غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، وانطلق يتأمم رسول الله (ص)، فتلقاه الناس فوجاً بعد فوج يهنئونه بالتوبة حتى دخل المسجد فسلم على رسول الله (ص) فرد عليه السلام وهو يبرق وجهه من السرور ويقول (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) فخر الرجل ساجداً شكراً لله، والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً.
كامل محبوب حبيب(861/39)
تهويمة صوفية
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
إلى الصوت الحنون المتواجد الذي ينبعث مع كل فجر هاتفاً:
(سبحان فالق الإصباح!) فيهز أعماقي ويغرق روحي في نشوة
سماوية.
أي لحن مسلسل رقراق ... راح ينساب في مدى الآفاق
أيقظ الكون حين منبثق الفجر ... على غمرة من الأشواق
وإذا الحب ملء هذا الوجود الرح ... ب يسري في روعة وانطلاق
وإذا الكائنات يغرقها الوجد ... الإلهي في سني الإشراق!.
السموات من حنين ووجد ... مخبتات خلف الغيوم الرقاق
والجبال الشماء تشخص نحو الله ... سكرى، في لهفة المشتاق
وندى الفجر في الرياض الحوالي ... أدمع الشوق رقرقت في المآفي
كل ما في الوجود من روعة اسم ... الله في نشوة وفي استغراق!
أي لحن مخلد سرمدي ... من لحون الآزال والآباد!.
أي لحن قد صير الكون ... أغرودة حب رخيمة الإنشاد
يا لهذا النشيد تنطلق الأر ... واح فيه من ربقة الأجساد
يا لهذا النشيد أوغل في ... أعماق ذاتي محطماً أصفادي
يا لقيدي الأرضي يسحقه الل ... حن ويذروه حفنة من رماد
وإذا الروح في تجرده يسمو ... مشعاً كالكوكب الوقاد
عانق اللحن مصعداً وتوارى ... يتخطى شواسع الأبعاد
غارقاً في صفائه، قد تغشت ... هـ غواشي غيبوبة وامتداد!
كلما رن في السكون صد ... ى تسبيحة الله رائع الترديد
وسرت في الأثير أنغامها ... الطهر وأوغلن في الفضاء البعيد
أهطعت أنفس وذابت قلوب ... يزدهيها الفناء في المعبود!(861/40)
وتسامى الشعور يلهب فيها ... خلجات الإيمان والتمجيد
يا لهذا الصفاء، يا لتجلي الله، ... يا روعة الجلال الفريد!
لكأني بالكون يهتف: يا رب! ... ويمضي مستغرقاً في الشرود
لكأني أحس وشك اتصالي ... لكأني أشم عطر الخلود!
أنا يا رب قطرة منك تاهت ... فوق أرض الشقاء والتنكيد
فمتى أهتدي إلى منبعي الأسم ... ى وأفنى في فيضه المنشود
ضاق روحي بالأرض، بالأسر، بالقيد ... فحرر روحي وفك قيودي
ضمني، ضمني إليك، فقد طا ... ل انفصالي وطال بي تشريدي
فدوى عبد الفتاح طوقان(861/41)
عمر بن شبة
للدكتور جواد علي
هذا مؤرخ من مدينة البصرة، صاحب مؤلفات عديدة، كانت مورداً لعدد غير قليل من مشاهير المؤرخين. رضي عنه أكثر رجال الحديث، فقالوا عنه أنه كان صدوقاً صادق اللهجة غير مدخول الرواية. ساهم في علم الحديث كما ساهم في علم الفقه. وأضاف إلى ذلك نظم الشعر، وهو أمر صعب اجتماعه مع العلم بالحديث والفقه. ولكنه لم يستعمل شعره في الأغراض التي كانت تحط من قدر العالم، كالابتذال، والمجون، فعد من طبقات الشعراء، ولم يثر شعره عليه الشكوك. ولم يخفض من منزلته ومكانته بين أصحاب الصرامة والجد من العلماء.
والصفة الغالبة على صاحبنا رواية الأخبار، لذلك تجد اسمه في اكثر كتب الأخبار القديمة والتاريخ. له فيها مقام وحظوة، هذا البلاذري يأخذ منه ويدون أقواله في مواضع متعددة من كتابه (أنساب الشراف) ويقول (حدثني عمر بن شبة) وقد كان معاصراً له وزميلاً. وهذا الطبري يأخذ منه وينقل من كتبه وقد كان في جملة الذين أخذوا إجازتهم منه. وقد ذكر اسمه في نحو من (200) موضع من كتابه تاريخ الرسل والملوك. وأشار إلى اسم كتاب من كتب (عمر) التي نقل منها وهو (كتاب البصرة) فقال (وحدثني عمر مرة أخرى في كتابه الذي سماه كتاب أهل البصرة فقال. . .) وقد نقل من كتبه الأخرى غير أنه لم يشر كعادته إليها، حيث يهمل أسماء الكتب مكتفياً بالسند.
كان (عمر بن شبة) مولى لبني نمير، ولد سنة 173 للهجرة. ونشأ في البصرة، وله في القبيلة التي انتمى إليها مؤلف قيل له (كتاب أخبار بني نمير) وله مؤلفات أخرى في الأخبار والتاريخ والأدب بلغت (22) مؤلفاً في وصف بعض المدن الإسلامية الكبيرة وفي مقدمتها البصرة، والكوفة، والمدينة، ومكة، ألف في كل واحدة من هذه المدن كتاباً وفي أمراءها كتاباً آخر ولم يسجل له ابن النديم كتاباً في تاريخ بغداد، عاصمة الخلافة ومقر الملك، والمشائخ والعلم، ولعله كان قد ألف فيها كتاباً لم تعه ذاكرة ابن النديم لأننا نجد له في الطبري أخباراً في تأسيس مدينة بغداد تدل على أنه كان قد خصص لها كتاباً ولم يسجل له ابن النديم اسم كتاب في تاريخ مدينة (سامراء) عاصمة الخلافة العباسية الأخرى،(861/42)
وقد عاش فشها، ونال جوائزها، والظاهر أنها كانت غاضبة عليه فلم تستطع ضبط نفسها، أو أنها أشفقت عليه، فقبضت على روحه، وهو فيها، وأدخلت جسمه في جوفها، سنة اثنتين وستين ومائتين، ولكن بعد عمر طويل مديد، بعد تسعين سنة من حياة شاقة متعبة. فأراحته من الحياة، ومن حر البصرة الذي يشوي ذلك الجسم الذابل، فيجعله يرقص رقصة (الرومبا). وأنعمت عليه بتربة جافة لطيفة يستقي فيها إلى يوم يبعثون.
ولعمر كتب في الشعر والشعراء، وفي الأغاني، وله كتاب في أخبار الخليفة المنصور وفي أخبار محمد وإبراهيم بن عبد الله بن حسن. وقد نقل منه الطبري في أخباره عن خلافة أبي جعفر وأعتمد عليه في أخبار خروج محمد بن عبد الله ومقتله، ومعاملة المنصور للطالبيين. وقد دون عمر صور بعض الوثائق وذكر بعض أساليب الخليفة في استدراج خصومه، فقال (كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قواده بدعوته إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول لو التقينا مال إلي القواد كلهم.)
وقد سجل عدداً من هذه الرسائل والكتب التي بعث بها المنصور. أخذها من مظانها، ومن الأشخاص الذين كانوا أصحاب علم بها. ومن السجلات الرسمية التي كانت في قصور الخلفاء، وعند أمناء القصور، ولذلك كان عمل عمر بن شبة من هذه الجهة عملاً رائعاً بالنسبة إلى طريقة الاستعانة بالنصوص والوثائق لتدوين التاريخ.
وفي جملة كتب عمر بن شبة التي ذكرها ابن النديم (كتاب أشعار الشراة) و (كتاب النسب) و (كتاب التاريخ) و (كتاب السلطان) و (كتاب مقتل عثمان) ونجد نتفاً من هذا الكتاب الأخير في ثنايا تأريخ الطبري، في حوادث مقتل الخليفة عثمان بن عفان. يظهر منها أن ابن شبة كان قد أخذ كتابه من كتاب آخر لمؤلف اقدم منه هو علي بن محمد المدائني المتوفى سنة 225 للهجرة. وهو من مشاهير المؤرخين وقد ألف كتباً كثيرة ذكر أكثرها ابن النديم. وذكر قسماً منها مؤرخون آخرون. استعان بها جماعة من علماء الأخبار والتاريخ. وقد كان للمدائني مؤلف في مقتل الخليفة عثمان ابن عفان قال له ابن النديم (كتاب مقتل عثمان بن عفان). يظهر من تأريخ الطبري أن ابن شبة رواه عنه وعن طريق ابن شبة نقل الطبري منه. وأن كتاب عمر إنما بني عليه.
ونجد في الصفحات التي دونها الطبري عن خروج علي بن أبيطالب إلى البصرة ومعركة(861/43)
الجمل أخباراً مصدرها عمر بن شبة، يظهر منها أن هذا المؤرخ كان قد ألف كتاباً في معركة الجمل، أو أنه روى للطبري كتاب شيخه المدائني وهو كتابه الذي قيل له (كتاب الجمل). ويظهر أيضاً أن عمر بن شبة قد استفاد من كتب المدائني في تأليف كتبه. وأنه كان لتوجيهه أثر كبير في طريقة عمر في التاريخ.
وكان في جملة مشايخ عمر جماعة من جهابذة الأدباء، مثل عبد الملك بن قريب الأصمعي المتوفى بين سنتي 215و217 للهجرة. من كبار علماء البصرة ومن المقربين للخلفاء، وصاحب علم غزير في اللغة والأدب والنحو والأخبار. ومثل محمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 231 أو 232 للهجرة. كما أخذ من جماعة من كبار رجال الحديث. وقد روي عنه عدد من مشاهير رجال الأدب والأخبار مثل أحمد بن يحيى ثعلب العالم النحوي الشهير. وأحمد بن يحيى البلاذري، والطبري، وغيرهم فضلاً عن عدد آخر نقل من كتب هذا المؤرخ الذي يمثل طريقة أهل البصرة في رواية الأخبار. أما أحمد بن عمر بن شبة أبوطاهر فقد كان شاعراً ظريفاً مجيداً راوية ولكنه لم يكن مؤلفاً ومؤرخاً على شاكلة أبيه. لقد ورث كتب أبيه، ولكنه باعها إلى علي بن يحيى أبي الحسن، وقد ضاعت مع الأسف ولم يبق منها غير القليل.
الدكتور جواد علي(861/44)
أبو بكر الرازي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
(لقد خصصت جامعة برنسيون في أمريكا أفخم ناحية في
أجمل أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين - الرازي
-)
الرازي حجة الطب في أوربا حتى القرن السابع عشر للميلاد. ويعده معاصروه طبيب المسلمين غير مدافع. ظهر في منتصف القرن التاسع للميلاد وأشتهر في الطب والكيمياء والجمع بينهما. وهو بنظر المؤرخين من أعظم أطباء القرون الوسطى كما يعتبره غير واحد أنه أبوالطب العربي. قال عنه صاحب الفهرست، (. . . كان الرازي أوحد دهره وفريد عصره، قد جمع المعرفة بعلوم القدماء، سيما الطب. . .) وسماه ابنأبيأصيبعة بجالينوس العرب.
ولقد عرف الخليفة العباسي عضد الدولة مقامه، ورأى أنه يستغل مواهبه ونبوغه، فاستشاره عند بناء البيمارستان العضدي في بغداد في الموضع الذي يجب أن يبنى فيه، وقد سار الرازي في تعيين المكان على طريقة مبتكرة يتحدث بها الأطباء هي محل إعجابهم وتقديرهم. وضع الرازي قطعاً من اللحم في أنحاء مختلفة من بغداد ولاحظ سرعة سير التعفن، وبذلك تحقق من المكان الصحي المناسب لبناء المستشفى، وأراد عضد الدولة أن يكون في هذا المستشفى جماعة من أفاضل الأطباء وأعيانهم فأمر أن يحضروا قائمة بأسماء الأطباء المشهورين فكانوا يزيدون على المائة فاختار منهم خمسين بحسب ما وصل إلى علمه من مهارتهم وبراعتهم في صناعة الطب، فكان الرازي منهم؛ ثم اقتصر من هؤلاء على عشرة فكان الرازي منهم، ثم اختار من العشرة ثلاثة فكان أحدهم، ثم أنه ميز فيما بينهم فبان له أن الرازي أفضلهم فجعله مديراً للبيمارستان العضدي.
وكذلك اعترف بفضله الغربيون وعلماء أمريكا وجامعاتها. ومما يدل على تقديرهم للطب العربي ورجاله اهتمام جامعة برنستون بالحضارة الإسلامية؛ فقد خصصت أفخم ناحية في أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين - الرازي - كما أنشأت داراً لتدريس العلوم(861/45)
العربية والبحث عن المخطوطات وإخراجها ونقلها إلى الإنكليزية ليتمكن العالم من الوقوف على آثار التراث الإسلامي في تقدم الطب وازدهار العمران.
كان الرازي منتجاً إلى أبعد حدود الإنتاج، فقد وضع من المؤلفات ما يزيد على المائتين والعشرين ضاع معضمها أثناء الانقلابات السياسية في الدول العربية ولم يبق منها إلا القليل في بعض مكتبات أوربا.
ألَّف الرازي كتباً قيمة جداً في الطب، وقد أحدث بعضها أثراً كبيراً في تقدمه وفي طرق المداواة. وقد امتازت بما تجمعه من علوم اليونان والهنود إلى آرائه وبحوثه المبتكرة وملاحظات تدل على النضج والنبوغ كما تمتاز بالأمانة العلمية، إذ نسب كل شيء نقله إلى قائله وأرجعه إلى مصدره. لقد سلك الرازي (كما يتجلى من كتبه) في تجاربه مسلكاً علمياً خالصاً، وهذا ما جعل لبحوثه في الكيمياء قيمة دفعت بعض الباحثين إلى القول: (إن الرازي مؤسس الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب معاً).
وضع الرازي كتاباً نفيساً هو كتاب (سر الأسرار) ضمنه المنهاج الذي يسير عليه في إجراء تجاربه، فكان يبدأ بوصف المواد التي يشتغل بها ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعملها. وبعد ذلك يصف الطريقة التي يتبعها في تحضير المركبات. وصف الرازي في كتابه هذا وغيره ما يزيد على عشرين جهازاً - منها المعدني - وصفاً حالفه فيه التوفيق على غرار ما نراه الآن في الكتب الحديثة التي تتعلق بالمختبرات والتجارب. وفوق ذلك كان يشرح كيفية تركيب الأجهزة المعقدة ويدعم شروحه بالتعليمات التفصيلية الواضحة. ولسنا بحاجة إلى القول أن هذا التنظيم الذي يتبعه الرازي هو تنظيم يقوم على أساس علمي يقرب من التنظيم الذي يسير عليه علماء هذا العصر في المختبرات. والرازي من أوائل الذين طبقوا معلوماتهم في الكيمياء على الطب، ومن الذين ينسبون الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض.
ويتجلى فضل الرازي على الكيمياء بصورة واضحة في تقسيمه المواد الكيميائية المعروفة في زمنه إلى أربعة أقسام أساسية وهي: المواد المعدنية، والمواد النباتية، والمواد الحيوانية، والمواد المشتقة. ثم قسم المعدنيات لكثرتها واختلاف خواصها إلى ست طوائف. ولا يخفى ما في هذا التقسيم من بحث وتجربة وهو يدل على (المام تام بخواص هذه المواد(861/46)
وتفاعلاتها بعضها مع بعض. . .) واستحضر الرازي بعض الحوامض ولا تزال الطرق التي اتبعها في ذلك متبعة إلى الآن. واستخرج الكحول باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة. واشتغل الرازي في حساب الكثافات النوعية للسوائل (واستعمل كذلك ميزاناً خاصاً سماه الميزان الطبيعي).
وجاء الرازي بفكرة جديدة تعارض الفلسفة القديمة الموروثة وهي (أن الجسم يحوي في ذاته مبدأ الحركة) وهي تشبه ما ذهب إليه (ليبنتز) في القرن السابع عشر. ويعلق (دي بور) على هذا فيقول: (. . . ولو أن رأي الرازي هذا وجد من يؤمن به ويتم بناءه لكان نظرية مثمرة في العلم الطبيعي. . .).
والرازي يعظم صناعة الطب وما يتصل بها من دراسات. ولعل هذا من عوامل اهتمامه بالكيمياء. وهو ما يمتاز على الأطباء الذين عاصروه والذين أتوا بعده في كونه لمس أثر النواحي النفسية في العلاج والتطبيب. فهو يرى (. . . أن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس) ذلك لأنللنفس الشأن الأول فيما بينها وبين البدن من صلة، فنجد أنه أوجب على طبيب الجسم أن يكون طبيباً للروح. فمن أقواله التي وردت في كتبه: (. . . على الطبيب ان يوهم مريضه بالصحة ويرجيه بها وإن لم يثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس. . .).
وللرازي مؤلفات قيمة في الطب، ولعل كتاب الحاوي من أعظمها وأجلها. وهو يتكون من قسمين: يبحث الأول في الأقرباذين، والثاني في ملاحظات سريرية تتعلق بدراسة سير المرض مع العلاج المستعمل وتطور حالة المريض ونتيجة العلاج وقد عدد (ماكس مايرهوف) للرازي 33 ملاحظة سريرية في أكثرها متاع وطرافة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية واعتمد عليه كبار علماء أوربا وأخذوا عنه الشيء الكثير وبقي مرجعهم في مدارسهم وجامعاتهم إلى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد. وله كتب أخرى جليلة دفعت بالطب خطوات إلى الأمام، منها كتاب المنصوري الذي يحوي على وصف دقيق لتشريح أعضاء الجسم كلها. وهو أول كتاب عربي وصل إلينا في هذا البحث. ترجم إلى اللاتينية وكانت له أهمية كبرى في أوربا وبقي معمولاً به عند الأطباء وفي الجامعات حتى القرن السابع عشر للميلاد. وله أيضاً كتاب في الأمراض التي تعتري جسم الإنسان وكيفية(861/47)
معالجتها بالأدوية المختلفة والأغذية المتنوعة وقد أجاد فيه إجادة أثارت دهشة أطباء الغرب. وبقي هذا الكتاب عدة قرون دستوراً يرجع إليه علماء أوربا في الموضوعات والبحوث الطبية. وله كتاب الأسرار في الكيمياء ترجمة (كريمونا) في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد، وكان الكتاب المعول عليه والمدرسي في أوربا مدة طويلة. وقد رجع إليه (باكون) واستشهد بمحتوياته.
وكذلك للرازي كتاب نفيس في الحصبة والجدري هو من روائع الطب الإسلامي عرض فيه للمرة الأولى تفاصيل هذه الأمراض وأعراضها والتفرقة بينها. وقد أدخل فيه ملاحظات وآراء لم يسبق إليها، ترجمه الأوربيون إلى اللاتينية وغيرها من اللغات. وله كتب عديدة وردت في كتاب طبقات الأطباء لا يتسع المجال لذكرها. ولكن من الطريف أن نذكر أن أحدها كتاب موضوعه (كتاب من لا يحضره الطبيب) ويعرف بطب الفقراء وقد شرح فيه كيفية معالجة المرض في غياب الطبيب والأدوية الموجودة في كل مكان.
وأعترف الغربيون بمآثره وابتكاراته في أمراض النساء والولادة والمسائل الرمدية. وكذلك له جهود في الأمراض التناسلية وجراحة العيون. وفوق ذلك قال بالعدوى الوراثية.
وأختم الكلام عن الرازي بالقول الشائع المعروف:
(كان الطب معدوماً فأحياه جالينوس، وكان الطب متفرقاً فجمعه الرازي) والرازي في الواقع لم يقف عند الجمع بل أضاف إضافات مهمة دفعت بالبحوث الطبية والكيماوية خطوات إلى الأمام.
قدري حافظ طوقان(861/48)
نور وصحراء
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سارٍ على البْيدِ، هزَّ الكون مَسراهُ ... صلى عليه، وحَيَّا نورَه الله
الله أكبر! لا خطوٌ ولا قدَّمٌ ... لكن شعاعٌ بقُدس الوحي تيَّاهُ
شَقْ الصحارى فحَّيتْه سباسِبُها ... وأوشكتْ برياض الخُلْد تلْقاهُ
ترعْرَعَتْ قَفْرةً، واخضوْضَرتْ جبلاً ... وبثَّ فيها ضحى الدنيا مُحيَّاهُ
وزَمزَمتْ. . فهي تَرتيلٌ، ومسْبَحَةُ ... ودعوةٌ بأمانِ الله تَرعاهُ
لم يبق في صدرها حادٍ ولا نغَمٌ ... إلا بما يسْحَرَ الأيامَ غَنَّاهُ
ما لِلْخيام اسْتَطَارَتْ في مَرابِعِها ... مَحْرُورةً مِنْ عذاب الشوق تهْواهُ
ومالها رَفْرفتْ والريحُ تجْذِبُها ... طيراً إلى الفجرِ يَهديه جَناحاهُ؟
وما لكلِّ ثرىً نَسَّتْه عُزلتَه ... ملاعبُ الجِنِّ، لم تهدأ ثناياهُ؟
همسٌ عَلَى الذَّرة الصغرى، وهيْنَمَةٌ ... على سفوح الذرىَ، والكلُّ أشباهُ
تنَبَّهت غفلةٌ، واستيقظتْ سنةٌ ... وهبَّ نعسانُ ليلُ الدَّهر غشَّاهُ
وفي ضمير الفلاَ ما شئتَ من لهفٍ ... تكادُ تمتدُّ للأنوار كفاهُ
تبارك الله! كل الأرض ناضرةٌ ... وكلها مُهَجٌ تهفو لِمرآهُ
تَلفَّت الغيبُ، والتفَّت عنايتُه ... بمن تحمَّل سر الغيب جَنباهُ
مُحمدٌ، وصلاة الله يا لَفمٍ ... صلىَّ! =وقلب على التوحيد ناجاهُ!
حقيقتان هما حقٌ ولو قدَرَتْ ... نفسي لما شربتُ في الحبِّ إلاَّهُ
هاجت على وحيهِ العُلويَّ شِرْذِمةٌ ... مُحيرونَ على أصنامهم تاهوا
مِنْ كلِّ عاتِ من الأعرابِ، صَوْلَتُهُ ... يَدرِي تَعَفُّرَها بالترْبِ (عُزَّاهُ)
راموا خُطاهُ. . . فكان الغارُ، وارتَجَزَتْ ... حمامتاهُ، وراغَ البِيدَ مأواهُ
وشدَّ أنوَالَهُ شيخٌ له نَسَبٌ ... بالوَهمِ. . . آخرُ ما يبنيه ينساهُ
بَنى مِن الضعفِ حِصناً لو تساقُ له ... شمُّ المقادير، لاندكَّتْ لِرؤْياهُ
العنكبوتُ! وما أدراكَ ما صَنَعتْ ... يداه. . بأساً شعوبُ الأرض تُخْشاهُ
ألْقَى بفارسِهِمْ والخيلُ تعشَقُهُ ... في موْكب صهواتُ الخيل تأباهُ(861/49)
غاصتْ قوائمها في الرمل من خَجَلٍ ... ولعنةٍ أوشكت للرمل تَنعاهُ
يا فارسَ الشرك! لا فاتتكَ خيبَتهُ ... بَشَّرْ سِلاحَك أنَّ اللهَ أرْداهُ
وقُل لِقومِكَ، لا سرَّا ولا علناً ... تألَّق النورُ، حتّى عزَّ مَرْقاهُ!
سَرى (مُحَمَّدُ) تطوي الشمسَ رايَتُهُ ... في عَسكرٍ قبلَ هذا ما سَمِعناهُ. .
يَمشي وصاحِبُهُ (الصِّدِّيقُ) وحدهُما ... في مَهْمَةٍ يقرعُ الأيامَ لُقْياهُ
عقيدةٌ جَنبَها الإيمانُ، يَمْلَؤُها ... صَفْواً، وتملأ بالبُشرى حناياهُ
ويَخطِفان الثَرى نَصراً إلى بَلَدٍ ... لا خيَّبَ اللهُ مَنْ يَسْعَى لمَغْناهُ!
يَمشي، فتحسَبُه الأقدارَ جاريةً ... لها من الغيب ما للغَيْب ترْضاهُ
مُبَشَّرٌ بضُحى للْكَوْنِ، يُنقِذُهُ ... من ظلْمةٍ لَيْلُها لَجَّتْ خطاياهُ
ظلمٌ، وشِركٌ، وقومٌ عاكِفون على ... ربٍّ، من الصخرِ مِسكين عَرَفْناهُ
. . صخرٌ ذليلٌ يعافُ الوحْشُ جِيرَتَهُ ... ودُودَةُ الأرض لا ترضَى بمثْواهُ!
أتى إليهم بِبَحرٍ لا ضفافَ لهُ ... مِن الضَّياءِ، يَرُوعُ الشمسَ ضَحْواهُ
سِرٌّ من اللهِ ذابَ العقلُ، وانكفَاَت ... أطوارُهُ الشُّمُّ في أغوار مَعْناهُ
وحي من الله، فرقانٌ، هُدى زَمَنٍ ... سيفٌ يَفُلُّ حديد الدهر حدّاهُ
ربَّاه مهما رجتْ أيامُنا فلها ... في كلِّ حرفٍ به نور نُلَقَّاهُ
بحق من سار بالإعجاز يُبلِغُهُ ... للخافِقَينِ، ومنْ للحقِّ أنشأهُ
بحقِّ هذا الذي غَنَّتْ بهجرَتِهِ ... كلُّ العوالِمِ أرواحٌ وأفواهُ،
تُعطي سرائرنا لمحاً ننم به ... إنَّ الطريقَ زحامُ الشرِّ لوَّاهُ!
وتنفخُ النيلَ هدياً في مسالِكِه ... فإنما في مدار الشمس نجواهُ
وتهلك الحفنةُ الفوضى مطامعها ... فإنهم كخشاش الأرض تأباه
ليس الوجود لهم مأوى ولا سكنٌ ... ولن يكون لهم فوق الثرى جاهُ
عاثوا فعذَّبَهم جيشَ لمصر مَضَى ... يَسقيهِمُ الموتَ لا يُبقي أشِدَّاهُ
ما زالَ في البِيد مِنْ آثامِهمْ صَخبٌ ... واللاّجِئُونَ هُم في التِّيهِ شكواهُ
ربّاه فاجعلْ تُرابَ الشرقِ مَهلكَةً ... لِكلِّ باغٍ عَوت بالقيد كَفّاهُ
ربّاه واسكُب غنائي في جوانحه ... ناراً ونوراً أذانُ البعثِ ناداهُ(861/50)
ملَّت رباباتيَ التغريدَ في زمنٍ ... تَعْشَى على خطفة الإلهامَ عيناهُ
إلاّ (محمدٌ)!. . فالأوتارُ إن بليت=عادت به أُرْغُناً بالسحر غَنّاهُ!!
محمود حسين إسماعيل(861/51)
من رجال الحديث في عصر الحروب الصليبية
ابن عساكر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أبو القاسم علي ابن الحسن بن هبة الله، ولا أعلم كيف جاءته هذه الكنية، فإن مؤرخيه لا يعرفون أحداً من أجداده يسمى عساكر، ولكنه اشتهر بذلك في التاريخ.
ولد بدمشق في أوائل عصر الحروب الصليبية، أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، (سبتمبر سنة 1105)، وتلقى ثقافته الأولى في الفقه والحديث بدمشق، فأخذ فيها عن جماعة، منهم والده، وأخوه ضياء الدين، ثم رحل إلى العراق سنة عشرين وخمسمائة، وأقام بها خمس سنين، يتلقى العلم بالمدرسة النظامية، فأكمل دراسته في الفقه، وعلق مسائل الخلاف، كما درس النحو والعربية هناك، ولم يكتف في الحديث بما وصل إليه بل رحل في طلبه إلى أمهات مدن العراق، وخراسان، والجزيرة، والشام، والحجاز، فمضى في رحلته إلى الشرق، حتى وصل إلى مرو الشهجان، كما سمع بالكوفة ومكة، والمدينة، وأكثر من الأخذ عن العلماء حتى صارت عدة شيوخه ألفاً وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة، وكان موضع إعجاب أساتذته وتقديرهم. قال أحد أساتذته عنه: ما كنا نسمي الشيخ أبا القاسم ببغداد إلا شعلة من نار من توقده، وذكائه، وحسن إدراكه، وقال عنه البغداديون: قدم علينا من دمشق ثلاثة ما رأينا مثلهم: الشيخ يوسف الدمشقي، والصائن أبو الحسن هبة الله بن الحسن، وأخوه أبو القاسم، وكذلك قدره الخراسانيون.
وعاد ابن عساكر إلى الشام، وقد أصبح من كبار فقهاء الشافعية متفرداً في الحديث وعلومه، متقناً لما حفظه من الأحاديث متناً وسنداً، متثبئاً فيما يحفظ، ومحتاطاً فيما يأخذ، وكان هو وابن الوزير قد سمعا كتباً كثيرة في الحديث. حكى ولده الحافظ أبو محمد القاسم، قال: (كان أبي قد سمع كتباً كثيرة، لم يحصل منها نسخاً اعتماداً منه على نسخ رفيقه الحافظ أبى علي بن الوزير، فسمعه ليلة من الليالي، وهو يتحدث مع صاحب له في ضوء القمر في الجامع، فقال: رحلت، وما كأني رحلت، وحصلت وما كأني حصلت، كنت أحسب أن رفيقي ابن الوزير يقدم بالكتب التي سمعتها، مثل صحيح البخاري ومسلم، وكتب البيهقي وعوالي الأجزاء، فاتفقت سكناه بمرو، وإقامته بها، وكنت أمل وصول رفيق آخر يقال له(861/52)
يوسفالجبائي، ووصوله رفيقنا أبا الحسن المواوي، فإنه كان يقول لي: ربما رحلت إلى دمشق، وتوجهت منها إلى بلدي بالأندلس، وما أرى أحداً منهم جاء دمشق، فلابد من الرحلة ثانياً وتحصيل الكتب الكبار، والمهمات من الأجزاء العوالي) فلم يمض إلا أيام يسيرة، حتى جاء إنسان من أصحابه إليه ودق عليه الباب وقال هذا أبو الحسن المواوي قد جاء فنزل أبي إليه وتلقاه، وأنزله في منزله، وقدم علينا بأربعة أسفاط مملوءة من الكتب المسموعات ففرح أبي بذلك فرحاً شديداً وشكر الله سبحانه على ما يسره له من وصول مسموعاته إليه من غير تعب وكفاه مئونة السفر. وأقبل على تلك الكتب فنسخ واستنسخ حتى أتى على مقصوده منها. وكان كلما حصل على جزء منها، كأنه حصل على ملك الدنيا.
وقضى أبو القاسم بعد عودته إلى دمشق، زهاء أربعين عاماً في الجمع والتصنيف والمطالعة، والتسميع حتى في نزهه وخلواته، ويحاسب نفسه على كل ساعة تمضي، بدون عمل حتى جمع في الحديث ما لم يجمعه غيره قال شيخه الخطيب أبو الفضل الطوسي: (ما نعرف من يستحق لقب الحافظ اليوم سواه) فانتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة بعلوم الحديث والتفقه فيه، وحسن التصنيف والتجويد، قال الحافظ عبد القادر الترهاوي (ما رأيت أحفظ من ابن عساكر، رأيت السلفي، وأبا العلاء الهمداني وأبا موسى المديني: ما رأيت فيهم مثل ابن عساكر)، وقال الحافظ أبو العلاء الهمداني: (أنا أعلم أنه لا يساجل الحافظ أبا القاسم في شأنه أحد)؛ وقال المنذري: (سالت شيخنا الحافظ أبا الحسن بن الفضل، عن أربعة تعاصروا، أيهم أحفظ؟ قال من؟ قلت: الحافظ ابن ناصر، وابن عساكر؟ فقال ابن عساكر، قلت الحافظ أبو موسى المديني وابن عساكر؟ فقال: ابن عساكر، فقلت: الحافظ أبو طاهر السلفي، وابن عساكر؟ فقال السلفي شيخنا)، قال الذهبي: يعني أنه ما أحب أن يصرح بتفضيل ابن عساكر، تأدباً مع شيخه، ثم أبو موسى أحفظ من السلفي، مع أن السلفي من نجوم الحديث وعلمائه؛ وانتهى الأمر بأن قال بعض الحفاظ الإثبات: (ما أرى ابن عساكر رأى مثل نفسه).
وقد عرف له سلطاناً عصره مكانته؛ أما نور الدين فقد بنى له دار الحديث بدمشق، ووكل إليه أمرها، وكان ابن عساكر يسمع نور الدين في مجالسه حديث رسول الله، ويضمر له في قلبه الحب والإعجاب، قال عنه في مقدمة كتاب (تاريخ دمشق) (ورقي خبر جمعي له(861/53)
إلى حضرة الملك القمقام، الكامل العادل، الزاهد المجاهد، المرابط الهمام أبى القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر، ناصر الإمام، أدام الله ظل دولته على كافة الأنام، وأبقاه مسلماً من الأسواء، منصور الأعلام، منتقماً من عداة المسلمين الكفرة والطغام، معظماً لحملة الدين بإظهار الإكرام لهم والاحترام، منعماً عليهم بإدرار الإحسان إليهم والإنعام، عافياً عن ذنوب ذوي الإساءات والإجرام، بانياً للمساجد والمدارس والأسوار، ومكاتب الأيتام، راضياً بأخذ الحلال ورافضاً لاكتساب الحطام، آمراً بالمعروف زاجراً عن ارتكاب الحرام، ناصراً للملهوف وقاهراً للظالم العسوف الانتقام، قامعاً لأرباب البدع بالإبعاد لهم والإرغام، خالعاً لقلوب الكفرة بالجرأة عليهم والإقدام)
وأما صلاح الدين فكان يقدر ابن عساكر عظيم التقدير، وكان الحافظ يحضر مجالس السلطان، ثم انصرف عنها حيناً، لما كان يمتاز به صلاح الدين من ديمقراطية سوغت وجود اللغط في مجالسه. فلما تكرر من صلاح الدين الطلب له حضر، وعاتبه صلاح الدين فقال له الحافظ: (نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السوقة، لا يستمع فيه إلى قائل، ولا يرد جواب متكلم، وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين، فكنا كما قيل: كأنما على رؤوسنا الطير، تعلونا الهيبة والوقار، فإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع لنا. فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ، فلما مات حضر السلطان صلاح الدين الصلاة عليه ومشى في جنازته. وعاش ابن عساكر منصرفاً إلى فنه، لا يتطلع إلى أسباب الدنيا، معرضاً عن المناصب، بعد عرضها عليه ليس له منها سوى أستاذيته لدار الحديث، كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، موجهاً همه إلى إذاعة حديث رسول الله.
وكان يدين بمذهب الأشعري، وينافح عنه؛ وألف في ذلك كتاباً سماه: تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسنالأشعري، رد به على الحسن بن علي الأهوازي الدمشقي، المتوفى سنة 446، وكان يكره مذهب الأشعري ويضعفه.
ولم يزل ابن عساكر خادماً للسنة، قائماً بأنواع العبادة: من صلاة وصيام واعتكاف، وصدقة ونشر علم، وتشييع جنازة وصلة رحم، إلى أن مات ليلة الاثنين الحادي والعشرين من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وقد رثاه المعجبون به بقصائد عدة، وترك ابناً هو(861/54)
القاسم بهاء الدين من رجال الحديث وحفظته.
أما آثاره العلمية فعدد ضخم؛ يدلنا على ما امتاز به وقت هذا الرجل، من امتلاء بالتأليف والتصنيف؛ ورويت عنه مصنفاته وهو حي؛ وذاع بها اسمه وانتشر في أرجاء العالم الإسلامي. ويمكن تقسيمها ثلاثة أقسام بحسب، موضوعها فأغلبها مجموعات حديث ثم كتب في التاريخ. فكتاب في علم الكلام. وآخر في الأدب.
وتتألف كتبه في الحديث من مجموعات اختارها أو رواها: فله أحاديث رواها مثلاً عن جماعة من كفر سوسية، وأخرى عن جماعة من أهل حرستا. كما أنه وضع كتاباً جمع فيه بين سنن أبي داود، وجامع الترمذي والنسائي. ودعاه الإشراف على معرفة الأطراف. وكتاباً جمع فيه ما اتفق عليه شيوخ الأئمة الثقات.
وله كتب تتناول أحاديث ذات غرض واحد، مثل كتابه المستقصي في فضائل المسجد الأقصى. الذي اشتمل على ما جاء من الحديث في بيت المقدس. وكتابه فضل عاشوراء. وفضائل مقام إبراهيم، وتبيين الامتنان بالأمر بالاختتان.
أو ذات صفة خاصة كالأحاديث الخماسية الاسناد، أو السداسية أو السباعية. أو المسلسلات وقد جمعها في عشرة أجزاء.
وله أعمال في الحديث ضخمة. كما جمع عدة أنواع من الأربعينات، فاقتدى بالسلفي فيما جمعه من أربعين حديثاً سمعها في أربعين بلداً، نقلها عن أربعين شيخاً وزاد على ما أتى به من الغرابة بأن جعلها عن أربعين من الصحابة كما جمع أربعين حديثاً في الجهاد، دفعه إلى جمعها بلا ريب هذا الصراع العنيف بين المسلمين والصليبيين في عهده، وجمع أربعين حديثاً من الطوال، وأربعين في المساواة، وروى في أجزاء معينة الأحاديث التي رواها صحابي بعينه. وله كتاب كشف المغطى في فضل الموطأ.
أما كتبه التاريخية فأشهرها تاريخ مدينة دمشق، في ثمانين مجلداً، وهو من أعظم المفاخر في التاريخ، وضعه على نسق تاريخ بغداد لأبي بكر الخطيب، وأورد فيه تراجم الأعيان، والرواة، والمحدثين والحفاظ، وسائر أهل السياسة والعلم من صدر الإسلام إلى أيامه ممن سكن دمشق، أو نزلها، قال ابن عساكر في مقدمة كتابه: وهو كتاب يشتمل على ذكر من حلها من أماثل البرية، أو أجتاز بها أو بأعمالها من ذوي الفضل والمزية، من أساتها(861/55)
وهداتها، وخلفائها وولاتها، وفقهائها وقضاتها، وعلمائها ورواتها، وقرائها ونحاتها، وشعرائها ورواتها، من أمنائها وأبنائها، وضعفائها وتقاتها، وذكر مالهم من ثناء ومدح، وإثبات ما فيهم من هجاء وقدح، وإيراد ما ذكروه من تعديل وجرح، وحكاية ما نقل عنهم من جد ومزح، وبعض ما وقع إلى من رواياتهم، وتعريف ما عرفت من مواليدهم ووفاتهم، وبدأت بذكر من اسمه منهم أحمد، لأن الابتداء بمنوافق اسمه اسم المصطفى. ثم ذكرتهم بعد ذلك على ترتيب الحروف، مع اعتبار الحرف الثاني والثالث تسهيلاً للوقوف، وكذلك أيضاً اعتبرت الحروف في أسماء آبائهم وأجدادهم، ولم أرتبهم على طبقات أزمانهم، أو كثرة أعدادهم، وعلى قدر علومهم في الدرجات والرتب، ولا لشرفهم في الأفعال والنسب، وزدت فيه من عرف بكنيته، ولم اقف على حقيقة تسميته. . . واتبعتهم بذكر النسوة والإماء الشواعر، المشهورات، وقدمت قبل جميع ذلك جملة من الأخبار في شرف الشام وفضله. . .
وقد أدهش العلماء به لكبره واتساعه، وقال ابن خلكان قال له شيخنا الحافظ العلامة ذكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري، حافظ مصر، أدام الله به النفع، وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج له منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه، (ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال). ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها.
وعنى العلماء بهذا الكتاب، فمنهم من جعل له ذيولاً، أهمها ذيل القاسم ولد المصنف، وذيل عمر بن الحاجب، ومنهم من اختصره: كابن شامة، وابن منظور صاحب لسان العرب، وارجع إذا شئت، إلى كتاب كشف الظنون (ج1نهر294) لترى ما لهذا الكتاب من ذيول ومختصرات.
ولابن عساكر غيره، كتاب المعجم، وهو خلاصة لمشهوري الرجال، وبخاصة الشافعية، ولهذا الكتاب ذيل لمحمد ابن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 643، كما وضع معجماً في اثني عشر جزءاً ترجم فيه لأساتذته الذين سمع منهم أو أجازوا له، ومعجماً خاصاً لمن(861/56)
سمع منه من النساء، وألف معجماً للصحابة، وكتاباً لمن نزل المزة وحدث بها، وآخر فيمن وافقت كنيته كنية زوجته، وتحدث في معجم عن مناقب الشبان، وفي آخر عن أسماء القرى والأمصار التي سمع بها.
وأملى سبعة مجالس في فضائل الصديق رضي الله عنه، ثم أكملها بأربعة أخرى، ثم أملى في كل واحد من الخلفاء أحد عشر مجلساً.
ووضع ابن عساكر في علم الكلام كتاباً سماه: كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، وهو من الكتب المهمة في موضوعه، حتى قالوا: إن كل سني لا يكون عنده ذلك الكتاب، فليس من نفسه على بصيرة، وقد بينا سبب تأليفه.
أما كتابه في الأدب فيسمى بالأطراف الأدبية، وهو في أربعة مجلدات، ولعله، كما يدل عليه اسمه، مختارات جمعها، كما كان يصنع في كتب الحديث.
وكان ابن عساكر يقول في الشعر ما لا يبلغ درجة الجودة، فمما نسب إليه قوله:
أيا نفسُ؛ ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي، وماذا الغزل
تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل
فياليت شعري ممن أكون ... وما قدر الله لي في الأزل
ومن قوله يمجد الحديث، ويحث على أخذه شفاهاً لا نقلاً عن الكتب
ألا إن الحديث أجل علم ... وأشرفه الأحاديث العوالي
وأنفع كل نوع منه عندي ... وأحسنه الفوائد والأمالي
وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... يحققه كأفواه الرجال
فكن يا صاح ذا حرص عليه ... وخذه عن الرجال بلا ملال
ولا تأخذه من صحف فترمى ... من التصحيف بالداء العضال
وتجد نماذج كثيرة من شعره في كتاب جريدة القصر؛ وكتاب معجم الأدباء لياقوت.
وكان بينه وبين الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني رفيقه في الرحلة مودة؛ وقد روى عنه السمعاني كثيراً؛ كما روى ابن عساكر عن رفيقه؛ وكتب إليه أبو سعد كتاباً ضخماً سماه (فرط الغرام إلى ساكني الشام)؛ كما كتب هو إلى ابن السمعاني رسالة يعاتبه فيها(861/57)
على تباطئه في إنفاذ حاجة له:
ما كنت أحسب حاجتي ... مهما نأت داري مضاعة
أنسيت ثدي مودتي ... بيني وبينك وارتضاعه
ولقد عهدتك في الوفا ... ء أخا تميم لا قضاعه
وتتلمذ لابن عساكر جماعة كبيرة من الحفاظ كان بعضهم أسن منه. ومن أشهر تلاميذه أبو شامة المقدسي.
وقد تناول مؤرخو ابن عساكر سيرته مقرونة بأسمى آيات الإجلال والإكبار. فهذا السبكي يقول عنه في طبقاته: هو الشيخ الإمام ناصر السنة وخادمها، وقامع جند الشيطان بعساكر اجتهاده وهازمها. إمام أهل الحديث في زمانه. وختام الجهابذة الحفاظ ولا ينكر أحد منه مكين مكانه، محط رحال الطالبين، ومؤمل ذوي الهمم من الراغبين. الواحد الذي أجمعت الأمة عليه، والواصل إلى مالا تطمح الآمال إليه. والبحر الذي لا ساحل له، والحبر الذي حمل أعباء السنة كاهله. قطع الليل والنهار دائبين في دأبه. وجمع نفسه على أشتات العلوم، لا يتخذ غير العلم والعمل صاحبين وهما منتهى أربه. لا تغيب عنه شاردة، وضبطه استوت لديه الطريفة والتالدة، وإتقان ساوى به من سبقه إن لم يكن فاقه، وسعة علم أثرى بها وترك الناس كلهم بين يديه ذوي فاقة).
وقال فيه النووي: (هو حافظ الشام بل حافظ الدنيا. الإمام الثقة الثبت).
وقال ابن النجار: (هو إمام المحدثين في وقته، ومن انتهت إليه الرياسة وبه ختم هذا الشأن).
كان ابن عساكر هذا أنبه أبناء أسرته الذين عرف التاريخ منهم أخاه الفقيه المحدث هبة الله وولده القاسم وولد أخيه محمد وهما الحسن وكان محدثاً وعبد الرحمن وكان مدرساً فقيهاً محدثاً.
أحمد أحمد بدوي(861/58)
في رمال التيه
للأستاذ إبراهيم الوائلي
أيّ حُلم طاف بلامس على جفن الزمان
ورحيق عاطر النفحة من كرْم الجنان
خَضَّلَ الانسامَ واشتفَّ نداه المشرقان
غير أن الحُلمَ الزفاف ولىّ غير وان
والرحيق العذب قد جف على ثغر الأماني
أترى يرجع بعد اليوم طيف قد توارى؟
وملاك من بني الإنسان ما أعظم قَدرَهُ
مسح الأرض جناحاه وأصفاها بنَظْرَهْ
وسقاها من معين الكوثر السلسل خمره
فإذا الصخرةُ ماء وإذا الشوكة زهره
وإذا الصحراء ظلٌ وينابيعُ وخضرة
غير أن الزهر قد ألوى وماء النبع غارا
جاء والأمةُ في ليل من التيهِ معمّى
لا ترى نوراً ولا تبصر في الظلماء نجماً
تَجبلُ الطين وتبني منه معبوداً أصما
وتخال الرمل درّا وترى العوسج كرْما
فأشاع النور فيها وأحال الجهل علْما
ثم أغفى بعد ما أيقظ شعباً وأنارا
مشت النسمةُ بالأمس على الآفاق تمرحْ
وسرى النور كطيف ناعم المسرى مُجنَّحْ
فانتشى الأيك على الواحة والظلُّ ترنح
وأفاق الحجر الغافي ورملُ البيد سبح
ثم عادت فإذا الصحراء للذؤبان مسرح(861/59)
وإذا الواحة لا تندى ظلالاً وثمارا
مشرق التاريخ بوركت نبياً وإماما
وتقدّست كتاباً وجهاداً وسلاما
من تُرى صيّر دنياك ضباباً وقتاما؟
والينابيع سراباً والندى العذب جهاما
فإذا بالركب يطوي منك قفراً وظلاما
لا يرى في السفح ومضاً أو على القمة نارا
حُلُمٌ مرَّ وعادت خطرات الحُلْم ذكرى
نتملاّها خيالاً شاحب اللون وفكرا
هوَّم الشرق فكانت فترة التهويم شرّا
وأفاق الجيل حيث الوحش قد بيَّت غدرا
فمضى يخبط في التيه ولا يبصر فجرا
ووحوش الغاب تستشري لُهاثاً وسُعارا
رب رحماك فإن الجيل لا يدرك غايه
تائه ضل ولم تبد من الليل نهايه
يعبد الأوثان لكن في محاريب العماية
ونعوتاً حاكها الزيف على غير هدايه
وكساها كل نفاج من الناس نفاية
ثم حلاّه كما شاء رياحين وغارا!
رب رحماك لجيل في مطاوي البيد حائر
وملايين من الناس تردت في المخاطر
من سجون. وحديد، وسياط ومجازر
وعهود مظلمات عميت فيها المصائر
وهمود قد ألفناه كسكان المقابر
وأفانين من الذل تخذناها شعارا(861/60)
محنة الشرق وما أفضع ما يشكو ويلقى
من خطوب كالحات لم تذر عدلاً ورفقا
يرقص الغرب على الأشلاء مزهواً ونشقى
مثلما يندفع الموج على أجساد غرقى
قد مللنا العيش ذلاًّ يتغشانا ورقا
رب رحماك فإن الراكب قد ضل وحارا
أترى يشرق بعد اليوم فجر قد توارى؟
القاهرة
إبراهيم الوائلي(861/61)
الملحمة الخالدة
للأستاذ صبحي الصالح
هجرتك - يا رسول الله - ملحمة قدسية نفخ الله فيها من روحه وصور فيها بطولتك ورضيها للمؤمنين لحناً على قيثارة الذكرى. . .
هجرتك - يا نبي الله - ملحمة واقعية لم ينسجها الخيال، بل سجدت لحوادثها القرون والأجيال. . .
هجرتك - يا خاتم الأنبياء - ملحمة خالدة في أعماق القلوب تراها بصيرة المؤمن كلما استشفت حجاب التاريخ أبرز حادثة من حوادث الدهر!
ولقد افتتح الله ملحمة هجرتك بالاضطهاد والعذاب، واختتمها بالفتح والنصر: وبين الفاتحة والخاتمة سلسلة من صور بطولتك ومواطن شجاعتك، ومشاهد نضالك وجهادك، وثل صبرك وأناتك.
ولا غرو. . . فإنك - يا سيد الخلق - المثل الأعلى للشدة في الحق، صدعت به لا تخاف لومة لائم، ولا تضيق بتهكم ساخر، ولا تتألم من عدوان سفيه، بل كنت تجد فيما يحسبه الناس ألماً متعة سامية. . . وما أندر النفوس التي تستشعر مثلك لذة الآلام!
حتى في ذلك اليوم الذي لذت فيه بحائط من حوائط ثقيف وأويت إلى الظل تشكو إلى ربك ضعف قوتك، وقلة حيلتك، وهوانك على الناس، لم تنس أن تناجي مولاك الرحيم بتلك الكلمات التي أترعت قلبك بحلاوة الإيمان حين قلت في ختام ندائك الخفي: (إن لم يك بك علي غضب فلا أبالي).
بلى يا رسول الله كنت سعيداً بآلامك الفوادح، لا تبالي ما دام الله معك يهديك، ويسمع سرك ونجواك، ويكلأك في متقلبك ومثواك.
من أجل ذلك مكر الله بالقوم الذين مكروا بك، فأرسل إليك جبريل الأمين يحذرك من الكيد، ويرسم لك الخطة، ويعين لك المتجه: أن هاجر إلى طيبة ولا تبت على فراشك، فإن القوم يأتمرون بك ليقتلوك. فخرجت من بين المؤتمر تحرسك عين الله بينما رقد على فراشك ابن عمك الشجاع الذي نشئ في حجرك، وأشرب في قلبه حبك، وود لو يموت فداك
وهاجرت وصاحبك الصديق الذي حمل إليك جميع ماله، فأدركته الشفقة على أبيه الضرير(861/62)
وعلى ذويه، فسألته: ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجابك باطمئنان: أبقيت الله ورسوله، وأويتما إلى (غار ثور) في ضمير الليل. وقفا القوم آثاركما عند مبرق النهار، وكادوا يصلون إليكما، ويقتحمون الغار عليكما، حتى خاف عليك صاحبك الوفي فقال: لو قتلت فإنما أنا فرد من الأمة وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها يا رسول الله. ثم قال في جزع شديد: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. . . فهمست في أذنه همستك الخالدة التي فيها رمز الشجاعة الحق: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا. فانزل الله سكينته عليك، وأيدك بجنود لا تراها أعين الناس، وصرف القوم عن الغار، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى؛ فارتدوا خائبين.
أما أنت يا رسول الله فوصلت إلى المدينة وصول الفاتحين، وجعلت فيها المهاجرين والأنصار إخواناً، والأوس والخزرج أعواناً، وجعلت تشريع السماء حكماً بين الناس، وجعلت هؤلاء الناس الذين آمنوا بك كالملائكة الأبرار، بل أصبحوا بهديك رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار!
يومئذ حملت القرآن في يمناك تهدي به المتقين، والحسام في يسراك تدفع به كيد البغاة وعدوان الظالمين، فقضيت على الفتن الحمر، وهدأت العواصف الهوج، وجعلت الدين لله، والعبادة للرازق ذي القوة المتين.
وبدلت العرب من بعد خوفهم أمناً، ومن بعد خصامهم حباً، ومن بعد يأسهم أملاً، ومن بعد قسوتهم حناناً، ومن بعد فوضاهم نظاماً، ومن بعد جهلهم علماً. . .
ولقد كان ربك - يا إمام الأنبياء - قديراً على نصرتك وعصمتك من أذى الناس؛ لكنه أراد أن يذيقك حلاوة النصر بعد مرارة الصبر والمصابرة والكفاح والنضال، حتى يفتح أعين الذين آمنوا على سنته في خلقه، فلا يغتروا بانتسابهم إلى الإسلام من غير جهاد، أو يستسلموا إلى الوهن وهم يحسبون أنهم على ربهم يتوكلون.
وهذه السنن الاجتماعية التي تعلمها المسلمون الأولون من ملحمة هجرتك جعلت منهم أبطالاً يرون الموت في سبيل الله هو الحياة الخالدة، ويرون الحياة إذا غشيها الذل موتاً أبدياً، فحملوا أرواحهم على أكفهم، واشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.(861/63)
ثم داول الله الأيام بين الناس، فاصبح المسلمون يترنمون بملحمتك من غير أن يفقهوا أسرارها، ويرددون ذكراها من غير ان تترك فيهم آثارها، فلقد نسوا سنن الله في خلقه أو تناسوها، ولقد جهلوا شريعتهم أو تجاهلوها، فأصبحوا - على كثرتهم - غثاء كغثاء السيل، وأصبحوا يا رسول الله ينتسبون إليك انتساباً، ويحملون من دينك أسماء وألقاباً، ويعيشون على هامش الحياة أذناباً وأعقاباً.
أجل يا سيد المرسلين. . . لقد أذن ربك المنتقم الجبار للزمن العاتي أن يعبث بهم، فنزع من صدور عدوهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، فعادوا بعدك كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمسوا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، يؤثرون حياة الهوان والعبودية على الموت في سبيل الكرامة والحرية حتى تداعت الأمم إليهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فمزقتهم شر ممزق، وأذاقتهم عذاب الهون.
على أن ملحمة هجرتك - يا بطل الأنبياء - ما برح لها في بعض النفوس أثر، فلقد كتب الله لذكراها الخلود حتى تنفع المؤمنين بالموعظة، وتدعو بالحكمة، وتحي ميت القلوب، وتعيد مجد الدين.
ولقد أفتتح الله ملحمتك بالاضطهاد والعذاب، واختتمها بالفتح والنصر، فهل يريد التاريخ أن يعيد نفسه، وهل تبهرنا اليوم الشدائد والأهوال، لتخلق منا جيلاً جديداً، يستحق نصراً من الله وفتحاً قريباً؟
صبحي الصالح(861/64)
من وحي الأيمان
موكب
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
موكب هز خاطري وجناني ... وأثار الحنين في وجداني
ودعاني إلى البيان، فهذا ... ذوب قلبي سكبته في بياني
مركب الحب للذي خلق الح ... ب، وحلى به بني الإنسان
موكب الحب للرسول الذي جا ... ء لنا بالهدى وبالفرقان
صاغه الله من سناه شعاعاً ... باهر النور، ساحر الألوان
لم تجد مثله القلوب، ولم تن ... ظر إلى مثله العيون الرواني
وبراه من رقة وصفاء ... وسلام ورحمة وحنان
فهفت نحوه القلوب سراعا ... كطيور تجد في الطيران
ثم حامت عليه، وهي ضمآء ... فسقاها من نبعه الريان
ومضت نحوه الجموع تعاني ... من هواها وشوقها ما تعاني
موكب حاشد الوفود رحيب ... هو رمز لعزة الإيمان
وقلوب مرنحات من الشو ... ق، سكارى بغير بنت الدنان
شربت خمرة (الحقيقة) واهتز ... ت على (ذكر) مبدع الأكوان
كل من ذاقها فقد عاش ما عاش ... بعيداً عن حرقة الضمآن
ووجوه تكاد تنطق بشراً ... حين نالت ما تشتهيه الأماني
والدفوف التي ترن رنيناً ... هو أشجى من رنة العيدان
هادئ الوقع في القلوب، مثير ... حين تصغي إليه بالآذان
يملأ النفس بالخشوع فتبكي ... بدموع لم تبدها العينان
والزغاريد وهي تأسر قلبي ... والأغاني، وما أرق الأغاني!
موكب هزني، فغنى فؤادي ... وشعوري بأعذب الألحان
كل لحن فيه ضراعات مشتا ... ق، وأشواق ضارع ولهان
موكب فجر الحنين بقلبي ... ومضى في رعاية الرحمن(861/65)
ليت من جمع المواكب ليلا ... ودعاها إليه كان دعاني
يا ديار الحبيب قلبي يناجي ... ك وروحي ومهجتي وكياني
يا ديار الحبيب قد شفني النأ ... ي، فقولي متى يكون التداني؟
يا ديار الحبيب هل يأذن الل ... هـ فألقاك مرة في زماني؟
حيث أقضى شعائر الله مسرو ... راً بما نلته من الرضوان
وأرود الصحراء وهي لروحي ... موطن الشعر والهدى والأمان
صاعداً في الجبال، حيناً وحيناً ... هابطاً في السهول والوديان
ذاك حلم لو نلته في حياتي ... قلت حسبي ما نلته وكفاني
يا ديار الحبيب زرتك بالرو ... ح، وإن كنت ثاوياً في مكاني
إبراهيم محمد نجا(861/66)
الشيوعية والدين
للأستاذ إبراهيم البطراوي
يميل كثير من كتاب العالم هذه الأيام في الدول غير الشيوعية إلى المبدأ القائل (بأن الشيوعية والدين نقيضان لا يجتمعان في دولة واحدة) ويركزون معظم نقدهم وهجومهم على الماركسية في هذه النقطة بالذات لأنها كما يقول بعض مفكري الأسبان (ملتقى الحواس في أعصاب الأمم جميعاً).
ولكن الدارسين للظواهر الاجتماعية يقررون أن جميع الجهود والأموال التي أنفقت في هذه الحرب الفكرية حتى الآن قد ضاع أكثرها سدى فلم ينتفع بها الانتفاع الذي كان مقدراً. وليس هذا فقط، بل إن الفائدة لم تصل إلى حد المثل بعد. ولقد كان لهذه النتيجة وقع اليم في نفوس الكثيرين ولا سيما في هذا الوقت الذي يعاني فيه كثير من الشعوب أزمات اقتصادية متعددة، فبدءوا يعاودون النظر ويرسمون الخطط ويوحدون الجهود ليتداركوا ما فات.
والحق أن هذا المبدأ وحده غني بمواد كان يكفي أقلها عدداً وأبسطها أثراً للقضاء على فكرة الشيوعية ومحوها نهائياً من صفحة الوجود لو أنه أحسن استغلاله والانتفاع به. أما مجرد القول بمبدأ دون الأخذ به فضرب من المحال ومخادعة للنفس وتضييع للوقت لا أكثر، ولن يفهم الناس من تكرار ذلك إلا أنه إقحام للشيء في غير موضعه واستغلال للعاطفة الدينية في الخلافات السياسية؛ أما الأهداف النبيلة والغايات الشريفة والمنافع المنتظرة والأمن من شر محقق تتهددنا به الدول الشيوعية إن لم نحم أدياننا وتقاليدنا من أضدادها وهي سموم دعايتهم الخبيثة - فهذه وغيرها أشياء بعيدة كل البعد عن تفكير الرجل العادي بل وكثير من الذين يوصفون بأنهم مثقفون.
وللناس عذر في ذلك لأن نظرة جدية إلى تاريخ الأمم التي تنادي اليوم بهذا المبدأ تدفعنا إلى شيء من الشك كبير في إخلاص القائمين بهذه الدعوة وفي صدق نواياهم وخلوهم من كذب ونفاق، وإلا فأي معنى لبقاء جنود أجنبية في أرض دولة ذات مجد وذات سيادة كمصر؟
وأول ما يستشعره الباحث الذي لا يقف عند حد النظرة السطحية للأشياء - هو حاجة(861/67)
الدول الفتية إلى التمسك بهذا المبدأ والاستفادة من هذا الدرس بعد تعمق وفلسفة واستقصاء مراميه فما ألقاه الشيوخ المحنكون - والبركان في أوج ميدانه واضطرابه - إلا بعد تجارب عدة حالفهم فيها التوفيق بالنسبة للأمم التي غلبوها على أمرها وكانت مستعصية عليهم، فلم يجدوا سلاحاً أفتك بالقوى وأقصم للظهور ولا أرق للأحرار من سلاح الدين والتقاليد يزلزلونها بحوريتين فتانتين اسمهما فلسفة العصر والمدنية وما هما - لو كنا نعقل - إلا الإلحاد والإباحية.
وقانون الاستعمار دائماً - على اختلاف الأزمنة والأمكنة - كما استنتجناه وشرحناه في غير هذا المكان (هو أن الثورات وليدة الفجور والإباحية التي هي معول الأديان والعقائد - وأن أصحاب المبادئ السياسية والاقتصادية لا يمكن أن تتنسم مبادئهم الحياة إلا عن طريق هذا الذي استنتجنا الآن وسميناه (قانون الهدم الاجتماعي).
ولقد فطنت الوحوش المستعمرة لهذا بدهائها وتجاربها وأفادت منه في اقتناص فرائسها وإشباع شهواتها الجامحة أيما استفادة على نحو ما قدمنا.
وأبسط تحليل لخفايا الأغراض المقنعة في فلسفتهم تلك التي تبدأ بنشر الفجور والإباحية وهدم حواجز الدين والتقاليد والعرف وخلال الحياء والشرف مجتمعة، وهذا بدوره يؤدي إلى التفكك والاضطراب والفوضى والثورات والانحلال، ثم ينتهي بالاستعمار - هو أن الفجور يفرق هلعاً من مجرد ذكر الحساب وتصور آلامه وأهواله على نحو ما وصفت الأديان؛ فبنشر مبادئ الإلحاد وبتسفيه القيم وبث المثيرات والمغريات وبتهيئة الأسباب وإزالة الحجب التي تحول بين الغرائز وبين الإشباع نجد قيامه - أي الفجور - وتحققه نتيجة طبيعية حتمية. ولابد أن يمر بالأطوار الآتية على أي حال: وهي أنه - وفكرة الثواب والعقاب ما هي - لا يقدم حتى يشك، ولا يشك حتى يكفر، وتتكرر الدورة فيشك ويكفر مرة ثانية وثالثة ولا يزال كذلك حتى يصير الكفر عادة ممتزجة بدمه ولحمه فيشك في كل شيء ويكفر بكل شيء فينتقم على كل شيء ويثور عليه، وفي الثورة يتم كل شيء وفق الخطة المرسومة بكل سهولة.
أجل! إن موات الأمم لا يحيا إلا بروح الدين والعقيدة، وإن ضعفها لا يقوم إلا بالاعتصام بروح الخلق والفضيلة، وتاريخ الأحياء - منذ كان لحياة الأمم تاريخ - لم يتحول عن هذا(861/68)
المبدأ شعرة، وتاريخ الأموات - منذ كان لموت الأمم تاريخ - لا يخلو من شك وكفر وفجور واستباحة وفوضى. ولهذا رأينا شعباً صغيراً كالشعب البريطاني لا يتميز عن أقرانه في العدد ولا في القوة ولا في الثروة، ولكنه استطاع - بعد دراسته لنفسية الشعوب واستفادته من تجارب الآخرين في جميع العصور - أن ينتفع بهذا المبدأ في حالتي الإيجاب والسلب إلى أقصى ما يمكن أن يرقى إليه خيال: يحتل قارات بأسرها وشعوباً تكاد ترجح نصف المعمورة عدداً بحيث لو ملأ كل رجل فيها كفه من تراب إنجلترا لما وجدت مؤخرتهم أمامها غير مياه المانش وقد اتصلت بجليد القطب تملأ منها أكفها إن أرادت ألا تعود فارغة!
وأضننا - وقد بلغت هذه الإمبراطورية في الاتساع ما لم تبلغه أمة قبلها ولا بعدها حتى إنك لو سألت أحد أبنائها إلى أي الشعوب ينتسب لما أجابك إلا مزهواً وقد رفع رأسه عالياً (أنا ابن الأمة التي لا تغرب الشمس عن أملاكها) وعاشت برغم هذا أطول عمر عاشته أمة في التاريخ بلغ مئين السنين - أظننا وتلك أمة هذه عظمتها وهذا شأنها لا نعجب إن رأينا برلمانها - وهو ما هو - يجتمع مرات مستدعياً رجال الدين والرأي من أطراف البلاد وأقاصيها مع الساسة لأن روايةخليعة تمثل على المسرح أو الشاشة وللبلد دين وتقاليد!
وعلى هدى إنجلترا تحاول الدول التي منها امتدت جرثومة الفساد إلى سائر البقاع والتي جاوزت جميع المقاييس في التهتك والفجور والإباحية والتفنن في ذلك إلى حد جعل بعض العقلاء يلقبها بمومس العالم أو مزبلة الرذيلة، وفي اللحظة الأخيرة وجدنا هذه الدول تثوب إلى رشدها وترجع إلى الدين للمرة الأولى منذ العصور الوسطى التي يقولون، لأنه المنقذ الوحيد من الشر الذي ثار غباره في الفق. وليس ببعيد ذلك الذي صرح به الوزير الفرنسي الجديد يوم أن أشار إلى أن معظم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها فرنسا الآن إنما ترجع إلى الانهيار الخلقي واستشراء وباء الفسوق في تلك البلاد.
ولقد تجاوب صدى هذه الدعوة في دول أخرى مماثلة، ورأينا - ونحن نكتب هذه السطور - إيطاليا نعم إيطاليا، يقرر مجلس (شيوخها) إلغاء البغاء في جميع البلاد الإيطالية بأغلبية مشرفة!
أجل! تعود الأمم الأبية التي تريد الحياة الحرة إلى الدين منقذ الإنسانية الأمين لأنها أشرفت(861/69)
على الفناء ولابد لها من ذلك طائعة أو مكرهة لأن الحياة أهم من كل اعتبار آخر.
وإن في هذه العودة وفي مناداة الشيوخ الإنجليز وأتباع الإنجليز في أحرج أوقاتهم هذه إلى التمسك بذاك المبدأ لدرساً جليلاً يلقيه أولئك الشيوخ الكبار وهم أعرف الناس بسره. فهل تنتفع به الأمم الصغيرة وتستغله - لا في الحيز الضيق الذي يريد الشيوخ القضاء عليه وهو الشيوعية وحدها - ولكن في الحيز العام الذي يشمل الشيوعية وغير الشيوعية من صور العدوان والاستعمار جميعاً.
نرجو ذلك كما نرجو أن تطغى نخوة السيادة ونزعة البقاء فينا على كل طمع أو تكاسل أو نسيان!!!
إبراهيم البطراوي(861/70)
العدد 862 - بتاريخ: 09 - 01 - 1950(/)
الوضع اللغوي وهل للمحدثين حق فيه؟
يذكرني موضوع الوضع وهل للمحدثين حق فيه بطائفة من البديهيات كان المعلمون الطيبون يكلفون بها تلاميذهم، كفضائل العلم، ومحاسن الأدب، وفوائد الثياب، فيكتبها التلاميذ على أنها واجب يؤدى، ويقرأها المعلمون على أنها جمل تصحح. والواقع أني سألت نفسي حين اقترح علي هذا الموضوع: ما الفرق بين سؤالنا هل للمحدثين حق في الوضع وسؤالنا: من الذي يملك على التراث حق الانتفاع به وحق التصرف فيه؟ الميت الذي ورَّث ثم غاص في أعماق العدم، أم الحي الذي ورث ولا يزال يضطرب في آفاق الوجود؟ أو سؤالنا: من الذي يملك أن يزيد في اللغة أو يهذب منها وهي وسيلة الفهم والإفهام؟ اللسان الذي سكت وبلى وانقطعت أسبابه بالحياة، أم اللسان الذي لا يزال يتحرك ويلغو ليسمي كل وليد تضعه القريحة، ويعبر عن كل جديد تخلقه الحضارة؟
أليست الأجوبة عن هذه الأسئلة هي من نوع ذلك الكلام الذي كان يمتحن به عبقريات الأطفال في سنيهم الأولى؟
إذن ما الذي سوغ أن يكون مثل هذا الموضوع من الموضوعات التي أقرها المجمع لتلقى في المؤتمر؟ سوغه أن الحق في الوضع اللغوي على وضوح الرأي فيه، كان عقبة من العقبات التي أقامها المجمع لنفسه بنفسه وذلك إن المجمع وهو وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة وقوالبها الموروثة أن يزيد عليها وينقص منها ويغير فيها، ولكنه يعطل مختاراً هذه القدرة التي لم يؤتها غيره باستشارته القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقره. واستشارة الماضين في شؤون الباقين مع تبدل الأحوال وتغير الأوضاع وتقدم العلوم وتفاوت العقول واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة. فلو أن معالي رئيس المجمع استشارهم مثلاً فيما ينقل من كتب أر سطو لقال له ابن فارس وهو من رجال القرن الرابع: (زعم الناس أن علو ما كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة؛ وليس ما قالوا ببعيد، وإن كانت تلك العلوم بحمد الله وحسن توفيقه مرفوضة عندنا).
ولو أن معالي وزير المعارف استشارهم مثلاً في البعثات التي يبعث بها في طلب العلم إلى أوربا وأمريكا لقال له الشيخ محمد عليش مفتي المالكية في أواخر القرن الثالث عشر في(862/1)
رسالته التي رد بها على عالم من علماء الجزائر أفتى بجواز لبس القبعة للطلاب المسلمين الذين يطلبون العلم في فرنسا ما نصه: (تقرر في شريعة الإسلام أن السفر لأرض العدو للتجارة جرحة في الشهادة ومخل بالعدالة فضلاً عن توطنها وطلب العلم بها. والمقرر في شريعة المسلمين أن المطلوب تعلمه من أقسام العلم، العلوم الشرعية وآلاتها وهي علوم العربية، وما زاد على ذلك لا يطلب تعلمه بل ينهى عنه. ومن المعلوم أن النصارى لا يعلمون شيئاً من العلوم الشرعية، ولا من آلاتها بالكلية، وأن غالب علومهم راجع إلى الحياكة والقبانة والحجامة وهي من أخس الحرف بين المسلمين، وقد تقرر في شريعتهم أنها تخل بالعدالة).
عرض المجمع الموقر لمسألة التعريب وهي مسالة حلها الشعر القديم والقرآن الكريم والسنة الصحيحة والدول المتعاقبة والطبيعة التي تنشئ الأمم بالتوالد والتجنس، والحضارة التي تسد عوزها بالأخذ والاقتباس؛ ولكن المجمع رأى مع كل أولئك أن يستفتي فيه المتقدمين فقالوا:
- لا يملك التعريب إلا من يملك الوضع
- ومن الذي يملك الوضع؟
- يملكه العرب الذين يعتد بعربيتهم
- ومن هم العرب الذين يعتد بعربيتهم؟
- هم قوم محصورون في حدود معينة من المكان والزمان لا يتعدونها؛ حدودهم المكانية شبه جزيرة العرب على تفاوت بينهم في درجات الفصاحة. وحدودهم الزمانية آخر المائة الثانية لعرب الأمصار، وآخر المائة الرابعة لأعراب البوادي. هؤلاء الذين تنزل عليهم وحي اللغة، وألهموا سر الوضع، فكلامهم حجة، وأقوالهم حكمة، وصوابهم قاعدة، وخطأهم شذوذ، وضرورتهم مقبولة. .
- أذن من نكون نحن؟
- طبقة مولدة فقدت أهلية الأصل فلا ترتجل، وأضاعت مزية الفرع فلا تشتق. إنما تتكلمون ما تحفظون. فإذا وقع لكم ما لم يقع للعرب الخلّص من الأعيان والمعاني فعبروا عنه بأي لسان تشاءون ولا شأن لنا به.(862/2)
ولقد كان لنا أيها السادة غُنية عن هذه الفتوى بحكم الرسول صلوات الله عليه حين سمع أن منافقاً نال من عروبة سلمان الفارسي فدخل المسجد مغضباً وقال: (يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي). ونحن بحمد الله نتكلم العربية ونحرص عليها ونتعصب لها ونريد أن نهذب منها ونزيد فيها.
وكان بحسبنا في تزييف قول ابن فارس: (ليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياساً لم يقيسوه) قول فيلسوف العربية ابن جني: (ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)، ولكن القدماء رووا قول الرسول؛ ووعوا قول ابن جني، وسمعوا كثيراً من نحو ذلك، ثم ظلوا متبلدين يهابون الوضع ولا يقطعون فيه برأي. وإذا حاولنا أن نعلل هذا اليبلد وتلك الهيبة كان أول ما يخطر في الذهن تلك القداسة التي أسبغوها على اللغة العربية لصلتها الوثيقة بالدين، فهي لغة القرآن والحديث، وأداة التحدي والإعجاز، ولسان الدعوة والخلافة، فالعناية بها عناية بكلام الله، والتعصب لها تعصب للغة الرسول، ولذلك وضعوا النحو والصرف، ورسموا النقط والشكل، واستنبطوا المعاني والبيان، وقطعوا بوادي الحجاز ونجد وتهامة ليسمعوا المناطق المختلفة، ويجمعوا الألفاظ الغريبة، فأخذوا أكثر ما أخذوا عن قبائل قيس وتميم وأسد، وتحاموا الأخذ عن الأعراب الضاربين على التخوم الموبوءة، وعن العرب المتصلين بالأجانب في التجارة.
فعلوا ذلك ليدرءوا عن العربية شبهة العجمة، ويبرئوها من تهمة الدخيل، وظنوا أنهم استطاعوا ذلك فقالوا: ليس في كتاب الله من لغة العجم، يتأولون بذلك قول الله تعالى (إنا جعلناه قرآناً عربياً) وقد جهدوا جهدهم في التماس الأصول العربية لجميع الكلمات الأعجمية، فجاءوا من ذلك بما لا يتفق مع فضلهم، كقولهم في الخندريس مثلاً، وهي تعريب خندروس باليونانية: (الخندريس: الخمر القديمة، واشتقاقه من الخدرسة ولم تفسر، أو من الخدر لأن شارب الخمر ربما أصيب به، أو من الخرس لأنه في حال السكر يصير كالأخرس!
وقد حاول مثل هذه المحاولة فقيد المجمع المرحوم الأب انستاس ماري الكرملي فكتب طائفة من الفصول في مجلته (لغة العرب) بعنوان (العربية مفتاح اللغات) رد فيها كثيراً(862/3)
من الكلمات الإفرنجية إلى أصول عربية كقوله مثلاً: إن كلمة الفرنسية ومعناها الأحمق، مأخوذة من الكلمة العربية بأقل العي العربي المشهور، ويقول إن القاف في العربية تكون كافاً في اللاتينية وسيناً في الفرنسية؛ فإذا رددناها إلى اللاتينية وجردناها من الزوائد كانت باكول أو باقل. وقد افتعل عليه أدباء الشام والعراق طرفاً من مثل ذلك فزعموا أنه يقول إن (جرسون) أصلها العربي جار الصحون، خففت الراء والصاد ثم حذفت الحاء لعسر النطق بها.
ولقد غلا الأقدمون في تقديس اللغة العربية حتى أدعو أن واضعها الأول هو الله سبحانه، محتجين بقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) وهي حجة لا تنهض بدعواهم إلا إذا ثبت أن الأسماء التي علمها الله آدم كانت عربية. والذين فندوا هذا الرأي وقالوا إن اللغة اصطلاح لا توقيف، أكبروا هذه اللغة عن أن يضعها الأعراب والأوشاب والعامة، فتوهموا لها واضعاً لم يسموه ولم يعرفوه، وإنما تخيلوه منقطعاً في خيمته للوضع، كما ينقطع الناسك في صومعته للعبادة، فيذهب إليه الناس كما يذهبون اليوم إلى القصاب والبدال، يسألونه ما اسم هذا الشيء، وما لفظ هذا المعنى، فيجيبهم عما سألوا فيحفظونه وينشرونه. قال صاحب الخصائص: (إن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملها وتفصيلها؛ وعلم أنه لابد من رفض ما شنع تأليفه نحو هع وقج فنفاه عن نفسه).
وقال صاحب المثل السائر: (حضر عندي رجل من علماء اليهود بالديار المصرية، فجرى ذكر اللغات وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، فقال اليهودي: وكيف لا تكون كذلك وإن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة فاختصر ما اختصر وخفف ما خفف؛ فمن ذلك اسم الجمل، فإنه عندنا في اللسان العبراني (كوميل) فجاء واضع اللغة العربية وحذف من الكلمة الثقل المستبشع وقال (جمل) ولقد صدق في الذي ذكره).
هذه القداسة أيها السادة التي كسبتها العربية من القرآن والحديث، أكسبتها هي أيضاً العرب وجزيرة العرب في تلك الحقبة المحدودة. مصداق ذلك أن علماء المصرين البصرة والكوفة لم يدعوا في البوادي العربية بقعة ولا صخرة ولا نبتة ولا حشرة ولا وجهاً من وجوه الأرض، ولا ظاهرة من ظواهر السماء، إلا عرَّفوها ووصفوها وسجلوها، ورووا ما قيل(862/4)
فيها من الشعر، وقصوا ما جرى عليها من الوقائع؛ ولم يتركوا من مناطق البدو ووسائل حياتهم ومظاهر اجتماعهم ومختلف عاداتهم لفظة ولا لهجة ولا حالة ولا أداة ولا لعبة إلا جمعوها ودونوها، حتى الكلمة الغريبة والعبارة المهجورة والصيغة المماتة، فإجتمع لهم من كل أولئك سجل محيط شامل فرضوه بفضل هذه القداسة على جميع المتكلمين بالعربية في العصور الأربعة والقارات الثلاث، فظلوا على رغم ما بلغوه من السلطان والعمران والمدنية والعلم والأدب والفن يستعملون أمثال البدوي وصوره وأخيلته ومجازاته وتشبيهاته وكناياته، فيقولون مثلاً: جاءوا على بكرة أبيهم، وألق دلوك في الدلاء، وقلب له ظهر المجن، وضرب إليه أكباد الإبل، وركب إليه أكتاف الشدائد، واقتعد ظهور المكاره، وأنبت حبل الرجاء، وضل رائد الأمل، وهو شديد الشكيمة، وله غرر المكارم وحجولها، وإن حلمه أثبت من ثبير، وأوقر من رضوى، وأوسع من الدهناء. ولو ذهبت أستقصي هذه الأوضاع وتلك التراكيب لما أبقيت في المعجم إلا المصطلحات التي فرضها الدين، والمعربات التي أقحمتها الحضارة.
ثم اعتقدوا أن اللغة قد كملت في عهد الرواية كما كمل الدين في عهد الرسالة، فختم الرواة السجل، وأغلق علماء اللغة باب الوضع، كما أغلق فقهاء السنة باب الاجتهاد، وتركوا الأمة العربية التي امتد ملكها من الهند والصين شرقاً إلى جبال ببرانس غرباً، تتعامل خارج البرصة، وتتجاوز حدود المعجم، كأنهم نسوا أن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين، ولا أن تستقل استقلال الحي، لأنها ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرساً وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء:
ترتب أيها السادة على إغلاق باب الوضع، وتخصيص حكم القياس، وتقييد حق التعريب، وإنكار وجود المولد، وطرد الأمة العربية بأسرها خارج الحدود، أن حدث أمران خطيران كان لهما أقبح الأثر وأبلغ الضرر في كيان اللغة وحياة الأدب.
الأمر الأول طغيان اللغة العامية طغياناً جارفاً حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء(862/5)
والأدباء والكتاب والشعراء، يكتبون بها للملوك، ويؤلفون فيها للخاصة؛ وسيطر على حياة الأمة في شؤونها العامة وأغراضها المختلفة؛ لأن العامية حرة تنبو على القيد، وطبيعية تنفر من الصنعة؛ فهي تقبل من كل إنسان، وتستمد من كل لغة، وتصوغ على كل قياس، وبذلك اتسعت دائرتها لكل ما استحدثته الحضارة من المفردات المولدة والمقتبسة في البيت والحديقة والسوق والمصنع والحقل. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل، ويستعملون الشائع، ويتناولون القريب. وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها، إذ تكون بسبب مرونتها وتجددها، أدق تصويراً لأحوال المجتمع، وأوفى أداء لأغراض الناس. وهذا ما حدث للغة اليونانية القديمة حين خلفتها اليونانية الحديثة، وللاتينية حين ورثتها الفرنسية والإيطالية والأسبانية. وهذا ما يحدث حتماً للعربية الفصحى لولا أنها لغة القرآن. واللغات السامية كما يقول (رينان) مدينة ببقائها للدين، فلولا اليهودية ما بقيت العبرية، ولولا المسيحية ما عاشت السريانية، ولولا الإسلام ما حفظت العربية.
والأمر الآخر حرمان الفصحى كل ما وضعه المولدون من الألفاظ، وما اقتبسوه من الكلمات؛ لأن اللغويين الذين أقاموا أنفسهم على أسرار اللغة مقام الكهنة على أسرار الدين، أبو أن يعترفوا بهذه الثروة اللفظية الضخمة لصدورها عمن لا يملك الوضع والتعريب بزعمهم، فحرموا اللغة مورداً ثراً كان يقيها الجفاف والذبول، ويؤتيها النماء والخصب. ولولا أن العلماء والمترجمين - وجلهم من غير العرب - تجاهلوا أوامر اللغويين في الوضع والتعريب لما استطاعوا أن ينقلوا إلى العربية علوم الأولين من فرس ويونان وهنود ويهود، ولما قال أبو الريحان البيروني في العربية: (وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة. والهجو بالعربية أحب إلى من المدح بالفارسية).
وقد أدى احتقار اللغويين للغة المولدين إلى احتقار الأدباء لأدب العامة. فكما أن أولئك لم يدونوا في معجماتهم الكلام المولد، لم يدون هؤلاء في مؤلفاتهم الأدب الشعبي. ولو أنهم دونوا أحسن ما دار على الألسنة في جميع الطبقات والبيئات من الأمثال والحكم والمجازات والكنايات والطرف لوفروا للغة الفصحى وللأدب العالي مورداً لا ينضب ومادة(862/6)
لا تنفد. فإن العامة كانوا تسعة أعشار الأمة العربية وهي في أوج سلطانها، وأكثرهم أعقاب أمم مختلفة الجنسية والعقلية والعقيدة، دخلوا أو عاشوا في كنفه، واتخذوا العربية العامية لغة لهم أودعوها معانيهم وتصوراتهم، وأفضوا إليها بأسرار لغاتهم؛ فكانت أمثالهم تسير، وأقاصيصهم تحكى، ومصطلحاتهم تنقل، ومواضعاتهم تذيع. فإذا كانت الفصحى نهراً تجمع من أمطار، فإن العامية بحر تجمع من أنهار. والنهر إذا أخلفه الغيث غاضت منابعه وجفت مجارية، ولكن البحر إذا اخلفه رافد هنا أمدته روافد هناك.
ولست أذكر مزايا العامية لأهتف بها وادعوا إليها، وإنما ذكرتها لأقول إن سادتنا اللغويين وأدباءنا الأولين لو أنهم أزالوا هذا السد الذي جعلوه بين اللغتين لاكتسب الفصحى من العامية السعة والمرونة والجدة، واكتسبت العامية من الفصحى السلامة والصيانة والسمو، ولكان لنا من تداخل اللغتين وتفاعلهما لغة واحدة تجمع بين محاسن هذه ومحاسن تلك. فأما مساوئ الفصحى أو عنجهيتها فتموت كما يموت الحوشى المهجور من كل لغة. وأما مساوئ العامية أو حثالتها فتبقى على الألسنة التي تستذيقها من الطبقات الدنيا وتكون هي اللغة العامية التي لابد منها في كل لغة من لغات العالم؛ ولكن بالنسبة القليلة التي لا تطغيها على الفصحى ولا تفرضها على الناس.
سادتي: ي إن حق المحدثين في الوضع مقرر بالطبيعة فلا مساغ للنزاع فيه. وإن الذين أنكروه لم ينكروه بقول يناقش ولا حجة تسمع. إنما قولهم فيه أشبه بقولهم في كتابة المصحف. فقد قالوا لابد أن نكتب القرآن بالرسم الذي كتب به في زمن عثمان، فنكتب الصلاة بالواو ونلفظها بالألف، ونكتب والسماء بنيناها بأيد بياءين ونلفظها ياء واحدة، ونكتب لشيء بألف زائدة بين الشين والياء وننطقها بدونها. ولو كان هذا الرسم موحى من الله على رسوله لآمنا به وحرصنا عليه، ولكنه من عمل قوم كانوا قريب عهد بالخط فوقع فيه الخطأ والنقص والإشكال. والغرض من كتابة القرآن أن نقرأه صحيحاً لنحفظه صحيحاً، فكيف نكتبه بالخطأ لنقرأه بالصواب، وما الحكمة في أن نقيد كتاب الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب؟ وإذا احتجنا في دفع هذه الأقوال إلى غير الوجدان فلن يصح في الذهان شيء كما يقول أبو الطيب.
بقي أن نعرف من هو المحدث الذي له الحق في الوضع. أهو فرد معين أو جماعة معينة(862/7)
كما كان يظن الأوائل، أم هو كل فرد وكل جماعة يتكلمون العربية وتدعوهم الحاجة إلى وضع اللفظ للمعنى الذي ولدوه، وللشيء الذي أوجدوه؟ إن حق الوضع حق مطلق لا يتخصص بأحد ولا يتعلق بظرف، يملكه الفرد والجماعة، وتملكه الخاصة والعامة؛ فالعلماء يضعون مصطلحات العلوم، والرياضيون يضعون مصطلحات الرياضة، والأطباء يضعون مصطلحات الطب، والفقهاء يضعون مصطلحات الفقه، كما أن الصناع يضعون لغة المصنع والورشة، والزراع يضعون لغة الحقل والحظيرة، والتجار يضعون لغة الدكان والسوق، ومجمعكم الموقر يشارك هؤلاء وأولئك في الوضع والتعريب، ويختص جميعاً بالتسجيل والتصديق. فأيما كلمة توضع لا تدخل في اللغة قبل أن يسمها بميسمه ويدخلها في معجمه؛ وبدون ذاك نقع فيما وقع الأولون فيه من تعدد الوضع في المرتجل واختلاف الصيغ في المشتق.
وإذا سمحتم أيها السادة أن أجعل لهذه الكلمة نتيجة إيجابية فإني أتقدم إلى معالي رئيس المجمع باقتراح يشمل أربعة أمور أرجو أن يأذن في عرضها عليكم لتمحصوها وتصدروا قراركم فيها:
1 - فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة وهي الارتجال والاشتقاق والتجوز.
2 - رد الاعتبار إلى المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة.
3 - إطلاق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، فإن توقف القياس على السماع يبطل معناه.
4 - إطلاق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبناءين وغيرهم من كل ذي حرفة.
فإذا أقررتم هذا الاقتراح أيها السادة دفعتم معرة العدم والعقم عن هذه اللغة الكريمة التي سمعناها في القرن الخامس تصف ناقة طرفة فتسمى أعضائها عضواً عضواً، وتنعت أوضاعها وضعاً وضعاً، في 34 بيتاً من معلقته؛ ثم نراها في القرن العشرين تقف أمام سيارة فورد بكماء بلهاء، تشير ولا تسمى، وتجمجم ولا تبين. وأني أشكر لكم يا سادتي حسن التفاتكم وكرم إصغائكم؛ والله يهدينا الطريق ويلهمنا التوفيق.(862/8)
أحمد حسن الزيات(862/9)
ترجمة النشاشيبي بقلمه
لما أصدر صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي جريدته (البرهان)
في طرابلس الشام سنة 1911 واطلع عليها المرحوم إسعاف
النشاشيبي، وكان يومئذ في طور اليفاعة، راسلها بالأخبار وواصلها
بالمقالات، ولم يكن الأستاذ صاحب البرهان يعرف من أمره شيئاً،
فكتب إليه يشكره ويسأله التعريف بأمره، فأجابه عن سؤاله بكتاب
مسهب مؤرخ في جمادى الأولى سنة 1330 وصف فيه أمره ما كان
يحسن طي ذكره في ذلك الحين؛ أما اليوم وقد أصبحوا جميعاً في ذمة
التاريخ فلا ضير إذا نشرناه تفصيلا لما احملنا من أمره رحمه الله.
سيدي وأستاذي
اقبل يدك الطاهرة، وأتضرع إلى الله أن يشد أزرك، ويكون ردءك، ويبلغك ما تسمو إليه نفسك ويطيل بقاءك، فإن ببقائك بقاء الفضل والعلم والآداب. وبعد فقد جاءني كتاب الأستاذ أعزه الله وقرأته فأنست من كرم أخلاق صاحبه، وحدبه علي، وشغل باله من أجلي، ما شدهني وحيرني، وما استعبدني للأستاذ واسترقني. فلله أنت يا مولاي، ولله أدبك؛ يأمرني الأستاذ أن أفرش له دخيلتي، وأوضح له أسباب شقاوتي. فإنه رآني بكتبي إليه وبمقالاتي جميعها شقياً بائساً، حرج الصدر، ضيق النفس، مضطرباً. وهاأنا أسرد على سيدي قصتي، وعلة غصتي، مجملاً ذلك إجمالاً، إذ أمر التفصيل يطول.
فاسمع حديثي فإنه عجب ... يضحك من شرحه وينتحب
إن سبب شقائي أدبي وأبي وأمي والمال. ذهبت منذ 11 سنة إلى بيروت، ودخلت مدرسة فيها، وأقمت أربعة أعوام. ثم جئت والدي وقلت له إني لم أظفر في هذه المدرسة بما تمنيته. فابعث بي إلى فرنسا أو سويسرا كي أتم ما ابتدأت به، وكي أتحلى بالعلم والفضل. فأكون فخراً لك. فاستحقر هذا الوالد مطلبي وأنكره. وأبى أن يوصلني إلى أمنيتي، وأراد أن أرى الدنيا بعينه وأنا لا أريد غلا أن أراها بعيني. وبغى أن أذر العلم وأدير أعماله وقراه. وبغيت أن أكمل تحصيلي، حتى إذا كمل اهتممت بأشغاله. وقلت له أن غلاماً(862/10)
صغيراً عمره (17) سنة ليس من العدل ولا العقل أن تميله عن الدرس وتقسره على العمل. فلم يحفل بقولي ولا بمطلبي. وأخذ يضغط علي ويشد. ويريد أن يخلقني بأخلاقه. وأنا كلما ازداد ضغطه ازداد عنادي وإصراري على رأيي. فأنا ووالدي منذ سبع سنين في نضال وجدال، وشغب وصخب، بسبب هذا المشكل الذي لم يحل حتى يومنا هذا. ولوالدي بمقاومتي في أمر العلم والأدب غير ذلك الضغط فصول مضحكة جداً منها أنه يذهب إلى الجرائد التي تنشر في القدس ويافا فيتضرع إلى أصحابها ألا ينشروا لي شيئاً. ومنها أن وكيل (الأهرام) جاءه سنة يطلب منه قيمة اشتراكه، فدفعها له وقال له اقطعوا الجريدة. فسأله الوكيل لماذا؟ قال لأنكم تنشرون لولدي كل ما يبعث به إليكم. ومنها أن فريقاً ممن ظلم اليراع في سوريا وفلسطين يجد خير طريق لنيل الشهرة أن يطعن في ويسبني. فإذا قرأ والدي ذلك يركض إلي ويقول: أنظر إلى نتيجة العلم والأدب! ما نالنا منه إلا السب والشتم. ومن العجب أن الرجل متعلم متنور مطلع، وهو من الفذاذ في هذا اللواء، وممن يسعون في نشر العلم ويحضون الناس عليه، وينفقون في خدمته ما ينفقون. يريد أن ترتقي أولاد سواه ولا يريد أن يرتقي ولده الوحيد، وجناه في هذا العالم! وإذا لامه بسبب ذلك أحد يقول له إن العلم طريق للمال، فإذا نال المرء المال وجب أن يلهو به عن سواه. وإني كتبت لولدي من القرى والأملاك ما كتبت فيجب أن ينبذ ما هو فيه ويعكف على الشيء المفيد. وقد بينت لوالدي وللناس أن طلب العلم لا يعيقني عن غدارة أشغالي. وإن من يضيف إلى المجد المالي والمجد العلمي والأدبي لن يكون مجنوناً. وإن والدي يجب أن يحمد الله الذي شغلني بهذا ولم يشغلني بعشق الفتاة الفلانية الاسرائيلية أو المسيحية، والانغماس في الشهوات كما شغل سواي من أبناء السراة الأغنياء من عائلتي وغيرها الذين يعرفهم هو واحداً واحداً. كنت مع هذا الرجل في مشكلة واحدة فأبى الشقاء إلا أن يعقبها بأختها. فأراد والدي منذ ثلاث سنين أن يتزوج امرأة أخرى (وهو فوق الستين)، فجاءني وقال لي: ليس لي من ولد سواك، وإني أخاف الحوادث (يعني يخاف أن أفطس) فأريد أن أتزوج. فقلت له: تزوج أربعين امرأة. فهذا مما يسرني. لكن ارفع ضغطك وشدتك عني. فقد كدت تقتلني. فلما تزوج أكبرت أمي عمله، وأبت أن تسكن معه. فغادرت إكراماً لها دار أبي واستأجرت بيتاً حقيراً أو كوخاً. وسكناه معاً. فأسخط هذا العمل أبي، وأجبرني على أن(862/11)
أعود وإياها فأبت وأبيت حذراً من الشقاق والصياح الذي يقع بين الضرائر (وسيدي سيد العارفين بأحوال المرأة والعائلة الإسلامية واضطراباتها). فازدادت حينئذ الشدة والمحنة حتى آثرت الانتحار (كنا في مشكلة واحدة فصرنا في اثنتين؛ والآن يأتي ذكر الثالثة). ولم يمض على ذلك سنة أو أقل حتى بدا لوالدي أن يطلب مني (وكالة عامة مطلقة) في المحكمة الشرعية بأملاكي جميعها (وأملاكي هو الذي كتبها لي، وأصل المال من الوالدة) فقلت: هذه هي الطامة الكبرى، ورفضت طلبه. عندئذ ازداد الضغط وازداد طغيان الوالد؛ فتذبذبت بين أمرين إما الانتحار، وإما السفر إلى أوربا ومغادرة هذه البلاد. فبعت قطعة أرض لي بثمن قليل ليوصلني إلى جنيف، ويكفيني سنة واحدة ثم قلت: يخلق الله مالا تعلمون. فلما علم بما أتيت عمل ما عمل
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن شراً ولا تسأل عن الخبر
فتركته حينئذ وقطعت كل علاقة به واجتزأت بعشر ليرات أنفقها علي وعلى أمي. وقلت لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. وقد أحدث الله نصف أمر: فأنتخب والدي مبعوثاً، استفادت القدس بانتخاب والدي لأنها لن تجد خيراً منه على ما أظن، واستفدت أنا لأنه تركني فاسترحت قليلاً وتنفست. والحمد لله على كل حال. وهنا نكتة جميلة أذكرها لسيدي: لما فض مجلس المبعوثان اجتمع روحي بك الخالدي في ناد في الأستانة. فقال له أحد أصحابه: إنا نجد في الجرائد ذكر إسعاف النشاشيبي من القدس كثيراً ونطالع له ما نطالع، وأظنه يصلح للنيابة. فتبسم روحي من قوله، وقال إن إسعافا لم يجز له حتى الآن أن ينتخب المنتخب الثانوي فضلاً عن أن ينتخب مبعوثاً. هذا صحيح لكن إكراماً لذلك الرجل فقد أرسلت والدي للمبعوثان بالنيابة عني. . . هذه قصتي مع والدي أورسيل والد (ابن الزيات) الأديب الوزير، وهي مجملة كثيراً. ولو أردت التفصيل لطال الأمر جداً. ولا يظن سيدي أن والدي استأثر بهذه الخلائق الغريبة (وإن كان قد سبق بها غيره) فآباء الأسر (الشريفة) الماجدة في هذه الطبائع سواء. و (كل تراه من أبيه شاكياً) غير أن ألم كل واحد من الأبناء بمقدار شعوره وإحساسه وعقله.
يقول سيدي: الآن فهمنا قصتك فما السبب في الميل إلى (البرهان) إذ لكل شيء في الكون سبب. فأجيب إن للأستاذ المغربي استيلاء على نفس (إسعاف) غريب لم يستوله أحد سواه(862/12)
والله. وقد كنت أطالع أقواله كلها على كرهي لقراءة أقوال المعاصرين. وأذكر أني أطلعت له في جريدة طرابلسية على فصل من كتابه (أحسن القصص) منذ تسعة أشهر أو أكثر أو أقل. وقد كنت قرأت التاريخ النبوي في كتب جمة، فلم أملك نفسي عن قراءة ذلك الفصل من أوله إلى آخره. ولقد وطنت النفس يوم سافرت إلى سوريا منذ سنتين على أن لا أحج إلى طرابلس لأرى فخرها. فحال دون ذلك مرض عراني وأنا في دمشق. وقد احتفي بي علماء دمشق وعلماء بيروت حين زيارتها احتفاء عظيماً إنساني أني أنا إسعاف، ذلك الغلام الصغير الحقير. ومن الذين غمروني بإحسانهم وأكرموا مثواي الأستاذ البيطار والقاسمي وكرد علي والشرتوني والبستاني وغيرهم، أكرموني وهم يعلمون كما علم الأستاذ أني أمي جاهل. لكن اتبعوا قول أديب خراسان في ذلك الزمان:
لا تعجبن من عراقي رأيت له ... بحراً من العلم أو كنزاً من الأدب
واعجب لمن ببلاد الجهل منشأه ... إن كان يفرق بين الرأس والذنب
علم سيدي ميلي إليه قبل إنشاء جريدته؛ فلما صدر (البرهان) وجاءني دون طلب مني، ورأيته ينظر إلى الحالة السياسية كما أنظرها أنا - ارتحت إليه أي ارتياح، وأنشأت تلك الكلمة ثم أردت أن أخدم (البرهان) بما يجب علي فعاق الذي عاق:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
وكيف لا أجنح إلى خدمة أفضل جريدة في سوريا لأكبر كاتب سوري، وأنا أرى مثل جريدة المفيد (وهي كما يعلم سيدي ويعلم أصحابها) سخيفة لسخفاء، عامية لعوام، يقدم لها المنتدى الأدبي في الأستانة (500) ليرة عثمانية. كما أخبرني رئيس المنتدى نفسه يوم جاء القدس. وقد بينت له قدر الجريدة وقدر أصحابها فحوقل واسترجع. أنا يا سيدي لم أعتد مساعدة الجرائد ولا خدمتها، ولست مشتركاً غلا بالبرهان وفي جريدة أخرى بيروتية كان صاحبها وكيلي أيام كنت في بيروت. وأما باقي الجرائد التي تأتيني وهي قليلة فهي تقدمة من أصحابها. بيد أني أود مساعدة (البرهان) وخدمته لأني أهوى صاحبه. وأكبر دليل على أني أهواه أني أطلعته على ما لم أطلع عليه أحداً، وخاطبته في رسائلي بحرية عظيمة بما لم أخاطب به أصحاب (الجريدة) و (الأهرام) وغيرهم؛ بل لم يكن لي معهم علاقة، ولم أكن مشتركاً في جرائدهم ولم تكن تأتيني.(862/13)
الآن مل الأستاذ وضجر من حوادث إسعاف أو حوادث تلماك وصاح: من أين جاءنا هذا القرد يسرد علينا مالاً يهمنا ومالاً يعنينا. حسبنا الله ونعم الوكيل على إسعاف وعلى فلسطين التي أخرجت هذا الولد. ولكن إذا علم أني ولد (والولد لا يعاتب) خف سخطه علي وربما خطر في باله بعد قراءة ما قرأ أن ينشئ مقالتين: (المقالة الأولى) الآباء والأبناء وعدم إتباع الآباء هذه القاعدة (لا تقسروا أولادكم الخ) و (الثانية) في أولاد السراة الأغنياء الذين أنعم الله عليهم فانغمسوا في الشهوات، وأعرضوا عن العلم والأدب مع أنهم أقدر الناس على تحصيلهما بما توفرت لهم الأسباب. فإذا عزم سيدي على كتابة ذلك فأتضرع إليه ألا يشير إلي وألا يجري لي ذكراً، فإن ذلك يضرني، كما أرجو ألا يطلع على هذا الكتاب سوى الأستاذ فإن فيه أسراراً عائلية كتمها واجب.
ولدكم إسعاف النشاشيبي(862/14)
الحرية في المذهب الوجودي
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
الحرية في المذهب الوجودي من أهم وأخطر نظرياته. ولعلنا نستطيع أن نصفها بأنها العمود الفقري الذي تدور حوله كل فلسفات الوجوديين مهما اختلفوا بصدد المشكلات الأخرى. والفلسفة الوجودية إذ تنادي بهذه الفكرة إنما تريد أن تدع للإنسان فرصة التفكير في نفسه والرجوع إلى ذاته والاحتكام إلى رأيه الخاص في كل مشكلة تعرض له وفي كل موقف يتخذه بمناسبة من المناسبات. فمرد الإنسان إلى ذاته دائماً عند إتيان الأفعال وإبراز الحركات في الفلسفة الوجودية. ومن هنا تمحى كل آلية ويبقى الإنسان محافظاً على جدته وبكارته الأولى.
فالحرية بهذا المعنى تؤكد البدء دائماً، وبالتالي هي الجسر الدائم من اللاوجود إلى الوجود، من الإمكان إلى الواقع الحي. وننبه هنا بهذه المناسبة إلى شيء في غاية الأهمية، وهو أن الوجود الإنساني في حد ذاته لا يعد وجوداً ولا ينظر إليه بوصفه واقعاً، وإنما هو إمكان مطلق، فمجرد وجودي أنا إمكانية فحسب لا تتحول ولا تصير وجوداً ولا تتجسم في هيئة واقع إلا بعد أن أتحرك وبعد أن آتي جملة من الأفعال. فهذه الحركات وتلك الأفعال هي التي يتوقف عليها الوجود الإنساني الذي يكون حاصلاً بالفعل. وما دام من المستحيل على كل إنسان أن يأتي أفعاله من غير ارتكان إلى نوع الاختيار أو قل ما دام كل عمل يصدر عن الإنسان هو تصرف مبني على فكرة خاصة، كان للحرية أكبر مقام في نفس الإنسان وأخطر أثر في حياته. وواضح أن قيمتها لا ترجع إلى أنها طريقة في العمل ووسيلة إلى التأدية فقط، وإنما ترجع إلى ضرورتها بالنسبة إلى الحياة بأكملها. فالحياة لا يمكن إلا أن تكون فعلاً، والوجود هو وجود العمل والحركة. إذ ما قيمة إنسان حي مغطى بالتراب في باطن الأرض ما دام لا يقوى على العمل وإصدار الحركات وإتيان الأفعال؟ أو قل إذا افترضنا وجود إنسان مغمض العينين، ساكن الجسم، لا يصحو ولا يتحرك، ولا يؤذي ولا يطمع، ولا يمرض ولا يموت، ولا يتمنى ولا يطلب. . إلى آخر هذه الصفات الإنسانية؛ فهل يمكن أن نطلق كلمة الإنسان على هذا المخلوق؟ لا بطبيعة الحال، لأن الوجود وجود خصائص معينة وارتباطات قائمة وأفعال ظاهرة وحوادث في الخارج وليس مجرد وجود(862/15)
لأشياء وحاجات، فالوجود وجود أفعال، والأفعال لا تحدث بغير اختبار، والاختيار قائم على إرادة حرة. . وبذلك ندرك خطورة الحرية في حياة الإنسان.
فالحرية على هذا النحو هي الفيصل بين وجود الإنسان وغير الإنسان؛ بل إن الحرية هي الإنسان في رأي سارتر. وإذا شئنا أن نبدأ بتحليل أولي لهذه الفكرة عنده فلا بد من الرجوع إليها في تفرقة وضعها (هيدجر) أولاً ثم توسع فيها جان بول سارتر بعد ذلك في كتابه المسمى بالوجود والعدم. ففي هذا الكتاب - وهو بمثابة الإنجيل في الوجودية المعاصرة - يذهب سارتر إلى أن هناك نوعين من الوجود: وجود الإنسان وهو الوجود لذاته، ووجود الأشياء وهو الوجود في ذاته.
والوجود لذاته - أي وجود الإنسان - هو الوحيد الذي يمتاز بين قسمي الوجود حسب تفرقة سارتر في خاصية التفريغ والانقسام على نفسه بحيث يصبر بعضه مقدماً أو معطى أو حاضراً بالنسبة إلى بعضه الآخر. فوجود الإنسان يتكون عادة من فرعين ويحدث بين هذين الفرعين نوع من الإحالة المتبادلة وشيء من التكيف الظاهر. أما الوجود في ذاته فلا يعرف الانقسام ولا يحدث فيه تجويف ولا يصيبه الفراغ. ولذلك نلاحظ أنه على الرغم من أنه كان يكون طبيعياً جداً ظهور العدم في طيات الوجود في ذاته، لا نكاد نجد له أثراً هناك ولا نكاد نعثر على شيء منه لديه، وتفسير ذلك تبعاً لنظرة سارتر خاصة أن وجود الأشياء لا يعرف الزمن أولاً ولا يدرك معنى الحرية ثانياً، أما الإنسان فهو وحده الذي يستطيع أن يحس بالحرية وأن يشعر بمدلولها ويفهم المراد منها.
وإذا تساءلنا عن السر الذي يجعل الإنسان من بين نوعي الوجود قادراً على استيعاب فكرة الحرية والتأثر بها فإننا نجده في هذه الظاهرة البسيطة والغريبة في آن معاً وهي أن الإنسان وحده من بين نوعي الوجود يحتوي على ما نسميه في الفلسفة بالعدم؛ بل عن العدم يضرب في بطن الوجود الإنساني بحيث يستفرق كيانه باجمعه، ويختلط بحياته على نحو يشعرنا بالرابطة الأصلية بين كل منهما. فالوجود بالنسبة إلى الإنسان خاصة عبارة عن إعدام كل ملامح (الوجود في ذاته) فيه، والتخلص من آثار الشيئية التي تداخل تركيبه. وعملية الإعدام هذه إنما تأتي من جانبين أو تحصل من جهتين: أولهما أن الإنسان يحاول دائماً ألا يجعل المكان الأسمى في نفسه للأشياء الجامدة التي يتركب منها ويسعى جهده من(862/16)
أجل السيطرة عليها وتسييرها حسب إرادته ومشيئته، ولا يكون عبداً لها، خاضعاً لما تقتضيه ظواهرها، اعني بذلك أن الإنسان مكون من مادة؛ ولولا أن هذه المادة قد داخلت تركيب الإنسان لصارت في نطاق القسم الثاني، قسم الأشياء في ذواتها، ولذلك يحاول الإنسان ألا يجعل لها الأولية في تكوينه وأن يعدمها إعداماً ليخرج في النهاية بوجوده المعروف لدى البشر. وثانيهما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحس بالوجود؛ وبالتالي هو الكائن الوحيد الذي يدرك معنى العدم، لأن العدم على خلاف ما نظن أو يبدو لنا من أول وهلة لا يعرفه إلا الموجود الذي يشعر بأنه موجود، لم يكن هناك عدم قبل الوجود، بل الوجود هو الذي كان، فكان العدم، فنحن نعرف العدم لأننا وجدنا ولو لم نوجد لما عرفنا دلالته ولا أحسسنا بماهيته، إذا فالوجود هو الأصل في الإحساس بالعدم والاهتمام بأمره، ولا عدم إلا بالوجود، وما دام المعدوم معدوماً فلا وجود هنالك، ولا عدم أيضاً بناء على ذلك، فالمعدوم لا يلم باسم العدم ولا يدل العدم عنده على شيء، فالإنسان يوجد، وساعة يوجد ينفذ إليه العدم ويخترق الصفوف نحوه ويبزغ أمامه في عقله وفي شعوره، ومن هنا نستطيع أن نقول عن العدم أنه وليد الوجود وإنه ناشئ عن حدوث ظاهرة الحياة.
والعدم النفسي هو الذي يهمنا إذا تكلمنا عن الوجود الإنساني لأننا لا نستطيع أن نتكلم عن العدم الحقيقي ما دام لم يدخل حتى الآن في تجربة واحد من البشر. وإذا شئنا تحديد مظاهره فإننا نستطيع أن نلمسها من ثلاث نواح:
أولاً: من ناحية إعدام الماضي
ثانياً: من ناحية إعدام الممكنات
ثالثاً: من ناحية العدم الذي يفصل بين الوجود وما هو عليه وبين الوجود وما يصير إليه، ومن هذه الإعدام الثلاثة سننتهي إلى الحرية وسنجد ثغرة ندخل منها إلى مفهوم الحرية كما ترد على لسان الملحدين الوجوديين خصوصاً.
فمن الناحية الأولى نلاحظ أن وجودنا في الحاضر لا معنى له إلا من حيث ارتباطه بسلسلة من الأفعال والحركات التي سبق إتيانها في حياتنا والتي سبق إلحاقها بتاريخنا الخاص، والعمل في الحاضر إنما هو عمل من أجل إبعاد الحاضر وزحزحته عن مكانه وإسقاطه من دائرة الوجود. ولذلك نستطيع أن نحكم على كل فعل من الأفعال بأنه متوقف على انعدام ما(862/17)
سبق فعله وانتهاء مرحلة من مراحل الحياة أنتهاءاً كلياً. فالحاضر متوقف على أنقضاء الماضي. ويعتمد على الفراغ الذي يحدثه استبعاد جانب من الجوانب. ولكنك مع ذلك تحكم حريتك في كل لحظة زمنية تمر بك وفي كل فترة تنقضي عليك، ولا مناص من استخدام الحرية في كل فعل من الأفعال التي تعلن انقفال الماضي وتشييع أحداثه وحاجته، فأنت في كل لحظة تريد أن ترفع الماضي من طريقك لتضع جديداً وكلما أتيت على محاولة من هذا القبيل، لإحلال الجديد محل القديم، اضطررت اضطراراً إلى استعمال الحرية. وإلا فكيف يمكنك أن تأتي فعلاً من الأفعال؟ إن الإنسان بطبيعة تكوينه مضطر أن يكون حراً كما يقول سارتر، بل أنه لا يملك الحرية في ألا يكون حراً. وإذا تمثلت الحرية المقضي على الإنسان بها أو التي حملها الإنسان في شيء من الأشياء فإنما تتمثل في الأفعال التي يأتيها والأعمال التي يندفع نحوها من أجل تحقيقها.
وترجع أهمية الماضي بالذات في تقرير فكرة الحرية هاهنا إلى أنه الأصل الذي يؤدي بدوره إلى نوع من الالتزام. فكما أن إعدام الماضي يتمثل في قضاء فترة، يتمثل كذلك في تحطيم اللوازم ورفع الضوابط وإزالة القيود. فالماضي ضروري من أجل سير الحاضر ومن أجل تهيئة الحرية بإيجاد نوع من الالتزام الذي لا توجد حرية بغيره ولا تتوفر إرادة بدونه. فالقيد أو الالتزام ضروري لإيجاد الحرية لأن الحرية ستتضح من الوقوف وجهاً لوجه بازاء هذا القيد وذاك الالتزام والعمل على رفعه ومحوه وإزالته بالثورة عليه. يقول سيمون في تعليقه على هذه النقطة من فلسفة سارتر: ينبغي أن تنبعث الحرية الصحيحة في الفعل وفي التاريخ وهي لا توجد ما دامت محتواة في المشروع الذاتي للحكم والتأمل أيضاً، إنها تفرض التزاماً إذاً، ولكن الفعل ليس حراً تماماً إلا إذا كان ثورة على قوى العالم. . فالالتزام شرط ضروري للتصرف الإنساني الحر، بيد أنه ليس شرطاً كافياً إن الشرط الكافي هو الثورة التي هي روح للحرية.
والإنسان بازاء فعل من الفعال (وهذا يتبع النقطة الثانية) يتخذ أسلوباً خاصاً به وينتحي منحى لا يشاركه فيه سواه. قد يكون هذا متماشياً مع ظروفه وتابعاً لما تقتضيه مناسباته ولكنه مع ذلك يقحم حريته إقحاماً ويدخل إرادته إدخالاً يتمثل في عملية الاختيار: ويتخلل عملية الاختيار صعوبات كثيرة تشكك في أمره وتشعرنا بضعف مركز الحرية إذا قيس(862/18)
إليها. ولكن شيئاً ما لا يجعلنا نؤمن بالحرية الإنسانية في عملية الاختيار قدر ما تجعلنا هذه الصعوبات نفسها نؤمن بها. لأن الحرية إنما تعرف بالحيلولة بينها وبين الوجود وبالعقبات التي تصادفها وبالموانع التي تبطل عملها أكثر مما تعرف بالانسياب المطلق والإرادة البريئة والاستقلال التام. إن الشعب المستعبد هو الذي يتحدث عن الحرية، والعبد وحده، من بين خلق الله، تجول بذهنه فكرة العمل الفردي البعيد عن المؤثرات والرغبات الأخرى. ويقول سارتر نفسه في مقال له بعنوان جمهورية الصمت في الجزء الثالث من كتابه (المناسبات) الذي ظهر أخيراً: لم نكن قط أكثر حرية مما كنا تحت ظلال الاحتلال الألماني حيث فقدنا كل حقوقنا وبالتالي فقدنا حق الكلام، فقد كانوا يشتموننا في وجوهنا كل يوم، وكان ينبغي علينا أن نسكت. وكانوا ينفوننا جماعات جماعات كالعمال والمعتقلين السياسيين. وكنا نجد في كل مكان، على الحوائط وفي الصحف وفوق شاشة السينما، تلك الوجوه القذرة الباهتة التي حاول مستعمرونا أن يعطوها لنا عن أنفسنا. وبسبب هذا كله كنا أحراراً.
أرأيت إذا إلى هذه الحرية الغريبة عند سارتر. إنها تتوقف كما ترى على الحوائل والموانع أكثر مما تتوقف على الأنفكاك والطلاقة. إنها حرية تنبئ على الوضع القائم ولا تجنح إلى الخيال. وتنبع من صميم الوجود الحاضر المتمثل في الظواهر المحيطة والأشياء المجتمعة. لقد سبق أن قلنا عن المعدوم أنه لا يعرف العدم وأن الميت لا يدري قط معنى الموت؛ أما الحي فهو عالم تماماً بالموت ومدرك تماماً لمدلوله، وكذلك هنا نستطيع أن نقول عن الحرية أنها لا يعرفها إلا العبيد والمأسورون والمحاطون بالقيود والحواجز.
وهذه الحرية، بالإضافة إلى ذلك، قائمة على أساس اختيار غاية من الغايات وانتقاء هدف من الأهداف، وبكلامنا في هذا العنصر وتوضيحنا لهذا المعنى سنقرر أولا كيفية استكمال ما قصدناه في النقطة الثانية، وسنبدأ ثانياً بالحقائق والشروح التي تتضمنها النقطة الثالثة. فأنا حين أختار غاية دون غيرها من الغايات آتي على فعل واضح كل الوضوح بالنسبة إلي وهو أنني قد آثرت شيئاً على سواه. وينبغي أن نلاحظ هنا الفارق الكبير الموجود بين عملية الاختيار وبين عملية الانتقاء. فهذا الأخير عبارة عن تفضيل شيء بحكم فائدته المرجوة ونفعه المنتظر، وبحكم امتيازه من ناحية القيمة الكامنة فيه واللذة التي تعود من(862/19)
ورائه على صاحب الشأن. أما الاختيار فلا ينصب على الأفضل وإنما ينصب على الأوفق مهما كانت درجة انحطاطه وسخافته ومهما بلغ من التفاهة في أنظار الناس الاختيار بريء من الغرض وخال من المنفعة وقد يكون من ورائه ضرر أي ضرر. ولذلك نباعد بينه وبين التفضيل والانتقاء؛ ونذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن الاختيار أكثر التصاقاً بالحرية ما دام ينبني على أخطار أكثر وعلى مآزق أشد وعلى مجال أضيق. ثم إنني في الاختيار بغير انتظار لمنفعة وبدون أمل في كسب أنشد غاية من الغايات وألغي ما عداها. فأحس بأنني حددت من وجودي مرة واحدة بلا مقابل وانصرفت إلى جانب واحد أعيشه وأجلب ممكناته. وفي الوقت نفسه أعدمت بيدي سواها من الغايات حيث لا ضمين لي على حسن الاختيار ولا شفيع لي عندما تؤدى إلي أدنى وضع وأخس درجة.
فحسب النقطة الثانية نواجه الغايات فنعدمها إلا واحدة وفي هذه الفعلة نحن نحصر أنفسنا في نطاق واحد ونعدم ما عداه فتكون الحرية عند الاختيار متوقفة على العدم المتمثل في عملية الإعدام هذه أي ذلك العدم الذي ينزل بساحة الغايات الأخرى التي لم تقع عليها الخيار. أما حسب النقطة الثالثة فنذهب بعيداً لننظر في العدم الذي يحول بيني وبين تحقيق الغاية التي أخترتها، إن الدافع والفعل والغاية تكون لدى سارتر شيئاً واحداً متصلاً وتعد في نظره كلاً ملتحماً. وهذا عادي جداً في نظر الفيلسوف الذي لا يعترف بالتجزئة في الشيء ما دام من الممكن استكماله في الزمن. إن الزمن حقيقة. يعمل الفيلسوف حسابها ولا يخشى من الحكم عليه بأنه ينظر في أمور لا وجود لها. لقد كان أر سطو مهتماً خصوصاً بالبحث في العلة الغائية ولم يخش تقول القائلين ومزاعم الناقدين الوضعيين من أبناء هذا العصر الحاضر. وكان يريد ألا ينظر إلى الوسائل إلا من خلال الغاية ولا يتطلع إلى الأجزاء إلا من نوافذ الكل المكتمل وإذا كان هذا دأبه فلا بد من الشعور بأن المستقبل على الرغم من أنه في جوف العدم، يحتوي على حقيقة وجودية هامة هي حقيقة الغاية التي نعمل على تحقيقها بالوسائل المختلفة والأدوات المتباينة. فالغاية ليست بمفردها ولا تقوم بمعزل عن الفعل والحافز في فكرة الحرية تبعاً للنظرة الوجودية الفلسفية. ولكن لا يعني ذلك أن الغاية موجودة وجوداً واقعياً؛ إذ أن العدم يفصل بينها وبين الوجود الوقتي في اللحظة الحاضرة. فالحرية عند سارتر تتعلق بالغاية، والغاية بعيدة عن الواقع بقدر ما يبطلها العدم أو بقدر ما(862/20)
يرفضها الوجود؛ وإذا تحققت صارت واقعاً وتمت الحرية. ولهذا تتصف الحرية بالخلق وتتصف بالامعقولية في آن معاً لاستحالة الوقوف على المستقبل بصورة أكيدة ولصعوبة التعرف الموثوق به على منبع الإمكانيات المتدفقة في الوجود الثر.
وهكذا ننتهي من التخطيط المتافيزيقي لفكرة الحرية حسبما تمثلت في فلسفة سارتر خاصة وعند إضرابه من الوجوديين المحدثين. ولكن لهذه الفكرة في المذهب الوجودي تخطيط آخر من الجانب الأخلاقي البحت سنحاول أن نبحثه في مناسبة قادمة. وكل ما نتمناه هو أن نعطي صورة واضحة عن هذه الأصول الفلسفية لدى الغربيين حتى نستكمل مقوماتنا الروحية وحتى نضع الدليل الدامغ على أننا نستطيع أن نناقش ونستطيع أن نؤمن مهما كانت درجة الخطورة في الأفكار المنقولة من شمس الأصيل في حضارة الغرب.
عبد الفتاح الديري(862/21)
جان دارك
(1412 - 1431)
سيظل اسم جان دارك مقروناً بالإعجاب والدهشة إلى الأبد، لأن هذه الفتاة البسيطة أنفذت في حياتها القصيرة عملاً جليلاً يعد من معجزات الدهر. وهي بذاتها وحدة من عناصر العظمة، وقائدة حيث نسي معنى القيادة، وإلهام في جيل إنعدم فيه الإيمان، ومنقذة لبلادها من وهدت الضياع.
وجان دارك رمز خالد للمحاربين الفرنسيين الذين عملوا معها على خلاص بلادهم من يد الأنجليز، وهي للفرنسيين الوطن الذي له يحيون ومن أجله يموتون، وهي في نظر الإنجليز ليست أقل من ذلك. ويقترن الاحترام المطبوع في نفس كل إنسان لجان دارك بالعار الذي لطخ الإنجليز به التاريخ بإحراق هذه الشهيدة القديسة ولا سيما إذا علمنا أن سبب إعدامها هو تخليص وطنها. ولتعجب عندما تعلم أن تسليمها إلى يد معذبيها كان بواسطة مواطنيها من أجل ثلاثين قطعة فضية بيعت بها.
وتتلخص قصة هذه البطلة في أن فرنسا كانت تحت حكم الإنجليز، وكان الملك في عهدها معتوهاً يطلق عليه الفرنسيون (ملك البورج) تهكماً وسخرية؛ لأن منطقة البورج هي كل ما بقيت له مما ورثه عن آبائه العظام. وكان حال الأمن في فرنسا على أسوأ ما يكون. فإلى جانب اعتداء جيش الاحتلال كان نهب قطاع الطرق وسلب اللصوص. وتعطلت الأعمال في نصف الأراضي الفرنسية بما عليها من كنائس جميلة البناء وقرى مستقرة بزرعها وصناعاتها بينما كان ولي العهد محاطاً ببطانته السيئة يحيا حياة فراغ وكسل وإهمال.
ومن هذه الصورة التي رسمتها لك قامت لنجدة فرنسا فتاة قروية لا شأن لها إلا رعاية أغنام أبيها وقطعانه، أو تطريز أقمشة للكنيسة بمساعدة أمها. وكان قلبها ملآن بالورع والتقوى تتخيل وهي أمام القداس أنها ترى الضوء المعكوس على زجاج نوافذ كنيسة دومرمي كأنه نصر مزدهر للأيمان والوحي اللذين لم تستطع أن تفهم كنههما بأكثر من أنهما هبة من الله القدير. وكانت عذراء دومرمي تستمع إلى قصص الحرب وأهوالها في أبناء وطنها وسلب أراضي بلادها، وقوى أثر هذه القصص في نفسها فملأها قوة وحماسة. وتحول إيمانها الذي أكسبتها الكنيسة إياه إلى ما يشبه الوحي المنزل عليها من السماء.(862/22)
وتخيلت أنها ترى قديسون يزهون في لباسهم الأبيض الناصع ينادونها أن خلصي فرنسا، بل لقد أفزعتها يوماً أصوات تحدثها وهي منفردة في حديقة دارها (يا ابنة الله، إلى الأمام وأنا معك). أنصتت لهذه الأصوات وهي مأخوذة خائفة، وأصبحت تحيا في عالمين أحدهما بيئتها والثاني السماء والقديسون والملائكة. واعتقدت أن الله يوحي إليها. وهكذا رسخت هذه العقيدة في نفسها إلى آخر يوم في حياتها.
ومن هذا الأيمان الغامض الذي لا يمكن تفسيره بانت معجزتها. ولسنا إزاء الحقائق التي حصلت على يدها بقادرين على إنكارها، فإنها قلبت التاريخ رأساً على عقب. ولم تبلغ هذه العذراء سوى ستة عشر سنة عندما نهضت لخلاص فرنسا وتثبيت عرش ملك مزعزع وطرد الإنجليز ومنح بلادها روحاً جديدة جعلتها بين مصاف الدول الكبرى. وبدأت مخاطراتها العظيمة مسلحة بالأيمان بالله، ولم يستطع أحد إرجاعها عن عزمها بل لم يجد غضب أبيها ولا إغراؤها ولا السخرية منها بل ولا حرمان الكنيسة شيئاً لردعها عن تصميمها، وصرح لها أبوها بأنه يفضل إغراقها في نهر الميز على أن يراها تعتلي صهوة جواد بجانب الجند. وعندما قابلت حاكم المدينة وطلبت إليه تقديمها إلى ولي العهد لتبليغه رسالتها طردها مشيعاً إياها بالسخرية، وعندما اجتمع الحاكم بعمها وقسيس الكنيسة تداولوا في شأنها فلم يسع القديس إلا أن يطلب إلى الله أن يبعد عنها الأرواح الشريرة.
ولكن لله حكمة: يختار أبسط الأشياء ليحير به الألباب. وفي النهاية تم النصر لجان إزاء إصرارها، فإن حاكم فاكولير أرسلها مع جنديين إلى البلاط في شبنومرتدية ملابس الفرسان، وسافرت مع رفيقيها أحد عشر يوماً في طريق غير مأمونة، فكانوا ينامون النهار ويسيرون الليل اجتناباً لمصادمة الفرق الإنجليزية الجوالة، ويخوضون الأنهار حتى لا يدخلوا المدن. وكانت تتمتم وهي سائرة (مهد الله السبيل إلي فإني خلقت لهذا) حتى بلغوا البلاط حيث كان يقضي الملك شارل السابع أيامه وسط المهرجين والمنافقين.
وكانت جان ترى أن الملك الطيب هو الذي يكرس حياته لأسعاد بلاده ومع ذلك أرادت أن تثبت عرش شارل السابع وهو مجرد من كل فضيلة لأن تثبيته تثبيت للملكية وهي أساس نظام الحكم في فرنسا.
أرادت أن يخلص أمر فرنسا ليد ولي العهد ليسير بها إلى المجد عن طريق جديدة غير(862/23)
التي سلكها أبوه، وأن يبدأ هذه الطريق بتتويجه ملكاً أمام جميع الفرنسيين - وبعد انتظار يومين مثلت بين يديه. ومما لاشك فيه أن هذه المقابلة كانت مثاراً للغرابة والتسلية. وسارت العذراء القروية التي كانت تجهل كل من قابلتهم في البلاط إلى حيث الملك وركعت أمامه وقالت مشيرة إلى ولي العهد بارك الله في حياتك، فابتسم ولي العهد وقال لها: لست أنا الملك ها هو جلالته. فأجابته، أيها الأمير الرقيق، انك هو وليس غيرك، أرسلني إليك ملك السماوات لأبشرك أنك ستتوج ملكاً في ريمس. ثم همست في أذن الملك شارل بكلمات عدها فيما بعد برهاناً ساطعاً على ولائها وصدق إلهامها.
كان الملك في أول الأمر تحت تأثير عاملين: أحدهما نوع من الهيبة من هذه الفتاة الغريبة التي جاءته وفيها قوة مقدسة؛ والعامل الآخر هو السخرية والتهكم اللذان قابل بهما كل فرد مطالبها الغريبة. ولكن الأمر انتهى بانحياز الملك إليها وأعلن أن جلالته اقتنع بقداسة الفتاة وأنه قرر الانتفاع بها.
وكان الجيش الإنجليزي محاصراً لأورليان وساداً الطريق إلى ريمس؛ فكان أول أوامر الفتاة طرد الفصائل الإنجليزية من خطوطها ورفع الحصار. وأعطيت علماً أبيض ذهبياً مرسوماً عليه صورة المسيح فكانت طوال أوقات انتصاراتها تحمل هذا العلم، وأتى إليها بسيف لم تستخدمه مطلقاً من وراء محراب تصورت أنه أوحى إليها به؛ فكنت تراها صورة مقدسة في لباسها الأبيض تجتاز على جوادها الطرق منتصرة كأنها رسالة الله إلى وطنها.
وتقرر تنصيبها قائدة على رأس الجيوش الملكية. وفي أبريل من سنة 1429 سارت بجيشها إلى أورليان حيث طلبت من الإنجليز - بأمر الله القاهر - مفاتيح المدن التي استولوا عليها عنوة واقتداراً ورجت منهم الخروج من البلاد، وأعلنت في حالة عدم تصديقها (أنها ستقيم ثورة في البلاد لم تعرفها فرنسا منذ آلاف السنين).
وسخر منها المغتصبون وأجابوا على طلبها بأن الأجدر بها الرجوع إلى مهنتها: حلب الأبقار ورعاية الأغنام. ولكن كان في هذه الراعية إلى جانب إيمانها الثابت برسالتها صفة القيادة، وكانت أكثر من مساعديها من القواد عرفاناً بالواجب الملقى على الجيش، فأندفع الجنود والمتطوعون متأثرين بروحها فيهم إلى الحصون الإنجليزية واستولوا عليها وارتد(862/24)
الأعداء هاربين وقد انكسرت قوتهم، وأزيل الحصار الذي لزم لإقامته سبعة أشهر في ثمانية أيام؛ وأصبحت جان دومرمي بطلة أورليان.
أذيعت أخبار هذا النصر في كافة أرجاء فرنسا، وكانت لغرابتها غير مصدقة بل قوبلت في البلاط بنوع من الخوف والريبة. ولما طلبت جان إلى ولي العهد أن يتبع الانتصار بالسير إلى ريمس أجاب بأن في الوقت متسعاً لهذا فردت عليه قائلة: تنبأت أني (سوف لا أعيش غير سنة واحدة فأستغل وجودي) ولقد صدقت النبوءة فإنها لم تعش غير عام واحد وأي عام!! ففي طريقها إلى ريمس سلمت مدينة تروس بمجرد ظهورها أمام أبوابها ثم سقطت شالون. ولما كانت هذه المدينة لا تبعد إلا قليلاً عن دومرمي سار إليها جيرانها ليتأكدوا من صحة كل ما سمعوه عن عذرائهم.
ولم تستمر الغزوة أكثر من ستة أسابيع امتاز كل يوم فيها بالنصر المبين، وركب شارل إلى ريميس حيث توج ملكاً في كنيستها، رمز فرنسا الروحي - وركعت جان المنصورة أمامه صائحة وعيناها مغرورقتان بالدموع: (لقد تم ما أراده الله).
ولو قدر لقصتها أن تنتهي إلى هذا الحد؟ ولكن القدر فرض عليها أن لا تكون خاتمة بطولتها في كنيسة ريمس بل في كنيسة روان بعد سلسلة أثيمة من الغدر والهزيمة والفزع إذ حكم عليها بالموت الشنيع. وتفصيل الخبر أن جان قررت العودة إلى قريتها وفي يدها المكافأة الوحيدة التي طلبتها وهي إعفاء قريتها من الضرائب ولا تجد سجلات ضرائب مدن وقرى فرنسا أمام قرية دومرمي إثباتاً لدفع الضرائب مدة ثلاثمائة وستين سنة.
إذن نجحت جان في عملها. وحركت نشوة النصر في نفوس قواد الجيش رغبة في التوغل. وترددت جان لأول مرة منذ خروجها من قريتها في قبول هذه الرغبة وتهيبت التوغل المطلوب فلقد أتمت ما أملاه عليها وحيها وهو لا يطرق صوته أذنها الآن، إلا أنها واصلت الغزوات معتزمة تخليص باريس. وسلمت لها سواسون وكذلك شاتوفيري. ومن الغريب المدهش أن الملك شارل الخبيث الذي قامت جان بهذه الأعمال من أجله عقد اتفاقاً سرياً مع أعدائه خان فيه جيشه؛ ففي الوقت الذي كاد يتم فيه تخليص باريس استدعى قواده وترك جان وحيدة في غير معين.
حتى هذه اللحظة لم يستطع أعداء فرنسا هزيمة جان إلا إن إهمال الملك إياها غير من(862/25)
حظها فقد هبط ميزان الإخلاص لها ولكنها ظلت برغم هذا الغدر موالية للبلاط. ذهبت إلى كنيسة سانت دنيز وألقت عن نفسها لباسها الحربي وتركته على هيكل الكنيسة واندمجت في البلاط مدة قصيرة مخلصة له فلما رأت أن لا محل لها به هجرته.
لا بل إنها مدت يد المساعدة من جديد إلى هذا المخلوق المسكين الذي أهملها وهي توجته وذلك في كامبين حيث حلت به ورطة كادت تفقده حياته فأسرعت إليه وألفت فصيلة للسعي إلى تخليصه. وفي أثناء هجوم غير منظم أحاط بها الأعداء فسقطت عن جوادها وقبض عليها ثم بيعت إلى الإنجليز مقابل دراهم معدودة.
لم يمد أحد يده لنجدتها. نعم إن سكان المدن الذين خلصتهم بكوا من أجلها ولكن فرنسا الرسمية لم تحرك ساكناً بينما أشعلت باريس المشاعل وأخذ أهلها يغنون فرحين لأن جان قيدت بالسلاسل وأودعت قفصاً من حديد، وفي روان أخرجوها من قفصها وشدوها إلى عمود يحرسها الجند ليلاً ونهاراً يتجسسون عليها، ثم واجهوها في كنيسة صغيرة في معقل روان بقضاة عينوا لمحاكمتها.
وليس هناك إنجليزي واحد لا تخجله هذه الصفحة من تاريخ إنجلترا. ولو عذرنا الإنجليز فيما فعلوه بجان لأنها عدوة لهم يرون فيها ساحرة ذات دهاء وخبث وقوة وإصرار فما الذي نقوله عن مواطنيها أنفسهم الذين تخلوا عنها وباعوها ثم قعدوا ساكنين لا يتحركون يشاهدون أدق فصل من فصول مآسي التاريخ كما يشاهد المتفرج قصة بسيطة على مسرح التمثيل؟
وكان لا بد من محاكمة جان دارك بتهم وضعوها لها وأحاط بها القضاة كما تحيط الذئاب الكاسرة بالحمل الوديع مصممة على الفتك به. هددوها بالتعذيب وأمطروها وابلاً من الأسئلة ولكنها رغم كل ذلك بقيت على إنكارها للتهم التي كيلت لها.
وفي النهاية أخبروها أنها لو وقعت على ورقة تقر فيها أنها مذنبة قاتلة لا يحكمون عليها بالقتل، فأجابتهم متحدية أنها لا تخضع لأمرهم ولو رأت النار مهيأة لها - وأخيراً بعد أن ذاقت جان مر العذاب أخذت المسكينة تستعطف قضاتها معلنة إليهم أنها امرأة ضعيفة كسر قلبها طول العذاب والتهديد بالنيران. ولم يجد استعطافها شيئاً أكثر من زيادة التعذيب فخضعت لهم بدافع حب الحياة وتأثرت بصياح الشعب فيها (هل تودين الموت يا جان؟ ألا(862/26)
تنجين نفسك؟).
ووقف كوشون وفي يده ورقتان مخطوطتان عليهما جملتان أحدهما السجن المؤبد إذا خضعت لما طلب إليها؛ والثانية إحراقها لو ظلت على إنكارها. فلما قدمها إليها للتوقيع على أحدهما وقعت على الأولى وخط كاتب الجلسة وهو جيلبرت مانشون على هامش الورقة هذه الكلمات (وفي آخر الحكم قالت جان تحت تأثير الخوف من الإحراق بأن عليها إطاعة أوامر الكنيسة).
حصلوا على مبتغاهم فأرسلوها موثقة إلى سجنها. فلما رأت نفسها وحيدة عاودتها شجاعتها فأعلنت أنها لم ترتكب أي جرم وإن كل ما قالته كان خوفاً من النيران؛ إلا أن صراخها ذهب هباء وتقرر إحراق العذراء البريئة التي كانوا يخشونها في قلوبهم.
وتبع الجنود الإنجليز العربة التي حملتها إلى السوق القديمة في روان حيث أعدت لها النيران، وصفت الكراسي على الأفريز جلس عليها الأساقفة لمشاهدة حفلة إحراقها وخطت إليهم طالبة صليباً إلا أن أحداً منهم لم يجرؤ على إعطائها إياه.
وأوقدت النار، وتطلعت جان لآخر مرة إلى العالم الذي ملأته نصراً وإعجاباً فظهرت وعليها مسحة نبيلة هي قوة مقدسة من وراء العالم وتخيلت أنها تسمع الأصوات التي اعتادت سماعها تكلمها من قلب النيران وصاحت (قد كنت أضنني مخدوعة) وهذه هي آخر جملة فاهت بها - وجمع أسقف وينشستر رفات جسدها المحروق ونثره في نهر السين وحلقت روحها العظيمة فطمست عار الذين حولها وقسوتهم. وترى اليوم تمثال جان دارك الذهبي مواجهاً لأسقفية وينشستر في كاتدرائيتها وستظل إلى الأبد رمز المثابرة والوفاء والشجاعة النادرة وطهارة القلب - وإذا كانت قلوبنا تتفطر حسرة على نهاية هذه البطلة المحزنة إلا أن هذه النهاية تتوج من غير شك قصتها العجيبة.
عبد الرحمن فهمي(862/27)
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ سيد كيلاني
الدور الأول 1850 - 1882
3 - أساليبه وألفاظه
كانت أساليب الشعر في هذا الدور ضعيفة ركيكة مبتذلة، وتراكيبه سقيمة تكاد تكون عامية، وذلك نتيجة لانحطاط الشعر في الأجيال السابقة، وبعد الشعراء عن دراسة آثار الفحول الذين ظهروا في عصور الرقي والازدهار. ومن أمثلة هذا الضعف قول صالح مجدي:
وأختص كلاً بقانون فترجمه ... بسرعة وبيان واضح الكلم
فقوله (بسرعة) مما يجري على ألسنة العامة.
وقول عبد الله فكري:
وفي علم مولاي الكريم خلائقي ... قديماً وحسبي شاهداً مخلصاً براً
فعبارة (وفي علم) سوقية محضة.
وقال الليثي:
فإن مصاباً حل قد حل وانقضى ... ونحن بما يأتي نسأم ونشغل
فصدر هذا البيت مما تنطق به الدهماء.
وقول أبى النصر:
ومني عليكم كل يوم تحية ... وسائراً أحبابي الكرام ذوي المجد
كذا جملة الأخوان شرقاً ومغرباً ... متى سألوا عني ولو أخلفوا وعدي
وهذا من كلام الأميين. والأمثلة على ذلك كثيرة يتبينها كل من رجع إلى دواوين هؤلاء الشعراء.
وترى كثيراً من تراكيب شعراء ذلك الدور مضطربة، حتى أنك تجد مشقة في قراءتها. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
فالاضطراب ظاهر في قوله (توجه وجهة) وفي قوله (الكبرى وكبر، والكبرا) ولا شك في(862/28)
أن الإنسان يتعثر في تلاوة هذا البيت ويمل من ترديد الكلمات المتشابهة في اللفظ.
وقول صالح مجدي:
سمت روضة الأنس الجمالية التي ... بها الصدر إسماعيل ذو الدولة اعتنى
والاضطراب في البيت كله ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
وقول أبو النصر:
هو الشهم إسماعيل إن رمت وصفه ... تجده بجيد المجد واسطة العقد
فعبارة (تجده بجيد المجد) ينفر منها الذوق وهي من أثقل التراكيب على اللسان.
وقوله:
نرجوه إنجاز اصلاح الشؤون عسى ... يصفو به الملك دانيه وشاسعه
والضعف في صدر البيت أظهر من أن يدل عليه.
وقول محمد سعيد:
وأقبل عيد العود بعد انتظاره ... بيمن له العلياء بالأنس تفتر
وقد اشترك شعراء هذا الدور في استخدام كلمات معينة. ومثال ذلك كلمة (شهم) التي وردت في معظم قصائد المدح. قال رفاعة:
في كفه سيفان سيف عناية ... والشهم إبراهيم سيف ثاني
وقال إبراهيم مرزوق:
ويبيد العدى بسطوة شهم ... لا يباريه هاصر في جلاد
وقال أبو النصر:
هو الشهم إسماعيل إن رمت وصفه ... تجده بحيد المجد واسطة العقد
وقال علي فهمي:
والخديوي المليك أول شهم ... بخطا حاضر المخاطر أنذر
وهكذا لم يجد الشعراء أمامهم غير هذه الكلمة مع أن اللغة العربية غنية بالمترادفات.
واشترك معظمهم في استخدام تعابير خاصة، مثل (وكيف لا).
قال الليثي:
وكيف لا وخديو مصر ألبسها ... ثوباً من الطول مأموناً من القصر(862/29)
وقال:
وكيف لا والخديو فيك قد سطعت ... أنوار آلائه الغر الجسيمات
وقال علي فهمي:
وكيف لا تتحلى بالمدامع أف ... واه روت عنه أيام الحياة حلى
وقال محمد سعيد:
وكيف لا وهو لما أن تداركها ... بالعدل لاشك صار الآن محييها
وقال صالح مجدي:
وكيف لا ومقالاتي أدلتها ... غنية فيك عن نص بتصديق
وعبارة (وكيف لا) كانت تستخدم بكثرة في النثر في ذلك الدور فانتقلت منه إلى الشعر وجرت على ألسنة الشعراء على نحو ما بينا. وغني عن البيان أن نقول إنها ليست من التعابير الشعرية.
وكانوا يكررون عبارة معينة في جملة أبيات. ومثال ذلك قول محمد النجار:
واليوم ترفل في ملابسها التي ... حسنت ويبسم ثغرها المتضوع
ثم كرر قوله (واليوم) في سبعة أبيات:
وقال أحمد عبد الغني:
ولا وقت الجلوس على القهاوي ... ولا وقت التغافل والتغابي
ثم ردد عبارة (ولا وقت) في سبعة أبيات.
وقال سليم رحمي:
حيث البرنسات والنظار قد شرفت ... أقدارها بمقام منه محمود
ثم أتى بكلمة (حيث) في خمسة أبيات.
وقال إبراهيم مرزوق:
أبني أما الصبر عنك فما أمر ... لكن رضيت بما به المولى أمر
ثم ذكر عبارة (أبني) في خمسة أبيات
وهذا النوع من التكرار مقصود. وقد أتى الشاعر به طوعاً واختياراً لأمر في نفسه. ولكن هناك نوع آخر من التكرار قد اضطر إليه شعراء هذا الدور اضطراراً، وأرغموا على(862/30)
الوقوع فيه، وذلك لإفلاسهم وخلو جعبتهم من المادة اللغوية. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
مشير صدق بحزم الرأي قد عرفت ... أفكاره بين باديها وخافيها
لا تنثني عن صواب الرأي رغبته ... لرهبة كائناً ما كان داعيها
فذكر في البيت الأول (حزم الرأي) وفي البيت الثاني (صواب الرأي) فالظاهر أن الرجل لم يجد أمامه في هذا المقام غير كلمة (رأي). وقد جاء بهذه الكلمة في مطلع القصيدة فقال:
رأى الخليفة فيه رأي حكمته ... وللملوك صواب في مرائيها
رآه أجدر أن يرعى رعيته ... وأن يقوم بما يرجوه راجيها
فهو بهذا قد استخدم كلمة واحدة في ثلاثة أبيات. وفضلاً عن ذلك فإنه أتى بالفعل (رأى) وهو مشتق من الرأي وذكر كلمة (مرائي) وهي من نفس المادة. وكل هذا في قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتاً.
وقال أبو النصر:
فهو المليك الذي عمت مآثره ... وفائض الجود من جدواه إمداد
المفرد العلم الأسمى علا شرفاً ... وفاض بحرفكم ترجوه وراد
كالغيث جاد بما يغني الأنام بلا ... من، فجدواه إنجاز وإيجاد
فاستخدم كلمتي (فائض) و (فاض) وهما من مادة واحدة. وكرر كلمة (جدوى) وأتى بالفعل (جاد) وهو من كلمة (الجود) المذكورة في البيت الأول وهذا ضعف لغوي لا يحتاج إلى بيان.
واستخدم بعضهم كثيراً من الكلمات الفرنسية والتركية. ومثال ذلك قول صالح مجدي:
وعند صياح الديك قام مودعاً ... فقمنا وودعنا وقلنا له (مرسي)
وقوله في وصف إحدى القلاع:
فكم بسنيون ثابت الأصل محكم ... يلوح بهاتيك الحصون المهمة
وقوله:
منه طوبجية تبيت الأعادي ... من تعدى نيرانها في عديد
وكبورجية لها كل فخر ... في جميع البقاع بين الجنود
وقوله:(862/31)
والدودكجي مع الترنبيت ناغا ... هـ البروجي وزال عنا صدود
وبعذب الألحان غنى المويسي ... قي فتاقت إلى غناه الكبود
وبذكر السعيد دندن فإشتا ... ق إلى مدحه البليغ المجيد
وأجابت (بجوق يشا) في دعائها ... للخديو رعية وجنود
وقوله:
وإذا الأوجيان حلوا بأرض ... لعدو ضاقت عليه الحدود
وقوله:
والدراغون في الميادين تزهو ... كزهور الرياض وهي أسود
واستخدموا كلمة (تياتر) الفرنسية فقال سلامة النجاري:
(تياترها) يبدي تواريخ من مضى ... بحسن بيان لا يرام مناله
وأوردوا في شعرهم كلمة (بال) ومعناها الرقص. وبدلاً من أن يقولوا (مرقص) قالوا (ملعب بال).
قال رفاعة الطهطاوي:
وملعب (بال) بالحسان منعم ... عيون غوانيه تغازل بالفتك
واستخدم رفاعة كلمة (سنيور) بدلاً من السيد وذلك في قوله:
وكم من فتاة فيه سكرى بلا طلا ... يراقصها (السنيور) لطفاً مع السبك
واستخدموا كلمة (فابريقة) وفوريقة. وأطلقوا على السفن البخارية اسم (أبور البحر) وعلى القطار اسم (أبور البر) واستعملوا (بريد كهربائي) للتلغراف.
قال رفاعة:
وبريد كهربائي ... وحيه لمحة أعين
وأطلقوا على آلة تنقية المياه ورفعها إلى المنازل اسم (وابور المياه) قال رفاعة:
ووابورات مياه ... كجبال النار تدخن
وأرادوا أن يضعوا اسماً يدل على توصيل المياه إلى المنازل. فاهتدى صالح مجدي إلى كلمة (تقاسيم) قال:
وأما تقاسيم المياه فنفعها ... عميم ومنها للعباد مراحم(862/32)
وقد تخلص الليثي من هذا المأزق بقوله بعد أن ذكر بعض مظاهر الحضارة:
وسائل النيل يجري في شوارعها ... له على كل باب أم تذليل
فاستخدم عبارة (سائل النيل) وبهذا حل الإشكال. وأطلقوا على القضبان التي يسير عليها القطار اسم (أخاديد الحديد) و (طرق الحديد) قال صالح مجدي:
أما أخاديد الحديد فإنها ... قد انتشرت للقطر فيها مغانم
وبصنعها سكك الحديد مديدها ... أضحى لوافر نفعها ما أقصره
وقال علي فهمي رفاعة:
علمت بذا طرق الحديد فأطرقال ... وأبور رأساً جد في ارعاده
وقال أبو النصر:
وأمد بالطرق الحديد صعيده ... والسلك في أخباره كل المنى
وأراد بالسلك (التلغراف).
ويلاحظ أن كثيراً من هذه الكلمات كان يستخدم في النثر. ولم يجد الشعراء بداً من استخدامها في الشعر بيد أن بعضهم رأى أنها تفسد النظم فتعصب ضدها ولم يذكر منها شيئاً في قصائده. ومن هؤلاء الساعاتي. وكان صالح مجدي وسلامة النجاري أكثر الشعراء إيراداً لمثل هذه الكلمات.
وكان من شعراء هذا الدور من يستخدم بعض الكلمات العامية. ومثال ذلك قول أحمد عبد الغني:
ولا وقت الجلوس على القهاوي ... ولا وقت التغافل والتغابي
والصواب أن يقول (المقاهي).
وقد حافظوا على ما ورثوه من الأجيال المتقدمة من الحرص على الصناعة اللفظية واستخدام البديع بأنواعه المختلفة ولاسيما الجناس والطباق، وقد شاعت في هذا الدور التورية باسم الخديو (توفيق) ومثال ذلك قول الساعاتي:
بلغت (بتوفيق) العزيز مآربي ... فبالغت في حسن الثناء تشكرا
وقول عبد الله فكري يمدح إسماعيل وشير إلى قانون الوراثة:
نهضت (بتوفيق) العلي ولم يزل ... بعينك عون الله في حيثما تسري(862/33)
وقوله:
أمر أمير المؤمنين أعاره ... نظراً وأنظار الكبار كبار
فسرى به في مصر من (توفيقه) ... نور ومن بركاته أسرار
هذا ما يمكن أن يقال عن أساليب الشعر وألفاظه في ذلك الدور.
محمد سيد كيلاني(862/34)
الخطر اليهودي
بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء
للأستاذ محمد خليفة التونسي
البروتوكول الثالث:
أستطيع اليوم أن أوكد لكم أننا على قيد خطوات من هدفنا، فلم تبق إلا مسافة قصيرة حتى تتم الأفعى الرمزية - شعار شعبنا - دورتها. وحينما تغلق هذه الدائرة ستكون كل دول أوربا محصورة داخلها بأغلال لا تنكسر.
إن كل الموازين البنائية القائمة ستنهار سريعاً؛ لأننا على الدوام نفقدها توازنها لكي نبليها بسرعة أكثر، ونفسد تأثيرها.
لقد حسب الأمويون (غير اليهود) أن هذه الموازين قد صنعت ولها من القوة ما يكفي، وتوقعوا منها أن تزن بدقة، ولكن القوامين على الموازين - أي رؤساء الدول كما يقال - مكبوحين بأذنابهم الذين لا فائدة لهم منهم، مغمورون بعيداً - كما هو شأنهم - بقوة أذنابهم المطلقة على تدبير المكايد (والدسائس) بفضل المخاوف السائدة في القصور.
وإذ أن الحاكم لم تكن له منافذ إلى قلوب رعيته - لم يستطع أن يحصن نفسه ضد مدبري المكايد المتطلعين إلى السلطة ولقد فصلنا القوة المراقبة عن قوة الجمهور العمياء، ففقدت القوتان معاً أهميتهما، لأنهما حينما انفصلتا صارتا كأعمى فقد عصاه. ولكي نغري المتطلعين إلى القوة بأن يسيئوا استعمال حقوقهم ألقينا العداوة بين القوى فأوقفنا كل قوة ضد غيرها، بأن شجعنا ميولها التحررية نحو الاستقلال. وقد شجعنا كل مشروع في هذا الاتجاه، ووضعنا أسلحة مرعبة في أيدي كل الأحزاب، وجعلنا القوة هدف كل طموح إلى الرفعة. وأقمنا ميادين تشتجر فوقها الحروب الحزبية بلا ضوابط (ولا التزامات)، وسرعان ما ستنطلق الفوضى، وسيظهر الإفلاس في كل مكان.
لقد مسخ الثرثارون المفلوتون المجالس البرلمانية والإدارية مجالس للجدل. والصحفيون الجسورون وكتاب الرسائل الجريئون يهجمون هجوماً متوالياً على القوى الادارية، وسوف يهيئ سوء استعمال القوة دون شك تفتت كل الأحزاب، وسيخر كل شيء صريعاً تحت(862/35)
ضربات الشعب الهائج.
إن الناس مستعبدون، في عرق جباههم، للفقر بأسلوب أفظع من قوانين رق الأرض، فمن هذا الرق يستطيعون أن يحرروا أنفسهم بوسيلة أو بأخرى، على حين أنه لا شيء يحررهم من طغيان الفقر المطبق. لقد حرصنا أن نقحم حقوقاً للهيئات خيالية محضة، فإن كل ما يسمى (حقوق البشر) لا وجود له إلا في المثل التي لا يمكن تطبيقها عملياً. ماذا يفيد عاملاً أجيراً قد حنى العمل الشاق ظهره، وضاق بقضائه - أن يظفر ثرثارة بحق نشر أي نوع من التفاهات؟ ماذا ينفع الدستور العمال الأجراء إذا هم لم يظفروا منه بفائدة غير الفضلات التي نطرحها عليهم من موائدنا جزاء أصواتهم لانتخاب وكلائنا؟
إن الحقوق الشعبية سخرية من الفقير، فإن ضرورات العمل اليومي تمنعه أن يظفر بأي فائدة على شاكلة هذه الحقوق، وكل عملها أن تنأى به عن الأجور المحددة المستمرة، وتجعله يعتمد على الإضرابات والمخدومين والزملاء. وتحت حمايتنا أباد الشعب الأرستقراطية التي عضدت الناس وحمتهم من أجل منفعتهم الخاصة، وهذه المنفعة لن تفصل عن سعادة الشعب. والآن بعد أن حطم الناس امتيازات الأرستقراطية - يقعون تحت نير الماكرين من المستغلين والأغنياء المحدثين.
إننا نقصد أن نتظاهر كما لو كنا محرري العامل، جئنا لنحرره من هذا الظلم، حينما ننصحه أن يلتحق بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين، ونحن، على الدوام نحتضن الشيوعية، ونعززها متظاهرين بأننا نساعد العامل طوعاً لمبدأ الإخاء والمصلحة العامة للإنسانية، وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية (غير اليهودية). وإن الأرستقراطية الذين من حقهم مقاسمة الطبقات العاملة عملها قد أفادهم في هذه الحال نفسها أن هذه الطبقات طيبة الغذاء، جيدة الصحة، قوية الأجسام. وفائدتنا نحن في عكس ذلك، أي في ذبول الأميين (غير اليهود)، فإن قوتنا تكمن في أن يبقى العامل في فقر ومرض دائمين، لأننا بذلك نبقيه عبداً لارادتنا، ولن يجد فيمن يحيطون به قوة ولا عزماً للوقوف ضدنا. إن الجوع سيخول رأس المال حقوقاً على العامل أكثر مما تستطيع سلطة الحاكم الشرعية أن تخول الأرستقراطية من الحقوق.
إننا نحكم الطوائف باستغلال مشاعر الحسد والبغضاء التي يؤججها الضيق والفقر، وهذه(862/36)
المشاعر هي وسائلنا التي نجتاح بها جانباً أولئك الذين يصدوننا عن سبيلنا.
وحين يأتي تتويج حاكمنا العالمي سنعتصم بهذه الوسائل كيما نحطم كل شيء قد يثبت أنه عقبة في طريقنا.
لم يعد الأمويون (غير اليهود) قادرين بعد على التفكير دون مساعدتنا في مسائل العلم. وهذا هو السبب في أنهم لا يدركون الضرورة الحيوية لأشياء خاصة سنمسك عن الإشارة إليها حتى تأتي ساعتنا، تلك أن الحق الوحيد بين كل العلوم وأعظمها قدراً هو ما يجب أن يعلم في المدارس، وذلك هو علم حياة الإنسان وعلم الأحوال الاجتماعية، وكلاهما يلتزمان تقسيم العمل، ومن ثم تصنيف الناس فئات وطبقات. وإنه لحتم أن كل إنسان سيعرف أن المساواة الحق لا يمكن أن تكون؛ ومنشأ ذلك اختلاف الطبائع لأنواع العمل المتباينة؛ وأولئك الذين يعملون بأسلوب يضر فئة كاملة تقع عليهم مسؤولية أمام القانون تختلف عن مسؤولية من يقترفون جريمة تؤثر في شرفهم الشخصي فحسب. إن علم الأحوال الاجتماعية الصحيح الذي لا نفشي إلى الأمويين (غير اليهود) أسراره - سيقنع العالم أن الحرف والأشغال يجب أن تحصر في فئات خاصة كي لا تسبب متاعب إنسانية تنجم عن تعليم لا يجاري العمل الذي يدعي الأفراد إلى القيام به. وإذا ما درس الناس هذا العلم فسوف يخضعون بمحض إرادتهم للقوى الحاكمة وهيئات الحكومة التي نظمتها. والجمهور في ظل الأحوال الحاضرة للعلم، والمنهج الذي سمحنا لهم بانتهاجه - يؤمنون عن عمى بالكلمات المطبوعة، والأوهام الخاطئة التي أوصينا إليهم بها كما يجب، وهي تنقل البغضاء إلى كل الطبقات التي تظن أنها أعلى مما تكون لأنها لا تفهم كفاية كل طائفة. وهذه البغضاء ستصير أشد مضاء حيث تكون الأزمات الاقتصادية مستحكمة، لأنها حينئذ ستعطل الأسواق والإنتاج. وستخلق أزمة اقتصادية عالمية بكل الوسائل الممكنة التي في متناولنا، وبمساعدة الذهب الذي هو كله في أيدينا. وسنقذف إلى الشوارع بجموع جرارة من العمال في أوربا دفعة واحدة، وستقذف هذه الكتل بأنفسها إلينا في ابتهاج، وتسفك دماء أولئك الذين من أجل غفلتها، تحمل لهم البغضاء منذ الطفولة، وستكون قادرة على نهب مالهم من ممتلكات.
ولن تستطيع أن تضرنا، لأن لحظة الهجوم ستكون معروفة لدينا، وسنتخذ كل الاحتياطات لحماية مصالحنا.(862/37)
لقد أقنعنا الأمويين أن مذهب التحررية سيؤدي بهم إلى مملكة العقل. وسيكون استبدادنا من هذه الطبيعة، لأنه سيكون في موضع يمكنه من أن يقمع كل الثورات؛ وأن يستأصل بالعنف اللازم كل فكرة تحررية من كل الهيئات.
حينما لاحظ الجمهور أنه قد أعطى كل أنواع الحقوق باسم الحرية تصور نفسه أنه السيد، وحاول أن يفرض القوة. والجمهور ككل أعمى سواه - قد صادف بالضرورة عقبات لا تحصى، وإذا لم يرغب في الرجوع إلى المنهج السابق - وضع قوته تحت أقدامنا. اذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها (العظمى)؛ إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا معرفة جيدة، لأنها من عمل أيدينا. ومنذ ذلك الحين ونحن نقود الأمم قدماً من خيبة إلى خيبة، فكان من ذلك أن نبذونا، من أجل الملك الطاغية من دم صهيون، وهو الذي نعده لحكم العالم.
إننا اليوم كقوة دولية - فوق المتناول، فلو أن حكومة أممية (غير يهودية) هاجمتنا لقامت بنصرنا أخريات.
إن المسيحيين من الناس، في خستهم الفاحشة، ليساعدوننا على استقلالنا وحريتنا حين يخرون أمام القوة ساجدين، وحين لا يرثون للضعف، ولا يرحمون في معالجة الأخطاء، ويتساهلون في الجرائم، وحين يرفضون أن يتبينوا متناقضات الحرية، وحين يكونون صابرين إلى درجة الاستشهاد في تحمل قسوة الاستبداد الفاجر.
إنهم ليتحملون على أيدي دكتاتوريهم الحاليين من رؤساء الوزراء والوزراء إساءات كانوا يقتلون من أجل أصغرها عشرين ملكاً. فكيف بيان حال هذه المسائل؟ ولماذا تكون الجماعات غير منطقية هكذا في نظرها إلى الحوادث؟ السبب أن المستبدين يقنعون الناس على أيدي وكلائهم بأنهم إن أساءوا استعمال قوتهم ونكبوا الدولة فما أجريت هذه الملكية إلا لعلة سامية، أي لبلوغ النجاح من أجل الشعب، ومن أجل الإخاء والوحدة والمساواة الدولية.
ومن المؤكد أنهم يقولون إن هذا الاتحاد لا يمكن بلوغه إلا تحت حكمنا فحسب، ولهذا نرى الشعب يتهم البريء والمجرم، مقتنعاً بأنه يستطيع دائماً أن يفعل ما يشاء، ومن أجل هذه الحالة العقلية يحطم الرعاع كل تماسك، ويخلقون الفوضى في كل شعبة وكل ركن. إن كلمة الحرية تزج بالمجتمع في عراك مع كل القوى حتى قوة الطبيعة وقوة الله. ولذلك كان(862/38)
السبب في أنه - حين نستحوذ على القوة - يجب علينا أن نمحق كلمة (الحرية) من قاموس الإنسانية كأنها رمز القوة والوحشية التي تمسخ الشعب حيوانات متعطشة إلى الدماء. ولكن يجب أن ترتكز في عقولنا أن هذه الحيوانات تستغرق في النوم حينما تشبع من الدم، وحينئذٍ يكون من اليسير أن نسحرها ونستعبدها. إنها إن لم تعط الدم فلن تنام، بل سيقاتل بعضها بعضاً.
محمد خليفة التونسي
-(862/39)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية:
غاية الأخلاق عند أر سطو
للأستاذ كمال دسوقي
ما اسعد طلاب المسابقة بمقرراتهم هذا العام! فكلها - أو معظمها - من الكتب العامة، الهامة في الوقت نفسه، في عداد المراجع الفلسفية: الدراسات حولها كثيرة، والشروح والكتابات وافية غزيرة، وما على الطالب إلا أن يلقي بنفسه في لجتها ليستوعبها.
والكتب التحريرية - التي هي مجالنا في هذه المقالات حتى يوم الامتحان - من عيون الكتب الفلسفية كل في ناحيته، الأخلاق والعقائد، فضلاً عن أن كليهما لأحد مشاهير الفلاسفة عند اليونان وعند العرب، إن لم نقل أنه لأشهر فيلسوف يوناني وعربي على الإطلاق.
ولنبدأ أولاً بار سطو في (أخلاقه) النيقوماخية.
نتناول الفيلسوف أولاً، ثم نعمد إلى تحليل الكتاب، خصوصاً الجزء المقرر منه.
والمراجع العربية التي يمكن أن تفيد في الإحاطة بحياة الفيلسوف اليوناني ومذهبه - إذ يجب ألا تنقطع نظرية الخير من الأخلاق الأرسطية، ولا الأخلاق ذاتها من جملة المذهب الأرستطالي - أقول هذه المراجع العربية كثيرة، وإن كان يجب قراءتها بحذر وحيطة، والبدء باستيعاب النص المطلوب دراسته، ثم التنقيب بالشروح والتواليف الواردة حوله، وأخيراً وضعه في مكانه من الهيكل العام لفلسفة أر سطو؛ حتى لا يكون لهذه الكتب التفسيرية خطرها ومصادراتها على فكر الدارس، ألا يكون له رأيه ووجهة نظره الخاصة. وهو أهم ما يجب أن يحرص عليه طالب المسابقة.
ذلك - أيها الطالب النجيب - أن المسابقة سبق، ولا يحوز قصب السبق إلا الباسل المغوار الذي يجول بين الآراء ويصول، ثم لا يعدم - حين لا يكون له رأي خاص مستقل - ألا يفرق بين مختلف الآراء، فمهد نفسك لهذه الغاية النبيلة وهذا الفوز الكريم، ففي السباق يقاس بالأنف، وليس في الحياة أجمل من لذة النصر. .
أبدأ بقراءة النص المطلوب إليك دراسته، ثم أعد قراءته مرة ومرات، فسترى أنك في كل مرة تعيد القراءة تكشف من أمره جديداً، وتفهم أكثر من ذي قبل، (واستعن) واستعن على(862/40)
فهم أر سطو بالتعليقات التي ذيل بها المترجم الفرنسي صفحات ترجمته، وهي المنقولة بين يديك إلى العربية، وأحمد معي - في هذا المقام - هذا الجهد الرائع المخلص الذي بذله - وما يزال يبذله - إمام الجيل وأبو الفلسفة أستاذنا لطفي السيد باشا في إخراج تراث أر سطو الفلسفي إلى العربية هذا الإخراج الجبار، الذي تعرضه دار الكتب المصرية في أجمل ثوب وأكمل صورة، فتجمع لها عظمة المادة والصورة، كما ترى في الكتاب الذي تقلب صفحاته، وهو واحد من جملة أسفار بعضها في ضعف حجمه، هي أهم ما لأر سطو من كتب: فإلى جانب الكتاب الثاني في الأخلاق المتمم لهذا، ثم كتاب الطبيعة، وكتاب الكون والفساد، وتحت الطبع الآن كتاب السياسة الكبير، كان الرجل - أطال الله بقاءه - يعمل فيه وهو وزير للخارجية يضطلع بمذكرات المفاوضات ونيابة رياسة مجلس الوزراء في عهد وزارة صدقي باشا ولورد استانسجيت، أفترون إخلاصاً للعلم واستغراقاً فيه أروع وأبلغ من هذا؟ أليس لكم في ذلك أسوة حسنة؟
ربما يؤخذ على هذا العمل العلمي الجبار مأخذ واحد، وهو أنه - على إخلاصه وأمانة النقل وحسن الأداء فيه - قد ظهرت ترجمتان فرنسيتان أدق من تلك التي نقل هو عنها. وما ذنب الكاتب الذي كان يترجم منذ 1920 ألا يتنبأ بما سيظهر بعدئذ من الترجمات لبعض كتب متفرقة؟ وهل ينبغي - انتظاراً للأحسن والأكمل - أن نقف عاجزين لا ننقل إلى لغتنا تراث الفكر الغربي وأر سطوا خصوصاً؟ إن ترجمة كتب أر سطو التي قام بها معالي لطفي باشا عمل جليل لا يحدث مرة في كل قرن، فلا ضير عليه أن يقال فيه ما يقال - فللعامل أن يعمل وينتج، وللعاجز أن يقف جامداً، ثم لا يملك إلا أن ينقد فالهدم أيسر من التأسيس والبناء.
ويشاء الله إنصافاً لصاحب هذه المهمة الجليلة أن يقفي على آثار المترجم الفرنسي بصاحبه المصري فيما ولى كلاهما من أمور الأستاذية وشئون الحياة، ليتشابها في معرض المقارنة في كل شيء كلاهما أستاذ لكرسي الفلسفة الإغريقية في جامعته هذا في الكوليج دي فرانس وذاك في الجامعة المصرية: وكلاهما ناقل أر سطو ومترجمه إلى لغته؛ هذا في الفرنسية وذاك في العربية، وكلاهما آخر الأمر وزير لخارجية بلاده: هذا في فرنسا وذاك في مصر؛ كما قلت في تقديم محاضرة ألقاها بكلية الآداب وهو وزير للخارجية.(862/41)
فلتطمئنوا إذن إلى الترجمة العربية التي بين يديكم ترجمة معتمدة، وتعريب ثقة، وإن كان على الطالب المجتهد والباحث المخلص، أن يكمل موقفه دائماً بالرجوع إلى الأصل في اللغة الأوربية التي يجيدها - ولديكم في الإنجليزية والفرنسية ترجمات كثيرة متداولة، فأرجعوا إليها؛ فإذا كان لا بد لقارئ أر سطو أن يرجع إلى لغة ثانوية حين لا يجيد اليونانية - وقل من يجيدها حتى من كبار المؤلفين في أر سطو أنفسهم - فلتكن أقرب درجةً أو درجتين من الأصل، ففي كل تقريب أو تقرُّب من الأصل حسن (للفهم واختصار) لعقم الترجمة - أعني أنَّ من يقرأ أخلاق أر سطو - مثلاً، فهي موضوعنا هنا - في ترجمة سانتهيليز الفرنسية يكون في الدرجة الثانية، والذي يقرأها في العربية أقل درجة، أما قارئها في اليونانية ففي الدرجة الأولى - وأين هو إلا أن يمتَّ إلى اليونانية بسبب أقوى من مجرد الدراسة؟
ونعود إلى ما كنا بصدده قبل أن نستطرد هذا الاستطراد الضروري.
فإذْ قد فرغت من قراءة النص وهضمه واستيعابه في الكتاب المقرر، والصفحات المعينة؛ فأعمد إلى ترك الكتاب جانباً، وتناول بعضاً من الكتب التفسيرية في المذاهب الأخلاقية عامة، وفي مذهب أر سطو - وخصوصاً الأخلاق الأرستطالية - خاصة.
وأهم ما أشير به عليك في المكتبة العربية - ويؤسفني ألا يسمح وقتك وسلامة لغتك أن تقرأ عن أر سطو في الإنجليزية أو الفرنسية - هذه الكتب هي في درجة من الجودة لا بأس بها؛ بل إن بعضها ممتاز حقاً؛ فاستعرضها في يقظة وحذر.
أبداً أولاً بما جاء في كتابك المدرسي المقرر عن أر سطو - فاقرأه واستظهره، وفي ذلك فائدة مزدوجة، وأساس عام قوي متين؛ وإطار سوف تفرغ فيه معلوماتك وتحصيلك.
اقرأ بعد هذا عن أر سطو في كتاب كقصة الفلسفة اليونانية للأستاذين أحمد أمين بك وزكي نجيب محمود - ففيه عرض مختلف بعض الشيء لنفس المعلومات تقريباً - ولكن في أسلوب هو إلى الأدب أميل - والفلسفة تتطلب الدقة وإحكام التعبير، وإنما أشير بهذا الكتاب لأنه يهيئ لك انسياق الفكر، وانطلاق اللفظ، ليتصرف قلمك فيما حصلت بحرية وجرأة وشخصية - ومثل هذا الكتاب يحقق لك هذه الفائدة (ص112 - 277).
وثمة كتاب في العربية قائم برأسه موضوعه أر سطو، للدكتور عبد الرحمن بدوي، وهو(862/42)
منهج لدراسة أر سطو أولى منه دراسةً كاملة أو مادة وافية، وتطبيق لهذا المنهج على بعض أجزاء الكتب الأرسطية يتكون من مذهب متكامل تقريباً، والجزء القليل الذي أورده عن (الأخلاق) (ص 255 - 264من الطبعة الثانية) كفيل بأن يثير بعض المشاكل في نظرية الأخلاق، وأن يوجهك إلى كثير من الاعتراضات.
إلا أن مرجعك الأهم الذي يجب أن تتلمذ له وتعول عليه هو كتاب: تاريخ الفلسفة اليونانية للأستاذ يوسف كرم - فهو كتاب قيم حقاً، تعتز به المكتبة العربية في الفلسفة، لما يتميز به من الإخلاص والوضوح والدقة في الأسلوب العلمي - وأر سطو فيه على درجة من الوفاء وحسن العرض قلَّ من يظفر بهما في مرجع عربي آخر.
وفي ربط نظرية الأخلاق الأرسطية بالنظريات الحديثة الأخرى؛ ارجع إلى كتاب المدخل إلى الفلسفة للعلامة أوزفلد كيلبه الذي ترجمه الأستاذ أبو العلا عنيفي إلى العربية - ففي فصول من هذا الكتاب تجد عرضاً واضحاً ومناقشات لكثير من وجهات النظر الحديثة في هذا الباب، وفيه ذكر بعض الفلاسفة الأخلاقيين من الإنجليز والألمان والهولنديين ومذاهبهم، يجب أن تلمَّ به وتقارنه بمذهب أر سطو لتربط مذهبه بما قبله وما بعده.
ولستُ في حاجة إلى أن أوجهك لما في مقدمتي المترجمين المصري والفرنسي لكتاب أر سطو - الذي بين يديك - من فائدة، الأولى في التعريف بأر سطو وكتبه، والثانية في عرض المذاهب الأخلاقية وتاريخها وفلاسفتها - على عادة سانتهيليز في كل ما ترجم لأر سطو، فما أحسب إلا أنك قد أقبلت على قراءة التصدير والمقدمة فأتيت عليهما قبل أن تشرع في دراسة الجزء المقرر من الكتاب.
فإذا وقفت على ما أشرت به عليك من هذه القراءات، فموعدي معك في الحديث عن أر سطو ونظريته في الخير والسعادة المقالُ التالي.
كمال دسوقي(862/43)
أنات
الأستاذ عمر النص
// لا تراعي. . . تلك دنياي التي مات سناها
وامحت ألوانها الغر ورثت صفحاتها
تلك دنياي التي أبدعت بالأمس رؤاها
وسألت النور لا يبرح ما عاش فضاها
تلك دنياي التي عشت على وهم رقاها
خنقتها يقظة الجرح وسالت دماها
فإذ بالحلم المبدع قد جف وشاها. .
وإذا اليأس الذي حاذرت قد كان طواها!
عبثاً أسأل أن تحيا. . فقد حمَّ رداها. .
لطمتها قبضة الدهر وقالت: لن تراها!
تعبت روحي. . فمن يملأ بالرفعة حسي؟
من ترى يصغي إذا رتلت أناتي وهمسي
حين تغذى العين بالدمع. . فما تكتم يأسي
حين يأوى الطير للوكر ويطوي كل نبس
أرمق الأفق. . وفي عيني أسترجع أمسي
وتضل العين في الأفق وينأى بي هجسي!
عجباً. . تنكرني الأرض. . فمن يألف نفسي
أنا ضمآن فهل في الناس من يملأ كأسي
ليتني أستطيع أن أمحو بالأدمع بؤسي
إن أك الفجر الذي مر. . فلم تشرق شمسي؟!
تعبت روحي. . فما أبصر في الأرض طريقاً
سرب الوهم على الأفق. . فلم ألف صديقاً
الصبا ضاع مع القلب وقد كان رفيقاً(862/44)
والرؤى جفت فما ألمح فيهن بريقاً. .!
أيها الآل على الرمل. . لقد زدت خفوتاً
أنت أغريت بي الشوق وفجرت العروقا
كلما خلتك ماء. . ردني الرمل مشوقا
عجباً أيتها الأرض لقد زدت عقوقاً. .
كلما قلت طفا اليأس جرى اليأس عميقاً
قدر أركن أن نام. . وأخشى أن يفيقا!
تعبت روحي. . فمن يحمل للروح عزائي؟
أنا ناي في فم الأيام قد جف غنائي
أنا شيخ لم يدع منه القضا غير ذماء
أثقلته وطأة الداء وبرحاء العياء
يقحم الدهر. . فيلقيه مدمى الكبرياء!
عجباً. . واليأس لا يرحم دائي. . ما بقائي. .؟
أنا لولا بارق الأمس تناسيت رجائي
وخنقت الشكوى فيَّ وأهرقت إنائي!
ويك يا نفس. . أما طال على الأرض ئوائي؟
لم أحيا. . والعذاب المرُّ ما زال غذائي؟!
لا تراعي. . فزمان الأنس قد مرَّ وحيا. .
وانطوى أمس. . فلم يترك سوى الذكرة ريَّا
عبثاً يسألني الدهر. . فما كنت نسيَّا. .
أنا أهواك وإن عشت مع اليأس مليا
أنا أهواك وإن لم يبق شيء في يديا
لا تراعي. . أنا ما زلت كما كنت وفيا!
فإذا أقبل الموت. . فلن أوقر عيا. .
سوف أسترجع في البال هواناً القدسيا(862/45)
وأرى الجفن وقد أقبل أسوان شجيا. .
يطبق الهدب عليه. . ثم. . لا أبصر شياً!
عمر النص(862/46)
أستاذنا محمود زناتي
للأستاذ محمود رمزي نظيم
قضيت وما في القضاء عجب ... وللموت في كل نفس سبب
أرى الروح خير هبات الآل ... هـ ومنها الحياة التي تستحب
وحسبك أن فناء الجسو ... م خلود لأرواحنا يرتقب
وقفت أناجيك في الذاهب ... ين وفي القلب قد شب وقد اللهب
يقولون محمود مات وما ... أقام له صحبه ما وجب
إذا ما رثاه (إمام البيان) ... وأثنى عليه (عميد الأدب)
وهذا يشار له بالبنان ... وذلك في الكون فخر العرب
فكل فتى شاعر قد رثاه ... وكل فتى ناثر قد كتب
وكان (الزناتي) عطر الندى ... وكان مثار الحديث العجب
رزين وقور حمته الكرا ... مة في ثوبها ونماه الحسب
تجلى بحلم يزين الرجا ... ل ويصدف عن نزوات الغضب
أديب تخصص في الإطلا ... ع وحصل بالفضل من قد ذهب
وأصبح مرجع أم اللغا ... ت وقد صيرته (لسان العرب)
أمين على العلم يلقى ألحدي ... ث كأن الحديث (شذور الذهب)
وقد كان يطرب للمنشد ... ين وفيما يقول جماع الطرب
فيا مسمعي هل نسيت وهل ... أعدت إلى فضله ما وهب
هو الآن تحت ظلال النع ... يم وقد ضمه الخلد بعد النصب
فيا رب هذا حبيب النبي ... وكل محب مع من أحب
أبو الوفاء محمود رمزي نظيم(862/47)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
نبضات قلب
هو قلب صديقي الشاب الأديب الطالب بإحدى كليات الجامعة وهو من البراعم الأدبية التي يرجى من نضجها ثمرات، كما ترى من رسالته هذه التي كتبها إلي، قال:
أكتب إليك وأطيل، لأن على شفتي بسمات تريد أن تنطلق بين يديك، ولأن بين جفني عبرات تريد أن تنسكب على راحتيك ولأن بين ضلوعي تختنق كلمات، وتحتبس أنات. .
وأسألك أن تقرأ كتابي على مهل. . على فراغ بال وهدوء حال. وقد يبدو الأمر في أوله تافهاً، وقد يبدو مسلياً، وقد لا يبدو تافهاً ولا مسلياً. . تعروه مسحة الجد تخضبه آية الصرامة وإن الموجة لتملأ عرض البحر إذا وقع فيه حجر، ومعظم النار من مستصغر الشرر. وهاأنذا أنثر مكنوني قبل أن يستشري فيستعصي، عساك تطب له بمبضعك. وأظن أنه لا يخفى عليك الآن أنها أعراض حب - يا طبيب النفوس - ولكنها أعراض اختلطت علي حتى حسبتني منها معافى. . فسرت في طريقي لا أحنف عن الجادة، حتى ارتطمت بصخرة الحق الصليبية، فرجعت أدراجي، تولول في جانبي الحيرة، وتفهق في حشاي الظنون. وليس الحب علي بغريب. . بل إن عهدي به لقريب، وأوشك أن أقول ما قال أبو الطيب:
أبنت الدهر عندي كل بنت ... فكيف وصلت أنت من الزحام
ألا ترى معي أن الحب حمى! وأنه من بنات الدهر! ويالهن من بنات!!
هذه هي البسمات التي تريد أن تنطلق بين يديك. ودونك العبرات.
ويبسط لي الصديق قصته مع فتاة تزامله في الكلية وتصادفه في بعض الأوقات بقطار الضاحية التي يسكنها، ويقول أنه جلس مرة في القطار متعباً لا يكاد يتبين من بجانبه، ولما وصل البيت وخلع ثيابه وقعت منها على الأرض ورقة التقطها فوجد فيها: (أحبك. أحبك. أحبك - أنا) ثم يقول: (ابتسمت وأيم الحق، وعاثت أناملي بالورقة الدقيقة الرقيقة، فصارت لقى على صفحة الإهمال. . ولم أكن أدري أن هذه الورقة الصغيرة ستثأر لعرضها الممزق وشرفها المهان. فقد انسربت مادتها إلى واعيتي الباطنة، وأخذت تفرخ وتتكاثر حتى(862/48)
أصبحت عالماً من الحب له أربعة جدران أحدها (أحبك) والثاني (أحبك) والرابع (أنا). أي طيف هذا؟ ومن التي تحبني؟ حقاً إنها قاسية. .
وفي الكلية وجدت طيفاً كأنه يحوم ليقع، على عينيه نظرات تتكسر، وفي جوهره فتنة تستيقظ، كأنني كنت معه على ميعاد، وكفكف قلبي من كبريائه، واندلعت في جوانحي الحيرة. أهي (أنا)؟! آه يا قلبي أتريد أن تعرف السر؟ إنك إن سألت الزميلة فمن يدري، لعلها تصدمك متذرعة بالعفة والاستقامة. إلى أن قال (وأنا في غمرة هذا اللج المختلط أسألك أن تشخص الداء أو تنير الطريق، أترى الورقة الدقيقة الرقيقة قد انتقمت لكبريائها حين فركتها بأناملي؟ ولي رجاء يا صديقي، إن عرضت لهذا القلب في أدبك وفنك، ألا تذكر اسم صاحبه، فإن له أسرة تحب التقاليد وإن هذا الأمر لم يعرفه - غير الله - سواي وسواك).
وأنا لن أطب لهذا الصديق الملتاع، وما أنا طبيب نفوس كما قال ولا شيء من هذا، ولعلي ألقاه قريباً فأتندر عليه. . على أني ألاحظ أن قصته تبدأ، ولا بد أن تنكشف الأمور فيما بعد. وعلى أي حال فإني أدعه الآن في هذا اللج المزيج من القلق والحيرة والألم الذي يستعذب في الهوى. . لأخلص إلى موضوع عام.
هؤلاء الطالبات في الجامعة، أمرهن محير، فلا هن سافرات ولاهن محجبات. تراهن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وتراهن في غير أوقات الدرس منزويات ينطوي بعضهن على بعض يسئن الظن بالطلاب ويؤولن كل حركة وكل كلمة بما يتفق وسوء الظن وقد يكن على حق في بعض ذلك فإن كثيراً من الطلاب تعد حالة الاختلاط جديدة عليهم. والطالب يرى من بعيد ويخال. وتنشأ هنا وهناك أحلام ووساوس. وفي مثل هذه الظروف يتوهم الحب أو ينشأ ولكنه لا يكون دائماً ثابت الأساس لأنه لا يدوم مع التجربة والتعرف. وما زلت أنا أذكر الفتاة التي كنت أسمع عنها ولا أراها فكونت لها صورة في نفسي وأحببتها فلما رأيت الفتاة لم أجد فيها شيئاً من ملامح الصورة، فأعرضت عنها وعكفت على صورتي! ولعل أكثر حوادث الحب ما يقع على بعد، فلو انتفى البعد في مائة من الحالات فقد يثبت واحد من المائة فقط. ولو تم ذلك لفقد الأدب ثلاثة أرباع أشعار الغزل.(862/49)
فلم الأسبوع
هو فلم (ليلة العيد) وقد عرض أخيراً بسينما الكورسال. وضع قصته أنور وجدي، وأخرجه حلمي رفلة. ومثل أهم الأدوار إسماعيل يس وشكوكو وشادية وحسن فايق ولولا صدقي واشترك معهم آخرون.
وليس في الفلم من اسمه (ليلة العيد) غير أن أول منظر فيه أراجيح وصبيان يتواثبون ويرفعون أصواتهم بكلام فيه لفظ العيد ويعقب ذلك منظر مسرح كأنما ذهب الناس إليه ليلة العيد. . ويلعب على خشبه المسرح ياسمينه (شادية) وشوشو (شكوكو) وسوسو (إسماعيل ياسين) وينزل الستار فيهرع صاحب المسرح إلى ياسمينه ويبدي لها إعجابه ثم يغازلها، فتشعر بجرأته في المغازلة فتصده في عنف ويقبل أخواها سوسو وشوشو، فيعتديان عليه بالضرب، ثم يفصل صاحب المسرح الاخوة الثلاثة من العمل بمسرحه. ثم يرون إعلاناً عن حاجة أحد المسارح إلى مغنية صغيرة جميلة، فتذهب ياسمينه إلى مقابلة مدير هذا المسرح فتخطئ شقته وتدخل شقة أخرى بجوارها فلا تجد فيها أحداً، ثم تدخل الشقة فتاة (لولا صدقي) ومعهما ثلاثة رجال هم أخوتها، ويدور بينها وبينهم حدث يفهم منه أنها اصطادت شاباً غنياً (ابن باشا) وأنه يوشك أن يحضر، ثم يقبل الشاب وينهمك مع الفتاة في مبادلة الغرام، ويفاجئه الأخوة الثلاثة، ويضطرونه إلى دفع ألفي جنيه وإلى التوقيع على تعهد بزواج الفتاة. ويجلس الجميع للعب الورق، وتسمع ياسمينه كل ذلك وتراه وهي بحيث لا يرونها، وتتسلل تحت منضدة اللعب، وتتمكن من أخذ ألف جنيه سرقها أحد الأخوة من الشاب ودسها من تحت المنضدة قاصداً دفعها إلى أخته فتلقفتها يد ياسمينه. ويشعرون بها فتجري منهم وتنظر من النافذة، ثم تقفز إلى نافذة أخرى فإذا هي في شقة مدير المسرح الأستاذ حمودة الذي يراها ويدهش منها، ثم يعلم أنها مغنية أتت للعمل بالمسرح فيرحب بها ويتفقان على أن تحضر إلى المسرح ومعها أخواها، ثم تقبل زوجته فتفر ياسمينه من النافذة. . وتذهب إلى أخويها، ويتفقون على الاحتفاظ بالألفي جنيه في ثنية اللحاف، ثم يذهبون إلى الأستاذ حمودة بالمسرح، ويعملون بهذا المسرح الجديد، ونرى الشاب ابن الباشا يتردد على ياسمينه، وقد دب عليها مرة في منزلها. وهو يقول لها أنه يريد أن يتزوجها ولكن والده الباشا يريد أن يزوجه تلك الفتاة التي تعهد بزواجها.(862/50)
ثم يحتفل الباشا بزواج ابنه ويحضر فرقة ياسمينه لتحيي الليلة، وهناك يحدث هرج ومرج، وتختلي ياسمينه بابن الباشا فتفضي إليه بحقيقة الفتاة العروس وتنقده الألفي جنيه التي كانت سرقت منه. ثم يعلن ابن الباشا أنه لن يتزوج إلا ياسمينه، فيبرز الاخوة التعهد الذي وقعه ويدفعونه إلى الباشا.
ولما تتجسم العقدة في هذا التعهد يحلها إسماعيل يس بفمه. . إذ يخطف الورقة ويبتلعها! وتكون النهاية السعيدة التي يرقص فيها الجميع ويغنون حتى يشبعوا رقصاً وغناء.
والواقع أن المقصود بحوادث القصة أن تكون خيطاً للاستعراض. . فالغناء والتهريج على المسرح الأول والثاني وفي منزل الباشا وفي الطريق وفي كل مكان. . هو المقصود وليت الخيط مع ذلك سليم أو متصل، فهو ليس واهياً فقط وإنما هو متقطع يبدو فيه مؤلف القصة مبهور الأنفاس وقد نفر منه الخيال وخاصمه السبك، فيوصل المناظر والحوادث بالقوة والعافية. . فهو يجبل الفتاة تخطئ الشقة المقصودة لتدخل شقة أخرى، والأمر إلى هنا طبيعي، ولكنه يلقي في روع أصحاب هذه الشقة أن يتركوها مفتوحة وهم غائبون. . لماذا؟ لتدخل شادية فتغني متنقلة من غرفة إلى أخرى حتى يظهر صاحب البيت ويبين. . وما دام الأمر لا يسير وفق المعقول فلا مانع أن تنقلب الفتاة إلى قطة تتسلل تحت المنضدة وتتمسح بالأرجل وتأخذ النقود وهي ثابتة الجنان لأنها واثقة من أن المؤلف والمخرج يضمنان لها الأمان ويمهدان لها سبيل القفز من النافذة! وليس بعسير بعد ذلك أن تكمل دور القطة في الشقة الأخرى. .
وليس لك أن تسأل: كيف عرف ابن الباشا منزل ياسمينه فأتى إليها به ليلاً؟ وكيف نهضت إليه دون أن يبدو عليها أي ذعر؟ ولماذا لم تفض ياسمينه إلى ابن الباشا بحقيقة من احتالوا عليه وتعطيه النقود إلا ليلة العرس وقد التقيا مراراً قبل ذلك؟ ليس لك أن تسأل عن ذلك أو غيره من كثير، لأن المؤلف يريد ذلك أو هو لا يجد غير ذلك. أما إن سألت عن الحكمة في وضع النقود في ثنية اللحاف فأنا أجيبك بأن المقصود أن يحمل شكوكو هذا اللحاف في كل منظر بعد ذلك ليبدو مضحكاً. . ولا يفوتني أن أعبر عن إعجابي بالحل الموفق الرائع الذي قام به (فم) إسماعيل ياسين الواسع. . فقد عرف المؤلف أو المخرج أو كلاهما كيف يستغل هذا الاتساع العظيم في حل المعضلة!!(862/51)
والحقيقة أن الأبطال الثلاثة، إسماعيل وشكوكو وشادية، كانوا ظرفاء في مواقف الفلم، وإن كانت شادية ينقصها التمرين على إجادة التمثيل، وقد استخدم غناؤها مع الموسيقى استخداماً حسناً. وفي الفلم مواقع تستثير عواطف الضحك. ونتيجة ذلك أن (الاستعراض) يؤدي غرضه في هذا الفلم. وهنا الخطر! فإن عرض هذه الألوان الفارغة من أي هدف فني صحيح وفي قالب مهلهل من القصص البعيد عن معترك الحياة، وضمان النجاح المادي مع ذلك - مما يهدد فن القصة السليم في السينما.
ولست أدري أي فرق بين الشركة التي تنتج هذا النوع من الأفلام وبين (متعهدي الحفلات) الذين يقيمون الحفلات الاستعراضية، سوى أن الأولى تطبع صوراً يتكرر عرضها، وحفلات الآخرين تنتهي بانتهاء عرضها.
عباس خضر(862/52)
البريد الأدبي
اقتبست ولم أسرق
قرأت في العدد 857 من مجلة الرسالة الزاهرة كلمة للأستاذ أنور المعداوي بعنوان (يسطون على أدب الزيات ثم لا يخجلون) قرأت المقال وقد اعتراني ذهول شديد إذ لم يسبق لي أن طالعت العدد المشار إليه من جريدة النهضة العراقية وذلك لوجودي خارج العراق، وقد أخذ العجب مني كل مأخذ، ونال الذهول مني كل منال، حين اتهمت بالسطو على أستاذي الكبير أحمد حسن الزيات. والحقيقة إني أحترم الأستاذ الزيات وأجل أدبه واحفظ من نثره ما لا أحفظ لغيره من كتاب عصره. ولفرط إعجابي بأسلوبه البليغ ومقالاته الرصينة حفزني ذلك إلى أن أنقل بعض فقرات من مقاله المنشور في صحيفة 262 من كتاب (وحي الرسالة) وقد حصرت هذه الفقرات بين أقواس كما يتضح لكل من اطلع على صورة مقالي المنشور في جريدة النهضة العراقية في السنة الماضية. ولعل الأديب السيد خالد ياسين الهاشمي يريد الدس فحرر هذه المقالة في جريدة النهضة بدافع غير شريف. وأخيراً أقدم كلمة عتاب متواضعة للأستاذ أنور المعداوي الذي تعجل في هجومه عليَّ من دون ذنب جنيته. وفي الختام أقدم لأستاذي الكبير الزيات إعجابي، ولمجلته الزاهرة خالص التجلة، وللأستاذ المعداوي بالغ الاحترام.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن
أخي الاهواني
لن أثني مثنياً، وما بي ونى عن وفاء، أو فترة في أيفاء، أو مرود عن جزاء. لكنا أخشى الرائبة تريب أمرينا وتعدو طورها فتهرف بأنا عقدناه حواراً نستنظف به المديح.
وعذيري أنت إن أخضتك غير مخاضناً، فنفثت إليك شكاتي من أصاحيب رغبوا من كثر اللغة إلى قلها، ورضوا بنزرها دون وفرها. فما في غير المعروف المعدود مقنعهم، ولا دون ما انضمت عليه الجعبة منشود هم. ولو في حبلهم حطبنا، وعن قوسهم نزعنا لركمنا إلى الموات مواتاً، ونفضنا اليدين من ألفاظ ما ولدت إلا لتعيش، وما هي بالمتنافرة فتنبذ،(862/53)
ولا بالمخشوشنة فتلفظ.
وما أحشد العامة لما احشد له الخاصة، ولكل مقام مقال. وبعد، فالشوط بطين، احسبنا عند المدى أو دونه بقليل فلنختم الحديث هنا، لنبدأه بعد في غير حلبة النفس.
وأراك تذكر الحكيم الترمذي ولا تنظر إلى قول ابن العربي (اختلفوا في النفس والروح، فقيل هما شيء واحد وقيل هما متقاربان. وقد يعبر عن النفس بالروح وبالعكس، وهو الحق).
ونسيبه قول من عزب عن بالي ربه (النفس جوهر بخاري لطيف يحمل قوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وتسمى بالروح الحيوانية).
وغير هذين فقولي في (التنفيس) رد للفرع إلى أصله المشتق منه، ويبهرك مسوق ابن فارس (شيء نفيس، أراد أنه ذو نفس بالتحريك). وتظنك مفسداً عليه مقيسه بخشاش الأرض وأصلالها.
وفاتك أن الحي ذا النفس نفيس، إن قيس بفاقده. ذاك أصله. واذكر علته (أراد أنه ذو نفس).
ويحضرني هنا لابن جنى في الاشتقاق الأكبر قوله (هو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثة، أي الثلاثي والرباعي والخماسي، فتعقد عليه. وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه وإن تباعد شيء من ذلك رد بلطف الصنعة والتأويل إليه).
وإن شئت على ذلك مثلاً أو مثلين فخذ (ك ل م) و (ق ول) في تقليبهما الستة. فتجد تقليب أولاهما على القوة والشدة، وتقليب ثانيتهما على الإسراع والخفة.
(والنفث) يا سائلي أصل صحيح يدل على خروج شيء من فم أو غيره. فبينه وبين (النفس) جامعة الخروج. وأحدهما أعم والآخر أخص.
(والنفش) مرده كما قلت إلى التفرقة والانتشار. أو ليس انفصال شيء عن شيء وخروجه عنه انتشاراً وتفرقاً؟
وتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني غور من العربية لا ينتصف منه. من ذاك (ج ب ل) و (ج ب ن) و (ج ب ر) فجميعها من الالتئام والتماسك. فالجبل لشدته وقوته، والجبان لأنه(862/54)
يستمسك ويتوقف ويتجمع، والجبر في العظم وغيره لتقويته.
وأصول الثلاثي: حرف يبتدأ به، وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه. ومعنانا الذي ندور حوله هنا كما تقول محاكاة صوت وحرفه السين أو ما تنقلب إليه والفاء حشو، والنون ابتداء.
وبعد ألم أحدثك حديثي عن طول نفس الأديب، ألم أسق إليك ما وصى به أبو سفيان ابنه شاهداً.
وطيبه، ألم اسق إليك فيه علته، وان النفس مشموم بما يصدر عنه. وهو من الأديب نتاجه، وأنت حين تشم أنفاس العطور فتراح لأشد نشوة حين تسمع إلى قول الشاعر:
العذل والتفنيد غير صواب ... مع أربع أصبحن من أصحابي
نفس الربيع وصبوة عذرية ... ومدامة تجلي وشرخ شباب
إبراهيم الابياري
إلى الأستاذ كامل محمود حبيب
قد اطلعت على مقالك المعنون بحماقة آب في العدد 858 من الرسالة فخلبتني موسيقية ألفاظه وطلاوة عبارته وبراعة أسلوبه ورصانته، وسحرني ما خلعت عليه من عرائس البيان التي ترنمت فأطربتني لكن بغير لسان، وتركت في الفؤاد أثراً دونه وقع رنات المثان!
ولما انتهيت إلى قولك: (والآن ماذا يختلج في فؤادك الخ) لم ترقني خاتمته على هذا النحو؛ لأن القارئ يميل إلى أن يعرف نهاية القصة بأسلوب ترتاح إليه نفسه، ويطمئن له قلبه، وتسكن عنده خلجاته. وأنت قد أبهمت مصير حياة الرجل فلم نعرف: أتخاذل أمام الحزن فهلك تحت كلكله؟ - أم صارع أمواجه ولم يستسلم له؟ وهل رضيت زوجته بمرارة الفقر المفاجئ، وسفعات البؤس المباغت؟ أم فرت إلى بلهنية العيش ورغد الحياة في كنف أسرتها؟
وتعبيرك في آخر القصة (وتنوء تحت أثقال ثلاثة من الفاقة والشيخوخة والوحدة) يفيد أن الرجل فقد كل شيء حتى زوجته وأنت لم تنوء بها في حوادث القصة كما نوهت بفرار(862/55)
الابن. وكيف كان أخوته إزاء حالته؟ أشمتوا به جزاء ما فعل معهم فكانوا عليه ضغثاً على إبالة؟ أم دفعوا إساءته إليهم ومقاطعته إياهم بإحسانهم إليه بمواساته؟
وهل الحامل للابن على الفرار هو خشية أن يصمه عار الفقر وذل السؤال كما قلت أم خشية أن يتساقط لحم وجهه خجلاً حينما ترنو إليه عين أبيه بعدما أفرخ الدهر بيضته وكشف سرّه؟ أظن أن الثاني أقوى تدعيماً لفكرة الفرار. كل ذلك مما يلفت الأنظار. ويثير الارتياب عند قراءة المقال!
أما اختتامه بما يدور في خلده ويختلج في فؤاده دون أن تبين على أي حال استقرت سفينة حياته لا ينقع للنفس غلة ولا يشفي منها علة. .!!
حمدي محمد فرغلي عثمان
العدد الممتاز
صدر العدد الهجري الممتاز حافلاً كشأنه بالموضوعات الحيوية الممتازة مملوءاً بالمقالات القيمة التي تكشف عن سر عظمة التشريع الإسلامي صاحب ذلك التشريع، وتبين ما تحويه الهجرة من معان سامية وآيات عالية هي قيام ذلك الدين وارتفاع بنيانه وإعزاز أهله وانتشار روح الحب والإخاء والإيثار بين أتباعه، وترفع الستار عن مواقع الزلل وبؤر الفتنة والغواية التي تردينا فيها وارتدغنا في حمأتها فتنكبنا الطريق وضللنا السبيل وعمينا عن الحق والواجب وأصبحنا في هذه الحياة نحيا حياة السوائم في مرعى اللئام. اللئام الذين أسكناهم فطردونا، وأشبعناهم فأكلونا، وكسوناهم فعرونا، وأعززناهم فأذلونا. . وإني لأتساءل في لهفة وحرقة هل يقرأ عظماؤنا ومن بيدهم مقاليد الأمور (في ذلك البلد المسكين) هذا الكلام وهل يعيرونه انتباهاً ويلقون إليه بالاً؟ وهل يدور بخاطرهم ويمر بخيالهم أننا كنا في يوم من الأيام نسيطر على هذا العالم وندير دفته ونملأه بالعدل والفضيلة ونحوطه بالعناية والرعاية؟ وهل يذكرون أن الرشيد مرت فوق رأسه سحابة فقال لها (أيتها السحابة أمطري أينما شئت فإن خراجك لي).
هل يذكرون هذا أم هم في غمرة ساهون؟
أرجو أن يذكروا هذا فتتيقظ قلوبهم وتتنبه نفوسهم وتضيء بين جوانحهم وتلك الومضات(862/56)
التي أطفأها الزمن وذهب بنورها تقلب الليل والنهار (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) عندئذ نستطيع أن نهتف في سمع الزمن قائلين (هذه بضاعتنا ردت إلينا)
سليمان محمود عطا
معهد قنا الديني
أخطاء مطبعية:
لم يخل مقالي (إيمان عظيم) المنشور بالعدد الهجري من الرسالة من بعض أخطاء مطبعية تركت أثرها في السياق، أما هذه الأخطاء فقد رأيت أن أثبتها هنا مع التصحيح حتى لا أظلم فطنة القراء.
وردت في المقال هذه العبارة: (وفي الفن تسطع ومضات الرؤى ويتوهج الأحلام، وفي الإنسانية تشف ببضات الهوى وتفيض منابع الأحلام. . ثم: (وحسبها أن تهب قلبها لمن تحب، وحسبها أن تفنى فيه وتذر له الحياة) صحتها: (وحسبها أن تفنى فيه وتنذر له الحياة). . كما ورد هذا البيت:
فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي ... ولكن الحمد في ذا وذاكا
وصحته:
فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
بعد هذا وردت هذه العبارة، وإني لأرى ذراعي قد سمن لأحزن) وصحتها: إني لأرى ذراعي قد سمن فأحزن). . ثم: (وما أروع العقاب حين يصل المجد وصحتها: وما أروع العقاب المحب ثم أو في لحظة الهوى التي يخفت فيها صوت الشعور والوجدان) وصحتها: (لأنها في لحظة الهوى الصارم التي يخفت فيها العقل ليرتفع صوت الشعور والوجدان). . ثم: يضبر لي رأي من هذا العقاب الذي خطر لها يوماً أن تتوجه به إلى رحاب الخلق العظيم) وصحتها: لا ضير في رأيي.
أسف واعتذار:
بين يدي عدد كبير من رسائل القراء في مصر والبلاد العربية بعضها يحمل إلي أسئلة في محيط الأدب والفن تنتظر الجواب، وبعضها ينقل إلي عواطف نبيلة وتقديراً كريماً،(862/57)
وبعضها يطلب إلي أن أكتب (قصة الدموع التي شابت). . أما أصحاب القسم الأول من هذه الرسائل فيؤسفني جد الأسف ألا أستطيع الرد على أسئلتهم في الوقت الحاضر، حيث يشغلني عن ذلك ما أقوم به الآن من دراسة مطولة لشعر المغفور له الأستاذ علي محمود طه. ومما يؤسف له مرة أخرى أن تحول بعض الظروف بيني وبين كتابة المقال الخامس من هذه الدراسة في هذا العدد، وإلى العدد المقبل إن شاء الله. . وأما أصحاب القسم الثاني من هذه الرسائل فلهم شكري خالصاً على هذه النفحات الروحية السامية التي يوجهونها إلي من حين إلى حين. . ويبقى بعد ذلك: أصحاب القسم الثالث من هذه الرسائل وإليهم أقدم أسفي للمرة الثالثة واعتذاري، أن أبطال القصة التي يطلبونها إليَّ عرضها على صفحات (الرسالة) سيفجر مداد القلم - كما سبق أن قلت - دماء جراحهم إذا ما كتبت ولكنني أعدهم بكتابتها - كما سبق أن قلت أيضاً - يوم أن تهدأ الرياح وتلتئم الجراح، وتكسر أمواج المحنة على شواطئ النسيان.
أنور المعداوي.(862/58)
العدد 863 - بتاريخ: 16 - 01 - 1950(/)
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 5 -
تحدثت إليك في الصورة النفسية الأولى وأعني بها (الموسيقى العمياء) عن خط الاتجاه النفسي ومكانه من الوحدة الفنية، وعن أدوات الربط بين الوجود الداخلي والوجود الخارجي أو بين عالمي المشاهد المرئية؛ وعن أصول الرؤية الشعرية ومصادرها في شعر الأداء النفسي، وتحدثت إليك في الصورة الثانية وأعني بها (القمر العاشق) عن الموسيقى الداخلية وقيمها في شهر هذا الأداء، وعن الحركة النفسيةوالحركة المادية. وعن التجسيم الشعري كأثر من أثار الملكة التخيلية. وتحدثت إليك في الصورة الثالثة وأعني بها (التمثال) عن العلاقة النفسية بين الألفاظ، وعن التصميم الداخلي كدعامة من دعائم الملكة التنظيمية. وعندما عرضت للملكة الأولى - أقصد التخيلية - قلت إن أول مزية من مزايا هذه الملكة هي التجسيم، التجسيم الذي يجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كونا يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على اللمس صورة تدركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي وأن تراها العيون. وكانت هذه المزية الأولى مطبقة على قصيدة (القمر العاشق). . . أما المزية الثانية فنطبقها على هذه القصيدة الجديدة (حانة الشعراء)، وقبل هذا التطبيق نقدم الصورة النفسية الرابعة، هناك في الصفحة السادسة عشرة من (زهر وخمر):
هي حانة شتى عجائبها ... معروشة الزهر والقصب
في ظلة باتت تداعبها ... أنفاس ليل مقمر السحب
وزهت بمصباح جوانبها ... صافي الزجاجة راقص اللهب
(باخوش) فيها وهو صاحبها ... لم يخل حين أفاق من عجب
قد ظنها والسحر قالبها ... شيدت من الياقوت الذهب
إبريقه حلى من الدرر ... يزهي به قدح من الماس(863/1)
وكان ما حوليه من صور ... متحركات ذات أنفاس
تركت مواضعها من الأطر ... ومشت له في شبه أعراس
منهن عازفة على وتر ... متفجر بأرق إحساس
وغريرة حوراء كالقمر ... تحنو على شفتيه بالكأس
او تلك حانته؟ فوا عجبا! ... أم صنع أحلام وأهواء؟
ومن الخيال أهل واقتربا ... (فينوس) خارجة من الماء!
في موكب يتمثل الطربا ... ويميل من سحر وإغراء
وبكل ناحية فتى وثبا ... متعلقاً بذراع حسناء
يتوهجون صبابة وصبا ... يتمثلون غريب أزياء
حمر الثياب تخال أنهمو ... يفدون من حانوت قصاب
جلسوا نشاوى مثلما قدموا ... يترقبون منافذ الباب
يتهامسون وهمسهم نغم ... يسري على رنات أكواب
إن تسأل الخمار قال همو ... عشاق فن أهل آداب
لولا دخان التبغ خلتهمو ... أنصاف آلهة وأرباب
من كل مرسل شعره حلقا ... وكأنها قطع من الحلك
غليونه يستشرف الأفقا ... ويكاد يحرق قبة الفلك
أمسى يبعثر حوله ورقا ... فكأنه في وسط معترك
فإذا أتاه وحيه انطلقا ... يجري اليراع في كف مرتبك
ويقول شعراً كيفما اتفقا ... يغري ذوات الثكل بالضحك
باخوس يروي عن غرائبهم ... شتى أحاديث وأنباء
قصص تداول عن صواحبهم ... وعن الصبايا فتنة الرائي
وعن الخطيئة في مذهبهم ... بدأت بآدم أمبحواء
والملهمات إلى جوانبهم ... يكثرن من غمز وإيماء
وتلفتوا لما بدا شبح ... فنانة دلفت من الباب
سمراء بالأزهار تتشح! ... ألقت غلالتها بإعجاب(863/2)
ومشت تراقصهم فما لمحوا ... إلا خطى روح وأعصاب
وسرى بسر رحيقه القدح ... في صوت شاجي اللحن مطراب
وشدا بجو الحانة الفرح ... لإلهة فرت من الغاب
هي رقصة وكأنها حلم ... وإذا (بفينوس) تمد يداً
الكأس فيها وهي تضطرم ... قلب يهز نداؤه الأبدا:
زنجية في الفن تحتكم؟ ... قد ضاع فن الخالدين سدى!
فأجابت السمراء تبتسم: ... الفن روحا كان؟ أم جسداً؟
يا أيها الشعراء ويحكم ... الليل ولى والنهار بدا!
هذه المزية الثانية من مزايا الملكة التخيلية هي الرمزية. . . . وما دمنا نقسم الأداء في الشعر إلى قسمين: أداء لفضي وأداء نفسي، وننسب الموسيقى في الشعر إلى نوعين: موسيقى اللفظ وموسيقى النفس، فإننا نفرق أيضاً بين لونين من الرمزية: هما الرمزية اللفظية والرمزية النفسية. وما دمنا ننكر القسم الأول من الأداء، ولا نقيم كبير وزن للنوع الأول من الموسيقى، فإننا نستهجن أيضاً ذلك اللون الأول من الرمزية. إن الفارق بين الرمزية اللفضية والرمزية النفسية هو الفارق بين الرمزية المصنوعة والرمزية المطبوعة! إننا ننشد الوضوح في الفن لأنه ركن من أركان الجمال فيه وطريق من طرق الإحساس بهذا الجمال. . . والشعر فن من الفنون الجميلة لا مراء، فإذا أخفينا هذا العنصر الفعال الذي يسلكه في عداد تلك الموضوع: إذا أخفيناه وراء ستار من التعقيد والغموض والتعمية والإبهام فقد تلاشى أول بريق أخاذ يمكن إن تتملاه العين في هذا الفن، ونعني به الجمال! نريد في شعر الأداء النفسي تلك الرمزية المطبوعة؛ الرمزية التي تلف الفكرة العامة أو الموضوع العام بوشاحها الرقيق الذي لا يحجب الضوء ولا تضيع من ورائه المعالم. . . . وكل رمزية في واقع الأمر نقاب يلقي على الوجه الجميل، ولكن هناك وجهاً يحول النقاب الكثيف بين جماله وبين العيون، ووجهاً آخر يكسبه النقاب الشفيف فوق جماله ألواناً وبين الفنون. وهكذا تجد الفارق الدقيق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية!
إن الرمزية في جوهرها ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير تستحيل معها المدركات الحسية إلى مدركات نفسية. . . إنها الجسر الذي تعبره الألفاظ والأخيلة والمعاني لتلتقي في(863/3)
بقعة فكرية بعينها تنطمس فيها الماديات لتحل محلها المعنويات. وهي في الشعر بعد ذلك ألوان: رمزية مماثلة تقع مت الصورة الوصفية المحدودة موقع الإطار، ورمزية كلية تشمل الهيكل العام أو الموضوع العام للقصيدة. أما رمزية اللفظ فهي رمزية الشطحات التعبيرية، أما رمزية الصورة فهي رمزية الشطحات التخيلية، وكلتاهما تمثلان ذلك النقاب الكثيف الذي يلقي ظلاله المبهمه الداكنة على وجه الفن ويحيل الومضة الفكرية ظلاما تتخبط فيه الأذواق وتضطرب المقاييس في تحديد مداه. هناك لفظ يدفعك إلى أن تبذل في استجلاء مراميه كثيراً من العناء، لأنه يمتح من نبع شعوري معقد يتدفق من وجود داخلي معقد، وهناك صورة تجهد فكرك إذا حاولت أن توفق بين خطوطها المتنافرة، لأنها مرسومة بريشة الحركة اللاواعية، أو لأنها من صنع المخيلة المحلقة في آفاق ذهنية لا تعكس منها غير مظاهر الضباب! وهكذا تجد الرمزية المصنوعة حين تردها إلى شطحات التعبير والتخيل في نطاق الصور والألفاظ، ولا كذلك الرمزية المطبوعة لأنها حركة استبطان نفسي قبل كل شئ، استبطان تبدأ مرحلته لأولى بجمع المادة الأولية ظاهرة حسية في مجالها المادي وتبدأ مرحلته الثانية بفحص هذه المادة الأولية فحصاً يرجعها إلى مصادرها من النفس والحياة، وتبدأ مرحلته الثالثة بعملية المقابلة والموازنة بين الطابع الحسي للظاهرة المادية وبين الطابع النفسي للفكرة الفنية. وفي هذه المرحلة الأخيرة يتم التوافق الدقيق الكامل بين عالمي الماديات والمعنويات!
هذه الرمزية المطبوعة التي نعنيها بهذه الكلمات هي الرمزية التي يرفل فيها اللفظ في أثوابه النفسية البسيطة التي لا تختلف وكل ما يمثلها في الشعر من الموضوع: والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في مواكبها البيانية مغمورة بأضواء الحركة الواعية التي تعمل في وضح النهار، هذه هي الرمزية التي يبقى فيها الرمز بعد ذلك مقصوراً على الفكرة العامة للقصيدة أو مقصوراً على الموضوع: عندئذ تكون الرمزية في الشعر عملا فنياً جديراً بالنظر فيه والاطمئنانإليه، وكذلك كل عمل فني يخلو من الشعوذة اللفظية والشعوذة الفكرية! بل إننا لنخطو إلى ابعد من ذلك خطوة أخرى حين نطالب بان تكون تلك الرمزية الموضوعية أشبه بالخريطة الجغرافية التي تتضح فيها مواقع المرتفعات والمنخفضات، عن طريق (الإيماء) إلى هذه وتلك بما يتعارف عليه من(863/4)
ألوان. . . هنا في مثل هذه الخريطة (ألوان مادية) تومئ أو ترمز للجبال والوديان والأنهار؛ وهناك في مثل تلك الرمزية (ألوان نفسية) تومئ هي الأخرى أو ترمز للظواهر والخواطر والمدركات.
بعد هذا نستطيع أن نطبق المقدمة التحليلية تطبيقاً نقديا على (جانة الشعراء) في غير جهد ولا عناء. إنك لن تصادف لفظاً واحدا يرهقك بطول الجري وراء معناه، ولكنها الألفاظ العادية تسير في مجراها الطبيعي وتمضي في طريقها المرسوم، دون إن تحوجك إلى السؤال تلو السؤال: ماذا يقصد الشاعر، وإلى أي معنى يهدف، والى أي وجهة نفسية يطلق لفكره العنان! ولن تصادف صورة واحدة تكدح ذهنك في سبيل الربط بين أجزائها المتناثرة أو التنسيق بين ظلالها المتداخلة وأضوائها المتشابكة ولكنها الصور المنتظمة الواضحة التي تخلو من انحراف اللقطة والتواء التعبير وشطح الخيال، إنك لن تصادف غير شئ واحد هو أن القصيدة في بنائها العام قد رمز بها إلى معنى عام معنى مهد له الشاعر بالأسس التخيلية في المقطوعات الأولى ليقيم الطابق الأخير في المقطوعة الأخيرة، وهو الطابق الذي تصعد إليه الرمزية النفسية في آخر خطوة من خطواتها لتستقر فيه!
هذه الأسس التخيلية هي (الحانة) في المقطوعة الأولى ثم (باخوس) إله الخمر في الأساطير الإغريقية القديمة، ثم (فينوس) في المقطوعة الثانية وهي إلهة الجمال في الأساطير الإغريقية أيضاً ثم جماعة (الشعراء) في المقطوعة الثالثة، ثم تلك (الراقصة السمراء) في المقطوعة الرابعة. وسترى أن الشاعر قد أخضع الملكة التخيلية لجو الأسطورة الإغريقية بالذات ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق غرضين رئيسين هما على التحقيق دعامتا الرمزية الموضوعية. أو لهما هو أن يتخذ من هذه الأسس التخيلية الأربعة في مجال واحد، وثانيهما هو أن يتخذ من هذه الأسس معابره إلى الهدف الاخير، ونعني به المعنى الذي رمز إليه بموضوع القصيدة. لقد تمثل علي طه أول ما تمثل مشهد الحانة، ثم تخيل أن يكون صاحبها هو (باخوس) ليخلق نوعا من الصلة الإيجابية بين مكان الخمر وإله الخمر، ثم تخير أن يأتي بجماعة الشعراء ليوجد نوعا آخر من الصلة الإيجابية بين الفن وأصحاب الفن، ثم تعمد أن يجمع بين (فينوس) ربة الجمال وبين الزنجية الراقصة لينشئ نوعا من الصلة العكسية أو السلبية بين مقام الآلهة ومقام البشر!(863/5)
نعم لقد تعمد أن يجمع بين السمراء والبيضاء أو بين ساكنة الأرضو ساكنة السماء وتدخل الزنجية الراقصة إلى الحانة ثم تلقي بغلالها لترقص أمام أهل الفن ويقبلون عليها في حركة تنم على العجب والإعجاب وتضج الحانة برنين الكؤوس وترتفع الأصوات بالغناء وتحتج (فينوس) وهي تمد بكأس يضطرم فيها الحب اضطرام قلبها الثائر وشعورها المهتاج. أهل الفن يشغلون عن ربة الجمال والدلال والسحر، بهذه الزنجية ذات القوام الداكن والبشرة القاتمة؟؟ ياضيعة الفن عند قوم من السكارى لا يميزون وهذه هي اللفتة الأولى مصورة في هذه الأبيات.
هي رقصة وكأنها حلم ... وإذا بفينوس تمديدا
الكأس فيها وهي تضطرم ... قلب يهز نداؤه الأبدا.
زنجية في الفن تحتكم ... قد ضاع فن الخالدين سدى!
وتبتسم السمراء ابتسامة تحمل ألف معنى إلى (فينوس)
ثم تهتف في ثقة واعتداد:
فأجابت السمراء تبتسم ... الفن روحا كان أم جسدا؟
ياأيها الشعراء ويحكم ... الليل ولى والنهار بدا!
وهذه هي اللفتة الثانية. . . وهاتين اللفتتين الرائعتين يقيم علي طه المعبرين الكبيرين للرمزية النفسية أو الرمزية الموضوعية! ترى هل أدركت المعنى العام الذي يرمز إليه الشاعر في هذه الكلمات؟ لقد أراد هنا أن يعرض لك عن طريق الرمز قصة النزاع الخالد أو قصة الخصومة الخالدة بين أرستقراطية الفن وديمقراطية الفن فأتى (بفينوس) لتمثل النزعة الأولى وأتى بالزنجية الراقصة لتمثل النزعة الثانية، ثم انطق هذه برأي في حقيقة الفن وانطق تلك برأي آخر، ليطلعك على مدى التفاوت بين نظرتين. نظرة الأرستقراطيين إلى الفن ونظرة الديمقراطيين إليه! أو نظرة تلك الفئة المترفعة التي تريد للفن أن يعتصم بالأبراج العاجية ونظرة هذه الفئة المتواضعة التي تريد له أن يأوي إلى الأبراج الخشبية ليكون قريباً من الناس. . . وهي طريقة يبلغ فيها التوفيق مداه حين يصرخ الشاعر على لسان الزنجية الراقصة: ليس الفن جسدا يلتصق بالأرض ولكنه روح توزن بما فيها من صفاء!!(863/6)
بعد هذا تنتقل إلى ظلال الأداء النفسي منعكسة على الألفاظ ولا أريد أن اقف بك طويلا عند الصور الوصفية المتناثرة هنا وهناك، حسبي أن أشير إليها إشارات عابرة، وحسبك أن ترجع إلى الفصول النقدية السابقة لتقوم بعملية التطبيق. . . أمامك هذه (الظلة التي تداعبها أنفاس الليل)، ثم هذه (الصور المتحركات التي تركت مكانها من الأطر) ثم هذه (الغريرة الحوراء التي تحنو على شفتي باخوس بالكاس)، ثم هؤلاء الفتيان (الذين يتوهجون صبابة وصبا) في موكب فينوس. وعندما تبلغ أول بيت من المقطوعة الثالثة ستصدمك هذه الصورة:
يمر الثياب تخال أنهمو ... يفدون من حانون قصاب
إنها الصدمة الوحيدة في القصيدة، ومعذرة إذا قلت لك إن الشاعر هنا قد خانه التوفيق، وليس هناك ما يصدم ناقد الشعر مثل ضعف الرؤية الشعرية وبخاصة إذاجاء هذا الضعف من شاعر يبلغ الأوج في قوة هذه الرؤية في كثير من شعرة وهو علي طه. . . ترى هل أمكنك أن تنفذ إلى موقع الضعف في هذه الرؤية الشعرية؟ إنه في تلك الصلة الواهية بين حمرة الثياب وبين حانوت القصاب، لأن واقع الحياة يؤكد لك أن حوانيت القصابين لا تلطخ ثياب الوافدين منها بقطرات من الدم ينتقل فيها اللون من حال إلى حال!
ونمضي في عرض صور الأداء النفسي الممتاز فتقدم إليك (هذا الهمس المنغم الذي يسري على رنات الأكواب)، ثم هؤلاء الشعراء الذين كأنهم (أنصاف آلهة لولا دخان التبغ)، ثم هذه (الحلق المرسلة من شعرهم وكأنها قطع من الحلك). . . هنا تنبع الرؤية الشعرية من أعماق الحركة الواعية، لأن الشاعر لم يغفل عن السمات المعروفة لطريقة إرسال الشعر على هيئة حلقات عند شعراء الإغريق ما دام دفع بالملكة التخيلية إلى جو الأسطورة الإغريقية. ثم هذه الإشارة الطريفة في هذا (الغليون الذي يستشرف الأفق ويكاد يحرق قبة الفلك)؛ إنها إشارة إلى خيلاء الشاعر ممثلة في تصوير الحركة المادية التي تنم عن الشموخ والاستعلاء! ثم هذه الصور الوصفية الثلاث في الأبيات الثلاثة التالية، إنها لمسات موفقة تبرز لك أحوال الشعراء عندما يهبط عليهم الوحي، في رأي خمار مخمور!
وفي المقطوعة الرابعة تروعك هاتان التحليقتان من تحليقات الخيال:
قصص تداول عن صواحبهم ... وعن الصبايا فتنة الرائي(863/7)
وعن الخطيئة في مذاهبهم ... بدأت بأدمأمبحوراء!
ثم هاتان الصورتان من صور الوصف:
ومشت تراقصهم فما لمحوا ... الاخطى روح وأعصاب
وسرى بسر رحيقه القدح ... في صوت شاجي اللحن مطراب
ثم هاتان الوثبتان من وثاب الأداء:
هي رقصة وكأنها حلم ... وإذا بفينوس تمديداً
الكأس فيها وهي تضطرم ... قلب يهز نداؤه الأبد!
ولا تنس هذا التوزيع الإيقاعي في هذه الموسيقى الراقصة التي تتلاءم كل الملائمة مع الجو الشعري للقصيدة. . . إننا مرة أخرى في أفاق الذاتية الغنائية
(يتبع)
أنور المعداوي(863/8)
مذهب في الحياة
للأستاذ رفيق فاخوري
لا أحسد الناس على ... ما جمعوا وثمروا
اكثر ما في حوزة ... الخزان عار أكبر
ولست بالراغب في ... جاه وصيت ينشر
قد رخص المجد فقل=لأهله: لا تبطروا
حتى المرؤات وشا - رات المعالي متجراً
تعطي بلا من لمن ... ضيع مالا أذكر!
ياشرف الأنفس صر - ت عرضا ًيزور
يامعدن الفخار أنت ... خزف لا جوهر
قد أعوز القوم سرا - ج والنهار مبصرا!
فعد عن دار أخو ... الخطوة فيها الأحقر
وقل: على الربع سلا - م، فالمقام منكر
سواى في جاه عريض ... أو غني يفكر
ثروة نفسي ياقصير - العقل أشيا أخر
كتيب تنظم فيه ... درر أو تنثر
فيه جمال الكون ... مطوياً وفيه عبر
وقطعة من الجنا - ن قد وشاها عبقر
ظلالها مقيل رو - حى إن عناها البشر
أحنى علي منهم=طائرها المثرثر
وجدول في عين ... كل ظامئ مصور
وذات دل وجهها ... فيه بيان يؤثر
حسبك منها - وأماني النفس شتى! - منظر
خط على مبسمها: ... بعض الحلال مسكر
ونغمة تطلقها ... حنجرة أو وتر(863/9)
سامعها يطولفي ... ثيابه ويقصر؟!
أي صب سربت ... في أذنه لا ينعر؟!
إذا الزمان مال ... بالحر وصال البقر
وعز في بنيه من ... قد طاب فيه عنصر
وعمت الأدناس ... حتى يئس المطهر
فليس يغني عنك ... إعراض ولا تذمر
الداء في صدرك ... قتال فكيف تصبر؟!
زم المطايا لفلا - ة ليس فيها بشر
وله أيضاً
لم أبك إلا على عهد شقيت به ... في البحث عن صاحب يدني مسراتي
لو كنت أنفقت عمري في معاشرة ... أفعى لأتقنت أبواب المداراة
لكن من أشتكى أخفى حقيقتهم ... عني وجملهم ثوب المراءاة
ممثلون شهدنا في ملاعبهم ... مصارع الصدق شتى والصدقات
هذي البراقع لو شفت لأضحكنا ... ما تحتها من صغار النفس مرات
ولو تحدث عنها ناطق مرضت ... ولا آذاننا من غثاثات الجهالات
لا أصلح الله بعد اليوم تجربتي ... ولا أقال على مسعاي زلاتي
فقد ذوى الأخضر الأملود من عمري ... وطاح عهد التصافي والمودات
حمص
رفيق فاخوري(863/10)
رابعة العدوية
للآنسة دعد الكيالي
زهرة بيضاء منداة بقطرات المناجاة والصلاة والخشوع، نبعة فياضة من نبعات الحب الإلهي الخالد الأكيد، شمعة قدسية احترقت بدموع العشق الروحاني النقي الطاهر، قديسة عابدة متهجدة في هياكل الليالي مسبحة في ظلال الأنهار، عذراء بتول انتصرت على الآلام المادية ومسخت عملاق الشهوات الجبار فإذا به قزم لا حول له ولا طول، نغمة صوفية غريبة ذات طابع جليل رائع، شخصية حلوة جذابة أقلم ما يقال فيها أنها نسيج وحدها بين الشخصيات النسوية.
تلكم هي شاعرتنا المتصوفة الكبيرة (رابعة العدوية) وإليكم ترجمة حياتها:
هناك في مدينة البصرة العراقية حيث يلتقي الأخوان دجلة والفرات، أجل في تلكم المدينة المتضوعة بخمائل النخيل رمز الصحراء المتصوفة وتمثالها ولدت سيدتنا العظيمة (رابعة) وكان هذا في أواخر الربع الثاني من القرن الأول الهجري، ذلك العصر الذهبي الذي كان للمرأة العربية فيه شأن قبيل أن ينال الوهن الفارسي والترف الروماني من حرية أبنه الصحراء الحرة الساذجة التي تختلط بالرجل ذلك الاختلاط النبيل المحصن العزة والكرامة.
كانت شاعرتنا المتصوفة مولاة لآل عتيك، توفي عنها أبواها وهي لما تزل رطبة العود، غضه السن فخلفهما على رعايتها رجل فظ غليظ كان يرهقها بالأعمال الكثيرة، ويعاملها بمنتهى الظلم والقسوة. فكانت المسكينة تحتمل كل هذا بصدر رحب وتحتسب عند الله ما تلاقيه من العذاب والآلام. ثم ماذا؟ ثم يبيعها سيدها من رجل آخر لا يقل عنه جوراً واستبداداً فتتقبل المسكينة قضاء الله المحتوم بسكينة ووقار، وتنطوي على نفسها وتتلقى التعب والنصب بالبسمة الراضية وتقوم بما وكل إليها سيدها من الأعمال خير قيام.
وذات يوم بينما كانت تسعى لشأن من شئونها في أحد شوارع البصرة ورماها بعضهم بنظرة سوء فأشاحت بوجهها عنه فزلت قدماها وكسرت ذراعها فأغمى عليها. وأخيراً نهضت وقد انطوت نفسها على الحسرة والألم؛ وبصوت متهدج من الخشوع أخذت تقول (رباه قد انكسرت ذراعي وأنا أعاني الألم واليتم، وسوف أتحمل كل ذلك واصبر عليه. ولكن عذاباً أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكك أوصال الصبر في نفسي منشؤه ريب(863/11)
يدور بخلدي. وهل أنت راض عني يا إلهي؟ هذا ما أتوق إلى معرفته) وما كادت تتم نجواها هذه حتى سمعت هاتفاً من وراء الغيب يتساقط في أذنيها هذه العبارة: لك يارابعة عند الله مرتبة تغبطك الملائكة من اجلها) فشاع في نفسها السرور، وانتشت من فرط الطرب فقفلت راجعة إلى بيت سيدها والأحلام السماوية تداعب أوتار قلبها بأناملها السحرية.
وفي ذات مرة أرق سيدها فسمع في جوف الليل صوتاً راعشاً اكسب الدار جواً مهيباً رائعا فاهتز له قلبه. وطفق يبحث عن مصدره، وكم كان عجبه شديداً عندما اطل من ثقب الباب فرأى رابعة تصلي بحرارة وإخلاص بالغين؛ وبصوت عميق معبر سمعها تقول: (ربي إنك تعلم أن اشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية مالك من حقوق؛ ولكنني أسيرة لا املك حريتي الشخصية، فلا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية فلتعذرني يا إلهي؛ وعلى أثر ذلك دبت الحمية في صدر الرجل. وفي اليوم التالي أعتقها فكادت تترقص من عظم السرور. وأقامت وحدها في منزل متواضع وقامت بأود نفسها من كسب يدها فعملت بالحديث النبوي الشريف: (لا تكونوا كلا على الناس).
ومما لا شك فيه أن شاعرتنا كانت ملمة بمبادئ القراءة والكتابة وهي بعد عند مولاها فلما أن حصلت على حريتها نمت هذه المبادئ ورعرعتها.
وكأننا بها وهي متنقلة بين مساجد البصرة العلمية الزاهرة تنهل من موردها العذب وتعل من نميرها السلسال فلا تمضي مدة طويلة حتى تغدو عالمة العصر وأديبة الجيل.
وقد كانت على فقرها محببة إلى القلوب يجلها أكابر العلماء ويستفتونها في دقائق التصوف والفقه ويتناقشون معها ويناظرونها فيصبح بيتها على حقارته محاجة المتصوفين وقبلة العلماء والفضلاء فيدعونها عن جدارة واستحقاق بتاج الرجال. ولقد كان بينها وبين بعضهم صداقة متينة حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الصبر عن لقائها فيقول: (مروا بنا إلى المؤدبة فإنني لا أجد من استريح إليه إذا فارقتها).
وسئلت يوماً: (أتحبين الله كثيراُ؟) فقالت: (بلا ريب) فقيل لها: ألا تعدين الشيطان عدواً لك؟ فقالت: (إن محبة الله قد ملأت أرجاء قلبي فليس فيه متسع إلى القلق والاضطراب من عداوة الشيطان).(863/12)
ومن وصاياها: (اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم) وكانت تقول: (محب الله لا يسكن حنينه وأنينه حتى يسكن مع محبوبة). وحقاً لقد كانت رابعة هكذا بكاءة لا تنقطع لها عبرة حتى أن موضع سجودها كان كهيئة المستنقع من دموعها. وتحدثنا الرواية أن كان يغشى عليها لمجرد ذكر النار.
كانت ذات إرادة حديدية بالية؛ أهانت الدنيا واحتقرتها، وأرادت الحرمان وفضلته، وأحبت الوحدة وتعشقتها.
كانت تنام على حصيرة بالية؛ وكان موضع الوسادة قطعة الآجر، وكانت تشرب من إناء مكسور وتطوي ليلها تصلي لله وتناجيه حتى إذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة ولكنها ما كانت تلبث غير قليل حتى تعب من مرقدها فزعة تغلب النعاس وتتحدى النوم قائلة: (يا نفس كم ذا تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور). كان من عادتها أن تصوم سبعة أيام وتنقطع إلى العبادة والزهد ليالي لا تفتر أثنأها عن مناجاة النفس بهذا الخطاب (إلى متى تعذبين نفسك يا رابعة وتحملينها مشقة وهي مشقة ليس بعدها مشقة!) وهي في ذلك ذات مرة إذا برجل يدق عليها الباب وفي يده صحن من الطعام يتركه لدينها ثم ينصرف. أما هي فتأخذ الصحن وتضعه في زاوية من الغرفة وتتشغل بإصلاح القنديل. وإنها لذلك إذا بهزة تدخل فتأكل الطعام الذي في الصحن. وطالما تعود رابعة فترى الصحن خاوياً فتقول في نفسها: (لا بأس. أفطر على الماء) ولكنها عندما تذهب لتعود بالماء ينطفئ القنديل فلا تطيق احتمالاً وتقول: (اللهم لهم هذا العذاب)؟ فتسمع هاتفاً يقول: (لو شئت يا رابعة وهبنا لك جميع. ما في الدنيا ومحونا ما في قلبك من ثار العشق لأن قلبنا مشغولاً بحب الله لا يشغل بحب الدنيا) فتذرف رابعة دموع الندم وتعزم على ألا تعود للتذمر مما هي فيه.
والجميل الطريف في رابعة أن زهدها ما كان عجزاً منها عن اللذات وقصر باع في نيل الغنى فقد خطبها كثير من الأغنياء والفضلاء منهم الحسن البصري المشهور أمره فردته كما ردت غيره وبعثت إليه بهذه الأبيات:
راحتي يا اخوتي في خلوتي ... وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً ... وهواه في البرايا محنتي(863/13)
حيثما كنت أشاهد حسنه ... فهو محرابي إليه قبلتي
إن أمت وجداً وما ثم رضاً ... واعنائى في الورى واشقوتي
يا طبيب القلب يا كل المنى ... جد بوصل منك يشفي مهجتي
يا سروري يا حياتي دائماً ... نشأتي منك وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلق جمعاً أرتجي ... منك وصلا فهو أقصى منيتي
وكثيرون هم الأغنياء الذين كانوا يعرضون عليها الدور الفاخرة المترفة الغارقة بالحرير. وكثير منهم أولئك الذين كانوا يلحون عليها بقبول الدنانير الكثيرة فكانت ترفض هذا كله وتفر منه فرار السليم من الأجرب. فمن ذلك أن رجلاً أتاها يوماً بأربعين ديناراً ورجاها أن تتقبلها قائلاً: (تستعينين بها على بعض حوائجك). فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء فقالت: (هو يعلم أني أستحي أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن أحدها ممن لا يملكها؟).
وأجمل من هذا وأروع أنها كانت تعبد الله بعاطفة حب تنزهت عن الغرض المادي وسمت فوق مخاوف الجنس البشري ومطامعه وفي ذلك تقول: (إلهي إذا كنت أعبدك رهبة من النار فاحرقني بنار جهنم. وإن كنت أعبدك رغبة في الجنة فاحرمني منها. وأما إذا كنت أعبدك إلهي من أجل محبتك فلا تحرمني من جمالك الأزلي).
أما شعرها فهو في الذروة من شعر التصوف. وحسبها فخراً أن أحدهم قال: (كانت رابعة السابقة إلى قواعد الحب والحرمان في هيكل التصوف الإسلامي وان الذي فاض به بعد ذلك الأدب الصوفي من شعر ونثر في باب الحب والحزن فهو نفحة من نفحات السيدة رابعة العدوية أمام العاشقين والمحزونين في الإسلام).
هذا والمعترفون للسيدة بالفضل في ميدان الأدب الصوفي كثيرون. والآن يحسن بنا أن نورد نخبة من شعرها الوجداني المعبر:
لقد أعرضت شاعرتنا عن كل شيء لتقبل على الله وحده. وزهدت في كل أمر لتأنس بقربه ورضاه. لم يكن في قلبها متسع لأي شأن من الشؤون، ذلك لأنها أحبت الله بكل ما في قلب المرأة من العاطفة المتأججة العميقة، وبكل ما في روحها من الأشواق اللاهبه البعيدة. فجاء شعرها عاطفياً مؤثراً فياضاً بالشجن. ومن ذلك قولها:(863/14)
إني جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وتقول أيضاً:
حبيب ليس يعدله حبيب ... وما لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن بصري وشخصي ... ولكن عن فؤادي لا يغيب
وتطالع رابعة سفر أيامها وتتلف معددة ما أتته من الأعمال فترى في نفسها التقصير، وترى أن زادها من الأعمال الفاضلة أقل من القليل؛ ثم تذكر الله ولذة رضاه وسبيل لقائه الطويل المحفوف بالدموع والآلام والمشاق فتخطر لها فكرة العذاب فتهتف بلوعة وحسرة: (إلهي أتحرق بالنار قلباً يحبك؟!) ويضنيها التفكير فتتناول القلم وبيد مرتجفة من الانفعال تكسب على القرطاس ما يعتلج في قلبها الذاكي من المواجد والآلام فتستوي لديها هذه النفاثة الرائعة:
وزادي قليل ما أراه مبلغي ... أللزاد أبكي أم لطول مسافتي؟
أتحرقني بالنار يا غاية المنى؟ ... فأين رجائي فيك أين مخافتي؟
وتحدثنا الرواية أن رابعة بعد أن بلغت الثمانين من العمر أصبحت وكأنها الحلال البالي، تتحامل على نفسها من شدة الإعياء. وإذا مشت تكاد تسقط من فرط الكلال وعندما اقتربت منيتها أوصت صديقتها المخلصة عبدة بنت أبي شوال بأن تكفنها بعباءة صوفية صحبتها شطراً من حياتها وشهدت قيامها في الأسحار وتهجدها في الليالي وتبللت بدموع الخشوع.
فلما جاءها القدر المحتوم سنة خمس وثلاثين ومائة هجرية كفنت بعباءتها الحبيبة وخمار صوفي كانت تلبسه ثم دفنت في جبل الطور شرقي القدس.
وهكذا كف قلب رابعة العامر بالحب الإلهي الخالد عن الخفقان ولكن بعد أن وقع أجمل الألحان وأسمى الأنغام.
رعد الكيالي(863/15)
أرجواش المنصوري
للأستاذ عطية الشيخ
مهداة إلى أبطال الفلوجة
خاتمة قرن:
نحن الآن في السنة الأخيرة من القرن السابع الهجري، قرن المصائب والآلام على العالم الإسلامي، فقد اجتاح فيه التتار ممالك آسيا الإسلامية، وقوضوا بغداد، وختموا الخلافة الإسلامية أفجع خاتمة. ولولا أن الله قيض لهم من جيش مصر الباسل حاجزاً دفعهم عن بلاد الشام، لما أوقفهم عن تخريب أفريقية الإسلامية إلا ساحل بحر الظلمات، وقد جعلوا (تبريز) المدينة الإسلامية الفاضلة عاصمة لهم، استعداداً للقصاص من المصريين، إذا لاحت الفرصة، وواتت الأحوال.
الخونة الثلاثة:
وقد لاحت الفرصة للتتار، عندما فر ثلاثة من كبار أمراء مصر، وقواد جيشها، من القاهرة إلى تبريز، واحتموا بقازان، ملك التتار وحفيد هولا كوخان، فأكرم وفادتهم وأحسن لقياهم، وأخذ يفتلهم في الذروة والغارب، حتى أطلعوه على العورات، وهوّنوا عليه أمر المصريين، وذكروه بدماء آبائه وأجداده، التي سفكها المصريون في عين جالوت، وبينوا له ما بين سلطان مصر وشعبه من جفاء، بسبب وزيره المستبد بالرعية، المحتجن للارزاق، المضطهد للنابهين والأمراء والعظماء، وقد لحق بهؤلاء الخونة الثلاثة أشياعهم وأذنابهم، والناقمون على السلطان (المنصور لا جين) نقمتهم، وزينوا لملك التتار ما زينوا، وحسنوا ما حسنوا، حتى صح عزم قازان على مهاجمة مصر والشام، وما بقى من بلاد الإسلام وهكذا باع الخونة الثلاثة: (قبجق وبكتمر والألبكي) بلادهم، وظاهروا على قومهم وأهليهم وحاربوا سلطانهم.
في قصر قازان:
قازان على عرشه ضاحك السن مستبشر، ومن حوله الخونة الثلاثة، وقد دخل قائده بولاي مع الرسول، راجياً أن يكون استدعاؤه لحرب جديدة تروي نفسه المتعطشة للدماء، وتقر(863/16)
عينيه المغوليتين بمصارع الهيجاء، وتشنف أذنيه الوحشيتين بصليل السيوف وصهيل الخيول وانين المكلومين، وتملأ جيوبه من سلب المهزومبن، وأموال المغلوبين؛ وقد شاع الفرح في وجهه عندما سمع مقالة الملك له: (يا بولاي، أنت قائدي المغوار، وداهية التتار، وتعلم مالي ولك قبل المصريين من دخول وثارات، تنادي بها دماء آبائي وآبائك المسفوكة بسيوفهم، المطلولة برماحهم، فقد دسنا الدنيا وداسونا، وأذللنا الشعوب وأذلونا، ولم يكفهم رد غاراتنا، حتى هاجمونا في عقر دارنا، غزونا في بلادنا، وما تزال سيوفهم تقطر بدمائنا، وقد آن الأوان لنأخذ بالثأر، ونكيل بالصاع صاعين، ونرد لهم الدين) ثم اشتد غضب قازان وتطاير الشرر من عينيه، وصاح صيحة منكرة، كاد من هولها يخشى على كل من في المنزل: (يا بولاي، اجمع فرسان التتار، وأبطال التركمان، ورماة المغول، ولا تدع ضارباً بسيف، ولا طاعناُ برمح ولا رامياً بسهم إلا جيشه) ثم سكت قليلا وقال:
(يا بولاي الحرب خدعة، والواقعة يجب أن تكون فاصلة، والعدو صعب المراس، تعود أكل لحومنا، واستمرأ شرب دمائنا، فاستعن في هذه الواقعية بجميع أعداء المصريين، من صليبين وروم وأرمن، واضرب المصريين ضربة تنسى العالم هزائمنا المتوالية أمامهم، وتحسم الأمر بيننا وبينهم.)
أجاب بولاي بالسمع والطاعة، وسجد للملك وقبل الأرض بين يديه، ثم قام وهم بالانصراف، فاستدعاه الملك ثانياً وقال له: يابولاي، لا تعبا بالوقت، فإنا لا اطلب العجلة وإنما أطلب النصر، فلا تتحرك بالجيش إلا إذاتم استعدادك، وصار النصر منك على طرف التمام، واقطع على المصريين الأخبار حتى تفاجئهم غير مستعدين).
الشام في فزع:
تم استعداد بولاي وتحرك جيشه نحو الشرق، ووصلت الأنباء بذلك بلاد الشام، بعد أن كشف السر، وعرف عزم التتار، فجفل أهل الشام، وتفرقوا في السواحل، وتشتتوا من الفرات إلى غزة. . . وعظم خوف الناس وصياحهم على الإسلام وأهله) ولولا أن سلطان مصر بعد أن بلغه الخبر أخذ يبعث البعوث لطمأنة خواطرهم، ما بقي منهم في الشام أحد؛ لأن أهوال التتار في البلاد المغلوبة معروفة للخاص والعام، وهم وشيكو عهد بمذابح بغداد وفظائع هولاكو خان في العراقين، لم يرحم شيخاً ولا طفلاُ ولا امرأة، ولا عف عن منكر،(863/17)
ولم يبق من البلاد التي اجتاحها إلا ما تبقى النيران من الهشيم، والسيول الطائحة من الجحيم.
في أرباص حمص:
وتحرك المصريون إلى بلاد الشام ليحموها من الطغاة الطارئين، ومرت الجيوش المصرية على دمشق، متجهة صوب الشمال، وابتهل الناس لها بالدعاء، والتقى الجمعان قرب حمص، وحمل المصريون على التتار حملة صادقة، فقتلوا منهم نحو خمسة آلاف دون أن يقتل منهم إلا قليل. وفكر التتار في الفرار، وزلزلو زلزالا شديداً.
بعد أن لاح النصر:
ما أعجب شان الحروب، وما أكثر التشابه بين حوادث التاريخ، وما أشبه واقعة حمص بغزوة أحد، فإن المصريين بعد أن لاح لهم النصر، ابتلوا بتخاذل مفاجئ، (واتكل بعضهم على بعض. . فانهزمت الميمنة أولا ثم تبعها جميع العساكر، أمعنوا في الهزيمة، حتى رمى الجند خوذهم وسلاحهم. . . واخذوا يغيرون ازيائهم، ويحلقون شعورهم تنكراً من العامة الذين كانوا يوبخونهم ويشتمونهم كلما مروا عليهم منهزمين أمام التتار)
أحزان دمشق:
بلغت كسرت المصريين دمشق (فخرجت المخدرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن، وأطفالهن بأيديهن، ومن استطاع النجاة بنفسه، فر تاركاً أهله وولده. وتشاور جماعة من عظمائها في الخروج إلى التتار طلباً للصلح قبل أن يدخلوا دمشق عنوة، وكان ممن يرى هذا الرأي، قاضي القضاة ابن جماعة، وشيخ الإسلام ابن تيميه ثم وصل خمسة من كبار التتار إلى دمشق ومعهم فرمان بالأمان، قرء على باب الجامع الأموي، فاطمأن الناس، وسكت عنهم الفزع، وزاح الهلع، وانتظروا الغيث من هذا البزق الخلب.
إذا دخلوا قرية:
تدفقت جموع التتار على دمشق يتقدمها الخونة الثلاثة واستسلم لهم بلد عز عليهم أيام الظاهر بيبرس مناطه، فهل وفى الملوك بعهدهم؟ وهل أغنى الفرمان عن الدمشقين شيئا؟ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. وكذلك فعل التتار، وهم أولى(863/18)
من غيرهم بقبيح الفعال عند من لم يكن بينهم وبينه ثأر، فما بالك وقد تمكنوا من بلد تقطعت على أبوابه في الماضي القريب أوصالهم، وأريقت دمائهم، وزينت أسواره بالرماح المشرعة عليها رؤوس قتلاهم؟ لقد عاثوا في دمشق وما حولها من القرى، (المساجد تشرب فيها الخمور، وتهتك الستور، وتفتض البكور، ويقتل المجاورون، ويؤسر الخطباء والمؤذنون، بل على قبر خليل الرحمن، وفي حرم بيت المقدس، هتكت النسوان، وعلقت الصلبان)
هاتان الطائفتان:
والطائفتان هم أهل الدنيا من علماء الدين والمتصوفة، ما خطبهم؟! فردوا على النفاق، فواتّهم بلاغته، وعنت لهم فصاحته، لا يجاوز العلم حناجرهم، ولا التصوف ألسنتهم، طرفت الدنيا أعينهم، وبدا الترف في ملبسهم ومسكنهم ومأكلهم، واستعبدتهم الشهوات، فكانوا أنكى على الإسلام في كل عصوره من الأعداء المغيرين. ومن العجب العاجب أن الحجج والبراهين والأدلة تتدفق على أقلامهم وألسنتهم، فمنذ عهد قريب أفتوا للمسلمين بأن هولاكو أولى بالملك من الخفاء العباسيين، (لأن الملك يدوم على الكفر، ولا يدوم على الظلم) وهم الآنما كاد المقام يستقر بالتتار في دمشق حتى إذا عوا على جميع المسجد أن يدعى لقازان الكافر التتري في الجمع والأعياد بالدعاء الآتي: (مولانا السلطان الأعظم، سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود قازان) فهل تعجب بعد ذلك إذا سمعت ممن خلفهم في العصر الحديث، عبد الله نابليون، ومحمد هتلر، وسيف الإسلام موسوليني! أما إمام المتصوفة الشيخ الحريري، فقد سار ابناه (الحن والبن) في ركاب التتار، يأكلون من فضلاتهم ويوطدون لهم المقام في بلادهم، ويمكنونهم من رقاب ذويهم، وما أحسن قول الجوزي أحمد شعراء ذلك العصر:
بُلينا بقوم كالكلاب أخسة ... علينا بغارات المخاوف قد شنوا
هم الجن حقاً ليس في ذاك ريبة ... ومع ذا فقد والاهمُ الحن والبنُّ
وقول الوداعي:
أتى الشام مع قازان شيخ مسلك ... على يده تاب الورى وتزهدوا
فخلوا عن الأموال والأهل جملةٌ ... فما منهمُ إلا فقير مجردُ(863/19)
ولا يفوتنك جمال التورية في البيتين لأخيرين.
حاج الحرمين:
ما أكثر ما خدع المسلمون بالألقاب؛ فاستغلها للتمكن منهم أعداؤهم، وهاجم أولاء التتار يكافئون قبجق أحد الخونة الثلاثة بأن يولوه من قبلهم على الشام، ويتركوا معه جيوشهم بقيادة بولاي، ليفتح ما بقي بالخديعة كلما أغنت عن الحرب، استبقاء للجيوش، حتى دخل مصر قبل الكلال، وضياع الوقت في الحصار والنضال، وأخذ قبجق الخائن، يرسل إلى البلاد المنيعة طالباً التسليم، يوقع على كتبه: (سلطان الشاتم، حاج الحرمين، سيف الدين، قبجق) فيالمهازل الحجاج وسيوف الدين!
بطل مصري:
علمت جميع مدن الشام الحصينة أن لا طاقة لها بالصمود أمام التتار، بعد أن سلمت دمشق، وثبتت بها قدم التتار، ودُعي لسطانهم في المساجد، وسار في ركابه الحِن والبنّ، وأرتد الجيش المصري إلى ما رواء غزة. لهذا أذعن بلد إثر بلد، واستسلم حصن بعد حصن، وظن التتار أنه قضي الأمر، ولم يبق عليهم إلا الاتجاه إلى مصر، ليدخلوها آمنين، ولكن أيصح ذلك وما زال (أرْجَواش المنصوري المصري) في أقرب المواطن إليهم، معتصماً بقلعة دمشق، ويأبى مع البقية الباقية من المصريين التسليم؟ لقد استهانوا به أول الأمر لأن دمشق نفسها في أيديهم، ويكفي أن يقطعوا عنه الميرة والذخيرة، ليتقدم بنفسه طالباً التسليم، ولكن خاب ظنهم، ورأوه بنقض عليهم من القلعة، الفينة بعد الفينة، ليستخلص من أيديهم، ما يقيم أوده، ويعينه على قتالهم. آنئذ لجأ العدو إلى الخديعة والليان، فتوجه الثلاثة الخونة يتزعمون قبجق إلى القلعة، وهم زملاء سابقون في السلاح لأرَجواش؛ فنادوه ونصخوه بالتسليم. ولما رفض في إباء وشمم وبخوه ما شاءهم البذاء، واتهموه بخيانة المسلمين وإهدار دمائهم! وقالوا له: (دم المسلمين في عنقك إن لم تسلمها).
لا تعجب أيها القارئ الكريم، فما زال الباطل يتطاول على الحق، وتقلب السياسة الأمور، حتى يأذن الله وينكشف للناس ما كانوا عنه غافلين، ويندمون على جهلهم حين لا ينفع الندم. أتدرى بماذا أجاب أرجواش الخونة الثلاثة!(863/20)
لقد قال لهم: (دم المسلمين في أعناقكم أنتم الذين خرجتم على بلادكم، وتوجهتم إلى قازان، وحسنتم له المجيء إلى دمشق وغيرها من بلاد الإسلام) وسكت عند ذلك، وكان يستطيع أن يوسعهم سباً، ولكن من يحسن العمل داماً لا يُحسن القول، وأبطال النضال يغنيهم الحسام عن الكلام، وقديماً قال قائد عربي لم يُفتح عليه بكلام حين وقف للخطبة:
إذأ لم أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
وقال الرشيد ملك العرب لنقفوز ملك الروم رداً على تهديده:
(الجواب ما ترى لا ما تسمع).
في قلعة دمشق:
تهيأ أرجوش للحصار والقتال وأجمع أمره على الموت دون التسليم، وشد
أزره من معه من أبناء مصر وأبطال النيل، وصح عزم الجميع على ألا يدخل القلعة تتري وفيهم عرق ينبض، وتوالت وثباتهم من القلعة على دمشق لأخذ ما يحتاجون. . .
ومن تكن الأسد الضواري جدوده ... يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا
وترادفت رسل قازان إلى أرجواش بالوعد مرة وبالوعيد والتهديد مرة أخرى، وطال الأخذ والرد، وخطباء المساجد عون على المنابر لسطان الإسلام والمسلمين قازان، وكل شيء حول أرجواش يدعو إلى التسليم، ولكنه هو ومن معه لا يزدادون إلا عزماً وتصميماً وثباتاً ويقيناً.
أغنى عن أمة:
نسى التتار أمر الهجوم على مصر، واستحوذ الخوف عليهم من قلعة دمشق. إنها شوكة في جبينهم وهلاك مشرق عليهم، ولا مقلم لهم في نفسها ما لم يقتحموها على من فيها، وقد يئسوا من جدوى السياسة والخداع، وبات لا يطرف عينهم نعاس، ولا يغشى جفونهم الكرى، ولا يذوقون النوم إلا غراراً، خوفا من هجمات من بالقلعة، وكانت تزداد وتشتد، كلما أمل التتار الإذعان والتسليم، فجاءوا جميعاً وأطبقوا على القلعة من جهاتها الأربع، وهجموا عليها هجمة رجل واحد بخيلهم ورجلهم. ولا يحسن أحد كالتتار مثل هذا الهجوم الخاطف. رمت المجانيق بأحجارها، وهجمت الخيول بفرسانها، وأسرعت المشاة بعجلاتها(863/21)
ودباباتها، كأنما ثار بكان، أو أشعلت نيران، أو طغى طوفان، وأظلم الجو من الغبار المتطاير، والعثير السائر، وما هي إلا ساعات حتى انجلت الموقعة، عن القعلة الرهيبة سليمة حصينة كعملاق جبار يعبث بشسع نعلة أطفال، أو كالهرم الخالد تتدهدى عليه حبات الرمال، بل كثلان تغدو وتروح عليه النمال. ثم انجلت الموقعة عن بحار من دم التتار، وأكوام من أشلائهم وتلال من رءوسهم، أما أرجواش وصحبه قهم في قلعتهم سالمون، وبالنصر فرحون مستبشرون (فلله درَّهم ما كان أثبت جأشهم وأقوى جنانهم.)
احكمي يا مصر:
لقد كانت الموقعة هائلة، وكان وقعها في نفوس التتار أهول، فلم يطيقوا في الشام كلها بعد ذلك بقاء، وولوا الأدبار بمن بقي معهم إلى بلادهم هاربين، وفي إثرهم قبجث الخائن وصحبه، ونزل أرجواش من القلعة واستولى على دمشق، وأعاد الخطبة لسلطان مصر وزينت البلاد ابتهاجاً بهذا النصر، وطار الحمام الزاجل بالنبأ إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة، فعاد جيش مصر إلى الشام، وهناك أمام قلعة دمشق انحنى قائد الجيش المصري العائد (سلاَّر) لحماة مصر والشام، وأبطال قلعة دمشق؛ تمجيداً وتعظيماً (وفرح أهل الشام قاطبة، وعلموا أن في عسكر الإسلام القوة والمنعة، ولله الحمد)
يأبكم المفتون:
أتدر بماذا ينعت العلماء والمتصوفة أرجواش؟ أنهم يصفونه بالغفلة والجنون، ويكثرون التندر عليه والتهكم منه ويسوقون في ذلك حكايات كثيرة برهاناً على صدقهم. وهاك حكاية واحدة لا شك أنها في وضعهم، وما أقدرهم على الكذب، وإنما اخترت هذه الحكاية دون غيرها لأنها من رواية عالم هو الصفدي عن متصوف هو عبد الغني الفقير، قال سامحه الله:
(لما مات الملك المنصور قلاوون - أستاذ أرجواش - قال لي:
أحضر لي مقرئين، يقرءون ختمة للسلطان، فأحضرت إليه جماعة جعلوا يقرءون القراءة العادية، فأحضر أرجواش سيفاً وقال:
كيف تقرءون للسلطان هذه القراءة! أقرءوا عالياً، فضجوا بالقراءة جهدهم، فلما فرغوا منها(863/22)
قلت: (يا خونْد) أي يا سيد فرغت الختمة، فقال: يقرءون أخرى، فقرءوها وقفزوا كثيراً ليفرغوا، فلا انتهوا أعلمته وطبت لهم أجرهم، فقال: ويلك! السماء ثلاثة والأرض ثلاثة، والأيام ثلاثة، والمعادن ثلاثة، وكل ما في الدنيا ثلاثة! يقرءون. فذهبت إليهم وأخبرتهم بالخبر، وقلت: احمدوا الله تعالى على أنه ما علم أن هذه الأشياء سبعة سبعة. فلما فرغوا عن الثلاثة، وقد هلكوا من صراخهم طلبت أجرهم، فقال: اكتب عليهم حجة أن ثواب هذه الختمات لمولانا السلطان دون غيره، ففعلت ذلك وجئت إليه بالحجة، فقال: هذا جيد وصرف لهم أجرتهم.) ويعقب المؤرخون على ذلك بقولهم:
حكي عن أرجواش حكايات كثيرة، تدل على تغفل كبير، وتلحقه بعقلاء المجانين، وإن مصر لتصيح وقد مرَّ على أرجواشن نحو سبعة قرون: ألا ليتكم أيها المؤرخون والعلماء والمتصوفون في مثل غفلة أرجواش وشجاعته وأياديه على بلاده.
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا(863/23)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة لتوجيهية (2):
غاية الأخلاق عند أرسطو
للأستاذ كمال دسوقي
قلت لك في حديثي الأول أنه بتعمل وتكلف كبيرين نستطيع أن تقتطع نظرية الخير والسعاد لأرسطو لدراستها وتعمقها: فإن هذه النظرية جزء من أخلاقه، والأخلاق جزء من مذهبه، والمذهب في جملته صورة للفيلسوف وعصره وبيئته.
ومن ثم، فإنه لكي تفهم الجزء المطلوب إليك دراسته حق لفهم، يجب أن تضعه في مكانه من الهيكل العام لفلسفة الأرسطية يجب أن تلم بحياة الفيلسوف، وتصنيف كتبه وترتيبها، ثم مذهبه في المنطق والطبيعة وما وراء الطبيعة ثم الأخلاق والسياسة، إلماماً تستطيع معه أن تبين مبلغ الانسجام في عناصر المذهب الأرسطي كله في صلته بالبئة اليونانية.
ليس تاريخ حياة الفيلسوف ذا أهمية إلا بمقدار ما يلقى من ضوء على جوانب فلسفته وما يكشف عن بواعث آرائه وفكره. وسترى أرسطوا في أخلاقه - كما هو في كل نواحي فلسفته، رجلا واقعياً تجريبياً تقوم آراؤه على منطق المشاهدة. ونتائج الملاحظة، في عصر مشبع بالخيال الأفلاطوني، والمثالية المتطرفة والأدب والفن. . . وذلك لما تيسر له من التربية الصحيحة في البلاط المقدوني حيث الترف والتفرغ للعلم وجمع النماذج والإحصاءات. . . هذه التربية التي لم تستطع العشرون سنة التي قضاها في أكاديمية أفلاطون أن تغير من أثرها القوي، فما يزال يختلف مع أستاذه حتى يتخرج عليه - أو يتوفى هذه عنه - أبعد ما يكونان في منهج، كل منهما وفلسفته:
يختلف المنهج عند أرسطو عنه عند أفلاطون، فإن هذا الأخير يسير على طريقة أستاذه سقراط في الحوار والجدل (الديالكتيك) الذي أدخله لأول مرة في اليونان زينون الإيلي في دفاعه عن وحدة أستاذه برميتدس وسكونه بحججه المشهورة، والذي عد أفلاطون إمامه وعمدته حتى أثر به في الأدب اليوناني خمسين سنة كما يقول المؤرخون.
أما أسلوب أرسطو فاسلوب عملي رصين، تذهب به الدقة والتحديد في اللفاظ والمصطلحات إلى حد الغموض أحياناً، ولكنها لا تؤدي به إلى استطراد أو إيجاز يخل أحدهما بمدلول القول. قد يكون هذا التقسيم لكتبه إلى أبوابها وفصولها وفقراتها بهذه(863/24)
البراعة والأحكام من عمل الشراح الكثيرين الذين تتلمذوت على أرسطو تسعة عشر قرنا أو تزيد (حتى بعد عصر النهضة الأوربية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر)، ولكن مما لا شك فيه أن هؤلاء الأتباع والمفسرين ما كانوا ليصلوا إلى تصنيفها بهذه الدقة والسهولة والنظام، لو لم تكن هي مرتبة في فكر صاحبها وفي كتاباته بهذه الصورة.
وإنك لتلمس لأرسطو منهجاً خاصا في دراسة موضوعات كتبه مما تقرأ في موضوع الأخلاق الذي أنت بسبيله: فإنه إذ يحدد لك منذ البدء غاية دراسته التي يهدف إليها تحديداً واضحاً بالأمثلة يسرد لك كل ما قيل حول هذه الدراسة من آراء. وهنا يقال إن أرسطو كانت معلوماته أوسع ما في زمانه، وأنه في مرحلة دراسته الطويلة التي قاربت الأربعين سنة قد استوعب كافة النظريات في العلم والفلسفة التي ظهرت، فهو يورد لك طرفاً منها فيستبعد الخاطئ بعد نقده، ويستبقي الصواب بعد إنصافه وحمده، فيتقصى مشاكله ويزيد عليه بما يوءدي إلى النتيجة السليمة والحل الواقعي الصحيح. . والأخلاق لها عند أرسطو منهج يستقيه من مشاهدة واقع الحياة وملاحظة أمور الناس؛ وهو المنهج العلمي الصحيح لهذا العلم في عصرنا الحديث كما يقول به فلاسفة الإنجليز من الاخلاقيين. فعلى الأخلاق في نظرهم أن تعرض لدراسة ما هو كائن فعلاً لا كما يجب أن يكون.
وللأخلاق مكانها من فلسفة أرسطو، فإن لأرسطو في هذا الفن كتابين آخرين غير الأخلاق النيقوماخية المنسوب إلى نيقوماخوس ابن أرسطو من زوجته الثانية أربليس، الذي خلد في شخصه أسم أبيه هو، وخلد هذا في كتاب الأخلاق الذي أهداه إليه. أما الكتابان الآخران في الأخلاق، فأحدهما يسمى الأخلاق إلى أوديموس، وهو أسبق من أخلاق نيقوماخوس وأقل دقة وأحكاماً. والثاني يسمى الأخلاق الكبرى. وفيه يلخص أرسطو في مقالتين اثنتين ما سبق أن أورده في الكتابين آنفي الذكر.
والمكان الذي أريدك أن تضع فيه الأخلاق الأرسطية بهذا المعنى وفي مصادرها هذه أحب أن تنظر إليه من ثلاثة وجوه: مكان دراسة الأخلاق من مراحل حياة أرسطو ذاتها، في أي مرحلة هي؛ وهذه المصادر ذاتها أين يأتي ترتيبها في جملة مؤلفات أرسطو حسب تنصيف المؤرخين لها؛ ثم أخيراً الأخلاق كعلم وفن أين موقعها من العلوم الأخرى.
أما من حيث مكان الدراسة الأخلاقية من حياة أرسطو فتستيطع أن تقول إنها تأتي في دور(863/25)
الأستاذية من هذه الحياة - خصوصاً الكتاب الذي بيد أيدينا. وذلك لما تحمل هذه الكتب من أسماء تظن بها أن تجعل أرسطو من أصحابها في موقف الأب أو الأستاذ - من ناحية، ومن ناحية أُخرى لرسوخ قلمه وثبات فكره فيما يتعلق بدراستها، فإن حياة أرسطو يمتدُّ الطلب فيها (طلب العلم) حتى الثمانة والثلاثين، والرحلة والسفر وتثقيف الاسكندر حتى الخمسين، ثم يأتي دور اللوقيون والأستاذية والتأليف حتى الثالثة والستين، كما تجدون من تصفح تاريخ حياته.
أما موضع مصادر الأخلاق الارسطية بقية كتبه ولوحة مؤلفاته، فيأتي - حسب تصنيف أندرونيقوس الردوسي لجملة كتابات أرسطو - في المجموعة الرابعة، إذ تشمل المجموعة الأولى الكتب المنطقية بوصف المنطق مدخل العلوم ومقدمتها، أو الإبساغوجى كما يسميه مناطق العرب؛ وبوصفه علم العقل أو الآلة أو الأورغانون كما يقول أرسطو نفسه. ولابد من تقديم العلم الذي يفحص الأداة الفكرية قبل فحص الأفكار التي تمخضت عنها هذه الأداة ذاتها؛ ثم تأتي في المقام الثاني كتب الطبيعة، ومنها طبيعيات كبرى تبحث المبادئ العامة المشتركة في جميع الأشياء والطبائع؛ وطبيعيات صغرى تعرض لدراسة أمور جزئية بعينها، والمجموعة الثالثة يسميها الشارح ما بعد الطبيعة: أي التي تأتي في الدور والترتيب بعد كتب الطبيعة وسماها البعض ما وراء الطبيعة، باعتبار ما تعرض له من أمور لا تمت إلى الطبيعة ولا إلى الحس بسبب، بل هي إلى الأمور الكلية المجردة والمبدأ الأول وعلة العلل أقرب والحرف في أسم هذا العلم يحتمل التأويلين. وعلى كل حال فإن فلاسفة العرب يسمون هذا العلم الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي.
وبعد هذه العلوم النظرية بأقسامها الثلاثة تأتي العلوم العلمية والفنية؛ فالمجموعة الرابعة مختصة بكتب الأخلاق وكتب السياسة والخامسة خاصة بكتب الأدب والشعر والفن. فإن أرسطو قد كتب حتى في هذه الشئون، وما تدرس في تاريخآداب اللغات من أقسام القصة وأنواع الشعر والخطابة وغيرها أنت مدين به لأرسطو - هذا المارد الجبار الذي بم يدع علماً ولا فناً إلا سبق في الكتابة فيه؛ والذي يعيش الفكر الإنساني عالة عليه مهما جدد أو تقدم.
ولن يعسر عليك - بعد إذ وقفت على تصنيف كتب أرسطو أن تبين موضع الأخلاق في(863/26)
لوحة العلوم وقائمة المعارف عنده، لما هنالك من تقارب كبير بين تقسيم العلوم عنده وتصنيف الشراح لكتبه. فإن العلم ينقسم عند أرسطو - باعتباره الغاية التي يؤدي أليها - غلى نظري وعملي.
فالنظري غايته العلم والمعرفة لذاتها ابتغاء الوصول إلى الحقيقة. فإن تعلق العلم والمعرفة بموجود هو مادة وحس وحركة فهو العلم الطبيعي، وإن تعلق بموجودات مجردة عن هذه ولكنها كم ومقدار فهو العلم الرياضي. وإن كانت مطلقة التجريد عن ذلك كله فالعلم الإلهي أو الميتافيزيقا.
أما العلم العملي فليس الغرض منه مجرد الوقوف على الحقيقة أو الحق وبالإنجليزية أعني العلم للعلم والمعرفة لذاتها كالعلم النظري، بل يتجاوز ذلك إلى العمل والتدبير. فموضوعة الخير وبالإنجليزية فإن كان الخير الذي تنشده يتعلق بالإنسان وحده وفي ذاته فذلك علم الأخلاق. وإن تعلق بأسرته ومن يعاملهم من أهله فذلك تدبير المنزل؛ وإن أمتد ليتناول تدبير أمور المملكة أو الدولة جميعاً من حيث هي مجموعة فذلك علم السياسة.
رأيت إذن أين يضع أرسطو علم الأخلاق من لوحة علومه؟ هو أول العلوم العملية التي تدبر أمر الإنسان بما هو إنسان. فإن شئت بعد هذا أن ترجع معي إلى هذا التصنيف الذي توسع به فلاسفة العرب ونقله منهم الفارابي وابن سينا وغيرهم، فلاحظ ما يأتي:
(1) لم يدخل أرسطو في هذا التصنيف علم المنطق لأنه اعتبره مدخلا ومقدمة كما قلنا. وإنما أحل محله العلم الرياضي بعد أن قدم عليه الطبيعي، وأن لم يؤلف هو في الرياضة كتباً مستقلة.
(2) أن العلوم النظرية تتدرج حسب نزوعها إلى التجريد - فالميتافيزيقا أرقاها، ولهذا يسميها العرب العلم الأول (الطبيعيات) والأوسط (الرياضيات) والأعلى (الإلهيات).
(3) والعلوم العلمية تتدرج من الوحدة إلى الكثرة ومن تدبير شئون القرد إلى تدبير شئون الدولة.
(4) والعلم النظري أشرف من العملي لأنه يراد به كمال العقل الإنساني.
(5) كما أن العلم العملي أشرف من الفني لأنه يدبر أمر الإنسان ويتعلق به بينما يعمل الفن في الأشياء والمحسوسات.(863/27)
وذلك بعض ما تجد في فلسفة أرسطو في ترتيب وانتظام ومذهبية.
وإنك بعد هذا لجدير بأن تقوم على قراءة أرسطو وتحليله معي بأفق أوسع وفهم جديد، حين تلتقي مرة ثالثة في الحديث المقبل إن شاء الله.
كمال دسوقي(863/28)
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ سيد كيلاني
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
من 1882 - 1919
- 6 -
احتل الإنجليز البلاد المصرية في عام 1882م فبدأ بذلك عهد جديد أخلد المصريون فيه إلى الهدوء والسكينة، وأخذت الحالة المالية تتحسن يوما بعد يوم، فعم الرخاء واستتب الأمن وانتشرت الطمأنينة وساد العدل وسارت البلاد في طريق التحضر بخطى واسعة. وأقبل المصريون على التعلم فكثرت المدارس والمطابع والصحف والمجلات. وراجت سوق الكتب، وجد الناس في طبع الكتب القديمة وترجمة روائع الأدب الغربي، وشعر الجميع بعجز اللغة العربية وقصورها عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة. ففكروا في إصلاحها واختلفوا في طريقة الإصلاح. وقد ظهر أثر تلك الحركة عند الشعراء، فنظم حافظ إبراهيم قصيدة على لسان اللغة العربية قال فيها:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
ثم أخذ الروح الوطني في الظهور والنمو حتى جاء مصطفى كامل فالتف حوله الشبان والشيوخ، وازدهرت الصحف الوطنية وجدت في مهاجمة المحتلين. وساهم الشعراء في تلك الحركة فنظموا القصائد الحماسية في تحريض الوطنيين على الجهاد والكفاح، وفي هجاء الإنجليز وكل من يتعاون معهم من المصريين، وكان لورد كرومر - وهو أول معتمد بريطاني في مصر - قد وضع في يديه مقاليد الحكم يصرف الأمور كيف يشاء وفقا لمصلحة المستعمر التي لم تكن متفقة مع ما يصبو إليه المصريون من الرغبة في الاستقلال والتمتع بالحكم النيابي، ونشر التعليم بجميع أنواعه بين أبناء البلاد والظفر بحرية الصحافة والخطابة وغيها من أنواع الحريات. لذلك أضحت سياسة لورد كرومر التي لم تتمش مع هذه الرغبات الوطنية موضعاً لهجوم شديد، ونقد عنيف من الكتاب والشعراء. ونظمت في عصر ذلك الرجل كثير من القصائد الفياضة بالعواصف الوطنية(863/29)
الصادقة.
وفي عام 1906 وقعت حادثة دنشواي المشهورة فهاجمت الخواطر واشتد الحنق على المحتلين. وأخذ ينظمون القصائد في البكاء على ما أصاب تلك القرية والتشهير بالإنجليز. فلشوقي قصيدة مطلعها:
يا دنشواي على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام
ولحافظ إبراهيم قصيدة جاء فيها:
ليت شعري أتلك محكمة التفت - يش عادت أم عهد نيرون عادا
كيف يحلو من القوى التشفي ... بضعيف ألقى إليه القيادا
إنها مثلة تشف عن الغي ... ظ ولسنا لغيظكم أندادا
وقال إسماعيل صبري من قصيدة ينوه بعفو الخديوي عباس عن المسجونين من أهل دنشواي:
وأقلت عثرة قرية حكم الهوى ... في أهلها وقضى القضاة الأخرق
إن أن فيها بائس مما به ... وأرن جاوبه هناك مطوق
وارحمتي لجناتهم ماذا جنوا؟ ... وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا
وفي عام 1907 عزل لورد كرومر من منصبه ففرح بذلك الوطنيون فرحا عظيما، وقد عبر الشعراء عن ذلك الفرح.
قال شوقي من قصيدة طويلة:
لما رحلت عن البلاد تشهدت ... فكأنك الداء العياء رحيلا
وقال الكاشف:
وتنفس الصعداء شعب حامل ... هما يضيق به الفضاء الأرحب
والذي لا شك فيه أن الأحوال المالية قد تحسنت كثيراً في عهد كرومر، واستتب الأمن، وساد العدل وانتشرت الطمأنينة وعم الرخاء. وفي ذلك يقول حافظ
سنطري أياديك التي قد افضتها ... علينا فلسنا أمة تجحد اليدا
أمنا، فلم يسلك بنا الخوف مسلكا ... ونمنا، فلم يطرق لنا الذعر مرقدا
وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا ... وتدفع عنا حادث الدهر إن عدا(863/30)
على أن المصريين قد اختلفوا في الحكم على كرومر. فمن نظر إلى نمو الموارد المالية على يديه وتقدم حركة العمران مدحه وأثنى عليه. ومن نظر إلى الأحوال السياسية وتخلف الشعب المصري عن غيره من الشعوب الناهضة في ميدان السياسة والعلم، وتمتع الأجانب بجل خيرات مصر، وانتشار الشركات الأوربية في طول البلاد وعرضها، وإمعانها في النهب والسلب من نظر إلى هذه الأحوال قدحه ونهى عليه. وفي ذلك يقول حافظ:
تشعبت الآراء فيك فقائل ... أفاد الغنى أهل البلاد وأسعدا
وكانت له في المصلحين سياسة ... ترخص فيها تارة وتشددا
يناديك قد أزريت بالعلم والحجا ... ولم تبق للتعليم يالورد معهدا
وأنك أحصبت البلاد تعمدا ... وأجدبت في مصر العقول تعمدا
قضيت على أم اللغات وإنه ... قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
ووافيت والقطران في ظل راية ... فما زلت بالسودان حتى تمردا
فطاح كما طاحت (مصوع) بعده ... وضاعت مساعينا بأطماعكم سدى
ففي هذه القصيدة نتبين رأي حافظ في كرومر، ثم رأى المناصرين لسياسة هذا العميد، ثم رأى الناقمين على هذه السياسة وهم من الحزب الوطني. والملاحظ هنا أن قصيدة حافظ في وداع كرومر كانت هادئة. والسر في ذلك أن حافظا كان تلميذا لمحمد عبده الذي كان صديقاً حميماً لكرومر يستنجد به ضد الخديوي عباس. أما قصيدة شوقي فقد بلغت الغاية في العنف. ذلك لأن شوقي كان شاعر الخديوي الذي كانت بينه وبين كرومر عداوة شديدة. وللكاشف قصيدة لا تقل روعة وعنفا عن قصيدة شوقي وطلعها:
أعيى عزائمك القضاء الأغلب ... وطوى صحيفتك الزمان القلب
ومنها:
أنسيت محنة مصر في سودانها ... أيام هام الجيش فيه يعذب
أهملته حتى إذا فتكوا به ... أمسى فؤادك جمرة تلتهب
ومنها. وفيه إشارة إلى إتقافية الحكم الثنائي في السودان بين مصر وبريطانيا:
غافلتهم حينا فلم يتلفتوا ... إلا ونابك فيهم والمخلب
لولا خضوع وزارة هيابة ... لم يستقم لك في السياسة مضرب(863/31)
أما رأي المناصرين لسياسة كرومر والمحبذين لها، فقد حمل لواءه الشاعر أحمد نسيم الذي ستؤجر للتغني بمناقب الإنجليز وفضائلهم وله قصيدة مدح بها لورد كرومر وودعه ينما رحل عن البلاد، ومطلعها:
يا منقذ النيل لا ينسى لك النيل ... يداً لها من فم الإصلاح تقبيل
إنا نودع فيك العرف أجمعه ... وما لنا غير حسن الصبر تعليل
ومنها:
جعلت مصر بلاد أمطرت ذهبا ... فتربها بمذاب التبر مبلول
خلفتها ويد الإسعاد تكنفها ... داراً عليها من النعمى سرابيل
حللت فيها وغل الجور مقعدها ... ذلا وفارقتها والجور مغلول
وكنت ملجأها أيام نكبتها ... وللحوادث بابن النيل تنكيل
سست العباد بأمر ليس ينقصه ... ناه تحقق أن الأمر مفعول
وقد رفعت من الإصلاح ألوية ... لها رواق على الأصقاع مسدول
وقمت بالأمر حتى مالنا طلب ... يرجى وأنت أمام الله مسؤول
وكان مصطفى فهمي رئيس النظار وقتئذ فد أقام حفلة تكريم للورد كرومر بمناسبة سفره إلى بلاده. وفي هذه الحفلة خطب رئيس النظار فأطرى كرومر وأثنى عليه. فهب الشعراء ينعون على مصطفى فهمي ما فهل، ويتناولونه بالنقد والتجريح. ثم خطب لورد كرومر في هذه الحفلة فأهان المصريين ورماهم بالتعصب ونكران الجميل، وعرض بالخديوي إسماعيل تعريضاً شديداً. وكان الأمير حسين كامل (السلطان حسين) حاظراً فسمع ما قيل في أبيه من الشتائم والسباب وقد ظهر أثر ما حدث في هذه الحفلة عند شوقي حيث يقول:
أوسعتنا يوم الوداع إهانة ... أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
هلا بدا لك أن تجامل بعد ما ... صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا
انظر إلى أدب الرئيس ولطفه ... تجد الرئيس مهذبا ونبيلا
في ملعب للمضحكات مشيد ... مثلت فيه المبكيات فصولا
شهد (الحسين) عليه لعن أصوله ... وتصدر (الأعمى) به تطفيلا
والحسين هو حسين كامل. والأعمى هو الشيخ عبد الكريم سليمان أحمد علماء الأزهر. وقد(863/32)
كان علماء الأزهر يميلون إلى كرومر لما عرف عنه من صداقته لأستاذهم الشيخ محمد عبده. وقد اهتم شوقي في هذه القصيدة بالدفاع عن جد الخديوي عباس إرضاء للخديوي من ناحية، ومن ناحية أخرى وفاء للخديوي إسماعيل الذي ولد ببابه كما قال:
أأخون إسماعيل في أبنائه ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا
سيد كيلاني(863/33)
أصداء
للأستاذ كامل محمود حبيب
إلى إخواني الذي حبوني بالمحبة والثقة على حين قد شطت
الدار وبعد المزار
(كامل)
قرأت في العدد 680 من الرسالة الغراء رسالة من الأستاذ محمود الطاهر الصافي برمل الإسكندرية إلى يقول فيها (. . . وبعد فإني أعلم أنك كنت صديقاً لإمام الأدب وحجة اللغة، عبقرينا الرافعي - لهذا رأى أن اللغة العربية حقاً عليك تؤديه بعمل تنشر به للرافعي ذكراً جديداً، تلفت إلى أدبه (الباعث لأمة). وأقترح أن يكون هذا العمل كما يأتي:
أولاً: - جمع ما أثنى به الكتاب والعظماء على الرافعي، وهو شيء كثير يؤلف مجلداً ضخماً أو أكثر، وما رأيت أحداً أثنى عليه بمثله وفيه أبلغ القول وأجمله.
ثانياً: - جمع كل ما عرف له من شعر ونثر، والمبالغة في هذا الجمع حتى لا يلفت مما أثر عنه شيء.
ثالثاً: - السعي لإنشاء كرسي لأدبه في الجامعة، فما هو بأقل من شوقي، ولا منزلته بأقل من منزلته؛ بل له ميزة لم يشاركه فيها أحد، وهي إلزام نفسه بالا يكتب - وما أدراك ما كتابته إلا في مثل الشرق والإنسانية العليا).
هذا كلام قرأت فيه الروح الوثابة الطاهرة والغيرة الجياشة النقية، والعقل الحصيف والقلم الرصين. وقرأت فيه نداء حاراً قوياً يدفع إلى غاية سامية رفيعة. فشكرت لصاحبه غيرته على الأدب الرفيع أن تنطمس معالمه في ثنايا الزمن، وأثنيت على إشفاقه على حقبة من تاريخ العقل المبدع أن تلتف في مطاوي النسيان، وحمدت له الثقة الغالية التي حباني بها حين اختارني من بين صحاب الرافعي لأضطلع بهذا العمل الجليل، وهو عمل ينشط له القلب وتهفوا إليه الروح.
هذا وإن ما قيل في الرافعي - بعد وفاته - ينشطر إلى قسمين: ما قيل في الربوع المصرية، وأكثره بين أيدينا لا ينقصه إلا أشياء ضئيلة: لا يحتاج جمعها إلى عناء ولا(863/34)
يتطلب العثور عليها كبير جهد أما ما قيل عنه في الأقطار العربية، فهو كثير متناثر لم أجمع منه إلا شذرات يسيرة وقعت لي عن غير قصد ولا تعمد، لهذا فإنا أتقدم إلى إخواني الأدباء. . . في مصر والأقطار العربية - ممن كانوا يعنون بأدب الرافعي ويحتفظون بآثار، أن يتفضلوا فيرسلوا إلى كل ما وقع تحت أيديهم من كلمات قيلت في الرافعي بعد وفاته، سواء أكانت شعراً أو نثراً.
أما الاقتراح الثاني، فهذا عمل اضطلع به كبير من أدباء الشباب هو الأستاذ محمد سعيد العريان، وهو قد عاشر الرافعي زماناً طويلاً وتغلغل إلى حياته الخاصة، ولصق به سنوات وسنوات يأخذ منه ويعطي، ويجلس إليه في خلوته، ويراه في مجلس قراءته وفي محراب كتابته. واستطاع بعد ذلك، أن يكتب بقلم الخبير المطلع - كتاب (حياة الرافعي) وهو سفر جليل فذ يتحدث عن حياة الأديب الكبير في صراحة وحق. ولقد قطع الأستاذ سعيد في هذا العمل شوطاً بعيداً. وأظنه نشر كل مؤلفات الرافعي سوى (حديث القمر) و (تحت راية القرآن) و (على السفود) و (ديوان الرافعي) وما كان لي أن أقتات على حق صديق عزيز على نفسي هو الأستاذ سعيد العريان.
أما الاقتراح الثالث، فإنا ارفع الكاتب الأديب عن أن يجحد التيارات الأدبية والسياسية التي لا تتورع عن أن تجرف مثل هذا المشروع بين أمواجها المتضاربة. ولا ريب في أن الكاتب الذكي يعلم أن معارك الرافعي العنيفة مازال يرن صداها في آذان جماعة من ذوي السلطان والجاه والكلمة في السياسة والأدب. ورغم ذلك فإنا لن أقعد عن أن أبذل جهد الطاقة على صفحات الرسالة إن شاء الله -، في سبيل تحقيق الغاية التي ننشدها جميعاً مخلصين لوجه الوطن والأدب.
وبعد، فإني أطمع أن يرن صدى صوتي في أرجاء الأرض فيستجيب له أخواني في مصر والأقطار العربية، وأطمح أن يكون الزمن قد مسح بيده الرفيقة على قلوب ذوي السلطان والجاه والكلمة في السياسة والأدب فنسوا معارك وقتية نشبت بينهم وبين الرافعي، فلا يجدون - الآن - غضاضة في أن يعترفوا بمكانته السامية في الأدب والعلم.
(2)
وقرأت في العدد 268 من الرسالة خطاباً إلي من الأديب أحمد محمد فرغلي عثمان بأسيوط(863/35)
قال فيه (قد أطلعت على مقالك المعنون بحماقة أب في العدد 858 من الرسالة. . . ولما انتهيت إلى قولك: (والآن ماذا يختلج في فؤادك الخ) لم ترقني خاتمته على هذا النحو؛ لأن القارئ يميل على أن يعرف نهاية القصة بأسلوب ترتاح إليه نفسه ويطمئن قلبه وتسكن عنده خلجاته، وأنت قد أبهمت مصير حياة الرجل فلم نعرف. أتخاذل أمام الحزن نهلك.) إلى آخر ما جاء في عبارته.
لا عجب - يا سيدي الأديب إن أنا ختمت قصة من الحياة بأسلوب لم يطمئن له قلبك ولم تسكن عنده خلجات نفسك، فما أنا سوى مصور يصور لوحة من الطبيعة جذبت قلبه بروعتها، وسيطرت على لبه برونقها؛ فرسمها بريشته؛ ونثر الألوان على نسق ارتضاه فنه، ووزع الظلال على طريقة اطمأن لها خياله ولكنه رسم لوحه من الطبيعة. أو أنا قاص ينشر حادثة من الحياة انفعلت لها نفسه وتأججت لها عاطفته واضطربت مشاعره، فسكبها على القرطاس في أسلوب رضي عن قوة سبكه فيه الحياة والحركة؛ ولكنه قص حادثة من الحياة. والقصة في الحياة حلقة من سلسلة الحوادث لها ما قبلها ولها ما بعدها. فما كان لي أن أرسم حدوداً ضيقة للصورة التي أكتب فتبدو في رأى العين محدودة مبتورة، وتبدو في رأى العقل في منأى عن الحياة والحركة
وإن أنا نزلت عند رأي القارئ العزيز، اضطر قلمي أن يخلق نهاية القصة بخيال يصبغها بصبغة شوهاء مصنوعة لا يستسيغها عقل ولا يقبلها رأي، وأرغمت نفسي على حوادث ملفقة لا تنبض بالحياة ولا تخفق بالحركة؛ على حين أنني أصور أناساً يعيشون بيننا وما تزال أشباحهم تتدافع على مسح الحياة لم يبلغوا النهاية بعد وهكذا يريد القارئ أن يدفعني إلى أن أفكر بعقل رجل كيوسف وهبي يوم أن كان هو الممثل الأول في مصر يوم أن كان يريح النظارة من عناء التفكير في نهاية القصة فيقذف بأبطاله جميعاً إلى النهاية المحتومة، فيقتل البعض، ويلقي بالبعض في اليم، ويقذف بالبعض في نار يضطرم أوارها. هذا نمط من القصة عفت على آثاره معالم القصة الحديثة التي تتطلب من الكاتب أن يشرك القارئ في حوادث القصة ليشعر بأنه يؤلف بعض فصول الرواية.
لقد سأل الكاتب الأديب - في كلمته القصيرة - تسعة أسئلة أثلجت جميعاً صدري، لأنني أيقنت بأن القارئ يشاركني الخاطرة ويحاورني الرأي، وهذا هو ما يهمني. أما أن حادثة(863/36)
من الحياة تروق القارئ أولا تروقه فهذا مرجعه إلى ذوقه ورأيه وثقافته فحسب
(3)
يدفعني الحديث في هذا الموضوع إلى الوراء قليلاً. . . إلى العدد 854 من الرسالة، يوم أن كتب إلي الأخ عطية قنون بدمياط يقول: (قرأت ما كتبته بعنوان (زوجة تنهار) فأكبرت بلاغة أسلوبك. . . حتى انتهيت من القراءة إلى كلمة: (يا للقصاص). فلم تعجبني خاتمة كلمتك لأن القارئ يود أن تكون نهاية الخائنة أشد وأنكى من أن تطرد إلى الشارع. كيف واجهت الشارع؟ أحرى الذئاب وراءها؟ أممازالت حية تتمرغ في الأوحال؟. . . أم ماذا صنعت وصنع؟ إن لم يكن حقيقة فخيالاً، لتكون عبرة وعظة).
وأعجب ما في هذه الكلمة قول الأديب (لأن القارئ يود. . .) والأديب عطية نفسه يعلم تماماً أنه لا يعنيني ما يود القارئ بقدر ما يعنيني أن أعرض صورة فنية صادقة من الحياة لا أتشبث فيها بخيال ولا أزور حادثة. ونسى الكاتب الأديب أنني أستوحي الحياة فحسب فقال (إن لم يكن حقيقة فخيالاً، لتكون عبرة وعظة) فهو أنكر أن في الحياة النابضة عبرة وعظة، وأنكر أيضاً - أن في الشارع عقاباً صارماً قاسياً هو أشد وأنكى ما تنمى به فتاة كانت تعيش - يوماً ما - في كنف الزوج آمنة مطمئنة. لا يا سيدي الكاتب، أنا لا أوافقك في الرأي، وستجدني - إن شاء الله - على حق.
كامل محمود حبيب(863/37)
شركات الذهب الأسود في الشرق الأوسط
للأستاذ فؤاد طرزى
عندما أعلن في شهر ديسمبر من عام 1906 أن شركتي نفط (ستاندر) (وسكوني فاكوم) وهما من الشركات المساهمة في شركة النفط العراقية تنويان المساهمة في شركة النفط العربية في المملكة العربية السعودية بعد أن عقدنا صفقة شرائية مع شركة النفط البريطانية الأردنية، استرعت مسألة أسلوب الإشراف والسيطرة على جميع نفط الشرق الأوسط انتباه الجمهور، إذ أن هذا الأسلوب الذي كان ينظر إليه غالباً على ضوء قوة سياسات النفط صار يقوم بصورة مباشرة على ضوء اعتبارات اقتصادية تتصل بالإنتاج والتوزيع.
ولذلك يبدو لنا أنه من الضروري لتقدير مجرى التطورات المستقبلية كتلك التي سبق الإعلان عنها أن نفهم أولاً كيف تمت السيطرة على نفط الشرق الأوسط ومن هي تلك الدول المشتركة في السيطرة؟ ثم نعرف ثانياً نوعية الضغط الاقتصادي الذي يدفع إلى إجراء تحول أساسي في طريقة السيطرة على إنتاج النفط وتوزيعه.
كإنتاج الشرق الأوسط جميعه من النفط حتى تاريخ منح المملكة العربية السعودية امتياز استخراج النفط في أراضيها إلى شركة النفط الأميركية العربية (ارامكو) عام 1923 خاضعاً لأشراف الجامعة المعروفة بشركة النفط العراقية، ولا تزال هذه الجماعة تقوم بهذا الأشراف سواء أكان ذلك مباشرة أم عن طريق الفروع، أو بمقاولات امتياز متنوعة، ويشمل الإشراف هذا العراق وسورية وفلسطين وشرق الأردن وسواحل الإمارات العربية ابتداء من الخليج الفارسي، ثم حول رأس شبة الجزيرة الجنوبي التي تدخل عدن ضمنها. وهي مقسمة إلى أربعة أقسام متساوية تتقاسمها شركة النفط البريطانية الإيرانية المحدودة وشركة (شل) الهولندية الملكية، وشركة النفط الفرنسية وشركة نفط الشرق الأردني وهي فرع تملكه بالتساوي شركة ستاندرد في نيوجرسي، وشركة سكوني فاكوم. ولكل منهم حصة تعادل 75 و23 بالمائة، ويملك الخمسة في المائة الباقية المسترسي. اس. كالبنكيان عن طريق شركة خاصة تدعى شركة المساهمة والاستثمار المحدودة. وقد منحت حصة المستر كالبنكيان تقديراً لخدماته في مفاوضات الحصولي على امتياز شركة لنفط التركية الأصلية التي كانت تدير الامتياز سابقاً قبل أن تحصل عليه شركة النفط العراقية. وشركة(863/38)
النفط - البريطانية - الإيرانية منظمة مشتركة تشرف على الأملاك والمالح التي كانت تملكها شركات (دراسي) قبل الحرب العالمية الأولى. وتمتلك الحكومة البريطانية 52. 5 بالمائة من جميع ممتلكات الشركة، ولها حق تعيين مديرين عامين اثنين للشركة يتمتعان بسلطة اعتراض مطلقة على قرارات الأربعة عشر مديراً المنتخبين من قبل أصحاب الأسهم الباقين. ولا يتم اللجوء إلى هذه السلطة في الأعمال المتعلقة بإشعال الشركة التجارية، ولكنها تستخدم فقط في المسائل المتعلقة بالسياسة العليا وبالعلاقات السياسية. وعلة كل فمن المفروض عملياً أن شركة النفط البريطانية الإيرانية تعمل وفق رغبات الحكومة البريطانية بشكل لا يتعارض والعلاقات القائمة بين شركات النفط الأميركية وحكومة الولايات المتحدة الأميركية.
وتجرى معظم عمليات إنتاج شركة النفط البريطانية - الإيرانية، ما عدا بعض النشاط الوطني الأولي في المملكة المتحدة نفسها. وتمتد هذه العمليات امتداداً محدوداً في الشرق الأوسط أي في إيران والكويت ومناطق شركة النفط العراقية. . . وإن أسواقها تغطي نصف الكرة الشرقي، ولذلك فإنها معدودة في مصاف شركة ستاندرد في نيوجرسي وشركة سكوني فاكوم، وتعتبر من بين الشركات الكبرى التي تبيع النفط في أسواق العالم.
وشركة (شل) الهولندية الملكية هي نوع من أنواع الاندماج بين المصالح البريطانية والهولندية من الوجهة العالمية، إلا أنها تعتبر نفسها شركة بريطانية تخدر الأغراض الدبلوماسية والاتجاهات السياسية. وهي كشركة ستنادرد في نيوجرسي تدير صناعة النفط في قسم واسع من العالم وتسيطر بالإضافة إلى مصالحها في شركة النفط العراقية على مجموع الإنتاج في الهند الشرقية الهولندية وتأتي في المرتبة الثانية بين منتجي النفط في فنزويلا بأمريكا الجنوبية كما أن لها فرعاً يتمثل في شركة أميركية تعد من أعظم شركات النفط في الولايات المتحدة. وشركة (شل) تفوق، من حيث الأهمية، وكلاء النفط في رومانيا، وهي تملك أيضاً مراكز إنتاج لها أهميتها في أماكن أخرى في أوربة وأميركية الجنوبية؛ وإن مدى نشاطها في أسواق العالم واسع جداً، فهي كشركة ستاندرد في نيوجرسي تسيطر على معظم صناعة النفط الفنية الحديثة.
أما شركة النفط الفرنسية فإنها تستخدم كأداة للسياسة الوطنية الفرنسية، مع أن الحكومة(863/39)
الفرنسية لا تملك سولا 35 % فقط من أسهمها، أما الأسهم الباقية فيمتلكها المستثمرون الفرنسيون وموزعو النفط الفرنسي، كما أن بعض شركات النفط الأجنبية التي تعمل في الأراضي الفرنسية تملك جزءاً من الاسهم، وتشبه علاقة هذه الشركة بالحكومة الفرنسية إلى درجة ما علاقة شركة النفط البريطانية - الإيرانية بالحكومة البريطانية إلا أن عملياتها أقل اتساعا لأنه لم يكن لها إنتاج حتى إلى وقت قريب ما خلاصتها في شركة النفط العراقية وبعض إنتاج لايؤبه به في فرنسة. وقد حصلت مؤخراً على بعض الحصص في فنزويلا الشرقية، وهي حصص يؤمل أن تصبح فيما بعد موارد فينا من موارد الإنتاج يضاهي ما تأخذه من شركة النفط العراقية.
وفيما يتعلق بشركتي ستاندرد في نيوجرسي وسكوني فاكوم فهما شركتان متنافستان داخل حدود الأراضي الأميركية، ولكنهما شركتان متعاونتان في المناطق البعيدة. وهاتان الشركتان من أوسع المؤسسات النفطية المعروفة، فلهما علاوة على مصالحهما المشتركة في شركة النفط العراقية، ومساهمتها المشتركة في شركة النفط العربية الاميركية، وملكيتهما لاتفاقية شراء النفط الخام من الشركة الإيرانية، منظمة تعرف بسكوتي فاكوم، تدير جميع عملياتها في شرق السويس إدارة مشتركة. وتقوم الشركتان بأعمال الإنتاج والتصفية والبيع أما جهودهما في نصف الكرة الغربي فغير متحدة بل هي على الأغلب جهود متنافسة. وتنشط المنافسة بينهما في أوروبا وأفريقيا الغربية والشمالية وقد تنعدم في أحايين أخرى.
وإن شركة ستناندرد دائماً هي الشريك الغالب، إذ أن عظمة عملياتها تتجاوز الخيال. ففي فنزويلا وحدها تنتج من النفط ما لا يقل عن ثمانية أضعاف ما ينتجه اليوم جميع المنتجين في رومانية ومع ذلك فمنتجة النفط العالمية الجبارة هذه لا تزال طفلة تحبو في الشرق الأوسط، لأن كل نشاطها محصور في حصة أقل من الثمن متمثلة في مساهمتها في شركة النفط العراقية ومحدودة بعشرة آلاف برميل يوميا من الإنتاج. وهذه الحصة تكون أقل من 5. 1 بالمائة من مجموع الإنتاج في الشرق الأوسط ومن مجموع إنتاج شركة نيوجرسي في العالم.
والشركات المذكورة داخلة في شركة النفط العراقية وذلك بموجب اتفاقية داخلية عقدت في 31 يوليه سنة 1928 وهي الاتفاقية المعروفة باتفاقية الخط الأحمر. وهذه الوثيقة تعد(863/40)
بمثابة تعهد يوضح حقوق ومسؤوليات الشركاء الموقعين عليها من الناحية القانونية سواء بين بعضهم البعض أو بينهم وبين الشركة التي تضمهم. وإن نصوص هذه الاتفاقية التي لا يعرف عنها إلا القليل، تنص على مساهمة في النفط تبلغ ضعف المساهمة في الربح، وتضع قاعدة مؤداها أن الشريك غير القادر على استخراج حصته من النفط يخسرها دون عوض مقابل استخدام رأس المال خلال المدة التي لا يدر فيها ربحا. وتنص النصوص الصريحة التي تدعى - (الفقرات التقييدية) أو (إنكار السلطة الذاتية) والتي سحبت بموجبها الاتفاقية المعروفة - (اتفاقية الخلط الأحمر) على أن شركة النفط العراقية هي الوكيل الوحيد للشركات المؤسسة على أن لا تعمل بموجب ذلك على انفراد، بل أنها تنوب عن الجماعة في المسائل المتعلقة بالحصول على الامتيازات وأجراء عمليات الشراء وبيع النفط والتصفية المحلية. وقد وضعت هذه النصوص الشاملة لمنطقة جرى تحديدها بخط أحمر لتطبق بعد الحرب العالمية الأولى أثر سحق لإمبراطورية العثمانية.
ويتضح من فحص الفقرات التقييدية لاتفاقية الجماعة المتعلقة بمنطقة الخط الأحمر أنها تقع ضمن التقيدات الاستثنائية التي تجاوزتها المحاكم البريطانية، والتي تخلصت أحياناً من رقابة المبدأ القانوني الأميركي. وعلى كل فحينما يلاحظ أن الأطراف الموقعين على الاتفاقية يؤلفون شركات النفط الأربع الكبرى بين الشركات المالية التي تسيطر على أسواق نصف القارة الشرقي وعلى الأسواق الفرنسية العامة، يتضح أن النصوص موضوعة لاجتناب المنافسات.
ويطلب من الموقعين على الاتفاقية الحصول على تجهيزاتهم من المنطقة المحدودة بأسعار التكاليف الحقيقية تاركة فقط ميداناً ضيقاً يتحرك في التوزيع النسبي كمنطقة تصلح للمنافسة في الأسواق.
ويبدو أثر هذا النوع من اتقاء المنافسة في اتفاقية شركة النفط العراقية حين تصبح المنطقة المحدودة مورداً دائماً لتجهيز مناطق الاستهلاك الهامة.
وقد أبلغ الشركاء الأميركيون في شركة النفط العراقية شركاءهم في أواخر سنة 1946 أن من رأي مجلس الإدارة اعتبار اتفاقية الجماعة بأكملها ملغاة، وباطلة وذلك عملاً بنصوص القانون البريطاني، وأنهم وفق القانون الأميركي وحسب السياسة المتبعة ليسوا مستعدين(863/41)
لإعادة تصديق الاتفاقية دون حذف النصوص التقييدية. ومن المعلوم أن الشركاء ماعدا كالبنيان قد اتفقوا على صيغة جديدة تحدد حقوقهم ومسؤولياتهم المقابلة بغير أدراج الفقرات التقييدية: وتنظر هذه القضية الآن في المحاكم البريطانية وينتظر الاعتراف بملكية المصالح في شركة النفط الأميركية - العربية بنتيجة الفصل في هذه القضية، لأن شركة ستاندردوسكوني فاكوم لا تملكان حرية الحصول على حصة في شركة النفط لأميركية - العربية إن كانت الفقرات التقييدية لا تزال نافذة المفعول.
وقد دخلت ثلاث شركات أميركية فردية أخرى - وهي ستاندرد في كاليفورنيا وتكساس وشركة نفط الخليج - في أعمال استثمار نفط الشرق الأوسط عن طريق شركة النفط العراقية، والشركتان الأولى والثانية ممثلتان في شركة النفط الأمريكية، وتملكان بالاشتراك امتياز استثمار النفط في جميع البلاد العربية السعودية باستثناء الأماكن المقدسة والمنطقة الجيولوجية الجدباء في الغرب. وهاتان الشركتان تملكان أيضاً، كشركة البحرين، امتياز استثمار النفط في جميع جزر أرخبيل البحرين في الخليج الفارسي، وأن شركتي (ستاندرد) في (كاليفورنيا) و (تكساس) تعتبران من بين أعظم شركات النفط الخمس في الولايات المتحدة، إذ تمتد عملياتهما في الخارج إلى الهند الشرقية الهولندية وإلى (غينيا الجديدة) التي لها فيها مصالح مركزة مشتركة في إنتاج لا يزال في طريق النمو، كما أنهما تقومان بأعمال البيع والشراء في شرق السويس، وتشاركان في السيطرة على سوق ذات أهمية في أعمال شركة تكساس في أوربة وأفريقية رغم عدم أهميتها بذاتها، وتتعهدان كذلك أعمال الإنتاج والبيع والشراء في أميركه اللاتينية.
وشركة نفط الخليج، وهي الشركة الأميركية الثالثة العاملة في الشرق الأوسط مستقلة عن شركة النفط العراقية، وهي تملك نصف امتياز شركة نفط الكويت. وأما النصف الآخر فتملكه شركة النفط البريطانية - الأردنية التي منحت امتياز استثمار جميع - نفط الكويت. وتعتبر شركة استثمار الخليج، بالإضافة إلى أعمالها في الشرق الأوسط، منتج مهم في فنزويلا، كما أن لها أسواقاً للبيع والشراء في أقسام أوربة المختلفة.
فؤاد طرزمي المحامي(863/42)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول محاضرة الأستاذ الزيات في مؤتمر المجمع
أطلع قراء (الرسالة) في الأسبوع الماضي المحاضرة النفيسة الممتعة التي ألقاها الأستاذ أحمد حسن الزيات في مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ أسبوعين، وأجمل نتيجتها في اقتراح يشمل أربعة أمور:
1 - فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة وهي الارتجال والاشتقاق والتجوز.
2 - رد الاعتبار إلى المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة
3 - إطلاق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، فإن توقف القياس على السماع بطل معناه.
4 - إطلاق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبنائين وغيرهم من كل ذي حرفة.
وقد فتح باب المناقشة في موضوع المحاضرة عقب إلقائها، فأثنى عليها معالي الأستاذ لطفي باشا رئيس المجمع، وكذلك أبدى بعض الأعضاء كالدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد أمين بك إعجابهم بها. واقترح معالي السيد محمد رضا الشبيي أن تطبع المحاضرة وتوزع على الأعضاء قبل المناقشة حتى يمكن لكل عضو أن يبدى رأيه في ضوء ما قرأ، لأن طريقة الارتجال لا تؤتي الفائدة المرجوة من البحث والدراسة. وناقش بعض الأعضاء موضوع الاقتراح في المحاضرة مناقشة طالت بعض الوقت ولكنها لم تنته، فقرر المؤتمر أن توزع المحاضرة على الأعضاء وتحدد جلسة لمناقشتها في نهاية الفترة المخصصة لانعقاد المؤتمر.
ومما جاء في المناقشة ملاحظات أبداها الدكتور أحمد أمين بك أجملها في ثلاث فقط: قال في الأولى، إن الأستاذ رأى أن يفتح الباب على مصراعيه، وأنا أرى أن يفتح جزء من مصراع واحد ففتح الباب على مصراعيه معناه الفوضى، وأنا أجيز الحرية ولا أجيز الفوضى. وأنني أرى ألا يطلق الخلق إطلاقا، بل يقصر على من يكون مستوفياً لشروطه.(863/43)
وقال في الثانية إني أحب أن أضيف إلى مقترح الأستاذ في الخلق مقترحاً آخر في الإعدام، فكما نبيح للأمة العربية أن تخلق ما تحتاج إليه من الألفاظ فينبغي أن نكمل الشطر الثاني من الاقتراح بأن نبيح لها أن تعدم ما لا حاجة بها إليه. النقطة الثالثة أن الأستاذ عرض في أثناء بحثه لمسألة هامة لم يدرجها في مقترحاته الأربعة، وهي مسألة كتابة القرآن، والحق أننا مجرمون أشد الإحرام في المحافظة على رسم القرآن لأننا نفترض أن من يقرأ القرآن يجب أن يكون قد حفظه أولا.
وقد رد الدكتور طه حسين بك على هذه النقط، بأنه يخالف الدكتور أحمد أمين في الحديين الحرية والفوضى، فقد تحسن الفوضى في أمور منها اللغة، فالعرب الأول لم يسيروا على نهج في لغتهم كما ساروا على هذا النهج الذي يسميه الدكتور أحمد أمين بك فوضى ولم يعرفوا مجمعاً لغوياً يحدد حرية الناس في وضع اللغة، وليس عمل المجامع إلا المحافظة على سلامة اللغة بتسجيل ما تراه يصلح اللغة ولا يفسدها ثم ندخل هذه الألفاظ في المعجم.
ورد على النقطة الثانية بقوله: لست أعرف فرداً ولا جماعة تملك سلطة الإعدام في اللغات، وإنما أعرف شيئاً واحداً يملك هذه السلطة وهو الاستعمال، ولست أدري بأي حق يباح لنا أن نلغي من المعاجم العربية كلمات بحجة أنها لا توافقنا ولا تجري بها ألسنتنا في الوقت الذي نضع فيه مجمعاً تاريخياً نسجل فيه جميع الكلمات التي استعملت في عصور العربية المختلفة؛ ومن يدري فقد تحتاج الأجيال التي تأتي بعدنا لبعض الكلمات.
أما مسألة كتابة القرآن فقد قال الدكتور طه أنه يوافق فيها الأستاذين الزيات وأحمد أمين، واقترح أن يعهد إلى فضيلة الشيخ حمروش بدراسة هذه المسألة.
وقد أثار الأستاذ العقاد نقطة أخرى، إذ قال تعقيباً على طلب السنهوري باشا تخصيص جلسة لمناقشة المقترحات الأربعة: كل هذه المقترحات عرضت على المؤتمر في دورات سابقة واتخذت فيها القرارات. فقال السنهوري باشا: يحسن أن تكتب السكرتارية هذه المقترحات وتبحث عما عسى أن يكون قد قرر في شأن كل مقترح منها وتعد في ذلك مذكرة مختصرة تعرض على المؤتمر لبحثها وقد قرر المؤتمر ذلك وشرعت إدارة المجمع في إعداد قرارات المؤتمر السابقة في موضوع المحاضرة.
والواقع أن المقترحات الأربعة لم يتخذ المجمع فيها قرارات على النحو الذي بسطه الأستاذ(863/44)
الزيات وكل ما هنالك أن المؤتمر في العام الماضي استمع إلى محاضرة للدكتور أحمد أمين بك موضوعها (مدرسة القياس في اللغة) قرر بعد مناقشتها الأخذ بمبدأ القياس في اللغة على أن يكون الحق في ذلك لمن توافرت فيه شروط ذكرها المحاضر.
والأستاذ الزيات يرى أن الطوائف المجتمع الحق في أن يسمع ما يضعونه من ألفاظ يشعرون بحاجتهم إليها في شئون الحياة التي يمارسونها، على خلاف الدكتور أحمد أمين الذي لا يجيز الوضع إلا لعلماء اللغة. وأذكر أن المؤتمر توقف في جلسة العام الماضي التي قرر فيها الأخذ بالقياس - توقف في مسألة الارتجال - وهي التي يتضمنها اقتراح الأستاذ الزيات الأول - وخرج منها بإقرار القياس على وجه عام. وفي الملاحظة الأولى التي أبداها الدكتور أحمد أمين على مقترحات الأستاذ الزيات ما يدل على أن هذه المقترحات جديدة في مجموعها بالنسبة لما أقره المجمع من قبل، إذ قال إنها تفتح الباب على مصراعيه وأنا أرى أن يفتح جزء من مصارع واحد.
وأريد أن أقول كلمة أخيرة في موضوع هذه المحاضرة: إنها صرخة الحياة في وجه الجمود اللغوي، فحياتنا العصرية تعج بالأشياء التي لم تعترف العربية بأسمائها، وقد سمينا (الأتومبيل) سيارة ولكن بالسيارة عشرات الأجزاء لم تقر أسماءها اللغة بعد فإلى متى نستمر على حبس هذه الكلمات وأمثالها داخل الأقواس؟ وإلى متى يظل الناس يستعملون الكلام خارج الحدود المعترف بها؟
وإذا كان بين قدماء اللغويين - كما أشار إلى ذلك الأستاذ الشبيبي في تلك المناقشة - من يرى أن جوهر اللغة ليس قي مفرداتها بل في أساليبها وتراكيبها، أفلا يجدر بنا في هذه الحياة العصرية التي امتلأت بالمستحدثات أن نتقبل ما ينطق به الناس من المفردات مع صقله وتهذيبه، وحسبنا المحافظة على سلامة الجمل والتراكيب التي هي جوهر اللغة كما قالوا؟
كشكول الأسبوع
قرر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة إنشاء معهد فاروق للدراسات الإسلامية في إسبانيا. وقد جاء في المذكرة الإيضاحية التي أعدتها وزارة المعارف، أن الغايات المنشودة من إنشاء هذا المعهد هي إذاعة الثقافة العربية بوجه عام والمصرية على الخصوص بين(863/45)
الإسبانيين، وتعريف المصريين بإسبانيا والكشف عما بها من كنوز عربية لا تزال بعيدة عن أذهان العالم العربي وعقوله.
قررت وزارة المعارف العدول عن النظام المعمول به للحصول على كتب المطالعة الإضافية التي تختار من المؤلفات الأدبية غير المدرسية، بحيث يكون تقرير الكتاب منها لعام واحد مع الاكتفاء بشراء نسخ منه بقدر عدد أكبر فصل في الفرقة التي يقرر لها من كل مدرسة، ويكون استعمال التلاميذ له على طريقة التبادل، ويؤول في آخر السنة الدراسية إلى مكتبة المدرسة.
اقترحت لجنة ترجمة أمهات الكتب العالمية في اليونسكو، تكوين لجنة في بيروت تمثل فيها البلاد العربية والجامعة العربية واليونسكو، لتقوم بترجمة عدد من أمهات الكتب الأجنبية إلى اللغة العربية، كما تقوم بترجمة عدد من الكتب العربية القيمة إلى اللغات العالمية. وسيعرض هذا الاقتراح على الدول العربية وجامعتها لإبداء الرأي فيه.
تقرر أن تشتري وزارة المعارف من دور النشر الأهلية الكميات اللازمة من الكتب المقررة للمدارس الابتدائية، لتوزعها على تلاميذ المدارس الحرة.
أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية نتيجة مباراة التأليف المسرحي التي نظمتها العام الماضي، ففاز بالجائزة الأولى - وهي مائة وخمسون جنيها - الأستاذ محمود غنيم عن رواية (غرام يزيد).
نشرت مجلة الإذاعة المصرية أن محررها تحدث إلى المشرف على قسم المحاضرات بالإذاعة، فقال الثاني: إن الأحاديث التي تذاع تهدف إلى الغايات الكبرى التي تهدف إليها نهضتنا الاجتماعية والفكرية الحاضرة. ولما سأله المحرر عن أهم أحاديث الأسبوع أجاب بأنه حديث عن نشاط هيئة الأم. . . رحم الله هيئة الأمم وهدى إذاعتنا إلى الغايات الكبرى التي تهدف إليها. . .
سافرت الفرقة المصرية في هذا الأسبوع إلى تونس لإحياء موسم تمثيلي لمدة شهر ونصف شهر في شمال أفريقية. وقد تلقت الفرقة قبل سفرها من حكومة تونس رغبتها في أن تقدم مسرحية (الناصر) لعزيز آباطه باشا، فوافقت الفرقة، وسيقوم بدور الناصر الأستاذ حسين رياض الذي تخلف عن السفر.(863/46)
وافق وزير المعارف على اعتماد عشرة آلاف جنيه لمشروع إنشاء الفرقة النموذجية لخريجي معهد التمثيل.
وافقتْ الحكومة الأمريكية على تخصيص 15 ألف دولار لمصر، تشتري بها ما تريد من الكتب، وذلك وفقا لتوجيه هيئة اليونسكو. وسيكون توزيع الكتب المشتراة عن طريق الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف، والأولوية في للجامعات والمعاهد العالية ثم الهيئات العلمية.
فلم الأسبوع
هو فلم (بيومي أفندي) الذي يعرض بسينما أستوديو مصر تمثيل يوسف وهبي وأمينة شكيب وفاتن حمامة وسراج منير وإيفون ماضي وفاخر فاخر وغيرهم، وإخراج يوسف وهبي، والقصة والحوار له أيضاً، وهي مقتبسة وممصرة وأصلها رواية (الأب ليبونار) لجان إيكار.
بيومي أفندي مصطفى (يوسف وهبي) ساعاتي يعمل في شبه دكان على أحد المنعطفات بالحمزاوي، وهو رجل طيب مستقيم وماهر في صناعته أمين، يعرفه أحد أصحاب مصانع الساعات بسويسرا وهو يزور مصر - عن طريق صديق مصري. فما يرى براعة الرجل في إصلاح الساعات وحسن ذمته حتى يعينه وكيلا له في مصر. وبذلك ينتقل بيومي أفندي من حال إلى حال ويصبح من تجار الساعات والجواهر الأغنياء، ولكنه لم ينس زبيدة (أمينة شكيب) الخادمة التي كانت تتردد عليه في دكانه القديم، وكان يغازلها ويطلب منها أن تتزوجه، فلم تبطره النعمة ولم يغير الغنى نفسيته، فيتزوج من زبيدة دون أن يعلم أنها كانت على صلة بسيدها شوكت بك وأنها حامل في الشهر الثاني. تضع زبيدة مولوداً ذكراً، فيفرح به بيومي أفندي على أنه ولده الذي حملته أمه سبعة أشهر، ويسمى المولود (نبيل) ثم يرزق الزوجان بعد ذلك بنتا (زينات) ثم يستدعي شوكت بك بيومي أفندي ويفضي إليه بالحقيقة الهائلة وهو مشرف على الموت ويتبرع لابنه نبيل بمائة فدان. يجزع بيومي أفندي لهذا النبأ ويهم بقتل الطفل، ولكن ضميره يقنعه بأنه مخلوق بريء لا ذنب له. فيحتضن الوليد ويوطن نفسه على الكتمان.
يكبر الولدان، أما نبيل (فاخر فاخر) فشاب ماجن عاق وهو يحب ألفت (إيفون ماض) بنت(863/47)
شكري باشا (سراج منير) صديق والده عن طريق شركة الساعات. أما زينات (فاتن حمامة) فهي بنت وديعة تتعلق بأبيها، وتحب الدكتور كمال الذي عالجها من مرضها وهو يحبها ويريد أن يتزوجها، تعارض الأم في هذا الزواج لأن الدكتور كمال يطعن أخوته في نسبه لأبيهم، وترى أن مصاهرته لا تتفق وما أصبح للأسرة من مكانة بين الطبقة الراقية ويؤيدها في ذلك ابنها نبيل وشكري باشا وابنته ألف التي تعلن أنها لا يمكن أن تتزوج من نبيل إذا تزوجت أخته من الشاب المطعون في نسبه. ولكن بيومي أفندي ينظر إلى الموضوع من زاوية أخرى تتفق وما يصطنعه مع نبيل، فكل منهما ضحية خطيئة لا يد له فيها. فيصر على تزويج ابنته له. وتتمادى الزوجة وابنها في معارضتهما وعنادهما وتطاولهما على الرجل الطيب الذي يثور عليهما أخيراً ويجابههما بما كتمه عنهما، ثم تنقاد الزوجة وابنها لبيومي أفندي ويعرفان فضله ومعروفه، وتتزوج زينات من الدكتور كمال.
القصة ذات موضوع إنساني، إذ تهدف إلى الدفاع عن ابن الخطيئة الذي جرى العرف الظالم على الاستخفاف به لأمر بعيد عن إرادته. وفي الفلم عرض وتحليل لشخصية بيومي أفندي الرجل الخير، والصانع المصري الأمين القانع بالحلال، وهنا تبرز ناحية قومية في الفلم إذ يقارن بين بيومي أفندي الساعاتي البارع صاحب الذمة النقية وبين محل (الخواجات) الذي يبيع الساعات ويصلحها بأثمان فادحة ثم لا تلبث أن تتعطل. ويعجبني في ويوسف وهبي اعتزازه بمصريته وإيمانه بالشعب المصري، وقد كان قويا في التمثيل بهذا الفلم، إذ أدى شخصية بيومي أفندي أداء باهر بغض النظر عن الملاحظات التي سيأتي ذكرها. والعيب الأكبر في هذا الرجل أنه يأتي إلا أن يكون مؤلفاً وأنه يعتمد في هذه الأيام على مجهوده في المسرحيات التي أخرجها قديما، سواء في المسرح أو السينما، وهذا الفلم نفسه أصله مسرحية طالما قدمها على المسرح حتى كلت منها خشبته. وهو يعلن باعتباره مديراً للفرقة المصرية - أنه يمد يده إلى الكتاب ويرحب بما يؤلفونه من المسرحيات، ثم يتخيل نفسه هؤلاء الكتاب ويمد يده إلى يده، ويرحب بنفسه!
وأعود بعد هذا لاستطراد إلى فلم (بيومي أفندي) فأقول أنه فلم قيم على رغم ما فيه من فجوات ومآخذ، ولعل قيمته راجعة إلى ظهوره في هذا الموسم الذي تتابعت فيه الأفلام الاستعراضية التهريجية، فهو بالنسبة إليها عمل ينتسب إلى الفن. . .(863/48)
أول فجوة في الفيلم ناشئة من أن حادثته تستعصي على لتمصير فليس من الواقع الكثير في بيئتنا أن يصارح رجل زوجاً بسابق علاقته بزوجته وأنه أبو الولد الذي يظنه أبنه، ثم يظل الزوج على حسن علاقته بزوجته، واحتضانه للولد وإعزازه رغم استبداد الزوجة به وتطاول الولد عليه. وليس اعتراف الوالد الحقيقي الطريق الوحيد لمحاولة التكفير عن ذنبه، فإنه يمكن أن لا يهب ابنه المائة الفدان على أنها مكافأة لأمه على خدمتها السابقة، أما الاعتراف والهبة على الطريقة التي في الفلم فيها صورة تحمل قبعة عالية. . .
وقد رأيت عجباً في المحكمة الشرعية التي نظرت قضية الطعن في نسب الدكتور كمال فالمفهوم مما يتبع في مثل هذا الموقف من الإجراءات الشرعية والقانونية أنه يطلب الحكم بعد ثبوت النسب ويدافع المطعون في نسبه مدللا على نسبته، ولكنا رأينا الدكتور كمال يدافع عن نفسه بأنه ضحية بريئة لا ذنب له في وجوده! والمحكمة. . . أخذت بوجه نظره فحكمت بالبراءة! ولست أدري من أي شيء هذه البراءة. . .
ومما يؤخذ على تصوير شخصية بيومي أفندي أنه ظل عشرين عاماً. كالحمل الوديع، تأمره زوجته فيطيع، وينهره الولد الذي يتنباه فيفضي، ويرى مع هذا وذاك من النبل وكرم الخلق ألا يصارحهما بالحقيقة، ثم إذا هو ينتفض فجأة فيسحيل إلى إنسان آخر قوي يفرض إرادته. . . فكيف يظل أكثر حياته - على طولها - هادئ الطبع ضعيف الشخصية، ثم ينقلب في آخرها أسداً يزمجر ويبطش؟! يخيل لي أن يوسف وبي أجرى الأمر على هذا النحو كي يهيئ لنفسه مواقف يشبع فيها خطابة وصياحا. وقد ظللت أشاهده في دوره مندمجاً معه بشعوري حتى جاءت مواقف الصياح فأفقت وشعرت بأنني أشاهد يوسف وهبي لا بيومي أفندي. . . فأسقه لضياع التأثير الذي كان يمكن أن يستمر دون حاجة إلى هذه اللازمة التي هي عيب آخر في ممثلنا الكبير. وقد أجاد في الفكاهة والدعابة، فكان ممثلا (كوميديا) ظريفاً، ومن وسائله في ذلك ترديده بعض الأغاني القديمة، ولم يكن في هذا بأس لولا أنه أسرف فيه وأكثر منه إلى حد التكلف، وحتى ترنم ببعضها في موقف حزين مؤثر. وقد بدأ في أول الفلم وآخره على ما يتطلبه الزمن من ملائمة شخصيته للعمر فكان (الماكياج) متقنا، ولكن أمينة شكيب ظلت كما هي لم تغيرها عشرون عاماً! وقد أجادت دور المرأة الشرسة المتسلطة. وكذلك أجادت فاتن حمامة في دورها. أما إيفون ماضي فهي(863/49)
ذات وجه معبر على رغم أنها ظهرت على الشاشة لأول مرة في هذا الفلم. وأما فاخر فلم يكن في دوره على مستواه المعروف في الإجادة، ولعل هذا راجع إلى عدم ملاءمته لدور الفتى الماجن.
عباس خضر(863/50)
البريد الأدبي
إلى الأدباء المعاصرين
توفي أخيراً الشاعر علي محمود طه، وسكنت قيثارته إلى الأبد، وراح الأدباء يتسابقون إلى تحبير المقالات ونظم القصائد في تمجيد ذكراه، وإطراء شعره، فهو في كل ما سيكتبون شاعر عبقري، فقده الأدب العربي، ومؤلفاته تستحق العناية والدراسة، وفي أكثر من مكان تعد دراسات مفصلة لشعره أينوي نشرها خدمة للأدب و (قياماً) بالواجب تجاه الفقيد.
ولن يمضي عام حتى تموت الذكرى ويخمد الصوت؛ وتلتصق كلمة (كان) بالشاعر الفذ، ثم تمضي الأيام، وتكر السنوات، وينطوي عنه سوى آثاره الشعرية، وتاريخ مولده ووفاته، وربما لم يعرفوا عنه أكثر مما نعرف عن المتنبي وهو شاعرنا العملاق الذي ألقى ظله الضخم على عصور أدبنا كلها، وإن كنا نجهل سيرته جلا شبه تام.
ولكن أخلاقنا لن يعذرونا كما عذرنا قوم المتنبي، فالفرق بيننا وبنهم هو الفرق بين القنبلة الذرية والسيف. . . الفرق بين مقاعد الطيارات الوثيرة وظهور الخيل،. . . الفرق بين القرن العشرين والقرن العاشر. . . فما عذرنا؟
لا! لن نكون خدمنا شاعرية على محمود طه، بهذه القصائد الحارة التي نحييه بها؛ فهي كلها ليست إلا تعبيراً منغماً عن عواطفنا تجاهه، ولن نخدمه بدراستنا المفصلة لشعره، فالزمن طويل مديد!؛ وسيأتي آلاف يدرسون شعره الدراسة التي يستحقها. وإنما واجبنا الأكبر أن نتقصى سيرة حياته نقصياً دقيقاً نشترك فيه جميعاً - أبناء هذا العصر كله - فيحشد كل قواه كلها من أجل الأدب الذي نعزه، ونؤمن بقوة أثره في إنهاض الأمم والسمو بمداركها وأحاسيسها، وهو عمل لا يستطيع القيام به سوانا ولو جمعت العصور القادمة ذكاءها كله لما استطاعت النهوض به، ففي أيدينا نحن وحدنا المفتاح. نحن الذين عشنا مع علي محمود طه ومنا من كان من أصدقائه المقربين، وأقاربه، ومعارفه، ومنا من قابله وحادثه، ومنا من تلقى منه رسائل طويلة أحياناً قصيرة أحياناً أخر، شخصية حيناً، رسمية حيناً آخر،. . . ومنا من سمع حكاية، ومنا من قرأ عنه في الصحف وحفظ شعره، ومنا من يروي حوادث مرتبطة بشعره. كلنا يعرف شيئاً من تلك الحياة، والواجب الأدبي أن نجمع معلوماتنا في كتاب أو كتب، فهل ينام من تهيأ للقيام بهذا الواجب النبيل؟(863/51)
الجواب الحتمي المؤكد أننا جميعاً ذاهلون. . . وأقول جميعاً وأنا أعلم أنه ليس من المستبعد أن يكون بعض الأدباء يفكر في تأليف كتاب قيم عن الشاعر، يمس حياته من بعيد ويلخصها في ثلاثين صفحة أبرز ما فيها تواريخ وسنوات وحوادث كالتخرج والسفر إلى أوربا، وطبع الكتاب الفلاني، ومرض الفالج. . . أما سائر الكتاب فعرض شعر الشاعر أغلبه إعجاب، وهو أمر يستحقه الشاعر إلا أن المؤلم أنه لا يغني عن دراسة عميقة مفصلة لحياته العملية التي لولاها لما كتب وما تغنى.
إنني أقترح، وأود لو كان لاقتراحي صدى، أن تنشط لجنة من المتحمسين لشعر على محمود طه إلى تقصي سيرة حياته بدقة وتفصيل معتمدة في ذلك على ما يلي:
الرسائل التي كتبها الشاعر طيلة حياته.
يومياته الخاصة (إن كان قد احتفظ بسجل يوميات يمكن نشر جانب منه).
أوراقه الخاصة وقصائده التي لم تنشر.
ذكريات أهله وأصدقائه المقربين، عنه.
السجلات الحكومية الرسمية وكل ما يتعلق به فيها.
وقد يلوح أول وهلة أن هذه مهمة شاقة، إلا أننا لو راجعنا سيرة حياة أدبا أوربا لرأينا أصغر أدبائهم قد نالها، فكيف نترك نحن كبار أدبائنا ينطوون تحت غبار الزمن القاسي، ولا يتركون إلا كتبهم وحدها؟ وكيف يتيسر لنا أن نفهم آثارهم إن كنا نجهل سيرهم هذا الجهل المخجل؟
لقد آن لنا أن نؤدي ما علينا من ديون تجاه عبقريتنا المطموسة. ألا يكفي أننا تركنا (أبا القاسم الشابي) يضيع ويترك خلفه سيرة مجهولة يخجلنا أننا لا نعرف عنها إلا تاريخ بدايتها وانطفائها؟! ألم يحن لنا أن نعرف عن كل شاعر تفاصيل سيرته، والظروف التي أحاطت بكل قصيدة تركها، وعلاقاته بأسرته وأصدقائه وقرائه، والحب الذي ملك عليه أحاسيسه.
ألم يحن لنا أن نقرأ الرسائل الخاصة التي يكتبها كبار أدبائنا، كما يقرأ الأوربيون رسائل شعرائهم؟
ولم يفت الأوان بعد، حتى بالنسبة لأبي القاسم الشابي الذي مات منذ ثماني عشرة سنة بعد(863/52)
شباب قصير متعثر بالآلام العقلية والجسدية. فلو نشط متحمس واحد لشعره، واتصل بمن كان يعرفه لأنقذ ما تبقى من ذكريات عنه وبما فاز ببضع عشرة رسالة من رسائله يتحف بها القراء المتعطشين، ويرفع تهمة الكسل عن هذا العصر. . . فمن المخجل أن يكون كل ما نسلمه إلى الأجيال القادمة عن أبي القاسم الشابي حفنة من القصائد البديعة!
أيها المعاصرون! لقد آن لنا أن نفيق من نومنا الطويل، وندرك ما علينا من المسئوليات
(إنسان)
بغداد
الوعد الحق للدكتور طه حسين بك
لقد تفرد الدكتور طه حسين بك بهذا الأسلوب القصصي في عرض حياة هؤلاء الأرقاء. وأعطانا صورة رائعة من الجو النفسي والاجتماعي في مكة في فجر الإسلام. وما تعرضوا له من ألوان البلاء. وضروب الإيذاء في صبر، وجلد، وشجاعة، ما تركهم نماذج فريدة في سجل التضحية والفداء. ولقد عرض الدكتور هذه الصورة قوية، حية. مؤثرة. مثيرة. . . ولكن لا حاجة إلى إطراء فن الدكتور في هذا العرض ومقدار ما يبلغه من إشاعة الحياة في صوره. وتأثيرها. ولا إلى القول بأنها لون جديد في أدبنا الحديث نعتز به. بل خير للناقد من هذا أن يأخذ بيد القارئ حتى يبلغ به أعتاب هذا المعرض ويخلي بينه وبين طرائقه وبدائعه حتى يتهيأ له أن يأخذ لروحه وعقله ما فيه الغناء. أنظر كيف يصور الدكتور ما قاسته أسرة ياسر، من شدائد وأهوال، وكيف صبت عليها المحن صبا فلم يتزعزع إيمانها. ولا خانها صبرها. ولا تخلى عنها جلدها. ولا فقدت أمهلا في الله: (. . . أقبل أبو جهل ومعه أصحابه. فرأى الناس أنطاعاً من أدم يسع كل نطع منها رجلا وقد ملئت ماء. ورأوا ناراً مؤججة. ومكاوي قد أغمي عليها. ورأت تلك الأسرة قد شد وثاق كل منها. وألقى ثلاثتهم في جنب من الطريق كما يلقى المتاع غير ذي الخطر. فلما بلغ أبو جهل وأصحابه مكان العذاب أمر غلمانه فوضعوا بين يديه ياسراً. وزوجته. سمية وابنه عماراً. . . وألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله. فألهب أجسامهم بالسياط ثم أذاقها مس النار ثم صب عليها قرب الماء ثم عاد فيهم سيرته مرة ومرة ثم أمر بهم فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى(863/53)
انقطعت أنفاسهم أو كادت ثم ردهم إلى الهواء. وانتظر بهم فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى انقطعت أنفاسهم أو كادت ثم ردهم إلى الهواء وانتظر بهم حتى أفاقوا وتسمع لما ينطقون به بعد أمثاب إليهم شيء من قوة فإذا هم يذكرون الله ويثنون على محمد قال أبو جهل لسمية وقد بلغ منه الغيظ أقصاه: لتذكرن آلهتنا بخير ولتذكرن محمداً بسوء أو لتموتن. تعلمي أنك لن تري مساء هذا اليوم إلا أن تكفري بمحمد وبه. قالت سمية بصوت هادئ متقطع قليلا: بؤساً لك ولآلهتك! وهل شيء أحب إلي من الموت الذي يريحني من النظر إلى وجهك هذا القبيح! هنالك تضاحك عتبة وشيبة أبناء ربيعه وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب بطن سمية برجله وهي تقول في صوتها الهادئ المتقطع: بؤساً لك ولآلهتك، وتجن جنون أبي جهل فيطع سمية بحربة كانت في يده فتشهق شهقة خفيفة. ثم تكون أول شهيد في الإسلام: يقول ياسر قتلتها يا عدو الله! بؤساً لك ولآلهتك. ويقول عمار: قتلتها يا عدو الله بؤساً لك ولآلهتك! ليمتلئ قلبك غيظاً وحنقاً فإن رسول الله قد ضرب لها موعداً في الجنة. قال ياسر: أشهد أن وعد الله حق. ولكن أبا جهل لم يمهله وإنما يضربه في بطنه برجله فيشهق ياسر شهقة خفيفة ثم يصبح ثاني شهيد في الإسلام. قال عتبة بن ربيعه: فينبغي أن تطلق هذا الرجل وأن تخلي بينه وبي الحرية ليواري أبويه).
هذا لون من الألوان الدامية المريعة التي كانت مكة تذيقها أسرة ياسر وبلال وصهيب وخباب ولم تستطع برغم هذا أن تبلغ منهم ما أرادت وباءت بالهزيمة وفازوا هم بالنصر والخلود.
لقد استطاع الدكتور أن يخرج لنا من هذه الأطراف المبعثرة المشققة من الأحاديث عن هذه الشخصيات وهذا العهد كائناً حياً بكل خصائصه وسماته. فيا حبذا لو اتخذ أدباؤنا صنع الدكتور قدوة فنظفر بهذا التاريخ مجلوا ناصعاً حيا.
محمد عبد الحميد أبو زيد(863/54)
القصص
أمسية الميلاد لدى الصعلوك
للكاتب الشيلي سلفادور رايسر
بقلم الأديب سليمان علي
كان يلبس بدلة سهرة أحمر اللون طويل الذيل، وعلى أذنيه الشعرواين تقوم في اتزان دقيق قبعة فخمة مريشة، وفي هذا اللباس الرسمي التاريخي كان يرقص فوق صندوق الموسيقى. وكان أمامه على الدوام حشد من النظارة، من الصغار والكبار، مجتمعين حول المعزف للتفرج عليه، معجبين بالمهارة التي يتبع بها أنغام الموسيقى المتغيرة، في نشوة من الضحك من حركاته المثيرة.
وكان لوجهه قدرة عجيبة على الحركة، ولم تنجب الطبيعة مخلوقاً أشد دهاء في تعبيراته الناطقة، وله هذه الثروة من الحركات المضحكة، وهذا الجسم الصغير العجيب المرن الذي تسكنه روح ذات حظ مماثل من المهارة والرغبة في بعث السرور والبهجة. وكانت الموسيقى، وهي حياته الهائمة، والحشد من النظارة، كلها تجلب له المتعة. فإذا جذبه طفل من ذيله مرة، لم بغضبه ذلك أكثر ما يغضب من الشمس المتوهجة على حفافي الطريق، أو من البقع التي يشحب لونها رويداً على ثوبه الأحمر الجميل. وكان سعيداً، وكان اسمه بيبي، وكان بالطبع قرداً.
وفي بعض الأحايين تتحرك خلطه السوداوي من فرط الحنين لوطنه، كما لو كانت بفعل الريح، فيسمع مرة أخرى أغنية وطنه الغاب، الصداح بالأطيار، ويرى الفهد ينساب بين الأجم، والتماسيح تزحف من الطين، وتنسم عبير الأزاهر الهائلة الذائبة التفتح في الحرارة الدائمة. وحينئذ يحرك ذراعيه الطويلتين، ويتذكر كيف كان يتسلق فوق أعالي الأشجار، أو ينزلق برشاقة على جذوعها المعمرة ألف عام، ويذكر وفي قلبه وخزة تلك الكروم التي تنتظم كلدانتلا بين أصابع الغاب الهائلة.
بيد أن هذه الأشياء ما كانت تقلقه إلا فيما ندر؛ فلقد كانت الحياة جميلة ولم يكن مستعبداً كغيره من القردة. كان يسافر في الطريق حراً مع سيده الذي كان صديقه كذلك. وإذا ما(863/55)
شعر بحاجة إلى الرياضة، كان في وسعه دائماً أن يرقص على المعزف. وكان رقصه حقاً نوعا من العبادة، وكان القربان الذي يقدمه إلى ذكرياته عن الغابات الهائلة. ولم تكن لديه رغبة للعودة إليها إذ كان ذلك معناه فراق سيده، بيترسون الذي، كان يعبده عبادة. ولم يكن بيترسون يمتاز بشيء ولكنه كان في نظر بيبي يحتل مقام الإله، وكان ما يزال شاباً، شديد النحول، عيناه متعبتان زرقاوان، وشعره طويل يميل للصفرة، ولحيته مهملة. وكان رث الملابس، يمشي مشية بطيئة منتظمة، تلك المشية المملولة التي يمشيها من يدرك أن رحلته لن تكون لها غاية.
وكانت كل الطرق تعرف هذين الصعلوكين: الرجل الذي يحمل الصندوق، وبيبي الذي إما أن يكون قابعاً على كتفه أو دائم القفز في محاذاته، وما كانا يمكثان طويلا في مكان واحد، فكل مكان يبلغانه كان نقطة وصول ورحيل معاً. وفي الليل ينامان في جنبات الطرق تحت الأشجار، ويفضلان دائماً جوار المياه، عند نهر، أو على الأقل عند غدير صغير.
وأحياناً يكون الجو قائظاً، وأخرى يكون قاراً، وكان بيترسون لا يأبه لتقلبات الطقس، أما بيبي فكان يكره البرد، وفي الليالي العاصفة، الداوية بالرياح، كان يزحف تحت غطاء سيده الصوفي السميك الذي كان يأتي به ويرمقه من تحت بعينين قلقتين لا معتين.
وكان الرجل والقرد يفهمان بعضهما حق الفهم وكانا يتخاطبان بالإشارات البسيطة، والكلمات، والأصوات، وكانا يشعران بصلة غريبة وهما محوطان بوحدة الحقول الهائلة، ووحدة الأرض نفسها التي تفوقها كثيراً، كما يشعر الأخوان بأن كلا منهما ينتمي للآخر. وفي الظلام كان بيبي يمد يده الصغير الشعراء، يلتمس الثقة وهو يدرك أنه واجد في ملمس هذا الرجل النحيف الأبيض الأمان والحب.
كان بيترسون الإله، وبقية العالم من رجال وحيوان، وشجر وحقول وسماء، أشياء أبدعها من موسيقى معزفه. فإذا ما بدأت كان بيبي يرقص، جاعلا رجليه تتبعان النغم في دقة، يلقي بكليته إلى الحركات المعقدة التي تثيرها، ولم يكن ذلك بدافع العمل فحسب، بل بدافع من غريزته الحيوانية، بشعور مبهم لكنه عميق، نحو الإخلاص لسيده ونحو جمال العالم. وكان يرقص أحسن الرقص عندما يكون أسعد حالاً وأطيب نفساً، فيعبر بهذه الطريقة عن شكره وعن فرحه لكونه حياً يرزق.(863/56)
وفي غسق يوم ذهبي، بلغا إحدى القرى. وكانت قرية صغيرة ذات شارع واحد يمتد على منحدر التل، وينتثر بين الأشجار بضعة منازل فحسب. بيد أنه قبل أن يضع بيترسون معزفه احتشد جمع من الأطفال حوله. وكانوا يهتفون بحبور لدى رؤيتهم بيبي، الذي كان يعابثهم بحركات وجهه، ويأتي بحركات مضحكة، وكلما ازدادوا ضحكاً ازداد سروراً. فلما صدحت الموسيقى، فخمة، مكهربة، كان في نشوة من الحيور، ومالت قبعته المريشة وهو يرقص، وأخذت ساقاه النحيفتان تتحركان بسرعة تزداد شيئاً فشيئاً.
وأخذ الحشد يزداد، وانضم إليه الآن بعض الكبار أيضاً، وكان بينهم شيخ حسن البزة يدخن غليوناً كبيراً، ويطرق برأسه مع الإيقاع الموسيقي، وكان يرمق بيبي بعطف وهو يرقص، وبيترسون وهو يدير يد المعزف كأنه رجل يبعث أسى قديماً، ولما انتهى الدور الثاني، ألقيت بضع نقود في قبعة بيترسون، ولكنها كانت قليلة، فأهل الريف في كرمهم محتاطون. وبينما هو يتأهب للذهاب أقبل الشيخ ذو الغليون وحدثه قائلا (لي حفيد صغير مريض، ولأن الليلة عيد الميلاد، فإنني أرغب أن أقدم إليه متعة فريدة، فهلا قبلت أن تأتي وتلعب له؟ أقصد بجوار فراشه لكي يستطيع أن يرى القرد وهو يرقص؟).
فأطرق بيترسون موافقاً، فلم يكن يحب استعمال الكلمات إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. وانطلقا في الطريق معاً - حتى بلغا (فيلا) ذات سقف أحمر، تقوم بين دغل من الأشجار السامقة. ودفع الرجل باب السور، وتبعاه في الممشى المبلط الملتف حول أحواض الزهر المتلألئة حتى بلغا المنزل. ولما وصلا إلى السلم كان بيبي يهمهم بأصوات التطلع والتحمس؛ بيد أن بيترسون كان يمشي بعزم. ولكنهما ما كادا يجتازان عتبة البيت حتى وقف كالمأخوذ. فقد كان في منتصف البهو الواسع الجنبات شجرة من أشجار عيد الميلاد مشرقة بالأنوار.
ووقف بيترسون ساكناً لا يريم، وطرفه معلق بالشجرة. لم تكن شجرة حقيقية، ولكنها صنعت بمهارة من الورق المقوى والقماش، غير أنها كانت في نفس بيرسون محملة بالذكريات كأنما ينبعث من أبرها صمغ الصنوبر من مسقط رأسه، وكأنها تميل أمام الرياح العاتية في تلك الخلجات البعيدة، حيث الوجوه القديمة المحبوبة، وقد حدثته الشجرة بلغتهم، وهي تهمس في رفق عبر السنين التي تفصيل بينهم.(863/57)
وكان بيبي يرتعش على كتفه في تعاطف. ومع أن الشجرة المقلدة لم تكن تهمه في شيء إلا أن طول الصحبة هيأ له السبيل النفاذ إلى قلب سيده، فأحس الآن بشيء غريب وحزين في أعماقه؛ لذلك تعلق بالكتف العريض وأخذ يرتعش، وأحس بحنين إلى مسقط رأسه دون أن يدرك السبب.
(هلا تفضلت وأتيت من هنا؟) كان الصوت المتكلم متقدماً في السن حاراً، وكانت صاحبته متقدمة في السن ذات حرارة أيضاً. ورمقتها بعطف وقالت ثانية (من هنا. . . هنا تماماً. . .)
وهز بيترسون نفسه وتبعها مجتازاً البهو ودخل من باب مفتوح. وكان في الغرفة التي دخلاها صبي أبيض الوجه مستلق على سرير في فتور. وأنزل بيترسون المعزف عن ظهره، وبدأ يدير الذراع. وتدفق النغم منه في قوة غير منتظرة بينما ترددت على حوائط المنزل أصداء وأصداء.
كانت نفس الموسيقى، الفالس القديم الذي تردد مراراً وتكراراً. بيد أنه كان هناك اختلاف. وكان يبدو للصعلوك أن المعزف فقد إيقاعه الميكانيكي المألوف وأنه لبى نداء عاطفته، كأنه آلة صنعت ليده بجرأة. . . فشجرة عيد الميلاد تلك بثلجها الصناعي المقلد، وهذا المنزل الفسيح المضيء، والقوم المسنون الطيبون، والغلام الصغير، جميعهم، أدركتهم الموسيقى، وكانت هنالك أيضاً، الصور التي في قلبه: الغابات الشمالية والوجوه واللغة التي كاد ينسى كيف يتكلمها.
وبينما كان يلعب كان بيبي يقفز في سعادة، وجلس الغلام المريض في سريره يصفق بيديه الضعيفتين، وأخيراً انتهى الدور، وسكت المعزف.
وكان بيترسون يهم برفعه إلى كتفه عندما وجد نفسه للمرة الثانية ذلك المساء في غيبوبة من العاطفة، قد هاجمته وأمسكت به، وقد توقف ذراعه في حركة صعوده، وعيناه محملقتان، فمن فوق رأس الشيخ كانت عينان في زرقة البحيرات الشمالية ترنوان إليه، عينان ساكنتان هادئتان، مليئتان بحنان لا يحتمل. وتقدمت امرأة طوال ذات حسن وجمال وهي تبتسم، وربتت على رأس بيبي. وقالت إن الموسيقى كانت لطيفة جداً، أفلا يمكنهم البقاء واللعب أمام ضيوفها قبيل منتصف الليل؟ ويمكنهم في نفس الوقت أن يستريحوا(863/58)
ويأكلوا في المطبخ. وأطرق بيترسون إطراقه خرساء. وخرج دون أن يجرؤ على النظر مرة أخرى.
وبعد بضع ساعات، حينما عادوا إلى البهو كانت الشجرة متلألئة كسماء صافية بالليل. كانت مئات الشمعات تبرق على أغصانها، وحولها لفيف من الناس يتكلمون ويضحكون كانوا يتنادون بالأسماء في ثقة كأنهم بذلك ينطقون بكلمة السر التي تسمح لهم بالدخول إلى وليمة الحياة. وكان الجو المرح، مرح القلوب المؤتلفة، يندفع كالغيم المتألق فوق رؤوسهم، ولم تلمس بيترسون الومضة المتألقة، وأحس أنه مطرود كلل. وظن لحظة أنه رأى العينين الزرقاوين اللتين أثرتا فيه كل هذا التأثير، ولكنهما غابا ثانية. وأنزل المعزف باحتراس في أحد الأركان وانتظر الإذن بالعزف.
وسرعان ما أعطاه الشيخ ذو الغليون الإشارة. وصحا بيبي الذي كان ممسكاً بلحيته وهو نعسان بدافع الخوف من صوت الموسيقى وقفز على سطح المعزف ولكن لم يلق إليه أحد بالا. فقد بدأ الناس يرقصون، رقصة الفالس على إيقاع الموسيقى، التي كانت تنبعث في اضطراب من المعزف القديم، وهم يغنون بصوت أعلى من صوته المنكسر، في حبور وانشغال حتى أن أحداً منهم لم يدرك متى تنقطع عن العزف. وتراجع بيترسون إلى ركنه، وهو من ارتباكه لا يستطيع معرفة السبيل إلى الخروج.
ودوت في الغرفة أصوات أجراس كنيسة آتية من بعيد ولكنها واضحة. وسكن القوم فجأة، وأقبل الشيخ نحو بيترسون ووضع في يده حفنة من النقود، وهو يشكره بأدب. فهم بيترسون يرد عليه ثم رفع معزفه إلى كتفه، وأخذ بيبي النعسان في ذراعيه وكان على مقربة من الباب عندما أبصر العينين الزرقاوين مرة أخرى وابتسمتا له من بعيد، وابتسم الوجه جميعه في ثنيات تصاعدية حتى أصبحت بيضاء اللون. وجمدت ملامحه وهي تعبر عن أسى بالغ، وكان وراءها دموع لم تذرف. فهو الذي مضت عليه سنوات لا يعرف له سكناً يأويه، ولا طريقاً يفضله عن طريق. هو الذي لم يكن له من رفيق سوى قردة الراقص، أدرك فجأة أنه سوف يعرف الآن الوحدة الحقة. شجرة صنوبر شمالية معلق بها أنوار، عينان جميلتان، وللمرة الأولى اللوعة الكاملة للفراق. . . وأحنى رأسه، بشكل مضحك. لقد كان يقول كلمة الوداع.(863/59)
وفي الخارج، كانت ظلال مكدسة وسكون وسماء معلق بها أنجم هائلة منداة. وأغلق الباب خلفه ووقف على رأس السلم وهو يرسل الطرف في قلب الليل. كان وحيداً، وسيكون وحيداً أبدا. دان تنتظره أنوار في نهاية الطريق، والطريق نفسه لا نهاية له.
ونزل أول سلمة، ثم وقف فجأة. لقد فتح الباب مرة أخرى، والتفت فرأى، العينين الزرقاوين، والقامة الطويلة الرقيقة، وقد تحدد قوامها وهو يومض بين إطار الليل المظلم.
وتقدمت في تردد ومدت يدها. وقالت (سامحني. لقد رأيت. . . هنالك. . . هل في الإمكان أن أمد لك يد المعونة بأي سبيل؟) وجمد بيترسون في مكانه برهة، ثم أخذ اليد الممدودة إليه في بطأ؛ ولمسها بشفتيه ثم تركها تسقط، ووقف الجسم اللامع ساكناً في فتحة الباب، والضوء يكلل شعره كأنه ألسنة اللهب الصغيرة، وانتزع نظرته بعيداً وأسرع في النزول من السلم وأغلق الباب أخيراً ولكنه لم يبطئ من خطواته، وكان يكاد يجري حين بلغ قارعة الطريق. والتفت ذارعا بيبي حول رقبته وقرعت أجراس الكنائس إيذاناً بصلاة منتصف الليل.
محمد سليمان علي
المهندس(863/60)
العدد 864 - بتاريخ: 23 - 01 - 1950(/)
صاحب المعالي الدكتور طه حسين
من الطبيعي وقد تولى أخي طه الوزارة لصاحب الجلالة الفاروق أن تعروني هذه النشوة التي أنعم بها منذ أيام ولا أستطيع أم أعزوها إلى مصدر واحد معين.
قد يكون مصدرها ذلك الزهو الذي يدرك الأخ حين يرى أخاه قد بلغ من مناصب الدولة ما لا غاية بعده. وقد يكون مصدرها تلك الغبطة التي تعتري الأديب حين يرى أديباً نال بقلمه من السلطان والجاه ما لا مطمح وراءه. وقد يكون مصدرها ذلك الرضا الذي يغمر المواطن حين يرى رجلا من رجال الرأي والعزم يتقلد وزارة من أضخم الوزارات أثرها في المجتمع كأثر الأم في الأسرة: تهيئ الطفل بالتربية للعلم، وتجهز الشاب بالعلم للعمل، وتوجه الرجل بالعمل إلى الحياة، ولكنها على الرغم من خطرها العظيم وتبعاتها الجسام لا تزال معوَّقة عن الغاية بثقل الروتين وتشتت الهوى وانقسام الرأي؛ فلابد لها من رجل يدفعها دفعا إلى الأمام يبتر الذبول ونبذ الفضول وتقصير المطول وتبسيط المركب. وقد يكون مصدر هذه النشوة أولئك جميعاً، ولذلك صعب تحديده وأعضل وصفه.
ليس بدعا أن يتقلد الوزارة كاتب لكتابته أو شاعر لشعره، فقديما تقلدها
أمثال أبن الزيات وابن العميد في الشرق، وأمثال ابن زيدون وابن
الخطيب في الغرب. ولكن أولئك تقلدوها والشأن شأن البلاغة والأمر
أمر القلم، أما معالي الدكتور طه فقد تولاها والشأن شأن العصب،
والأمر أمر الذهب. فاختياره للوزارة إنما يرجع إلى مزايا فيه فرضته
فرضا على الحكم. وأنا أعلم الناس بهذه المزايا؛ رصدتها وهي تبزغ
في صدر الأفق ومازلت أرقبها وهي تسطع في كيد المساء. هي
مجموعة من المواهب والملكات أبرزْها براعة الذهن ولطافة الحس
وسرعة الخاطرة وقوة الذاكرة وخصوبة القريحة ونصاعة الأسلوب
وذلاقة اللسان وطواعية اللغة واتساع المعرفة. ولكن هذه الصفات على
قوتها وندرتها ما كانت لتغني هذا الغناء لولا سحر شخصيته وهي سر(864/1)
عظمته. وهذه الشخصية تستمد قوتها من عذوبة روحه، وعظمتها من
سمو نفسه، وجاذبيتها من سهولة طبعه، فهي قهارة من غير قهر،
وجبارة من غير جبروت!
والشخصية توهب ولا تكسب. والرجل من غيرها كتاب من غير عنوان، ووجه من غير ملامح وطه منذ أيفع كان بارز الوجود ظاهر الطابع مستقل الرأي في درسه وفي مجلسه وفي عمله يقول ومن طبيعته أ، يفعل، ويقضي ويرى من كرامته أن ينفذ فإذا عوَّقه عن فعل ما قال أو تنفيذ ما قضى معوق من طبائع الأشياء أو من خلائق الناس، تجمعت قواه كلها على هذا المعوق لتزيله، كما تتجمع كرات الدم المدافعة على المكروب الواغل لتبيده. ومثل هذا الخلق لازم للحكم في هذا العهد الذي شُغل فيه الحاكمون بالشكل عن الموضوع وبالوسيلة عن الغاية؛ وهو لوزارة المعارف ألزم؛ لأن الجهل هو مشكلة المشكلات اليوم في مصر. فإذا لم يقيض الله لحلها رجلا كمعالي الدكتور طه عاش بالعلم وللعلم، ظل بناؤنا على غير أساس. وسعينا على غير بصيره
أحمد حسن الزيات(864/2)
إلى معالي الدكتور طه حسين بل:
حبور وتحية
في موكب النصر والدنيا تموج بالبهجة، دعمي - يا سيدي - أتقدم فأنثر الزهر عند قدمي القائد المظفر تقديراً لفضله.
وفي فرحة الفوز والأرض تهتز حبوراً، دعني أشق زحمة الشعب الطروب لأرتل نشيد الروح بين يدي العبقرية السامية.
وفي نشوة الطرب والجموع الزاخرة تتدافع لدى بابك تهتف باسمك الحبيب، دعني أبلغ مجلسك لأوقع - لدى مسمعيك - لحن الخلود على قيثار قلبي، تحية للسمو والنبوغ.
فإذا بلغت مجلسك وحاولت أن أهنئك، فاضطرب لساني أو تعثر بياني، فلا تلمني - يا سيدي - لأن قلبي ينبض بالبهجة ويخفق بالسرور ويتألق بالإخلاص.
أتذكر - يا سيدي - يوم أن سكبت عبرات قلبي ولوعة فؤادي على قرطاس أبثك فيه همي حين رزئت بفقد المرحوم أمين عثمان. ثم هفت نفسي إليك فلقيتني بقولك: (مرحباً، بالرجل المخلص!)
فإن قصر القلم في التحية من رهبة الموقف، أو أرتج عليّ في التهنئة من روعة المجلس، فقل لي في هدوء الأب وعطفه (لا بأس عليك، فإنا أسمع نبضات قلبك وأشعر بخفقات فؤادك وألمس هزات روحك. . . أنت أيها الرجل المخلص!)
لا عجب، فأنت وحدك قد سموت إلى أكبر منصب في الدولة. . . سموت على جناحين من شبا اليراع وسنان القلم، على جناحين من نبوغ الأديب وعبقرية الفذ، على جناحين من إباء الشرف ونبل الكرامة.
وأنت وحدك قد ترفعت عن ترابية العقول الوضيعة وشمخت عن أرضية الأفكار السقيمة، التي سفلت فما استطاعت أن تبلغ شأوك وهو وعر، ولا أن ترقي إلى مكانك وهو سامق، فانحطت عنك فانفضت من خولك لتكون أنت وحدك العلم.
وأنت وحدك استعذبت الشدة تصرعها بقوة الايمان، واستمرأت الملمة تدهما بسيف العقيدة، لا يقعدك نقلب الدهر ولا تصرفك غير الزمن ولا يفزعك تفرق الإخوان، فكنت شديداً في الحق لا تلين، عنيفاً على الباطل لا تتساهل، صادقا في الجهاد لا تستقر.(864/3)
فلما انجلت الغمة وانفرجت الكربة وبلغت الغاية عندها القلب وتسكن لها الجائشة، حام حولك أناس تعروا عن الإنسانية والرجولة والكرامة جميعاً، حاموا حولك يتمسحون في تذلل وخضوع، فلا يغرنك ما ترى من رجال. . .
وحين تقلدت منصب الوزارة، أشرق النور في قلوب تهفو إليك بالمحبة، وابتسم الأمل في أفئدة ترنو إليك بالإخلاص، وتألقت السعادة في أرواح تصبو إليك بالوفاء.
فلا تنس - يا سيدي - أنك عميد الأدب، وأن الأدباء هم تلامذتك وبطانتك وأبناؤك، وأن الأديب رجل يعيش عمره مضطربا في غمرات الشدة، ينزف نضارة العمر في الكد، ويبذل غضارة الشباب في الجهد، يعزف عن لذة الحياة ومتعة العيش إلى ضنى النفس وعناء العقل، فلا يجد العون ولا الساعد. فكن أنت موئله وعونه.
ولا تنس أن في وزارة المعارف أدباء يصيبهم الإرهاق من أثر النظام الحكومي، وتتقدمهم الأقدمية الفجة الخواوية، ويسبقهم أصحاب الملق والخضوع من ذوي النفوس الوضيعة. هؤلاء الأدباء بهم إباء يدفعهم عن الرجاء، وفيهم كرامة ترفعهم عن، التذلل وبهم شهامة تفزعهم عن التعبد، فضاع حقهم في صخب المحسوبية وانطوى أملهم في ثنايا الأغراض.
ولا تنس أن بين يديك خفافيش يقتلها النور ويحييها الظلام، وأن من خلفك ثعالب لا تفتأ تمكر وتمكر، يلذ لهم الخداع ويطيب لهم التلون. خفافيش وثعالب فيهم الخسة والضعة أذلهم الكلب للمادة واسترقهم الشره إلى المال، فعبثوا بالحق سنوات وسنوات، واستمتعوا برضاب الوزارة حيناً من الزمان، وخصوا أنفسهم بالغنيمة الباردة من أموال الدولة، لم يرعوا للمصلحة العامة إلاَّ ولا ذمة. هؤلاء هم أعداء الوطن والأمة، فارفع السوط. . . ارفع السوط يا سيدي.
ولا تنس المعلم، وهو يعيش - أبداً - تطحنه شدة الإملاق، وتعصره شدة الإرهاق.
ولا تنس - يا سيدي - آمال قوم أشرق النور في قلوبهم وهي تهفو إليك بالمحبة، وابتسم الأمل في أفئدتهم وهي ترنو إليك بالإخلاص، وتألقت السعادة في أرواحهم وهي تصبو إليك بالوفاء.
كامل محمود حبيب(864/4)
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 6 -
ذات مساء، وقد أوشك الليل أن ينتصف، راح يقص علي طرفاً من ذكرياته وحياته. . . وكان مسكنه في تلك اللحظة قد خلا إلا من صديقين: هو وأنا. وكان يطيب له في أوقات الصفاء أن يحملني على جناح الزمن إلى ماضيه، وأن يفتح لي في قلبه كوي أطل منها على عالمه. . . ترى أكان يحس في أعماقه أن غوائل الردى ستطوي حياة يريد أن يتركها بين يدي وديعة؟ لست أدري! كل ما أدريه أننا في تلك الليلة قد انتهينا إلى التحليق في سماء الشعر بعد أن أرهقنا الطواف حول أرض البشر. . وهناك ونحن في السماء، توقف عن الحديث ليسألني: ترى أي قصائدي النفسية أحب إليك؟ وأجبته في صدق يخلو من المجاملة: (الله والشاعر). . وسكت قليلاً ليحملني من جديد على جناح الزمن إلى ماضيه، إلى ذلك الجو النفسي الذي أملى عليه تلك القصيدة يوم أن كانت زهرة العمر تترنح تحت قطرات الندى المسكرة عند فجر الشباب. . وما أكثر تلك الأجواء النفسية التي كان يقصها علي مرتبطة بفنه، وما أكثر ما كنت أدفعه إلى ذلك دفعاً بنية المتعة والدراسة! وبهذا الرصيد النفسي المدخر أهيئ القول عن مفتاح شخصيته الإنسانية في واقع الحياة والفن، في ذلك الفصل الذي تطالعه بعد لفراغ من نقد الصور الوصفية في إطارها الحسي، وسيكون عنوانه: (حياته من شعره). . واليوم أقدم إليك الصورة النفسية الخامسة (الله والشاعر) هناك في الصفحة الثالثة والسبعين من (الملاح التائه):
لا تفرقي يا أرضي لا تفرقي ... من شبح تحت الذجى عابر
ما هو إلا آدمي شقي ... سموه بين الناس بالشاعر
طغى الأسى الداوي على صوته ... يا للصدى من قلبه الناطق
مضى بيت الدهر في خفية ... شكاية الخلق إلى الخالق
لا تعدني يا رب في محنتي ... ما أنا إلا آدمي شقي(864/5)
طردتني بالأمس من جنتي ... فاغفر لهذا الغاضب المحنق!
حنانك اللهم لا تغضب ... أنت الجميل الصفح جم الحنان
ما كتبت في شكواي يا لمذنب ... ومنك يا رب (أخذت الأمان
ما أنا بالزاري ولا الحاقد ... لكنني الشاكي شقاء البشر
أفنيت عمري في الأسى الخالد ... فجئت أستوحيك لطف القدر
تمردت روحي عل هيكلي ... وهيكل الجسم كما تعلم
ذاك الضعيف الرأي لم يفعل ... إلا بما يوحي إليه الدم!
يعرق حد السيف من لحمه ... ويحطم الصفوان بنيانه
وينخر الجرثوم في عظمه ... ومنه ينمي القبر ديدانه!
ما هو إلا كومة من هباء ... تمحقه اللمسة من غصبتك
فكيف يثني الروح عما تشاء ... وكيف يقوي؟ وهي من قدرتك
روحك في روحي تبث الحياة ... نزلت دنيايْ على فجرها
فإن جفاها ذات يوم سناه ... لاذت بليل الموت في قبرها
ومثلما قدرت صورتها ... فروحك الصوت وروحي الصدى
طبيعة ف الخلق ركبتها ... وما أرى لي في بناها يدا!
لكنما روحك من جوهر ... صاف وروحي ما صفت جوهرا
أولا، فما للخير لم يثمر ... فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!
تقول روحي إنها ملهمه ... فهي لما قدرته متبعه
مقوده في سيرها مرغمه ... وإن تراءت حرة طيعه
قيدتها بالجسم في عالم ... تضج بالشهوة فيه الجسوم
كلاهما ي حبه الآثم ... لم يصح من سكراه وهو الملوم
تبدي به الأجسام سحر الحياة ... في معرض يجلو غريب الفنون
نواعس الأجفان حلو الشفاه ... شديدة الإغراء شتى الفتون
ولم أكن أول مغرى بما ... أغرت به حواء أو آدما
إرث تمشى في دمي منهما ... ميراثه ينتظم العالما!!(864/6)
فأنت قدرت على الشقاء ... من حيث قدرت على النعيم
وما أرى! هل في غد لي ثواء ... بالخلد أم مثواي نار الجحيم؟
ما أثمت الروحي ولا أجرمت ... ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصر الروح بما ألهمت ... أوحت إلى الجسم فما قصرا!
كلاهما لم يعد تصويره ... ما كان إلا مثلماً كونا
كم حاولا بالأمس تغييره ... فاستكبر الطبع وما أذعنا
أمنذري أنت بيوم الحساب ... ولائمي أنت على ما جرى؟
حماك: ما يرضيك هذا العذاب ... لطيع لم يعص ما قدرا!!
ما كنت إلا مثلماً ركبت ... غرائزي، ما شئت لا ما أشاء
فلتجزها اليوم بما قدمت ... وإن تكن مما جنته براء!
وفيم تجزي، وهي لم تأثم ... ألست أنت الصائغ الطابعا؟
ألم تسمها قبل بالميسم ... ألم تصغ قالبها الرائعا؟
ألم تضعها عنصراً عنصراً ... من أين؟ ما علمي؟ وأنت العليم!
جبلتها يوم جبلت الثرى ... من عالم الذر ودنيا السديم
الخير والشر بها توأمان ... والحب والشهوة في طبعها
حواء والشيطان لا يبرحان ... يساقطان السحر في سمعها!
تشككت نفسي بما تنتهي ... إليه دنياها وماذا يكون!
مضت فما آبت بما تشتهي ... من حيرة الفكر وهجس الظنون!
أيصبح الإنسان هذا الرميم ... والجيفة الملقاة نهب التراب؟
أيستحيل الكون هذا الهشيم ... والظلمة الجاثم فيها الخراب
لمن إذن تبدع تلك العقول ... أفي الردى تدرك ما فاتها؟؟
أم في غد تثوي بتلك الطلول ... ويسحق الدهر يواقيتها؟؟
وا أسفاً للعالم البائد ... ليس له مما يرى مهرب
على رنين المنجل الحاصد ... مضى يغني وهو لا يطرب!
وروع الشاعر مما رآه ... وهام في الأرض على وجهه(864/7)
أين ترى يا أرض يلقي عصاه ... وأي واد ضل في تيهه؟
حتى إذا شارف ظل الشجر ... في روضة غناء ريا الأديم
قد ضحكت للنور فبها الزهر ... وصفقت أوراقها للنسيم
اختار في الظل له مقعداً ... في ربوة فاتنة ساحره
أذاب فيها الشفق المسجدا ... وناسمتها النفحة العاطره
بينا يملي العين من سحرها ... إذ أبصر الصل بها مطرقا
قد انتحى الأطيار في وكرها ... فسامها من نابه موبقا
هل سمعت أذناك قصف الرعود ... في صخب البحر وعصف الرياح
هل أبصرت عيناك ركض الجنود ... في فزع الموت وهول الكفاح
إن كنت لم تبصر ولم تسمع ... فقف إلى ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك والمصرع ... ما بين نابي ذلك الأرقم!!
جريمة الغدر وسفك الدم ... جريمة لم يخل منها مكان
يا لجة كل إليها ظمي ... قد جاز طوفانك شم القنان!
من علم الوحش الأذى والقتال ... من بث فيه الشر أو ألهمه.
من علم الثعبان هذا الختال ... والحيوان الغدر من علمه؟
أيستحق الناس هذا العقاب ... أم حانت الساعة من نقمتك؟
ما احتملوا يا رب هذا العذاب ... إلا رجاء الغوث من رحمتك!
أما ترى منفرجات الشفاه ... عن آخر الصيحات من رعبها؟
ما زال فيها من معاني الحياة ... إيماءة الشكوى إلى ربها!
وهذه الأعين نهب العفاء ... في رقدة الموت كأن لم تنم
محدقات في نواحي السماء ... تشهدها هذا الأسى والألم!!
وهذه الأيدي تحوط الصدور ... كأنها في موقف للصلاة
لم تنس في نزع الحياة الغرور ... ضراعة ترسمها للإله!
ما عرفوا في صعقات الردى ... إلاك من غوث ومن منجد
ولا سرى في الأرض منهم صدى ... إلا ودوى باسمك الأمجد!(864/8)
ليست هذه الأبيات الثمانون هي مجموع القصيدة لأنها تربى على المائتين، ولكنها قطوف متفرقة تؤلف بينها وحدة الجو النفسي بعد وحدة العمل الفني، والتقاء الوحدتين في مستودع الفكر أو في ساحة الشعور.
وكما تناولنا في الصور النفسّّية الماضية عناصر الأداة النفسي في الشعر، مطبقين هذه العناصر تطبيقاً فنياً وتوزيعياً على تلك الصور، تبعً لوضوح الصلة النفسية بين كل عنصر وكل صورة، فإننا نسلك نفس الطريق وتتبع نفس المنهج في تناولنا لهذه القصيدة الجديدة (الله والشاعر). . . وسنتحدث فيها عن هذا العنصر الفني الجديد من عناصر الأداة الذي ندعو إليه، وتعني به عنصر (الواقعية النفسية)!
ومرة أخرى سنعرض لمظهرين من مظاهر الواقعية في الشعر هما واقعية الأداء اللفظي وواقعية الأداء النفسي. . . وسواء أكانت الواقعية في منطق الدراسة المذهبية خروجاً من دائرة الرومانسية وهي دائرة الخيال والأحلام والانطواء على النفس والتهجد في محراب الطبيعة إلى دائرة الوقائع الحية والأحاسيس المجردة والأفكار الخالدة والحقائق الباقية؛ أم كانت في منطق الدراسة الفنية ألواناً مختلفة تتوزعها بضع خانات تشير أحدهما إلى واقعية في حدود مجتمع إنساني خاص، وتشير الأخرى إلى واقعية في حدود الأزلي الكبير؛ سواء أكانت هذه أم تلك فإن مرجعها آخر الأمر إلى هذين المظهرين الرئيسيين، ونعني بهما الواقعية اللفظية الواقعية النفسية!
ومرة أخرى نرفض هذه الواقعية اللفظية كما نرفض كل سمة من سمات الأداء اللفظي في الشعر؛ نرفضها لأننا إذا سلمنا بصب التجربة الفكرية في قوالب نثرية في كل فن من فنون القول، فإننا لا نعلم أبداً بصب تلك التجربة في مثل هذه القوالب في فن الشعر. . . وإذا كانت التجربة الفكرية هي عماد الواقعية الاجتماعية أو عماد الواقعية الوجودية، فإنها في كل ميدان من ميادين القول المرسل تستطيع أن نتبع من أغوار الذهن وحده، حيث تبدو الفكرة عارية من كل غلالة من الغلائل تنسج خيوطها من أعماق الهزة الوجدانية، ولكنها في الشعر لا تستطيع أن تقف وحدها غير مدثرة بتلك الغلائل التي تكشف عن تفاعل الأصداء الكونية داخل منطقة الشعور، أعني لابد من أن تمتزج التجربة الفكرية بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي تتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك. . . عندئذ لا يجوز(864/9)
منطق الذهن في تعبيره النثري على منطق النفس في تعبيرها الشعري، ولا تطغى الطاقة الفكرية ذات التجريد المادي الخالص على الطاقة الشعورية ذات التصوير المعنوي الخالص؛ وهذا هو مفرق الطريق بين أداء يدور حول محور الواقعية بسلسلة من الخواطر الذهنية وبيم أداء يدور حول المحور نفسه بسلسلة من المشاعر النفسية!
نريد في شعر الأداء النفسي هذه الواقعية النفسية؛ الواقعية التي تفتش عن الحقائق الوجودية الكبرى في مجاهل الكون ومتاهات العقل، حتى إذا التقطت تلك الحقائق قذفت بها إلى ذلك المصهر الكبير مصهر النفس الإنسانية، ليخرجها لنا بعد ذلك مصبوبة في قالبها الملائم الذي تقوم بصنعه ملكة (الوعي الشعري). . . ولا بد من وجود هذه الملكة وراء كل واقعية نفسية، لأنها هي وحدها العنصر المسئول عن تنظيم كل حقيقة كونية يعرضها الفكر في ساحة الوجود الداخلي. فإذا أغفلت هذه الملكة عن عملية الإشراف الفني العام فقد تعرضت الواقعية النفسية للذبذبة في قضايا الفكر وللمغالطة في منطق العاطفة، وهما الجانبان اللذان يعبر عنهما في موازين النقد الحديثة (بالذبذبة الفكرية) و (المغالطة العاطفية)! هذه المغالطة وتلك الذبذبة مرجعها إلى غفلة الوعي الشعري على التحقيق، وهي شيء يختلف كل الاختلاف عن ضعف الرؤية الشعرية. . . إن ضعف الرؤية الشعرية يعرض الصورة الوصفة للاهتزاز الذي ينتج عنه تعذر المطابقة بين حقيقة الصورة في إطار الفن وحقيقتها في إطار الحياة، ولكن ضعف الوعي الشعري بمرض القضية الفكرية لاهتزاز من نوع آخر، تنتج عنه المغالطة المقصودة أو غير المقصودة في مجال المواءمة بين الحقائق في دائرة الواقع النفسي أو دائرة الواقع الوجودي! أما المثال على ضعف الرؤية الشعرية فقد قدمناه إليك في ذلك البيت من القصيدة السابقة ونعني بها (حانة الشعراء)؛ وهو البيت الذي ينقل إليك هذه الصورة:
حمر الثياب تخال أنهمو ... يفدون من حانوت قصاب!
وأما ضعف الوعي الشعري فنقدم عليه مثالا آخر من شعر ابن الرومي عندما يقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد!
ولعلك تدرك أن هذا التفسير العجيب قد حفل بالمغالطة العاطفية من جهة وبالذبذبة الفكرية من جهة أخرى، وأنه بهذين المظهرين من مظاهر ضعف الوعي اشعري قد قضى على(864/10)
الواقعية النفسية بصورة واضحة، لأن القضية الفكرية معتمدة على الصلة الواهية بين صروف الدهر وبكاء الطفل، قضية تخلو من منطق الواقع سواء أكان هذا المنطق في معرض الحقيقة النفسية أم كان في معرض الحقيقة الوجودية
ولا تظن بعد هذا أننا نضيق بالواقعية الاجتماعية في الشعر سواء أكانت في حدود مجتمع إنساني خاص أم في حدود مجتمع إنساني عام، وأننا لا نقبل غير هذه الواقعية التي تستمد مقومات بقائها من حقائق الوجود الأزلي الكبير؛ كلا، فكل واقعية تحمل في أحشائها توأمي التجربة الفكرية والشعورية مكتملي أسباب الحياة بنسب متقاربة أو متشابهة فهي واقعية نفسية تقبل في الشعر وتستساغ، وإن كنا نفضل بعد ذلك هذا اللون الأخير لأنه المرآة التي تنعكس على صفحتها كل نزعة إنسانية خالدة، أو لأنها الصفحة الأخيرة التي تلخص في سفر الحقائق الكونية كل ما سبقها من صفحات.
هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنباً إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر) في أزهى حلة من حلل التصوير الفني في الشعر العرب الحديث. . . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادلاً كونياً بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري منذ أقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئاً من أمر نفسه ولا من أمر دنياه؛ وإنما هو يُدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعاً لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا يجزى على سيئاته على سيئاته إذا أساء، فإن جزي عليها فهو جزاء غير عادل! إيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي قابلها صيحة أخرى عمادها إيمان آخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيراً من أمر نفسه ومن أمر دنياه؛ فهو قابض على الزمام لا يفتله إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه، فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعلية أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالعدل(864/11)
ويقترن بالإنصاف!
وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا تزعزعه كل هذه العواصف والأعاصير. أنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين: الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدماً في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضاً شعريا ترتضيه النفس ليخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. والثانية ليعبر عن حيرته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية حين تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فراراً من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاة، وبين الأنين والحنين، وبين الثورة المهذبة والخضوع العميق. . . وهو آخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجهة تمضي به قدماه: خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة هذه التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبداً في رحمة الله!
وفي كل هذه الأجواء التي صعد إليها بجناح الشعر تمتزج التجربة الفكرية كما قلت لك بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي نتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك؛ وإذا أنت في قصيدة (الله والشاعر) تلتقي بالحركة العقلية أو لا تتبعها الحركة الوجدانية، كما التقيت من قبل بالحركة المادية أو لا تعقبها الحركة النفسية في قصيدة (القمر العاشق) وهذا هو جوهر التفرقة بين عنصري الحركة الأولين في مرحلة التجسيم الشعري ومرحلة الواقعية الوجودية!
ولابد في الواقعية النفسية بعد هذا كله من تلك (اللافتات) الفكرية الضخمة التي تعترض طريق السائر في دروب هذا اللون من الشعر، وهي اللافتات التي تشير إلى (مراكز التجمع) الشعورية بعد كل نقله من نقلات العمل الفني. . . ونرى لزاماً علينا أن نعرض بعض النماذج من هذه اللافتات الفكرية التي تنظم أوضاعها ملكة الوعي الشعري في كثير من الدقة والإتقان. وإليك النموذج الأول الذي يمهد به الشاعر لدفاعه الثائر عن موقف الإنسانية المخذولة في ساحة الخالق العظيم:(864/12)
لا تعدني يا رب في محنتي ... ما أنا إلا آدمي شقي
طردتني بالأمس من جنتي ... فاغفر لهذا الغاضب المحنق!
ويمضي الشاعر بعد ذلك في دفاعه بعد أن طلب المغفرة، مقدماً دليله الأول على أن هذا التمرد الروحي لا دخل للطبيعة الإنسانية في إثارته، ولكنه من وحي الدم الفائر في مرجل النفس منذ الأزل حيث قدر لها أن تكون:
تمردت روحي على هيكلي ... وهيكل الجسم كما تعلم
ذاك الضعيف الرأي لم يفعل ... إلا بما يوحي إليه الدم!
ثم ينتقل من مرحلة الدفاع المهذب إلى مرحلة الاتهام المهذب الذي يتوارى خلف ركام الضعف أو خلف مظاهر الخضوع:
ما هو إلا كومة من هباء ... تمحقه اللمسة من غضبتك
فكيف يثني الروح عما تشاء ... وكيف يقوى؟ وهي من قدرتك!
وعند ما يفرغ من هذا الاتهام المحجب يعمد إلى الاتهام السافر الذي يخفف من حدته وضع الاعتراض موضع السؤال، وكأنه لا ينشد العتاب وإنما ينشد الجواب.
لكنما روحك من جوهر ... صاف وروحي ما صفت جوهراً
أولا؟ فما للخير لم يثمر ... فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!
ومرة أخرى يود أن يبرئ نفسه من كل ذنب، وأن يدرأ عنها كل خطيئة، ولا ضير من هذا المنطق الذي يرد ظواهر الإغراء إلى مصادرها من نفس الإنسان الأول الذي خلف لأبنائه هذا الميراث الخالد على مدار القرون:
ولم أكن أول مغرى بما ... أغرت به حواء أو آدما
إرث تمشي في دمي منهما ... ميراثه ينتظم العالما!!
وحين يقص عليك قصة الثعبان الذي يكمن للطير بين أكداس الزهر ليطمس معالم الحياة بألوان من السم الزعاف، فلكي يطرق أبواب المعنى الكبير لمشكلة الوجود والعدم أو مشكلة البقاء والفناء:
إن كنت لم تبصر ولم تسمع ... فقف إلى ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك والمصرع ... ما بين نابي ذلك الأرقم!!(864/13)
هذه اللافتات الفكرية ونظائرها مما تحفل به قصيدة (الله والشاعر) يعرض لها الدكتور طه حسين بك في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) حيث (يقول: فأما معرفتي لشاعرنا المهندس قد أرضتني فلأن شخصيته الفنية محببة إلى حقاً، فيها الروح وعذوبة النفس، وفيها هذه الحيرة العميقة، الطويلة العريضة التي لا حد لها، كأنها محيط لم يوجد على الأرض. . . ولقد صحبت الملاح التائه في قصيدة (الله والشاعر) فأحسست كل هذا الذي صورته لك آنفاً، ورأيت رجلا لا هو بالشك المطمئن إلى الشك، ولا هو بالمستيقن المطمئن إلى اليقين، ولا هو بالمنكر المستريح إلى الإنكار، وإنما هو رجل مضطرب حقاً، مضطرب أشد الاضطراب يؤمن بالقضاء والقدر، ثم يثور بالقضاء والقدر، يرضى أحكام الله ثم يجادل فيها، يشكو ثم يستسلم، ويستسلم ثم يشكو، رجل حائر دائر هائم لا يستطيع أن يستقر. وأكبر الظن أنه لو استقر لكان أشقى الناس؛ فهو سعيد بحيرته، مغتبط بهيامه؛ مبتهج بهذا التيه الذي دفعته إليه نفس طموح جدا لأنها نفس شاعر، عاجزة جداً لأنها نفس إنسان)!
فقرات من نقد طوي كتبه الدكتور عن الشاعر، أما بقية هذا النقد فسنضعه تحت المجهر في فصل مقبل من فصوب هذه الدراسة
وسيكون عنوانه: (علي طه في ميزان النقاد المعاصرين)
(يتبع)
أنور المعداوي(864/14)
الحب دوحة الأدب
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
لا يستهوي الشعراء في الحياة شيء قدر ما يستهويهم الجمال ولا تجذبهم إلا نظاهر السحر في الكون، ولا تلفت أنظارهم سوى ملامح الغموض بين مجالي الطبيعة. هكذا هم دائماً، وهكذا كانوا في كل العصور الماضية على نحو ما ترينا النصوص والآثار التي تركوها لنا. وأعجب من هذا أنهم يمتازون بحب الجانب الذي أغفله الناس جميعاً ويهتمون بالنواحي التي لا تشغل الكثيرين ولا تهم الغالبية العظمى من الأحياء. فتجدهم مثلاً يلتذون من الصمت المطبق حيث تنفرد النفس بذاتها وتأخذ في اجترار أفكارها وتحرص على الانسجام الداخلي الخالص. أو ترى بعضهم يتغذى بمشاهدة الغرابة والظلمة كما تتغذى الديدان، في باطن الأرض، بالطين والجذور. وعلى هذا النحو نستطيع أن نؤكد اتجاها لم يكن بالعادي في حياة الشعراء والأدباء من بين مخلوقات الله، وأن نسجل عليهم ضربا من الهواية الشاذة التي لا يحياها ولا يقبل عليها سوى من ألفت روحه الانزواء والعزلة واعتادت نفسه الغربة والوحشة وعانى قلبه خفقات اليأس والحرمان.
والحب من الظاهرات العادية التي تحصل في حياة كل إنسان؛ ولكنها عند الشاعر تأخذ رسالة أخرى وتتسم بطابع معين وتتشرب بمشرب خاص. وأستطيع أن أكشف لك عن الفارق الذي يميز حب الشاعر من حب الآخرين عن طريق حقيقة نعرفها عن الأديب، وهي أنه إنسان فردي أو إنسان لا يشترك في الحياة العامة إلا بقدر حتى يملك الوقت الكافي لتسطير مشاعره وتحبير آرائه. فالأديب - وهذا هو ما ينبغي له - لا يعمل إلا حيث يصير الزمن في خدمته ولا يقبل على الكتابة والتأليف إلا عندما يفارق الناس. ومهمة الأديب بطبيعتها تلزمه نوعاً من الحياة لا يشاركه فيها غيره ممن تقتضي أعمالهم مخالطة الناس والانصراف إلى قضاء الأمور تحت أنظار العامة. وبعبارة موجزة نقول عن الأديب أنه يحكم عمله يأخذ برأي نيتشه في ضرورة المحافظة على ما بنينه وبين الناس من أبعاد. فهو انعزالي بالضرورة ويستحيل أن يحيا كما يحيا سواه بين مظاهر المجتمع البغيضة وتحت رحمة الأوضاع القاسية. ومن هنا يحاول الشاعر أن يوجد لنفسه عالماً خاضاً وأن يخلق لذاته دنياً من الأوهام التي يسلط عليها ذكاءه وقدرته على الكذب والتخيل(864/15)
حتى تتحول بمضي الأيام إلى واقع ملموس. وتصطبغ كل خطوة في هذا العالم أو كل حركة تصدر عنه بشيء من الرهبة والقداسة وتأخذ ألواناً قوية في عقله بحيث تصير موضع احترامه ومهابته
وهنا أهمس في أذن القارئ سراً لعله لا يعرفه حتى الآن. فأنا أرجو منه أن يشك كثيراً في حوادث الغرام التي اعتاد الشعراء أن يقصوها على ألسنتهم بمناسبة وبغير مناسبة. إن حياة الشاعر أو الأديب عموماً تكون من الفراغ والتفاهة من ناحية الوقائع الجارية بحيث تخلو من أية صفات الجرأة التي تصورها القصائد. وإذا حصل شيء من الأشياء العادية في حياته فإنه - مهما بلغت بساطته - يصير ذا أهمية لديه ويحسبه النعيم المقيم والفردوس الخالد تبعاً لما يعانيه من النقص في التجارب ومن الفقر في العلاقات. مثله في ذلك كمثل الطفل حين تهدي إليه لعبة فاخرة عند حلول المواسم والأعياد أو كمثل الجائع الذي تطعمه طعاما لذيذاً بعد أن ظل أياما طوالا غير قادر على امتلاك ما يسد رمقه أو يشفي نهمه. فالشاعر عندما يسبغ على الحادثة الطفيفة في حياته معاني القداسة وعندما يلقي على الأفعال العادية لديه ظلا من الروعة والبهاء؛ أو قل عندما يحاول أن يضفي على الذكرى البسيطة ضرباً من الانكشاف والبروز فهو يأتي ذلك بسبب ما نرى الآن فيه - كما قلنا - من التجربة القليلة والاختبار الشخصي الضئيل. ويجيء علماء النفس بعد ذلك ليقولوا عن الشعراء أو العباقرة إن من خصائصهم الكذب ومن طبيعتهم المبالغة في التصوير والتهويل عند سرد الوقائع. ولا يأتي هذا من المرض النفسي في الحقيقة - كما نرى نحن في تفسيرنا لهذه الظاهرة - وإنما يأتي من تلك الظاهرة التي أتينا عليها، وهي أن الأديب بحكم وجوده الخالي من الأحداث الجسام والأفعال العظام قد عوض نفسه بما يحكيه من صنوف الحكايات التي تري كبرياءه وتريح غروره.
فالأديب إذا - أو الشاعر - بحكم ما يعانيه في الحياة من انزواء وبطبيعة ما تلزمه به أصول معيشته من الفردية والبقاء المستور قد امتلأت نفسه بحب الذكريات التي مرت به على الرغم مما فيها من هزال وما تتصف به من قلة الشأن. بينما قد لا يذكر سواه، من الناس الذين خاضوا في تجاربه هذه مئات المرات، شيئاً مر بهم لأنهم اعتادوا في كل الأحوال وفرة وكثرة وسمنة في كل الجوانب، ولو أنه صادف كل ما يصادفه الماجن(864/16)
العابث في أيامه الخوالي من متعة وانبساط في ملاقاة الغيد الأماليد وعشرة الغواني الملاح لما أحس في هذه الحركات بروزاً ولا وجد فيها غرابة ولا شعر بأنها موضوع للكلام والحديث
ولكن من الضروري في هذا المقام أن ننبه إلى شيء قد يفوت القارئ، وهو أن هذه الرغبة في الكذب وذلك الجنوح إلى التهويل والمبالغة لا يكونان عند الناقد الواعي محل شك وسوء ظن، لأن التجربة التي مر بها الشاعر كما وقعت في نفسه ومثلما ألقيت في روعه لا تختلف كثيراً عما يصوره لنا في وثائقه الأدبية. والصدق كل الصدق في الاتجاه الأدبي إنما يأتي من الوفاء عند تصوير الإحساس وعند محاولة الكشف عن سذاجته الأصلية بإزاء أحداث الوجود، فالشاعر لا يكذب عندما يغالي في سرد القصص ورواية التاريخ مهما خرج عن الحدود الحرفية لما جريات الأمور بمجرد العود إلى تذكرها من جديد، بل يصف وصفاً ممتازاً لطبيعته النفسية عند إسقاطه لمشاعره الخاصة على الواقع الخارجي الكالح. ونحن - من وجهة النظر النقدية الخالصة - لا نطالب الشاعر بأن يكون راوية أو مؤرخاً بقدر ما نطالبه بأن يكون مصوراً يأخذ بقواعد الفن حسبما تنزل الأشياء من نفسه وعلى نحو ما تصادف المظاهر من هواه
وننتهي من هذا كله إلى أن الفنان حينما يكذب يكون مضطراً تحت تأثير الفراغ الذي يجده في معاشه والتفاهة التي يلقاها طيلة أيامه والشذوذ الذي يتسم بن مزاجه. وإذا شئنا أن نتحرى الدقة في هذا الوصف فعلينا بأن نلاحظ مثلا كيف يفعل الشاعر؛ إذ يضطر بدافع من رغبة الناس في تصيد الملامح الخاصة بالعبقرية بين الأفراد، إلى أن يبدو في ملامح شاذة وإلى أن يظهر في الخارج ببعض الحركات والشيات التي تعبر عن جوه الداخلي ومما لا شك فيه أن دماغ الشاعر أو الأديب محتوية على الكثير مما يثبت نبوغه وجدارته، ولكن هذا النبوغ وهذه الجدارة لا يظهران للملأ على لافتة من اللافتات التي تعلن عما يكمن في ذاته وعما يختفي بين جوانحه، فيتجه بعضهم إلى التدخين مثلاً وقت الكتابة والتأليف حتى يشعر بالتكبير على هيئة الغيوم التي تتلبد في الهواء من حوله وحتى يشعر في عملية أخذ النفس ورد السيجارة - من حين إلى حين - بحركة تجسم عمله الذهني ومجهوده العقلي وتمثل اجتهاده في تصيد الأفكار ونظم الكلام.(864/17)
فالعمل الفكري هو أبعد شيء عن الظهور وأرغب شيء عن روح الادعاء والرغبة في الإعلان. وهذا هو ما يبعث الغيظ في نفس الأديب، خصوصاً وأنه، من بين الناس جميعاً، يمتاز ببعض الهوس في طلب الشهرة وغير قليل من الغرور والتعالي بالنسبة إلى الآخرين. ولذلك يضطر إلى شيء من الذهاب بالنفس في الخيلاء إلى حد قد يبدو غريباً أمام الذين لا يعلمون شيئاً الأوار الذي يلهب صدره ويشعل كيانه من الداخل.
ومن هنا نريد أن نكون حريصين عندما نأخذ في دراسة الآثار التي تركها الأدباء والشعراء بخصوص المسائل القلبية والمشاعر المتصلة بالوجدان والعواطف التي تفرزها خيالاتهم وأوهامهم وإذا كانت من طبيعة الشاعر أن يجعل موضوع الحب محلا ً لعنايته واهتمامه، وأو إذا كان يتجه هذا الاتجاه بالفطرة فلسبب بسيط وهو أنه يعلم تمام العلم بنوع من البديهة أن الحب، من بين المظاهر الإنسانية جميعها، لا يكون موضع اشتراك ولا يحصل بطبيعته أمام أنظار الناس. ولذلك يسهل عليه تزوير قصصه والعبث بحكاياته والمداراة علة عيوبه فيه. فالحب تجربة فردية إلى أقصى درجة ولا يتم جوه إلا إذا خلصت الحياة لاثنين بالذات من بين الآدميين. ولذلك كان يستهوي الشعراء دائماً من هذه الناحية أيضاً، ويصير موضوعاً ممتازاً من موضوعات الاستغلال المعنوي والتعبير الذاتي.
فالحب يستهوي الشعراء ويكاد يكون موضوعاً لديهم جميعاً باستثناء القليلين لسببين تكلمنا عنهما حتى الآن وأعني بهما ما في الحب من طبيعة السحر والغموض والامتلاء بالأسرار ثم ما في الحب من مجال فسيح الإشباع رغبة الفنان عندما يحاول إعطاء حياته نوعاً من الأهمية وعندما يطمع في تغطية بعض الفراغ الذي يحيط به من كل جانب.
ثم هناك سبب ثالث وهو أن الحب مملوء بروح المأساة. وهذا في اعتقادي هو أهم الأسباب التي تدفع الشعراء نحو تصوير عواطفهم بإزاء من يحبون ومن يصطفون بين مخلوقات الله. قد يظن البعض أن المآسي تأتي بعد انتهاء مدة الحب وفترة التواصل ووقوع الفرقة. ولكن الشيء الصحيح في هذه الظاهرة هو أن المأساة التي هي من لوازم الحب الأصلية تملأ الشاعر بنوع من الميل وتجذبه جذباً بروائها وسحرها كما يجذب النور الأبيض فراش الليل الهائم بين أودية الظلام. فالشاعر ليس بالعالم الذي يطلب إليه ذكر الوقائع والتقيد بالأحداث، ولا يستطيع هو نفسه أن يستكفي بالحقائق يذكرها في غضون كلامه. ولذلك(864/18)
نراه مشوقاً إلى الكتابة التي لا تتقيد بالأشياء المضغوطة ولا يلتفت إلى المظاهر العامة وإنما ينتهز الفرصة كيما يستبيح لنفسه أن يقول ما يشاء وأن يأتي بالمعنى الذي يحشو به الألفاظ حسب هواه. وبناء على ما تقدم نراه ساعياً في الطريق إلى استقصاء التجربة القلبية حيث يمضي ولا قيد، ويسعى ولا رقيب، ثم يحكي ولا ضابط.
ومن ناحية أخرى يريد الشاعر - تبعاً لما لا حظناه عليه من طبيعة المغالاة - أن يسكب على وجوده معنى الألم وأن يكتشف في حياته طابع الاستشهاد وأن يقحم على كيانه بعض ما يشعره بالهم والمعاناة التي هي أصل في كل خلق فني والتي يصعب على الإنسان أن يحقق فكرة المرور بالتجربة من غيرها. فالدوحة عند الفنان نوع من الحث على العمل، وباعث إلى النشاط كما يبعث الجوع واحداً من الفقراء على القيام بالأشغال في مقابل الرزق الحلال. وإذا خلت حية الفنان من الأحداث المروعة فهو ملزم بأن يفتش بنفسه عن الارتياع حتى لا يجد مجالاً لإبراز مواهبه. وهذا يشبه تماماً سعي الأجير من أجل الحصول على العمل الذي يفتح أمام قواه سبيلا للأداء وطريقا للنفاذ. فالشاعر بطبيعة موقفه مضطر إلى أن يتطفل على حياة الآخرين حتى يجد وقوداً لفنه وحتى يجد مادة لشعره. وإذا صادف من يهيئ له أن يكون هو نفسه طرفاً في القضية وأن يشترك في التجربة مشاركة ذاتية أصيلة فأغلب الظن أنه لا يتردد، إن لم يندفع الدفاع الأهوج الطائش، في أداء دوره اللازم.
ولعلنا نذكر بهذه المناسبة ما جاء في قصيدة بودلير التي يسميها (ضميمة) من أبيات تصور هذه الحقيقة وترينا خطورة الصلة بين الألم والشاعر. فهو يقول:
كن عاقلا يا ألمي وتمسك بالهدوء أكثر من ذلك،
فها هو ذا الليل الذي تعلنه قد هبط.
على هيئة جو دامس يكسو وإلى الآخرين هماً.
وحينما تذهب الكثرة الخسيسة من أبناء الفناء،
تحت سوط اللذة. . .
ذلك الجلاد الذي لا يرحم. . .
لتجمع مباكت الضمير في الحفل المدنس،(864/19)
أعطني يدك يا ألمي، وابق إلى جانبي.
فالشاعر إذ يتجه إلى الحب فإنما يفعل ذلك تحت تأثير رغبته الجامحة في الحصول على الوقود الذي يشعل به نار فنه، ولكي يرضي في نفسه نزعة حامية من أجل التطلع إلى موضوع من موضوعات العمل الأدبي، وحتى يعثر في ذلك كله على الزيت الذي يستضيء به ذبالة روحه وتتفتح به جنبات فلبه وإذا شئنا أن ندرك عمله هنالك ففي مقدرتنا أن نمثله أو نشبهه بالعصفور الذي يبحث عن الأغصان في الغابة الفسيحة كيما يغني من فوقها أغنية القلب المحمل بالهموم والشعور المثقل بالمتاعب والفم الذي تخرج الأنات من شفتيه خرساء.
عبد الفتاح الريري(864/20)
من رجال الفكر في تركيا:
ضياء كوك آلب
ونظرنه في القومية
بقلم عطاء الله ترزي باشي:
هو ذلك المعروف بآرائه الاجتماعية الدقيقة واطلاعه الواسع في الفسلفة العالية - العالم التركي العبقري والمفكر الإسلامي القدير محمد ضياء الملقب ب (كوك آلب)
وهو شاعر قوي الخيال عميق التصور رقيق الشعور، وكاتب اجتماعي فياض العاطفة، يسحر الإنسان برصانة أسلوبه وحصافة تفكيره وقوة تعبيره. له أبحاث قيمة في جل نواحي النشاط العلمية والفكرية، وأفكاره تنم عن فلسفة إسلامية راقية.
ولد بمدينة (دياربكر) سنة 1875 م ونشأ في بيت جل أهله علماء، فكان والده السيد محمد توفيق - مدير التحريرات - علماً جليلاً بثّ في نفس ولده روح الأمل في الحياة وثبت عزائمه للصعود في مدارج العلم والأدب، كما بذر فيه بذوراً صالحة من الفضائل حتى نبت الكثير منها فكان كوك آلب في عنفوان شبابه ومرآة صادقة تنعكس عليها المثل العليا التي اقتبس نورها من أبيه.
دخل كوك آلب المدرسة الرشيدية العسكرية وبدأ بتعلم اللغة العربية واللغة الفارسية على عمه الذي كان حجة في اللغات الشرقية. وأحب الفرنسية في صغره فاكتسب مبادئها حينذاك، كما اتصل ببعض من يعرفون اللغة الكردية حتى أتقنها، وسعى في إجادة هذه اللغة ودراستها من شتى نواحيها دراسة عميقة وقيل أنه أراد أن يضع كتاباً في قواعد هذه اللغة (نهاد سامي: تاريخ الأدب التركي المصور، ص 357، سنة 1928) مما حدا ببعض الكتاب إلى الاعتقاد الخاطئ في عنصرية هذا المصلح التركي. ومن بين هؤلاء الأستاذ محمد لطفي جمعة إذ يقول: وقد روى لي أحد الثقات. . أن كوك آلب كان كردياً. . ألف كتباً في النحو والصرف الكرديين. . .) (حياة الشرق، ص 225).
ودخل كوك آلب بعد ذلك المدرسة الإعدادية وتمكن في أثناء دراسته هناك أن يتعمق في الفلسفة الإسلامية. وبالأخص في علوم التصوف. . .(864/21)
وحدث أن مات والده وهو لم يكمل دراسته بعد. فطلب من عمه أن يساعده في الذهاب إلى الأستانة لإتمام دراسته هناك؛ بيد أن عمه لم يرضَ عن سفره ورغب في بقائه معه فيزوجه ابنته. فأثرت هذه الواقعة - ووقائع أخرى جد مؤلمة - في حياة كوك آلب حتى خطر على باله أن ينتحر. وفي ذات يوم أطلق على نفسه عياراً نارياً من مسدس أصاب رأسه دون أن يقضي على حياته. ويقول الأستاذ (نهاد سامي) في كتابه السالف الذكر أن تلك الرصاصة أثرت في حياة هذا المفكر تأثيراً عكسياً لتشاؤمه الشديد بوخامة مستقبله واشمئزازه القديم من الظروف العصيبة والأحوال السيئة المحيطة به، فأزالت جميع اضطراباته الروحية التي كان يشكو منها وخلقت له جواً مفعماً بروح التفاؤل بحيث ينبغي أ، نقول إن لحظة تلك الإصابة تعد بداية تحول في حياته، فبدأت له حياة جديدة يسمو فيها كوك آلب إلى العلياء في سلم التقدم الفكري يوماً بعد يوم.
وسافر بعد ذلك إلى الأستانة والتحق بمدرسة البيطرة (الداخلية - حيث تدفع الحكومة فيها مصاريف الطلاب). وشاءت الأقدار أن ينتسب - وهو في الصف الرابع من هذه المدرسة - غلى الجمعيات السياسية، فانضم إلى الجمعية السرية التي أسسها طلاب الكلية الطبية آنذاك. ولما عُلم أمره ألقي في السجن تسعة أشهر نفي بعدها إلى بلدته الأصلية.
وظل هناك يدرس القرآن دراسة وافية، ويوسع من أفق معلوماته في العلوم الدينية، وذلك يعد أن أحاط باللغة العربية علماً وألمّ بها من جميع أطرافها إلماماً كافياً حتى عدّ علما من أعلامها.
وعلى أثر الانقلاب العثماني سنة 1908 بدأ كوك آلب ينشر المقالات الفلسفية والاجتماعية الهامة في مجلة (كنج قلملر) مما لفت أنظار المفكرين في عصره فنال استحسانهم.
وسافر بمناسبة الحروب البلقانية إلى استنبول مع هيئة الأعضاء المنتمين إلى الحزب الذي كان قد تأسس في ذلك الوقت. وبدأ هناك ينشر المقالات العلمية والاجتماعية في أمهات الصحف الاستانبولية حتى عُين مدرساً للفلسفة في مدرسة دار الفنون (أنظر إبراهيم علاء الدين في مشاهير الترك، مادة كوك آلب، طبعة سنة 1947).
وبعد الحرب العالمية الأولى نفاه الإنكليز إلى جزيرة (مالطة) وبقي فيها أسيراً ثلاث سنين غادرها بعد ذلك إلى (دياربكر) فأسس هناك مجلة (كوجوك مجموعة).(864/22)
وأخيراً دعي إلى أنقرة وعين رئيساً للجنة الترجمة والنشر في وزارة المعارف. وقد شغل هذه الوظيفة إلى أن وافته المنية سنة 1924م.
لقد جمع هذا المفكر العظيم بين الأدب والفلسفة فصدرت عنه أفكار أظهر فيها تمسكه الشديد بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف إلى جانب اعتزازه القوي بأسس القومية التي هذبها وأحسن وضعها. فإنه كان قومياً غير متعصب، يدعو إلى القومية الإنسانية بكل معنى الكلمة. فلم يكن لينظر إلى غير قومه نظرة استخفاف أو استحقار، ولا ليمس كرامة قوم من الأقوام. ولم يكن كذلك يفاخر بأمجاد قومه مفاخرة الجاهلين المتعصبين، وإنما أراد أن يعظم محاسن قومه ويهذب عقول القوميين المتحمسين لما لا ينفع، ويصقل أذهانهم وينور أفكارهم؛ فبذل جهوداً جبارة في تخطي العقبات التي تقف أمام المجتمع في تفهم معنى القومية، وسعى كثيراً إلى إبعاد المساوئ المحيطة بعقلية القومي والمضعفة للناحية الخلقية له.
فنراه يلبس القومية ثوباً آخر غير الذي ألفنا حتى اليوم فيتخذ من القومية وسيلة يتذرع بها الإنسان للوصول إلى أرقى درجات الحياة الاجتماعية وتترقب كل أمة أن تبلغ مثلها العليا التي رسمتها لها أفرادها في ظل القومية وتحت راية الدين.
وقد نظم هذا الأديب قصائد رنانة، وعقد فصولا طويلة وبحوثاً كثيرة سلك فيها مسلك المسلم في دينه والتركي في لغته وأدبه. ومن تلك المنظومات (توحيد)، (الهي)، (اذأن الترك) و (دعاء الجند وعقائده). . الخ وهي تنم على مبادئ إسلامية وتركية مشتركة.
ويحدثنا الأستاذ نهاد سامي (في كتابه تاريخ الأدب التركي السالف الذكر) أن كوك آلب نظم قصة تسمى (يولوان ولي) قصد بها إلى أن الشخص المتمسك بمبادئ دينه والمتشبع بفكرة حب القوم يكون قادراً على مسايرة أموره وتمشية أعماله ومصالحه الاجتماعية على خير ما يرام، إذ يكون ذا قوة كبيرة وصاحب قدرة خارقة يبدو فيها الإعجاز في كل لحظة بأبهى مظاهره، ويتجلى فيها السحر والبيان بأبدع صورته.
ولم يكن كوك آلب يوماً ليوقن بالقومية ما لم تكن قائمة على أساس ديني قويم إذ أنه لا يمكن في الواقع تجريد القومية عن مبادئ الدين مطلقاً. فالقومي في نظره هو من كان دينه مؤمناً واتخذ من لغة قومه وسيلة للتفاهم فاليهود عنده مثلا، وإن سكنوا في تركيا سنين(864/23)
كثيرة، وتجنسوا بالجنسية التركية، لا يجوز بوجه من الوجوه أن يعدوا أتراكا أو يعتبروا منتسبين إلى القومية التركية ما داموا غير مؤمنين بما آمن به الأتراك (ويعني به المبادئ الدينية) وإنما هؤلاء وأمثالهم من غير المسلمين يطلق عليهم لفظة (وطنداش) بمعنى بني الوطن.
ويبين لنا هذا المفكر الكبير في كتابه (أسس القومية التركية) النظريات المختلفة لعلماء الاجتماع في تحديد معنى القومية، فيناقشهم فيها ويعارضهم جميعاً؛ ومن ثم يوضح لنا وجهة نظره الخاصة في ذلك. وتلكم خلاصة النظريات التي يقر بها العلماء ويدحضها الأستاذ ضياء كوك آلب:
(1) الجنس: ادعى بعض العلماء أن الشعب بمجموعه يتكون من أفراد ينتسبون إلى جنس واحد تجمع بينهم روابط فسيولوجية لها علاقة بالصفات الاجتماعية.
غير أن كثيراً من علماء الفسلجة أثبتوا بالأدلة القاطعة عدم وجود أي تأثير للأوصاف الفسيولوجية على الفوارق البشرية مطلقاً. هذا وإن لفظة (جنس) اصطلاح في الواقع يطلق على الحيوانات فيقال هذا حصان من الجنس الفلاني.
وقد أخطأ البعض بتصنيف الجنس البشري وفقا لبعض المظاهر الخارجية كشكل عظام الجمجمة ولون الشعر والبشرة، وذلك لأنه لا يوجد في الوقت الحاضر شعب متصف بتلك الصفات جميعاً. فإننا اليوم نشاهد اختلافا بيناً حتى في صفات الأفراد المنتمين إلى عائلة واحدة.
(2) رابطة الدم: وهذه النظرية تقول أن القومية عبارة عن علاقة بين أفراد تجمعهم رابطة الدم. . . فيدعي أصحابها أن القوم (أو الشعب) بمعناه الصحيح هو الذي حاز أفراده صفات خاصة موجودة في دمهم بحيث جعلتهم يمتازون عن سائر الأقوام بنقاء الدم وصفائه.
ولكن هذا القول مردود من أساسه، فالشعوب والأقوام حتى في الأزمنة الغابرة لم تكن كما يزعمه أصحاب هذه النظرية وذلك بسبب وقوع كثير من الحوادث التي كانت تسبب اختلاط الدماء كحالات الأسر وهروب المجرمين إلى بلاد أجنبية والهجرة والازدواج الواقع بين أفراد الأمم المختلفة. . غلى غير ذلك من الوقائع التي تثبت بطلان هذه النظرية.
(3) الموطن: فيزعم البعض أن القومية تتميز بوجود أرض مشتركة يعيش علها أفراد(864/24)
يسمون بالشعب كالشعب السويسري والشعب الإيراني.
بيد أن هذا الزعم فاسد أيضاً فإن في سويسره مثلا تسكن شعوب ثلاثة وهي الشعب الألماني والفرنسي والإيطالي، وفي إيران يسكن الفرس والترك والكرد؛ وليس من المعقول أن نعتبر هذه العناصر المختلفة قوماً واحداً ونطلق عليهم لفظة (الشعب) وذلك لاختلاف ألسنتهم. هذا ومن الصعوبة بمكان أن نعتبر أفراد الشعب الواحد - فيما لو كانوا يعيشون في مواطن متعدد منتمين إلى شعوب مختلفة. وبتعبير أدق لو جاز لنا أن نجزئ أسرة واحدة إلى جماعات (بسبب كون أفرادها يعيشون في بلاد معينة فإنه لا يصح أن نعتبر كل جماعة من هذه الجماعات شعباً يحمل اسم القطر الذي يعيش فيه.
(4) النظرية الإسلامية: وهي تقول ان الشعب عبارة عن جماعة من الأفراد تجمعهم كلمة (الإسلام). والواقع أن هذه اللفظة تطلق على (الأمة) لا على الشعب، ذلك أن المسلمين في أرجاء العالم باعتبارهم وحدة قائمة يشكلون الأمة الإسلامية. والجماعة التي تتميز بلغتها الواحدة وحضارتها المشتركة لا يمكن أن تعد أمة وإنما تعتبر شعباً يتجلى فيه معنى القومية. فيقول التركي مثلاً إنني من الأمة الإسلامية وانتمي إلى الشعب التركي.
(5) ويذهب البعض الآخر في تفسير القومية مذهباً فردياً فيقرون لكل فرد حق الانتساب إلى أي شعب من الشعوب حسب مشيئته. فله حق اختيار الشعب الذي يرى من الأوفق أن يحيا في ظله دون أن يمنعه من ذلك أحد.
غير أن مثل هذه الحرية المطلقة من الصعوبة أن نتلمسه عند فرد من الأفراد لأن النفس البشرية لا نأتلف إلا إذا اتحدت فيما تشعر وتحس بحب واحد ورغبة مشتركة. ويعتقد علماء النفس في الوقت الحاضر أن حياتنا الحسية هي الأصل وأن حياتنا الفكرية مرتبطة بها فهي إذا حياة تبعية. وبناء على ذلك يجب أن تكون الأفكار مع الشعور على خير وفاق.
فإذا لم ترتبط أفكار الإنسان بحواسه فإن مثل هذا الشخص يصاب غالباً بمرض نفساني يجعله شقياً في الحياة ما دام يعيش بعيداً عن بني قومه. ومثل ذلك الشخص كمثل شاب يقوم بالعبادات البدنية بصورة حسية دون أن تكون أفكاره متصلة بالمبادئ الدينية فهو لذلك لا يكون قادراً على موازنة نفسه.
وخلافاً لذلك فإن شقاء الإنسان ينقلب إلى هنا ورفاء فيسعد ذلك الشقي فيما لو عاش في(864/25)
أحضان قومه، لأنه تربى وترعرع بين أناس يعطفون عليه فيميل إليهم أكثر من غيرهم. وعليه فإن من العسير جداً أن يغير الإنسان قوميته ويبدل أسلوب حياته لأنه، كما قلنا، يعيش متحسراً على حياته الماضية التي قضاها سعيداً بين أفراده، فيبتلى بما يسمى بداء الصلة!. (ضياء كوك آلب: أسس القومية التركية ص 15 - 19).
وبعد أن يناقش هذه النظريات نقاشاً دقيقاً ويرد عليها نراه يوضح لنا وجهة نظره الخاصة في تحديد معنى القومية فيستخلص المراد منها بأنها عبارة عن سمو الشعب ورقيه. والشعب في نظره ليس بمجموعة تربط أفرادها أواصر الجنسية، ولا هيئة سياسية أو جغرافية أو إدارية، وإنما هي مجموعة من الأفراد تجمع بينهم روابط الدين واللغة والأدب والأخلاق المشتركة، وبتعبير آخر اتحاد أفراد تلك الهيئة في الحضارة الواحدة - فالقومي كما يقول القروي - هو من ينطق بلساني ويدين بديني ويعني به اتحاد القوميين في اللغة والدين.
وقد وضع هذا المفكر الكبير مبادئ القومية الصحيحة في كتابه السالف الذكر مقسما إياها إلى روابط اللغة والدين والأدب والأخلاق والحقوق والاقتصاد والسياسة والفلسفة ومن ثم شرح هذه الفروع الأساسية شرحاً وافياً وقال في مبحث (الرابطة الدينية) إن التركي ورث عن ماضيه خزان جد ثمينة من مواريث الدين والأخلاق ينبغي علينا - نحن الترك. . أن نأخذها بنظر الاعتبار في سلوكنا في سبيل الرقي والحضارة. فيكفينا اليوم الرجوع إلى ماضينا لنتخذ من تراث أسلافنا مدينة عالمية عظيمة نبني عليها كيان قومنا، كما يجب ألا ننسى نصيبان من النهضة الأوربية الحديثة بخلاف الأمم غير الإسلامية، فإنها عند اتباعها المدنية في الوقت الحاضر عليها أن تبتعد عن ماضيها. . . (وللإيضاح راجع كتابه السابق الذكر).
وخلاصة الفلسفة التي يرمي إليها كوك آلب يرتكز على جعل تركيا مكونة من شعب تركي ينهض بآدابه وأخلاقه وتراث أجداده ويتمسك بالعقائد الإسلامية الصحيحة والمبادئ الدينية السليمة، كما يأخذ قسطاً وافراً من المدينة الأوربية الحاضرة.
عطا الله ترزي باشى
بغداد(864/26)
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ سيد كيلاني
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
من 882 - 1919
- 7 -
وكان شوقي الشاعر الوحيد الذي اهتم بالدفاع عن إسماعيل.
أما بقية الشعراء فقد أهملوا ذلك إهمالاً تاماً. بل إن منهم من شاطر كرومر رأيه في ذلك الخديوي. ومن هؤلاء حافظ إبراهيم.
وكان لورد كرومر قد كتب تقريراً ضمنه بعض المطاعن في الدين الإسلامي. فأغضب بجهله وقصر نظره المصريين أجمعين. وقد ذهب الشعراء على اختلاف نزعاتهم وتباين ميولهم للنيل من كرومر. فقال شوقي:
من سب دين محمد فمحمد ... متمكن عند الإله رسولا
وقال الكاشف:
وختمت عهدك بالذي اهتزت له ... أركان مكة واستعاذت يثرب
وقال:
وتهين دينهم وتنكر عرشهم ... ولواءهم وتريد ألا يغضبوا
وقال أحمد نسيم - وهذا من المضحك بعد ما تقدم له من مدح في كرومر:
يا لورد هل لك في الإسلام من غرض ... ترمي إليه بسهم منك مسنون
أنذرت مدحك لو لم ترتكب شططا ... في أخرياتك من حين إلى حين
هجوت قومي وما فارقت أرضهم ... حتى تجرأت أن تنحى على الدين
ألم يكن دين طه خير ما نهضت ... به البلاد إلى علم وتمدين
فكل معتنق للدين معتقد ... هاجت ثوائره من بعد تسكين
أنا المثال قضيت العمر مبتهجاً ... بما أتيت بقلب فيك مفتون
رأيت أنك لست المرء تصلحنا ... ولست فينا على مصر بمأمون(864/28)
غادرتها وهي للتقرير صارخة ... إلى الإله بقلب منك محزون
فلا رماك الحيا إلا بداجنة ... تهمي عليك بزقوم وغسلين
ومن قرأ البيت الأخير من القصيدة، وقوله قبل ذلك في لورد كرومر:
فسر مع اليمن مصحوباً بأدعية ... يحف ركبك تعظيم وتبجيل
لم يملك نفسه من الضحك. ولاشك في أن أحمد نسيم عبر في هذه الأبيات عن شعور كامن في نفسه وعاطفة دينية قوية أنسته ما دبجه قبل ذلك من إطراء وثناء في كرومر.
وقال حافظ إبراهيم:
وأودعت تقرير الوداع مغامزا ... رأينا جفاء الطبع فيها مجسدا
غمزت بها دين النبي، وإننا ... لنغضب إن أغضبت في القبر أحمدا
وقال من قصيدة يرثي فيها مصطفى كامل:
قم وامح ما خطت يمين كرومر ... جهلا بدين الواحد القهار
وفي عام 1908 مات مصطفى كامل فحزنت لموته الأمة بأجمعها.
وبكى الشعراء لهذا المصاب الفادح.
وقد أخذ المصريون في هذا الطور (1882 - 1919) يهتمون بأبناء العالم الخارجي وازداد الاتصال بين أوربا ومصر. فلما قامت الحرب بين روسيا واليابان وانتصرت اليابان في عام 1904 ابتهج المصريون ونظم الشعراء في ذلك القصائد الطوال.
ولما انتصر الأحرار في تركيا وظفروا بالدستور اهتزت المشاعر في مصر طرباً وابتهج المصريون أجمعون، وتمنوا أن تتحقق آمالهم في الحياة النيابية كما تحققت آمال الترك. وتاقت نفوسهم إلى الظفر بالحكم الشورى الذي تمتع به الناس في تركيا. ونظمت في ذلك قصائد كثيرة رائعة تفيض بالحماس وتزحز بالعواطف الوطنية الصادقة. فقال حافظ في قصيدة:
ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا ... تبيتوا على يأس، ولا تتضجروا
أعدوا له صدر المكان، فإنني ... أراه على أبوابكم يتخطر
ومنها:
لقد ظفر الأتراك عدلا بسؤلهم ... ونحن على الآثار لا شك نظفر(864/29)
هم لهم العام القديم مقدر ... ونحن لنا العام الجديد مقدر
وقال شوقي:
ما بين آمالك اللائي ظفرت بها=وبين (مصر) معان أنت تدريها
وقال إسماعيل صبري:
يا مصر سيري على آثارهم وقفي ... تلك المواقف في أسنى مجاليها
لا يؤيسنك ما قالوا وما كتبوا ... بين البرية تضليلا وتمويها
ومنها:
يا آيه الفخر هلا تنزلين كما ... نزلت ثم على مصر وأهليها
كيما نجر ذبولا منك جررها ... من قبلنا الترك في أوطانهم تيها
ولما وقعت الحرب الطرابلسية الإيطالية اتجهت عواطف المصريين نحو الطرابلسيين. وللشعراء قصائد كثيرة في استهجان عمل إيطاليا وفي حض المسلمين على مؤازرة أهل طرابلس.
ولما نشبت الحرب بين الدولة العلية والدولة البلقانية تغنى الشعراء في مصر بما أحرزه الترك من انتصارات.
وفي عام 1914 م اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى في أوربا وامتد شررها في جميع جهات العالم. وأعلنت الأحكام العرفية في مصر ونفي شوقي إلى الأندلس. وخرس الشعراء وانقطعوا عن الخوض في السياسة انقطاعاً تاماً.
وامتاز هذا الطور بظهور بعض المصلحين الاجتماعيين كقاسم أمين ومحمد عبده. وقد ساهم الشعراء بشعرهم في الدعوة إلى الإصلاح. أما فيما يتعلق بالمرأة فقد انقسم الشعراء إلى شيع وأحزاب. فمنهم من ناصر هذه الدعوة وعضدها. ومنهم من حاربها وشدد النكير على أصحابها. ومنهم من توسط بين الحرية والتقييد.
ننتقل بعد ذلك إلى الدور الثالث الذي يبدأ من عام 1919 وينتهي بعام 1950م.
الدور الثالث
1919 - 1950
كانت ثورة 1919 حداً فاصلاً بين عصرين. عصر الاحتلال ثم الحماية. وفي هذا العصر(864/30)
كانت للإنجليز الكلمة العليا في كل صغيرة وكبيرة وكان الموظفون البريطانيون متمتعين بسلطان مطلق في كل مرافق البلاد ومصالحها. وقد عانى المصريون من ذلك ألما عظيما. وظهر أثر هذا في الشعر على نحو ما بينا. وكان اليأس مخيماً على الرءوس، والأمل في الخلاص من نير الاحتلال يكاد يكون مفقوداً، وقد غبر الشعراء عن هذا اليأس والقنوط في شعر كثير. فلما قامت الثورة قويت الآمال في التخلص من نير المستعمر وأخذ الشعراء يغذون الثورة بشعر حماسي رائع.
وقد ترتب على هذه الثورة أن ظفرت البلاد بقسط وافر من الحرية وتخلصت من نفوذ الموظفين البريطانيين. ثم تمتعت بعد ذلك بدستور ومجلس نيابي. فتغنى الشعراء بهذا النصر العظيم.
وبينما كان المصريون يجاهدون في سبيل الحرية كانت الشعوب الشرقية تجاهد كذلك. وكان جهاد الترك أروع جهاد. وقد أحدث انتصارهم بقيادة مصطفى كمال رنة فرح وسرور في مصر. ونهض الشعراء ونظموا القصائد الكثيرة في مدح أبطال تركيا وإطرائهم والتنويه بانتصاراتهم.
ثم حدث أن ألغيت الخلافة العثمانية وحلت محلها حكومة جمهورية. ومع أن الخلافة العثمانية أضحت عديمة الجدوى للشعوب الإسلامية منذ زمن بعيد، رأينا في مصر شعراء كثيرين يبكون بكاء مراً لزوال هذه الخلافة، وينددون بمصطفى كمال وأعوانه ويرمونهم بالكفر والإلحاد.
وبإلغاء الخلافة انقطعت كل رابطة بين مصر وتركيا وانقضى العهد الذي كان فيه الشعراء ينظمون القصائد الطوال في مدح سلاطين آل عثمان أو في تحية الأسطول العثماني أو الجيش التركي، أو غير ذلك مما رأيناه عند الشعراء إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. وأصبح الشاعر المصري يعيش لمصر وحدها بعد أن كان مقسم العواطف بين مصر وتركيا. وبانسلاخ تركيا عن الشرق اختفى ذكرها من الشعر العربي اختفاء تاماً.
على أن هناك روابط جديدة نشأت بين مصر والدول العربية التي قامت على إنقاذ الإمبراطورية العثمانية. وكانت هذه الروابط في أول الأمر ضعيفة. ثم أخذت الشعوب العربية تتطلع إلى مصر، وأخذ المصريون يمدون أيديهم إلى هذه الشعوب. وكان لتقدم(864/31)
المواصلات أثر بين في تقريب الشقة بين المصريين والعرب. وقد انتهى الأمر بقيام جامعة الدول العربية فأصبح الشاعر المصري لا يعيش لمصر وحدها بل يعيش للعالم العربي. ذلك لأن الشر الذي يقع على دول من هذه الدولة قد لا يقف عند حدودها بل ربما امتد أثره إلى مصر. ولهذا السبب دخلت مصر الحرب ضد اليهود وذلك لشعورها بالخطر العظيم الذي يمكن أن يهددها بقيام دولة يهودية في فلسطين. وقد تغنى الشعراء المصريون بالنصر الذي أحرزه الجيش المصري ضد اليهود، كما نوهوا بجهاد أبطال الفالوجة
ولا شك في أن قيام دولة يهودية في فلسطين سيدفع مصر إلى العناية بجيشها عناية لا مثيل لها من قبل في تاريخ البلاد. وسيظهر أثر ذلك ف الشعر فنرى الشعراء يكثرون من التنويه بالجيش المصري ومعداته وأسلحته وذخائره وبسالته وإقدامه.
ووقعت في مصر بين (1919، 1927م) وهو العام الذي توفي فيه سعد زغلول أحداث سياسية لا نظير لها. وكان الشعراء يسجلون في شعرهم ما يصيب البلاد من خير أو شر، وما يلحقها من فرح أو حزن.
ولما مات سعد زغلول بكته مصر قاصيها ودانيها وبكاه الشرق العربي بأجمعه، ورثاه الشعراء في قصائد طويلة. ولم يسبق أن رثي شخص في العصر الحديث بمثل ما رثي به سعد زغلول. فالقصائد التي قيلت فيه عند وفاته لا يدركها الحصر. وما لبي الشعراء ينظمون القصائد الطوال احتفالاً بأحياء ذكراه.
إلى هنا ننتهي من الكلام عن الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر في عام 1850 - 1950م.
سيد كبلاني(864/32)
سلسلة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (3):
غاية الأخلاق عند أرسطو
للأستاذ كمال دسوقي
لنشرع الآن. . . على ضوء ما قدمنا - في تحليل الكتاب الأول من الأخلاق النيقوماخية المطلوب إليكم دراسته تحليلا مفصلا. وفيه يتناول أرسطو بالحديث غاية الحياة على النحو الذي قلت في المقال السابق إنه يبدأ به بحثه في كل علم وفن أعني عرض مختلف الآراء والنظريات ومناقشتها ونقدها قبل الشروع في الإدلاء بنظريته هو التي تجدونها - ويجب أن تطلعوا عليها. . . الكتاب العاشر (الأخير) من الأخلاق النيفوماخية في المجلد الثاني.
وإنما بدأ بدراسة الغاية وكل شيء في الحياة من علم أو عمل فإنما له غاية يرمي إليها، وبتحديد هذه الغاية تحديداً واضحاً منذ البدء يتضح السبيل أو الوسيلة إليها. بل إن الغاية نفسها هي التي كثيراً ما تعين الوسيلة المؤدية إليها، كالحصة في الطب، والانتصار في الحرب، والثروة في الاقتصاد. وقد تبرر الغاية الوسيلة كما في بعض المذاهب الأخلاقية المتطرفة مما يعبر عنه مبدأ مكيافيلي المعروف: الغاية تبرر الوسيلة أي تشفع لها وتستبيح في سبيل تحقيقها أية وسيلة مشروعة كانت أو غير مشروعة. فالغاية وإن كنا تصل إليها آخر الأمر - وقد لا تستطيع الوصول إليها لعدم توفر أسبابها ووسائلها. . . إنما تحدد بادئ الأمر ومن هنا لزم وجود علم (أو علوم) وفن (أو فنون) تختص بدراسة كل غاية من هذه الغايات، وتنتهي من تعرف طبيعتها إلى وصف الطريق المؤدية إليها.
وما أكثر ما تتعدد الغايات وتتعقد - على خلاف بينها في درجة التعقيد. فمن الوصائل ما تحمل في طيها قيمتها بحيث تصبح هي الغاية. بمعنى أن تكون مصورة لذاتها (فقرة 2 سطر 2) كمن يتلقى العلم لذات العلم، أو يزاول نوعاً من الفنون كالرسم أو التصوير أو الشعر حباً في الفن، من غير أن تكون له غاية أخرى من حب الشهرة أو الثروة أو نحوهما. وأحياناً ما يكون العمل وسيلة لغاية مرسومة، كما في أغلب أفعالنا الإنسانية التي هي في معظمها وصولية نفعية حتى لينكر المعاصرون وجود العلم للعلم، وحي الفن للفن، إيماناً منهم بأن كل شيء لابد له من غاية تستتر وراءه وتكمن فيه. والأمر أشد عسراً حين تدرك أن من هذه الغايات ذاتها ما يكون وسيلة لغاية أسمى، فلا يقصد لذاته، وقد يكون لهذه(864/33)
الغاية الثانية غاية أبعد وهكذا. ويردد أرسطو هنا ما سبق أن قال به في برهان وجود الله (العلة الأولى) من أن هذا التسلسل في الغائبة. . . كما كان في العلية. . . لا يمكن أن يكون إلى غير نهاية بل لابد أن يقف عند حد يكون هو العلة الأولى أو علة العلل التي ليس وراءها علة، والخير الأسمى الذي ليس بعده خير، والذي هو موضوع جميع الآمال على اختلاف مذاهبها إليه.
فمن الغايات إذن ما هو جزئي وما هو كلي، كما أن من العلوم التي تدرس هذه الفايات ما هو جزئي وما هو كلي. وإذا كان الخير غاية العلوم العملية على النحو الذي بينت في تقسيم العلوم عند أرسطو في المقال السابق، فيكون من الخير إذن ما هو جزئي وما هو كلي. الجزئي هو الأخص الذي يتعلق بالفروع - والكلي هو الأسمى الذي يتعلق بالأصل. وهو عند أرسطو علم السياسة الذي يتعلق بتدبير أمر الدولة أو المدينة (واسمها في اليونانية وإذا تذكرتم الملحوظة الثالثة التي ذكرت لكم في التعليق على لوحة العلوم الأرسطية في المقال السابق الخاصة بتدرج العلوم العملية في أهميتها نحو الكثرة، سهل عليكم أن تدفعوا ببطلان اعتراض المترجم الفرنسي (الفقرة التاسعة ص 71، هامش) على أرسطو في جعل علم السياسة قمة العلوم العملية. فلما كان الفرد وحدة المجتمع، والخلية الأولى في تكوينه، وكان البحث في خيره وسعادته يجب ألا يتعارض مع بحث خير الدولة وسعادتها، فقد رأى أرسطو يحق أن يخضع الأخلاق (علم تدبير الفرد) والتدبير المنزلي (تدبير الأسرة) لعلم السياسة (تدبير الدولة) حتى يكون للمجموع الهيمنة على الفرد فلا يدعه ينشد سعادته ولذاته أينما شاء ومهما تعارض مع سعادة الآخرين، وفي ذلك الفوضى والاضطراب خصوصاً وأن ما يراه هذا العلم خيراً على الجماعة فإنه يفرضه على كل أفراد هذه الجماعة باسم القانون أو العرب أو التقاليد التي يستحق من يحيد عنها جزاء من جنس عمله. ومتى كان القانون الخلقي يكفي وحده لضبط سلوك الأفراد. . . وليس للضمير سلطان على الكثير منهم - إلا أن يظاهره القانون الوضعي (أو المدني)، والقانون السماوي (أو الدين)؟ إن الفرد في نظر أرسطو حيوان اجتماعي لا وجود له منعزلا. وهي وجهة نظر الاجتماعيين وبعض علماء النفس المحدثين.
وإذ وضح أن الخير الحقيقي الأسمى للإنسان هو موضوع الأخلاق التي هي فرع من علم(864/34)
سياسة الدولة، فإن أرسطو يريد أن ندرس هذا الخير من وجهة نظر عامة لا في أمثلة فردية ربما كانت نتائجها شاذة - والشاذ لا حكم له ولا يقاس عليه (فقرات 14 إلى 16) خصوصاً وأن الحكم على الأشياء الجزئية يتطلب معرفة خاصة بها كما أن الحكم بطريقة عامة كلية يتطلب خبرة أوسع وتجربة أشمل، ومن هنا جاءت عدم صلاحية الشباب. . . شباب السن الأحداث وشباب العقل الذين باتباعهم الهوى يعطلون ملكة العقل فتصدأ وتطيش ولا تصلح للتفكير السليم - نقول عدم صلاحيتهم لتعاطي هذا العلم والبحث فيه , فليست غاية الأخلاق مجرد العلم بالخير، بل رياضته ومزاولته عملياً وقبل كل شيء (ف 18 - 20)
وفي الفصل الثاني يناقش أرسطو فكرة الخير من حيث ما ينظر الناس إليها. هم مجمعون على أن الخير الأسمى هو السعادة، والسعادة يريدون بها رغد العيش وحسن الفعل. ولما كان هذا التعريف عاماً وغير محدد، فإنه يتسع لكثير من التفريعات تختلف وجهات النظر وبتباعد الناس. ولما كانت الآراء هنا من الكثيرة والنسبية (الغني بالنسبة للفقير، والصحة للمريض.) بحيث لا تحصر فإن أرسطو يقتصر على ذكر أكثرها شيوعاً وأدناها إلى الصحة. وهنا يثير أرسطو مسألة المنهج الذي سيسير عليه في استقراء أنواع السعادة هذه. فيحمد لأفلاطون تفكيره في البدء من الأشياء الجزئية إلى المثل الكلية أو العكس مرجحاً هو طريقة الانتقال من الحالات الجزئية إلى قانونها العام، ومن الأشياء الشائعة الموجودة في الواقع بوضوح إلى ما عسى أن يكون لها من علة. وبمعنى آخر من المعلومات إلى العلة، والمسببات إلى السبب. وهذا هو منهج الاستقراء الذي لا نزال نأخذ به حتى اليوم بوصفه أصح منهج لدراسة الأخلاق.
وعلى أساس هذا المنهج القويم يصنف أرسطو السعادة عند الناس من حيث هي الحياة الهنيئة إلى حياة اللذة، فالمجد والشهرة، وأخيراً حياة الحكمة والتأمل: الأولى هي الحظ الدهماء والعامة و ' ن شاركهم فيها بعض ذوي السلطان المترفين الناعمين - وهي على أي أحوالها تجعل من أصحابها بهائم أولى منهم أناسي. والثانية (حياة المجد والشرف) أرفع شيئاً، ولكنها توهب ولا تؤخذ، يعني أنها ملك لواهبها لا لطالبها - إن شاء أعطى وإن شاء سلب - هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي ألا نطلبها لما يدل عليه السعي إليها من(864/35)
تهافت وضعة ورغبة في التكمل بما ليس فينا؛ أو على الأقل التثبت والاستيقان من وجوده فينا - وكلاهما شر أقل ما يدل عليه أن ما نريد أن ننسبه لأنفسنا - أو ينسبه لنا الناس - (وهو الفضيلة) هو أولى بالسعي والاكتساب. والفضلة ذاتها لا تصلح وحدها غرضاً للحياة وإلا كانت مملة - بل شراً أحياناً (ويتناولها أرسطو في الكتاب الثاني). أما الحياة الثالثة فحياة الفكر والتأمل (وهي موضوع الكتاب الأخير من الأخلاق الأرسطية) ويعالجها أرسطو بعد أن يكون قد فرغ من تحديد الفضائل والإرادة الخلقية - لأنها أساسها.
هذا عدا حياة الثروة، والثراء لا يمكن أن يكون غاية؛ بل هو وسيلة تقصد لغيرها لا لذاتها - كما سيتضح أن اللذة هي عمل الحواس والأعضاء؛ ولا تُراد لذاتها.
ويعود أرسطو إلى تناول الخير بمعناه العام الدقيق في الفصل الثالث، فلا يجد حرجاً في أن يتعارض مع أستاذه أفلاطون في هذا الصدد ما دام يسعى للوصول إلى الحقيقة. بل هو يأخذ على نظرية المثل الأفلاطونية هنا مآخذ كثيرة ترمي في جملتها إلى إبطال نظرية الخير الكلي أو مثال الخير الأفلاطوني يمكن تلخصيها فيما يلي:
(1) من الأمور التي تتميز فيها سلسلة من سابق ولاحق - كالأعداد - لم يستطع أصحاب المثل أنفسهم أن يقولوا يُمثل لها، لأنها تستمر إلى ما لا نهاية - وأرسطو هنا يشيد بالفيثاغوريين.
(2) ومثل هذا يقال في ما يسميه أرسطو المقولات وهي عشرة: جوهر وتسعة أعراض؛ الجوهر سابق على الأعراض لأنه الموضوع، وهي محمولة عليه كما يقال في المنطق وما دام الجوهر سابقاً على أعراضه التسعة (الكم والكيف. والزمان والمكان، والإضافة والملك والوضع، والفعل والانفعال) فنحن بازاء خيرات كثيرة بمقدار ما يكون للجوهر الواحد من صور وأعراض، وهذه الخيرات منها ما هو سابق وما هو لاحق ولا يمكن أن يوجد بينها خير مشترك.
(3) ولو كانت نظرية المثل الكلية صحيحة فيما يتعلق بالخير، لوجب أن يوجد علم واحد يختص بدراسة الخيرات كلها من حيث هي تتدرج تحت خير كلي، والواقع لا يؤيد ذلك، بل يقوم لكل خير جزئي علم خاص به (ف4).
(4) وقول أفلاطون بالمثل يجعلنا بازاء ثلاثة أشياء بدلاً ممن اثنين - كما في الإنسان،(864/36)
فهناك الإنسان الجزئي المسمى زيد أو عمرو - يليه الصفات المشتركة بن عامة الناس - أي الحد الكلي والماهية في الذهن - فمثال الإنسان الكامل أو الصورة المثالية المفارقة التي تنزع إلى محاكاتها ولا تبلغ إليها الكائناتُ الإنسانية الموجودة في عالم المثل.
(5) وفي هذه الحالة لن يكون الخير الكلي - أي الخير في ذاته أو مثال الخير - أكثر حيراً من الجزئي - إذ الفق بين المثال الكلي والشيء الجزئي المشارك فيه هو أبدية المثال وأزليته - أي أنه لا أو له ولا آخر زمانياً - وليس من شأن التقدم في الزمان أو الخلود فيه أن يجعل للشيء زيادة في كم الصفة أو كيفها (ف6).
(6) وحتى لو قيل إننا لا نقصد أن يكون لكل نوع من الخيرات مثاله؛ بل إن نوعاً معيناً منها هو المثالي أو الحقيقي الذي تشارك فيه بقية مُثل الخيرات، وبمشاركة الأشياء فيه نكتسب صفة الخير، فيكون لدينا حينئذ على الأقل نوعان من الخيرات: خيرات بذاتها وأخرى بغيرها، ويتعذر علينا بالتالي أن نميز أيها الخير الحقيقي: الخير المثالي المجرد في عالم المثل أم الخير الواقعي في الأشياء والأفعال. فإذا أثبتنا الخير للمثال وحده دون الأشياء المشاركة فيه فما فائدته إذن؟ (ف10) وإذا أثبتناه للأشياء المتعددة لزم أن تكون مشتركة في حد واحد هو الخير. ولكنا نرى تعدد الخيرات بحيث لا يجمعها مثال واحد، فمن أين إذن اتفق لها الاسم على اختلافها؟ أيا الشبه؟ أم المصادفة؟ أم وحدة المصدر؟ أم الغاية؟ هنا يتهرب أرسطو ويقتطع الجدل دون أن يتم (ف13) بل يعود إلى صدد المثال الواحد المجرد للخير فيقول أنه لو صح وجوده قائماً بذاته لما أمكن إحرازه أو تعاطيه ويمتنع بذلك السعي أو البحث عنه.
وأرسطو حتى نهاية هذا الفصل يؤكد وجوب عن الخير الجزئي لا الكلي؛ النسبي الذي له علاقة بغيره لا المطلق القائم برأسه في علياء المثل؛ الخير المحسوس في الأشياء والأفعال والعلوم الواقعية لا المجرد المعقول الذي لا سبيل إلى إدراكه أو تحصيله. وهذه جملة اعتراضا على نظرية الخير الكلي كما تريد المثل الأفلاطونية أن تكون - أوردناها لك بتفصيل وتوسع - ولك أن تقبل منها ما تؤيده الحجة الناصعة والدليل القاطع - فليست كلها من الوجاهة والإنصاف بحيث تؤخذ مسلماً بها - ولكنها على أي حال جزء من النقد العام لأرسطو على نظرية المثل الأفلاطونية، وعليك أن تكمل هذا النقد في ميدان المثل(864/37)
الأخلاقية بنقد المثل الطبيعية في مطلع كتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة لأرسطو - مما تجد شرحاً وافياً له في المراجع العربية التي زودتك بها في المقال الأول - فارجع إليها وأدرسها - فان نقد المثل الأفلاطونية يُعدَّ حجر الأساس في كل علم من العلوم الفلسفية التي تناولها أرسطو
كمال دسوقي(864/38)
علامة العراق
الأستاذ محمد رضا الشبيبي
كنت - ولا أنفك - أنتاب مجمعه، واختلف إلى مجلسه وأتردد إلى داره. وبيته ببغداد، مجمع الفضلاء من أحلاف العلم، وأنصار الأدب، وعشاق الفضل، وأكابر البلد، وأشراف الأمة.
كان أبوه (الجواد) - رحمة الله عليه - من أشياخ الكتاب وفحول الشعراء، تعبر عن مقامه المحمود في صناعة الكتابة مقاماته التي يعنوا لها البديع، ولا يطاولها الحريري، وتدل على مرتبته العالية في القريض أشعاره التي لا يقاويها القدامى حر لفظ، ولا يضارعها المحدثون دقيق معنى. وكان أجداده من كبراء العلماء، وأئمة المحدثين. ولا تزال آثارهم تنم على علو محلهم، وتدل على جلال شأنهم، يذكر اسم الله - تعالى - في مساجدهم ويسبح بحمده في الغدو والآصال، وكانت مدارسهم تغص بالمتفقهين ينفرون من كل جانب، ويغدون من كل فج.
وقد شابه (الرضا) أباه، وورث أجداده، إلا أ، هـ أحاط بأقطار الفضل، وطوف في مناكب العلم، وجمع الكمال فأوعى. تفقه بالنجف عند طائفة من العلماء، وأدبه فريق من شيوخ الأدباء. وقد درس المنطق فمد من أفراده، وأخذ الحكمة فصار من أشياخها، وتخرج في الفلسفة فكان من أربابها، وسمع اللغة فقيد أوابدها، وعقل شواردها، وهذب ألفاظها. وكتابه (المأنوس) من لغة القاموس أمارة كماله في هذا السبيل.
رأيته حافلا بعلم جم، وفضل غزير، وأدب طرئ ومحاسن كثيرة، وفضائل دثرة ومناقب عديدة يزينها اثنان: تواضع العلماء وأناة الوزراء. وهو شاعر مجيد، وديوانه المطبوع نبذ مختارة من مجموع كبير ضخم يحتوي على بدائع بدائهه وعيون غرره.
وهو - عند أهل افضل - مؤرخ العراق - غير منازع - حاول أن يطلع على أخباره، فوقف على السهم الأوفى، وأراد أن يصيب آثاره، فوقع إليه النصيب الأكبر. اطلعت على جزء من مجموعاته الكثيرة القيمة، وطالعت جملة مما جمع ووضع، وقرأت طائفة مما ألف وصنف من الكتب التي لو من على التاريخ بنشر شيء منها لكشف الأستاذ عن وجه كثير من أصول التاريخ والأدب.(864/39)
ومن العجائب أنه عنى بما لا يقع في خلد أحد من الباحثين في ومنه، المعاصرين له؛ فلقد أفرد (البيزرة) برسالة مبسوطة، وعنى بإخراج مخطوط قديم قيم فيها. وخص (تاريخ الفلسفة) وأكابر الفلاسفة بكتاب ضخم نفيس، وعنى (بفلاسفة اليهود في الإسلام) كان كمونه وابن ملكان. وعالج (أدب البحث والمناظرة) واثبت في مجموعاته تاريخ البلدان التي هبت ريحها في العلم أو كانت برزة في الأدب، وأثبت سير رجالها المتبحرين، وأعيانها الكملة، وبيوتاتها الجليلة. وعنى بمؤرخ العراق (ابن الفوطي) - المتوفى سنة 723هـ - فأفرد سفراً مبسوطاً مطولاً أثبت فيه تاريخ العراق - حينئذ - وضمنه سيرة ابن الفوطي، وإني لأظن الأمر الذي حمل الشبيبي على إخلاد ابن الفوطي، وإخال السبب الذي جعله معنياً به، وأحسب أن رأس ما عظمه في عينه، هو تشابه الرجلين، فهما اللذان أرخا العراق ودونا أخباره، وتصيدا أنباءه. وقد بر الشبيبي بابن الفوطي فأنقذ الجزء الرابع من كتابه الجليل (مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب) الذي كان نسياً منسياً في (دار الكتب الظاهرية) بالشام، وحرره وعلق عليه وهذبه، وأثبت سيرته في رسالة مطولة
ولقد اطلع على كثير من خزائن الكتب العتيقة بالعراق والشام ومصر وأفاد من مخطوطاتها ما لا يقوى على تحصيله - اليوم - من وقف نفسه على البحث ونذر للتأليف فرصته. واعتكف في دور العلم وبيوت الأدب، فأخذ نصيبه منها، واقتفى كتباً نفيسة، وجمع أسفاراً مختارة. وعنده خزانة جامعة رائعة تزينها آثاره التي تنم على مقدار فضله، وهي أمارة كماله. وهو جيد الحظ مليح الكتابة، له مشاركة في جميع العلوم والآداب.
لا أزال أزوره وأتردد إلى حضرته وأجتمع معه، فإذا أبطأت عليه عاتبني. ولقد منعني أن أقصد حضرته داء ألم بي، غادرني رهين الفراش، وتركني إلف الداء فهاجني شوقي إلى مجلسه، وثورني نزوعي نحو مجمعه، فارتجلت هذه الأبيات وأنا نهب السقام، وأوفدتها عليه ضحا 14 تشرين الأول من سنة 1949:
مولاي ما اخترت القطي ... عة والرضا أقصى رجائي
لكن أمنت الشخط وال ... أيام تبخل باللقاء
وبقيت نضو السقم ره ... ن جوي أطارحه عنائي
أتذكر الجمع الحبي ... ب فأنتشي ويزول دائي(864/40)
ويلم بي طيف الخيا ... ل وإنه خير الدواء
يا عهد جمع يارعا ... ك الله مزدهر الفناء
عذبت روحي بالبعا ... د ورُعت قلبي بالثنائي
فأذيلُ دمع صبابة ... وهوى يجمجمه حيائي
من لي بأيام الوصا - ل كأنها كرهت لقائي
خلفتها وتركت في ... أعطانها قلبي ورائي
ردوا إلي زمان وص ... ل كنت أمحضه إخائي
وأعد علي حديثه ... حتى يعاودني شفائي
أفديك يا عهد الأحب ... ة هل لعودك من رجاء
إن أنس لا أنس الربو ... ع يزينها ثوب البهاء
تتنفس الآداب طي ... باً في مغانيها الوضاء
وتضوع أنفاس الشم ... ئل وهي تزري بالكباء
وتدار راح الفضل في ... جنباتها الغر الرواء
يا داره روى ثرا ... ك على المدى طول البقاء
وسقتك يا ربع الكما ... ل من الحياديم الصفاء
تعرو سواك النائبا ... ت وأنت مرتفع البناء
بضاعتي وهي مزجاة وينثني على زادي وهو قليل: (أتمنى أن توفق البلاد لمكافأتك، وهل يتاح لها أن تكافئ الأدباء العاملين؟!)
شارك - حفظه الله - في الجهاد ولا ينفعك لسانه الغضب يقوم الأود، ولا تزال كلماته تعدل الزيغ ولا يبرح سناه يهدي درب المجد الأبيض. لم تلهه سياسات البلد عن الاشتغال بالعلم، ولم يتطربه تدبير الدولة، لكنه التفت عن الدنيا وبهجتها، وهو معروف بالإباء، شهير بالعفة. وإنه وإن كان ذرف على الستين يعاني ما لا يصبر على الاستقلال به الشباب ولا يستطيع القيام به من يمتع بعنفوان السن.
بغداد
حسين علي محفوظ(864/41)
الأدب والفن في أسبُوع
عميد الأدباء يتولى وزارة المعارف:
كان لتولية الدكتور طه حسين بك وزارة المعارف موقع خاص في النفوس، وهو موقع الارتياح والغبطة، ويرجع ذلك إلى منزلته الممتازة لدى الخاصة والعامة، لأنه كاتب إنساني ذو رسالة إصلاحية محددة، فهو فنان ومصلح، وكلا الصفعتين محبوب، وقد اجتمعتا فيه، وتفاعل مزجهما في نفسه، فصار رجلا أريحيا خيرا، قويا بالأريحية والخير، يحس بقوته فيندفع إلى الجرأة والحرية في كتاباته وتصرفاته.
فلم يكن غريباً أن تعم الفرحة به إذ يتولى الوزارة، وقد انهالت عليه بطبيعة لحال - سيول التهاني من الجماعات والأفراد، ولست أرى بدا من ترديد المعنى القديم المكرر، وهو أن مثل الدكتور طه حسين أو هو بالذات لا يهنأ بمنصب ماء وإنما يهنأ المنصب به، وما أبالي إن أديت ما أريد، أن يكون المعنى معادا أو طريفا، فقد تعلمنا من العميد الكبير أن نركب التعبير إلى ما نقصد. (لم يكسب الدكتور طه حسين جديدا بتوليه الوزارة، وكل ما هنالك أنه جمع المنصب إلى مجده الأدبي الخالد، وليس المنصب الزائل بشيء إلى جانب المجد الباقي على الزمن. وهنا أتبين في نفسي السر الذي حدا بي منذ أول هذه الكلمة حتى الآن في تجنب الديباجة الرسمية التي تنسب فيها (المعالي) إلى الوزراء، في الحديث عن طه حسين.
إذن لا أهنئ الدكتور طه حسين بولايته وزارة المعارف، وإنما نهنئ أنفسنا. . نعم نهنئ أنفسنا بما ننتظره من خير على يده، ولا يفوتنا أن نتصور ما يلقاه هو من عناء لا تذهب به مظاهر الوزارة وجاهها من نفس كبيرة كنفس طه حسين. والخير الذي ننتظره أن يتحقق على يده خير عام يكاد الناس يرونه محققاً من الآن. . .
طه حسين الكاتب الذي يغلف مراميه لخير هذا الشعب بغلاف من الفن الممتع الجذاب، يتولى وزارة المعارف، فلهذا يفرح الناس به ويرجون أن يحقق ما يدعو إليه دائما وما كان يتحدث به فيرجو أن يسمعه ولاة الأمر، وها قد أصبح هو ممن بيدهم الأمر، وقد عهده الناس في عهده السابق بوزارة المعارف بادئا بما يبتغي من الخير مصمماً فيه ثم حالت الظروف دون السير في الطريق إلى نهايته.(864/43)
طه حسين الذي يقول بأن التعليم حق طبيعي لكل فرد من أفراد الأمة كالماء والهواء لا ينبغي أن يرد عنه أو يحمل على شرائه بالمال كما يشترى البصل والكراث، طه حسين الذي يصور حال المعلمين وما يلقونه من شقاء في العمل ومواجهة أعباء العيش ويطلب لهم ما هم أهله من الحياة الكريمة، طه حسين الذي هاله أن تلقي أسرة المازني حرجاً في معيشتها بعده فطالب بأن ترعاها الدولة، وأن تمتد هذه الرعاية إلى سائر الأدباء وأبنائهم وأسرتهم من بعدهم، طه حسين الكاتب الذي ينبض قلبه بالإنسانية الرفيعة فيبسط شعوره الإنساني في كل ما يكتب، يغضب لصالح المواطنين فيهجم، أو ينهنه من غضبه فيسخر، أو يرى القيود فيتحايل؛ يكتب في شؤون الناس مباشرة، وأحياناً يعود إلى تاريخ الأسلاف فيتخذ منه أغلفة يلفف بها أفكاره ومشاعره، طه حسين الأستاذ الكبير الذي الجيل والتف حوله أدباء الشباب يتلقون عنه الفن ويهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو مسهم ضر من من ذوي القلوب الغلف. طه حسين ذلك قد تولى وزارة المعارف، فها هو وزير محدد البرنامج واضح المنهج، ونحن لن نتوانى عن مطالبته بالعمل لتنفيذ برنامجه ما ستطاع إليه سبيلا، وأنا لا أقول بأن كل ما يكتبه الكاتب يستطيعه إذا وكل إليه الأمر، فالكاتب يرسم المثل وقد يقصر من يتصدى للعمل على تطبيقها عن غايتها، ولكن بحسبنا أن نراه جاداً في السبيل ماضياً إلى الهدف.
وقد بقي شيء أريد أن أهمس به في أذن معالي الوزير - ولا بأس هنا بقليل من الرسميات - أريد أن أقول له: لا يغرنك ما ترى من أناس أنت تعرفهم لأنك تراهم الآن حولك يمسحون (الردنجوت) كما كانوا يصنعون في عهدك الأول بوزارة المعارف ولم ترهم منذ ذلك الحين.
مناقشة في أزمة الزواج:
جرت هذه المناقشة في (رابطة مصر أوربا) يوم الثلاثاء الماضي، بين الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف بك والأستاذ مظهر سعيد والسيدة مفيدة عبد الرحمن والسيدة أمينة السعيد.
كان الأستاذ خلاف هو مدير الندوة ومعظم الحديث والنقاش فيها بدأ بتمهيد في بيان أهمية الزواج وقال أنه لا يعرف بالضبط هل هناك أزمة زواج بمعنى الإضراب عنه أولا، ولكن الأزمة توجد على الأقل في الحياة الزوجية نفسها. ثم تلته السيدة أمينة، فقالت أنه ليس في(864/44)
مصر أزمة زواج على وجه عام واستدلت بإحصائية صدرت سنة 1937، يتبين منها أن نسبة الرجال المتزوجين في مصر نحو 68 %، وقالت إن أكثر غير المتزوجين هم من شبان الطبقة المتوسطة المتعلمين، أما غيرهم من الفقراء والأغنياء فإقبالهم على الزواج ظاهر ملموس.
وتكلم بعد ذلك الأستاذ مظهر سعيد، فقال إن أزمة الزواج المحصورة في المتعلمين من الطبقة المتوسطة هي في الحقيقة أزمة الزواج في السن المتأخر لأن الشاب يبدأ حياته في الوظيفة بمرتب ضئيل ويتهيب الزواج منتظراً حتى تتحسن حالته المالية. ومن ناحية أخرى ينظر الشاب إلى مستقبله فيراه رهنا بالصلات والوساطات وليس للكفاية والعمل أي اعتبار، فهو يلبث حتى يحصل على الدرجة الخامسة مثلا ليستطيع أن يتقدم إلى أحد الكبار من ذوي النفوذ ليصاهره فيستعين بجاهه.
أما السيدة مفيدة فقد أرجعت الأزمة لا إلى الأسباب الاقتصادية فحسب، بل اعتبرت الناحية الاجتماعية أهم من العوامل الاقتصادية؛ فأفاضت في الكلام عن عدم إعداد الفتاة للحياة البيتية إعداداً صحيحاً وتقصير الدولة في رعاية الأسرة والأطفال، وتحدثت كذلك عن الحالة الخلقية السيئة التي انغمست فيها الفتاة بانعدام الرقابة عليها.
ولخص خلاف بك الموقف بعد ذلك، وأضاف إلى ما ذكر من أسباب الأزمة ميل الشاب إلى التخفف من التبعات وإيثاره المتعة المنوعة الرخيصة، والاستنارة العامة التي تدفع إلى طلب المستوى العالي في جمال الفتاة وثقافتها.
وعادت السيدة أمينة إلى الحديث فحبذت الزواج المتأخر ذاهبة إلى أن الرجل في مقتبل شبابه يعجبه في المرأة ما لا يعجبه إذا تقدم في السن إذ يرتفع مستوى ما يطلبه من جمال أكثر من قبل، فإذا تزوج مبكراً أدى ذلك إلى عدم الاتفاق فيما بعد. ومما قالته أن حالة الزواج في مصر أسعد منها في البلاد الأجنبية الغربية سواء من حيث نسبة الزواج أو من حيث السعادة الزوجية، لأن الزوجين العاملين هناك لا يلتقيان إلا متعبين مكدودين.
ولما عاد الأستاذ مظهر إلى الكلام قال أنه يرجع الأزمة إلى عامل نفسي أهم من الاقتصاديات والاجتماعيات، ذلك أن الشاب لا يشعر بالاستقرار في هذه الحياة المضطربة، والنفسية غير المستقرة تتهيب الإقدام على الأمور. وهون الأستاذ من شأن الناحية(864/45)
الاقتصادية بأن الشاب العزب ينفق وحده ما يكفي زوجين، وذهب إلى أن أسباب المتعة المحرمة غير ميسورة كما يقال. وركز الموضوع في الناحية النفسية وقال إن حل المشاكل إنما هو في القضاء على أسباب الحيرة والاضطراب ليصل الشاب إلى الطمأنينة النفسية التي تدفعه إلى الإيمان بالله وأن لكل مخلوق رزقه أو إلى الثقة بنفسه وهمته.
وقد جرت المناقشة هادئة يكاد يتفق المتناقشون في الرأي. وكان المتخيل من تأليف المتناقشين أنهم جبهتان جبهة الرجل وجبهة المرأة؛ ولكن الذي وقع هو الخلاف في بعض النقط بين السيدتين. . . فكادت المعركة الكلامية تنشب بينهما لولا جنوحهما آخر الأمر إلى الملاينة وإيثارهما المحاسنة، فكانت كل منهما مثالا للسيدة المثقفة، وقد اختلفنا في ثلاث نقط الأولى أن السيدة مفيدة اعترضت على إحصائية سنة 1937 إذ تغيرت الأحوال بعدها، فاحتدت السيدة أمينة في الرد قائلة إن زميلتها سألتها فيما بينهما لماذا أنت بالإحصائية القديمة فأجابتها بأنها آخر إحصائية، ثم استغلت ذلك في المناقشة العلنية. وأبانت السيدة أمينة أن الإقبال على الزواج زاد في خلال الحرب ثم رجعت الحال إلى ما كانت عليه، ولكن من أين عرفت ذلك وهي نفسها تقول إن إحصائية سنة 1937 هي آخر إحصائية؟ والنقطة الثانية هي أن السيدة مفيدة عارضت تحبيذ الزواج المتأخر، وألقت التبعة في تغير الرجل وانعدام حبه لزوجته إلى الزوجة، لأنها لا تظل على العناية بنظافتها ومظهرها التي تكون في أول عهد الزواج، بل تهمل نفسها بحيث لا يراها الزوج على ما يحب. أما النقطة الثالثة فهي مسألة الزوجين العاملين فقد دافعت السيدة مفيدة عن هذه الزوجية وقالت إن الواقع ينطق بما فيها من السعادة والوفاق.
وقد لاحظت أن الجميع اتفقوا على التهوين من شأن أزمة الزواج حتى كادوا يقولون بأنها غير موجودة. ثم استرسلوا بعد ذلك في بسط الأسباب الداعية حتما إلى أزمة لاشك فيها. . . والواقع أن الحال أشد مما صوروها، فالأزمة وان كان محصورة حقاً في شباب الطبقة المتوسطة إلا أنها قائمة بينهم بدرجة خطيرة، وهم خلاصة أبناء الأمة الذين يعول عليهم في شئونها ومستقبلها.
ولم تخل الندوة من بعض الدعابات والفكاهات، فقد لاحظ الحاضرون أن السيدة أمينة تكثر من كلمة (مظهر) حتى قالت عن شيء أنه مظهر شيء. فقال خلاف بك: لا أنه (مظهر(864/46)
سعيد) وقدم السيدة مفيدة أخيرا بقوله: والخلاصة المفيدة تسمعونها من السيدة مفيدة. . .
ومما حكاه الأستاذ مظهر سعيد من التندر على الزواج أن أحد المدرسين كان مرافقاً لتلاميذه في رحلة بحديقة الحيوان؛ فرأى تلميذ حماراً وحشياً يجري وراء أتان، فسأل المدرس عن سبب ذلك، قال المدرس: أنه يريد أن يتزوجها: قال التلميذ: وهل يتزوج الحمير؟ فقال المدرس: وهل يتزوج إلا الحمير. . .؟
عباس خضر(864/47)
رسَالة النقد
السراب
للأستاذ ثروت أباظة
هي القصة الرائعة التي أنمها الفنان العبقري نجيب محفوظ، وقد أدار حوادثها في بيئة متوسطة ليست بالوفيرة الغنى ولا هي بالمدقعة الفقر.
أطلق الأستاذ نجيب قصته على لسان شاب في طريقه إلى إغلاق الحلقة الثالثة من عمره. . . فهو يقص علينا حياته بادئا بالفطام منتهيا بما يرفع عنه القلم. . . وقد عاش حوله أشخاص كثيرون كان شأن نجيب معهم شأنه دائما مع شخصياته جميعا، يمسك بزمامهم في قوة المتمكن العتيد ويحركهم في دوائرهم المرسومة راسما في كل حركة من حركاتهم خطا بصور ما تنضم عليه نفوسهم من خير أو شر فتعرفهم وتعيش معهم فكأنهم أصدقاء العمر دون أن يقدمهم لك القاص ودون أن يقدموا هم أنفسهم. . . بحسهم وبحسبك أن يسيرهم نجيب وأن تتابع أنت سيرهم فإذا هم الأصدقاء القدماء أو هم - على التقدير المتواضع - أناس عرفتهم فأحسنت المعرفة.
بطل القصة (كامل رؤية) يتابعه نجيب أو هو يتركه يتابع نفسه ويروي لنا أن نشأ كعود وحيد في حقل كبير لا يعتني به إلا الأرض وصاحب الحقل، وقد كان أرض (رؤية) أمه وكان صاحب الحقل جده. وهكذا كان الولد مشدوداً في طفولته إلى فستان أمه أيا كان نوع هذا الفستان فهو معها في كل مكان وهي تأبى عليه ألا أن يكون كذلك. حرمت عليه لعب الأطفال وحرمت عليه الخروج حتى إذا ما ذهب إلى المدرسة عجز عن رد السخرية بل عجز عن الكلام حتى لنسمعه حين يسرح يقول للأستاذ (يا نينه) فتبقى الكلمة علما عليه طول أيامه في هذه المدرسة. . . ولم تكن الأم بالمثقفة حتى تفتح ذهنه إلى شيء. كل ما علمه عن الحياة أن له أماً وله جداً وله أبا سكيراً لم يقم مع أمه أكثر من شهور متفرقة. . . أنجبت أو هي في الحقيقة جلبت فيها إلى الحياة ثلاثة أفراد: بنتاً وولدين كان بطلنا صغيرهم - عاش مع أمه التي تعيش مع أبيها الضابط المتقاعد. . هذا هو كل ما عرفه كامل، وهذا هو ما ظل يعرفه من أمور الدنيا حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره، فهو شخص خامل جبان، يخاف الحياة ويخاف الموت، ويخاف الناس ويخاف نفسه، غبي،(864/48)
ضعيف الإرادة. . يجسم التافه من الأمور، يتعثر في خطاه كلما مشي. . . ولكنه هو الذي يضع العراقيل التي يتعثر بها. لم يكن من بد أن يتعثر في الدراسة أيضاً فنال شهادة البكالوريا لاهثا وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ومنعته سنه الكبير أن يحقق أمنية جده بدخوله الكلية الحربية فينحرف عنها مضطراً إلى كلية الحقوق، وكل ما يسره فيها أنه لن يضرب. . . وقد حدث ما سره فعلا فلم يضربه أستاذ بعصا، ولكن أستاذ الخطابة فعل به ما هو أنكى، فطلب إليه أن يخطب إخوانه فوقف على المنصة ليصمت وليستدعي هزء إخوانه ثم ليولي وجهه شطر الباب ويخرج. . ويخرج إلى غير رجعه، فقد صمم على أن يكتفي من التعليم - أو الشهادات فهو لم يتعلم - بما نال، يسعى بها لدى الحكومة فتعينه ويصير موظفاً بوزارة الحربية. يموت جده وقد كان يحمل عنه عبء البيت بما يقبضه من معاش حتى إذا قبضه الله إليه حار (كامل) فيما يفعل، ولكن الأم تهون عليه وتترك بيتهم الكبير إلى شقة صغيرة وتستقيم الحياة في ظاهرها ولكن كاملا الملتوي لابد أن يلوي الحياة معه. . . فهو في حياة جده كان قد أغرته كثرة المال كما أغراه خوفه وضعفه بشرب الخمر التي نكبت أسرته جميعا وصدعت شملهم ولكنه يجد حين يسحوها جرأة لا يجدها في نفسه إطلاقا. جبان هكذا هو دائما، رعديد يخشى الحياة بنفسه وبعقله فهو يذيب عقله الخائف، ويغمر نفسه الهالعة في كأس الخمر، ولكنه حين مات جده لم يجد ما يكفيه لشربها أو هو على الأقل لم يجد ما يداوم به على شربها.
أم جهول وابن غبي! ماذا نرجو؟ نعم. . لقد شب الطفل خسيس النفس يستعين بجسمه على إخماد غريزته، فلم يجد من يبصره بالعاقبة أو من يعالجه به المراهق - فأفرط حتى تمكنت منه العادة. . . وقد أثارتها في نفسه خادمة قبيحة عندهم وجدتها أمه معه فطردتها وأخبرته أنه أتى أثماً كبيراً؛ فلم يفهم غير هذا حتى إذا تقدم خاطب لأمه قفز الإثم الكبير إلى ذهنه وساءل أمه فأخبرته أن الزواج علاقة يباركها الرحمن ولم تزد، ورفضت الخطبة، فاختلفت الأمور بذهنه فأكب يجلد نفسه بنفسه حتى أصبح لا يطيق إلا هذا. ولما كانت الخادمة قبيحة فإنه شب لا يثير حيوانيته إلا المرأة القبيحة، أما الجميلة فإنه يشرئب إليها بروحه ناسياً أنه رجل.
ظل كذلك حتى أحب ابنة لجار لهم وأراد الزواج منها فوقف في سبيله فقره الذي صار إليه(864/49)
وحياؤه الذي نشأ معه، واستطاع مرتين تحت وطأة الحب الجارف أن يذهب إلى أبيه يطلب منه العون على الزواج؛ ولكن الأب يفهمه في المرة الأولى أن لا مال لديه وفي المرة الثانية يتحسس الأب في كلام أبنه معنى التهديد، ولما كان هو قد حاول قتل أبيه فأخفق، الأمر الذي جعل أباه يحرمه ميراثه لما كان كذلك، فإنه يغضب، ويتجسم كلام أبيه في ذهنه تهديداً صريحاً فيطرد، ويخرج الابن يائساً ولكن لا يطول به اليأس بل يموت أبوه ويرث عنه ما يكفيه للزواج وينتقل هو وزوجته وأمه إلى بيت جديد. . . أن زوجته جميلة. . . لا زوجية إذن. . . عجز عنها ولكن الزوجة راضية. . لم يطق الحال فذهب إلى طبيب يتضح فيما بعد أنه قريب أصهار فيعرف الطبيب عادته التي ظل عليها حتى بعد الزواج فيحاول علاجه. . . ولكنه لا يفلح فينصرف عنه كامل ليستعين بالخمر فينجح نجاحاً واهباً ويقنع نفسه أنه نجح؛ ولكن الزوجة ترجوه أن يرجع إلى ما كان عليه من روحانية فيرجع راضياً في نفسه وعن نفسه محاولاً أن يقنعها أنه إنما تقاعس عن رجولته إرضاء لزوجته. وتمشي الحياة به راضيه ولكن رأى في يد زوجته خطابا مزقته حين رآه فثارت في نفسه شكوك، وذهب يراقب زوجته فيرى فتاة دميمة تغازله فهو جميل، ويغازلها فهو قذر، ويخون زوجته التي اتضح من مراقبته لها إنها بريئة. . . وظل هكذا، دميمته لجسده وزوجته لروحه، حتى كانت ليلة شعرت فيها الزوجة بوعكة فيطلب إليها أن تبقى بالمنزل فتوهمه أن لا سبب للخوف وتقصد إلى بين أمها فيشتد بها المرض فتقيم هناك ليلتها ويعود هو من عند جسده ليجد روحه عند أمها فيذهب إليها، يقيم معها حتى يغدو الليل إلى النهار، فيذهب ثم يعود إليها قبل ذهابه إلى ديوانه ثم لا يطيق أن يبقى بالديوان أكثر من ساعتين فيعود إليها. ولكن لا لم يعد إليها بل عاد إلى جسدها. لقد ماتت كيف؟ أنها عملية قام بها الطبيب الذي عرض عليه نفسه. ولكنه يرى أن الطبيب قام بعملية ليست من اختصاصه فتثب إليه الشجاعة ويبلغ النيابة فيكشف التحقيق عن زوجة خائنة خانته مع هذا الطبيب بالذات فكان ثمرة الخيانة جنيناً حاولا التخلص منه، ولكنها ماتت.
يذهب إلى أمه يكاد يجن فيفزع فيها غضبا جائحا ويتركها ليقلي بنفسه في غرفة غير تلم التي عشق فيها الروح الخائنة حتى إذا كان الصباح نزل إلى القاهرة لا يدري من أمر نفسه شيئاً ويقابله صديق يعزيه. لم يكن يعزيه في زوجته ولكن في أمه. لقد ماتت لقد(864/50)
أخرج غضبه في غير موضعه. لقد كانت الأم طريحة الفراش يهددها القلب بالتوقف حتى إذا طالعها من ابنها هذا العتود. ماتت
وهكذا تتوالى عليه المصائب في غير توقف. وهو هو الرعديد الجبان الضعيف يخر لها في غيبوبة ثلاثة أيام يرعاه أخوه وأخته حتى إذا أفاق وتذكر خيل إليه أنه وصل إلى حقيقة نفسه. وهو أنه خلق للتصوف؛ ولكن لم يكد يستقر به التفكير على هذا حتى تدخل إليه دميمته. إنها تسأل عن صحته وتسدل الستار.
إن في الرواية بعد ذلك لفتات عبقرية إلى دقائق الحياة ليست غريبة على نجيب ولا هي بغريبة علينا منه. ففي الكلام الذي يقوله الأب لابنه في الزيارة الأولى وفي التحليل العجيب لنفسية المخطئ السكير وفي تبريره السر واقتناعه به بعقله إلى جانب عاطفته وفي دفاعه المنسجم مع منطقه. في كل هذا اكتمال، بل قمة فنية نجيب خير من يرقاها.
وفي النقاش الدائر بين كامل السكران وبين الحوذي الذي يطلب إليه (كامل) أن يذهب به إلى بؤرة فساد؛ في هذا الحوار لفتات بارعة فترى الحوذي يقول حين يصل (هنا الفساد الأصلي) في هذه السهولة وهذه الوقاحة ونرى (كاملا) يألم على رغم سكره حين يوغل الحوذي في الحديث. لفتة بارعة أيضاً.
بقي أمر لابد أن أعرض له على من نلقى عبء النكبات المتحدرة على (كامل). نظرة سطحية للأمور تجيب: على القدر. ليس القدر كلها أخطاء بشر. أم مدللة، وجد يدلل الأم. لابد أن ينتج ابن هش ضعيف النفس يتعلق بالقبح، وما هذا إلا شذوذاً في الخلق وعقدة في النفس أودت بحرمة بيته، وهو غبي ولم يكن الغباء موهبة عنده، ولكن أمه لم تعط الفرصة لعقله أن يعمل فخمل، وعرف في نفسه الغباء وعرف فيها الجبن، فاحتقر نفسه، فسقط لو هيأت له تربية صالحة لما سار إلى هوته. أن ذا النظرة السطحية يقول لم لم يهيئ له القدر تربية صالحة. ليس القدر. أنه أبوه أو جده لأبيه لم يحسن التربية، ولم يثقف ولده فأدمن الخمر وتزوج ولم يصبر على الرجولة الحقة، وفضل الدعة إلى جانب كأسه على أن يحمل نفسه مشقة الالتفات إلى أولاده.
والزوجة الخائنة لمن يحسن أهلها تربيتها فسقطت وكان الأحرى بها أن تطلب الطلاق ولا تتردى فيما فعلت، تطلب الطلاق.(864/51)
ولتستتر بما شاءت ولكن تطلبه.
نجيب أنه لعلك تريد أن تقول لنا ما من شر يصيبنا إلا من أنفسنا وما من خير نلقاه إلا من الله. إن كنت فقد أحسنت وإن لم تكن فقد قدمت إلى مكتبة القصة قمة جديدة ننتظرها منك وننتظر غيرها وغيرها. صوراً عن مصر بشرها وخيرها وعن الناس خيارهم وشرارها - فالفن الصادق هو ما يلهمه وطنك تلك النبعة الخالدة. مصر.
ثروت أباظه(864/52)
القَصصُ
المترونوم
للكاتب الأمريكي اوغست درلث
بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
عندما استلقت على الفراش، ولفها الظلام الخفي اللطيف بردائه، نضت شفتاها عن ابتسامة جمعت فيها كل ما تشعر به من الراحة بانتهاء الجنازة أخيراً دون أن يشك أحد في أنها والصبي لم يسقطا عرضاً في النهر، أو يخطر على بال أحد أنها كانت تستطيع أن تنقذ ابن زوجها لو أرادت. وهاهي ذي لا تزال تسمع كلماتهم (أوه، مسكينة السيدة فارل، ما أفظع ما تشعريه) تسمعها ترن خافته وعلى بعد سحيق، في ظلام الليل المدلهم.
إن ما شعرت به من تقريع الضمير عندما غاص الطفل في أليم واختفى تحت سطح الماء للمرة الأخيرة، وعندما رقدت على الشاطئ منهوكة القوى، قد تلاشى منذ زمن طويل. ولم تعد تفكر كيف ارتكبت ما ارتكبته - بل لقد أقنعت نفسها بأن ضفة النهر قد انهارت قضاء وقدراً، وتناست التربة المتداعية، والماء العميق، والتيار الجارف.
وتحرك زوجها في الحجرة المجاورة. أنه لم يشتبه في شيء لقد قال لها وقد لاحت على وجهه سمات الحزن (لم يبق لي الآن سواك) وما أصعب تلك الأيام القلائل الأولى التي مرت عليها. بيد أن اختفاء جيم نهائياً في غياهب القبر قد قلل الشكوك الطفيفة التي انتابتها.
ومع ذلك، كان من الصعب عليها تصور ما اقترفته. لابد أن منشأه نزوة طارئة. بيد أن نفورها من الصبي وحقدها عليه بسبب الشبه الذي بينه وبين والدته هو الذي دفعها إلى ذلك دفعا، وذلك المترونوم! الطفل له من العمر ثماني سنوات أن ينسى مثل هذه الأشياء الصبيانية. لو كان يعزف على البيانو لاختلاف الأمر. ولكنه وهو على هذه الحال، كلا، كلا - كان ذلك كثيراً عليها. أن أعصابها لم تعد تحتمله يوماً آخر. ثم عندما أخفت المترونوم. أثار غضبها بإنشاده تلك الأغنية الصغيرة السخيفة التي سمع والتردامروش يغنيها عند شرحه سيمفونية المترونوم لبتهوفن، في صباح أحد أيام الجمع ببرنامج الأطفال(864/53)
بالإذاعة. إن كلماتها، تلك الكلمات الصبيانية التي بعث بها بتهوفن إلى مخترع المترونوم، كانت تتردد في خاطرها، وترن في شكل مثير في أركان ذاكرتها
كيف حالك كيف حالك كيف حالك
يا عزيزي يا عزيزي السيد ملزو
أو ما أشبه ذلك، فإنها لم تكن واثقة من الكلمات، تلك التي تثابر على التردد في ذاكرتها منذ بدء عزف الجزء الثاني من السيموفنية، وتقرع كالمترونوم تك، تك، تك، بلا نهاية. ومهما يكن من شيء، فإن المترونوم والأغنية قد ركزا فيها شعور البغضاء نحو ابن زوجة فار الأولى.
وحاولت أن تنبذ الأغنية من ذاكرتها. وفجأة، أخذت تتساءل: ترى أين أخفت المترونوم؟ كان في الواقع لطيف الشكل حديث الطراز، ذا قاعدة فضية ثقيلة، وثقل صغير فوق بندول من الصلب ممتد إلى أعلى أمام اللوحة الفضية المنحنية. إنها لم تستلم لأولى نزواتها فتحطمه، فقد كانت تظن أنها ستصنع منه حلية جميلة بعد ما يرحل جيمي، ولو أنه كان يخص والدته. ثم فكرت في ما رجوت، لابد وأن تكون مسرورة لأنها بعثت بجيمي إليها.
ألا يجوز أنها وضعت المترونوم في أ؛ د أرفف خزانة ملابسها. ربما. . . كان من الغريب عليها ألا تذكر شيئاً. ورقدت تفكر فيه. كم يكون جذاباً عندما تضعه على البيانو الكبير، حلية فريدة قائمة عليه، فضة تضارب سواد البيانو. وعلى حين غرة، اقتحم صوت المترونوم تفكيرها. ما أغرب ذلك! إنها تسمع دقاته الآن في الوقت الذي تتمثله في خاطرها! وبدا الصوت في غاية الوضوح. تك - تك، تك - تك - تك - تك -. وحاولت دون جدوى التأكد من مصدرها. كان يبدو أنه يزداد دويا وضجيجا ثم يتلاشى. وكان ذلك غريباً عليها. وفكرت، أنه لم يسبق لها أن سمعته كما تسمعه الآن، حتى في الوقت الذي كان جيمي يمزح معها فيسمعها دقاته. وجعلت تصغي في انتباه.
وفجأة، خطر لها ما بعث القشعريرة في جسدها، وكنم أنفاسها لحظة، ألم تخبئ المترونوم بعد أن أعطاه لها جيمي لتملأه اجل إنها فعلت ذلك. ما لم تكن قد خانتها ذاكرتها إذاً، أنه لا يستطيع أن يدق الآن، لأنه فارغ، لم يملأ بعد. وسرعان ما تساءلت: ألا يكون أر نولد قد وجده وملأه على سبيل المزاح، ثم جعله يتحرك في هذا الوقت؟ وألقت بنظرة على ساعة(864/54)
معصمها. كان الوقت قد قارب الوحدة. أنها لا تعتقد أن أر نولد قادر على مثل هذا المزاح، فهو لابد مخبرها عن وجوده فيقول لها (انظري. لقد ظننت أنك أخبرتني بأن جيمي قد فقده. وهاأنذا قد عثرت عليه فوق أحد أرففك. ومن غير المحتمل أن يكون قد وضع هناك من تلقاء نفسه) وعاد إليها تفكيرها في أنها قد خبأته في مكان بعيداً عن متناول يد جيمي. ثم أصغت: تك - تك - تك - تك - تك - تك. وحدثت نفسها قائلة:
أسمعه أر نولد؟ إن ذلك بعيد الاحتمال، فهو دائماً ثقيل النوم
وترددت هنيهة قبل أن تقوم وتبحث عن مصباحها الكهربائي في الظلام. ثم توجهت إلى خزانة ملابسها وفتحت الباب، ومدت يدها الممسكة بالمصباح تحترق الظلام الدامس، ثم أصغت. كلا، لم يكن المترونوم هناك. ومع ذلك، لم تتمالك من جذب صندوق القبعات جانباً حتى تتأكد. فطالما أخفت بعض الأشياء هناك. وأخيراً انسحبت من الخزانة ووقفت مستندة على بابها المغلق، وقطبت بين حاجبيها في غضب: يا الهي! أكتب عليها أن تسمع هذه الدقات الجهنمية حتى بعد موت جيمي؟ وتحركت في عزم صوب باب حجرتها. وفجأة صدم عقلها صوت جديد. هنالك شخص يسير على بعد من الباب في ناحية ما، يمشي في خطى خفيفة خافتة.
بطبيعة الحال، كان تفكيرها منصباً بادئ ذي بدء على أرنولد، وفي الوقت الذي انبعث فيه تفكيرها سمعت صرير فراش زوجها. وودت لو اعتقدت أن الخادم أو الطاهية قد عادت إلى الدار لسبب ما. ولكنها لم تهضم هذه الفكرة السخيفة في عودة أحدهما إلى الدار في ذلك الوقت المتأخر من الليل ولو لأي سبب. وليس من المعقول أن يكون قد اقتحم الدار لصوص.
وترددت في وضع يدها على مقبض الباب. وأخيراً فتحته شبه غاضبة وتطلعت إلى البهو، وقد أمسكت بمصباحها وصوبته. لم يكن هناك أحد. ومع ذلك؛ ودت لو رأت أحداً هناك. ما أسخف تفكيرها! وتملكتها ثورة جامحة. وفي نفس اللحظة سمعت وقع الأقدام مره أخرى، خفيفة بعيدة، تبدو خافته الصوت من أسفل الدرج. وكانت دقات المترونوم قد أصبحت أكثر تردداً ودويا حتى أنها خشيت أن يستيقظ أرنولد بسببها. ثم أقبل صوت غمر كيانها برعب بارد، صوت صبي ينشد من مكان ناء:(864/55)
كيف حالك كيف حالك كيف حالك
يا عزيزي يا عزيزي السيد ملزو
وتهالكت متكئة على مصارعي الباب ثم تشبثت به بذراعها الخالية، وكاد عقلها أن يعصف بها ولكن سرعان ما خفت الصوت وتلاشى، وظلت دقات المترونوم تتعالى. ومع ذلك شعرت ببعض الراحة عندما استمعت إلى صوته يطغى على أي صوت آخر ووقفت بعض لحظات تشد أزر نفسها. ثم شددت قبضتها على المصباح، وسارت في بطء على طول الرواق. وعندما اقتربت من قمة الدرج أحاطت أنبوبة الضوء الصغيرة للمصباح بيدها الأخرى حتى لا يراها من يكون هناك تحت. ونزلت الدرج في حذر خشية أن يصر فيكشف وجودها.
لم يكن هناك أحد بالبهو، بيد أنها سمعت صوتاً مقبلاً من المكتبة. ودفعت الباب في هدوء فانفتح، إذا بدقات المترونوم تبعث وتكتنفها وتغمرها. ولم تستطيع أن تميز ما في الحجرة إلا بعد أن تقدمت بضع خطوات. وإذا بعينيها تلتقيان بشبح صغير مبهم جاثم بجوار الحائط أمامها. ثم أخذ ذلك الشيء يحوم ويحدق في الرياش ويتطلع إلى أرفف الكتب. واستمعت إلى حركة يدين خفيتين تعبثان في الأركان - أنه جيمي يبحث عن مترونومه.
وظلت دون حراك وقد تهدجت أنفاسها رعباً من رؤية جيمي الميت، جيمي الذي شاهدته يدفن في ذلك الصباح. ولم ينحها عن السقوط في حالة من الإغماء سوى قوة إرادتها.
وأقبل طيف الطفل. أقبل صوبها؛ ثم مر خلالها؛ يبحث، وينقب، في كل ركن يحتمل أن يكون المترونوم مختبئاً فيه وظل يدور حولها. وفي مجهود فائق وجدت صوتها، فهمست في صوت أجش: اذهب، أواه، اذهب بيد أن. الطفل لم يبد أن سمع كلماتها، فقد ظل يوالي بحثه ويطوف في نفس الأنحاء التي كان قد طرقها من قبل عدة مرات. كانت الدقات اللحوحة للمترونوم لا تزال ترتفع وكأنها طرقات المطرقة تتجاوب في أرجاء الحجرة وانزلقت يدها في عصبة مبتعدة عن أنبوبة للضوء عندما مر الطفل بجوارها فشاهدت وجهه، وعينيه تفيضان شرا، وقد فارقتها وداعتهما السابقة، وفمه الغاضب ويديه المنقبضتين.
وفي رعب جارف، استدارت لتفر منه، بيد أن الباب استعصى عليها فتحه، وبعد ثلاث(864/56)
محاولات فاشلة، جعلت تبحث عن شيء يساعدها على فتحه. كان الطفل بجوارها وقد أرتكن بيده في خفة على الباب. وكانت لمسته كافية لجعله لا ينفتح، ثم حاولت مرة أخرى، وتحرك المقبض في يدها كما تحرك من قبل دون أن ينفتح الباب. وكان الطفل لا يزال واقفاً هناك أمامها، ثم حاولت فتح النافذة، فدفعت قفلها بيدها الخالية فلم يتحرك، وشعرت، حتى قبل أن تنظر، أن يد الطفل مستقرة على النافذة يداً شفافة ذات بياض شاحب وقد انحنت قليلاً على زجاج النافذة.
ووجدت نفس النتيجة في نافذة الحجرة الأخرى. وعندما حاولت أن ترفع يدها لتكسر الزجاج لاحظت أن الطفل قد وقف أمامها، فلم تستطيع يدها اختراق الهواء إلى الزجاج وأخيراً استدارت وانسحبت إلى الركن المظلم الواقع خلف البيانو وهي تعول في رعب وفي لحظة كان الطفل بجوارها. وشعرت به يشيع برداً قارساً مخيفاً اخترق ردائها الليل الرفيع.
وأجهشت بالبكاء وهي تقول اذهب، اذهب، ثم شعرت بوجه الطفل يقترب من وجهها، وبعينيه تبحثان عن عينيها، وتتهمانها وبأصابعه الخفية تمتد
لتلمسها. وفي صرخة متوحشة من الرعب انتقلت منه هاربة، وحاولت مرة أخرى فتح الباب إلا أن الطفل كان هناك قبل أن تضع يدها على المقبض. وعرفت دون أن تحركه أن محاولاتها ذاهبة أدراج الرياح. ثم حاولت أن تشعل النور، بيد أنها شعرت بنفس المؤثر الذي منعها من اغتصاب النافذة. ومرة أخرى أخذت تبحث عن ركن مظلم أمين. ولكن الطفل عثر عليها واقترب منها كحيوان يبحث عن الدفء.
وفجأة، انهارت قواها العقلية وتهاوت؛ وشعرت بخوف جارف يغزو عقلها. وأخذت تضرب على الجدران المحيطة بها بقبضتي يديها. ثم وجدت صوتها؛ فصرخت لتتحرر من الرعب الشرير الذي سيطر عليها.
وكان آخر ما شعرت بن أن الطفل يجذبها من وسطها بيديه الخفيتين، ثم سقطت متهالكة بجوار الحائط. وصدمها شيء صدمة قوية في جبهتها. وفي نفس اللحظة كان جسم الطفل اللين ينضغط على وجهها. ثم شملها الظلام.
وفي صباح اليوم التالي وجد أرنولد فار زوجته راقدة بجوار الحائط على مقربة من البيانو(864/57)
الكبير. فركع بجوارها. ودلته خبرته الكافية في الطب أن زوجته قد اختنقت من شيء رطب، فقد كانت الرطوبة تشمل ملامحها. ولم يفهم سر لرائحة النهر القوية التي كانت تفوح في الحجرة، ثم تطلع إلى فوق فشاهد صورة زيتية كبيرة معلقة فوق الجثة، ولم تكن بالطبع هي التي أحدثت ذلك الجرح في جبهتها.
وعلى حين غرة، شاهد ما جرح زوجه عند سقوطه من خلف الصورة حيث كان مختبئاً، كان المترونوم.
محمد فتحي عبد الوهاب
(من كتاب (الهورلا وقصص من وراء الطبيعة) للمترجم تحت
الطبع).(864/58)
العدد 865 - بتاريخ: 30 - 01 - 1950(/)
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 7 -
وذات مساء آخر، وكان معنا صديق ثالث هو الأستاذ الجليل (صاحب الرسالة)، دار الحديث حول فنون شتى كان أولها فن الشعر. وابتدأ الحديث تعقيباً من الزيات ومنى على اسطوانات ثلاث نقلت إلى أسماعنا ثلاث قصائد سجلها عليها الشاعر بمصاحبة الموسيقى، سجلها بصوته بعد أن قامت بهذا التسجيل محطة لندن للإذاعة العربية وقلت له فيما قلت: إن تسجيل الشعر على اسطوانات شيء جميل، وأجمل منه توفيقك في اختيار هذه القصائد الثلاث، ولعلك قد سجلت أحب شعرك إليك ونسيت أن تسجل أحب شعرك إلى النقاد. . . إن ميزان الشاعر غير ميزان الناقد، ولهذا فكم أود أن استمع إلى اسطوانة جديدة تسجل عليها قصيدة هزتني وما زالت تهزني في ديوانك (زهر وخمر)، أتدري ما هي؟ وأجاب في إطرافه حالمة حاول فيها أن يتذكر: أتقصد (سارية الفجر)؟ فقلت في لهجة العاتب على غواص نسى درته اليتيمة: كلا، بل أقصد (راقصة الحانة)! ومرت بعد ذلك أيام. . . وجاء يوم جمعتنا فيه عربة الأستاذ صاحب (الرسالة) وكنا في طريقنا إلى أحد الأماكن في شارع الهرم وحين اقتربت السيارة من ملهى (الأيرزونا) أحسست يداً تقبض على ذراعي ورأيت إصبعاً يشير إلى هناك، وأعقب ذلك صوت الشاعر موجهاً إلى الحديث: هنا يا صديقي شهدت مولد الرقصة التي فتنتني، وهنا سجلت مولد القصيدة التي فتنتك: (راقصة الحانة)!. ونبدأ اليوم بتقديم سلسلة الصور الحسية، وإليك هذه الصورة الأولى من الصفحة الخامسة والأربعين من (زهر وخمر).
سرت بين أعينهم كالخيال ... تعانق آلهة في الخيال
مجردة حسبت أنها ... من الفن في حرم لا ينال
فليست تحس اشتهاء النفوس ... وليست تحس عيون الرجال
وليست ترى غير معبودها ... على عرشه العبقري الجلال(865/1)
دعاها الهوى عنده للمثول ... وما الفن إلا هوى وامتثال
فخفت له شبه مسحورة ... علت وجهها مسحة من خبال
وفي روحها نشوة حلوة ... كمهجورة منيت بالوصال
تراها وقد طوفت حوله ... جلاها الصبا وزهاها الدلال
تضم الوشاح وتلقي به ... وفي خطوها عزة واختيال
كفارسة حضنت سيفها ... وألقت به بعد طول النضال
تمد يديها وتثنيهما ... وترتد في عوج واعتدال
كحورية النبع تطوي الرشاء ... وتجذب ممتلئات السجال
محيرة الطيف في ماثج ... من النور يغمرها حيث جال
تخيل للعين فيما ترى ... فراشه روض جفتها الظلال
وزنبقة وسط بلورة ... على رفرف الشمس عند الزوال
تنقل كالحلم بين الجفون ... وكالبرق بين رءوس الجبال
على أصبعي قدم ألهمت ... هبوب الصبا ووثوب الغزال
وتجري ذراعين منسابتين ... كفرعين من جدول في انثيال
كأنهما حولها ترسمان ... تقاطيع جسم فريد المثال
أبت أن تمساه بالراحتين ... ويرضى الهوى ويريد الجمال!
ومن عجب وهي مفتونة ... تريك الهدى وتريك الظلام
تلوي وتسهو كلهابة ... تراقص قبل فناء الذبال
وتعلو وتهبط مثل الشراع ... ترامى الجنوب به والشمال
وتعدو كأن يدا خلفها ... تعذبها بسياط طوال
وتزحف رافعة وجهها ... ضراعة مستغفر في ابتهال
وتسقط عانية للجبين ... كقمرية وقعت في الحبال
تبض ترائبها لوعة ... وتخفق لاعن ضنى أو كلال
ولكنه بعض أشواقها ... وبعض الذي استودعها الليل
هذه الصورة الحسية وما يتلوها من صور في الفصول المقبلة، تنتسب في جوهر التسمية(865/2)
إلى الإطار الخارجي أكثر مما تنتسب إلى الاصطلاح الفني المتعارف عليه عند أكثر النقاد، فنحن نرد كلمة (الحسية) المقترنة بكلمة (الصورة) إلى كل مشهد في الخارج يقع عليه الحس ثم تخزنه بعد ذلك النفس، أي أننا نردها إلى كل ميدان تعمل فيه المدركات الحسية سواء أكانت هذه المدركات محصورة في مجالي الطبيعة في الكون، أم مقصورة على مفاتن الجسد عند المرأة، أم منسوبة إلى العوالم المرئية التي تحيط بها وتسيطر عليها قدرة الحواس. . . وإذن فليس من الحتم أن نشير بهذه الكلمة إلى تلك الخانة المعهودة في عرف النقاد، حين يرمزون بها إلى الألوان الجسدية في فن الشعرِ غافلين عما تحمله الكلمة بين طياتها من دلالة لفظية ومعنوية!
والتزاماً لهذه الدقة في التعبير فقد نعتنا النماذج الشعرية السابقة بالصور الوصفية في إطارها النفسي، والتزاماً للدقة نفسها ننعت هذه النماذج الجديدة بالصور الوصفية في إطارها الحسي، ذلك لأن الشعر في حقيقته ما هو إلا مظهر من مظاهر الوصف. مهما تعددت فنونه واختلفت مراميه، فالشاعر حين يتحدث عن نفسه منزوياً في حدود عالمه الخاص فهو يصف لنا مجاهل الذات الداخلية فيما تشغله من مجالات نفسية، وحين يتحدث عن مشاهداته منعكسة في أصداء عالمه العام فهو يصف لنا معالم الحركة الخارجية فيما تشغله من مجالات حسية. . . هو فنان واصف هنا وفنان واصف هناك، أما الاختلاف بين الصور الوصفية فمرده إلى الاختلاف بين الأثواب التعبيرية بالنسبة إلى الخيوط الناسجة أو بالنسبة إلى الخامة الصانعة، أو مرجعه كما قلت لك إلى تلك الأطر المصبوغة بألوان النفس حيناً وبألوان الحس حيناً آخر!
بعد هذا نتحدث عن عنصرين جديدين من عناصر الأداء النفسي في الشعر، على ضوء هذه الصورة الوصفية الأولى في إطارها الحسي الأول، ونعني بها (راقصة الحانة). . . هذان العنصران هما عنصر (المراقبة الحسية) أولا يعقبه عنصر (المراقبة النفسية) ولابد من توفر هذين العنصرين على مدار التتابع الزمني عند رصد الحركة الدائرة في منطقة اللقطة البصرية، ثم على مدار التتابع الفني عند تسجيل هذه الحركة الغارقة في ضوء الومضة الشعورية: وهي لقطة نرجعها إلى البصر تصحبها ومضه نردها إلى الشعور، أشبه بلقطة (الكاميرا) المصورة حين تتهيأ لنقل مشهد كامل من مشاهد الحياة، تصحبها(865/3)
ومضه (المغنسيوم) التي تهتك حجب الظلام في كل زاوية من زواياه. . . وهما عنصران أو قل إنهما ملكتان من ألزم الملكات في مثل هذا اللون من الشعر، تقوم إحداهما مقام آلة التصوير وهي ملكة المراقبة الحسية، وتقوم الأخرى مقام آلة الإضاءة وهي ملكة المراقبة النفسية، إذ لا بد في هذا اللون من الشعر من تلك المرحلة التي تمثل عملية (الرتوش النفسية) الخاصة، وكلتا المرحلتين تهيئ للمشهد المنقول تلك القوة الآلية المستمدة من سطوح الحياة الجامدة، وتلك القوة الإشعاعية المستوحاة من أعماق الذات الشاعرة!
وكما تشرف الملكة الأولى على المجالات الحسية المنبثة في زوايا الطاقة البصرية، تشرف الملكة الثانية على المجالات النفسية الكامنة في ثنايا الطاقة الشعورية، وهاتان هما دائرتا الاختصاص الفني لكلتا الملكتين. . . ولكن لابد من التداخل والتشابك في مرحلة التعاون المشترك الذي ينتج عنه التقاء الحركات الخارجية بالحركات الداخلية، أعني لابد من أن تقترب الدائرتان حتى تندمج إحداهما في الأخرى ذلك الاندماج الذي تستحيل معه المعالم الجزئية في الصورة إلى معالم كلية، أي أننا يجب أن نحس وحدة المشهد الحسية والنفسية كلا لا يتجزأ في مقياس الفن ومقياس الشعور!
وإذا كانت ملكة (الوعي الشعري) هي العنصر المسئول عن تنظيم كل حقيقة كونية يعرضها الفكر في ساحة الوجود الداخلي، وكان ضعفها يعرض القضية الفكرية لنوع من الاضطراب تنتج عنه المغالطة المقصودة أو غير المقصودة في مجال المواءمة بين الحقائق في دائرة الواقع النفسي أو دائرة الواقع الوجودي، وإذا كانت ملكة (الرؤية الشعرية) هي العنصر المسئول عن استشفاف كل حقيقة عامة في حدود المنظور أو خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أو فيما وراء الوعي، في ضعفها يعرض الصورة للاهتزاز الذي ينتج عنه تعذر بالمطابقة بين حقيقتها في إطار الفن وحقيقتها في إطار الحياة، فإن ملكة (المراقبة الحسية) مندمجة في ملكة (المراقبة النفسية) هي العنصر المسئول عن تنظيم الحركة المادية حين تتلوها الحركة الوجدانية في سبيل خلق تلك الوحدة التي لا تتجزأ من كلتا الحركتين. . . أما ضعفها فلا تنتج عنه الصورة الوصفية (المهزوزة) كما هو الحال في ضعف الرؤية الشعرية، وإنما تنتج عنه الصورة الوصفية (الباهتة)، وفرق بين ضعف ملكة لا يشمل الخطوط هنا وإنما يشمل (الرتوش الخارجية) فتبدو وهي باهتة الظلال حائلة(865/4)
الألوان!
وإذا أنت عدت إلى هذه القصيدة راعتك هاتان الملكتان تلك الروعة التي ترتفع بالتصوير الحسي إلى أفق باهر السناء، وهو أفق من الآفاق القليلة النادرة في الشعر العربي الحديث. وقيمة مثل هذا اللون من التصوير تتركز في أنه ينقل إليك المشهد المصور نقلاً أميناً ينفذ إلى حسك ونفسك، حتى ليخيل إليك أنك قد تخطيت مرحلة القراءة الذهنية الصامتة إلى مرحلة الرؤية البصرية الماثلة. . . بل إنك أو أنشدت هذه القصيدة أمام أحد مكفوفي البصر من متذوقي الشعر لتمثل (بعين الخيال) كل خطوة من قدم، وكل حركة من ذراع، وكل إيماءة من رأس، وكل هزة من خصر، وكل سمة من سمات هذه الرقصة الفاتنة في هذا الشعر الفاتن! ذلك لأن الشاعر كان في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود المتحرك أمام ناظريه، وهو وجود يشمل الرقصة والراقصة في وقت معاً، وهو فناء غمر منطقة الحواس والعواطف فهيأ لها الوقود الفني الذي يغذي العين والفكر والخيال!
وهو تصوير يخلو من شطحات التخيل الشعري الجامح الذي ينقلب آخر الأمر إلى سلسلة من التهاويل التي إن استسغتها الصور النفسية حيناً فلن تستسبغها الصور الحسية في كل الأحيان. . وليس من التهويل في شيء أن يصف الشاعر تلك الرقصة الفنية هذا الوصف، وهو أن الراقصة كانت تسرى بين أعين الحاضرين وكأنها الطيف، أو كأنها في لحظة عناق مع الآلهة في سماء الخيال. إن التخيل النفسي هنا يستعير ألوانه من ملكة المراقبة الحسية التي شهدت عن كثب حركة الذراعين الممدودتين في الهواء، وحركة العنق المشرئب نحو أفق مجهول، وحركة الجسم المندفع إلى الأمام؛ وكل هذه الحركات قد استحالت في بوتقة اللقطة البصرية إلى حركة واحدة: هي العناق. . . وما دامت هذه الحركة الجامعة لم تلتق على مسرح الحياة بما يماثلها من واقع مادي، فلا مناص من أن تتدخل ملكة المراقبة النفسية لتصور لك حركة العناق بأنها كانت مع آلهة في الخيال! وتمضي كل ملكة بعد ذلك ترقب وتسجل، وكأننا بملكة المراقبة الحسية تنظر ثم تهتف:
فليست تحس اشتهاء النفوس ... وليست تحس عيون الرجال
فتجيبها ملكة المراقبة النفسية معقبة:
وليست ترى غير معبودها ... على عرشه العبقري الجلال(865/5)
ولعل هذا التعقيب منها أشبه بتوكيد الصورة الأولى التي رسمتها في البيت الأول، حين شبهت الحركات الراقصة بعناق الآلهة! وإذا رحت تحصي النقلات الحسية والنفسية موزعة على عمل الملكتين - على هذا النحو الذي قدمناه إليك - فستجد عنصري التتابع الزمني والفني - كما سبق أن قلنا - هما العاملان الرئيسيان في توجيه الحركات المادية والوجدانية، وفي مزجها ذلك المزج الذي تحس معه وحدة المشهد الحسية والنفسية، كلا لا يتجزأ في مقياس الفن ومقياس الشعور. . . ومن مظاهر هذا المزج أن تدور الصور مسرعة متلاحقة حول تلك الحركات، وإذا أنت أمام هذه الوحدة متجمعة في هذه الأبيات:
دعاها الهوى عنده للمثول ... وما الفن إلا هوى وامتثال!
فخفت له شبه مسحورة ... علت وجهها مسحة من خيال
وفي روحها نشوة حلوة ... كمهجورة منيت بالوصال
أرأيت إلى هذه القوة الإشعاعية المستوحاة من أعماق الذات الشاعرة في البيت الأول، عندما يبلغ العناق حد الهوى الداعي إلى المثول؟. . . وما أروعها من طرقة نفسية تلك التي تجمع الخطوط المتناثرة في لوحة واحدة تمحل هذا المعنى الكبير: (وما الفن إلا هوى وامتثال)!! ومرة أخرى تمضي الملكتان في المراقبة والتسجيل، وكأنهما في حوار تتبادلان فيه الصور والكلمات.!
تقول الأولى:
تضم الوشاح وتقلي ... به وفي خطوها عزة واختيال
وتقول الثانية في معرض المقابلة النفسية والتمثيلية:
كفارسة حضنت سيفها ... وألقت به بعد طوب النضال
وتجيبها الأولى من جديد مشيرة إلى حركة اليدين:
تمد يديها وتثنيهما ... وترتد في عوج واعتدال
وتعقب الثانية مرة أخرى على طريقتها التشبيهية:
كحورية النبع تطوي الرشاء ... وتجذب ممتلئات السجال
وهكذا تحملك لغة الحوار بين ملكتي المراقبة الحسية والنفسية من جو إلى جو، ومن أفق إلى أفق، ومن ميدان إلى ميدان. . .(865/6)
ولكنك على اختلاف هذه الميادين والأفاق والأجواء، لن تصادف صورة واحدة تنقصها دقة المطابقة بين ما هو ماثل أمام العين وما هو كامن داخل النفس، أو بين ما هو معروض على الحواس وما هو مختزن في الشعور. فالراقصة التي تضم الوشاح، ثم تلقي به، ثم تخطو تلك الخطوات المعتزلة المختالة، تقابلها نسخة أخرى مستخرجة من أعماق الذاكرة المختزنة لكثير من صور الحياة، وهي تلك الفارسة التي تحتضن السيف، ثم تلقي به بعد الإياب من جولة المجد في حومة النضال. وهذه الراقصة نفسها حين تمد يديها إلى الأمام، ثم تثنيهما إلى الخلف، ثم ترتد بجسمها في عوج واعتدال؛ تبدو في مرآة الشعر التي تنعكس على صفحتها الرؤى المماثلة والأطياف المشابهة، كما تبدو تلك الحورية الواقفة أمام نبع تلقي فيه بالدلاء - وهذه هي حركة اليدين الممدوتين - حتى إذا امتلأت تلك الدلاء راحت تجذب الحبل المدلى لترفعها إلى الخارج - وهذه هي حركة الدين الجاذبتين - ينثني جسمها ويعتدل تبعاً لحركة الانحناء وحركة الاستواء!. . . وطبق أنت بقية الصور المرئية على بقية الصور المتخيلة في الأبيات التالية؛ هناك حيث (تلقاها محيرة الطيف في مائج من النور أشبه بفراشة روض جفتها الظلال) أو أشبه بتلك (الزنبقة التي تتوسط قطعة من البلور تعكس أضواء الشفق الأرجواني عند مغيب الشمس) ولا تنس تلك (المتنقلة كالحلم بين الجفون أو كالبرق بين رؤوس الجبال)، ولا تسرع عند طوافك بمعرض هذه الصور الأربع، لأنه معرض منقطع النظر:
على إصبعي قدم ألهمت ... هبوب الصبا وثوب الغزال
وتجري ذراعين منسابين ... كفرعين من جدول في انثيال
كأنهما حولها ترسمان ... تقاطيع جسم فريد المثال
أبت أن تمساه بالراحتين ... وبرضى الهوى وبريد الجمال!
أرأيت إلى هذه القدم التي (ألهمت) هبوب الصبا في الحركة البطيئة الناعمة، ووثوب الغزال في الحركة السريعة النافرة؟! وتتلوى الراقصة وتسهو، وتعلو وتهبط، وتعدو وتزحف، وتسقط وتنهض، ومن وراء هذا كله تقف العدسة النادرة لتلتقط، وتقف الذات الشاعرة لتمثل: وإذا الصورة الأولى تقابلها (اللهابة المتراقصة قبل فناء الذبال)، وإذا الصورة الثانية يقابلها (الشراع المتأرجح بين الجنوب والشمال)، وإذا الصورة الثالثة تقابلها(865/7)
(اليد الملهبة بالسياط والضراعة المستغفرة في ابتهال)، وإذا الصورة الرابعة تقابلها (القمرية المتخبطة بين الحبال). . . وإذا أنت تخرج من هذا المعرض الحافل ترن في مسمعيك هذه الأصداء:
تبض ترائبها لوعة ... وتخفق لا عن ضنى أو كلال
ولكنه بعض أشواقها ... وبعض الذي استودعتها الليال
(يتبع)
أنور المعداوي(865/8)
صور من الحياة:
خيانة امرأة
- 1 -
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا قارئي:
هذا صاحبي انضم على أشجانه حيناً من الزمان، يكتم الأسى بين جوانحه ويدفن الضني بين ضلوعه حتى أثقله الهم وأرهقه الوجد، فجاء ينثر عبرات قلبه بين يديك علك تسمع فيها أنات روحه الحزينة أو تحس وجيب فؤاده الكسير، فتلفحك حرقة اللوعة أو تهزك سفعات الضيق، فتهديه إلى الرأي الذي عذب عن فكره وتبصره بالصواب الذي ند عن عقله. فهل تعينه برأي منك فيه العقل والصواب؟
كامل
يا عجباً! ما للطبيعة الوادعة تثور على حين فجأة فيضطرم لظى الغيظ في جوانبها ويحتدم أوار الغضب في نواحيها، فلا تسكن غائلتها إلا أن تنثر معاني الموت والدماء في ثنايا الحياة الوثابة، وإلا أن تنفث آثار الخيبة والضياع في زوايا الأمل الباسم، وإلا أن تبذر غراس الأسى والكمد في أضعاف القلوب الهادئة المطمئنة؟
يا لقلب الإنسان حين تتناوحه ثورات الطبيعة الجارفة فلا يجد مفزعاً من الرياح الهوج وهي تعصف حواليه زقرافة تريد أن تلفه في إعصار من الهم، ولا من الموج العاتي وهو يهدر مهتاجاً يحاول أن يبتلعه في يم من الوجد، ولا من الصواعق القاسية وهي تنحط عليه لتنفضه بين شحنتين من الضيق والملل، ولا من البركان وهو يقذفه بالحمم لظى يتوقد وهيجه يبتغي أن يحرقه بنار الشجن!
يا لقلب الإنسان حين تتعاوره ثورات الطبيعة الجارفة فلا يجد مفزعاً إلا أن يسمو عن النزعات الترابية، وإلا أن تعلو روحه عن المعاني الأرضية، فيقبس من نور السماء الهدي والراحة والسكينة حين يطمئن قلبه بالايمان وتهدأ خواطره بالعقيدة
جلس إلي صاحبي بعد أن حجبته نوازع العيش عني سنوات، فعز عليّ أن أراه خاشع(865/9)
الطرف كاسف البال مطأطئ الرأس مضطرب الخاطرة، وهو كان فتى طروباً يتنزى مرحاً وبهجة، ويتوثب سروراً وفرحاً. وعز عليّ أن ألمس سمات الأسى تضطرم في أغوار قلبه بشبابه وتغض من نضارته؛ وأن أحس لفحات الحزن تتأجج بين طيات ضلوعه فتذره ضعيفاً واهياً يتعبد
للجزع فتنحط قوته ويستذل للهم فيضوى عوده، وهو رجل فيه القوة والفتوة لا يعجزه أن يجد أسباب المتعة، وفيه العقل والثراء لا يؤوده أن يسري عن نفسه بعض أشجانها، وفيه الرأي والنشاط لا يهن عن أن يتلمس مسالك المرح
وجلست أنا إليه أنفضه بنظراتي وقد انعقد لساني عن الكلام لأنني شعرت بأن روحه غريبة عن روحي، وأن نوازعه لا توائم طبعي، وانطوت ساعة من زمان
وتكلم صاحبي بعد صمت فبدا لي كأن كلماته تصاعد من أعماق نفسه، أنات ينتفض بها قلبه الواهي، وهو يئن تحت وقر من الأسى يطحنه في غير شفقة ولا ورحمة، فقال: أما قصتي فهي:
لقد كانت هي فتاة قاهرية تتألق في ريق الشباب وتتألق في بهجة العمر، لم تسم إلى أوج الجمال ولا انحطت إلى قرار الدمامة شذبتها المدينة فنزعت عنها حماقات الجهل والغلظة، وصاغتها الحضارة على نسق من الرقة واللين؛ ووسمتها المدرسة بطابع من الدهاء والمكر، وصبغتها السبما بفنون من الأنوثة والدلال، فبدت كالزهرة الفواحة لا يحجبها الورق ولا يمنعها الشوك. أما أنا فكنت فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل مدني العقل، أترفع عن خداع المدينة وأتنزه عن لؤم الحضارة وأسّمو على دنس الحيوانية
وتلاقينا على ميعاد، فراقني منها. . . أول ما راقني. . . أن أراها تشاركني الرأي في غير خضوع وتجاذبني الحديث في غير جهل. وعهدي بالمرأة في الريف تمعن في الحجاب فلا تجلس إلا إلى محرم ولا تتزين إلا لزوج، تعيش في زاوية من الدار هملا كأنها بعض المتاع، لا رأى لها ولا عقل. وأعجبني أن أحس في فتات الأنس والسكينة فعقدت العزم على أمر
وانطلقت إلىأبيفي القرية أنشر أمامه طوايا نفسي المشرقة وأحدثه بأمل قلبي الغض، فرمقني بنظرات فيها الشفقة والحنان غير أنها كانت تنطوي على معاني جياشة من(865/10)
الازدراء والمقت، ثم قال في استسلام (أنت وما تريد، يا بني!) فأحسست في صوته نبرات الكراهية والبغض واستشعرت في كلمات رنات الرفض والآباء. وحز في نفسي أن أرى أبي يكتم عني الرأي ويضن بالنضيحة؛ فقلت له. يا أبي، إنني ألمس من وراء كلامك دوافع نفسك وخلجات فؤادك، فلماذا تمسك عني الرأي وتبخل بالمشورة؟) قال (يا بني؛ إن في الشباب جماحاً يدفعه عن أن يستسيغ الرأي، وإن به شماساً ينزعه عن أن يسمع حديث العقل. فهو عبد الرأي الفطير والفكرة الفجة) قلت (ولكنني أوقن بأن في الشباب زلات لا تقيمها إلا تجارب الشيوخ، وأن فيه عجزاً لا يكمله إلا عقل الشيوخ، وأن فيه نزوات لا يقيدها إلا رأي الشيوخ) قال (وفي الشباب بريق يخطف البصر، بريق يتألق في حديثهم وهو يتسم - دائماً - بسمات المنطق المصنوع والفلسفة الخاوية، بريق يتألق في الحديث ويخبو في العمل) قلت (وماذا يصيرك إن أنت أسديت النصح لأبنك؟ لعلك تخشى أن لا تجد أذناً تسمع ولا قلباً يعي؛ أو لعلك تضن بتجاربك على بعد أن يلفت مبلغ الرجال وأصبحت موظفاً في الحكومة، خيفة أن أسخر من رأي أو أن أهزأ بفكرة) قال (يا بني، لست أخشى رأي الشباب في عقل الشيوخ) ثم أخذأبييناقشني في عنف ويجادلني في شدة لا بني عن أن يصرفني عن نوازع نفسي ويدفعني عن رغبات قلبي فقال (إن القروي، يا بني؛ لا يحس في الزوجة إلا المتعة والمتاع ولا يطلب إليها إلا الطاعة والاستسلام، أما أنتم فتلمسون فيها الرفيقة والصاحبة. والرفيق. . . في رأيي - هو عون رفيقه وساعده، وهو هدي صاحبه إن ضل ونبراسه إن تاه وموثله إن سدت في وجهه السبل، فهل تستشعر في فتاتك معاني الرفيقة؟) قلت (نعم، فأنا أرى فيها العقل والرأي معاً) قال وهو يبسم في سخرية (إن المرأة لا تجد العقل إلا في الشارع) قلت (وهي تجده في العلم وفي المدرسة وفي الجامعة) قال في جد (وبين البيت والمدرسة أفانين من الحياة وصنوفاً من العقل تتنقفها الفتاة في غدوها ورواحها فتتقنها قبل أن تتقن الدرس، وتجيدها قبل أن تجيد العلم، وتعيها قبل أن تعي المطالعة) قلت (ولكن الفتاة العاقلة المهذبة تثور معاني الشرف والكرامة في دمها فتسمو بها عن الزلل وترفعها عن السقوط) قال (وهل تستطيع المرأة البرزة أن تحبس دم الشباب الفوار عن أن يصرخ في عروقها صرخات شيطانية وضيعة حين تجلس إلى الرجل في غير رقبة ولا حذر؟) قلت (يا أبي! إنك تتجنى على المرأة المتعلمة) قال (وفي(865/11)
رأيي، إن المرأة المتعلمة لا تتورع عن أن تسلك إلى قلب، زوجها مسالك فيها الخديعة والمكر، ولا تترفع عن أن تنفذ إلى مال زوجها في مسارب فيها الإغراق في التبديد والإفراط في البذل؛ فلا تبقى على عهد ولا تبقى على مال) قلت (هذا غلو، يا أبي) قال (وإذا تفلسفت الفتاة في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانتها فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. أن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .) قل (يا أبي. . .) فقال هو مقاطعاً (فإذا لم تصلك بزوجك صلات من القربى ووشائج من الدم عبثت بشرفك وفرطت في كرامتك وبددت ثمار كدك) قلت في لهفة (ولكني. . .) قال (ولكنك تحب فتاتك. لا عجب، فهي قد اغترتك عن نفسك وخدعتك عن عقلك وسحرتك عن صوابك، لأنالمرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه) قلت (يا أبي، لا ريب فنزوات الشباب تطم - دائماً - على العقل وتعصف بالرأي، وسأفكر فيما قلت)
وخرجت من لدن أبيبعد أن عزني في الخطاب، وإن كلماته ترن في أذني وأن حديثه يدوي في عقلي فعزمت على أن أنبذ فتاتي إلى فتاة من ذوي قرابتي
وانطوت الأيام فإذا أنا إلى جانب فتاتي القاهرية أبثها لواعج الهوى وأشكو إليها حرقة الغرام، ثم لبثت أن سميت على خطبتها فتزوجها. ووقف أبي إلى جواري ليلة الزفاف وقف كارهاً وهو ينفضي بنظرات فيها الألم والحسرة، فاضطرب قلبي وتزعزعت سكينتي
وتزوجتها فإذا كان منها وماذا كان. . . يا قلبي؟
(يتبع)
كامل محمود حبيب(865/12)
الفونس دوديه
الأديب الضاحك
للأستاذ أنور لوقا
منذ قرون ثلاثة، تساءل (لابروبير) وساءل قراءه لماذا تخجل من البكاء في المسرح إذا شهدنا قصة محزنة، على حين أننا ننفجر بالضحك إذا شهدنا قصة هازلة؟ لماذا لا نرسل الدمع كما نطلق الضحك؟ أو لماذا لا نكتم الضحك كما نحبس الدمع؟ أهي طبيعتنا أميل بنا إلى الضجيج بالفكاهة منها إلى التفجع للحزن؟ أم أننا نخشى أن تختلط قسمات وجوهنا ونشوه صورتنا أمام الناس إذا بكينا؟ فإن منظر الواجم المنتحب أروع وأجلّ من منظر الماجن المقهقه! لعله تحرج إذن من الظهور بمظهر التأثر والحنان والضعف، لا سيما إزاء موضوع خيالي غير واقعي يسوؤنا أن نعترف لسوانا بأنه يخلبنا ويخدعنا. ولكن المرء لا يتأثر على أي حال إلا لأن الحقيقة قد مست قلبه، أو تمثيل الحقيقة، وما يقاوم البكاء والضحك جميعاً، ولا يسفه (المخدوعين) بالقصة إلا شرذمة من المتحذلقين. لقد كان علنيا إذن أن نذرف الدمع في الملعب على مرأى من الناس، وأن نسمع جمهور المسارح يموج أحياناً بالنواح كما يجلجل أحيانا بالضحك!. . .
وأكبر الظن في تعليل هذه الملاحظة الطريفة أن الضحك - كما يقول برجسون - ظاهرة اجتماعية، تنشأ بين عدد من الناس، أما البكاء - ولا ندري ما رأي برجسون في البكاء - فظاهرة فردية تنبع من صميم قلب المرء، أي أن الفكاهة (اتجاه إلى الخارج) والحزن (اتجاه إلى الداخل) إذا صح فهم هذا التعبير:
من أين يأتيك الضحك ومن أين يأتيك البكاء؟. . . أنت لا تضحك من تلقاء نفسك، هيهات، ولكنك قد تحزن وقد تبكي إذا خلوت إلى نفسك. وأنت لا تكاد تمسك عن الضحك والتندر والمزاح كلما ضمك مجلس أو لقبك صديق، ولكنك لا تجرؤ على أن تبسط أشجانك أمام جماعة من الناس، لا سيما إذا ضحكت الألفة بينك وبينهم. فأنت تريد بالتضاحك أن تشرك الآخرين في ملاحظة ساخرة لاحظتها، ولاستهزائك برذيلة أو عيب وظيفة اجتماعية هي عقاب تلك الرذيلة أو تقويم هذا العيب. أما الحزن الذي يستولي عليك حين ترى مشهداً فاجعاً، فما هو إلا تأثرك بالمأساة، واستقبالك لها، واستئثارك بشطر منها لنفسك. الحزن إذن(865/13)
شيء تأخذه لنفسك لا لغيرك، وتحتفظ به لك وحدك ولا تعرضه على سواك. وكثيراً ما يبيت سراً من أسرارك تجتره في ضميرك وتدفعه في وجدانك ويمنعك الحياء من أن تبوح به للآخرين، فإذا ناجيت به خلاً حميماً فلأنك تجد في هذا الخل مرآتك أو بقيتك، أي أن حزنك لا يخرج عن نطاقك الخاص على كل حال. ومن هنا قلنا إن الحزن اتجاه إلى الداخل بمعنى أنه شعور داخلي، باطني، خاص لا تكلف فيه ولا عناية، ويكون في أنقى حالاته عند المنطوي على نفسه، والضحك واتجاه إلى الخارج بمعنى أنه تهريج مع الناس، وانبساط هو ضد الانطواء لفظاً ومعنى، وسخرية ترمي أهدافاً قريبة أو بعيدة، وتكلف اجتماعي ميدانه العالم الخارجي قبل كل شيء.
وقد كان ألفونس دوديه رجلاً رقيق الشعور عميق التأثر، لا يفصل الأدب لحظوة عن الحياة (راجع العدد 846 من الرسالة: الشاعر في الشارع).
كان في أدبه كما كان في حياته، قيثارة مرهفة الأوتار. ها هو ذا، تهز نفسه مأساة صغيرة أو كبيرة، فيأتي إلينا والدمع يجول في أجفانه، ويفتح لنا قلبه يناجينا بها مناجاة إلف صادق، ثم يحس عبراته تنسجم كلما أفاض في قصته، فينظر حوله بمقلتيه البليلتين، ويرنا متأثرين، فيفيق، ويغمره لون من الحياء، ويكاد يخجل ويندم، ولكي يستر ضعفه يبادر إلى إلقاء نكتة سريعة والابتسام لها. . . على أن هذا كله يتم في لحظة قصيرة، فيلتقي الحزن والمرح في عبارة واحدة، وتمتزج الدمعة والابتسامة في حديثه دائماً.
هذه الفكاهة الخفيفة اللاذعة في أدب دوديه هي قناع الحنان وستار الإحسان، لأن كاتبنا الساحر حبي، يتجنب أن يستمطر مآقي جلسائه أنهار الدمع إعلاناً عن رحمته بالأشقياء وبره بالبائسين. أنه يكره التكلف والإسراف. وقد أغرق أتباع روسو فجر القرن التاسع عشر في سيل من الدموع، وأصبح الكاتب لا يبكي إلا ضماناً لرواج كتابه، والممثل لا ينتحب إلا استغلالاً لمشاعر النظارة، حتى لقد نفر الفرنسيون منذ ضحى القرن التاسع عشر من إظهار العاطفة وأمسوا يعتبرون البكاء نفاقاً والعويل أضحوكة واستدرار الدمع فناً بالياً مبتذلاً. لهذا كانت لابتسامة دودية قيمة الوقاية من وباء. وهي وقاية طبيعية تشهرها السجية الخالصة ويشهرها الحياء الجم في وجه التكلف البغيض. بل إن شعشعة الحزن بشيء من المرح فن عميق، بعيد المرمى، خليق بأن يمد من تردد الحزن في نفس القارئ،(865/14)
إذ يتركه مختلجاً بالتأثر بدلاً من أن يذيبه حسرات ويسحقه بالكمد.
وهذا هو الفرق بين حزن دوديه وحزن معاصريه من أدباء المدرسة الطبيعية المادية - أمثال إميل زولا. فهؤلاء يستنبطون مشاهد عنيفة، ويصفون آلاما قاسية، ويفعموننا ما استطاعوا بشعور بارد كثيف من التشاؤم الأسود الحالك. نقرأ قصصهم فتؤزنا وتثيرنا، وتظل تقيمنا وتقعدنا، حتى ترهقنا بالألم والثورة، وتكتم أنفاسنا في آخر الأمر تحت كلكل القدر الغشوم الذي يذهب البطل ضحيته. على أننا لا نكاد نرثى للبطل ولا نكاد نشفق على أصحابه، فهم قوم جبابرة ملاعين، كأنهم قُدوا من صخر، وكأنهم خلقوا للعذاب، وإنما تروعنا بشاعة البؤس، وتفزعنا رهبة المصير، فننسى الأشخاص جميعاً، ونفكر فيما ورائهم، وتنتهي أفكارنا إلى سخط على الحياة وحقد على القدر ويأس وقنوط. ولا كذلك عاطفة دوديه؛ فإنها نقيض هذا الشعور الجائع الناقم الممض. إنها نزعة مستبشرة إلى الخير، إنها نظرة عين وامقة تفتقد الصغار وترفق بهم، إنها إخاء وحنان، إنها أحضان رحيبة مفتوحة، عزاء للبائسين والمساكين، بكاء معهم وابتسام لهم. فليس يحرك عطفنا إلا شقاء يحيق برجل شبيه بنا، نستطيع أن نتعرف فيه أنفسنا دون أن ننفر من موقفنا وسلوكنا إذا قمنا مقامه، ويشتد عطفنا وتزداد شفقتنا حين يعبر عن هذا الشقاء رجل شبيه بنا يحس الإحساس ويحسن التعبير عما يحس، باللفظ أو الإيماء أو الصمت. ويا لمناهل الشعور الإنساني الكريم التي تتدفق في أقاصيص دوديه! بيد أن دوديه يعرف كيف يشجينا دون أن يجلل الحياة أمامنا بالسواد والشؤم واللعنة. أنه غني عن المشاهد العنيفة والمواقف المثيرة. وأين حياتنا التي نحياها من تلك النوازل الهائلة التي لا تبقي ولا تذر؟ وأما هذه التوافه التي يهملها الكبار والمتكبرون، والتي تعج بها أيامنا وليالينا، فهي بعينها ما يلتمسه دوديه وما يعني بتقديمه لنا (راجع العدد 809 من الرسالة: الشيء الصغير).
أمن دمع هذا الكاتب تنبع ابتسامته؟ فإن ابتسامته بدورها لا تغيض ليست سخرية دوديه بالشائكة ولا الحادة ولا الخبيثة ولا المريرة. ليس كسخرية لابروبير أو فولتير أو أناتول فرانس. ولا هي هزل أجوف عماده بديع اللغة والتلاعب بالألفاظ، وإنما هي تهكم حي، عذب، خصب، ينالى المعاني والمواقف والأشخاص. بل إننا نبالغ في إطلاق كلمة السخرية على فكاهة دوديه، إنها مزاح برئ، ميل إلى العبث من طفل كبير يلمح عيباً في بعض(865/15)
الناس أو ضعفاً في بعض النفوس فيضحك فمه ملء فيه ويضحكنا معه، ولكن هذا الطفل الكبير يرى في نفس الوقت وراء الكلمة أو الحركة التي كشفت له ذلك العيب المضحك أو ذلك الضعف المضحك وجه إنسان دائما، وجه أخ مسكين ألمه من آلامنا وبؤسه من بؤسنا ومصيره كمصيرنا، ومن هنا تجتمع الدمعة والابتسامة في وجه الفونس دوديه، وتأتلقان، ولا تفترقان قط، وهل حياتنا إلا مزاج متصل من هذه وتلك؟
ولقد سأل ليون دوديه أباه ذات يوم عن سر قدرته وبراعته في ولوج قلوب الآخرين والتعبير عنها، فأجابه إجابة ضافية، قال: (لست يا ولدي ميتاً فيزيقيا كما تعلم، ولكن يبدو لي، من خلال جميع المذاهب، أن الفلسفة وإن كانت نافذة النظر في مشاكل العقل والفكر والذكاء، إلا أنها أولية بدائية قاصرة في كل ما يتصل بالشعور.
مازال الشعور يا بنيّ عالماً غامضاً مجهولاً مليئاً بالهوَّات السحيقة. ألم يكن كل مجهود ديكارت وسبينوزا مجرد محاولة إرجاع الشعور إلى العقل، والتماس حلول منطقية جافة للمسائل العاطفية.
أما أنا فليس لي إلا خبرتي، تدعمها بعض الأحلام. بيد أن خبرة شخص واحد هي خبرة الناس جميعاً، ما دمنا أفراداً يمتاز كل منا عن صاحبه بنظم دقيق خاص من ملكات عامة.
والشعور الإنساني يبدو لي ضرباً من محيط دائرة، كل عنصر فيه إنما هو صورة مختصرة للمجموع، وما الرحمة الفردية والألم الفردي والإحسان الفردي إلا انعكاس للرحمة الجامعة والألم الجامع والإحسان الجامع. . .
إن علينا نحن القصاصين واجبات وأوزاراً: علينا أن نشرك الناس دائماً في شعور واحد، وأن نرمي بكل ما نملك من جهد إلى غاية مثالية هي حفز دوافع الخير والكرم في النفوس، وعطف هذه النفوس بعضها على بعض، وتوجيهها وجهة سامية تكون قبلة الجميع وملتقى إرادتهم. وعلينا نحن القصاصين يقع وزر ما ننشر من شر ومن قبح سواء صدرنا في ذلك عن إهمال أو قضينا به حاجة وأصبنا رزقا. وعلينا يقع أيضاً وزر القعود عن إسداء العون، وترك الضعاف للفشل واليأس، وازدياد آلام الإنسانية وخبثها. . .)
وتلك لعمري فلسفة الشعور التي تزري بالفلسفة. فلسفة صادقة ساذجة نزيهة، فلسفة الإنسانية الصريحة التي تأبى أن يخنقها المنطق والتحذلق، وتحيا قريرة في النفوس(865/16)
المؤمنة بالخير، والقلوب الخافقة بالحب، والأيدي الممتدة بالإحسان، والعيون الدامعة والشفاه الباسمة.
أنور لوفا(865/17)
الحرية في المذهب الوجودي
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
- 2 -
تكلمنا قبل هذا عن الحرية في الوجودية من وجهة النظر المتانيزيقية. ونحاول الآن أن نحدد خصائصها على نحو واقعي في المذهب الأخلاقي الوجودي إن صح أن للوجودية أخلاقا بمعنى الكلمة. والذي يتبين لنا من أول الأمر أن المذاهب جميعاً في فرنسا - وليست الوجودية فحسب - تحاول أن تقدم للناس في هذه الفترة الحديثة نظريات أخلاقية مختلفة بالإضافة إلى ما تقدمه من التفسيرات الفلسفية والفكرية وما يحلو لها أن تذيعه من الأصور والآراء. بل إن الجانب الأخلاقي يطغي على كل ما عداه من الجوانب الأخرى في فلسفات الفرنسيين المحدثين، ويظهر تشكل واضح بين الأنظار الكثيرة حتى لتحسبه الأوحد من بينها في الأهمية والخطورة. ولعل الحياة الفرنسية اليوم هي التي تتطلب هذا كله وتقتضي من كل مذهب فكري أن ينحرف في هذا الاتجاه تبعاً للحاجة الأصلية في نفسية الأمة والعوز الروحي في تكوينها الحضاري. أو لعل الصلة القوية التي يحس بها الفرنسيون بين حياتهم المادية وأنظارهم العقلية، أو بين وجودهم ومعرفتهم، على حد تعبير الفلاسفة، هي التي تلج عليهم وتدفعهم دفعاً إلى إنكار مجموعة من القواعد الوضعية التي تلائم ما في نفوسهم من ثورة وما في قلوبهم من ارتياع.
وتأتي الحاجة إلى مثل هذا الاتجاه في نفسية الأمة الفرنسية من أنها ظلت أمداً طويلاً تمثل الأمة المفكرة وتقوم بدور الشعب الفيلسوف وتخسر في سبيل ذلك كله غير قليل من الجاه والسطوة العمليين في الحياة: فكما أن الأديب الذي يشغل نفسه بمسائل الفن ويملأ عقله بالتأملات الروحية بعيد كل البعد عن نطاق الواقع المحدود وآفاق العمل اليومي، بقيت فرنسا - وهي دولة الفكر الأولى - غارقة في التخيل والنظر العقلي، زاهدة في الأفعال الواقعية المنتجة، مدفونة بين صحائف الشعر وسكرات الليل وظلمات القبور. وجاءت الهزات متتالية في الميدان السياسي، وتدخلت الظروف على أسوء نحو في المعيشة الفرنسية فجعلتها ضرباً من المأساة التي يعاني صاحبها أكثر مما يعاني العائم بين أشواك الورد. وتطلع الناس من جراء هذه الخيبة المتكررة في حياتهم إلى نوع من الخلاص كما(865/18)
يقول المسيحيون أو نوع من النجاة كما يقول المسلمون. وتبين هذا العوز في محاولاتهم المتكررة لإيجاد ناموس أخلاقي يعين على رفع الظلمة ويساعد في كشف الغمة، وظهر عملهم واضحاً في جملة التأليف الفكرية التي اتخذت موقفاً وضعياً قبل كل شيء.
ونحن المصريين محتاجون إلى غير قليل من هذا ألاتجاه. فأخلاقنا تنبني في أصلها النظري على الأديان السماوية حتى اليوم، وانشغل الكثيرون عن الدين إلى أشياء أخرى وتطورت الحياة تطوراً ملموساً فضاعت الأخلاق النظرية والعملية معاً. إذ أن الرجل المتدين يأتي كثيراً من السخافات اعتماداً على رضى الله وتوفيقه على تأييده له على طول الخط. وأستطيع أن أقول على شكل ملاحظة بسيطة أن معظم الأفعال البعيدة عن الجد والوقار والخارجة عن نطاق الفضيلة الصحيحة إنما يأتيها قوم متدينون غاية التدين ومؤمنون غاية الإيمان، أما غير المتدين فقد أهمل القواعد الروحية ولم يستطع أن يجد سنداً في حياته العملية فصار على نحو من الضيعة والاختلال لا تؤهلانه لمعيشة طبيعية كريمة. فلابد لنا من محاولة تماشي ظروف المجتمع ومن أخلاق جديدة تساير ركب الزمن وتجعلنا نواجه المناسبات المختلفة في غير خوف ولا تردد ولا جبن بازاء الأحداث.
وقد يخطر على بالنا أن نسأل الآن عن هذه الرابطة التي تجعلنا نفكر في الحرية وفي الأخلاق معا، فلا يكاد واحد من الباحثين يتعرض لموضوع من موضوعات الأخلاق بغير أن يتعرض لفكرة الحرية بالدراسات والتحليل، وهذا الاقتران في أذهان العلماء والفلاسفة غريب إذا نظرنا إلى الأخلاق نظرة اجتماعية خالصة أو إذا جعلنا رضوان الناس وآراء الجماعات مقياساً للأفعال العادية، أو إذا اعتبرنا الأخلاق حسب مقدرة الأفراد على الانسجام والتأدب والرضوخ؛ ولكنه معقول غاية المعقولية إذا بحثنا في الأخلاق من زاوية خاصة هي التي تحاول أن تحتفظ للفردية بقوتها عن معارضتها للحياة اليومية وعند تنافرها مع الآخرين، فالحرية تدخل ضمن أبحاث الفلاسفة الأخلاقيين عندما تراعى أن الأخلاق لا تكون في إخماد الروح الفردية بقدر ما تكون في عهدها ورعايتها وتهيئتها كما يلزم بالنسبة إلى الظروف المتباينة.
فالأخلاق على هذا النحو إنكار للأخلاق؛ بمعنى أنها تعمل على هدم القانون ورفع الضرورة التي تأتي بها نظريات الباحثين. الأخلاق التي تأخذ بالحرية على الطريقة التي(865/19)
تريدها الوجودية ليست أخلاقا وإنما هي معارضة للأخلاق. والحق أن الأخلاق نفسها لا تصير أخلاقا إلا إذا أكدت الحرية، إذ أن الأخلاق شيء آخر غير إطاعة الأوامر وتحقيق الفروض، ولعلها تتوفر في الثورة والرفض أكثر مما تتمثل في مظاهر الطاعة والرضوخ، وهذا كله لسبب بسيط وهو أنه لا توجد هناك أوامر ولا تتوفر لدينا أصول ولا يمكن أن يصح ما نشعر به، عند مواجهة قاعدة ما، من القداسة والضرورة، فعالمنا الأرضي خال تماماً من اللوازم، وإذا تكشفت بمضي الأيام صفة اللزوم في شيء ما فاعلم أنها من ابتكارنا وخلقنا. إن الإنسان هو الذي يضع الأخلاق وأحكامها بما يأتيه من الأفعال كلما تقدم به الزمن، والفعل الأخلاقي - كما ينبغي لنا أن نفهمه - فعل إبداعي لا يراعي القيم، ولا يماشي أصولا، بل يخلق - هو نفسه - الأصول
وبذلك يخلو الفعل الأخلاقي من التقليد والاحتذاء ولا يقتصر على كونه عملية من عمليات المراجعة ولا تظهر عليه أعراض الرتابة، فالوجوب صفة غريبة كل الغرابة عن المعنى الأخلاقي للأحكام العامة. فنحن - أي الناس - متروكون في الأرض بغير علامات تكشف لنا طريق أو القواعد تنظم بيننا العلاقات أو إله يبذل لنا من لدنه الهداية والرشد. هذا هو الأصل الذي تحاول الوجودية أن تقيم عليه بنيانا مذهبياً في الأخلاق. وقد يكون هذا الأصل داعياً إلى الفوضى أكثر مما هو داع إلى النظام على نحو ما جاه على لسان دستويفسكي حينما قال: (إنه إذا لم يكن الله موجوداً فسيكون كل شيء مباحا) ولكن الوجودية تنظر إلى هذه النقطة بالذات على أنها موضع الانفصال أو محل الاختلاف بين فلسفتهم وفلسفة الآخرين من الفوضويين أو الأبيقوريين، فعلى الرغم من أن الوجودية تبدأ بدء يصعب على الكثيرين أن يطرقوه أو يحلوا أية مشكلة على أساسه، فهي تجرؤ على القول بأنها قد أتت بشيء. إنها قد اعترفت بالوضع الحقيقي أولا ثم حاولت بعد ذلك أن تنظر في الأمر.
فماذا فعلت؟ إنها وقد أنكرت من أول الأمر كل معنى في الحياة واعترضت على كل دلالة في الوجود وآمنت بالتفاهة والعبث من وراء الكون الظاهر ومن خلفه، أرادت أن تضع الثقة في النفوس وأن توجد الدوافع لدى الأفراد. إن الحياة عبث فلنجعل لها معنى، والأيام ضائعة فلنحقق لها الغاية. ولا تكون الغاليات والمعاني مستمدة - كما هو حاصل حتى الآن - من عالم غير هذا العالم، ومن كائنات وهمية، وإنما مبعثها فعل الإنسان بريئاً من التقليد(865/20)
خالياً من الأسانيد. فالإنسان وهو يفعل، ستوحي الحرية ويضع القيمة ويحدد المشروع من غير المشروع ويعين اللائق من غير اللائق. أو قل إن الإنسان يضع نفسه عن طريق الفعل.
ولا يأتي التنكر البادي في أعمالهم لفكرة الوجوب أو الضرورة التي تتصف بها القواعد والأحكام الأخلاقية من محاولتهم إبراز فلسفة لا تستند إلى فكرة الله (المزعوم في رأيهم) وإنما يصدرون في اتجاههم هذا عن أصل مذهبي كامل في لفظتين معروفتين عند الباحثين وهما: الوجود والماهية فالوجود بالنسبة إلى الإنسان - كما نعلم - عبارة عن سلسلة الأحداث التي تطرأ عليه وتشكل تاريخه. والماهية هي جملة الخصائص المميزة له من سواه والطبائع التي تجعله هو هو. ومن الأسس النظرية الأولى في الفلسفة الوجودية أن الوجود سابق على الماهية، بمعنى أن وجود الأشياء ووجود الإنسان ذاته يسبق ظهور الخصائص والصفات التي نستخلصها بشأن هذا الوجود، فليس هناك فكرة أزلية ترسم الأشياء بإرادتها وتمتثل الموجودات لمشيئتها، وليس هناك تقدير سابق لما يصير واقعاً، بل كل ما هنالك أن الأشياء تتمثل وأن الحقائق تقع ثم تأخذ صفات معينة وتتطبع بطباع خاصة
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان. فهو يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذاك. وعلى هذا فليس هناك طبيعة إنسانية كما يقول سارتر تبعاً لعدم وجود إله يرعى الإنسان (فالإنسان ليس شيئاً آخر - وبالتالي - غير ما يفعله) والخصائص أو الصفات التي تتحدد بها ماهية الإنسان في وجوده هي نتيجة لجملة الأفعال التي يأتيها. أو بعبارة أخرى الإنسان هو صاحب الأمر في تشكيل ماهيته الخاصة. إذن فمرجع الإنسان دائماً إلى نفسه في تطوينه وعند إيجاد ما يهمه وخلق الصفات التي تلحقه. ومن هنا بنى سارتر حكمه على الماهية الإنسانية بأنها متعلقة بحريته ومتوقفة على إرادته، وهذا صحيح بالنسبة إلى منطق التفكير الوجودي.
فالوجودية فلسفة تنبع من صميم الذات الإنسانية وتصدر عن نزعة فردية واضحة. وتؤمن بالوجودية فضلاً عن ذلك بأن التاريخ لا يحصل من جراه إرادة اجتماعية أو لأن التاريخ ينساق إلى شيء معين وإنما بسبب رغبة الأفراد في كذا وكذا. إن التاريخ حسب الفهم الوجودي ليس شيئاً موجوداً نمر به، وليس شريطاً قائماً نخطو عليه، وإنما هو شيء يوجد(865/21)
في كل لحظة زمنية بإرادة الناس ويتشكل حسب هوى الأفراد بل ويدخل في دائرة الحياة بناء على الأفعال التي يصدرها البشر في اللحظة الآنية لا يوجد شيء وإنما يوجد شيء في تلك اللحظة بعد أن تصير حاضراً ثم ينعدم في التو على صورة ماض. إن الإنسان العادي ينظر في الحياة وكأنها تمضي بغير ما تقطع ولا توقف، أمام الفيلسوف - الوجودي خصوصاً - فيشعر بمشكلة الصيرورة على أوضح نحو في العدم الذي يتمثله وفي الحاضر الذي يخلقه وفي الوجود الذي يتسلسل به من غير ضرورة تحتم عليه الكينونة أو عدم الكينونة. حقاً هناك إمكانيات في الحياة تصير على هيئة معينة إذا جاء المستقبل بحكم النمو الحاصل في المظاهر الأرض1ية، ولكن هذا لا يعني أنها موجودة وجوداً كلياً عاماً في الماضي والحاضر والمستقبل وإنما يعني أنها الوجود يتقدم بنا في العماء الذي لا ترتيب فيه ولا تصميم له بغير خطه ثابتة وبغير علامات أكيدة.
وعلى ذلك فإن الإنسان إذ فعل شيئاً فإنما يفعله وهو يقوم بدور الخالق، فالحرية التي في يده بالضرورة لا تكون مجرد حقيقة للأفعال بل تعد، على هذا النحو، منبعاً تنبثق عنه كل الدلالات وكل القيم، وشرطاً أصيلا لكل تحقق في الوجود كما تقول سيمون دي بوفوان في كتابها عن أخلاق التناقض. ولذلك لا حظنا دائماً إحساس الإنسان بالقلق عند مواجهة المستقبل ما دام لا يجد تحت يديه ركناً يستند إليه ولا خطة يهتدي بها ولا مثلا يحتذيه. إن القلق ظاهرة لازمة الحدوث في حياة الإنسان بسبب المتاهة المفزعة التي يمضي فيها والمفازة المخيفة التي يخترقها بغير ما تجربة سابقة ولا عماد ثابت. حتى القلق نفسه وجملة الاحساسات الأخرى والمظاهر النفسية التي يبدو فيها الإنسان ليست عبارة عن صفات معدة إعداداً سابقاً بالنسبة إلينا وإنما هي طريقة من طرائقنا في العمل والحركة داخل نطاق الوجود. فليس هناك ألصق بمعاشنا ولا أكثر ظهوراً في حياتنا من صفات الحس والذكاء والغضب والحيوية، ومع ذلك فهذه كلها ليست ضرورة من ضرورات وجودنا بقدر ما هي وسيلة من وسائل اكتشافنا للوجود ونحو من أنحاء انتقالنا من الحاضر إلى الماضي.
فوجودنا إذن يحصل ثم نجعل نحن من هذا الوجود موضوعاً للكلام فتستخلص منه صفات معينة ونلاحظ عليه ملامح بالذات. هذه الصفات وتلك الملامح هي ما تسميه بالماهية.(865/22)
ولكننا مع كثرة التكرار والتردد للمظاهر المتشابهة في حياتنا حسبنا هذه الماهية أزلية تنتقض على طول الزمن في صورة أشكال من هذا الطراز أو ذاك. ولكن الواقع أن هذه الأشياء إنما تحدث في كل مرة لأول مرة وتأني مع اطراد الأحداث بغير تقدير ممهد ولا خطة قبلية. وبذلك ينمحي طابع الجمود والتردد في الحياة ويتدخل عنصر الفن بشياته المتباينة. ولا شك أن الفنان وحده هو الذي يستطيع أن يدرك مدى الرهبة التي تصيب الإنسان في تقدمه خلال السحب القائمة من فوقه وهي لا تنفأ تنذره من حين إلى حين بالمطر الغزير. فالإنسان وسط الحياة ليس غريباً عن مثل هذا الموقف عندما يحس في قرارة نفسه بأنه متروك في الوحدة المفزعة بغير سند إلا من اختياره ورأيه وهواه.
ومن هنا تتدخل المسئولية في اعتبار الوجودية. وذلك طبيعي جداً ما دام مرجع الإنسان في معاشه إلى ذاته وما دام هو نفسه ابن نفسه ووليد أفعاله. ويقول سارتر (عندما نقول عن الانسال أنه مسئول عنه نفسه، لسنا نعني أن الإنسان مسئول عن شخصيته المحددة ولكننا نعني أنه مسئول عن كل الناس.) وهذه هي النتيجة الطبيعية لما سبق أن قلناه. فالإنسان تبعاً لما يأتيه في وجوده من الأفعال الحرة مسئول عن العالم وعن نفسه طالما كان طريقة من طرق الوجود، وأنموذجاً من نماذج الكينونة والمسئولية هنا مأخوذة بمعناها العادي في الشعور بأنه الفرد يؤلف لحادثة أو لموضوع من غير اعتراض عليه ومن غير تعد على حريته. فما يحدث لي - كما يقول سارتر. . . يحدث لي عن نفسي ويستحيل أن يجري في الأرض فعل غير إنساني مهما كان الأمر. والمسئولية تأتي من هذه الناحية، ناحية الإنسانية التي تتصف بها الأفعال والوقائع وماجريات الأمور، ومن هنا لم يكن هناك محل للاعتذار أو الأسف أو الشكوى بعد إتيان أمر من الأمور.
إن فسلفة في الأخلاق على هذا النحو لا تغلق الباب أمام الرجاء ولا تصدر عن اليأس كما قال الكثيرون عنها، وإنما على العكس من هذا توجد فسحة للأمل وتضع غير قليل من الإيمان والقوة في نفس الإنسان كيما يفعل وكيما يأتي فعله عن عقيدة وحساب ويكفي أن يعلم الإنسان عن نفسه بأنه حر وأنه بهذه الحرية يقرر وجوده الخاص كما يحقق وجود الإنسانية جمعاء، وأنه يبدأ من لا شيء ليصير شيئاً في النهاية؛ حتى يدرك خطورة موقفه حتى يدرك خطورة موقفه وحتى يعمل بكل قواه في العالم المضطرب الغامض من أجل(865/23)
الوقوف على بر السلام والوصول إلى أرض البراءة والخلاص.
عبد الفتاح الديدي(865/24)
موزانة أدبية
بين قصديدتين من عيون الشعر الجاهلي
للأستاذ عبد المنعم خفاجي
1 - أما الأولى فهي معلقة: عمرو بن كلثوم التغلبي الشاعر الجاهلي المشهور (500 - 600م). ومطلعها:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
وأما الثانية فهي مجمهرة أمية بن أبي الصلت:
عرفت الدار أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا
2 - والقصيدة الأولى ملحمة تاريخية تصور المجد القديم لتغلب قبيلة الشاعر، وملامحها الحربية التي انتصرت فيها على أعدائها، وهي فريدة في نوعها فهي جديرة حقاً أن تسمى ملحمة فهي تاريخ مفصل لقبيلة عمرو ومفاخرها وأيامها ومنها يوم خزاز الذي انتصر فيه كليب قائد النزاريين على اليمينين، وفيها تهديد لأعداء تغلب وتنبيه للملك عمرو بن هند ملك الحيرة (562 - 579م) حتى لا يطيع بهم الوشاة أو يتحيز لبكر شقيقة تغلب ومزاحمتها في المجد والنفوذ والسلطان، وقد بدأها الشاعر بوصف الخمر مما يعد ميزة فريدة لها، قم انتقل إلى موضوع القصيدة وهو الفخر، وختمها بقوله:
لنا الدنيا ومن أمسى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وماء البحر تملؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ... تخر له الجبابر ساجدينا
وأنت تعلم أن عمرو بن كلثوم ارتجل بعض معلقته أمام الملك عمرو بن هند وهو الجزء الذي هدد فيه أعداء تغلب وحذر الملك من الاستماع للوشاة والميل معهم على قومه، ومنه:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأننا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمرا قد روينا
ثم أكمل القصيدة كلها، وأنشدها في سوق عكاظ، وقد عدتها تغلب سجل مجدها وفخارها فاعتزت بها اعتزازاً كثيراً ويقال إنها أضافت إليها الكثير حتى بلغت أبياتها نحو ألف بيت وقال بعض شعراء بكر فيها:(865/25)
ألهي بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسؤوم
وأما مجمهرة أمية فقد تحدث فيها الشاعر عن مجد قبيلته (ثقيف) وهي من أمهات القبائل العربية وصاحبة نفوذ والسلطان في الطائف بين قبائلها، ولم يبدأها بوصف الخمر كما فعل عمرو بن كلثوم بل بدأها كما يبدأ الشعراء قصائدهم فذكر أطلال محبوبته (زينب) وعفاءها ولعب الرياح المعصرات بها، ثم انتقل إلى موضوع القصيدة نفسها وهو الفخر بمجد القبيلة وشرف الآباء فقال فيما قال:
ورثنا المجد عن كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا البنينا
وكنا حينما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا
وتخبرك القبائل من معد ... إذا عدوا سعاية أولينا
يأنا النازلون بكل ثغر ... وأنا الضاربون إذا لقينا
إلى آخر ما ذ كره من الفخر بأسرته وقومه ومجدهم ومنابتهم وما أرصدوه لريب الدهر من الخيل والرماح والسيوف والشيب المجربين والشبان والأقوياء، ووراثهم للمجد عن كبرى نزار إلى غير ذلك من مظاهر الكبرياء والعزة والسيدة التي أضافتها أمية إلى قومه، ولا ندري شيئاً عن التاريخ الأدبي للقصيدة وان كنا نرجح أن الشاعر نظمها في مفاخرة من هذه المفاخرات التي تحدث كثيراً بين القبائل العربية وخاصة في العصر الجاهلي:
3 - تتفق القصيدتان في الموضوع والوزن والقافية، وفي خاليهما الغني الغالب على القصيدتين وتتفقان كذلك في هذه المبالغة الواضحة في الفخر، مما لا يؤثر نظيرها من المبالغات في معاني الشعر الجاهلي إلا قليلا.
كما تتشابهان في هذه السهولة الفنية الغالبة على القصيدتين وخاصة عندما ينتقل الشاعر إلى الغرض الأصلي من قصيدتيهما وهو الفخر. وليست هذه السهولة الفنية بغريبة على الشاعرين، فارتجال عمرو لقصيدته ومواقف الفخر فيها مما يقتضي السهولة، ونشأة أمية في الطائف ذات الخصب والزروع والثمار والهواء المعتدل والجو الجميل وتنقله في رحلاته التجارة بين الشام واليمن وثقافته العامة وقراءته في الكتب السماوية، كل ذلك رقق من طبعه وهذب من أسلوبه وأكسبه مواهب فنية ممتازة وصقل من ملكاته الأدبية فظهر(865/26)
أثر ذلك في شعره وضوحاً وسهولة واسجاحاً.
وتتفق القصيدتان فوق ذلك في كثير من معاني الشعر وأساليب الفخر؛ ومن مظهر ذلك الاتفاق هذه المعاني والأساليب والأبيات:
أ - قال عمرو:
ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا
أي حتى يظهر الشرف لنا. وقال:
ورثنا مجد علقمة بن سيف.
وقال وهو يتحدث عن الخيول الكريمة التي يخوض قومه عليها المعارك:
ورثناهنَّ عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا
فقال أمية:
ورثنا المجد عن كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا البنينا
ونستطيع أن نوازن بين البيتين الأخيرين إذا علمنا أن وراثه المجد في بيت أمية أبلغ في الفخر من وراثة الخيل في بيت عمرو، وإن كانت وراثة الخيل من أسباب المجد لأن الخيل وركوبها واتخاذها عتاداً دليل الشجاعة والبطولة وحب النضال، وقول أمية (فأورثنا مآثرنا البنينا) أبلغ من قول عمرو: (ونورثها إذا متنا بنينا) لأن أمية ذكر أن أبناءهم ورنوا مجد الآباء في حياتهم، أما عمرو فذكر أن الأبناء سيرثون هذه الخيول بعد وفاة آبائهم، فلم يسند إليهم الشجاعة والبطولة وحماية الذمار في حياة الآباء، وهذا قصور في الفخر. وقال أمية (البنينا) وقال عمرو: (بنينا) فشهرهم أمية وأبان عن وضوحهم، وقال عمرو: (آباء صدق) فدل على شجاعتهم أو وضوح نسبهم وطهارة أعراقهم، وهي زيادة لا نظير لها في قول أمية.
وقد أخذ أمية لفظ (قد علمت معد) من قول عمرو فقال:
وكنا حيثما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا
ب - ويقول عمرو: (وأنا المهلكون إذا ابتلينا) أي نهلك أعداءنا ونبيدهم إذا اختبرنا بقتال الأعداء، فيقول أمية: (وأنا الضاربون إذا لقينا) فتجد قول عمرو أبلغ حيث نصَّ على إهلاك الأعداء ولم يذكر أمية إلا الضرب، وإن كان يكنى به عن الشجاعة والإقدام(865/27)
والعزيمة والجد في طلب الأعداء، ولكنه على أي حال يصور نتيجة الحرب كما يصورها عمرو بن كلثوم بقوله (المهلكون).
ج - ويقول عمرو: (وأنا المانعون لما أردنا)، ويروى (الحاكمون بما أردنا)، فيقول أمية: (وأنا المانعون إذا أردنا)
د - ويقول عمرو:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ويروى من مجمهرة أمية:
وأنا الشاربون الماء صفوا=ويشرب غيرنا كدرا وطينا
هـ - ويقول عمرو:
بفتيان يرون القتل مجداً ... وشيب في الحروب مجربينا
وقد روى من المجمهرة:
وفتياناً يرون القتل مجداً ... وسيباً في الحروب مجربينا
4 - ومعلقة عمرو تمتاز بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية؛ كما نمتاز: بتنوع أغراضها، وبطولها، وأنها ملحمة تاريخية نادرة، وهي إحدى المعلقات السبع وهي قصائد تحتل الذروة في الشعر الجاهلي. وقد انتخبت من بين القصائد الجاهلية لشهرتها وخصائصها الفنية والأدبية الممتازة. وقال بن قتيبة في قصيدة عمرو: وهي من جيد شعر العرب:
أما قصيدة أمية فلا تبلغ إلا نحو الثلاثين بيتاً أو تزيد قليلا فهي نحو ثلث قصيدة عمرو، وقد وضعها النفاد مع المجمهرات والمجمهرات سبع قصائد من الشعر الجاهلي رواها أبو زيد الأنصاري في (الجمهرة) وأصحابها هم:
أ - عبيد بن الأبرص، ومجمهرته مشهورة وهي في الحكمة ومطلعها.
عيناك دمعهما سروبُ ... كأن شآنيهما شعوب
والسروب: الكثيرة الجريان. والشعيب: المزادة، وتشتهر باضطراب وزنها؛ ومنها:
والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب(865/28)
ب - عدي بن زيد، ومجمهرته في الحكمة ومطلعها:
أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم ورماك الشوق قبل التجلد
وهي شبيهة بمعلقة طرفه في وزنها وقافيتها وحكمتها، وتتفق معها في بعض الأبيات مثل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
ج - النمر بن تولب، ومجمهرته في الحكمة أيضاً ومطلعها:
(تأبد من أطلال عمرة مأسل)
د - أمية بن أبي الصلت، ومجمهرته موضع الحديث، وهي في الفخر.
هـ - بشر بن أبي خازم، ومجمهرته في الفخر بقومه وبطولتهم وعزهم ومطلعها:
لمن الديار غشيتها بالأنعم؟ ... تعدو معالمها كلون الأرقم
وخداش بن زهير، ومجمهرته في الفخر بقومه أيضاً، ومطلعها:
(أمن رسم أطلال بتوضح كالسطر)
ز - عنترة، وقصيدته:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
يعدها بعض النقاد من المعلقات والآخرون من المجمهرات.
وهذه القصائد السبع لم توضع في مرتبة واحدة لاتفاق موضوعاتها؛ إذ أن موضوعاتها مختلفة: فثلاث منها في الحكمة وأربع في الفخر، كما أنها لم ترتب بالنظر إلى الناحية التاريخية، إذ أن أصحابها لم يعيشوا في عصر واحد:
فعدي توفي نحو عام 580م، وعبيد علم 555م، وأمية عام 624م، وعنترة عام 615م الخ؛ فهي إذا إنما وضعت في منزلة أدبية واحدة تلي منزلة المعلقات الأدبية بالنظر إلى خصائصها الفنية الأدبية وحدها، ويكاد الناقد الأدبي يقف أمام تشابه شاعرية هؤلاء الشعراء وخصائص الشاعرية في هذه القصائد؛ فهذه القصائد السبع إذا يشبه بعضها بعضاً في النواحي الفنية والفطرة الأدبية وفي خصائص الشعر والشاعرية وتكاد تكون متساوية في حكم النقد الأدبي، وهي على أي حال تلي المعلقات في الجودة والمكانة الأدبية.
ونستخلص من ذلك كله أن النقاد لاحظوا الفروق الفنية الكبيرة بين القصيدتين فوضعوا الأولى في صف المعلقات والثانية مع المجمهرات، وفي الحق أن شاعرية عمرو في معلقته(865/29)
أقوى وأبين من شاعرية أمية في مجمهرته: سواء في الأسلوب أو المعاني أو الأغراض أو مدى الجودة الفنية ومواهب الشعر.
5 - ويرى الدكتور طه حسين في كتابه (الأدب الجاهلي) أنه لا يمكن أن تكون معلقة عمروا أو أكثرها جاهلية. وقد شك الرواة في بعضها ويرجح أن تكون المعلقة منتحلة، ونحن لا نذهب هذا المذهب، فالمعلقة تمثل حياة جاهلية لقبيلة تغلب وتمثل شاعراً جاهلياً وتصور حياة عمرو الفنية والاجتماعية نفسها وهي شبيهة بالآثار الباقية من شعر عمرو، وإن كان هذا لا ينفي أن تكون قد زيدت عليها بعض البيات؛ وقصيدة أمية نفسها تؤيد أن قصيدة عمرو جاهلية وأنها لم تنتحل بعد الإسلام على أيدي الرواة.
ونلاحظ على مجمهرة أمية خلوها من الصبغة الدينية التي اشتهر بها أمية، ويبدو أنه نظمها في شبابه قبل أن يقف نفسه وحياته وشعره على الجانب الديني وحده. وتقليده فيها لعمرو بن كلثوم يؤكد ذلك وأنها نظمت قبل أن تكتمل شخصية أمية الفنية. وقد يكون السبب الذي جعل أمية ينظم مجمهرته محتذيا فيها عمراً هو إعجابه بمعلقته أو روايته لشعره أو تشابه موقف الفخر الذي وقفه الشاعران، ونحن لا نستطيع أن نقول إن الرواة أدخلوا على مجمهرة أمية بعض الأبيات من معلقة عمرو لتشابه الوزن والقافية والخيال والموضوع في القصيدتين؛ ذلك لأن مجمهرة أمية ليست طويلة ولأنه إذا حذف منها الأبيات المتشابهة لا يبقى منها في مقام الفخر إلا القليل من ابياتها، ولا يعقل أن ينظم الشاعر قصيدة في الفخر معانيها فيه محدودة أو شبه محدودة.
ورواية أبي زيد للقصيدتين في كتابه دليل على إيمانه بصحة القصيدتين أولا، وبأن المعاني المتشابهة فيهما نتيجة لاتفاق الشاعرية أو للتفليد الأدبي ثانياً؛ وأبو زيد م 215هـ راوية ثقة.
6 - وبعد فنستطيع أن نقول إن أمية قلد في مجمهرته عمرو ابن كلثوم في معلقته تقليداً فنياً واضحاً، فأخذ من المعلقة كثيراً من معاني الفخر وأساليبه، وصاغ قصيدته على موسيقى وقافية معلقة عمرو.
وهذا التقليد الفني ليس بعجيب بين الشعراء في شتى العصور وليس بغريب في الشعر الجاهلي نفسه، فأنت ترى أن الشاعر الجاهلي كثيراً ما يتفق مع شاعر قبله أو معاصر له في أسلوب أو معنى أو بيت وأنت تعرف قول امرئ القيس:(865/30)
وقوفا بها صحبي علىّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسلا وتجمل
وقول طرفه:
وقوفا بها صبحي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وتعرف غير ذلك من مظاهر التشابه الفني أو التقليد الأدبي بين الشعراء الجاهليين، مما نستطيع أن نواتيك ببحث أدبي عنه في الغد القريب إن شاء الله.
محمد عبد المنعم خفاجي
الأستاذ بكلية اللغة العربية(865/31)
النبي وأهل القليب
للأستاذ محمود أبو ريه
لما انتصر المسلمون في وقعة بدر ونزلت الآية: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون) أمر النبي صلوات الله عليه بالقتلى من صناديد قريش أن يُقذفوا في القليب (البئر) ثم وقف عليهم وقال - على ما جاءت به إحدى الروايات. (يا أهل القليب هل وجدتهم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً) فقيل له: تدعو أمواتاً؟، قال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يجيبون!)
وأخذ بهذه الرواية طائفة من المؤرخين، ولكن عائشة رضي الله عنها صححت هذه الرواية، واستدركت على من رواها وقالت: إنما قالت النبي: إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق - وقد قال تعالي - (إنك لا تسمع الموتى - وما أنت بمسمع من القبور)
وعلى أن رواية عائشة هي الصحيحة التي توافق العقل والمنطق وتتفق وسمو خلقه العظيم صلوات الله عليه، فإن بعض الذين يتحدثون عما قاله النبي لأهل القليب من مؤرخي عصرنا لا يزالون يدعون رواية عائشة. وآخر من قرأنا لهم ذلك معالي الدكتور طه حسين بك في كتابه (الوعد الحق)
هذا وأن لعائشة لاستدراكات كثيرة على طائفة من الصحابة كبيرة.
فقد ذُكر عندها أن ابن عمر رفع إلى النبي: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. فقالت:، إنما قال رسول الله (إنه ليعذب بذنبه وأن أهله ليبكون عليه حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
وعن مسروق قال: قلت لعائشة يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت لقد قفَّ شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير - وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب - ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب - ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ومن حدثك أنه كنتم فقد كذب - ثم قرأت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.
ومما ردتّه عائشة خبر ابن عمر وأبي هريرة (إنما الشؤم ثلاث فقالت، إنما كان رسول الله(865/32)
يحدث عن أحوال الجاهلية وأنهم كانوا يتشاءمون من ثلاثة - وفي رواية لها أن أبا هريرة لم يحفظ والأخذ بهذا الحديث يعارض الأصل القطعي (أن الأمر كله لله)
ولما روى أبو هريرة: أن رسول الله قال (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً) قالت عائشة: أنه لم يحفظ، إنما قال (. . . من أن يمتلئ شعراً هجيتُ به)
ومما استنكرته على أبي هريرة أنه لما روي حديث (من أصبح جُنباً فلا صوم عليه) قالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم. وبعت إلى أبي هريرة أن لا يحدث بهذا الحديث فأذعن وقال: إنها أعلم مني
ولهذا الحديث قصة لا بأس من إيرادها لأنها طريفة (في كتاب اختلاف الحديث للشافعي أن أبا بكر بن عبد الرحمن قال.
كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة من قبل معاوية - فذكر له، أن أبا هريرة يقول (من أصبح جُنباً أفطر ذلك اليوم) فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمَّي المؤمنين عائشة وأم سلمة فتسألهما عن ذلك، أما عائشة فقد قالت: ليس كما قال أبو هريرة يا أبا عبد الرحمن: أترغب عما كان رسول الله يفعله؟ فقال عبد الرحمن لا والله. قالت عائشة: فأشهد على رسول الله أنه كان ليصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم. ثم دخلا على أم سلمة فقالت مثل ما قالت عائشة ثم حينا مروان فقال له عبد الرحمن ما قالتا. فقال مروان أقسمت عليك يا أبا محمد لتركن دابتي فلتأتين أبا هريرة وتخبره بذلك، ولما أتى أبا هريرة وذكر له ما سمع، قال أبو هريرة (لا علم لي بذلك إنما أخبرني مخبر. . .)
وفي رواية للحافظ ابن حجر في فتح الباري في (باب الصائم يصبح جنباً) أن مروان قال لعبد الرحمن لتفزِّ عن بها أبا هريرة فكره ذلك عبد الرحمن. ولما اجتمع به بذي الحليفة - وكانت لأبي هريرة أرض هناك قال له إني ذاكر لك أمراً ولولا مروان أقسم على فيه لم أذكره لك! فذكر قول عائشة وأم سلمة فقال كذلك حدثني الفضل بن العباس.
وبعد أن ذكر ابن حجر أن هذا الحديث قد رواه مسلم قال: وكان هذا بعد أن سمع مروان أن أبا هريرة كان يفتي الناس أنه (متى أصبح جنباً فلا يصوم ذلك اليوم) وأنه كان يرفع ذلك إلى النبي.(865/33)
وفي رواية للنسائي أن مروان قال لعبد الرحمن: إلق أبا هريرة فحدثه بهذا! أنه لجاري، وإني لأكره أن أستقبله بما يكره! فقال اعزم عليك لتلقينه.
وفي رواية معمر عن ابن شهاب: أن أبا هريرة، لما ذكر له عبد الرحمن قول عائشة وأم سلمة (تلون وجهه).
ولأحمد أن أبا هريرة قال: ورب هذا البيت ما أنا قلت: من أدراك الصبح وهو جنب فلا يصم: محمد ورب الكعبة قاله!!
ولا نتوسع بإيراد أمثلة أخرى مما استدركته عائشة على الصحابة عامة - وعلى أبي هريرة خاصة الذي كان أول راوية اتهم في الإسلام أكذبه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) بعد أن ذكر أسماء الذين كانوا ينكرون عليه من كبار الصحابة ما يلي:
(وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه)
وكانت عائشة تَردُ كل ما يروي من الأخبار مخالفاً للقرآن وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع وسوء الفهم ولم تكن تفعل ذلك إلا لأنها بلغت من الحفظ والفهم منزلة لا تنال.
قال عطاء بن أبي رباح، كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس، وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بشعر من عائشة. وقال أبو موسى الأشعري (ما أشكل علينا، أصحاب محمد من حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. وقال الإسماعيلي: كانت عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه.
ولا نستوفي كل ما قيل في فضلها رضي الله عنها
المنصورة
محمود أبو ربه(865/34)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (4)
غاية الأخلاق عند أرسطو
للأستاذ كمال دسوقي
ويعود أرسطو منذ مطلع الباب الرابع إلى ما كان بسبيله قبل نقد المثل الأفلاطونية، فبعد الهدم البناء، وبعد التجريح التصحيح، وهنا يعود أرسطو إيجابياً كما كان، فيقرر ما سبق أن أنتهي إليه في الفصلين الأولين من أن لكل فن خيره الخاص وفقاً لغايته التي يرمي إليها بكل وسائله، وأن الخير الأعلى هو ما كان أكثرها كمالا ونهائية. . . أي الذي يبحث عنه لذاته لا لأجل خير آخر، وهو. . . في كلمة واحدة - السعادة. . . فإن كافة الخيرات الجزئية كالعلم والفضيلة واللذة والشرف لا ينبغي إلا من أجلها، كما أن السعادة لا تكون إلا بواحدة أو أكثر من هذه خصوصاً وقد بينا أن الإنسان حيوان اجتماعي لا يعيش منعزلاً، ولا يحيا لنفسه بقدر ما يحيا لأسرته وأصدقائه ومواطنيه؛ فسعادته لا تنفك عن الارتباط بسعادة هؤلاء جميعاً. والسعادة إلى جانب كونها غاية قصوى تطلب لذاتها، وتطلب الخيرات الأخرى لأجلها، هي كافية بذاتها بمعنى أنها تقوم بذاتها كغاية لا تحتاج إلى ما يحببنا فيها، بل لأجلها بالأحرى تحب الخيرات الأخرى. وهذا ما يعنيه بالاستقلال (ف 7، 8).
وها قد نأدي بنا أرسطو إلى تحديد ماهية السعادة بالمعنى الفلسفي، إنها تحقيق العمل الخاص بالإنسان، لا بما هو ذو وظيفة اجتماعية يكسب منها، فإن إمكان تغييرها ومزاولة غيرها تجعل الوظيفة غير ذاتية ومشخصة له، ولا بما هو كائن حي تام أو غاد، فتلك خصائص النبات أيضاً، أو حساس ومنحرك بالإرادة مادام أن هذه الصفات يشترك معه فيها الحيوان. بقي أن تكون خاصة الإنسان المميزة هي حياة العقل وفاعلية الفكر، وأن تكون وظيفته الخاصة به. . . بما هو إنسان هي فعل النفس المطابق للعقل؛ العقل الصادر عن طبيعة وملكة وسجية لا عن محض صدفة؛ والذي هو نتيجة مران واستمرار للمزاولة المنتظمة للفعل بما يؤدي إلى حسن الأداء؛ فإن الخير أو الفضيلة عند أرسطو يريدها أن تكون ثابتة راسخة وصادرة عن ذات الكائن بسهولة ويسر لا تكلف فيه ولا تعمل. . . حتى تكون فضيلة حقاً لا مجرد عمل فاضل أوحد.(865/35)
ويفيدكم هنا كثيراً الرجوع إلى تقسيم أرسطو للنفس إلى نباتية وحيوانية ثم عاقلة ووظائف كل منها (في المراجع العربية التي سبق أن أشرت إليها). كما يفيدكم جداً بل من الضروري جداً - مقارنة نظرية السعادة عند أرسطو بالنظريات الأخلاقية الأخرى خصوصاً نظرية الواجب لكانت الفيلسوف الألماني (وقد أتى المترجم الفرنسي لأخلاق أرسطو على طرف منها)، وكذلك نظريات فلاسفة الإنجليز المحدثين في كتاب المدخل إلى الفلسفة المترجم إلى العربية والمقرر في الامتحان الشفوي (في باب النظريات الأخلاقية)
وكأن أرسطو لا يقنع بهذا التخطيط الذي وضعه للسعادة؛ فهو يصفه بالنقص، ويعتذر عن نقصه بأن الكمال لا سبيل إليه؛ وأن الزمان كفيل بالعمل على إكمال وجوه النقص التي تعتري الشيء بعد اكتشافه. وهنا إيمان قوي من جانب الفيلسوف بعنصر الزمان كعامل على التطور والتقدم. وأساس الروح العلمي أن نعتقد أن ما انتهيت إليه لابد أن ينير منه بإكمال نقصه أو ربما بإظهار خطئه وإدحاضه، وأنه ليس بعد فصل الخطاب أو نهاية المطاف.
ويعود ارسطو مرة أخرى فيحشد للتدليل على صحة نظريته في الخير والسعادة أدلة مستقاة من الواقع الحي، لأن الحقائق الواقعية عنده هي في اتفاق مع التعريف الصحيح (ب6ف1) فيكرر القسمة الثلاثية للخير التي سبق أن قال بها (ب2ف10) يجعل خير النفس من هذه الخيرات كلها في القمة، ما دام أنه مطابق للرأي الذي أجمع عليه الفلاسفة السابقون عليه ومنهم أفلاطون (ف2) ومطابق كذلك للمبدأ المعروف لدى اليونان من أن فضيلة الشيء إنما تكون في تحقيق وظيفته التي من أجلها وجد كالإبصار للعين، والبتر للسيف. . . الخ (ف3) ومطابق في المقام الثالث لما يرى الناس من أن السعادة الحقة هي في حسن السيرة وفلاح المرء (ف4) والنتيجة إذن أن ما قال به أرسطو كحد للسعادة يشمل كل وجهات النظر فيها سواء اقترنت بشيء من اللذة والخيرات الأخرى الضرورية كما يرى البعض أو خلت منها (ف5) وسيأخذ بها حتما أولئك الذين يرون أن السعادة هي الفضيلة، أو فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة (ف7) كما سبق أن قرر (ب4ف14)
ثم إن أرسطو يردد رغبته الملحة في ألا يكون الخبر الأعلى محدوداً أو مشروطاً بظروف خاصة أو يكون ملكة سلبية معطلة قابلة غير فاعلة بل يريد، أن يكون فعلاً، وفعلاً حسناً(865/36)
صادراً عن روح طيب وطبيعة حيرة وسجية فاضلة (ف8) وعنده أن مقياس الحسن في الأشياء والأفعال أن تكون محبوبة خصوصاً لدى الذين يألفونها ويحسنون تقديرها (ف9)، فإذا لم يجمع هؤلاء على الإعجاب بها ومحبتها أو اختلفوا حولها لم نكن خيرات حقة، بل كانت أشبه بخيرات العامة من الناس الجزئية المتباينة التي ترضي هوى كل على حدة، أما الخيرات الكلية العامة فهي إلى جانب كونها مطلقة من كل هوى ومشتركة بين الأخبار جميعاً تحمل في طيها لذتها وقيمتها، واللذات الأخرى ملحقة بها وثانوية بالنسبة إليها. فليس أجمل ولا أكمل ولا ألذ في نظر الرجل الفاضل من أن يأتي الأعمال الفاضلة ويرى الآخرين يفعلونها أيضاً. وهذا شر إصرار أرسطو على جعل الفضيلة ملكة راسخة ثابتة في نفس أصحابها يصدرون عنها في كل ما يفعلون أو يتذوقون من أفعال غيرهم، وإن كان لا يعدم في نهاية الأمر (ف14. . . 16) أن يقيم وزناً ثانوياً للخيرات الخارجية كجمال الخلقة وشرف الأسرة والثراء والأصدقاء، يحسبانها للسعادة يؤدي الحرمان منها كلها أو بعضها لا فساد الحياة السعيدة وتعكير صفوها
وقد يحث أفلاطون ومن قبله سقراط فيما إذا كانت سعادة الإنسان وفضيلته يمكن أن تكتسب بالتعلم والمران أو أنها فطرية موروثة يهبها الإله، ويرقب أرسطو بأن يكون مرجع السعادة إلى النوع الثاني لتصبح أقدس ما يكون في حياتنا، وان كانت لتبدو نتيجة ألا تتمادى في تقديس السعادة إلى الحد الذي ننسى معه أنها ممكنة المثال لكل منا بقليل من العناية والدرية. . . حتى لا تسلم بأنها من عمل الصدفة والاتفاق أو خصوصاً وقد عرف السعادة من قبل بأنها فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة، وهل الغرض من السياسة أن تقوم على تكوين نفوس المواطنين تكويناً يؤدي بهم إلى السعادة - وان الفاعلية عنده لتقترن بالسعادة اقتراناً لا نستطيع معه أن نقول عن الحيوان أو الطفل أنه سعيد لخلوهما بعد من هذه الفاعلية، وشرطها السعادة إذن هما تمام الفضيلة وكمال الحياة، ولا يعني أرسطو بكمال الحياة انتظار الموت للحكم بالسعادة كما يقول الشعراء، أو الخوف والإشفاق من تقلبات الدهر وآلام الشيخوخة وحظوظ الأبناء والأحفاد - فان من هذه ما يدوم حتى بعد الموت، ولو أقمنا لها وزناً في الحياة لوجب أن تكون كذلك بعد الممات (ب7ف14) كما أنه من الحمق عنده أن تقول عن الشخص بعد موته، لقد كان فلان سعيداً، ولا نملك أن تقول عنه(865/37)
أثناء حياته: أنه سعيد، مخافة أن تتبدل بد الحال بعد، وخشية أن يظن بالسعادة أنها شيء ثابت لا يتغير، وأن حظوظ الناس من السعادة قلب لا نستقر (ب8ف2) وأصحابها مهددون بزوالها بما لا يستطيعون دفعه أو رده من القضاء (ف3) - إنما يريد ارسطو أن يكون للأفعال الفاضلة وحدها الحكم بالسعادة (ف4) ما دامت هي أكثر الأشياء الإنسانية ثباتاً وبقاء، وأنها بالتالي أشعرها إعلاء لقدر أصحابها وهم المحظوظون الحقيقيون - الذين يتحملون بعد إذ تحلوا بها صروف العصر وأحداث الزمان بما يليق بهم من التسليم والرضا مع الكرامة والأباء، بل إن هذه الأحداث مهما حلت؛ أو المصائب مهما عظمت، لن تزيد الفضيلة إلا بهاء وجلاء. . . إذ هي محك النفس العالية الكبيرة (ف7) والرجل الحكيم هو الذي يواجه تقلبات الدهر دون أن يفقد شيئاً من كرامته، بل يستفيد بها في إسعاد نفسه رغم ما فيها من شقاء (8، 9) بمعنى أن يسير على مقتضى الفضيلة الكاملة في حدود الخيرات الخارجية للازمة (10 - 11)
ولا يستطيع أرسطو أن يدع مسألة منغصات الحياة المتعلقة بالخلف دون أن يعود إلى توكيد أهميتها في فصل خاص بها فيقرر أنه إذا كان ما يحدث بنا يمسنا مساً خفيفاً أو عنيفاً؛ فطبيعي أن يكون ذلك صحيحاً بالنسبة لمن نحب - إلا أنه كما يوجد فرق بين المآسي الواقعية والقصص الدرامية الخيالية؛ كذلك يكون إحساسناً بالمصائب أقوى في الحياة منه بعد الموت. وإذا صح أن يكون للموتى إحساس بما يجد أبناؤهم من سعادة أو شقاء فلا بد أن يكون الإحساس ضعيفاً في ذاته أو بالنسبة لهم - وعلى أي حال لا يستطيع أن يغير من سعادة الموتى أنفسهم أو شقائهم. فذلك ما يجب أن يكون لهذه المصائب من اثر علينا في حياتنا.
بعد هذا يبحث أرسطو فيما إذا كانت السعادة جديرة بالمدح والثناء أو الإعجاب والاحترام، فيرى أن الممدوح لا يُمدح لذاته بل لشيء آخر يتصف به أولى بالتقدير والحمد؛ حتى لو كان هذا الحمد موجهاً للآلهة لما يقوم حينئذ من العلاقة بينهم وبين الذي يمدحونهم أو الأشياء التي يُمدحون من أجلها، فما هو كامل بذاته ولا علاقة له بغيره لا يمدح بل يكون موضع إعجاب وتقديس. وعلى هذا فمن الممكن أن نمدح الفضيلة لأنها تعلم فعل الخير، أما السعادة فنحترمها ونقدرها في ذاتها لأنها مبدأ كامل وغرض أسمي لكل ما نعمل؛ وما(865/38)
كان كذلك وجب احترامه وتقديسه.
وفي الفصل الختامي من الكتاب الأول يمهد أرسطو لدراسة الفضيلة التي هي موضوع الكتاب الثاني كله. فمقتضى تعريفه للسعادة بوصفها فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة يحتم عليه دراسة هذه الفضيلة. والفضيلة هي ما يجب أن يشتغل به رجل الدولة (السياسي) الحقيقي يجعل الناس فضلاء. تذكرون هنا ما سبق لأرسطو منذ الفصل الأول من ربط بين الأخلاق والسياسة، ولكم ألا تُقروه هنا على جعل مهمة السياسيين تعليم الناس الفضيلة بما لهم من سلطة القانون. على أن أرسطو حين يدرس الفضيلة الإنسانية (11ف5) وفضيلة النفس بالذات التي يجب على السياسي في نظره أن يُلمَّ بمعرفتها كما يتخصص كل امرئ في ميدان عمله (ف7).
وفي بقية هذا الفصل يعرض أرسطو إلى تقسيمه الثلاثي للنفس الإنسانية إلى نباتية وحيوانية وعاقلة كما وردت في كتابه (في النفس) ' ولما كان التقسيم الأفلاطوني لملكات النفس إلى شهوية وعضيية وعقلة. وتشبيهه لها بالعربة ذات الجوادين (الشهوة والإرادة) يقودها (العقل) لا ينحرف بها أحد الخيل إلى يمين أو شمال (في محاور فيدروس الجمهورية وغيرهما). . . لما كان هذا التقسيم الأفلاطوني أدنى إلى بيان مهمة الأخلاق وضرورة تغليب العقل على الإرادة والشهوة - فإن أرسطو - يخلطه بتقسيمه خلطاً بيناً. ولن يعسر عليك أن تدرس النظريتين في مصادرهما وفي بعض الكتب التي عرضت لهما، ثم أن تجمع بينهما لكي تقف على فكرة أرسطو.
ولا غنى لك - وقد فزعت من الكتاب الأول - أن تكمل معرفتك بنظرية الخير والسعادة الأرسطية بتصفح الكتاب الثاني في الفضيلة كما براها أرسطو، وبقراءة الكتاب العاشر والأخير من المجلد الثاني للوقوف على فكرة السعادة كما يجب أن يفهمها الفيلسوف.
كمال دسوقي(865/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
هل تقدم الأدب في ربع القرن الأخير:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى المناظرة التي جرت في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية، وكان موضوعها (تقدم الأدب تقدماً مرضياً في ربع القرن الأخير) أيد الرأي الدكتور أحمد أمين بك ومعالي الدكتور طه حسين بك، وعارضه الدكتور محمد عوض محمد بك، وكان يدير المناظرة ويقوم المتحدثين الدكتور محمد صلاح بك وزير الخارجية. ولا شك أن حرص الوزيرين على حضور المناظرة - وكان ذلك اليوم الثاني لتأليف الوزارة - كان مثلا رائعاً للشعور بالتبعية الأدبية. ولك أن تعتبر اشتراك وزيرين في مناظرة أدبية عامة دليلا مؤيداً للرأي وهو تقدم الأدب في هذه الفترة.
بدأ الدكتور أحمد أمين بك فعرض الموضوع عرضاً حسناً وفصله تفصيلا شافيا، استعرض أنواع الإنتاج الأدبي وقارن كلا منها بما كان عليه قبل هذه الفترة وما صار إليه، فالمقالة كانت إما مترجمة بتصرف أو بغير تصرف، أو مقالة إنشائية يغلب عليها البديع اللفظي، وبعض المقالات كانت على حالة شبة بدائية، وحتى الكتاب المعاصرون كانوا لم ينضجوا بعد ولو قارنا بين ما كانوا يكتبونه وبين كتابتهم الحالية وجدناهم خطوا خطوات واسعة نحو التقدم؛ والآن قد أصبحت المقالة ناضجة، غرزت معانيها وتدفق أسلوبها.
والقصة: لم تكن موجودة، شاهدنا تمثليات شوقي وقصص تيمور والحكيم وناشئة الأدب. وقد كانت القصص كلها مترجمة فصار لنا قصة مصرية تتعرض لمشاكلنا وتتحدث عما يجري في حياتنا.
وأما الشعر فإنه يقال إنه انحط ولم نعد نرى مثل شوقي وحافظ ومطران، ولكن الحق أن شعر أولئك الشعراء الراحلين على جودته ووفاه بأغراضه في عصره أصبح غير ملائم لهذا الزمن. وقد جد بعدهم شعراء لم يبلغوا بالشعر ما يرجى ولكنه ساروا على نهج آخر، فلا مديح ولا هجاء، يتغنون للعواطف لا للمعدة، وقد التزموا وحدة القصيدة، وتحرر بعضهم من التزام القافية؛ فإذا لم يكن من الوليد ما يرضي فحسبنا أن نودع شيخاً ونستقبل وليدا.(865/40)
وأما الدراسة الأدبية فهي وليدة الجامعة المصرية، كانوا يترجمون للشعراء والأدباء، كما يترجم (الأغاني) وغيره، ثم صارت الدراسة تحليلية نقدية فيها جانب من العلم وجانب من الأدب.
وأما الأغاني، وهي نوع من الأدب، فأذكر أني كنت أهذب إلى تياترو ألف ليلة لسماع توحيدة، وكنت أتخفى إذ كنت طالباً معمماً من طلبة القضاء الشرعي، فكنت أسمع منها كما كنا نشمع من غيرها أصواتا جميلة ولكن لا معنى للأغنيات نفسها، لم يكن فيها شيء كالذي نسمعه الآن من أم كلثوم وعبد الوهاب ولا أبالغ إذا قلت إن الأغاني كانت كالموسيقى الصامتة.
هذه هي مظاهر التقدم في الأدب، أما أسباب هذا التقدم فكثيرة، أهمها أن الأدب ظل الحياة الاجتماعية، كما يقول تين، وقد تقدمت الحياة الاجتماعية في الفترة الأخيرة تقدماً ظاهراً فمن الطبيعي أن يتقدم ظلها وهو الأدب، ومن هذه الأسباب أن أدبنا يعتمد على الأدب العربي والأدب الغربي، وقد أكثرنا من نشر كتب الأول وزاد الاطلاع عليها، كما ازداد الاتصال بالآداب الغربية، ولذلك زادت ثقافة الأديب، ومما زادت هذه الثقافة ونماها علم النفس وعلم الاجتماع.
وبعد ذلك وقف الدكتور صلاح الدين يقدم الدكتور عوض فعبر عن إشفاقه عليه لوقوعه بين الأديبين الكبيرين المؤيدين، وقال أنه يذكر العبارة المأثورة عن المجمع اللغوي (شاطر ومشطور وبينهما طازج) وكان جديراً بصلاح الدين بك أن يذكر أن هذه العبارة مما تندرت به بعض المجلات الهزلية على المجمع وليست مأثورة عنه.
وقف الدكتور عوض فقال: يظهر أن منظمي المناظرة بحثوا عمن يستطيع أن يقف معارضاً أمام هذين الفطحلين فلم يجدوا كبشاً غيري فقدموني فداء. . . وإذا كان (السندوتش) شاطرا ومشطورا بينهما طازج فإن بينهما الآن قطعة من الجبن ثم دخل في موضوع المناظرة فرد على بعض النقط، قال: إن المتحدث الأول أتى بالشعر في الآخر مع أن الشعر له المكان الأول في الأدب العربي، وأشاد بشعر شوقي وأشار إلى بعض القصائد مما لم يقل أحد مثله من بعده، وحبذ التزام الوزن والقافية، ومما قاله أن أدبنا الحديث أخذ ينمو منذ عصر إسماعيل ثم وقف في العصر الحاضر. وأخيراً قال: إن المقال شيء قصير(865/41)
ليس فيه مجال للطاقة الأدبية، وهو مع ذلك لم يتقدم، اذكروا كاتباً ممن تقرؤون لهم الآن وتعجبون بهم: هل هذا الكاتب من إنتاج الزمن الماضي أو الحاضر، فالعبرة بالمنتجين لا بالإنتاج.
وهذه تأتي مناظرة في هذا الموسم أرى فيها الدكتور عوض بك في الجانب الضعيف مضحيا بنفسه. . . وقد يستحق الثناء على هذه (التضحية) ولكني ألاحظ أنه لا يبذل مجهوداً يذكر في تقوية هذا الجانب، بل هو يزيده ضعفاً بالتفكه والدعابة في غير صالح جانبه، فيبدو ظريفاً كما يبدو موضوعه ضعيفا. وأظن أن مما يحفظ التوازن في المناظرات أن يتوخي في اختيار المعارض أن يكون لديه باعث المحامي الذي يحرص على أن يظهر كفايته في القضية التي يتصدى للدفاع فيها عن جانب يحتاج إلى مجهود.
ثم نهض الدكتور طه حسين بك، وكان يبدو متعبا، وكان هذا طبيعياً لعنائه فيما لا بس ابتداء عهد الوزارة في ذلك اليوم، ولكنه مع ذلك تحدث حديثاً طيباً ممتعاً كعادته، قال إن وجود عوض نفسه ينقض ما قاله، لأنه حديث وليس ممن أنضجهم العصر الأول، فهل هو ينكر نفسه؟ إذا كان يفعل فنحن لا نوافق لأننا نقر له ما يعجبنا؛ وقد مضى الوقت الذي كان يؤرخ بالحوادث والمهمات وإن شوقي بعد عودته من أسبانيا واستلهامه صور جديدة جعل الشعر العربي لغة للتمثيل، وهذا من ثمرات ربع القرن الأخير. إننا نجد في هذه الفترة جديداً لم يكن، نجد تيمور وتوفيق الحكيم، ونجد كثيراً من الأدباء المعاصرين الذين يشغلون حياتنا الأدبية وهم من إنتاج الفترة الأخيرة. وقد نضجنا حقاً كما قال الدكتور أحمد أمين وتطورت أنواع إنتاجنا. كانت حياتنا محدودة الآفاق مفقودة الحرية. ولا أقصد الحرية الخارجية عن الإرادة من ضغط ورقابة وتقييد، بل أقصد حرية العقل حين تتسع آفاقه فلا يخشى من نفسه حين يفكر فيما يريد وقد شذ عن مقتضيات البيئة أمثال البارودي وشوقي وحافظ
ثم قال الدكتور طه: هذا كله شيء والرضا عن الأدب الحالي شيء آخر، فالحياة الأدبية أخص ما يميزها أنها لا ترضى عن نفسها وليس أخطر على الأدب والفن من الرضا، فإذا نظرنا إلى الآماد
التي أمامنا لا ترضى عن أدبنا، ولكني أرضى لأننا في الطريق وإن كنت لا أقنع بالأدب(865/42)
الحاضر.
التقدم في الفنون الجميلة:
وكانت مناظرة هذا الأسبوع بالقاعة الشرقية أيضاً موضوعها (ما حققته مصر من التقدم في الفنون الجميلة) واشترك فيها محمد حسن بك وسليمان نجيب بك والدكتور محمود الحفني والأستاذ عبد الرحمن صدقي. ولم تكن مناظرة بالمعنى المعروف بل كانت حديثاً موزعاً، إذ اختص كل منهم بالكلام على التقدم في ناحية من نواحي الفنون الجميلة. فتكلم محمد حسن بك عن التصوير والنحت، قال إن مصر أحرزت تقدماً محسوساً في ربع القرن الماضي في هذه الناحية، فلم يكن يهتم بها إلا القليل، وكانت مادة الرسم ثانوية في برامج التعليم فأصبحت أساسية، وصار في المعارض داخل البلاد وخارجها، وسما الإحساس الفني لدى الجمهور فاقبل على ارتياد المعارض الفنية، وأشار إلى المناصب الفنية، التي كان يشغلها الأجانب كالعمداء والأستاذ فاصبح هؤلاء مصريين.
وتحدث سليمان نجيب بك عن التمثيل والسينما أو كان المفروض أن يتحدث عنهما، ولكنه شغل الوقت بالحديث عن التمثيل في عهده الأول أيام الشيخ سلامه حجازي وجورج أبيض حتى وصل إلى مسرح رمسيس ونجيب الريحاني، وكل ما قاله عن التمثيل في ربع القرن الأخير أنه تقدم في فن الإخراج.
وتناول الدكتور الحفني الموسيقى فقارن بين حاليها في ربع
القرن الأخير وما قبله، فقال أنه لك يكن هناك فن موسيقي
يختص به موسيقيون محترمون، فكنت تقرأ على دكا في
شارع محمد علي (دخاخني وموسيقى) وعلى دكان آخر
ببولاق (فطاطرى وعواد) وكان أكثر الموسيقيين متشكعين،
ولم يشذ إلا بعض الأفذاذ. وكانت الموسيقى تذكر مقرونة
باللهو والفساد فأين أمس من اليوم؟ لقد صار بالبلاد معاهد(865/43)
ومدارس خصصت للموسيقى ودراسة علومها وفنونها وآلات
عزفها، واعترفت الدولة بمكانة الموسيقى، وأصبحت من مواد
الدراسة في مختلف المدارس، وصار لها مراقبة عامة في
وزارة المعارف، وتعددت المصنفات والمجلات الموسيقية،
وبين الدكتور الحفني آثار الأفلام والتسجيل الصوتي والإذاعة
في نشر الموسيقى وتيسيرها لكافة الناس.
ثم جاء دور الأستاذ عبد الرحمن صدقي فقال أنه يتكلم على الفنون باعتباره فرداً من الجمهور يقول كلمته في مواجهة أصحاب الفنون. وانصبت فكرته على أن تقدم الفنون في الكم أكثر من الكيف، وذلك أنه لا يوجد في هذه الفترة أستاذة في الفنون لهم خصائص بارزة كما كان في العهد الماضي، وأن ذلك يرجع إلى أن الفنانين يتجهون إلى الجمهور بحكم انتشار الروح الديمقراطي، فلا نراهم يحرصون على الإتقان الفني المثالي بمقدار ما يحرصون على إرضاء أذواق الجماهير. ولا علاج لهذه الحال إلا بما يرجى من تقدم التعليم وانتشار الثقافة حتى يرتفع المستوى الذوقي لدى الجمهور.
وفيما عدا كلمة الأستاذ عبد الرحمن صدقي تجد أن حضرات المتحدثين وجهوا كل همهم إلى الشكليات ولم يبينوا جوهر التقدم في الفنون، وإن كان الدكتور الحفني ألمع إلى شيء من ذلك في الموسيقى.
جمعية مصر - الباكستان:
يفكر بعض الشخصيات المصرية والباكستانية بالقاهرة في إنشاء جمعية (مصر - الباكستان) تعزيزاً وتوطيداً لروابط الأخوة بين البلدين، وتكون مركزاً لالتقاء ألوان الثقافة والتعاون العلمي بينهما، ومن الشخصيات المصرية البارزة التي رحبت بالفكرة محمد حسن العشماوي باشا وصالح حرب باشا ومحمد علي علوبة باشا والأستاذ جلال حسين. والفكرة جديرة بالترحيب ففي مصر جمعيات مماثلة شكلا كرابطة (مصر - أوربا) وكان بها في(865/44)
أيام الحرب الاتحاد المصري الإنجليزي. ولا شك أن أغراض هذه الجمعيات حقيقة بالاهتمام بها والاتجاه إليها، بصرف النظر عما لابس الاتحاد المصري الإنجليزي من اعتبارات لم تكن في صالح الجانب المصري.
ومهما يكن من شيء فإن الروابط بين مصر والباكستان باعتبارهما أمتين إسلاميتين كبيرتين أقوى من صلات مصر بأمم الغرب، وهذه حقيقة ثابتة في النفوس ولكنها تحتاج إلى تعهد وتنظيم، ويرجى من الجمعية المنشورة أن تكون أداة لذلك وأن تتخذ من النشاط الثقافي دعامة التوطيد والتدعيم.
ويرى أصحاب الفكرة - وهم على حق فيما يرون - أن الهيئات الرسمية مصرية وباكستانية ينبغي لها أن ترعى هذه الجمعية وتعينها على أهدافها ومن الإنصاف أن نذكر في هذا الصدد الجهود الموفقة التي تبذلها السفارة الباكستانية ومكتب صحافة الباكستان بالقاهرة في النواحي الاجتماعية والثقافية، وأقد بذلك الاجتماعات والاحتفالات التي تقيمها في المناسبات الإسلامية والتي يتجلى فيها شعور المودة ويشاد فيها بالمثل الإسلامية التي تجمع الشمل وتوحي بالتعاون لتحقيق الغايات. ويؤسفني أن اذكر تواني وزارة المعارف والأزهر في الاستجابة للرغبات الباكستانية التي تقدم بها سعاد علي بك باشا سفير مصر في باكستان إلى الحكومة المصرية، إذ كتب منذ عام تقريراً ذكر فيه إقبال الباكستانيين على تعلم اللغة العربية والثقافة الإسلامية وأنهم يعدون العربية لغة ضرورية لفهم القرآن الكريم والأحاديث النبوية وللتخاطب مع الأمم الإسلامية والعربية. واقترح في تقريره وسائل تحقيق ذلك وهي تنحصر في العون العلمي من وزارة المعارف والأزهر. وقد قضت هذه المقترحات عاماً من عمرها في الكهف. . . وأرجو ألا يطول بها السبات
عباس خضر(865/45)
ديوان الأمير تميم الفاطمي
للأستاذ محمد حسن الأعظمي
تقوم دار الكتب المصرية الملكية الآنبطبع ديوان الأمير تميم ابن المعز لدين الله الفاطمي بأني القاهرة ومشيد الأزهر. وهذا الديوان كنز من كنوز الأدب الغالية استطعت أن أستخرجه أولاً من مكتبة الفاطميين المحفوظة في الهند لدى خلفائهم وورثتهم وهم أحفاد أولئك الذين حملوا تراثا وفيرا من العلم والأدب إلى هذه الأقطار بعد انهيار الدولة الفاطمية في مصر وتغلب الدولة الأيوبية على البقية الباقية منها. وقد عاش هذا التراث بين جبال اليمن عدة قرون، ثم رأى هؤلاء الحافظون لتركة الفاطميين أن يغتربوا بها في أرض لا يعرف أهلها العربية. وذلك لكي يبقى هذا الكنز بعيداً عن متناول الأيدي، كجهول القيمة والقدر حتى لا يفطن إليه أحد فيصيبه ما أصاب غيره من الكنوز التي تبددت بين تلاعب الأيدي وعبث الرواة وتحريف الناقلين. وقد دفعني شغفي بالبحث وحبي للاطلاع إلى أن أجوب معاهد الهند ومكاتبهم الموزعة بين طوائفها المختلفة. ولم يكن يعنيني من ذلك كله سوى محاولة العثور على وثائق تاريخية أو أدبية يفيد منها المعنيون بالدراسات الإسلامية. وكانت مملكة الفاطميين الصغيرة في الهند إحدى المناطق التي زرتها واختلفت إليها وأمكنني أن أستنسخ منها عدداً من المخطوطات الهامة والكتب العلمية الأثرية مما صنعه ملوك الفاطميين ووزراء الدعاية في دولتهم؛ فمن منثورها محاضرات المؤيد الشيرازي الثمانمائة التي ألقاها بالأزهر منذ ألف عام وهي نماذج رائعة في الأدب الكلامي وبلاغة النثر العربي والحوار المنطقي والفلسفي ومن منظومها ديوان هذا الأمير الذي يتكنى باسمه المعز لدين الله إذ يقال له أبو تميم وكان لهذا العاهل الفاطمي الأول في مصر ابنان أكبرهما تسنم دولة الشعر، وكان أصغرهما ولي عهد أبيه وهو العزيز بالله.
وقد أتيح لي أن أراجع ديوان تميم هذا على سبع نسخ مخطوطة أخرى. ثم كان لزاما على أن أقول بشرح وتعليق المصطلحات والألفاظ الغريبة وأن أضع للكتاب مقدمة تكشف النقاب عن تسلسل هذه الدولة الفاطمية إلى أن شكل حكومتها في القاهرة.
أما الديوان نفسه فهو قبل كل شيء صورة من الأدب المصري. فيه الخصائص المصرية بقدر ما فيه من الخصائص العربية فهو شاعر مصري صميم، وإن لم يكن مصري المولد(865/46)
والنشأة والتربي.
يرى المتتبع هذا الديوان أسماء لمواطن وأوصافها لجهات معربة بالقاهرة وضواحيها حتى اليوم، كما يكشف هذا الكتاب عن الحالة الأدبية في العصر الفاطمي وكذلك المذاهب الإسلامية والحال المذهبي في ذلك العهد. والاحتفاظ بهذا الديوان ضروري للتاريخ والأدب المصريين ولاسيما إذا عرفنا أن العصر الفاطمي قد ذهب آثاره وانطوى سجل التاريخ على مخلفاته. فلم يفتح إلا إلى منها. فقد تقرأ في المصادر التاريخية أن مائة من الشعراء هجوا أو رثوا أو مدحوا أحد الخلفاء الفاطميين. ثم لا تجد هؤلاء الشعراء ولا أشعارهم فقد أحرقت مكتبات وضاع بعضها بين: الحوادث وأعاصير الانقلاب السياسي. فكل ورقة نعثر عليها تعد ذات قيمة غالية بالنسبة لموضوع الأدب المصري بالذات. هو الذي دفعني لتقديم الكتاب إلى الحكومة المصرية بمناسبة العيد الألفي للقاهرة والأزهر.
وقد عينت الحكومة منذ اثني عشر عاما لجنة من أعلام الأدب في مصر لمراجعة هذا الديوان. ثم انتهى الأمر بإقرار طبعة ونشره وتولت دار الكتب القيام بذلك. ولم يحل دون إتمام الطبع وإنجازه سوى أزمة الورق أثناء الحرب الأخيرة. وكانت تلك اللجنة الموقرة مشكلة من الدكتور عبد الوهاب عزام بك والدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين بك.
ولما عدت إلى القاهرة لتشكل فرع لمؤتمر العالم الإسلامي الدائم رأيت أن أضيف إلى عمل لخدمة الإسلام جهداً أدبياً آخر وهو أن أذكر إدارة دار الكتب بمعاودة العمل على نشر ديوان تمم. وقد أبدت دار الكتب نشاطاً ملحوظاً في استئناف طبع الديوان وقطعت في ذلك شوطاً كبيراً. ولعل في هذا ما يبعث الطمأنينة إلى من ينتظرون صدور هذا الكتاب. سواء أكانوا من الحريصين على ترقب كل جديد خمن الأدب المصري. أم كانوا من طلبة كلية الآداب باعتباره مادة من موضوع الأدب المصري ومثالاً من إنتاج القومية المصرية. فإني أول من يرى في هذا الديوان ظاهرة جديرة بالنظر وهي أن تميم مع كونه نشأ في بلاد المغرب وتلقى ثقافته الأولى في مهد آبائه وأجداده نراه ما يكاد يحل بمصر حتى تصبح وطنه وأنشودة آماله وأغنية أحلامه وقبلة تفكيره. فكأنه قد نسي كل شيء في وجوده ليذكر شيئاً واحداً هو أنه في مصر التي تعيش بها ويترجم عن حبه لها وشعوره بجمال الحياة فيها.(865/47)
وإلى أن يجد القارئ هذا الديوان منشوراً، فإني أضع بين يديه هذه النماذج دون تعليق أو شرح استكمالاً لهذه العجالة القصيرة التي قدمتها للتعريف بتميم.
قال يرثى والده الخليفة المعز لدين الله الفاطمي:
كيف لا تعدم الجسوم القلوبا ... وترى نضرة الوجوه شحوبا
فقدوا بعدك القلوب اللواتي ... يغتدي واجب فشقوا الجيوبا
وا معزاه وا معزاه حتى ... يغتدي الدمع بالدماء خضيبا
فليذق غيري الحياة فإني ... لا أرى للحياة بعدك طيبا
وقال يذم الدهر:
أفنيت دهرك تتقي ... فيه الحوادث والمصائب
ولو اتقيت معاصي الرحمن فيما أنت راكب ... لأمنت من نار الجحيم وفي الحياة من
النوائب
إن لم تراقب من له ... حكم عليك قمن تراقب
وقال يفتخر على ابني العباس:
أقروا لنا يا آل عباس بالعلا ... فلستم لها يا آل عباس أكسبا
سبقناكم للدين والهجرة التي ... تأخر عنها جدكم وتحجبا
وكنتم بني عم النبي محمد ... وكنا بنيه وهو كان لنا أبا
وليس بنو أعمامه في دنوهم ... كمثل بنيه خلطة وتنسبا
نباجدكم عن نصره يوم بعثه ... وجد على جدنا عنه مانبا
وقال في الزهد:
يا عجبا للناس كيف اغتدوا ... في غفلة عما وراء الممات
لو حاسبوا أنفسهم لم يكن ... لهم على إحدى المعاصي ثبات
من شك في الله فذاك الذي ... أصيب في تمييزه بالشتات
يحييهم بعد البلى مثل ما ... أخرجهم من عدم للحياة
وقال يمدح الخليفة المعز لدين الله ويهنئه في يوم عيد:
ألا كل يوم من زمانك عيد ... وهل فوق إشراق الضحاء مزيد(865/48)
ليهنك أن الله فوقك مالك ... ودونك كل المالكين عبيد
وقد شرد الله الأعادي والضنى ... وأعقب نار الحادثان خمود
وللناس آمال ضروب وأنفس ... تسوق إلى أوطارهم وتقود
وليس لنا إلا عليك معول ... وليس لنا إلا إليك محيد
وقال يمدح الإمام العزيز بالله وهي أول قصيدة قالها فيه عام 365هـ.
ما السيف أمضى منه في عزمه ... في غمده إذ سل من غمد
يا أيها البدر الذي جده ... محمد أكرم من جد
ويا عزيزاً هو عز الهدى ... والدين والدنيا بلا جحد
يا ليت خدي لك أرض فما ... آنف أن تمشي على خدي
وقال أيضاً:
دعا دمعهن فراق فجادا ... وأعجلهن المتنائي فزادا
فلم أرد دمعاً كأدماعهن ... يهيض الحشى ويذيب الفؤادا
ولما تيقن أن الفراق ... يزود عشاقهن البعادا
تأولن أن لباس الجداد ... أحق بمن صير الحزن زادا
فنشرن ما قد طوت خمرهن ... ليلبسن شعر النواصي حدادا
ولولا مراعاة عين الرقيب ... لبسن الثياب جهارا سوادا
محمد حسن الأعظمي
عميد كلية اللغة العربي بالباكستان(865/49)
الققص
القبلة
بقلم الأديب أحمد بدران
(قصة ملخصة عن أنطوان تشيكوف)
في الساعة الثانية من مساء العشرين من مايو، كانت ست فرق من المدفعية في طريقها إلى معسكراتها، فتوقفت لقضاء الليل في قرية (مستشكو) وبينما كان بعض الضباط منشغلين ببنادقهم وآخرون قد تفرقوا في الميدان يستمعون لأوامر القيادة العليا. أقبل فارس بملابس مدنية من وراء الكنيسة واقترب من بعض الضباط وقال وهو يرفع قبعته (إن صاحب السعادة الجنرال فون رابك المقيم هنا يسره أن يدعوكم لتناول الشاي
) ثم رفع قبعته مرة ثانية ومضى وراء الكنيسة.
وزمجر بعض الضباط (عندما يرغب المرء أن يأوي إلى فراشه يأتي هذا الفون رابك ودعوته. إننا نعرف معنى ذلك) وتذكر كل ضابط من الفرق الست حادثة وقعت لهم في العام الماضي أثناء المناورات عندما دعوا هم وضباط إحدى فرق القوساق لتناول الشاي وكيف قابلهم الكونت بحفاوة فائقة وأصر على أن يقضوا الليل في منزله. وكان هذا منه جميلا. ولم يكونوا يرغبون في أكثر من ذلك. لولا أن الكونت كان شديد الاغتباط بصحبة هؤلاء الشبان فظل حتى مطلع الصبح وهو يثقل عليهم بحوادث ماضيه السعيد ويقودهم من حجرة لأخرى ليريهم صوره الثمينة ولوحاته النادرة، ويقرأ عليهم خطابات تقلها من مشاهير الرجال. وكان الضباط المنهكين يشاهدون ويستمعون وهم في شوق إلى مضاجعهم. وظلوا يخفون تثاؤبهم وراء أكفهم وعندما تركهم مضيفهم في النهاية كان الوقت متأخراً جداً للنوم.
هل يختلف فون رابك عن ذلك؟ على أي حال لم يكن بد أن يغتسل الضباط ويرتدوا ملابسهم ويذهبوا إلى منزل الجنرال وكان في المقدمة لوبنكو الملازم وهو طويل القامة عريض المنكبين حليق الشارب في الخامسة والعشرين رغم أنه يبدو أصغر من ذلك له شهرة في كل السلاح أنه يحس وجود المرأة في أي مكان عن بعد، وتلفت حوله ثم قال(865/50)
(نعم إني واثق أن هناك بعض النساء، إنني أحس ذلك بالسليقة) وعلى باب المنزل قابل فون رابك الضباط بنفسه وكان رجلا وجيهاً في الستين يرتدي ملابس مدنية، وقال وهو يصافح ضيوفه أنه يسره ويسعده أن يلقاهم وسألهم المعذرة إذ لهم يدعهم لقضاء الليل إذ حضرت أختاه وأولاهما وأخواه وبعض الجيران ولذا فليس هناك حجرة واحدة خالية، وقد لاحظ الضباط أن الرجل ليس شديد الاغتباط بوجودهم ويبدو أنه ما دعاهم إلا مراعاة لآداب اللياقة. وفي حجرة الاستقبال قابلتهم سيدة طويلة بوجه بيضاوي وحواجب كثيفة تشبه (الإمبراطورة أوجيني!) ورحبت بهم بابتسامة أنيقة. ولما دخل الضباط حجرة المائدة وجدوا مجموعة من الرجال والسيدات مختلفي الأعمار جالسين في ناحية من المائدة يتناولون الشاي. ومن خلف مقاعدهم كانت مجموعة من الرجال تحيطهم هالة من دخان السجاير ومن وراء هذه المجموعة كانت تبدو خلال الباب غرفة أخرى ناصعة الإضاءة مؤثثة بأثاث أزرق فاتح، وقال الجنرال بصوت مرتفع متكلفاً المرح (أيها السادة إنكم من الكثرة بحيث يستحيل أن أتولى تقديمكم فلتقدموا أنفسكم بطريقة عائلية). وانحنى الضباط وبعضهم يتكلف الرزانة والبعض يغتصب ابتسامته وكلهم يشعر بعدم الراحة، وجلسوا إلى المائدة. وكان أشدهم قلقاً الضابط ريابومتش وهو رجل قمحي بوجه يشبه وجه القط وشواربه مهدِّلة ويضع على عينيه نظارات، وكان لا يستطيع أن يركز اهتمامه في شيء معين. فقد كانت الوجوه والملابس وزجاجات الخمر كلها تختلط في إحساس واحد مضطرب كأنه محاضر يواجه المستمعين لأول مرة، وكان يرى الأشياء أمام عينيه لكن لا يدرك منها شيئاً (تلك حالة تعرف في الفسيولوجيا باسم العمى النفساني!). ثم عاد إلى نفسه وأخذ ينظر فيما حوله. ولما كان خجولاً ولم يعتد ارتياد المجتمعات فقد أدهشته جرأة معارفه الجدد، فون رابك وزوجه وسيدتين كبيرتين وفتاة في ثوب بنفسجي وشاب في بذلة حمراء تبين أنه ابن رابك الأكبر، هؤلاء وزعوا أنفسهم بمهارة بين المدعوين وبدءوا نقاشاً لا يستطيع الضيوف إلا أن يشتركوا فيه، بينا تراقب عيونهم الأطباق والأكواب ليروا أن الضيوف يأكلون ويشربون، وأزداد ربايوفتش تقديراً لهذه الأسرة.
وبعد تناول الشاي انتقل الضباط إلى حجرة الجلوس، ولم تخب فراسة الملازم لوبنكو فقد كان هناك الكثير من الفتيات والسيدات والشابات في الحجرة، وكان الملازم الجسور يقف(865/51)
بجانب فتاة في رداء أسود منحنياً نحوها وهو يبتسم ويحرك كتفه في رشاقة، ولا بد أنه كان يتحدث إليها في تفاهة مسلية لاشك فإن الفتاة الجميلة كانت تنظر إلى وجهه المستدير وتجيب دائماً (حقيقة!؟) وبدأ بعضهم يدق على البيانو وكانوا في مايو والجو جميل ومنظر أشجار الخور والورد وأزهار البنفسج يبدو رائعا.
ودعا فون رابك فتاة طويلة نحيلة على الرقص ودار دورتين أو ثلاثا في الحجرة فبدأ الرقص وتقدم لوبنكو على الفتاة ذات الثوب البنفسجي وقادها خلال الغرفة. ووقف ريابوفتش بجانب الباب مع الرجال الذين لا يرقصون، يراقب، فجاء فون رابك الابن ودعا اثنين من الواقفين إلى لعب البلياردو، ويتبعه بعض الضباط ولما كان ريابوفتش بحاجة إلى شيء يعمله وكان يرغب أن يشترك بأي طريقة في المهرج العام فقد ذهب ورائهم. ومروا من حجرة إلى أخرى إلى أن دخلوا في النهاية قاعة البلياردو وبدأ اللعب ووقف ريابوفتش يراقب اللعب وأنه لم يلعب في حياته كما لم يرقص، ولم يعره اللاعبون اهتماماً، فقط عند ما يصطدم به أحدهم يقول له بأدب (معذرة) ولما انتهت الجولة الأولى بدا له بقاؤه غير مرغوب فيه فغادر القاعة.
وفي منتصف الطريق في عودته لاحظ أنه ضل السبيل فقد وجد نفسه في غرفة معتمة لا يذكر أنه مر بها في قدومه فمضى عائداً ثم انحرف إلى اليمين وفتح أول باب صادفه فوجد نفسه في غرفة مظلمة وإن كان يبدو من خلال بابها حجرة أخرى وضئية وكانت النافذة مفتوحة تطل منها أفرع أشجار الحور ويفوح فيها عبق الورد والبنفسج، ووقف رباموفتش مرتبكا وفي هذه اللحظة سمع وقع أقدام تقترب بسرعة ثم حفيف ثوب وصوت امرأة ينبض بالعاطفة فهمس (أخيراً) ثم أحس بذراعين بيضتين جميلتين تحيطان عنقه، ووجنة دافئة على خده ثم صوت قبلة، لكن في الحال صرخت المرأة صرخة مكتومة وبدت لريانوفتش أنها فزعت ولقد أوشك هو أن يصيح لكنه مضى مسرعاً ولما عاد إلى قاعة الجلوس كان قلبه يدق بسرعة ويداه ترتجفان حتى أنه أخفاهما وراء ظهره وتملكه أول الأمر شعور بالخجل والعار وبدا له أن كل واحد في الحجرة لابد يعلم أن امرأة قبلته وعانقته منذ لحظة ونظر حوله لكن لم يجد أحداً يلتفت إليه وكان كل من حوله يرقص ويغني؛ لذا لذ له أن يستعرض ما مر به، كان عنقه الذي أحاطت به الذراعين الناعمتين(865/52)
يبدو كأنه بل بزيت وعلى خده بجانب أذنه اليسرى حيث قبلته الفاتنة المجهولة شعور جميل بالبرودة كتبخر النعناع؛ وقد ملئ من قمة رأسه إلى أخمص قدمه بشعور غريب أخذ ينمو ويزداد كان يريد أن يرقص ويتكلم ويجري في الحديقة ويضحك بصوت عال، ونسى شعوره بالنقص ولما مرت به زوجة فون رابك تلمحها ابتسامة عريضة جعلتها تقف وتنظر إليه في دهشة فقال لها وهو يثبت نظارته، إني أحب منزلكم حقيقة!) فابتسمت السيدة وقالت إن المنزل كان لوالدها ثم مضت تسأله إن كان والداه على قيد الحياة، وكم مضى عليه في الخدمة وما إلى ذلك؛ ولما مضت شعر ريانوفتش بالسرور وبأنه محاط بقوم كرام وابتسم، وفي العشاء أكل وشرب كل ما وضع أمامه، ولم يسمع شيئاً مما كان يقال بل كان يفكر دائماً في مغادرته المدينة، لا ريب أن فتاة أو سيدة قد واعدت شخصاً في الحجرة المظلمة، ولما كانت مضطربة لأنها أطالت الانتظار فإنها أخطأت وحسبته فارسها خاصة وإنه وقف مرتبكاً لدى دخوله كأنما ينتظر شخصاً. على هذا الأساس فسر ريانوفتش القبلة التي نالها، لكن من تكون هي! وأخذ يدقق في ملامح الموجودات لابد أنها شابة فالعجائز لا يواعدن الرجال في الظلام!) ووقع نظره على الفتاة ذات الثوب البنفسجي بدت له جد جذابة لها كتفان وذراعان جميلان ووجه زكي وصوت جميل وقرر ريانوفتش أنها هي ولا يمكن أن تكون سواها، لكنه وجد ابتسامتها متكلفة وكانت تحك أنفها الطويل الذي يجعلها تبدو كبيرة السن، فنقل بصره إلى الفتاة ذات الثوب الأسود وكانت أصغر سناً وألذ بساطة ولها خدود جميلة وأراد أن تكون هي لكنه وجد ملامحها مستوية، ونقل اهتمامه إلى جارتهم ثم قال. لا يستطيع المرء أن يعرف! فلو أخذنا الذارعين والكتفين من فتاة الثوب البنفسجي والوجنات من هذه الفتاة والعينين من تلك التي تجلس إلى شمال لوبتكو. . . وفي خياله وضع نموذجاً للفتاة التي قبلته.
وبعد العشاء، وقد امتلأ لبيوت بالطعام والشراب. شكروا مضيفهم وأستاذنوا في العودة وقال الجنرال بحرارة هذه المرة (لقد سعدت بلقياكم يا سادة (الضيوف الراحلين يعاملون بكرم أكثر من العاديين!) وارجوا أن تعيدوا الزيارة في رجوعكم وخرج الضباط وكل منهم يفكر هل يملك يوماً مثل هذا البيت وتكون له عائلة وحديقة ويباح له أن يدعو ضيوفاً ولو من قبيل المجاملة وتجعلهم يخرجون راضين مغتبطين، ولما وصلوا إلى خيامهم خلع ريانوفتش(865/53)
ملابسه بسرعة وذهب إلى سريره وأخذ يفكر وهو ينظر إلى السقف غني لأعجب من تكون! كان شعور الزيت مازال على عنقه والإحساس بالرطوبة حول فمه وخيال فتاة، لها كتفان ذات الرداء البنفسجي ووجنات ذات الثوب الأسود وخدها وملابس تلك ومجوهراتها تلوح أبداً في مخيلته وحين يغمض عينيه يسمع الخطوات المسرعة وحفيف الثوب وصوت اقبله وشعور عميق بالسرور يتملكه لم يفارقه حتى وهو نائم.
وفي الصباح غادرت الفرقة القرية، ولما مروا بمنزل فون رابك نظر يابوفتش إلى المنزل وكانت الستائر مسدلة فلا ريب أنهم ما زالوا نائمين. وهي أيضاً نائمة. . . وتخيلها على فراشها وغرفة نومها ذات النافذة المفتوحة تطل منها غضون الحور وهواء الصبح المنعش ومنظر الورود والبنفسج، والسرير، وكرسي إلى جانبه على ثوبها الذي كانت ترتديه بالأمس وخفيها إلى جانيه. وساعتها على منضدة كل هذه الأشياء رآها بالأمس بوضوح لكن الوجه! كانت صورته تنزلق من خياله كالزئبق من بين الأصابع. ولما أوشكت القرية أن تختفي عن ناظريه شعر رياوفتش بالأسى كأنه خلف فيها شخصاً قريباً إليه عزيزاً لديه ولما وصلت الفرق إلى مقصدها واستقر الضباط في خيامهم جلس ريابوفتش مع لوسكو ومرسليكوف يتناولن العشاء وكان مرسليكوف يأكل ببطيء وهو يطالع جريدة على ركبتيه ولوتكو يتكلم دون انقطاع ويمضي في ملأ كأسه بالخمر أما ربايوفتش فكان مازال غارقاً في أحلامه يأكل في سكون بعد أن شرب ثلاثة كؤوس أمضه الصمت وشعر برغبة ملحة في أ، يقضي إلى زميليه بعواطفه الجديدة فقال وهو يحاول أن يخفي تأثره ويجعل الصوت عادياً. . . حدثت لي حداثة مضحكة عند آل رابك ذهبت إلى غرفة البليارد كما تعلمون. . .
وابتدأ يقص الحادثة بتفاصيلها ودهش إذ لم يستغرق سردها إلا وقتاً قصيراً - أقل من دقيقة - وكان يظنها تستغرق الليل بأكمله. ولما كان لوبتكو كذاباً جريئاً فلم يكن يصدق أحداً لذلك ابتسم ابتسامة الشك. أما مرسليا كوف فقد رفع حاجبين دون أن يرفع نظره من الجريدة وقال. . . حادثة غريبة ولا ريب. أن ترمي بنفسها في أحضان رجل دون كلمة. لابد أن الفتاة عصبية على ما أعتقد!. فوافق ريابوفتش قائلاً. لا ريب في ذلك. . . عندئذ بدأ ريابوفتش يقول. حدثت لي ذات مرة حادثة مماثلة كنت مسافراً إلى كوفنا في العام(865/54)
الماضي وكنت في الدرجة الثانية والعربة مزدحمة فاستحال علي النوم. وناديت فراش القطار وأعطيته نصف روبل فحمل متاعي وأخذني إلى عربة النوم. واستلقيت وتغطيت بملاءة، وكان الظلام كثيفاً، وفجاءة شعرت بشخص يمس كتفي ويتنفس في وجهي وأخرجت ذراعي وتحسست ذراعا، وفتحت عيني فلم أكد أصدق فقد كانت سيدة بعينين سوداوين وشفتين قرمزيتين وأنف يتنفس بالجنان وصدر ناهد. . . وهنا قاطعه مرسليا كوف رأيت لون شفتيها وعينيها في الظلام؟! فأخذ لوبتكو يسخر من افتقار مرسليا كوف إلى الخيال، وتضايق ريابوفتس وتركهما واستلقى على فراشه وعاهد نفسه ألا يكون فضفاضاً بعد الآن.
وابتدأت حياة المعسكر، وتتابعت الأيام متماثلة وكاريابوفتش يفكر ويشعر ويتصرف كرجل يحب، وحين يتحدث زملاؤه عن الحب والنساء كان يقترب ويستمع ويأخذ وجهه هيئة الجندي الذي يسمع قصة معركة خاض غمارها. وفي المساء إذا ما انتابه الأرق، وفي ساعات الفراغ كان يستعيد منظر قرية مستشكو والمنزل العجيب درابك وزوجته التي تشبه الإمبراطورة أوجيني والحجرة المظلة وما جرى فيها.
وفي الواحد والثلاثين من أغسطس صدرت الأوامر لفرقتين فقط بالعودة، وكان من العائدين وفي الطريق كان مهتاجاً كأنه عائد إلى مسقط رأسه، ومرة أخرى اشتاق إلى منزل رابك، وكان صوت داخلي (كثيراً ما يخدع المحبين) يؤكد له أنه سيلقاها وبدأ يعجب كيف يحييها وماذا يقول لها، هل نسيت كل شيء عن القبلة، ولو حدث أسوأ ما يتوقع ولم يرها فإنه على الأقل سيمر بالغرفة المظلمة ويتذكر.
وعند الغروب بدت الكنيسة المعهودة في الأفق، ودق قلب ريابوفتش بسرعة، ولم يعد يسمع حديث الضابط الراكب بجانبه، وبشوق عظيم نظر إلى النهر يتدفق، وإلى سطح المنزل ثم وصلوا إلى الكنيسة، ونزلوا بالساحة وسمع أوامر القيادة وهو يتوقع من لحظة لأخرى أن يرى الفارس قادماً ليدعوهم إلى بيت الجنرال، ولكن مضى الوقت ولم يأت الفارس. . . سيعلم رابك بعد قليل من الفلاحين بوصولنا وحينئذ يرسل ألينا. هكذا قال لنفسه، وشعر بالأسى واستقلي على سريره ثم قام ونظر من النافذة ليرى الفارس في طريقه ولكنه لم ير شيئاً ثم لم يستطع كبح جماح قلقه فمضى في الطريق متجهاً نحو الكنيسة ثم إلى منزل(865/55)
الجنرال واقترب من الحديقة وكان الظلام يلف المنزل والسكون مخيماً، وبعد انتظار نصف ساعة دون أن يسمع صوتاً أو يرى شيئاً استدار عائداً، وتوقف عند النهر، وحدق فيه، وكان القمر يرسل أشعة على صفحة الماء والأمواج تداعب صورة القمر كأنما تريد لتحملها إلى بعيد، وفكر ريابوفتش (ما أحمقني!) ولم يعد الآن ينتظر شيئاً، وبدت له حكاية القبلة، وقلة صبره، وآماله الغامضة وخداعه لنفسه، بدا له كل هذا على حقيقته؛ ولم يبد له غريباً أن الفارس لم يأت لدعوتهم، وأنه لن يقابل الفتاة التي قبلته خطأ بدل شخص آخر، بل على العكس يكون من الغريب أن يلقاها مرة أخرى! وبدت له الحياة كلها مزحة كبيرة طائشة، ورفع عينه عن الماء ونظر إلى السماء وتذكر مرة أخرى كيف أن القدر في صورة امرأة مجهولة قد داعبه على غير انتظار؛ واستعاد أحلام الصيف وبدت له حياته تافهة تعسة لا طعم بها.
ولما عاد إلى حيث وضعوا خيامهم لم يجد أحد من الضباط هناك وأخبره جندي أنهم ذهبوا إلى منزل الجنرال فون رابك الذي أرسل لهم فارساً يدعوهم، وأحس بالفرح لحظة لكنه خنق هذا الإحساس في الحال، وكأنما ليعاند القدر الذي أساء معاملته هكذا لم يذهب إلى منزل الجنرال بل مضى لينام.
أحمد بدران
[(865/56)
العدد 866 - بتاريخ: 06 - 02 - 1950(/)
على محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 8 -
(وفي قصيدة ندور حوادثها حول الفن بين الرجل والمرأة وأثر الغريزة فيه، يتكلم شاعر فنان اتخذ فتاة حسناء نموذجاً حيا لفنه، فأغوته بمفاتن جسدها، ودفعته بحماسة في غمار ملذات لا يلبث أن يفيق منها، وقد رأى مدى انهيار روحه وفنه، والموقف كله شذوذ واضطراب، وكله عنف وضعف، وهو تصوير لهذه الحية الخالدة التي يشتهيها الفنانون والشعراء رغم لدغاتها. . .)
بهذه الكلمة التحليلية الموجزة يمهد الشاعر لهذه القصيدة الجديدة، وهي إحدى القصائد الرائعة في ملحمة (الأرواح والأشباح). . . ومن الصفحة الثامنة والأربعين من هذه الملحمة التي تنيف على أربعمائة بين من الشعر، نقدم الصورة الحسية الثانية، هناك حيث تفتح (تاييس) كتاباً وتقرأ من قصيدة الحية الخالدة):
ولفت ذراعين كالحيتين ... على، وبي نشوة لم تطر
وقد قربت فمها من فمي ... كشقين من قبس مستعر
أشم بأنفاسها رغبة ... ويهتف بي جفنها المنكسر
تبينت في صدرها مصرعي ... وآخرة العاشق المنتحر!!
أفي حلم أنا؟ أم يقظو؟ ... ومن أنت أيتها الخاطئة؟
هو الحي؟ لا. بل نداء الحياة ... تلبيه أجسادنا الظامئة
يخف دمي لصداه الحبيب ... وتدفعني القدرة الهازئة
كأني ببحر بعيد الفرار ... طوى أفقه وزوى شاطئه
أرى، ما أرى؟ جسداً عارياً ... تضج به الشهوة الجائعة
أرى، ما أرى؟ حدقي ساحر ... تؤجان بالنظرة الرائعة
أرى، ما أرى؟ شفتي غادة ... ترفان بالقبلة الخادعة(866/1)
تساقطني ثمرا! ما أرى! ... أرى حية الجنة الضائعة!
بعينك أنت، فلا تنكري ... صفات أنوئتك الشاهدة
تمثلت شتى جسوم، وكم ... تجددت في صور بائدة
نعم أنت هن. . . نعم ما أرى؟ ... أرى الكل في امرأة واحده
لقد فنيت فيك أرواحهن ... وها أنت أيتها الخالدة!
لقد كنت وحي رخام يصاغ ... فأصبحت لحما يثير الدماء
وكنت فتى ساذجاً لا أرى ... سوى دمية صورت من نقاء
أنيل الثرى قدمي عابر ... يعيش بأحلامه في السماء
فأصبحت شيئاً ككل الرجال ... وأصبحت شيئاً ككل النساء!
وكنت أمير هذي الدمى ... وصورة حسن عزيز المنال
وكنت نموذج فن الجمال ... أحبك للفن لا للجمال
أرى فيك مالا تحد النهى ... كأنك معنى وراء الخيال
فجردتني رجلاً أشتهي ... وجردت أنثى تشهي الرجال!
دعيني حواء أو فابعدي ... دعيني إلى غايتي أنطلق
أخمر ونار؟ لقد ضاق بي ... كياني وأوشك أن أختنق
أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم ... رائحة الجسد المحترق!
فيالك أفعى تشهيتها ... ويالي من أفعوان نزق!
أتعرف ملكة (المزاج الفني)؟. . . إذا استطعت أن تتخيل القصيدة الشعرية بأدائها النفسي جسماً من الأجسام، وإذا استطعت أن تفترض كل ملكة من الملكات السابقة عضواً عاملاً في حركة هذا الجسم، وإذا استطعت أن تتمثل الحيز الذي يشغله هذا الجسم من الوجدان المتذوق مكوناً من تلك المجموعة من الأعضاء؛ إذا استطعت أن تتخيل وأن تفترض وأن تتمثل هذا كله، فإن ملكة المزاج الفني هي الثوب الذي يلتف حول هذا الجسم بمجموعة أعضائه ليبرز تقاطعيه للعيون ويكشف عن مفاتنه! إنه أشبه بالثوب الذي ترتديه أي حسناء. . . قد يكون جسمها نموذجاً خاصاً لجمال كل عضو من أعضائه على حدة، وقد يكون جسمها نموذجاً عاماً لتناسق تلك الأعضاء مجتمعة، ولكن الثوب هو الحكم الأخير(866/2)
الفاصل بيت أجساد الحسان، لأنه هو وحده الذي يطلعنا على مدى التفاوت الجمالي بين جسد وجسد! هناك ثوب يوحي إليك أن صانعه غير (فنان)، لأنه لم يراع النسب الفنية بينه وبين جسم صاحبته: من ناحية الطول والقصر، ومن ناحية الضيق والسعة، ومن ناحية الكماليات التي تلتمس مظاهر الزينة وتوائم بين لون الثوب ولون البشرة. . . مثل هذا الثوب لا شك أنه يظلم الجسد الجميل لأنه يقدمه للعيون على غير حقيقته، على تلك الحقيقة الأخرى التي اقتضاها ذوق صانع غير فنان. ماذا ينقص هذا الصانع من (ملكات الفن) ليصنع (ملكات الجمال)؟ تنقصه ملكة المزاج الفني، ملكة تفصيل (الأثواب الكاشفة) عن مفاتن الأجساد!.
المزاج الفني إذن هو المسئول، بل هو واضع الحدود والفروق بين طابع كاتب وكاتب وبين طابع شاعر وشاعر. . . خذ مثلاً طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم - ككتاب في مجال القصة وحدها لا في مجال آخر - فستجد أن طه في (شجر البؤس) و (دعاء الكروان) يمثل الطابع الأدبي فهو قصاص أديب، وستجد أن العقاد في (سارة) يمثل الطابع الفكري فهو قصاص مفكر، وستجد أن توفيق يمثل الطابع الفني في عدد من قصصه فهو قصاص فنان. وخذ العقاد مرة أخرى وعزيز أباظة وعلي طه - كشعراء - فستجد أن الأول يمثل المزاج الفكري فهو شاعر مفكر، وأن الثاني يمثل المزاج الأدبي فهو شاعر أديب، وأن الثالث يمثل المزاج الفني فهو شاعر فنان. هذا التقسيم واضح كل الوضوح في الأدب المصري الحديث كما هو واضح كل الوضوح في الأدب الفرنسي الحديث، وبخاصة في فن القصة. . . أندريه جيد وفرانسوا مورياك كلاهما نموذج لهذا القصاص الأديب، وجان بول سارتر وبول كلودل كلاهما نموذج لهذا القصاص المفكر، وجان كوكتو وجان أنوي كلاهما نموذج لهذا القصاص الفنان!
ولا داعي بعد ذلك لأن نخوض في التفسير والتحليل، وفي التمثيل ولتطبيق، خشية أن نخرج عن موضوعنا الرئيسي وهو دراسة هذا الشاعر المصري ذي المزاج الفني النادر. . . حسبنا أن نقول لك إن علي طه ليس شاعراً من أولئك الذين يصوغون الحياة أفكاراً (منظومة) عارية من وشائج اللحم والدم، وليس شاعراً من أولئك الذين ينقلون الحياة نقلاً (فوتوغرافياً) خالياً من عناصر الإبداع والفن، ولكنه من أولئك الذين يتفردون بالذاتية(866/3)
والأصالة عند تصوير الحياة في لحظات التوهج والتوثب والانطلاق!
إن الشعر دفقه وانتفاضة. . . دفقه يتلقاها الشعراء جميعاً، ولكن فيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن وحده، وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الحس وحده وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن والحس والشعور في وقت واحد. ونفرق نحن بين هذه الألوان من الانتفاضات في محاولة فنية نهدف من ورائها إلى استشفاف (الحقيقة الشعرية) من خلال (أثوابها الكاشفة) وننتهي إلى أن حقيقة الشاعر الأولى صاحب الانتفاضة الأولى هي (وجهة نظر) فكرية، وإلى أن حقيقة الشاعر الثاني صاحب الانتفاضة الثانية هي (وجهة نظر) أدبية، وإلى أن حقيقة الشاعر الثالث صاحب الانتفاضات الثالثة هي (وجهة نظر) فنية. . . وهكذا تجد مزاج الشاعر المفكر، وزاج الشاعر الأديب، ومزاج الشاعر الفنان!
وقبل أن نستعرض فنون هذا المزاج الفني في قصيدة (الحية الخالدة)، قبل هذت أن نود أن ترجع إلى العدد (803) من الرسالة الصادر في 22 نوفمبر 1948، حيث وردت في مقالنا (دفاع عن الأدب) هذه الفقرات: (يقول كرونشه: إن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً هابطة، فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه عبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولن يكون فناً أبداً!!. . . ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فهي ليست قوم الإنسان الفنان؛ ومتى كان افن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي. إنك لا تستطيع أن تحكم بأن فرانسسكا دوانتي منافية للأخلاق، ولا أن جوردليا شكسبير أخلاقية، وما هما إلا لحنان من روحي دوانتي وشكسبير ليس لهما إلا وظيفة فنية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي!. . . إن من تفرعات المذهب الأخلاقي قولهم إن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير؛ ويبث فيهم كره الشر، ويصلح من عادتهم، ويقوم من أخلاقهم، وإن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير وتقوية الروح القومي أو الحزبي في الشعب، أو إذاعة المثل الأعلى الذي يفرض على المرء أن يحيا حياة بسيطة جاهدة وما إلى ذلك، والحق أن هذه أمور لا يستطيع الفن أن يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة أن تفعل، فهل عجز الهندسة هذا يجردها من حقها في الاحترام؟ فليت شعري لم يريدون إذن أن يجردوا(866/4)
الفن من مثل هذا الحق في مثل هذه الحال)؟!
هذا الرأي للفيلسوف الإيطالي المعاصر بندتو كورتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، وهو رأي نؤمن به كل الإيمان ويؤمن به كل محيط يقيم الشعر كما يفهمها الشاعر الفنان. ولقد رأينا أن ننقل هذا الرأي لأننا نعلم أن أناساً سيعترضون على هذا اللون من الشعر، لأنهم يخلطون بين رسالة الفن ورسالة علم الأخلاق. أو لأنهم يطلبون إلى الشاعر أن يكف ريشته عن تصوير أثر الغريزة الإنسانية، ناسين أنها نداء خالد يلبيه الأحياء منذ الأبد لتبقى الحياة، ويهتف به الفنانون على مدار الحقب ليبعثوا لروح في كل فن جميل!
أليس الفنان مطالباً بأن يمد عينيه ليرقب، وأن يرهب أذنيه ليسمع، وأن يهيئ نفسه وحسه ليسجل؟ هكذا كان علي طه في كثير من شعره، وكذلك هو في (الحية الخالدة). . . إنه لم يزد على أن جرب الحياة فأحس عمق التجربة، وأصغى إلى ندائها العميق فعاش في أعماق النداء، ورصد أدق خفقة من خفقات قلبها الكبير فأحسن الرصد، وسجل هذا كله تسجيلاً يتميز بالصدق والحرارة في مثل هذا الأداء:
ولفت ذراعين كالحيتين ... علي وبي نشوة لم تطر
وقد قربت فمها من فمي ... كشقين من قبس مستمر
أشم بأنفسها رغبة ... ويهتف بي جفنها المنكسر
تبينت في صدرها مصرعي ... وآخره العاشق المنتحر!!
هنا مزاج فني يشرف على انتفاضة الذهن والحس والشعور، ويخلع أثوابه الدقيقة على هياكل الكلمات، ويسلط أضواءه الكاشفة على مسارب الغريزة ومشاهد التجربة، وهي لحظة تمر بكل إنسان فهم المرأة حق الفهم، وعشق الفن كل العشق، واتخذ من الجسد سلمه إلى استكناه الطبيعة الأنوثية. وعلى درجات هذا السلم تنتقل ملكة المزاج الفني مخلفة آثار أقدامها على كل درجة، تاركة معالم الخطى في كل دورة من دورات الصعود ونحصي تلك الدرجات التمهيدية فإذا هي أربع تتفق معها في العدد تلك الخطى الفنية: الدرجة الأولى (ولفت ذراعين كالحيتين) والدرجة الثانية (وقربت فمها من فمي)، والدرجة الثالثة (أشم بأنفاسها رغبة) والدرجة الرابعة (تبينت في صدرها مصرعي). أما تلك الخطى الفنية التي تقودها ملكة المزاج الفني فهي تلك المقابلة الحسية بين حركتي الالتفاف في البيت الأول:(866/5)
التفاف الذراعين الأنثويتين حول الرجل في لحظة من لحظات الغريزة الإنسانية الخالدة، والتفاف الحيتين الرقطاوين حول الفريسة في لحظة من لحظات الغريزة الوحشية الفاتكة. ثم تلك المقابلة النفسية بين حركتي التقبيل في البيت الذي يليه، حين يبلغ تصوير اللظى المتوهج على أطراف الشفاه مبلغ القبس المتأجج في النار المشتهاة. ثم تلك الانطباعية التجسيدية في البيت الثالث، حين يستحيل الدعاء المتوثب بين الجوانح إلى رغبة تشم في الأنفاس، وحين ينقلب النداء المتوقدين الحنايا إلى هتاف يصرخ تحت انكسار الجفون. ثم تلك اللمعة التخيلية في البيت الرابع، حين يصبح الصدر الفاتن فراشاً مهيأ لاحتضار الأشواق، أو طريقاً ممهداً لانتحار العشاق! ترى هل هي فوره من فورات الحي؟ كلا! بل هي صرخة من صرخات الجسد. . . وإذا بنا نعود مرة أخرى إلى جو تلك الواقعية التي حدثناك عنها في أحد الفصول الماضية؛ هي هناك في (أثوابها النفسية) التي تنظمها ملكة الوعي الشعري، وهي هنا في (أثوابها الحسية) التي تصنعها ملكة المزاج الفني، ونرجو أن تلاحظ هذه التفرقة الدقيقة بين عمل الملكات الشعرية في كل مرحلة من مراحل هذه الدراسة:
هو الحب؟ لا، بل نداء الحياة ... تلبيه أجسادنا الظامئة
يخف دمي لصداه الحبيب ... وتدفعني القدرة الهازئة
وتطالعك بعد ذلك (عملية إحصاء) حسية ما تزال تعمل في حدود الدورة الأولى من دورات الصعود، على نفس السلم الجسدي الأولى الذي ترتقي درجاته ملكة المزاج الفني لتشرف في النهاية على هدفها الأصيل. . . ومن هذا الإحصاء ذلك (الجسد العاري الذي يضج به الشهوة الجائعة) ثم هاتان (الحدقتان اللتان تؤجان بالنظرة الرائعة)، ثم هاتان (الشفتان اللتان ترفان بالقبلة الخادعة). وننتهي إلى ذلك الهدف الأصيل الذي تلتمسه ملكة المزاج الفني، فإذا هو تلك النتيجة الأخيرة لعملية الإحصاء الحسية مسجلة في هذه اللمحة الجامعة:
تساقطني ثمراً! ما أرى؟ ... أرى حية الجنة الضائعة!
وينقلنا الشاعر إلى الدورة الثانية من دورات الصعود، حين يخاطب المرأة ذلك الخطاب المتغلغل في فجاج الواقع الملموس ودروب الحقيقة الخالدة. . . ولقد كنا في الدورة الأولى أمام متحف يعج (بالمعروضات الجسدية) فإذا نحن في الدورة الثانية أمام متحف آخر يموج(866/6)
(بالحقائق النفسية) وهي معروضات وحقائق أشبه (بمحاليل) تجمعت وتفاعلت داخل تجربة كبرى في (معمل الحياة)، ثم انتهت إلى هذا المزيج الأخير الذي يقدمه لنا (معمل الفن) في هذه الأبيات:
تمثلت شتى جسوم وكم ... تجددت في صور بائدة
نعم أنت هن. . . نعم ما أرى ... أرى الكل ف امرأة واحدة
لقد فنيت فيك أرواحهن ... وها أنت أيّها الخالدة!
ومرة ثالثة يدفع بنا الشاعر إلى دورة جديدة من دورات الصعود، وهي الدورة الرئيسية التي تتوسط السلم بين درجات التمهيدية والدرجات النهائية. . . ويأتي المزاج الفني إلا أن يرج بك على عقدة (الانسياب القصصي) في فن الشعر، حين يقف بك وقفة قصيرة بين المقدمات الحسية والنتائج النفسية، بغية توكيد الصلة الرابطة بين هذه وتلك! أما عقدة الانسياب القصصي فتبدأ بهذا البيت الذي يمثل فوره الصراع:
لقد كنت وحي رخام يصاغ ... فأصبحت لحما يثير الدماء!
وتنتهي بهذا البيت الذي يصور حسرة الضياع:
فأصبحت شيئاً ككل الرجال ... وأصبحت شيئاً ككل النساء!
ويستمر هذا الانسياب فيما يلي ذلك من أبيات، حيث يتردد صداه في تلك الكلمة الموجزة التي قدم بها الشاعر للقصيدة، والتي أشار فيها إلى انهيار (روحية) الفن أمام (مادية الجسد) أو أمام هذه الحية الخالدة التي يشبهها الفنانون رغم لدغاتها القاتلة!. . . ويسلمنا الشاعر بعد هذا الانسياب القصصي إلى الخاتمة، خاتمة القصة التي تشرح لك نفسية فنان تردت مثله العليا في مهاوي النزوة العارمة، حتى إذا أفاق على وخزات الأسى العاصف بكل خلجة من خلجات الضمير، راح يطلب إلى الأفعى الخالدة أن تخلي بينه وبين الطريق؛ طريقه الجديد الذي كمنت فيه ألف أفعى من أفاعي الندم! لقد تأثم فنه حين عب من الخمر وتعذب شعوره حين اقترب من النار. . . لقد ثمل في حانة الشفاه واحترق في أتون الجسد:
أخمر ونار؟ لقد ضاق بي ... كياني وأوشك أن أختنق
أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم=رائحة الجسد المحترق!!
(يتبع)(866/7)
أنور المعداوي(866/8)
علي مصطفى مشرفة باشا
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
وسط هذه الخسائر المتلاحقة تفقد مصر عالمها العظيم.
والحق أن اللغة العربية هي صاحبة المصاب الأول في هذا الرجل، لسبب بسيط وهو أن اللغة العربية لم تعهد مؤلفاً بهذه القوة، وكاتباً بهذه الأصالة في ميدان العلم الخالص. وهذا الجانب النظري في العرض العلمي، ناقص عندنا إلى حد يعيب المكتبة العربية، وتبدو حاجتنا واضحة في هذه الأيام إلى الكتابة التفصيلية عن العلوم من أجل سد الفراغ الهائل الذي نراه في المؤلفات والعقليات على السواء. . وإذا كانت مصر قد أحبت هذا الرجل، وإذا كانت قد بكت البكاء المر حينما انتقل إلى جوار ربه، فلأنه كان يملأ ركناً يعز على الجميع أن يروه شاغراً، ويشتغل بمهمة لا يقوى على القيام بها سوى أفراد قليلين.
مات مصطفى مشرفة بعد أن ترك لمصر مجداً أي مجد، وبعد أن شرفها باسمه وعمله وبحوثه جميعاً، وإذا عرفت قيمة العلم والعلماء في مصر ومدى ما نحن فيه من نقص وقصور وذكرت حالتنا العقلية بوجه عام فستعلم آنئذ من هو مصطفى مشرفة، وستدرك مدى الخسارة في هذا الرجل، إذ على الرغم مما نحن فيه من تأخر وجمود علمي في كلا الجانبين، النظري والعملي، بزغت هذه العبقرية النافذة وأطلت على العالم بصورة فذة حقاً وخرجت إلى الناس على نحو غريب.
وهو أول من أحس بهذا الضعف الشامل في نواحينا العلمية أول من أخذ يستصرخ الحكومة والأهالي من أجل العناية بهذا الجانب الذي يمكن أن يأتي لنا منه الخير الكثير أو الذي لا يمكن أن يأتي لنا خير من سواه. أنظر إليه مثلاً حينما يقول بصدد العلم والصناعة (فالصناعة بأوسع معانيها تشمل موارد لثروة الأهلية من معدنية ونباتية وحيوانية بل وإنسانية أيضاً كما تشمل استخدام القوى الطبيعية وتسخيرها لخدمة الأمة وراحتها ورفاهيتها ولم يعد من الممكن في العالم الحديث أن يترك هذه الأمور للصدف أو للجهود الفردية، بل يجب على الدولة أن ترسم سياسة إنشائية في تنمية الثورة الأهلية، وهذه السياسة لا يمكن أن تبنى على الحدس والتخمين أو على الجدل والخطب السياسية، بل إن قوامها دراسة الحقائق وإجراء التجارب والبحوث العلمية. ولو أننا استطعنا عن طريق(866/9)
البحث العلمي أن نستنبط طرقاً جديدة لصناعة هذه المواد في مصر لربحنا ثروة طائلة).
مات وقد ترك للمشتغلين بالعلم والثقافة مجموعة من الكتب الجميلة الممتعة على الرغم من أنها في موضوع خاص، وستقول البعض إن هذه الكتب قليلة وصغيرة، بيد أن العلم لا يقاس بالحجم ولا يطالب العالم بالشرح والتطويل ولا يسأل عن التفاصيل والتفسير، فذاك من عمل التلاميذ والمريدين، وأينشتين نفسه لم يكتب سوى مذكرات بسيطة على صورة مقالات وكانت بحوثه دائماً على شكل لمحات خاطفة. وتلك طبيعة العلماء، ولكن مع هذا فستجد نوعاً من الجمال والتفصيل في كتب مشرفة التي قصد بها إلى الناس كيما تؤثر في عقولهم وكيما تفتح قلوبهم وكيما تعمق من احساساتهم بالحياة، أنظر مثلاً في كتابه (العلم والحياة) الذي صدر ضمن مجموعة (أقرأ) بتاريخ أول يناير 1946، فستلمس فيه، إلى جانب الروح العلمية والفلسفية والبحث الواقعي الدقيق تفصيلاً واضحاً يلائم الدراسة التي تعمل في اتجاه معين؛ وتسيطر عليه فكرة خاصة، ويخدم نوعاً بالذات من أنواع المعرفة.
أما كتابه عن الذرة والقنابل الذرية فقد جاء صدى لما في عقله من معلومات ثمينة خاصة بهذا الموضوع، وكانت هذه المسألة دائماً محل عنايته فجاء كتابه من بين أوفى الكتب في هذا الموضوع وأصبح يعد من مصاف الكتب التي ألفها علماء الغرب في هذه الناحية. وأهم ما يميز الرجل في هذا الكتاب أنه كان واقعياً إلى أقصى درجة، فلم يحاول أن يكون حالماً أو أن يتأثر بنزعة إنسانية في الوقت الذي تتصارع فيه الدول عن طريق العلم وتستخدم الطاقة الذرية من أجل ترفيه شؤونها وحماية ممتلكاتها، أو في الوقت الذي تنشئ فيه كل دولة من الدول لجنة خاصة مزودة بما يلزمها من المعامل والعدد والأموال والرجال حتى تشترك اشتراكاً فعلياً في نتائج هذه البحوث. إنه يؤمن بأن العلم في خدمة الإنسان دائماً، وما دام كذلك فيستحيل أن نفق مكتوفي الأيدي بازاء هذه الظاهرة الحضارية الممتارة في العلم الحديث وفي الصناعة الحديثة. استمع إليه إذ يقول: إن خير وسيلة لاتقاء العدوان أن تكون قادراً على رده بمثله، وينطبق ذلك على الأسلحة العلمية أكثر من انطباقه على أي شيء آخر. . . فالمقدرة العلمية والفنية قد صارتا كل شيء، ولو أن الألمان توصلوا إلى صنع القنبلة الذرية قبل الحلفاء لتغيرت نتيجة الحرب. .)
وخلاصة ما يقال عن اتجاه مشرفة من الناحية العلمية الخالصة هو أنه قد تأثر بالحركة(866/10)
العلمية في مستهل هذا القرن، وهذا من شأنه أن يفسر لنا سيطرة الروح الرياضية على أعماله ويبين لنا تأثير دراساته الفلسفية التي جاز فيا درجة الدكتوراه. ألا ليت العلماء عندنا فطنون إلى قيمة الفلسفة في دراسات العلم.
ومنذ حوالي الثلاثين عاماً لم يعد هناك من يشك في الطبيعة الموجبة الخالصة للضوء وللإشعاعات الأخرى؛ بيد أن العلماء - منذ ذلك الوقت أيضاً - قد اكتشفوا بعض الظاهرات التي تنشأ عادة من المواد الاشعاعية، ولم يمكن تفسيرها حتى ذلك الوقت إلا على وجه واحد وهو ذلك الذي يعمل بوحي من الفهم الجسيمي للمادة وكان أهم هذه الظاهرات هو الأثر الذي ينشأ عن كل من الضوء والكهرباء. وهو عبارة عما تراه في المادة عندما تضيئها، إذ بمجرد أن تضئ قطعة من المادة - ولتكن معدناً - ينبعث منها في حركة سريعة كثير من الكهيربات. وأدت دراسة العلماء لهذه الظاهرة إلى نتيجة هامة، وهي أن سرعة الكهيربات (إلكترونات) المنبعثة لا تعتمد إلا على طول الموجه في الإشعاع الحاصل وعلى طبيعة الجسم المشع، وفي الوقت نفسه تبين لهم أنها لا تعتمد إطلاقاً على حدة أو سدة الإشعاع الحاصل وأن عدد الكهيربات (الإلكترونات) المنبعثة هو وحده الذي يعتمد على حدة أو شدة الإشعاع. بل أكثر من ذلك، ظهر أن طاقة الكهيربات المنبعثة تختلف اختلافاً عكسياً مع الطول التموجي للموجة الحاصلة. وعندما تأمل أيشتين في هذه الحقيقة، تبدى له أن لا مندوحة عن العودة إلى القول ببناء جسيمي للإشعاع في حدود معينة إذا شئنا تفسيرها. وصرح بأن الإشعاعات إنما تتكون من الجسيمات التي تصدر كمية من الطاقة النسبة العكسية مع طول الموجة، واستطاع عقب ذلك أن يبين لنا في وضوح وجلاء أن قوانين الأثر الناتج عن الضوء والكهرباء إنما يمكن استخلاصها واستقراؤها من ذلك الافتراض.
وعلى ذلك فلم يكن أمام علماء الطبيعة إلا يحسوا بصعوبة الأمر وأن يشعروا بالربكة والحيرة بين هذه المظاهر المختلفة فهناك من جهة، مجموعة الظاهرات التي تتم عن تشابك الحركات الناجمة عن الذبذبة وعن تكسر الأشعة الموزعة، وهذا من شأنه أن يثبت أن الضوء مكون من موجات أو يدل على أن الضوء لا ينبعث من الجسم المسير على صورة أشعة مستقيمة بل على هيئة تموجية بحته؛ ومن ناحية أخرى، هناك ظاهرة الأثر الحاصل(866/11)
من الكهارب الضوئية وبعض الظاهرات الأخرى التي اكتشفها العلماء حديثاً والتي تدل على أن الضوء مكون من جسيمات ومن فوتونات أو ضوئيات كما نقول في العصر الحديث.
والحل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ العلماء من هذه الورطة هو القول بأنها المظهر التموجي للضوء والمظهر الجسمي للضوء عبارة عن مظهرين متكاملين أو وجهين إضافيين لحقيقة واحدة، وأهم فائدة يمكن أن يجبنها العلم من هذا الزعم الجديد أو من هذه التركيبة الجديدة هو الوصول إلى فهم الموجات والجسيمات بوصفها مترابطين ترابطاً كلاً في الطبيعة أو على الأقل في حالة الضوء، ومن ثم استطعنا في العصر الحاضر أن نقيم علماً كاملاً بناء على هذه النظرية وهو المكيانيكا التموجية.
وكان مشرفة واحداً من أخطر العلماء الذين اتجهوا في هذا الاتجاه وأبدعوا هذه النظرية، ولم يتوان عن تأييد هذا المنحي الجديد بكل ما أوتي من جسارة وقدرة على التدليل وفهم لحقيقة الأمور ونشر أبحاثه هذه في نشرات الجمعية البريطانية للعلوم في عام 1929 حيث استطاع أن يثبت أن المادة إشعاع في اصلها وأنه من الممكن أن تنتهي بالتحليل إلى باطن المادة أو إلى صفاتها الحقيقية فيظهر لنا ما فيها من طبيعة الإشعاع ويتكشف لنا من خصائصها شيء آخر غير ما نراه بالعيون ونلمسه على هيئة جامدة في حياتنا العامة.
وفي النهاية نقول إن مشرفة هو مثال الجندي الباسل الذي سقط في ميدان قلما يثابر على المضي فيه سوى الشجعان من أرباب الذكاء النادر والمقدرة الفائقة، لقد كان يعمل بوحي من هؤلاء العلماء الذين تتلمذ عليهم والذين قاموا بتسخير الطاقة الذرية. . . كما يقول هو نفسه في نهاية كتابه عن الذرة. . . لخدمة بلادهم ولا دافع لهم غير باعث الإيمان. . . الإيمان بحق وطنهم عليهم وحق هذا الوطن في أن يحيا وأن يحتفظ بمثله الاجتماعية والروحية.
كان الرجل عالماً في غير ادعاء، وإن بلغت نفسه أحياناً إلى حب الثورة والسخط فلأننا لم نحاول أن نعطيه من المكانة ما يليق بالإنسان العادي فضلاً عن الإنسان الممتاز، وإذا كانت حياته قد اتصفت ببعض الاضطرابات والقلقلة فأتما جاء هذا كله من التغاضي عما له من حق في أن يعيش الحياة الملائمة في الجو العلمي الذي يطلبه وعن حقه في الوصول إلى(866/12)
أسمى المراتب وأعلى الدرجات.
لنا الله في هذا الرجل العظيم.
عبد الفتاح الديدي(866/13)
صور من الحياة:
خيانة امرأة
- 2 -
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا قارئي:
هذا صاحبي انضم على أشجانه حيناً من الزمان، يكتم الأسى جوانحه ويدفن الضنى بين ضلوعه حتى أثقله الهم وأرهقه الوجد، فجاء ينثر عبرات قلبه بين يديك علك تسمع فيها أنات روحه الحزينة أو تحس وجيب فؤده الكسير، فتلقحك حرقة اللوعة أو تهزك سفعات الضيق، فتهديه آلة الرأي الذي عزب عن فكره وتبصره بالصواب الذي ند عن عقله. فهل تعينه رأي منك فيه العقل والصواب؟
كامل
قال لي صاحبي (. . . وانطوت الأيام فإذا أنا إلى جانب فتاتي القاهرية - مرة أخرى - أبثها لواعج الهوى، وأشكو إليها حرق الغرام: ثم ما لبث أن سميت على خطبتها فتزوجتها. ووقف أبي إلى جواري ليلة الزفاف - وقف كارهاً، وهو ينفضني بنظرات فيها الألم والحسرة، فاضطراب قلبي وتزعزعت سكينتي، ورحت أنظر إلى وجه أبي في خلسة وقد كسته غلالة من الهم والضيق، فما راعني، إلا عبرات حائرة في عينيه ما استطاع أن يكفكفها، فانفلتت من بين محجريه. . . انفلتت لتهوى على كبدي كأنها جمرات متقدة يتلظى وهجها فتنفث في الحيرة والقلق، وتستل البشر من قلبي وتستلب الفرح من فؤادي. واستحالت حالي - في لمحة واحدة - فبدأ لي هذا المهرجان كأنه ينضم على جماعة من السخفاء يسخرون من غفلتي وحماقتي، وتراءت لي تلك الأنوار كأنها تسطع حوالي لتكشف للناس عن غباوتي وجهلي. وخيل إلى أنني صنعت هذه البهجة الفوارة لينعم بها أخلاط من الناس، ولأظل أنا وأبي في منأى عنها، يعاني هو سفعات أفكاره المضطربة وأقاس أنا عنت الخاطرة السوداء التي أرثتها في نفسي عبرات انتقلت غضباً من بين محجري أبي الشيخ.(866/14)
انطوى الليل إلا أقله وأنا في شرفة الدار يضطرّب خيالي بصورة أبي الباكي الحزين، وغلى جانبي زوجتي الحبيبة أبسم لها في ذهول وأعانقها في فتور؛ لا أكاد أسمع صدحات الموسيقى وهي ترن في أرجاء المكان فتعمه بالنشوة والمرح، ولا أطرب للصوت الملائكي الرقيق وهو يشدو بأغنية سماوية تهتز لها القلوب وتضطرب الأفئدة، ولا أشعر بالهوى العليل وهو يرف حوالينا ندياً يبعث في الناس النشاط والقوة، ولا أكاد أحس بالسعادة التي كان يصبوا إليها قلبي منذ زمان بعيد وهي الآن بين يدي لا تدفعني إليها نزعات الهوى ولا تجذبني إليها نزوات الشباب.
وأحر كبدي إن صورة أبي ما تبرح تتشبث بخيالي. . . صورة أبي وهو يتوارى في ناحية من المكان وعلى وجهه غلالة من الهم والضيق وفي محجريه عبرات حائرة لا يستطيع أن يكفكفها فتنفلت من بينهما غضباً.
ورأيت أبي لأول مرة في حياتي - حزيناً يطحنه الأسى ويضنيه الكمد، ولأول مرة في حياتي أحسست بالهم العارم يتدفق في قلبي ليعصف بمرحي. . . مرح الشباب العابث الطروب.
واعجباً! أفكان أبي الشيخ يرى بعيني تجاربه أن من تحت قدمي هاوية سحيقة أوشك أن أنزلق فأتدرى فيها فلا يمسكني إلا القرار.
وفي بكرة النهار أسرعت إلى أبي عسى أن أستجلي بعض خلجات ضميره، غير أني علمت أنه برح الدار عند صلاة الفجر إلى. . . إلى القرية، فانكفأت إلى حجرتي. . .
وتعاقبت الأيام تطوى وساوس نفسي وتمحو ظنون روحي وغلى جانبي زوجتي تنفذ إلى طوايا قلبي في رفه، وتمهد لي أسباب السكينة بعقل سليم وترعى حاجات داري بيد صناع. واطمأنت خواطري إليها أجد فيها مثابة وأمناً واستشعر في كنفها الراحة والهدوء، غير أنها لم تستطع - يوماً - أن تكشف عن الصورة التي تشبثت بخيالي حيناً من الدهر. . . صورة أبي الباكي الحزين.
ومرت سنتات ثم أشرقت البهجة في داري وفي قلبي حين اجتليت النور من جبين ابني الأول، وسطعت الفرحة في روحي وفي روح زوجتي حين رفت علينا أول نسمات الطفل تملأ الحياة أملاً وسعادة ودفعتني فرحتي، فكتبت إلى أبي (. . . بالأمس أشرقت في داري(866/15)
طلعة جديدة فامتلأ قلبي بالراحة، وأفعم فؤادي بالسعادة، وتألقت روحي بالفرح؛ وإني لأرنو إليه فأرى فيه سمات من سماتك ولمحات من صورتك. ولقد عقدت العزم أن أسميه باسمك عله يكون طالع سعد لنا. ليته يظفر بلمسات بنانك الرفيق أو بدعوات من قلبك الطاهر فتشمله البركة ويكتنفه اليمن. . .!).
وقرأ أبي كلامي فشمر يهيئ نفسه للسفر وقد نسى أنني تمردت - يوماً - على نصيحته وامتهنت رأيه وعققت أبوته، فجاء هو وأخوتي ومن بين أيديهم البهجة والاستبشار ومن خلفهم الهدايا.
بالقلب الأبي! إن فيك الرقة التي لا تحمل الحفيظة، وفيك الحنان الذي لا ينطوي على الضغينة؛ وفيك الرحمة التي لا يشوبها الغل
أما أنت يا بني، فقد كنت لأبيك بشير يمن وسعاد، فأنت قد محوت - بابتسامة واحدة منك - كل ما كان بين أبي وبني، وخلقت منا - بنظرة واحدة - أباً وابناً جديدين: أبا فيه العطف والحنان! وابنا فيه الطاعة والإخلاص. فما أسعدني بك؛ يا بني!
وانطوت سبع سنوات، ثم استحالت حال الزوجة الحبيبة على حين فجاءة، فهي تنطوي عني في غير سبب، وتهمل شأني في غير نزاع، وتشتغل عني في غير خصام. وتدفق الشك في قلبي هيناً مرة وعنيفاً مرة، فما كان للمرأة أن تغير خصالها إلا أن تسيطر على عقلها فكرة أو تشغل بالها حادثة! ورحت أدفع الشك عني حين خيل إلى أن أولادنا الأربعة يملئون فراغ قلبها وفراغ يومها
وغبرت أياماً أدفع ظن سوء عن نفسي، غير أني رأيتها تسرف في الزينة وتفرط في الأنفاق. أفكانت تسرف في الزينة خشية أن تصفعها الشيخوخة الباكرة فتعصف بنضارتها وتعبث بروائها وهي ما تنفك تنغمر في شواغل الدار والولد والزوج؟ أفكانت تفرط في الأنفاق لتسد حاجات الدار وإن الغلاء ليصفع الموظف صفعات عنيفة قاسية توشك أن تلصق يده بالتراب؟
ورجعت إلى الدار - ذات مرة - قبل معادي فلم أجدها لقد خرجت المرأة وحدها. . . خرجت إلى الشارع، إلى الذئب. ووقفت ارقب الطريق فرايتها مقبلة تستحث الخطئ. ورحت أناقشها في رفق وأجادلها في عنف فتفلست الفتاة. . . فقلت في نفسي (. . . إن(866/16)
الفتاة إذا تفلسفت في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانها فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي، ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. إن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .)
وارتابت نفسي في كل حركات الزوجة، وبدا لي تاريخها القديم، يوم أن كانت فتاة في دار أبيها تنعم بالحرية التي يزينها الشيطان وتطمئن إلى النزعات التي تزوقها الحضارة، لا تخش. الرقيب ولا تخاف السيد، تنفلت من الدار وحدها لتلقى فتاها أنا لدى الأصيل أو بعد مغرب الشمس، نستمتع معاً بالخلوة ونسعد بالنزهة، أفكنت حقاً فتاها الأوحد أو كنت رفيقاً بين رفاق وصاحباً بين صحاب، تغفله فتوحي إليه بأشياء وأشياء وهو في عمى عن خداعها ومكرها؟ لعلها اليوم حنت إلى صاحب قديم!
ووسوس لي الشيطان أن أرقبها من بعد، غير أني لم أستطع فما كان لي أن أفعل وأنا موظف حكومي أبكر إلى الديوان فلا أستطيع أن أبرحه إلا أن يأذن لي الرئيس، ورئيسي رجل غليظ الكبد جافي الطبع فيه الصلف والكبر.
ومرض رئيسي - يوماً - فتغفلت رفاقي في المكتب وتسللت من الديوان. . . تسللت لأجد زوجتي في داري تجلس إلى رجل غريب على سريري في حجرة نومي. . .
وأفزعني المنظر فصرخت من أعماق قلبي (آه! إن المرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه).
وخرجت من الدار وقد ضاقت الأرض عليّ بما رحبت وضاقت على نفسي؛ لا أجد متنفساً إلا أن أحمل همي بين جوانحي لا أتحدث به إلى أحد، ومن أمامي أولادي أخاف أن أذيقهم مرارة اليتم ولذع الضياع.
والآن - يا صاحبي - ها أنا أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي. وبين أحبائي الأعزاء، أولادي. لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي أبداً تذكرني بغباوتي وحمقي. فماذا ترى، يا صاحبي!
وسكت الرجل وإن سمات الأسى لتضطرم في أغوار قلبه فتعبث بشبابه وتغض من نضارته فماذا ترى، يا قارئي، ماذا ترى؟(866/17)
كامل محمود حبيب(866/18)
خاتمة قازان
للأستاذ عطية الشيخ
بالثارات التتار:
انتهت غزوة حمص التي شنها قازان ملك التتار على ملك مصر الناصر بن قلاوون بالفشل في ختام القرن السابع الهجري، ولم يشف صدره من المصريين ويثأر لدماء آبائه وأجداده، فاشتعل قلبه حقداً، وبات يقلب الرأي، ويستشير أمراء دولته، عله يجد منفذاً إلى بغيته، وينال مأرباً عز نيله على سالفيه، ويفتح مصر ويكفى التتار شرها، ويبيت آمناً في تبريز، حالماً باقتحام شمال إفريقية، فيرث دولة الإسلام بتمامها، ويختم الرواية التي بدأها جده جنكيز خان.
الرأي قبل الشجاعة:
كان قطلوشاه نائب قازان في مملكة التتار، وأمير أمراء الجيوش، يقف قازان عند رأيه ولا يربم عن مشورته، وقد استشاره الملك فيمن استشار فأفتى بأن يتظاهر الملك بالإسلام، ويطلب الصلح من المصريين والحلف معهم، حتى إذا أمنوا جانبه، واستناموا إلى الخديعة، واطمأنوا إلى عدوهم، وأهملوا استعدادهم أخذهم على غرة، دون أن تثور الحمية الدينية في نفوس أمتهم، متى علموا أن التتار مسلمون، ومتى تم النصر وتمكن التتار من الرقاب، فلن يهمهم أن تعلم مصر حقيقة إسلامهم، فقديماً دخل التتار بغداد بالخديعة واستدرجوا الخليفة والأعيان إلى معسكرهم، ومثلوا بهم شر تمثيل، بعد أن حسبوا أنهم ذاهبون للصلح وحفلة عرس.
الرسل الثلاثة:
في ليلة الاثنين 5 من ذي الحجة سنة 700 وصل رسل قازان الثلاثة إلى القاهرة وهم قاضي الموصل كمال الدين الشافعي ومعه رجلان أحدهما فارسي والثاني تركي، وزينت القلعة لاستقبالهم زينة تأخذ بالألباب، وأوقد فيها ألف شمعة أحالت ليلها نهاراً، وجلس الملك الناصر ومن حوله أمراءه في أبهى حلة، وأفخر لباس، ثم قام القاضي وخطب خطبة بليغة وجيزة وذكر آيات كثيرة في معنى الصلح، واتفاق كلمة المسلمين، ثم دعا للملك الناصر(866/19)
ابن قلاوون، ومن بعده للسلطان محمود قازان، ودعا للمسلمين والأمراء، ورفع كتاب قازان إلى ملك مصر.
كتاب غازان:
فض الملك كتاب غازان وقرأه ليلاً ولم يطلع عليه الأمراء صباحاً، إذ جمعهم مع أكثر العسكر وقرئ الكتاب عليهم، ونقتبس من مضمونه.
(بسم الله الرحمن الرحيم)، وننهي بعد إهداء السلام إليكم أن الله عز وجل جعلنا وإياكم أهل ملة واحدة، وشرفنا بدين الإسلام وأيدنا، وندبنا لإقامة منارة وسددنا، وكان بيننا وبينكم ما كان بقضاء الله وقدره. . . والآن فأنا وإياكم لم نزل على كلمة الإسلام مجتمعين، فنرجع الآن في إصلاح الرعايا، ونجتهد وإياكم على العدل في سائر القضايا، فقد أنضرت بيننا وبينكم حال البلاد وسكانها، ومنعها الخوف من القرار في أوطانها. . . ونحن نعلم أننا نُسأل عن ذلك ونحاسب عليه، وأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن جميع ما كان وما يكون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأنت تعلم أيها الملك الجليل، أنني وأنت مطالبون بالحقير والجليل، وإننا مسؤولون عما جناه أقل من وليناه، وأن مصيرنا إلى الله، وأنا معتقدون الإسلام قولاً وعملاً ونية، عاملون بفروضه في كل وصية، وقد حملنا قاضي القضاة، علامة الوقت وحجة الإسلام وبقية السلف كمال الدين أعزه الله تعالى مشافهة يعيدها على سمع الملك والعمدة عليها، فإذا عاد من الملك جواب فليسير لنا هدية الديار المصرية، لنعلم بإرسالها أن قد حصل منكم في إجابتنا للصلح صدق النية، ونهدي إليكم من بلادنا ما يليق أن نهديه إليكم، والسلام الطيب منا عليكم)
مشورة:
تشاور الملك والأمراه فيما يردون به على قازان، ثم بدا لهم قبل أن يقطعوا برأي الاستئناس برأي القاضي الفاضل رئيس وفد قازان، فقد كان رفيع المنزلة، مأمون المشورة لعلمة وفضله وزهده وورعه فقالوا له: (أنت من أكابر العلماء وخار المسلمين وتعلم ما يجب عليك من حقوق الإسلام والنصيحة للدين ونحن ما نقاتل إلا في سبيل الله، فإن كان(866/20)
هذا الأمر قد فعله قازان حيلة ودهاء فنخلف لك أننا لا نطلع على هذا القول أحداً من خلق الله تعالي، ورغبوه غاية الرغبة، فحلف لهم أنه لا يعلم من قازان إلا صدق النية في الصلح، وحقن الدماء، ورواج التجارة، وإصلاح الرعية ثم قال لهم (لله دره)؛ ما كان نصحه للإسلام والمسلمين: - (والمصلحة أنكم تبقون على ما أنتم عليه من الاهتمام بعدوكم، وأن تخرجوا كعادتكم إلى أطراف بلادكم مما يلي مملكة التتار، فإن كان هذا الأمر خديعة كنتم مستيقظين، وإن كان الأمر صحيحاً أتممتم الصلح، وتحقن الدماء فيما بينكم).
مؤتمر في صحراء الشرقية:
أمر السلطان جميع الأمراء أن يخرجوا في صحبته للصيد في برية الشرقية، ثم استدعى وهو في البرية قضاة المذاهب الأربعة، وتم الاتفاق على ما يجيبون به قازان، وجهز رسل التتار إلى الصالحية، وانتظر السلطان بها (فلما حضر وأمامه الأمراء، ذهلت عقول الرسل مما رأوا من حسن زي عسكر الديار المصرية بخلاف زي التتار) ولما سجي الليل أوقد السلطان شموعاً كثيرة، ومشاعل عديدة وفوانيس وأشياء كثيرة تتجاوز عن الحد جعلت البرية حمراء تتلهب نوراً وناراً. . . وبعد حديث ساعة أعطوا جواب الكتاب إلى الرسل، وخلع عليهم السلطان، وأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، وسمح لهم بالسفر.
جواب حمىّ المعىّ:
هذا بعض ما جاء في جواب سلطان مصر على كتاب قازان: (بسم الله الرحمن الرحيم) علمنا ما أشار الملك إليه، وعول في قوله وفعله عليه، فأما قول الملك قد جمعتنا وإياكم كلمة الإسلام. . . فقد تحققنا أن الملك بقي عامين يجمع الجموع، وينتصر بالتابع والمتبوع، وحشد وجمع من كل بلد، واعتضد بالنصارى والكرج والأرمن، واستنجد بكل من ركب فرساً من فصيح وألكن، ثم إنه لما رأى أنه ليس له بجيشنا قبل في المجال، عاد إلى قول الزور والمحال والخديعة والاحتيال، وتظاهر بدين الإسلام واشتهر به في الخاص والعام؛ والباطن بخلاف ذلك،. . . فان الذي جرى الظاهر دمشق، ليس فعل المسلمين ولا من هو متمسك بهذا الدين، وإن كان ما حصل عن علمك ورضاك، فوا خيبتك في دنياك وأخزاك، وإن كنت كما زعمت على دين الإسلام فاقتل الطوامين الذين فعلوا هذه الفعال، لنعلم أنك(866/21)
على بيضاء المحجة. . . ولما علمت جيوشنا أنكم استعنتم على قتلهم بعبدة الصلبان اجتمعوا وتأهبوا وخرجوا بعزمات محمدية، وقلوب بدرية، وجدوا السير في البلاد، ليشفوا منكم غليل الصدور، فما وسع جيشكم إلا الفرار، وما كان لهم على اللقاء صبر ولا قرار. . . وأما ما تحمله قاضي القضاة من المشافهة فأنا سمعناه وعيناه، ونحن نعلم علمه ونسكه ودينه وفضله المشهور، وزهده في دار الغرور؛ ولكن قاضي القضاة غريب عنكم، بعيد منكم، لم يطلع على بواطن قضاياكم وأموركم ولا يظهر له خفي مستوركم.
وأما ما طلبه الملك من الهدية فلسنا نبخل عليه، وإنما الواجب أن يُهدى أول من استهدى، لتقابل هديته بأضعافها ونتحقق صدق نيته، وإخلاص سريرته، ونفعل ما يكون فيه رضا الله عز وجل، ورضا رسوله في الدنيا والآخرة. . . والله تعالى الموفق للصواب).
كشف عن الصريح:
بعد نحو شهر من رسول الرسل إلى قازان، علم سلطان مصر بأن التتار بدءوا يتحركون إلى الشام، وأن بولاي قائدهم قارب الفرات، وبعد قليل بلغهم أن التتار حركوا نصارى آسيا الصغرى للهجوم معهم، وكذلك استنجدوا بالفرج فنزلوا بجزيرة أرواد تجاه طرابلس الشام، وأخذوا يستولون على المراكب الإسلامية، فأرسل سلطان مصر أسطولاً بقيادة الأمير سيف الدين المنصوري إلى جزيرة أرواد، وجيشاً برياً إلى بلاد آسيا الصغرى بقيادة الأمير بكتاش، فانتصر القائدان على الإفرنج والأمن. وعلم السلطان فسر سروراً عظيماً، ثم بعد ذلك بأيام، علموا أن قازان نفسه وصل إلى الفرات وبعث المقدمة إلى بلاد الشام بقيادة قطلو شاه وعدتها ثمانون ألفاً، وكاتب أمراء الشام للدخول في طاعته، فأسرعت قوة خفيفة من مصر إلى دمشق بقيادة بيبرس الجاشنكير ولم تكد تصلها حتى رأوا الناس يفرون أمام التتار من حلب وحماة وغيرهما، فخفت سرية إلى حماة عدتها ألف وخمسمائة فتقابلوا مع جيش تتري قرب حلب عدته أربعة آلاف (فافترق المصريون أربع فرق، وحاصروهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى أفنوهم)
إلى دمشق:
ثارت ثائرة قطلو شاه لفناء أربعة الآلاف من جيشه فهجم على حماه، واندفعت حاميتها(866/22)
المصرية أمامه لا تلوى على شيء حتى بلغت دمشق، والتتار في إثرها (فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف، ولم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر النواحي بالمدينة، وبات الناس في الجامع الأموي يضجون بالدعاء)
الصبح والسلطان:
طلع صباح اليوم التالي وقد وصل الجيش المصري بقيادة السلطان إلى مرج راهط من ضواحي دمشق وكذلك وصل الجيش الأصلي للتتار، والتقى الجمعان في مكان يقال له شَقْحب في سفح جبل غُباغب من ضواحي دمشق فوقف السلطان في القلب ومعه الخلفية والأمير سلاّر قائد قواد مصر، والأمير بيبرس الجاشنكير الذي سبق السلطان بالمقدمة، وقاد الميمنة الأمير قبجق وانضم إليها العربان، وقاد الميسرة الأمير بكتاش الذي هُزم الأرمن.
يا مجاهدون:
تقدم السلطان بنفسه والخلفية بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن الكريم ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة وصاح الخليفة: (يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم عن حريمكم) فبكى الناس بكاء شديداً جزعاً على الإسلام، ولم يكد يتم الخليفة كلامه حتى زحفت كراديس التتار في هجومها الخاطف كقطع الليل، وحملوا على الميمنة المصرية حملة شعواء فقتل أعيانها وولى باقيها الأدبار وفي أثرهم بولاي التتري يقتل ويأسر الفارين.
للسلاماه:
فلما رأى ذلك سلار قائد المسلمين وهو مع السلطان في القلب صاح قائلاً: (هلك والله أهل الإسلام) ثم اندفع بمفرده كالبرق الخاطف نحو التتار فتبعه الأمراء والفرسان من القلب والميسرة وسلم الجميع نفوسهم للموت، واقتحموا التتار إلى قائدهم الأعلى قطلوشاه تاركين بولاي خلفهم يطارد الميمنة المنهزمة، واستمروا في القتال بحمية فائقة حتى لجأ قطلوشاه بمن معه من التتار إلى الجبل وهو يؤمل أن بولاي عند عودته من مطاردة الميمنة المنهزمة سيوقع في المصريين، ولكن راعه أن رأى السهل والوعر يغطيهما العساكر(866/23)
الإسلامية (فبهت وتحير واستمر بموضعه حتى أتاه بولاي وفرقته التي كانت تطارد الميمنة المصرية) وبينا بولاي وقطلو شاه يتشاوران فيما يفعلان إذا بكوسات السلطان والبوقات المصرية قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها فلم يثبت بولاي وترك قطلوشاه وفر في نحو عشرين ألفاً من التتار متسربلاً بظلام الليل، متلفعاً بسواده.
يا خيل الله:
وبات السلطان وعساكره على ظهور الخيل، والطبول تدق، وكذلك الكوسات، حتى آب إلى الجيش على صوت الطبول من كان منهزماً من الميمنة، وأحاط المعسكر المصري بالجبل الذي حوصر فيه التتار إحاطة السوار بالمعصم والخليفة والأمراء والسلطان والأعيان يمرون بالصفوف ويتواصون بالشهادة في سبيل الله، ويتحققون بأنفسهم من يقظة العسكر، وأبعدوا أثقالهم وأوزارهم عن ميدان المعركة. وعندما أسفر الصباح وأشرفت الأرض، انقض التتار على المسلمين يبغون لأنفسهم منفرجاً ومهرباً، ويقاتلون مستيئسين، فضيق المصريون عليهم الخناق (وصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، وتناوب الأمراء القيادة أميراً بعد أمير، وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف، حتى قتل تحت بعضهم الثلاثة الخيول، وما زالوا كذلك حتى انتصف النهار، فارتد التتار إلى الجبل بعد أن قتل وجرح منهم كثير، وهم يكادون يهلكون عطشاً)، ثم علم السلطان أن التتار قد أجمعوا أمرهم على مهاجمة المصريين في السحر، ليفتحوا لأنفسهم طريقاً إلى النهر، فأوصى بأن يفرج لهم عند النزول ثم يركب الجيش أقفيتهم ويهاجمونهم من الخلف، ونزل التتار من الجبل في عماية الصباح، فلم يتعرض لهم أحد، ولما صار النهر أمامهم والمصريون خلفهم ركبهم بلاء الله من المصريين فحصدوا رءوس التتار عن أبدانهم، وطاردوهم ولم يضعوا عنهم السيف حتى أذن العصر (حتى كلت خيول التتار وضعفت نفوسهم، وألقوا أسلحتهم، واستسلموا للقتل بغير مدافعة، حتى إن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا عدة غنائم، وبلغ ما قتله الواحد من المصريين العشرين من التتار فما فوقها) وارتد قطلوشاه في قليل من جنوده إلى الفرات، ثم عاد إلى بلاده في شر حال.
أفراح وأتراح:(866/24)
أما سلطان مصر فقد كتب البشائر في البطائق وسرح بها الحمام إلى جميع بلاد الإسلام وأرسل الأمير بكتوت ليبشر المصريين نائباً عنه، وأقبل أهل الشام عليه مهنئين، فقصد إلى دمشق في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان، وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه على هذه المنة، (وتساقطت عبرات الناس فرحاً) ثم حضر أمير الميمنة المنهزم فقال له السلطان (بأي وجه تدخل عليَّ وتنظر في وجهي! فما زال به الأمراء حتى رضى عنه)
وأما التتار فإنه لما دخل قطلوشاه إلى همذان وعلم التتار نبأ الهزيمة (وقعت الصرخات في بلادهم وقامت النباحة في تبريز عاصمتهم شهرين على القتلى، واغتم قازان غماً عظيماً، وخرج الدم من منخريه حتى أشفى على الموت، واحتجب عن الحاشية، فإنه لم يصل إليه من جيشه إلا أقل من العشر، مع أنه كان منتخباً من خيار العساكر، ثم أمر بقتل قطلوشاه. ولما شفع فيه أمراء التتار، أوقفه أمامه، واستدعى الأعيان وأمرهم أن يبصقوا في وجهه واحداً بعد واحد حتى بصقوا جميعاً على مشهد من قازان، ثم نفاه إلى كيلان، ثم أحضر بولاي وضربه بالعصا وأهانه أشد إهانة، وفي الجملة حصل لقازان بهده الكسرة من القهر والغم ما لا مزيد عليه، ولله الحمد)
أقواس النصر:
زينت القاهرة لاستقبال الناصر وعساكره وحشد بها جميع المنغمين بالديار المصرية وتسابق الناس في الزينة ونصبوا القلاع في شوارع القاهرة (وتحسن سعر الخشب والقصب وآلات النجارة وتنادى الناس أن من استعمل صانعاً في غير الزينة فهو عدو السلطان. وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرجة، وملئت الأحواض في الشوارع بالسكر والليمون وبلغ كراء البيت الذي يمر عليه السلطان من خمسين درهماً إلى مائة، وفرشت أرض الشوارع التي سيمر فيها السلطان بالأبسطة، وكان السلطان كلما مر بزينة وقف يعاينها ليجبر خاطر فاعلها) وسار أسرى أمراء التتار بين يديه مقيدين، وقد علق في عنق كل واحد منهم رأس أمير من القتلى وأمامهم ألف فارس مصري مشرعين رماحهم في كل رمح منها رأس تتري، وخلفهم 1600 أسير من جنود التتار، في عنق كل واحد منهم(866/25)
رأس، وطبولهم ممزقة وأعلامهم منكسة، وكثرت التهاني في البيوت والشوارع وزاد الهرج والمرج وأهازيج الفرح والسرور (حتى كان الواحد لا يسمع كلام من هو بجانبه إلا بعد جهد).
النصر للإسلام:
ذوي عود قازان، وتصوحت زهوته، وتنكرت بشاشته، وغاضت نضارته، واستولى عليه الهم والغم، وألح عليه المرض بسبب الهزيمة، فلم يلبث إلا أياماً حتى مات مهموماً، وجلس بعده على عرش التتار أخوه (خرْ بندا) بن أرغون بن أيفا بن هولاكو خان واجتمع به أعيان ملكه، وتشاورا فيما يؤمنهم على ملكهم ويهدئ مخاوفهم، ويحقن عليهم دمائهم؛ فلم يجدوا أحسن من الدخول في الإسلام أفواجاً، وأن يعلنوا المصريين بذلك، إذ لم يبق حامياً لذمار الإسلام سواهم، فتم لهم ما أرادوا وتلقب ملكهم (غياث الدين محمداً) وكتب إلى سلطان مصر بذلك، وطلب الصلح وإخماد الفتنة، وانحسرت موجة التتار عن مصر والشام، وانكسر عودهم على عزة إسلام، وامتصتهم الديانة المحمدية دون أن ينالوا منها، وتطعمت دوحة الإسلام بشعب جديد فتي قوي كان له بعد ذلك اليد الطولي في نصرة الدين.
(وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً).
عطية الشيخ
مفتش المعارف العليا(866/26)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (5):
مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال الدسوقي
ما زلنا هنا في ابن رشد لم نفارق أرسطو، فابن رشد صورة من أر سطو، أو قل: هو الصورة الإسلامية لأر سطو. وكم ذا لأر سطا ليس في فلسفات العصر الوسيط من صور! فان الفيلسوف الذي أتينا على دراسة فصل من علم واحد من مذهبه في مقالاتنا السابقة قد كان مارداً جباراً جثم بسطوته وسلطاته على الفكر الإنساني حتى مطلع النهضة الأوربية الحديثة: عكف الشراح على مذهبه يدرسونه ويفسرونه ويصنفون كتبه، وأقبل عليه رجال الدين والمفكرون من مسيحيين ومسلمين ويهود يؤيدون بع عقائدهم، فنشأت الفلسفات المسيحية الإسلامية واليهودية على الترتيب. وبقدر ما كان أر سطو يبدو لرجال هذه الأديان لأول وهلة مادياً وملحداً تحرم دراسة فلسفته، لا يلبث هؤلاء الجامدون المتزمتون أن ينبذوا الحبال الأفلاطوني إلى ما في مذهب أر سطو من منطق وانسجام وتوافق، فيحل أر سطو من التفكير إذن أرفع محل.
وهكذا ترى أن أفلاطون وأر سطو كانا قطبي التفكير في كل فلسفة دينية، وأن مثالية هذا وروحيته، ثم واقعية ذاك وماديته، كانت بمثابة قرني الإحراج لا يذهب المفكرون إلى أحدهما غلا ليرتدوا إلى الآخر. ولن تجد بين مفكري العصور الوسطى وفلاسفة الأديان إلا من هو أفلاطوني أو أرسطي أو موفق بين الاثنين ويتفاوت فهم رجال العصور الوسطى لفلسفة كلا الرجلين ومدى نفوذهم إلى حقيقتها. وكثيراً ما أدخل الإسلاميون عناصر غريبة على فلسفة أحدهما أو الآخر، أو أساءوا له ونسبوا إليه ما لم يقل به ولكن ابن رشد يمتاز من بين الإسلاميين جميعاً بأنه خير من فهم أر سطو وشرحه ونقله إلى الغرب حتى ليسمونه الشارح الأعظم لأنه هو الذي لعب أخطر دور في ربط الثقافة الإنسانية وإكمال دائرة الفكر البشري يرد التراث اليوناني إلى أوربا الوسطى قبيل نهضتها؛ فإن شروحه لكتب أر سطو قد نقلت إلى اللاتينية وهي حينئذ لغة العلم والجامعات. وتولى نشرها ودراستها وإذاعتها خصوصاً فلاسفة اليهود.
وتعلمون أن الفلسفة إذ نشأت في بلاد اليونان بمعناها الحقيقي، وما كانت تشتمل عليه بلاد(866/27)
اليونان إذ ذاك من أوضاع جغرافية واسعة تشمل هذا الجانب من البحر المتوسط كله تقريباً قد ورثها الشرق المسيحي بعد إذا استقرت الديانة المسيحية، فالشرق الإسلامي بعد إذ اتسعت رقعة الحضارة الإسلامية. وتعلمون كذلك أن رقي الفلسفة في كل من الشرقيين إنما كان صدى للتوسع الجغرافي والرقي الحضاري، وما يتبع ذلك من تشجيع للعلم والثقافة وحث على ترجمة التراث اليوناني بما اشتمل عليه من حكمة وطب وفن وفلسفة، فكانت الفلسفة تخضب وتزهر حيث توجد البيئة الصالحة للنمو والازدهار، وحيث يكون التشجيع والمثوبة من جانب ذوي السلطان، فإذا أصاب هؤلاء عقم التفكير وضيق الأفق وجل سخطهم على الفلسفة وإيذاؤهم للفلاسفة، كان على الفلسفة إذن أن تهاجر وتنزح. وكما أن الدولة الأموية العربية حين غلبها العباسيون وشتتوا أصحابهم قد هاجرت إلى الأندلس، كذلك كانت هجرة روحية أخرى للفسلفة الإسلامية إثر اضطهادها وتكفير أصحابها في الشرق العربي، وعلى أنقاض حضارة المشرق الثقافية إذن قامت حضارة أدبية وسياسية وفلسفية في المغرب، وبمعنى أدق في الأندلس، هي، مهما يكن من أمرها صورة مصغرة من حضارة الشرق، ولكنها متشابهة من ناحية وبسمات وخصائص مميزة من ناحية أخرى.
كانت متشابهة من حيث أنها قد اعتمدت في أساسها على ما كان ينقل أهل تلك البلاد من علوم الشرق سواء بالرحلة إليه والتعلم على أشهر علمائه وبجمع تراثه ونقله ونسخه ثم الشروع في التفلسف يعد مرحلة التمهيد والدرس هذه. وآية ذلك تدرج فلاسفة الغرب في تقديرهم لأر سطو متأخرين كما يمثلهم ابن باجة فابن طفيل فابن رشد، كتدرج فلاسفة الشرق الكندي والفارابي وابن سينا، إلا أنه يجب أن نقول إن ابن رشد كان أكثر فلاسفة المشرق والمغرب معرفة بأر سطو وفهماً وتقديراً له، وذلك لأن البيئة الأندلسية قد خلت من خلاقات الشرق وجدله وعقمه كما يظهر في أشعاره وموشحاته ذاتها في ميزان الأدب، فجاءت فلسفة ابن رشد أرسططالية خالصة من ناحية، ودينية عقلية من ناحية أخرى، وذلك هو الجانب المزدوج الذي يجب أن تنظروا لابن رشد من خلاله، فهو من ناحية ينشر ويلخص ويشرح الكثير من كتب أر سطو والفلاسفة المشائين من أتباعه وغيرهم من الأطباء والمتكلمين. . . الخ كما تجدون في ثبت كتبه التي ورد ذكرها بمقدمة كتابه الذي تدرسونه، ومن ناحية أخرى يكتب في علم التوحيد والعقائد؛ أو ما يسميه فلاسفة المسلمين(866/28)
علم الكلام، رسائل وكتباً كهذا الكتاب الذي تدرسونه.
على أن التقدير الذي يحظى به ابن رشد لدى مؤرخي الفلسفة القربيين ربما كان أكثر منه عند مؤرخينا. فهم ينظرون إليه كما قلت بوصفه همزة الوصل ونقطة التحول التي عن طريقها تم انتقال الفلسفة إلى أوربا ثانية على يد فلاسفة المسلمين. واليهود ولعله بهذا وحده يمكن أن يكون للفلسفة الإسلامية مكانها بوصفها حلقة ضرورية في تاريخ الفلسفة المتصل، وللعرب شأنهم بوصفهم حملة هذه المشاعل ونقله هذا التراث، والأمناء على نتاج هذا الفكر الإنساني أخذوه عن مصادره الأولى وتعدوه بالتخير والإنتاج حتى أوصلوه إلى أهله كاملاً غير منقوص، وحسب الفلسفة من فلسفات العصر الوسيط أن تقوم بهذا الدور، فان بعضها لم يبلغه - لكي تعد ذات رسالة، والفضل هنا إذن لابن رشد.
لقد كتب اثنان من كبار الفلاسفة الفرنسيين المستشرقين كتابين هامين كبيرين في ابن رشد (وهم يسمونه ويجعلون له مذهباً يسمونه أحدهما ليون جوتليه والآخر إرنست رينان تناوله موتك في كتابه عن فلاسفة اليهود والعرب، والبارون كارادي فو في كتابه مفكروا الإسلام وإن لم يفرد له كتاباً خاصاً فيما بعد كما فعل بالغزالي وابن سينا، وكذلك الفيلسوف الهولندي دي بور في تاريخه لفلسفة الإسلام. وفي هذه المراجع وكتابات كثيرين من المستشرقين الألمان خصوصاً ودوائر المعارف الإسلامية وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان وغيرها نلمس التقدير الكبير الذي يتمتع به ابن رشد عند هؤلاء المؤرخين والمنصفين مبلغهم من العلم به وبفلسفته ضئيل ومن هذه المؤلفات ما هو مترجم إلى العربية تستطيع أن ترجع إليه ككتاب العلامة دي بور المشار إليه، ترجمة الأستاذ الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة مدرس الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب ترجمة علمية دقيقة مزودة بالتعليقات والمراجع كذلك تجدون مادة ابن رشد في إحدى مجلدات دائرة المعارف الإسلامية التي ظهرت ترجمتها العربية فعلا للأستاذ عبد الحميد يونس وزملائه الثلاثة.
أما المؤلفات العربية في ابن رشد فأهمها: كتاب في مجموعة أعلام الإسلام (العدد 11 فبراير 1945) التي تنشرها لجنة الترجمة دائرة المعارف الإسلامية السابقة الذكر عند عيسى الحلبي - هذا الكتاب هو: أبن رشد الفيلسوف للأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بالأزهر، وهو على سهولته وتبسيطه كتاب واف(866/29)
بحياة الفيلسوف وعصره ومذهبه، ولابد أن ترجعوا إليه وتعولوا على ما جاء فيه من دراسة هي مزيج مهضوم في عقل صاحبه من مختلف الآراء العربية والغربية لابن رشد ومذهبه. ففيه مادة صالحة طيبة. أرجعوا كذلك إلى كتاب قديم للأستاذ فرح أنطون عن، ابن رشد ومذهبه. ففيه مادة صالحة طيبة وافية بالغرض، وكذلك باب ابن رشد من كتاب فلاسفة الإسلام للأستاذ محمد لطفي جمعه المحامي.
سوف يعفيكم الكتاب المطلوب إليكم دراسته من تعرف ابن رشد في دوره الأهم الذي أتحدث عنه حتى الآن؛ وكما يفهمه المؤرخون الأوربيون، لأنه يعالج فلسفة إسلامية خالصة موضوعها التوحيد أو علم الكلام، وهو ما كان ابن رشد يصطنعه للرد على الغزالي وأضرابه ممن كفروا فلاسفة المشرق كابن سينا في قولهم بأن الله يعلم الكليات دون الجزئيات وغير ذلك من المسائل الدينية التي كانت محل خلاف. ومن هذه الردود ما جعله ابن رشد مباشراً يتناول فيه قول الخصم ثم يتولى إدحاضه ككتاب تهافت التهافت الذي رد فيه على (تهافت الفلاسفة) للغزالي، ومنها ما هو غير مباشر تظهر فيه براعة ابن رشد في عرض عقائد الملة وأمور الدين عرضاً لا تتنافى فيه الفلسفة والدين كهذا الكتاب. وفي عناوين هذه الكتب ذاتها دليل على ما نريد أن نبين من طبيعتها. ففي المجموعة التي بين أيديكم كتابان: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - وهو كتاب قيم له أهميته ودلالته من حيث ما يعرض له - وهو كفيل بأن يرد إلى الصواب أولئك الذين يخشون تعارض الفلسفة والدين، إذ هو يقنعهم أن لا تعارض، بل محبة وتقارب. ولا يخرج القارئ منه إلا وقد آمن أن الفلسفة فرض واجب كبقية الفروض. فرض عين لا فرض كفاية. والكتاب الثاني في (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة). وفيه يعرض الفيلسوف وقد بين من أمر توافق الفلسفة والدين في الكتاب السابق ما بين - يعرض لمناقشة مختلف المناهج التي بها تقوم الأدلة الصحيحة على كثير من عقائدنا الدينية الإسلامية كوجود الله وتوحيده وبقية صفاته الثبوتية والسلبية: تلك التي تنسب له صفات إيجابية كالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، والتي تنفي عنه صفات سلبية كالجهل والعجز والصمم والعمى والبكم. . . ثم مشكلة إرسال الرسل أو النبوة والتدليل على معقوليتها؛ وأخيراً مشكلة العالم الآخر التي تقوم بها الأديان.(866/30)
وقبل أن نشرع منذ المقال التالي في تحليل هذا الكتاب لابن رشد، أريدك أن تلم بتاريخ حياته إلماماً كافيا، تعرف معه تاريخ مولده ووفاته والقرن الذي عاش فيه من التاريخيين الهجري والميلادي، ثم مكانة قرطبة التي ولد فيها وتفلسف وما تقلبت فيه من عز وذل والتاريخ العام لدولة الأندلس وما تعاقب عليها من الحكام - منذ فتحها عبد الرحمن الداخل الأموي (38هـ) - من أمويين فمرابطين فموحدين - وخصائص كل عصر من حيث الاهتمام بالعلم وتشجيع الأدب والفلسفة - وأخيراً حياة الفيلسوف ونشأته ودراسته ومصنفاته والجانب المزدوج في مهمته الفلسفية الذي عرض فيه للحكمة الأرسطية والشريعة الإسلامية فأحسن التوفيق بينهما،
وإلى الملتقى في حديثنا التالي.
كمال دسوقي(866/31)
كتاب أحلام في التربية
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
قرأت هذا الكتاب منذ أسبوعين، وقد وضعه مؤلفه مستر يورنز منذ حوالي عشرين سنة، وقدمه الدوز هكسلي حفتدهكسلي العظيم، فرأيت أن ألخصه لقراء الرسالة الغراء.
الكتاب طريف الموضوع، شائق، سهل الأسلوب إلى حد بعيد، يجعل القارئ المتوسط الذي لم ينل حظاً كبيراً من علوم الفلسفة والتربية، يقبل على قراءته بشغف ولذة، وذلك لأنه أقرب إلى القصص والأساطير منه إلى كتب التربية والتعليم. ومما يساعد على فهمه ويغري بقراءته سهولة تعبيره واتساع أفق الخيال فيه وما فيه من طرائف جديدة، وقد ألبس المؤلف الجد ثوب الهزل فجعله قريباً إلى الأذهان سهل المطالعة للكثيرين.
إن الكاتب يحس كما يحس الكثيرون منا، أننا ندور في حلقة مفزعة إذ لا ندري لماذا نبعث بأبنائنا إلى المدارس وإن كنا نبعث بهم على أي حال، وذلك لأن المدارس التي جعلت لإعدادهم للحياة السعيدة، هي في الواقع كثيراً ما تجني عليهم بفساد أنظمتها التي تذهب بكثير من استعداداتهم وقبر ملكاتهم وضياع مواهبهم، لأن الحياة فيها جحيم وقوده أطفالنا الأبرياء.
إن المؤلف يرى أن النظام المدرسي وجد على أنه أداة لحياة صالحة سعيدة، ولكن الآية انعكست وصارت مفسدة لكثير من الأطفال. والعجيب أننا لا ندري ماذا نفعل لننقذ أطفالنا من هذه المأساة التي تمثل أمام أعيننا ونشاهد فصولها تعرض علينا ونحن مكتوفو الأيدي. هذا ما يدركه من يقرأ الكتاب قراءة بحث ودرس.
أما موضوع الكتاب فقد تخيل الكاتب، أن مؤتمراً للتربية والتعليم عقد في بقعة من الأرض، ودعي إليه كثير من سكان الكواكب السيارة المختلفة وقد أرسل كل كوكب مندوبية إلى هذا المؤتمر من أستاذه وشيوخ وسيدات ومن مخلوقات أخرى لا شبيه لها ولم ترها أعيننا، منها الذكر والأنثى، ومنها ما هو خليط بين الاثنين، وقد انتظم هؤلاء جميعاً غرض واحد هو بحث مناهج التعليم والمقارنة بينها في مختلف الأنحاء، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل لتأتي بالغرض المنشود الذي يسعى إليه العالم أجمع.
ولما افتتح المؤتمر أسندت رئاسته إلى مخلوق أرضي، فرحب بالأعضاء، ثم أتى بموجز(866/32)
لتاريخ التعليم فقال:
إنه عرف في أول أمره على أنه أداة لتعليم مواد ثلاث: هي القراءة والكتابة والحساب، وهذا غرض متواضع لا يتفق مع جلال التربية والتعليم، إذ الأحرى بمثل هذا الغرض أن تكون أداته أقل قيمة من التربية والتعليم. فإذا كانت التربية والتعليم لا غرض لهما سوى أن يكونا أداة لتعليم هذه المواد الثلاث فما أقل شأنهما واسوأ حظهما، ثم قال:
إن الغرض من التعليم أجل وأشرف من هذا بكثير، والذي يجب أن يهدف إليه التعليم هو: الفلسفة وعلم النفس والسياسة وعلم وظائف الأعضاء، لأن هذه الأشياء هي أساس حياة الإنسان وسعادته، فعلى مقدار فهمه لها ومعرفة دقائقها تتوقف سعادته في حياته ويكون نفعه للإنسانية، فيجب ألا تكون حياة الإنسان هباء في هباء، لأنه لا يستطيع أن يتصل بالآخرين اتصالاً وثيقاً وأن يحيا حياة فياضة بالمعاني السامية والغايات النبيلة إلا إذا فهم الجماعة الإنسانية، والأحوال الاجتماعية فهماً صحيحاً، ولا يتأنى له ذلك إلا إذا كان له قسط وافر من هذه العلوم التي يجب أن تكون الغرض من التعليم.
ولكن هذا لم يرق مندوب (المريخ) فاعترض قائلاً: ما هي الفلسفة وما هو علم النفس وما هي الفائدة المرجوة منهما حتى يكونا الغرض من التعليم؟
ولكني أرى أن التعليم والتربية، أسمى من أن يكونا أداة لمثل هذه المواد، بل يجب أن يوضع التعليم للوطنية والأخلاق، إذ أنهما أساس الحياة. ويصر مندوب المريخ على أن يكون عملياً في كل شيء يقرره، فتراه يرفض تدريس الجغرافية مثلاً، لأن المدارس تدرس الجغرافية من أول نشأتها ولم تعد على العالم بشيء إنه يريد أن يستقصي الأمر بطريقة علمية أكثر من ذلك فائدة وأدوم ثباتاً، حتى أنه قال. لماذا ندرس الجغرافية! وماذا يضيرنا لو لم ندرسها. وغير ذلك من مثل هذا التساؤل عن كثير من المواد الدراسية.
أما مندوب (المشتري) فانه يعقد مقارنة بين تربية الأطفال وبين الصناعات الأخرى من حيث قدرة الأطفال والنوع الذي يناسبهم من التعليم، فقال: لقد أصبح العلم متدخلا في جميع مشروعاتنا وأعمالنا، بمعنى أننا لا نقدم على عمل ولا نخطو خطوة في حياتنا ما لم يكن العلم رائدنا ومرشدنا، ففي مصنع الأحذية مثلاً، نختبر الجلود ونبحثها بالطرق العلمية لنعرف مصادرها ولنرى من أي نوع هي، وهل هي من النوع الخشن أو الجيد؟ وهل(866/33)
كانت الحيوانات التي أخذت منها هزيلة أم سمينة؟ وغير ذلك.
فلماذا لا نتبع هذه الطريقة مع أطفالنا فنبحث بيئاتهم وعائلاتهم ونستقصي تاريخهم ونتتبع منشئهم لنرى هل من المتيسر لهم أن ينموا نمواً طبيعياً أم هم معرضون للأمراض المختلفة من جسميه واجتماعية وخلقية. إن المدرسة صنو للمصنع سواء بسواء، فمصنع الأحذية مثلاً يبدأ بالجلود وينتهي به المطاف إلى الأحذية الكاملة المتقنة، وكذلك المدرسة فإنها تبدأ بالطفل الصغير وتنتهي بالرجل الناضج الكامل العقل والتفكير. فالواجب علينا أننا مادمنا نستخدم مختلف العلوم في الصناعات، أن نفعل مع الأطفال مثل هذا حتى نأتي بالثمرة المرجوة. . . ثم قال:
مما جعلني استلقي على قفاي من الضحك، أنه في أثناء عبوري من المشتري إلى هنا، كنت أتسلى بقراءة شيء عن نظم التعليم سابقاً، فاستوقف نظري ما يسمونه نظام البكالوريا، وأن هذه الشهادة تعتبر جواز المرور لحاملها. يا للسخافة! أيجعلون الشهادات مقياساً لكفاءات المتعلمين والرجال المفكرين، إن وباء الحمى القرمزية لم يكن أكثر شراً من ذلك النظام الفاسد في تلك العصور المظلمة والعوالم المتأخرة.
إنه لابد لكل طالب في عالمنا (المشتري) من فرصة يسيح فيها عاماً كاملاً ليرى الشعوب الأخرى ويشاهد أخلاقها ويطلع على أنظمتها ويختبر طرق حياتها، وثقافة الإنسان عندنا لا تتم إلا إذ أقام بهذه السياحة واستفاد منها وعمل بما رأى فيها من خير وتجنب فيها من شر.
ثم تكلم مندوب الزهرة وأبدى عجبه من اهتمامنا بأعداد المواد وإهمالنا الطفل الذي يجب أن يكون الاهتمام به هو قبل كل شيء فقال:
إن محور التعليم عندنا ليس المواد المختلفة كالجبر والهندسة واللغات وغيرها؛ ولكن المحور الحقيقي الذي نوليه كل عنايتنا هو الطفل نفسه، فلا يهمنا أن تذهب هذه العلوم إلى حيث شاءت ولكن ليبق لنا الطفل. إن هذه المواد جميعاً قد وجدت من أجل الطفل، ولم يوجد الطفل لها. . . ثم قال:
لقد كان الباحثون في التربية قديماً، يجعلون الطفل في المنزلة الثانية بعد المواد، وما ذلك إلا لضيق تفكيرهم، حتى أن العلم الذي كان يبدي اهتماماً ظاهراً بالأطفال لا يساوي في نظرهم شيئاً. أما اليوم فإننا يجب أن نجعل الطفل في المرتبة الأولى وأن نوليه كل عنايتنا.(866/34)
ثم ذكر حقيقة قد أغفلناها نحن وطال إغفالنا لها حتى كدنا ننساها كل النسيان، وذلك أننا نحمل الطفل من الدروس أكثر مما يطيق، ونعطيه من المواد فوق ما يحتمل، فإذا عجز من تحملها أضفنا إليه أعمالا أخرى فنأتي له بالمدرسين الخصوصيين ونحبسه مع كتبه في حجرة بعيدة عن الآخرين، ونضطره إلى البقاء حبيساً حتى تعتل صحته البدنية ونحتل قواه العقلية وتفسد أخلاقه، وربما أدى به الحال إلى السير في طريق الفساد والآجام دون أن يبلغ ما حبس من أجله وهو الشهادة المرجوة والنجاح المأمول.
إن الشهادة ليست بذات قيمة كبيرة ولا تستحق منا هذا الاهتمام الذي يجعلنا نسلب أولادنا صحة أبدانهم ونفقدهم عقولهم ولو كان هذا من أجل علوم الدنيا مجتمعة.
وقد قال المندوب! إننا لم نترك حجراً على حجر في هذه الناحية إلا قلبناه ونقبنا حوله، حتى أصبحنا نؤمن إيماناً كاملاً بأن نما النفس والروح لا يتم إلا على إنما الجسم - والمثل يقول العقل السليم في الجسم السليم - ويقول: أطعم الجسم العاري هواء نقياً وشمساً مشرقة، تكن بذلك قد غذيت الروح وطهرتها من الشوائب، أما لو أهملت الجسم فانك تقتل الروح وتفسدها.
ثم عرض المؤلف لكثير من أراء مندوبي كثير من الكواكب التي تخيلها قد حضرت المؤتمر لهذا الغرض النبيل، لا داعي لذكرها هنا حيث أن كل المناقشات كانت تنصب على هذه الأغراض المهمة.
والحق إن واضع الكتاب استطاع أن يصوغ آراءه الجديدة في صور هزلية واستطاع أن يضحك من نظم التعليم الفاسدة في غير تعرض لأحد أو مسا بأي دولة.
هذا كلام قبل عشرين سنة وقد ظهر فساده ولكننا نحن في مصر لا زلنا متمسكين به رغم اعترافنا بفساده وعدم ملاءمته للطرق التربوية الحديثة: فمتى يا ترى نقلع عن هذه الأخطاء ونصلح هذه المفاسد التي تضيع كثيراً من المواهب وتقبر كثيراً من العبقريات إننا نتوجه إلى القائمين بأعمال التربية والتعليم وعلى رأسهم عميد الأدب المربي الكبير معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف أن يعيدوا النظر برامج التعليم على ضوء النظريات الحديثة، والله ولي التوفيق.
عبد الموجود عبد الحافظ(866/35)
أسيوط(866/36)
في محراب الأشواق!
هذا مكانك؛ ههنا محراب أشواقي وحبي
كم جئته والدمع، دمع الشوق، مختلج بهدبي
كم جئته والذكريات تفيض من روحي وقلبي
يمددن حولي ظلهن وينتفضن بكل درب
هذا مكانك، كم أتيت إلى مكانك موهنا
تمضي بي الساعات، لا أدري بها. . . وأنا هنا
روح اصاخ لهتفة الذكرى، وللماضي رنا
يتنسم الجو الحبيب، ويستعيد رؤى المنى!
هذا مكانك، مثل روحي، فيه إحساس كئيب
متحسر. . . يصبو إلى الماضي، إلى الأمس الحبيب
متسائل عن شاعرين، هواهما حلم غريب!
كم رنحا بالشعر جوهما، ففاض جوي مذيب
هذا مكانك، أين أنت؟ وأين أطياف الفتون؟
المقعدُ الخالي يحن إليك مرفقه الحنون. . .
أسوان، يرمقني، وقد أهويت أنشج في سكون
ومواجدي ملهوفة النيران، تهدر في جنون
ذنبي الذي قد هاج ثورة قلبك المترفع
كفرت عنه بأدمعي، بتنهدي، بتوجعي
كفرت عنه بما ترى من ذلتي وتخشعي
ويخفض قمة كبريائي الشامخ المتمنع!
ذنبي؟ وما ذنبي؟ ألا ويلاه من ظلم القيود!
ما حيلتي والغل في عنقي على حبل الوريد!
أواه! حتى أنت لم تنصف الهوى قلبي الشهيد؟!
أواه؟ حتى أنت تظلمني مع القدر العنيد!؟
قلبي يئن، يلوب في ألم؛ يسائل في شرود:(866/37)
لم لا يعود، فلا يجيب سوى صدى (لم لا يعود)
وأروح، في شفتي أشعار، وفي كفي عود
وأعاتب الأيام، والزمن المفرق، والوجود!. . .
لم لا تعود؟ أنا هنا وحدي بهيكل ذكرياتي
وحدي، ولكني أحسك في دمي، في عاطفاتي
أصغي لصوتك، للصدى المغنوم في أغوار ذاتي
وأراك من حولي، وفي، وملء آفاق الحياة!
قدوي(866/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
استقبال تيمور بالمجمع اللغوي
كان يوم الخميس الماضي موعد الجلسة العلنية التي عقدها مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية لاستقبال الأستاذ محمود تيمور بك بعد انتخابه وصدور المرسوم الملكي بتعينه عضواً عاملاً بالمجمع خلفاً للمستشرق الألماني المرحوم الدكتور أوجست فيشر، وكانت كلمة الاستقبال لمعالي الدكتور طه حسين بك، وقد تحدث فيها عن تاريخ الأسرة التيمورية، ومكانة أفرادها وآثارهم في العلم والأدب والفن، ولما خلص إلى الحديث عن الأستاذ محمود بك قال يخاطبه: ولعلك تذكر وإني أذكرك إن كنت نسيت حديثاً ألقيته في بعض مؤتمرات المستشرقين وكنت تخلص فيه للدفاع عن العامية ولم تكن تقدر أنك ستكون مجمعياً يوماً ولم تقدر أن العربية أقوى منك كما كانت أقوى من كثرين، لا من الأفراد بل من الشعوب، ولم تكن تقدر أنك ستضطر يوماً أن تكون من حماة العربية الفصحى التي كانت تؤثر عليها العامية في بعض أوقاتك ثم نرى تغلب هذه العربية عليك يزداد شيئاً فشيئاً، وإذا هي تلتهمك التهاماً، وإذا هي تقهرك على ما تريد هي لا ما كنت تريد أنت، وإذا أنت لا تستطيع إلا أن تكرهها في شيء واحد هو خير ما تحب لها وهو خير ما تحب لنفسها تكرهها على أن تتلقى من المعاني والخواطر الرائعة ما لم تألفه من قبل، وإذا أنت من الممرنين لها أحسن تمرين.
وقال: وأنت كاتب حلو النفس عذب الروح خفيف الظل لا تثقل على قارئك مهما تطل عشرته، وأذكر أني تلقيت بباريس كتابك (سلوى في مهب الريح) فترددت في قراءته وآثرت أن أقرأ ما أقرأ من الأدب الفرنسي ولا سيما حينما أكون في فرنسا ولكني لا أستطيع أن أرد نفسي عن قراءة آثارك، فأخذت نفسي بقراءة صحف منه بين حين وحين على ألا يصرفني عما أنا فيه من قراءة، وأقسم أني ما بدأتها حتى أعرضت عن كل ما سواه ومضيت في القراءة حتى إني لم أقطعها القراءة إلا حين لم يكن من قطعها بد.
وأفاض الدكتور طه حسين بك في تحليل أدب تيمور، ووصفه بأنه أديب عالمي ليس أدبه مقصوراً على مصر وحدها ولا على الشرق العربي وحده وإنما هو أدب امتد إلى الغرب(866/39)
إذ ترجم كثير منه إلى اللغات الأجنبية الحية. ثم قال: أتفهم الآن لماذا سعى إليك المجمع سعياً رفيقاً كما يسعى إلى شيء، ذي خطر لا يسهل الوصول إليه، بدأ فقدر آثارك الأدبية وأجازها ونوه بها، ثم أستأني بك لأنه يعرف من تواضعك وهدوئك وإيثارك لما ورثت عن أسرتك من حب العزلة والانزواء، استأني حتى تسيغ هذا التقدير وتطمئن إليه، استأني بك سنة أو سنتين، فلما عرف أنك تلقيت هذه الصدمة وصبرت لها واحتملتها ثم تعزيت عن تقديره إياك فسافرت وكتبت وأنتجت، هجم هجمة وأخذك على غرة، وأشهد ما عرفت ولا حسبت قط بأن المجمع يريد ضمك إليه، وإنما أخذك فجاءة في يوم ائتمر بك صديقان هما احمد أمين بك وطه حسين فرشحاك، ولم يكادا يعرضان الأمر على المجمع حتى أجمع على اختيارك، وإذا أنت قد التهمك المجمع بعد أن التهمتك العربية التهاماً من قبل.
وبعد ذلك وقف الأستاذ محمود تيمور بك فألقى كلمته. وقد بدأها بالتعبير عن تهيبه عضوية المجمع أو في الحقيقة عن تواضعه ثم تحدث عن الدكتور فيشر، جرياً على السنة المتبعة في أن يتحدث الخالف عن السالف، فقال أنه كان أحد أولئك الأفذاذ الذين تتراءى لهم في مؤتنف حياتهم أحلام عزيزة وكان الحلم الذي صبغ حياة الدكتور فيشر بصبغته أنه أراد أن يكون للغة العربية معجم يؤرخ ألفاظها ويتناول ما تعاقب على هذه الألفاظ من أطوار، راجعاً بكل لفظ إلى منزعه أو إلى ما يقابله في شقائق العربية من اللغات السامية، وهو مشروع جديد ليس له سوالف تيسر عليه مهمته وكأنما الأقدار قد هيأته لذلك العمل الضخم وأعانته بأدواته، فهو المتفقة في شتى اللغات السامية، وهو العليم بموازين الدراسات في اللغات على اختلافها، وهو البصير بقواعد البحث العلمي على أدق مناهجه، وهو الصابر المثابر، وهو صاحب الهوى العذري للغة العربية على وجه خاص. صرف نفسه إلى منابع اللغة نفسها من منظوم ومنثور في العصر الجاهلي وصدر الإسلام وأكب عليها يستقري ألفاظها ويتبين معانيها في سياق الكلام ويستجلي تطور هذه المعاني وتنقلها بين الحقائق والمجازاة، لبث الدكتور فيشر أطيب عمره في هذا العمل، ثم دعي إلى المجمع عضواً عاملاً فيه، ثم طلب إليه أن ينجزه معجمه في دار المجمع على أن تهيأ له وسائل الإقامة والعمل، فخف له واستمر فيه حتى كانت الحرب الشؤمي فحالت بينه وبين العودة السنوية لاستئناف عمله في وطن حلمه العزيز، وبينما كانت العقبات تذلل في سبيل أن يعود عجلت(866/40)
به المنون إلى عالم الغيب والشهاة، تاركاً في هذه الدار صناديق معجمه تخفق فيها روحه، كأنها تنكر على الناعي أنه قضى.
ثم تحدث الأستاذ تيمور عن مهمة المجمع في المحافظة على سلامة اللغة العربية التي أصبحنا مؤمنين بأنها لغتنا التي يجب أن ننهض بتنميتها، ولذلك يعد المجمع من المؤسسات التي تقتضيها حياتنا الاجتماعية. ومما قاله في هذا البحث القيم: لا تثريب علينا في المفاخرة بأن لغتنا العربية غنية بألفاظها وتراكيبها، ولكن الغنى اللغوي لا يقوم باختزان الكنوز، ولكنه يقوم بمقدار التعامل، ونحن نملك من ودائع الألفاظ والتراكيب ما تضيق به خزائن المعجات، فمثلنا في ذلك مثل امرئ يحتاز القناطير المقنطرة من صكوك لا يجرى بها تعامل، على حين أن السوق مغمورة بصكوك أخرى يتعامل بها الناس، فالسوق في غنى عن صاحب تلك القناطير، وهو لما تحمل السوق من سلع فقير، ومنه قوله: وفي غير مستطاع المجمع اللغوي أن يصنع الألفاظ صنعاً أو أن يفرضها على المدلولات فرضاً، وإنما الذي يستطيع أن يفرض هو البيئة المثقفة وحدها، فالكتاب والعلماء والباحثون والدارسون في كل فن ومنحنى هم الذين يستوحون ضرورة الاستعمال ويستلهمون ذوق التعبير، وعلى المجمع بعد ذلك أن يستصفي ما يتلقاه من لغة المجتمع بالتأييد والإقرار، حتى يكون مثله في ذلك كمثل الطعام، لا يطمئن الناس إلى صلاحيته إلا أن ختمه معمل التحليل بخاتم الأمان.
تكريم العريان
في يوم الخميس الماضي احتفل جمع من الأدباء ورجال التعليم بتكريم الأستاذ محمد سعيد العريان في نادي الصحفيين. وكان من خطباء الحفل الأستاذة عطية الأبرشي وعبد الله حبيب ومحمود العزب موسى وطه عبد الباقي سرور. ومن الشعراء الأستاذة محمد غنيم وعلي الجمبلاطي ومحمد مصطفى حمام وعزت حماد. وقد أناب عميد الأدباء معالي الدكتور طه حسين بك عنه الأستاذ حسين عزت مدير مكتبه فألقى كلمة بالنيابة عن معاليه عبر فيها عن مشاركته في تكريم المحتفل به وتقدير أدبه الممتاز وإنتاجه القيم
كانت كلمة الأستاذ الأبرشي جامعة شاملة، إذ كان موضوعها (أثر الأستاذ العريان في الأدب والتعليم) وهو موضوع مترامي الأطراف اضطر فيه أن يمر بنواحيه مروراً عابراً(866/41)
أشبه فجاء بتقارير المفتشين منه بالدراسة الكاشفة، ويظهر أن الوقت كان ضيقاً فلم يكف لأن يتصفح الأستاذ كل مؤلفات العريان، ولكن كان ينبغي أن يتجنب الحديث عما لم يتمكن من الاطلاع عليه وهو كتاب (حياة الرافعي) إذ قال عنه إنه دراسة تحليلية لأدب الرافعي، وهو ليس كذلك، إنما هو دراسة لحياة الرافعي لا أدبه.
وكان موضوع الأستاذ عبد الله حبيب (حياة الأستاذ العريان من مؤلفاته) وقد استطاع أن يصور ملامح شخصيته ونوازع نفسه بعرض أهم الأحداث في حياته وصداها في كتبه. وقد عرض لصلة العريان بالرافعي فذكر أن بعض الناس قالوا: لقد أصبح العريان رافعياً، وأن الدكتور طه حسين قال. لم يصبح العريان رافعياً ولكنه أصبح مدره الرافعي. ثم ذهب الأستاذ عبد الله إلى أن الرافعي هو الذي أصبح عريانياً، وفسر ذلك بأن كتابات الرافعي في عهده الأول كانت غامضة مستغلقة، ثم كان في العهد الثاني يملي على العريان فكان هذا يتوقف عن الكتابة إذا أغلق بيان الرافعي، فيقول له: حتى أنت يا عريان قد أصبحت عامياً. فيجيبه. إذا كنت حيال هذا الغموض قد أصبحت عاميا فكيف يصبح حال الآخرين؟ ثم تهدأ ثورة الرافعي فيعود إلى عبارته بالتوضيح والتقويم. وقد عقب الأستاذ العريان على هذا في كلمته الشاكرة - بأنه غير صحيح. عقب بهذه العبارة الإجمالية التي تشبه البلاغات الرسمية، وكنا نود أن يبسط القول في هذه النقطة ولكن يظهر أن ملابساته الرسمية الأخيرة غلبت عليه.
وتناول الأستاذ عبد الله حبيب في حديثه أيضاً مسألة إقصاء الأستاذ العريان عن وزارة المعارف، فأشاد بفضل هذا الإقصاء على الأدب إذ تفرغ للدراسة والإنتاج، فأصدر مؤلفات قيمة وكان بصدد مؤلفات أخرى لولا (جناية) وزارة المعارف أخيراً برضائها عنه. . . إلى أن قال: هل لنا أن نلتمس من صاحب المعالي وزيرنا الجليل أن يتفضل ياقصائه عن الوزارة فترة قصيرة يفرغ فيها لاخراج هذه الكتب التي تعطلت بسبب رضائه عنه وإعجابه بكفايته. . .
وكانت قصيدة الأستاذ غنيم رائعة خفيفة الظل، قال في أولها:
كرموه تكرموا عرياناً ... ليس الفضل وحده طيلسانا
قد كسته الطروس ثوب فخار ... وكساها من فنه ألوانا(866/42)
وكان اسم (العريان) موضع الدعابة اللفظية والتفنن في المعاني للخطباء والشعراء، ومن ذلك قول حمام.
متواضعاً ثوب الفضيلة فوقه ... كاس ويزعم نفسه عريانا
بل جر هذا الاسم إلى القافية في قصيدتي غنيم وحمام.
والملاحظة - على وجه العموم - أن الكلمات التي ألقيت - عدا كلمة الأستاذ عبد الله حبيب - كانت عائمة، فلم يركز أحد منهم اهتمامه بناحية من النواحي الأدبية للمحتفل بتكريمه تركيزاً يكشف عنها ويبرزها، فمثلاً لم اسمع من أحد منهم صدى واضحاً لقراءته كتاباً من كتب العريان. ولم يحددوا بالضبط مكانة أديبنا من أدباء العصر وخصائص أدبه الأصلية.
ومما أستطيع أن أجمله في هذه المناسبة، أن الأستاذ العريان يجمع في أسلوبه بين البيان العربي الحر والرشاقة العصرية كما يجمع في موضوعه بين الإمتاع النفي والبحث الدقيق والمنطق السليم، وأتى لأراه يزحف إلى الصف الأول على رأس نفر قليل من أدباء الصف الثاني. ولا أخشى عليه من وزارة المعارف كما خشي الأستاذ عبد الله حبيب، فان طبعه المكافح وروحه القلق لن يهدأ ولن يستطيع شيء أن يظفر به دون الأدب.
ويجرني ذلك إلى التصريح برأيي في شخصية الأستاذ سعيد، وهو يخالف رأي أكثر الناس فيه، إذ يقولون: إنه رجل طيب، مخدوعين بما يبدو عليه في الظاهر من الهدوء والوداعة، ومأخوذين بما يأتيه فعلاً من العمل الصالح. والحقيقة التي أراها أنه ليس رجلاً طيباً كما يفهم الناس من هذا الوصف بصرف النظر عن معنى الكلمة، إنه هادئ الصفحة ولكن صخاب فيما دونها. . إنه داهية خطير. . هو في ملابساته العلمية كما تراه في أدبه يتعمق الأشياء وينفذ إلى الدخائل ويستكشف الدقائق. إنه يكافح في حرب صامتة وقد شوهد أخيراً يجول ويصرع. وقد كان وجوده في منصبه بالوزارة أخيراً بمثابة (إرهاص) لإقبال الدكتور طه حسين بك. وكم تحتاج أمور الثقافة والتعليم في وزارة المعارف إلى هذه العزائم الصادقة والهمم التي تمضي إلى ما تريد وهي لا تريد إلا الصالح العام.
لقد أثبت عميدنا الكبير، كما أثبت أديبنا العريان، أن الأديب - على خلاف ما يقول بعض الناس من أنه إنسان خيالي غير عملي - أهل لادارة الأمور على خير ما يكون وما ينفع(866/43)
الناس.
عباس خضر(866/44)
الكتب
(عثرات اللسان)
صنفه الأستاذ عبد القادر المغربي عضو مجمع فؤاد الأول
للغة العربية
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لا عجب أن يصنف الأستاذ المغربي هذا الكتاب فهو من أشد العرب حرصاً على سلامة العربية. وهو في تصنيفه هذا الكتاب يسير على منهج كثير ممن سبقوه من أعلام اللغة العربية الذين كانوا يجدون في كل عصر ما يثير حفيظتهم ويحفزهم إلى حماية اللغة العربية مما لا يفتأ يهاجمها من اللحن والخطأ.
وقد دب اللحن إلى العربية منذ أكثر من عشرة قرون وكان فصحاء العرب كالحجاج بن يوسف نفسه يحاذرون أن يقعوا فيه ولا كاد أحدهم ينجو منه.
والكتاب ينطوي على ثلاثمائة وخمسين كلمة بوبها الأستاذ على أقسام تجري على ترتيب حروف المعجم. ولاشك في أن اللحن في اللغة يقع في ألوف من الألفاظ فحبذا لو استطاع الأستاذ أن يمضي في إحصائه بعد ذلك حتى يستوعب بالتصحيح كل الأخطاء الجارية على الألسن.
ولمثل هذا الكتاب فائدة غير فائدته في التصحيح وذلك أن الأستاذ المصنف إنما يتناول الخطأ الجاري على السنة قطره ونستطيع منه أن توازن بين لهجات الأقطار العربية لعل بعضها ييسر للبعض الآخر تصحيح الخطأ. وقد لاحظت في تلك الأخطاء التي أحصاها الأستاذ أن كثيراً منها يستقيم في لهجة العوام في مصر. فالنذر مثلاً في لهجة الشام النذر بكسر النون هو في لهجة مصر النذر بفتح النون. والنثارة في الشام بكسر النون أيضاً وهي في مصر بضمها وهو الصحيح. وكذلك النخالة في الشام بكسر النون ونونها في مصر مضمومة صحيحة. ويمكن أن نحصي من هذا النوع عدداً كبيراً نجده سليماً في لهجة مصر محرفاً في لهجة الشام فمن ذلك المجون بضم الميم والمغربي بفتح الميم ومتر مكعب بضم الميم وتشديد العين المفتوحة ومساحة بكسر الميم ولجنة بفتح اللام وكناسة بضم الكاف(866/45)
وقنينة بكسر القاف وكرة القدم بفتح الراء وتخفيفها وقرض بفتح القاف وقدوم بفتح القاف وتخفيف الدال وهكذا.
واللغة العربية ليست ملكاً لقطر واحد من الأقطار بل هي ملك مشاع بين جميع الشعوب العربية ولعله من الجدير بنا إذا أردنا تقويم اللسان في الألفاظ الشائعة أن نبدأ بحصر المحرف في اللهجات العامية على اختلافها حصراً شاملاً ثم نعمد إلى جمع ذلك كله في شبه قاموس نذكر فيه اللفظ العربي السليم ونوجه أنظار الناشئة إليه في معاهد التعليم في البلاد كلها. فالاكتفاء ببيان بعض الأخطاء عمل مشكور ولكنه لا يعالج الداء علاجاً شافياً.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى رأي ذهب إليه الأستاذ الفاضل في مقدمة كتابه إذ قال:
(ولا يخفى أن إحياء اللغة الفصحى بيننا لا يمكن حصوله بمراعاة قواعد النحو فقط ولا بالتزام حركات الإعراب في أواخر الكلمات التي نتكلم بها في كلامنا الدارج فان هذا ليس بالميسور ولا المستطاع للجمهور. وإنما المستطاع هو تطهير كلامنا من الكلمات العامية المبتذلة واستعمال كلمات فصيحة مكانها.)
وهذا موضوع له خطورته فأنا أعرضه لطرافته وحسبي منه أنه دليل على ما للأستاذ من سعة الصدر وما عنده من الحماسة المشكورة على جعل لغة الحديث والحياة سليمة حية تقترب من لغة الكتابة في فصاحة اللفظ وتجعل لغة الأدب مستساغة عند جمهور الناس
وبعد فإذا كان لي أن استدرك به على الأستاذ الفاضل فاني أظنه يذهب إلى نوع من التشدد الذي يجعل مهمة التقريب عسيرة مع أنه يسعى إليها ويدعو إليها. فإذا كان لفظ يحتمل الإجازة على وجه من الوجوه كان الأجدر بنا أن نقره ولا نتشدد في تخطيئه ما دامت اللغة الفصحى لا تنكره ولا تأباه. فالبرسيم مثلاً يجري على الألسنة بفتح الباء وهو كلمة غير عربية الأصل على أكبر الظن إذ قد وجد في عصر أقدم من الكلمة العربية مكسورة الباء فلا ضير في بقاء اللفظ كما يستعمله الناس في مثل هذه الحالة ومثل هذا نقول في جرجير بفتح الجيم بدل جرها وكذلك لفظ ثكنة بضم الثاء وأظن أن تخطئه الذين يفتحون الثاء والكاف فيه شيء من النظر فجمع هذا اللفظ على وجهين أولهما تكن بضم الثاء وفتح الكاف والآخر بفتح الثاء والكاف وهذا يشعر بأن اللفظ كان مستعملاً في المفرد بفتح الثاء والكاف وإن لم يسمعه صاحب المعجم. والأستاذ يخطئ من قال الدخان يوزن رمان مع أن(866/46)
القاموس نص على صحة هذا الوزن.
وهو يخطئ من قال الدفعة بضم الدال والقاموس المحيط يذكر الدفعة من المطر. كما أنه لا يرضى أن نقول على الرحب بفتح الراء والرحب المكان المتسع ففيه وجه حسن.
وهو يصحح لفظ السحنة بفتح السين والحاء معاً مع أنه يصح أن نقول السحنة بفتح السين واسكان الحاء وهذا أقرب في التصحيح وأيسر كما أنه يصحح لفظ قروي بضم القاف فيجعلها بفتح القاف مع أنه يجوز على أنه نسبة للجمع وهو مقبول لغة ويكون معناه النسبة إلى القرى عامة لا إلى قرية معنية وقد جرى الاستعمال على إطلاق لفظ القروي على الذي يعيش في قرى الريف
هذه بعض الملاحظات صغيرة أعتقد أن الأستاذ الفاضل يرحب بمثلها فهو في عمله وتحقيقه من الأعلام الذين يرضون عن الحقيقة أكثر من رضاتهم عن الموافقة ولا يمكن أن تكون مثل هذه الملاحظات اليسيرة إلا دليلاً على فضل الأستاذ وتحية لجهده المشكور.
محمد فريد أبو حديد(866/47)
البريد الأدبي
حول ترجمة قصيدة بودلير:
في مقالنا (الحب دوحة الأدب) ترجمنا كلمة وهي عنوان قصيدة بودلير - بكلمة ضميمة. ولفت الدكتور عبد الرحمن بدوي نظرنا إلى أن هذه الكلمة لا تعني هنا ما قصدنا ترجمته إلى العربية، وانما تعني التفكير أو التأمل وأشار علينا أن نترجمها بكلمة تأمل مباشرة.
وراجعت هذه الترجمة فوجدت أول الأمر أن القواميس أشارت إلى معنيين لهذه الكلمة. وهما الضم أو الجمع، والتفكير أو الانطواء على النفس في حالة التأمل. بيد أن الشاعر لم يقصد إلى المعنى القاموسي الثاني مباشرة لأنه كان يريد أن يستلهم ما في الكلمة من روح دينية صوفية. ولذلك نستطيع أن نقول إن فيها تأملا وتفكيراً واستبطاناً وتركيزاً لعمليات الدماغ ولكنها ليست شيئاً من ذلك كله على حدة.
وحينما ترجمتها بكلمة ضميمة فقد كنت أريد أن أشير بذلك إلى عملية استكناه الذات التي يقوم بها الصوفي وحالة الارتداد إلى النفس التي يكون عليها المتأمل عندما يستجمع تفكيره ويقوم باستلهام فؤاده واستشعار ذلك الإحساس الغريب بالطمأنينة والسلام الداخلي وقت التهجد. ومن أبرز خصائص هذه العملية هو استجماع المدارك وضم المشاعر ولصق كل من اليدين بالأخرى على نحو ما يفعل المصلي المبتهل.
فلم أخطئ كثيراً حينما ترجمت هذه الكلمة على ذلك النحو. وإذا شئنا دقة أكثر فإننا نستطيع أن نترجمها بكلمة (تهويمة) ففي هذه الكلمة التي اهتديت إليها بعد التفكير الطويل كثير من روح الكلمة الفرنسية كما قصد إليها بودلير. ونلاحظ بهذه المناسبة أن الكلمة نفسها بالفرنسية غير واضحة المعنى تماماً.
وعلى كل فنحن نشكر للدكتور بدوي جميل عنايته وحسن توجيهه.
عبد الفتاح الديدي
ذكرى الجارم بك
في اليوم الثامن من فبراير الماضي فاضت روح الشاعر العالم علي الجارم بك وشعره يتلى على مسمع منه رثاء للمغفور له محمود فهمي النقراشي باشا.(866/48)
فنحن الآن على ميقات الذكرى من رجل أحيا تراث العربية وشدا بأمجادها، حاكى في قصيده الأولى من أهل البيان الصحيح وكان من الرعيل الأول الذين ظفر بهم مجمع فؤاد الأول للغة العربية وكان لي حظ معرفة الرجل عن كثب حين كنت في عداد موظفي المجمع، فأدركت مبلغ غيرته على العربية وثورته من أجلها إذ كان لا يطيق مبدأ الترخص في ألفاظها أو في نحوها أو في صرفها.
وكان - رحمه الله - على شدة بصره باللغة وفهمه لآدابها شديد التواضع في العلم يبحث عن المعرفة في مواطنها، ويأخذ الحكمة من كل لسان، يبدو له الرأي الخمير فيعرضه علينا نحن تلاميذه الصغار. ويناقشنا فيه ويستدرجنا إلى القول؛ حتى تتأدى له الحقيقة حرة خالصة من كل شيب!
نقول إننا على ميقات الذكرى الأولى لهذا العالم الكبير، فهل فعلنا شيئاً لتخليد ذكراه، بل هل صنعنا شيئاً حتى لا ننساه؟ جواب هذا عند المجمع اللغوي وعند الذين تهدوا بهدي الجارم وتأدبوا بأدبه.
ولقد كنت منذ أيام أزور مدينة رشيد مسقط رأس الشاعر العظيم، فإذا هي كابية حزينة ذهب رواؤها القديم وعفى الزمان على تليدها وطارفها وبقيت بلدة تعيش على هامش الحياة. وسألت طائفة من المثقفين من أهل رشيد: أما زلتم تذكرون الجارم الذي خلد اسم مدينتكم في شعره وتحدث عن نخيلها وبحرها ونيلها. فقالوا لم نعد نذكر من أمجاد رشيد سوى اسم الجارم، وليس لنا من العزاء إلا أن رشيداً ذكرت في شعر الجارم بعد أن ذوت وأهملت إهمالاً لم تنحط إليه مدينة من مدائن مصر جميعاً.
وقيل لي إن طائفة من أعيان المدينة اقترحوا أن يسمى شارع (السوق) باسم (علي بك جارم) فأهمل مقترحهم. ولعل مرد ذلك أن أهل العلم والأدب أمست بضاعتهم مزجاة لا تستحق الخلود ولا تصبر على أحداث الزمان؟
كتاب الدرة لابن البيطار
أخرج الأستاذ محمد بعد الله الغزالي أمين مكتبة منطقة الإسكندرية التعليمية كتاب (الدرة البهية، في منافع الأبدان الإنسانية) لمؤلفه ضياء الدين أبي محمد عبد الله بن البيطار المالقي الأندلسي المتوفى سنة 646 من الهجرة.(866/49)
وقد عثر الأستاذ الغزالي على النسخة الخطية لهذا الكتاب النفيس يوم أن كان مدرساً في الحرم الملكي بالحجاز، فنشر منذ عشر سنوات موجزاً لها باسم (مفردات ابن البيطار) أقبل عليه الأطباء المحدثون وأدخلوا كثيراً من أعشابه في (تركيباتهم) الأمر الذي حذا بالناشر على التوفر على النسخة الأصلية مرة أخرى فطبعها كاملة، وأردفها بالمصطلحات الطبية في اللغة اللاتينية. ثم عقب على (الدرة) بتعليقات قيمة عن تجاربيه وتجارب الأطباء لأنواع النبات التي ذكرها ابن البيطار، وخلص من ذلك إلى نصائح جمة أزجاها إلى الشباب لحفظ أبدانهم من التلف.
وقد ذكر لنا أكثر من طبيب من فضلاء الأطباء الإفرنج أنهم استفادوا كما استفاد مرضاهم من كتاب ابن البيطار، ولا مشاحة في أن الأستاذ الغزالي بذل جهداً يستحق عليه الثناء
الرمل
منصور جاب الله(866/50)
القصص
رسالة من صديق. .
الأستاذ غائب طعمه فرمان
كنا أربعة. . تربطنا رابطة وثيقة من التآلف والانسجام، وتنبعث في نفوسنا رغبات متسقة، وآمال واحدة في الحياة. حتى يخيل إلينا أننا نؤلف كياناً مؤتلف الأركان في دنيا تنهار تحت معاول الانشقاق!
وكنا نجتمع كلَّ أمسية في بيت واحد منا. . نخلو إلى أفكارنا بعيدين عن ضجة الواقع، وصخب العيش. . وكانت عقولنا تضل في متاهات من الأفكار والتصورات، وتهيمُ في أفلاك بعيدة المدى، غريبة عن الحياة!. . وكل منا يحمل بين جنبيه قوة طاغية من التذمر والاندفاع وراء أخلية غامضة حتى لقد ثبت في ضمائرنا أن برزخاً عميقاً يفصلنا عن عالم الناس. . . فقد كنا نعجب من سلوكهم ونسخر من انشغالهم بالتوافه وصغائر الأمور. . أما نحن فنملك ذخيرة - لا تقدر - من الأفكار الرائعة، ولا يشغلنا إلا مصير الإنسانية ومنشأ الوجود، ولا نحفل إلا بعظائم الأمور، لا نقلب الرأي إلا في آفاق الكون الفسيحة!!
وكان (سامي) أكثرنا اندفاعاً، وأعمقنا إيماناً. فقد كان روحاً هائمة في أدوية الغيب! يسير مع فكره في أجواء غامضة لا نهاية لها ولا حدود. . كان يزدري الحياة ويعجب من متناقضاتها، ويطوي نفسه في أعماق وحدة من الفكر والشعور!
وشاء الله أن يفرق شملنا، فقد سافر سامي إلى بيروت، وسافرت أنا - بعده - إلى مصر، وتطوَّع ثالثنا للتدريس في أحد أرياف العراق. . أما رابعنا فلم أسمع عنه شيئاً!. .
وقضيت شهرين في مصر سمعت أن سامي سافر إلى باريس. . ثم مضت الأيام وشغلتني أسباب الحياة عن الالتفات إلى الماضي لاسترجاع صوره، وجميل ذكرياته. . حتى جاءتني - ذات يوم رسالة طويلة تحمل طوابع فرنسية، وعرفت أنها من صديق الصبا (سامي). ولا أخفي على القراء شيئاً فقد ذَهلت من أمر هذه الرسالة، فقد قطع سامي رابط صداقتنا منذ أن سافر إلى بيروت ونسيت أنا في غمرة الأيام صاحبي!. . ولكنَّ هذه الرسالة أعادت لي صورة ذلك الراهب في محراب الوحدة الموحش
(عزيزي(866/51)
(. . . لم تعودني حياتي الماضية على أن أصارح أحداً، وأطلعه على مكنون نفسي. . فقد كنت أعيش في عالم غريب عني كل الغرابة، كريه إلى نفسي أشد الكره. . عالم لا تشغله إلا هموم المادة، ولا تدور في خلده إلا بواعث الجريمة. . فإذا تنكبت عن عادتي وجاءتك رسالتي محملة بعض أسراري فما ذلك إلا لأنك صديق روحي، ولأن إناء نفسي فاض على الجوانب. . ولم أستطع تحمل وطأة مشاعري المضمرة في صدر تتناهبه شتى الأعاصير!
وكثيراً ما كنت أخلو إلى نفسي، وأستعرض صور الحياة الماضية، وذكرياتها الدفينة فتلوح لي الحياة التي أحياها فصلاً من (رواية) ساخرة فقدت عنصر التشويق، وضاعت في ضمير الغيب نهايتها!. . لهذا فقد كنت ممتلئ النفس بالحقد، زائغ البصر عن الغاية، أدفع قدميَّ في طريق وعرة خالية من الصوى. . لقد كنت أحاول أن أجعل من روحي ينبوع نور في طريق حياتي المظلم، وكنت أحاول أن أرتفع من وحول الواقع إلى سماء فلسفة مثالية سامقة. . ولكن الظلمات استنزفت ينبوع نوري. . وأحسست بقوة قاسه كثيراً ما كنت تدفعني إلى. . الوحل!
وكنت. . وأنا في نشوة فلسفتي أحس بأن هناك بين أيدي البشر ملاهي تلهيهم عن مآسيهم، وتطلي وجه حياتهم البشع ببارق الألوان. . ولكن العقل المدرك لا تخدعه الأباطيل!
غير أنني أقر بأنني لم أستطع أن أبقى في قمتي الباردة، وأتطلع إلى وجه الحياة المرعب بعينين لا يداخلهما الخوف. . فالحب - مثلاً - تلك الملهاة المزمنة. أو ذلك الغاز الخانق. كثيراً ما كان يغريني ويشعرني بتفاهتي وأنا قابع في أحراش وحدتي. فرحت أتطلع إلى مشرقة في أفق قلبي بشوق شديد. . أرجوك أن لا ترمقني رمقات يربض في طياتها الاحتقار. فأنا رجل تعذب بأفكاره كثيراً. ولم أستطع أن أتحملها فجئت أبثها لك. . يا صديق روحي.
أصارحك بأن حياتي الماضية كانت خفقات جريحة، وأشواقاً مضطرمة، وتهاويم في عالم لا نهاية له من الآمال الكاذبة. لا تسخر!. فان هذا المخلوق العاق المضطرب، الذي أوردني موارد الشقاء، والمسمى (قلبي) كثيراً ما خفق، وكثيراً ما تعذب، ورقص كالمذبوح على أطلال حبه، وعلى أشواك إخفاقه!. لقد كانت الكلمة التي يتغنى بها قلبي وهو وحيد لا تنطق بها شفتاه وهو في حضرة معبودته!.(866/52)
ماذا تظن يا صاحبي؟!. .
أنحن الذين نفكر بمصير الإنسانية، وتشغلنا عظائم الأمور لا نفكر إلا بعقولنا!. لا يا صديقي. فلم يكن رائدي أنا على الأقل في مجاهل الغيب، وأسرار الكون، وآفاق الإنسانية إلا قلبي. قلبي الذي تستعبده الأشواق الحائرة. إن قلبي كان دائماً دليلي وقائدي. أو قل كان جلادي! فالنور الذي كان يتدفق منه ينير حلكة حياتي. كان في الوقت ذاته يعشى ناظري فأظل والحيرة دائماً تلازمني كظلي!
وعندما نزلت إلى بيروت كان الشك في نفسي يعشعش، وكنت لا أثق في نفسي أية ثقة، ولا أطمئن إلى حياتي أي اطمئنان!
وفي بيروت صدمني الواقع أول صدمة، وامتلأت نفسي بالمرارة. .
سأروي لك القصة من أولها. . فعلى الرغم من مرارتها فأن شوقي كبير في أن أصارحك بها لتجد نتيجة فلسفتنا المحلقة في الأجواء العالية!
لقد بدت لي بيروت عالماً صاخباً لا يعرف الهدوء. أنا الرجل الراقد في أحضان السكينة في بغداد. . تلك المدينة التي مازالت تحتفظ بشيء من السحر القديم!.
وفضلت السكني مع عائلة فرنسية كريمة، وعائلة قوامها أب وأم. . وابنة في الرابعة عشرة من عمرها!. أوه. . يا صديقي لا تملأ فمك بابتسامة مثيرة!. فتاة في الرابعة عشرة من عمرها لا تثير في نفسي أية عاطفة. . وأنا في ذرى السابعة والعشرين أحمل على عاتقي أعباء فلسفة غامضة محلقة! لقد عاهدت نفسي على ألا أدخل في دهاليز الحب المظلمة ودروب العاطفة الملتوية. . لأن حياتي الماضية علمتني أن القلب إذا خفق وحده تسرب في خفقاته الذبول والاضمحلال! وفلسفتي القائمة التي يزخر بها فكري جعلتني بعيداً عن تلك الفتاة الصغيرة! فكنت أراها في الصباح فأحييها تحية جامدة لا روح فيها ولا طراوة. . وماذا تثير في نفسي هذه الفتاة؟. ثم ماذا خلف لي الماضي؟ الماضي المفعم بالكروب الممتلئ طريقه بالأشواك؟!. . ثم حياتي في بيروت تكلفي أعباء كثيرة، والنفس تجهد جهدهاً لتظفر بشيء من الراحة. ولكن لا راحة ولا اطمئنان!
وعندما كنت أرجع إلى بيتي، وقد تحطمت قواي. أجدها كالصورة الجميلة أو كالحديقة الغناء تحمل إلي الراحة، وأحس بالنسيم العبق يهب من جانبها!.(866/53)
وكنت أرتاح إلى ابتسامتها العذبة، وخفتها المرحة، ولهجتها العذبة. وماذا تطلب من فتاة في الرابعة عشرة لا تحس بالحياة غير هذا الإحساس. ولا تحتفل بالدنيا بغير هذا الاحتفال؟
ورجعت مرة إلى بيتي وفوق كتفي تهبط الهموم! فرأيتها جالسة وحدها وهي صامتة فحييتها تحية مدرسية. فوقفت بقوامها الرشيق، والابتسامة تشرق من شفتيها. . وعينيها تضحكان!
فرأيتني أتطلع إليها! فقد لاحت لي زهرة غضه. أو عالماً صغيراً مليئاً بالأحلام تلك العوالم التي ضللت في مساربها طوال حياتي وعبق من أغوار ذلك العالم عطر مسكن. ورحت أتأملها كما أتأمل لغزاً جميلاً!
وعندما خلوت إلى نفسي كان عطر ذلك العالم الصغير لا يزال يعبق في أنفي!
وغمرني فيض من الأفكار وأنا في فراشي. ودخلت في متمدح أحلامي أتجعل!. ووقفت أمام مخيلتي هي. بقوامها الرشيق. وابتسامتها. وعيناها تضحكان! ورحت أتطلع إلى خيالها كما يتطلع الإنسان إلى تمثال يشرق منه النور! واتجهت بكل تفكيري وإحساسي إليها، فبدت لي حلوة عذبة كزهرة غارقة بشذاها فأشفقت إليها. لأول مرة. وأحستت بقوة تدفعني إليها دفعاً.
ولم أنم ليلتي!. ويح قلبي ماذا جرى له؟ ويح فكري ماذا يحمل من أفكار قاتمة؟ يا ويح نفسي إلى أية جهة تساق؟
وفي الصباح كنت أحس بجوع صارخ لها. وطلعت على كما يطلع النجم في ليل الساري. ونظرت إليها من تحت جفنين أثقلهما التعب، وأرثها التفكير الطويل، والسهر، والأوهام. فلاحت لي حورية!
ومن ذلك اليوم تبدل كل شيء!
رحماك لا تهزأ بي، فأنا رجل شقي. أنا أطلال من حياة إنسانية! لقد عشت في جو كئيب غامض ليس له عطر. لقد حملت نفسي فوق طاقتها وبنيت على أساسها الرملي قصور فلسفتي ومعابدها، وأطلقت في جنباتها بخوراً من وجداني. ولكن اليوم أرقب معابد فلسفتي تنهار، وبخور وجداني يتحول إلى رائحة سامة. لقد كنت دائماً أهرب من عملاق مارد إلى هياكل فلسفتي وآرائي الشاذة. فقد كنت أخاف هذا العملاق أشد الخوف أتعرف ما هو؟ إنه(866/54)
الحرمان. الجلاد الذي كان يسومني سوء العذاب إن حياتي لو كتبها قصاص لكان عنوانها الحرمان. الحرمان من كل شيء. فهذا الشيطان المريد يطالعني أني توجهت، ويرسم لي خطة قاسية في الحياة!
فإذا وقفت على أعتاب عالم جميل، وهربت من جلادي فأشفق علي، وأرأف بقلبي العمود! وإذا لاحت إيماضة في ليل وحدتي، أو خفقت نسمة ندية في صحراء جوعي العاطفي، فأرجوك ألا تسخر مني. . أنا الظمآن الذي كاد يقتله الظمأ!
أوه يا صديقي. . أنا على أعتاب العالم الجميل؟ أرتجف!. . وتتملكني هزات عنيفة فأنا خائف أتوجس، خجل أتردد!
هذه حالتي. . أما هي فقد تسألني عنها. . هل تحس بما في نظراتي من لهفة، وبما تنم عليه قسمات وجهي من شغف، وبما يخالج في صوتي من أصداء لعاطفتي الحبيسة؟ فأجيبك بأنني لا أدري. . فقد كانت الطفولة تسبغ عليها ظلالاً جميلة، وتخلق أمام عينيها أودية خضراء، وتفتح لها أبواباً من الانطلاق والسرور والاندفاع؛ فهي مبتهجة دائماً، باسمة أبداً، دنيا من السحر والفتنة في كل الأحايين. أما أنا. المخلوق التعس فإنني أتلمس خطابي إلى ينبوع عينيها، وتوخسني الأشواك وحدي!
ومرة رجعت إلى بيتي متعباً، فالحياة دائماً تحاربني كأنني لست من أبنائها فراحت معانيها تساقط من عيني، وأحس في أعصابي جفاء صحرائها!
وعندما دلفت إلى بيتي. رأيتها واقفة، والابتسامة تترقرق في محياها.
يا الله. . أهذه طفلة بنت الرابعة عشرة؟
لقد بدت في عيني شيئاً آخر أكبر من طفلة. كانت ترتدي فستاناً أزرق كلون السماء الصافية، وقد شدت على خصرها النحيل نطاقاً أبيض كلون الثلج. أما محياها فقد أذهلني. . ما هذا؟ لم أعهدها تستعمل (الأحمر شفايف)! ولم أعهدها تتزين ورحت أتطلع إلى وجهها، وقد صبغته حمرتان: حمرة الخجل، وحمرة من زينتها - ولاح على ناظري تساؤل وعجب!
أقسم لك إن حياتي الماضية لم تعلمني كيف أصرف في مثل هذه المواقف، فهذه الصفعات من يد الأقدار، وأنا مختنق بأفكاري، أتلفت في آفاق حيرتي؛ هزمت كل ثقة في نفسي،(866/55)
وحطمت كل قوة من أعصابي، وتركت في نفسي رماداً وهشيماً. .
ورأيتني أتسلل كاللص إلى غرفتي. . وبين جوانحي تعول الزوابع!
وفي وحدتي كانت الطيوف سماري. . . وكانت صورتها دنياي التي ضللت في دروبها. . . وساورتني شتى الأفكار، وبقيت معذباً بحمى وجدي المخنوق. . . وقد سمعت في أعماق وجداني تلك الكلمة الساحرة ترن: أحبها. . أحبها. . أحبها. . نعم. . أحبها. . ولك الحرية في أن تنزلني منازل المجانين. . . فأنا أريد أن أخلع رداء التستر وأوجه شمس الحقيقة. . . فقد ضقت من دنيا الطلاء والخداع!
ستسخر مني وتقول: أهذا ممكن؟. . فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تستحوذ على عقل رجل،، وتعبث فيه؟ رجل كان يحتقر الدنيا، ويأنف من صغائر الأمور، ولا يفكر إلا بعظائم الأشياء!
أما أنا فأجيبك أن حياتي الماضية بدت لي سخيفة، وكل تصرفاتي وأفكاري ليس فيها شيء من الحكمة والتعقل!. . جاءتني مرة وهي تقول: إن أمي ذهبت إلى أختها!!
فنظرت إليها وكنت أقرأ كتاباً، فأطبقت وغرقت في صمت أليم!
قالت: - ماذا تقرأ؟
قلت: - قصة مغامر فاشل يتردى في كل مغامرة من مغامراته في هوة عميقة. . .
قالت: - إذن - لماذا يغامر؟
- لست أدري. . ولكن الذي أحسه أن الحياة كانت تدفعه دفعاً إلى المغامرة. . . ثم تتألب عليه الأقدار في النهاية وتجره إلى الفشل الذريع!
- هذا داء عياء!
- أما أنا - شخصياً - فأعرف لدائه شفاء. . وهو أن يتاح له النجاح في مغامرة من مغامراته!. . فيرضخ إلى حكم الحياة بعد ما يصيبه الكسل. . ولكن هل يكتب له النجاح؟! لست أدري فالقوة التي تصوغ هيكل حياتنا لا تطلعنا على أسرارها ولا تمنحنا شيئاً من الحرية!. . صدقتي كلنا مغامر في ميدان الحياة. . ولكن نتائج مغامراتنا تختلف وتتعدد.
قالت وهي تبتسم وتألقت عيناها:
- وأنت مغامر في أي شيء؟(866/56)
ورأيتني أجابه بغفلة، ويأخذني الذهول، من جميع أطرافي
قلت: - المشكلة هي أننا لا نستطيع تعيين وجهة مغامراتنا ونظرت إليها وهي ساهمة مطرقة كأنها لا تسمعني. . . ثم نظرت إلى نظرة صارمة وقالت:
- أتريد رأيي. . . إنك لست مغامراً في أي شيء.
وخرجت. تاركة عطرها، وذهولي. . ورحت كالغريق في بحر لجي من الظنون.
ولم أرها في اليوم الثاني. . أتعاهدت مع الشيطان على قتلي!
وأصابني هم مقيم، وأفعمت روحي المرارة. . . ورحت أسأل نفسي:
- أحقاً. . أنا. . لست مغامراً؟
ولكن ما الفائدة من المغامرة إذا كان يصيبها الفشل!. . لقد حقدت على ذلك المغامر الفاشل الذي كنت أقرأ حياته حقداً عظيماً، ولو رأيته وجها لوجه لصفعته وأنزلت عليه جحيم حقدي. . فإن الماضي المر الذي كان يصرخ وراءه منذراً إياه لم يسمعه، وراح يركض وراء إخفاق جديد. أما أنا فشئ آخر. . إنني هربت من الحياة لأنني أخاف المغامرة وأخاف نتيجتها. . والإخفاق الذي يخيم على سماء حياتي في كل عمل أقوم به ترك كياني هشاً لا يتحمل النتيجة فلتمض الحياة في سبيلها. . ولأقبع في كهف قنوع وقنوطي ولا أحفل بالمغامرات
اقتنعت بهذا المنطق. . ولكن ليلي القائم أعاد إلى ما حدث على صورة أشباح، وأحستت بحزن طاغ يلف نفسي. . وبندم مرير يسومني سواء العذاب!
ولدغتني تلك الجمرة المتوقدة. فهي لم تنطفأ، وصرخت في أعماق تلك الكلمة السحرية. . وقضيت ليلة ساورتني فيها هواجس وظنون!
وفي الصباح رأيتها صامته كأنها تفكر في أشياء مبهمة، فرحت أنظر إليها، وأحسست بقوة تدفعني نحوها، وغاب عن بالي الماضي بظلماته وأركام آماله وأمانيه، ووقف في مخيلتي هي وحدها. فتقدمت إليها قائلاً:
- جابي. . جابي. . أيتها الصغيرة إنني أحبك!
ونظرت إلي نظرة ساخرة. . . ثم رايتها تمط شفتيها بازدراء
- ولكنني أكرهك، ومضت في طريقي. . وتركتني في حيرة أسأل عن السبب!! تلك هي(866/57)
نهاية فلسفتنا يا صديقي. . أترانا مصيبين أم مخطئين؟!
- أنا الآن في باريس. . أطل على عالم أخافه أشد الخوف.
القاهرة
غائب طعمة فرمان(866/58)
العدد 867 - بتاريخ: 13 - 02 - 1950(/)
علي محمود طه شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 9 -
(تعتبر بحيرة كومو أجمل البحيرات الثلاث التي ينفرد بها اللمباردي الايطالي، ومن أجمل مفاتن أوروبا التي جذبت إليها كثيراً من الشعراء فألهمتهم أرق أشعارهم وأعذب أغانيهم، وقد زار الشاعر هذه البحيرة متنقلاً من شواطئها ومدنها وأروع جبالها المسمى بالبرونات، فنظم هذه القصيدة التي أهداها إلى أديبة أمريكية صحبته في هذه الزيارة. . .)
وكعادة الشاعر في التقديم بمثل هذه الكلمة النثرية لبعض قصائده، تطالعك هذه المقدمة مصحوبة بهذه القصيدة الفريدة في وصف الطبيعة حول بحيرة كومو الإيطالية. . . ومن الصفحة الثامنة والأربعين من (ليالي التائه) ننقل إليك هذه الصورة الوصفية الأخيرة في إطارها الحسي الأخير:
هيئي الكأس والوتر ... تلك (كومو) مدى النظر
واصدعي يا خواطري ... طربت شقة السقر
ودنت جنة المنى ... وحلا عندها المقر
قد يعثنا بها على ... موعد غير منتظر!
في مساء كأنه ... حلم الشيخ بالصغر
البحيرات والجبال ... توحشن بالشجر
وتنقبن بالغما ... م وأسفرن بالقمر
والبرونات غادة ... لبست حلة السهر
نثرت فوقها الديا ... ركما ينثر الزهر
وعبرنا رحابها ... فأشارت لمن عبر
هاكها قبلة؛ فمن ... رام فليركب الخطر!
فسمونا لخدرها ... زمراً تلوها زمر
في زجاج محلق ... لا دخان ولا شرر
يتخطى بنا الفضا ... ء على السندس النضر(867/1)
سلم يشبه الصرا ... ط تسامى على البصر
قالى النجم مرتقي ... وإلى السحب منحدر
وحللنا بقمة ... دونها فمه الفكر
بهج في كنورها ... للمحبين مدخر
بابل؟ أم بحيرة؟ ... أم قصور من الندر؟
أم رؤى الخلد ... في الحياة تمثلن للبشر؟
حبذا أمسياتها ... وحنيناً إلى البكر
ونزوعا إلى ... السفين تهيأن للسفر
نسيت شغلها ... القلوب وهللن للسمر
أوجه مثلما رنت ... زهرة الصيف للمطر
أضحيانية السمات ... هلالية الطرر
بتوهجن بالشباب ... وبندين بالخفر
طلعة تسعد الشقي ... وتعطي له العمر
تمنح الحظ من تشا ... ء، وتبقى؛ ولا تذر!
إنما تنظر السما_ء إلى هذه الصور
لترى الله خالقاً ... مبدعاً معجز الأثر!
شاعر النيل طف بها ... غنها كل مبتكر
الثلاثون قد مضت ... في التفاهات والهذر
فتزود من النعيم ... لأيامك الأخر
أين وادي النخيل أم ... قاهرياته الغرر؟
لا تقل أخصب الثرى ... فهنا أورق الحجر!!
هاهنا يشعر الجما ... د ويوحي لمن شعر!!
آه لولا أحبة ... نزلوا شاطئ النهر
ورفات مطهر ... وكريم من السير
لتنميت شرفة ... لي في هذه الحجر(867/2)
أقطع العمر عندها ... غير وان عن النظر
فلقد فاز من رأي ... ولقد عاش من ظفر
يا ابنة العالم الجديد ... صلي عالماً غبر
في دمى من تراثه ... نفحة البدو والحضر
وأغان لمن شدا ... ومعان لمن فخر!
ما تسرين؟ أفصحي! ... إن في عينك الخبر
الغريبان ها هنا ... ليس يجديهما الحذر
نحن روحان عاصفا ... ن وجسمان من سقر
فاعذري الروح إن طغى ... واعذري الجسم إن ثأر!
نضبت خمر بابل ... وهوى الكأس وانكسر
وهنا كرمة الخلو ... د فطوبى لمن عصر
فيم، والمنبع دافق ... يشتكي الظامئ الصدر؟
ولمن هذه العيون ... تغمرن بالحور؟
بتن يلعبن بالنهى ... لعب الطفل بالأكر
هن أصفى من الشعاع ... وأخفى من القدر؟!
ولمن توشك الثدى ... وثبة الطير في السحر؟!
كل إلف لالفه ... هم بالصدر وابتدر
عض في الثوب واشتكي ... وطأة الخز والوبر
سمة الطائر المعذ ... ب في قيده نقر!!
ولمن رفت المبا ... سم واسترسل الشعر؟
تمر ناضج الجني ... كيف لا نقطف الثمر؟!
ما أبى الخلد آدم ... أو غوى فيه أو عثر!
زلة تروت الحجى ... وترى الله من كفر
كأسنا ضاحك الحبا ... ب، مصفى من الكدر
فاسكبي الخمر وارشفيه على ... رنة الوتر(867/3)
وإذا شئت فاسقنيه على ... نغمة المطر
فلقد يذهب الشبا ... ب وتبقى لنا الذكر!
تلقى أحياناً وجهاً من الوجوه الجميلة فيجذب نظرك، ويستحوذ على فكرك، ويثير من جنبيك مكامن الإعجاب، فإذا غاب عنك ضاعت صورته من الخاطر، وتلاشت فتنته من القل، وتبخرت ظلاله من الذاكرة. وتقرأ أحياناً قصة من القصص الممتعة فيهزك منها طرافة الفكر، وتروعك سلامة العرض، وتبهرك وثبات الأداء؛ فإذا انتهيت منها لم تجد لها أثراً في نفسك، ولا صدى في ذاتك، ولا بقاء في ثنايا الشعور. وقل مثل ذلك عن قصيدة من الشعر، وعن لوحة من التصوير، وعن قطعة من الموسيقى، وعن طرفة بالغة الروعة من طرف الفن الجميل. . . وتسأل نفسك: هذا الوجه الفاتن الذي لقيته، وهذه القصة الممتعة التي تصفحها، وهذه القصيدة الفريدة التي قرأتها، وهذه اللوحة البديعة التي رأيتها، وهذه الموسيقى الرفيعة التي سمعتها؛ هذه الروائع كلها لماذا كانت بنت لحظتها في إثارة إعجابك، ووليدة وقتها في إلهاب إحساسك، وتوأم جوها الزمني في تحريك مشاعرك؟ ونروح تنتظر الجواب وقد يعييك أن تظفر به وأن تهتدي إليه، لأنك حائر بين أشباه ونظائر. . . فهناك في الكفة الأخرى من الميزان روائع أخرى لم تنطو بانطواء الزمن، ولم تنقض بانقضاء الأيام: هناك وجه جذاب لا ينسى، وهناك قصة فنية لا تنسى، وهناك قطعة موسيقية لا تنسى، وهناك لوحة وقصيدة. هناك أصداؤها التي تصافح العاطفة، وترفرف بين الجوانح، وترسب في أعماق الذهن، وتعانق عرائس الخيال.
وفي انتظار هذا الجواب تشعر أن (شيئاً ما) ينقص تلك الروائع الأولى، شيئاً ما يفقدها صفة البقاء في الكيان الشاعر. . . في نفسك. وقد تطول بك الحيرة وأنت تسعى وراء هذا الشيء تريد أن تضع عليه يدك، وأن تخضعه لمنطق العقل، ولسلطان الذوق، ولكل مقياس من المقاييس. وقد يكون مصدر الحيرة أنك تلمس في تلك الروائع فناً قد اكتملت عناصره، وتنوعت مذاهبه، وفاحت منه رائحة النضج وسطعت لوامع النبوغ، تلمس هذا كله ولكنك لا تزال تفتش عن هذا الشيء الناقص. . . الشيء الذي يشعرك فقده بأن بعض الوجوه ما هي إلا تماثيل باردة تنقصها الحرارة، وأن بعض القصص واللوحات ما هي إلا صور هامدة تنقصها الحركة، وأن بعض القصائد والقطع الموسيقية ما هي إلا أصداء تفتقر إلى(867/4)
معاني الحياة
هذا الشيء ما هو؟ هو في كلمة واحدة: (الروح). . . الروح الذي يدفئ برودة التمثال، وينطق صمت الصورة، ويحيي موات الشعر والنغم.
والروح في الفن هو ذلك اللهب المتوهج الذي يحمل إليه الدفء من موقد الحياة وينقل إليه الضوء من مشعل النفس، وهو في هذه الدراسة الفنية آخر حاجز بين أداء في الشعر وأداء، بعد تلك الألوان المتقدمة من شتى الحواجز والفروق. وقد تجد في الشعر الأداء اللفظي شيئاً من الحرارة التي تشعها الألفاظ بين حين وحين، ولكنها حرارة (التكييف الصناعي) لامراء. . . وإذن فلا مناص من التفرقة بين حرارة ذهن ولفظ وحرارة نفس وحياة، أو بين حرارة شعر مصنوع وحرارة شعر مطبوع، أو بين حرارة أداء لفظي وحرارة أداء نفسي، ولا حاجة بك بعد هذا كله إلى أن تسأل نفسك: لماذا كانت بعض الأعمال الفنية بنت لحظتها في إثارة إعجابك، ووليدة وقتها في إلهاب إحساسك، وتوأم حدها الزمني في تحريك مشاعرك، ولماذا لم تنطو بعض الأعمال الفنية الأخرى بانطواء الزمن ولم تنقض بانقضاء الأيام!
بعد هذا تعال نستعرض هذه الأبيات التي قالها البحتري في وصف الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه ... يبث حديثاً كان قبل مكتما
فمن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجئ بأنفاس الأحبة نعما
ألا تحس معي أن هذه التهويمة الشعرية في رحاب الطبيعة هي تهويمة ذهن وليست تهويمة نفس؟ تحت لا ننكر أنه شعر يحفل بالجمل، ولكنه جمال من غير روح. ولا ننكر أيضاً أنه شعر ينبض بالحركة، ولكنها حركة ذلك (الإنسان الآلي) الذي لا حياة فيه. . . لو تجاوب البحتري مع الطبيعة ذلك التجاوب ألذ تحدثه الألفة والكلف والهيام والاستغراق، لما اقتصر على هذا الأداء اللفظي الذي خلا من الانفعال الذاتي الصارخ، ولقدم لنا أداء نفسياً يعج بالطاقة الحرارية الملتهبة!(867/5)
إنه رجل يصف مجلي من مجالي الطبيعة والربيع في إبانه، ولكنه أشبه بذلك الظمآن الذي يصف لنا كوباً من الماء المثلج في قيظ الصيف، ثم يغفل عن تسجيل الانتفاضة النفسية التي يحدثها الري بعد انطفاء الظمأ وانتعاش الشعور. هو كما قلنا لك شعر جميل، ولكن أين جمال الوجه من (جمال الروح)؟ أنه شعر (السطوح الخارجية) لمشاهد الحياة!
أليس الشعر الصادق (عملية استقبال) تعقبها (عملية إرسال). هو كذلك على التحقيق. . . ولكننا نريد في هذه المحاولة المذهبية الجديدة في فهم الشعر أن تكون العلمية الأولى عملية استقبال حسية، وأن تكون العملية الثانية عملية إرسال نفسية. أي أننا يجب أن نتلقى المشهد المادي بكل أداة من أدوات الحس، ثم نذيعه بعد ذلك بكل لغة مناسبة من لغات النفس، وبخاصة في هذا اللون الأخير الذي قدمناه إليك تحت عنوان: (الصور الوصفية في إطارها الحسي)، ومنها هذه الأبيات التي قالها البحتري في وصف الربيع!
وتعال مرة أخرى لنستعرض (الجمال الطبيعي)، الجمال الذي تتنفس فيه الروح لا الجمال الذي تصنعه (الأصباغ والمساحيق). . .
إنه هنا في ذلك الشعر الذي يتجاوب مع الطبيعة بالنغم الراقص والشعور الخانق والخواطر الصادحة، ويهتف لها من خلال نشوة الخمر وروعة الغناء:
هيئي الكأس والوتر ... تلك (كومو) مدى النظر
واصدحي يا خواطري ... طويت شقة السفر
ودنت جنة المنى ... وحلا عندها المقر
قد بعثنا بها على ... موعد غير منتظر!
أرأيت إلى عملية الاستقبال في البيت الأول؟ إنها عملية استقبال بدأت بالحواس: حاسة تطلب الكأس، وحاسة تنشد الوتر، وحاسة تنعم النظر. . . وأعقبها عملية إرسال بدأت بالمشاعر: في البيت الثاني خواطر تصدح، وفي البيت الثالث جنة تدنو، وفي البيت الرابع بعث على غير ميعاد! وستعترضك عملية استقبال أخرى حسية في البيت السادس والسابع والثامن والتاسع عندما يقول:
البحيرات والجبال قد ... توشحن بالشجر
وتنقبن بالغما ... م وأسفرن بالقمر(867/6)
نثرت فوقها الديا ... ر كما ينثر الزهر!
ونود أن ترجع إلى الفصل السابق من فصول هذه الدراسة لتلاحظ الفوارق التعبيرية بين الاصطلاحات النقدية، حتى لا يقع في ظنك أن عملية الاستقبال بين الحواس التي تحصى ثم تسجل وبين الحواس التي تتلقى ثم ترسل فارق ملحوظ! وإليك عملية الإرسال النفسيةالثانية التي لا تختلف عن العملية الأولى لحظة من زمان.
وعبرنا رحابها ... فأشارت لمن عبر
هاكها قبلة فمن ... رام فليركب الخطر!
لقد استحال جبل (البرونات) هنا إلى غادة يعبر رحابها كل عاشق من عاشق الطبيعة، وهي لمسة من تلك اللمسات الشعورية التي تترجم في صدق عن لغة النفس، حين تندمج في المنظر المعروض على البصر بكل خلجة من خلجات الوجدان. ومن أبلغ طرق الدلالة على هذا الاندماج أن يتخطى الشاعر مرحلة الهيام من جانب واحد إلى مرحلة العشق المتبادل بين جانبين؛ المتبادل بين الطبيعة وبين هؤلاء السارين في مباهجها يدفعهم الشوق ويلهبهم بالحنين. الشاعر عاشق والطبيعة عاشقة. . . ولكنه هنا يقف على السفح وهي هناك تنتظره فوق القمم، تلوح له بقبلة من القبل المسكرة لتثيره وتغريه، بغية أن يصعد إلى شرفتها الأنيقة في أعالي الجبل شأن كل حبيبة تدعو المحب إلى ركوب الأخطار! وأي محب صادق لا يستهين بالصعاب ولا يهزأ بالأهوال؟ لقد أصاخ هو للنداء واستجاب للدعاء، وصعد مع الصاعدين إلى خدرها الخالد:
فسمونا لخدرها ... زمراً تلوها زمر
وحللنا بقمة ... دونها قمة الفكر!
هل خرجت من أبيات البحتري بشيء مما خرجت به من هذه الأبيات؟ لقد كان موقف البحتري أمام الطبيعة أشبه بموقف رجل أمام حسناء لا يشغله منها غير وصف مفاتنها الجسدية، أما أثر هذه المفاتن في نفسه ووقعها على شعوره فليس لهما في شعره مكان. . . لو تذوق البحتري طعم القبل من ثغر الطبيعة كما تذوقها هذا الشاعر المصري، لا ستطاع أن يزف إلى مشاعرنا ذلك الأداء النفسي الذي لا ينطلق إلا من قلوب المحبين:
بهج في كنوزها ... للمحبين مدخر(867/7)
بابل أم بحيرة ... أم قصور من الدرر.
أم رؤى الخلد في الحياة تمثلن للبشر؟
إن الطبيعة في عدسة البحتري (كادت) أن تتكلم، أي كادت أن تأتي بحركة من الحركات الصوتية وهي الكلام، وهو فر رأينا تصوير لم يبلغ درجة (الفناء الشعوري) الذي يوهم الشاعر أن المرئيات قد انتقلت من مرحلة اللاأرادة إلى مرحلة الإرادة.
ولكن الطبيعة في عدسة الشاعر المصري قد خطت هذه الخطوة الهائلة حين أصبحت الحركة المرئية في حدود الواقع المحس الذي تعبر عنه كلمة (كان) لا كلمة (كاد أن يكون):
لا تقل أخصب الثرى ... فهنا أوراق الحجر!!
ها هنا يشعر الجما ... د ويوحي لمن شعر!!
الحجر هنا أوراق ولم يقل الشاعر (كاد) أن يورق، كما (كاد) الربيع هناك أن يتكلم. . . ترى لمَ لمْ يقل القرآن الكريم: (ورأى جداراً يكاد أن ينقض)؟ لأن الجدار قد بلغ من وهى الأساس وتداعى البناء وشدة القابلية للانهيار ذلك الحد الذي لا تصدق في وصفه كلمة (يكاد)، وإنما تصدق في وصفه كلمة أخرى تهيئ له (الحركة الإدارية) ليبلغ الأداء النفسي منتهاه، ومن هنا كان هذا التعبير القرآني الفذ: (ورأى جداراً يريد أن ينقض)!!
وتنتقل عملية الاستقبال الحسية الثالثة من مجالي الطبيعة المادية إلى مجال الطبيعة الحسية ممثلة في وجوه الحسان؛ تلك الوجوه الرانية رنو زهرة الصيف للمطر، المتوهجة بدم الشباب الذي لا تطفئ جذوته قطرات من الخفر، ذات السمات الأضحيانية والطرر الهلالية. . . وعندما ينتهي الشاعر من هذه الجولة البصرية الواصفة تبدأ على الأثر عملية الإرسال النفسية الثالثة، وياله من إرسال ذلك الذي يرتفع بالشعر إلى مثل هذا الأداء:
إنما تنظر السما ... ء إلى هذه الصور
لترى الله خالقاً ... مبدعاً معجز الأثر!
وفي غمار النشوة الجارفة بين أعياد الطبيعة وأعياد الشعور، لم ينس الشاعر تلك الأدبية الأمريكية التي صحبته في هذه الزيارة. . . لقد استهل بعالمه الغابر، وهي لفتة من لفتاته القومية الرائعة التي يزخر بها شعره، والتي سنفرد لها فصلاً خاصاً من فصول هذه الدراسة.(867/8)
في دمي من تراثه ... نفحة البدو والحضر
وأعان لمن شدت ... ومعان لمن فخر!
وبأبي الشاعر إلا أن يجمع بين نشوة الروح ونشوة الجسد في مكان، وهكذا كان في واقع الحياة وواقع الفن.
نحن روحان عاصفا ... ن وجسمان من سقر
فاعذرني الروح إن طغى ... واعذرني الجسم إن ثأر!
ويمضي الشاعر بعد ذلك في نفس الطريق معرجاً على الصوى الجسدية المنتثرة على جانبيه، وكم مر بهذا الطريق في شعره وكم عرج على صواه. . . هنا كرمة الخلود فلا حاجة به إلى الخمرة الفانية، وهنا النبع الدافق بكل نزعة عارمة وكل نزوة عاتية.
ولمن هذه العيون؟ إنها للشاعرية الملهمة التي تملك القدرة على أن تقول:
بأن يلعبن بالنهى ... لعب الطفل بالأكر
هن أصفى من الشعا ... ع وأخفى من القدر!
ولمن هذه النهود؟ إنها للجناح المحلق في أفق قل أن نجد له نظيراً في الشعر العربي الحديث. . . هل رأت عيناك منظر الطير حين يثب من أوكاره قبيل الصباح؟ لقد شبه على طه وثبة النهد من الصدر بوثبة الطير من الوكر!! ثم شاء الخيال النادر للنهد الطائر أن يقف الثوب حائلاً بينه وبين الطيران، فراح ينشب منقاره في القيد الحريري متبرماً بوطأته ثائراً على قسوته. . . وكما أن للطير منقاراً فإن للنهد مثل ذلك المنقار:
عض في الثوب واشتكي ... وطأة الخز والوبر
سمة الطائر المعذ ... ب في قيده نقر!!
ويدافع الشاعر عن موقف الإنسانية إزاء الغواية الأنثوية وسلطانها القاهر. واستمع طويلاً إلى هذا المنطق الخلاب لأنه منطق شاعر يجيد الدفاع:
ما أبى الخلد آدم ... أو غوى فيه أو عثر
زلة تورث الحجى ... وترى الله من كفر!
ويقول لصاحبته: (وإذا شئت فاسقنيه). . . وهذا هو الخطأ اللغوي الذي يؤخذ عليه، وسبحان من لا يخطئ! لقد كان على الشاعر أن يقول: (فاسقينيه) لأن الخطاب هنا للمفردة(867/9)
المؤنثة لا للمفرد المذكر. وبهذا الفصل ينتهي القسم الأول من هذه الدراسة وهو القسم الخاص بالناحية الفنية، وفي الفصول المقبلة سنتحدث عن الشاعر كإنسان بعد أن تحدثنا عنه كفنان، رابطين بين شخصيته في واقع الفن وشخصيته في واقع الحياة.
(يتبع)
أنور المعداوي(867/10)
علي الجارم بك
بمناسبة ذكراه الأولى
للأستاذ عبد الجواد سليمان
من دلائل رقي الأمم ونهوضها أن تذكر أبناءها الراحلين الذين تركوا أثراً حسناً فيها، وأسهموا في بناء نهضتها، ذلكم لأن في هذه الذكرى وفاء خلق ضروري للأمم الناهضة. وكثيراً ما تتوفر للأمم أسباب الرقي ومقومات النهوض ولكنها تفتقر إلى الأخلاق؛ قلا يحالفها من أجل هذا النجاح في مراحل نموها وتطورها، ولذلك لم يكن أمير الشعراء مبالغاً عندما شاد بالأخلاق قائلاً:
فإنما الأمم الخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وعلي الجارم كان من رجالات مصر العاملين الذين خدموا وظنهم وخلفوا وراءهم آثاراً ناطقة بما لهم من فضل يستحقون من أجله الذكرى والخلود.
لم يكن (الجارم) شاعراً فحسب أو كاتباً فقط، أو عالماً ليس غير أو. . . أو. . . بل كان كل أولئك وأكثر.
عمل (الجارم) أستاذاً في دار العلوم، فأشرف على إعداد جيل من أساتذة اللغة العربية كان يحاول في دراسته أ، يطبعهم بطابعه؛ ويحبب إليهم دراسة لغتهم ويدربهم على الغوص في خضمها لاقتناص شواردها، ويعودهم كيف يكون البحث اللغوي في حاجة إلى صبر وأناة واستعداد قد لا يتوفر للكثير من طالبي العلم ورواد الثقافة ثم عمل. . . رحمه الله - في ميدان التفتيش عن الأساتذة في المدارس على اختلاف مراحلها، فكان في ذلك طرازاً فريداً، هيهات أن يوجد له نظير بين من تعاطوا هذه المهنة ممن أتوا بعده، فلم يكن في تفتيشه مفتشاً فقط يكتفي بالمرور على المدارس لتسجيل الزيارة وكتابة التقارير، كما يفعل غيره ممن يؤدون هذه المهمة كعمل رسمي آلي نيط بهم متجاهلين أو ناسين الغرض الأول من هذا العمل، بل كان مفتشاً يرشد الضال ويأخذ بيد الخامل ويشجع العامل، وينفخ من روحه في الضعيف ليتنفس ويقوى، ويتلمس في لباقة وهدوء الفذ الممتاز بين المئات حتى يهتدي إليه ليثيبه وينبه وينبه إليه ليأخذ مكانه الذي هيأه له عمله وجده واستعداده. وكان أستاذاً يعلم الجاهل ويهدي المخطئ إلى الصواب ويوجه التوجيه الحر القويم، يفعل ذلك عن يقين(867/11)
بصواب طريقته وتمكن من مادته، وثقة بنفسه، واعتزاز بعلم أشعل في تحصيله فحمه الدياحي. فلم يكن غريباً في زمانه - أن يحسب له المدرسون حساباً وألف حساب فيتنافسوا في الاطلاع لاحياء مادتهم ومراجعة مسائل العلم لتجديد معلوماتهم علماً منهم أن التقصير لن يخفى على (الجارم) وأن العمل لن يروفه أو يجازى عليه بالثناء إلا إذا أدى بإخلاص ويقظة وأمانة وإتقان.
ولم يكن غريباً - في زمانه - على المدارس أن تعد العدة لاستقبال الجارم، لأنه لن يجامل في الحق ولا يخشى فيه لومه لائم. ولن أكون مبالغاً إن قلت إن هذا الجو قد اختفى اليوم من المدارس أو كاد يختفي إذ غدت طائفة المفتشين كطوائف المعلمين في المادة والكفاية فليس في المفتشين إلا في القليل النادر تميز واضح عن المدرسين، فلذلك تراهم أهملوا الجوهر واكنفوا بالقشور وشغلوا عن اللباب وقطعوا الوقت في توافه الأمور وأصبحت مهمتهم محصورة في المحاسبة على الهمزة والمؤاخذة على النقطة، واتخذوا الدرس وأرقام صفحاته هدفاً يصوبون إليها سهام مناقشتهم ومحاسبتهم، أما الموضوع، وأما العلم، وأما الأسلوب وأما النقد الأدبي؛ وأما الطريقة فقل على ذلك كله العفاء.
ومن هنا استهان المدرسون بالمفتشين عنهم، وتغيرت العلاقة بين الفئتين فأصبحت قائمة على (الجاسوسية) من جانب المفتش يتلمس الخطأ ويتمناه ويتجسس الهفوات ويسعى إليها؛ (والتغرير) من جانب المدرسين يعنون بالكم دون الكيف، ويعملون للتقرير لا للفائدة العلمية والإنتاج، وسلكوا إلى هذا التقرير أقرب الطرق ولو جانب مكارم الأخلاق، واستوى في نظر (المفتش) العامل والخامل والعالم والجاهل.
وعمل (الجارم) في ميدان التأليف العلمي والأدبي، فألف في (علم النفس) كتاباً مدرسياً كان بمثابة نواة أو بذرة أولى نمت وترعرت فأثمرت مؤلفات في هذا العلم سلك أصحابها أو الكثير منهم مسلك الجارم في مؤلفه فجاءت وافية في مادتها قريبة المنال في تحصيلها معبدة في طرائقها.
وألف في علوم اللغة كتباً أشهرها (كتب النحو الواضح والبلاغة الواضحة) فكانت بحق فتحاً جديداً في آفاق النحو والصرف والبلاغة، وقد انتشرت هذه الكتب في الشرق العربي انتشاراً ضمن لها البقاء، وكفل لصاحبها الخلود، إذ ألف الجارم بين أمثلتها بأسلوب الأستاذ(867/12)
الأديب والعالم المحقق، فجاءت غاية في الوضوح وآية في الدقة، وسهلت على تلاميذ المدارس نفهم هذه النظريات الجافة من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع، وستبقى هذه الكتب متخذة مكانتها في عالم التأليف مهما تقادم عليها العهد، وستظل مرجع المؤلفين كلما عن لواحد منهم أن يضع لبنة في صرح المؤلفات العربية.
وتحضرني في هذا المقام شهادة سجلها لهذه الكتب الدكتور حافظ عقيقي باشا في كتابه على هامش السياسة عند كلامه عن تعليم اللغة العربية بمصر إذ قال بعد أن استعرض بالنقد ما ألف من كتب في هذه المواد من الغبن بعد هذا أن ننكر ما قام به بعض أساتذة هذه اللغة في ميدان الإصلاح والتأليف، فلقد وضع الأستاذان علي بك الجارم ومصطفى أمين كتابي (النحو الواضح) والبلاغة الواضحة، وسلكا فيهما طريقة منطقية مشوقة هي إيراد الأمثلة الحديثة التي يجدر بالتلميذ أن يستعملها في أحاديثه وشرح هذه الأمثلة واستخلاص القاعدة أو القواعد منها وهي طريقة بيداجوجية حديثة).
أما مؤلفاته الأدبية فقد دلت على سعة باعه في اللغة، وتمكنه من ناحية البلاغة العربية، فهو يحاكي في أسلوبه الكتابي مذهب القدامى من كتاب القرن الرابع سلامة ألفاظ، وإشراق ديباجة، وسمو معان وانسجام أسلوب.
وعندي أن هذه المميزات في الأسلوب الكتابي يتفق فيها أربعة من أعلام الأدب في العصر الحديث، مع اختلاف يسير في أداء كل منهم لطريقته وسلوكه مذهبه أولئك هم كرام الكاتبين مصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات، وعلي الجارم ومصطفى صادق الرافعي.
ولقد توفر الجارم على الكتابة الأدبية بعد تخلصه من أغلال الوظيفة وتحققه من أعبائها، فأنتج في تلك الفترة الوجيزة كتباً قيمة تفخر بها المكتبة العربية، نذكر منها (شاعر ملك، سيدة العصور، فارس بني حمدان، خاتمه المطاف، مرح الوليدة، غادة رشيد، هاتف من الأندلس؛ قصة العرب في إسبانيا)
وهذا عدا بحوثه القيمة في0 (المجمع اللغوي) التي سجلتها إعداد مجلته، وهي إن دلت على شئ في الرجل، فإنما تدل على سعة الأفق وسلامة الذوق، ونضوج الفكر، وسعة الإطلاع وعمق التفكير والرغبة في التجديد.(867/13)
أردت في هذه الكلمة أن اكشف بقدر ما أستطيع عن مجالات الجارم - رحمه الله - في غير ميدان الشعر، الذي عرف به، ومن اجله لمع أسمه، وذاع صيته وعرفه القاصي والداني من أهل المشرق والمغرب.
فمن حق الجارم على مصر أن تذكره كلما ذكرت سدنة العربية وحراس هيكلها، ومن حقه على المجمع اللغوي أن يذكره كلما عرض على بساط البحث مسالة من مسائل اللغة، ومن حقه على دار العلوم أن تخلد اسمه إما بإنشاء كرسي فيها للأدب يطلق عليه اسمه كما اقترح ذلك أحد زملائه من قبل، وإما بإنشاء قاعة للمحاضرات تسميها قاعة (الجارم)، وإما بالاكتتاب في مشروع نافع باسمه يوزع ريعه على الأوائل في اللغة والأدب من طلابها
أما عن الجارم الشاعر فموعدنا به جولة أخرى على صفحات الرسالة الغراء.
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(867/14)
الأدب الأسود
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
مسكين الأديب!
مسكينلأن الناس بتتالي العصور وتوالي الأيام قد ركبوا في رؤسهم فكرة لا يريدون أن يتراجعوا فيها ولا يحبون أن ينثنوا عنها. فمنذ قديم نسبت الحكمة إلى الأديب وعرف بالأخلاق الحميدة بين الناس وشاع عنه أنه واحد من هؤلاء الأفراد الذين يخدمون الفكرة حتى الموت، ويقومون في محراب الفن والتأمل بتقديس المثل الأعلى مهما بلغت خسائرهم في الروح ومهما أصابهم الإملاق من ناحية الرزق. ولو صدق ما يقوله المؤرخون الأدباء من أن كلمة الأديب قد عرفت في العصور الأولى من حياتها بأنها التهذيب الخلقي، وأنها قد أخذت أخذا من مجال التربية لتوضع وضعا في قاموس اللغة والأدب، لعرفنا مقدار الصعوبة التي يجدها الأديب الآن في معاشه اليومي. أنه الوحيد الذي يلزمه الناس - من بين أصحاب الحرف جميعاُ - بالمحافظة على سمعته والاحتفاظ بكرامته والتعالي عما يدنس نفسه من الفعال.
ولا أحسب أن هذه الضرورة قد نشأت من شئ إلا من هذه الفكرة الخاطئة التي ملأت نفوس العامة بالنسبة إلى الأديب في الأزمنة الماضية، ثم بقيت لنا حتى اليوم بآثارها البالية من غير أن تنحرف قيد أنملة عما كانت عليه في الأصل. إن الأديب كغيره من عباد الله يريد أن يعيش، على الأقل كما يعيشون، ويتشوف إلى حياة كريمة، لا تليق بمهمته القدسية، وإنما تليق بكرامة البشر العاديين. . ومع هذا فهو مطالب بأكثر مما تحتمله الأساود الضارية في المفارات والأدغال، ومحمل بالمسؤولية التي توجع ظهور النوق في مستهل الرحيل.
ألا لعنة الله على هذه الحرفة التي بموت صاحبها من الجوع ويعاني من جرائها كل آلام الفقر والمرض ثم يطالب بعد هذا كله أن يكون عفيفاُ فلا يطلب، وان يكون كريماً فلا يخضع، وان يكون متكبراً فلا يجارى. إنهم يريدون له أن يحقق ذلك المفهوم الذي اتفقوا عليه فيما بينهم بخصوص الأخلاق والمبادئ. وتسألهم من ثم إذا كانوا يقتنون له كتباً ويملكون من آثاره ونتاجه شيئاً فيجيبونك بالنفي القاطع. ولو أحببت أن تعرف تفسيراً(867/15)
معقولاً لهذا العمل أو إذا دفعك الفضول لأن تقف علىالسر في عدم الإقبال عليه لأخبروك بأنه لا يكتب في موضوعات مستحبة ولا يعالج المسائل الشيقة ولا يتناول بقلمه تلك المشاكل القريبة إليهم الأثيرة عندهم.
أفليس هذا بالشيء الغريب حقاً؟ يطالبون الأديب بان يكون داعية للخير وبوقاً من أبواق السلام وواعظاً أو ناصحاً بين الشباب. . . فإن تمشى مع رغائبهم وجارى ميولهم ملوه وسئموا منه، واحتجوا في النهاية بأنه لا يحاول الكتابة السهلة اليسيرة في الموضوعات التي تلائم نفوسهم وتتعلق بالظروف التي تحيط بهم، فيضطر تحت تأثير الحاجة والعوز إلى أن يلفت أنظار القراء وأن يغريهم بالحكايات المبتذلة والروايات الرخيصة، أو أن يكون دعامة لحزب من الأحزاب ومنادياً لمذهب من المذاهب، أو أن يكون بهلواناً يعرض صنوفاً من فقراته، ويسوق إليهم السخيف من شطحاته. وعندئذ تراهم يتهامسون: لقد زل فلان وانحدر من مكانته الرفيعة وهبط من قمة التفكير والتأمل إلى كلام الأزقة وروايات الماجنين. ويطالبونه في الحال بأن يعود من حيث أتى، وأن يدبر من حيث أقبل، مهما كانت البطن فارغة والحال رقيقة.
كيف يكون هذا بالله؟ أهذا منطق يقبله الدماغ ويرضى عنه الحس والشعور ويؤيده شيء من واقع أو شيء من خيال؟ ليت القراء يعرفون أن الأديب إنسان من دم ولحم، وأنه يريد أن يقتات، وأنه من الضروري بالنسبة إليه أن يأوي إلى بيت وأن يتستر باللباس. وليتهم في الوقت نفسه ينزعون من رءوسهم هذه الفكرة الخاطئة التي تمسكوا بها عن الأديب ومهمته، أو على الأقل يدعونه كغيره من خلق الله حتى يحصل على ما يحقق له حياة فيها بعض الهدوء والاطمئنان. هذه مع العلم بأن الأديب هو أعجز الناس وأقلهم حولاً وأضعفهم سلاحاً، وأنه مهدد كما لا يمكن أن تهدد الحياة إنساناً سواء وإذا هبطت به إلى المعيشة الاجتماعية فستلمس هذا كله بوضوح عندما تصطدم أحلامه بمطامع الناس وأمانيهم العملية. فمن الغبن للأديب أن نطلبه بنوع معين من الكتابة وأن نحظر عليه الكلام في غير ما يريده له الناس. دعوه يقول فيما يشاء وكما يشاء، حتى إذا جاء وقت الحساب، ذروا شره وتركوا آثامه وتعلقوا بالجانب الممتاز الذي ينتجه في ظلال العيش الكريم لماذا يتاح للموظف مثلاً أن يستغل نهاره في العمل التافه العقيم من أجل أن يعيش كريماً معززاً في(867/16)
نصف نهاره الثاني؟ ألا يرى الإنسان العادي فيم يمضي وقته وكيف يستغل عقله استغلالاً رخيصاً حتى يستبقى لنفسه بعض الساعات التي يحقق فيها كل ما يرجوه من عزة وإباء وعيش كريم؟ وكذلك أدب الأديب. . . فليس كله متساوياً من ناحية القيمة والدرجة وإنما بعضه عماد للبعض الآخر، ونصفه الثاني عالة على نصفه الأول. إذا قام الأديب بالدعاية في صف الأحزاب السياسية فلكي يضمن لنفسه بعض الساعات التي يخرج فيها القصيدة التي تشجيك والفن الذي يرضيك والعمل الأدبي الذي يطربك. وإذا استحل لنفسه أن يكون رخيصاً عند الوصف ومتبذلاً في الكشف وفاجراً من ناحية انتقائه للموضوعات فذلك كله على أساس أن يتحصل على الدريهمات التي تضمن له بعض الوقت والتي تمكنه من التفرغ للعمل القيم والمؤلف الثمين.
ثم لاحظ شيئاً آخر، وهو أن ما اصطلح الأدباء الأوربيون في العصر الحاضر على تسميته بالأدب الأسود، ويعنون به ذلك الأدب الصريح في مسائل الجنس، أو ذلك الأدب إلي يهتم بنواحي الضعف في الإنسان ويبرز جوانب الحياة المظلمة، إنما هو نتيجة طبيعية لعدم الرغبة في القراءة لدى الناس. فقد أصبحت القراءة ثقيلة على نفس الإنسان المتمدن وصار يقتصر في استقاء معلوماته على ما تتحفه به الصحف اليومية. وأصبح الأديب المتخصص في خطر المشغوليات الحيوية والدواعي المادية التي تكاثرت حول الإنسان وجعلت تتخاطفه تخاطف التجار على الزبون الحائر. فهم غير مستعدينلأنيبقوا على بعض ساعات من يومهم للقراءة الخالصة الرفيعة والاطلاع على مسائل الفكر والروح. ومن هنا ترى الأديب قد اضطر اضطراراً إلى أن يتناول بقلمه بعض النواحي التي تجذب القراءة، وأن يقص بطريقة شيقة بعض الحوادث الخاصة التي يبدعها خياله عن طبيعة الصلة فيما بين الرجل والمرأة. لقد فطن الأديب إلى مدى التأثير الذي تحدثه هذه المسائل في نفس القارئ فشاء أن يلفت نظره بواسطتها حتى يستولي على دراهمه أولا، ثم من أجل أن يحبب إليه الفكرة التي تستعصي على فهمه، والتي ما كان ليقبل عليه ويتدبرها ثانيا.
فالأدب الأسود أو الأدب الذي يخاطب الغرائز الإنسانية طبيعي جداً في هذه الآونة بالذات بعد أن استحال على الأديب أن يجد رزقه بين مخالب الآدميين من حوله، وبعد أن أصبح من العسير أن يقبل القارئ من تلقاء نفسه على الأدب الخالص والفكر البحت فلا يلومن(867/17)
أحد أديباً لأنه استثار غرائز القراء، أو لأنه خاض في تلك الروابط الخفية المستترة فيما بين الرجل والمرأة؛ فشأنه بالضبط في هذا العمل شأن التاجر الذي يعلن عن نوع بضاعته فوق لوحة قد رسم عليها امرأة عارية. أو شأنه شأن الأنثى التي تتبرج قليلاً من أجل تصيد الزوج في الحلال.
فمن ناحية المبدأ نحن نريد أن نزيل من رءوس الناس هذه الفكرة التي شاعت بينهم عن مهمة الأديب؛ إذ نحن نؤمن بحق الأديب في أن يتكلم كما يشاء، وفي أن يختار وسائله كما يحلو له، وفي أن يستعين بكل ما من شأنه أن يجذب القارئ وأن يدفعه دفعاً إلى الإقبال على الكتب والنظر في الصحف. فهذا كله يؤدي إلى عناية الإنسان المتمدن بالقراءة وإلى أن يظل مستوى التعليم محتفظاً بدرجاته ومقوماته عقب خروج الشبان من معاهد التعليم. ومن نتيجة ذلك أيضاً أن الأديب يستطيع أن يوصل أفكاره إلى أدمغة الناس وأن يشترك مع الصحافة اليومية والمحاضرات العامة ووسائل الثقافة الاجتماعية في ترقية المستوى والاحتفاظ بالمنسوب الحضاري. ثم يلاحظ من ذلك أن الأديب لابد له أن يعيش في المجتمع الحديث مثلما تضطره الحياة إلى أن يكون. أعني أن الأديب في العصر الحاضر ملزم بأداء بعض المهمات التي لم يكن الأديب في العصور السالفة مسئولا عنها ولا مطالباً بها. أديب العصر الحاضر هو الإنسان المتخصص في الفن الذي لا يؤدي إلى فائدة مادية فعالة؛ ولا يعطي مكسباً ظاهراً ولا يجني محبذوه ومشجعوه غير أوجاع القلب وهواجس النفس. هذا بينما تلح الحياة من حوله - بكل مظاهرها العملية وبكل مقوماتها المادية - على نبذ الأشياء المثالية وإهمال الكماليات، فالعلم والميكانيكا والطب والهندسة وغيرها من المواد التي يتثقف بها الناس والتي يقبل عليها غالبية الشبان، تعود عليهم في أوقات وجيزة بالخيرات المضمونة وتجعل مستقبلهم حافلا بالأعمال والوظائف الهامة، أما الأدب فتستطيع أن تصف أهله بأنهم طائفة من الفارغين البطالين، وهذا صحيح في الوقت الذي لا تضمن من صناعة الأدب غير التفرغ لأعباء ثقيلة تشغل منك الساعات الطوال وتتطلب منك الجهد الكثير ولا تجازيك بعد ذلك إلا أيسر الجزاء.
ففي هذا الخضم الهائل من الشهوات المتضاربة نريد أن نوقف الأديب مكتوف الأيدي وأن نحرم عليه نفس الوسائل التي يتاجر بها سواه من الناس والتي يحصلون بها على الأموال(867/18)
المكدسة والثروات الطائلة! وباسم الإنسانية والمروءة وأخلاق الفضل والكرامة نتقدم إليه حاملين أكاليل الورد وأكفان الموت كيماً نحمله آسفين إلى بطن الثرى، مترحمين على شبابه النضر.
فالأدب الأسود إذن هو صرخة طبيعية من جانب الشاعر الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الهلاك المحتوم، وانقلاب ضروري على مظاهر الحياة التي تلزمه وحده من بين الآدميين جميعاً ودون أصحاب الحرف قاطبة بأن يكون عفيفاً شريفاً مكرماً! ليس هذا فحسب، وإنما يشعر الأديب في قرارة نفسه بأن أعماله توجب عليه شيئاً من النزول أو الارتفاع كما نستطيع أن نقول إلى الجموع كيما يخلق من بينها طائفة من القراء إن الأديب لم يعد قادراً على الاكتفاء بالطبقة الوسطى حيث يظهر عادة هواة الفن وطلاب اللذة الروحية في الكتب والآثار، ولا بد له غذ شاء أن يكون من بين قرائه عمال وتجار، وأن يستطعم كتاباته المتخصصون وغير المتخصصون، وأن يتحبب لدى الطبقة الكادحة من أبناء الشعب ليصيروا من بين قرائه أقول إذ شاء الأديب أن يكون على هذا النحو فلا بد له من أن يخاطب الغرائز أحياناً، وأن يؤثر على أصحابها ذلك التأثير الذي يخدرهم ساعة دفع الثمن إلى الكتب، وإلا فسيظل محكوماً عليه إلى الأبد بأن يخاطب طائفة معينة وأن يقتصر تأثيره على وسط بالذات وألا يتعدى هذه الحدود المصطنعة التي أوجدها هو بيديه عند ترفعه وادعائه للتسامي. . .
لقد آن للأديب أن يخاطب أبناء عصره مباشرة وأن يحصل على المجد - إن صح أن هناك مجداً - وهو حي يرزق. أما أن يسلم كلامه للمؤرخين كيما يحكموا له أو عليه وأن يحتفظ بكتبه وآثاره لتكون مصدر لذة وسبباً في متعة الأجيال التالية فهذا ما لا يقبله عقل ولا يسلم به منطق. إذا كنت كاتباً فأنا كاتب بالنسبة إلى هؤلاء الناس والأفراد الذين يعيشون من حولي، وقرائي هم من الطائفة التي تعاصرني في الزمن ويستحيل أن اقتصر من وراء كدحي على إفادة قوم ليسوا مني في شيء. . . إنني وليد هذا العصر بظروفه وأوضاعه، ومصدر الوحي عندي هم هؤلاء الذين يعيشون في هذه الفترة، والتجاوب فيما بيني وبينهم هو كل مالي من عمل ورجاء فوق الأرض، فإذا تنازلت عن هذا الحق - أو عن هذه الضرورة، كما ينبغي لها أن تكون - فأنا أفقد عنصراً أساسياً في عملي الفني،(867/19)
وفي الوقت نفسه سأجد فرصة إذا أصابني الفشل، لأزعم أنني واحد من هؤلاء الذين يسبقون أو انهم ويتقدمون عصرهم. وهذا غير طبيعي عندما أكون مالكاً للأداة أو الوسيلة التي تعينني على تحقيق أغراضي والتي تكفل لي كل ما أتمناه على أيدي القراء (المحترمين) من رخاء ومجد، وتلك هي وسيلة الإغراء بالكتابات المكشوفة.
بعد هذا نحاول أن ننظر في المضرة التي تقع من جراء الصراحة الجنسية والتأثير الغريزي فإذا بالحقيقة تشدهنا وإذا بالتجارب تسخر منا للعلل الآتية: أولاً لأن هذا العمل من جانب الأديب الحريص يكون أجدى على قارئه مما لو استخدم الجد والوقار والفضيلة، وثانياً لأن هذه المسائل لم تعد جديرة بأن يتحفظ الإنسان عندما يتكلم فيها ويذكر تفاصيلها كما هو الحال من قبل. وثالثاًلأن الأسلوب الرمزي قد يؤدي إلى أخطر النتائج في التأثير على نفسية القارئ كما أنه يسهل على الأديب - وهذه هي العلة الرابعة - في تلك الآونة أن يملأ دماغ القارئ بما يجب أن يذيعه من المبادئ والآراء، ذلك أن القارئ يكون في حالة التأثر بما يقرأ في هذه الناحية شديد الحساسية مرهب الشعور، فينتهز الكاتب تلك الفرصة من أجل أن يقحم الأفكار إلى رأسه فيكون لها مفعولها في روحه ووجدانه وعقله جميعاً
وهكذا تراني في جانب هذه الطائفة من الأدباء الذين استطاعوا أن يعرفوا موقفهم بالضبط وأن يدركوا مهمتهم على الوجه الصحيح فإذا طلبت إلي أن أقول كلمة واحدة في هذا الباب تواريت واستحيت، وطلبت منك الغفران لهذه الظاهرة التي تلمسها بوضوح فينا جميعاً، وهي أننا نقفز بالعقول إلى الأشياء التي لم تستطع عواطفنا بعد أن تتقبلها راضية مطمئنة.
عبد الفتاح الديدي(867/20)
المسرح المصري
للأستاذ محمود سامي أحمد
يأسى كل محب لفن التمثيل لهذا المصير المحزن الذي آل المسرح المصري اليوم، ولكن أنى للأسى والحزن أن يقوماً ما اعوج من الأمور، أو أن ينفخا الروح في الجسد الهامد المستكين؟
لن يصبح للمسرح المصري شأن إلا يوم يتكاتف العاملون من رجاله، فينصرفون إلى البحث الهادئ ووضع الخطط السليمة دون ميل مع الهوى، أو خضوع لأي مؤثر عاطفي، ودون أن يقفزوا إلى نتائج مبتسرة لا تسندها مقدمات منطقية معقولة.
وقد رأيت أن أدلي على صفحات الرسالة ببعض ما يعن لي من آراء، راجياً أن يقابلها رجال المسرح بصدر رحب، وألا يسخطوا علي ما قد يكون فيها من صراحة تؤلم، فإنه الألم من مشراط الجراح يعقبه البدء بإذن الله.
نشأة المسرح المصري مفتعلة:
المتأمل في نشأة المسرح في مختلف البلاد يجد أنه انحدر من صلب العقيدة الدينية، وأن أولى خطواته كانت من عمل الكهان ورجال الدين، وأولى حفلاته كانت تقام في المناسبات الدينية.
فهذا المسرح اليوناني، وهو أقدم المسارح المعروفة لنا، والمدروسة دراسة واضحة؛ نشأ هذا المسرح عن ديانة الإله ديونيسوس إله الخمر عند اليونان.
كانت عبادة ديونيسوس ترمي إلى حياة الكروم، هذه الأشجار التي تجف سوقها وتذبل أوراقها في الشتاء، ثم تعود مع الربيع إلى الحياة، فتدب الحياة في تلك السوق، وتظهر الأوراق اليانعة وتثمر ثمرها الشهي، فإذا طاب الثمر عصره القوم وخمروه ليبعث في نفوس شاربيه السرور والنشوة. فديونيسوس إذن إله يحيا ويتألم ويموت، ثم يبعث حيا!
ولما كان الكرم هو أهم المحاصيل اليونانية، وكانت الماعز هي أهم ما يربى من حيوان، فقد احتفل اليونانيون بإله الخمر بعد أن مزجوا عبادته بعبادة الماعز، فكانوا يقيمون الحفلات العامة في أواخر مارس وأوائل إبريل، ويجعلون من مذبح الإله، وهو ما كانوا يسمونه (التيميليه)، مركزاً للاحتفال، فكانت جوقة المنشدين تجتمع لتدور حوله مغنية(867/21)
راقصة، بعد أن يلبس أفرادها جلود التيوس، ومن ذلك الوقت اصبح الديترامبس وهو الغناء التوقيعي الذي تقوم به الجوقة يسمى التراجيديا أي غناء التيوس (وهو لفظ مركب من أي التيوس وأي غناء) ومن ذلك الوقت أصبح الكهنة والمتعبدون يلبسون جلود التيوس في حفلاتهم الدينية تشبهاً بالساتير وهم صحابة الإله ديونيسوس.
ولم يقتصر الأمر على الغناء والرقص، وإنما عمد الكهان إلى تمثيل طرف من حياة الإله يصلح لأن يكون نواة التمثيلية، فكان أحد الكهنة يمثل شخصية عدو من أعدائه الذين يريدون به الشر، ويطارد حورية من حوريات الإله وقد أمسك بيده فأسا يهددها به، فتجفل الحورية، وتفر منه وقد ملأها الرعب واستبد بها الخوف. واستمرت الحال زمناً، ليس إلا رقصاً وغناء لا يجمعه نظام خاص، وإلا مشاهد صامتة فيها طرف من أسطورة وطرف من حركة ولكن لا حوار فيه. استمرت الحال كذلك إلى أن جاء الشاعر أريون، الذي حول هذا النشيد الساذج إلى فن، إذ فصل بين الجوقة ورئيسها، وجعل هذا يعني فردياً لم يكن موجوداً من قبل، فترد عليه الجوقة مجتمعة، ومن هنا نشأ الحوار.
ثم جاء دور تسبيس الذي يعتبر المبدع الأول للمأساة اليونانية إذ أنه حول هذه الأغاني والرقصات إلى حوار كامل، رفعه أئمة المسرح اليوناني اسكيلوس وسوفوكليس يور وبيديز إلى مرتبة الفن الكامل.
وكما تطور الفن المسرحي من الرقص والغناء الساذج إلى المسرحية الفنية الكاملة، كذلك تطور الموضوع، فبعد أن كان وقفاً على تمثيل حياة الآلهة، أضاف اليونانيون إليه حياة الأبطال، فأخذوا يتغنون بها، ويمثلون قصصاً منها، معتمدين في ذلك على القصص الطرادي والقصص الطيبي، ثم طغى تمثيل حياة الأبطال على حياة الآلهة، وانفرد بالأمر، ولم يعد للآلهة مكان على المسرح، ولكنها ظلت مع ذلك في المسرح اليوناني تسيطر على أعمال الناس وتتحكم في مصائرهم.
ولم يشذ المسرح المسيحي عن ذلك، ومن عجب أن ينشأ المسرح في أحضان الكنيسة، وهي التي حاربت التمثيل الروماني وكانت سبباً من أسباب انهياره! ولكن لا غرابة في ذلك، فقد أثبتت الدراسات المختلفة في علم الاجتماع وطبائع الشعوب، أن كل ذين قابل لأن ينشئ حادثة مسرحية، وأن جميع الطقوس الدينية قابلة لأن تتخذ الشكل الدراماتيكي،(867/22)
والدليل على ذلك أنه نشأ عند الفرس نوع من التمثيل لم يتطور إلى المسرحية الكاملة وقد نشأ عن الاحتفال باستشهاد الحسين رضي الله عنه.
ولد المسرح المسيحي إذن من طقوس الدين، وذلك للتأثير في قلوب المؤمنين، فكان القس والرهبان يمثلون بعض مشاهد من حياة المسيح، فيمثلون رفعه ثم يمثلون مولده، وأقدن الوثائق التي تصف لنا هذه المشاهد هي الوثيقة التي تركها الراهب الإنجليزي سانت إنلوولد، فكان القس يضعون إلى جانب المذبح تابوتاً يرمز إلى القبر، ثم يتقدم قسان يحملان صليباً ملفوفا بالقماش يرمزون به إلى المسيح، فيضعانه في التابوت، يتخلل ذلك كله الأناشيد، وأقدم التمثيليات ذات الحوار هي تلك التي كانت تمثل في عيد الفصح، إذ كان يتقدم قسيسان يلبسان مسوحا بيضاء يمثلان ملكين، ثم يلتقيان بآخرين يمثلان امرأتين ويقف الجميع أمام التابوت الفارغ، فيسأل أحد الملكين
- عمن تبحثان في الضريح؟
فتجيب إحدى المرأتين:
- إننا أيها السماويان نبحث عن الذي صلب.
فيرد الملك الثاني:
- لن تجداه هنا، فقد ارتفع إلى السماء كما تنبأ، فاذهبا وأعلنا في كل مكان ذلك؛ أعلنا أنه ارتفع من ضريحه إلى السماء
وهكذا نشأ المسرح المسيحي بهذه التمثيليات الدينية ثم تطورت بعد ذلك إلى مناظر كاملة ضاقت عنها الكنيسة، فخرج التمثيل إلى فناء الكنيسة أو المقبرة، ثم إلى دور البلديات.
ولانحدار التمثيل من صلب العقيدة الدينية نظر الجمهور إلى هذا المسرح نظرة القداسة، وكانوا يؤمون المسارح أو أي مكان يقام فيه التمثيل كما يؤم المؤمن معبداً يؤدي فيه الفريضة لله. وهكذا تأصل حب المسرح في النفوس، حتى أصبح الأوروبيون يرون للمسرح رسالة روحية، وحتى أصبح في نظرهم ضرورة من ألزم ضرورات الحياة.
أما في مصر، فالمسرح نقل إلينا دون أساس قومي أو ديني، نقل إلينا بما ترجم أو أقتبس من الروايات الأوربية، ومثلت هذه الروايات دون أن يراعى فيها في أول الأمر اتفاقها وعقلية المصري وتقاليده، ولهذا ظل المسرح بعيداً عن أفئدة الجمهور، ذلك الجمهور الذي(867/23)
أقبل على دور اللهو الأخرى التي تخاطب حسه وغريزته، وانصرف عن المسرح الجدي الذي يخاطب فيه العقل والذوق، فكاد نجم ذلك المسرح أن يأغل مع كل ما تقدمه الدولة من أموال لإعانة الفرقة المصرية.
وليس أمر المسرح المصري بدعا في ذلك، فالمسرح الروماني القديم نال نفس المصير، فقد نشأ نفس النشأة المفتعلة بترجمة المسرحيات اليونانية أو اقتباسها أو تقليدها، فلم يجد الإقبال الكافي، حتى أن مسرحيات سنيسكا الفليسوف لم تمثل، وإنما كانت تقرأ على الناس في قاعة للمحاضرات تسمى الأوديون، وهذه القاعة ابتدعها الرومان ليستمع الناس فيها إلى المحاضرات أو ما يقرأ عليهم من التمثيليات. وهكذا تحول المسرح الروماني على مر الزمن إلى مسرح استعراضي يعتمد على الرقص والغناء واستثارة الغرائز الدنيا للمشاهدين.
لهذا السبب - وهو النشأة المفتعلة للمسرح المصري - امتلأت المسارح الاستعراضية والفكاهية؛ وخوى مسرح الفرقة المصرية، ولهذا السبب أيضاً امتلأت الروايات السينمائية المصرية بمشاهد الرقص والغناء بمناسبة وبغير مناسبة.
فالواجب على القائمين على أمر المسرح أن يستميلوا الجمهور إلى فهم، ولا أقصد بذلك أن يتبدلوا فيما يعرضون، كما تحاول الفرقة المصرية اليوم، وإنما أقصد إلى أن يبثوا حب المسرح في النفوس، وأن يرتفعوا بهم رويداً رويداً حتى يحلقوا في أبعد الآفاق وأرفعها.
ودليلنا على أن أفراد الجمهور المصري لا ينقصهم الإحساس الفني، أنهم يقبلون على مشاهدة الروائع السينمائية الأجنبية، وفيها القصص الدسمة والموضوعات العميقة، وهم راضون عما يرون، بل إنهم أصبح الآن ينصرفون عن كل رواية ضعيفة ولو اختفى ضعفها وراء الإخراج الرائع والتمثيل المتقن.
فيجب، والحالة هذه، أن نبث حب المسرح في النفوس، وذلك باستلهام التاريخ الإسلامي في وضع المسرحيات، ويجعل مادة التمثيل مادة أساسية في المدارس كما هي حال القصص الآن، بالإكثار من وحدات المسرح الشعبي التي تجوب الأحياء والبلاد ولا لتعرض هذه التفاهات التي تقدمها، وإنما لتعرض قطعاً غنية جمعت بين المتعة والفن. ولا بأس من أن تعرض في كل مرة مسرحية فكاهية لاجتذاب الجمهور، ثم تتلوها مسرحية جيدة تخاطب(867/24)
العاطفة الدينية أو القومية في النفوس، ويتذوق فيها النظارة الفن الحقيقي الرفيع.
محمود سامي أحمد
أستاذ في الآداب(867/25)
مصر تنتقم من وزير
للأستاذ عطية الشيخ
تشابه الطبائع:
الناس معادن وفصائل، منهم الأخيار والأشرار، ومهما تقدم العقل البشري وامتدت المدنية، وزاد الرخاء، وتنادى الناس بالإخاء، فإنك لا تزال تلمس في هذا المجتمع الراقي فصائل من البشر لا يميزهم عن إنسان الغاب إلا طراز الأزياء، وتقاليد سطحية، ليس لها في أعماق نفوسهم أثر وهل تعي الببغاء مما تقول شيئاً؟ وعل يعني النسناس مما يؤدي من الحركات أمراً؟ ففي فجر التاريخ تميز خيار الناس من شرارهم في محاورة قابيل وهابيل البني آدم، حين هم الأول بقتل الثاني، فلم يزد هابيل على أن قال (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) فهل أثر هذا الموقف الكريم في النفس الشريرة. كلا لا طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. ثم امتدت الحقب، وتتابعت الأولاد والأحفاد، وتوالت الأجيال، ومازال في أبناء آدم قابيل وهابيل، لم تختلف الأرواح وإن تغيرت الأسماء وها هي ذي الأمثال والحكم التي أجرتها الحوادث على لسان الأمم البائدة. يتمثل لها أبناء اليوم كأنها قيلت بالأمس القريب.
علم الدين سنجر الشجاعي:
مملوك من مماليك السلطان المنصور قلاوون، أتسم بقلب حجري، وبأس قوي، وحب للشر وشهوة في الانتقام، ورغبة أكيدة في الكيد للناس، لا يسلم من شره أقرب الخلق منه، ولا أكثرهم إحساناً إليه، تولى الإشراف في أيام سيده المنصور قلاوون على بناء البيمارستان، فكان يتصيد الصناع والفعلة من أعلى سقالة بالبندق، وإذا سقط أحدهم جثة هامدة لا يظهر عليه تغير ولا يتحرك من مكانه ولا يسأل عن أهله وذويه، بل يأمر بالإسراع في دفنه حتى لا يتعطل العمل.
إلى الشام:
ثقل على المصريين أمر الشجاعي، وكان في الشام بقايا صليبيين، فرأى الملك المنصور أن يرسله إلى دمشق، عله يجد متنفساً لشره وظلمه في أعداء الدولة إذ كان لا بد للأفعى(867/26)
من أن تنهش وللعقرب من أن تلدغ، وقد صدق ظن الملك ففي الشام وجد الشجاعي متسعاً للأذى في غير المسلمين حتى أحبه أهل دمشق.
السلطان خليل:
مات المنصور قلاوون وتولى بعده الملك ابنه الأشرف خليل وكان كما يقول الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام (بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عالي الهمة، تخافه الملوك في أمصارها، والوحوش في آجامها) فلم يكد يستقر في الملك حتى صمم على طرد الصليبيين من بلاد الشام جملة، وكان أمنع حصن لهم (عكا) فجهز جيشاً جراراً وحاصرها، وهناك قابله الشجاعي، وأخذ يسمم أفكاره ضد من معه من الأمراء والوزراء (والشجعان دائماً أضعف فريسة للختل والمكر والدهاء) فقبض خليل على من معه من أمراء أبيه وقواده ولم ينتظر حتى تنتهي المعركة (وحصل للناس قلق شديد، وخشوا من حدوث فتنة تكون سبباً في تنفيس الخناق عن أهل عكا المحصورين)
حتى الوزير:
كان وزير الأشرف خليل هو محمد بن عثمان التنوخي الدمشقي، وكان له صديق شاعر، خاف عليه لؤم الشجاعي وكيده، فأرسل إليه البيتين الآتيين يحذره منه.
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي
وكن بالله معتصما فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي
فهل أغناه التحذير كلا بل ذهب الوزير صريعاً بيد الشجاعي أمر قراقوش فضربه ألفاً ومائة عصا حتى مات تحت التعذيب.
رقعة دسة:
أخذ الشجاعي بترقي في وظائف الدولة أيام السلطان خليل، بدسه وسعيه ضد أكابر الدولة وزجهم في السجون والمعتقلات، حتى أنابه السلطان عنه في السلطنة، وأنزله قلعة الجبل حين ذهب للصيد في مديرية البحيرة، ولما قتل السلطان خليل، وتولى الملك بعده أخوه الناصر، أتفق الأمراء على أن يكون نائب السلطنة الأمير كتبُفاً، ووزيرها الشجاعي، وكان الملك صغير السن، ونائب السلطنة كتبفاً رجلاً ديناً طيب القلب، فأنتهز الشجاعي هذه(867/27)
الفرصة واستبد بالأمر (وكان موكبه يضاهي موكب السلطان من التجمل.
الاستئثار أو النار:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، والحوت لا يلهيه شيء يطعمه، يصبح ظمآن وفي الماء فمه، وشهوة الشر لا تشع وإن سبعت شهوة الخير، فلم يكتف الشجاعي بما وصل إليه، وأخذ يعمل على استئصال جميع معارضيه، والانفراد بالحكم وحده فدبر مع بعض الأخساء مؤامرة لقتل جميع الأمراء والعلماء والقادة والعظماء، ووعدهم بأن من قتل أميراً أو عظيماً فله جميع تركته، وأخذ ينفق من خزانة الدولة في سبيل هذا المأرب، حتى بلغ ما أنفقه في يوم واحد ثمانين ألف دينار، وعين لتحقيق الغرض يوما معلوماً وأوصى بالتكتم حتى يؤخذ الخصوم على غرة.
وتقدرون:
كان من بين من أغراهم الشجاعي ومناهم سيف الدين قنقغ التتاري، فأخذته العصبية الجنسية للأمير كتبفاً لأنه كان تتاري الجنس، وحذره وأطلعه على كل شيء، فجمع كتبفاً أمراء الدولة وعظماءها وبعد أن تحققوا من صدق الرواية ذهبوا إلى القلعة وحاصروها ليقبضوا على الشجاعي.
الذهب والشعب:
أغلق الشجاعي أبواب القلعة، وأخرج صرر الذهب من الخزانة، وأخذ يفرقها على البرجيه حتى انحاز إليه فريق منهم، وظل يعد ويمني ويرشو حتى تجمع حوله العدد الكافي. فخرج من القلعة وهاجم كتبفا وأصحابه فهزمهم وفروا إلى يلبيس. ورأى الشعب ذلك فثارت ثائرته وتدخل في الأمر ضد الشجاعي الظالم وهجم الأهالي هجمة رجل واحد حتى أدخلوا الشجاعي ومن معه قلعة الجبل وحاصروهم وقطعوا عنهم الماء، فعاد كتبفا ومن معه وانضموا للشعب، ودام الحصار (إلى أن طلعت الست خوند والدة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السور وكلمتهم بأن قالت لهم! إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا مالنا غرض إلا مسك الشجاعي وإخماد الفتنة) فأمرت بإغلاق باب منزل الشجاعي عليه وكان داخل القلعة، فأصبح في حصارين أحدهما خارج الأسوار، والثاني داخل القلعة.(867/28)
ولما رأى أصحابه ذلك، ولا ينحاز إلى مثله بالطبع إلا كل خسيس نفعي، يكثر عند الطمع ويقل عند الفزع، والطيور على أشكالها تقع، أقول لما رأى أصحابه ذلك، تفرقوا عنه وانضموا إلى أعدائه ثم انقض عليه بعضهم وقطع رأسه وأظهره للشعب من وفق سور القلعة، فدقت البشائر وعمت الأفراح جميع البلاد.
الثأر من رأس الغريم:
علم بعض صيادي المال من المصريين كراهية الشعب للشجاعي فاستولوا على رأسه وطافوا به الأنحاء على أعلى رمح، وتسابق المصريون في شفاء صدورهم من رأس عدوهم، فتهافتوا على النيل منه وغالى حاملو الرأس في تقاضي الثمن (حتى بلغت اللطمة على وجهه المداس نصف درهم، والبولة عليه درهم) ولم يكف المخدرات صنيع الرجال، فطلبن من أزواجهن المشاركة في الإهانة (فكانوا يأخذون الرأس ويدخلونه بيوتهم فتضربه النسوة بالمداسات) ولم يفرغ حاملو الرأس من مهمتهم حتى امتلأت جيوبهم وبعد أن جبوا عليه مصر والقاهرة وحصلوا مالاً كثيراً، وغلقت أسواق القاهرة وحوانيتها خمسة أيام ابتهاجاً بزوال عهده (وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوعه في الظلم والعسف).
دالت الدولة:
بعد أن هدأت الفتنة وأصبح الشجاعي في خبر كان، قبض كتبفا نائب السلطنة على أعوانه والمتآمرين معه، وأطلق سراح المعتقلين، وكان من جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على الديار المصرية، ومن الله على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.
حتى الترحم عليه:
قال قاضي القضاة نجم الدين بن شيخ الجبل: كنت ليلة نائماً فاستيقظت وأنا أحفظ البيتين الآتيين:
عند الشجاعي أنواع منوعي ... من العذاب فلا يرحمه الله
لم تفن عنه ذنوب قد تحملها ... من العباد ولا مال ولا جاه(867/29)
وكان ذلك في نفس الليلة التي قتل فيها الشجاعي نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا(867/30)
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ محمد سيد كيلاني الساعاتي
من 1825 - 1880
- 8 -
هم محمود صفوت الساعاتي ابن مصطفى أغا الزيله لي ولد بالقاهرة في عام 1825 ونشأ بها إلى أن بلغ الاثنى عشر عاماً. ثم توجه إلى الإسكندرية مع أبيه. وفي العشرين من عمره بدا له أن يقوم بفريضة الحج فسافر إلى الحجاز. وهناك التحق بحاشية أمير مكة الشريف محمد بن عون فأكرم مثواه وأحسن ملتقاه حتى أنساه وطنه وصحبه فظل ملاماً له في مقامه ومرتحله. وسافر معه إلى غزواته المعروفة في نجد واليمن ووصف كثيراً من وقائعه في شعره.
ووقعت بينه وبين أدباء الحجاز منافسات تلتها مناظرات كما هو شأن الأدباء في كل عصر وفي كل موطن.
وفي عام 1850م عزل الشريف محمد بن عون من إمارة مكة فهاجر إلى مصر مصطحباً الساعاتي الذي سافر معه إلى الآستانة بعد ذلك بقليل. وهناك وقع نزاع أدبي بينه وبين الشيخ زين العابدين المكي.
وفي عام 1851م عاد إلى مدينة القاهرة فعين في إحدى الوظائف الحكومية. ثم ألحق بمعية سعيد باشا. ثم نقل إلى وظيفة كتابية بمجلس الأحكام المصرية. ثم عين بعد ذلك بديوان المالية، فعضواً بمجلس أحكام الجيزة والقليوبية. وتوفي سنة 1880م. وله ديوان مطبوع.
شعره
1 - في الحجاز:
نزل الساعاتي عند أمير مكة الشريف محمد بن عون وهو ممن يدعون الانتساب إلى الإمام علي. فأراد الشاعر أن يحظى لديه وينال عطفه. لو أنه سلك في مدائحه مسلك شعراء مصر في عصره من ابتداء القصائد بغزل طويل مما متكلف، واستخدام الصناعة اللفظية من جناس وطباق وغيرهما لما ظفر بشيء مما يرجو، ذلك لأن الأشراف لا يطربون لهذا(867/31)
ولا يحفلون بقائله. فلم ير الشاعر بداً من أن يكون شيعياً يهتم بالمعاني الشيعية التي تستهوي آل عون.
أنظر إليه حين يقول في مدح الشريف عبد الله بن عون:
ومن ذا الذي أحرى بمجدك منهم ... ومدحك في التنزيل جاء محرراً
وأعلى ملوك الأرض كسرى ولم يك ... ن له نسب دانى البتول وحيدرا
وإن كان بالإبوان أظهر فخره ... فحسبك بالمحراب والبيت مظهرا
غلى خير خلق الله تنمى أصولكم ... فكنتم به من الناس أكرم عنصرا
وأنتم بنوه والذين بفضلهم ... أتى الروح بالذكر المبين مخبرا
ومن ذا الذي بالشعر يبلغ مدحكم ... وفي هل أتى ما قد أتى وتصدرا
وانظر إليه حين يمدح شيخ السادة العلوية بالمدينة:
أهلا وسهلا بغبن بنت محمد ... نجل الحسين ومعدن الحسنات
أهلا بزهرة فرع أصل طاهر ... غرسته أيدي الوحي والآيات
شرف على الشهب المنيرة مشرف ... مترفع عن عرضه الشبهات
نسب قد انتظمن عقود جمانه ... بيد التعفف لا يد الشهوات
أورومة طابت فروع أطولها ... رفعت بإسناد وصدق رواة
تلك التي غرس النبي لدوحها ... فأتت بكم من أطيب الثمرات
فأنت ترى أن اهتمام الشاعر بالمعنى كان مسيطراً عليه في هاتين القصيدتين وفي غيرهما مما نظمه في أشراف مكة. وقد اجتهد في الضرب على الوتر الحساس الذي تهوى إليه أفئدتهم. وتقمص الساعاتي في هذه المدائح شخصية ابن هانئ الأندلسي وأغار على كثير من معانيه. مثال ذلك قوله:
ومن ذا الذي أحرى بمجدك منهم ... ومدحك في التنزيل جاء محررا
فمأخوذ من قول ابن هانئ:
فرحت بمبعثك السماوات العلا ... وتنزل القرآن فيك مديحا
وقوله:
وينظم في الوصف الشريف قلائدا ... وأبلغ منها قول أحكم حاكم(867/32)
مأخوذة من قول ابن هانئ:
والله في علياك أصدق قائل ... فكأن قول القائلين هذاء
مدح الساعاتي الشريف ابن عون بقصيدة جاء فيها:
رقت لرقة حالتي الأهواء ... وحنت على البانة الهيفاء
وبكى الغمام على من أسف وقد ... كادت تمزق طوقها الورقاء
بدأ المد بالشكوى مما أصابه من حوادث الدنيا. ثم مزج الشكوى بالفخر بنفسه وبشعره، ولم يكن الرجل صادقاً في فخره بل قلد المتنبي في ذلك. قال:
أنا ذلك الصل الذي عن نابه ... تلوى المنون وتلتوي الرقطاء
وقد نظر في هذا إلى المتنبي حيث يقول:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء
وقال:
وفمي هو القوس الأرن ومقولي ال ... وتر الشديد وأسهمي الإنشاء
فكر ينظم في البديع فرائدا ... من دونها ما يلفظ الدأماء
وهذا فخر كاذب قلد فيه القدماء. وقد أراد أن يعظم من أمره ويرفع من شأنه فصور الناس وقد اشهروا عليه حرباً وأجمعوا أمرهم على كيده. قال:
ولع الزمان وأحله بعد أوتى ... إن الكرام لها اللئام عداء
أنحط قدري الحادثات وهمتي ... من دونها المريخ والجوزاء
وهو في هذا ينظر إلى ابن هانئ الأندلسي حيث يقول:
طويت لي الأيام فوق مكايد ... ما تنطوي لي فوقها الجوزاء
ثم استطرد إلى التحدث عن سوء حظه، وذكر أنه قصد أناساً كثيرين فلم يجد عندهم ما يسره حتى أفنى عمره دون أن يتحقق له أمل واحد من آماله. قال:
أفنيت عمري في طلاب أولي التدى ... متعللاً بعسى يجاب نذاء
وهو غير صادق فيما يقول. ذلك لأنه عندما حل في مكة كان في العشرين فإذا فرضنا أنه نظم هذه بعد إقامته عند ابن عون بعامين أو أكثر فإنه في هذه الحال لم يكن قد أفنى عمره كما يحدثنا ثم تتخلص من هذا المدح فقال:(867/33)
غضت عن العلياء طرفي برهة ... ثم انجلت عن ناظري الأقذاء
فعلمت أن الأكرمين هم الأولى ... شرفوا وباقي العالمين هباء
لم يبق غير بني النبي محمد ... في الأرض يعزى إليه سخاء
قوم همت جدواهم وبمدحهم ... في كل واد هامت الشعراء
ولو تأملت في هذه الأبيات لوجدت روح ابن هانئ ماثلاً في وضوح وجلاء، وطريقة الساعاتي في التخلص إلى المدح هي نفس طريقة ابن هانئ. وإليك أبيات ابن هانئ لتوازن بينها وبين أبيات الساعاتي.
وطفقت أسأل عن أغر محجل ... فإذا الأنام جبلة دهماء
حتى دفعت إلى المعز خليفة ... فعلمت أن المطلب الخلفاء
جود كان اليم فيه نفاثه ... وكأنما الدنيا عليه غشاء
إلا أن ابن هانئ، كان يمدح الخليفة الفاطمي الذي امتد ملكه من المحيط الأطلسي غرباً إلى بلاد العرب شرقاً، أما الساعاتي فكان يمدح عاملاً بسيطاً من عمال الدولة العثمانية، وهو معرض للعزل في أي وقت. وقد عزل فعلاً ورحل إلى الآستانة، وقد جعل الساعاتي من هذا الحاكم الصغير ملكاً تهابه الملوك وتعنوا لسلطانه وتقصر عن بلوغ مرتبته. وقال:
ملك سما سلطانه وتقاصرت ... عنه الملوك لأنها أسماء
ولو ارتقوا يوماً لأخمصه انتهوا ... لمراتب ما فوقهن علاه
وصلته أبكار العلاء كواعبا ... من قبل ما وصلتهم الشمطاء
ولا شك في أن الشاعر قد أشرف في التكليف وبالغ في الكذب وليس مما يعقل أن رجلاً كالساعاتي يقول مثل هذا المدح في شريف مكة عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت.
وظاهر من هذه القصيدة أن ابن عون قد أعرض عن الساعاتي مدة من الزمن بسعي بعض الحساد، فشكا الرجل من حدوث هذه القطيعة. قال:
مازلت أجلو وصفكم حتى بدا ... كالشمس لا رمز ولا إبماء
وحبونموني بعدها بقطيعة ... أكذا يكون تكرم وحباه
من لي بخط الأغبياء فعلتي ... عز الدواء لها وجل الداء
وقال قبل ذلك أبيات:(867/34)
يا أيها الملك المفدى عودة ... يا من لديه لا يخيب رجاء
أوليتني الآلاء ثم تركتني ... مثل الذي حلت به اللأواء
ما كان ذا أملي الذي أملته ... فيكم وأنتم سادة نجباه
أو لستم أدري بما كنتم به ... تعدونني ومتى يكون أداء
إن كان دائي حسن حظي ربما ... يشقى الفصيح وتنعم العجماء
هذه الأبيات إذا قرأناها تركت في أنفاسنا أثراً عميقاً، ذلك لأن الشاعر هنا لم يكن متكلفاً ولا متصنعاً، وإنما كان يرسل القول من أعماق فؤاده، فعبر في هذا الشعر عما انطوى بين جوانحه من ألم شديد وحزن عميق، وبسط يديه أمام شريف مكة راجياً منه أن يعمل على إزالة هذه القطيعة، وعدة أبيات هذه القصيدة سبعة وسبعون بيتاً، منها ثلاثون في الفخر، وحوالي عشرة أبيات في الشكوى والباقي في المدح.
وللساعاتي قصيدة هائية مدح بها الشريف علي بن عون. وقد سلك فيها مسلك مروان بن أبي حفصة في هائيته المشهورة التي مطلعها:
طرقتك زائرة فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالجمال دلالها
أما قصيدة الساعاتي فمطلعها
جادت بوصل بعد طول دلالها ... مطبوعة جبلت على إدلالها
وعجز البيت ضعيف التأليف تافه المعنى، وربما كان سبب ذلك اهتمامه بالجناس بين (دلال) و (إدلال).
وقال:
وسرى بطيف خيالها جنح الدجى ... من بعد ما جنحت إلى عذالها
زارت على شوق محبيها وما ... زالت تجر إليه في أذيالها
سفرت فقلنا قد تألق بارق ... يزجي رشاش الظل في أطلالها
وتكلفت صلة المتيم عندما ... نظرت كمال البدر دون كمالها
غيداء جادت بالزيارة بعد ما ... جارت ومل الدهر دون ملالها
سمحت بما أسدت إلى وإنما ... صلة المعنى من تمام خيالها
حسناء قد تاهت عليّ كأنها ... حسنة والمجد في سر بالها(867/35)
ولن تجد في هذه الأبيات من المعاني سوى تلك الغادة بالجمال والدلال، وقد شعر الرجل بإفلاسه وخلو جعبته من المعاني فستر ذلك العجز باصطناع المحسنات اللفظية، ثم انتقل من ذلك إلى المدح وقد أورد بعض المعاني الشيعية
كقوله:
ولقد علمت بأن مدحي قاصر ... وعلاكم التنزيل في إجلالها
أفبعد ما جاء الكتاب مفصلا ... تتفاضل البلغاء في أقوالها
وقال يمدح الشريف محمد بن عون ويهنئه بانتصاره في بلاد اليمن:
بشرى بنصر بالفتوح ميسر ... ودوام عز حيث سرت مسير
والمعنى ضعيف كما ترى، وفي البيت جناس بين (ميسر) و (مسير) ومنها
نشرت لك الأعلام من فوق العلى ... فطويت ذكرى كل باغ مفتر
وهو جيد المعنى، وفيه طباق بين (نشر) و (وطوى)
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(867/36)
حول (موازنة أدبية)
الموازنة - إذا أريد لها أن تقوم على أساس عادل سليم - ينبغي أن تكون بين شيئين متكافئين - تقريباً - إلا من فروق دقيقة لا يميزها إلا ناقد فاحص أوتي من حدة الذكاء، صواب النظرة، وإرهاف الذوق، حظاً موفوراً. . . وليست الحال كذلك في الموازنة التي أجراها حضرة الأستاذ الفاضل (محمد عبد المنعم خفاجي) بين قصيدتين (من عيون الشعر الجاهلي) أولاهما معلقة عمرو بن كلثوم، الأخرى مجمهرة أمية بن أبي الصلت. إذ أنهما غير متكافئين كما أنهما ليستا من طبقة واحدة. والفروق بينهما واضحة، لا تحتاج إلى أعمال فكر، أو إجهاد ذهن، وليس هذا من عندياتنا ولكن ما يقرره حضرة الكاتب الفاضل أثناء كتابته، فهو يعترف بأن هناك فروقاً فنية كبرى (لا دقيقة) لاحظها النقاد بين القصيدتين، وقد ترتب على هذه الفروق التفرقة بينهما فوضعت الأولى (معلقة عمرو) في صف المعلقات، ووضعت الثانية في صف المجهرات.
ويعترفأيضاًبأن معلقة عمرو وتمتاز بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية) فأمية إذن لم يأت بجديد خالص وإنما قال متأثراً عمراً في معلقته، حتى أن بعض أبيات قصيدته جاءت مشابهة لابيات من قصيدة عمرو مشابهة تامة حيناً وتكاد تكون تامة حيناً آخر كما يقر بعدم التكافؤ بين القصيدتين حين يقول (إن شاعرية عمرو في معلقته أقوى وأبين من شاعرية أمية في مجمهرته سواء في الأسلوب أو المعاني أو الأغراض أو مدى الجودة الفنية ومواهب الشعر) فهو يفضل المعلقة تفضيلاً مطلقاً، ويحلق بها في آفاق السمو الفني، بينما يهوى بالأخرى هوياً عميقاً، ويلقي بها في قرارات سحيقة من الضعف الأدبي، وقصيدتان هذا شأنهما حوج إلى (ميزان طبلية) منهما إلى (ميزان حساس) يرى بدقة فروقهما.
بل هناك أكثر من هذا، فهو يرى أن أمية نظم مجمهرته في شبابه (قبل أن تكتمل شخصية أمية الفنية)، ورغم كل ما تقدم مما يدل علة عدم ارتكاز الموازنة على أسس سليمة، وبالرغم من هذا الفارق الكبير بين شاعرية عملاق من عمالقة الشعر الجاهلي وشاعرية - أمية - التي لم تكتمل - حين نظمت القصيدة - أسباب القوة والخصوبة، تجري الموازنة. . .! ولا شك أنا مجحفة غير عادلة.
والتطويل ظاهر في الأسلوب، ومن ظواهره الاستطراد والتكرار، فيكفي أن يذكر الأستاذ أن قصيدة أمية هي إحدى المجمهرات حتى يستطرد فيعددها ويوازن بينها، ويذكر مطالع(867/37)
بعضها، بينما يعرض عن ذكر مطالع البعض الآخر.! ويكفي أن يذكر أن قصيدة عمرو هي إحدى المعلقات حتى يعرف المعلقات - وكأنها شيء غريب لم يسمع به أو كأنها جديدة على قراء (الرسالة). . .! ويذكر سبب اختيارها، ولكنه لا يمضي فيذكر سبب تسميتها لتتم بذلك معرفة القراء. . .!
وأما التكرار فكثير، لفظاً ومعنى، فهو يكرر كلمة (الفنية) أيضاً. .! وكأنه بالتزامها يضفي على الموازنة شيئاً من سمات البحث العميق وهو يكرر حين يتكلم عن المعلقة، فهو يصفها بأنها (ملحمة تاريخية تصور المجد القديم لتغلب قبيلة الشاعر) وبعد قليل (فهي جديرة حقاً أن تسمى ملحمة فهي تاريخ مفصل لقبيلة عمرو ومفاخرها) وبعد قليل (عدتها تغلب كل مجدها وفخارها) ثم (ملحمة تاريخية نادرة) وأحياناً يقرر، وعندما يكرر ينتابه بعض الشك فيما يقرر. مثال ذلك قوله (وتمتاز (معلقة عمرو) بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية) ثم يكرر وكأنه يستنتج (وتستطيع أن نقول إن أمية قلد في مجمهرته عمرو بن كلثوم تقليداً فنياً واضحاً) ويستطرد في التكرار (وصاغ قصيدته على موسيقى وقافية عمرو)
ونرى في الموازنة بين المجمهرات تناقضاً واضطراباً فهو يقول (وهذه القصائد السبع (يعني المجمهرات) لم توضع في مرتبة واحدة لاتفاق موضوعاتها (ويقول بعد ذلك مباشرة (إذ أن موضوعاتها مختلفة). . .! ثم يقول (فهي إذن إنما وضعت في منزلة أدبية واحدة. . .)! ثم يدلل على اتفاق موضوعاتها بقوله (إذا يشبه بعضها بعضا في النواحي الفنية والفطرة الأدبية وفي خصائص الشعر والشاعرية. . .).
ويخالف حضرة الكاتب الدكتور طه في رأيه القائل بوضع القصيدة ويرد على سهولتها بقوله أنه (أي عمرو) ارتجل بعضها. وقد يبدو هذا مقبولاً ولكن كيف نعلل سهولة غير المرتجل منها؟ هنا يتغنى الأستاذ به (نشأة عمرو في الطائف ذات الخصب والزروع والثمار والهواء المعتدل والجو الجميل. . .). .! ناسياً أن هذا ليس كل شيء، بل إن هناك شعراء عاشوا في مثل البيئة التي نشأ وعاش فيها عمرو، بل في بيئات أفضل وأغنى وأخضب ومع ذلك لم يجئ شعرهم في سهولة المعلقة بل كان يكتنفه أحياناً تعقيد وغموض وخشونة، ودليل ذلك عند المتنبي، وعند (البارودي) فبالرغم من أن الأخير عاش في العصر الحديث فإن شعره لم يكن يفرقه عن شعر الجاهليين فارق كبير.(867/38)
ولقد حدد الأستاذ التاريخ الأدبي لقصيدة أمية بترجيحه أنها قيلت (في مفاخرة من هذه المفاخرات التي تحدث كثيراً بين القبائل العربية خاصة في العصر الجاهلي) وليت شعري فيم كان يمكن أن تقال هذه القصيدة إن لم تكن قيلت في مفاخرة من المفاخرات التي عناها الكاتب الفاضل.؟ ولكن الأستاذ لم يبين ذلك الذي كان يفاخره أمية؟.
ويريد الأستاذ أن يحدد السبب الذي حدا بأمية إلى نظم قصيدته على غرار معلقة عمرو، ولكنه لم يحدد بل استوعب كل الأسباب التي يمكن أن تدفع الشاعر إلى تقليد عمرو من إعجابه به أو روايته لشعره أو المفاق الغرض الذي قالا فيه، ولم يستطع أن يختص سبباً من هذه الأسباب يعد تمحيص الأسباب التي أوردها. وأغلب ظني أنه اعتقد - بذكره لعدة أسباب - أنه قد حدد واختار ومحص.!
ونستطيع أن نلخص من ذلك كله إلى:
1 - عدم عدالة الموازنة.
2 - الاضطراب في التعبير وعدم الدقة فيه.
3 - عدم الوصول إلى آراء قيمة، فكل ما وصل إليه واضح يكاد يبلغ درجة البداهة، وإني أقدم تحيتي إلى الأستاذ الكاتب، وأرجو أن يمتعنا قريباً ببعض بحوثه القيمة.
أحمد قاسم أحمد
كلية الآداب بجامعة فؤاد(867/39)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6)
(2) مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال دسوقي
هذا الكتاب لابن رشد لا ينفك عن سابقه الذي تعود الناشرون أن يربطوه به، وأعني به، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وغرض هذه الرسالة الطريفة الممتعة - كما يتبين من عنوانها - التوفيق بين الفلسفة والدين توفيقاً من شأنه أن يضع حداً للشكوك والأوهام التي تساور المقبلين على دراسة الفلسفة المشفقين على عقيدتهم منها، وأنا أنصح بقراءة هذا النص القوي كل من هو في شك وارتياب، فإنه إن لم يقنع قارئه المتعقل بضرورة التفلسف شرعاً، ولا أقل من أن يهديه إلى أن لا تعارض بين الفلسفة والدين.
وسبيل ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشرع والمؤاخاة بين الفلسفة والدين أن يتقدم في وضوح وبحجة ناصعة ليقول إن الفلسفة هي علم النظر في الموجودات من حيث دلالتها على موجدها، ولما كان طبيعياً أنه كلما زادت المعرفة بالصنعة زاد العلم بالصانع، أي أنه كلما قوي العقل على الاعتبار الذي حث عليه الدين والقرآن - وهو في الفلسفة القياس والاستنباط - أمكن أن يصل إلى حقيقة الخالق، وأن الشرع قد حثنا على معرفة الله فكأنه يحثنا على الفلسفة والنطق وعلوم العقل التي من شأنها أن تؤهلنا للوصول إلى الحق، خصوصاً إذا سلمنا بأن ما جاء به الدين حق، وأن الفلسفة هي الأخرى تنشد الحق، لم يبق إذن تعارض بينهما - لأن الحق واحد، وحتى لو تعدد لم يتعارض بل يتأيد ويتوافق، وبقى على ابن رشد بعد هذا أن يقرر أن ما يطرأ على بعض من يتعاطون الفلسفة ليس من ذنبها، وهو يلحقها بالعرض لا بالذات، كمن شرب الماء العذب فيشرق فيموت، وغاية ما في الأمر أن مباحث الفلسفة يجب أن يلجم عنها العوام كما قال الغزالي من قبل وإن لم ينجح في ذلك في نظر ابن رشد، وأن يقتصر تعاطيها على الخاصة حتى لا نزيع العامة وتضل. والشريعة إذن قسمان: ظاهر يجب ألا يتجاوزه العوام وأن يؤمنوا به، ومؤول هو فرض على العلماء والخاصة.
وهذه نقطة البدء ف الكتاب الذي تدرسونه، وابن رشد يذكر بعدها بوضوح أن غرضه فيه (أن يفحص عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها متحرياً في ذلك(867/40)
قصد الشارع قدر الجهد والاستطاعة). وسترونه مخلصاً لهذه الخطة التي رسمها، أميناً على أن يجعل من نفسه الفيلسوف الذي يتصدى لأخص مسائل الدين دون أن يتعارض معه؛ حتى ليأخذ في كثير من الأحيان على أئمة الدين كالغزالي إقحام العامة في الفلسفة، مدعياً دائماً أنه على طريقته هو التي يشرحها يجب أن يكون تقديم أمور الدين للجمهور، ومخطئاً في أغلب الأحيان كافة الفرق الدينية التي حصرها منذ البدء في أربع: المعتزلة والأشعرية والباطنية ثم الحشوية؛ وإن كان لا يأتي بآراء هؤلاء جميعاً في كل مسألة مما عرض له - ربما لأنه لم يكن لها كلها آراء واضحة في كل المسائل، أو أنه هو لم يقف على كل هذه الآراء لأنها لم تصل إليه كما اعترف غير مرة.
ولا بد لكم من الرجوع إلى بعض مصادر الفلسفة الإسلامية أو معاجمها أو دوائر معارفها لتعرف نشأة هذه الفرق التي ذكرها ابن رشد وتميزها عن بعضها البعض والوقوف على أشهر علمائها وآرائهم. ومن حسن حظكم أن مؤلفنا لم يذكر إلا هذا العدد الضئيل من الفرق الإسلامية. وهذه أشهرها وأظهرها - وإلا فإن هذه الفرق تقدر عند الغزالي بثلاث وسبعين، وعند غيره بأكثر من ذلك. وقد ألفت في هذه المذاهب كتب جامعة شتى لا تحصر، أهمها: كتاب الملل والنحل للشهرستاني، ومقالات الإسلاميين للأشعري، والفرق بين الفرق للبغدادي - عدا الكتب الخاصة بكل فرقة ومذهب، ولكن يفيدكم فيها الرجوع إلى كتاب حديث كفجر الإسلام للأستاذ الدكتور أحمد أمين بك كما يتحتم عليكم الإلمام بتوسع أكبر بما ورد ذكره من الآراء لكل من هذه المدارس في كتاب ابن رشد.
أما موضوعات كتابنا فتبدأ (بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله) أولاً من حيث طريقة إثبات وجوده (ص 31 - 94) فبيان وحدانيته (49 - 53) فالقول في صفاته السبعة الثبوتية: العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام (53 - 60) فمحاولة تنزيهه وتقديسه والترفع به عن الشبيه والجسمية والجهة والرؤية (60 - 80) وأخيراً الخمس المسائل التي يسميها معرفة الأفعال وهي: خلق العالم، وبعث الرسل، والقضاء والقدر، والتجوير والتعديل، والمعاد أو الحياة الآخرة، وفكرة الكتاب إذن - على ما في طريقة عرضها من خلط حيناً وقصور أحياناً، واستطراد أو شطط أحياناً أخرى - تتلخص في محاولة نصرة الدين بالفلسفة، ومناقصة أمور ما تسميه الأديان علم التوحيد أو(867/41)
العقائد بالنظر أولاً في إثبات وجود الله فوحدته فبقية صفاته الثبوتية التي تنسب له صفات، والسلبية التي تنزهه عما يقابل هذه الصفات (وعددها عند أهل السنة عشرون لا مجرد السبعة التي ذكرها ابن رشد)؛ وأخيراً النظر في الأفعال الإلهية ومحاولة تأويلها وتأييدها على ضوء العقل. ومهمة ابن رشد هذه التي اضطلع بها على وجه لا بأس به من الجودة ليست بدعاً من الفلسفة؛ فكم من فيلسوف مسيحي قبله أو يهودي بعده يتصدى لمظاهرة الدين بالفلسفة، أو قل لنصرة الدين على حساب الفلسفة. ولكم أنتم أن تحكموا على مدى نجاح هذه المحاولات في كل الأديان، فإن لي في ذلك رأياً أحتفظ به أن يصادر حريتكم فيما يجب أن تنتهوا إليه بأنفسكم.
ويبدأ ابن رشد بتسفيه رأي الحشوية فيما ذهبوا إليه من ضرورة الأيمان بوجود الله إيماناً أعمى أساسه السمع والطاعة، والاكتفاء بالنقل ونصوص الدين دون أي تفكير من جانب العقل، فإننا إذا تأملنا القرآن ذاته وجدناه يحثنا بين حين وآخر على التأمل والتدبر والاعتبار، ولا وجه لمعترض أن يقول أنه لو كان الإيمان بوجود الله لا يصح إلا بالدليل العقلي لكان على النبي وهو يعرف العقيدة أن يقيم على ذلك الدليل، لأن العرب حتى في جاهليتهم يؤمنون بوجود إله، فلا حاجة به إلى أن يقيم الدليل على شيء مسلم به كمن يستجمع قوته ليدفع باباً مفتوحاً على حد تشبيه الغزالي نفسه، أو أن يتصدى للبرهنة على بديهية بينة بنفسها قد لا يزيدها البرهان إلا تعقيداً وغموضاً خصوصاً عند البسطاء والسذج، وهم الجمهور الذي خاطبه الشارع فهذا موقف الحشوية الجامدة الغريب.
أما الأشعرية فكانوا أسعد حظاً ولكن أكثر تطرفاً في الفلسفة مما ينبغي، فقد اعتنقوا نظرية الجوهر الفرد وأقحموها في إثبات وجود الله - وابن رشد يتصدى لبيان أن مسلكهم هذا ليس هو أيضاً ما يقصد الشرع وأنه فضلاً عن تعقيده يعسر فهمه على الراضيين فضلا عن الجمهور، فإن صح ما يقولون من أن العالم محدث لكونه مركباً من ذرات محدثة، فإن للعالم لا بد فاعلاً لا نستطيع أن نقول أنه محدث أيضاً (لأنه يلزمه فاعل أقدم، وهذا يلزمه فاعل آخر اكثر قدماً وهكذا إلى غير نهاية - وهو محال) أو نقول أنه أزلي قديم (لأنهم بهذا يناقضون مبدأهم القائل بأن المقارن للحوادث حادث مثلها، فلا يصدر عن القديم إلا القديم، ولا عن الحادث إلا الحادث وحتى لو تخلو عن هذا المبدأ للزمهم أن يبينوا لنا كيف(867/42)
صدر الفعل الحديث عن فاعل قديم، وأية علة صيرته أولى بأن يفعل الآن فنه منذ الأزل).
سيقولون إن فعل الخلق مع أنه حادث فقد صدر بإرادة قديمة؛ وهذا التهرب بالتمييز بين إرادة الخلق وفعل الخلق سواء قدموا الإرادة على الفعل أو جعلوها مصاحبة له لا تغير من طبيعة الإشكال شيئاً. . . فعلى إمكانياتهما الثلاث (قدم الإرادة والفعل، أو حدوتهما معاً، أو قدم هذه وحدوث ذاك) يجب أن يفهموا أن الإرادة شرط الفعل لا الفعل، وأنها شيء آخر غير الفعل والفاعل والمفعول، وأنها إن كانت أقدم من الفعل لم تستطع أن تفعله بلا واسطة فضلاً عن أنها يجب ألا تظل متعلقة به دهراً لا نهاية له لكي يحدث الفعل بعد انقضائه إن كان لما لا نهاية له أن ينقضي خصوصاً وأن الإرادة يجب أن يطرأ عليها في وقت إيجاد المراد عزم على التنفيذ هو الذي يدفع إلى حدوث الفعل - إلى آخر ذلك مما يضل فيه العلماء فكيف بالجمهور؟ وابن رشد يستطرد ليبين مجافاة هذه الأدلة لذوق الجمهور وعقل الخاصة من العلماء بأن يحصر مسالكهم كلها في طريقين يناقشهما بالتفصيل، وينتهي في كليهما من إبطال المقدمات إلى إبطال النتائج، ثم يقرر أخيراً أن طريقة الأشعرية في إثبات وجود الله لا هي شرعية حقه ولا هي فلسفية حقه، وأنه ينقصها يقين الأدلة الشرعية وبساطتها.
ويعرض ابن رشد بعد هذا إلى طرق الصوفية في هذا الصدد. فيفرر في فقرة قصيرة أن معرفة الله نور يقذفه الله في قلب من استطاع أن يتجرد من عوارض الشهوة ودنس الحس - وهم يحتجون لذلك بنصوص دينية ويذهبون إلى كثير من الرياضات الروحية تحقيقاً لغايتهم.
ويرى ابن رشد أن هذه الطريقة مهما يكن من صحتها وضرورة تحقيق التجرد من الشهوة فعلا كشرط لصحة النظر والمعرفة؛ إلا أنها لا يمكن أن تكون عامة لكل الناس، وليست على أي حال ما يقصده الشرع بحث الجمهور على النظر والاعتبار والتأمل. أما المعتزلة فيعترف ابن رشد أنه لم يصله من كتبهم شيء ويرجح أن تشبه أدلتهم أدلة الأشعرية. وهذا عجيب من الفيلسوف ومأخذ لا يغتفر - أن يرجم بالظن في موضع كان يجب أن يلتمس فيه مذهب مدرسة حرة كالمعتزلة، فهؤلاء ليسوا كالأشعرية موفقين - أو ملفقين - بين مختلف الآراء على حساب بعضها البعض من غير شك؛ بل كانوا أصحاب نظر عقلي(867/43)
حر. ولكن لنلتمس له العذر.
وبعد إذ أبطل ابن رشد كافة أدلة هذه الفرق الأربع - شرع يذكر الطريقة الشرعية التي يقول إن القرآن قد نبه عليها ودعا إلى تعرف وجود الله عن طريقها. وهو يحصرها في دليلين: ما يسميه دليل العناية ودليل الاختراع - الأول يراد به أن من عناية الله بالإنسان خلق هذه الموجودات من أجله، والثاني مؤداه أن ما نرى من عنصر الإبداع في هذه الموجودات إنما هو من فعل. فاعل قادر مريد له في ذلك حمته وليس من عمل الصدفة أو الاتفاق وعند ابن رشد أنه لكي تتم المعرفة بالله يجب أن يجتمع لها الفحص عن منافع الموجودات كالشمس والقمر والفصول والليل والنهار والنبات والحيوان التي خلقت رحمة بالإنسان والوقوف على الاختراع الحقيقي في جميع هذه الموجودات للفصول من فهم المصنوع إلى فهم الصانع. هذان عنده عما دليلا الشرع - وحتى آيات القرآن لا تخرج في دلالتها عن أن تنبه على دليل العناية أو دليل الاختراع أو هما معاً. وأحب أن تفهموا أن هذين الدليلين: هما المحور الذي لا تخرج أية فلسفة عن الإتيان بواحد من شعبيته إما أن المستدل من وجود الأشياء على وجود الله (أي دليل الاختراع) أو تنتقل من الله إلى بيان موجوداته التي تعد حينئذ فيضاً منه ورحمة صادرة عنه بمحص جوده وكرمه. والدليل الأهم هو الأول ويسمى عند فلاسفة المسيحيين بالحجة الوجودية - وإن كانت الطريقة التي عرض بها ابن رشد هذا الدليل هنا تجعلنا نخشى - كما نبه الغزالي - أن يؤدي العلم بدقائق الاختراع وعنصر الحياة في الكائنات إلى الشك في وجود خالقها والارتداد عنها إلى الإيمان بالمادية وإنكار وجود الله عند ذوي الطبائع الفاسدة كما يؤدي إلى الهدي وزيادة الإيمان عند ذو الفطر السليمة.
وأما طريقة ابن رشد في إثبات وحدانية الله فهي الطريقة السليمة التي استفادها مما في الشهادة الأولى (لا إله إلا الله) من إثبات الوحدانية بهذا النفي للشريك - وهو يعمد إلى الآيات التي تناولت هذا الموضوع فيحللها ويؤول تفسيراتها -
ولابد لكم أن تحفظوا هذه الآيات جيداً وتعرفوا أرقامها من السور القرآنية وتلموا بتفسيرها في حدود ما يلزمكم - فهي في كثير من المواضع حجة ابن رشد الرئيسية؛ لا تستطيعون عرض رأيه قبل أن تحيطوا بها علماً)، ويبين أن الفرق بين العامة وخاصة العلماء في(867/44)
الإيمان بالوحدانية ما يجب على العلماء أن يزيدوا من العلم بارتباط أجزاء العالم كجسد واحد، ثم يعرض لنقض دليل الممانعة عند الأشعريين لأنه لا يجري مجرى الشرع أو الطبع بمعنى أن الجمهور لا يفهمه، وأنه ليس برهانا حتى لو فرضنا أن الإلهين في هذا الدليل يتفقان بدلاً من أن يختلفا، أو جعلنا أحدهما يفعل بعضاً والآخر بعضاً آخر، أو جعلناهما يفعلان بالتداول. ويقرر أن الأشعرية لم يفهموا مضمون آية (ولعلا بعضهم على بعض) بأخذها على الاختلاف بدلاً من الاتفاق في الأفعال، وباستعمال القياس الشرطي المنفصل بدلاً من المتصل، مما أدى بهم إلى محاولات كثيرة بدلاً من محال واحد. وينتهي أخيراً إلى أن من نظر إلى كلمة التوحيد (الشهادة بالوحدانية) على النحو الذي بينه فهو المسلم الحقيقي.
ولا يخفى عليكم ما في جدل ابن رشد من تحامل على غيره واعتساف وعناد، خصوصاً في المسألة الأخيرة مع ما في دليل الممانعة من وجاهة ظاهرة، ولكنه - على ما يبدو من قلة ما وصل إليه من آراء المتكلمين - يقحم هذا الدليل يحاول تطبيقه على آية لم يقصد هؤلاء أن يكون دليلهم تفسيراً لها. وإحلاله مسألة اتفاق الآلهة بدلاً من اختلافهم في الآية المذكورة جدل مغالطي لا يحتمله المعنى. فروا في هذا الأمر رأيكم، واحكموا عليه بما ترون دون أن تتقبلوا آراءه بالتسليم والرضى.
وسنأتي في المقال التالي على ما بقي من موضوعات الكتاب.
كمال دسوقي(867/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الثقافة، وما هي؟
يلاحظ أن معالي الدكتور طه حسين بك لم تشغله أعماله في الوزارة - على كثرتها وتعقدها - عن الوفاء بما ارتبط به من إلقاء محاضرات قبل توليته الوزارة، وقد تعددت هذه المحاضرات، وكانت أخراها محاضرة عنوانها (الثقافة، وما هي؟) ألقاها يوم الخميس الماضي بنادي الخريجين المصري، بدأ بالتعليق على ما قوبل به من تصفيق وما قدم به من ثناء، فقال: لا تصدقوا شيئاً من ذلك فأنا نفسي لا اصدقه، وما صدقت ثناء وجه إلي قط، ولم أذكر في وقت من الأوقات أبياتاً قالها أبو العلاء المعري كما أذكرها في هذه الآونة كلما رأيت تصفيقاً وهتافاً وثناءً، فقد حاصر صالح ابن مرداس مدينة المعرة وضيق عليها، فتضرع أهلها إلى أبي العلاء ليكون سفيرهم عند صالح، فرق قلبه لهم وقام بهذه السفارة على كره منه، فقبل صالح وساطته، ولكن أبا العلاء لم يعد من عنده حتى أعلن ألمه لاضطراره إلى ذلك، فقال:
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيوب قليل الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقلَّ ... وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد
ثم أشار إلى حرصه على الوفاء بهذه المحاضرة رغم الشواغل وقال:
إن هذا الحديث سيتناول أطرافاً من أشياء ذكرتها وقتاً ثم نسيتها، وسيكون إلى الحديث العادي أقرب منه إلى شيء آخر. ثم آخذ في الحديث فرأيناه يعلو على كثير من المحبر.
قال: أخص ما يمتاز به هذا العصر أنه يبيح للشعوب أشياء لم تكن مباحة لها من قبل، أشياء كانت مقصورة على طائفة من الناس أولها السياسة، فقد كانت شؤون الحكم مقصورة على طبقة من السادة وقد ابتدع اليونان في العصور القديمة إشراك الشعب في السياسة، ولكن هذه البدعة لم تعمر طويلاً، لأن الإنسانية لم تكن هيئت لها، فعادت الشؤون السياسية(867/46)
كما كانت شيئاً محتكراً للخاصة؛ وتذكر العصر الحديث هذه البدعة فأخذ بها بعد أن وسعها ومرنها، فإذا السياسة تصبح أمراً شائعاً.
وكذلك العلم، كان شيئاً أرستقراطياً لا يطمع فيه أحد من غير الطبقية التي كانت تحتكر السياسة والعلم، وفي بيئاتنا العربية القديمة نفسها كبغداد والكوفة والقاهرة، لم يكن يباح العلم بغير حساب، كان الأستاذة يتقاضون أجراً على التعليم، فإذا حدث أن تطوع أحدهم فهو أمر نادر. كانت الإنسانية تعتقد أن العلم شيء نفيس يطلب بالجهد والمال، وكان الحكام يحببون الناس فيهم بإنشاء المدارس لا على أن التعليم حق من الحقوق التي يجب أن تؤدى وإنما هو فضل من السادة، يقصد به بعضهم وجه الله، ويقصد البعض الآخر وجه المصلحة أو وجه السياسة.
أما في العصر الحديث فلم تكد حقوق الشعب في المشاركة السياسية تشيع حتى شاعت معها حقوق الشعب في العلم أيضاً، فالعلم حق كالسياسة وهو مرفق كسائر المرافق التي تتولاها الدولة وتيسر الانتفاع بها للشعب، وهو حق للإنسان بحكم أنه إنسان كائن حي مفكر يجب أن تتاح له الفرص التي تمكنه من التفكير، كما يتاح له أن يحصل على نصيبه من الطعام والماء والهواء، وهو حق من أخطر الحقوق لأنه يقتضي تغيراً خطيراً أساسياً في الحياة الاجتماعية، إذ يشعر المتعلم بشخصيته وبحاجاته الإنسانية فيطلب حقه ويلح فيه، والإنسان يشعر بالحق أكثر مما يشعر بالواجب لأنه ميال بطبيعته إلى أن يأخذ أكثر مما يعطي؛ ومن هنا يعتبر التعليم سلاحاً خطيراً ذا حدين. يشعر الناس بالحق ويشعرهم بالواجب، فإذا لم يحسن استعماله وتغلب أحد الحدين على الآخر، صار الناس كلهم مطالبين بالحقوق، أو ضعفت شخصياتهم واستكانوا إذا أسرفوا في الشعور بالواجب.
فإذا انتشر العلم، وساد الشعور بالشخصية والمطالبة بالحقوق، تعرض النظام الاجتماعي للخطر، وهذا هو الذي يخيف بعض الناس من انتشار التعليم، ومن هنا وجب أن يكون أمر التعليم إلى الحكومات وأن تسهر الدولة على التعليم، فإذا تولاه غيرها من الهيئات والأفراد أشرفت عليها وراقبتها، متوخية في ذلك كله التوازن بين الشعور بالحق والشعور بالواجب.
ثم قال معاليه. لعلكم تلاحظون أني إلى الآن لم أتحدث في موضوع المحاضرة، وهو الثقافة، ولاشك أن الثقافة غير التعليم، ولكنه وسيلة من وسائلها، وما أكثر المتعلمين الذين(867/47)
يتعلمون كثيرا ويعلمون كثيراً ويعلمون كثيراً أيضاً ولكنهم ليسوا من الثقافة في شيء. الثقافة مزاج يدبر أمر العقل والقلب، مزاج يعتدل من الشعور الراقي والعقل الذكي والحس الدقيق، وهي ليست مقصورة على الكتب والعلوم وتحصيل ما فيها، وما أكثر الذين نلقاهم فينشدوننا الأشعار أو يحدثوننا بما حصلوا من العلوم، ولكنكم إذا وضعتم أحدهم أمام قطعة من الموسيقى الرائعة ضاق بها أو أخذه النوم، ومنهم من يتبحر في ناحية من العلم ولكنه يجهل سائر أنواع المعرفة والآداب فالمثقف هو الذي تكون البيئة عقله وذوقه وترهف قلبه وحسه، فيتسع أفقه وتسمو مشاعره ويحس بالجمال في مختلف مواطنه.
إذا ابتهجتم بمجانية التعليم فابتهجوا بمقدار، وطالبوا بالثقافة ويوم ترون الحكومة تهتم بالتعليم على أنه سبيل إلى الثقافة، ابتهجوا كل الابتهاج.
الهلالية والأدب الشعبي:
شهد المدرج الكبير بكلية الآداب مساء الأحد من الأسبوع الماضي، جمعاً كبيراً حضر مناقشة الرسالة الجامعية التي تقدم بها الدكتور عبد الحميد يونس لنيل إجازة الدكتوراه في الآداب من جامعة فؤاد الأول، وقد نالها بدرجة جيد جداً ولعل هذا الحشد الكبير الذي لم نر له مثيلاً في مشاهدة المناقشات الجامعية، يرجع إلى طرافة موضوع الرسالة، وهو (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي) ومن طرافة هذا الموضوع أن الباحث اعتمد - إلى مراجعه من المؤلفات - على المنشد المحترف الذي يسميه العامة (الشاعر) وأخذ عنه واستمع إليه، وأورد صورة له كما أتى بصور الآلات الموسيقية التي يستعملها وفي مقدمتها (الربابة) مفصلا أجزاءها كما ثقفها من منشده، وأورد كذلك النوتات الموسيقية لبعض الأنغام التي عرفت بها أشعار السيرة الهلالية. وقد حضر مندوبو بعض المجلات المصورة لأخذ صورة (أبو زيد) باعتباره موضوعاً لرسالة جامعية.
بدأت جلسة المناقشة بتخليص صاحب الرسالة موضوعه، وقد أثبت أنه حقاً تلميذ (الشاعر) إذ ملك أسماع الحاضرين وجعلهم يندمجون معه في الموضوع بحسن عرضه وبراعة إلقائه وسلامة منطقه. قال إن الموضوع قد انقسم بين يديه إلى تمهيد وكتابين تناول في التمهيد الأصول التي اتبعها في بحثه وخالف بها بعض المدارس الأدبية في مصر والشرق العربي، ووصل فيها الأدب بالبيئة وعلم النفس، وتحدث عن الأدب الشعبي بنوع خاص(867/48)
وحاول أن يحدد دائرته، ثم عرض لمنهجه في البحث مبيناً أنه اصطنع فيه خطتين: الأولى خطة التاريخ والثانية خطة الفن. ثم استعرض الأبواب التاريخية التي يضمها الكتاب الأول على منهج جديد في التاريخ أسماه المنهج الجماعي وفرق بينه وبين المنهج الاجتماعي، وأغلب الظن أنه قصد به إلى تتبع جماعة الهلالية في نشأتها وعلاقاتها بالطبيعة من ناحية، وبالجماعات الأخرى المخالفة أو المخاصمة لها من ناحية أخرى، كما سار وإياهم في مدارج حياتهم بموطنهم الأول في جزيرة العرب ومواطنهم الجديدة في سائر ربوع العالم العربي حتى هبطوا مصر وصعدوا إلى بلاد المغرب. ولم يقف جهد الباحث عند مجرد التاريخ أو التتبع، وإنما حاول أن يفسره ليتبين المنازع النفسية التي كان الهلالية يصدرون عنها في أعمالهم مجتمعين ومتفرقين.
وانتقل في الكتاب الثاني إلى دراسة النص الأدبي على المنهج الذي عرف به صاحب البحث في النقد، فعرف بالنص الأدبي، ولخص سيرة بني هلال المشهورة على طولها وتعدد مشاهدها واختلاط البيئات واللهجات التي أثرت فيها، مفرقاً بين الأدب المدون والأدب غير المدون، وتعرض لأبحاث العلماء المستشرقين في تاريخ هذه السيرة والنصوص والروايات التي أوردها المشارقة؛ ثم تأمل السيرة نفسها ليضعها في مكانها من فنون الأدب كما وازن بين واقع التاريخ وما ورد فيها. وختم البحث بدراسة مستفيضة عن المجتمع المصري وتفاعله مع هذه السيرة الشعبية واتخذها وسيلة من وسائله في التعبير عن شخصيته، وحلل أثرها في الريف المصري وفي العاصمة المصرية، ودعا إلى العناية بالتراث المصري جملة وتفصيلاً.
وما أريد أن أتعرض لما حدث بعد ذلك في المناقشة ولا في طول الوقت الذي استغرقته، ولكن الشيء الذي لم يكن يتوقعه أحد هو أن يهم أحد حضرات الأساتذة الإجلاء بالانسحاب، لا لخلاف بينه وبين الباحث، ولكن لأن رئيس الجلسة قاطعه بعبارة عدها تدخلاً؛ وكانت هذه الحركة من الانسحاب والاعتذار والعودة هي التي أثارت حماس الجموع ونشرت جواً عصبياً على الجلسة كلها. ولم نكن نصدق ما ذاع هنا وهناك من أن خلافاً في الرأي - ولا أقول في المصالح - بين أساتذة الجامعة يلون علاقاتهم بطلابهم، ويطبع أحكامهم في العلم وفي غيره بطابع الفرقة والانقسام، حتى كان من سوء حظنا وحظ(867/49)
الجامعة أيضاً أن نشهد هذه المناقشة التي شهدها جمهور من طلاب ومثقفين، فقد احتدم الخلاف بين الأساتذة، وخشينا أن تنقلب المناقشة إلى معركة. . .
وقد مر ربع قرن على جامعة فؤاد الأول وهي تخرج طلاب العلم في مختلف كلياتها ومعاهدها، وجاءها علماء أوربيون وأمريكيون، وأرسلت البعثات لتنهل من العلوم في جامعات العالم القديم والجديد؛ فكان الأحرى بها والأجدر بأساتذتها أن ينقلوا ما أثبتت الأيام صلاحيته من تقاليد الجامعات الأخرى العريقة، وهم بين اثنتين، إما أن يتنازلوا عن نظام (العلنية) في مثل هذه الاختبارات العالية ويحذوا حذو الكليات العلمية العملية في الاقتصار على مراجعة البحث والباحث، وإما أن يتفقوا قبل حضور الجلسات العلنية على نظام المناقشة وتنسيقها بينهم إذا لم يستطيعوا أن يجتثوا الفرقة من نفوسهم. . .
عباس خضر(867/50)
القصص
خداع امرأة
للأستاذ كامل محمود حبيب
وقف الفتى (عز الدين) يجفف عبراته المهراقة من أثر الأسى الذي تدفق في طوايا قلبه عاصفاً عاصفاً، يقض مضجعه ويهيج من أشجانه ويتغلغل في ثنايا حياته قلقاً واضطراباً يزعزع كيانه ويهد من قوته. . . الأسى الذي أحسَّ به أول مرة في حياته حين وجد فقد أمه الشابة، وحين رآها مسجاة في كفن، وحين شهدها وهي تتوارى إلى الأبد في رمس، وحين ارتد إلى الدار - آخر الليل فألفاها خاوية من الحنان خالية من العطف ما فيها سوى رجل واحد يجوس خلالها في جيرة وقلق، وعلى وجهة سمات الهم والضيق، مفزعاً ما تهدأ نزعته، تسكن حرقته. واقترب الفتى من أبيه ولصق الأب بابنه، ورانت عليهما صدمة المصيبة ووحشة المكان، وعقد الحزن لسانيهما ولكن العبرات تحدثت حديثاً طويلاً ما ينساه الفتى الشاب أبداً.
وقف الفتى (عز الدين) يجفف عبراته المهراقة وقد أشكل عليه الأمر واختلطت الحال، فأمامه حقيبة مفتوحة، وإلى جانبها ثياب متناثرة هنا وهناك، ومن حواليه حاجات مبعثرة، وهو بينها يضرب في تيهاء مضلة لا يستطيع أن يجمع شتاتها ولا يلم شعثها، فما له بذلك من عهد ولا طاقة. وتراءت له أمه في الخيال يوم أن كانت تنسق له حاجاته أول كل عام دراسي، يوم أن كان ينفض عنه غبار القرية ليستقبل أيام الدرس في المدينة يوم أن كانت أمه تعينه على أمره لا تحمله مشقة ولا تكلفه عنتاً، والدار من حولها تزخر بالناس وتفهق بالخدم، فأجهش بالبكاء وأوشك الخور أن يعصف به لولا أن خيل إليه أنه يسمع صدى صوت ناقوس الكلية يناديه في إلحاح إلى حياة الكد والعمل، ليسطر بدم الشباب الفوار أول علامات النبوغ والتفوق، ليقتحم بجده سبيل السمو والرفعة. . .، وليدفن هناك - بين شواغله - آلام قلبه وضنى روحه، فهب في تراخ وكسل يريد أن يهيئ نفسه للسفر.
لقد كان (عز الدين) وحيد أبويه، في العشرين من سني حياته، أتسم بسمات الريف، وطبع بطابع القرية، طيب القلب رضي النفس هادئ الطبع، وهو سليم البنية قوي التركيب، لم يفتره الشباب - يوماً - عن الدرس، ولم يصرفه مال أبيه عن أن يشمر للتحصيل، ولم(867/51)
تبهره أنوار المدينة عن أن ينفذ إلى غايته في سهولة ويسر فنال شهادة الدراسة الثانوية في تفوق فتح أمامه باب كلية الهندسة في غير عنت ولا إرهاق. وطرب الأب لفوز ابنه، واستبشرت الأم. ولكن أمراً نجم - على حين فجأة - فغطى على فرحة الأب ووارى بهجة الأم. . . لقد انحطت العلة على الأم تعركها عركاً شديداً في غير هوادة ولا لين، فانطلق الأب يطب لها، والابن إلى جانبه، وإن الفزع ليملأ قلبه، وإن الوجوم ليغص من نشاطه. وحار الطب في أمرها زماناً فهوت بين يديه جثة هامدة وانطوت أيام لم تمسح على شجن الأب ولا طامنت من كربة الابن.
وانطلق عز الدين إلى المدينة. . . . إلى كلية الهندسة، يرزح تحت عبء من حاجاته، ولكنه اغتمر بين أترابه يلهو في لهموم ويعبث عبثهم لينسى صدمة القضاء العاتية. وأراد الأب - بعد حين أن يطمئن على وحيده، فانطلق إلى المدينة يسرى عن ابنه بالجديد من اللباس والطيب من المأكل والجزل من العطاء، فهدأت جائشة الابن وسكنت هواجسه، فاطمأن إلى درسه وإلى رفاقه.
لقد كان عز الدين طالباً ريفياً يقضي العام الدراسي في القاهرة منكباً على الدرس في جد ونشاط - كدأب أبناء الريف من الطلبة لا يشغله من وازع الحياة إلا ما يتناهى إليه - بين الفينة والفينة من أخبار القرية وهي تافهة حقيرة غير أنها كانت تهز مشاعره وتثير عاطفته لأن فيها ذكر أبيه وذكر أمه وذكر غيطه و. . . فلما بدأ دم الشباب التأثر ينتفض في قلبه أحس أن في القرية أشياء أخر تجذبه إليها في عنف. فهو يقضي شهور الصيف هناك ينعم بالراحة من عناء الدرس، ويسعد بالهدوء من صخب المدينة، وهو يخرج أصيل كل يوم - في جماعة من رفاقه - إلى ضفة الغدير يتنسم عطر الريف وتفكه بالحديث، والنكتة ويعابث بنات الريف وهن لدى الغدير يملأن جرارهن، وإنه لذو خيال وذو قلب. وكان يشعر بأن خواطره تحوم - أيداً! - حول فاطمة، وهي فتاة فيها جمال الريف وصفاء الجاذبية ومرح الظبي، فراح يداعبها بكلام فيه الرقة والظرف، وهي تقبل عليه - حيناً - في خفر، وتعرض عنه حيناً آخر - في دلال، وعلى وجهها بسمات الرضا والسعادة. فلا عجب إن كانت القرية تجذبه إليها ليرى هناك وجها أشرق النور من جبينه فأحبه فاطمأن إليه، هو وجه فاطمة التي يطمع أن يجلس إليها ساعة من زمان في خلوة، في منأى عن(867/52)
عين الرقيب. . .
أما الآن، حين حطمته الأيام ففقد أمه وأحس أنه فقد فيها الرفيق والعون والأسى جميعاً. . . الآن، جلس يكتب إلى أبيه (يا أبي، لقد مرت الأيام والشهور تهدهد من أحزاني وتسرى من كربتي، وأنا أخشى أن يثير المكان نوازع نفسي وأشجان روحي فأشرق بالهم وأغض الغم، فهلا تركتني أقضي عطلة الصيف في دار عمي في الإسكندرية فألمس هناك عزاء وسلوه؟).
وقرأ الأب رسالة ابنه فما اختلج قلبه ولا اضطرب فؤاده، لأنه يطمع أن يذر ابنه يتلمس السلوه والعزاء، ولأنه يريد أن يدفع ابنه عن القرية لأمر يسره في نفسه.
لطالما أحس الرجل في فقد زوجته لوعة الفراق وألم الوحدة ولذع الوحشة، ولطالما اضطربت في ذهنه خاطرة انضمت علها جوانحه فأسرها في نفسه أياماً وأياماً وهو في فوره الرجولة وفحولة العمر، ولطالما دخل الدار فخيل إليه أنها تلفظه لأنها لا يلمس فيها أنس نفسه ولا راحة قلبه، وما فيها سوى خادم عجوز تقبع - طول النهار - في ناحية - كأنها دمية من طين أسندت إلى جدار، ولطالما ضاق بحاجاته فالطعام تافه قذر تعافه النفس ويتقزز منه الذوث، والملابس وسخة متناثرة لا تتناولها بالترتيب يد رفيقة ولا يرق حواليها قلب حبيب ولا. . . وفاضت نفس الرجل بالضيق والملل فعزم على أمر أسره في نفسه.
وتعاقبت الأيام ترغم الرجل على أن يكشف رويدأ رويداً - عن سر قلبه، وعلى أن يتحدث - في حذر - إلى خلصائه بدأت نفسه، وفي الناس من يرود له الطريق ويمهد السبيل، فإذا هو زوج لفتاة من بنات الريف، فتاة في عمر ابنه عز الدين. . . تزوج منها على حين أن ابنه هناك في شغل لا يترامى إليه من خبر نبضات قلب أبيه إلا همسات قيها الشك والريبة. ومضت سنتان أسدلتا على قلب الفتى حجاباً كثيفاً من النسيان فتيقظ قلبه مرة أخرى - يخفق خفقات فيها الحنين والشوق إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب. . . إلى الدار، إلى الحقل، إلى الغدير، إلى الصبايا وهن يملأن جرارهن أصيل كل يوم وإن وجوههن لتطفح بالبشر والابتسام، وإن حركاتهن لتتوثب فتنة وإغراء، إلى فاطمة. . . الفتاة الرشيقة الجميلة الآسرة التي يطمع أن يجلس إليها ساعة من زمان في خلوة، في منأى عن عين الرقيب. ودخل الفتى الدار التي لم يسعد بها منذ سنتين، دخلها فوجد أباه بين(867/53)
رفاقه يتألق وجهه غبطة وسروراً، وقد انزاحت عنه غشاوة الأسى التي رانت عليه حيناً من الزمان.
وخلا الرجل إلى ابنه يحدثه حديث حياته الجديدة فرق الفتى لكلمات أبيه فما أبدى ضيقاً ولا نفوراً على حين قد تيقظ في نفسه تاريخ أمه منذ أن أحس وجودها إلى أن وجد فقدها.
ونظر عز الدين إلى زوجة أبيه - حسنيه. . ثم غض الطرف في ذلة وارتد في انكسار، ثم استسلم لخواطره السود حين تراءى له أنه أصبح غريباً في دار أبيه، ونظرت حسنيه إلى الفتى بعين الأنثى فبدا لها ما يضطرب في فؤاده؛ وآذاها أن يلفه الغم في طياته لأنها هي هنا. هنا في دار أبيه، فراحت تتودد إليه في رفق وتقترب منه في لين تريد أن تستلبه من شجونه. وتكلمت الفتاة في ظرف وأنصت الفتى في هدوء. . . والأب يرى فتطمئن وساوسه لأنه شعر بأن الألفة توشك أن تنش جناحيها على الدار.
ومرت الأيام والفتى يجلس إلى حسنيه ساعة من الليل أو ساعة من النهار، وهو يحس أن في عينيها بريقاً يخطف القلب، وأن في أنوثتها جمالاً يخلب الفؤاد، وأن في حديثها موسيقى تسحر اللب، وأن في قلبه نزعة جياشة لا تهدأ إلا في كنفها، وأن في روحه عاطفة فوارة لا تطمئن إلا إلى حديثها، وشمرت الأنثى بدوافع قلب الفتى فذهبت تفسح له مكاناً في قلبها وفي مجلسها، غير أن نظرات الأب النفاذة لم تغمض عن خفقات القلبين فضرب بينهما بحجاب. ولكن الفتاة كانت قد لمست فرق ما بين الشباب المضطرم وبين الرجولة الهادئة التي توشك أن تستحيل إلى شيخوخة باردة، فرق ما بين الحياة الفوارة العارمة وبين الحياة الواهية الضعيفة التي تكاد تنحدر إلى قرار القبر. . . فما أعجزتها الحيلة. وفيها المكر والخداع. . . عن أن تلقى فتاها - بين الفينة والفينة. . . في ناحية من الدار على حين غفلة من زوجها.
وطغى حب حسنيه على خواطر الفتى فطم على آثار فاطمة في قلبه، وشغله عن أن يسعى إليها أصيل كل يوم وأقعده عن أن ينطلق إلى رفاقه لأنه أصبح لا يحس في حديثهم سلوه ولا في مجلسهم متعة.
ووقف الفتى وحده - ذات مساء - يعد حاجاته ويرتب ملابسه ويهيئ نفسه للسفر، وإن قلبه ليفهو نحو حسنيه: الفتاة التي سلبته قلبه ووعيه في وقت معاً ونزعت عه عقله ورشاده في(867/54)
آن واحد، وأحس، وهو يضطرب بين خواطره وحاجاته بأن يداً تربت على كتفه في رفق، فنظر فإذا حسنيه إلى جانبه تلصق به وهي تبتسم في تراخ وتكسر فشعر بالدفء يتدفق في أوصاله مبعثاً من شباب الفتاة ومن أنوثتها، كان تياراً عنيفاً من الكهرباء يسري في دمه فهفا نحوها في شوق، وحبا إليها في حنان، ولصق جسم بجسم، واقتربت شفة من شفة ولكن الفتاة ما لبثت أن طارت من بين يديه وهي تناديه في همس. وداعاً. . . وداعاً، يا حبيبي، وانغمر الفتى في أمواج من الأسى والشوق حين رأى الفتاة تنفلت فتتوارى في ظلام الدار، وتذره وحده يعيش بالذكرى.
ومضت ثلاث سنوات فإذا الفتاة أم طفلين، ولكنها لم ترتدع عن أن تستمتع برفقة صاحبها - ابن زوجها، عز الدين أثناء عطلة الصيف من كل عام، فهي تجذبه إليها في قسوة، تسيطر على خواطره في عنف، وهو في عمى عن الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها بحمقه وجهله.
لقد أحست الأنثى بالشباب فكرهت الشيخوخة، واستشعرت المرح فأبغضت الرزانة، ولمست القوة فامتهنت الضعف. واضطرت نفسها بفكرة واحدة سلبتها الهدوء والقرار: ليتها تستطيع أن تفزع عن هذه الدار لتعيش بين ذراعي فتى في مثل سنها!
وأسدل الطيش على عقل الفتى ستاراً كثيفاً من الغباء فغم الأمر عليه فنسى أنه يقترف جريمة شنعاء تنكرها الإنسانية ويمجها العقل، حين يستخذى للشيطان فيقتات على حق أبيه يريد أن يستلبه قلب زوجه وأن يسطو على شرفه وكرامته في غير روية ولا عقل، ونسيت الفتاة أنها ترتدغ في أعظم حماقة سولتها نفس أثنىلأنها تبذر غراس الكراهية والشقاق بين الأب والابن. ولكن للشيطان مآرب ينفذ منها إلى القلوب فيطم على النوازع الإنسانية لتتأرث منها الحيوانية الجامحة فحسب
واطمأنت الفتاة إلى فتاها، فجلست إليه - ذات ليلة - توسوس له وتغيره عن إنسانيته وتختله من رجولته، فقالت تحدثه (. . . وأنت ترى أن أباك يضرب بيني وبينك بحجاب ما كان لك أن تظهره لولا حيلة احتالها أو علة أتعلل بها، وهو يضيق علينا الخناق فأشعر كأن الدار سجن يضمني بين جدارنه ضمات قاسية توشك أن تقضقض عظامي) فقال الفتى (آه ليتني أجد فرجة أنفذ منها فأزيح هذا الستار، ولكنني كما ترييني عاجز اليد واللسان)(867/55)
فقالت في تهكم (عاجز اليد واللسان؟ هذا عجيب! رجل فيه الرجولة والبأس يعترف أمام التي أحب أنه عاجز اليد واللسان؟ هذا ولا ريب منتهى الضعف والتخاذل) فقال الفتى في يأس (وماذا عساي أن أفعل؟) فقالت الفتاة في مكر وهي تستل من بين ثيابها مسدساً (انظر، انظر!) وذعر الفتى مما رأى وشملته رجفة عنيفة ما استطاع أن يداريها عن التي أحب، ففزع عنها وهو يهمس (أقتله؟ أقتل أبي؟ كلا. . . كلا!) وتصنعت الفتاة الماكرة الغضب والنفور فهبت من مكانها في ثورة وهي تقول (الآن بدا لي ما كنت تخفي. . . إنك لا تحبني. . . لست رجلاً، أيها المخادع الوضيع. . .) ثم دفعته عنها في غلظة وأسرعت إلى داخل الدار. . .
ظل الفتى طول ليله يتقلب في فراشه لا يغمض له جفن ولا تهدأ له ثائرة، وإنه ليضطرب من هول ما رأى وما سمع، وغير ساعت وإن الشيطان إلى جانبه يوسوس له بأمر، وإن قلبه الطائش ليزين له الجريمة، غير أن عقله كان يناديه من خلال نزواته - بين الحين والحين - ليدفعه عن الهاوي السحيقة التي يوشك أن يتردى فيها، ثم انحط - بعد لأي في فراشه هامداً من اثر المعركة النفسية العنيفة التي خاض غمارها منذ أن رأى فوهة المسدس تلمع في يد زوجة أبيه، حسنيه.
وأصرت الفتاة على فتاها، وراحت تستعين بفتنة الأنثى وإغراء الشيطان ودوافع قلبه هو، حتى أسهل وانقاد، وأخذت هي تهيئ السبيل وترسم الخطة، ثم قالت له (. . . وعند الفجر تهب من فراشك في خفة وهدوء فتتوارى خلف الباب، وحين يعود أبوك من المسجد بعد صلاة الفجر تفجؤه وهو بفتح الباب فتطلق عليه سبع رصاصات متتالية، ثم نستغيث معاً بعد أن تقذف أنت بالمسدس في بيت الخلاء).
وأراد الفتى أن ينفذ خطة رسمتها زوجة أبيه، ولكنه حين أحس بمقدم أبيه انهارت عزيمته ووهى جلده وانتفض قلبه وتصلبت أطرافه فتوارى في ناحية يكتم أنفاسه خشية أن يراه الرجل فيرى فيه العقوق والجحود. . . توارى حتى دخل أبوه ثم انفلت إلى حجرته وهو يرتعد من شدة الخوف والفرق.
لم يرق حسنية ما رأت في الفتى من فزع وضعف فعزمت على أن تصحبه لتعينه على أمره ولتشد من عزمه. وعند فجر اليوم التالي وقفت الزوجة الماكرة خلف الفتى وضمته(867/56)
إلى صدرها ومدت يدها إلى جانب يده تريد أن تساعده على أن يسدد الطلقات إلى الهدف، إلى قلب أبيه، في رباطة جأش وهدوء أعصاب وحين دخل الرجل ضغطت الزوجة بإصبعها على زناد المسدس مرات ومرات ويد الفتى تتراخى وتهوي فانطلقت سبع رصاصات استقرت جميعاً في أحشاء الرجل فسقط لدى الباب وهو ينادي (الله أكبر. . . الله أكبر!) وابتعدت الزوجة عن الفتى في خفة وثبات ثم صاحت (القاتل. . . القاتل! قتل أباه. . . قتل أباه)
وتكشفت المرأة على حين فجأة - عن نوايا شيطانية وضيعة.
آه، لقد مكرت بالفتى الغر مرتين لتستمتع بنزواتها المشبوبة وبشبابها المضطرم وبمال زوجها الضخم، على حين قد تغفلته فقذفت به في هاوية سحيقة ليكون فداء لشهوات نفسها الحيوانية.
فيا لمكر الأنثى. . . يا لمكر الأنثى.
كامل محمود حبيب(867/57)
العدد 868 - بتاريخ: 20 - 02 - 1950(/)
علي محمود طه
حياته من شعره
للأستاذ أنور المعداوي
- 10 -
أشرت في مقدمة هذه الدراسة إلى أن شاعرنا المصري كان أشبه بكتاب مفتوح. أستطيع أن أقول لك وأنا مطمئن، إنني قد قرأته كله. . . شعره على ضوء حياته، وحياته على ضوء شعره، ناحيتان تؤلفان هذا الكتاب الذي قراته، وعشت بين سطوره، وخرجت من هذه السطور بآراء عرضتها على الذاكرة فمل اعترضت، وعلى الضمير فما أنكر، وعلى موازين النقد فما اختلفت مع أصوله كما افهمها ومناهجه.
وقلت لك أيضاً إنني قد درست حياة علي طه النفسية، ودرست آثاره الفنية. . . درستهما على طريقتي التي أومن بها وادعوا إليها كلما حاولت أن اكتب عن أصحاب المواهب أو كلما حاول غيري أن يكتب عنهم: مفتاح الشخصية الإنسانية أو مفاتيحها اولا، ومفتاح الشخصية الفنية أو مفاتيحها ثانيا، والربط بعد ذلك بين الشخصيتين لتنفذ إلى أعماق الحقيقة في الحياة والفن، ومدى التجاوب بينهما منعكسا على صفحة الشعور المعبر عنه في كلمات.
وقلت لك مرة ثالثة إن الذين لم يعرفوا هذا الشاعر ولم يطلعوا على دخائل نفسه وآفاق حياته، يستطيعون إذا لم ينزعوا عن الألفاظ أثوابها النفسية، أو يجردوا الأخيلة من ظلالها المعنوية، أو يفرقوا بين الصور وبين وشائج اللحم والدم. . . يستطيعون إذا لم يلجئوا أي شيء من هذا كله أن يعرفوه حق المعرفة من خلال شعره! لقد كان شعره مرآة صادقة لهذا الوجود الذي أحاط به، لأنه كان إنسانا صادقا في صحبته لتلك المرآة: لم يحاول يوما أن يقف أمامها بوجه غير وجهه، ولم يحاول يوما أن يلقاها بملامح لونتها المساحيق أو اختفت حقيقتها وراء الأقنعة!
وقلت لك مرة رابعة أنه كان يمثل الوضوح في الفن، وقيمة الوضوح في الفن هو أن يتيح للدارسين أن يطمئنوا على مواقع أقلامهم كلما قطعوا مرحلة من مراحل الطريق. . . لا(868/1)
غموض في المقدمات يدعو إلى الشك في النتائج، ولا ضباب على سطح المنظار يحول دون الرؤية إذا التمستها العيون!
هذه بعض فقرات مما قلناه من قبل، ونزيد عليها الآن وجهات نظر أخرى تدور حول مشكلة الغموض والوضوح في الشخصية الفنية والإنسانية. . . إن الرجل المغلق القلب في الحياة مغلق القلب في الفن، وإن الرجل المعقد النفس في الحياة معقد النفس في الفن. ولا خلاف في هذه الحقيقة المستخرجة من ألوان التجارب ولا جدال! وكل ما يصادفك من غموض وشذوذ وانحراف عن كل ما هو مألوف ومعروف هنا، يمكنك أن ترده إلى صوره المماثلة وأحواله المشابهة ولحظاته المطابقة هناك: شخصية فنية مبهمة ومضطربة وغير مفهومة في هذا الجانب، تقابلها شخصية إنسانية تصطبغ بكل هذه الصبغات وتتصف بكل هذه الصفات في الجانب الآخر. ومهما حاول الفنان أن يظهر أمام الناس بوجه ارجواني غير وجهه الأصفر، أو بقلب إنساني غير قلبه المقفر، فلن يستطيع أن يخدع بعض العيون المستشفة لما وراء الطلاء من حقائق، ولا بعض الآذان الراصدة لما بين الجوانح من خفقات. . . وهذه هي اللحظة الحاسمة في حياة كاتب التراجم كلما حاول أن يدرس واحدا من أصحاب الفن، سالكا كل الطرق التي يمكن أن تدفع به إلى الهدف المرجو وتقذف به نحو الغاية المنشودة. وليس كل هدف يسير البلوغ وليست كل غاية قريبة المنال، وما دام الأمر كذلك فلا مناص من استخدام علم النفس الأدبي وتسليط أضوائه على كل فجوة تتعذر فيها الرؤية حين يكتنفها الغموض ويلفها الظلام!
واستخدام علم النفس الأدبي من الزم الأمور في كل دراسة تريد أن تأمن الزلل في التأويل وأن تتقي الخطأ في التعليل، وأن تتجنب كل منحدر في طريق التشخيص والتشريح وإصدار الآراء والأحكام. ومع ذلك فهناك شخصيات مهوشة السمات مطموسة الحدود معقدة الطباع، ترهق الدارسين حين يضعونها تحت مجهر التحليل النفسي وتكلفهم من الجهد والصبر والمثابرة فوق ما تحمل طاقة الأحياء. وفي الكفة المقابلة شخصيات أخرى واضحة سهلة التناول مسبورة الغور مكشوفة الأعماق، ينفذ إليها الدارسون حين يضعونها تحت المجهر نفسه دون أن يصيبهم عنت أو إرهاق.
من هذه الشخصيات الأخيرة شخصية هذا الشاعر المصري علي محمود طه، ومن تلك(868/2)
الشخصيات الأولى شخصية ذلك الشاعر الفرنسي شارل بودلير. ومن الذي تناول بودلير بالدراسة النفسية فأجهده وأرهقه وأصابه بما يشبه الدوار؟ أنه الكاتب والفيلسوف الفرنسي جاك بول سارتر. . . وعلى الرغم من أن سارتر قد وصل من وراء دراسته لبودلير إلى ما لم يصل إليه في رأينا كاتب تراجم من قبل، فقد خرج من هذه الدراسة وهو مكدود الأنفاس يخيل إليك أن جبينه قد تصبب بقطرات من العرق!
لقد كان بودلير في رأي الحق إنسانا غير مفهوم ولا مهضوم، ومع ذلك فقد حاول سارتر ما وسعته المحاولة أن يفهمه ويهضمه، وأن يقدمه إلى الناس في صورته الشاذة المعقدة وقد زايلها أكثر ما فيها من شذوذ وتعقيد. . . وهكذا تفعل الدراسة النفسية حين ترفع السجف المدلاة على نوافذ الشخصية المغلقة ليندفع الضوء إلى شتى الجوانب والأركان!
وأين هي عناصر الشذوذ في هذه الشخصية البودليرية الغريبة الأطوار؟ هي في تلك النواحي الإنسانية المتباينة التي لا تكاد تجتمع في منهج واضح محدد يلم شعثها أو يؤلف بين ما فيها من شتات. لقد كان بودلير رجلا يفتش عن الآلام في كل مكان، ويسعى إليها سعيا متواصلا ليثور عليها آخر الأمر تلك الثورة المكبوتة العاجزة التي لا تدفع شرا ولا تدرأ خطيئة. . . كان مثاليا بينه وبين نفسه، ولكنها المثالية القاصرة على عالم الذهن وحده لا تكاد تتعداه. هو في (وجوده الذهني) إنسان مترفع عن كل ما يخدش الكرامة ويشين الخلق ويهبط بالسمعة إلى حمأة الموبقات، وهو في (وجوده الواقعي) إنسان غارق في لجج الإثم ضال في متاهات الغي متخبط في ظلام الوزر والمعصية. يدعو إلى الشيء ولا ينفذه، ويرسم الطريق ولا يسير فيه، ويضع لحياته خط سير هو أول المنحرفين عنه والخارجين عليه. . . يحب الوحدة ويتوهم في ظلالها راحة نفسه ونعيم دنياه، ولكي يظفر بها فلا بأس من أن ينفر منه الناس وأن يغضبهم فيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يرمي شخصه بأقبح التهم، وينعت خلقه بأشنع النعوت، ولا ضير من أن يشيع عن نفسه أنه قتل أباه وانحدر من الشذوذ الجنسي إلى أدنأ بؤرة أحط مهاويه هذا كله ليحقق لنفسه تلك الوحدة المنشودة التي يخلو فيها إلى هواجسه بعيدا عن دنيا الناس. . .
ومع ذلك فما أكثر ما يضيق بهذه الوحدة ويفزع من أشباحها الرهيبة ويفر من ظلالها الخانقة! وهو، ذلك المخلوق الذي يسمو (بأفكاره) إلى مدراج العلاقة الجنسية النظيفة، تراه(868/3)
يهبط (بأفعاله) إلى اقذر ما يمكن أن تلحقه هذه العلاقة بإنسان. . . تراه يتصل بإحدى العاهرات ذلك الاتصال الشائن الذي يخرج منه بأخبث الأمراض وافدح العلل، ثم لا يحاول أن يقصد إلى طبيب ليلتمس لجسمه المنهك أي وسيلة من وسائل البر الذي يعقب العلاج! وهو، ذلك الرج العاجز عن تصريف أموره، المشلول الحركة في معركة الحياة، يسعى عن طيب خاطر إلى أيجاد من يشرف عليه ويرعاه، حتى إذا وجد (مجلس العائلة) أو مجلس الوصاية ليشرف على هذا الرجل الذي يفر من المسئوليات الضخام وغير الضخام، تراه يثور على هؤلاء (الجلادين) الطغاة الذين يذيقونه الذل ويسومونه سخف العذاب! وهو، ذلك الفنان اللامع الذي كان يتطلع إلى أن يظفر بمكانه بين الخالدين من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، تراه يعبر كل درب يمكن أن يباعد بينه وبين المكان الخالد. وأعجب العجب أنه كان ينشد من كل قلبه مثل هذا الإخفاق! وهو، ذلك الشاعر الجهير يخرج للناس يوما ديوانا من الشعر يطلق عليه (أزهار الشعر) ليقف بسببه في ساحة القضاء. ترى أكان يهدف من وراء هذا الشعر إلى مؤازرة الذين ينادون بمذهب (الفن للفن)، أم كان يهدف إلى شيء آخر تتردد أصداؤه بين جنبيه وترسب في قرار سحيق؟ اغلب الظن أنه كان يحب أن يكون منبوذا من الناس تلاحقه اللعنة في كل عمل من أعماله الأدبية والإنسانية. . . . وإلا لما تعمد أن يطالع الناس بهذا الشعر الذي عرضه للإدانة من جانب القضاء الفرنسي، وهي إدانة مادية ومعنوية!
هو إذن في رأي سارتر رجل مضيع عاجز مبهم يحرك يديه في شتى الاتجاهات ليثير من حوله الزوابع والأعاصير، حتى إذا هبت عليه من كل ناحية وعصفت بكيانه وأودت بوجوده وقف حيالها مكتوف اليدين. . . رجل عاش ولكنه لم يستطع أن يفسر لنا هذه الحياة التي عاشها ولا أن يكيف لنا هذا الوجود الذي خلق فيه رجل كون مزاجه بنفسه واختار مصيره برضاه، وخانته القدرة على أن يخرج من أخطائه وآثامه بمذهب يحدد ذاتيته في زحمة الوجود أو يبرر مكانه في غمار الحياة. هذه الشخصية العجيبة الغريبة المتقلبة تحتاج إلى مفتاح يعالج أبوابها المغلقة على فنون من الطلاسم والأسرار. . . وها هو سارتر يحاول أن يقدم إلينا هذا المفتاح.
بودلير الذي كان يفتش عن الآلام كان يريد أن يتعذب، والدليل على ذلك مستخلص(868/4)
بوضوح من أخباره وآثاره، من أخباره الخاصة وآثاره الفنية. . . كان يسعى إلى صهر روحه في بوتقة الألم والعذاب، وكان يحلو له أن يتأوه كلما أحس في نفسه حاجة إلى الثورة. كان يبغي أن يضطهد نفسه ليكون اضطهاده لنفسه عقابا لها، عقابا على عجزه وضياعه وما اقترف في حقها من أخطاء وآثام. أكان ذلك من جانبه لونا من القعاب الذاتي الناتج عن تغلغل النزعة الدينية المسيحية بين جوانحه كما ذهب إلى ذلك بعض النقاد؟ إن سارتر ينبذ هذا التفسير المتهافت الذي لا يستطيع أن يقف على قدميه، لأن هناك أدباء أشربت نفوسهم تلك النزعة الدينية منذ المولد وخلال النشأة والتربية ثم ساروا ردحا من الزمن في نفس الطريق الشاذ الذي سار فيه، ومع ذلك فما ابعد الشقة بينهم وبين بودلير لقاء الحياة بمثل ما لقيها به من عقاب للنفس واضطهاد للذات!
إن المسالة إذن ليست مسالة تلك النزعة الدينية من قريب ولا من بعيد، ولكنها مسالة مركب النقص ومركب التعويض. . . رجل كان يشعر في أعماقه أنه لا وجود له أو أن وجوده كان أشبه بالعدم، ومن هنا راح يتلمس شتى السبل ليقنع نفسه أو ليخدعها بأنه موجود. وهذه الخطوط المتنافرة التي كانت تحدد اتجاهات مصيره في الحياة، تعود آخر الأمر لتلتقي في نقطة ارتكاز وجودية عمادها الكبرياء. . . كبرياء الذات المهزومة!!
وما أشبه جوانب الشخصية البودليرية بعدد من الغرف النفسية التي تفتحها كلها بمفتاح واحد: غرفة للألم، وتسلمك هذه إلى غرفة أخرى للعذاب، وتسلمك هذه إلى غرفة ثالثة للعقاب، وتسلمك هذه إلى غرفة رابعة للسخط والثورة، وتسلمك هذه إلى غرفة خامسة للكبرياء. . . أعني أنه رجل يريد أن يجد نفسه لأنه تائه مضطرب، وهذا هو الطريق: بحث عن ألوان الشذوذ حتى اكتظت بها حياته، وحين تحقق له ما يبتغيه بدأ يتعذب، ثم طاب له أن يتخذ من هذه المرحلة معبرا إلى العقاب الذاتي الذي يتيح له أن يتبرم ويثور، وفي هذا تحقيق لكبريائه، وجوهر تلك الكبرياء الموهومة آهة حانقة على المجتمع ساخطة على الوجود. . . لتشعره بينه وبين نفسه بأنه موجود!!
هذه هي خلاصة رأي سارتر في شارل بودلير. . . ومنها يتضح لك أن الكاتب الفرنسي قد اجهد نفسه كل الجهد ليصل إلى ابعد أغوار هذه الشخصية القلقة المعذبة، بعد أن طاف بنظره الثاقب بينما خلف صاحبها من أوراق ورسائل، وما ترك من أخبار ونوادر، وما(868/5)
نشر من آثار في الشعر والنثر، وبعد أن راح يجمع بين أطرافها المتناثرة ويوفق بين أحوالها المتناقضة. . . تلك الشخصية التي لا تكاد ترضى حتى تسخط، ولا تكاد تحب حتى تكره، ولا تكاد تقبل حتى تدبر، ولا تكاد تثور حتى تذعن، ثم تتخيل بعد هذا كله أن في الاستعلاء شيئا من العزاء! ومن هذه الخلاصة يتضح لكأيضاً اثر الدراسة النفسية في تناول الشخصية الفنية، ذلك التناول الذي يعرضها لك عاريا من كل ثوب من أثواب الغموض والإبهام!. . . ونحن حين نقدم إليك هذا النموذج النادر من نماذج أدبالتراجم، فإنما نقدمه لنستشهد به على أن التعقيد بقدر ما يطبع صاحبه بطابعه ويسميه بما يسميه فإن الوضوح من شانه أن يقوم بمثل هذا الدور في مثل هذا المجال!
ولقد كان الوضوح كما قلنا لك لازمة من لوازم شاعرنا المصري في كل فترة من فترات حياته وكل وجهة من وجهات فنه، ولك أن تعده أول مفتاح يهيئ لنا أن نضع أيدينا على منافذ شخصيته الأدبية والإنسانية، دون أن نلجأ إلى الفروض التي تضع الشيء موضع الاحتمال في أن يكون حقيقة من الحقائق أو لا يكون. . . ولقد كان علي طه واحدا من هؤلاء الذين يفتحون القلب على مصراعيه أمام الخلص من الاصدقاء، حتى ليخيل إلى من يعرفه منذ شهور أنه يعرفه منذ أعوام وأعوام. كان واضحا في فرحه كما كان واضحا في حزنه، وكان واضحا في سره كما كان واضحا في جهره، حتى لو أنه حاول أن يصمت لكان صمته فنا من الكلام، أو حاول أن يكتم لكان كتمانه ضربا من البوح والإفضاء! ومن هنا كانت حياته على لسانه سلسلة من الأحاديث وكانت في شعره سلسلة من الاعترافات. . . واستمع إلى هذا (الاعتراف) في موضعه من الصفحة الثالثة والثلاثين من (شرق وغرب)، وهو حديث ينبع من قلب ابيض كزهرة الحقل البيضاء:
إن أكن قد شربت نخب كث ... يرات وأترعت بالمدامة كأسي
وتولعت بالحسان لأني ... مغرم بالجمال من كل جنس
وتوحدت في الهوى ثم أشر ... كت على حالتي رجاء ويأس
وتبذلت في غرامي فلم أحب ... س على لذة شياطين رجسي
فبروحي أعيش في عالم الفن ... طليقا والطهر يملأ حسي
تائها في بحاره لست أدري ... لم أزجي الشراع أو فيم أرسي(868/6)
لي قلب كزهرة الحقل بيضاء نمتها السماء من كل قبس
هو قيثارتي عليها أغني ... وعليها وحدي أغني لنفسي
لي إليها في خلوتي همسات ... أنطقتها بكل رائع جرس
كم شفاه بهن من قبلاتي ... وهج النار في عواصف خرس
ووساد جرت بها عبراتي ... ضحك يومي منه وإطرق أمسي
أيهذي الحذور! أنوارك الحم ... راء كم أشعت ليالي أنسي
أحرقتهن! آه لم يبق منهن س ... وى ذلك الرماد برأسي!
هذا شعر صادق كل الصدق، وأصدقه ذلك الوساد الذي جرت به العبرات. . . ولا بد لك من أن تقف معنا طويلا عند هذا البيت من هذه القصيدة الأعترافية، لأنفيه مفتاحا رئيسيا يفصل بين فترتين من حياة الشاعر: فترة تحفل بالدموع وفترة تعج بالبسمات، الأولى فترة الأمس أو ما قبل الثلاثين، والثانية فترة اليوم أو ما بعد الثلاثين. . . وها هو ذا يعترف بأن يومه يضحك لمنظر العبرات في حين يأسى لها الأمس ذلك الأسى المعبر عنه بالإطراق! وفي الفصل المقبل نحدثك عن هاتين الفترتين من حياته، وأثرهما في خلق مزاجين متباينين كل التباين في نطاق الشخصية الفنية والإنسانية!.
(يتبع)
أنور المعداوي(868/7)
كارلو نلينو
المستشرق الكبير
لمحة تاريخية يستدل منها على مدى تعمقه في العلوم عند العرب،
وبنوع خاص في الجغرافية والهيئة وآداب اللغة والفقه
للأستاذ يوسف الخوري
في يوم صافي الأديم من عام 1909 اطل على إدارة مجلة الهلال الزاهرة بغية التعرف على إحدى أمهات المجلات العربية في مصر شاب إيطالي حس الهندام وسيم المحيا يشع من عينيه بريق الذكاء وتنم على رزانته لحية شقراء تعبث بها أصابع أرستقراطية. وما وقف بباب غرفة رئيس التحرير حتى رفع قبعتهمسلما وانحنى بتأدب محيياً بعبارة عربية لا عجمة فيها ولا لكنة، هي: (السلام عليكم يا سادتي الكرام)
وما سمع الحاضرون هذه التحية العربية الخالصة حتى تولتهم الدهشة ووقفوا إجلالا لها ولملقيها وهم يكادون لا يصدقون انهم أمام أجنبي ينطق بلسانهم بفصاحة العرب الأقحاح.
أما هذا الزائر الشاب المتكلم بالعربية كأحد أبنائها فلم يكن سوى الأستاذ كارلو نلينو الذيأمالقاهرة بطلب من الجامعة المصرية لكي يدرس فيها باللغة العربية تاريخ علم الفلك عند العرب.
ولم يكن تلامذة الجامعة أقل إعجابا بفصاحة أستاذهم الأوروبي وسعة اطلاعه طيلة المدة التي قام فيها على تدريسهم حتى أواخر عام 1912، كما تعداهم الإعجاب عينه إلى الجماهير، لا في مصر وحدها بل في سورية ولبنان والبلدان العربية أيضاً حتى ليبيا وطرابلس وتونس الخضراء والجزائر والمغرب وكل البلدان التي أسعد الحظ رجالها وعلماءها بالتعرف إلى هذا العالم الكبير والمستعرب النادر المثال الذي طاف بكل هذه البلدان بعد أن سبقته إليها شهرته وتآليفه فكان في كل مكان حله وكل مجلس ضمه موضع تقدير أهل العلم، لا لحسن نطقه وطلاقة لسانه في العربية فحسب، بل لسعة معارفه. ولا بدع فهو المستعرب الفذ الذي ملك ناصية اللغة وتعمق في دراستها وتمكن من تاريخ العرب وآدابهم وحضارتهم وكل فرع من فروع اجتهادهم العلمي غير تارك شاردة ولا ورادة من(868/8)
فقه أو لغة أو نحو أو حساب أو فلسفة أو تاريخ أو هيئة حتى بلغ الغاية فيه على شكل لم يتأت لأي واحد من المستشرقين الذين تقدموه أو خلفوه.
وكل من يدرس تاريخ هذا البحاثة المجاهد في حقل العربية دون كلل ولا ملل يرى أنه تعشق العربية والأبحاث الشرقية منذ حداثته وبرع في هذه الدراسات حدثا يافعا حتى توصل في كهولته إلى التسيطر الفكري على كل ما يتعلق بهذه العلوم فأصبحت له الكلمة العليا بين المستشرقين وقوله هو القول الفصل في كل نواحي الفكر العربي من حضارة وتاريخ في الجاهلية والإسلام لغة ولهجات وقبائل وعادات واديانا ونحلا وسياسة وفلسفة واجتماعا، حتىإنالمرء ليعجب كيف أن قوى رجل واحد وحياة واحدة تكفي لاستيعاب كل ما تقدم، إلى جنب إنتاج خصب امتاز بالدقة والتحقيق ومعرفة تامة بالنصوص على تسام في القصد وتنزه عن الهوى. فعمل الأستاذ نلينو ونتاجه العلمي رفعاه إلى مرتبة سيما بين كبار المستشرقين مثل (سنوك هورجرنيه) الهولندي، وجولد زيهر المجري، ونولدك وولهوزن وريت.
وقد أسعدني الحظ بالحصول على جل مؤلفات هذا المستعرب الأكمل الذي ظل يخدم العربية والشرق حتى الرمق الأخير فأحببت أن ألخص سيرته لكي يرى كل عربي رأي العين كم نحن مدينون له ولأمثاله من المستشرقين، إذ هم الذين كشفوا لنا معميات تاريخنا ولغتنا لعلنا نقتفي إثرهم فنعمل بمثل جدهم ونشاطهم وتفانيهم على إحياء التراث المجيد الذي خلفه لنا أجدادنا فأهمله وارثوه الشرعيون وحفل به الغرباء.
1
ولد كارلو نالينو في تورين عام 1872 وفيها تلقى دروسه الابتدائية والثانوية وتعشق منذ حداثته علم تقويم البلدان وأكب على مطالعة كتب الرحلات. وطالما حدثته نفسه كالكثيرين من أنداده باقتعاد غارب الأسفار واكتشاف المجاهل، ولكن حلمه هذا لم يتحقق، وكان شانه شأن الكثيرين سواه ممن امتطوا متن الخيال صغارا وكبابهم كبارا. على أن إخفاقه كان أجدى عليه فازداد انصبابا على الدرس وتقصى آثار أصحاب الرحلات وأخبارهم وأوصاف البلدان التي أموها حتى استخلص منها وهو بعد في سن الفتوة خريطة لأوساط أفريقيا ومجاهلها.(868/9)
ولم يكن شغفه باللغات الأجنبية دون شغفه بعلم الجغرافية. وشعر بميل خاص إلى اللغة العربية لانتشارها في بلدان كثيرة من قارتي آسيا وأفريقيا فأكب على دراستها في مجموعة عربية وقعت له في مكتبة بلدية أوديني. ولما تبين ذووه رغبته هذه اهدوا إليه أجرومية في العربية الدارجة ألفها بالإيطالية جوزيه سابيتو. وكان مؤلف ذلك الكتاب مرسلا وجغرافيا معا طاف بلاد الحبشة والمستعمرات الإيطالية الواقعة على البحر الأحمر وعلم العربية في مدرسة فيرنزة العالية ثم في جنوى برغم أنه كان أعرف بالعربية العامية منها بالفصحى. ولكن الشاب نالينو استعان بهذا الكتاب السقيم كما استعان بغيره من الكتب التي كانت تصل إليها يده حتى قطع بكده وثاقب فكره شوطا بعيدا في معرفة اللغة العربية وأصبح قادرا على تفهم النصوص الصعبة قبل أن تفتح له الجامعة أبوابها.
وبينما كان مكبا على درس العربية عكف على دراسة أختيها السريانية والعبرية اللتين تعمق فيهما تعمقه في العربية.
وفي سنة 1899 رشح نفسه لدخول فرع الآداب في كلية تورينو لوجود كرسي فيها للدروس الشرقية يتولاها عالمان شهيران أحدهما ايطالو بينري الذي لم يحل تخصصه في الدروس الفارسية دون إلمامه بالعربية إلى حد أن اصدر مؤلفا في آدابها. وعلى يده تضلع نالينو من العربية وظل حياته كلها حافظا جميله. على أن ميله للأبحاث الجغرافية كان يحفزه للتتلمذ على أحد أساتذة هذا العلم المشهورين بتفوقهم وهو جويدي كورا صاحب مجلة الكوزموس العلمية وأستاذ الجغرافية في كلية تورينو ثم في كلية روما.
وكانت باكورة ميله المزدوج إلى العلوم العربية وعلم الجغرافية إصداره في العام الأخير من دراسته أول تأليف في هذه الأبحاث نشره له أستاذه جويدي في مجلته تحت هذا العنوان: (قياس العرب درجة من قوس نصف النهار وتعديلها بالمقاس المتري) وفي مستهل المقال يخبرنا أنه فرغ من تأليفه سنة 1890 ولكن نشره تأخر عامين بسبب اضطراره إلى الإقامة في موناكو لفحص المخطوطات العربية في مكتبتها الملكية وإعداد برنامج استغرق عمله فيه بضعة اشهر. وفي هذه الرواية ما يدل على مبلغ تضلع هذا الفتى من العربية إلى حد أن يطالع وينتقد من نصوصها ما يتعذر فهمه حتى على المحنكين في حين أنه لم يكن إذ ذاك قد جاوز الثامنة عشرة.(868/10)
وهذه الباكورة الناضجة من تآليف نالينو نمت برغبته في التخصيص في الأبحاث الجغرافية والفلكية وما إليها عند العرب. وقد خصص لهذا القصد عدة مقالات نشرها في مجلة الكوزموس، منها مقالة ضافية في خمسين صفحة كبيرة ذات أهمية بالغة في تاريخ الجغرافية عندنا عنوانها: (الخوارزمي وتجديد جغرافية بطليموس عند العرب) وذلك على إثر تناوله بالدرس العميق الدقيق نسخة خطية وحيدة عثر عليها في مكتبة ستراسبروغ من كتاب صورة الأرض للخوارزمي. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الدقة في البحث وحرية النقد كانتا مألوفتين على الأخص في زمن المأمون في حين أن العرب كانوا يومئذ في بدء نشأتهم العلمية ولبطليموس عندهم منزلة رفيعة تحيط اسمه بهالة من الإجلال والاحترام، لا بل إنهم كانوا ينظرون إلى علمه ومعارفه الفلكية نظرهم إلى الخوارق أو الأعاجيب.
وفي هذه المقالة كما فيما كتبه سواها قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين اظهر نالينو من القدرة العلمية في الحساب والهيئة وقراءة المخطوطات العويصة ما حدا العالمين سكابارللي - المستعرب منهما والفلكي - إلى تحميله سنة 1894 مسؤولية استبهظها علماء طائر والصيت يفوقونه سنا هي إشرافه على طبع اجل المخطوطات العربية في عم الفلك وهو كتاب الزبج الصابئ للبتاني ومؤلفه أبو عبد الله محمد بن ثابت بن سنان بن جابر الحراني أزهر في أواخر القرن التاسع واوائل العاشر إبان بلوغ الحضارة العربية أوج مجدها. وكتابه أس من أسس علم الهيئة لا عند العرب فحسب بل في الغرب أيضاً حيث ترجم إلى اللاتينية وانتشر واشتهر حتى أصبح الدستور الذي يمشي عليه هذا العلم في أوروبا المسيحية حتى عهد البحث أو التجديد. ولم تأفل شمسه إلا بعد تغلب نظرية كوبرنيكوس على معتقد الفلكيين الأقدمين.
وأقبل نالينو بملء الارتياح على هذا العمل وهو أعلم الناس بما سيعترض سبيله من المشاق فتوجه سنة 1894 إلى مدريد لكي يطلع على النسخة الوحيدة المعروفة لهذا الكتاب في مكتبة الاسكوريال ولكنه ما عتم أن رجع إلى نابولي لكي يمهد لقيامه بتلك المهمة على الوجه الأكمل، وذلك بدخوله كليتها الجامعة لكي يدرس فيها أصول علم الفلك فيعد نفسه لمجابهة المشاكل التي لا بد أن تعرض له في كتابه هذا خصوصا ما استعصى منها في(868/11)
جداول أبعاد النجوم وحركات الكواكب المتحيرة التي تؤلف معظم الكتاب وهي أصعب قسم فيه. ولكي يتمكن من تصحيح ما ارتكبه الناسخ من إخلال وتصحيف أجهد نفسه في تحقيق كل العمليات الحسابية التي بنيت عليها أبعاد النجوم وتثبت من أرقامها المشيرة إلى كل نجم بمفرده. ولم يكتف من علم الهيئة بالنظريات بل اقتفى إثر العرب فأكب على الدرس العلمي جامعا ومتصفحا طائفة كبيرة من النصوص غير المطبوعة التي لم يوفق إليها سواء كما راجع عشرات الترجمات اللاتينية القديمة التي صاغ الأصل العربي المنقولة عنه وأعاد النظر في الأصول اليونانية والفارسية والهندية وكل علوم الأقدمين الذين أخذ عنهم العرب.
وبفضل انكبابه المنقطع النظير وتنقيبه المتواصل تكلل سعيه بالنجاح فأتحف العلم بثلاث مجلدات ضخمة جاءت في 1131 صفحة من القطع الكبير يشتمل الأول منها وهو ثلثها على النص العربي للزيج الصابئي ويليه الجزء الثاني وهو ترجمة لاتينية للنص العربي مع شروح وتعليقات ومقدمة تاريخية تعرف الصابئ وتآليفه ومكانته بين فلكي العرب. أما الثالث فيتضمن ترجمة جداول الكتاب باللغة اللاتينية مع فهارس مهمة ومعجم نفيس للمصطلحات الفلكية وشروح لاتينية للتعابير العربية، وفي نهاية الكتاب فهارس تهدى إلى كل مادة من مواده.
وكان من شان هذا التأليف الذي أنفق المؤلف في وضعه أعواما عديدة أنه ألقى بأبحاثه نورا جديدا على علم الفلك وكشف عما بلغه العرب في شرحه وجلائه وأظهر للملأ مقدرة ناشره العجيبة في العربية وتفوقه في شتى فروعها ومصطلحاتها العلمية القديمة والحديثة، مما أكسبه شهرة واسعة في عالم الاستشراق وأحله الذروة بين علماء الهيئة المعدودين.
ومما زاد في شهرته في هذا المضمار حادث جرى له مع زميله المستشرق السويسري سوتر فقد اطلع على كتاب ألفه هذا وضمنه رأيه في فلكيي العرب فكتب له بشأنه رسالة خاصة جاءت في كراس كامل ضمنه ملحوظاته وتنقيحاته وشروحه وتفاسيره، وبلغ من اهتمام العالم السويسري برسالة زميله الإيطالي أن أجلها لأهميتها التاريخية ونشرها كملحق لكتابه مما كان له أجمل وقع في الأوساط العلمية عادة بالفخر على المستدرك والناشر معا.
من أجل ما تقدم تسلم نالينو أعلى المراتب عند العلماء المحققين وأصبح مرجعا يعتمد عليه في كشف الغوامض وحل الرموز الفلكية.(868/12)
- 2 -
ولا بدع وهذا شأنه وخطره أن يعهد إليه بكتابة مقالات في علم الفلك وأحكام النجوم لدائرتي معارف عالميتين هما الموسوعة الإسلامية التي تطبع في هولندا وموسوعة أخرى إنكليزية.
على أن ما يعنينا مباشرة هو وقوع الاختيار عليه عام 1909 لإلقاء الدروس في الجامعة المصرية في علم الفلك عند العرب وسواهم مما تقدموهم، فلبى طلبها وراح يحيي في ذلك القطر العربي هذه الدروس التي كان من تفوق العرب فيها بعد أن أكسبتهم شهرة عالمية ولكنها لسوء الحظ أصبحت عند أحفادهم أثرا بعد عين.
واستفاض نالينو في أبحاثه في هذا العلم لا عند العرب فحسب بل عند الأقدمين الذين أخذ عنهم العرب كما أبان عما أخذه علماء القرون الوسطى بدورهم عند العرب. وبعد أن سرد تعريفات هذا العلم عند الأقدمين والمحدثين أخذ في الفحص عن مصادر أخبار فلكي العرب ومؤلفاتهم مبتدئا بما كان يعرفه عرب الجاهلية عن السماء والنجوم وحساب النسيء ومنازل القمر وأنوائها. وتطرق إلى مبادئ علم الفلك عند الأمة الإسلامية وما كان من تأثير علم الفرس فيهم وما ورثوه عن اليونان والهنود وتعريبهم لكتبهم. وبعد هذه التوطئة أخذ في ترجمة الذين اشتهروا من الفلكيين العرب وذكر تآليفهم التي وصلت إلينا التي عبثت بها أيدي الضباع وتوغل في الفحص عن أهم مباحث علم الهيئة موضحا رأي العلماء العرب في كل منها فشرح أقوالهم في طبيعة الأفلاك والكواكب وأصل نورها الخ، وأخيرا دار كلامه على اعلم أحكام النجوم مبينا ما أخذه العرب عن أسلافهم وما اخترعوه هم أنفسهم، وأورد المناقشات التي دارت رحاها بين المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمنجمين في تأييد هذا العلم أو بطلانه، فجمع هذه الدروس القيمة في كتاب أتى في 370 صفحة، طبعه في روما سنة 1911، مع فهارس عامة وحواش وتعليقات جعلته تحفة من التحف. وقد تكرمت آخرا الآنسة كريمة الأستاذ الدكتورة مارينا نالينو فأتحفتنا بهذا الكتاب القيم فشكرا لها على هذه المنة.
وبلغ من ارتياح عمدة الجامعة المصرية إلى دروسه وأبحاثه أن جددت التعاقد معه دورتين أخريين حتى سنة 1913. ومما زاد في دهشة ذوي الاطلاع تبريزه في تاريخ علم الأدب(868/13)
عند العرب على وعورة مسالكه وخشونة مركبه لأجنبي، ناهيك بأنه كان إذ ذاك معدودا من اختصاص العلماء المصريين وحدهم فليس لأجنبي أن يقدم عليه وإلا تعرض لسهام النقد وأثار السخرية والهزء. ولكن مستشرقنا تغلب على كل هذه الصعوبات لأن عربيته كما قدمنا كانت سالمة من كل شائبة لفظا ومبنى. وبدلا من أن يجري على المألوف فيدرس الأدباء تبعا لترتيب الحروف الأولى من أسمائهم نسق تاريخهم وقسمه لما طرأ على علم الأدب من تطورات جوهرية في عصوره الجاهلي والمخضرم والأموي والعباسي ودرس كلا من هذه الحقب مبينا الخاصية الأدبية والفنية التي تميزت بها عن سابقتها ولاحقتها، متقصيا في كل حقبة النتاج الفكري الذي تفردت به نظما ونثرا، مما أنزله في الأوساط الأدبية منزلة لا ينازعه فيها منازع وجعله ذا أثر بين في التقدم العجيب الذي أحرزته اللغة العربية في الربع الأول من هذا القرن. ويكفينا للتدليل على صحة هذا الرأي أن كان بين تلامذته المعدودين الدكتور طه حسين بك زعيم المدرسة المصرية الحديثة في التاريخ والآداب العربية والذي طالما اعترف بأنه مدين لأستاذه نالينو بثقافته الأدبية ونضجه الفكري.
أما البشرى السارة التي نزفها إلى القراء فهي أن هاتيك الدروس التي استقى الأستاذ نالينو مادتها من خطوط قديمة لقي صنوف العناء في قراءتها واستجلائها واعتمد عليها في مقام التدليل والاستشهاد إثباتا لنظرياته واستنتاجاته أصبحت في مأمن من الاندثار إذ ستبعثها قريبا من مدافنها كريمته الدكتورة ماريا نالينو في كتاب متقن الطبع يضم تعليقات وحواشي ضافية وفهارس عديدة. وهي قمينة بالاضطلاع بهذا العبء لأنها من أوسع الناس اطلاعا وأطولهم باعا في هذه الأبحاث في لغتنا واللغات الأجنبية جزاها الله خيرا وأبقاها خير خلف لخير سلف.
وللأستاذ نالينو عدا مؤلفاته الكبيرة مقالات عديدة نشرتها له المجلة الخديوية المصرية سنة 1907 في الجغرافية وأسماء الأمكنة في البلاد، على الأخص ما وضعه من القواعد لنقل الأسماء العربية إلى الإيطالية وكيفية التوصل إلى ضبط الأسماء الجغرافية في طرابلس وبرقة وما كتبه من المقالات العلمية للموسوعة الإيطالية. وقد امتاز في كل ما كتبه بالتعمق في الدرس وإيفاء الموضوع حقه من البحث والتنقيب كما كان بطبعه عدوا للمطرق(868/14)
والسطحي فيلج العباب ويغوص على اللباب ويعود بكل مجهول طريف.
- 3 -
وإذا انتقلنا من علوم الطبيعة إلى علم العقل نرى إنتاج نالينو في هذا الحقل ينمو ويزداد، وإذا نظرنا إلى اللغة من مختلف نواحيها فصيحها وعاميها وبائدها، نرى نالينو قد امتلك ناصيتها وأخذ بأعنتها حتى ليكاد يلم بكل ما دق وخفي من قواعد صرفها ونحوها ولا يلتبس عليه أدنى صوت من مقاطع لهجاتها. وأصدق شاهد على قولنا هذا كتابه في (العربية المتكلم بها في مصر) الذي أصدر الطبعة الأولى منه سنة 1910 وأعاد طبعه سنة 1913. وبيت القصيد في هذا الكتاب مقدمته التي لا تتأتى كتابة مثلها إلا لعربي متضلع من لغته إلى أبعد حد.
ومثل ذلك يقال في الملحوظات التي أوردها بشان اللغة التونسية ونشرها في مجلة الشرق الحديث الذي كان يصدرها باللغة الإيطالية. وقد أسعفه على التقصي ما امتاز به من دقة حاسمة السمع ومرانه الطويل في رحلاته المتعددة إلى تلك البلاد.
وقد أولى الجاهلية عناية فائقة وكرس لبحثها وقتا طويلا. ففي سنة 1893 ظهر له وهو بعد فتى مستفيض عن نظام القبائل العربية قبل الإسلام أبدى فيه من الرصانة في الحكم إلى جنب البحث في القبائل العربية وتاريخها وأساليب معيشتها وعلاقاتها الاجتماعية ما حدا بالأب لامنس اليسوعي المعترف له بالتفوق في هذا المضمار إلى ذكر هذا الفتى بعد انقضاء عشرين عاما على صدور مقاله.
ولهذا المستعرب أبحاث كثيرة لم تنشر؛ ولكن ما كان نصيبه النشر منها يثبت معرفته التامة بلغات جنوبي الجزيرة العربية وهي المعروفة بالحميرية التي تفرعت منها لهجات عديدة منها المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية الخ، وجميعها تختلف عن العربية الفصحى كل الاختلاف. أما ما اتصل بنا منها فالفضل ببقائه عائد إلى النقوش التي عثر عليها في المغاور والصخور الكائنة على طريق القوافل القديمة. وقد بدأ المستشرقون منذ سنة 1834 في قراءة حروفها وحل رموزها غير مبالين بالصعوبات التي تعترض سبيلهم لتعذر الوصول إليها. أما النصوص الحميرية التي نجدها في كتاب الإكليل للهمذاني فليست سوى نصوص مزيفة لفقها المؤلفون كابن وهب ومحمد الكلبي وابن هشام وتقتصر على(868/15)
بعض كلمات عربية إلى جنب كلمات حميريةقليلة اهتدوا إليها مما عثروا عليه من الآثار، وقد تناول نالينو هذه اللهجات البائدة واثبت معرفته التامة بها في مقال طويل تناول فيه بالنقد والتحليل كتابا أصدره العالم الإيطالي السيد كونني روسيني باللاتينية عنوانه (مجوعة نصوص عربية جنوبية).
وعلاوة على أبحاثه في الكتب كان نالينو يتحف بعض المجلات العربية في مصر والشام بمقالات في اللغة والأدب، منها مقالة نشرتها له مجلة الهلال سنة 1917 كانت من الجرأة الأدبية والأهمية العلمية بمكان وعنوانها (كيف نشأت اللغة العربية) انتهى فيها إلى الاستنتاجات التالية:
إن اللغة العربية الفصحى هي بلا شك لغة الشعر الجاهلي المدون في كتب السلف. ومزية هذا الشعر أن ما فيه من أوصاف وتشابيه وأفكار ومعان يدل على أن مبتكريه هم الأعراب أهل الوبر، أخذه عنهم الحضر وقلدوه لغة وأسلوبا. ولما كان من الثابت أن معظم آداب الجاهلية انحصرت في القريض لزمنا القول إن العربية الفصحى كانت لهجة من لهجات هاتيك القبائل التي أخذ عنها الشعر والتي شد إليها الرواة فيما بعد الرحال وتلاهم النحاة الذين دونوا أصول اللغة وقواعدها لكي يأخذوا عنها صحة النطق وتقويم اللسان وتفسير الغريب وشواهد النحو، وإذا أمعنا النظر في تاريخ القبائل التي كان لها القدح المعلي في الشعر انتهينا إلى الجزم بأنها كانت القبائل المعدية المنضوية تحت لواء كندة قبل منتصف القرن الخامس. وكانت نهضة الشعر الجاهلي وبلوغه أوج الإجادة في عهد ملوك كندة الذين كانوا امرؤ القيس آخرهم، وقد وتوفي بين 530و540، وإذن فاللغة الفصحى مردودة إلى إحدى اللهجات النجدية وقد تهذبت في عهد المملكة الكندية ونقلت دون سواها من اللهجات وأصبحت لغة الأدب السائدة وبها نزل القرآن على محمد فأصبح مرجع العرب الديني والسياسي واللغوي.
وفي ثنايا هذا المقال ينفي زعم الكثيرين بأن قريشا كانت أفصح العرب إذ في رأيه أنه لو صح هذا الزعم لأخذ الرواة والنحاة الشعر والنحو عن قريش وأهملوا عرب البادية. ولو كان التنزيل بلغة قريش لاعتمد الشراح أهل مكة في تفسير ما استغلق من غريب القرآن. زد على ذلك أن قريشا لم ينبغ فيها شاعر مشهور ولا خطيب مذكور، فلا شك إذن في أن(868/16)
ما ذهب إليه الناس من القول بتفضيل لغة قريش لم يكن مصدره سوى حب الرسول واعتبار تكريم قبيلته تكريما له.
وغريب أن يتفرع نالينو للكتابة في المجلات والجرائد إبان انصرافه إلى الدروس التحليلية وإلقاء المحاضرات في جامعتي مصر وروما، وكانت محاضراته في الجامعة الأخيرةخاصة بتاريخ اليمن القديم وجاهلية بلاده مما ساعد كثيرا على فهم الإسلام ونشأته. وما من شك في أنه لو استطاع لنشر هاتيك المحاضرات القيمة وخلعها إرثا ثمينا.
ومما زاد في مشاغله انكبابه الوقت الطويل على تنقيح مؤلف جاء في ثلاث مجلدات ضخمة كان أصدرها المستشرق الإيطالي ميكالي اماري وتناول فيها تاريخ مسلمي صقلية، وقد عنى نالينو بضبط الأسماء والتواريخ وذكر المصادر من كتب مطبوعة ومخطوطة بحيث جاء ذلك الكتاب دليلا ساطعا على سعة اطلاع هذين العالمين المستعربين.
ويقصر باعنا وعلمنا ويضيق بنا الوقت والمجال عن ذكر كل ما ألفه علماء الغرب وعلى الأخص نالينو مما لا عهد لصحافتنا وكتابنا بمعالجته وكله يتعلق بالإسلام. وقد نقب عليه في فقه اللغة وغريب اللغة والشرع الإسلامي والفرق الإسلامية، قديمة كانت كالخوارج والشيعة والمعتزلة والقدرية، أو حديثة كالوهابية. وعلى هذه الصورة من المتانة في التعبير والدقة في البحث جاء ما كتبه عن المتصوفة في الإسلام وأشعار ابن الفارض والرئيس ابن سينا في الحب الإلهي والفروق التي تفصلهما عن متصوفة اليونان المشركين.
- 4 -
وظل نالينو منذ نشأته معنيا بشؤون الشرق، قديمها وحديثها حتى تنبهت إيطاليا إلى ما للشؤون الشرقية والإسلامية من الأهمية في ساسة الدولة، وكان ذلك على اثر خروجها من الحرب العالمية الأولى فإنشأ (اماديو جانيني) في روما معهد الشرق وعهد نالينو بإدارته العلمية. وكان في مجلة مقررات المعهد إنشاء مجلة شهرية بعنوان (الشرق الحديث) تبحث في الشؤون السياسية والاقتصادية التي تتعلق بالمشرق الإسلامي فقام نالينو بالمهمة التي أسندت إليه خير قيام. وكان في الوقت نفسه يشرف على المجلة ويتعهدها بقلمه ويودعها من الأبحاث كل طريف مفيد. وعلى كثرة مشاغله لم يكن يهمل مطالعة كل ما يرد عليه من المجلات والجرائد والمنشورات العربية على اختلافها ويستفيد مما يطالعه أبحاثا للمجلة(868/17)
التي لا تزال توالي الصدور بعد أن أفل نجم منشئها المتوقد.
ويجمل بنا ذكر المكتبة النفيسة التي أنشأها هذا العالم العامل وأودعها كل ما عثر عليه واستطاع اقتناءه من الآثار الأدبية والعلمية في البلدان العربية التي زارها وكل ما صدر في أوروبا من كتب الاستشراق حتى أصبحت أغنى مكتبة خاصة بالمختار من الكتب النادرة. والغريب أنه بدأ بجمعها وهو بعد فتى رقيق الحال قليل المال وزادها أضعافا بعد أن اصبح في يسر وإقبال.
وبلغ من شهرته العالمية أنه انتخب عضوا في الجمعية الملكية الآسيوية في لندن والجمعية الألمانية المضارعة لها، وهو مشرف رفيع نادر لم يظفر به سوى فطاحل العلماء. أما في الشرق فقد عرفت له جمعياتنا العلمية مكانته وضمته إلى سلكها ابتداء بالجمعية الملكية المصرية سنة 1932 كما أصبح من الأعضاء العاملين في مجمعي دمشق وبغداد. وفي سنة 1938 أم البلاد السعودية فاستقبل فيها بالإكرام والإجلال وطاف بها من العقبة حتى الطائف تصحبه كريمته الآنسة ماريا غير عابثة بقطع القفار وتجشم الأخطار. وبهذه الرحلة تمت له أمنية طالما راودته وكان اغتباطه عظيما بتغذيته بصره وتشنيفه سمعه بما وعاه ذهنه من أوصاف تلك البلاد وما كتبه بشأنها من أبحاث وألقاه من دروس فعاش مع أهلها عيشة البداوة واطلع على عاداتهم وسمع لهجاتهم وإنشادهم الشعر في سمرهم وهم يصطلون في خيامهم السود أو متكئون حلقات على بساط الرمال. وهناك استعاد إلى ذهنه الحوادث الجسام والانقلابات التاريخية التي مثلت فيما عبر على مسرح تلك الجزيرة المترامية فطوت الأيام الحوادث والرجال وبقى المسرح شاغرا لتحتله فرق جديدة تمثل عليه أدوارا ترمز إلى العصر الجديد.
وكانت أمنيته الثانية بعد عودته أن يصف تلك البلاد وصف شاهد عيان ويقيم المقابلة بين ما عرفه من ماضيها وما خبره من حاضرها ولكن شاءت الأقدار أن يكون تسليمه عليها وداعا وأن تكون آخر بقعة أمها ولم يمهله ريثما يستعيد ذكرياتها في خلواته ويدون بشأنها معلوماته فذهب في سنة 1938 مذكورا بمآثره الغر مأسوفا عليه من كل من عرف فضله ونهل من ينبوع علمه الفياض ليتلألأ كنجم ساطع في سماء النبل والفضل وينعم بالخلود.
العصبة الأندلسية(868/18)
يوسف الخوري(868/19)
مطالعات في العهد القديم
الخطيئة والمعرفة
للأستاذ محمود الشرقاوي
في أمسية من أمسيات هذا الشتاء المنقلب المضطرب القاسي وكان يوما غائما لم تظهر له شمس، دخلت إلى خزانة كتبي وأنا قلق النفس ابحث عن شيء ولكني لا أدري ما هو، وأشعر في داخل نفسي بشيء من ذلك الشعور الحزين الغامض الرقيق لم أدر له سببا ولم أدرك له تعليلا، اللهم إلا أن يكون مشاركة الطبيعية فيما هي به من الظلام والكآبة والقلق، أو هو انسحاب ما في السماء من غيوم إلى ما في النفس من إحساس.
وقفت أمام الخزانة لاختار كتابا، من غير قصد، أي كتاب، أسري بالمطالعة فيه عن نفسي واصرف عنها هذه الكآبة الغامضة الرقيقة.
هذا تفسير الكشاف، نعم، ولكنه يحتاج إلى تدبر وإمعان وتهئ، وليس نشاطي الآن مما يساعد على التدبر والإمعان.
هذا ديوان البحتري، نعم، ولكنه شعر، وما أنا بسبيل البحتري وما فيه من صياغة وتحتاج إلى نفس ناصعة كشعره لا إلى نفس غائمة تغشاها هذه السحابة من الحزن.
هذا هو الكتاب المقدس بعهديه، القديم والجديد، نعم. لأقرأ فيه شيئا. ولا بد أن ينسكب شيء مم فيه من الأيمان والاطمئنان على ما في نفسي من الجزع والقلق.
وأخذ الرب الإله آدم، ووضعه في جنة عدن ليعمل ويحفظها وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة (معرفة الخير والشر) فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت.
وقالت الحية الخبيثة للمرأة (أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية، من ثمر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه (تنفتح أعينكما) وتكونان كالله عارفين الخير والشر).
قد تكون الخطيئة إذن هي الطريق للمعرفة؛ والثمرة المحرمة قد تخرج الإنسان من الجنة إلى محنة الحياة ولكنها تخرجه أيضاً إلى عالم المعرفة والإدراك والتجربة والنور، أو كما(868/20)
قالت الحية تفتح العين وتجعل الإنسان كالله عارفا الخير والشر، ولذلك عندما أخذت المرأة (من الثمرة وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل، انفتحت أعينهما وعلما أنهما عاريان) وكانا من قبل أن يأكلا (كلاهما عريانان، آدم وامرأته، وهما لا يخجلان) وعند ذلك خطا (أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر)
كانا عريانين من قبل الخطيئة ولكنهما لا يخجلان لأنهما لم يدركا عريهما، فلما أكلا من الشجرة المحرمة عرفا الخير من الشر والحسن من القبيح وأدركا عريهما فاكتسيا.
وهذه ثمرة الخطيئة. المعرفة.
ولذلك قال الرب وهو ينادي آدم في الجنة (أين انت؟ فقال. سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت) فقال له: من أعلمك أنك عريان! هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها!) فقد عرف آدم إذن - كما قال الرب - عريه في خطيئته.
وكانت هذه الثمرة، أو هذه الخطيئة، سببا في أن غضب الله على آدم وزجه وعلى تلك الحية الخبيثة التي أغرتهما بالمعرفة ليخطئا أو جعلت المعرفة سبيلا لمقارفة الخطيئة، فعاقب الله الثلاثة على السواء، وكان عقاب آدم وحواء أن يخرجا من الجنة، ولعن الله الأرض كلها بسبب آدم وجعله (بالتعب يأكل منها كل أيام حياته وشوكا وحسكا تنبت له ويأكل عشب الحقل). ويعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلىالأرض التي أخذت منها لأنك تراب والى التراب تعود).
وقد تال آدم وحواء هذا الغضب كله من الله وخرجا من الجنة مطرودين، ولكنهما أدركا (معرفة الخير والشر) وهذه المعرفة نفسها - بنت الخطيئة - قد أوشكت أن ترد إلى آدم وحواء ما فقدا من الحياة الأبدية حتى يخرجهما الله من جنته قبل أن تدلهما المعرفة على شجرة هذه الحياة الأبدية الدائمة. فإنه بعد ذلك يقول الرب الإله: (هو ذا الإنسان قد صار (كواحد منا) عارفا للخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياةأيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد) وأخرجه الرب الإله من جنة عدن (ليعمل الأرض التي اخذ منها).
فهذا آدم الذي أخرج من الجنة بالخطيئة، كاد أن يدخل في زمرة الآلهة بنفس الخطئية.
ومن الناس من يعيش الآن - على الأرض الملعونة - وهو سعيد ناعم، كأنه في الجنة، لأنه يعيش على هامش الحياة تلك الحياة النباتية التي لا تنفعل ولا تتأثر ولا تدرك إلا ما(868/21)
يحيط بها أو يمس خاصة شأنها أو طعام يومها. فهي في نعيم ولكنه بعيد عن (نعيم) المعرفة. ذلك النعيم الذي لا يدرك ولا ينال إلا بالاقتحام وشجاعة القلب والذهن والمغالبة والإقدام.
وكذلك كانت حياة الرواد والمخترعين والمفكرين والقادة وكل أولئك الذين أفادت البشرية كلها من حياتهم ومعرفتهم وتفكيرهم وخطاياهم، قديما قال الشاعر العربي
ذو العقل يشقى - في النعيم - بعقله ... وأخو الشقاوة - في الجهالة - ينعم
وكذلك يقول العامة (المجانين في نعيم.!)
ولحكمة بالغة أراد الله لآدم وحواء أن يقارفا الخطيئة حتى يعرفا - ونسلهما من بعدهما - الخير والشر، وما قيمة الحياة بلا معرفة.؟
وفي كتب العقيدة الإسلامية والتفسير - وخاصة كتاب (المواقف) - مباحث بارعة عن الإنسان والملائكة وأيهما افضل.؟ الملاك الذي لم يقارف معصية لأن الله برأه من الشهوات والنزوات والرغبات وخلقه بفطرته للطاعة؟ أم الإنسان الذي خلقه الله وركب فيه النوازع والرغائب وسلط عليه همزات الشياطين؟
محمود الشرقاوي(868/22)
ألكسيس كاريل
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
عقلية من تلك العقليات الخصبة التي أفادتها الخبرة أكثر مما أفادتها المعلومات، وذهن صوفي متطلع إلى معاني الحياة بين المظاهر المعاشية دون توقف عند حدود المسطور والمقروء. فهو مثال الرجل الذي يحس الإنسان عند قراءته بأنه في حضرة مفكر ابتعد عن التفاصيل والتفت إلى الكليات ونظر في حقائق الامور، لا من حيث هي مبحث موقوف على نوع خاص من أنواع الدراسة، وإنما من حيث هي مجال للتأمل والتدبر في كل حين، وعند كل إنسان. فثقافته أكبر من تعليمه، وتربيته أكثر من معرفته، فجاءت كتبه حية تنبض فيها الدم، عميقة تأسر اللب، واضحة وضوح العبقرية المتزنة بعد أن اضطربت في كمينها عصارة العلم والفلسفة والأدب جميعا.
ذاك هو الكسيس كاريل مؤلف كتاب الإنسان ذلك المجهول ولد في فرنسا بالقرب من ليون في سنة 1873. وبعد أن نال الدكتوراه ودرجة أخرى في العلوم سافر إلى الولايات المتحدة عام 1905 حيث اشترك في معهد روكفلر للأبحاث الطبية بنيويورك ولم يعد من هنالك إلى فرنسا مرة أخرى إلا بعد أربع وثلاثين سنة أي في عام 1939، واشترك بعد هذا في أعمال حربية حتى نوفمبر من عام 1944 حيث مات تاركا تراثا علميا رائعا ومخليا بعض الكتب من غير إتمام. ومن مؤلفاته كتاب عن الصلاة وكتاب بعنوان (الطب الرسمي وطب الزندقة) وقصة كتبها في سن الثلاثين بعنوان (رحلة مدينة لورد). وهذه القصة بوحي من زولا ومطبوعة في مجموعة تضم يوميات وتأملات وابتهالات. أما كتابه عن (سير الحياة) فقد كان يزمع أن يجعله على طراز الإنسان ذلك المجهول ومكملا له. إذ جاء كتابه الإنسان ذلك المجهول فريدا في نمطه، فذا في نوعه، ومشجعا له على أن يتبعه بآخر من نفس الطراز. وقد اشتهر هذا الكتاب في الأوساط الثقافية جميعها: أوربية وشرقية، لما فيه من تجربة إنسانية عميقة ونظرة عليمة ممتزجة بروح صوفية جارفة.
وقد حاول كاريل أن يوقف هذا الكتاب بصفحاته الثلاثمائة على دراسة الإنسان من نواحيه المختلفة؛ وكان يؤمن بأنه لا بد من أن نعطي تخطيطا عاما لما تقدمه لنا العلوم المختلفة من المساعدات إذا شئنا أن ندرك حقيقة ذواتنا وأن نقف على ماهية نفوسنا. ومن الضروري(868/23)
في رأيه - علاوة على ذلك - أن نصف في تدقيق شامل وفي تفصيل كامل تلك العمليات الطبيعية والكيميائية والفسيولوجية التي تختفي من وراء ذلك الاتساق الجمالي في حركاتنا وأفكارنا. وكان مقدرا لهذا العمل أن يكون مستحيلا لو لم تسمح لنا أساليب المعيشة في العصر الحديث من الملاحظة والتجريب، ولو لم تقدم لنا المعونة من اجل تحقيق هذه الرغبة الهائلة. فبفضل المنشئات العلمية التي تعني بالنواحي المختلفة من الإنسان استطاع الدكتور كاريل أن يمد التفاته وأن يرعى بنفسه مجالات الحيوية الكثيرة لدى الأفراد.
وليس لكتابة هذا من غرض كما يقول هو نفسه إلا أن يجعل تحت أيدي الناس مجموعة من النتائج العلمية والحقائق الخاصة بالكائن البشري الذي يحيا في هذه الفترة بالذات. فعلى هذا النحو يمكننا أن نلمس جوانب الضعف في مدينتنا ونحس بما بدأ يظهر عليها من أعراض التهالك والانهيار. فإذا صح أن هناك طائفة معينة نخصها بهذا الكتاب الذي بين أيدينا فأظنها تلك الطائفة التي آثرت الهروب من حياتنا الاجتماعية والإفلات من أسر عادلتنا الحديثة وقيودنا المصطنعة. والكسيس كاريل نفسه واحدا من هؤلاء؛ إذ آثر في آخر أيامه أن يعتزل في جزيرة سانت جيلدا حيث أمضى بقيه عمره.
ولما تأمل كاريل حياة المجتمع الحديث أحس بأننا قد شغلتنا المسائل الشكلية عن أمور جوهرية في غاية الأهمية بالنسبة إلى الإنسان في معاشه وتصرفه ووجوده. ولعل حياتنا اليوم قد غدت أكثر صعوبة وتعقيدا وأشد اضطرابا وأدهى للتفكير في أمر موقفنا منه بعد كل هذه التغيرات. وإذا كان للعلم في حد ذاته قيمة ما، فذلك لأنه يؤثر في كياننا بأجمعه ويجعلنا نرتد إلى أنفسنا ونناقش أفعالنا ونجدد أخلاقنا. أما أن يكون العلم مدعاة للانشغال عن الإنسان بهذه الأشياء العارضة في حياتنا، وبهذه المظاهر التي تنأى بنا عن الذوق والخير والصحة، فذلك أكبر دليل على أننا لم نحتط للثورة التي أحدثناها بايدينا، ولم نعد العدة من أجل أن نوجد مثالا حيويا يحقق آمال الإنسان وأمانيه قبل أن يرضي مطامعه وشهواته.
ومن هنا حاول كاريل أن يؤكد ظاهرة التكيف وأن يضعها في المرتبة الأولى من مظاهر الحيوية الإنسانية. وذلك طبيعي بالنسبة إلى عقليته التي ترى ضرورة المواءمة بين علوم العصر الحاضر وبين حياة الإنسان في المجتمع. فالعلم الذي لا يفيد في أستناد الإنسان إليه(868/24)
عند حل مشاكله المختلفة لا ينفع في شيء ولا يؤدي إلى نتيجة ذات قيمة. وظاهرة التكيف هي الأمل الوحيد الذي يفتح أمام الإنسان منفذا إلى حياة مستقيمة كريمة بازاء أحداث الحياة ودلائل الحضارة. ثم أن الدكتور كاريل يؤكدها ويبين خطرها وهو يعلم أن الأمر لا يقتصر على الاستفادة من جانبها الفسيولوجي، وإنما يمتد اكثر فاكثر إلى الناحية الاجتماعية وهي الناحية الجديرة باعتبارنا بما نتصف به من الآدمية. فالمفكرون والفلاسفة يعرفون ظاهرة الجسم الطبيعية في تكيفه مع البيئة ومع الحرارة والبرودة ومع المؤثرات الخارجية، ويعلمون أن قد كان من المستحيل على الأطباء أن يتقدموا قيد أنملة في علوم الجراحة والتضميد لو لم تكن هذه الظاهرة محل عنايتهم واهتمامهم. ولا بد لهم بعد ذلك أن يتعضوا بالتقدم الهائل الذي أحرزه الأطباء نتيجة لالتفاتهم إلى هذه الحقيقة. إذ أنهم يستطيعون في بابهم أن يقيموا علوما في غاية من الخطورة على أساس من بحثهم لظاهرة التكيف الاجتماعي.
فالعمليات الحيوية العقلية تجنح إلى خدمة الفرد وأعانته على أداء مهماته. مثال ذلك أن الإنسان يندفع عادة وراء فضوله ورغبته الجنسية، وطموحه وحبه للمال حتى يجد نفسه في أجواء غير مألوفة لديه أو لعلها تصل إلى درجة المعاداة له. وها هنا يتحقق من ضرورة الغلبة والانتصار على العناصر التي تحيط به أو أن يكبت الدوافع التي تشب في صدره وتتأجج في خاطره. ومن المستحيل أن يتم لنا العمل الأخير للقضاء على النزعات الباطنية من غير أن نعني بالتكوين الفردي المستقل للإنسان. أما عن العمل الأول، وأعني به الغلبة والصراع مع العناصر المحيطة والظروف المجتمعة، فلا شك أن الإنسان يحتاج عند النزول إليه والاشتباك فيه إلى قوة شخصية وطاقة نفسية تعينه على أن يطمح ولا يطمع، وأن تمتد يده بالحق، وأن يضرب في صفوف الخير، وأن يسعى بغير أن يسيء سعيه إلى الآخرين. ليس هذا فحسب وإنما يدخل ضمن عملية التكيف الاجتماعي هرب الإنسان عند اللزوم. فالهرب لا بد منه في كثير من الأحيان وخاصة عندما يستحيل النمو الصحيح والتكامل المشروط مع المجتمع الذي نعيش فيه.
فهناك أشخاص لا يستطيعون أبدا أن يتكيفوا مع الجماعة. من بين هؤلاء ضعاف العقول، ومن بينهم من سلم عقله ولكنه أمضى فترة طويلة بين الأشرار والأوغاد حتى استحال عليه(868/25)
أن يعود من جديد فيتكيف مع الحياة الاجتماعية السليمة. وإن لم يستطع علماء الاجتماع أن يستفيدوا من هذه الظاهرة فاغلب الظن أن علومهم ستكون قليلة النفع بالنسبة إلى المستقبل. ومن هذا كله نرى أن أهم ما في ظاهرة التكيف هو أنه تفتح أبواب الأمل للإنسان المسكين في تقدمه وارتقائه الذي يحدث على صورة وثبات ونهضات متفاوتة أو حركات طورية مستديمة.
ثم في هذا الكتاب الذي وضعه كاريل تفصيل دقيق لفكرة الزمن. ولأول مرة في تاريخ علم النفس يأتي باحث ليقدم مثل هذه الدارسات القوية العميقة في آن واحد. لقد حاول أن يحدد أنواع الزمن فجاءت ارع من بينها زمن جديد بالمرة هو الزمن الفسيولوجي. وكما استطاع كاريل أن ينتقل بظاهرة التكيف من مجالها العضوي المحدود إلى مجالات الحياة الفسيحة، حاول ها هنا في كلامه عن الزمن أن يبرز أهمية الزمن الفسيولوجي كم الناحية البيئية الخالصة. وهو في أصله عبارة عن الوقت الذي يستغرقه الجرح حتى يلتئم أو الذي يمر على العضو الجسدي إبان تكوينه.
وتكلم بإفاضة عن الزمن النفسي فقال إنه نوع من القياس الشعوري لكمية العواطف والانفعالات التي تتدفق من باطن الوجدان ومن داخلية الفؤاد ساعة تأثره وتجاوبه مع الوقائع الجارية في حياتنا الخاصة أو العامة. وإذا كان يمكننا القول بان الزمن النفسي يعتمد على شيء سواء فلن يكون ذلك الشيء غير الذاكرة الإنسانية. إن الذاكرة هي التي تجعلنا نحس بمرور الزمن وبتواصله على قدر ما تعيننا الأحداث في الخارج أو تصوراتنا الخاصة داخل نفوسنا. والدليل على ذلك أن تكوين شخصيتنا على وجه التعميم قائم على أساس من تذكرنا للتاريخ الفردي واستحضارنا لما جرى لنا في الأيام الماضية.
والملاحظة الثانية التي يسوقها كاريل في تعليقه على الزمن النفسي هي التي يعتمد عليها في تأييد وجه الاختلاف والتباعد بين كل من الزمن الفزيائي والزمن النفساني. فها هنا يذكر أن الزمن الطبيعي (الفزيائي) الذي يمضي علينا في سن الطفولة والبلوغ لا يزيد عل ثمانية عشر عاما، بينما تزيد سنوات النضوج والشيخوخة في عمر الفرد على الخمسين أو الستين. فالإنسان يبدأ في فترة نمو قصيرة ثم تعقبها فترة تمام وانحلال طويلة. ومع هذا فإن الزمن الفزيائي يفقد كل قيمة هنا تبعا لشعور الإنسان بان سنوات الطفولة طويلة(868/26)
وبطيئة بينما يحس أن السنوات تكون قصيرة جدا أثناء الشيخوخة. وهذا يثبت مفارقة عجيبة ويبرهن على أن الزمن النفسي محل اختلاف دائما في تقديره والإحساس به وتعداد جزئياته عند الأفراد.
وهنا يجري قلم كاريل بفقرة تعد من أرفع ألوان الكتابة الأدبية. يقول (تبدو لنا أيام طفولتنا كما لو كانت بطيئة جدا. أما أيام نضجنا فتمتاز بسرعتها التي تبعث على الفزع. وقد يكون هذا الشعور ناجما من إننا نضع الزمن الطبيعي بطريقة لا شعورية داخل إطار المدة. ويبدو لنا الزمن الطبيعي مختلفا من غير شك عن تلك المدة بصورة عكسية. إذ ينزلق الزمن الطبيعي بسرعة واحدة بينما تنقص سرعتنا نحن دائما. ويشبه ذلك نهرا كبيرا يجري في سهل، ويمشي في ذلك السهل إنسان نشيط محاذيا النهر منذ طلوع النهار. وتبدو له المياه آنئذ كسولة ولكنها تزيد من سرعتها شيئا فشيئا. وعند الظهيرة لا تسمح المياه لذلك الإنسان النشيط بأن يتخطاها. . أما إذا اقترب المساء فإنها تضاعف من سرعتها، وغالبا ما يقف الإنسان بينما يمضي النهر في طريقه بغير إشفاق. والحق أن النهر لم يغير قط من سرعته ولكن سرعة خطونا هي التي نقصت. ومن الممكن أن نعزو البطء الظاهر في بدء الحياة، وقصر المدة الختامية إلى أن السنة كما نعلم تمثل لدى الطفل والشيخ نسبا مختلفة من حياتيهما الماضيتين ومع ذلك فإن الأكثر احتمالا هو إننا ندرك إدراكا غامضا مشى زماننا الداخلي الذي يبطيء إلى غير حد والذي يتمثل في عملياتنا الفسيولوجية. وكل منا هو الإنسان الذي يجري على طول النهر ويعجب حينما يشتد تزايد سرعة مرور المياه.)
وأخطر وأهم من هذا كله ما يقوله الكسيس كاريل عن ظاهرة التصوف. والذي يمتاز به هذا الجانب النظري في عرضه هو أنه امتزج بروحه وصادف تجاوبا مع نفسه ولاقى ميلا واندفاعا هائلين من داخلية ذاته يؤيدان تفكيره وهواه. وحماس كاريل النظري في العرض الفلسفي لهذه الظاهرة لم يكن مجردا من التجربة الشخصية ولم يكن محروما من التأييد الحيوي. فكان كاريل متصوف قبل أن يكون في عداد العلماء، وجرت عليه نزعته تلك متاعب كثيرة، إذ اعتبره رجال الكنسية خارجا على أحكام الدين. وبعض أقواله تذكرنا بالوثنيين الأقدمين. قال في يومية بتاريخ 31 يوليه 1941 (يستطيع الذين بقدرة فائقة أن يعين الإنسان على ملاحظة قواعد الحياة بناء على ما يضيفه العنصر العاطفي إلى العنصر(868/27)
العقلي. إن الناس مهيئون على نحو يجعلهم محتاجين إلى التجاوب مع كائن حي أكثر من تجاوبهم مع فكرة ما. وكثير من الناس قد ضحى بحياته من اجل وطنه، ولكن التضحية تكون أكثر إمتاعا إذا كان موتهم من اجل نابليون. إن حب الرجل أقوى من حب الفكرة. إن الراهبة التي تقوم منهوكة في الرابعة صباحا كيما تبدأ عملا لا ينتهي أبدا، إنما تبذل هذا المجهود المخيف حبا في المسيح وحبا للمساكين والصغار، وليس ذلك من الشعور بالغيرية أو من الرغبة في شغل عمل بين الناس. ولذلك فإن الدين يبث في السلوك عنصرا عاطفيا. فهذا الكلام على صحته وعمقه لا يلائم جماعة المتدينين الذين يريدون التجريد ويزعمون الخلاص تجربة الروح بين أجراس الكنيسة وإنشاد الآباء.
ومن ابتهالاته التي نشرت في نهاية قصة مدينة لورد قوله: إلهي: أشكرك لأنك حفظت لي الحياة أمدا أطول من الأمد الذي خصصت به زملائي الأقدمين. قبل أن تطوي الكتاب هبني من لدنك فضلا يريني ما خفي علي حتى الآن. لقد كانت حياتي كالصحراء بسبب حرماني من معرفتك. . . فلتأمر على الرغم من الخريف بأن تزهر الصحراء. وستكون كل دقيقة من الأيام التي تبقت لي موقوفة لجلالك. ولا أطمع في شيء من أجل نفس سوى رحماك. وسأبقى بين يديك كالدخان الذي تحمله الرياح. فاعطني النور حتى أقوى على إعانة أولئك الذين أحبهم. ومن كلامهأيضاً في هذا الباب: إلهي. خذ بزمامي بعد أن تهت في الظلام. وسأفعل كل ما توحي علي إرادتك بفعله. ينبغي أن أقترب من جلالك يا إلهي بكل نقاء وتضرع. فكيف أصلح الشر الذي تسببت فيه الآخرين وآتي اليوم خيرا كنت قد قصرت في فعله؟
ومن ابتهاله ليلة عيد الميلاد: أي إلهي. كم آسف لأنني لم أستطع أن أفهم شيئا في الحياة! وكم آسف لأنني قد حاولت أن أفهم أشياء من العبث أن نحاول فهمها. فالحياة لا تحتوي على الفهم وإنما على الحب ومساعدة الغير والصلاة والقيام بالأفعال. فليكن أجلي متأخر يا الهي، ولتأمر بان تظل الصفحة الأخيرة من الكتاب غير مكتوبة حتى يمكن أن يضاف فصل آخر إلى هذا الكتاب الفاسد. تكلم فعبدك الحقير منصت لك. أنه يهبك ما بقي له، ويضحي من أجلك بحياته كما لو كانت صلاة. أنه يطلب إليك أن تهديه سواء السبيل. . سبيل البسطاء والمحبين والمصلين فاغفر له كل الأخطاء التي جناها في حياته. وأعط(868/28)
النور من كان جاهلا بالمرة. فكل لحظة من الزمن تسمح له بأن يحياها ستمر لتحقيق مرادك في السبيل الذي تختاره أنت من أجله. أي إلهي. في هذا اليوم الذي يعيد ذكرى ميلاد ولدك، أجعل منك النهاية الكلية لذاتي وأرسم عليك حدودي آسفا لأنني قد مررت خلال الحياة كالأعمى.)
فألي هؤلاء الذين يؤمنون بالباطن من أهل التصوف أقدم هذه الشخصية التي آمنت بالروح وهي في أسفل مباحث المادة، وتشربت بالنزعة الصوفية وهي في غمار العلم الخالص، واستطاعت أن تنفذ إلى السماء بين ضوضاء المدنية المترفة وجلبت الحياة الصارخة وناموس الطبيعة المبسوط.
عبد الفتاح الديدي(868/29)
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ محمد سيد كيلاني
من 1825 - 1880
الساعاتي
وقال:
وجه البسيطة ضاق عن جيش به ... رمت العدى فركبت هول الأبحر
وفيه مبالغة كاذبة. وفضلا عن ذلك فإنه عظم من شأن العدو وأسبغ عليه من مظاهر القوة والمنعة ما حمل الممدوح على تجهيز جيش كثيف ضاق به البر ليلقى به هذا الخصم العنيد الجبار ولو كان الخصم ضعيفا هينا لما احتاج الممدوح إلى هذا الجحفل الجرار.
ومنها:
سرتم وموج البحر يلطم وجهه ... أسفا على الأعداء كالمتحسر
والسحب ترسل أدمعا من حزنها ... والرعد يندب في قبائل حمير
والجو مسود الجوانب عابس ... والبرق يضحك منه كالمستبشر
وفي هذه الأبيات صور الطبيعة عابسة حزينة باكية على ما سيلحق الأعداء من الخطوب. وهذا لا يحدث إلا إذا كان العدو عظيما. فالطبيعة لا تبكي إلا على عظماء الناس.
ولاشك في أن الشاعر لم يكن موفقا حينما حشر هذه الأبيات في هذه القصيدة. فمن المستقبح أن يخاطب الممدوح بمثل هذا.
وقال:
والجاريات تآزرت بقلوعها ... والريح قد لعبت بفضل المئزر
رقصت على نقر النسيم بدفها ... وتمايلت بالتيه كالمستكبر
شبه السفن بالنساء وقد تحجبت بالقلوع. وبقي من كل قلع جزء أضحى لعبة في يد الرياح تحركه كيف شاءت. وهذه السفن ترقص حينما ينقر النسيم على دفها. وتميل تيها وكبرا. ونسي الشاعر أن الرقص والتمايل مما لا يستحب في السفن، لأن السفينة لا ترقص إلا إذا تعرضت للأخطار وحاقت بها الزوابع والعواصف. حينئذ لا تقوى على السير ولا تستطيع(868/30)
أن تشق طريقها فتعلو وتنخفض بفعل الأمواج. وهذا هو الرقص الذي يريده الشاعر. ولا ريب في أن التوفيق قد أخطأه. والسفينة لا تميل تيها وكبرا، إنما تميل ضعفا وعجزا، وتكون عرضة للغرق بنم فيها.
ونسي الشاعر الجنود الذين في هذه السفن. ولو أنه خلع من بأس هؤلاء العساكر وقوتهم صورة للسفن فيها روعة وجبروت وعزة لكان ذلك أنسب للمقام، ولا سيما أن الممدوح ذهب للقتال والنضال. فتصوير السفن بالنساء المتحجبات لا يتلاءم مع الجو الحماسي الذي ينبغي أن يخلق في هذه الحال. على أن الساعاتي قد أجاد وصف هذه السفن في قصيدة أخرى حيث يقول:
وشقت لهم صدر العباب سفائن ... بدت كالجبال تحتها البحر أزبدا
رمتهم بأمثال الصواعق أضرمت ... فكاد بها الدأماء أن يتوقدا
ففي هذين البيتين ترى صورة مرعبة مخيفة. وهي من غير شك مناسبة لمقام الحرب. وللساعاتي أبيات في وصف بعض السفن البخارية التي كان يملكها سعيد باشا، ومنها:
وقلاعها مثل القلاع شواهق ... تحت البنود ومشيها خيلاء
وقد أتى في هذه الأبيات بما يتفق مع الطابع العسكري الذي اتسمت به الزحلة السعيدية إلى الأقطار الحجازية.
وقال:
طارت بنا نحو الحديدة سرعة ... مثل السوابق في العجاج الأكدر
حملت لها جيشا منذ انتبذت به ... غربيها وضعت أسود العسكر
من كل مولود لديها لم يزل ... في النقع يلعب بالحسام الأبتر
بعد أن شبه السفن بالنساء ترقص وتميل استطرد فصورها حينما طارت نحو الحديدة بالخيول العوابس الجبارة.
وفي هذا تناقض بين صورة النساء المتحجبات وبين الخيول العوابس. وفي البيت الثاني نظر الشاعر إلى قصة مريم. فشبه السفن بالنساء الحوامل. فلما وضعت جاءت مواليدها أسوداء. وصورة الحمل والوضع من الصور الضعيفة. وخير من هذا قوله:
رمتهم بأمثال الصواعق أضرمت ... فكاد بها الدأماء أن يتوقدا(868/31)
وقال:
ولدوا على مهد العلا وقد اغتذوا ... بدم العدى وتكحلوا بالعثير
ففي قوله (ولدوا على مهد العلا) معنى جيد. أما بقية البيت فتوحي بصورة كريهة، واخلق بمن يتكحل بالعثير أن يصاب بالعمى.
وقال:
رفعوا الخيام على النجوم وأوقدوا ... في الأرض نارا بالقنا المتكسر
وقد أغرم الساعاتي بهذا المعنى فجاء به في قصائد كثيرة. وهو من اللغو الذي لا طائل وراءه. وقال:
ولقد أقاموا بالأسنة سوقها ... في يوم حرب بالسيوف مسعر
فقضت ببيع المعتدين سيوفهم ... للنسر لما غاب عنها المشتري
ومعنى البيت الأول مأخوذ من قول الشاعر
أقمنا بالذوابل سوق حرب ... وصيرنا النفوس لها متاعا
والبيت الثاني جميل المعنى غير أنه أخطأ في التعبير عما يريد.
يريد أن يقول إن الجنود لم يجدوا من يشتري منهم المعتدين فقتلوهم وتركوهم نهبا للنسور. فذكر أن جيش ممدوح لما عدم مشتريا باع الأعداء للنسر. وفي هذه الحال يكون النسر مشتريا فلا محل لقوله (غاب عنها) المشتري. ولو قال:
فقضت بمنح المعتدين سيوفهم ... للنسر لما غاب عنها المشتري
لكان موفقا. وقال:
وتواثبوا نحو الحصون فزلزلت ... والقوم بين مجندل ومعفر
حتى إذا اقتلعوا القلاع وأسبلو ... ذيل العفاف رأيت كل مشمر
والمعنى في البيت الأول جيد. غير أن الصورة التي في (معفر) لا تذكر بجانب الصورة التي في (مجندل) أما البيت الثاني ففي منتهى الضعف. وقال:
أسد إذا نزع الدروع لرغبة ... في حتفهم لبسوا دروع تصبر
قوم عصوا إلا لأمر أميرهم ... ملك بفعل خطيئة لم يأمر
والمعنى في البيتين تافه. وتكرار (أمر) و (أمير) و (يأمر) جعل البيت الثاني ثقيل على(868/32)
الأسماع.
وقال:
فضحت مناقبه الملوك وأظهرت ... تقصير كسرى عن علاء وقيصر
وهذا من لغو الكلام الذي دار على السنة الشعراء في ذلك الدور. ومنها:
فتح الممالك لا لكثرة رغبة ... فيها ولكن رغبة في المفخر
والمعنى هنا تافه جدا. وفضلا عن ذلك فأين هي الممالك التي فتحها أبن عون؟ وقال:
ولقد نحاها والبنود خوافق ... والرعب في قلب الحسين وحيدر
والحسين وحيدر كانا من أمراء اليمن في ذلك الوقت. ولكن ذكرهما على هذه الصورة لا يتفق في قصيدة يمدح بها ابن عون الذي يدعوه الشاعر بابن بنت الرسول. فلهذين الاسمين من الإيحاء ما لا يخفى.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(868/33)
رسالة الشعر
قفر وسراب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
ضيعت في دنيا الظلام شبابي ... وطفقت المحه وراء ضباب
حيران يستهدي الطريق فلا يرى ... في موكب الظلماء غير يباب
ومتيهة جرداء إلا غابة ... نبتت على الأشلاء والأسلاب
تعوي الذئاب حيالها مسعورة ... وتمد للسإرين أفظع ناب
والريح تعصف صرصرا مجنونة ... كعزيف جن أو هدير عباب
ضيعته ما بين تلك وهذه ... فمضى وما أدركت فيه طلابي
دنيا وما كادت ترافق موكبي ... حتى طواها اليأس طي كتاب
وتناثرت كالروض ريع بعاصف ... أو كالعنادل فوجئت بعقاب
حسب الحوادث ما يؤجج في الحشا ... نارا وما يطغي على الأعصاب
أطوي الحياة ومثل أمسي ذاهب ... يومي، وأمسي أحمر الجلباب
صديان لكني أعب عصارة ... هي في فمي نار وفي أهدابي
أين الكروم الوارفات تمدني ... بألذ ما تهدي يد الأعناب؟
أو كلما قربت كأسي من فمي ... طفحت شواظا وارتمت بلهاب!
أورحت أستجلي السماء بنظرة ... لاثت عليها السحب فضل نقاب
يا سامرين وللطلي إشراقة ... شتان بين شرابكم وشرابي
أن شاقكم رشف الكؤس فإن لي ... بالهم ما يغني عن الأكواب
أو بات يطربكم صدى أنشودة ... مرنانة فلقد كفاني ما بي
ذوبت قلبي في حنايا أضلعي وصبغت قيثاري به وربابي
وبعثت أنغامي نشيد مكبل ... صب الطغاة علية سوط عذاب
ومشرد في البيد ظل طريقه ... ما بين أودية وبين شعاب
يطوي الظلام وللرياح مناحة ... ضربت على الآفاق ألف حجاب
الشوك ملء طريقه فإذا مشى ... أدماه وخز أسنة وحرأب(868/34)
أو راح ينتبذ الكهوف توثبت ... ذؤبانها مسنونة الأنياب
ويلاه كم أصدى ودون تعلتي ... قفر وما في القفر غير سراب؟
لي مثل غيري في الحياة رغائب ... أكذا تموت كما أموت رغابي؟
وبنفسي الظمأى نزوع مؤمل ... يأبى الحياة تموج بالأوصاب
ماذا جنيت من السنين تمر بي ... كخفوق طيف أو كلمع شهاب؟
أفنيتها لمشيئة موروثة ... عن سالف الأيام والأحقاب
وخسرتها - وهي الشباب - فلم أفد ... منها سوى أني خسرت شبابي
ودفنتها بين الصخور وأبت من ... تأريخها المقبور شر مآب:
رحماك يا دنيا وحسبك ما أرى ... فلقد أطلت مع الزمان حسابي
ما لي وللشكوى وأعظم محنة ... شكوى الغريق لمزبد صخاب؟
ولمن أحرق باللهيب جوانحي ... وأزم في الوادي المخيف ركابي
المستبد لا يمل سياسة ... جبلت على التنكيل والإرهاب؟
أم للسياط على المتون خضيبة ... بدماء من نكصوا على الأعقاب؟
أم للهياكل أستجير بظلها ... فإذا برمت بها فبالأنصاب؟
أم للخشارة لم يكلل مجدهم ... بسوى النعوت السود والألقاب؟
يستمرئون العيش غير مكدر ... من جهد كل ممزق الجلباب!
ويشيدون بيوتهم معروشة ... بأكف من ركعوا على الأعتاب
رحماك يا دنيا وشر بلية ... جيل يظل مشرد الألباب!
ويتيه في بيداء موحشة الرؤى ... والنجم مكدود الملامح كابي
لا لا ولخلف الليل فجر فاغفري ... لي هذه الشكوى ومر عتابي
واستقبلي العهد القريب فربما ... تحيي الغيوم نضارة الأعشاب
إبراهيم الوائلي(868/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أنفاس محترقة:
لست أدري لم لا يلمع الآن اسم الشاعر محمود أبو الوفا، ولم لا ينال حقه من التقدير اللائق به، حتى كد ينساه من عرفه من أهل الجيل، وحتى كاد يجهله الشادون من الجيل الجديد، وهو الذي قال فيه أمير الشعراء منذ ثمانية عشر عاما:
البلبل الغرد الذي هز الربا ... وشجا الغصون وحرك الأورقا
سباق غايات البيان جرى بلا ... ساق فكيف إذا استرد الساقا
وهو نفس الذي قال ما قال ولا يزال من الشعراء ما يقوم حجة على أن الشعر ما زال حيا على رغم قابليه من قائليه. .
لقد سعدت بديوانه الجديد (أنفاس محترقة) وقضيت في روضه أوقاتا طيبة، ومما قرأت فيه رثاؤه لنفسه، إذ يقول:
في ذمة الله نفس ذات آمال ... وفي سبيل العلا هذا الدم الغالي
بذلته لم أذق في العمر واحدة ... من الهناء ولا من راحة البال
كأنني فكرة في غير بيئتها ... بدت فلم تلق فيها أي إقبال
أو أنني جئت هذا الكون عن غلط ... فضاق بي رحبه، المأهول والخالي
لست أدري لم تحترق هذه الأنفاس، ولم يضيق بصاحبها الرحب، ولم لا يأخذ هذا الشاعر مكانه من قمة الشعر العربي في هذا العصر؟
ولكنني أدري. . أنه رجل فقير أبى يضع نفسه حيث تحلق شاعريته، يمشي على عكازة ويوضع الصخر في طريقه، كما قال يخاطب فكتور هوجو:
يا صاحب البؤساء جاءك شاعر ... يشكو من الزمن اللئيم العاتي
لم يكفه أتى على عكازة ... أمشي فحط الصخر في طرقاتي
لو كان محمود أبوالوفا من ذوي النفوذ أو المال في هذا البلد، أو حتى مدير إدارة في أية وزارة، لكان أمير الشعراء. . .
والحق أنني قبل ظهور هذا الديوان لم أكن قرأت كثيرا لأبي ألوف، وإن كان القليل الذي(868/36)
قرأته له من قبل قد هزني، ولعل ذلك - أي قلة القراءة - يرجع إلى انزواء الشاعر في العشرين السنة الأخيرة أو إقلاله من النشر، ويبدو لي كأنه منطويا على نفسه لما لاقاه من أخلاق الناس وعنت الأيام. وهو يعبر عن مكافحته في الحياة، وبصور حياة الكفاح الشعوري التي عاشها، أقوى تعبير وأصدق تصوير كم رأيت في الأبيات المتقدمة التي رثى بها نفسه وبعدها يقول:
أبي وفي النار مثوى كل والدة ... ووالد أنجبا للبؤس أمثالي
خلفتني فوضعت الحبل في عنقي ... تشده كف دهر جد ختال
ما ضرك لو من غير صاحبة ... قضيت عمرك شأن الزاهد السالي
وهو يقول في قصيدة (قلب الفنان)
أمشي وقلبي على كفي أقول ألا ... من راغب في فؤاد صادق حاني
يحب حتى كأن الأرض ليس بها ... إلا زنابق من آس وسوسان
وليس في الأرض من بغض ولا إحن ... وليس في الأرض ظلم وطغيان
وليس من فوقها إلا سواسية ... من الصحاب ومن أخدان أخدان
فلا وربك هذا القلب ما التفتت ... عين إليه فيا للبائس العاني
وفي هذه الأبيات نرى نزعته الإنسانية الصافية، فهو على رغم ما يكابده من الحرمان والنكران يحب، متخيلا أن الأرض كلها روض جميل، وأن الناس يعيشون عليها إخوانا متحابين لا يبغي بعضهم على بعض، وهو يحب ولو أن عينا لا تلتفت إلى قلبه البائس الحاني.
ومن النزاع بين نفسه المتفتحة للحياة وبين الحياة العابسة له قوله:
أحب أضحك للدنيا فيمنعني ... أن عاقبتني على بعض ابتساماتي
هاج الجواد فعضته شكيمة ... شلت أنامل صناع الشكيمات
وهو يبتكر البكاء فيقول في آخر قصيدة (وقفة الوداع)
تعلم يا هزار الروض مني ... أنا لحن النواح ولا فخارا
غيري من يقلد حين يبكي ... ولكني أنا الباكي ابتكار
ولا تستطيع ضرورات الحياة التي يجاهد من اجلها هذا الشاعر أن تحول بينه وبين التغريد(868/37)
والتغني بالجمال، يقول في قصيدة (جمال مصر)
جمالك يا بنت مصر كمصر ... يجمع كل فنون الجمال
ففي مصر حلي النسيم اعتدال ... وفيك يحلى القوام اعتدال
وفيك من الشمس حسن الصقال ... وبعد المنال وبذل النوال
وفيك السهول وفيك الربا ... وعنف الشمول ولطف الشمال
تباركت يا نيل هذا جناك ... وهذي المخايل من ذي الخلال
بل حتى فيما يعبر به عن آلامه تغلب عليه روح التطلع إلى الحب والخير والجمال كما رأيت في أبياته السابقة. وهذا وذاك ومجرد قوله الشعر، يدل على أصالة هذه الشاعرية وقوة بذرتها وعمق جذورها، فهي كنبتة الصحراء تنبت قوية رغم الجفاف وحرمان التعهد، ثم تعيش رغم ما يصطلح عليها من الأنواء.
وقد أكسبه عراك الحياة والاحتكاك بالقساة من الناس الذين لا يصدرون إلا عن الأهواء والأغراض - أكسبه ذلك نفوذ بصيرة إلى دخائل النفوس، فتغلغل إليها بأداته الشاعرة، يقول تحت عنوان (جاء):
لا تلمه إن لم يعنك بجاه ... هو قد باع نفسه واقتناه
فحرام إن باعه دون ربح ... أو بشيء أقل مما اشتراه
وكم هو ظريف في قوله:
أخي قل لي ولا تخجل ... بماذا قد ترقيت؟
وما أنت بذي جاه ... وعمرك ما تزوجت!
أما بعد فما مكان هذا الشاعر بين شعراء هذا العصر، وما هي مدرسته، وما هو مذهبه؟ أسئلة يرددها النقاد ويلحون بها على الشعراء، ويطيلون النظر فيما وراءها. ولكن أبا الوفا لا يلتفت إلى شيء من ذلك، فهو يدع النقاد، عليه أن يقول وعليهم أن يسلكوا قوله فيما (يمذهبون) من المذاهب، كما كان الشعراء يقولون للنحويين: إنا نقول وعليكم أن تعربوا. وكأني بشاعرنا لا يعتد إلا بأمرين هما قوام الشعر فيما أرى:
الأول خصب الشعور وصدقه، والثاني اكتمال الأداة. وقد اجتمعا له فأنتجا ما نحسه في شعره من النبض والجمال، وحسبه أن صور حياته تصويرا يطل منه الفكر اللماح وتنبعث(868/38)
منه الأنغام المطربة.
إن ديوان (أنفاس محترقة) يعيد إلى الشعر اعتباره بعد أن انصرف كثير من الناس عن قراءته لكثرة هذر الشاعرين، وأنا زعيم بأن هؤلاء المنصرفين، إذا عرض لهم هذا الديوان، لن يستطيعوا عنه مصرفا.
حق المحدثين في الوضع اللغوي
عرض على مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسته الأخيرة، المقترحات التي انتهى إليها الأستاذ أحمد حسن الزيات في محاضرته التي كان ألقاها في أول انعقاد المؤتمر عن (الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه) وقد أتيت من قبل بأهم ما دار من المناقشة بين أعضاء المؤتمر على ثر إلقائها. وقد استأنفت المناقشة في هذه الجلسة الأخيرة، فبدأها الأستاذ الزيات بالرد على ما كان قد أبداه بعض الأعضاء من الملاحظات، بين أن قرارات المجمع السابقة تناول المولد والقياس، فيبقى من المقترحات الأربعة اثنان: فتح باب الوضع للمحدثين، وإطلاق السماع من قيود الزمان والمكان، ثم قال: يخشى صديقي الدكتور أحمد أمين بك أن يكون في فتح باب الوضع على مصراعيه مقتحم للفوضى في اللغة فيكثر الترادف بتعدد الوضع، وقد احتطت أنا لذلك فجعلت الكلمة العليا للمجمع في إقرار الوضع، إذ قلت: فأيما كلمة توضع لا تدخل في متن اللغة قبل أن يسمها بميسمه ويدخلها في معجمه وإذا انتفت الفوضى بقي الحق مطلقا لكل متكلم يريد أن يعبر عن ذات أو معنى لم يوضع له لفظ من قبل. وقد توقعت من اختلاف الرأي في مدى هذا الحق، ومن تزمت قرار المجمع في استعمال المولد، أن لجنة المعجم الوسيط ستغفل ما وضعه المحدثون وما عربوه، فلما قرأت حرف الألف من هذا المعجم تحققت ما توقعته، فإن هذا الحرف قد خلا أو كاد يخلو من الأوضاع التي استحدثتها الحضارة واقتضتها الصناعة والزراعة. وأتى الأستاذ بأمثلة كثيرة لذلك، منها أنه ذكر في مادة أبر: إبرة الخياطة ولم تذكر إبرة الحياكة ولا إبرة المحقن ولا إبرة البندقية، وذكرت الاسطوانة للسارية المبنية ولم تذكر الاسطوانة التي يسجل عليها الصوت، وذكرت الآنسة بمعناها القديم ولم تذكر بمعناها الجديد وهي الفتاة البكر، وفي مادة أنف لم تذكر محكمة الاستئناف، إلى أن قال: وهناك غير ذلك كثير من ألفاظ الصناع والزراع أغفلها المعجم وفي يقيني أن المعجم الوسيط وهو أكثر معاجم(868/39)
المجمع دورانا بين الناس لا يغني عن اللغة شيئا إذا أنغض رأسه هو أيضاً للأوضاع الجديدة.
ثم رد الأستاذ الزيات على ملاحظات لمعالي الأستاذ الشبيبي، ومن هذا الرد قوله - فهم معالي الأستاذ من الأمر الرابع وهو إطلاق المسماع من قيود الزمان والمكان أني اقصد المسموع من المعرب وقال إن علماء اللغة الأقدمين قد وضعوا قواعد للتعريب ولم يطلقوه إطلاقا، والذي قصدته من إطلاق السماع إلا يظل مقصورا على ما سمع من العرب الذين جعلوا لهم حق الوضع والتعريب وإنما يجب أن يقبل من المحدثين أيضا، فكما قبلوا من المتقدمين أن يقولوا أيفع الكلام فهو يافع والقياس موفع، وغلام أموي بالفتح والقياس الضم، نقبل نحن كذلك من المتأخرين أن يقولوا مطار الماظة وكان القياس أن يقولوا مطير، وأن يقولوا متحف الحضارة وكان القياس أن يقولوا متحف بالضم، وأن يقولوا مقهى بالفتح وكان القياس، يقولوا مقهى بالضم. فإنا لنكلف الناس شططا إذا أردناهم على أن يعودوا فيقولوا مطير ومتحف ومقهى.
وقد دارت المناقشة بعد هذا البيان، فقال الأستاذ أحمد العوامري بك - فهمت من كلام الأستاذ الزيات أنه يوصي بأن نأخذ من الصناع وأصحاب الحرف الأسماء التي يطلقونها على آلاتهم وأدواتهم دون أن نناقشها ونلتمس وجه الصواب فيها فعندهم أسماء يطلقونها على أجزاء السيارة منها ما يمكن أن يرد إلى ألفاظ عربية، ومنها ما لا يمكن أن يرد، فأما ما يمكن توجيهه فلا أخالف الأستاذ في قبوله، وأما ما خالف قياس العربية فلا يمكن أن نقبله ونثبته في معاجمنا، وعندنا مثلا كلمة مطار فالعامة وجمهور المثقفين يستعملونها وقد بحثتها ووجدت لها وجها في العربية، ولذا لا أمانع في استعمالها بدلا من كلمة مطير التي لم تجر على الألسنة وعندنا كلمة متحف بضم الميم، وقد شاع على الألسن نطقها بالفتح وهو خطأ، فهل نعترف بهذا الخطأ وندخله في معاجمنا؟
قال الأستاذ فريد أبو حديد بك - لماذا لا نقول متحف بفتح الميم؟ أليس في العربية (محجر) اسم للمكان الذي تكثر فيه الحجارة؟ ولنا أن نقيس من الجامد كما نقيس من المشتق فنسمي المكان الذي يضم تحفا كثيرة متحفا بفتح الميم.
وقال الأستاذ الزيات - بعض الكلمات التي ليس لها اصل عربي معروف مثل (الرابوب)(868/40)
وهي الفأرة الكبيرة التي يستعملها النجار ومثل هذه الكلمات يجب أن تدخ المعجم.
وقد تفرعت المناقشة إلى نقط أخرى، ثم وافق المؤتمر على إحالة مقترحات الأستاذ الزيات إلى مجلس المجمع لنطرحها فيه في متسع من الوقت.(868/41)
البريد الأدبي
الأداء النفسي في القصة المصرية القصيرة:
منذ أسابيع، وأنا أرقب من منظار النقد محاولة جديدة في بناء القصة المصرية القصيرة، وكانت نفسي وأنا أرقب هذه المحاولة، موزعة بين الإعجاب الخالص والإشفاق البالغ. . . أما الإعجاب فمبعثه إنني كنت - منذ أمد بعيد - أتطلع إلى ذلك اليوم الذي أعثر فيه على (الأداء النفسي) وقد غزا ميدان القصة، بعد أن عثرت عليه وقد غزا ميدان الشعر.
وحين عثرت على هذا الأداء - فجأة وعلى غير انتظار - غمرتني هذه النشوة التي تغمر كل صاحب فكرة تمليها وجهة من وجهات النقد، وتحققها دورة من دورات الزمن. . . ومن هنا كان هذا الإعجاب الخالص بتلك المحاولة التي بدأها على صفحات (المصري) منذ أسابيع، ذلك القصاص الشاب زكريا الحجاوي!
وقلت لنفسي بعد أن قرأت له أول قصة: ترى أيكون هذا القصاص قد اهتدى إلى النبع، نبع الأداء النفسي الذي كم تمنيت أن تكون أول ريشة تغمس فيه هي الريشة المصرية؟ وامتزج الإعجاب الخالص بالإشفاق البالغ، خشية أن تكون قصته الأولى رمية أصابت الهدف من غير قصد!. . . ونشر الأستاذ الحجاوي قصته الثانية وإذا أنا أرجع إلى نفسي وأراجع إشفاقي: لقد كان المنهج المرسوم والهدف المقصود واحدا في القصتين، ولم تهتز الريشة في يده. إنها تتجه إلى النبع الذي كنت أتطلع إليه في خط مستقيم لا انحراف فيه! وبقي الإعجاب كما كان وتبخر جزء كبير من الإشفاق. . . وحين دفع القصاص الشاب إلى القراء بقصته الثالثة ومن بعدها الرابعة، أدركت تماما أن هناك محاولة جديدة لخلق قصة جديدة، أو بدء محاولة تخطو إلى غايتها في وعي وثبات وهي مفتوحة العينين!
فقد اهتدى القصاص الشاب إلى النبع، وتلك محاولة من حقه علينا وعلى تاريخ الأدب أن نسجلها له. . . ونحن الذين قد قمنا من جانبنا بتلك المحاولة التي تهدف إلى مذهب جديد في النقد هو مذهب الأداء النفسي في الشعر، يسعدنا أن نعثر بين الكتاب المصريين على من يبدأ بمثل هذه المحاولة في ميدان آخر هو ميدان القصة القصيرة. ذلك لأننا مطالبون في هذه الفترة من حياتنا الأدبية بأن يكون لنا كيان فني قائم بنفسه مستقل بطابعه، أعني أنه قد آن لنا أن نتخطى مرحلة المحاكاة الناقلة إلى مرحلو الأصالة الخالقة، أو مرحلة الجلوس(868/42)
حول موائد الغير إلى مرحلة الجلوس حول موائدنا الخاصة!
. . نريد هذه المحاولات (المذهبية) المستقلة وندعو إليها في كل فن من فنون الأدب، فإذا تحقق هذا الحلم الجميل واستجاب له كان كاتب في محيط مواهبه الأصيلة وملكاته الذاتية، أمكننا أن نظفر بذلك (الأدب المصري) الذي تنسب فيه كلمة (المصرية) إلى منهجه الفني المتفرد بطبيعة التفكير وطريقة التعبير، قبل أن تنسب إلى موطنه الذي يضفي عليه ظلال البيئة ويغمره بأضواء المكان!
إننا نبارك هذه المحاولة الجديدة وقد ونلفت إليها الأنظار، وهي المحاولة التي طبقها الأستاذ الحجاوي على قصصه الأربع: (يوم الزفاف و (أنا قديس) و (الطريق الخامس) و (الشارع المسدود). . . وليثق هذا القصاص المصري الشاب أنه لو سار على هذا النهج (المنهج النفسي) الذي اختطه لفنه في بناء القصة القصيرة، ليثق كل الثقة من أننا سوف لا نكتفي بتسجيل محاولته، بل سنعمد إلى وضعها تحت مجهر النقد الذي يكرس وقته وجهده لتحليل كل ظاهرة مذهبية جديدة في حقل الأدب المصري الحديث. . علينا هذا، وعلى الأستاذ الحجاوي أن ينهض بإتمام محاولته!
سهو من الذاكرة
في مقالنا الذي ظهر في العدد الماضي من الرسالة وردت هذه الآية الكريمة: (ورأى جداراً يريد أن ينقض)، وهو سهو من الذاكرة. . . وصحتها: (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض)
أنور المعداوي
هل التواليت كلمة عربية؟
اذكر في جلسة بندوة الرسالة أن تحلقنا حول الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، وتطرق الحديث إلى شئون وشجون حول انحرافات اللغة العربية ولهجتها في الأقطار الناطقة، وكم كان جميلا أن يدلي كل منا بدلوه. فقد كان خليطا من أبناء تلك الأقطار أو رواد بعضها أو من العارفين ببعض اللغات الأوروبية.
ودار الحديث حول بعض ألفاظ من اللغة الفرنسية ذوات أصول من اللغة العربية مثل واصلها قميص، ` واصلها بطيخ، واصلها أمير البحر. . .(868/43)
وهنا قلت مع القائلين: الرفاق وقالوا: فما أصلها؟ قلت أصلها من (التولة). قالوا: وما التولة؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرقى والنمائم والتولة شرك) وجاء في لسان العرب: والتولة (بضم التاء وفتح الواو واللام) ضرب من الخرز يوضع للسحر أو لتحبيب المرأة زوجها أو هو ما يحبب المرأة إلى الزوج من الخاتم. وعند صاحب القاموس المحيط التولة هي السحر أو شبهه في خرزة تحبب معها المرأة زوجها، وزاد على ذلك رسمها بكسر التاء ومرة أخرى بفتحها مع تسكين الواو والجمع تولات، وتال يتول عالج السحر. وفلان ذو تولات أي ذو لطف وسحر.
أما الكلمة الفرنسية هي تصغير ومعناها (الزينة أي وكذلك (قطعة الأثاث المزودة بكل الأدوات الخاصة بلوازم الرأس والملبس).
لا عجب إذن في أن تكون الكلمة الفرنسية مأخوذة من الكلمة العربية، وورودها في حديث الرسول عليه السلام قبل فتح الاندلس، بل قبل الاتساع والاتصال والترجمة في الزمن العباسي.
والكلمة العربية فضلا عن ذلك غنية بمشتقاتها فمنها الاسم والفعل والصفة. وجدير بنا أن نعمل على إحيائها وتداولها، وتلك الرسالة منوطة بمجلة الرسالة الغراء والمجمع اللغوي الموقر.
محمد محمود زيتون
ذكرى صادق عنبر
حلت الذكرى الثانية عشر لوفاة فقيد اللغة والأدب المرحوم محمد صادق عنبر، فذرفت عليه ابنته دمعة تقاطرت في هذه الأبيات:
أواه من ذكرى إذا هي أقبلت ... لم تُبق في سكينة ركونا
أواه منها حين تأسر مهجتي ... فتثير فيها لوعة وشجونا
يا نسمة من والد ترك ألدُّنا ... أجريت دمعاً كان قبل مصونا
يا أدمع الذكرى حنانك أشفقي ... فالدمع أوجع ما يكون سخينا
يا قلبي الملهوف هل لك سلوة ... تُهدي إلي وداعة وسكونا؟(868/44)
أبتاه! والذكرى حياة طلقة ... تفني السنين وإن مررن قرونا
قد كنت لي عموناً فصرت بغيره ... لا أعرفن على الزمان معينا
قد مر عيشي بعد فقدك علقما ... ولقيتُ من دنيا الهموم فنونا. . .
وألفت أُكدر الحياة كريهةً ... ورضيت بعدك أن أذوق الهُونا
لو كنت حياً لم تكن لي غصة ... ولكان همي عارضاً مرهونا. . .
أشتاق طيفك في المنام يزورني ... فيخاصم النومُ العنيدُ جفونا
فأزور قبرك في الغداة يهزني ... شغف بقربك لا يزال كمينا
وأطوف بالقبر الذي أودعته ... أملا عزيزاً في التراب دفينا
ويطول بي التطواف غير ملولة ... أعلي النداء تشوفا وحنينا
ويظل صوتي هاتفا في كربة ... حتى يمزقه الهتاف أنينا
وأروح من بعد الطواف حسيرة ... في سكرة تدع الفؤاد طعينا
أبتاه! إن بكت الرفاق فقد بكي ... قلما يتيه به الأديب مبينا
وبكت إخاءك إذ رحلت مصافيا ... ثبت المقام على الإخاء أمينا
وأنا التي أبكيك. كنز أبوة ... أبكيك ركنا في الحياة ركينا
أبكيك قلبا خافقا لي رحمة ... ما إن يزال بها الزمان ضنينا
أبكي منار هدى، وظل هناءة ... ومناط عز لا يرام مكينا
فلئن ذكرتك في مغيبك، إن لي ... قلبا بموصول الوقاء ضمينا
وداد صادق عنبر(868/45)
القصص
منزل للبيع
للكتب الفرنسي ألفونس دوديه
بقلم الأستاذ أنور لوقا
وراء تلك اللافتة الصغيرة المبتذلة المعلقة على باب بيت من البيوت، قرأ الفونس دوديه - وهو الذي لقب نفسه (بالشيء الصغير) واستلهم أشياء أدبه - هذه المأساة الإنسانية المؤثرة.
فوق الباب، باب خشبي واهي المفاصل، يدع رمل الحديقة الصغيرة يختلط بتربة الطريق على بسطة من الارض، كانت لافتة معلقة منذ أمد بعيد، ساكنة في شمس الصيف، معذبة تمكو في ريح الخريف، عليها (منزل للبيع)، ولعلها كانت تقول أيضاً (منزل مهجور)، فقد كان الصمت يكتنف الدار.
ولكن امرأ كان يقيم هناك. فإن دخانا خفيضا مزرقا يصعد من آجر المدخنة الذي يعلو الجدار قليلا، كان ينم عن حياة خفية، متكتمة، حزينة كهذا الدخان الذي ينبعث من نار الفقراء. ثم من خلال ألواح الباب المزعزعة ما كنت تحس الإهمال والخواء، وهذا الجو الذي يسبق ويعلن بيعا أو رحيلا، بل ترى ممرات الحديقة مستقيمة التخطيط، وعرائش مستديرة مشذبة، وماقي بجوار الحوض، وأدوات بستاني مسندة إلى البيت الصغير. لم يكن ذلك الربع سوى بيت من بيوت الفلاحين، يتوازن على هذه الأرض المنحدرة بسلم صغير قد نحي الطابق الأول جهة الظل والطابق الأرضي جهة الجنوب. ومن تلك الجهة كان يخيل إليك أنه معمل الإنبات. فقد رصت درجات السلم نواقيس زجاجيه، وأصص فارغة مقلوبة، وأخرى منضودة على الرمل الأبيض الساخن قد نما فيها (الجيرانيوم) و (العرفين) بيد أن الحديقة كلها، فيما عدا شجرتين أو ثلاثا من شجر السرج الفارع، كانت تحت وهج الشمس. وكانت تمتد في النور الساطع مروحة من أشجار الفاكهة، قائمة على أسلاك حديدية، أو معرشة وقد انتزعت بعض أوراقها إعداد للثمرة ليس غير، كما اصطفت أيضاً أغراس من الشليك وأغراس من البازلاء تتسلق قضبانا طويلة مثبتة في الأرض. وفي(868/46)
وسط هذا كله، وسط هذا النظام وهذا الهدوء، كان رجل عجوز، ذو قبعة من الخوص، يجوس المسالك طول النهار، يروي في الساعات الرطيبة، ويقتطع ويشذب الأغصان ويسوي الأفاريز.
هذا الشيخ لم يكن يعرف أحدا في البلد. لم يكن يطرقه زائر قط. اللهم إلا عربة الخباز التي كانت تقف في كل باب في شارع القرية الوحيد. وأحيانا كان يرى اللافتة عابر من الناس يلتمس قطعة من أراضي السفح هذه الغنية الخصبة التي تمنح بساتين جميلة فيتوقف ليقرع الباب، ويقرع في أول الأمر فإذا البيت أصم. ثم يقرع ثانيا، فيدنو من أقصى الحديقة وقع (قبقاب) في بطأ وتؤدة، ويوارب الشيخ بابه وهو متهجم الوجه:
- ماذا تريد؟
- هل المنزل للبيع؟
فيجيب الرجل الطيب القلب بجهد:
- نعم. . . ولكني أقول لك مقدما إنهم يطلبون فيه ثمنا غاليا جدا. . .
وكانت يده المتأهبة لإغلاق الباب تسده عليك - وكانت عيناه تطردانك، فما اشد ما كانتا تظهران من سخط، وكان يظل هناك قائما كالفارس على حراسة أحواضه وخضره وفنائه الصغير المفروش بالرمل. وإذ ذاك كان الطارقون يتابعون سبيلهم وهم يسائلون أنفسهم من تراه يكون هذا المخبول الذي عرضوا له؟ وأي مجنون هذا الذي يحمله على الإعلان عن بيع منزله بهذه الرغبة الملحة في الاحتفاظ به.
وخيرا وضح لي هذا السر. ذات يوم وأنا مار أمام البيت الصغير، سمعت أصواتا ثائرة، وصخب مناقشة حامية.
يجب البيع يا أبانا، يجب البيع. لقد وعدت بذلك وسمعت صوت الأب متهدجا يقول: إني يا أولادي لا اطلب افضل من البيع. . . أما ترون؟ لقد وضعت اللافتة. وهكذا علمت أن هؤلاء أبناؤه وكناته، تجار من صغار أصحاب الحوانيت في باريس، يحملونه على أن يتخلص من هذا الركن الحبيب. لأي سبب كان؟ هذا ما كنت أجهله. أما المؤكد فهو أنهم بدءوا يلمسون أن الأمر قد طال وأن الشيخ يمطلهم. ومنذ ذلك الوقت اقبلوا بانتظام؛ يوم الأحد من كل أسبوع، يستنهضون الرجل المسكين ويحثونه على أن ينجز وعده ومن(868/47)
الطريق في هذا الصمت العريض الذي يسود القرية يوم الأحد، حين تستريح الأرض ذاتها من كونها قد حرثت وبذرت طوال الأسبوع، كنت أسمع ذلك جليا. كان التجار الصغار يتحدثون، ويتجادلون فيما بينهم وهم يلعبون لعبة (البرميل)، وكانت كلمة (النقود) ترن رنينا جافا كهذه الأقراص المعدنية التي يقذفونها. وفي المساء كان الجميع يرحلون، وكان الرجل الطيب القلب، بعد أن يرافقهم في الطريق بضع خطوات، يعود مسرعا فيغلق من جديد بابه الغليظ سعيدا مبتهجا، وقد ظفر بمهلة لمدة أسبوع. ويستعيد البيت سكونه، ويظل ساكنا ثمانية ايام، فما تسمع في الحديقة الصغيرة التي تلفحها الشمس إلا صوت الرمل يسحقه وطء قدم ثقيلة أو تجرفه المجرفة.
على أنهم من أسبوع لأسبوع، راحوا يضيقون الخناق على الشيخ. ولم يدخر صغار التجار وسيلة من الوسائل. أحضروا الأحفاد لإغرائه: (أترى يا جدنا حين يبيع البيت ستأتي لتسكن معنا، وكم سنكون سعيدين معا!. . .) ثم كانت أحاديث منفردة يلقيها كل امرئ لنفسه في ركن من أركان البيت على حدة، وسير خلال ممرات الحديقة لا يقف عند حد، ومسائل حسابية يجريها صوت مرتفع. ومرة سمعت إحدى البنات تصيح: - هذا ألخص لا يساوي مائة دانق. . . أنه خليق بأن يهدم.
وكان الشيخ يصغي دون أن يقول شيئا. كانوا هم يتكلمون عنه كأنه قد مات، وعن داره كأنها قد هدمت بالفعل. فكان يتجنبهم ويمشي، احدب الظهر، والدموع ملئ عينيه، ملتمسا كعادته غصنا يشذ به أو ثمرة يعني بها أثناء مروره. وإنك لتحس أن حياته قد تغلغلت جذورها في هذا الركن الصغير من الأرض تغلغلا لن يبعث فيه القدرة على اجتثاث نفسه منه. والحق أنه كان مهما افتنوا في إغرائه، يرجئ دائما لحظة الرحيل. في الصيف، حين تنضج هذه الثمار التي ويحي إليك مذاقها الحامض بعضا الشيء بأن السنة ما زالت في نضرتها وريعانها، ثمار الكرز، والبرقوق، والمشمش، كان يقول:
لننتظر المحصول. . . سأبيع بعده مباشرة.
وبعد المحصول، بعد انقضاء موسم الكرز، يأتي موسم الخوخ ثم العنب، وبعد العنب تأتى ثمار (النيفل) السمراء الجميلة التي يكاد المرء يجنيها تحت الجليد. وحينئذ يأتي الشتاء، فيسود الريف وتخلو الحديقة. الآن لا مارة، ولا شراة، بل ولا صغار التجار يوم الاحد،(868/48)
وإنما ثلاثة اشهر عريضة من الراحة لإعداد البذار، وتقليم أشجار الفاكهة، بينما تتأرجح على الطريق اللافتة الباطلة وقد قلبها المطر والريح.
وعلى مر الأيام، فرغ صبر الأبناء واقتنعوا بأن الشيخ كان يبذل كل ما في وسعه لإقصاء المشترين، فاتخذوا قرارا حاسما. قدمت إحدى الكنات واستقرت بجانبه، وتلك امرأة صغيرة من نساء الدكاكين، حالية منذ الصباح، بارعة في إظهار الحفاوة وتكلف الرقة والتلطف في المجاملة براعة الذين اعتادوا التجارة. وكأن الطريق قد أصبح ملكها. فقد كانت تفتح الباب على مصراعيه، وتتحدث وتلغو، وتبتسم للمارة كأنما تقول لهم:
ادخلوا. . . انظروا. . . إن المنزل للبيع!
ولم تعد للشيخ المسكين مهلة بعد ذلك. أحيانا كان يحاول أن ينسى أنها هناك، فينصرف إلى تقليب حياضه وبذرها من جديد، كهؤلاء الناس الذين يوشكون على الموت ويحبون القيام بمشروعات ليخدعوا مخاوفهم. ولكن البائعة كانت تتبعه طيلة الوقت وتنغص عليه. - دع! ما انتفاعك بهذا؟. . . أمن أجل سواك تجشم نفسك كل هذا التعب؟ فما كان يجيبها وإنما كان ينكب على عمله في عناء غريب. إن ترك حديقته لعبث الإهمال معناه فقدانها بعض الفقدان منذ ذلك الوقت، وبد انفصاله عنها. ولهذا ما كنت تجد في الممرات عودا واحدا من العشب، ولا في شجيرات الورد غصنا طفيليا.
وظل البيت معروضا للبيع، ولكن الشراة لم يتقدموا. ذلك أن الحرب قد نشبت. وعبثا ثابرت المرأة على فتح بابها وإرسال النظرات المعسولة إلى الطريق، فلم يكن يمر غير النازحين عن الأرض ولم يكن يدخل إلا الغبار. واشتد غيظ السيدة من يوم إلى يوم، لا سيما وقد كانت أعمالها في باريس تستدعيها. كنت اسمعها توسع حماها لوما وتأنيبا، وتقسو في الهجون عليه وتخبط الأبواب، وما الشيخ فكان يحني ظهره دون أن يقول شيئا، ويتعزى إذ يبصر بازلاء الصغيرة تنمو، واللافتة معلقة في مكانها دائما: (منزل للبيع).
وفي هذا العالم، عندما وصلت إلى الريف، وجدت المنزل وعرفته! ولكن وا حسرتاه لم تكن اللافتة هناك! كانت إعلانات ممزقة بالية لم تبرح عالقة بأوجه الجدران. لقد قضي الأمر، وباعوه!. . . وفي مكان البوابة الرمادية الكبيرة أصبح باب أخضر، حديث الطلاء، تعلوه عتبة مستديرة، وتنفتح فيه نافذة ذات قضبان، تلوح من ورائها الحديقة. ولم تعد(868/49)
الحديقة ذلك البستان الذي كنت أعهده هناك قديما، بل غدت خليطا (بورجوازيا) من السلال والخضرة، ومساقط الماء، وصور لهذا كله تنعكس على كرة معدنية تتأرجح أمام الدرج. وفي هذه الكرة، بدت الممرات صفوف من الأزهار الزاهية، وأمتد شكلان في كثير من المبالغة والتهويل، رجل سمين أحمر، غارق في عرق غزير، غائص في كرسي من كراسي النزهة الخلوية؛ وسيدة ضخمة لاهثة الأنفاس، تصبح وهي تطوح مسقاة بيدها.
- لقد دفعت ثمنا للبلسمين أربعة عشر!
وكانوا قد شيدوا طابقا، وجددوا السياج، وفي هذا الركن الصغير المستطرف، الذي ما زالت تفوح منه رائحة الطلاء، كان (بيانو) يعزف ملء الريح مقطوعات صاخبة مبتذلة وألحانا جذلة مما تردده جلبات الرقص العامة. وهذه الأنغام الراقصة التي كانت تنطلق إلى الطريق نابضة حارة، مختلطة بقتام بوليه الكثيب، وعجيج تلك الأزهار الضخمة، والسيدات الضخمة، هذا المرح الغامر الفياض، هذا المرح السوقي المبتذل، كن يقبض قلبي. كنت أفكر في الشيخ المسكين الذي كن يتمشى هنا راضيا وادعا سعيدا، ثم أتمثله في باريس، وقبعة الخوص على رأسه، وحدبة البستاني للعجوز في ظهره، هائما في غور دكان ما، ضيقا بأمره، حبيا، مشحونا بالدموع، بينما تتبوأ زوجة ابنه الظافرة خزانة جديدة، ترف فيها قطع ذهبية هي ثمن البيت الصغير.
أنور لوقا(868/50)
الكتب
دعبل الخزاعي
تأليف السيد محسن الأمين
للأستاذ إبراهيم الوائلي
ليس من شك في أن دعبلا الخزاعي من أشهر شعراء القرنين الثاني والثالث للهجرة فقد تطرق في نظمه إلى مختلف المواضيع وتعرض بشعره إلى كثير من الأشخاص، وعرض نسفه إلى شتى لمخاطر حتى انتهت حياته إلى الاغتيال وهو بعيد عن أهله ووطنه.
ولقد نظر مؤرخو الأدب إلى هذا الشاعر من زاوية المقاييس العمة التي حددوا بها الشعر القديم فسموه شاعرا هجاء مقذعا في هجائه وشاركهم في الرأي بعض المؤرخين المحدثين، ولكننا حين ننظر إلى هذا الشاعر نظرة فيها شيء من العمق والتحليل نستطيع أن نسميه شاعر سياسيا وإن في شعره ما يسمى هجاء بالمعنى الدقيق لن بعض الذين تناولهم ليس خطرا في المجتمع.
وليس من شك في أن شعر دعبل يمثل حيته المضطربة ونفسه الثائرة ونوازعه المذهبية التي دفعت به إلى كثير من المخاطر، وما تعرض به للخلفاء العباسيين بمثل صفحة كبيرة من الشعر السياسي العارم في العصر العباسي الأول وليست السياسية بأكثر من أن يتعرض الرشيد وأولاده وأحفاده ويتناولهم تناولا شديد الوقع على أنفسهم حتى أغضبهم ولقي منهم الجفوة والعنت كم لقي منهم الحظوة والتكريم، يقربه الرشيد ويرفع من منزلته فيناله بعد موته، ويصفح عنه المأمون فلا يجد منه غير السكوت، ويسخر بإبراهيم بن المهدي اشد السخرية ويتندر بالأمين والمعتصم، ويغضب المتوكل فلا يسلم منه إلا بالهرب، ويتجاوزهم إلى غيرهم من ذوي المكانة في المجتمع في نعته مؤرخو الآداب بنعوت شتى من سلاطة اللسان وإفحاش الكلام وإقذاع الهجو، وكل هذه النعوت التي وصفها بها الشاعر مردها إلى تلك النظرة السطحية إلى لم تتوغل إلى دخلية القلب ولم تتعمق في مطاوي النفس، مع أن الأمر أيسر مما تتصوروه في هذا الشاعر. ولو أنهم أرجعوا هذه الثورة إلى منابعها الأصلية ودوافعها الذاتية لأنصفوا الشاعر وأعطوه نصيبه(868/51)
من الدراسة المتينة وأفادوا من شعره في تاريخ الأدب السياسي، وما هذه المنابع والدوافع إلا عقيدة الشاعر ومذهبه؛ فقد كان دعبل ممن يوالون آل علي ويتعصبون لهم، وقد مدح أحياءهم مدحا قوي العاطفة والإحساس، وبكى شهداءهم بكاء سخي الدموع شديد الحزن، وكان من البديهي أن يقف الشاعر من خصومهم موفقا لا يرضى الخصوم وأن يتعصب لأوليائه ويدافع عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فالرشيد قد آذى الإمام الرضا وسجنه وهو من أثمة دعبل، والمأمون يبايع الرضا بولاية العهد ثم ينكل عن هذه البيعة، والمتوكل يغضب الشيعة ويطاردهم حتى في ضريح الإمام الحسين، وإبراهيم بن المهدي يبايعه الناس في بغداد عنادا للمأمون في موقفه الأول من الإمام الرضا، وإبراهيم هو من هو في لهوه ومجونه، وأبو عباد وزير المأمون كان شرس الخلق جافي الطبع. إن من الحق لدعبل - وهو يتولى العلي - أن ينتصف لهم ويدافع عنهم ويندد بخصومهم ولو ناله ما ناله من الأذى والتشريد لأن هذا جزء من عقيدته الدينية ومذهبه. وليس بغريب عليه أن يتعصب لعقيدته ومذهبه ما دام يجد في هذا التعصب لذاته الروحية واطمئنانه النفسي، وما دام يرى العلي أصلح من غيرهم لرعاية دينه وعقيدته وأولى بالحكم من سواهم.
هذه النقطة الدقيقة في تاريخ هذا الشاعر جدن منها لمحة عابرة في كتاب (دعبل الخزاعي) لسماحة العلامة السيد محسن الأمين وهو كتيب صغير ألف في الأيام القريبة وطبع بدمشق.
وكنا نود أن تكون هذه النقطة موضع عناية المؤلف الجليل ولكنه لم يفعل ذلك جريا مع عادته في التأليف إذ أنه يعني بالترجمة وجمع ما تفرق من أخبار المترجم له وتتبع حياته الأدبية والمادية إذا كان للثانية صلة بالأولى دون إطالة في التحليل أو عمق في الدراسة، على أنه لا ينسى أن يمحص الأخبار التي ينقلها عن حياة الشاعر ويطرح الزائف منها وينقد المشكوك فيه ويقارن ويوازن وكثيرا ما يستنبط من الخبر الواحد فوائد كثيرة تدل على ميله إلى التحليل والتعمق، ولكنه ميل قليل بالنسبة لطريقته العامة التي أشرنا إليها والتي تتجلى لنا في هذا الكتيب الصغير الذي جمع فيه معظم ما تحدث به المؤرخون عن دعبل الخزاعي وعن مواقفه من الخلفاء وصلته بهم ومقدار ما ظفر به من إطراء وتنويه بشاعريته. ثم علاقته بآل علي ومدحه إياهم. وفي الكتاب منتخبات كثيرة من شعر دعبل في المديح وفي السياسة، وقصيدته التائبة المشهورة في آل البيت التي يمدحهم بها(868/52)
ويستعرض مصارع الشهداء منهم استعراضا حزين وغير ذلك من المقطوعات.
ولعل هذا الكتاب عمل ضئيل بالنسبة لما أنتجه سماحة السيد الأمين من كتب وموسوعات في الأدب والشعر إلى جنبه كتبه العلمية النافعة.
إبراهيم الوائلي
أجواء
تأليف الأستاذ حسن محمود
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كتاب صغير الحجم، قليل الثمن، ولكنه على صغر حجمه، وقلة ثمنه، يجمع بين القيمة الكاملة، والمتاع النفسي الوفير.
ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ حسن محمود، وهو كاتب قصصي من طراز رفيع، يعمل للمجد الأدبي، دون أن يحفل بالشهرة الزائفة، ولذلك يعني كل العناية بجودة إنتاجه وإتقانه، لا يكثرته والإسراع فيه.
وهذا الكتاب يضم طائفة من الأقاصيص ذات أجواء مختلفة بعضها يمثل الحياة المصرية التي يعرفها الأستاذ عن خبرة وتجربة، وبعضها الآخر يمثل الحياة الأوربية التي ألم بها في رحلاته وأسفاره، وإن كانت هذه الأجواء المختلفة تتفق في أنها تصور النفس البشرية، في إطارها من الحياة الإنسانية العامة.
وكثيرون من كتاب القصة المصرية يهدفون في قصصهم إلى إثارة القارئ إثارة حسية، أما بالإكثار من وصف أجساد النساء، وإما بالاعتماد على الحوادث الضخمة المثيرة، وإن كانت في صميمها فارغة من المعاني والدلالات! ولكن هؤلاء لا يفهمون فن القصة، ولا يعرفون رسالتها الفنية، وإنما يعرفون ويفهمون شيئا واحدا هو اكتساب الشهرة الزائفة، بتملق غرائز الجماهير!
أما الأستاذ حسن محمود فإنه يعني في قصصه أول ما يعني، بإبراز الأثر الداخلي الذي تعكسه الحوادث الخارجية في نفوس شخصياته؛ فالحادثة عنده لا تقصد لذاتها، ولكن لأثرها النفسي، ومن ثم تكون الحادثة الصغيرة لها حظ كبير، لأنه يعرف كيف يستلهم منها المعاني(868/53)
الكبيرة، وكيف يستخرج منها الدلائل العميقة، وهذه هي المقدرة، وتلك هي البراعة. وشيء آخر يتصل بذلك، هو أن الأستاذ حين رسم شخصياته لا يعتمد في ذلك على الألفاظ وحدها يسرد بها أوصاف تلك الشخصيات سردا متتابعا، كما يفعل بعض كتاب القصة عندنا، ولكنه يوزع لمساته التصويرية على أجزاء القصة كلها؛ ليتسنى له استخدام الحوادث في الرسم والتصوير، فلا ينتهي من القصة حتى تكون شخصياتها قد استوفت حظها من دقة التصوير، وبلغت قسطها من قوة الحياة.
وقد قلنا أن الأستاذ حسن محمود لا يعتمد في إثارة قارئه على الحوادث الضخمة المثيرة؛ ونزيد هنا أن مادة قصصه لهذا السبب تمتاز في مجموعها بالبساطة والعمق؛ لأنه يتناول الحادثة البسيطة في مظهرها الخارجي، فيتعمقها بفكره وروحه وتجاربه، ثم يعرضها لنا، فنرى فيها ما لم نكن نرى، ونفهم عنها ما لم نكن نفهم، وهو من أولئك الملهمين الذين يلتقطون الفتات المتساقط من مائدة الحياة، فيحيلونه بفنهم أعظم غذاء للنفس الإنسانية في حياتها المثالية الرفيعة!
وأسلوب الأستاذ في قصصه، يلائم مادة هذه القصص كل الملائمة؛ فهو مثلها بسيط عميق، ينساب كالماء في رقة ودعة، لا من ضحولة مجراه، ولكن من طبيعة مسراه، فلا ترى فيه العبارات الطنانة، والكلمات الضخمة، وإنما هي كلمات طبيعية يؤلف بينها في حذق وبراعة، فإذا هي عميقة الدلالة، قوية الإيحاء، وافرة الأنغام والأصداء، والأضواء والظلال!
والأستاذ هادئ الشخصية، كما يبدو من خلال أسلوبه وطريقة عرضه لقصصه، هادئ حتى حين يريد أن يسخر من بعض الناس سخرية خفيفة مبطنة، فتراه يفعل ذلك في شيء اقرب إلى الحياء، وبصورة لبقة مهذبة قد تثير الضحك، ولكنها على كل حال لا تجرح الإحساس!
وهو هادئ أيضاً حي يلمس في قصصه أحزان الناس ومآسيهم، وليس ذلك من قلة تأثره بها، ولكن لأنه من أولئك الذين يحزنون في صمت، فيكون صمتهم ابلغ من كل كلام حزين! وصراخ الإنسان قد يثير الفضول أكثر مما يثير الرثاء والإشفاق، ولكن دمعة واحدة تذرفها عين محزون، في صمت وسكون، تهز النفوس، وتثير الدموع!
وهو حين يسجل الانفعالات النفسية لشخصية إنسانية، يحيطها بما يلائمها من الأجواء(868/54)
والمشاهد، فيكون ذلك منها بمنزلة الإطار من الصورة. يتجلى ذلك في قصته (نظرة إلى شاعر). ففي هذه القصة تراه يرصد الانفعالات النفسية كما تظهر في شخصية شاعر ركب معه القطار الذاهب من مدينة (بون) الألمانية، إلى (كوبلنز) ويسجل مع هذه الانفعالات المختلفة، ما يطرأ على مشاهد الطبيعة من تغير واختلاف، بحيث يجعل من ذلك كله وحدة متناسقة.
وهو ينتقل بشخصياته من جو إلى جو، ومن حال إلى حال، بعد أن تمهد لذلك تمهيدا مناسبا، بحيث يبدو هذا الانتقال طبيعيا ممكنا، لا أثر فيه للتكلف والاستحالة، وهو يقتصد في طريقة عرضه، بحيث يتجنب الحواشي والفضول، كما يقتصد في تعبيره بحيث يخلص في لباقة من الكلام المكرر المألوف إن لك يكن منه بد في موضع من مواضع القصة؛ ففي قصة (قسم) نرى حسينا يسير بعد الغروب في طريق مهجورة، ثم يتنبه فجأة لوقع أقدام تطأ القوام تسير مثله في هذه الطريق. . . فلو أن قصاصا آخر عرض لمثل هذا الموقف في قصة من قصصه، لاستغله كما يشاء، في كلام كثير، وحوار طويل الحس، وينبه الغرائز.
ولكن الأستاذ حسن محمود يكتفي في هذا الموضع بأن يقول:
ارتاحت نفس حين لمنظر هذه الفتاة، فسار إلى أن حاذاها عازما على بأية وسيلة، ولسنا نريد أن نقص كيف بدأ الحديث فإن حسينا لا يذكر كيف كان ذلك، ونحن لا نود أن نفضح سرهما، ولكننا نقول أننا رأيناهما يسيران جنبا إلى جنب، ثم كانا بعد نصف ساعة في سيارة تسير بهما سريعا إلى حيث مسكن الفتاة). وهذا غاية في حسن الإيجاز، وبراعة التخلص.
وللأستاذ حسن محمود ملاحظات صائبة، ينثرها في خلال قصصه وهي ملاحظات تنم عن تجارب كثيرة، وثقافة واسعة، وفهم عميق للحياة.
أما بعد، فقد حلقت في هذه الأجواء حينا من الزمن، فأتاح لي ذلك لذة روحية عميقة، ومتعة نفسية كاملة، فمن واجبي أن أوجه إلى صاحب هذه الأجواء، شكري الخالص لما أتاح لي، ومن واجبي كذلك أن أعبر له عن تقديري الصادق لمقدرته الفنية. وأنا أعلم أنه لن يرضى عما كتبته عنه، تواضعا منه وحياء؛ فقد عرفته جم التواضع، وافر الحياء. ولكن ما ذنبي(868/55)
أنا، وما كتبته هو الحق والحق ينبغي أن قال؟
إبراهيم محمد نجا(868/56)
العدد 869 - بتاريخ: 27 - 02 - 1950(/)
المذاهب الهدامة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
عملت الجماعات البشرية منذ كانت على هذه الأرض لبقائها ورفاهيتها وسعادتها فوضعت من الشرائع والآداب والسنن ما يكفل بقائها ويقربها من الرفاهية والسعادة. وما زال العقل والموجدان يهديان الناس ويخرجانهم من الظلمات إلى النور، ومن الفوضى إلى النظام ومن التعامل إلى التعاون، حتى بلغ البشر مستوى الحضارة الذي بلغوه، وما يزالون يجهدون ليبلغوا المستوى الأرفع ويرقوا إلى الدرجة العليا.
وما زال الأنبياء والحكماء على مر العصور يعلمون ويفقهون ويشرعون ويؤدبون ويمكنون لشرائعهم وآدابهم في الأنفس بأسوة من العمل الصالح وحكمة من القول السديد حتى استقرت في الأنفس الشرائع والسنن وتمكنت الأخلاق والآداب.
وما زال الناس يتمسكون بما ورثوا ويزيدون عليه من هدي التجارب، ووحي الوجدان وقيادة العقل، طامحين إلى المقاصد العالية سائرين إلى الغايات الكريمة، وغن بعدت الشقة وكثرت العقبات.
وكلما ارتفعت الإنسانية خضعت للقوانين وألفتها وسكنت إليها وأحبت النظام ونفرت من الفوضى وكلفت بمعاني الخير والحق الجامعة وأعرضت عن الصغائر التي ينزع إليها الإنسان لمنفعة قريبة أو شهوة عاجلة أو لذة زائلة وعملت التي هي أقوم وأبقى وأعود على الناس بالخير والسعادة. وهكذا ترتقي النفس متى تؤثر الحقائق على الصور والروحانيات على الجثمانيات في درجات من الوقى لا تنتهي وفي الرائع والآداب تحجير على الإنسان وتقييد، وفيها نهى عما يشتهي وأمر بما يكره. وفيها تحريم للمنافع الفردية القريبة من أجل منافع جماعية بعيدة، وفيها صد عن الماديات المحسة ابتغاء الروحانيات التي لا تنالها الحواس، ومن اجل ذلك تنفر نفوس من الشرائع وتثقل عليها التكاليف وتعجز عن كف النفس عنالنفس عن شهواتها. ودفعها حتى إلى مصالحها وتقصر عن إدراك المعاني العامة الجامعة التي تؤلف بين منافع الجماعة وترقى بها إلى مستوى من الإنسانية رفيع.
يحاول كثير من الناس أن يخالفوا الشرائع والآداب سراً أو علانية. وأكثر هؤلاء في حرب مع عقولهم وسرائرهم، يرون الخير في شرائع الجماعة وسننها ولكن تقهرهم نزعاتهم،(869/1)
وتسوقهم إلى مخالفة القانون مآربهم. ومنهم من يحارب الشرائع جنوحا إلى الفوضى، وقصوراً عن إدراك النظام وعجزاً عن تصور ما وراء الحس، وعن التعالي إلى المعاني السامية، والنزعات العالية.
ومن الخارجين عن سنن الجماعات وآدابها من يريد السكون إلى أفعاله، والاستراحة إلى أوهامه إرضاء وجدانه فيخادع نفسه، ويكذب عقله وقلبه ويدعي أن لمأربه مقاصد إنسانية وأن لخروجه قانوناً ولإجرامه شريعة فيضع لنفسه ولمن يريد إضلالهم شريعة مضللة، وقانونا خادعا ويجادل بالباطل. ثم تأبى سنة الله وعقل الإنسان ووجدانه أن تسير الجماعة على هذه الجرائم التي تسمى شرعاً، والفوضى التي تدعى نظاماً، والتنافر الذي يدعى أنه وئام وسلام فلا تلبث هذه الدعوى أن يكذبها العمل، وهذه السنة التي تبطلها التجربة، وهذا الاعوجاج أن يقومه الوجدان كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وقل أن تقوم شريعة صالحة إلا أحدث الشيطان إزائها بدعة يأوي إليها الخارجون على نظام الشريعة النافرون من تكاليفها المشفقون من نورها، وقل أن تستقيم للبشر عقيدة دون أن يجادل فيها مضلل، وأن ائتلفت جماعة إلا وجدت خوارج، ولا عمرت مدينة أو قرية إلا كان فيها لصوص وقتلة، وسواء أكان مرجع هذا إلى نقص في معرفة الناس، أو اعوجاج في تفكيرهم، أو خلل في وجدانهم، كان مرجعه فسدا في نظام الجماعة أو عيبا في تأليفها. هذا لخروج شر على كل حال، وأعراض مرض في النفس الفرد والجماعة.
وإذا تتبعت الشرائع المضللة، والمذاهب الفاسدة التي ولدها الباطل وأماتها الحق ونصرها الشر وهزمها الخير، وجدت من علاماتها أن تحط عن الإنسان عبء التكاليف وتقرب إليه مآربه وتفتنه في شهواته وتنزل به إلى الأمور الحسية وتتوسل إليه بمطالب الجسد، هذه المطالب أقرب إلى العامة وأشباه العامة من ضعاف النفوس أسارى الجهالة.
حدثنا التاريخ أن رجلاً من إيران أسمه مزدك دعا في القرن الخامس الميلادي إلى إشاعة الأموال والنساء بين الناس فاستهوى بدعوته أوشاباً من العامة سارعوا إلى دور الناس ينهبون الأموال ويغتصبون النساء واستكان لهذه الدعوة قباذ ملك الفرس وغلب على أمره حتى جاء ابنه أنو شروان فبطش بالمفسدين، ورد الأموال إلى نصابها، وأعاد إلى القانون(869/2)
سلطانه وقتل مزدك وكثيراً من أتباعه فلقب لهذا نوشين روان (الروح السعيدة). وزالت البدعة امحي أثرها.
وفي أول القرن الثالث الهجري دعا إلى هذه الفتنة في إيران أيضاً رجل اسمه بابك الخزمي وانحاز إليه جماعة واعتصم بجبال أرمينية ولبث عشرين سنة حتى فتح المعتصم بالله العباسي حصونه وفل جمعه وقتله. ونحل أخرى في أجيال كثيرة.
ما دعا داع إلى مذهب باطل لا ينصره عقل الإنسان ولا يرضاه وجدانه إلا لبس دعوته بشيء من الإباحة يجذب بها الغوغاء، ويستهوي بها الضعفاء، تشابه في هذا الماضي والحاضر، والقديم والحديث، وفي الإنسان ضعف، وللمآرب عليه سلطان. وللباطل وسوسة وخداع وللزور تلبيس وتضليل. ثم يأبى العقل الصحيح والوجدان السليم إلا أن يرفعا الإنسان إلى الدرجات التي تلائم الإنسانية ويسمو به عن درجات الحيوانية وقد طلع علينا عصرنا هذا، وقد غلبت فيه المادة وسيطرت فيه الآلية طلع بمثل هذا النحل الضالة في الإشاعة والإباحة، دعا في الشيوعية إلى إشاعة المال وغير المال وحرموا الملك، وأرادوا للناس أن يكونوا سوائم ترعى معا وترد الماء، سواء ولكن لا إرادة لها ولا اختيار، فهي طوع أمر الراعي ونهيه، وهي مسخرة لهواه ورأيه. لها أن تتساوى في المرعى تجوع فيه أو تشبع وتسمن أو تهزل وتسعد أو تشقى وليس لها من الأمر شيء.
ثم ينبغي أن يكون الشبه بين الناس والسوائم بنحو ما وعاه تاريخ البشر وجمعته البشرية من أخلاق وآداب، وما امتازت به الإنسانية على طول الجهاد من فضائل. كل أولئك أوهام باطلة، في زعمهم، وأباطيل ملفقة في مذهبهم. فالإنسان حيوان له غرائزه فلتسيره هذه الغرائز كما شاءت، ولكن في حدود هذا المرعى الذي يسوم فيه وفي سلطان الراعي الذي لا إرادة إلا إرادته، ولا رأي إلا رأيه ولا جبروت إلا جبروته.
ومن إتمام الشبه بين الإنسان والحيوان الأعجم أن تقطع صلة الإنسان بالمعاني العالية الخالدة معاني الحق والخير والجمال والبر، وكل ما يسمو بالإنسان عن الحيوانية، ويعلمه أن وراء الأجسام أرواحاً، ووراء هذه الظواهر بواطن، ووراء الطعام والشراب للنفس الإنسانية مقاصد ومن أجل ذلك يسدون على الإنسان ينبوع الخير الأزلي، ويحولون بينه وبين مطلع الضوء السرمدي، ويريدونه على أن يكفر بالخالق، وينكر كل دين، ليطفئ في(869/3)
قلبه كل نور، وينضب في نفسه كل خير.
إن العدل بين الناس والتسوية بينهم، والبر بهم قد عرفتها الشرائع ووكدتها في النفوس الأديان ودعا إليها كل مذهب صالح على ظهر الأرض، ولكن الشرائع والأديان والمذاهب أرادت أن تمكن مع هذه المعاني إنسانية الإنسان وحريته، وان تشبع الاخوة والرحمة بين الناس، وان تسمو بهم إلى أعلى الدرجات، لا أن تحكم بهذه المعني سوائم ترعى الكلاء وترد الماء مقهورة مسخرة لا تعرف في الحياة لا المرعى وعصا الراعي.
إن قوانين البشر كلهم - إلا قوانين الشيوعيين - تقدس حرية الإنسان وتبيح له أن يعمل ويجد ملء حريته، وتحاول أن تحكمه بقانون من عقله ووجدانه وتمهد للناس سبيل السعي والتنافس ثم تنظر فتعطى من خسر من مال من ربح، وتمنح من خاب من سعى من نجح وتأخذ من حصللتطعم وتداوي وتعلم من لم يحصل. والبشرية عاملة للعدل والرحمة والاخوة والاشتراكية الحرة الصحيحة ساعية إليها في نظام من الحرية والخلق والرحمة والبر.
فأما هذه الشيوعية التي تربى وراء حجب من حديد، خشية أن يطلع الناس على فضائلها ومحاسنها فمبلغ علمنا بها أنها تشيع العداوة والبغضاء، أفقرت الأغنياء ولم تغن الفقراء ومبلغ علمنا بها أنها تريد أن تهبط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ثم تمكنه من المرعى.
ثم أمر لا يزال المفكر في حيرة منه حتى يهتدي إلى سره، هذه الصلة بين جماعي الذهب، وعباد المال في تاريخ الإنسانية وبين المذهب الذي يحرم الملك والانتفاع برأس المال أعني الصلة بين اليهودية والشيوعية. إن اليهود كما يعرف الباحثون مآرب في إشاعة القلق والفوضى في العالم، ولهم مقاصد في هدم النظم دلت عليها تبهم ونمت عليها أعمالهم.
فهذا الذي جمع بين عبادة المال وتحريمه، وهذا الذي ألف بين اليهودية والشيوعية. فاعتبروا - رواية أولي الأبصار.
عبد الوهاب عزام(869/4)
علي محمود طه
حياة من شعره
للأستاذ أنور المعداوي
- 11 -
تصفح المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الزيات، وقف عند الصفحة الخامسة والأربعين بعد الثلاثمائة، وأقرأ ما جاء بهذه الصفحة تحت هذا العنوان: (أرواح وأشباح).
(على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت علي محمود طه، وعلى هذه الضفة الخضراء من مربعها قرأت (أرواح وأشباح)، وكان بين اللقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة.
كان حين عرفيه إبان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيع من أربعة الفردوس لا يدرك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر. فهو منظور الخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا ينشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك. وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مواس الهوى وما لابسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذكر!
قال لي صديقي حسين ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر: مل بنا إلى قهوة (ميتو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره. وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة، فلا ترى على جانبيه غير مماص القصب، ومشارب الكازوزة، وعرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة.
دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هش بقريبه ورف لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفا من الحديث ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في(869/5)
سذاجة الريفي ووداعة الطفل: نشرت لي جريدة السفور هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهم بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر (السفور) قد أصغيت سمعي وجمعت بالي، فلم يكد يفرغ من سرد المقدمة حتى صحت به:
- أأنت صاحب هذه القصيدة؟
- نعم.
- وأنا صاحب هذه المقدمة.
عجيب!!
كان ذلك في سنة 1918، وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكلاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرزاق، ولي. . فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل، وصححنا ما فيها من خطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يكره قيثارة المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول في شعره.
ثم تعقبت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرياض المنصورة ورياض النيل تصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، (والأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!).
من هذه الكلمات التي كتبها الأستاذ الزيات عن الشاعر، ومن دراستنا الخاصة لحياته على ضوء صلتنا به وقراءتنا له، نخرج بان شاعرنا المصري كان في الفترة الأولى من عمره - أي وربيع العمر في أبانه - كان صاحب شخصية انطوائية. . وبقدر ما كانت هذه الشخصية منطوية على نفسها فيما قبل الثلاثين، كانت فيما بعد الثلاثين شخصية أخرى لا(869/6)
يكاد يربطها بالماضي صلة من الصلاتأي أن علي طه كان في تلك الفترة الأخيرة من حياته صاحب شخصية انبساطية! وكان حين لقيه الزيات ذلك اللقاء الأول في حدود العشرين من عمره على أكثر تقدير، وكان الزيات في جديد يكشف لنا عن أثر البيئة المادية والمعنوية في تكوين هذا المزاج القاتم الذي قاد حياة الشاعر وفنه فيما قبل الثلاثين والذي وجه حياة كثير من الشباب الذين فطروا على رهافة الحس وإشراق النفس وتوقد العاطفة، في تلك الفترة التي كان فيها علي طه في إبان شبابه وكان الزيات في عنفوان هذا الشباب، وهي الفترة التي انتظمت الربع الأول من القرن العشرين.
تقول لنا الأستاذ صاحب الرسالة - وهو قول يؤكده حديث الشاعر عن نفسه ويؤكده شعره - إن علي طه كان في تلك الفترة الأولى من حياته (فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف ينظر في سكون ويقرأ في صمت). . وأنه أخذ عليه في تلك الكلمة التي قدم بها القصيدة المنشورة في مجلة السفور 1918 (إكراه قيثارة على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقولشعره). ومن هاتين الزاويتين نستخلص هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن شاعرنا كان واحدا من هذه الشخصيات الإنطوائية الحزينة؛ المحلقة في كل جو قاتم وكل أفق حالم وكل سماء تتوهج بلهب الحنين والحرمان!
والحق أن هذا المزاج الحزين كان مزاج العصر أو طابع العصر أو (مرض العصر) إذا شئت أن تسميه. . . وكان هو الروح المسيطرة على شباب تلك الفترة ممن رفت مشاعرهم ورقت خواطرهم والتهب منهم الخيال والوجدان. وإذا قلنا مرض العصر فإنما نعني تلك الفترة التي خلقت جيلا من الشباب كان الزيات واحدا منهم وكان علي طه، وهو الجيل الذي صنعته بيئة خاصة ذات تربية خاصة وتقاليد خاصة وثقافة خاصة، ذلك الذي يصفه الزيات أدق وصف ويعبر عن هواجسه وأحلامه وآلامه أصدق تعبير، في هذه الكلمات التي ساقها في معرض الرد على من سأله لماذا ترجم آلام فرتر؟
(تسألني لماذا ترجمت فرتر. . . والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غداً سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها: قال جيته يوما لصديقه أكرمان: (كل امرئ يأتي عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) إنما كتبت له خاصة). . . وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط(869/7)
التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك. . . فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة! وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطق افسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى؛ ثم غمر هذه لحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه ملح، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن. وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لا حب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور. وذهبت أسلك هذا الطريق السحري محمولا على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة اصطدم عندها الخيال بالواقع الحبيب بالخاطب والعاطفة بالمنفعة! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً، ولا بد للحي أن يسير!
تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض والعرائس وحوش. . . فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس! ولكن أين أنشد ما ابغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت علي، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي. فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟
قرأت: هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأودولف، ودومنيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكاميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان كريف. . . وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي، ولكنهم كانوا جميعا غيري! نتفق في الموضوع ونفترق في الوضع، كالنساء النوادب في المناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد: هو الموت!
فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت أرواحا غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالا غير تلك الحال. . .(869/8)
فنيت في (جيته) وقادني إلهامه وروحه، وأهبت بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحاتالقدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طوال القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورقية هم! كأنما كان (جيته) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى، فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه، وتلمسي البرء والشفاء في أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو قرب إليك وأحنى عليك!).
أرأيت إلى هذه الصورة التي رسمها الزيات لنفسه ولشباب تلك الفترة التي حددناها لك بالربع بالخيال، وبهذه الأسلحة التي لا تقطع ولا تدفع كانوا يواجهون الواقع في معركة الحياة. وما أكثر ما كان الواقع يصدمهم بمرارته ويلفح شعورهم بقسوته فيرتدون عقب كل جولة من جولات النضال ونفوسهم مثخنة بالجراح. كان الحياء يحول بين نوازعهم الوقادة وبين متعة الانطلاق، وكان الانطواء يحول بين عواطفهم الجياشة وبين نعمة التحرز، وكانت العزلة تحول بين رغائبهم الوثابة وبين فرصة الظهور، ويقف الخيال بعد هذا كله ليعترض طريق مثلهم العليا لأن المثل العليا لا يمكن أن تتحقق على جناح الخيال. . . ومن هنا وجد هذا المزاج القاتم وهذا الطبع الحزين، نتيجة لهذه الحياة التي كانت تحيط بهم وهي خالية من أفراح النفس ومباهج الروح وأعياد الشعور؟
لقد كان الجو الذي يعيشون فيه جو (الرومانسية الوجودية) أي جو الإحساس بالفراغ والسكون والقفر، يعقبه جو الخلوة إلى النفس والطبيعة وهواجس الأحلام هذه (الرومانسية الوجودية) التي أصابتهم (بمرض العصر) في ميدان الحياة قد دفعتهم دفعاً إلى جو (الرومانسية الفنية) في ميدان الأدب، حتى أصبح المزاج القاتم لا يكلف إلا بالشعر القاتم، والطبع الحزين لا يعجب إلا بالأدب الحزين، سواء أكان ذلك في الإنتاج الأدبي المقروء أم كان ذلك في الإنتاج الذاتي والمنقول. . . ومن هنا كان شعر علي طه فيما ينظم شعر اللوعة والدمعة والأنين والحنين، وكان أدب الزيات فيما يترجم أدب الحسرة والزفرة والبكاء والعويل! وهاهو الزيات يقدم إلينا مزاج العصر ممثلاً في الربع الأول من هذا القرن عندما كان يبحث عن نفسه متلمساً لها العزاء والسلوى في قراءة لون خاص من(869/9)
القصص (توثقت بأشخاصها صلاته وتصعدت في زفراتهم زفراته، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايته) وفي ترجمة لون خاص من القصص يرضي في نفسه تلك النزعة الملحة إلى الاكتئاب والانقباض والحزن!
وكان الجمهور القارئ من الشباب في تلك الفترة - أعني الجمهور الذي يقتصر على القراء ولا ينتج - كان لا يستهويه شيء بقدر ما تستهويه تلك القصص التي تحفل بكل لون من ألوان المأساة وتتصل بكل سبب من أسباب الفاجعة. وقد وجد الجمهور القارئ عند الجمهور الكاتب بغيته المثلى وزاده المنشود، فأقبل في شغف بالغ ونهم لا يحد، على (آلام فرتر) و (رفائيل) للزيات، وعلى (بول وفرجيني) و (ماجدولين) للمنفلوطي. . . وعلى كل إنتاج أدبي من هذا الطراز!!
وإذا أردت أن تبحث عن مقومات هذا المزاج المنقبض عند الشباب في الربع الأول من القرن العشرين فارجع إلى البيئة المادية والمعنوية فهي المسؤولة عن هذا المزاج. . . لقد كانت بيئة الشباب في محيط الأسرة والمدرسة والمجتمع تنبعث على الانطواء وتدعو إلى التكبيل بكل قيد من القيود؛ فالتقاليد الموروثة تفرض فرضاً على الشباب بما فيها من نظم عتيقة وأساليب صارمة، وكلعبث بهذه التقاليد عبث بقواعد الشريعة والعرف والآداب والأذواق حتى إذا خطر للشباب شيء من التجديد في وسائل العيش ومظاهر الزي وطرائق التفكير، كان ذلك في رأي القائمين على أمرهم خروجا على النظام وثورة على الاحتشام، واندفاعاً إلى هاوية الغي والفساد وانحرافاً عن معاني الفضيلة ومناهج الأخلاق!!. . . وإلى هذه البيئة يشير الزيات في مقاله من لصفحة الرابعة والأربعين من المجلد الأول لكتاب (وحي الرسالة) عندما يقول: (وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك). .
وكانت بيئة انعدم فيها الاتصال الكامل بين الرجل والمرأة، حين وقفت التقاليد الموروثة وبقايا الحجاب الصفيق سداً هائلاً وجداراً منيعاً بين الشباب من الجنسين. . . وحرمان البيئة من المرأة وهي بهجة الحياة الكبرى ونبعها الدافق باللذة والجمال والحب، كان له أبعد(869/10)
الأثر في خلق الرومانسية الوجودية والفنية في حياة علي طه الأولى وإنتاجه الأول، وكانت مصدرا عميقا من مصادر القلق الدفين والأسى الملح والشكاة التي تعلن عن نفسها في كثير من شعر (الملاح التائه)!
ولقد كانت المرأة أحد المفاتيح الكبرى لشخصية هذا الشاعر المصري، شخصيته الأدبية والإنسانية فيما قبل الثلاثين وفيما بعد الثلاثين وكانت نقطة التحول بين شعر وشعر وبين حياة وحياة!!
(يتبع)
أنور المعداوي(869/11)
حكمتي
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
لكل إنسان حكمته الخاصة التي ترشده في حياته وتنير له سواء السبيل، ولكل فرد من الأفراد المثقفين نوع من الإيمان وضرب من ضروب الاعتقاد الذي رسخ في ذهنه، وانطوى عليه باطنه، واطمأنت إليه نفسه، وإذا قلت إذ كل إنسان له حكمته فإنما أريد بذلك أن أتحاشى الكلام فيما يسمونه بالفلسفة الخاصة لدى كل واحد من أبناء آدم حتى ولو كان من رجال الشارع، إذ لا يوافق الكثيرون على الزعم القائل بأن كل واحد له فلسفته، فإذا جئت الآن لأقول عن كل واحد من الناس إن له حكمة يستوحيها فلا خطأ في كلامي ولا جناح علي، لأن الحكمة أخف بكثير من الفلسفة وأقرب إلى قلوب العامة وأشد اتصالاً بالحياة اليومية وتنتج في العقول بسبب الخبرة التي يجدها الشخص والتجارب التي يمر بها أثناء معاشه فوق ظهر الأرض.
وأنا شخصياً لي حكمتي، أستوحيها في الظل وأتملاها في النور وأستأنس بها من وحشة الليل وأمشي في الحياة بهديها ورضاها، وهي حكمة غريبة عن كل هذه الأفكار والمشاعر التي عهدناها حتى الآن، هي شيء من الواقع قبل أن تكون لونا من الخيال؛ وهي صورة من الحياة قبل أن تكون أملاً في الحياة، وضعتها في صدري قبل أن أمر بها على خاطري، وطويتها من قلبي ووجداني حتى إذا ما تفتح عليها العقل، ونبض بذكرها الفكر، عاشت مجنحة ولكن في اطمئنان، ومضت قلقة ولكن في وثوق، وانطلقت معي باحثة عن الأوضاع المستقيمة بين صرامة المنطق وغواية العاطفة.
هي حكمة أحياها بنفسي ولا أقتصر على التفكير فيها بالعقل، وأضمها إلى صدري دون أن أطفأ حرارتها بالتشريح والتفسير، وأتقبلها باسم الثغر واعي الفؤاد مستيقظ الضمير، ومن أجل هذا لا أرضى بها البديل، وإن جل البديل، ولا أتحول عنها إلى سواها مهما تكاثرت من أمامي خطى السير ومهما تطورت في عقلي أساليب الفكر والبحث. ولا أحب أن أضعها موضع التقديس، فلا أتأملها وأنظر في أمرها، ولا أرضى أن أخلطها بمعاش إلى الحد الذي تصير فيه محلاً للابتذال. هي قدسية في نورها أرضية في صورتها، ملائكية في سحرها طبيعية في هواها، إن أنس كل شيء فلن أنساها وإذا تسربلت بالهم فهي وحدها(869/12)
سبيل الهداية والرشاد.
فأنا أجري على نفسي قواعد حكمتي وأخطو في حياتي بما تمليه علي من الضرورة والحتم، ولذلك جاءت حكمتي بنتاً للواقع والظروف وبناء من أبنية الزمن والأيام، بل لعل ذلك هو السبب في أنها قد جرت في دمي، ونبضت دقات قلبها في عروقي، واهتز لها خاطري واستبشر بها محياي، عشت منها كما عشت لها واستضأت بنورها في الوقت الذي غذيتها فيه بنار قلبي وثورة روحي، فأحببتهاحب العاشق الموله للحبيبة الغالية، أو حب الزاهد المتعبد لجلالة الرحمن، استنشق من عبيرها خطوط سيري أثناء التقدم والتصعيد في الجبال الشامخة، وأتغذى من هالتها في خاطري أثناء جوعي وحرماني إبان الكفاح والتشريد، وبعبارة صريحة موجزة هي كل شيء فيَّ، وكل عمل يصدر مني، وكل فكرة تخطر على بالي.
ولذلك أحرص أشد الحرص على ألا أدعها تطير من يدي ولا أتركها براثن المقادير من غير أن أرعاها وأتعهدها، فهي تحيه بي كما أحيا بها، وهي جزء مني أشعر بامتلاكي لها وسيطرتي عليها، أتنفس من شذاها وأستقي من ضروعها وأعتصر ساعاتي كلها حتى تخلص لي فيها وأفرغ لها منها. وهي عادية جداً بحيث تخطر على بال الفلاسفة وغير الفلاسفة وبحيث تعرض للتافهين والعظماء سواء بسواء، ولكني أخصها بنوع من الاحترام والتقديس الذي يجعلها في خاطري ذات مكانة، ويضعها بين مراتب اعتقادي في أولى الصفوف، هذا فضلا عن أنني خبرتها فلم تخيب لي أملا، وامتحنتها فلم تفسد لي رجاء، واعتمدت عليها فلم تضيع لي أمنية. إنها مريحة لي كإنسان فاشل يحتاج إلى العزاء والرثاء، ومهبطة من غروري عند الكسب والنصر، تنفع عند الشدة والرخاء معاً، وتدلني على الوضع الذي يلزمني وعلى الظروف التي تلائمني وعلى المكان الذي يناسبني، فامضي إليه غير حاسب حساباً ودون ما أضع أمام عيني اعتباراً.
وأنت تعلم أن رأي الإنسان جزء من كيانه العام عند التحدث وعند إتيان الأفعال، بل يمكننا القول بان الرأي في دماغ الإنسان بمثابة عضو كامل في تكوينه الجسمي وله من التأثير مثلما لبقية أجزاء البدن، ولذلك أثور عند سماع الرأي المضاد كما افعل تماماً عندما تلدغني الحشرة السامة في بعض جسمي، ولعلي أنفعل من الوقوف على الرأي المخالف لرأيي أكثر(869/13)
من انفعالي للنكبة الهابطة والمصيبة النازلة، ويصعب علي أن أحول وأبدل في آرائي وان أكيفها حسب الظروف. فالرأي من دماغ الإنسان كالساعد في جسم الإنسان يستحيل أن لا يؤثر في ولا يمكن الرضا عن إيذائه وإيقاع الضر به، وفي الوقت نفسه يصعب علي أن أغير من شكله أو أبدل من منظره، والساعد ساعد إلى الأبد ولا يمكن أن يأتي عليه يوم يصير فيه ساقاً أو أستغني فيه عن خدماته فأبتره بتراً، كذلك في الرأي الذي أدين به والفكرة التي أعتنقها والحكمة التي ينطوي عليها بالي، فهي مشدودة إلى كياني شداً ومرتبطة بي ارتباطاً لا ينفع معه التقطيع والتجزيء والإبعاد.
وأنا أعلم أنه لا يليق بالمفكر إطلاقاً أن يكون على هذا النحو من الجمود الذي أصوره في الفقرة السابقة، وأدرك تماماً مقدار ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المثقف من المرونة في آرائه بازاء الأحداث، وأنا واثق بعد ذلك من أن الإنسان يرتقي في تكوينه ونشاطه العقلي بارتقاء ملكته في الانتقال من رأي وبمقدرته على التلون في فكرة كلما كان ذلك لازماً. ولكن ما أعتقده وأومن به شيء وما هو واقع بالفعل شيء آخر، فمما لا شك فيه أن لإنسان يجد الصعوبة في محاولته التنازل عما سبق أن آمن به واعتقد فيه وتحمس له وانه من الضروري أن تتوفر لديه كمية كبيرة من الطاقة النفسية والمجهود السيكولوجي حتى يتغلب على حنانه بالنسبة إلى تفكيره القديم وحبه للرأي السابق وتشيعه للمبدأ القبلي.
فالرأي الذي يدين به الإنسان ليس مجرد خاطر في بال أو بادرة في الدماغ وإنما هو دم يسري في الكيان بأجمعه حتى ليصير بمضي الأيام جزءاً من الكل وبعضاً من المجموع. وأخطر شيء هو ألا نرعى آراء الناس ومعتقدات الجماعة أية أهمية أو أن ننظر النفس من التكوين الظاهري، ومن هنا نقول إن كل احتقار يصدره الفيلسوف أو المفكر للآراء الجماعية مصنوع ومفتعل بناء على ما نراه بالعين أو نلمسه باليدين من التأثر الواقع في حياة الناس ونتيجة للانقلابات الباطنية داخل الفرد ذاته، فالحياة العامة إنما هي نتيجة حتمية لما تكنه النفوس على صنوفها من الإيمان والتقدير، بل إن الرأي ليؤدي إلى مظاهر عديدة من ناحية العلاقات بين الأفراد، فهذا يقتل ذاكالإيمان في قلبه بالخيانة وهذا يسفك دم ذاك لأنه اعتدى على عقيدته في الله أو سب إيمانه بالقبيلة والأسرة أو لعن إنساناً من ذوي قرباه أو ذوي حماه.(869/14)
فأفعالنا في الخارج إنما تنتج عن اعتقاد في الداخل أو عن الإيمان الباطن، وإذا كنت مهتما بحكمتي إلى هذا الحد فلأنني أعلم مقدار تأثيرها في كياني ومدى سيطرتها على أعمالي. وأرى لزاما على كل إنسان أن يلائم بين نفسه وبين البيئة التي يحيا فيها عن طريق الحكمة التي يعتنقها والفكرة التي يغرسها في عقله غرساً، كل فرد منا يعنى عناية خاصة بغذائه وملبسه وعلمتنا المدنية ضروباً من الفن في الأكل وعودتنا طرائق شتى في الكساء. ومن ثم كانت حياتنا في مظاهرها المختلفة ناشئة عن أذواقنا المتأثرة بالضرورات والبدع الجديدة، ولكننا لم نستطع أن نستفيد من الاتجاهات الفكرية العامة ولم نقو على تأسيس عقلياتنا تأسيسا فنياً ناحية تفكيره وثقافته وذوقه فلا نزال في الحضيض أين منا الذي يعنى بقلبه وعقله كما ومن هنا ترانا مسرعين في كل ما يهمنا أمره من ظاهرات المجتمع ومتقدمين تقدماً مادياً ملموساً في كليعنى بصنوف الطعام التي يحشو بها جوفه وأين منا المتأنق في قراءته بجانب تأنقه في اللبس والهندام، إننا أحوج ما نكون إلى روح عامة تهزنا من الباطن قبل أن تبدل في الشيات الظاهرةوتعمق الإحساس والذوق قبل أن تجمل الصور الشكلية في حياتنا.
فقد آن الأوان كيما نعنى بآرائنا ومعتقداتنا الخاصة وكيما نفرد لحكماننا قسطا من العناية والرعاية. ويكفي أن نعرف أننا نعيش بالأفكار والحكمة مثلما نعيش بالغذاء والكساء حتى نبذل من لدنا كل ما نملك من أجل اختيار الرأي الذي نملأ به رؤوسنا والخاطر الذي يجول بأذهاننا. ولا بد، منذ هذه الساعة التي نحدد فيها مستقبل الأمة عن طريق ما نصنعه بأيدينا من الفعال، أن نهتم اهتماماً خاصاً بالفكرة والحكمة الفرديتين بوصفهما منبعا لما نأتيه من الفعال ومصدراً لكل ما يخرج إلى العالم الظاهري من الحركات.
ومن مظاهر الاهتمام والعناية بالحكمة الفردية لدى كل أحد أن يباعد بين نفسه وبين البواعث التي يرى فيها ضرراً برأيه والمؤثرات التي يحسبها مودية بمعتقده، فلا يجالس إلا من يجد فيهم غذاء لروحه ويلمس عندهم متعة لقلبه ووجدانه، ولا يخاطب غير أولئك الذين يرتفعون به ويضيفون إليه. ولا شك أن التجربة لمظاهر الحياة المختلفة على قدر كبير من الخطورة في التأثير الفردي، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً هو أن مظاهر الحسن في الحياة أندر من مظاهر الدمامة، وان الشعور بالقوة والجمال أقل من الإحساس بالتفاهة(869/15)
والاعتياد، وإن ما يلزم الإنسان في حالة تصديه لما يشبع طموحه من الروائع أنفع للإنسانية من تلك العواطف التي تقوى على مقابلة الابتذال والتطفل، والتي تستطيع أن تنفذ خلال الظروف العملية والحالات الشائهة. فحاجتنا إذن إلى العاطفة التي تصحب إحساسنا بالمتع الجمالية، وتصرفنا عن منغصات الواقع المبتذل أهم في الآونة الحاضرة من المشاعر التي تلابس في نفوسنا كل خطورة نمر بها وكل تجربة ساقطة نتردى فيها. ولا يأتي هذا من اعتقادنا في الجانب الخيري الذي يسعى بعضنا من أجله في الحياة، وإنما لأهمية تعمق الإحساس لدى الأفراد، ولضرورة العناية بالأذواق، وللزوم النواحي الجمالية في معاشنا. فما يقول الشبان الذين يريدون الإقبال على كل تجربة مهما كانت تفاهتها ومهما كان ابتذالها ورخصها من أجل أن يتبينوا بأنفسهم مواطئ الشر فلا يقربونها وأن يحسوا بلذة الخير فينشدونه، لا يحقق شيئا ولا يؤدي إلى نتيجة حقا ما دمنا حتى اليوم لم نقم شعورا جمالياً ولم نؤسس ذوقاً فاهماً نبن روحاً متوثبة لدى الأفراد. فلننشئ أولاً مظاهر الجمال ودلائل الروعة والبهاء، حتى إذا جاء نصر الشيطان كنا على أهبة للقائه وكنا على استعداد لأن نرحب به، فيقيم بيننا ما تيسرت له الإقامة وينصرف عندما يشعر بأنه لم يعد عن المنصرف بعد.
ليس هذا هو كل شيء في الأمر، وإنما هناك شرط آخر لتكوين الحكمة الفردية وأعني به أن تكون لدىالناس مقدرة على التمييز المستقل بحيث يختار كل واحد لنفسه ما يهمه أو ما يلائمه بغير إملاء ولا سيطرة. فاهم ما تمتاز به حكمتي تلك التي حدثتك عنها هو أنني قد انتقيتها انتقاء وفضلتها تفضيلا ذاتيا خالصاً. وهاهنا أيضاً لابد من الإشارة إلى ضرورة التحصيل والتتلمذ، ومن توكيد أهمية الأخذ عن الغير في كل مراحل الحياة بلا اختلاف. ولكن المهم - حتى عند التأثر بالآخرين في الرأي والفكرة - أن يكون لدى الإنسان محك يقيس إليه ومحور يدور حوله. كن تلميذا إلى الأبد، فهذا فيدك ولا يجني عليك إذا لم يعد عليك بأخصب الثمار؛ ولكن لا تكن فاقداً للتمييز فيما تحصله، ولا تجني بعينيك مقفلتين. وبذلك تمتزج في قلبك عوامل السلب والإيجاب، وتتمخض روحك بمضي الأيام عن حكمة صائبة فريدة. ولا نريد بالحكمة الصائبة حكمة صحيحة على طول الخط، وإنما نقصد منها أن يكون رأي الإنسان مناسبا للمقام ملائما للوضع مبلغا إلى الهدف. أما بالفريدةفنعني أنها(869/16)
تكون خاصة به دون سواه من عباد الله، فلا يشاركه فيها أحد ولا يقاسمه إياها إنسان.
والحق أنه من الضروري ألا تكون المبادئ والآراء أبدية أزلية لا يصيبها الكسر والتغير، لأن العقلية المتفتحة والذهن المستنير لا ينقفل أمام شيء كما أن النفسية النشيطة تستطيع أن تفرز في كل مناسبة من الطاقة ما يمهد للهزة الباطنية التي تساعد على التحول من رأي إلى رأي والانتقال من حكمة إلى حكمة. فأهم ما تتصف به الحكمة الشخصية هو المرونة بازاء المظاهر الحيوية. وظاهرة التكيف كما نعلم هي أرفع صفات الإنسان وأخطر المظاهر البشرية ومن هنا حاول العلماء المحدثون أن يستفيدوا منها كما ينبغي. ولا يتعارض هذا مع قولي قبل الآن من أن حكمتي لا تتبدل ولا تتحول. فهي فعلا كذلك من ناحية الظاهر أما المضمون أو المحتوى فهو متقلب مع تقلبات الزمن وفورة الأحداث.
وتلاحظ حتى الآن أنني لم أشرح فكرة معينة تحتويها وتتركب منها حكمتي ولم أحاول أن أقوم بعرض جملة من الأنظار التي أعتنقها وأدين بها. وقد عنيت أن أنتهي على هذه الصورة لسببين: أولهما ما قلته لك من أن شرط الحكمة الأصيل هو ألا تكون محلاً للتأثر وان تكون ناتجة عن ظروف صاحبها نفسه من غير إملاء ولا سيطرة. فالحكمة حكمة صاحبها وحده ويستطيع بنفسه أن يتوصل إليها وأن يباشرها بإرادته. . . والسبب الثاني هو أن مجال الإطلاع على آراء الناس ومعتقداتهم متاح لك في كل كتاب يبغي الإصلاح ويريد الإرشاد ويعمد إلى التوجيه. أما سبيل العناية وطريقة المحافظة على الآراء الفردية فقلما يطرقها كاتب. ولذلك حاولت أن أقدم لك شيئا متصلا بالصورة والشكل الخارجي في الحكمة ولا يتعداه إلى المضمون والفحوى. وأعتقد أننا محتاجون إلى من يشعرنا بكرامة العقل أكثر من احتياجنا إلى من يملأ العقل، وأن المناهج تلزمنا اكثر من المواد. أو بعبارة موجزة إننا أشد حاجة إلى البطاقة المكتوبة على زجاجة الدواء نفسه.
حكمتي. . . هاأنذا أفتح لك عقلي فاكمني به، وهاأنذا أنير لك السبيل إلى ضميري فادخليه، وارع قلبا هام بالقداسة قبل أن يرتمي في أحضان الرذيلة. . . ولا تأخذي عليه أخطاء المجرم القصد ولا تحاسبيه حساب الفاسد المطبوع، بل انظري إليه كما تنظرين إلى الشخص المنكود الذي يطيش السهم في يده وتفلت المقادير من بين أصابعه فلا تترك له غير ذل العبرة وكيد الماضي ومرارة الذكريات.(869/17)
عبد الفتاح الديدي(869/18)
صور من الحياة
خاتمة قصة
للأستاذ عودة الخطيب
(كتب الأستاذ كامل محمود حبيب في الرسالة الغراء قصة امرأة خانت زوجها الذي أحبها، وحدب عليها، ولم يستمع لنصيحة أبيه الشيخ بها، وترك الأستاذ الفاضل بطل القصة هذا الزوج الخائب حائر النفس قلق الفؤاد، لا يستطيع أن يلقيها إلى الشارع مخافة أن يحرم أولاده الأمان والسعادة والراحة ولا يستطيع أن يستبقيها لديه وقد خالفت إلى غيره وطعنته في قلبه وشرفه وقد دعا الأستاذ إلى قراء الرسالة أن يبعثوا إلى هذا الحائر المعذب بأشعة من الرأي السديد والفكرة الصائبة، لعله يتبين على ضوئها الطريقة السليمة والخطة الحكيمة وقد رأيت أن أسهم في الحديث عن هذه القصة المؤثرة، فجعلت رأيي فيها خاتمة لها، فلعل بها تحل هذه العقدة العسيرة وينتهي هذا الصراع الأليم ولعلها بعد هذاترضي الأستاذ الفاضل كامل وقراء الرسالة الغراء.)
قال لي صاحبي: وعشت أياماً شداداً، أقاسي فيها حسرة الندم، ولذعة الألم، أنتجع مواطن الخلوة، وأتجرع مرارة الخيبة وانطويت على نفسي، وحرت في أمري، وعزفت عن الدنيا والناس وأصبحت حليف القلق والأسى، وكنت كلما رأيت عدوتي الخائنة يتفجر السخط في قلبي، ويخيم المقت على روحي. .
وكنت كلما رأيت أولادي، أحس بقلبي يكاد يختنق بأشجانه، وبروحي تكاد تفارق جسدي، فتلك عدوة لابد منها لهم. . . ولكن. . . . كيف لي بالاحتمال وأوحال العار تلطخ بيتي!. وإني لأرى كل شيء في البيت يثب ثائراً محذراً. . . ويلتاه!. إنها حليفة الشيطان الرجيم، وقطعة من نار الجحيم، فماذا أصنع؟!. ولم أهتد إلى الرأي السديد ولحجة الواضحة، وكنت كمن ألقي به في لجة صاخبة؛ وأمواج هائجة، وقد أثقلته النكبة، وأذهلته الصدمة، فزاغ بصره، وضاع صوابه، فرحت يا صاحبي - أصارع الهموم والأحزان، وأدرا عن نفسي هذا البلاء وأسعى إلى الخلاص دون أن أصل إلى الشاطئ. . . الشاطئ الذي يريحني من هذا القلق الشديد، والحيرة القاتلة، وينقذني من هذه اللجة الصاخبة التي غمرتني أمواجها فكدت اغرق بها. . . وكنت كلما خلوت إلى نفسي - وما أكثر ما أخلو أليها - أدير في(869/19)
رأسي أفكاراً شتى، وتتنازعني آراء جمة، فتارة يدلي لي العقل بالرأي الصليب، والأمر الشديد، فيجزع قلبي وينهار. . وطوراً تترجم العاطفة عما في القلب من حنان ورقة. . فأكاد أستسلم للواقع رعاية للأولاد الأحبة، ووفاء للحب القديم، فيسخط العقل ويثور ويهدد. . وأنا - يا صاحبي - ميدان هذا الصراع، تنتهبني هذه الأفكار، وترس في روحي هذه الوساوس. . .
يقول لي القلب - وآه من هذا القلب - إنها - يا صاحبي - نجية نفسك، وترب روحك، وضياء بيتك ومهوى فؤادك،. . . أجل حبيبتي، أنا قلبك الرقيق الوفي. . ذقت معها مذ عرفتها أطيب ساعات العمر، وأحلى أيام الشباب، ألم تكن تحزن لحزنك وتفرح لفرحك، وتغمرك بحنانها وعطفها. وتشيع في روحك الأنس والنور، وفي بيتك السعادة والجمال. . أنسيت يوم التقيت بها في حديقة الأندلس، وكنت مهموم النفس، ضيق القلب، برما من الحياة وبالناس، تشعر بالحرمان يملأ عليك دنياك، والظلام يسد دروب حياتك. . فلما مدت يدها إليك لتصافحك، تبدل يأسك أملاً، وظلامك نوراً، وضيق نفسك رحابة وسعة ونشوة. . ورأيت في الزهر تلك الساعة معنى ابتسامتها الجميلة، وفي النهر الرائق صفاء روحها الوادعة. . أتذكر حين جلست بجانبها على ذلك المقعد الوثير، والنسيم الجميل يداعب صفحة النيل، ويهز أعطاف النخيل. . والشراع الحالم يشق الماء في رقة وهدوء. . لقد كانت يدها في يدك، وروحها تمازج روحك، حين قالت لك بلهجة الحلوة الساحرة: إني أشعر - يا حبيبي - بأن قلبي كهذا النهر وأنت الذي تداعبه وحدك، فيخفق لك حين تنشر عليه شراع قلبك وظلال روحك. فابتسمت وقلت: ولكن ما قيمة الشراع من غير هذا النهر!! وذهبتما معا في أحاديث عذبة، وعواطف رقيقة، أتذكر. . أتذكر. . أم أن نزوتهاالطائشة وخطيئتها الأخيرة. . . هذه السحابة السوداء الصغيرة، قد أخفت ورائها تلك الشمس الساطعة، وهاتيك الأنوار الزاهرة. . . وعفت على تلك الذكريات الحلوة، والساعات الممتعة. . . إنها يا صاحبي رغم كل شيء تحمل لك في قلبها الود الخالص، وتغمرك بالحب العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت تهوي إلى العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت(869/20)
تهوي إلى قرار سحيق. . . أفليس من المروءة والوفاء أن تمد يدك إليها، لتنقذها من الهلاك، وتخلصها من أنياب الذئاب. . . إنك إن صنعت هذا بها رفعتها من الحضيض المظلم الموحش، إلى دنيا من السمو والأنس والنور. . . وإن أنت ألقيت بها إلى الشارع فقد تركتها تهوي إلى قرار الجحيم. . . جحيم الشارع الذي لا يعرف للإنسانية والرحمة معنى. . . إنك بهذا تحطمها، فتتحطم معها وتحطم أولادك. . . فاستمع لندائي وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . . وعفت على تلك الذكريات الحلوة، والساعات الممتعة. . . إنها يا صاحبي رغم كل شيء تحمل لك في قلبها الود الخالص، وتغمرك بالحب العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت تهوي إلى العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت تهوي إلى قرار سحيق. . . أفليس من المروءة والوفاء أن تمد يدك إليها، لتنقذها من الهلاك، وتخلصها من أنياب الذئاب. . . إنك إن صنعت هذا بها رفعتها من الحضيض المظلم الموحش، إلى دنيا من السمو والأنس والنور. . . وإن أنت ألقيت بها إلى الشارع فقد تركتها تهوي إلى قرار الجحيم. . . جحيم الشارع الذي لا يعرف للإنسانية والرحمة معنى. . . إنك بهذا تحطمها، فتتحطم معها وتحطم أولادك. . . فاستمع لندائي رفعتها من الحضيض المظلم الموحش، إلى دنيا من السمو والأنس والنور. . . وإن أنت ألقيت بها إلى الشارع فقد تركتها تهوي إلى قرار الجحيم. . . جحيم الشارع الذي لا يعرف للإنسانية والرحمة معنى. . . إنك بهذا تحطمها، فتتحطم معها وتحطم أولادك. . . فاستمع لندائي وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . .
وسمعت - يا صاحبي - إلى صوت القلب، وأنا كاسف البال، حزين النفس، مشتت الفكر، ومثل أمامي بجراحه الدامية يذكرني بالماضي الجميل، والأيام الحلوة. . . فكدت أصغي إليه، وألبي ندائه، لولا أنه بدا لعيني ذلك الشبح الرهيب. . . شبح الخيانة. . . وهنا - يا صاحبي - رأيت العقل قد ضاق ذرعاً بفلسفة القلب فانطلق ساخطاً يزمجر فيقول: دع عنك(869/21)
كل هذا، وأسكت هذا الشيطان الذي ينفث سمومه على لسان القلب. . . ولا تكن خائر العزم جباناً. . . إن هذا البيت قد خلق ليكون جنة وارفة الظلال، مورقة الأفنان، تشيع فيها السعادة، وتغمرها الطمأنينة، ويملأ أرجائها الجمال. . . جمال الروح. . . وجمال القلب وصفاء النفس وطهارتها.
وهذه - زوجتك الخائنة - ليست إلا أفعى تخفي وراء هذا الملمس الناعم والثوب القشيب الملون، والرقة والهدوء - أنيابا حادة تقطر السم الزعاف. . . وقد جاءت لتجعل من جنتك هذه جحيما مظلماً يزخو بالشرور والآثام، ويمتلأ بالمردة والشياطين. . . أنها - لو أنعمت النظر - نار لاهبة أضرمها الشيطان بهذا الجسد الفائر، فاستحالت إلى إثم محرق. . . يلتهم الكرامة والشرف؛ ويبدد الراحة والأمان، ويحطم بقسوة وعنف هذا الأمل الذي عشت عليه زمناً طويلاً؛ ورنوت إليه منذ أمد بعيد. . . أجل - يا صاحبي - إنها تريد أن تلدغ شرفك الرفيع وتقوض عرشك المنيع، وتبدل الألفة والمودة والصفاء، بالمراوغة والنذالة والشقاء. . . فلا تتردد في طردها من جنتك، قبل أن تحفر أوكارها، وتميت ضحاياها. . . أن لك أولاداً تحبهم؛ وتسعى لخيرهم، وتبذل من نفسك لإسعادهم، فإن أنت تركتها في جنتك فقد حكمت على نفسك وأولادك بالشقاء الدائم، والعذاب الأليم، وهذا ما لا أرضاه لك ولا ترضاه لك كرامتك. فلا تبق هذه الأفعى - يا صاحبي - لئلا تلد لك الشقاء والعار والنار. . .
وأخيراً - يا صاحبي - مكثت أياما تنتهب نفسي الوساوس والهموم، وكدت أصعق من ثقل ما لقيت. وحرت في أمر هذا الصراع. . . الصراع العنيف بين القلب الوفي الرقيق يأبى - وهو يئن من جراحه - إلا أن يستعيد ذكريات أيام الصفاء، ليمحو بها ما نقش في النفس من غم وضيق وألم دفين. . . وبين العقل الذي يمسك بهذا القلب فيصهره وينهره ويصيح في وجهي تأثراً متمرداً: مالي أراك متردداً في تنفيذ وصيتي. . . وسماع رأيي. . . دعني أذكرك برأي أيبك ذلك الشيخ الذي عركته الأيام والتجارب فأدلى لك بالرأي الصواب حين قال لك: (فإذا لم تصلك بزجك صلات من القربى، ووشائج من الدم، عبثت بشرفك، وفرطت في كرامتك، وبددت ثمار كدك) قلت في لهفة (ولكني) قال (ولكنك تحب فتاتك ولا عجب فهي قد اغترتك عن نفسك، وخدعتك عن عقلك، وسحرتك عن صوابك؛ لأن المرأة(869/22)
المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه).
وهذه نبوءة أبيك قد تحققت، وأن الأيام لتثبت لك أنك ما زلت بحاجة إلى يد تساعدك، ورأي يعينك، وأب ينصح لك، ويشير عليك، وإن كنت قد تعلمت وتجاوزت طور اليفاعة إلى سن الشباب. لقد كان أبوك - يا صاحبي - بعيد النظر، سديد الرأي ينظر من خلال تجاربه الكثيرة، وشيخوخته الحكيمة. . . وقد خشي عليك أن تعصف بك عاصفة من مكرها وسحرها، وقد رأيته ليلة الزفاف، وراعتك منه هذه العبرات الحائرة في عينيه، وتلك الغلالة من الهم والضيق وقد كست وجهه.
قلت لنفسك (واعجبا! أفكان أبي الشيخ يرى بعيني تجاربه أن من تحت قدمي هاوية سحيقة أوشك أن أنزلق فأتردى فيها فلا يمسكني إلا القرار) أجل والله - يا صاحبي - إنه لذاك وقد كان أبوك يشفق عليك من هذا المصير السيئ، وهذا التردي الموبق، ألا فاعلم أن ما يراه الشيوخ بأبصارهم الكليلة، ونظراتهم المستاءة لا يصل إليه الشباب بأبصارهم الحادة، ونظراتهم السريعة، لأن على بصر الشيوخ - وإن كان ضعيفاً - نوراً من الحكمة الرزينة، والرأي السليم، والفكرة الصائبة. وعلى أبصار الشباب - وإن كانت حديدية قوية - غشاوة من فورة الطيش، وعبث القلب ونزوة الهوى.
قال لي صاحبي: وفي صباح، يوم قارص البرد ممطر، سمعت دقات خفيفة على الباب، فعجبت من هذا الطارق المبكر، الذي سابق الشمس في البكور فلم تلحقه، غير عابئ بهذا البرد الشديد والمطر الكثير، والرياح العاصفة. ولكنه - يا صاحبي. . . أبي قد جاء من القرية يزورني، ويطمئن على حالي، بعد أن انطوى على ألمه وأحزانه وقلقه من هذا الزواج الذي لم يرض به ولم يوافق عليه. أجل لقد فوجئت - يا صاحبي - بتلك الطلعة المهيبة وذلك الشيخ الوقور يخطو نحوي، مسلماً علي، يعانقني ويقبلني، وقد قرأ في وجهي ما أعاني في نفسي من قلق وأسى. فبادهني بالسؤال عن زوجتي؟! - آه ياويلتي. كيف أجيبه؟!. وماذا أقول؟!. أأقول. إنها. ولماذا أتردد!!. أليس هو أبي؟!. فلماذا اكتم عنه سري وأخفي عنه أمري؟!. فقلت والأسى يعقد لساني، والدمع يملأ مقلتي: إنها خائنة.
وذعر أبي، وأخذته رعدة، ورأيته قد أسند رأسه بذراعه، شأنه حين يفكر في أمر خطير(869/23)
وسكت. وخلت - يا صاحبي - أن الكون كله يشخص بأبصاره نحوي، ويحملق في دهشة وتساؤل، ويسخر مني ويهزأ بي، ورأيت في هذا الصمت خطابا مجلجلا يصدع الآذان ويرعب القلوب. ولما طلا هذا الصمت خلت أن قلبي يكاد يصعق وأن روحي تكاد تزهق، لولا أن أبي الشيخ قد أنقذني فرفع رأسه ونظر إلي نظرة حازمة صارمة يمازجها العطف والحنان. وقال: قلت لك - يا بني - وأعيد القول: (يا بني لست أخشى رأي الشباب في عقل الشيوخ.) أن المرأة - يا بني - لا تجد العقل إلا في الشارع) فدعها يا بني تجد هذا العقل الضائع. ولم أقل هذه المرة: (وهي تجده في العلم وفي المدرسة وفي الجامعة). ولكني قلت بمرارة وألم. وأولادي - يا أبي - إنهم أحبائي الأعزاء فكيف أقتل السعادة والأمان في قلوبهم؟!.
وهنا ثار أبي في وجهي قائلاً: إنهم أولادك أنت وتستطيع أن تكون لهم أبا وأما، ومثل هذا في الدنيا كثير، وأن الرجل الحق من يستطيع إن أصابه سهم من سهام الدهر، أن ينزعه بقوة وعزم، ثم يقف مرة أخرى ليكافح. فلا تترك للخور سبيلا إليك، فضمد جراحك ثم واجه الدهر بثبات وإيمان وصبر، دع الخائنة - يا بني - تلق جزاء خيانتها، فليس أقدر على سحق الإثم والشر من العقاب. وأولادك!. ماذا كنت تصنع لو أنها ماتت؟!. كنت سترضى بالقضاء النازل وتتدبر أمرك.
ألا فاعلم - يا بني - أن الخائنة ميتة في قاموس الدين والأخلاق والكرامة. ولكن حذار أن يعرف أولادك عن أمهم شيئاً في المستقبل - دعهم يعيشوا دائماً وإلى الأبد على جهل بتاريخها. لئلا تخدش كرامتهم، ويعيشوا أذلاء. فإن سألوك عنها فقل لهم: إن هذه الأرواح - جنود مجندة، فما تعارف ائتلف، وما تناكر اختلف، ويشاء حظ أبيكم أن لا يهتدي إلى الروح التي تأتلف إلى الأبد مع روحه، فكونوا أسعد حظاً منه، واستمعوا إلى نصيحتي، ولا تحيدوا عن مشورتي، ولا تخالفوا رأي شيخ كبير مثلي.) قالها أبي - يا صاحبي - والدمع يذرف من آماقيه. وعاد إلى صمته الطويل.
قال لي صاحبي: وهكذا كان فقد تركتها واستمعت إلى رأي الشيخ، وأسكت نوازع الهوى، وأعرضت عن ظلال الأيام وصدى الذكريات، أرى سعادتي بين عملي وأولادي وأردد دائماً قول أبي: (وهل تستطيع المرأة البرزة أن تحبس دم الشباب الفوار عن أن يصرخ في(869/24)
عروقها صرخات شيطانية وضيعة، حين تجلس إلى الرجل في غير رقبة ولا حذر؟!.)
القاهرة
عمر عودة الخطيب(869/25)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية
(2) مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال دسوقي
وإذا فرغ فيلسوفنا من إثبات وجود الله يتناول مشكلة، فبعد تقرير الذات تأتي الصفات، وبعد الصفات الأفعال، وإن كان هذا التقسيم الثلاثي غير ظاهر تماماً كما كان تبويب الكتاب وتوزيع فصوله غير دقيق كذلك. وهو العيب الذي يعتور كثيرا من الكتب الإسلامية القديمة، والذي يحتاج معظمها من أجله إلى معاودة النشر بتبويب وتفصيل جديدين.
والذي ذكره ابن رشد من صفات الله سبع فقط يقول أنها التي وردت في الكتاب - وقد سبق أن قلت لكم أن لله صفات أكثر من هذه تبلغ العشرين من حيث هي ثبوتية، ومثلها مما يقابلها من حيث هي سلبية (تجدونها في كتب التوحيد) وكلها مؤيدة بالآيات القرآنية كالتي ذكرها ابن رشد. ولكن يبدو أن الفيلسوف لا يذكر من صفات الله إلا ما يتصف به الإنسان الكامل كما يقول، وأول هذه الصفات العلم، الآية التي يستشهد بها على هذه الصفة تدل أقل ما تدل على أنه ما في المخلوقات من براعة الصنع ودقة الترتيب بما يوافق الغاية المرسومة لا يمكن ن يكون اعتباطاً - بل لا بد من حكمة وتدبير مقصودين صادرين عن علم كامل. وعلم الله صفة قديمة كما هو قديم، وليس بصحيح ما يقوله المتكلمون من أنه يعلم بالعلم القديم الشيء المحدث وإلا لكان علمه يتنوع؛ أو كان كالشيء تارة يوجد وتارة لا يوجد؛ وهذا ما لا يقتضيه الشرع لأن العلم المتغير محدث - وهو خلاف ما قررناه والحياة بعد هذا شرط العلم؛ متى ثبت العلم تقررت الحياة وأمكن أن ننتقل مما قام عليه الدليل إلى ما لم يبرهن عليه بعد - ولا اعتراض لابن رشد على ما قال المتكلمون في هذاوالإرادة والقدرة لازمتان كذلك لصفة العلم التي سيق إثباتها بالأشياء المخلوقة - وما قيل في العلم يقال في الإرادة من حيث أن كون الشيء الآن ليس بإرادة قديمة كما يتوهم المتكلمون بل يجب أن يكون حدوث الشيء وقت إرادته؛ وعدم حدثه رهنا بعدم إرادته كما تقتضي الآية (كن فيكون) ولما كان الموجود الواحد عالماً بما يفعل وقادراً على فعل ما يريد؛ فإنه قادر أيضاً على مخاطبة من يريد والكشف له عما بنفسه - وهو الكلام - الذي هو أحرى بالله من الإنسان لكمال قدرة هذا وعلمه وإرادته والكلام إذا كان ولابد بواسطة اللفظ؛ فليس من(869/26)
الضروري أن يكون لفظا مخلوقاً فقد يوحي إلى من يشاء من عباده بكلام نفسي ينكشف به المراد من غير واسطة كما في آية إسراء النبي، وقد يكلم فعلا بألفاظ يخلقها ولكن من وراء حجاب، كما في مناجاة موسى؛ وقد يرسل ملكاً أو رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. والقرآن بهذا المعنى الثالث كلام الله الأزلي القديم ولفظه مخلوق لا يتعدى نصيب البشر فيه الحروف المكتوبة بإذنه - بمعنى أنه قديم معنى ومحدث لفظاً. وقد ذهب المعتزلة والاشاعرة مذهباً متضاداً في هذا: قال المعتزلة إن الكلام فعل المتكلم، وأنكر الاشاعرة ذلك. فانتهى هؤلاء إلى أن الكلام هو اللفظ، وأن القرآن حادث؛ وأولئك إلى أن الكلام النفسي أي المعنى المراد قديم أما اللفظ الدال عليه فحادث. وقد رأينا أن ابن رشد إلى الأشاعرة أميل وإن كان ليقرر أن بعض الرأيين حق وبعضه باطل. والسمع والبصر أخيراً من مقتضيات العلم الكامل أيضاً لأنها وسائل بعض المدركات الحسية التي لا يتم العلم إلا بها والتي تسوغ عبادتنا لعاقل مدرك جدير بالعبادة. وسواء أكانت هذه الصفات كلها زائدة عن الذات (بأن كانت معنوية) كما يقول الاشاعرة أو كانت هي والذات شيئاً واحداً (فيسميها حينئذ نفسية أي غير مفارقة) كما يقول المعتزلة، فالذي يجب على الجمهور أن يعلم من أمرها هو مجرد الاعتراف بوجودها؛ وهو ما صرح به الشرع في نظر ابن رشد.
أما الفصل الرابع ففي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها أي الترفع به عن أن يتصف بها. والآيات التي ذكرها المؤلف هنا يريد بها نفي مماثلة الله للحوادث أي نفي صفات المخلوقات عنه أو جعلها فيه على جهة أخرى بأن تكون أتم وأكمل؛ يجب أم تلموا بهذه الآيات الدالة على هذا النفي بقسميه: (وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . .) نفي النقائض القريبة كالموت والنوم والنسيان والخطأ؛ والبعيدة التي ترجع إلى أن (أكثر الناس لا يعلمون) كالقدرة والإرادة مما هو مشترك بين الخالق والمخلوق ولكنه في الخالق أكمل وأتم. أما الصفة الجسمية وإن كان مسكوتاً عن نفيها أو إثباتها، وبرغم الآيات التي صورتها للحنابلة وغيرهم من هذا النوع الثاني؛ فإن ابن رشد يرى أن لا يصرح فيها بنفي أو إثبات لأدلة ثلاث واضحة ذكرها هو (ص62 - 63) يؤدي ثالثها إلى مسألتي الرؤية والجهة. وكذلك الحركة فيما يتعلق بموقف الحشر والحساب(869/27)
مما يرى معه ابن رشد ضرورة عدم التصريح للجمهور بنفي الجسمية - كما أراد الشارع - حتى لا تبطل هذه المعاني كلها في أذهانهم فلا يصدقوا بها وهي من صميم الإيمان وإن أمسك عن تأويلها كما أمسك عن تأويل النفس والبرهنة على أنها ليست بجسم. فإذا كان لا بد أن نجيب على سؤال الجمهور: ما هو الله إذن! فلنقل لهم أنه نور - كذلك هو وصف الله لنفسه ووصف رسوله له - هذا إلى أن النور أشرف المحسوسات اللائقة بوصف أشرف الموجودات، وإن موقع الله من بصيرة المقربين كموقع النور من أعين الخفافيش، وأن النور من الأشياء الملونة هو سبب وجودها بالفعل - كل هذه أدلة يحشدها الفيلسوف على ضرورة الوقوف عند وصف الله بالنور دون أن نخوض مع الجمهور في نفي الجسمية عنه لكي ينقذ إيمانهم بالجهة والرؤية والحركة وغيرها من المعاني التي يشرع في تفصيلها.
أما الجهة فيرى ابن رشد أنها وإن أنكرها المعتزلة قد أثبتها الشرع في الآيات التي ذكرها. فمن الحقائق المقررة في الأديان جميعاً كون الله في السماء. ومنها تتنزل الملائكة بالوحي والكتب والرسالات وإليها كان الإسراء والمعراج. وليس يلزم عن إثبات الجهة ثبوت المكان فالجسمية كما يخشى المعتزلة (نفاة الجهة) فالجهة السطوح والأبعاد والأوجه وليست المكان. إذ المكان ما يمكن أن يشغله جسم، ولا يكون السطح مكاناً لشيء إلا إذا جاوره سطح آخر يكون محيطاً به. ولما كان تجاور السطوح لا إلى غير نهاية؛ فإن سطح الفلك الأخير ليس مكاناً ولا يوجد به جسم؛ أو - إن وحد به شيء - فهو لا جسمي (ولا يكون خلاء؛ لأن الخلاء حكمه حكم العدم - لا وجود له في الواقع وليس أكثر من أبعاد فارغة لا جسم فيها إذا رفعت صار عدماً) والخلاصة أن إثبات الجهة لله واجب بالشرع والعقل، وأن إبطالها إبطال للشرع (ص68 - 69) حقاً إن إثبات الجهة مع نفي الجسمية مما يعسر فهمه؛ ولكن هذه الشبهة لا يفطن الجمهور إليها ولا حاجة بنا إلى تأويلها. فإن أصناف الناس الثلاثة لن يجد جمهورهم وعلماؤهم هاهنا تشابهاً - أما الذين في قلوبهم زيغ (وهم الأوساط فيما بين العامة والخاصة أي الصنف الثاني) فهم الذين يشكون فيضلون - وهم عند ابن رشد أهل الكلام والجدل (وعدتهم 72 فرقة متأولة ضالة) أما الفرقة الناجية فهي التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤله في صراحة لعامة الناس كما فعل الخوارج فالمعتزلة(869/28)
فالأشاعرة فالصوفية وعلى رأس الجميع أبو حامد الغزالي (اعرفوا جيداً نقد ابن رشد لهذا الإمام فإنه أكبر خصومه ص72 - 73) فمثل هؤلاء مثل من بدل الدواء النافع المفيد عموماً الذي وصفه الطبيب الأعظم بدواء تافه مستحدث يضر الأكثرين، ويؤدي إلى الخلط والتشويش والإخلال بالشريعة والحكمة كليهما (73 - 74).
والرؤية كذلك أنكرها المعتزلة لقيامها على الجهة القائمة بدورها على الجسمية ولكون المرئي لابد أن يكون في جهة الرائي؛ وأراد الأشعرية بين نفي الجسمية وإمكان الرؤية بالحس فجاءت أدلتهم متناقضة ومغالطية سواء منها ما عاندوا به المعتزلة وما أجازوا به رؤية ما ليس بجسم. ففي المقام الأول عاندوا قول المعتزلة إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي بأن هذا حكم الشاهد لا الغائب - أي المحسوس لا المعقول، فهنا عند الأشعرية خلط ظاهرا بين الرؤية البصرية والإدراك العقلي، إذ الرؤية البصرية لا تتم إلا بالشيء الملون والحاسة المبصرة والأثير الشفاف. ودليل رؤية المرء ذاته في المرآة الذي قال به الغزالي باطل لأن الذي يرى هو الخيال في الجهة المقابلة. ثم إن المتكلمين (الأشعرية) يدللون على إمكان رؤية ما ليس بجسم (76 - 77) بدليلين: أولهما ما يذهبون إليه من إبطال رؤية الشيء من حيث هو (جسم أو لون) إلى آخره ورؤيته فقط من جهة ما هو موجود - وينقض ابن رشد هذا بقوله إن اللون يرى بذاته، والجسم يرى للونه - ولو كلن الشيء لا يرى إلا لوجوده لاختلطت الحواس وهو غير معقول.
وثانيهما دليل أبي المعالي في (إرشاده) الذي ميز فيه بين ذات الشيء وأحواله وجعل للحواس أن تدرك الذات فقط أي الشيء من حيث هو موجود - أما أحواله وصفاته المشتركة فلا سبيل إلى أن يدركها الحس. وهذا دليل يبطله ابن رشد أيضاً بمثل ما أبطل به سابقه من أن الحواس إذن تختلط وتصبح حاسة واحدة. . . وإنما كانت هذه الحيرة لافتراض هؤلاء جميعاً نفي الجسمية وهو بعيد عن مقصد الشرع الذي شبه الله بالنور وهو محسوس، والنتيجة إذن أن الرؤية معنى ظاهر، وأن شبهتها تزول بزوال شبهة نفي الجسمية.
والقسم الأخير من أدلة ابن رشد يتناول الأفعال الإلهية في خمس أمور وأولها خلق العالم وهو يردد هنا، كما في كل مكان، أن الأدلة لكي توافق الشرع يجب أن تكون بسيطة يمكن(869/29)
أن يسلم بها الجميع، ومن أجل هذا تبطل أدلة الأشعرية التي سبق أن أتى عليها في حدوث العالم، فليست من مقصد الشرع في شيء، وحسبنا لكي نحقق مقصده بمعرفة أن العالم مصنوع لله ومخلوق لم ينشأ من نفسه ولم يوجد بمحض الصدفة، حسبنا دليل العناية آنف الذكر، فإن موافقة أشياء العالم في تفاصيلها وجملتها لكائناته الحية كالإنسان والحيوان لا يمكن أن تكون اتفاقاً وصدفة بل بإرادة وقصد. هذا هو الدليل الحق الذي إلى جانب كونه بسيطاً وقطعاً يقيننا هو الذي نبه عليه القرآن (الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً. . . الليل لباساً والنهار معاشاً. وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً. وجعلنا سرجاً وهاجاً) ببيان ما في المخلوقات من ملائمة ومنفعة. ومن هنا يبين فساد قول الأشعرية وبعدهم عن مقصد الشرع بإغفال عنصر الإنعام من الله على الإنسان (ص85) وعنصر ربط المسببات والأسباب لحكمة وتدبير، فلا تخلو المسببات عندهم أن تكون بالصدفة والاضطرار لا بالأفضل والإجادة والإتقان، فإذا علمنا أن المصنوعات لا تكون شريفة تماماً حتى لا يكون في الإمكان صنع أبدع منها؛ فإننا لو أخذنا بغير ما يريد ابن رشد لم تكن المصنوعات غايات معينة، ونفي الغاية المحددة ينفي وجود النظام والترتيب وهذا ينفي بدوره المنظم والصانع الحكيم. أما سبب ضلال الأشعرية في نظر ابن رشد فهو (1) خوفهم أن يجعلوا أسباباً فاعلة غير الله حتى ولو كانت تفعل بإذنه (2) أوأن ينساقوا إلى الإيمان بالقوى الطبيعية فلا يحسنوا الاستدلال على وجود الله. ومن هنا قالوا أن المخلوقات جائزة الوجود ليجعلوا خالقها مريداً. فأبطلوا الحكمة وافتروا على الله الكذب. ولما كان من العسير إقناع الجمهور بأن عقيدة الشرع في العالم أنه محدث وأنه خلق من غير شيء غير زمان فإن ابن رشد يرى أن نستعين بالتمثل والتصوير بالآيات التي تقرب المعنى إلى الأذهان (ص90).
(يتبع)
كمال دسوقي(869/30)
الأعمى
للكاتب الألماني فردريك ويتسل
وصفت لي أمي مرة منظر الشمس وهي تتعالى فوق الجبال، فسرني ذلك الوصف كثيراً فسألتها (ما الشمس يا أماه؟) فقالت بصوت متأثر وهي تمسح بيدها على شعري (أواه يا ولدي؟ مهما وصفت لك الشمس فلن تتصورها كما هي، دون أن تراها.)
(. . رباه لماذا حرمتني نعمة الرؤيا؛ لماذا ولدت أعمى،؟ إنني أريد رؤية الشمس التي أحس بحرارتها وهي تلفح وجهي، افتح أجفاني - ولو لمرة واحدة - لأرى الشمس ولأرى وجه أمي، ثم أغلقها بعد ذلك ثانية!) ضاعت صرختي في أدراج الرياح، فبقيت في عالمي المظلم الموحش، أشعر بنعومة الزهور، وأشم عبير الورود، ولكني لا أعرف كيف أتخيل صورة الزهرة. فهي - كما يقولون لي - أحلى من عبيرها، وأفتن من نعومها.
حلمت ذات ليلة أن عيوني تفتحت. وأني صرت أرى نور الشمس، وشكل الزهور ووجه أمي. فلما استيقظت وجدتني لا أزال في ظلام.! وحدث بعد ذلك أن اتخذت أمي مربية، اسمها (ميري)، وجدت بقربها بعض العزاء. فكثيراً ما شجعتني بأغانيها وألحانها، وكثيراً ما أبعدت عن نفسي الهموم بأحاديثها فكاتها. حتى كاد شوقي - إلى الشمس، وإلى الزهور وإلى وجه أمي - يزول ويتلاشى. .!
سمعت أهلي يتحدثون عن طبيب للعيون، ذاع اسمه واشتهر أمره، في وقت قصير، وقد علمت أنهم سيأخذونني إليه، لعله يفتح أجفاني، وينير عيني، فتنازعني آنذاك شعور أن حبي لميري وحبي للشمس ولوجه أمي وللزهر، فوجدتهما متعادلين متكافئين وحين أخذوني إلى ذلك الطبيب، وبدأ يفحصني ارتفع صدري، وازداد ارتباكي. فقد شعرت كأنني على أبواب حياة جديدة، وإنني أولد من جديد، في عالم لم أره وإن كنت قد عشت فيه وسمعت عنه. .! وبينما أنا في أفكاري أتيه، شعرت بألم قوي في فصرخت مرتين. . مرة من الألم، ومرة من الخوف. فقد عاودني حلمي القديم، فقد لاح لي كأني رأيت النور.! لكني سرعان ما عدت إلى عالمي الأول، فقد عصب الطبيب عيني، فلم أعرف أكان حلماً ما رأيت أم حقيقة. فبقيت بعد ذلك أحيا حياة غريبة فيها أمل وفيها يأس، وهي مع ذلك ملؤها التهيب والخوف!(869/31)
حتى جاءني الطبيب ذات ليلة، وطفق يعالج عصابة عيني. . فإذا أنا أرى نجوماً تتلألأ عند الأفق. فإذا بي في عالم جديد، لم أحلم به، فأجدني مذهولاً، أحول عيني يمنة ويسرة فأرى كل فذ عجيب. . . ثمة خرائب أراها أمامي. فأسأل عنها فإذا هي جبال بعيدة، تتعالى إلى السماء في قلب الليل، كالعمالقة التي وصفتها لي أمي. . . وعلى مسافة خطوتين لمحت شيئاً كالشبح المقنع. . فسجدت، مبتهلاً إلى الله، وفجأة تغير المنظر، فرأيت فوق الجبال أشباحا تصعد إلى الأعلى، وفي وسط السماء نجوماً ترتجف خوفاً من الأشباح. . ولمحت خلفي مرآة مصقولة، تنبعث منها أنوار ساطعة، جعلتني أحس كان الله قادم إليَّ. .! فارتجفت وارتعدت. .
رأيت ثمة ضباب يتكاتف أمامي بلا أن الأشباح ما زالت كما هي، تصعد إلى عنان السماء. لكن الأنجم سرعان ما انطفأ بريقها، وخبأ ضوئها. . فاتخذت لها شكل الزهور! وفجأة اندلعت أضواء من لهيب. . تجوب أطراف السماء. . فإذا فوق الغابة ألمح الشمس التي حلمت بها. . . حمراء ملتهبة. .! فوضعت يدي على عيني، وسقطت على الأرض!. . . ولما أفقت كان النور يملأ الفضاء فرأيت لأول مرة العالم الذي عشنا فيه. . فالنجوم هبطت زهوراً على الأرض جمال أحلى من عبيرها. . والنور يتفجر على الدنيا من كل جهة وكل صوب! وفي الشجر ثمار حلوة؛ وحول التلال عبير الزهور والبرية. . . وفي الكرم تتدلى العناقيد كاللآلئ. وفي الجو تتطاير فراشات، وتتطاير جلور، وعصافير. . ومن آلاف الأفواه يتعالى غناء شجي، يبتهل بأسمى المعاني إلى الله!
وفجأة سمعت من خلفي صوتا كنت أعرفه، فالتفت، وإذا أنا أرى - لأول مرة أيضاً - وجه أمي، ووجه ميري رفيقتي فإذا في عينيهما دموع نجول.
أيها الظلام. ارجع ثانية، وخذني بين أحضانك مرة أخرى فإنني لم أعد أحتمل هذا النور. . . وهذه العواطف، وهذا الجمال.
المترجم
كارنيك جورج(869/32)
الشعر المصري في مائة عام
محمود صفوت الساعاتي
للأستاذ محمد سيد كيلاني
- 3 -
وقال:
طلبوا السلامة من سطاء وسالموا ... ملكا عليه عسيرهم لم يعسر
وقد استقالوا عثرة الحسن الذي ... زلت به قدم الضرير المبصر
وتزاحموا حول البساط لينظروا ... حرم الوفود وكعبة المستغفر
معنى البيت الأول جيد. وفي كلمة (عسير) تورية فهي اسم للبلاد الواقعة بين اليمن والحجاز. وتكون بمعنى الصعب من الأمور. ومعنى البيت الثاني جيد كذلك. وفي عجز البيت طباق بين (ضرير) و (مبصر).
ومعنى البيت الثالث رائع لما أسبغ عليه من جو ديني.
وقال:
حتى إذا ثبتت بهم أقدامهم ... نكسوا الرؤوس لذي المقام الأكبر
وهو جيد المعنى. وفيه طباق بين (أقدام) و (رؤوس)
وقال:
نظروا إلى ملك لديه كل ذي ... ملك كبير كالأقل الأصغر
والمعنى تافه. وقال:
ولو أن من قاد الجيوش إليهم ... غير ابن عون عاد غير مظفر
إن كنت تجهل فعله فاسأل به ... من شئت من أبيض أو أسمر
وسل الحجاز وأرض نجد والمخا ... عمن دحاها بالخيول الضمر
ومعنى الأبيات وجيز. ولكن الشاعر أطنب لأن المقام اقتضى ذلك. وعبارة (فاسأل به) من رديء القول. وكذلك (من شئته).
وقال(869/33)
ذلت له أسد الوغى من حمير ... مذ أيقنت منه بموت أحمر
حتى إذا ما أذنوا بقدومه ... هبط الإمام وكان فوق المنبر
وتسابقوا طوعاً له في مشهد ... والكل بين مهلل ومكبر
سجدوا وقد نظروه شكراً للذي ... خلق العباد وخاب من لم يشكر
معنى البيت الأول تافه. وفيه جناس بين (حمير) و (أحمر). وفي البيت الثاني تلاعب بالألفاظ. فأذنوا بمعنى أخبروا. وتكون من أذان المؤذن. والإمام هو إمام اليمن. وقد يكون بمعنى الشخص الذي يؤم الناس في صلاة. والمنبر بمعنى العرش. ويكون بمعنى الكرسي المرتفع الذي يخطب عليه الإمام في المسجد. والمعنى في حد ذاته تافه وهو أنهم ذلوا وخضعوا. ولكن الساعاتي أتى به في صورة رائعة. وأراد أن يقول في البيتين الأخيرين إن الأعداء قدموا طاعتهم فأسبغ على هذا المعنى ثوبا دينيا جمع بين التكبير والتهليل، والسجود والشكر لله وقال.
كاد ابن يحيى أن يموت لرعبه ... لولا تبسمه وحسن المنظر
وابن يحيى هو إمام اليمن ... ولم يوفق الشاعر في عجز
البيت إلى الجودة في التعبير عما يريد.
وقال:
أم الحديدة آملاً لما رأى ... غوث اللهيف بها وكهف المعسر
جاء الحمى فروى بفضل وانثنى ... يروي الحديث عن الربيع وجعفر
رويت بجدوى آل محسن أرضهم ... حتى اكتسبت زهوا بثوب أخضر
لله قوم لم يول من دأبهم ... خوض البحار وكل بر مقفر
وليس في هذه الأبيات من المعاني سوى مدح آل محسن (آل عون) بالجود والبأس. وفي البيت الثاني جناس بين (روى) بمعنى سقى، و (روى) بمعنى أخبر. وقد بالغ كثيراً في قوله (خوض البحار. . .) فأوهم السامع أن الممدوحين يملكون الأساطيل القوية التي يجوبون بها البحار والمحيطات شرقاً وغرباً. والحقيقة أنهم نقلوا قليلاً من الجنود على ظهر بعض السفن. وفي قوله (حتى اكتست زهواً بثوب أخضر) معنى تداوله كثير من الشعراء. وقال:(869/34)
حرثت ربي نجد حوافر خيلهم ... قدماً وكم زرعوا بها من سمهري
وسقوا الرياض بجودهم فتزاهرت ... وغدت بغير مديحهم لم تثمر
كرر في هذه البيتين بعض المعاني التي سبق أن مدحهم بها. وقد شعر بإفلاسه فلجأ كعادته وكعادة غيره من الشعراء المفلسين إلى التلاعب بالألفاظ. فترى طباقا بين (حرث) و (زرع) وتورية في (الرياض) فهي عاصمة نجد، وقد تكون بمعنى الحدائق والبساتين. ولم تخل جعبة الشاعر من المعاني فقط، بل خلت من الصور كذلك.
فقال في الأبيات السابقة
رويت بجدوى آل محسن أرضهم ... حتى اكتست زهوا بثوب أخضر
وقال في هذه الأبيات
وسقوا الرياض بجودهم فتزاهرت. . . الخ فلم يجد أمامه غير صورة واحدة هي السقي والزرع وقال
آلت رماحهم وقد خاضوا الوغى ... إن لم ترد صدر العدى لم تصدر
وسيوفهم رأت القراب محرماً ... إلا الرقاب ورأس كل غنضفر
فسلوا الممالك عن نداه فأخبروا ... في أي قطر جوده لم يقطر
وليس في هذه الأبيات شيء جديد. بل هي تكرار لما سبق من مدحهم بالبأس والجود. وفيها طباق بين (ترد) و (تصدر) وجناس بين (صدر) بسكون الدال وبين (صدر) بفتحها. وبين (قطر) بسكون الطاء و (قطر) بفتحها وقال
ما روضة ماست حدائق زهرها ... طربا ونبهتها بالربيع المزهر
غنى الحمام على قدود غصونها ... سحرا فأغنى عن سماع المزهر
يوماً بأحسن من مديح صغته ... فيهم بنظم قلائد لم تنثر
وهنا تكرار لصورة الساقي والزرع. وفيها جناس بين (غنى) و (أغنى) وطباق بين (نظم) و (نثر) وقد تجلت براعة الشاعر في الانتقال من المدح إلى الفخر بشعره. فبعد أن أشاد بجود آل عون وصور الأقاليم التي غزوها وقد أصبحت جنة تجري من تحتها الأنهار، رجع فذكر أن مدحه يفوق تلك الجنة.
قال:(869/35)
فإذا شدت ورقى الحمى ناديتها ... يا ورق في ورق الغصون تستري
وإذا رأيت الجو مني قد خلا ... وهممت بالترحال بيضي وأصفري
إني لقاموس العروض ونظمه ... أروى الفرائد عن صحاح الجوهري
لا تعدلوا في الشعر كل معمم ... كالثور ذي القرنين بالإسكندر
ما كل من يملي القصيدة ناظم ... قد ينتمي للشعر من لم يشعر
لو كان فيهم شاعر لوقفت في ... ديوانه أدبا ولم أتكبر
لكنهم جهلوا به ثم ادعوا ... ما قصرت عنه شيوخ زمخشر
في هذه الأبيات قدم الساعاتي نفسه على من حوله من الشعراء ورفع منزلته في الشعر على منزلتهم. وأطال وأطنب وناقش وجادل دفاعاً عن هذه القضية. وقد أسرف في الزراية بشعراء الحجاز وبالغ في تحقيرهم. فشبههم بالثيران وشبه نفسه بالاسكندر. وأشار إلى الفرق العظيم بين الثور ذي القرنين واسكندر ذي القرنين. وقال لو أنه وجد فيهم شاعراً يستحق هذا الاسم لأكرمه وعظمه وأحله المنزلة اللائقة به ولكن هؤلاء الشعراء الذين يناصبونه يجهلون الشعر كل الجهل. ومع هذا فهم مدعون ينسبون لأنفسهم ما قصر عنه شيوخ البلاغة.
وقال:
حجوا ولكن بيت كل قصيدة ... وسعوا ولكن في استراق منكر
وقد اتهمهم في هذا البيت بالسرقة من شعره والسطو على نظمه. وأسبغ على هذا جوا دينيا كما هي عادته في كثير من أبيات هذه القصيدة فذكر الحج والسعي. وعظم من شأن قصائده فجعل كل بيت منها كعبة لهؤلاء الشعراء يحجون إليه، ويسعون حوله لسرقة ما فيه من المعاني.
وقال:
وحبوتموهم لا لشائب غفلة ... لكن لحلمكم وطيب العنصر
يا آل محسن لم يزل إحسانكم ... يدع الدنيء على حماكم يجتري
وفي هذين البيتين استطراد لحملته العنيفة على هؤلاء الشعراء وتحريض عليهم. وقد أجاد هذا التحريض. فلم يجعل إحسان آل عون إلى هؤلاء الشعراء من باب الغفلة وعدم الفهم(869/36)
ولكنه من باب الحلم وطيب الأصل. وذكر أن الإحسان قد جرأ كل حقير على قصد نوالهم والطمع في عطائهم. وهذه الأبيات التي ساقها في الفخر بشعره وفي التعريض بغيره هي - دون شك - من آثار الخصومة الهائلة التي نشبت بين الساعاتي وبين شعراء الحجاز.
2 - في مصر:
يختلف شعر الساعاتي في مصر عنه في الحجاز. فامتاز شعره في الحجاز كما أسلفنا باحتوائه على بعض المعتقدات الشيعية، وسيطرة الجو الديني عليه، والإشارة إلى المعارك والوقائع، تصوير الأعداء وقد جاءوا طائعين مستسلمين. وقد ظهرت في هذا الشعر آثار العداء الشديد الذي قام بين الساعاتي وشعراء الحجاز. وقد دفعه هذا العداء إلى الإكثار من مدح شعره، والتغني ببلاغة نظمه ومتانة تراكيبه، وقوة عباراته، كما دفعه إلى التحقير من شأن من حوله من الشعراء.
أما في مصر فقد كانت البيئة تختلف اختلافاً كبيراً عن البيئة الحجازية. لذلك بعدت الشقة بين مدائحه في أمراء مصر ومدائحه في آل عون.
كان الساعاتي إذا مدح حاكماً مصرياً خلع على مدحه ثوباً يلائم المقام ومزجه بالإشارة إلى أهم المظاهر الذي امتاز بها عصر الممدوح. فكان إذا مدح سعيدا أشار إلى جيوشه وأسلحته وقلاعه وحصونه، ونوه ببأسه وقوته وشجاعته وإقدامه.
وإذا مدح إسماعيل تغنى بثراء مصر وخصوبة أرضها ومزايا نيلها وأشاد بقصورها وبساتينها. وذكر أنها هي الدنيا التي جمعت بين الشرق والغرب، وحوت خزائن الأرض.
وإذا مدح توفيقاً أشار إلى جوده وكرمه وعدله وحلمه وما امتاز به من حسن التدبير وسداد الرأي وجودة التفكير. ومن أمثلة هذه لمدائح قصيدة مدح بها الخيدو إسماعيل. وقد بدأها بقوله:
لسعدك من فوق النجوم سماء ... سماها سنا من نوره وسناء
كان بوسع الشاعر أن يأتي بمعنى هذا البيت وهو تافه في عبارة جيدة وتركيب سهل مستقيم. ولكنه حرص على أن يملأ بيته بالجناس فجاء تعبيره سقيما ثقيلا على الأذن. فهناك جناس بين (سماء) و (سما) وبين (سما) و (سنا) و (سناء) وبين (سماء) و (سناء). كل هذا في بيت واحد. وليس وراء هذا العناء معنى قيم. وقال:(869/37)
عليك لواء الحمد ظل مظللاً ... علاء من النصر العزيز لواء
لأنك أولى الناس بالمجد والعلا ... كما لك بالفضل العميم ولاء
والبيتان ضعيفا المعنى والعبارة. فأثقل بقوله (ظلاً مظللا) وبدأ البيت الثاني بقوله (لأنك) وفي ذلك ضعف. وكذلك قوله (كمالك) فإنه من سقيم التراكيب الشعرية. وقوله (لأنك أولى الناس بالمجد والعلا) كلام خلو من المعاني. وقد أحس الرجل بضعفه في المدح فانتقل منه إلى التحدث عن مصر وخيراتها ونعيمها. فقال:
لك الملك فاحكم كيف شئت على الثرى ... فما الأرض إلا مصر وهي ثراء
مبوأ صدق وهي أنضر ربوة ... مقام كريم حله كرماء
وذات قرار وهي خير مدينة ... وملك عظيم أهله عظماء
والمعنى ضعيف إلى أبعد حد. ويتجلى هذا الضعف في قوله (مقام كريم حله كرماء) وقوله (ملك عظيم أهله عظماء) فهما خلوان من المعنى خلوا تاما. وقال:
على أنها من جنة الخلد غيضة=رياض بها عين وأنت ضياء
وصدر البيت جيد المعنى. وعجزه تافه. والقصيدة كلها ثلاثون بيتاً. ومع أنه نظمها في مدح إسماعيل إلا أنه استغرق أكثر من نصفها للتحدث عن مصر وأرضها وسمائها ورياضها وحقولها وليس ببعيد أن يكون هذا من أثر الأعوام التي قضاها الساعاتي في صحراء العرب. فوازن بين تلك القفار وبين مصر. فوجد أن مصر هي أم الدنيا وهي قطعة من الجنة وجزء من الفردوس.
وقال:
فأبصرت فردوساً تدانت قطوفها ... وللنيل فيها كوثر وشفاء
ومصر هي الدنيا جميعاً وربها ... عزيز وأهلوها هم النجباء
لقد جمعت ما بين شرق ومغرب ... كذلك بالفرقان جاء ثناء
خزائن أرض الله مصر وكم أتى ... حديث روته السادة القدماء
لقد صير الباري ثراها وأهلها ... وروى رباها كيف شاء وشاءوا
وهكذا وصف الشاعر مصر. ومع أنه أسهب وأطال في التنويه بمصر إلا أنه كرر المعاني وردد الصور. فالصورة واحدة في قوله (على أنها من جنة الخلد غيضة) وقوله (فأبصرت(869/38)
فردوساً تدانت قطوفها). على أن هذا الإسهاب والتكرار لم يأت عبثا. وإنما هو نتيجة لما شاهده في صحراء العرب من جدب ومحل، وفقر وبؤس، وبعد عن مظاهر الحضارة والعمران. فكبرت مصر في نظره وعظمت في عينه فأطنب في التغني بخصوبة تربتها وعذوبة نيلها أو ما فيها من ثراء ورخاء وترف ونعيم.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(869/39)
رسالة الشعر
من وحي الحالة الحاضرة
عتاب كريم
للأستاذ عبد الله عبد الرحمن الأمين
العضو المراسل لمجمع فؤاد الأول للغة العربية في السودان
رأى قومها أن يستطيل بك الهجر ... فهل لك عنها من سلو وهل صبر
وكنت إذا ما جئت يدنون مجلسي ... وقابلني منها الطلاقة والبشر
لقد كان لي عنها محيد وموطن ... كريم ولكن الهوى أمره أمر
قدمت إلى مصر وبي من غرامها ... كثير ولجت في تباعدها مصر
تسائلني من أنت وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حالها نكر
زجرت لها طيراً وما كنت عائفاً ... وما كنت لهبياً فينفعني الزجر
وأبثثتها سري وإن كنت عالماً ... بأنا بعصر ليس يخفى به السر
وجئت إلى الوادي وعفت وسائلي ... وما كان من همي الثراء ولا التجر
أعاتبها إن العتاب مودة ... وصدق وإخلاص به يثلج الصدر
أرسلها نقدية واقعية ... عليها ثياب من دمائهم حمر
أخذت على مصر
أخذت عليها في الجنوب سياسة ... يديرونها سراً وقد أمكن الجهر
وسطحية التفكير فيه وإنما ير ... ى حاضر السودان أن يعمق الفكر
وشكلية الأشياء فيها وأخذها ... بزخرفها واللب عندهم القشر
وتركهم حبل الأمور لغيرهم ... حذاراً وقد يأتي بما نكره الحذر
وحرفية القانون حتى كأنما ... على كل حرف من تحنبلهم حجر
وتعقيدها في كل أمر وعسرها ... فما ضرها لو كان من شأنها اليسر
ففي كل ديوان مدير يرد من ... إلى الباب يدنو أو له يصدر الأمر
وروتينها ذاك العجيب فإنه ... كقيصر لا يدنو لجرأته وزر(869/40)
وإهمالها حتى لقد قال قائل ... وقد يتقي المأثور في دهره الحر
لو أن اتصاليين خلوا سبيلها ... وعادوا انفصاليين كان لهم عذر
ماذا إلهي أن أقول بقولهم ... ولي خلق عال ولي أدب نضر
وآباء صدق كان منهم إلى الهدى ... دعاة ومنهم للعلا العسكر المجر
أللقاطع الأسباب نظرة وامق ... وللواصلي أسبابها النظر الشزر
كأني لم ابن للشباب ولم أقل ... قوارع آيات بها طلع الفجر
الوسطاء
روب وسيط من جنوب وشمال ... أساءوا فلا ردوا الحقوق ولا بروا
وكانوا كمثل الغيم لا متزحزحاً ... ولا راح يهمي من تلبده قطر
على طول تجوال وطول إقامة ... لهم خبر عنها وليس لهم خبر
نصحت لهم أن يبرحوا برج عاجهم ... فلم تغن آياتي ولم تنفع النذر
رواسب من عهد احتلال دهاهمو ... وأنساهمو أن القيود لها كسر
احتجاج وتوجيه
ولا عيب فيهم غير أن تزلفاً ... لمن في المستعمرين له قدر
فهم يستسيغون الإساءة منهم ... وتصرفهم عنا لهم أعين خزر
وإلا فما بال الوجوه تنكرت ... علينا وإن جاءت فمنطقهم نزر
وفيهم نراها حنظلت نخلاتها ... وطاب لغير العاملين لها الثمر
إذا قيل كسب قد أردتم بقربهم ... فبالك من كسب عواقبه خسر
وإن قلتم جبر الخواطر واجب ... أقول وفي أشياعكم مسكم ضر
وأصبحت لا أدري أتلك سياسة ... لكم دون مصر أم لها رسمت مصر
فإن كانت الأولى فهاتوا وبينوا ... وإن كانت الأخرى فمدكمو جزر
حسبتم ليالي الفصل ليس لها فجر ... وإن جياد الخيل يدركها البهر
إذا لمتهم قالوا السياسة تقتضي ... مداورة والعيش بينكم مر
وما بي من نقض الإخلاء إنما ... أنفت لهم أن لا يشد لهم أزر
عزيز علينا أن نرى الوحدة التي ... أقمنا لها سوقاً بها يهبط السعر(869/41)
لئن كان غفران الذنوب محبباً ... فليس لذنب العابثين بها غفر
وهل مصر والسودان إلا عشيرة ... على النيل محياها ونجراهما نجر
فإن يك قومي سائهم ما أقوله ... فإن على عهد مضى يقع الإصر
تحلل فيه الناس عن كل واحب ... وألقى إليهم من أزمته الغدر
وكانت أداة الحكم فيه كما رووا ... وما أسير الأمثال يرسلها الشعر
(عجوز ترجى أن تكون فتية وق ... د يبسا الجنبان واحدودب الظهر)
ولم أر كالتعليم حرا مقيداً ... وإن شئت برهاناً فتعليمها الحر
رقاباته شتى وكل مراقب ... على أذنيه من مطالبه وقر
سياسته ركت ونشت مياهها ... كما الصيف نشت من سمائمه الغدر
فأما وطه بن الحسين وزيرها ... فأجدر وأجدر أن يوفى لها نذر
لقد وقفت إذ قلدتك أمورها ... معارف مصر واستقل بها الفكر
وقفت على باب الوزير أزفها ... تحايا من السودان يأتي بها الشعر
أحييك أم أثني عليك وإنما ... أحق بأن يثنى عليه بك العصر
ألست الأديب العبقري ومن غدا ... من الفخر يدنو أو له ينتهي الفخر
بربك أين المكتبات ودورها ... وأين من الوادي الثقافة والنشر
وهل يرتقي شعب بغير ثقافة ... وهل هي إلا من قوادمه النسر
أفيضوا علينا من معارفكم يداً ... يد العلم إن العلم يبقى به الذكر
عساها تجي يا ابن الحسين ديارنا ... فتربتها خصب وآفاقها طهر
وقولوا لدار الكتب تمدد فروعها ... إلى النفر النائي بهم منزل قفر
يراش من الشعب المهيض جناحه ... وعن قوسها ترمي المثقفة السمر
وألقوا العصا بيضاء تلقف إفككم ... فإني أرى الوادي يعود له السحر
ولا تحسبوها طفرة تكل كلمة ... يراد بها ألا يفك لنا أسر
قضية الوادي
خليلي بالوادي أعينا أخاكما ... على ما عرا في الحادثات وما يعرو
وعن ذات موضوع القضية حدنا ... وقولا أحقا مالها بينكم ذكر(869/42)
هل استنفدت أغراضها ورمى بها ... إلى القاع طاغ في حقائبه مكر
مجالس للتشريع قامت ألم يقم ... دليل على أن الشريك له الشطر
ثنائي حكم والمدبر واحد ... وليس لكم في الحكم قل ولا كثر
وسودنة ترمي إلى غير سؤدد ... وهمس وأسرار وأخرى هي النكر
فحتى متى تغضي الجفون عن القذى ... ويرخى علينا من ألاعيبها ستر
الإسلام في الجنوب وأيادي مصر
وطيف خيال من ملاكال زارني ... وواد وجوباً كلما أذن الظهر
بلاد بها الإسلام بث دعاته ... جنوداً من الفاروق تقدمها البشر
فأثبت في مستنقع الكفر رجله ... وقال لها من تحت إخصمك الحشر
وأن أنس لا أنس المساجد إنها ... كثير وأرجو أن يضيق بها الحصر
جزى الله مصراً كم أياد جليلة ... وكم راح من فاروق يشملنا بر
ومن مثل فاروق يفديه شعبه ... ويهتف بالوادي له البيض والسمر
وشيآن بالوادي يرفان من هوى ... قلوب بني الوادي وأعلامك الخضر
عبد الله عبد الرحمن الأمين(869/43)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
رقاعة فرنسية:
حضر إلى مصر أخيراً وفد من الصحفيين الفرنسيين، وشغلت أنباء تنقلاتهم والحفاوة بهم صحافتنا المصرية في الأسبوعين الماضيين، وتحلت بعض الصحف والمجلات بصورهم على ظهور الجمال بصورهم على ظهور الجمال عند الأهرام وأبي الهول، وتحدثوا إلى الصحفيين كما يتحدث أمثالهم دائماً عن عظمة الأهرام وسر أبي الهول، وقد يتحدثون عن كرم الضيافة، وهم في ذلك لا يقتصدون في الإشادة والثناء، ولكنهم إذا تحدثوا عن الحياة المصرية العامة، ويكون ذلك إذا رجعوا إلى ديارهم، فإنهم يتخذون من الكذب والتلفيق مادة للكتابة عن بلاد الأهرام وأبي الهول. . وما حديث جان كوكتو ببعيد، فقد جاء إلى مصر في العام الماضي مع الفرقة الفرنسية التي مثلت بعض رواياته على مسرح الأوبرا، وأكرم المصريون وفادته ونوهت الصحافة بأدبه الذي تجرد منه لما عاد إلى فرنسا وألف كتاباً في الطعن على مصر والمصريين!
وأصل الكلام بالعودة إلى الصحفيين الفرنسيين وأحاديثهم إلى الصحفيين المصريين، تحدث مندوب (أخبار اليوم) إلى الصحفية الفرنسية العجوز مدام تابوي، فجعلت تسأله: لماذا تعملون على إقامة المتاعب لنا في شمال أفريقيا؟ إنكم تلعبون بالنار إذ تشجعون هذه الشعوب. . وهي تقصد الشعوب الإسلامية وإذا كان تشجيعها لعباً بالنار فما أعظم هذا اللعب! ثم قالت الفرنسية العجوز: كنت قد أعددت مقالاً عن مصر فيه تحية طيبة لها، ولكني قرأت بعد ذلك في صحفكم رد النحاس باشا على برقية بعث بها إليه أحد زعماء الجزائر الوطنين، فما كدت أقرأ هذا الرد حتى غيرت رأيي في المقال الذي أعددته لصحيفتي في باريس، واستبدلت به مقالاً آخر! وهذا ما كسبتموه!
ورد النحاس باشا الذي أغضب مدام تابوي، هو برقية بغث بها رفعته إلى السيد مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري رداً على تهنئته، وقد تضمن الرد أن مصر لن تألو جهداً في سبيل تحقيق الهدفين اللذين تسعى أقطار المغرب العربي إلى تحقيقها، وهما الاستقلال والانضمام إلى جامعة الدول العربية.(869/44)
ذلك هو ما جعل المرأة الفرنسية تغير رأيها في مصر وتعدل عن الذي كتبته أولا إلى مقال آخر. . فهل كانت كتبت في المقال الأول أن مصر لا تساعد بلاد المغرب على الاستقلال والتخلص من فرنسا ثم عادت باشا أن الأمر ليس كذلك؟! أم ماذا أقول في هذا المنطق الفرنسي الأعوج؟ ثم متى كسبت مصر شيئاً من أمثالها حتى تكسب من جنابها ذلك المقال الفقيد. .؟ كل ما في الأمر أننا قوم كرماء جداً، وأن من ضيوفنا من لا يتورع عن الرقاعة!
ليت هؤلاء الفرنسيين يعلمون أن هذه الشعوب الإسلامية والعربية في المغرب والمشرق تهمنا شؤونها، إذ تجمعنا بهم روابط الدين واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة - ليتهم يفقهون ليستيقنوا أن هذه الصداقة لا تصفو ما دامت تشوبها أعمالهم في الاعتداء على حريات إخوان لنا، والعجيب أن يتحدثوا عن الثقافة ورسالتها وهم يمنعون وسائلنا الثقافية من الوصول إلى تلك البلاد الشقية!.
وأذكر بذلك أني كنت مرة عند صديقي الأستاذ مختار الوكيل بدار الجامعة العربية وقدم علينا اثنان من الفرنسيين المشتغلين بالدراسات العربية، وكان ذلك عقب عرض القضية المصرية على الأمم، وجر حديث العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا إلى أن قال لهما الأستاذ مختار: كنا نود أن تؤازرنا فرنسا في قضيتنا! فنظر الفرنسيون أحدهما إلى الآخر وقال: سياسة! وهكذا خرجا بهذه الكلمة من حرج السؤال، وهما يومئان بها إلى أنهما منقطعان إلى محراب الفكر والدراسات البعيدة عن السياسة. . وإذا كان لأمثالها من أبناء تلك الأمم أن ينحي السياسة عن مجرى تفكيره - على فرض أن جوابهما حقيقي وليس تخلصا من الحرج - فإننا لا نستطيع أن نبعد أمانينا القومية من مشاعرنا وأفكارنا لأننا لم نستكمل حريتنا ولم نتخلص نهائياً من جرائر الاستعمار، فنحن في موقف المعتدى عليه الذي يجند كل قواه للمقاومة.
ونحن صرحاء إذ نقول ذلك، ولكنهم يتبرأن من السياسة عندما يريدون، ويخلطونها بغيرها إذا أعوزهم (البرود الإنجليزي) فلم يستطيعوا أن يملكوا أنفسهم، كما صنعت صحفية فرنسا الأولى!!
قرارات المجمع اللغوي ومدى تنفيذها
أثير في مؤتمر المجمع اللغوي بالدورة الماضية، موضوع قرارات المجمع من حيث مدى(869/45)
تنفيذها، أثار ذلك الأستاذ ماسنيوس إذ قال: كان يحسن بنا بمناسبة النظر في قرارات هذا المؤتمر أن يعرض علينا ما وصل إليه المجمع بشأن تنفيذ قراراته القديمة، ويكون ذلك تقليداً متبعا في كل دورة من دورات المؤتمر حتى نعرف مقدار القوة التنفيذية التي المجمع، ومدى استخدامه لها.
قال الدكتور منصور فهمي باشا: هذا الموضوع من أول الموضوعات التي عني بها المجمع، وأذكر أننا تناقشنا كثيراً في الدورة الأولى حول السلطة التي يجب أن تكون للمجمع لتنفيذ قراراته حرصاً على سلامة اللغة ولكن لم يحدث إلى الآن أن تحققت للمجمع سلطة تنفيذية، ولم يتم الانسجام بين عمل المجمع في ميدان اللغة وبين الأعمال الأخرى في المصالح الحكومية المختلفة، والواقع أننا نعمل كثيراً في المجمع ولكن الصلة بيننا وبين غيرنا من الهيئات تكاد تكون مقطوعة، وأضرب لذلك مثلا أنني والأستاذ العقاد كنا حاضرين مرة في اجتماع للجنة من اللجان الحكومية، فسمعنا كلمة (استديو) فاقترح أحدنا أن يترك استعمال هذه الكلمة حتى يرى المجمع فيها رأياً.
وقال الأستاذ زكي المهندس بك: أرى أن المجمع لا ينبغي أن يحاول تنفيذ ما يقره بطريق الإلزام، فليس الأمر محصوراً بين المجمع والحكومة، بل هناك طرف ثالث وهو الجمهور، وأذن فلابد أن نسير في عملنا على مبدأ الاستحسان لا على الإلزام.
والواقع أن الصلة مقطوعة بين قرارات المجمع والبين نور الحياة، فلا أحد يستعمل ما يقره من الكلمات تلاميذ المدارس في مثل المشن والسحاح والمسرة. . وما إلى هذه من كلمات لا يجد التلاميذ لها حياة في غير كراساتهم. ولو أن مؤتمر استعرض في كل دورة من دوراته ما وصل إليه بشأن تنفيذ قراراته السابقة كما اقترح الأستاذ ماسنيون، لما كانت النتيجة غير أن يقال: لم ينفذ شيء!
والعلة في ذلك لا ترجع إلى انعدام (القوة التنفيذية) فهذه غير ممكنة وخاصة بالنسبة للجمهور كما قال الأستاذ المهندس. ولكنها ترجع إلى أسباب أخرى ذات عدد، منها عدم الاهتمام بوسائل الاتصال بالهيئات والجمهور، ومنها أن المجمع لا يزال برغم الصيحات التجديدية التي يطلقها بعض أعضائه من أمثال طه حسين وأحمد أمين والزيات، فإن كثيراً من الكلمات التي يقرها لا يمكن أبداً أن تستسيغها الأذواق مثل (الكحلكة) لتحليل الكحول.(869/46)
وثمة كثير من الأشياء لو يضع لها أسماء، ومن العجيب أن يراد امتداد السلطة إلى هذه الأشياء التي لم تسم بالعربية، مثل (الأستوديو) فكيف يمسك الناس عن الكلام عنها حتى يضع المجمع لها اسما؟ هل يدلون عليها بالإشارة كالخرس؟!
وهنا أمر آخر على جانب كبير من الخطورة؛ ذلك أن المجمع الآن يضم الصفوة من كبار الكتاب في مصر، فمن هؤلاء يستعمل كلمات المجمع؟ إنهم يكتبون مثلاً: التليفون والراديو والسينما، ولا يقولون: المسرة والمذياع والخيالة. أقترح على المجمع أن يعقد جلسة لاستجوابهم في ذلك، فما أن يكون لهم وجهة يقتنع به ويعمل على مسايرته، وإلا عرف شأنه معهم. . .
الهمزة الحيرى
عرض على مؤتمر مجمع فؤاد للغة العربية في دورته الماضية، تقرير لجنة الأصول والإملاء في شأن كتابة الهمزة، وقد انتهت اللجنة في تقريرها إلى الاقتراحات الثلاثة الآتية:
1 - أن تبقى قواعد كتابة الهمزة كما هي على أن يدخل عليها بعض الإصلاح الذي لا ينتظر أن ينفر منه جمهور الكاتبين، ويتلخص ذلك بأن تكتب الهمزة في الأول على ألف، وفي الوسط بحسب حركتها إذا كانت مكسورة أو مضمومة، وبحسب ما كان قبلها إذا كانت مفتوحة أو ساكنة، وفي الآخر بحسب حركة ما قبلها، فإذا كان ما قبلها ساكناً كتبت مفردة. وإذا توسطت الهمزة توسطاً عارضاً فإن كانت في الأول لم يعتد بهذا التوسط العارض بل كتبت ألفاً إلا في كلمات معدودة هي لئن ولئلا، وإذا كانت في الآخر عوملت معاملة المتوسطة.
2 - أن تكتب الهمزة على الألف دائما في أي موضع كانت من الكلمة، ويستند هذا الاقتراح إلى أراء المتقدمين، وإلى أن بعض المصاحف كانت تكتب به.
3 - تكتب الهمزة على ألف دائما في أي موضع كانت فإن كان الحرف الذي قبلها بوصل بما بعدها كتبت على الامتداد بين الحرفين، وإذا كان ما قبلها يوصل بما بعدها كتبت في الفضاء.
وقد ناقش المؤتمر هذه الاقتراحات، ثم رأى في جلسته الأخيرة إحالتها إلى مجلس المجمع(869/47)
لدراستها فيه.
ولعل الاقتراح الثاني هو أسهل الثلاثة، لأنه يجعل للهمزة صورة واحدة لا تتغير بتغير موقعها في الكلمة. وقد علمت أن الاقتراح للدكتور أحمد أمين بك والأستاذ إبراهيم مصطفى. والرأي يستند - مع سهولة الرسم الذي يدعو إليه - إلى أن الهمزة والألف شيء واحد كما نص على ذلك السابقون من علماء اللغة ولم أر الأسانيد التي استند إليها صاحبا الاقتراح، والتي يشير إليها تقرير لجنة الإملاء بالمجمع، ولكني وقفت عليها إذ تذكرت بحثاً قيماً لأستاذ جليل هو الشيخ رفعت فتح الله المدرس بكلية اللغة العربية، نشره بالأهرام في (11 - 5 - 1938) تحت عنوان (الهمزة الحيرى) أوضح فيه حيرتها ورثى لها أو لمن يعانون كتابتها ومتابعتها في تقلباتها، وانتهى على أنه ينبغي أن تكتب على صورة واحدة هي صورة الألف في جميع أحوالها لا تتأثر بشكلة ولا موضع، واستند في ذلك إلى أن الألف والهمزة توأمان في وضع العربية، ومما يدل على أن صورة الهمزة هي صورة الألف أن كل حرف في أول اسمه لفظ بعينه، فإذا قلت (ياء) ففي أول حروفه (ي) وإذا قلت (تاء) ففي أوله (ت) وكذلك (جيم) و (دال) وسائر الحروف، فكذلك إذا قلت (ألف) فأول الحروف التي نطقت بها الهمزة (ا) فدل ذلك على أن صورتها هب صورة الألف.
ومما استدل به الأستاذ رفعت فتح الله من أقوال اللغويين، ما جاء في الصحاح للجوهري: (والألف من حروف المد واللين فاللينة تسمى الألف، والمتحركة تسمى الهمزة، وقد يتجوز فيما يقال أيضا: (ألف) وقول ابن جني في (سر الصناعة): (اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة في الحقيقة، وإنما كتبت الهمزة واواً مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف ولو أريد تحقيقها البتة لوجب أن تكتب ألفاً على كل حال، يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعاً لا يمكن فيه تخفيفها ولا تكون فيه إلا محققة لم يجز أن تكتب إلا ألفاً، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة وذلك إذا وقعت أولا نحو أخذ وأخذ إبراهيم، فلما وقعت موقعاً لابد فيه من تحقيقها اجتمع على كتبها ألفاً البتة. على هذا وجدت في بعض المصاحف (يستهزأون) بالألف قبل الواو، ووجدت فيها أيضاً (وإن من شيأ إلا يسبح بحمده) بألف بعد الياء. . الخ
وألقى الأستاذ رفعت سنة 1941 محاضرة في جمعية الشبان المسلمين كان موضوعها(869/48)
(إصلاح الكتابة العربية (ضمنها هذا الرأي ورأى أيضاً أن تكتب الألف اللينة على صورة الألف في جميع أحوالها، قاصدا بهذا وذاك إلى رفع العسر الذي يصادف القارئ والكاتب في ضبط الكلمات وقراءتها قراءة صحيحة وقد نشر ملخص هذه المحاضرة في جريدة (المقطم)
وتومئ عبارة لجنة الإملاء بمجمع اللغة، إلى أن الأستاذ صاحبي الاقتراح يذهبان مذهب لشيخ رفعت فتح الله، فقد قالا بما قال به، واستند إلى آراء المتقدمين وإلى كتابة بعض المصاحف كما فعل. ولا شك أن رائد الجميع لوصول - في أمر هذه الهمزة التي احتارت وحيرت الناس معها. . إلى حل يريحها ويريح الناس، فعسى أن يحقق المجمع ذلك في القريب.
عباس خضر(869/49)
البريد الأدبي
حولية الثقافة العربية
السنة الأولى (1948 - 1949)
أصدرت الإدارة الثقافية (حولية الثقافة العربية - السنة الأولى 48 - 1949)، وهي من وضع وتصنيف العلامة الأستاذ ساطع الحصري بك، مستشار الإدارة ولا شك في أن هذا العمل هو الأول من نوعه في مضمار الثقافة العربية المصرية ويعتبر بحق، كما قال الأستاذ المؤلف في مقدمته (افتتاحا لسلسلة الحوليات التي ستنشرها الإدارة الثقافية للجامعة العربية عن شئون الثقافة العربية كل عام). ويقع الكتاب في 623 صفحة من القطع المتوسط. وينقسم إلى قسمين - الأول في المعاهد التعليمية والثاني في المعاهد الثقافية الأخرى.
وقد بدأ القسم الأول باستعراض تاريخي للنظم والمناهج الثقافية في الأقطار العربية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، وهذا العرض التاريخي ذو أهمية بالغة في شرح التطور التاريخي للمناهج الدراسية في العالم العربي. وعقدت الحولية، بعد ذلك مقارنات عامة، تناولت مدة الدراسة الابتدائية والثانوية، وأقسام المدارس الثانوية وفروعها وساعات الدراسة الأسبوعية ومناهج الدراسة الابتدائية والثانوية، ومناهج معاهد التعليم العالي ومناهج إعداد المعلمين والمعلمات ولغة التعليم في مختلف المدارس والتعليم المختلط. والطلاب العرب في مختلف الأقطار العربية.
وتناولت الحولية في الفصول التالية شرح مختلف مظاهر الحياة الثقافية في كل دولة من الدول العربية التالية: المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية السورية، المملكة العراقية، الجمهورية اللبنانية، المملكة المصرية، مبتدأً بخلاصة إحصائية عن السنة الدراسية 47 - 1948 لكل منها، وموردة نبذة تاريخية وإحصاءات التطور الثقافي ثم متحدثه عن الأحكام التشريعية والنظم الإدارية، ومحصية المعاهد التعليمية، من مدارس أولية وابتدائية وثانوية وخاصة وعالية وجامعية وشعبية الخ. . .
وأما عن القسم الثاني فقد تناولنا الحديث عن المؤسسات العلمية والثقافية، مثل الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، والمجامع العربية في دمشق وبغداد والقاهرة، والمؤتمرات(869/50)
العربية ودور الكتب. وللحولية تذييل اشتملعلى إحصاءات التعليم عن السنة الدراسية 48 - 1949 في الأقطار العربية.
ولا مشاحة في أن هذه الحولية تعتبر مرجعاً عاماً للباحثين والدارسين والمهتمين بتطور الشئون الثقافية والعلمية في البلاد العربية. ولقد تولت الإدارة الثقافية أمر توزيع نسخ منها على وزارات المعارف والجامعات والمكتبات العامة ومكتبات المعاهد العليا والمدارس الثانوية في الأقطار العربية المختلفة، كما وزعت منها نسخا على الصحف العربية والهيئات الدبلوماسية والقنصلية العربية في مختلف الأقطار والمؤسسات الثقافية من نوادر وجمعيات في البلاد الغربية وخصوصاً الأمريكية.
وفضلا عن ذلك، فإن الإدارة الثقافية معتزمة عرض عدد من نسخ هذه لحولية للبيع لمن يشاء من المهتمين بشؤون الثقافة وطلاب المعرفة، كما أنها ترحب بمن يشاء من الباحثين الذين يرغبون في الاطلاع على النسخ المعروضة للزبائن بمعنى الإدارة.
رأي تونسي في المخرج السينمائي المصري
نشرت مجلة الأسبوع التونسية مقلا للأستاذ سلومة عبد الرزاق في الإخراج السينمائي في مصر قال فيه:
ليس سراً إذا صرحنا بأن المخرج هو (روح الفلم) فهو الذي يسبغ على العمل متانة البناء وهو في نظر أبناء المهنة (المكبس)
والآن أين فن الإخراج في مصر؟ وكيف تطور هذا الفن في مدة العشرين سنة الأخيرة؟ وهل يمكن أن نقارنه بفن الإخراج في البلاد الأخرى؟
فإذا تكلمنا مثلاً عن السينما الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو الروسية أو الأمريكية تكلمنا حتما عن المخرجين في هذه البلاد المختلفة وفن الإخراج هو المرآة التي تتراءى فيها عادات كل بلد ومقدار ثقافته يقدمها هؤلاء الفنيون الذين نسميهم المخرجين.
فعندما يخرج المخرج رينيه كلير في لندرة مثلاً فإننا نحس في عمله بالروح الفرنسية. وكذلك عندما يخرج رينهارت فيلماً في هوليود فالصبغة الألمانية هي التي تسيطر على عمله. وعندما يخرج أنشتاين فيلماً في أي بلد غير وطنه فإنتاجه يكون طبيعياً ملوناً بالطابع الروسي وهذا ما نسميه بالمدرسة.(869/51)
فالإنسان قد ينتقل إلى أي جهة من بقاع الأرض ولكنه يحمل دائماً روح وعادات وطنه.
ويرجع تاريخ الإنتاج السينمائي في مصر إلى نحو عشرين سنة ولنا الآن بضع مئات من الأفلام من إنتاج المصريين فيمكننا تحليل هذا الإنتاج على ضوء هذه الأفلام وما هو المشترك الأعظم الذي يدلنا على وجود السينما المصرية. إننا نحس في الأفلام الأخرى بسهولة الروح الفرنسية أو العادات الإنكليزية والرقة الإيطالية أو الطبائع الروسية أو البذخ الأميركي أو الفطرة الهندية فماذا نشعر به بعدما نشاهد فلما مصريا؟
في الحقيقة لا القصة ولا المناظر ولا تعبيرات الممثلين توحي بوجود فن سينمائي مستقل في مصر فلماذا ذلك، لأن المخرجين في مصر وهم الذين يختارون موضوع الفلم يتخيرون دائما القصص من الأدب الأجنبي أو المسرح الفرنسي أو مختلف الأفلام السينمائية الناجحة.
ويظهر أن (الحياء) هو الذي يمنع مخرجي مصر من إظهار عادات وحوادث مصر والمسائل التي تشغل الحياة الاجتماعية وأن السينما المصرية لا تكسب شيئاً من تمصير قصص بعض الأفلام الأجنبية (عندما يسقط الجسد) و (غادة الكامليا) و (عودة الأسير) و (روميو وجولييت) و (البؤساء) وغيرها وغيرها.
هذا بالنسبة إلى القصص المقتبسة أو الممصرة، أما بالنسبة إلى فن الإخراج فإنه لاشك قد تطور في ظرف العشرين سنة الماضية ولكن من الصعب أن نجد فناناً يرضى عن هذا التطور لأن من النادر جداً وجود أي فلم مصري يمكن مقارنته بفيلم أجنبي ولا نكون مغالين إذا اتهمنا الأكثرية من مخرجي مصر بالتهاون والإهمال في تحضير إخراج أفلامهم.
توجد عند المصريين عادة سيئة تقضي بأن المخرج وهو الحاكم بأمره في الأستوديو يرتب المناظر الفنية بل ويغير في السيناريو في اللحظة الأخيرة، وقبل بدء التصوير بدقائق، صحيح أن بعض المناظر يمكن إعدادها إعداد تاماً قبل بدء تصوير الفيلم بمدة كافية. أن كلمة (التقطيع) لها معنى واحد في جميع استوديوهات العالم إلا عند المصريين وجميع المخرجين في الخارج عندهم طريقة تخالف طريقة المخرجين المصريين.
يجب أن نتعلم فن الإخراج دراسة يصحبها جهد وتعب ويجب أن نفهم أنه إذا كنا نريد أن(869/52)
يدرك العالم أن هناك سينما مصرية على الجميع دراسة فن الإخراج دراسة وافية وإعداد المخرجين إعداداً فنياً كاملا قبل أن يعهد إليهم بالإخراج!
سلومة عبد الرزاق(869/53)
القصص
جنة. .
للأديب أحمد كمال زكي
لا تسألني لماذا لم أحدثك من قبل بكل ما أحدثك به الآن. . فأنت تعرف من قديم طريقتي الخاصة في الحياة، وتدرك ني في أغلب الأحيان أوثر نفسي بأشياء أعلم أن ليس فيها غناء لأحد. قل هي رغبة مجهولة، ولكن أرجو أن لا تزعم أني غريب شاذ كما تقول. . .
ثم هل كان ينبغي أن أقول لك أني معذب؟ بالله لا تضحك. فقد كنت معذبا حقا، ألست بشراً ككل بشر؟ وماذا في ذلك هل ثمة ما يمنع أن يبكي قلبي وقد ضحك كثيرا؟ إنني أضرع إليك أن تنصت إلى دون تساؤل أو إثارة. . فبحسبي هذا القلب يضطرم في صدري كالأتون!
والآن دعني أسألك: أتذكر متى حدثتك عن فرقة آوتني فقلت لك إنها جنة أنيقة معطورة؟ أرجو أن لا تكون نسيت. . فليس يحزنني شيء كما يحزنني منك إهمال شئوني وهي جزء من ذات نفسي. في هذه الفرقة - يا صديقي - تبدأ قصتي، وكنت قد ودعت خارجها كل شيء. . حتى صبابتي العابثة.
لقد كنت مرهقاً، وكانت أعصابي في حاجة إلى أن تستريح وكنت أطمع أن أجد الناس الذين لا يعنيهم أمري، ولا يعترضون سبيلي. . فما أنفقت أسبوعاً حتى أدركت أني أصبحت - لأول مرة - ملك نفسي. فأما صاحب الفرقة أو صاحب المسكن كله فلم يكلف نفسه قط مشقة التحدث في شيء إلا مسكنه، وما اجتمع فيه من أسباب الراحة والدعة. وأما زوجه فكانت صموتا صارمة. . كرهت فيها نظراتها النافذة وحركاتها البطيئة، ولكنها لم تحاول أن تهتك ذلك الستر الذي أقمته بيني وبين سائر سكان (البانسيون).
ولكن حادثة صغيرة غيرت كل شيء. حادثة يعلم الله أني لم أكن راغباً فيها، فقد ناءت بروحي ثقال ضخام، وأصبحت لا أريد إلا أغنية رقيقة ترفه عن نفسي وترد لها شيئاً من قرار أتريد أن تعرف ما هي؟ لا تتعجل الحوادث. . فإني أرجو أن أقص عليك كل شيء في ترتيب.
لقد كنت في يوم أهبط الدرج حين رأيتها هي. . فتاة في عمر الربيع. . رشيقة خفيفة،(869/54)
تصخب في حياة دافقة حلوة. أرأيت إلى عصفور يفقر ذات صباح على أشجار الورد؟ لقد كانت هي أيها الصديق. .
ورمقتها. . ولأمر ما لم أستطيع أن أطرق، لا ولا أفسح لها السبيل فالتقي ذراعي ذراعها. . في لمسة ناعمة هادئة، وأردت أن أعتذر فهزت رأسها في وداعة وانفلتت كما تنفلت نسمة بين الزهور وخلفت وراءها سحبة عاطرة.
وماذا تتوقع مني بعد ذلك أيها الصديق وأنت تعرفني كل المعرفة؟ لقد فكرت فيها الكفاية. . وحين عدت إلى جنتي خيل إلى أني أشم فيها عطرها. وضج قلبي، وحاولت أن أمسك به. لقد كان يسوقني إلى ما يجب في إصرار عجيب. وأحسست وأنا واقف بنافذتي بصاحبة الدار تحمل الغداء، وتوقعت منها أن تقول طعامك. أيها السيد! ولكنها لم تفعل واكتفيت نحوها ثم. . ثم خنقت آهة كادت تثب من حلقي في دهشة وتمرد. أتدري لماذا لقد كانت (هي) يا صديقي. ولم تكن المرأة الصموت الصارمة.
اشتعلت أعماقي. . ومات الكلام على شفتي، واكتفيت بالتطلع إليها. ويبدو أن منظري كان مثيراً، فقد انطلقت تضحك. فسمعت موسيقى يرقص في أصدائها شباب مندفع يقظ. .
وفي جهد انتزعت صوتي، فإذا به همهمة بغيضة قلت لها (أنت؟) فأجابت وفي صوتها رنين أنوثة بكر: طبعا أنا. وعدت أسألها حالماً أو كالحالم: ومن تكونين؟ فأجابت في تردد مستطيل: أنا. أنا ابنة صاحب الفندق. ودفعت بأناملها شعرها ثم أدارت طهرها وانصرفت خفيفة كما أقبلت.
أتحسب أنى اعرف ماذا أكلت؟ كلا والله يا صاحبي. . فما كنت بحاجة إلى ذلك وقد تشبثت هي بخيالي وصدري لا تريد أن تبرحهما. على أنها حين عادت لترفع مائدتي الصغيرة خيل إلي أني أمير أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة وإلا بربك ماذا كنت أصور لنفسي وأمامي أنثى فاتنة تقوم على خدمتي؟
أين كانت هذه الحورية. ولماذا أتت؟ أكانت الأيام تدخرها لي لتضاعف من هناءتي؟ لعلها كانت في سفر. أو لعلها هبطت من السماء، فمن يدري. غير أنها كانت على أي حال ابنة صاحب الفندق. وقد أصبحت فإذا يحتويها مسكن يحتويني، فلا تسل كم وضعت من الخطط، وكم من المشرعات قتلته بحثا!!(869/55)
وتعودت رؤيتها كل يوم، كما تعودت أن أحادثها. . . فآمنت أني بحاجة إليها، فقد كانت أنثى يعانقها شباب العشرين أنثى عذبة تطوف حولها أحلام بيض، ويوم حدثتها عن نفسي وأنا آكل قلت لها أني أريد صداقتها. صداقتها فقط.
ورضيت بهذه لصداقة ورفعت الكلفة بيني وبينها. وكانت لا تكاد تدخل غرفتي حتى ترمي خارج الباب كل شيء يقيدها وكانت أحياناً تميل برأسها فتفتر أعصابي، وتلاشى في عطرها المترف الرقيق. ولم تكن تعمد مطلقاً إلى سحب يدها من يدي حين أمسك بها.
وقنعت يا أخي منها بذلك، وأبيت أن أخطو خطوة واحدة. فقد كنت أخشى أن أرتطم بألف سد، وكان حرصي الشديد عليها يحجم بي عندما كنت أظن أنه يؤلمها. ثم كان يجب أن أدرك أن عين الأم ترقبنا دائماً. فلم يحدث أن دعوتها للخروج معي، ولم تبدر مني بادرة توحي بأني راغب في قضاء سهرة معها. غير أني كنت أحس أنها لن ترفض إذا عرضت عليها عرضاً.
إلى أن التقيت بها في إحدى صالات العرض. . وكانت مع أبيها. ورأتني فابتسمت فدنوت منها متردداً وجلاً وما رآني الرجل حتى استقبلني مرحاً ضاحكاً، واستقبلتني هي في عين راعدة وشفة تختلج إلا أنها لم تستطع أن تكتم ضحكتها حين اعتذرت عما إذا كنت قد أقحمت نفسي عليها.
وعاد الرجل يضحك، ثم انطلق صوته في سرعة وعصبية ولكنه لم يتكلم هذه المرة عن مسكنه، فقد كان وراءه ما هو أهم كما راج يقول، ولولا هي. . . لولا ابنته لكان الآن في غير المكان ثم رجاني أن أعود بها إذا مل أمانع، وانصرف قبل يعرف رأيي، وكأنه كان على ثقة من رضائي!
حدث كل هذا في وجيز وبين دقيقة وأخرى وجدت نفسي نعها، غير أني استشعرت وإياها في بحر عريض وسيع، ولم أدر أين أذهب بها. . لقد كنت أريد أن أبتعد بها عن كل عين، كنت أريد دنيا لا يسعى على أرضها أحد سوانا!
ونظرت إليها. . وكانت هي تتطلع نحوي، فأسبلت أهدابها وحاولت أن تبتسم. وكانت خجلة على اكبر الظن، أو كانت مترددة مثلي لا تدري ما تقول. واجتذبتها من ذراعها وأنا أهمس أتريدين الرجوع؟ فأجابت في جفوت: وأنت ماذا تريد؟(869/56)
ثم قضينا مما أبدع ساعات ثلاث. ولما قفلنا راجعين كادت لدموع تطفر من مآقينا. وعلى الباب تكلمنا كثيراً، وحاولت أن تشكرني، فاستوقفتها قائلاً: اسكتي. ودعيني أتطلع إليك، فإني أرى في عينيك دنياي!
وكنا في عتمة. وعلى ضوء المصباح الشاحب رأيت هاتين العينين تلمعان، وأردت أن أقول لها شيئاً، فلم تدعني لأنها. . . لأنها قاطعتني بلثمة مذعورة من ثغرها الدقيق. ثم انثنت تصعد الدرج مسرعة وأنا خلفها. . .
وفي اليوم التالي تحدثنا عن كل شيء، واستعرضنا ما حدث ولكنا لم نتحدث عن قبلة الليل وكنت سعيداً، وكانت هي سعيدة وأقسمنا معا أن نظل وفيين أفتحسبنا كنا نلهو أيها الصديق؟ أما الأم فلم أرها، وأخبرتني هي أنها غضبى. . لعل ذلك لأنها كانت معي، أو لأنها تألمت حين علمت أن زوجها فقد بالأمس بعض ماله في غير نفع.
ثم اجترأت، وحاولت أن أعيد عليها صورة وداعنا وأمسكت بها فتخلصت مني برفق تقول: أرجوك.
وتكرر خروجها معي وفي هذه الأثناء كانت صلتي بأمها تزداد توتراً، وكأنما كان بيني وبينها ثأر قديم. لقد كنت يا صديقي أحاول أن أجعلها في جانبي، ولكنها كانت كالجواد الجموح لا يرضيها لين، ولا تخدعها رقة، ولا يقنعها تظاهري لها بالخضوع وخيل إلى أنها لا ترضى من خروجي بديلاً.
وأقسم أن هذه الفكرة روعتني، وحاولت عبثاً أن أقنع نفسي بغير ذلك وفي اليوم الذي ظننت فيه أني موشك على إزالة حدة التوتر سمعت منها رأيها بصراحة لم تعجبني. وأؤكد لك يا أخي أن صورة صاحبتي هي التي حالت بينها وبين لساني ومع ذلك فقد تفضلت وصارحتني بحاجتها إلى غرفتها.
وفزعت إلى الرجل فنصحني بالتريث، وتفقدت صاحبتي فلم أعثر لها على اثر. وبدا لي أن العجوز عملت على إبعادها من طريقي. . فهل كانت تدري صلتي بها؟ أما أنا فقد كنت أوقن أنها لا تعرف شيئاً مطلقاً. على أني في يوم وليلة اعتزمت الرحيل!
وأرجو أن لا تحسب أن هذا الرحيل كان علي سهلاً. وكان شيء واحد يشغلني هو: كيف اتصل بها. وكنت ساهماً تائها حين سمعت بابي ينفتح في رفق، فالتفت لأراها تدخل ثم(869/57)
تغلق الباب علي وعليها. .
قالت: أسترحل؟ بالله قل لا، فأنا أريدك هنا.
وقمت لها وهمست: وأمك. . إنها لا تحبني ولا تريدني وأطرقت قليلاً ثم رفعت رأسها فإذا بدموع غزار تأتلق على خديها وتمزق قلبي أساً وأسفاً.
وتقدمت نحوي وانطوت بين ذراعي في وداعة، وأخذت تضغط على صدري كأنما تخشى علي شيئاً. ورفعت يدي لأمسح دموعها. . . ولأول مرة أحس أن شيطاني يتخلى عني فلا يغريني بإثم دفئ. ولم تغادرني إلا بعد أن أخذت مني وعداً بالبقاء. .!
يا صديقي لا تجعلني أطيل وقوفي هنا؛ فبحسبي أن أقول أني استشعرت أني أحبها من أعماقي. وآمنت أنها وإن كانت أنثى فهي لم تكن ككل واحدة. . كان يخيل إلي أنها غير من عرفت، وكان نجاحها في قتل غرائزي هو ما رفعها في عيني أنا الذي كان ينظر إلى المرأة دائماً نظرة جائعة. ملأني حبها فأحببت روحه. وهل كلن في وسعي أن أنسى هذه الليلة التي جمعتنا فيها ابتهاله مؤمنة طاهرة؟
إن نفسي أيها الصديق لم تنطو على طيش ونزق. ويوم عرفت أن بجانبي عذراء تريد أن تبقى نقية طاهرة حرصت على أن أصونها ولما رجتني أن لا آتي بما يعكر صوف علاقتنا قررت أن أنتظر. . وفي أثناء ذلك حاولت عبثاً كسب صداقة أمها.
لقد أصبحت هذه تؤرق مضجعي وتقلق راحتي وكنت من حين إلى حين ألمحابنتها فأرى في عينيها توسلا، وأحس بروحها الآلمة ترجو مني أن أبقى. . . من أجلها!!
وفي ظهيرة أحد الأيام - وكانت أمها في المطبخ - دخلت علي لهفه جازعة. وفي روعة المفاجأة نسينا نفسنا فاحتضنا، ورفعت إلي ثغرها فقبلتها، وارتعدت شفتاها في همس باك: سأسافر في الغد. . . ولن تبقى أنت أيضاً فلا أريد أن تبقى معها.
فأسرعت أقول: لنهرب. . فلن يمنعنا شيء من ذلك؛ فأنا أحبك وأريدك لنفسي. فاستضحكت في مرارة وقالت: أنسيت أني. . . أني مسيحية؟!
وطفرت من عينيها الدموع، ومالت علي تقول: ولكن تذكرني. . . تذكر أني أحببتك حبا باركته الأحلام والدموع والأنات. وانفلتت خارجة. . . ولم أرها بعد ذلك!
أجل يا صديقي. . . لقد أصبحت فإذا ورقة تحمل عطرها بجانب بابي، وقرأتها فإذا بها(869/58)
هذه الكلمات (ربما كان هذا كله حلماً. . أو ربما يكون واقعاً عشنا فيه. اسأل نفسك فسأسأل أنا نفسي دائما وعزائي أنك كنت معي لطيفاً مخلصاً).
وقبلت الورقة، ووضعتها في جيبي. وانطلقت خارجاً، ولم أعد إلا لأحمل حقائبي. . وتركت جنتي لأعيش على الأرض مع البشر!
أحمد كمال زكي(869/59)
العدد 870 - بتاريخ: 06 - 03 - 1950(/)
بين المهد واللحد
الكلمة التي ألقيت في تأبين الأستاذ علي محمود طه
بالمنصورة
سادتي أقرباء علي طه، وأصدقاء علي طه:
نحن هنا في البلد الذي خرج فيه إلى نور الوجود. ونحن هنا في البلد الذي رجع فيه إلى ظلام العدم!
نحن هنا في البلد الذي قدم إليه المهد مزبناً بأوراد الربيع، مشرقاً ببسمات الحب، محفوفاً بنظرات الأمل؛ ونحن هنا في البلد الذي أعد له اللحد مكللاً بأزهار الخريف، مللاً بعبرات الأسى، مودعا بحسرات الذكرى!
نحن هنا في البلد الذي نشأ علياً على حب الجمال، وهيأ علياً لرسالة الشعر ووجه علياً إلى طريق المجد. وضرب فيه على السمع الواعي، وحكم فيه على اللسان البليغ!
من هذا الشاطئ شاطئ المنصورة ركب الملاح زورقه الهائم، ثم مخر به العباب في خضم الحياة. تارة يختفي، وتارة يظهر. فإذا اختفى غاب مع (الأشباح والأرواح) في جزر الأرخبيل أو على جبل الأولمب؛ وإذا ظهر شوهد على سواحل كليو باترا يردد اللوعة والأنين، أو على جندول البندقية يرجع الشوق والحنين، أو في بحيرة كومو
بمجد الحب والجمال في صور الناس ومجالي الطبيعة.
وكذلك كان في كل بحر يجري فيه، وفي كل ساحل يدنو منه: يرسل الأنغام العذبة من قيثارة المرح، ويبدع الصور الجميلة بريشته الفنانة، وينقح الصدور المكروبة بنسماته الشعرية السحرية التي تسري هموم النفس وتهوٌن متاعب الحياة.
ثم غام الأفق في وجه الملاح، وثارت الأعاصير على جوانب الزورق، فكلت الذراع وسكن المجداف وتمزق الشراع. وفي يوم من الأيام السود ألقى في ساحل المنصورة حطام الزورق وجثة الملاح
وفي حفرة ضيقة من القبرة المنهومة ثوى القلب الكبير، وذوى الأمل النضر، وهمد الجناح المحلق.
في هذا البلد الوفي الحبيب عرفت علي طه وأحببته، منذ تسعة وعشرين عاماً وأحببته منذ(870/1)
عرفته. كان لقاؤنا الأول على هذه الضفاف الخضر في أصيل يوم من أيام أغسطس من السنة الحادية والعشرين من هذا القرن. وكان علي لا يزال طالباً في مدرسة الفنون والصناعات، يكابد ألم التناقض بين ما وجه إليه بالفطر، وما جمل عليه بالاكتساب؛ بين النوازع الأدبية التي يجدها في نفسه، والمسائل العلمية التي يتلقاها في درسه؛ بين الناس الذين يتخيلهم في الذهن، والناس الذين يتمثلهم في الخارج؛ بين مطالب الجسد التي تربطه بالأرض، وتوازي الروح التي تجذبه إلى السماء.
كان يقضي طرفي نهاره في قهوة ماتيو بشارع البحر ينظر في كتاب مرة، ويكتب في ورقة مرة؛ ثم يذهل عن الكتاب والورقة ويرسل بصره إلى الأفق البعيد، ثم يرده إلى نفسه وينطوي عليها انطواء الفيلسوف المفكر أو الشاعر الحالم. فإذا جلس إليه أحد ثقاته أخذ ينفس عن صدره المكظوم بالحديث عمن يحب أو بالشعر فيمن يحب. وحبه يومئذ كان حب الفنان الخيالي يجعله بالتنزيه والحرمان منبعاً للألم ومبعثاً للشكوى ليرهف به شعوره ويغذي عليه شعره.
قلت له ذات يوم: ما بالك يا علي وأنت في زهرة العمر ونضرة الصبى حزين الشعر ضائقاً بالناس والحياة؟ فهل تشكو من مرض؟ فقال علي، وما زلت أذكر ما قال: إنما أشكو مرض الاغتراب. يخيل إلي أني من قوم آخرين ومن بلد آخر، فإنا لا أزال أشتاق إلى القريب المجهول، وأحن إلى الوطن النازح. ويشتد بي النزوح أحياناً فأتمنى لو أطير، وأن ضلوعي قفص من حوله يأبى أن ينفرج.
ثم انقضى ذلك العهد وانقضت معه تلك الحال الغريبة. ودخل علي في زحمة الحياة وغمار المجتمع فأزدهر الوجه الشاحب، وانبسط المحيا الكثيب، وابتسم الشعر الحزين؛ وتشعبت في نفسه أصول الجمال والحب، فامتد في نظره الجمال إلى العمل والخلق والسلوك، واتسع في قلبه الحب للخير والأخاء والمروءة. ولذلك عاش ما عاش في سلام نفسه، وعلى وثام منع الناس.
وتأكدت بيني وبين علي أسباب المودة فعرفته في جميع حالاته، وخبرته في أكثر ملابساته، فلم أره يوماً قبض يده عن معروف، ولا بسط لسانه بأذى، ولا طوى صدره على ضغينة.
كانت لذته في أن يفعل الخير لأنه إنسان بفطرته، وكانت متعته في أن يقول الشعر لأنه(870/2)
فنان بطبعه. وفيما عدا فعل الخير وقول الشعر كانت حياته أشبه بحياة الطائر الغرد في سماء الربيع الطلق: انتقال من غزل إلى شدو، وارتحال من جو إلى جو.
كان علي طه أكرم الله مثواه طاغي الشخصية ولكنه طغيان الروح؛ مستبداً بالحديث ولكنه استبداد النبوغ يجلس الجالس إليه ويطيل الجلوس ويكرره، ولكنه في كل جلسة يجد نفسه في حضرة رجل ممتاز. وامتيازه كان من طلاوة حديثة وشجاعة رأيه وصراحة قوله وعفة لسانه وحرية ضميره وخلوص قلبه. كان في صرامة الرجل ووداعة الطفل، فلا يسع من يلقاه إلا أن يجله، ولا يملك من يعرفه إلا أن يحبه.
وكان شعره صورة لشخصه ومرآة لنفسه. نقرأ فكأنما نقرأ في قلب مفتوح، وننظر فيه فكأنما ننظر في أفق منير. أجمل ما فيه الصدق، وأقوى ما فيه الجمال، وأعظم ما فيه الحب. والصدق والجمال والحب هي عناصر الرسالة الفنية التي أداها علي طه.
كان شعره صافي الأسلوب لأنه صافي القلب، متسق الألفاظ لأنه الخلق، مشرق المعنى لأنه مشرق النفس. وإن من المصائب التي يرفض لها الصبر ويضيق بها العزاء أن نستعمل (كان) في الحديث عن علي طه أنه باق ما بقيت العربية، مذكور ما ذكرت العروبة، خالد ما خلد القرآن.
ولست اليوم بسبيل الكشف عن عبقريته في فن الشعر في فن الشعر ولا عن مكانته في تاريخ الأدب، إنما هي عبرات مما بقي في المآقي جئت أسكبها على ثراه، وزهرات من الروض الذي كان يحبه جئت أنثرها على قبره.
رحم الله الفقيد العزيز أوسع الرحمة، وعزى عنه الأمة العربية أجمل العزاء، وعوض الأدب الرفيع من فقده خير العوض.
حمد حسن الزيات(870/3)
علي محمود طه
حياته من شعره
الأستاذ أنور المعداوي
كانت بيئة ظلت عليه بما يشتهي، وحرمته أكثر ما يطلب وقيدت قدميه فما يستطيع أن يندفع، وطوت جناحيه فما يستطيع أن يطير. . . ولم يكن واحداً من هؤلاء الذين يرضون بالقيود ويخضعون بالأصفاد، ولئن رضى بالأولى وخضع للثانية في تلك الفترة التي يتنزى فيها شباب الروح والجسد، فلأنه كان نتاج مجتمعه ووليد بيئته. ومن هنا اشتكت روحه وتعذب جسده وضجت بخيبة الرجاء أمانيه!
اشتكت روحه من وطأت القيد وسطوة السجان، وتعذب جسده من قوة الغريزة وغلبة الحرمان، وضجت أمانيه وهو يتطلع إلى الأفق البعيد وبين جنبيه رهبة المشفق من مستقبل مجهول. . . وانعكس هذا كله على فنه: أنات متصلة ينقلها إليك شعر تكاد تشم فيه رائحة الدموع؛ شعر مظلم إن عثرت فيه على البسمة المشرقة فهي التماعة البرق الخاطف في سماء داكنة، تظلل حواشيها ألوان من السحاب والضباب! واستمع إلى هذه الشكاة الأولى في الصفحة الثالثة والثلاثين من (الملاح التائه) من قصيدة عنوانها (غرفة الشاعر):
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ... وما زلت غارقاً في شجونك
مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر ... وللسهد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناصب به حر أنفاسك ... يطغى على ضعيف أنينك
لست تصغي لقاصف الرعد في ... الليل ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصمت ... ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشاحب ... يهفو إليك من إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذابل ... تبكي الحياة من الأرماق
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض ... وحطمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري لقد نصل الليل ... وما زلت سادراً في مكانك
ليس يحتوي الدجى عليك ولا ... بأسى لتلك الدموع في أجفانك(870/4)
ما وراء السهاد في ليلك الداجي ... وهلا فرغت من أحزانك؟
فقم الآن من مكانك واغتنم ... في الكرى غطة الخلي الطروب
والتمس في الفراش دفئاً ينسيك ... نهار الأسى وليل الخطوب
لست تجزى من الحياة بما ... حملت فيها من الضنى والشحوب
إنها للمجون والختل والزيف ... وليست للشاعر الموهوب!
لقد حدثناك عن المزاج الكئيب في شبابه الباكر وها هو بين يديك في البيت الأول، وحدثناك عن الطبع الحزين في حياته الأولى وها هو يطل عليك من البيت الثاني. وزد على الجفون الملتهبة من السهد، والأصابع المرتعشة فوق الجبين، والفم الناضب من رحيق الحب، والشعور الطافح بمرارة الأنين! وأي شباب هذا الذي يشغل عن الرعود حين تقصف وعن البروق حين تسطع، بتلك الغرفة الصامتة وهذا السكون العميق، يرقب بروحه الغافية ضوء المصباح الشاحب شحوب الأمل، وبقايا النيران في الموقد الذابل ذبول الحياة؟! يمر عليه النهار فيعصف بقلبه الغض وكيانه الرقيق عصف الرياح العاتية بالنبتة الواهية، وينقضي عليه الليل وهو حائر في مكانه من الغرفة الصامتة لا يطمئن، ولا شيء في عينيه غير الدموع، ولا شيء في فكره غير السؤال عما وراء السهاد. . . ولا جواب!
وأي شباب هذا الذي يفزع من وحشة اليقظة إلى أحضان الكرى ينشد الأنس الأنيس في ظلام الأحلام، ويلتمس في الفراش شيئاً من الدفء ينسيه برد الأسى وتجهم الأيام؟! هوه ذلك الشباب الذي خلق للضنى والشحوب، وخلق لهذا المزاج الرومانسي الضارب في مجاهل الغيوب!. . . ومرة أخرى تعال نستمع إليه وهو ينثر بين أيدينا خفقات قلبه، في هذه الأبيات التي نقتطفها من قصيدة عنوانها (قلبي)، في الصفحة الحادية والخمسين من (الملاح):
يا قلب: مثل النجم في قلق ... والناس حولك لايحونا
لولا اختلاف النور والغسق ... مروا بأفقك لايطلونا
فاصفح إذا غمطوك إدراكاً ... واذكر قصور الآدمينا
أتريدهم يا قلب أملاكاً ... كلا. . . وما هم بالنبيينا
هم عالم في غيه يمضي ... مستغرقاً في الحمأة الدنيا(870/5)
نزلوا قرارة هذا الأرض ... وحللت أنت القمة العليا
عباد أوهام ما عبدوا ... إلا حقير منى وغايات
ومناك ليس يحدها الأبد ... دنيا وراء اللانهايات
يا قلب كم من رائع الحلك ... ألقك في بحر من الرعب
كم عذت منه بقية الفلك ... وصرخت وحدك فيهيا قلبي
ومضيت تضرب في غياهبه ... وترد عنك المائج الصخبا
تترقب البرق المطيف به ... وتسائل الأنواء والسحابا
وخفقت تحت دجاه من وجل ... كالطير تحت الخنجر الصلت
وعرفت بين اليأس والأمل ... صحو الحياة وسكرة الموت
يا قلب عندك أي أسرار ... ما زلن في نشر وفي طي
يا ثورة مشبوبة النار ... أفلقت جسم الكائن الحي
حملته العبء الذي فرقت ... منه الجبال وأشفقت رهبا
وأثرت منه الروح فإنطلقت ... تحسو الحميم وتأكل اللهبا
وعجبت منك ومن إبائك في ... أسر الجمال وربقة الحب
وتلفت المتكبر الصلف ... عن ذلة المقهور في الحرب
يا حر كيف قبلت شرعته ... وقنعت منه بزاد مأسور؟
آثرت في الأعلال طلعته ... وأبيت منه فكاك مهجور
وصحوت من وهم ومن خبل ... فإذا جراحك كلهن دم
لجت عليك مرارة الفشل ... ومشى يحز وتينك الألم
والأرض ضاق فضاؤها الرحب ... وخلت فلا أهل ولا سكن
حال الهوى وتفرق الصحب ... وبقيت وحدك أنت والزمن
وصرخت حين أجنك الليل ... متمردا تجتاحك النار
وبدا صراعك أنت والعقل ... ولأنتما بحر وإعصار
ما بين سلمكما وحربكما ... كون يبين ويختفي كون
وبنيتما الدنيا وحسبكما ... دنيا يقيم بنائها الفن(870/6)
أنظر، هنا زفرة تأخذ مكانها في الطليعة من هذه الزفرات، زفرة مصدرها أن الناس لا يحفلون به وهو الشاعر الموهوب. والإشارة إلى حقه المهضوم تطالعك في البيت الأخير من (غرفة الشاعر) في لمحة عابرة، ولكنها تواجهك هنا في وقفات متأنية متتابعة. . . لقد كانت حياة علي طه كما استخلصناها من صحبته بالأمس وكما نستخلصها من شعره، كانت فراغاً موحشاً في أيامه الأولى بقدر ما كانت امتلاء مؤنساً في أيامه الأخيرة. حرمان من المرأة وحرمان من الشهرة: وهذا هو الفراغ الذي يحيل الحياة جحيماً لا نسمة فيه تنعش زهرة الفن ولا قطرة ماء تروي شعلة الجسد هناك رجل قد يحل إرضاء الجسم في حياته محل الاسم تبعاً لمركب النقص ومركب التعويض، أي أنه إذا حرم متعة من المتع أمكن أن يستعيض عنها بمتعة أخرى تشعره أن الحياة ليست قفراً في كل مكان وليست فراغاً في كل آن. . . فإذا فقد ذيوع الصيت مثلاً أو شيوع الذكر ونباهة الشأن، فإنه يستطيع أن يشغل عن اللذة النفسية بلذة أخرى حسية، تتمثل في تلك الصلات التي تعمل في ميدان الجنس حيث تستنفذ القوى الكامنة بين شعاب الغريزة. ولك أن تعكس القضية من وضع إلى وضع حين تقوم المعنويات مقام الماديات، لتتم عملية الاستبدال بين طاقة إنسانية تقنع بواقع الحقائق وبين طاقة أخرى تقنع بما وراء الحقائق من أوهام.
لو وجد علي طه المرأة في إبان شبابه لسكن الجسم القلق وخبت الجذوة المتأججة وخفتت الصيحة الساخطة على مرارة الحياة. ولو حصل على الشهرة لأستقر القلب الحائر واطمأن الفكر الشارد وفترت الصرخة العاتبة على إدراك الناس. ولكنه حرم كلتا المتعتين فعاش غريباً في دنياه. . . غريباً بالقلب والفكر والروح!!
ولابد هنا من سؤال يفتح أمام السائلين باباً من أبواب الحقيقة المستترة وراء الظواهر الفنية في حياة هذا الشاعر، وهذا هو السؤال: لم حيل بينه وبين الشهرة فلم يظفر بالمجد الأدبي الذي كان يتطلع إليه ويحلم به ويتمناه؟ هل كان شعره في مرحلة شبابه الأول دون المستوى المنشود لتحقيق مجده في سجل الشعر وترديد اسمه على أفواه الناس؟ كلا، فلم يكن شعره في تلك المرحلة دون المستوى المنشود بحال من الأحوال، بل لقد كان من أجمل الشعر واحفله وأصدقه بوثبات الأداء، ولكن كان فيه جانب نقص حال بين الشاعر وبين فرصة الظهور. . . لقد كان علي طه يدور بأكثر شعره حول محور ذاته شأن المنطوين(870/7)
على أنفسهم من شباب ذلك الحين، ولقد شغلته نفسه عن الالتفات إلى ما حوله من شؤون المجتمع وأحداث الحياة، وأجبرته بيئته وطبيعته على أن ينظر في أمر هذه النفس قبل أن ينظر في أمر غيرها من النفوس، في وقت أقام الميزان للشعر الاجتماعي وكاد يهمل ما عداه. ومن هنا تخلف شعر النفس الإنسانية أو شعر الذاتية الفردية عند علي طه وأمثاله من الشباب، ليتقدم شعر العاطفة الاجتماعية أو شعر النزعة القومية عند شوقي وأمثاله من الشيوخ. . وغطى هؤلاء على أولئك من هذه الناحية وحدها لأنهم كانوا الصدى المعبر عن كيان جيل كامل من المصريين؛ ذلك الكيان الذي كان قوامه رصد الأحداث وتسجيل الهزات وتحريك الهمم وإشعال النفوس!
ولقد كان علي طه معذوراً في أن يشغل بأمر نفسه عن أمر مجتمعه لأنه فنان، فنان لم يهيء مجتمعه غير القيود التي أدمت منه الجناح واستنفذت جل وقته في تضميد تلك الجراح! وهذه هي الناحية التي غفل عنها الدكتور طه حسين حين اكتفى بتسجيل الظواهر الفنية دون أن يرجع إلى ما وراء الظواهر من أسباب. . وهذه هي كلماته عن الشاعر في هذا المجال، نسوقها إليك من الصفحة السادسة والستين بعد المائة من الجزء الثالث لكتاب (حديث الأربعاء): (وأريد أن أضيف إلى ما يعجبني في شعره أنه حلو الأسلوب جزل اللفظ، جيد اختيار الكلام، وإن لألفاظه ومعانيه رونقاً أخاذاً تألفه النفس وتكلف به وتستزيد منه، وأن في شعره موسيقى قلما نظفر بها في شعر كثير من شعرائنا المحدثين، وأنه قد استطاع أن يلائم إلى حد بعيد، لا بين جمال اللفظ وجمال المعنى فحسب، بل بين التجديد والاحتفاظ باللغة في جمالها وروائها وبهجتها وجزالتها. كل ذلك ظاهر في أكثر ديوانه لا أكاد أستثني منه إلا هذه القصائد التي قيلت في المناسبات ولم يوحها الشعور الطبيعي للشاعر! فشاعرنا ترجمان الطبيعة، وترجمان الإنسان إذا اتصل بالطبيعة وظل في فيافيها أو فتن بجمالها، ولكنه ليس شاعر الجماعات ولا ترجمانها، شاعرنا مغن، شخصيته أقوى من بيئته، وليس قصاصاً بيئته أقوى من شخصيته)!
لقد خرج الدكتور من شعر علي طه الأول لأنه في ذلك الحين لم يكن شاعر الجماعات، وهذا حق. . . ولكنه اكتفى بالتسجيل والإشارة دون البحث والتعقيب، مع إن المفتاح كامن بين طوايا العبارة التي أعلن فيها عدم إعجابه بشعره الذي نظمه في عدد من المناسبات،(870/8)
كامن في قوله بأن تلك القصائد لم يوحها الشعور الطبيعي للشاعر! الواقع إن (الشعور الطبيعي) لم يوح شعر المناسبات في ديوان شاعرنا الأول، وهذه لمسة جد موفقة من الدكتور الناقد، ولكنه أدار المفتاح في ثقب الباب ولم يفتح. . . لقد كان عليه أن يرجع إلى طبيعته النفسيه في ذلك الحين وما اكتنفها من عوامل البيئة وتأثير النشأة ليربط بين النتائج والمقدمات، ولو رجع لنفذ إلى أغوار الحقيقة التي تزيح الستار عن (الشعور الطبيعي) حين يجيد التعبير عن (المناسبة الذاتية) دون غيرها من المناسبات!
وبقي سؤال آخر ننتظر أن يتردد في بعض الأذهان، وهو إننا قد أشرنا إلى إن الجمهور القاريء في الربع الأول من هذا القرن كان لا يستهويه شيء كما يستهويه الأدب الحزين المعبر عن مزاجه الحزين. فكيف يتفق هذا الرأي مع قولنا بأن علي طه لم يستطع أن يحتل مكانه في مقدمة الصفوف مع إن شعره القاتم كان حرباً باجتذاب هذا المزاج القاتم عند قارئيه؟!. . الحق أن موقف الشاعر في ذلك الحين كان يختلف كل الاختلاف عن موقف الكاتب الأديب، وحسبك إن الجمهور القاريء كان يقبل على الآثار النثرية الباكية وينصرف عن الآثار الشعرية التي يتطرق إليها طابع البكاء. قدم إليه قصة فيها الفاجعة وفيها المأساة، وقدم إليه قصيدة فيها أحوال المجتمع ومطالب الحياة، يتهافت على هذه كما يتهافت على تلك، وحسبك دليلاً إن المنفلوطي قد أرضى تلك الأذواق بنثره وإن شوقي قد أرضى بشعره نفس تلك الأذواق، على مما بين الوجهتين من تباين واختلاف! ومرد هذه الظاهرة إلى إن الشعر كان مطالباً في تلك الفترة بأن يكون اللسان الصادق للحالة الاجتماعية والسياسية، كان مطالباً بأن يكون ترجمان المشاعر القومية العامة في وقت كانت النفوس تتحرق ظمأ إلى استرجاع الحرية المسلوبة والاستقلال الضائع والوطن المغتصب، ذلك لأن الشعر كان أكثر إلهابا للشعور من النثر، وحسب النثر أن يعبر عن المشاعر الفردية التي ران عليها الحزن في نفوس الشباب وخيم عليها الأسى والانقباض!
ولابد من التفرقة بين الكتابة الأدبية في ذلك الحين وبين الكتابة الصحفية، لأن النثر الصحفي كان يقوم بواجبه القومي إلى جانب الشعر، ونحن نقصر الحديث على الإنتاج الأدبي في النثر دون سواء. . .
ومن هنا حيل بين شاعرنا وبين الشهوة، ومن هنا على أذواق الناس وموازين الناس، هذه(870/9)
الثورة السافرة التي بدأبها المقطوعات الأولى من قصيدته. . أما بقية المقطوعات فليست إلا ترديداً لتلك الأنغام الباكية التي كانت رجع الصدى لفنون من الحرمان من المرأة، ولقد كان خلو حياته من الشهرة والمرأة كما سبق أن قلنا لك، مبعثاً لهذا الشعور العميق بأنه وحيد في دنياه، يعاني قسوة الوحدة وحرقة الاغتراب:
والأرض ضاق فضاؤها الرحب ... وخلت فلا أهل ولا سكن
حال الهوى وتفرق الصحب ... وبقيت وحدك أنت والزمن!
ومرة أخرى ينعى على الناس جحودهم للمواهب وتنكرهم للنبوغ، وتشعر أنه طريد الظلم وإهدار القيم، ويأخذ على الشرق غفلته عن تقدير النابهين وبخاصة في مصر التي لا يلقون فيها غير الشقاء. . هناك في قصيدة عنوانها (الطريد) في الصفحة الثامنة والسبعين بعد المائة من (الملاح التائه) ونقتطف منها هذه الأنات:
شقى أجنته الدياجي السوادف ... سليب رقاد أرقته المخاوف
ترامى به ليل كأن سواده ... به الأرض غرقى والنجوم كواسف
إلى أين تمضي أيها التائه الخطى ... يساريك برق أو يباريك عاصف؟
رأيتك في بحر الظلام كأنما ... إلى الشاطيء المجهول يدعوك هاتف
تخوض الدجى سهمان والنجم حائر ... يسائل: من ذاك الشقي المجازف؟
طريداً يفر الوحش من وقع خطوه ... ويغرب عنه الصل والصل واجف
كأن إله الشر يقتحم الورى ... أو إن الردى في برده الرث زاحف
فواعجباً! لم تحمل الأرض مثله ... ولا طاف منه بالدجنة طائف
يخاف الثرى مسراه وهو يخافه ... وبينهما يسري الدجى وهو خائف
ترى أي سر في الظلام محجب ... أليس له من نبأة القلب كاشف؟
أجبني طريد الأرض أنى يهزني ... إليك هوى من جانب الغيب شاغف
فردد ذاك الطيف صوتاً محبباً ... إلى كلحن رددته المعازف
وقال أجل إني الطريد وأنه ... لسر تهز القلب منه الرواجف
أتسألك الأفلاك عني أنا الذي ... رمته الدياجي والرعود القواصف؟
أجل: إن ذاتي يا نجي تنكرت ... لعينك لكن القلوب تعارف!(870/10)
وما أنا إلا من بني الأرض نأبى ... مقيم عذابي والشقاء المحالف
وما كان هذا النوء والموج والدجى ... ليرهب نفساً حقرت ما تصادف
سواء لديها أشرق الفجر أم سجت ... غياهب في سر الدجى تتكاثف
أيجحد في الشرق النبوغ ويزدرى ... ويشقى بمصر النابهون الغطارف؟
يجوبون أفاق الحياة كأنهم ... رواحل بيد شردتها العواصف
طرائد في صحراء لا نبع واحة ... يرق ولا دان في الظل وارف
ألا إن لي قلبي طعيناً تحوطه ... عصائب تنزو من دمى ولفائف
أقلته أحنائي ذماء ولم أزل ... به في غمار الحادثات أجازف
كما رف نسر راشه السهم فارتقى ... خفوق جناح وهو بالدم نازف!
من يصدق أن صاحب هذا الشعر هو علي طه؟ ومن يصدق أن الدنيا التي ودعها وهي على شفتيه إبتسامة عريضة قد استقبلها يوماً وهي في عينيه دمعة عريضة محرقة؟ هكذا كان! وجوهر شخصيته أنه لم يخلق للدموع وإنما خلق للبسمات، ولم يخلق للقيود وإنما خلق للتحرر والانطلاق. ومفتاح شخصيته أنه كان في شبابه الأول من صنع بيئته وأنه كان في شبابه الأخير من صنع نفسه. . أي أن بيئته بالأمس كانت أقوى من إرادته فأخضعت تلك الإرادة وقررت مصيره في غمار الحياة، وأن إرادته بعد ذلك قد تغلبت على بيئته فحطمت أغلال تلك البيئة وهيأت له أن يختار مصيره برضاه!!
لقد كانت الحرية ملتقى أحلامه وحديث أمانيه، وكانت الحرية في رأيه هي ذلك النبع الفياض الذي تتطهر في مياهه الآم الجسد والروح، ولن تتطهر آلام جسده وروحه إلا إذا ظفر بشيئين: المرأة والشهرة. . وفي سبيل هذين الشيئين ظل يكافح الأمواج والأنواء طيلة ثلاثين عاماً حتى بلغ المرفأ، وحين بلغ المرفأ بزورقه المجهد بعد رحلة مضنية، استطاع أن يعب من هواء الحرية وأن يتنفس بملء رئتيه وأن يبتسم في وجه الأيام. ومن وراء هذه البسمة المشرقة راح يتطلع إلى ماضيه، ولم يملك حين اطلع على الماضي المظلم من فوق قمة الحاضر المضيء، لم يملك إلا أن ينظر إلى العمر الذي ضاع نظرة الساخر الشامت أو نظرة الظافر المنتصر! وارجع إلى قصيدته في (بحيرة كومو) لتدرك كيف كان ينظر إلى حياته فيما قبل الثلاثين:(870/11)
شاعر النيل طف بها ... غنها كل مبتكر
الثلاثون قد مضت ... في التفاهات والهذر!
أنور المعداوي(870/12)
الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة
للدكتور محمد البهي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين
لم يختلف موضوع البحث النفسي في الحديث عنه في القديم، فقد كانت (النفس الإنسانية) وما زالت موضوع هذا البحث منذ أن عرف الإنسان الباحث استقلال بحثه عن تعاليم الكهان في الجماعات البشرية الأولى إلى عصرنا الحاضر. والجانب الذي يفترق به أحد النوعين عن الآخر هو فقط في النظرة التي يعالج بها موضوع (النفس). فبينما كان يتجه القدامى من المعالجين للنفس الإنسانية. . وكذا من سلك طريقهم من علماء القرون الوسطى - إلى محاولة الكشف عن (حقيقتها): ما هي؟ وهل لها استقلال ذاتي عن الجسم؟، وعن مصدرها وعن مصيرها: هل هي من عالم الأزل وسترد إليه؟ أم تنسب إلى عالمنا الذي نعيش فيه؟ وعن أقسامها وعن أنواعها: منها ما هو خير، ومنها ما هو شرير، ومنها ما هو مزيج من الخيبة والشرية. . . إلى غير ذلك من التساؤل الميتافيزيقي، خاضعين في الإجابة والشرح لما كانت تقول به فلسفة (ما بعد الطبيعة) تحت تأثير آراء التعاليم الدينية الأولى على نحو ما يذكر في علم القصص الديني القديم (الميثولوجي)، بينما كان ينحو بحث القدامى هذا النحو إذا بالمحدثين يعدلون عن هذا الاتجاه الميتافيزيقي في تحديد مشاكل النفس وتفسيرها إلى اتجاه آخر يجعل من أحوال (النفس) الخارجية التي تخضع للملاحظة الإنسانية أو التجربة العلمية موضوع الشرح والتعليل والعمل السيكولوجي على العموم.
ولسنا الآن بصدد ذكر العوامل التيس دفعت المحدثين إلى مخالفة منهج القدامى ونظراتهم في ميدان البحث النفسي، لأن ذلك موضوع آخر يطرق فيما بعد.
وإذا كانت نظرة المحدثين في معالجتهم (النفس) تجاوزت حقيقتها إلى ما يصح أن يسجل من أحوالها على العموم فقد استعاضوا كذلك عما ألفه القدامى من الحديث عن (مبدأ) النفس و (معادها) وعما اعتاد هؤلاء أن يرسموه من طريق لحياتها، من كونها: تبتديء بالهبوط من أعلى وتنتهي من جديد بالصعود إلى ذلك الأعلى والخلود فيه، استعاضوا عن ذلك بوضع خط سير آخر: بدايته البدائية، ونهاية الرشد والنضوج.
فتحدثوا عن تطور للنفس، وعن مراحل هذا التطور. وعنوا ببحث الطفولة ومظاهرها(870/13)
كمرحلة أولى في هذا التطور، وكذا ببحث البلوغ النفسي أو العقلي كمرحلة أخيرة له. واستخلصوا من مظاهر المرحلتين خصائص متقابلة، وأرجعوا خصائص كل مرحلة منها إلى قوانين عامة، لها من الاعتبار والقيمة العلمية ما للقوانين النفسية الأخرى - المنتزعة من مجال بحث آخر - أما الحلقة الوسطى التي تقع بين هاتين المرحلتين في سير التطور النفسي - وهي من سن السابعة إلى سن الرابعة عشر تقريباً - فلم يروا لمظاهرها ما يجعلها مستقلة تماماً عن مظاهر المرحلة السابقة عليها ومظاهر الأخرى اللاحقة لها؛ بل وجدوا فيها من خصائص كل من المرحلتين ما ليس على سبيل الانفراد أيظاً. ولذا اعتبروا هذه الحلقة من حلقات تطور الإنسان معبراً، ونظروا إليها كمرحلة انتقال من طور قائم بذاته إلى آخر مستقل عنه تماماً. ومن هنا ندرك: لماذا عنوا ببحث الطفولة الإنسانية ثم ببحث البلوغ العقلي أكثر من عنايتهم ببحث المرحلة الوسطى بينهما.
وقاسوا على الطفل في مرحلة الطفولة الأولى - وهي من السنة الأولى إلى السنة السابعة - الإنسان البدائي في مرحلة البلوغ الجنسي، وهو كل إنسان لم ينضج نضوجاً عقلياً ونفسياً حسب معاييرهم. صنعوا ذلك لوجود الشبه في المظاهر النفسية بين الأثنين. وكلمة: (الطفولة) إذن عنوان على عدم الرشد، وتقبل تماماً - كما ذكرنا - البلوغ العقلي النضوج الإنساني.
وتبع علماء النفس في تقسيم الإنسان إلى فرد بدائي غير رشيد وآخر بالغ أو ناضج حسب تحديدهم لمظاهر النوعين علماء الاجتماع في تقسيم الجماعة الإنسانية إلى بدائية أو فطرية وأخرى ناضجة أو متحضرة. وراعوا في تقسيم الجماعة على هذا النحو نفس المقاييس التي عرفت لعلماء النفس.
ونهج منهج النفسيين والاجتماعيين مؤرخوا العقائد الدينية في موازنتهم بين الأديان. فجعلوا منها ضرباً بدائياً وآخر راقياً.
وقصدوا بالأول ما كانت معتقداته تصور مظاهر الطفولة، وبالثاني ما كانت معتقداته ووصاياه تمثل مظاهر البلوغ العقلي للإنسان. فاستعاروا التقسيم لموضوعهم وكذا الأساس الذي قام عليه من علماء النفس أيظاً.
وبالحديث عن مظاهر الطفولة عند النفسيين سنعرف بطريق المقابلة مظاهر الرشد أو(870/14)
البلوغ العقلي عندهم، ويمكن بالتالي عن طريق الاسترسال تصور الجماعة البدائية والجماعة المتحضرة عند علماء الاجتماع، وكذا أخذ صورة، عن الديانة البدائية والأخرى الراقية عند علماء الأديان.
وفي الحديث عن مظاهر الطفولة النفسية سنقصر الكلام على بعضها - كأمثلة فقط - مما لبيانه أثر في توضيح الإسلام كدين وهو هدف هذا الحديث. سنقصر الكلام على وصف:
1 - إدراك الطفل في مرحلة الطفولة - من السنة الأولى إلى السابعة -،
2 - وجدانه،
3 - صلته بالعالم الخارجي،
4 - سلوكه وتصرفاته،
5 - أحكامه وتقديره،
1 - إدراكه:
في الجانب الإدراكي: يقف إدراك الإنسان في مرحلة الطفولة الأولى عند حد المحسوس من الأشياء. ثم ما يدركه من مظاهر الشيء هو الشيء على الحقيقة عنده. وهكذا:
(ا) جزء الشيء يعبر في نظره عن الشيء كله، وهو كأنه هو:
فالبرتقالة مثلاً لا يدركها بكل مقوماتها من شكل، ولون، وطعم، وغير ذلك من خصائصها التي تتصل بألياف البرتقال وعصيره مثلاً بل بما ينجذب إليه إدراكه من ظاهرها فلونها الأصفر الفاقع كاف عنده في تميزها عن فاكهة أخرى.
(ب) والإجمال هو التفصيل في رأيه: فلون البرتقالة - في المثال السابق - يحمل في طيه بقية العناصر الأخرى التي لها دخل في ماهية البرتقالة من شكل، وحجم، وخشونة أو نعومة في الملمس، ومذاق في الطعم. . . إلى غير ذلك.
(ج) والشيء وأثره أو لازمة من لوازمه واحد في نظره.
فلقد لوحظ إن طفلاً في سن الرابعة يقبض على شعاع الشمس حتى لا تخرج من الغرفة قبل أن تجيء أمه التي أخذ يناديها لترى الشمس حبيسة بين ذراعيه. كما لوحظ من طفل آخر في سن الخامسة من عمره أنه أخذ يصيح ويبكي. فلما سأله أبوه المصاحب له عن سبب بكائه أراه ما سقط على يده قائلاً له، إنها دودة من دود القز، تلدغه. ولم يتبين أبوه(870/15)
طبعاً إلا بعض خيوط القز، إذ ذلك هو الموجود فعلاً على يد صغيره. لكن في إدراك الطفل؛ دودة القز وخيوطها سواء، ولذا منح الخيوط خصائص الدودة، وهو اللدغ.
وإدراكه إذن للشيء الخارجي على هذا النحو إدراك ناقص، لأنه لم يقف على الشيء كما هو في الواقع. ولذا لا يستطيع إدراك حقيقته، وهي ذلك القدر العام الذي تشترك فيه جملة من الأشياء الخارجية والذي يحمله كل شيء منها خلف ظاهره أو على حد تعبير المناطقة وراء (مشخصاته). كما لا يستطيع من باب أولى أن يدرك ما يجمع مفردات العالم كلها من (معنى الوجود) أو مما يسميه المناطق (بالجنس الأعلى). وبالتالي لا يدرك ما وراء ذلك من (الحقيقة العليا) التي هي مصدر الوجود كله وهو الله المعبود. فالله المعبود وراء كل ما يحس، لا يدرك عن طريقه أية حاسة من الحواس يتصور ذهناً فقط. ولأنه وراء المحسات كان كلياً، ولأنه مصد الآحاد كلها والمجمع الأخير لها كان فردا واحداً.
والإنسان البدائي في الناحية الإدراكية يشبه الطفل في مرحلة طفولته الأولى. يقف بإدراكه عند حد ما يدرك بالحس من الأشياء ويغريه منها ما هو أشد ظهوراً فيها من لون، أو حجم دون ما لها من ذوات وقيم.
وجزء الشيء عنوان للشيء عنده؛ يعبر عن حيوان ما لو سئل - بحكاية له من صوت أدركه عن طريق السمع، أو بوصف آخر أدركه بإحدى الحواس الأخرى.
وقلما يتناول وصفه عناصره المتعددة فضلاً عن ماهيته وحقيقته.
ولأنه يقف في إدراكه عند حد المحسوس كان إلهه دائماً كائناً محساً مما يقع في بيئته الجغرافية ووطنه المحلي. وليست القيمة الذاتية للمعبود هي التي دفعت ذلك الإنسان البدائي إلى عبادته - لأنه لم يصل إلى تلك القيمة بعد - بل الصدفة وحدها هي التي ساقته لما عبد وأله.
وإذا كان جنس من الأجناس البشرية - كقدماء المصريين، واليونان، والأمم الآسيوية القديمة، أو شعوب أواسط أفريقيا وأستراليا اليوم - يحتل في سكناه رقعة واسعة وجدنا في تاريخه في عهود ضعفه عدة معبودات , لا تخرج عن كونها كائنات محسة، ووجدناها موزعة في تلك الرقعة حسب جماعاته.
وكثيراً ما يكون تكتل طوائفه وجماعاته ناشئاً عن اتحاد الاتجاه نحو عبادة كائن معين،(870/16)
وليس عن سكنة إقليم بالذات أو انتساب إلى قبيلة بعينها.
وأهم ما يحدد الوثنية أن المعبود فيها محسوس. أما أنه متعدد أو متغير، أو غير مستمر النفع أو الضر، أو خلاف ذلك مما يذكر في خصائص الوثنية فمن لوازم هذا الجانب الرئيسي فيها، وهو كون المعبود محسوساً. إذ من طبيعة المحسوس أن يكون متعدداً بحكم تشخصه. وعن هذا التشخص كان تغيره، وبالتالي كان غير دائم.
وهكذا يجعل مؤرخو الأديان وثنية أي شعب عنوانا على ضعف الجانب الإدراكي فيه ووثنية الفرد عنواناً على بدائيته، للسبب الذي ذكرناه من وقوفه عند حد المحسوس فيما أعتقد وعبد.
والديانة الفارسية (الزرادشتية) - لأنها قامت على تأليه إلهين معنويين هما الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة - تعد في نظر هؤلاء المؤرخين أكثر رقياً من الوثنية، اكن مع ذلك أدنى من الديانة الموحدة. لأن إدراك التابعين لهذه الديانة الآرية إن تجاوز المحسوس إلى ما وراء لم يستطع أن يبلغ الغابة هناك، لم يستطع أن يصل إلى ما يجمع هذين المعبودين. وما يجمعهما هو (الحقيقة العليا) التي لها اسم الله والتي يجب أن تقتصر العبادة عليها وحدها دون ما يليها من موجودات أدناها.
فالديانة الفارسية أشبه بحلقة وسطى بين البدائية - وهي الوثنية - والأخرى الراقية - وهي الوحدة.
ولو سلكنا مسلك مؤرخي الأديان عند الموازنة بين دين وآخر، واعتبرنا ما وضعوه من مقاييس للتفرقة - غاضين النظر عن حجية الوحي - لو سلكنا هذا المسلك في توضيح قيمة الإسلام لأرانا هذا الذي عرفناه الآن في الحديث عن جانب من جوانب الطفولة الإنسانية أن الإسلام في تحديده (لله) المعبود جل جلاله يمثل حسب مقاييس البلوغ العقلي في نظر الإنسان نهاية الرشد والوضوح.
فالله في نظر الإسلام وراء الموجودات جميعها وفوق العالم كله. يخطو الإدراك الإنساني في تصوره خطوات: من وقف بإدراكه عند الحس لم يكن تقدم إليه إلا الخطوة. ومن تجاوز الحس إلى معنى مشترك بين جملة المحسوسات لم يبلغه بعد. . حتى إذا نفذ بإدراكه وراء جزئيات العالم عن طريق الترقي في التفتيش عما يجمع الكائنات كلها يكون قد(870/17)
أقترب في تصوره منه، ومع ذلك قلما يكشف عن ذاته وحقيقته كما هي.
فهذه الخطوات في الإدراك بعد الظاهر المحس من الأشياء لا نكون في نظر علماء النفس إلا من الرشيد. وكلما كثرت خطوات الرشيد في إدراكه كلما كان أكثر اكتمالاً في معنى الرشد والنضوج.
وصف الإسلام (الله) بأنه واحد في مثل قول القرآن الكريم: قل هو الله أحد. . . ليس كمثله شيء. . . ولم يكن له كفواً أحد. . . وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. ووضعه بذلك يدل على أن له الوضع السابق. إذ الوحدة المطلقة التي تعطيها هيئة التركيب في هذه الآيات الكريمة لا تكون إلا لمن انتقى عنه التشخص أولاً، ومعنى الاشتراك فيه ثانياً. وذلك هو الموجود المطلق.
فالوحدة هنا دليل على الإطلاق أو عدم القابلية للتحديد، كما أن التشخص هناك في الوثنية آية على التعداد والكثرة.
وبعض المسيحيين الذين ألهوا عيسى الرسول عليه السلام يضفون على المسيحية كديانة سماوية - عن طريق تأليههم عيسى - بعض خصائص الوثنية، لا من حيث الاعتقاد بإلهين أحدهما الأب والآخر الابن، لكن أولا وبالذات من حيث أن أحدهما يحده الحس والتشخص وهم بذلك يحرفون الكلم عن مواضعه ويستبدلون بآيات الله صنعة الإنسان.
محمد البهي(870/18)
رؤيا مرزا
للكاتب الإنجليزي يوسف أديسون
بقلم الآنسة ماهرة النقشبندي
حينما كنت في مدينة القاهرة العظيمة وقع في يدي عدد من المخطوطات الشرقية التي لا يزال بعضها معي، ووجدت من بينها واحدة عنوانها رؤيا ميرزا، بعثت قراءتها في نفسي سروراً لأحد له. وقد عزمت على نشرها للقراء عندما لا أجد ما أسلبهم به وسأبدأ بالحلم الأول الذي ترجمته بالحرف الواحد كما يلي:
عندما حل اليوم الخامس من الشهر القمري الذي لا أزال أقدسه كعادة أجدادي، اغتسلت وصليت الصبح ثم تسلقت تلال بغداد لأقضي سحابة اليوم في التأمل والتعبد. وبينما كنت أتنزه على قمم الجبال، رحت في شرود، أفكر في تفاهة الحياة البشرية، وتنازعتني الفكر، وقلبت الأمور على وجوهها فلم أجد الإنسان إلا ظلا ولا الحياة إلا حلماً طويلاً. وبينما أنا في تأملي وقد سرحت النظر إلى قمة صخرة لا تبعد عني كثيرا، رأيت رجلاً في ثياب راع يحمل في يده آلة موسيقية رفعها إلى شفتيه وبدأ يعزف عليها حينما نظرت إليه. كانت الأنغام رائعة شجية مختلفة الإيقاع تنساب في رفق ولين وعذوبة لا توصف وكانت عن كل ما سمعته إذناي من موسيقى، وذكرتني بالأنغام السماوية التي لا تعزف إلا للأرواح الصالحة عند رحلتها الأولى إلى الفردوس لتنسيها آلام النزع الأخير وتعدها للسعادة التي تنتظرها في ذلك المكان البهيج. فأحسست كأن قلبي يذوب وكأنني أفني في ذهول خفي.
لقد كنت أعلم أن هذه الصخرة يسكنها جني، وإن بعضهم قد أطربته موسيقاه الساحرة، غير أنني لم أسمع أب العازف قد ظهر للعيان. وفيما أنا ذاهل عن نفسي بما آثرت هذه الأنغام الشجية في رأسي من أفكار، ولكي يتيح لي لذة محادثته أشار إلى بيده حينما نظرت إليه مشدوداً لأقترب من مجلسه، فدنوت منه باحترام يليق بمكانه كائن غير بشر. ولما كانت أنغامه الشجية قد أخضعت قلبي بكليته فقد ركعت على قدميه أنتحب. فابتسم لي بسمة يشع منها اللطف والحنان جعلته قريباً إلى نفسي، غير مخيف لناظري، وطري ما اعتراني من خوف وفزع عند قدومي إليه. وأخذ بيدي ورفعني عن الأرض قائلاً: ميرزا! لقد سمعتك وأنت تناجي نفسك فاتبعني. وقادني بعد إذ إلى نقطة في الصخرة وأوقفني فيها وقال: ألق(870/19)
بنظرك إلى الشرق واخبرني ماذا ترى؟ قلت: أرى وادياً عظيماً يمر فيه تيار هائل من الماء. قال، ' ن هذا الوادي هو جزء من تيار الأبدية العظيم. فسألته ما السبب في إن التيار الذي أراه ينبع من ضباب كثيف من طرف، ثم يتلاشى في ضباب كثيف في الطرف الآخر؟ قال؟ إن ما تشاهده هو ذلك القسم من الأبدية الذي ندعو بالزمن ونقيسه بواسطة الشمس، ويمتد من بداية الدنيا إلى نهايتها. حدق الآن في هذا البحر الذي تكتنفه الظلمات من جميع جهاته وأخبرني هما تجد فيه. . إنني أرى جسراً في منتصف التيار. قال: إن هذا الجسر الذي تراه هو حياة البشر، فإنظر إليه جيداً. وبعد إعادة النظر الدقيق وحدته مؤلفاً من ستين دعامة وعشر أخرى منفردة وبعض الدعامات المخربة التي إذا أضفناها إلى تلك تجعل المجموع يربي على المائة. وفيما كنت أحصي الدعامات أخبرني الجني أن الجسر كان مؤلفاً في البداية من ألف دعامة، ولكن فيضاناً مدمراً جرفها وترك الجسر في حالة الخراب التي تراها. فسألني عما أجد فوقه فقلت: أرى جمهوراً من الناس يمرون عليه وأرى سحابتين سوداوين معلقتين فوق نهايته. وبع أن أعدت النظر ثانية رأيت بعض السائرين يسقطون من الجسر إلى التيار الهائل الذي تدفق في أسفله. وبعد كثير من الفحص والتدقيق لاحظت مزالق لا تعد وضعت في الجسر بصورة خفية، وحينما يطأها المارون يسقطون منها إلى التيار فيبتلعهم حالاً ويختفون. وكانت هذه الفتحات الخفية واسعة عند مدخل الجسر بحيث أن كثيراً من الناس كانوا يسقطون فيها حال خروجهم من الغيوم. وتأخذ في الضيق عند منتصفه ولكنها تتضاعف وتقترب من بعضها عند اقترابها من نهاية الدعامات المنفردة. لقد وجدت أن عددا قليلاً جداً من الناس هم الذين استطاعوا الاستمرار في سيرهم نحو الأعمدة المخربة ثم سقطوا تباعاً منهوكي القوى متعبين من ذلك السير الطويل.
وقضيت بعض الوقت في تأمل ذلك البناء العجيب وما بان فيه من مواضع مختلفة غريبة. وقد ملأ قلبي الأسى لرؤية بعضهم يسقطون على حين غرة وهم في أوج السعادة والمرح فيتشبثون بكل ما تقع عليه أيديهم لإنقاذ أنفسهم.
وكان بعضهم ينظر إلى السماوات غارقاً في تفكير عميق، وفي خلال تلك التأملات والذهول يتعثر ويسقط ثم يتوارى عن النظر.(870/20)
وكانت الجماهير منهمكة في اللحاق بالدمى التي كانت تشع بالنور في عيونهم وترقص أمامهم، وعند ما يحسبون أنهم بالغوها تزل أقدامهم فيقعون في العمق غارقين. وبين هذه الأشياء المحيرة لاحظت إن بعضهم يحملون سيوفاً وآخرين يحملون مباول وهم يروحون ويجيئون فوق الجسر يدفعون بعض الناس خلال المزالق التي لا تبدو واضحة في طريقهم والتي قد ينجون منها لو لم يدفعوا إليها قسراً.
ولما رأى أنني منهمك في تتبع هذا المنظر المحزن أخبرني أنني قد تأملت طويلاً وقال: حول عينيك عن الجسر واسألني عن الشيء الذي لم تدركه. فسألته وأنا مصوب نظري إلى العلاء عما تعني تلك المجموعة من الطيور التي تحوَّم بصورة مستمرة فوق الجسر وتقف عليه من حين إلى آخر؟ إنني أرى نسوراً وعقباناً وغرباناً، وكثيراً من المخلوقات المجنحة، أرى بينها صبياناً مجنحين يجثمون مزدحمين في وسط الأعمدة. قال الجني: هؤلاء هم الحسد والطمع والخرافات واليأس والحب وما شابهها من المطامع والآلام التي تفيض بها حياة البشر.
وند عن صدري تنهد عميق وقلت: يا للأسف! لقد خلق الإنسان سدى. يدفع للشقاء ثم للفناء. يعان يفي حياته المضنية الآلام الجسام ثم ينقض عليه الموت ويزدرده، لقد تحركت الرأفة في قلب الجني فأمرني أن أترك هذا المنظر المؤلم قائلاً كف عن النظر إلى الإنسان في أول مرحلة وجوده ومسيره إلى الأبدية، وسرح طرفك في ذلك الضباب الكثيف الذي يحمل التيار إليه الأجيال الفانية، فنقلت بصري إلى حيث أمرني (ولا أدري هل كان الجني الطيب قد بعث فيه قوة فوق العادة أو أزاح قسماً من الضباب الذي كان يبدو أولاً شديد الكثافة حتى لا تستطيع العين اختراقه).
رأيت الوادي ينفتح من نهاية القصية إلى محيط عظيم في وسط صخرة من الناس تقسمه قسمين متساويين، ولا تزال السحب تغطي نصفاً منه بصورة لم تدعني أكتشف شيئاً منه. أما النصف الثاني فكان يبدو جلياً كمحيط كبير تناثرت فيه جزائر لا يبلغها المد مزروعة بالفواكه والرياحين يفصلها عن بعضها آلاف من البحار الصغيرة المتلألئة. وكان في استطاعتي أن أرى أناساً عليهم ثياباً من سندس وإستبرق تزين رؤوسهم الأكاليل يتريضون خلال الأشجار ويتمددون عند المنابع الصافية أو يستريحون إلى فراش من الأزاهير.(870/21)
وسمعت أنغاما ساحرة مشوشة من تغريد الطيور وخرير المياه وأصوات بشرية وآلات موسيقية. فملأ هذا المنظر البهيج روحي بالسعادة ونفسي بالأمل وتمنيت لو كان جناحا نسر لأطير إلى هذا الوادي السعيد؛ ولكن الجني أنبأني أن الطريق الوحيد إليه طريق الموت الذي كنت أراه يفتح في كل لحظة فوق الجسر. واستطرد قائلاً ' ن خلف هذه الجزر التي تبدو لعينيك نقية خضراء نملأ وجه المحيط بعددها الذي يفوق ذرات الرمل على ساحل البحر، تمتد عشرات الآلاف من الجزائر حيث لا يدركه نظرك أو تتصوره مخيلتك تلك هي مساكن الصالحين بعد الموت يحلون بها تسربلهم السعادة السرمدية ويحف بهم السرور الدائم كل حسب ما قدم وأخر وما امتاز به من فضيلة ومنزلة وهم موزعون على الجزائر التي تعمها المسرات المتنوعة موافقة حسب ما يشاءون وما يلذ لهم لإتمام هناءتهم فيها. وكل جزيرة فردوس أعد للأبرار الأطهار من بني البشر. فهلا تستحق هذه المساكن يا ميرزا النضال لفوز بها؟ وهل تبدو الحياة مفعمة بالتعاسة وهي تعطي هذه الفرص لنيل مكافئة كهذه؟ وهل الموت مخيف وهو الذي يحملك إلى هذه الحياة الطليقة التي لا يعكر صفوها كدر؟ فلا تحسب إن الإنسان خلق سدى، وفي انتظاره تلك الحياة السرمدية. وحملقت بتلك الجزر وقلبي مفعم بسعادة لا يحدها حد. وأخيراً رجوته أن يكشف لي عن السر الذي يكمن خلف الغيوم التي تحجب الطرف الآخر من صخرة الماس.
فلم يجبني الجني فالتفت بعد لحظة إليه لأكلمه فلم أجده؛ واستدرت إلى المنظر الذي تأملته ذلك الوقت الطويل فرأيت بدلا ًمن التيار الموار وأعمدة الجسر والجزر السعيدة وادي بغدات العريض تمر فيه الثيران وقطعان الغنم والجمال ترعى الكلأ في دعة وأطمئنان.
ماهرة النقشبندي(870/22)
الجارم الشاعر
الأستاذ عبد الجواد سليمان
وعدت القراء أن أعود إليهم على صفحات الرسالة الغراء لنجول جولة مع الجارم في شعره علناً نعطي صورة ولو تقريبية لمقدار حظه من هذه الموهبة الشعرية التي يسكبها الله في بعض قلوب عباده فيلهمون القول، ويتفرجون بفيض من الحكمة يصوغونه نظيماً شعرياً يتفاوتون في بلاغته تفاوتاً يخضع لنصيب كل شاعر من التهيؤ والملكة وسعة الإطلاع، فإن الشعر عاطفة وفكرة، وإحساس وخيال، أو هو كما عرفه بعض الغربيين بأنه (الحقيقة التي تصل إلى القلب رائعة بوساطة العاطفة) أو هو (عرض البواعث النبيلة وساطة الخيال):
أو هو كما يقول الجارم نفسه: -
الشعر عاطفة تقتاد عاطفة ... وفكرة تتجلى بين أفكار
الشعر ' ن لامس الرواح ألهبنا ... كما تقابل تيار بتيار
الشعر مصباح أقوام إذا التمسوا ... ثورة الحياة وزند الأمة الواري
الشعر أنشودة الفنان يرسلها ... إلى القلوب فيحيا بعد إفقار
والباحث في شعر الشاعر لن يصل إلى نتائج صحيحة أو يأتي بحثه قريباً من كبد الحقيقة إلا إذا كان (ديوان الشاعر) أمامه لا يفارقه لحظة، يقلب صفحاته، ويتنقل بين قصائده وينعم النظر بين أبياته، ويطيل التأمل والوقوف عند كل معنى من معانيها مراعياً في تقديره وإصدار أحكامه للشاعر أو عليه كل ما أحاط به من ظروف وملابسات خاصة وعامة عندما نظم قصيدته؛ ومقدراً المناسبة التي قالها فيها والغرض الذي يرمي إليه، ثم يخلص من ذلك إلى الجمع بين المتشابه، والتأليف بين المتقارب، ثم يستنبط جمعه ما هو بصدد الوصول إليه من حقائق عامة ونظريات أدبية هامة، ويسوق من شعر الشاعر الشواهد التي تؤيد دعواه، ومن النقاد السابقين أدلة تدعم قضاياه.
والجارم في ثقافته وسط بين المدرسة القديمة التي يمثلها القدامى من أدباء دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وهما مشتقتان من مصدر الأزهر: وهذه المدرسة القديمة ترتكز في دراستها على القرآن وحديث الرسول والآثار القديمة من دواوين الشعراء في عصور(870/23)
العربية الزاهرة، وكتب الناقدين من أضراب عبد القاهر وأبن رشيق والآمدي والعسكري وغير هؤلاء؛ والمدرسة الحديثة التي يمثلها الأعلام ممن تعلموا تعليماً مدنياً وجنحوا في دراستهم إلى الآداب الغربية ينهلون من حياضها ممن هم على شاكلة لطفي السيد وقاسم أمين وفتحي زغلول ومن سار سيرتهم واهتدى هديهم.
فجاء الجارم في شعره حلقة الاتصال بين المدرستين، ينظم في الحوادث الجلي والمناسبات التاريخية فتسمع فيه شعراً فيه الطابع البدوي والموسيقى العربية، والألفاظ المنتقاة فتخاله رجعياً قديماً وتحسبه ما يقول إلا معاراً، ثم لا تلبث أن تسمعه ثانية فتسمع شاعراً متصرفاً في شعره سامياً في خياله فتلمح روح العصر قد بدا ناطقاً في قصائده مرئياً في أبياته.
فهو مثلاً في إحدى مدائحه الملكية عليه آثار المدرسة القديمة وتأثره بمهج القدماء من الشعراء عندما يقول: -
أقبس الروح من شعاع الراح ... والثم الحسن في جبين الصباح
وأبعث اللحن من سمائك ياش ... عر ونافس به ذوات الجناح
وانهب الحسن من خدود العذارى ... واسرق السحر من عيون الملاح
إلى أن يقول: -
إيه يا شعر أنت سلوى في الدنيا ... إذا ضاق بي فسيح البراح
وفي مثل هذه المناسبة وفي قصيدة أخرى يطل عليك الجارم من مدرسته الحديثة فتبدو على شعره سمات الثقافة الغربية ودراسته الحديثة فقول في الفاروق: -
هو الأمل البسام رف جناحه ... فطارت به من كل قلب بلابله
هو الكوكب اللماح يسطع بالمنى ... وتنطق بالغيث العميم مخايله
ترى بسمة الآمال في بسماته ... وتلمس سر النبل حين تقابله
يفديه غصن الروح ريان ناضراً ... إذا اهتز في كف النسائم مائله
فإن الأمل البسام، وطيران البلبل من القلوب، وسطوع الكواكب بالمنى، وبسمة الآمال واهتزاز الغصن المائل في كف النسائم، وجريان (النسائم) على هذا الوزن في الجمع كلها من التعبيرات العصرية، ووليدة اصطلاحات المدرسة الحديثة في اتجاهات دراستها.
والجارم في كل شعره أو على الأقل في الغالب الكثير منه لا تكاد تفارقه هذه الصفة التي(870/24)
يمثل فيها مدرستي الأدب القديمة والحديثة ويصل بينهما ما يكاد ينقطع.
وهناك صفة أخرى يتميز بها الجارم في شعره، تلكم هي (قدرته على التصرف) في نظمه في مختلف الأغراض، ولعله اكتسب هذه الميزة من كثرة ما قرأ وطول ما توفر على الدراسة والبحث مع حسن استعداد وصفاء وطبع وإدامة النظر في أشعار من سبقوه، ولن تكفي مطلقاً لخلق شاعر حسن التصرف كثرة القراءة وحدها؛ فما أكثر من المكثرين من القراءة، ولكن ما أقل من نجده من بينهم قد توافرت له أداة حسن التصرف في القول؛ بل لابد أن يعزز كثرة القراءة تهيؤ من خيال خصيب وذوق سليم وطبع صاف على نحو ما قال الجرجاني (إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان) أو على نحو ما يقول بكر بن النطاح (الشعر مثل عين الماء إذا تركتها اندفنت وإن استهنتها هتنت) وكما يقول أحمد حسن الزيات في كتابه (دفاع عن البلاغة) (ىلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب).
فالجارم الذي يجود خياله بصورة للحرب العظمى تعج بالدماء وتتطاير فيها الأشلاء فتشبع منها العقبان في البر والحيتان في البحر، وتعبر عنها هذه الأبيات: -
طاحت بأهل الغرب نار الوغى ... وهبت الريح بهم زعزعا
طاف عليهم بالردى طائف ... فاخترم الأنفس لما سعى
وصاح فيهم للنوى صائح ... فصمت الأسماع مذ أسمعا
قد غصت الأرض بأشلائهم ... وأصبح البحر بهم مترعا
وآن للعقبان أن تكتفي ... ولآن للحيتان أن تشبعا
هو نفسه الجارم الذي يلين ويرق فيسيل ظرفاً وحلاوة في لهو - لحسن تصرفه - فيقول: -
يا سارقات الصبح طال ليلي ... فديتكن بعض هذا الدل
هل جاز في دين الغرام ذلي ... من لي بأن ألقى الصباح من لي؟
باللمح أو باللمس أو باللثم
فيكن ذات حسب ودين ... مشرقة الطلعة والجبين(870/25)
كأنها إحدى الظباء العين ... من عاذري فيهن من معيني
عيل بها صبري وطاش حلمي
حديثها سلافة النديم ... وخلقها تواضع اليتيم
فديتها من ملك كريم ... تعرف فيها نظرة النعيم
أنقى وأصفى من نطاف الغيم
وإن المعاني التي تتضمنها هذه الأساليب (سارقات الصبح، دين الغرام، طاش حلمي) من المعاني البديعة المبتكرة التي تدل على حسن تصرف الشاعر. وإن تشبيه الحديث بسلافة النديم والخلق بتواضع اليتيم، من التشبيهات الجليلة الرائعة.
وهو نفسه الجارم الذي يبكي أمير الشعراء (شوقي) ويصور فجيعة مصر والشعر فيه تصويراً مقدرة الجارم على التصوير الشعري فيقول: -
مات يا طير صادح تسجد الط ... ير إذا رجع الصدى تحنانه
نبرات تخالها صوت داوو ... د بلفظ تخاله تبيانه
مات شوقي وكان أنفذ سهم ... صائب الرمي من سهام الكنانة
أبك للشمس في السماء أخاها ... وإبك للدهر قلبه ولسانه
وابكه للنجوم كم سامرته ... مالئات بوحيها آذانه
وابك للروض واصفا ًيخجل الرو ... ض إذا هز باليراع بنانه
وابكه للخيال صفوا نقياً ... إنه كان في الورى ترجمانه
ملأ الشرق موت من ملأ الشر ... ق حياة وقوة وزكانه
ثم ينتقل بحسن تصرفه - من تصوير هول المصيبة بوفاة شوقي وخسلرةمصر والشرق العربي فيه، إلى تصوير قومية شوقي وحبه لمصر وتعلقه بكل ما هو مصري من نبل وخضرة وخمائل، وأنه يعشق من أجل مصر النيل والجزيرة وجسر إسماعيل وعين شمس و. . . و. . . فيقول: -
كان صبا بمصركم هام شوقاً ... برباها وبثها أحزانه
دفن اللهو والصبا في ثراها ... وطوى من شبابه عنفوانه
هي بستانه فغرد فيه ... وحبا كل قلبه بستانه(870/26)
يحرس الفن في ظلاله نواحيه ... ويرمي عن دوحه غربانه
يعشق النيل والخمائل ته ... تز بشطيه خضرة ولدانه
يعشق النيل والجزيرة تغر ... يه وقد لف حولها أردانه
يعشق الجسر والسفائن تهفو ... حوله كالحمائم الظمآنة
ويحب السواد من عين شمس ... ملئاً من روائه أجفانه
ثم يطلع علينا الجارم بعد ذلك بصورة جديدة - دون أن يعدم سعة الحيلة وحسن التصرف - صور فيها شوقي إماماً لمن ينشدون الخلود ومثلاً أعلى لمن يتوقون لحسن الذكرى وطيب الأحدوثة يحتذ به كل من تصبو نفسه إلى ذلك فيقول: -
هكذا كل من يريد خلوداً ... يجعل الكون كله ميدانه
هكذا فليسر إلى المجد من يشا ... ء ويرفع بذكره أوطانه
ثم يلم بأخلاق شوقي بأبيات ستة يجمع فيها مكارم الأخلاق التي يتسابق أعزاء الرجال في تحصيلها لتزداد بها عزتهم حصانة وقوة فيقول: -
خلق كالندى وقد نقط الز ... هر فحلى وشي الرياض وزانه
وصبا يملأ الزمان ابتساماً ... وحجا يملأ الزمان رزانة
وسماح يلقى الصريخ بوجه ... تحسد الشمس في الضحى لمعانه
شمم في تواضع وحياء ... في وقار وفطنة في لقائه
وحديث حلوه روعة الشعر ... فلو كان ذا قواف لكانه
ويقين بالله ما مسه الضعف ... ولا طائف من الشك شانه
ثم ينتقل بعد ذلك - وعماده حسن تصرفه - إلى مناجاة شوقي في حنان شعري وأسف على فراقه ودعاء له من قلبه مع اعتذار واعتبار قائلاً: -
أيها الراحل الكريم لقد كن ... ت سواد العيون أو إنسانه
نم قليلاً في جنة الخلد وانعم ... برضا الله واغتنم غفرانه
كيف يوفى الشعر من ملك الشع ... ر وألقى لغيره أوزانه
ورثاء البيان جهد مقل ... للذي خلد الزمان بيانه
نهج من المناهج القويمة السليمة رسمه الجارم بطبعه الشعري الأصيل وسار عليه فكان(870/27)
موفقاً فيما نظم من قصيدة. أليس هو النهج الذي رسمه عبد العزيز الجرجاني للشاعر وأوصاه بالتزامه ليسلم من الزلل فقال (ولا أمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه بل أرى أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبكائك ولا هزلك بمنزلة جدك. . .
بل ترتب كلامك مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف؛ ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام؛ فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به طريق لا يشاركه الآخر فيه).
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(870/28)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية
(3) مناهج الأدلة لأبن رشد
الأستاذ كمال دسوقي
والبحث الثاني في بعث الرسل ذو شقين: الأول إثبات الرسالات - والثاني في أن قد جاء بها إلى الناس واحد منهم ويجب تصديقه. وهذا أيضاً قد أراد المتكلمون إثباته بالقياس والحكم من الشاهد إلى الغائب بأن قالوا إن من حق الملك القادر المريد المتكلم أن يبعث رسولاً إلى عباده، كما أن من واجب الناس متى ظهرت على الرسول علامة الملك وصدق الدعوى أن يصدق ما جاء به. ويعترف أبن رشد أن هذا الدليل (ظهور المعجزة) مقنع ولائق بالجمهور وهو مقصد الشرع - ولكنه يناقش ما يكتنفه من اختلال في أصوله ككيفية معرفة صدق الرسالة بأن يقول لنا الشرع على لسان الله إن من علامات رسلي كذا وكذا - أو أن يستدل العقل من تلقاء ذاته على صحة هذه المعجزة. أما الأول فمحال، وأما الثاني فله مقدمتان: هذا الرسول قد أظهر معجزة: كل من أظهر معجزة فهو نبي - فصدر المقدمة الأولى الحس والتسليم بأفعال حقيقية (لا خيالية ولا وهمية) تظهر على أيدي المخلوقين لا بسحر أو شعوذة - وصحة المقدمة الثانية تتبنى على الاعتراف بوجود الرسل في المقدمة الأولى وبالتأكد من حقيقة المعجزة وصاحبها. ويحمل أبن رشد على مبدأ جعل إرسال الرسل جائزاً في العقل - فإن الجواز جهل وتشكيك في المقدمة الثانية يجعل أن المعجزة يمكن الإحساس بها أو امتناع تصديقها - وباعث الرسول يمكن أن يكون زيداً أو عمراً - فمن طبيعة الجائز أن يكون أو ألا يكون - ونحن نسلم بطرف منه لأنه الذي حدث فعلا ًبينما نجهل الآخر - وكون ما حدث من طرفيه قد كان أولى من الآخر يجعله بعد حدوثه ضروريا وواجباً. وهذا ما يريد لأبن رشد؛ فإن العقل حتى مع هذه الضرورة والوجود لن يأخذ المعجزة دليلاً على الرسالة - مهما كان إلهياً - غل بأن يعتقد أن مثل هذه الخوارق لا تحدث إلا من فاضل غير كاذب ول ساحر. ويعمد فيلسوفنا بعد هذا التطبيق على رسالة الإسلام ومعجزة القرآن - وكونها رغم أنها من جنس الأفعال المعتادة معجزة بنفسها لا يصرف الناس عن الإتيان بمثلها يعني أنها السهل الممتنع.
ويحاول أخيراً إثبات صدق نبوة محمد (صلعم) بحجة من مبدئين: (1) تواتر الرسل قبله(870/29)
(2) أن هؤلاء يعلمون الناس بوحي من الله وينتهي من تواتر وجودهم وصدق معجزاتهم إلى إثبات نبوتهم (98 - 100).
وعند بحثه للمسألة الثالثة في القضاء والقدر (104) يبين أنها مشكلة عويصة تتعارض فيها دلائل السمع وحجج العقول.
فمن الآيات ما يدل على أن كل شيء بقدر وأن الإنسان مجبور على أفعاله بينما هناك آيات توضح أن للإنسان اكتسابا بفعله وأنه ليس مجبوراً على أفعاله. وربما يظهر هذا التعارض في الآية الواحدة. ولهذا انقسم المسلمون إلى فرقتين: (1) المعتزلة التي اعتقدت اكتساب الإنسان لأفعاله. (2) والجبرية التي تناقضها بالقول إن الإنسان مجبر على أفعاله.
أما موقف الأشاعرة فكان كعادتهم دائماً التوفيق بين الآراء فوافقوا أن الإنسان كسباً ولكن المكتسب والكسب مخلوقان لله. . والإنسان بقولهم هذا لابد مجبور على اكتسابه. وهذا هو سر الاختلاف في هذه المسألة. فمع تعارض السمع تتعارض أيضاً الأدلة العقلية. . فإذا فرض وخلق الإنسان أفعاله فمعنى ذلك أن هناك أفعالاً لا تجري على مشيئة الله، فكأن هناك خالقاً غير الله، في حين أن المسلمين أجمعوا أن لا خالق غيره. . وإذا فرض أنه مجبور فلا وسط هناك بين الجبر والاكتساب.
لكن أبن رشد يرى أن الشرع إنما قصد الجمع بين الاعتقادين على التوسط إذ أن الأفعال المنسوبة إلينا إنما تتم بإرادتنا مع إرادة الله. . وما الإرادة إلا شوق يحدث لنا عن الأمور التي من خارج والتي سخرها الله. فأفعالنا تجري على نظام محدود لأنها مسببة عن تلك الأسباب التي من خارج. وهذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج والتي خلقها الله داخل أبداننا هو القضاء والقدر. . الذي كتيه الله على عباده ولا يعلم بهذه الأسباب إلا الله وحده الذي عنده علم الغيب (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية. فبهذا يكون من الواضح أن لنا اكتساباً وأن جميع مكتسباتنا بقضاء وقدر سابقين.
. . وتناول في البحث الرابع مسألة الجور والعدل. وقد جاءت الشعرية في هذا الصدد بضد ما صرح به الشرع فزعموا أنه إنما أتصف بالعدل والجور لمكان الحجر الذي عليه في أفعاله من الشريعة. فمتى فعل الإنسان شيئاً هو عدل بالشرع كان عادلاً. . والضد صحيح. ومن ليس مكلفاً فلا يوجد في حقه فعل هو جور أو عدل وذهبوا من ذلك أنه ليس(870/30)
ثمة شيء عدل في نفسه أو جور في نفسه، وهذا عند أبن رشد خطأ فاحش؛ لأنه لا يوجد خير وشر كل بذاته. . فكيف لا يكون الشرك بالله جوراً ولا ظلماً إلا من جهة الشرع، وانه لو ورد في الشرع باعتقاد الشريك كان ذلك عدلاً. . وهذا خلاف المسموع والمعقول وصدق الله حين وصف نفسه في كتابه ونفى الظلم عن ذاته العلية (وما ربك بظلام للعبيد) أما قوله أنه يظل من يشاء ويهدي من يشاء فلا يحمل على معناه الظاهري , وإنما المشيئة التي تهيئ قوماً للظلال بطبعهم وليس في هذا جور، لن حكمة الله اقتضت أن يكون بعض الناس أشراراً بطبائعهم. . والأسباب المترتبة من خارج لهداية الناس قد تكون مظلة لبعضهم. وإنما أراد الله بهذه الآيات المتعارضة أن يبين أنه خالق كل شيء الخير والشر. . لكنه يخلق الخير لذات الخير. ويخلق الشر من أجل الخير؛ وعلى ذلك يكون خلقه للشر عدلاً منه ولعل مثال النار أصدق الأمثلة على صحة هذا القول.
ولكن شتان بين عدل الله سبحانه وتعالى وعدل الإنسان. فالإنسان يعدل ليستفيد بالعدل خيراً في نفسه. . وتعالى يعدل أن ذاته تستكمل بذلك العدل بل لأن الكمال الذي في ذاته اقتضى أن يعدل. ز
أما المسألة الخامسة ففي المعاد وأحواله. ز اتفقت كافة الشرائع في جوهر وجود المعاد وإن كانت قد اختلفت في الصور التي مثلت بها للجمهور. . فمن الشرائع ما جعله روحانية للنفوس ومنها ما جعله الأجسام والنفوس معاً.
اتفق على أن للإنسان سعادتين أخروية ودنيوية. ولما كان الإنسان أشرف الموجودات، وأنه غاية الإنسان التي تميزه دون سائر الحيوان إنما في الحياة الناطقة، فالنفس الناطقة جزءان جزء عملي وجزء علمي. ولأجل كمال الإنسان يجب أن هذين الجزئين الفضائل العلمية النظرية أي الخيرات والحسنات. وقد نصت الشريعة بتقرير هذه الأمور فعرفت من الأمور النظرية معرفة الله والملائكة والموجودات الشريفة والسعادة.
إذا كانت النفوس زكية يتضاعف زكاؤها عند الموت. . وإذا كانت خبيثة زادت خبثاً. . ولقد اتفقت الشرائع أيضاً في تعريف هذا الحال للناس وتسميتها السعادة الأخرى والشقاء الآخر. . ومن الشرائع ما لم تمثل هذه السعادة وذلك الشقاء إنما صرحت بأحوال روحانية. . ومنها ما مثلت بالمحسوسات لتكون أشد تفهيماً للجمهور فمثلت مكاناً تنعم فيه الأجساد هو(870/31)
الجنة وآخر تقاد فيه الأجسام الشقية هو النار. . وذلك مثل شريعتنا الغراء فهي أتم إفهاماً لأكثر الناس وأكثر تحريكاً لنفوسهم لأن التمثيل الروحاني لا يثير نفوس الجمهور مع أنه يقبل عند المتكلمين المجادلين.
وبحسب فهم أصول المعاد ينقسم أهل ملتنا ثلاث فرق: الأولى رأت أن ذلك الوجود واحد بالجنس وإنما يختلف الوجودان بالدوام والانقطاع. . وأخرى اعتقدت بروحانيته. . وطائفة رأت أنه جسماني غير أن الجسمانية تختلف عنها الآن لأن هذه بالية وتلك باقية. ولكن الكل مجمع على بقاء الجنس (ص123) وأن الله سوى بين النوم والموت في تعطيل فعل النفس.
وقبل نهاية الكتاب نرى فيلسوفنا يعرج على ما يجوز تأويله شرعاً وما لا يجوز. وهو يرى ألا يصرح بالتأويل وبخاصة ما يحتاج إلى برهان لغير أهله وهم القادرون على البرهان والاستدلال بالمنطق. فتمثيلنا للعامة نعيم الآخرة بالجنة وأنهارها وفاكهتها أجدى في الحث على الفضيلة من أن نشككهم في الجزء المادي.
وهو برى أن من النصوص ما يجب على أهل البرهان تأويله وإلا كفروا. . كما يجب على العامة على الظاهر وتأويله كفر.
كمال دسوقي(870/32)
دمعة الحسناء
الأستاذ حسن كامل الصيرفي
دموعك أغلى من أمنيات ... فصوني دموعك يا غالية!
ولا تحزني للغيوم الثقال ... تمر بأجوائك الصافية
ولا تحسبي ظلمات الحياة ... تمتد أمواجها الطاغية
فشمسك تحلم في خدرها ... بهجة غدوتها الصاحية
ستنفض عنها خمول الدجى ... وتنهض سافرة لاهية
وترسل فوق عراء الوجود ... خيوط أشعتها كاسية
وتوقظ من غمرات السكون ... أمانيك الحلوة الغافية
وتختال في موكب من ضياء ... تبدد أشجانك الداجية
صباحك ينبوعه القدسي ... يفيض على روحي العافية
فكيف تظنين أن الظلام ... ستخلد رايته الساجية
يد الفجر تعقل ما ترهبين ... وتطلق أطيارها الشادية
وتمسح أعيننا الدامعات ... وتشفى جراحاتنا الدامية
* * *
رأيتك تبكين في غشية ... من اليأس موحشة قاسية
كأنك زنبقة في الدجى ... تقطر أنداؤها الباكية
فأحسست كف الظلام العتية ... تطفئ أحلامي الزاهية
تمزق ستر الدجى والسكون ... وتقلق أنجمه الراعية
وتعث في خفقات القلوب ... كوامن أشجانها الماضية
فذودي عن النفس أشجانها ... تعيدي ابتسامتك الشافية
وإن عبست في السماء الغيوم ... فضني بأدمعك الغالية
فما قطرات دموع الحسان ... سبحة الخالق السامية
إذا فرطت حبة من عراها ... تدك لها الأجبل الراسية
وتغلق أبواب فردوسه ... وتنصب أنهارها الجارية(870/33)
وتسكت أطيارها الصادحات ... وتخفت أصداؤها السارية!(870/34)
غيوم
للأستاذ إبراهيم الوائلي
في ظلال الكروم ترقد كأسي ... وعلى الشاطئين مشرق أنسي
ومع الطير والنسائم يمر حسن ... على الزهر بين لثم وهمس
كان أمسى معطر الأفق نشوا ... ن فيالي وبالأحلام أمسي
صور لا تزال تخفق في قلبي ... وتنساب في قرارة حسي
أتملي بها مع الفجر طيفاً ... وأناجي ظلالها حين أمسي
أيها الغارس الكروم وحسبي ... منك في الشاطئين أفضل غرس
سائل الظالم عن تهاويم روحي ... وتأمل على البراعم نفسي
كرمتي والضفاف والزورق الن ... شوان يجري مع النسيم ويسري
والندامى وربة الشعر والأرغن ... والحالمات في طيف عرس
عالم كان لي وعاد ضباباً ... يترامى على مواكب يأسي
نغمة هومت على الليل سكرى ... ثم أغضت على بقية جرس
وتلاشت مع الرياح وذابت ... ذوبان الندى بلفحة شمس
أين مغنى الهوى - أين دنيا السم؟
أين تلك الضفاف ... حاليات الصور؟
والبيع الوريف ... فتنة للنظر
وانعطاف الغصون ... دانيات الثمر
وائتلاق النجوم ... في ظلال القمر
والرحيق المذاب ... نهلة للبشر
عالم كان لي ... وامحى واندثر
جف دمع الكروم ... مات لحن الوتر
* * *
ما جنى الزهر في البراعم حتى ... كفنته لوافح وسموم؟
والطيور المنغمات فريعت ... وتلاشى الغناء والترنيم(870/35)
رصدتها الشباك من كل فج ... فهي في عالم الذهول تهيم
لا وكور تأوى إليها سوى الأشو ... اك تدمي والخاطفات نحوم
منسر يلتوي وينقض صديا ... ن وظفر مخلب محموم
يالدنيا من الجمال تعرت ... فإذا كل ما يلوح وجوم
جنت العاصفات فإنتثر الزهر ... وأغفت على الرمال الكروم
والغصون المهومات على النهر ... عراها الذبول والتحطيم
لا الينابيع مثلما كن بالأمس ... عذاب ولا النسيم نسيم
هجر الحقل شاعر الحقل واختا ... لعلى أيكه غراب وبوم
وانطوى الفجر في الضباب وحال ... ت دون إشراقة الصباح غيوم
فإذا الأفق ساهم الوجه مكدو ... د كأن الصباح ليل بهيم
أبن دنيا الهوى ... يابقايا الشباب؟
هل لما قد مضى ... رجعة أو مآب؟
فهزت العين حلسم ... توارى وغاب
في زوايا الربا ... في السواقي العذاب
في ارتعاش الكؤوس ... في غناء الرباب
ومضة أشرقت ... فاحتواها الضباب
فاشبحي يا جفون ... في الذماء المذاب
إن دنيا المنى ... خفقة من سراب
إبراهيم الوائلي(870/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تأبين الأستاذ علي محمود طه بالمنصورة
كان يوم الخميس الماضي يوم وفاء المنصورة لأبنها الذي أنجبته وأهدته إلى عالم الشعر والخلود، شاعر مصر الراحل المغفور له علي محمود طه. فقد نظمت جماعة الأدباء هناك حفلاً لتأبينه لم يكن مقصوراً على المنصوريين، بل قصد إليه من القاهرة جمع من الأدباء والكبراء كما خفت إليه أسرة تحرير (الرسالة) في صحبة أستاذنا الكبير الزيات.
وحججتا إلى البلد الجميل الذي أنبت صديقنا الفقيد لنلقى روحه الهائم على منبته ومثواه. وقد رأيت المنصورة لأول مرة فأحسست كأني آلفها من قبل كما أحسست عند أول لقاء للصديق الراحل. وفد عدنا منها وما زال خيالها ماثلاً في نفسي، كما أن روح عزيزنا الشاعر سيظل خالداً في عالمنا خلود شعره وذكراه.
نظمت جماعة أدباء المنصورة حفل التأبين، وأشرف عليه الأستاذ علي بك الهاكع رئيس الجماعة ومراقب التعليم بالمنصورة، وكانت مشاركة وزارة المعارف متمثلة في رئيس الحفل وكلمة وزير المعارف وحضور الأستاذ أحمد خيري بك وكيل الوزارة وفي المكان نفسه وهو المدرسة الابتدائية، وهي التي تلقى فيها الشاعر الفقيد دراسته الابتدائية.
بدئ الحفل - بعد الافتتاح بآي الذكر الحكيم - برسالة بعث بها الأستاذ علي أيوب بك وزير المعارف الأسبق، أبدى فيها الأسف لعوائق حالت بينه وبين الحضور، وقال فيها: كان فقيدنا شاعراً بفطرته وطبعه، أديباً بإحساسه المرهف وعواطفه الجياشة وذوقه المصفى، إلا دراسته للهندسة قد تركت أثرها في أدبه وشعره، ومن هنا كان شغفه بالموسيقى ونزوله على ما يقتضيه حسن الأداء وجمال التوقيع، والموسيقي تمت إلى العلوم بأقوى سبب، بل إن هذه العلوم هي أساسها الأول ودعامتها الكبرى. وكانت له ميوله السياسية واتصالاته الحزبية، ولكنه أبى إلا أن يكون قومياً في شعره السياسي مثالياً فيما ينظم أو يقول.
وأشار الأستاذ الهاكع - في كلمته - إلى اعتزاز المنصورة بشاعرها الأصيل، قائلاً أن روحه الفنية لم تقبع في موطنه وإنما فاض بسحره على البلاد العربية وامتد إلى الغرب،(870/37)
فعلي طه إنسان عالمي، وسيظل شراعه الرمزي جائباً الآفاق إلى ما شاء الله.
وألقى الأستاذ عدلي الصيرفي كلمة سعادة عبد السلام فهمي جمعة باشا رئيس مجلس النواب، وقد عبر فيها عن شعوره نحو صديقه الشاعر وألمه لفقده.
وقام الأستاذ محمد سعيد العريان فألقى كلمة معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف، قال فيها: آسف كل الأسف لأن الظروف لم تتح لي أن أشهد اجتماعكم وأن أعرب عن حبي وإعجابي بالشاعر العظيم، وعن حزني وحزن الذين يتذوقون الأدب ويكلفون بالشعر الرفيع على فقده. وهي كلمة قصيرة تشبه الاعتذار بالبرقيات السخية. وقد كنا نود أن نسمع كلمة فياضة في علي طه من طه حسين عميد الأدباء ولكنا لم نظفر إلا بهذا الاعتذار العاجل والتقدير المجمل من معالي الوزير. . ونحن نكبر عميدنا أن نخليه من العتاب في هذا الموقف لعدم أداء ما كان يقتضيه. .
وتحدث أحمد حسن الزيات فتمثل في حديثه وفاء الصديق وجمال البيان مع وضوح الصورة التي رسمها الشاعر في عبارات موجزة موفية. وترى كلمة الأستاذ قي صدر هذا العدد من (الرسالة).
وكان ختام النثر كلمة حبيب الزحلاوي، قال: إن فقيدنا كان له إلى أحبابه المعجبين بشعره أحباب الخصوم، وإنه - الزحلاوي - كان من الفئة الثانية عذ خاصمه خصومة أدبية خلت من الشوائب. وليسمح لي الأستاذ الزحلاوي. وقد أشاد بالخصومة الأدبية وأثرها الطيب في الصداقة، أن (أخاصمه) في بعض ما جاء بكلمته من قوله الشاعر (أحببته في خلائقه وسجاياه في مرحه وبوهيميته. .) فالكلمة الأخيرة ذات ظلال غير لائقة بالمقام.
وقد جنح الأستاذ إلى القضايا بالعقلية أكثر مما عني بأن يندي كلامه بماء العاطفة. فجاءت كلمته غير خطابية. .
أما الشعر فقد ألقى منه ثماني قصائد للأستاذ محمد عبد الغني حسن وعلى الفلال ومحمد مصطفى حمام والسعيد يوسف والدكتور عزيز فهمي المحامي ومحمد فهمي عبد الغني سلامة والدكتور سعيد أبو بكر. وقد دل الشعراء في مجموعهم - لا جميعهم - على أن مكان الشاعر المحتفل بتأبينه لا يزال شاغراً. . فقد كان أكثر ما أنشدوا من الشعر الوسط وما دونه. .(870/38)
أما قصيدة الأستاذ عبد الغني حسن فهي جيدة، منها قوله:
يا أيها الملاح ما لك لم تعد ... الشاطئ المهجور بعدك مظلم
وقف الندامى فيه لم تهتف بهم ... شفة ولم يضحك بسامرهم فم
يترقبون هناك عودة شاعر ... قد لفه البحر الخضم الأعظم
وضعوا الأكف على العيون ليرقبوا ... وتنظروك على الرمال وخيموا
لكنما طال المدى بوقوفهم ... فاستوحشوا من بأسهم واستسلموا
قل للرفاق الحالين تيقظوا ... ودعوا الأماني الكواذب عنكموا
حلم من الأحلام عودة ذاهب ... لاتحلموا بمجيئه لا تحلموا
وكذلك كانت قصيدة الفلال، ومنها قوله:
على حسبك والذكرى مبرحة ... أني عجزت وعجزي فيك إكبار
يا فارس الشعر والجندول آتية ... وجرسها في مغاني الشرق سيار
ومالئ النيل آيات مخلدة ... كيف احتوتك ببطن الترب أشبار
ومنها:
يا ملهم الطير حلو السجع كيف ترى ... من بعد فقدك تحبي السجع أطيار
شبا يراعك كم في الطرس أطربها ... كأنه من فم القمري منقار
وإن كان لا يعجبني التشبه في البيت الخير، فالشاعر حقاً يكتب بشبا يراعه ولكن القمري.؟
على هامش الرحلة
ركبنا بعد انتهاء حفلة التأبين ودفعنا إلى قصر الأستاذ عميد الرسالة بضيعته القريبة من مدينة المنصورة. وان علينا في أول المر وجوم من ذكرى الفقيد الذي رحلنا للمشاركة في تأبينه ولكن كان معنا الأستاذ محمد مصطفى حمام. . . وكيف يكون معنا حمام ولا يتبدل هذا الحال؟ هذا الأستاذ الزيات الذي كان يغالب دموعه وهو يلقي كلمته في الحفل لم يلبث أمام غزوة حمام الفكاهية ان استسلم ونشط للإيناس، وزادت بشاشته إذ حللنا.
جعل حمام يحدثنا حديثاً عجباً من كل لون! ولكنه أفاض في الرواية عن جماعة من الظرفاء تميزوا بطابع خاص أو كان لكل منهم طابعه الخاص، ولكنهم يجتمعون في صفة مشتركة هي غزو مجالس الكبراء وكسب مودة هؤلاء وعطفهم ورفدهم بما يأتون من الملح(870/39)
وما يحسنون من الدعاية وأساليب التهريج، من هؤلاء من مات كالشيخ عبد الحميد النحاس ومنهم لا يزال على قيد الحياة ولا شك أن حياة هؤلاء جديرة بالكتابة عنها فهم يمثلون لوناً يشبه ما ذخرت به كتب الأدب من أمثال (الأغاني و (العقد الفريد) وغيرهما، وللكتابة عن هؤلاء المعاصرين قيمة خاصة من حيث ملابساتهم العصرية واتصالاتهم برجالات العصر الحديث، وما يقترن بذلك من مفارقات وطرائف في الأدب والسياسة والاجتماع. وقد أشرنا على حمام أن يكتب هذه الذكريات ويجمعها في كتاب أو كتب، ولكنه يقول: يخيل غلي أن الحديث عنهم لا يحلو إلا شفوياً. والواقع أن حمام يتقمص الشخصية التي يتحدث عنها ويضيف إليها نفسه. . فإذا حكى أن فلاناً قال فالقائل هو حمام!
وإذا رأى إن ما يقصه لم يحدث في المجلس التأثير المطلوب ارتجل ما يصل به إلى ما يريد من التأثير ناسباً إياه إلى من يتحدث عنه! فهو وضاع فنان لا يشق له غبار. . وكذلك كان الروات والمؤلفون في القديم على ما يخيل إلي. فأكثر ما نقرأه من قصصهم ونوادرهم موضوع، لم يقصد به الكتب وإنما قصد به الفن. ولك أن تعتبره خيالاً على نحو الواقع، يشبه في ذلك فن القصص العصري. ونعود إلى حمام وطرائفه التي أغرقنا في سيلها المتدفق. حكي عن أولئك الظرفاء أنه التقى في بلده بإمام المسجد، فرآه يحمل بعض العنب في قرطاس، فبادره بقوله: ما هذا يا مولانا؟ عنب! ولماذا لم تشتر بطيخة بدل هذا العنب؟ ألا تعلم ما للبطيخة من مزابا لا توجد في العنب أو غيره؟ عنك عندما تقصد إلى الفكهاني لشراء البطيخة، يقف لك في احترام وتقلب أنت البطيخ، فيراك الناس فيقبلون يجاملونك بانتقاء بطيخة جيدة، وبعد الشراء يأمر الفكهاني صبيه ليحملها وراءك وقد يتطوع لذلك أحد الناس وقد يكون وجهاء البلد. وفي هذه الحركة مظاهرة ذات شأن، إذ يعلم الناس إن الشيخ قد اشترى بطيخة! فأين من هذا آقة العنب التي تأخذها وتذهب لا يدري بها أحد. . .
وإنه لمن الوجاهة أن تسير وشيخ البلد يحمل لك البطيخة. وعندما تقترب من باب الدار تنادي: يا ولد! تعال خذ البطيخة. وتلتفت إلى حاملها قائلاً بأعلى صوتك: تفضل! والله تفضل! ولا تخش شيئاً فإنه لن يتفضل. وبذلك يسمع الجيران ويعلمون إن الشيخ كريم يدعو بعزم شديد، كما يعلمون أنه يبر أولاده فيشتري لهم البطيخ. . وتدخل البطيخة الدار فيهرع إليها الأولاد، هذا يركلها، وذا يدحرجها، وذاك يزاحم أخاه عليها، وذلك يصيح: بابا(870/40)
أتى ببطيخة! وأنت من وراء ذلك كله تنظر مغتبطاً، ثم تصيح: هاتوا السكين! ويكون قطع ثم قضم ونحت. ويبقى القشر واللب فالأول تقطعونه للدجاج أو تتفضلون به على دجاج الجيران، والثاني تجففونه وتقلونه وتتسلون به أنتم وضيوفكم نحو أسبوع. . . هكذا تقضون أسبوعاً حافلاً بالمرح والمسرة جديراً بأن يسمى (أسبوع البطيخة) فيا سيدنا الشيخ أين من هذا كله آقة العنب التي يلتهم كل منكم حبات منها فتذهب في الحال لا يبقى لها ذكر ولا أثر؟!
وشملت طرائف حمام نوعاً من الناس نراه ظافراً مقدماً عند الكبراء وغيرهم، ولا مزية لأحدهم ظاهرة ولا كفاية تبرر ما يلقونه من نجاح وتقدير، هذا أحدهم في مجلس رجل من رجالات الدولة يقول له صاحب المجلس وهو يعلم أنه لا يحسن شيئاً مما يطلب منه: أنشدنا قصيدة من شعرك.
لست شاعراً
قل لنا زجلاً
لا أقول الزجل
أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم
- لست من أهل القراءة
فيقول الكبير: إذا كنت لا تنظم الشعر ولا الزجل، ولا تقرأ القرآن مع ما أنت عليه من زي علماء الدين، فبأي حق تجلس معنا، يا. . . . وما بعد (يا) هو المزية التي من أجلها يجلس صاحبنا في مثل ذلك المجلس!!
وقد أعدى حمام بقية الأخوان، فصار الجميع يتسابقون في الدعاية والتندر. كنا في حديقة المنزل نمتع الأنظار بمرأى الأشجار والأزهار، ولكن الأستاذ حبيب الزحلاوي - وهو إلى أدبه تاجر حديد - لا يرفع طرفه عن (ماكينة) ملقاة في أحد الأركان، كل منا يسأل عن هذه الشجرة أو تلك الزهرة، أما الأستاذ الزحلاوي فيسأل عن (الماكينة) فيبادره الأستاذ أنور المعداوي: لماذا تسأل عنها؟. . . أتريد أن تشتريها! ويبدي الأستاذ كامل حبيب رغبته في شراء (ماكينة) مثلها فينعم الأستاذ الزحلاوي فيها النظر أنه يريد أن يشتريها ليبيعها للأستاذ كامل!(870/41)
ونمر ب (كوبري) المنصورة، فيتأمله الأستاذ الزحلاوي ويبدي ملاحظات عليه، فيقول له الأستاذ الزيات: أتريد أن تشتريه؟ وهذا (الكوبري) يسير القطار من فوقه فمن يشتره يكن القطار داخلاً فيه وبذلك يبذ من يشتري الترام!
ولا بني الأستاذ الزحلاوي عن النظر إلى ما يصادفنا في الطريق من الآلات الحديدية والتحدث عنها. . فيقترح عليه الأستاذ الزيات أن يبادل الأستاذ نقولا الحداد اسمه الثاني فيصير اسمه (حبيب الحداد) بعد استئذان الأستاذ نقولا الزحلاوي. . .
عباس خضر(870/42)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ كامل محمود حبيب
أنا يا سيدي من المعجبين بما تكتب وما تنشر، وقد أزداد إعجابي بهذه الصور التي ترسمها ريشتك الساحرة على صفحات الرسالة الغراء , والتي تنقلها من صميم الحياة والواقع.
غير أن قصتك الأخيرة (خيانة امرأة) كانت من غير الواقع أو هكذا خيل إلي، فقد تحدثت فيها عن مأساة رجل أحب فتاة مثقفة وتزوجها، ثم ساوره الشك في إخلاصها له فراقبها، ويروي قصة اكتشافه لخيانتها بقوله (ومرض رئيسي يوماً فتغفلت رفاقي في المكتب، وتسللت من الديوان، تسللت لأجد زوجتي في داري تجلس إلى رجل غريب على سريري في غرفة نومي، وأفزعني المنظر، فصرخت من أعماق قلبي (آه المرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه. وخرجت من الدار وقد ضاقت الأرض عليُّ بما رحبت وضاقت علي نفسي. . .)
وجاء إليك ينشد الحل فعرضت مشكلته على قرائك. أريد أن أسألك أهذه القصة من واقع الحياة؟ وهل هناك رجل يرى زوجته مع رجل غريب على فراشه. فلا تظهر آثار رجولته وغضبه إلا في خطاب يخاطب فيه نفسه بكلام يشبه الفلسفة؟ أهذا الرجل في الشرق أم في الغرب؟
السيد جليل السيد إبراهيم
بصرع , عشار
إلى سيدي وأستاذي كمال الدسوقي
كم كنت أتمنى أن يكون لي بيان الأدباء، وأسلوب الشعراء فإنظم لك من كلماتي تاجاً رقيقاً أضعه فوق رأسك المفكر!!
لقد كان لمقالاتكم القيمة أكبر الأثر في نفوسنا الغضة فأقبلنا على مسابقة الفلسفة بقلوب متعطشة بعد أن غرست في نفوسنا حب الفلسفة. وقيمة البحث والإطلاع.
وبالرغم من قيمتها العلمية الثمينة فقد كانت تحوي توجيهات كريمة وإرشادات نافعة، وحثاً إلى التعمق في البحث. وكم كان جميلاً حقاً أن توجهنا إلى المسابقة وتجعل لنا أسوة حسنة(870/43)
في فيلسوفنا العظيم لطفي السيد باشا إذ كان وزيراً للخارجية ولم تشغله مهام منصبة عن التعمق والتأليف. لقد كنت أنت نعم القدوة الحسنة؛ فإنك إلى جانب تأديتك تلك الرسالة النبيلة. وهي التعليم لا تألو جهداً في التعمق والبحث وتأليف تلك الدرر الثمينة في عالم الفلسفة! فجاء بحثك يا سيدي قيماً للغاية بعد أن نفحت فيه من روحك الوثابة، ونفثت فيه عصارة عقلك الجبار وحيويتك المتدفقة.
ولن أطيل الكلام يا سيدي، فإنك فوق أن تمدح، وفوق أن يثنى عليك. وإذا كان النهار في حاجة إلى دليل كان فضلك وعلمك في حاجة إلى بيان.
فإليك أتقدم بتلك الهمسة من شكري وتقديري. ويكفيك فخراً يا سيدي أنك خلقت عقولاً ناضجة تسعى إلى المعرفة وأوجدت نفوساً متعطشة للبحث.
فوزية مهران عيسى
طالبة توجيهية
حيرة مسجد
أنشئ من نحو عامين بمدينة الأقصر مسجد من أفخم المساجد وأعظمها رونقاً وهو تحفة نادرة المثال، فقد تواءمت فيه قداسة الدين وروعة الفن فكان آية واضحة تنم عن سمو وذوق متأتية سواء من اختمرت الفكرة في نفوسهم ومن أبرزها في عالم الحس، والعيان فهم جميعاً أحرياء بالشكر جديرون بأبلغ الحمد والثناء. ولئن كانت مدينة الأقصر بمظاهرها الفخمة وآثارها العظيمة ومعابدها الكثيرة وذكرياتها الحافلة بالمسجد إلا إنها قد ازدانت بهذا المسجد وازدادت به روعة وجمالاً، وذلك المسجد على ما به من مهابة وقداسة وما اجتمع إليه من جلال بهاء، معطل لم تقم فيه شعيرة من شعائر الدين؛ لأن جهات الاختصاص تتهرب عنه وتتبرأ منه، فوزارة الأوقاف لا تقبل الأشراف على إدارته لأنه لم تحيس عليه أعيان تتقي غلاتها بنفقاته ولا شيء من ذلك. ووزارة التجارة والصناعة وهي التي أنشأته نحواً من أربعين ألف جنيه لا تقبل أن تتحمل نفقات إدارته؛ وحسبها فيما يقال أنها أنشأته وأضافت به إلى مدينة الأقصر مظهراً من مظاهر التجميل والتحسين. ولقد اصبح المسجد حيران متعطلاً عنه بقرض وزارة الأوقاف والخيرات، وتجفوه وزارة(870/44)
التجارة والصناعة وهي أمه التي أنشأته وتربى في كنفها وتلته بالرعاية، فلما أكتمل بناؤه واستقام صرحه برمت به وتنكرت له فما أحوجه للعطف والرثاء!!
فهل من يدبره رحمة تنقذه من حيرته؟ وهل من نفس خيرة عامرة بالإيمان يهدهدها ويؤثر فيها ويثيرها للخير قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليم الآخر) الوحي الوحي والبدار البدار فخير البر عاجله والسلام.
علي إبراهيم القنديلي
نشر مخطوطة - تاريخ الموصل
علمت الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية أن المجمع العلمي العراقي ببغداد قرر نشر مخطوطة تاريخ الموصل لأبن زكريا محمد المعروف بابن إياس الأزدي. وقد باشر فعلاً بإعداد المسودات للطبع. وهذا الكتاب من الكتب القيمة التي تظهر نواحي مفيدة من تاريخ مدينة الموصل تلك المدينة التي كان لها شأن ثقافي وسياسي مهم.(870/45)
شيطانية إمرأة
للأستاذ كامل محمود حبيب
طوت (عليه) أيام الطفولة، أيام كانت تلهو وتلعب في منأى عن قيد التقاليد، أيام كانت تمزح بعيدة عن غل الدار. . .
طوت هذه الأيام فأخذت تشعر بدم الشباب يفور جياشاً في عروقها فيضطرب أمنية في قلبها، ويلمع جمالاً في خديها، ويتألق حياة في خاطرها، فامتدت يدها الغضة ترتب شعرها الفاحم السبط على نسق جميل جذاب، وامتد ذوقها النشوي إلى الأصباغ والعطر تتأنق في الاختيار وتفتتن في التطرية، وامتد خيالها إلى الثياب يخصها بعناية منه وفن، وأبوها رجل فيه الثراء والبذل. فبدت الفتاة في روعة الجمال وجمال الذوق وسمو الفن وخفة الظل، فتنابهتا الأبصار والقلوب وهي في شغل لا يعنيها إلا أن تكشف عن زينتها وروائها لتسمع كلمة إطراء تنفث فيها النشوة أو عبارة تبعث فيها الغرور.
وجلست (علية) حيناً إلى المرآة تحدثها وتستشيرها، ولكن قلب الفتاة الطموح كان يرنو إلى ما وراء المرآة، فما لبثت أن ضاقت بحديث المرآة فامتد بصرها إلى النافذة تريد أن تفزع من وحدة الحجرة إلى أنس الشارع، فما راعها إلى أن ترى في النافذة المقابلة شاباً يجلس إلى المرآة يحدثها حديثاً ضاقت هي به. . . يحدثها حديثاً طويلاً لا يحس فيه الملل ولا الضيق، فتعلق به بصرها. . . والتفت الشاب فرأى الفتاة تحدق فيه فبدت له روعة الجمال وروعة الزينة، فتعلق بها بصره.
وأحست الفتاة في نظرات الشاب معاني تشبع نهم غرورها وتطفئ غلة أنوثتها، فاطمأنت إلى ابتسامته وسكنت إلى تحيته، وراحت تبادله ابتسامة بابتسامة، وتحية بتحية؛ وبينهما من الشارع ومن التقاليد حجاب لا يستطيع واحد من أن يظهره.
لقد كان (بهاء) شاباً في زهرة العمر وجمال الحياة، يتأنق دائماً في زينته وفي لباسه، وكان لا يحس وطأة الحياة ولا يضيق بتكاليف العيش رغم أنه موظف صغير لا يبلغ راتبه إلا بضعة جنيهات؛ فهو أعزب، يسكن حجرة ضيقة رخيصة لا تنضم إلا على فتات من الأثاث، وهو يقنع بالوضيع من الطعام والتافه من الشراب ليوفر لنفسه زينته وألقها، وهو يعيش على نهج الصعاليك من العزاب لا يعنيه إلا أن يبدو أمام الناس في الغالي من اللباس(870/46)
ولا يشغله إلا ان يستمتع بالرخيص من المتعة.
ولطالما جلس إلى المرآة يهيئ نفسه للشارع مثلما تفعل الفتاة لا هم لها إلا أن تفرط في الزينة أو تبالغ في التطرية. فلما رأى (علية) ترمقه من خلال النافذة تعلق بها بصره وتشبث بها قلبه.
وانطوت الأيام والفتاة تغدو وتروح إلى النافذة ترنو إلى فتاها من ثنايا الشباك، والفتى لا يبرح مكانه إزاء الشباك كأنه جدار أسند إلى جدار. وضاقت الفتاة بهذا الستار الكثيف المنسدل بينها وبين فتاها حين أحست بهوى الشاب ينسلب إلى قلبها برفق ولين؛ وطمعت أن تجلس إليه ساعة من زمان علها تسمع منه أنشودة من أناشيد الغزل الذي يصبو إليه قلب كل أنثى، أنشودة يوقعها شاب على أوتار قلب فتاة؛ أو تطرب إلى لحن من ألحان الغرام يترنم به في رقة فتنتشي له عواطفها وتهتز مشاعرها. . ضاقت الفتاة بهذا الستر فدست إليه من يدفعه إلى أن يتعرف إلى أخيها الأكبر فيجد السبيل إلى الدار. . . إلى (علية)، وتستطيع هي أن تراه وأن تجلس إليه على حين غفلة من أهلها.
ومرت الأيام فإذا (بهاء) صديق أخيها الأكبر، بزوره أصيل كل يوم ويرافقه في نزهاته ويعينه على حاجاته، وسعدت الفتاة بما كان وسعد الفتى.
وطارت الشائعات تقول إن (عطية) قد خطب (علية) إلى أبيها.
وعطية فتى من ذوي قرابتها خشن المجس قوي الأركان وثيق التراكيب، وهو عامل في مصنع، يقضي نهاره في الجهد العنيف لقاء دريهمات لا تسد خلة ولا تدفع غائلة. ولكن والد الفتاة رضي به زوجاً لأبنته. وما كان الأب أن يرد فتى من ذوي قرابته يبذل غاية الطاقة ويستفرغ منتهى الجهد ليكسب قوت يومه، فهو نفسه نشأ - في صباه - نجاراً صغيراً يعاني شظف العيش وشدة الفاقة، فما زال يرغم نفسه على الدأب ويحملها على الجد حتى أصبح الآن - صاحب (ورشة) كبيرة تدر عليه الآلاف والآلاف.
وجاءت الأم تزف البشرى إلى أبنتها (علية) وفي رأيها أن الفتاة ستهتز للخبر فرحاً وتطير له حبوراً، ولكن ما راعها إلا أن ترى في أبنتها الإباء والرفض، وغلا أن تلمس فيها روح الكراهية والبغض، وإلا أن تشهد وقع الخبر عليها عنيفاً وقاسياً. وكيف ترضى الفتاة المدللة بهذا العامل الفقير وهي تراه يدلف إلى الدار بثياب مهلهلة قد لوثها آثار العمل وعاثت فيها(870/47)
يد الأقذار، فإن حاول أن يتأنق في لباسه بدا مضطرباً يختلج في ثياب فضفاضة لا تتسم بسمة من الذوق ولا سمة من الفن؟ كيف ترضى به ومن أمامها (بهاء) وهو فتى رقيق جذاب يتألق في شعره المرجل الناعم وفي عطره الفواح وفي رباط رقبته الزاهي وفي بذلته النظيفة المنسقة وفي حذائه اللامع وفي حديثه الرقيق وفي. . .
وحاولت الأم جهدها أن تحمل الفتاة على أن تنزل عند رغبة أبيها أو تلقى السلم لرغبة ذويها، فما أفلحت. . .
وجلست الفتاة - ذات يوم - إلى فتاها، تقص عليه قصة عطية وتستثير همته ورجولته وتنفث فيه سموم الأنثى عبرات تتدفق حرى وباردة على خديها لتدفعه إلى غاية. وأسهل الفتى وانقاد إلى أبيها يخطبها فما تأبى الأب ولا تعوقت الأم.
وخرج (عطية) من الدار يجر أذيال الخيبة، وفي قلبه حسرة ما تنطفئ.
وتعقبت الأيام تشيد داراً صغيرة يسعد فيها زوجان وثلاثة أطفال.
وشعر الزوج (بهاء) بأن حاله قد استحالت إلى أخرى فهو لا يطمئن إلا إلى جانب زوجته، ولا يهدأ إلا إلى جوار أطفاله ولا يسكن إلا في كنف الدار، غير أن أمراً واحداً كان يحز في نفسه فيعكر عليه صفاء الدار ويسلبه رونق السعادة بالزوجة والولد؛ أمراً كان ينزع عنه - دائماً - القرار والهدوء: فهو كان يشعر بضيق ذات يده يمسكه عن أن يسد حاجات الدار وعن أن يشبع رغبات المدرسة. لطالما أصابه العنت والضيق مما يحس من فاق وعسر، ولكن زوجته كانت تسري عنه بعض أتراحه بكلمات جوفاء لا يلمس فيها روح التضحية ولا معنى الوفاء. وأخذ الغلاء يطحنه بين فكين من جفاء وقسوة، فجذب ابنته الكبرى من المدرسة لتعمل ممرضة في مستشفى فما أفاد شيئاً، وشعر كأن عيوناً كثيرة ترمقه شزراً وكأن قلوباً حبيبة إلى نفسه تخفق بالازدراء والاحتقار، فضاقت عليه الدار بما رحبت وتبخرت السعادة من أركانها، وتألق الهم في فودية شعرات بيضاء لامعة وارتسم الأسى على جبينه خطوطاً غائرة.
وعز عليه أن يبدو أمام أحبائه يسربل بالضعة والعجز، فامتدت يده إلى أموال الدولة تختلسها ليسد خلة أو يوفي ديناً.
وتيقظت عبن الحارس على يد تمتد في صمت فكبلها بالحديد، وساقها إلى ساحة القضاء؛(870/48)
وجاء القاضي يمجد الأمانة ويغضي عن الشفقة، ويطري العفة ويتناسى الرحمة.
آه، لك الله أيها الأب المسكين! لو استطعت - في عجزك - أن ترد سغب أبنائك بقطعة يجتزها ما لحمك لقدمتها لهم في رضى وهدوء! ولو استطعت - في فاقتك - أن تطفئ غلة صغارك بسيل من دمك لتدفعه إليهم في غير وناء ولا بطء!
ولكن القاضي تكلم بلسان القانون الذي كتبه رجل، فسجن الأب ليذر من خلفه زوجة وثلاث أبناء لا يجدون العون إلا في دريهمات قليلة هي راتب الابنة الكبرى. دريهمات لا تغني من جوع ولا تسمن من عري.
ورأت (علية) الهاوية من أمامها توشك أن تبتلعها هي وأبنائها حين تداعى مستقبل زوجها وانهارت كرامته وتحطم شرفه، فجلست إلى نفسها وإلى شيطانها ساعات تتلمس الرأي وتحتال الخلاص، فما برحت مكانها حتى انفرجت الغمة عن فكرة.
وعند الصباح انفلتت المرأة من الدار في زينتها إلى (عطية)، الخطيب الذي خرج من دارها - يوماً ما - يجر أذيال الخيبة وفي قلبه حسرة ما تنطفئ. . . لقد تمنعت عليه يوم إن كان عاملاً فقيراً تقتحمه العين وتزدريه النفس. أما الآن فقد أسبغ الجد عليه من فيضه وحبته الحرب من فضلها فأصبح يرفل بالنعمى والنعيم ويسعد بالجدة والثراء.
ورأى الرجل (علية) فهم يستقبلها وعلى شفتيه ابتسامة وفي قلبه نبضة. وجلس الرجل إلى المرأة والشيطان، فما همت من مكانها حتى كان قد استيقظ في قلب الرجل هوى قديم كان قد غمره اليأس فطوا في زاوية النسيان.
وفي مساء اليوم التالي وقف (عطية) أمام المرآة ينفض عنه غبار العمل ويفزع إلى الزينة والعطر، وقد بدت عليه سيما النشاط والسباب , وفاضت على وجهه علامات الفرح والسرور، ثم انسل خفية إلى دار التي أحب. . . إلى دار علية.
وغير الرجل زماناً يختلف إلى دار (علية) يحبوها بالجزل من العطاء الغالي من الثياب والفاخر من الطعام، لا يدخر وسعاً في أن يتلمس رضاها ويتوخى فرحتها، على حين قد فرغت داره منه ومن عطفه في وقت معاً.
وأحست المرأة بالرجل يندفع نحوها في حماقة وطيش، فأرادت أن تمكر به رويداً رويداً، فجلست إليه في ساعة من ساعات النشوة والمرح تحدثه قائلة (لست أدري كيف أشكر لك(870/49)
فضلك، يا حبيبي، وأنت قد غمرتني بنعمة منك سابقة، فما استشعرت فقد الزوج ولا غيبة العائل) فقال الرجل لا (عليك، فإن منتهى أربي أن أفوز برضا قلبك أو أن أظفر ببعض عطفك) قالت (وأنا قد علقتك ولا أخشى إلا أن تمتد يد الأيام القاسية فتضرب بيننا بحجاب لا أستطيع أن انفذ منه ولا تستطيع أنت) قال (أما أنا فإني أحس بعاطفة جارفة تجذبني إليك فلا أستطيع عنك صبرا) قالت (ولكنني أخشى الأيام وأحس بها توشك أن تفرق بيننا) قال (وكيف) قالت (أو نسيت أن زوجي على وشك أن يخرج من السجن) قال (واكنني لا أستطيع عنك صبرا) قالت (إذا فلا مر من أن نتلمس الوسيلة إلى لقائنا دون أن يتطرق الشك إلى قلب زوجي) قال في غفلة (وكيف السبيل؟) قالت في مكر (لا سبيل إلا أن تتقدم - الآن - فتخطب ابنتي الكبرى) فأطرق الرجل يقلب الرأي ولكن المرأة عاجلته في دلال (وإذ ذاك تستطيع أن تدخل الدار متى شئت وأن تجلس إلي في غير ريبة ولاشك) وأطرق الرجل مرة أخرى وان عقله ليدفعه عن الفكرة وأن قلبه ليجذبه إلى المرأة التي أحب، غير أن المرأة استمرت في حديثها (ولا ضير عليك إن فرغت إلى دارك وأولادك، وستجد في هذه الخطة ستاراً يداريك هنا ولا يفزعك عن دارك) ثم مالت غليه في خفقة وشوق وهي تقول (فما رأيك؟) وأحس الرجل بعطر المرأة يخطف عقله ويسلب قلبه فقال (لا بأس، فإنا أوافق) وسميت الفتاة على رجل في سن أبيها.
وترامى إلى الفتاة حديث أمها العاشقة فثارت ولكن الأم هرت فيها هريراً منكراً فإندفعت إلى حجرتها تبكي حظها العاثر.
وحرج الزوج من السجن فما وجد مناصاً من أن يلقي السلم إلى زوجته فبارك الفكرة وفي رأيه أنه سيجد في زوج ابنته عوناً على لأولاء الحياة وغلظة العيش.
ومكرت المرأة بالرجل مرة أخرى فإذا هي تسنزف ماله في غير رحمة ولا شفقة لتدخره لنفسها، وإذا هي تختله عن زوجته وأولاده رويداً رويداً لتستأثر به من دونهم، وصرفته عن عمله، وأرغمته على أن يقتر على زوجته وأولاده.
ثم جاء الزوج يستحث الرجل على أن يخطو خطوات فساح في سبيل إتمام مراسيم الزواج فما أبى ولا تمهل وجاءت المرأة تمكر به - مرة أخرى - فطلق زوجته وطرد أولاده، فما كان له - كرأي الزوجة - أن يتزوج من ابنتها الفتاة الآسرة الجميلة وهو زوج ورب(870/50)
أسرة، فيضربها بالضرة ويقتلها بالغيرة.
يا عجباً! لقد أرتدغ الرجل في حمأة الجريمة حين أسلس وانقاد إلى امرأة من بنات حواء. لقد كان يصحو من غفلته - بين الحين والحين - فيعقد العزم على أن يحطم قيداً كبلته به هذه المرأة فيعود إلى عمله، إلى داره، إلى زوجته، إلى أولاده، ولكنه كان يعجزه أن ينسى ما ذاق إلى جانبها من لذة الحياة ومتعة النفس، فيهي عزمه ويضعف جلده.
وأرهقت المرأة زوج ابنتها المزعوم بتكاليف الزواج فما استطاع أن يشبع نهم المرأة التي سلبته كل ماله. . . سلبته كل ماله في نزوة من نزوات الحب الآثم. وجلس إليها - في خلوة - ينفض أمامها جملة حاله وينثر على عينيها عجزه وضيق ذات يده ويطلب إليها - في رقة ولين - أن تخفف من طلباتها فثارت به ثورة جارفة، وطردته من دارها وهي تقول (ما أحمقك أيها الغبي! أفكان لي أن أزوج ابنتي الفتاة الرشيقة الناعمة إلى رجل عجوز مفلس مثلك؟).
طردته بعد أن استنزفت كل ماله، وبعد أن ختلته عن زوحته وأولاده. . . طردته بعد أن هدمت داراً فيها النعيم، وبعد أن حطمت أسرة فيها السعادة، بعد أن شردت صغاراً فيهم الطهر. فيا لشيطانية المرأة. . . يا لشيطانية المرأة. . .
كامل محمود حبيب(870/51)
الكتب
صراع
مجموعة أقاصيص للأستاذ شاكر خصباك
القصة العراقية لم تشهد النور إلا منذ أمد جد قصير. . .
فالمحاولات الأدبية الأولى لإنشاء قصص عراقية كانت تصاب بالإخفاق، أو تنحرف عن الميدان القصصي الفني فتكون أشبه بالحكايات التي لا تمس الواقع، ولا يصلها بالفن القصصي سبب الأسباب.
ذلك لأن تلك المحاولات لم تقم على أساس متين من الدراسة والتفهم العميق للفن القصصي؛ لأن المضطلعين بها لم يكونوا مطلعين على الأدب الغربي، وغير مثقفين ثقافة عامة شاملة. . لأن القصة تحتاج إلى الكثير من الخبرة، والإدراك، والمعرفة، وسبر الحياة وخوض غمارها، ثم تأتي الموهبة القصصية لتبرز لك الفن القصصي مزيجاً من كل هذه الأمور.
وكان الأدباء العراقيون - قبل أكثر من عشرين سنة - يرون القصة المصرية تشق طريقها في ميدان الإنتاج الأدبي. . . وكان هذا اللون الجميل الجديد يدفعهم دفعاً إلى محاكاته؛ فيحاولون تقليده والسير على منواله، من غير أن يفقهوا فن القصص؛ ومن غير دراسة فنية لأصوله.
هذا سبب من أسباب تأخر القصة العراقية. . . ويمكننا أن نضيف إليه سبباً آخر وهو ما يتصل بالأحداث والتقلبات التي هزت العراق في الفترة الأخيرة، وانصراف الناس إلى السياسة وقد كان الشعر مبرزاً في ميدان إيقاد الحماس، وإيقاظ الهمم، وإذكاء نيران الوطنية في القلوب.
أما القصة فلم يكن ثمة مجال لظهورها لعدم وجود قصصيين يملكون ناصية الفن القصصي بحيث يؤثرون في نفوس الجماهير ويوجهونها نحو الوجهة الوطنية الصحيحة. أضف إلى ذلك عدم استعداد الجمهور لقراءة القصص واستساغتها، لأن القصة في مثل هذه الأحوال لا تثير ما يثير الشعر.
ولكن بعض المحاولات القصصية كانت تظهر بصورة حكايات وأحاديث. . . ونحن حين(870/52)
نستثني رائد القصة العراقية الأول المرحوم محمود السيد صديق الأستاذ تيمور في الجهاد، لا نرى إلا محاولات فاشلة القصد منها العبرة والاتعاظ والإسراف في الخيال.
ثم جاءت بعد ذلك كتابات جعفر الخليلي، وعبد المجيد لطفي، أو حكاياتهما على الأصح، فهذان الأديبان لبعدهما عن تفهم القصة الحديثة، ولجهلهما الأدب الغربي الحديث، فشلا في أول عهدهما ولكن بعض الأمل تسلل إلى القلوب عند قراءة نتاجهما في العصر الحاضر، وهما - بعد كل هذا - مشكوران لأنهما يمثلان مرحلة من مراحل القصة العراقية.
ثم تأتي المرحلة الثانية في قصص شالوم درويش، وذو النون أيوب، فقد استطاع هذان القصصيان أن يرقيا بالفن القصصي العراقي درجات، ويدفعاه إلى الأمام، فقد أصابا حظاً ليس فيه بأس من الإطلاع على القصص الغربي، وتفهما العناصر الجوهرية في الفن القصصي، وكانا يستلهمان الحياة، ولا يشطان في دنيا الرومانسية.
وجاءت المرحلة الثالثة - وهي دور الشباب - فقد بزغ بعض الشبان في سماء القصة، ومنهم يرجى الخير، وعليهم تعقد الآمال. . . ولكنه يخيل إلي أن جريرة الصحافة المصرية الصفراء تلاحقنا ونحن في ديارنا، فتفسد أذواق الشباب، وتتحكم بنزعات بعضهم، وتصره عن العمل الجدي المنظم، وعن التفكير الصادق السليم وعن إدراك الأمور إدراكاً شاملاً واعياً. . ومما لاشك فيه إن الصحف المصرية تطغى على الأسواق العراقية، وإن قصصها المائعة النكراء غير الناضجة ذات تأثير على نزعات الشباب. . وأغلب قصاصي المجلات لا يستلهم الحياة، ولا يراعي مقاييس الفن، بل يستلهم الطبع الفاسد، ويراعي مقاييس المجلات الجائرة. . .
ولكن شيئاً من الاطمئنان يسري في نفسي عندما أجد بوادر السخط عند الشباب العراقي، وعند الذين حصنوا أنفسهم بثقافة ومعرفة واسعتين.
والكتاب الذي اعرضه على القارئ الكريم الآن (صراع) لقصصي عراقي شاب لا أكون مغالياً لو قلت أنه خطا خطوة رائعة موفقة في مضمار القصة العراقية، وهو على رغم بعض المآخذ يبرز بين القصة العربية الناجحة عالي الرأس. . .
والمؤلف شاب، له أحلامه ونزعاته وميوله، ونفس متوقدة حساسة، تستلهم الحياة فيبرز لنا نواحي خافية خير ما يقال فيها إنها تقع في محيطنا ولكننا نتغاضى عنها، لأننا نحفل دائماً(870/53)
بالحوادث والمفاجئات، بأقاصيص البطولة والشجاعة، أما الحوادث الصغيرة الساذجة الغنية بالأحاسيس، والانفعالات النفسية فإننا نضرب عنها كشحاً، ولا نعيرها أي التفات. . .
ولكن الأستاذ شاكر خصباك يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة في فن الأقاصيص فتراه لا يحفل الحوادث والمفاجئات، بل يخلق من الحوادث الصغيرة الساذجة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي، وبخلق الجو المشوق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية، ووعياً عاماً في جميع الأمور. . . وأغلب أقاصيص الأستاذ شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي. . . وتلك فضيلة أسجلها للمؤلف من غير إجحاف. . .
ففي الكتاب (أقاصيص) أول ما يطلبك فيها، تحليل نفسي موفق، وجو قصصي كامل، وموهبة فنية رائعة، وإذا بتلك الحادثة الصغيرة تحمل إليك ظلالاً من الإحساس، وحياة عامرة بالمشاعر، وحركة في نبض الحس، وتضفي الشعور.
انظر إلى أقصوصة (عذاب) التي أعدها من أروع الأقاصيص العربية تجدها كما قلت لك: حادثة بسيطة، وتحليلاً نفسياً رائعاً وموهبة فنية تنظم الحركة، وتبعث الحياة، وتضفي الظلال. .
وخلاصة أقصوصة (عذاب) أن شاباً كان يتمشى على شاطئ النهر، مرتديا ً بذلة جديدة، يرى طفلاً يصارع الموج، على شفا الغرق. . ويحاول الشاب إنقاذ الطفل، ولكنه يتردد بين خلع ملابسه الجديدة، وإنقاذ الطفل الموشك على الغرق، وبين المضي في طريقه كأن شيئاً لم يحدث، وليش ثمة عين تراه. ويتردد الشاب، ويطيل التردد، حتى يبتلع النهر الطفل، وينقطع صراخه. . ويمضي الشاب في طريقه، ثم تقوده المصادفة إلى نواح نائحات، وبكاء باكين، وسرعان ما يتبن أن النائحات والباكين هم أهل الغريق. . وهناك ينشب الصراع بين ضميره فيعذبه، وتشقيه الهواجس والظنون حتى يحاول الانتحار.
هذا الحادث تصوره ريشة ماهرة في التقاط الصور، واكتشاف مواقع الإحساس. وخلق الصور الإنسانية، والظلال النفسية، فتخلق لنا أقصوصة من أروع الأقاصيص. . .
وهناك أقاصيص بالغة الروعة، وافرة الحظ من النجاح، منها (دكتور القرية) وهي صورة كاملة الملامح، قوية السمات، فيها سخرية لاذعة، وتصوير رائع. ومنها (عجيب) وهي أقصوصة تبرز لك مقدرة الأستاذ شاكر على الخلق القصصي، وبعث الحركة والحياة بما(870/54)
فيها من انطلاق وعبث الظروف. .
وإلى هنا نقف مع محاسن هذا الكتاب، فما هي مآخذنا عليه؟ يبدو لي أن ميل الأستاذ خصباك إلى دراسة المجتمع يغلب فنه القصصي في بعض الأحايين فتختفي روعة القصة، وينفرط السلك القصصي، وتبدو القصة أشبه شىء بتجربة طبيب نفساني. . ولولا مقدرة الكاتب على إنشاء الفن القصصي لا نهدم صرح أقاصيصه إنهداماً تاماً. .
وكم وددت لو ألقى الأستاذ عن عاتقه ذلك القانون الصارم الذي سنه لنفسه إذن لأنشأ قصصاً رائعة كل الروعة، ولكان غير ما هو الآن في بعض أقاصيصه.
فلأجدر بتلك الموهبة القصصية المتوقدة أن تنطلق في ميدان الحياة من غير قيود، فالأجدر بتلك الموهبة القصصية المتوقدة أن تنطلق في ميدان الحياة من غير قيود، وتسبح في أجوائها من غير وازع، وتلقط الصور من غير تمييز. . وذلك الميل الجارف لدراسة المجتمع يضفي على أشخاص المؤلف بعض الندرة؛ فإنا لا أنكر أن أشخاصه جميعاً موجودن؛ ولكن بعضهم نادر. فالمؤلف يؤمن (بأن العواطف الحبيسة تقود أصحابها إلى الشذوذ الجنسي. .) ونراه ينطق هذا القانون في لهجة ساذجة أثناء أقصوصة من أقاصيصه وه (أحلام ضائعة) فإنظر إليه كيف سخر قصته لأقرار هذا القانون أو هذه البديهية: زاهدة فتاة تعيش في بيئة عراقية محافظة (وفي نطاق من تدابير إسرتها المحافظة، فلا تفسح لها المجال للاتصال بالعالم الخارجي، ولا تسمح لها بمبارحة البيت إلا لماماً. (هذه الفتاة في هذا في السجن العاطفي تخدع جماعة من الشبان، وأحداً بعد آخر، وتوهمهم بأنها تحبهم!!. . وإذا سألت: من أين جاءت هذه الفتاة بهذه الجرأة؟. . أجابك المؤلف: من العاطفة الحبيسة. . هذا شيء معقول. . ولكن التصريح بهذا أضعف الأقصوصة.
و (صراع) و (بداية النهاية) على هذه الشاكلة يحاول المؤلف البرهنة على قانونه. والملاحظ أن بعض الثغرات تبرز في القصة حين يحاول المؤلف الخروج عن الجو القصصي. . ففي (صراع) يعرض علينا المؤلف (فاطمة امرأة متعطشة، قوية الغريزة الجنسية، تتعرف بصبي تحاول معه أن تشبع غريزتها الجنسية ولكن والدة الصبي تكشف ذلك فتأتي ثائرة ساخطة، مزمجرة معربدة. . وفي هذا الجو المكهرب الساخط تسرد فاطمة قصتها محاولة تبرير ذنبها ومسلكها الشائن، فتبرد عند ذلك الأقصوصة والحق أن منطق(870/55)
الحياة لا يقبل ذلك.
وقصة (صراع) لولا هذا الإقحام الأخير لكانت من غير الأقاصيص. . ويخيل إلى أن شغف المؤلف بدراسة المجتمع، وتبين العلة أفسد عليه الجو القصصي. . نفحن نعرف أن علة وراءها مسبب، ولكن ليست القصة مقالة اجتماعية، تصف العلاج، وتشخص سبب الداء. . ولندع ذكر المبررات لمخيلة القارئ ولتأويله - فالقارئ أولى الناس بمعرفة ذلك، وإدراكه. .
وخلاصة المطاف أن هذا الكتاب بمحاسنه ومساوئه - نصر جديد للقصة العراقية، ومحاولة ناجحة لإنشاء قصص عراقية ناجحة في رأي الفن، وفي رأي الحقيقة،
غائب طعمة فرمان(870/56)
العدد 871 - بتاريخ: 13 - 03 - 1950(/)
الإسلام والمذاهب الهدامة
الإسلام هو السلام الإلهي على هذا الكون. شرعه الله وهو العليم الخبير ليكون للناس جميعاً دستوراً كاملاً تصلح عليه شؤون الفرد وأمور الجماعة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض.
جعل فيه أفضل ما في الديمقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية؛ ثم كشف لرسوله الكريم عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة لتكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة من طريق التوحيد والمؤاخاة والمساواة والحرية والسلام. فالتوحيد سبيل القوة، والمؤاخاة سبيل التعاون، والمساواة سبيل العدل، والحرية سبيل الكرامة، والسلام سبيل الرخاء. وتلك هي الغايات التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق النظم السياسية والمذاهب الاجتماعية فلا تتكشف أمامها بعد طول الجهاد وقرط الجهد إلا عن سحاب خلب وسراب خادع.
ثم علم الله جلت حكمته وعز شأنه أن الفقر من أمراض المجتمع المحتومة ما دام في الناس القادر والعاجز والقانع والطامع والسابق والمتخلف، فعالجه علاجاً لو دأب عليه المسلمون لعاشوا أخوة متعاطفين متناصرين تجد فيهم الفقير ولا تجد فيهم المحروم، وترى بينهم الضعيف ولا ترى المظلوم , لأن دينهم جعل بين الغني والفقير سبباً هو البر، وأنشأ بين القوي والضعيف نسباً هو الرحمة. ولو أخذ به المصلحون لوقى العلم شر هذه النحل الهدامة التي تثير بين الدول النزاع والحرب، وتنشر بين الأمم القلق والثورة. ذلك العلاج الإلهي هو الوساطة بين الأغنياء والفقراء على أساس الاعتراف بحق التملك، والاحتفاظ بحرية التصرف، فلا يدفع مالك عن ملكه، ولا يعارض حر في إرادته. إنما جعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يكمل دينه إلا بأدائه. ذلك الحق هو الزكاة وهي الركن الثالث من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام. وليست الزكاة بالقدر الذي يخفى أثره في حياة الفقير، فهي ربع العشر في المال وما يقدر بنحو ذلك في غيره. فإذا جبيت الزكاة بالأمانة على حسابها المقدر، ولا جاهلاً في عمل. ذلك العلاج الذي عالج به الإسلام الفقر فيه البر والرحمة من صاحب المال، والرضا والقناعة من صاحب العمل، والرعاية والحكم من صاحب الحكم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون الخيرة من أمرهم؛ ولكن أصحاب النحل الخبيثة وذوي المطامع الخسيسة لم يرضهم في الزمن الغابر،(871/1)
ولا يرضيهم في الزمن الحاضر، أن يعيش الناس وادعين راضين في ظلال النظم المشروعة، فهبوا يعارضون أوامر الله ووصايا الرسل بتسليط الغرائز وتحكيم الشهوات وإثارة الفتن، فتمردوا على الدين، وتحللوا من القيود، وقال القرامطة: (لا حقيقة في هذا الوجود وكل أمر يباح) بذر هذه البذرة الملعونة في الشرق الإسلامي بابك الخرمي في القرن الثالث من الهجرة، ومن بعده عبد الله بن ميمون، ومن بعده الحسن الصباح شيخ الجبل، وأغروا بثمارها المحرمة عباد اللذة ورواد المنكر من ضعاف العقول وصغار الأنفس، وأمعنوا في الغي والظلال، واشتركوا في النساء والأموال؛ وفي سبيل ذلك نشروا الإرهاب، وبددا النظام، وزعزعوا الأمن.
كان أولئك الطماعون الخادعون يقترفون هذه الكبائر تحت ستار من الدين والخلق: فبسلطان الدين كانوا يشيعون الإلحاد، وباسم الخلق كانوا ينشرون الإباحية. ولكن للإسلام منبعين من كتاب الله وسنة رسوله لا يزالان يتفقدان بالصفاء والطهر والعذوبة؛ فإذا تلوثت مجاريه البعيدة بمثل هذا الدنس أقبل الفيض الإلهي فجرف تياره القوي كل عفن، وطهر ماؤه النقي كل رجس.
وفي هذا العصر الحديث تجددت المزدكية والبابكية باسم الفوضوية والشيوعية، فقامتا تدعوان باسم الإنسانية إلى الإلحاد والإباحية سراً وعلانية. تقول الشيوعية للإسلام: إن ربك ظالم لا يعرف العدل، جائراً لا يعرف المساواة، مستبد لا يعرف الحرية. لا يعرف العدل لأنه يقول: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، وأنا أريد أن يكون الرزق مشاعاً ينال كل أمريء ما يشاء. ولا يعرف المساواة لأنه يقول: ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات، وأنا أريد أن يكون الناس في كل أمر سواء. ولا يعرف الحرية لأنه قيد كل شيء بقيد: قيد الرزق بالملكية، وقيد المرأة بالزوجية، وقيد تصرف النفوس بالعقيدة والخلق، وقيد تداول الأموال بالوقف والإرث. أما أنا فأقول: كل شيء مشاع، وكل أمر مباح، وكل إرادة طليقة،. حرمت الملكية، ومحوت الأسرة، وألغيت الجنسية، وأنكرت الوطنية، وجعلت المزارع والمصانع والنساء وسائل للإنتاج العام: آخذ من كل حسب كفايته، وأعطى كل حسب حاجته. على الناس أن يعلموا، ولهم أن يأكلوا. . أما أن يكون للأفراد أملاك تغنيهم عن الإنتاج، وللآباء أبناء يشغلونهم عن العمل، والولد ولد الدولة. وليس بين الرجل(871/2)
ووطنه، ولا بين الولد ووالده، إلا كما يكون بين القطعان والمرعى، أو بين الحملان والكبش! ذلك يقوله الشيوعيون في الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
يزعم الشيوعيون أنهم أعلم من الله بأحوال خلقه، وأعدل منه تقسيم رزقه؛ فهم لذلك ينكرون دينه، ويغيرون شرعه، ويحاولون أن يهدموا كل ما أنتجته القرائح وخلقته القرون ليبنوا على أنقاض ذلك كله شيئاً لا يقولون صراحة ما هو، ولا يرون الناس جهرة كيف هو؛ وإنما يضربون من دون الأسداد والحجب، فلا يقع في الأسماع منه إلا ما يريدون هم أن يقع! وفاتهم قبل أن يلغوا الفضائل والعقائد والقيم أن يلغوا العقول حتى يصدق الناس أن هذا الشيء الذي يذكر في السر، ويدبر في الظلام، ويبذل في سبيله الأموال والأنفس والثمرات والجهود إنما يقصد به العدل المطلق والخير العام، ولا يقصد به طغيان بشر على إله، وسلطان دولة على عالم!
ليست الشيوعية عقيدة تقوم على الخير، ولا طريقة تعتمد على الحق، ولا رسالة تؤدى بالمعروف، إنما هي أطماع من عمل الشيطان ووسوس بها جماعة من مغامري الروس كابدوا استبداد القيصرية، وقاسوا استعباد الأرستقراطية، فلم يكادوا يثلون عرش المستبد، ويقوضون صرح المستبد، حتى أدركهم مركب النقص، وأخنتهم صورة الانتقام، فتقاسوا بينهم جبروت القياصرة وصلف الأشراف، وسخروا كل ما تنتج العقول وتخرج المصانع وتنبت الأرض للجيوش والأسلحة ليتخذوا عباد الله كلهم عبيداً، ويجعلوا أرض الله كلها لهم ضيعة! حزب من ستة ملايين قيصر قد أعد الحديد والنار والدمار والقلق والفزع والاضطراب والفوضى لتنفيذ هذه الخطة وبلوغ هذه الغاية! فهل يقدر الله أن تنهزم القوى الخيرة أمام هذا الشر، وتنخزل المبادئ الصالحة عن هذا الفساد؟ حاش لله أن يؤتى ملكه غير البر، وأن يورث أرضه غير الصالح؛ فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
إن العقلية العربية معمرة فلا تقبل الهدم. وإن العقيدة الإسلامية نيرة فلا ترضى الظلال. وإن النحل الهدامة التي انتشر ظلامها حيناً في سماء العراق إنما كانت خارجة عن الإسلام طارئة على العرب. وإن الشرق العربي سيظل بفضل عقليته وعقيدته آمناً من كل سوء، نابياً على كل فتنة.(871/3)
أحمد حسن الزيات(871/4)
عود على بدء
خيانة امرأة
للأستاذ كامل محمود حبيب
كتبت في العدديين 865و 866 من (الرسالة) الغراء قصة (خيانة امرأة) وهي قصة سمعتها بقلب يهتز من أثر الصدمة وعيتها بفؤاد يضطرم من أثر الفجيعة، وحفظتها في عقل يختلج من أثر الحيرة؛ ثم ظللت أياماً أنازع عنها الرأي وأدفع عنها القلم وأدع عنها الخيال؛ شفقة على صاحب القصة أن يراها مسطورة بين يديه فيرى فيها - دائماً داء قلبه وأذى روحه، فلا يتسرب إليه النسيان؛ فتكون كلماتي غذاء يتأرث به ضنا روحه، وحطباً تتوهج به لوا عج نفسه. ولكن صاحبي كان يلح في أن أهديه إلى الرأي الذي عزب عن فكره، وأن بالصواب الذي ندّ عن عقله، فأهبت بصاحبي وأحبائي من قراءة (الرسالة) أن يعينوه بحل فيه الصواب والعقل، فتدفق على فيض من رسائلهم وفيها آراء أعرض بعضها هنا، لي الأسلوب والأداء، ولأصحاب الرسائل الرأي.
كتب الأديب عبد الفتاح إسماعيل القبيبي بفرشوط بعد مقدمة طويلة من التحايا الطيبة الشكورة يقول:
. . . والحق إني قرأت قصة (خيانة امرأة) فأحسست بعقلي يختنق، وشعرت بصدري ينقبض، وشملني هم ألح علي أياماً فما استطعت أن أجد ربح الحياة الطيبة أو أحس نعيم الهدوء الجميل، فضاقت علي نفسي. واستشعرت كلماتك تساقط على كبدي شواظاً من نار يسلبني القرار والعقل، فظللت حيناً مستلب اللب مأخوذ الرأي لا أثبت على فكرة، ولا أستقر على خاطرة. فما بال صاحبك وهو قد وجد لذع المصيبة في قرار قلبه وأحس مس النكبة في أغوار نفسه، ورأي المرأة التي حباها بالهوى والحب، وخصها بالحنان والعطف، وفضلها على كثير من ذوي قرابته، وعق في سبيلها أباه وأحفظ أهله. . . رآها تثلم شرفه في عبث وضيع، وتخدش كرامته في استهتار حقير، فلا عجب إن جاءك ينثر عبرات قلبه بين قلبه يديك الرفيقتين وينفض أتراحه أمام روحك المتألقة؛ فهو غريق أعوزه الملجأ فنفر عله يتفيأ ظل عقلك، ومحترق أعجزه المهرب ففزع نحوك يستلهم الهدى من قلبك. فالتمس له عذراً. . . أو، لا. . . فهو كان يعلم أن صاحبته عاشت في دار أبيها تنعم بالحرية التي(871/5)
يزينها الشيطان ويزوقها الهوى، ولكنه لم ير بعقله الأعور أنها تخلبه بكلام مفوِّف جميل هو مما يزخرف الخداع والمكر، وأنها تستميله بصناعة أهل المدينة وتجذبه ببضاعة أهل الحضر؛ وهو فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل، خلو من خداع المدينة بعيد عن لؤم الحضارة؛ فخلطها بنفسه على حين قد عنه أنها تتصنع طهارة تستر رجساً، وتموه عليه ببراءة مصنوعة تواري خسة، فارتدع في نزوة من نزوات الشباب وانحط قلبه في غمرات الطيش، ليجني - بعد حين - ثمرات نزقه مأساة جارفة تعصف بآماله وتطوي أمانيه وتهدم سعادته.
ولست أدري كيف يطمئن الرجل في دار تضم امرأة دنست عرضه وامتهنت كرامته؟ ولا كيف يرغم نفسه على أن يبذل في سبيلها درهماً واحداً من مال أصابه بالجد والتعب فيطعمها ويكسوها. . .؟
ولا كيف يرضي أن يحميها في داره من غوائل الحياة وهي رجس من عمل الشيطان، عبثت بحرمته وانتهكت شرفه؟ ولا كيف يطيق أن يراها تضطرب أمام ناظريه وهو يحمل لها في نفسه بغضاً واحتقاراً؟ فماذا إذن يمسكه من أن يقذف في وجهها بالكلمة المحرمة فيلقي بالخائنة الوضيعة إلى الشارع. . . إلى الذئب.
أما أحباؤه - أبناؤه - فسيجدون في المربية عزاء وسلوه. . والمربية الحصيفة تستطيع أن تكون أماً وخادماً.
وجاء في رسالة الأديب نيازي علي مرزوق بكلية اللغة العربية ما يأتي:
لا معدى لصاحبك - يا سيدي. . . عن أن يحل عقدة الزواج ويلقى الخائنة إلى فجاج الشارع، فإن حرمان الصغار من عطف الأمومة أيسر من أن يرى الرجل شرفه وهو يلطخ بالدنس ثم يقف حياله عاجزاً ضعيفاً لا يدفع عن نفسه ضيماً ولا يرد أذى. والنساء غيرها كثير فليتزوج من أخرى طاهرة المنبت شريفة الأصل نبيلة الأرومة فيجد فيها زوجاً تصون عرضه وتحفظ كرامته، ويجد الصغار في كنفها العطف والحنان.
وللأديب محمد محمود عبدة بالمنصورة رأي يشبه رأي الأديب نيازي.
وكتب الأديب السيد عوض الجعفري بقنا يقول:
قد تظن - يا سيدي - أن صعيدياً مثلي يقرأ قصة (خيانة امرأة) فيفقد عقله ويطير صوابه(871/6)
وتتأجج فيه الحيوانية الثائرة التي لا تعرف إلا الدم. . . الدم الذي يغسل الشرف الرفيع مما لوثته به امرأة حمقاء ساقطة، ولكني أترفق بصاحبك فأهديه إلى سواء السبيل في غير عنف ولا شدة. والرأي عندي أن يذرها في الدار تخدم أولاده وهي حبة قلبه ونور عينيه؛ ثم يهجرها فلا يميل إليها؛ وبجانبها فلا يهفو نحوها، ويحتقرها فلا يرعى حقها، ويراقبها في دقة خشية أن تتمادى في الغواية أو تندفع في الطيش، ثم يكتم الخبر في نفسه لا يحدث به أحداً ولا ينشره على أبيه. ولا بد أن يعلم صاحبك أنه إن طلق زوجته تناثر الخبر ولاكته ألسن في القرية فيها الحفيظة والغيظ، ونالته شماتة القريب وأصابه تهكم الغريب. وإذا بلغ أبنائه مبلغ العقل وجدوا من يعيرهم بما جنته الأم فيحسون مس الذل وعار الخطيئة، وتعمل في نفوسهم عوامل متضاربة تقتل فيهم هبة العقل، وتنزع عنهم دوافع السمو، وتخلع عنهم أسباب الترفع. ويعيش الواحد منهم عمره وفي خياله الجرم الدنيء يلاحقه فيضيق بالحياة ويضيق بالشرف. وقد تسول له نفسه أن ينتقم من مجتمع جاهل أحمق حمله عبء جناية لم تقترفها يده.
وإذا بقيت الأم في الدار لم يتناثر الحديث ولا تطايرت ريبة ولا شاع شك، فيحفظ الزوج - إذ ذاك - على نفسه عزتها؛ ويبقى على الأولاد حنان الأم، ويجنيهم مرارة اليم، ويوقيهم لذع الضياع.
ولست أنصح بأن يتزوج مرة أخرى لأنه إن فعل جمع على نفسه همين وضرب نفسه بالضرتين وقتل قي المرأتين.
وإنه ليتراءى لي أن صاحبك لن يطمئن إلى امرأة من بنات حواء بعدما عانى من خيانة الزوجة. فلا معدى له - إذن - من أن يعيش زوجاً كالعزب أو عزباً كالزوج يستعذب الوحدة في سبيل رضا أولاده، ويستمرئ النأي عن النساء خيفة أن تنتابه الظنون وتتوزعه الشكوك.
وافتتحت الآنسة (مجهولة) بطرابلس - لبنان، رسالتها بعتاب حاد فتقول فيه!
. . . وأعجب العجب أن تبحث مشكلة المرأة فتستفتي القراء وحدهم دون القارئات على حين أن لمجلة (الرسالة) قارئات من ذوات الرأي. وللمرأة في مشاكل الدار رأي لا يتخلف - أبداً - عن رأي الرجل، وللسيدة في مسائل الأسرة عقل يسمو - غالباً - على عقل(871/7)
الرجل. ولكن لا عتب عليكم، فأنتم - أيها الرجال - ما زلتم تنظرون إلى المرأة بعين الاحتقار ظناً منكم أنها تخلفت عن الركب فلا تستأهل أن تجاذبكم الرأي ولا أن تناقشكم الفكرة، ميراث أورثتموه - منذ زمان - فتدفق في دمائكم وعز عليكم أن تطرحوه جانباً لتواجهوا الحقيقة التي تبتدي لكل ذي عيني. ولا ريب عندي في أن المرأة العصرية هي والرجل على سواء واحد في سعة الأفق وأصالة الرأي وحصافة العقل.
ثم راحت تدافع عن الزوجة الخائنة دفاعاً حاراً عنيداً يتراءى من خلاله التعصب الجارف للجنس، فقالت: وليست القضية هي مسألة الشرف والكرامة و. . . مما نسمع من كلمات رنانة طنانة تستهوي القلب وتستميل الأذن، ولكنها قضية زوجة صحبت زوجها سبع سنوات ثم تصبح - في لمحة واحدة - طريدة تتلقفها الشوارع في غير رحمة، ويتجاذبها الذئاب في غير هوادة، وهي قضية صغار الزغب الحواصل يفتقدون - على حين فجأة - حنان الأم ونور السعادة في غير ذنب ولا جريرة.
ولا عجب أن تلقي اللوم كله على الزوجة وحدها حين خانت زوجها، لأنك رجل. أما أنا فلا أبرئ الزوج مما اقترفت زوجته فإن في كثير من الأزواج حماقات تدفع الزوجات كارهات إلى أن يرتدغن في حمأة الرذيلة.
أما قولك إن المرأة المتعلمة كالثعلب فرأي تعرى عن الحقيقة، لأن العلم دريئة تنقذ المرأة - دائماً - من حبائل الرجل، وعزة تسمو بها إلى الترفع والإباء، وحصن يحميها شر المكيدة الخادعة. وأنت تعلم أن المرأة المتعلمة صعبة المراس شديدة الحفاظ على حين أن المرأة الجاهلة سهلة المكسر لينة المجس.
والرأي عندي أن يصبر الرجل فستجبر الأيام الكسر وترأب الصدع، وعلى الزوج أن ينصح الزوجة في هدوء ويعاتبها في رفق ثم يسدل على الماضي ستاراً كثيفاً من النسيان. ولا ريب عندي في أن الزوجة ستسعى جهدها إلى مرضاة الرجل وتتوب عن الغي وتستغفر عن الزلة، ثم تبدأ حياة جديدة فيها الاستقامة والاستقرار وفيها الإخلاص والوفاء.
وكتب الأستاذ عمر عودة الخطيب رأيه في العدد 869 من (الرسالة) وهو ينتهي إلى ما انتهى إليه من قالوا بفراق الزوجين.
وقرأ صاحبي ما كتب أصحاب الرسائل، فنظر إلي نظرات ثم أطرق وقال وكأنه يحدث(871/8)
نفسه. . . فماذا قال؟
كامل محمود حبيب(871/9)
الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة
- 2 -
للدكتور محمد البهي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين
وليست وحدة الله في الإسلام هي وحدها أمارة هنا على رقي الإسلام - جرياً على مقاييس الرقي التي وضعها الباحث النفسي استنباطاً من الموازنة بين الطفولة الإنسانية والبلوغ الإنساني - بل مطالبة الإسلام كذلك بوحدة الجماعة الإنسانية عن طريق محو الفوارق، أو إضعافها على الأقل، التي توزع الناس إلى شيع وطوائف، سواء أكانت هذه الفوارق تتصل بالجنس والقبيلة أو بالعوامل الجغرافية أو الاجتماعية أو الثقافية. . . أو غيرها. إذ من لوازم خصائص إدراك الطفل - وكذا الإنسان البدائي - على نحو ما أشرنا من ارتباطه بالمحسوس تقيد صاحبه بالمحسوس الذي في محيطه، لا يوليه الأفضلية فحسب، بل يهبه مزايا الوجود كله، إذ الوجود في واقع الأمر عنده هو ذلك المحيط الذي يعيش فيه.
وعلماء الاجتماع - بالقياس على هذا - يصفون شعباً من الشعوب بالبدائية إذا كان متكوناً من طوائف أو قبائل تقف كل طائفة أو كل قبيلة عند حد وجودها الخاص لا تتجاوزه إلى ما فوقه من معنى الوطن أو الدولة، إذا الإدراك عند مثل هذا الشعب لم يخترق بعد تلك الحجب الظاهرة التي جعلت منه طوائف أو قبائل.
2 - الوجدان:
تتجاوز الآن الجانب الإدراكي للإنسان في مرحلة طفولته الأولى إلى جانبه الوجداني. نراه في هذه الناحية أيضاً يقف عند حد المحسوس: فانفعالاته التي تتنوع إلى لذة وألم: والتي يعبر عنها مرة بالبشر والتهلل أو الضحك كثيراً وأخرى بقبض أسارير الوجه والحزن أو البكاء كثيراً، ترجع إلى ما يدركه مما حوله إدراكاً حسياً فحسب: فهو يفرح بلون الدمية التي يلعب بها لا بقيمتها الذاتية، ويتودد لزميله في ليونة وبشر ليلعب بلعبته أو ليفوز بها لا بما يدركه في الزمالة أو الصداقة من معنى يربط أحد الزميلين بالآخر ويجعل كلاً منهما يسر للقاء الآخر أو التحدث إليه. وهو يحزن - وكثيراً ما يبكي - عند مفارقته لزميله(871/10)
ولكن ليس لما يوجبه معنى الزمالة عند الفرقة بل لفقده لعبة الزميل التي كان يلعب بها في حضرته.
تستهويه الحلوى ولكن لا يغريه التبشير بالجنة، ويخيفه العقاب المادي كالضرب أو الحرمان ولكن لا ترهبه الخشية من الله. فرحه وتألمه إذن لما يبدو من الشيء لا من ذات الشيء وجوهره:
(أ) فوجد أنه مادي، لا يثيره إلا ما هو مادي. ولذته وألمه ماديان مرتبطان أشد ارتباط بالشيء المادي؛ بما يرى فيه، أو يتذوق منه، أو يلعب به. . . الحصول عليه يسبب لذته والحرمان منه يسبب الألم عنده.
حياته هي في الكل والشرب والاستمتاع بالمتع الحسية. لا يعرف من الحياة إلا لوناً واحداً هو هذا اللون. أما انقسام الحياة إلى دنيا وعليا؛ إلى رخيصة وسامية؛ إلى حياة الماديات وحياة المثل والمعنويات فلم يدركه بعد. لم يصل بعد إلى لذة معنوية وشقاء معنوي.
(ب) كذلك يغلب على وجدانه طابع التطرف وعدم الاعتدال: فكثرة حركة الطفل ونشاطه في هذه الحركة عند الفرح، وكثرة بكائه أو شدة صياحه عند الشيء المخيف المرعب تعبر عن هذا التطرف في درجة الوجدان في هذه المرحلة.
والإنسان البدائي كذلك يثيره من الشيء مظهره المادي: يندفع نحو كبير الحجم أو بارق اللون في بشر وسرور، ويبكي - إن لم يول هرباً - مما لم يعهده من قبل.
لا يعرف الجزاء بنوعيه إلا المادي منه. ولهذا يسير المستعمرون بالجهات المتأخرة في الحضارة في معاملة أهل مستعمراتهم من البدائيين طبق هذه الحقيقة النفسية: فإذا أنعموا على إنسان منهم أنعموا عليه بزاهي اللون أو عظيم الحجم مما يلبس أو يؤكل. ونرى لذلك إن أكثر هداياهم إلى الزعماء هناك عبارة عن تيجان من الزجاج الملون يجمع بين كبر الحجم وبريق اللون. كما أن عقابهم ينحصر فيما يؤلم ألماً مادياً كالضرب أو الحرمان من الأكل مثلاً. أما قائمة الشرف وكذا القائمة السوداء مثلاً فلا تعرفان كضربين للجزاء عند البدائيين.
وعبادة هؤلاء - والعبادة مظهر من مظاهر الوجدان - تتمثل في تقديم القرابين المادية لمعبوداتهم مما يؤكل أو يشرب في بيئتهم عادة. بل أساس تخيرهم للمعبود نفسه مادي(871/11)
أيضاً، هو إما نفع مادي أو ضر مادي. وفند - العالم الألماني - في كتابه علم النفس للشعوب يذكر أن الصدفة وحدها هي السبيل الأول لتعيين الآلهة في الديانات الوثنية. على معنى أن حادثاً ما يقع صدفة للفرد أو الجماعة من الناس في مكان معين أو عند شيء معين فيصبح هذا الحادث سبباً في عبادة الفرد أو الجماعة لذلك المكان المعين أو لهذا الشيء المعين، إما ترقباً لمنفعة منه أو طلباً لدفع مشقة تصدر عنه. على حسب نوع الحادث الذي وقع:
فالصحراء كانت تعبد عند قدماء المصريين رجاء أن تدفع عنهم غضبها، وهو تلك الأتربة التي كانت تثيرها العواصف فتغطي الزرع أو تتلف الضرع. و (النيل) كان يقدس منهم كذلك حتى لا يتخلف خيره من ماء وطمى. والصدفة وحدها هي التي جعلت من قدماء المصريين عباداً للصحراء والنيل، وهي أنهم استوطنوا هذه الرقعة من العالم فارتبطوا في حياتهم المادية بهما. بدليل أن غيرهم من الشعوب القديمة ممن سكنوا بقاعاً أخرى - في آسيا مثلاً - لم يعرفوا عبادة النيل والصحراء، ذلك لأن حياتهم المادية لم ترتبط بهما يوماً من الأيام.
وعلى نحو ما رأينا من عدم الاعتدال في وجدان الطفل يسيطر على وجدان البدائي طابع الغلو والتطرف كذلك: هو كثير القهقهة إن سر بشيء ما، كثير النواح والصياح إن تألم من شيء ما. إن أقبل ففي غير احتياط، وإن ولى ففي غير احتياط أيضاً. كثير الشكوى قليل الصبر على ما يؤلمه، كثير الزهو قليل الاتزان في نشوة فرحه.
لكن الإسلام لم ير الحياة في لون مادي فقط؛ بل جعل أسمى نوع من المتعة واللذة في رضا الله، وأقسى نوع من العقاب في غضبه.
الإسلام عاب الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، ولم ير البر في أن تتجه الوجوه قبل المشرق والمغرب ولكن فيما وراء ذلك من الإيمان بالله واليوم الآخر. . . إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة. . .
ورسول الله محمد بن عبد الله عليه السلام كان إذا ضحك ابتسم ولا يقهقه، وإذا بكى - كما(871/12)
حصل عند دفنه ولده إبراهيم - دمعت عيناه فقط. يطلب القرآن الكريم من المؤمنين عدم الجزع والهلع عند المصيبة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) وفي قوله جل شأنه. (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) فجعل علامة الإيمان بالله - وهو دليل النضج الإنساني والبلوغ العقلي كما سنرى - الاعتدال في الوجدان وعدم التطرف فيه إن في حالة الألم أو في حالة اللذة.
3 - الصلة بالعالم الخارجي:
وإذا انتقلنا من دائرة الوجدان بعد الإدراك في حياة الإنسان في مرحلة طفولته الأول إلى صلة هذا الإنسان بالعالم وجدنا أنه يغلب عليه في هذه الصلة طابع الذاتية والأنانية.
(أنا) هذه الذات، هي الدافع لكفاحه في هذا العالم وهي هدف هذا الكفاح فيه. ويحاول بأسلوب وبآخر أن يمنع الاشتراك فيما يحصل عليه ولو كان مع من هو مصدر الإعطاء من أب أو أم مثلاً.
ولأنه لا يستطيع أن يدرك غير هذا العالم المحس فأهدافه التي يحاول أن يبلغها فيه لا تتجاوز ما يحس منه. كذلك لا يسعى إلى تحصل المثل الرفيعة؛ لا يسعى إلى تحصيل الفضيلة والقيم الأخلاقية. لا يسعى إلى التضحية في سبيل الغير لأنه لم يعترف بالغير بعد. لا يسعى إلى أداء الواجب نحو الجماعة لأنه لم يدرك معنى الجماعة الآن. لا يعرف معنى الزهد، فضلاً عن أن يسعى لتحقيقه. قد يعاف الشيء ولكن لا يزهد فيه.
وما أشبه الإنسان البدائي بالطفل في هذه المرحلة الأولى من مراحل تطوره. لا يعرف البدائي أيضاً حدوداً لمطالب نفسه، ولا دافعاً في الحياة غير ذاته. ذاته كل شيء، وكل شيء في الوجود هو لذاته. إن عبد قلما يعود على ذاته الخاصة من نفع أو اتقاء لما يقع عليها من ضرر. وإن حارب فللغنيمة، وإن هرب من الحرب فلإنقاذ حياته. وإن صادق أو عادى فلمنفعة في المصادقة أو المعاداة.
لا يعرف معنى الوطن فيفديه بالنزول عن بعض ما يملك أو بإجهاد نفسه في سبيله. وما دام لم يعرف الوطن أو الجماعة فتركيز كفاحه لتحقيق مطالبه الخاصة لا ينشأ عن اختيار منه، حتى كأنه آثر نفسه على وطنه أو جماعته عندما نراه يكافح لذاته فقط؛ بل ذلك عن(871/13)
غير إرادة منه بدافع اضطراري من ذاته. إذ الاختيار إنما يكون عند الموازنة، والموازنة لا تكون إلا بعد إدراك لشيئين فأكثر. كأن يدرك أن له ذاتاً، وأن هناك غيرها في العالم من الجماعة أو الوطن، وأن هناك علاقة بين ذاته وهذا الغير تقوم على أداء واجبات نحو هذا الغير وأخذ حقوق من هذا الغير. ولكنه لم يدرك بعد أنه (منفصل) في هذا العالم وفي بيئته، إذ لم يزل يرى أن كل ما في الكون هو، وأن الكون لا يتعدى ذاته.
وعلى هذه الحقيقة النفسية عند البدائيين تقوم سياسة الغربيين المستعمرين في عصرنا الحاضر. يلبون المطالب الشخصية للأفراد، ويقسمون الرقعة الضيقة الواحدة إلى سلطنات أو إمارات ودويلات، ويساعدون رؤساء الإمارات أو السلاطين على تحقيق رغباتهم التي لا تنتهي ولو كانت عبئاً على الصالح العام، وينمون في ذواتهم وأشخاصهم معنى الزهو الخيلاء بما يضعونه تحت تصرفهم من مفاتن هذه الحياة. حتى لكأنهم لا يسمعون من الواحد منهم إلا ترديده: أنا! أنا! في كبرياء أجوف - تجاه الوطنيين فقط -.
وعن هذا الطريق السهل الذي لا يكلفهم شيئاً يأخذون ما ينفق فيه المستعمر عرقه أو ما تزهق في سبيله نفسه من غلات الحاصلات الزراعية والمعادن المستخرجة من أرض الوطنيين المستعمرين.
لكن الإسلام نادى بمصلحة الجماعة وجعلها في الصف الأول إذا تعارضت مع مصلحة الفرد. فرض على الفرد واجبات نحو نفسه ونحو جماعته، وجعل مبدأ (أن لا ضرر ولا ضرار) شعاراً لتعرف هذه الواجبات. بل أكثر من ندائه بالحرص على الجماعة ورعايتها رغب المؤمنين في أن يضحوا بما لهم من نفس ومال وولد في (سبيل الله). وليس سبيل الله إلا إعزاز الجماعة. إذ القربى إلى الله هي المشاركة في إسعاد الغير عن طريق تخفيف آلامه واطمئنان نفسه: فالنصيحة للغير قربى، وبذل المال له قربى، ودفع الضرر عنه قربى، وستر عرضه قربى، والقول المعروف قربى، والتسرية عن نفسه قربى. . . وهكذا. وكلما تعاون الفرد مع الفرد ورأى أن الفرد وجوده وكيانه وجود الأخر واستقراره تقوت الجماعة، إذ إنها تكون حينئذ كالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً.
الإسلام نصح بالزهد في هذه الحياة. وليس الزهد إلا وضع حد بين مطالب الذات ومطالب الغير. ليس إلا وضع نهاية لرغبات الذات. ولذلك كان كفاحاً لتلك الرغبات. هو كفاح يتجه(871/14)
نحو الذات نفسها بعد إن طغت مطامعها وزاد جشعها في عهد الطفولة الإنسانية، وقد يمتد أجلها سنوات في حياة الإنسان.
وإن شئنا قلنا إن الزهد هو تحويل الكفاح في الإنسان من الدائرة الانفرادية أو الأنانية الأولى إلى الدائرة الجماعية. ليس الزهد عبارة عن موقف سلبي في الحياة وتعطيلاً لقوة الكفاح والسعي في الإنسان، فقد كان محمد بن عبد الله زاهداً وكان مع ذلك في مقدمة المكافحين.
4 - السلوك
وإذا تركنا هذه الظاهرة النفسية التي ذكرناها الآن كإحدى ظواهر الطفولة الأولى للإنسان إلى الحديث عن سلوكه في هذه المرحلة وجدنا طابع الوقتية من جهة والتقليد من جهة أخرى يسيطران على هذا السلوك:
(ا) ينتقل الطفل في هذه المرحلة بسرعة من حال إلى آخر. لا يلبث تمسكه بالشيء طويلاً ولا يبقى إعجابه فترة زمنية واضحة، كما لا يستمر تألمه من الحرمان وبكائه على فقد الشيء طويلاً كذلك. يقبل البدل والعوض في يسر وسرعة لكن بشرط أن يكون هذا العوض أكثر إغراء له بكبر حجمه أو بكثرة لمعانه أو بشدة تفاوته في اختلاط الألوان الزاهية، وإن كان ضعيف القيمة قليل الجودة.
لذا ينعدم الإيمان بشيء هنا في هذه المرحلة. وبالتالي لا يوجد كفاح من أجل العقيدة أو المبدأ. إذ مأخوذ في طبيعة الإيمان أنه ليس التصديق فحسب، بل الاستمرار فيما يصدق به الإنسان. وتختلف درجات المؤمنين حسب تفاوتهم في هذا الاستمرار لا حسب التصديق والإقرار.
الثبات على الشيء أو على المبدأ ميزة الرشيد من الإنسان. والتحول عن الشيء ميزة الطفل في طفولته الأولى أو ذلك الإنسان البدائي، وهو ذلك الذي لم تكتمل إنسانيته بعد. . .
سبب ذلك أن العالم مشحون بالمحسات أو الماديات والطفل مرتبط بما هو مادي محس أيما ارتباط لا يستطيع الانفكاك عنه إلى الآن. فهذه المادية اللانهائية للعالم لا تخلو من مغريات كثيرة تشغله في صحوته ويقظته، وهو منجذب نحو آحادها لا يلبث عند واحد منها إلا(871/15)
بمقدار ما يجذبه الآخر.
أما الرشيد فقد استطاع أن يقف على قدميه في هذا العالم يتخير منه مل يريد. إن أقبل على شيء ما أو أدبر عن شيء ما فعن إدراك فتصميم. لاختياره سبب وعلة. فهو يقف عند ما اختار، ما دام سبب الاختيار قائماً على نفسه. وقلما يتغير السبب إذا كان عن تفتيش وروية - شأن من بلغ بلوغاً عقلياً -.
(ب) كذلك يخضع الطفل في سلوكه لعامل التقليد: يخالف اتجاهه السابق في السير تقليداً لمن هو أكبر منه. لا يستطيع الإجابة عن سر تحوله سوى أن فلاناً - الأب أو خلافه - هكذا صنع:
والبدائي لا يختلف عنه في سلوكه: يتميز بكثرة التحول والتنقل، ثم باتباع التقليد فيه. لا يطول عجبه ولا تطول صداقته ولا زمالته. لا يستمر حزنه وبكائه، يضحك وما زالت الدموع في مقلته أو على خده. صديقه بالأمس عدوه اليوم.
يأتي من التصرفات ما يناقض بعضه بعضاً. ولو فتشنا في سبب تناقضه وجدناه التقليد فيما أتى به.
وما عللنا به سلوك الطفل هناك هو ما نعلل به سلوك البدائي هنا. كلاهما في هذا العالم كمن وقف في مهب الريح، يدفع في سيره دون أن يستطيع اختيار اتجاه معين. إن بدأ بالسير لا يعرف متى يقف؟ وأين يكون
إن الإسلام قام على دعائم فالإيمان أولها في نظره. لا لأنه أساس يتفرع عليه غيره من مبادئ أخرى؛ بل لأنه في الواقع الفيصل في الحياة الإنسانية. هو أمارة على انتقال الإنسان من مرحلة أدنى إلى أخرى أرقى منها في تطوره.
لم يثن الإسلام على المؤمنين به وحدهم لأيمانهم؛ بل احترم كذلك أهل الكتاب ممن لم يحرفوا الكلم عن مواضعه. أما غير أهل الكتاب من الوثنيين، أما أهل الكتاب الذين بدلوا دين الله فهم أمامه سواء في عدم انتقاله من حال الطفولة الإنسانية إلى حال الاكتمال والرشد الإنساني. لا يحق لهم إذن عهد ولا ذمة.
الإسلام وإن شاد بالإيمان فأشادته بذلك الذي جاء نتيجة الروية واستقلال الفكر ووليد النظرة الحرة، لا ذلك الذي أساسه التقليد. (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم(871/16)
يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون). يريد من الإيمان ذلك الذي هو عنوان الرشد الإنساني.
أما الإقرار نتيجة التقليد فهو بالأحرى أمارة الطفولة، لا يلبث صاحبه أن ينتقل مما أقر به أولاً إلى الإقرار بشيء آخر تدفعه إليه مغريات العالم ومفاتنه الظاهرة. . (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). أولئك هم البدائيون في الإنسانية، هم أطفال ولو بلغوا الحلم.
5 - الحكم والتقدير
ومما يتصل بهذا الجانب النفسي الذي عالجناه الآن - وهو السلوك الإنساني في مرحلة الطفولة - جانب آخر له أهميته وهو طابع الحكم أساس وزن قيم الأشياء عند الإنسان في هذه المرحلة أو من هو شبيه له.
(أ) يغلب على حكمه طابع التذبذب والتردد، لأنه في حكمه على الشيء دائماً متغير في نظره: فبينما يقدر الشيء للونه إذا به ينفر منه لمذاقه. وبينما يقبل على والده أو أمه بالتقبيل - إن أخذ من أحدهما قطعة من الحلوى مثلاً - إذا به يثب بالضرب على من يناديه منهما للنوم أو يدعوه للهدوء والسكينة.
هو لم يختبر ما نال إعجابه أولاً ثم نفر عنه ثانياً ليقف على شيء ثابت فيه، وهو ماله من حقيقة وكنه حتى يكون الحكم عليه مرتبطاً بماله من هذه الحقيقة. ولم يعرف بعد أيضاً في أبيه معنى الأبوة وفي أمه معنى الأمومة حتى يربط تقديره لأحدهما بذلك المعنى الباقي فيه.
(ب) ولم يستوف في وزنه للشيء عناصر التقويم فيه، إذ الجزء للشيء يعبر عن نفس الشيء في تصوره وإدراكه - كما ذكرنا ذلك أولاً -.
فتقويمه إذن للشيء تقويم له بجزئه، وبجزء تأثر به هو، وقد لا يكون من مقومات ذات الشيء: فكراهيته لإنسان لأنه أدرك فيه مغايرة البشرة لما ألف رؤيته من الناس، وحبه لإنسان لأنه أعطاه ما يهواه لا يتصل ذلك بتقويم الإنسان بما هو يه إنسان.
هنا تتقدم الثقة العامة بأحكامه وتقديراته، لأن أساسها متغير وسريع في تغيره كذلك.
وتقديرات الإنسان البدائي، وإعطاؤه القيم للأشياء لا يتفاوت في الطابع الأساس عما يعرف للطفل في مرحلة طفولته الأولى من التغير وعدم الثبات:(871/17)
يجري في التقدير وراء ما يتصل بأنانيته أو ما يدركه من ظواهر الأشياء دون ما يتصل بذات الشيء وجوهره. يبدو ذلك في تصرفاته المتقلبة - كما رأينا -.
لا يعرف مقياساً عاماً في وزنه وتقديره أنه لم يهتد بعد إلى الحقائق. وقلما يصل إلى حكم استوعب فيه عناصر الحكم الصحيح عند الرشيد.
لكن الإسلام طلب أن يكون التفتيش والاختيار والروية أساس الحكم: يقول تعالى مخاطباً المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). ويقول مخاطباً رسوله الكريم: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون). فلم يرض أن يكون الظاهر المدرك الأول وهلة أساس الحكم ثم العمل والتصرف.
وهكذا في كل جانب من جوانب الطفولة الإنسانية - في الطفل مرحلته الأولى أو في الإنسان البدائي - لو وقعنا على مظاهره وعرفنا بطريق المقابلة بظاهر الرشد والنضج العقلي وحدنا الإسلام يمثل منتهى الرقي حسب معايير الإنسان. ومع ذلك ليس من صنع إنسان كامل، لأن هذا الإنسان الكامل لم يكن حقيقة واقعة ولم يزل بعد فكرة، وسيظل فكرة ومثالاً فقط. الإسلام وحي من الله الذي هو فوق التجديد الإنساني، إذ هو سر الوجود وسيبقى سر الوجود ما دامت السماوات والأرض، وما دام الإنسان يعيش ويبحث.
محمد البهي(871/18)
الشاعر العاصي. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
ولد أحمد العاصي - رحمه الله وغفر له - بفارسكور في صيف سنة 1903. وكان أبوه من كبار التجار فيها، وماتت أمه، ولم يتجاوز السادسة من عمره. وقد بدت على الغلام بشائر النبوغ، فعني به أبوه، حتى ألحقه بكلية الطب، وما زال يحصل دروسه حتى انتابته حالة عصبية، وهو في السنة الثالثة، فقضي بلبنان ثلاثة أشهر عاد بعدها خفيفاً من بعض ما جثم على نفسه.
ولما بدأ العام الدراسي عدل عن الاستمرار بكلية الطب، والتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، وقرأ (تأملات ديكارت) على الفيلسوف الفرنسي لالاند، وراقته الدراسات الفلسفية لهذا جد العاصي في أن يعوض معايبه بالانطواء على نفسه، مل حتى الحديث بل صار يحيا في حياة كأنه في مغيب ولا سيما خلود الروح والتفاؤل والتشاؤم، والموت والحياة، وفي أيام الدراسة وضع رواية (غادة لبنان) ثم نشر (ديوان العاصي) سنة 1926، ولما حصل على الليسانس سنة 1929 عين موظفاً بالجامعة المصرية (جامعة فؤاد الأول).
كان العاصي مثال الشخصية المتناقضة، فإذا ضحك أضحك حتى لتكاد الجمادات يضحكن معه، وغدا حزن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، واسودت من حوله الحياة، فغلبت عليه نزعة النفور، وتمكن من نفسه الشعور بالنقص، ولا سيما أنه كان قميئاً خفيض الصوت لا يكاد يبين. يقول عن نفسه:
أبن عشرين عذبته الليالي=وأطاحت بعزمه المشبوب
لم يذق لذة الحياة ولكن ... ذاق أنواع قاصمات الخطوب
ساهم ساكن معنى مروع ... في شباب مقنع بمشيب
إن تحدثه قد يجيب بصمت ... أو بهمس أو شارة أو دبيب
ومداومة الاطلاع. وزادت ظروفه العائلية من حدة نفوره من أبيه الذي تزوج من غير أمه بعد موتها، وهجر أخويه واعتزلهما وأقام بالقاهرة.
وكان لشيرشون أثر قوى في تسعير جذوة نفسه: قرأ كتاب (كتاب وأخذ يقرأ في صمت عن الموت حتى لقد كان يضع خطاً بالقلم الأحمر تحت كل كلمة (الموت) في الكتاب.(871/19)
وبعد أن غمرته هذه الدراسة السوداء كتب خطاباً على الصفحة الأولى من الكتاب قال فيه (إلى من يهمهم أمري: جبان من يخشى الموت، ومن لا يرحب بهذا الملك الكريم الذي هو لي كالرائحة الزكية. . . أحمد العاصي).
وتملكته فكرة الانتحار، فلم يجد عنها مصرفاً، حتى أنه كان يفكر ويمعن لا في العدول عن الانتحار ولكن في اختيار أيسر السبل إليه، وأخفها وطأة عليه. وقف على كوبري محمد علي ذات مساء ونظر إلى الأمواج، واستب أن يلتف بها، ويحتضن الموت، ولم يكد يهم بذلك حتى راجعته سيدة إفرنجية كانت تتمشى ساعتئذ خلفه، فعدل ولكنه آثر الموت عاجلاً أو آجلاً، فأوى إلى فراشه وبخع نفسه بمادة كاوية ظلت تحرق حجرة نومه من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة من اليوم التالي حيث اندلعت ألسنة الدخان من خلال النوافذ، ولم يكد المارة يقتحمون المنزل حتى رأوا هيكلاً بشرياً صار هشيماً
وهكذا آثر الموت الزؤام على الحياة الباسمة، ولقي ربه سنة 1930. أما شعره فكان مرآة هذه النفس الجامحة الجاحمة، وهو يمهد لديوان شعره بهذه العبارة الصريحة: (ألمت بي محنة من محن الدهر ألزمتني العزلة حيناً فشعرت بحاجة حادة لأن أشغل نفسي بقول الشعر فيما شغلني من شؤون الحياة من قبل. . .) وصدر له ديوانه أمير الشعراء أحمد شوقي بك بأبيات منها:
هذا شباب السحر يلمح ماؤه ... من جدول (العاصي) ومن ديوانه
ويقول منها:
ويكاد يلمسك السرور يراعه ... وترى يد الأحزان حول بيانه
يشكو الزمان لنا، ويالك يافعا ... ناءت بميعته هموم زمانه
ولتعلمن إذا السنون تتابعت ... إن التشكي كان قبل أوانه
وهذا الشاكي الذي فارق الحياة غير آسف عليها، ولم يبلغ السابعة والعشرين، عاش نهباً للألم الدفين، واليأس اللافح، وكانت أضالعه مرجلاً للصراع العاطفي العنيف، وأبواب ديوانه صورة من ذلك كله، فثمة باب الأدب، ويشمل ما قال من شعره في عهد الاطمئنان - كما يدعي - وما هو باطمئنان وباب النقمة، ويشتمل على ما قاله في عهد المحنة والتبرم بالحياة؛ ثم باب الغزل والفخر وفيه شعر المديح وتشريح الهم؛ ثم باب للمتفرقات من الشعر(871/20)
الذي قاله في أوقات متباينة، وختم ديوانه بمأساة هو بطلها وسماها (قصة الموت).
قرأ صاحبنا للفلاسفة القدامى منهم والمحدثين، فأوغل في الأعماق متدبراً متفكراً عله يثوب إلى نفسه التي افتقدها، ولكنه راح يتعجل (سر الحياة) فارتدعن حجابه الكثيف، لا يدري غير شيء واحد هو أننا:
نحن نسعى في فلاة، لا نرى ... غليها والكل يغري بالسراب
وأن الناس نوام فإذا ماتوا انتبهوا، وعلى الناس أن يعودوا من حيث جاءوا، وهكذا يدعوهم العاصي:
يا بني الأرض إن منها نشأتم ... فارجعوا حيث كنتمو في أمان
ويمضي الشاعر يفلسف الحياة وخداعها، وعيش الناس فيها، والمنى التي من دونهم المصاعب، وحقيقة الإنسان، وما أوتي من عقل يتباهى به الناس، وإن لم بكن فيه شفاء من جهالة، ثم يتهكم بهؤلاء الذين يتحدثون عن الآخرة:
يا صاحبي لقد تحدث بعضهم ... عن عيشة أخرى وعن أخبارها
لله درهموا، فهل قد جاءهم ... يا صاحبي البعض من زوارها
وينقلب بعد ذلك على الإنسان شيخ الجاحدين:
خير هذي الأرض يسعى نحوه ... وهو ما زال زعيم الناقمين
ويعاود التفكير في سر الحياة الذي لن يدركه الإنسان إلا أن يترك هذا العالم المسترذل:
نحن سر في الدهر، والدهر سر ... هو عنا مستر محجوب
نحن في العيش كلنا ككرات ... قذفتها - كما تشاء - الخطوب
لهذا صار عبداً للملذات، وبمحرابها سيضحي ويمسي، فلئن سألته كيف استعبدته اللذة أجاب:
ضقت بالهم فانتقمت لنفسي ... باللذة من همومي وبؤسي
وهكذا قهر الدهر، فانتهب اللذة، وانتقم لنفسه مما ترزح تحته من أرزاء، فوجد في النسيان ما يباعد بينه وبين مواقع الصراع.
غير أنه ينصح بالزهد فيها، وكسر شرة النفس، ويقول:
حسبكم ما سد جوعاً أو صدى ... أو فيكم عاجز عن ذا وذاء(871/21)
كل أطماع الفتى من عيشه ... ضلة أوقعه فيه هواه
وهو إذ يبذل هذه النصيحة يزجي بين يديها خبرته بالحياة:
لقد فعل الخير فصار بخساُ، وطلب العلم فهان في نظر الناس.
ويتأثر العاصي بأفلاطون في نظرية المثل حيث كانت النفس خيرة فهبطت إثر إلى عالم الرجس والفساد بعد إن (كانت الدنيا صفاء خالصاً).
وتمضي هذه العاصفة التي زعزعت من خواطر العاصي، وتغلغلت أصداؤها في قرارة حسه حتى إذا هدأت قليلاً، اطمأنت نفسه بالإيمان فقال:
آية الله بدت في خلقه ... في جمال نحن في الدنيا عبيده
وفي قصيدة أخرى عن الإيمان أيضاً يدعو إلى التضرع بالقوة، ويعيب على القائلين بأن الزمان رمى فلاناً (فماذا للزمان وللنزال) وجدير بهم أن يعترفوا بضعفهم وعجزهم من ملاقاة الهموم المتوالية. ولكن يخفف همنا هذا التوالي، وخير من لوم الدهر أنا نضرع إلى الله.
ما شاء الله! هذه لمحات الإيمان تنبثق من لحظة إلى أخرى على الشاعر المسكين، ولو أنها وجدت إلى جواره الصديق الطبيب لعاد إلى حسه المرهف على الأدب والحكمة بأسمي المثل، ولشفى أنفس الناس ونفسه مما يجد ويجدون.
وفي قصيدة (الأقدام) التي يمنحها من أعماق اللاشعور، يحث غيره على المجد والمعالي بينما يزجي نفسه إلى الموت على عجل، وكأني به يتخيل نفسه حين يقول:
(والمرء فوق فراش الموت منطرح)
ثم يقول راضياً عن الأيام، منتظراً الرحيل في الأبدية:
دعني أقضي بها عهدي وأرحل من ... دهر لدهر، وإن العمر أجيال
ويقول مرة أخرى في سر الحياة:
وإذا الموت أتى فاستقبلوا ... ركبه، وليهن فيكم من يراه
وهو يستوحش الناس، ويدعوا إلى اعتزالهم لما يتباينون فيه من الأحكام على الأشياء والأفعال، ويقول:
رب أمر خلته حمقاً وقد ... خاله الناس حكيماً ومصيباً(871/22)
رب فعل أنت تأتيه لكي ... تطرب الغير فتلقاه غضوباً
رب رأي كان عذباً ناضجاً ... عد من يأتيه خداعاً كذوباً
فلتخل الناس يحيون كما ... قد أرادوا ولتعش فيهم غريبا
ليست العزلة عنهم وحشة ... أنت بالعزلة قد تحيا طروبا
إن من أكثر من أصحابه ... لا يرى من الدنيا يوما رطيبا
إن سوءاً من أخ أو صاحب ... منهن ما بين الاثنين الحروبا
كان العاصي يستشعر في نفسه بغضا متبادلاً بينه وبين الناس وإن كان لاوجود له في عالم الواقع. فليس اختلاف الناس فيما بينهم في أحكام القيم إلا دليلاً على حيويتهم، وبغير ذلك لا يتميز خير من شر، ولا حق من باطل، ولا جميل من قبيح، والذكاء أو العقل في نظرة علماء النفس إنما هو (التكيف بالبيئة) وإذن تكون العزلة نتيجة لاضطراب النفس، وارتباك العقل، وعلامة على تخلف الفرد عن ركب الجماعة.
حياة كلها يأس وشقاء، وبؤس وهموم، وأنفاسه موزعة بين حسرة وزفرة ونقمة:
فإن تكن الليالي مثل هذا ... فإن الأمن عندي في اعتزالي
وصاحبنا - مع ذلك معذور، والمجتمع الذي حوله مسئول عما انتابه، ومأخوذ بجريرته التي ارتكبها، فلو أنه لقي في صحراء العيش واحة للصداقة تروح عن نفسه، لفض همومه، وسلك مع السالكين إلى المجد الذي طالما داعب طموحه، وهو الفيلسوف المفكر، والشاعر المرهف، ولكنه يقول:
ضاعت سعادة نفسي، وانبرى أملي ... ونال ما بي من جسمي فأضناني
إني ظمئت إلى خل ليؤنسني ... فلم أجد مؤنساً ما بين خلاني
فعدت للهم عل الهم يؤنسني ... إن كان في الهم أنس الواله العاني
فلم يستجب له أحد، وذهبت صرخاته مشلولة الأصداء:
قولوا لسارية الآلام في كبدي ... هل تقصرين، فإن الهم أبلاني
واحنوا علي إذا ما الهم أرقني ... وباركوني إذا ما الصبر وافاني
ولا تكونوا على نفسي إذا جزعت ... فإني مرجع نفسي لإيماني
لهذا كله حلت له العزلة بدار (لا يزور ولا يزار)(871/23)
أهيم بوحدتي، وبقرب نفسي ... فود الناس حل به البوار
وحسبي أنني غرد طروب ... بأفكاري، وما في ذاك عار
فلا عجب إذا نقم على الحياة، وعلى الناس، وعلى نفسه إذ يقول:
يوقد النقمة في قلب الكريم ... سوء ما يلقى من الدهر اللئيم
وإذا تحطمت النفس اعتل الجسم، فلا راحة، ولا انسجام، واختل التوازن بين القوى في كيان الفرد.
مجمع الآلام حسمي ياله ... من صبور وحمول وكظيم
بل يروي هوة فاصلة بينه وبين الناس، ينكرهم وينكرونه لما يحس في نفسه من نقص:
أخالني وأخال الناس ترمقني ... عجيب خلق يحير الناس مرآه
ولو تراني مأخوذاً ومستلباً ... لخلتني موكلاً بالغيب أرعاه
ويقيني أن شاعرنا غير صادق إذ يقول:
لكنني وخطوب الدهر تعصف بي ... ثبت على كل ما في الدهر ألقاه
ألقى الهموم وتلقاني وأتركها ... يوما وتتركنني: كل لمثواه
هذه مغالطة نفسانية، وتعويض داخلي، ليت له قوة التأثير في نفس شاعرنا، ولكنه صريعاً منطول ما أوهت عزائمه الهموم التي قعدت بهمته، فأخلد إلى الأرض. قال:
شعرت بالهم حتى لا أحس به ... وقد تفيد فتى في الهم سكرته
أتى الزمان بدائي ثم أعجزه ... دواء دائي، وضاقت عنه همته
يا قوم ليس تفيد المرء همته ... إن أقعدته بهذا الدهر لوعته
وكما ضاق صاحبنا بالخل الوفي، ضاق أيضاً بالعيش الهنيء، وهو أظمأ ما يكون إليه، ولكن أين هو: -
ولعيش هانئ بي ظمأ ... بالغ للنفس ما بعده ري
يا بني الدنيا ويا عشاقها ... ويكمو أين هو العيش الهنيء
ثم يعود إلى لوعته تساوره ويساورها، ويحاول أن يزحزحها عن كاهله فيكل عنها، فيغالط نفسه مرة أخرى، ويدعي الثبات أمام ويلات الزمان.
لا ينثني عنه الزمان ولا يني ... عن نيله، وهو الكمي الأمرد(871/24)
ويتحدث بعد هذا الصراع، وهو يجر أذيال الهزيمة:
وما أنا إلا بعض هم تجسمت ... معانيه حتى أصبحت جسداً يجري
يقولون أين العزم قلت مضت به ... هموم عدت يوماً على العزم والصبر
كأن صروف الدهر بيني وبينها ... وما أحد يدري قديم من الوتر
فتى في إهابي ضاق صحن فؤاده ... بجيش من الآلام في ضحوة العمر
ويأبى الأسى المضني فراق صريعه ... إلى أن يراهم أودعوه ثرى القبر
ذلك بأن الموت طبيبه الذي سيشفيه من داء العيش:
أنا في الدهر حائر كيف ألقي ... أي أنس بما به فأطيب
كيف أهنا بالعيش، والعيش عندي ... مرض، والممات عندي الطبيب
ولطالما بحث عن همه ليعالجه، فما يرى إلا سحائب من دخان الهم يضيق بها صدره. ومما يزيد في ضيقه أن الناس إذ يريدون أن يخففوا عنه زفرة أو محنة أو لاعة أو نقمة إنما يلفظون بكلمة (أنت واهم) فما تفتح مغلقاً، ولا تأسو جرحاً.
إني لأبحث عن همي فأخطئه ... لكن أشم فؤادي وهو يحترق
كأن صدري وما ضمت أضالعه ... حصن إليه جيوش الهم تستبق
قالوا وهمت، ونال الوهم بغيته ... مني فهل وهموا في القول أم صدقوا
وفي قصيدة أخرى يقول:
قالوا: اصطبر، قلت أن الصبر قد نفذا ... فما يف أخوهم إذا اتأدا
قالوا اعتزم، قلت ضاق العزم وانفردت ... بي البوائق حتى أوهت الجلدا
ما حيلة المرء إن مال الزمان به ... إلا رضى بأسى يفري له الكبدا
أرعى همومي، وترعاني ولا أحد ... يحنو علي، فألقى فيه معتمدا
ويتذكر العاصي ليالي أنسه، ويداعب ذكريات عزه، ويتمنى لو تسكت عنه الهموم ويهدأ قلبه المتمرد:
فإن كان في هذا غد طاب لي غد ... وإلا فصبري في غد متمرد
فقد سار بي شوطاً بعيداً عن المنى ... وما هو للسير الطويل معود
فيل غد لا وافيت إلا بنصرتي ... فإن حياتي في يمينك يا غد(871/25)
وهذا آخر الشوط الذي استسلم عنده الشاعر من شدة الإعياء. وباب الغزل الذي طرقه أحمد العاصي يفضي بنا إلى تيارين أحدهما قبل العاصفة العاطفية التي جمحت به، والآخر وهو يتخبط في دياجير تلك العاصفة. وعلى كل حال فإنه عشق لا لشيء إلا لأن له قلباً كسائر قلوب الناس، وكل ما بينه وبين غيره أنه أحد هؤلاء الذين فشلوا في الحب فكان هذا الفشل ضفثاً على إبالة. فهو يقول:
خبري يا أمة العشق: فتى ... زار يوماً ساحة العشق فضل
على أن باب الفخر يتم عن فترو من التجلد سبقت المحنة التي استعصت عليه:
لعمركمو ما في إلا معاند ... لدهري صليب الجانبين صؤول
ويمضي في هذه القصيدة معبراً عن حبه الخير وفعله المعروف:
أحب فعال الخير والصدق شيمتي ... وفي حكمتي قائد ودليل
وإن رام مني الدهر مالا أوده ... رددت جموح الدهر وهو ذلول
ولعل الأبيات التالية تنبئ عن مسلك الشاب الطموح الذي لا يلوي على شيء وهو بسبيل المعالي من الأمور:
وما السير للعلياء إلا لذاذة ... لنفس فتى ما حل عقدته الدهر
إذا ما ركبت الليل فالمجد مطلبي ... وسيري مد ليس يتبعه جزر
أهم فلا أبقى لدي النفس مطلباً ... واصبح والآمال في ساحتي كثر
فأما ملذات النفوس فإنني ... أرى أن سعي المرء في أثرها نكر
ويستطرد في هذه القصيدة مستنكراً أن تعوقه عن مطلبه السامي بنت كرمه (تضيق بها في الدهر أخلاقي الزهر) أو أن يهيم بغانية لأن:
لنا عزة من دونها كل مطلب ... وهمة نفس ضاق في أمرها الدهر
وليس بنا للناس إلا محبة ... وليس بساح القلب من أجلهم غمر
ونسى لهم حتى نقيم ضعيفهم ... وننهض من يهوي بعزمته الفقر
وهكذا كل الفضائل الاجتماعية من رد الظالم وإيواء الشريد وبغض اللئيم وحب الناس جميعاً، ونزعة الخير غالية على شاعرنا في فترة اطمئنان نفسه وهدوءه انفعالاته.
ودأبي فعل الخير حتى لو أنني ... سئلت لما أدري لمن أنا فاعل(871/26)
وما بي حب للحياة وإنما ... أعيش لتحيا في حماي الفضائل
فهو كهف للخيرات وحمى الفضائل. ويشهد معاصروه من زملائه بما كان له من آراء صائبة عند مناقشة أساتذته، وهو يسجل هذا فيقول:
أدفع القول فلا أبقى فتى ... سامعاً لي لم يصر من تبعي
وأرى الحق فلا أتركه ... ضائعاً ما بين قوم ضيع
تعرف الأقوام عني أنني ... أسمع الأقوام ما لم يسمع
وأغلب الظن أن لهذا البيت الأخير صلة بما وقع بينه وبين أستاذه الدكتور طه حسين بك يوم اعترض أحمد العاصي أثناء إحدى محاضرته، فلم يسمع الأستاذ واستمر يحاضر، فحسب العاصي أن الدكتور يحتقر هو يغضي عنه، فحز ذلك في نفسه وامتلأ غيظاً، فلم تكد تنتهي المحاضرة حتى هب العاصي محتجاً على الدكتور كيف يسأله فلا يجيب، فأخبره بأنه لم يسمعه ولو كان سمعه ما تردد في الجواب في الجواب والنقاش ولا سيما مع أحمد العاصي بما عرف عنه من قوة الحجة، وإجادة الجمال، ومع ذلك أصر العاصي على احتجاجه، والدكتور يخفف عن نفسه ويطيب خاطره على الرغم من خفوت صوت العاصي، ويقول:
أنافي العلم غلام لو ذعي ... وإذا ما قلت فالرأي معي
ومن ثنايا الديوان يخرج الشاعر المتمرد المنطوي على نفسه إلى عالم الناس جريئاً قوياً ثبت الجنان حقاً، فيعبر عن آمال مصر في جامعتها، ويحفز الهمم في حماسة الشباب، مفضياً عن محنة هو:
لا يصد المرء عن أغراضه ... محنة تزجي إليه أو سقم
ويؤذيه أن يرى ما بين بني قومه من شقاق، فيعتب عليهم في رفق:
تريدون بالشحناء نيل مرادكم ... وترجون الاستقلال بالأقوال
ويؤثر أن يختم ديوانه بقصة الموت، وهي تلك الساعة الرهيبة التي يستعجل فيها ملك الموت، مرحبا بة، ويستحثه على الصعود إلى العالم الباقي بروحه ليخلص من الأرجاس الدنيوية والهموم القائمة:
ساعة يؤنسني فيها الملك ... هامساً هيا لمن قد أرسلك(871/27)
قائلاً لا تخش سوءاً يا فتى ... هاهو المركب قد هيأت لك
سر حثيثاً لا تمانع إنما ... في غدر تثني على من أوصلك
واسع بالروح إلى المولى ولا ... تذكر الدنيا فليست منزلك
ثم يمضي: -
هاهي الحدباء قد جهزها ... لك من قبلك للموت سلك
فاشدد العزم وهيا لترى ... لذة كبرى وتحيا كملك
ثم يتخيل نفسه في وادي الموتى حيث يبعث منه برسالة إلى الأحياء فيقول:
كم أنا رافه هنا بحياتي ... وبما عندنا من اللذات
كل ما نشتهيه تحت يدينا ... ولنا ما نشاء من طيبات
هذا هو الشاعر العاصي الذي نفث في قيثارته أنفاسه، ووقع على أوتارها نبضات قلبه فجاءت ألحانه صادقة في التعبير عن وجدانه. لم يتكلف الشعر ولم يكن إلا كالسيل يندفع نحو غاية عنيفاً غاية العنف، ثم يمضي بعد ذلك كالجدول المنساب بين فحيح النيران في جوف الظلام.
نعم صدق العاصي في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره، وبرع حقاً في اقتناص كل انفعال تردد بين جوانبه، فتصيد له الغنم المناسب، وقيده في شعره الحر الطليق، فواتاه اللفظ، وأسعفه اللحن، ودانت له القافية، فما نبا عن ذوق ولا كباقي خطاه. ولو كان للشاعر المرهف رفيق يفضي إليه بغمرات نفسه، لاستطاع أن يطرح من أثقاله، ويروح من همومه، ولكنه للأسف - كان كالضمآن في بيداء اللانهاية: حرم عطف الصديق، وحنو الشقيق. وأنس الرفيق، وجافاه الحبيب، وانطوت آماله وعكف على اللذات، وفلسف الأحزان كما أراد.
هذه الحياة كانت آفاق الشاعر العاصي وحده، لأنه اعتصرها بعيداً عن الناس واستدار حول نفسه في إطارها من الداخل. غير أنه لم يحفل بالطبيعة في كثير ولا قليل. نعم لقد عطل جميع منافذ إحساسه عن مجال الكون، وما له يرى ويسمع وهو في (كهف أفلاطون) ليس أمامه فيه إلا أشباح الفناء وقد ظنها حقائق تجسمت حتى أخذت تخايله في حياة كلها مظلم صامت. الطبيعة الحسناء، والقاهرة وضواحيها، والفجر والربيع والسماء والماء والجداول(871/28)
والضفاف، والزهور الحسان. . . لم يكن لهذه التهاويل ظلال في جوانب الشاعر المتمرد، فخلا منها شعره، وكان كدودة القز تغزل خيطها في محبس الظلام حتى يؤذن لروحها أن تهيم كالفراشة في مسبح الضياء.
ومهما يكن من شيء، فتلك شاعرية لها ميزتها التي تكفل لصاحبنا (شخصية) في الشعراء الخالدين، من أوضح عناصرها وأبرز معالمها، ما قاله أمير الشعراء فيه:
ولتعلمن إذا السنون تتابعت ... أن التشكي كان قبل أوانه
محمد محمود زيتون(871/29)
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
تمهيد
كانت بداية النهاية في كانون الثاني (يناير) من السنة 1256 حين هاجم هولاكو أسوار بغداد ولم يفد معه عرض الصلح الذي تقدم به ابن العلقمي وجاثليق النصارى.
وفي اليوم العاشر من شهر شباط (فبراير) من السنة نفسها استيقظت بغداد فإذا بها أمام تيار عارم لا يقف عند حد ولا يريد أن يقف عند حد. تيار من الوحشية التي تستعذب دماء الناس وتستمرئ لحومهم وإذا بالسيف والنار يقدمان لهذا الجائع موائد من الدماء واللحوم يدوسها بأقدامه ضاحكاً ساخراً. والناس من أهل بغداد وما جاور بغداد حيارى واجمون يعصف بهم الرعب ويجرفهم الخوف وتشتد بهم العاصفة من كل جانب فلم يجدوا من أن يودعوا خليفتهم الذي استسلم وخضع. ومجدهم الذي توارى واحتجب وحريتهم الإسلامية التي انتهكت وأهينت. ولم يجدوا بداً من أن يستقبلوا فاتحاً متغطرساً سفاكاً مستبيحاً، كل ذلك على مضض منهم وكره. واستسلمت بغداد لحد السيف وأسلمت تراثها لألسنة النار وأمواج النهر، تلك تلتهم وهذه تبتلع، وانطوى العصر الذهبي بعظمته فلم يعد التاريخ يسمع غير الهمسات الخفيفة والنأمات العابرة والصدى المبحوح وحتى هذا الصدى أخذ يختنق تحت وطأة العجمة الطاغية والوحشية الحمقاء. ولوحقت اللغة العربية وآدابها في كل مكان وطوردت في كل مرفق تجتث أصولها وتشذب فروعها ويغرس مكانها الجهل والعماية.
وبقيت بغداد وسائر المدن العراقية تغط في نومة طويلة أحقاباً وسنين سماها المؤرخون (الفترة المظلمة) ولم يخطئ المؤرخون في هذه التسمية فقد كانت هذه القرون التي مرت على العراق زاخرة بالجهل والتأخر والانحطاط والانتكاسة العميقة فلا عدل ولا إصلاح ولا أدب ولا دراسة ولا تعليم، الأخيال باهت يلوح بين جدران المساجد والبيوت في الحواضر العراقية، وإلا لمحات قليلة لا تقع من تأريخ الأدب الصحيح على مكان إذا استثنينا العلوم الدينية والتاريخية التي لم تركد كل الركود. بالرغم من ذلك كله فإن اللغة العربية في العراق بقيت تصارع وتكافح وتهدأ حيناً وتثور حيناً آخر، تكافح عدواً عنيداً لا يكتفي بما يبتزه من خيرات ومنافع بل يحاول القضاء على هذا الطابع الذي تتميز به الأمة - وطابع(871/30)
كل أمة لغتها كما يقولون - وكانت هذه اللغة تدرس وتقرأ ولكن نطاق ضيق محدود، وتجد من يحدب عليها ويرعاها ولكن في مجال غير فسيح؛ فبعد أن كانت بغداد هي مركز العصب الحساس للغة العربية وآدابها أصبحت في هاوية بعيدة الغور في غفوة الزمن، وبعد أن كانت البصرة في مربدها والكوفة في منبرها تنتجان وتتباريان أخلدتا إلى السكون والدعة، ولم يعد التاريخ يسجل للعربية علماً وأدباً إلا قليل مما تنتجه بعض المدن كالحلة والنجف والموصل وكان هذا الإنتاج بين تأليف لا عمق فيه ولا دقة، وشعر لا عاطفة فيه ولا تصوير، ونثر تشمئز اللغة من تراكيبه وأسلوبه. يجرف ذلك كله تيار من التقليد والمحاكاة. تقرأ للشاعر فلا تقع عينيك في ألفاظه إلا على الطلول والدمن، ولا تهيم معه إلا في حاجر وذي سلم؛ وهو بعيد عن ذلك في بيئته وحياته الاجتماعية. وتتطلب معانيه فلا تجد إلا وهي باهتة خابية لا حياة فيها ولا حركة ما عدا شعراء قليلين كان لهم نصيب من الشعر الجيد.
حتى إذا جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر للهجرة أخذ الشعر يتمطى بعد غفوة ويصحو بعد رقدة، لم يستطع أن يزيل عن جسمه غبار السفر البعيد أو يتخلص من بقايا التعب فلم يسلم من تبعات التصنع والتقليد. ومن أشهر شعراء هذه الحقبة كاظم الأزري ثم العمري والأخرس وحيدر وجعفر الحليان، والسيد الحبوبي وغيرهم كالشيخ جواد الشبيبي والشيخ جعفر الشرقي. وكان هذا العصر إيذاناً بعصر جديد وبنهضة شعرية جديدة نشط فيها الشعر وتحلل من القيود الصناعية والزخرف اللفظي، وانطلق من عقال التقليد في أغراضه ومواضيعه وفي أخيلته ومعانيه فواكب السياسة في أدوارها المختلفة وساير المجتمع في تطوره ودعا إلى الإصلاح والتحرر ومقاومة الاستعمار.
هذه النهضة الشعرية المباركة تلتقي عندها عوامل عدة وتقف إلى جانبها أسباب كثيرة، منها ما هو داخلي يعود إلى البيئة والطبيعة والثقافة المحلية، ومنها ما هو خارجي يعود إلى الاستعمار الذي خيم على العراق فحرك نفوس الشعراء، وإلى النهضات العلمية التي بدأت تنمو في مصر وسوريا، والصحافة العربية في هذه البلدان بما كانت تنقله من وعي وتبثه من علم وأدب.
فالبيئة العراقية حساسة ثائرة، والطبيعة متقلبة متحولة: شتاء قاس، وصيف شديد، وربيع(871/31)
معتدل قصير العمر، وخريف عام كثير الرياح والزوابع، وأنهار تكاد تجف في الصيف وتطغى في الشتاء والربيع، وصحار خاوية لا نبت فيها ولا ماء، ومروج خضر تمتد بامتداد البصر. هذه الطبيعة بألوانها وصورها وخيرها وشرها معرض يطوف الشاعر في أرجائه فيتأثر وينفعل ثم يغني انفعالاته قصائد تحكي هذه الطبيعة وتصور انقباضها وانبساطها وسكونها وثورتها وكل ما فيها من مختلف ومتشابه.
وأما الثقافة المحلية فقد كانت في حدود الدين واللغة العربية في كتبها الصفر وفي بقايا التراث العباسي يستقي من مخطوط قديم أو من مطبوع جاءت به المطابع الهندية والإيرانية وندت به المطابع التركية إلى جانب ما تنتجه المطابع السورية والمصرية والعراقية في ذلك العهد ولا شك أن هذا الإنتاج كان محدوداً قليلاً، لذلك كانت الثقافة العراقية في أواخر القرن التاسع عشر لا تتجاوز الأفراد متفرقين في بغداد والحلة والنجف والموصل؛ حتى إذا أخذت الطباعة تنتشر والمطبوعات تتيسر أخذ الأدباء العراقيون يتسابقون إلى اقتناء الكتب العربية الدسمة واستيعابها والإفادة منها فتجاوز الأدباء حدود الأفراد وكثر الشعراء على ضفاف الرافدين، وكانت الذهنية العراقية تدفع الشاعر والأديب إلى التمحيص والاختيار فلا يقرأ الغث ولا يحفل بالرديء. هذا إذا كان الشاعر موهوباً قد هيأته الطبيعة وكونت فيه عنصر الشاعر تكويناً سليماً، لذلك كان الشعر العراقي فيما مر من القرن العشرين صافياً مشرق الألفاظ مركز الأداء إلى جانب معانيه الدقيقة وأخيلته السامية.
والاستعمار الخارجي كان يتمثل آنذاك في سلاطين العثمان وولاتهم ضباطهم وجنودهم يحكمون دنيا العراق السخية ويبتزون خيراتها ويفرضون أتاوتهم على كل إنسان بالقوة والسوط ويجندون أبناء العراق لحروبهم ومعاركهم، ومن يقعد عن الجندية يدفع البدل المرهق الذي تفرضه السلطات كما تريد، وتذهب هذه الخيرات إلى ليالي البسفور والدردنيل وإلى قصر يلدز وغيره. ويبقى العراق رازحاً تحت وطأة البؤس والفاقة والأمراض والطواعين. وكان من جراء ذلك أن انتشرت الرشوة وكثرت الإقطاعات بأيدي نفر من الزعماء يماثلون الولاة والحكام لتسلم لهم إقطاعاتهم ونفوذهم. هذه الصور والألوان يستعرضها الشاعر العراقي كل يوم فيتأثر وينفعل ويثور ويردد ثورته في قصائد يقذف بها(871/32)
كالحمم الملتهبة.
وأما الصحافة - ونعني بها الصحافة التركية والعربية في مصر وسوريا - فقد كانت ذات نصيب كبير في إيقاظ الشعر العراقي ونهضته بما تحمله من العالم الخارجي وبما تتحدث عنه من تقدم ووعي في الأمم الأخرى وفي الشعوب العربية كمصر وسوريا؛ ففي مصر كانت النهضة قد نشرت أجنحتها وتناولت معظم المرافق والحقول، وفي سوريا كان الوعي القومي قد رسخت قواعده وتزكت مبادئه نتيجة لاحتكاك العقلية السورية بالنتاج الفكري الغربي وكان الأدباء العراقيون على صلة بهذه التيارات يتبعونها ويتطلعون إليها ويقرؤون ما يصل إليهم باستيعاب ورغبة فيحسون نهضة العالم ويشعرون بما في البلاد العربية من يقظة وتوثب، ويتألمون لما في العراق من تأخر وتخلف، وليس العراق بأقل من غيره قابلية للنهوض والتقدم فلا يلبثون حتى يرددوا ألمهم أناشيد هنا وهناك فيرن صداها قبولاً واستحساناً في دنيا العراق، وصخطاً وحنقاً في قصور المستعمرين وكان لابد من هذه الأناشيد من منابر تذيعها على الملأ وهذه المنابر هي بعض الصحف التي في العراق، ولكنها كانت تضيق في معظم الأحيان عن نشر هذه الصرخات المدوية حذراً من الولاة والحكام، وما تضيق عنه هذه الصحف تتناقله صحف مصر وسوريا آنذاك فيذيع في الأقطار العربية ومنها العراق.
بهذه العوامل وغيرها اندفع الشعر العراقي إلى مواكبة العصر الحديث وتصوير الآم المجتمع والدفاع عن حرية العراق والبلاد العربية عامة.
بعد التمهيد الذي قدمناه نحب أن ندرس ثلاثة من شعراء العراق في العصر الحديث هم الكاظمي والزهاوي والرصافي ندرسهم في مجال الشعر السياسي فقط، وفي عهد الاستبداد الحميدي وبعد إعلان الدستور فحسب؛ ثم نشير إلى مواقفهم الإيجابية من العثمانيين والظروف التي دعت إلى ذلك. وقبل أن تحدث عن هؤلاء الشعراء نحب أن نشير بإيجاز إلى تاريخ الدستور العثماني.
لعل الرجل الوحيد الذي شغلته فكرة الدستور وناضل من أجلها هو مدحت باشا الذي نفاه عبد الحميد إلى الطائف من الحجاز وسجن هناك ثم اغتيل في العاشر من نيسان، (أبريل سنة1883 م) وكان مدحت ثمرة طيبة ندت بها تلك الشجرة المرة فاشتغل بالسياسة وتقلد(871/33)
مناصب كباراً في أوربا وسوريا والعراق وقد ساءت أن يرى الجهاز الحكومي في تركيا يسير على غير انتظام، والولايات التابعة للحكومة العثمانية ترسف في أغلال العبودية والذل وتدفع الإتاوات لحكام جائرين، ففكر أن يضع حداً لهذا الاستبداد. كان ذلك أيام حكم السلطان عبد العزيز، والصدر الأعظم محمود نديم، وشيخ الإسلام حسن فهمي. وكل واحد من هؤلاء لا يبالي من أين جاء المال وبأي وسيلة يجمعه. في مظاهرة كبرى قام بها مدحت على رأس جمهور كبير هتف المتظاهرون بسقوط الصدر الأعظم وشيخ الإسلام فلاذا بالفرار. وطلب المتظاهرون إسناد الصدارة إلى مدحت فاكتفى السلطان بتعيينه وزيراً بلا وزارة، ولكن المفكرين وعلى رأسهم مدحت لم يكتفوا بذلك فألحوا بوضع الدستور الأمر الذي نتج عنه عزل السلطان عبد العزيز ومبايعة ابن أخيه السلطان مراد سنة 1876 م. وفي هذه السنة انتحر عبد العزيز وجن مراد وانهارت قواه العقلية بعد اعتقال طويل وتألم مدحت لهذا الحادث فاتصل بعبد الحميد ولي العهد فوعده بالغيرة على الدستور - إن ولي السلطة - وبالتنازل عن العرش إن استعاد مراد قواه العقلية، واسند الملك إلى عبد الحميد. غير أنه بعد أيام قليلة بيت الغدر لمدحت ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً بسبب الحوادث التي جدت في أوربا التي اضطرته إلى استشارة مدحت في أمر الدستور. وفي 24 أيلول (سبتمبر) سنة 1876 م تألفت لجنة من الوزراء والعلماء والقادة فقررت تأليف مجلس للشيوخ وآخر للنواب وشرع تدرس مواد الدستور وأسندت الصدارة العظمى إلى مدحت في 19 تشرين الأول (أكتوبر) من السنة نفسها وقبل هذه التعيين باغتباط عظيم في تركيا والبلاد الخاضعة للنفوذ العثماني لما كانت تنتظره من إصلاح على يد مدحت؛ ولكن عبد الحميد أخذ يضع المصاعب في طريق مدحت ويسوف بإعلان الدستور فلم يكن من مدحت إلى أن هدد بالاستقالة قائلاً في خطاب له:
(إننا لم نخلع السلطان عبد العزيز إلا طمعاً في الوصول إلى هذه الغاية المقدسة) ومن ثم اضطر عبد الحميد إلى إعلان الدستور وأصدر إرادته بهذا في يوم 12 من كانون الثاني (يناير) سنة 1877 فأطلقت المدافع ابتهاجاً بهذا الحادث العظيم وأعلن الشعب فرحه وسروره لأن الأمة أصبحت مصدر الحكم ولها الحق في ممارسة شؤونها الداخلية والخارجية. وأخذ مدحت يعمل على تنفيذ مواد الدستور ويسترضي جميع الطوائف(871/34)
والطبقات؛ ولكن عبد الحميد أحس بخطر مدحت، وفجأة أمر بنفيه إلى أوربا بتهمة الخيانة العظمى وكان إذ ذاك في حدود الخامسة والخمسين فثار الأحرار والمفكرون لهذا المآل وكثرت المظاهرات احتجاجاً على مصير مدحت فلم يطل مكثه في أوربا وأعيد إلى الشرق والياً على سوريا بينما كان عبد الحميد ينكل باتباع مدحت ويبعد عن الأستانة كل من شارك في أعمال الدستور. وكثرت الاضطرابات حتى وقعت الدولة التركية بين مطامع الإنكليز والروس وانتشر المبشرون الأوربيون في الساحل السوري وفي فلسطين. وثار مجلس النواب مطالباً بمحاكمة محمود نديم الصدر الأعظم فغضب عبد الحميد وأصدر أمره بحل المجلس النيابي وإلغاء الدستور وذلك في 13 شباط (فبراير) سنة 1788م ثم أرغم على إعادته سنة 1908م وفي فترة الثلاثين سنة بين الإلغاء والإعادة كان عبد الحميد يتربع على قمة الاستبداد فنفي كل وطني غيور، وقضي على كل ضمير حر، ولم يبقى معه إلا شرذمة من خشارة الأدنياء والمنافقين يتقلبون في المناصب بينما كانت الأمة تتدهور حالتها والبلاد العربية وبخاصة العراق - تقاسي كل ألوان الفقر. وانعدمت الحرية في كل مكان وكثر الأرصاد والجواسيس يتعقبون كل جمعية ويتابعون كل قافلة، وغصت السجون بالأبرياء وضرب نطاق من حديد على المطبوعات والصحافة والبريد.
وأخيراً أستدعي مدحت إلى المحاكمة وحوصر قصره بأزمير فسلم نفسه إلى السلطات وحوكم في قصر (يلدز) بتهمة اغتيال عبد العزيز ولم يجده الدفاع عن نفسه فنفي مكبلاً بالحديد إلى الحجاز وسجن في الطائف مع رفاقه وفي اليوم العاشر من شهر نيسان (أبريل) سنة 1883م لقي حتفه مسموماً ودفن في الطائف وبعد دفنه أمر عبد الحميد بإحضار رأسه للتأكد من موته وكان الأمر كما أراد.
هذه الفترة العصيبة التي اشتهرت بعبد الحميد كانت مثار قلق وتذمر في البلاد العربية وكان العراق يعمل دائباً للتخلص منها والثورة على الاستبداد وكان في طليعة الثائرين أكابر الشعراء وفي طليعة هؤلاء الشعراء: الكاظمي والزهاوي والرصافي حتى انتهى الاستبداد وعاد الدستور فرحب به الشعراء مشاركين إخوانهم من الأحرار، وبعد هذا فماذا نحن واجدون في شعر هؤلاء الثلاثة حيال هذه الفترة وما بعدها؟ ذلك ما سندرسه في دواوينهم التي بين أيدينا.(871/35)
(يتبع)
إبراهيم الوائلي(871/36)
حول حديث أهل القليب
إلى الأستاذ محمد أبو رية
للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي
قال ابن عمر: اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له: تدعوا أمواتاً؟ فقال (ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون).
وعن عائشة، قالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول حق) وقد الله إنك لا تسمع الموتى.
انتهى ما أورده الإمام البخاري في صحيحه في 23 - كتاب الجنائز - 87 - باب ما جاء في عذاب القبر. وقال أستاذ الدنيا في علم الحديث (الحافظ ابن حجر العسقلاني) في كتابه قاموس السنة المحيط (فتح الباري) ما نصه:
هذا مصير من عائشة إلى رد رواية ابن عمر المذكورة. (وقد خالفها الجمهور في ذلك، وقبلوا رواية ابن عمر، لموافقة من رواه غيره عليه) وأما استدلالها بقوله تعالى - إنك لا تسمع الموتى - فقالوا: معناها لا تسمعهم سماعاً ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله. وقال السهيلي: (عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قالوا له: يل رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا؟ (فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم). قال وأما الآية فإنه كقوله تعالى - أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي - أي أن الله هو الذي يسمع ويهدي.
وبعد كلام طويل في كيفية عذاب القبر قال:
(تنبيه) وجه إدخال حديث ابن عمر وما عارضه من حديث عائشة في ترجمة عذاب القبر أنه لما ثبت من سماع أهل القليب كلامه وتوبيخه لهم، دل إدراكهم الكلام بحاسة السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس، بل الذات، إذ الجامع بينهما وبين بقية الأحاديث أن المصنف أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة، بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسئلة، وحينئذ كانت الروح قد أعيد إلى الجسد. وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسئول يعذب. وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة. فيتفق الخبران. أهو قول الحافظ.(871/37)
أقول؛ وهذا الحديث لم ينفرد به ابن عمر، بل جاء في صحيح الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر، فرأيته، وليس أحد تزعم أنه رآه غيري. قال: فجعلت أقول لعمر أما تراه؟ فجعل لا يراه. قال: يقول عمر سأراه وأنا مستلق على فراشي. ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس. يقول هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله. قال: فقال عمر فو الذي بعثه بالحق، ما أخطئوا الحدود التي حد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض. فأنطلق رسول الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إليهم فقال (يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ قال عمر: يا رسول الله! كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال (ما انتم بأسمع لما أقول منهم، غير انهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً)
وجاء في صحيح مسلم أيضاً عن انس بن مالك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك قتلى بدر ثلاثاً، ثم أتاهم، فقام عليهم، فناداهم، فقال: (يا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدتم ما وعدني ربكم حقاً) فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: يا رسول الله! كيف يسمعوا (كذا) وإني يجيبوا (كذا) وقد جيفوا؟ قال (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما قول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا قليب بدر.
قال الحافظ في الفتح: ولم ينفرد عمر ولا ابنه بحكاية ذلك، بل وافقهما أبو طلحة. وللطبراني في حديث بن مسعود مثله بإسناد صحيح. ومن حديث عبد الله بن سيدان نحوه، وفيه قالوا يا رسول الله! وهل يسمعون؟ قال: (يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون). وفي حديث ابن مسعود (ولكنهم اليوم لا يجيبون).
ومن الغريب إن في المغازي لأبن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبى طلحة. وفيه (ما انتم بأسمع لما أقول منهم) وأخرجه أحمد بإسناد حسن. فكأنها رجعت عن الإنكار لنا تبث عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة.
وهذا الذي دعا معالي الدكتور طه حسين بك أن يدع رواية عائشة ويأخذ برواية هؤلاء(871/38)
الصحابة في كتابه (الوعد الحق) وهو القول الحق الذي وهاهو الأستاذ محمود أبو رية في عدد الرسالة رقم 865 بغير حق والسلام.
محمد فؤاد عبد الباقي(871/39)
عدو الشعب الجاشنكير
للأستاذ عطية الشيخ
علية
ما احسن قول المنفلوطي في المصلحين: (إنهم أنصار الخير والشر أنصار اشد منهم قوة، واكثر عدة عدداً، وهم دائماً هدف لغضب الملوك، لأنهم يثيرون ثائرة الشعوب عليهم؛ وغضب النبلاء لأنهم يحتقرون نبلهم؛ ويزدرون مجدهم وعظمتهم؛ وغضب الكهنة، لأنهم ينمون عليهم رياءهم وكذبهم؛ وغضب العامة؛ لأنهم يصادرون أهوائهم وشهواتهم، أي أن العالم كله حرب عليهم من أدناه إلى أقضاهن وقلما تنتهي حياتهم إلا بمثل ما انتهت به سقراط الحكيم وهومير الشاعر وأفلاطون الفيلسوف من قتل أو صلب أو حبس أو تشريد، ولا ذنب لهم إلا انهم احبوا البشر، وعطفوا عليه، وتألموا لألمه، وبكوا لبكائه. . .)
أقول هذا وأنا أتذكر مأساة بيبرس الجاشنكير، ذلك الملك الذي يقول فيه المؤرخون: (كان ثابتاً كثير السكون والوقار، جميل الصفات، ندب إلى المهمات مراراً عديدة، وتكلم في أمر الدولة مدة سنين، وحسنت سيرته، وكان يرجع إلى دين وخير ومعروف، وله أوقاف إلى وجوه البر والصدقة) ولا تزال بعض المدارس والآثار في القاهرة تحمل اسمه إلى اليوم، واصله من مماليك المنصور قلاوون، ثم صار في أيامه من أعيان الأمراء، وترقى بعده حتى صار أمير القاهرة ثم استدارا، وقد أشار باستدعاء الناصر بن قلاوون للسلطنة بعد قتل الملك المنصور لاجين، فكافأه المنصور بأن اقره استدارا على عادته، فأتفق مع نائب السلطنة سلار، وأخذا في تدبير الملك بهمة ونشاط كفيلين للملكة، وكان بيبرس مخلصاً جداً للملك الناصر، وفاء لأبيه الملك المنصور قلاوون الذي كان أستاذه وسيدهن ولكن بطانة السوء، أوغرت قلبه عليه حسداً وبغضاء ولم تكتف بإثارة الملك حتى أثارت الشعب
وليت شعري لم يولع اللثام بمحاربة الكرام ويحسدونهم، ويتربصون بهم الدوائر، ويقعدون لهم كل مرصد ولا يتركون فرصة إلا افترضوها، ولا فرية إلا دبجوها، ولا نار فتنة إلا اشعلوها، ويا ليت شعري لم يحتضن الرؤساء دائماً الأخساء الدساسين، يقربونهم، ويرفعون شأنهم؟ أما يعلمون أن الضعيف لا يكون مخلصاً ابداً، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً؟ ومن العجيب إن اكثر الحكم والأقاصيص قليت في الوقيعة والنميمة والوشاية والدس، ولكن كم(871/40)
آذان لا تسمع، وقلوب لا تتعظ وليس كابن آدم يلدغ من الجحر سبعين مرة لا مرتين.
في سنة 700 هـ وصل إلى القاهرة وزير ملك المغرب في طريقه إلى الحج، واجتمع بالسلطان الناصر وبالأمير بيبرس الجاشنكير وبالأمير سالار نائب السلطنة، فأكرموه وأنعموا عليه وعظموه غاية التعظيم. وفي بعض الأيام جلس الوزير المغربي بباب القلعة مع بيبرس، وحضر بعض كتاب النصارى، فتوهم المغربي بباب القلعة مع بيبرس، وحضر بعض كتاب النصارى، فتوهم المغربي بأنه مسلم، فقام إليه مسلماً معظماً، ولما علم أنه نصراني قامت قيامته وهاج هائجه، ودخل على السلطان مع بيبرس وتحدث في أمر اليهود والنصارى، وانهم في بلاد المغرب غاية الذل والهوان (لا يركبون الخيل، ولا يستخدمون في الدولة) أنكر على المصريين سماحهم للنصارى واليهود بلبس الثياب الفاخرة، ركوب الخيل، واستخدامهم في أكبر المناصب وتحكيمهم في رقاب المسلمين. واكثر من الكرم في هذا الباب، وذكر أن عهد ذمتهم قد انتهى سنة 600 هـ، وقد أثر كلامه في السلطان والأمراء ولكن لم يأخذ أحد على عاتقه تنفيذ ما أشار به المغربي إلا بيبرس، لانه كان أكثرهم تديناً، فجمع النصارى واليهود، أعلنهم انهم لن يستخدموا في الجهات السلطانية، ولا عند الامراء، وكلفهم باختيار عمائم تخالف عمائم المسلمين، فلبس النصارى عمائم زرقاء، ويشدون زنانيرهم في أوساطهم، ويلبس اليهود عمائم صفراء وحدد بالتنفيذ (22 رجب سنة 700 هـ) للظهور بزيهم الجديد. وقد عرضوا على بيبرس (الأموال الكثيرة الخارجة عن الحد ليعفوا من ذلك فلم يقبل) فنفذوا الأمر في الميعاد مرغمين، في جميع بلاد المملكة من دنقلة إلى الفرات، والى هذا الحادث يشير الوداعي بقوله:
لقد ألزموا الكفار شاشات ذله ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم ما ألبسوكم عمائم ... ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا
ويقول شمس الدين الطيبي:
تعجبوا للنصارى واليهود معاً ... والسامريين لما عمموا خرقا
كأنما بات بالأصباغ منسهلاً ... نسر السمار فأضحى فوقهم ذرقا
سرت في الشعب موجة حماس ديني، واجب السلطان بحمية الجاشنكير وأنعم عليه بدخل(871/41)
الإسكندرية مدة مقامه فيها للرياضة والنزهة، وأراد بيبرس إن يتخذ يداً أخرى عند المسلمين فأمر في 702 بأبطال عيد الشهيد بمصر، وكان عند النصارى تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه من أصابع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه هذا التابوت؛ فكان النصارى يجتمعون من سائر النواحي إلى شبرا في 8 بشنس من كل سنة قبطية، ويحتفلون بهذا العيد (وكانت تثور فيه فتن وتقتل خلائق) وترتكب موبقات، وتستباح الحرمات، ويكثر اللهو والفجور، حتى قيل أن تاجراً واحداً باع خمراً في هذا العيد باثني عشر ألف درهماً. وقد شق أبطال هذا العيد على النصارى، وظاهرهم الأقباط اللذين اظهروا الإسلام وذهبوا إلى بيبرس وعرضوا عليه أموالا كثيرا، وخوفوه من عدم طلوع النيل، فلم يلتفت لكلامهم، وابطل هذا العيد إلى يومنا هذا.
في سنة 703 وصل إلى دمشق رجل من بلاد التتار يقال له الشيخ براق روي عنه حوادث خارقة للعادة، ومعه نحو مائة فقير لهم هيئة عجيبة، وعلى رأسهم قلانس لباد مقصوص فوقها عمائم، فيها قرون من لباد تشبه قرون الجواميس وأجراس، ولحاهم محلقة، وشواربهم مرسلة، ولبسهم لبابيد بيض، وقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب البقر، وكل منهم مكسور الثنية العليا، وشيخهم جريء مقدام قوي النفس له محتسب يؤدب كل من يترك شيئا من سنته. وكان غازان ملك التتار يحترمه ويجله، ولكن بيبرس رأى في سنة الرجل مخالفة لسنة الإسلام، فطلب من السلطان منعه من الديار المصرية فرجع إلى بلاده وفيه يقول سراج الدين الوراق:
جتنا عجم من جو الروم ... صور تحير فيها الأفكار
لها قرون مثل الثيران ... إبليس يصيح فيهم زنهار
كان قد وقع بالقاهرة زلزال عظيم سنة 702 دمر كثيراً من المساجد والمدارس فاخذ بيبرس يصلح ما تهدم ويجدد ما تقوض، ولم يكد ينتهي من إصلاح ما أفسده الزلزال حتى بدأ في سنة 706 ينشئ الخانقاه الركنية، التي لا تزال إلى اليوم بشارع الجمالية بالقاهرة، وتعرف باسم شارع بيبرس، وقد ذكرها المقريزي في خططه (ص 416 ج 2) فقال: (هي أجل خانقاه بالقاهرة بنياناً، وأوسعها مقداراً، وأتقنها صنعة (وقرر بها 400 صوفي وبنى بجانبها رباطاً كبيراً لمائة جندي مرابط ولمن أخنى عليه الدهر من كرام الناس، وبنى في الجانب(871/42)
الآخر من الخانقاه قبة لقبره، رتب فيها درسا للحديث النبوي، وجهز الخانقاه بمطبخ يعد طعاماً للنازلين (من الخبز واللحم والحلوى كل يوم (وقد تم بناؤها سنة 709 هـ
كان الجاشنكير حي الضمير، متأجج العاطفة الدينية راسخ العقيدة، شديد الخوف من الله، لذلك كان يدقق تدقيقاً عمرياً في مصرف كل درهم من دراهم بيت المال، حتى كان يحاسب السلطان نفسه على كل شيء، ويمنع عن القصور السلطانية ما يرى فيه إسرافا وتبذيراً، وكان من الممكن أن يرضى السلطان بهذا لعله إن الدافع إليه شريف، وإن القائم به من أخلص إليه، وهو الذي استدعاه إلى كرسي الملك، ولا يزيد عن كونه مملوك أبيه، وأن الأمين على مال الدولة إذا عفت يده وطهرت سرت الطهارة في جميع مرافق الدولة ودواوين الحكومة، وامتلأت الخزائن وزكت النفوس، وثبتت دعائم الدولة، وخمدت بواعث الفتن، وفشا الرخاء في الأمة وأمكن الإصلاح، وكل أولئك من عومل تثبيت الملك، وصيانة العرش، واتساع العمران في الدولة.
لكن هل يهم ذلك في شيء بطانة السوء التي تظهر للسلطان ما يحب، وتضمر ما يكره، وتريد أن تشبع ولو جاع الشعب، وتملأ خزائنها ولو خوي بيت المال، ولا تعيش إلا إذا أبعدت السلطان عن شعبه والمخلصين له، ونشرت جواً من الإرهاب يشغل كل امرئ عن نفسه، وقد اتفقت بطانة السوء عند الناصر، والحاسدون بيبرس الجاشنكير على ما وصل إليه عند الشعب من مركز ممتاز، ومكانة عالية، ومقام رفيع، والمرتزقة الذين يلتقطون الفتات، ويتصيدون الفضلات ويعيشون عيالاً على مال الأمة، واللصوص والمرتشون الذين قطعت أمانة الجاشنكير أرزاقهم، وخربت بيوتهم، فإما الكسب الحلال، وإما الجوع والفقر المدقع - اتفق هؤلاء جميعاً على إقصاء بيبرس والكيد له، وأخذوا يقلبون الأمور للسلطان، وينتجعون مراتع الباطل، ويبتغون الفتنة، ويشيمون بروق المكائد، وساعدهم على تحقيق بغيهم صر سن السلطان، وقلة تجاربه، فبدأ قلبه يتغير على بيبرس أكبر المخلصين له، والحافظين لدولته، والمتفانين في خدمته. وما أشد الحقد إذا غرس في الصغر واخذ ينمو ويترعرع مع الكبر.
كان بيبرس وسالار كفيلي المملكة والقائمين بأمرها، وقد أعانهما على حسن التفاهم في العمل أخوه في الخدمة وزمالة في ساحات الجهاد، ومحبة من طول الصحبة، ورأت البطانة(871/43)
أن أول واجب عليها للوصول إلى مآربها. إفساد ما بين الكفيلين، وضرب كل منهما بصاحبه، فسولت لها نفسها أن توقع بين سفيه من اتباع أحدهما وسفيه من أتباع الآخر، حتى يجر كل صاحبه إلى المخاصمة، وهي حيلة شيطانية لا يتقنها إلا من تربى في أغطان الفتن، وقد نجحت المؤامرة في شخصي الطشلاقي على البرواني أمام باب القلعة في حضور الأمراء؛ فشكا البرواني إلى بيبرس فأستدعى الطشلاقي ليعاتبهن فأساء في الرد وأفحش في القول، فأستل بيبرس سيفه ليضربه به ولكن الأمراء تكاثروا عليه ومنعوه منه، فأمر بيبرس بنفيه إلى دمشق، وأخذ سالار يرجوه في الإبقاء على حليفه، وبيبرس يأبى ويمدد مساوئه، وأثيرت المسألة في حضرة السلطان فأراد استغلالها لإثارة الفتنة بينهما، ولكنه لم يفلح، لأن سلار التزم الصمت وكان فيه دهاء وذكاء وحسن تدبير، فعلم أن وقوع الخلف بينهما، يجعل بنهايتهما، لأن الملك بدأت تظهر فيه رغبة جامحة للاستئثار بالملك والاستبداد به، وكان ذلك بدافع من خاصته وإشارة من بطانته لحاجة في أنفسهم.
وفي سنة 707 جمع الملك بعض خاصته وعلى رأسهم بكتمر ويلبغا وأيدمر، وأمر بتدبير مؤامرة لاغتيال بيبرس وصديقه سالار، واتفق الجميع على تنفيذها، بعد إغلاق أبواب القلعة على البرجية وكلهم صنائع بيبرس، وبلغ الخبر سلار وزميله، فأمرا بأن يرد أبوابها، ويطرقها دون أن يغلق أقفالها، ويمر بالمفاتيح على السلطان كالعادة، ليظن إنها أغلقت، ففعل ذلك، ثم استدعى بيبرس بكتمر زعيم المتآمرين وأطلعه على ما بلغه فسقط في يده وتبرأ منه من المشاركة في ذلك ونست المؤامرة إلى السلطان، وحلف له أنه سيكون معه عليه، ولم يبارح منزله حتى لا يشك، وانتظر السلطان ومن معه حضور بكتمر لتنفيذ المؤامرة فلم يحضر، فبعث في إحضاره فوجده في بيت الجاشنكير فعلم أنه غدر به وأفشى سره، وتوقع المكروه من بيبرس وسلار، فأرسل بعض البطانة تستنجد بالشعب لينقذه مما وقع فيه) فلم تفتح الأسواق وخرج العامة والأجناد إلى تحت القلعة، وأرسل بيبرس بعض الأمراء ليحولوا بين الملك وبين النزول من القلعة والاتصال بالعامة. وضاق الملك ذرعاً بموقفه فأرسل إلى بيبرس) إن كان غرضكم في الملك فما أنا متطلع إليه فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم) فرد عليه بيبرس (أن السبب هو من عند السلطان ومن المماليك الذين يحرضونه) وأخذت الرسل تغدو وتروح بين السلطان وبيبرس بمثل هذه المعاني.(871/44)
(يتبع)(871/45)
رسالة الشعر
ضراعات!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
يا صبح تزهو بنور من محياها ... ويا نسيم الصبا تهفو برباها
كلاكما نال منها وهي هانئة ... ما يبتغيه، ولم أنعم بجدواها!
لم تعطني من نعيم الحب أيسره ... إن اليسير كثير من عطاياها
ما بالها منعتني ما أؤمله ... وما أؤمل شيئاً غير لقياها؟
وكيف ضنت على نفسي ببلسمها ... من دائها، وهي تدري سر بلواها؟
وكيف نادى بها قلبي لترحمه ... فما استجابت لقلبي حين ناداها؟
فقلت للقلب ينسى أنها ظلمت ... فما عصاني؛ لأن القلب يهواها
وكيف أرسل شكوى الروح في نغم ... يدمي القلوب ولا تصغي لشكواها؟
يا ليتها حين حينما ضنت على زمني ... بقربها، علمتني كيف أنساها!
وليتها تركت في القلب متسعاً ... لغيرها، عله يهوى فيسلاها
يا من أحن إليها وهي نائية ... ومن ترفرف روحي حول مغناها
يا من على الورد تقضي الليل نائمة ... ويسهر الليل فوق الشوك مضناها
ومن بعثت أغاريدي مولهة ... بحبها، فهداها الحب مسراها
ومن سكبت لها قلبي لتبصره ... دمعاً، فتعرف سر الدمع عيناها
ومن جعلت حياتي كلها نغماً ... من أجلها، فبكاني حين وافها
رحماك! ما أنا إلا نسمة خطرت ... على صباك، وحيته فحياها
رحماك! ما أنا إلا همسة عبرت ... إلى هواك، وناجته فناجاها
رحماك! ما أنا إلا حيرة نظرت ... إلى سناك، ونادته فغشاها
قضى الزمان على روحي بغربتها ... عن مهد حبي فأبكاني وأبكاها
هل تذكرين زماناً في الهوى ذهبت ... أيامه كالرؤى؟ آها لها آها!
إذ تبعثين بنجوى الروح باكية ... فيهجس القلب إذ يصغي لنجواها
وما التقينا سوى روحين رفرفتا ... على رسائل حب قد بعثناها(871/46)
تذكري كلمات في رسائلنا ... يمضي الزمان، ولا يمضي بمعناها
تذكري كم سهرنا الليل نكتبها ... ونسكب القلب دمعاً في ثناياها
حتى إذ انتهينا من قراءتها ... عدنا إليها كأنا ما قرأناها
تلك الرسائل ما زالت تؤرقني ... لأنها سر ليلات سهرناها
تلك الرسائل ما زالت تعذبني ... لأنها وحي أيام أضعناها
أضعتها، أنت! لكني وهبت لها ... قلبي ليحفظ في الأعماق ذكراها
أضعتها، فتركت الروح ضائعة ... تبكي، وقد فقدت في الحب مأواها
هلا تذكرت عهداً كنت أحسبه ... يبقى، فكان كأوهام بنيناها
أقسمت أنك لا تنسينني أبداً ... واليوم أسأل: من يا قلب أنساها؟
أواه منك ومن حب وهبت له ... أيام عمري، فأضناني وأضناها!
هواك يا جنتي نار مولهة ... تمشي على كبدي، أو في حناياها
هواك فاضت به نفسي فرحها ... والكأس تهتز إن فاضت حمياها
هواك يا أخت روحي حين أسعدها ... غنت، وناحت لديه حين أشقاها
وما على النفس من لوم إذا صرخت ... لما استقر بها سهم فأدماها!
هواك جمل أشعاري وحبها ... إلى قلوب ترى الأشعار دنياها
فكل قلب شقي الحب ناح بها ... وكل قلب سعيد الحب غناها
لولا الهوى ماتت الأشعار في خلدي ... ولم أكن لأذوق الحب لولاها
مهما صنعت فلن أنسى الهوى أبداً ... فالحب أمنية قلبي تمناها
إذا رعيت حياتي فهي يانعة ... على يديك، وعين الحب ترعاها
وإن أبيت، فآهاً كلما صرخت: ... ما كان اظلمها! ما اكن أقساها
إبراهيم محمد نجا(871/47)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تعليم اللغة العربية في الباكستان
دعا سعادة السيد عبد الستار سيت سفير الباكستان في مصر جمعاً من الأدباء والكبراء إلى حفلة شاي بفندق (سمير أميس) يوم السبت الماضي، لاستقبال محمد علي علوبه باشا سفير مصر في الباكستان. وقد قدم السفير الباكستاني السفير المصري بكلمة طيبة نوه فيها بجهود الموفقة في تنمية العلاقات وتوثيق المودة بين البلدين. ثم وقف علوبه باشا فتحدث عن أمة الباكستان وما يربطنا بها من مصائرها في المستقبل. وتناول موضوع اللغة العربية ففصله على الوجه الآتي:
قال: إن شبه القارة الهندية التي انقسمت إلى الهند والباكستان، نحو اثنتين وثلاثين لغة كل منها مستقلة عن الأخرى لأنها لغة إقليم لا يعرفها إقليم آخر، غير أن هناك لغة سائدة هي الأردية وهي التي تميل الباكستان بعد استقلالها إلى اتخاذها لغة رسمية بدل الإنجليزية التي كانت لغة الاستعمار؛ وهناك عدد كبير يتكلمون اللغة العربية الفصيحة، منهم من يجيدون الخطابة بل يحفظون أشعار شعرائها كالمتنبي وغيره، ومنهم من يجد عشراً في التحدث والتخاطب بها ولكنه يقرؤها ويكتبها، وهناك مؤلفون يؤلفون بالعربية في الفقه والتفسير والحديث. وقد زرت جماعة من هؤلاء العلماء فأبدوا رغبتهم الشديدة في أن ينتشر تعلم اللغة العربية في الباكستان قائلين إننا نريد إن نتعلم لغتكم لا لأنكم عرب بل لأنها لغة القرآن. وبين سعادته مزايا انتشار اللغة العربية في البلاد الشرقية من حيث الثقافة والاجتماع والاقتصاد، وقال: أنه إذا كان هناك من يهتم ب (الاسبرانتو) للتقريب بين أمم العالم فإن اللغة العربية هي (إسبرانتو الشرق).
وتحدث علوبه باشا عن اهتمام الحكومة الباكستانية بتعليم اللغة العربية وأشار إلى إن في كراتشي معهداً خاصاً بها تحت رعاية وزير المعارف ثم قال: رأيت إزاء ذلك كله إن اقترح على حكومتي إنشاء مدراس ابتدائية مصرية في مدن الباكستان تكون نواة لمدارس ثانوية أخرى، مهمتها نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، واتفقت مع أولي الشأن هناك إن تكون بعثات الطلبة الباكستانيين إلى الأزهر والجامعة وسائر المعاهد المصرية من(871/48)
خريجي تلك المدارس فقط. وقد رحبت الحكومة الباكستانية بهذا المشروع وأبدت استعدادها لمعاونته والمساهمة فيه. ورأيت إن مهمتي قد انتهت بذلك فقد وضعت الأسس لبرنامج العلاقات الثقافية بين مصر والباكستان، وغاية الرجاء إن تتحقق أهدافه. ولعل سعادته يشير بانتهاء مهمته في الاستقالة التي قدمها ولا يزال مصراً عليها. ثم قال إن لجنة تكونت في القاهرة من أعضاء بالمجمع اللغوي وأساتذة في الجامعة والأزهر لوضع أسس وقوانين لتكوين (جمعية الثقافة العربية بالشرق) غايتها تنمية العلاقات الثقافية العربية بين أمم الشرق وخاصة مصر والباكستان، ورجا أن تنال هذه الجمعية رعاية المسؤولين من العلماء والرؤساء والزعماء وعلى رأس الجميع جلالة الفاروق.
ويلاحظ إن علوبة باشا أنهى الحديث عند اقتراحه إنشاء مدارس مصرية في الباكستان، ولم يقل لنا ماذا تم فيه وما مصيره لدى الجهات المصرية، ولم يكن بحاجة إلى أن يقول ذلك، فنحن نعلم إن هذه المقترحات لم يقع فيها برأي، لا في وزارة المعارف ولا في الأزهر.
وأريد أن أقول أولا إن وزارة المعارف المصرية في هذه الظروف تواجه مسائل ومشاكل في نشر التعليم بمصر تستغرق كل ما في وسعها، ومع ذلك لا ينبغي أن ينصرف عنها الأمل فيما يتناسب من الفرص وما يأتي من الزمن، أما الأزهر فما أرى له عذراً في التواني عن نشر رسالة التعليم الإسلامي وتيسيره لطلابه في أية بقعة من بقاع الأرض، فهذه هي مهمته الأساسية باعتباره أكبر جامعات إسلامية في العالم وباعتباره إن الإسلام لا يتقيد بالحدود الجغرافية بل يعد ديار المسلمين المنتشرة في أنحاء الأرض كلها داراً واحدة.
وأريد ثانياً أن أخلص من ذلك لأتوجه إلى الحكومة الباكستانية فأسوق الحديث إليها: لماذا لا تنشئ بينها وبين مصر ما يسمى في وزارة معارفنا ب (التعاون الشرقي) على غرار المتبع مع البلاد العربية من إيفاد الأساتذة المصريين إلى معاهدها للتدريس فيها. ومصر لن تظن الباكستان بعدد من الأساتذة تمشياً مع ما تيسر عليه من تنمية الروابط الثقافية بينها وبين الشقيقات على رغم أزمة المدرسين القائمة في مصر، ومن حسن الحظ إن أولى الأمر لم تصرفهم هذه الأزمة عن تلك المسؤوليات التي يجب أن نمد النظر إليها بعيداً عن الموضع القريبة التي لا تجازها أبصار بعض المواطنين. . . وإنما تواجه الأزمة بالإكثار من إعداد المدرسين لا بالحيلولة دون إعداد منهم هنا وهناك تؤدي أغراضاً لابد منها.(871/49)
فمن الخير أن لا تنتظر حكومة الباكستان حتى تنشأ المدارس المصرية المقترحة، فقد يطول هذا الانتظار، لانشغال وزارة المعارف، وللمتوقع أو الواقع من تراخى الأزهر. . . ومن تعجيل الخير أن تبادر هي بتنظيم الأمر في مدارسها ومعاهدها وتطلب من تريد من الأساتذة والمدرسين، وعلى مصر أن تلبي.
الإنعاش الاجتماعي في الإسلام
ينظم قسم الخدمة العامة بالجامعة الأميركية سلسلة من المحاضرات موضوعها (الإنعاش الاجتماعي في مصر ووسائل تحقيقه) كان منها يوم الجمعة الماضي محاضرة للشيخ عبد الوهاب خلاف بك عن (الضعفاء والفقراء والمرضى وما دبر به الإسلام شأنهم والوسائل التي تحقق سياسة الإسلام فيهم).
بدأ الأستاذ المحاضرة بمقدمة فحواها إن كل أمة فيها فقراء ومرضى وضعفاء وإن هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وإن الاختلاف بين الأمم في ذلك إنما هو في نسبة من في كل منها من هؤلاء، وانه لا بد أن تكون لكل أمة سياسة حكومية وسياسة شعبية للعناية بهم لأنهم أعضاء في جسمها وفروع من شجرتها.
وقد أطال في هذه المقدمة البديهية. والأستاذ الشيخ خلاف خطيب ممتاز يحسن إلقائه وسلامة لغته وعباراته المختارة مع ارتجال لا توقف فيه ولا تلكأ، وبهذه الصفات اجتاز مرحلة تلك المقدمة دون أن يمله السامعون. . ولكنه لما دخل في صميم الموضوع - بعد فوات نصف الوقت - وفاء حقه إذ مخضه جيداً حتى أخرج زبدته قال: إن الإسلام عني بالفقراء والضعفاء والمرضى فوضع لهم سياستين لتدبير شؤونهم، سياسية وقائية وسياسة علاجية، فالوقاية تقوم على أمرين، الأول أن الإسلام أوجب على كل من يستطيع العمل أن يعمل وألا يعيش عالة على غيره، وأورد في ذلك آيات وأحاديث، منها قول الله تعالى: (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني وهو يعلم السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة). الأمر الثاني أن الإسلام قسم كل أمة إلى عدة أمم صغير هي الأسر، وأوجب تضامناً بين أفراد الأسرة كفرض نفقة العاجز على الموسر.
أما السياسة العلاجية فهي ما جعله الله الفقير في مال الغني من حق معلوم، وهي سياسة(871/50)
اشتراكية عادلة، تجعل للفقير حقاً في مال الغني لا حق الاعتداء على ماله؛ جعل الإسلام إحياء المواسم والأعياد بالتصدق على المحتاجين، وجعل كفارة الآثام معونة الفقراء والمساكين، والآثام دورية لا تخلو منها تصرفات الإنسان فكفارتها كذلك لا تنقطع، وجعل الإسلام خمس الغنائم للفقراء والمساكين، وقضى بان التركة التي لا وارث لها تضم إلى بيت المال لتنفق في وجوه الخير.
ثم قال الأستاذ المحاضر: هذه التعاليل لِمَ لم تثمر؟ وبعبارة أخرى لماذا نرى حال المسلمين الآن اكثر سوءاً من غيرهم مما يوهم أن الإسلام لم يعن بأمر ضعفائهم وفقرائهم، ولكن الإسلام هو البريء المتهم وهو مظلوم من اهله، مثله مثل الطبيب الذي يصرف الدواء ولكنه المريض يهمل تعاطيه، ولو أن تلك الوسائل التي وضعها الإس
اشتراكية عادلة، تجعل للفقير حقاً في مال الغني لا حق الاعتداء على ماله؛ جعل الإسلام إحياء المواسم والأعياد بالتصدق على المحتاجين، وجعل كفارة الآثام معونة الفقراء والمساكين، والآثام دورية لا تخلو منها تصرفات الإنسان فكفارتها كذلك لا تنقطع، وجعل الإسلام خمس الغنائم للفقراء والمساكين، وقضى بان التركة التي لا وارث لها تضم إلى بيت المال لتنفق في وجوه الخير.
ثم قال الأستاذ المحاضر: هذه التعاليل لِمَ لم تثمر؟ وبعبارة أخرى لماذا نرى حال المسلمين الآن اكثر سوءاً من غيرهم مما يوهم أن الإسلام لم يعن بأمر ضعفائهم وفقرائهم، ولكن الإسلام هو البريء المتهم وهو مظلوم من اهله، مثله مثل الطبيب الذي يصرف الدواء ولكنه المريض يهمل تعاطيه، ولو أن تلك الوسائل التي وضعها الإسلام نفذها المسلمون لما رأينا هذا الجيش الجرار من المحاويج.
وفصل ذلك التقصير بقوله: إن الإسلام لما أوجب هذه الوجبات قسمها قسمين، قسماً جعله من وظيفة الدولة كالزكاة، وقسماً تركه لسخاء الناس لتربية النفوس وتعويدها السخاء وابتغاء أن تسود روح التراحم والتعاون بين أفراد الأمة، أما الأول فقد أهملته الحكومات الإسلامية مع إن إيتاء الزكاة من الخمس التي بني عليها الإسلام، فإن كانت الضرائب التي تجبى تشتمل على الزكاة فلما لا تصرف إلى وجوهها ومصارفها المعروفة؟ والقسم الثاني أهم يحول دون تحقيقه هو ضعف الوازع الديني، والسبيل إليه هو التربية الدينية ولو أن كل واحد حنث في قسم فكفر عنه لما رأينا فقيراً.
فيجب للإنعاش الاجتماعي أن يبعث مشروع الزكاة المحال على (لجنة) بوزارة الشؤون الاجتماعية - وأن يبعث روح التضامن بين الأفراد.
وثمة ظاهرة أخرى من معوقات الإنعاش الاجتماعي في البيئات الإسلامية، تتمثل في أولئك الذين يحسبون أنفسهم متدينين، أولئك الذين نراهم قانعين قاعدين راكدين، مع إن الإسلام يحث على النشاط واستكمال أسباب القوة والعزة، وهم يدعون انهم متوكلون وإنما هم متواكلون، فالتوكل أن تأخذ بالأسباب وتترك النتائج للمقادير؛ كما يدل على ذلك قول رسول الله للأعرابي: (اعقلها وتوكل).
حيرة الجيل الجديد في الأزهر(871/51)
جاءتني رسالة من (ضياء الحائر بكلية الشريعة) ولست ادري هل (الحائر) من اسمه أو من حيرته، فإن الموضوع الذي ضمنه رسالته يحيره أو يحير إخوانه طلبة الأزهر، كما أنه يحير كل غيور على رسالة الأزهر التعليمية في هذا العصر؛ وانقل مما كتبه ألي الطالب (الحائر) ما يعرض صلب الموضوع، فيما يلي:
(من المعلوم أن الطالب الأزهري في هذا الوقت العصيب يعصره الهم ويكاد يقضي عليه الحزن. فهو رهن محبسه المعتم، ليفك الطلاسم ويحل الرموز التي تمسك بها شيوخنا كأنما هي وحي يوحى؛ وقد وضعوا للكليات كتباً مطوله لم توضع لعصرنا ولا على نظام مدرسي، وإنما هي أخلاط وأنماط شتى يحللها الطالب وحده ليخرج من بينها لبن خالصاً. . وأنت جد خبير بما يلاقيه المسكين من إعنات وإرهاق يفوق كل وصف، ولعل سيدي يذكر حالة الطالب الأزهري وما يكتنفها من مشاق وصوارف ونوازع ولا أتحرج من القول بان حالتنا على وجه عام سيئة، وغالبيتنا لا تعرف شيئا عن الرفاهية على الإطلاق. في هذا الخضم المائج يقف الطالب مشدوداً حائراً فيما يطلبه الشيوخ منا. وهو دراستنا لهذه الكتب العقيمة وحدنا؛ بمعنى أن الأستاذ لو درس من الكتاب نصفه أو ثلثه فعلى الطالب أن يكمل الباقي وحده، فيكد ويكد حتى يعشى نظره أو يحدودب ظهره أو يفقد صحته وما هو ببالغ مما يريد شيئا، ولقد كان من العدل شيئا ما، ي زمن مضى، إنما يقرأ في جميع السنة الدراسية يعتبر هو المقرر ويؤدى فيه الامتحان، لأنه ما دام الطالب بمعونة المدرس لم يستطع أن يستوعب الكتاب فمن غير المعقول أن يعيه وحده على أي وضع كان. ولا أخالك يا سيدي تظن أن المقروء شيء بسيط، فهو على أية حال بلاء كبير جداً. على أنني لا أكاد اعرف الحكمة في تعيين المدرسين للأزهر ما دام الطالب هو الطالب وهو الأستاذ معاً!)
ولا أريد أن أتوسع في التعليق على هذه الرسالة قبل أن اسمع آراء إخواننا الأزهريين، أساتذة وطلاباً، في قيمة هذه الكتب المعقدة التي تفرض على طلاب العالم في هذا العصر، واسأل: هل انتفع الأزهريون بما حصلوه من العلوم الحديثة وما رأوه من طرائقها، في ثقافتهم الأزهرية الحديثة؟ أما مسألة (المقروء والمقرر) فهي ظاهرة، كتب تتوارث الأجيال الأزهرية فهم عباراتها ومدلولاتها، ليس من العدل أن يكلف الطالب أدراك معمياتها وحده،(871/52)
فلا هم يجرون على طريقة (التوقيف) القديمة، ولا هم يجعلون المقصود تحصيل العلم من مراجع يتيسر التحصيل منها.
عباس خضر(871/53)
البريد الأدبي
إلى معالي الدكتور طه حسين بك
رجعت إلى عدد من أعداد (مجلتي) التي كان يصدرها الأستاذ أحمد الصاوي محمد لأني تذكرت به شيئا كنت قد اطلعت عليه وانتظرت أوانه وأعجبت بما جاء فيه، حتى آن الأوان وحان البعث وجاء موعد الوفاء. .
هذا العدد هو ذلك الذي صدر في 15 يناير 1935 وهذا الشيء الذي تذكرته هو مقال للأستاذ الدكتور طه حسين تحدث فيه عن كتاب (تحت سمائك الزرقاء للقاضي الفرنسي (شارل بويس باريرا - وهو كتاب كتب عن مصر العزيزة وتلك السماء الزرقاء هي وسماؤها. والذي يهمني اليوم من هذا المقال هو هذه الفقرة التالية التي ختم بها الدكتور هذا المقال الشيق في مؤتنف عام 1935 إذ قال:
(ما أجد هذا الكتاب أن يقرأه المصرين ليروا فيه أنفسهم قبل أن يقرأه الأجانب ليروا فيه المصريين. لو أن إلي أمر التعليم لجعلت هذا الكتاب بعض ما يعرض على الشبان الذين يتعلمون اللغة الفرنسية، فمن يدري لعله يحبب إليهم هذه اللغة لأنه يتحدث إليهم عن أنفسهم؛ ولعله يحبب إليهم قبل كل شيء أن يحاولوا وصف ما يرون وتصوير ما يجدون كما وصف الكاتب ما يرى وكما صور ما يجد. ثم من يدري لعله يثير في نفوسه شيئا من هذا الحياء الخصب ومن هذه الغيرة المقدسة فيقول بعضهم لبعض ما ينبغي أن يحتكر الأجانب وأن كانوا كراماً تصوير مصر من دون المصريين، وما ينبغي أن توحي مصر إلى الأجانب فنوناً من الأدب الرائع شعراً ونثراً وأن تترك أبنائها أو يتركها أبناؤها لا يستوحوها ولا يستلهمونها ولا يقولون فيها الشعر الرائع ولا يكتبون فيها النثر الجميل.
نعم لو أن إلي أمر التعليم لوضعت هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي تتحدث عن مصر بين أيدي الشباب ولأخذتهم بترجمته وتكرار النظر فيه)
هذا ما قاله معالي الدكتور في عام 1935، ولا ريب أنه يتذكر جيداً، وذاكرته القوية خير شفيع لذلك. والآن وأمر التعليم قد وكل إلى معاليه يحسن بنا أن نذكره بهذا الأمر الهام الذي أشار إليه فيما مضى واخذ على عاتقه أمر تحقيقه لو أن إليه أمر التعليم في مصر. .
ولست أريد بهذه اللفتة الخاطفة ذلك الكتاب الذي ذكر بالذات، وإنما أومئ إلى الرأي وأنوه(871/54)
بالغرض الذي رمى إليه. والكتب الفرنسية والغير الفرنسية التي كتبت عن مصر بعد (تحت سماءك الزرقاء) كثيرة متنوعة، ومعالي الدكتور هو أدرى بها، فليتخذ ما يشابه بها كتاب القاضي شارل وليضعه تحت الغرض الذي أراده من فقرته السالفة.
إن هذا الرأي هام جداً ولا احب أن أذكر ما عليه من الأهمية وما له من الفوائد الجليلة، فحسبي ما جاء في فقرة معاليه وفي مقالة الذي حوى هذه الفقرة.
فإليه ابعث بهذه التذكرة عسى أن تجد لديه ما ترمي إليه من فائدة للامة وللمتعلمين، وفقه الله إلى كل خير في سبيل هذه الأمة المصرية التي نتنشق نسماتها ونحيا تحت سماءها الزرقاء. .!
أحمد طه السنوسي
الدكتور طه حسين وجمهورية أفلاطون
حكام الدولة المثلى في جمهورية أفلاطون هم الفلاسفة الحائزون لروح الفلسفة وقوتها. . . يقول أفلاطون (ما لم تجتمع الحكمة والزعامة في رجل واحد، لا تستطيع الدولة أن تشفي من أدوائها. . . ولا الجنس البشري) واستطرد قائلاً (إن هؤلاء الفلاسفة بعد أن اجتازوا الامتحان الأول والثاني. . . (جمهورية أفلاطون 415 تلخيص صروف) يجب أن ينزلوا من قمم الفلاسفة إلى ظلمات الكهف والى عالم الناس والأشياء وهنالك يخوضون معمعة الحياة ويصطدمون برجال الحيلة والدهاء، وفي ميادين هذا النزاع يتعلمون من كتاب الحياة المفتوح أمامهم.
قد يؤذي الكفاح أصابعهم، وقد تجرح حقائق الحياة بعض مذاهبهم الفلسفية.
وهاهو اليوم الدكتور طه حسين بك الذي سير أغوار الحياة، واصطدم بغدر الناس ومكرهم وأذى الكفاح أصابعه، وجررت حقائق الحياة بعض مذاهبه الفلسفية، يتولى وزارة المعارف المصرية، أي الدولة القائمة بشؤون التعليم في المملكة المصرية لا في جمهورية أفلاطون، ولا كما يعيش بعقله الكبير وخياله الواسع بالفلسفة اليونانية، بل في دنيا الواقع وفي عام سنة 1950. أمد الله في عمر العلامة العظيم، وهيأ للعرب دولة مثلى تقوم على أكتاف مثل طه حسين.(871/55)
الدويم - سودان
مصطفى شكري
جنة الحيوان - لمعالي الدكتور طه حسين بك
إذ استطاع الكاتب أن يوقظ وجدانك؛ ويثير انفعالك، ويخلق في نفسك عاطفة نحو ما يعالج فقد أدى رسالته الفنية أبلغ أداء. وإذا قيس كتاب - الدكتور - لهذا المقياس فلا شك أنه يرجح رجحاناً كبيراً. وهو في هذا الكتاب يتناول بعض ما يطفوا على سطح المجتمع من مظاهر شائنة، وأعراض لأمراض خلقية واجتماعية وفكرية؛ ولا يزال - الدكتور - يصور لك ألوانها، ويأخذ بيدك تارة ليطوف بك في ميادينها، وتارة ليرجع بك إلى أسبابها ومنابعها؛ ثم يرسم طريق النجاة من عقابيلها؛ كل هذا وأنت مأخوذ بسحر العرض وإبداع التصوير، وإذا به يعمق شعورك بما يعرضه عليه. ويذكي يقضتك إلى هذه الألوان في محيطنا، ويغذي وعيك الاجتماعي، والفكري. وينشطه ويحيه؛ وإذا وصل بك الكاتب إلى هذا المرتقى فقد أخصب شخصيتك وأرهف حسك.
والدكتور - لم يقصد أن يجرح أشخاصا بقدر ما يهمه أن يعالج أمراضا، ويزيل عيوباً، ويحل مشاكل. فإذا أتخذ هذه الشخصية أو تلك يطلق عليها لفظ - ثعلب - ليلخص لك جوهر هذه الشخصية في هذا اللفظ الواحد الذي كأنه المصباح يضيء لك كل جوانب الشخصية. فيقول: لو رأيته قبل العشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين يقبل متدرجاً كأنه البرمة الهائلة لم ترتفع في الجو كثيراً ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام. وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلاً لأنها من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر. ولو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس كأنه الكثيب المنهال. فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة: أيرى إنساناً جالساً أم يرى كومة من الرمل قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلاً نحيلاً، ولولا هذا الشر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطأ بطيء وثقل ثقيل كأنما يشد بخيط قد ركب في(871/56)
قفاه. وقام شخص من وراءه يجذبه متكلفاً بين حين وحين يمضي - الدكتور - في تصوير خصائص هذا - الثعلب - الجسمية والخلقية والعلمية بهذا الأسلوب الطيع الذي يشف عن معانيه. ويبرزها كما تبرز المرآة ما يتراءى على صفحتها من الوجوه والملامح. . . أرأيت جمال هذه الصورة التي صورها - للثعلب - في قصره. وضخامة جسمه؟ وما اظرف وأفكه تشبيهه بالبرمة الهائلة التي لم ترتفع في الطول ولكنها اتسعت عن يمين وشمال وامتدت من خلف وأمام. ثم يصوره جالساً بالكئيب. قد لا توافق الدكتور في هذا الرأي أو ذاك، ولكنك لا تستطيع أن تملك إعجابك به في العرض والتصوير والتحليل. هذا هو الجانب الفني في هذه الفصول الممتعة التي ينسقها في كتابه الجديد - جنة الحيوان -.
محمد عبد الحليم أبو زيد(871/57)
العدد 872 - بتاريخ: 20 - 03 - 1950(/)
(من وحي الاستقبال)
لم يكن استقبال مصر لصاحب الجلالة ملك الأفغان لونا من ألوان
المجاملة التي تصنعها الرسميات في استقبال كل عظيم، ولم تكن
الحفاوة به مظهرا من مظاهر السياسة التي تفرضها الأوضاع نحو ملك
من الملوك، وإنما كان الاستقبال على حرارته والحفاوة على بهجتها
نتيجة طبيعية لشعور أصيل، مبعثه هذه القرابة الروحية العميقة بين
قلوب شعبين مجتمعين حول دين واحد وأبلغ الدلالة على مثل هذا
الشعور هو أن الملك (الأفغاني) لم يكن ضيفا عظيما على الشعب
المصري، بقدر ما كان الملك (المسلم) ضيفا كريما على مصر
المسلمة!!
وإذا رحت تعدد أواصر القربى على شعبين يلتقيان على الجوار أو يفترقان لبعد الديار، فلن تجد أصدق ولا أجمل من أواصر الدين والتقليد واللغة. . . ومدار الصدق فيها أو مدار الجمال أن آصرة منها قد تغني عن الآصرتين، حين لا يكون هناك بد من وجود بعض الفوارق بين تلك الأواصر الثلاث! فاللغة قد تحل محل التقاليد والدين حيث يرجى التقريب بين شتى الميول والأهواء، وقد يقوم الدين مقام اللغة والتقاليد حين ينشد التوحيد بين مختلف العواطف والنزعات، وقد تحقق التقاليد كثيراً من تلك الأمور حين لا يكون الدين واللغة تراثا مشتركا بين الشعوب. ولكن أثر الدين في التقاء النفوس على التآزر والتضافر والإيثار والحب، هو أقوى الروابط الإنسانية وأحفلها بصفات الألفة ومقومات البقاء، لأنه العاطفة الكامنة بين الجوانح كمون الحياة نفسها بكل ما فيها من معاني الوجود الأزلي الذي لا تحده العصور!
وحسبك دليلاً على أثر العاطفة الدينية ما كان يحسه كل مسلم هنا نحو محنة إندونيسيا أو محنة الباكستان. . . آماد وأبعاد، ولغة غير اللغة ووطن غير الوطن وتقاليد غير التقاليد، ولكن الدين وحده قد غطى على كل هذه ليكشف عن شيء واحد: هو هذا الشعور المشترك(872/1)
بمرارة الظلم ووطأة القيد وقداسة الكفاح، يعقبها الأمل الموحد بزوال الغمة وانقشاع الظلمة وانتصار الأحرار. . وليس من شك في أن تلك الدفقات الشعورية المتسامية قد انثالت على خاطر الضيف العظيم وهو يشهد التفاف القلوب المسلمة من حوله، حتى إنه يتحدث عن تلك الدفقات المنثالة بمثل هذه الكلمات: (إنني لأشعر شعوراً عميقا بأن في الإسلام قوة كامنة في تعاليمه ومبادئه، وإن نظاما فيه هذه القوة لا يمكن أن يقهر، وإن الأحداث التي يشهدها العالم ستحرك هذه القوة العظيمة الكامنة بين المسلمين)!
كلمات فيها كل الحق الذي يؤيده تاريخ الإسلام وتؤكده صفحات ماضيه. . وإنها لكلمات من شأنها أن تهز جمود الحاضر وتشعل جذوته الخابية وتنعش روحه الغافية، وتفتح عيون بعض الناس على كثير من الحقائق التي نسيتها بفعل المطامع والضغائن والأحقاد! نعم؛ إن في الإسلام قوة كامنة كما يقول صاحب الجلالة الأفغانية، قوة من طبيعتها ألا تقهر إذا صفت الضمائر وخلصت السرائر وشرفت الغايات، ولكن أين نحن من هذا كله ومأساة فلسطين قد قدمت الدليل كل الدليل على أن بعض الأيدي لا تريد أن تتصافح، وأن بعض الرؤوس لا تريد أن تتسامح، ولو ضاع في سبيل تلك الأثرة البغيضة كل مجد من أمجاد العروبة وكل قرية من قرى فلسطين وكل مبدأ من المبادئ والأخلاق؟!
إن هذه الروح المثالية التي تجلت في حديث صاحب الجلالة الأفغانية عن قوة الإسلام التي لا تقهر، لجديرة بإيقاظ بعض الضمائر التي سمحت لهذه القوة بأن تقهر وهي على أبواب تل أبيب!!
أ. م(872/2)
الأزهر بين القديم والجديد
للأستاذ سليمان دنيا
إلى مجال الفكر الصائل على صفحات (الرسالة) الغراء أحول مجرى ذلك الصراع الفكري الذي دار على صفحات الأهرام بين مقال الأستاذ محمود الشرقاوي الذي عاب فيه على الأزهريين تمسكهم بمؤلفات العصر المملوكي التي تتسم بالركاكة والحشو والتعقيد والجمود، والذي تمثل فيه بقول الشاعر:
عذيري من قوم يقولون كلما ... طلبت دليلا: هكذا قال مالك
ودعا فيه إلى الأخذ بالأقدم والأقوم من مؤلفات الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والخامس الهجريين.
ومقال الأستاذ محمد علي مخلوف الذي ذهب فيه إلى أن في مؤلفات العصر المملوكي من العلم النافع والأدب المفيد ما ينمي في النشء ملكات البحث والجدل والقدرة على التصرف في المناظرة. وأنها والحالة هذه، وبعد أن بذل الأزهريون جهودا موفقة في تنقيحها وتهذيبها، لا ينبغي لنا العزوف عنها واللجوء إلى سواها. واستشهد لوجهة نظره بقول الإمام المراغي.
(إني على بغضي لأكثر الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة أكره من الطلاب أن يعجزوا عن فهمها، لأن فيها خيراً كثيرا، ودقائق لا يصح الجهل بها)
وختم مقاله متمثلا بقول ابن دقيق العيد
يقولون هذا عندنا غير جائز ... ومن أنتمو حتى يكون لكم عند؟
وفي رأيي أنه لا خير للأزهر في أن تقتصر دراسته على مؤلفات الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والخامس الهجريين، تلك التي يسمونها (عصر المسلمين الذهبي) ولا في أن تقتصر دراسته على مؤلفات العصر المملوكي ون اشتملت على كل علم نافع، وعلى كل أدب مفيد، وحتى لو بلغت جهود الأزهريين في تنقيحها وتهذيبها الغاية التي ليس بعدها من غاية.
وإنما الخير كل الخير للأزهر في أن تكون دراسته مستوعبة تتناول المؤلفات منذ عرف المسلمون التأليف والتدوين. تدرسها وتتبين أسلوبها ومنهجها وموضوعاتها.(872/3)
ثم تنتقل إلى فترة تلي ذلك وتصنع بها نفس الصنيع، ثم تنتقل إلى فترة ثالثة، وهكذا مل تزال تنتقل من فترة إلى فترة ومن عصر إلى عصر حتى ينتهي بها المطاف إلى مؤلفات العصر الراهن. وهي في تضاعيف كل ذلك تبين الصلات بين الآراء والنظريات، وتعقد المقارنات بين العصور والفترات.
ينبغي - في رأيي - أن يفصل الأزهر كل ذلك ليؤدي واجبه نحو كل عصر من العصور وعهد من العهود، وليؤدي أيضاً نحو نفسه، إذ ليس واحد منها أولى من ما عداه بكده وجده، بأن يستوقفه عنده ويصرفه عن غيره.
إن العلماء من غير الأزهريين لا يحقرون عهداً من العهود، ولا يزورون عصراً من العصور وإنما يعطون كلا ما هو جدير به من عناية واهتمام، حتى إنهم ليدرسون الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ، ليعرفوا أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، والموضوعات التي استرعت انتباهه فأخضعها لتفكيره وبحثه.
إنهم يفعلون ذلك مع وثوقهم بأن الإنسان الأول كان بدائيا في أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يدرسوه ليضعوا للعقل الإنساني سجلا كاملا، نستطيع أن نتبين فيه مراحل تطوره، وعوامل نضجه، وأسباب تقدمه، ولم يمنعهم أيضا من أن يشبعوا ميولهم المتعطشة لمعرفة كل ما يمكن معرفته، ميولهم التي تحاول أن ترسم للكون والإنسان صورة أقرب ما تكون إلى الصحة والصدق، ولم يمنعهم ثالثا من أن يتوقعوا علم ما لم يكونوا يعلمون على يدي هذا الإنسان الأولى الذي كان أسبق منهم وجودا واستجلاء لمشاهد الكون، واستمتاعا بمنافعه.
إنهم يدرسون أرسطو ويترجمون كتبه إلى شتى اللغات، ويشيدون بمآثره وفضله وسبقه رغم ما أثبت العلم الحديث فساد كثير من آراءه ونظرياته. وإنهم ليقسمون الزمن إلى عصور فيقولون - العصر القديم، والعصر الوسيط، وعصر النهضة، والعصر الحديث، ويدخلون تحت كل قسم من هذه الأقسام طائفة من الأبحاث والنظريات والأشخاص، ويدرسون كل طائفة من هذه الطوائف على حدة، ويعكف بعض الدارسين على أحد هذه العصور، أو على شخصية من شخصياته أو على نظرية من نظرياته، ليتخصص فيها ويسبر غورها ونجلو غامضها، ويعكف بعض آخر على جانب آخر وهكذا حتى يتوزعوا(872/4)
جميع هذه الآراء والنظريات وتلكم الشخصيات ويلموا بأطرافها بحثا وتمحيصا ونقدا وتدقيقا. وهم في تضاعيف كل ذلك يعقدون المقارنات، ويتبينون الروابط والصلات، ويكشفون عن الأصل والفرع، والتابع والمتبوع، والناسخ والمنسوخ، والزائف والصحيح، ويخرجون من كل ذلك بسلسلة مترابطة من الأفكار والمعلومات ممتدة بامتداد الزمن متصلة باتصاله.
وإنه ليلذ العالم الضليع أن يلم بأطراف الزمن ويتعرف صنوف التفكير وألوان الرأي في المسألة الواحدة، ويشوقه أن يتعرف وجهة نظر الأقدمين ووجهة نظر المحدثين وأن يقول حين يعلم أو يؤلف أو يناظر، كانوا قديما يعتقدون فيها كذا، ولكنهم الآن يعتقدون فيها اعتقاد غيره، ثم يبسط وجهة نظر كل فريق ويناقشها، وفرق كبير بين عالم هذا شأنه، وآخر يلقى حكمه في نفس المسألة ناقصا مبتورا، يدل على عدم دراية بما انتهى إليه أمر المسألة وآخر مرحلة من مراحلها، وجهل تام بما قبل ذلك، وبصنوف التفكير التي تواردت عليها، ولولا الدراسة المستوعبة المتطورة ما نشأ ما يسمونه تاريخ النظريات أو تاريخ العلوم
خبرني بربك!، إذا كان هذا هو شأن العلماء مع أفكار متضاربة متناقضة يقوم بعضها على أنقاض بعض، فما بال علماء الأزهر يقطعون الصلة بين أفكار متآخية متساندة، يشد بعضها أزر بعض ويسدلون الستار على كل جوانبها ويطمسون معالم الزمن في مراحل نموها وتطورها ما عدا جانبا واحدا من جوانبها أو ما عدا فترة زمنية محدودة من فترات عمرهاالمتطاول راحوا يختلفون أي هذه الجوانب الكثيرة، أو أي الصلة بين أفكار متآخية متساندة، يشد بعضها أزر بعض ويسدلون الستار على كل جوانبها ويطمسون معالم الزمن في مراحل نموها وتطورها ما عدا جانبا واحدا من جوانبها أو ما عدا فترة زمنية محدودة من فترات عمرهاالمتطاول راحوا يختلفون أي هذه الجوانب الكثيرة، أو أي هذه الفترات الزمنية أولى بأن نقصر عليه جهودها، ونخصه بعنايتنا ودراستنا وتدريسنا!؟
على رسلكم، فليس بعض جوانب الفكرة أولى بالدرس والتمحيص من البعض الآخر، ولا بعض الفترات الزمنية أحق من سواها بذلك. ادرسوا كل جانب، ولا تقطعوا صلتكم بعصر من العصور، وما كان الإمام المراغيبمقولته تلك إلا حريصا على أن تكون دراستكم مستوعبة لا يفلت منها عصر من العصور حتى اشدها كراهية وبغضا، لا أن يكون عصر(872/5)
من العصور مهما يكنله من خصائص ومميزات تسمو به على كل ما عداه، هو كل علومكم، ومنه وإليه بدؤكم وانتهائكم!
سليمان دنيا
عضو بعثة الأزهر بإنجلترا(872/6)
الجارم الشاعر
الأستاذ عبد الجواد سليمان
(الوفاء في شعره)
في شعر الجارم ركن من الأركان العامرة يكاد يجزم كل من قرأ شعره في أجزاء من ديوانه الأربعة، وتتبعه في كل ما أذاعه أو نشرته له الصحف في أواخر أيامه أنه أكثر الشعراء المحدثين نظما في هذا الميدان، ذلكم هو (شعر الوفاء) والوفاء صفة إنسانية تجيش بها العاطفة اليقظة التي تهيم بحب من أحبت. وقد كان مظهر هذه الصفة في شعر الجارم وفاؤه لمليكه، والوفاء للملوك ولاء، وولاء شاعرنا هو ذوب نفسه المؤمنة وعصارة وجدانه الصادق، سجله في عشرات القصائد ومئات الأبيات في شتى المناسبات الملكية السعيدة. ثم وفاؤه لوطنه الصغير مصر ووطنه الأكبر الشرق، ثم وفاؤه لأصدقائه من شعراء وعلماء وعظماء وأساتذة يحييهم عن حب وتقدير أحياء، ويظل حافظا لودهم باقيا على عهدهم فيرثيهم بعد مماتهم رثاء يترجم عما ينطوي عليه قلبه لهم من حب ومودة وإخلاص؛ هذا إلى وفائه لمعاهده التي ورد فيها موارد الثقافة والمعارف يشيد بفضلها وينوه بذكرها ولا يتنكر لها؛ للغته ينافح عنها ولدينه يذود عنه.
وسنقصر هذه الكلمة على النوع الأول من الوفاء (والوفاء بمعنى الولاء) الذي آثر به الجارم الجالسين على عرش مصر فأدى لهم ديناً في جيده من شعر يبقى على الدهر خالداً توقعه قيثارة الولاء وتهتف به ألحان الخلود.
لم تفت الجارم مناسبة ملكية أو عيد من الأعياد (المصرية) إلا قيد لها أوابد فكره وتغنى فيها ببيان عذب وسحر مبين. وكيف يفوت الجارم شيء من ذلك وقد غمره مليكه بفيض من إحسانه فقربه منه، وأصغى إلى شعره ينشده بين يديه، وأغدق عليه فضله وأسبغ عليه إنعامه؟
ففي قصيدة له سماها (التاحية الكبرى) قالها بمناسبة تولي الفاروق سلطته الدستورية يصف الجارم هذا اليوم التاريخي العظيم، فيجعله متوجاً على الأيام حتى إن الأيام التي سبقته في الوجود لتأسف على تقدمها عليه، ويود كل يوم منها لو حالفها حسن الطالع فتأخر ظهوره قليلا ليحظى بالشرف الذي ناله هذا اليوم؛ ثم تغبطه الأيام بعده فيتمنى كل منهما لو سعد(872/7)
فسبق في صحيفة المقدور ليدرك المجد الذي أدركه يوم الفاروق وأنى لكل منهما أن يبلغ ما أراد أو ينال ما تمنى؟
هذه العاطفة الجياشة بالولاء يخطها الجارم شعراً فيقول: -
يوم غدا بين الدهور مملكا ... يوما إليه مهابة ويشار
الأمس أن تقدم خطوة ... وغداً إطار صوابه أستئخار
يوم جثا التاريخ فيه مدونا ... لله ما قد ضمت الأسفار
ثم يلتفت إلى المليك العظيم فيقول: -
يكفيه أن ينمى لأكرم سدة ... سعدت بها الأيام والأمصار
بيت له عنت الوجوه خواشعا ... كالبيت يمسح ركنه ويزار
وإن الصورة الحية الناطقة التي صور فيها التاريخ جاثياً على ركبتيه خاضعاً ذليلاً ليدون محامد هذا اليوم، ويتلو صحفاً مطهرة من أسفاره لتدل على الطبع الشعري الأصيل والخيال الواسع في الجارم الذي يرهف سمعه وحسه للحوادث فيسجلها ويعبر عنها من قلبه فلا يبدو فيها أثر الصنعة والتكلف.
وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) في البيت الأخير لمن التوريات الطريفة التي لا تنقاد إلا لشاعر ملك ناصية البلاغة وقبض على أزمة التصرف في فنون القول ليختار منها ما يهز القلوب ويبهر البلغاء، فقد لائم فيها الجارم بين خيال شعري جميل ونفحة روحية استقاها من نبع ثقافته الدينية، فالحج ركن من أركان الإسلام، والحجاج في حجهم يزورون الكعبة وهي البيت الحرام قبلة المسلمين ثم يطوفون حولها ويتمسحون ببعض أركانها خاشعين لله قد عنت وجوههم؛ متجردين إلا من لباس التقوى.
والشعراء يدونون التاريخ بلغة الشعر لأنهم لا يقرون على سرد الحوادث جافة مجردة بل يلقونها في أفواف من تلك النفحات القدسية التي آثرهم الله بها، ويرسلونها أنفاسا شعرية تلين ما جف من حوادث التاريخ.
والجارم في أبياته الآتية يسير على هذا السنن الشعري، فهو يلم فيها بما كانت عليه حال مصر قبل محمد على جد الفاروق، من ضعف وتدهور، وجهل وفوضى، ثم كيف انتعشت وتقدمت عندما تولى أمرها جد الأسرة العلوية، فضم الصفوف ووحد القوى، فبعثها من(872/8)
مرقدها فهبت متحفزة متوثبة تخطب المجد وتنشد الحياة الحرة الكريمة، ثم يذيل هذه الأبيات ببيت حكمي ضمنه مقابلة طريفة حيث يقول: -
العلم يخفق للزوال سراجه ... والعدل مندك الذرا منهار
والناس في حلك الظلام يسوقهم ... نحو الفناء تخبط وعثار
فبدا (محمد كم) فهب صريعهم ... حيا كذاك البعث والإنشار
والتفت الرايات حول لوائه ... ودعا الغفاة إلى المسير فساروا
وأعاد مجد الأولين بعزمه ... إيرادها لله والإصدار
إن النفوس تضيق وهي صغيرة ... ويضيق عنها الكون وهي كبار
ووفاء الجارم الشاعر من نوع الوفاء الراكز في النفس الممزوج بغرائزها الذي لا يفارقها ولا يتخلى عنها في ساعة من ساعاتها. وهل يخرج الإنسان على طبعه الذي طبع عليه أو يحيد عن فطرته التي فطره الله عليها؟ إنه لو حاول ذلك مرة لخانته طبيعته فجاء شاذاً مقلداً، يفضحه تقليده ويدل عليه شذوذه ولا يخفى على الناس تكلفه. ووفاؤه لمليكه يلهمه في عيد ميلاده أبياتا جديرة أن تسمى بحق (شعر الولاء) عندما يؤرخ لهذا اللون من الشعر في أبواب الأدب العربي المعاصر.
ففيها يصور (الفاروق) أستاذاً يلقن دروس الوفاء، وقد اتخذ النيل منه مجلس التلميذ؛ فتعلم من المليك الوفي لبلاده الوفاء بمائة وخيراته كل عام؛ وماؤه بالفاروق أعذب مورداً من ماء الحياة، بل إن ماء الحياة أثاره من مائه: -
النيل بالفاروق أعظم مورداً ... ماء الحياة ثمالة من مائه
علمته صدق الوفاء فأصبحت ... تتحدث الدنيا بصدق وفائه
ومنحته خلق العطاء فغردت ... صداحة الوادي بفضل عطائه
يصف الجارم في بيتين بعد ذلك مليكه بأنه رجل الدين والدنيا فيأتيان بمنجاة من الزلل إذ يقول: -
الدين والأخلاق ملء جنانه ... وجلالة الأملاك ملء ردائه
يهتز في برد الشباب كأنه ... سيف يدل بمائه ومضائه
حالف الجارم التوفيق في هذين البيتين كشاعر يمدح ملكاً؛ فلم يزل كما زل شاعر المأمون(872/9)
من قبل عندما امتدحه بقصيدة قال فيها:
تشاغل الناس بالدنيا وزبرجها ... وأنت بالدين عن دنياك مشغول
حتى إن المأمون لم يرتض منه لنفسه هذا المديح حيث أظهره مظهر رجل من رجال الدين الزاهدين الذين نسوا حظهم من الدنيا فقال: ويحك، هلا قلت كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز: -
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
ثم هو يؤكد هذا المعنى في مناسبة عيد الجلوس، فاخراً بدولة الفروق القوية التي أصبحت بفضل ملكها وتمسكه بأهداب دينه موئل الإسلام وملاذه فيقول: -
ملك من النور قد ضاءت دعائمه ... كأنما شيد من هالات أقمار
ودولة ركز الإسلام رايته ... فيها على طود تاريخ وآثار
وفي مناسبة تهنئته بعيد الفطر فيقول: -
إذا اصطنع الله امرأ جل سعيه ... وعمت أياديه وطابت نقائبه
به ازداد دين الله عزاً ورددت ... منابره آلائه ومحاربه
وقور بدرس الدين يطرق خاشعاً ... من النسك يرجو ربه ويراقبه
بجانبه الشعب الوفي يحوطه ... وترحمه أعضاده ومناكبه
تحلى به عصر الرشيد وعزه ... وسالف عهد الراشدين وذاهبه
ثم يوفق إلى هذا المعنى الجليل في مناسبة أخرى منشداً في الفاروق: -
قدوة للشباب قد عرف الجي ... ل طريق الحياة من خطواته
مرة سامقاً على صهوة الخي ... ل وأخرى مطامناً في صلاته
وفي غيرها في سهولة وإشراق قائلا في مملكة الفاروق:
شهدت بمطلعك الحيا ... ة تفيض بالنعم الزواخر
ورأت مخيل دولة ... فوق النجوم لها معابر
وتطلع المحراب في ... جذل وأشرقت المنابر
واستبشر الدين الحني ... ف بخير من يحيي الشعائر
ومدينة (رشيد) بلد الجارم قد شرفت بزيارة ملكية سعيدة؛ فلم تنسه غمرة الفرح التي عمت(872/10)
بلده بشرف الزيارة حق الوفاء لمليكه بل يسجل ولاءه في هذه المناسبة فيخلع على رشيد ثوباً قشيباً تزهو به على الأيام بين البلدان. فبزيارة الملك لرشيد أصبحت طريقها تبراً وكانت قبل تراباً: -
جزت الطريق فصارت ... تبراً وكانت تراباً
ونخيلها اهتز طرباً تشوقا إلى طلعة المليك:
والنخل ماست ومالت ... تشوقاً واجتذابا
قد هزها الشوق حتى ... كادت تجاري الركابا
وثغرها قد تفتحت أساريره، وبسم عن ثغور - فواحة بالعطر - بسمة حبيب أذهلت حبيبه عن لومه وعتابه: -
والزهر ينضح عطراً ... بين الربا وملابا
له ابتسام حبيب ... أنسى المحب العتابا
وطبيعة رشيد السحرية شاركت أهل رشيد الحفاوة بالملك، فتطامنت هضابها وحنت رقابها وكانت قبل الزيارة عالية شامخة، والبحر لا ينتظر حتى يرده الفاروق بل هو يسعى إلى بحر مثله ليستقبله لأنه أكثر منه عطاء وأسخى جنابا والنيل قد سار فخوراً مدلا بسيفه الفروق فوق متنه: -
تطامنت هضبات ... ماذا أصاب الهضابا
كانت تسامي الثريا ... واليوم تحني الرقابا
والبحر يدنو ويعلو ... تطلعا وارتقابا
لما تلقاك قلنا ... لاقى العباب العبابا
فاروق أعظم نفساً ... منه وأسخى جنابا
يزجي السحاب ثقالا ... وأنت تزجي الرغابا
والنيل ينساب تيهاً ... بين المروج انسيابا
ثم يصور رشيد وقد خرجت شيباً وشباناً تجتلي طلعة المليك، ورنت مآذنها وقبابها تتمنى أن تخوض مياه النيل للقيا المليك لو قدر لها ذلك: -
لولا السفين لهامت ... (رشيد) تعدو وثابا(872/11)
وأقبلت وهي ترنو ... مآذناً وقبابا
تود خوضا إليه ... لو استطاعت ذهابا
ثم لا يترك هذه الظواهر من غير أن يعلل لها تعليلا نفسياً يظهر فيه أثر ثقافته ومعرفته بالنفوس وطبها فيقول: -
والشوق إن غال نفساً ... لا تستطيع غلابا
وولاء الجارم لمليكه المحبوب لم ينسه حتى في أشد حالات سروره وفاءه لأبيه الملك الراحل، وذلك شأن النفوس الكريمة ذات البداهة الثاقبة، وإن من وفى للغائبين كان وفاؤه للحاضرين أولى وأجدر؛ فالمغفور له الملك فؤاد أعلى من قدره واستمع إلى شعره، فتراه هنا يستطرد إلى ذلك في إلماعة لبقة تنبعث من منابع نفسه قائلا: -
أبوك راش جناحي ... حتى لمست السحابا
وكان يصغي لشعري ... وكان شعري عجابا
وفي قوله (وكان شعري عجابا) إشارة من الإشارات الدقيقة الخفية إلى ما كان عليه الملك فؤاد من تذوق للشعر، وهي إشارة تعفي الجارم من مؤاخذته على الفخر في مقام مدح الملوك، ولعل تعبيره هنا (بكان) يشفع له ويجعل السامعين يتحسرون معه على أيام شبابه الخوالي.
أما وفاء النفس الطاهرة، وولاء القلب الواله الذي لا ينسى الجميل والإحسان؛ وأما دموع الوفاء الساخنة وزفراته الحارة، وأما ولاء الرعية للملوك فاستمع إلى الجارم يتلوه في رثاء الملك فؤاد لتعرف كيف يكون حزن الأوفياء ورزؤهم فيمن وفوا لهم: -
حملوه وإنما حملوا آ ... مال شعب بزهرها الغصن تندى
حملوا حامي الحقيقة ... والدين كما تحمل الملائك عهدا
ما على الدهر مرة لو توانى؟ ... أو على الدهر ساعة لو تهدى
قد نعينا فردا به كان عصراً ... وفقدنا عصراً به كان فردا
إنما الناس بالملوك وأعلى ال ... ملك شأواً ما كان حباً وودا
يا مليكي والحب يطحن نفسي ... كلما قلت: خف قال: سأبدا
أين تلك الهبات للعلم تزجى؟ ... وجميل العزاء بالحر أجدى(872/12)
نحن لله راجعون وكل ... بالغ في مجاله العمر حدا
غير أن الفتى يغالبه الدمع فلا يستطيع للدمع صدا ثم يعلل نفسه، ويخفف من حزنه على الملك الراحل، بذكر الفاروق - وفاء له - في مقام الولاء لأبيه، فهو أمل الشعب المرجى، قد قرأ خطه في ملامحه وعلق آماله على مليكه وسلطانه.
أمل الشعب في خليفتك ألفا ... روق أحيا آماله وأجدا
قرأ الشعب في ملامحه الغ ... ر سطور المهنى وأبصر جدا
ورأى فيه نبعة المجد والنب ... ل أبا مفرد الجلالة وجدا
لم يجد للعلا سواه مثيلا ... ولبدر السماء إلاه ندا
لقد صدر الجارم في قصائد ولائه عن طبعه الشاعري، فلم يقهر المعاني أو يحشر الألفاظ بل أنثالت عليه المعاني في تداع طبيعي وانقادت له الألفاظ آخذا بعضها برقاب بعض، وواتته القوافي طيعة لينة فكان ذلك كأنه من قصده ابن قنيبة في قوله (والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت على شعره رونق الطبع ووشى الغريزة. . .) ولعل سر نجاحه في هذا الباب صدق عاطفته وقوة شعوره، فإن صدق العاطفة وعمق الشعور يكسبان الأسلوب صفة القوة متى كان صاحبها قوي السلطان اللغوي خبيرا بفن التعبير وما نظن أن حظ الجارم من هاتين المنزلتين قليل.
وبعد فهذا ولاء الجارم لعرش بلاده هتف به في شعره وشدا به في بيانه بعد أن آمنت به نفسه فجعله فرضاً لازماً به عليه وعلى الشعب فقال: -
إذ الشعب والاه فذلك فرضه ... وإن فداه فذلك واجبه
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج(872/13)
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الكاظمي
لم يطل مكث الشيخ عبد المحسن الكاظمي في العراق فقد هاجر منه إلى مصر سنة 1897م وهو في السابعة والعشرين أو الثانية والثلاثين واستقر به المقام في القاهرة سنة 899م والتاريخ يحدثنا أن الكاظمي ترك العراق مرغما من قبل السلطات الحاكمة وقد كان تركه هذا أشبه شيء بالهرب. ويقول الذين أرخوا هذه الفترة من حياته. أنه اضطهد بسبب اتصاله بالسيد جمال الدين الأفغاني عند مروره بالعراق لأنه تأثر بمبادئه واقتبس من آرائه فغضبت عليه السلطات واضطرته إلى مغادرة العراق. ير أن الذي وجدناه في ديوان الكاظمي لا يدل على مناهضته للسياسة العثمانية يوم كان في العراق بل وجدناه شاعرا مؤيدا لهم هاتفا بمجدهم؛ وقصيدته (حرب الحياة الباقية) المنشورة في الجزء الأول من ديوانه دليل واضح على تأييده للعثمانيين وحثهم على محاربة الأوربيين وبخاصة دول البلقان متى ثارت عليهم في أواخر القرن التاسع عشر ومن هذه القصيدة:
حماة العلي قد حان حصد الجماجم ... أقيموا العلي واستأصلوا كل هادم
حماة العلي طال السكوت فعاذر ... إذا نطقت أسيافكم في الجماجم
خصومكم ضلوا وطاشت سهامهم ... وما وسموا إلا بشر المياسم
رعاياكم يا آل عثمان أصبحوا ... ملوكا وملك البغي ليس بدائم
أرى دول البلقان طالت أنوفها ... على دولة آثارها في المخاطم
والقصيدة طويلة وكلها مدح واستنهاض. ولا نستطيع أن نفسر هذا المنحى الذي نحاه الكاظمي إزاء سياسة الأتراك إلا بالعطفة وحدها وهي التعصب للإسلام؛ فهو إذن لا يعدو هذه العاطفة الإسلامية التي أنسته كل شيء فلم يقف في طريقه ما عاناه العراق من تدهور ومآس في ظل الحكم العثماني.
ولا نريد أن نحاسب الكاظمي على هذا الموقف الذي وقفه ما دام منبعثا عن حسن نية وصفاء عقيدة. على أنه موقف واحد سبقته مواقف لا ترضي العثمانيين، وتلته مواقف أخر فيها الشدة والصرامة عليهم. أما الأولى فدليلها السخط الذي انصب عليه فاضطر إلى(872/14)
الهرب، وما يرويه المؤرخون من أن له مذكرات قذف بها في نهر دجلة. وأما الثانية ففي ديوانه المطبوع ما يكفي للتدليل عليها؛ ففي الديوان قصائد كثيرة نظمها في مصر وفيها دعوة إلى الحرية وتنديد بسياسة الأتراك منه وانتهاء حكمهم له، ورغبة ملحة في أن يحكم العراقيون أنفسهم بدلا من أن يحكمهم أي أجنبي. وهذه العواطف التي تنساب في قلب الكاظمي تجدها ماثلة في قصيدته (ذكرى الفتوح) وقد نظمها يوم حملت له أنباء هزيمة الأتراك من العراق.
عسى بغداد يوقظها بياني ... فتقرأ فيه أبكار المعاني
مضى أمس فلا يرجى لأمس ... مآب أو يؤوب القارظان
فلا العهد الذميم له بباق ... ولا الذكر الحميد لنا بفان
ونجد الشاعر يعبر بوضوح عما كان يعانيه في العراق من اضطهاد العثمانيين له وأنه لم يستطع أن يجاهر بآماله وخواطره حتى إذا استقر به المقام في مصر وانتهت دولة الأتراك من العراق لم يجد ضيقا في مجال التنفس ولا حرجا في البوح بما يكنه لبلاده.
هل الزوراء تعلم ما عراها ... غداة دنى النفير وما عراني
أبوح بما أكن وكنت دهرا ... أحاذر أن أبوح بما أعاني
ويهتز الشاعر بشرا حين استراحت بغداد من الأتراك.
أتاني أن بغداد أريحت ... فلا كذب البشير بما أتاني
أريحت من ليال كن ناراً ... فمن بكر تشب ومن عوان
ورد لها التراث فلا بعيد ... ينازعها التراث ولا مدان
ثم يدعو بغداد إلى الاستمرار في الجهاد وبحثها على السير في طريق الاستقلال.
أعيذك غرة البلدان من أن ... تخوري في جهادك أو تواني
إذا نامت ظباك فقل سلام ... على تلك المنازل والمغاني
بنوك الغر أم (جنكيز) أحرى ... بهذا الملك من قاص ودان
فسيري لا سرت لك غير بشرى ... يسيل بها لديك الرافدان
ويكرر هذه العاطفة في قصيدة عنوانها (أنين وحنين) وأولها شعر تقليدي الأسلوب ولكنه لا يخلو من عاطفة الشاعر المحب لوطنه ولبلادة. وبعد هذا الحنين والشوق يبكي مجد بغداد(872/15)
الغابر وتاريخها الذهبي أيام بني العباس.
أين تلك القصور والدور أضحت ... حيث أضحت مقابراً وسجونا
ما ذكرنا تلك الليالي إلا ... وبكينا هارون والمأمونا
ثم يخاطب بغداد بأبيات تدل على حزنه الكامن وتفجعه بما جرى على بغداد من نكبات.
اقصري الشكوى يا ربوع المعالي ... رب شكوى سرت فكانت أنينا
لم يخنك الأمين يوم تولا ... ك ولكنك ائتمنت الخئونا
كان للعدل من ثراك نصيب ... عبثت فيه أثرة الحاكمينا
ومن الملكين من لا يرى الم ... لك سوى آلة تقيه المنونا
يستفز القانون والدين لكن ... لا يراعي دينا ولا قانونا
ومثل هذه القصيدة قصائد أخرى تتشابه معهما في الدوافع والإحساس وفي العاطفة الصادقة التي يثيرها الحنين إلى الوطن والتطلع إلى الحرية المحروبة أمام الغشم والاستعمار
ونجد الكاظمي في قصائد غير قليلة يمدح الملك الحسين وأولاده ويشير إلى ثورتهم على الأتراك وأعمالهم كما يجب أن يكون عليه الشعر السياسي بل يجتاز هذا إلا قليلا ويترك شاعريته تنطلق في آفاق المدح وإطراء الممدوحين ومواقفهم في سبيل العرب والأمة العربية. غير أن هذه القصائد لا تخلو من العطفة القومية التي تجري في عروق الشاعر وتتبلور في أفكاره وتأملاته فهي تفيض بالشعور العميق لتأييد الثورة العربية على الأتراك. ونترك استعراض هذه القصائد لطولها وما فيها من مدح وثناء يكاد يكون مكرراً مسموعا ولما فيها من لهجة قاسية على الأتراك مكتفين ببيتين من قصيدة عنوانها (هذا الحسين) ويعني الحسين بن علي ملك الحجاز آنذاك
أمطرت بالبيض الذكور مطهرا ... أرض بها عاث الشرير ودنسا
ونجابك البيت الحرام وللورى ... أمل بأن تنجي ظباك المقدسا
من هذا الذي درسناه يتضح لنا أن الكاظمي صاحب عقيدة دينية راسخة القواعد لا يرضى لها أن تذل وتخضع لأية عقيدة أخرى، وعاطفة قومية عنيفة لا يريد لها أن تتصاغر لأية أمة أخرى ولو كانت من المسلمين. وهو في كلتا الحلتين واسع الآمال والأبعاد لا يحتويه العراق - وإن كان وطنه الحبيب - ولا الجزيرة العربية - وإن كانت مهد العرب - بل(872/16)
كان يخفق بجناحيه في آفاق العروبة أينما حلت وأيان أقامت، وفي دنيا المسلمين مهما اتسعت رقعتها. على أن الكاظمي شاعر إنساني يحب الخير للبشر جميعا ولكن الحديث عن إنسانيته لا يستقيم لنا في هذا البحث المحدود.
بقي أن نشير إلى شيء له علاقة بالموضوع الذي نتحدث فيه وهو أن الكاظمي لم يشر إلى عودة الدستور في تركيا ولم يتحدث عنه بخير أو شر كما سنرى ذلك عند الزهاوي والرصافي ولاسيما أن إعلان الدستور اتفق أيام كان الكاظمي في مصر التي كانت منفصلة عن الخلافة العثمانية. وفي حيث لا يخشى الشاعر بأس أحد. يضاف إلى هذا أن إعلان الدستور كان بأمر من عبد الحميد ذلك الرجل الذي مدح مع من مدح في قصيدة (حرب الحياة الباقية) التي أشرنا إليها في صدر البحث. ولعل الكاظمي قد قال في ذلك شيئا ولكنه لم يصل إلينا.
الزهاوي
لا نريد أن نترجم لجميل صدقي الزهاوي ترجمة تاريخية. ولا نريد أن نتتبع حياته المادية كيف قضاها، وكيف كان يحياها. بل نريد أن نتحدث عنه كما تحدثنا عن الكاظمي فلا نتجاوز شعره ولا نلم إلا بالسياسي منه. وندع هذا الشعر نفسه يصف لنا جوانب من حياة الشاعر في بغداد وفي تركيا وما لاقى من اضطهاد وتشريد بسبب دعوته إلى التحرر من حكم العثمانيين فكان ثائرا حانقا شديد اللهجة على خصومه أيام استبدادهم، ثم هادئا مطمئنا كبير الأمل يوم أعيد الدستور. وفي ديوانه (الكلم المنظوم) دليل واضح على ثورته واستيائه من سياسة العثمانيين ودعوته الجريئة إلى التخلص منهم. وشعره هذا لا يخلو في كثير من المواطن من الناحية القصصية التي يتحدث بها عن حياته وما كان يلاقيه من الجواسيس والحكام وما ينزلون من بلاء على كل بريء يدركونه؛ فدولة الأتراك في ذلك الوقت - كما يراها الزهاوي - دولة همجية تعبث بالعراق وسوريا واليمن وتجوز على هذه الأقطار وتستنفذ خيراتها بلا وازع ولا ضمير، والسلطان لا يرتضي ري ناصح ولا يستجيب لمشورة أحد، ولا يعمل بما أنزله الله وما صدع به النبي الكريم. نجد هذا في قصيدة عنوانها (حتام تغفل) وقد نظمها أيام طغيان عبد الحميد وقبل إعلان الدستور بسنوات قليلة. ومنها:(872/17)
ألا فانتبه للأمر حتام تغفل ... أما علمتك الحال ما كنت تجهل
ويسير على هذه الوتيرة في أبيات غير قليلة يدعو فيها أمته وشعبه إلى التكتل والنهوض والثورة على حكومة الأتراك ثم يصف هذه الحكومة فيقول:
وما هي إلا دولة همجية ... تسوس بما يقضي هواها وتعمل
فترفع بالإعزاز من كان جاهلا ... وتخفض بالإذلال من كان يعقل
ولا نريد أن نتعرض للبيت الأخير بالنقد من الوجهة اللفظية واعتماده على الصناعة والتقليد فنقول: أن الشاعر كان نحويا حين رفع وخفض، وكان بديعيا حين طابق بين الجهل والعقل. لا نريد هذا وإن تكن الموسيقى اللفظية من أهم العناصر في الشعر - وإنما يكفينا هذه الصورة اللفظية التي يضعها الشاعر في إطار الواقع عن تلك الحكومة التي أساءت إلى نفسها وإلى غيرها، هذه الصورة تبرز لنا في هذا البيت وفي غيره من أبيات هذه القصيدة، فالدولة العثمانية دولة مستبدة همجية كما سبق، وحكامها وولاتها.
إذا نزلوا أرضا تفاقم خطبها ... كأنهم فيها البلاء الموكل
ولم تسلم منهم البلاد العربية وأقطارها.
فمدت إلى سورية يد عسفهم ... تحملها من ظلمهم ما تحمل
وبغداد دار العلم قد أصبحت بهم ... يهددها داء من الجهل معضل
وسل منهم القطر اليماني إنه ... يبث بما يجري عليه وينزل
ثم يتحدث عن السلطان عبد الحميد ونترك مجال التصوير للشعر وحده:
وذي سلطة لا يرتضي رأي ناصح ... إذا قال قولا فهو لا يتبدل
أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والنبي المبجل
فيفقر ذا مال وينفي مبرأ ... ويسجن مظلوما ويسبي ويقتل
ثم يلتفت إلى عبد الحميد فيهدده ويتوعده بسوء العاقبة:
فيا ملكا في ظلمه ظل مسرفا ... فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
تمهل قليلا لا تغظ أمة إذا ... تحرك فيها الغيظ لا تتمهل
وأيديك إن طالت فلا تغترر بها ... فإن يد الأيام منهن أطول
ونحب أن نستمع إلى الزهاوي وهو يقص علينا ما لاقاه في تركيا من عنت واضطهاد وما(872/18)
قوبل به هو وصحبه من مراقبة شديدة وتجسس بغيض، ثم إرجاعه إلى بغداد مقهورا ونفي أصحابه الذين كانوا معه، بحد هذا كله في قصيدته (أين المفارق) وقد نظمها سنة 1317هـ ونترك أول القصيدة آخذين ما فيها من وصف للظلم والجاسوسية، وما فيها من احتجاج شديد وجهه الشاعر إلى خصومه فلم يفده شيئا:
ويممت دار الملك أحسب أنني ... إذا كنت فيها نازلا أتمتع
وإني إذا ما قلت قولا يفيد في ... مصالحها ألغيت من هو يسمع
ولم أدر أني راحل لمحلة ... بها الفضل مجذوم الذراعين أقطع
إلى منزل فيه العزيز محقر ... إلى بلد فيه النجيب مضيع
ويحاول الشاعر أن يعود إلى وطنه بعد ما شاهده من الغدر والخيانة والظلم الذي استغلقت فيه منافذ الحرية ولكنه لم يستطع العودة كما يشاء لأن الشرطة والجواسيس حالوا بينه وبين ما يريد:
ولما رأيت الغدر في القوم شيمة ... وأن مجال الظلم فيهم يوسع
وأن الكلام الحق ينبذ جانبا ... وأن أراجيف الوشاية تسمع
خشيت على نفسي فأزمعت رحلة ... إلى بلدي من قبل أني أصرع
وهل راحة في بلدة نصف أهلها ... على نصفه الثاني عيون تطلع
ولكنني لما تهيأت صدني ... عن السير (بوليس) ورائي يرح
(للكلام صلة)
إبراهيم الوائلي(872/19)
المسرح المصري
للأستاذ محمود سامي أحمد
احتكار الفن
أعود اليوم إلى موضوع المسرح المصري، لأكتب في ناحية أخرى غير تلك التي تناولتها في مقالتي السابقة، ناحية كان لها أثر كبير في ركود ناحية المسرح. ويؤسفني أن أقول أن الممثل هو سبب هذا الموت أو ما يشبه الموت الذي حل بالمسرح.
كان في مصر نهضة مسرحية رائعة فيما قبل عام 1930، وكان من أهم أسباب هذه النهضة تلك المنافسة القوية التي كانت قائمة بين الفرق التمثيلية المختلفة، فكانت كل فرقة تنتقي أحسن ما كتبه مؤلفو الغرب من مسرحيات، وأقوى ما يكتبه المؤلفون المصريون، بل كانت تجتذب إليها كبار الكتاب ليكتبوا للمسرح وذلك لتفوز بإقبال الجمهور دون الفرق الأخرى. وأظن أن الكثيرين منا يذكرون تلك المنافسة القوية بين فرقتي رمسيس وفاطمة رشدي، وتلك المنافسة الشديدة بين فرقتي الريحاني والكسار.
لم يكن التمثيل في ذلك الوقت قاصرا على لون بعينه، بل كانت المسارح المختلفة تعرض ألوانا شتى، من مآسي إلى ملهاة إلى أوبرا أو أوبريت، وهكذا كان الجو المسرحي جوا نابضا بالحيوية والنشاط.
أما بعد أن تكونت الفرقة القومية ثم المصرية فالحالة تغيرت وتطورت، ولم يكن هذا التطور نحو النهضة، وإنما حدث العكس، فقد انحط المسرح، وركدت ريحه، وحل به ما يشبه الموت إن لم يكن الموت نفسه.
وقد عجب كثير الناس كيف يموت المسرح بعد أن تكونت فرقة تعينها الحكومة بالمبالغ الطائلة نسبياً، وتجمع كل نابغة ونابغ من الممثلين؟ والحق إن هذه الأسباب نفسها هي سبب تدهور المسرح.
والمسألة بسيطة واضحة، فقد أحس الممثلون أنهم أصبحوا من موظفي الحكومة، ولم يعد أحد منهم يخشى على عيشه، فانتابهم الكسل، وفقدوا الدافع إلى العمل والتبريز، ولم تعد هناك فرقة أخرى تنافس الفرقة المصرية بعد أن جمعت أكثر الممثلين، فاحتكرت الفن، وأصبحت تعمل في السنة فترة لا تزيد عن أربعة أشهر أو خمسة، ثم يقضي أعضاؤها ما(872/20)
بقي من شهور العام في النوم اللذيذ والكسل الحلو، وكلنا يسمع سنويا في الصيف عن الاستعداد الضخم للموسم المقبل، فإذا ما حل الشتاء وبدأت الفرقة عملها، إذا بالجمل يتمخض فيلد فأرا هزيلا لا حياة فيه. وكيف نرجو نهضة من فرقة لا تقدم في الموسم الكامل إلا روايات تعد على أصابع اليد الواحدة، ثم تعيد فيما بقي من الموسم القصير روايات سبق أن مثلت مرارا وتكرارا حتى ملها الجمهور؟
هذا الاحتكار هو أول معول هدم صرح المسرح المصري.
رسالة الفرقة المصرية:
المفروض أن للفرقة المصرة رسالة، ورسالة ضخمة تتناسب وما يجتمع فيها من كبار الممثلين.
والمفروض أن رسالة الفرقة هي العمل على رفعشأن المسرح المصري بتقديم أروع ما كتبه المؤلفون المسرحيون بين مصريين وأجانب.
والمفروض أيضا أن الفرقة لم تكونها الحكومة للكسب، وإنما كونتها للقيام بأعباء هذه الرسالة الثقافية الكبيرة.
فهل أدت الفرقة فيما سلخت من أعوام رسالتها؟
يحز في نفسي أن يكون الجواب بالنفي.
وأنا لا أبني فشل الفرقة في أداء رسالتها على قلة الإيراد، فهذا آخر ما يجب النظر إليه، وإنما أبني هذا الفشل على ما تقدمه الفرقة من روايات.
كم رواية تاريخية قدمتها الفرقة في تاريخها الطويل؟
لن أستطيع أن أبخس قدر الفرقة فأدعي أنها لم تقدم شيئا من هذه الروايات، ولكن ما قدمته منها ضاع في غمار ما قدمته من مسرحيات فاشلة أو سوقية تقوم على التهريج من نوع المهازل فهذا النوع أجدر به أن يمثل في دور الرقص والفن الرخيص.
وأين رسالة الفرقة وهي تعيد روايات مثلت قبل تأليفها، والمفروض أنها ما كونت إلا لتقدم نوعا آخر من الروايات غير ما كانت تقدمه الفرق الأهلية؟ لا شك أن الفرقة مقصرة.
أنا لا أفهم السر في قصر عمل الفرقة على نوع واحد من المسرحيات، وهي الفرقة الغنية بعناصرها الفنية، فلم لا تتكون من هذا العدد الضخم فرقتان أو أكثر، فرقة تعمل باستمرار(872/21)
في القاهرة وفرقة تجوب الأقاليم المختلفة؟ ولماذا لا تتشعب منها شعبة للملهاة وثانية للمأساة وثالثة للأوبرا والمسرحية الغنائية؟
إن كان غرض الفرقة أن تقتصر رسالتها على الكسب المادي فلتنشأ إلى جانبها فرقة أخرى لا تهدف إلا إلى عرض الروائع المسرحية الخالدة، غير ناظرة إلى كسب مادي أو إلى أي عراقيل فنية. لتكن فرقة تجارب تثبت أقدام الأنواع الجديدة، فإذا ما استساغها الجمهور عرضت الفرقة المصرية منها وهي واثقة من إقبال الجمهور، فوجود فرقة التجارب هذه أمر واجب حتم لرفع شأن المسرح المصري.
وإني لأرجو أن يأتي اليوم الذي أغشى فيه مسرح هذه الفرقة فأراها تقدم عددا من المسرحيات ذات الفصل الواحد مثلا، أو أراها تعرض مسرحيات مما ترفض الفرقة عرضه الآن، فإن الفرقة المصرية ترفض الكثير من أروع المسرحيات محتجة بأن الجمهور لن يقبل عليها. ويكفي أن يعلم القارئ أن الفرقة رفضت مسرحيات لهنريك إبسن النرويجي مؤسس المسرح الحديث وأستاذ برناردشو، كما رفضت مسرحيات لسومرست موم الكاتب الإنجليزي العظيم.
المسرح والسينما:
وقد يدعي البعض أن السبب فيما حاق بالمسرح إنما هو انتشار السينما، فهي تتفوق على المسرح بوفرة مناظرها وتنوعها، واستطاعتها الجمع بين كبار الممثلين في صعيد واحد، وبرخص أسعارها بالنسبة للمشاهدين لإمكان عرض الرواية مئات المرات دون أن يدفع للممثلين أجر عن كل مرة، ثم لأنها اجتذبت كبار ممثلي المسرح بما تدفعه لهم من أجور عالية.
وهذه مغالطة، مغالطة ضخمة، لجأ إليها المتقاعسون عن العمل على رفع شأن المسرح، لأنها أسهل حجة يبعدون بها اللوم عن أنفسهم.
وما المسرح والسينما إلا كالرسم والتصوير، فإذا كان التصوير الفوتوغرافي قد قضى على الرسم بالفحم أو بالزيت، فإن السينما يمكن أن تقضي على المسرح. فالمسرح بالنسبة للمشاهدين شيء فيه حياة وروح لأنهم يرون الممثلين أمامهم بأشخاصهم، أما السينما فهي خيالات تعتمد على شيء كثير من خيال الجمهور ليوهم نفسه بأن أشخاصها أشخاص(872/22)
حقيقيون. ولهذا يفضل الناس الذهاب إلى المسرح، فالشخص يذهب إلى دار السينما في كثير من الأحيان، ولكنه إذا أراد أن يحتفل بمناسبة ما وأراد قضاء سهرة خاصة خارج البيت فإنه يقصد المسرح.
وكذلك الحال بالنسبة للممثلين فإنهم يفضلون العمل في المسرح على العمل في السينما، وكل مطلع على أخبار الفنانين يسمع عن انصراف بعض ممثلي السينما في أمريكا وأوربا إلى المسرح بعض الوقت إرضاء لميلهم الفني، لأن المسرح يغذي فيهم الحاسة الفنية.
الرواية المسرحية:
لا جدل في أن الرواية المسرحية هي أحد الأعمدة التي يقوم عليها فن التمثيل، لذا يجب العناية بالتأليف المسرحي أكبر العناية حتى يظهر بيننا المؤلفون المسرحيون الذين يعتد بأعمالهم. وإني لا أنكر أن في مصر بعض مؤلفين ممتازين، ولكن ليس بالقدر الواجب توافره. والكتابة المسرحية تختلف عن أنواع الأدب الأخرى في أنها قائمة على الحوار، وإن بنائها يختلف اختلافا كليا عن القصة أو القصيدة مثلا، فالمسرحية لها قواعد خاصة يجب أن يلم بها المؤلف، فهي له كالنحو للكاتب لا يمكن أن يكتب كتابة سليمة إلا بمعرفته، كذلك لا يستطيع مؤلف أن يكتب مسرحيات صحيحة من وجهة النظر المسرحية إلا بدراسة هذه القواعد.
ولما كان أدبنا العربي لم يعمل في هذا الميدان إلا في السنوات الأربعين الأخيرة، فليس فيه أساس يبني عليه المحدثون، فواجب علينا لمن نطلع على ما كتبه الغربيون في هذا النوع، وأن نطلع على الكتب التي ألفت في دراسة المسرحية.
ولما كان عدد من يعرفون اللغات الأوربية قليلا في مصر، فإني أرى أن من واجب وزارة المعارف، ولجنة ترقية التمثيل، والمعهد العالي لفن التمثيل العربي، ودور النشر المختلفة، أن يتكاتفوا جميعا وينشروا ترجمات روائع المسرحيات من مختلف اللغات، وترجمات لكتب الفن المسرحي.
ومن الغريب حقا، أن دور النشر، وهي تعرض في الأسواق كل يوم عشرات من الكتب، أهملت المسرح والمسرحيات، ولم تنشر منها إلا أقل القليل، وهو أمر غريب، غريب حقا أن تتكاتف دور النشر جميعا على إهمال المسرح هذا الإهمال المشين.(872/23)
ترجموا المسرحيات الجيدة، وأنا الكفيل بأننا سنرى بيننا بعد بضع سنوات عددا كبيرا من المؤلفين المسرحيين المجيدين.
وسائل النهوض بالمسرح:
وأخيرا، ألخص ما يجب علينا عمله لننهض بالمسرح المصري من كبوته فأقول:
انشروا حب المسرح بين أفراد الشعب وخاصة طلبة المدارس، وأكثروا من الفرق التمثيلية ليكون بينها تنافس يدفعها إلى الكمال، انشروا بين الناس ترجمات صحيحة جيدة لأروع المسرحيات ولأكبر ما كتب عن فن المسرح.
هذا هو السبيل، وهو بين واضح لمن يريد العمل على نهضة المسرح؛ أما غير ذلك فلغو باطل لا خير فيه.
محمود سامي أحمد(872/24)
عدو الشعب الجاشنكير
للأستاذ عطية الشيخ
- 2 -
صرخة الشعب
ما أحسن قول شوقي في رواية كليوباترا:
أنظر الشعب ديون ... كيف يوحون إليه
أثر البهتان فيه ... وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء ... عقله في أذنيه
وما أحقر عقل الجماهير ومنطقها، وما أكثر ما ترى شعبا من الشعوب، لمجرد فرية مزورة يعادي حبيبه، ويحب عدوه وينصر خاذله، ويخذل ناصره، ويصدق المحال، ويستبعد الحق. وصدق من قال أن الشعوب تقاد من عاطفتها لا من تفكيرها، وهكذا استطاع بعض البطانة أن يثير الشعب على بيبرس ومن معه. ولعل الشعب عطف على السلطان بغريزة مناصرة الرئيس على المرؤوس، والأب على الابن، أو لصغر سن السلطان، واستنجاده بهم، فتحركت فيهم النخوة التي تحمي من استجار.
وأيا كان سبب ذلك فسأنقل الرواية التاريخية بلفظها ليعرفها القارئ الكريم كيف كانت الأمة مصدر السلطة في ذلك العصر: (لما رأى العامة أن الملك الناصر قد وقف بالرفرف من القلعة، وجنود بيبرس وسلار تحاصره، حنقوا وصرخوا، وحملوا يدا واحدة على الأمراء، وهم يقولون: يا ناصر يا منصور، الله يخون الخائن، الله يخون من يخون ابن قلاوون، فأرسل بيبرس عدة مماليك لينحوا العامة ويفرقوهم، فاشتد صياحهم، وهجموا عليهم، وأفحشوا في حقهم، فخشي قائدهم من تكاثر العامة، وأخذ يلاطفهم، وقال لهم: طيبوا خاطركم فإن السلطان قد طاب خاطره على أمراءه، وما زال يحلف لهم حتى تفرقوا، وعاد قائد السرية بيبرس وعرفه شدة تعصب العامة للسلطان، فلم يسعه هو ومن معه إلا استعطافه، فأرسلوا إليه يقولون إنهم مماليكه وفي طاعته ولا يريدون إلا إخراج الشباب الذين يوقعون بينه وبينهم، فرضي السلطان بإخراج زعماء الدس إلى الشام، ودخل الأمراء عليه وقبلوا يده فخلع عليهم وركب معهم وطاف بالقاهرة لتطمئن قلوب العامة).(872/25)
لم يحمد الدساسون المغبة:
عادت المياه إلى مجاريها، وحمد كل الله على ما انتهت إليه الفتنة، ولكن بطانة السوء لم تحمد الله على ذلك، فما زال بيبرس أمينا على خزانة الدولة، وسلار مصرفا لشئونها وهم محرومون من شهوة المال، وشهوة الحكم، فوجدوا في إخراج زعماء الفتنة مادة جديدة لإشعال أحقاد الملك على بيبرس، فأخذوا يتباكون على استبداد الأمير بيبرس بملكه حتى يجبره على نفي بعض خاصته، وعلى تحكمه في مأكل الملك وملبسه ومشربه وشهوة نفسه، حتى أن الملك يبيت (في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه إلى القدس. . . وقد ضاق صدره، وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس وسلار عليه، وعدم تصرفه في الدولة كما يريد، حتى أنه لا يصل إلى ما تشتهي نفسه من المأكل لقلة المرتب له! فلولا ما كان يتحصل له من أملاكه وأوقاف أبيه ما وجد سبيلا لبلوغ بعض أغراضه).
إلى الصيد:
بلغ الضيق منتهاه بالسلطان، وكاد يختنق هما وغما فخرج في سنة 708هـ من القلعة، وجاز النيل إلى البر الغربي، وأقام حول الأهرام يتصيد عشرين يوما، وهناك دبرت مؤامرة ثالثة خلاصتها أن يظهر الملك رغبيه في الحج مع عياله ثم يهرب إلى قلعة الكرك، وفي هذه الجهة النائية تعد نيران ثورة تلتهم بيبرس وسلار ومن معهما، ومهد لذلك بإرسال خطاب مزور باسم سلار وبيبرس إلى قائد قلعة الكرك ليسلمها للملك عند حضوره.
حج مبرور:
أعلن الملك رغبته في الحج مع عياله، وشرع الأمراء في تقديم الهدايا على العادة، من الخيل والإبل، والتزم عرب الشرقية بالشعير اللازم للدواب. وفي 25رمضان نزل السلطان من القلعة ومعه جميع الأمراء، وكانت البطانة لا تألوا جهدا في استغلال الشعب ضد بيبرس، مخترعين القصص مفترين الأباطيل عما يضايق بيبرس ملكه، حتى اعتبر الشعب نفسه مسؤولا عن إنقاذ الملك وحمايته من هذا الأمير المستبد القاسي، وأراد الشعب أن يعلن في توديعه الملك إلى الحجاز مقدار حبه له واستعداده للتضحية بكل شيء في سبيله (فخرج العامة حوله وحاولوا بينه وبين الأمراء وهم يتباكون ويتأسفون على فراقه ويدعون له(872/26)
تحميد العودة) حتى وصل إلى بركة الحاج، فعاد المودعونجميعا من العامة والأمراء، وبيبرس وسلار يتعجبان مما سمعا من العامة ولا يعلمان أن الدس مستمر من البطانة إلى الشعب.
إلى الكرك:
بعث السلطان أهله إلى العقبة، وظل هو مدة بتصيد بالصالحية ثم سار في طريقه إلى الحجاز. ولما صار في أقرب نقطة إلى الكرك عرج عليها، وأرسل من استدعى أهله من العقبة، وأمر بإخراج كل من في ناحية الكرك من الأهالي، وبعث بقائد القلعة وحاميها إلى مصر ليخبر بيبرس أنه قد انثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالقلعة، ورد معه كل الهدايا التي أهداها إليه الأمراء بمناسبة حجه، وأخذ الأمراء المصاحبون له في الحج يبكون ويحاولون إرجاعه عن عزمه فلم يفلحوا، فعاد الجميع إلى مصر محزونين. ولما لام بيبرس نائب القلعة على تسليمها للملك أطلعه على الخطاب المحرر باسمه واسم سلار، وبالبحث ظهر أنه مزور، دسه عليهما الطنبغا الكاتب، بتحريض من بطانة السلطان.
حرب القلم:
طلب الناصر علاء الدين بن الأثير الكاتب وأمره أن يكتب لبيبرس وسلار وأمراء مصر الكتاب الآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله الجنابين العاليين الكبيرين بين الغازين المجاهدين، وفقهما الله تعالى توفيق العارفين، أما بعد فقد اطلعت على قلعة الكرك وهي من بعض قلاعي وملكي، وقد عولت على الإقامة فيها، فإن كنتم مماليكي ومماليك أبي، فأطيعوا نائبي ولا تخالفوه في أمر من الأمور، ولا تعملوا شيئا حتى تشاوروني، فأنا ما أريد لكم إلا الخير، وأنا ما طلعت إلى هذا المكان إلا لأنه أروح لي، وأقل كلفة، وإن كنتم لا تسمعون مني فأنا متوكل على الله والسلام) وصل الكتاب فاجتمع الأمراء بدار بيبرس، وقد طار صوابهم لهذه الألاعيب، وكتبوا إلى الملك بعد التشاور الجواب الآتي:
(ما علمنا ما عولت عليه، وطلوعك إلى قلعة الكرك وإخراج أهلها، وتشيعك نائبها، وهذا أمل بعيد. فخل عنك شغل الصبى، وقم واحضر إلينا، وإلا بعد ذلك تطلب الحضور ولا يصح لك، وتندم ولا ينفعك الندم، فيا ليت لو علمنا ما كان وقع في خاطرك وما عولت(872/27)
عليه، غير أن لكل ملك انصرام، ولانقضاء الدولة أحكام، ولحلول الأقدار سهام، ولأجل هذا أمرك غيك بالتطويل، وحسن لك زخرف الأقاويل. فالله الله حال وقوفك على هذا الكتاب يكون الجواب حضورك بنفسك ومعك مماليكك، وإلا تعلم أنا ما نخليك في الكرك، ويخرج الملك من يدك والسلام).
تنازل مصطنع:
لما قريء الكتاب على الناصر تبسم وقال: لا إله إلا الله! كيف أظهروا ما في صدورهم! ثم أمر بإحضار آلة الملك مثل العصائب والكوسات والهجن وكل ما كان عنده من شارات الملك وسلمها للرسول. وقال له: قل لهم ما أخذت لكم شيئا من بيت المال، حتى الهدايا أرجعتها إليكم، ولن أعمل سلطانا، فدعوني في هذه القلعة، منعزلا عنكم إلا أن يفرج الله تعالى أما بالموت وأما بغيره. وسلم كتابا بالتنازل عن السلطنة، وعاد الرسول إلى مصر ودفع الكتاب لبيبرس وسلار وسلمهما شارة الملك، (فلما قرأ الكتاب قالا: (لو كان هذا الصبي يجئ ما بقي يفلح، ولا يصلح للسلطنة، ولا نأمن غدره).
تشاور وبيعة:
اجتمع بيبرس وسلار وسائر الأمراء بدار النيابة بالقلعة، واستدعوا الخليفة وقضاة المذاهب الأربعة، وقرئ كتاب الناصر، وشهد الأمراء الذين عادوا من صحبته بتنازله عن العرش فأثبت ذلك، وبحثوا فيمن يصلح للسلطنة بعده، واختلفوا بين سلار وبيبرس فأنهى سلار الخلاف بأن قام وبايع بيبرس، فقبلها الأخير مكرها (وجلس على تخت الملك وهو يبكي بحيث يراه الناس) واشترط لقبوله الملك أن يبقى سلار نائب السلطنة، فقام الأمراء إليه حتى قبلها ولبس خلعة النيابة.
حرب السماء:
كأن من شيم الأيام عداوة الكرام، وكأن الزمان حليف الأخس، وكأن وظائف السياسة ملعونة منحوسة لا يسعد فيها إلا كل ملعون نحس، فطالما رأينا عوامل الطبيعة تتضافر مع لئام الناس في حرب الكرام، وقلما رأينا الحق في صراعه مع الباطل إلا مهزوما، وكلما صنع اللئيم سنانا لحرب الكريم أنبت الزمان قناة لسنانه، ولولا هذه المشاهدات، ما آمن الناس(872/28)
بأخرة تنصف المظلوم من الظالم، وتعوض الفضل من المفضول، وما آمن ابن العاص حتى فكر فوجد العرب أقوم أخلاقا من العجم، والعجم أسعد دنيا من العرب، فقال لا بد من آخره تقيم هذا العوج. أقول هذا لأن بيبرس المستقيم العفيف المخلص العفيف النزيه، ما كاد يجلس على العرش حتى بدأ سوء الطالع يلازمه، فقد فشت في البلاد أمراض حادة، وعم الوباء الخلائق، وعز التداوي، وامتنع كل ما يحتاج إليه المرضى، ثم تأخر فيضان النيل إلى شهر مسرى، فارتفع سعر القمح وعم الغلاء جميع السلع، ولم يزد النيل في هذه السنة عن ست عشرة ذراعا فشرقت أرض كثيرة وتوقع الناس مجاعة قاسية، ودبت عقارب السعاية بين الشعب مستغلة الظرف (فتشاءم الناس بطلعة الملك المظفر بيبرس) وصنع العوام أغنية صاروا يتغنون بها وهي:
سلطاننا ركين ... ونائبنا دقين يجينا الماء من أين
يجيبوا لنا الأعرج ... يجي الماء ويدحرج
يقصدون بركين ركن الدين بيبرس، وبدقين سلار لأنه كان مغولبا أجردفي حنكه بعض الشعرات، وبالأعرج الملك الناصر لأنه كان كذلك، وقد أخذ بعض المحبين للملك يضربون من يغني هذه الأغنية، فكانوا كالدية المخلصة لصاحبها، رضي الله عنها، إذ سببوا ازدياد الكراهة من الشعب للملك، وولوعه بهذه الأغنية حتى كانوا يغنونها تحت سور القلعة، فوضعت الوحشة بين المظفر وبين عامة الشعب.
أمراء الشام:
تزعم حركة الولاء للناصر، وعدم الاعتراف بسلطنة الجاشنكير، ثلاثة من كبار أمراء الشام. هم قراسنقر نائب حلب، وقبجق نائب حماة، واستدمر نائب طرابلس، وكان أكبرهم وزعيمهم قراسنقر، أما الأفرم نائب دمشق فكان أخلص الناس للجاشنكير إذ كان جركسيا مثله لذلك بايع الأفرم وأرسل إلى الثلاثة السالفين؛ فأما قراسنقر فقال لرسول الأفرم: إيش الحاجة لمشورتنا بعد أن حلف أستاذك وبايع وكان الأولى أن يتأتى، وأما قبجن فقال للرسول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إيش جرى على ابن أستاذنا حتى عزل نفسه! والله لقد دبرتم أنحس تدبير، اذهب إلى أستاذك وقل له الآن بلغت مرادك، وسوف تبصر من يصبح ندمان وفي أمره حيران. وأما استدمر فقال للرسول: اذهب إلى أستاذك(872/29)
وقل له يا بعيد الذهن وقليل العلم، بعد أن دبرت أمرا ما الحاجة إلى مشورتنا؟ فو الله ليكونن عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك. ثم اجتمع هؤلاء العصاة الثلاثة واتفقوا على العمل سرا مع الناصر لإعادته إلى الملك وخلع بيبرس وألا يقطع واحد منهم في رأي إلا بمشورة أصحابه.
يتبع
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا(872/30)
ختام قصة
خيانة امرأة
- 4 -
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي أديب. . . ومن العجب أن يقول: (وهل هناك رجل يرى زوجته مع رجل غريب على فراشه فلا تظهر آثار رجولته وغضبه إلا في خطاب يخاطب فيه بكلام يشبه الفلسفة؟ أهذا هو الرجل في الشرق أم في الغرب؟) هذا كلام فيه سخرية منى لاذعة وتهكم من الفلسفة مرير، فهو يسم الفلسفة بالعجز والفتور ويصورني رجلا خوار العزيمة جبان القلب؛ ذلك لأن صاحبك لم يستطع أن يستشف ما وراء السطور من ثورة جامحة عنيفة تتبدى حينا في عنف وتتوارى حينا في أسى، ولأنك أنت يا صديقي - حين كتبت القصة - جعلت اللص دبر أذنيك فما تحدثت عن شأني وشأنه بكلمة واحدة، وأنا قد نشرت على يديك جملة الخبر فقلت لك إنني حين أحسست بالطعنة القاسية تتغلغل في قلبي هدرت هدير الجمل الهائج غاظه عبث طفل أحمق، فانطلقت صوب الخائن والخائنة أحتدم احتداماً جارفاً، فلم أدع الرجل يفلت من يدي إلا بعد أن صار حطاماً من إنسان ثم قذفت به إلى الشارع وهو لا يكاد يتماسك مما ناله من تورثي وبطشي. ثم اندفعت في فوره الغضب أفتش عن الخائنة - وقد توارت عن عيني - فما راعني إلا أن أسمع صوتاً رقيقاً ندياً يناديني: بابا. . بابا! فالتفت فإذا أبني الأكبر يشتد نحوي على عادته كلما أقبل من روضة الأطفال. . . يشتد نحوي ليتشبث بي ويتعلق بعنقي ويغمرني بقبلاته الحارة، وفاضت مشاعره الطاهرة الجياشة يتوثب الحب من خلالها ويتأرج الصفاء من أضعافها. آه يا قلبي! لقد شعرت بقبلات الطفل تلفني في جو من الهدوء والسكينة وتكبت الثورة العنيفة في قلبي وتستلبني من حيوانيتي العمياء، وضننت أنا بأعصاب الطفل أن تتحطم حين يراني اهجم على أمه في قسوة وعنف أذيقها وبال أمرها، فأمسكت حتى حين. وانطلق الطفل ينادي اخوته فتدفقت رنات صوته في أغوار قلبي نغماً موسيقياً أخاذاً يدفعني إلى هؤلاء الملائكة الصغار. . . إلى أولادي. . . إلى أحبائي. ورأيت الطفل يدور في الحجرات يبحث عبثا عن أخوته في جنون وشغف. لقد أرسلتهم الخائنة مع الخادم إلى دار أختها ليخلو لها الجو(872/31)
هنا. . هنا في داري، ثم أقبل الطفل وهو يلهث من شدة ألاين ومن أثر الإخفاق. . . أقبل يسائلني عن أخوته فضممته إلى صدري وانتحيت به ناحية ألقي السمع إلى حديث التافه البريء عسى أن أجد فيه سلوة أو عزاء، ولكن. . .
وظللت أياما أدير الرأي في خاطري فما أهتدي وإن بي لنهماً إلى الدم يدفعني إلى أن أحتقر نفسي وأمتهن عقلي لأنني لم أقطع في الأمر برأي منذ أن كان، ولأنني أصغيت إلى صوت قلبي حين رنت في جنباته صيحات طفل بريء. ثم أخذتني ثورة الجهل لأني فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل، فعقدت العزم على أمر.
وجلست إلى زوجتي - بعد أيام - وقد ملأني الغيظ بروح الشر وغمرني الكمد بنوازع الانتقام. . . جلست إليها أناقشها في شدة وأجادلها في عنف وفي حديثي سمات الاحتقار وعلامات الازدراء؛ قلت لها (كيف سولت لك نفسك أن تفتحي بابك لرجل غريب يقتحمه في غيبتي؟) قالت (ليس هذا رجلا غريباً عني فهو من ذوي قرابتي جاء يزورني) قلت في تهكم (فجلستما معاً على سريري تتجاذبان حديثاً فيه العفة والطهر) قالت (فأنت الآن تتهكم بي وتتهمني في شرفي) قلت (عفوا! فما كان أجدرني بأن أذر الدار لكما تستمتعان فيها كيف شئتما، وأن أعتذر لكما في رقة وأدب لأنني قطعت صفوة الخلوة) قالت في تنمر (ماذا تعني؟) قلت (أعني أن هذه الدار داري ولا حق لك في أن تفعلي شيئاً إلا أن آذن لك) فضحكت في سخرية ثم قالت (إذن تريد أن تتعبدني. لعلك نسيت أننا هنا شريكان!) قلت (هذا كلام توحي به حماقة المرأة لتوهم نفسها بأنها شيء وما هي بشيء. إن الشركة - يا سيدتي - معناها التعاون فبماذا تساهمين هنا. . . في هذه الدار. . . لتستمتعي بحق الشركة) قالت في غضب (أنت تعرض بي وأنا لا أستطيع أن أصبر على مثل هذا الكلام) قلت (وهل يعبأ مدير الشركة بمن أصابه مس من جنون فحاول أن يستمتع بأرباح الشركة دون أن يساهم فيها بنصيب؟) قالت في تحد (هذه أفكار رجعية تافهة) قلت (ولكنها مبادئي أنا ومبادئ الحياة. إن المرأة التي تمرح فضل في الرجل وترفل في نعمته، ولا تحس الضيق ولا العنت؛ لا بد لها أن تتعبد الرجل في رضا، وتخضع لرأيه في استسلام، وتقر بسلطانه في تواضع. فإن كابرت فهي وضيعة الأصل دنيئة المنبت؛ أولا، فهي حمقاء العقل هوجاء الرأي؛ أولا، فهي ساقطة تافهة. . . ولا معدي لرجل فيه الرجولة عن أن يقيم(872/32)
عوجها - إذ ذاك بالعصا. . . العصا التي يسلس لها الحيوان الشموس وينقاد. . . أو بالكلمة التي تقذف بها إلى الشارع) قالت (هذا كلام رجل ريفي الطبع ريفي العقل ريفي النزعة لم يهذبه التعليم ولا وشذبته المدنية) قلت (أما أنت فقد هذبك التعليم فنزلت عن الكرامة. وشذبتك المدينة فأغضيت عن الشرف، وصقلتك الحضارة فعبثت بالعرض) فقالت في ثورة جامحة (أنت رجل سافل وضيع) فثار غضبي وتأجج غيضي واندفعت إليها وأنا أزجرها بقولي (اخرسي يا. . .) ثم أهويت عليها بصفعة قوية قاسية طار لها صوابها فانقضت علي تخمشني بأظافر حادة كأنها مخالب نمر فركلتها ركلة قوية فانحطت على الأرض وهي تعوي عواء ذئب ناله أذى شديد فما يمسك عن العواء. . .
وسمع أولادي صيحات أمهم فتدافعوا نحوي، وأفزعهم أن يروا المرأة على الأرض تتلوى مما أصابها من شدة الركلة، فانطلقوا إليها يلقون بأنفسهم عليها يتمسحون بها وهم يبكون في مرارة وحسرة وقد كست وجوههم صفرة الرعب ورانت على نظراتهم علامات الحيرة والفزع، وانصرفوا عني جميعا في إهمال وخوف. ووقفت بازائهم حينا أنظر في ذهول ودهشة، ثم تسللت من الدار وأنا أحدث نفسي (يا عجباً إن في الأم معاني سامية لا يدركها إلا قلب الطفل) وخرجت من الدار أهيم على وجهي وإن كلمات أبي ترن في مسمعي حين قال (وإذا تفلسفت الفتاة في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانتها، فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. إن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .)
وعدت إلى الدار في هدأة الليل لأجلس إلى زوجتي أحدثها في صراحة (إن الحياة لن تستقر في هذه الدار إلا أن تبرحيها، فأنا لا أستطيع أن أجد هدوء نفسي ولا راحة قلبي إن رأيتك إلى جانبي. وإذا رفضت، فستدفعني حماقتك إلى أن إلى أن أكشف لأهلك عن فضيحتك. وإذ ذاك أقذف في وجهك - مرغما - بالكلمة المحرمة. تعللي بما تشائين من التعلات، واتهميني بما يروق لك من التهم، ولكن حذار أن تتحدثي لأهلك بحقيقة ما كان) قالت في انكسار (والأولاد؟) قلت (خذي أبني الرضيع وذري الباقين أقوم على حاجاتهم وأسهر على تربيتهم)
وانفلتت زوجتي إلى دار أبيها تصحب أبني لرضيع وحده. * وغبرت أياما وأنا أعيش بين(872/33)
أولادي أبا وأما، أهيئ لهم حاجاتهم وأعد لهم رغباتهم، ولا أطمئن إلى قلب الخادم وهو غليظ، ولا أرضى عن يدها وهي قاسية. وأحاول جهدي أن أصرفهم عن التفكير في أمهم بالحديث والحلوى واللعب ما أستطيع، فجرفني سيل عارم من الأسى أكتمه في قلبي وأغمض جفني عن قذاه واقضي الليل ساهرا قلقا أقلب الفكر في جوانبه وأدير الرأي في نواحيه، حتى نال مني التعب وأصابني الإرهاق وبدا لعيني أن صغاري يتجرعون كأسا مريرة من اليتم والضياع حين افتقدوا الحنان والعطف. وأحسست بأن الحياة قد اضطربت وأن نظام الدار قد تشعث وأن مالي قد تبدد في غير رحمة. وأصبحت الدار في ناظري جحيما يتلظى أوارها فيكاد يلتهمني أنا وأحبائي دفعة واحدة، أو سجناً ضيقاً يقضقض عظامي وعظامهم معاً.
ولشد ما حز في نفسي أن أرى أبني الأصغر - وهو في الثانية من عمره - يدور في أنحاء الدار - ساعات طوالا - يفتش عن أمه لا يهدأ ولا يستقر وهو ينادي في لهفة وشغف: ماما. . . ماما! ثم يرتد في ذله وانكسار، وقد آلمه الإخفاق وأضناه البحث. يرتد ليلقي بنفسه بين يدي وهو ينادي بصوت باك حزين: ماما. . . ماما! ورحت أبذل غاية الجهد لأهدهد دوافع نفسه وأستغرق وسع الطاقة لأصرفه عن نوازع قلبه، فأعجزتني الحيلة، فأخذت أنظر إليه في لوعة وأسى وإن العبرات لتكاد تتطفر من محجري
وهكذا توزعتني حاجات الصغار وحاجات الدار وحاجات العمل وحاجات العيش، فتقسمتني الشواغل المتضاربة، فتفرطت عزيمتي وتبددت قوتي ولفتني الحياة في إعصار من الضيق والملل.
ووسوست لي نفسي فانطلقت إلى زوجتي في دار أبيها أطلب إليها أن تعود إلى داري لترعى شان أولادي فاستسلمت في خضوع ورضخت في استكانة.
وها أنا الآن - يا صاحبي - أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي، وبين أحبائي الأعزاء، أولادي، لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي تذكرني - أبدا - بغباوتي وحمقي.
كامل محمود حبيب(872/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
المهرجان الأدبي بالجامعة الشعبية
سموها (مؤسسة الثقافة الشعبية) ولكن ما زال الاسم القديم (الجامعة الشعبية) جارياً على الألسنة، لتقدمه وخفته وثقل الاسم الجديد. . وقد رأيناه على بطاقة الدعوة إلى المهرجان كما نراه في الصحف، ولكن في المهرجان نفسه وعلى الألسنة الخطباء من المشرفين عليها أنفسهم لا يزال اسم الجامعة الشعبية هو السابق الأثير. وكأنهم قد أرضوا طلبة الجامعة (غير الشعبية) بتغيير الاسم (تحريرياً) فقط، حتى لا يشركهم الشعبيون في لفظ الجامعة. . وبذلك انتفى سبب من أسباب (الاعتصام)!
ولكي تثبت الجامعة الشعبية - وأنا على المصرين على ذلك - إنها جامعة حقاً، أراد قسم الدراسات الأدبية لجماعة من الأساتذة يستمع إليها المدعون من أهل العلم والأدب ورجال الصحافة. . ولنا تعقيب في موضوع المهرجان يأتي بعد أن نلقي نظرة على برنامجه.
بعد أن أفتتح المهرجان بالسلام الوطني ونشيد الجامعة الشعبية وقف الدكتور أحمد أمين بك رئيس مجلس إدارة الجامعة، فألقى كلمة قال فيها إن فكرة الجامعة الشعبية ثورة على النظم المدرسية التي كانت تقف عندها وزارة المعارف، فهي تقبل كل راغب في الثقافة غير متقيدة بسن ولا بامتحان دخول، ولا تعلم لتعطي شهادة تسعرها وزارة المالية؛ وهي تيسر الثقافة للعامل في مصنعه وللفلاح في حقله وللبنت في حارتها. . .، وقال إن مهمتها أن تمحو الأمية العقلية، فليس محو الأمية مقصوراً على تعليم القراءة والكتابة، وأن تكون رأياً عاماً ناضجاً يفهم حقائق الأمور ولا ينطلي عليه الخداع والدجل.
وذلك كلام قيم. غير أن الدكتور أحمد أمين بك صور المسألة على أن الجامعة الشعبية هي التي تحقق التثقيف العام المطلوب من حيث تكوين المواطن الصالح والرأي العام الناضج، كان ليس هذا من أغراض المدارس والجامعات التي تعلم الناشئين، وهو يعلم باعتباره مؤسسا للجامعة الشعبية أنها فرصة لمن فاتهم إتمام التعليم في الصغر فهي مكملة لنقص في الثقافة لا محدثه نوعاً جديداً من التثقيف فكل ما فيها - عدا المحاضرات العامة - أقسام تعلم ما يعلم في المدارس العامة والفنية.(872/36)
وبعد ذلك ألقى الأستاذ السباعي بيومي بك كلمة موضوعها (مشاهد البطولة في الأدب الجاهلي) فتحدث فيها عن حروب العرب وآثارها في أخلاقهم من حيث تكوين البطولة التي تقوم على الشجاعة ورثاء البطل الشهيد وقرى الأضياف. والموضوع من موضوعات تاريخ أدباللغة العربية المعروفة، ولكن الأستاذ أحسن عرضه وتجميع فكرته، كما أجاد اختيار الشواهد التي كانت موضوع الاستحسان ومثار التصفيق.
ثم ألقى الأستاذ مهدي علام بحثاً في (الصداقة في شعر المتنبي) قال فيه إن المتنبي لم يكن له أصدقاء، لأنه كان متعالياً لا يرى أحداً أهلا لصداقته، ولأنه كان متشائماً سيئ الظن في الناس، ولأنه كان ذا أطماع يبغي الوصول إليها فيتخذ الصداقة ذريعة لها ثم يخرج عليها، وعلى ذلك كان البحث جديراً بان يسمى (عدم الصداقة عند المتنبي)
ثم تحدث الدكتور عبد اللطيف حمزة عن (الروح المصري في شعر البهاء زهير) وكان حديثه قيما، ومما قاله أن البهاء كان شعبي النزعة في شعره، وأن هذه الشعبية قوة لم تتح لمعاصريه من الشعراء الذين جروا على التقليد ومحاكاة الأقدمين، أما هو فكان يصور البيئة المصرية ويعبر عن روحها تعبيراً أصيلاً، ومن مظاهر ذلك سهولة شعره واستعمال العبارات الفصيحة الجارية على ألسنة الناس والتي يترفع عنها الأدباء والشعراء ويعدونها ابتذالا، ومن هذا اقتباسه الأمثال العامية، إلى شيوع الدعاية والمرح في شعره.
وألقى بعد ذلك الأستاذ محمد سعيد العريان بحثاً عنوانه (ديمقراطية الأدب) فأتى في الموضوع بمحصول الدراسة الدقيقة وهيأ بعرضه جواً من الإمتاع المعجب. قال إن الأدب عرف أول ما عرف على أنه فن من فنون الجمال أو لون من ألوان الترف العقلي، وظل كذلك مفهومه في أجيال متعاقبة، في العربية وغير العربية من لغات الناس، لا يكاد يتجاوز هذه الدائرة إلا خطوة بعد خطوة في السنين ذوات العدد، حتى التقى في هذا العصر بالحياة الإنسانية في صميمها أو شك أن يلتقي، فإذا هو في حياة الناس عامل ذو أثر، وإذا هو توجيه لهذه الحياة، وتوجيه لهذا الناس، وإذا هو ضرورة بعد ترف، ودعوة إلى الكمال بعد دعوة إلى الجمال، وكذلك عرف الإنسان الديمقراطية أول ما عرفها على أنها مذهب من مذاهب الحكم وصلة من الصلات بين الحكام والمحكومين ثم تطور هذا الفهم على مر القرون، فإذا الديمقراطية رأي وفن من فنون الجدل العقلي، ثم إذا هي تجربة عملية يراق(872/37)
على جوانبها الدم، ثم إذا هي وعي وإحساس وفكرة إنسانية، ثم إذا هي حكومة وبرلمان وتعاون الحاكم والمحكوم على الرقي بمستوى الحياة الإنسانية. وكذلك صارت الديمقراطية وجداناً إنسانياً عاماً يرتفع بالمستوى العقلي العام للجماعات فوق اعتبارات الغنى والفقر وفوق اعتبارات العرق والدم واختلاف المنشأ والبيئة. وفي هذا العصر التقى الأدب بمعناه العميق الواسع، بالديمقراطية بمدلولها الوجداني الرفيع وصارت ديمقراطية الأدب - ونحن منها على الطريق - أنه فن من فنون المعرفة للسمو بمستوى العقل الإنساني ولون من ألوان الأخوة الإنسانية، ونسف الأبراج العاجية فلا تحجب حقيقة من حقائق الحياة عن ذي عينين.
وانتقل الأستاذ سعيد بعد ذلك إلى مناقشة من يقول بان ديمقراطية الأدب هي أن تكتب للناس بلغة الناس، ومن يقول بأنها انتزاع الموضوعات من صميم الحياة التي تحياها الطبقات الشعبية العامة أو البيئات الدنيا فقال: جميل أن تكون لغة الأديب وأسلوبه وفنه في الأداءبحيث يحس مذاقها الملايين ذات العدد من الناس، ولكن أجمل من ذلك أن يكون الأدب توجيها إلى ما هو أرفع وأرقى وأكمل، فليست المساواة هي الغاية الأولى للديمقراطية ولكن السمو هو الغاية. وقال: ليست الديمقراطية في الأدب هي أن يكون الموضوع ديمقراطيا، فقد يؤخذ الموضوع من طبقة عالية ويعالج على نمط يحقق أهداف الديمقراطية القومية والدعوة إلى الحرية والمساواة والأخوة الإنسانية.
وتحدث الدكتور إبراهيم ناجي عن (القصة في العصر الحديث) فاستعرض تطور فن القصة من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية إلى الواقعية. ولوحظ أنه قصر كلامه على القصة في العالم الغربي ولم يعرج على القصة المصرية بقليل أو كثير.
وألقى الأستاذ علي الجمبلاطي قصيدة جيدة وصف فيها حال الطالب بالجامعة الشعبية من حيث تيسيرها له ما يطمح إليه من تعليم وتثقيف، ومنها قوله يخاطب الجامعة:
أنت أعليت فيه أشواقه العل ... يا فأعلى ما فيه من رغبات
ومشى للجمال يدفعه الشو ... ق إليه وصادق العزمات
كان لولاك يقطع العيش سأما ... نا ملول الساعات واللحظات
لا يرى في الحياة غير فراغ ... مد فوق الحياة ظل السبات(872/38)
وحبذا لو قصر الأستاذ الجمبلاطي كان قصيدته على الموضوع دون أن يمدح وزير المعارف ورئيس مجلس إدارة الجامعة الشعبية ومديرها العام بنحو نصف القصيدة مدحا غير وثيق الصلة بموضوعها.
وبعد فما موضوع هذا المهرجان؟ ولم أقيم؟ وما مدى صلته بالجامعة الشعبية؟
يجب أولا أن نرحب بأي حفل للأدب في أي مكان، ويجب ثانيا - من باب نسبة الفضل إلى أهله - جهد الأستاذ علي الجمبلاطي مفتش الدراسات الأدبية بالجامعة الشعبية، الذي بذله في إقامة المهرجان وتنظيمه، وقد أشاد به الدكتور أحمد أمين بك في كلمته، وهو جهد بارز يدل على ما وراءه من محاولة إحياء الدراسات الأدبية في الجامعة الشعبية، وقد شاهدنا انصراف الطلبة عنها - وعن سائر الدراسات النظرية في السنوات الماضية حتى لقد أصبح كل جهدها يكاد يكون قاصراً على الصناعات والفنون التطبيقية، وأترك هذه الظاهرة مكتفيا بالتنبيه عليها، لعلهم ينظرون فيها، لمعرفة أسبابها ومعالجتها، وأعود إلى المهرجان.
سمعنا المحاضرات التي ألقيت، وهي ذات موضوعات مختلفة، من أساتذة أجلاء تدعوهم الجامعة إلى إلقاء محاضرات عامة في دار الجامعة، وهذه كل صلتهم بها. وهي موضوعات غير ميسرة أي لم يراع فيها مستوى طلبة الجامعة الشعبية، ولم يراعى هذا؟ وأين هم هؤلاء الطلبة؟ إن الحاضرين هم مجموع المدعوين إلى حفلة الشاي من رجال الأدب والصحافة وغيرهم من المثقفين وكبار الموظفين.
لقد فهمت قبل أن أشهد الحفل انه يمثل الجامعة الشعبية بمعنى أنها أرادت أن تبرز به جهودها الأدبية فيمن يقصدونها من الطلاب، فنرى بعضهم، ولو إلى جانب الأساتذة، يبدي بعض ثمرات الغرس ولكننا لم شيئا من ذلك، فلم نشهد الطلبة حتى في مكان الاستماع. . .
وقد رأينا أن المحاضرات كانت مختلفة الموضوعات، ولكن يلاحظ أن محاضرتي الأستاذ العريان والدكتور حمزة وقصيدة الأستاذ الجمبلاطي تجمعها سمة واحدة ذات ارتباط بفكرة الجامعة الشعبية، وكان موقع الفكرة الشعبية في كل من المحاضرتين والقصيدة. جميلا مناسبا. وهذا يدل على أنه كان يمكن وكان يحسن أن يكون للمهرجان فكرة أدبية معينة تتجه إليها أفكار المحدثين.(872/39)
عباس خضر(872/40)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
كتاب عن مصر لجان كوكتو
في الشتاء الماضي حل الكاتب الفرنسي جان كوكتو ضيفاً على مصر، وفي ذلك الحين كتبنا عنه كلمتين في (التعقيبات) وردت في إحداها هذه الفقرات: (ولقد تهيا لنا أن نطلع على أربع رسائل تلقاها من باريس أحد أصدقائنا من بعض زملاء دراسته في السوريون وهي تدور حول كوكتو وفنه ورحلته إلى مصر: رسالتان تحطان من قدره وتحملان على خلقه، ورسالتان ترفعان من فنه وتشيدان بمواهبه، ونحن بين الرسائل الأربع يأخذنا العجب من رجل لا يلقى رأيا وسطا بين المعجبين به والمتحاملين عليه)!
وهذه فقرات أخرى مما قلناه عنه في الكلمة الثانية: (أما مصر فقد قال عنها كوكتو إنها أوحت إليه الكثير؛ لقد انفرد بأبي الهول ساعات في النهار والليل، وصادف من قلبه منزلة حسنة فباح له بسره، أما هذا السر فسيحمله إلى المصريين كتاب يود كوكتو أن يفرغ منه في الشهور المقبلة، كتاب يقبس أسلوبه السحر من وحي النخيل الباسق على ضفاف النيل. . . وكل ما نطلبه إلى الكاتب الفرنسي فهو أن يكون صادقاً في إصغائه لكلمات أبي الهول، أميناً في نقل حديثه ونجواه. إن أبا الهول لا يمكن أن يتجنى على وطنه، لأنه عاصر تاريخه، وأشرف على حضارته، وبارك منذ خمسة آلاف عام مجده الخالد. . . إننا في انتظار كتاب جان كوكتو لننظر فيما إذا كان قد استمع لكلمات محدثه أم انقاد لنزوات هواه)!
قلنا هذا الكلام عن الكاتب الفرنسي منذ عام على وجه التقريب، وبعد أيام من هذا الذي قلناه نقلت جريدة (البورص) الفرنسية كلمتنا الأولى بما فيها من فقرات تسير إلى أخلاق الرجل تلك الإشارة العابرة. . . وليس من شك في أن الكاتب الفرنسي قد اعتذر من لقائنا يوم أن رغبنا في لقائه، حين قرا تلك الفقرات اللاذعة في الصحيفة الفرنسية! ويشهد الله أننا لم نكن متجنين يوم أن نعتناه بسوء الخلق وانحراف الطبع، لأننا لم نقل فيه إلا هذا القليل مما حملته إلينا رسائل مواطنيه، بل لعلنا قد استشرنا الذوق حين أغفلنا الكثير مما جاء بتلك الرسائل، نزولا على حكم المجاملة نحو ضيوفنا من الأدباء. . . ومن هذا الكثير(872/41)
الذي أغفلناه قصص تصور بعض مظاهر الشذوذ الخلقي في شخصية جان كوكتو وهي قصص لم نكد نشك في صحتها حتى بعث إلينا مرسلوها بصورة فوتوغرافية تمثل الكاتب الفرنسي في أحد الأوضاع الشاذة التي تأباها رجولة الرجال، وقد كتب تحت الصورة الحافلة بكل ما يشين الخلق هذا الاعتراض: كيف تحتفي مصر برجل هذه هي كل مواهبه؟!!
وطوينا هذا الذي وافتنا به لرسائل الفرنسية، واستقبلنا جان كوكتو، واحتفينا به، وأقمنا له المآدب والحفلات. . . وانتظرنا بعد هذا كله أن يقول كوكتو عن مصر كلمة تتسم بالعدل والإنصاف، وإنها لأقل ما كان ينتظر منه ردا لكرم الضيافة واعترفا بالجميل. ولكن الرجل أبى إلا أن يكون نسخة صادقة من صورته الفوتوغرافية. . . وهاهو يخرج كتابه عن مصر، وهاهي الحكومة المصرية تصادر الكتب التي لطخت صفحاته بأسخف ألوان الكذب والافتراء!
ولكن ما جدوى هذه المصادرة والكتاب يقرأ في كل مكان خارج الحدود المصرية؟ لقد كنا نفضل أن لا يصادر هذا الكتاب الهابط ليتاح للأدباء المصريين أن يقرؤوه، عسى أن يتناول أحدهم قلمه ليرد على الكاتب الذي خضع لانحراف طبعه وانقاد لنزوات هواه. . . نقول هذا ونحن نتطلع إلى الدكتور طه حسين، نتطلع إليه لثلاثة أسباب: السبب الأول أن الدكتور يتمتع بمكانة ملحوظة في الأوساط الأدبية الفرنسية، فهو إن تناول قلمه ليرد على جان كوكتو كان لرده أجمل الوقع وأبعد الأثر. والسبب الثاني أن في الكتاب صفحات منصفة لشخصية الدكتور وأدبه، فهو إن تغافل عن هذا الثناء الذي أضفي عليه، كان لرده أبلغ الدلالة على سمعة الأوطان فوق سمعة الأفراد. . . أما السبب الثالث فلا بأس من أن أذكر الدكتور به، حين أطوي من الزمن عاماً أرتد معه إلى ذلك المساء الذي جمعني به على ميعاد؛ لقد دار الحديث في تلك الليلة على ما كتبته في (الرسالة) عن جان كوكتو، وما زلت أذكر تلك الابتسامة العذبة التي ارتسمت على شفتيه، وهو يرغب إلي في أن أكف قلمي عن الكاتب الفرنسي خضوعاً لواجب المجاملة. . . وخضوعاً لهذا الواجب أيضا كففت قلمي عن نشر تلك القصة الطريفة التي قصها علي، حول ذلك العتاب العبر الذي وجهه أليه كوكتو بمناسبة المحاضرة التي ألقاها عن (أوديب في الآداب المختلفة) والتي(872/42)
حمل فيها الدكتور بقسوة على مسرحية (الآلهة الجهنمية) للكاتب الفرنسي!
من هذا كله ترى أن الأدباء المصريين قد عاملوا جان كوكتو معاملة الكرام لرجل ليس له كرامة. . . وأين هذا من رجل كاميل هنريو عضو الأكاديمية الفرنسية، ذلك الرجل الذي ما كاد يغادر القاهرة إلى باريس حتى كتب في جريدة (الموند) مقالا أثنى فيه أطيب الثناء على مصر والمصريين!
القصة بين قلم الكاتب وطبيعة الحياة
نكتب إليكم هذه الرسالة للاستنارة برأيكم في مسألة جوهرية تتعلق بفن القصة العربية، وقد كانت تلك المسألة مثار جدل عنيف صاخب هنا، بين جماعة من الأدباء هم أعضاء غرفة المعلمين الأدبية (بالمكلا). وكانت أهم مآخذ النقد تتركز في النقطة التالية وهي:
هل من الطبيعي أن يظل شبح المأساة يلاحق فصول القصة حتى نهايتها، ثم لا يكون (لعدالة السماء) دخل في ذلك؟ وهل تكون حوادث مثل تلك المأساة طبيعية في عالم ترعاه عناية الله وتكلؤه قدرته؟ وإليكم فيما يأتي فحوى القصة التي كانت وما تزال مثار جدل عنيف واختلاف كبير، فقد يكون في سردها هنا على الإجمال، بعض النفع:
تجري حوادث القصة في بيئة حضرمية، ولهذه البيئة مميزات خاصة هي في الواقع صورة منعكسة للحياة العقلية والأدبية في هذه البلاد. وتبتدئ القصة في بيت الشيخ (معروف) حيث يجري مع ابنته (علوية) حوار عائلي، يدخل بعده (حامد) ابن عم الفتاة ويطلب إلى عمه أن يربط بينه وبين (علوية) برباط الزوجية. ويتفق في ذلك أن تكون أم الفتاة متوفاة، وان تكون (صفية) زوجة الشيخ (معروف) الثانية، لا تشعر نحو الفتى الشاب (حامد) بالرضى والارتياح، فتشير على زوجها بالتسويف والمماطلة في طلب الشاب ثم يتقدم لخطبة الفتاة الشيخ (خليفة) وهو رجل غني في العقد السابع من عمره. ويقوم بدور الوساطة (عمار) حيث يوفق في مسعاه ويستجيب الشيخ (معروف) لطلبه، بعد أن يكون (الدينار) قد لعب دوره بنجاح في القضية!
وتزف (علوية) إلى بيت الشيخ (خليفة) على كره منها، ويتندر الأدباء في مجلسهم وتنتشر القالة حول الشيخ (معروف) وأطماعه. . . ويضطر الشيخ (خليفة) في الفصل الخامس والأخير إلى تسريح (علوية) بعد أن واجهته بالشتائم وامتنعت عن معاشرته، وعاودها(872/43)
السقم والمرض، فأشفق ورثى لحالها. ويقع الخبر من الشيخ (معروف) موقعاً أليماً فيعود على نفسه باللوم، ولكن الشيخ (خليفة) يقترح عليه كحل للأمر أن يجمع بين (علوية) وابن عمها (حامد). ويقف (حامد) موقفاً نبيلاً عندما يقبل التضحية، إبقاء على حياة الفتاة المظلومة، وصوناً لكرامتها، وإكراماً لخاطر عمه المنكود!
هذه صورة تقريبية لفصول القصة، وحيث تنتهي تبدأ قضية النزاع والاختلاف، فيرى البعض أن تتلاحق فصول القصة كمأساة حتى الشوط الأخير. بينما يرى البعض الآخر ومنهم المؤلف أن الله وهو أعدل العادلين لن يجعل لمثل هذه (المأساة) صور ما، في عالم تجري حوادثه على قوانين طبيعية عادلة. . . هذه هي نقطة الخلاف عرضناها عليكم بكل أمانة، راجين أن ترشدونا رأيكم على صفحات (الرسالة) الغراء:
(المكلا - حضرموت)
أحمد عوض باوزير
سكرتير الغرفة الأدبية للمعلمين
نود أن نقول للأديب الحضرمي الفاضل رداً على سؤاله، إن هذا الجدل الذي دار بين جماعة من أصدقائه حول هذه القصة جدل غريب. ومصدر الغرابة فيه أن أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطابع المأساة، وان أصحاب الرأي الثاني يريدون أن يخضعوا الموضوع لعدالة الله. . . وكلا الرأيين بعيد عن جوهر الفن القصصي لأنه يمثل منطق القائلين به أكثر مما يمثل منطق الوقائع الطبيعية!
جوهر الفن هو أن نستوحي الحياة وحدها عندما نريد أن نخلق عملا من الأعمال الفنية، والقصة كعمل من هذه الأعمال لا بد أن تخضع لمجرى الحياة في صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفضها العقل. . . فالحياة التي ترفرف عليها عدالة الله فيها الخير وفيها الشر، وفيها الفضيلة وفيها الرذيلة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها ما شئت من ألوان المفارقات وضروب المتناقضات. فإذا صورنا الحياة تصويراً صادقاً فمن الطبيعي أن نقبل المأساة المستمدة من واقعها كما نقبل الملهاة، على شرط أن يكون عرضنا لهذه وتلك مسايراً لمنطق الحوادث المألوفة ومطابقاً لطبيعة الأمور كما يألفها الأحياء!(872/44)
خذ موضوع القصة من هذا الوجود المتحرك أمام ناظريك، ثم اخلع عليها بعد ذلك من أثواب الفن ما يبعد عنها صفة الجمود الذي لا يتفق مع الحركة، ونزعة الخيال الذي لا يلتقي مع الواقع، ولا مبرر بعد ذلك لأن تفرض على موضوع القصة أن يسير في هذا الطريق دون ذاك! إن الحياة وحدها هي التي ترسم خط السير، وتقرر غرض الاتجاه، وتحدد طبيعة الموضوع. . . أعني أننا يجب أن نقتفي أثر الحياة في كل خطوة من الخطوات وكل نقلة من النقلات، ثم نسجل ما شاهدناه كما حدث في الواقع المشهود أو كما حدث في الواقع الذي يمكن أن يكون. فإذا كان مجرى الحوادث في القصة لا يضيق بشبح المأساة فلا ضير من توجيه دفتها نحو هذا الذي نبتغيه، فإذا ضاق بها فلا حاجة بنا إلى أن نحمل الحياة فوق ما يمكن أن تطيق!
والقصة التي يعرضها الأديب الفاضل لا يتنافى موضوعها مع رأي الفريق الأول كما لا يتنافى مع رأي الفريق الأخير، لأن البداية الفنية فيها تمهد لكلتا النهايتين المفتوحتين دون أن يمس جوهر الواقعية بحال من الأحوال. . . ولكن الذي يتنافى مع جوهر الفن القصصي هو أن يصر الفريق الأول على أن تكون الخاتمة مظلمة مع أنها تحتمل أن تكون مشرقة، وأن يصر الفريق الأخير على أن تشرف عليها العدالة الإلهية، وكأنها ليست قصة فنية وإنما هي درس في الوعظ والإرشاد!
حول رسائل الفراء أو رغبة استجابة
كان من رأينا أن نمضي في كتابة هذه الدراسة المطولة لحياة المغفور له الأستاذ علي محمود طه وشعره حتى نبلغ بها أربعة وعشرين فصلا على أن تجمع آخر الأمر بين دفتي كتاب يشير إلى فضل الشاعر العظيم على الشعر العربي الحديث. ولكننا ما كدنا نعد الفصل الثالث عشر للنشر حتى نبهنا أحد القراء الظرفاء إلى حقيقة تستحق التسجيل، وهي أن نرجئ بقية الفصول التي كنا نزمع نشرها على صفحات (الرسالة) حتى لا يفقد الكتاب جدته حين ندفع به إلى أيدي الناس، وحتى لا يستغني الجمهور القارئ بأعداد الرسالة عن شراء الكتاب. . . فكرة ناضجة بلا ريب، وبخاصة ونحن في عصر يلتمس فيه القارئ المصري شتى السبل التي تحقق له قراءة الكتب دون أن يدفع الثمن!!
وإذن فلا بأس أن تستجيب لهذه الرغبة التي تفضل بإبدائها قارئ لا شك انه صديق. . .(872/45)
ونحن إذ نعمل على تحقيقها إنما نستجيب لرغبة أخرى هي الرد على كثير من رسائل القراء التي تكدست خلال تلك الفترة، والتي ينتظر مرسلوها منذ شهور أن نجيب عما فيها من أسئلة تتعلق بمشكلات الأدب والفن، وليس أمامنا من مجال للإجابة عنها غير أن نعود إلى كتابة (التعقيبات). . . وإنها لعودة محببة تلك التي تتيح لنا أن نتصل بقراء الأقطار العربية من جديد، راجين أن نكون عند حسن الظن شاكرين لهم كريم العاطفة وصادق التقدير.
ولقد كنا نود أن نعرض بالإجابة لبعض الرسائل في هذا العدد لولا ضيق النطاق، فإلى الأعداد المقبلة حيث نعقب على الأسئلة وغير الأسئلة إن شاء الله.
أنور المعداوي(872/46)
البريد الأدبي
إلى صديقي الأستاذ عباس خضر:
. . . تطيب نفسي بقراءة بعض ما تنشره في باب الأدب والفن، لما فيك من براعة في التقاط (القفشات) وتصيد (النكات) في مجالس الأدب وتسجيلها، ولكم أثنيت عليك ودعوتك إلى المزيد من الانتباه والإتقان.
كأني بك يا صاحبي أردت إقامة دليل يقنعني بأنك (أتقنت الصفة) فعمدت إلى مداعبتي مداعبة حلوة خفيفة الروح والظل ولكن؟. . ولكنها برغم حلاوتها وخفتها، لم يكن لك فيها سوى فضل الناقل المسجل فقط، أما خلق المناسبة للنكات، وتهيئة الجو لها، ولمحها ببراعة فهو راجع (للمعداوي) مرة و (للزيات) مرات، ولإنسان آخر.
وكأني بك، مرة ثانية، أردت أن تحذو حذوي فيمن أخاصم وأصادق من الأدباءفخاصمتني، ولكنك تعثرت في الخطوة الأولى، وأزعم أن الذي يتعثر ويكبو في الخصام قد لا يهتدي إلى السبيل المؤدي إلى الفوز والنصر.
تعال معي يا صاحبي إلى صميم الموضوع بغير خصام، قلت (أني جنحت في تأبين فقيدنا العزيز علي محمود طه إلى القضايا العقلية ولم أعن بتندية كلامي بماء العاطفة)
أجل لقد جنحت إلى العقل في رثاء الصديق الشاعر الذي فقدنا صداقته وشعره، وتعمدت إبراز الصفات والسجايا والخلائق والمزايا التي عرفته بها حساً ومعنى وعدتها، ولعل صفة البوهيمية التي اجتذب بها جل أصحابه كانت أبرز صفاته وأحلاها في حياته الواقعية والخيالية، ولم أنزع إلى محاكاة الشعراء الذين عناهم فيلسوف المعرة بقوله (كذب يقال على المنابر دائما) لهذا قلت في مستهل خطابي (ما جئت أبكي صديقي الراحل) ثم ما قيمة البكاء على الميت؟ وهل إذا نديت كلامي بماء العاطفة كنت أضفت صفة جديدة إلى الصفات التي اجتمعنا للاحتفال بها، أو أن الاحتفال لا يكون ذا قيمة بغير دموع؟ إن البكاء صناعة يعرفها الشعراء البكاءون الندابون. . . الحريصون على استبكاء الناس في المآتم حرصهم على استضحاكهم في الأفراح. ألم تسمع يا صاحبي إلى شاعر من شعراء تلك الحفلة وقد عتب على الله كيف انتزع الورد - أي علي محمود طه - وسأله سؤال اللائم لماذا أبقى على (الشوك) أي على جميع من بقي يمشي على الأرض بعد موت الشاعر!!(872/47)