازة التي تستوقف المشاهد وتستحوذ على إعجابه، إلا أنها ذات أصالة، لعراقة موضوعاتها في بيئاتنا الزاخرة بهذه الصور، فليس فيها محاكاة أو اقتباس، وهي من هذه الناحية تدل على شخصيات أصحابها وعلى مواهبهم التي تبشر بالخير.
والذي أعجبني في المعرض الصورة التي فازت بالجائزة الأولى في التصوير الزيتي، وهي تمثل أخوين: أخ يدفن وجهه بين ذراعيه المشتبكتين وشعره الأشعث الأغبر ينطق بالبؤس والحرمان وأخت جلست إلى جانبه موزعة بين العطف على أخيها والإحساس بالألم. وأعجبتني كذلك الصورة رقم 4، وفيها طائفة من الأطفال المشردين يسوقهم شرطي وقد ربطهم بحبل كما يساق قطيع من السائمة إلى المذبح. . . وأمسك المخبر بأسمال أحدهم فبدت سوأته في شكل مؤثر، وهي حركة معبرة بارعة.
أما التمثال الذي فاز بالجائزة الأولى في مسابقة النحت فهو يمثل أسرة من المهاجرين راحلة، وهو تمثال لا بأس به، ولكن أعجبني هناك تمثال (رقم 24) لم يفز بجائزة. . .(880/36)
وهو الذي يمثل أسرة من زوجين وطفلين أضناهما السير والتعب، فحطوا رحالهم إلى جذع نخلة قد بتر رأسها، وفي ذلك إيحاء بانقطاع الخير حتى مما لجئوا إليه. . .
عباس خضر(880/37)
البريد الأدبي
تعقيب
كتب صاحب العزة أحمد رمزي بك مقالاً في العدد الماضي من الرسالة بعنوان (محاضرة عن الإسلام) وهي المحاضرة التي كتبت عنها قليلا في كتاب (حياتي)
وقد فصلها الأستاذ تفصيلاً دقيقاً وافياً وصحح لي أسم المدرسة الإسلامية التي ألقيت فيها محاضرتي الأولى وعتب على أني لم أذكر ما قامت به القنصلية المصرية في القدس من مجهود مشكور.
وإني أبادر - أولاً - بشكره على تنبيهي إلى خطئي، وثانياً قبول عتبه وإعلاني شكره على ما بذل من مجهود لإنجاح هذه المحاضرة.
وإني أؤكد لحضرته أنه لم يحملني على هذا التقصير إلا النسيان وبعد العهد واعتمادي على ما بقي من الحادث في ذاكرتي. بينما اعتمد حضرته - على ما يظهر - على مذكرات يومية دونها، وأخيراً أقدم لحضرته شكري ومعذرتي وسلامي.
أحمد أمين
معركة القزويني في الأزهر:
لا أوافق صديقي الأستاذ عباس خضر على تصوير ما دار بيني وبين الأستاذ الشيخ محمد خفاجي بأنه معركة حول كتاب الإيضاح يفضها أحد أمرين: أن تلغى دراسته من كلية اللغة، فيرفع اللحاف بين المتنازعين عليه، أو يرجع به إلى أحد أحفاد صاحبه بقزوين لأنه أحق به منهما. فالمعركة ليست بهذا التصوير، وإنما هي معركة بين عمل متواضع في الإصلاح قمت به في شرح الإيضاح، وعمل لا يؤمن بحاجة الأزهر إلى إصلاح في علوم البلاغة أو غيرها، ويقول صاحبه إنه جد فخور بحشوه بمماحكات الحواشي اللفظية، ويصفها بأنها بحوث علمية خصبة في رأي كل دارس للبلاغة وباحث فيها، وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة.
وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل لإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجري غالباً في طريقهما. وإن كان(880/38)
متأثراً بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات، وقد قصدت من هذا الشرح أن أمهد الطريق لعمل يكون أتم في الإصلاح، ولا يرجع بنا القهقري إلى مماحكات الحواشي، وهذا كله قليل من كثير ذكرته في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - وسأترك لصديقي الأستاذ عباس نسخة منه في إدارة الرسالة الغراء، وله شكري على قبول هذا الإهداء.
عبد المتعال الصعيدي
وفاة الأستاذ أمانويل مونييه
أصيب الأدب الفرنسي ولا نبالغ إن قلنا الأدب العالمي بوفاة أحد كبار الكتاب العصريين بفرنسا وواضع مذهب الأستاذ أمانويل مونييه
ولد هذا الفكر المشرق الوضاح بمدينة جرونويل سنة 1605 وما عتم أن عين مدرساً للفلسفة وظهرت على حداثة سنه شخصيته الحرة القومية الجذابة.
وقد تمكنت هذه الشخصية القوية من جمع نخبة من الكتاب حولها فأبرزت مجلة (الفكر) الذائعة الصيت
وذهب مونييه يذيع في مجلته أفكاره وآراءه في مشاكل العصر الحاضر واضعاً أسس مذهبه العامة الذي أسماه (بمذهب الذاتية) وإن لم يكن راضياً على هذا اللفظ مضطراً لاتخاذه تعبيراً أقرب من كل عبارة أخرى للدلالة على جوهر مذهبه الفلسفي العام.
وهذا المذهب الفلسفي الجديد الذي أثر وما زال يؤثر تأثيراً بعيداً في اتجاه الشباب المثقف في فرنسا وخارج فرنسا يعتمد في جوهره على اعتبار الإنسان في ذاته وشخصيته أولاً وقبل كل اعتبار آخر؛ فالإنسان في نظر مونييه محور كل شيء في هذه الحياة؛ وهذا الإنسان في نظره ذات شخصية قبل أن يكون فرداً وقبل أن يكون جزءاً من أجزاء المجتمع
فمذهب مونييه غير مذهب ومذهبه أيضاً غير مذهب الشيوعية المطلقة التي تعتبر - في(880/39)
نظره - الإنسان جزءاً من المجتمع لا شخصية لها مميزاتها تعيش في المجتمع.
وعلى هذه القاعدة يخالف مونييه ويقاوم الرأسمالية نتيجة الفردية المبالغة ويخالف أيضاً مذهب ماركس. وعلى هذه القاعدة قضى مونييه جل حياته في تفكير عميق واجتهاد متصل محاولاً أن يضع حسب تعبيره أسس مذهب خاص به يوفق بين وجود الإنسان وجوداً شخصياً وحياة نفس هذا الإنسان في مجتمع لا بد له من الامتثال لسننه وقوانينه.
وقد وفق مونييه إلى حد بعيد إذا ما اعتبرنا أنه أولاً نجح في وضع الأصول الكبرى لمذهبه، وثانياً في نشر مذهبه وتكوين أنصار له من الكتاب في فرنسا وخارج فرنسا قادرين على المسير بمذهبه في طريق الاكتمال بفضل مجلة (الفكر).
رسالة إلى ولدي
ها أنت ذا تبلغ العام الأول يا بني: عاماً ككل الأعوام التي تمر من حياة الناس مليئة بالاصطخاب والتنافس والتنازع، طافحة بالشهوات والنزعات والرغبات.
عاماً من أعوام هذا العصر الحاضر المشبع بأوضار المادة والمفعم بسموم النزاع: ومنذ اللحظة الأولى التي تفتحت فيها عيناك على النور ذهل البيت الآمن الوادع: وتغيرت في الحال منه وجهة الطريق، فأنقلب النظام وتغير الجو وتبدلت الغايات.
كان يشق طريقه يا بني في عتمة الأزل لا يهتدي إلى غايته المتوخاة: ويدرج في دروب الحياة لا يرى الساحل الأمان، وينتظم في صفوف القافلة لا يحس نهاية الغاية، حتى أتيته يا بني وولدت فيه وانتظمت في أسرته فإذا به غناء وشعر وطفولة، وإذا به رسالة وجهاد وأبوة
لقد كشفت للبيت السبيل يا بني فهديته إلى غايته في لحظة، وأنرت للبيت الطريق فوجهته في سهولة، وبعثت فيه الحياة والحماس والفتوة فأندفع كالسهم المراش يمضي ويمضي نفاذاً لا يلوى على شيء.
لقد رطبت طفولتك يا ولداه جو البيت فلان بعد قوة، وتلطف بعد تحجر، واستندي بعد يبس: وهذه الطفولة السحرية العجيبة غيرت وجه التاريخ من دون عناء، وبدلت لون الكون من غير تعب، واستبدلت بقلوب الآباء والأمهات قلوباً أخرى تنبض بالحب بعدما كانت تنبض بالدم؛ وتجيش بالعطف بعدما كانت تجيش بالرضى والغضب، وتقبل على(880/40)
الوجود بالتضحية والفداء والإيثار بعدما كانت تقبل عليه ملأى بالحرص مغمورة بالأثر والمنفعة وحب الذات؟!
لقد بدلت يا بني لون هذا العام الذي مر من حياتك وحياتي فهو عام كغيره محشو بالأيام كما تحشى سنابل القمح بحباتها، ولكن لون أيامه تغير وشكل لياليه تبدل فلم يعد هذا الصخب الذي مر ذكره يصل إلى مسامع البيت، ولم تعد هذه المادية تكبله بسلاسلها القاسية وتضرب حول فنائه ألف نطاق
فقد طهرته طفولتك يا ولداء وسكبت عليه من إكسيرها بلسماً يعطى منه السقيم فيبرأ ويداوي فيه العليل فيشفى
لقد أوضحت لي يا بني كثيراً من معاني الحياة، وكشفت لي جوانب من أسرارها فاستوضحتها بعد إبهام، وتبينتها بعد لبس، فلم تعد الوطنية معاني معقدة الفهم ضعيفة المدلول كما كانت في فجر الحياة، ولم تعد الحياة ملهاة قليلة الشأن بسيطة القيمة كما كانت في مطلع الشباب، ولم يعد المستقبل غموضاً وضرباً من الخيال والوهم كما كان في أبان الطفولة.
لقد علمتني يا بني كثيراً وألقيت علي دروساً ذات قيمة كما أنك هذبت نفسي وقلبي وصقلتهما صقلاً جميلاً مصقولاً!! ترتسم عليهما الصور بسهولة. ولولاك يا بني لبقي العقل ضالاً جاهلاً قدسية الأسرار العليا؛ ولبقى القلب حجراً قاسياً ما أكثر ما يحتاج إلى تهذيب.
لقد أصبح قلبي وهو مهدك خزاناً يعج بأسمى العواطف، وبركاناً يجيش بأقدس النزعات. لقد طهرته من الرجس وأزلت عن جنباته أدران الصدأ. لقد علمته أنشودة الأبوة الرقيقة الحواشي البديعة النغمات فغداً صباحه شعراً وأمسى مساؤه موسيقى.
ولو أدركت يا بني كم في نظراتك الطاهرة وحركاتك البارعة من سمو إلهام لقلبي وارتياح لخاطري ونشوة لنفسي لنطقت قبل أوان، ولعقلت قبل رشد ولأحسست قبل إحساس
لو أدركت يا بني وعلمت ما يخامر الآباء من حب وعطف وحنان حيال أطفالهم الصغار لتمنيت أول ما تتمنى ولطلبت أول ما تطلب وعياً ومعرفة ورشداً لتذوق معنى السعادة التي يسعى إلى تذوقها الضالون ويهيم في طلابها المدجلون
إن طفولتك يا بني شعر، بل هي أسمى من الشعر إنها عروس من عرائس الخيال(880/41)
للشاعرين يندفعون في الدنو منها محاولين الوصف، ويحترقون في الاقتراب منها معالجين القريض، فإذا بهم يتخبطون ويحترقون كما تحترق الفراشات المتواثبة حول النور!
لست أدري يا بني لم تتزاحم الصور والمعاني أمام خاطري حينما أنظر إليك، ولست أدري لم هذا النهم كله في حبك، ذلك أن فيضك يا ولدي وسع آفاق قلبي كثيراً وبسط جوانب نفسي كثيراً وزودني بأعماق بعيدة الغور لا يدرك لها مدى ولا تحدها حدود!!
لو عرفت يا بني كيف يدفع التعب، وكيف تهون المشقات، وكيف يسهل الصعب، وكيف تقرب الغاية لعلمت أنك دواء من الله لم تحتوه صيدلية ولا ركبه العلم، يعين به الله الهمة المجهدة ويرشد به الله البصيرة الضالة! ويحل به العزيمة محل الخور والأمل بعد اليأس والرجاء بعد القنوط
ثم ها أنت ذا يا بني تدلف إلى عامك الثاني تسرع الخطى وعندما تضحي على أعتابه يا بني سيكون لي معك حديث وأي حديث.
بنت جبيل - لبنان
حسن محمد عبد الله شرارة(880/42)
الكتب
صديقي مويز
تأليف الأستاذ حسن المخزومي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
هذا كتاب وضعه الأستاذ العالم حسن المخزومي بالفرنسية ووزع في باريس حينما كانت هيئة الأمم المتحدة تنظر القضية الفلسطينية في مرحلتها الأخيرة. وقد نقله إلى العربية وطبع في بيروت في مطابع الكشاف عام 1948.
يقول الأستاذ عبد الله مشنوق في الكلمة التي قدم بها الكتاب لقراء العربية: (هذه فصول قيمة موجزة كتبها صديقي حسن المخزومي عن الصهيونية منذ نشأتها حتى اليوم، على لسان صديقه اليهودي موييز، بأسلوب قصصي ممتع، يمتاز بوضوحه وسهولته كما يمتاز برصانته العلمية ونقده اللاذع الساخر. ضمنه خلاصة وافية عن الصهيونية وأحلامها ومزاعمها، مستنداً إلى الوثائق والمراجع التاريخية ومفنداً هذه المزاعم - على لسان اليهودي دائماً - بإنصاف واتزان يبرز فيهما للقارئ حسن المخزومي العالم الرياضي والمهندس المدفق لا يسرف ولا يغلو، ولا تتغلب فيه العاطفة على العقل).
ويقول في مكان آخر: (لقد صدر متأخراً عن موعده ربة قرن على الأقل، ولو أنه صدر في موعده الصحيح لتغير وجع التاريخ. . . ولو أن كل عربي عرف مرامي الصهيونية وأغراضها منذ ربع قرن لما أخذ العرب على حين غرة. . . ولما ظهروا بذلك المظهر الارتجالي في ميادين السياسة والقتال. .)
والكتاب لا يزيد في صفحاته على الستين في حساب الحجم، ولكنه في حساب الحقائق خلاصة مركزة لعشرات المجلدات التي تحدثت عن قصة تاريخ الإنسان في عشرات القرون. والكتاب في مجموعه لمحات عابرة في رأي صائب، واتزان عميق، وبيان مشرق، وفي إشراق الفكرة المركزة يتراءى الجهد المضني الذي يبذله الغواص في أعماق اليم وفي تبسيط المقعد من مشاكل التاريخ تبدو الطاقة المبذولة في تحويل أطنان من الأتربة والحجارة إلى ذرات صغيرة من الذهب الوهاج.(880/43)
وفي الكتاب لفتات ذهنية بارعة، ومفاتيح لغرف نفسية لشعوب انطوت على أنفسها - على حد تعبير الأستاذ الفنان المعداوي -، ونتائج يكاد ينفرد بالوصول إليها، ومشاهد من صور يعبد التاريخ نفسه فيها.
وقلائل جداً، هم الذين نصدوا لكتابة التاريخ وخلق بهم الفكر النير على أجنحة الفهم العميق والإدراك المتزن إلى الآفاق التي توحد فيها حقائق الأرواح الخالدة، وقلائل جداً هم الذين لم تفح من آثارهم روائح القبور، ولم تبد وراء كلماتهم جثت الموتى وعظام الغابرين.
وثقافة الأستاذ المخزومي العلمية، وإطلاعه العميق على مصادر التاريخ في أكثر من أربع لغات أجنبية يتقنها، إلى جانب ما يتحلى به من ذوق مترف، وحسن ملهم في الأدب والفن، كل ذلك يطل عليك من وراء كلمات الكتاب النابضة بالحياة، فيخيل إليك أنك لا تقرأ كتاباً، وإنما تسمع حديثاً مبسطاً عن المشاكل المعقدة في العلم والفن، في سخرية لاذعة واتزان عميق.
تبتدئ المسرحية الصهيونية التي ذهب ضحية فصلها الأول مليون ونصف من العرب الآمنين، التي سيذهب اليهود مجتمعين في فلسطين ضحية الفصل الثاني منها حينما ترخى يد الزمن أطراف الستار، في مكانين متباعدين في الشرق والغرب.
وقف على طرف المسرح الغربي في بريطانيا لويد جورج وزملاؤه، يعاونهم بلفور وشركاؤه على الإيقاع باليهود عن طريق وعد بلفور الغاشم؛ ووقف على طرف المسرح الشرقي مكماهون ولورنس يحاولان الإيقاع بالشريف حسين عن طريق استقلال العرب. . .
وفي الوقت الذي كان فيه مكماهونيقطع الوعود المعسولة للشريف حسين، كان جورج بيكو الفرنسي، ومارك سايكس الإنجليزي قد أتما تقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ بينهما، ولم يتركا للعرب غير الصحراء - الصحراء فقط - لأنهم خرجوا منها وإليها يرجعون. . .
ويقول المؤرخ الإنجليزي هـ. ر. تامبرلي: (كانت ثقة العرب في بريطانيا العظمى من القوة بحيث لم يفلح إفشاء بعض البنود من المعاهدات السرية في إفساد العلاقات الحسنة بين الطرفين. . .)(880/44)
آمن إبراهيم وهو في العراق بفكرة التوحيد، وتبنى اليهود من بعده هذه الفكرة وتعالوا بها على سائر الشعوب التي تحيط بهم وانطووا على أنفسهم فكرهتهم الشعوب واكتوى إبراهيم نفسه بنار هذه الفكرة التي آمن بها فكانت وبالاً عليه واضطر أن يفر من الصحراء إلى فلسطين. كان محبوباً فأعلن كثير من الأقوام أنه جدهم كالأبدوميين، والأموريين، والإسماعيليين. أما اليهود فيبدءون من يعقوب أو إسرائيل الذي اضطرته المجاعة إلى الهجرة إلى مصر، وهناك ابتدأ الاضطهاد الأول في التاريخ لليهود. وهنا نتساءل: أكان الخطأ عند اليهودأمكان عند المصريين؟
واضطر اليهود إلى الهرب من مصر، وقد انضم إليهم من كان من غير اليهود، ولعل موسى من هؤلاء. وقد أضاف إلى عقيدة التوحيد وصايا أخلاقية عشراً لم يتبعها اليهود، بل شاكسوا الأنبياء، وأشركوا بالتوحيد؛ فقدموا القرابين لأرباب آسيا، وعبدوا عشتاروت ويعل ومولوخ والعجل الذهبي، ووضعوا أولادهم في افران مولوخ، وسلموا نساءهم للبغاء المقدس على الروابي والتلال.
لقد رأى موسى أن بقاءهم في تيه صحراء سينا، قد يقوم المعوج من أخلاقهم، ويثير رجولة الشجاعة في نفوسهم، ولكن ذلك البقاء في التيه لم يفلح إلا في إجاعتهم. . . وتسللوا إلى فلسطين أفراداً وجماعات تسللاً بطيئاً، ولم يكن صحيحاً أنهم أخذوها بالقتال لأنها كانت معمورة بجبابرة من الكنعانيين والأشمونيين والجابوسيين، كانوا أصلب منهم مراساً وأقوى عوداً، وأمتن أخلاقاً. . .
وللمرة الأولى في التاريخ أصبحت لهم مدينة، زمن داود وسليمان، ولكن الذي يلفت النظر أنهم لم يستطيعوا الإتيان بعمل فني، فاستعانوا بجيرانهم على بناء الهيكل. وإذا استثنينا المزامير خرج اليهود من حساب التراث الفني خاسرين. . .
واليهود كالنار، تأكل بعضها أن لم تجد شيئاً تأكله وحينما لم يجدوا بينهم شعوباً يدبرون لها الشر، ويبيتون لها المكر، دبروا ذلك لأنفسهم، فانقسموا إلى شماليين في السامرة، وجنوبيين في أورشليم، وقضى سرجون ملك نينوى على الشماليين عام 722 ق. م، ونبوخذ نصر على الجنوبيين عام 586 ف. م، ونفاهم إلى بابل، وبذلك أزاحت يد التاريخ عن مسرح الدنيا تمثيلية لم يصلح الممثلون لأداء أدوارها، ولم يرتح النظارة لمشاهدتها. ونتساءل مرة(880/45)
ثانية: أكان الخطأ عند اليهودأم عند البابليين والآشوريين؟
يبتدئ تاريخ اليهود الحقيقي بسبي بابل، وحينما فتحها كورش الكبير وقضى على أمجادها عام 539 أصدر أوامره بإعادة اليهود إلى فلسطين (وهاهو التاريخ يعيد نفسه بنزوح يهود العراق إلى فلسطين عن طريق إيران). لقد رفض عدد كبير منهم العودة رغم مساعدة كورش العظيم لهم، ورغم تبرع الذين لا يريدون العودة بنفقات الراجعين. . . والذي يلفت النظر فيها إن فلسطين لم تتأثر بنفيهم إلى بابل. كانت الحياة فيها هادئة ومزدهرة بعدهم.
وبرجوع اليهود من السبي البابلي تحققت نبوءة دانيال. وهذه النبوءة لا تعني رجوع اليهود مرة أخرى، لأنه لم يبعث إليهم نبي بعد أن شتتهم تيطوس في السنة السبعين من الميلاد.
عاد اليهود إلى فلسطين من العراق فابتدأت المتاعب لهم ولجيرانهم وللرومانيين. لقد عاشوا عيشة الضنك والفساد والشغب والفوضى، ورأت روما وهي سيدة الدنيا وجبارة التاريخ أن نضع حدا لهذا العبث والاستهتار فدلف إليهم تيطوس بجيوشه وشتتهم في العام السبعين من ميلاد المسيح. وهنا نتساءل مرة ثالثة: لقد قضت روما على قرطاجنة لأنها كانت تهدد حياتها، أما اليهود - اليهود المستضعفون - فلماذا قضت عليهم روما؟ وكان الخطأ عند اليهود أم عند الرومان؟
ظهر المسيح يبشر بكلمة الله فضيع اليهود الفرصة الذهبية التي أتاحها لهم القديس بولس في الطمأنينة ونشر عقيدة إبراهيم وشريعة موسى، وتعاليم يسوع السامية بين الشعوب بدلاً من وقفها عليهم. ضيع اليهود هذه الفرصة بدافع من تعصبهم الضيق المغرور، وكبريائهم العنصري.
وهكذا تم الفراق والتباعد بين اليهودية والمسيحية، ونشأ الكره بين الطائفتين لأن اللهلم يخلق العالم ليجعل منه عبيداً لأبناء يعقوب. وبنبذهم النصرانية عاشوا منبوذين مكروهين في العالم، واضطروا النصارى إلى مقابلتهم بالاضطهاد والعذاب بدلاً من إظهار العرفان بالجميل. . .
في هذه الفترة من الاضطهاد اضطر اليهود إلى العيش مجتمعين فنفروا من الزراعة وحرموا من الوظائف العامة والجيش، وانصرفوا بكليتهم إلى التجارة والربا الذي يحرمه دينهم عليهم، فجمعوا المال وكدسوه غير ملتفتين إلى ما يحيق بهم من عذاب واضطهاد.(880/46)
وأقبلت الثورة الفرنسية تلتهم الأخضر واليابس، وتدمر معالم الحياة، وأطلت البرجوازية، وحل المال محل سائر القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية، فوجد اليهودي نفسه فجأة فوق قمة المجتمع الإنساني بما لديه من مال، وانفتح أمامه مستقبل لم يحلم به أبداً.
وفي هذه المرة كان بإمكان اليهود النجاة بأنفسهم والعيش هادئين، ولكن الغرور سول لهم أن يفرضوا أنفسهم على الدنيا وأن يستعبدوا العالم بأسره.
وظهر رد الفعل شديداً في أسبانيا، وذاق اليهود من الكنيسة ألواناً من العذاب فهاموا على وجوههم، ووجدوا في العالم العربي الصدر الرحب الذي لا يضيق، والتسامح الديني الذي يفرض على المسلم احترام أهل الكتاب، والقلب الرحيم الذي يضع البلسم على الجرح الدامي، وحذت البلاد النصرانية حذو أسبانيا فوقع اليهود أمام اضطهاد منظم رهيب. كان اليهود على الدوام يلقون اللوم على مضطهديهم، ولم يدر بخاطرهم أن يوجهوا بعضاً من التقريع إلى أنفسهم.
وهنا تبتدئ مرحلة جديدة أمام اليهود في التاريخ، تلك هي مرحلة التردد بين الاندماج والتكتل.
أن الاضطهاد المنظم، والمال الوافر، جعلهم يفكرون في موطن أو دولة وخرجوا من التفكير الطويل فرأوا أنفسهم أمام حلين لمشكلتهم:
الحل الأول: أن يندمجوا بسكان البلدان التي يعيشون فيها وتختفي مع الزمان العلامة الفارقة التي تميزهم عن الناس.
الحل الثاني: أن يبقوا منعزلين انتظاراً للوقت الذي يفتشون فيه عن وطن لا ينازعهم في ملكيته أحد. وفي الحيرة بين هذين الحلين بقي اليهود هائماً في الظلام يتخبط في تيار الزمن متردداً.
وإذا عدنا إلى الماضي البعيد، منذ ألفي سنة، نرى، نرى فيلسوف الإسكندرية اليهودي قيلون ينتصر لفكرة اندماج اليهود بالشعوب التي يعيشون بينها حين يقول: (لم يعد اليهود بسبب عددهم قادرين على أن يعيشوا في بلد واحد. ثم أنهم يعيشون الآن في أغنى البلدان من أوربا وآسيا فينبغي أن ينظر اليهود إلى أورشليم اليوم وغداً على أنها مقر أصله الخلقي وإنها مكان مقدس، على حين أن البلد الذي يسكنه هو وطنه الذي يعيش فيه كما عاش أبوه(880/47)
وجده من قبله). وقد تحققت مخاوف فيلون وأدت إلى خراب اليهود في معظم البلدان التي عاشوا فيها.
وحينما صدر وعد بلفور الذي يمنح اليهود في الظاهر وطناً روحياً، وفي الباطن دولة يهودية، احتج عقلاء اليهود عليه، ولكن احتجاجهم ذهب صرخة في واد، واعتبر المحايدون ذلك الوعد افدح ضربة وجهت إلى اليهود في التاريخ. والذي يرجع إلى المذكرات التي كتبها هربرت صموئيل أول مندوب سام على فلسطين يجد صورة واضحة المعالم فيها من أعماق قلب يهودي شديد الاتزان، بعيد النظر.
وأقبل القرن الرابع الميلادي وأصبحت المسيحية دين الدولة الرومانية، وأصر اليهودي المتعصب على القطيعة وبقى على معتقده القديم، ولم يحاول اليهود العودة إلى فلسطين بعد عام 135 م حتى لم يذهب إليها حاج واحد ولم يأتوا إلا بعد اضطهاد الأسبان لهم، وجاءوا لاجئين لا حجاجاً.
وعلى أثر اضطهاد اليهود وطردهم من إنجلترا عام 1290 وفرنسا عام 1306، وأسبانيا عام 1492، فتح ملوك ألبانيا أبواب بلادهم لهم، ولكن اليهودي العتيد بقى نفس ذلك اليهودي المطرود بكل ما فيه من تعصب لجنسه، يعيش منفصلاً عن الأمة البولونية ويمتص دماءها وأموالها، فنشأ البغض هناك وأطل الاضطهاد برأسه. ونتساءل دائماً لماذا؟ لماذا؟ لماذا يضطهد اليهودي ويبغض، الخطأ عند الناس لخطأ في طبيعته؟
وتحسنت أحوال اليهود بعد القرن الثامن عشر بسبب الهجرة إلى أمريكا، ولكن المهاجرين اليهود حملوا إلى الدنيا الجديدة معهم بذور الاضطهاد فنبتت حولهم هناك.
ونشأت فكرة الدولة اليهودية من الخوف من تكاثر عدد اليهود المنصهرين في الشعوب، ثم لإيواء اليهود المضطهدين. تلك هي التربة التي نمت فيها بذور الحركة الصهيونية.
يحدثنا التاريخ أن نابليون بونابرت في العام السابع من الثورة الفرنسية قد دعا يهود آسيا وأفريقيا للانضواء تحت لوائه لاسترجاع أورشليم.
وتجنس عام 1840 اليهودي الإيطالي موييز حاييم مونتفيورى بالجنسية الإنجليزية ومنح لقب سير وهو صاحب فكرة إقناع الإنجليز بحماية اليهود في الدولة العثمانية، ولكن إنجلترا في ذلك الوقت لم تجد مصلحتها في جانبه فلم تساعده، وحاول إيقاف هجرة اليهود إلى(880/48)
أمريكا وتحويلها إلى فلسطين، ولكنه لم يفلح.
وتأسست عام 1880 في الأستانة جمعية صهيونية روسية سمت نفسها (بيلو) قالت في بياناتها: (يا إسرائيل ماذا ضعت منذ ألفي سنة، لقد نمت نوماً عميقاً وحلمت برؤيا الاندماج الفارغة. إن مستقبلك في الغرب لا أمل فيه ولا رجاء - هناك مستقبلك في الشرق حيث يلمع نجمك في السماء. .)
وكان الدكتور بانسكو الروسي اليهودي من دعاة الاندماج، ولكنه غير رأيه بعد اغتيال اسكندر الثالث وعودة الاضطهاد، ورجع ينادي بالدولة اليهودية، ولكنه حذر قومه من الاتجاه شطر الأرض المقدسة. ومن أقواله: (لقد قاسينا من الويلات على هذه الأرض المقدسة ما فيه الكفاية. ولنا فيها من الذكريات الأليمة ما يصرفنا عن التفكير في سكناها والتعرض لأخطار الطرد منها كما حدث في الماضي.)
وقام في نفس الوقت البارون هيرش الألماني يدعو إلى الدولة اليهودية ولكن في بلاد الأرجنتين تحت شعار العودة إلى الزراعة، لكن هذه الفكرة ماتت بمعارضة المتطرفين ومات مشروع البارون.
ثم ظهر على المسرح مويبزهس الألماني. كان هذا شديد الإعجاب بالثورة الفرنسية فدعا إلى اتحاد فرنسي يهودي للسيطرة على الشرق الأدنى وطريق الهند ومحاربة الإنجليز، لكن قضية دريفوس الشهيرة جعلته يغير رأيه.
وفي هذه البلبلة ظهر هرنشل، وهو يهودي نمساوي. كان صحفياً ومؤلفاً مسرحياً. أصدر عام 1891 كراساً عنوانه الدولة اليهودية) أحدث ضجة كبرى.
جرب هرنشل أن يوحد المذهبين المسيحي واليهودي عن طريق تنصير اليهود ووضع حد لمسلكهم الشاذ في المجتمع البشري ولكن أصدقاءه صرفوه عن هذا الرأي لاستحالة قبول اليهودية.
وإزاء هذا الفشل خطرت له فكرة تأليف شركة يهودية للاستعمار في أرضيستطيع أن يمتلكها اليهود وأن ننظم إليها الهجرة تنظيماً كثيفاً. ومن المحقق أن أرض الميعاد لم تخطر لهرتسل على بال. لكن المتطرفين قلبوا فكرته وحملوه على تقديم مشروع على أساس الهجرة إلى فلسطين. فحاول الحصول على فلسطين من السلطان عبد الحميد، لكنه باء(880/49)
بالفشل وكان جواب السلطان لوسيطه: (قل للدكتور أن يعدل عن الإصرار على هذا الأمر فأنا لا أستطيعالتنازل عن شبر واحد من أرض السلطنة لأن هذه الأرض هي ملك لشعبي لا ملكاً لي وقد أهرق هذا الشعب دمه للاستيلاء عليها فليحتفظ اليهود بملايينهم، ولعلهم يتمكنون من الفوز بفلسطين بدون مقابل متى قطعت أوصال السلطنة. أما أن أقبل طوعاً بأن ننتزع منها أحد أجزائها فلا. . .
(أنني لا أستطيع أن أرضى بتشريحها وهي لا تزال على قيد الحياة. . .)
لكن هرتسل استعمل الأساليب الملتوية رغم هذا الجواب الصريح وخرج على مبادئ الهجرة الكثيفة. . . وكان في الوقت الذي يدعو فيه إلى اتحاد يهودي إسلامي للتفوق على المسيحيين، كان يفاوض إمبراطور ألمانيا ويحاول إقناعه بالفوائد التي تجنيها ألمانيا من إيجاد فلسطين، إذ لا بد أن تمهر بطابع من الثقافة الألمانية، ومع ذلك فلم يكتب له التوفيق، ففشل مع غليوم وعبد الحميد، لكنه لم ييأس وأدار وجهه إلى إنجلترا، وكانت تعاني من كثرة تدفق المهاجرين اليهود عليها، فرحبت بالفكرةلأنفيها الحيلولة بينها وبين السبل الجارف من المهاجرين - ولكن إنجلترا لم ترد إغضاب السلطان، فاقترح هرتسل جزيرة قبرص أو العريش لكن جوزيف شمبرلين وزير المستعمرات اقترح عليه (اليوغندا) لتكون موطناً يهودياً. . . ولما تألفت لجنة لدرس هذا المشروع كان هرتسل قد مات فقضى على الفكرة نهائياً ورفضها مؤتمر 1905 رفضاً باتاً.
وهنا ظهرت أقلية يهودية أسمت نفسها منظمة الأراضي وأسلوبها شراءالأرضوإقامة المستعمرات والمدارس والهجرة بأسلوب خفي تقوم الدولة اليهودية ويطرد العرب من فلسطين
وهكذا لعب اليهود بالنار التي احترقت وستحرق في لهيبها أرواح بريئة من بني الإنسان ففازو خداعاً بالجولة الأولى، واستقروا على فوهة بركان من حقد أربعين مليوناً منأمةأحسنت لليهود في أوقات المحن التي مروا بها؛ نغلي في أعماق ذلك البركان حمم رهيبة من الثأر وويل للظالم من المظلوم. . .
وهذه جولة خاطفة في رياض هذا الكتاب النفيس، طفناً بالقارئ فيها حول وروده ورياحينه، ومررنا بتلك اللفتات الذهنية البارعة. يقص المؤلف كل ذلك على لسان اليهودي(880/50)
موبيز صديقه الخيالي.
وهنا لك إشارات عابرة في الكتاب إلى تلك الحركات الفكرية الهدامة التي كان ولا يزال اليهود يقومون بها في عصور التاريخ، لهدم القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية التي ترفع أعين البشر إلى النور.
وتعاليم الثلمود توجب على اليهودي كره كل من كان من غير بني جنسه. . . وأن يكون قاسياً حقوداً.
وأما قصة (برونو كولات شيوخ صهيون العلماء) فقد جلاها مترجمة لقراء الرسالة الأستاذ محمد خليفة التونسي في أعداد الرسالة الغراء اعتبارا من العدد (856)، ومنها عرف القراء اليهود عارين بعد أن نزعت عنهم تلك الوجوه المستعارة.
ونرى أن ننوه في نهاية هذا الحديث إلى المقال الرائع الذي كتبه الأستاذ عدنان الكيالي ونشر في عدد الرسالة (860) ففيه تفصيل لبعض المشاكل التي أشرنا إليها ونرى أن نقتبس القسم الأخير من المقال المذكور.
قال الأستاذ الكيالي: (وإني أعتقد أن العالم لن يصيب الراحة والهدوء ولن يسوده السلم والاستقرار ما دام اليهود عنصراً فعالاً فيه، وما دام بين الناس من لا يزالون ينخدعون بهم وينظرون إليهم نظرتهم لسائر أبناء البشر الآخرين. ولا مفر للبشر من أتباع أحد وجهين لا ثالث لهما لوضع حد لمفاسد اليهود وشرورهم، فأما أن ينبذوهم نبذاً تاماً ويقصوهم عن مراكز العمران في العالم ويحصروهم في بقاع نائية حصراً لا مجال لهم معه إلى بث سمومهم في الناس. وأما أن يصدقو النية في تغيير عقلية اليهود ومعتقداتهم بأخذ الأجيال الناشئة منهم وتربيتها تربية بعيدة كل البعد عن معتقدات آبائهم وأجدادهم بحيث يهدون إلى دين جديد كالإسلام أو المسيحية أو البوذية أو الكونفوشية أو أية عقيدة أخرى يهذبون ويوجهون توجيها جديدا يتفق مع الخلق الكريم والمثل الإنسانية العليا لتصبح نفوسهم مثل نفوس سائر البشر)
وبعد فلك يا صديقي المخزومي شكر العربية على كتابك النفيس ونرجو أن لا تحول أعمالك الهندسية الواسعة بينك وبين التفرغ لمشكلة أخرى من مشاكل الأمة العربية فندرسها درساً عميقاً فيه الرأي الصائب والتسيد والتوجيه. . .(880/51)
علي محمد سرطاوي
بغداد - دار المعلمين الريفية(880/52)
القصص
حب!. .
ثلاث صحائف من مذكرات رجل رياضي
مختصرة عن
كانت تلك الليلة شديدة البرد، حالكة الظلام، فجلسنا للعشاء في غرفة فسيحة، بدت لي كمعرض من معارض الحيوانات، فقد كان أبن عمي حريصاً على تعليق كل طير جميل يصطاده على جدران هذه الغرفة بالذات، أو يدليه بالحبال من سقفها!. . حتى أبن عمي بدا لي تلك الليلة، في هيئة غريبة هو الآخر!. . . كان يرتدي معطفاً (جلدياً) سميكاً بدا لي به كواحد من تلك الحيوانات التي تعيش في المناطق المتجمدة الشمالية!
كان أبن عمي - كارل دي روضي - قد دعاني إلى الصيد معه. فلما جلسنا حول المائدة راح يحدثني عن كل الترتيبات والاستعدادات التي دبرها أو أتخذها لهذه الرحلة. . . فعلينا أن نبدأ الرحلة في ساعة مبكرة في فجر اليوم التالي. . . وعلى مسيرة ساعة من هنا أقام أبن عمي كوخاً من قطع الجليد الكبيرة، وأعده لنحتمي به من شدة الزمهرير!
فرك أبن عمي راحتيه، وقال - آه. . . لم أر طول حياتي مثل هذا الجو البارد! ثم أستأذنه، ودلفت إلى فراشي مبكراً، وما كدت أستقر بين أحضان الفراش الدافئة، حتى نمت نوماً عميقاً هادئاً ولم أستيقظ إلا على يد أبن عمي ووجهه الأحمر، والفجر لما يطلع بعد.
وسرنا أنا وأبن عمي وكلابه، نتبع رجلاً استأجره أبن عمي لحمل الصيد وما كدنا نخرج من البيت حتى شعرت بالرياح تلطم وجهي بشدة، وأحسست بالبرد يسري في أوصالي. وكانت الطيور الصغيرة تتهاوى إلى الأرض، وهي جثث هامدة جامدة!
كنا نسير، أنا وأبن عمي جنباً إلى جنب وقد انحنى ظهرانا، ولاذت بالجيوب أيدينا. . . وكنا قد تأبطنا بنادقنا وسرنا في صمت وسكون. حتى وقع أقدامنا لم يكن يسمع قط، فقد عمدنا إلى لف أقدامنا بالصوف خشية الانزلاق على الجليد. وكنت أتلهى بالنظر إلى مياه النهر المتجمدة، والى البخار الكثيف المتصاعد من أنوف الكلاب.
ووصلنا غابة كثيفة اختارها أبن عمي للصيد، وأوغلنا بين أشجارها المتعانقة، وأحراشها(880/53)
المتكاثفة، فكان إذا ما مس جسد أحدنا غصناً من الأغصان انحطم محدثاً صوتاً مدوياً يبعث الرعب إلى قلبي. . . يا للسكون، إنني أحس الآن في أعماق نفسي احساسات غريبة لم يسبق لي أن أحسست بمثلها من قبل. إن هذه الاحساسات التي تملأ نفسي لن تبرح ذاكرتي طوال أيام حياتي.
ولاح لعيني ذلك الكوخ الجليدي الذي أقامه أبن عمي لنحتمي به من شدة البرد. وكان وصولنا إليه مبكراً، فدخلناه لنسترجع أنفاسنا ونرتاح قليلاً، وانتهزت هذه الفرصة فتدثرت بغطاء سميك من الصوف، واستلقيت على الأرض محاولاً التماس الدفء، ولكن جدران الكوخ الشفافة ما كانت قادرة على صد هجمات الرياح الباردة، فبرد جسدي، وانتابتني نوبة من السعال أثارت اهتمام ابن عمي، فقال مداعباً ليس من الضروري أن نصطاد كثيراً اليوم. . . إنني أخشى عليك من الزكام!. . دعنا نشعل ناراً لعلك تدفأ!
وارتفع لهيب النار، ومس جدران الكوخ الشفافة كالبلور الصافي، فأخذت قطرات الماء تنهمر علينا كالمطر. وكان كارل خارج الكوخ حين ناداني في لهفة - تعال. . . تعال وأنظر! فعدوت إلى الخارج مسرعاً، وسرعان ما وقفت مدهوشاً ذاهلاً. . . يا للروعة!. . .
كان كوخنا الجليدي ذو الجدران الشفافة، والنار تتأجج فيه، يبدو كالجوهرة التي وقع عليها الضوء الساطع. فراحت تشع وتتلألأ!
وبينما كنا مسحورين بهذا المنظر الأخاذ، وكل شئ ساكن من حولنا، إذا بنا نسمع دوياً هائلاً ينبعث سريعاً خاطفاً من فوق رؤوسنا فيتبدد ذلك السكون الثقيل الذي كان يخيم على الحياة من حولنا!
ورفعنا أعيننا إلى السماء، فاستطعنا أن نرى سرباً كبيراً من الطيور يحلق غير بعيد عن رؤوسنا، ولمع في ظلام الفجر سيف من النور. . لقد أطلق كارل بندقيته، وهرولت كلابنا نحو الغابة ثم تناوبنا إطلاق النار كلما لاح لنا سرب من أسراب الطيور المهاجرة وكانت كلابنا تلهت من شدة التعب. . إلا أنها كانت مسرورة لممارستها هذه الرياضة المسلية. وكانت تحضر لنا الطيور المضرجة بدمها الحار، تلك الجريمة التي كانت ترمقنا دائماً بنظرات كلها أسى ويأس وعتاب!(880/54)
وأشرقت الشمس، وبدأت ترتفع في الأفق بتثاقل، وكنا نهم بالعودة حين لاح لنا في الجو الصافي، طائران يطيران على مهل وقد اشرأبت منهما الأعناق، وانفردت الأجنحة. . وكان قد مرقا من فوقنا، حين أطلقت النار من بندقيتي، فسقط أحدهما على مقربة مني، وكان جثة هامدة قد مزقها الرصاص!
كان صدر الطير فضياً لامعاً، وحين رفعته بيدي أتفحصه في إعجاب، سمعت صوتاً يتردد من فوق رأسي في نغمات قصيرة ذات وتيرة واحدة استطعت أن أحس بالحزن ظاهراً فيها بكل وضوح. . وقد بقي هذا الطير المحزون يحوم حولنا ويرمق زميله المضرج في دمه في ألم قاتل وهم مرير.
كان كارل راكعاً على إحدى ركبتيه، مسدداً فوهة بندقيته نحو الطير المحلق فوق رؤوسنا. قال كارل - لقد قتلت الأنثى. . . وبقى الذكر يحوم حولنا ولا أظنه سيتركنا.
والحقيقة أن الطائر لم يذهب بعيداً عنا، ولم ينقطع نواحه الذي أحزنني كثيراً واشعرني بالندم على ما فعلت!
وابتعد عنا قليلاً فخيل إلي أنه قد ركن إلى الفرار بعد أن أدركه اليأس من أنثاه، ولكنه سرعان ما عاد إلينا وقد تجدد عزمه، واستأنف البحث عن إلفه والنواح على أنثاه، كأن هذا الفراق قد عز عليه، ولم يحتمله!
قال كارل - اتركها على الأرض، فهو حين يراها سيقترب منها وفعلا، ما كدت أتركها حتى اقترب منها غير مبال بالخطر المحدق به. . فقد أعماه حبه لأنثاه عن رؤية البندقية المفتوحة الفم وأطلق كارل بندقيته، فهوى الطير كالحجر!
ووضعت الاثنين في كيس واحد. . . كانا باردين كالثلج وقد خمدت منهما الأنفاس. . . وشعرت بالأسى يغمر قلبي. . فلم أطق رؤيتهما.
وعدت في المساء إلى باريس!
البصرة: العراق
يوسف يعقوب حداد
ص. ب. رقم 15(880/55)
العدد 881 - بتاريخ: 22 - 05 - 1950(/)
ليس بعد الدين وازع
كان كتاب التراجيدية من الإغريق وأتباعهم من أمثال كورني وراسين وشكسبير لا يتخيرون أبطال مآسيهم إلا من أصحاب القصور. وحكمتهم في ذلك أن وجيعة النفس لمصائب الملوك أقوى من وجيعتها لمصائب السوقة، فالاعتبار بهم يكون أبلغ، والتأثر لهم يكون أشد. والناس يومئذ لم يكونوا يظنون أن سلائل الآلهة هم كذلك أغراض لسهام القدر؛ فإذا رأوا أن المرء مهما يعظم قدره ويضخم أمره لا يعظم على النوائب، ولا يكبر على الأحداث، خفت عليهم أحكام القضاء، وساعت لديهم غصص الحياة.
والحق أن ما يصيب العامة كل يوم من فواجع العيش ومواجع القلب لا يقع من النفوس موقع ما يصيب الخاصة كل حين من بعض ذلك؛ لأن أولئك مظنة الخطأ والتبذل والاستهتار، فالعجب أن يسلموا؛ وهؤلاء مظنة الصواب والتصون والحفاظ، فالعجب أن يصابوا ولعلك لا تعدم كل صباح أو مساء خبراً عن فتاة خرجت على أسرتها فأفضلها الشيطان، كما لا يعدم الرعاة كل ضحوة أو عشية خبراً عن نعجة شردت عن قطيعها فأكلها الذئب. ولكن هذه الأخبار أصبحت من مألوف الآذان لكثرة ما في سواد المجتمع من ضعاف البصيرة والعقيدة والإرادة. أما الذي لم يؤلف ولن يؤلف فهو خروج الفتاة على دينها لشهوة متغلبة أو نزوة متحكمة.
وهذه الظاهرة على ندرتها قلما تجدها في الطبقتين الدنيا والوسطى، وكثر ما تجدها في الطبقة العليا؛ فإذا عددت واحدة أو اثنتين من غواني المدن تزوجتا من غير المسلمين، عددت سبع أميرات في العراق وإيران ومصر قد تزوجن من مسيحيين وهن يعلمن أن دينهن لا يجيز هذا الزواج ولا يرتب عليه حقا من حقوق الأسرة. وعلة الكثرة هنا والقلة هناك ضعف الوازع الديني في نفوس هؤلاء، وقوته في نفوس أولئك.
واستشعار الخوف من الله طبيعة في الشعب غرسها فيه افتقاره الدائم إليه، واعتماده المطلق عليه، ورجاؤه المتصل فيه. أما السراة فهم حريون لغناهم عنه بالسراوة والثراء ألا يخشوه ولا يرجوه إلا إذا حملوا منذ النشأة حملاً على تقواه بالتربية الدينية والثقافة الروحية والأسوة الحسنة.
والسنن الإسلامية التي ربت عائشة وأسماء، وسكينة ونفيسة، وزبيدة وشجرة الدر، لا تزال قادرة على أن تربي مثلهن إذا أقيم على قواعدها السماوية نظام البيت ومنهاج المدرسة(881/1)
وشريعة الوطن.
إن المسلم الحق قد ينزل عن طبقته فيشكر، وقد يخرج من جنسيته فيعذر، ولكنه أبداً لا يفسق عن أمر ربه وفي قلبه نور وفي ضميره حياة.
ابن عبد الملك(881/2)
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: كان ذلك منذ سنوات، والشباب نضير، والإهاب غض، والعود ريان، والزمان مبتسم، والحياة مشرقة؛ والقلب - إذ ذاك - معطل من نزوات الطيش. والفؤاد خلو من نزعات الحمق، والروح عارية من دفعات النزق، وأنا - حينذاك - أب وزوج. ولا عجب فلقد عشت عمراً من عمري قنوعاً أرى الدنيا حوالي تموج بالهوى والغرام، وأنا على حيد الطريق أنظر إلى الركب فلا أستطيع أن أمد يداً ولا لساناً لأني رجل ريفي النشأة قروي المربى، طبعتني روح الريف بسمات الخجل والانزواء، وموهت تعاليم الدين الحياة في ناظري فصبغتها بأفانين من الألوان القاتمة كبلتني بقيود زائفة ورثتها غصبا فدمغتني بالتزمت والانطواء، ثم اختار لي أبي الزوجة على نسق حرمني حق الاختيار والرأي، في حين أني كنت موظفاً في الحكومة أبدو رجلاً بين الرجال، فعشت إلى جانبها لا أشعر نحوها إلا بالسيادة والسيطرة، ولا تحس هي نحوي إلا بالخضوع والاستسلام، وانطوت الأيام.
وشعرت بأنني أعيش هنا - في القاهرة - غريباً لا أجد أهلي، وهم في القرية، ولا أستطيعأن أختمر في خضم المدنية، وأنا ريفي الروح، ولا أن أعاور زملائي في الديوان أسباب المتعة واللهو، وأنا أنكمش على نفسي وعلى ديني، فرحت أهيئ السلوى والعزاء في الدار، وأداري نقصي باللباس الأنيق والمسكن الجميل وعندي الخفض والسعة فلا تعوزني المادة ولا ينقصني المال
هذه الحياة الرتيبة كانت بغيضة إلى نفسي لأنها تبعث في الملل والضيق، وتنفث في الفراغ والدعة؛ فلا أجني اللذة في معترك الحياة ولا أرشف السعادة من تقلبات العيش؛ فركد ذهني وانحطت خواطري ووهى عقلي، ولكني لم أجد عنها مصرفاً إلا في أن أتنقل من مسكن إلى مسكن وأفزع من دار إلى دار لا أحس الهدوء ولا القرار.
وأستقر بي القلق - آخر الأمر - في مسكن من الطبق الثالث من عمارة ضخمة
وفي ذات صباح، خرجت - كدأبي - إلى عملي في الديوان، فما رعاني إلا أن أرى نفسي - على حين فجأة - قبالة فتاة هيفاء القد ريانة العود مشرقة الجبين ريقة الحسن، تختال في(881/3)
روعة الشباب وتزهو في غضارة العمر، تتألق رونقاً يخطف البصر، وتشع جمالاً يسحر اللب، وتنفح عطراً يلفح الفؤاد؛ فوقفت - برغمي - لحظة. . . وأحست هي بي فلم تعرني اهتماماً - بادئ ذي بدء - ثم رأت نظراتي تغمرها بالنهم والرغبة فاندفعت صوب مسكن جاري تغلق الباب من دوني في هدوء.
وانطلقت أنا إلى عملي في حيرة وذهول أسائل نفسي وقد انطبعت صورتها في ذهني، وما في خاطري سوى فكرة واحدة تزحمه: يا لقلبي! إنها تفور شباباً وفتنة، شباباً يعصف العقل وفتنة تزلزل القلب فمن عسى أن تكون؟ لعلها ربة الدار!
وشغلتني الفتاة الجميلة عن عملي فما أنصرف عنها ولا يبرح طيفها خيالي وأنا أحس اللذة والسعادة كلما تراءت لي من خلال تصوراتي تبسم في رضا ورغبة، وأشعر بالضيق والملل كلما بدا لي أنها تدفعني عنها في غير هوادة ولا لين لأنها أغلقت من دوني الباب.
وترادفت الأيام وأنا أحتال للأمر فأنفتح أمامي الباب وتبسطت أسارير وجه الفتاة وخف جماحها، ثم سكتت نفس إلى نفس فاطمأن قلب إلى قلب وأرتبط سبب بسبب. واستبشرت روحي فبدت علي سمات الزينة والأناقة خيفة أن تقع عين الفتاة مني على ما يبعث فيها النفور والاشمئزاز. . . ورحت أتزين كل صباح فأسرفت في الزينة وأتأنق فأفرط في الأناقة، لا أعبأ بنظرات الريبة والشك تنطق بهما عيناً زوجتي الريفية المسكينة، وهي تنضم على أسى عاصف يوشك أن يقد قلبها. . . قلب الأنثى الضعيفة المستكينة. . . ولكنها لا تستطيع أن تكشف لي عن خبيئة نفسها خوفاً مني وفرقاً.
مسكين أنت يا من تطوي عمر الشباب في زاوية من الدار تعكف على خيالات من الفضيلة والشرف، تتعبد لها في خضوع وذلة، ثم لا تغتمر في لجة الدنيا بقلب الرجل ولا تكافح أعاصير الحياة بقوة العزم! مسكين أنت لأنك تعيش عمرك طفلاً في دنيا المردة وضاوياً، في جيل من العمالقة! مسكين لأنك لا تدري أيان تزل قدمك وأنت على حافة الهاوية لا تستطيع أن تتماسك من وهن.
مسكين أنت أيها الريفي الساذج حين تجمح بك نزوات اطيش وقد اكتملت رجولتك واستوى عودك وتجاوزت سن الحمق، فتسول لك نفسك أمراً فتطاوع أهواء قلبك فتطير في إثر فتاة المدينة. . . فتاة الشارع، فتصرفك عن الدار والزوجة والولد، وتسلبك هدوء النفس وراحة(881/4)
الضمير!
وجذبتني ابتسامة الفتاة فانطلقت على آثارها أسلس وأنقاد، فسيطرت على قلبي وعقلي معاً، فما استطعت أن ارتدع عن غي، ولا أن أرعوي عن شطط، يوم أن علمت أنها زوجة جاري الذي لا أعرفه.
وتلاقينا على ميعاد في منأى عن الرقيب، نرشف معا رضاب الهوى المحض على حين غفلة من زوجي ومن زوجها، لا أحس الضعة ولا الخسة، ولا تستشعر هي سفالة الخيانة والسقوط. . . تلاقينا معاً في كنف الشيطان وقد مات فينا الضمير والشرف والكرامة جميعاً.
وغبرنا زماناً أخاتل زوجتي وتخدع هي زوجها. ولمست فيها الرقة والظرف فوجدت إلى جانبها السعادة التي افتقدت منذ زمان. وخيل ألي أن في حديثها رنات لحن موسيقى تهتز له أوتار قلبي في شدة وعنف، وأن في عينيها شعاعاً آسرا يجذبني إليها بأمراس، وأن في دلالها معاني من أسوار السجن تلفني في ثناياها فتحجبني عما عداها؛ فاستسلمت في رضا ولذة. على حين قد استحالت داري إلى مكان بغيض، واستحالت زوجتي إلى فتاة كريهة، وباء ابني مني بالإهمال والهوان.
وتواعدنا - ذات مرة - أن نتلاقى أصيل يوم معلوم من أيام الربيع، وكنا إذا تواعدنا لا نختلف في الميعاد، وجاء اليوم الموعود فخف قلبي للقيا الحبيبة، وهفا فؤادي نحو الحديث الساحر واشتاقت نفسي إلى اللذة الحرام فقضيت ساعات الضحى خفيف الحركة مشرق الوجه طلق المحيا، يهزني الخيال وتطربني الفكرة. ثم انطلقت عند الظهر إلى داري أهيئ نفسي للسعادة المنتظرة، ورقيت السلم أتوثب رشاقة وطرباً، فما أفزعني إلا صوت صراخ ينبعث مختنقاً من أعماق مسكن جاري. . . مسكن الفتاة التي احب، فدق قلبي دقات الرعب، وبدا على وجهي شحوب الخوف، وران على ذهني اضطراب الأسى، وسرت في مفاصلي رعدة الجزع؛ فوقفت لدى الباب أتسمع.
ترى ماذا عسى أن يكون خلف الباب؟ ووقفت حيناً متردداً انتفض وفي رأيي أن القدر يصنع حادثة ذات بال من وراء الجدار. وسولت لي مخافتي فدفعت الباب فاندفع. . . فإذا أنا أمام الفتاة التي احب، وإذا الخادم الصغيرة تلقى بنفسها بين يدي مستجيرة وهي تصرخ(881/5)
صراخاً يفتت الكبد ويصم الأذن، وإذا بالفتاة الجميلة تندفع صوبي هائجة تهدر، تلطمني بكلتا يديها في غيظ، وتدعني خارج الدار في عنف، وتقذفني بأقذع الشتيمة وأحط السباب.
وفزعت من أمام الفتاة الثائرة، وبين يدي الخادم المسكينة تتشبث بي وتتضرع
وقالت لي الخادم بعد أن أفرخ روعها وهدأ خوفها: (أرأيت يا سيدي السجان وهو يقسو على السجين في غلظة وفظاظة لا تأخذه به رأفة أبداً؟ أما أنا فلقد دأبت سيدتي الجميلة على أن تقضي صدر النهار في الشارع وطرفاً من الليل في اللهو، لا تسكن إلى الدار إلا ريثما تطرى نفسها وتستكمل زينتها، ثم تنطلق إلى هدف أو إلى غير هدف؛ وسيدي رجل عمل لا يستقر في البيت إلا ساعة يطير بعدها إلى عمله؛ أما أنا فقد عشت بينهما زماناً ضحية الجوع والعرى والوحدة. وضاقت نفسي بالحياة في هذا السجن الوضيع وأنا ريفية طويت عمري في الحقل أنعم بالعمل والحركة وأنشق نسمات الحرية، لا أومن بالقيد ولا أطمئن إلى غل؛ فطلبت إلى سيدتي في خضوع أن ترسلني فأسافر إلى أهلي في القرية، فرفضت. وألححت فرفضت. وحين وجدت من العناد والإصرار خشيت أن أفر من الدار فيعجزها أن تجد خادماً غيري، فغلقت الأبواب وانفلتت هي إلى غايتها. وبلغ مني اليأس غاية نفذ عندها الصبر فثرت في وجهها، ورأت في ثورتي معاني التبجح وسوء الأدب فأمسكتني بيد من حديد وراحت تكويني بحديده محماة وإن عينيها لتضطرمان بنار القسوة والفظاظة، وأنا أتلوى وأبكي وأتضرع ولكن إنسانيتها كانت قد غابت فبدت فيها حيوانية جارفة تفترس بالناب والظفر ثم لا تهدأ إلا أن تلغ في الدم).
قالت الخادم كلماتها من خلال عبرات تتدفق أسى ويأساً، ثم كشفت عن ذراع مزقتها كيات النار التي لا تعرف الرحمة، أوحى بها قلب خلا من الرحمة والشفقة والإنسانية جميعاً.
وعجبت أن يكون هذا الجمال الفتان ستاراً يواري خلفه قلباً لا ينبض بالرأفة، وروحاً لا تخفق بالحنان، ونفساً لا تنضم إلا على الوحشية والافتراس.
ولكن، لا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
كامل محمود حبيب(881/6)
السيدة نفيسة مقامها ومنزلتها
للأستاذ أحمد رمزي بك
(يا أبا إسحاق لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة
تنزل عليهم ببركتها)
رؤيا المؤتمن
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحى مقفر العرصات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها ... متى عهدها بالصوم والصلوات
للحديث عن السيدة نفيسة رضي الله عنها (روعة خاصة) إذ هي ذات المنزلة الرفيعة العالية في قلوب أهل مصر، تهتز القلوب حين تنطق باسمها، وتعلو نفسك ومشاعرك حين تؤم مشهدها وتزور مقامها وتصلي بمسجدها.
ولقد شاءت إرادة الله، وما خطه تعالى في سجل رحمته وعنايته لمصر وأهلها، أن تكون هذه البقعة التي ترقد فيها السيدة الطاهرة، بقعة مباركة تفيض على الوجدان آيات الشعور والإخلاص، ومظاهر الخضوع والشمول.
فأنت إذا دخلت مسجدها ورأيت مقصورتها استقبلتك الآية الكريمة:
(قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)
وقليل من الناس مهما قست قلوبهم وتحجرت مشاعرهم من يتمالك عبراته أمام قدسية هذا المشهد، شعر بذلك كل من زارها في الأعصر القديمة، وكل من دخل مقامها في العصور الحديثة، وتحدث كل واحد منهم بما شعر به من النفحات التي تغمر نفس الإنسان، فتجعلها تتذوق حلاوة الإيمان، وتلمس عن قرب عظمة تراث ومجد هذه العزة النبوية، التي جاءت أرض مصر في مستهل عصور الهجرة، فاتخذت بلادنا لها مقاماً ومنزلاً، فشرفتها ورفعت من قدرها وأعلت مقامها فوق كل مقام، ومن وقتها عرفت مصر بأنها من منازل آل البيت الكرام صلاة الله وسلامه ورضوانه عليهم.
وأنا ممن يعرف اختلاف المفسرين في تفسير الآية الكريمة التي أشرت إليها وفي تأويلها، وهم قد يذهبون في آرائهم شيعاً ومذاهب، ولكنني أحملها على ظاهرها وأخذها على النمط(881/7)
الذي أختاره وأرتاح إليه لتستقر الآية في نفسي. فأقول إنني حينما أقف أمام المقام وأرتل الآية الكريمة، أؤدي واجب المودة لقربى هذا النبي العربي الكريم، معجزة الأجيال السابقة واللاحقة والقادمة، الذي بفضله ذقت حلاوة الإيمان وبهديه اهتديت وعلى سنته سلكت، فأصبحت في زمرة أتباعه، وأتباع آله وأنصاره وأصحابه أولئك جميعاً الذي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
هانحن أولاء في أوائل القرن الثالث الهجري وقد ختمت المائة الثانية، فإذا في سماء مصر العربية ذات الفتوح، يلوح اسمان كنجمين لامعين يشقان أضواء الهداية على هذهالأرض الطيبة، هما السيدة نفيسة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله. عاشا في مدينة القسطاط العربية، وحضر الإمام مجلس السيدة العظيمة القدر من وراء ستار، فتناولا بالبحث والمدارسة والمناقشة أمور الدين والدنيا.
وكان الشافعي يؤم صفوف الناس في الصلاة بالمسجد العتيق، وكانت تأتي هي في شهر رمضان فتحضر صلاته، وتقف وراء الصفوف تصلي وراء الإمام الذي أصبح مفخرة مصر ومعجزة من معجزات الإسلام في القرن الثاني الهجري بعلمه وفقهه وبيانه.
ومرت الأيام وجاءت سنة 200 هجرية فمات الشافعي، بعد أن ترك في العالم دويا وأضاء في أرض الكنانة شعلة، تسلمها تلاميذه من بعده ثم أتباعه فتلاميذه أتباعه وحملوها إلى يومنا هذا، تشع منها أنوار الهداية لمذهب باق على الأرض، ما بقيت الأرض؛ فهم إذن سدنة وحفظة ركن من أركان هذا التراث الخالد من مصر العربية الإسلامية حتى يرث الله الأرضومن عليها.
انتقل الشافعي لجوار ربه فحزنت مصر بأسرها عليه وسارت جنازته من المسجد العتيق، مسجد سيدنا عمرو بن العاص، فمرت بالمنزل الذي كانت تقيم به السيدة نفيسة، فصلت عليه ثم سارت جنازته إلى المكان الذي دفن فيه، وقالت رضى الله عنها كلمتها المعروفة (رحمة الله! إنه كان يحسن الوضوء).
ومن مظاهر القرن العشرين وعبقرية رجاله، أن تشغل السيدة نفيسة أهل مصر أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن، بكرامتها ومنزلتها وعلمها وسؤددها فيكتب الناس عنها الكتب ويزور مشهدها الملوك والسلاطين والأمراء والقواد والعلماء، ومن كانت تهتز الدنيا(881/8)
بعزائمهم وقوتهم وثباتهم، ثم أسمع منذ مدة أن بعض الكتب تعرض إلى تحقيق تاريخي يخلط فيه بين السيدة نفيسة صاحبة المقام العالي، والسيدة نفيسة الألفية التي عاشت في عهد الحملة الفرنسية. أما السيدة نفيسة الأولى المعروفة النسب الثابتة الأصول فكان أبوها الحسن بن زيد، وأمهاأم ولد. وأخوتها ومحمد القاسم وعلي إبراهيم وزيد وعبد الله ويحيى وإسماعيل واسحق وأم كلثوم، وزوجها اسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فهي شريفة حسينية وزوجها شريف حسيني.
وكان لهما ولدان: القاسم وأم كلثوم لم يعقبا ولكن لزوجها إسحاق عقب من غيرها. ذكر المقريزي أن لزوجها عقباً من غيرها عرف في زمانه بمصر بنو الرقى، وبحلب بنو زهرة.
وقد دخلت السيدة نفيسة الديار المصرية مع زوجها المؤتمن، فأقامت بها وكانت ذات مال وجاه، فأخذت تواسي الناس وتشملهم ببرها وخيرها وكانت عابدة زاهدة. ذكر المؤرخون كيف استقبلت عند مقدمها وأكثروا من الكلام على مآثرها وكرامتها وزهدها في الدنيا.
ولما توفاها الله سنة 208 هجرية عزم زوجها أن يدفنها بالمدينة فتقدم أهل مصر وسألوه أن يدفنها عندهم فدفنت بالدار التي كانت تقيم فيها. ومن يومها أعتز أهل مصر بها وبمقامها بعد أن أضاءت أرض مصر في أيام حياتها بأنوار هدايتها وصلاحها.
وإليك بعض ما ذكره القدماء عن السيدة نفيسة ومنزلتها ومقامها ومشهدها.
يقول شمس الدين محمد الزيات بكتاب الكواكب السيارة في ترتيب الريارة بالقرافتين الكبرى والصغرى (هي السيدة الطاهرة العالية القدر الرئيسة ابنة الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج ابن الإمام حسن السبط (وهناك إجماع على إنها ولدت بمكة ونشأت بالمدينة وكانت لها صحبة بكثير من النساء اللاتي عشن مع الصحابيات أو سمعن عنهن وتلقين العلم عن طريقهن. وكانت السيدة نفيسة ممن قد أشبع قلبها بالعبادة فكانت لا تفارق حرم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إنها حجت ثلاثين حجة أكثرها ماشية على أقدامها من المدينة إلى مكة. فكانت إذا دخلت البيت العتيق تعلقت بأستار الكعبة وأخذت تبكي بكاء شديداً وتقول (الهي متعني برضاك عني، فلا تسبب لي سبباً به عنك تحجبني) وقالت(881/9)
زينب بنت يحيى المتوج (خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت الليل ولا أفطرت بنهار. كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسيره).
ولا شك في أن الأثر الذي تركته السيدة نفيسة من يوم دخلت مصر إلى أن دفنت فيها كان بالغاً وأن أهل مصر تعلقوا منذ القدم بها وبآل البيت ولذلك أحلوا مقامها المقام الذي يتفق مع قدسية هذا البيت وعظمته في تاريخ الإسلام وأصبحت البقعة التي دفنت فيها بقعة يحيطها الناس بمظاهر الاحترام؛ فهي بقعة تحوي مشهد السيدة نفيسة بنت الحسن، والسيدة نفيسة بنت زيد، وتحي مشاهد الخلفاء العباسيين والسادة المالكية وكثيرين غيرهم مما ذكرهم السخاوي في كتابه صفحة 125 وما جاء في خطط المقريزي جزء 40. . وذكر ابن جبير الرحالة الأندلسي صفحة 15 قال:
(بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة وهي إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد أهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة التابعين والعلماء والزهاد الأولياء والأولياء ذات الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. ومشاهد أهل البيت أربع عشر من الرجال وخمس من النساء) انتهى كلام ابن جبير.
وذكر ابن بطوطة في رحلته صفحة 21 ما يأتي:
(ومن المزارات الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليها السلام، وتربة السيدة نفيسة بنت الحسن وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة وهذه التربة مشرقة الضياء عليها رباط منثور) انتهى كلام ابن بطوطة.
وذكر ابن دقماق صفحة 120 جزء 4 (أن العمارة كانت متصلة في زمانه بين هذا الجامع والفسطاط والقاهرة، وحدد أماكن العمارة فقال: كانت إلى حدرة ابن قميحة والى الصليبة والى سوق الجمال بالرميلة والى القبة التي سماها بالصفراء) وقال (إن الجامع أو المسجد الذي أنشئ بالمشهد النفيسي - هو الذي لا تزال قبته فوق الضريح قائمة - أنشأه السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحي وكان ذلك سنة 714 وتولى الخطابة فيه القاضي علاء الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي زين الدين نصر الله شاهد الخزانة السلطانية. وأول خطبة خطبها فيه كانت في يوم الجمعة 8 صفر سنة 714 وحضر الجمعة بالمسجد الخليفة العباسي أمير المؤمنين(881/10)
المستكفي بالله أبو الربيع سليمان وولداه وابن عمه والكركي ناظر المشهد النفيسي والأمير سيف الدين كراوش شاد العمائر السلطانية وهما اللذان توليا عمارة هذا المسجد وأشرفا على بناء أروقته والفسقية المستجدة - رحم الله الناصر ورجاله وعصره.
إذن فاعلم أن هذه البقعة الخالدة الطاهرة قدسية النفحات بل هي بين الأماكن المباركة من هذه العاصمة الإسلامية الكبرى، والمصر الأكبر قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وماذا أقول عنها، وقد كان أول ما وعيت في حياتي، إنني حملت يوماً إلى مقام السيدة نفيسة فكانت هذه الزيارة أول شيء وعيته، وأول ما علق بذاكرتي من أمور الدنيا في أيام الطفولة التي تبدأ بالخروج من المهد، حينما كنت لا أفرق بين اللون واللون ولا أعرف مظاهر الأشياء، فكان أن بدأت الذاكرة تحفظ ما أنطبع عليها، فإذا زيارة هذه البقعة الطاهرة والعودة منها إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه هي أول ما وعيت في الدنيا.
ولذلك نشأت وبين هذه البقعة الخالدة ونفسي صلة روحية لا تنقطع ما دمت حياً، فقد قطعت العالم شرقاً ومغرباً واتخذت مقامي ببلاد الغرب أكثر من ربع قرن، وتعرفت إلى مذاهب الملاحدة والفلاسفة وعشت بين أنصار الفلسفة المادية وأتباع المذهب الشيوعي - ولكنني إذا جئت مصر زائراً ولو لمدة أسبوع واحد أركب خصيصاً لهذا المقام وأزوره خاشعاً لأحيي صاحبته وأقرأ الفاتحة لها، وأتقرب إلى الرسول بتقربي إليها، وأتوجه إلى الله تعالى أحمده وأشكره أن منحني الصحة والعافية والتوفيق وأعادني إلى مسقط رأسي لأقف هذا الموقف.
ولما أقمت بعاصمة الديار المصرية، وبعد استقراري بها جعلت من واجبي التيمن بالزيارة كل شهر مرة وأحياناً أراني مدفوعاً بقوة لا تغالب تدعوني إلى زيارة هذه البقعة الطاهرة وأن أتوجه فيها بالدعاء ليقيني بأن الدعاء فيها مستجاب وأن المنازل لله جميعاً ولكن هذه البقعة من المنازل التي أراد الله تكريمها.
وقد تطول بي الغربة بالشرق والغرب فأناجي بلادي وتتمثل لي مصر بأجمل مظاهرها وأهل مصر وشعبها وتاريخها في هذا المشهد النفيسي وهذه البقعة المباركة! وأود لو أتيت طائراً إليها فأحيي الزائرين والواقفين، وكل سائل ومحروم وكل ملح في السؤال ممن تقابلهم على بابها. إنهم جميعاً قطعة من هذه البقعة الطاهرة، وهذه البقعة قطعة من صميم(881/11)
مصر الخالدة. فلا تؤاخذني أيها القارئ ولا تحرجني في موقفي وثباتي ولا تحاسبني على خطواتي وإشاراتي، فما أنا إلا بشر تشبع نفسه حوادث التاريخ وآثار القرون الماضية وأرى الجمال في كل شئ، وأراه ممثلاً في هذه البقعة بالذات. ولست أبالي بما أوصلك إليه عقلك وفكرك وعلمك من أشياء فأنت تقطع نفسك وتتجه الاتجاه الذي يرضيك ويرضي انقطاعك عن ماضيك وتنكره لحاضرك، أما أنا فأعرف نفسي وأعرف الخواطر التي تجول في قلبي فأعبر عنها بهذا الكلام وأضع كل ذلك تحية لصاحبة هذا المقام التي قال عنها القدماء نفيسة العلم السيدة الطاهرة العالية القدر الرئيسة. . .
هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا ... وهم خير قادات وخير حماة
ملامك في أهل النبي فإنهم ... احباي ما عاشوا واهل ثقاتي
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية(881/12)
الصحافة المصرية
هل الصحف مرآة معبرة. . أم موجهة مؤثرة. .؟
للأستاذ محمود الشرقاوي
قامت في الأشهر الماضية غضبة من جهات ومن هيئات لها نفوذ ولرأيها وزن فيما أصلح على تسميته (بالصور الخليعة) التي أسرفت صحف معينة في نشرها، حتى أمر وزير الداخلية بتذكير الصحف بما يمنع نشر هذه الصور من القوانين، وتذكيرها واجبها في رعاية الأخلاق والتقاليد وعدم الانسياق وراء المنافسة أو الربح أو التقليد ونسيان ما تجب رعايته من الملابسات والاعتبارات الخاصة. وما يزال أثر من هذه القضية قائماً عند بعض هذه الجهات وفيما ينشره بعض الكتاب والعلماء في ذلك.
ومع شعوري بشيء من الحرج إذ أعالج هذا الموضوع، فقد تملكتني الرغبة الغالبة في أن أكتب فيه، إن كنت سأتناوله من ناحية أخرى لا تقل في أثراً عن موضوع هذه الصور الغير مرغوب فيها.
الذين لا يرون بأساً ولا خطراً من نشر ما يجري في جميع نواحي الحياة المصرية والعالمية من ألوان النشاط الاجتماعي يقولون إن الصحافة مرآة لهذه الحياة بألوان نشاطها جميعاً، وكما تحرص الصحف على أن تنقل لقرائها صورة (صادقة) من ألوان النشاط المصري والعالمي في السياسة والاختراع والعلم والاقتصاد والأدب مثلاً، فمن تمام واجباتها أن تنقل إليهم هذه الصورة الصادقة من ألوان النشاط الاجتماعي.
فإذا كانت هذه الصورة الصادقة من ألوان النشاط الاجتماعي لا ترضي جهة من الجهات أو جماعة أو هيئة لها مقاييس خاصة وفهم خاص ومنهج للحياة خاص أيضا، فليس الذنب في ذلك واقعاً على الصحافة التي نقلت الصورة، فإنما هي تسجل ما يقع ويحدث.
ومما يقال في ذلك إن هذا اللون من الحياة الاجتماعية يكاد أن يكون مشتركاً ومتماثلاً في حيوات جميع الطبقات العليا في الأمم الراقية، وقد يؤخذ دليلاً على تقدمها ومقدار ما بلغته من حضارة ورفاهية. وما دمنا نقول إن مصر قطعة من أوربا أو يجب أن تكون قطعة منها، فإن هذا اللون من الحياة هو مما تصعب مقاومته؛ ومن الأفضل أن تتجه فيه الجهود إلى التهذيب وترقية الذوق العام وترفيه النفوس، بدلاً من القسر والقهر والإعنات والمنع(881/13)
بقوة القانون لما لا يمكن أن يخضع لقانون.
لست في هذا الذي أقوله مدافعاً عن وجهة نظر معينة، ولكنني مقرر لهذه الوجهة من النظر ملخص لها لأستخدمها فيما أريد أن أصل إليه فيما يلي: -
الصحافة المصرية على وجه العموم ناجحة إلى حد كبير وصادقة في التعبير عن الحياة المصرية والأماني المصرية، كما هي ناجحة وصادقة ومستوفاة عندما تعطي صورة عن التيارات العالمية والاتجاهات الواضحة والغامضة للسياسة الدولية، بل جميع ما يتفاعل في هذا العالم المضطرب المتقلقل من المؤثرات والعوامل المختلفة والمتباينة بل المتناقضة.
ولكن هناك ناحية في الصحافة المصرية تشغل بالي وأعتقد أنها كذلك تشغل بال كثيرين من المفكرين الذين تشغل أذهان الناس بالنافع والمفيد على الدوام وليس بما يسليهم فقط ويزجي فراغهم.
وقد كتبت أن هذا يشغل البال، ولكني أريد أنه يقلق البال ولا يشغله فقط. ولست أريد أن أحدد مسؤولية ذلك، أهي واقعة على بعض الصحف، أم على بعض الكتاب، أم على الجمهور القارئ، أم هي موزعة مشتركة بينهم جميعاً أو بين هذه الصحف وهؤلاء الكتاب فقط، لا أحدد مسؤولية ولكني أنبه إلى ظاهرة.
والصحف المصرية على كثرتها وابتكارها وجمال رونقها يشغل بعضها صفحات منه بأشياء من المعلومات والمقالات والصور قد تكون شيقة وقد تكون جذابة وقد تكون مبتكرة بارعة، ولكنها يمكن أن توصف في كثير منها بعدم التعمق والبعد عن الجدية. وأنا أتكلم عن ناحية الأدب والفكر فقط.
وبينما الصراع الفكري والسياسي والاقتصادي والمذهبي يكاد يقتحم على جميع بيوتها وأمورها وخاصة حياتها ويستولي على عقولها، نجد كتاباً في مصر يلجئون إلى قصص مترجمة أو موضوعة مما يلبي الرغبات السهلة العاجلة أو يتملق الغرائز عند الشباب من النوعين، وآخرين يفتشون في بطون الكتب للبحث عن كلمة أو نقل (طرائف) لا تحرك الذهن ولا تشغله بالتفكير في هذا العالم وما فيه. ولا بالتفكير في حياتنا المصرية هذه وما فيها، وهو كثير.
ولا أنكر أن هذا لون لا بد منه من ألوان النشاط الأدبي، ولكني أكاد لا أجدالآن من يشتغل(881/14)
بسواه أو بما يماثله في القيمة من الكتاب - إلا من ندر -
وقد نشرت في (الأهرام) منذ شهرين مقالاً أعتقد أن فيه تفكيراً وآراء تعرض للبحث والإفادة، ولكن رجلاً، مفروض أنه من خاصة المثقفين، يبادر فيسألني - لا عن رأي أو فكرة - ولكن ليسألني عن كلمة (نضوج) هل بحثت عنها في القاموس لأعرف أنها واردة فيهأم لا. . .؟
وهذا هو الفراغ، فراغ الذهن.
هذه الأمور الجدية التي تشغل - أو يجب أن تشغل - المفكرين في مصر من الأدب والفن والإصلاح، أحد كثيرين من الخاصة والمثقفين يتحدثون فيها ويشغلون نفوسهم وعقولهم بها ولكني أجد أثر ذلك في الصحف المصرية قليلاً، وبعض الصحف يراعي الكثرة الغالبة - مع رأي خاص فيها - فهي في اعتقادي ليست معبرة تمام التعبير عن هذه الناحية من نواحي النشاط والتفكير المصري، وليست (مرآة) واضحة لها. وكثيرون من المفكرين والمشتغلين بالجد من الأمور يتحرجون من الكتابة لبعض الصحف اعتقاداً منهم بأنها تتقبل أو تنشر لمستوى خاص، وتعني بالمظهر دون الجوهر، وتبحث عن الكم لا عن الكيف.
وبقي أن نقول: هل الصحف تكتفي بأن تكون (مرآة) ناقلة معبرة فقط! أم هي دافعة موجهة مؤثرة. . .؟
وربما كان قصور هذه الظاهرة على الناحية الأدبية والاجتماعية والفكرية سببه اتصال هذه النواحي خاصة بتفكير الجماعة وما يلابس حياتنا من التقاليد وبعض الأمور الأخرى.
أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة صحف ومجلات فيها مقالات لكتاب لهم اسم لامع واهم ألقاب كبيرة ولكنها تتناول مواضيع وأمور مما يقال إنه يقرأ عادة عقب الغداء أو قبل النوم للتسلية و (قتل الوقت) وبين يدي وأنا أكتب هذه الكلمات مجموعة أعتز بها من جريدة (السياسة الأسبوعية) من بدء صدورها (سنة 1926) وإذا قلبت صفحة من صفحاتها لا بد أن تجد بحثاً جدياً مدروساً في الأدب (أدب الفكرة) لا لأدب، الفراغ أو في الإصلاح أو الاجتماع يستفيد منه قارئه فائدة لذهنه وعقله وتفكيره وثقافته. ولدي مجلات أخرى كانت تصدر لخدمة الفكر والإصلاح والتقدم ثم توقفت لأنها لم تساير التيار الجارف المكتسح من الصحافة التافهة الرخيصة، وما تحول منها إلى أداة لهو وسخف ظل منتظم الصدور دائم(881/15)
(التقدم)
وعندما نقارن بين صحف كهذه كانت تصدر منذ ربع قرن وبين ما كانت تعني به وتنشره، وما ينشر الآن في بعض الصحف لوجدنا تفاوتاً بينا ليس مما يرضى عنه من يرى أن التفكير الأدبي والثقافي يجب أن يساير التقدم العام.
في تاريخنا الأدبي لهذه الفترة - قبل أن تتجه بعض الصحف المصرية هذا الاتجاه الأخير ويشاركها فيه كثير من الكتاب أو ينساقون معا إليه - في تاريخنا الأدبي هذا نجد عشرات الكتب لمؤلفين من الطبقة الأولى جمعت وكانت معيناً للنهضة الأدبية والثقافية في مصر والشرق، وهي في الأصل بحوث نشرت في الصحف وكانت في وقتهاأيضاً من الدوافع المحركة لهذه النهضة. فكم نجد الآن بين ما ينشر في بعض الصحف المصرية مما يمكن أن يجمع في كتاب يقرؤه ويفيد منه مثقف ممتاز الثقافة أو متوسطها. . .؟
ومن الأنصاف أن أذكر بعض الصحف القليلة - كالرسالة والثقافة - بقيت على عهدها لم تنحرف ولم تساير وظلت محافظة على رعاية ما أنشئت له من العناية بالأدب الخالص على طريقتها الخاصة، ومنهجها الذي لم تتحول عنه يوماً.
إني - كما ذكرت - أشعر بالحرج حين أكتب هذا الذي أكتبه، فإني أحترم حق الزمالة، ولكني من ناحية أخرى أريد أن يحترم حق الفكر.
وناحية أخرى من نواحي الحرج أشعر بها فيما أكتب، فإني إذا قلت إن صحيفة واحدة، هي الأهرام، ظلت - وأكاد أقول وحدها - لم تشارك في الاتجاه الذي ذكرناه، وبقيت كما كانت يجد فيها قارئها كثيراً مما يشغل الذهن بالتفكير والعقل بالتأمل والإفادة، ومما يفيد الذوق بالترفيه والإحساس بالتهذيب والبهجة، ولم تنحرف إلى ناحية التسلية و (قتل الوقت) وتملق الغرائز، إذا قلت إن (الأهرام) بقيت هكذا فقد يقال إني أجامل وأمدح، والله ما إلى هذا قصدت، بل قصدت أن أضرب مثلاً.
وماذا يضرني بعد ذلك لو أني مدحت من أعتقد أني أنا صادق في مدحه. . .؟
محمود الشرقاوي(881/16)
لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل
للدكتور محمد يوسف موسى
بقية ما نشر في العدد الماضي
وإذا كانت هذه بعض الآثار السيئة للتأثر بالغير إلى درجة التقليد الذليل، وإذا كان التقليد لا بد منه، مع ذلك، في كثير من الأحيان والأحوال، فإن على الأم أو المعلم أو ما كان من ذلك بسبيل واجباً من جهتين:
ا - أن يعني بأن يكون كاملاً في خلقه حتى يكون قدوة طيبة لمن يتأثر به. ومن هنا نرى تشدد الزعماء والمصلحين في أن يجعلوا أنفسهم بمنجاة من المآخذ أو المغامر، وإلا كان عليهم وزر ما يعملون ووزر من يتخذون منهم مثلاً علياً.
ب - أن ينشئ في أنفس من هم بسبيل أتباعه في بعض ما يعمل روح الاستقلال. إنه ليس من الخير في شئ أن يحاول المعلم تنشئة تلميذة على غراره، أو الأب ابنه على شاكلته، بل ذلك شر كله. يستطيع المربي أن يذكر لمن وكل إليه أمره رأيه في هذه المسألة أو تلك، ومذهبه في أمور السياسة أو الاجتماع، وطريقته في الحياة بصفة عامة. ولكن على أن يعنى بتفهيمه بأن ذلك رأي أو مذهب له قد يكون صواباً كما قد يكون خطأ؛ وإذا من الضروري وزنه بتفكيره الخاص، ثم له بعد هذا أن يقبل منه ما يقبل وأن يرفض منه ما يرفض.
بهذين الأمرين يستطيع الأب، والمعلم والمربي بصفة عامة، أن يصل إلى تربية إنسان يقبل ما يقبل من الرأي عن بينة، ويرفض ما يرفض من ذلك عن بينة؛ ولا يأبى أن يقبل بعض ما لدى الآخرين من خير عن اقتناع لا عن تقليد. ولا يكون مادة تنفعل، بل عقلاً يفكر ونفساً لها شخصيتها وإرادتها الخاصة.
ثم، ينتهي المرء من التعليم، ويبدأ التعرف للحياة العملية، يجد نفسه قد صار عضواً في بيئة جديدة، وأصبح عليه أن يجتمع بأناس مختلفين هن وهناك كلما اضطر بسبب عمله للانتقال من بلد إلى آخر. وهو مع هذا كله يستبدل دائماً زملاء بزملاء وأصدقاء بأصدقاء ورئيساً برئيس. هنا، في هذه الفترة وبسبب هذه العوامل، تظهر مسألة الانفصال أو الاستقلال في الفكر تمام الظهور، وتكون عاملاً قوياً في زوال الشخصية أو تكوينها(881/17)
وتقويتها، ومن ثم تكون عاملاً قوياً أيضاً في رجولة الإنسان وسعادته أو ميوعته أو شقائه. والأمر للإنسان، من قبل ومن بعد، في حياته يصوغها كما يشاء، وفي شخصيته يكونها كما يريد.
من الناس من لا يرى أن يعمل عقله ويجهد فكره في المسائل ذوات الطابع الخلافي، أي المسائل التي لا يبين فيها وجه الحق فهي لهذا قابلة للنقاش والأخذ والرد. إن هذا الصنف من الناس يرى حينئذ أن من الأيسر له أن ينحاز لهذا الرأي أو ذاك لأن فلاناً الذي يقول به معروف بسمة العقل وجودة التفكير، أو لأن فلاناً له اسمه الذائع ومركزه المرموق. وهذا نموذج لكثير من الناس، وهو نموذج رديء، كما نرى.
ومن الناس، وهم القليل، من يرى رأيه في هذا الضرب من المسائل، ولا يكتفي برأي غيره إلا إذا رضى به عقله واطمأن له قلبه. وهذا، كما ترى، مثال طيب، لما فيه من أعماق العقل والتفكير، وعدم الاكتفاء بأن يرى الناس له الرأي الذي يرون.
على أن هناك مسائل كثيرة يجب فيها الأتباع. لأنها تقوم على حقائق ثبت منذ طويل صحتها فلا تقبل من يعد جدلاً، وذلك مثل حقائق العلوم المختلفة. ولو راح امرؤ يبرهن بعقله على صحة كل حقيقة من هذه الحقائق، لأتفق عبثاً جهداً كبيراً من وقته ومقداراً ملحوظاً من طاقته العقلية. وليس في هذا شئ من العقل أو الحزم، لأنه لا أحد يفكر في إعادة إنشاء العلوم من جديد
إن الذي نعيبه من الأتباع أو الانفعال برأي الغير، هو ما كان ناشئاً عن كسل عقلي ورغبة في أن يرى المرء بعقل غيره، وما كان في المسائل القابلة للنقاش وأوجه الرأي المختلفة. ومن ذلك مثلاً مشكلة اختلاط الفتى والفتاة في مرحلة التعليم العالي، ومشكلة إعطاء المرأة حق الانتخاب، ومشكلة حل أو حرمة التعامل مع البنوك للحاجة الماسة لذلك مع تعامل البنوك بالربا.
في هذه المسائل، وأمثالها كثير، وهي فيما بينها تتفاضل أهمية وخطراً، يكون القادر على تكوين رأي خاص فيها بتفكيره الخاص، ثم لا يفعل ويكتفي بالتأثر برأي الغير وتقليده، قد آثر الكسل العقلي، ورضي أن يكونإممةتابعاً لهذا اليوم ولذلك غداً، وما ذلك من الرجولة في شيء.(881/18)
وهناك بعد هذا كله ضرب آخر من الانفعال أسوء عاقبة وأشد أثراً، تعنى به انفعال الأمة بأمة أخرى في كثير من مقومات حياتها وإلهام من أمورها. وقد افرد ابن خلدون هذه الناحية بفصل من مقدمته، هذه المقدمة التي يجب أن تقرأ مراراً ومراراً بالتفات وفهم عميقين:
لقد ذكر مؤسس علم الاجتماع سببين لهذا الداء يرجع ثانيهما للأول، وكلاهما مرده سوء ظن المغلوب بنفسه، وحسن ظنه بالغالب في كل أموره.
وهذا الذي يراه فيلسوف علم الاجتماع صحيح في جملته وتفصيله، صحيح اليوم كما كان صحيحاً في الماضي. على أني أبادر فأقول بأن الغرب قد أخذ عنا الكثير في العصور الوسطى من الفلسفة والعلوم، فلا تثريب علينا أن نأخذ عن أمة أخرى بعض مظاهر حضارتها. ولكن العيب كل العيب أن تفني شخصية الأمة، أو تكاد، في أمة أخرى بما تقلدها في أمور وأوضاع هامة خطيرة وبما تطرح من مقوماتها الأصلية في سبيل ما تصطنع من ذلك عن الأمم الأخرى. وكل ذلك لا لشيء إلا لأنها تحس ضعفها وقوة تلك الأمم فتعتقد فيهم كمال الجنس والتقاليد، متناسية أن الله يداول في الأيام بين الناس، وأن من الممكن الأخذ عن الغير دون الفناء فيه.
إن أول مقوم للأمة من الأمم دينها، وديننا وهو الإسلام هو كما تعرف عقيدة وشريعة، وقد أشتمل على ما يمكن أن تحتاج إليه دولة من نظم وتشاريع. وقد نسي أولو الأمر فينا هذه الحقيقة البديهية فراحوا منذ زمن بعيد يلتمسون لدى الغرب كثيراً من نظمه وتشاريعه؛ مع أن كثيراً من هذه النظم والتشريعات ثبت إفلاسه، ومع أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عما إذا كان الإسلام يحتوي خيراً منها أم لا.
إن هذا الصنيع، أي الأخذ عن الغرب وأتباعه في كثير من الأمر لم يقف في حدود ما هو ضروري مثل الصناعات والأمور الفنية، ولكن تعدى إلى العادات والتقاليد التي ترجع في أسسها إلى الدين، كما تعدى إلى الشرائع والقانون كما أشرنا إليه من قبل.
حقاً، لقد فشا عندنا منذ زمن بعيد عادات وتقاليد ليست في شيء من الإسلام أو من تقاليدنا المستمدة من التاريخ، وهي آخذة في الانتشار والذيوع من طبقة إلى أخرى، وكل هذا ليس من شأنه إلا أن يحط منا كأمة لها دينها وتاريخها وتقاليدها الخاصة بها. ولست أراني في(881/19)
حاجة إلى بيان هذه التقاليد الأجنبية والضارة التي استشرت فينا، ويكفي الإشارة إلى الحفلات الراقصة، والخمر تقدم في كثير من المناسبات في أوساط إسلامية معروفة.
وفي خارج مصر نجد الأمر يزيد شناعة وخطراً، نجد التشبه بالغرب إلى حد الأنمياع فيه يكاد يكون التقليد لوحيد لممثلينا هناك، وذلك أمر تحققناه بأنفسنا في تلك البلاد. حقاً أن أكثر ممثلي مصر بأوربا لا يكاد يشعر الواحد منهم بأنه يمثل أمة إسلامية شرقية لها تقاليدها الطيبة التي يجب أن تحرص عليها. كما تحرص كلأمة أخرى على الطيب من تقاليدها، والتي بدونها لا تكون لها شخصية أو تكون شخصيتها مذبذبة لا لون لها، وليس بهذا نستوجب احترام الأمم الأخرى التي نعيش فيها ممثلين لمصر الشرقية الإسلامية!
هذا، وإذا كان لا بد لكل حديث من نهاية، ولكل بحث من غاية، فإني احب أن أجمل هذه الغاية في كلمات:
ا - لو لم يكن من غرائز الإنسان أو من طبيعته التأثر بالغير وتقليده، لكان عسيراً كل العسر إن لم تقل لكان متعذراً في كثير من الحالات، أن يصل الإنسان وهو يجتاز مراحل حياته واحدة بعد أخرى إلى كثير من المعارف وإتقان من الأعمال. ولولا هذه الغريزة الطبيعية، أو الظاهرة الاجتماعية، لعز على المربي أن يبلغ بطفله أو تلميذه إلى ما يريد له من كمال.
ب - ولكن ينبغي أن نحذر في الإفادة من هذه الغريزة فلا نسرف في الانفعال بالغير والتأثر به إلى حد تقليده بلا تفكير أو اقتناع. ذلك إثمه أكبر من نفعه، وحسبنا أنه ينتهي بمحو شخصية المقلد وصيرورته تابعاً لغيره في تفكيره وطرائق حياته الاجتماعية على الأقل.
وليس لأحد منا أن يتعلل بما يذكره بعض الأخلاقيين من أن سعادة الإنسان هي أن يحسن التكيف بما تكون عليه بيئته، أي في القدرة على هذا التكيف وإحسانه في غير عتت أو مشقة. إنه لا ينبغي لنا هذا، لأنه فرق كبير بين رعاية الوسط الاجتماعي فيما هو خير، وبين الانفعال بهذا الوسط خير وشره كما هو ملحوظ في حالات كثيرة هذه الأيام. إن هناك من الناس من يغير الواحد منهم رأيه في هذه المسألة أو تلك، بعدد ما يغير من جلساته مع غيره.(881/20)
ح - وأخيراً، من الواجب، ونحن في نهضة وطنية واجتماعية، ألا يكون الواحد منا مادة تنفعل بغيره وبما يكون من ذلك الغير من أحداث. بل يجب أن يكون في نفسه قوة تفعل، قوة لها أثرها الطيب المحمود هنا وهناك.
أن عامة الغربيين يرون فينا، معشر الشرقيين جماعات لم يعد لها كيان مستقل ولا شخصية خاصة، ما دام الكل يرى في الغرب مثله الأعلى، يقلده في كثير من أوضاع الاجتماع وطرائق الحياة. أما الخاصة من رجال الغرب، أعني العلماء الذين لهم بصر يتجاوز ظواهر الأمور إلى حقائقها واللباب منها، فيرون أن هذا الأتباع من الشرق للغرب أتباع ظاهري، ولكن للشرق وراء هذا روحه الخاصة به، هذه الروح التي لا تلبث أن تظهر من جديد ناصعة قوية يفيد منها الشرق والغرب معاً، بعد أن صار هذا الأخير - وقد أنهكت قواه الحضارة المادية بحاجة إلى بعث جديد يقوم على روح ومبادئ جديدة يلتمسها لدى الشرق والإسلام.
فلنبين إذا لعامة الغربيين خطأ ما يعتقدون من أن الشرق أضاع روحه وشخصيته في إتباع الغرب وتقليده، ولنحقق للخاصة منهم، وهم العلماء الذين لهم بصر نافذ وبصيرة ألمعية، ما يلتمسونه لدينا من خصائص في الطابع والشخصية والروح! خصائص لا قوام للشرق بدونها، ولا غنى للغرب عن الإفادة منها.
بهذا، يعود من الممكن لنا أن نحتفظ بما لنا من كيان خاص، وأن نساعد العالم على اجتياز الأزمة أو المحنة التي تطحنه طحنا هذه الأيام. وبهذا نكون قد ساهمنا في تقدم العالم وسعادته، والله ولي التوفيق
محمد يوسف موسى(881/21)
من عبث النحاة
التعجب
للأستاذ كمال بسيوني
(مهداة إلى صاحب إحياء النحو الأستاذ الصديق إبراهيم بك
مصطفى عميد كلية دار العلوم)
في الحق أن النحاة يكلفون أنفسهم شططاً ويرهقونها عسراً حينما يريدون أن يحللوا كل شيء، فلا ينتهي بهم التحليل والتعليل إلى التعريف والتقريب، وإنما ينتهي بهم إلى التجهيل والتضليل.
ولم أر النحاة قد ضلوا في باب من أبواب النحو ضلالهم في باب التعجب. وأكون مقرراً للواقع حين أقول: أن واحداً منهم لم يفهم من قريب أو بعيد صيغتي التعجب، ولم يتصل بهما بسبب ظاهر أو خفي. وليس ذلكلأن صيغتي التعجب صيغتان عميقتان تدقان على الإفهام، أو تستعصيان على العقول، وإنمالأن هاتين الصيغتين لم تخضعا للقواعد التي أثبتها النحاة وقرروها، والنحاة لا يطيقون أن يروا شيئاً في اللغة العربية لا يخضع لقواعدهم وقوانينهم، لأنهم لم يضعوا قواعدهم وقوانينهم لتهمل وتنبذ، وإنما وضعوها لتطبق وتنفذ، وإذن فليخترقوا كل طريق، وليشقوا كل سبيل، حتى يخضعوا الجامح ويذللوا النافر، فإن جاءوا بعد هذا كله بما يحزن طوراً، ويضحك طوراً آخر، فليس الذنب ذنبك أنت لأنك لم تفهم ما قالوا، أو لأنك لم تؤت هذه القريحة النفاذة التي تستطيع بها أن تستسيغ هذا الغثاء، وأن نفهم هذا الهراء
رأى النحاة هاتين الصيغتين في اللغة العربية (ما أجمل الورد، وأجمل بالورد) ولا أريد بادئ ذي بدء أن أفزعك بما قال النحاة فيها، وإنما أريد أن أسألك أنت عما تفهم إذا قلت لك - ونحن سائران في الحديقة - (ما أجمل الورد) أو قلت لك (أجمل بالورد) ستفهم من غير شك أني أريد أن أقول لك: إن الورد جميل جداً، وستلمح من كلامي أني معجب بجمال الورد، لا متعجب من جماله، فجمال الورد لا يثير تعجبي لأنه ليس أمراً غريباً، وإنما يثير إعجابي، لأنه فاتن خلاب.(881/22)
ولا تظن أني أريد من هذا أن أسمي باب التعجب باب الإعجاب، وإلا، فماذا تقول إذا قلت ما أقبح الشر، أو أقبح بالشر؟ أتظن أني معجب بقبح الشر أو متعجب من قبحه؟ كلا، فما أنا معجب ولا أنا متعجب لأن قبح الشر لا يثير عجباً ولا تعجباً، وإنما هو أمر طبيعي؛ ولكنك ستفهم من غير ما شك أني أريد أن أقول إن الشر قبيح جداً، وستلمح من كلامي أني ساخط عليه مشمئز منه.
ولا تقل: إن الأمر لا يخلو من إعجاب أو اشمئزاز، فلا مناص لك من أن تسمى باب التعجب باب الإعجاب والاشمئزاز، وإلا فماذا تقول في قولي لك: ما أكثر الورد في الربيع وما أعظم النزهة في الحدائق، وأنا لم أقصد إلى الإعجاب ولا اشمئزاز. ولم أقصد في الوقت نفسه إلى تعجب، وإنما أقصد إلى أن الورد في الربيع كثير جداً، وأن النزهة في الحدائق عظيمة جداً.
وأظنك قد لمحت من هذا كله أن هاتين الصيغتين إنما تدلان على الكثرة والمبالغة، فالورد جميل جداً، والشر قبيح جداً، والورد في الربيع كثير جداً، والنزهة في الحدائق عظيمة جداً، وعلى هذا النحو. وأظن أني وفقت في هذا الكلام إلى أن أنبهك إلى أن تسمية هذا الباب بباب التعجب تسمية غير سديدة، وأظنكأيضاًقد لمحت من هذا الكلام معنى هاتين الصيغتين.
واسمع بعد هذا ما يقول النحاة في معناهما، وتمالك نفسك أن تقهقه واكظم الضحك في قلبك أن ينفجر.
لم يتفق النحاة على معنى (ما أجمل الورد) والعجب أنهم بعد اختلافهم هذا لم يفهموا معنى هذه الجملة، ولم يمنعهم من فهمها إلا أنهم أرادوا أن يطبقوا عليها القواعد النحوية التي وضعوها.
لقد أنفقوا على اسمية (ما) وابتدائيتها، ثم اختلفوا: فقال الفريق الأول إن (ما) في ما أجمل الورد نكرة تامة بمعنى شيء والجملة بعدها خبر، والتقدير شيء أجمل الورد أي جعله جميلاً. وقال الفريق الثاني: إن (ما) استفهامية مشوبة بتعجب، وما بعدها خبر أيضاً، والتقدير أي شيء اجمل الورد؟ وقال الفريق الثالث: (ما) معرفة ناقصة أي أسم موصول بمعنى الذي والجملة بعدها صلة والخبر محذوف (والتقدير الذي أجمل الورد شيء عظيم.(881/23)
وقال الفريق الرابع: (ما) نكرة ناقصة والجملة بعدها صفة والخبر محذوفأيضاً والتقدير شيء أجمل الورد عظيم، هذا ولم أتجاوز (ما) إلى (أجمل الورد).
واختلفوا أيضاً في (اجمل الورد) فقال بعضهم: إن (أجمل) فعل للزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية نحو ما أفقرني إلى عفو الله، ففتحته فتحة بناء كالفتحة في نحو على أكرم محمداً، (والورد) مفعول به. وقال الفريق الآخر إن (أجمل أسم لمجيئه مصغراً في نحو قول الشاعر (ياما أميلح غزلانا شدن لنا) ففتحته فتحة إعراب كالفتحة في نحو (على عندك) (والورد) مشبه بالمفعول به لوقوعه بعد ما يشبه الفعل في الصورة.
هذا ما قاله النحاة في (ما أجمل بالورد) فإذا كنت قد فهمت من هذا الكلام كله معنى هذه الجملة فأنت موفق سعيد، أما أنا فلم أفهم من هذا الكلام إلا أنه لغو من القول يجب أن تنزه عنه الأسماع والعقول تنزيها.
أما ما قاله النحاة في (أجمل بالورد) فقد اتفقوا على فعلية أجمل، ثم اختلفوا فقال بعضهم لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وهو في الأصل فعل ماض على صيغة افعل بمعنى صار ذا كذا، فأصل (أجمل بالورد) أجمل الورد أي صار ذا جمال ثم نقل إلى إنشاء التعجب فغيرت الصيغة من الماضي إلى الأمر ليكون بصورة الإنشاء، ثم زيدت الباء في الفاعل، وعلى هذا فأجمل مبني على فتحة مقدرة منع من ظهورها مجيئه على صورة الأمر، وقال البعض الآخر (أجمل) لفظه ومعناه الأمر، وفيه ضمير مستتر مرفوع على الفاعلية والباء للتعدية داخلة على المفعول به، ثم اختلفوا في مرجع الضمير المستتر فقيل الضمير للجمال المدلول عليه بأجمل، وقيل الضمير للمخاطب.
أرأيت إلى أني لم أكن مخطئاً حين خفت عليك أن تضحك أو أن تقهقه حين تسمع هذا الكلام - أستغفر الله - وكنت خليقاً أن تحزن وأن تتألم حين تعلم أن شيوخ النحو في مصر ما زالوا يلوكون هذه السخافات، وما زالوا يخدعون الطلاب بهذا الدجل العلمي، وما زالوا يفسدون العقول والأذواق، ويميعون الملكات الأدبية في نفوس الشباب، وما أسرع ما ينخدع الشباب بهذا التخريف، فيظن حين يعلك هذه الألفاظ أنه قد فهم قواعد العربية، وهو لم يفهم إلا قواعد الجهل إن كان للجهل قواعد يتسنى للمرء أن يفهمها.
إن من يريد أن يدرس قواعد اللغة العربية يجب أن يستلهم الذوق العربي والبيان العربي(881/24)
حين يدرس هذه القواعد، لا أن يستلهم القواعد ويحكمها في الذوق والبيان العربيين. ومن ذا يستطيع أن يقول إن معنى (ما أجمل الورد) شيء أجمل الورد أو أي شيء أجمل الورد؟ أو الذي أجمل الورد شيء عظيم أو شيء أجمل الورد عظيم - من ذا يستطيع أن يقول هذا؟ ما ضر هؤلاء القوم لو فهموا الأساليب العربية أولا ثم حاولوا على ضوء هذا الفهم أن يطبقوا ما شاءوا من القواعد بشرط أن تكون هذه القواعد موضحة للمعنى المقصود لا مخفية له، فأنا لا أفهم إلا أن (الورد) في كل من المثالين السابقين مسند إليه، وكل من (ما أجمل) في المثال الأول وأجمل في المثال الثاني بمعنى جميل جداً مسند، أما كيف نعرب (ما) وهل أجمل أسم أو فعل وهل فتحتها فتحة إعراب أو بناء، وبماذا انتصبت كلمة (الورد) في المثال الأول وهل (أجمل) في المثال الثاني فعل ماض جاء على صيغة الأمر أو فعل أمر صيغة ومعنى، وهل الباء داخلة على الفاعل أو الفاعل محذوف والباء للتعددية داخلة على المفعول - كل هذا لا يعنيني أن أعرفه بل لعل من الجهل أن أعرفه إن صح أن تسمى المعرفة جهلاً.
إن المقصود من علم النحو إنما هو تقويم اللسان والتحرز من اللحن والخطأ، وأنا ما دمت أنطق هذه الجملة (ما أجمل الورد) صحيحة هكذا، وأعرف معناها سليماًأيضاً هكذا فماذا على بعد ذلك؟
وبعد: فهذا نقد سريع لبعض ما قاله النحاة في هذا الباب الذي سموه باب التعجب وهو في الوقت نفسه نوع جديد من البحث العلمي الصحيح لو تأثره القائمون بأمر النحو في مصر لكان ذلك إيذانا بانبثاق فجر جديد لقواعد العربية، ولكانت نهضة نحوية مباركة كهذه النهضة الأدبية المباركة التي تعم مصر الآن.
كمال بسيوني(881/25)
شعر القرن التاسع عشر
بين التجديد والتقليد
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
عهد زاخر بالأحداث، وأيام تتلاحق بالأعاجيب، وشئون يجرفها الزمن فيدركها الذبول، وأخرى تشرق في صفحة الحياة فيقبل عليها الناس، وصراع عنيف بين القديم والحديث لا يلبث أن ينتصر فيه ثانيهما بعد شئ من التهذيب. وعناء يحسه من عاشوا في ظل الماضي قانعين بما فيه من خير أو شر، ونشاط للمجددين يحاولون به دفع الناس إلى الأمام ليدركوا قافلة الزمان
هذا هو حال الشرق خلال القرن التاسع عشر، بعد أن وصلته الأحداث بالغرب ودفعته في تياره، على فرق ما بينهما في العادات والأخلاق والعلوم، والتجارب والسياسة وظروف الحياة
ونحن نكلف الأشياء ضد طباعها، إذا تطلبنا من الشرق أن يقف موقف الجمود، والحياة من حوله صاخبة تأتي بكل عجيب، كما لا نحسن الحكم إذا رجونا منه الإسراف في التغير والانقلاب، فالعادات والتقاليد والقديم المألوف في شتى صوره ومظاهره، أمور محببة إلى النفس وصور عالقة بالفؤاد، لا يهجرها الإنسان إلا مرغماً أو مقتنعاً وكثيراً ما يقلق عقله دون الاقتناع، وإن وضح الدليل وسطع البرهان.
ولا نود أن نشق عليك - أيها القارئ الكريم - فنعرض هذا السفر الحافل بموضوعات التغير في التقاليد والدين والسياسة والاجتماع، ولكنا نلم بها في عجالة علها تفيد في شرح ما نحن بصدده من التغير الذي طرأ على الشعر خلال هذا القرن.
أرأيت إلى الشرق وكيف وقف عند تقاليده وحافظ على عاداته قروناً عدة، لا يحاول أن يربم عنها أو يرجو بها بديلاً؟ فلما تهيأ له أن يتصل بالغرب، ورأى ما رأى من عادات القوم وأساليبهم وقف المتحرجون المتزمتون في سبيل هذه العادات والتقاليد، وهتف بضرورتها المجددون، والتقى الفريقان في صراع عنيف دام عهداً طويلاً، ورأينا كتباً تؤيد وأخرى تندد، بل ما زال أثر هذا الصراع قائماً إلى الآن ونرى أثره في ظهور المرأة على مسرح الحياة ومحاولتها الوثوب إلى كثير من الحقوق.(881/26)
فإذا انتقلنا إلى ميدان العلم، وجدنا صراعاً مثل هذا الصراع بين القانعين بعلوم الأزهر وتراث الأجيال السابقة، والمتطلعين إلى الغرب وعلوم المادية التي فتنت قلوبهم، وهزت نفوسهم، وينتهي أمر هذا الاختلاف إلى مدارس دينية وأخرى مدنية، ولا تزال قائمة إلى وقتنا هذا.
والدين نفسه لم يسلم من آثار هذا العهد، فقد نادى المنادون بضرورة التجديد، واستمسك القدامى بمبادئهم، فظهر على مسرح الحياة رجل الإصلاح جمال الدين ينادي بمبادئه التي تجعل الدين صالحاً لكل زمان ومكان. خشية أن يتقول المتقولون: إنه قد مضت أيامه وانتهى برهانه وقد حدث مثل هذا في السياسة والحضارة وقد تجد تصويره فيما كتب علي مبارك ومحمد المويلحي. وخليق بنا أن نذكر أن الوعي الاجتماعي والقومي قد بدت مظاهره واضحة جلية في النصف الثاني من هذا القرن فقد شعر الناس بمطالب المجتمع وأدركوا واجباته فهبوا يصلحون من أمره ويقومون من معوجه: فها هي ذي الأندية العلمية والأدبية، وها هي ذي جماعات الطباعة تلبي مآرب الناس بإبراز التراث العربي القديم ونشر العلم الحديث، وها هي ذي الشعوب تنادي باشتراكها في الحكم وإدارة البلاد، حتى لقد تحقق لهم بعض ما أرادوا في فترات من الزمان على يد (مدحت باشا) في الشام والعراق، وعلى يد (إسماعيل باشا) في مصر.
والأدب في جميع أحواله مرآة تعكس الأحداث، وصحيفة تسجل مواكب الحياة، إذا منح أهله الصدق فيما يقولون، ويسرت لهم المطالب التي تهي لهم القدرة على التصوير والتسجيل، بل هو خفقات النفس وخلجات الفؤاد ومشاعر المجتمع وآماله يذيع بها الموهوبون وينطق بها الأدباء المحسنون.
فهل - يا ترى - تضطرب الحياة ولا يضطرب؟ وتسير الأمور ويجمد؟ إن من يستقصى الأحداث في إعصار الزمن ويتتبع حياة الأدب في هذه الأحداث، يجد ارتباطاً وثيقاً بينهما. وهكذا وجدنا أحوال الناس في القرن التاسع عشر تنعكس على مرآة الأدب فيبدو فيه التقليد والتجديد، والجمود والتوثب؛ حتى هيئ له آخر الأمر أن يثب وثبته المعروفة، فلم ينته هذا القرن إلا وهو في ثوب جديد يختلف عن ثوبه القديم كل الاختلاف.
وقد مر على الشعراء قبل القرن التاسع عشر قرون أصيبوا فيها بتبلد الذهن وجدب(881/27)
العاطفة، ونضوب القرائح لأمور كثيرة يرجع بعضها إلى تضاؤل الشخصية وكم الحرية وانحسار العلم واستبداد السلطان وكساد الأدب وغلبة الأعاجم، فصار الشعر بعامة لا يصور أمل النفس وحياة الجماعة ولا ينتشي لمظاهر الجمال ولا يهتف بالعاطفة الصادقة والإحساس الدقيق. وقد ظل الشعراء أمداً طويلاً في دائرة ضيقة من التقليد الضعيف لضعفاء الشعراء الذين سبقوهم، وانتقل الشعر إلى ضرب من العبث، لا يثير عاطفة ولا ينبه إحساساً، وصار إلى رياضة لفظية كثرت زينتها وفسد طبعها، فأصبح جسداً بلا روح وكلاماً خالياً من المعاني إلا في القليل الذي يجود به الزمن في أقسى أيامه وأشقى أحواله.
ولكي يتسنى لنا تمييز شعر التقليد من شعر العاطفة، يجب أن نوضح الشعر بمعناه الصحيح كما نرتضيه ويرتضيه نقده الكلام فهو تصوير لعاطفة حساسة، ووحي لوجدان مرهف، وحديث قلب خفاق يدرك من دقائق الأشياء ما لا يدرك غيره من القلوب، وإبراز لهذه الأحاسيس في صور من اللفظ والخيال البديعين، حتى ليخيل إليك وأنت تسمعه أن نفس الشاعر تسيل في ألفاظه، وتتدفق في بيانه فلا تلبث أن تؤاخي هذه النفس، بل لا تلبث أن تسيل معها في هذه النفحات، وتصبح وتراً من الأوتار يردد هذه الأحاسيس، فتتجاوب نفسك ونفس الشاعر، وتحلفان معاً في جو من الخيال البديع: تعيشان تارة بين الخمائل النضر والرياض الأريضة، تبتهجان للحياة وتريان فيها المسرة والإنياس، وقد يجذبك إلى جو من التشاؤم والضيق بالناس، فتضيق، وتتمنى أن لو عشت فريداً وحيداً.
هذا هو الشعر كما يجب أن يكون، فإذا بعد عن هذا الأفق وزل عن هذه المكانة، كان تكلفاً وتقليداً لا غناء فيه، واستبان الناظر فيه فساد السليقة وفتور العاطفة. ونحن نعرض هنا مثلاً من شعر التقليد في القرن التاسع عشر، وستدرك فيها انحداراً عن المستوى الرفيع وتجافياً للمنهج المستقيم.
طلب أحدهم من الشيخ شهاب الدين أن يكتب له أبياتاً لينقشها على مائدة الطعام، فقال أبياتاً منها:
أيها السيد الكريم تكرم ... وتناول ما شئت أكلاً شهيا
وتفضل بجبر خاطر من هم ... أتقنوا صنعه وخذ منه شيا
وبدهي أن يأتي هذا الكلام (ولا أسميه شعراً) فاتراً بارداً لا يحمل خيالاً كريماً، ولا معنى(881/28)
لطيفاً، إذ لم يتجاوز القلم واللسان إلى ما وراءهم العاطفة والشعور، ولا يزيد قائلهما إحساساً بهما عن إحساس الكتبة الذين يقتعدون منافذ المحاكم، ومكاتب البريد: إنما هي كلمات مرصوصة، وصور باهتة محفوظة، تحبر في الورق بريشة جف دهانها وحركتها يد مسخرة مأجورة، فجاءت لا تحمل من شخصية الفنان قليلاً ولا كثيراً.
وأطرف من هذا قصة شاعر آخر هو عبد الجليل البصري المتوفى سنة 1844 فقد طلب منه أحد الشحاذين أبياتاً يتكفف بها الناس، وينال بإنشادها إحسانهم فكتب له:
يا ماجد ساد عن فضل وعن كرم ... وهمة بلغت هام السماك علا
يا من إذا قصد الراجي مكارمه ... نال الأماني وبراً وافراً عجلا
إنا قصدناك والآمال واثقة ... بأن جودك ينفي فقر من نزلا
جئنا ظماء وحسن الظن أوردنا ... إلى معاليك لا نبغي بها بدلا
لقد أضر بنا جود العداة وما ... أودى بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا
عسر وغربة دار ثم مسكنة ... وذلة وفراق قاتل وبلا
إلى آخر ما قال في ذلك.
ولست أرى في هذه الأبيات إلا ما يثير العجب، ويدعو إلى الإشفاق على الشاعر الذي أضاع وقته فيما لا يجدي ولا يفيد. وإنه ليخيل إلى أن الشاعر حينما أراد أن ينظمها كان يضع كلمة بجانب كلمة، ويتصيد الكلمات الأخرى ليتم الوزن، ولعلنا نحس هذا في الشطر الثاني من كل بيت.
والشاعر لا يجيد، ولا يتيسر له أن يجيد، إذا حمل على الشعر حملاً، وطلب إليه أن يقول في غرض لم تهتف به نفسه، ولم تستجب له عواطفه؛ وإنما يحسن ويصيب إذا انطلق على سجيته ولبى رغبة نفسه فيكون مثله عندئذ مثل الطائر يغرد إذا شاء ويتوقف إذا أراد، أو كالزهرة تعبق إذا ما اجتمعت فيها عناصر الشذا وتفتحت عنها الأكمام.
هذا وقد طغي على هذا العصر لون من الشعر شغل الناس عن كثير مما عداه؛ ذلك اللون إنما هو مدح، ولهذا أطلق على هذا القرن قرن المديح. نعم، إن هذا الغرض كان قد فتن الناس به منذ العصر العباسي الثاني ولكنهم تركوه إلا قليلاً في عهد المماليك والعثمانيين، يوم كدست سوقه وبارت بضاعته. ثم عادوا فمهدوه مرة أخرى في العصر الحديث(881/29)
للوصول إلى المال وأسفوا فيه حتى أزجوه لمن يستحق ومن لا يستحق ومن الحديث المعاد أن نذكر أن في شعر المديح إلا قليلاً تكلفاً ورياء يبعدان به عن منهاج الشعر، فإذا أنضم إلى هذا ضآلة في الثقافة وضعف في اللغة جاء ضعيفاً هزيلاً. ومن الخير أن نسوق هنا كلاماً ترجمه المنفلوطي في رواية الشاعر يستبين منه القارئ، كيف يعرض الشاعر المطبوع عن المدح، وكيف يقبل عليه بغير قلبه فلا يوفق فيه: (أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي كما يحمل الدلال سلعته، وأدور بها في الأسواق منادياً عليها. من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء وأصحاب الجاه والسلطان يبتاع نفساً بذمتها وضميرها وعواطفها ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء. أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوس من كثرة الانحناء، وأن تتهدل أجفاني من كثرة الإطراق والإغضاء، وأن تجتمع فوق ركبتي طبقة سميكة من كثرة السجود والجثو بين أيدي العظماء أتريد أن يكون لي لسانان لسان كاذب أمدح به ذلك الذي صنعني واجتباني، ولسان أعدد عيوبه وسيئاته، وأن يكون لي وجهان: وجه راض عنه لأنه يذود عني ويحميني ووجه ساخط عليه لأنه يستعبدني ويسترقني؟ ذلك ما لا يكون)
إذا علمت هذا فاقرأ معي مديحاً لعبد الرحمن الزيلمي لتدرك فيه مقدار التكلف في اللفظ والمعنى على السواء:
بلغت مقاماً لم تنله الأوائل ... وحزت كما لا تبتغيه الأفاضل
ولست براء غير فضلك يرتجى ... لكل ملم فيه تدمى الصياقل
ولولاك لم تدر العلوم بأنها ... تجل وأن قد بان منك دلائل
يطول لسان الفخر في فضلك الذي ... بنيت له ركناً ليرجع ثاكل
وليس في هذا الكلام شئ إلا أنه كلام، لا يحمل من المعاني إلا ما يقع للعامة ولا من الخيال والألفاظ إلا ما يضحك كما في قوله (يطول لسان الفخر. وأقبح من هذا خيال الشاعر عبد الحميد الموصلي يمدح ناصيف اليازجي:
كبش الكتائب والكتاب وإنه ... بالنحو ينطح هامة ابن خروف
متوقد الأفكار يوشك في الدجى ... يبدو له المستور كالمكشوف
فطن تمنطق بالفصاحة وارتدى ... جلباب علم النحو والتصريف(881/30)
وهذه الأخيلة من مثل قوله (بالنحو ينطح هامة ابن خروف) (وارتدى جلباب علم النحو) وإن كانت تؤدي معاني إلا أنها عارية عن الذوق، خالية من مراعاة المقام.
للكلام بقية
أحمد أبو بكر إبراهيم(881/31)
رسالة الشعر
بغداد
للأستاذ إبراهيم الوائلي
بغداد إن طال الفراق وشفني ... ظمأ فحسب تعلتى ذكراك
أنا إن بعدت فلي خيال هائم ... عبر الفضاء يطوف في مغناك
وجوانح لم تحو في أعماقها ... ما يستجيب له الهوى إلاك
روح تهم على شواطئ دجلة ... وتحوم فوق جمالها الضحاك
وتعود يحملها الجوى خفاقة ... لتصيخ مني للنشيد الباكي
بغداد اشتاق النسيم متى سرى ... حلو المهب معطراً بشذاك
وإذ أطل الفجر يمسح ناظري ... مترفقاً أبصرت فيه رؤاك
أو طاف ما بين الخمائل صادح ... أحسست في شفتيه رجع صداك
بغداد ما أحلى المساء ودجلة ... تنساب كالنسمات بين رباك
في كل ضاحية فتون طافح ... ملء الفضاء يشيعه مرآك
وعلى الشواطئ من دجاك مناظر ... لم تتشح إلا بسحر دجاك
نشرت على الأفق الرحيب ظلالها ... ومشت خطاها تلتقي بخطاك
وتناثرت على جانبيك مواكب ... تستقبل الأحلام في دنياك
فهنا مشاهد للجمال طليقة ... جلت روائعها عن الادراك
وهناك سرب من مهاك وليت لي ... كبدا تذوب على خدود مهاك
أنا من سفكت على الصخور مآربي ... ونثرت آمالي على الأشواك
ومضيت كالطير الجريح مروعاً ... في الفقر بين مخالب وشباك
أطوى الدجى يقظان ملء جوانحي ... حرق وفي ثغري صداها الحاكي
بغداد ما أحلاك باسمة المنى ... للسامر النشوان. ما أحلاك
تلقاك بالمرح النفوس ولم تكن ... لولا المباهج والمنى تلقاك
وعلى الضفاف الحالمات موائد ... قد نضدتها في الدجى كفاك
رق النخيل لها وفاض مدامعاً ... كالفجر يلمع في متون فضاك(881/32)
وحنا عليها الكرم يسفح لبه ... فيها ويخضب بالدماء ثراك
فلكم خيال كالنسيم يروقه ... ألا يسامر غير شهب سماك
يختال في الأفق الرحيب محلقاً ... بجناح طير أو جناح ملاك
بغداد يا طيف المهوم إن دجا ... ليل ويا ألق الشعور الذاكي
كم في صباحك قد بعثت خواطري ... شعراً ورحت ايثه لمساك
وكم احتوتني والليالي سمحة ... لحظات صفو لم ترق لولاك
متع نهزت بها انتهازه عابر ... وصحبتها ذكرى معي لأراك
وهبي نسيت من الصبا أحلامه ... افهين في الحب أن أنساك
أنا من يقيم على العهود ولم أجد ... أولى بحفظ العهد غير هواك
مرت يداك على شفافي خلسة ... يوم الوداع وتمتمت شفتاك
ثم أنثنيت مودعاً فإذا على ... قلبي تطل مع الدحى سيماك
وتموج في شفتي نغمة حائر ... يطوي الظلام مردداً نجواك
بغداد والألم الدفين يهزني ... فاذا شكوت فلست أول شاكي
لي مثل ما للشاعرين تعتب ... لو تستجيب لعاتب أذناك
أتبيت دنياك الضحوك مدلة ... وعلى مآسيها تبيت قراك
فتذكري الريف الحزين ومن به ... والقاطنين صوامع النساك
الحاصدين من السهول رمالها ... والنائمين على الطوى الفتاك
واللابسين من الشتاء عراءه ... في حين طاب لسامر مشتاك
والزارعين ودون ما جهدوا به ... رصد يبث لهم من الأشراك
ريف لو أدكرت حياتك أنها ... ضيف عليه لساءها مجراك
يشقي ليحرس منك ليلاً باسماً ... ويعيش في غلس لكي يرع اك
بغداد هذا اللحن نجوى شاعر ... نساجه في الذكريات سواك
أنات قلب أن أثارك شجوها ... أو لم يثرك فإنها ذكراك
إبراهيم الوائلي(881/33)
رسائل ضائعة!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
- 1 -
وكنت وإياها على البعد تلتقي ... رسائل حب ليس يخبو أوارها
فكنت كأني - وهي مني بعيدة ... أرى وصلها يدنو، ويدنو مزارها
فلما انتهت تلك الرسائل أصبحت ... إذا رمت لقياها تناءت ديارها
وصارت رسالاتي إليها مدامعاً ... أرى ليلها يبكي، ويبكي نهارها
فيا قلب دعها؛ ليس لي من وسيلة ... إليها فألقاها، ولا أنا جارها
ويا حبها. . . هب لي سلوا أريقة ... على كبدي الحري، فتبرد نارها
- 2 -
وقيدني حبي لها واسترقني ... فصرت لها عبدا وقد كنت سيدا
وكانت على قلبي نشيداً مرنماً ... فصارت على قلبي نشيجاً مرددا
وكانت لقلبي فرحة أبدية ... فصارت لهذا القلب حزناً مخلدا
وكنت سعيداً حين كانت مقيمة ... على عهدها. . . ترعى الفؤاد المقيدا
فلما أضاعت عهدها وتغيرت ... تغير قلبي في الهوى وتمردا
وقلت لها إن كنت أشركت في الهوى ... فشيمة حبي أن يكون موحدا
وإن كان شيء قد بدا لك فانطوت ... أمانيك في حبي، فأنت وما بدا
ظلمت الهوى! ما أنت أهل لناره ... ونار الهوى أسمى من النور محتدا
وأسرفت في لومي بريئاً، وإنما ... أحق بهذا اللوم من جار واعتدى
وأنت التي غنى فؤادي بحبها ... وناح. . . فلم تحفل بما ناح أوشدا!
وأنت التي أغريت بي السهد والأسى ... فهاأنذا أحيا حزيناً مسهدا
وأشقيت أحلامي، وكانت سعيدة ... وحيرت أيامي، وكانت على هدى
وجئت إلى زهر الهوى وهو ناضر ... فأذويته بالهجر حتى تبددا
وكانت حياتي في يديك وديعة ... تمنيتها تبقى، فضيعتها سدى(881/34)
فيا محنتي! ياسر يأسى وغربتي ... عن الناس! يا حزناً بقلبي توقدا!
ويا ألماكم رعته بتجلدي ... فما زال بي حتى عدمت التجلدا!
لقد آن أن أحيا كطير مرفرف ... يرى بهجة الدنيا، فيمضي مغردا
سأوليك مهما عشت هجراً وسلوة ... وقد كنت لا أوليك إلا تعبدا
غداً ينتهي الحب الذي كان بيننا ... فليس له بقلبي ولا صدى
فلا تعجلي أن تصبحي اليوم فتنة ... لغيري، وصبرا. . إن موعدنا غدا
وأقسم إني أوثر الموت طائعاً ... إذا كان لا ينسى هواك سوى الردى
- 3 -
غداً سوف أنساك فيمن نسيت ... وأطوي غرامك فيما انطوى
غداً سوف أنسى عذاب البعاد ... وشجو السهاد، ونار الجوى
وأنسى الهوى كله صارخاً ... كفاني عذابا بهذا الهوى!
غداً. . . غير أن غدا طائر ... هنالك في وكره قد ثوى
سيبعثه الغيب من وكره ... أكون انتهيت. . . كغصن ذوى!
إبراهيم محمد نجا(881/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول معركة القزويني
قرأت كلمة صديقي الأكبر الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي التي عقب بها على ما كتبته بعنوان (معركة القزويني في الأزهر) وهي المعركة التي دارت ولا تزال دائرة بينه وبين الأستاذ الشيخ محمد خفاجي على كتاب (الإيضاح) في علوم البلاغة. وقد صورت المعركة على أنها منافسة بينهما بناء على ما تبادلاه في مناقشاتها المطبوعة من عبارات تدل على أن كلا منهما - في رأي الآخر فرض شرحه على الطلاب وحارب شرح الآخر بغية الاستئثار بالكسب المادي. وطبيعي أن يهتم الأستاذ عبد المتعال بنفي ذلك عن نفسه، ويقرر ما يليق به من أنه لا يبغي إلا طريقة يختطها في الإصلاح العلمي، وقد تلقيت كتابه (دراسة كتاب في البلاغة (شاكراً له تفضله بإهدائه، وتصفحت الكتاب فرأيت به نقداً لشرح الشيخ خفاجي، وهو يشير في خلاله إلى تفضيل شرحه على شرح زميله بأنه جرى فيه على طريقة موضوعية تجانب المماحكات اللفظية، على خلاف زميله الذي عنى بنقل عبارات الحواشي والخلافات اللفظية. أما الشيخ خفاجي فإنه يقر بأنه فعل ذلك بل يفخر به، وأما الشيخ عبد المتعال فليس جديداً علينا أن نعلم أنه عالم مطلق الفكر وكاتب صاحب رأي، وأنا لم أر شرحه للإيضاح وأعتقد مع ذلك أنه سلك فيه المسلك الذي وصف. ولكني رأيته في كتاب (دراسة كتاب في البلاغة (يعني بالمماحكات اللفظية بينه وبين زميله، كما يعنى زميله بها أيضاً، فمن الأمور التي اختلفا عليها الفرق بين الكون الموصوف بالفصاحة والبلاغة للكلام وكون الموصوف بهما المتكلم، وهل الإيضاح في (علم) المعاني والبيان أو في (علمي) المعاني والبيان، وهل كتاب الأطول للسيد أو للعصام، وذكر الأستاذ عبد المتعال غلطات نحوية وإملائية وقع فيها زميله. وهكذا نرى الأستاذين متأثرين بمماحكات الخطيب والسكاكي وقبيلهما. والمؤسف أن هذه المطبوعات التي يتبادلها الأستاذان يتداولها الطلاب بل هم قراؤها المقصودون، وما أظنها ذات أثر حسن في نفوسهم ولا في عقولهم. أريد بعد ذلك أن أخرج من هذه الدائرة الضيقة، دائرة المعركة الأزهرية إلى مجال أوسع يشمل دراسة البلاغة على وجه عام وهي خواطر أثارها في نفسي قول الصديق الأكبر:(881/36)
(وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة. وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجرى غالباً في طريقهما، وإن كان متأثرا بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات)
فأنا وإن كنت أشارك الأستاذ في هذا القدر الضئيل من الرأي إلا أنني أذهب إلى أبعد كثيراً مما يرى. . فأنا أعرف الإيضاح وأعرف أن مؤلفه صاحب (التلخيص) بؤرة إفساد البلاغة العربية بشروحه وحواشيه، وأعرف جناية هذه الكتب - سواء مماحكاتها اللفظية وما يسميه الأستاذ صميم البلاغة - على الملكة البيانية العربية، وليكن الإيضاح جارياً في طريق دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة في الغالب أو في غير الغالب، فهل نتخذ بلاغة عبد القاهر نبراساً يضيء زيته في عصر الكهرباء؟ أني أعلم أن أنوفاً ترعد من هذا الكلام. . ولكن مهلاً لقد كان لعبد القهر فضله التاريخي الذي لا يجحد. كان أول مؤلف مزج النقد الأدبي بالقواعد العلمية وكان صاحب ذوق أدبي في علمه. فجاء مؤلفون من بعده مجردون من ذلك الذوق، فجعلوا البلاغة علما جافاً ومجالاً لأفساد الملكة الأدبية بالجدل العقيم والفكر المعقد السقيم. ولا نزال إلى الآن نعاني أعباء هذه التركة وان كان الأزهر يحمل أقدح أثقالها، لأن رجال التعليم في وزارة المعارف خففوا منها بالتأليف العصري أولاً ثم بتعديل مناهجها إلى نواحي أشبه بالنقد والدراسة الأدبية، ولأن بعض أساتذة الجامعة أو هو أستاذ واحد (الأستاذ أمين الخولي) توجه بها إلى وجهة أدبية نفسية تطابق الدراسات الحديثة. ولعل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يشير إلى هذه الاتجاهات بقوله في مقدمة كتاب (دراسة كتاب في البلاغة) يصف صنيع الشيخ خفاجي (بل خرج على تقليد عصرنا الذي أحيا دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة بعد أن أماتتهما الطريقة التقريرية، وكان لإحيائهما أثر صالح في تهذيب دراسة علوم البلاغة، ظهر أولاً في غير بيئتنا الأزهرية، ثم أخذ يغزو بيئتنا ويوجهها إلى الإصلاح شيئاً فشيئاً)
وعلى ذلك نرى أننا نعود إلى طريقة عبد القاهر بأن (نؤدب) علوم البلاغة، أي نصغها(881/37)
بالصيغة الأدبية. وقد كان من سوء الحظ أن يخلف عبد القاهر أولئك المؤلفون الذين خففوا البلاغة فتبخر منها ماء الأدب، فلو كانوا من ذوي الملكة الأدبية لنقوها وصقلوها وجعلوها نقداً أدبياً صرفاً ونحن الآننلف لفة طويلة لنصل إلى هذا الغرض الذي لم نبلغه بعد إذ أننا الآن عند عبد القاهر فقط!! كأننا نريد أن نثبت أن البلاغة كروية. . ينتهي المسير فيها إلى حيث نقطة البدء. . .
سيقول أذكياء يدركون من ذلك ما أرمي إليه: إذن فأنت تدعو إلى نبذ علوم البلاغة جملة واحدة. أقول: ولم لا مادمنا نهدف إلى الملكة اللغوية الأدبية التي نقتدر بها على الكتابة والقراءة والنطق بلسان عربي أدبي جميل؟ انظروا إلى المعاصرين من كتابنا (البلغاء) الذين لم يشغلوا أنفسهم بتلك العلوم فمنهم من مر بها ومنهم من لم يكن سيره عن طريقها - كم من أولئك الذين عكفوا على دراسة علوم البلاغة وعنوا بعض الخلافات والمنازعات بين الخطيب والسكاكي والجرجاني - يستطيع أن يجاري كتابنا في (بلاغتهم) التي تكون هذا الأدب العربي الحديث؟
أقول ذلك ما دامت الوجهة هي الملكة اللغوية الأدبية، أما دراسة التاريخ والوقوف على تطورات الحركات العقلية فشيء آخر، ولكن يجب الالتفات إلى أن هذه الدراسة لا تتطلب الانصراف الكلي إلى الجزئيات والتفيصلات، وهي وإن كانت ملامحها العامة مطلوبة في المعاهد العالية إلا أنها في المدارس العامة عبث أي عبث.
يوسف وهبي والفرقة المصرية
قامت في الأسابيع الأخيرة. ولا تزال، ضجة حول استقالة الأستاذ يوسف وهبي بك من الفرقة المصرية، تلك الاستقالة التي أريد عليها، إذ أبلغه أولو الأمر رغبتهم فيها. وقد تكاثفت في جو هذه الضجة عجاجات أثارتها الحملات المتبادلة في الصحف والمجلات بين الأستاذين زكي طليمات ويوسف وهبي. وليس عجيباً أن يختصم هذان الأستاذان، وإنما العجب أن يتفقا وأن تجمعهما فرقة واحدة، فكل منهما في الفن المسرحي مذهب وأسلوب يختلفان عن مذهب الآخر وأسلوبه؛ فهما ضدان من الهدوء والصخب، والتحليل والتهويش، والخاصية والعامية؛ وهل يجتمع الضدان؟
وقد تعرض بعض الصحف للأسباب التي دعت إلى إخراج يوسف وهبي من الفرقة(881/38)
المصرية، أو التي يظن إنها أسباب. وتجمع الكلام في هذه النقطة عند الرحلة التي قامت بها الفرقة أخيراً في بلاد المغرب، فذكر أن يوسف وهبي خطب في تونس فخلع مصريته وانتسب إلى تونس، وأنه تدخل في الأسماء التي منحت أوسمة تونسية، فغير فيها وبدل حتى طلب أوسمة لبعض المتعهدين من اليهود وأهمل بعض ممثلي الفرقة، وأنه تعمد إطالة الرحلة ليكسب من رواياته التي ينال فيها 25 % من مجموع الدخل ومن بدل السفر الذي يمنح له خمسة جنيهات في اليوم الواحد، وانه أرسلت إليه برقية من مصر للعودة فتباطأ. . . الخ
وقد يكون ذلك الذي ذكر أو غيره، أموراً مباشرة أستند إليها لإبعاد يوسف وهبي عن الفرقة المصرية، ولكن السبب الحقيقي أعمق من كل ذلك وأبعد، فليس ذلك المسلك وليست تلك التصرفات جديدة من الأستاذ يوسف وهبي بك، فإن كان قد قام برحلة شهور إلى شمال أفريقية، فقد قام من قبل برحلة أطول منها في مصر. . . صنع فيها ما صنع في الرحلة المغربية بل أكثر! إذ استغرقت الرحلة المصرية عامين قدم فيهما رواياته القديمة، وهي نفس الروايات التي أخذها معه إلى بلاد المغرب، وهي أيضاًنفس الروايات التي يختص فيها بخمسة وعشرين في المائة من دخل (شباك التذاكر) ودأب في الرحلة المصرية كما فعل في الرحلة المغربية على إبراز نفسه واختصاصها بأكبر نصيب من الإعلان والدعاية إلى جانب النصيب المادي الأكبر الذي يستولي عليه من مرتبه الكبير وربع الدخل العام، وطغى في كل ذلك على زملائه من ممثلي الفرقة وممثلاتها، وفيهم أعلام ونبغاء في فن التمثيل، وهم جميعاً مغبونون في أرزاقهم لا يتقاضون من الفرقة ما يقوم بحاجتهم ويحفظ كرامتهم، بل طغى الأستاذ يوسف وهبي بك على الفرقة كهيئة معنوية فجعل نفسه الفرقة ومديرها العام!
وكان يمكن التغاضي عن ذلك لو أن يوسف وهبي قدم عملاً فنياً يضاف إلى الإنتاج المسرحي ويعمل على أحياء فن التمثيل وتقدمه، ولكن الذي حدث أنه جعل يكرر المجهود الذي قام به منذ ثلاثين سنة على مسرح رمسيس، ذلك المجهود الذي يقوم على تملق جماهير العامة بإثارة العواطف على طريقة وعظية أو (مأتميه) بعيدة عن هدف الفن الخالص، وأقل ما فيها من مجافاة الفن البعد عن الصدق، فكلنا يعرف النغمة التي ظل(881/39)
يضرب عليها يوسف وهبي في مسرحياته وأيضا سينمائياته، وهي إيجاد مفارقات بين الأغنياء والفقراء، وتصوير الأولين ظالمين مستبدين والآخرين ملائكة بررة على طول الخط، كما في قصص أبي زيد الهلالي من حيث إنه رجل مثالي لا يخطئ ولا ينهزم على خلاف خصمه الزناتي خليفة الذي تسند إليه كل نقيصة لأنه خصمأبي زيد!
ويوسف وهبي ليس من الفقراء، لا أصلاً ولا فصلاً، وإنما هو يعشق الجمهور، فهو يخلع أرستقراطيته طلباً لعطف الجمهور في مصر كما خلع مصريته أمام الجمهور في تونس، بل هو يخلع الفن الرفيع ويصدم أذواق المثقفين لاجتذاب طبقات أخرى من المتفرجين. وهو يعتبر مقياس النجاح - كما قال في مقالاته أخيراً - إقبال هؤلاء المتفرجين وكثرتهم، فهو عندما يذكر آثاره في الفرقة يجعل في مقدمتها أن الإقبال على مشاهدة الروايات كثر في عهده فزاد دخل الفرقة.
ظل يوسف وهبي يقدم في الفرقة المصرية ذلك المجهود، ولكن الفرقة المصرية لم تكن لمثل ذلك، فالغرض الأساسي منها ترقية التمثيل العربي، وليس ذلك من ترقيته في شيء، ولو أن مدار الأمر على الرواج وكثرة الرواد لكان في مثل (شكوكو) غناء وجدوى أكثر من الأستاذ يوسف وهبي بك. ووزارة المعارف - مثلاً - تترجم إلى اللغة العربية أمهات الكتب العالمية التي لا يقبل الجمهور العادي على قراءتها، ولو أنها أرادت إقبال هذا الجمهور لكان في روايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز ما يحقق المقصود.
إذن فالسبب الحقيقي لإخراج يوسف وهبي بك من الفرقة المصرية، هو انضمامه إلى الفرقة المصرية. . . فقد أتى به إليها ولم يكن لها ولم تكن له، فلم يكن بد من تنحيته عنها لما تهيأت الظروف واتجهت الرغبة إلى تصحيح الأوضاع. والرجل له طابعه وله جمهوره ويمكن أن يؤدي مجهوداً في مجاله، والمسرح الآن لا يستطيع أن يعيش بدون الرعاية الحكومية، فمن الإنصاف أن يمكن يوسف وهبي من العمل على رأس فرقة تؤلفها أو تعينها لحكومة، ليقدم ما عرف به لمن يطلبه، أما الفرقة المصرية فتحتاج إلى تكوين جديد لتؤدي أغراضاً أخرى.
عباس خضر(881/40)
البريد الأدبي
الشيخ محمد رفعت
حدثني رجل ذو مكانة أنه بصر بالمغفور له الشيخ محمد رفعت يتقاضى أكبر أجر تقاضاه مرتل للقرآن الكريم، فقد دفع له أحد أعيان الصعيد خمسمائة جنيه لقاء إحياء ليلة واحدة في أسيوط. وهذا المبلغ - فيما نحسب - أكبر مبلغ حصل عليه أحد مرتلي القرآن.
ولم يكن الشيخ رفعت يعنى بالمال عنايته بالحفاظ على كرامته؛ فخلافاته الكثيرة مع إدارة الإذاعة الحكومية إنما كان مردها أن الإذاعة تفضل عليه فلاناً أو فلاناً في المكافأة أو في عدد مرات الإذاعة، فكان الرجل ينسحب محتجاً في سكون، وتقوم من خلفه قيامة الرأي العام، فتضطر الإذاعة إلى استدعائه من جديد!
وكانت الإذاعة تضيف إلى اسم الشيخ محمد رفعت لقب (الأستاذ) ثم حذفته، ولما قيل لها في ذلك أجابت بأن بقية المرتلين في الإذاعة طالبوا بمثل هذا اللقب، فلم تجد بداً من حذفه من إمام القراء.
ولم يبتئس الشيخ رفعت إلا يوم أحس بالفواق يحبس صوته الندي الحنان في تلك الحنجرة الذهبية فلا يعود إلى الانطلاق، ولم يشعر أحد بمحنة الرجل العظيم إلا في صيف العام الماضي، وكل ما استطاع الناس أن يفعلوه أن جمعوا له مبلغا قارب ألفاً من الجنيهات، رده إليهم لم يمسسه سوء. وما كان الرجل - علم الله - على خصاصة موارده في حاجة إلى المال، وكل حاجته أن يعود صوته الندي إلى الانطلاق، وهذا ما عجز عنه الناس!
وبعد، فسوف نرتقب طويلاً حتى يجود علينا الزمان (بمحمد رفعت) جديد، فقد كان - أجزل الله مثوبته - من الأفذاذ الذين لا يجود بهم الدهر إلا على رءوس الأحقاب، فيا طول حزننا على رجل أدخل إلى القلوب حلاوة الإيمان، وجعل من تلاوة كتاب الله فناً من الفنون التي يتطاول إليها الإنسان!
منصور جاب الله
حجة العلماء على الزعماء
جاءتنا هذه البرقية من صاحب الفضيلة الأستاذ حبيب العبيدي(881/41)
مفتى الموصل ننشرها بنصها:
أيها المسئولون عن شرف العروبة والإسلام وعن فشلها إزاء أشد أعدائهما اليهود أو ذل الأمم وأنذل الأقوام إنما يغسلون عار الفشل بالاتحاد وننذ الأنانية والأحقاد، وبإزاحة الستار عن الأسرار بين بريطانيا وأمريكا منذ تمزقت إمبراطورية الوعود والعهود إلى دويلات وصار بأسنا بيننا ولا فرق بين أبطال الرواية لويد جورج وتشرشل وآتلي البريطانيين وروزفلت وترومان الأمريكيين. اقرؤوا كتاب التجربة والخطأ لحايم وايزمان قطب الصهيونية ومذكرات بطرس الناسك أعني الحاج عبد الله فيلبي سمسار الصهيونية لتعرفوا الدسائس والمؤامرات التي مزقت شمل العرب وكانت إحدى ضحاياها فلسطين منذ بضع وعشرين سنة. مصر كناية الله والعراق تراث الخلافة العباسية، وفي الحديث الشريف اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا وفيه أيضاً ملحمة فلسطين بين اليهود والمسلمين فاعتصموا بحبل الله جميعاً واحفظوا جامعتكم من كيد الخادعين والخائنين الدين النصيحة وبرقيتي هذه إليكم هي حجة العلماء على الأمراء أمام الله والتاريخ اللهم أشهد.
المفتي العبيدي
التبرج
عثرنا على قصيدة عصماء من شعر نابغة الأدب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وصف فيها تبرج النساء وصفاً بليغاً لاذعاً وقد أخرجها على هذا الروى اللين الناعم الظريف حتى يكون خطابه للجنس اللطيف في أسلوب رقيق يوافق مزاجهن ورقتهن وهي من القصائد التي لم تنشر في ديوانه.
محمود أبو ريه
دلالك في التبرج من ضلالك ... وما عاب الدلال سوى دلالك
كملت تبرجاً فكملت حسناً ... ولكن جاء نقصك من كمالك
لمن تتبرجين وذي سبيل ... وما هي أفق شمسك أو هلالك
أما تخشين أنك في طريق ... يرف بها الحرام على حلالك(881/42)
وأن ذئاب هذا الحسن تمشي ... مسعرة اللحاظ على غزالك
وأن الناس قد شهدوا نساء ... سواقط كلهن على مثالك
عرضت لكي نرى فلقد رأينا ... هناك الحسن إلا في فعالك
أهذى مشية الحفزات أمقد ... غداً الشرف المفدى في فعالك
كأنك لست بنتأبوإلا ... فما لأبيك لم يخطر ببالك
أأخت أنتأمزوج وأم ... فما منهن واحدة كذلك
وحالك للأبوة كل عار ... وعار للبنوة كل حالك
(برزت) لقتل ذلك أم لهذا ... فما هذا وذلك (من رجالك)
وماذا في اختيالك من معان ... يصورها شبابك في اختبالك
أيثبت ذا الحياء على أساس ... وقد ملكته زلزلة أخبتالك
قبيح أن تسير في اعوجاج ... على أن العدالة كاعتدالك
نقاب ذلك أم لون رقيق ... نراه بين ألوان احتيالك
كأنك إذ صبغت الوجه روضاً ... جعلت لنا نقابك من ظلالك
وما هذا (الدهان) لناظريه ... سوى روح التلون في خلالك
ألا إن الغبار أدى فمن ذا ... يظن (غبار وجهك) من جمالك
عليك حجاب دينك فالزميه ... فأنك في الحياة حياة آلك
وقار أب وعرض أخ وزوج ... ومرآة السجايا في (عيالك)
وأنت إذا هفوت فكل مجد ... لهم طرا يؤول إلى مآلك
ولم يحجبك دين الله الا ... ليحجب كل سوء عن جلالك
فأن الناس ناس حيث كانوا ... وأعينهم وألسنهم مهالك
ومالك تسألين الحق منا ... وخلقتك الجواب على سؤالك
يريد الله منك الأم أما ... سواء في رضاك وفي ملالك
وخصك في الطبيعة بالمزايا ... تعين كل ما هو في احتمالك
فلا تتعلقي بمحال أمر ... سيذهب ممكناتك في محالك
سهول الخصب أنت لذا سهول ... الا فدعى التخشن في جبالك(881/43)
أغرك فتية هم عار قوم ... إذا قيسوا بفتيان الممالك
حبالهمو مهيأة لكيد ... فكيف إذا التففن على حبالك
تراهم ههنا وهناك دعوى ... وهم ليسوا هناك ولا هنالك
وكل قائل فالقول حي ... وكل عاجز فالفعل هالك
وظنوا الدين قد أمسى (طريقاً) ... فكل (شارع) في الدين (سالك)
وفقه (الشافعي) بلا شفيع ... ولا نعمى (لنعمان) بذلك
أهم أحرار هذا الدين فينا ... وما بلغوا عبيداً عند (مالك)
أأعمى ثم يفتى في طريق ... بفتوى (عن يمينك عن شمالك)
بربك يا مهندس أن حمدنا ... حسابك وافتتانك في مجالك
وقبل الدين ضاق بسالكيه ... فلا تقل افتحوا فيه مسالك
مصطفى صادق الرافعي(881/44)
رسالة النقد
الأعماق للخميسي
للأستاذ يوسف الحطاب
لا نريد أن نقول أن فن القصة القصيرة الذي ولدته ظروف معينة مرت بأوربا فن مستحدث في أدبنا ككل لون فني جاءنا ضمن ألوان الثقافة الغربية، ولكنا نريد أن نسجل ظاهرة غريبة هي أنه رغم الأزمة التي يعانيها هذا الفن هناك، فأنا نجده هنا يلقى انتعاشا كبيراً عند آبائنا الشيوخ والشبان على السواء. وليس لهذه الظاهرة من تعليل سوى أن هؤلاء الأدباء يمرون بالحالة التي ولدت هذا اللون من الفن بأوربا.
نسوق هذا الكلام بمناسبة كتاب (الأعماق) - آخر مجموعة من القصص القصير ظهرت لعبد الرحمن الخميسي وذلك حتى نتبين دوافعه إلى كتابة القصة وطريقته في كتابتها وأسلوبه فيها وتحقيقه لها.
وكل من يقرأ هذه المجموعة يدرك أنها سجل تجارب مؤلفها في الفن. فالقصة الأولى قصة شاعرة وتتلوها قصة مؤلف موسيقي وقصة ممثل. ولا أدري لماذا وقف الكاتب عند هذه الفنون ولم يتناول بقية الفنون الأخرى! أهو ارتباطها بالجو القصصي؟ أم أن المؤلف لا يريد إلا أن يصور التجارب التي مرت به والفنون التي عالجها؟.
ولعل مما يؤكد الرأي الأخير العنوان الذي اختاره لكتابه ليدل به على محاولته في الاستبطان والوقوف عند تصوير الحالات النفسية للشخصيات التي يعرضها. وسنناقش هذه المسألة بعد أن نقول إنه لا يقف عند رجال الفن ويترك سواهم من رجال المجتمع بل إنه ليتناولهم ومجتمعهم من خلال نظرته إلى الفن والفنانين.
أما الاستبطان فيحتاج إلى وقفة كبيرة يحسن أن نترك ضيحها للمؤلف الذي يرى أن القصة جولة نفسية لا تتحقق إلا إذا استحضر القصاص إلى خياله حالة شعورية لبطل القصة ينزلها إلى وجدانه ويديرها في أعصابه وذهنه. حتى لينقلب الكاتب إلى شخص آخر. . وأن عليه بعد أن يخرج من ذاته. أن يصبح شخصين. ولا يستطيع الناقد إلا أن يقف عند هذا التعريفلأن المؤلف ينقد نفسه ويحدد اتجاهه، وهو اتجاه طيب إذا نظرنا إلى سيل القصص الذي أخذت المكتبة العربية تغص به، لأن أصحابه لم يتحددوا بعد ولم يقفوا جدياً(881/45)
عند اللون الفني الذي يتفق وإمكانياتهم.
أما (الخميسي) فله شأن آخر: فهو حين بدأ حياته الفنية كان يصوغ تجاربه النفسية قصائد شعرية، ولم يتزحزح عن موقفه في كل ما كتب حتى إننا نستطيع أن نقول دون تحرز أن قصصه ذات طابع شعري، وأن القصاص فيه امتداد للشاعر القديم مع تغير الشكل الفني - هذا الشكل الذي أمده به الأدب الأوربي الحديث والذي يبدو وعي المؤلف به واضحاً حتى أنه حين يؤرخ المجموعة في مقدمة الكاتب يروي هذا التاريخ بشكل قصصي بديع، بل أنه في أكثر قصصه يمهد لجو القصة بخلق راو لها يكسبها طابع الحكاية الفنية. ثم لا يقف عند هذا بل أنه يبدأ القصة من قمتها حتى يثير شوق القارئ إلى متابعته في روايتها، ويظل في إثاراته للقارئ، بأن يملأ القصة بالمواقف والعقد حتى ليقطع بالقارئ شوطاً طويلاً تنبهر فيه أنفاسه - أن لم تتقطع. ولكنه رغم ذلك يظل محتفظاً بالقارئ إلى آخر الرواية دون أن يدعه يفلت من يده حتى يشهد له بأنه كامل السيطرة على طريقة أدائه للقصة. وهو إذ يصنع كل هذا لا يصطنع الرواية كالكتاب الذين يفتعلون جو القصة حين يسيرون حسب قواعد البناء القصصي المحبوك، بل لأن القصة تعيش في نفسه وتمسك به دون هوادة إلى حد يدفعه إلى أن يظهر نفسه بأن يكتبها يرويها لغيره. ولهذا تراه يبدأ الكثير من قصصه من النهاية حتى يعيش القارئ التجربة معايشته الزمنية لها في اللحظة الصادقة التي يكتبها فيها. ولا نريد أن نقول إن هذا أسلوب العصر الذي نعيش فيه ونستشهد بالقصة السينمائية - آخر أشكال القصة الفنية، ولكنا نقول أن هذه هي الرواية وهذا هو فن الراوي الصحيح.
ويحق لنا وقد أبدينا إعجابنا ببدايات قصصه أن نتناول بالتحليل طريقة إنهائه لها. وهنا نجده يجعل تلك النهايات في بعض القصص نهايات حاسمة ليس فيها فرجة يستطيع القارئ أن ينفذ خلالها. وهذه طريقة يخرج عليها في بعض القصص الأخرى ولا يسعنا إلا أن نشير عليه بضرورة استمراره في الطريقة السليمة التي تجعل القصة مفتوحة أمام القارئ بما تحمله من عناصر الرمز والإيحاء.
وتخلص من الشكل الفني للقصص إلى الجانب الموضوعي فيها فنجد أنه يخشى أن يفوت القارئ ما ترمي إليه القصة من فكرة، ولذا نجد عنصر الفكر واضحاً في قصصه حتى إنه(881/46)
يقول في المقدمة (كل ما أرجو هو أن أكون قريبا من جوهر الفن. من حقيقة الفكر. . وعندئذ تهون كل قرابين الحياة) ورغم أننا لا نستطيع أن ننفي أن الأدب فيه جانب فكري فإن المؤلف لا يفكر أن القصة موضوعها الحياة، والحياة أرحب من أن تضغطها فكرة.
وندع هذا كله لتنتقل إلى مضمون القصص نفسه، ومعظمه يدور حول اليأس والانتحار والموت: فهذه (رسالة المنتحرة) و (رأيت بعد موتي) و (ليتني ما كنت) و (الموتى يتحكمون في الأحياء) الخ. . . وهذا تشاؤم أملاه التزامه لجانب الفكر وطلبه لأعماق المجتمع الذي تتحرك فيه شخصياته. ومن هنا تراه يهتم بالواقع النفسي لهذا المجتمع ليصور من خلاله واقع الناس. وعالم الأعماق مهما كان الكاتب موضوعياً في تصويره فإنه لا يستطيع إلا أن يقدم نماذج من الشخصيات القريبة إلى نفسه، ولا يستطيع إلا أن يلونها بألوان هذه النفس. ولكن المؤلف استطاع أن يخرج مع كل ذلك بأن ابتعد عن الرموز والغوامض التي تهوم في عالم الأعماق السحيق.
ويأتي بعد ذلك الأسلوب وهو أسلوب مشرق يغلب فيه ضمير المتكلم بحكم أن عالم الأعماق لغته الأنا ولا بدمعه من تقديم المونولوج الداخلي الذي تمتلئ به نفوس الشخصيات وتجد ألا مندوحة لها عن الإفضاء إلينا به. وهنا نجد المؤلف يصل إلى القمة التي يهدف إليها من تقديم هذا اللون النفسي من القصص.
وعبد الرحمن الخميسي الذي لم يقفز إلى عالم القصة طفرة كما قفز سواه - بل دخله دخولاً طبيعياً: بعد أن عالج الشعر وأعاد صياغة بعض قصص ألف ليلة، قد حقق بهذه المجموعة القصة الفنية كأحسن ما تكون القصة في المادة والشكل.
يوسف الحطاب
دنيا الناس
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للأستاذ منصور جاب الله
حرص الأستاذ نقولا يوسف أن يثبت في ذيل كتابه (دنيا الناس) هذه العبارة التي نوردها بنصها وهي: (مل ما ورد في هذا الكتاب من أسماء الأماكن والأشخاص خيالي ولا يصف(881/47)
شخصية معينة بالذات. فنرجو المعذرة إذا وقع تشابه غير مقصود بين الأسماء أو الصفات أو الحوادث).
وكان لا بد من هذه اللفتة من المؤلف، فقد جاء في المقدمة التي وضعها الأستاذ محمود تيمور بك لهذا الكتاب قوله (لا نرى صاحبنا - أي المؤلف - في كتابه هذا يتابع لنا مناجياته العاطفية التي ألفناها من قبل في شعره المنثور. . . فقد نزل إلى الشارع، وخالط خلق الله، وعاد إلينا في (دنيا الناس) يسجل استجابته النفسية لما رأى وما سمع، فتجلت مهارته في التقاط الصور، وانتزاع المشاهد، والتفطن إلى المواطن الاجتماعية التي تلين للغمز واللمز.
فالطابع الواقعي هو الذي يغلب على أقاصيص دنيا الناس، بل هو الذي يرين عليها جميعاً، من قصته (شوكت المثال) إلى قصة (الباشا الأديب) وحسنا فعل الأستاذ نقولا يوسف بتوجيهه ذهن القارئ إلى أن الأسماء والأماكن كلها خيالية، وإلا لتركه في تيه يخبط خبط عشواء وهو يبحث عن الأستاذ بهلول الأديب (النائب) أو عنبر أفندي الذي أفنى حياته في التدريس أو الأستاذ رمزي الشعرور!
وأكبر الظن أن الذي أعان الأستاذ نقولا يوسف على النجاح في أقاصيصه أمران: فهو مدرس استطاع أن يخالط شكولاً من الناس وأنماطاً من الخلائق، أما الأمر الآخر فإنه تنقل بين طائفة من الأقاليم في مصر، فقد ولد في دمياط ودرج في المنصورة ثم دلف إلى الصعيد الأعلى والقاهرة، وأخيراً استقر به النوى في الإسكندرية. فهذه الرحلات المتقاربة صقلت مواهبه، وبصرته بالطبائع وعرفته غرائز الناس ومواطن القوة والضعف فيهم.
فالمؤلف حين يصف جلسة تحضير الأرواح في منزل (الأستاذ الدقدوسي) يتكلم عن علم ويشرح مشاهد رآها بنفسه، وكذلك حين يصف (بابا خميس) إنما يصف رجالاً نعرفهم بذواتهم، يجمعون المال في مصر ثم ينفقونه على نزواتهم في أوربا.
ولم يوفق الأستاذ المؤلف في سبك القصص فحسب وإنما تجلت براعته في الأسماء التي يضفيها على أبطاله إذ يتحدث عن (حسين الكشكي) السباك و (عبد النبي البحرة) الحلاق صاحب (صالون البرنسات) و (فجلة)، (مكوحي الفنون الجميلة) وغير ذلك من الأسماء المتداولة في الأحياء ذات الطابع (البلدي). . .(881/48)
ولقد وصف تيمور بك المؤلف بأنه كان (رفيقاً بالكثير من شخصياته، لا يدعها سادرة تشرب كأسها حتى الثمالة، وإنما تدركه بها رحمة فيوقظ ضميرها. ويردها إلى صوابها، حتى يسدل عليها الستار وقد رضى عنها المجتمع الموقر، وأنست بها مراسم الأخلاق!)
ويا ليت الأستاذ نقولا فعل هذا في كل أقاصيصه، إذن لأرضى المثل العالي الذي يستهدفه، بيد أننا نستميحه عذراً إذا زعمنا أنه أطلق لقلمه العنان في بعض الصور التي نشرها على الناس، فإنزلق انزلاقاً يسيراً كما في قصة (الغارة الجوية). ولكن مؤلفنا رجل حصيف رزين، فلا يكاد قارئه يأخذه البهر، ويحتقن وجهه خوفاً على (البطل) حتى يردء إلى سواء السبيل، ويأخذ بيده من هوة كاد يتردى فيها، فإذا هو في طريق الأمان.
وإذ غضضنا الطرف عن هفوات يسيرة في (دنيا الناس) كان لنا أن نقول مع تيمور بك (مصرية هذه الأقاصيص بموضوعاتها مصرية بشخصياتها، مصرية بما تناولت من التعبير عن أهواء النفوس، وما أبانت عنه من مزاولة تجارب الحياة. . . ولكن المصرية في هذه الأقاصيص تتمثل على أر في ما تكون في تلك الروح المرحة النقادة التي تبرأ من التكلف والتعقيد، وفي ذلك الحديث الفكه الذي يحسنه ظرفاء المصريين في مجالس السمر، يبتغون المؤانسة والإمتاع).
منصور جاب الله
هذا هو الإسلام
تأليف الأستاذ محمد عبد القادر العماوي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
الكاتب الأديب الأستاذ محمد عبد القادر العماوي من شبابنا المثقف ثقافة ممتازة. وقد اتجه في كتابه هذا اتجاهات جديدة فبعد أن قدم لنا كتابه (أيامي وفلسفة الحياة). (ومحاكمة الزمن أو طه حسين (وهل أفلست حضارة أوربا) وكتاب سادس آخر هو (مع عقلاء الإنس ومجانين الجن) بعد كل هذه الكتب التي اعتزت بها المكتبة العربية أخرج لنا هذا الكتاب بعد غيبة طويلة وأتى فيه بنظريات دينية جديدة. فاستعرض أولاً الثورات الفكرية ولماذا كانت توجه ضد الدين، ثم حمل رجال الدين المسئولية في ذلك فقال (إن الذي يتحمل(881/49)
المسئولية وتنصب عليه كل التبعات في الانقلاب على الدين ومحاولة محوه من الوجود ووصفه بكل هذه الصفات كما رأيت، إنما هم رجال الدين أنفسهم لأنهم لم يحاولوا أن يفسروا الدين بعقلية حرة تجديدية وعلى ضوء نظام التطور والارتقاء). ثم يلي ذلك فصل آخر هو (هل الدين لازم للبشر) وفيه تأريخ لتطور العقيدة الإلهية، نشأتها وبواعثها عند الإنسان الأول والمؤثرات التي أثرت فيها ثم تكلم عن حالة الإنسانية قبل الإسلام. وأتى بنظرية أن التطور في الديانات يسير جنباً إلى جنب مع التطور البشري. وتكلم عن مكانة الإسلام بين الديانات. بعد دراسة طويلة منطقية الديانتين السماويتين (اليهودية والمسيحية) وما جاءتا تنشدان تحقيقه من غايات تختلف عن الغايات التي جاء يحققها الإسلام. ثم ختم هذا الفصل بقوله (والخلاصة التي نستطيع أن نخرج بها من موضوع دراستنا لمكانة الإسلام بين الديانات أنه الدين الذي جاء متمشياً مع العقل في تطوره ونهضاته. وأنه الدين الذي جاء يقرر الأخلاق الإنسانية، ويعمل للكرمة البشرية التي تلزمها الحضارات. والمدنيات الكبرى)
ونحن وأن كنا لا نوافقه على كل تلك الآراء والنظريات التي استنتجها وأتى بها، والتي جعلها محوراً لتفكيره في هذا الكتاب لا يمكن أن نخفي إعجابنا من هذه الاتجاهات التجديدية التي اتجه إليها الأديب الشاب.
وكنا نود ألا يغلو الأستاذ العماوي عند بحثه في فصل (لماذا تأخر المسلمون في أمر عثمان بن عفان) كما غلا غيره من المؤلفين الذين تناولوا تاريخه في عصرنا ونسوا أنه في خلافته يبين لنا ما في الإسلام من استعداد لمظاهر المدنية. إذ تمت الفتوح في عصره. وانتقلت ثروة الأكاسرة والقياصرة إلى أيدي المسلمين. فلم يعد يليق بهم حياة التقشف، ولم يعد يليق بهم مظاهر البداوة، وقد كان عثمان أجدر بأنصافنا له في مظاهر المدنية الحديثة، وأن تكون خيراً له من أولئك البدو المتقشفين الذين ثاروا عليه ظلماً باسم الدين، ولم يقدروا ظروف خلافته ولم يعرفوا أنها كانت غير ظروف خلافةأبيبكر وعمر. وعلى كل حال فهذا الكتاب يدل على عظيم إخلاص هذا الأستاذ لدينه كما يدل على دراسة واسعة لأحوال هذا الدين، وعناية عظيمة بالبحث عن أسباب نهوضه وانحطاطه، ليتوصل بهذا إلى الطريق الذي يعيد له مجده، وينهض به في هذا العصر.(881/50)
عبد المتعال الصعيدي(881/51)
القصص
بنات الهيدروجين. .!
عن المجلة القصصية
بقلم الأستاذ يوسف يعقوب حداد
تزوجت - جاك هرسن - كما تتزوج الفتيات في عصر الذرة والهيدروجين!. . أي أننا، أنا وجاك، تزوجنا في مكتب من مكاتب الزواج المنبثة في الشوارع، كأنها دكاكين الفاكهة، أو بيع السلع القديمة!!
لم يكن ذلك الزواج كما تخيلته في ساعة من الساعات التي تستلقي فيها العذارى على مضاجعهن، ويطلقن لأفكارهن العنان تصور لهن مستقبلهن كما تشاء رغباتهن الساذجة، وعقولهن التي لم تهذبها الحياة بعد!
لا شك إنكم تعرفون أن أسعد أيام المرأة هو ذلك اليوم الذي ترتدي فيه ثوبها الحريري الناصع البياض، ومن حولها ضيوفها، يشاركونها نشوتها ويتمنون لها سعادة كاملة، وحياة طيبة!. . مع ذلك، حين خرجنا من مكتب الزواج، واحتوتنا السيارة وصرنا وحدنا، شعرت أنني سعيدة كل السعادة، وأحسست بالنشوة تتمشى في جسدي، حين راح جاك يهمس في أذني بكلمات الحب - مرحبا بزوجة - جاك - الجميلة. . . إنها تستحق أن يسجد لها هذا العالم، وتنثر على قدميها ما فيه من زهور ورياحين!
وأقلتنا السيارة تواً إلى لندن، حيث أجر جاك شقة (صغيرة) لنقضي فيها شهر العسل القصير الأجل!
قال لي جاك، إنه أحد رؤساء شركة كبيرة للإعلان، وأنه سينقل عن قريب إلى الجنوب ليترأس فرعاً من فروع الشركة. . . هنالك ستستقر بنا الحياة، أو نعمل على ترويض الحياة، ليلين قيادها، ونكيفها كما نشاء، ونجعلها لنا أمةذليلة، لا أن نكون لها إماء أذلاء!
هكذا تزوجنا، وهكذا استقر بنا المقام زوجين سعيدين. وتبخر الوقت كما تتبخر الأحلام من الرؤوس!. . . لقد عاملني - جاك - كما تعامل الملكات السعيدات، ذهبنا إلى كل مكان جميل يسره أن يحتضن عاشقين، وتمتعنا بكل منظر يسر العشاق أن يتبادلوا الحب بين(881/52)
أحضانه!. . ولم يكن أمر المال أو العمل يعنينا كثيراً، فقد شئنا أن نستغل الوقت للمتعة، بعيداً عن ضجة الأعمال، حتى كان ذلك اليوم الذي تلقى فيه - جاك - رسالة قصيرة. تلاها بسرعة، ثم دسها في جيبه، وجاء إلي، وجلس على حافة المقعد الذي كنت غارقة فيه، وطوق خصري بذراعه القوية، وهمس في أذني - ايف. . يا حياتي. . أريدك أن تساعديني هذا الصباح. يجب أن أذهب لأرى محامياً عجوزاً وسأصحبك معي. . المسألة مسألة فلوس، فقد شاء والدي. وقد رآني لا أعير الزواج شيئاً من اهتمامي، أنلا أصيب شيئاً من ثروته إلا إذا استقرت بي الحياة إلى جانب زوجة، لهذا أريد أن أصحبك معي إلى المحامي لتكوني دليلاً ناطقاً على استحقاقي!. . سيريدونك أن توقعي على أوراق كثيرة، ولكن لا تقلقي. . آه، لشد ما كرهت أن أتزوج من أجل الحصول على المال!. . . أتدرين أنني في وقت ما كنت قد قررت أن أفرط في هذه الثروة الطائلة لرغبتي الشديدة عن الزواج بواحدة من النساء!. . ولكن أنت، أنت وحدك يا ايف العزيزة، استطعتي أن تهدمي ما شيدت من رغبات، وما بنيت من مستقبل، ابتسامة واحدة من شفتيك استطاعت أن تقلب الأمور رأساً على عقب. . أوه! يا لأسلحة النساء!
وسألته في سذاجة - ولكن كم تبلغ هذه الثروة، وماذا سنفعل بها؟
أجابني - أظنها عشرة آلاف جنيه، وحتى حصلنا عليها وأصبحت في قبضتنا، فسنرحل بعيداً، إلى بلاد جميلة، فنقضي شهر عسل حقيقي!. . ألا يروقك هذا؟
فألقيت برأسي على صدره، وقلت له - أوه يا عزيزي، لا يهمني أن نرحل أو نبقى هنا. . إن كل مكان أكون معك وتكون فيه معي لهو جنة التي وعدنا بها!
وفي طريقنا إلى المحامي، أصدر إلي تعليمات جديدة:
. . عزيزتي، إن الأعمال الرسمية شديدة التعقيد عادة، ويلوح لي أن والدي من هواة التعقيد في جميع أعماله. . ولا شك أنهم سيطلبون شهادة الزواج، فهل لكي أن تتركيها معي؟. . لم لا تتركين كل شئ لي؟
فسألته - أتعني حتى حين يوجهون إلي بعض الأسئلة؟ فقال - نعم، سأرد على أسئلتهم السخيفة بدلاً عنك!
وجرت المعاملات بسهولة، وحين انتهينا منها، قال لنا المحامي - ستستلمون المال عن(881/53)
طريق المصرف، وسيصلكم دفتر الشيكات بعد يوم أو يومين!
وهتفت في دهشة - دفتر الشيكات؟!!
ولكن - جاك - عاجلني بنظرة محذرة، وقال - نعم، يا عزيزتي. . فأنا أريدك أن تكوني كالمليونيرات، تشترين حاجة ثم تكتبين للبائع شيكاً!!
ولكن دفتر الشيكات المزعوم لم يصلني، لا بعد يوم ولا بعد يومين، وإنما حمل إلى جاك المزيد من الأوراق لتوقيعها!. . . لم يكن قد مضى على زواجنا أكثر من أسابيع معدودة. وكنت غارقة في الحب حتى أذني. . . لو سألني جاك أن أوقع على ورقة إعدامي، لفعلت
ومضت أيام أخرى، وذات يوم أعطاني جاك بضع جنيهات وسألني أن أشتري بها ما أشتهي ثم التقى به في أحد المطاعم التي اعتدنا تناول الطعام فيها.
لقد قضيت وقتاً طويلاً انتقل من مخزن إلى مخزن، الصق أنفي بزجاجها، وأحلق بعيني في معروضاتها. . لقد وقع اختياري على أشياء كثيرة، أقسمت أن أشتريها بعد أن نستلم الثروة مباشرة، واشتريت جملة أشياء لم تكن بينها حاجة واحدة ضرورية، اللهم إلا الهدية التي اشتريتها لجاك!
وذهبت إلى المطعم، واتخذت مجلسي في الركن الذي اعتدنا الجلوس فيه، وانحنى لي الخادم الفرنسي وعلى شفتيه ابتسامة طويلة، وقال بلغة إنكليزية تشوبها اللهجة الفرنسية الساحرة - لست أرى المسيو معك هذا اليوم؟. . هل تأمرني سيدتي بشيء؟
فابتسمت له، وقالت - سأنتظر قليلاً ريثما يحضر زوجي!
ولكن ساعة مضت، وتلتها أخرى، ولم يظهر أي أثر لجاك، والخادم الفرنسي لا ينفك النظر إلي. وعندئذ أشرت إليه وأمرته أن يقدم إلي الطعام، فقد كان الجوع قد استفحل أمره، ولكني مع شدة رغبتي في الطعام، لم أجد شهية له، لم أجد له طعماً في فمي. كنت أشعر سحابة من الانقباض قد خيمت على صدري. . رباه، ما الذي أخر جاك عن الحضور؟
وقفزت من مكاني كالمذعورة، حتى كدت أقلب المائدة بما تحمل، وأسرعت إلى التليفون أطلب مكتب الإعلانات الذي يشتغل فيه زوجي، ولكن عاملة التليفون أجابتني بأنها لا تعرف مكتباً للإعلانات بهذا الاسم الذي قدمته إليها!. . سألتها في توسل أن تجرب الرقم مرة أخرى، ولكن جوابها الثاني لم يختلف عن سابقه!(881/54)
وكدت أنفجر باكية، وأسرعت أريد الخروج للبحث عن جاك، ولكن خادم المطعم استوقفني عند الباب، وسألني أن أدفع له الحساب!. . ولكني لم أكن أحمل نقوداً معي، ورجوته أن يتركه لفرصة أخرى!
وبسحر ساحر ظهر المدير أمامي، فأشر إليه الخادم بشيء التفت إلي على أثره، وقال لي - لا شك أن للمدام حاجة تتركها هنا. . إن الناس لا يؤمن جانبهم في هذه الأيام. . لا، لست أنت، ولكن الأخضر يذهب بسعر اليابس!
ورأيته يوجه نظراته إلى يدي. . إلى أناملي، فتذكرت عندئذ أن جاك لم يشتر لي خاتماً يوم زفافنا، فقد ادعى أن دكاكين الصاغة لا تضم خاتماً يليق أن يزين يد امرأة مثلي!!
قلت لمدير المطعم - ولكن زوجي زبون دائم يتردد كثيراً هنا؟!
فابتسم المدير ابتسامة ساخرة، وقال - والسيد جاك يأتينا بنساء كثيرات. . كلهن ادعين أنهن زوجاته!!
واضطررت إلى أن أترك ما كنت أحمله معي من حاجات، وخرجت إلى الشارع كالعاصفة المزمجرة، وذهبت تواً إلى (شقتنا) حيث يمكن أن أجد جاك، ولكن مفاجأة مدهشة كانت تنتظرني هناك!
استقبلتني صاحبة الشقة بوجه مقطب، وسألتني بقحة أن أعيد إليها مفاتيح الشقة - هل لسيدتي أن تعيد إلي مفاتيح الشقة لأعيد لها حقائبها التي تركها هنا السيد جاك قبيل رحيله؟
فصحت فيها كالمجنونة - هل رحل جاك من هنا؟!
فابتسمت المرأة، وأجابتني - إنها عادته يا سيدتي. . لقد خدع نساء كثيرات من قبلك. .
ثم ابتعدت عني وهي تداعب سلسة المفاتيح، وسمعتها تقول - مسكينة!!
وحملت حقائبي، ونزلت درجات السلم في خطوات مشلولة. . كل درجة كنت أنزلها. كنت أحس أنني أفقد معها سنة من شبابي!
وما كدت أرتمي بين أحضان الشرع، حتى كان المذياع يذيع شيئاً عن عصر الهيدروجين.
وسمعت أحد المارة يعلق على ذلك، قائلاً: - لم يعد في الدنيا شئ عجيب!
البصرة
عراق(881/55)
يوسف يعقوب حداد(881/56)
العدد 882 - بتاريخ: 29 - 05 - 1950(/)
أدب اللذة. . .
أسأل ويسأل معي كل قارئ يشفق على حاضر الأدب ومستقبل الثقافة: إلى أي طريق يدفع بنا أدب اللذة؟ والمراد بأدب اللذة ما يسميه الفرنسيون اليوم: وهو الأدب الذي يلذ ولا يفيد، ويسوغ ولا يغذي. ويشغل ولا ينبه، كالذي تقرأه في أغلب الصحف وفي بعض الكتب من غرائب الأخبار، وطرائف النوادر، وتوافه المعارف، مما يجذبك عرضه ويلذك تصويره ويلهيك موضوعه، فإذا فرغت من قراءته وصحوت من خدره، لا تجد له أثراً في نفسك ولا حاصلاً في ذهنك
طغى هذا الأدب على أوربا من بعد الحرب، فهزم الكتاب النافع ونفي البحث المفيد، فثارت ثائرة أقطاب الكتاب، وأنحوا بالفكر على معالجيه ومروجيه، وحاولوا أن يفتحوا أعين الناس على أخطاره بما نشروا وأذاعوا؛ ولكن العلة كانت أفدح مما ظنوا؛ فإن الأعصاب التي أوهنتها الحرب بفظائعها وفواجعها لم نعد قادرة على معاناة الجسد واحتمال التقصي، فرجعوا يتحاورون ويتشاورون ويطلب بعضهم البعض أن يدسوا الفائدة في اللذة، ويدوفوا المرارة بالحلاوة، تهوينا على الأعصاب المنهكة، وتسكينا للنفوس القلقة
ذلك هناك، أما هنا فالأمر مختلف. لا أعصابنا موهونة من حرب، ولا نفوسنا قلقة من ضيق؛ إنما هو الثقافة الخاوية، والأمية الفاشية، والتربية المهملة، والصبر الفارغ، والطبع السئوم، والهوى المتنقل، والوقت المضيع، والحياة الهازلة! خير ما في المدرسة الألعاب، وخير ما في المجلس النكت، وخير ما في الكتاب الأفاكيه، وخير ما في الصحيفة الصور، وخير ما في النزهة التهريج!
فإذا كان الناس في أوربا قد انصرفوا بعد الحرب إلى أدب اللذة، فإن ذلك وإن طال عرض سيزول، وحال ستحول؛ لأن ثقافة النفس في الغرب أصيلة، وحب المعرفة في أهله طبيعة.
أما القراء في مصر فأنهم إنما يعكفون على النوع من الأدب البهرج لأنه رضا السطحية الغالبة، وهوى العامية العريقة. وعلاج هذه الحال لا يكون بالتنبيه والتوجيه، وإنما يكون بتغيير العقلية وإصلاح التعليم وإعداد المعلم وتعميق الدرس وتعويد القراءة وتنشئة النفوس على استجلاء الغامض واستكشاف المجهول واستدناء القصي واستشراف الكامل؛ وهو علاج يراودنا اليأس من قرب حصوله، فلا بعضه في اليد، ولا كله في الأمل!
إن أدب اللذة عندنا هو الأصل، وما جاء على أصله لا يسأل عن علته ولا يتعجب من(882/1)
وجوده. وإن أدب المنفعة عندهم هو الأصل، وما خرج عن أصله تناصرت كل القوى على كف ضلاله وكبح شروده.
أحمد حسن الزيات(882/2)
مذكرات بادليو عن الحرب الحبشية
للأستاذ أحمد رمزي بك
وقع بين يدي أول أمس ملخص كتبته عام 1937 عن مذكرات المريشال بيترو بادليو القائد الإيطالي عن حرب الحبشية. وضع القائد مذكراته في كتاب عقب دخوله مدينة أديس أبابا، وقدمه إلى الزعيم موسوليني، وكان هذا كافيا أن يثير رغبتي في الإطلاع عليه بعد أن قضيت الشهور في قراءة خطب موسوليني ومقالاته. ويعترف صاحب الكتاب بأن ما كتبه لا يعد تاريخاً رسمياً للحرب لأن هذا التاريخ يتطلب مجهوداً طويلاً وجمع معلومات متفرقة، ولا ينتظر الفراغ منه قبل سنوات عديدة. ولكن الكتاب مقتصر على مجرد سرد لحوادث القتال في إثيوبيا، كما كانت تبدو لبادليو القائد العام الإيطالي، وهو ينظر للحوادث من قمة عالية، فهو يعرضها بطريقة إجمالية عامة كما يراها بنظرته الشخصية كإنسان، فيشرح الحرب وأدوارها كما كان يراها في مركز قيادته، وهو لا يتأخر أن يكشف عما كان يجول بخاطره: من إقدام وتردد، ويعرض علينا بصراحة طريقة تفكيره، وتطور هذا التفكير ثم مسايرته للحوادث. وقال إن الفكرة الأولى التي أوجدها وألزم نفسه بها هي إحراز النصر على أي وجه يكون، فكانت هذه الفكرة راسخة لديه رسوخ العقيدة التي تسلطت على لبه، وكان يستمد منها دوافع العمل والتصميم والأخذ بالقرارات الحاسمة السريعة، فلم تفارقه هذه العقيدة في أشد الأوقات والأزمات، وانتهى بها إلى قيادة القوات التي وضعت تحت إمرته بالنصر والظفر إلى النهاية.
ويقول بادليو في كتابه: (لعل أعظم ما واجه المسئولين عن قيادة الحرب الحبشية، هو ضرورة الحصول على نصر سريع حاسم بأقصى سرعة ممكنة، لأن عامل الوقت كان يعمل ضد إيطاليا) وقد كتب موسوليني في مقدمة الكتاب ما يأتي: (إن غاية كل حرب هو إحراز النصر؛ أما الحرب الحبشية فكانت تستلزم فوق هذه النتيجة الحتمية أن يكون إحراز النصر كاملاً في غير إبطاء أي بسرعة فائقة).
والمتتبع لحرب فلسطين يتفق معي في أن إحراز النصر فيها، كان يستلزم السرعة الفائقة والوصول إلى احتلال أكبر مساحة في أقصر وقت ممكن، وهذا ما لم يلتفت إلى تحقيقه المسئولون عن حملة فلسطين.(882/3)
ويقول بادليو أنه تولى القيادة في 15111935 ودخل عاصمة
الحبشة في 551936 فكأنه لم يأخذ في العمليات التي قام بها
سوى 4 أشهر وأيام معدودات.
وللوصول إلى نتيجة مثل هذه حشدت إيطاليا أكبر قوة عسكرية في القارة الأفريقية إذ جمعت 300 ألف مقاتل إيطالي و 100 ألف عامل وقوة من الطائرات عمادها 400 طائرة كما جمعت أكثر من 100 ألف من الجنود الأفريقية الملونة (السمر والسود) - وكانت العمليات الحربية التي قامت بها تمثل في اتساعها وتفرعها أكبر حرب للاستعمار رأتها القارة السوداء حتى ذلك التاريخ. فإذا أضفنا وسائل الفن الحديث للقتال وسوق الجيوش وتعبئتها ونقل المؤن وإنشاء الطرق جاءت هذه الحرب بمثابة فتح جديد للحروب الأفريقية.
ولهذا فإن الدراسات التي قامت على معارك حرب الحبشة كانت ذات أهمية خاصة. ولا أتهم بالمبالغة إذا قلت أن قواد الحلفاء الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية استفادوا كثيراً من دروسها، ثم أقول أنه من دروس الحرب العالمية الثانية ومعاركها في القارة الأفريقية ما يدعو أيضاً إلى الاستفادة من ناحية الاستعداد للحرب ووضع خططها في المستقبل: لأن عمل كل فئة استفاد منه من جاء بعدها وهلم جراً. . .
ولقد تبين لي من الإطلاع على ما كتبه بادليو أن إيطاليا كانت تضع الخطط منذ سنوات طويلة للحصول على النصر في الحبشة في حالة اشتباكها بالحرب معها - ولقد أخذت أهبتها منذ سنة 1925 فبدأت تعيد النظر في أنظمة الجيش وتهيئة قواتها العسكرية بالمستعمرات.
واختارت لاتمام هذا العمل الإنشائي نخبة من ضباط الجيش الذين يعملون بهدوء وصمت: ومداومة وعناد.
وكان أول ما اهتمت به في نظامها الإنشائي العسكري تكليف وزارة الأشغال العامة بإنشاء شبكات محكمة لطرق المواصلات في إرتريا والصومال توصل إلى الحدود الحبشية.
وكان الاتصال دائما بين رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإيطالي ووزارة الخارجية مباشرة - ولما تولى بادليو هذه الرئاسة كان يخول إليه حق الإطلاع باستمرار على دقائق(882/4)
العلاقات السياسية وتطورها بل يؤخذ رأيه في أهم ما يدور البحث فيه بين بلاده وإمبراطورية النجاشي.
وكان من واجبه أن يرقب بانتباه وعناية تامة كل حركة يقوم بها النجاشي لتنظيم بلاده سياسياً أو محاولته تركيز السلطة في يده، وكان من أهم ما تخشاه إيطاليا هو أن تنجح الحبشة في مشروعها الذي يرمي لإيجاد جيش منظم على الأساليب الأوربية ومزود بالأسلحة الحديثة، فينتهي النجاشي أن يوفق في الاستفادة من مزايا وصفات قومه الحربية وطبيعية ارض بلاده.
وكانت الحبشة خالية تماماً من تلك الطبقة الممتازة من الضباط الوطنيين الذين يفكرون بتفكير الأوربيين أو يعرفون طرق الحرب الحديثة وخاصيتها وما تتطلبه من فن ومقدرة، وما تستلزمه من نظرة نافذة واعية، حتى يتمكن أصحاب هذه المهنة من وضع الخطط الحربية وتنفيذها.
ويذكرني هذا بما قرأته عن كلام مصطفى كمال الزعيم التركي الذي أسند أسباب نهضة تركيا الحديثة إلى تلك النخبة من الضباط العظام الذين لولا نظرتهم الإيجابية لضاعت بلادهم كما ضاع من قبل استقلال بخاري ومراكش وتونس ومصر: فهذه النخبة من الضباط الذين يجمعون بين العلم والفن العسكري الأوربي، والجرأة المستمدة من الشعور القومي هي التي كان بوسعها إنقاذ البلاد، وهي التي اطمأنت إيطاليا من عدم وجودها ولم يكن هناك من يحل الساسة للأمور محدود، ونظرتهم قاصرة وكل هذا يبعدهم عن فهم الحقائق وضرورات العصر الحالي فكانوا يحضرون أنفسهم للهزيمة والإبادة.
ويقول بادليو أن النجاشي أخذ في السنوات الأخيرة يلجأ إلى الاستعانة ببعض الأخصائيين من الأجانب الذين لبوا دعوته وقاموا يرسمون له الخطط، فاشتد قلق السلطات الإيطالية خوفاً من أن تستعد الحبشة عسكرياً تحت إشراف هؤلاء الضباط الأوربيين - فتنشئ لها جيشاً وطنياً قد يقف عقبة في سبيل أطماع إيطاليا أو يزيد مشاكل الفتح وتكاليف الحرب القادمة. ولذلك رأت الحكومة الإيطالية أن الساعة قد أزفت لمواجهة المسألة الحبشية بالفصل فيها قبل أن يستفحل أمرها: وأن تضرب الحبشة ضربات حاسمة وبسرعة لكي تضمن تصفية هذه المملكة تصفية نهائية وبطريقة لا تمكنها من القيام مرة أخرى.(882/5)
ويستمر بادليو يحدثنا عن الحبشة فلا يستهين بها وإنما يقرر أن المعلومات كانت تصل إلى إيطاليا باستمرار من أنحاء البلاد المختلفة عن كل صغيرة وكبيرة فيها وقد أدى جمع هذه المعلومات وتصفيتها بيد الخبراء إلى أن إثيوبيا بوسعها أن تجند قوة محاربة تتراوح بين 200 و250 ألف مقاتل وأن تحشدها في الجبهة الشمالية وأن تسوق قوة أخرى تتراوح بين 80 و 100 ألف مقاتل لجبهة الصومال الإيطالي وفي طاقة البلاد تكوين احتياطي من القوات المقاتلة لشد أزر الجيشين: أما ناحية التسليح فقد أتت الأخبار الموثوق بها تقرر أن القوات مزودة بأسلحة حديثة خفيفة ولكنها من عيارات وطرز مختلفة مما يسهل وقوع الأخطاء في استعمال الذخيرة: (يلاحظ أن الدول الغربية كثيراً ما تلجأ إلى هذه الوسيلة بالذات لعرقلة القوة المقاتلة لدى الأمم الشرقية وهي: ناحية تعدد أصناف الذخيرة وتعدد أنواع الأسلحة المختلفة العيارات لما يلازم هذا التنوع من أخطاء في توزيع الذخائر على الوحدات المقاتلة)
وجاءت إلى رئاسة أركان حرب الجيش الإيطالي معلومات دقيقة عن كافة أنواع الأسلحة التي شحنت في السنوات السابقة للحرب من مدافع وبندقيات رشاشة وأسلحة للمشاة، وعدد الطائرات والسيارات المدرعة وما جاء للمدفعية من مدافع ميدان ومدافع مضادة للطائرات - مما أمكن أن يعطي فكرة عن محاولة إنشاء قوة من المشاة على الأقل منظمة على الأسس الأوربية.
ولكن المطلعين على الشئون العسكرية كانوا على ثقة تامة من عجز الحبشة عجزاً تاماً وعدم قدرتها على توجيه أية حملة كاملة الأهبة والاستعداد لاكتساح إحدى المستعمرتين الإيطاليتين. وذكر بادليو تبريرا لهذا العجز سببين أساسيين. الأول مادي راجع إلى طبيعة الأراضي وخلوها من طرق المواصلات التي تسهل الحشد وتمكن من سوق الجيوش وحشدها في أماكن التجمع اللازمة لها
الثاني أنه إذا وجدت هذه المواصلات فالبلاد مفككة داخلياً وظروفها السياسية والاجتماعية لا تمكنها، من أخذ هذا العبء عليها. وأخيراً فهي خالية من كل المسائل المادية والأدبية التي تجعل تجهيز هذه الحملة موضع تفكير.
إذن فهو مطمئن إلى أنه صاحب اليد الأولى في توجيه الحرب الوجهة التي يريدها وهي(882/6)
بطبيعة الحال ستكون هجومية من جانبه، دفاعية من الجانب الآخر.
ولن تكون حرباً ثابتة وراء الأكمات والحصون والخنادق بل ستكون حرب حركة في أعلى مظاهرها فهي، في حاجة إلى إحكام التدبير والخطط وستحتم احتلال أماكن بعيدة والتوسع في الزحف بشكل غير معهود في السابق بل تفرض أشغال العدو وأحكام المباغتة والاستعداد لأخذ القرارات السريعة الحاسمة وما يستلزم ذلك من الجرأة والثقة في النفس حتى يضمن القائد سرعة التقدم وضمان الوصول إلى الهدف المعين في الوقت الذي تحدده القيادة العامة.
لهذا كله يشير بادوليو في القسم الأخير من كتابه إلى أن أول أمر تستلزمه حرب الحركة والاكتساح هو إيجاد قواد أكفاء ذوي شجاعة للاضطلاع بالمسئوليات الكبرى وليس من السهل العثور على هذه الفئة الممتازة في أي جيش أوربي إذا لم يدرب أفرادها من المبدأ لهذا الغرض وتعطى لهم حرية واسعة للعمل وقت التدريب. وأن يكون الاختيار منصباً أولا على الكفاءة والاستعداد الشخصي فليس كل ضابط يصلح لهذا الاختيار وليس كل قائد لديه الاستعداد الشخصي لمثل هذه الأعمال:
وقد نجح في إيجاد قوة من الضباط الأكفاء من الناحية الفنية أي في القيادة، وفي وضع الخطط للتعبئة وسوق الجيوش، وقد أشرف بنفسه على امتحان معلوماتهم، وعرف عن كثب مدى إدراكهم للأمور، ولذلك مهد لهم طرق الاشتراك في الحرب الحبشية مشيراً إلى أنها الفرصة الوحيدة التي سنحت لهم لإظهار صفاتهم العسكرية الممتازة ومقدار ما وصلوا إليه من معلومات وما أتقنوه من فن عسكري.
وأشار إلى ما لازم إيطاليا من توفيق في تموين جيشها (بكادر) أي مجموعة هائلة من ضباط الصف الذين لهم دراية خاصة ومقدرة على فهم التنظيم والعمل بوحيه وروحه وهي صفات تستلزم المران الطويل ويخلفها ويبرزها التدريب الفني والتربية العسكرية المبنية على أداء الواجب: وقال أن هذا الكادر هو عدة الجيوش المحاربة.
وهكذا استمر المريشال الإيطالي يحدثنا بأسلوبه الشيق ويقول إن الحرب الحبشية كانت تجربة ولكن قاسية دخلتها دولته وخرجت منها منتصرة بفضل العناية التي بذلت في رفع مستوى الجنود والضباط على السواء. وقال أنها كانت في وجهة نظره مواجهة المجهول(882/7)
والتغلب على أشياء غير منظورة، ولا مفروض وقوعها. وكان كقائد واقعا تحت تأثير الزمن كعامل فعال فكان يطلب إليه إتمام عمل معين بأقصى ما يتطلب من السرعة وفي أقصر وقت؛ وكان يضع خططه ويجهز نفسه لسوق وحدات بقصد احتلال مراكز معينة، فتصدر إليه أوامر من روما بتغيير الخطة والسير بغير إمهال لناحية أخرى، فكان يلبي هذا الأمر ولكنه يسير بوحي نفسه فلا يغير خطته الأولى متحملاً المسئولية إلى النهاية.
قال إن أكبر عوامل النجاح هو التنظيم الذي مكنه من عمل المستحيل والذي بدأ بتفريغ ونقل ملايين الأطنان من الذخائر والمؤن في بلاد لم تستعد لتلقي هذه الكميات الهائلة من العتاد، ثم سار في التغلب على الطبيعة بإنشاء المواني والأرصفة والطرق والكباري وتحريك نصف مليون رجل ودفع ملايين من الدواب وآلاف السيارات. كانت الحرب آلة محكمة الوضع، ولذلك تغلبت على العقبات وأخضعت الطبيعة. وتلمح من ثنايا كلماته: إن أرادته تغلبت في النهاية على أوامر روما وما تحمله من متناقضات وجهل بشئون الميدان، وقرر أن مثل هذه المصاعب أولى مظاهر المشاكل والمتاعب التي تواجه القائد في الحروب، والتغلب عليها أول مظهر لصفات القيادة الحاسمة الجريئة التي إذا وضعت الأقدار بين يديها مقدرات المعارك والحروب فعليها أن تستفيد منها والى النهاية.
أن الأقدار تأتي بها مرة واحدة في حياة الشعوب والقادة ولن تتكرر مرة أخرى فمن العبث التردد والوقوف والتراجع إزاءها لأنها تخضع للمثل اللاتيني القائل.
إن الحظ يبتسم دائما لأصحاب القلوب الجريئة والعزائم الصادقة
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية(882/8)
تفريط
للدكتور محمد يوسف موسى
تفريط تحس به حيث تكون، وتحس به حيث تلتلفت حواليك. تفريط من كل طبقة وفريق: طبقة الطلاب، وطبقة الشيوخ والأساتذة، وطبقة السادة رجال الإدارة والرياسة. تفريط من كل هؤلاء وأولئك، إلا من عصم الله وهم قليل نادر. ولولا ذلك، لصار الأزهر منذ أزمان وأزمان تاريخا من التاريخ، ولصار يتحدث عنه كما يتحدث عن كائن طالت به الحياة، وأثر فيها وتأثر بها، ثم صار أثرا بعد عين وغظة في الحاضر والمستقبل!
نعم! ذلك حال الأزهر اليوم، وقد نشأ أول أمره مقراً للدعاية لمذهب ودولة، ثم - لفرط حيويته - تمرد على ما أريد به وله، فصار منارة عامة ترسل أشعتها هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي ثم تقدم به الزمن فصار، فترة طويلة من التاريخ، المعين الوحيد للمعرفة والعلم، وصاحب الأثر الكبير في تصريف شؤون البلد والقول الفصل في المشاكل التي تجد. وكان من رجالاته من عرف التاريخ لهم فضلهم، إذ عرفوا لأنفسهم كرامتهم وللعلم حقه، حتى كان منهم من رفض أن يمد يده لصاحب السلطان، بعد أن لم ير حرجاً في أن يمد بحضرته رجله! ثم مرت أزمان، وجاءت أزمان، وإذا بالأزهر لا يلتمس رأيه فيما يجب أن يكون له الرأي فيه، حتى لقد غدا كما يقول الشاعر:
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
وأحب قبل الكلام الجاد فيما أنا بسبيله، أن أسارع فأطمئن المشفقين من الأبناء الأوفياء والزملاء الأفاضل، هؤلاء وأولئك الذين يخافون على عقبى صراحتي في زمن يتهم فيه كل صريح، أنني، علم الله، لا أقصد بحديثي هذا رجال عهد معين قريب أو بعيد، إنما أعني الأزهر ورجاله في هذا العهد الذي نعيش فيه منذ سنوات وسنوات. ولست بالذي ينقص إجلاله لفضيلة الأستاذ الأكبر عن أشد الناس حباً له واتصالاً به. غير أني صريح بحكم منبتي وطبيعتي، وحديث عهد ببلاد تصدع بالحق متى هديت له، وأشعر في قوة بما علي وعلى أمثالي من تبعات للأزهر في حاضره ومستقبله، تبعات لا يفتأ الإخوان يذكروننا بها في كل مناسبة.
فليهدأ، إذاً، بالاً الأبناء والإخوان المشفقون، فالله متم أمره، ولن يقف حذر دون قدر. ولست(882/9)
بما أقول، اليوم أو بعد اليوم، إلا في مقام الناصح الأمين. وليس مناي - وقد جاوز مثلي الخمسين - بأقل من أن ينصح بما يراه حقاً، وليس إنسان مهما علا قدره بأكبر من أن يتقبل الرأي الحق يتقدم به ناصح أمين.
1 - لطلاب الأزهر في الكليات والمعاهد مطالب يضربون من أجلها عن الدروس فترة طويلة كل عام، ويلحون في سبيل تحقيقها ملتمسين كلما يرون من سبل ووسائل. وهم جميعاً لا يكلف أحدهم نفسه النظر فيما يطلبون: أحق كله؟ أو يلتبس فيه الحق بالباطل؟ وهل رائدهم الإخلاص فيما يرجون؟ أو هي أصابع الفتنة تدفع بهم في غير الطريق السوي؟
ويحاول هؤلاء الطلاب المساكين التماس عون أساتذتهم وشيوخهم فلا يجدون منهم إلا ازورارا وأعراضاً، لأنهم يخافون التهمة بتحريك الطلاب، أو لأنهم لا يعرفون كيف يوجهونهم سواء السبيل. والمشيخة من ذلك في شيء من الحيرة والكرب؛ لا تقدم إلا إذا أشتد الخطب، ولا تقرر إلا تحت الضغط.
ولو كانت الأمور تجري عندنا في الأزهر على استقامة، لكان يسيراً كل اليسر على أولى الشأن في الكليات تعرف ما فيه الخير للطلاب في ثقافتهم ومستقبلهم، والأهداف التي يجب أن يعدوا الإعداد الطيب لبلوغها، ووسائل تحقيق هذه الأهداف. وحين إذ لا يكون الطلاب ما يشكون منه، وما يضربون عن دروسهم من أجله.
ولو كانت الأمور تجري عندنا في الأزهر على استقامة، من الطلاب والأساتذة وأولى الأمر، لكان للكليات (اتحاد) كاتحاد الكليات في الجامعة، ولكان هذا الاتحاد وسيط خير بين الطلاب والمشيخة، ولكان وسيلة يمرن بها الطلاب على المشاركة في إدارة شئونهم، وعلى المسئولية والاضطلاع بها. ولكن كيف السبيل إلى تكوين مثل هذا (الاتحاد)، ومن إليهم الأمر يظنون كل صيحة عليهم، ويرون في تكوين هذا (الاتحاد) بدء ثورة وانقلاب؟! ثم كيف السبيل إلى مثل هذا (الاتحاد)، ومن الشيوخ من يستحل اتخاذ الطلاب الأبرياء وسيلة لقضاء حاجة أو حاجات في نفوسهم! ومن أجل هذا يزور المدرسون عن الطلاب، فلا يرى الطلاب - وقد حرموا التوجيه الصالح - إلا أن يصدروا عن عقولهم التي تنقصها الإحاطة بالأمور، وعن خبرتهم وتجاربهم وهي ناقصة، وعن مطالبهم الخاصة دون رعاية للحق أو(882/10)
للصالح العام في نفسه.
2 - وبعد الطلاب، الذين شغلتهم الامتحانات والاستعداد لها عن مطالبهم، جاء بكل أسف دور المدرسين والأساتذة.
نعم! هاهي ذي المعركة حامية الوطيس بين فريقي المدرسين في المعاهد والكليات، المعركة التي استعمل فيها كل سلاح وإن رغم الحق! المعركة التي وصل أمرها للصحف والديوان الملكي وللبرلمان أخيراً كل فريق يدافع - على طريقته - عن حقه وكيانه ومستقبله، ويرى كل الوسائل مشروعة ما دامت تحقق الغاية أو تدنى منها. وفيما بين هؤلاء وأولئك تضيع كرامة الأزهر، وتتزلزل سمعته في مصر والعالم الإسلامي كله.
ولو كانت الأمور تجري في الأزهر على ما ينبغي من عدل واستقامة لصدر منذ طويل (كادر التدريس) حين صدر القانون بإنشاء الكليات. وإذاً، لعرف كل من أعضاء هيئة التدريس حقه، ولوضع في موضعه الذي تؤهله له دراسته وكفايته، ولما كان من الممكن أن تقوم هذه الخصومة العنيفة بين الأخوة الزملاء أبناء المعهد الواحد، ولشغل الكل بالبحث والإنتاج العلمي الذي تخلفنا فيه حتى صرنا ساقه بعد أن كنا القادة.
ذلك ما كان يجب أن يكون، لولا اشتغال الرؤساء بالحاضر، يصرفون مسائله في ارتجال، عن المستقبل - حتى القريب منه - يعدون له ما لا بد منه من عدة ووسائل. ولله الأمر من قبل ومن بعد!
3 - وفي الأزهر اضطراب شديد أيضاً فيما يتصل بعدم تركز السلطان وتصريف الأمور في المسئولين وحدهم بكل مناصبهم، بل صار نصيب كبير من هذا إلى غير هؤلاء المسئولين، فنظمت البلوى وعمت الشكوى.
ولو كانت الأمور تجري عندنا على استقامة، لأنشئ منذ زمن طويل مكتب فني بالرياسة يكون لأعضائه من الثقافة والكفاية والروح الأزهرية والحب للصالح العام، مما يجعلهم أهلاً بحق لاقتراح المشروعات التي تفيد الأزهر، ولبحث ما يحال إليهم من مشاكل، ولتقديم المشورة الطيبة فيما يجد من أمور.
ولو كانت الأمور تسير عندنا على ما ينبغي، لوضعت منذ طويل قواعد عامة للنقل للكليات، ولكان من هذه القواعد ألا ينقل مدرس - مهما كانت درجته العلمية - من الثانوي(882/11)
لكلية من الكليات إلا إذا شهد له بالعلم والبحث مؤلفات منشورة
ولكن؛ منع من هذا وذاك فيما مضى، وربما يمنع منه أيضاً هذه الأيام وفي المستقبل، ما ركب في النفس من حب الاستثئار بالبت في كل أمر وبالإعطاء والمنع، ولعل الله ينظر للأزهر نظرة رحمة فيغير من هذا كله.
4 - وقد نظر الله للأزهر في بعض ما مر به من عهود، فألهم القائم بأمره حين ذاك - وهو المغفور له الأستاذ الشيخ المراغي - أن يرسل بعوثاً لأوربا يقبسون من علم الغربيين وطرائقهم في لبحث والدرس! ومضى الزمن، وعادت البعوث من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وانتظر الناس أن ينتقل الأزهر خطوة إلى الأمام؛ وحق لهم أن ينتظروا في ثقة واطمئنان. ولكن، ها هو الزمن يمر، وهلا هو الأزهر في جملته يسير نفس سيرته قبل أن يكون له أعضاء بعثات جمعوا بين ثقافة والشرق والغرب. نعم! ها هو الأزهر لا يزال كما نعهد من قبل في مناهجه وطرائق التدريس فيه وعدم غنائه في علوم الدنيا والدين.
ولماذا؟ لأن المشيخة لم تحب، ولا تحب، أن ينتفع الأزهر بمبعوثيه، لأنها لم تحب، ولا تحب، أن تستعين بهم - كما تفعل الجامعة ووزارة المعارف - في التوجيه الصحيح في المعاهد والكليات؛ لأنها لم تحب، ولا تحب، أن تجعل لهم الإشراف على ما يواجه الأزهر هذه الأيام من الاتصال الشديد بالعالم الإسلامي والعالم العربي في أوربا وغير أوربا.
وبهذا، صار للأزهر شكل الجامعة، دون أن يكون له حقيقتها، ما دام لا يسير على نظم الجامعات! وصار له أعضاء بعثات حازوا أكبر الدرجات العلمية من الأزهر ومن أوربا، ولكن لا يحاول أن يفيد منهم! وأصبح من العبث إرسال بعثات أخرى، نكلف أعضائها كثيراً من الجهد وتنفق عليهم كثيراً من المال، حتى إذا عادوا تركوا دون الإفادة منهم كإخوان لهم من قبل!
إن الأزهر لا يسير منذ سنين طويلة في الطريق الصحيح؛ وتلك حقيقة تعرفها الأمة وقادة الرأي فيها، كما يعرفها الأزهريون أنفسهم. وإن من دلائل ذلك ما نراه من تخلف الأزهر في ميدان الإنتاج العلمي، حتى حين يتصل بالتراث الإسلامي. وإن من دلائل ذلك عدم القدرة حتى الآن على عرض الإسلام عرضاً سليماً واضحاً يجد فيه العقل رضى والقلب هدى، ونتعرف منه الرأي الحق في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تنوعت كثيراً(882/12)
هذه الأيام. وإن من دلائل ذلك ما حدثني به جمع من تلاميذي، من أنهم لا يحسون الأمة تضعهم في المنزلة التي تضع فيها طلاب الجامعة. ذلك بأن الأزهر، كما قلت أول الحديث، تسوده روح التفريط: تفريط من الطلاب في الإخلاص للعلم، وتفريط من الأساتذة في مد يد العون لهم وتوجيههم الطريق السوي، وتفريط من الرؤساء - إلا من عصم الله وهم قليل نادر - في طلب الرأي ممن يراه وفي الاستماع للنصح حين يتقدم به الثقة الأمين.
ولعل الله يعرفنا الباطل باطلاً فنجتنبه، ويرينا الحق حقا فنتبعه. وأدعو الله لأستاذنا الأكبر شيخ الأزهر، قابساً من دعاء للدكتور طه حسين بك لرفعة سرى باشا حين كان رئيساً للوزراء فأقول:
رزقك الله سداد الرأي، وألهمك صواب القول، وكتب لك التوفيق في العمل، وجعل سيرتك عزاء عن سيرة من كان قبلك، ورضا لمن عاش معك، وقدوة لمن جاء بعدك
محمد يوسف موسى
دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوريون وأستاذ بكلية أصول
الدين بالأزهر(882/13)
الفيزيوقراطيون. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
سادت فرنسا في القرن الثامن عشر موجة فكرية تدعو إلى الطبيعة واشتدت هذه الموجة بفضل ما كتبه أدباء فرنسا ومفكروها سواء صدروا في كتاباتهم عن الإنجليز المعاصرين أمثال أو تأثروا بحالة بلادهم فتمثلوها وترجموا عنها أدباً وفلسفة واقتصاداً وسياسة إلى غير ذلك من نواحي النشاط الإنساني.
ترددت تلك الدعوة إلى الطبيعة على كل لسان وقلم، وامتزجت بها كل وحدة من وحدات المجتمع الفرنسي. وكان من بين تلك الدوائر جماعة الطبيعيين (الفيزيوقراطيين) الذين كانوا خير من تبنوا هذه الدعوة وأنموها وأوصلوها إلى نتائج وقفت الحضارة الفكرية عندها طويلا، لأن هذه الجماعة سوغت لنفسها أن تتخذ (العلم العام للمجتمع) مذهباً لها.
نشأت هذه الجماعة في فرنسا حوالي سنة 1750 م وكان مؤسسها (كيسنس الذي ساهم في قيامها بكتبه التي تحوي جميع العناصر الرئيسية للمذهب، من ذلك: مبدأ الحق الطبيعي، ونظرية الإنتاج الزراعي الخالص، ونظرية الشركة العادلة بين الملاك والمنتجين، ونظرية الاستبدال الطليق، ونظرية الحكومة الاستبدادية المستنيرة. وقد انتشرت هذه التعاليم بحذافيرها حينا، ومعدلة حينا، ومغيرة حينا في خارج فرنسا بل في داخلها. وكل ما كتب بصددها في المرحلة التالية للفيزيوقراطيين مباشرة إنما كان مستمدا من مؤلفات (كيسني) وقائما على الأصول التي وضعها.
نعم سبقه كثير من الماديين، وسار على نهجهم واعتنق بعض مذاهبهم، وحقا إن (لوك) وغيره من الإنجليز كانوا أسبق من (كيسني) فيما ذهب إليه، فلوك هو القائل بنظرية الحق الطبيعي، والمدافع عن حرية التجارة، ولكن هذه الآراء وإن تسربت كلها أو بعضها إلى فرنسا إلا أنها لم تعمل على خصوبة الفكر الفرنسي، ولم تكن هي الباعث على قيام هذه المدرسة وتعاليمها، وذلك لأن مركز فرنسا المادي حينذاك كان منحلاًا لما كانت تعانيه من فساد النظام التجاري، فضلا عن انحطاط الحالة الزراعية والصناعية جميعاً.
ففي مثل هذه الحالة، يتجه الاهتمام أول ما يتجه نحو (حقوق الإنسان) التي تربطه بالمجتمع، تلك الحقوق الطبيعية التي لا مصدر لها غير الطبيعة وحدها. ومن الواضح أن(882/14)
طبيعة الإنسان لها الحق في كل شيء يتعلق بوجوده وسلوكه، حتى إذا قام للمجتمع كيان، عانى هذا الحق تحديدا لا بد منه وقد يصبح هذا التحديد خطيراً ما لم تفسيره صيغة الحق والصيغة الوحيدة لهذا التحديد المطابقة للعدالة والعقل معاً هي حق كل فرد في نصيب من الخيرات التي يستطيع أن يمارسها عن طريق العمل والخدمات العامة.
وبتحليل هذا الحق الطبيعي ينتهي إلى عنصرية: الحرية المطلقة، والملكية المطلقة، ولكن هذه الحقوق من غير شك تفترض تبادل الواجبات. واجب العمل، وواجب احترام الغير، وواجب العمل على خير الغير. وعلى ذلك ينبغي أن يكون القانون الوضعي تفسيراً لهذين الجانبين من الحق الطبيعي. وهكذا تنتظم الروابط بين الأفراد بعضهم بعضا، ولكن يبقى تحديد موقفهم من المجتمع ليكون الحق العام متمشياً مع الحق الطبيعي غير متعارض معه، وهذا يتطلب تنظيماً.
عالج الفيزيوقراطيون هذا التنظيم، ففي الاقتصاد (ترتيب طبيعي) هو موضوع البحث في المجتمع. وفي الاقتصاد قوانين طبيعية، معرفتها أمر ضروري، وكاف لإقامة نظرية الإنتاج، ونظرية الاستهلاك، وهما النصفان اللذان يتألف منهما الاقتصاد.
ولم يكن (شارل جيد حين قال (أداء الواجبات، واستغلال الحقوق، وإرضاء الرغبات، تلك هي الأغراض الثلاثة المختلفة للنشاط الإنساني، والأخير منها موضوع علم الاقتصاد، ولذا نستطيع القول بأن الاقتصاد السياسي له أن يعالج الروابط بين الناس العائشين في مجتمع من حيث تعمل هذه الروابط على إرضاء رغبات الحياة المتعلقة بالجهود العاملة على تزويد الجميع بالثروة المادية).
والأرض هي أساس الاقتصاد، والقاعدة التي عليها يرتكز، وحسب الفيزيوقراطيين أن يشاهدوا الطبيعة وأن يستمعوا لها، فهي وحدها التي تفسر توزيع الدخل، ودورة الثروة، وقوانين المحصول الصافي وغير ذلك. ومن كل هذا استنبطوا نتائجهم، وإن كانوا فيما بعد قد ظنوا أن القوانين التي يجب أن يتوجهوا إليها، واضحة وضوح القوانين الطبيعية.
لقد تردد ذكر (الطبيعة) طوال القرن الثامن عشر. فعلى أي وجه ردده الفيزيوقراطيون؟ إنهم اعتبروا في الطبيعة جانبا ماديا، وأرادوا أن يربطوا القوانين الأخلاقية والقضائية بقوانين فيزيقية ربطا مباشرا. يقول (ميرابوا (لقد عولج الحق الطبيعي باعتباره حقاً عقلياً(882/15)
دون التفكير في خضوع قوانين النفس لقوانين فيزيقية متصلة بها اتصال الجسم بالروح)
وهنا تختلف وجهة نظر الاقتصادي، عن وجهة نظر الأخلاقي، فهنا يريد (ميرابو) الانتقال مما هو مادي إلى ما هو أخلاقي، وذهب إلى القول بأن (الناس تحكمهم الأشياء) ` ` هذه الأشياء عند (ميرابو) هي (الحبوب) إذ يقول (وكما أن حبة القمح مرآة تتحدث عن حكمة الخير الإلهي وعظمته ولطفه، فكذلك هي مرآة تتحدث عن الكواكب والعوالم إلى ما ينتهي، فينبغي كشف عظمة القوانين الإلهية بفخامة القوانين المادية).
وهذه النزعة - وإن بدت مادية - إلا أنها فكرة فلسفية قال بها من الفلاسفة من قال بالعناية الإلهية، وكذلك من اعتبر دورة الثروة كالدورة الدموية، من حيث لها قوانينها الطبيعية في الحياة الإنسانية.
وهنا نتساءل: لماذا أهتم الفيزيوقراطيون بالطبيعة والقول بالعناية الإلهية! الجواب سهل يسير، ذلك أنهم رأوا في الطبيعة قوة أسمى من قوة الإنسان، لأن عمل الإنسان تافه، أما الطبيعة فذات قوى منتجة هي عمل إلهي، ونوع من المنحة والنعمة.
وجد الفيزيوقراطيون إذن في القوانين المادية قوانين إلهية، واستطاعوا في جرأة وإقدام أن يربطوا بين النظام الأخلاقي والنظام الفيزيقي، لأن في نفوسهم استحساناً له مفعوله فيها، ويفسر (كسني) ذلك بقوله: (المقصود بالنظام الفيزيقي هو المجرى العام لجميع الأشياء الفيزيقية، أي هو النظام الطبيعي الأكثر نفعا للجنس البشري. وبهذا القول نكون قد وفقنا على جوهر المذهب الفيزيوقراطي، إذ القاعدة العامة لكل فعل إنساني تنطبق على أنفع نظام فيزيقي للإنسان وهذه القواعد كلها تكون قانوناً طبيعياً، واضعه الله، وهذه القوانين ثابتة دامغة، وهي أحسن ما يمكن أن يكون.
بفضل هذا الاستحسان استطاع الفيزيوقراطيون أن يقربوا بين القوانين الطبيعية الضرورية وبين القوانين الفيزيقية وأفهمونا بذلك الحقوق الطبيعية.
وكان مذهب الأحرار منطوياً في مبدئهم العام والخاص على وجوب ترك القوانين الاقتصادية حرة طليقة، وعلى ترك الباب مفتوحاً للتجارة الحرة، فاشتهر في الأوساط الاقتصادية مبدؤهم المشهور أي (دع القوانين تعمل، ودع التجارة تمر) وكان أيضاً داعياً إلى القوانين الطبيعية، والحقوق الطبيعية، ومستتبعاً لنظريتهم في الطبقات(882/16)
ولقد جاء الفيزيوقراطيون بفكرتين جديدتين هما:
1 - سمو الزراعة على التجارة والصناعة.
2 - إيجاد (نظام طبيعي أساسي للمجتمعات الإنسانية) كما يدل على ذلك نص عنوان كتاب للفيزيوقراطي الشهير (مرسييه دي لارفيير)
أما الزراعة فقد أعطاها الفيزيوقراطيون من الأهمية ما لم يعطوه لغيرها، لأن الزراعة في نظرهم ليست مصدر الغلة الصافية فقط، بل هي المصدر الوحيد للثروة، وما عداها عقيم والإنتاج الزراعي أجل من غيره من الأنتاجات لأن الأرض تحتوي على جميع أسرار سعادة الإنسان.
والزراعة أولاً وبالذات هي التي تخلق الثروة، أما الصناعة والتجارة وسائر الحرف فكل عملها أن تحول الثروة، وشتان بين الخلق والتحويل ثم إن العمل الزراعي - دون سواه - يعالج المواد من أجل الثروة.
والتعدين والقنص والسماكة كل ذلك تابع للعمل الزراعي ويندرج تحت اسم (استخدام الطبيعة) ولو أمكن استخدام الهواء والسماء لحسبهما الفيزيوقراطيون أيضاً من هذا العمل.
وضع الفيزيوقراطيون لهذه الأعمال جداول، ووضعوا لها قواعدها وشروطها ووسائلها، أما التجارة فإنها لا تزيد من قيمة المنتجات بتحويلها، فقالوا: (إنك حين تنصرف عن المحراث لتكون تاجراً، فإن التجارة لن تجعلك تنتج قمحا) وأما الصناعة فهي كالتجارة تحول ولا تخلق.
ولنا أن نقول هنا إن ما يسميه الفيزيوقراطيون نظرية لا يعدو أن يكون مجرد رغبة أو رأي، حفزهم إليه النزوع الأدبي قبل كل شئ، وليس أدل على ذلك من كتابات (روسو) الأديب السياسي معاً، وقد سارت السياسة والأدب في عصره جنباً إلى جنب.
والنفس بطبيعتها تنزع إلى الطبيعة بما فيها من وداعة واطمئنان بعد الشعور بالمادية الطاغية وعند النفور من لجب المدينة وضوضائها. على أن القول بأن الزراعة تخلق الثروة غير صحيح، لأن الفلاح لا يخلق شيئاً، وإنما هو يحول في المواد إلى التربة والهواء ويؤلف بينها، فهو يستنتج القمح من الماء والبوتاسيوم والسليكون والفوسفات والنتروجين، شأنه في ذلك شأن الصبان يصنع الصابون من المواد الدهنية والبوتاسا. وإذن(882/17)
لا فضل للزراعة على غيرها من هذا الاعتبار. ولذا لم يتردد (آدم سمث وغيره في اعتبار الصناعة عملاً منتجاً، بل أول عمل منتج، وأكثر من ذلك فإن الخدمات حتى الفنية منها لم يتردد الاقتصاديون في اعتبارها أعمالاً منتجة.
وإذا كان رأيهم في الزراعة - على النحو الذي بينا - يمثل المذهب الاقتصادي لمذهبهم، فثمت مظهر اجتماعي له، يمثله رأيهم في طبات المجتمع، وهو نتيجة محتومة للنظرة الاقتصادية.
فكما أن ما عدا الزراعة - في نظرهم - عمل عقيم، فكذلك كل طبقة ما عدا الزراع طبقة عقيمة. ولما كان الفلاح هو المساعد المباشر للقدرة الإلهية، وممون الأمة جميعها، فهو وحده الذي يستحق أن يندرج في قائمة المنتجين. يقول (ميرابو) في هذا (إن الرجل الذي يجتهد في استخراج محاصيل الأرض هو الرجل الأول في المجتمع، فكيف يستطيع الملك والقواد والوزراء أن يعيشوا من غير الفلاح، وإن كان الفلاح يستطيع أن يعيش بدونهم؟)
كل الطبقات - مهما علت أو سفلت - عالة على الفلاح، وليس الفلاح عالة عليهم، وهذا ما سيقرره فيما بعد أنصار مذهب - مثل (سيس) وأنصار الصناعة مثل (سان سيمون) الذي قرر (أن فرنسا إذا فقدت الملك والوزراء فإنها لا تفقد شيئاً ذا بال، أما إذا فقدت النجارين والنساجين والعمال عامة تعطلت الحياة، وفقدت كل شئ). وهكذا يكون قد تابع (كني) و (ميرابو) على نحو آخر.
ما عدا الزراع في الطبقات عقيم، لأنهم لا يأتون - كالزراع - بإنتاج جديد، إذ العامل والعاطل عندهم سيان، وبذا ظل الفلاحون وحدهم المنتجين بمعنى الكلمة.
أما الملاك فلم يلق الفيزيوقراطيون بهم في سلة الطبقات المهملة لأنهم حين أرادوا النهوض بالزراعة، احتاجوا إلى رؤوس الأموال فوجدوها عند الملاك، وبذلك كان مذهبهم مناهضاً للاشتراكية وهم - إذا حرموا العمال شرف الإنتاج في الطبقات المنتجة - كانوا ضد العمالية
وهم - حين أرادوا التقرب إلى الفلاحين واستغلال منتجاتهم - فتحوا الباب لمنح الامتيازات لهم، بعدم دفع الضرائب، والإقرار بأن الفلاحة من الحرف ذات الامتيازات.
وإذا كان من الواجب على الاقتصادي أن يحقق التضامن الاجتماعي بالقضاة على الفردية(882/18)
النهمة من جهة، والطائفية الغالبة من جهة أخرى، فإذا بالفيزيوقراطيين - وهم الساعون إلى الحقوق الطبيعية والمنادون بالحرية - يعملون على انحلال اجتماعي خطير، بإقامتهم حواجز وفواصل بين الطبقات لا تعاون بينها ولا تضامن.
تطور المذهب الفيزيوقراطي - شأن كل مذهب - إلى لون سياسي اقتصادي في آن واحد، يناهض الاشتراكية، وتوارثته الأفكار حتى انحدر إلى أتون الثورة الفرنسية، وأجج نيرانها وعارض فلاسفة القانون.
قال (منتسكيو) بالسلطات الثلاث، وألحقها (روسو) بالإرادة العامة، وحقا استنكر الفيزيوقراطيون الحكم الاستبدادي غير أنهم التمسوا العذر لإمبراطور الصين المستبد لأنه في ساعة معينة من السنة يضع المحراث بنفسه بالأرض يحرثها.
ومهما يكن من شئ، فقد كانت هذه الأنظار الفيزيوقراطية إرهاصا بمجهود فكري مجيد، احتمله فلاسفة الإصلاح، وعلى رأسهم (روسو) و (هوبز) و (متتسكيو) وقد أفادوا من المذهب الفيزيوقراطي أصوله السياسية كالحقوق الطبيعية، وأصوله القانونية والاجتماعية كالإرادة العامة، وساروا بها شوطاً بعيداً حتى جاء (دوركيم) زعيم المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة، فعمل على تجريد البحث الاجتماعي من الجانب النفعي، وضم البحث الاقتصادي إلى فروع علم الاجتماع البحت، واكتشاف القوانين الصارمة، ورسم البرامج لذلك كله.
محمد محمود زيتون(882/19)
خواطر جغرافية
للأستاذ محمد محمد علي
إن اعتماد الناس في ممارسة الحرف على ظروف كثيرة. ظاهرة ملحوظة؛ ففي بعض الأقاليم نجد مجال اختيار الحرف محدوداً وفي أقاليم أخرى نجده كبيراً. وفي أغلب مناطق أمريكا الجنوبية حيث يسكن بقايا من الهنود لا يزالون صيادين، ويضيعون وقتهم في تحقيق رغبات بدائية، وهم لا يستغلون كل موارد الثروة في بلادهم. وواضح أن الفرق عظيم بين هذه الحياة البدائية البسيطة والحياة الحديثة في نيويورك مثلاً. وتتميز هذه الحياة بوجود ترابط بين مختلف الحرف، وهذا الترابط ونمو رغبة الإنسان المتزايدة وقدرته على استغلال الموارد الطبيعية.
كان الناس في الأزمنة الغابرة يعيشون في أراضيهم، ويتبادلون مع جيرانهم بما يزيد عن حاجاتهم، أي كان اعتمادهم على الأرض التي يقطنونها. فيمكن القول بوجه عام أن النشاط التجاري ليس بجديد. فالحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والبابلية في العالم القديم، وحضارة الأزت والمابا والانكا في العالم الجديد، أقامت نظماً في التبادل مختلفة. وبانتقال الحضارات من غرب آسيا إلى البحر المتوسط وشمال غرب أوروبا حدثت تغييرات ملحوظة في النظم الاقتصادية. ولقد كان الفينيقيون والإغريق والقرطاجيون والرومان يتاجرون في العطور والأحجار الكريمة ومنتجات الغابات، ووصلوا إلى الشواطئ الغربية والشمالية للبحر الأسود فضلاً عن قيامهم بدور الوسيط بين تجارة الشرق والغرب. فلما كسدت التجارة القديمة في البحر المتوسط جاء الصليبيون في أوائل العصور الوسطى واشتغلوا بالتجارة، ثم قامت جنوه والبندقية وأصبح لهما أهمية تجارية عظمى، وكانت أساطيلهم تمخر عباب كل أجزاء البحر المتوسط. ومع أن سكان أوربا قد عرفوا كثيراً من المنتجات التي كانت مجهولة لديهم من قبل، فإن التجارة لم تكن نشيطة إذا قورنت بما حدث في عصر الاستكشاف، والانقلاب الصناعي. وفي أوائل القرن الخامس عشر واجهت مجموعات المدن التجارية صعوبات متزايدة في الحصول على منتجات الشرق، إذ أن استيلاء الترك على مصر والقلاقل السياسية سبب ركوداً في التجارة. فولى تجار أوربا وجوههم شطر الأطلنطي لعله يؤدي إلى طريق مضمون لتجارة الشرق. وأول من فعل ذلك(882/20)
الأسبان والبرتغال ثم الإنجليز والفرنسيون والهنولنديون. وعلى الرغم من الحروب فقد فاضت خزائن الأوربيين بالذهب والفضة. ثم كانت بذور النهضة الصناعية فترك الصناع اليدويين منازلهم إلى المصانع، وبعد أن كانت الريح والمجاري المائية مصدر للطاقة أصبح الفحم هو المصدر ثم الكهرباء. وقد أدى الانقلاب الصناعي إلى التخصص والتركز، وأدت التغيرات التي صحبته إلى زيادة السكان في العالم من 500 مليون نسمة سنة 1700 إلى أكثر من بليونين في الوقت الحاضر. ولا شك أن أساس الزيادة هو التقدم والارتقاء من جراء التبادل والاحتكاك.
اكتشف الإنسان الموارد الطبيعية واستطاع أن يستغلها؛ ولم تتغير فقط نواحي نشاطه بل إن البيئة الطبيعية اعتراها التغيير؛ فمثلاً تستجيب الحياة النباتية والحيوانية لذبذبات المناخ والاختلافات الجوية. ويمكن للإنسان أن يتغلب على الصعوبات الطبيعية، فهو يجفف البرك ويروي الصحارى ويخصب التربة المجدبة، بل ويستنبت النباتات في البيوت الزجاجية ويشق القنوات ويفتح الممرات ويطير في الهواء!. ولئن كان هذا يكشف عن قدرة الإنسان على تغلبه على البيئة فإن من الضروري أن يكيف نفسه مع ظروفها. فالمناطق المدارية والتندرا لا تزال كما هي بالرغم من كل ما أمكن الإنسان أن يفعل. إذ يستحيل استنبات الموز في مناطق التندرا (الصحارى الجليدية) أو رعى الرنة في الغابة الاستوائية. وإذ يعتبر الإسكيمو نفسه سعيد الحظ إذا حصل على غذاء كاف ومأوى دفئ، فإن ساكن المناطق المدارية يكافح ليحمي نفسه من الوحوش الضارية والحشرات المؤذية والحرارة المرتفعة والرطوبة العظمى.
إن قدرة الإنسان على الاستفادة من الموارد الطبيعية في تغير؛ ففي الأيام الخالية كانت المجاري المائية مورد الغذاء لكنها كانت تعوق حركات السكان، ثم أصبحت طرقاً هامة فمصادر للري والطاقة وهناك مثل حي للدور الذي تلعبه البيئة في الاقتصاد؛ فمنذ أقل من قرن كانت اليابان أمة أبناؤها 30 مليون نسمة. كان معظمهم يكفي نفسه بنفسه. واليوم يقطن اليابان الأصلية أكثر من 75 مليون نسمة بالإضافة إلى ثمانية وعشرين في إمبراطوريتها الاستعمارية. باستثناء منشورياً وما أخذ من الصين (وهذا طبعا كان قبل الحرب العالمية العظمى الثانية) ومع أن البيئة المحلية هي كما كانت منذ قرن فإنها مع(882/21)
تطور التجارة تلعب دوراً خطيراً، لأن اليابان ربطوا اقتصادهم بالبيئة العالمية. وقد استغلوا أنهارهم القصيرة في توليد الكهرباء للصناعات، وهذا مع رخص الأجور وضع أساس النهضة الصناعية. فكان المستورد من الصوف والقطن والمعادن يصنع ويصدر ثانية. كل ذلك جعل من اليابان القوة الوحيدة بالشرق الأقصى.
والجغرافيا الاقتصادية من أهم فروع الجغرافيا، فهي تدرس الحرف المختلفة وتحاول أن تشرح سبب تفوق مناطق خاصة في إنتاج وتصدر مختلف السلع، في حين تتفوق أقاليم أخرى في الاستهلاك والاستيراد. ومن البديهي أن هناك أسبابا طبيعية لنشاط الإنسان في حصوله على حاجياته الرئيسية: الغذاء والكساء والمأوى والوقود. فلن يبحث الصائد عن الدب القطبي في مناطق السفانا المدارية، أو السباع في أقاليم التندرا. ولا تنمو الحبوب في الصحراء المجدبة، إنما يبحث الإنسان عن المياه الضحلة قرب الأرصفة القارية من أجل السمك، وعن حقول الفحم وآبار الزيت وعن الغابات الدفيئة وعن السهول الخصبة المستوية للزراعة. وإذا عرفنا أثر العوامل الطبيعية فلا يمكن أن نتجاهل العوامل البشرية، فالمؤثرات الجنسية والتقاليد الموروثة تؤثر في مختلف نواحي نشاط الإنسان، فالمواهب الفنية للفرنسي، وصبر العامل الصيني، وعادات الفراغ في أمريكا اللاتينية. . هي تؤثر في الزراعة والصناعة والتجارة، ولا يمكن أن تكون أقل أهمية من العوامل الطبيعية.
إذن يمكن القول بوحه عام إن الصلة بين عوامل البيئة الطبيعية والأحوال الاقتصادية من جهة، وبين الحرف المنتجة وتوزيع إنتاجها من جهة أخرى، هذه الصلة هي موضوع دراسة الجغرافيا الاقتصادية. ثم إن الناس اليوم في كل مكان لا يتأثرون ببيئاتهم المحلية فحسب بل يتأثرون أيضاً بالبيئات الأخرى وبالأحوال الاقتصادية في شتى بقاع العالم.
محمد محمد علي(882/22)
شعر القرن التاسع عشر بين التجديد والتقليد
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
بقية ما نشر في العدد القادم
لقد كان هؤلاء الشعراء مقلدين لمن سبقوهم من ضعاف الشعراء في عصور الانحطاط، بعد أن فترت همتهم عن التحليق في سماء التجديد وذابت شخصياتهم، فلم يعد لهم قدرة على الخلق والابتكار، بل وضعوا أنفسهم في مقام التابعين للضعفاء، والمرء حيث يضع نفسه. وليس أدل على التقليد وفتور القريحة، من اتخاذ شعر الأقدمين مجالاً للتشطير والتخميس وما شابه ذلك فاستمع إلى حسين بيهم المتوفى سنة 1881 يقول:
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... وحباكها من فضله الرحمن
نادك طائر يمنها وسعودها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... وأملك بها الغبراء فهي سنان
وأصعد بها العلياء فهي معارج ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
والشاعر في مثل هذا متقيد بمنهج غيره، ملزم بإحساس شاعر آخر مجار له فيما يقول، فهو يضع شطراً مقابل شطر، فأين في مثل هذا تصوير العاطفة والإحساس.
وقد يلجأ الشاعر إلى طريقة أخرى؛ فهو يقلد من سبقه في معانيه ووزنه وقافيته، ولا يزال يلح في التقليد حتى ينقل إليك من كلام السابقين ما حلا له، ومن ذلك قول (فارس الشدياق) فيما سماه (دمعة على طفل)
الدمع بعدك ما ذكرتك جاري ... والذكر ما وراك ترب وار
يا راحلا عن مهجة غادرتها ... تصلي من الحسرات كل أوار
خطأ وهمت فأين بعدك مهجتي ... ما في حشاي سوى لهيب النار
رمقا أقل الجسم مني فادحا ... فكأنه وقر من الأوقار
ما بعد فقدك رائعي أو رائقي ... شيء من الظلمات والأنوار
أبني ما يجدي التصبر أقوله: ... حكم المنية في البرية جار
كلا ولا بي قر بعدك من حمى ... ما هذه الدنيا بدار قرار
وهكذا يمضي الشاعر مقلداً مرة وناقلاً مرة أخرى إلى آخر القصيدة. ومن التأثر بشعر(882/23)
الأقدمين قول السيد علي الدرويش يذم بلدة منفلوط وكان قد زارها فلم يلاق فيها ترحيباً ولا براً:
وردنا منفلوط فلا سقاها ... وردناها فأظمأنا الورود
فمالي قد بعثت لقوم عاد ... كأني صالح وهم ثمود
أراهم ينظرون إلى شزرا ... كعيسى حين تنظره اليهود
ومن الألوان التي أسرفوا فيها، وبعدوا فيها عن منهاج الشعر الصحيح ما سموه (بالتاريخ الشعري) ومن أمثلة هذا قول أحدهم يؤرخ تولي الخليفة للخلافة:
تولى التخت سلطان البرايا ... وأيده الإله بمرتقاه
فصاح الكون لمل أرخوه ... نظام الملك (محمود) بهاه
فتأمل كيف يضيع الشاعر وقته، وينفق مجهوده في وضع حرف مكان حرف، وكلمة مكان أخرى حتى يخرج مجموع الحروف في قوله: (نظام الملك محمود بهاه) (1223) وأية ناحية من نواحي الجمال في مثل هذين البيتين.
وراح الشعراء لنضوب الأذهان من المعاني الجليلة يطرزون اللفظ والمعنى بشتى ألوان المحسنات، فكان بعضهم يوفق في اصطياد المحسنات فتأتي سهلة لا يشق وقعها على السمع، ولا تنبو على الذوق. من مثل الاقتباس في قول البرير حينما هجاً تاجراً سها عن الآخرة:
يا تاجرا لا يزال يرجو ... ربحا ويخشى الخسارة
عبادة الله كل حين ... خير من اللهو والتجارة
وكان يخطئهم التوفيق أحياناً فيسمجون. فتأمل قول الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي في وصف دار للجبرتي:
سما في سماء الكون فأنتهج العلا ... برفعته وازداد سرا سروره
ومن مجد بانيه تزايد بهجة ... وقلد من دار المعالي نحوره
ودام بعد سعد المعالي مؤرخا ... حمى العز بالمولى الجبرتي نوره
وقول علي الدرويش في وصف قصر أيضاً:
وقصر كالسماء به نجوم ... مطالعه السعادة والبدور(882/24)
على أقطاره تبكي عيون ... إذا ابتسمت لوارده زهور
فليس بوافد وافاه نهر ... وقد نضدت لمدحه البحور
لئن أضحى لمبناه متون ... فقد شرحت لرونقه الصدور
ولقد كان هؤلاء الشعراء أنفسهم ومن في طبقتهم إذا تجاوزوا هذه الموضوعات إلى موضوعات أخرى فيها حديث النفس وتصوير العواطف؛ أصابوا بعض التوفيق فتأمل قول السيد عمر اليافي وكان من المتصوفين:
أنا بالله اعتصامي ... لا أرى في ذاك شكا
موقنا أن لا سواه ... كاشف ضرا وضتكا
راجيا فيه نوالا ... ورشادا ليس يحكى
لم أزل لله عبدا ... وبهذا أتزكى
ولعلك واجد في هذه الأبيات طبعاً وانسجاماً وسهولة لا تحسها في الأشعار السابقة.
ولا بأس من أن نعرض هنا صوراً من استجابة هؤلاء الشعراء إلى عواطفهم؛ في موضوعات الفكاهة والدعاية ووصف الطبيعة وشكوى الزمان، ففيها على أي حال طلاقة وإحساس، وقوة ملامح الشاعر التي تميزه عن غيره من الشعراء. ونحن لا ننكر أننا سنجد في هذا كله سذاجة في بعض المعاني، وسنقع على بعض الضعف في الأسلوب، ولكننا مع هذا سنستجيب لاحساس الشاعر وسنقبل عليه متأثرين بكثير مما قال - وتتضح لنا شخصيته التي كانت تختفي في الأغراض السابقة وراء حجب كثيفة من التقليد. ستتضح لنا بين الحين والحين ويختفي ضعفه وفتوره، كما تختفي علة المريض أحياناً في ومضات من عودة الصحة وسلامة العافية. قال الشيخ صالح التميمي ينعى على أرض أقام فيها فلم يطب له فيها المقام:
ما إن تحركت الغصون بأرضها ... إلا تحرك في الحسوم أذاها
أشجارها خضر وأوجه أهلها ... صفر محا كسف السقام بهاها
لولا قضاء الله حتم واجب ... أبت المروءة أن أدوس ثراها
وقال أحدهم يشكو الدهر:
رمت قلبي رمال الدهر حتى ... رأيت دمي يسيل من العيون(882/25)
فلو كان الزمان يصاغ جسما ... لكنت أذيقه كأس المنون
وقال الشيخ يحيى المروزي العمادي العراقي:
على ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبر
ومن ذلك قول الحاج عمر الأنسي البيروتي المولود سنة 1822 في وصف ثقيل اشتكى من كثرة الذنوب:
شكا ثقل الذنوب لنا ثقيل ... فقلت له استمع لبديع قيلى
ثلاث بالتناسب فيك خصت ... فلم توجد بغيرك من مثيل
ذنوبك مثل روحك ضمن جسم ... ثقيل في ثقيل في ثقيل
ولعلك تدرك شيئا من ضعف الأسلوب في هذه الأبيات.
وفي الأبيات التي سنعرضها عليك فيما يلي، خفة روح، وتصوير فكه وهي لنيقولا الترك يتحدث عن سرواله وعمامته.
وسروال شكا عتقا وأمسى ... يراودني العتاق فما عتقت
وكم قد قال لي: بالله قلني ... وهبني وكنت عبدا وانطلقت
أما تدري بأني صرت هرما ... وزاد علي أني قد فتقت
فدعني حيث قل النفع مني ... وعاد من المحال ولو رتقت
ولا تعبأ بتقليبي لأني ... بممر أبيك نوح قد لحقت
ولم يبرح يجدد كل يوم ... على النعي حتى قد قلقت
وقلت له: عتقت اليوم مني ... لأني في سواك قد اعتلقت
فأشعرت العمامة في مقالي ... له فاستحسنت ما قد نطقت
فراحت وهي تشدو فوق رأسي ... لي البشرى إذا وأنا عتقت
نعم في هذه الأبيات مرح وإحساس، ولكن فيها بجانب ذلك
عسراً في القافية، واضطراباً في الأسلوب؛ لأن الصياغة لم
تسلس بعد للشاعر، ولم يمرن على الأسلوب السهل الرصين.(882/26)
ومن أمثلة وصف الطبيعة الجميل في هذا العهد - وإن تعمد
فيه الشاعر المحسنات - قول أمين بن خالد الجندي:
يا حبذا الربوة من دمشق ... بالفضل حازت قصبات السبق
كم أطلعت بها يد الربيع ... من كل معنى زائد بديع
وفتح الورد الكفوف إذ دعا ... داعي الصباح للها ورجعا
وفككت أنامل النسيم ... أزرار زهر الرند والشميم
وسقطت خواتم الأزهار ... من فتن الأغصان كالدرارى
والتف سيف البرق في أوراق ... مذ شام خيل الريح في سباق
ما بكت السماء بالغمام ... إلا وصار الزهر في ابتسام
ونحن إذا ما تتبعنا الشعر خلال هذا القرن، وبخاصة بعد أن انقضى عهد منه؛ لحظنا فيه بدوراً من بوادر النهضة توشك أن تظهر في وضوح وجلاء مع توالي الأيام. فما الذي أحدث هذا يا ترى؟! وما البواعث التي جعلت الشعراء يعزفون عن التقليد شيئاً فشيئاً، ويقبلون على ألوان جديدة من الشعر، توشك أن تحمل مميزات الشعر وصفات التجديد؟
نحن لا نشك في أن العلم الذي قطرته البعثات، ومهدته الترجمة قد وجد طريقه إلى الشعر ففرزت معانيه، ودقت ورقت أخيلته، وسمت وتعددت آفاقه، فخاض في ألوان جديدة، وطرق معاني لم يكن يطرقها من قبل. وعندئذ التفت الشعراء إلى ثقافة الماضي فوجدوها آلية، قد تقيم اللسان، ولكنها لا تقدر على البيان، وقد تدرب على الصرف والعروض، ولكنها لا تجلو لعيني الشاعر أسرار الحياة، ولا تمده بالخيال الخصيب والمعاني البديعة، ولهذا عابوا على النحو والنحويين، وانتقدوا العروض والعروضيين. فاستمع إلى الشيخ الأسير يعيب على شعراء اللفظ:
خليلي كم قد جاء في الناس شاعر ... وليس له بيت من الشعر عامر
واستمع إلى إلياس صالح وهو يتهكم على المبالغة في النحو:
ماذا الذي يهمني ... إن قام زيد أو قعد؟
أو إن ذهبت ماشيا ... أو راكبا نحو البلد؟(882/27)
أو كان زيد مبتدا ... أو فاعلا سد المسد؟
أو إن يكن ذا الاسم يب ... ني أو يكن هذا يهد!
تصالح الفعلان أو ... تنازعا طول الأبد
في النحو لا تقهرني ... إلا تفاصيل العدد
وأفضل التفضيل كم ... قد شذ فيه وشرد
وغير هذى عقد ... تبا لها تيك العقد
ترى بها قواعدا ... بدون معنى وزبد
مختومة جميعها ... يقس عله ما ورد
وهذا ولا شك إعلان للحرب على القديم، حيث كان الناس يعدون من لا يبالغ في دراسة النحو والصرف والعروض لا يحق له أن يغامر في ميدان الشعر. وقد آمن الكثير من الأدباء ومنهم الأستاذ العقاد والدكتور هيكل باشا بأن أول من جمع بين الطريقتين ولفق بين الاتجاهين الساعاتي الشاعر؛ فقد كان وسطاً بين الناسجين على طريقة القدامى، والناقدين لمذاهبهم في المبالغة لدراسة النحو والعروض فهو القائل:
فدعني من قول النحاة فإنهم ... تعدوا لصرف النطق من غير لازم
إذا أنا أحكمت المعاني خفضتهم ... وأرفعها قهرا بقوة جازم
وما أنا إلا شاعر ذو طبيعة ... ولست بسارق كبعض الأعاجم
ومن بواعث التجديد في النصف الثاني من هذا القرن، أن الناس قد استروحوا شيئاً من نسيم الحرية الشخصية، بعد أن كمت الأفواه وغللت الأقلام قروناً طوالاً، فوجد الشعراء في خلال هذه الحرية منفذاً إلى تصوير العواطف والانطلاق على السجية؛ فعبروا عن النفس في انقباضها وبسطها، وهتفوا بالمعاني الكريمة التي تصور المآرب والآمال. وأنا أعني بهذه الحرية ما عناه الشاعر وترجمه المنفلوطي حيث قال: (أريد أن أعيش حراً طليقاً أضحك كما أشاء، وأبكي كما أريد، واحتفظ بنظري سليماً، وصوتي رناناً، وخطواتي منتظمة، ورأسي مرفوعاً، وقولي صريحاً، أنظم الشعر في الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد منه فذاك، وإلا تركته غير آسف عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلاً من أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرظوه، والممثلين أن(882/28)
يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه.
أريد أن أعيش حراً طليقاً أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقاً أولئك، ولا خاشياً هؤلاء. .)
وقد يكون مصدر هذه الحرية الشخصية التي أدركها الناس فيما يقولون وما يدركون؛ راجعاً إلى الحرية السياسية التي أصاب الناس بصيصاً منها على يد الحكام، بعد أن انتقصها السابقون وجار عليها السادة الغابرون، فقد عرف إسماعيل باشا أنه مسئول عن رقي الأمة المصرية، فعمل على إحياء ما يبعث الأمل في قلوبهم ويقوي الرغبة في نفوسهم، فمنحهم بعض الحقوق الدستورية، وقد حدث ما يشبه هذا في الشام والعراق، على يد مدحت حينما طالب الناس بالدستور، ولكن ذلك كله لم يطل أمره، فقد تغيرت الأحوال وتبدلت الشئون.
وقد يكون مصدر هذه الحرية العلم الذي انتشر وذاع وتملأه الناس: فالعالم أحرص الناس على كرامة نفسه، والاعتزاز بمكانتها، ولهذا أنف الشعراء بعد هذا أن تسد في وجوههم طرق الصراحة والتماس الحق، والتغني بالجمال حيث كان.
وقد ساعد على نمو هذه الحرية، رخاء العيش في ذلك الزمان كما أدركوا إعجاباً وتشجيعاً من الجمهور، فطبعوا ما أنتجته قرائحهم، ووجدوا من يقدر هذا الإنتاج، ويقبل عليه، فحصلوا على المال دون إراقة لماء الوجوه.
ومن أسباب رقي الشعر في هذا العهد، أن الناس قد شعروا بشيء من الكرامة والعزة، فانتبهوا إلى ماضيهم المجيد يقلبون صفحاته، وينقبون عن صفاته، فوجدوا الفخر كل الفخر في مجد آبائهم العرب، فالتمسوه في أخبارهم وأشعارهم وكتبهم؛ وساعدهم على هذا الاتجاه المطبعة التي صارت تقذف إليهم كل يوم بذخائر المسابقين وكنوزهم - فعلموا بعد هذا - أنهم أضاعوا المجد وعبثوا بالتراث، وأنه من الخير لهم أن يقووا أنفسهم عن طريق التعصب للقومية العربية، فهي خير القوميات وأكرمها، فكان هذا التعصب من أسباب قوة الشعر ونهضته وما هتف هاتف قبل الشيخ إبراهيم اليازجي بمثل قوله:
وما العرب الكرام سوى نصال ... لها في أجفن العليا مقام
لعمرك نحن مصدر كل فضل ... وعن آثارنا أخذ الأنام
ونحن أولو المآثر من قديم ... وإن جحدت مآثرنا اللئام(882/29)
فقد علم العراق لنا قديما ... أيادا ليس تنكرها الشام
وفي أرض الحجاز لنا فيوض ... يسيل لها إلى اليمن انسجام
وفوق الأندلوس لنا بنود ... لهامات النجوم بها اعتصام
وسل في الغرب عن آثار فخر ... لها في جبهة الزمن ارتسام
ولسنا القانعين بذكر هذا ... وليس لنا بعروته اعتصام
ولكنا سنجري في المعالي ... إلى أن يستقيم لها قوام
والالتفات إلى مجد العرب لفتهم إلى مجد قومي آخر يتصل بالماضي القديم، وكان هذا أكثر ظهوراً في مصر؛ لما لها من مجد عريق، فها هوذا السيد الدرويش يحاول أن يتحدث عن الهرمين وخلودهما ولكن الأسلوب لا يسعفه فيقول:
أنظر إلى الهرمين واعلم أنني ... فيما أراه منهما مبهوت
رسخا على صدر الزمان وقبله ... لم ينهضا حتى الزمان يموت
وها هوذا الشيخ نجيب الحداد يتحدث عن مجد مصر فيقول:
أرض إذا لم يعل في أرجائها ... علم فإن كرامها أعلام
لبست من المجد التليد مطارفا ... ولها من المجد الطريف وسام
وتعانقت والفخر من قدم كما ... قد عانقت ألف الكتابة لام
مجد به هرم الزمان ولم يزل ... غضا وقد شهدت به الأهرام
ومن حقك الآن أن تسأل: إذا صح أن الالتفات إلى القومية والاعتزاز بالكرامة، قد جعلا الشاعر يخوض في أغراض غير التي ألفها الشعراء من قبل، ويتناول من المعاني ما غاب عن السابقين، وند عن الغابرين، فكيف نفسر قوة الأسلوب الطارئة، والعزوف عن المحسنات البديعية التي فتنت الناس عهوداً طوالا!؟ وأنا أجيب بأن الاتجاه إلى الأمور الجدية يصرف المرء دائما عن الصغائر، ويبعده عن العبث الذي لا طائل تحته، فما قيمة مراعاة الجناس والطباق والتورية فيما يتطلبه صاحب الهمة من الإصلاح، وما قيمة مراعاة النظير وحسن التعليل لراغب في تصوير عواطفه والانبعاث على سجيته. لقد كبرت آمال الشعراء ونفوسهم فترفعوا عن كل صغير تافه، والتمسوا تحقيق المآرب من أقرب المسالك فأزالوا ما يعترضهم من عقبات، وألبسوا معانيهم الأسلوب السهل الجميل، وهو لا يحملهم(882/30)
عناء، ولا يصرف وقتهم في التماس الزينة، واصطياد الزخارف. على أنهم وجدوا طلبتهم فيما بعثت به المطبعة من أشعار الفطاحل في عصور العربية الزاهرة: فقد وجدوا جريراً والفرزدق والأخطل والكميت وقطري بن الفجاءة وإضرابهم إذا ما عالجوا الشعر، دفعوا إلى المعاني في أسلوب قوي رصين لا يشوه من جماله، ولا يحد من بلاغته تلك الزخارف الكثيرة التي مسخت طبيعته بعدهم نحو ألف من الزمان، وحالت دون تحليقه في كل سماء، واندفاعه إلى كل غاية
وبعد فإنه لا يختلف اثنان في أن البارودي بما انتج من شعر رصين كان بداية عهد جديد للشعر حط عنه قيوده وأغلاله، وبعث فيه الحياة فجال في كل فن، واستبق إلى كل غاية، فلم يقصر دون اللحاق بالفحول السابقين، ولم يدركه ما أدرك شعراء زمانه من فتور القريحة وركود الذهن.
بل لا يختلف اثنان، في أنه أول شاعر أحس قيمة الشعر وقيمة النفس؛ فترفع بهما عن سفساف المطالب، وزري المقال وتغنى كما يتغنى صادح الأيك على سجيته: فبكى وابتهج واشتكى وافتخر وعاتب وحن إلى الديار، وصور الجمال ولم يمدح إلا عن يقين، أو لرد جميل سلفت أياديه عليه؛ فكان بهذا نسيج وحده في القرن التاسع عشر. وإن لم يطلب بشعره كل ما نريده من الشعر في وقتنا الحاضر، ويكفيه أنه رائد الركب إلى الغايات الكريمة، ولا نذكر هنا من شعره المثل أو المثالين؛ إلا لنعرض في هذا المقام لوناً جديداً من شعر جديد، لم يشنف الأذن في الكلمة شبهه، ولم يطرق القلب نظيره، والحق أن كل شعره فاتن خلاب، يحمل المتخير على الحيرة فيما يأخذ وما يدع
ومن الأمثلة التي تدل على تيقظه السياسي قوله يخاطب الخديو:
سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجري عليها كل راع مرشد
فمن استعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد
أمران ما اجتمعا لقائد أمة ... إلا جنى بهما ثمار السؤدد
جمع يكون الأمر فيما بينهم ... شورى وجند للعدو بمرصد
فالسيف لا يمضي بدون روية ... والرأي لا يمضي بغير مهند
ومن قوله من قصيدة يتشوق إلى وطنه:(882/31)
هل من طبيب لداء الحب أوراقي ... يشفى غليلا أخا حزن وإبراق؟!
قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقا ... حتى جرى البين فاستولى على الباقي
حزن براني وأشواق رعت كبدي ... يا ويح نفسي من حزن وأشواق
أكلف النفس صبرا وهي جازعة ... والصبر في الحب أعيا كل مشتاق
لا في سر نديب لي خل ألوذ به ... ولا أنيس سوى همي وإطراقي
أبيت أرعى نجوم الليل مرتفقا ... في قنة عز مرقاها على الراقي
بهذا الروح القوي، والأسلوب الجزل الرصين، يمضي شاعر القرن التاسع عشر في قصائده؛ فلا تحس قلقاً ولا ترى ضعفاً، ومن الحديث المعاد أن نطيل في إطرائه والثناء على مكانته، ولكنا لا ننسى على أي حال أنه كان كثير التقليد لفحول النابغين. وآمل أن أوفق - أو يوفق غيري - إلى إيضاح التقليد والتجديد والتجديد في الشعر الحديث من لدن البارودي إلى وقتنا الحاضر، لندرك ما أصابه من القوة، وما بعد به عن الغاية المرجوة. والله وحده المسئول أن يأخذ بيد الشعر إلى أقوم طريق.
(واد مدني)
أحمد أبو بكر إبراهيم
المدرس الأول بحنتوب(882/32)
أستاذ جامعي يتبنى تحريف وراق
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان الشيخ فرج الله زكي الكردي طالب علم بالأزهر، وقد بدا له أن يجمع إلى هذا الاشتغال بطبع الكتب الأزهرية ونشرها فابتدع في ذلك بدعة جديدة: أن يجمع في نسخة واحدة عددا من الشروح والحواشي الموضوعة على المتن الأزهري، ليسهل على الأزهريين الإلمام بجميع المماحكات اللفظية في تلك الشروح والحواشي، ويزيدوا في هذا على من سبقهم في عصر المطبعة وانتشار الكتب، وسهولة اقتنائها على طلاب العلم
وقد بدا له في سنة 1317 هـ - 1899 م أن يفعل هذا في متن التلخيص، فجمع في نسخة واحدة عدداً من شروحه وحواشيه، وهو الذي يعرف في البيئة الأزهرية بشروح التلخيص فوضع في صلبها شرح المختصر على متن التلخيص للسعد التفتازاني، ومواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح لأبن يعقوب، وعروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السبكي، وهي على هذا الترتيب في الصلب، ثم وضع بالهامش الإيضاح لتلخيص المفتاح، وهو لصاحب متن التلخيص، وقد جعله في أعلى الهامش ووضع حاشية الدسوقي على شرح السعد التفتازاني في أسفله، وقد ميز بين هذه الشروح والحواشي بفواصل أفقية، وعنى رحمه تعالى بتصحيح هذه المجموعة، وبوضع هذه الفواصل في كل صفحة منها، في الطبعة الأولى، واختار لها المطبعة الأميرية ببولاق زيادة في الاعتناء
فلما نفدت هذه الطبعة من هذه المجموعة أعيد طبعها بعد هذا في مطبعة السعادة الموجودة بجوار محافظة القاهرة، ولكن الطبعة الجديدة لم تكن جيدة التصحيح كالطبعة الأولى، فوقع بعض التحريفات فيها ونسى وضع الفواصل الأفقية بين شروحها وحواشيها في بعض صفحاتها، وكان هذا سبباً في التحريف الذي وقع في كتاب الإيضاح، وفيما له من هذه القصة الظريفة التي يتبنى فيها أستاذ جامعي ذلك التحريف، فقد قررت دار العلوم وكلية الآداب وكلية اللغة العربية دراسة كتاب للإيضاح في علم البلاغة، فرأى حضرة محمد صبيح أفه دي أن يقوم بطبعه منفصلاً عن تلك المجموعة، لأن تلك المعاهد تريد دراسته وحده، وتريد أن تبعد طلابها عن شروح التلخيص وحواشيه، ليتخلصوا في دراستهم العالية للبلاغة عن مماحكاتها اللفظية، ويتربى فيهم شيء من الذوق والنقد البلاغي يعلو على هذه(882/33)
المماحكات، وهذا الوراق الفاضل من أشهر المشتغلين بنشر الكتب في مصر لكنه يتساهل أحياناً فيختار لتصحيح ما ينشره من غير ذوي الدراية في التصحيح. فلما قام بطبع كتاب الإيضاح اعتمد مصححه على النسخة الموجودة بأعلى هامش تلك المجموعة في طبعة مطبعة السعادة، فلم يرجع في ذلك إلى نسخة خطية من الايضاج، ولم يرجع إلى الطبعة الأولى لتلك المجموعة، فلما وصل إلى آخر الكلام على وصف المسند إليه من الإيضاح لم يجد فاصلاً أفقياً بين الإيضاح وحاشية الدسوقي، وكان ما تحت الإيضاح من هذه الحاشية في تلك الصفحة تتمة لتعليقة في الصفحة السابقة على شرح السعد فأضافها ذلك المصحح إلى كتاب الإيضاح، مع أن سياقه ينبو عنها ومع أنها تتصل بكلام في شرح السعد، فلا تكون إلا من الحاشية الموضوعة عليه، وقد تمت هذه الطبعة من الإيضاح سنة 1342 هـ - 1923 م، وتناولها الطلاب والمدرسون فأثار هذا التحريف من المشاكل بينهم ما أثار، حتى إني رأيت واحداً منهم يرجع إلى نسخة خطية من الإيضاح في دار الكتب الملكية فلا يجد فيها هذه الزيادة الموجودة في الإيضاح المطبوع، فيضع عليها تعليقاً بخطه مرجحاً فيه أن الزيادة التي في طبعة محمد صبيح أفندي من حاشية الدسوقي.
ولما كانت 1353 هـ - 1935 م قمت بوضع شرح على الإيضاح، وكان بين يدي من نسخة طبعة الكردي الأولى في أعلى هامش مجموعته، وطبعة صبيح أفندي، فلما وصلت إلى التحريف علمت أمره، وحذفته من الإيضاح في شرحي عليه، وتوالي طبعه ثلاث مرات وأنا أحذف منه هذه الزيادة في ذلك الموضع، وقد أعاد صبيح أفندي طبع الإيضاح بعد أن نفدت طبعته الأولى، فاعتمد على نسختي، وحذف منه تلك الزيادة في موضعها، إلى تحريفات كثيرة كانت في طبعته الأولى.
وأخيراً قام بعض مدرسي كلية اللغة العربية في هذا العام بوضع شرح على الإيضاح، فلما وصل إلى ذلك الموضع منه وقع أيضاً في ذلك التحريف، وهنا موضع الطرافة في هذه القصة، لأن صاحب هذا التحريف وهو صبيح أفندي رجل وراق، وليس مدرساً في كلية، فلم ير شيئاً في أن يقع في ذلك الخطأ، ولا في أن يرجع عنه بسهولة، فيصححه في طبعته الجديدة، أما مقلده في ذلك التحريف فأستاذ مدرس في كلية، لا في معهد ابتدائي أو ثانوي، فلا يصح أن يسجل على نفسه مثل ذلك الخطأ، ولا يصح أن يرجع عنه بالسهولة التي(882/34)
رجع بها ذلك الوراق، بل يجب أن يتبناه لنفسه، وأن يدافع عنه بما يليق بأستاذ جامعي.
والحقيقة أني استكثرت في أول الأمر مثل هذا على ذلك الأستاذ، واعتراني الشك في خلو نسختي من هذه الزيادة التي تبلغ نحو سبعة أسطر، وكنت قد نسيت بطول الزمن وقوع ذلك في طبعة صبيح أفندي القديمة، فأعدت بحث ذلك من الناحية العلمية، فوجدت سياق حاشية الدسوقي يحتم أنها منها. ولم اكتف بهذا بل أخذت أبحث في نسخة أخرى من شروح التلخيص غير نسختي، فوجدت تلك النسخة التي لم تضع فاصلاً في ذلك الموضع بين الإيضاح وحاشية الدسوقي بمكتبة كلية اللغة العربية. ووجدت بعض من طالعها قام بوضع ذلك الفاصل في موضعه، فعلمت من أين وقع ذلك الأستاذ في ذلك التحريف، ونبهت على ذلك في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - ولكن فاتني أن أرجع أيضاً إلى طبعة صبيح أفندي القديمة، لتنتقل القصة من هذه الطرافة إلى طرافة أعجب منها، ويعلم من بقى من زمننا القديم كيف يكون الإصرار على الخطأ في هذا الزمن الجديد.
فكان نسياني وقوع ذلك التحريف في طبعة صبيح القديمة فرصة سانحة لذلك الأستاذ، ولا يصح أن يترك انتهازها وهو مدرس في كلية، فطلب مني أن أطلع على تلك الزيادة فيها في ذلك الموضع، وإن كان قد جعله في باب التعريف باللام لا في باب الوصف، ولكنه يعرف أن طبعة صبيح ليست حجة في ذلك ولا سيما بعد رجوعه عنه في طبعته الجديدة، فلا بد أن يضيف إلى ذلك نسخة خطية للإيضاح في دار الكتب الملكية، من غير أن يعين رقمها، وهو ممن يعنى بتعيين أرقام المراجع، لأنه يعرف غفلة الناس في هذا الزمن، وسرعة تصديقهم لكل دعوى حتى صار العلم بيننا غريباً ذليلاً لا يجد من يغار عليه، أو يهمه تحقيق مثل هذا فيه، ولكن كان على الأستاذ أن يعرف مع هذا أنه لا يزال في الناس من لم يصل في الغفلة إلى ذلك الحد. ومن يبعث الشك في نفسه عدم تعيين رقم تلك النسخة الخطية للإيضاح في دار الكتب الملكية، إذا لم يأخذ منه بيقين أنه لا يوجد فيها تلك النسخة.
وقد رجعت فعلاً إلى نسخ الإيضاح الخطية بدار الكتب الملكية، فلم أجد ذلك التحريف الذي أدعى وجوده فيها ذلك الأستاذ، ولا يمكن أن توجد نسخة خطية للإيضاح فيها ذلك التحريف، لأن مصدره معروف وهو طبعة صبيح القديمة، وسبب وقوعه فيها معروف(882/35)
وهو عدم وجود ذلك الفاصل بين الإيضاح وحاشية الدسوقي في نسخة مطبعة السعادة من شروح التلخيص.
ولينظر بعد هذا صديقي الأستاذ عباس خضر في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - فسيجد بين ما فيه من مماحكات لفظية كنت مضطراً إليها كثيراً من مثل تلك القصة الطريفة وسيجد فيه مجالاً لدعاباته العلمية البريئة، كما يجد أن معركة القزويني لا تخلو من فوائد، أقلها حمل بعض الناس على التدقيق في التأليف وتصحيح الكتب وإن كان لها مضار بين الطلاب من جهة ما وقع فيها من الإسفاف، ولو كنت متصلاً بالرسالة في ذلك الوقت لدار فيها ذلك النقد فمضت المعركة القزوينية بريئة بفضل حكمة صاحبها، وضنه بصفحاتها على غير النقد البريء.
عبد المتعال الصعيدي(882/36)
معركة القزويني في الأزهر
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
نشر الأستاذ الكاتب الموهوب عباس خضر رأيه في هذه المعركة؛ وقد تفضل أستاذنا الجليل فضيلة الشيخ عبد المتعال الصعيدي، فنشر في الرسالة تعقيبا على كلمته. ويبدو أن أستاذنا الجليل يريد أن ينقل المعركة إلى ميدان الرسالة الغراء، إذ بدأ فنشر واتهم. وإني إنصافاً للحقيقة أضع أمام القراء الحقائق الآتية:
1 - ليس شرح الأستاذ الصعيدي للإيضاح مقرراً في الكلية، ولا شرحي أيضاً.
2 - لكثير من كبار الأساتذة في كلية اللغة كتب متعددة في علم واحد ومقرر سنة واحدة، فلم يؤد ذلك إلى أن يهاجم السابق اللاحق ولا العكس؛ بل إني أثنيت في شرحي على الأستاذ الصعيدي ومجهوده في شرح الإيضاح.
3 - وأساتذتنا في الكلية يحرصون على إباحة حرية البحث والتأليف لطلبتهم، فكيف يحجر أستاذ على زميله أن يؤلف في البلاغة لأن له كتاباً فيها؟
4 - وعندما ظهر الجزء الأول من شرحي بدأني الأستاذ الجليل بالخصومة، وطاف على الطلبة في الفصول ينبههم إلى أن كتابه هو المعتمد للدراسة وكتابي مملوء بالأخطاء ثم نشر بياناً للطلبة سماه (تنوير لطلبة كلية اللغة) يندد فيه بأخطاء مزعومة في الجزء الأول من شرحي.
5 - وقال له كثير من الأساتذة: أنه يهتم في نقده مهما كان، لأن هذا النقد لا يحمل على شيء أكثر من أنه دفاع عن كتاب.
6 - ورأى أنه لا يصح أن يلحق بغباره أحد، لأن له عشرين مؤلفاً. والطريف أن أحد الأساتذة الإجلاء ذكر له أن هذا ليس موضعاً للفخر، لأن الذي بنقده - خفاجي - أكثر من عشرين كتاباً بعضها مراجع ومصادر، مع أنه أستاذ ناشئ.
7 - وليت شعري بعد ذلك كله كيف انقلبت هذه المعركة العلمية إلى خصومة شخصية عند أستاذنا الجليل الشيخ الصعيدي، فامتنع عن مصافحتي كلما مددت له يداً، بل امتنع عن رد السلام كلما ألقيت عليه السلام؛ ونشرت بحثاً في الرسالة عنوانه: (موازنة أدبية) فنشر رداً عليه باسم مستعار لطالب زعم أنه من كلية الآداب؛ ونشر أخيراً كتاباً مطولاً سماه (دراسة(882/37)
لكتاب في البلاغة)، ظن أنه بهذا الكتاب يهدم زميلاً له، فكان حجة عليه لا له.
8 - وإني أعيذ القارئ من أن أطيل عليه، وأكتفي ببعض ملاحظات صغيرة أنشرها توضيحاً لمذهب أستاذنا الجليل في إصلاح البلاغة:
ا - ذكر أستاذنا الجليل الجاحظ في شرحه، فعرفه بأنه عمود بن بحر الأصفهاني!! ونسب فيه بيت حافظ المشهور: (الأم مدرسة إذا أعددتها) لشوقي؛ ورأى أن جميع الآراء والمذاهب البلاغية مماحكات لفظية ساقطة؛ وأن الخلاف بين عبد القاهر والسكاكي في التقديم والتأخير مثلا جدل ممل، إذ ليس بينهما نزاع حقيقي في التقديم وإفادته التخصيص أو التقوى؛ وعبد القاهر عند أستاذنا الجليل اضطرب كلامه في البلاغة، وكذلك أبو هلال. فإذا ما ذكرت الآراء والمذاهب البلاغية ووازت بينهما في شرحي كان ذلك عملاً يستحق النقد من أستاذنا الجليل؛ وكذلك إذا كتبت بعض بحوث جديدة عن نشأة البلاغة وعلمائها ومصادرها كان ذلك خطأ كبيراً مني لأنه يهدم مذهب أستاذنا الجليل في إصلاح البلاغة، وإذا ما حققت الكلام على متعلقات الفعل آلامها كسورة أم مفتوحة كان ذلك عملاً لا داعي إليه في عصر الذرة، وإذا ورد ذكر الكناية مثلا في علم المعاني فشرحت معناها في شرحي كان ذلك ذكراً للشيء في غير موضعه، والبيت:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
صدره زيادة زدتها أنا على الإيضاح كما يرى أستاذنا الجليل والطريف أن البيت موجود كما هو أيضاً في شرحه هو على للإيضاح
ب - ومن مذهب أستاذنا الجليل في إصلاح البلاغة أن ينشر إيضاح القزويني ويكتب على الكتاب ما نصه: (تأليف عبد المتعال الصعيدي المدرس في كلية اللغة العربية) وأن يفصل بين كلام صاحب الإيضاح بعناوين وتطبيقات دون أن ينبه على أن ذلك مزيد على الكتاب.
ح - ويذكر أستاذنا الجليل في شرحه هذا البيت
ظعنوا فكان بكاي حولا كاملا ... ثم ارعوبت وذاك حكم لبيد
وقال إن فيه تعقيداً معنوياً، فلفت نظره إلى أنه ليس فيه شيء من التعقيد، فخطأني وقال أنه ليس هو الذي يقول بذلك وحده، ولكن صاحب الصناعتين صرح بذلك، فرجعت إلى كلام(882/38)
صاحب الصناعتين، فوجدته ذكر البيت، ووصله ببيت ثان هو:
أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها ... بالدمع أن تزداد طول وفود
وقال أبو هلال: هذا خلاف ما يعرفه الناس لأنهم قد أجمعوا على أن البكاء يطفئ الغليل الخ، والمتذوق للأدب يفهم أن كلام صاحب الصناعتين إنما هو عن البيت الثاني (أجدر الخ) ولكن أستاذنا الجليل صرف كلامه إلى البيت الأول (ظعنوا الخ) فذكره وحده وحذف موضع الشاهد. وبدل كلام صاحب الصناعتين فنسب إليه القول بأن في البيت تعقيداً معنوياً، وأبو هلال لا يعني أكثر من أنه معنى جديد مبتدع.
وذكر أستاذنا الجليل أن بيت الخطيئة (أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلينا الخ) قد نسبه السبكي لأبن الرومي، فلفت نظره إلى أن السبكي ينسبه للمتنبي لا لأبن الرومي فرد على بأنه نقل ذلك عن السبكي لوجود ابن الرومي فيه بجوار المتنبي!!!
وقال أستاذنا أنه كان يريد أن يؤاخذني في تكرار التعليق على بيت أبو نواس (وصيرني هواك الخ) وإن كان قلمه قد سبق إلى بيت آخر بجواره!!!
أليس في ذك وغيره مما لم أذكره يا سيدي القارئ ما يصلح أن يكون دعامة مذهب جديد في إصلاح البلاغة، ويجب أن ننسبه إلى أستاذنا الجليل، ولا يصح أن يؤلف فيها أحد بعده لأنه صاحب مذهب جديد فيها.
محمد عبد المنعم خفاجي
مدرس في كلية اللغة العربية(882/39)
رسالة الشعر
إلى مؤلف كتاب الغدير
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أقامت الرابطة العلمية الأدبية في العراق حفل تكريم الأستاذ العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني بمناسبة موسوعته الضخمة المسماة بالغدير وقد ألقيت القصيدة التالية في ذلك الحفل للأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن، وفيها يحيي جهد العالم المؤلف، ويشير إلى وجوب اتفاق المسلمين على إعلاء شأن الإسلام مهما اختلفت مذاهبهم وفرقهم.
حي الأميني الجليل وقل له ... أحسنت عن آل لنبي دفاعاً
أرهفت للدفع الكريم مناصلا ... وشهرت للحق الهضيم يراعا
وجمعت من طول السنين وعرضها ... حججا كآيات الصباح نصاعا
وأذيت من عينيك كل شعاعة ... كالنور ومضاً، والشموس شعاعا
وطويت من ميمون عمرك حقبة ... تسع الزمان رحابة وذراعا
ونزلت ميدان البيان مناضلاً ... وشأوت أبطال الكلام شجاعا
ما ضقت يوما بالدليل ولم تكن ... بالحجة الغراء أقصر باعا
لله من قلم لديك موثق ... كالسيل يجري صاخبا دفاعا
يجلو الحقيقة في ثياب بلاغة ... ويزيح عن وجه الكلام قناعا
يشتد في سبب الخصومة لهجة ... لكن يرق خليقة وطباعا
وكذلك العلماء في أخلاقهم ... يتباعدون ويلتقون سراعا
في الحق يختلفون إلا أنهم ... لا يبتغون إلى الحقوق ضياعا
يأيها الثقة الأمين تحية ... تجتاز نحوك بالعراق بقاعا
تطوي إليك من الكنانة أربعا ... ومن العروبة أدؤرا ورباعا
أنا لتجمعنا العقيدة أمة ... ويضمنا دين الهدى أتباعا
ويؤلف الإسلام بين قلوبنا ... مهما ذهبنا في الهوى أشياعا
ونحب أهل البيت حبا خالصا ... نطوي القلوب عليه والأضلاعا
يجزيك بالإحسان ربك مثلما ... أحسنت عن يوم الغدير دفاعا(882/40)
محمد عبد الغني حسن
عذراء. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
عذراء في عمر الزهور ... في روحها ألق البدور
أحلامها متع الهوى ... وشبابها. . . عطر ونور
مرت على قلبي، وفي ... نظراتها وله مثير
فرنا إليها، ثم حن ... وكاد من صدري يطير
من أنت يا عذراء، يا ... سر الملاحة والجمال؟
يا زهرة لما تزل ... نورا تعانقه الظلال
يا من أتيت وللهوى ... شغف بقلبك وابتهال
وبمقلتيك ضراعة ... مما لديك من الملال
لا تطلبي حبي، فكم ... أخشى عليك من العذاب
ما زلت في فجر الربي ... ع، وفي بواكير الشباب
وسلى العذارى عن هوا ... ي، ودمعهن هو الجواب
جربنه فشربنه ... خمرا من اللهب المذاب
أخشى على الجسد الرشي ... ق توقد اللهب الدفين
أخشى على القلب الرقي ... ق توهج الوله الحزين
أخشى على عينيك من ... دمع الصبابة والأنين
وأخاف من سهد يطو ... ل إذا استبد بك الحنين
والفكر. . . ما أقساه! نا ... ر في الدماء، ولا دخان!
والغيرة الحيرى إذا ... أبصرتني أمل الحسان
ورأيت أني لا أخص ... ك بالحنين وبالحنان
قلبي تملكه الجما ... ل، فكيف تملكه يدان؟!
وأخاف يا عذراء من ... ليل من القلق الرهيب(882/41)
ومن الرحيل إذا دعا ... ني صوته عما قريب
لا تسأليني عن حيا ... تي، إنها رؤيا غريب
إني كشمس في السما ... ء، تسير لكن. . . للمغيب!
وأخاف حين يمسني ... برد الملالة والسأم
فأطير عنك مخلفا ... لك في الهوى نار الألم
أهوى إلى الوادي السحي ... ق، ارتقى نحو اقمم
بحثا عن السر العمي ... ق، ولا أبالي بالعدم
لا تمزجي أيامك النش ... وى، بأيامي الحزينه
ودعي حياتك تلتقي ... فيها المسرة بالسكينة
إني أعيش كأنني ... وهج لنيران دفينة
وكأنني وله على ... كبد مولهة طعينه
هذي حياتي: لهفة ... حيرى، ووجد وانطلاق
ومدامع مسجورة ... في القلب، لكن لا تراق
خوفا عليك من الهوى ... لم يبق لي إلا الفراق
أما أنا فقد احترق ... ت، وما الهوى إلا احتراق
فدعي الهوى. . . أن الهوى ... سر التعاسة والعناء
ولقد ننال به السعا ... دة، ثم يغمرنا الشقاء
يا ليتني ما ذقته ... وسلمت من سحر النساء
واليوم - واأسفاه - ... لا يجدي التمني والرجاء!
تبكين مما قلته؟ ... هل قلت شيئاً محزنا؟
وتؤكدين بأن جس ... مك شف من فرط الضنى
وبأن قلبك كان يك ... تم حبه، فاستعلنا
وبأن روحك إنما ... يحيا على نور المنى
وبأن عمرك زهرة ... والحب وضاح السنا
وندى ترقرقه الحيا ... ة على زهور شبابنا(882/42)
وبأنك اخترت الحبي ... ب، ولم يكن غيري أنا
ما دمت قد جربت أش ... جان الهوى. . . هيا بنا!
إبراهيم محمد نجا(882/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مصر العروبة
نشرت صحيفة (المصري) يوم السبت من الأسبوع الماضي مقالين عن مكان مصر من سائر البلاد العربية، لأستاذين كبيرين هما المفكر العربي ساطع الحصري بك، والأديب المصري الدكتور أحمد زكي بك؛ والمقالان يمثلان وجهتي النظر المختلفتين في هذا الموضوع، الأول يقول بالقومية العربية وبأن مصر هي زعيمة هذه القومية، والثاني يقول كما ينطق عنوان مقاله (ما العرب وما الفراعنة، إنما نحن قوم مصريون) ولا أدري هل قصدت الصحيفة أن تملأ الكفتين في عدد واحد أو هو مجرد اتفاق، والمحقق أن كلا من الكاتبين كتب مقاله وهو لا يعلم شيئاً عن مقال الآخر.
وقد ثنى الأستاذ الحصري موضوعه بمقال آخر نشرته الصحيفة يوم السبت من هذا الأسبوع. في المقال الأول أعرب عن إيمانه بأن مصر تعتنق الفكرة العربية وأن الطبيعة ودتها بكل الصفات والمزايا التي تحتم عليها أن تقوم بواجب الزعامة والقيادة في إنهاض القومية العربية. وقال أنه لم يقنط من انتشار فكرة القومية العربية في مصر يوماً من الأيام، وإن إحجام مصر عن الاشتراك في الثورة العربية التي قامت ضد السياسة العثمانية إنما كان لظروف سياسية وعوامل تاريخية، وهي ظروف وعوامل عارضة كان طبيعياً أن تتغير بعد مدة، كما كان طبيعياً أن يتبدل موقف مصر والمصريين من حركات القومية العربية تبدلاً ظاهراً تبعاً لتغير تلك الظروف، وأخذ الشعور بالعروبة في مصر يغمر نفوس المصريين شيئاً فشيئاً، حتى اشتد خلال الحرب العالمية الثانية، وبلغ حده الأقصى بعد تأسيس جامعة الدول العربية وعند بدء الحركات السياسية والحربية لإنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية. ولكن الإخفاق الذي منيت به هذه الحركات أثر في هذا التيار الفكري تأثيراً سيئاً وعرض فكرة العروبة لنكسة أليمة جداً. إلى أن قال: إني أقدر مرارة الآلام التي شعر بها المصريون بحق من جراء سير الوقائع الحربية في فلسطين ولا سيما صفحتها الأخيرة. ولكني أعرف أن جميع المؤمنين بالقومية العربية شاركوا المصريين في هذه الآلام، وإن المثل العليا القومية لا يمكن أن تتحقق في حملة واحدة. ثم ارجع الأستاذ عدم(882/44)
تقدير هذه الحقيقة - في أهم أسبابها - إلى اختلاط مفهوم (الفكرة العربية) بأعمال (جامعة الدول العربية) في أذهان الكثيرين من الخاصة والعامة. وبعد ذلك أوضح الفرق بين جامعة الدول العربية) التي تأسست سنة 1945 بموجب الميثاق المعلوم، وبين (الجامعة العربية) التي لا تزال فكرة تعيش في أذهان الذين يؤمنون بوحدة الأمة العربية إيمانا صحيحا، قائلا بأن كل من يتهجم على فكرة الجامعة العربية من جراء أعمال جامعة الدول العربية، يكون قد ارتكب ظلماً فادحاً
وأذكر بهذا رأي الأستاذ الحصري أن القوميات إنما تقوم على اتحاد اللغة قبل كل شيء، وقد فصل هذا الرأي وطبقه على نشوء، القوميات بأوربا في المحاضرات التي ألقاها بدار الجمعية الجغرافية الملكية من نحو سنتين، وقد أتخذ من القوميات الأوربية أمثلة خلص منها إلى فكرة القومية العربية التي تقوم على لغة الضاد في جميع بلاد العروبة.
وكان المقال الثاني للأستاذ الذي نشر يوم السبت الماضي تطبيقاً لفكرته في أساس القوميات إذ رد به على حديث لسعادة الأستاذ لطفي السيد باشا أدلى به إلى مجلة (المصور) أيد فيه مصرية المصريين مستشهداً باليونان في تمسكهم بقوميتهم وتحقيق استقلالهم عن الأتراك.
قال الأستاذ الحصري: إن اليونان لم يندمجوا في الأتراك بسبب اختلافهم عنهم في اللغة وفي الدين، وقد تعرضت اليونان بعد انفصالها عن الدولة العثمانية لخطر الاندماج في الشعوب السلافية في أوروبا التي يجمعها بها المذهب الأرثوزكسي، ولكنها تغلبت على الاعتبارات الدينية واستجابت لنداء اللغة والوطن، فاليونانيون مدينون بكيانهم السياسي الراهن - قبل كل شيء واكثر من كل شيء - إلى تمسكهم بلغتهم القومية. وقال: ألا يدل ذلك على أن سعادة لطفي السيد باشا قد حاد عن جادة الصواب عندما استصغر وتجاهل شأن اللغة فساوى بين العروبة وبين التركية خلال دعوته إلى المصرية على أن هناك ما هو أهم من ذلك، فبلاد اليونان لم تستقل كلها دفعة واحدة، فقد استقل سنة 1830 أقل من خمس بلاد اليونان الحالية، وظل الباقي ولايات عثمانية ثم أصبحت من الدولة اليونانية فيما بعد، ومع ذلك فإن المفكرين وزعماء اليونان ومفكريهم لم يحصروا مفهوم الوطن الياباني داخل الحدود التي خطتها السياسة الدولية، ولم يقولوا: فلنحصر جهودنا داخل هذا الوطن الذي يرفرف عليه علمنا الرسمي، ولم يتنكروا لهذه الأقطار المختلفة فيخرجوها من(882/45)
نطاق جهودهم الثقافية ومن حدود أهدافهم السياسية. بل ظلوا يحلمون بالوطن الأكبر الذي يضم جميع المتكلمين باليونانية، حتى تكللت جهودهم بالنجاح التام. ألا يظهر من ذلك كله أن تاريخ اليونان الحديث لا يؤكد الرأي الذي أبداه سعادة لطفي السيد باشا، بل أنه - على عكس ذلك - يشهد شهادة صريحة ضد ذلك الرأي ويفنده تفنيدا قاطعا. أما مقال الدكتور أحمد زكي بك فقد أشتمل على العناصر الآتية:
1 - تفنيد القول بأصول الأمم وأن الفكر الحديث قد أطرح هذه الأصول، وأستدل بأمة الولايات المتحدة التي تكونت من أمم مختلفة، ولم يمنعها اختلاف الأصول أن تكون أمة مرتبطة مشتركة الأحساس، يتسابق أفرادها في الذود عنها.
2 - الجماعات الإنسانية تأخذ بالوراثة القليل الأقل من الآباء، وتأخذ بالمران الكثير الأكثر من البيئات: الجغرافية والإنسانية والثقافية والتاريخية الزمانية فأثر البيئة يغلب على أثر الوراثة حتى لا يكاد الثاني يبين.
3 - المصريون لا تصلهم بقدمائهم صلة، فالقبط الذين يقال إنهم اخلص أنساباً لا يتفق بياضهم وخضرة عيونهم مع ما عرف عن القدماء، وليس بينهم وبين المسلمين فروق بينة وقد هضم الوادي كل من دخله
4 - العربية عنصرية لا ترتكز على حقيقة، فقد اختلطت الأنساب في كل بلادها والإسلام رفض الأنساب ورفض الأحساب.
والخلاصة التي انتهى إليها الدكتور زكي بك أن مصر أمة بالذي فيها اليوم من أهل، كانت أصولهم ما كانت، مساكها روابط مما يربط الأمم الحديثة، وأكبر هذه الروابط رغبة أهلها في أن يكونوا أمة واحدة ويداً واحدة على الخير وعلى الشر، ومن هذه الروابط شركة في أسلوب الحياة الواحدة والتفكير الواحد، ومن وراء التفكير الواحد الثقافة الواحدة، ومن وراء العواطف الواحدة التاريخ القريب الواحد)
والواقع أن هذه العناصر التي تحدث فيها الدكتور أحمد زكي بك لا تنفي عنا القومية العربية ولا تقتضي انعزالنا مصريين خالصين من العروبة والعرب، فالفكر العربي الحديث لا يقيم القومية العربية الحديثة على الأصول والأنساب، فإذا قلنا إننا عرب فليس يلزم لصحة ذلك أن نكون منحدرين من أصلاب القحطانية أو العدنانية. ويظهر من ابتداء المقالة(882/46)
أن الدكتور بنى كلامه على تصريح (الملك الهاشمي) القائل: إن المصريين قوم أفريقيون، فهم لا يفهمون العرب، وليسوا أهلاً لتزعم العرب. ولكن الملك الهاشمي إذ يقول ذلك يعزب عن باله مفهوم القومية العربية الحديثة، وهو الوحدة المبنية على اللغة الواحدة والثقافة الواحدة المستندة إلى التاريخ الواحد. والعربي الحديث ليس هو فقط الذي يستطيع أن يثبت نسبه إلى إحدى القبائل العربية، وإنما هو الذي يتكلم العربية ويشارك قومه العرب في كل أمة عربية مشاعرهم ويرتبط بروابطهم، والمثل الذي أتى به الدكتور زكي بك، وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي تكونت من أمم مختلفة الأصول، ذلك المثل الذي ضيقه بالتطبيق على مصر التي تكونت من عناصر مختلفة، ينطبق في اتساعه وحجمه على قد الأمة العربية التي يرجى أن تتكون من أمم مختلفة الأصول، والبيئات (الجغرافية والإنسانية والثقافة والتاريخية الزمانية) تعطيها الوحدة والتماسك، إلى جانب عامل الوراثة الذي يتمثل في اللغة والثقافة، ولا أقول في الدم والعصب، فالقومية العربية تتوافر لها البيئة والوراثة جميعا؛ وقد نفى الدكتور صلة المصريين بقدمائهم، وهذا حق لأن حاضرنا في كل النواحي بعيد عن ذلك الماضي كل البعد، وإن كنا أحيانا نتكلف الاتصال به مجاراة للغربيين الذين يصرون على تمجيد قدمائنا الفراعنة، لأنهم لا يحبون كلمتي (العروبة والإسلام) ولم يتعرض الدكتور بشيء من هذا القبيل بالنسبة لصلتنا بالعرب وما كان ينبغي له أن يفعل، لأن الدكتور زكي نفسه بلغته التي كتب بها المقال وأسلوبه الأدبي العربي، حقيقة ماثلة شاهدة على تلك الصلة الخالدة. .
ولو لم يكن عنوان مقال الدكتور أحمد زكي بك (ما العرب وما الفراعنة، إنما نحن قوم مصريون) لصلح المقال لتأييد القومية العربية ودخول المصريين فيها. وذلك بتعديل يسير في بعض الأجزاء مثل إبدال (العرب) بكلمة (مصر) في الخلاصة التي انتهى إليها، فالعرب أمة بالذي فيها اليوم من أهل الخ، فعناصر الخلاصة كلها تنطبق على العرب بما فيها من (رغبة أهلها في أن يكونوا أمة واحدة ويداً واحدة على الخير وعلى الشر) وأبرز هذه الفقرة بالذات لأقول إن هذه الرغبة موجودة يستطيع رؤيتها من ينفذ بصره إلى الحقيقة خلال غبار الأحداث الأخيرة، الذي أثاره (حكام) بحوافر مطامعهم ورغباتهم الشخصية.
العواذل:(882/47)
وكتب الدكتور حسين مؤنس بأهرام يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، كلمة بعنوان (أهل الهوى) عذل فيها من بهوون العروبة من المصريين، فأتبع طريقة (العواذل) المعروفة، في تقبيح الحبيبة والتنفير منها، والدعوى أنها لا تبادل محبها هواه، وإظهار الشماتة لما ينال المحب من بعض الأذى في سبيل التمسك بمحبوبه، وتصوير المحب في صورة المتهالك على حبيب يعرض عنه ويزدريه، ويلتمسون بذلك الحبة ليجعلوا منها قبة، وقد اتخذ دكتورنا من قولة (الملك الهاشمي): إننا أفريقيون - مادة لعذله، كأن هذا الملك هو سادن العروبة الأوحد، وكأن كلمته هي الفيصل في أمر العرب. . .
وطالما عذل العاذلون ولاموا، وأهل الهوى ثابتون على هواهم، لا يزيدهم العذل واللوم إلا إمعانا في الحب وتعلقاً بالحبيب. ولم يخل حب من عاذل، فليعذل العاذلون في هوى العروبة، وليثلبوا الحبيبة، وليصفوا فتاها بما يمليه الوهم عليهم، وليفتنوا في ذلك ما شاءوا، فإن الفتى لن يحيد عن هواه، ولن يثنيه عن عزمه ما يلاقيه من المكاره، ولا يفزعه من عذل العاذلين إلا أنه يسر الأعداء.
عباس خضر(882/48)
رسالة النقد
بسمارك
تأليف أميل لودوج
ترجمة الأستاذ عادل زعيتر
لا يكاد الشتاء يأزف حتى يشخص إلى القاهرة الأديب العالم الأستاذ عادل زعيتر، ولا يكاد يهبط مصر حتى يتساءل المفكرون والأدباء عما يحمل الأستاذ في وطابه، وكانت رحلة الشتاء هذا العام مباركة، فقد أتحف الأستاذ زعيتر مكتبتنا العربية بكتب خمسة ذات قيمة وفيها نفع جليل، وهي حصيلة عام واحد قضاه في جهد موصول ودأب غير مقطوع؛ إنها (بسمارك) و (الحياة والحب) لأميل لودج، و (السنن النفشية لتطور الأمم) و (روح الجماعات) و (اليهود في تاريخ الحضارات للفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون.
لقد قرأت (بسمارك) وهو سفر ضخم، طبع في مطبعة المعارف، وتبلغ صفحاته 787 صفحة لم أكد أقرأ أولى فصوله حتى رأيتني مسوقاً إلى الانكباب على مطالعته، وإذا حدث أن اضطررت إلى التوقف فما أسرع ما يعاودني الشوق إلى استئناف القراءة. وأشهد أني أسف حين أوفيت على نهاية الكتاب ووددت لو استطالت بي المتعة.
يعرف القارئ أميل لودوج كاتب عالمي شهير، امتاز بأسلوبه الشائق في كتابته سير العظماء، ومن حق القارئ أن يعرف كذلك أن لودوج، حين يعرض سيرة العظيم، يحرص على أن يصل بين حياته الخاصة وحياته العامة وصلاً محكماً، زهو ينقل القارئ إلى صميم بيئة العظيم في غير اصطناع أو تكلف حتى ليحسبن القارئ نفسه صديقا للبطل أو هو من ذوي قرباه، ويكون تجاوب بين القارئ والعظيم، فيحاوره ويبين ما يرتسم على وجهه ويسبر ما ينطبع في ذهنه!
ولقد رأيتني ألمس في الكتاب هواجس بسمارك طفلاً، وأرافقه صغيراً، واجلس على رحلته المدرسية وأزامله رياضياً وأراقبه موظفا، وأرى ما أرى من تعاليه وكبريائه يافعاً، وأحار في تراوح الرجل بين الإلحاد والتقوى، وبين الشك واليقين، ورأيتني أمعن الفكر في التناقض الذي يتجلى في طبيعة بسمارك. . تلك الطبيعة التي لا يرضيها أي مقام. . ثم(882/49)
رأيت بسمارك في اللندتاغ وسمعته خطيباً، تتبعت حيله، وكان يرمضني أن ألحظ في مطلع حياته مناوأته للأحرار، ونزعته البروسية الإقليمية، وكدت أنحاز إلى خصومه لولا ما كان يجذبني إليه من إعجاب بشجاعته وإقدامه، ولولا تلك المتعة التي كنت أظفر بها حين أقرأ رسائله التي اتسمت بالبيان المشرق والقول الساحر ووصفه البليغ تلك المحن النفسية التي كان يعانيها حين يختلف والملك والملكة وولي العهد والشعب والضباط. . ثم قدرته سياسياً بارعاً حين غدا سفيراً لبلاده في بطرسبرج فباريس، وأعجبت أي إعجاب بدوره في قضية شلزويع وهولشتاين وما كان من أمره في حرب النمسا؛ وأكبرته حين قال قولته المشهورة: (أعرف أنني ممقوت ولكن الحظ متقلب تقلب رأي الناس، وأجازف برأسي، وألعب لعبتي وإن أسفرت عن سوقي إلى المشنقة، ولن تبقى بروسية ولا ألمانية كما كانتا ولا بد لهما من سلوك تلك السبيل وصولاً إلى ما يجب أن تكونا عليه، ولا تجد سوى هذه السبيل!).
وجاء نصر الله في سادوا ووثبت الوحدة الألمانية أشواطاً، ورأينا عبقرية بسمارك في حرصه على تجنب ما ينكأ قروح النمسا من الذكريات الجارحة، وأخذه النمسا المغلوبة بالرفق والهوادة، ليحول دون توثيق صلاتها بفرنسة، ذلك لأنه أبصر في الأفق حرباً أخرى سيحمل عليها طوعاً أو كرهاً. . . ورأى التاريخ في أعقاب ذلك من شجاعة بسمارك وصموده لتهديدات المجلس وريب الملك ومعارضة الملكة وأركان القصر ودسائس السفراء ووسوسات المثالين ما دون معه أن هذا العظيم رجل يخضع خياله لواقعيته فيزن كلامه ويهيئ أفعاله، ويؤثر عظائم الأمور على الصور، مستعداً للعمل مع أية أمة وأية دولة إذا ما لاءم هذا هدفه ورأى بسمارك بعد سادوا أن ألمانيا لن تظفر بوحدة أوسع نطاقاً بغير العنف أو بغير خطر مشترك يثير غضب الألمان كلهم، فأعد العدة لحرب السبعين. . . ثم كان الفتح المبين في سيدان وتوج في باريس قيصر بروسيا إمبراطوراً لألمانيا الموحدة في احتفال وصفه لودوج وصفاً أثار فيه الألم لما لقيه بسمارك فيه من جحود سيده. ومن هو بسمارك المجحود المنكور أنه (الرجل الذي يلاعب الدول العظمى في أوروبا ملاعبة الحاوي الماهر) أنه الرجل الذي رأيناه حديدياً في الشؤون الداخلية وامرن الدبلوميين كافة في الصلات الخارجية. وكان لودوج يحلل خلال ذلك نفسية العظيم وآراءه في الكنيسة والبيت والطبيعة والتاريخ وولعه بالغابات والكلاب، ويأخذ القارئ العجب من تنبؤات(882/50)
بسمارك واستنتاجاته حول المستقبل حتى ليظن أنه كان يرى بنور الغيب حين قال عن روسيا: (فالثورة والجمهورية أمران قد يلمان بروسية في أقرب وقت، وفي روسيا أناس كثيرون يعلقون آمالهم على كارثة حربية تصاب بها تخلصاً من النظام القيصري).
والقارئ يخرج من مطالعة الكتاب قانعاً أن ألمانية لو أخذت بآراء بسمارك وسلكت، بعده، سياسته لما أصيبت بما أصيبت به في الحربين العالميتين الكبيرتين. . . ويقنع القارئ كذلك، أن من واجب قادة الحركة القومية، وحملة الفكرة العربية، ودعاة الوحدة العربية أن يقرئوا كتاب بسمارك باني الوحدة الألمانية، ففيه دروس وعبر. وأحب أن أنصف الأستاذ المعرب، فأشيد بالجهد العظيم الذي بذله في نقل هذا السفر الضخم إلى لغة الضاد بلاغة ورواء وفتنة، وأن أنوه باشتقاقاته اللغوية الموفقة وبقدرته على اكتشاف اللفظ الذي يغني عن الجملة، وأن أشير إلى أنه أول من قال دبلمي بدلاً من دبلوماسي أو دبلوماتي، وكلاسي بدلاً من كلاسيكي، والبلطي بدلاً من البلطيكي، فأرجع كل كلمة إلى أصلها واجتنب تكرر النسبة هذا التكرر الذي لا يتنزه عنه كبار الكتاب.
وإذا كان لنا ما نأخذه عليه فهو أغراب في كلمات قليلة في الكتاب لها ما يماثلها في العربية معنى وما يفوقها سلاسة. وبعد فإننا نعتقد ان الأستاذ الجليل عادل زعيتر قد خدم العربية وزود - وحده - مكتبتها بما تنوء بمثله عصبة من الأدباء والفضلاء ذلك لأنه يترجم عن الكتب ما لا تجد لها مثيلات في اللغة العربية، ومالا ينتظر أن يؤلف مثلها كتاب العربية، وفي لغة إن لم تكن في مستواها أعلى من الأصلية فليست دونها في حال. . . فمن حقه إذن أن نهنئه بما أصابه من توفيق عظيم. ومن حقنا أن نتطلع دائماً إلى المزيد من ثمرات جهده الفذ في إعجاب وتقدير.
عربي
تلخيص كتاب النفس
للفيلسوف أبن رشد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لا أنكر أن نشر أثر عربي قديم يحمل من المعنى اللغوي لكلمة النشر ما يحمله البعث بعد(882/51)
الموت من معان وما أحوجنا اليوم إلى الانبعاث من جديد. . . وما أحوج ميراثنا العربي العتيق إلى أن تزاح عنه الأكفان، وينفض غبار السنين من فوقه، فإن العروبة اليوم تقف في ساحة النشور.
وقد كتبت عن هذا الكتاب الجديد للصديق الدكتور الأهواني كتابة باعدتها عن محيط الصداقة، وأدخلتها في دائرة الصدق، خشية أن يضيع شيء منهما على حساب صاحبه. وما أظن في الذي فعلت إخلالا يحق الصداقة، أو إغفالاً لأمر المودة. وما أظن الدكتور الأهواني إلا راضياً بما صنعت، فقد عودنا دائماً أنه يحب سقراط ولكنه يجب الحق أكثر منه.
وفي الكتاب جوانب ما كان يتسع لها مقام محدود في مقال واحد، فإن هذا الكتاب هو في الحق خمسة كتب في كتاب واحد، وما ظنك أيها القارئ الكريم بخمسة مخطوطات في الفلسفة الإسلامية أتيح لها أن ترى النور دفعة واحدة في كتاب واحد؟؟ أليس من حق هذه الكتب علينا - وهي لأربعة من كبار فلاسفة الإسلام - أن نقف معها ونطيل الوقوف ولا نجد في ذلك الوقوف بأساً؟ فإن الشعراء كانوا يقفون على الأربع الأدراس ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما يصنعون، ولا بأساً فيما يفعلون. ونحن هنا - أمام هذه المخطوطات العربية الخمسة - نقف على أطلال من الفلسفة الإسلامية أعادها النشر شيئاً جديداً، ورد لها الحياة التي زايلتها حينا من الدهر، ونمر على تلك الديار الخمسة وقد نضر التحقيق شبابها، وأعاد لها رحابها، فنقبل ذا الجدار وذا الجدار، لا حباً في المكان، ولكن شغفاً بالسكان. . . وما السكان هنا! إلا تلك المعاني الفلسفية التي تعبر عن تصور فلاسفة المسلمين للنفس والعقل، وكيف اتصلت العقول بالأجسام.
وأول هذه الرسائل تلخيص كتاب النفس لأبن رشد، وليس التلخيص للدكتور الأهواني ولكنه لأبي الوليد محمد بن رشد نفسه! ومعنى هذا أن وراء هذا الملخص مطولاً، وأن خلف هذا الموجز محيطاً، ويدل عليه قوله. (وهذا كله قد بينته في شرحي لكتاب أر سطو في النفس، فمن أحب أن يقف على حقيقة رأيي في هذه المسألة فعليه بذلك الكتاب). ونبحث نحن عن هذا الكتاب، ونمني النفس أن نجد فيه من البسط للرأي والبيان في الشرح ما تحل به طلاسم التلخيص فإذا الدكتور الأهواني ييئسنا من هذه الغاية ويقطع منها مناط(882/52)
الآمال ويقول (ولم نعثر على هذا الكتاب في العربية). فإذا قام بخاطرك هذا التساؤل الآتي: ولماذا لا نترجم هذا الكتاب المطول في النفس عن اللاتينية؟ وجدت جواب الدكتور الأهواني يرد على هذا التساؤل بقوله: (والرجوع إليه في الترجمة اللاتينية لا يخلو من التضليل، لأن التراجم اللاتينية كثيراً ما ابتعدت عن الأصل ولم تكن أمينة في النقل). وهذه التهمة الخطيرة للتراجم اللاتينية لا أجرؤ على التسليم بها ولا أدعي لنفسي الدفاع عنها، لأنها مما لا يصل إليه جهلي المطبق باللاتينية.
ولست والحمد لله لاتينياً، ولا أمت إلى اللاتين بعرق، فكل ما يجري في دمي عربي صميم. ولكني أكره الاتهام الجزاف لغيري تقية أن أكون أنا نفسي موضعاً للاتها! ولا زلت أذكر أن كثيرا من التراجم العربية للفلسفة اليونانية كان كثير الفساد والقلق والغموض، حتى لقد باعد ذلك بين التراجم العربية وبين أصولها اليونانية، وحتى أصبحت هذه التراجم بعيدة عن الناس غريبة عليهم، وحتى ذكر أحد تلامذة أبن رشد عن أستاذه أنه قال: (استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي. سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطاً طاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل. واني لأرجوا أن تفي به، لما أعمله من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة. وما يمنعني من ذلك ألا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطاطليس).
فأبن طفيل يشكو بلسان أمير المؤمنين من قلق التراجم العربية لأر سطو وغموضها، وابن رشد يقر إقراراً ضمنياً بالشكوى بدليل إقدامه على تلخيص ما لخص من كتب المعلم الأول. ولعل شيئاً - قليلاً أو كثيراً - من الاعتداد بالنفس هو الذي حمله هذا المحمل من التلخيص حتى يكون له فضل تقريب الفلسفة من الإفهام بعد أن باعد الغموض بينهما وبين الناس. ولكني أخشى أن أبن رشد كان في التلخيص اكثر غموضاً مما كان غيره في التطويل.! ولعله تنسى قول ابن طفيل له: (يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيداً) وآفة ابن رشد في هذا الغموض إما أن يكون مأتاها من ناحية فهمه أو من ناحية مقدرته على(882/53)
التفهم! وأخشى أن يكون ذلك آفة الفلاسفة جميعاً.
إلا أن الدكتور الأهواني صنع في الحق شيئاً لم يصنعه ابن رشد في التلخيص الغامض! فقد جعل للتلخيص تلخيصاً في المقدمة التفسيرية التي قدم بها بين يدي الكتاب. وهي مقدمة نفيسة وقد زاد في نفاستها أن صديقنا الأهواني استعان فيها بآراء طائفة من كبار المشتغلين بالفلسفة، مثل (جويتيه) و (تيري) و (سلسون) و (والاس) و (بريهيبه) و (دوهيم).
ولعلك تلاحظ أيها القارئ الكريم أعجمية هذه الخفنة من الإعلام التي أخذ عنها الأهواني. فتجزع أن كتاباً في الفلسفة الإسلامية يفيض بهذه الأسماء، وتسأل نفسك: أليس بين هذه الأعلام علم عربي واحد في ميدان هو في الحق حلبة للتراث الفكري عند المسلمين. ولكن الجزع لا يطول بك: لأنك تصادف من مراجع البحث في المقدمة الجليلة للدكتور الأهواني مرجعاً ثميناً باللغة الفرنسية للدكتور إبراهيم بيومي مدكور. طبع في باريس سنة 1934. وعنوانه مترجماً. (مكان الفارابي في المدرسة الفلسفية الإسلامية).
هذه كلمة حق أخرى في تلخيص كتاب النفس لأبن رشد الذي أخرجه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني مع كتب أربعة أخرى تتصل بالنفس والعقل والاتصال والمعرفة. ومن حق كتبنا القديمة أن لا نستكثر عليها كلمة أو كلمتين في مجلة أو مجلتين. أو أن نمن على محققيها بأن نتهم من الصديق عباس خضر بأننا نتبادل الثناء ونتقارض الإهداء، ونتقايض التعريف بآثارنا الأدبية. ولو أطلع (العباس) على كتابي (بين السطور) لرآني محاولاً قدر جهدي أن أنتصف للحق ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم من الأدباء والباحثين، الذين أتشرف بعرض أفكارهم ونقد آثارهم. وكدت لا أذكر هنا صداقة وعداوة، لأن مراد النفوس الكبيرة أكبر من أن نتعادى فيه أو أن ننغص فيه القلوب، بذكر بغيض وحبيب. . .
محمد عبد الغني حسن(882/54)
القصص
قصة من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ يوسف يعقوب حداد
كان اسمه (محمود) ولكن الناس ينادونه (أبو شوارب)! ولعل الناس على حق؛ فهم لا يدعونه بمحمود لأنه في الحقيقة لم يكن محمود الصفات. وكانوا ينادونه (أبو شوارب) لأن خمسة عشر سنتمتراً من الشعر الأسود الكثيف كانت تغطي أعلى شفتيه!
ولو أردت نموذجاً، صادق التعبير، لصورة مجرم خطر، لما ترددت في أن أقدم إليك محموداً، فهو بعينيه الواسعتين، وشاربيه الطويلين، وأنفه الذي يشبه منقار الديك، وشعر رأسه الكث، الطويل، ليبدو لك ما يبدو المجرم الخطر في فيلم من الأفلام المصرية
وفوق ذلك كان يشتغل بالتهريب، وهو عريق في مهنته، يعرف كيف يضلل رجال الجمارك ويفلت من شباكهم، فكان ربحه كثيراً، ولكن مال الحرام للحرام - كما يقولون - فبقدر ما كان (أبو شوارب) يربح من طريق الحرام، كان ينفق من ربحه على الحرام أيضاً، حتى لم تبق في المدينة راقصة أو بائعة جسد إلا ذاقت لذة دنانيره الدسمة!
والمصيبة أنه كان متزوجاً، وله من زوجه ثلاثة أولاد أكبرهم في العاشرة، وأصغرهم في ربيعه الأول. . ولكنه والله لم يكن يدري أنه زوج لامرأة، وأب لثلاثة أولاد، اللهم إلا ساعة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة!. . فهو في النهار يمارس مهنته في الخارج. وربما في خارج البلد، وفي المساء يقصد الملاهي والحانات ينشد المتعة بين كؤوس الخمر وأحضان الراقصات، فإذا عاد إلى بيته في ساعة متأخرة من الليل، عاد ثملاً، فاقد الوعي، فيرمى بجسده المتهالك على فراشه وكأنه خرقة بالية. . وقد لا يعود إليه رشده، إلا قبيل الشروق، ساعة يلتف حوله أولاده الصغار، يوقظونه ليتناول فطوره، لا هناه الله بفطور!
وزوجه المسكينة قد أذاقها صنوف العذاب، وجرعها كؤوس العلقم، حتى باتت المفجوعة تبتهل إلى الله في كل ساعة من ساعات يومها، وتطلب منه، أما أن يعيد زوجها إلى صوابه، وأما أن يميتها فينتهي في الأرض عذابها!. . ودموعها، ما كانت تجف لحظة من(882/55)
مآقيها!. . كيف لا تبكي، وهذا زوجها لا يكاد يلتفت إليها أو يحسب حساباً لبيته ولأولاده!
كانت تخافه وتخشاه لما عرفت فيه من خشونة وقسوة، ولكنها كثيراً ما كانت تضيق ذرعاً بأساها، وينفذ معين صبرها فتروح تعاتبه، أو تلومه، فتتلقى من يده الفولاذية عشرات اللكمات، وينزل على أم رأسها آلاف اللعنات!. . ولولا أنها كانت تنتهز فرصة سكره، واستغراقه في النوم، فتمد يدها إلى جيوبه، تبحث في زواياها عما أفلت من يد الراقصات أو المومسات، لما كانت تلقى ما تنفقه على أولادها وبيتها!
كانت الزوجة المسكينة تعاني كثيراً من العذاب والأسى والمرارة، ولشدة ما كانت تعاني جف اللبن في ثدييها وطفلها الثالث لا يزال رضيعاً، فاضطرت إلى الإسراع في فطامه وظل في حاجة إلى اللبن، وكان غذاؤه بسيطاً يعوزه الكثير من العناصر التي تساعد على النمو، فهزل جسده، وذبل عوده، ثم ما لبث أن لحقه السقام، ولم يعد يكف عن الأنين والتوجع. . . وكان كبد أمه يتفتت، ونياط قلبها يتمزق، حين تسمع أنين ولدها وتعجز عن تخفيف الألم عنه، وأبعاد الأذى عن جسده النحيل وأبوه القاسي القلب، لا يريد أن يعرف أن ولده يكاد يموت، وأنه في حاجة إلى الطبيب؛ لأن ذلك يكلفه مالاً! فراحت المسكينة تحمل ولدها من عجوز إلى عجوز، تطلب عندهن الدواء الرخيص والشفاء الكاذب!
وذات يوم كنت في مقصورة جانبية في أحد الملاهي، فرأيته يدخل الملهى مع أثنين من زملائه الأشرار، واتخذوا مجلسهم في مقصورة مجاورة لي، فكنت اسمعهم يتحدثون، وأراهم يشربون ويعبثون، حتى قفزت إلى المسرح راقصة فارسية راحت تبدي من فنها الرخيص ما يلهب الحواس وفي جسدها المكشوف ما يسير الشهوات، فإذا صاحبنا كله عيون وكله آذان، وإذا هو يبدي إعجابه بالراقصة ويعلن لزميله رغبته في مجالستها، وفعلاً ما كادت الفارسية تنتهي في أداء (نمرتها) حتى أشار إليها أحد الصديقين إشارة فهمت معناها، فأقبلت ضاحكة لاهية، وجلست على ركبتي صاحبنا (أبو شوارب) فإذا هو يفرط نشوته، يأمر بزجاجة كاملة من (الويسكي) يشهد الله أن سعرها لم يكن يقل يومئذ عن العشرين ديناراً إن لم يزد!
قلت لنفسي وأنا أرقبها من بعيد: (يا لها من خبيرة! إنها تعرف دخائل النفوس، وتجيد قراءة الوجوه. لقد رأت رغبة الرجل، وأحست بالنار المتأججة فيه، فعرفت كيف ترضيه، وكيف(882/56)
تسلبه محفظته المنتفخة بالدنانير.
كنت أرقبها خلسة، فرأيتها تضع رأسها وشعرها وتدفن عطرها ودلالها في صدر الرجل، وتداعب بأناملها اللطيفة وجهه وتفرك بلطف أذنيه، وسمعتها تتحدث إليه بالفارسية وقد رسمت على وجهها صورة صادقة التعبير لغرام عنيف وحب عظيم، وسمعت أحد الصديقين يفسر (لأبو شوارب) كلمات المرأة الفارسية على أنها غزل وغرام عاصف به، فانتشى (أبو شوارب) وانتفخت أوداجه، وتراقصت على شفتيه شواربه، وما كان منه إلا أن دس بين نهديها بورقة مالية ذات مائة دينار!
وفجأة. . رأيت صبياً صغيراً. أقترب من المقاصير وراح يتفرس في وجوه الجالسين، فلما وقعت عيناه على (أبو شوارب) أسرع إليه يصيح. . بابا. . بابا. . أسرع بربك. . . إن أمي لفي حاجة إليك.
ولكن بابا ساعتئذ كان في عالم آخر. . . قد أفقدته الخمرة شعوره، وسلبته الفارسية وقاره، فأخذها من يدها ومضى بها إلى مقصورة جانبية ليتم معها السهرة، ولما سمع صوت ولده وهو يبكي ويولي هارباً لفظ من فمه كلمة سباب ثقيلة استأنست بها الراقصة الفارسية - فأطلقت هي الأخرى كلمة مقابلة اتبعتها بضحكة فاجرة وسارت مع صيدها الثمين.
ومع خيوط الفجر الحمراء. . . عاد (أبو شوارب) إلى داره ولكنه ما كاد يقترب منه بضع خطوات، حتى ألفى الناس متجمهرين على بابه، وسمع صراخ النسوة يتعالى من داخله. . . فأطلق ضحكة طويلة، وقال: مات؟. . . الحمد لله.؟
وتابع سيره من غير أن يدخل الدار!
البصرة. عراق
يوسف يعقوب حداد(882/57)
العدد 883 - بتاريخ: 05 - 06 - 1950(/)
أدب المجون
أدب المجون يختلف عن أدب اللذة في الدواعي التي تدعو إليه، وفي الدواهي التي تنجم عنه. فمن دواعي أدب اللذة عامية الذهن، أو سطحية الفكر، أو سآمة الجد؛ وهي أعراض طارئة مصيرها إلى الزوال، وانحراف عن الطبيعة مآله إلى الاعتدال. ومن دواهيه أنه يلفظ أهله على ساحل الحياة فلا يخوضون العباب ولا يغوصون في الجوهر، ويدفعهم إلى هامش الوجود فلا يكون لهم في متنه مكان يرمق ولا شأن يذكر.
ولكن دواعي أدب المجون تنفيس عن رغبة مكظومة، أو التعبير عن عاطفة جائشة، والتحرر من التزامات مقيدة، وهي خواص في طبع الإنسان، تلزم لزوم البكاء والضحك له، وتدوم دوام الجد والهزل فيه. وأقل دواهيه أن تزول الحدود بين المعروف والمنكر، فلا يكون فارق بين حلال وحرام، ولا بين نظام وفوضى، ولا بين إنسان وحيوان.
أدب المجون إذن خاصة تلزم لا عرض ينفك. وذلك أن حياة الإنسان من لوازمها الحياء والوقاحة، والعفة والفجور، والاحتشام والتبسط، والتصون والتبذل؛ والأدب صورة لهذه المتناقضات جميعاً. فالفنان الشاعر أو الكاتب أو المصور لا بد أن يعبر بطريقته الخاصة عن كل ما يجول في نفسه أو يقع تحت حسه، وكلما كان هذا التعبير صادقاً كان أدخل في باب الفن، وأوغل في طريق الكمال. من أجل ذلك كان أدب المجون ثابت الوجود في أدب العالم كله. وهو في الأدب العربي عريق الأصل، ظهر منذ قال العرب الشعر ورووا منه لامية امرئ القيس، ودالية النابغة، ورائية بشار، وغزوات أبن أبي ربيعة، وفواحش أبي نؤاس، ومنديات أبن الياس، ومخازي أبن سكرة، وأحماض أبن حجاج. وظل الأدباء في كل زمان ومكان ينظمون المجون وينثرونه. ولا تزال ذواكر المعاصرين تعي ما تلقفته الأفواه من مجون حافظ والرصافي والهراوي مما لم تسجله صحيفة أو يدونه كتاب.
على أن هؤلاء جميعاً كانوا ينشئونه لأنفسهم لا للناس، ويتناقلونه في السر لا في العلانية، ويتفكهون به في المجالس الخاصة لا في المجامع العامة. ولو كان لهم ما لنا اليوم من طباعة تنشر، وصحافة تذيع، وجمهور يقرأ، لتحرجوا من أكثر ما قالوه؛ فأن الناس منذ بت الله في أبويهم آدم وحواء فضيلة الحياة فخصفا على جسديهما العاريين من ورق الجنة، شعروا أن للجسم عورات لا يجوز أن تظهر. ولما هذبهم الدين وثقفهم العلم وصقلهم التحضر، شعروا كذلك أن للفكر عورات لا يليق أن تنشر. فهو بحكم الحرية والاستقلال(883/1)
والانطلاق يقولون ويفعلون في خلواتهم ومباذلهم ما شاءوا؛ ولكنهم بحكم الدين والقانون والعرف يسترون سوءاتهم ونزواتهم ما استطاعوا؛ فلا يقولون كل حق، ولا يصورون كل حالة، ولا يظهرون كل مضمر، مراعاة لشعور الجماعة، ومحافظة على كرامة الإنسان. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(883/2)
عهد
لصاحب العزة الأستاذ محمد محمود جلال بك
دلفت إلى (حراء) يدفعني إليه مثل ما يدفع الوالد إلى ولده من شوق، وقد تقضت على فرقتنا شهور ستة هي أطول ما غبت عن (شرفة عمرو) تكاءدتني خلالها صروف واحتوتني بلاد غريبة، تارة بمصاحبتها، وطوراً بفنادقها، في ظلمات قاتمة بين باهر الأنوار، والآم مضنية بين مظاهر النعيم. كم دعوت الله أن يجنبها صديقاً وعدواً على السواء!
و (حراء) أشبه بالصومعة منه بالغرفة، يختبئ تواضعنا في ظل السلم الصاعد إلى الدور العلوي - صغير المساحة كبير السعة بما حوى من ذكريات، وما زين جدرانه وما حواليها من آثار وطنية وعائلية خاصة. . . يتصدرها أول مكتب جلست إليه صغيراً، وأول ما حمل في الدنيا من ذكريات دراستي. صنعه (العلم أحمد) من أمهر صناع الأثاث بالقاهرة لذلك العهد وأهداه إلى أبي. وإلى الدار الآخرة تولى الصانع ومن أهدى، أغدق الله عليهما رضوانه. وعلى هذا المكتب أول ما اصطلح عليه المجتمع من مقاييس السير في إحدى طرائق الحياة: (الشهادة الابتدائية).
وما كدت ألقي النظرة الأولى على المكتب حتى استوقفت نظري كتاب ذو جلد أخضر أنيق ليس عليه عنوان، ولكنه يحمل في أسفله أسمي؛ وما أدري لم أستحوذ على اهتمامي كله؟ وكيف طوي ما بيني وبين عديد الأشياء التي تملأ فراغه ولكل واحد منها تاريخه وعبرته، ولكثير منها روعة من الفن!
مددت يميني إلى الكتاب وقلبت صفحاته في عجلة ثم أقفلته، وقد أيقنت بما سمعت من الأستاذ الشيخ محمد عبد السميع: -
(إن لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص) فاعتبرت ثم أدركت عهداً!
في سنة 1944 كان صديقي (ر. ز) يعمل رئيساً للنيابة في بور سعيد. وهي بلد أحبه وأفضله عن غيره. ويعرف الصديق في هذا الإيثار فيعجب كيف صبرت فلم أنزل ذلك البلد الحبيب من سنة 1940 وكنت أختصه بما يسمح به الزمن من فترات ثم، يلح في زورة قريبة أروح بها عن نفسي ونفسه. وأجدني محرجا فأهم وأركب الطائرة إليه لأول(883/3)
مرة منذ سنة 1937 إذ وقف خط الطيران خلال الحرب.
ولا أكاد أغادر الطائرة حتى أرى رجلاً يسارع إلى مكانها في جذل ولم أشك في أنه يستقبل بعض القادمين؛ وكلما لاحت مني التفاتة خيل إلي أنه يراقبني؛ وتتملكني حيرة. . . وتشتد حيرتي حين أتحقق أنه يقبل علي وما أكاد أقترب من بناء المطار حتى يحيني باسمي ثم يصافحني ويحمل عني حافظة أوراقي وبعض كتب وصحف!! إنه صاحب بوفيه المطار وهو لم يرني منذ ثماني سنين وما زال يذكرني كأنما هي أيام.
وعند هذا، تلقى الوفاء وأمثاله فقلوبهم تتلقى الجميل الصغير بمجهر فيرفعه إلى صنيع عظيم يثبت فيه مرآتها وتعكسه على قدر هذه الصورة جزاء عليه. وهذا هو عنوان للشعب الكريم كما صاغه الرحمن في الوادي المبارك. وما يتطرق الخلل إلى الأخلاق إلا من حتى تأتي المثل السيئة من المسيطرين والظاهرين فتعود إلى الفساد تدريجاً ثم يتفاعل في أحضان الزمن فيصبح تهلكة. فعند هؤلاء تجد العزاء بقدر ما تجد البرهان الذي يدرك إلى أناتك فلا تفزع إن الخير باق وهو على المستقبل ظاهر.
وفي الصباح الباكر رافقني صديق قديم إلى الشاطئ الجميل. وهو أجمل شاطئ رأيت فيما زرت من بلاد الدنيا! بل قل انه اجتذبنا واقتادنا. ورحم الله شوقي إذ يقول: -
ألين إذا قاد الجمال أعنتي ... وأعنوا إذا أقتاد الجميل عنابى
وجلسنا نستمتع بالهواء وبالمنظر وبالذكريات. فعين إلى الحاضر وأخرى إلى الماضي، لا نذهب في هذا الأخير خببا بل مترفقين. ومتى هدأت أعصاب المرء شمله الرفق، والرفق يولد النظام. وأول ما يتحكم في هذا أتساق داخل المرء من قلب وفكر، وبهما تتناسق أمواج الحياة.
كان الوقت باكراً، والموسم لم يبدأ بعد، فلم يكن بالشاطئ إلا قليل من مرتاديه، وجلهم أهل البلد. وبينما نتناول القهوة إذا بالرفيق يقول: (أنظر! أتعرف من القادم؟) والقادم على بعد. قلت: لا، ولكني أراها (هرولة صديق)! قال يا أخي أنك لا تتبين من ملاحمه شيئاً؟ قلت لعله القياس. ألم يذكر أناتول فرانس مرة عن البرنسيس تريبوف قولها لزوجها (أنظر إن هذا ظهر فرنسي) وذلك بين ازدحام الهواة والمتفرجين في قاعة لبيع اللوحات الفنية. ثم كان هو ظهر أناتول فرانس، وقد كان الزوجان من خلفه وعلى بعد ليس باليسير؟ وكانت(883/4)
الأميرة فرنسية الأصل.
قال الصديق (أما زلت على شغفك بهذا الكاتب؟ لقد مضت سنوات لم أسمع ما تكشف من ثنايا عباراته، وما تحاول جمعه مما ينثر بين كتاب وآخر! (قلت لندع فرانس اليوم ولأقل لك إن للبصيرة كما للبصر مدى) ولم يطل الحوار، فقد حسن ختامه بيد تمتد سلاماً ووجه يشرق بشراً! هذا زميل في الدراسة الثانوية يشغل اليوم عملاً ذا خطر، وقد جاء يقضي أياماً في هذا البلد الكريم، وله برفيقي سابقة معرفة، وهو من القلائل الذين يحفظون الوداد، ويحرصون على صلات الماضي.
شاركنا القهوة، وعددنا هذا اللقاء غنماً كبيراً. وقلنا إنه الشاطئ الذي أحببنا، يسارع بالجزاء فيضعف إلى ارفاده رفداً، بل هو يضع لهذه الزورة القصيرة طابعاً وتاريخاً.
وللصديق أ. ز. غرام بالشعر صاحبه منذ حداثته، يتخير جيده ويحرص على جمعه وحفظه، كأنما يرى في هذا براً بالماضي، كالذي يرى في صون عشرته وزمالته وتعهده رفاق الدراسة بالسؤال عنهم والتقصي! والأدب مروءة، والمروءة لباب الأدب.
وكذلك لم يكن بد من تطور الحديث إلى هذه الناحية، وكأنما هي الصورة الجامعة لثلاثتنا وهي أقرب الصور إلى ما حولنا، فزرقة البحر ودقة الرمال ورقة الهواء وهذا اللقاء قصيدة عصماء. ولقد صدق المرحوم عبد الرحمن حامد بك الشاعر التركي حين قال إن الطبيعة أول كتاب أو أول قصيدة.
وسارعت الساعات إلى انطواء بسحر هذا الحديث، وإذا (بالصديق المهرول) يفاجئني متسائلاً: هل نفذت العهد؟ دهشت وقلت: ذكرني يا صديقي أي عهد؟ قال عهد صديقك أحمد توفيق الشاعر الشاب الذي. . . فاستوقفت التعريفات الدافقة وقلت لن تزيدني علماً بمن تذكر، فإنني أعرف عنه أكثر من غيري، وتربطني به وبأسرته أكثر من وشيجة، ولكن قل لي شيئا عن ذلك العهد فقد كدت تفجعني في وفائي كما فجعتني فيه المنايا!! قال: ألا تذكر قصيدته إليك سنة 1916 والتي خاطبك فيها.
ضاع الرجاء فكن بحيث رجائي ... وأحمل على حسن الوفاء وفائي
قلت: بلى يا صديقي، وكانت كتاباً ما زلت أحتفظ به. وفيها ما يسري مسرى الأمثال، وكثيراً ما استشهدت ببعض أبياتها.(883/5)
قال أنه نفض إليك فيها بذات نفسه، ووضع بين يديك تراثه النادر من خلق وفن. وقد رجعت إلى ذكريات الدراسة وإلى ذكريات الألفة التي كانت بيننا فعرفت أنه يتجه بكل ثقته إليك حياً وميتاً فتنشر ذكره، وأنه كان في تشاؤمه يحس بدنو اجله، ويعلم أن الذي سيطويه يوماً قد يطوي آثاره إلا أن تقوم عليها
للكلام بقية
محمد محمود جلال(883/6)
آراء من الغرب
العالم بعد خمسة وثلاثين عاماً
بقلم الأستاذ فرحان سعيد
أصدر الكاتب الإنجليزي جورج اورول قبل أشهر قليلة كتاباً قيماً بعنوان (عالم 1984 يصف فيه الحياة العالمية اليومية التي يتخيلها سائدة آنئذ. وقد أثار هذا الكتاب عاصفة من الاهتمام والدهشة في الأوساط الإنجليزية والأمريكية على السواء) وتناوله عدد كبير من الصحف بالعرض والنقد والتحليل. وقد تعرضت له مجلة (ريد رزدا يجسب) في أحد أعدادها الأخيرة فلخصت القسم الأول من أقسامه الثلاثة.
والقسم الأول من الكتاب وصف للحياة اليومية في أوسيانيا كما تخيلها المؤلف في عام 1984. وأسبانيا هذه تؤلف أجزاء العالم الغربي الذي نعرفه اليوم، شاملاً على الأخص الجزر البريطانية وجزر الأطلنطيق والأمريكيتين وأفريقيا الجنوبية وقسماً كبيراً من أستراليا.
ونظراً لما له من الأهمية وما فيه من الطرافة والفائدة، فقد رأيت أن أقدم إلى القراء الكرام بمراجعة عجلى له:
وتستون سميث رجل ضعيف البنية، يناهز التاسعة والثلاثين من العمر، يلتجئ في يوم عاصف من أيام نيسان الباردة عام 1984 إلى المنازل المعروفة (بمنازل النصر). وعندما دخل القاعة استرعىنظره صورة كبيرة ملونة معلقة على الحائط، تمثل وجهاً كبيراً جداً، وجه رجل يقارب الخامسة والأربعين من العمر، له شاربان أسودان كبيران وملامح جذابة، وقد كتب تحتها، الأخ الكبير يراقبك!، فهي إذن صورة الزعيم الذي يدير دفة الحكم في أوسيانيا.
وفي أحد الطوابق كان ينبعث صوت عذب يقرأ لائحة هامة حول إنتاج الحديد الخام لقد كان الصوت ينبعث من قطعة معدنية مستطيلة، تعرف بالتلسكرين. وأدار ونستون مفتاحها، فخفتصوتها، ولشد ما كان يتوق إلى إسكاتها تماماً لو كان ذلك في استطاعته، ولكن الحكومة أعدتها بحيث تظل دائماً مسموعة مفهومة واضحة وقد كانت هذه الآلة الغريبة تلتقط كل ما يخرج حولها من الأصوات وما يجري من الحركات. فكان في استطاعة (شرطة الفكر) أن(883/7)
يراقبوا جميع الناس من ورائها. وعلى الإنسان أن يعيش وهو موقن أن أي صوت يخرجه أو حركة يأتيها ستكشفها الشرطة ما في ذلك ريب.
ويذكر المؤلف أن العالم قد أنقسم بعد الثورات والانقلابات الخطيرة التي حدثت في الربع الثالث من القرن العشرين إلى ثلاث قارات كبيرة وهي: - أوربة الأسيوية، وآسية الشرقية وأوسيانيا. وقد كانت الحرب بينها سجالاً، فما كانت تنتهي يوما إلا لتندلع نارها من جديد.
وعلى بعد كيلومتر كانت تبين أمام سميث العمارة الشاهقة التي تشغلها وزارة الصدق حيث مكان عمله. وتشغل هذه الوزارة عمارة ضخمة على شكل الأهرام، وقد كتبت على جوانبها المبادئ الثلاثة لحزب الأخ الكبير، وهي تنص على ما يلي: - الحرب سلم، والحرية عبودية، والجهل قوة. وفي هذه المبادئ تتلخص فلسفة الأخ الكبير ونظرته السقيمة إلى الحياة. فلقد كان يعتقد، ويعتقد معه حزبه، أن الحرب إحدى السبل الطبيعية للحياة، ولذا كان أحسن حالاً من السلم. ويرى الحرية عبودية لأن حرية الإنسان تضطره إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة وهذه هي العبودية عينها؛ ويرى في الجهل قوة، لأن الإنسان إذا تعلم كثيرا ضعفت قواه الجسمية والعقلية. وتضم وزارة الصدق ثلاثة آلاف غرفة علوية، ومثلها سفلية، وليس في لندن كلها سوى ثلاث عمارات تضاهيها شكلاً ومنظراً. وفي هذه البنايات الأربع تتركز جميع أجهزة الحكومة وهي: - وزارة الصدق التي تهتم بالأخبار والعلوم والفنون وإذاعة البرامج على التلسكرين؛ ووزارة السلم وهي التي تعني بالشؤون الحربية؛ ووزارة الحب وهي التي تسن الأنظمة والقوانين، وتبث التلسكرينات في كل بيت، وتحرم على الناس الحب وتحتم عليهم أن يستغلوا جميع عواطفهم لمصالح الدولة؛ ثم وزارة الكثرة وهي التي تعني بالشؤون الاقتصادية.
وتوجه ونستون إلى بيته، وانتحى ناحية منه، ثم تناول دفتراً ذا غلاف أحمر وعزم على تدوين مذكراته. وأما الدفتر المذكور فيدل منظره على أن له من العمر أربعين عاماً، ولقد وقع عليه بصره في أحد الحوانيت في بلدة تسكنها (الطبقة الكادحة) التي كان محظوراً على المنتمين لحزب الأخ الكبير أن يختلطوا بها أو يدخلوا حوانيتها. وقد استولت على بونستون رغبة عنيفة جارفة لشراء الدفتر، ففعل ولكن بعد أن أخذ الحيطة اللازمة لئلا يكشف أمره وإلا كان عقابه الموت أو السجن في معتقلات الأعمال الشاقة 25 عاماً على(883/8)
الأقل.
وشرع ونستون يدون مذكراته بحروف غامضة، ولكنه سرعان ما أنقطع عن ذلك عندما راوده الفكر أن شيئاً أهم من كل ما دونه قد حدث في الوزارة صباح ذلك اليوم. فقد انبعث من التلسكرين الجاثم في إحدى الزوايا بقاعة الوزارة ضجة صاخبة تعلن ابتداء برنامج البغض ومدته دقيقتان. فظهرت على شاشة التلسكرين صوره وجه عمانوئيل جولد شتاين، عدو الشعب المارق الذي كان فيما مضى أحد زعماء الحكومة البارزين ولكنه أنغمس في أعمال عدوانية ضد الدولة فحكم عليه من جرائها بالإعدام. ولقد كان هذا البرنامج يتنوع يوماً بعد يوم، ولكن جولد شتاين هو هو بطله في كل الأوقات، فإليه تنسب جميع الخيانات والمؤامرات. فيشاهد على الشاشة وهو مندفع في إلقاء خطاب عنيف موجه للأخ الكبير مندداً بدكتاتوريته ومحقراً شخصيته. وما إن توشك الدقيقتان على الانتهاء حتى تثور ثائرة الجمهور الذي يحاول إسكات ذلك الهذر الجنوني الصادر عن التلسكرين، وتخالط نفسيته موجة من الذعر والانتقام والتعطش إلى القتل والتعذيب، ويتحول كل شخص مجنوناً ثائراً يملأ المكان عويلاً وصراخاً. ولكن الأخ الكبير لا تطول عليهم غيبته، فإذا به يظهر على الشاشة وينظر إليهم نظرات يهدئ بها ثائرتهم ويعيد الثقة والطمأنينة إلى نفوسهم.
تذكر ونستون كل هذا ثم عاد إلى مذكراته يراجعها، فألقى نفسه قد كتب وسط ذلك البحران والتفكير الشارد جملة واحدة بخط كبير مرات ومرات (ليسقط الأخ الكبير!).
وتستبد به رعدة من الذعر لأن كتابة هذه الكلمات أو مجرد التفكير بها لهو إجرامي، وجريمة الفكر ليست من الأمور التي يطول كتمانها إذ لا تلبث أن تكشف يوماً ما، فما يشعر مقترفها إلا وقد امتدت إليه في ساعة من ساعات الظلمة الحالكة يد قاسية عاتية تهز كتفيه بعنف وشدة، وتسومه من العذاب ألوانا ثم تسوقه إلى الإعدام. ولقد كان التجسس أمراً شائعاً، فالأولاد الصغار يتجسسون على آبائهم وأمهاتهم ويراقبونهم مراقبة شديدة؛ وكثيراً ما يشكونهم لشرطة الأفكار، وكانت الجرائد تروي الكثير من نوادرهم بعد أن تشيد ببطولتهم وإخلاصهم، وتلقبهم حين تتحدث عنهم (بالصبية الأبطال) وانبعث من التلسكرين صوت صفارة يصم الآذان، يعلن وقت النهوض لموظفي المكاتب. وينهض ونستون ويقف أمام التلسكرين ليقوم بالتمرينات الرياضية الإجبارية التي تذيعها الوزارة ولا مفر من القيام بها(883/9)
على أحسن وجه.
أما مكتب عمله فقد كان كغيره من المكاتب مجهزاً بجميع ما يحتاج إليه. فأمامه الآلة المسجلة للكلام وبجانبه شقوق في الحائط ترمي فيها الأوراق المعدة للإتلاف فتحمل آلياً إلى مواقد كبيرة تلتهمها فيها ألسنة النيران وتأتي عليها. وإذا ما احتاج إلى بعض السجلات الرسمية فما عليه إلا أن يدير أرقاماً في قرص أمامه، فيأتيه طلبه في أسرع من طرفة عين. وقد كان العمل الأساسي لدائرته أن تنقح جميع الجرائد والكتب والنشرات والإعلانات والأفلام والصور وما إليها من السجلات بحيث تظل دائماً ملائمة لمقاصد الحكومة ودعايتها، فتحفظ في الملفات.
وأما النسخ الأصلية القديمة فيحكم عليها بالإتلاف. ودائرة السجلات هذه أحد فروع وزارة الصدق التي من شأنها أن تعيد بناء الماضي وتزود سكان أوسيانيا بالمجلات والكتب والأفلام والبرامج وما إليها، وتقدم لأعضاء الحزب جميع حاجاتهم على اختلاف أنواعها.
وأما الجماهير المؤلفة من الطبقة الكادحة التي تكون 85 في المائة من مجموع سكان أوسيانيا، فلم تكن خاضعة في الكثير من مظاهر حياتها لدعاية الحزب، لأن الحزب لم ير ضرورة لذلك بعد أن كان يجعلهم يرجون أكثر أوقاتهم في الأشغال التي لا تبقي لديهم من الوقت ما يسمح لهم بالتحفز ضد الحكومة. كما أن الدوائر المختصة بها كانت تكيف عقليتها على النحو الذي تشاؤه فلا تقدم لها من الأدب والموسيقى واللهو والتمثيل إلا بضاعة رخيصة عثة لا تتعدى إثارة العواطف الجنسية والأفكار المنحطة، بحيث لا تفسح لها المجال في التفكير الراقي في ما يختص بتحسين الحياة وطرق العيش.
ويلتقي ونستون بصديقه سايم في أحد الحوانيت النموذجية التي يتناول فيها أفراد الحزب وجبات طعامهم، وهنا يستفيض الحديث فيتطرق سايم إلى الكلام على المعجم الذي يؤلفه في اللسان الحديث - وهو اللغة المنتشرة في أوسيانيا -، فيقول: - لقد شرعنا نلغي مئات الكلمات القديمة كل يوم لأن الغاية من اللسان الحديث تضييق آفاق الفكر بحيث تجعل جريمة الفكر أمراً مستحيلاً، وذلك بإعدام ما يعبر عنها من المفردات. . . وينصت ونستون إلى التلسكرين وهو يتلو رسالة من وزارة الكثرة تتحدث عن زيادة الإنتاج هذا العام عن العام السابق زيادة في الطعام والملابس والمنازل والأثاث وغيرها. ولكنه يستغرب كل هذا(883/10)
ويستهجنه، إذ لا يذكر أنه حصل طوال حياته على ما كفيه من مأكل وملبس، ولا يذكر أن أثاثه كان متهافتاً وبيته كان متداعياً. ولكن أنى للإنسان أن يظهر إمارات السخط أو الشك لأن ذلك هو الجريمة بعينها. وراح ونستون يتجول في أحياء الطبقة الكادحة حتى وصل أخيراً إلى الحانوت الذي أشترى منه فيما مضى الدفتر ذا الغلاف الأحمر. وأراه هنا صاحب الحانوت قطعة من الزجاج ركب جوفها فص من المرجان، ويرجع تاريخها إلى مائة سنة خلت. ويملك بونستون إعجابه بها، لا لأنها جميلة فحسب، بل لأنها تنتمي إلى عصر غير العصر البغيض الذي يعيش فيه. ثم قاده صاحب الحانوت إلى غرفة مريحة في طابق علوي فتمنى ونستون لو كان يستطيع أن يستأجرها منه، ويعيش فيها هادئاً مستريحاً عن صوت التلسكرين المقيت، ولكن أين منه ذلك والرقابة منتشرة في البلاد طولاً وعرضاً!
هذا وصف موجز للحياة اليومية كما يتخيلها المؤلف سائدة عام 1984. وأما أفكاره هذه فيختلف وقعها على القراء بحسب بيئاتهم. فقد تبدو للأمريكيين مجرد وهم وخيال لأنه يشق عليهم أن يؤمنوا بدكتاتور كالأخ الكبير يتعطش للسلطة، وبحكومة يسارية فظيعة ما داموا قد تعودوا استطابه العيش في ظلال الحرية. أما خارج أمريكا فقد تكون رسالة المؤلف أعمق أثراً وأبلغ فهماً، فالإيطاليون الذين عاصروا موسوليني وهو يلقن الأولاد الصغار دروساً في القسوة الوحشية لن يدهشهم أن يروا الصبية الذين لا تتجاوز أعمارهم السابعة يمارسون التجسس على يد الأخ الكبير. وإذا تسنى لهذا الكتاب أن يتجاوز الحدود الى ما وراء الستار الحديدي فلن يبدو فيه العالم الرهيب غريبا وخيالياً، لأن الصورة التي رسمها المؤلف له مبنية على الدرس الدقيق لمستقبل الاشتراكية إذا أطرد سيرها على منواله الحالي.
أما أهمية الكتاب فليس في تخيلاته وطرافته، وإنما هي في منطقة المر القاسي، لأن المؤلف يحذر فيه الناس من القوى المهددة لعالمنا إذا نشطت هذه القوى حتى تبلغ بنا إلى نهاية المحتومة.
ولربما تحمل هذه الأفكار بعض الناس على الظن أن المؤلف قصد أن يقول: - (إن الناس أشرار بطبعهم، وليس هناك من أمل يرجى في صلاح البشرية ما دامت على هذا الحال)(883/11)
وما هذا بصحيح لأن الناس إذا ما واصلوا سعيهم لإسعاف البشرية، واحترام روح الحق، واعتنقواالصدق في السعي وراء المعرفة الكبرى، فلن يقودهم سعيهم هذا إلى الاستعباد الرهيب. وإذا تآزروا جميعاً على محاربة روح التفرقة؛ ودعوا إلى الحرية في عبادة الله، الحض على حب النساء وتقديرهن، والعناية بالأطفال ومساعدة المرضى، والجهاد من أهل الإبقاء على قيمة الإنسان وإنماء الروح الإنسانية فيه، والحرص على حريته، فإن هذا العالم الرهيب الشرير، عالم 1984، المفعم رعباً وهولا لن يقدر له في يوم من الأيام أن يصبح حقيقة ماثلة للعيان.
ماجد فرحان سعيد
مدرسة الفرندز للبنين
رام الله(883/12)
اللغة والفكر. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
جرت العادة في الإنسان على أنه حيوان ناطق، وهذا النطق الذي أمتاز به الإنسان عن الحيوان معناه التفكير والتعبير معاً. والتفكير عملية تجري في عالم الداخل تترجم نتائجها ونزعتها لعالم الخارج، بإشارات إرادية مسموعة أو مقروءة هي اللغة.
اللغة لا تتحقق من دون فكر. وقد يكون فكر من غير لغة، لأن الفكر أما نفساني أو لساني، والأول منهما أقرب إلى الوجود من الآخر. لأن الوجود هو موضوع الفكر ومجال نشاطه. والفكر بدوره يصبح موضوع اللغة ودعامتها الأولى. ثم هو موجود ما دام الوجود، وحيث لا وجود فلا فكر، وليس يصح في الأذهان أن شخصاً يفكر في لا شيء، أو أنه لا يفكر في شيء. والتفكير أدل على الوجود من التعبير: فإن كل المفكرين أحياء، وليس كل الأحياء مفكرين، ولذا قال ديكارت قالته المشهورة (أنا أفكر، فأنا موجود).
ونحن بذلك نخالف (لويس دي بونالد) في قوله بأن لا فكر بدون لغة، ذلك بأن الفكر هو عالم المعاني النفسانية، واللغة عالم الألفاظ اللسانية. واللغة كمال الفكر. ولا عكس، لأنها تستوعبه، وهو لا بد له منها، وهي لا بد لها منه، ولما كانت صورة التمثال دليلاً على مادته، والثوب دليلاً على لابسه، فهل اللفظ دليل على معناه؟ وعلى أي وجه تكون دلالة اللفظ على المعنى؟ وبعبارة أخرى ما النسبة بين اللغة والفكر؟
البارعون قليل، وكم يتمنى الناس على كثرتهم أن يكونوا أمثال هؤلاء البارعين على قلتهم، وهذا ما نراه في ازدحام الناس على سماع فنان يغني، ونحن جميعاً نأكل اللحم أصنافاً وألواناً، ولكن يندر منا من يعرف كيف يتخير اللحم عند القصاب. وكلنا نفكر ولكن أقلنا من يفكر تفكيراً صحيحاً سليماً.
فإذا كان الغناء براعة، ومعرفة أصناف اللحوم براعة، فلا عجب أن يكون الفكر نشاطاً إنسانياً بارعاً، وإن كان عند ديكارت أعدل الأشياء توزعاً بين الناس. والتفكير أضيق نطاقاً من التعبير، فهو كالقوة الكهربائية لها طاقة تدير الآلات وتدبر أمور الحياة.
ويكون التفكير صحيحاً إذا روعي فيه شرائط أربع:
أولاً: استيضاح موضوع التفكير بالإلمام بشتى خصائصه.(883/13)
ثانياً: امتحان الوسائل الممكنة لإتيانه قولاً أو عملاً أو معرفة أو اعتقاداً.
ثالثاً: اختيار أقرب المسالك وأقوم السبل.
رابعاً: الربط بين هذه الشرائط جميعاً.
والواقع أن تلك هي خطوات التفكير العام عند المهندس والكيميائي والفيلسوف جميعاً حينما يزاول أحدهم فنه، بل هو منهج السلوك الإنساني في هذه الحياة. ونحن إذ نفكر نزداد قدرة على التفكير يتسع معها مجاله، وبراعة التفكير تستلزم التعمق والتوسع معاً، كما هو الشأن في تخصص العلماء في أدق الأمور.
التفكير إذن تفاعل بين القوة المفكرة ومظاهر الوجود، واللغة نتيجة هذا التفاعل، ولما كان الناطق هو المفكر المعبر معاً، فإن للغة إذن مكانتها من الإنسانية. إذ الإنسان مفطور على الاجتماع ببني جنسه اجتماعاً إنسانياً أي بكلا شطري إنسانيته. أما الشطر الأول - وهو التفكير - فلا يكفي وحده لتحقيق هذا الترابط، وكذلك الشطر الثاني - وهو التعبير - لا يكفي وحده لتحقيق ذلك. فكان من اللازم أن تتحالف اللغة والفكر ما دامت الإنسانية وما دام الوجود.
ولما كانت اللغة تستوعب الفكر، فقد أصبحت العنصر الأول والدائم في التقدموالعمران. فالناس يترابطون باللغة ويتعاملون بها، وكلما يسرت اللغة بين الناس، خطوا نحو الحضارة بأوسع الخطوات، وما طرق المواصلات على اختلافها إلا لغات بين الأفراد والقبائل والشعوب. والإنسان بطموحه المعهود لا يكتفي بما لديه من مواصلات، ولا يقف نشاطه على عوالم يعرفها ويتعامل معها، لذلك عمل على التعرف بأبناء الكواكب، والتحدث إليهم في شجون وفنون، وأعانه على ذلك تطور المواصلات من التعقيد إلى التبسيط، ومن البطيء إلى السريع: من رجليه إلى أحدث ما عرف وسيعرف من وسائل؛ تدرجت من الدواب إلى العجلات، من السيارة إلى الطيارة، إلى الصاروخ الأوتوماتكي، ومن التليفون إلى التلغراف، ومن الطرق البرية والبحرية والجوية إلى اللاسلكية، ومن التلفزيون إلى التلبرنتر، وما تزال الليالي حبالى يلدن كل عجيبة، وذلك اتجاه لا ننكره على العقل الإنساني الذي لا يطيق الفوضى، ولا يحتمل الكثرة، ولا يرضى بحمل الأثقال: فقديما لم يعرف الإنسان العدد، وقديماً أخرج (بأقل) لسانه ليكمل بأصابعه العشر ثمن جَدي اشتراه،(883/14)
وما زال العقل يختزل حتى عرف خصائص العدد فأغنته عن المعدود، وترقى في الأرقام الحسابية إلى الرموز الجبرية، ومن الأشكال الهندسية إلى التحليل الهندسي، فاستحالت النظريات الهندسية من ألفاظ تنطق وأشكال ترسم إلى معادلات.
واللغة مكتوبة أو منطوقة هي إشارات لا تمت إلى ما تشير إليه بصلة من قريب أو بعيد، فليس ثمة شبه ولو قليلاً بين كلمة (كلب) أو صوتها أو شكل كتابتها، وبين الحيوان المشار إليه بها لا شكلاً ولا لوناً ولا طعماً ولا أي شيء آخر. بل يروي أن سبب تسمية حيوان (الكنجارو) وهو أن الإنجليز عند استعمارهم استراليا، سألوا أحد السكان عن أسم هذا الحيوان فقال (كنجارو) أي (لا أدري) فظن الإنجليز أن هذا الحيوان اسمه (لا أدري) فصار اسماً ملازماً. والواقع أن الإنجليزي والأسترالي وغيرهما يعرفون الحيوان ويدركون صورته، ولكنهم - وإن اتفقوا على تسميته باسم (الكنجارو) - لا يردون من سبب لتسميته.
والحق أننا نجاري السابقين فيما تواضعوا عليه من أسماء، وأن اللاحقين يجاروننا فيما توارثناه عن السابقين من غير معارضة ولا مناقشة، ومن غير معارضة ولا مناقشة، ومن غير ما سبب أو ضرورة.
ومما هو جدير بالذكر أننا بالاتفاق والاصطلاح نجمع على المشار إليه أولاً ثم على ما نشير به إليه، وبذلك يكون العقد اللغوي صحيحاً. فالشيء واحد واسمه واحد. ولكن هل أفكارنا عن المسمى واحدة؟
الواقع أنها ليست واحدة، ولن تكون كذلك: لأن مشاعرنا وميولنا - فضلاً عن مدة تعارفنا - كلها تحدد أفكارنا تقديراً وتقريراً. فمدلول اللفظ واحد عند كل الناس، ومعناه يختلف في الكيف والكم عند كل واحد منهم على حدة. وعلى ذلك يكون لدينا: أسم ومسمى وفكرة. وغالبا ما يتحد الاسم، وغالبا ما يتحد المسمى، ولكن من المحال أن تتفق الفكرة لأنها أشبه بدوائر الماء ألقي فيه بحجر، فهي تتسع وتتسع إلى ما لا نهاية له من الأمواج.
والفرق واضح بن الاسم والفكرة لأن الاسم هو الدلالة على المعنى الاصطلاحي الذي يفهم من اللفظ عند إطلاقه، والذي من أجله أطلق الاسم على مسماه دون غيره، أما الفكرة فهي مفهوم الشيء من غير قيد ولا شرط. ولا بأس من التعرض للخلاف الفلسفي الدقيق الذي دار بين (جون استيوارت) و (جيفونر)، فالأول يعتبر المعنى اصطلاحاً وصالحاً للتعامل(883/15)
لأنه عام، ويسميه والآخر يعتبره فكرة خاصة بصاحبها ويسميه فهو خاص أو أخص الخواص، وذلك أدعى إلى النفرة والخلاف، بسبب اختلاف الناس في مدى تجاربهم عن الحياة، ولعدم وجود رابط للتوفيق بينهم، وما دام السلوك الإنساني شخصياً، والسلوك الحيواني فردياً. إذ الإنسان - كما يرى علماء البيولوجيا - (شخص) بينما الحيوان (فرد)
ومع ذلك لو تركنا للفكر حبله على غاربه لذهب بنا إلى وديان ومتاهات لا نهاية لها، ولا متنع - مع هذا التيه والبعد - ما هو مرجو من الفكر، لتحقيق أغراض اللغة كأول رابطة تعاونية بين الإنسان والإنسان.
لهذا تنازل الناس إلى بعضهم بعضاً عن الحقوق المحفوظة في الخواطر والمشاعر والأنظار، وهداهم الأمر إلى الإنفاق على مسمى الاسم وهو القاسم المشترك الأعظم بين أفكار الناس عن مفاهيم الألفاظ.
ومما يقوي تركيز الأفكار ويمنع تشتتها استغراق المشاعر والميول في النظر إلى الأشياء. فكلما اتحدت مشارب الناس وتوافقت طباعهم وعوائدهم قل الخلاف على معاني الأشياء اختياراً واستعمالاً. وعلى العكس من ذلك إذا تنافرت الطباع وتناكرت الارواح بعد ما بين الناس، وصعب التوفيق، وضار صرخة في واد. أو نفخة في رماد.
ففي الهند 222 لغة يصعب معها تفاهم القادم من (بمباي) مع المقيم في (مدراس)، وليس ذلك إلا مظهراً للخلافات الفوارق الاجتماعية. فلا عجب إذا قلنا إن الانحلال الاجتماعي يتبعه دائماً انحلال لغوي، إذ تعود الإفهام إلى الفوضى الذهنية الأولى فتتخطى الاتفاقات والمعاهدات وتضرب بها عرض الحائط.
وهكذا تكون اللغة مرآة تنعكس على صفحاتها مجرى الحياة القومية لشعب من الشعوب، فقد طغت الموجة السفسطائية على الحياة اليونانية ردحاً من الزمن فتشتت الشمل، وساد الانحلال الخلقي، واستبدت بالشباب نزعة الاستعلاء الباطل، والتمويه والتزويق، وكادت الروح اليونانية تلقي مصرعها النهائي لولا أن أتاح الله للفكر الإنساني سقراط الحكيم الذي وجه كل كتائبه الأولى نحو تحديد الألفاظ، فقطع على السفسطائين أفاعيلهم ورد إلى الإنسانية كرامتها الفكرية.
والإنجليز يسودهم (المادية) حتى في مجال الحياة المعنوية، فهم يقولون وهكذا يجعلون(883/16)
الزيارة والانتباه كالمال يدفع.
كما أن الفرنسيين يهتمون بالمبالغة والمغالاة، لهذا تعددت في لغتهم مرادفات كلمة (جداً) فيقولون: , , , , , , , , , , , ,
وهكذا تكون اللغة مقياساً دقيقاً للروح القومية في خصائصها العامة من جهة، وفي التضامن الاجتماعي أو التفكك والانحلال من جهة أخرى.
والسر الخفي في هذا المقياس يرجع إلى النسبة بين اللفظ والمعنى، لهذا يجب أن نعرف أن دلالة اللفظ على المعنى تكون بإحدى ثلاث: -
أولاً: (المطابقة) أي يكون اللفظ عين المعنى وليس غيره كما نطلق لفظ الإنسان على الحيوان الناطق، ولفظ البيت على مجموع الجدران والسقوف.
ثانياً: (التضمن) أي يكون اللفظ دالاً على جزء من أجزاء المعنى المطابق كما أنطلق لفظ الإنسان على الحيوان وحده، ولفظ البيت على الجدران فقط.
ثالثاً: (الالتزام) أي يكون اللفظ مطابقاً للمعنى الذي يلزمه أمر آخر ليس جزءاً منه ولكن مصاحباً وملازماً ومستتبعاً. كما نطلق لفظ المخلوق على الخالق ولفظ البيت على الكوخ.
ودلالة الالتزام ليست في الحقيقة دلالة لفظية، بل هي انتقال الذهن من المعنى الذي دل عليه اللفظ بالوضع إلى معنى آخر ملاصق له أو قريب منه. فاللفظ يدل على المعنى كله أو جزئه أو شيء آخر خارج عنه ملازم له.
والعلوم إنما تستعمل الألفاظ المطابقة على معانيها حتى لا يختلف في الأمر اثنان أو على الأقل يكون الخلاف أقل من أي خلاف آخر توجده الدلالتان الأخريان. فدلالة التضمن ودلالة الالتزام هما سبب شطحات الخيال، ونزوات السفسطة. ودلالة المطابقة لا تكون إلا بالاتفاق والاصطلاح. وحرصاً على التركيز العلمي، عمدت كل طائفة من العلماء إلى معاجم اتفقوا علة وضع مصطلحاتها، ولهذه المعاجم القول الفصل في كل خلاف. من ذلك ما صرح به المستر تشتشل إبان الحرب الأخيرة إذ قال فما كان من ساسة مصر النابهين إلا أن فطنوا إلى التورية الإنجليزية واللغة اللولبية التي اشتهرت بها، فطلبت حكومة مصر إيضاحاً لهذه الكلمة التي ربما انطوت على معنى (الحماية) التي جاهدنا بأموالنا ودمائنا في سبيل فك أغلالها عنا، ونزع كابوسها، فما لبث تشرتشل أن فسر قصده(883/17)
بأننا علينا أن نحميها وفق المعاهدة وبذلك انحسم النزاع، وأغمدت الدماء في القلوب.
ولا شك في أن دلالة المضمون تعني الأديب اللغوي في بحثه عن البيان والمجاز من إرادة الكل وإطلاق الجزء، وكما أن دلالة الالتزام لا تعني المنطقي ولا اللغوي وإنما أهل الفن في تخييلاتهم، وتصويراتهم، فالشاعر يتخيل ويتصور، ويخلع على الموجودات والمعاني من شخصه روحاً وجسداً، والمثال يبرز المعاني ويجسمهاما شاءت له معداته ومواهبه ونوازعه، وعلى ذلك تكون المطابقة من هم أهل العلم، والالتزام يخص أهل الفن، والتضمن يشغل المهتمين بأدب اللغة أو لغة الأدب على الأصح.
واللفظ أحياناً يكون له معنى واحد، وأحيانا أخرى يكون ذا معان كثيرة: فالاسم العلم مثل: القاهرة، فاروق، والاسم الكلي مثل: شجرة والجمال؛ وهذان الاسمان يدلان على معنى واحد. أما الاسم المشترك كالعين، والاسم المنقول كالصلاة والأسد والقطار، فكلاهما يدل على أكثر من معنى.
للكلام بقية
محمد محمود زيتون(883/18)
المسرحية بين الكتابة والخلق
للأستاذ يوسف الحطاب
من الظواهر التي كاد القرن العشرين يألفها: صدور المسرحية عن المطبعة لا خروجها من المسرح. وهذه الظاهرة إذا أنتشر ما انطوت عليه رأينا فيها مراوفا لأشكال خطير غفل عنه كثير من النقاد، لأنه يجعل المسرحية أدخل في باب الأدب من ناحية القصة والحوار، مع أنها أقرب إلى الفن بحكم طبيعتها.
ونحن نعرف أن التاريخ الحقيقي للفن المسرحي لم يبدأ بكتابة المسرحية بل ببناء المسرح، أي أن المسرحية لم توجد إلا بعد أن توفر الإطار المادي الذي برزت من خلاله. وليس هذا البناء جزءاً من فن العمارة، بل هو التحقيق الكامل لوجود الفن المسرحي. والمسرحية المكتوبة باعتبارها شيئاً صادراً عنه تتأكد صلتها به حين تراعي طبيعته الفنية، وتنفصم هذه الصلة إذا تجاهلت هذا الأمر، وبذلك تستحيل إلى قطعة من الأدب الخالص.
وإذا قيل إن المسرحية المكتوبة جوهر المسرح، فأن الوجود يسبق الجوهر. ووجود المسرح يؤكد نفسه في الموضوع الذي يتناوله حين يصوره من خلاله فيكسبه شكله ويحيله إلى كائن له مشخصاته وينتهي بنا إلى أنالمسرحية من المسرح تشاهد، لا من الكتاب تقرأ.
هذه هي الحقيقة التي رأيت أن نتفق عليها قبل تناول الأزمة الفنية التي يمر بها مسرح القرن العشرين - الأزمة التي تتمثل في كتابة المسرحية في كتاب أو كراسات لا ابتداعها فوق المسرح واتخاذ وحدات المسرح موضوعاً لها. وهو أمر نريد دفع فناني المسرح إليه.
ونقصد (بفناني المسرح) الفنانين الخلاقين لا ذلك النفر الذي جرى وراء بدعة تمزيق الفن وتقسيمه إلى أقسام: قسم يشتغل بالتأليف، وآخر بالإخراج، وثالث بالتمثيل. فما دام المسرح يمثل وجها من أوجه الحياة فلا بد أن تتوفر له عضويتها ووحدتها أما بدعة التقسيم هذه فمرجعها إلى طبيعة العصر الذي وجد به التقسيم وفكرة التخصص القائمة على التفرقة بين الأنواع.
والأمر المقطوع به أن طبيعة الكتاب ستظهر حتما في المسرح مهما حاول المؤلف إخفاءها. ومن هنا نرى غلبة عنصر الحوار مسرحيات القرن العشرين على العناصر الفنية الأخرى حتى لكائن شخصياتها عند التمثيل تقرأ بصوت عال كتاباً استظهرته. ولا أذكر(883/19)
أني شاهدت مسرحية بالغ الممثلون في إتقان أدائها أدركت أنهم يحاولون بعث الحياة في شيء غريب عنهم وتعويض هذا الشيء ما يفقده من طبعية.
والمؤلف حين يشغل نفسه باختيار فكرة للمسرحية - كما يفعل في الكتابة العادية - يحيل المسرح إلى منصة خطابة يدعو لفكرته فوقها. ثم هو حين يعمد مرة ثانية إلى التوفر على تعقيد هذه الفكرة يفعل ذلك ليجبر المشاهد على تتبع المسرحية بفكرتها وحله لها - وهذا تحايل على الفن لا ينطلي على من ينعم النظر في بناء المسرحية الحوارية.
وهذه ظاهرة لا بد لها من تعليل عند هؤلاء الكتاب. والتي ولا شك في أنهم يختفون وراء موهبتهم في التأليف مع شيء من دراسة للمسرح والمران على كتابة المسرحية؛ ولكن يفوتهم أنهم يمارسون هنا نفس الأسلوب الأدبي الذي عرفوا به ويكررون نفس الأخطاء في كل مسرحية يكتبونها لأن المسرحية لا تكتب بالكلمات ولكنها تصور بالمشاهد والمواقف ذات طابع العرض.
ويسوقنا الحديث عن موهبة التأليف إلى القول بأن التأليف للمسرح لا يحتاج إلى الموهبة والاستعداد الكاملين فحسب بل إلى الدراسة والمران حتى يكتمل نمو الملكة المسرحية إلى النهاية، وحتى يصبح رجل المسرح كالطبيب والمحامي والمدرس الجامع بين الاستعداد والدراسة.
تأتي بعد ذلك مسألة الأداء ومن الذي يقوم به: ومن المعروف أن الطبيب يعالج مرضاه بيده ولا يدع أمرهم إلى غيره وإلا كان متناقضاً مع قواعد المهنة. أما رجال المسرح فتراهم يتناقضون مع أنفسهم وقواعد مهنتهم حين ينقسمون إلى مؤلف ومخرج وممثل، وحين ينفرد كل بجانب واحد من جوانب المسرحية يكاد ينفصل عن بقية الجوانب. فالمؤلف ينتهي دوره من كتابة الكلمات، والمخرج لا يبذل جهداً بعد إعطاء التعليمات؛ أما الممثلون الذين يحققون العمل الفني ويقومون بمهمة الأداء فلا يستطيعون أن ينكروا أنهم يؤدون شيئاً ليس لهم. وهذا هو السبب في سرعة ما يلحقهم من تعب وإرهاق، بل هذا هو السبب الحقيقي في فشل بعض المسرحيات أو النجاح المفتعل للبعض الآخر.
والذين يفرقون بين التأليف والأداء يستشهدون على ذلك بفن الموسيقى وأن بيتهوفن أرتفع بالتأليف الموسيقي إلى أسمى الدرجات دون أن يقوم بعزف مقطوعاته بنفسه. ولهؤلاء نقول(883/20)
إن الفرق كبير بين الفنيين وأن المسرح يحتاج إلى توفر استعداد طبيعي، بل إن المختصين يذهبون إلى أنه غريزة من الغرائز التي تدخل في تركيب الإنسان، وإن الأداء تنقيس عن هذه الغريزة وإشباع لها. ومن هنا حق لنا أما أن نقف الذين يبتسرون الأمور ويكتفون بأجزاء الأشياء دون كلياتها. فما دامت المسألة إشباع حاجة طبيعية فأن هذا الإشباع لا بد أن يأخذ شكله التام في المجال الطبيعي له - وهو المسرح: وما دام المخرجون والمؤلفون يبتعدون عن خشبته فأنهم يعبرون بذلك عن بعدهم الحقيقي عن هذا المجال وأنهم إضافات زائدة يحسن إقصاؤها بعيداً عن العناصر الحقيقة.
وقد يعترض أصحاب فكرة المؤلف الواحد والمخرج الواحد بأن كل ممثل لا يستطيع أن يكون مؤلفاً أو مخرجاً وأنه إذا استطاع فسيختلط الأمر ويصير الأداء فوضى شاملة. ونحب أن نطمئن هؤلاء بأن الأنباء حملت إلينا في العام الماضي نجاح محاولة أحد فصول المعاهد المسرحية بلندن في الاشتراك في كتابة مسرحية جماعية وهي المحاولة التي نريد تعميقها في المسارح الفنية والدراسة والمران كفيلان بتحقيقنا لها.
وليست هذه المحاولة حدثاً جديداً بل لها سند من التاريخ وأسلوب الفن. فنحن نعرف أن المسرحية بدأت عند اليونان بالارتجال فكان مؤلفوها يستمدون موضوعاتها من الأساطير التي خلقها الشعب وكانت واقعاً يعيشه. حتى أنهم كانوا يثورون إذ خرج المسرحي على نص الأسطورة. وهكذا نرى أنهم كانوا يشتركون في التأليف كما كان الممثلون يختارون منهم ويخضعون إخراج المسرحية لتقاليد متفق عليها منهم.
ولم تشذ المسرحية في العصور الوسطى عن هذا الأمر حين كان الكهنة يرتجلون تمثيل حياة القديسين، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بحرصهم على إعطاء أدوار التمثيليات إلى أشخاص يقومون بنفس الأدوار في الحياة.
وأظهر حركة طبيعية في تاريخ الفن المسرحي بدت في المسرحية الفنية (كوميديا دلارتي) التي كانت تعتمد على ممثلين حذقوا فن ارتجال التأليف والتمثيل وخلفوا وراءهم تراثاً كبيراً في تصوير الشخصيات والإخراج. كما قامت في ألمانيا في أوائل الربع الثاني من هذا القرن حركة ترمي إلى اشتراك الجمهور في أحداث المسرحية.
وليس في هذا خروج عن التيار العام للفن، فأننا نعلم أنه حينما اقتربت دراسات علم النفس(883/21)
من الفن وانتشرت نظريات العقل الباطن رأينا الفنانين يخرجون على طرق الأداء التقليدية ويتبعون نهج التلقائيين وخاصة في الرسم.
وليس تعدد طرق الإخراج والتأليف في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن وترددها بين الواقعية والرمزية إلا دليل قلق رجال المسرح على المسرحية الحوارية من ظهور الأوبرا والباليه والسينما: أما الأولى فقد رأت أن تقترن الموسيقى بالحوار حتى غطت الموسيقى على الحوار وكادت أن تقضي عليه، حتى جاءت الباليه التي لم تر في الموسيقى علاجاً لطغيان الحوار فألغته إلغاء تاماً واستغنت عنه بالحركة المصورة التي اتخذتها وسيلتها في الأداء أما السينما فقد أرادت أن تقف في مفرق الطريق فجمعت بين عناصر هذه الفنون داخل الصور المعبرة التي تقدمها.
هذا ما جره تمسك لمسرح بالحوار والمسرحيات الحوارية المكتوبة التي يخلفها له أديب غير ممثل ويخرجها مخرج يشرف على المسرح من بعد ولا يضع يديه في العمل.
وإذا بقي المسرح على هذا الحال فلن يمر نصف قرن عليه حتى يكون قد استهلك كل إمكانياته ومله الناس ولم يعد أمامه إلا أن يفسح الطريق لفن جديد لا علاقة له به، أو أن يسير في الطريق الطبيعي الذي رسمناه له. وما زال علاج المسرح في المسرح نفسه وفي الرجال الذين يعملون به.
يوسف الحطاب(883/22)
مجال العبقرية
للأستاذ محمد خليفة التونسي
مجال العبقرية هو السريرة الإنسانية حيث أرادت الإصلاح، ومتى أرادته. . .
فهو المجال الذي منه يبزغ وفيه تعمل، وعليه تعتمد في الإصلاح، وبه تناط معجزاتها الأدبية، فالعبقرية حين تتصدى لإصلاح البشر إنما تعمد إلى تغيير سرائرهم فتغير إحساسهم وتفكيرهم ونظرات بعضهم بعضاً لبعض، ونحو الحياة عامة، والوجود بصور أعم، فإذا أفرغت العبقرية قواها في السرائر الإنسانية التي تتصل بها غيرتها، فتغيرت طوعاً لذلك الاجتماعية وكل ما فيها من نظم.
وبهذا المقياس وحده يقاس أثر العبقرية، وعلى هذا النحو ينبغي أن يمتحن إعجازها الأدبي، إذ أن مناط هذا الإعجاز ما في العبقرية من قوة دافعة إذا مست السرائر الإنسانية جاشت فيها بواعث الحياة وبواعث الواجب وبواعث الشعور وبواعث التفكير وكل ما ركب في البنية الإنسانية من قوى الوعي والحركة.
ومن طلب الإعجاز من العبقرية في غير هذا المجال فهو جاهل بمعنى الإيجاز، ومعنى العبقرية، ومعنى الحياة الإنسانية، وحدود الطاقة البشرية ومكان الإنسان في الوجود. وهو كمن لا يبحث عن الماء إلا في السراب، فإذا لم يظفر به - وما هو بظافر - كفر بالماء والسراب جميعاً. ولو تدبر الأمر لعرف أنه هو الذي دفع بنفسه في مهاوي الضلال بسوء افتراضه ومنهجه وحكمه، ولو فطن إلى أنه يكلف الأشياء ضد طباعها لما زاغ وما طغي.
ومن هنا يتبين الفرق بين منهاج العباقرة ومنهاج غيرهم في إصلاح البشر.
فالعبقري يلجأ أولاً إلى إصلاح السرائر الإنسانية، فإذا صلحت صلح بصلاحها ما يشكو منه المجتمع من أدواء، أو هان على الأقل إصلاح هذه الأدواء أو تخفيف وقعها على النفوس.
وغير العبقري يلجأ إلى إصلاح ما يحيط بالناس، ويحاول أن يوجد توازناً بين القوى المختلفة في المجتمع حتى لا تثقل بعض جوانبه ويطيش بعضها فيتزعزع بنيانه وتنحل ضوابطه.
العبقري يبدأ الإصلاح من الداخل فيندفع إلى الخارج، وغير العبقري يبدأ الإصلاح من(883/23)
الخارج ليحاول أن يجد له طريقاً إلى الداخل وقد يصل إلى السريرة أو لا يصل.
ومن ثم كان إصلاح العبقري أشبه بالطفرة المفاجئة، وإصلاح غيره أشبه بالدبيب الهادئ الوئيد، وكأن المجتمع يخلق حيث نبغ العبقري خلقاً جديداً، وكأنه على يد غيره يرمم ويقوم بعدة عمليات جراحية خفيفة بطيئة على التوالي طالما هو يحيا، وطالما بنيته محتاجة إلى هذه العمليات، وقادرة على تحملها، ثم يكتب له السلامة من أخطارها.
العبقري دائما صاحب رسالة، وعمله تبليغها إلى الناس، وهو لا يبلغها حتى يكون مثلاً حياً مجسداً، وحتى يكون مثلاً مغرياً ليحمل الناس على التأسي به فيها، وهو لن يغري الناس بتقليده والإيمان به حتى تكون شخصيته محببة جذابة، وسيرته رضية وممثلة لرسالته، فيجبرهم بجمال شخصيته وسيرته على الإعجاب به والاطمئنان إليه، ثم التسليم برسالته؛ ولن يتاح ذلك ضرورة إلا بأن يصحبهم ويصحبوه.
فالصلة الشخصية بين العبقري ومن حوله هو الموصل الجيد السريع الذي تنتقل خلاله شخصيته بكل ما حفلت، ومبادئه كأبسط وأظهر ما تكون في تسربها من سريرته إلى سرائرهم، ولا صلة غير الصلة الشخصية التي تتهيأ فيها الألفة ويتجمع الشتات وتعرض الأمور بسيطة بارزة قادرة على نقل صورته ومبادئه - منه إليهم، وبغيرها يتعذر أو يتعسر التأثير.
وهم لا ينتظرون منه آية على صدق رسالته وكرمها - سواء وعوا ذلك أم لم يعوه - إلا أن يكون هو مثلاً محببا إلى نفوسهم في تصويرها وتوضيحها لهم، ولا آية تقنع المستعدين للإقناع بصدق رسالته وكرمها إلا تجسدها فاتنة محببة لهم في شخصه وسيرته.
وعلى هذا النحو الذي انتقلت به الرسالة من سريرته إلى سرائر أصحابه تنتقل من سرائرهم إلى سرائر من وراءهم في الزمان والمكان، وبأشخاصهم وسيرتهم الممثلة لهذه الرسالة كما تظهر خلال صلاتهم الشخصية المباشرة بالناس يستحوذون على إعجابهم وثقتهم وإيمانهم، فالعملة التي يتعامل بها الناس في حياتهم هي الأشخاص والأعمال الصالحة المنظورة التي تمثل المبادئ والأفكار الصالحة في صورة حسية جذابة، وليست هي المبادئ والأفكار المجردة مهما تكن صالحة، ومن هنا تظهر خطورة الصحبة التي تتسلط فيها شخصية على شخصية، ولا سيما الشخصية العبقرية التي هي بحكم طبيعتها(883/24)
طاغية غامرة.
نعم، ليست الصلة الشخصية بين العبقري وغيره صلة ذهن بذهن، ولا استمتاع عين بمنظر إنسان عجيب، بل امتزاج تتسلط فيه شخصية مغناطيسية بكل ما فيها من قوى طاغية على شخصية قابلة للانجذاب إليها، متفتحة لتقبل ما تفيض به عليها.
هنا فيض شخصية في شخصية لا يسهل حصر حدوده ولا طرقه، لا نقل معلومات من ذهن بعلمها إلى ذهن يجهلها، يتم فيه تشبع الشخصية التابعة بالشخصية المتبوعة إلى درجة الامتلاء، وذوبان عناصرها فيها حتى تستحيل شخصية أخرى تصدر عنها أفعاله وأقوالها كما يصدر العسل عن النحلة، وتسير في حياتها على هدى هذه الرسالة كأنها تهتدي بوحي غرائزها الفطرية دون تفكير ولا تردد ولا اختيار.
فإذا تحدثت الشخصية التابعة سمعت منها حديث المنوم مغناطيسياً تحت تأثير منومه، وتظهر كلماتها مطبوعة بطابع الرسالة التي تلقتها، ولو لم يكن الموضوع الذي تتحدث به من الموضوعات التي تعرضت لها الرسالة ببيان. ومن الأمثلة التي توضح لنا ذلك أحاديث حواريي المسيح برسالته من بعده إلى الناس، وما كان هؤلاء الحواريون إلا طائفة من صيادي السمك وأشباههم لا يزيدون في ثقافتهم على العوام، ولكنهم ثبتوا في الجدل الكلامي لأساطين كهنة اليهود وأحبارهم الذين كانوا فقهوا حق الفقه صفوة الثقافات الدينية والعملية والفلسفية التي كانت معروفة في عهدهم، وانتصروا عليهم حتى في تفسير الشريعة الموسوية التي هم كهنتها وأحبارها. وكانوا إذا خطبوا أو تحدثوا - وهو العوام - نطقوا بالبيان الساحر الذي يزلزل القلوب ويهز العقول فلا تملك حيال بلاغته العارمة ما يدفعها، فإما أن تؤمن بها وإما أن تنحرف عن طريق سيلها الغامر.
وكانوا إذا تنبهوا إلى أن ما يقولون هو فوق مستوى افقهم تعجبوا من أنفسهم ودهشوا كيف يأتون بمثله وهم العوام، وتأولوا ذلك بأنه من آثار تجلي الروح القدس عليهم وامتلائهم به. ونحن لا نملك إلا أن تعجب كما عجبوا وندهش كما دهشوا كيف يأتون بما أتوا به مما لا يحسن مثله فحول البلغاء الذين قضوا سنين عاكفين يتدربون على تجويد القول والتفنن فيه. هذا إلى ما يمتاز به كلام أولئك الحواريين من بساطة معجزة في التفكير والتعبير. ونحن أخيراً لا نملك إلا أن نسجل هذه الظاهرة ونصفها، فإذا حاولنا تعليلها (بعبقرية الإيمان) في(883/25)
تلك السرائر التي (تشبعت وامتلأت وذابت عناصرها في فيض عبقرية المسيح) لم يكن هذا التعليل بأقوى من تعليلهم هذه الظاهرة بتجلي روح القدس عليهم وامتلاء نفوسهم به، والمسألة لا تعدو حد الوصف.
ومن هذه الأمثلة ما نقل عن بعض صحابة النبي الأقربين من أقوال وأعمال وسير، وفيهم التاجر الصغير والحداد والجزار وباري النبال والعبد المسخر المستضعف، فنحن نعجب كيف نهضوا بأعباء الفقه والحكم والنصيحة للخلفاء وغيرهم ورتق الفنون التي انفتحت عليهم من أقطارها، فشرعوا وحكموا ونصحوا وأصلحوا كأتم ما يستطيعه من قضوا أعمارهم في دراسة الشرائع وسياسة الممالك والمشورة على الملوك والرعية، والإحاطة بتواريخ الأمم والوسائل الناجعة التي عالج بها أبطال الساسة المشكلات أيام السلام والهزاهز. ولقد بلغوا في هذه الأمور حداً يندر أن يطاول حتى كثير من طائفة العبيد المسخرين المستضعفين فيهم قد كان لكل منهم مشاركة في هذه العظمة يعز أن تظفر بمثله بين أبطال التاريخ في أي مكان أو زمان خلال قرون.
ومن المعجب المعجز أن تظفر بكل هؤلاء وبخير منهم في فترة واحدة على يد رجل واحد. فكيف استطاع محمد في حقله الضيق في سنوات معدودات أن ينبت هذه المئات من أشجار البطولة التي تنوعت سيقانها وفروعها وأوراقها وأزهارها وثمارها كأوسع ما يكون من التنوع، وهي تقوم في تربة واحدة وتسقى بماء واحد. ولا يخفف من عجبنا شيئا أن هذا الرجل الذي تخرجوا به نبي، وأن هذا النبي محمد، ما لم نكن ممن يعشى أبصارهم تلألأ الكلمات فيقفون عند حدودها ولا ينفذون إلى العوالم الفساح المتراميات وراءها، ولو فعلنا ذلك لم نعرف الدرس الأول الذي تعلمنا إياه صحبة العباقرة، وهذا الدرس الأول الذي يمثله (أبجدية العبقرية) هو عدم الوقوف عند الكلمات التي تواضع عليها الناس ولو كانوا من الحكمة في أرفع مكان.
ومن أهم ما يلفت النظر فيهم قولاً وعملاً وسيرة ظاهرة (الاجتهاد) مع أنهم متأثرون أقوى الأثر وأعمقه بشخصية النبي ومن العجب أننا لا نجد تعليلاً لهذه الظاهرة إلا ما نستدركه بعد ملاحظتنا هذه الظاهرة، وهذا التعليل هو أنهم متأثرون أقوى الأثر وأعمقه بشخصية النبي، فتحت هذا التأثر القوي العميق يقولون ويعملون ويسيرون في حياتهم كأنهم (أنبياء(883/26)
صغار) وكأن (الاجتهاد) الذي يصاحب (النبوة) الكبيرة (غريزة) من أقوى غرائزهم الفطرية غرزها فيهم النبي لتصاحبهم وتوجههم غريزياً، وتلهمهم إلهاماً ما يقولون وما يعملون وما يسيرون كما ينبغي أن يكون القول والعمل والسيرة الشخصية (للنبي الصغير) في غيبة (النبي الكريم). فهم ينظرون إلى أنفسهم وما حولهم ومن حولهم نظرة فيها من الأصالة والاستقلال والحرية ما لا يتوفر إلا لعظماء (المجتهدين).
وهؤلاء لا يظهرون كأنهم (أنبياء صغار) إلا عند مقابلتهم (بالنبي الكبير) وإلا فأنهم إلى جانب كثير غيره من المشهود لهم بالإلهام يظهرون كأنهم قمم لا تطاول.
إن الوجود بكل ما فيه ليبدو لهؤلاء - كما يبدو لكل عبقري - طازجاً غضاً كأنما لم يخرج من يد الله إلا في اللحظة التي رآه فيها. إنه ليبدو في عينيه وجوداً (جديداً) لم يكشفه أحد من قبله، ولم يبدو فيه رأيه، ولم يسم شيئاً فيه باسمه. وآية ذلك أن وعيه لا يقف بداهة عند حد الأسماء التي سماه الناس وسموا محتوياته بها، ولا يعترف بداهة بالمواضعات تواضعوا عليها في معرفته، ولا بالأحكام التي قضوا بها في مشكلاته مهما يكن سداد هذه الأحكام، ومهما تكن قداستها، فكل أمر تقع عليه عيناه قضية لم تحقق، ولم يصدر عليها حكم، ولا تزال تنتظر منه نظره وحكمه، ولا بد أن يكون نظره فيها ثم حكمه عليها جديداً مستقلاً أصيلاً حراً جريئاً لا يأبه كيف أعتبر الناس قبله هذا الأمر مهما كانوا من الحكمة والقداسة.
ومن بناء هؤلاء وتعودهم على النظر المستقل فيما هو من عميهم المكلفين به نرى لهم نظرات أريبة أصيلة مستقلة حتى في ما جاوز عملهم، كما ترى استغراق نشاطهم في تأمل هذا الوجود لا سيما البشرية ذاهلين عن مآربهم المعيشية؛ فهذا الوجود ولا سيما البشرية - وهو الذي تبدو مشكلاته لأبصار العادين اموراً مفروغاً منها - يبدو بأبصار هؤلاء كأن مشكلاته لم يتناول شيء منها بالدرس، ولم يقل في شيء منها كلمة واحدة، بل لم يسم شيء منها باسمه. إن كل واحد منهم يبدو كأنه آدم الإنسان الأول الذي لم يشاهد الوجود إنسان قبله. وكأن قصته قصة آدم الملهم مع الملائكة على وصف القرآن الكريم (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العزيز الحكيم. قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبئهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم: إني أعلم غيب السموات والأرض، وأعلم ما تبدون وما(883/27)
كنتم تكتمون).
إن كل عبقري آدم. وكل من أنتفع في جو عبقري خلال صحبته حتى تشبع برسالته هو آدم.
نعم، آدم (النبي الساذج الطازج) الذي (علمه الله أسماء الأشياء) ولم يتعلمها من أحد غيره، وألهمه الله إياها ولم يدرسها حتى على (الملائكة) الذين خلقهم الله من نور، وليس وكدهم في حياتهم إلا تسبيح الله وتقديسه، وليس بينهم وبين الإطلاع على شيء حجاب من الحجب التي تثقل آدم الذي خلقه الله من (طين) فغلبهم في ميدانهم، وعرف (الملائكة) أنهم لا يعلمونإلا ما علموا، وأن خزائن الله (العزيز الحكيم) حافلة بالآيات التي لا تملك أمامها المخلوقات ولو كانوا (ملائكة) إلا العجز والتسليم.
ومن هنا يظهر جانب من إعجاز العبقرية وتأثيرها في السرائر الإنسانية المتفتحة لقبول الفيض الغامر الخالق من الشخصية العبقرية في (صحبتها) المباشرة. كما يظهر هذا الجانب الإعجازي في إنهاض البشرية ودفعها نحو الجمال والكمال عن طريق الصلات الشخصية المتوالية، وخصوصاً أن العبقريات بين البشر نادرة، وذوات الرسالات الكبرى بين العبقريات أندر.
(يتلى)
محمد خليفة التونسي(883/28)
نقي العبث عن النحاة
في التعجب
للأستاذ عبد الحميد عنتر
مهداة إلى من يعترف بالفضل لأهله
إني لأعجب أشد العجب ممن يعمد إلى هدم البناء النافع المتين، بدون أن يبني على أنقاضه بناء نافع أو أنفع منه! ويطول عجبي اكثر إذ كان الهادم نفسه ممن تقدم بهذا البناء النافع، وستفاد منه في حياته أيما فائدة!
هذه قواعد النحو العربي - ومنها التعجب - تدرس تبحث منذ ثلاثة عشر قرناً هجرياً (من سنة 67 - 1369 هـ) وقد تلقاها العلماء بالقبول، وجعلوها نبراساً يستشفون به أساليب القرآن، وأحاديث الرسول، ومنثور العرب ومنظورهم، ويحكمونها فيما ينشأ من كلام المستعربين والمحدثين من النثر والنظم، حفاظاً على اللغة من أن تضيع، أو تلعب بها الأهواء.
ألا تعجب معي أيها القارئ. إذا أتى بعد ذلك من يرمي النحاة بالعبث والتضليل والتجهيل، ويصف كلامهم بأنه غثاء أو هراء، ويتهكم عليهم بأنواع الزراية والسخرية اللاذعة!
أستمع إلى الأستاذ (كمال بسيوني) يقول في عدد الرسالة (881): في الحق أن النحاة يكلفون أنفسهم شططاً، ويرهقونها عسراً حينما يريدون أن يعللوا كل شيء، فلا ينتهي بهم التعليل والتحليل، إلا إلى التجهيل والتضليل، ولم أر النحاة ضلوا في باب من أبواب النحو ضلالهم في باب التعجب، وأكون مقرراً للواقع حين أقول: إن واحداً منهم لم يفهم من قريب أو بعيد صيغتي التعجب. إلى أن قال. . . أو لأنك لم تؤت القريحة النفاذة التي تستطيع بها أن تستسيغ هذا الغثاء، وأن تفهم هذا الهراء، ثم أخذ يحلل الصيغتين بتحليل يزعم أنه من عنده، وأنه بحث علمي جديد يحسن بالقائمين بأمر النحو في مصر أن يتأثروه، وأنهم لو فعلوا ذلك لكان إيذاناً بأنبثاق فجر جديد لقواعد العربية. هذا كلامه. وأقول: لكي لا أشق على القارئ بالتطويل في الرد أجمل الكلام في النقاط الآتية:
قاعدة التعجب عند النحاة. فساد هذه التسمية في نظر الكاتب والرد عليه الكاتب يأخذ رأيه(883/29)
من كلام النحاة ويزعم أنه رأي جديد له! حملته على شيوخ النحو في مصر.
1 - قاعدة التعجب عند النحاة: يسلك الكاتب الفاضل أن القاعدة التي وضعها النحاة لما يسمونه التعجب سليمة لا غبار عليها، وقد طبقت على جزئياتها القياسية المختلفة، وعاد ذلك على اللغة بالخير الكثير، ويسلم أيضا أن هذا هو المقصود من وضع القواعد، وأعتقد أنهم لم يخالف في هذا أحد من النحاة القدامى أو المحدثين، حتى من أهديت إليه هذه المقالة، وهو الأستاذ الكبير إبراهيم بك مصطفى عميد كلية دار العلوم. ولكنه يصب جام غضبه المضري على شيء واحد لا دخل له في قواعد النحو في قليل أو كثير. ذلك الشيء هو تحليلهم صيغتي التعجب وإعرابهما وتسمية هذا الباب بباب التعجب!
لنفرض جدلاً أن النحاة أخطئوا أشنع الخطأ في هذا التحليل وذلك الأعراب مع سلامة قاعدتهم التي بنوا عليها الأحكام النحوية. فهل هذا يستوجب من الكاتب هذه الغارة الشعواء وتلك الحملة المنكرة؟! إني اترك الجواب للقارئ المنصف.
2 - إذا قلنا: ما أحسن العلم وأحسن به، وما أقبح الجهل وأقبح به، أو قلنا ما أجمل الورد وأجمل به، وما أقبح الشر وأقبح به. فأن الكاتب يزعم أن ليس في هذه الصيغ تعجب البتة، وإنما تفيد الكثرة والمبالغة، ويدعي أن المعنى الأدبي لهذه الصيغ هكذا: العلم حسن جداً، والجهل قبيح جداً، والورد جميل جداً، والشر قبيح جداً. وظاهر أن هذا ليس بتعجب. (فتسمية هذا الباب بباب التعجب تسمية غير سديدة).
الرد - لم يوفق الأستاذ الكاتب لفهم معنى التعجب الذي يعنيه النحاة الأدباء - وكان النحاة في أول عهد النحو علماء بقواعد العربية وباللغة والأدب - ومعناه عندهم كما قال أبن يعيش (ص142 جـ7) معنى يحصل عند المتعجب عند مشاهدة ما يجهل سببه. وذلك المعنى كالدهش والحيرة).
ونحن إذا حللنا الأمثلة التي منع الكاتب أن تكون للتعجب وجدنا فيها كلها هذا المعنى التعجبي الذي شرحه العلماء.
فمعنى (ما أحسن العلم وأحسن به) أتعجب من حسن العلم لخلفاء السبب الذي به حسن.
ومعنى (ما أقبح الجهل وأقبح به) أتعجب من قبح الجهل، فقد غاب عني السبب الذي من أجله قبح.(883/30)
ويلزم هذا المعنى الذي شرحته معنى آخر وهو المدح في المثال الثاني بطريق المبالغة، ويقاس عليهما ما أجمل الورد، وما أقبح الشر. فالمعنى التعجبي كما قلت أولاً، والصيغ بهذا المعنى أو بمعنى المدح والذم خبرية لفظاً إنشائية معنى، لأن التعجب والمدح والذم من وادي الإنشاء غير الطلبي، كما تقرر في علم المعاني. والمعنى اللازمي يفيد المبالغة في المدح أو الذم أو غير ذلك بحسب مواد التعجب. مثل أن نقول: العلم حسن جداً، والجهل في غاية القبح، والورد في نهاية الجمال، والشر قبيح جداً. فالمقصود الأصلي للعربي من صيغ التعجب هو الدلالة على التعجب، ودلالة على المبالغة في المدح أو الذم أو غيرهما تابع للمقصود، والذي قلته هنا قال مثله النحاة. ينظر الصبان علي الأشموني في أول باب التعجب. وبذا تبين أن النحاة فهموا معنى التعجب تماماً، وأنهم لم يهملوا المعنى الذي يدعي الكاتب أنه من عنده، وأنه لم يأت بجديد يتأثره القائمون بأمر النحو في مصر:
بقي أن رأيه الجديد بأن معمول فعل التعجب المنصوب المجرور بالباء الزائدة في نحو قولنا: ما أجمل الورد وأجمل به مسند إليه هذا الرأي الجديد المأخوذ من شرح أبن يعيش على مفصل الزمخشري (ص 148 جـ7)!! ولا أطيل بذكر النص لئلا القارئ. فليرجع إليه إن شاء.
3 - حملته على شيوخ النحو في مصر:
عني النحاة على طريقتهم في البحث والتمحيص بفهم المعنى من صيغتي التعجب أولاً، ثم بإعرابهما ثانياً.
ولا زلنا ندرس النحو على هذه الطريقة. وما الذي يضير إذا أعربنا (ما) بأنها تعجبية مبتدأ، و (أجمل) بأنه فعل ماض وفيه ضمير مستكن وجوباً يعود على (ما). والورد منصوب على التشبيه بالمفعول، وقلنا في إعراب (أجمل به) أجمل فعل ماض، جاء على صورة الأمر للتعجب. والباء زائدة زيادتها في وكفى بالله شهيداً) وضمير الورد فاعل في المعنى، لأنه الموصوف بالجميل الزائد. ماذا يضير لو وجهنا هاتين الصيغتين بهذا التوجيه الإعرابي أو بغيره من التوجيهات التي ذكرها النحاة بدون أن نتعرض لأساس القاعدة؟ اللهم إن انتقاد هذا الأمر الهين هروب من العلم، ورضى بالدعة وخمول القريحة.
ثم أمن أجل هذه التوجيهات السديدة تقوم القيامة، وتشن الغارة على النحو والنحاة؟!(883/31)
وهاك أيها القارئ ما قال الكاتب المصلح بالنص (أرأيت إلي أني لم أكن مخطئاً حين خفت عليك أن تضحك أو أن تقهقه حين تسمع هذا الكلام - أستغفر الله - وكنت خليقا أن تحزن وأن تتألم حين تعلم أن شيوخ النحو في مصر ما زالوا يكون هذه السخافات، وما زالوا يخدعون الطلاب بهذا الدجل العلمي، وما زالوا يفسدون العقول والأذواق، ويميعون الملكات الأدبية في نفوس الشباب، وما أسرع ما ينخدع الشباب بهذا التخريف! ويظن حين يملك هذه الألفاظ أنه قد فهم قواعد العربية. وهو لم يفهم إلا قواعد الجهل إن كان للجهل قواعد يتسنى للمرء أن يفهمها) أخشى أن أكون ثقلت على القارئ بإيراد هذه العبارات السمجة، التي لو ألقيت على جبل لحولته إلى تل من القاذورات! وإني لأنزه قلمي أن يخوض في مثل هذه الحمأة المنتنة. ولعلي لا أكون مخطئاً إذا اعتقدت أن هذا الكلام لا يراد به خدمة العلم، ولا تقويم المعوج. . .
نعم - لو قال الكاتب: إن النحو بحاله الراهنة يفتقر إلى التهذيب: بحذف الخلافات التي لا طائل من ورائها، والاقتصار على الصالح المثمر النافع، ودعم القواعد بالإكثار من التطبيق، وجعل المقام الأول للنصوص العربية التي تستبقي منها القواعد، لو قال ذلك أو مثله لدلل على إخلاصه للعلم وحبه للإطلاع ولكنا بما دعا إليه أول المؤمنين.
وبعد فليهدئ الكاتب المفضال أعصابه، وليطمئن، وليعلم بأن في مصر الآن (نهضة نحوية مباركة) لكن لا على الوجه الذي يريده من الهدم والتشهير والتجريح! بل على وجه التجديد المفيد الذي يجمع بين الجديد والقديم، والذي يراعي فيه حال البيئات العلمية المختلفة: من أولية، وابتدائية، وثانوية وعالية.
وهذه النهضة يحمل لواءها الآن كلية اللغة العربية بالأزهر وكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول، وكليتا الآداب بالجامعتين هذه عجالة عابرة. (وإن عدتم عدنا).
عبد الحميد عنتر
الأستاذ بكلية اللغة العربية(883/32)
رسالة الشعر
بين بغداد وباريس
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أنا مالي أضعت حتى رشادي ... أقليل علي هجر بلادي
يا بلادي التي أراها بعيني ... منهلاً سائغاً إلى الوراد
الثلاثون عشتها في مغانيك ... كطير في مكمن الصياد
حاملأ في يدي جراح الليالي ... وعلى منكبي عبء الجهاد
وعلى جبهتي المدماة تابوت ... حياة وشيكة الميعاد
متعباً أقطع الحياة غريباً ... غربة الحق في حمى الاضطهاد
الطريق الممل والشوك والصخر، ... ووقع السياط والأصفاد
والأفاعي تفح حولي، وفوقي ... أحمر الحد، خنجر الجلاد
أنا وحدي وليس لي من سمير ... غير شعر به أذبت فؤادي
فإذا ما ظمئت فالدمع ريي ... وإذا جعت فالأماني زادي
الثلاثون، بالتلهف والحرمان ... ضاعت، وبالأسى والحداد
وهي صفو الشباب، ريحانة الع ... مر، وعطر من الصبى المياد
أفليس الرحيل عن موطن الظلم ... سبيلاً يقود للإسعاد
شر ما في الديار أن يزهق الفكر ... وأن تخنق القلوب الشوادي
ويذل الأحرار من مصلح فذ ... ومن حامل سراج الرشاد
كي تظل الجموع محنية الظهر ... لتعلو مقاصر الأوغاد
وصلاح البلاد لا يتأتى ... باضطهاد الكتاب والنقاد
يا لهول الفراق أي جحيم ... أتلظى به وكيف أبترادي
قيل (باريس) قلت أشهى لروحي ... باسقات النخيل في (بغداد)
أين من إذا وقفت على (الس ... ين) وأرسلت نظري لبلادي
وتذكرت (دجلة) وهي تنس ... اب كما أنساب أرقم في الوهاد
وعلى صدرها الزوارق تهفو ... كنسيم هنا على الأوراد(883/33)
والليالي القمراء، والوتر الش ... ادي، وأصداء قينة أو حادي
والفراشات. والربيع إذا نم - على عرسه - الهزاز الشادي
والرياض الغيناء، والأفق الط ... لق، وصحو السماء بعد رقاد
واخضرار الغصون بعد ذبول ... وانطلاق الطيوب من كل واد
ووميض البرق في الليلة الده ... ماء، والكون صاخب الأرعاد
وبكاء الشتاء بالدمع المس ... فوح، والنهر هائج الأزباد
وافترار الظلام عن بسمة ... النور على ثغر كوكب وقاد
واحتضار الشعاع، والشفق الح ... ائر في موكب الغروب الهادي
ورنين الكؤوس في مجلس ... الشرب على نخب فتية أمجاد
والقوام الممشوق من كل حس ... ناء تصون الجمال بالأبراد
وهي تختال (بالعباءة) - كالغص ... ن - دلالاً في خطوها المتهادي
واحنيني لسمرة الجسد الرخص ... وإن لف سحره في سواد
وإلى تلكم الوجوه الحييات، ... وإن برقعت، فنهن مرادي
أين مني إذا نزحت عن الدار ... وحال العباب دون المعاد
وتلفت سائلاً عن نجى=وأشتكي غربتي له وبعادي
وتذكرت جانب (الكرخ) و (الج ... سر) وسحر الحديث من (شهرزاد)
وليالي (أبي نؤاس) إذ ... الصيف فتون لمجتلي الرواد
صور سمحة الخيال أثارت ... ذكرياتي ورقرقت أنشادي
نشرت كالشراع أطياف أحلا ... مي وأخفت في لجها آبادي
لم أزل بلبلاً يغرد لل ... حب على شرفة الغمام وسادي
يا (هنائي) وما أزال مشوقاً ... والهوى مالك علي قيادي
أنا لولاك ما تغرب ركبي ... عن بلادي ولا هجرت مهادي
وهي محراب صبوتي، إذ سقتني ... عاطفات الهوى من الميلاد
لا تقولي نعمت، يومي منا ... حات، وليلي طويله في سهاد
أنت عندي النعيم، والأمل الب ... كر، وسلواي من همومي الشداد(883/34)
بعدك كالدجى مدلهم ... ويلقياك تزهدي أعيادي
فالكآبات طوقتني فآلت ... جمراتي من الأسى لرماد
فبكفي رعشة، وبعيني ... ابتهال السقيم للعواد
وبجنبي آهة خنقتها ... غائلات من الزمان المعادي
يا فؤادي حملت عبئاً ثقيلاً ... مذ تذوقت حبها يا فؤادي
فتصبر إلى غد سوف تلقا ... ها، (بباريس) جنة المرتاد
وتنعم وهل تلذ حياة ... لمحب دامي الحشاشة صادي؟
باريس - الحي اللاتيني
عبد القادر رشيد الناصري(883/35)
أماه!!
للأستاذ الشيخ حسن عبد العزيز الدالي
عليك رضوان الله يا أصل وجودي، وبقية الإخلاص المحضر آبائي وجدودي. يا من رأيت النور في ظلام حملها وأنا جنين، وشهد الحياة من ثديها وأنا رضيع، وأحسست دفء الحنان على صدرها وأنا صبي، ورشقت معسول الأماني من ثغرها وأنا يافع، ونقلت حب الأيمان من قلبها وأنا شاب، واقتبست نور الهدى من عقلها وأنا رجل. الآن غاض الحنان، وذوت الأماني، وخشن المضجع واكتأب الوجود، وتكدر الإخلاص، وكذب الدليل. نعم كل زال وأسفاه يا أماه حين لفظت أنفاسك الأخيرة في الهزيع الأخير من الليل وأنا بجوارك ملتاع القلب مسعور الحشا وقد سقتني دموعي على جبينك الناصع فمسحتها بشفتي، وكانت هي قبلة الوداع الذي لا لقاء بعده يا أماه!
لقد شيعنا إلى عالم البقاء جثمانك الطاهر في عصر يوم الثامن من شهر مايو، وفي هذا الشهر يورق الشجر وتتيقظ البراعم الغافية، وتصدح الأطيار الصامتة، الأقدار واحسرتاه قد عودتني في هذا الشهر من كل عام أن أكون غرضاً لرميات قاتلة وصدمات جبارة وآلام قاسية.
ففي مايو مات أبي، وفي مايو ماتت زوجتي، وفي مايو ماتت أختي، وفي مايو كذلك تموتين يا أماه! فتجدد في هذا الشيء المشئوم لواعج نفسي، ومصائب يومي وأمسي.
كما يكون اليتم للصغير حين يفقد أمه وهو مبتدئ، يكون اليتم للكبير حين يفقد أمه وهو منتهي؛ لأن الطفل لا يجد من يسدد خطاه الأولى غير أمه؛ ولأن الرجل بعد تجارب السنين يجد من يسند خطاه الأخيرة مثل أمه. وقول الناس إن العز بعد الوالد قليل، يصدق على كل شخص في كل سن وفي كل طبقة؛ لأن القوة الروحية التي تمسك الإنسان في عرك الخطوب واضطراب الأمور، إنما تنبع من معين الإيمان والحب، ولن يوجد الإيمان كاملاً شاملاً إلا في الدين، ولن يوجد الحب صادقاً خالصاً إلا عند الوالدين، فإذا غاض الحب فاض الإيمان، وإذا ذهب الوالدان بقي الله
كفر دميرة القديم
حسن عبد العزيز الدالي(883/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
اليونسكو والسياسة
اليونسكو هيئة ثقافية دولية، أنشئت للتقريب بين أمم العالم أهداف العلم والثقافة وتكوين عقلية إنسانية جديدة غير صالحة دور الشقاق والنزاع والمنافسة على السيطرة، ولكن مما يؤسف أن اجتماعاتها ومؤتمراتها تسودها دائما الاعتبارات السياسية هذا أمر طبيعي - على رغم الأهداف الموضعية - مادامت تكون من مندوبين ووفود رسمية تمثل حكومات العالم التي الجميع اختلافاتها وتعارض أغراضها. فلو فرضنا أن هؤلاء مندوبين جميعا من ذوى الثقافة وأهل الفكر فلا ينبغي أن نغفل عن تقيدهم بآراء حكومتهم وما تمليه عليهم من الخطط السياسية.
هذا هو مؤتمرها المنعقد الآن في فلورنسا، يبدأ بالنظر في اقتراح وفدى تشيكوسلوفاكيا والمجر الذي يتضمن عدم الاعتراف وفد الصين الوطنية، وقد هدد الوفدان بالانسحاب إذا لم يستبعد وفد الصين. والمؤتمر ينظر أيضا في اقتراح آخر لتشكوسلوفاكيا قضى باعتبار الدولة التي تسبق غيرها في استخدام القنبلة الذرية (مجرمة حرب) ويطلب وضع هذا السلاح تحت الرقابة الدولية وأن يتعاون الجميع للدفاع عن السلام.
وقد وقف مندوبو الدول العربية من الاقتراح الأول موقفا يتفق مع أغراض اليونسكو، إذ رأوا أن ليس من اختصاصها أن تهتم بالمسائل السياسية وانه يكفى التحقيق من صحت أوراق اعتماد الوفود المختلفة. وعقب الدكتور طه حسين بك رئيس وفد مصر على الاقتراح الثاني بقوله: ربما كنت من الذين يؤمنون بالخرافات فأنا لا احب أن أستمع إلى الحديث عن الحرب وعن السلام، وأوثر عليه الحديث عن العلم والثقافة وأود إلا نستخدم كلمتي الحرب والسلم، إذ أخشى أن تؤدي كثرة الحديث عن السلام إلى التنفير السلام منا.
ولكن يظهر إننا - أيضا - لم نسلم من إقحام السياسة في أعمال اليونسكو، فقد امتنع وفد مصر عن الاقتراح على قبول الأردن عضوا في هيئة اليونسكو، بناء على تعليمات تلقاها الوفد من القاهرة، ولا أريد اعتراض على أن يجري وفد مصر وفق هذا التيار العالي، بل أقول بوجوب ذلك، لأنه من العبث أن نلتزم المثالية بين هؤلاء الذين يلعبون على المسرح(883/38)
العلي بالبيضة والحجر، كما نقول في أمثالنا. . . وإنما مسألة (وفد الأردن) مسالة أخرى بينها رئيس الوفد اللبناني في المؤتمر بقوله: إن ما حدث في صفوف الجامعة العربية لا يعدو أن يكون خلافا مؤقتا، إذ ليس في حياة الشعوب ما له صفة الدوام، وليس في وسع العرب أن يضحوا باستعباد دولة عربية جديدة عن اليونسكو بسبب خلافات في نطاق جامعة الدولة العربية.
وهناك مسائل أخرى نظرت في اليونسكو، وهي أيضا ذات صبغة سياسية، ولم تتضمن الأنباء الواردة من اجتماعات المؤتمر إلى الآن، إنه بحث موضوعا ثقافيا أو تعليميا مما يتصل بأغراضه الأساسية، وبدل هذا كما تدل دورات المؤتمر السابقة على أن هذه الهيئة ميؤوس من وصولها إلى غايتها التي لم تقطع إليها خطوة جدية إلى الآن. وأنا مقتنع بفائدة اشتراكنا فيه على أنه مظهر ودعاية، فنحن نعد تقارير وبيانات عن جهود مصر في التعليم ونشر الثقافة والتعاون العلمي لتلقي هناك، وفي هذا العام ظفرنا بموقف الدكتور طه حسين بك في المؤتمر وخطابته التي أعجب بها مندوبو الدول الذين هنئوه واعتبروا من حسن حظهم أن استمعوا إليه. هذا كله مظهر عظيم يشرف مصر ويرفع رأسها. وهو حسبنا من المشاركة في هذه (المهيصة) العالمية. . .
وعلى ذلك يجب إلا نأخذ الأمر جدا كله، وان نفهم إن ادعاء الأهداف الإنسانية الموحدة كلام فارغ. لأنه على الأقل ادعاء ممن يعملون على خلافه، على انه يجب أن نكون آخر من يعمل أهذه الأهداف إزاء الدول الكبيرة الطامعة فينا، وليحاربوا عوامل الحرب في نفوسهم اولا، وسيجدوننا بعد ذلك كما نحن الآن وادعين مسالمين.
الأعماق
هذه مجموعة قصصية للأستاذ عبد الرحمن الخميسي اسمها (الأعماق)، وكلها قصص، حتى المقدمة التي تحدث فيها عن كتاب قصصي، هو صورة لنا يقطع الليل كله منكبا على كتابة قصة لم يبق منها غير ما يحتاج إلى جولة نفسية واحدة يستحضر فيها حالة شعورية لبطل القصة ويقسم نفسه قسمين، قسما يعيش عيشة البطل ويحس إحساسه وينفعل انفعاله، والقسم الثاني يراقب الأول ويعبر عنه وفي هذه الفترة التي يتلبث فيها ليجمع طاقاته. يناجي نفسه ويستحضر الأحداث الكبيرة التي أثرت في حياته، وهي أحداث ثلاثة صهرته في بوتقة(883/39)
الألم. وإذا نحن نخرج من ذلك بقصة حيات الكاتب نفسه، وطريقته في كتابة القصة، التي تتمثل في كلمتين (التجريد) و (الاندماج) وهي طريقة كل فنان مخلص يصدر عن طبع أصيل.
وشخصية الأستاذ عبد الحمن تظهر في هذه القصص، كما أجملها ولا في (قصة المقدمة أعني بذلك ظهور حياته الشخصية في الحديث عن أبطال القصة، فهذا وإن كان موجودا في بعض القصص إلا أن الأهم منه هو نظرته إلى الأمور وإلى الأشخاص وطريقة انفعاله وتفكيره وتصويره. هو كاتب يستمد وجدانا أنضجته نيران الألم التي تحو في القصص إلى نور يشع فيها هادئا في قلق، ترى هدوءه في التحليل، وقلقة في مشاركة الأبطال آلامهم، تلك المشاركة التي تعدي القارئ فتنقله إلى الجو، وهو في قصصه، عرفناه في حياته، دقيق الإحساس مستوفر الشعور ومع ذلك له قدرة على ضبط احساساته ومشاعره وتوجيهها، فهو فوار وهادى. . ولذلك تراه يسيطر على جو القصة منسابا إلى الدخائل والدقائق حتى يبلغ بك ما يريد وينقل إليك انفعاله دون حماس أو جلبة، وإذا أنت قد وصلت معه في طريق لا غبار فيه ولا ترام ولا سيارات. . .
والمؤلف يتخذ موضوعاته وأشخاصه من واقع الحياة التي اضطرب فيها، ويستطيع من يعرفه في الحياة أن يلمح شخصيته في بعض القصص كقصة (آه يا اسمر اللون) حياة في القصة، ويدفعه ذلك أحيانا إلى افتعال الخواتم التي تفسد العرض الجميل، فقد جعل (دهب) تحلم حلماً تتحرك فيه وتصعد إلى حاجز الشرفة لينهي القصة بسقوطها مهشمة في الطريق. . . وكذلك فعل في قصة (الأبله يحب) إذ جعل البطل يندفع إلى الشرفة ويسقط منها إلى الأرض كأنه حصان يقفز فوق الحواجز في سباق.
وأنا أراه في هذه القصص التي يمتد فيها ظله يعطف على نفسه بعض الشيء، وأراه أكثر صدقاً في غير ذلك، لقدرته على الاندماج، ففيه طبيعة الممثل التي اتخذت الكتابة أداة للتعبير، ويبلغ اندماجه أقصاه وأروعه في قصتي (دهب بنت عبد الباسط) و (الحنة يا الحنة) فقد أتبع فيهما طريقة المناجاة أو حديث النفس، فجعلنا نسمع كلا من (دهب) و (حسنية) تفكر في صوت مسموع يروي لنا ما يقع لها، وهاتان القصتان من قصص المجموعة التي تبين اتجاه الكاتب إلى (القطع) الآدمية المهدرة في حياتنا الواقعة، وقد بلغ(883/40)
قمة الانسيابية في قصة (دهب بنت عبد الباسط) وقد يكون حكمي عليها مشوباً بمشاركة الوجدانية في حادثتها التي تتكرر أمام أعيننا كثيراً في صورة هؤلاء البنات الصغيرات اللائي يجلبن من القرى للخدمة في البيوت بالمدن، ففي القصة بنات ينتزعهن أبوهن أطفالاً من حضن أمهن ليوزعن على سادته من (البكوات) كما توزع أجراء الكلبة على الأصدقاء والمعارف. ويبدو لي أن الكاتب حريص على أن يصور حياة كاملة أو جزءاً كاملاً من
وافتعال الخواتم هذا، لا يتفق مع الواقعية التي يسير الأستاذ الخميسي على منهجها الواضح، والواقعية هي أظهر خصائص هذه القصص، وهي واقعية يضيف إليها الكاتب من ذاته ما يرفعها عن مجرد الملاحظة والتدوين، فهي واقعية قيمة تستحق الغيرة عليها مما يمسها، وقد رأيت هذا المساس - فيما عدا تلك الخواتم - في بعض القصص، ففي قصة (رسالة المنتحرة) طالبة في الجامعة يسكن أهلها (زقاقاً) قذراً في القاهرة، وأبوها وأخوها من العمال، ولم يوضح لنا الظروف التي جعلتها المتعلمة الجامعية الوحيدة في هذه البيئة الجاهلة التي تؤثر تعليم البنين على البنات، وقد علمنا أن أخاها عاملاً فظاً غليظ الكف، فكيف وصلت هي إلى الجامعة وقعد أخوها يرفع في جهله (بالزقاق)؟ وفي هذه القصة تصوير رائعاً لأخلاق النسوة في هذه البيئة.
وفي قصة (آه يا أسمر اللون) يرافق البطل المغنية بعد انتهاء الحفلة إلى المنزل الذي تنام فيه. وقد رأيناه في الحفلة مرتبطاً بجماعة من رفاقه، فكيف تركوه يذهب معها؟ ومن حيث أن الحادثة في قرية كيف يحدث ذلك دون أن يلفت الأنظار؟ ويشبه هذا موقفه في قصة (الموتى يتحكمون في الأحياء) من الفتاة القروية التي منحها البطل جنيهاً لتأتي إليه طائعة، ويحبها وتحبه ويفكر في زواجها، ليس هذا التصوير وما لابسه مما يتفق مع طبائع القرويين، وفي هذه القصة يخبر أبو البطل بأمور غيبية. ولم يفسر الكاتب هذا أي تفسير بل جعلها (كرامات) مسلمة! وأمعن في ذلك فجعل البطل المتعلم يتقيد بها!
وفي ختام قصة (من يوميات الرجل الذئب) يقول إنه وجد هذه اليوميات في كراسة تحتوي اعترافات الرجل الذئب، وثم يقول بعد ذلك مباشرة أن بطل اليوميات إنسان عرفه واستخلص نموذجه النفسي، وليس من أحكام السبك أن يجمع هذين الأمرين: العثور على الاعترافات في كراسة، واستخلاص النموذج النفسي الذي لا يكون إلا بكتابة هذه(883/41)
الاعترافات.
وفي قصة (اللحن الأخير) قدم موسيقياً يعزف قصائد أمام حبيبته في تسلسل أخاذ وهو يرسم في القصة مثلاً للمواقف المعبرة ذات الموضوع، ولكنه لجأ أخيراً إلى طريقته في الخاتمة، فجعل البطل يموت وهو يطلق آخر نغمه من كمانه وحبيبته تلحق به جثة هامدة في مكانها. . وأنا لا أحب للصديق أن يدأب على قتل أبطاله في آخر القصص، فهذا غير لائق متزن مثله؛ وخير له وللفن الواقعي وللأبطال أنفسهم أن يدعهم أحياء فلا يضحي بهم في سبيل (الفرقعة) بآخر الفصل.
عباس خضر(883/42)
البريد الأدبي
كتاب الرافعي في البلاغة
إن (معركة القزويني) البلاغية التي يروي نبأها الصديق المحقق عباس خضر، فقد فتحت أمامنا آفاقاً من التفكير، فنحن نريد أن ندرس علم البلاغة في عصر الذرة دراسة تختلف عن دراسات القزويني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر الجرجاني وأبي حيان التوحيدي وغيرهم من أولئك الأعلام الذين أحسنوا إلينا مدى الأجيال ونسينا ذكراهم على الأيام.
على أن (معركة القزويني) صرفت تفكيري إلى أستاذ البلاغة السيد مصطفى صادق الرافعي، فقد حرص - عليه رضوان الله - أن يبين أن له رأياً في البلاغة سبق به المتقدمين، إذ يقول في كتاب (إعجاز القرآن): (نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطبع الكتاب الذي نكمل به كتابنا هذا فنبسط فيه من أسرار الآي وإعجازها ما تطلع به الشمس لمن أبصر ولمن عمى فيحسها) - ص82.
وقال رحمه الله في كتاب وحي القلم (لنا كلام طويل في فلسفة الأسلوب البياني سنذكره إن شاء الله في كتابنا الجديد (أسرار الإعجاز) - ص284 ج3.
ولما تناول الكاتب المحقق الأستاذ محمد سيد العريان حياة الرافعي تحدث عن كتاب الرافعي المجهول في شيء من التفصيل، وإلى القارئ بعض ما أورده الأستاذ سيد العريان في وصف هذا الكتاب:
(أ - يتحدث - يعني الرافعي - في صدر الكتاب عن البلاغة العربية فيردها إلى أصول غير الأصول التي اصطلح عليها علماؤها منذ كانت، ويضع لها قواعد جديدة واصولا وأخرى.
(ب - ويحدث في الفصل الثاني عن بلاغة القرآن وأسرار إعجازه مسترشداً في ذلك بما قدم في الفصل السابق من قواعد.
(ج - ويتناول في الفصل الأخير من الكتاب آيات من القران على أسلوب من التفسير يبين سر إعجازها في اللفظ والمعنى والفكرة العامة، ويعتبر هذا الفصل الأخير هو صلب الكتاب واساسه. وقد أتم الكتابة - إلى آخر يوم كنت معه - عن بعض وثمانين آية على هذا النسق) - راجع ص289 من حياة الرافعي.(883/43)
ثم يقول الأستاذ سعيد في موضع آخر من كتابه الفريد (نحسن الظن كثيراً إذا زعمنا أن هذا الكتاب - كتاب الرافعي الذي لم يطبع بعد - الفريد في موضوعه وفي تأليفه من عناية أدباء العربية ما يحملهم على محاولة طبعه في يوم قريب. . .) - ص 173 من كتاب حياة الرافعي.
وقد انطوى اليوم على موت الرافعي أكثر من ثلاثة عشر عاماً وكتابه في البلاغة لم ير النور، وأكبر الظن أن أدباء العربية ما برحوا يرجون أن يقوم عنهم بواجب إخراجه صاحب (حياة الرافعي) وإلا فما هذا التباطؤ؟
إن الذي يقف على طبع كتاب الرافعي لا يخدم ذكرى هذا الرجل العظيم بقدر ما يخدم البلاغة العربية ويضع حداً لهذه المعركة الأدبية الناشبة حول البلاغة العربية في أزهى عصورها.
ولا مشاحة في أن للأستاذ سعيد العريان من اشاغيله في الوقت الراهن ما يصرفه عن طبع هذا الكتاب، وقد فعل الرجل أكثر مما يجب نحو ذكرى عالم معاصر، ومن ثم فأننا نرجو أن يقدم أبناء الرافعي - حفظهم الله - بشيء لا يخدم ذكرى والدهم فحسب، وإنما يحفظ لبلاغة العرب رونقها، فإن عجزوا دون طبع هذا الكتاب، وأكبر الظن أنهم سوف يعجزون، فإننا نتوجه إلى الوزير الأديب العالم معالي الدكتور طه حسين بك قد عاد من سفره ميمون النقيبة مبارك الغدة والروحة، نتقدم إليه أن يطبع هذا الكتاب على نفقة وزارة المعارف حتى يتم به النفع وتتم الفائدة المرجوة إن شاء الله.
منصور جاب الله
من رسائل الرافعي - التضمين ليس سماعيا
طنطا في 27 مايو سنة 1930
يا أبا رية
كلمة الشيخ: العليم ما علمك ما أنت ممن معك. استعمل ما لأنها الأوسع في الدلالة إذ لو قال من لا نحضر الأمر في الشخصية، فكأنه يقول ما علمك شخصك في الأشخاص الذين معك، أي من أنت منهم أن كنت دونهم أو مساويهم أو على الخ وهذا تحديد ناقص للعلم،(883/44)
ولكنه حين يقول: ما علمك ما أنت منهم فقد أراه ماهيته وحقيقته وشخصيته وموضعه وكل ما يتعلق به باعتباره قطعة من الوجود، فيكون بذلك دارسا كل حقيقة من سياسية وأدبية وعلمية ومالية والخ، وهذا هو العلم في أوسع وأدق معانيه على اعتبار انه دراسة لنواميس الوجود في تلك القطعة من الوجود التي عبر عنها الشيخ بما. . .
واليك أجوبة خرفشتك العجيبة! فان مثل (أوراق الورد) لو أتفق فيه عشرون غلطة نحوية ولغوية لا تقبل التأويل فان ذلك لا يؤثر فيه لأن صفحة واحدة من هذه المعاني هي ذخيرة للغة العربية
الأفعال تضمن بعضها معاني بعض، فإذا ضمن فعل معنى فعل آخر استعمل استعماله فيتعدى بمن أو على الخ - فتمتاز على الشمس - أي تفضل - وإني استعمل التضمين كثيرا واتعمده، لأنه يجمع بلاغتين. وكان صادق عنبر كلمني في ذلك وقال: إن التضمين سماعي فقلت له، أن الشواهد الموجودة منه تعد بالألوف. وبذلك يخرج عن أن يكون سماعيا ويجوز لنا استعماله للتوسع في اللغة
ومجيء الواو بعد إلا وارد في القرآن، فليس هناك افصح وفصيح لا في الأسلوب، فإن كانت الواو تجعل العبارة اجمل وضعت وإن كان حذفها حذفت؛ ولذلك تراني استعملها على الوجهين فمرة أثبتها ومرة أحذفها.
ولفظة (العادية) صحيحة لأنها منسوبة إلى العادة وهي هنا فقط. وقد تنبهت لها عند كتابتها وحذفتها في مواضع أخرى واستعملت مكانها ألفاظ غيرها؛ ولكني رايتها طريفة في عبارة القطعة البشرية العادية فتركتها، لأن الغرض تحقير القطعة واعتبارها غير ذات شان إذ كانت مما تجري به العادة فليس فيها ما تنفرد به أو تقع موقعا غريباً، ومع ذلك تنقلب (خارقة للعادة) فخرقها للعادة يقتضي ذلك التعبير. (وأكتشف) صحيحة وأنا استعملها كثيرا وأن لم توجد في المعاجم، لأن شأننا شان العرب ما دمنا نضع على طريقتهم، ولا قيمة لكاتب لا يضع في اللغة أوضاعاً جديدة.
وقوله، وقامت عذراها للقياك كناية عن الأشجار والغصون، أي متى جاء النسيم استقبلته عذارى الروض وأخذت تتيه وتتمايل. وتسمية الأشجار بعذارى الروض كناية جميلة لان في الأشجار روحا نسائية حقيقية كما تجد في فصل الشجرات. وأفهمت يا أبا رية؟ هذه(883/45)
أجوبة الخرفشة وقد كان من حظك أنى نشطت أمس إلا ترى اثر هذا النشاط؟ وهل تدري من أين جاء النشاط؟ جاء به الشيطان من إيطاليا. . . والسلام عليكم.
مصطفى صادق الرافعي
إلى صديقي الدكتور محمد يوسف موسى
تعودت أن أقرا (الرسالة) من آخرها. أبدا بالأزهريات ثم الأدب والفن في أسبوع، لولدنا الشات (العجوز) عباس خضر، الذي أحسده على ضبط أعصابه وحسن تأنيه؛ ثم استسلم لهواي فيما بقي من عنوانات.
وجرياً على العادة، بدأت قراءة العدد الأخير من الرسالة، بمعركة. (القزويني) التي كان لنا - ولا فخر - شرف شهودها في ميدانها الأول، منذ أول شرارة، ثم مازلنا نتجرع كاسها القذرة المريرة في غيره من الميادين فشعرت بأن (كابوساً) من الهم الثقيل جثم على صدري، فاختنقت وشعرت بذلة وهوان، لا يحتملها إنسان. . .
وكان مقالك يا - دكتور - (إسعافاً) وجدت به روحا، رد روحي، وأشعرني واردا من الاطمئنان إلى إن الأزهر لما يزل بخير!
ليت شعري - يا صديقي الدكتور - وحال الأزهر مشهور متعالم، ما معنى المقام على هذه الحال؟
السنا في أمة تعتز بماضيها وحاضرها، وتتطلع مستقبلها؟!
أولسنا في عهد اكرم ملوك مصر على مصر، وأبعدهم مدى همة، وأطولهم يدا في نواحي الإصلاح والعمارة؟!
أولسنا في عهد حكومة شعبية حريصة على أن تعمل لغدها، اكثر مما تعمل ليومها، في عناية وإخلاص؟!
بلى. . . فما بال هذا العبث الصارخ إذا في هذا الزمن الجاد؟! لا جرم أن بقاء الأزهر على حاله الحاضرة عبث أي عبث فأما أن يصلح، وأما أن يغلق. وحسبه ما سجله تاريخه الطويل من مجد، ومن إجمال، ومن آثار.
أما بعد، فاكتب - يا دكتوري العظيم - ثم أكتب؛ وضع اسمي المتواضع، قبل اسمك(883/46)
الكريم، شريكا، مسؤولا، غير خاذل، ولا متستر.
والرسالة الغراء التي فسحت في اطوائها لأولاد الكتاتيب الازهرية، لن تضيق صدرا بما يكتب رجلان يعدان - بحق أو بغير حق من هيئة التدريس العالي في كليات الأزهر، أن صح أن في الأزهر كليات. . .
ليس بي أن أحبر مقالا، بعد مقالك الحاسم، الجدير بان يسمع كل ذي اذنين؛ وانما أردت أن أكون أول من يزكيك، ويثني عليك، ومن أثنى، فقد جزى.
ولك تحيات محسوبك.
عبد الجواد رمضان
المؤتمر الثقافي العربي الثاني في الأسكندرية - صيف هذا
العام
في 23 أغسطس 1950
يحضره مندوبو دول الجامعة العربية والجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية. ويشترك فيه من يرغب من الأساتذة والعلماء والأدباء وغيرهم ممن يشتغلون بشؤون التربية رجالاً ونساء.
وسيتناول هذا المؤتمر مناقشة:
سياسة التوسع في التعليم الثانوي والعالي.
إعداد الطلبة لمواجهة الحياة العملية.
وفضلا عن هذا سيستعرض المؤتمر اتجاهات التربية السائدة في وزارة معارف كل قطر عربي وسيناقش موضوع تنفيذ قرارات المؤتمر الثقافي العربي الأول.
امتيازات للأعضاء المشتركين
تخفيضات في أجور السفر ذهابا وإيابا - سكنى مجانية - مطعم خاص بأسعار مخفضة.
يرجى من الراغبين في الاشتراك بهذا المؤتمر والمقيمين في القطر المصري مراجعة الإدارة الثقافية لجامعت الدول العربية - (102 شارع فاروق الأول بالعجوزة)
ملاحظة: قيمة الاشتراك جنيه واحد في مصر(883/47)
الكتب
من نبع الحياة
للأستاذ أحمد فؤاد الأهواني
ديوان شعر من نظم الأستاذ محمد عبد الغني حسن أهداه إلى صديقه أحمد فؤاد الاهواني فقبله شاكراً وقرأه ساهراً فنقله إلى آفاق من خالص الأدب وعوالم من المعاني والفكر، امتزجت فيها المشاعر بالخواطر والعبر.
ظهرت في مصر نغمة جديدة تدعو إلى دراسة الأدب والنظر في الشعر بوجه خاص غير إقليمية، وزعموا أن الكتاب والشعراء مع أنهم كتبوا جميعاً بلغة واحدة هي العربية الفصيحة، وهي لغة لم تتطور من حيث بنائها وهيئتها لأنها لغة القرآن لا مبدل لكلماته، إلا أنك تستطيع أن تميز شاعراً عن شاعر، وتفضل كاتباً على آخر، بما يمتاز به إقليم عن إقليم، وتختلف به أمة عن أمة، وتتفاضل دولة عن دولة. فهذا عراقي وذاك حجازي، وهذا شامي وذاك مصري.
وهذا الاتجاه في دراسة الأدب جدير بالاعتبار.
لأنه يدفع إلى ملاحظة الفوارق فيدعو إلى معرفة الخصائص. ولأنه يصل بين الشاعر وبيئته فينكشف السر عن شاعريته. ولأنه يطلعك على سيرته ويجعل دراسته قطعة من الحياة.
فلا غرابة أن يكون عنوان الديوان (من نبع الحياة)، فالديوان حقاً من العنوان. ولصاحب الديوان براعة ملحوظة في ابتداع العنوان الطريف الأخاذ. فأنظر إلى عين النبع كيف تندى برذاذها ما صحبها من ألف وباء.
وهذه صناعة لا يحسنها إلا صاغة الكلام، والشعر أعلى فنون البيان. ولذلك كانت القصيدة أخلد من المقالة، والبيت أروع من العبارة. وكانت الإلياذة عنوان الأدب في اليونان، والرباعيات أسمى ما نظم في إيران.
غير أن الصورة الشعرية في الأدب العربي تختلف عن صورتها في اليونان، وعنها في الآداب الحديثة. ونعني بهذه الصورة البحر والقافية مما يلتزمه الشاعر من مطلع القصيدة إلى آخرها. ونحن لا نعيب على الشعر العربي خلوه من الموسيقى، فلا شعر بغير(883/49)
موسيقى، بل الشعر موسيقى، ولكننا نعيب عليه أنه أشبه بالموسيقى البدائية التي تنظر إلى الإيقاع المنتظم، مع تكرار المقطع الواحد، ولذلك قيل عن الشعر إنه (نظم). أما الموسيقى الواقعية، فإنها لا تكتفي بتكرار نغمة واحدة، بل تجمع بين عدة نغمات قد تكون كل واحدة منها غير مشجية ولكن يخرج من ائتلافها موسيقى فيها حلاوة وسمو. وهذا عيب الموسيقى الشرقية على الإطلاق، وهو عيب الشعر العربي كذلك. ولذلك لم تظهر في الشعر العربي (الملحمة) الطويلة التي تمثل الحياة كالإلياذة والأوديسا. ولذلك أيضا يمل القارئ والسامع إذا طالت القصيدة لأنها من بحر واحد.
ولما كان الشعر أعلى صور البيان، فينبغي أن يصان فلا ينزل إلى معترك الحياة العادية المألوفة، وإلا كان الشعر نظما لمعان لا ترتفع إلى مقام الخلود. ولذلك كان من الغريب أن يسخر عبد الغني موهبته الشعرية في وصف كل مناسبة، ولم يكن الحال كذلك بالنسبة لأمراء الشعر في الجاهلية. فقد قيل إن زهيراً كان ينظم القصيدة في عام، ولذلك سميت بعض قصائده بالحوليات. وقد رأيت هذا المذهب الجديد، أعني نظم كل معنى يخطر بالبال، عند (أبو شادي) الذي هجر مصر إلى أمريكا، ولم يلق مذهبه ما يريد من نجاح.
وأنت ترى في هذا الديوان عدة قصائد في الفتاة المصرية، أولها نظمت للسيدة درية شفيق حينما أحرزت ليسانس الدولة في الآداب من جامعة باريس سنة 1932 استهلها بقوله:
أديبة قد نجحت في الأدب ... وبلغت في العلم أعلى الرتب
واتصلت فيه بأقوى سبب ... وغامرت وشمرت في الطلب
بين الدراسات وبين الكتب ... وحازت السبق فيا للعجب
إلى أن قال في نفس القصيدة
مصرية تطير فوق السحب ... تشق متن الريح يا للعجب
فأنظر كيف تعجب مرتين في قصيدة واحدة!
وجاء في قصيدة له عن السيدة زينب كامل وهي أول معيد بالجامعة المصرية نشرها عام 1930
عجبت لنيلك تلك العلوم ... وصبرك في نيلها أعجب
ومن قصيدة للسيدة فاطمة فتحي بمناسبة نجاحها في شهادة علم النبات من جامعة إنجلترا(883/50)
ومن عجب نباتك كان فجا ... وحزت السبق في علم النبات
وقد خلت قصيدته التي نشرها تحية للسيدة هدى شعراوي من هذا العجب وهي التي جاء في مطلعها
أعليت في صرح البلاد بناء ... بلغ السماء وطاول الجوزاء
دار الزمان وأصبحت فتياتنا ... يطلبن كالرجل حياة سواء
مهما يكن من شيء فأنت لا تستطيع أن تخطئ أن الشاعر مصري لأنه يتحدث عن ظواهر جديدة وقعت في مصر وعاصرها ودار فيها مع الزمان. وهذا من جملة ما يتميز به درس الأدب من الناحية الإقليمية.
ومما تنفرد به مصر عن غيرها من الشعوب كثرة الحريق في قراها، وقد سجل عبد الغني قصيدتين، إحداهما سنة 1932 عن حريق قرية ميت معاند جاء فيها
كم أقفرت بعد الحريق منازل ... وتخربت بعد الحريق مباني
وتفرقت أسر وأصبح شملها ... متفرق الخرزان والعيدان
ثم وصف حريق بلدة الراهبين سنة 1938 في قصيدة مطلعها
صار للنار طعمة ووقوداً ... بلد كان بالغداة سعيدا
إلى قوله
قلقت مضجعاً وساءت مآلا ... وهوت منزلا ومالت عمودا
بعثرت شملهم قبيلاً قبيلا ... وطوت جمعهم عديداً عديدا
وهو نفس المعنى الذي صاغه في القصيدة السابقة. وأكبر الظن أن الشاعر لم يعرف ميت معاند ولم يتصل بها فلم تؤثر في نفسه إلا أثر من يقرأ الخبر من الأهرام، نعني الصحيفة اليومية ولا نحسب أن الوصف صادق لأنه يصدق على كل حريق.
ونظم في اليتيم مجموعة من القصائد سماها (في ظلام الحرمان) جاء في إحداها
في مصر قوم كفهم طائية ... برجى الندى من كفهم ويؤمل
الفضل في ساحاتهم مجتمع ... والخير في أشخاصهم متمثل
وقال في قصيدة أخرى
في مصر قوم يحرصون على ... أن لا يمسك بينهم ضر(883/51)
وذلك في القصيدة التي مطلعها
قل لليتيم تبدل الأمر ... والعسر أصبح بعده اليسر
مصر التي فيها لكل ندمي ... ولكل يوم في الندى ذكر
مصر التي في كل ناحية ... للمكرمات بسوقها سعر
مصر التي لقديم نهضتها=يعزى النجار وينتهي الفخر
مصر التي دامت مطالعها ... حسبي وحسبك أنها مصر
المهرجان بمصر قد طربت ... وتمايلت أعلامه الخضر
والازبكية في خمائلها ... شعر وبين رياضها سحر
ولا نود أن ننبه إلى المصرية الواضحة في هذا الشعر، والأزبيكة شاهد على ذلك، مما يدل على تمييز الشاعر عن غيره من شعراء العرب، ولكننا نحب أن نذكر أصادق هو في إحساسه أم لا، أحقاً أن في مصر قوماً يحرصون على راحة اليتيم؟ فإذا أراد أن يماري في هذه الحقيقة، فلينظر إلى طرقات القاهرة وشوارعها ليرى الأطفال العراة الحفاة قد شردتهم الأيام وعصف بهم الزمان حتى ليندي الجبين خجلاً من مشاهدتهم فأين رجال مصر وأغنياؤها، وكيف تبدل الأمر فأصبح من بعد عسر يسرا؟
لكنه الشعر، وقد صدق الله تعالى حين قال في محكم التنزيل (والشعراء يتبعهم الغاوون) فالشعر يؤثر في القلب بما فيه من موسيقى وخيال، ولكنه يبتعد عن الواقع، ولذلك أضاف القدماء كتاب الشعر إلى المنطق وعدوه من جملة السفسطة. ونحسب أن النظرة الحديثة إلى الشعر قد تغيرت، على الأقل في أوربا، وينبغي أن تغير في مصر، وهذا واجب الشعراء.
أما باب الرثاء فقد جمع بين دفتيه قطرات من الدموع سكبها الشاعر على كثيرين من أعلام مصر في هذه الحقبة الأخيرة. بدأها بقصيدة في رثاء الأمير كمال الدين حسين استهلها بقوله.
يعز على المروءة أن تصابا ... وأن نلقي على يدك المصابا
وهو مطلع بارع، وقد برع عبد الغني في الاستهلال، ولكنه مطلع يصلح في رثاء أي إنسان، ولا يختص به الأمير وحده.
ومن براعة الاستهلال قوله في رثاء حسن صبري باشا رئيس وزراء مصر توفي في(883/52)
البرلمان وهو يلقي خطاب العرش.
أودي بك الجد أم ألوي بك القدر ... لا بد من سفر إن أقبل السفر
وهو أيضا من قبيل المطلع السابق.
وهناك مطالع أخرى لا تستطيع أن تنقلها إلى رثاء شخص آخر، لأنها تدل على مناسبة خاصة. وذلك من مثل قوله في رثاء طالب قتل بالرصاص في مدينة المنصورة في عيد الدستور.
كغنوة في الزهر والثغر باسم ... أمل في الثراب غفلان نائم
وكذلك قوله في رثاء الأستاذ محمد عبد المطلب
جزع الشعر عليه والأدب ... يوم قالوا مات عبد المطلب
خلت الروضة من طائرها ... بعد يبس الروض هل يغني الخطب
وقد صاغ هذا المعنى بنفسه في رثاء شوقي
ركن من الأدب الصحيح تهدما ... وفم على الأيام لن يتبسما
طير ترنم في الخمائل ساعة ... وأراه بعد اليوم لن يترنما
فذاك طير في الروضة، وهذا طائر في الخميلة. ولقد تصحفت على عيني لفظة الصحيح في البيت فقرأتها (الفصيح) ولعلها أليق وأفصح.
ومن المعاني التي تكررت في الرثاء قوله في رثاء أحمد ماهر
ما الذي ضر لو تأخرت حيناً ... والمنايا إلى رداك عوابر
وفي رثاء حسن صبري.
يأيها الراحل المزجي مطيته ... ما ضرها لحظة لو كنت تنتظر
ومن أروع قصائد عبد الغني، وأعظمها دلالة على مصريته، قصيدتان في وفاء النيل إحداهما.
فاضت بوجهك أوجه النعماء ... أعيون تبر أم مسايل ماء
والأخرى؟
طرب النيل في البلاد وغنى ... فثنينا الأعناق لما تثنى
وقد لحظ في الأولى معنى الخصب والنماء، وفي الثانية لحن العذوبة والغناء، فلم تتكرر(883/53)
المعاني فيهما.
قال في الأولى.
تلقى النماء على جوانب أرضها ... والخصب في تلك الربى الجرداء
سبحان من جعل البلاد رخية ... في راحتيك كثيرة الآلاء
هي فيض نعمتك التي أوليتها=وصنيعك الباقي لغير فناء
وجدير بهذه القصيدة أن تغني من أمواج الإذاعة بدلاً من تلك الأغنيات السخيفة التي يصف فيها الحبيب ذله لحبيبه.
وله في الأحداث السياسية عدة قصائد يذكى فيها روح الشباب ويطلب العزة لمصر عن طريق الكفاح. قال في قصيدة بعنوان (ما سمعنا بمصر إلا صياحاً)
سبب العيش عدة وكفاح ... لا يصون الحقوق إلا السلاح
ما سمعنا بمصر إلا صياحاً ... آه يا مصر ما كفاك الصياح
وهذه أبيات تصلح أن تقال اليوم كما قيلت بالأمس.
وجاء في قصيدة له ألقيت في محطة الإذاعة عام 1948
ولم تكن مصر في أغلال آسرها ... مأسورة الروح بل ماسورة البدن
ما أهون الروح في الأوطان نرخصها ... لكنها لسوى الأوطان لم تهن
وبعد لقد أطلت عليك أيها القارئ ولما أفرغ بعد من الإشارة إلى سائر القصائد التي وردت في هذا الديوان. فعليك به، فهو دليل على هذه الروح المصرية التي يريد أصحاب مذهب الإقليمية في الأدب تطبيقها. فيه الحوادث الكبرى والصغرى مما وقع بمصر خلال عشرين عاماً؛ وفيه نفسية الشاعر التي انفعلت بهذه الأحداث وتأثرت بها فصاغتها هذا الشعر العذب؛ وبذلك تكون الروح المصرية التي تسم الشاعر بطابع خاص هي في حقيقة الأمر البيئية الاجتماعية التي يعيش فيها، لا مجرد البيئة الجغرافية، أو البيئة الجامدة التي خلفتها آثار الأقدمين. ويكون من الخطأ التماس هذه الروح في الشاعر الذي يتحدث عن الأهرام أو النيل أو الصحراء وما إلى ذلك، بل الشاعر الحق هو الذي يسير في موكب الحياة، والحياة لا تعرف ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً لأنها كماء النهر تنساب في جريان، ولكن اللحظة الحاضرة هي أشد اللحظات أثراً في حياة صاحبها.(883/54)
فإذا طبقت هذا الميزان على الشاعر محمد عبد الغني حسن رأيت أنه الشاعر المصري الذي يمثل الروح المصرية أصدق تمثيل أثرت فيه أحداث الحياة فتغنى بكل ذلك شعراً أودعه أحاسيسه وخواطره فنظم في مدح الرسول تعظيماً للدين، وفي
مولاي شرف باسمك الصحراء ... وأركز لمصرفي الرمال لواء
تحية للفاروق بمناسبة رحلة جلالته إلى الصحراء الغربية.
وفي ذكرى محمد علي باشا
يا مالئاً صفحات السهل والجبل ... ذكراك باقية في صفحة الأزل
وفي الوطن والعروبة. وفي تحية الأصدقاء، ورثاء الأحباء، وفي الحث على البر والإصلاح. وفي الحث على الهمة والاعتزاز بالكرامة بما يمثل العصر أصدق تمثيل، فلا عجب أن يكون الشاعر صورة للمجتمع الذي يعيش فيه.
أحمد فؤاد الاهواني(883/55)
القصص
(طاهر أفندي)
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان السائر في طرقات القرية يسترعي انتباهه ذلك الحديث الهامس بين الجالسين على المصاطب وبين السائرين في الطريق!!
ذلك الحديث الذي يدور حول طاهر أفندي. وما كان من عادة أهل القرية أن يتحدثوا عنه بذلك الاهتمام لولا ما حدث اليوم في منزله؛ ففي الصباح الباكر حضر لديه طباخ من المدينة القريبة وما زال منهمكاً في إعداد طعام خاص. . . وطاهر أفندي نفسه دائب الحركة في أنحاء الدار ينظم المقاعد هنا وهناك وصوته المتقطع المرتعش يرتفع كل حين آمراً أبناءه أن يعيدوا تنظيم ذلك المكان أو يغيروا ذاك المقعد حتى أضحى بيته وهو أوفر ما يكون أناقة ورواء. . . وها هو ذا العمدة وبعض الأعيان قد يمموا داره منذ حين!!. . . ماذا هناك ياترى؟ أتكونوليمة؟ كل المظاهر تنبئ على ذلك!
ولكن الشيء الذي يقف بين هذه الفكرة وعقول الناس، أو بعبارة أوضح الشيء الذي أثار تساؤل الناس وحيرتهم. . . هو أن طاهر أفندي شخصية معروفة بالبخل والكزازة! لقد كان الزائر الذي يظفر في بيته بكوب من الشاي أو وجبة من الطعام يعتبر محظوظاً فيكيف يقيم وليمة، وينفق فيها بسخاء؟ ولمن يا ترى تلك الوليمة؟ أتكون للعمدة؟ ولكن العمدة وطاهر أفندي يقيمان في القرية منذ عشرات السنين فلماذا لم يفكر في استضافته إلا اليوم فقط؟ وراء هذه الأسئلة كان يختبئ الصمت ليقطع حبل الحديث بين الجالسين على المصاطب وبين السائرين في الطريق!
والواقع أن الواجب لن نظفر به إلا من طاهر أفندي نفسه. لنذهب إذن إلى تلك الدار التي تموج بالحركة وتفيض بالناس هنالك في أقصى القرية!!
ولا مانع من أن أرسم صورة تقريبية لطاهر أفندي حتى يتسنى لك أن تتعرف عليه وسط المدعوين. إن قامته المتوسطة التي تميل إلى الأمام قليلاً، ونظارته العتيقة التي تجثم على عينيه تؤكد لك أنه لا بد يشغل إحدى الوظائف الكتابية. . . أما وجهه الذي ملأته التجاعيد حتى صار أشبه ما يكون بثوب لم يعرف يوماً طريق (الكواء) فيؤكد لك بدوره أنه ليس في(883/56)
عمر الزهور. . . وأما بذلته التي تنافس طوابع البريد في القدم فإنها تقنعك بأن حديث الناس عن بخله ليس للإشاعات فيه نصيب!!
من السهل عليك إذن أن تتعرف عليه وسط الناس، ولكن ليس من السهل أن تتعرف على أفكاره التي تضطرب في خاطره تماماً كما يضطرب هو في أنحاء الدار. . .
إنه يرمق أنواع الطعام التي تعد، وأصناف الفاكهة التي تهيأ، فيشعر بانقباض حين يذكر تكاليف ذلك كله؛ ولكنه سرعان ما يسري عن نفسه حين يتذكر أن ضيفه هو مفتش المنطقة التي يعمل بها!
وتعود به الذكريات إلى ذلك اليوم الذي جلس فيه إلى أحد زملائه في العمل وجعل يشكو إليه على عادته بؤس الحياة وعنت الوظيفة وإهمال الحكومة. . . ويذكر جيداً أن زميله هتف به قائلاً: أنت رجل طيب لا تعرف الكثير عن أساليب العيش. تستطيع أن تجبر الحكومة على إنصافك حين تتودد إلى الرؤساء فتدعوهم إلى دارك وتقيم لهم الولائم وتظهر لهم. . .
ويذكر أيضا أنه لم يستسغ هذه الفكرة إلا بعد أن أكد له زميله أنها مجربة!
إن الذي يطمئن طاهر أفندي الآن هو أن أمواله التي ينفقها سخياً على هذه المأدبة ستعود إليه ذات يوم، وستكون بصحبة زميلات لها! أجل ستعود حين يرقى إلى الدرجة السادسة بمساعدة المفتش الكبير. . .
ويتنبه طاهر أفندي من أفكاره حين يقبل أكبر أبنائه ليتحدث إليه في بعض الشؤون بلهجة ظهر فيها الضيق والغيظ ولا يكاد ينصرف حتى ترتسم على شفتي طاهر أفندي بسمة ساخرة فيها كثير من الرثاء، الرثاء لأبنه الأحمق الذي لا يفهم الحياة كما يفهمها والده!
إنه يعرف جيداً سبب هذا الضيق الذي يبديه ولده في كلامه، ذلك أنه طلب إليه في مبدأ العام الدراسي أن يشتري له بذلة جديدة ولكنه أفهمه أن ذلك مما يرهق ميزانية الأسرة. لا شك أنه يتساءل الآن لماذا لا ترهق هذه الوليمة ميزانية الأسرة؟؟ ولكن غداً سيعرف هذا الغر الأبله أنه يفكر في دائرة أضيق من التي يفكر فيها أبوه. . . ثم أخذ يتمتم ماذا لو ترك الآباء أبناءهم يتصرفون بكامل حريتهم، فلا يفسدون عليهم أمورهم بآرائهم الفطيرة!
وبعد قليل ينظر طاهر أفندي في ساعته فيرى عقربيها يشيران إلى الثالثة بعد الظهر. لم(883/57)
تبق إذن سوى ساعة على حضور المفتش الكبير!
وهنا فقط تقفز إلى ذهنه فكرة جديدة. إن سعادة المفتش يحب دائما أن يقرأ جريدة (. . . . . .) المسائية، ولا شك أنه لن يتمكن من شرائها اليوم لأنه قضى الليلة الماضية في العزبة المجاورة عند شقيقه.
ليرسل إذن من يحضرها على جناح السرعة من المدينة القريبة، فإن العربة المسافرة إليها توشك أن تتحرك لتعود بعد نصف ساعة تقريباً.
كم ستكون مفاجأة سارة للمفتش الكبير حين يجد جريدته المفضلة في الانتظار!
وبعد نصف ساعة كانت العربة قد رجعت وفيها أحد أبناء طاهر أفندي ومعه الجريدة؛ ولم يكد يأخذها من ولده ليضعها فوق المنضدة المقابلة لكرسي المفتش حتى يطوف بذهنه هذا الخاطر. . . لا شك أن الزائر الكريم سوف يأخذ الجريدة معه حين خروجه، فلماذا لا يتصفحها أولاً؟ وبيننا كانت نظراته الضعيفة تتساءل بين السطور إذا بها تسمر فجأة أما خبر مؤداه أن المفتش الكبير قد أنتقل إلى أقصى الصعيد. . .!!
محمد أبو المعاطي أبو النجا(883/58)
العدد 884 - بتاريخ: 12 - 06 - 1950(/)
2 - أدب المجون. . .
أدب المجون يجوز إذن أن يقال، ولكن لا يجوز أبداً أن يعلن. والرقيب على هذا الأدب ضمير المنشئ وكرامة القارئ. فمادام للمنشئ ضمير يحييه الدين القويم والخلق الكريم فإنه يتكرم عن الهبوط إلى حضيض القوادين الذين يزينون الفحش، والمطاردين الذين يروجون الحشيش. وما دام للقارئ كرامة يقويها الحس اللطيف الشريف، فإنه يتنزه عن سماع الهجر ورؤية المنكر. والناس في الشرق والغرب، وفي القديم والحديث، كانوا كذلك قبل أن تقوم قيامة الحرب العالمية التي أهلكت فيما أهلكت تراث الإنسانية والمدنية من كريم الشمائل وحر الخلال.
هتك بشار في بعض شعره ستر الحشمة فنقم الناس منه ذلك وتمنوا موته صوناً للعذارى وغيره من المخدرات، وقال مالك بن دينار: (ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى الملحد) وانتهى المجون ببشار إلى أن أمر به الخليفة المهدي فضرب بالسوط حتى هلك. واستهتر أبو نواس في الغزل واسترسل في الفجور حتى حبسه الخليفة الأمين، ولم يكد يخرج من ظلام الحبس، حتى دخل في ظلام الرمس.
وألف أوفيد الشاعر الروماني كتابه (فن الحب ' , فرأى فيه القيصر أغسطس فساداً للناس فنفى المؤلف في سرماسيا وقال لطيباريوس حين سأله العفو عنه: (لا أنكر أن أوفيد شاعر ميزته الآلهة بالذكاء البارع والقريحة النافذة، ولكنه أفسد بكتابه شباب روما فحق عليه أن يموت في سجن سرماسيا) وكتب فلوبير القصصي الفرنسي قصته (مدام بوفاري) فوجد الناس في أسلوبها خروجاً عن مذهب الحياء فرفعوا أمره إلى القضاء فحكم عليه بالكف عن معالجة هذا النوع من القصص.
ونظم بودلير الشاعر الفرنسي ديوانه (أزهار الشر) فثار على جرأته أهل الحفاظ والنخوة وساقوه إلى القضاء فحكم عليه بغرامة قدرها ثلاثمائة فرنك وإعدام ست قصائد من مطولاته.
فلما زلزل الله الأرض بالحربين العالميتين انقلبت الأوضاع، وتغيرت الطباع، واختلفت المقاييس، وبرد الدم الحار، وبلد الحس المرهف، وغلظ الجلد الرقيق، فشاع الإغضاء، وساغ البذاء، وقلت المبالاة، وسكنت الحمية، حتى صار الفجور ديناً له أنبياؤه ومبشروه؛ فمن الأنبياء فرويد وجيت وسارتر، ومن المبشرين لورنس وفكتور مرجريت. أما الأتباع(884/1)
فهم مسوخ الحرب ومشوهوها والقوم هناك ومقلدوهم هنا مخلصون جميعاً للدين الجديد إلا من رحم ربك. ومن هؤلاء الذين أدركتهم رحمة الله فرنسوا مورياك؛ فقد حز به الأمر وشجنه الحال حتى ألقى ثلاثة أسئلة على صفوة من رجال العلم والأدب في أوربا يرجو أن يجد في الأجوبة عنها طباً لهذا الداء، وكشفاً لهذا البلاء. قال:
هل تجد في انصراف الأدب إلى التعبير عن شهوات الجسد العرمة خطراً على الفرد وعلى الجماعة وعلى الأدب نفسه؟ من هم الأدباء الذين تقع عليهم التبعة في انحطاط الأدب الحديث؟ وأي المذاهب قد ساعد على هذا الانحطاط؟
فإذا فرضنا أن هذه الأسئلة ألقيت علينا كما ألقيت عليهم فبماذا نجيب عنها؟
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(884/2)
الدين والسياسة والوطنية
للأستاذ محمود الشرقاوي
في أصيل يوم من أيام الصيف من سنة 1938 - وكانت قد جزت في شتائها انتخابات عامة في مصر - كنت في زيارة المرحوم الشيخ المراغي في (العوامة التي كان يقيم بها على صفحة النيل في الزمالك، وجرى بيننا حديث لا أزال أذكره كأنه جرى بالأمس. فقد سألني، يرحمه الله، ماذا يقول الناس عنا. .؟ قلت: يقولون إن الأزهر انصرف شيئاً ما عن مهمته إلى السياسة، ويخشى الناس أن يجرفه تيارها فقال وما ذاك؟ إن رجل الأزهر ليس يضره شيء أن يشتغل بالسياسة بل يجب عليه أن يشتغل بها ككل مواطن، والدين لا يمنعه من ذلك بل يحضه عليه. فقلت: نعم يا مولاي، أن الدين لا ينهي بل هو يحض على الاشتغال بأمور الناس وبالشؤون العامة والعمل لخير الجميع في كل ميدان، وقد اشتغل علماء المسلمين وكثير من أئمتهم بسياسة عصرهم ولقي بعضهم العذاب والسجن في هذا السبيل، كما جرى لابن حنبل من المعتصم حين سجن في فتنة (خلق القرآن). فقد كان الرأي دينياً ولكن ملابسات الأمر كله كانت ملابسات سياسية، وكما سجن وأوذي أبو حنيفة وابن تيميه لاشتغالهما بسياسة عصريهما. فأنا معك في كل ما تقول مع فارق واحد دقيق ولكنه كبير، فما على رجل الدين من بأس إذ اشتغل بالسياسة، ولكن البأس والحرج والإيذاء له ولمكانته ورسالته أن يشتغل بالحزبية، وقد أردت أن أتلطف فيما يقوله الناس، فوضعت كلمة (السياسة) حينما كنت أريد أن أقول (الحربية).
وقد أجاب، يرحمه الله، جواباً ما أرى من الخير الآن أن أذكره.
وقد اذكرني هذا الحديث القديم ما نشرته صحفنا المصرية من قبل عن مشكلة جزيرة قبرص ورغبة أهلها في الانضمام إلى اليونان، فقد ذكرت هذه الصحف أن الكنيسة الأرثوذكسية أشرفت على استفتاء السكان ذلك الاستفتاء الذي ظهر من نتيجته أن وضحت رغبتهم في الانضمام لليونان بنسبة 95 في المائة وكانت الكنيسة واضحة الرغبة في إبراز هذا الاتجاه لسكان الجزيرة.
فهل لرجل الدين أن يشتغل بالأمور السياسية والوطنية. .؟
ويحسن بي هنا أن أوضح ماذا أريد بالوطنية. وهل السياسة شيء والوطنية شيء آخر. .؟(884/3)
الوطنية التي أقصدها في هذه الكلمة هي الاشتغال بأمور الوطن، أو ما نسميه (بالصالح العام) بما ينطوي تحت هذا من الصوالح السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وما دمنا شعباً لم يستطع بعد أن ينال جميع حقوقه الوطنية، فإن شواغلنا من هذه الناحية ستكون دائماً في المحل الأول.
وأما السياسة فهي، عندي، ما هو أعم من ذلك وأشمل، هي ما يتعلق بسياسة الوطن الأصغر الذي هو مصر والوطن الأكبر الذي هو العالم، وتدخل في ذلك طبعاً نظم الحكم ومحاسبة أصحاب السلطة الذين أخضعتهم القوانين العامة للمحاسبة،
فهل لرجل الدين، إذن، أن يشتغل بالأمور السياسية والوطنية. .؟
أما نحن في مصر والشرق، فالفهم السائد بين كثير من الناس ومن رجال الدين أنفسهم أن رجل الدين لا شأن له، أو يجب ألا يكون له شأن بذلك، ولكني أعتقد أن هذا الفهم بقية من بقايا الظروف والملابسات التي سيطرت على الشرق أزمنة طويلة وجعلت الابن، في بعض الأوقات يقتل أباه والأخ أخاه في سبيل الملك أو السيادة. تلك الملابسات التي جعلت الناس يؤمنون ويتوارثون بأن النجاة في السلامة والانكفاف عن المشاركة وقالوا وتواصوا: أنج سعد فقد هلك سعيد. وكانوا على حق. - وجعلت هذه الملابسات - من جهة أخرى أصحاب السلطان، في الزمن القديم، لا يؤمنون بأن لرجل الدين حقاً في الاشتراك أو المشاركة أو التوجيه، بل هو يوجه العامة إلى ما يقصد ويراد. وكلاهما، الموجه والموجه، لا (حق) له فيما سوى ذلك، لو صح أن ذلك (حق).
ولكن أحوال الناس وظروف الحياة قد تغيرت تغيراً كبيراً، وأصبحت السياسة والاشتغال بها حقاً مشاعاً لكل مواطن، وليست خاصة أو محصورة في طبقة معينة من الناس يسيرون مقادير الشعوب وأمورهم من وراء الحجرات.
رجل الدين له رسالة خاصة، لا شك في ذلك، وهي رسالة لو أديت على وجهها الصحيح لكانت من أهم الأسس التي يقوم عليها نظام المجتمع الشرقي وهدوءه وانسجامه، وكانت سبباً أو عاملاً في انحسام أو نقصان كثير من عوامل الشر والجريمة والتقلقل في هذا المجتمع.
ولكن هذه الرسالة الخاصة ليست مانعاً من اشتغال رجل الدين بالأمور العامة، بل قد تكون(884/4)
داخلة ضمن رسالته تلك ومما يساعده على النجاح وقوة الأثر في هذه الرسالة نفسها. ولكن هناك شرط واحد لاشتغال، أو لجدوى اشتغال، رجل الدين بالسياسة، هذا الشرط هو (التجرد).
التجرد من العامل الشخصي والتجرد من التحزب لفرد أو لجماعة أو حزب خاص مهما يكن اثر هذا الفرد ووضعه، ومهما كانت الجماعة أو الحزب من العمل - حتى العمل الوطني - أو من الحكم.
رجل الدين يجب أن يكون وضعه بالنسبة للأمور السياسية في موضع الفيصل والحكم والميزان. يذكر الناس إذا انحرفوا في اتجاههم السياسي أو انحرفوا في الحكم، ويدعوهم للاستقامة والخير والتجرد كما يتجرد هو - أو كما هو المفروض أن يتجرد هو - من الغايات والرغبات. كما يدعو الناس إلى دعوة الله من البر والخير والمودة إذا انحرفت بهم نزوات النفس أو مالت بهم إلى الخروج أو البعد عن الغايات المثالية التي اصطفى الله رجل الدين الحق لرعايتها وتوجيه الناس لها.
رسالته في السياسة، كما هي رسالته في الدين والمجتمع، هي العودة بالناس من الانحراف إلى الاستقامة، والرجوع بهم إلى المثل أو ما هو قريب من المثل العليا إذا بعدت بهم النزوات والرغبات والخصومات عنها.
وأما الوطنية فلا شك أنه من الخير أو من الواجب أن يشتغل بها رجل الدين، على نفس هذه الأسس، وقد كانت السياسة المصرية نفسها قبل ثلاثين أو أربعين سنة قائمة على الدين وكانت دعوة الحزب الوطني تتجه هذه الوجهة وتقوم على هذا الأساس، وإن كنا لا نحب أن نرجع إليها، ولن نرجع.
والمفهوم من الوطنية طبعاً هو الدفاع عن الحق الذي سلب من أهله، والعمل على رد هذا الحق لأصحابه.
وماذا يكون رجل الدين إذن وماذا تكون رسالته إذا لم يدافع عن الحق ويعمل على نصرة أهله. .؟ فكيف إذا كان أصحاب هذا الحق بينهم وبينه ما أصحاب الوطن الواحد من الوشائج، والصوالح أيضاً.؟
محمود الشرقاوي(884/5)
اللغة والفكر. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
بقية ما نشر في العدد الماضي
الأصل في النسبة بين اللفظ والمعنى أن تكون المطابقة التامة أو التكافؤ بمعنى التساوي، أي أن لفظ كذا يساوي معنى كذا. ولكن التقدم الإنساني وتعقد الأمور استوجبا صعوبة اشتقاق ألفاظ جديدة لمعان جديدة فأطلق لفظ واحد على عدة معان كقولنا (العين) اسماً على عضو الإبصار، والماء الجاري، والسيد في قومه، والشيء المتحقق في الوجود! وغير ذلك من المعاني التي تطلق عليها كلمة عين.
غير أن هذا التعقيد في الحياة أدى إلى نتيجة عكس الأولى، فقد أصبح المعنى الواحد يحمله عدة ألفاظ كقول العرب على الأسد: ليث، ضرغام، غضنفر، هزبر، ضيغم.
ولا ندري مع ذلك إن كان تكثير اللفظ هكذا دليلاً على عهود الفوضى الاجتماعية، أو على الثروة اللغوية أو على تعدد القبائل الناطقة بلغة ما، وإن كنا نعلم أن البدوي في الحجاز الذي رأى السيارة لأول مرة فأطلق عليها فوراً وهو يشير إليها كلمة (الراكضة) بينما نقول (السيارة) وكما نقلنا لفظ (القطار) من المطر إلى القافلة إلى ذلك الذي يجري بعجلاته على قضبان الحديد.
ومن الواضح أن الاسم المنقول في انتقاله من معنى إلى آخر إنما يحمل معه ذكرى الحياة السابقة عليه، ولكنه مع ذلك يثير مشكلة كان الأجدر به أن يخمدها وقد يكون الإجماع القومي من السلطان والنفوذ بحيث يقضي على هذه المشكلة هي الخلط بين المعاني المرادة. فاللفظ (كفر) كان في الأصل بمعنى (غطى) ثم انتقل إلى معنى جديد يفهمه الآن كل الناس في لغتهم الدينية فيقولون: فلان كافر بنعمة الله. أو كافر فقط. وحتى هذه المرحلة لا يزال اللفظ مخلصاً لتراثه القديم وأصله الأول، ولو أردنا إحياء هذا الأصل - وهو مشروع - صادفتنا هجمات لا نقوى على احتمالها. فإذا قالت الأم لابنتها: يا بنت اكفري أخاك. بمعنى: غطي - وهو صحيح - لا تلبث البنت أن تعجب وتنفر من كلمات أمها وربما داخلها الشك في عقليتها.
والحد في - عرف المناطقة - ما يصلح لأن يخبر به وحده، أو يخبر عنه وحده، وهو(884/7)
العنصر الأساسي للقضية أو الحكم. هذا الحد المنطقي الذي تتكون منه القضية يخالف العنصر الذي تتألف منه الجملة عند اللغوي وهو اللفظ أو الكلمة. فالمنطقي يطلق على كل واحد من الأسماء الآتية حدوداً: العميد، عميد الكلية، عميد كلية الآداب، عميد كلية الآداب سنة 1950. عميد كلية الآداب سنة 1950 لجامعة فؤاد الأول. أما اللغوي فلا يقول بهذا بل هو لا يعترف بعنصر الجملة إلا للفظ (العميد) فقط، الذي هو الحد الأول من الحدود المذكورة. وللمنطقي وجهة نظره، وللغوي وجهة نظره.
والإنصاف يقتضينا الفصل بينهما: فاللغوي أوفر نصيباً من الحق، لأن اللغوي هنا وضع اللفظ على قدر المعنى، فالمعنى ثابت واللفظ تابع، واقتضاه المعنى، وليس من البراعة في شيء أن ندل بجملة إشارات على شيء واحد إلا أن يكون عجزاً. وخير الكلام ما قل في اللفظ ودل في المعنى. قال ثعلب:
نسر الهوى إلا إشارة حاجب ... هناك وإلا ما تشير الأصابع
بل يزيد شوقي في التعبير الرمزي دون اللفظي إذ يقول:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت ... عيني في لغة الهوى عيناك
أما إن كنا نعبر عن المعنى الواحد بألفاظ شتى فليس مما يتمشى مع طبيعة اللغة من حيث هي إشارات إلى المعاني حسب العرف والاصطلاح. ولهذا كلما كان الاختزال في اللغة متبعاً دل ذلك على رقي اللغة وأهلها. فاللغة العربية تضاهي اللغة اللاتينية في هذا المجال خصوصاً في التعبير عن الفعل والفاعل والزمان في لفظ واحد هو أي فعل ولا كذلك الإنجليزية ولا الفرنسية.
وإنه لنصر كبير للإنسانية يوم تزدحم ألفاظ اللغة بأكبر عدد ممكن من المعاني وليت الحاجة التي دعت إلى الإيجاز التلغرافي تعن لنا فنوجز اللفظ حتى يزخر بالمعاني فنتخلص أفراداً وجماعات من الثرثرة والتشدق والتفهيق.
والخلاصة أن النسبة بين اللفظ والمعنى تبدو في إحدى ثلاث:
1 - أن يتكثر المعنى ويتحد اللفظ.
2 - أن يتكثر اللفظ ويتحد المعنى.
3 - أن يتكثر اللفظ والمعنى معاً.(884/8)
ومن هنا بدأ الخلاف يدب بين المنطق واللغة، ولهذا الخلاف مظاهر:
أولاً من حيث الموضوع.
المنطق يتناول المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بألفاظ المطلقة عليها؛ واللغة تتناول الألفاظ، وإن كان لا يسوغ لها الإخلال بالمعاني المعبر عنها. واللغوي أشبه بالصحافي يترقب الأخبار ويتوخاها، فاللغة عبد الفكر تخضع لحركاته وسكناته وصحوة ويقظته، وهي تحقق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ إلى اللفظ، والمعنى ثابت لا يزول. وقد يحول اللفظ إلى اللفظ والمعنى لا يحول. أما المعنى فإنه إذا حال زال، ولم يعد له حال.
ثانياً: من حيث الغاية:
لا شك في أن الحاجة إلى المنطق تلت الحاجة إلى اللغة، لسبق اللفظ على المعنى بالطبع، ولأن الطبع أسبق من أحكام العقل. ففي أوائل حياتنا نحن نتكلم وننطق كلاماً منطوقاً قاصراً على صاحبه، أما في انتقاله من شخص إلى آخر فهو في حاجة إلى أسس وقواعد يرسمها المنطق لذلك. وأية إشارة أو صرخة أو حركة من الطفل يعتبرها اللغوي لغة ذات معنى مفهوم، وذلك ما لا يعترف به المنطقي بحال، وإن كان الإفهام والتفاهم غاية كل من المنطقي واللغوي.
ثالثاً: من حيث المنهج:
اللغة ترتب اللفظ ترتيباً خاصاً يؤدي إلى مألوف القول والعادة؛ أما المنطق فإنه يرتب المعنى ترتيباً يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة. ترتيب اللغة هو النحو والصرف، وترتيب المنطق هو الاستدلال. اللغوي لا يهمه من لغات الناس بقدر ما يهمه من لغته هو. أما المنطقي فله لغة عالمية ذات أجرومية دولية، نحاة اللغات يختلفون ولكن المناطقة على وفاق وإن اختلفت أجناسهم ودياناتهم وميولهم الإنجليزي يقدم الفعل على الفاعل، والعربي يجيز الأمرين، والمنطق يفترض شيئاً واحداً فقط هو وجود فعل وفاعل يركبان بهيئة يتفق عليها النحاة لتؤدي معنى، والمنطق يفترض عقلاً واحداً سليماً مجرداً هو العقل الإنساني، أما اللغة فتخضع للظروف والأحوال. وعلى ذلك فالمنطق مطلق واللغة نسبية.
رابعاً: من حيث القوانين:(884/9)
ينتهي اللغوي من بحوثه في الألفاظ إلى ضوابط عامة لها، إذا لم تراع سمى لحناً، والمرجع فيه إلى العرف، أما المنطقي فإنه ينتهي إلى قوانين أساسية عامة مطلقة غير استثنائية إذا لم تراع سمى الخطأ فيها إحالة أو تناقضاً بمعنى عام، والمرجع فيه إلى العقل وحده. قوانين الفكر مطلقة عامة لكل الناس، أما قوانين اللغة فهي نسبية تخضع لظروفها وتتأثر بها مضطرة راغمة.
خامساً: من حيث التدخل:
اللغة تتدخل في شؤون المنطق لترتب له معداته الأولى وهي (التصورات) وعند ذلك تنتهي مهمتها ولا تزيد. والمنطق له الحق في الإشراف على اللغة ليحقق لها أغراضها الأساسية. ولذلك فنحن نستطيع أن نفهم معنى واضحاً من لغة لا نحو لها، ولكن لغة لا منطق لها تعود صراخاً وضوضاء. فحاجة اللغوي إلى المنطق أشد وأنفع من حاجة المنطقي إلى اللغة. تكلم ما استطعت من لغات، ولكن المنطق فيها جميعاً واحد هو هو المنطق، ففي مجتمعات ما قبل المنطق ' يجوز أن يكون الشيء كذا ولا كذا في آن واحد، وليس كذلك الحال في أي لغة متحضرة ذات منطق كريم.
يقول متى بن يونس القنائي المنطقي لأبي سعيد السيرافي النحوي وهو يحاوره (لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطقي يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ؛ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض. وإن مر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى).
والمنطق أحياناً يضرب بالقاعدة النحوية عرض الحائط، فإذ يفرق النحوي بين الظرف الذي لما يستقبل من الزمان، وبين حرف الامتناع لامتناع، وبين حرف الامتناع لوجود، وبين حرف الشرط الجازم. نرى المنطقي يعتبر: إن وإذا ولو ولولا، ولو ما كلها أداة شرط وحسبه هذا.
وأحياناً يقول النحوي إن الخبر يطابق المبتدأ إفراداً وتثنية وجمعاً وجنساً، ولكن المنطقي لا يحد من نطاق الحمل، ولا يقيده كالنحوي، فالمنطقي يقول: العالم عالمان، ومصر فخر الجيل، والولد فلذة أبيه. فالمبتدأ والخبر عند اللغوي اسمان، أو أحدهما أو كلاهما جملة في محل المبتدأ أو الخبر، ولكن الموضوع والمحمول عند المنطقي حدان.(884/10)
ومن أجل التفاهم يعني المنطقي بالفكر من حيث الكيفية، أما اللغوي فيعني به من حيث الكمية. وإذا كانت اللغة أداة التعبير، فإن المنطق أداة التفكير، ولا بد للتعبير من الاستناد إلى التفكير.
واللغوي يعمل عالة على المنطقي، وينشط على حساب اكتشافاته وإلا لم يكن ثمت داع لإنشاء المجامع اللغوية، والمؤتمرات الدولية للإنفاق على المصطلحات العلمية والفنية المستحدثة في ضروب العلم والعرفان.
الفكر شرط اللغة، لأن لغة من غير فكر صراخ وعويل، والجملة هي وحدة اللغة، هكذا يرى , ' واللغة شرط في الفكر لأن الفكر كلام صامت في الباطن؛ هكذا يرى (لويس دي بونالد) إذ يقول (إن الإنسان يفكر كلامه قبل أن يتكلم فكره)
ونعترض عليه بأمرين:
1 - لا حاجة إلى اللغة في التذكر والتصور والتخيل للمعاني.
2 - قد توجد معان ذهنية لا ألفاظ لها في الوجود كالغول والعنقاء والخل الوفي، والأقمار والشموس مجموعة.
فإذا استغنى الفكر عن اللغة أحياناً فهو غالباً ما يحتاج إليها بحيث يصح قول (دي بونالد) من أن الفكر كلام باطني، وكل تفكير هادئ هو حديث النفس تتابع فيه الجمل بألفاظ أصواتها خافتة. فاللغة شرط للفكر الواضح الجلي، وإلى هذه الفكرة سبق الأخطل إذ يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ويتمثل العقل الإنساني في المنهج العربي القائل (العاقل من يجعل لسانه وراء عقله، والأحمق من يجعل عقله وراء لسانه).
ولا شك في أن المعرفة سعة وإحاطة وإلمام بأمور الكون، والبحث عن أوسع العوالم المعانية، وذلك هدف الفكر، واللفظ عامل مساعد في تنمية المعرفة من حيث الدراسة اللفظية: بكثرة تحصيل الألفاظ، ودراسة مشتقاتها ومصادرها الفيلولوجية وأصولها وجذورها مما يزيدنا خبرة، وعرفة، فالقواميس والمعاجم ذخيرة حافلة بالمعرفة. ولكن لا يخفى أن المعرفة الآتية عن طريق الفكر تحتاج إلى العرف لتعميمها، ولا تحتاجه من حيث قصرها على صاحبها، ولكن المعرفة مشاركة وتبادل فهي تشترط اللغة. أما المعرفة الآتية(884/11)
من اللفظ فيجب مراعاة أطوارها، وبذلك يكون التفاعل بين اللغة والفكر قائماً على قدم وساق.
والإنسان عارف، لا لأنه متكلم، ولكن لأنه مفكر، فنحن نتفاهم مع الأخرس بالفكر لا بالكلام، ونعمة الكلام أوفر من نعمة التفكير. ولو قد أنعم الله علينا بالفكر أكثر مما أنعم علينا من الكلام لتبدلت الأرض غير الأرض والسماوات، ولكنا من السعداء الذين يتفاهمون بمجرد السوانح والخواطر ونسلك في هذه الحياة عن قوة الأفكار التي لا تعدها قوة، ومن يدري لعل الله يستجيب لرأي (الفريد فوييه) في نظرية (الفكرة قوة) فننعم في الدنيا بالفردوس الموعود، ونحظى بأقرب وسائل التفاهم وهي (التلباتي) في غير عسر، يوم تتحد الرغبة والتنفيذ في جنة الخلد (لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون) وما ذلك على الله بعزيز.
محمد محمود زيتون(884/12)
الاجتهاد في التشريع الإسلامي
للأستاذ محمد بك سعيد أحمد
الاجتهاد هو الأصل الثالث للإسلام ولفظ اجتهاد مشتق من جهد ومعناه لغة: جد وتعب.
وقد كان للعقل واستعمال الفكر والتدبر شأن هام في أمور الفقه والدين كما اثبت القرآن أهميتها في كثير من الآيات الكريمة. والقرآن يرد الناس إلى العقل دائماً ويهيب بهم أن يستعملوه في تصريف أمور دينهم ودنياهم في مثل قوله تعالى (أفلا يتدبرون) (أفلا يعقلون) (الهم عقول يفقهون بها) (إن في ذلك لآيات لقوم يتدبرون) وهكذا لقد شبه القرآن هؤلاء الذين لا يستعملون عقولهم بالأنعام وقال عنهم إنهم صم بكم وعمي قال تعالى (ومثل الذين كدروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وقال تعالى (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل 70 - 179 وقال تعالى (إن شر الدواب عند الله الصم البكم العمي الذين لا يعقلون) 8 - 22 وقال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) 25 - 44
وبينما لا يرضى القرآن عن هؤلاء الذين لا يستمعون عقولهم ويصفهم بالوصف الذي ذكر في الآيات السابقة، إذ يمتدح الذين يتفكرون ويتدبرون ويستملون جوهرة العقل الثمينة فيما وضعت له. قال تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار 3 - 189 - 190
ويرشد القرآن إلى أن الله سبحانه وتعالى يلهم الإنسان أصول العلم والمعرفة وبكلفة باستعمال عقله لفهمها وتدبرها ويرشده كذلك إلى ضرورة الاجتهاد في الرأي للوصول إلى أي حكم من الأحكام. قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) 4 - 83 وكلمة (يستنبطون) مشتقة من نبط البئر يعني (حفرها ليخرج منه الماء) واستنباط القاضي معناه إظهار الشيء الخفي، وبعبارة أخرى (الاجتهاد في الأمر) ومثل ذلك استخراج القاضي ومعناه (الحكم بالقياس) وعلى ذلك فهذه الآية تشير إلى مبدأ الاستنباط الذي يجب الأخذ به(884/13)
والذي لم يخرج عن كونه الاجتهاد الذي نحن بصدده.
ويعترف الحديث الاجتهاد كأصل من أصول الدين عند افتقاد النص على الحكم في الكتاب أو السنة؛ فقد حدث لما أرسل رسول الله (ص) معاذ بن جبل إلى اليمن أن قال له: بم تحكم فيهم؟ فقال بكتاب الله، فقال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسوله. فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي. فقال النبي أصبت يا معاذ) ويدل هذا الحديث على أن النبي (ص) قد أقر مبدأ الاجتهاد، وأن الصحابة كانوا يعرفون عنه ذلك، وان هذا المبدأ كان يطبق عند الحاجة إليه لضرورة في حياة الرسول.
ومن الخطأ أن نعتقد أن الاجتهاد في الرأي إنما ظهر مع ظهور الأئمة الأربعة المعترف بهم في العالم الإسلامي، فالاجتهاد قد ظهر في عهد الرسول إذ كان من العسير الرجوع إليه في كل أمر من الأمور. ثم ازداد ظهوراً وانتشاراً بأتساع الأرض الإسلامية وزيادة عدد المسلمين مع ما لازم ذلك من الاحتياج إلى التوسع في الأحكام الخاصة بأمور دينهم ودنياهم. كما أن الخلفاء وأمراء المؤمنين لم يحتفظوا بالسلطة كلها في أيديهم فقد كانت لهم مجالس للحكم في أمهات المسائل وكانت تؤخذ الآراء وتصدر الأحكام بأغلبية الأصوات ويقرها الخلفاء ويقبلها الرأي العالم الإسلامي وفي ذلك قال السيوطي في كتابة (تاريخ الخلفاء) عن أبي بكر نقلاً عن أبي قاسم اللغوي عن ميمون بن مهران.
كان أبو بكر يرجع إلى كتاب الله في كل مسألة تعرض عليه ويحكم بما جاء به، فإن لم يجد كان يرجع إلى السنة ويحكم بما جاء بها، فإن لم يجد كان يجمع المسلمين ويسألهم عله يجد من بينهم من يذكر أنه سمع رسول الله في مسألة مماثلة فكان كل واحد منهم يقول ما سمعه عن الرسول. ويقول أبو بكر الحمد لله الذي أوجد بيننا من يذكر كلام الرسول فإن لم يجد في السنة جواباً للمسألة كان يجمع علية القوم في مجلس ويستشيرهم فإذا ما اتفقوا على رأي بأغلبية الأصوات أقره وأمر باتباعه.
وواضح أن هذا المجلس لم يكن مجلساً تشريعياً بالمعنى الحديث إلا أنه يحمل معناه وطريقته فقد كان يتخذ قرارات في كل المسائل الهامة، وكان يضع القوانين عند الضرورة، وكان المرجع الأعلى في كل المسائل الدينية والزمنية وظل الحال كذلك في عهد عمر ين الخطاب الذي كان يرجع إلى الصحابة المشهود لهم بالعلم والمعرفة فيمدونه بآرائهم فيما(884/14)
يعرضه عليهم من المسائل فإذا اختلفت آراؤهم في أمر من الأمور اخذ برأي أغلبيته. وإلى جانب هذا المجلس كان يوجد نخبة من العلماء الإجلاء اللامعة آراؤهم أمثال السيدة عائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم من مجتهدي ذلك العصر وكان الخليفة يعتمد على هذه الآراء ويأمر بالعمل بها على شريطة أن لا تكون مخالفة للقرآن أو للسنة. وقد قدر قضاة الشريعة اللاحقون آراء أسلافهم وحكموا بها بما لم يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
وقد ظهر في القرن الثاني للهجرة أئمة وضعوا من القوانين ما يلائم حاجات الناس في ذلك الوقت وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالبصرة عام 80هـ (699م) وهو من أصل فارسي ويتبع مذهبه كثرة من مسلمي العالم. وكان مركز نشاطه بالكوفة وتوفي عام 150هـ (717م) وكان القرآن رائدة في الأحكام وأساس قياسه. ولم يأخذ من الحديث إلا ما كان مقتنعاً تمام الاقتناع بأنه صحيح وكان ذلك الوقت لم يكن قد بدء العمل في جمع الحديث ونقده وتدوينه، ولم تكن الكوفة بالمركز الثقافي الهام لدراسة الحديث فكان من الطبيعي أن يكون اجتهاد أبي حنيفة قاصراً على قرآن ولم يأخذ من الحديث إلا النذر اليسير. ولما تم جمع الحديث وتدوينه وأصبح في متناول المسلمين أدخل أتباع أبي حنيفة على مذهبه كثيراً من الأحكام المأخوذة من الحديث، وأشهر هؤلاء الإمام محمد والإمام أبو يوسف ولآرائهما المكانة الأولى في المذهب.
وكان أبو حنيفة مستقل الفكر لا يعمل إلا بوحي ضميره. ولقد آثر في أواخر أيامه السجن والجلد على السير في ركاب الحكومة مخافة أن يؤثر ذلك على استقلال فكرة وحرية ضميره - كما أبى أن يلي القضاء وقد جلد أحد عشر يوماً متتابعة في كل يوم عشر جلدات على أن يلين فأبى إلا حرية الفكر - ومذهب أبو حنيفة أول المذاهب المعروفة وأوسعها انتشاراً ويدين به أغلب المسلمين. وإن آراءه وأحكامه يصح أن تكون دعامة لصرح تشريعي متين ينتفع به العالم الإسلامي لو أن المسلمين في مختلف العصور نهجوا نهجه وسلكوا سبيله في الاجتهاد والتشريع. وكان أبو حنيفة أول من أشاد بفضل القياس في الأحكام ووضع للأمة مبدأ الاستحسان والاستصلاح فاستطاع به وضع أحكام جديدة موافقة للعدالة لمواجهة حاجات الناس المتزايدة وبذلك أمكن استبعاد كل حكم بعيد عن العدالة غير ملائم للبيئة والجماعة. وهو أول من أقر الأخذ بالعرف والعادة. وكان في كل ذلك كما قدمنا(884/15)
مستقل الرأي حر الفكر غير متأثر بغيره مما دعا أتباع المذاهب الأخرى حينذاك أن يصفوه هو وتلاميذه بأنهم (أهل الرأي).
وتبعه الإمام مالك بن أنس الذي ولد بالمدينة عام 93 هجرية (713 ميلادية) وعاش ومات بها وسنة 82 سنة وقد أقام نفسه لدراسة الحديث وفق ما كان سارياً بالمدينة وجارياً بين أهلها فكان أساساً لمذهبه وكان الإمام مالك حريصاً أشد الحرص في أحكامه فإذا تشكك في صحة أمر من الأمور قال (لا أدري). وكتابه الموطأ فريد في بابه وهو من أوثق الكتب في الحديث وإن كانت مجموعته صغيرة وقاصرة على الأحاديث المتداولة بين أهل المدينة.
ثم قفاه الإمام الشافعي وهو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ثالث الأئمة ولد بفلسطين عام 150 هجرية (767 ميلادية) وقد قضى أيام شبابه بمكة وعاش أغلب أيامه بمصر وتوفى بها عام 204 هجرية. وكان الإمام الشافعي واحد عصره في علوم القرآن وأجهد نفسه في دراسة السنة وتحمل المشاق متنقلاً بين مختلف البلدان باحثاً وراءها. وكان يحفظ المذهب الحنفي والمذهب المالكي ويختلف المذهب الحنفي عن المذهب الشافعي بأن الأول كان يستند دائماً إلى القرآن ولم يركن إلى الحديث إلا قليلاً؛ والثاني كان جل سنده الحديث والسنة. ويمتاز الشافعي من مالك بأن مجموعة الحديث التي استند إليها كبيرة ومجموعة من نواح متعددة بخلاف مالك الذي اكتفى من الأحاديث بما وجده بالمدينة وحدها.
وتلاه الإمام أحمد بن حنبل وهو آخر الأئمة الأربعة؛ ولد ببغداد عام 164هـ وتوفى بها عام 241هـ وللإمام أحمد دراسات واسعة في علم الحديث كما هو ظاهر من كتابه الشهير (بمسند أحمد بن حنبل) الجامع لثلاثين ألف حديث - وكان جهد الإمام في جمع الحديث أساساً للمجموعة القيمة التي قام بها ولده عبد الله. وقد رتبت الأحاديث في المسند بحسب اسم الصحابي الذي يرجع إليه الحديث لا بحسب الأحاديث نفسها وغير ذلك فإن الأحاديث الواردة فيه لم يراع في جمعها الدقة التي توخاها البخاري ومسلم في صحيحهما. والواقع أن ترتيب الأحاديث بحسب موضوعاتها يكشف للباحث عن مواطن الضعف ويسهل تعرف أوجه النقد. وهذا أمر غير ميسور إذا كانت المواضيع مبعثرة في مختلف صفحات المجموعة المرتبة أحاديثها بحسب ترتيب أسانيدها؛ وهذا ما جرى عليه أحمد في مسنده فكان بذلك غير موثوق به بالنسبة لمجموعات المحدثين الآخرين وظاهر من مجهود أحمد(884/16)
وطريقته أنه جعل كل اهتمامه في جمع الحديث، ونتج عن ذلك أنه أخذ بأحاديث ضعيفة فإذا قارناً أبا حنيفة الذي جعل القرآن رائدة الأول واجتهد في الرأي مستضيئاً بنوره ومستنبطاً أحكامه من آياته بابن حنبل الذي لم يجتهد في الرأي إلا قليلاً، وجدنا أن هناك فتوراً في الاجتهاد الذي هو أصل من أصول الإسلام بين أول الأئمة وأخرهم هذا فضلاً عن أتباع مذهب أبي حنيفة من قضاة الشريعة الإسلامية لم يترسموا خطى أمامهم في الاجتهاد والاستنباط فأقفل بذلك باب الاجتهاد ووجدت حالة جمود في التشريع الإسلامي. وسنتحدث إن شاء الله في مقالنا التالي عن طريق التشريع المختلفة في للاجتهاد.
محمد سعيد أحمد(884/17)
الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية
الأستاذ مصطفى عبد الله بعيو
احتلت القضية اللوبية في الأعوام الأخيرة مكانة دولية هامة استرعت أنظار العالم مما ترتب عليه انصراف عدد كبير من المختصين إلى دراسة شئونها كل فيما يختص فيه؛ وخرجت إلينا المطبع الإفرنجية بأبحاث شتى بخصوصها كان أهمها بالنسبة لموضوع اليوم ما يتعلق بتاريخها وجغرافيتها. على أن أهم ما يلفت النظر في هذه المؤلفات العلمية الحديثة اتجاهها اتجاهاً خاصاً في دراسة البلاد. هذا الاتجاه قائم على الدراسة المؤدية لأقسام البلاد الثلاثة بحيث أن كل قسم منها قائم بذاته وله خصائصه التي ينفرد بها. وليس التخصص أو الخوف من تضخم الكتب هو الذي دفع معظمهم إلى هذا المنهج ولكن هي الروح الانفصالية والتمهيد لذلك عن طريق العلم حتى تنتشر الفكرة وتعم فتكون نواة صالحة لتسهيل تنفيذ الأغراض السياسية وهكذا وجدنا الحقائق تلوي لياً وتطمس طمساً في سبيل الوصول إلى هذه الغاية. وهكذا وجدنا رجال السياسة يتخذون من هذه الحقائق على حالتها هذه عماداً لتأييد نظريتهم الرامية لتقسيم البلاد حتى يفوز كل منهم بنصيبه من هذه الفريسة التي وضحت أهميتها للعيان بعد الحرب العالمية الأخيرة.
كانت أهم النقط التي استند عليها بعضهم في التفريق بين برقة وطرابلس مثلاً أن الأولى خضعت للإغريق بينما الثانية خضعت للفينيقين، فقرطاجنة وأن الأولى كانت تكون ولاية رومانية أحياناً مع مصر وأحياناً مع جزيرة كريت في الوقت الذي كانت فيه طرابلس تلحق بأفريقية؛ وأن عرب الأولى معظمهم من قبائل سليم ومعظم عرب الثانية من بني هلال؛ وأن سكان الأجزاء الشمالية من لوبيا يرجعون إلى جنس البحر الأبيض، أما سكان فزان فيرجعون إلى السلالة الأثيوبية. وهكذا من الأدلة التاريخية المبعثرة التي يمكن أن يأخذ بها الإنسان إذا قرأها قراءة سريعة دون فحص أو تحليل.
وعلى العموم أن مثل هذه الدلة وغيرها وإن صحت حقيقتها لا تصلح أن تكون مؤيداً لهذه النظرية الانفصالية، لأنها تمثل الحالات الشاذة التي مرت بها البلاد، والتي لا يخلو منها تاريخ أي بلد. وماذا يكون الأمر إذا ثبت عكسها وأتت الأدلة بنقيضها؟
فنحن إذا نظرنا إلى خريطة لوبيا الطبيعية لا نجد من المظاهر الطبيعية كالبحار والأنهار(884/18)
والجبال ما يصلح لأن يكون حداً طبيعياً بين هذه الأجزاء الثلاثة هذا الاتصال الطبيعي هو الذي جعل بعد الجزائريين القدامى يختلفون في تحديد كل إقليم ويخلطون بينه وبين الآخر؛ فهذا المؤرخ عندما يؤرخ للنزاع بين قورينا وقرطاجة يقول: (كان هناك سهل رملي على الحدود فيما بين البلدين ذو سطح متشابه خال من المعالم. ليس به جبل أو نهر حق يمكن بواسطته تحديد حدود هاتين المملكتين. . . وهذا ياقوت الحموي في معجم البلدان عندما يتكلم عن طرابلس يقول بأنها مدينة في آخر أرض برقة وأول أرض أفريقية وهكذا يجعل برقة تمتد غرباً حتى مدينة طرابلس، ويذهب بالوحدة بينهما إلى حد بعيد، حتى أنه أطلق برقة على معظم إقليم طرابلس. وهذا ابن وستة في كتابه الأعلاق النفيسة عند كلامه عن سرت يعتبر توزعه حد برقة الغربي. وهذا أبو الفدا في كتابه تقويم البلدان يتخذ من قصر أحمد ميناء مدينة مسراتة حداً غربياً لبرقة. وهذا ليون الأفريقي يصف المنطقة الممتدة من مسراتة إلى الإسكندرية تحت عنوان برقة، فكأنه يجعل من مسراته حداً غربياً لها. الرحالة المستر بتش وأخوه اللذان قاما برحلة علمية جغرافية من طرابلس إلى درنة في أيام يوسف باشا القرهمانلي يشاركان الرحالة ليون الأفريقي في هذا التحديد.
اختلفت هؤلاء المؤرخون والرحالة في تعيين الحدود بين هذين الإقليمين، ولهم الحق في هذا الاختلاف لأن الطبيعة وحدت بينهما وجعلت من الصعب الجزم بأي حد بينهما. وساعد على الربط خليج سرت الكبير بشكله المعروف. فنحن إذا نظرنا إلى خريطة لوبيا لاحظنا خلوها من الخلجان الفرعية والثنيات التي تصلح أن تكون أساساً لاتخاذها نقطة للفصل بين ساحلي الإقليمين، بل أن خليج سرت بشكله المقوس المستقيم يربط بين مسراته وبنفازي بنهايتيه.
ومن المسلم به بين علماء الأجناس أن الأساس الجنسي لكل من برقة وطرابلس يقوم على سلالة البحر الأبيض المتوسط. وكان من المعتقد قديماً أن قبائل الجرامنت صاحبة الحضارة الراقية والتي كانت تسكن في فزان في العصور القديمة ترجع في أصولها للسلالة الأثيوبية؛ ولكن النتائج الأخيرة التي وصلت إليها إحدى البعثات الإيطالية لدراسة الناحية الجيولوجية والبشرية لمنطقة فزان أثبتت عدم صحة هذا الرأي بعد زيارة وادي الاجال بقران وفحص مقابره العديدة، أرجعت أصولها الجنسية إلى سلالة البحر الأبيض مستدلة(884/19)
على ذلك بالحضارة الراقية التي كانت عليها القبائل الجرمنتية والتي لا بد أنها قد وصلت مع أهلها من الشمال. وهكذا كانت هذه الوحدة الجنسية في أساسها صالحة فيما بعد لأن تكون منسجمة أمام ما جد من تطور في الجغرافية البشرية لهذه البلاد وعدم اختلال التوازن الجنسي بين سكان هذه الأقاليم لما جد من فتح وغزوات كان لها أثرها الطبيعي في تكون الشعب اللوبي بصفة عامة.
يرى الذين يؤيدون فصل لوبيا الغربية عن لوبيا الشرقية أن هذا الفصل شيء طبيعي كانت له سابقة في التاريخ القديم تصلح أن تكون أساساً لهذه النظرية؛ فبينما خضعت برقة للإغريق انفرد الفينيقيون فالفرطاجنيون بطرابلس. وهذا التأييد التاريخي لحركة الانفصال صحيح إذا أخذنا به على علاته دون بحث أو تحقيق. ولكن إذا حللنا الأسباب التي دعت هذا إلى الفصل تبين لنا عدم صحة هذا الأساس الذي بنى عليه هذا التقسيم. فمن المعلوم أن الفينيقيين قد اضطروا لهجر الجزء الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط أمام نشاط الإغريق وتحفزهم ولجئوا إلى الحوض الغربي وكان من حظهم أن أتوا إلى طرابلس. ولا شك أنهم فكروا في الساحل البرقي قبل أن يصلوا إلى الساحل الطرابلسي بحكم قربه إلى موطنهم الأصلي؛ ولكنهم رأوا في النزوح إلى الساحل البرقي ما يعرضهم لخطر الإغريق بشكل أفظع نظراً لواجهة برقة لبلاد اليونان مباشرة وهو الذين تركوا لهم شرق البحر الأبيض حتى لا يواجهوا الإغريق؛ ولهذا اضطروا إلى التخلي عن برقة والاكتفاء بساحل طرابلس. وليس معنى هذا التخلي التسليم بالتقسيم، ولكن الظروف هي التي أجبرت الفينيقيين على أنه إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للفينيقيين فإن الإغريق بعد أن استوطنوا برقة حاولوا ضم طرابلس إلى برقة والتوحيد بينهما. فالتاريخ يحدثنا أن دوريوس الإسبرطي قد نزل بفريق من أتباعه عند مصب وادي كعام إلى الغرب من بلدة ظلي تن، وهناك أسس مستعمرة إغريقية عرفت بأسم قدر لها أن تعيش فترة من الزمن كانت كافية لأن تكون نواة لزحف الإغريق إلى طرابلس والتوحيد بينها وبين برقة. ولكن قرطاجة وهي التي هجر مؤسسوها شرق البحر الأبيض أمام الخطر الإغريقي لم تقف ساكنة أمام هذا الخطر الزاحف بل عملت على طرد الإغريق من هذا الجزء والقضاء على مستعمرتهم الناشئة.(884/20)
هذه ولا شك محاولة إيجابية قام بها الإغريق للتوحيد بين الإقليمين وإن كان النجاح لم يكن حليفاً لها، فعلى العموم تصلح أن تكون نواة لحركة أخرى أقوى وأكثر وضوحاً فيما بعد. يتبين لنا ذلك عندما نرى البطالسة ملوك مصر وقد بسطوا سيادتهم على برقة أخذوا يزحزحون حدودها إلى الغرب حتى أوصلوها إلى سرت، ثم يقوم حاكم قروبنا المسمى إفلاس بحركة جريئة كان الغرض منها ضم طرابلس إلى برقة عندما تعهد بمساعدة اجاثوكليس الإغريقي طاغية سيراكوز بصقلية في حربه مع قرطاجة على أن تطلق يده في لوبيا الغربية في حالة النجاح. وبدأ إفلاس فعلاً في تنفيذ خطته وسار بجيشه عبر الساحل الطرابلسي إلى تونس وإن كانت هذه المحاولة الجريئة التي قام بها إغريق برقة لضم طرابلس لم تنجح هذه المرة كذلك؛ فإن ذلك لا ينفي هذه المحاولة الرامية لتوحيد الإقليمين بإخضاعها لسلطة واحدة، إذ أن عدم التمسك بتحقيق شروط هذه الاتفاقية وروح الخيانة بين الحليفين هي التي وقفت دون تحقيقها.
وبعد أن فشلت محاولات التوحيد التي قام بها الإغريق واستقر كل فريق في الجزء الخاص به رأينا المنازعات والمشاكل تقوم بين البلدين على الحدود لعدم وضوحها ووجود ما يصلح أن يكون حداً فاصلاً بين الإقليمين. وسرعان ما اتخذت هذه المنازعات شكل الحروب المنظمة. فالتاريخ يحدثنا أن الحرب قامت بين قروبنا وقرطاجة من أجل هذه الحدود عندما كانت قروبنا تتزعم المدن الخمس بإقليم برقة، وعندما كانت قرطاجة تبسط سيادتها على طرابلس. وهكذا كان في شطر هذه البلاد في ذلك الوقت مدعاة للحرب والمنازعات. ويحدثنا أيضاً كيف انتهت هذه الحرب بين الطرفين وبقصة التحكيم وتضحية الأخوين فلياني من أهالي قرطاجة وإقامة مشهد تذكاري لهما في المكان المعروف الآن (بالقوس) ولا شك أن الرضى بهذا الحد الصناعي لم يكن كذلك إلا خوفاً من تجديد الحرب بينهما وإفناء قوتهما وتعريضهما للفناء أمام خصم جديد أخذ يظهر للوجود متمثلاً في روما وقوتها، وإلا ما كانت هذه الحدود الصناعية تصلح أن تكون حدوداً وافية بالغرض الذي أقيمت من اجله ولا أدل على ذلك من نشاط تجارة التهريب بين الإقليمين عندما فصلاً عن بعضهما بعد هذه الاتفاقية وكيف قامت مدينة (كاراكس) المعروفة الآن (بسلطان) كنتيجة لهذه التجارة وكيف نشطت هذه الحركة خصوصاً فيما يختص بتجارة نبات السلفيوم الذي كانت تنتجه برقة(884/21)
وعصير العنب الذي كانت تنتجه طرابلس. ولا شك أن في إقامة مثل هذه الحدود الصناعية إعادة لحركة التهريب هذه على أشد ما يكون. ولنا فيما نراه في الأعوام الأخيرة ما يثبت ذلك، فكيف يكون الحال إذا أقيمت حدود معينة يصعب تخطيها إلا بأذن خاص. لا شك أن الحياة الاقتصادية ستصاب في نشاطها كما أصيبت في السابق ولكن وجه الخطورة أشد في العصر الحديث.
وما لنا نذهب بعيداً، فلنترك العهد الإغريقي الفينيقي جانباً لنرى البلاد وقد جاءها العرب فاتحين مبشرين بالدين الإسلامي سنة 22هـ. جاءت الجيوش العربية ففتحت برقة وتقدمت منها إلى طرابلس فاستولت عليها وفي أثناء ذلك كان بعض الجند يتوغلون جنوباً إلى زويلة وفزان ولم تذكر لنا المصادر التاريخية أن عمرو بن العاص قد أستأذن الخليفة في فتح طرابلس وفزان بعد استيلائه على برقة، ولكنها تذكر لنا وتؤكد أن عمرو بن العاص أراد أن يتابع فتوحاته غرباً بعد طرابلس بالاستيلاء على افريقة لولا معارضة الخليفة لذلك على أثر ما دار بينهما من مكاتبة في هذا الخصوص. ومعنى هذا أن عمرو بن العاص في فتحه لطرابلس وفزان بعد الاستيلاء على برقة لم يفعل أكثر من إتمام فتح هذه البلاد التي بدت له وحدتها منذ ذلك التاريخ، حتى إذا ما أتم فتحها وأراد الانتقال لغيرها شعر بضرورة الاستئذان قبل الإقدام على هذا العمل. وهكذا كان هذا التوحيد في الفتح نتيجة لوحدة البلاد الطبيعية التي أدركها القائد العربي منذ ذلك التاريخ مقدمة لأحداث أخرى متتابعة ربطت بين الأقاليم الثلاثة وجعلتها أقرب ما تكون لبعضها من البلاد المجاورة.
للكلام صلة
مصطفى عبد الله بعبو
خريج جامعة فاروق ومعهد التربية العالي
عضو الجمعية التاريخية لخريجي كلية الآداب
مدير مدرسة النهضة الثانوية بالزاوية بطرابلس الغرب(884/22)
أسامة بن منقذ وشعره
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
في يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 488هـ (يولية سنة 1095م) ولد أسامة بن منقذ في أسرة توارثت إمارة (شيزر) وهي مدينة في الشمال الغربي لحماة، تبعد عنها خمسة عشر ميلاً، وتقع على هضبته يحيط بها نهر العاصي من جهات ثلاث، وتنهض فيها قلعة شامخة حصينة، وكان لهذه القلعة قيمتها في عصر الحروب الصليبية، لمركزها الحربي الحصين، ومكانها بين الولايات السورية، فكانت مطمع الطامعين من أمراء المسلمين والصليبيين.
ولد أسامة لأب صالح يقضي وقته بين تلاوة القرآن، والصيد في النهار، ونسخ كتاب الله في الليل، ووالدة شهرت بالشجاعة، والنخوة، والأقدام، وقد تركه والده منذ صغره يقتحم الأخطار، ويركب الصعب من الأمور، فلا ينهاه عن أن يمضي إلى حية يحز رأسها، ويلقي بها في الدار ميتة، وهو ثابت رابط الجأش، ولا يحول بينه وبين مصارعة الأسود بشيزر، وقتل ما يصرعه منها، وهكذا شب جريئاً لا يهاب. ومما ساعده على ذلك أنه كان يشترك مع أبيه في رياضته المفضلة عنده وهي الصيد.
إلى جانب هذه النشأة التي تعد للحرب والنضال، تلقى أسامة الثقافة التي كان يتلقاها الأمراء في ذلك العصر، فدرس الحديث والأدب، والفقه، والنحو، واللغة، وحفظ الكثير من الشعر، وأخذ من ذلك بنصيب واف، يشهد له به كتبه، وما ضمنت من أحاديث كثيرة، متنوعة الأغراض، ومن مأثور كلام البلغاء من المتقدمين، وما استشهد به من شعر ومنثور، وما أورده في شعره من ألفاظ لغوية استعملت في معانيها الدقيقة مما لم يكن يجري إلا على أقلام كبار البلغاء، أخذ ذلك عن كبار الأساتذة، كما كانت البيئة التي عاش فيها بيئة أدبية ممتازة، فقد كان الأمراء من بني منقذ ممن يقصدهم الشعراء والأدباء، كما أنهم كانوا علماء شعراء، ويحتفظ الأدب بكثير من أشعار أبيه وأعمامه وأجداده.
كان أسامة أثيراً لدى عمه أبي العساكر سلطان حاكم (شيزر) ولما لم يكن له عقب اتخذ أسامة ابناً له، وكان يرى فيه الأمير المستقبل لشيزر، ووارث الملك من بعده، فكان يكلفه(884/24)
من الأمور ما يتطلب شجاعة وجرأة. واشترك أسامة في المعارك التي دارت بين أسرته وبين الصليبيين دفاعاً عن مدينتهم شيزر. وعاش أسامة في تلك المدينة بين حب والده وعطف عمه، غير أن هذا لم يلبث بعد أن رزق أولاداً في آخر أمره، أن دب الوهن والفتور إلى العلاقة التي تربطه بأسامة، وبدلاً من حبه وعطفه عليه، بدأ الحسد والحقد يأخذان مكانهما من قلبه، خوفاً على أولاده من مكانة أسامة، وحذرا أن يئول الملك إليه دونهم، فمضى أسامة إلى الموصل لدى عماد الدين زنكي الذي صار أكبر أبطال الحروب الصليبية في وقته، وأول خطر حقيقي داهم للصليبيين، فأنتظم أسامة في جنده، وحارب تحت قيادته في عدة معارك، ولكنه لم ينس وطنه الأول شيزر، عندما هاجمه الإفرنج والروم، سنة 532هـ (1138م)، فقد مضى إليه، وأبلى بلاءً حسناً في الدفاع عنه. وربما كان قد عزم على البقاء في شيزر بين أهله الذين فقدوا والده سنة 531هـ، غير أن عمه أبا العساكر لم يرض عن مقام أسامة بشيزر، فقد أيقن أنه أصبح خطراً على ملكه، وأن ليس لأبنائه سلامة إذا ظل أسامة في شيزر، فأمره وأخوته بالرحيل، فتشتتوا في البلاد، وكان في ذلك الخير لهم، فأنهم نجوا من الزلازل التي هدمت شيزر، وقضت على بني منقذ بأسرهم وذهبت بملكهم سنة 552هـ.
مضى أسامة يوم أخرج من شيزر إلى دمشق، واتصل بحاكمها معين الدين أنر، واعتمد هذا الحاكم على أسامة في تصريف الشؤون السياسية، وقد نجح أسامة في ذلك نجاحاً رفع مكانته في دمشق، واستطاع في تلك الحقبة أن يتصل بالإفرنج عن قرب وأن يعرف الكثير من عاداتهم وأخلاقهم، ولكن المقام لم يصف لأسامة بدمشق. ويظهر من القصيدة التي أرسلها إلى معين الدين أنر يعاتبه فيها - أن السر في نبو المقام بأسامة يعود إلى وشايات حملها الساعون إلى معين الدين فصدقها، فأنحرف قلبه عنه، يدلنا على ذلك قول أسامة:
بلغ أميري معين الدين مالكة ... من نازح الدار، لكن وده أمم
هل في القضية يا من فضل دولته ... وعدل سيرته بين الورى علم
تضييع واجب حقي بعد ما شهرت ... به النصيحة والإخلاص والخدم
وما ظننتك تنسى حق معرفتي ... (إن المعارف في أهل النهى ذمم)
ولا اعتقدت الذي بيني وبينك من ... ود، وإن أجلب الأعداء ينصرم(884/25)
لكن ثقاتك مازالوا بغشهم ... حتى استوت عندك الأنوار والظلم
والله ما نصحوا لما استشرتهم ... وكلهم ذو هوى في الرأي متهم
كم حرفوا من مقال في سفارتهم ... وكم سعوا بفساد ضل سعيهم
ويبدو من تلك القصيدة، وما فيها من حياة وحرارة وقوة، أن أسامة كان يضمر في قلبه فيضاً من الحب لمعين الدين، وقد ختم قصيدته بعد عتاب طويل بقوله:
فاسلم، فما عشت لي فالدهر طوع يدي ... وكل ما نالني من بؤسه نعم
ترك أسامة دمشق، وسافر إلى القاهرة، فوصل إليها في جمادى الثانية سنة 539هـ (نوفمبر سنة 1144م) في عهد الخليفة الحافظ لدين الله، وكان معه والدته وزوجته وأخوه محمد نجم الدولة، فأكرمه الخليفة أيما إكرام، وأقطعه إقطاعاً عاش به في رغد من الحياة، وخفض عيش. ولم يشأ أسامة في أول الأمر أن يزج بنفسه في الأحداث السياسية المصرية، حتى إذا ولى الظافر ألقي بنفسه في خضم هذه الأحداث، حتى ليروي المؤرخون أنه اشترك في المؤامرات التي انتهت بقتل الوزير ابن السلار، والخليفة الظافر، ورأى أسامة أن يعود بعد هذه الخطوب والحوادث إلى دمشق، برغم أن الصلة كانت وثيقة بينه وبين الوزير المصري الجديد: طلائع بين رزيك.
عاد أسامة إلى دمشق سنة 549هـ (1154م) ومضت عشيرته لتلحق به، ولكن السفينة التي كانت تحملهم أصابها عطب عند عكا التي كانت في يد الصليبيين، فنهب الإفرنج ما معهم من المتاع، وساموهم سوء العذاب، حتى إذا وصلوا إلى دمشق، كانوا قد فقدوا كل ما حملوه معهم من مصر، وكان لذلك أكبر الأثر الأليم في نفس أسامة.
واتصل أسامة في دمشق بحاكمها نور الدين محمود، أكبر أبطال الحروب الصليبية في عصره، وكثيراً ما أرسل إليه الوزير المصري طلائع قصائد يحثه بها على أن يتوسط لدى نور الدين، حتى تجتمع كلمة سوريا ومصر على جهاد العدو المشترك، ولكن هذه القصائد لم تثمر ثمرتها. ويظهر أن كبر سن أسامة قد حال بينه وبين الاشتراك في الوقائع الحربية التي شنها نور الدين! وإن كان قد ساهم في بعضها، فقد حدثنا أبو شامة في كتابه الروضتين عما أبداه أسامة من ضروب البسالة في حصار قلعة حارم.
ويظهر أنه وجد بعد زهاء عشر سنين قضاها في دمشق، أنه في حاجة إلى الراحة والبعد(884/26)