وبشرتها التي شوهها العمل وملأها بالخدوش والجروح.
فاغرورقت عينا ريف بالدموع وقال: يا فتاتي المسكينة هلا صفحت عنى. .؟ وكأن لهجته الرقيقة المتوسلة قد لامست أوتار قلبها فمحت منه كل حقد واستياء فيه الإعياء الشديد. فنظرت إلى وجهه المكدود وجسمه المرهق من عناء العمل فشعرت بخطئها في هدم الحائط وخلق هذه المتاعب لهذا الرجل البريء. فنظرت إليه بعطف وقالت متلعثمة: وأنتأيضاً تعبت مثلي في بناء الحائط يا ريف، وأنا كنت السبب ولكن أعدك بأني لن أهدم لك حائطك بعد. فاقترب منها ريف وأمسك بذراعها قائلا برقة: ما كنت لأضطرك لبناء الحائط لولا حبي لك يا جيزيا. إنها فرصة خلقتها للتمتع بقربك يا حبيبتي بعد طول نفورك.
وحركت مشاعر جيزيا لهجة ريف العذبة، واستهوتها غايته تلك. استهواها هذا الحب المحموم وهذه العاطفة الجياشة حيالها. ورأت تلك الشخصية الضعيفة المتخاذلة وتلك اللهجة المترددة المائعة حين باح لها بحبه أول مرة فاستثار نقمتها حتى طردته، رأت الآن كل هذا يتوارى خلف هذه اللهجة العذبة ممتزجة بهذه الشخصية القوية الجبارة التي فرضت عليها طاعته وأرغمتها على الخضوع لرغبته. رأت كل هذا فأحست بأن هذه الشخصية القوية الرقيقة، الناعمة الخشنة، القاسية اللينة قد ملكت قلبها. فأغمضت عينيها نشوى ثم مالت عليه تدفن رأسها في صدره هامسة: لقد بدأت أحبك ياريف. فطبع ريف على فمها قبلة فاتحة عهد جديد.
سلوى الحوماني(849/53)
العدد 850 - بتاريخ: 17 - 10 - 1949(/)
أنطون الجميل باشا:
خطبة الاستقبال
في مجمع فؤاد الأول للغة العربية
سيدي معالي الرئيس، إخواني، سيداتي، سادتي:
اسمحوا لي أن أتقدم بأجزل الشكر وأخلصه إلى إخواني الذين تفضلوا فشرفوني بانتخابهم إياي زميلا لهم في هذا المجمع الموقر. وإني أسأل الله أن يعينني على استحقاق هذه الثقة الغالية، وأن يقدرني على تكاليف هذا الشرف العظيم. ثم أخص بأجمل الحمد وأطيبه صديقي الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك على استقباله الذي أشاع فيه من سراوة خلقه وسخي تقديره ما هز من عطفي وبسط من انقباضي. وإني لأذاكره في غبطة ولذة ما يحمل كلانا لأخيه من ذكريات عذاب نشأت منذ أكثر من ثلاثين عاما في ظلال الشباب وكنف الأخوة، ولا يزال لها في النفس إشراق وبالقلب نوطة. وأشهد لقد لابسته تلك السنين الطوال فزاملته في جهاد العيش، وآخيته في نسب القلم: في المدرسة الإعدادية، وفي لجنة التأليف، وفي تحرير (الرسالة)، فلم أره تخلف يوما عن مكانه بين أولئك الذين يعرفون كرامة النفس، ويحفظون غيب الصديق، ويقيمون قواعد العمل والمعاملة على أساس العلم والخلق.
ثم أرجو - أيها السادة - أن تشاركوني في دعاء الله رب جميع الناس أن يتغمد برضوانه وغفرانه فقيدنا الكريم أنطون الجميل باشا. وإني لأعترف أن خسارة المجمع فيه لن يعوض منها أن يكون خلفه مثلي. ولا أقول هذا مجاملة لسان ولا تواضع نفس؛ فإني صادقت الرجل خمس عشرة سنة بلوت فيها ما عنده. فأنا من أعرف الناس بفضله ومن أعلمهم بموضعه.
عرفت صديقي أنطون سنة 1934، وكان لقاؤنا الأول في دار صديقتنا المرحومة (مي)، وكانت هي التي دبرت هذا اللقاء ودعت إليه، فقد سمعته مرارا يذكرني بالخير ويؤثر (الرسالة) بالثناء، فجمعت بيننا في مساء أحد من آحاد فبراير من تلك السنة، وقالت بلهجتها الأنيقة وهي تعقد بيني وبينه المعرفة: إن كلا منكما يعرف أسم صاحبه في الأسماء، ولعله يعرف وجهه في الوجوه، ولكنه لا يعرف أن ذلك الاسم لهذا الوجه. ومن سعادتي أن تكمل(850/1)
معرفتكما عندي.
فقال الجميل وهو يبتسم ابتسامته الرقيقة المعبرة: نعم، إني أعرفك وإن لم أرك. عرفتك مما قرأت لك وسمعت عنك فوجدت بيني وبينك مشابه في استعداد الفطرة وأسلوب العيش هي التي حببتك إلي وجذبتني إليك. فقد بدأت حياتي معلما للأدب كما بدأت. ثم حررت جريدة (البشير) في بيروت دينية يشوبها الأدب، وأصدرت (الزهور) في القاهرة أدبية يهذبها الدين، وهاتان النزعتان أجدهما مجتمعتين في (الرسالة). ثم كرهت التحيز لأي حزب، والتعصب لأي مذهب، والإضافة إلى أي شخص؛ فأنا أنشد الخير في كل عقيدة، وأؤيد الحق في كل هيئة، وأحب الجمال في كل إنسان. ولولا أن (الأهرام) أمانة في عنقي لقطعت ما بيني وبين السياسة. ويظهر لي أنك تنهج في حياتك هذا المنهج، وتسلك في عملك هذا المسلك. . .
ثم تشاجن الحديث وأخذ ثلاثتنا بأطرافه، فعلمت في هذا المجلس وفي المجالس التي أعقبته، أن الجميل - فضلا عن وجوه الشبه التي رآها بينه وبيني - أزهري مثلي، يعرف قواعد اللغة كما يعرفها الأزهر، ويفهم تاريخ الأدب كما تفهمه دار العلوم.
ولست أعني بأزهرية الجميل ذلك التأثير القوي الذي يؤثره الأزهر في كل كاتب وفي كل شاعر من طريق مباشر أو غير مباشر، إنما أعني بأزهريته ما أعنيه بأزهرية فقيدنا العزيز الآخر علي الجارم، وهو أن كلا الرجلين كان ربيب مدرسة اشتقت من مصدر الأزهر وتفرعت من أصله. والأمر في أزهرية الجارم أبين من أن يبين، ولكنه في أزهرية الجميل يحتاج إلى بسط قليل:
كان الأزهر في أوائل النصف الأخير من القرن الماضي لا يزال وحده يرسل أشعة الثقافة في العالم الإسلامي كله. ولكنه كان في أثناء الغفوة العامة يحفظ علوم الدين ولا يجتهد، ويدرس فنون اللغة ولا يطبق. وكانت معاهد العلم في المغرب والشام والعراق تتعلم في كتبه وتجري على منهاجه، حتى وقع في سورية ومصر أمران خطيران كان لهما الأثر البالغ في تطور المجتمع وتقدم التعليم ونهوض الأدب: حدوث الفتنة الدامية في لبنان سنة 1860، وولاية إسماعيل على مصر بعدها بثلاث سنين. كان من أثر تلك المذبحة الأليمة أن لجأ اللبنانيون من قراهم إلى بيروت فتجمعت فيها الحركة، وأن وضع للبنان نظامه(850/2)
الخاص ففتح بابه للأجانب، فدخله المستعمرون والمبشرون من فرنسا وأمريكا، وأنشئوا في ظل الامتيازات الكلية الأمريكية سنة 1866، والكلية اليسوعية سنة 1874. وكان اللبنانيون في عهد بني عثمان كالموالي في عهد بني أمية، أبعدوا عن مناصب الدولة فاشتغلوا بالعلم، وحيل بينهم وبين موارد الثقافة في عاصمة الخلافة فاعتمدوا في التعليم على أنفسهم. وكانت (المدرسة الوطنية) التي أنشأها المعلم بطرس البستاني سنة 1863 أول مدرس تخرج فيها صفوة من الأدباء كانوا عدة الكليتين الأمريكية واليسوعية في تعليم اللغة العربية. وكانت كتب التعليم في هذه المدارس هي كتب الأزهر بعد أن بيض اللبنانيون أوراقها الصفر، وسهلوا أساليبها الوعرة، وقرنوا قواعدها الجافة بالأمثلة الشارحة والتطبيقات المدربة، واحتذوا في تنسيقها على مثال ما درسوه من كتب التعليم الفرنسية.
ثم كان من أثر جلوس إسماعيل على كرسي الخديوية أن بسط ظلال الأمن على ربوع مصر، ومهد لرجوع المدنية إلى ضفاف النيل، فوفد علينا الأجانب للتبشير والتعليم والعمل والتجارة، وفيهم جماعتنا الفرير والجزويت. ثم فتح ما انغلق من المدارس، ووصل ما انقطع من البعوث، وأسس نظارة المعارف، ووسع دائرة التعليم، فاقتضى ذلك كله أن ينشئ مدرسة يتخرج فيها المعلمون، فأنشأ دار العلوم في سنة 1871 ليتخصص طلابها في الآداب العربية، ويشاركوا في العلوم الدينية والعقلية، ويأخذوا بنصيب من الثقافة الأوربية. وكان أساتذتها يومئذ من نابغي شيوخ الأزهر، وتلاميذها من متقدمي طلابه، وكتبها من أمهات كتبه. ولكن اتصال أهلها بالحياة المدنية، وتأثرهم بالآداب الغربية، واقتباسهم لطرق التعليم الحديثة، جعلت لهم في التفكير والتعبير والسمت طابعا خاصا يميزهم من رجال الدين في الأزهر وتوابعه. فمدرسة دار العلوم كانت في القاهرة أثرا لسياسة إسماعيل العامة، كما كانت المدرسة الوطنية في بيروت أثرا لنظام لبنان الخاص. وكانت هاتان المدرستان - كما قلت - شعبتين من أرومة الأزهر، أمدها بالغذاء والري، ووصلهما بالروح والحرارة؛ ولكنهما لأسباب متجانسة، وعوامل متشابهة، تميزتا منه بالشكل واختلفتا عنه في الثمر. غير أن الاختلاف في المدرسة المصرية كان ضعيفا لقربها من الأزهر في البيئة والعقيدة والعقلية والتقاليد، فهي فرع طبيعي من أصله، ونوع ممتاز من جنسه؛ ولكنه كان في المدرسة اللبنانية شديدا لبعدها عن الأزهر في المكان والدين والتربية والسنن(850/3)
الموروثة والصلات الأجنبية، فهي أشبه بالطعمة الغريبة أدخلت في جذعه فجاء ثمرها مغايرا للأصل في طعمه ولونه، ومختلفا عنه في قيمته وجداه.
سارت المدرستان على جانبي الركب الحثيث في طريق النهضة، مدرسة مصر يمينية تتأنى وتترزن، ومدرسة لبنان يسارية تتسرع وتخف. وكان الزمام أول الأمر عندنا وعندهم في أيدي المحافظين كحمزة وحفني والمهدي والإسكندري وشاويش ووالي هنا، وكالبستانيين بطرس وسليم وسليمان. واليازجيين خليل وناصيف وإبراهيم هناك، فكان التقليد غالبا، والتطور بطيئا، والفروق بين المدرستين قريبة. فلما أسرع الركب، واتصل القديم بالحديث، وامتزج الشرق بالغرب، انشقت من مدرسة دار العلوم المحافظة مدرسة أخرى تتميز بالإيجاز والطبعية والسهولة والحرية والمنطق، هي مدرسة لطفي السيد، ومن رجالها قاسم أمين، وفتحي زغلول، وعبد القادر حمزة، كما انشقت من المدرسة اليازجية المحافظة مدرسة أخرى تتميز بالشاعرية والطرافة والانطلاق والتمرد، هي مدرسة جبران، ومن أتباعها ميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، وماري زيادة.
وظلت المدرستان الشقيقتان المصرية واللبنانية تنتجان الأدب في ضروبه المختلفة بأسلوبين مستقلين، أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، على ما كان بينهما من تفاوت في الطاقة والمادة والصنعة والتقيد والتحرر، وبقيت المدرسة الأزهرية الأم عاكفة على النظر المجرد والجدل العقيم بين أروقة الأزهر والزيتونة والأموي والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي، حتى أن شيخا من كبار شيوخها كان ناظرا يحكم عمله على وقف خيري، فاضطر إلى أن يكتب رسالة إلى محافظة القاهرة في شأن من شؤونه، فلم يفهموا مما كتب شيئا. فلما أعادوا الرسالة إليه يستوضحونه المبهم، ضحك هزؤا بالجهل، ومصمص أسفا على العلم، ثم كتب على الرسالة حاشية على طريقة: قولي كذا معناه كذا، وقولي كذا به كذا، ثم ردها عليهم. ولو أنهم ردوها عليه مرة أخرى لكتب - رحمه الله - تقريرا على الحاشية.
كان الفرق بين مدرسة القاهرة ومدرسة بيروت كالفرق الذي كان بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة. كان البصريون يقدمون السماع فلا يرون القياس إلا في حال تضطرهم،(850/4)
ويتشددون في الرواية فلا يأخذون إلا الفصحاء الخاص من صميم العرب، لكثرة هؤلاء بالبصرة وقربها من عامر البادية. أما الكوفيون فكانوا لخلاطهم أهل السواد والنبط يعتمدون في أكثر المسائل على القياس، ولا يتحرجون في الأخذ عن أعراب لا يؤمن البصريون بفصاحة لغتهم. فالمصريون لقربهم من الأزهر واعتمادهم على القرآن، وقلة اختلاطهم بالأجانب، كانوا أشبه بالبصريين في تقديمهم السماع، وتشددهم في القواعد، وخضوعهم للمعاجم، ونفورهم من الدخيل، وجريهم على أساليب القدامى، واعتقادهم أن العربية لغة العرب الأولين، فلا يملك المولدون أن ينقصوا منها ولا أن يزيدوا فيها. واللبنانيون كانوا لبعدهم عن بيئة القرآن، وتأثرهم بأسلوب الإنجيل، وكثرة اختلاطهم بالفرنسيين والأمريكيين، وشدة احتياجهم في الترجمة والصحافة إلى تطويع اللغة وتوسيعها لتعبر عن المعاني الحديثة، كانوا أشبه بالكوفيين في تقديمهم القياس، وقبولهم الكلمات المولدة والنصرانية والدخيلة، واقتباسهم بعض الأساليب الأوربية، وتساهلهم في بعض القواعد النحوية والتراكيب البلاغية؛ ولذلك رماهم الدرعميون بضعف الملكة، وسقم الأداء، وقصور الآلة، فلم يقيموا لإنتاجهم وزنا، ولم ينيطوا بمعاجمهم ثقة. ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. وقد تطوقت العربية منها أيادي مشكورة بما أمدتها به من مصطلحات الفنون المختلفة، وأسماء المخترعات الحديثة، عن طريق الترجمة والتأليف والتمثيل والصحافة والتجارة. ثم كان في جانبها الزمن وفي مؤازرتها الطبيعة، ففعلا فعلهما في تطوير المصرية حتى قل بينها وبين أختها الخلاف وكثر التشابه، وجاء مجمع فؤاد الأول فأخذ يحكم قانونه يوفق غير عامد بين المدرستين، فتسهل في القواعد، وتجوز في الوضع وتسمح في الدخيل، وسلم بالواقع، وأصغى إلى مذهب الإجماع اللغوي الذي يدعو إليه الدكتور السنهوري، والى مذهب القياس في اللغة الذي يقول به الأستاذ أحمد أمين.
والمتتبع لتطور المدرستين أيها السادة يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرر والاعتدال، ثم طور التمرد والانطلاق. ولتكن الانتقال من(850/5)
طور إلى طور كان في مصر متثاقلا متداخلا، يرود قبل النجمة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعا لا يتأنى، مصمما لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا)، وناصيفا اليازجي في (مجمع البحرين) يقلد الحريري في المقامات، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص)، إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف؛ والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف. وليس بسبيلنا اليوم أن نحلل العوامل في كل تطور في كل بلد، ولا أن نعين الرجال في كل مدرسة في كل طور، ولا أن نورد الأمثلة من أدب كل رجل في كل فن. إنما سبيلنا أن نقول إن الجميل كان من خير من يمثلون اللبنانية في طور الاعتدال، وإن الجارم كان من خير من يمثلون المصرية في مثل تلك الحال.
سيداتي وسادتي: ولد أنطون الجميل في بيروت سنة 1887، وبيروت حينئذ كانت ملاذ العلماء والأدباء من لبنان وسورية، ومنتجع المبشرين والمستشرقين من فرنسا وأمريكا، وكانت النهضة الأدبية في عاصمة الجبل قد أثمرت بواكيرها ودنا جناها، فنال الفتى أنطون ما تيسر له منه في الكلية اليسوعية. والمارونيون كانوا يفضلون التعليم الفرنسي لصلتهم الدينية القديمة باليسوعيين، وعلاقتهم السياسية الجديدة بفرنسا. وحذق أنطون على الأخص اللغتين العربية والفرنسية. والنبوغ فيهما كان فاشيا في شباب لبنان، لأن تعليمهما كان جاريا على الأسلوب اللاتيني في تأليف الكتاب وإعداد المعلم واختيار الطريقة؛ فالكتاب متعمق في القواعد متنوع في التطبيق، والمعلم متضلع من العلم متقص في التحقيق، والطريقة قائمة على الحفظ معتمدة على التمرين. ذلك إلى أن الغالب على التعليم الفرنسي الأدب، والغالب على التعليم الأمريكي العلم. واللبنانيون كانوا يومئذ يتهيئون للعمل الحر في خارج لبنان؛ لأن النصارى في سورية كانوا كالشيعة في العراق لم يكن لهم في حكومة الترك مكان. والعمل الحر كان في التعليم، أو في الصحافة، أو في الترجمة، أو في التمثيل، أو في التجارة، وكلها أعمال تقتضي التبريز في اللغات والتبسط في الآداب. لذلك لم يكد الجميل يتخرج في الكلية اليسوعية حتى عين معلما في مدرسة القديس يوسف،(850/6)
ولكن ميله إلى الكتابة واستعداده للتحرير، ساعد على اختياره محررا لجريدة (البشير) سنة 1908، وقد كان يصدرها الآباء اليسوعيون في بيروت، ويجعلون إدارتها لأب من صالحي الآباء، وتحريرها لأديب من نوابغ الأدباء. ثم دعاه إلى الهجرة ما دعا أحرار لبنان من ضيق العيش وسعة الأمل وفساد الحكم، فهاجر إلى مصر سنة 1909 وحرر في صحيفة الأهرام الفرنسية. ثم أعلنت وزارة المالية المصرية سنة 1910 عن حاجتها إلى مترجم فتقدم إلى المسابقة في هذه الوظيفة ففاز بها. ولكنه لم يقطع صلته بالصحافة فأصدر في تلك السنة نفسها مجلة الزهور أدبية شهرية. واتصلت منذ يومئذ أسبابه بالحكومة ورجال الحكم. وكان الجميل على طبيعة قومه عمولا لا يدخر جهدا ولا يضيع فرصة ولا يستوطئ راحة، فبان شأوه على أقرانه، ودل فضله على كفايته، فترقى في المناصب حتى عين سكرتيرا للجنة المالية. ثم اعتزل العمل الحكومي ليتولى رياسة تحرير الأهرام، فسطع مجده، وضخم أمره، وانبسط نفوذه، واضطرب في مجال الحياة المصرية السياسية والاجتماعية والأدبية اضطرابا عجيبا، ينبه ويوجه ويوفق ويشارك. عمل في مجلس الشيوخ، وفي مجمع فؤاد، وفي جمعيات البر، وفي جماعات الأدب، وفي شعب الثقافة، وفي لجان الاقتصاد فلم تكن عضويته فيها جميعا مظهرا من مظاهر الفخر، ولا موردا من موارد المنفعة، وإنما كانت هما من هموم الجد يستفرغ الوسع فيه، ويتوخى النجاح له، ويدفع العوائق عنه. وكان الرجل على حظ عظيم من الخلق الكريم والطبع المهذب والحلم الراجح، فساعدته هذه المزايا على أن يكون له في المجتمع هذه المكانة وفي العمل هذا البروز. كان أديب النفس واللسان والقلم، فلم تكن لنفسه جلافة تنفر، ولا للسانه بادرة تخشى، ولا لقلمه سن يخز. وكان مرهف القلب والعقل والذوق، فكان يشعر بقوة، ويفهم بزكاته، ويذوق بلذة. وكان دقيق العمل والوقت والأسلوب، فلا يقدر بالقيس الجزاف، ولا يوقت بالزمن المبهم، ولا يعبر باللفظ المقارب؛ إنما كان يتبين الغرض ثم يرميه بالذهن النافذ واللفظ المحكم فلا يخطئه. ولعل كلماته السياسية في الأهرام كانت على وجازتها أدل كلامه على خلقه وأدبه. كان يعالج مشكلات السياسة والحكم بأسلوب فيه صراحة الجبليين وكياسة اليسوعيين ونعومة الفرنسيين، فيكشف عن المخبأ من غير فضيحة، ويدل على الفساد من غير اتهام، ويوجه إلى السداد من غير استطالة. وهذا الأسلوب وما كان يقويه(850/7)
من صدق النظر وصحة الحكم جعله وهو في مكتب الأهرام وندوته عضو شرف في كل حزب، ووزير دولة في كل حكومة.
أما أسلوبه الأدبي في الكتابة والخطابة فكان شعريا في صوره وأخيلته وألفاظه. كان يغلب عليه سلامة التركيب ووضوح المعنى وحسن الترسل، ويكثر فيه تضمين الأبيات واقتباس الحكم وإيراد النوادر. وقد شغلته الجهود الصحفية والاجتماعية عن الفراغ للأدب المحض فما كان يكتبه إلا مدفوعا إليه بإلحاح الطلب وإكراه الحاجة، كأن يكتب مقدمة لديوان صديق، أو بحثا في أدب شاعر، أو محاضرة في دار نقابة، أو خطبة في مجلس الشيوخ. ولقد كان له وهو في عهد الاستشراف والطموح إنتاج أدبي متصل، وعته جريدة البشير الدينية ومجلة الزهور الأدبية. ومن آثاره في ذلك الحين روايتاه: (أبطال الحرية) وموضوعها الانقلاب العثماني، وبطلاها القائدان التركيان نيازي وأنور. و (السموأل أو وقاء العرب) وموضوعها وبطلها معروفان. وهاتان المسرحيتان لا تمتازان ببراعة الحوار ولا بقوة البناء، وإنما تمتازان بفصاحة اللفظ وبلاغة الأداء.
وإذا كان لي أن أضيف إلى ما قلت كلمة في وفائه لمصر وحبه للمصريين فحسبي أن أقول إني لم أر في الأدباء الذين توطنوا هذا البلد كاتبا قبل الجميل، ولا شاعرا قبل مطران، نالا الرضى المصري بكل معانيه ومن جميع نواحيه، بإخلاص العمل لهذا الوطن، وإصفاء المودة لأهله، واعتقاد العرفان لجميله.
هذه - أيها السادة - بعض مزايا الرجل الذي كتب علي أن أودعه بلسانكم في رحلته الأبدية عن هذا المجمع. وإني لأشعر وأنا أجلس في مكانه الخالي أن كرسيه ينكرني كما ينكر الفرس الجواد الراكب الغر. ولقد حدثتني نفسي - شهد الله - حين تأدي ألي خبر أنخابي لعضوية المجمع أن استعفيه من هذا التشريف، لا زهادة في الشرف، ولا رغبة عن العمل، ولا فرارا من الواجب، ولكن لعلة نفسية مزمنة كان من أخف أعراضها إني أحسن العمل منفردا أكثر مما أحسنه مجتمعا. وربما جعلتني - لعنها الله - أعلم الشيء ولا أقوله، وأسمع الخطأ ولا أصوبه، وأرى المنكر ولا أغيره. وتلك كانت حالي معها وظل الشباب وارف، وعود الأمل ريان، وقوة النفس عارمة؛ فكيف تكون حالي معها اليوم وقد بلغت المدى الذي بعده القصور، والأمل الذي بعده الذكرى، والساحل الذي بعده القفر؟(850/8)
ولكنني استخرت الله وألقيت بجهدي الضعيف بين جهودكم القوية. والرماد يحمي إذا مسه من الجمر وهيج، والجبان يشجع إذا لم يكن من العراك بد.
أسأل الله أن يهدينا الطريق إلى خير العربية والعروبة، ويرزقنا التوفيق في خدمة الإسلام والشرق، في رعاية صاحب الجلالة الملك فاروق الأول أعز الله نصره، وجمل بالآداب والعلوم والفنون عصره.
أحمد حسن الزيات(850/9)
صور من الحياة
زوج يضل!
للأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا صاحبي - يوم أن نلت شهادة الدراسة الثانوية وأنت - إذ ذاك - فتى ريفي في العشرين من عمرك، سمهري القوام قوي التكوين صلب العود مشرق الوجه بهي الطلعة، تبسم للمستقبل في ثقة وتتنسم ريح الحياة في استبشار؛ يوم أن جئت تزف البشرى لأبيك الشيخ فتلقاك في سرور وربت على كتفك في فرحة، ثم رحت تدل على رفاقك بالفوز وهو عظيم وتزهو بالتفوق وهو مبين. وسألك أبوك عن هدفك الذي تصبو إليه فقلت له (أريد أن أدرس الطب) فأطرق في صمت وقد علت وجهه فترة، وإن الأفكار لتصطرع في ذهنه، وإن الخواطر لتضطرم في رأسه، فما له طاقة بما تتطلبه دراسة الطب من جهد ومال، وهو يحس لذع العوز والضيق، وأراد أن يصرفك عن بغيتك في لين فأصررت، وانطلق ينشر على عينيك بعض ما يعاني من فاقة ومتربة، فما وعى عقلك الغض مما قاله شيئا لأنك شاب لم تصقلك تجارب الحياة، ولا عركتك دوافع العيش، فأصررت. وراح هو يدير الرأي في رأسه عله يجد منفذا أو يهتدي إلى حيلة.
ومضت أيام والشيخ يضطرب في لجة من الهم، فهو لا يستطيع أن يلقي السلم إلى نزعاتك، فيدفع بنفسه إلى هوة من الدين والإملاق، وما هو بمستطيع أن يحول بينك وبين أمنيتك، فتستشعر الضعة والصغار بين أترابك.
وعلى حين فجأة انبسطت أسايره وانزاحت عنه غمه الأسى، فجلس يحدثك (أحقا يا بني أنك تطمع في أن تدرس الطب؟) قلت (نعم، يا أبي، ولا أبتغي به بديلا) قال (إذن تتزوج من ابنة خالك وهي فتاة يتيمة، تجمعكما وشائج القربى وصلات النسب وهي ذات مال يشد عضدك ويمهد لك السبيل إلى غايتك). وأزعجتك الفكرة، بادي الرأي. فما كان لك أن تفرغ للزوجة والولد وهما مشغلة، وأنت تهيئ نفسك لجهاد عنيف بعيد المدى مجهول العاقبة. ولكنك ما تلبثت أن أسلست لأنه ترءى لك أن الرفض حماقة تجذ حبل المستقبل، وهو طيش يطفئ شعلة الأمل الوضاء. أسلست أن تكون زوجا ورب أسرة وأنت ما تبرح طالبا في العشرين من عمرك.(850/10)
وقال لك أبوك وقد تهيأتما معا - أنت وزوجك - للسفر (يا بني، هذه زوجتك تذر دارها لترعى شأنك وإن الدار لتشرق بالنعمة والخفض، وتنأى عن أهلها لتأنس إلى حماك وإن قلوب ذوي قرابتها لتفهق بالحنان والعطف، وتفزع إلى رجولتك وإن حواليها ألف رجل ورجل يفتدونها بالروح والمال، وتنزل لك عن عالها وهو غمر لتهدأ جائشتك وتسمو إلى طلبتك؛ فكن إلى جانبها رجلا. والرجل إن ضاق بالمرأة زوجة لم يضق بها رفيقة، وإن ضجر بها صاحبة لم يفزع عنها ربة دار وأما. وإن الشهامة في الرجل لتجعله - دائما - يحس في المرأة العجز والضعف، وتدفعه - أبدا - إلى أن يجد اللذة والسعادة في أن يحمي ضعفها ويناضل عن عجزها. وهذه الفتاة - زوجك - منك بالمكان الذي تعرف فكن لها عائلا وأخا وصاحبا؛ واستشعر - دائما - إلى جانبها الرجولة والشهامة والإنسانية)
ودوت كلمات أبيك الشيخ في مسمعيك فأنتفض لها قلبك لأنك لمحت فيها نور السماء يتألق على لسان ملك.
وجاءت الزوجة الريفية لتعيش هنا في - في القاهرة - سجينة في دارك لا تجد السبيل إلى متعة المدينة ولا إلى نور المدينة وأنت طالب لا تملك فراغا من الوقت ولا فضلة من المال. وراضت الزوجة نفسها على الصبر فهي تقضي صدر النهار في غمرة من حاجات الدار: تعد لك الطعام وتهيء اللباس وتوطئ الفراش، ثم هي تدعك - صدر الليل - تفرغ إلى درسك تنتظر أوبة قلبك وفراغ عقلك. وأني لها ما تريد وأنت تسعى إلى غاية وتهدف إلى غرض، والطريق وعر والمرتقى صعب.
وشملتها موجة عارمة من الفرح يوم أن تخرجت في كلية الطب فأقبلت إليك وإن إهابها ليكاد ينقد من شدة الطرب. . . أقبلت تهنئك بالفوز المبين. ودوت كلمات أبيك الشيخ في مسمعيك فانتفض قلبك وتيقظت مشاعرك فأقبلت أنت أيضاً تهنئها بنجاحك وبين يديك أولادك الصغار.
وانطوت السنون تدفعك إلى ذروة المجد وترفعك إلى قمة الثراء فما حدثتك نفسك مرة واحدة أن تطب لمرض زوجك، وهوعته ديني، وأنت من بذرت غراسه في نفسها حين أرهقتها الوحدة وأمضتها الخلوة؛ وأنت في شغل لا تعبأ بما يعتريها من ضيق وملل ولا تلقى بالا إلى ما يجتاحها من ثورات نفسية، فانطلقت - وأنت طبيب - تقضي سحابة(850/11)
النهار في المستشفى، وتطوي هزيعا من الليل في العيادة يخلبك بهرج المال ويجذبك لألاء الغنى. والطبيب ساحر يعصر دماء المرضى فتتدفق في جيبه سيلا من الذهب.
ثم حالت حالك؛ فأنت لا تدخل الدار إلا ثائرا تضطرم، ولا تحدث أهلك إلا غاضبا تحتدم، تفزع عن زوجك في غير رحمة وتهر في أبنائك في غير شفقة. وتفتحت عيناك على أشياء كنت - من قبل - في عمى عنها؛ فأنت لا ترى في الدار إلا القاذورات تتناثر هنا وهنالك فتبعث فيك الاشمئزاز، وإلا رائحة النتن تفوح من نواحيها فتتقزز لها نفسك وإلا التشعث يملأ أرجاءها فينفذ فيك الثورة والاضطراب، ثم لا تسد أنت الثغرة في رفق ولا ترأب الصدع في دين.
ليت شعري، ماذا دهاك فطم على رجولتك فما عدت تسمع كلمات أبيك الشيخ تدوي في مسمعيك وإن فيها نور السماء يتألق على لسان ملك!
لقد عشت زمانا ترى في عيادتك القد الأهيف والكشح الهضيم والثوب الهفهاف، وتحس الابتسامة الرقراقة والخد الأسيل والشعر السبط، وتتنشق شذى العطر الجذاب؛ على حين لا ترى في دارك سوى زوجة بلهاء في ثوبها الأبيض الفضفاض تنتحي ناحية من حجرة وتنطوي على أورادها تتلوها في حركة رتيبة يملها القلب وتضيق بها النفس.
وراح عقلك الكبير يقارن بين الفتاة التي ترى في الشارع وفي العيادة وبين زوجك الريفية الجاهلة، فسيطر عليك الأسى واستولى النفور على قلبك، ونسيت يوم أن كنت فتى في العشرين من عمرك. . .، فما استطعت أن تكتم نوازع نفسك فجلست إلى صديق لك تبثه لواعج الفؤاد ولوعة النفس فقال لك (لا بأس عليك! إن في الأرض مراغما كثيرا وسعة) فقلت له (وماذا تعني؟) قال (أتزوج من ابنة فلان باشا، وهي فتاة في روعة الجمال وأبهة العظمة وسمو الجاه ومنتهى الثراء، تتوثب شبابا وظرفا وتتألق أناقة ورقة، فيها ثقافة الشرق وتربية الغرب، تتحدث في طلاقة وتأسر في لباقة) قلت في دهشة (وابنة خالي، ابنة خالي؟) قال الرجل (ابنة خالك؟ تذرها في بيتها بين بنيها وأورادها. . . إنها لم تجد فقدك فهي في شغل عنك وإن لك من ثرائك ما يكفل لها عيشة راضية وحياة طيبة) قلت (ولكنها هي. . . هي ربة نعمتي!) قال (هذا حديث لفته السنون في ملاءة النسيان!) قلت (وأنا؟. . . لقد قاربت الأربعين) قال (هذا وهم باطل فأنت ما تزال في ربيع العمر تفور نضارة(850/12)
وشبابا).
لشد ما أفزعتك الخاطرة - بادئ ذي بدء - فقضيت ليلتك تتقلب في فراشك تدير الرأي علك تهتدي. والشيطان إلى جانبك يزين لك الأمر ويغترك عن زوجك وأولادك الأربعة. وقالت لك نفسك (هناك في كنف ابنة الباشا تجد السعادة والرفاهية والثراء والجاه جميعا).
وانطوت الأيام والشيطان يوسوس لك وصاحبك من وراءه يزخرف القول وينمق الحديث. وعلى حين غفلة ارتفعت صيحات الشيطان في قلبك فطمت على رجولتك فما عدت تسمع كلمات أبيك الشيخ تدوي في مسمعيك وإن فيها نور السماء يتألق على لسان الملك.
وفي ذات ليلة، انطلقت برفقة صاحبك إلى دار الباشا لتصبح زوج أثنتين، ولتطعن قلب المرأة التي ضحت في سبيلك بمالها وشبابها لتكون أنت طبيبا عظيما تستطيع أن تتزوج من ابنة الباشا، لتطعن قلبها طعنة قاسية تعصف بهدوئها وتهدم سعادتها.
آه يا صاحبي، لو رأيت عبرات بنيك وهي تنهمر مدرارا ليلة عرسك. لقد كانت تساقط على قلبي - قلبي أنا الإنسان - قطرات من نار تتلهب لظى وشواظا. أما أنت فقد فقدت - حينذاك - رجولتك وإنسانيتك في وقت معا
يا صاحبي، إن الزوجة تلقي بنفسها في رعاية الرجل لتتشبث منه بخيوط ثلاثة: الرجولة والشهامة والإنسانية.
كامل محمود حبيب(850/13)
صحائف مطوية في السياسة العربية
هاشم الأتاسي
في سنة 1939 وفي عام 1943
للأستاذ أحمد رمزي بك
لقد رأيت في العدد الماضي وطنية هاشم الأتاسي تتجلى أمام الفرنسيين حينما أعتزل الحكم بإرادته، وقد أعجبت بهذا الموقف وقلت إنه يندر أن نجد الكثيرين من أمثاله في القرن العشرين وسط المشتغلين بالمسائل العامة في هذا الشرق، وسأقص عليك في هذه الكلمة شيئا من تردد السلطات الفرنسية، وماذا كان جزاء وطنيته وإخلاصه من بعض أولئك الذين فرض من المبدأ أن يكونوا من معاونيه وأنصاره، فإذا هم الذين عناهم أبو الطيب بقوله:
كدعواك كل يدعى صحة العقل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
ولقد أشرت في الكلمة السابقة إلى مذكرات رجال السياسة والحكم التي نشرت بمختلف اللغات، وكيف يحتاج إليها مثلي للوصول إلى ضبط الكثير من الحقائق، ومن قبيل هذه المذكرات أو أهمها مذكرات الجنرال كاترو، فقد أبلغني صديق كريم أن الجنرال بدأ ينشرها في جريدة الفيجارو الفرنسية، وكان بودي أن أطلع عليها قبل كتابة هذه الكلمة، فلم أستطع الحصول عليها كاملة بمصر، وعليه قدر على أن أنتظر حتى يتم طبعها كاملة كما قيل لي، فأبدي رأيي فيها كقارئ، أو كرجل لمس عن قرب شيئا من الحوادث التي تتناولها هذه المذكرات.
ولقد أشرت إلى تعدد مقابلاتي مع الجنرال طول شهر مارس 1943 وكان أغلبها في دمشق التي كان يفضل الإقامة فيها، بل وصرح مرارا أنه يعمل على نقل المفوضية العليا الفرنسية من بيروت إليها، واعتقد أنه لولا ما صادف كاترو من اعتراضات معينة من بعض الفرنسيين الذين يعملون معه، ولولا تأثير الوسط البيروتي لنجح في قصده هذا مدة وجوده بسوريا ولبنان على الأقل.
واذكر في إحدى هذه المرات التي قابلته فيها بمدينة دمشق وكان قد دعاني إلى قصر المفوضية بالمهاجرين، فتعمد أن يضع على المدخل مفرزة من حرس الفرقة الجركسية(850/14)
لتحية ضيوفه، على مثل ما كان يعمل الجنرال فيجان، ولما قابلته أخذ يطوف بي في أنحاء الدار ويشرح لي محتوياتها ويشير بإعجاب إلى ما بذلته مدام كاترو في تهيئة حجراتها والحصول على الأثاث اللائق بها وكيف وفقت رغم ما يعترضها من صعاب في تنسيق الدار وجعلها صالحة لإقامة مندوب فرنسا الأعلى وقائد جيوشها.
والحقيقة أن الدار ظهر عليها في ردهاتها ومقاعدها وأركانها هذا الذوق الشامل الذي تفرغه يد السيدة إذا تولت بعنايتها تهيئة الدور الرسمية فتجعل منها بيوتا تصلح للاستقبال.
لقد كان الجنرال مرحا في كلامه مع المدعوين، ولما آن موعد انصرافهم أراد أن يتحدث حديثا خاصا معي فاستبقاني لديه على انفراد، والجنرال محدث لبق بدأ حديثه عن القاهرة وعن منزل في لبنان لشخص معين يسكن بيروت ويريد أن يؤجره للجنرال ومع ذلك يزج بأسماء معينة في مصر وضحك كثيرا من أساليب بعض الناس في حياتهم الخاصة والعامة، والحقيقة أن ابتداء الحديث السياسي عن صفقة فيها منزل للإيجار تحمل في ثناياها نكتة من إبداع النكت، وفي كلامه عن خلق هذا الوجيه الثري ما يجعل السامع يتجه اتجاها معينا نحو حكمه على كثير من الأمور، ولولا أن منافسة الجنرال من كبار القوم في بلادنا لما بدا أن لهذا الحديث موضعا، ولكن الجمع بين هذا ووضعه في الإطار الذي فتح الجنرال حديثه به يجعلني في حل أن أقول: أن الجنرال أعطى صورة واقعية لما كان يدور في تلك الأيام وأراد بظرف ولباقة أن يعرفني بالإشارة كما يقولون ما لم يرد أن يصرح به. ولكنه حينما تحدث عن هاشم بك الأتاسي: أشاد بوطنيته وإخلاصه لبلاده وقال: (أنه على رأيه دائما في أن قيام الدولة السورية وعلى رأسها هاشم بك أمر يرحب به ويكون من فخره إذا تم).
إننا معاشر الشرقيين تبدو لنا بعض الأمور وكأنها لا تستحق عنايتنا واهتمامنا: كما تبدو لنا أمور أخرى ذات أهمية خاصة مع أنها قد لا تترك أثرا لدى الغير، من قبيل هذا اعتزال هاشم بك للحكم فالأثر الذي يتركه في نفس الأوروبيين لا ينسى، وقد حدثني الجنرال فقال إنه دعي هاشم بك للغداء لديه وعلم إنه نزل في فندق أوريانت بالاس ولما انتشر خبر زيارته لدمشق تهافت الناس وذهبوا لرؤيته بالفندق وتحادثوا معه وأعربوا عن آمالهم في عودته. . . فهو رجل يتمتع بمنزلة خاصة لدى الشعب.
ذكر لي هذا عند كلامه عما يدور بخلده من ضرورة إبدال الوضع الذي قام مؤقتا في سوريا(850/15)
عقب وفاة المغفور له الشيخ تاج الدين الحسني. ولكني لمست هذا الإنصاف لهاشم بك في صفوف الفرنسيين من أعداء الكتلة الوطنية نفسها. . .
وفي هذا الاجتماع الأخير لخص الجنرال ما قام به من جهود في الفترة الأولى لشهر مارس 1943 فقال إن دائرة أحاديثه اتسعت رويدا رويدا فشملت عددا من السياسيين الممثلين لمختلف الأحزاب والدوائر في سوريا وأبدى رأيه في كل شخص وفي اتجاهات الأحزاب وتعاونها وتنافسها، وقد أطلعت بعد أيام على ما نشرته المفوضية على الصحف وقد أشارت إلى أن الجنرال يوالي استشاراته ويستمع إلى رؤساء الوزارات ورؤساء المجالس النيابية في الأحداث والأوضاع والحلول المقبلة - وزادت على ما سمعنا رؤساء الهيئات الاقتصادية والمالية وهذا ما لم يرد له ذكر في أحاديثه.
ولم يقتصر اتصاله على دمشق بل سافر إلى حلب وحمص ودعا إليه رؤساء العشائر والمناطق البعيدة وكان طول مدة شهر مارس في عمل مستمر واتصال دائم وكلما تعجلت السياسة البريطانية أو الأمريكية الأمور كان الفرنسيين أننا ندرس ونبحث ونستشير ونحقق حتى يأتي عملنا مطابقا للمصلحة العامة ولكسب الحرب. كتبت في كتاب الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ص 17 (أن الجنرل كاترو يجمع في شخصه بين القائد والسياسي معا وقد برهن على أنه صاحب عزيمة ودهاء، وفكرة ومقدرة) ص77 وأزيد على هذا أنه محدث من الدرجة الأولى لا تغادر الابتسامة وجهه، وهو يشعرك من أول مقابلة أنك موضع ثقته وأنه يحدثك بصراحة تامة وهو لن يخفي عنك شيئا مما يجول بنفسه ولكنه في الحقيقة إذا تكلم لا يعطيك إلا ما يريد هو إعطاءه.
وإذا عرض لشخصيات معينة أعطاك عن كل واحدة منها صورة حية لا تكرهك في الشخص المعين، بل يرسم لك مزاياه فتخرج وتكاد تشعر بأن جميع الناس من أصدقائه وأنه معجب بالنواحي الطيبة التي لمسها في كل واحد منهم.
ولا أخفي على القارئ أن الجنرال كاترو ترك أثر عميقا في نفوس من اتصلوا به، فقد جاءني رجال لم يكونوا في يوم من الأيام من أصدقاء فرنسا، وأبدوا لي دهشتهم لهذا التطور الذي بدا من غير تهيئة في جانب الفرنسيين حتى صرح أحدهم يقول: أنه يكاد يصدق أن هذا الجنرال راغب كل الرغبة في أن يرى البلاد السورية متمتعة باستقلالها.(850/16)
وقد ظهر لي جليا أن الجنرال كاترو كان من بين الفرنسيين القلائل الذين أدركوا قبل الأوان صعوبة مركز فرنسا في سوريا ولبنان مع وجود الجيوش البريطانية فيها، وكان هناك فريق منهم يعيش سنوات 1943 - 44 - 1945 على غرار18 - 20 - 1921 حينما وجدوا البريطانيين قبلهم في البلاد: وجاء كاترو فكان بين أمرين.
1 - أما التظاهر بالتعاون مع الحليفة إلى نهاية الشوط.
2 - وأما التصادم من المبدأ معها
وقد فضل أن يجاريها في سياستها وأساليبها مع احتفاظه بحقوق بلاده، ولكنه لم يجد إخلاصا ولا تعاونا ولا فهما من معاونيه، ولذلك لم يلازمه النجاح الذي كان من المرجح أن يلاقيه
كنا ننتظر الوصول إلى نتائج حاسمة في النصف الأول من نهر ما حينما جاء المولد النبوي الكريم فأضطر الجنرال الفرنسي إلى قطع استشاراته لحضور الاحتفال به في بيروت، حيث أقيمت احتفالات رأى فيها المسلمون فرصة للأعراب عن وجودهم، ورأت فيه فرنسا فرصة لإعلان احترامها للنبي العربي.
ثم حدث تصادم لطائرة فرنسية مات فيها الكولونيل باريل وجرح فيها الجنرال ماسيت، وقد أقيمت جنازة عسكرية شائقة للفقيد الفرنسي وسارت فيها وحدات الجيوش الفرنسية المختلفة وقد تسلمت الكثير من عتاد الحلفاء وملابسهم وأحذيتهم وألقى الجنرال كاترو قطعة رائعة في رثاء الكولونيل القتيل كانت خير ما يمكن أن يعبر عن حداد فرنسا المقاتلة. . . وآمالها.
لا أدري إذا كانت بعض المصادفات تؤثر في اتجاهات معينة وعلى كل فإنه بقدر تحمس الفرنسيين للوصول إلى هاشم بك في تلك الفترة بقدر ما قامت الصعاب أمامه من ناحيتين: الطريقة التي سيعود بها إلى الرياسة هل تكون بناء على دعوة الجنرال وكيف تصاغ ثم الناحية الثانية: وهي ازدياد شقة الخلاف بينه وبين أنصاره.
ومرت الأيام وكان الجنرال قد ترك دمشق وعاد إلى بيروت تاركا أمر المشاورات في سوريا لمعاونيه: ثم عاد في الفترة الأخيرة من مارس إليها.
وفي يوم 24 مارس سنة 1943 تلقيت منه كتابا مطولا يعرب فيه عن أسفه لأنه لم يوفق(850/17)
إلى إقناع هاشم بك الأتاسي بالعودة إلى وزارة الجمهورية مرة أخرى ويبلغني فيه ما أستقر عليه الرأي في النظام الجديد الذي سيباشر التمهيد للانتخابات.
والحقيقة إننا جميعا دهشنا لهذا الموقف الأخير، وقد سافرت إلى دمشق أنصت إلى كل ما قيل في هذا الشأن وقيدت الكثير منه: ومع أن الكثيرين يلقون السبب على الفرنسيين فإن هؤلاء يشيرون إلى أعوان هاشم بك وأنصاره ورجال السياسة السوريين ويعدونهم المسئولين عن تردده أما أنا فاعتبرتها المفاجأة الثانية.
أحمد رمزي(850/18)
الاتحاد الإسلامي
للدكتور سيد محمد يوسف الهندي
قد كنت ولا أزال من أشد المتحمسين لفكرة إنشاء اتحاد إسلامي عالمي يضم الشعوب المتجانسة والدول المتجاورة الممتدة من الباكستان شرقا إلى تركيا ومصر غربا، وربما يتسع نطاقه فيما بعد في الناحيتين الشرقية والغربية إلى إندونيسيا والمغرب الأقصى. وازهي بالقول بأن المسلم الهندي أفعم قلبه إيمانا وإخلاصا لهذه الفكرة التي ازداد طموحه إليها بعد أن نجح في خلق أداة قوية فعالة، ألا وهي دولة الباكستان للمساهمة في إبرازها إلى حيز الوجود.
ولكن نظرة المسلم الهندي إلى العالم الإسلامي إنما كانت إلى وقت غير بعيد نظرة عاطفية خيالية هي أبعد شيء عن الحقيقة والواقع فإنه كلما حول وجهه إلى تلك الرقعة الشاسعة التي يقطنها المسلمون من العرب والعجم والترك رأى دولا قيل إنها مستقلة، وتيجانا ربما ادعى أنها ترمز إلى مجد الإسلام الغابر، وشعوبا مسلمة تؤلف الأغلبية الساحقة في حدود بلادها - الصفة التي كانت تنقص المئة مليون من المسلمين في الهند الموحدة والتي كان انعدامها مصدر جميع آلامهم وإخطارهم في المستقبل. فلم يكن المسلم الهندي ليتصور أن يكون هناك أي مانع عند تلك الشعوب المتماسكة والدول المستقلة من الاتجاه إلى التضامن والاتحاد على أساس الدين الذي كان ولا يزال يعتقد - حسب فهمه هو - إنه ملك وسياسة قبل أن يكون صلاة ودعاء. ومما ساعده على هذا الظن - الخاطئ مع الأسف - تلك الألقاب الفخمة المشعرة بحماية الدين ونصرة الإسلام والمسلمين التي يتحلى بها بعض الأمراء والأعيان في الأقطار المختلفة (كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد) ومظاهر أخرى مثل صدور الفتاوى من مشيخة الأزهر (إلى العالم الإسلامي كله) تلك الفتاوى التي عرفت الآن أنها لا تصدر عن شعور داخلي حر بخير (العالم الإسلامي كله) ولا عن دراسة وافية للأحوال والظروف الخاصة بالمسلمين في الأقطار المختلفة. بل إنها ربما تستصدر لمصلحة عاجلة. ويا حبذا لو أن كبار العلماء تنازلوا عن سلطتهم المنتحلة هذه كما فعلت تركيا حينما ألغت الخلافة بعدما رأت عجزها عن إسداء أي عون مادي أو أدبي إلى ما يسمى بالعالم الإسلامي.(850/19)
كان من الطبيعي أن تتغير نظرة المسلم الهندي هذه الأيام الأخيرة على أثر التقارب عن طريق التمثيل الدبلوماسي وتبادل الزيارات. ولعله قد عرف أن المانع الحقيقي من التقدم نحو الاتحاد ليس عاملا خارجيا أجنبيا بل هو داخل نفوس إخوانه المسلمين الذين أصبحوا غير مستعدين لقبول هذه الفكرة. وقد اقتنعت أنا شخصيا بصدق ما صرح به البانديت جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند، عقب زيارته الأخيرة للقاهرة من أن أي اتجاه إلى التكتل على أساس الدين في الشرق الأوسط أمر مستحيل، فاستعنت باليأس على التغلب على ما غمرني من القلق وبدأت أغتبط بواقعية رجال الحكومة الباكستانية حينما لاحظت فتورا في تصريحاتهم إزاء أي حلف رسمي، وظننت أن الفكرة قد وضعت على الرف أو كما يقولون في المثلجة إلى أن تنبعث من داخل قلوب المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية على السواء حتى يجيء الاتحاد نتيجة لشعور عام صادق متدفق قوي.
ولكن ظهرت في الأسابيع الأخيرة بوادر تنذر بأن يتم على أيد أجنبية خفية ما لم يكن ليتحقق بالرغبة الذاتية فأثارت في نفسي خواطر رأيت أن أدمجها حتى يتبين كل منا حقيقة فكرة الاتحاد الإسلامي من أي صورة ممسوخة له ربما لتساور بعض الأذهان في الوقت الحاضر.
أن فكرة الاتحاد الإسلامي فكرة دينية بحت ترتكز من حيث المبدأ على الشعور بالأخوة وواجب المساهمة في الآلام نحو كل من يشارك الآمال وأهداف الحياة. ومن الواضح أن هذا الشعور داخلي شخصي اختياري محض ولا يحتاج وجوده إلى أية مبررات من المصالح السياسية أو الاقتصادية مع أن تلك الفوائد لابد وأن تنتج منه وترافقه إذا أحكم تدبير الوسائل الفنية الأزمة لها. فالاتحاد الإسلامي بطبيعته يأبى إلا أن يكون اتحادا بين الشعوب الإسلامية بعد أن تسترد هي الإيمان بالفكرة الدينية في تنظيم حياتها الداخلية وتدعيم علاقاتها الخارجية والدولية.
فما حال الشعوب الإسلامية في الآونة الحاضرة؟ ليس الكلام عن تركيا يصعب؛ فإنها جريئة صريحة تحدث ما تحدث عن علم. أما الممالك العربية فتكاد تجد لها ممثلين ومراقبين في جميع المؤتمرات مهما اختلفت أنواعها وتضاربت أهدافها، وقلما تلاقي خطة واضحة مرسومة بعيدة المدى في تصريحاتها أو تصرفاتها. وقد خيل ألي فيما يتعلق(850/20)
بالموضوع الذي نحن فيه أنها حريصة على الاحتفاظ بالشرف الذي كان لها بحق من حمل لواء الإسلام في الماضي ولكنها في الوقت نفسه تتوق وتجتهد وتتكلف ما يسمونه (مسايرة الغرب) باحتضان كل ما جد من النظريات والاتجاهات السياسية كما أن النساء المتجملات يلهجن بكل ما تبتكره باريس من الأزياء - حتى الذيول الطويلة!! - كل صيف وشتاء؛ أو لا ترى أنها ثارت مطالبة بالاستقلال والوحدة فكان من حظها الاستعمار والفرقة. ولا ضير في ذلك فإن الأمم كالأفراد كثيرا ما تخطئ حسابها وتفشل في خطتها ولكنها سرعان ما رضيت بالفرقة وبدأت تعتز وتباهي بالفوارق الوطنية فيما بينها كالأصل الفينيقي والحضارة البابلية والمدنية الفرعونية وما إلى ذلك مما نبشه الباحثون المستشرقون لتلهيتها (عن كل مكرمة) واستمر الحال كذلك طيلة الفترة ما بين الحربين إلى أن تغيرت الأوضاع الدولية وتدهورت الأحوال رأسا على عقب، فهتف هاتف من الغرب بضرورة الاتحاد فارتجلوا اجتماعا بين الملوك وإجماعا بين الحكومات على ميثاق الجامعة العربية. ومنذ ذلك اليوم و (العروبة) يخفق لها قلب كل عربي. وكلمة العروبة أو القومية العربية لم تكن واضحة المعالم أبدا وهذه هي نقطة الضعف لا شك فيه، فإن زعماء الثورة الأولين لم يعنوا حينما نطقوا بها شيئا يعارض الوحدة الإسلامية. وليس أدل على ذلك من أن طوائف معينة معروفة باعتمادها الاستعمار الأجنبي اعترضت سبيلها ولم تزل تقاومها حتى أرغمت الأكثرية العظمى على تلطيف، بل تغيير مدلولها تغييرا جوهريا بحيث أصبحت تعبر عن أهواء الذين يعادون الفكرة الدينية الإسلامية لا لشيء إلا لولائهم لدينهم؛ كفى بذلك شاهدا ما جاء في كتاب نبيه أمين فارس المسمى ب (العرب الأحياء) والمنشورات الأخرى الحديثة عن مقومات العروبة التي لا بأس أن يدخل فيها كل شئ من عصور ما قبل التاريخ إلى العهد الحاضر ما عدا الدين الذي يراد إبعاده عن حياة الغالبية العظمى من العرب. وأخيرا تصادف أن فقدت هؤلاء الطوائف ربيبة الاستعمار عمادها أو القط الذي كانت هي بمثابة المخلب له وذلك في وقت نجحت فيه فكرة فصل الدين عن السياسة بين المسلمين نتيجة لضعفهم وخيبة آمالهم، فليس للحال الجديدة لباسها - لباس الوطنية الصادقة (ولكن مع ضمان وضع خاص فليتأمل!) - حتى جاء الاعتراف باستقلال لبنان الذي لم يرض به كثير من الوطنيين المخلصين إلى آخر لحظة، رمزا للتبرؤ من العون الأجنبي من جهة(850/21)
والفكرة الدينية من جهة أخرى. وبعد بضع سنوات أصبح هذا الوضع، بفضل الجامعة العربية، من المبادئ الأزلية الذي ربما ينطوي الإسهاب في الكلام عنها على مجازفة خطرة.
قامت الجامعة العربية فابتهج بها المسلم الهندي كما أنه ابتهج بميثاق سعد آباد أو أي مظهر آخر للتقارب بين المسلمين حتى زواج الأميرة فوزية من جلالة شاه إيران، وربما عبر عن ابتهاجه بما ينبئ عن اعتقاده بأن الكتلة العربية أشد ارتباطا بالمسلمين في الأقطار الأخرى من شقيقتها و (بترونها) الكتلة اللاتينية فتحفزت الجامعة مرات عديدة لإنقاذ سمعتها كهيئة إقليمية محضة ونفت اهتمامها بالدين وأهل الدين حتى لا تفسد عليه صفقة الأصوات. وهكذا مضت الجامعة في تنسيق السياسة الخارجية للدول العربية تتوخى كسب الأصوات وتبادل (المواقف) - الذي يستلزم في بعض الأحيان التهاون في الحق - تحاول تهدئة فرنسا في دورة للأمم المتحدة ومساومة أسبانيا في دورة أخرى حتى أثبتت حوادث فلسطين أنها لم تكن خلقت لغير هذا العمل؛ وعلى كل حال فإن الجامعة العربية، مع أنها لم تكن تصلح من حيث تراكيبها لمقاومة الاستعمار إلا إذا كان من نوع معين، أيقظت شعورا قويا بين الشعوب العربية نحو التآلف والتآزر حتى أن هذا الشعور المتدفق ربما سبب متاعب للحكومات المصطنعة الغير الممثلة المتلكئة في الأمور، ولكن يجب التصريح بأن هذا الشعور إنما كان مبنيا على أساس العروبة وتناسي الدين أعني الإسلام.
(البقية في العدد القادم)
السيد محمد يوسف(850/22)
ركن المعتزلة
علم الله في مذهب المعتزلة
للدكتور البير نصري نادر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
إن الكلام في علم الله يختلف كل الاختلاف عن الكلام في المعرفة عند الإنسان؛ لأن علمنا يتكون تدريجيا ونحن نصل إلى المعرفة بفضل مجهود فكري مستمر نبذله في فهم الحقائق والوقائع؛ ونمر هكذا بمراحل أدناها مرحلة الجهل وأسماها مرحلة المعرفة؛ ولكن كم تصادفنا من مراحل نشك فيها ونتردد وننعم التفكير ونجلي الأمور ونتخذ القرارات ثم نغيرها أحيانا ونتمسك بها أحيانا. وهذا التدرج في تكوين المعرفة برهان قاطع على عجز العقل البشري وعدم كماله.
وإذا ما تكلمنا عن علم الله فلا يجوز أن نقارنه بعلمنا ولا أن نحاول فهمه بتشبيهه بعلمنا لأنه لا توجد أدنى مشابهة بين المتناهي واللامتناهي ولا بين الكامل والناقص.
لذلك كان الجبائي لا يسمي الله فهيما ولا فقيها ولا موقنا ولا مستبصرا ولا مستبينا لأن الفهم والفقه هو استدراك العلم بالشيء بعد أن لم يكن الإنسان به عالما واليقين هو العلم بالشيء بعد الشك، وكل هذا يدل على والتبدل والتغير في مراتب العلم ولكن لا يوجد أي تغير في الله وهو في حالة ثبات كامل لأن علم الله هو هو أعني هو ذاته وذاته أزلية كاملة لا تغير فيها ولا تبدل.
ولما كان الله لم يزل عالما بكل الأمور فعلمه منذ الأزل كامل شامل كل شئ حصل وسيحصل. ولكن هناك مسألة بحثها المعتزلة على النظر وجاء البحث مؤيدا لقولهم بثبات علم الله منذ الأزل، وهذه المسألة هي:
هل يجوز كون ما علم الله أن لا يكون؟
ترد المعتزلة على هذا السؤال بالنفي طبعا. ولكن ذلك لا يمنعهم من تحليل السؤال تحليلا دقيقا ليبينوا استحالته. فنجد مثلا علي الأسواري يشطر السؤال شطرين هما أولا: يجوز كون شئ أعني أن الله يقدر على الشيء أن يفعله، وثانيا: الله عالم أن هذا الشيء لا يكون(850/23)
إنه أخبر أنه لا يكون. ويقول الأسواري إذا أفرد أحد القولين عن الآخر ما كان الكلام صحيحا؛ أما إذا افترق القولان كان ذلك مستحيلا. وذلك على عكس ما هو عند الإنسان؛ لأنه ليس من المستحيل أن نلاحظ عند الإنسان فرقا بين معرفته لعمل واجب أداؤه والامتناع عن أداء هذا العمل؛ لأن الإنسان قادر على الضدين في حين أن الله لا يوجد فيه تغير، وعلمه وإرادته وقدرته تعالى هي ذاته وذاته لا تتغير.
وهناك رد آخر على هذا السؤال. فتقول المعتزلة: إذا علم الله أن حدثا أو عملا أو شيئا لن يحدث لعجز أو استحالة في الحدث أو العمل أو الشيء نفسه (مثل تربيع الدائرة أو إرسال المؤمنين إلى النار) أو لعجز من قبل الله على حدوث هذا العمل أو الشيء إذ أن حدوثه ينافي النظام والقوانين المسنونة للعالم منه تعالى، فإن هذا الحدث أو العمل أو الشيء لم يحدث أبدا ما دام وجد العجز أو الاستحالة.
في هذا الرد نجد اعتقادين راسخين عند المعتزلة وهما أن العالم خاضع لنظام كامل تام مطابق لعلم الله؛ وبما أن علم الله لم يزل ثابتا فنظام العالم ثابت أيضاً لأنه لو تصادف وأصبح هذا النظام غير مطابق لعلمه تعالى فعلمه لم يعد كاملا. وبما أن علمه هو ذاته فتصبح الذات والحالة هذه هي غير كاملة أيضاً وهذا تناقض.
وتزيد أكثر المعتزلة على ذلك قائلين: ما علم الله أنه لا يكون لاستحالة أو لعجز عنه يجوز أن يكون على شرطين: أن يرتفع العجز عنه وإن تحدث القوة عليه. ولكن في هذه الحالة كان الله لم يزل يعلم برفع العجز عن هذا الشيء وبحدوث القوة عليه. وهذا لا يناقض كماله تعالى.
فنلاحظ أنه مهما اختلف وضع المسألة فالحل واحد وهو أن المعتزلة تردد دائما أن الله لم يزل عالما بالأشياء كلها ولا يجوز حدوث شئ إلا وهو لم يزل يعلمه.
لما كان الله لم يزل يعلم كل شئ فكيف يمكن أن نتكلم عن حرية الاختبار عند الإنسان لأعماله؟ أهو حر فعلا أم مجبر؟ إنها لمسألة في غاية الدقة والأهمية وهاك رأى المعتزلة فيها.
علم الله ومصير الإنسان في الآخرة:
يحدثنا ابن حزم عن رأي لهشام القوطي المعتزلي تشاركه فيه جميع المعتزلة لأنه يعبر عن(850/24)
أصل من أصولها في علم الله. يقول هشام: إن من هو الآن مؤمن عابد ولكن في علم الله إنه يموت كافرا فإنه الآن عند الله كافر. وإن من كان الآن كافرا مجوسيا أو نصرانيا أو دهريا أو زنديقا ولكن في علم الله يموت مؤمنا فإنه الآن عند الله مؤمن. فلا غرابة في هذا القول إذ أن علم الله لا يتغير؛ فإذا علم الله منذ الأزل أن فلانا سيموت كافرا ولو آمن وقتا من الزمن فإنه عند الله كافر؛ لأنه تعالى لم يزل يعلم أن بعد إيمان هذا الشخص كفرا. ولا يجوز أن يزيد كفر المؤمن شيئا في علم الله - هل يعني ذلك أن لا قدرة للإنسان على أعماله لأن الله لم يزل يعلمها؟ نحن نعرف أن المعتزلة (أهل عدل) أيضاً أعني أنهم يقولون إن الإنسان قادر على أعماله محاسب عليها - فكيف يكون التوفيق بين القولين إن الله لم يزل يعلم كل شيء، وإن الإنسان قادر على أعماله؟
هناك حل دقيق أتى به الجبائي ليوفق بين هذين القولين. فيقول: لنفحص الحالات الثلاث الآتية:
أولا: يقول الجبائي إذا وصل مقدور بمقدور كانت النتيجة إيجابية صحيحة؛ مثلا لو قلنا إذا آمن الكافر (شرط أول) وكان الإيمان خيرا له (شرط ثان) لأدخله الله الجنة (النتيجة الصحيحة لهذين الشرطين) والمقدوران هما: العودة إلى الإيمان بعد الكفر - الإنسان في إمكانه أن يعود إلى الإيمان - وإذا لم نخير الله عما يناقض ذلك فتكون هذه الحالة الأولى صحيحة.
عند تحليل هذه الحالة نجد المعتزلة تعترف بمقدرة الإنسان على الكفر وعلى الإيمان وذلك بمجرد اختياره؛ ثم أن الله لم يزل يعلم هذا الاختيار. إننا هنا بدون شك بصدد نقطة صعبة وهي شعورنا بمقدورنا على اختيار شئ أو حال دون الآخر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى علم الله منذ الأزل بما نختاره.
وإذا تمسكت المعتزلة بالقول بقدرة الإنسان على أعماله كان تمسكها هذا صونا لعدالة الله وإلقاء المسئولية على الإنسان وحده عندما يعاقب أو يثاب. ففي هذه الحالة الأولى التي يعرضها الجبائي برهان كاف على حرية الاختيار عند الإنسان على شرط أن يأتي اختياره على شئ ممكن جائز مقدور.
الحالة الثانية: إذا كان هناك شيئان متناقضان فلا يمكن التكلم عن حرية الاختيار عند(850/25)
الإنسان واستحالت النتيجة - مثل قولنا أن يكون المرء مؤمنا وكافرا أو متحركا وساكنا أو حيا أو ميتا في آن واحد. إن الإنسان لا يقدر على ذلك وحريته مقيدة أمام التناقض. فالحرية لا تعني إذن القدرة على عمل أي شئ أو ضده - وبما أن الله لم يزل يعلم مجرى الأمور حسب قوانينها فهو يعلم عجز الإنسان أمام التناقض كما أنه تعالى لم يزل يعلم قوانين العالم فكل ما يحدث فيه كان هو لم يزل عالما به.
وفي الحالة الثالثة: يقول الجبائي إذا وصل شيئان أحدهما جائز والآخر مستحيا فتكون النتيجة مستحيلة؛ مثلا إذا قلنا إن الكافر يؤمن في حين أن الله يعلم ويخبر أنه لن يؤمن فمن المستحيل أن يؤمن هذا الكافر فتكون إذن حرية المرء مقيدة بعلم الله وإخباره. ولكنها حالات شاذة تلك التي يخبرنا الله فيها عن علمه.
أثر منطق أريسطو:
إن تحليل الجبائي لمسألة علم الله ومصير الإنسان هو تحليل منطقي لا شك أن لمنطق أرسطو أثرا كبيرا فيه. فمقابلته القضايا الإيجابية أولا والقضايا السالية ثانيا واستنتاجه النتائج الإيجابية أو السالبة كل ذلك يدل على أن الجبائي كان ملما بهذا المنطق وحاول أن يستخدمه في مسألة من أدق المسائل وأعقدها. إنها لمحاولة جريئة وهي ليست الوحيدة من نوعها في فلسفة المعتزلة.
من هذا نستخلص أن جل هم المعتزلة هو رد الصفات ومن ضمنها صفة العلم إلى ذات الله تعالى. وبما أن هذه الذات قديمة لا متناهية ثابتة فيكون العلم أيضاً قديما لا متناهيا ثابتا. ثم أن الله لم يزل يعلم كل الأمور وإذا كان العالم قديما بالنسبة إلى علمه تعالى فإنه يتحقق في الزمان تبعا لهذا العلم - أما فيما يختص بمسألة قدرة الإنسان على أعماله فالمعتزلة تحلها بقولها إننا نشعر بحرية الاختيار وإننا نجهل علم الله وإن عدل الله يضطرنا إلى القول بهذه الحرية - وكل المسألة الأخلاقية متوقفة عليها.
ألبير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة(850/26)
مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر
للأستاذ كمال السيد درويش
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
- 3 -
هل تقع مسئولية الاحتلال البريطاني على الإنجليز وجشعهم الاستعماري؟
ولم لا؟
ألم يتعللوا للبقاء في مصر بشتى المعاذير حتى وانتهم الظروف فكشفوا عن نيتهم الصريحة في الاحتلال بإعلان الحماية على مصر سنة 1914م
ألا يدل على ذلك قصة تلك الوعود الرسمية التي قطعها باسم إنجلترا ممثلوها الرسميون (إن رغبة حكومة جلالة الملكة هي أن تترك المصريين وشأنهم بعد أن تخلص مصر من الطغيان العسكري) قيل هذا سنة 1882م. وهذا تصريح آخر: (إن الشك الذي يخامر الرأي العام سببه رغبة بعضهم في احتلال مصر احتلالا مؤبدا وإدماجها في هذه الإمبراطورية. وتلك غاية نحن مصممون على مدافعتها وعلى ألا نسعى إليها بحال من الأحوال) بل لقد ذهبت إنجلترا إلى أبعد من ذلك فحددت تاريخا معينا للجلاء. وأي والله حدث هذا (إن حكومة جلالة الملكة تريد أن يكون سحب الجنود في أول عام 1888م)
لقد أورد المستر بلنت في مقدمة كتاب (تاريخ المسألة المصرية) قصة هذه الوعود الرسمية ثم علق عليها بقوله (حقا إنه ليس في تاريخ جميع إجراءات إنجلترا الاستعمارية عهود كهذه بذلت ثم نقضت).
إن قصة ضرب الإسكندرية لا تحمل في طواياها إلا حجة الذئب حين أراد التهام الحمل. لقد كانت نية الاعتداء المتعمد واضحة منذ البداية. وإلا فلماذا أتى الأسطول إلى ميناء الإسكندرية وبأي حق يقف في المياه المصرية؟ وكيف يجرؤ فيتدخل فيما ليس من حقه التدخل فيه حين يطالب بوقف أعمال الترميمات في الحصون والطوابي ويتخذ بذلك تلك الحجة الواهية لتبرير ذلك الاعتداء الوحشي.
لقد أجمع من كتب في حوادث ذلك الاحتلال من المعاصرين أو ممن جاءوا في أعقابه على(850/27)
أن نية الاحتلال كانت مبيتة لدى إنجلترا قبل ضرب الإسكندرية بكثير. وقد شاهد المستر بلنت بنفسه الاستعدادات الحربية تجري في إنجلترا منذ شهر يونية سنة 1882م.
إن إلقاء التبعة على إنجلترا مما لا يختلف فيه اثنان وهو ما حققته الحوادث فيما بعد.
ولكن مهلا أيها القارئ العزيز فإن احتلال مصر جريمة أكبر من أن تقترفها يد واحدة كيد عرابي أو كيد الدولة العثمانية أو الخديوي أو حتى يد إنجلترا نفسها.
حقا لقد أخطأ عرابي؛ ولكن، من ذا الذي لا يخطئ؟ وهل يكون خطأ عرابي سببا في إلقاء تبعة الاحتلال بأسره عليه وفي تصويره بتلك الصورة التي لا تليق بهذا الزعيم الوطني المصري الصميم؟ لقد أحس الأستاذ محمود الخفيف أن عرابي مظلوم وأن أعداءه بالغوا في الكيد له والزراية عليه حتى قال: (والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلا ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي فيما افترى عليه من سيئات. كذلك قل أن نجد في رجالنا رجلا كرهه أكثر بني قومه مضللين، واستنكروا أعماله جاهلين بقدر ما كره هؤلاء عرابيا).
ونحن نميل إلى هذا الرأي الأخير لا بدافع التعصب أو الرغبة في إنصاف عرابي ولكن بدافع الرغبة في إنصاف الحقيقة والتاريخ وكلاهما كما تبين لي ينصفان عرابي. وسأسوق من الأدلة التاريخية ما يقف إلى جانب ما كتبه صاحب كتاب (أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه) عسى أن تتغير نظرة المصريين إلى زعيم المصريين.
ولكن، ما هي تلك الحقائق التاريخية؟
الواقع الذي كشف عنه البحث العلمي الحديث أن احتلال مصر كان شيئا مقررا ومرسوما قد اتفقت عليه الدول الأوربية من قبل. لقد تمت حوادث الاحتلال خلال صيف سنة 1882م ولكن. . ولكن الاتفاق على فكرة الاحتلال نفسها كان قد سبق ذلك بكثير.
لقد كانت الوحدة الألمانية وكان ظهور بسمرك عاهل ألمانيا العظيم وأكبر سياسي سيطرت شخصيته على مجرى الحوادث الأوربية في ذلك الحين. وكانت الحرب السبعينية (1870) م فانتصر فون ملكته ودخل الألمان باريس وخرت فرنسا جاثية على ركبتيها أمام جبروت بسمرك والألمان. ولكن بسمرك كان يجمع إلى القوة الحربية دهاء الساسة وحذقهم. فرأى بثاقب نظره أن حزب الانتقام يتكون في فرنسا وينادي بأخذ الثأر من ألمانيا فلم يكن منه إلا(850/28)
أن فكر في شغل أذهان الفرنسيين عن المناداة بالانتقام فوجه أطماعهم خارج القارة الأوربية وأوحى إليهم بتوسيع إمبراطوريتهم الإفريقية. وهكذا أخذ بسمرك يلوح للفرنسيين بضرورة احتلالهم لتونس، ولكن احتلال فرنسا لتونس سيترتب عليه اختلال توازن القوى بينها وبين إنجلترا في البحر الأبيض. وأنتهز ساسة إنجلترا فرصة تساهل بسمرك فرحبوا بفكرة احتلالهم لمصر مقابل السماح لفرنسا باحتلال تونس.
(والواقع أن فكرة احتلال إنجلترا لمصر مقابل احتلال فرنسا لتونس إنما ترجع إلى أوائل عام 1876 حين رأى بعض الساسة الإنجليز أن على إنجلترا انتهاز الفرصة واستغلال الفرص الذي قدمه بسمرك باستيلاء إنجلترا إلى مصر في مقابل تمكين فرنسا من احتلال تونس)
وبدأت الفكرة؛ فكرة احتلال إنجلترا لمصر تتقدم منذ ذلك الحين على يد بسمرك لا لشيء إلا لأنه يريد أن يسكت إنجلترا حين تقوم فرنسا باحتلال تونس.
وفي إبريل سنة 1878 نجد (مونستر) السفير الألماني في لندن يؤيد فكرة احتلال إنجلترا لمصر ويدعو لها كما يتحمس لها في ذلك الحين أيضاً (سولسبري) من الجانب الإنجليزي.
وهكذا تنمو فكرة احتلال إنجلترا لمصر مع فكرة احتلال فرنسا لتونس وتسيران جنبا إلى جنب يؤيدهما ويباركهما بزمارك علل ألمانيا برضائه وبتأييده ونفوذه.
لقد كتب مراسل التيمس إلى جريدته في 20 أبريل سنة 1878م يقول: (لقد روى لي بسمرك بنفسه أنه قال لللورد بيكو نسفيلد حين شاهده لأول مرة أن من صالح إنجلترا أن تتفاهم مع روسيا على أن تدعها حرة في القسطنطينية مقابل إطلاق يد إنجلترا في مصر).
وهكذا أصبح مفهوما من ضمن أحاديث الساسة أن الاتفاق قد تم على هذا التقسيم. وحين أراد ساسة فرنسا السير جديا في مشروع احتلال تونس سعوا إلى الحصول على تأكيد كتابي من إنجلترا حتى لا تعود فتتنكر لما قطعه ساستها من عهود. وقد حصل الفرنسيون على هذا التأكيد الكتابي في 7 أغسطس سنة 1878م. ثم يسعى الإنجليز بعد ذلك بدورهم للحصول على تأكيد رسمي من فرنسا بموافقتها على احتلالهم لمصر فيثيرون المشاكل أمامها في تونس ويقفون عقبة دون القيام باحتلالها. ويتساءل الفرنسيون: (لماذا تلجأ إنجلترا إلى إقامة العقبات أمامنا في تونس؟ إن لها في البحر الأبيض وسوف يكون لها(850/29)
مصالح كثيرة. وسوف نمد إليها يد المساعدة. ولكن هذا التلميح لا يكفي؛ فيضطر وزير الخارجية الفرنسي (سنت هيلير) إلى التصريح (بتفوق المصالح الإنجليزية في نهر النيل وقناة السويس على المصالح الفرنسية) ثم يؤكد في ديسمبر سنة 1880 (أنه على استعداد دائم للتصريح بأن المصالح البريطانية في مصر تفوق غيرها من مصالح أي دولة أوربية أخرى).
وهكذا تقاسمت الدول الأوربية الإمبراطورية العثمانية وهي لا تدري. وبدأ التضامن في التقسيم ينمو منذ عام 1876 م وقام بسمرك بدور القاضي يوزع بالعدل والقسطاس المستقيم؛ يرضى فرنسا حينا ويرضي إنجلترا حينا آخر، ولكن على حساب تلك الإمبراطورية التي كانت تسير بخطى سريعة إلى نهايتها المحتومة. ولقد لاحظنا كيف تبادل المندوبون التصريحات والتأكيدات حتى لا ينتطح فيها عنزان. بل كانت الملكة فيكتوريا نفسها - كما يتبين من خطاباتها - من أكبر مؤيدي مشروع احتلال إنجلترا لمصر وتثبيت أقدامها في وادي النيل.
وبينما كانت الصحافة الإنجليزية تمهد الرأي العام في الداخل لتقبل ذلك الجديد؛ كانت السياسة الإنجليزية - وقد نالت تأييد بسمرك وفرنسا - قد انفردت بالتدخل في شئون مصر لاسيما بعد أن تلقى ممثلو فرنسا في مصر من وزير خارجيتها تعليمات سرية تدعوهم إلى الموافقة على ذلك الوضع الجديد.
وهكذا نجد أن وثائق التاريخ الحديثة قد أثبتت أن فكرة احتلال إنجلترا وجدت منذ أواخر عهد إسماعيل. وأن إنجلترا بدأت تعمل جديا لتحقيقها منذ سنة 1876، وأن ما حدث من حوادث قبل الاحتلال لم يكن إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، فاشتراك الدول في مؤتمر الآستانة لا سيما فرنسا كان تمثيلية رائعة أريد بها التمويه على الدولة العثمانية؛ وقد نجحت تلك التمثيلية نجاحا باهرا، وقل مثل ذك في انسحاب الأسطول الفرنسي من ميناء الإسكندرية قبل ضربها وترك الأسطول الإنجليزي يصول ويجول وحده في الميدان. ولماذا؟ ألم يدع الإنجليز فرنسا قبل ذلك بعام واحد تصول وتجول هي الأخرى بمفردها في ميدان تونس؟!
لذلك لا نذهب بعيدا إذا قلنا أن الاحتلال الإنجليزي لمصر كان سيتم سواء وجد عرابي أم(850/30)
لم يوجد، وسواء قام بحركته أم لم يقم؛ فما كان من الصعب على إنجلترا أن تخلق سببا مباشرا لتلك الجريمة التي اشترك في أعدادها ساسة ألمانيا وفرنسا وأخيرا ساسة إنجلترا.
لقد كان الاحتلال الإنجليزي لمصر وليد السياسة الأوربية ولم يكن نتيجة للحركة العرابية.
فكيف يكون عرابي مسئولا؟ وكيف نتحامل عليه؟ لقد بذل عرابي أقصى ما في طاقته؛ ولو لم يظهر عرابي لظهر مكانه عرابي آخر، ذلك أن عرابي كان يمثل الشعب المصري وما كانت الحركة التي قام بها حركته هو بل حركة الشعب المصري بحسناته ومساوئه في ذلك الحين.
حقا، لقد آن لنا أن ننصف تاريخ عرابي - الزعيم المفترى عليه بحق - وأن ننصف تاريخ الثورة العرابية لا بدافع التعصب لقوميتنا ولكن لوجه الحقيقة والحقيقة وحدها.
أن مسئولية الاحتلال البريطاني لمصر لا تقع إلا على عاتق الدول الأوربية وعلى رأسهم بسمرك.
لقد كانت الدولة العثمانية أشبه بالرجل المريض أو الكهل الهرم. كان الداء قد سرى في جميع أنحائها؛ وكان الضعف قد دب في جميع أوصالها. واتسع الخرق على الراقع فوقفت مكتوفة اليدين لا تنشد النجاة والخلاص إلا في بقاء النزاع والاختلاف بين أعدائها.
فعلى من تقع مسئولية الاحتلال؟!
ألست معي أيها القارئ العزيز في أنها تقع على عاتق بسمرك ذلك الرجل الذي وفق بين المتنازعين فقاموا يتقاسمون ببركة نفوذه وسيطرته تركة الرجل المريض ومكن إنجلترا من احتلال مصر فخرجت من عملية البر بأحسن نصيب؟!
(الإسكندرية)
كمال السيد درويش
ليسانسيه الآداب بامتياز ودبلوم معهد التربية العالي ومدرس
بالرمل الثانوية
وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جامعة فاروق(850/31)
اقهر الحياة. . .
للشاعر الفرنسي أندريه ريفوار
ترجمة الأستاذ علي محمد سرطاوي
انطلق في الحياة امش على الشو ... ك قويا كالمارد الجبار
شامخ الرأس والعزيمة تمضى ... فوق نار الإخفاق كالإعصار
في رحاب الحياة عش شامخ الرو ... ح أبياً يدوس وجهه النضار
احترق في الطموح والمثل الأعلى ... وما في العذاب من إسعار
احترق في الكفاح وافن نضالا ... في صميم الأهوال والأخطار
هكذا بغلب الحياة ويحيا ... ذو جنان في العز والإكبار
يثبت الباسل المظفر فيها ... وعلى ثغره ابتسام احتقار
إن تلاشت أحلام قلبك في يأ ... س فعاود إرجاعها من جديد
أو إذا أوهنت عزيمتك الدنيا ... فجدد عزيمة كالحديد
أو إذا ما طوى أمانيك إخفا ... ق فلا تأس وابتهج في الوجود
خذ جناحاً وطر بما فيك من ... خيبة سعى إلى طموح بعيد
احترق قوة وضعفاً وعزما ... وعذاباً في النار ذات الوقود
احترق صحة وسقما وبؤسا ... وتغلب على جميع القيود
احترق في العذاب فوق أمانيك ... وعش في الحياة عيش الأسود
كن صبوراً على المصائب والهو ... ل ولا تشك من قراع الخطوب
كن شجاعاً وحازماً وأحذر البغي ... وفرج ظلامة المكروب
كن إلاهاً واذكر بأنك إنسا ... ن وإن عشت في ضمير الغيوب
احترق في تجارب الدهر واصبح ... فيلسوف الأوجاع والتعذيب
احترق في لظى الإرادة واحمل ... ضربات الأسى بقلب طروب
ربما دودة وجدت على اللقمة ... قد أفسدت مذاق الرغيف
وسموم في شربة الماء تبدو ... في ثرى كاسها معاني الحتوف
وفتاة في قلبها يذبل الحب ... ويذوى الوفاء في التزييف(850/33)
انبذ الخبز واسكب الماء واهجر ... كل قلب في الحب غير عفيف
احترق صامتاً إباء وصبراً ... واحتمالاً على اللهيب المخيف
احترق عزة ولا تشك خطاً ... وأغلب الدهر في الصراع العنيف
احترق ظامئا وعش تتلظى ... جائعاً في الحياة غير ضعيف
لن تلافى الهوانإلا إذا عشت ... بغير الأناة في الكائنات
واحتقار الحياة لن يتراءى ... لأبى يعرف ما في الحياة
سترى الموت إن زحفت على الأرض ... تُلاقى الحياةَ كالحشراتِ
فأدر وجهك الأبى ولا تنظر ... لغير الخلاّق في الصلوات
وحبيب الفؤاد يصمت أحياناً ... ولو سرت في طريق الممات
احترق وحدة على لهب الآمال ... واصبر على عذاب الثبات
احترق في الصعاب صلباً وحلق ... بجناح الآلام في النائبات
وإذا ما حنت إليك تناديك ... حظوظ من الزمان السعيد
ملؤها العطف والمحبة والإكبار ... للباسل الأبي الودود
ومشى في ركابك المجد والدنيا ... تحييك في خشوع السجود
امش قُدْماً وافتح مغاليق أسرارك ... واحرق ما نلت من تمجيد
احترق ناظراً إلى الهدف الأسمى ... صبوراً على عذاب القيود
احترق ناظراً إلى مطلع الشمس ... صلاة على لسان الوجود
احترق ساعياً لتبلغ في الدنيا ... كمالا يقول: هل من مزيد
(المسيب - العراق)
علي محمد سرطاوي(850/34)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي:
ما كدت أنتهي من قراءة مقالك الرائع عن الأداء النفسي في الشعر العربي حتى وجدتني مدفوعا إلى الكتابة إليك، معبرا لك في حرارة وإخلاص عن إعجابي الشديد بهذا المقال الفريد الذي بلغت فيه الذروة من حيث عمق الفكرة، ورهافة الإحساس، ودقة الشعور، وبراعة الأداء. لقد أديت بمقالك هذا الرائع خدمة عظيمة لمن يريدون أن ينقدوا الشعر والأدب، فدللتهم على الوجهة المثلى التي يجب أيتجه إليها كل من شاء أن يتصدى للنقد الفني المفيد، وأديت به كذلك خدمة عظيمة لقراء الشعر والأدب، فعرفتهم كيف يقرئون الشعر قراءة تأمل واستيعاب وتجاوب، وأديت به فاق ذلك خدمة للشعراء المحدثين حين جعلتهم يدركون أن هناك ناقدا ممتازا يرصد الطريق، ليقيم العاثر، ويوجه المنحرف، وينبذ المعوق، ويشجع المستقيم. وإني لأحمد الله على أن ميدان النقد الأدبي - وهو ميدان خطير الشأن - لم يخل بعد أن أنصرف عنه أمثال طه والعقاد والمازني وهيكل، من أمثال المعداوي وقطب ومندور، مع ما امتاز به الأخيرون من التجاوب مع شعراء الشباب في التفكير والشعور والإحساس.
وقد كنت أحب ألا تجعل كلامك مقصورا على نموذج واحد لشاعر واحد، فذلك من شأنه أن يغمط حقوق الآخرين. وكنت أحب كذلك أن تلتفت في ذلك المجال إلى الشعراء الشبان ممن تجد لديهم النماذج المنشودة للأداء النفسي. . كنت أحب أن تلتفت إلى هؤلاء الشعراء، ليكون هذا الالتفات تحية وتشجيعا لهم من جهة، وتوجيها وإرشاد من جهة أخرى، ولأنهم عدة المستقبل ومعقد الرجاء. أما بعد فقد كنت مشغولا عن القراءة والكتابة بظروف خاصة تتصل بكائنين عزيزين كل منهما أحب إلى من نفسي، ولكن مقالك هذا قد استطاع أن يستأثر بي بعض الوقت فقرأته، ثم استطاع أن يؤثر في نفسي تأثيرا عميقا فكتبت إليك أعذرني إذا لم أستطع أن أحدثك بكل ما لدي بسبب هذه الظروف الخاصة، وتقبل أخلص آيات المودة وأعظم دلائل التقدير من المخلص:
إبراهيم محمد النجا(850/35)
هذه رسالة شاعر يشهد الله أنني أقدره قبل أن ألقاه هذا اللقاء الفكري الأول، ويشهد الله أن تقديري له قبل لقائه كان وليد تلك الومضات النفسية التي طالعتني من شعره فيما قرأت له على صفحات (الرسالة) و (الكاتب المصري). . واليوم يزداد تقديري له وإعجابي به لأن الشاعر الذي يجيد التعبير عن عالم النفس والحياة، ثم يجمع عن هذه الموهبة سلامة النظرة إلى عالم الأدب والنقد، هذا الشاعر جدير بالتقدير والإعجاب!
هذه كلمات لا أريد بها أن تقوم مقام الشعر على كريم تقديره، وإنما أريد بها تقرير واقع تمثل بالأمس تحية من القلب، حتى إذا دعت إليه المناسبة تمثل اليوم في تحية من القلم. . . لقد جاء ذكره مرة على لسان الدكتور طه حسين فأثنى عليه أمامي وأثنيت، وجاء ذكره مرة أخرى على لسان الأستاذ الزيات فأثنى عليه أمامي وأثنيت، وحسب الشاعر الفاضل مثل هذا الذكر الجميل!
بعد هذا أقول للأستاذ نجا إن مقالي عن مشكلة الأداء النفسي في الشعر قد قصدت به إلى غاية ورميت به إلى هدف، أما الغاية فهي عرض المشكلة من شتى نواحيها ومختلف زواياها مع الاستشهاد الذي يقرن بين النقد والمثال، وأما الهدف فهو رسم الطريق لقارئ الشعر وناظمه وناقده على هدى ميزان أقمته وأومن به، فمن شاء أن يأخذ به من هؤلاء جميعا فليأخذ، ومن شاء أن ينصرف عنه فلينصرف. . ولكنني أحمد الله مع الأستاذ الشاعر على أن ميدان الذوق الأدبي - وهو ميدان خطير الشأن - لم يخل من أمثال هؤلاء الذين يبعثون إلي برسائلهم الممتازة تعقيبا على ما أكتب، وحسبي أن يكون من بينهم صاحب هذا الذوق اللماح!.
هذا هو المجال الذي أردت أن أكتب فيه، وهو مجال يحدد جوانب المشكلة وما فيها من قيم، على أن يكون ذلك عن طريق العرض الفني لتلك الجوانب، لا عن طريق الاستعراض النقدي للشعراء ممن يمثلون هذه القيم. . . وإذا كنت قد استشهدت بأبيات لإيليا أبي ماضي فليس معنى ذلك أن إيليا يقف وحده في ميدان الأداء النفسي الذي أدعو إليه، وإنما جاءت أبياته كنموذج كامل لهذا الأداء حتى يستطيع القراء والنقاد أن ينظروا إلى كل إنتاج شعري على ضوء هذا النموذج بالنسبة إلى الشعر العربي قديمه وحديثه. ولعل الأستاذ نجا لاحظ أنني أشرت إلى مدرستين تمثلان هذا الاتجاه في الشعر المعاصر،(850/36)
وذلك عندما قلت إن المدرسة الأولى قد نهض بها بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم شوقي، وإن المدرسة الأخرى قد نهض بها بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي. . . ومعنى ذلك أن هناك شعراء يقفون إلى جانب الشاعر الأول، وأن هناك آخرين يقفون إلى جانب الشاعر الثاني، سواء في مصر أو في المهجر أو في غيرهما من الأقطار العربية.
أما قول الأستاذ نجا بأن الاكتفاء بنموذج واحد لشاعر واحد من شأنه أن يغمط حقوق الآخرين فلا أوافقه عليه. . . يأخي ثق أن الرأي العام الفني بخير، وأن أصحاب المواهب لا بد أن يشقوا طريقهم إلى النفوس والعقول والأذواق، ولا بد أن يصلوا إلى نهاية الطريق وتحت أقدامهم أشلاء الفارغين والمطموسين وكل من تحدثه نفسه باعتراض القافلة! ومع ذلك فقد كنت أود أن أحقق هذه الرغبة الكريمة التي عرض لها الشاعر الفاضل في رسالته، ولكن ضيق المجال قد حال بيني وبين هذه الأمنية من جهة، ولأني أشعر شعورا عميقا من جهة أخرى بأن مشكلة الأداء النفسي في الشعر أجدر بأن يفرد لها كتاب من أن تفرد لها كلمات في مقال، وهذه هي الومضة التي تشع في خاطري منذ أمد بعيد، وتدفعني إلى التفكير في إخراج هذا الكتاب الذي أرجو أن أتناول فيه بالبحث والتفكير مشكلة الأداء في الشعر العربي كله، منذ أقدم عصوره حتى هذا العصر الذي نعيش فيه. . . وعندئذ يمكن أن نتحدث عن الأستاذ نجا وأمثاله من الشعراء المطبوعين.
مجلة (الصياد) اللبنانية تعقب على موضوع السرقة الأدبية:
في العدد (844) من الرسالة كنت قد كتبت كلمة عن السرقة الأدبية التي وقعت بين جدران كلية المقاصد الإسلامية ببيروت، وموضوع السرقة أن هناك طالبا من طلاب تلك الكلية قد سطا على مقال للأستاذ الزيات، فتقدم به لنيل جائزة مالية في مسابقة سنوية تقام بين الطلاب في ميدان الكتابة والخطابة. أما الجائزة فيهبها للفائزين أحد رجال الصحافة المعروفين في لبنان، وهو الأستاذ محي الدين النصولي. . . ولقد حدث أن جازت السرقة على لجنة من المحكمين وظفر الطالب بجائزة، وخرج من المسابقة وهو يحمل وصمتين وينوء بوزرين، هما السطو على أدب الزيات ثم السطو على مال النصولي!
هذا هو موضوع السرقة الذي عقبت عليه من قبل جريدة (صدى الأحوال) اللبنانية، معربة(850/37)
عن بالغ دهشتها من ألا يقطن المحكومون (الجهابذة) إلى أن المقال مكتوب بأسلوب الزيات ويحمل طابعه في التفكير وطريقته في التعبير، ناعتة هؤلاء المحكمين بالقصور وقلة الاطلاع!. . . هذه هي الزاوية التي نظرت منها (صدى الأحوال) إلى لجنة المحكمين، ولكن مجلة (الصياد) قد نظرت إلى اللجنة من زاوية أخرى أكثر عمقا وأوفر طرافة، حين عقبت على الموضوع مستجيبة في هذا التعقيب لما كتب في (الرسالة)، وإليك هذا التعقيب الرائع الذي جاء بالعدد الصادر في 22 سبتمبر الماضي تحت عنوان (محمد العبود أبلغ من الزيات!!):
(في منتهى العام الدراسي الماضي، أقامت كلية المقاصد الإسلامية في بيروت مباراة إنشائية خطابية بين طلاب قسم البكالوريا لنيل جائزة الأستاذ محي الدين النصولي السنوية. وقد جرت المباراة بسلام، ووزعت الجوائز على مستحقيها الثلاثة. وكان الأول السيد محمد العبود والثاني السيد ظافر تميم. ونذكر أن أحد أفراد أسرة (الصياد) كان بين الحضور فكاشف اللجنة التحكيمية بعدم توفيقها في إصدار الأحكام ولا سيما فيما يختص بتفضيل السيد العبود على السيد تميم! وكان الجواب أننا لم نشهد إلا شطرا من المباراة، وهو الشطر الخطابي وقد وضعت العلامات على المقدرة الخطابية وأضيفت إلى العلامات الموضوعة على القدرة على الإنشاء فكانت النتيجة التي رأينا. ولما سألنا أكانت الموضوعات الإنشائية غير تلك التي ألقاها الطلبة في الحفلة الخطابية، كان الجواب لا. وعندئذ أصررنا على استغرابنا واستنكارنا. . . وراحت الأيام تطوي الأيام، إلى أن قرأنا حديثا صباحيا للزميل (شيخ بيروت) يميط فيه اللثام عن جريمة أدبية. . . فقد ثبت أن السيد ظافر تميم زور في المباراة الإنشائية، وبدلا من أن يكلف نفسه عناء عصر الدماغ وتنميق العبارات والتعرض لأخطار النحو والإملاء، أغار على المنشئ المصري المعروف الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة فأختلس منه قطعة عنوانها (وإنما الأمم الأخلاق. . .)، طرز بها ورقة المسابقة وذيلها بإمضائه الكريم. وبوسعنا القول إن صاحبنا الفتى يحسن الاختيار حقا في مادة الأخلاق!!
وبعد أن أماط (شيخ بيروت) اللثام عن هذه السرقة الأدبية - غير المؤدبة طبعا - نصح للفائز الثاني بإعادة الجائزة المالية التي قبضها لتضاف إلى مبلغ الجائزة النصولية في العام(850/38)
المقبل. ولئن انتهت المسألة عند هذا الحد في نظر (شيخ بيروت) فهي لم تنته عند أحد محرري الصياد؛ ذلك أن الفضيحة تتناول لجنة التحكيم أيضا، وكانت تتألف من الأساتذة حسن فروخ وموسى سليمان والدكتور جميل عانوتي. فإذا غفرنا للجنة تقصيرها في كشف السرقات حين كانت تحقق وتدقق في أوراق المسابقة الإنشائية، فكيف نغفر لها تفضيل إنشاء الطالب محمد العبود على إنشاء الأستاذ الزيات، وهو علم من أعلام البلاغة والبيان في العالم العربي)؟!
هذه (قفشة) بلغت الغاية في الطرافة ودقة الملاحظة، وإن كاتبها المحرر الفاضل ليستحق عليها كل تهنئة، ومهما يكن من شئ فلا عجب أن يكون محررو (الصياد) من هذا الطراز وأستاذهم صديقنا الصحفي النابغ سعيد فريحة!
دراسة الأديب علي ضوء حياته الخاصة:
هذه رسالة من (دمشق) يطلب إلي فيها مرسلها الأديب الفاضل عدنان المطيعي أن أكتب بضعة فصول نقدية عن بعض الشخصيات الأدبية في مصر، من أمثال الأساتذة العقاد والزيات وطه حسين والحكيم وتيمور وأحمد أمين والمازني وهيكل ثم يحدد هذه الرغبة بأن تكون الدراسة النقدية غير مقصورة على شخصياتهم الفنية التي تطالعنا من إنتاجهم الأدبي، وإنما تنفذ إلى أعماق شخصياتهم التي تطالعنا من واقع الحياة، حتى يستطيع القراء أن يربطوا بين شخصيتين في سبيل الكشف عب أثر الحياة الخاصة في توجيه المواهب الذاتية وتلوين الملكات الأدبية عند كل كاتب من هؤلاء الكتاب. . . إن ردي على رغبة الأديب الفاضل هو أن هناك عقبات تعترض طريق هذه الدراسة التي يود أن أقوم بها على صفحات (الرسالة)، منها أن حياة بعض الناس الخاصة لا تخلو من جوانب يفرض علينا الذوق ألا نتعرض لها ما داموا على قيد الحياة، قد تكون هذه الجوانب ذات أثر كبير في تلوين المادة الفكرية، ولكنني أرى - وقد يعترض بعض الناس - أن الكشف عن هذه الجوانب لا يحل لدارس الشخصيات وكاتب التراجم، إلا بعد أن تنقطع الصلة بين أصحابها وبين الحياة،. . . عندئذ تصبح كل حياتهم حقا مباحا للدارسين، وعندئذ يحل للتاريخ الأدبي أن يقول كلمته! ومن هذه العقبات أيضاً أنني أعرف بعض هؤلاء الأدباء معرفة كاملة وأعرف بعضهم الآخر معرفة عابرة، وفيهم من لا أعرفه على الإطلاق، فأنا مثلا أعرف(850/39)
من الفريق الأول الزيات وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد أمين وتيمور، وأعرف من الفريق الثاني العقاد والمازني حيث لقيت العقاد أول لقاء وآخر لقاء في جريدة (الأساس) وكذلك الأمر فيما يختص بالمازني رحمه الله في جريدة (أخبار اليوم) أما الكاتب الذي يمثل الفريق الثالث فهو الدكتور هيكل!. . . وإذا كنت أعرف بعض الجوانب الخاصة في حياة هؤلاء الذين لم تهيئ لي الظروف مصاحبتهم، فهي معرفة عن طريق الغير أي عن طريق النقل والاستماع، ولعل الأديب الفاضل يوافقني على أن الأمانة القلمية تفرض علينا ألا نطمئن كثيرا إلى هذا الفريق، إذا ما أردنا أن نؤرخ الأدب على الأساس الذي أشار إليه!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
أقول للجندي الفاضل محمد عبد العال (بالقاهرة) إن مأساتك التي قصصتها علي ليس مكانها (الرسالة) ولكن مكانها هناك في (الأهرام) حتى يمكن أن تظفر باهتمام المسئولين فأكتب إلى الصديق الأستاذ أحمد الصاوي محمد ولك مني أن أوصيه خيرا بشكواك. وأقول للأديب الفاضل محمود أمين (بأسيوط) إنني في انتظار مقالاتك. وأقول للأديب الفاضل عبد العظيم الحميلي (بالجيزة) إنني شاكر لك جميل عنايتك وصادق اهتمامك ومقدر لك هذه اللمحات الطيبة التي تبعث بها إلي من حين إلى حين. وأقول للأديب الفاضل حماد محمد أحمد (بفرشوط) إن الجنة التي سألتني عنها في رسالتك هي الجنة التي وعد بها المتقون!
أنور المعداوي(850/40)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
استقبال العضوين الجديدين في مجمع اللغة:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي، باستقبال حضرتي الأستاذين أحمد حسن الزيات وإبراهيم مصطفى، اللذين انتخبا وصدر المرسوم الملكي بتعيينهما عضوين عاملين بالمجمع، مكان المغفور لهما أنطون الجميل باشا وعلي الجارم بك.
بدأ الاحتفال بإلقاء الدكتور أحمد أمين بك كلمة استقبال الأستاذ إبراهيم مصطفى، وقد استهلها بالحديث عن بدأ الصلة بينهما حينما كانا طالبين بالأزهر يحفظان المتون ويدرسان الأدب الذي كان يدرس في الأزهر على هامش العلوم في ذلك الزمان. وقد اهتم الدكتور أحمد أمين في هذه الكلمة بالتحدث عن النحو وجموده، وبناء قواعد اللغة العربية على أساس (العامل) ورأى الأستاذ إبراهيم مصطفى في (هدم العامل) وعقب على هذا وذاك بأن عيب النحويين جميعا أنهم يريدون أن يخضعوا اللغة للمنطق، واللغة من وضع العاقل والأحمق والمتعلم الجاهل، ثم جاء العلماء واهتموا بها على أساس المنطق فأتعبوا أنفسهم دون طائل. وضعها الصغار وتعب فيها الكبار. . .
وبعد أن افاض الدكتور في ذلك، قال إن الأستاذ إبراهيم مصطفى ليس نحويا فحسب، وإنما هو قوي الأسلوب والخيال وله قدرة على وضع القصة الصغيرة، إلا أن السلك الذي يربط بين ذهنه ويده مصاب بعطب. . . ولم يبين ما يريد بهذا العطب.
وقد كان حظ النحو وما تبعه من الطرائف في كلمة الدكتور أحمد أمين أكثر من حظ الأستاذ إبراهيم مصطفى نفسه. فكل ما ذكره عنه حفظه المتون في الصغر ورأيه في نظرية العمل، ثم الوصف الإجمالي الأخير الذي ختمه بتلك الإشارة التي لا ندري أهي دعابة أم نقد، حتى النظرية النحوية هدمها!
ثم ألقى الأستاذ إبراهيم مصطفى كلمته، فشكر الدكتور أحمد أمين وأشار بلباقة واختصار إلى بعض ما ذكره، ثم تطرق إلى الحديث عن سلفه المرحوم علي الجارم بك، وقد وجه معظم الحديث عنه إلى جهوده في النحو من حيث تيسيره وتقريبه. وهكذا كان الأمر فيما بين الدكتور أحمد أمين والأستاذ إبراهيم مصطفى أكثره نحو. . . على ذلك النحو.(850/41)
ثم وقف الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك فألقى كلمة استقبال الأستاذ الزيات، فقال إنه التقى به لأول مرة من نحو أكثر من ثلاثين سنة، زميلين في التدريس بمعهد أهلي، فوجد فيه شابا أنيقا في زيه الشرقي، حييا يفيض علما وأدبا، وأشار بفضله في تجديد تعليم اللغة العربية وآدابها، ومنهجه الجديد في تاريخ أدب اللغة بكتابه (تاريخ الأدب العربي) وأفاض الأستاذ أبو حديد في بيان أثر الأستاذ الزيات في أدب الجيل، ونوه بترجمته (آلام فرتر) و (رفائيل) قائلا بأنها الترجمة المنشودة للمشاركة الأدبية العالمية. ثم حلل ناحية في أسلوب الأستاذ الزيات وهي الخاصة بوضع الكلمة في موضعها سواء في الترجمة والإنشاء. واستطرد بعد ذلك إلى بحث مستفيض في استعمال الكلمات في المقامات المختلفة، وأتى بأمثلة من الشعر العربي وحللها مبينا ما فيها من ظلال التعبير النفسية. وهذا الموضوع: مناسبة التعبير للحال وما يضفيه من ظلال نفسية خاصة، موضوع قيم، ولكنه شيء آخر غير الإتيان بالكلمة في موضعها.
وعلى أثر ذلك نهض الأستاذ الزيات فألقى كلمته، ويراها القارئ في صدر هذا العدد من (الرسالة) ولست أقول فيها إلا أنها دلت عليه دلالة واضحة إذ قدم نفسه بها خير تقديم.
بقيت في النفس ملاحظات عامة، أردت أن أتغاضى عنها، ولكنها تلح علي، متذرعة بأن لها هدفا وأنها ذات موضوع، على حد التعبير الذي ذاع عن معالي رئيس المجمع، ذلك أن بعض الأعضاء الذين تكلموا في الحفل، لم يراعوا الصحة اللغوية في استعمال بعض كلمات وضبط أخرى، ومثل هذا إن أمكن التغاضي عنه في غير مجمع اللغة، فإنه لا يقبل من أعضاء المجمع وهم رجال اللغة. مثال ذلك ما ذكره الأستاذ إبراهيم مصطفى عن جهود الجارم في أعمال المجمع، ومنها (القاموس الوسيط) يقصد (المعجم الوسيط) والفرق بين المعجم والقاموس معروف.
أمينة:
هي امرأة فرنسية، تزوجها الشيخ إبراهيم، وسماها (أمينة) على اسم المرحومة أمه لحبه إياها.
والشيخ إبراهيم رجل من أغنياء إحدى القرية المصرية، يهتم بتربية الخيل، ويقوم عليها عنده ابن خالته الشاب الوسيم (محمد) الذي يفتتن بجمال أمينة وتفتتن هي أيضاً به، فهي(850/42)
فتاة في ميعة الصبا وزوجها شيخ يكبرها بعشرات السنين.
وتعود ابنة الشيخ إبراهيم (عايدة) من القاهرة إلى القرية لقضاء العطلة المدرسية، فلا تستريح أمينة زوج أبيها لقدومها، ويضايقها انصراف زوجها إلى ابنته وعطفه عليها. وينشأ حب صامت بين عايدة وبين محمد، ولكن هذا يستمر في علاقته الآثمة بأمينة.
وتساور الشيخ إبراهيم الشكوك في محمد. وتعمل عايدة على أن تجنب أباها الوقوف على حقيقة الصلة بين أمينة ومحمد، منعا لحدوث ما يخل بسمعته وشرفه، ويؤدي ذلك إلى أن تظهر في موقف مريب مع محمد فيطردهما من المنزل، فيلجأن إلى منزل أخت الشيخ إبراهيم وزوجها الشيخ عبد المحسن، فيتزوجان ويعمل محمد عند طبيب بيطري بالقرية، ويعيش الزوجان في سعادة يظللهما الحب المتبادل ويسخط الشيخ إبراهيم على ابنته لمسلكها وزواجها من محمد السائس، ويقبل على زوجته أمينة ويمعن في تدليلها والإغداق عليها.
وتلتقي أمينة بمحمد فتعمل على إغرائه فيأبى أولا ثم لا يلبث أن يعود معها إلى ما كانا فيه. وفي خلال ذلك يجمح جواد من جياد الشيخ إبراهيم فيجري وراءه بالعربة التي تنقلب في الترعة في مكان بعيد عن القرية بحيث لم يدر أهله أين مكانه.
ويذهب محمد مرة إلى أمينة فيجدها جثة، ويقبض عليه ويتهم بقتلها، كما يتهم أيضاً الخادم (ضبش) الذي كان يحبها وهي تنفر منه. وأخيرا يظهر الشيخ إبراهيم راقدا في فراش عند أحد معارفه، ويفضي إلى المحقق الذي ذهب إليه بأنه اختفى على أثر الحادث الذي وقع له، وجعل يتجسس على زوجته حتى تحقق أنها تخونه فقتلها. وبعد هذا الاعتراف فاضت نفسه.
تلك هي قصة فلم (أمينة) الذي عرض أخيرا في سينما رويال بالقاهرة، والذي قالوا عنه إنه التقت فيه مواهب الشرق بمواهب الغرب. فقد أنتجه وأخرجه المخرج الإيطالي جوفريدو إليساندريني، ومثلت فيه الممثلة الإيطالية آسيا نوريس (أمينة) ويوسف وهبي (الشيخ إبراهيم) ورشدي أباظه (محمد) وسميحة توفيق (عايدة) وسراج منير (الشيخ عبد المحسن) وحسن البارودي (ضبش).
والحق أن المخرج نجح في تنظيم حوادث الفلم ومناظره، وتحريك الممثلين، وإبراز(850/43)
مواهب بعضهم وخاصة سميحة توفيق، فقد ظهرت هذه الفتاة في بعض أفلام لم يحسن المخرجون فيها تخريجها، أما في هذا الفلم، فقد برزت ملكاتها الفنية بحيث استطاعت أن تقف إلى جانب آسيا نوريس، لا تقل عنها إن لم تكن فاقتها. وقد أحسن باقي الممثلين تأدية أدوارهم، وكان يوسف وهبي مندمجا في دوره، هادئا، لم يقتل في الفلم غير واحدة!
ثم ننظر في قيمة هذا الفلم الذي تضافرت عليه جهود عالمية. . . لقد تزوج رجل مصري قروي بفتاة أجنبية، فلم يستغل هذا الزواج لاتخاذ موضوع منه، فلم يصور باعتباره زواجا مخفقا لاختلاف العادات والطبائع والأمزجة بين الزوجين، بل جرى الأمر على أن الزوجة تعيش في كنف زوجها مرتاحة إلى ما يغدقه عليها، سادرة في تغفله والارتماء في أحضان الشاب الذي تبغي فيه عوضا عما تفقده في الزوج، وهذا لا يتوقف على أن تكون الزوجة أجنبية أو غير أجنبية. ويظهر أن المسألة لا تعدو تدبير دور لآسيا نوريس تظهر فيه مع يوسف وهبي. وكذلك لم أجد معنى لأن يحب الخادم (ضبش) الدميم المسن، أمينة الفتاة الرائعة الحسن، فالإنسان يدرك بغريزته وفطرته ما يلائمه وما لا يلائمه في مثل هذه الأمور. ولكن ذلك كان افتعالا غير طبيعي قصد به ترتيب الحوادث والتمهيد أن يقتل الزوج زوجته في النهاية.
والمخرج نجح حقا من الناحية الفنية، وأخرج الفلم نظيفا من التهريج والإسفاف، ولكنه أخفق في تصوير البيئة المصرية، فهذه القرية التي تجري فيها حوادث الفلم، أهلها أشبه بحي من الأحياء البلدية في القاهرة منهم بالفلاحين في كل شيء حتى لهجة الحديث، فلم أسمع أحدا يتكلم باللهجة الريفية غير أخت الشيخ إبراهيم. وقد اهتم المخرج بإبراز مناظر معينة مما يدل على الطابع المحلي، فجاء بعضها غير صادق مثل منظر الهرمين اللذين يظهران بجانب القرية، ولا نعلم قرية في مصر بجانبها هرمان على الهيئة التي ظهرت في الفلم وجاء بعض تلك المناظر في غير مناسبة مثل الخيل التي تعدو براكبيها في مفتتح الفلم واختتامه من غير ارتباط بحوادث البدء والنهاية، وكل ما في الأمر أن المخرج يريد إظهار فلاحين مصريين يجرون بالخيل. . . ولا ضرر من ذلك غير أنه حشو لا فائدة منه.
ومهما يكن من شيء فإن الفلم أصغر وأتفه من أن يكون ثمرة لالتقاء المواهب العالمية. . .
عباس خضر(850/44)
البريد الأدبي
الأمانة العلمية في الجامعة:
قرأت ما أثاره الزميل الصديق الدكتور جمال الدين الشيال في عدد الرسالة الغراء الصادر في 10 أكتوبر سنة 1949 حول الأمانة العلمية في الجامعة، ولم أعجب لما جاء به الزميل، فقد عادت بي الذكريات إلى أيام تلمذتي بالجامعة، فتذكرت ذلك الأستاذ المعمم وقد جاءنا يرفل في جبته وقفطانه، حتى إذا عدنا من عطلة العيد وجدناه قد ارتدى زي المطربشين، وإن كانت ملامحه وسحنته تدل على أنه من الشيوخ المعممين. . . ذكرت ذلك الشيخ وهو يطلب منا أبحاثا علمية ليقرأها ويصححها ثم يعيدها إلينا، وكنا في ذلك الوقت حريصين أشد الحرص على أن نرضي الأساتذة بهذه الأبحاث العلمية، فكنا نسعى إلى المكتبات ونبحث في أمهات الكتب حتى نفوز برضى الأستاذ عن البحث الذي نقدمه له، ولكن ذلك الأستاذ - حفظه الله - بخل علينا بأبحاثنا ولم يشأ أن يردها إلينا، ولم نلبث أن رأينا هذه الأبحاث قد ضمت بعضها إلى بعض وقسمت إلى أبواب وفصول، وأصبحت كتابا يحمل اسم الأستاذ العزيز، وإن كنا نحمد للأستاذ أنه غير أسلوب هذه الأبحاث وجعلها بأسلوب واحد. أما الآراء، فقد بقيت كما هي آراؤنا والنصوص التي استندنا إليها في أبحاثنا بمراجعها لم يتغير شئ منها. . .
وذكرت أيضاً ذلك البحث الذي صدرت به مجلة إحدى الهيئات العلمية، وكيف قام أحد الطلاب يصيح في وجه أستاذه الذي نشر البحث باسمه قائلا: إني أعطيتك هذا البحث منذ شهر، فلم يسع الأستاذ إلا أن يعترف أمام الطلاب أنه استفاد من البحث الذي قدم له، ولكنه أصر الأمر في نفسه، وانتقم من الطالب في آخر العام فرسب الطالب المسكين!
وهذه زميلة تتقدم برسالة ماجستير وتعطي بحثها لأستاذها المشرف، ومكث البحث زهاء ستة أشهر عند الأستاذ، وأخيرا أخذته منه، فإذا به يفاجئنا بأن آراءها تتفق تمام الاتفاق مع آرائه، فلما سألته: أين نشرت آراؤه هذه؟ أجاب باسما: إن كتابي سيظهر هذا الأسبوع وفيه هذه الآراء! فأجابته ساخرة: الحمد لله أنك أطلعت على آرائي ولم أطلع على آرائك!
وذكرت ذلك الأستاذ الذي كان عضوا في لجنة امتحان إحدى رسائل الدكتوراه، فإنه بعد المناقشة احتفظ بنسخة الرسالة لنفسه، فإذا تقدم طالب آخر يعطف عليه أشد العطف، أعطاه(850/46)
الرسالة الأولى التي لم تكن طبعت بعد، فإذا بالطالب يستعين بهذه الرسالة استعانة كلية دون أن يشير إلى ذلك، وأكبر دليل نلمسه أن الرسالة الأولى كان الاعتماد الأكبر فيها على مخطوطات لم يرها أحد في مصر لأنها في حوزته، ولم يطلع عليها أحد، ولا توجد هذه المخطوطات عند أحد سواه، فإذا بالرسالة الثانية قد امتلأت بنصوص أخذت من هذه المخطوطات. . . ونذكر كيف حضر صاحب الرسالة الأولى مناقشة الرسالة الثانية، فلما رأى هذا السطو تحدث مع أعضاء لجنة الامتحان في ذلك، فكانت النتيجة أن هدده الأستاذ قائلا: أتريد أن تعمل على فشل الامتحان؟!
ولعله من المؤلم أن تحدث هذه المهزلة أمام اثنين من كبار المستشرقين، ومن الطريف أن أحد أعضاء لجنة الامتحان أستفهم عن هذه المشادة، ومع ذلك لم يفعل شيئا!
واذكر أيضاً أن أستاذا سافر إلى أحد الأقطار فدعي لإلقاء عدة محاضرات في الإذاعة، فأرسل برقية إلى أحد المعيدين ليكتب له سلسلة هذه المحاضرات ويرسلها له بالبريد الجوي، وتقاضى الأستاذ مكافئته من الإذاعة في حين أن المعيد قد لقي بعد عودته جزاء سنمار!
واذكر هذا الأستاذ المشرف على بعض رسائل الماجستير يصرح في مجلس الكلية أنه لم يقرأ هذه الرسائل ولكنه يوافق عليها. . . واذكر ذلك الأستاذ الذي سطا على أحد أعداد سلسلة (اقرأ) وأخذ يملي منه محاضرات على الطلاب دون أن يشير إلى الكتاب زاعما أنها له، ولم يفطن إلى أن الطلبة كانوا اسبق منه إلى قراءة هذا العدد!
ولعل أهم هذه الأحداث التي تتعلق بالأمانة العلمية في الجامعة أن أحد المدرسين إذ ذاك ألقى محاضرة بدار الجمعية الجغرافية الملكية عن رأي جديد في النحو، فإذا بهذا الرأي يظهر في كتاب لزميل له دون الإشارة إلى صاحبه، وإذا بهذا الأستاذ النحوي يغضب ويخاصم زميله ويستشهد بالآية القرآنية: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة). . . يشير بذلك إلى كثرة كتب زميله. . .
ولا ينسى الزميل الصديق الدكتور الشيال قصة هذه الكتب التي يوضع عليها اسم أستاذ من الأساتذة ومعه اسم تلميذ من تلاميذه على أنهما اشتركا في تأليف هذا الكتاب أو ذاك، فنحن نعلم من الذي ألف الكتاب ومن الذي استفاد منه. . .(850/47)
هذه كلها ذكريات يعرف بعضها الدكتور الشيال، ويعرف بعضها زملاء الدكتور الشيال، لعل فيها ما يخفف عنه ثورته للأمانة العلمية في الجامعة. . .
(أبو رشيق)
إلى الأستاذ أنور المعداوي:
نحن نتعقبك في تعقيباتك المتعة، ويعجبنا فيك عاطفة متأججة، وإيمان بما تكتب، وصدق فني في تعبيرك، ونكبر فيك صراحة واضحة، وقلما قويا تقذف به في صدر الزيف والبهرج والباطل، فنزداد تعلقا بك، وحبا لقلمك ونشعر بهزة عنيفة تنفذ إلى مسامع القلب، ومسارب الروح.
ومقاييس الشعر التي تحدثت عنها، هي مقاييس صحيحة، ومعايير صادقة، ودراسة قصيرة (إيليا أبو ماضي) على ضوئها كانت دراسة جميلة، وأسلوبا في النقد والتعليق يعد أسلوبا طريفا لأنه ينصب على القيم والمعاني والأحاسيس والتجارب والظلال، ولا يحفل بالشعوذة اللفظية، والبهرج الزائف؛ ولكني لا أوافقك بل أعتب عليك عتبا كثيرا حينما تصب حكمك القاسي على الشعر العربي القديم جملة واحدة، هذا التراث الذي نفخر به على الزمن هذا التراث الذي جعلته خواء من الروح والعاطفة. إنك بهذا الحكم تهدم حضارة، وتبعثر أمجاد أمة، وأنا أعيذك من هذه النظرة، وأرجو أن تراجع نفسك، وتستشير ذوقك وحسك مرة أخرى، وأنا موقن أنك لن ترضى لنفسك، أن تسم الشعر العربي بهذه السمات (شعر السطوح الخارجية) شعر يشعرك بوجود (الفراغ الداخلي) إن الشعراء كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية).
لا لا يا أخي. ألم تقرأ شعر المتنبي؟ اقرأه في السيفيات والكافوريات فتراه شعرا منبثقا من أعماق النفس، هو في ظاهره مديح، ولكن وراء هذا معان كلها أثر للإحساس النفسي والانفعالات الحزينة تارة، المريرة أخرى، الساخرة كثيرا. واقرأ شعر ابن الرومي في رثائه ومدحه وهجوه فهو صادر عن نفس حساسة شاعرة، وألفاظه شفافة موحية. واقرأ في كل عصر من عصور الأدب، فستجد شعر النفس، وصدق الفن في أكثر ما تقرأ. ولست الآن بسبيل الاستقصاء، وضرب الأمثال من شعر الشعراء، وكلام النقاد؛ فإنما هي كلمة(850/48)
عابرة اكسر عليها قلمي حتى اسمع رأيك مفصلا واضحا.
هذا شئ، وهناك شئ آخر، لقد جعلت (شوقي) زعيم مدرسة في حسن الأداء النفسي، لأنه يملك الصدق في الشعور وفي الفن، وجعلته قرينا لشاعر آخر.
والمعروف أن المدرستين مختلفتان في الكثير من السمات والوجوه؛ فشوقي في رأي يحفل بالصدق الفني، ويتأنق في عرض الصورة البيانية، فطابع الصدق الفني أغلب في شعره من الصدق الشعوري، وعلى النقيض من ذلك الشاعر (إيليا أبو ماضي).
والذي يهمني بعد، أن توضح لي رأيك في مكان شوقي بين الشعراء، ومكانة شعره في نفسك.
ولصديق الروح تحية ملؤها الحب والإعجاب والتقدير. . .
(دمياط)
عبد المنعم سلمان مسلم
أليس هذا مصريا؟
كثيرا ما سمعت هذه الجملة تلوكها ألسنة الشبان وغيرهم عندما يعرض لهم شخصا تزل قدمه في الخطأ، وترى الواحد منهم يرسلها بكل بساطة كأنه يعتبر بذلك المصري علما على الأخطاء.
هذا الأمر ليس شيئا تافها، إنما هو خطب جلل يأسف له كل وطني يدرك ما ينطوي عليه من معنى في نفوس الكثيرين من أبناء هذا الوطن.
إن ذلك معناه الشعور بالنقص بل معناه الإيمان بهذا النقص، معناه فقدان الكرامة الشخصية والاعتزاز القومي وانحطاط النزعة القومية إلى حد تصل معه إلى هذه الدرجة من الضعة.
إننا لو افترضنا جدلا وجود بعض النقائص في المصري فليس لنا مطلقا أن نتخذها مبعثا للسخرية والتهكم؛ لأن ذلك يعني إيماننا بوجودها؛ وأن مجرد إيمان كهذا يعتبر أخطر وانكى من العيب نفسه أن لم يكن هو عين العيب. . . إن الوهم في ذاته من أخطر أسباب المرض، فالواهم يخلق لنفسه المرض وهو صحيح. وهو بذلك يضاعف من مرضه بالوهم إن كان مريضا، ولعل معظم الأمراض العقلية والعصبية ترجع إلى ذلك الوهم الذي لا(850/49)
أساس له في الواقع، والمصري إذ يتوهم في نفسه النقص والضعة لا شك أنه بذلك سيخلق في نفسه النقص إن كان منزها عنه وسوف يضاعفه إن كان مشوبا بالرشاش منه.
إن الفلاسفة الألمان يوم أعلنوا أن (ألمانيا فوق الجميع) وإن الإنجليز يوم اعتبروا عنصرهم أسمى العناصر، وكمال أتاتورك يوم جعل شعبه يؤمن بأن التركي اطهر الأجناس، كل أولئك لم يكونوا داعين إلى عصبية قومية عمياء ولم يعتبروا قط أنهم أسمى البشر فعلا، إنما كانت غايتهم أن يبثوا في نفوس مواطنيهم الشعور بالكرامة والعزة ليصلوا من ذلك الشعور إلى مراتب الكرامة والعزة الحقيقتين.
وإن الله تعالى حين أعلن في القرآن الكريم مبدأ (كنتم خير أمة أخرجت للناس) لم يكن - سبحانه وتعالى - بالطبع يدعو إلى عصبية دينية لأن القرآن نفسه قد حوى أسمى مبدأ في المساواة تامة بين البشر جميعا، والقرآن في ذلك يبتغي أن يجعل المسلم يعتز بنفسه ودينه ويشعر بالكمال والقوة فوق سائر الناس فيدفعه ذلك الشعور إلى العمل الذي يتفق معه ويؤدي إلى جعله حقيقة واقعة.
وهكذا تخلق الأمة القوية من مجرد الشعور القوي بالقوة والأنفة بينما تنحط الأمم مهما كانت قيمتها يوم يستولي عليها الشعور بالنقص ويبتليها الله بانحطاط الروح المعنوية وضياع العزة القومية.
أخي المصري. . . إننا لم نصل بعد إلى هذه الدرجة المنحطة من الضعة والتفاهة حتى نوهم أنفسنا بذلك، ومن الجرم أن يعتقد المصري في نفسه ذلك النقص، فنحن بخير ويحق لنا أن نعتز بقوميتنا، فإننا مهما بالغنا في ذلك الاعتزاز فنحن أهل له. نحن شعب ناهض بلا شك، وإن كان الاحتلال لا زال يعوق نهضتنا فليكن لنا من ثقتنا في أنفسنا السلاح الذي نحطم به ذلك العائق حتى نحقق ما نراه في أنفسنا من عزة وكرامة وقوة سجلها لنا تاريخنا الغابر وهي في سبيل أن يسجلها لنا التاريخ الراهن، إذا كنت ناقصا في بعض الشيء يا أخي فلتعمل لتكمل في نفسك ذلك النقص، ولا تستشعر النقص في نفسك، فالشعور بالنقص هو النقص عينه، بل قل (مصرنا فوق الجميع) ولسوف تصبح كذلك إن آجلا أو عاجلا فليس سبيل السيادة بمقصور على أمة أو شعب إنما هو مشاع للعاملين.
السيد علي الشوربجي(850/50)
كلية الحقوق(850/51)
القصص
زائرة العرافة
عن الإنجليزية
ترجمة الأديب سيد أحمد قناوى
في غرفة قليلة الضوء تقع على جانب المعرض العام. . . أثاثها ينحصر في مائدة ومقعدين وبعض أشياء أخرى إن دلت على شيء فإنما تدل على ما يعانيه ساكنها من بؤس وفقر. . . وعلقت في واجهة الغرفة لافتة كتب عليها هذه العبارة (مدام لاسترا قارئة الكف. استفسارات عن مسائل الحب والزواج والمال على أحدث القواعد العلمية). . . في هذه الغرفة المتواضعة جلست السيدة (لاسترا) تنصت في ضجر وضيق إلى أصوات الضحك والمرح التي كانت تنبعث في أرجاء المعرض خارج غرفتها. . . فقد كانت تلك الليلة رأس السنة الجديدة، فأرسلت أفكارها بعيدا تستعيد ماضي لياليها وتستعرض أيام بهجتها وسرورها. . . حتى قادها تفكيرها في النهاية إلى ليلة تماثل هذه الليلة في البهجة والمتاع واللهو. . . كانت هي فيها تختال بين الرجال حتى انتابتها نزوة غرام عارضة أطلقت فيها للشيطان العنان. . . فكانت ليلة فاصلة بين حياة الزوجية السعيدة وحياة الشقاء التي تحياها الآن. فما جنت من وراء تلك النزوة العارضة - وا أسفاه - غير الحسرة والخيبة والمرارة.
لقد كانت السيدة (لاسترا) في أيام سعادتها على جانب كبير من الحسن والبهاء: كان لها شعر أسود وعينان عسليتان حالمتان قبل احتراف هذه المهنة البغيضة إلى نفسها كما كانت زوجة لأستاذ علم الآثار الشهير (جيمس كارستيرز) تعيش معه في بحبوحة ويسر، لا تعرف معه للضيق معنى، ولا تذوق من الفاقة ما تتجرع الآن غصته. . . وعند وقوع حادث الغرام الطائش حملت على طلب الطلاق من زوجها فكان لها ما أرادت، وإن هي الآن لا تقاس منه غير العسر ومرارة الذكريات. ولن تنسى ما عاشت قول (جيمس) لها وهو يجيب إلى طلب الطلاق:
(إن بحثت عن أبغض إلى قلبي، تجدينه الطلاق منك. . . ولكن إذا كان في الطلاق جلب(850/52)
لسعادتك وهنائك فواجبي يحتم علي أن أضحي بحبي وقلبي بلا تردد).
وكم تنفجر عواطفها، وتهتز أعصابها حينما تذكر أنه تزوج بغيرها طلبا للخلف. . . فقد تزوج بعد طلاقه منها من فتاة تدعى (أليس دين) وهي فتاة آية في الجمال وقد وصفها الناس بأنها شقراء الشعر نحيفة القد أنيقة الهندام.
جلست مدام (لاسترا) فريسة لهذه الذكريات تنهش قلبها وتستبد بنفسها فما أنقذها منها سوى قدوم زائرة جاءت لاستطلاع حظها. . . وسرعان ما اعتدلت العرافة (لاسترا) في مجلسها، وسوت شالها فوق رأسها وشبكت يديها وأسندت مرفقيها إلى المائدة فقد لاحظت في السيدة الزائرة من الهيبة والوقار ما حملها على الاهتمام بأمرها، والتطلع إلى مكنون سرها. .
ومن عجب أن هذه (الزائرة) لم تدخل كغيرها في اضطراب وعجلة ورغبة ملحة في استطلاع مخبآت الغيب، بل هي على النقيض من ذلك، إذ أنها دخلت في تؤدة ووقار وهدوء، تظلل محياها الشاحب وشعرها الأشقر قبعة عريضة الأطراف، ولم تلبث أن نزعت قفازها دون أن تبس بكلمة، وكان الإطراق رائدها، ومسحة من الحزن تعلو جبهتها. . . فدل مظهرها على ما تحمله على أمر عظيم وهم دفين. وأخيرا قدمت يدها اليسرى فإذا هي تتحلى بخاتم من الفضة مرصع بحجر من الزبرجد. . . لم تكد السيدة (لاسترا) تبصر هذا الخاتم حتى خفق قلبها عنيفا حتى كاد أن ينخلع من صدرها وإن كتمت مع ذلك شعورها حتى لا تثير شك زائرتها. . فإن هذا الخاتم الزبرجدى هو قرين العقد الزبرجدى الذي تحمله هي حول عنقها، وكلا الخاتم والعقد من مقتنيات العالم الأثري (جيمس كاستيرز) جلبها من تنقيبه في الآثار المصرية القديمة، وليس لهما في عالم الحلي نظير؛ ولا ريب في أنه أهدى الخاتم إلى زوجته الثانية كما أهدى العقد إلى زوجته الأولى. . . بكل هذه الخواطر رفعت السيدة (لاسترا) عينيها إلى وجه الزائرة تلتمس من تقاطيعها ما يؤيد ظنونها ويحقق خواطرها. . . فإذا هي تتذكر أوصافها التي سمعت عنها:
شقراء الشعر دقيقة الملامح أنيقة الهندام؛ في نحو الثامنة والثلاثين من العمر، وبالإجمال لم يبق عندها من شك في أنها هي (أليس دين) المرأة التي انتزعت منها زوجها بعد طلاقها منه. . . وهكذا مضت الزائرة (أليس) في صمتها فبادرتها السيدة (لاسترا) بقولها:
- لقد كنت تعملين على المسرح. . . أما الآن فأنت قد اعتزلت التمثيل وأصبحت زوجة!!.(850/53)
فأومأت الزائرة إيجابا. فاستطردت السيدة (لاسترا). .
- وقد تزوجت منذ تسع سنوات فأومأت الزائرة مرة أخرى دون أن تبدي أدنى دهشة لما تسمع من دقة التفاصيل وقالت بصوت مشوب بالنحيب:
- إنه تزوجني لكي ينسى امرأة أخرى، فلم يبق شك في نفس السيدة العرافة. . . فهي الآن تواجه خليفتها عند زوجها، فخارت قواها وتبددت أنفاسها. . . واستسلمت للتفكير العميق الذي أبرز الآن صورة (جيمس) في اطواء الماضي. . ولم تلبث حتى قالت لمنافستها:
- لا بد أن تكوني سعيدة مع زوجك.
- أني سعيدة حقا.
- إنه يحوطك برقة وحنو ندر أن يكون لهما مثيل في هذه الدنيا فيجدر أن تكوني لذلك أهلا، ولا تشكي في إخلاصه فهو مثال طيب للرجل الجدير بالحب والاحترام. فقالت الزائرة في صوت اقرب إلى الهمس:
- صدقت فيما تقولين!
- إن حياتك مشوبة ببعض المتاعب والقلاقل، وإن لزوجك مشاكله الخاصة فإن وجدت منه بعض الهفوات أو ساءك منه شيء، فاذكري أن نوابغ الرجال لا يستطيعون أن يوفقوا بين نبوغهم وبين توافه الأمور. . . إنهم. . . ولكن السيدة كفت عن الاسترسال في حديثها خشية الافتضاح بذكر هذه التفصيلات الدقيقة.
فردت (أليس) في حدة:
- لقد وجدت المتاعب التي تشيرين إليها، ولكنها انتهت ومضت. انحازت العرافة (لاسترا) إلى التفاؤل قياما بالواجب حيال زائرتها ثم أردفت:
- سيكون الخير. . وستسير الأمور على أحسن ما تكون. . ويومئذ لا تنسي أن تخبريني. وهنا وقفت الفتاة (أليس) بوجه متجهم وقالت:
- كل شيء بخير كما قلت لك. . وهذا هو سبب حضوري إليك. . . إنه يريدك إلى جانبه يا (أنا كارستيرز) أنه لم ينقطع لحظة عن التفكير فيك وعن محبته لك.
فهبت السيدة (لاسترا) عند سماعها هذه المفاجأة التي لم تكن في حسبانها. . ووثبت واقفة كالمصعوقة وهتفت:(850/54)
- كيف عرفت مكاني؟. . وماذا جئت إلي - أيتها الماكرة - أنت من دون الناس جميعا؟.
- لأنه يجب أن تعودي إليه، فأنت ملاكه وأنت حياته. . ولا أستطيع أنا ولا أية فتاة أخرى أن تسد الفراغ الذي أحدثته في قلبه.
- لا يمكن. . لا يمكن هذا. . وأنت بلا شك تعرفين أن هذا ضرب من المحال!
- إنه الآن في مسيس الحاجة إليك أكثر من أي وقت مضى. فإن عدت له أديت ألي خدمة أذكرك بها على الأرض وفي السماء.
- لكن كيف أعود إليه وقد ربط بينك وبينه حبل الزوجية. محال أن أعود فأفرق بينكما، وربما أتجنى بذلك عليك، وأنا أحب أن أموت مضحية بحبي، ولا أفرق بين زوجين سعيدين فتراخت الزائرة (لاسترا) وسكبت دموعا غزيرة وأخذت تنتحب طويلا ثم رفعت رأسها وغمغمت وكأن صوتها صادر من مكان سحيق. . .
- إنه يحبك يجب أن تعودي إليه. . ولا أستطيع أن أقف بين قلبين متحابين.
- ولقد تحققت من أن (جيمس) سوف لا يكون سعيدا هانئا إلا في ظل رعايتك. . . فكوني له على حبه لك معينة، ولتجعلك الأيام عونا له من بعدي، فلم يبق لي الآن في دنيا الناس نصيب. . ثم صمت قليلا وحركت لسانها بكل تثاقل وهي تقول: وداعا يا (جيمس). . وداعا يا سيدتي. . ثم خرجت تجر قدميها في سكون وصمت.
شعرت (لاسترا) العرافة بجو الغرفة باردا، فأظلمت الدنيا أمام عينها وسقطت مغشية عليها. . . ولما استفاقت بعد ساعات طويلة أخذ جسمها يرتعد بشدة. . . وساورها خوف شديد. . . فقد كان صدى كلمات الزائرة (أليس) لا يزال يتجاوب في أنحاء الغرفة. وخاصة وهي تستحثها على العودة إلى (جيمس). . وقد كانت لا تزال هذه العودة أمنية قلبها ورجائها الوحيد في الحياة. . . ولكن كيف السبيل إلى هذه العودة وقد خالج قلبها هم جديد. . وهو أمر الزائرة (أليس) وفجأة سمعت طرقا شديدا على باب حجرتها. . . فظنته أحد الزوار فقامت متثاقلة وفتحت الباب. . . وما أشد دهشتها حينما بدا (جيمس) بمحياه الباسم وبادرها بقوله:
- أهذه أنت يا (لاسترا) ما أسعدني من رجل!.
وكان تفكير (لاسترا) ى يزال عالقا (بأليس) بالرغم من رؤية (جيمس) فسألته قلقة:(850/55)
- هل رأيت زوجتك (أليس)؟
- حمقاء (أليس) فقد انتحرت منذ لحظة قصيرة ولست أعرف لذلك من سبب سوى نفور بدا عليها من أيام.
والآن فما أسعدني إذا قبلتني مرة أخرى لك زوجا أعيش بقية أيامي في سعادة وهناء. ثم قبلها قبلة طويلة كانت فاتحة لحياته الزوجية الجديدة.
(عطبرة - سودان)
سيد أحمد قناوى(850/56)
العدد 851 - بتاريخ: 24 - 10 - 1949(/)
في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
خطبة الاستقبال
للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك
سيدي الرئيس. سادتي.
عندما علمت بأنني سأقوم مقامي. هذا أستقبل حضرة الأستاذ أحمد حسن الزيات، شعرت في نفسي غبْطة وارتياحاً، لا لأني سأجد فرصة للتحدث عن زميل كريم وأديب كبير بمناسبة اختياره عضواً في المجمع فحسب، بل لأني ذهبت مع الذكرى إلى ماض بعيد أتأمل فيه صوراً عزيزة لاحت لي مع صورة إلى الصديق الذي عرفته ونحن بعد عند الأفق الشرقي من الحياة وما زلت أنعم بصداقته إلى اليوم.
عرفت الأستاذ الزيات منذ خمس وثلاثين سنة، وكنا عند ذلك زملاء في التدريس بمعهد أهلي ضم نخبة من صفوة الأصدقاء الفضلاء هم اليوم من أعز من تفخر البلاد بهم.
رأيت منه أول ما رأيت شاباً أنيقاً في ثيابه الشرقية الجميلة، وكان وديعاً كما هو اليوم، نبيلاً في حديثه، هادئ الصوت إذا تكلم، يغضي حياء وهو يفيض جداً وعلماً وأدباً.
ثم زادت معرفتي به فعلمت أن لحياته قصة - قصة شاب اتجه إلى العلم في الأزهر الشريف وتعلق بالأدب فتلقاه على أعذب موارده، ثم تعلم الفرنسية ودرسها على أكبر أساتذتها، وتلقى دراسة الحقوق في مدرسة الحقوق الفرنسية، فكان إعجابي به لا يعدله إلا عجبي منه، إذ كان مثالاً فذاً بين من عرفت من المعلمين. وجمعتنا الصداقة وقربت بين قلوبنا، فكنا نجد في عملنا معاً من المتعة ما جعل صورة ذلك المعهد الأهلي عالقة على مر الأيام بقلوبنا.
وأنا إذ أنظر اليوم إلى الوراء عبر هذه السنوات الطويلة كأنني مسافر وقف حبنا على ربوة يتأمل الفدافد التي قطعها وهي تبدو تحت بصره غامضة يغطيها ستار من الضباب يحجب شعابها الدقيقة ومساربها الصغيرة ولكنه يجمعها في لحظة واحدة في منظر رائق يحرك القلب بروائه.
وقد كان الأستاذ الزيات أحد أفراد قلائل خدموا البلاد أكبر خدمة في التعليم وفي التأليف، كما أنه واحد ممن أحدثوا في اللغة العربية مناهجها الجديدة في التفكير، وأبدعوا لها أساليبها(851/1)
الطريفة في الكتابة والتعبير. ولن نستطيع أن نعرف مقدار ما أدى للبلاد واللغة من الخدمات هو وأمثاله من رواد الأدب والفكر إلا إذا عدنا بالذاكرة إلى أوائل هذا القرن العشرين.
كانت مصر في أول هذا القرن لا تزال خامدة راكدة من أثر ما أصابها من الصدمات في القرن الماضي. ثم دب النشاط فيها شيئاً فتحركت أول حركتها بطيئة ضعيفة وسرى فيها دم الحياة على هينة كما يسري أول نسيم الفجر بعد ليلة طويلة من ليالي القيظ. وكان من أول مظاهر هذا العهد الجديد إعادة الكرامة إلى اللغة العربية الشريفة: بعد أن قضت رَدَحاً من الزمن غريبة في ديارها قد غلبتها الأمية على أمرها ونحتها تفاهة الحياة عن عرشها.
وفي هذه الحقبة الخطيرة من حياة اللغة العربية كان الأستاذ الزيات وصحبه يجاهدون لنصرتها في تلك الدار المتواضعة المطلة على ميدان بيبرس.
وجد أن الأدب يلقن لتلاميذ المدارس على طريقة لا غناء فيها، إذ كانت الدروس لا تزيد على ذكر أسماء الشعراء والكتاب، يساق أحدها بعد الآخر سرداً، ويورد لكل منهم بيت أو بيتان مما قال، وسطر أو سطران مما أنشأ، ولعل هذا لا يكون من خير ما قال أو كتب، ثم يوصف بعبارة مدح عامة تكاد تتكرر بعد كل من تلك الأسماء، حتى لكأني بالطلاب يخرجون من دراستهم على أن الشعراء والكتاب صور تعيش في الوهم في عالم لا علاقة له بهذه الحياة، بل لقد حكم عليها بأن تنزوي في معاهد التعليم ذاتها، فكانت تدرس كمادة ضئيلة من مواد الدراسة، على حين كانت اللغة الأجنبية تحتل مكان الصدارة في سائر الدروس.
وبدأت الأنظار تتجه إلى اللغة الكريمة وارثة التراث العظيم نلتمس فيها ومنها غذاء الفكر وروى القلب، ولكنها كانت في حاجة إلى من يترجمونها.
كان لا بد للغة العربية عند ذلك من أن تجد من بنيها من يجعلونها تستقل بنفسها، وتضطلع بحملها، وتؤدي رسالتها. فكانت أحوج ما تكون اللغة إلى من يطوِّعونها لأغراضها، ويعيدون إليها مرونتها وقوتها. كانوا جميعاً أعظم الكتاب والشعراء شأناً وأعلاهم قدراً، يغوصون على المعاني فيخرجون منها بالدرر، ويبدعون في البلاغة إبداعاً يجب على الطلاب أن يؤمنوا به وإن لم يروا آية تدل عليه. فلم يكن فيما يدرس من آداب اللغة ما(851/2)
يجعل لأحد منهم خصيصة تميزه في فكره أو في أسلوبه، ولا يجعل لأحد منهم مسلكا سلكه رائداً أو سار فيه مقلداً. بل لم يكن الطالب يعرف أي هذه الأسماء جاء أولا، وأيها جاء أخيراً، ولا أيها الذي ابتدع فكان له فضل السبق إلى الطريق وأيها الذي اتبع وتفنن فكان له فضل التهذيب والإبداع والتمام؟!
فكان للزيات فضل السبق إلى تأليف كتاب جديد في الأدب العربي سار فيه على نهج واضح، فبين معنى الأدب ومناهجه ومدارسه وتحدث فيه عن كل كاتب وكل شاعر حديثاً طريفاً يصوره فيه تصوير الأحياء الذين عاشوا على هذه الأرض وأصابوا من ضعف البشر وقوتهم ومن سموهم وإسفافهم.
ولست أنسى ساعة دفعني إعجابي بذلك الكتاب إلى أن تحدثت عنه في حماسة الشباب على مسمع من بعض الزملاء، فحسب أحدهم - عفا الله عنه - أنني أقصد التعريض به وأكيل المدح لصديقي لكي أغيظ به لا لكي أعبر عن رأي خالص، فهبت علي منه عاصفة شديدة من الحنق كانت بمثابة احتفال رائع بميلاد ذلك الكتاب الجديد.
وقد مضى الأستاذ الزيات في سبيله بعد ذلك يؤلف في الأدب والنقد، وكان له أثره المشكور في توجيه دراسة الأدب، وفي مقاييس النقد، ومؤلفاته في هذا الباب غنية عن أن أعيد ذكرها في هذا المقام.
ولكن جهاده في خدمة اللغة العربية من هذا الوجه لم يكن كل جهاده الأدبي، بل لقد أحسب أنه لم يكن الجانب الأكبر من نشاطه، فهو مترجم القصتين الخالدتين: (آلام فرتر) و (رفائيل)، والأولى للأديب الألماني العظيم جوت، والثانية للأديب الفرنسي الكبير لامارتين. ثم هو صاحب القلم الدائب الذي يمتاز بالتجويد وحسن البيان يختص به صحيفة (الرسالة) منذ نشأتها سبعة عشر عاماً من عمرها الطويل إن شاء الله.
فإذا كنا اليوم نرى في بلادنا حركة أدبية نامية، ومواهب فنية تتطلع إلى الكمال وتسير نحوه قدماً، فما ذلك إلا من آثار جهاد هذا الجيل العامل - جهاد الأستاذ الزيات وصحبه الذين شقوا سبيلهم ما بين الصخور الوعرة والصحاري المجدبة، وأسالوا عصارة قلوبهم ليحيلوا الوعر المجدب إلى خصوبة وارفة الظلال، وليهيئوا للمستقبل آفاقاً جديدة أرفق جواً وأعذب مورداً.(851/3)
وإذا كان بعض شباب الأدباء يندفعون أحياناً مع القلق في أحاديثهم عن شيوخ الأدب، فإن عليهم أن يذكروا أن هؤلاء الشيوخ قد أهدوا إليهم من الثروة الفنية ما لم يسعدهم الحظ بمثله في بدء حياتهم، وأن على الشبان واجباً لا يستطيعون أن يتخلوا عنه، وهو أن يبلغوا من الإجادة الفنية أعلى مرتبة، إذ لا عذر لهم في التخلف وقد شق الشيوخ طريقهم من قبل ومهدوها لهم وعبدوها
وقد أضاف الأستاذ الزيات بترجمته لفرتر ورفائيل أثرين عظيمين إلى التراث الفني للغة العربية. ولا أعدو الحق إذا قلت إنهما قد أصبحا قطعتين من الأدب القومي.
وقد نسأل أنفسنا: أكنا أشد حاجة إلى التأليف أم إلى الترجمة في مثل حالنا؟ وقد يقال: إن الترجمة عن اللغات الأخرى تنقل إلينا مشاعر قوم غير قومنا، وتعبر عن خلجات نفوس غير نفوسنا. وقد يقال: إن الشعوب الناهضة أجدر بأن تصور مشاعرها وتتعمق ضمائرها، وأن تنشئ أدبها صغيراً حتى ينمو معها ويبلغ مع الأيام مرتبة التمام في التعبير عن آلامها وآمالها.
ولكن الأدب العالمي تراث مشترك بين الشعوب جميعاً، والأديب النابغ لا يكتب لأمة من الأمم دون الأخرى، فهو إنسان يكتب لبني الإنسان، ومن حقه وحق الإنسانية عليه ألا يعد في أمة من الأمم أجنبياً. وقد كانت اللغة العربية في أمس الحاجة إلى جهاد الأستاذ الزيات في ترجمته، بل إنها ما تزال إلى اليوم في حاجة إلى تأمل هذا المثال الذي ضربه في الترجمة والحرص على احتذائه عند نقل الآداب الأجنبية. ما زلنا إلى اليوم ننقل من تلك الآداب ولن نستغني عنها في يوم من الأيام، بل إن حاجتنا إلى الترجمة تزداد كلما زادت ثروتنا الأدبية اتساعاً وغزارة، وكلما زاد اتصالنا بالفكر الإنساني في أنحاء الأرض قوة ولكن هذا النقل لا يضيف شيئاً إلى ثروتنا الفنية إلا إذا توفر عليه من كان له أهلاً من خاصة الأدباء الذين يملكون ناصية البيان.
قال الدكتور طه حسين بك في مقدمته لترجمة آلام فرتر (والترجمة في الفن والأدب ليست وضع لفظ عربي موضع لفظ أجنبي، إذ الألفاظ شديدة القصور عن وصف الشعور في اللغة الطبيعية فكيف بها في لغة أخرى. إنما الترجمة الفنية والأدبية عبارة عن عملين مختلفين كلاهما صعب عسير: الأول أن يشعر المترجم بما شعر به المؤلف وأن تأخذ(851/4)
حواسه وملكاته من التأثر والانفعال نفس الصورة التي أخذتها حواس المؤلف وملكاته إن صح هذا التعبير. والثاني يحاول المترجم الإعراب عن هذه الصورة والإفصاح عن دقائقها وخفاياها بأشد الألفاظ تمثيلا لها وأوضحها دلالة عليها.
وخلاصة القول أن المترجم يجب أن يجتهد ما استطاع لا أن ينقل إلينا معنى الألفاظ التي خطتها يد المؤلف بل في أن ينقل إلينا نفس المؤلف جلية واضحة تتبين فيها من غير مشقة ولا عناء ما أثر فيها من ضروب الإحساس والشعور).
وقد وفى الأستاذ الزيات حق الترجمة بما لا مطمع بعده لمستزيد؛ فكانت عنايته باللفظ ودقة أدائه، لا يعدلهما إلا عنايته بالتركيب وبلاغة تعبيره.
وهو ممن يعرفون للألفاظ حقها. وقد بين رأيه في هذا الأمر بياناً وافياً في كتابه (دفاع عن البلاغة) إذ قال:
(وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر عليها اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة.
وللكلمات أرواح كما قال موباسان وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد إليها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعةوالوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة؛ وذلك في الجهاد الفني غير قليل).
ولا شك في أن الأستاذ قد أصاب في هذا القول لب الحقيقة ووضع به أول حد للبلاغة.
وإذا كنت أحب أن أضيف إلى هذا القول شيئاً فذلك أن أخلص منه إلى نتيجة. فاللفظ كما قال لا يزيد على أن يكون جماداً ما بقي في المعجم، ولن تدب فيه الحياة إلا إذا وضع في موضعه من العبارة فأدى المعنى الذي يقصده الكاتب منه. ولن يستطيع كاتب أن يقحم لفظاً على غير المعنى الذي تعود أن يمثله. بل أنه لن يستطيع أن يعيد الحياة إلى لفظ إلا إذا(851/5)
كان قد اتخذ من قبل صورة بعد صورة جعلته أهلا لأنيعبر عن المعنى الذي يريده الكاتب. فالاستعمال يخلع على الألفاظ هالة من المعاني التي لا تستطيع المعاجم أن تصورها، وبراعة الكاتب إنما تظهر في ترويض اللفظ حتى يلقي على العبارة كل ظلال معناه فيمكنه من إثارة الشعور الذي يريد إثارته في نفوس القراء إذا ما أدركته الأبصار ووعته الأسماع.
ومن الألفاظ طائفة تقبع جامدة بين صفحات المعاجم قد حاول اللغويون أن يحددوا المعاني التي فهموها منها إذ كانت حية تؤدي واجبها في التعبير والبيان. ولكنها بقيت هناك دفينة مدة عصور طويلة لم تنبعث فيها الحياة في كتاب ولم يستخدمها أحد في بيان معنى من معاني الحياة. فمن عمد إلى إعادة الحياة إلى هذه الألفاظ لم يأمن أن يقحمها في غير مادتها فتبقى جامدة ميتة لا تبعث في أحد معنى ولا شعوراً.
فأجد الألفاظ بالتعبير الصحيح الفني هي أقربها إلى الحياة في استعمال أهل هذه الحياة.
ومن الكتاب من يذهب إلى أن من الألفاظ ما هو شريف ومنها ما هو مبتذل.
ولا شك في أن هذا صحيح من وجه واحد، فالسر في شرف الألفاظ أو ابتذالها ما هو إلا تاريخ حياتها السابقة وما خلعه عليها الاستعمال من ظلال المعاني في التراكيب التي استخدمت فيها والصور التي اختصت بأدائها.
ولكن الشرف لا يقوم باللفظ من أجل غرابته أو ضخامة جرسه؛ فما ذلك سوى شرف زائف يشبه شرف السوقي الذي يعمد إلى غرائب الثياب ليخلع على صورته ما يجذب إليه الأنظار. فمن الألفاظ ما يعده بعض الكتاب كريما فإذا عمدوا إلى استخدامه في بيانهم بقي في عزلة لا يؤدي المعنى المقصود منه أو يبقى نافراً شامساً يضيع جهد الكاتب هباء.
والأديب إذا كان صادق الحس ممتلئ القلب من المعنى الذي يريد أن يعبر عنه لا يستخدم في عبارته لفظاً إلا وهو يقصد من ورائه صورة.
وليس من السهل على المقلد أن يخلع على أسلوبه الجلال بأن يستعير ذلك اللفظ في عبارته، بل أن ذلك يعرضهلأنيخطئ البيان إذا لم يكن في اختياره للفظ منبعثاً عن إحساس صادق يهديه سبيله. ففي هذا الإحساس وصدق التعبير عنه يكمن الإعجاز في الأداء الفني. هذا الإحساس الصادق هو الذي هدى شوقي إلى تعبيره الرائع إذ قال:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوان(851/6)
فهذا البيت وإن كان يفيد في جملته أن الحياة الإنسانية زائلة فانية يحمل فوق ذلك فيضاً من الأحاسيس الدقيقة التي تدرك من ظلال المعنى. فدقات قلب المرء لا تكون إلا مع العاطفة المشبوبة والأشجان الثائرة. ووحي الشاعر يحمله في سرعة البرق إلى تأمل بطلان الحزن وإلى أن كل شيء زائل حتى هذه الآلام الشديدة التي تنزلها الكوارث الفادحة، والحزن وإن كان شديداً عند فقد الأحبة يحمل معه خاطرة أخرى أكثر تحريكا للقلب من الحزن نفسه، وذلك أن كل شيء فإن، وأن الوجود دائب على تقريب الإنسان من الفناء لحظة بعد لحظة في غير توقف ولا هوادة.
وقال شاعر آخر:
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقي خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس بالليل خاليا
فما بين هذه الألفاظ هالات مختلفة من المعاني وهي سر ما تحدثه من الأثر في النفوس. فهذا المحب يستغشي وليس به نوم؛ وهو يخرج من بين الجلوس فجاءة كما يفعل من كان مضطرب الخاطر لا يأنس إلى المجامع الصاخبة؛ وهو يطلب خيال الحبيبة ليلقى خياله؛ وهو يحدث نفسه إذا ما خلا إليها - أليست هذه صورة رجل قد سلب لبه واختل عقله ونسي كل شيء في الحياة إلا صورة الحبيبة التي استولت على فؤاده؟ فهو لا يخبر الناس بحقيقة يريد أن يطلعهم عليها، بل يرسم صورة لما أصابه من الاضطراب والقلق والخيل.
ولأضرب مثلاً قصيراً آخر للدلالة على أن شرف الألفاظ كامن في ظلال معانيها، وأن هذه الظلال لا يستطاع نقلها في تعسف من عبارة إلى أخرى.
قال الأبيرد اليربرعي في رثاء صديق اسمه (بُريد):
أحقاً عباد الله أن لست لاقياً ... بريداً طوال الدهر ما لألأ العفر
فهو يسأل في لهفة أحقاً لن يرى صديقه مرة أخرى وأنه سوف يقضي سائر أيامه وحيداً محروماً من صحبته وإيناسه. ولكنه لا يقول في ذلك أنه لن يراه ما طلعت الشمس ولا ما هبت الريح ولا ما انعقد السامر في الحي، بل يقول أنه لن يراه طوال الدهر ما لألأت الظباء العفر بأذنابها. فأين وجه البلاغة هناك؟ أليس ذلك أنه كلما تذكر صديقه عادت إليه ذكرى ساعات المتعة الصريحة القوية التي كان يحسها في صحبته إذ يخرجان معاً إلى(851/7)
الصيد، حتى إذا ما لاحت لهما الظباء العفر تحرك أذنابها وثب قلباهما طرباً وسددا إليها السهام حتى يظفرا بصيد منها ثم يجلسان معاً يطربان سائر يومهما بما أصابا من لذة الصيد والفتوة؟ فلو أراد كاتب آخر أن يستعير ذلك اللفظ في تعبيره عن الألم لفقد صديق حميم لم يكن يخرج معه إلى صيد الظباء في الأيام الصافية لكان جديراً بأن يخطئه التوفيق. فليس هذه الألفاظ بعينها التي تخلع البلاغة على عباراتها وإنما هي ظلال المعاني الخفية التي جعلت لتلك الألفاظ دلالة وأكسبتها شرفاً. ومن الألفاظ الأخرى ما لا يقل في الأداء روعة عنها إذا لم يزد عليها في التعبير عن الحسرة للمتعة المفقودة في مواطن أخرى. فالصديق الذي كان يحس المتعة في صحبة صديقه إذ يمرحان على شاطئ البحر مثلاً لا يزيد على أن يكون سخيفاً إذا رثى صديقه قائلاً (أحقاً أني لن أراك طوال الدهر ما لألأ العفر) وإنما البلاغة في أن يقول مثلاً (ما لمعت أمواج البحر الفاترةُ في أيام الصيف الوديعة) فإذا كان الصديقان ممن يرتادون مجاهل الصحراء معاً أو يجولون بين الغابات العاتية، كان الأجدر بمن يريد أن يعبر عن حزنه لفقد صاحبه أن يقول (أحقاً لن أرى صديقي ما هبت الرياح بين الأغصان، أو ما غابت الشمس وراء الكثبان.
ويمكن أن نخلص من هذا إلى أن خير الألفاظ وأشرفها ما كان جديراً بتأدية المعنى واضحاً في غير عسر، وما كان فيه ظلال من المعاني توحي بالأثر النفسي الذي يريد الكاتب أن يبعثه في نفس قارئه. وذلك لا يتأتى إلا إذا كان اللفظ حياً تحيط به هالة من المعاني يستمدها من الاستعمال في الحياة. وإذا كانت الكلمات غريبة بعيدة عن الاستعمال كانت أحرى بالتقصير عن تأدية حق البلاغة في التعبير.
وقد سار الأستاذ الزيات على هذه السنة في أسلوبه سواء أكان ذلك في ترجمته أمفي إنشائه. غير أنني أقول في شيء من التردد أنه يحاذر أن يستخدم لفظاً يظنه سوقياً أو يظن أن القارئ يراه سوقياً. فهو إذا تحدث عن الماء البارد قال الماء الخِصر، وإذا ذكر عبوس الوجه قال ابتساره وهو يقول: لو عَرفَت لهذا الخطب لتبدد يأسها، يقصد أن يقول لو صبرت للخطب وتجلدت ويقول: اليوم وجدت بي إقهاء عن الطعام؛ وانماث قلبي كما ينماث الثلج؛ وفرقتهم عُدواء الدار. وإني أرى للوزير صَوْرة إلي منذ زمن طويل. وما أظنه يعمد إلى هذا إلا لغاية مضمرة في نفسه؛ فقد رأى بعض الكتاب إذا ترجموا قطعة من(851/8)
آيات الفن أسفّوا في اختيار ألفاظهم بدعوى التسهل، وما هم من السهولة في شيء سوى التقصير عن شأو البلغاء؛ فإنهم لا يختارون السهل الفصيح ولا يجعلون اللفظ في موضعه الذي خلقه الله له، بل يقحمون الألفاظ في غير مواضعها فتنفر منهم ولا تجود لهم إلا بصور تافهة تضيع لب المعنى وتشوه المشاعر العالية التي يدعون أنهم ينقلونها. فهذا التحري الذي يتحراه الأستاذ في اختيار ألفاظه ليس سوى احتجاج على من يقحمون أنفسهم فيما لم يكونوا له أهلا. على أن الأستاذ الزيات مع هذا التخير لألفاظه سهل واضح عذب في الإسماع دقيق الدلالة على معناه.
والآن أختم كلمتي كما بدأتها بالترحيب بالأستاذ الجليل والابتهاج بالعودة إلى مزاملته في هذا المجمع الموقر. وأسأل الله تعالى أن يسدد خطاه وخطانا في خدمة لغتنا العربية الشريفة.
والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد فريد أبو حديد(851/9)
صرخة العبقرية!
للأستاذ راجي الراعي
هزَّني أمس وأنا أتنقل في دنيا الجبابرة صراخ هائل عنيف كاد يمزق الأثير ويهتك حجاب الأفق فأسرعت إليه فإذا هناك ستة عباقرة يستجيرون بالسماء والأرض، وكأنهم مجموعة آفاق ماطرة وبراكين ثائرة تختلط فيها الحمم المشتعلة بالسيول الهتانة فسألت: ما بكم أيها المنتحبون الثائرون ومن أنتم؟ فكشفوا لي صدورهم فإذا هي تحمل هذه الفظائع:
- أنا جائع واسمي (هوميروس)!
- أنا ظمآن واسمي (فرجيل)!
- أنا عريان واسمي (ديوجينس)!
- أنا أعمى سجين واسمي (المعري)!
- أنا مهشم الجسم واسمي (غاليله)!
- أنا يا عباد الله في الشارع وقد طردني المالك ولا بيت لي آوي إليه واسمي (سبينوزا)!
ففار دمي وأطلقت من أعماق الروح صرخة حمراء مخيفة اهتزَّ لها ضمير الزمان، وهجمت وفي جبيني حمى الانتقام على الخبازين، وجمعت ما لديهم من الخبز وطرحته أمام (هوميروس) صائحاً: كل أيها الجائع، إن خبز الخبازين هو لك لأنك تُغذِّي الخلائق.
وهرعت إلى الجبال وأطلقت الينابيع أمام (فرجيل) صائحاً: اشرب أيها الظمآن فهذه الينابيع هي بعض ما تدفق بها وحيك وإلهامك.
وتصديت للبلهاء المرتدين أفخر الحلل ونزعتها عنهم صارخاً: إن (ديوجينس) الفيلسوف عريان فتخلوا له عن حللكم أيها البله المغتصبون. .
ووثبت إلى الشمس وانتزعت منها ألف شعاع وأسرعت بها إلى (المعري) ليستعين بها، ويرى بعينه الشمس التي تضطرم في عبقريته. .
ورجوت من الخالق أن يوقف دورة الأرض احتجاجاً على تعذيب (غاليله) الذي قال بها ولم يؤمنوا به. .
وشهرت سيفي على الملاَّكين وحملقتُ مزمجراً: افتحوا أبوابكم (لسبينوزا)، أنه أحق منكم ببيوتكم فهو المالك الحقيقي، المالك الأكبر، مالك العقول والقلوب. .(851/10)
وتنفس أبطالي الصعداء وراحوا يقبلونني قبلة العبقرية والوفاء
أيها الناس، أيها الناس! إن أبطالكم يموتون من الجوع والظمأ والعري والظلم وهم مفاخر تاريخكم وعناوين أمجادكم. . .
إن الأمة التي تقتل نابغها جوعاً لا يجوز أن ينبت الزرع في أرضها. .
إن الأمة التي يموت فيها الفن والفنان ظمأ لا حق لها في الماء
إن الأمة التي تبقي فيلسوفها عرياناً يمزق ثوبها التاريخ. .
أيها الناس إن الإنسانية التي تفخرون بها قامت على سواعد الكتاب والشعراء والفلاسفة والفنانين والمفكرين الذين تشق سيوفهم كثافة الدهور وتترنح بذكرهم الأجيال. .
أيها الناس، أيها الناس! اعترفوا بالجميل وكونوا إنسانيين عادلين. .
راجي الراعي(851/11)
صور من الحياة:
زوجة تنهار!
للأستاذ كامل محمود حبيب
هب الفتى من فراشه - لدى مطلع الفجر - يستقبل هبّات النسيم اللينة الرقيقة ويستمتع بأنفاس الصبح الندية وهي تعابث فلول جيش الليل المتدافعة نحو الغرب في رهبة وفزع. ووقف يتأمل ماء النيل وهو ينسرب متدفقاً إلى غير غاية، ويرنو إلى الأشجار الباسقة على الضفة الأخرى، وإن أغصانها المتعانقة لتترنح في فتور وتراخ كأنما تجاهد لتلقي عن نفسها لباس النوم الكثيف. وأحس الفتى - وهو مكانه - بالقوة تتدفق في أعصابه وبالنشاط يمرح في إهابه وبالنشوة تسري في دمه، ونسى يوم أن كان طفلاً رطيب العود لين العظم مسلوب القوة واهي الإرادة وقد أصابه اليتم والفقر في وقت معاً، ففقد أباه صغيراً ليعيش إلى جانب أمه وحيدين في ركن من دار، ونسى يوم أن كان صبياً تضنيه المسكنة وتفريه الذلة، يحس وطأة الشظف ولأواء الضيق، يتوارى - أبداً - عن أترابه خشية أن تقتحمه عين وهو في أسمال بالية وضيعة، وخيفة أن يناله لسان سليط وهو يقضم كسرة خشنة تافهة. ونسى يوم أن صار شاباً ينطوي على نفسه في تخاذل وهوان لأنه لا يستطيع أن يتطاول إلى مكانة رفاقه وهو خاوي الوفاض صفر اليدين. لقد كانت أمه تستفرغ وسع الطاقة لتدفع ثمن مكانه في المدرسة ثم يصيبها البهر والإعياء فلا تستطيع أن تحبوه بالجديد من اللباس ولا اللين من العيش. . . فعاشت إلى جانبه تدفعه إلى الغاية التي تصبو إليها نفسها وتصبر هي على الجوع والعري في رضى وإيمان.
أما الآن فقد تخرج في مدرسة المعلمين العليا وعين مدرساً في مدرسة (كذا) الابتدائية، فهو يستطيع أن يحبو نفسه بالكريم من الطعام والشريف من اللباس في غير عنت ولا إرهاق، والدنيا رخاء. فراح يتأنق في مأكله وملبسه ومسكنه ويغدق على نفسه من أفانين المتعة ما أعجزه أن يناله في عمر الفاقة والمتربة. وأحس اللذة والسعادة في حياته الجديدة لا يشوبهما إلا أنه فقد أمه. . . القلب الوحيد الذي يتوثب حناناً وعطفاً ويفيض شفقة ورحمة. فعاش من بعدها وحيداً، لا يصحبه في موكب الحياة إلا خادمه وهو فتى ريفي هرب من جفوة الحقل ليسكن إلى رخاوة المدينة، وإلا بعض زملائه في المدرسة.(851/12)
واستشعر الفتى الوحدة توشك أن تقض مضجعه وتعكر صفو أحلامه وتقذف به في بيداء الخواطر المضطربة، فهو لا يحس عطف الأب وقد ضمه القبر منذ عمر طويل، ولا حنان الأم وقد ودعته الوداع الأخير منذ سنوات خمس، ولا رقة الأخ وهو وحيد أبويه. أما أهله فقد تنكروا له يوم أن كان في شظف العيش ورقة الحال، فإلى على نفسه ألا يزور ديارهم أبداً وألا يعطف على فقير فيهم وألا يستعين بذي جاه منهم أو يلجأ إلى ذي مال. ومضت الأيام على نسق واحد وقد أقفرت من قلب ينبض بحبه أو نفس تضطرب بالعطف عليه فذاق لذع الوحدة ومرارة العزلة.
وجلس الفتى - ذات اليوم - إلى زميل له يحدثه حديثه وإن نبرات صوته لتكشف عن أسى دفين عاش في قلبه منذ أن كان طفلاً، ونما على السنين وربا واشتد غرسه، وإن عبراته المترقرقة لتنبئ عن شجو يقطع نياط القلب ويقد أوتار الفؤاد. ورقَّ صاحب لصاحبه فقال الزميل (أرأيت - يا صاحبي - مرض نفسك وعلة قلبك؟ إن لكل داء دواء يستطب به!) قال في لهفة، (وما دواء دائي، وقد استعصى عليَّ أن أطب له؟) قال (لا ضير عليك، إن الزوجة والولد هما دواء قلبك وشفاء نفسك، إنهما ولا ريب يمسحان على آثار الضيق، ويمحوان علامات الضنا، وينفثان في الدار البهجة والنور، ويبعثان في القلب السرور والنشوة) فقال الفتى (لا عجب، ولكن أنَّى لي أن أجد الزوجة وأنا أمقت أهلي وأبغض عشيرتي وأفزع عن ذوي قرابتي) قال (أفحتماً أن تتزوج من أهلك وفي الدنيا مراد وسعة) قال (أما أنا فلا أعرف داراً أجد فيها شفاء علتي) قال (ماذا ترى في ابنة الأستاذ فلان؟) قال (هي فتاة لا أستطيع أن أسكن إليها. فأنا أرى في أبيها الرجعية والتزمت وضيق العقل وسفاهة الحلم، والفتاة في كنف مثل هذا الأب تستشعر السجن والغل معاً، فإذا انفلتت من سجنها انفلتت من قيود الشرف والكرامة) قال (هذا وهم باطل، ولكن نفس العزب تصور له خواطر تافهة مضطربة لتقعد به أن يكبل نفسه بالزواج) قال الفتى (لطالما طافت الفكرة بذهني فما دفعني عنها إلا أنني لا أجد من يتحدث بلساني ويكشف عن ذات نفسي) فقال الزميل (لا عليك، فإنا - منذ الآن - رسولك!)
وانطلق الرجل يمهد السبيل لصديقه الفتى، فما لبث الأب أن اطمأن إلى الرأي وأسلس للخاطرة فسميت الفتاة على فتاها.(851/13)
وذاق الفتى - لأول مرة في حياته - لذة الحياة وهدوء النفس وراحة الضمير وسعادة العيش، فزوجته فتاة في ربيع العمر ورونق الجمال، تتألق شباباً وبهاء، وتشع نوراً وضياءً، وهي زوجة من طراز ممتاز، ترعى شأن الزوج وتحفظ ودَّه وتقوم على حقه، فيها اليقظة والنشاط وفيها الرقة واللطف. فهي تبذل جهد الطاقة لتهيئ داراً أنيقة فيها النظافة والنظام وفيها الهدوء والراحة وفيها السعادة والطمأنينة. وعاش الفتى إلى جانب زوجته يسعد بها ويرتاح إلى لقياها. ثم أقبل الطفل الأول يملأ الدار بهجة ورواءً، ويشد قلباً إلى قلب ويضم فؤاداً إلى فؤاد، وانطوت الأيام
وجاءت الحرب تنذر بخطر عظيم، وجاء الغلاء يريد أن يحطم سعادة قلبين، فعلت وجه الفتى غيرة قاتمة حين رأى راتبه الضئيل يتداعى أمام صفعات الغلاء وهي قاسية عنيفة ويتهاوى أمام حاجات العيش وهي كثيرة ملحة. والحكومة تنظر ولا ترى، وتتحدث ولا تفعل.
وأفزع الفتى أن يرى سعادته توشك أن تنهار لضيق ذات يده فأنطلق إلى المدير يكشف له عن خلجات ضميره ويكشف أمامه عن حاجات نفسه ثم راح يستجدي عطفه ويسأله أن ينتدبه مدرساً في السودان ليجد الحياة الطيبة والنعمة الوارفة. ورق قلب المدير للفتى الصريح فأجاب طلبته.
وعجل الفتى إلى زوجته يزف إليها البشرى. . بشرى راتبه الذي زاد ضعفين في لمحة عين. وعجبت الفتاة أن يضاعف راتب زوجها مرة واحدة فسألته في لهفة (وكيف؟) قال (لقد انتدبت مدرساً في السودان) وابتسمت الزوجة فقال لها (أو يزعجك أن أفعل؟) قالت (حسبي أن أجد لذة الحياة إلى جانبك وأن أسعد بخفض العيش في جوارك، ومالي هنا مأرب ولا حاجة) واطمأنت نفس الفتى حين وجد الخلاص، وحين فر - هو وزوجته وأولاده - من بين فكي الفاقة والغلاء والضيق قبل أن تعصره عصراً يهد من كيانه ويزعزع من سعادته.
يا لرجولتك أيها الفتى! لقد فزعت عن دارك ووطنك لتكون أباً وزوجاً تستعذب الغربة وتستمرئ الضنا وتصبر على رمضاء الحر ولفحه الهاجرة، لتهيئ لزوجك وبنيك حياة طيبة فيها الرفاهية والخفض.(851/14)
وخَرَّ الفتى - بعد عامين - مريضاً تتناهبه الأسقام من وقدة القيظ وتتوزعه الأوجاع من لظى الحر، فارتد إلى القاهرة يتلمس الشفاء من علته ويطلب البرء من سقمه وإلى جانبه زوجته ترف حواليه رفيفاً حلواً يخفف من ضنى نفسه ويمسح على آلام جسمه.
وطال به المرض والفتاة إلى جانبه يتقاسمها الفتور والملل ويفزعها السجن والمرض، وإن فيها شباباً يصبو إلى الشارع ويهفو إلى السينما وينزع إلى المتعة فما تجد السبيل، غير أنها لم تعدم تعلة تتعلل بها لتفر من الدار ساعة أو بعض ساعة. وبدا عليها الضيق على حين تتصنع الوفاء، وأصابها الخور وهي تتخلق بالنشاط. وللمريض عين نفاذة وأذن واعية وإحساس مرهف، فأرخى الفتى لزوجته العنان علها تجد السلوى والمتاع.
واندفعت الفتاة إلى الشارع وإلى السينما، لا تعبأ بالمريض ولا تعنى بشأنه، وخلفته بين يدي الخادم تعبث به وتهمل أمره. وضاق الفتى بحماقة الزوجة الشابة حين رآها تسرف في الزينة وتغرق في التطرية وتفرِّط في أمر الدار والزوج والولد، فراح يحدثها حديث خواطره في لباقة ولين. ولكن الزوجة كانت قد علقت شاباً آخر ذاقت إلى جواره حلاوة الهوى ورشفت رضاب المتعة ونقعت غلة الحرمان.
وعند الصباح انطلقت الخادم لتوقظ الزوجة فألفت فراشها خالياً. . . لقد طارت الزوجة الخائنة مع شيطان من الناس. . . طارت لتذر زوجها وحيداً على فراش المرض يقاسي ألم المرض ويعاني هم الزوجة.
ونظر الزوج إلى بنيه وهم يتدافعون إلى حجرة أمهم وينادون (أمي. . . أمي!) فطفرت من عينه عبرة جرى لأنه أحس - في يوم ما - أن فقد الأم يخز القلب وخزات جاسية غليظة، ولأنه استشعر لذع الخيانة يسم حياته بسمات الخزي والمهانة، ويسربل أولاده بلباس السبة والعار.
آه، يا لقلبي! إن الزوجة حين ترتدغ في حمأة الخيانة تعلن عن أن دمها لم يشعر يوماً بالمعاني السامية والشرف والكرامة.
كامل محمود حبيب(851/15)
المازني في عهدين
بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني
للأستاذ غائب طعمة فرمان
وصف المازني إبراهيم الكاتب بقوله:
(إن أبرز مزاياه كانت أن أسلوبه صورة لنفسه الحية الحساسة المتوقدة. . . . وكان دأبه أن يدور بعينه في نفسه ليطلع على كل ما فيها، وأن يجيلها فيما هو خارج عنها ليحيط بكل ما وراءها. . . ولكن قلما رأى شيئاً خارجها إلا من خلالها. . .)
. . . ومن خلال هذا الوصف أعطانا المازني صورة واضحة المعالم دقيقة السمات لنفسه. . . تلك التي ترى الأشياء من مرآتها الخاصة وتبث من خلجاتها حياة فيها. . .
والمازني لا يفتأ يتحدث عن نفسه، وينفذ إلى أعمق أعماقها، ويسبر أغور أغوارها، ويطلع على أخفى خفاياها. . . ثم يرى العالم من خلالها ليتعرف على أسرارها!
فإذا بتلك السلسلة المتصلة الحلقات من التجارب الإنسانية تصبح مادة أدبه، وإذا بذلك النهر المتجمع من قطرات أيامه وسنيه يمد المازني بمعين لا ينضب من الأدب الرفيع.
وتحت معاول الهزات النفسية، والجنبة في رحلاته الطويلة في عالم الفكر والشعور تربت نفسه، وتهذبت، وامحي بريقها الكاذب وبدت خالصة من الشوائب، ناصعة الجوهر. . . فإذا هو يعتز بها، ويحيا لها، وفي سبيلها يسعى، وبها وحدها يعنى.
فإذا أسلمنا بهذا حملنا إلى الشك في قول المازني بأنه (ليس إبراهيم الكاتب الذي تصفه الرواية؛ وإن هذا المخلوق ما كان قط، ولا فتح عينيه على الحياة إلا في روايته) فتلك مغالطة أعظم بها من مغالطة، وتنكب عن واقع الحياة، وهروب عن لذعات السنين الماضية، وذكرياتها المريرة التي قد تكون شديدة الوطأ على نفسه، قاسية الواقع على شعوره. . . وما تلك الفروق بين إبراهيم المازني وإبراهيم الكاتب إلا ضرب من المخادعة واللف يلجأ إليه المازني في كثير من الأحايين.
وقد تغير المازني السنون فيبدو لعينيه إبراهيم الكاتب - وهو يمثل طوراً من أطوار حياته - رجلاً غريباً (لا تعجبه سيرته ولا مزاجه ولا التفاتات ذهنه). فينفر منه، ويجفوه لاختلافه في الاحتفال بالحياة والإعراض عن الدنيا، والوعورة في الأخلاق والنفور من(851/16)
الناس، والمرارة من الواقع الأليم، والرضى بما هو كائن. . .
فالمازني الشاب بنزوات قلبه، وخفقات روحه، وتسابيح خياله، وانسراح عواطفه قد مضى. . وخلف ذكريات مرة مسجلة على صفحات (إبراهيم الكاتب).
ولست أدري كيف استساغ المازني أن ينفي كونه إبراهيم الكاتب بعد أن قال في الصفحة الأولى من المقدمة:
بدأت هذه الرواية في سنة 1925 ثم عدلت عن إتمامها، والمضي فيها وبها إلى غايتها ونسيتها إلى شتاء 1926 فاتفق في ذلك الوقت أن عرفت سيدة نمساوية تزاول الصحافة والتعليم في آن معاً، وتوثقت بينا الصداقة على الأيام - فقد طال مقامها هنا - فأطلعتني على صفحة من حياتها حافلة بالكروب والمتاعب، ولما كنت لا أعرف لي، مع الأسف، تاريخاً يستحق الذكر، أو حياة جديرة بأن يصغي إليها، أو يطلع عليها السامع أو القارئ، ولما كنت معها في موقف يتقاضاني أن أجازيها بثاً ببث، وأن أقول لها بشجوي، كما قالت لي بشجوها، فقد ركبني عفريتي الذي استراح إلى كتفي، واطمأن إلى استسلامي لقضاء الله فيَّ معه فقصصت عليها حكاية الرواية - كما كنت أنوي أن أكتبها - وزعمت أن هذه قصة حياتي!!! ولما كانت حياتي مستمرة فقد احتجت وأنا أسرد عليها هذا التاريخ المبتدع أن أجعل الختام باباً مفتوحاً)
. . . ثم وصف المازني لإبراهيم الكاتب وصفاً لا أظن الذين رأوا المازني رأي العين يفوتهم هذا التشابه الجسمي بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم المازني. . .
كل هذا يدفعنا إلى أن نقر بأن المازني قد سجل في إبراهيم الكاتب عهداً من عهود حياته، عهداً مليئاً بالهزات النفسية، عهداً بذر بذور التشاؤم في نفسه، وأسلمه إلى شيء يشبه القنوط، عهداً لم يخل من أخطاء ونزوات وزلات وهفوات، حتى اضطره آخر الأمر إلى أن ينكر ذلك الرجل الذي يهرب من العقل، ويغور في كهوف العاطفة، ويهوم في مساربها العميقة. .
و (إبراهيم الكاتب) قصة رحلة، تبدأ بإخفاق، وتنتهي بإخفاق. . ويظل القلب الذي شهد فصولها يتألم من الحاضر، ويتعذب بالماضي الدفين.
وتبدأ هذه الرحلة حين يذهب إبراهيم إلى الريف، بعد موت زوجته، وخروجه من(851/17)
المستشفى وهو مجروح القلب، يعذبه حب ماري. . . يذهب إلى الريف ليسلو، وليقضي وقتاً في أحضان السكون، ومراتع الطبيعة الريفية الهادئة، بعيداً عن ضوضاء المدينة ووساوس الحب وآلامه. . ولكنه لم يدر أن القدر يترصده؛ فيقع في حب ثان أعنف وأشد. . . هو حب شوشو بنت خالته، تلك الفتاة الغريرة بنت السابعة عشرة، وذات العينين العميقتين السوداوين المعبرتين عن طبيعة صاحبتها، والمفصحتين عن حقيقة جمالها، الحلوة النفس، الخفيفة الروح، الظمأى إلى المجهول.
ولكن المرارة دائماً تفعم قلب المازني، واليأس يصحبه، والإخفاق يطارده؛ فالحب الذي اضطرمت ناره في صدر العاشقين، وجريا معه في مجاريه يتحطم على أعتاب تلك القوة الغاشمة. . . قوة التقاليد. . . فيسافر إبراهيم إلى الأقصر ليدفن هواه الجريح، ويواسي قلبه المضطرب، وليتسلى عما أصابه من إخفاق.
وكأن القدر يلذ له أن يحرك الآثار المرهقة من قلب إبراهيم، فهناك يلاقي فتاة مصرية تدعى (ليلى). . وسرعان ما يختلج في فؤاده لهيب العاطفة التي تعذب بها، وصلى نارها، فينجرف في تيارها إلى الشاطئ ذي الأشواك. . شاطئ الحب الصارم، فيوغل في حب ليلى، ويندفع معها إلى جنائن الفاكهة المحرمة!.
ولكن ذلك الشيطان الظالم. . . الإخفاق. . . دائماً يظلله بأجنحته السوداء، فيصاب بالمرض، أغلب الظن أنه أورثه تلف الأعصاب، وخلق منه إبراهيم الكاتب.
وبعد تلك الرحلة الفنية يسلم نفسه إلى كآبة عميقة، ويأس مرير. . . وفي خلال صفحات الكتاب نرى نفسه الحساسة المرهفة كيف تتعذب، وكيف تشقى بإحساسها. . . فالحياة لم تنر لها الطريق، ولم تهدها إلى نعيم الاستقرار، فظلت هائمة لا يثوب إليها الاستقرار، ولا تركن بزورقها الحائر إلى شاطئ الهدوء.
فلا غرابة - إن اتجه إبراهيم الكاتب إلى التشاؤم بعد هول العاصفة، يلوذ بكهوفه، يرضي فيه نفسه الجريحة، ويحاول أن يحسب الألم عنصراً من عناصر الحياة:
(اسمعي يا ثوثو. . . لقد أهاب بنا نتشه أن نحيا حياة خطرة. . . ولكني أقول أنه ينبغي أن نحيا حياة مؤلمة!. إن الألم لا سخيف ولا بشع. . . انظري هذه الشمس التي تنحدر للمغيب. . . إن للشمس بقعها، والشمس على رغم من بقعها هي حياة الأرض. . . هي(851/18)
وحدها الحياة. . . والسعادة أيضاً لها بقعها. . . ولك أن تسمّيها آلاماً. . . ولكن هذه الآلام هي التي تجعلنا نقدر السعادة التي نفوز بها، والحياة بالقلب هي الحياة الثامنة، أما من يبلد قلبه؛ من يخنقه فهذا إنما يحيا حياة هندسية في ناحية واحدة).
هذا الشاب المتوقد كم عذبه إحساسه، وشقي بعاطفته؛ فكان يحس في قرارة نفسه بعد أن أنهى آماله، وتحطمت أحلامه - أنه يحسن به أن يستقر، ويهدأ ويلقي جسمه المنكود المتعب، ونفسه المنهوكة المثقلة بأعباء الحياة في ركن يستكن به. . . في بيت يربطه بالرباط المقدس، وتظلله ظلال وارفة من التآلف والحنان. . ولكن أنى له ذلك؟! ألم يحاول أن يتزوج من ميمي الفتاة التي أحبها، وأحبته واستغرق الاثنان في حبهما، حتى إذا أشرف على الزواج وقف ذلك الجدار المرتفع من التقاليد. حائلاً دونه ودون ما يصبو إليه.
وليلى؟. . الفتاة الظريفة الحركة الحلوة التعبير، الناضجة الجسم، السمراء اللون، الدائمة التفكير. . . لقد هام بها فجاء إليها مرة قائلاً (. . إن هذه اللحظة رهيبة في حياتي فهل توافقين على الزواج مني؟. .) فتجيبه (يا حبيبي المسكين أجننت؟!).
وفي هذه اللحظة الرهيبة تتبين له حقيقة ليلى، وتكشف له سطوراً من صفحات ماضيها القاتم، وتزرع في قلبه المفتون أشواكاً، وتذر في عينيه حفنة من رماد!
ويتحطم كل أمل له في البيت المنشود، ويظل الاستقرار بعيداً عنه، نفوراً منه، ويظل قلبه المرهف يتجرح الصاب في صمت!. وينظر إلى سجل أيامه الماضية من بعيد وهي متوارية خلف آفاق الماضي، والدموع تملأ قلبه، والغصة في حلقه.
وذات مرة تسأله أمه:
- يا بني ألم تفكر في الاستقرار؟
- الاستقرار؟!. . إن البيوت الثابتة إنما اخترعت لأنالإنسان اشتهى السلامة وطلب الأمن، وأراد أن يكون مطمئناً إلى ما يتوقع. . فإن الخيال لعنة. . والحياة تظل تجربة حتى يكون للإنسان بيت ويشعر بأنه له، ويصبح هو ملكاً لهذا البيت، مشدوداً إليه، مقيداً به، والناس في العادة يرتاحون إلى هذا الشعور، ويحبون أن يكونوا على يقين من أن هناك وسادة يضعون عليها رؤوسهم كل ليلة، وأن هناك امرأة يسمونها الزوجة ترقد إلى جانبهم. . نعم فإن الإنسان إنما يطلب البيت لأنه يطلب الزوجة، وهو يطلب الزوجة لأنه يريد أن يريح(851/19)
نفسه من متاعب الإحساس الجنسي!! كأنما هو يريد أن يفرغ من الأمر مرة واحدة وفي لحظة واحدة. . هذا هو الاستقرار. . وليس فيه ما يخدم الآداب والفنون أو يساعد على التقدم.
وهكذا يخلص إبراهيم الكاتب إلى هذه الفلسفة يحاول فيها أن يقنع نفسه ويرضيها بالتعلات، ويسوغ إخفاقه بأشياء لا يرضاها إلا القلب الكسير!
فلا جناح أن يتجه المازني في ذلك الدور المضطرب، إلى الكآبة يغرق في لججها، وإلى التشاؤم يتسلى في قناعته، وإلى الألم يستسيغه، ويستمري مره، وإلى اليأس من كل شيء.
وخيل إليه (أن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى الحياة بإخلاص إلا بعين يمتزج بها التشاؤم والتسامح، وأن الدنيا حافلة بالسوء والمقابح، وأن الحياة فنها - أقوى فنونها - التثبيط، وأن الإنسان يعيش سنين وسنين ويتصل بمن لا يحصى عددهم من الناس، ولكن ما أقل الموافق منهم!. . وأن خاتمة كل حياة الأسف والندم. . وهما جيل ينمو معنا طالعاً من أقدامنا، وقلما نعرف اسمه في صباناً، وما أكثر ما نتوهمه جيلاً رائعاً جليلاً. . وإنه لرائع وجليل. . ولكنه مخيب للأمل. . ويعلو الجبل أمامنا ويتضخم ونحن نصعد فرحين بالحياة، مغتبطين بالعيش، ثم لا نلبث على الأيام أن نتمهل وندير عيوننا، ونرجع البصر فيما خلفنا ووراءنا، فتأخذ عيوننا شقوق الفضائح وفدافد اليأس، وأودية السقوط. . ومع ذلك نظل نصعد في جيل الندامة، وماذا عسانا نصنع غير ذلك؟ ويجيء يوم نهرم فيه، وتكل أرجلنا، وتجف أنسجتنا، ونعيا بالأصفاد، فنقعد على قنة مريحة، وننظر إلى جداول الحياة المنحدرة. . الحياة التي تظل تترقرق، ويظل واديها خصيباً، وإن أخفقنا نحن، ونشفنا واحداً بعد واحد فنتعلل بذكرياتنا، وتبدو لنا هذه الذكريات أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها!).
هذه الصورة الرمزية القاتمة الدقيقة التي رسمها المازني ليمثل فيها أدوار الحياة الإنسانية تمثيلاً يحمل إلى النفس كثيراً من الأسى والحسرة. . هي خلاصة فلسفة إبراهيم الكاتب بعد أن ألقى رحاله في أحضان اليأس، والإخفاق، يحسب أنه معذور إذا بكى إساره، وحاول أن يتلهى بسجنه. . وبدت له الصور القائمة في خميلته، صور الذكريات الحلوة المرة، الباسمة القاتمة (أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها) في نظر اليائس على الأقل!(851/20)
وإلا فماذا كسب من الذكرى؟
أحب ماري ثم أراد القدر أن يسخر بمنطق الحب، فافترق عنها. . ولكن ذكرياته معها ظلت حية تعمر مخيلته، وصحبته إلى الريف موطن العزاء والسلوان. . حتى إذا أحب ثوثو بقيت ذكرياته تملأ قلبه مرارة. . ثم تحول حبه إلى ثوثو قبضة من إخفاق. . وبعضاً من ذكريات كانت تعذبه وهو غارق إلى أذنيه في حب ليلى!.
ومع ذلك فهو يحسب الذكريات (أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها).
(البقية في العدد القادم)
غائب طعمة فرمان(851/21)
ماذا علمتني الحياة؟
تأليف الأسقف و. ر. أنبج
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
تقديم الكاتب:
(ولد عام 1860 في مقاطعة يورك شير. اشتغل محاضراً من 1889 - 1804 في جامعة اكسفورد (كلية هوتفورد). ثم كان قسيساً لإحدى كنائس لندن بضع سنوات، ثم أستاذاً للاهوت في كلية ماجدولين كمبردج وعين عام 1911 أسقفا لكنيسة (سنت بول). ثم ترك الخدمة العامة 1934. ألف ونشر ما يزيد على أربعين كتابا ومن بينها كتب قيمة عن الصوفية والمتصوفين).
ماذا علمتني الحياة؟ إن سبعة وثمانين عاماً يعيشها المرء كافية لتعليمه شيئاً.
كان ماركوس أوريليوس يقول: إن رجلا حصيفاً في الأربعين من عمره يرى من الحياة ما يكفي لتعليمه الدور الذي سيمثله على مسرحها. ولعله مصيب في قوله. إن العقل والضمير قد بدا - إلى حد بعيد - يستيقظان في القرون الوسطى. أحسب أن هذه المقالات لن تكون إلا يوميات مركزة على طراز أميل، غير أنني ذكرت كل ما يمكن قوله عن حياتي في كتابي المسمى (وداعاً أيها الوادي) الذي كتبته للسادة لونجمان عام 1934 وذلك حين تخليت عن كرسي المسؤولية في التوجيه الروحي، وأحسب أن طبعة ذلك الكتاب قد نفدت الآن، لأن قاذفات الألمان قد دمرت مستودعات الناشرين. ولعل الأمل غير بعيد في إعادة طبع ذلك الكتاب إذا كانت هنالك رغبة في تسجيل حياتي المتواضعة إذ لم يبق شيء يتصل بها غير ما هو محفوظ في سجلات الأكاديمية البريطانية عن تاريخ حياة الأعضاء والذي قد ينشر بناء على رغبتي. لذلك لا أجد مناصاً من المرور مرور الكرام بما نشر سابقاً عن حياتي وأنا أكتب هذا المقال.
لقد تعلمت شيئاً واحداً بصورة لا تقبل الشك، ألا أحسن الظن بنفسي كثيراً. وكلما أويت إلى فراشي تمر الحماقات وأعمال الطيش التي تتصل بالنصف الأول من حياتي، كفلم متصل الحلقات، أمام عيني تحملق في مكشرة عن أنيابها. يقول الكونت كسرلنج: علينا أن لا(851/22)
نزعج أنفسنا بأمور حدثت قبل خمس عشرة سنة، غير أنني لا ألقي اللوم عن نفسي. حينما أفكر في الحنان الذي كان يغدقه علي أبواي وأهلي، وبعواطف الصداقة الخالصة التي كان يغمرني بها الأصدقاء، لا أجد مناصاً من اتهام نفسي بعدم المبالاة ونكران الجميل، وهو خطأ في حد ذاته جد خطير.
والذي يبدو لي أننا لا نتذكر من مثالبنا غير التي لا وجود لها في أخلاقنا الآن. إن ذاكرتي تكاد تفيض بالحماقات التي لم أسجلها عن نفسي وهنالك أسرار يحملها الموت معي إلى القبر وهي مزيج من القسوة والأخطاء والطيش.
هل نحن ملزمون أن نطبق على أعمالنا مبدأ (لا تحكم على نفسك). قال سنت يول: (لا أستطيع الحكم على نفسي). وقالت بورشيا: (نحن نطلب الرحمة من الله). إن الله يغفر لنا الذنوب التي نتوب عنها توبة صادقة وإن كنا لا نغفر لأنفسنا بعض ما اقترفنا من ذنوب.
أتراني أستطيع تذكر المباهج الكثيرة التي مرت بحياة كان التوفيق الظاهري حليفها في الدنيا؟ كلا. لقد كان نصيبي من أوجاع الدنيا أكثر من مباهجها. لقد كان بيت القسيس في القرن التاسع عشر - كبيت القسيس الاسكتلندي - المكان الذي تترنى فيه المثل العليا للخلق والذوق: حياة رتيبة بسيطة تعني بالعقل كثيراً؛ لا فقر ولا غناء؛ صحة وعمل مثمر، وهي أمور لم يكن لها وجود إلا في بيئة من هذا النوع في ذلك الزمان.
كان أبي لاعباً مبرزاً في (الكركيت)، ومعيداً في الكلية التي تخرج منها في أكسفورد، وأبعد الناس عن الطموح. لقد اكتفى من دنياه أن يكون قسيساً مساعداً لجدي شورتون رئيس الشمامسة حتى بلغ الخامسة والأربعين من عمره. حتى لقد رفض أن يكون مطراناً لأبرشية سلسبوري ذات المكانة الممتازة عن طريق التواضع الرخيص والخمول النفسي. وكانت والدتي امرأة عالية الثقافة تعلمت في ظلها تعليما مكنني من اجتياز الفحص لدخول كلية ايثون، بعد دراسة فصل واحد في مدرسة خصوصية، وكان ترتيبي في ذلك الفحص الثاني. لقد ابتسم الحظ لي في ايثون وتتلمذت على أمر أستاذ في الآداب الكلاسيكية وهو فرانيس سنت جون ثاكاري ابن عم الروائي العظيم.
كانت تلك الفترة هي عصر الدراسات الكلاسيكية الذهبي في ايثون. لقد ارتفعت دراساتنا في تلك الآداب إلى مستوى لم تعرفه جامعة كمبردج في تاريخها الحافل المجيد، فحزنا(851/23)
درجات الشرف، ولكن الحظ لم يداوم ابتسامه فعبس في وجوهنا ونقل أستاذنا العظيم إلى أكسفورد.
لم يكن هنالك مكان لمحاضراتي في كلية (كنج) ولذلك رحت أعلم اليونانية واللاتينية لطلاب ايثون الصغار - ذلك الأمر الذي لم يكن من واجبي. وبعد أربع سنوات مضنية مع أولئك الصغار، نقلت إلى جامعة أكسفورد محاضراً فبقيت خمس عشرة سنة والسعادة ترفرف على رأسي. وحينما أخذ السأم يدب إلى نفسي من حياة الجامعة، قدم لي صديقي القسيس هنسون منزلاً يقع في (وست أند)، وقد صادف التغير الجديد أسعد حادث في حياتي وهو الزواج.
لست أدري هل من حسن الذوق أن أقول ذلك؟ لقد طلب مني أن أذكر ما علمتني الحياة. وهذا الشيء هو أثمن وأروع دروسها. ليس الزواج السعيد هو أحسن ما في حياة البشر، إنما تعلمت إلى جانب ذلك أن الحب لا يختلف في مقداره وإنما في نوعه بالنسبة لنعم الله علينا. حينما قال سنت جونس: (إن الذي لا يحب لا يعرف الله لأن الله هو المحبة)، كان يعبر بأبسط الكلمات عن الحقيقة العليا، وهي أن الحب يقودنا إلى عالم الحقيقة عن أقصر طريق لا يعرفه إلا الذين يحبون.
هنالك يبدو الخالق مجسما في الخير المطلق والصدق والجمال. إن هذه في حد ذاتها ليست في واقع الحياة غير مثل أفلاطونية إنها تخص عالم الروح ولا تصل إليها إلا عن طريق الإيمان، كما تتراءى لنا الصورة في المرأة على حد تعبير سنت يول. إن الحب هو الجناح القوي الذي يحمل أرواحنا محلقة إلى ملكوت الله. لقد أوضح تلك الحقيقة سنت برنارد كلارفو فيما يتعلق بحب الله، لكن سنت جونسي قال لنا إن الذي لا يحب أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه.
كثيراً ما رددت وأنا أبارك فتى وفتاة من على مذبح الكنيسة البيت الثاني من شعر شكسبير: (لا قيمة للروابط الظاهرية في تمكن العلائق الروحية بين زوجين كريمين). وهو من أروع ما قيل من الشعر.
لست أرى مانعاً من الخوض في هذا الموضوع. ليس الضرر الاجتماعي من انتشار الدعارة بأكثر من التساهل في شأنها التساهل المعيب في طبقات المجتمع العالية التي(851/24)
يُفرض أن تكون نموذجاً للفضيلة في الحياة. لقد تدهور الخلق في الخمسين سنة المنصرفة تدهوراً معيباً يدعو إلى الأسف الشديد.
إن السعادة الثانية لزواج سعيد أساسه الحب هي الأبناء. لقد كان أولادنا الخمسة مصدر سعادة خالصة لنا. مات اثنان من أولادي وهما صغيران، وتبعتهما ابنتي بعد مرض طويل، وقد مزق قلبي صوتها فرثيتها بأبيات أعتقد أنها كانت مصدر عزاء وسلوى لقلوب محزونة كثيرة. وتعلم ابني الأصغر في ايثون وفي كلية ماجدولين من جامعة كمبردج، وانتظم في سلك الكهنوت وأحبه الناس كثيراً في يوركشير. وكان ينتظره مستقبل باهر في خدمة الكنيسة. كثيراً ما كنت أردد قول هكتور في إلياذة هوميروس حينما حمل طفله استيانكس بين ذراعيه وهو يقول: (سيقول الناس عنه أنه كان أحسن من أبيه). لكن الحياة لم تمهله. لقد دفعه الواجب إلى التطوع في قوة الطيران الملكية إبان الحرب العالمية الأخيرة، وعين مدرباً، وكان عمله يستوجب أن يطير مع المتمرنين، وقد اضطرت الطائرة مرة إلى الهبوط، وتخلص ابني ريشارد منها، ولكنه حينما حاول إنقاذ رفيقه وتلميذه من الطائرة المحترقة اختنقوا وماتا معاً.
علينا أن نحذر من الآمال الكثيرة في الحياة الأخرى. إننا لا نستطيع تصورها إلا في حدود الزمان والمكان، ولكن إذا كنا من الذين يؤمنون بأن منقذنا المسيح قد ضمن لنا الحياة الخالدة فإن ذلك كاف لأن ننظر إلى الموت بغير ما يتراءى لنا. ولعلنا نوافق وليم بن على قوله: (إن الذين يحبون ما وراء الحياة، لا تستطيع الحياة فصلهم عما يحبون، وليس في مقدور الموت أن يقتل ما لا يمكن أن يموت، ولا أن يفرق بين الأرواح التي جمعها الحب في الحياة والتي سيجمعها ملكوت الله فترى نفسها في المرآة الإلهية وتتحدث بأسلوب طليق. . .)
وقد عينت عام 1907 أستاذاً لكرسي اللاهوت في كمبردج بعد إقامة تقرب من السنوات الثلاث في لندن. كانت حياتي في عملي الجديد رتيبة، هادئة، رضية، وكنت أتمنى أن تستديم حتى نهاية عملي في الخدمة العامة. ولكن التاج بوساطة المستر اسكويث عام 1911 عرض علي منصب مطران كنيسة سنت بول، وقد رأيت أن اللباقة تقضي علي أن أقبل مسؤولية هذا المنصب الخطير.(851/25)
لن أذكر هنا كثيراً عن الثلاث والعشرين سنة التي قضتها في هذا المنصب، لأن ذلك قد استغرق القسم الأعظم من كتابي المشار إليه عن تلك الذكريات. إنني مدين للصحافة بقسم كبير من التوفيق لعظيم ما تلقتني به من الترحيب والتشجيع. . . لقد لقيت كتبي رواجا عظيما، ودعيت لإلقاء محاضرات لا يبلغها الحصر. قال لي رئيس الوزراء حينما سلمني براءة التعيين: أنه يأمل أن أحيي تقاليد ذلك المنصب الروحي الخطير في كنيسة إنجلترا. لقد كانت تمر بخياله ذكريات رواد الكنيسة وبناة مجدها الأولين من طراز كولث، ودون، وتلستون، وملمان، ومانسل، وشرك، وأحسب أنني قد سرت على أثارهم كأحسن ما يكون، ولكن ليس من حقي أن أحكم على أعمال نفسي. ولا أرى أيضاً ضرورة لذكر الثلاث عشرة سنة التي قضيتها في ريف يوركشير بعد اعتزال الخدمة. إن بلوغ الإنسان أرذل العمر تجربة خطيرة من تجارب الحياة. إنني لا أكاد الآن أشعر بأثر أي شيء من عواطفي. تجري الأيام والشهور والسنون وأنا احسبني في حلم طويل. لم أجد شيئاً في الحياة يستحق أن يتهالك الناس عليه، لأن الدنيا بكل ما فيها من متاع وسرور، ليست إلا خيالا يمر مرور سحابة صيف، وليس في حياة فانية لا شيء يستحق أن يرجى ويؤسف عليه. إلا أن في رحمة الله ما يسع بلادي البائسة وأبناء وطني المتعبين. إن تراخي رباط الحياة التدريجي من جسدي لا يخيفني كثيراً، ولن أبكي كما بكى شاعر الحب الإغريقي ممنرامس وتمنى أن يموت في الستين من عمره؛ وليس كما فعل هوراس الذي كبر في غير أوانه، وأصبح يحس بفقد مباهج الحياة واحدة بعد الأخرى. لا أريد أن أردد قول تنسون المرير: (إن السنين التي تجعل من الطيش اتزاناً في الإنسان، هي التي تأخذ ما تعطي وتترك الظلام في البصيرة والعينين). . .
لعل في استطاعتنا تجنب الإحساس بحالة من هذا النوع في الشيخوخة، وإن كنا لا نرى رأي السير توماس افريري الذي يريد أن نشعر بشيخوختنا إحساساً تُنسى فيه أرواحنا بدلا من الإحساس بضعف أجسادنا. . . أستطيع أن أقول إنني لست تعساً. . . إن الراحة بعد النصب المرهق أمنية جميلة، وإذا كنا نؤمن بصدق الديانة المسيحية فعلينا أن نؤمن بقول لويس نتلسشب: (ليس للموت وجود). إن المسيح يقول في الإنجيل الرابع: (إن الذي يعيش ويتبعني فلن يموت أبداً)(851/26)
(البقية في العدد القادم)
علي محمد سرطاوي(851/27)
الفلسفة الوجودية
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
لم يصل المستوى الثقافي في مصر إلى الحد الذي نستطيع معه أن نقول عن حركة فكرية بالذات أو نوع من الفلسفة بأنه قد شاع بين أبنائها وطبقات المتعلمين فيها، ولكننا نستطيع مع ذلك أن نقول عن الفلسفة الوجودية إنها قد شغلت الأذهان وجرى اسمها على الأقلام والألسن واختلف الناس في أمرها اختلافاً كبيراً بين محبذ لها ومندد بها. وهؤلاء يتلقفون أخبارها وينتظرون الأنباء عنها بفارغ الصبر. فيجدون يوماً من يذهب إلى باريس ليعود بعد ذلك فيقول عن شايعيها إنهم فلاسفة الأندية والمقاهي (والمواصلات). وينظرون فإذا بأديب كبير من أدبائنا المعدودين يحمل نبأ خطيراً مؤداه أن الأستاذ الجليل أندريه لالند قد حكم عليها أمامه بأنها فلسفة العدم. فضلا عن أن الجرائد المصرية والأجنبية قد أخذت تنشر عنها أخباراً متصلة الحلقات: فمرة تقول إن الشيوعيين قد صادروا كتاباً من كتب جان بول سارتر - الفيلسوف الوجودي المعروف - في معظم المناطق الأوروبية الخاضعة لحكمهم. ومرة يأتي خبر بأن البابا قد أصدر قراراً بتحريم كتب سارتر لخروجها عما توحي به الشرائع وما تنص عليه الكتب المقدسة. وفي مرة ثالثة يأتي خبر من أسبانيا يصف البوليس هنالك وهو يطارد الوجوديين كما يطارد المهربين والخارجين على القانون. فهذه الأنباء المتواترة من شأنها أن تزعج القائمين بشئون الثقافة والأدب في مصر وأن تدفعهم إلى إثارة موضوعها من حين إلى حين.
ولكن أحداً عندنا لم يناقش هذه الفلسفة مناقشة عادلة صريحة، أو قل إن أحداً عندنا لم يحاول أن يفهم المسألة فهما يؤهله لأن يقف منها موقف المؤيد أو المعارض. فما زالت الوجودية حديثة عهد بالنسبة إلى كثير من الذين يفكرون عندنا ولم تزل موضوعاتها غريبة عن عقولنا ولم تزل روحها غريبة عن مشاعرنا. ويمكن أن نذهب إلى حد القول بأن هذه الفلسفة، وقد جاءت نتيجة لروح عامة أو لحركة معينة في الفكر الأوربي لم تجد كثيراً من القبول لدى أدبائنا ومفكرينا ممن لا يستطيعون الخروج عن نطاق الذوق المصري المتأثر بظروفنا الخاصة كشعب أولاً وكطبقة متعلمة ثانياً. والحق أنها لم تصادف هذا الموقف لدينا فحسب، وإنما وجدت كثيراً من المعارضة ومن النقد في معظم المجلات والصحف(851/28)
الإنجليزية والأمريكية. وأغرب من هذا كله وأدعى منه إلى الدهشة والتعجب أن أنصارها أنفسهم والمشايعين لها بأفكارهم وكتبهم ليسوا راضين عنها كل الرضا وأنهم لا يوافقون على نسبتها إليهم.
وأصل الإشكال في هذه الفلسفة هو أنها تتطلب روحاً معينة لدى من يؤمن بها ويتعصب لها، وتقتضي أن يكون في نفس الإنسان صفات خاصة من أجل أن يصير واحداً من المعجبين بها. فليس كل إنسان بقادر على أن تجد فلسفة الوجود عنده موافقة ورضا وأن يقدم على قراءتها بنفس مطاوعة، فإن الكثير من النزعات الاجتماعية والتربوية والدينية - وهي الأكبر تأثيراً في نفوس الناس - لا تتلاءم مع الوجودية في أفكارها وميولها. كذلك يلاحظ أن الفلسفة الوجودية أميل إلى الأدب والفن منها إلى العلم والحقائق المقررة؛ ومن هنا كانت تعول دائماً على الذوق وعلى الإحساس أكثر مما تعول على المعرفة الأصولية المستندة إلى خبرة عملية واتجاه نفعي.
وهناك أسباب موضوعية خالصة تدفع بالناس إلى كراهة هذا النوع الجديد من التفكير: فقد اتجه فلاسفة الوجود إلى العناية بظاهرة الموت مثلا وتفسيرها، والكلام عن الشعور بالقرف، والاهتمام بمسألة العدم وتقديمها على ما عداها وتحليل المواقف المعينة التي يوجد فيها المرء ويحتاج من أجل المرور بها إلى تجربة وجدانية من طراز فريد. فمن ناحية الموضوعات التي تدرسها الفلسفة الوجودية نجد أنفسنا بإزاء جملة من الأفكار الغريبة التي إن لم تكن جديدة بالمرة ففي بعض التحليلات والتفصيلات ما يشعرك بأنك تجاه شيء لم يقع من قبل في دائرة البحث أو في مجال التفسير والتعليل.
والوجودية بعد هذا كله ليست أحادية على طول الخط، وإنما فيها فريق مؤمن يستهوى بكتاباته كثيرين ممن يريدون إشباع نزعتهم الصوفية بتحليل المشاعر الدينية والسلوك في طريق الروح. فكير كجورد وبرديائف ومارسل يأخذون جانباً معيناً في التفكير الوجودي ويسيرون على نمط خاص يجعلنا نطلق عليهم اسم الشق الإيماني ونفردهم قسماً واحداً. وقد كان من الممكن بالنسبة إلى هؤلاء أن يبعثوا الشوق في نفوس قراء الأدب والفلسفة من المتدينين وأن يحببوا المذهب الوجودي إلى قلوب الناس؛ بيد أن تحليلاتهم الطويلة، وأسلوبهم في معالجة المسائل، وتطرفهم في ناحية الإحساس المرهف، وتفصيلهم الدقيق(851/29)
عند شرح الحالات الوجدانية زهَّد الكثيرين فيهم وجعلهم يحسون بالملل والضيق عند قراءة صنوف نتاجهم.
فهذه كلها من المسائل التي توضح لنا السبب المباشر في أن الكثيرين من الأدباء والمفكرين لم تعجبهم فلسفة الوجود، وتوقفنا على أصل الداء في كراهية الناس لهذا النوع من التحليل العقلي ولكنها بغير شك لا تقنع الباحث، ولا تصده عن مراجعة هذه الأفكار مراجعة الإنسان المسئول عن رأيه، ولا توقفه عن قراءة ما ينتجه فلاسفتهم من الكتب والمقالات والبحوث. وأغلب ظني أن الإنسان الذي يحول بين عقله وبين هذا الزاد الفكري الجديد سيخسر كثيراً من كونه قد حرَّم على نفسه ضرباً من ضروب الإحساس بالحياة على نحو غير مألوف وأساء إلى فكره بأن أبقاه في دائرة مقفلة من المذاهب التقليدية العتيقة.
فالفلسفة الوجودية إنما جاءت كرد فعل لطغيان التفكير المذهبي على عقول الناس وأرادت أن ترفع عن كاهل الفكر البشري هذه الأثقال التي تركتها أحقاب من الفلسفة التجريدية الجوفاء. وبالإضافة إلى هذا كله غيرت من اتجاه التفكير واستبدلت بالموضوعات القديمة غيرها مما يُعدُّ داخلاً في نطاق التحليل العادي وبطبيعة الحال أسقطت من حسابها في هذه العملية مجموعة من الأفكار البالية التي كان سيستحيل على الإنسان أن يجد لها تفسيراً معقولاً وإن ظل يتأملها أجيالا بعد أجيال. وذلك كله بحكم خروجها عن نطاق البحث الفلسفي، ومن باب أولى عن نطاق البحث العلمي. فهي مسائل معلقة ليس يتأتى الفصل فيها لطائفة من البراهين دون غيرها ويستحيل أن تخضع لمناقشة سليمة معقولة. ولذلك صار الموضوع الأساسي بالنسبة إليها هو الإنسان؛ وعدنا من جديد نحس أمام مفكريها بأن الوجود في حد ذاته مشكلة على نحو ما أعلنها شكسبير على لسان هاملت في يوم مضى
وفي الفلسفة الوجودية نزعة ميتافيزيقية واضحة؛ ولكن لا بد من أن نراعي دائماً فيما يتعلق بهذه الميتافيزيقا أنها ليست مثل غيرها، وأنها تنفرد بصفات خاصة ومعالم ذاتية هي وليدة التيار الفكري السائد بعد الانحلال الحضاري الأخير في الغرب، وتتبدى مظاهر الانحلال في تلك الحياة الكسيحة التي انتهت إليها أوربا، والانهزامات المتوالية على فرنسا وألمانيا والدويلات المجاورة لهما بالذات، فضلاً عن المجاعات الحاصلة من يوم إلى يوم ومعاناة الجيل الجديد من الشباب الأوربي لألوان من العيش ولضروب من الحياة لم يألفوها(851/30)
من قبل. فالمراحل الفكرية القلقة التي مرَّت بهم، والحالات النفسية الشاذة التي خضعت لها شعوب الغرب المثقفة الحية كان لها أكبر الأثر في مشاعر الشبان وآرائهم، وكانت النتيجة أن آمنوا بالمذاهب ذات الصبغة الزاهية، وذات الطابع الحاد، وذات الميل المتطرف. وبعد هذا كله - أو قبل هذا كله - أبعدتهم كل البعد عن فلسفات الخيال والوهم، والأفكار التي لها طابع روحاني زائف أو خصائص دينية كاذبة.
ومن هنا كانت الميتافيزيقا عندهم غير متملقة بشيء خارج الوجود، ولا باحثة في أمور تتعدى نطاق المحسوس. وبطبيعة الحال أنا لا أعني الطائفة المسيحية من الوجوديين، فهؤلاء لهم حكمهم الخاص. إذ أن فلسفة الوجود - كما قلنا - فيها شق مؤمن يدخل تحت لوائه من سبق أن ذكرناهم بالإضافة إلى مارتن بوبر وكارل بارث. أما الشق الآخر فإلحادي متطرف مثل هيدجر وسارتر وسيمون دي بوفوار ومارلو بونتي. وهؤلاء الأخيرون هم الذين نعنيهم كلما تحدثنا عن ميتافيزيقا الوجود. وهي ميتافيزيقا تخضع للتجارب الحية داخل الوجود، وموضوعها الوجود في العالم كما يقول هيدجر. ونجد التعبير عنها كاملاً في كلمة سيمون دي بوفوار إذ تقول: (في الحق أنه لا يوجد أحد خارج الوجود.) وبهذا التصريح منها اعتقدت في أنها قد حدت من الحلم الذي طالما خطر على أذهان البشر بوجود موضوعية غير إنسانية، وأنها قد أثقلت الخيال بقيود وروابط تجعل من المستحيل بالنسبة إليه فيما بعد أن يخرج على ما هو ماثل أمامه وقائم من حوله. ويؤيدها سارتر في هذا المعنى بقوله:
(ليس هناك أكوان أخرى غير كون إنساني واحد هو الكون المنسوب إلى الذاتية الإنسانية). ويعني سارتر خصوصاً بأن يقدَّم لنا تفرقة هامة حينما يتكلم عن الميتافيزيقا وهو يقدم عليها علم الوجود بوصف هذا العلم تمهيداً للميتافيزيقا التي يأتي على عرضها في كتبه. وينظر إلى هذا العلم كما لو كان بحثاً في الحالة الراهنة للموجود، والأقسام التي يمكن أن يرد إليها (كالموجود في ذاته والموجود لذاته). أما الميتافيزيقا عنده فهي التي تضع المشكلة النهائية الخاصة بإمكانيات هذا الموجود على النحو الذي يوحي به علم الوجود.
فالميتافيزيقا الوجودية عند سارتر وإضرابه ليست بحثاً في المجهولات، ولا تخمينا في مسائل الروح والعالم الآخر، ولا هي عود إلى النظر في مراتب الوجود وعالم الأفلاك. . .(851/31)
ومن هنا حاول البعض في انتقاده له أن يتهمه بأنه مادي كما فعل روجيه تروافونتين في كتابه عن الاختيار لدى جان بول سارتر. وبذلك نلاحظ دائماً عند الكلام في تاريخ الميتافيزيقا - كما هو واضح - جديدة كل الجدة ولا غريبة كل الغرابة عن الفكر الفلسفي؛ فلها إرهاصات من الفلسفات الباحثة فيما يدخل ضمن حدود الموجودات على الرغم من خروجه عن نطاق التجربة.
وإذا حاولنا أن نعود بأذهاننا إلى الوراء من أجل النظر في الأصول التي نبعت منها فلسفة الوجود اصطدمنا بمشكلة أخرى لا تقل إعساراً عن أي مشكلة تصدت لها هذه الفلسفة. فالواقع أنه من الصعب جداً أن نعثر على خط واحد مرت به هذه التيارات المتلاحقة في إبانة وانكشاف. بل يصعب في الغالب أن تجد نقطة بدء واحدة لدى جميع الذين كتبوا في هذا الموضوع. فبعضهم يردها إلى شخصية سقراط واعترافات القديس أوغسطين. وضد هؤلاء مباشرة من يزعم أن أصلها موجود في فلسفة الحياة عند نيتشه وإلى شعر الحياة في الحركة الرومانتيكية. ومعظم الذين كتبوا تأريخها يقررون بزوغها من محاولة كيركجورد الفلسفية عندما عارض هيجل في إيمانه بالمطلق وبالروح الكلية. ولكن هذا ما يمنع الكثيرين من أن يجدوا لها مشابهات ومقابلات في كتابات باسكال وقصص إبسن ودستويفسكي وفي أشعار بودلير وأرتور رامبو
أما عن سارتر نفسه فقد رجع بتفكيره إلى كل من هُسِرْل وهيدجر. وهذا واضح وطبيعي؛ فعلى الرغم من أنه يصعب حتى الآنتحديد الموضوعات التي بحثها سارتر تجديداً ختامياً فمن الممكن أن نجد لديه نوعين من التفكير أحدهما نفسي والآخر متافيزيقي. وكلاهما راجع إلى الأبواب التي تفتحت على أيدي هذين الفيلسوفين لأول مرة في تاريخ الفكر.
فلم يعد من الطبيعي بعد هذا كله أن نظل في موقف سلب بإزاء هذه الفلسفة التي شغلت أذهان الناس وقتاً طويلاً والتي لها من تاريخها ما يؤهلها لأن تعبر عن اتجاه معين في المراحل الحاضرة من حياة الأفراد والجماعات. ولا بد من أن نحاول شيئاً بازاء هذه الحركة الضخمة؛ فإن لم يكن بد من شيء فلا أقل من أن نتأثر بها تأثرنا بالسحابة الماضية في يوم صائف.
عبد الفتاح الديدي(851/32)
من شجرة الدر
لحضرة صاحب السعادة عزيز أباظه باشا
فرغ الشاعر الكبير عزيز أباظه باشا من مسرحيته الرابعة (شجرة الدر) فقدم بها إلى الشعر التمثيلي العربي الناشئ قطعة رائعة تزيد في ثروته وتدنيه من كماله. وقد تفضل فآثر (الرسالة) ببعض مشاهد هذه المسرحية ننشر اليوم مشهداً منها شاكرين.
الفصل الأول - المشهد السادس
عز الدين أيبك: قائد الجند
أقطاي
بيبرس من أمراء الجيش.
قلاوون
(يدخل بيبرس وقلاوون على الملكة شجرة الدر وكانت قد أرسلتهما في مهمة سياسية إلى أمراء الشام، وكان في حضرتها عز الدين أيبك وأقطاي)
شجرة الدر: يا صاحبيَّ فنبِّآني ما الذي ... خلَّفتما في تلكم الأمصار
بيبرس: يا مَلْكة الوادي سلمتِ تقينَه ... وتقينَ شعبك عاديَ الأخطار
إن ندَّ والٍ، أو تخلَّف حاكم ... فكِلي الأمورَ لعقلك الجبار
فإذا همو انتقضوا وثاروا فاقذفي ... بالنار فوق مناكب الثوَّار
ودعي حسابهمو العسيرَ لجيشك ال ... جرار يوفض بالقنا الخطار
شجرة الدر: أحسنت بيبرسُ العزيز ففي الذي=لمَّحت لي عنه الجواب الشافي
فضلُ السفير أداؤه في رقةٍ ... ما ساء من نبأ وفي إلطاف
ابدأ بأسوأ ما حملتَ ففي يدي ... حسمٌ لكل ملمةٍ وتلافي
بيبرس: مولاتي الأحداث حولك أوشكت ... تنقض بين صبيحةٍ ومساء
جيرانك الأدنون ضمُّوا شملَهم ... وتجمعوا لخيانةٍ نكراء
حسدوك فانتقضوا عليك. . . فهذه ... حلبٌ تهم بغدرةٍ شنعاء
والموصل استشرى عليك عداوة ... والحقد ملء جانب الفيحاء
شجرة الدر: بيبرس في هذا الحماسِ يؤودني ... تمحيص ما تلقي من الأنباء(851/34)
هلا هدأت؟
بيبرس: سلي أجبك فإنني ... قد طال في تلك الديار عنائي
شجرة الدر: ما يفعل (الملك الرحيم)؟
بيبرس: تركته ... متحاملاً ومجاهراً بعداء
شجرة الدر: وحليفهُ (الملك المظفر)
بيبرس: مثله ... يطوي أضالعه على بغضاء
شجرة الدر: والناصر الملك الذي أُصفي له ودي؟
قلاوون: كبير العصبة الحمقاء
جمعوا على جبْنِ النفوس صفوفَهم ... أفتحفلين بعُصبة الجبناء
أيبك: أسألتماهم ما الذي قد أنكروا ... منها الغداة
قلاوون: أجل
أيبك: فماذا قالوا؟
قلاوون: لغو من القول السقيم وحجة ... صالوا لتثبت في العقول وجالوا
أيبك: فاعرض لحجتهم وسُقها
قلاوون: أعفني ... فلكل قول موقعٌ ومجال
أيبك: يا ملْكة الوادي مُرِي تتثبتي
شجرة الدر: لم تخفَ عني هذه الأقوال
قالوا: فما حكم النساء بجائزٍ ... شرعاً وقوَّام النساء الرجال
بيبرس: هذا الذي زعموه
أيبك: وهمٌ باطل ... ما كان جنس المرء خالق فضله
أيٌ من الجنسين بالغ شأوه ... - لا فرق بينهما - ببالغ عقله
لو قد رقيتِ الملك وراثةً له ... قلنا اعتراضٌ في صميم محله
لكننا اخترناك رأياً واحداً ... فنزلتِ أنت على مشيئة أهله
إجماعُ شعبٍ راشد لم يجتمع ... متضافراً من بعده أو قبله
شجرة الدر: دع ذاك أيبك ولنعد لحديثنا ال ... مأثور عن أمرائنا الأعلام(851/35)
هل أنكروا أسلوبنا في الحكم
بيبرس: لم ... يتحدثوا في ذاك قط أمامي
شجرة الدر: أفناقمون عليَّ أنِّي قِبلتي ال ... شورى وأحكامُ الكتاب إمامي
أم غاضبون لأنني نكلت بال ... غازي وصنت كنانة الإسلام
صبراً بني أيوب لا تتعجلوا ... كالغافلين مصائرَ الأيام
أنا زوج عمكمو أسرَّ إليَّ بال ... نجوى فقلت: اهدأ ونم بسلام
إني لحافظةُ التراثِ لآلهِ ... عهدي إليه على المدىَ وزمامي
(ثم تلتفت لبيبرس)
أكمل حديثك
بيبرس (لقلاوون): هل لدينا غير ما ... قلنا؟
قلاوون: أجل فلهم لديك رجاء
شجرة الدر (في استهزاء): ... بل قل لهم أمرٌ
قلاوون: أتُأمرُ سُدةٌ ... عزت كما عزَّ السنا الوضاء
قالوا إذا أسرى الفرنجةِ أُطلقوا ... وهمُو الملوكُ الصِّيدُ والأمراءُ
فالمسلمون ممالكا وجحافلا ... وضُربت عليهم ذلةٌ وعفاء
شجرة الدر (في بسمة ساخرة): أكذاك قالوا؟ لن يكونَ على المدى ... ما يبتغيه أولئك
السفهاء
(ثم تقول كمن تستأنس بالرأي):
فإذا رأيتُ من السياسة والحجى ... أن يطلقوا
أقطاي (في دهشة): أترينَ ذلك؟
شجرة الدر: ربما
أقطاي (في إصرار): أخشى إذا همْ أُطلقوا أن يشهروا ... شعواَء تُمطرنا الحديدَ المرزما
درج الصليبيون ألا يحفظوا ... عهداً
شجرة الدر: أعيذك أن تزِل وتظلما
قد ينقضون، وقد تفضنا مثلهم ... لكننا كنا أعفَّ وأكرما(851/36)
لا تخش، ربَّ ذرائعٍ أحكمتُها ... مهدن للوطن الطريق الأقوما
أقطاي: مولاتنا فالجيش لم يُعلم بما ... يجري
شجرة الدر: وهل من حقه أن يُعلما
أقطاي: هو حامل الأعباء غير مؤازرٍ ... عن مصر إن خاضته يوماً أيوما
شجرة الدر: أدرِي ولكن السياسة مهنةٌ ... إن راضها جيش هوى وتحطما
أقطاي دع ما لست تحسنه لمن ... عرك الأمور وساسها فتعلما
عزيز أباظه(851/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول مشكلة الأداء النفسي مرة أخرى:
في بريد العدد الماضي من الرسالة، طالعت كلمة وجهها إليَّ الأديب الفاضل عبد المنعم سلمان مسلم حول مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي، ولا يسعني قبل الرد عليه إلا أن أبادر بشكره على تلك التحية الكريمة التي شاء ذوقه ولطف مودته أن يخصَّ بها هذا القلم!
يقول الأديب الفاضل بعد تحيته: (ولكنني لا أوافقك، بل أعتب عليك عتباً كبيراً حينما تصب حكمك القاسي على الشعر العربي القديم جملة واحدة، هذا التراث الذي نفخر به على مرِّ الزمن، هذا التراث الذي جعلته خواء من الروح والعاطفة. إنك بهذا الحكم تهدم حضارة، وتبعثر أمجاد أمة، وأنا أعيذك من هذه النظرة، وأرجو تراجع نفسك، وتستشير ذوقك وحسك، وأنا موقن أنك لن ترضى لنفسك أن تسم الشعر العربي بهذه السمات: (شعر السطوح الخارجية)، شعر يشعرك بفراغ (الوجود الداخلي) عند قائليه، لأنهم كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية). . .
ثم يقول الأديب الفاضل بعد ذلك: (ألم تقرأ شعر المتنبي؟ اقرأه في السيفيات والكافوريات، فتراه شِعراً مُنبثقاً من أعماق النفس، هو في ظاهره مديح، ولكن وراء هذا معان كلها أثر للإحساس النفسي والانفعالات الحزينة تارة، المريرة أخرى، الساخرة كثيراً. واقرأ شعر ابن الرومي في رثائه ومدحه وهجوه، فهو صادر عن نفس حساسة شاعرة، وألفاظه شفافة موحية. واقرأ في كل عصر من عصور الأدب، فستجد شعر النفس، وصدق الفن في أكثر ما تقرأ). . .
هذه هي الكلمات واللفتات التي تحفل بصدق الغيرة على تراثنا العربي القديم ممثلاُ في الشعر، وهي غيرة من حقِّ صاحبها عليِّ أن أحمدها له، مهما بعدت الشقة بيني وبينه، واختلفت وجهات النظر. . . أما عن حُكمي على الشعر العربي، فأنا لا أصدر حُكماً إلا وأنا مؤمن به، ولا أسوق رأياً إلا وأنا مُطمئن إليه؛ ذلك لأنني ما نظرت في فن من فنون الأدب إلا وأنا أنشد الدراسة بغية التقويم، وإطالة التأمل رغبة في النقد، وإنعام الفكر سعياً إلى كشف غامض أو جرياً وراء تقرير مذهب؛ تلك هي عادتي كلما تناولت أثراً من آثار(851/38)
الفن وكلما لقيت رجلا من رجاله، سواء أكانت اللقيا في عالم الأحياء أم في عالم الشعور والسطور. . . من هنا أود أن أقول للأديب الفاضل إنني ما وسمت الشعر العربي القديم بتلك السمات، إلا بعد أن صاحبتهُ مصاحبة كانت في حساب الزمن خمسة عشر عاماً، وكانت في حساب الدراسة النقدية خمس عشرة مرحلة، في كل مرحلة منها ما شاء من إعادة النظر، وما شاء من تقليب الرأي، وما شاء من مراجعة النفس، وما شاء من استشارة الذوق والحس والوجدان!
أنا يا صديقي لا أنكر أن في الشعر العربي القديم لوامع رائعة من الأداء النفسي، ولكنها كما قلت لوامع تطغى عليها تيارات الأداء اللفظي، ذلك الأداء الذي يعني بمادية التعبير أكثر مما يعني بظلاله النفسية. . . إن الأداء النفسي موجود في شعر المتنبي كما هو موجود في شعر ابن الرومي والبحتري وأبي تمام وما شئت من كبار الشعراء، ولكن أي وجود؟ أنه وجود لا يملأ سمع المتذوق لهذا اللون من الأداء، ولا يحيط بمنطقة الشعور تلك الإحاطة الكاملة التي نلتمسها في الإثارة الوجدانية. . . عندهم إثارة، نعم. ولكنها الإثارة التي تنبثق من ثنايا الذهن لا من شغاف القلب، وتنطلق من وراء اللسان لا من حنايا العاطفة؛ وتلك هي الإثارة العقلية التي دفعت بهم إلى خارج (الحدود النفسية) كما قلت، وبعدت بهم عن أن يكونوا قمماً من قمم الأداء النفسي الذي أشرت إليه!
لقد كان الشاعر القديم لا يخلو إلى نفسه إلا في القليل النادر ولقد كان مشغولا عنها بأغراض الحياة ومطالب العيش ومظاهر الغلبة على الأقران والتشوف إلى الوقوف بباب السلطان، ولذلك ضرب بجناحيه في كل أفق وبقى أفق واحد عزَّ عليه أن يحلق فيه، وهو أفق الخلوة إلى النفس والتحدث إليها والتعبير عما يجيش بداخلها من شتى الانفعالات والخلجات. . . ولو خلص الشعراء القدامى لأنفسهم وخلصت لهم، وتفرغوا للتأملات الذاتية في شيء من الاستجابة الصادقة لدعاء الشعور الصادق، لبدوا عمالقة في ميدان لم يطرقوه مرة إلا ارتدوا عنه مرات، ولاغترفوا من نبغ لم يحوموا حوله لحظة إلا وضلوا عن طريقه لحظات، جرياً وراء السراب؛ سراب الصنعة اللفظية والذاتية البيانية!
ومع ذلك يذهب الأديب الفاضل إلى أن المتنبي وابن الرومي ينفذان من نطاق النقد الذي أقمته حول بناء الشعر العربي القديم، فهل يتفضل بتقديم قصيدة لهذا وأخرى لذاك(851/39)
يتخيرهما من روائع الشاعرين، لنستطيع أن نضعهما فوق مشرحة الدراسة النقدية، مستخدمين مبضع التحليل على ضوء الأصول الفنية التي عرضت لها في مشكلة الأداء النفسي في الشعر؟ إنني على استعداد لتشريح أية قصيدة تقدم إليَّ من الشعر العربي القديم، وعلى استعداد لأن أثبت لمقدمها في غير تجن ولا مغالاة، أن أية ومضة نفسية يمكن أن تشع في بيت من الشعر هنا، ستقابلها عشرات الومضات اللفظية في كثير من الأبيات هناك. . . وهذا هو الحد الفاصل بيني وبين من يختلفون معي في الرأي حول الشعر العربي القديم!
نترك هذا كله لنرد على اللفتة الأخيرة في كلمة الأديب الفاضل حين يقول: (لقد جعلت (شوقي) زعيم مدرسة في حسن الأداء النفسي، لأنه يملك الصدق في الشعور والصدق في الفن، وجعلته قريناً لشاعر آخر. . . والمعروف أن المدرستين مختلفتان في كثير من السمات والوجوه؛ فشوقي في رأيي يحفل بالصدق الفني، ويتأنق في عرض الصورة البيانية، فطابع الصدق الفني أغلب في شعره من الصدق الشعوري، وعلى النقيض من ذلك الشاعر (إيليا أبو ماضي). والذي يهمني بعد، أن توضح لي رأيك في مكان شوقي بين الشعراء، ومكانة شعره في نفسك).
إن القول بأن المدرستين مختلفتان في كثير من السمات والوجوه غير صحيح في جملته، ذلك لأنهما تختلفان في المظهر وتتفقان في الجوهر، ونعني بالمظهر هنا ذلك الإخراج الفني للصورة البيانية، أما الجوهر فنعني به ذلك العرض الصادق للصورة النفسية؛ وهنا تتمثل نقطة الارتكاز في الأداء النفسي حيث تلتقي المدرستان. . . فاللفظ عند شوقي هو لفظ الدلالة الموحية، الدلالة على الموجات الشعورية التي يندفع رشاشها من الداخل ليرطب مسالك التعبير، وهو كذلك أيضاً عند إيلياأبيماضي. الأداء نفسي هنا ونفسي هناك، أما الاختلاف فهو في تلك المعالم الخارجية للهياكل اللفظية، ولا بأس من توضيح هذا الاختلاف الذي يبدو في المظهر لا في الجوهر بأن نقول: إن شعر المدرستين أشبه بثوبين أخرجهما مصنع واحد من نسيج واحد، ولكن العامل الذي ابتكر تلوين هذا الثوب غير العامل الذي ابتكر تلوين ذاك. . .
ولقد سبق أن قلت: إن الأداء النفسي في الشعر، لا بد أن يقوم على دعامتين لا غِنى(851/40)
لإحداهما عن الأخرى: دعامة الصدق الفني ودعامة الصدق الشعوري، ومعنى هذا أننا إذ قلنا إن شعر شوقي يغلب فيه طابع الصدق الفني، فقد أخرجناه بعض الإخراج من دائرة الأداء النفسي، وكذلك ينطبق القول على أبي ماضي إذا ما حكمنا بالغلبة لطابع الصدق الشعوري في شعره. . . إذ لا بد من المساواة بين الصدقين لتكتمل العناصر الفنية المتفاعل لتكوين المزيج الأخير، ونعني به مزيج الأداء النفسي في شعر الشاعرين أو شعر المدرستين!
أما عن رأيي في مكان شوقي بين الشعراء ومكانة شعره في نفسي، فقد أبديت هذا الرأي من قبل، هناك في (تعقيبات) العدد (815) من الرسالة، تحت عنوان (لحظات مع أمير الشعراء)، ومهما يكن من شيء، فإن رأيي في شعر الرجل، هو رأيي في شعر الأداء النفسي، ولعلي قد أشرت إلى مكانة شعره حين أفضت في الحديث عن مكانة ذلك الأداء في موازين النقد. . . وللأديب الفاضل خالص الشكر وعاطر التحية.
إلى الصديق الفاضل صاحب (بيروت المساء):
قرأت في آخر عدد تلقيته من جريدتكم منذ أيام، مقالاً ثائراً تحت عنوان ضخم: (المعداوي يتهجم على أدباء لبنان). . . وكان مصدر الثورة أنني قلت للأستاذ سهيل إدريس على صفحات (الرسالة) وأنا أتحدَّث عن قصته (سراب)، مُشيراً إلى حملات خصومه من كتاب لبنان على إنتاجه القصصي: (. . . فلم لا ترفع معول الهدم لتهوي به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب)؟!
قلت هذا للأستاذ إدريس بالأمس، فإذا أحد كتَّابكم يُهاجمني اليوم على صفحات (بيروت المساء) مُؤكداً أنني قد تهجمت على أدباء لبنان. . . معذرة إذا قلت لك إن هذا القول تنقصه الدَّقة في التعبير، وتعوزه الأمانة في تصوير الواقع. الحق أنني لم أتهجم على (أدباء) لبنان، ولكنني تهجمت على (أنصاف الأدباء) في لبنان، ولهذا لم تُثر كلمتي سخط الفريق الأول، ولكنها أثارت سخط الفريق الأخير!!. . .
ومعذرة مرة أخرى إذا وجهت إليك الحديث وأهملت ذلك الكاتب الذي كان يعنيني بكلماته. . . إنني ما تعودتُ قط أن أخاطب المجهولين! ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغتُ من قراءة كلمته: كيف لم أسمع باسمه إلا اليوم، أنا الذي تعي ذاكرتي المتواضعة أسماء رجال الأدب(851/41)
في لبنان، منذ أن وُجد في لبنان أدب وأدباء؟!. . . اسم الكاتب الفاضل (علي شرف)، هل تسمح بأن تمدني ببعض ما تعرف عن مؤهلات الكاتب الفاضل؟ لستُ أعني مؤهلاته الدراسية، وإنما أعني مُؤهلاته الثقافية، أتدري لماذا؟ لأنني حاولت أكثر من مرة - وذلك على ضوء كلماته - حاولت أن أنصف ثقافته حيث لم تنصف الأيام اسمه. . . ولكنني لم أستطع!!
كل ما خرجت به من مقال الكاتب الفاضل، هو أنه أراد أن يلقي عليَّ دروسه القيمة في أصول النقد الأدبي. . .
أرجو أن تنقل إليه هاتين الكلمتين: لقد هزلت! ذلك لأنني - والحق يقال - قد تعلمت أصول النقد الأدبي قبل أن يتعلم الكاتب الفاضل حروف الهجاء العربية. . . إن من المضحك حقاً أن يتوهم الكاتب الفاضل أنني قد تهجمت على (أدباء) لبنان، وأشدّ من ذلك إضحاكاً أن يغضب عليَّ تلك الغضبة المضرية متوهماً مرة أخرى أنه من أدباء لبنان، وقاتل الله مركب النقص حين يحلق بأصحابه على أجنحة الوهم في كل أفق تهبط عليهم فيه عرائس الخيال!!. . . أنه ليسألني أن أشرح له ماذا أعني (بطبقات القصة) تلك التي (حددتها المقاييس)، ويسألني عن (اكتمال التصميم الفني) وأهميته قبل الشروع في البناء، ويسألني ويسألني؛ وقاتل الله الفراغ. . . وبعد ذلك يفغر فاه من الدهشة ويخبط كفاً بكف من شدة العجب: كيف واتتني الجرأة على القول بأن في لبنان بعض الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!
إن في لبنان (أدباء) أقدِّرهم وأعتز بهم، وكثيرون منهم يعطرون صفحات (بيروت المساء) بإنتاجهم الأدبي الممتاز. . .
الكرامة العقلية في حفلة تكريم أم كلثوم:
تهافت كثير من كتابنا وشعرائنا على حفلة تكريم الآنسة أم كلثوم تهافتاً يدل على أن (الوفاء) و (عرفان الجميل) في مصر بخير، وأشاد بعضهم (بوطنية) الآنسة أم كلثوم و (فضلها) على أبناء الوطن إشادة تبشر أيضاً بأن موازين أصحاب القلم في مصر بخير، أما حفلة التكريم فقد أقيمت رغبة في تسجيل كل هذه (القِيم) بمناسبة عودة المطربة الكبيرة من البلاد الأوربية. . . ولكنني أعلم مثلا أن الدكتور طه حسين قد سافر إلى الخارج وعاد إلى(851/42)
وطنه أكثر من مرة، وكذلك عاد الأستاذ توفيق الحكيم من فرنسا منذ أيام، ومع ذلك فلم يفكر أحد من هؤلاء السادة في تكريم الرجلين. وأعلم أيضاً أن مطران قد مات وأن المازني قد مات، ومع ذلك فلم يتهافت أحد من هؤلاء السادة بعض هذا التهافت على تأبين الراحلين. . . بل إن صوتاً واحداً من أصوات هؤلاء السادة لم يرتفع منادياً بمنح أولاد المازني مجانية تعينهم على مواصلة التعليم، بعد أن طرقوا كل باب وما من سميع ولا من مجيب!!
معنى هذا أن رجلا كطه أو الحكيم أو المازني أو مطران، هؤلاء جميعاً في ميزان كتابنا وشعرائنا ليس لهم من الفضل في توجيه الجيل بعض ما للآنسة أم كلثوم. . . بل إن صحافتنا الموقرة لم تكتب مثلا عن حفلة استقبال الأستاذ الزيات وزميله في مجمع اللغة إلا سطوراً في حين أنها خصصت من صفحاتها أعمدة كاملة لحفلة استقبال المطربة الكبيرة!
أيها الأدباء، أيها الشعراء، أيها الصحفيون. . شيئاً من الكرامة العقلية!!
أنور المعداوي(851/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تكريم أم كلثوم:
في يوم الأربعاء الماضي احتفلت الهيئات الموسيقية في مصر بتكريم كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم بدار معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، لمناسبة عودتها من أوربا، تعبيراً عن السرور بشفاء عينيها واطمئنانها على صحتها بعد أن قلقت عليهما وامتنعت عن الغناء فشاركها الناس الأسف واكتأبوا لما نالها من الهم. فلما عادت سالمة قريرة إلى الوادي لتشدو في مغانيه، انبعثت النشوة في جوانبه وسرت الفرحة في أرجائه، ثم تبلورت بعض المشاعر في هذا الحفل.
ولئن اجتمعت الهيئات الموسيقية على تكريم أم كلثوم، لقد كرمت هي الموسيقى والغناء، ورفعت شأن الفن وأهله في هذا العصر بفنها العالي وشخصيتها المترفعة. ولم يكن تكريم أم كلثوم قاصراً على الهيئات الموسيقية التي نظمت الحفل ودعت إليه، وإنما كان تكريم مصر كلها لمهدية السرور إلى قلوي أبنائها، تكلم بلسانها أعلامها من شعراء وخطباء، وإن أم كلثوم لأهل لكل تكريم، فهي ثروة فنية طائلة، وإن اهتم الناس في مصر بتكريمها وتقاعدوا عن تقدير غيرها من الأدباء والفنانين، فقد أدوا واجبهم نحوها وقصروا في حق من أهملوه.
ألقيت في الحفل كلمات مناسبة للمقام من ممثلي الهيئات الموسيقية، وخطب الأستاذ توفيق دياب بك، وأُلقيت قصائد للأستاذ عباس محمود العقاد والأستاذ عزيز أباظه باشا والدكتور إبراهيم ناجي والأستاذ كامل الشناوي، وأزجال للأستاذ بديع خيري والأستاذ بيرم التونسي والدكتور سعيد عبده، وختم الحفل بكلمة الشكر من المحتفل بتكريمها، وما أبلغها كلمة! غنت لمكرميها رداً للتحية، فأعطت أكثر مما أخذت.
وتخلل ذلك غناء موسيقي، وقد قدم الموسيقيون ألواناً من عزفهم وفنوناً من ألحانهم، فردوا اعتبار الفن إليه بعد طول ما أساءت إليه الإذاعة بما تقدم من الغث الممجوج والمعاد المملول. ومما يذكر بالإعجاب قدرة الموسيقيين المصريين على عزف بعض القطع الرائعة من الموسيقى العالمية، ولا سيما الذي عزف موسيقى الباليه. وقد أبدع (خماسي مجلس(851/44)
الإدارة) الذي يتكون أصحابه من خمسة أعضاء بمجلس إدارة نقابة الموسيقيين المحترفين، وكانت موسيقى على فراج بارعة، وقد نبغ هذا الفنان في الموسيقى التصويرية التي قدم منها قطعة (فرح القرية) فأجاد.
ونلقى بعد ذلك - أيها السادة - نظرات إلى القصائد التي ألقيت في الحفلة. كانت قصيدة الأستاذ العقاد جيدة، كان فيها شاعراً بخواطره، وكاتباً بطبعيه السياق وسهولة الأداء واتساق الأفكار. قال في مطلعها:
هلل الشرق بالدعاء ... كوكب الشرق في السماء
ثم قال يخاطب أم كلثوم:
انظري في وجوههم ... تعرفي نضرة الوفاء
كلهم ود لو يغني ... من البشر والصفاء
لو بقدر السرور نشدو ... غلبناك بالغناء!
ثم يصف صوتها بقوله:
فيه أنس لمن يشا ... ء وسلوى لمن يشاء
فيه للمرتجي سلا ... م وللمشتكي عزاء
فيه حرز من الهمو ... م وعون على القضاء
أي نفس إذا ترنم ... ت لا تهزم الشقاء
وابتدأ الأستاذ عزيز أباظه باشا قصيدته بقوله:
سعيت في زحمة الأعلام أسكب من ... قلبي الولاء ومن عليا سرائره
في مهرجان حباه الفن روعته ... وزانه بالأوالي من عشائره
وقلت أدلف للتاريخ تفرضني ... على مشارفه كبرى منائره
وباقي القصيدة على هذا النحو من قوة التعبير، وقد أخذ يفتن في معانيه وخواطره حتى قال:
ما أنت إلا اعتذار الدهر قربه ... لكل عان ومظلوم ومكلوم
ما أنت إلا ابتسام الله جاد به ... ورحمة الله عمت كل محروم
وهي خواطر يفوح منها عبير الشعر.(851/45)
وقد قال:
يا أم كلثوم بعض الشر ما برحت ... آثاره تتجلى في مآثره
ثم أعقبت هذا بأبيات تحدث فيها عن اعتلال أم كلثوم والأسى له، وحمد الله على أنه عاد للروض بهجته ثم قال:
ألم أقل لك إن الشر ما برحت ... آثاره تتجلى في مآثره
ولم أفهم آثار الشر ومآثره ولا موقعها مما بين البيتين، ولعله يريد بمآثر الشر فرصة التكريم التي كان أول سببها محنة المرض، ولكن كيف تتجلى فيها آثاره؟
أما الدكتور إبراهيم ناجي فيظهر أنه كد شاعريته في هذه القصيدة حتى أتعبها فحرص على أن يحلق، فحلق، ولكن جناحيه لم يقويا كثيراً على التحليق، فجاءت القصيدة أقل من مستوى شعره. ومن تحليقه قوله:
تسمعي، في العلى همس وأغنية ... أذاك صوتك أم في الخلد تنزيل
على الثرى لك أكباد مصفقة ... وفي السماوات إكبار وتهليل
وقوله محدثاً عن الفن:
وحسبه وقطوف منك دانية ... بأنه في وجوه العيش تجميل
فما أبدع صورة الحياة مجملا وجهها بآيات الفن!
وقد قال عن النيل يرنو نحو أم كلثوم:
جرى النسيم على وجه الغير به ... كأنه في شفاه الفن تقبيل
وأدع لفظ (الغدير) قلقاً في موضعه هنا، وأنظر في جري النسيم على صفحة الماء، هل يصلح تقبيلاً في شفاه الفن؟ وما جدوى تمثيل الفن شخصاً له شفاه فيها تقبيل يشبهها النسيم؟ لا أستطيع أن أخرج من ذلك بشيء.
وألقى الأستاذ كامل الشناوي قصيدة حاول فيها أن يخدع برنات كلماتها وقوافيها، وهذا مطلعها:
فديتها منحة، السحر أعطاها ... والسحر والشعر شيء من عطاياها
وفيه ترى السحر من عطاياها وهي من عطايا السحر. . . أي أنهما يتعاطيان! وقد جانبه التوفيق (الذوقي) في مقارنته بين أم كلثوم وانقسام الذرة. . . لأنهما يتنافسان على المجد(851/46)
في هذا الأوان! ويتساءل أيهما أولى بالمباهاة، ويجيب:
الفن أولى ففيه رحمة وهدى ... الفن قنبلة تأسو شظاياها
ولست أدري كيف يكون الفن رحمة وهدى وقنبلة ذات شظايا. . ولا أخال الأستاذ إلا معتزاً بأن جعل شظايا القنبلة تأسو ولكنا لا نأمنها، وما انفجار الذخيرة في جبل المقطم ببعيد.
وفي القصيدة أبيات لا بأس بها منها:
الصوت بعض هداياها وقد فتنت ... به الخلود فأمسى من هداياها
السندباد البحري:
عرض أخيراً بسينما (ديانا) فلم (السندباد البحري) وهو معرب بأصوات ممثلين وممثلات مصريين، والفلم يقوم على أسطورة من أساطير (ألف ليلة وليلة) فيعرض مغامرات السندباد البحري العجيبة، وما تعرض له خلالها من أهوال، وما بذله من جهود خارقة في التغلب عليها، فقد أغرق (الأمير أحمد) وأخذ (مداليته) السحرية التي مكنته من قهر خصومه وخاصة الأمير الهندي الذي ينافسه في حب الأميرة الجميلة، وأخيراً يدعي أنه الأمير أحمد ويذهب إلى أبيه - أبي الأمير - (اسكندر) كاتم سر (الكنز) الذي يبوح بالسر له وللأمير الهندي ورجل آخر يدعى (عبد الملك الحلاق) فيفرح هذان بمحتويات الكنز ولكنهما يموتان دون الانتفاع بشيء منها، أما السندباد البطل المغوار فيفوز بالأميرة الفاتنة ولا يلقىبالا إلى المال.
ويقال في تقديم هذا الفلم أنه يمثل سحر الشرق وعظمة الشرق، وأنا - والله - لم أجد فيه للشرق رائحة، فضلا عن السحر والعظمة. . . ولكن أقول أنه يمثل الشرق الذي يتصوره أولئك الغربيون أو يحلو لهم أن يتصوروه، لا في هذا الفلم فقط بل في أشباهه (كلص بغداد) و (ألف ليلة وليلة) من تلك الخرافات التي يحب الغربيون أن يتخذوا منها صوراً لحياة البلاد الشرقية في العصور الماضية، وكأنهم يهربون مع خيال هذه الأساطير من واقع الشرق نفسه في تلك العصور، كما يهرب من يزور مصر منهم من حاضرها وحياتها المعاصرة إلى الأهرام وأبي الهول
وليتهم يوفقون في تصوير الروح الشرقية والجو الشرقي في تلك الأفلام التي نرى فيها أشخاصاً وأشياء لا هي شرقية ولا غربية فهم يمسخونها كما يمسخ بعض المؤلفين(851/47)
والمخرجين عندنا الأفلام الغربية ويدعون أنها مصرية مؤلفة، هؤلاء كأولئك، حذو الفلم بالفلم.
وفلم (السندباد البحري) يعرض بالألوان الطبيعية، وهم يختارون أجمل الممثلات في مثل هذا الفلم، وأعترف بعبقرية المخرج إذ قدم لنا (الأميرة الفاتنة) كأي فتاة عصرية في كل شيء، تلبس الثياب (على آخر مودة)! والممثلون يلبسون (البنطلونات) وأجسامهم الحمراء تنطق ب (السكسونية) الصارخة، يختلط كل ذلك بمناظر التعذيب المفزعة إذ تهوى السياط على الأبدان فتمزقها كما كان يصنع الشرقيون في غابر الأزمان وسالف العصر والأوان!
ويظهر أن المشاهدين يصبرون على متابعة الفلم، مستمدين الجلد عليها من القوة السحرة الخارقة التي يتمتع بها السندباد البحري، على الرغم مما يلاقونه من أهوال في تلك المشاهدة، كأهوال السندباد. ولكنه يخرج أهواله بالأميرة الحسناء، أما نحن - المساكين - فنخرج مصدعي الرءوس، وقد يذهل الفتى عن فتاته التي دخلت معه متعلقة بذراعه.
حقاً إن السندباد خطب في آخر الفلم، مبيناً أن المال لا قيمة له في سعادة الإنسان، وإنما السعادة الحقيقية هي سعادة القلب والفكر ومن أجل ذلك داس جواهر الكنز ولم يعبأ بها مكتفياً بفاتنته الأميرة، ولكن الفلم لم يعرض لنا ذلك عرضاً عملياً يجعلنا نستخلص العبر من الحوادث ولم يضعنا في جو طبيعي ندرك منه ذلك؛ وقد يقال إن القصة خرافة، ولكن ما هدف هذه الخرافة غير قلب الدماغ بتلك الحوادث التي لا تحمل متعة فنية لذوق سليم، وغير وقع القلب بالوعظ في آخر الأمر؟
والذي يؤسف له أن يكون ذلك هو ثمرة تعريب الأفلام (دبلجتها) وقد كتبت في هذا الموضوع عندما هب السينمائيون المصريون يعارضون تعريب الأفلام في العام الماضي، وبينت أن هذه المعارضة حركة تجارية، وأن الفائدة التي نجنيها من تعريب الأفلام الجيدة محققة. وإذا كنا نعرب الكتب مقتنعين بفائدتها فلم نمنع تعريب الأفلام؟ ولكن أي الأفلام نعرب؟ هذه هي المسألة التي نراها تواجهنا الآن، وكل ما يجب هو حسن الاختيار.
عباس خضر(851/48)
القصص
حيوان أليف
للكاتب الياباني شيما زاكي توسون
بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
لازمها سوء حظها منذ ولادتها. لقد أقبلت إلى العالم بشعر قصير أشهب، وأذنين واقفتين، وعينان تشبهان عيني الثعلب. إن كل ما يدعي حيواناً أليفاً يتحلى بصفات تجذب شعور الصداقة بينه وبين الناس. بيد أنها لم تكن حائزة أية صفة منها. ولم يكن يبدو على ملامحها ما يحببها إلى البشر. كانت تعوزها خواص الحيوان الأليف. وبطبيعة الحال، أهملوا أمرها.
ومع ذلك، كانت كلبة: حيواناً لا يستطيع أن يعيش منفرداً. وكان من المستحيل عليها أن تنبذ عادتها الموروثة في أن يجود عليها الناس بالطعام. ولذلك أخذت تبحث عن دار تلائمها.
وهام ذلك الكائن المجهد في ضيعة كن سان المزارع، وكان قد انتهى من إنشاء الدار الجديدة ذات السقف الخشبي، المقامة بجوار طريق قرية إكويو بحيث يستطيع أي إنسان أن يقصد الطريق الرئيسي من خلال فنائها الخلفي. وكانت أرضيتها مرتفعة وتربتها جافة، فضلا عن أنه كان بها فناء ضيق حالك ذو فرجة بين مدخله والحاجز القائم بين هذه الدار وتلك التي تليها، تستطيع فيها أن تخفي نفسها في الحال عندما يقضي الأمر ذلك. ولم تتوان لحظة في احتلال هذا المخبأ الكائن تحت الأرض.
ثم دعتها الحاجة الملحة إلى الحصول على الطعام. وأرشدها أنفها الحساس إلى الطريق صوب المطبخ. ولم يكن لديها وقت للاختيار، فقد كانت جائعة. فأخذت تأكل ما يصادفها: قشور الفاكهة، وحساء بارد نتن الرائحة، وأوعية من الطعام الفاسد. فإذا لم يكفها كل هذا، قامت تتشمم ما حولها، حتى كومة الغبار، وتصيد أقصى ما تستطيع صيده. ووجدت هناك جوارب قذرة مشربة بماء الغسيل بجوار الحائط، فجعلت تشرب الماء المتساقط منها في سرور.(851/49)
كانت هناك في الحديقة شجرة قديمة، فعزمت على أن تجعل من ظلالها موضعاً لراحتها، فتمدد أقدامها الأربع على الأرض الدافئة من حرارة الشمس الساطعة خلال الأفنان. وتتثاءب أو تحك مواضع في جسمها. وعندما يأتي المساء تدلف إلى ملجأها تحت الأرض وترقد على أجولة الفحم. وهكذا بدأت حياتها.
كانت عائلة كن سان تحتفظ في ذلك الوقت بكلب أسمر اللون يدعى بوتشي. وكان الحيوان الوحيد الذي يقابل بالترحاب. وكان يبدو أنه ذو طبيعة اجتماعية، فقد كان يتقرب إليها في أدب وهو يحفر الأرض، فترد عليه تحيته بهز ذنبها القذر.
بيد أن كن سان وغيره من أولئك الذين يعيشون في ضيعته، لم يرحبوا بها كما رحبوا ببوتشي. وصاح أحدهم (أليس من الخسارة الكبرى أن يكون الفرد قبيحاً حتى بين الحيوانات؟) فيرد آخر (لو كانت ذات مسحة من الجمال لاحتفظت بها!) بيد أن كل هذا لم يكن له معنى عندها.
ودعاها هؤلاء الناس (بب). وكانت لكل دار (عمة): لقب يضفى على ربة الدار. وكانت العمات والأولاد يشتركن في كراهيتهم لها ويصرخون فيها. أما الأعمام فقد كانوا فظعاء. إن أقل إهمال أو انتباه تجعلها طريدتهم. وكثيراً ما ألقوا عليها الأحجار وكرات الطين وأسياخ المدفأة. وفي ذات يوم أصابها مقبض باب، فسبب لها جرحاً في إحدى مؤخرتيها.
وشيئاً فشيئاً، أخذت تفهم العقلية البشرية: معنى زم الفم، والقيام بالتقاط شيء، وهز الأكتاف، وعض الشفاه. كانت كل هذه الانفعالات الثائرة ضدها، قد بينت لها مدى كراهية مطارديها. وكادت في ذات يوم أن تساق لتغرق في الخليج. ولا يستطيع أحد أن يعرف كيف وجدت سبيلها إلى الهرب! كان الناس يصيحون (استحضروا الحبل. الحبل!) وكانت يائسة، فجعلت تعدو خلال الحديقة، بين الشجيرات. وذهبت صوب الفرن ثم استدارت حول مخزن الغلال، وأخيراً فرت إلى الحقول حيث تنمو الزهور التي تباع في الأعياد.
وصاح أحد الأعمام: (لقد فرَّت أخيراً!) فرد كن سان وهو يضحك ضحكة رجل طيب (أليست شيئاً متعباً؟)
وتكررت مثل هذه التجربة القاسية. ولكنها لم تكن بالتي تقهر من مثل هذه الأعمال. ينبغي لها أن تبحث عن طعامها في هدوء وفي مظهر من يقول (إن هذه أرضي). وكانت تتقدم(851/50)
إلى المطبخ الجديد في شجاعة، أو تذهب إلى الشرفة بأقدامها القذرة، فتمزق الستائر، وتلهو بما تغسله العمات من ملبوسات وتلطخها بالطمي والغبار. ولم يكن لها اعتبار عند الأطفال. كان لهذه العائلة فتاة تدعى شوكان. وكانت تميل إلى اللعب في الفناء، فكانت الكلبة تطاردها مداعبة. وكانت الفتاة أحياناً ما تستحضر معها قطعة من الكعك، وتظهرها لها قائلة: (انظري! انظري يا بب!)
وسرعان ما تقفز على كوشان، فيتعالى صراخ الفتاة (أوه، ما ما، إن بب شريرة!) وكانت هذه دائماً صرخة كوشان في طلب المعونة. فتقبل عندئذ العمات مسرعات وينادين كوشان: (اهربي يا كوشان! في سرعة!) فتفر الفتاة باكية ولم يبق معها شيء من الكعك. لقد أخذته الكلبة منها، وبذلك حصلت على الحلوى التي تأكلها الناس، وبعدما تنتهي من أكلها، تلعق طرف أنفها بلسانها الأحمر
ومهما يكن من الأمر، فقد كانت لا تتعمد ما تقوم به من حركات، طيبة كانت أو شريرة. وكانت هذه الكلمات التي تسمعها من أفواه الأعمام والعمات لا تفهم لها معنى. فلم يكن لها طبيعة فهم تقاليد الناس المتمدينين وأحوالهم، لم تكن سوى كلبة سواء أكانت أفعالها مؤدبة أو خالية من الأدب. إنها حيوان مسكين يعمل كما توحي إليه طبيعته
ومر الشتاء القارس البائس، ولم تزل تتألم من هذه المعاملة، معاملة طردها، وكان من العجيب ألا تموت جوعاً في ذلك الشتاء لقد كانت المخلوقات البشرية في حالة محزنة، فكيف إذا يستغنون عن حفنات من أرزهم البارد لهذا الحيوان الجاهل، تلك الكلبة المتعبة التي لا تنفع في شيء؟ وكانت تهيم في الأماكن النائية، فتتبلغ بما تجده من أشياء، حتى قشور البرتقال
ثم أقبل الربيع، وأخذ الجليد في الذوبان، وبدت الكلبة كأنما نما عودها، وكانت كل الكلاب تتجمع حولها: بوتشي الذي يقطن دار كن سو، كورو الذي يعيش بدار الاستحمام، وآكا الذي يحرس مسكن تاجر الخشب، وذلك الكلب الضخم الذي يخض الجيران. وكان يتبعها ثلاثة أو أربعة منها أينما ذهبت وكان الموضع المريح في ظلال الشجرة الكائنة بالفناء مرتعاً لصدى هريرها وكأنها تود أن تهمس إليها بكلمات الغزل
ولاحظت ذلك المشهد عمة مقبلة نحو البئر الجانبية، وقد حملت معها دلواً، فقالت: (يا إلهي(851/51)
إن بب كلبة أنثى! إني لم ألاحظ ذلك من قبل!
فردَّت عمة من الدَّار الجديدة شاهدت أيضاً ما يحدث (ولا أنا)
وضحكت العمتان وجعلتا تنظران إلى ذلك المشهد في اهتمام
(يجب أن تنفى). كان هذا منشأ الجدال الذي استمر في ضيعة كن سان بين أعضاء عائلتين من العائلات الأربع. ثم انقسموا إلى حزبين: حزب الأعمام، وحزب العمات. كانت العمات يصرحن أن الأمر قد أصبح مختلفاً. أن حالتها الآن مغايرة لما كانت عليه في الماضي. وكن في جدلهن كأنما يقارن أنفسهن بها (وقد يكون هناك وجه للمقارنة). وكان الأعمام يعارضون في إنجابها ذرية. أنه من الفظاعة أن تلد أولاداً على شاكلتها. وفي الحق، لم يكن هناك من يهتم بمستقبلها. ولم تكن الكلبة تعرف شيئاً عن كل ذلك.
وما إن مر يوم حتى وقفت مركبة بجوار دار كن سان، يعلوها صندوق بلا غطاء، مغطى بقطعة قذرة من الحصير. وتشمم أنفها في سرعة ما الذي في المركبة.
وأقبل شرطي يتبعه رجل ذو نظرات مريبة. ودلفا إلى الدار. بيد أنها لم تكن تحوم في مثل هذه الأماكن الخطرة. وأخذ بوتشي وكورو وغيرهما من الكلاب في النباح. وأقبل الأعمام والعمات وكل سكان القرية. وصاحت كوشان (صياد الكلاب يا ما ما!) ثم اختبأت خلف والدتها.
وجرى الناس حول الحديقة. وشاركهم في العدو صبي من مدرسة متوسطة كان يرسم صورة بالألوان المائية، وقد أمسك بحامل الرسم، وابنة كن سان وكانت تقوم بري الزهور.
(لقد هربت من هنا! لقد ولت من هناك!).
وارتبك القوم في عجب. ثم قالت كوشان وهي ترجف (من المؤكد أن بب قد قتلت).
وأخيراً استطاعت الهرب. وهز رجل ممسك في يده هراوة غليظة في غيظ. وقال الشرطي (لا فائدة، لا فائدة) وضحك وهو يسير صوب الباب. ثم انسحب هو ورفيقه إلى المركبة الفارغة يجران وراءهما ذيول الخيبة.
لقد هربت على أية حال، ونجت بجلدها. ومرت الأيام وتضخمت بطنها، وأخذت عيناها تتلونان بلون غير ثابت من القلق. إنها لن تحافظ على نفسها فحسب، بل يجب عليها أيضاً أن تحمي أولادها في بطنها. إن ظلال الشجرة لم تعد مأمونة، وحتى عندما كانت ترقد على(851/52)
الأرض الندية، وهي تلهث مما اعتراها من ألم. سرعان ما كانت تهب واقفة عندما تشاهد خيال إنسان ما، يجب ألاّ تتهاون ولو لحظة واحدة، وكان يلوح في عينيها أنه ليس هناك من أشد قسوة وأقل رحمة من الكائن البشري.
بيد أنه على الرغم من خوفها، كانت لا تستطيع الابتعاد عن الدار. وقد يبدو في عين الرائي، أنها قد تكون في راحة تامة، كغيرها من الحيوانات، لو ذهبت إلى الغابة النائية، ورقدت هناك بين الأشجار والحشائش! ولكن ذلك لم يبد في عينيها، إنها لا تستطيع أن تغير من طبيعتها الموروثة
وفي أوائل شهر يونيو، انتهت من القيام بواجبات الأمومة وظهرت أربعة جراء في فرن كن سان، اثنان منها جميلان يشبهان بوتشي في لونه، وواحد أسود فاحم، والرابع يشبهها كثيراً.
وفي صباح يوم ولادتها، تراءت لها للمرة الأولى ابتسامة البشر تهش بها، وفي ذلك الصباح أيضاً قدموا إليها لأول مرة الطعام
وأخذت عمة كن سان تناديها (بب، تعالي، تعالي) ثم أصبحت تناديها دائماً منذ ذلك اليوم. . .
محمد فتحي عبد الوهاب(851/53)
العدد 852 - بتاريخ: 31 - 10 - 1949(/)
من وحي الهجرة
بعث الله النبي الكريم على فترة من الرسل، في عصر غير ذي دين، وجيل غير ذي خلق، وبلد غير ذي زرع. فلقي صلوات الله عليه من سفه الجاهليةوكلَب المادية وكيد العصبية وحرمان الفقر وخذلان القلة ما لا يسعه طوق بشر إلا بروْح من الله وسند من الإيمان وعون من الخلق.
حمل محمد رسالة الله وهو فقير ضعيف، وحمل أبو جهل رسالة الشيطان وهو غني مسلَّط، فحوّل مكة المشركة جبلا من السعير سدَّ على الرسول طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتفور بالعذاب. وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبي لهب بالأذى والهون والمعاياة والمعارضة. وكل قرشي كان يومئذ أبا جهل أو أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن كفار مكة ومشركو الطائف في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي أهله وفي صحبه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لأن ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (دار الندوة) فقرَّر القتل، وتدخل الله بروْحه في (غار ثور) فقدَّر النجاة. وانطلق محمد هو وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المؤتمرين في الطريق الموحش الوعر حتى بلغوا طيبة. وهنالك بالصبر والصدق والإيمان والرجولة أثمر غرس الدعوة وتم نور الله.
كان يوم الهجرة الذي جعله عمر الحكيم العظيم تاريخاً للمسلمين يحسبون منه أيامهم، ويؤرخون به أحداثهم، خاتمة وفاتحة: كان خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام القواتل تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ وكان فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، أعلن العرب فيها كلمة الله، وبلغوا رسالة الحق، وحملوا أمانة العلم، وأرشدوا الضال فاهتدى، وحموا الذليل فعز، وعلموا الجاهل فتعلم، ومكنوا في أرضهم الفسيحة ودنياهم العريضة لعناصر الجمال والخير فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت من كل مذهب، وانتشرت في كل أفق؛ وحققوا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه، من الأخوَّة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب بها المدارك؛ لأن رسالة محمد لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل(852/1)
الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، وينقذ إنساناً بإنسان.
كان يوم الهجرة إلى المدينة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغي على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز.
وكان يوم العودة إلى مكة وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها، واتحدت كلمتها، واستحصدت قواها، لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله، ولا تسالم إلا في الحق.
كانت المدينة وحدها بعد يوم الهجرة مجالا لسياسة الرسول يضم شتات الجماعة، ويوثق عقدة الأمة، ويجمع أهبة الحرب، فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعاهد بين المسلمين واليهود، حتى تكتَّب في يثرب جيش الله الذي فتح الدنيا بفتح مكة.
ثم كان العالم كله بعد يوم الفتح مشرقاً لوحي الله وهدى الرسول، فطهره الإسلام من الأرستقراطية بالمساواة، ومن الرأسمالية بالزكاة، ثم علم الناس حكم الشورى، وألزمهم قضاء العدل، حتى أخرجهم من الوطنية المحدودة إلى الإنسانية المطلقة.
إن هجرة الرسول ملحمة من ملاحم البطولة القدسية لا يفتر عن إنشادها الدهر! استمدت إلهامها من وحي الله، وروحها من خلق الرسول، وعملها من صدق العرب، واستقرت في مسامع الأجيال والقرون مثلا مضروباً لقواد الإنسانية، يعلمهم الصبر على مكاره الرأي، والاستمساك في مزالق الفتنة، والاستبسال في مواقف المحنة، والاستشهاد في سبيل المبدأ.
فاذكروا يا ساسة العرب وأنتم تجتمعون اليوم لتوثقوا روابط الجامعة العربية أن الرسالة المحمدية التي هاجرت مغلوبة من مكة إلى المدينة، سافرت غالبة من الشرق إلى الغرب، بفضل مبدئها الإلهي الذي قامت عليه ودعت إليه وفازت به، وهو توحيد الله، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الخطة، وتوحيد الغاية.
اذكروا لماذا نذكر صاحب الهجرة في كل أذان وفي كل صلاة من كل يوم. هل نذكر اسمه مع اسم الله تعبداً به؟ معاذ الله فما يكون الشرك غير هذا. إنما نذكر الله ونذكر بعده محمداً كما نذكر القاعدة ومعها المثل، أو النظرية وبعدها العمل؛ لأن الله يوحي والرسول يبلغ،(852/2)
ويأمر وهو ينفذ، ويشرع وهو يطبق؛ فذكر الله استحضار لأوامره ونواهيه وتلك هي القدرة، وذكر الرسول استحضار لأفعاله وأقواله وتلك هي القدوة.
اذكروا ذلك وقولوا للمعوقين منكم إن العصبية التي توسوس في بعض الصدور بالرياسة والسيادة، إنما كانت في تاريخنا الحافل بالأحداث والعبر علة العلل في انشقاق العصا، وانقسام الرأي، وانتشار الأمر، وتعدد الدول، حتى كان لنا في الأرض ثلاثة خلفاء في وقت واحد: عباسي على عرش بغداد، وأموي على عرش قرطبة، وفاطمي على عرش القاهرة، ولكل خليفة منهم شأن يغنيه، وعدوان مع الباغين على أخيه.
اذكروا ذلك يا ساسة العرب واستاروا بسيرة نبيكم في السياسة، واستنوا بسنته في الحكم، فإن محمد بن عبد الله الذي آثر أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً، قد ساس الناس في عهده سياسة دينية لا وطنية ولا قومية؛ لأن الوطن محدود والدين لا حد له، ولأن القوم جماعة متميزة والدين إنسانية شاملة. أما وقد استشْرت العصبية ففرقت شعبنا فرقاً لكل فرقة طرُزٌ ورسوم، ومزقت وطننا مزَقاً تفصل بينها مكوس وتخوم، فإنا أحرياء بأن نصلح الأمر بما صلح عليه أوله: تخفت في نفوسنا صوت الأثرة، ونسكن في رءوسنا عصف الهوى، ونجدد في أذهاننا ما انطمس من معاني الإيثار والإخاء والفداء والمروءة، ونوضح في أفهامنا ما انبهم من هذه المبادئ الإسلامية الصريحة: إنما المؤمنون أخوة. وأمرهم شورى بينهم. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. . . وتلك هي المثل العليا للسلام والنظام والحكم، تطلبها الشعوب المكروبة المسخَّرة بالثورة بعد الثورة، وبالحرب بعد الحرب، فيحول بينها وبينها تصادم القوة وتعارض المنافع.
لا نطمع في أن نجعل من الوطن العربي الذي قطَّعه الغاصبون دويلات ليسهل ازدرادها، وحدة كاملة. ذلك فوق الطاقة الآن، لأنه عمل لم يقو عليه من قبل غير محمد، ولن يقوى عليه من بعد غير رجل من رجال محمد، هو الرجل الذي ينتظره العرب انتظار الأرض رجعة الربيع. وبحسبنا أن نمهد أمامه الطريق بهذه الجامعة العربية التي توافدتم اليوم إلى توكيد ميثاقها وتثبيت أركانها في القاهرة. فإذا أقمتموها يا ساسة العرب على الإيمان الصادق والنية الخالصة، كانت إرهاصاً لظهور ذلك الزعيم المنتظر الذي يجمع الله لكم فيه الراعي الذي يطرد الذئب، والخيط الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد(852/3)
الذي يرفع العلم، والأستاذ الذي يعلمكم أن تصنعوا الإبرة والمدفع، وتشقوا المنجم والحقل، وتوفقوا بين الدين والدنيا، وتلائموا بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. ويومئذ تعودون إلى منزلتكم من صدر الحياة، ومكانتكم من قيادة الناس.
أحمد حسن الزيات(852/4)
صور من الحياة:
2 - زوجة تنهار!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: (مالك تغلو في رسم صورة (زوجة تنهار) فتزعم أن المرأة تفر من دار زوجها وتذر أولادها، وهم حبة القلب، ونور العين، وفرحة العمر، وبهجة الحياة. . . تذرهم لتعيش إلى جانب عشيق كائن من كان؛ على حين نرى الحيوان الوديع يتنمر إن أحس بسوء يوشك أن يصيب صغاره. . . فما بال الإنسان؟)
قلت: (أما هذه القصة، فهي من صميم الحياة، قصها صاحبها علي وعلى رهط من صحابه. . . وقصها أيضاً على الأستاذ سعيد العريان، وهو رجل ذو مروءة وإنسانية، وذو مكانة وشأن. . . فناله - مما سمع - الضيق والعطف، فقدم لصاحب القصة من إنسانيته ورجولته ما خفف عنه لأواء المصيبة، وأزاح عنه بعض وطأة البلوى. . .)
(كامل)
آه. . . يا لقلبي! إن الزوجة حين ترتدع في حمأة الخيانة تعلن عن أن دمها الملوث لم يشعر يوماً بصفاء المعاني السامية في الشرف والكرامة!
والزوجة الساقطة امرأة انتكست إنسانيتها، واتَّضعت كرامتها، ومات ضميرها. . . امرأة برمت بها روحانية السماء فلفظتها فجذبتها ظلمات الأرض لتسفل إلى هوة الخسة والرذيلة. . . وهي في عين زوجها وباء، وفي رأي أهلها داء، وفي موكب الحياة عار وسبة، وفي عمر الرجل ساعة لهو رخيص، يستمتع بها حيناً، ثم يطرحها إلى عرض الشارع. . . وهي - دائماً - تتوارى عن الأعين المتلفتة لأنها خلعت ثوب العفة، وتفزع عن الألسنة المتلطفة لأنها نزعت رداء الشرف!
يا فتاة الشارع: أرأيت الدار الخربة وقد انقض دارها، وانفتح بابها، فأصبحت مثابة للص والشحاذ وابن السبيل؟!
أرأيت المرعى الخصيب وقد نام عنه المدافع وانصرف الحامي فأضحى مستباحاً ترده كل سائمة فلا تجد هناك إلا الأمان والخفض وإلا الري والشبع؟
أرأيت الجيفة - وهي ملقاة على الثرى - لا تملك أن تدفع عن نفسها، ومن حواليها(852/5)
الكلاب تتدافع في نهم، وتتهارش في شره، لينال كل واحد منها أوفى نصيب، فلا تستطيع هي أن تمتنع على مَنْ يلغ أو يطعم أو يعبث؟
ما أعجب ما أرى! هذا القانون الأرضي يكبل السارق بقيد من حديد إن سرق دريهمات لا تغني من فقر، ولا تسمن من فاقة، ولكنه يذر اللص يستلب الشرف، ويسطو على العِرض، فلا يغلّه بأصفاد من الرجولة والإنسانية. . .
هذا هو القانون الأرضي حين يتشبث بالتراب ويرسف في الوحل!. . .
لقد طارت الزوجة الخائنة مع شيطان من الناس. . . طارت لتذر زوجها على فراش المرض يقاسي ألم الداء ويعاني هم الزوجة ويحمل - وحده - عبء الأولاد. طارت حين زين لها الشيطان بأساليبه السفلية أن تنفلت من دارها في هدأة الليل وسكونه، فتخلف وراءها راحة الضمير في الدار، ولذة العيش في ظل الزوج وسعادة الحياة بين مرح الأولاد.
وزعمت الزوجة الآبقة أنها ضاقت بهموم الدار، وما فيها سوى زوج مريض معدم ينفق من صبابة تكاد تنضب وهي إلى جانبه يضنيها التعب - كزعمها - ويؤذيها السجن؛ وسوى صبية صغار يلحون في طلب الطعام واللباس، والمدرسة من ورائهم تصر على أن يدفعوا ثمن العلم. ونسيت أن المرأة التي تفر من دار زوجها هي عاهر القلب فاسقة العقل فاجرة الضمير، وأن المرأة التي تهرب من أولادها، وهم ملء العين والقلب والفؤاد، قد انحطت فأصبحت حيوانية النوازع أرضية المشارب.
لقد فزعت الزوجة عن دارها لتحتفظ لنفسها ببهجة الجمال ورواء الشباب ونضرة النعيم، ولتستمتع بلذة الحياة في كنف شاب وضيع وسوس لها فاغترها عن عزة النفس وشرف الترفع وسمو الإنسانية. وأرادت أن تسعد بالشهوة الرخيصة إلى جانب شيطانها فخسرت لذائذ الدنيا السامية في الدار والزوج والولد.
وانطلق الفتى إلى جانبها، وعيناه تشعان فنوناً من الختل والخداع، وحديثه يفيض ألواناً من المكر والمواربة، وقلبه ينبض بصنوف من الاحتقار والزراية، وعقله يضطرم بضروب من الكراهية والمقت. لقد غطى الشيطان على عيني الفتى - حيناً - فإندفع يزخرف الحديث للزوجة ويختلبها بالمظهر البراق، يوهمها أنه شيء وما هو بشيء، وفي طبيعة(852/6)
المرأة ضعف وفي جبلتها خور فأسلست له وانقادت فهوت. ولكن عقل الفتى كان يخزه - بين الحين والحين - وخزات عنيفة توقظ في نفسه الندم أن اقترف الجريمة الشنعاء في ساعة من ساعات الطيش الجامح، غير أنه يرى الزوجة الخائنة إلى جانبه تبسم له في رقة وتحنو عليه في عطف، فيرق لها قلبه وتتحرك في فؤاده نوازع الرحمة يشوبها الاحتقار، وتضطرب في نفسه دوافع الشفقة ممزوجة بالبغض.
أما هي فكانت تتملقه وهي ترى ثوب الرياء الذي تسربله حيناً من الزمن يتكشف أمام ناظريها عن ألوان من الضعة والسفالة والفقر. . . ولكنها كانت تتملقه وهي تحس في نفسها ألماً يتصدع له قلبها وينقد فؤادها. . . تتملقه لأنها لم تعد شيئاً سوى جيفة نتنة ملقاة على الثرى، وهي تخشى أن يقذف بها صاحبها إلى عرض الشارع.
لا عجب، فقد كان الشاب - في يوم ما - يحب الزوجة حباً يراه فالقاً كبده، ولكنه كان حب الحيوان يرنو إلى الأنثى ليقضي منها وطراً. فلما ظفر بمأربه بدأ الملل ينسرب إلى قلبه وضاق هو بحاجات المرأة وراتبه ضئيل تافه. وخانته شجاعته فلم يقو على أن يكشف لها عن خواطر عقله، فعاشا معاً زماناً.
وانطوت الأيام تمسح بيدها الرفيقة على قلب الزوج عسى أن تلتئم جراحه أو تسري عنه بعض همه، وترفقت به العناية الإلهية فتدفقت في مفاصله روح الصحة والعافية، فإذا هو - بعد أيام - في مكانه في المدرسة يجد السلوة في عمله بين كراساته ودفاتره وتلاميذه. ولكن ستراً كثيفاً من الأسى ما زال ينسدل على جبينه فيبدو كئيباً ضيق النفس لا تنفرج شفتاه - أبداً - عن ابتسامة.
وسأله صاحب له - ذات مرة - عن ما أصابه فقال: (لقد ماتت زوجتي وخلفت لي صغاراً لا أجد من يكفلهم في غيبتي وإن عملي ليرغمني على أن أقضي ساعات النهار كلها في المدرسة) فقال له صاحبه (أحقاً ما تقول؟) قال (نعم، لقد ماتت من تاريخي أنا فقط) وتراءى للصديق أن حادثة اجتاحت الزوجة وطمَّت على بشاشة الزوج في وقت معاً، فقال له في لهفة وشفقة (وكيف؟) فجلس إليه يقص القصة كلها وإن عبراته لتتدفق هتَّانة ثم قال: (وأنا الآن أضيق بالحياة فما أصبر على الوحدة ولا أستطيع أن أتزوج فأضرب أولادي باليتم والضياع. فلا معدى لي عن أحد أمرين: إما أن ألقي بنفسي في اليم فأخلص من(852/7)
عذابي بين أمواجه وإما أن أذهب إلى السودان مرة أخرى فأفقد روحي بين لظى الحر وقيظ الهاجرة) فقال له صاحبه في فزع: (وأولادك؟. . . أولادك يا أحمق؟) واضطرب قلب الرجل فآثر أن يبقى بين أولاده يرعى شأنهم، وهو يتشبث بالصبر والسلوان. وكان صاحبه ذا شأن ومكانة فجذبه من مشغلة التدريس إلى فراغ الديوان ليجد من وقته فراغاً للدار ومن قلبه سعة للولد.
وقضى الزوج سنة ذاق فيها غصة الحياة ومرارة الوحدة، وأحس - هو وصغاره - حرقة اليتم ولذع الضياع، واستشعر - وحده - قسوة القدر وغلظة الأيام. على حين كانت الزوجة الخائنة تعيش بين ذراعي فتى يصغرها بسنوات ويضيق بعشرتها، ويرى فيها فنوناً من الضعة والصغار، ويخشى أن تعبث به كما عبثت بزوجها من قبل؛ وما حاله بأحسن من حال زوجها يوم أن كان، ولا هو أعز عليها من أولادها. . . ثم ثارت به الشكوك وساورته الريبة!
وجلست الساقطة - ذات ليلة - إلى فتاها تطلب إليه أن يرتبطا معاً بالرباط المقدس. . . الزواج، وتلح في الطلب. ولكنه امتنع عليها وأعرض عنها!
يا لجهل الحمقاء! لقد عزب عن عقلها الفج أن المرأة الهينة هي لعبة تافهة بين يدي الرجل يلهو بها ساعة، ثم يحطمها وينبذها بالعراء؛ لا يحمل لها في نفسه إلا المهانة والاحتقار، وأن المرأة الصعبة هي في ناظريه كالطود الأشم ينحسر عنها البصر كلما اقترب منها لأنها تتراءى أمامه شامخة باسقة.
وألحت الحمقاء في الطلب فثار صاحبها ثورة قذفت بها إلى عرض الشارع وهو يقول (أفأتزوَّج هذه العاهر. . هذه الفاسقة؟)
وخرجت الخائنة إلى الشارع في ليلة ممطرة وإن أسنانها لتصطك من شدة البرد وإن جسمها لينتفض من زمهرير الشتاء وإن عبراتها لتنهمر من خيبة الرجاء وضيعة الأمل.
واقتص القدر من الزوجة الخائنة حين قذف بها إلى الشارع لا تجد العون ولا المأوى، فيا للقصاص العادل. . . يا للقصاص!
كامل محمود حبيب(852/8)
هل تستطيع روسيا غزو العالم؟
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
عندما أعلن كارل ماركس نبوءته بشر بثورة العمال الكبرى التي ستنهي المرحلة الرأسمالية وتقيم على أنقاض عالمها نظاماً شيوعياً، وقال إن الفقر سيكون الدافع الذي يعجل بهذا الانهيار. وقد حصلت الثورة في روسيا وقام أبطالها بتطبيق نظريات كارل ماركس تمهيداً لإنشاء المجتمع الشيوعي الموعود. واليوم، وبعد أن مر أكثر من ثلث قرن على هذه الثورة، نسمع أن الجيش الأحمر حل محل ثورة العمال، وأن زعامة ستالين خلفت الفقر في تولي قيادة التاريخ. وبهذا تعلق مصير الشيوعية بهذا الجيش وبهذه الزعامة ولم تعد تعني تطوراً اجتماعياً محتماً لا بد منه. وبناء على هذا التحول نتساءل الآن عما إذا كان في إمكان الجيش الأحمر ومن وراء قوته روسيا غزو العالم وإقامة النظام الشيوعي؟
لقد اتضح بسرعة بعد الثورة الروسية أن هؤلاء الاشتراكيين البلشفيين أناس يختلفون في نزعتهم عن أولئك البلغار الدستوريين والثوريين من اتباع كريسنكي. لقد كانوا من الشيوعيين المتعصبين، وكانوا يعتقدون أن تسلمهم للسلطة في روسيا ليس إلا بداية للثورة الاجتماعية، فعملوا على تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي وإقامة نظام جديد بعقول لم تنضجها التجارب. وإن كانت الحكومة البلشفية قد نجحت في كفاحها ضد التدخلات الخارجية والثورات الداخلية، إلا أن نجاحها كان أقل في محاولاتها لإقامة نظام اجتماعي جديد يرتكز على المبادئ الشيوعية. فقد كان الفلاح الروسي، ذلك الفلاح الجائع صاحب الأرض الصغيرة، بعيداً عن الشيوعية في آرائه وطرائقه في الحياة بعد الحوت عن الطيران كما يقول ويلز. إن الثورة منحته أرضاً من تلك الأراضي التي كان يملكها الملاك الكبار، ولكنها لم تيسر له إنتاج غذائه لغير معاملات التبادل النقدية، بل إن الثورة دمرت من بين ما دمرت قيمة النقد ذاتها. يضاف إلى ذلك أن الفوضى كان قد سبق لها أن شملت الإنتاج الزراعي من جراء انهيار طرق السكك الحديدية أثناء المجهود الحربي فتقلص هذا الإنتاج تقلصاً انتهى به إلى أن غدا مجرد إنتاج للطعام يتعهده الفلاحون لاستهلاكهم الخاص. وجاعت المدن وفشلت فشلاً تاماً كل المحاولات الارتجالية الداعية لتحويل الإنتاج الصناعي وفقاً للمبادئ الشيوعية. وما إن حل عام 1920 حتى كانت روسيا قد عرضت(852/9)
أول اتجاه من نوعه في المدينة الحديثة إلى الانهيار التام. وأعقب ذلك انهيار خطوط السكك الحديدية وخراب المدن وسريان الدمار إلى كل مكان. وفي عام 1921 حل جدب عام وسرت بين الفلاحين المنتجين مجاعة كبرى دمرت المناطق الجنوبية وأجاعت الملايين من الناس.
ووسط هذه الظروف المؤلمة وضعت التصاميم لتنفيذ عملية الأعمار، ووضعت سياسة اقتصادية جديدة. وبمقتضى هذه التدابير منحت حرية لا بأس بها للمالك الفردي ولصاحب المشروع الخاص على عكس ما يتطلبه المنطق الماركسي. ولهذا لاح أن روسيا قد تخلت عن الاشتراكية وأنها أصبحت تعيش في ظروف تشبه نوعاً ما تلك الظروف التي كانت عليها الولايات المتحدة في المئات الأولى من سني تاريخها. فقد ظهرت طبقة الفلاحين المرفهين من الكولاك الذين يشبهون الفلاحين الأمريكيين الصغار وتضاعف عدد التجار المستغلين. ولكن الحزب الشيوعي لم يكن يميل إلى ترك وسائله الخاصة في سبيل السماح لروسيا أن تسير على النمط ذلك سارت عليه اليقظة الأمريكية منذ مئات السنين.
وفي عام 1928 بدأ مجهود ضخم جبار لإعادة البلاد إلى الطريق الشيوعي في التطور الاجتماعي. فوضع مشروع الخمس سنوات وفق تصميم يروم دفع البلاد إلى الأمام لتحقيق توسع سريع في ميدان التصنيع، وعلى الأخص، وبصورة كبيرة، في مجال المصنوعات الثقيلة وإعادة تنظيم الإنتاج الزراعي حسب أسلوب الإنتاج الكبير الذي تتعهده المزارع التعاونية. وفي شهر يناير من عام 1924 خسرت روسيا قيادة لينين البارعة، وكان خلفه ستالين صاحب يد قوية قاسية فعمل على تصنيع البلاد بالعنف ولكنه لم يصب أي تقدم رغم كل المحاولات. وما إن حل الشتاء عام 1933 - 1934 حتى وجدت روسيا نفسها دفعة واحدة تواجه نقصاً كبيراً في الطعام. وخلال كل هذه المراحل كانت بقية الدول في العالم مشغولة في اجتناء نظام الفائدة الخاصة، مراقبة التجربة الروسية مراقبة يمتزج فيها الفضول بعدم الثقة والتهيب. ولكن هذه التجربة كانت تتحول من حال إلى حال ومن شكل إلى شكل. فإن الضغط العنيف على المعارضة قد استمر على قوته مما اضطر كل أسلوب من أساليب المقاومة أن يعمل في الخفاء والسر، وبذلك كان الأمر ينتهي بالمعارضة المضغوط عليها إلى أن تصبح معارضة دموية. وأخذت دواعي الانفصال تأكل في قلب(852/10)
النظام الجديد، وأعقب وفاة لينين صراع طاحن من أجل السلطة، بين تروتسكي الذي يعزي إلى قيادته العسكرية اللامعة النجاح الذي أحرزته الجمهورية في المعارك الدفاعية التي خاضتها عام 1919 - 1920 وبين ستالين سكرتير الحزب الشيوعي سابقاً. إن التفاصيل الكاملة لهذا الصراع المعقد لا تزال غامضة لم يزح عنها النقاب؛ فقد كان تروتسكي موهوباً ولكنه كان مغروراً، أما ستالين فكان صلباً مستبداً برأيه. وأدى الصراع بينهما إلى تقسيم القوة الماركسية اليسارية في جميع العالم إلى جبهتين متخاصمتين.
وشوهد في روسيا نفسها الكفاح السري الذي يؤججه المعارضون من الموظفين والمستخدمين ضد ستالين في إدارته، ولكن أكثر قوى هذا الكفاح قد ضاع في وسط شديد الغموض وفشت بين الجبهات المعارضة بكل تأكيد بعض الخيانات والانشقاقات، إلا أن هناك احتمالاً يقرب من اليقين يؤيد بأن المعارضة كانت موجودة في زمان لينين، وأنها ازدادت نشاطاً وترابطاً بعد وفاته. وسلكت الحكومة الستالينية في بادئ الأمر سياسة معتدلة مع هؤلاء المعارضين لفترة من الزمن. وقد سيق إلى المحاكمة عدد من الموظفين المسؤولين معهم عدد من الفنيين البريطانيين متهمين بأنهم يعوقون عن عمد المحاولات الجارية لتصنيع روسيا. وانكشف الستار بعد عدة محاكمات متتالية عن عناصر سياسية متآمرة. ولكن حتى مقتل واحد من أقرب المقربين إلى ستالين وهو وزيره (كيرون) الذي قتل أثناء قيامه بواجبه في الكرملين في أول ديسمبر 1934، وإلى حد هذا التاريخ كان المتهمون يساقون إلى السجن أو إلى المنفى؛ إلا أن الأمور بعد هذه الحادثة أخذت تتجهم وتزداد حلوكة. ففي ربيع 1934 فقد ستالين زوجته في ظروف لا تزال إلى الآن غير معروفة بل وأن هناك من يظن أنها انتحرت بسبب الآلام التي قاساها الفلاحون عند تطبيق مشروع السنوات الخمس. وبعد أن نفض ستالين يديه من جميع معارضيه قتلاً وتشريداً وحبسا وجد نفسه بلا صديق حميم فراحت المحاكمات السياسية تتبع الواحدة الأخرى، وأصبح الموت هو الشيء الوحيد الذي يتبع مجرد الاتهام، وقتل القادة البولشفيك الواحد بعد الآخر، ولم يبق منهم غير اثنين أو ثلاثة. وغدا ستالين طاغية لا يعرف معنى التسامح ولا أسلوب التسويات بل كان همه مكافحة المتآمرين على حياته ومصلحته.
هذه هي الحالة التي كانت عليها روسيا عام 1938؛ فالحياة المادية فيها - كما يقول ويلز(852/11)
في كتابه تاريخ العالم - كانت تعاني الإجهاد يصاحبها نقصان تدريجي في الإنتاجين الزراعي والصناعي. وقد كان في وسع الجيش الهتلري لو وجه كل قواه منذ أول الحرب لغزو روسيا أن ينجح أكثر من نجاحه الذي حققه في الغزو الذي شنه بعد أن استنزفت القوى الألمانية وبعد أن استطاع الإنجليز والأميركيون أن يزيدوا مواردهم ويضاعفوا إنتاجهم.
ومع أن قوات الروس والحلفاء ظلت متعاونة قرابة أربع سنين إلا أن الهوة التي تفصل بين الأهداف الروسية والأهداف الأمريكية سرعان ما فصلت بين الحلفاء الغربيين وبين روسيا بمجرد انتهاء الحرب، وعاد العالم - كما حدث في كل مراحل التاريخ - لينقسم إلى معسكرين متعاديين متعارضين، وأخذت تتردد أحاديث الحرب الجديدة على الشفاه، فيكتب عن هولها المعلقون، ويتنبأ بنتائجها الباحثون والكاتبون. ولا يمكن حتى لأشد الناس تفاؤلا أن يكتم يقينه بوقوع الواقعة يوماً ما، لأن ستالين قد أعد جيشه الأحمر ليكون رسولا لمبادئ كارل ماركس، كما سبق لهتلر أن أعد جيش الرايخ ليقيم النظام الجديد. فما هي الموارد التي تمون هذا الجيش الذي أضحى بديلاً عن الثورة العمالية الكبرى؟ أو بمعنى أصح، هل روسيا قادرة على تحقيق حلم ستالين بإقامة قيصرية روسية كبرى مركزها الكرملين؟
هل تستطيع روسيا أن تثير حرباً؟ هذا هو السؤال الذي يجابهنا اليوم، وفي الإجابة عنه نقول إن خطط روسيا الحربية يجب أن تبنى على اقتصادها الصناعي في حين أن المعلومات عن هذا الاقتصاد غير متوفرة تمام التوفر. ومع ذلك فهناك عدد من الحقائق الأساسية يمكن التكهن بواسطتها. ولنبدأ أول ما نبدأ بالسكان ندرس بعد ذلك مساحة البلاد نفسها. وفي هذا المجال من الخطأ الظن بأن روسيا إقليم ضخم ذو ثروة وإمكانيات غير محدودة. فمساحة روسيا تبلغ ما مقداره (45) مرة بقدر مساحة ألمانيا؛ إلا إن أكثر من نصف مساحتها غابات، وما يقارب خمسها صحراء أو شبه صحراء، ولا تتجاوز المنطقة الخصبة ثمن المساحة الحقيقية. وهذا يعني أن قابلية روسيا لإعاشة (182) مليون نفس لا تتجاوز قابلية أمريكا لإعاشة (142) نفس، ويعني أيضاًبأن الروس سيعانون دوما نقصاً في غذائهم وستبقى روسيا مدة طويلة من البلدان التي تدركها المجاعات.
ويوجد حوالي خمسة ملايين من الروس مشتتين في مناطق بعيدة تشتتاً أضاعهم في الغابات(852/12)
والمجاهل الواسعة، وكذل فإن عدد السكان الروس العاملين لا يتجاوز عدد السكان الأمريكيين العاملين. وإذا أضفنا إلى ذلك أن أغلب المصانع الروسية متركزة في المثلث الذي يمتد من (لينينغراد) و (أوكرانيا) غرباً إلى المناطق الصناعية الجديدة في وسط سيبريا وهي المنطقة الروسية المنتجة الوحيدة، وأن هذا المصدر الرئيسي المتركز داخل المثلث مكشوف تماماً، عرفنا مقدار انحطاط القابلية الصناعية في روسيا ومقدار تعرضها للخطر في حالة نشوب حرب حديثة.
ويبلغ الإنتاج الروسي اليوم إنتاج الولايات المتحدة قبل 48 سنة. ونحن نعرف أن الحرب قد أتلفت الكثير في ألمانيا وإيطاليا واليابان وإنجلترا إلا أن التلف الذي حصل في روسيا يفوق كل تلف سواه، فقد خسرت روسيا 58 بالمائة من طرقها الحديدية و44 بالمائة من قوتها الكهربائية و45 بالمائة من إنتاجها من الحديد و55 بالمائة من إنتاجها من المواد الغذائية، كما خسرت الملايين من البيوت والبنايات والجسور.
(البقية في العدد القادم)
فؤاد طرزي المحامي(852/13)
المازني في عهدين
بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني
للأستاذ غائب طعمة فرمان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
في نهاية رحلته. . . يدلف إبراهيم الكاتب إلى المقبرة. . . العالم المليء بالذكريات. . . لتذكره بالموت. . . ويملأ عينيه بالرفات الباقي من حيوات كثيرة. . . وما أشبه الرفات بالذكريات!. . أليست هي بمثابة رفات لحبه الماضي؟!.
وهناك في ذلك الجو الساكن الرهيب يفكر في أمر هذه الحياة الغامضة الغريبة التي يمتزج فيها الصراخ بالغناء، ويختلط بها الألم بالطرب. . . وهو يردد (لا شك في أن الحياة عمياء وصماء. . . فليتها توهب البصر هنيهة لترى هذا الخليط من الحسن والقبح، والخير والشر! ويا ليت! من يدري ماذا تصنع إذن؟. . أترى يثور الخجل بها، فتعصف بكل شيء وتمحوه، أم تأخذ في إصلاحه وعلاجه في صبر وأناة.). . . أما لو كنت أنا الحياة لتناولت ما أخرجت كفاي من طينة الأرض المحدودة، ودككته وحطمته، ثم ذررته لهذه الرياح.
وتلك فلسفة إبراهيم الكاتب التشاؤمية. . . تلك الفلسفة القاتمة التي تعتبر الحياة (قبضة ريح) و (حصاد الهشيم) و (باطل الأباطيل) وهي فلسفة الكتاب المقدس الذي أشربت نفسه حكمته - كما يقول الدكتور محمد مندور.
ويدركه الأعياء فيقول لنفسه:
(الموت على الأقل راحة. . . فليت الحادي يعجل بنا، فقد سئمت الحياة، ومللت النظر في وجهها الملطخ، وثوبها المرقع، واشتقت أن أرقد هنا إلى جانب. . .).
ولكن صوتاً قوياً يصرخ من جانب القبر. . . (لا. . .).
ويظل القول يعاتبه فيقتنع إبراهيم بذلك ويقول:
(حسن. . . سأحيا من أجلك، وألقى المهالك إكراماً لك، وظناً بك أن تلحقي بالأموات جداً.)
ولكن. . . من أجل مَنْ؟.
(من أجل التي لها يحيا، وفي سبيلها يسعى، وبها وحدها يعني طائعاً أو كارهاً. . . من أجل(852/14)
نفسه!).
ويمر ذلك العهد. . . عن العاطفة الصارمة، والحب الجارف، والاندفاع وراء القلب المرهف. . . عهد كان أخوف ما يخافه ويضجر من شقائه هو العقل. . . العقل الذي لا يستسيغ تصرفات قلبه الجامح، ولا يطمئن إلى عاطفته الحارة. . . فكان إبراهيم الكاتب يقول:
(أوه. . . العقل! العقل!. ليت المقادير حرمتنا هذه النعمة التي لم نغن بها) ثم ينقضي عهد العواصف واليأس والقنوط.
وتنقلب صفحة مليئة بالأشجان. . . لتطلع علينا صفحة ثانية تقص علينا قصة حياة أكثر اطمئناناً، ورضى بنصيبها، وفهماً لدنياها. . . قصة تزول عنها حمى العاطفة ونزواتها وطيشها، وتنقلب إلى حكمة ودراية واتزان.
تلك هي حياة إبراهيم الثاني. . أو إذا أردنا الدقة. . . حياة إبراهيم الكاتب بعد أن تغير تغيراً كبيراً، أو كما عبر المازني نفسه (ولو أمكن أن يلتقي الإبراهيمان - إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني - لاحتاجا إلى من يقوم بينهما بواجب التعريف)
فإبراهيم الثاني اليوم في العقد الخامس من عمره. . . أورثته حياته المرهقة، وإحساسه العميق، وذكرياته الطويلة، وسواساً قوياً يخيفه، ويأخذ بمجامع قلبه، وقلقاً صارماً يستحوذ على فكره. . . (فقد كان أخوف ما يخافه أن يكون قد شيخ، أو أشفى على الشيخوخة) فهذا الهاجس يعذبه دائماً، ويحيل حياته إلى عذاب نفسي أليم. . . وينغص عليه عيشه. . . وكأنه يلمح على عتبة الحياة شبحاً مدبراً هو شبح شبابه حاملاً معه كل حلم من أحلامه، وكل زهرة من زهرات ربيعه.
ويزداد هذا الوسواس بعد موت أمه، وقام في خلده أنه شب عن الطوق جداً جداً! ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية. . . فهو يدلف إلى الشيخوخة بقوة لا يستطيع لها دفعاً، ويخلص من نعيم الشباب وهو معتلج القلب بالعواطف.
ولكن. . . مهلا ما الشباب. . . أليس هو إيحاء وشعور يستوليان على النفس. . . وهل خلى إبراهيم من إيحاء الشباب والشعورية؟!
ولكن اليأس المضني يدركه حين تصور له أوهامه، وتلف أعصابه أنه موشك على الموت،(852/15)
ذلك العالم المجهول لشد ما يخيفه، ويفزعه، وذكراه وحدها كفيلة بأن تقلقه. . . (يا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت. . .).
غير أن شيئاً من الاطمئنان يسري في نفسه حين يتزوج، ويرى من زوجته امرأة عظيمة الإخلاص، حنوناً تترفق به، وتحبه، وتسهر على مرضاته، وتقوم مقام الأم الرؤوم، والصديقة الوفية، والزوجة المخلصة.
ولكن الإحساس بالشيخوخة والمرض لا يلبث يطارده، فتنقلب عاطفة إبراهيم الكاتب إلى برود، وينسخ العقل والتفكير أحكام العاطفة، وتتحول النار المضطرمة إلى رماد!.
وتخلو حياته من العواصف. . . فالاتزان عماد حياته، فلا الحب يهزه - كما كان يهز خلفه - ولا الحزن يأخذ بأفكار نفسه. . . فإذا قام الحب بينه وبين امرأة على رغمه، وتصارحه امرأة بما في صدرها من كامن الحب يقف كالشيخ الجليل أمام النار المتوقدة التي تطلب الوقود. . . ويحاول أن يخمدها بحكمته.
دعني أنقل لك موقفاً من مواقف حكمته لترى مقدار التغير الذي أصاب إبراهيم الكاتب.
(عايدة) فتاة عزيزة تعاني الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها، كثيرة الوسواس، تنتابها الأزمات العصبية وتتركها مهدمة محطمة. . . وهي مع ذلك ذات جمال وفتنة وقوام رشيق. . . تتعرف إلى إبراهيم، فترى فيه رجلا يملأ عينيها، وترتاح إليه، وتهرب إلى كنفه من رمضاء الحياة. وتجد في صحبته ملاذاً من وساوسها وأوهامها، وكهفاً تستكن إليه حين تعصف العواصف في سماء نفسها القلقة الهشة - وعلى مر الأيام يتسلل عطر الحب إلى صدرها، حتى يضيق به، فتصارحه بذلك:
(أنت حبيبي. . . نعم. . . لا تفتح فمك هكذا كأني رميتك بحجر. . . ما حيلتي؟. كن منصفاً. . . ألقاك كل يوم وأسمع حديثك، وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك، وأحس عطفك. . . لقد علمتني أشياء. . . وإنك لمسئول عني. . . ولا أمل لي في الحياة. . . وليس لي غيرك. . . أنت عزائي فيها.)
نعم. . . تلقاه كل يوم. . . وتتحدث معه، وتشعر بقربه. ولكن قلبه لا يتحرك لها، ولا يستجيب لنداء فؤادها. . . ما خطبه؟. لقد خمدت في جوفه النيران!!. فيجيبها جواباً أشار(852/16)
به عقله، ولم يستشر هواه:
- (اسمعي يا عايدة. . . إنك عزيزة عليَّ، أثيرة عندي. . . ولكن الحب شيء آخر!. لا ينبغي أن يكون بيننا هذا. . . أنه يفسد كل شيء عليَّ وعليك!! أنت فتاة صغيرة عزيزة ومستقبلك كله أمامك. . . وأنا رجل كهل قد خلفت صباي ورائي. ثم إن لي زوجة تحبك وتأتمنك. اسمحي لي أن أقول إني لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلا مثلي. . . كلا. . . ليس هذا حباً وإنما هو فورة إحساس. . . إنها حركة لنفس مكبوتة ليس إلا. . . نشوة عارضة تحسينها، وتغلطين وتتوهمينها حباً.)
إنه صوت العقل. . . العقل الذي ركن إلى الاتزان، وابتعد عن صحراء الحب وعطشه. . . وقد فطنت الصغيرة عايدة لذلك فصرخت في وجهه قائلة: (إنك آلة مفكرة لا إنسان من لحم ودم!)
وقد صدقت عايدة. . . تلك التي ماتت وهي تعاني آلام الحب المجروح الذي وقف متضرعاً أمام هيكل العقل المكين. . . وإبراهيم الثاني يعرف مبلغ تحكم العقل فيه فقال يصف نفسه (ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، وإحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. . . ولكنهم كثيراً ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف عنده تتحول إلى فكرة. . . فهي غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة في بدنه. . .)
وأين هذه القمة الباردة من لهيب العاطفة، وحرارتها في إبراهيم الكاتب؟. إبراهيم المندفع وراء قلبه. . . إذا استقر الحب في سره مدة عذبه، وانقلب حسكا لا يجد الإرادة القوية التي تقف دون إفشائه.
ويلذ لإبراهيم الثاني أن يكون طبيباً نفسانياً يدرس مرضاه، ويسدي لهم النصح ويهديهم سواء السبيل، ويقف أمام (المشرحة) وأمامه نفس تتعذب وتتلوى من الألم. . . وفي صدره إرادة لا يقهرها أي قاهر.
وينفرط عقد القصة، وتبدو الحوادث مفككة الأجزاء حتى ليخيل إليك أنك أمام مذكرات لطبيب نفساني يسرد أعماله النفسية فحسب.
وتنطوي مع صفحة الشباب المندفع صفحة أخرى هي صفحة تشاؤمه وحزنه ويأسه وما(852/17)
يخيم في سماء حياته من غيوم.
واستسلم القلب المنكود إلى القناعة، والعقل المفكر إلى أحضان الواقع:
(إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأي في خلقنا نحن. . . وإنما جئنالأننواميس الحياة اقتضت أن نجيء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا، ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة، فالصبر والحكم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شيء على حسن الفهم وصحة الإدراك، وليس هذا من قبيل قولهم ليس في الإمكان أبدع مما كان. . . فإن كل ما في الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب. . . وإن لم يكن في ذاته غاية في السوء والفساد. . .
. . . وأهرق كأس الحزن على أطلال الماضي، ولم تشغله أشباح الزوال، ولم تعمر فكره الرؤى القاتمة، وتساوى عنده قصر العمر وطوله في مقياس الفكر والإحساس، والشعور والإدراك:
(إننا أعطينا الحياة ولم نعطها بشرط، وقد أعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة. . . ولا قيمة لطول العمر أو قصره فإن العمر لا يقاس بعد السنين بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر).
وكفرحة الراهب برجوع الصابئ إلى ديره يفرح إبراهيم حين يرجع أحد مرضاه - أحد أشخاص روايته - إلى الطريق السوي. . . فاليوم يعيش في فكره. . . أما قلبه فقد دفنه في الماضي البعيد.
(بغداد)
غائب طعمة فرمان(852/18)
ركن المعتزلة:
قدرة الله في مذهب المعتزلة
للدكتور ألبير نصري نادر
ردَّت المعتزلة جميع صفات الله إلى ذاته. فإذا تحدثوا عن قدرته تعالى، فهم ينظرون إليها كأنها وجه آخر من أوجه الذات يبحثونها على زعم أنها اعتبار ذهني ليس إلا وغير موجودة حقيقة في الذات.
ما يقدر الله عليه:
كما أن علم الله يشمل كل شيء، كذلك قدرته تعالى منبسطة على كل شيء - وتميز المعتزلة بين قدرة الله وما يقدر الله عليه؛ ويقول أبو الهذيل في هذا الصدد: إن لِما يقدر الله عليه غاية ونهاية في العلم به والقدرة عليه والإحصاء له، ليس يخفى على الله منه شيء، ولا يعجزه شيء منه. ومن أدلته على ذلك قوله تعالى: (إنَّ اللهَ على كلِّ شيْءٍ قديرٌ). (وبكلِّ شَيْء عليم). (وأَحصَى كلَّ شيء عدَداً).
كما أنه لا شيء يغيب عن علمه تعالى كذلك لا شيء يخرج عن قدرته تعالى؛ ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت قدرة الله عاجزة ضعيفة، وعليه تكون ذاته ناقصة؛ وفي هذا تناقضلأن علمه وقدرته تعالى هما ذاته.
وحين يقول أبو الهذيل ومعه المعتزلة أجمع: إن الله على كل شيء قدير، هل يعني هذا القول أن قدرته تعالى لا يُمكنها أن تتعدَّى حدود ما قدر عليه وأنها تحققت كلها فيما قدرت عليه كما أن علمه شمل كل المعلوم ولا يمكنه أن يتعداه؟ وبمعنى آخر هل لقدرة الله حدّ هو هذا العالم المخلوق؟ ولو انبسطت على ما ليس متحققاً أو ممكناً لكانت قدرة بدون مقدور؟
يحكي ابن حزم عن أبي الهذيل بهذا الخصوص قائلاً: وقال أبو الهذيل بن مكحول العلاف إن لما يقدر الله عليه آخِر ولقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل لم يقدر الله تعالى بعد ذلك إلى شيء أصلاً ولا على خلق ذرة فما فوقها ولا إحياء بعوضة ميتة ولا على تحريك ورقة فما فوقها ولا على أن يفعل شيئاً أصلاً.
ويقول ابن حزم في مكان آخر: وكان علي الأسواري البصري أحد شيوخ المعتزلة يقول(852/19)
إن الله عز وجل لا يقدر على غير ما فعل
إن هذين القولين اللذين يذكرهما ابن حزم لا يعطيان فكرة صحيحة عن قولأبيالهذيل والأسواري ولا عن قول المعتزلة فيما يختص بقدرة الله. ويكفينا أن نرجع إلى تعريف المتعزلة لقدرة الله لندرك أن في مذهبهم القدرة هي الذات وأنها غير متناهية. وإذا بدت لنا هذه القدرة بواسطة بعض الأشياء المتحققة فالمعتزلة لا يستنتجون من ذلك أَن قدرته تعالى محدودة بهذه الأشياء لأنه زيادة على ما تحقق من الأشياء توجد أشياء ممكنة وغير متناهية في العدد تتحقق في الزمان أو خارجا عنه، ولكنها لا تخرج عن قدرته تعالى لأن هذه القدرة لا متناهية كالذات. فعلى ذلك إذا كان ما تحقق وما يتحقق من الأشياء محدوداً في العدد والكم والإبعاض فإن هذا شيء لا يعني أن قدرة الله تقف وتنتهي عند هذا الحد لأنها غير متناهية.
تجنب المعتزلة للمذهب الحلولي
كما أنه لا يوجد عالِم بدون معلوم ولا قادر بدون مقدور عليه، كذلك توجد موازاة بين الله والعالم. فمن جهة نرى علماً وقدرة غير متناهين ولهما موضوع؛ ومن جهة أخرى نرى موضوعاً لا متناهيا وأزليا نوعاً ما، لأنه يقابل فاعلاً متحلياً بهاتين الصفتين: صفة العلم وصفة القدرة الغير متناهيتين؛ ألا وهو الله الذي هو في مذهب المعتزلة كله علم وقدرة.
فيكفينا أن ندمج فكرة الله هذه (وهو الفاعل) في العالم (وهوالموضوع أعني موضوع العلم والقدرة) حتى ننتهي إلى المذهب الحلولي وهو خلط الله وإدماجه في العالم. ولكن المعتزلة تميز دائماً بين ماهية الفاعل وماهية الموضوع، وهذا ما أدَّى بهم إلى التكلم في العدم واعتباره شيئاً متميزاً تماماً عن ماهية الله. والعدم في مذهبهم هو مادة العالم التي ينقصها الوجود والله يمنح هذه المادة الوجود ليكوِّن العالم المخلوق.
العلاقة بين علم الله وقدرته تعالى:
قالت المعتزلة إن علم الله هو هو، وإن قدرته هي هو؛ فعلى ذلك تكون الذات هي العلم والقدرة فإذاً علمه وقدرته تعالى يختلفان تمام الاختلاف عن العلم والقدرة عندنا لأنه كثيراً ما يقوم الخلاف بين العقل وهو عندنا ملكة المعرفة، وبين الإرادة وهي عندنا ملكة التنفيذ(852/20)
والعمل. وكم من الأحيان ندرك الشيء الحسن ونميزه ولكنا بالرغم من ذلك نغفل العمل السيئ - لكن في الله العلم هو القدرة والقدرة هي العلم؛ لذلك نجد عليّاً الأسواري المعتزلي يشدد بحق على العلاقة بين علم الله وقدرته إذ يقول: إن من علم الله أنه سيموت ابن آدم ابن ثمانين سنة، فإن الله لا يقدر على أن يميته قبل ذلك، ولا أن يبقيه طرفة عين بعد ذلك. وإن من علم الله من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلا فإن الله تعالى لا يقدر على أن يبرئه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعُد، ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها.
يدهش ابن حزم كل الدهشة من هذا القول في حين أن المعتزلة تجده قولاً صحيحاً معقولا منطقيا لأنهم يردون جميع الصفات إلى الذات: فعلم الله هو ذاته كما أن قدرته هي ذاته، فما يعلمه الله فهو قادر عليه ولا يجوز خلاف ذلك، وما يقدر عليه فهو يعلمه، ولا يجوز خلاف ذلك في مذهبهم - فهم لا ينظرون إليه تعالى كما نحن ننظر إلى الإنسان الذي يفكر ويعلم ويقرر ثم لا ينفذ أو ينفذ خلاف ما قرر. لا. لأن علم الله هو قدرته. وليس هناك أي مشابهة بين الله تعالى والإنسان. لذلك نجد أكثر مؤرخي الملل يدهشون لأقوال المعتزلة التي تبدو لهم غريبة؛ ولكن عندما ندرك أصل مذهبهم وهو رد جميع الصفات إلى الذات نفهم بسهولة هذه الأقوال ونجدها نتيجة منطقية للأصل الذي بنوا عليه مذهبهم.
هل الله مكلف بفعل الأصلح؟
تقول المعتزلة: إن الله مكلف بفعل الأصلح. وهذا القول نتيجة منطقية لرأيهم في ماهية الله اللامتناهية والكاملة إذ أنهم يردون إليها العلم والقدرة. ولما كان الله كاملاً فلا يمكنه أن يقف عند ما هو غير كامل وإلا أصبح هو تعالى أيضاً غير كامل. وعلى هذا القول بنت المعتزلة رأيها في التفاؤل. ويقول النظام والجاحظ والأسواري والكعبي إن الله لا يوصف بالقدرة على ترك الأصلح من الأفعال إلى ما ليس بأصلح ونحن لا نعجب من رأي المعتزلة هذالأن الله وهو كل الكمال لا يعزم على خير ثم يميل إلى خير آخر أسمى من الأول كأنه تعالى يتدرج في مراتب الكمال. فإذا كان الأمر كذلك لم يعد الله كلي الكمال؛ إذ أن في هذا الخير الأسمى الذي مال إليه الله تعالى بعد تركه الخير الأول يوجد كمال كان ينقص الأول وهذا الكمال كان سبباً في تحرك الله من درجة في الكمال إلى أخرى أسمى منها. وهذا التحرك دليل على النقص والنقص برهان على عدم الكمال. وبناء على ذلك(852/21)
يمكننا أن ندرك بسهولة لماذا كان أبو القاسم الكعبي المعتزلي يقول بإيجاب الأصلح للعبد وأن الإيجاب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً.
التفاؤل عند المعتزلة
ينوه ابن حزم بهذا التفاؤل عند المعتزلة حين يقول: وقالت المعتزلة كلها إن الله عز وجل ليس في قوته أحسن مما فعل بنا وأن هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر. ويدافع النظام عن هذه العقيدة الراسخة عند المعتزلة دفاعاً قوياً حيث يقول: إن الله لا يقدر على أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم، ولا يقدر على أن ينقص من نعيم أهل الجنة ذرة لأن نعيمهم صلاح لهم والنقصان مما فيه صلاح ظلم؛ ولا يقدر أن يزيد في عذاب أهل النار ذرة ولا على أن ينقص من عذابهم شيئاً. ثم زاد على هذا بأن قال إن الله لا يقدر أن يعمي بصيراً أو يزمن صحيحاً أو يفقر غنياً إذا علم أن البصر والصحة والغنى أصلح لهم، ولذلك لا يقدر أن يغني فقيراً أو يصحح زمناً إذا علم أن المرض والزمانة والفقر أصلح لهم.
فإذاً كل ما يحصل في الدنيا وفي الآخرى هو أصح ما يمكن للعباد. وهذه نتيجة منطقية لنفي جميع الصفات عن الله وردها إلى الذات. والذات غاية الكمال لا يعترضها أي عجز أو نقص؛ لذلك يلزم أن يكون ما تعمله كاملا.
لكن الإنسان وهو محدود في عقله يتساءل أحياناً أي خير يوجد في بعض الأمور والحوادث التي لا يرى فيها سوى النقص والعجز والآفات. إن المعتزلة لا تحكم على الأشياء بجزئياتها، وإنما تنظر إلى العالم بأسره وتبدي حكمها عليه بأكمله. ويذهبون إلى القول بأن الصنيعة كاملة لأن الصانع كامل. فما يبدو لنا كأنه عجز أو نقص أو آفة، فكل ذلك يساهم في خير الدنيا العام، ويصبح خيراً وصلاحاً.
هل يعني هذا القول أن المعتزلة كانت تميل إلى صبر رواقي على الآلام والشدائدأمإلى صبر كصبر المسيحيين الذين يرون في الألم طريقاً لكسب خير أعظم؟. لا يمكن الرد على إلى السؤال إلا بعد البحث في مصدر فكرة التفاؤل عند المعتزلة.
مصدر فكرة التفاؤل:(852/22)
بالرغم من أن النظام هو أول معتزلي تكلم بوضوح في التفاؤل يقول الشهرستاني إن النظَّام أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجوَّاد لا يجوز أن يدخر شيئاً لا يفعله فما أبدعه وأوجده هو المقدور، ولو كان في علمه ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظاماً وترتيباً وصلاحاً لفعل. ويرى هوروفتز أن النظام قد تأثر بفلسفة الرواقيين القائلين بأن الشرَّ والخير يتبعهما حتماً عقاب أو جزاء، وذلك حسب قوانين ثابتة لا يمكن تغييرها أو تحريفها. فعلى الإنسان يتحمل بصبر وسكوت المصائب والشدائد والآلام إذ لا يمكنه أن يغير مجرى الأمور وسننها. ولكن شتان ما بين رأي الزواقيين ورأي المعتزلة من فرق في التفاؤل. إن هؤلاء يرون فيما ندعيه شراً سبيلا لخير أكبر وأعم. فلا يمكنا أن نشاطر المستشرق هوروفتز رأيه هذا القائل أن المعتزلة قد تأثرت بالرواقيين، لأنالمعتزلة لا تنظر إلى الألم في حد ذاته، بل ترى فيه سبيلا للخير.
ويقول البغدادي من جانبه إن النظام تأثر بالمتانية القائلين إن الله إله الخير لا يمكنه أن يفعل إلا الخير ولا يمكنه أن يفعل الشر، لأن الشرَّ لا يصدر إلا عن إله الشر , ولكن النظام ردَّ على المتانية قولها بالاثنين (إله الخير وإله الشر).
فتكون المعتزلة قد بحثت أقوال قدماء الفلاسفة وأقوال المتانية واستخلصت منها قولا يتفق وكمال الله تعالى. وجاء قولها متفقاً أيضاً وفكرة المسيحيين في الألم كطريق لخير أعظم.
البير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة(852/23)
ماذا علمتني الحياة؟
تأليف الأسقف و. ر أنبج
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أرى من واجبي أن أذكر شيئاً عن آرائي في الدين، لأندين الإنسان الصحيح هو ما يتعلمه في مدرسة الحياة، وكثيراً ما يختلف عن المعتقد الذي يعتقده وهو صغير. لقد نشأ والداي في مكان ناء عن المدن في الريف، وكانا من المشايعين والمتعصبين لعقيدة التركتاريين القدامى من اتباع بوسيي وكيل - وهم فئة لا وجود لها اليوم، يتركز معتقدها في الصلاة وعدم الإيمان بطقوس الكنيسة. وهم يؤمنون إيماناً حرفياً بما في الكتاب المقدس، وبصورة خاصة بما نشره الحواريون من تعاليم لم تثبت تاريخياً. ولقد كانوا متقشفين على الطريقة البيوريتانية من حرمان النفس والبذل للمحتاجين. كان يوم الأحد مقدساً جداً؛ لا ألعاب فيه، ولا قراءة في كتب دنيوية. ولسبب لا نعرفه كانت تحرم علينا قراءة الروايات ذات (الغلاف الأصفر) حتى روايات ثاكاري وديكنز كانت تحرم علينا.
أما قصص شكسبير وولترسكوت فكانت تقرأ علينا بصوت جهوري، لقد كانت ثقافة جيدة على عيوب الرقابة التي فيها.
لكنني سرعان ما تمردت على ذلك، وأحسب أن أمي لم تغفر لي تمردي طيلة حياتها، ولم يسرها مطلقاً تقدمي المطرد في سلك الكهنوت لأن الرأي السائد في ذلك الزمن كان يتلخص في أن الرج المفكر لا يصلح لخدمة الكنيسة. إنني لم أفكر مطلقاً في المعتقدات الدينية إلا عندما صرت محاضراً في جامعة اكسفورد. لم يكن يسمح لنا في إيتون بالتفكير في مشاكل الحياة، وحينما كنت طالباً في الجامعة لم يكن لنا هم غير التنقيب عما تطلبه لجان الامتحانات. أما في اكسفورد فإن أقل محاضر يجب أن يكون فيلسوفاً.
لقد كان الصراع بين الدين والعلم - ذلك الصراع الذي أثار ضجة كبيرة في القرن الماضي - يبحث من جميع وجوهه بحثاً مستفيضاً يبدو لنا الآن سخافة مضحكة. أن المعتقد الأرثوذكسي يعتمد في أصوله على النبوءات والمعجزات المتواترة. ليس هنالك سبب(852/24)
يحملنا على الاعتقاد بأن في مقدور البشر معرفة الغيب. إن المسيح نفسه قد اعترف بعجزه عن معرفة زمان يوم القيامة. والبحث في صحة تحقيق النبوءات المزعومة يقودنا إلى سبل ثلاث: أما أن تكون النبوءة قد قيلت بعد وقوع الحادثة، أو أنها حرفت لتوافق الحادثة في سياق لا علاقة لها به أبداً، أو أن الحادثة اخترعت لتوافق النبوءة. إن الافتراض الثالث يبدو واضحاً جلياً في الإنجيل، والأمثلة على ذلك تتراءى لنا في أسطورة الميلاد في بيت لحم، وفي أسطورة مذابح الأبرياء، وفي الهرب إلى مصر.
أما ما يتصل بحدوث المعجزات طبقاً لإرادة الله، فأمر يرجع الإصرار عليه إلى ما تواتر في الماضي من رغبة اقتران وقوع المعجزات مع أحداث خاصة، وهو في ذاته لا يعود على الدين بربح جزيل. لم يكن قول جوته: (إن المعجزة ابنة الإيمان العزيزة) إلا تفسيراً لمحاولة الناس ربط قوانين الطبيعة الباردة بتيار من حرارة الروح، والتهرب من الواقع الجامد إلى الخيال الجميل.
إن الاستناد إلى رحمة الله، وأنه يستجيب الدعوات وهو المعتقد الأساسي لكثير من الناس قد يكون في الاستطاعة من جهة أخرى، كما اقترح، اختبار أثر دعاء المخلوق إلى الخالق، بطريقة عملية، كما اختبرت (التلباثي) وهي نقل الأفكار من شخص إلى آخر - وكما تثبت في الولايات المتحدة، وفي هذه البلاد، على رأي بعض الناس. والسخط البالغ الذي تقابل له تجربة من هذا النوع، يخفي وراءه الحقيقة المريرة وهي الفشل التام للتجربة. أن الإله الذي لا يعمل - كما يخيل لناس - أما أن يكون لا ظل له في الوجود، وإما أنه قانون مجسم من قوانين الطبيعة.
أما ما يتعلق بالعِلم فقد كان الجدل فيه عقيما. لقد أنكر علماء العصر الفكتوري (المادة)، وفسروا العالم بأنه أنواع من (الكم) الميكانيكي، ضاربين صفحاً عما سماه بسمارك (الأجسام التي لا ثقل لها)، ووصلوا عن طريق ذلك إلى ما سموه (بالنظام المتماسك المغلق). وما دعوه خطأ قانون النسبة لم يكن غير قانون الاستمرار الدائم.
أما العلم الصحيح فلم يكن غير الرياضيات. ليس بالصحيح القول أنها تبصرنا بحقائق لا قيمة لها؛ لأن الحقيقة في حد ذاتها قيمة مطلقة. إن الرياضيات تضرب صفحاً عن القيم النهائية ولا تؤمن بها، وتغض الطرف عن قانون الحرارة والعمل الميكانيكي الثاني(852/25)
(ثرموديناميك) والذي بموجبه تتحرك الدنيا في اتجاه عقرب الساعة.
أما الدين، والمثل العليا فقد أضاف هربرت سيسر كل ما يدرك إلى العلم؛ وما لا يدرك إلى الدين، وخطا ليزلي ستيفن خطوة أكثر فتحدث عن الحقائق الثابتة والأحلام. لقد طفت (دنيا القيم) كالضباب على وجه العالم الملموس في النجوم والذرات، غير أنها احتفظت ببعض عتوها فيما يتصل بالأمور الخارقة للعادة والتي سميت بالمعجزات والتي لم يأبه بها العلم كثيراً. وعلى كل حال سواء كان سبب انتشار مرض الكوليرا الماء الملوث بالجراثيم كما هو الواقع، أم إلحاد رئيس البلدة التي ينتشر فيها ذلك الوباء، كما كان اعتقاد كثير من الناس آنذاك، فقد انتهت تلك الفصول الهزلية من مسرح الحياة.
عندما أفكر فيما كان يسميه وليام جيمز (التجربة الدينية) وما كان الناس بالنور الداخلي أو الإيمان بالروح القدسي، يروق لي أن أكرس كثيراً من وقتي لدراسة الصوفية والأفلاطونية، شأن الكثيرين الذين كان يضطرم في نفوسهم مثل هذا الإحساس أن الإيمان بالقديسين يكاد يكون أمراً مفروغاً منه ومجمعاً عليه، وأولئك الذين أعطوا كل ما يملكون ليجدوا الجوهرة الثمينة، لم يرجعوا صفر اليد ولم يكونوا جميعاً من المسيحيين. لقد كان بلوتونيوس أعظم فلاسفة التصوف في القرن الثالث الميلادي وثنياً. وقد ابتدأنا ندرك الآن أن أشياء كثيرة نستطيع تعلمها من الهنود. وليس أصدق من القول الذي يزعم أن الديانة المسيحية والبوذية قد خسرتا بتدابرهما طرق الحياة. إن خيال التصوف يبدو لي غامضاً لأنني لم أحصل على معرفة كافية، ولكنني من ذلك النوع من الرجال الذين لو حدثهم من يثقون به عن وصوله أعلى قمة من جبال العالم، لاعتقدت إمكان الوصول إلى تلك القمة على رغم عجزي عن الوصول إليها. إن الديانة المسيحية كما يصفها سنت أغسطين ليست إلا الأفلاطونية ممزوجة بعقيدة حلول الروح القدسي في المسيح. تكاد معظم الفلسفات تجمع على جعل الإنسان مندمجاً في المهل التي تفهمها الحياة. لكن الديانة المسيحية لا تفعل مثل ذلك. الله هو المحبة. وكثيراً ما تورد المحبة صاحبها موارد الهلكة، وحب الله العظيم للناس جعله يضحي بابنه في سبيل إنقاذهم. إن التضحية هي قانون أولئك الذين يتبعون الله ويؤمنون به ويضحون في سبيل الآخرين ويتحملون الآلام، وكما عبر عن ذلك وليم بن بقوله (لأجزاء بلا تضحية) وكثيراً ما خيل إلي أن جماعة (الكويكارز) قد تأثروا بهذا الرأي(852/26)
كثيراً.
لم تتغير آرائي في شخص المسيح إلا قليلاً. لقد تأثرت في صدر حياتي بما كتبه عن المسيحية شيلي وهارنك والبروتستنتيون من الألمان. لقد وجهت نقداً لاذعاً في محاضراتي في الجامعة لقول ليوزي (إن المسيح ليس إلا فلاحاً من منطقة الجليل في الأرض المقدسة محدود الذكاء). اعتقد أن استمرار إيمان الحواريين بالمسيح بعد صلبه لم يكن إلا انعكاساً من أنفسهم لما تأثروا به وهو بينهم. ومن غير المعقول أن نؤمن بما قاله ليوزي ونحن نرى الأثر الذي تركته حياة المسيح في حياة الناس مدى الأجيال البعيدة. والاعتقاد بعودة المسيح ليس في رأيي غير انعكاس عميق لحماس روحي لم يستطع الناس تفسيره بغير الأمل العظيم في مستقبل قريب. ألم نجرب ذلك في نفوسنا ونحن نعلق الآمال على وقت سعيد مقبل، فهل يتغير ذلك الاعتقاد إذا ما أناخ بكلكله علينا وقت سيئ مفعم بالآلام؟
أرى لزاماً علي أن أبين الخطر الذي يكمن وراء ما يسمونه (عبادة المسيح) لقد أساء مارتن لوثر فهم معتقد سنت بول، ذلك المعتقد الذي كان لا يعني غير صوفية عميقة في المسيح. إن المسيح الذي تعبده الديانة المسيحية هو الذي كان حياً ومات، والذي لا يفنى أبداً. لقد آمنت بأن الأقسام الثلاثة التي قسم سنت بول بموجبها الطبيعة الإنسانية: الجسد والروح والنفس، صحيحة من وجهة سيكولوجية. إننا نعيش في عالم المادة، والروح طليقة تعيش في المادة وما وراءها، فينبغي أن تكون حياتنا الداخلية تحولا مستمراً من المادة إلى الروح. إننا نكاد لا نؤمن بإمكان تحويل الشخصية المادية إلى شخصية غير مادية مطلقة. هذا هو الشرح لضرورة وجود الرمزية في الدين. أما في الحياة المادية فإننا نستطيع أن نرى - كما في المرآة - عن طريق الرمزية. وحينما تمر كل يوم من المنظور إلى غير المنظور، ومن الحقيقة إلى الخيال، تكاد تتملكنا رغبة تدفعنا إلى محاولة رؤية المجهول في عالم الزمان والمكان الذي نعيش فيه. لقد قلت في إحدى مواعظي أن من أبسط واجباتنا نحن رجال الدين أن نساعد الذين في بصيرتهم ضعف على رؤية ما لا يدرك بالحواس، وهو عمل محفوف بالمصاعب. وإذا كان قولي صحيحاً، كان التقليل من الغموض في الدين أدعى إلى إنارة أذهان الناس وأدعى إلى بلوغ ذلك الهدف عن أقرب طريق. لست أريد أن أتجاوز أكثر من هذا في حديثي لأننا كثيراً ما نسمح لأنفسنا بحرية أوسع في التفكير(852/27)
والخيال.
لقد كان اهتمامي بالغاً بالفلسفة والدين، وقد ملكا علي جميع أوقات فراغي. ولم يمنع هذا الاهتمام أن تكون نواح أخرى صرفت لها بعض وقتي ورغبتي. إن من حق الفرد في الحكومات الديمقراطية أن يعبر عن أفكاره تعبيراً صحيحاً، ويقنع من حوله بما يدور في رأسه من مُثل وآراء. وهذا يصدق على رجال الدين أيضاً؛ غير أنه لا يجوز لرجل الدين وهو يحتل منصباً رسميا في الكنيسة أن يجاهر بآراء خاصة قد لا يؤمن بها غيره من المسيحيين التابعين للكنيسة. لقد ظهرت محاولات عديدة ليكون للكنيسة صوت في الحياة السياسية؛ ولكن الكنيسة تجنبت ذلك تمشياً مع قول اللورد أكتون الذي يقول: (إن كل قوة مصيرها إلى الفساد). ولذلك احتفظت الكنيسة بحيادها ولزمت الجانب الروحي من حياة الناس.
كان أبواي من المحافظين، وقد ابتدأت علاقة أتباع الكنيسة العليا بالاشتراكية عن طريق جور وسكوت وهولاند، وكانوا يأسفون أن يكون المستر جلادستون خيراً من دزرائيلي من جهة الدين.
أما ما يتعلق بي، فإنه ليضحكني أن أذكر - حتى زمن حرب البوير - أنني كنت محافظاً متعصباً على طريقة رديارد كبلنج، وقد أثرت تلك الآراء في وفي الكثير من أمثالي، ورأى القرن الجديد انكماش الإمبراطورية البريطانية وتقلصها، وأصبح لزاماً على الإنجليز أن تكون لهم آراء تتمشى مع التطور الجديد. لقد بلغت الذروة جميع الشعوب التي تقع على شواطئ الأطلسي وأصبح اتجاه التوسع الإمبراطوري إلى الشرق، وانتهى من ناحية الغرب. إنني لا أنسى قول اللورد هلدان في مطلع الحرب العالمية الأولى: (لو ركن الألمان إلى السلم لنالوا كل ما يريدون). لقد ألقوا بالجائزة مرتين من أيديهم. وقد أخذ عصر الاسترقاق يطل برأسه على الدنيا. إن المستقبل للشعوب التي لديهاأرض واسعة، ومستوى منخفض في المعيشة، واستعداد للعمل المرهق، ونحن والفرنسيون لا ندخل في نطاق هذه الشعوب.
كثيراً ما يتراءى لنا أن ثلاثة أخطار تهددنا: أولها حق التصويت العام. من المؤكد أن السياسة ستنحط إلى نوع من المزاد العلني تباع وتشترى فيه أصوات الأغلبيات غير(852/28)
الممثلة. أقول غير الممثلةلأن المفروض أن أصحاب الحرف التجارية والمهن قد مثلتهم في المجلس مائة مقعد، إلا أن الواقع يظهر أن كثيراً من المناطق لا يمثلها أحد غير مدينة لندن والجامعات القديمة. لقد تدهورت معنويات العامل الإنجليزي تدهوراً جعله غير مرغوب فيه عند الشعوب الأخرى.
والخطر الثاني: نمو سلطان الحكومة المركزي من أثر الحربين الأخيرتين، وفي سبيل القضاء على الطغيان الفاشي، قد جعلنا أنفسنا فاشيين: إن عبادة الدولة شر أنواع الوثنية. والشعب الإنجليزي يضع قوته في المجتمع لا في الدولة. لكن الدولة الآن تصول وتجول وتتجاوز كل حق موضوع.
والخطر الثالث هو اكتشاف قنابل الذرة، ذلك الاكتشاف الذي وضع سلاحاً رهيباً في يد الدولة وقوى سلطانها. ليس هنالك ما يدعو إلى الخوف من القنبلة الذرية الآن. ولقد بدا ذلك واضحاً في روسيا وألمانيا حيث عوملت الجماهير بأشد ما في الظلم والهمجية من معان. نقول لأنفسنا أحياناً: (إن أعمالاً من هذا النوع لا تحدث عندنا)، ربما كان ذلك صحيحاً.
لكن الخطر لا يزال موجوداً. إن الطبقات المتوسطة التي تحمي الحرية الشخصية آخذة في الفناء، والأحرار الذين كانوا في زمن سابق يحمون هذه الحرية أصبحوا في موقف سيئ لا يحسدون عليه. حينما كنت طفلاً كان الأحرار يعيرون المحافظين بأنهم حزب بليد. لقد جنوا على أنفسهم وهم يفسحون المجال للامتيازات والآراء الحديثة. ويذكرنا ذلك بقول جلادستون (لن يمكن للشيوعية الاشتراكية إذا قدر لها أن تكون في هذه البلاد غير حزب الأحرار). وهربرت سبنسر كان يرى أن الاشتراكية ربيبة الأحرار أيضاً.
إنني أرجو أن يكون في إنزال إله المال عن عرشه، بعد أن أصبح صفر اليدين، بعض النفع للطبقات التي هي خليعة بذلك وكانت محرومة. إن كل ما يطلب هو إزالة ويلات الحرب، وليس ذلك - في اعتقادي - بعزيز. ومن يدري فلعلنا في مطلع عصر مظلم رهيب. حينما يوجد الأمل توجد الحياة. والغرب لم يفقد آماله. إننا نجتاز أعظم كارثة حلت بالبشرية، ولكن كل تحد - ما لم يكن مدمراً - يترك رد فعل. وقد برهنا على أن في استطاعتنا احتمال الآلام دون مضض أو تذمر أو تراجع.
ليكن هذا كل ما أريد قوله. لقد علمتني الحياة ما كنت خليقاً بتعلمه منها. لقد كنت طموحاً،(852/29)
ولا أذكر أنني قلت أو كتبت أي شيء لا يرضى عنه ضميري، في سبيل إرضاء الآخرين.
يقول الناس عني إنني كنت كثير الحركة، وكثير الحركة تتوارى وراء روحه الثورة. إن الناجح في الحياة هو ذلك الذي يطفو على ماء نهر الوجود كالكلب الميت؛ يتملق صاحبه وكأنه ينبض بالحياة. إن الصرخات التي لا معنى لها اليوم ليست إلا صدى أحلام الأمس غير البعيد.
آمل أن يكون جزائي ما كنت أحمله في عواطفي من الصدق، ذلك الصدق الذي لم أستطع خدمة بلادي به إلا قليلا.
(بغداد)
علي محمد سرطاوي(852/30)
مع شاعرة (من الأعماق)
للأستاذ عبد المحسن الحكيم
الشعر الآن غيره قبل حين. . . حيث كان لا يطلب منه إلا أن يسمو في اللفظ أو في المعنى على اختلاف في فهم الشعر ووظيفته. أما الآن فإن أهم وظائفه أن يصدق في نقل أحاسيس الشاعر وتأثره بالتجارب الشعورية التي تفيض بها الحياة. . . وأحسب أن الشعر بلغ منتهاه من التطور. . . حين تحرر من سلطان اللفظ وسلطان المعنى الذي لم يكن للشاعر به عهد. . . وإنما هو تخيره من بين المعاني لأن غيره من قراء الشعر يعجب به ويدهش له، وحين قدر له أن يكون وقفاً على صاحبه. . . يعرض دقات قلبه لوجه جميل، وحركات شعوره لمنظر جميل أو منظر قاتم. . . تمثله الحيوات التي يحياها مواطنوه.
وجميل أن يطلب من الشعر أن يكون نتيجة إحساس. . قبل أن يكون نتيجة فكرة. . تعرض على أنها حكمة خالدة أبدية. . فهو إذ ذاك يكون شعراً. . وشعراً فقط. . لا منبراً لوعظ وإرشاد وتنبيه إلى الحقائق.
وإن هذا الذي قرأته في عدد سالف من الرسالة، للآنسة الفاضلة والمطوقة، لهو شعر حقاً. . يمنح من الإحساس ويصدر عنه. . . كما لو لم يكن غيره مصدراً لشعر في القديم والحديث.
وليس أصدق في نقل الأحاسيس إلى لغة الشعر من قول الآنسة الفاضلة تعلن وحدتها. . . وهي إذ ذاك تقطع مفاوز الحياة. دون أن تلقى بين يديها من يؤنس وحشتها ويشعرها أن الحياة غير الملل والصمت والظلام. . . لم تلف بين يديها هذا الإنسان. . . وإذا الحياة عندها. . تيه معمي. . ليس فيه غير ظلام مطبق وملل وسأم ووحشة فهي تقول:
سرت وحدي في غربة العمر؛ في التيه المعمي، تيه الحياة السحيق
لا أرى غاية لسيري ولا أبصر قصداً يوفى إليه. . . طريقي
ملل في صميم روحي منساب، وفيض من الظلام الدفوق
وأنا في توحشي تنفض الحيرة حولي أشباح رعب محيق
سرت وحدي في التيه , لا قلب يهتز صدى خفقة لقلبي الوحيد
سرت وحدي لا وقع خطو سوى خطوي على المجهول المخوف البعيد(852/31)
لا رفيق، لا صاحب، لا دليل غير يأسي ووحدتي وشرودي
وجمود الحياة يضفي على عمري ظل العناء. . . ظل الهمود
والإحساس الكبير هنا تتوزعه جميع هذه الأبيات. . ولكنه يظهر في بعضها بصورة أكبر. . تكاد لا تملك نفسك من الإعجاب بها. . . وقد لا تظفر مني أكبر قطعة موسيقية أو أبلغ لوحة وجدانية من الإعجاب ما ظفرت به بعض التعابير هنا. . . في هذه الأبيات. . . من ذلك مثلاً. (غربة العمر) (التيه المعمي) (جمود الحياة). فإن الإحساس الكبير في مثل موقف الشاعرة لا بد أن يعبر عن نفسه بمثل هذه التعابير. . لأنه صادق ولأنه بعد ذلك عميق فائض نفاذ.
وموقف آخر. . . هو أيضاً جميل، يشيع فيه الإحساس باللحظة الكبيرة. . . التي تغمر الشاعرة. . . ولكنه لا يظهر بالتعبير عن نفسه وإنما بالعجز عن ذلك. وهو ما أسميه ب (عي الإحساس) وعندي أن العي ليس وقفاً على اللسان فهو كذلك يصيب الإحساس كما يصيب اللسان على السواء. . . وذلك في المواقف الكبيرة التي تضيق بها التعابير ويضيق بها الإحساس نفسه. . . والشاعرة المجيدة حين تقول:
والتقينا. . . لم أدر أي قوى سا ... قتك حتى عبرت درب حياتي
كيف كان اللقاء؟ من ذا هدى خط ... وك؟ كيف انبعثت في طرقاتي؟
لست أدري، لكن رأيتك روحاً ... يوقظ الشوق في مسارب ذاتي
ويذرِّي الرماد عن روحي الخابي، ... ويذكي ناري، ويحيي مواتي
وحين تشيع الاستفهامات. . . لأن اللحظة كبيرة غمرت الإحساس بفيضها، وعب هو منها حتى ارتوى، وزاد بعد ذلك من اللحظة كثيراً. . . لم يحتوه الإحساس ولم يغمر. . . فضاق وعجز. . . وعبر عن هذا الضيق والعجز بهذا الاستفهامات الكثيرة في الأبيات القليلة. . . وما ذاك إلا لأن الموقف كبير. . . وكبير جداً. . . فلنتصور فتاة هائمة. . . قد أعياها البحث عن الشريك الذي يزيل لهفتها، ويريها الحياة كما هي لا من وراء الوحشة والوحدة. . . لعبور هذه الفتاة الهائمة تعبر الدروب وتجتاز المغاوز حائرة بائسة. . . وإذا هناك في بعض الدروب ألفته. . . أجل ألفته. . . عن غير قصد ولا سابق وعد أو انتظار. . . فسوف تدرك سر الاستفهام وجلاله وروعته. . . وسوف تدرك أن الشاعرة كانت تعوم(852/32)
حينذاك في السموات. . . تبحث فيها عن الصورة التي تمثل هذا المشهد المفاجئ تمام التمثيل. . بعد أن فتشت عنه في الأرض. . . وحين لم تلقه هناك. . . ألقت حيرتها في الاستفهام وهي تدري أن قصاراها في هذا الموقف هو الاستفهام الذي يبدي عجزها، في الموقف وبعده.
ولا يفوتني أن أدل على تعبير جميل تريد به الشاعرة الفاضلة مفاجأة اللقاء. . . هو (كيف انبعثت في طرقاتي). . . أرأيت المشاهد كيف تنثال عليك؟. . . مشهد الفتاة الهائمة في الطرقات. . . ومشهد الطرقات وهي قفراء من الحبيب، ثم مشهد الحبيب وقد نبض على غرة من الهائمة. . ومشهدها هي وقد فاجأها اللقاء. . . هذه المشاهد التي توحيها كلمات (كيف انبعثت في طرقاتي) مصدرها قسوة تكمن في قلب الشاعرة النابض. . . ومصدرها كذلك حاسة فنية عميقة.
ولأعبر ثلاثة أدوار من قصيدة (من الأعماق) لأقف قليلاً عند قولها البليغ:
ومضت بي الأيام، لا أنا صر ... حت، ولا لهفتي الحيية تبدو
كم وكم راح يحتوينا مكان ... وأنا صبوة توارت. . . ووجد
كم حديث حدثتني! كم قصيد ... هز روحي وأنت تروي وتشدو
ولقلبي السعيد شيء كعنف المو ... ج، يطغى تياره. . . ويمد
والبلاغة هنا تعني مطابقة الإحساس. . يضاف إليها الحاسة الفنية التي لا تكاد تلتقي بلحظة حياة. . حتى تحيلها إلى حياة بعيدة المدى شديدة الإيحاء. . وأحب للقارئ أن يقف على هذا البيت بصورة خاصة:
كم وكم راح يحتوينا مكان ... وأنا صبوة توارت. . ووجد
ثم يلمس بنفسه جمال الصورة التي توحيها هذه الألفاظ. . وليتذكر القارئ أبداً أنه أمام ألفاظ لا قطعة موسيقية ولا تمثال جميل.
وهكذا تسير قصيدة (من الأعماق). . إحساس شديد صادق. . وحاسة فنية قوية. . وتعبير جميل موح. . وروح بعد ذلك كله شاعرة طليقة. . وإن بدت أنها مقيدة إلى الأرض بأكثر من قيد.
وإني لأشبه الآنسة المطوقة. . بالشاعرة العراقية المجيدة (نازك الملائكة). . فقد كانت(852/33)
الشاعرة العراقية دائمة الشكوى من الحياة شديدة التذمر من أسبابها. . أما الآن فقد عطفها إلى الحياة طبيعة عريقة لا يمكن أن تفلت منها مهما حاولت ذلك. . وعلى أي حال. . فإني أريد قبل أن أفارق القارئ أن أتلو معه خاتمة (من الأعماق) لتكون خاتمة هذا الحديث:
وافترقنا، وبين كفي رسم ... لم يزل كل زاد روحي المتيم
كم تلمست عمق عينيك فيه ... وبعينيَّ أدمع تتضرم
يا لقلبي (كم راح بين يديه ... يهتك الحجب عن هواه المكتم)
اصغ تسمع عبر الصحارة صداه ... يترامى إليك شعراً مرنم
(العراق - النجف)
عبد المحسن الحكيم(852/34)
إلى جوته. . .
للأستاذ نصري عطا الله
احتفلت الدنيا بمرور مائتي عام على مولدك، ومنذ أعوام قلائل احتفلت بمرور مائة عام على رحيلك عنها. . . فهل رحلت حقاً وانتهت حياتك يوم غيبوك في التراب كما يرحل عشرات الألوف من أبناء الفناء كل يوم، أولئك الذين يغدون إلى هذا العالم ويتنفسون هواءه حقبة من الزمن ثم يرحلون عنه دون أن يكون لحياتهم هدف أو معنى أو مبررات، أولئك الذين ينسون أنفسهم في حياتهم فتنساهم الدنيا ويموتون قبل أن تفارق الروح منهم الجيد. . . هل مت حقاً مثلهم؟
لا، إنك لست منهم، إن الدنيا ستظل تعتز بك وتتمسك بوجودك وتصر على بقائك في الأحياء، لأنك من بين أبنائها القلائل الذين تفخر بهم وتحس في وجودهم كبرياءها وعظمتها ونفاستها. إننا - ومن بعدنا الأجيال - نحبك ونجلك، ونحن نحبك لنفسك ولكننا نحبك أكثر من أجل معجزة الإله فيك، فكم من أبواب الحياة ظل مغلقاً، وكم من طرقاتها ظل مظلماً مجهولا حتى أتيت أنت فإذا بيدك المباركة تفتح الأبواب الموحدة، وإذا بنور عبقريتك يبدد الظلام، وإذا بالحياة متسعة الرحاب بعيدة الآفاق. لقد كانت الحياة بدونك فرضاً أو عبثاً أو واجباً فإذا هي بك فرحة ونضرة وتحمس لغاية وغايات.
لقد علمتنا أن نضع أنفسنا فوق الصغائر: فوق الحقد والحسد والغيرة والعناد وأن تطهر قلوبنا ونفسح فيها المجال لتلقي رسالات الخير والحق والجمال. أجل، في صحبتك يخجل الإنسان من الصغائر والصغار ويتطلع إلى الأعالي، ينقي نفسه من أدرانها ويصلي لله بحرارة أن يهبه القدرة على السمو بحياته وتنمية مواهبه الخفية واستغلال قواه الكامنة حتى يصبح جديراً بصحبتك وبإنسانيتك الكاملة الناضجة.
إنك تستنهض ذاتنا العليا - وما ذاتنا العليا إلا روح الله في هيكلنا البشري، وتخلق لنا أجنحة نحلق بها فوق هذه الحياة، فما نلبث أن نخجل من ذاتنا الصغرى ومن تصرفاتنا الأرضية وتفاهاتنا وحماقاتنا التي، تمليها علينا في هذه الأرضالشقية ما نسميه بالحكمة العملية، أو يفرضها علينا ضعفنا البشري.
أيها الحبيب. إن النور الذي تشعه عظمتك يهدينا إليك ويقربنا منك ويملأ قلوبنا فرحة بك(852/35)
وحباً وإجلالاً لك.
وإذا بالقلب وقد امتلأ حباً لك يشعر بأنه لا يستطيع وحده أن يسع عظمتك كلها فيهيب بالعقل والروح والخيال أن يشاركون العبء العظيم أو النعمة الكبرى.
وكم يسعد العقل إذ يجاهد في توسيع دائرة أفقه، وكم تنعم الروح وهي ترقى معك إلى أعلى الذرى، وكم يبتهج الخيال وهو ينشر أجنحته ويظل يصعد في الأجواء البعيدة حتى يصل إليك ويحوم حولك.
كل قوى الإنسان وملكاته تلبي نداء القلب وتؤازره في محاولة تفهمك وارتياد تلك المساحات الشاسعة من العالم النفسي، التي سبق أن جبتها أنت، رائداً، ودليلاً، وهادياً، ومنشداً، ومغنياً! هكذا تهدينا إلى كنوز النفس الإنسانية وعواملها الواسعة الشاسعة التي تظل مجهولة أو كالمجهولة تحت ستار من غبار معركة الحياة بما فيها من خير وشر، وسمو وإسعاف، ونور وظلام، وهدى وضلال.
إننا نتذكرك ونباركك، لأنك تمنحنا من ذات نفسك، عن طريق إحياء ما في نفوسنا ما يبارك أيامنا وليالينا، ويضاعف ويخصب معنى الحياة في قلوبنا، فكأنك تمنح عمرك مجدداً على مدى الأزمان كل من طرق بابك ورام صحبتك ونشد زمالتك. وعمرك - أيها العظيم - هو خلاصة حكمة الدنيا وفلسفتها وشعرها وما تنطوي عليه من حق وخير وجمال.
لذلك ستظل الدنيا تعتز بك وتتمسك بوجودك وتصر على وجودك في الأحياء.
نصري عطا الله(852/36)
الوتر الهامد
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
إن رأيتِ العود في كفَّي مشلول النشيدِ؟
كافر الأوتار مصلوب الصدى قوق وُجودي
لاهثاً يستنزفُ النغمة من جُرحٍ بعيد
ضارعاً للوهم إن مرَّ، وللحُلم الشريد
بيديْ عبدٍ شقيٍّ راسفٍ بين القيود
تتلوى ناره بين فحيح وهمود
ورمادٍ مستجير من أباطيل الوعود
ورؤى حمقاء لا تعرف أطلال العهود
لا، ولا تحملُ عن أكفانها زُور الخلود
وحكايات الهوى والوجد والنوح السعيد
والأغاني السارقات النبضَ من طير النهود. . .
فاصمتي، وامضي. . فناري ضيعت كل الوقود
واتركيني واسخري ما شئتِ من أنات عودي!
وإذا أبصرت للكون ظلالاً في عيوني
ورأيت الفنَّ طيراً هائماً حول جُفوني
كلما دفَّ سقاني الريحُ من غاب الجنون. . .
ورأيت الحيرة الرَّمضاء تشوى في يقيني
ورياح الشكِّ يرتابُ صداها من أنيني
فتسوقُ الخطو للأعماق، للسرِّ الدَّفين
تُنشب الأنياب في بُقيا رمادٍ من حنيني. . .
فاعذري هُلكي، ويأسي وارحميني
نزحتْ سريَ أهوالُ الليالي والسنين
وانتهى دربي إلى ليل بنجواه ضنين(852/37)
فتكتْ ظُلمته حتى بوهمي وظنوني. . .
أنا من طير إلى القضبان مشدودٍ سجين
في فلاةٍ تفزع الأوهامُ فيها من سكوني
محمود حسن إسماعيل(852/38)
أين السعادة؟!
للآنسة (ن. ط. ع)
قالوا السعادة والهنا ... ءة بين جدران القصورْ
حيث الحياة يسيرةٌ ... لا مطلبٌ فيها عسير
فإذا القصور تكشفتْ ... عن كل محزون كسير
قالوا السعادة للمثا ... ليين عشَّاق الكمال
ومكارم الأخلاق وال ... إخلاص في كلِّ الفعال
سحر المعاني غرَّني ... فشددتْ من فوري الرحال
فإذا المثاليَّ الكري ... م يضيع في هذي الحياهْ
وتظلُّ تلطمه الحقا ... ئق أينما ألقى عصاه
وإذا الدناءة أهلها ... بالأرض مرفوعو الجباه
قالوا السعادة بين أحض ... ان الطبيعة والزهورْ
حيث الجمال العبقري ... وذلك العيش النضير
فإذا أهل الريف قد ... حُرموا السعادة والسرور
قالوا السعادة حيث تج ... تنبُ العداوة والشقاقْ
حيث العدالة والأما ... نة والتآخي والوفاق
فإذا كبار الأرض لم ... يرفعهمُ غير النفاق
ربي تُرى أين السعا ... دة لم نجدها في القصورْ
وبحثتُ في الأكواخ لم ... أجد السعيد ولا القرير
ولكم تصفحت الوجو ... هـ وما تضنُّ به الصدور
وعرفت أسرار الخلا ... ئق من عظيم أو شريدْ
وارتدتُ أحظان الطبي ... عة علني أجد السعيد
فإذا بكل الناس دأ ... بهمُ التمرُّدُ والجحود
ن. ط. ع(852/39)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
خطبة الأستاذ الزيات في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
قال لي بعض الأصدقاء متسائلين: لماذا لم تعقب على خطبة الزيات في مجمع فؤاد الأول وقد كانت حديث الناس في المجمع وخارج المجمع؟ وقلت للأصدقاء رداً على التساؤل الذي يتطلب شيئاً من الإيضاح: أما التعقيب فقد أرجأته حتى يقرأ الخطبة هنا من لم يستمع لها هناك، وكذلك الخطبة التي سبقتها في الإلقاء وأعقبتها في النشر.
والآن، وبعد أن طالع الناس الخطبتين على صفحات الرسالة أود أن أقول كلمة عن الزيات الصديق، والزيات الأديب، والزيات الإنسان. . . كلمة تتناول هذه النواحي الثلاث جمعياً، ورائدها الضمير الذي يتفيأ ظلال الصدق ولا تلفحه حرارة الصداقة، ويستروح أنسام الحق ولا تعصف به رياح المجاملة!
أما الزيات الصديق، فقد قدمته إليك نفحات من الوفاء تجلت في عباراته، وما أكثر ما تطمس يد الزمن سطور الوفاء من صفحة القلب نحو من تطول غيبته، ثم لا ترجى بعد ذلك أوبته. . . ولكن الزيات في موطن الذكرى الباقية نحو أنطون الجميل، كان مثال الصديق الذي يعدد المآثر في حساب الشعور لا في حساب السنين والأيام، وتلك هي غاية الوفاء؛ فمآثر أنطون الجميل في حساب الزيات أو في حساب شعوره، تدفعه إلى القول بأن كرسي الرجل ينكره كما ينكر الفرس الجواد راكبه الغر، أما حساب السنين والأيام، فهو حساب تاريخ الأدب يوم أن يؤرخ الأدب، يوم يكون للزيات فيه صفحات تنكر قوله بأن كرسي الجميل ينكره!
ما أكثر ما يظلم هذا الرجل نفسه إذا ما تحدث عن نفسه!
ولكن الذين يعرفون الزيات كما أعرفه، يعرفون فيه صفتين قل أن تجتمعا لرجل في هذا العصر الذي نعيش فيه: الحياء، والوفاء. . . ومن هاتين الكلمتين يمكنك أن تخرج بأصدق عنوان لكتاب حياته! ولا تعجب إذا قلت لك إنني كثيراً ما ضقت بحيائه، وثرت على وفائه؛ ذلك لأن وفرة الحياء قد تحول بين صاحبها وبين كثير مما يتطلع إليه أصحاب الطموح، وقد تدفعه إلى الرضا عن الشيء وهو ضائق به، وإلى السكوت عن الأمر وهو(852/40)
قادر عليه، وفي ذلك يقول الزيات في كلمته: (ولقد حدثتني نفسي - شهد الله - حين تأدى إليَّ خبر انتخابي لعضوية المجمع أن أستعفيه من هذا التشريف، لا زهادة في الشرف، ولا رغبة عن العمل، ولا فراراً من الواجب، ولكن لعلة نفسية مزمنة كان من أخف أعراضها أني أحسن العمل منفرداً أكثر مما أحسنه مجتمعاً، وربما جعلتني - لعنها الله - أعلم الشيء ولا أقوله، وأسمع الخطأ ولا أصوبه، وأرى المنكر ولا أغيره!)
هذا عن الحياء وهو عجيب، وما أعجب الرجل بعد ذلك في مجال الوفاء. . . أعرف أناساً فتح لهم الزيات قلبه، وسقاهم من نبع حبه، ومنحهم من فيض ثقته، وأخلص لهم في السر والعلانية. ودار الزمن دورته فتنكر هؤلاء جميعاً لصداقته، وتجاهلوا ما كان من مودته، وقطعت أحقاد النفوس كل ما كان بينهم وبينه من صلات. ومع ذلك فقد نسى الرجل الإساءة وصفح عن حاضرهم وحاضره، وعاش بفكره وشعوره في ماضيهم وماضيه؛ ذلك لأنه لا يستطيب العيش إلا في ظلال الوفاء، ولو كان الوفاء وهماً يحلق على أجنحة الماضي البعيد فوق ركام الذكريات. . . وأجادله في موقفه من هؤلاء الناس فيبتسم، وأدفعه إلى لقائهم بمثل ما يلقونه به فيعتذر، وأثور على هذا كله فيلوذ بالصمت!
وحين أخلو إلى نفسي وأذكر ما كان منه وما كان مني، لا أملك إلا أن أخفض قلمي تحية لحيائه، وأحد من ثورتي إجلالاً لوفائه؛ ذلك لأن الإفراط في الحياء ولو جنى على القيم، والإغراق في الوفاء ولو كان لغير أهله، صفتان أقل ما يقال فيهما إنهما ترفعان الغطاء عن حقيقة إنسان!
أما الزيات الأديب، فيحدثك عنه اسمه اللامع وماضيه الطويل، وإنما أريد أن أحدثك عنه اليوم على ضوء كلمته التي سمعها البعض في المجمع، وقرأها البعض في (الرسالة). . . أدب وتاريخ أدب ونقد: في الأول أسلوب وعرض، وفي الثاني إحاطة وصدق، وفي الثالث ذوق وميزان. وأبلغ الدلالة على هذا كله أن يقول الزيات في معرض الموازنة بين المدرستين المصرية واللبنانية: (وظلت المدرستان الشقيقتان تنتجان الأدب في ضروبه المختلفة بأسلوبين مستقلين، أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، على ما كان بينهما من تفاوت في الطاقة والمادَّة والصنعة والتقيُّد والتحرر، وبقيت المدرسة الأزهرية الأم عاكفة على النظر المجرد والجدل العقيم بين أروقة الأزهر والزيتونة والأموي(852/41)
والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي. . . ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. . . والمتتبع لتطور المدرستين يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرُّر والاعتدال، ثم طور التمرُّد والانطلاق. ولكن الانتقال من طور إلى طور كان في مصر متثاقلاً متداخلاً، يرود قبل النجعة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعاً لا يتأنى، مصمماً لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا) وناصيفاً اليازجي في (مجمع البحرين) يُقلد الحريري في (المقامات)، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص) إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف، والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف). . .
هذه فقرات يضيق المقام عن أن أنقل إليك من نظائرها الكثير، ولكنها تغني عن هذا الكثير لأنها تقدم إليك مفتاح الشخصية الأدبية في كلمات، ورب لمحة تغني في مجال التقديم عن لمحات. . . أما فضل الرجل على اللغة والأدب وأثره في توجيه الجيل، فقد كشف عن هاتين الناحيتين الأستاذ فريد أبو حديد بك في كلمته القيمة الصادقة التي ألقاها في المجمع ونشرتها الرسالة! بقي أن أقول كلمة عن ناحية أخرى من نواحي الزيات الأدبية، وهي ناحية عرض لها الأستاذ فريد أبو حديد بك في خطبته حين تحدث عن قصتي جوته ولامرتين. . . كلمة عن قلم الزيات حين يترجم آثار الفن من لغة إلى لغة، ومن ذوق إلى ذوق، ومن أدب إلى أدب؛ هناك في (آلام فرتر) و (رفائيل) و (من الأدب الفرنسي) ثلاثة كتب لو قرأتها دون أن ترجع إلى أصولها الفرنسية لتبادر إلى ذهنك ووقع في ظنك أن الزيات يضحي بأمانة النقل في سبيل رشاقة اللفظ وموسيقى العبارة. أشهد لقد خطر لي هذا(852/42)
وأنا أقرأ ترجمته لقصة قصيرة من قصص موباسان هي (الحلية وأشهد لقد رجعت إلى النص الفرنسي لأراجع عليه الترجمة العربية فما رأيت عبارة قلقة في ثنايا التعبير، ولا شهدت لفظاً في غير موضعه من الأداء، وما لمست أثراً للتضحية بدقة المقابلة في سبيل المحافظة على جمال التعبير. . . ولقد ذكرت هذه الظاهرة الفريدة ذات يوم للدكتور طه حسين فكان جوابه أن ما خطر لي قد خطر يوماً له، وأن ما وقع في ظني قد وقع يوماً في ظنه، وكان ذلك حين قرأ (آلام فرتر) للزيات، ولكنه حين رجع إلى القصة في أصلها الفرنسي لم يملك أمام حرفية الترجمة وبلاغة الأداء، إلا أن يكتب مقدمتها الرائعة تحية إعجاب وتقدير!
قصة طريفة:
منذ عشرة أشهر على التحديد، وفي إحدى المناسبات وأنا أنقد كتاباً في مكان آخر غير الرسالة، قلت عن الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي: (. . . هذا شاعر رفيق مجدد، ولكنه شاعر في حدود القصيدة التي لا تتعدى في طولها عشرة أبيات من الشعر، لأنه ضيق الأفق، محدود الطاقة، لا يعينه جناحاه على التحليق في الأجواء العالية؛ الأجواء التي تتطلب جناحي نسر لا جناحي فراشة)!
قلت هذا عن الدكتور ناجي ومضت بعد ذلك أيام، ثم حدث أن لقيت شاعراً من شعرائنا الشبان يربطه بالدكتور سبب من صلات الود والصداقة، وأبدى الشاعر الشاب رغبته في أن يجمع بيني وبين الدكتور ناجي، لأنني في رأيه قد ظلمت شاعريته حين وصفتها بهذه الكلمات التي انتهت بجناح الفراشة. . . وكان ردي على الشاعر الشاب أنني لم أر صديقه في يوم من الأيام، وليس بيني وبينه ما يدفع الناس إلى شيء من سوء الظن إذا ما أشدت بحسناته أو أشرت إلى سيئاته، ومهما يكن من شيء فليس هناك ما يحول بيني وبين لقائه!
وحدث مرة أخرى أن كنا في ندوة الرسالة فجاء ذكر الدكتور ناجي على لسان أديب شاب، ما لبث أن وجه إلي الحديث مذكراً بتلك الكلمات التي كتبتها عنه، خاتماً هذا الحديث بقوله: إن ناجي سيقدم في القريب دليلاً فنياً يرد به على نقدي. . .
أما هذا الدليل الفني فهو ملحمة تحت الطبع بلغت فيها الطاقة الشعرية ثلاثمائة بيت من الشعر. وكان ردي على الأديب الشاب أنني على استعداد لتقديم هذه الملحمة إلى القراء(852/43)
تقديماً يبرز ما فيها من قيم، على شرط أن يعينني الطبيب الشاعر على تحقيق هذه الأمنية!
وحدث مرة ثالثة - وكان ذلك منذ أيام - أن دق جرس التليفون في مكتبي بوزارة المعارف، وكان المتحدث ذلك الشاعر الشاب الذي طالما أبدى رغبته في أن يجمع بيني وبين صديقه، وبعد دقائق من بدء الحديث أفهمني أن الدكتور ناجي إلى جانبه وأنه يريد أن يتحدث إليّ. . . وتكلم الدكتور وتكلمت، وكانت كلمات فيها كثير من الترحيب بلقائه، انتهت بالتواعد على اللقاء في حفلة التأبين التي أقيمت لفقيد السينما أحمد سالم بدار نقابة الصحفيين، ولقد اختار ناجي هذا المكان بالذات لأستمع إلى قصيدته التي ألقاها في الحفلة، عسى أن أغير رأيي في جناح الفراشة.
إلى هنا وأشهد الله أنني توجهت إلى نقابة الصحفيين رغبة في الاستماع لقصيدة الطبيب الشاعر، وأملا في إنصافه، وتحقيقاً لتسجيل إلى الإنصاف على صفحات الرسالة. . . وجاء دور ناجي في الإلقاء فمددت عينيّ، وأرهفت أذنيّ، وحشدت الذوق كله والشعور كله لتلك الأبيات التي بدأها بمطلع لا يبشر بالخير! ومضى الطبيب الشاعر في إنشاده حتى فرغ من إلقاء قصيدته، وقلت لنفسي ترى هل من الذوق أن أصارحهأم حسبه أن أصافحه؟! وبعد حساب طويل بيني وبين نفسي صافحته وانصرفت.
ومع ذلك فأنا في انتظار الملحمة الكبرى، وأرجو الله أن يهب الطبيب الشاعر من التوفيق ما يعينني على إنصافه. . .
تقدير الأدب والأدباء عندنا وعندهم:
إياك أن تعجب إذا قلت لك إن الذين شيعوا الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل إلى مقرها الأخير بلغوا مائة ألف. . . مائة ألف ذرفوا عليها من الدموع ما يرطب ثراها إلى الأبد! ولا تعجب إذا قلت لكأيضاً إن السائق الأرعن الذي دهمها بسيارته فقضى على الفن والنبوغ في لحظات، هذا السائق قد جن جنونه ولطم خديه حين علم أن تلك التي قضى عليها لم تكن سوى صاحبة الذهن المبدع الذي أخرج للملايين قصته الخالدة (ذهب مع الريح!) ولا تعجب مرة ثالثة إذا قلت لك إن الصحافة الأمريكية قد طالبت بإعدام المجرم لأنه لم يقتل عابرة طريق، وإنما قتل مرجريت ميتشل. . . ولا تعجب مرة رابعة إذا قلت لك إن سكان الولاية التي أنجبت الكاتبة الأمريكية قد عهدوا إلى أحد نوابغ المثالين أن(852/44)
يصنع تمثالا ضخما للفقيدة العظيمة، ليقام في القريب العاجل في أكبر ميدان من ميادين العاصمة!!
هذا في الولايات المتحدة التي يقال عنها إن دويّ الآلات فيها قد طغى على صوت الفن، وإن ضجيج المادة قد أخمد سبحات الروح. . . وليس هذا في الولايات المتحدة وحدها ولكنه في فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية، أهل الأدب والفن لهم مكان الصدارة في مواطن التكريم والتعظيم، سواء أكانوا في عداد الموتى أم في عالم الحياة والأحياء، وحسبك أن تعلم أن جنازة الشاعر بول فاليري كانت أعظم وأروع من جنازة أي رئيس من رؤساء الجمهورية الفرنسية، وحسبك أن تعلم أيضاً أنه ما من أديب فرنسي كبير إلا وله تمثال يذكرك به في ميدان من الميادين، أو شارع قد أطلق عليه اسمه، أو دار قد حولت إلى متحف ينتسب إليه. هذا عدا وسائل التخليد الأخرى التي تقوم بها الهيئات والحكومات!
عندهم هذا كله. . وعندنا الأدباء والفنانون يتضورون من الجوع، ويضجون من الغبن، ويصرخون من الإهمال. وعندما يموت أحدهم تقام له حفلة تأبين في نقابة الصحفيين، لا يتهافت عليها كرام القوم بعض تهافتهم على تكريم مطربة من صواحب الصوت الجميل!!
أنور المعداوي(852/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
طه حسين سفير مصر الأدبي في أوربا:
جاء من باريس أن الدكتور طه حسين بك غادرها عائداً إلى مصر، وقد عرف الناس من أنباء رحلته في أوربا هذا الصيف، أنه توجه إلى إنجلترا تلبية لدعوة جامعة لندن إلى إلقاء محاضرات هناك، وقد ألقى هذه المحاضرات التي دارت موضوعاتها على الأدب العربي، وقرأ الناس أيضاً من أنباء هذه الرحلة ما قوبل به في تلك البلاد من الحفاوة والترحيب، لا من المصريين هناك فحسب، بل من الهيئات العالمية أيضاً، كنادي القلم الدولي في لندن. وقد بهر أديبنا العظيم من لقيه هناك واستمع إليه، حتى أطلق عليه بعضهم (برناردو شو الشرق) وما نعد نحن هذا التشبيه زيادة في قدره، وإنما الدلالة الملحوظة أن ينزل هو من تقديرهم مثل منزلة أديبهم الكبير.
وفي العام الماضي دعي طه حسين إلى أسبانيا لإلقاء محاضرات في جامعتها، فلبى الدعوة وقضى هناك أشهراً تحدث فيها إلى الأسبانيين عن الأدب المصري الحديث فيما تحدث. وكان من ثمرات تلك الرحلة فكرة إنشاء معهد مصري في أسبانيا، التي اقترحها على وزارة المعارف، والتي ترمي إلى دراسة الآثار العربية والفنية والفكرية في البلاد التي كانت تسمى بالأندلس في عهدها العربي، دراسة تصلنا مباشرة بتلك الآثار التي لا نعرف عنها إلا ما نلقفه من المستشرقين.
وأعود إلى طه حسين وهو يضطرب في فرنسا متنقلا بين عاصمتها ومصايفها، يخالط الأدباء الكبار ويدارسهم، يستمع إليهم ويستمعون إليه. وأكبر الظن أنه لا بد أن يرد في الحديث ذكر الأدب في مصر وأخواتها العربية، وأقل ما يشعر به أولئك الأعلام العالميون أن بينهم أديباً عربياً يمثل الثقافة العربية الحديثة، فيعلي ذلك من شأن هذه الثقافة في نظرهم. وليس قدر طه حسين بين كبار الأدباء في فرنسا بالذي يحتاج إلى تبيين، وقد رشحه أندريه جيد وماسنيون وأدوار هريو لنيل جائزة نوبل للآداب في هذا العام، كما أشرت إلى ذلك في الأسبوع الماضي.
تلك هي السفارة الأدبية التي يقوم بها لمصر طه حسين، وهي سفارة - كما ترى - ذات(852/46)
شأن وأثر كبيرين، ففيها دعاية لبلادنا وفيها تعريف بأدبنا وثقافتنا، إلى ما يستمده أديبنا الكبير نفسه من ثمرات الأفكار وما يستلهمه من صور الحياة ثم يفيضه علينا في أدبه المصفى.
وذلك هو طه حسين (مالئ الدنيا وشاغل الناس). أنه يعود إلى مصر، فليت شعري، كيف تلقاه مصر؟ هل يتوجه إلى داره ويذهب للتسليم عليه جماعة من الناس، يحمدون الله على سلامته، كأي واحد من آلاف الناس الذين يسافرون ويؤوبون، في تجارة أو لهو؟
قرأت في الصحف أن رجال التعليم الحر سيقيمون له حفلة استقبال، هذا حسن، وهؤلاء قوم يعرفون الواجب. ولكن الأدباء أين هم؟ لا أريد أن أسبق اللوم، فعسى أن يخطر الأمر على بالهم، وليت (عسى) تنفع شيئاً!
ولكن أقول: إن الخطباء والشعراء يسارعون إلى المشاركة في الحفلات التي تقام لرجال السياسة وغيرهم، وأراهم يتقاعس بعضهم عن بعض، لا يكرمون أحداً منهم ولا يحيون ذكر موتاهم، مع أن هذا هو الأكرم لهم والأجدر بهم، ولكن قاتل الله التطلع والأثرة والمنافسة. . .
ولست أدعو إلى تكريم طه حسين لذاته، فالرجل غني بأدبه وصيته عن كل تكريم، وإنما في ذلك معان منها إكرام النفس بعرفان الفضل، وفي ذلك أيضاً مجال للأذهان والقرائح، وتنشيط للحركة الأدبية، وعرس للأدب والفن.
وتحيتي إلى الرجل العظيم الذي يذكر اسمه مجرداً، فيغني عن كل ما تحلى به الأسماء، وهو طه حسين.
من طرف المجالس:
كم في مصر من العبقريات! هذه عبقرية من نوع آخر. . التقينا بصاحبها بفندق الكونتننتال في إحدى أمسيات هذا الأسبوع وعبقريتنا هذا هو الفيلسوف الاقتصادي، أو قل زعيم الفلاسفة والاقتصاديين جميعاً من غير منازع، محمد مختار. . وتجريد اسمه من الألقاب لعظمة الاستحقاق. . . كما أن تجريد اسم (طه حسين) للاستغناء. . وهكذا تتنوع الأسباب والتجريد واحد. .
قدم لنا الدكتور أحمد فؤاد الأهواني ذلك العبقري، وعرفنا به ولم يكن بحاجة إلى تعريف،(852/47)
فقد كانت (عظمته) بادية في سمته، كما هي كامنة في اعتقاده. . وشاء ظرف معالي حلمي عيسى باشا أن يشير إلى ناحية من نواحي هذه العبقرية التي قلما يجود بمثلها الزمان. . تلك الناحية هي تجديد عبقرينا في النحو، بجر الاسم الذي يقع عليه الفعل وهو لا يعترف بالنصب إلا في حالة واحدة، عندما يدخل على الاسم حرف جر، فإنه يقف في وجه هذا الحرف ليمنعه أن يؤثر شيئاً في الاسم، أو يحمله على نصبه حملا! قال معالي حلمي باشا: كيف يقول الدكتور أحمد أمين في خطبته بالمجمع اللغوي: إن النحو ظل جامداً لم يتطور! ولكن له عذره لأنه لم يسمع مختار بك، ولو سمعه يدحض مذاهب النحويين بالقراءة على غير مقتضاها لغير رأيه. .
ولكن الفيلسوف الاقتصادي الكبير لا يلقي بالاً إلى النحو، فهو يتكلم بالسليقة، وهو يوجه همه إلى الفلسفة والاقتصاد. وقد أجمع أهل المجلس على الرغبة في سماع شيء من إنتاج عبقريته، فأخرج من جيبه مقالا عنوانه (فلسفة الحياة) وهو مقال صغير في مبناه كبير في معناه. . . تتجلى روحه الفلسفية في مستهله إذ يقول: (الله سبحانه جلت قدرته خلق الإنسان مكوناً من مادتي الجسد والروح، وتصل الفلسفة إلى قمتها عندما يقول (إذا فقد شخص ما مكانته الاجتماعية إذ كان موظفاً وأحيل على المعاش شعر بنقص كبير في شخصية مكانته الاجتماعية فيسعى لإظهارها بأن يعمل عضواً برلمانيا أو تجاريا أو محامياً) أرأيت مثل هذه الفلسفة في (الحث على العمل)؟
وقد أراد الأستاذ الزيات أن تتحلى الصفحة الأولى من (الأهرام) بذلك المقال. ولكني ضننت به على الأهرام، وأخذته لتحليله وعرض فكرته الهائلة في (الرسالة) ولا يسعني بعد ذلك إلا أن أنبه على وجوب اختيار هذا العبقري الفيلسوف وزيراً لأي وزارة. . تحقيقاً لرغبة أصحابه ومجالسيه في الكونتننتال، وتحقيقاً لرغبته هوأيضاً فالتواضع لا يحسن في كل حال.
عقبال البكاري:
كان مخرجو الأفلام المصرية يعمدون إلى خلق المناسبات وأدنى الملابسات ليظهروا في مناظرها الراقصات والمغنين والمغنيات والمضحكين والمضحكات، ويُعد من الأفلام الجيدة ما تقدم هذه العناصر والمظاهر مع موضوعه الهزيل كي تستر نقصه وتغطي هزاله. . .(852/48)
ولكن فلم (عقبال البكاري) حدث جديد في هذا الميدان لم يسبق له مثيل. ذلك أنه لا ينتهز الفرص لتقديم الرقص وغيره، وإنما هو يحاول أن ينتهز الفرص في خلال الرقص لعرض قصة. . وللمرة الأولى نرى القصة خرجت عن (السيناريو) وصارت شيئاً آخر إضافياً، وأصبح (التقطيع) ينصبُّ على الرقص وما إليه. . .
ولم لا؟ ألست بطلة الفلم هي تحية كاريوكا؟ وها هي ذي تظهر - واسمها في الفلم تحية أيضاً - في أول منظر أمام الرسام حمدي باعتبارها (مثالاً) للرسم، وبينا هو يعمل في رسمها ويسمع قطعة موسيقية من الحاكي إذا هي تتحرك على الموسيقى وتروح ترقص وترقص. . . ولا بد من ذلك ليبدأ الفلم أو - على الحقيقة - ليرقص. . وتُنتهز فرصة فراغ تحية من الرقص لعرض مناظر يفهم منها أن حمدي الرسام تعلق قلبه بتحية الراقصة، فذهب إليها في (الصالة) التي تعمل بها، وهنا يستأنف الفلم مجراه الطبيعي، فيقدم ما تشتهي الأنظار من ألوان الرقص والغناء وفي حجرة تحية الخاصة نراها تستقبل حمدي ضمن زوار آخرين استقبال مجهول وتسأله عن اسمه. . فهل نسيت أو نسى المخرج أنها كانت عند حمدي في مرسمه، يرسمها وترقص؟ ولندع هذا فما هي إلا برهة وجيزة حتى نرى تحية وحمدي وآخرين معهما يتعشون في (كازينو نجمة الصبح) والحقيقة أن كلمة (العشاء) نسمعها من ألسنتهم فقط، فلم نر عشاء على المائدة التي جلسوا إليها قليلا ثم نهضوا للرقص. .
ونرى بعد ذلك حمدي يصارح تحية بحبه إياها وهي تبادله الحب، ويتفقان على الزواج، بعد أن يقول لها أنه فقير، وتقول له إنها ترضى به، لأنها تحبه وقد كرهت هذا النمط من الحياة الذي تجري عليه. ويبدأ في البحث عن شقة يسكناها، هو وصديقه جميل، ويعني المخرج بإبراز هذا البحث ليشير إلى أزمة المساكن، ولكنه لا يوفق في ذلك إذ أنه جعل من العسير عليهما أن يجدا أي شقة، مع أن الشقق الآن موجودة في كل مكان ولكن الأزمة في ارتفاع أجورها، اللهم إلا أن يكون الفلم أعد منذ سنوات وعرض الآن فقط.
وأخيراً يجد حمدي إعلاناً عن شقة خالية في منزل المعلم عاشور الجزار، ويذهب حمدي وصاحبه جميل إلى هذا المنزل، فيحدث اشتباه مفتعل ظريف، إذ يظن الجزار أن حمدي يخطب أخته العانس فيرحب به، ويجري الحوار بينهما مشبهاً، يفهمه حمدي على الشقة،(852/49)
ويأخذه الجزار على أنه في الرغبة من زواج أخته، ويضرب الموعد لكتابة (العقد). . . وأي عقد؟ أهو عقد الإيجار، أم عقد الزواج؟ كل يفهم ما يريد. . . ويعد الجزار لعرس أخته، ويقبل حمدي ليؤجر الشقة. . . ثم يرغم على الزواج، إذ يهدد بالسكاكين إن لم يقبل، حتى لا تتعرض سمعة العائلة للقيل والقال.
ويجري كل ذلك سريعاً سريعاً، ويدور الرقص في الفرح، وتعلم تحية فتعود إلى (الصالة) بعد أن تركتها وتستأنف الرقص. ثم يهرب حمدي من العروس التي أكره عليها، ويحصل الجزار من (قسم البوليس) على أمر بالقبض على العريس أينما وجد. ولأول مرة - فكل ما في الفلم أول - نرى أمر القبض على زوج هارب من زوجته، والأمر من (عسكري البوليس) لا من وكيل النيابة! ولم هذا الأمر يا ترى؟ ليذهب به الجزار إلى ميدان سباق الخيل بالإسكندرية حيث ذهب إلى هناك حمدي وتحية ومن معهما ليشاهدوا الحصان (سعد السعود) الذي خرجت باسمه ورقة النصيب التي معه، فيطالبه بمؤخر الصداق وهو ألفا جنيه، ويهدده بأمر القبض عليه. . . وبعد أخذ ورد يتفقان على أن يتنازل الجزار عن ألفي الجنيه ويدفع خمسة آلاف أخرى لقاء ورقة النصيب التي أيقن أن حصانها سيسبق ويربح عشرة آلاف جنيه، ثم يخفق الحصان. وينتهي الفلم بمنظر حمدي وتحية مسرورين بخمسة الآلاف
ويلاحظ أن الجزار يطالب بمؤخر صداق أخته، ويساومه زوجها حمدي، وهذا أيضاً تجديد نوجه إليه الأنظار، فالمتبع ألا يطالب بمؤخر الصداق إلا عند الطلاق، ولكن هنا لا يجري للطلاق أي ذكر، ومع ذلك يتساوم الطرفان على مؤخر الصداق، والسؤال الحائر هو: لماذا لم يطلق حمدي أخت الجزار؟ وهل يكفي أن يوقع له أخوها بأنه تسلم مؤخر المهر لتكون هي طالقاً؟
ومن العبث أن يتحدث الناقد في مثل هذا الفلم عن رسم الشخصيات، فليس فيه شخصية مرسومة، حتى الرسام الذي لم نجد في مرسمه شيئاً من روائع فنه!
وقد عرض الفلم - لأول مرة - في هذا الأسبوع بسينما الكورسال بالقاهرة، وهو من تأليف أبو السعود الأبياري وإخراج إبراهيم عمارة. ومثل (حمدي) محمود المليجي، وهو ممثل عرف بالإجادة في أدوار الشر، وكان بهذا الفلم في دور البطل المحبوب، وقد وفق(852/50)
في القيام به، غير أنه لا تزال تلازمه بعض الظلال والخلال التي كان يظهر بها في الأدوار الشريرة. ومثل (جميل) إسماعيل ياسين وهو دور إضافي يمكن الاستغناء عنه، وإنما يقصد به الإضحاك، وكذلك حسن كامل الذي مثل عم تحية، وقد كانا فعلاً ركني الفكاهة في الفلم، على أنه يمكن أن يقال إن كل من في الفلم يمكن الاستغناء عنهم. . . ما عدا تحية. . .
عباس خضر(852/51)
البريد الأدبي
المازني في يافا:
كانت يافا العربية وقتئذ مركزاً هاماً للنشاط الأدبي والفكري في فلسطين، ففيها الصحافة، وفيها الأندية، وفيها محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية.
وفي سنة 1945 دعت محطة الإذاعة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تغمده الله برحمته ليحل ضيفاً عليها لمدة أسبوعين يبث في أثنائها وجهات نظره إلى المذياع.
فحدثنا - رحمه الله - في مواضيع شتى أذكر منها (رسالة الشباب) و (فن الترجمة) و (هل للأدب رسالة اجتماعية) و (التعاون الفكري بين البلاد العربية).
ورحبت بمقدمه أندية يافا مثل النادي العربي، والنادي الأرثوذكسي، والنادي الرياضي الإسلامي، والمعهد البريطاني، وألقى فيها محاضرات قيمة في الأدب والاجتماع.
وأذكر أن حدث للأستاذ المازني في يافا حادث عجيب، فقد جاءه بعد ظهر يوم وفد يمثل نادي الشبيبة الإسلامية، وكان الأديب الكبير ينزل في (كليف أوتيل) وطلب مقابلته، فأخبره صاحب النزل بأن الأستاذ يتناول دواء بعد كل غذاء وينام مدة ساعتين على وجه التقريب، وقد منع كل مقابلة له في هذه الأثناء، فأصر الوفد على مقابلته، وعلا الهرج والمرج في القاعة، فاخترقت الأصوات باب حجرة الأستاذ وبلغت مسمعيه مصحوبة بترديد اسمه فنهض متدثراً في قميص النوم، وفتح الباب مستوضحاً الخبر، فقال له رئيس الوفد: يؤسفنا جداً أن نزعجكم في مثل هذا الوقت، فأعضاء نادي الشبيبة الإسلامية مجتمعون في ناديهم للاحتفاء بكم، ويسرهم أن تقوم فيهم خطيباً.
فقال: إنني لم أعتد الخطابة بعد الظهر، وهو وقت راحتي واستجمامي. . . لكنني لن أرد لكم طلباً، فأذنوا لي بدقائق معدودات لأغير لباسي.
واستقل الأستاذ المازني والوفد سيارة إلى النادي.
لقد توقع الضيف الكريم أن يرى وفداً آخر عند مدخل النادي، ومرحبين يبتدئ طرفهم بأول درجة من درجاته وينتهي الطرف الآخر بالحفل. . . ولكنه لم يلتق بأحد، فامتقع وجهه قليلا، وتبلبل الوفد المرافق.
وولج الأستاذ المازني القاعة، وكان هواء البحر يداعب ستائرها، فوجدها خالية إلا من قيم(852/52)
مكتبة النادي الذي دهش لمرأى الأستاذ المازني في الثالثة بعد الظهر فهرع إليه بقول: أستاذنا الكبير. . . أهلا بأديب العربية. . . ما هذه المفاجأة السارة؟. . . لقد كنا نود أن تشرفونا بزيارتكم في وقت غير هذا الوقت. . . فالأعضاء متغيبون، ومع ذلك فأهلا بكم!
فوقف الأستاذ المازني حائراً، ووقف الوفد مشدوهاً.
وبدأت الاعتذارات ممتزجة بتصبب العرق وفرك اليدين، وساد النادي صمت رهيب، ولم ينقذ الموقف إلا فرقة من الكشافة قد عرجت على النادي مصادفة لتستريح قليلاً من عناء رحلة شاقة فعلمت بوجود الأستاذ المازني في النادي وراحت تشق عنان السماء بالهتاف: يعيش المازني. يا. . يا يعيش!. . نريد كلمة من المازني!
ووقفت الكشافة في صفين متقابلين، فاستعرضهم الأستاذ المازني، وألهب نفوسهم بخطاب وطني جارف. . وترك النادي بين هتافاتهم وتصفيقهم الحاد.
فلما روى لي رحمه الله هذا الحادث العجيب، سألته مداعباً: أترون في الأمر سوء تفاهم أم (مقلباً)؟. .
فأجاب وهو يضحك: والله لا أدري. . ولكنه حادث طريف يصلح للكتابة!. .
ليماسول (قبرص)
نجاتي صدقي
ماذا؟
في البريد الأدبي في العدد 847 من الرسالة قرأت من الأستاذ راجي الراعي رداً على سؤال وجه إليه. . كان السؤال معقولاً ولكن الرد كان عجيباً. . لم يفهم الأستاذ دسوقي حنفي معنى لنداء بعثه الأستاذ الراعي إلى الشمس فقال لها (يا ابنة الله) ثم (يا عين الله) وأراد الأستاذ الراعي أن يجيب ولم يكن ثمة داع للإجابة. . قلم شط في التعبير وكان الله غفوراً رحيما. ولكنه قال لنا إنها لغة غير لغة الناس. . . إذن فقد كنت في السماء مع الشمس. . . أو هكذا يقولون هناك! غير لغة الناس يا سيدي. فأي لغة هي؟ حسبنا الله الواحد الأحد لم يولد ولم يلد. . . هكذا نقول نحن الناس. . . فهو إذن والد في لغة غير لغتنا. . . أستغفره لهذه اللغة وأسأله لها الرحمة والتوبة والهداية.(852/53)
أما أن الشمس هي عين الله فهذا ما أراد أستاذنا الراعي أن يدلل عليه فقال إنها النور وإنها إحدى عيون الله التي ترعى الخلق. خسأت الشمس عيناً له جل جلاله. . . أتبلغ عين الله من الضعف والهوان هذا الدرك. . . أي عين الله تلك التي أذودها عني بستارة أسدلها أو خشب نافذة أقفله. . . إن عيون الله يا سيدي. . . أي عين له لهي أحد من ذلك وأقوى. . . رحماك يا أستاذنا الراعي اعتذر فقد أخطأ من قبلك كل جليل وإن الحق قديم. . . هكذا يقول الناس.
ثروت أباظه(852/54)
القصص
الصورة. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأديب يوسف يعقوب حداد
سمعت من يقول لصديقه، وهما على مقربة من مجلسي. . . أنظر. . . ها هو ذا ميليال!
واتجهت إلى هذا الذي يشيرون إليه بإعجاب ودهشة، إذ أنني كنت في شوق للتعرف على هذا الرجل الذي تعبده النساء. . . هذا الرجل الغريب، الذي تتهالك عليه بنات حواء!
كان قد تجاوز سن الشباب بقليل، يبدو للعين في هيئة غريبة، غير مألوفة، فشعره غزير، ينسدل حتى كتفيه، ويغطي رأسه حتى ليبدو وكأنه قبعة جلدية كتلك القبعات التي يلبسها أهل الشمال! ولحيته ناعمة، طويلة، تداعب صدره، وكأنها قطعة منتزعة من فرو معطف نسائي جميل!
رأيته يتحدث لامرأة، وفي حديثه كثير من اللطف والرقة، قد أحنى جذعه في احترام، وهو يوجه إليها نظرات لطيفة إذا استطعت أن تدرك منها شيئاً، فإنما أنت تدرك، عاطفة فيها مزيج من الحنان والعطف والاحترام!
كنت قد سمعت طرفاً من حياة هذا الرجل. . . وعرفت أن يضع نساء قد أحببنه حتى العبادة، وتفانين في حبه إلى حد لا يتصوره العقل، وسمعت اسمه يتردد في كثير من قصص الحب، فكنت إذا ما سألت أولئك النسوة اللوائي كن يطنبن في مدحه، ويندفعن في التحدث عن سجاياه، وعن سر سحره الذي يسحرهن وجاذبيته التي تجذبهن، كن يجبنني بعد تفكير عميق، وتأمل طويل، بأنهن لا يعرفن هذا السحر. ولا يدركن لهذه الجاذبية سراً. . كل ما يعرفن، أنهن ينجذبن له لأول نظرة، وينسحرن بسحره لأول لقاء!
وأستطيع الآن، وبعد أن رأيته، أو أؤكد أنه لم يكن جميلاً، كما أنني أستطيع أن أقول، وأنا لا أتجنى عليه، أنني لم أجد فيه شيئاً من تلك الخصال التي يتصف بها عادة، أولئك الرجال الذين يجتذبون إليهم قلوب النساء، لذلك رحت أتساءل في دهشة عن سر هذه الجاذبية. أهو كامن في ذكاء الرجل؟. . . ولكني لم أسمع من يمتدح فيه الذكاء!. . . أهو مختف في(852/55)
مظهره؟. . . ربما!. . . ألا يمكن أن يكون مكمن السر في صوته؟. . . وإنما هنالك غيره من يمثلك مثل هذا الصوت، المشحون بالرقة، والحنان، والعذوبة!
ومر أحد معارفي، فاستوقفته، وسألته - أتعرف السيد ميليال؟
قال في دهشة - نعم!
قلت في رغبة واندفاع - أرجوك. . . قدمني إليه.
وبعد دقيقة. . . دقيقة واحدة فقط، كنا نتصافح، ونتجاذب أطراف الحديث!
كان حديثه مرحاً، هادئاً، متزناً. وكان صوته جميلاً، رقيقاً ناعماً. إلا أنني سمعت من قبل أصواتاً أكثر تأثيراً في أذن السامع، وأشد وقعاً في نفسه. . . سمعت أصواتاً تبعث السرور، وتنشر في النفس الحبور. . . سمعت أصواتاً لا تجهد في تتبع معانيها، تنساب من الشفاه سهلة، لينة، غير معقدة ولا متشابكة.
وبدا لي حديثة طبيعياً. لا ينبه الشعور بالملل. والمتحدث إليه يشعر بأنه يبادله الحديث في سهولة وبساطة. وأن الألفاظ تنساب من فمه بسهولة، ومن غير تفكير أو عناء!
ومع أن المدة التي مضت لتعرفي عليه لم تزد على الربع ساعة، إلا أنني وجدت نفسي، وكأنني أعرفه منذ ربع قرن!. . . شعرت نحوه كما أشعر نحو صديق قديم. أفكاره، وحركاته ونزعاته، لم تكن غريبة عني. في هذه الفترة القصيرة من الزمن، شعرت وكأن كل ذلك التكلف والتحفظ، وكل تلك الحواجز والعادات التي تقف عادة بين الناس، قد انهارت كلها مرة واحدة، وتداعت من أساسها!. . . والمعروف أن تلك الحواجز والعادات، وذلك التكلف والتحفظ لا تسقط بين الناس مرة واحدة، وإنما تسقط تدريجياً الواحدة بعد الأخرى. تسقط مع مرور الزمن. وتوطد أركان المعرفة، وتوثق عرى الصداقة.
وافترقنا بعد أن أعطاني عنوان بيته، ودعاني لتناول الغذاء عنده في اليوم التالي. إلا أنني نسيت الموعد بالضبط حين ذهبت إليه في اليوم التالي، ووصلت قبل الموعد فلم أجده هنالك. فاستقبلني خادم صموت، قادني إلى غرفة الاستقبال، حيث جلست على مقعد وثير وكأنني في بيتي!
إن مشاعر المرء لتختلف بالنسبة للغرف التي يدخلها. . . بعضها يشعرك بالضيق. وبعضها يشعرك بالكآبة، والبعض الآخر منها يشعرك بالبلادة!. . . أن عيوننا كقلوبنا(852/56)
ترتاح لأشياء وتشمئز من أشياء أخرى!
وأخذت أنظر إلى ما يحيطني. وأتأمل فيما يدور حولي. فلم أجد ثمة شيئاً غير مألوف، فالأثاث بسيط يغلب عليه القدم. والستائر من حرير شرقي ناعم. وفي صدر الغرفة، في مواجهتي صورة لامرأة متوسطة الحجم، يظهر منها الرأس والقسم الأعلى من الجسد. . . وبيدها كتاب.
كانت المرأة في مقتبل العمر حاسرة الرأس. وكان شعرها الناعم مرتباً في بساطة، يبدو على شفتيها طيف ابتسامة حزينة كئيبة. والصورة طبيعية لا أثر للتكلف والتصنع فيها.
إن ما رأيته من صور قبل الآن، كانت البهرجة تغلب عليها بوضوح، حلى، وجواهر، ولباس أنيق، وشعر مضفور في عناية. فكانت تلك الصور تشعرني لأول وهلة، أن صاحب الصورة قد تصنع كل ذلك التصنع لأنه كان يعلم سلفاً بأنه جالس أمام المصور. . . وإنه يريد أن يرضي أحبابه وأصدقاءه الذين سيرون صورته. لذلك كرهت تلك الصور البعيدة عن الواقع، الشديدة التكلف والتصنع. . . أما هذه الصورة، فإنا أعجز عن وصفها. ولا أحس بالخجل إذا قلت بأنني أعجز عن التعبير شعوري تجاهها.
كانت مثبتة في مكان بارز، منعزلة، تبتسم ابتسامة باهتة يشوبها الحزن، ويخالطها الأسى. تماماً كما يبتسم بعض الناس حين يختلون بأنفسهم، ويتذكرون ما مضى من حياتهم. فيبتسمون، يبتسمون لأنفسهم حتى إذا كانت تلك الذكريات مرة وحزينة!
كانت منفردة في مكانها، غير شاعرة بهذه الأشياء التي تحيط بها. وهذه الصورة قد خلقت في الغرفة جواً ساكناً، يشيع فيه الهدوء. . . هذه الصورة هي الشيء الوحيد الذي يبعن الحياة في هذه الغرفة!
من الممكن أن يقتحم هذه الغرفة جمع غفير من الناس يضحكون فيها ويعبثون، يشربون ويفنون، ولكنهم لن يستطيعوا أن يبعثوا هذه الحياة التي بعثتها الصورة نفسها!
وبدت لي نظراتها غريبة. . . بدت لي مصوبة نحوي. إن كل الصور تقابلك نظراتها، أما هذه الصورة فإنها لا تراني وإن كانت مصوبة نحوي بالضبط كما أنها لا تستطيع أن ترى شيئاً آخر أبداً. هي نظرات شاردة، تنظر ولا ترى، مما ذكرني بقول الشاعر يودكيرز (آه من نظراتك. . . إنهن يجذبنني كما تجذبنني نظرات الصور!).(852/57)
نعم. . . إن هذه الأعين المرسومة بالدهان على الورق الجامد لتبدو لي، وكأنها حية، وإنها ستحيى إلى الأبد.
آه. . . يا له من سحر، يخدر الأعصاب، ناعم كمرور النسيم كصوت القبلات، محرك للعواطف كلون السماء عند الغروب. . . آه. . . إن هاتين العينين لتشبهان الليل الذي يعقب الغروب. . . وما أجمل الليل، وما أجمل الغروب!
من هذا الإطار العابس، تنظر إليك هذه العيون في رقة وحنان. . . نعم، إن هذه العيون التي أبدعتها يد الفنان على الورق بعدة حركات من ريشته، لتبدو لي هي الأخرى، مفعمة بالأسرار. . . أسرار المرأة، الكامنة أو الظاهرة. إن هذه العيون لتحمل كل ما تستطيع المرأة التعبير عنه بنظراتها. هذه النظرات التي تنبه في قلوبنا الإحساس الأول للحب!
وأخيراً، انفتح الباب، ودخل منه السيد ميليال، فاعتذر لي عن تأخره، فصافحته وأنا أعتذر إليه بدوري عن تبكيري في الحضور. ثم سألته أن يغفر لي تطفلي، ويجيبني عن سؤالي عن صاحبة الصورة، ومن عساها تكون، فقال (إنها والدتي. . . ماتت في ريعان الصبا وميعة الشباب!).
وعندئذ. . . عندئذ فقط انكشفت لي كل الأقنعة عن سر جاذبية هذا الرجل، وتأثيره على النساء!
(البصرة: عراق)
يوسف يعقوب حداد
ص. ب. رقم 15(852/58)
العدد 853 - بتاريخ: 07 - 11 - 1949(/)
تحية القائد المغربي
الأمير عبد الكريم الخطابي
للأستاذ أحمد رمزي بك
وقد عجمت تلك الخطوب قناته ... فزاد على عجم الخطوب اعتدالها
وما كان محروماً من النصر في الوغى ... ولكنها الحرب اعتدت وسجالها
ولو شاء إذ ترك المشيئة سؤدد ... لأشوته يوم الهندوان نبالها
غداة يجاريه التقدم في الوغى ... أبو غالب والخيل تترى رعالها
كأنهما من نصرة وترافد ... يمينك أعطتها الوفاء شماله
(البحتري)
بين مدينتي تور وبواتييه حيث المروج الخضراء وفي قلب فرنسا شن الغرب علينا هجومه المضاد سنة 732 هجرية، ومنذ ألف ومائتين وخمسين سنة، والقتال دائم بيننا، لا هوادة فيه ولا حماية ولا تسليم ولا رحمة. . .
ولكنك يوم دخلت مصر آمناً مطمئناً، وعبرت مجمع البحرين: هلّلت العروبة في أفريقيا وآسيا لمقدمك، وقالت اليوم انتهى هجوم شارل مارتل، وانتقلت أمم المغرب والمشرق من خطط المدافعة إلى الهجوم، نعم في الساعة التي نزلت فيها إلى أرض مصر العربية في تلك اللحظة أيها المجاهد المقاتل، تراجعت القرون وانحنت أمام إرادة صامتة وقوة لا تقهر، وبدأنا مرحلة جديدة من الكفاح في سبيل تحرير المغرب ونصرته وعودته إلى حظيرة الوطن الأكبر. فاذكر ذلك اليوم. لأن وراءنا الأزمات تتحدث والنكبات تتوالى، وملاحقة الشعوب الحرة في عقر ديارها في الجزائر وتونس وطرابلس ومصر، لقد انتهى كل هذا بمقدمك، وبدأنا صراعاً آخر نحو الحرية والمجد، لا تراجع فيه ولا يأس وإنما هو دفعة تتبعها وثبةٌ، ووثبةٌ لا يقف أمامها في المعترك حائل. لقد نظرت إلى الشاطئ الأفريقي وقلت من ضفاف قناة السويس من هنا يبدأ يوم الفصل: نعم يبدأ هجومنا نحن، هجوم البطولة والجهاد تحت إعلام الحرية والعروبة والإسلام.
ويوم دخلت القاهرة، قاهرة المعز لدين الله، بلد صلاح الدين وبيبرس، ضحكت واستبشرت، وأتتك الجموع تتري إليك، أتدري لماذا أيها القائد العظيم؟.(853/1)
لأنها رأت في وجهك بقية من عبد الرحمن الناصر والمنصور ويوسف بن تاشفين وتطلعت لجبينك فتعرفت على وجوه المرابطين والموحدين، وسرت بيننا فإذا بكل منا يحس بنفحة من نفحات الأندلس وأرض الجزيرة الخضراء تغمر نفسه، وخرجت إلينا فإذا بنا نتصور على جنبيك سيوف المجاهدين والركع السجود من أهل المغرب فكأنك واقف ومئات السنين تنحني أمام قوتك ونظرتك، وكأنك تمثل شهداء معاركنا الخالدة في ألف سنة مضت.
عجباً اكلما مددت اليد إليك تمثلتك قائدا في رداء الماضي؟ رأيتك في رداء أهل المغرب الذين انتصروا في يوم الجمعة لثاني عشر خلت من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، رأيت أعلام النصر في الزلاقة وكأنها ترفرف على رأسك: يوم صلى قائدنا ابن تاشفين صلاة الصبح في ذلك السهل الذي شهد آيات البطولة والقوة والبطش في قلب أسبانيا.
ورأيتك يوماً في لباس الموحدين من أهل المغرب، وهم الذين أسسوا الملك وقادوا الجحافل ودانت لهم الدنيا، مررت أمام ناظري وكأن الأعلام التي طويت يوم تور وبواتييه، قد اخترقت ما وراء عالم الغيب والشهادة، فإذا بها تنشر من جديد وعلى رأسك ترفع، وكأن أصوات التكبير والتهليل التي ملأت جبال البرانس وصاحبت المسلمين في معاركهم وملاحمهم بالأندلس، قد تجمعت بقدرة القادر جل وعلا، وعاد صداها يرن في أذني ويعيد على أرض مصر ذكرى تلك الأيام الخالدة.
لقد أمضينا بأرض الأندلس ثمانية قرون من الزمن، كانت الحرب سجالا والدنيا قائمة علينا، تلك عوائدها فهل عرفناها يوماً من الأيام على غير عادتها، لا لم نعرف للراحة ولا للاطمئنان طعماً، بل عشناها قروناً والسهام على الأقواس مسددة، والدماء جارية، والصدور تتلقى الطعنات، والنصال تتكسر على النصال.
وتمثلتك يوماً في موقف عبد القادر وهو يدفع المغتصب عن أرض الجزائر، فقمت أحي بطولته في شخصك، وأتمنى لو كنت جندياً أتلقى الأوامر منه.
وأعرض صدري لرصاص الخصم العاتي، في سبيل هذا الركن الخالد من أرض العروبة، تُرى أكنت تدعوني لحمل السلاح كجندي من جنود المغرب، فانضم لصفوف كتائبك على بطاح الريف؟
إذن لوقفت على ربوة عالية أتحدى الأخطار والمهالك والحياة والموت، لأحيي فيك البطل(853/2)
العظيم والقائد المنتصر رغم أنف المستعمر. . . ستذكر القاهرة يوم قدمت إليها وحللت ضيفاً معززاً مكرماً فيها، كيوم من أيامها التي لا تنساها.
والقاهرة لا تنسى من أحبها، لأن العواطف المتدفقة في قلوب أهلها ثابتة راسخة منذ أيام الفتح الإسلامي الأول، منذ دخلها عمرو بن العاص. فهي حريصة على صداقتها ومعزتها، بقدر ما هي قوية في البأساء والضراء والشدائد. . .
ولذلك سميت القاهرة: لأنها قهرت الحوادث والزمن، وخرجت ظافرة من المعارك والمواقع الفاصلة، منصورة في المنصورة وحطين وعين جالوت. . . ولذا تعرفت من أول يوم عليك، وقرأت نفحاتها وروحها مرتسمة على جبينك وأصبح سكانها اهلك وعشيرتك
فإذا خطرت ببالك سنوات الغربة في جزائر المحيط، فخفف عنك هذا، وذكر الخصوم أن أبناء القاهرة أسروا لهم ملكا يوم المنصورة. بالله سر في قاهرة المعز، وارفع ناظريك إلى قلعة الجبل، وتأمل حجارتها: تحدثك أن اثنا عشر ألفاً من أسرى العدو في المعارك والحروب التي انتصر فيها جند مصر الإسلامية، قطعوا هذه الصخور ورفعوا هذه الحجارة. كانت مواكبهم تمر تحت بابي النصر والفتوح، وأعلامهم منكسة وأيديهم في السلاسل وأعناقهم في الأغلال. أما أنت فقد جعلت لموطنك مراكش حديثاً له دوي في القرن العشرين اهتزت له الدنيا، فقد هزمت دولتين وحاربت على جبهتين، وكنت موفقاً في الهجوم والدفاع وبرهنت على أن قلوب أهل الريف أقوى وأثبت في مقاعد القتال من قلوب أعداء الريف.
بل أشهدت العالم أجمع انهم بحق سلالة المرابطين والموحدين وأبناء أولئك الذين كتب أجدادهم ملامح الأندلس وأيامها.
أيها الأمير القائد!
من يحلق مثلك فوق شوامخ الجبال وقممها العالية تصغر الدنيا أمام عينيه فتتضاءل الصعاب، ويبدو الجهاد أمراً سهلاً لأنك بطل من أبطال العروبة والإسلام ونفحة من نفحات بدر.
أحمد رمزي(853/3)
أزواج وزوجات
للكاتب الإنجليزي يوسف أديسون
للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي
أخبرني صديقي ويل هوني كومب منذ أكثر من نصف سنة أن في نيته أن يجرب الكتابة في جريدة السبكتاتور، وأنه يرغب أن تكون كتابته عن طريقي إلى القراء. وفي هذا الصباح تسلمت منه الرسالة التالية. وبعد أن صححت بعض الأخطاء الإملائية فيها، أقدمها إلى القراء.
عزيزي محرر السبكتاتور:
قبل ليلتين كنت في جماعة لطيفة من شباب الجنسين، وكنا نتحدث عن بعض مقالاتك التي كتبتها في موضوع الحب الزوجي، فنشب بيننا نزاع حاد حول عدم وفاء الأزواج في الحياة بالنسبة إلى الزوجات، وقد انبرى أحد المدافعين عن المرأة وقص علينا قصة حصار مشهور في ألمانيا، وقد وجدت إنني ذكرتها في معجمي التاريخي كما يلي:
عندما حاصر الإمبراطور كونراد الثالث جولفيوس، دوق بافاريا في مدينة هنسبورغ، وأتضح للسيدات أن المدينة لن تثبت طويلا، التمسن من الإمبراطور أن يسمح لهن بالخروج منها حاملات ما يستطعن حمله. ولما كان الإمبراطور واثقاً من أنهن لا يستطعن حمل كثير من الأشياء، فقد أجاز لهن ما التمسن. ودهش الإمبراطور من رؤية النسوة وهن خارجات يحملن أزواجهن على أكتافهن! فتأثر من هذا المنظر حتى طفرت الدموع من عينيه، وبعد أن أشاد بحبهن الزوجي، وهب لهن أزواجهن وعفا عن الدوق.
ولكن السيدات لم يطربن لهذه القصة وسألننا في نفس الوقت، إن كنا نعتقد في قرارة أنفسنا أن رجال أية مدينة في بريطانيا العظمى، لو كانوا في نفس الأزمة، ومنحوا نفس المنحة، هل كانوا يحملون نساءهم أو كانوا يسرون من هذه الفرصة التي أتيحت لهم للتخلص منهن؟ وقد أجاب صاحبي تووم وابروت الذي جعل من نفسه محاميا عن جنسنا قائلا:
إنهم إن لم يفعلوا ما فعلت السيدات فسيستحقون أعنف اللوم مع اعتبار أنهم أقوى منهن وأحمالهم ستكون أخف كثيراً.
وبينما كنا نخوض في أحاديث من هذا النوع تسلية لنفوسنا وقتلا للوقت الذي أصبح مملاً(853/4)
قادنا الحديث، والحديث ذو شجون، إلى أن يتولى كل بدوره توجيه أسئلة يجب على الآخرين الإجابة عنها. ولما حان دوري أمرت كل السيدات حسب السلطة المخولة لي أن يخبرن الجماعة بصراحة تامة عن الشيء الذي يفعلنه لو أنهن كن في هذا الحصار المذكور وأجيز لهن ما أجيز لتلكم السيدات، فما الذي تأخذه كل منهن على اعتبار أنه جدير بالإنقاذ؟ وقد أجبن إجابات طريفة عن سؤالي أبهجتنا حتى وقت النوم. وقد ملأت هذه الإجابات رأسي بالأفكار المشوشة فحلمت بعد أن نمت الحلم التالي.
رأيت مدينة في هذه الجزيرة - ليس لها اسم - محاصرة من كل الجهات وقد أجبر ساكنوها وضويقوا حتى ضجوا يطلبون لهم ملجأ يحميهم. وقد رفض القائد أي حل سوى تلك المنحة التي ذكرناها في حكاية هنسبورغ أي أن كل سيدة لها الحق أن تخرج آخذة معها ما تراه يستحق الإنقاذ.
وعلى حين غرة فتح الباب فظهر صف طويل من السيدات تتبع إحداهن الأخرى يتمايلن تحت أحمالهن. وقد أخذت مكاني على مرتفع في مخيم العدو في المكان الذي عينه القائد لمقابلة النسوة للنظر فيما يحملن. وكنت شديد الرغبة في رؤية هذه الأحمال.
كانت أولاهن تحمل كيساً على كتفيها، فقد جلست لفتحه بكل عناية، وبينما كنت أنتظر أن أرى زجها خارجاً منه، وجدته مملوءاً بالأواني الصينية. وبدت الأخرى بقوامها تحمل شاباً جميلاً على ظهرها وقد أكبرت هذه الصبية لحبها زوجها، ولكن دهشتي كانت بالغة أقصاها عندما اتضح أنها تركت زوجها المسكين في البيت وحملت صاحبها. وأقبلت الثالثة من بعد بوجهها الجاف، فنظرت إلى حملها الذي لم أشك في انه زوجها، ولكن بعد أن أنزلته عن كتفيها سمعتها تناديه بعزيزي بك فإذا به كلبها المدلل، إذ يبدوا أن زوجها كان في غاية الضخامة فرأت في جلب هذا الكيوبيد الصغير تجنباً لكثير من المزعجات. وكانت التالية زوجة رجل فاحش الغنى، وقد حملت معها حقيبة مملوءة بالذهب، وأخبرتنا أن زوجها قد بلغ من العمر أرذله، وبحسب قانون الطبيعة لن يعيش طويلاً، ولتريه عظم حبها له أنقذت ما يحبه المسكين أكثر من حياته. وكانت الأخرى تحمل ابنها على ظهرها، وقيل لنا إنه من أعظم الفجار الأشرار في المدينة، ولكن على مثل هذا الحنان جبلت الأمهات الرقيقات، فقد تركت خلفها أسرة عامرة بالأمل ومؤلفة من زوج وبنين وبنات لأجل هذا المخلوق الشرير.(853/5)
ولو تركت لقلمي العنان أن يسجل ما رأيت في هذا الحلم الغريب لما انتهيت من السرد والوصف، فقد امتلأ المكان حولي برزم مربوطة وحرائر مشجرة ومطرزات وعشرة آلاف من مواد أخرى كافية لأن تملأ شارعاً بمخازن مملوءة بالدمى. وأقبلت إحدى السيدات تحمل زوجها الذي لم يكن ثقيلا وتحمل في الوقت نفسه علاوة على ذلك ربطة كبيرة من الأشرطة الحريرية الهولندية، وعندما ضاقت بحمليها ووجدت أنها لا تستطيع الاحتفاظ بكليهما أسقطت بعلها الصالح وحملت الأشرطة وتابعت سيرها. وبالاختصار لم أجد سوى زوج واحد مع هذه الأمتعة وكان إسكافياً نشيطاً. لقد كان يرفس ويهمز رجليه وهو محمول على أكتاف زوجته، وقيل لي بعدئذ إن يوماً من أيام حياتها لم يمر دون أن يعاقبها بالضرب الشديد.
ولن أستطيع إتمام هذه الرسالة يا صديقي المحرر من غير أن أخبرك عن خاطر عجيب مر بي في رؤياي. فقد رأيت كما خيل إلي عشرات النساء منهمكات في سحب رجل واحد لم أتبينه أول وهلة حتى اقترب مني وبانت ملامحه فإذا به أنت. وقد صرحن أن ذلك لأجل إنتاجك الأدبي، وليس لشخصك، على شرط أن تستمر في تحرير السبكتاتور. فإذا وجدت في هذا الحلم ما يلائمك فهو تحت تصرفك يا عزيزي المحرر. وأنا صديقك في النوم واليقظة.
ويل هوني كومب
سيرى السيدات كما خبرتهن كثيراً، أن (ويل) رجل من الطراز القديم في التهكم والمجون في المدينة، وهو هنا يظهر مواهبه بالتهكم على الزواج كرجل جرب حظه مراراً عديدة في هذا المضمار وخاب. وعلى كل حال لم أستطع إهمال رسالته لأن القصة الحقيقية التي بنى عليها رسالته مما يرفع رأس المرأة عالياً، وأنه في سبيل إيذائهن قد جنح به المنطق إلى الرؤى والخيال.
(بغداد)
ماهرة النقشبندي(853/6)
ثورة الطبيعة وثورة المجتمع
للدكتور محمد يحيى الهاشمي
كم من تشابه بين حوادث الطبيعة وحوادث المجتمع! وهل المجتمع إلا جزء من عالم الطبيعة وخلية من الخليات المتعددة التي تشكل هذا العالم الكبير الواضح بمظاهره والخفي بأسراره ومعمياته؟ وكما يسود التطور في نظام الطبيعة على اختلاف أشكالها وتباين أنواعها، يسود في نظام المجتمع والهيئات البشرية هذا القانون. هكذا نجد انتقالا وتصعداً في سلم الرقي خطوة فخطوة ودرجة فدرجة. أما الطريق ففي العالمين بعيد، وليس من هدف ولا غاية، وما المكان الذي نظنه بنهاية المطاف ما هو في الحقيقة إلا مرحلة انتقالية إلى مرحلة أخرى. الطبيعة تمشي والمجتمع يسير، لا يعرفان الوقوف ولا السكون ولا الراحة ولا الاستقرار، وما الاستقرار الظاهري إلا دور يهيئ إلى دور آخر؛ فكل ما يقع عليه بصرنا أو تدركه بصيرتنا، يسطو عليه دوما ناموس الجريان والتغير الدائم.
إن هذه التغيرات البطيئة جداً تدق حتى عن فهم الذكي، ولكن لدى النظرة العميقة وتتبع الحوادث الطويلة نجد كل ما على سطح الأرض تابعاً للتغير والتبدل، فلا شيء يبقى على حاله الأصلي فالجبال التي يضرب بها المثل في الثبوت لا تبقى مكانها، بل بتعاقب الأحقاب الطويلة تتزلزل وتصبح سهولاً وترتفع السهول فتصير وهاداً فنجاداً فهضاباً إلى أن تكون جبالا شاهقة تتخللها الوديان السحيقة، وكثيراً ما تجف بعض المناطق البحرية، فتصبح براً والبر يتحول إلى بحر، وهكذا فإن التبدلات الجزئية التي تظهر للناظر السطحي كشيء تافه لا قيمة له، تكون بتعاقب ملايين السنين انقلاباً خطيراً يدهش الأنظار، ويكاد لا يصدق الإنسان ما كانت عليه بعض المرتفعات الشاهقة في الماضي لولا الحيوانات البحرية التي بادت وتركت معالمها بين طيات الحجار.
قياساً على ما بينا فإن الأمم تتغير وتتبدل، وبتأثير الأفكار الهادئة الرزينة تنتقل من طور إلى طور وذلك بتعاقب الأجيال والعصور، ولولا ما دونه لنا التاريخ في قرون مضت، أو بعض الآثار الباقية عن الأمم الخالية، لما عرفنا ما كانت علي الشعوب والحضارات الماضية.
نعم إن بعض الأمم قد تدنت عما كانت عليه من قبل، كاليونان الذين كانوا يحملون مشعل(853/7)
العلم والفن، أو كالرومان الذين شيدوا الممالك وأوجدوا التشاريع، أو كالأمة العربية التي أخذت عن الأمم السالفة ما أخذت وأبدعت من ذاتها ما أبدعت وساهمت في تشييد صرح المدنية الحاضرة، ولكننا إذا اعتبرنا البشرية بأجمعها أسرة واحدة ورثت كل أمة عن الأخرى ما ورثت فعند ذلك نميل إلى الاعتقاد بالتقدم الدائم والتطور المستمر.
هذا التطور البطيء هو من سنة الكون، ولكن بجانب ذلك نشاهد في عالم الطبيعة وعالم المجتمع من انقلاب فجائي واندفاع آني يدك الأرض دكا ويغير معالمها. إن هذه الغضبة تغضبها الطبيعة في انفجار البركان وفي الزلزال الأرضي يذهب ضحيتها في كثير من الأحيان كثير من الكائنات الحية. وفي عالم الاجتماع نشاهد ذلك أيضاً في الانقلابات الاجتماعية التي تكون عند الاختراعات العظيمة أو عند اليقظة الفكرية. ولعل حاجتنا في هذا العصر الذي قطعت فيه أوروبا في سبيل الرقي والتقدم ما قطعت من الخطوات الواسعة، إلى انقلاب في جميع طرز حياتنا لأعظم من أي عصر، لأن بلاد الغرب قطعت تلك المراحل في قرون عديدة.
أما نحن، فان حاجتنا أن نأخذ النتائج كما هي، ومن بعد ذلك نسمى في الإبداع وإظهار قابليتنا. فإذا أردنا أن ننتظر الزمن وتقلباته البطيئة فلن نلحق بركاب الغرب. عند ذلك نبقى متأخرين عن الأمم الراقية أبد الآبدين. فالأرض تثور لتخرج ما في جوفها من لظى مستعر، والمجتمع يثور ليطلق ما في قلبه من نار متأججة مبدلا بها معالم حياته. وكم من تشابه بين الطبيعة والمجتمع. تدفع المياه إلى النيران المستعرة في جوف الأرض فتتشكل الأبخرة وتتراكم إلى أن تنطلق بقوة وعنف، وكذلك تتجمع الأفكار في الأدمغة إلى أن تنطلق بقوة فعالة فتدك المعالم القديمة لتبني فوق أنقاضها عالما جديدا على أساس عميق. وما أعمق غور الإنسان، وما أشد حاجته إلى أن يبني بناء المجد الشامخ على أساس ثابت! وكلما سمت الشجرة في السماء تحتاج إلى جذر عميق في الأرض، منبعث عن توق للتجدد واشتياق كامن في النفوس إلى الحياة. ولا يعد من أبنائها إلا من تاق لها وقدر قيمها. أما من لم يتق إلا للفناء ففي قرارة نفسه على رأي بعض الأدباء المعاصرين فراغ رهيب وصدى فناء صارخ بصوت القبور، ونشاط أجوف يبتلع القيم، ناقم على الوجود. ويقاس الناس في عمل كل إصلاح بالنسبة إلى إيجابيتهم وأهليتهم للبناء ومساهمتهم في الفوضى. المدمرون(853/8)
كثيرون وأما البناءون فقلائل. ودعاة الفوضى لا يحصى لهم عدد؛ أما الإيجابي فطريقه طريق الحياة ولو جاءت الحياة من طريق التدمير.
في النهضة المنبعثة عن الحياة النابضة انطلاق وثاب ونفس ضاقت بما فيها فانفجرت في قوة مكتسحة بناءة تتجه نحو الخير والجمال، وتدوس في سبيل بلوغها بقايا الفساد القائمة. شتان بين من يهدم ليهدم وبين من يهدم ليبني، ففي أحشاء الأول فناء وفي أحشاء الثاني حياة وارتقاء. يثور الأول ليحطم، فلن يلبث أن يبتلع نفسه. أما الساعي للبناء ففي أحشائه امتلاء دفاق، فيعطي عطاء سخيا، ولا تكون الحياة إلا حيث يكون العطاء.
في انطلاق البراكين مواد هامة لبناء القشرة الأرضية، حتى أن دورة الماء لا تقف عند سطح الأرض، بل ثبت أن الحياة الاندفاعية الباطنية لتشترك في الدورة المائية، وفي الأحقاب التي كان فيها اندفاع البراكين على أشده كانت المياه أشد غزارة. في اندفاع الينابيع الفوارة ارتواء للأرض وللكائنات الحية على سطحها، وفي الفيضانات الطاغية سماد لها لتزداد قوة الإنبات فيها، رغم ما تجره تلك السيول الطاغية على الحقول والبساتين والمنازل من الأضرار والتخريب. حتى أن في الزلازل المخيفة فائدة في تكييف شكل الأرض.
إن في النهضات الاجتماعية أيضاً والثورات الفكرية أضراراً جزئية لا يخلو منها انقلاب من الانقلابات، ولكن الحوادث تتراءى لنا عكرة إذا نظرنا إليها بمنظار أنانيتنا، أما إذا نظرنا إليها بمنظار المصلحة العامة والخير الشامل، عند ذلك يتلاشى من نفوسنا حب الذات والأثرة وندرك أموراً خافية عنا.
قد يكون في النور الشديد الظل المديد، وجذر الانقلاب العميق هو في النفس، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
(بغداد)
محمد يحيى الهاشمي(853/9)
شياطين الشعراء
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
عبقر - شيطان الشعر - شياطين بعض الشعراء - شياطين
شعراء الإفرنج - العقل الباطن.
- 1 -
الشعر وحي وفيض وإلهام، وهو إذا ما صدر عن عاطفة مشبوبة صادقة، فن لا أثر للإرادة فيه، أو أثرها فيه أضعف من تأثير التلقي والطواعية والاستمداد من أغوار النفس واللاشعور.
وقد نسب العرب كل أمر عجيب إلى الجن، وتخيلوا أن عبقر واديهم ومقامهم، وقالوا في الأمر العظيم عبقري، فلا عجب أن يصلوا الشعر بالجن، ولا عجب أن يتخيلوا أن لكل شاعر شيطاناً يلهمه القريض ولكن للشعر شيطانين: أحدهما مجيد واسمه الهوبر، والآخر مفسد واسمه الهوجل، وكانت عقيدتهم هذه معلومة في العصر الإسلامي، فقد روى أن رجلا من تميم أتى الفرزدق وقال له: إني قد قلت شعراً فاسمعه قال: أنشدني فقال:
ومنهم عمر المحمود نائله ... كأنما رأسه طين الخواتيم
فضحك الفرزدق، ثم قال: يا ابن أخي إن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر فسد شعره، وقد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت.
وقد سمى الشعر رقى الشياطين، قال جرير:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقياً
وقال آخر:
ماذا يظن بسلمى إذ يُلمُّ بها ... مُرَجَّل الرأس ذو بُردَين وضَّاح
خزٌّ عمامته حلوٌ فكاهته ... في كفه من رقى الشيطان مفتاح
وصرح كثير منهم في العصر الجاهلي وفيما بعده بأن شياطينهم تلهمهم أفانين القول، قال الراجز:(853/10)
إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبوٌّ عني
فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن
وقال حسان في جاهليته يعزو إلى شيطانه أنه قائل بعض شعره:
إذا ما ترعرع فينا الغلا ... فما إن يُقال له: من هوة؟
إذا لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان ... فطوراً أقول، وطوراً هوه
وقال جرير:
إني ليُلْقى عليَّ الش ... عر مكتهل من الشياطين
- 2 -
ولم يكتفوا بنسبة شعرهم إلى الشياطين، بل سموْها، فكان لكل شاعر شيطانه المسمى. فشيطان الأعشى مسحل، وشيطان فرو بن قطن جهنام، قال الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا، ودعوا له ... جهنام. بعداً للغوي المذمم
وشيطان المخبل السعدي عمرو، قال الشاعر الإسلامي:
لقد كان جنّيُّ الفرزدق قدوة ... ولا كان فينا مثل فحل المخبل
ولا في القوافي مثل عمرو وشيخه ... ولا بعد عمرو شاعرٌ مثل مسحل
وشيطان عبيد بن الأبرص عبيد، وهو نفسه شيطان بشر بن أبي خازم وينسبون إليه:
أنا ابن الصلادم أُدعى الهبيد ... حبوت القوافي قَرْمي أسد
عبيداً حبوت بمأثورة ... وأنطقت بشرا على غير كد
ولاقى بمدرك رهط الكميت ... ملاذا عزيزاً ومجداً وجد
منحناهم الشعر عن قدرة ... فهل تشكر اليوم هذا معد؟
وسأله الراوي: أما عن نفسك فقد أخبرتني، فأخبرني عن مدرك، فقال: هو مدرك بن واغم صاحب الكميت، وهو ابن عمي.
وقالوا إن شيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان زياد الذبياني هاذر ونسبوا إلى أبي نواس انه كان يستعين بإبليس في نظم الشعر ورووا له أبياتاً منها:
دعوت إبليس ثم قلت له ... في خلوة والدموع تنحدر:(853/11)
أما ترى كيف قد بليت، وقد ... قرح جفني البكاء والسهر؟
إن أنت لم تلق لي المودة في ... صدر حبيبي وأنت مقتدر
لا قلت شعراً ولا سمعت هنا ... ولا جرى في مفاصلي السكر
فما مضت بعد ذاك ثالثة ... حتى أتاني الحبيب يعتذر
ولم يقتصروا على نسبة الشعر للشياطين، بل نسبوا إليهم الغناء أيضاً في العصر الإسلامي، وقالوا إن الغريض كان يتلقى غناءه عن الجن، وأن سماره سمعوا وهو يغنيهم ذات ليلة عزيفاً عجيبا، وأصواتاً مختلفة أفزعتهم، فقال لهم. إن فيها صوتاً إذا نام سمعه، ويصيح فيبني عليه غناءه، فأصغوا إليه فإذا نغمته نغمة القريض فصدقوه.
ولم يقنع أبو النجم أن يكون شيطانه كشياطين الشعراء، فادعى أن شيطانه ذكر وشياطينهم إناث؛ لأن الذكور أقوى من الإناث وأقدر:
وإني - وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى - وشيطاني ذكر
وروى بعضهم بيت عمرو بن كلثوم في معلقته هكذا:
وقد هرت كلاب الجن منا ... وشذبنا قتادة من يلينا
وقال إن الشعراء كانوا يسمون كلاب الجن، فالمعنى أننا لبسنا الأسلحة فشرع الشعراء يذكروننا.
- 3 -
ولهم مع شياطين الشعراء أقاصيص ومساجلات، ومحاكمات منثورة في كتب الأدب، نذكر بعضها للتمثيل:
قال جرير بن عبد الله البجلي: (سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه، فأبى أن يتقدم، فدنوت من الماء وعقلته، ثم أتيت الماء فإذا قوم مشوهون عنده، فقعدت ثم أتاهم رجل أشد تشويهاً منهم، فقالوا هذا شاعرهم، وطلبوا منه أن ينشدني، فأنشد:
(ودع هريرة إن الركب مرتحل) البيت
فلا والله ما خرم منها بيتاً واحداً، حتى انتهى إلى هذا البيت:
تسمع للحَلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرقٌ زجلُ
فأعجبه، فقلت له: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا، قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى(853/12)
بني ثعلبة أنشدنيها عاما أول بنجران. قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مسحل صاحبه، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس).
وقد لاقى الأعشى هاجسه مسحلا وسمع منه، وقد اعترف في شعره أن مِسحلاً يوحي إليه، بل إنه مصدر وحيه ولولاه ما شعر:
وما كنت شاحوذاً ولكن حسبتني ... إذا مسحل يسدي لي القول أعلق
شريكان فيما بيننا من هوادة ... صفيان: إنسيٌ وجنٌّ موفّق
يقول فلا أعيا بقول يقوله ... كفاني لا عَي ولا هو أخرق
وحاور عبيد بن الحُمارس جِنِّياً بالشعر.
وذكر أبو العلاء أن أبا بكر بن دريد قص على أصحابه أنه رأى فيما يرى النائم أن قائلا يقول: لم لا تقول في الخمر شيئاً؟ فقال: وهل ترك أبو نواس مقالاً؟ فقال له: أنت أشعر منه حيث تقول:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق
فقال له أبو بكر: من أنت؟ فقال: أنا شيطانك، وسأله عن اسمه فقال: أبو زاجية، وخبره أنه يسكن بالموصل.
- 4 -
وإذا كان العرب قد عزوا شعرهم إلى الجن وتخيلوا أنها تلهمهم ونسبوا كل أمر عظيم إلى عبقر فإن الفرنجة يشبهونهم في كثير من تخيلهم.
يعبر الإنجليز عن العبقرية بكلمة ومصدرها الذي اشتقت منه كلمة ومعناها جن، فبين العبقرية والجن علاقة في اللغة الإنجليزية كالعلاقة التي بين عبقر والعبقرية في اللغة العربية، وقيل إن أصل الكلمة لاتيني يدل على معنيين متقابلين: ملك رجيم وشيطان رجيم، يولد الواحد منهما أو يولدان معاً بمولد الشاعر، ويقصون عن بعض شعرائهم قصصاً تشبه شبهاً قوياً ما روى عن شياطين شعراء العرب، فمثلاً بدا الشاعر (كولردج) قصيدته (كوبلاخان) وأتمها لها جني والشاعر نائم، واستيقظ الشاعر (ماسفيلد) من نومه لينقل عن جني قصيدته (المرأة تتكلم) وأغرب من هذين ما يرويه (وليم بلاك) عن نفسه إذ يزعم أنه(853/13)
مسكون، وأن ساكنيه ملائكة وشياطين تطارده نهارا، وتوقظه ليلا، لتوحي إليه بما ينظم وحياً لا يستطيع أن يصده، ولا قدرة له على تنضج ما توحي به
ويقول (ريلكة) إنه ظل أسير الأرواح ثلاثة أيام لم ينقطع فيها نظمه، وأخرج ديواناً من دواوينه الروائع، وأعجبه، وألح الجن أن ينشره، فرضى على شريطة أن يكون النشر بعد وفاته حتى لا يتحمل تبعة شعر أملاه عليه جني جالس قبالته.
- 5 -
ولكن علم النفس يعزو هذا كله إلى العقل الباطن، وقد كشفت الدراسات التي قام بها علماء التحليل النفسي عن كثيرمن عمل العقل عند الفنان، وانتهوا إلى أن الإنتاج الفني يصدر غالباً عن العقل الباطن كأنه حلم يقظة.
ويروي استيفنسن، كيف بدأ هو نفسه يكتب قصته الفنية البديعة (دكتور جيكل ومستر هيد) فيقول: (إن العمل الحقيقي يقوم به مساعد غير منظور، أبقيه أنا داخل حجرة عليا مغلقة. . . يقوم به أولئك الناس الصغار - في الدماغ - الذين ينجزون لي نصف عملي وأنا مستغرق في نومي وربما أنجزوا النصف الباقي وأنا مستيقظ تمام اليقظة حيث أظن أني أنا القائم بالعمل، وكثيرا ما يعلن لي أن أعتبر نفسي غير فنان، بل مخلوقا شأنه شأن بائع الجبن أو الجبن نفسه).
وهذا التصوير المستملح تؤيده إشارات من كتاب آخرين، فهذا فولتير - وقد لس مرة في إحدى مقاصير المسرح يشهد تمثيل رواية من رواياته - يصبح متعجباً. . أحقاً أنا الذي كتب ذلك؟.
وجورج إليوت - ولم تكن تعتقد في وقى نفسية غير طبيعية - تصرح أنها قد خيل إليها وهي تكتب أن عقلا آخر قد استحوذ على قلمها وسيَّره، ويقول جوته إنه كتب أحسن رواية له وهو في غيبوبة حالمة يشبهها بحالة النائم الماشي. وكثير من الأدباء الأحياء صرحوا بهذا، فمثلا بروفسور هوسمان يقول في طريقة إنتاج قصائده: أنا أظن أن إنتاج الشعر ليس عملية فاعلة قدر ما هي قابلة وغير اختيارية.
- 6 -(853/14)
التحليل النفسي يعزو إلى العقل الباطن الإنتاج الأدبي الرفيع وقد عبر الشعراء من العرب والإفرنج عن هذا العقل بأنه قوى خفية تلهم، وسموها شياطين.
وإذا كان الشعر يحلق بجناحين من الخيال فقد حق للشعراء أن ينطلقوا مع خيالهم فينسبوا شعرهم إلى قوى وراء حسهم، وتصورهم هذه القوى شياطين ألصق بالخيال وأدنى إلى الشعر من التحليل النفسي الذي يرجع الإنتاج الأدبي إلى العقل الباطن للشاعر، أي إلى الشاعر نفسه.
لست بهذا أهيم مع الشعراء وأجحد حقائق العلم، وإنما أقرر أن الشعراء كانوا موفقين في تخيلهم وفي دعواهم أن شياطينهم تلهمهم أو تملي عليهم. . .
أحمد محمد الحوفي
المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(853/15)
رائية أبي فراس في الشعر المعاصر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم تظفر قصيدة في شعر أبي فراس من الشهرة بما ظفرت به قصيدته الرّائية التي بدأها بقوله:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
فهي أكثر قصائده دوراناً على الألسنة، وقد أغرت بعض الأدباء بتشطيرها حيناً، وتخميسها حينا آخر، ومعارضتها مرة أخرى.
وممن شطر هذه القصيدة الأستاذ الكناني الأبياري (سنة 986 هـ)، وليس في تطيره من جديد سوى زيادة عدد الأبيات، وكان عمل المشطر أن كرر المعنى، أو فصله بعض التفصيل، وهاك نموذجاً لما فعل:
قال أبو فراس:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
فشطره الكناني بقوله:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة ... إذا لم يكن عز فإن الردى خير
ومن يرتضي ردّ الردى بمعرة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وعلى هذا النسق يسير، لا يأتي بمعنى جديد، ولا يكمل معنى جاء به الشاعر الأول. ولا ريب أن ما جاء به الكناني شديد الضعف بموازنته بما جاء به أبو فراس. ثم عاد الكناني، فشرح الأصل والتشطير، يشرح الكلمات اللغوية أولاً، ثم يعود إلى الشرح الإجمالي، وسمى عمله (إيناس الجلاس، بتشطير وشرح قصيدة أبي فراس).
وخمس هذه الرائية الجنبيهي، المعاصر للكناني، وهذا التخميس أقلق قوة من تشطير معاصره، وقد أضعف القصيدة، وأنهك معناها، وكثيراً ما كان يتلمس الوصول إلى البيت بمعان ليست في الصميم، كما ترى في تخميس بيتي أبي فراس:
وإني لنزال بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
وإني لجرار لكل كتيبة ... معودة ألا بخل بها النصر
خمسها الجنبيهي بقوله:(853/16)
وليس لها ما بين لين وعطفة ... وبين الجفا والصد أدنى مسافة
لذا صرت منها في ارتعاد ورجفة ... وإني لنزل بكل مخوفة
كثير إلى نزالها النظر الشزر
فيا سعد مهلاً، ليس نأيي لوحشة ... من الأهل، لا بل مزعجات محبة
وإني من قوم كرام أعزة ... وإني لجرار لكل كتيبة
معودة ألا يخل بها النصر
فأنت ترى ضعف التأليف، وكيف كان الشاعر يلتمس المعاني التي تصل به إلى البيت لأدنى ملابسة، وكيف إن الجمع بين الغزل والفخر أضعف كليهما، ولكنك تحس بقوة القصيدة منفردة عن التشطير والتخميس.
وعارض البارودي وهو في المنفى، تلك القصيدة الرائية التي أنشأها أبو فراس وهو في الأسر، وافتخر الشاعران في القصيدتين، وبدأهما بالغزل.
كانت طبيعة الغزل في القصيدتين مستمدة من موقف الشاعرين، فاقتبس الحديث عن الحب من ذلك الموقف مشاعره وإحساساته. أما أبو فراس فقد أنشأ قصيدته في أيام أسره الأولى، عندما كان الأمل يملأ قلبه في أن ابن عمه سيسرع إلى فدائه، وهو من أجل ذلك يبدي الجلد والصبر، وإن كان لا يستطيع بينه وبين نفسه أن يخفي اللوعة والأسى، فهو أمام الناس جلد صبور، حتى إذا جن الليل وانفرد، بكى ما شاء له البكاء.
هذا الخاطر الذي كان يملأ نفسه، هو الذي أوحى إليه بهذا الشعور عندما تحدث عن الحب فقال:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى، أنا مشتاق، وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وتستطيع أن ترى أثر موقفه في مبدأ الأسر جلياً في غزل هذه القصيدة، وأكاد ألمس فيها نوعاً من الرمز والإيماء، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف غنها عللّته بالوصل حيناً إذ يقول:
معلّلتي بالوصل، والموت دونه ... إذا مت ظمأنا، فلا نزل القطر(853/17)
وكيف إنها تجاهلته حيناً آخر:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت، كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك، قالت أيهم؟ فهمو كثر
فقلت لها: لو شئت لم تتعّني ... ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
فقالت: لقد أزرى بك الدَّهر بعدنا ... فقلت: معاذ الله، بل أنت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك ... إلى القلب، لكن الهوى للبلا جسر
وينتقل أبو فراس بعدئذ انتقالاً طبيعياً إلى الفخر بنفسه إذ يقول:
فلا تنكريني يا ابنة العم، إنه ... ليعرف من أنكرته البدو والحضر
ولا تنكريني، إنني غير منكر ... إذا زلت الأقدام واستنزل النصر
وهنا وجد المجال فسيحاً للحديث عن خصاله الحربية، ومزاياه؛ فتحدث عن أنه ميمون الطالع، قائد مظفر، لا يخشى المعارك المخوفة، بل يخوض غمارها، حتى ترتوي البيض، وتشبع الذئاب والنسور، لا يغتال عدوه، ولا يفجؤه، بل يرسل إليه النذر تخيفه وتحذره، ثم يصور لك إقدامه في صورة بارعة إذ يقول:
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
فهذا حصن منيع قد وثق بنفسه، ولكن لم يلبث الفجر أن قاد إليه الهلاك عندما صعد إليه أبو فراس يحمل له الردى. وتحدث الشاعر عن احترامه للمرأة، حتى تستطيع شجاعته إلا أن تلقي بسلاحها أمامها، فيعفو عن قومها ويرد إليهم أسلابهم. ثم هو رجل لا يطغيه الغنى، ولا يثنيه الفقر عن الكرم، وهو في كل هذا الحديث قوي يشيع في أبياته روح الأمل.
وانتقل بعدئذ إلى حديث أسره، فلم ينسبه إلى ضعف بدر منه، بل قضاء غلاب، لا يستطيع امرؤ أن يفلت منه:
أسرت، وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر، ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: (الفرار أو الردى) ... فقلت: هما أمران، أحلاهما مر
ولكنني أمضي لمالا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولعل أبا فراس صغّر الأصحاب هنا تقليلاً لعددهم، وتحقيرا لشأنهم.(853/18)
كان الأمل يملأ شعره في هذه القصيدة، ولهذا رأيناه يستقبل الأسر بصدر رحب، لإيمانه بأن قومه لا بد ذاكروه وفادوه. فليس عندهم من يملأ مكانه إذا غاب:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ويختم أبو فراس قصيدته مفتخراً بقومه الذين يحتلون في قومهم مركز الصدارة، ولا يقبلون دونه مكاناً ن ففي سبيله تهون نفوسهم، ويشتد شعور أبي فراس بهم وبعزتهم فيقول:
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر
أما البارودي فقد كان غزله كذلك مستمداً من موقفه، فإذا كان أبو فراس مؤملا يخفي آلامه، فإن البارودي - وقد جفت آماله - لا يجد بداً من أن يتحدث ببعض ما يشعر به من أسى وحزن، وإن كان يخفي في قلبه من اللوعة أكثر مما يبين، فتلون عزله بهذا اللون، فرأيناه يبوح بالحب لا ينهاه عن ذلك زجر ولا عتاب، وهو يرى الحب، وربما كان يرمز به إلى مصيره - أمراً مقدورا، ليس لامرئ فيه من نهي ولا أمر، وإنه ليقاسي من هذا الحب أعنف ما يقاسيه إنسان، ومع هذا لا يبدي كل ما يحمله صدره من الوجد، ولا يترك دموعه تهمي، لا صبراً في انتظار تحقيق أمل، ولكن حياء وكبراً، واستمع إليه يقول:
طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة، مما يضن بها التجر
سريع هوى يلوي بي الشوق كلما ... تلألأ برق أو سرت ديم غزر
إذا مال ميزان النهار رأيتني ... على حسرات، لا يقاومها صبر
يقول أناس: إنه السحر ضلة ... وما هي إلا نظرة دونها السحر
فكيف يعيب الناس أمري، وليس لي ... ولا لامرئ في الحب نهي ولا أمر
ولو كان مما يستطاع دفاعه ... لألوت به البيض المباتير والسمر
ولكنه الحب الذي لو تعلقت ... شرارته بالجمر لاحترق الجمر
على أنني كاتمت صدري حرقة ... من الوجد لا يقوى على حملها صدر
وكفكفت دمعا لو أسلت شؤونه ... على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر
حياء وكبراً أن يقال: ترجحت ... به صبوة أو فل من غربه الهجر(853/19)
فأنت ترى الغزل مستمدا من حاله، ولو أنك جعلت ما يهواه وطنه، وأدرت عليه الحديث لم تبعد.
لم يطل البارودي بعدئذ في الحديث عن نفسه كما فعل أبو فراس، بل اكتفى ببيت واحد يحمل خيبة الآمال، إذ قال:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر
وكان المجال أمامه فسيحا لتعداد مواقفه في الحرب والسياسة، ولكن يبدو أن يأسه ساعتئذ قد تغلب عليه، فصرفه عن الحديث ماض لا سبيل إلى استئنافه، على عكس أبي فراس، القوي الأمل في أن يعود - كما كان - البطل المفدى. وكان المجال فسيحاً كذلك أمام البارودي للحديث عن نفسه، والدفاع عن نفسه، كما تحدث أبو فراس عن أسره، ولكنه لم يفعل، ولعله اكتفى في ذلك بما تحدث به في قصائد أخرى كثيرة.
أما الذي أطال الحديث فيه حتى استغرق معظم قصيدته على عكس أبي فراس، فحديثه عن آبائه. وقد ذكروا أنه ينحدر من المماليك الشركية، فاتخذ من ذكراهم وسيلة يشبع بها عاطفته في الفخر، ويسلي نفسه بمصايرهم، وسجل لهؤلاء الأسلاف شجاعتهم وكرمهم، وهنا يستعير خيالاً بدوياً إذ يقول:
لهم عمد مرفوعة، ومعاقل ... وألوية حمرن وأفنية خضر
ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر
تمد يداً نحو السماء خضيبة ... تصافحها الشعرى ويلثمها الغفر
وختم قصيدته ختاماً يائساً حزيناً، رثى فيه قومه وقد مضوا، وسوف يمضي على أثرهم:
لعمرك ما حي وإن طال سيره ... يعد طليقاً والمنون له أسر
وما هذه الأيام إلا منازل ... يحل بها سفرن ويتركها سفر
فلا تحسين المرء فيها بخالد ... ولكنه يسعى، وغايته العمر
أما أبو فراس فقد ختم قصيدته مالئاً شدقيه من الفخر بقومه الذين كانوا يومئذ قابضين على الملك والسلطان.
هذا، وقد ظفرت قصيدة أبي فراس بشهرة في العالم العربي الحديث، كما رأينا، وغنت أم كلثوم بعض غزلها، وسارت على الألسنة بعض أبياتها كقوله:(853/20)
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له بر يقيه ولا بحر
وقوله:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وقوله:
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقوله: (ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر).
وأما قصيدة البارودي فلم تظفر من الشهرة بنصيب.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(853/21)
2 - من شجرة الدر
لحضرة صاحب السعادة عزيز أباظة باشا
المشهد السابع:
الملكة، أيبك، أقطاي، بيربس، قلاوون. يدخل سنجر.
سنجر: هذا أبن مطروح
الملكة: أجاءَ؟
سنجر: أجل
الملكة: فأد
خله ورحب بالوزير الشاعر
قد عاد آخر رسْلنا ولعلنا ... نُهدَى بأنباءِ الرسول الآخر
(يدخل جمال الدين بن مطروح)
الملكة مستمرة: خيراً جمال الدين
ابن مطروح: خيرٌ لم يزل ... يندَى على الستر الرفيع الطاهر
الملكة: ماذا وراكَ؟
ابن مطروح: تركت ألأمَ عصبة ... فكأنما خُلقوا بغير ضمائر
الملكة: صفْ ما رأيت وقائعاً ومشاهدا ... وانقل لنا - لا تقتضب - ما قيلا
ابن مطروح: أبلغة أنباء التمرد
الملكة: ساقها
أخواك قبلك
ابن مطروح: فأسمعي التفصيلا
لم يكفهم عصيانهم ومروقهم ... بل أوسعوا أنصارنا قتيلا
(الملكة في غضب)
أتعرضوا للصالحية؟
أبن مطروح: من نجوا ... منهم تواروا في البلاد فلولا
أخذوهم والليل ضارب ستره ... في غِرة أخذا هناك وبيلا(853/22)
الملكة: شرفا شيوخ الصالحية مصر لن=تنسى لكم ذاك الدم المطلولا
من مات في شرف الجهاد فإنهُ ... حيٌ، وأودى من يعيش ذليلا
(أقطاي في تحمس)
يا ملْكة الوادي جيوشك دوَّخت ... تلك البلاد وأهلها فتكلمي
في كلَّ موضع حافرٍ من أرضهم ... أثرٌ لخيلك بالفوارس ترتمي
الملكة: صبراً أمير الجند، إن لم تُحسم أل_أحداثُ بالحسنى إذن فتقدِم
إيه جمالَ الدين فارجع للذي ... تروي
ابن مطروح: نفضتُ لك الخطير
الملكة: فأتمم
ابن مطروح: خلفتهم عزموا على اُلجلى
الملكة: فها
ت الرأي
أقطاي: استبقي الحوادث واعزمي
ابن مطروح: وتركتهم قد أجمعوا أن يبعثوا ... وفداً بشكواهم إلى المستعصم
الملكة: أإلى الخليفة يُهرعون؟!
أبن مطروح: أجل
أيبك: فما
يبغون؟
الملكة: يبغون اعتزاليَ فاعلم
أيبك: كيف السبيل! ومصر حولك تفتدى=وتذود عن أستار عرشك بالدم
هذى بلادٌ نحن سادتها
الملكة: أصطنع
صبراً ولا يعجل لسانك تندم
(تبدو الملكة وكأنها عادت فتمالكت جأشها)
لو أنهم قصدوا الخليفة وحده ... قلنا - وإن لم ينصفوا - لم يسرفوا(853/23)
لكنهم ركنوا إلى أعدائنا ... مستنصرين بهم ولم يتعففوا
(دهشة وتهامس من الجميع)
بيبرس: مولاتنا!
أيبك: أنعى الذي قلت
الملكة: اهدأوا
هذا اليسير النزر مما نعرفُ
أيبك: هل حالفوا أعدائنا؟
الملكة: بل أوفدوا
شعراءهم فتوددوا وتلطفوا
أيبك: مولاتنا، إن صح ذاك فإنه=عارٌ يجللهم فلا يتحرَّفُ
الملكة: إن كنت في شك فهذى كتْبهم=بالمخزيات وبالخيانة ترعفُ
وعدوا الفرنجة بعضَ مصرَ فقل لهم ... الله مانع مصر مهما ترجفوا
(تخرج مكتوبين من صدرها وتطلع عليهما رجالها)
أيبك: أفتأذنين؟
الملكة: أجل
أيبك: فكيف استطعت أن
تصلي لهذي الكْتب؛ هل نبأتني؟
(الملكة بعد فترة صمت)
أفضت إلينا مر غريت مليكة ال ... أفرنج بالأنباء، قلت فبرهني
لم يُرضها أني شككت فأسْرعت ... وسعت إلينا بالدليل البين
فإذا يكتبهم وتوقيعاتهم
أيبك: يا لَلخيانة والصَّغار الممعن!
الملكة: لم تسألوني لم خُصِصتُ بذلك السر الخطير أمراؤهم كتبوا لأخوة زوجها الملك الأسير قالوا لهم حتَّام صبركمو على ذلَّ الدهور لن تنقذوا الشرف الرفيع بغير جيشكمو المغي فثبوا على مصرتهن، وتذلَّ في الأمد القصير قالوا وهل تقوي النساء على مصاولة(853/24)
الذكوِر
أيبك: أكذا؟
الملكة: أجل فأسمع فلم تعلم سوى النزر اليسير وعدوّهم وجنداً يؤازرهم مؤازرةَ الظهير من أجل ذاك رأيت يا أقطايُ إطلاق الأسير سيرون بأس الغانيات وبأس ربات الخدور
ابن مطروح: أعداؤنا كثرٌ
أيبك: أمنا مكرهم=إن لم نبت بضغائن وحقود
لو قد بقينا جبهة مصرية ... لم تخش عادية الخطوب السود
أقسمتُ (بالمنصورة) العظمى التي ... شهدت مجالي نصرك المشهود
وبكل شبر من ثراها خالد ... بدماء علجٍ أو دماء شهيد
أقسمت لن تُجتاح مصرُ وأنتِ من ... أبطالها في شكة وجنود
(الملكة مخاطبة الموجودين)
سيجيئكم أمري
بيبرس: أتأذن ربة ال - تاج السنىَّ
الملكة: أذنت
بيربس: عز مكانها
الملكة: يا قوم ضبط النفس أكرم خلة=ونجاح كل سياسة كتمانها
عزيز أباظة(853/25)
هل تستطيع روسيا غزو العالم؟
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
عند نهاية الحرب أنخفض الإنتاج الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي من 42 في المائة بالقياس إلى الإنتاج الأمريكي إلى 25 في المائة بالنسبة لهذا القياس. وإذا ما سار كل شيء سيره الطبيعي في روسيا فإن الكفاءة الصناعية فيها ستبلغ في عام 1951 نفس الكفاءة التي كانت تتمتع بها أمريكا عام 1904 أي قبل 44 سنة وفي عام 1960 سيبلغ الإنتاج الروسي إنتاج أمريكا عام 1918.
وحين قدم ستالين مشروع السنوات الخمس الرابع في 9 شباط عام 1947 قال: (أن المهمة الأساسية تتركز في استعادة مستوى ما قبل الحرب في الصناعة والزراعة ثم بعد ذلك نزيد هذا المستوى بنسب متفاوتة معقولة. وربما تطلبت الزيادة ثلاثة مشاريع جديدة من مشاريع الخمس سنوات، ولكننا أن ننجز ذلك).
ويستطيع المتتبع أن يتأمل في هذا المشروع جيداً، محللا أهداف ستالين، مقدراً الكفاءة الشيوعية تقديراً مسرفاً في المبالغة، ومع ذلك فإن روسيا إلى الآن لم تنفذ مشروعاً واحداً من مشاريع السنوات الخمس المتعدد.
وقد أعلن ستالين بأن هدفه فيها يتعلق بإنتاج النفط أن يبلغ هذا الإنتاج (60) مليون طن سنوياً عام 1951، بينما تعدت أمريكا هذا الرقم منذ (28) سنة مضت وأنتجت في عام 1947 وحدة (270) مليون طن. وإذا رجعنا إلى الحقائق وتركنا الآمال وجدنا أن إنتاج روسيا من النفط يبلغ درجة من القلة اضطرها إلى استعمال الفحم وغيره من الوقود القليل الاحتراق عند عدم توفره.
ووجد المهندسون السويديون العاملون في روسيا اليوم أن (35) بالمائة من إنتاج الفحم قد استهلكته القاطرات. بينما استعملت كميات أخرى تقدر ب (30) بالمائة أيضاً من هذا الإنتاج في إنتاج القوة الكهربائية، ولذلك لم يبق سوى (40) بالمائة من إنتاج الفحم يجب أن يستعمل في كافة المصانع الروسية يشمل ذلك فحم الكوك المستعمل في إنتاج الفولاذ.
ويريد ستالين من مشروع السنوات الخمس الحالي أن يوصل إنتاج الفحم إلى (500)(853/26)
مليون طن سنوياً عام 1951، بينما تجاوزت أوربا والولايات المتحدة هذا الرقم منذ (30) سنة مضت.
وطلب ستالين أن يصل إنتاج الفولاذ إلى (60) مليون طن عند نهاية مشروع السنوات الخمس الجديد، أو خلال المشروع الذي يليه، بينما بلغ إنتاج القارة الأوربية وحدها ما مقدار (50 بالمائة أكثر من هذه الكمية في نهاية الحرب الأخيرة.
وينقص روسيا بعض المواد الصناعية المهمة في الاستعداد الحربي منها (التانكستن) والمليدنوم والقصدير والأمونيا، وينقصها أيضاً ما هو أهم من هذه المواد وهو المطاط، إذ أنها لا تملك خطوط مواصلات إلى ما وراء البحار تجلب عن طريقها المطاط الطبيعي، كذلك ليست لها الإمكانيات اللازمة لبناء المصانع المعقدة التي لابد منها لإنتاج المطاط الصناعي.
ويشكوا الاتحاد السوفيتي شكوى واضحة من قلة طرق المواصلات، ولكن فيما يتعلق بعدد البواخر الموجودة الآن لديه فهو في وضع لا بأس به، إذ أن بواخره التجارية التي كان يقدر عددها قبل الحرب بمقدار عدد بواخر السويد قد ضوعفت بما قدمته أمريكا للاتحاد السوفيتي من هدايا ومما حصل عليه من ألمانيا كتعويضات. ومع ذلك فإن سعة مساحة الاتحاد السوفيتي ترهق مواصلاته الداخلية المحدودة. فالطرق قليلة رخوة، والطريق الوحيد هو الطريق الذي يبدأ من موسكو إلى لننغراد شمالاً وإلى (منسك) غرباً ونحو (كييف) و (خاركوف) جنوباً، بينما تستعمل العربات في المدن استعمالاً رئيسياً. ولهذا فأن روسيا تحتاج احتياجاً كبيراً إلى قنوات منظمة كالقنوات التي تقوم بالقسط الأكبر من أمور النقل في أوربا الغربية. كما أنها لا تملك طرقاً مائية ما خلا عدة أنهار كبيرة تتجمد مياهها أغلب أيام السنة. ولذلك فإن أكثر من (83) بالمائة من الشحنات الداخلية يجب أن تنقل بالسكك الحديدية، وأن روسيا حتى داخل مثلثها الصناعي لا تملك وسائل المواصلات الكافية، وكل ما يبلغه طول طرق سككها الحديدية طول الطرق التي كانت في الولايات المتحدة منذ مائة سنة مضت أي في عام 1846، إذ يبلغ مجموع طول طرق السكك الحديدية في روسيا (57) ألف ميل يقابل ذلك (226) ألف ميل في الولايات المتحدة الآن.
وهكذا فإن نقص طرق المواصلات الحديدية يشكل أعظم ثغرة في الاقتصاد الروسي، وهو(853/27)
نقص سيحد من طاقة روسيا سنين عديدة مقبلة، وحتى وفق مشروع السنوات الخمس الجديد ستبنى روسيا (4500) ميل من خطوط السكك الحديدية الجديدة متركزة في الجبهة الغربية من البلاد وهي الجبهة التي سيطر عليها النازيون مدة من الزمن. وروسيا مضطرة إلى تبديل مهمات السكك الحديدية في حين أن هذا البديل لا يمكن أن يتم عن طريق الإنتاج الروسي، ولذلك فأن السوفيت يستعملون الآن عربات قديمه ويجلبون التجهيزات أحياناً من ألمانيا والأقطار التابعة لها. ويعمل الاختصاصيين الروس والمهندسون السويديون الآن على تقليد العربات الأمريكية وإنتاج أنواع منها.
أننا نستطيع أن نعرف الشيء الكثير عن روسيا من دراسة الصناعة الآلية السوفيتية. فالمصانع الروسية لا تنتج أي مبتكر خاص بها من تصاميم السيارات بل هي تنتج على منوال التصاميم الأمريكية والبريطانية مع أحداث بعض التغيرات الطفيفة. ومع ذلك فإن المنتجات الروسية من السيارات لا تزال غير قوية جداً. ولا يزيد مجموع طرق السيارات المعبدة في روسيا على ثمانية آلاف ميل.
كما أن الكلام عن استخدام الأيدي العاملة في الاتحاد السوفيتي يقفنا بدوره على قدرة روسيا الحربية. فقد جاء في مجلة (المشاكل الاقتصادية) الروسية أن قوة الكهرباء المستعملة في إدارة المحطة الأمريكية في ماهوس (نيوجرسي) تعادل القوة الكهربائية المستعمل في محطة كيمرفو الروسية. وعلى الرغم من أن المحطتين تنتجان إنتاجاً متساوياً، فإن المصنع الأمريكي في المحطة الأولى يستخدم (151) عاملاً، بينما تستخدم المحطة الروسية (480) عاملاً. ويستخدم المصنع الأمريكي في نفس المحطة (17) موظفاً لإنتاج الورق بينما يستخدم المصنع الروسي في المحطة الروسية (61) موظفاً. وبصورة عامة يمكن القول بأنه يجب استخدام (11) شخصاً لإنتاج ألف فولت من الكهرباء في ضل النظام الروسي الاقتصادي بينما تحتاج الكفاءة الصناعية في الولايات المتحدة شخصين فقط لإنتاج نفس القوة.
وإذا رجعنا إلى موضوع حقول النفط في روسيا وجدنا أن وضع هذه الحقول ليس جيدا أيضاً. ففي الولايات المتحدة يستخرج اكثر من (90) بالمائة من الفحم على شكل قطع، ثم ينقل ميكانيكياً، ولا يستخرج بالمسحات والفأس غير مقدار قليل لا يتجاوز الأربعة بالمائة(853/28)
من مجموع الإنتاج. بينما تستخرج أكثر كميات الفحم في روسيا باليد. وتشكو مناجم الفحم، ككل الصناعات الروسية من قلة الأيدي العاملة المنتجة. فقد وجد أحد مهندسي المناجم وهو سويدي زار منطقة الفحم في روسيا مهندساً روسياً واحداً لا يزال على قيد الحياة وميكانيكياً وقوميسيراً سياسياً واحداً ومجموعات من العمال يحرس كل أربعة منهم جندي مسلح. فإن عدد العمال الذين يخضعون لنظام العمل الإجباري في روسيا يفوق أي عدد آخر من عمال المصانع الأحرار المستخدمين في المصانع الروسية، إلا أن العامل المستعبد في ظل النظام الروسي الاقتصادي لا ينتج بنفس الكفاءة التي ينتج بها العامل الحر في ظل الأنظمة الاقتصادية. ولقد بذلت المحاولات في مشاريع السنوات الخمس الأولى لتدريب العمال المهرة بواسطة المدارس الفنية الخاضعة للدولة، ولكن رغم ذلك عندما جاء عام 1936 لم تجهز هذه المؤسسات غير حوالي مليون عامل وظل التقدم في هذا الاتجاه بطيئاً. ويهدف مشروع ستالين الحالي تجهيز الصناعات الروسية بستة ملاين عامل مدرب، وعندما يتحقق هذا الهدف الذي يعتبر غاية آمال الروس يكون الاتحاد السوفيتي قد حصل على عدد من العمال يساوي عدد العمال الذين يشتغلون في إنتاج السيارات فقط في الولايات المتحدة.
ولآن نتساءل عن القنبلة الذرية وعن الموعد الذي تستطيع فيه روسيا أن تصنع القنبلة بكميات كبيرة:
إن العلماء الأمريكيين والإنجليز مقتنعون بأن العلماء الروس يعرفون الطرق العامة لصنع القنبلة ولو أنهم لا يعرفون الخطوات الحقيقية التي (تفجر فيها القنبلة وترمى). إلا أن أغلب المشاكل الصعبة بالنسبة للروس هي بناء المصانع المعقدة التي لا بد منها لإنتاج القنبلة الذرية، لأن إنتاجنا يحتاج إلى مقدرة تفوق حد الوصف. فالبراميد يحتاج إلى عمليات معقدة والإشعاع الراديومي مثلا يحتاج إلى سيطرة آلية هائلة إذ أن إقامة مصنع للقنابل الذرية يجب أن يوضع وفق تصميم يستطيع أن يعمل بموجبه المعمل وحده بلا إشراف العمال عليه. وبالقياس إلى هذا المستوى العلمي الفائق في القابلية العملية تعتبر روسيا متأخرة. فمن حيث الكفاءة الإنتاجية التي تعتبر مفتاح صنع القنبلة الذرية تتأخر روسيا عن الولايات المتحدة والدول الغربية بمعدل (22) سنة إلى الوراء.
والخلاصة، أن تهديد روسيا للعالم تهديد حقيقي لاشك فيه، ولكن روسيا بدرجة من الضعف(853/29)
تستطيع معه القيام بحرب دفاعية بالقرب من بلادها، ولكنها أضعف من أن تشن حرباً هجومية كالحرب التي شنتها دول المحور عام 1939.
فؤاد طراز المحامي(853/30)
الجناح المهيض
للأستاذ إبراهيم الوائلي
دعيني وتهويمة الشاعرين ... ونجوى الطبيعة في معزل
فإني - متى شجع السامرون - ... بغير الهواجس لم أحفل
أراك ووحشة هذا الظلام ... تزيدين من هَّمي المثقل
فهل تعلمين بأني شربت ... أمر من الصاب والحنظل؟
وأني أذبت بقايا الفؤاد ... ترانيم تصخب كالمرجل
سلي الشهب عن سهري في الدجى ... تجبك متى شئت أن تسألي
خطوب يعج بها حاضري ... وأخرى تهدد مستقبلي
وفي كل يوم أرى نَبوة ... من الزمن القلّب الحوَّل
أنا اليوم لست كما تعهدين ... وكاليوم شأن غدي المقبل
وما بات يخفق في أضلعي ... حنين إلى عهدي الأول
دفنت الشباب وأحلامه ... وما فيه من متع حُفّل
وودعت أمسى بين الصخور ... فذاب على الشوك والجندل
وماتت بقلبي تلك الرغاب ... كما يحصد الزهر بالمنجل
دعيني وألحان المعولات ... تنوح على الأرغن المعوِل
تريدين مني زفيف الطيور ... وأين الزفيف من الأعزل؟
فلا زغب في الجناح المهيض ... أهوَّم فيه على منهل
تفيض الينابيع عن جانبي ... وأُحرم من مائها السلسل
وأدرك في الروض معنى الجمال ... وأُمنع من نضرة المجتِلى
وأشتاق أن أرد الضفتين ... فتُحجبُ عني رؤى الجدول
وأهوى سنا الفجر خلف الغيوم ... فأقبع في ليلىَ الأليل
وأهتاج أنسامه الحالمات ... فيرتد عني سُرى الشمأل
وأصغي لعل طيور الفضاء ... تطارح أنشودة البلبل
فأمضي ولا صوت في مسمعي ... يرن سوى خفقة الأجدل(853/31)
تريدين مني غناء الطيور ... وليس سوى القفر من موائل؟
حشدت الصخور إلى جانبي ... وشوك الطبيعة في محفلي
وصوّبتُ في جنبات السهول ... وصعدتُ في قمم الأجبُل
وهممت للوحش في غابه ... وغمغمتُ للنعم الُجفَّل
وعدت ولا شيء غير الرياح ... متى أرها في الدجى تعول
ضللت الطريق. . . وكم تائه ... أراح على جذوة المصطلى
وأبصر في خلجات السماء ... نجوماً تُغوَّر أو تعتلى
ولكنن لم أزل حائراً ... أجوب الرمال على الأنمل
تواكبني خطرات الدجى ... ثقالاً ينوء بها محملي
فمن هيكل سابح في الطريق ... يلوح أمامي إلى هيكل
ومن شبح مدبر يستفز ... خيالي إلى شبح مقبل
تريدين مني انطلاق النسيم ... على الروض في ثوبه المخمَل؟
وإشراقة الفجر بين الحقول ... وفوق أفانينها الميَّل
وما أنا. . . يا هذه. . . إنني ... برمت بعالمك الأمثل
دعيني وما بي. . . فلولا الشجون ... تثير الحمائم لم تهدل
(القاهرة)
إبراهيم الوائلي(853/32)
انتظار. . .
للأستاذ عمر النص
اقبلي. . . أقبلي. . . فقد عسعس الل ... يلُ وغام الفضاءُ في ناظريَّا
السماء الأكناء ترهق أنفا ... سي وتلقي النذير في أذنيا
أقبلي. . . فالظلام يوقر نفسي ... نزواتٍ. . ويوقظ الشجو فيها
والرياح الغضاب تلطم شبا ... كي وتدوي خلف الزجاج دويا
والحيا دافق. . . يطير مع الري ... ح وتجري به سخياً سخيا!
ونباح الكلاب يخنقه الق ... ر وتمضي به الرياح قصيا. . .
أقبلي. . . فالظنون يا ليل تأبى ... أن أحس النعاس في جفنيا
وأنا في ترقبي. . . أفتح البا ... ب وأرنو. . . عّلي أطالع شيا
أسأل الليل: ما وراءك يالي ... ل. . . وأصغي إلى الرياح حفيا
أنا في موقفي. . تحدق عينا ... ي. . . ويسعى بي الخيال مليا
كلما مر في الدجى ذو جناح ... كدت أني أضمه بينديا
وكأني أراه يشفق مني ... فيكاد الفؤاد يصرخ: هيا!
. . . أي شيء تُرى أعاقك عني ... بعد ما أرهف الصدى أذنيا
أي درب سلكته فأضلت ... فيه إقدامك الطريق إليا؟!
طال لبثي. . . ولم أزل أفتح الصد ... ر وأستقبل الظلام العتيا
كلما صحتُ في القتام لسارٍ ... ضاع صوتي. . . ومات في شفتيا!
ليت شعري ألم يحن لفؤادي ... أن يرى في الحياة شيئاً رضيا
مزقته يد الفراق ومرت ... وهو ما زال بالفراق شقيا!
طاش حلمي. . . وكدت أفقد صبري ... وتجلى الشحوب في وجنتيا. . .
أنا باق هنا. . . وقد نصل الليل. . . فردي لي الخيال الغويا
ودعيني لوحدتي. . . أغلق البا ... ب وأبكي. . . فلست آمل شيا!!
إيه ليلاى. . . لم أعد أرقب الأفق. . . وإن كنت قد مددت يديا
أنا باق هنا أجاهد إخفا ... قي وأخفي العياء في نظريا(853/33)
(دمشق)
عمر النصر(853/34)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
قصة الدموع التي شابت:
جاء إلى الحيات والدمع في عينيه، ورحل عنها والدموع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي أكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوَّح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لخبو في ظلام اليأس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجى كل عابر سبيل!
يخيل إليَّ أنه لم يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً: روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، و: أن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين. وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالشكل أمانيه، فكل تعزية في حساب الشعور وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟. . . لقد كان (قارئاً) من قراء (الرسالة)، حدثني عن نفسه يوما فكتبت أليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتقي بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقى منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله. . . وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته. رباه إني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموع إذا احتضرت على فراش الغروب!
لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلي معنى من معاني القبر في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. وكم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوماً على وقع أقدام المشيعين.
ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع كل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على(853/35)
الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحت يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتها، حين يصور لك الوهم في التراب أكواباً من العزاء!
من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجدان وأنا أستعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغرب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغرى بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودواء الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!
رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك!!
جيته بعد قرنين من ميلاده:
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ عباس محمود العقاد مقلاً في عدد أكتوبر من مجلة (الكتاب) جاء فيه: (كارل ياسبر) هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين، وهو إمام الوجودية الألمانية غير مدافع، وله آراء في علم النفس وأدب السلوك تعد من مبتدعات المذاهب الأخلاقية في القرن العشرين، ومن أجل هذه الآراء يعول على تقديره لشاعر الألمان الأكبر جيته في ذكرى ميلاده، بعد انقضاء مائتي عام على ذلك الميلاد. . . قال ياسبر عن منزلة جيته الأدبية: إنه وإن يكن أعظم الشعراء الفنائيين ٍالألمان، وعلا الرغم من التقدير العالمي العظيم الذي نالته روايته (فارس)، لا يقف في عالم الأدب موقف الند من هومير أو دانتي أو شكسبير على أساس عمل خاص من أعماله. ولكنه منقطع النظير حين نقيسه بمجموعة أعماله وجوانب شخصيته التي كان الشعر والبعث العلمي والجهود العلمية من عناصرها الأولية!
وتقدير ياسبر هذا يطابق تقديرنا للنابغ الألماني العظيم فيما كتبناه قبل سبع عشر سنة،(853/36)
لمناسبة الاحتفال بانقضاء مائة سنة على وفاته، فقد قلنا عنه في رسالة صغيرة: إن جيته من العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد. فهو كثير الجوانب كثير التجزئة: الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره)!
أود أن أقف قليلاً لأناقش هذه الآراء، وأول شيء يستوجب الوقوف ويدعو إلى التعقيب قول الأستاذ العقاد إن كارل ياسبر هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين وإمام الوجودية الألمانية غير مدافع. وأظن أن تاريخ الفلسفة المعاصرة سيقرران الفيلسوف الألماني هيدجر لا (ياسبر) هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين وإمام الوجودية الألمانية غير مدافع. . . وحسبنا في مجال التدليل على صحة هذا الرأي أن نقول إن الوجودية الفرنسية عند (سارتر) قد اتجهت في تقرير مذاهبها إلى الوجودية الألمانية عند (هيدجر)، وأن فلسفة هذا الأخير كانت المنبع الأصيل التي تدفقت منه القاطرات الأولى في الوجودية السارترية، أو الحقل الأول الذي أستمد منه الفيلسوف الفرنسي بذوره الفكرية الضخمة، تلك التي أينعت وأثمرت في الوجود والعدم '. .
أما عن رأي ياسبر في منزلة جيته الأدبية فهو رأي عجيب، ومصدر العجب فيه تلك الموازنة بين أديب وأديب على أساس عمل خاص من أعماله الفنية. . . إن الموازنة على هذا الأساس باطلة، لأن الميزان الحق لأقدار الأدباء لا يقام على أساس فكرة واحدة أو رأي واحد أو كتاب واحد يضم بين دفتيه عدداً من الآراء والأفكار، وإنما يقام الميزان الحق في مجال الموازنة بين أديب وأديب بأن يوضع إنتاج هذا كله في كفة، وأن يوضع في الكفة الأخرى إنتاج ذاك. . . عندئذ يصح الحكم ويستقيم التقدير لأننا نضع عالماً من الفكر أمام علم، ونقابل في ميدان الذهنية المبدع بين حياة وحياة. إننا إذا وازنا مثلاً بين فاوست والإلياذة، أو بين فاوست والكوميديا الإلهية، أو بين فاوست وهملت، لنخرج من هذه الموازنة بأن جيته على أساس هذا العمل الخاص من أعماله لا يقف موقف الند من هومير أو دانتي أو شكسبير، كنا كمثل من يوازن بين شارع في برلين وثلاثة شوارع أخرى في أثينا وروما ولندن، لندلل على أن المدين الأولى لا تقف في مجال الضخامة أو الجمال أو(853/37)
النظافة موقف الند من المدن الثلاث الأخريات. . . تلك ولاشك موازنة لا تليق ومنطق لا يروق!
ورب قارئ يعترض على نقدنا لهذا الشق الأول من رأي ياسبر بأن الشق الأخير يتفق وهذا التصحيح، وهو الشق الذي ينادي فيه الفيلسوف الألماني بأن جيته منقطع النظير حين نقيسه بمجموعة أعماله وجوانب شخصيته. . . إن ردنا عليه هو أن جيته ليس منقطع النظير في رأي ياسبر بمجموعة أعماله الأدبية وحدها ولكنه منقطع النظير بشخصيته المتعدد الجوانب والمواهب والملكات، ويدخل في ذلك أدبه وبحوثه العلمية وجهوده العلمية!
وأعجب العجب بعد هذا كله أن ينظر الفيلسوف الألماني ياسبر إلى الشاعر الألماني جيته نظرة قوامها أنه لا يقف في ميدان الأدب موقف الند من شكسبير وأن ينظر الكاتب الإنجليزي كارليل إلى الشاعر الإنجليزي شكسبير نظرة قوامها أنه لا يقف في ميدان الأدب موقف الند من جيته. . . ذلك لأن لكارليل في شاعر الألمان الأكبر رأياً معروفاً سجلته من قبل على صفحات الرسالة، وهو أن جيته أعظم أدباء العالم بلا استثناء!!
حديث لم يخطر لي على بال:
في العدد (225) مجلة المسامرات، وفي الصفحة الثامنة والعشرين يمكنك أن تقرأ مقالاً هذا عنوانه (بين الشيوخ والشباب ما صنع الحداد). . . مقالاً مهدت له المجلة بهذه الكلمات (هي معركة لم تنته بعد، بين الشيوخ والشباب. . . فأولئك يتهمون الجيل الجديد بالسرعة وعدم الاستقرار، وهؤلاء يتهمون السالفين بالجمود والرجعية. وفيما يلي تعرض (المسامرات) مجموعة إجابات من الجيلين.
وبعد أن سجلت المجلة عدداً من الآراء لفريق من شيوخ الأدب وفريق من شبابه، بعد هذا جاء دور أنور المعداوي فقال: (إننا نقدر الشيوخ لأنهم فتحوا أعيننا على الكثير، وهذا التقدير يقف حائلاً بيننا وبين إعلان سخطنا عن التواء بعضهم. . . إن الكاتب ينبغي أن يكون إنساناً قبل كل شيء. وحينما يكون إنساناً تسقط عنه العصبية السخيفة، فلا تجد فارقاً بين كاتب وكاتب. . . وما أقل الكاتب الإنسان عندنا)!
أشهد أن حديثاً كهذا لم يخطر لي على بال، وأشهد أن مجلة المسامرات لم تسألني في أي يوم من الأيام عن رأيي في أي موضوع عرضت له، ولو سألتني لما أجبت. . . لأن في(853/38)
مثل هذه الأحاديث سخفاً لا أحب أن أشارك فيه، ولكنها الصحافة المصرية تنطق الناس بما تشاء لا بما يشاءون! صدقني لو أنطقتني (المسامرات) بما يمكن أن أنطق به لهان الأمر ولكنها - عفا الله عنها - قد جعلت الشيوخ - مع احترامي لهم - إنساناً بلغت به الإنسانية ذلك الحد من التسامح الذي لا أفرق عنده بين كاتب وكاتب!. . إن مجلة (المسامرات) تذكرني ببعض كتاب القصة والمسرحية في مصر، أولئك الذين ينطقون أبطال خيالهم بما لا يمكن أن تنطقهم به الحياة!!
حول الأمانة العلمية في الجامعة:
يذكر القراء تلك القضية التي عرضتها على محكمة الرأي العام الفني في عدد مضى من (الرسالة)، وأعني بها قضية الأمانة العلمية بين أستاذين في الجامعة، هما الدكتور محمد فؤاد شكري والدكتور جمال الدين الشيال. ولقد سألني الكثيرون لماذا لم يرد الدكتور شكري على ما اتهم به من السطو على رسالة زميله وقد انقضت على ذلك أيام وأيام؟. . . أما أنا فقد كنت على وشك أن أعقب على موضوع الأمانة العلمية ظناً مني أن الدكتور شكري قد آثر السلامة فلاذ بالصمت، ولكن أحد زملائه في الجامعة قد أنبأني بأنه متغيب عن وطنه منذ بعيد في مهمة سياسية، ولهذا أرجئ التعقيب مرة أخرى حتى يعود ونسمع دفاعه.
أنور المعداوي(853/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أبن الحسب والنسب:
هذا هو أسم المسرحية التي قدمتها أخيراً الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا الملكية، وهي للكاتبين الفرنسيين أميل أوجييه وجورج صاندو، وقد ترجمها محمد عبد المنعم سعيد بك، وأخرجها الأستاذ فتوح نشاطي المخرج بالفرقة. وتجري وقائع هذه المسرحية في القرن التاسع عشر بفرنسا، وهي تعرض ناحية من الصراع الاجتماعي بين طبقة الأشراف التي كان قد تضاءل نفوذها وانحسرت سيادتها عن المجتمع، وبين الطبق الوسطى التي بمثلها رجال الأعمال الذين وصلوا إلى الغنى بكدهم وارتقت بفضلهم التجارة والصناعة ن ويتجه سير المسرحية إلى السخرية من طبقة الأشراف وانتصار طبقة العاملين عليهم، فكان الغرض واضحاً، كما أن المنهج طبيعي والعرض طلي، بحيث يشعر المشاهد أنه يواجه موضوعاً مهماً، وفي نفس الوقت يحس بالطرافة والمتعة الفنية. وقد استطاع المترجم أن ينقل تلك المقاصد حية نابضة، بأسلوب لا بأس به، غير أنه لم يراع السلامة اللغوية في بعض العبارات، ولا تزال تطن في أذني كلمة (الماية) التي رددها أبطال المسرحية في قولهم (القرض بفائدة ستة في الماية) بفتح الميم الممدودة. . .
وتتلخص المسرحية في أن (المركيز دي بريل) تزوج من (أنطوانيت) ابنة (المسيو بوارييه) التاجر الغني، ويبدو هذا الزواج في المشهد الأول على أنه صفقة رضى بها المركيز المفلس ليستمتع بثروة صهره ويحيا حياة الترف والتبطل التي أعتادها، كما اغتبط بها المسيو بوارييه ليستفيد من لقب المركيز وهو يطمع في أن يصل بهذه المصاهرة إلى عضويه الشيوخ، وقد أنس من ابنته حبها للمركيز. ونعلم بغرض المركيز من هذه المصاهرة، من حديث يجري بينه وبين صديقه (الدوق دي موتمران) الذي يعمل كجندي في الجيش بأفريقيا، وقد قدم في إجازة؛ أما السير بوارييه فهو يعرب عن آماله لصديقه وشريكه (فردليه) وهو (عراب) أنطوانيت، ويخيل إلى أن الجمهور لم يدرك معنى كلمة (عراب) والمقصود بها ما يسمى في العرف الكنسي بمصر (الشبين) الذي يكفل الطفل من وقت (تعميده) أي يرعد ويعطف عليه. والكلمة (عراب) لا تستقيم عربية، ولعلها سريانية.(853/40)
يلاحظ فردليه أن صديقه يغدق على المركيز المفلس المسرف المتبطل، وأن المركيز يستهين بزوجته أنطوانيت، فيحرض المسيو بواربيه على أن يضع حداً لهذا الحال فيطلب من المركيز أن يبحث له عن عمل. وما إن يفاتح المركيز في ذلك حتى يأبى في تشمخ واشمئزاز، وتسوء العلاقة بين الصهرين، ويشعر المسيو بواربيه أن زوج أبنته يحقره، فيقابله بالمثل ويعنف به، ويرتب الأمور على أن يطرده من القصر. ومرة يلين المركيز في مناقشة صهره حتى يستدرجه إلى البوح له بأنه يطمع أن ينال بجاهه عضوية الشيوخ فيهزأ به وتزداد الحال بينهما سوءاً.
وفي خلال تلك الحوادث نرى الفتاة الوديعة أنطوانيت تتودد إلى زوجها الذي يستخف بها أولاً ثم لا يلبث أن يشعر نحوها بشيء من الحب.
ثم يتحرج موقف المركيز عندما يكشف الجميع عن علاقته بمدام (دي مونجيه) بوساطة رسالة منها إلى المركيز تقع في يد المسيو بواريه فيفضها ويطلع أنطوانيت عليها فتكاد تصعق منها. ويهدد الرجل صهره برفع الأمر إلى القضاء ليفصل بينه وبين أبنته التي تحطمت سعادتها. فيغضب المركيز خوفاً على سمعة خليلته، ولكنه يخضع لصهره فيرجوه ألا يفعل ويعده بأن يقطع علاقته بها وأن ينزل عند رغبته في مزاولة عمل، وتدخل أنطوانيت وتخطف الرسالة من أبيها معلنة أنها صاحبة الحق وأنها هي التي ستقاضي زوجها. ويفاجأ المركيز بما يدهشه من نبل زوجته، إذ تمزق الرسالة وتلقي بها. . ويتقدم إليها في احترام، ولكنها تصده وتعلن أنها أرملة منذ اليوم. . ويحاول المركيز أن يستغفر زوجته. ويقبل عليها أخيراً وقد أعتزم مبارزة منافس له في (مدام دي مونجيه) فتمنعه أنطوانيت فيأبى التخلف عن المبارز ولكنها تقول له أنها تعتبر عدوله عن المبارزة دليلاً على حبه إياها، فيعدل، فتطلب منه أن يذهب إلى المبارزة محافظة على كرامته وشرفه، فيهم بالذهاب فترد إليه رسالة من منافسه بعدوله عن المبارزة.
وفي هذا الجو الصافي يعبر المركيز عن اقتناعه بضرورة أن يعمل عملاً يعيش منه فيتقدم (فردليه) ويهدي إلى المركيز وزوجته قصر أجداد المركيز الذي كان قد اشتراه وما يحيط به من المزارع ليعمل المركيز في استغلالها، وبذلك تنتهي المشاكل كلها حتى تطلع المسيو بواربيه إلى عضوية الشيوخ.(853/41)
وكنت أفضل أن يظل المسيو بواربيه طامعاً في عضوية الشيوخ، فإن المركيز لم يقدم شيئاً، بل هم الذين كالوا له وصفحوا عنه وإن كانوا قد أذلوا كبرياءه، ولكن لا يوجد ما يجعل الرجل يتنازل عما يطمح إليه.
وأبطال القصة سماتهم واضحة ما عدا أثنين: صديق المركيز، وصديق المسيو بواربيه، وقد مثل المركيز (فاخر فاخر) ومثل المسيو بواربيه (حسين رياض) وقد أندمج كل منهما في دوره اندماجاً كلياً حتى نقلانا إلى فرنسا في القرن التاسع عشر وكان حسين رياض يعبر بكل لفظة وكل حركة، حتى حركة قدمه التي كان يرفعها في وجه المركيز احتقاراً له.
ومثلت أنطوانيت (أمينة رزق) فأجادت تمثيل الفتاة الرقيقة المتلطفة لزوجها، ثم الفتاة الشموس التي تغضب لكرامتها وتمزج هذا الغضب بالنبل الذي يصفع نبل (الأشراف) ولكنها أسرفت في مظاهر الغيرة بالبكاء والنحيب كدأبها. . . ولست أدري أهذه الغيرة الشديدة من امرأة فرنسية في أصل المسرحية أم حدث تعديل يمكن لأمينة رزق من هذا الذي عرفت به. . .
وأجاد فؤاد فهيم في تمثيل الطاهي الذي يزدهي بعراقته في فن الطهي، وكان هذا الدور من تمام السخرية من الأرستقراطية إذ ينتسب إليها الطاهي ويفخر بأجداده وماضيهم في المطابخ!
ومثل صديق المركيز (كمال حسين) ومثل فردليه (محمود رضا) والشخصية الأولى مائعة فلم تدل صفاتها وتصرفاتها على طبقة من الطبقتين، والشخصية الثانية تافهة غير جديدة بما أنسب إليها من التأثير في أنطوانيت ولعل ضعف تمثيل الشخصيتين أتى من ذلك. . .
العربية بين الباكستان والبلاد العربية:
قدم إلى مصر في الأسبوع الماضي السيد شودري خليق الزمان (لا خالق الزمان كما ذكرت بعض الصحف) رئيس الرابطة الإسلامية بالباكستان. وزيارته لمصر جزء من برنامج رحلته في البلاد العربية التي يقوم بها لبث الدعوة إلى اتحاد إسلامي عام تتكتل فيه جميع البلاد الإسلامية.
وقد دعت الجالية الباكستانية في القاهرة يوم الأربعاء الماضي، طائف كبيرة من رجال الفكر والصحافة وعلماء الدين، إلى الاجتماع بدارها حيث تحدث إليهم السيد خليق الزمان،(853/42)
وقد بين في حديثه ضرورة تكتل المسلمين وتعاونهم على الأخذ بوسائل التقدم وأسباب القوة، وأبرز فكرة (الجنسية الإسلامية) التي تقوم على الترابط والتواد بين كافة المسلمين في مختلف ديارهم، ومما قاله أن بعض المفكرين يدعون إلى الاقتداء بالغرب، وبعضهم يقول بالنظر إلى الشرق، ولكني أقول: يجب أن ننظر إلى ذاتنا وإلى إلهنا.
وكان الزعيم الباكستاني يتحدث باللغة الأردية، وهي لغة التخاطب السائدة في الهند والباكستان، وترجم عنه إلى العربية الأستاذ الأعظمي عميد كلية اللغة العربية في كراتشي. وقد شعر الجميع بالتقارب الفكري والوجداني بينهم وبين الضيف الكبير الكريم، على رغم الاختلاف في اللغة، ولا شك أن لاتحاد اللغة شأناً كبيراً في جمع المتكلمين بها على المودة والأخوة، وأنا أعتقد أن الباكستان تدنو من أخواتها الإسلامية التي تتكلم العربية، وتحقق هدف الاتحاد المنشود، باتخاذها العربية لغة لها. ولا يقل هذا شأناً - إن لم يزد - عن الوسائل الأخرى من الدعوة المباشرة وغيرها.
ولا أريد أن أثقل على إخواننا الباكستانيين بتكرار ذلك الذي قلته في مناسبة سابقة، وإنما أستبشر بما تنقله إلينا الأنباء عن حركة تعلم العربية في الباكستان، وما تبذله الدولة في هذا السبيل، وهي لا تزال في أوائل سنتها الثالثة، وأستشرف إلى المستقبل القريب الذي نرى فيه الباكستان أمة مسلمة متعربة.
وقد لاحظت كثيراً من الكلمات العربية في خلال حديث السيد خليق الزمان، ويقال إن اللغة الأردية تحتوي من الكلمات العربية ما يقدر بنحو خمسة وستين في المائة من مجموع ألفاظها. ولذلك لم يجد الباكستانيون الذين أقبلوا على تعلم العربية صعوبة فيها، وقد تقرر تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم ابتداء من السنة الأولى الثانوية. وهناك (الجمعية العربية العامة) التي يرعاها وزير المعارف ويرأسها شيخ الإسلام، ولهذه الجمعية سنة طريفة في الحث على التخاطب باللغة العربية، فهي تفرض على من يتحدث في دارها أن يدفع عن كل لفظة غير عربية ما يعادل خمسة مليمات مصرية.
وقد جرى حديث بيني وبين باكستاني كبير في موضوع نشر اللغة العربية في الباكستان، قلت له: لماذا لا تكثرون من بعثات الطلاب إلى مصر، ليتعلموا في معاهدها باللغة العربية، ويكتسبون القدرة على هذه اللغة من البيئة المصرية؟ وجهت هذا السؤال وأنا غافل عن(853/43)
خرق واسع فيه. . قال: إن طلابنا الموجودين في مصر يشكون من اللغة العامية التي تتحدثون بها لا في الأسواق فحسب، بل كذلك في دور التعليم ومجالس المتعلمين فكيف يكتسبون القدرة على الحديث بالعربية من هذه البيئة؟
سمعت ذلك فلم أستطع إلا أن أهز رأسي آسفاً على هذه الحال وذكرت ما وقع لأحد المستشرقين، وقد جاء إلى مصر لأول مرة بعد أن درس اللغة العربية في بلده هو وزوجته حتى أصبحا يتخاطبان بها، فلما نزل بأحد الفنادق بالقاهرة وجاءه الخادم، قال له: أريد طعاماً. فأنصرف الخادم ثم عاد يحمل إليه (طعمية) فقال له: ما هذا. .؟ أريد شواء. قال خادم الفندق: مش قلت إنك عاوز طعمية!) فبهت الرجل. . . وكتب إلى زوجته يقول: لقد نزلت بالقاهرة زعيمة العواصم العربية، فلم أجد بها من يتحدث باللغة العربية غير زوجك العزيز!
والعجيب أو المخجل أن كثيراً من (المثقفين) المصريين الذين يجتمعون بهؤلاء الأجانب المتعربين، لا يبادلونهم الخطاب بالعربية، بل يحدثونهم بالعامية فلا يكادون يفهمون منهم شيئاً، ويتضايقون من المجالس، مجالس المتعلمين، التي يدور فيها الحديث بالعامية.
وأعود إلى الموضوع، فأقول مع ذلك: إن تفشي عاميتنا في الحديث العادي لا ينبغي أن يحول دون الإكثار من البعثات الباكستانية، فنحن نعمل على التقريب بين العامية والفصحى بالتعليم ووسائل النشر المختلفة، وليس من بأس ولا كبير عناء في أن يأخذوا بالضروري من العامية، وهي قريبة من الفصحى كما أنها تتشابه في البلاد العربية المختلفة التي تتجه الباكستان نحو مودتها، وهم مع ذلك لن يعدموا مواطن الفصحى وأدواتها في مصر.
عباس خضر(853/44)
البريد الأدبي
بواسل من لحن القول:
1 - حمل إلينا بريد الرسالة الأدبي في العدد (845) كلاماً للأستاذ الفاضل السيد أحمد صقر فيه سب وسخط على المعقبين اللغويين، ورد ما كتبناه في العدد (843) نخطئ فيه استعمالهم بواسل صفة لجمع مذكر عاقل، وتواً بمعنى الساعة أو حالاً، وذكر أن بواسل مسموعة عن العرب الخلّص منذ الجاهلية الأولى، وأورد شاهدين لذلك، الأول؛ قول باعث بن صريم اليشكري من شعراء الحماسة يذكر يوم الحاجر:
وكتيبةُ سفع الوجوه (بواسل) ... كالأسد حين تذب عن أشبالها
والثاني قوله:
فلا توعدونا بالحروب فإننا ... لدى الحرب أسد خادرات (بواسل)
وذلك فيه وهم كبير، إذ المعروف عند النحويين أن فواعل جمع لفاعلة - غير شواذ معدودة - فبواسل جمع لباسلة في هذين الشاهدين، ففي الأول يصف الشاعر كتيبة وفي الثاني يصف أسداً خادرات، فماذا بقى إذا في شاهدي الأستاذ؟ ونحن قد قلنا إن بواسل خطأ حينما تكون وصفاً لجمع مذكر عاقل.
التو بمعنى الساعة خطأ:
2 - وأما تصويبه قولهم ذهب توا، وإيراده نصين من الفائق والقاموس، فقد عجبت له لأني قد خصلت ما أورده في كلمتي القصيرة (التو بمعنى الفرد، فذهب تواً أي فرداً أو لم يله شيء والصواب توه) هذا هو ما في المعاجم بمعناه لا بلفظه، فإن المعاجم كلها ذكرت مكان لم يلوه، لم يعرجه، وفي المعاجم كلها أن التو بهاء الساعة - وقد أورد الأستاذ ذلك وغفل عنه - وكنا قد قصرنا الخطأ على التو بمعنى الساعة، ومما يزيد هذا الخطأ إيضاحاً قولهم أيضاً ذهب في التو واللحظة فيجعلون التو مرادفاً للساعة وذلك خطأ أجمعت عليه كتب اللغة.
(المنصورة)
عبد الجليل السيد حسن(853/45)
خطيئة داود:
طالعت كتاب (صور من العشق) للأستاذ كمال منصور قصة (خطيئة داود) فطالعت فرية على نبي من الأنبياء وهو داود عليه السلام فقد أختلف العلماء والمفسرون في قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه - وفي بعض الآثار أنه وزيره - فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل وتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزاً في شريعته مألوفاً فيما بين أمته إذ كان يسأل أحدهم الآخر أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام إذا كانت زوجتان نزل عن إحداهما لمن أتخذه أخاً له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على إنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحد أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه، بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما أمتحن به.
هذا ما ذكر عن قصته في أضعف وجوهها وهي القصة التي أخذها الأستاذ كمال منصور في كتابه. غير أنه جعل النبي داود يزني وتحمل هذه المرأة من سفاح ويقتل زوجها و. . و. . مما لا يليق ببشر عادي؛ الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرره إنا لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون.
عزة حماد منصور
دم الكبش وداء الكلب:
قرأت لأديب - فأنني أسمه - كلمة يقول فيها (. . وكان المرضى في الجاهلية الأولى يتداوون بدم (الكبش) في شفائهم من داء (الكلب). . . الخ)!
قلت: الأديب - وعله من طلاب الطب البيطري - اختلط عليه الطريق، وفهم ما قرأ على لفظه الوارد دون المقصود منه.
و (الكبش) في لغة العرب بمعنى (السيد أو الرئيس) وفلان (كبش القوم) أي (سيدهم ورئيسهم) المطاع. . . وسيد القوم خادمهم. قال عمرو بن معد يكرب:(853/46)
نازلت (كبشهم) ولم أر من نزال الكبش بدا
وبعض الأعراب في الجاهلية الأولى كانوا يعتقدون بدم الرئيس (الكبش) لمكانه منهم، وإمرته عليهم، وإنه يشفي من داء (الكلب). وفي ذلك يقول شاعرهم:
بناة مكارم وأساة جرح ... دماؤهم من الكلب الشفاء
ويقول غيره:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكلب!
ولست أدري - الحق يقال - فضل دم الرئيس على دم المرؤوس في شفاء (الكلب) إن كان ثم شفاء!
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني أذكر أن العرب كان من عاداتهم الفاشية إلى يومنا هذا أنهم إذا رحل عنهم الضيف واستكرهوا رجعته كسروا في إثره شيئاً من الأواني والقدور. وفي ذلك يقول قائلهم:
كسرنا القدر بعد أبى سواح ... فعاد وقدرنا ذهبت ضياعاً
ويقول غيره:
ولا نكسر الكيزان في إثر ضيفنا ... ولكننا نكفيه زاداً ليرجع
وبعد: فمعتقدات القوم في الجاهلية الأولى جلها أباطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(الزيتون)
عدنان
1 - إلى الأستاذ أنور المعداوي:
أقدم تحيتي وأرجئ الإفصاح عن إعجابي وبعد، أردت النظر في ميثاق جامعة الأمم العربية وفي ميثاق هيئة الأمم، وقرأت بعض ما كتب من تعليق عليهما فوجهت بطبيعة الحال إلى مكتبة الإسكندرية.
فهل وجدت من ذلك شيئاً؟! كلا!!
بل خرجت منها وأنا أتساءل فيما بيني وبين نفسي: أيتجشم الإنسان مشقة الانتقال وضياع الوقت في الذهاب إلى المكتبة العامة ليقرأ رواية (اللص الظريف) أو (المرأة الغادرة)؟(853/47)
وأين إذن أستطيع قراءة الوثائق والكتب العلمية إن لم أجدها في المكتب العامة؟ ولم أطلب شيئاً عسيراً بل شيئاً مشهوراً لا تخلو من الحديث عنه صفحات الجرائد كل يوم.
ثم دعاني داعي الإنصاف إلى الاعتذار عن المكتبة بعدم ظهور كتب تتناول نشر الميثاقين أو الحديث عن الهيئتين. وأردت التأكد بنفسي فما هي إلا جولة حتى خرجت من عند بائع الكتب وأنا أتأبط كتابين ولشدة حاجتي للإلمام بالموضوع دفعت فيهما ما يقرب من جنيهين.
وتساءلت مرة أخرى: ألا يتمكن الفرد من معرفة ما يعرض له أثناء البحث - على كثرة ما يعرض له - إلا إذا كان يملك الوسيلة إلى الشراء! وإذا كان الأمر كذلك فإلي أي حد تتحمل مالية الإنسان مهما عظمت تكاليف الكتب مع تعددها وارتفاع أسعارها؟!
لقد كانت مكتبة الإسكندرية - يرحمها الله - موجودة حقاً منذ ألفي عام حين كانت تقدم الزاد الدسم فيعجز عن هضمه العلماء الكبار؛ أما الآن فقد أصبح كل ما فيها من زاد لا يكاد يقيم أود الصغار.
وذكرني ذلك بالموقف الذي قاساه من قبل الأستاذ عباس خضر (في قاعة المطالعة بدار الكتب) وعدت لأقرأ من جديد ما كتب ولأجد فيه بعض العزاء.
والآن يطيب لي أن يثار هذا الموضوع مرة أخرى. إن عشرات الكتب العلمية تغمر السوق كل يوم، وكلها مما يحتاج الباحث إلى الإلمام بها أو ببعضها.
وإذا كانت وزارة المعارف - سامحها الله - قد ألجأتنا بإفقار مكتباتها المدرسية - إلى المكاتب العامة فلا أقل من أن نجد لدى الأخيرة بغيتنا، وإلا فنحن نزود الراسخين عن الإطلاع ونزود المبتدئين بالحجة التي تدفع عنهم لوم اللائمين ثم لتسلكهم بعد حين في عداد الجاهلين.
حقاً إنه لموضوع يستحق من قلم صاحب التعقيب تعقيباً يكون له عند المسئولين صداه. وعسى أن تستأنف المكاتب العامة سيرها في ركب الحياة.
2_حول مسئولية الاحتلال:
(سألني بعض حضرات القراء عن المرجع الذي اقتبست عنه بعض الفقرات التي استشهدت بها لتأييد الرأي الذي ذهبت إليه في تحديد مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر بالمقال المنشور بالرسالة عدد850.(853/48)
ويسرني أن أشير إلى أنه كتاب المسألة التونسية وموقف الدول العظمى منها للدكتور محمد مصطفى صفوت أستاذ التاريخ الحديث بجامعة فاروق الأول. وأن التنويه بذكره قد سقط أثناء الطباعة سهواً).
كمال السيد درويش
مدرس بالرمل الثانوية(853/49)
الكُتُب
أبو العتاهية
تأليف الأستاذ محمد أحمد برانق
للأستاذ كامل محمود حبيب
المدرس رجل نال حظاً كبيراً من الأدب والعلم، وأصاب قسطاً وافراً من أصالة الرأي وصفاء الذهن، وجمع بين الثقافة العالية والتفكير الرصين؛ فهو أجدر الناس بأن يخوض معمعة النشاط الأدبي والعلمي، فعنده الاستعداد وبين يديه الأداة. ولكن الإنسان ليعجب أشد العجب أن يرى المدرس أقل الناس إنتاجاً وأبعدهم عن معترك التأليف وأقصاهم عن مجال البحث. فماذا، يا ترى، زهده في هذه اللذة الفكرية وإن فيها لحياة للقلب وشحذاً للذهن وصقلاً للعقل؟ أما أنا فلا أرى ما يدفعه عن ميدان الفكر إلا ما يعاني من عنت شديد في العمل وما يقاسي من إرهاق عنيف في المدرسة، فهو لا يكاد يخلص من الدرس إلا ليندس بين أكوام من الكراسات تستحثه وترهقه وتشغل باله وتقتل وقته. وهكذا يبدد عمره في إعداد الدرس ويفني عقله في تصحيح الكراسات، ثم لا ينفلت من هذا كله إلا ليلقى بنفسه في خضم الدروس الخاصة وما به لهفة إليها، أو إلى مضطرب التأليف المدرسي وما به رغبة إليه. ولكنها حاجات العيش ودوافع الحياة وطلبات الدار والولد تقذف به في غير هوادة ولا لين إلى هذا السبيل عله يجد القوت الكريم واللباس الشريف والمسكن اللائق. ولشد ما يدهش المرء حين يرى جيشاً لجباً من المدرسين المثقفين - يربو على سبعة آلاف - فلا يرى فيهم من يحن إلى البحث العلمي أو من يصبو إلى التأليف الأدبي، اللهم إلا فئة قليلة لا تتجاوز العشرة! فالمدرس - إذن - رجل يموج بين الإرهاق والإملاق، فإن عكف عن الحياة العقلية أو حمل نفسه على الناحية الأدبية أخرج للناس شيئاً فيه روح نفس المضطرب وفيه سمات حياته المزعزعة.
وأشهد أن صاحب كتاب (أبو العتاهية) رجل من الفئة القليلة، صبر على الجهد ورضى بالمشقة ليخرج بحثاً أدبياً فيه الاستقصاء والجهد والاستنتاج.
لم يكن أبو العتاهية شاعراً يتحدث عن خلجات قلبه ولا مفكراً ينطق بعقله، وأني له أن(853/50)
يفعل وهو (رجل فقير نشأ في بيت متواضع وصنع الجرار مع أبيه، فإذا نضجت الجرار حملها أبو العتاهية، أو حملها أكَّار معه على ظهره، وسار بين الحواري والأزقة في مدينة الكوفة يبيع جراره ويساهم في ثمنها، فإذا ألهبت الشمس قفاه ومس حر التراب أخمص قدميه وبلغ منه التعب مبلغه - أجاءه ما به إلى ضل حائط، فيحط حمله، ويجلس مسنداً إلى الحائط ظهره، برماً بالدنيا متسخطاً عليها فيلتف حوله الصبيان يعبثون به ويعبث بهم ويتبسط معهم في الحديث. . .).
فهو لم يكن ذا علم وثقافة، ولم يكن ذا عقل وحصافة، فعاش حتى آخر أيامه فجاً لم تستكمل أداته ولا بلغ ذروة الشعر ولا جاري شعراء عصره - عصر الإبداع والازدهار - فتخلف عن الركب وانبهرت أنفاسه ولكنه أتخذ إلى الشهرة سبيلاً هيناً سهلاً، فانحط على كبير من بني معن يقذع له في القول ويفحش في الهجاء، في غير ذنب ولا جريرة ولكن الشاعر - في رأيي - كان يحس في قرارة نفسه ضعة الشأن وحقارة المنبت وصعوبة المرتقى فتأرث قلبه غيظاً وحقداً، فوجد في الهجاء متنفساً يطفئ شرَّة غيظه، ووجد في هجاء عبد الله بن معن - وهو رجل عظيم من بيت كبير - طريقاً يعلو به إلى سماء الشهرة في سهولة ويسر. والهجاء فن من الشعر لا يحتاج إلى كياسة ولا يتطلب لباقة. وهكذا طار صيت الشاعر في الكوفة - أول الأمر - وامتد أفقه حين ضربه عبد الله بن معن مائة سوط جزاء ما أفحش في القول.
وفي رأي العقل أن شاعرنا كان يتصنع في كل شيء: في الهجاء وفي الغزل وفي التصوف جميعاً. يتصنع الهجاء وما به مقت ويتصنع الغزل وما به هوى ويتصنع التصوف وما به زهد.
فهو حين شبب بجارية المهدي (عتبة) كان - في رأيي - لا يبتغي من ورائها إلا أن تكون وسيلة إلى بيت الخلافة، يرتفع بها شأنه ويزكو مكانه، على حين لم تكن به لوعة ولا كان به شوق. وإن القارئ ليعجب حين يعجزه أن يجد في نسيبه بيتاً واحداً ينبض بعاطف جياشة أو سطراً يخفق بحب عميق. وليس أدل على ما أزعم من قوله في عتبة وهي من أحب وتدله في حبها واصطفاها بشعره وخصها - وحدها - بقلبه.
وقد أتعب الله نفسي بها ... وأتعب باللوم عذالها(853/51)
فتعبير الشاعر عن نوازع قلبه بكلمة (أتعب) تعبير تافه لا ينطوي على شاعرية ولا سمو. فالكلمة مضطربة قلقة، فقيل النطق وضيعة المعنى لا تتحدث عن صبابة وهوى ولا تكشف عن لوعة الحنين ولا تهتز بلذعة الشوق. وفيها - فوق ذلك - معاني الضيق والملل.
ومما يدل على أنه كان في غزله عابثاً لا يعبأ بمن أحب ما جاء في ص93 من الكتاب حين أنساه كلبه للمال ذكر عتبة فتقول (لو كان عاشقاً - كما يزعم - لم يكن يختلف منذ حول في التميز بين الدراهم والدنانير وقد عرض عن ذكر صفحاً).
لقد أشتهر أبو العتاهية بين العامة بالزهد والتقشف، أما أنا فحين أتحدث عن زهده فلا معدي لي عن أن أستنير برأي الحديث الشريف الذي يقول (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبداً، ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداَ).
وينقل المؤلف في ص51 سطر13 خبراً يدل على أن أبا نواس كان يجل أبا العتاهية ويعظمه لزهده وتقشفه، فلما سأله سائل (لم أجللته هذا الإجلال؟) قال (ويحك! لا تغفل، فو الله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي). وهذا كلام عجيب إ خاله لا يصدر عن شاعر عبقري فذ مثل أبي نواس تتألق روحه بومضات سماوية تزري بكل ما نظم أبو العتاهية في الزهد. ثم يحس المؤلف كذب الحديث فيقول في ص52 سطر4 (وأنا من اللذين يرجحون أن زهد أبي العتاهية زهد مفتعل لا يعبر عما في نفسه ولا يصور دخيلتها ولم نطرق فيه إلا المعاني العامة التي يتحدث الناس بها، وإلا فما بال رجل هذا شعره يحرص على المال كل الحرص ويسلك مختلف المسالك لجمعه.)
هذا ولقد رأيت في الكتاب أثر الجهد والصبر وطول البحث والاستقراء مما يدفعني إلى أن أقدر مجهود الأستاذ المؤلف حق قدره وأشكره على أن أخرج لنا صورة حية ناطقة من شاعر لا يعرف أكثر الناس عنه إلا شذرات لا تغني ولا تسمن.
كامل محمود حبيب(853/52)
أعلام من الشرق والغرب
تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن
بقلم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
من واجب كل أمة تريد أن تستكمل نهضتها، وترفع من شأنها، أن تعرف ماضيها حق المعرفة. فليست القومية الوطنية إلا التاريخ المتجدد مع الزمان. ولست أدري كيف نريد أن نعتز بمصريتنا دون أن نعرف دقائق تاريخنا. وقد شاءت إرادة المستعمر أن يسدل بيننا وبين تاريخنا ستاراً كشيفاً من النسيان يحجبنا عنه حتى لا نتعلق بأذيال الوطنية ولا نطالب بالتخلص من نير الاستعمار فلم يكن يسمح بدراسة التاريخ القومي إلى بمقدار. حتى إذا قامت مصر قومتها ظهر كثير من المفكرين والكتاب يحاولون تدوين ذلك التاريخ القومي الذي يصل بيننا وبين ماضينا سواءٍ في ذلك الماضي البعيد أو القريب. وأرخ لهذا الماضي القريب الراقص في الحركة القومية ولكنه عنى قبل كل شيء بالجانب السياسي ولو أنه لم يغفل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأدبية حتى لقد أفرد في كتابه فصولاً قصارا ترجم فيها لبعض أعلام مصر الحديثة مثل رفاعة رافع الطهطاوي من البارزين في سماء النهضة المصرية.
ويحتاج التحقيق التام للحركة الأدبية في القرن التاسع عشر إلى مجهودات كثيرة ينقطع فيها الباحثون إلى التاريخ لرجال الفكر والأدب في القرن الماضي.
وقد دفعت وطنية صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن الشاعر الأديب إلى رسم صورة محققة عن بعض أعلامنا يجد الباحث عنهم العناء الشديد في التعرف إليهم. فنفض عنهم غبار النسيان وجلا للقراء صفحة مطوية من تاريخ مصر الحديث.
فهو يحدثنا عن مصطفى مختار بك أول وزير للمعارف المصرية الذي أرسله محمد علي باش مع البعثة المصرية إلى فرنسا، وهي تلك البعثة التي كان رفاعة الطهطاوي إماماً لها.
ويحدثنا بعد ذلك عن شاعر الخديوي الأول الشيخ محمد شهاب الدين وهو كما يحدثنا صاحب هذا الكتاب (الشاعر الرسمي لمصر الحديثة). ولم يكن هذا الشيخ ربيب الأزهر وإنما كان وزاناً صغيراً في أسواق البيع والشراء. وكأن الوزن المادي في الأسواق النافقة والكاسدة كان تمهيداً للوزن المعنوي في سوق القريض والقصيد فقد أصبح هذا الوزان(853/53)
شاعراً رسمياً للخديوي يزن القصيد ويتفنى الناس بشعره.
على أن شعر الشيخ لم يكن جيداً وقد قدم الكاتب نموذجاً لشعره وحلله إلى أن انتهى بهذا الحكم الصادق وهو (أننا نكلف رجال ذلك العصر شططاً إذا طلبنا منهم أن يكونوا أجود مما وصلوا إلينا فقد كونته بيئتهم ثم مهدو السبيل بعد ذلك للبارودي الذي اجتمعت له ولعصره أسباب الأحياء في الشعر العربي).
ويحدثنا بعد ذلك عن عالم طريف مغمور هو الشيخ محمد عياد الطنطاوي الذي سافر من مصر إلى بتروجراد عاصمة روسيا يعلم اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية فكان له أثر كبير في المستشرقين من الروس. ولقد لقي الكاتب عناء شديداً في الترجمة لهذا الشيخ فأخذ يجمع سطراً من هنا وإشارة من هناك ويتصل اتصالاً شخصياً بمن يظن فيه شبهة معرفة بتاريخ ذلك الرجل حتى أخبره البروفيسور بولوتسكي بالجامعة العبرية أن للشيخ مؤلفاً بعنوان تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا، وأن الكتاب كخطوط يوجد منه نسخة في أسطنبول. ولا ريب في أن مثل هذا الكتاب طريف فريد في بابه فضلاً عن قيمته التاريخية الكبيرة، فهو يصور الحياة في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر بقلم مصري أزهري، فهل نطمع في قيام أحد علمائنا باجتلاب هذا المخطوط وطبعه؟
وينتقل بنا الأستاذ عبد الغني بعد ذلك إلى الحديث عن شاعر مصري، وقف شعره على أشراف الحجاز يسمى محمود صفوة الساعاتي، سافر للحج فاتصل بالشريف محمد بن عون أمير مكة فقربه إليه وصحبه في حروبه مع أمراء نجد، فصور الساعاتي هذه الحروب شعراً يذكرنا كما يقول عبد الغني بشعر المعارك عند المتنبي في القديم وعند البارودي في الحديث. وذلك مثل قوله في مدح الشريف أبن عون:
إذا تألق برق السيف في يده ... أبصرت غيث دم الأبطال منسفحاً
مقوم كل معوج بصارمه ... فكل خصم لهذا صار منطرحاً
وقد طاف الساعاتي بكثير من أغراض الشعر فمدح وطلب وعتب ورثى، فلم يخرج في ذلك عن مألوف القدماء.
وكنا مود أن يحدثنا الأستاذ عبد الغني عن الشاعر السيد علي الدرويش بعد أن حدثنا عن شهاب الدين مباشرة لأنهما من الذين أختصهما عباس الأول بمجلسه حتى كان كل منهما(853/54)
يلقب بشاعر عباس الأول. وقد ترجم له ترجمة جيد درس فيها شعره محللاً أغراضه وبين الخصومة التي كان لا بد أن تقع بينه وبين شهاب الدين حتى بلغ من هجاء الدرويش لخصمه أن يقول له في قصيدة يهجوه فيها:
عاش دهراً وجهله في ازدياد ... ليته بعد لم يكن ليعيشا.
وينقلنا المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن علم من أعلام الأدب في مصر الحديثة كان له أثر عظيم وفضل كبير على نهضة الأدب في مصر هو الشيخ حسين المرصفي الذي ظل يدرس في الأزهر إلى أن كانت نظارة على مبارك فعهد إليه بالتدريس في دار العلوم وكان يحضر عليه كثير من أعلام العصر منهم على مبارك نفسه. وقد أختط في تدريس الأدب العربي والبلاغة منهجاً جديداً ظهره في كتابه المسمى بالوسيلة الأدبية قد وصفه على مبارك برقة المزاج ووحدة الذهن وشدة الحذق.
ونجد علماً آخر مجهولاً ولكنه أثر في الحياة الأدبية عن طريق الصحافة هو حسن حسني الطوبراني باشا والذي دعا المؤلف أن يترجم له هو سؤال سائل في مجلة الرسالة أن يتفضل أحد الأدباء برواية قصة الشاعر المغمور. فأفتتح الأستاذ عبد الغني ترجمته بعجبه أن ينسى أديب عربي مشهور وصحافي ذائع الصيت، وشاعر قوي العبارة، ولما يمض على وفاته نصف قرن كامل؛ فكيف إذا خب المطي به عشرات القرون؟
ولد الطوبراني في مصر ولكنه تركى تنقل من بلد إلى بلد حتى قال عن نفسه:
شرق النسر وغرب ... وتترك وتعرب
ولئن أطري وأطرب ... فهو نصاح مجرب
وهو إن أعرب أغرب ... وهو إن أعجم أعرب
وحرر في صحف تركية وأخرى عربية كانت تصدر في القسطنطينية وكانت تغلب عليه الروح الإسلامية ونزعة الإصلاح وله ديوان شعر ولكنه غير جيد. وقد درسه المؤلف دراسة مستفيضة فتكلم عن أغراضه وعن أسلوبه وعن مآخذ عابها في شعره.
ثم نجد فصلاً طريفاً يحدثنا فيه عبد الغني عن شوقي وحافظ بين الكتب وهو فصل طريف لأننا على وثوق معرفتنا بشوقي وقراءتنا لديوانه وتمثيلياته وقصصه نجهل عنه بعض تأليفه مما أخرجه في صدر شبابه؛ فأسدل عليه ستار النسيان فقد كتب شوقي رواية ظهرت(853/55)
في 1897 تسمى عذراء الهند ترجع حوادثها إلى زمن رمسيس الثاني وهي أول محاولة لشوقي في معالجة الفن السروائي ولكنها لم تنجح. وظهرت له بعد عامين رواية نشرتها مجلة الموسوعات تسمى لادياس قصد منها شوقي أن يصور حالة مصر بعد عهد ابسماتيك الثاني، وقد كتبها نثراً ولكنه نثر مطبوع بطابع العصر يمتاز بتكلف السجع وفيها يقول: (وكانت لادياس فتنة الناس، بالبذر الطالع في الفصن المياس. . .) ولقد تحرر شوقي من السجع بعد ذلك كما نرى في رواية أميرة الأندلس.
ولشوقي رواية ثالثة هي ورقة الآس.
ولا أحب أن أمضي في هذا التلخيص إلى نهاية الكتاب خشية الإطالة، فنحن بحد بعد ذلك ترجمة دقيقة للشيخ محمد شاكر الذي كان وكيلاً للأزهر في مطلع القرن العشرين وهو والد صديقنا الشيخ أحمد شاكر الذي ينشر الآن مسند الإمام أحمد بن حنبل.
ويحدثنا عن أدباء عرفناهم واتصلنا بهم مثل إسماعيل أدهم وفخري أبو السعود، وإسعاف النشاشبي، وأنطون الجميل.
فأنت ترى أن الكتاب قد جمع أعلاماً مختلفين اختلافاً شديداً ولكن تربطهم رابطة قويا هي رابطة الأدب في مصر الحديثة.
ويبدوا أن نصيب الشعراء أوفر ولا غرو فصاحب الكتاب شاعر تستجيب نفسه إلى الشعراء فتجمعه وإياهم صلة الصناعة، ولذلك كانت دراسته لهؤلاء الشعراء دراسة الحاذق البصير والناقد القصير.
ولقد لفتني ما ذكره عن شوقي من أن نثره يكاد يكون شعراً ففيها هذه الموسيقى التي تطرب لها الآذان ولذلك حاول أن يرد بعض نثره إلى الأوزان الشعرية مثل قوله في الوطن.
ومراد الرزق ومطلبه ... وطريق المجد ومركبه
فهو بيت من بحر المتدارك فقلت في بالي: وأنا اقرأ أسلوب عبد الغني وأحسن فيه بهذه الموسيقى التي ترتاح إليها النفس أن ذلك أثر من آثار صناعة الشعر وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.
أحمد فؤاد الأهواني(853/56)
العدد 854 - بتاريخ: 14 - 11 - 1949(/)
(يظهر أن الانتخاب قريب!)
كذلك قال الحاج على وشفتاه الغليظتان تنفرجان عن ابتسامة لا يتم بدونها معنى الجملة، وعيناه الحادتان تتبعان مركبة كانت تدرج في طريقها إلى القرية. فقال له المأذون وهو يربت على كتفه: صح نومك! لقد أذاع الراديو وأعلنت الصحف حل مجلس النواب وتحديد يوم الانتخاب؛ فالحكومة تتجهز، والأحزاب تتحفز، والمستنابون يغدون ويروحون، من الدائرة إلى الحزب، ومن الحزب إلى الدائرة، والعرق يتصبب من الجباه، والوعود تتناثر من الشفاه، والنقود تشرأب من المحافظ، و. . . فقاطعه الحاج علي بقوله: حسبك يا شيخ إبراهيم! إنك لتعلم أني لا أسمع الإذاعة ولا أقرأ الصحف ولا أغشى المجالس، ولولا مقدم الأستاذ لما تركت حقلي. إنما أعرف اقتراب يوم الانتخاب بظهور هذه المركبة. أن قدومها على القرية أشبه بقدوم بغلة العشر على الموعود. أنها تحمل إلينا مع الباشا التساهل في الحساب، والتسامح في المتأخر، والاستماع إلى كل شكوى، والاستجابة لكل طلب، والمجاملة في كل حادث، والمواساة في كل خطب؛ حتى إذا انقضى يوم الانتخاب، ودخل الباشا مجلس النواب، أشاح بوجهه ونأى بجانبه، وسلط على وعوده الحلوة مطال (ناظره) وضلال (كاتبه). فإذا لقيناه عبس وبسر، وإذا سألناه دعَّ وزجر، وإذا أسترحمناه (سخط ونطر)؛ ثم لا نسمع بعد ذلك انه قال كلمة في المجلس، أو أبدى رغبة إلى الحكومة، أو أدى خدمة إلى الفلاح، أو أسدى منة إلى الوطن! فحل المجلس أنفع لنا من عقده، وترشيح النائب أجدى علينا من نيابته.
فقلت له: وما الذي يحملكم على انتخابه وقد علمتم بالتجربة انه يرضيكم شهرا ويغضبكم دهراً؟ فقال: يحملنا على انتخابه انه مالك ونحن مستأجرون، وليس بين المالك والمستأجر قانون غير قانون العقد؛ والعقد تختمه على بياض وهو الذي يكتبه ويحتفظ به. فإذا غلَّبنا إرادتنا على إرادته، وآثرنا مصلحة البلد على مصلحته، اشتط في أجرة الارض، وتعسف في تسوية الحساب، وتحكم في اقتضاء الدين، فلا يكون لنا غير الاحتكام، ولكن إلى من؟ أو المهاجرة، ولكن إلى أين؟
فقلت له: ذلك ادعى إلى أن تنتخبوا غيره ممن يعلمون أموركم، ويشعرون شعوركم؛ حتى إذا تقدمت الحكومة باقتراح قانون بخفض الإيجار، أو برفع الأجر، أو يحدد الملكية، أو يزيد الضريبة، كان مع الاقتراح لا عليه. ومتى سنت هذه القوانين ضمنت الحماية(854/1)
للمستأجر فلا يُظلم، وكفلت الرعاية للأجير فلا يُستغل. أما أن تعرفوا نائبكم هذه المعرفة، ثم تنتخبوه على هذه الصفة، فذلك ما لا يسيغه عقل ولا تسوغه مصلحة.
فقال الحاج: ألحق أننا لا نعرف ما هو البرلمان , لا ماذا يصنع النواب فيه. كل ما نعلمه أنها رجة تعتاد البلاد من حين إلى حين، فينشط مؤذنو القرى ومعلموها في الدعوة إلى فلان أو فلان، ثم تقوم المآدب والخطاب هنا، وتنشب المعارك والشتائم هناك! ثم لا يكون الانتخاب آخر الأمر إلا بإرشاد المأمور، أو إكراه المالك، أو إيحاء العمدة، أو إغراء الجنيه!
فقلت في نفسي: ذلك هو الواقع. ومتى عرفت الأمة أن لها السلطان، وأن سلطانها معناه البرلمان، علمت الناخب كيف ينتخب، وأرشدت النائب كيف ينوب!
ابن عبد الملك(854/2)
صور من الحياة:
كبرياء. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
وقف الفتى أمام أبيه المسجى في كفن ينظر وإن نفسه لتضطرم بعوامل الأسى على أن فقد أباه أحوج ما يكون إليه، فهو ما يزال طالباً في المدرسة الثانوية لم ينهل من العلم إلا صبابة لا تغني من جهل ولا تعصم من طيش. وإن قلبه ليضطرب بخلجات الفرح، فهو أصبح - في رأي نفسه - ثرياً يملك آلاف الجنيهات وعشرات الأفدنة وقصراً مشيداً وسط حديقة وارفة الظلال دانية القطوف، فغداً ينعم بالمال ويسعد بالراحة ويلذ بالحرية. وثارت فيه نوازع الأسى والراحة في وقت معاً، فانهمرت عبرات عينيه على حين كان ينضم قلبه على نشوة جارفة من الفرح، فلطالما عانى الضيق والحاجة ولطالما أمسك أبوه عنه المال شحاً منه وكزازة. ثم سكنت خواطره حين بهره بريق الذهب وهو يتألق بين يديه فيجذب روحه ويصرفه عن أن يلقي بالاً إلى من ناح أو ندب.
وخلص الفتى من عسر الدرس إلى يسر الحقل، ومن ضيق المدرسة إلى سعة الحياة، ومن ذل الاستذكار إلى خفض العيش. وأحس - على حين فجأة - بأنه انفلت من قيود أبيه الثقال فأصبح رب نفسه يطير ويقع فلا يقع إلاّ على لذة أو متعة، وأخوه الأكبر يرى بعين الرجل دفعات العبث توشك أن تعصف بأخيه فتستلبه من صحته وماله في وقت معاً. وآذاه أن يقع الفتى بين مخالب رفاق السوء يبعثرون ماله وشبابه، فأراده على أن يتزوج من ابنة خاله عسى أن ينزع عنه طيش نفسه أو أن يفزعه عن صحاب السوء.
ومضت السنون فإذا الفتى زوج وأب، غير انه لم يرتدع عن غي ولا أقلع عن سفاهة. وأنى له أن يفعل وإن الحنين إلى اللهو الوضيع ليعاوده - بين الفينة والفينة - فيطلق لنفسه العنان فيندفع - في غير وعي - إلى الخمر والقمار والنساء جميعاً، ومن حواليه من شرذمة من السفلة يزينون له حياة الفسق والفجور، فيلقي إليهم السلم في غير عقل ولا تفكير.
وطمَّت لذاذات الطيش على عقل الفتى فما أفاق من نشوته إلا ليرى يده صفراً من الذهب والفضة معاً. لقد ابتلعت أسباب العبث والطيش كل ما ورثه من مال إلا الإفدنة وقد أهملتها(854/3)
يد الفلاح فأصابها التلف والبوار، وإلا القصر وقد ضاقت جنباته بالفحش والمجون. . . القصر الذي يمرح فيه صغاره وهم ملائكة الأرض ينشرون عليها روح الجنة وطهارة السماء. ووقف الأب - ذات مرة - ينظر إلى بنيه وهم يتدافعون تحت ظلال شجرة في مرح لم ترهقه نوازع العيش ولا دنسته شواغل الحياة، فأصابه الضيق والأسى لأنه يوشك أن يلقي بهم - بحماقته وجهله - إلى هوة من الشقاء والذل.
ووجد الفتى مسَّ الحاجة فانطلق إلى أخيه الأكبر يستعينه على أمره ريثما يجمع غلات أرضه. وضحك الأخ الأكبر في شماتة حين وجد الفرصة سانحة فانحط على أخيه يقذع له في القول ويقسو عليه في اللوم ويعنف في الحديث، ثم قال (ورفاقك. . . رفاق السوء؟ إلا تنظر أيهم يستطيع أن يسد الثغرة في الشدة، أو يرأب الصدع عند اليأس، بعد إذ استنزفوا كل وفرك في التافه الوضيع؟ أما أنا فلا أستطيع لأن لي أولادا هم أحق منك بمالي وجهدي) فانفلت الفتى من لدن أخيه وهو يتعثر في الضيق ويجرر أذيال الخيبة. وغاظه أن يلقى من أخيه الأكبر الاحتقار والمهانة، وأن يحس فيه القسوة والعنف، وأن يخرج من داره تصفعه لاذعات الإخفاق والحرمان، فانطوى على أشجانه يدير الرأي ويقلب الفكرة: لقد أفاق من سكرات اللذة فما وجد صحابه، وصحا من غفوة النشوة فما وجد ماله. ونازعته نفسه إلى أن يستعين ببعض أهله ليصلح من شأنه أو يقيم من عوجعه، ولكن كلمات أخيه كانت ما تبرح ترن في مسمعيه فتدفعه عن أن ينشر ضعفه على عيني واحد من الناس خشية أن يناله الأذى أو أن تصيبه المهانة فأمسك على مضض وهم. وغبر ساعات يضطرب في لجة من الهواجس لا يهدأ ولا يستقر ولا يهتدي إلى حيلة ثم انفرجت ظلمات الحيرة عن قبس من هدى فعقد العزم على رأي.
وعلى حين غفلة من أهله انطلق إلى الإسكندرية.
وألقى الفتى بنفسه وأفدنته في خضم المضاربات المالية وهو يرى الهاوية أمامه تكاد تبتلعه فيقبل عليها في غير فزع ولا تردد. لقد سلبه اليأس الأناة والصبر يوم أن تراءت له فرجات الحياة تنسد أمام ناظريه، يوم أن لمس الجفوة والغلظة في حديث أخيه الأكبر وقد كان يطمع أن يجد فيه العون والساعد، فعزم على أن يختار لنفسه، وما في المضاربات المالية إلا الثراء العريض أو المتربة القاسية.(854/4)
وهناك في الإسكندرية، ابتسمت الحياة للفتى وتألق نجمه وسما حظه، فأصاب من الثراء والغنى في سنة واحدة ما يعجز غيره عن أن يناله في سنوات، فطابت نفسه وهدأت جائشته. ثم أخذ الحنين يعاوده إلى القرية، إلى الأهل، إلى الرفاق! فطار إلى القرية ليعيش على نمط الصالحين يسكن إلى الراحة ويطمئن إلى الهدوء وينعم بالسعادة في الأسرة بين الزوجة والولد والأهل، لا تحدثه نفسه بنزوات العبث وقد قاسى مغبته، ولا يدفعه قلبه إلى الطيش وقد ذاق مرارته.
وتلقاه أخوه الأكبر - أول ما جاء إلى القرية - في بشر وسرور! يعانقه في شوق: ويقبله في حرارة، ويحدثه في شغف، ويستغفره عن زلته بقوله (لا تؤاخذني - يا أخي - بما فعلت ولا ترهقني من أمري عسراً، فما كان يخيل إلي أن كلماتي وهي هينة لينة ستفزعك عن دارك وأهلك ووطنك، وما كنت أطمع بحديثي إلا أن أردك عن هاوية توشك أن تتردى في قرارها بين رفاق لا كرم فيهم ولا شهامة) وأغضى الفتى عن حديث أخيه الأكبر فعاشا معا في رضى وطمأنينة.
ترى ماذا دهى الرجل الذي طرد أخاه الأصغر من داره أحوج ما يكون إليه فهو يقبل عليه في حب وشغف؟ هل استحالت حاله وانقلبت خواطره فندم على زلته فجاء يستغفر أخاه الأصغر وقد فات الأوان؟ أم هو قد أكبر فيه الهمة والنشاط حين عاد منصوراً مظفراً؟ أم هو المال يبهر العقول الضعيفة ويستلب الأحلام الوضيعة فتجلّه وتحترمه لأنه هو. . . هو المال؟
وانطوت السنون فإذا الفتى الطائش رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرم والشهامة، وفيه المروءة والسخاء. وإذا صغاره فتيان ملء البصر والسمع والقلب جميعاً تتوثب فيهم فوره الحياة والقوة وتتألق فيهم لمعان الذكاء والعقل، وإذا ماله يربو ويزداد فيكفل لهم جميعاً الجاه والسلطان ويحبوهم بالرفاهية والخفض.
ودأب الرجل على أن يختلس في كل سنة شهراً يقضيه في الإسكندرية، يفر - كزعمه - من مضطرب الحياة وشاغلها إلى هدوء الوحدة وراحتها. ولكنه - في الحق - كان يهرع إلى البورصة ليشبع رغبة نفسه في المضاربات المالية، ما يستطيع أن يصرف نفسه عنها بعد أن ذاق حلاوة الكسب ولذة الثراء.(854/5)
وهو يرجع إلى أهله في القرية - كل مرة - طلق المحيه بادي البشر، تكسوه ثياب الصحة والعافية، وترتسم عليه علامات النشاط والقوة! لا يشغله الربح ولا تؤرّقه الخسارة.
ما لهذا الرجل يفزع من الإسكندرية - في هذه السنة - بعد أيام قلائل ليرجع إلى القرية مشتت الذهن مقطب الجبين، ينطوي على نفسه في صمت وسكون، لا يطمئن إلى رفيق ولا يهدأ إلى صاحب ولا يتحدث إلى صديق؟ وتلقفته الألسن والأبصار، وحامت حوله الشائعات: ماذا كان هناك في الإسكندرية؟ لعل حادثة عصفت بآثار المرح في نفسه، أو لعل نكبة نزلت فأطاحت بالبشر في قلبه! وحار الناس في أمره وهو في صمت، ومن حوله رجال لا يجد واحد الجرأة على أن يزيح الستار عن خبيئة نفسه.
الآن برح الخفاء، فهذا هو المحضر جاء ليوقع الحجز على كل ما يملك الرجل إلا صبابة لا تشفي غلة ولا تنقع صدى، حتى القصر الذي يعتز به ويوليه كل عنايته واهتمامه. وارتسمت على الشفاه ابتسامة التشفي والشماتة، ولاكت الألسن كلمات السخرية والاستهزاء، وقال واحد من الناس (من عسى أن يكون المحظوظ الذي يشتري أملاك الرجل الثري؟) وانبرى الأخ الأكبر يساوم الرجل لينقذه من براثن الدين ويستولي هو على أطيانه وقصره فلم يجد الرجل بداً من أن يلقي السلم فباع كل أملاكه بالثمن البخس.
وأرغمت الفاقة ربيب العز والثراء أن يسكن دارا وضيعة في ناحية قذرة من القرية، وأن يعمل طول يومه ليكسب قوته وقوت عياله على حين أغلق الأخ الأكبر من دونه باب داره، وأن ينزع أبناؤه من المدرسة ليجد فيهم من يشد أزره ويعينه على لأواء الحياة وشظف العيش. ولكن الابن الأكبر أبى أن يخضع لنزوة أبيه فراح يناقشه في حدة، وأراد أن ينطلق إلى عمه يرجوه أن يعينه على إتمام دراسته لقاء دين يسدده بعد أن يتخرج في الجامعة. ورفض الأب أن يستسلم لرأي ابنه الشاب. . . رفض أن يستخذى في إصرار وعناد. واحتدم النقاش بين الأب وابنه فثارت ثائرة الأب فلطم ابنه لطمة طار لها صواب الشاب فما شعر إلا وهو يهوي على خد أبيه بلطمة قاسية ثم يطير إلى عمه يستجديه.
وطفرت من عين الأب المنكود عبرة حرّى تحمل كل معاني الذل والشقاء.
وفي الصباح فزع الناس إلى الدار الوضيعة. . . دار ربيب العز والثراء ليروا الرجل ملقى في ناحية ينزف دمه آخر قطرة من الترفع، تنهمر من شريان في يده مزقته كبرياء لم(854/6)
تتصاغر من ذل الفاقة، ولا تطامنت أمام ذل اللطمة من ابن عاق. . .
كامل محمود حبيب(854/7)
عالمية الأدب العربي
للأستاذ محمد وهبي
لئن كنا نفهم الأدب على انه التعبير الصادق للنفس البشرية، وتصوير الحياة من جميع وجوهها النفسية والفكرية والاجتماعية بواسطة الألفاظ، فإننا نستطيع أن نجد بذلك التفسير العميق لخلود الآداب على وجه العموم. فما دامت النفس الإنسانية هي هي في جوهرها على مر الأزمنة والعصور، فإنها تدأب على تمجيد صورها الفنية الرائعة التي رسمتها ريشة الأدباء والشعراء على اختلاف نحلهم وأوطانهم. وهي تمجد هذه الصور لأنها تظل تفهمها مهما تقدم بها الزمن.
على أن الخلود ليس الصفة الوحيدة التي تتمتع بها الآداب! فهناك صفة العالمية، أو قل طابع الشمول الإنساني الذي لم نجده في جميع الآداب، وإنما امتاز به بعضها فقط.
لقد يخلد أدب في أبناء القوم الذين أنتجوه، لأنه يحمل بين طياته صورة لحياتهم الخاصة، وغذاء معينا لذوقهم المحلي، ولكنه لا يستطيع أن يمتد إلى ذوق سواهم من البشر، ولا أن يصل بكامل روحه إلى إفهام غيرهم من سكان المعمورة إذا ترجم لهؤلاء لأنهم لا يجدون فيه ما يتجاوب مع نفسياتهم، ولا ما يعبر عن أحوالهم وأفكارهم التي قد يشاركهم فيها جميع البشر إنه أدب محلي شخصي، ينطوي على فردية متقلصة ضيقة فقيرة، تجهل صفة الإنسانية العامة، الغنيمة بمعانيها الحية. ولهذا نجد آداباً كثيرة جمدت ضمن البيئات التي نشأت فيها لاحتفاظها بصفة الفردية الضيقة، ثم اندثرت مع الحضارات التي رافقتها، حتى أصبحت لا تذكر إلا على سبيل التأريخ لحياة الأمم التي أنتجتها! بينما نرى آداباً خلدت وانتشرت في أكثر اللغات، وظلت حية مجدة في كل صقع وكل قطر، لأنها تتمتع بصفة العالمية الواسعة. . .
والأدب العربي من زمرة الآداب العالمية التي لها صفة الشمول الإنساني. . . نقول هذا ونؤكده، ونحن نعلم تمام العلم أن من المستشرقين من أنكروه قطعاً، وحجتهم خلو هذا الأدب من المسرحيات التمثيلية والملاحم الضخمة، واقتصاره على وصف الأحوال والبيئات الخاصة لأعلامه. ولا يجد الواحد منا كبير عناء في الرد على مثل هذا الادعاء المنهار الأساس. فالأدب العربي يحتوي على عناصر إنسانية عدة، تنوب عن الفن المسرحي،(854/8)
وتكاد تفوقه في الأهمية كما سنرى. وقبل أن ننفذ إلى بحث فنون هذا الأدب، أو قل عناصره التي تجلى بها، لنأخذ لغته التي تشكل قاعدته الاولى، وعصبه الأساسي.
اللغة العربية لغة حية ما في ذلك إشكال، وهي إلى هذا غزيرة مرنة قد برهنت خلال العصور على قدرتها على التسرب إلى مختلف الشعوب، والتأثير في كثير من اللغات. والأدلة على هذا كثيرة: فمع أن الفاتحين الذين ظهروا في الشرق قبل العرب لم يستطيعوا أن يفرضوا على الأمم المغلوبة لغاتهم، فقد تمكن العرب من فرض لغتهم عليهم. ولما صارت اللغة العربية عامة في جميع البلاد التي استولوا عليها، حلت محل ما كان فيها من اللغات: كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية وغيرها. وقد كان للغة العرب مثل ذلك الحظ حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، بل لقد ظلت اللغة العربية في تلك البلاد لغة أهل العلم والأدب، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية ولم تؤلف كتب الكلام والعلوم الأخرى في بلاد فارس بغير لغة العرب، وإلى اليوم لا يزال أمر اللغة العربية في ذلك الجزء من آسيا كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى بأوربا.
وقد كان للغة العربية فوق هذا أثر عميق في اللغات اللاتينية ذاتها، حتى أن لمستشرقين (دوزي) و (أنجلْمن) وضعا معجما في الكلمات الأسبانية والبرتغالية المشتقة من اللغة العربية.
وحتى اللغة الفرنسية أيضاً لم تنج من تأثير اللغة العربية التي أعطتها مثلما أعطت الإيطاليين اصطلاحات كثيرة، وخصوصا الاصطلاحات البحرية. ويذهب الدكتور (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) إلى القول بأن الأوربيين اقتبسوا فن القافية في الشعر من العرب، وأن الشعر الأسباني والشعر البروفنسي مدينان في ظهورهما لشعراء عرب الأندلس، ويؤيده في هذا عدة مستشرقين.
لسنا في حاجة إلى الاسترسال في التدليل على خاصة المرونة في اللغة العربية، تلك الخاصة التي جعلت منها لغة عالمية عظيمة الانتشار، فكان لها الأثر الأكبر في نقل الأدب العربي إلى أقطار كثيرة، وتزويد روحه بعناصر شتى ومواد غزيرة في بلاد متنوعة، مما جعله بالتالي أدباً عالمياً قريباً إلى نفس الإنسان في أي مكان. ولا أدل على ما نذهب إليه من كثرة الترجمات الأدبية من اللغة العربية إلى اللغة الأجنبية، ورواج هذه الترجمات(854/9)
وتعدد طبعاتها. . .
وإذا ما نظرنا في الأدب العربي، فأول ما يسترعي انتباهنا في روحه ذلك الاتصال المباشر الدقيق بأعماق النفس الإنسانية على وجه العموم، بحيث أنه وصفها وحللها وتواجد معها، ونبض بمعانيها على اختلافها وتنوعها من سمو وضعة، ومن قوة وضعف. ويبرز أمامنا في هذا المعنى شعر عمر بن أبي ربيعة الذي عبر أصدق تعبير عن نفسية الإنسان في غرامه وفي فهمه لعقلية النساء. وإن أنس لا أنس داليته المشهورة التي قالها في محبوبته (هند)، حيث يصور لنا مشهداً فريداً في نوعه، ويعطينا وصفاً طريفاً لأحاديث النساء فيما بينهن، بحيث يخلص منه إلى إبراز الغيرة التي تخالج نفس المرأة أياً كان لونها أو زمنها، لنصغ إليه إذ يقول:
زعموها سألت جاراتها ... وتعرت ذات يوم تبترد:
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله لمْ لا يقتصد؟
فتضاحكن وقد قلن لها: ... حسن في كل عين من تود
حسداً حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد
ونستطيع أن تبين اوجه الشبه القوي في هذه الخاصة بين ابن أبي ربيعه و (راسين) في الأدب الفرنسي، أو (الفرد دو موسيه) كذلك، بل أن ابن أبي ربيعه بلغ من إتقانه تصوير النفس البشرية حداً جعله يستعمل أبسط الألفاظ وأقربها إلى العامية أحيانا لأجل تأدية المعاني الدقيقة.
ويشارك ابن أبي ربيعه في هذه الميزة أبو نواس، ذلك الشاعر العالمي النادر المثال الذي لم يدع حالة من أحوال اللهو والمجون إلا وصفها وصفاً صريحاً كشف عن أدق النزعات والنزوات التي تخامر نفس الإنسان ويكبتها أو يحجبها عن المجتمع.
وخاصة ثانية ارتقى بفضلها الشعراء العرب إلى مرتبة الشعراء العالميين، تلك هي إحساس الطبيعة، أو قل تعشق الطبيعة، والتواجد معها، وتقديس جمالها والافتنان بتصويره. فابن الرومي، ذلك الفنان المتيم بالألوان، والبحتري يستويان في هذا الباب في مرتبة (لامرتين) و (شاتوبريان) و (فيكتور هوجو).
وأما شعراء الأندلس، فلا تسل عن الشأو الرفيع الذي بلغوه في هذا التواجد الإنساني، الذي(854/10)
يتجلى في قول ابن خفاجة حين يصف روضة عند الصباح:
والنور طرفٌ قد تنبه دامعٌ ... والماء مبتسمٌ يروقُ صقيلُ
فالروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان يعطفه الصبا فيميلُ
ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه ذهَّب صفحتيه أصيل
وارتد ينظر في نقاب غمامة ... طرف يمرضه النعاس كليل
ساج كما يرنو إلى عواده ... شاك ويلتمح العزيز ذليل. . .
وبين أعلام الأدب العربي شعراء نستطيع تسميتهم شعراء المبدأ أو شعراء الفكرة أن صح هذا التعبير، يرتقون إلى درجة العالمية بجدارة صريحة، بفضل المبادئ أو المذاهب الإنسانية التي اعتمدوها في إنتاجهم الفكري. ففلسفة التشاؤم وحرية الفكرة تشكلان المحور الأساسي لشعر أبي العلاء المعري، وهو يلتقي من ناحية التشاؤم بالفيلسوف الألماني (شوبنهور)، وفي ناحية حرية الفكر بالكاتب العالمي المعاصر (برناردشو).
أمام المتنبي فقد تجلت في شعره فكرة إنسانية خطيرة، كان من شأنها أن تطورت وتبلورت من بعده في مبدأ فلسفي هام عند الفيلسوف الألماني نيتشه: إلا وهي فكرة (الاستعلاء)؛ وقد جسمها (نيتشه) في شخصية (الإنسان الأعلى) أو (السوبرمن) على حد تعبيره وحسبنا من شعر المتنبي المفعم بهذه الفكرة قوله:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما!
وقوله:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر ... وحيداً، وما قولي كذا ومعي الصبر!
ومن فنون الأدب فن عالمي قيم اشتهر به كتاب عالميون وكان لأدباء العرب فيه نصيب كبير، وهو فن (الظرف) أو قل باب الفكاهة والمرح الفكري. وقد امتاز بهذا الفن بين الإنكليز (تشارلز ديكنز) و (وبرناردشو)، وبين الفرنسيين (أناتول فرانس)! ويقبل هؤلاء من بين الأدباء العرب الجاحظ، بحيث يضاهيهم بالفعل، وذلك بما في كتاباته من رقة ومرح، وبما في فكآهاته من لذع خفي، وظرف محكم، لحمتهما وسداهما الفكرة العميقة.
وهنالك لونان عالميان من ألوان الأدب، طرقهما الأدباء العرب فأبدعوا، وكان لهم بذلك تأثير كبي رفي الآداب الأجنبية.(854/11)
فأحدهما (الأدب الصوفي)، وقد برز فيه ابن الفارض، وحوله زمرة لا يستهان بها من المتصوفين الذي يعدون عالميين في أدبهم الصوفي! والأخر فن تأدية الحكمة على لسان الحيوان، وقد تجلى هذا الفن في أدب ابن المقفع، وانتقل تأثيره إلى الشاعر الفرنسي (لافونتين).
بإمكاننا أن نلتمس من هذا العرض السريع، مدى أهمية الأدب العربي بالنسبة إلى الآداب العالمية، تلك الآداب التي عالجت قضايا الإنسان، ووصفت نفسية الإنسان، فكانت لغته الحية الناطقة في كل مكان وكل زمان.
ولئن لجأ بعض الأدباء العالميين لتحقيق هذه الغاية، إلى وضع المسرحيات، فما ذلك إلا لأن بيئاتهم الخاصة حدت بهم إلى هذه الوسيلة، ويسرت لهم تحقيقها! أما أدباء العرب فقد عوضوا عن هذا النقص الطفيف بلجوئهم إلى وسائل أخرى لا تقل عنها أهمية أو قيمة، مما أتينا على ذكره، فأنتجوا بذلك أدباً عامراً بالمعاني والعناصر الإنسانية التي بإمكانها أن تتجاوب مع نفس كل إنسان. بل لقد رأينا كيف أبه عندما سمحت البيئة الاجتماعية بطرق فن الأدب التمثيلي عند العرب، برز شوقي بمسرحياته الخالدة، فسد ذلك الفراغ العارض بكل جدارة.
وحسب الأدب العربي أعلامه الخالدون عمر بن أبي ربيعه وأبو نواس والمتنبي وأبو العلاء وابن الرومي وشوقي، حتى يستوي في مرتبة الآداب العالمية الخالدة.
(بيروت)
محمد وهبي(854/12)
الوليد بن عقبة في كتاب عثمان
للأستاذ محمود أبو رية
مما لا يكاد يخفى على الباحث المحقق أن أدق فترة في التاريخ الإسلامي هي التي بدأت باغتيال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتولي عثمان أمر الخلافة بعده. ذلك أن تيار الإسلام الزاخر قد أخذ بعد مقتل عمر يتحول عن مجراه الذي كان يندفع فيه بالخير والهدى والسلام على عهد الرسول صلوات الله عليه وصاحبيه إلى اتجاه آخر. وكان الإسلام الذي اعتز بإسلام عمر وتهدّى في سيره قد انقلب يعتسف الطريق بعد أن انقلب هذا الخليفة العظيم إلى ربه وعلى أن هذه الفترة على ما وصفنا، فأنها لم تؤرخ على ما يجب أن يكون عليه التاريخ الصحيح، وذلك أن كل مؤرخ قد كبَّل فكره بما وضعه السلف من قيود، ووقف عندما خطوه من حدود فلا يبحث بعلم ولا يفكر بعقل. وكان أثقل تلك القيود هو ما قرروه من عدالة الصحابة جميعاً، حتى جعلوا الطلقاء في مرتبة المهاجرين، والمؤلفة قلوبهم في منزلة الأنصار المخلصين، والمنافقين في مقام الأتقياء الصالحين.
وعلى ذلك جرى الخلف وراء السلف يتبع بعضهم بعضاً فلا بصر ولا بصيرة معتمدين على مجرد النقل عنهم، منصرفين عما يقضي به العقل والمنطق في نقد ما وصل إلينا منهم.
إنه لا يمكن للمؤلف المحقق أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة إلا إذا تزوّد بزاد كبير من مواد التاريخ، وحرر عقله من رقّ التقليد، واستعان في النقد والتحليل بنظر بعيد وأن يسبر الوقائع كما يقول ابن خلدون. بمعيار الحكمة وأن يقف على طبائع الكائنات ويحكم النظر والبصيرة في الأخبار).
ومما يجب على من يؤرخ هذه الفترة أن يقف على طبائع الجاهلية عامة وما كان من نزاع وتخاصم بين بني أمية وبني هاشم خاصة، وأن يدرك أن ما كان بينهما في الجاهلية لم يطفئ الإسلام جذوته، ولم يخفف الهدى المحمدي حدته، وان يميز بين الذي آمنوا إيماناً صادقاً من الذين أسلموا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
هذا ما يجب على كل من يريد أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة تأريخاً صادقاً، ومن يفته شيء من ذلك فإن عمله يخرج ناقصاً وتاريخه يظهر عقيماً وإن سمى بين العامة تاريخاً!!.(854/13)
نوطئ بهذا النبذ من القول أن نرسل كلمة صغيرة عن كتاب (عثمان) أحد أجزاء الفتنة الكبرى الذي يتوفر على إخراجها الدكتور طه حسين بك.
تناولت هذا الكتاب بعد أن فرغ الناس من الكتابة عنه والبحث فيه فإذا بي تلقاء نمط جديد في دراسة التاريخ لم أعهد مثله فيما كتب عن تاريخ صدر الإسلام بحثاً وتحليلاً اللهم إلا كتاب (فجر الإسلام) للأستاذ أحمد أمين بك، فهو صنوه في البحث، وقرينه في التحقيق، هذا في تاريخ الحياة العقلية وذاك في تاريخ الحياة السياسية.
وهذا الكتاب لا يفهمه حق الفهم إلا من حرر عقله وآثر الحق على هواه. وإذا كان الكلام عن هذا الكتاب النفيس قد يعد الآن من التكرار بعد أن تولاه الكتاب من قبل بالتقريظ والثناء الطيب فأني أتحدث اليوم عن أمر وجدته فيه ولم أر بداً من الكلام عنه.
ذلك أن الدكتور طه حسين بك قد أستراب فيما حملته الرواية من أن الوليد بن عقبة قد صلى بالناس فريضة الصبح وهو ثمل ثم التفت إلى من معه وقال: أزيدكم؟ فقال أن هذه القصة مخترعة من أصلها فيما أعتقد.
ولكن هذا الخبر أثبته كبار المؤرخين وبخاصة من كان منهم من ثقات المحدثين كالبخاري وابن عبد البر والذهبي وابن كثير، وآخر من أيد هذا الخبر مجتهد اليمن ابن الوزير في كتابه (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) فانه على ما أطال في الدفاع عن رجال الحديث الذين لا يجوزون الكبائر على الصحابة، وما بالغ من ذلك فانه لم يستطع أن ينكر ما نسب إلى الوليد من أنه صلى الصبح وهو سكران ومما جاء في كتابه هذا:
(قال إمام أهل الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتابه (الاستيعاب) في معرفة الصحابة عن الوليد:
(له أخبار فيها نكارة وشناعة تدل بقطع على سوء حاله) وبعد أن بيّن ابن عبد البر: أن أخباره في شرب الخمر ومنادمته لأهلها كثيرة، ذكر أنه صلى الفجر بأهل الكوفة ثم قال أزيدكم.
وإذا كان الدكتور قد قرر بحق أن إسلام الوليد كان رقيقاً وأنه غشَّ النبي، فإن وقوع مثل هذا الأمر ليس بغريب منه.
على أن ما فعله الوليد من شربه الخمر وصلاته وهو سكران قد استفاض بين الناس حتى(854/14)
أكثروا من القول فيه ويبدو أن عثمان قد تباطأ في إقامة الحد عليه فقد روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عبيد الله بن عدي أخبره أن المسوّر بن مخرم وعبد الرحمن بن الأسود قالا ما يمنعك أن تكلم خالك عثمان في أخيه الوليد بن عقبة فقد أكثر الناس (أي من تركه إقامة الحد عليه) فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: أن لي إليك حاجة وهي نصيحة، فقال: أيها المرء، أعوذ بالله منك، فانصرفت فلما قضيت الصلاة جلست إلى المسور وإلى عبد يغوث فحدثتهما بالذي قلت لعثمان، فقالا: قد قضيت الذي كان عليك! فبينما أنا جالس معهما إذ جاء رسول عثمان، فقالا: قد ابتلاك الله! فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: أن الله بعث محمداً وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله (ص) وهاجرت الهجرتين وصحبت رسول الله (ص) ورأيت هديه. وقد أكثر الناس في شأن الوليد فحق عليك أن تقيم عليه الحد. وبعد أن أجاب عثمان بقول يذكر فيه إسلامه وموقفه من النبي (ص) وصاحبيه، قال: ما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شان الوليد بن عقبة فسنأخذ فيه بالحق أن شاء الله. ثم أمر بجلد الوليد فجلد أربعين جلدة في أصح الروايات! فقد خرج مسلم من طريق أبي ساسان قال: (شهدت عثمان أتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أنه قد شرب الخمر والذي تولى جلده عبد الله بن جعفر.
وتبين من سياق الأحداث واستقراء الأخبار أن عثمان رضي الله عنه لم يقم الحد على أخيه إلا لأنه صلى بالناس وهو سكران، لا لأنه شرب الخمر فحسب؟ إذ لو أقيم عليه حد الخمر فقط لوقع ذلك في كل يوم لأنه كان مدمن خمر!.
هذا ما نرى بيانه، ونرجو أن يوفق الدكتور في إتمام سائر الأجزاء التي رأى أن يكسرها على تأريخ الفتنة الكبرى، وأن يخرج ما بقي من عمله على غرار هذا الجزء الذي بين أيدينا.
ولعله بعد ذلك يتخذ سبيله إلى تأريخ الأدب العربي تأريخا مستفيضاً مفصلا حتى يؤدي ما عليه من دين للغة العربية وآدابها.
المنصورة
محمود أبو رية(854/15)
صدى مقتل الحسين في التاريخ الإسلامي والأدب
العربي
للأستاذ ضياء الدخيلي
في محرم الحرام تغشى الكآبة والحزن الأقطار التي يتغلب فيها التشيع لآل البيت عليهم السلام كما في العراق وإيران والهند وأقسام في الأفغان والتبت في الصين وجبل عامل في لبنان ومحلة الأمن في دمشق ومحلات المتاولة (أي المتولين لأهل البيت) وبعض عشائر الحجاز حوالي المدينة وفي البحرين الكويت وتركستان والففقاز في روسيا ومحلات أخرى أجهلها. في الأصقاع الشيعية تجد المساجد والجوامع تجلل في محرم من كل عام بالسواد القاتم حزناً على شهيد كربلاء وتخرج المواكب باكية معولة تندب ابن بنت رسول الله (ص) الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) الذي قتله جند عبيد الله بن زياد بأمر من يزيد بن معاوية وذلك عام 61 هـ (680م) - قتلوه هو وصحبه الكرام وأهل بيته حتى طفله الرضيع ومثلوا بأجساد الطاهرة وأحرقوا خيامهم وسبوا نساءهم وذلك في كربلاء على مسافة من الكوفة عاصمة أبيه الأمام (ع) وقد بالغوا في القسوة وفظاعة التمثيل وحرموه هو وأطفاله الماء حتى مات عطشان! كل ذلك لأخافه شيعة أبيه في العراق وقصد إخماد كل ثورة يحتمل أن يقوم بها الشيعة في العراق للانفصال من الحكم الأموي؛ ولكنهم اقترفوا من الفظائع ما أثار حفيظة العالم الإسلامي وأغضب كل من وقف على الواقعة من الناس حتى المستشرقين، فاقرأ ما كتبه المستشرق الفرنسي سيديو في كتابه (تاريخ العرب العام) والمستشرق الإنجليزي ميور في كتابه (الخلافة بزوغها وانحداره وسقوطها) - إنك لتجد أقلام هؤلاء على نصرانيتهم - تسيل سخطاً على الجيش الأموي وما قام به في كربلاء من ظلم وعدوان. لذلك صار اسم محرم رمز الحزن والكآبة في العالم الإسلامي وكان شهر النوح والبكاء عند الشيعة على الأخص فقد حدث المؤرخون أن الشيعة في العهد الأموي كانوا يعقدون المواكب والاحتفالات الصاخبة، وقد اتخذوا يوم كربلاء يوم حزن ورثاء، وكانوا يولونه كثيراً من عنايتهم فيجتمعون في الأسواق ويسيرون المواكب ويلزمون أنفسهم الامتناع عن تناول أطايب الطعوم ولذيذ المشروب ويتناشدون الأشعار بالنوح على الحسين (ع) والطعن في قاتليه! وظل الحال على ذلك في العراق إلى أن تولى الحجاج بن يوسف(854/17)
الثقفي العراقيين في عهد عبد الملك بن مروان فقابل الشيعة بالضد وحمل الناس على اتخاذ هذا اليوم عيداً وألزمهم لباس الثياب الفاخرة وتناول الأطعمة الشهية واتخاذ صنوف الحلوى والافتنان فيها ومنها الحبوب المطبوخة باللبن والسكر وكان من نتيجة ذلك أن وقعت مصادمات دامية بين الشيعة والسنة وحدثت مجازر مؤلمة بين المسلمين وقانا الله شرها.
حتى إذا قامت الدولة البويهية في العراق جعلت الاحتفال بذكرى مصرع الحسين أمراً رسمياً تلتزم القيام به الدولة المستولية على أزمة الحكم. قال السيوطي في (تاريخ الخلفاء)، وفي سنة 352 هـ يوم عاشوراء ألزم معز الدولة (البويهي) الناس بغلق الأسواق ومنع الطباخين من الطبيخ ونصبوا القباب في الأسواق وعلقوا عليها المسوح (والمسوح جمع المسح وهو الكساء من شعر، وما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً وقهراً للجسد) قال السيوطي وأخرجوا نساء منشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على الحسين! وهذا أول يوم نيح عليه ببغداد. واستمرت هذه البدعة سنين: وفي 18 ذي الحجة منها عُمل عيد غدير خم وضربت الدبادب (والدبادب جمع الدبداب وهو الطبل سمي بذلك حكاية لصوته).
وقال ابن الأثير في أخبار سنة 352 هـ وفي هذه السنة عاشر محرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرجوا النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنواح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي (ع) ففعل الناس ذلك. ولم يكن للسنية قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم. وفي 18 ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرطة وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالي الأعياد، فعل ذلك فرحاً بعيد غدير (وضربت الدبادب والبوقات وكان يوماً مشهوداً) وقال أبو المحاسن في (النجوم الزاهرة) في حوادث سنة 363 وفيها أعاد عز الدولة يختار النوح في يوم عاشوراء إلى ما كان عليه.
وقال ابن الجوزي في المنتظم في أخبار سنة 352 فمن الحوادث فيها أنه في اليوم العاشر من المحرم غلقت الأسواق ببغداد وعطل البيع ولم يذبح القصابون ولا طبخ الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ونصبت القباب في الأسواق وأقيمت النائحة على الحسين (ع).(854/18)
والظاهر أن ما سنه معز الدولة البويهي استمر في بغداد والعراق وتمسك به شيعة بغداد والتزموا القيام به في كل عام؛ حتى اليوم تجد تلك المواكب الحزينة الباكية تقام في العراق ومنه أخذها العالم الإسلامي الشيعي. وقد جر إصرار الشيعة على إقامة تلك التقاليد المذهبية أن حدثت عدة أصطدامات بينهم ويبن إخوانهم الأعزاء من أبناء السنة! ففي الأيام الأخيرة عندما حاول يأسين باشا الهاشمي منعها قامت ثورات دامية في الفرات في لواء الديوانية وفي لواء الناصرية.
أما في العصر العباسي الأخير فقد كانت الفتن المذهبية قائمة على قدم وساق بين الشيعة والسنة من أجل إصرار الشيعة على إحياء المواكب العزائية في كل عام وقت محرم كما سنها معز الدولة البويهي ومن سبقه في العصر الأموي قبل أن يجعل الحجاج يوم عاشوراء عيداً نكاية بشيعة العلويين.
قال ابن الأثير في حوادث سنة 441 هـ وفيها منع أهل الكرخ من النوح (على الحسين) وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا وفعلوا ذلك فجرى بينهم وبين السنية فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنية من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين. وأخرج الطائفتان في العمارة مالا جزيلا وجرت بينهما فتن كثيرة وبطلت الأسواق وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به. وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوى بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنية والشيعة على المنع منه وأصلحوا أمرهم بأنفسهم، وأذَّنوا في القلائين وغيرها بحي على غير العمل (وهذا النداء ينفرد به الشيعة في آذانهم) وأذَّنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم (وهذا نداء ينفرد به أذان السنية وقت الفجر) وأظهروا الترحم على الصحابة فبطل عبور النسوى) هذا ما نقله ابن الأثير وفيه ترى التشاحن بين أهالي بغداد لم يكن منبعثاً بدوافع مذهبية فحسب، بل أنه دخلت في تكوينه أسباب أخرى جاهلية هو ما كان بين المحلات من تفاخر، وهذا مظهر لانحطاط عقلية العامة من الناس في تلك العهود وانتشار الجهل بين الطبقات الاجتماعية الدنيا الذي أدى إلى توسيع شقة الخلاف.(854/19)
قال ابن الأثير ثم تجددت الفتنة سنة 443 هـ في صفر وعظمت أضعاف ما كانت قديماً فكان الاتفاق المتقدم غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن. ووصف ابن الأثير في الجزء الثامن ص 209 قيام بعض رجال الدولة العباسية من أهل السنة بالانتقام من شيعة الكرخ بإحراق أسواقهم ودورهم بوضع النار في عدة مواضع منها مما أدى إلى احتراق سبعة عشر ألف إنسان وخسارة عظمى في الأموال وهذا من أفظع صور المعارك الطائفية في العصر العباسي الأخير مما مهد إلى انقراض الدولة الإسلامية وذهاب ريحها.
قال ابن الأثير وفي سنة 502 هـ وقع الصلح ببغداد بين السنية والشيعة بعد فتن تكررت بينهم سنين عديدة، ولم يستطع خليفة ولا سلطان أن يصلح بينهم، (بل الصحيح أن الملوك لم يكونوا يريدون الإصلاح، بل كانوا يزيدون النار حطباً على أساس القاعدة: فرق تسد) فترى مما تقدم ما تركه مصرع سيدنا الحسين (ع) من أثر سيئ ظل يدوي صداه في الإعصار الإسلامية! وقد سبب مجازر طائفية دامية أضاعت شوكة الإسلام وشغلت المسلمين بأنفسهم وألقت بأسهم فيما بينهم وأعداؤهم يتربصون بهم الدوائر، ويتحينون الفرص للانقضاض عليهم وتدمير معالم حضارتهم وإلقاء نير العبودية في رقابهم وقد سنحت لهم الفرصة في عهد المستعصم الذي قام جيشه بأفضع مجزرة طائفية في الكرخ إذ قتل ونهب وسبى العلويات بقيادة (أمير الجيش) وأبي بكر ابن المستعصم كما وصف الحادثة ابن الفوطي من أبناء ذلك العصر في كتابه (الحوادث الجامعة والعبر النافعة في المائة السابعة).
وأما في مصر فقد قال المقريزي في (خططه) ج2 ص385 عن عاشوراء كان الفاطميون يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل يفه السماط العظيم المسمى سماط الحزن وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فأنظره، وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير. فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنع الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام جرياً على عادة أهل الشام التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي لأنه قتل فيه وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو(854/20)
أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط وكلا الفعلين غير جيد والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط.
وكان الفاطميون ينحرون يوم عاشوراء عند القبر (أي قبر رأس الحسين (ع) الذي نقله الأفضل بن أمير الجيوش من عسقلان في فلسطين إلى مصر) - الإبل والبقر والغنم ويكثرون النوح والبكاء ويسبون من قتل الحسين (ع) ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم.
قال ابن زولاق في كتاب (سيرة المعز لدين الله): في يوم عاشوراء من سنة 353 هـ انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين قبر كلثوم ونفيسة (يقول المقريزي أن السيدة كلثوم هي بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق (ع) والسيدة نفيسة هي بنت الحسن بن زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وقد توفيتا بمصر ودفنتا هناك) ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين (ع) وكسروا أواني السقاءين في الأسواق وشققوا الروايا وسبوا من ينفق في هذا اليوم ونزلوا حتى بلغوا مسجد الريح وثارت عليهم جماعة من رعية أسفل فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد بن أبي بكر وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند المعز ولولا ذلك لعظمت الفتنة لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور وعطلوا الأسواق وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز (الفاطمي) بمصر. وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية وكانوا يجتمعون في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة. وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة وتعلق السودان في الطرقات بالناس ويقولون للرجل من خالك؟ فإن قال معاوية أكرموه، وإن سكت لقي المكروه وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكل بالصحراء ومنع الناس من الخروج.
وقال المسبحي (قال لي الدكتور مصطفى جواد هو عز الدين المسبحي له كتاب مفقود في تاريخ الدولة الفاطمية ومسبح هنا اسم مفعول من سبح بالتشديد) - وفي يوم عاشوراء من سنة 396 هـ جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد؛ ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي(854/21)
القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع بجمعهم وسبوا السلف فقبضوا على رجل ونودي عليه هذا جزاء من سب عائشة وزوجها (ص) وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.
وقال ابن المأمون وفي يوم عاشوراء يعني سنة 515 هـ (وذلك في عهد الآمر بأحكام الله سنة 1121 م) عبئ السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها الأفضل ابن أمير الجيوش وهو السماط المخصص بعاشوراء وكان يعبأ في غير المكان الجاري به العادة في الأعياد ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات، وجميع الخبز من شعير وخرج الأفضل من باب (فرد الكم) وجلس على بساط صوف من غير مشورة واستفتح المقرئون واستدعى الأشراف على طبقاتهم وحمل السماط لهم وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود ثم بعده عدس مصفى إلى السماط ثم رفع وقربت صحون جميعها عسل نحل.
ضياء الدخيلي(854/22)
ركن المعتزلة:
قدرة الله في مذهب المعتزلة
للدكتور ألبير نصري نادر
- 2 -
تقول المعتزلة أن الله لا يفعل إلا ألأصلح وأن قدرته لا تأتي إلا بما هو كمال! فقط هناك نقطتان ذواتا أهمية كبرى وهما التوفيق بين قدرة الله تعالى وحرية الاختيار عند الإنسان من جهة ومن جهة أخرى مسألة الظلم: هل يمكن أن يفعله أم لا يمكن.
قدرة الله وقدرة الإنسان على أعماله:
لما كان الله قادراً على كل شيء، ولما كانت قدرته لا متناهية كذاته ومتجهة دائماً نحو الكمال، فمن أين إذن الشر والمعصية وما يترتب عليهما من عقاب وألم؟ إنهما لا يقعان إلا عن كائن حر الاختيار في نياته وأعماله، يتردد ثم يختار ويعزم. وفي تردده هذا دليل على عجزه وعدم كماله. ويترتب على اختياره نتائج ملائمة لما اختاره من عمل حسن أو سيئ. فأين قدرة الله من عمل الإنسان هذا؟ أن قدرته تعالى تحدها حرية الإنسان. والمعتزلة يتمسكون بشدة بهذا المبدأ ويبنون عليه المسألة الأخلاقية بكاملها.
ربما أن الثواب أو العقاب هو نتيجة لما اختاره الإنسان بمجرد حريته فلا يمكن الله أن يغير أو يبدل في هذا الثواب أو العقاب. ويقول النظام بهذا الصدد: أن الله لا يقدر على أن يخرج أحداً من أهل النار. ويقول أيضاً: لو وقف طفل على شفير جهنم لم يكن الله قادراً على إلقائه فيها وقدر الطفل على إلقاء نفسه فيها. إننا لا نعب من قول المعتزلة هذا لأنهم أثبتوا من جهة قدرة الله لا متناهية؛ وهي في مذهبهم ليست سوى الذات؛ وأثبتوا من جهة قدرة الإنسان على أنه حر في اختيارها. وبعد ذلك وجدوا أنفسهم أمام مشكلة عويصة وهي هل الله قادر على كل شيء: على الظلم والجور كما هو قادر على العدل؟ وبمعنى أوضح هل يقدر الله تعالى أن يثيب من استحق العقاب وان يعاقب من استحق الثواب؟ بحثت المعتزلة هذه المسألة على ضوء العدل وسنبين فيما بعد الحل الذي أتوا به وقبل أن تعرض لهذا الحل نذكر هنا عقيدة راسخة عند المعتزلة استنتجوها من قولهم بعدل الله وقدرة(854/23)
الإنسان على أعماله، وهي أن الله تعالى يعمل لما فيه صالح الخلق ولكنه يترك الإنسان حراً في اختياره. ولما كان الله تعالى لم يزل يعلم ما يختاره الإنسان من أعمال فإنه يأتي أحياناً بلطف من عنده لمساعدة ذوي الإرادة الحسنة. لذلك يقول بشر ابن المعتمر أن الله لو علم من عبد أنه لو أبقاه لآمن كان إبقاؤه إياه أصلح له من أن يميته كافراً فنلمس هنا مسألة اللطف الذي يتدارك به الله الفاسق. ولكن المعتزلة تقول أن هذا اللطف لا يمنح إلا في حالات شاذة نادرة. وخلاص نفوسنا أو هلاكها عائد إلينا، وذلك بفضل حرية اختيارنا لذلك يقول بشر بن المعتمر ومعه جميع المعتزلة أن الله لا يكون موالياً للمطيع في حال وجود طاعته، ولا معادياً للكافر في حال وجود كفره؛ وإنما يوالي المطيع في الحالة الثانية من وجود طاعته، ويعادي الكافر في الحالة الثانية من وجود كفره.
هذا قول واضح بأن الإنسان بمحض إرادته يصبح مطيعاً أو كافراً ولا قدرة لله في ذلك. وبعدما يصبح الإنسان مطيعاً (وهي الحالة الثانية التي يتحدث عنها المعتزلة) حينئذ يكون الله موالياً له! وبعدما يصبح كافراً (وهي الحالة الثانية في الكفر) حينئذ يكون الله معادياً له. ويستدل المعتزلة على ذلك بقولهم إنه لو جاز أن يساعد الله الإنسان في حال وجود الطاعة فيه لجاز أن يساعده في حال وجود الكفر فيه. وهذا محال في مذهبهم لأن الله لا يفعل الشر! والشر في الحقيقة هو المعاصي الموصلة إلى عذاب الله، على حسب قول قاسم الدمشقي.
الحكمة في أعمال الله:
تقول المعتزلة عن الله غاية في الحكمة ولا يفعل إلا الإصلاح فهو تعالى لا يعمل شيئاً اتفاقاً أو جزافاً. فعليه توجد قوانين ثابتة ومحددة من لدن حكمته تعالى تسوس جميع الأمور في هذا العالم؛ وهذه القوانين خاضعة لحكمة الله الكاملة. فيجب أن ننظر إلى كل ما يحدث في الدنيا كأنه تعبير لهذه الحكمة. وعقل الإنسان، في رأيهم، يمكنه أن يدرك هذا النظام الكامل في العالم والذي يدل على وجود خالق أزلي حكيم كامل عادل.
هل يقدر الله على أن يظلم؟
يبدو هذا السؤال غريباً في مذهب المعتزلة القائلين بأن الله كلي الكمال! ولكنهم بالرغم من(854/24)
ذلك فحصوا هذا السؤال حتى يوضحوا فكرتهم عن الله ويجلوها.
من الجلي أنهم جميعاً يردون أي فكرة تؤدي إلى الاعتقاد بأن هناك ظلماً في عمله تعالى وهم يرددون دائماً بأن الله يفعل ما فيه صالح الخلق فإذا بحثت المعتزلة هذا الموضوع فيكون ذلك من جهة القدرة فقط، وليس من جهة عمل الظلم فعلا من لدنه تعالى. فيكون الموضوع مجرد بحث نظري. وعلى هذا الشكل نجد حلين مختلفين لهذا السؤال عند المعتزلة.
الحل الأول: القول بالقدرة:
القائلون بها من المعتزلة هم ابو الهذيل العلاف وأبو موسى المردار وجعفر بن حرب وبشر بن المعتمر. وقولهم مقتضى أن الله يمكنه أن يفعل الظلم ولكنه لا يفعله أبداً وأوضح المردار حجتهم في ذلك بقوله: أن الله يوصف بالقدرة على العدل وعلى خلافه وعلى الصدق وعلى خلافه، لأن هذه هي حقيقة الفاعل المختار أن يكون إذا قدر على فعل شيء قدر على ضده وتركه ولكن يضيف المردار إلى هذا قوله: ولو فعل تعالى مقدوره من الظلم والكذب لكان إلها ظالماً كاذباً وهذا ما يناقض فكرة الله عند المعتزلة وتعريفهم له تعالى إذ يقولون أن ذات الله هي الكمال والظلم لا يقع إلا عن كائن غير كامل. فإذن يستند أصحاب هذا الرأي على فكرة الاختيار عند الله ليقرروا أنه تعالى قادر على الظلم؛ ولكنهم يعودون ويقولون أن الله لا يفعله. ويقول أبو الهذيل في هذا الصدد: أن الله يقدر على الظلم والكذب ولكنه لا يفعلهما لقبحهما وهو تعالى كامل لا يفعل القبيح. ويضيف جعفر بن حرب قوله: لن يسأل هؤلاء المعتزلة: أفمعكم أمان من أن الله لا يفعل الظلم وهو قادر عليه؟
(أ) قلنا: نعم هو ما أظهر من حكمته وأدلته على نفي الظلم والجور والكذب.
(ب) فيستنتج من ذلك أن المعتزلة القائلين بقدرة الله على الظلم لأنه مختار لأفعاله يذهبون في آخر الأمر إلى القول بأنه لا يفعل الظلم لأنه تعالى كامل ولأن الظلم قبيح في ذاته. ولهذين السببين يقولون أن الله مع قرته على الظلم لا يفعله.
الحل الثاني: القول بعدم القدرة:
يقول النظام وعلى الأسواري والجاحظ والإسكافي أن الله لا يوصف بالقدرة على الظلم(854/25)
والكذب وعلى ترك الأصح من الأفعال إلى ما ليس بأصح وأحالوا أن يوصف الله بالقدرة على عذاب المؤمنين والأطفال وإلقائهم في جهنم لأن المخلوق العاقل في رأيهم يقدر أن يفعل الشر كما يقدر أن يفعل الخير لأن إرادة الإنسان الحرة يمكنها أن تختار بين الخير والشر وهي تثاب أو تعاقب حسب ما اختارته من أعمال. ولكن لا يوجد هذا الاختيار في قدرة الله، لأن قدرته تعالى على قول هؤلاء المعتزلة لم تزل متجهة فقط نحو الخير المطلق. وللنظام حجته في ذلك. فهو يقول: أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلا ففي تجويز وقوع القبيح من الله تعالى قبح أيضاً! فيجب أن يكون مانعاً. ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم، لأنه لو وصف بالقدرة عليه لكان عنده ميل إلى الظلم. وهذا الميل نقص وضعف مما يناقض ماهيته تعالى الكاملة. وخلافا لمن زعم من المعتزلة أن الله يقدر على أن يظلم، يقول النظام إننا لا يمكننا أن نصف الله بهذه القدرة لأن ذاته تعالى لم تزل ثابتة وليس فيها أي ضعف أو عجز. لذلك يقول النظام أن الله لا يقدر على أن يفعل لعباده في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم، كما انه لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئاً، ولا على أن ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة. وليس ذلك مقدوراً له لأن الظلم والكذب لا يقعان إلا من جسم ذي آفة. فالواصف لله بالقدرة عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة. ثم هناك قول آخر شديد لأبي جعفر الإسكافي في هذا الصدد إذ يقول أن الأجسام تدل بما فيها من العقول والنعم التي أنعم الله بها عليها على أن الله ليس بظالم لها. والعقول تدل بأنفسها على أن الله ليس بظالم. فليس يجوز أن يجامع دفوع الظلم منه ما دل لنفسه على أن الظلم ليس يقع منه.
هذان القولان: القول بقدرة الله على الظلم والقول بعدم قدرته تعالى عليه، ولو أنهما مختلفان إلا أن النتيجة التي يصلان إليها واحدة وهي أن الله لا يظلم أبداً حتى ولو قدر على الظلم. إلا أن أصحاب القول الأول بنوا رأيهم على فكرة وجود الاختيار عند الله في حين أن أصحاب القول الثاني لا يقولون بهذا الاختبار لأن الله في زعمهم غير مختار وهو الكمال المطلق، والاختيار تفضيل أمر على أمر وهذا ليس من خصائص الله تعالى. والذي جعل أصحاب القول الأول يتراجعون ويقولون إنه تعالى لا يأتي الظلم هو أن الظلم قبيح في ذاته وأن الله كمال مطلق. فالفارق بين هؤلاء وهؤلاء فارق نظري بحت.(854/26)
ألبير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة(854/27)
اذكريني
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
اذكريني إذا استفاض الضياء ... فاستقرت في خدرها الظلماءُ
وبدا الفجر شادياً بالأغاني ... فإذا الكون فرحة وغناء
هو طفل على الروابي غرير ... راقص الخطو، باسم، وضاء
تخشع الأرض حين يمشي عليها ... وتناجيه بالأغاني السماء
ولدته الظلماء معشوقة اللي ... ل، ولليل شهوة حمراء
أطلعته إلى الوجود وجوداً ... ماؤه الحب، والمنى، والرجاء
فيه منها صبابة وحنين ... وبه من عشيقها أهواء
أنت فجر الحياة في قلبيَ البا ... كي، وأنت الطبيعة العذراء
واذكريني إذا تراءى الصباحُ ... فتهادت في نوره الأرواحُ
ورأيت الطيور تبعث في الأف ... ق أغاريد كلها أفراح
ورأيت الزهور يخفق فيها الط ... ل، والظل، والسنا اللماح
عطرها خمرة القلوب، وإن كا ... ن طليقاً لم تحوه الأقداح
أنت قيثارتي وألحان قلبي ... ونشيدي المعطر الممراح
جنة أنت في صحارى حياتي ... وأنا فيك بلبل صداح
في دمي لحنك الشجي وفي قل ... بي المعنَّى عبيرك الفواح
فاذكريني ما هام في الجو عطر ... وتسامى على الرياح جناح
واذكريني إذا الأصيل تجلى ... شاحب النور، واهنا، مضمحلاً
أبصر الليل مسرعا، فاعترته ... رهبة أرعشته نوراً وظلا
كل شيء فيه أراه بقلبي ... أملاً راحلا، وعمراً تولّى
أنا مثل الأصيل تذبل في قل ... بي الأماني كأنني صرت كهلا
لم أمت غير أنني أدرك المو ... ت بروحي، كأنني مت قبلا
طالما رن صوته في حياتي ... وبدا طيفه عليها مطلا. .
بليتْ جدَّةُ الشباب كما تَبْ ... لى الليالي، وكل شيء سيبلى(854/28)
فاذكريني عند الأصيل! ففيه ... من حياتي مشابهٌ تتجلى
واذكريني إذا رأيت الغروبا ... والسنا راحل يؤم الغيوبا
ورأيت السماء قلباً حزيناً ... موشكا من صبابة أن يذوبا
فقد الشمس، وهي إلف عزيز ... فبكى إلفه العزيز الحبيبا
وانحنى ضارعاً يطل عليها ... وينادي لعلها أن تجيبا
آه من لوعة الغروب التي تم ... لأ قلبي صبابة ونحيبا
آه من روعة الغروب التي تل ... هم نفسي فناً جميلا عجيبا
إن نفسي من الغروب أراها ... وأراه فراشة ولهيبا
فاذكريني عند الغروب غروباً ... قد أطل الدجى عليه رهيبا
واذكريني إذا المساء طواني ... قلق النفس، حائر الوجدان
فإذا بي أرى أمانيَّ تمضي ... في فضاء تضل فيه الأماني
وأحسن الظلام ينساب في أغ ... وار نفسي، وفي صميم كياني
وأرى الروح، وهي تمضي بعيداً ... عن قيود المكان خلف الزمان
أطلقتها يد المساء، وقد كا ... نت تعاني في سجنها ما تعاني
فاستقرت في عالم خلعته ... قبل أن تلبس الوجود الثاني
إن هذا المساء يسمو بروحي ... وبنفسي عن عالم الإنسان
فاذكريني عند المساء، ففيه ... تخلص النفس من قيود المكان
واذكريني في الليلة القمراء ... والدجى غارق بنهر الضياء
والسماء الضحوك تنساب بالنو ... ر، وتُزهي ببدرها الوضاء
والضياء الشفيف لحن شجي ... عزفته ملائك في السماء
والنسيم اللطيف أرواح عشا ... ق تغني بحبها في الفضاء
آه من روعة الضياء، وما تب ... عث في النفس من أمان وِضاء
ليتني كنت ذرة من ضياء ... في جواء طليقة الأرجاء
ليتنا نعبر الفناء بروحي ... نا إلى عالم وراء الفناء
حيث نحيا في عالم الخلد والمج ... هول، والسحر، والرؤى، والخفاء(854/29)
وإذا ضمك السكون الحبيبُ ... في مساء تحن فيه القلوبُ
فاذكري أنني أناديك بالرو ... ح، وما لي إلا صداها مجيب
وأقول الأشعار فيك، وفيها ... مهجة في لظى الجراح تذوب
نحن روحان عاشقان، ولكن ... بيننا في اللقاء شيء رهيب
أنت في الشام يا شقيقة نفسي ... وأنا هاهنا بمصر غريب!
عذبتني الحياة حتى لقد صر ... ت كأني في نارها مصلوب
كم تمنيت أن أقيم بأرض ... أي أرض وأنت مني قريب
غير أن الزمان يسرع بالأيام ... والشمس. . . شمس عمري تغيب
وإذا قلت شعرك الولهانا ... فاملئيه ضراعة وحنانا
واذكري أنني أذوِّب قلبي ... في قصيدي، وأسكب الوجدانا
أنت قربتني ففجرت في قل ... بي وروحي الغناء والألحانا
ثم أقصيتني فصارت حياتي ... تستثير الأنين والأشجانا
يا منى الروح كيف هان على قل ... بك قلبي؟ تكلمي! كيف هانا؟
رسمك المفتدى يثير حنيني حين آتيه أنشد السلوانا!
ورسالاتك الرقيقة أتلو ... ها، فأنسى نفسي، وأنسى الزمانا
فاذكريني، فلم يعد لي سوى الذك ... رى عزاء عما انطوى من هوانا
واذكريني إذا طواني الفناءُ ... كشعاع تضمنه الظلماءُ
فرأيت الحياة تنسلُّ من جس ... مي، كأفق ينسل منه الضياء
ورأيت السكون يرسب في رو ... حي، فلا نامة، ولا أصداء
وتذكرت ما مضى من حياتي ... وحياتي مدامع ودماء!
فبكت روحي الحزينة، والدم ... ع من الحزن سلوة وشفاء
هذه سنة الحياة: بكاءٌ ... حين نأتي! وحين نمضي بكاء؟
آه من رهبة الفناء، وإن كا ... ن حبيباً إليَّ هذا الفناء؟
فاذكريني إذا مضيت عن الدن ... يا وحيداً حتى يحين اللقاء
وإذا جئت يا هوى أيامي ... من بلاد عطريّة الأنسام(854/30)
فاذهبي مرة إلى قبري الثا ... وي بعيداً في العزل المترامي
والمسيه في رقة وحنان ... عن فيه قلبي، وفيه حطامي
وضعي زهرة عليه، وفيها ... ألقٌ من جبينك البسام
واسكبي دمعة عليه، وفيها ... سر ما تكتمين من آلام
وأقرئي شعرك الرقيق على قب ... ري، فتهفو من الحنين عظامي
واسمعي شعري المولّه تبكي ... فيه أشواق روحي المستهام
واعلمي أنني مضيت عن الدن ... يا، وما نلت غايتي ومرامي
لم أنل منك ما يخدّر إحسا ... سي، وما ذقت ما يبل أوامي
فقضيت الحياة أمعن في الأح ... لام حتى فنيت في الأحلام
وأغذي الأيام بالوهم حتى ... صار عمري وهما من الأوهام
فاذكريني مدى الحياة محباً ... صادق الحب، واذكري أيامي
إبراهيم محمد نجا(854/31)
حرمان. . .
للأستاذ عمر النص
أتكفر بي يا شباب المنى. . . ... وقد وهبتك يداي الشباب؟
طغت كبرياؤك حتى سدلت ... على ناظريَّ نقاب العذاب
تركت لك الزهو. . زهو الصبا ... وودعت تلك الأماني الكذاب
على مقلتيَّ يلوح العياء ... وتخنى كتفي الصعاب
وأخرست في شفتي اللحون ... وأطبقت كفي فوق الرباب
وأقبلت أنثر بين يدي ... ثمار الغدو ومحْل الإياب. .!
وألفيتني في عباب الذهول ... أقلب طرفي خلال السحاب
أحدق على أمسَّ الغيوب ... وأبصر ماذا وراء الحجاب.؟!
وأهفو إلى حلم لا أراه ... ولكن ألامحه في الضباب
يطوح بي في شعاب الظنون ... وتقذف بي في خضم العتاب
أفر له من لهاث الحنين ... وأهرب من وسوسات العقاب
نفرت إليه أُريح الحشا ... فبعثرت فيه المنى والرغاب
فضاء نفضت عليه اليقين ... وضيعت فيه الظنون العذاب
طفقت أؤمل فيه الحياة ... فلم ألف غير البلى والخراب
وعدت إلى الوهم أسقي الخيال ... فغص الخيال وجف الشراب
وكنت ازدريت السراب الغوي ... فمن ذا يعيد إليَّ السراب. .؟!
تلاشى السباب. . ولما يكن ... سوى ورقة في الرياح الغضاب
تمشي به اليبس قبل الينوع ... وألقت به الريح فوق التراب!(854/32)
مشكلات الفلسفة:
في الحرية
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
تأخذ الحرية لدى الشبان معنى لا يمكن أن تعرفه ولا أن تتوصل إليه أذهان الشيوخ، ويكون لهذه الكلمة من الوقع في نفوس المقبلين على ميادين الحياة البكر أكثر مما يكون لها عند الذين أشرفت عهودهم على النهاية واقتربت أعمارهم من الختام. فالحرية لا يمكن أن تكون موضوع بحث أو مثار نزاع إلا في الأطوار الأولى من حياة الأفراد، حيث تسبغ البكارة غموضها على كل شيء، وتبعث الطفولة أحلامها في كل معنى، وتقحم المثل الإنسانية تصويرها من كل جانب. وإذا صح هذا كنا بازاء نتيجتين: إحداهما أن الحرية تقترن بالجهل دائماً، وثانيهما أن العادة هي العدو الأكبر لما تؤدي إليه الحرية من صنوف العمل وضروب الإنتاج.
ولتوضيح هاتين النظريتين ينبغي أن نبدأ فنؤكد تلك الصلة الوثيقة بين الجهل والحرية عن طريق ما يسمونه في الفلسفة بالممكنات. أليست الممكنات أشياء مجهولة عند من يريد أن يضعها موضع البحث والتأمل؟.
نعم، هي كذلك بلا مراء ما دمنا بعيدين عن دائرة الوجود الحقيقي، وما دمنا مقتصرين على تدبر الاحتمالات النظرية بخصوص شأن من الشئون. وكان أرسطو في الفلسفة القديمة يفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل على أساس أن الأول هو الشيء الذي لا يزال في حكم العدم، وإن راودنا الأمل في وجوده بعد حين. أما الأشياء الموجودة بالفعل، فهي تلك التي تقوم من حولنا والتي تظلنا بظلها وتثقل علينا بوطأتها وتعيش في العالم الظاهر المحسوس. وهناك اختلاف كبير ينبغي أن نلاحظه بين العدم الخالص وبين الوجود بالقوة؛ فهذا على الرغم من أنه غير موجود، يقع في دائرة الإمكان وينظر الإنسان إليه نظرته إلى شيء سيأتي به المستقبل على وجه من الوجوه.
أما العدم، فهو حقيقة خالية من أنه مضمون، ويستحيل أن يكون في المستقبل بحال من الأحوال، ولا يملك في ذاته ما يعينه على أن يتحقق، أي أن يكون شيئاً ما. وعين هذه التفرقة التي وضعها أرسطو هي التي ترددها اليوم فلسفة الوجود على وجه يختلف قليلاً(854/33)
من ناحية الاصطلاح اللفظي ولا يختلف كثيراً من ناحية المضمون المعنوي.
فالفلسفة الوجودية والفلسفات الحديثة عموماً تضع كلمة الممكن في مقابل الاصطلاح الأرسطي (الوجود بالقوة)، وتضع كلمة الوجود للتعبير عما هو قائم في حدود الأشياء الماثلة أو داخل ضمن الكائنات الحية وكل امتياز للممكن على العدم يتلخص في قدرته على أن يكون، وفي احتوائه على ما يمكن أن يهيئ له الحياة، وفي شموله على المعبر الذي يمكن أن ينقله إلى دائرة الوجود. ولما كان الأمر كذلك بالقياس إليه، فقد صاحب الإنسان عند مواجهته شعور بالإبهام لا يستطيع أن يفسره إلا على أساس من جهله بهذا الشيء - أستغفر الله - بل بهذا اللاشيء. وكلما كان الإنسان في عهد مبكر، وكلما قلت تجاربه وضعفت خبرته كان أقرب إلى هذا الشعور بالجهل. فالوقوف بازاء المجهول من شأنه أن يولد في النفس إحساساً غريباً بتعدد الوجوه التي يمكن أن تتصور فيها الأشياء، وبكثرة الخطط التي يمكن أن تؤدي إليها المسالك، وبقوة الاحتمال فيما هو ممكن غامض. وإذا زاد الجهل بالإمكانيات إلى هذا الحد استشعر الإنسان بالحرية على نحو لا يمكن أن يخايل صاحب المبدأ في المشاكل التي تعرض له، أو صاحب المنهج في المباحث التي يوقف نفسه عليها. فالمبادئ والمناهج لا تأتى إلا من كثرة التجارب ومن اعتياد المضي بالأمور على أنحاء محدودة. أما الجهل بما يترتب على فعل من الأفعال وعدم انتظار نوع بالذات من أنواع الموجودات عقب إتيان أمر من الأمور، فمن شأنه أن يولد في صدر الإنسان ضرباً من الحرية، وطرازاً في الاختيار يندر وقوعه في غير هذه الظروف. فالجهل حليف من حلفاء الحرية لا يمكن إنكار أثره أو إهمال مفعوله عندما نحاول أن نقيم نظرية في الاختيار على أساس نظرية في الوجود.
ونستطيع أن نثبت هذا الشعور بالحرية لدى الجاهل عن طريق الأمثلة: فالأديب الذي يجهل المراجع الهامة في بحثه يكون أكثر حرية في الكلام من الأديب الذي يستوعب كل ما يكون قد قيل أو كتب حول الموضوع الذي يختص به! والسياسي المبتدئ يشعر للحرية برنين لا يمكن أن يطن في أذن السياسي المحنك. . . وقس على هذا المنوال بالنسبة إلى أي شخص في موقف من هذا القبيل، أو عندما يواجه أمراً من الأمور لأول مرة. وليس عبثاً ما كان قد جاء على لسان اسبنوزا في موضوع الحرية من أن الإنسان كلما ازداد علماً(854/34)
ازداد معرفة بالضرورة الحاصلة في الوجود وبالحتمية الضاربة في أنحاء الكون. وتقتصر الفائدة المرجوة من وراء الفلسفة والمعرفة الصحيحة في أنها توقفه على قوانين الأشياء وتجعله قادراً بالتالي على متابعتها ومسايرتها.
وإذا كان من نعمة الجهل علينا أنه يجعلنا ننخدع عن أنفسنا ونحسب أن الحرية ملك أيدينا، وأننا نفعل ما نشاء أن نفعله من غير أن تتدخل قوة في الأرض أو في السماء، فمن بلوائه - في مقابل هذا - انه يملأ قلوبنا بالخوف، وينشئ في نفوسنا ضروباً من القلق، ويبعث في نفوسنا ألواناً من الجزع والهم. وذلك طبيعي ومعقول جداً إذا أنعمنا النظر في الحقيقة الماثلة أمامنا وتبينا فيها ملامح الغموض والإبهام وعدم التعين. فالإنسان في أمثال هذه المواقف يحس بالجزع حينما يواجه عالماً مستسراً غير معلوم لديه وليس داخلاً في نطاق تجاربه الذاتية. ويمكن أن نشبه هذه الحالة بموقف رجل للمرة الأولى أمام الميزان الذي لا يعمل إلا بعد وضع قرش مثقوب فيه. إنه لا شك سيحس بنوع من الخوف على القرش طيلة المد الذي يسبق خروج التذكرة المكتوبة. أما الرجل المتحضر المجرب لمثل هذه الآلة مرات ومرات فلا دخل للجزع في عمله هذا على الإطلاق، ولا يكاد يحس بأي إشفاق على القرش وهو يلقي به من داخل الثقب.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الفتى الذي يصوب عينيه نحو الزمن، هو يغض بالممكنات عن طريق المستقبل الغامض المجهول. يمتلكه الذعر ويهزه الخوف على ذلك الشيء الخفي وهو قاب قوسين أو أدنى من العدم. إنه يشرف على حقيقة الوجود وهي في طريقها أن تكون على نحو من الأنحاء لا يعلم مداه ولا يدرك منتهاه. حتى العلم الطبيعي الذي كان مجالا من مجالات الثبات واليقين قد فقد كل الصفات الحتمية والاطراد. فأصبح العالم غير متأكد من خلوص التجارب إلى نفس ما خلت إليه في الماضي على الرغم من توافر كل ما من شأنه أن يكفيها ويهيئها للحدوث على وجه واحد بالذات. فالإنسان عندما يواجه تجربة من أي نوع لأول مرة يكون في خوف من إلا تكون؛ أو أن تكون ولكن على نحو غير الذي يؤمل فيه ويطمح إليه. وقد تتغلب المعرفة أو التجارب الكثيرة على هذا الشعور بالخوف ولكنها لا تقضي عليه قضاء تاماً إلا بعد أن تتدخل العادة. وهي كما قلنا في صدر هذا المقال عدو الحرية الأكبر.(854/35)
فالعادة من شأنها أن تفسد دلالة الحرية من جانبين: جانب الآلية في إتيان الأعمال وإصدار الحركات، وجانب الشعور بالاطمئنان عند مواجهة المكنونات المستسرة في ضمير الغيب. ويقول رافيسون في كتابه عن العادة إنها توحي - كما توحي الأفعال الغريزية - بالجنوح إلى هدف مقصود من غير ما إرادة أو شعور. وهذا صحيح من ناحية كونه دليلا على خلو العادة من الإحساس أو من البطانة الوجدانية كما يقول علماء النفس. فيصعب أن تقول بوجود أي نوع من أنواع المخاوف وأي ضرب من ضروب المنازع عند أداء الأفعال التعودية. وبناء على ذلك تمحى كل حرية وتزول كل إرادة وتختفي مشابه الاختيار الذاتي، فهذه كلها لا تتوفر إلا حيثما كان الإنسان قادراً على الانفعال لها والاهتمام بشأنها والتوتر من أجلها.
والحرية من شانها أن تبعث في الإنسان ألواناً من الخوف والفزع، لسب بسيط وهو أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوجوده ومعاشه. فيكفي أن تتصور أنك صاحب الأمر والنهي في إعداد حياتك وفي تقرير مصيرك وفي تكييف أقدارك حتى تنفجر في رأسك عيون الخوف، وحتى تثور في صدرك عوامل الرعب، وحتى تنتاب جسمك عوارض الحمى. . . فأنا مثلاً أقرر مصيري - ككاتب - على هذه الورقة البسيطة البيضاء تحت عيني وأضع لنفسي قيوداً من الرأي لا أستطيع الفكاك منها حين يأتي المستقبل. وانظر على هذا النحو في حياة الناس وتأمل أفعالهم على ضوء كل من العادة والحرية فتجد أن الأفعال الحرة وحدها هي التي يوازيها على طول الامتداد شعور بالقلق ويحس صاحبها بأنه يأتيها لأول مرة. وذلك لأنها مشدودة إلى كيانه شداً بحيث لا يملك في النهاية إلا أن يخضع لها وأن يكون مأسوراً بها.
والحق أن الأفعال الحرة الواعية لا يزاملها الشعور بالقلق وحده، وإنما يرافقها أيضاً - إلى جانب هذا - إحساس خفي بالهم. ولنضرب لهذا مثلاً بواحد من الناس الذين يملكون الوقت من اجل الذهاب إلى المسرح أو التنزه في الخلاء أو البقاء في البيت أو القيام بزيارة صديق. ولنفرض مقدماً أن هذا الشخص هو بعض الذي يهمهم الوقت ويحسون بعامل الزمن إحساساً قوياً في معاشهم بحيث يضطربون لانقضائه حينما يمضي هباء. سيضطر أولاً إلى عملية الاختيار، وهي عملية قد تكون سهلة عند الإنسان العادي بحكم انصرافه عن(854/36)
التفكير أو بحكم تركه للأمور في أيدي المقادير. أما الشخص الحر الواعي فسيضع أساساً للاختيار وسيعرف في قرارة نفسه بأن ثلاث ساعات متصلة ستضيع من عمره ومن حياته في هذا الفعل البسيط وأنه أقمن به أن يستفيد من بقائه على الأرض على أفضل وجه ممكن ولا شك أن وجوده بأكمله ينقسم إلى جزئيات من هذا القبيل فعنايته بساعة من عمره تضارع عنايته بكل هذه الساعات التي يقضيه على وجه البسيطة. والعالم الخارجي من شانه أن يقدم إليه الإمكانيات حتى يبذل من لدنه ما يحيلها إلى وجود، ويصرف من طاقته الخاصة ما يبعثها من جمودها ويبث فيها الحياة. . . قد تكون المجالات محدودة أمامه، وقد تكون الإمكانيات معدودة عليه! ولكنها مع هذا كله تدع له فرصة للاختيار؛ وفي الاختيار وحده ينحصر وجوده ويتحدد معاشه.
فهناك أنواع كثيرة من الوسائل التي تقدم للإنسان متعاً تلذه ومباهج تريحه وأدوات لتثقيف الذوق وتهذيب الروح. قد تكون هذه الوسائل محدودة في المجتمع الذي نعيش فيه، ولكننا مع ذلك نحكم رأينا ونملي فرديتنا عليها بعملية من الاختيار الواعي؛ وكلما زدنا جهلاً بالمجالات التي يُتيحها لنا المجتمع ارتفعت قيمة الحرية وازداد قدرها. فلو أنني مثلاً لا أعرف غير أربعة وسائل من وسائل التسلية ومن أنواع الملاهي في القاهرة لكان اختياري بنسبة (4: 1) أي أن حريتي حينئذ تساوي الربع. أما إذ كنت أعرف اثنتين فحسب كانت النسبة (2: 1) أي أن حريتي آنئذ تساوي النصف.
وهكذا يحدث عندي الشعور بالقلق من ناحية الاختيار، أما الهم فيتولد عندي إحساس به وأشعر كأنما يثقل على صدري من جراء الأسف على ضياع الإمكانيات الأخرى عندما أحدد رغبتي وأثبت إرادتي على شيء بالذات. فأنا مثلاً عندما أذهب إلى المسرح أحس بالهم من جراء طمعي في أن أحصل على أقصى ما يمكن أن تهبني إياه الحياة. ونتيجة لشهوتي في إحتلاب كل ثانية تمر بي واعتصار كل لحظة تمضي علي وأنا حي أرزق. ولذلك تراني في المسرح مهموماً من أجل تلك الإمكانيات الأخرى (التنزه في الخلاء - البقاء في البيت - زيارة الصديق) التي قتلتها بيدي وأعد منها بمحض إرادتي مع أنها قد تكون أعود علي بالخير من كل ما أنا فيه من استمتاع أو حبور. . . ولكن يكفي بعد هذا أن أحس بأنني قد اخترت وأنا حر من كل قيد، وأن مسئولية هذا الاختيار تقع على عاتقي(854/37)
وأن كل شر يأتي من إرادة أفضل بمئات المرات من أسعد الأوقات التي يمضيها الإنسان عن غير رغبة: أقول يكفي هذا كما أطامن في نفسي من شدة الشعور بالحسرة وأواجه الحياة بقوة وجلد.
وهكذا تقترن الحرية بنوع من المثالية الخالصة ومن الفدائية العصماء فتكسب وجودنا ألواناً من البهجة الخالية من الزيف والبريق، , تسبغ على حياتنا غير قليل من الصراحة وتشعرنا في قرارة أنفسنا أننا في بؤس ولكن عن إرادة، وفي حزن ولكن عن إرادة، وفي هم ولكن باختيار، وفي حزن ولكن برغبتنا. وهكذا نحن نحمي أنفسنا من مرارة الحياة ونرضي غرور الإنسان القوي منا والضعيف.
عبد الفتاح الديدي(854/38)
سيكولوجية الجنس
للأستاذ محمد محمد علي
السيكولوجيا أو علم النفس هو العلم الذي يدرس سلوك العقل أو الشعور. وبالطبع ليس للجنس ولا شعور ولكن عندما نتكلم عن سيكولوجية الجنس إنما نعني دراسة ذلك الجزء من العقل الذي يتأثر بالحياة الجنسية. وفي أواخر القرن الماضي ظهر فرويد بنظرياته - التي أذهلت العالم، والتي ترى معظمها أن العقل ليس هو الشعور، ولكنه خليط أو جمع بين الشعور واللاشعور. ومنذ ذلك الحين، حاول المربون وعلماء النفس، الكشف عن المكان الحقيقي للجنس في ذلك الخليط. وكلنا سيكولوجيون؛ على الأقل على طريقة الرجل الذي يتكلم النثر طول حياته من غير أن يعرفه! فإذا قلنا لأحد شيئاً، فإننا نعرف ماذا يجيب، وذلك باستخدام معلوماتنا عن علم النفس فمثلا إذا سألنا أحداً في يوم مطير: (جو مخيف! أليس كذلك؟ نعرف أن الإجابة غالباً ما تتفق وسؤالنا).
وقد تساءل علماء النفس عن مكانة الجنس في النمو العقلي. وليس هناك من يجيب إجابة صحيحة فقد ذهب بعض أتباع فرويد، وقرروا أن الحياة الجنسية تتحكم في نمو الفرد العقلي.
إن الغريزة الجنسية ترمي إلى استمرار النوع، فهي تأتي بعد المحافظة على النفس التي تضم كل الغرائز. وفي ظل المدينة لا بد من السيطرة على الغرائز. بسبب هذه السيطرة، نسمو بالغريزة الجنسية، فنقول مثلا في المناسبات: السيدات والأطفال أولا. وبسببها أيضاً أمسك الناس عن ذكر المسائل الجنسية إلا في غرفة النوم. وظهر الخجل عند تعليمها. وهذه السيطرة هي ما يسميها علماء النفس: كبت الغرائز. ويرجع كثير من الناس بالجنس إلى وراء، فيتجنبون ما يشغل جزءاً كبيراً من حياتهم.
يحاولون أن ينسوه. وإذا رزقوا أطفالاً لم يعلموهم شيئاً عن الأمور الجنسية، فلو سألهم أطفالهم ما يسمى بالأسئلة المخجلة - وهي الأسئلة التي يوجهها الأطفال عادة إلى آبائهم - فإن الآباء يحاولون إسكاتهم ويخبرونهم كذبا!.
إن الكبت الشديد يجلب التأخر والهبوط، وهو مرض خطير، يختلف عن ضبط النفس الذي هو مواجهة شريفة شعورية للواقع، وليس هذا بالأمر السهل، إنما يخلو من الصراع بين(854/39)
الدوافع البيولوجية والعقلية. وضبط النسل كبت للغريزة الجنسية الطبيعية، لأن له نفس الأثر في تحديد السكان، كطريقة الحيوان في بقاء الأصلح. وفي الحق أن ضبط النسل الحديث ليس فيه شيء من (بقاء الاصلح) إنما يضمن حياة الأسر المحدودة! فكل أعضاء الأسر الصغيرة لديهم الفرصة ليكونوا (صالحين) لأنهم ينالون نفس العناية والغذاء كما لو كانوا موزعين في أسر أكبر.
قلنا أن الغريزة الجنسية تتلو غريزة المحافظة على النوع. فالشعور بالجوع، دافع قوي غريزي للمحافظة على النفس، ولكن الغرائز في حاجة إلى كبت - إلى حد مخصوص -، وإلا فإن الفرد يصبح نهماً أو مجنوناً جنسياً، مما يؤدي به إلى مخفر الشرطة أو مستشفى الأمراض العقلية.
إن مشكلة الحب قد راقت كثيرين من علماء النفس. فقد كان معتقداً أن الحب والكراهية ضدان. ولكن تعاليم فرويد دلت على أن لا تعارض بينهما. وما الكراهية إلا جزء من الحب. وليس هناك حب خال من شيء من الكراهية وشيء من العواطف الأخرى، التي تكون في مجموعها الحب.
ومن الثابت أن الشعور الجنسي فينا جميعا يختلف تبعاً للوقت. ولكنه لم يثبت كيف يختلف التأثير الجنسي في حياة الفرد اليومية. فليست غريزتنا الجنسية وغرائز جيراننا، هي التي تؤثر فينا فحسب، بل أن أولئك الذين لم نرهم يمكن أن يغيروا حياتنا. فالشذوذ الجنسي - في رجل مثل هتلر - قد أثر في حياته. وبالتالي في العالم أجمع.
ولما درس علم النفس كعلم، بدأ الناس يعرفون الدور الحيوي الذي يقوم به الجنس في حياة الفرد اليومية، وتنبه الباحثون إلى مسألة لها من الأهمية مثلما لدور الجنس في الحياة! وهي كيف تؤثر ظروف الحياة في الغريزة الجنسية؟ نحن نعلم أن الشخص الجائع - بصرف النظر عن حاجته للإشباع الجنسي - يهتم بمعدته أولا. ولكن ماذا عن الأم؟ لئن كانت الأم جائعة، فان شعورها وغريزتها تدفعانها إلى إطعام أطفالها قبل نفسها. ولقد قيل عن غريزة الأمومة جزء من الغريزة الجنسية. وإذا جمع الحب الخالص بين شخصين فان شعورهما نحو بعضهما يمكن أن يظل ثابتاً أمام تيار الحظ الشيء. كمثل الزوجين، يتحمل كل منهما صاحبه في السراء والضراء. ولكن حيثما كان النمو الجنسي لأحد الطرفين أو كليهما ليس(854/40)
من هذا القبيل، فان تغييراً طفيفاً في الحظوظ، كفيل بانفصال الشريكين.
وإذا تحاب اثنان فانهما يتصوران أن لا شيء يشغل بالهما سوى الأفكار الجنسية. كم مليون من الرجال يرتكبون خطايا طيلة يومهم، ثم ينسونها وهم في صحبة امرأة في المساء! أن كل شيء ينسى في نشوة اللذة الجنسية. يحسب الرفيقان أن الناس قد غفلوا عنهما ولكن نقر الباب أو صوت التليفون قمين بأن يرجع بهما سريعاً إلى تعقل ما حولهما ومعرفته! ويتساءل بعض الناس: لئن كانت الحياة الجنسية عاملا فعالا في النمو العقلي، فلماذا يجتاحنا النشاط الجنسي بقوة عارمة في غالب الأحيان؟ الجواب هو أن هذا الاجتياح ضروري لإزالة العقبات التي تقف في سبيل هذا النشاط، كالخطايا اليومية.
ويحلو للكثيرين أن يقرروا أن ذوي الاسترخاء الجنسي بمولدهم في حل من الوقوع تحت السيطرة الجنسية. ولكن هذا لا يحدث فهم قد ولدوا نتيجة للجنس، ثم أن علاقته بالآخرين تتحكم فيها عقول هؤلاء. فبطريق غير مباشر يتأثرون بالحياة الجنسية.
يختلف الناس في تأثرهم بالغريزة الجنسية، فمنهم العاطفي ومنهم من يقال عنه إنه: بارد. وبعضهم ذو مثلية جنسية، والبعض الآخر يكره المرأة وقد جادت قريحة أحد العلماء بنظرية خطيرة، هي نظرية الثنائية الجنسية التي تقرر أن الإنسان يولد وفيه شعور أو ميل جنسي نحو الجنسين. وفي الفرد العادي يكون الشعور نحو الجنس الآخر متغلباً، إنما لا يختفي الشعور الجنسي نحو نفس الجنس! ومن السهل أن نتصور بالعقل تلك الحقيقة الواقعة في الجسم. فلكل رجل ثديان، وهما - قبل كل شيء - أعضاء تناسلية ثانوية للأنثى والأفراد العاديين هم الذين لهم أصدقاء من كلا الجنسين. أما عند غير العاديين، فان التوازن يختل، إما لأنهم ولدوا كذلك، أو لأن ظروفاً خارجية أوجدتهم في حالتهم هذه.
إن الوضع الاقتصادي - وهو جزء من مدنيتنا - منظم ليجعل الظروف المحيطة بجماعة، تختلف عن الظروف المحيطة بجماعة أخرى. وتأثير الوضع الاقتصادي على الحياة الجنسية لبعض الفتيات، يظهر بوضوح في عقول المومسات اللائى جعلن الغريزة الجنسية تساعد غريزة المحافظة على النفس، وتصبح تحت سيطرتها. عندهن أن البغاء هو الطريق الوحيد للارتزاق. على أنه يمكن أن نميز بينهن متزوجات!.
وبوجود الصراع المستمر في عقولن، يصعب علينا أن ندخل السرور إلى نفوسنا. ومثل(854/41)
هذا الصراع يوجد في عقول الذين هم في حاجة إلى الإشباع الجنسي، أو الذين يجهدون أنفسهم جنسياً أكثر مما يتحملون. ويلاحظ بوجه عام الذين يعيشون عيشة رغده ناجحة، تكون حياتهم التناسلية لا غبار عليها، ومن تكون حياتهم التناسلية طبيعية، ينجون في حياتهم الاجتماعية.
إن علم النفس لا يزال في المهد، وقد علمنا الشيء الكثير عن خطايا الناس وأُثرها في حياتهم. كما عمل ولا يزال يعمل - على إدخال السرور في قلوب الناس. إنه يحررنا من كثير من أنواع الكبت التي كنا نراها ضرورية، ثم يتبين لنا اليوم أنها تضايقنا. وأخيراً هو المسئول عن حركة التثقيف الجنسي.
محمد محمد علي(854/42)
باحثة البادية
لمناسبة ذكراها الثاني والثلاثين
للأستاذ عبد الجواد سليمان
أول ما توحي به إلينا ذكرى باحثة البادية (ملك حفني ناصف) من معان وعبر، إنما هو النهضة النسائية في مصر في معناها الوطني الصادق.
فلقد كانت رحمها الله، أول فتاة مصرية حصلت على شهادة الابتدائية سنة 1900 وعمرها إذ ذاك لا يتجاوز الثالثة عشرة، ثم انتقلت إلى القسم العالمي بالمدرسة السنية، وحصلت على شهادته العالية، وعملت مدرسة بالمدارس الأميرية.
لقد كانت باحثة البادية مثالا صادقاً ونموذجا كاملاً للفتاة المصرية في طباعها ووطنيتها! فالظرف المصري أصيل في طبعها، إذ كان يتمثل في كتابتها وفي نكتها اللاذعة التي تسعفها بها بديهتها الحاضرة وسرعة خاطرها، والتي يزينها تهكم لا مرارة فيه في مثل قولها (فما أقدر زوج الضرتين على التفنن، ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسياً أو ناظراً للمستعمرات! ولكن الذي يؤسف له أنا ليس لنا مستعمرات) وفي مثل قولها (يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري أي الفرمان صدر بذلك من عند الله؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا، لما عيرونا بأنا قليلات النبوغ، وأنه لم يسمع بأن إحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلاً، وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد: فنحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع (خريستوف كلومب) لما تعذر على أنا أيضاً أن اكتشف أمريكا).
أما وطنيتها فتتمثل في حبها لكل ما هو مصري ورفضها أن تأخذ من مدينة الغرب إلا ما هو ضروري، وبشرط أن يصبغ بالصيغة المصرية ويطبع بطابعها. كقولها: (ما أحلىالسمرة الجاذبة، ولو فهمنا معناها، إنها جميلة لأنها مصرية، ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى).
وكقولها: (إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا إلا نقتبس من المدنية الأوربية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائماً لعاداتنا وطبيعة بلادنا، نقتبس(854/43)
منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل، نقتبس منها أساليب التعليم والتربية. . وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن نندمج في الغرب فنقضي على ما بقي لنا مهن القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة).
لقد تأثرت باحثة البادية ببيئتها تأثراً بعيداً فتخرجت كاتبة وشاعرة وناقدة وخطيبة ومصلحة! فأبوها المرحوم (حفني بك ناصف) العالم اللغوي والكاتب الضليع والشاعر الفكه كبير مفتشي اللغة العربية بمصر، وزوجها العربي الصميم المرحوم (عبد الستار بك الباسل) من بيت مجد أثيل وحسب عربي عريق وهو من وجهاء قبيلة الرماح بالفيوم.
وقد دبجت براعتها كثيراً من المقالات البليغة والبحوث العميقة والرسائل الممتعة التي امتازت بالسلاسة والوضوح والتي خصت بها صحيفتي: (المؤيد) و (المحروسة)، وحسبها دليلاً على بلاغتها، أن يشهد لها أمراء البيان في مصر، من هؤلاء أحمد لطفي السيد باشا بقوله فيها (أما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر).
والشيخ عبد الكريم سلمان بقوله (إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات، وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها) وأحمد زكي باشا بقوله (إنها أعادت لنا لك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميداني الكتابة والخطابة).
وحافظ بك إبراهيم بقوله:
لله درَّك أن نثرت ... ودرّ حفني أن نثر
ولقد توفرت لها شروط النقد من سلامة الفطرة وقوة الملاحظة وسعة الاطلاع، فكان نقدها ينصب على المجتمع المصري الذي ظلم المرأة وسلبها حقوقها من قولها في ذلك (المرأة المصرية مسلوبة الحق مظلومة في كل أدوار حياتها، نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة).
وقولها في استبداد الرجال بالنساء: (بعض النساء يهددن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون، ويذكر لهن الزواج إرهاباً، فأي الأمرين تختار الزوجة البائسة؟ المرأة مظلومة دائماً، إذا كانت فقيرة لا يرغب فيها، وإن كانت وارثة يطمع في مالها، والوارثة مظلومة(854/44)
أيضاً، فإما ألا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا).
وقولها ساخطة على سياسة بعض الآباء (لا أحب الرجل يتكبر على أهله وأولاده فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة وهو لا يعلم بما يشعرون، وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل ثم الاستبداد متى كبر).
والإصلاح عادة وليد النقد، وباحثة البادية قد حاولت الإصلاح عن طريق النقد، فرأيناها تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة بقلبها ولسانها! فمن خطبها في نادي حزب الأمة (والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا ونزيل سوء التفاهم والتحزب لنحل بدلهما الثقة والإنصاف ولنبحث أولاً في نقط الخلاف).
أما شعرها فهو عصارة روحها وذوب نفسها، إذ تغلب عليه خفة الروح تارة وتهكم الشديد تارة أخرى! هذا إلى بعده عن العقيد وذخره بالمعاني ودلالته على نضوج الفكر، ومنه في رثاء عائشة التيمورية:
إلا يا موت ويحك لم تراع ... حقوقاً للطروس ولا اليراع
تركت الكتب باكية ... بكاء يشيب الطفل في عهد الرضاع
فذب يا قلب لا تك في جمود ... وزد يا دمع لا تك في امتناع
سنبقى بعد عائشة حيارى ... كسرب في الفلاة بغير راع
ومنه في الفتاة:
إن الفتاة حديقة وحياؤها ... كالماء موقوفاً عليه بقاؤها
بفروعها جري الحياة فتكتسي ... حللاً يروق الناظرين رواؤها
لا خير في حسن الفتاة وعلمها ... إن كان في غير الصلاح رضاؤها
فجمالها وقف عليها إنما ... للناس فيها دينها ووفاؤها
وفي الفتاة تقول:
مجد الفتاة مقامها ... في البيت لا في المعمل
والمرء يعمل في الحقول ... وعرسه في المنزل
ومن قولها في السفور والحجاب ترد على شوقي بك:(854/45)
أما السفور فحكمه ... في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه ... بين محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع منهم ... عند قصد تأهل
ليس النقاب هو الحجا - ب فقصري أو طولي
فإذا جهلت الفرق بينهما ... فدونك فاسألي
لا أبتغي غير الفضيلة ... للنساء فأجملي
التحقت باحثة البادية بالرفيق الأعلى ليلة الخميس الموافق 17 من أكتوبر سنة 1918 بعد أن أدت رسالتها أحسن الأداء، وقدمت للمرأة المصرية أجل الخدمات، ومهدت السبيل لمن أتين بعدها فسرن في طريق معبدة، ونلن بعض ما لهن من حقوق في الحياة الاجتماعية، فمن حقها عليهن أن يخلدن ذكراها ولو بالاكتتاب في مشروع نسوي نافع باسمها أو إحياء آثارها الأدبية. . .
عبد الجواد سليمان
المدرس بمصلحات سوهاج(854/46)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الوساطة في التعليم:
لا شك أن الأزمة القائمة في قبول الطلاب بالمدارس ومعاهد التعليم المختلفة، يعاني كثير من الناس شرها، ويلاقون فيها الضيق والعنت، ولا تقتصر الآفة على مظاهرها القريبة البادية، فإن لها آثارا بعيدة غير هذه المظاهر. أن الوالد اللهيب الحريص تعليم ولده لا يدخر وسعاً في رجاء أصدقائه ومن يلوذ بهم من ذوي النفوذ في القبول بالمدارس، من كبير في الوزارة أو ناظر أو ناظرة أو مدرس أو مدرسة، أو من يتذرع بهم إلا هؤلاء - هذا الوالد وهو مثل من كثير، يعدُّ الأزمة منتهية بقبول ولده في المدرسة أو الكلية، ولكن هناك أثراً بعيداً غائرا في نفس الولد، فقد قر عنده أن (كل شيء بالواسطة) حتى دخول المدارس. سينسى متاعب أبيه في سبيل إدخاله المدرسة، وما بذله في هذا السبيل من وقت وجهد كان عمله في حاجة إليهما، وما عساه أن يكون قد شعر به من الحرج في رجاء الناس؛ ولكنه لن ينسى أن (الواسطة) مفتاح الباب المغلق ولو كان باب العلم.
ويا لحسرة الواقفين وراء الأسوار والأبواب. . إنهم أيضاً تتفتح أعينهم على أن (كل شيء بالواسطة) فهم يندبون حظهم لأنهم لا وسيط لهم. . حتى من لا تنفع في حالته الوساطة لو تيسرت كمن كبرت سنه وكثر رسوبه، أن هذا أيضاً يدعي أنه محروم لفقدان الوسيط.
وما بال هذا الذي تتحقق في ولده شروط القبول وتتوافر له أسباب الأولوية، من ملاءمة السن وتقدم في النجاح ونحو ذلك، ما باله يهرع إلى من يوصي بولده؟ إنه يعيش في الجو. . . ويخيل إليه أن الوساطة أول الشروط! وهناك كثير من الناس يرون في اتخاذ الوساطة مظهراً للوجاهة ودلالة على علو المكانة، فالمقصد عندهم هين في ذاته جليل بجلالة الوسيط. . .
وهكذا يتفتح الجيل الناشئ الغض على منظر هذا الداء، فيألفه ويتصوره أمرا عاديا ليس فيه من عوج ولا أمت. وقد تلقي عليهم في بعض الدروس أشياء عن الحقوق والواجبات والعدالة والمساواة وما إلى ذلك، فيأخذونه على أنه كلام ينفع في الامتحان أما الحياة الواقعة فقد رأوا فيها بأعينهم (تطبيقات) على غير ذلك.(854/47)
وبعد فذلك وجه من وجوه أزمة القبول في دور العلم، وهو من أوجهها الخفية البعيدة، وما أرى للداء دواء غير أن يقتلع من جذوره بتسيير العلم لطلابه وتعليم الراغبين في التعليم! وإنه لمن تضييع الفوائد أن يهمل هذا الإقبال الشديد الدال على شدة الرغبة والتعطش دون انتهازه للقضاء على الجهل والأمية، ومن الحمق أن نصد الصغار عن التعليم لنكافح الجهل والأمية فيهم كباراً.
إلى معالي وزير المعارف:
كتب إليّ أحد إخواننا المدرسين يقول إنه حرر (الاستمارة)
التي اعتاد أن يكتبها في أول كل عام دراسي، لطلب تعليم
أولاده بمصروفات مخفضة، وله ثلاثة أولاد في روضة
الأطفال فردت منطقة القاهرة الشمالية (الاستمارة) بعد أن
كتبت عليها: (معاد إلى حضرة الأستاذ. . . للعلم بأن قرار
مجلس الوزراء بتاريخ 23149 لا يعطي الحق في التماسه
هذا إذ أن الإعفاء من المصروفات للمدرسين لا ينصب إلا
على التلاميذ المقيدين بالمدارس الثانوية وما في حكمها. مع
قبول الاحترام).
ومعنى ذلك حرمان المدرس المنحة التي كانت تجري عليها الوزارة في معاملة أولاد المدرسين برياض الأطفال، والتي تقضي بأن يكون الولد الأول بمصروفات كاملة وأن يعفى الأربعة الذي يلونه من نصف المصروفات ثم يعفى من يلي هؤلاء إعفاء كاملاً. فكيف أقدمت وزارة المعارف على ذلك وهي التي تعمل على التخفيف عن المدرسين في نفقات أولادهم المدرسية؟.
علمت أن الوزارة أصدرت منشوراً يتضمن الأمر بإبطال(854/48)
العمل السابق، والاكتفاء بتطبيق قرار مجلس الوزراء الصادر
في 23149 وهو يقضي بإعفاء أولاد المدرسين من
مصروفات التعليم الثانوي وما في مستواه لمن يثبت منهم أنه
يدفع مصروفات مدرسية لطالب واحد في مرحلة تعليمية غير
المرحلة الأولى.
والذي يستوقف النظر أن هذا (المنشور) بني على أساس أن القرار الأخير أعم وأوسع في مزاياه من القرار الأول وأكثر منه تيسيراً وتمكيناً لرجال التعليم من تعليم أبنائهم دون إرهاق!! فكيف يصدق هذا بالنسبة إلى ذوي الأطفال الذين يتعلمون في الرياض! لقد سلبوا ما كانوا يتمتعون به فيما مضى، ولم يجدهم القرار الأخير شيئا!.
وبعد فإلى معالي وزير المعارف الجديد محمد حسن العثماوي باشا يساق الحديث، وهو زعيم الإصلاح الاجتماعي ورجل قضاء وعدل، ولا أشك في أنه سيعير الأمر ما هو جدير به من عناية المصلح العادل واهتمامه، تقديراً لما يقوم به المعلمون من جهود في أداء الرسالة التعليمية.
أعظم ما كتب يوسف وهبي:
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الحالي في الأوبرا الملكية برواية (اليوم خمر) ثم مثلت بعدها رواية (ابن الحسب والنسب) فكان ابتداء حسناً يلائم رسالة الفرقة في ترقية التمثيل العربي. ثم قدمت الفرقة أخيراً رواية (الصحراء) وقالوا في الإعلان عنها إنها (أعظم ما كتب يوسف وهبي) وهي من الروايات مسرح رمسيس القديمة التي ألفها يوسف وهبي، أو هي أعظمها كما قالوا. وتقع حوادثها في طرابلس الغرب حيث يجري الكفاح بين الإيطاليين وعرب المغرب، وقد وضعت الرواية ومثلت بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فكان زمنها بطبيعة الحال إبان الحرب الأولى، ولكنا شاهدناها تمثل الآن على أن زمنها في الحرب الثانية، فقد سمعنا أبطالها يرددون كلمات (الدوتشي(854/49)
وموسيليني وروميل) ولكن العجيب أنهم يتناقلون ما وقع لعمر المختار على أنه حاصل في وقت وقوع هذه الحوادث أي في الحرب العالمية الثانية، فهذا خلط تاريخي كان الالتفات إليه وعدم الوقوع فيه من أيسر الأشياء ثم أن الحروب بين الإيطاليين وعرب المغرب إنما كانت ملابسة للحرب الأولى وبعدها، فكانت فظائع المستعمرين واستبسال المغاربة في مقاومتهم حديث الناس أيام مثلت هذه الرواية بمسرح رمسيس، أما في الحرب الثانية وبعدها فلم يكن شيء من ذلك.
وتجري الحوادث حول شخصية الأمير عماد بن سعد (يوسف وهبي) وهو قائد طرابلسي يقاتل الإيطاليين، وله زوجتان: زوجة عربية وهي أمينة (نجمة إبراهيم) وأخرى إيطالية وهي لينا (سامية فهمي) وله ولدان من كل منهما: شهاب (فاخر فاخر) من العربية وحسن (عمر الحريري) من الإيطالية. تفر الإيطالية بابنها مع جنود إيطاليين يفقئون عيني الأمير عماد، وينتهي بذلك المشهد الأول. وفي المشهد الثاني نرى كهفاً يعيش به الأمير الضرير وزوجته العربية التي أصيبت في غارة جوية بساقيها فأصبحت مقعدة وابنهما شهاب وابنة عمه عائشة (أمينة رزق) التي يحبها وتحبه، وقد أزمع شهاب اللحاق بفرقة من المدافعين عن الوطن، فتودعه أمه وتموت بين يديه، وينتهي المشهد بذهابه مع الفرقة والمشهد الثالث في الكهف أيضا حيث يعيش الأمير وابنة أخيه عائشة، يطرقهما جندي إيطالي جريح، فيؤويانه على مقتضى المروءة العربية، وبعد ذلك يتبين انه حسن ابن الأمير من الإيطالية. وفي المشهد الرابع نرى حسناً يحاول أن يكسب مودة عائشة التي حزنت على خطيبها شهاب، وبعد حوار بينهما تبدي له أنها تجيبه إلى رغبته في الزواج منها إذا قاتل الأعداء وثأر لأخيه وعاد منتصراً، ولكن حسناً يحار في أمره لأنه لا يزال يعد نفسه إيطالياً تبعاً لأمه، ثم يلتقي بجاسوس إيطالي فيتفق معه على نقل أخبار العرب إلى الجيش الإيطالي، ويسمع الأمير عماد الجاسوس وينقل أسرار الجيش العربي باللاسلكي، فيتحسس ناحيته حتى يمسك به ويستغيث، ولكن الجاسوس يفلت منه ويسدد إليه المسدس فيلتصق حسن بأبيه فيصيبه رصاص الجاسوس فيرديه. وهنا تستعصي الرواية على يوسف وهبي المؤلف إذ تأبى أن يختتم. . . فيزعق يوسف وهبي الممثل زعقة هائلة تجعل ولده شهاباً يبرز من تحت الأرض وكان قد بلغه انه قتل فيظهر انه كان جريحا فقط، فيتلقاه في(854/50)
أحضانه، على حين تجري أمينة رزق (عائشة) بالبندقية متحمسة مع المتحمسين لقتال الأعداء. وتلتقي فلقتا الستار. . .
كان المشهد الثالث أحسن المشاهد كلها، فقد كان هادئاً تجلت فيه الإنسانية والمروءة في إيواء العدو الجريح والعطف عليه، وقد اعتُمد في أكثر أجزاء القصة على (الرواية) أي أن اثنين من أبطالها يتحادثان طويلاً ليخبرانا بما حدث من كذا وكذا، وكان حديث الشخص الواحد يطول حتى يكاد يتحول إلى خطيب، ومن ذلك الحديث الذي دار في أول مشهد بين الشيخ صالح والشيخ حسان عن المستعمرين وممالئيهم من الخونة، فكان الثاني يلقي كأنه على منبر يوم جمعة. . . وفي أثناء الحديث بدا المسرح في منظر غريب، جملان يسيران الهوينى ونساء يحملن الجرار فارغات - إذ يحملنها وجوانبها على رؤوسهن - في الذهاب وفي الإياب! ورجال كثير يروحون ويجيئون، والجميع صامتون كأنهم قبيلة من الخرس! وكل ذلك حتى يفرغ المتحدثان، وبعد ذلك يأخذ الرجال في صلاة المغرب، فيطيلون الركوع والسجود ويمدون التكبير والحمد والتسبيح، ويختمون الصلاة بالأدعية، وكل ذلك أيضاً لكي تتمكن امرأتان من حديثهما المقصود منه (رواية) بعض الحوادث البعيدة عن المسرح! ولذلك وأمثاله كانت الحركة بطيئة مملة والتسلسل المشوق معدوماً، ولم يكن يمنع الجمهور من النوم غير انفجارات البنادق والغارة الجوية. . . وانفجار بعض (الأكليشيهات) الوطنية التي تستجلب التصفيق. . . ولست أدري ولا المؤلف (وهو المخرج أيضاً) يدري كيف يهجم جنود الأعداء على مكان القبيلة وطائراتهم تحلق فوقه وتقذفهم بالقنابل!.
وموضوع الرواية، أو المدعى انه موضوعها، هو الإشادة بالبطولة العربية في المغرب، ولكن أين ذلك على المسرح؟ أفي عرض جماعة من حملة السيوف يشرعونها نحو الطائرات التي تقذفهم بالقنابل. . . وكيف تقاتل الدبابات والمدمرات بالسيوف؟! وقد كان في الإمكان الذي يتفق مع الواقع أن يكون في أيدي الأبطال بنادق بدلا من السيوف.
أم في ذلك المشهد العجيب الذي شغل ببكاء الأم ونشيج الحبيبة قبيل رحيل الشاب إلى الحرب؟ كان الأوفق أن تتجملا بالصبر والجلد أمامه، ولا بأس بقليل من العواطف يبدو في أثناء التجلد، وقد كان هذا المشهد (فاصلة) مملة من العويل والبكاء تجلت فيه أمينة رزق!.
هذا وذاك إلى الروح الفاتر الذي ران على كل الأبطال. . . ولم تقدم لنا المسرحية بطلا(854/51)
واحدا تملأ العين شجاعته، ومن هنا إنعدم رسم الشخصيات، حتى الأمير عماد، والمفروض انه قائد مغوار، فقد رأيناه أولا منهوكا لا يستطيع الوقوف، وبعد ذلك صار شيخاً ضريراً لا حول له ولا طول، حتى زعق زعقته الأخيرة التي كانت هول الختام. .
عباس خضر(854/52)
البريد الأدبي
كتاب النفس لأرسطو طاليس
أنت في غير مريه على بصيرة بأرسطو، تعرفه فيلسوفاً ذا باع طويل، له المؤلفات المأخوذ عنها، والأقوال السائرة، والآراء المحمول عليها إلى اليوم. .
وقد ظفرت المكتبة العربية من قبل بكتبه التي عنّى نفسه بها معالي (أحمد لطفي السيد باشا) محموداً مشكوراً، فأخرج للناس كتاب الطبيعة، والكون، والفساد، والأخلاق، والسياسة.
واليوم تظفر المكتبة العربية بجديد لأرسطو، هو هذا الكتاب الذي أنا شاغلك بالحديث عنه، والذي فرغ له زميلان كريمان، جهد أولهما في تحويره عربياً، وأعان ثانيهما في مقابلة المنقول ومعارضته على اليونانية. فكمل جهد جهداً، وصدّق الخُبر الخَبر.
والكتاب كما ينبئك عنوانه حديث عن النفس. وفي غير هذا الكتاب لأرسطو في النفس آراء ولكنه هنا جمع شتات ما تفرق وزاد واستطرد فعرض لمذاهب القدماء الرئيسة في النفس ثم ساق رأيه هو مع أدلته التي تنهضه وأفاض في القوى الحاسة! ثم ختم الحديث بالكلام عن الحس المشترك والتخيل والتفكير والنزوع.
ويشوقك أن نطالعك بالقليل من الكتاب لتفيد علماً بالمؤلف ونهجه، وتقدر الزميلين قدرهما على ما أحسنا فيه.
يقول أرسطو على لسان الزميلين: (فإذا صح أن النفس تتفشى في جميع الجسم الحاس، فبالضرورة يشغل جسمان نفس المكان، مادامت النفس جسما. وأولئك الذين يزعمون أن النفس عدد، يجب أن يسلموا بوجود نقط كثيرة في النقطة الواحدة، أو أن لكل جسم نفساً. إلا إذا كان العدد الذي يوجد في الجسم هو عدد مختلف اختلافاً تاماً عن مجموع النقط الموجودة من قبل الجسم. . .)
ويعقب الدكتور الأهواني على هذه الجملة بقوله (ترجمة الجملة (هكس) لوضوحها وهذا يذكرنا بقوله في مقدمته! ثم جعلت ترجمة (تريكو) الفرنسية الأساس الذي اعتمدت عليه ونظرت إلى جانبها في ترجمة (هكس) كلما وجدت النص عند (تريكو) غامضا).
فأنت ترى أن الكتاب لم يكن على يسر، عانى فيه (تريكو) و (هكس) ثم عانى فيه الدكتور(854/53)
الأهواني، بين (تريكو) و (هكس).
وليس الأمر أمر ترجمة بل يسبق ذلك فهم وتذوق للعلم، هما عدة المترجم وسلاحه قبل حذفه اللغة وبصره بها.
ثم تجده بعد ذلك في شك الأمين غير راض عن جهده فيخف إلى الأب (قنواتي) ويكشف له هذا عن الصحف اليونانية فيجد فيها ما يصوب الكثير من هنأت (تريكو) و (هكس).
ويثنيني هذا العناء الذي ألمسه عن أن ألتفت إلى القول في عبارات كنت أحبها أكثر صقلاً.
وأعود فأهنئ الزميلين بهذا الجهد الموفق، راجيا أن أرى لهما متعاونين غيره. فما أحوجنا إلى النقل عن اللغات المختلفة.
إبراهيم الأبياري
مع الأستاذ:
يا ساسة العرب: (إن محمد بن عبد الله الذي آثر أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكا قد ساس الناس في عهده سياسة دينية لا وطنية ولا قومية، لأن الوطن محدود والدين لا حد له. ولأن القوم جماعة متميزة والدين إنسانية شاملة).
بهذا النداء القوي الحار انساب صوت الزيات العظيم مع (الأثير) في هدوء رزين، فكأنه كان (جبريل) نزل من علاه إلى أرض الناس يصب في الآذان الوحي من جديد فيلف القلوب بالشجن، ويندى العيون بالدمع، ويثير العواطف بالتذكير.
لم يأت أستاذنا بجديد - فالجديد يبلى - ولكنه أتى بقديم قدم الأزل، فساقه موقعاً بأنغام موسيقاه التي تأسر النفس بخدر لذيذ، وسحر حلال.
أجل: فقد قال ما عناه الله المتعال حين قال:
(وما محمد إلا رسول)؛ وحين قال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم).
قلم الزيات العظيم من مولده رائع قوى، ولكن بيانه المؤثر مع صوته الوقور مزيج عبقري يهز النفس بما يواجبها في إحساسها. تلك تحية مستمع من جمهور الرسالة الكريم.
طنطا(854/54)
عبد الفتاح علي بركات
إلى الأستاذ كامل محمود حبيب:
قرأت ما كتبته بعنوان: (زوجة تنهار)، فأكبرت بلاغة أسلوبك، وسحر بيانك، وعذوبة ألفاظك، وتأثرت بانفعالات نفسك، تأثراً كبيراً، حتى انتهيت من القراءة إلى كلمة: (يا للقصاص). فلم تعجبني خاتمة كلمتيك، لأن القارئ يود أن تكون نهاية الخائنة أشد وأنكى من أن تطرد إلى الشارع.
كيف واجهت الشارع؟ أجرى الذئاب وراءها؟ أما زالت حية تتمرغ في الأوحال؟ أم كفّرت عن ذنبها فألقت بروحها في أعماق البحر؟ أم أرجعها زوجها إليه، وغفر لها إساءتها، ومسح عنها عارها شفقة ورأفة بأولاده الصغار الأبرياء؟ أم ماذا صنعت، وصنع؟ أن لم يكن حقيقة فخيالاً لتكون عبرة وعظة.
(دمياط)
عطية قنون(854/55)
القصص
الوفاء المذبوح. .!
للأديب أحمد شفيق حلمي
(كيف السبيل إلى البقاء على العهد، وهو على قيد الحياة، وحبيبته رهينة القبور؟ لا يجب أن يلحق بها، أن يموت لكي يتم اللقاء الذي لا فراق بعده؟ نعم يجب أن يلحق بها. فهناك السعادة الأبدية إنه طاهر نقي، وهي طاهرة نقية، إنها تنتظره وتدعوه إليها)
إيفان تورجنيف
مالي أراك يا وحيد ساهماً، وقد علت وجهك الغيوم. . . غيوم نفسك الحائرة في الحياة. . وقد سرحت الطرف، ترقب الشمس الغاربة، تتهادى على صفحة الأمواه، ناشرة غلالتها القرمزية على صفحة البحر الخضم، تودع الحياة. . . فتنحدر وجلة نحو المجهول، حتى احتضنتها الأمواج، فطوتها مع أشلائها المتناثرة ثم ولت نحو المغيب. . .
هل لفظتك الدنيا، وسئمتك الحياة، ففررت إلى تلك البقعة الجرداء، تنعى الأمل وتبكي الحياة، أم تخاطب النجوم المبعثرة في القبة الزرقاء؟!.
هل جلست هنا، أم منبسط المياه. . . تستمع لحشرة الريح؟ أم تعاتب القدر لقسوته عليك!؟
ألف سؤال أحتوشتني من كل جانب، وعندما قادتني قدماي إلى تلك البقعة الجرداء. . . فوجدته هناك شارداً عليه وجوم، وراحتاه تحملان رأسه الثقيل بالأتراح. . . يجوب بنظرته التائهة عبر البحر، يناشد الأمواج العزاء والسلوى، ويقاسم الريح عويلها الحزين!.
وألفيتني أدق في السكون الساري، والبحر من تحت قدمي، أمواجه تتلاعب، وتندفع إلى بعيد. . . في الصفحة الفسيحة.
وفجأة لمحت أشباحاً انشق عنها البحر، ونفضت عنها ثوبها الأسود الكالح. . . فبدت طيوفاً بيضاء زاهية، حملتني إلى الماضي القريب، وقد خلته بعيداً، لما ناءت به مخيلتي من الخواطر والأفكار. . .
عرفتك يا وحيد أول مرة، طفلاً ساذجاً حلو الشمائل، وهب الله أباك نعمة واسعة، وخيراً عميماً. . . في القصور بين حدب الأب، وحنان الأم كنت، فكانت حياتك كالجدول العذب،(854/56)
يلعب بأنامله السحرية في الفلاة الصادية، فيحيلها مروجاً سندسية نضيرة. . . ويتسرب بين السهول والوديان، عازفاً ألحان المرح، وتراتيل السرور!.
وكذلك أنت يا وحيد. . . كانت حياتك تسير في مواكب الأفراح ترقص وتغني! وكلما أغدقت من ثروتك الطائلة في سبيل الخير. . . زادت، واتسعت، والتف حيالك الناس!؟.
ومضى بك الزمن هادئاً ناعماً إلى مطلع الشباب، فحلقت روحك بعيدا بعيدا أنت وحدك تدري إلى أين!! ثم هامت في اللانهاية. . . تجوب عالم الخيال، تمني نفسك العطش نعيم الحياة، فما فتئت ترتوي من مختلف ينابيعها، وتعطف القبل من ثغرها البسام، إلى أن صبت نفسك إلى الراحة، وهفا قلبك للسكون، وتاقت روحك الهائمة. . . إلى بيت الزوجية الهانئ، فنفضت غبار الماضي، لتستقبل من اصطفتها توأماً لنفسك، وشريكة في الحياة.
وغمرتني النشوة، والطيوف تداعب خيالي، والرؤى تتماوج في شتيت الذكريات، وأحسست بالراحة رانت على روحي. . . عندما تشابكت خيوط الماضي، كأنما لعبت بها أنامل بارعة، سرعان ما أحالتها إلى وجه صبوح عليه إشراقة عذبة ساحرة. . . فانطبعت في خاطري صورة عروسك الحبيب (سهام). ما كان أنظرها! عيناها كسندس تكتسي به الحقول، وشعرها المتهدل على جبينها الوضاح كبدر بين حفيف السحاب، أما صدرها الناهد وجسدها الريان، فمملوءان بسحر مجنون!!.
ما كان أروعها ليلة الزفاف، وهي تخطر إلى جوارك، بين هالة من الفتيات يحملن الشموع والزهور. . . تفتر شفتاها من بسمة حلوة، يرف فيها ما تحس من سعادة وهناء. . . وتلمح في عينيها تأملات حالمة، تحملها سراعاً إلى عشها الجميل، وأملها المنتظر، وبيعها الدائم، وقد نبتت فيه أزاهير من حب ووفاء.
وهنالك بين أكاليل الزهور. . . جلست وعلى رأسها تاج من زهور الأقحوان، محلى بالجيراينوم ومرصع بالفيولد. . . كانت في نبل الملائكة، تحوطها حالة من نور. . . نور يخطف الأبصار. . . قد تسربلت خيوطه البهية من بين أهدابها الحالمة!.
وكانت الليلة حلماً رائعاً، رقصت فيه الملائكة على أنغام الجازبند فتمايلت نشوانة فرحى. . . ترف حولها في المكان. . . آهات حري أرسلها صدرك يا صاحبي - علها تريد أن ترقص أيضاً!! - يحملها الأثير الهادئ اللين إلى ابتسامة الأمل، ونفحة الله. . . سهام.(854/57)
وعلى دعاء الفجر لأله الوجود، حملتك وعروسك نسائم الصباح الندية، إلى عشكما الآمن، تشيعكما قلوب العذارى، وقد غبن في حلم جميل يتمنين أن تدب فيه الحياة!.
ها هو الليل قد أوشك على الرحيل، وها هو - أنا - أجلس إليك بعد ذلك الحلم الطويل. . . فهلا فككت كربتي يا وحيد، فتبسط على نفسك الحزينة الغارقة في الأتراح. . . وتقص علي ما وراء تلك العشرات البيض من أحداث! إنها تتسلل في شعرك الفاحم كنور الصبح يتلاشى أمامه الظلام!.
- أواه يا خليل. . . أن جراحات قلبي لم تندمل، وروحي الشريد. . . لم يستقر بعد!. . .
أنت تذكر ليلة العرس يا خليل، وقد حملتني وعروسي عربة انطلقت إلى النزل الفخيم، الذي اخترته للإقامة. . .؟
وصلنا هناك، والى غرفة تشعرك بالبهجة، تطل على مروج خضراء، ومياه جارية في سهل فسيح. . . حملنا أمتعتنا.
إني أذكر ساعة الوصول، ومدير الفندق يقودنا إلى الغرفة البهيجة، ثم يصفق خلفه الباب، وهو يتمنى لنا إقامة هانئة. . .
قلت لزوجتي وأنا أجوب الغرفة فرحاً: (ما أجملها غرفة يا سهام)؟ فقالت بصوت حنون: (إنها بديعة يا حبيبي)!.
وتطلعت إليها فتلاقت العيون، وتلمست أصابعي كتفيها المرمريتين بخفة ورشاقة، وقبلتها بحنان، ثم دفعتها برفق إلى الفراش، فاتكأت على حافته بحياء وخفر، وعلق بصري بعقارب الساعة تترى بسرعة. . . وسدتها ذراعي، وهصرتها بين أحضاني، ثم تلاقت الشفتان في قبلة محمومة ولهى، فرشفت من الكأس حتى الثمالة. . .
وتراقصت الظلال في جلالة وروعة. . داعب النسيم البليل خصلات شعرها بمرح، فتهدل على صدرها العاري، وهو يعلو ويهبط بسرعة، وانعكست على صفحة وجهها خبايا هواها، وتألق في عينيها بريق عجيب، فيه لهفة عميقة!.
وفجأة. . . وفجأة يا خليل لمحت وجهها الوردي الفاتن يصير إلى اصفرار رويداً، وعيناها أخذتا تحدقان في شيء مجهول، تبكي في صمت وتتوسل في ذهول. . . كأن قوة جبارة أمسكتها بيد من حديد.(854/58)
تحسست جسدها، وأنا من الهول لا اعي، فكان في برودة الثلج، فصرخت والدموع في عيني: (مالك يا سهام!. . . ماذا تحسين؟. . . إلي بطبيب! إلي بطبيب!).
وتداعى ذراعاي من حولها، فسقطت على الملاءات البيضاء، فقلت يائساً: (إليك روحي يا حياتي، خذيها وعودي إلي!. . . هل تذبل الورود وهي تختال في المروج؟ تكلمي. . . ردي عليّ ردي عليّ. . . لماذا لا أسمع صوتك الحنون؟ وأحر قلباه، يا ضيعة العمر وأنا من غيرك يا سهام)!.
. . . وامتلأت الغرفة بالظلال الداكنة. . . تهتز في صمت ثقيل. . . وحفل الفراغ بالأشباح. . . تتراقص في عربدة مجنونة. . . فجثم على صدري صرخاتها المنكرة. . . فهرعت إلى الأسجاف أرفعها، وفتحت النافذة، فاندفع الهواء من السهل القريب، حيات تسعى. . . ومادت الأرض. . . حتى غدوت في النهاية، غريقاً في صخب هائل مفزع. . . وتوهج المصباح، ثم خبا فتشتت الضوء، وأحسست بالبرودة تسري في أطرافي، ثم غبت عن الوعي.
. . . وعادت الغرفة تلوح من بين أهدابي المغلقة، فلمحت خيالات كثيرة تروح وتجيء، وسمعت أحدهم يقول لخيال: (إنه في طريقه إلى الوعي). . .
تحاملت على نفسي، وحدقت في الجدران التي تدور. . . وصرخت ملتاعاً (أين سهام؟ أين سهام؟). . . فحشرج في سمعي صوت رهيب (ذهبت. . . ذهبت يا وحيد ولن تعود)!
وانهمر على وجنتيه دمع حبيس، فقلت له وأنا من أجله ملتاع، أطالع صفحته الحزينة. . . فيثب إلى خاطري الوفاء المُعَذَّبُ، والدنيا والأحلام، وقد لُفّضت في أكفان الأبد، قلت له (وبعد يا رجل، هل تود أن تموت؟ هيا يا صديقي إلى الحياة، ترى فيها السلوى والعزاء).
- أنا؟؟ أنا أهبط إلى الحياة من جديد!؟ لقد سحقت قلبي أناشيد الحرمان، وذريت روحي في مهمة الظلمات، فهل أهبط إليها من غير قلب وروح!؟
- جرب هل الريح تأتي وفاء!
- دعني يا صاحبي في أحزاني وآلامي، علني ألحق بها، بعد أن خلفتني وحيداً في عالم الأحزان!
- لك الله يا وحيد، ولكن رفقاً بنفسك يا صديقي، ولم الوفاء لميت!؟.(854/59)
- ويلك، ماذا تقول؟ وهل الحياة غير الوفاء لحبيب؟! مضيت في طريقي، وتركته وحيداً، وهو في غمرة الأسى، ولوعة الشجن، يذوب ويذوب، وهو يتطلع بشوق لهيف، هناك. . . إلى السماء. . . عل ملك الموت الرحيم! يختطفه إليها، فيجمعه بها في الفردوس. . . عند الله.
أحمد شفيق حلمي(854/60)
العدد 855 - بتاريخ: 21 - 11 - 1949(/)
محمد علي الكبير
بمناسبة الذكرى المئوية لوفاته
كلما قلبت تاريخ هذا الرجل العظيم ثم أرسلت فكري وراء أخباره وآثاره، بدا لي الرجل عالماً من المزايا التي لا تخص بها الطبيعة غير الأفذاذ من الرجال؛ وذلك لأنمحمد علي لم يكن فرداً عادياً من هؤلاء الذين تخلقهم الظروف والمناسبات، وتحل الحضور الطارئة في حياتهم محل المواهب النادرة والطموح الذي لا يحد. . . كلا، لم يكن محمد علي واحداً من هؤلاء، ولكنه كان واحداً من أولئك الذين يفرضون أنفسهم على الظروف والمناسبات ثم لا يقيمون للحظوظ وزناً ما دام الوزن في حياتهم للبصيرة النافذة وللعزم القادر وللذكاء الوثاب لهذا كله سواء أسعف الحظأمتخلف، أقبلت الدنياأمأدبرت، ابتسمت الأيام أم لقيت جهادهم بالعبوس! وهكذا تجد العظيم كلما بحثت عن أسباب العظمة في كل ميدان تقام فيه صروح الهمم وتشيد معاقل الكفاح؛ شعلة من الأيمان بالنفس وشعلة من الأيمان بالوطن. . . ومن وهج الشعلة الأولى تكونت شخصية محمد علي وغمر ضوءها كل نفس، ومن وهج الشعلة الثانية تكونت شخصية مصر الحديثة وأمتد سلطانها إلى كل أرض، وعلى مدار الشخصيتين العظيمتين اقترنت حياة رجل في حساب التاريخ بحياة أمة!
حين وفد محمد علي إلى مصر كانت مصر مرتعاً خصيباً للفوضى التي لا يرجى معها نظام، وكانت ملجأ رحيباً للغاصب الذي لا ينتظر من جوره إصلاح، وكانت حلماً جميلاً للطامع الذي لا يؤمن لجشعه مغبة، وكانت نهباً مباحاً للجهل الجاثم على العقول وللتأخر المتخلف عن ركب الحضارة. . . ونظر الرجل العظيم إلى الماضي البعيد بفكره فاستعبر، وإلى الحاضر المشهود بعينه فأنكر، ثم تطلع بطموحه إلى المستقبل المرتقب فامتلأت نفسه بالأمل والثقة والرجاء! ماذا ينقص الأمم من وسائل الرقى لتأخذ مكانها في الطليعة؟ وماذا يعوز الشعوب من أسباب التقدم لتشق طريقها إلى الأمام؟. رسم القائد العظيم خطته قبل أن يخوض أعظم معركة في ساحات المجد؛ رسمها في صبر لا ينفد وأناة لا تيئس وجلد لا يلين. وكانت أعظم معركة وأشرف معركة: مصدر العظمة فيها أنها انتزعتأمةمن مهاوي العدم، ومنبع الشرف فيها أنها انتشلت شعباً من ظلمات الجهل، وأنتصر الرجل في المعركة الخالدة بسلاحين: سلاح العلم والمعرفة هنا وسلاح الجيش والأسطول هناك. وفي كل(855/1)
خطوة من خطواته فتوح تتري وغزوات!
لست في مجال الإحصاء للمفاخر والمآثر فتلك أمور يسأل عنها كتاب التراجم وكتاب التاريخ، ولكنني في مجال التحية القلمية للعاهل العظيم بمناسبة انقضاء مائة عام على وفاته، وإنها لذكرى تستحق البقاء في كل نفس من نفوس هذا الشعب الذي كافح محمد علي من أجل بقائه، وكافح من بعده أبناؤه وأحفاده من أجل خيره وسمعته وسيادته. . . اليوم وبعد تلك الأعوام المائة ننظر إلى البناء الذي أقمناه بجهادنا على أرضالقومية المصرية، فلا نملك إلا أن نذكر واضع الأساس الأول في هذا البناء، وغداً حين نواصل السير في الطريق الذي نتشوف إلى بلوغ منتهاه، سنرتد بأفكارنا إلى الوراء نلتمس الهدى من تاريخ رجل هو قدوة السائرين في كل طريق.
لقد كان محمد علي مصرياً بالطبع والسليقة وإن لم يكن مصرياً بالمولد والنشأة. وأعظم بهذا المصري الذي شغلته مصر عن وطنه الأول وعن كل ما عداه من أوطان، وأعظم بهذه المصرية التي ألقى صاحبها العظيم في سبيلها من المحن ما لم يلقه إنسان!.
(أ. م)(855/2)
صور من الحياة:
ركن يتداعى
للأستاذ كامل محمود حبيب
لست أنسى - يا صاحبي - أنك كنت لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش!
لقد كنت آن ذاك فتى مدنيّ النشأة والمزني، تختال في الصحة وترفل في العافية، وتتألق على وجهك سمات النعمة وتبدو على جبينك علامات السعة؛ لا تعوزك المتعة الرخيصة ولا تفتقر إلى اللذة التافهة. وأبوك صائغ ماهر يصوغ من الذهب الدور والأطيان. والصائغ ساحر ينفث في العقد ليخلق لنفسه الثراء والغنى؛ غير أنه مبتلى بالشح، مرزأ بالكزازة، يعروه الجزع من الإنفاق، ويدهمه الخوف من البذل: طبيعة ركبت فيه لأنه يرى الكنز بين يديه وهو يتلألأ بريقاً بخطف البصر والقلب، فيشفق أن تبدده لوثة الكرم أو أن يبتلعه داء السخاء. وهكذا كان أبوك - يا صاحبي - صائغاً يصوغ الثروة ويضن بها على نفسه وعلى أولاده، فما تبض يده بالقرش ولا ينبض قلبه بالشفقة. فأصابك بعض قسوته وبخله. وأحسست أنت بغلظة أبيك دون شحه، لأن أمك كانت إلى جانبكن فاعتراك تكسر وفتور من طول ما دعّك عن نفسه وعن مجلسه فنفرت من دارك وأهلك.
أما أنا فكنت فتى ريفي الطبع قروي المزاج، أسترسل في سذاجة وآخذ في قوة وأدفع في عنف، وأنا إذ ذاك قريب عهد بالمدينة، لم تمسني رخاوة المدينة ولا شملتني طراوة الحضارة. أعيش وحيداً في حجرة وضيعة، أحس الشظف والضياع، لا أجد الرفيق ولا المس الراحة، أتقلَّب بين عناء الدرس وعنت الحياة فلا أتململ ولا أضيق، وأتنسم ريح القرية - بين الحين والحين - على أجد فيها بلاغاً، وانتظر هبّات عطف أبي - بين الفينة والفينة - عسى أن أنشق فيها عطر الشفقة. فتعلمت في وحدتي أول مبادئ الصبر والأنفة، فلقنت من فاقتي أول تعاليم الترفع والكبرياء.
واطمأن قلب إلى قلب، وسكنت نفس إلى نفس، فانطلقنا معا ً - جنباً إلى جنب - نجتاز مراحل الدراسة في غير وناء ولا بطئ، صديقين عاشا في صفاء لم يعكره خصا ولا شابه تدابر، وأنطوت الأيام.(855/3)
وتخرجت - يا صاحبي - في مدرستك لتصير موظفاً في وزارة الأشغال، وانفلت من شبح أبيك وقسوته لتنشق - لأول مرة - عبير الحرية والخلاص، ثم اخترت لحياتك فأصبحت - بعد سنوات - زوجاً وأباً ورب أسرة. أما أنا فقد طوحت بي الحياة في مطارحها، لا أستقر في مكان إلا لأفزع عنه، ولا أهدأ في بلد إلا لأطير عنه. فصرفتني شواغل العيش عن أن أراك وأنا لا أنسى أنك كنت لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش.
ثم هفت نفس إليك - بعد عمر من عمري - فانطلقت، فرأيتك رجلاً تتوثب قوة فقوة، وتفيض بشراً وسرورا، يلمع الأمل في ناظروك ويبسم الرضا من نضارتك، وبين يديك صغار يرفون حواليك كالأقمار رونقاً وبهاء، يملأن الدار جمالا وسعادة، ويفعمون قلبك بالغبطة والبهجة. أما زوجك فكانت روح الدار وريحانها.
وحين دخلت دارك، أحسست أنك تسعد هناك بروح الجنة على ثرى الأرض، وأنك تنعم بلذة الخلد في فناء الحياة، وشعرت أنا بأن لأعزب رجل تافه خسر بهاء الدنيا ورونق الأسرة.
ثم ضربت الأيام بيني وبينك - مرة ثانية - فوجدت فقدك في قرارة نفسي ولكن قلبي كان ينبض بالرضا والطمأنينة لأنه رأى دارك تنهق بالسعادة والرفاهية.
وتناهى إلي - بعد سنة واحدة - أنك تطب لمرض ألمّ بك فتاقت روحي إليك، لعليأستطيع أن أرفه عنك بلاء الداء. أو أزيح صفعات الألم. وحين وجدت السبيل إليك، اندفعت أنت تحدثني حديثك، فقلت: (. . . وذهبت أفتش عن دواء لدواء عيني عند طبيب من ذوي الرأي والتجربة. ووجد الطبيب فيّ ضعفاً فاستغله فتهدّم عليّ يستنفد وفرى ويبتلع مالي. وطالت بي مدة العلاج، وللطبيب أسلوب فيه الخديعة والأمل، يستر من ورائه أفنان من الجهل والجشع، وأنا لا أجد معدي عن أن أستسلم في خضوع وأنا أستخذى في ضعف. ثم ارتفعت عن عيني يد الطبيب ففزعت إذ أحسست بأن نور عيني يوشك أن ينطفئ فتظلم الحياة في ناظري إلى الأبد؛ ولكن الأمل كان يعاودني آنا فإنا، لأنني كنت أرى بصيصاً من نور يكشف لي الطريق، فطرت - بعد لأي. إلى الطبيب أستجديه وأستعينه فوضع يده - مرة ثانية - ثم رفعها فإذا أنا أعمى قد كف بصري (آه، يا صاحبي! لقد أنهار كياني وأنهد(855/4)
عزمي وتداعى ركني وأصابتني البلوى في الصميم من قلبي، وفي العزيز من روحي، واعتراني اليأس والأسى، وآذاني ما انتهيت إليه. فكنت أنطلق إلى حجرتي وحيداً أنخرط في بكاء مر طويل، وأنا أشفق على أولادي أن تصفعهم النكبة فتخبوا فيهم جذوة الحياة، وتخمد روح السعادة في الدار، ويعصف بنا الذل ويقتلنا الضنى وتذهب بريحها الفاقة، فكتمت الأمر في قلبي وفي قلب زوجي.
(وثارت ثائرتي - ذات مرة - فانطلقت إلى الطبيب، برفقة زوجي، أريد أن أثأر لنفسي. وحين اندفعت إليه أحاول أن أنشب أظافري في عنقه أنفلت من بين يدي فارتطمت بالجدار فسقطت وأنا أصرخ في غيض وكمد لأنني لم أشف غلة نفسي.
وانطوت الأيام وأنا أعالج لوعة نفسي بالصبر، وآسو جراح قلبي بالتأسي، غير أنني كنت أفزع لكل نأمة وأجزع من كل صوت وأهرب من كل صديق. ورقت مشاعري فلازمني الصمت والبكاء. . . ثم عافت نفسي أن تنزل عن كبريائها، وأنا من بيت دين وورع، يرتفع عن الاستخذاء في البلوى ويسمو على الضعف في الرزء، فأمسكت على مضض وابتسمت على لوعة وأسلستُ على بثّ.
(ثم وقعت بين فكين من الحياة فيهما الغلظة والجفوة، فأنكرني رفاقي في غير رحمة، وفزع عني ذوو قرابتي في غير شفقة أما الحكومة فكانت الداء العياء والبلاء الأكبر، فلقد طردتني من عمل لا أمل فيه ودَّعتني عن مكان لا أصبو إليه، لم ترحم صبيتي ولا أشفقت على ضعفي، فسلبتني راتبي ومنعتني حقي ونبذتني إلى الشارع.
(وفي ذات مساء جاء ساعي المدبر يعتذر بلسان سيده البك عن ما سطرته يد السيد في خطاب الرفت. ورآني الساعي في محنتي فأنكب على يدي يقبلهما في عطف، ويبللهما بدموع المحبة والإخلاص. . . دموع الرقة والإنسانية، فانهمرت عبراتي، انهمرت لأنني ألفيت في الساعي كرماً وشهامة على حين انطوى قلب سيدة البك على ضعة وسفالة).
وثارت شجون صاحبي فماتت الكلمات على لسانه. . . سكت وجبينه يرفض عرقاً لأنه يحاول أن يكتم نوازع نفسه عني وهي تضطرم في عنف وشدة. . . على حين أني لم أنس أنه كان لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش.(855/5)
وأنتفض قلبي في حرقة وأسى. . . أنتفض لأنني رأيت صغاراً يرفون حوالينا كالأقمار رونقاً وبهاء، فماذا. . . ماذا تخبئ لهم الأقدار، يا قلبي؟
كامل محمود حبيب(855/6)
أهل العلم والحكم في ريف فلسطين
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
يرى المتتبع لتاريخ فلسطين، أن الريف كان شاهداً لكثير من المعارك والحوادث الجسام. وقد ضمنت تربيته المقدسة رفات الكثيرين من الصحابة والتابعين الأكرمين.
وفد رأينا أن نسجل على صفحات مجلة الرسالة الغراء ما عثرنا عليه في المصادر العربية، مما يجهله الكثيرون.
ونرجو أن يتسع المجال لنشر ما توصلنا إليه فيرى القراء الكرام، ما أخرجه هذا الريف من رجال العلم والحكم في مختلف العصور، وما تغنى به فحول الشعراء منذ القرن الهجري الأول حتى زوال الدولة العثمانية.
وقد شهد هذا الريف (أجنادين) و (طاعون عمواس) و (ومقتلة الايوبيين) عند نهرأبيفطرس (العوجا) و (حطين) التي هزم فيها الإفرنج، (وعين جالوت) التي قضى فيها على التتار، إلى غير ذلك من الحوادث والمعارك الفاصلة في التاريخ العربي
على أن الريف قد حرك خيال الشعراء، فكان لشعر جرير والمتنبي، وليلى الأخيلية، وجميل، منه نصيب أي نصيب.
ونحن نعلم ونحن نكتب هذه السطور أن بعض الجهلة والمغرضين من الكتاب، والخصوم، قد شوهوا جمال هذا الريف، وقللوا من شأنه كما نعلم أن أهله قد نسوه ونبذوه وأهملوه فأصبحت. كلمة (فلاح) أو (قروي) مرادفة لكلمة جاهل أو محتقر، حتى صار أبناء الريف أنفسهم يشعرون أنهم من طينة غير طينة أبناء المدن المترفين. ومشى مع هذا شعور بالضعة والمذلة تملك النشء القروي وطغى عليه، فصار إذا ما رأى طالباً نال شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي رأى في ذلك أمراً عجباً؛ وإذا ما سمع باسم عالم ريفي يشغل مركزاً في القضاء أو الحكم أستغرب وتعجب، كأنما العلم وقف على المدن والحواضر دون الريف، فكان من جرّاء هذا لشعور المغلوط أن تشّبع أبناء المدن بشعور مبالغ فيه في تقدير قيمة المدن إذا قيست بالقرى فكأنما العلم منشؤه المدن، وكأن الفلاح إنما هو أداة حراثة وحصاد يجد ويشقى لينعم بآثار جهده أبناء المدن وهم قابعون.
على أن الذي ينعم النظر يرى أنه كان لأبناء الريف في فلسطين القدح المعلى في شتى(855/7)
ميادين العلم والإدارة والقضاء في مختلف العصور. إذ كانوا منذ القرون الأولى ما يزالون حملة العلم لا في فلسطين فحسب بل نقلوا مشعلهم معهم إلى ديار الشام ومصر وسائر البلدان العربية.
ونكتفيالآنأن نسجل بعض أسماء من أبناء الريف الفلسطيني فنذكر الحسن اليازوري رئيس وزراء الدولة الفاطمية (القرن الخامس) وقاضي قضاتها وداعي دعاتها وهو من أبناء يازور، قرية على طريق يافا.
بل لنعد قليلاً إلى القرنين الأول والثاني الهجريين، فنذكر موسى بن نصير فاتح قبرص وقائد معاوية، وفاتح الأندلس فقد سبى والده من جبل الخليل وهو اللخمي الفلسطيني الريفي، ثم الربيع بن يونس أبو فروة حاجب المنصور العباسي باني بغداد ووزيره فهو من جبل الخليل أيضاً. وتعال إلى عالم الأدب فلا تنسى أن تذكر عبد الحميد الكاتب القيسراني، نسبة إلى قيسارية، وقد أعتبرها ياقوت قرية الوزير الأموي، الكاتب المنشئ، كما تذكر القاضي الفاضل البيساني نسبة إلى بيسان، المدينة الريفية الفلسطينية مستشار صلاح الدين، المؤرخ المنشئ البليغ والمصلح العمراني المجاهد الذي قال صلاح الدين عنه أنه لم يفتح البلاد إلا بقلمه.
بل لقد أخرج الريف الفلسطيني عدداً من الأسر العلمية التي ساهمت أكبر مساهمة في الحركة الفكرية في القرون الوسطى في فلسطين والشام ومصرن فمنهم بنو كنانة العسقلانيون، وقد تفرقوا بعد خراب عسقلان بعد القرن السادس فكان لهم فضل عظيم في نشر العلم والفقه واللغة. ومنهم بنو غانم المقدسيون (من يورين) في جبل نابلس الذين أسلمهم صلاح الدين خانقاً في القدس فظل نجمهم يسطع حتى القرن العاشر. ومنهم بنو قدامة الجمَّاعيليون، من جمَّاعيل جبل نابلس، الذين نزحوا إلى دمشق في القرن السادس فأسسوا فيها الصالحية ومدرسة أبي عمر. فكانت مركزاً هاماً لتدريس الفقه الحنبلي خاصة مما كان له أبلغ الأثر في دمشق والشام والعالم الإسلامي عامة.
بل ماذا نقول فيما أخرجته (رامين) في جبل نابلس مما سيطلع عليه القارئ فيما بعد، أو ما ساهمت به (مردا) من العلماء والعالمات حتى كادوا يحتكرون العلم في تلك العصور الغابرة ويحملون مشعلة دون سواهم.(855/8)
هذا وقد أخرج الريف الفلسطيني عشرات بل مئات من المؤلفين والأدباء، فهذا الجمال البشيتي (نسبة إلى بشيت من أعمال الرملة) يكتب في الألفاظ المعربة، وهذا المحبي صاحب سلك لدرر يقتبس من الحسن البوريني (نسبة إلى يورين جبل نابلس، ويعتبره مرجعه، ويعترف له بذلك في مقدمة كتابه النفيس وهو أعظم مراجعنا عن الحركة الفكرية في القرن الحادي عشر في هذه الديار.
ففي علوم القرآن، والفقه، ورواية الحديث، وفي التصوف والأصول والفرائض، وعلم الكتاب والمذاهب الأرنعة، وفي علوم اللغة، من قواعد ونثر ونظم، وفي إنشاء الرسائل، وفي التاريخ والطبقات والرحلات بل وفي علوم النجوم والرمل والزايرجا، في جميع هذه العلوم التي تؤلف مادة العلوم الإسلامية منذ القرون الأولى ساهم أهل الريف في فلسطين مساهمة تضعهم في الصف الأول من خدمة الثقافة والعلوم في هذه الديار.
وقد استثنينا من بحثنا المدن الفلسطينية الكبرى كالقدس، والرملة، وغزة والخليل، ونابلس ويافا وعكا وصفد، واعتبرنا أرسوف وقيسارية وعسقلان من بلدان الريف لا المدن.
ولم ستئن الناصرة على اعتبار أنها كانت قرية من أعمال صفد، وحيفا لأنها كانت بليدة، وبيبسان هي أقرب إلى المدن الريفية منها إلى المدن والقصبات.
وقد رتبنا قرى الريف، على الحروف الأبجدية ليسهل الرجوع إليها، واعتمدنا معجم ياقوت كأساس للقرى العربية، كما أثبتنا غير ذلك من القرى مما ورد ذكره في المصادر العربية الأخرى.
مشاهد فلسطين، وبقاعها، وأنهارها، وجبالها في المصادر
العربية:
أجناد الشام: لما فتح العرب الشام قسّموها إلى خمسة أجناد وهي جمع جُند ومنها جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرّين. قال أبن جار اختلفوا في الأخبار فقيل سمّي المسلمون فلسطين جنداً لأنه جمع كوراً، والتحند والتجمّع، وجندت جنداً أي جمعة جمعاً، وكذلك بقية الأجناد. وقيل سمية كل ناحية بجند لأنهم كانوا يقبضون أعطياتهم فيه.(855/9)
قال الفرزدق:
فقلت ما هو إلا الشام تركبُهُ ... كأنما الموت في أجناده البغرُ
وجاء في معجم ياقوت ح6 - 397 عن فلسطين ما يأتي:
(العرب في إعرابها على مذهبين: منهم من يقول فلسطين ويجعلها بمنزلة مالاً ينصرف ويلزمها الياء في كل حال فيقول هذه فلسطينُ ورأيت فلسطين ومررت بفلسطين. ومنهم من يجعلها بمنزلة الجمع ويجعل إعرابها بالحرف الذي قبل النون فيقول هذه فَلسطين ورأيت فلسطين ومررت بفلسطينَ. كذا ضبطه الأزهري والنسبة إليه فلسطى. قال الأعشى:
ومثلك خَوْدٌ بادن قد طبتها ... وساعيت معصياً لدنيا وُشاتها
متى تُسق من أنيابها بعد هجعة ... من الليل شرباً حين مالت طلاتها
تعله فلسطياً إذا ذقت طعمه ... على ربذات التي حمسٌ لثاُتها
وهي آخر كور الشام من ناحية مصر قصبتها بيت المقدس. ومن مشهور مدنها عسقلان والرملة وغزة وأرسوف وقيسارية ونابلس وأريحا وعمان ويافة وبيت جبرين أولها رفح من ناحية مصر وآخرها اللجون (مجرو - أو تل المتسلم) من ناحية الغور عرضها من يافا إلى أريحا نحو ثلاثة أيام، وزغر (بحيرة لوط أو البحر الميت) ديار لوط وجبال الشراة إلى آيلة (العقبة) كله مضموم إلى جند فلسطين، وغير ذلك وأكثرها جبال والسهل فيها قليل.
ولو أن طيراً كلفت مثل سيره ... إلى واسط من إيلياء لكلت
سما بالمهارى من فلسطين بعد ما ... دنا الشمس من فئ إليها فولت
قال ألبستي، وكان ورد بغداد رسولاً من غزنة يذكر فلسطين والتزم ما لا يلزمه من الطاء والياء والنون يمدح عميد الرؤساء أبا طاهر محمد بن أيوب وزير القادر بالله ثم القائم:
العبد خادم مولانا وكاتبه ... ملك الملوك وسلطان السلاطين
قد قال فيك وزير الملك قافيةً ... تطوى البلاد إلى أقصى فلسطين
كالسحر يخلب من يرعيه مسمعه ... لكنه ليس من سحر الشياطين
فأرعه سمعك الميمون طائره ... لا زال حليك حلى الكتب والطين
وعشت أطول ما تختار من أمد ... في ظل عر وتوطيد وتوطين
وقال أبن عرمة:(855/10)
كأن فاها لمن تؤنسه ... بعد عبوب الرقاد والعَلل
كأس فلسطية معتقة ... شيبت بماء من مزنة النسل
قال أبن الكلبي في قوله تعالى (يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) هي أرض فلسطين. وفي قوله تعالى (الأرض التي باركنا فيها للعالمين) قال هي فلسطين.
قال عدي بن الرقاع:
فكأني من ذكركم خالطتني ... من فلسطين جلس خمر عقار
عتقت في الدنان من بيت رأس ... سنوات وما سبقها التجار
فهي صهباء تترك المرء أغشى ... في بياض العينين منها احمرار
أحمد سلم الخالدي(855/11)
بين أبن خلدون ومنتسكبو:
القوانين والمجتمع
للأستاذ محمد محمود زيتون
عاش أبن خلدون المغربي المسلم في القرن الرابع عشر، وتأمل التاريخ فوضع موسوعته الخالدة (المقدمة)، وهي أول بحث علمي منظم في الاجتماع، وبعده بأربعة قرون جاء منتسكيو الفرنسي المسيحي بكتابه (روح القوانين) أستغرق في وضعه عشرين عاماً قضاها في دراسات واسعة في المجتمعات وظروفها السياسية والاجتماعية والدينية التي تحدد قوانينها.
عني أبن خلدون بالاجتماع الإنساني وما يلحقه من العوارض والأحوال كما أهتم منتسكيو بالمناخ والدين والقوانين والنظم الحكومية والتقاليد والعادات والأحوال المعيشية، وكلها أمور تتحكم في المجتمع وتؤلف (الروح العامة) وهي ما يحدد خصائص الأمة، ويميز شخصيتها عن سائر الأمم. وبمقتضى هذه الروح العامة يجب أن تسن القوانين (ويجب أن تكون القوانين ملائمة للشعب الذي من أجله سنَّتْ بحيث إذا لاءمت شعباً آخر غيره كان ارتباك عظيم. . . ويجب أن تكون متمشية مع طبيعة البلد ومناخه. . . ومع طبيعة أرضه وموقعه وأتساعه، ومع نوع المعيشة التي يعيشها الشعب من زراعة أو صيد أو رعي، ويجب أن نتفق أيضاً مع مقدار الحرية التي كفلها الدستور، ومع ديانة السكان وميولهم وثروتهم وتعدادهم وتجارتهم وعاداتهم وأحوالهم العامة. . . في كل هذه النواحي يجب أن نعالج القوانين).
وينشأ الاجتماع الإنساني - في رأي أبن خلدون - عن الإحساس بالضعْف من جانب الفرد في الحصول على الغذاء والسلاح، وعن الظلم والعدوان مما لا يزال عالقاً بالنوع الإنساني. أما منتسكيو فيرى أن ما يقرب بين الحيوان وأفراد جنسه إنما هي بوادر الخوف المشترك، وكذلك الإنسان.
ولقد أراد (دوركيم) زعيم المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة أن يصبغ جهوده في الاجتماع بالصبغة العلمية فميز في هذا العلم ناحيته (الاستقرارية هو معروف في العلوم البحتة كالميكانيكا والكهربائية وغيرهما).(855/12)
فطن أبن خلدون إلى هذا قبل (دوركيم) إذ يرى أن المجتمع ينتقل من البداوة إلى الحضارة، وهما حالتان طبيعيتان تعرضان له حتى توفرت الظروف. ويحدث هذا التطور تبعاً لنوع المعاش وانتقاله ومن البسيط إلى المركب، من الضروري إلى الكمالي، ومن البداوة إلى الحضارة: فأهل البدو على الفطرة الأولى، وهم أقرب إلى الخير من أهل الحضر، ونظراً (لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم) فهم لذلك أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر.
ومن مظاهر البداوة: (العصبية) التي تكون بالالتحام بالنسب بين القبائل و (سكني البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية) التي بها (تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم) وتكون الرياسة لمن كان (أعرق في البداوة وأكثر توحشاً (والرياسة في نظر أبن خلدون سؤدد، وإذا أنقلب السؤدد إلى الحكم بالقهر والغلبة انتقلت الرياسة إلى الملك وطرأت على المجتمع عوارض الترف والنعيم والأنقياد، ويعرض له التنافس في معالي الأمور كما تعاوره الوحشية وبكل ذاك يكون المجتمع في صميم طور الحضارةلأنالمعاش كان ضرورياً فصار كمالياً، ولأن (الحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع). والملك يتسع إذا كان أساسه الدين أولاً.
هذا هو المجتمع الدنياميكي عند أبن خلدون. أما منتسكيو فيستنتج قوانين طبيعية أولا هي أسباب التطور في المجتمع، منها السلم الناشئ عن شعور الفرد بضعفه إزاء المتوحشين فيشعر (بالدونية) ولا يشعر بالمساواة، ولا يرغب في المهاجمة فيسالم، ويتلو الشعور بالسلم الشعور بالحاجة ثم الشعور بالفرحة المشتركة.
ومن أهم العوامل الفعالة في المجتمع الإنساني (الدين) لما له من أثر في الأخلاق والتربية، وكذلك في السياسة والملك. ويفضل أبن خلدون الأحكام الشرعية على الأحكام التعليمية لأن الأولى يكون الوازع فيها هو الضمير لا المخافة والانقياد كما هو الشأن في الأخرى. لهذا يعتبر التعاليم الشرعية هي أصول التربية والأخلاق، وكل ما عداها مفسد ضار، (فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس، لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي).(855/13)
وللدين الأثر القوي في الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، (لان الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب، وتأليفها، إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. . . وسرُّه أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل، حصل التنافس، وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق، اتحدت وجهتها فذهب التنافس، وقل الخلاف، وحسن التعاون، والتعاضد، وأتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة). والدعوة الدينية في نظره تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية، والإمام خليفة عن صاحب الشرع.
أما منتسكيو - مع سعة إحاطته بالدين المقارن - فإنه ينظر إلى الدين من حيث صلاحيته للدولة (فسوف لا أعالج مختلف أديان العالم إلا من حيث علاقتها بالخير الذي تحققه للدولة). ويقول (إن الأمير الذي يحب الدين ويخشاه إنما هو أسد يذعن لليد التي تدلله، أو الصوت الذي يناغيه، والأمير الذي يخشى الدين ويبغضه إنما هو الوحش الضاري الذي يعض السلسلة التي تمنعه من التهجم على المارة، وأما ذلك الذي لا دين له أصلاً فهو ذلك الحيوان المرعب الذي لا يشعر بحريته إلا عند ما يتهجم ويفترس).
لهذا أخذ منتسكيو يعرض على كل حكومة ما يناسبها من الأديان والمذاهب حسب اعتدال هذه الحكومة أو استبدادها (لأن الدين يتبع عادة لون الحكومة) ولأن الدين خير ضامن للناس إخلاص الناس، فإذا وجب ألا يتعارض الدين مع القوانين فقد وجب كذلك ألا يتعارض مع الأخلاق.
يفترض أبن خلدون الفوضى قبل الملك وبعده مما يوجب السياسة الدينية التي يقررها الشرع، أما السياسة العقلية التي يفوضها العقلاء فإنها لا ترقى إلى غاية الأحكام الشرعية. (فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع، وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان).
وأنواع الملك ثلاثة: الملك الطبيعي، والملك السياسي، والخلافة. فالأول حمل الكافة على الغرض والشهوة، والثاني حملهم على العقل في جلب النفع الدنيوي، ودفع الضرر، والأخير هو حملهم على الشرع دنيا وأخرى، وهي خلاف عن صاحب الشرع في حراسة(855/14)
الدين وسياسة الدنيا.
وإذ تتكون الدولة على هذا النحو، يستقصي أبن خلدون أطوارها الخمسة فيما يلي: - الظفر والاستبداد والترف والمسللة والإسراف: ويرى أيضاً أن المال والجند هما العاملان الرئيسيان في إقامة دعائم الملك إذا وجد، وتقويضها إذا فقدا.
ويستطرد من البحث في الخلافة التي هي الملك الصحيح أو الدولة المثالية إلى البحث في ماهيتها وشروطها وخططها التي في مقدمتها الصلاة، ثم تطورها وانتقالها إلى الملك، ولا ينسى الحروب وأسبابها التي لا تعدو أن تكون من هذه الأربعة: - غيرة ومنافسة، عدوان، غضب لله ولدينه، غضب للملك. والنوعان الأولان حروب بغي وفتنة، والآخران حروب جهاد وعدل.
والعادات تتأثر بالسياسة، فالناس على دين الملك، وعوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، والمغلوب يقلد الغالب، وتعاقب الأمم والأجيال في الملك يؤدي إلى المخالفة في العادات باطراد. والفضيلة دعامة قوية لقيام الدولة، والعدل أساس الملك، والظلم فساد للدولة وإفساد للرعية.
وعند منتسكيو أن القوانين تنجم عن طبائع الأشياء، والموضوعية منها أو السياسية التي تواضع عليها العقل الإنساني ما هي غلا حالات يتجلى فيها العقل، وهذه القوانين دولية وتشريعية ومدنية: الأولى تتعلق بما بين الدول من علاقات، فهي القانون الدولي العام، والثانية تتعلق بما بين السلطات التي تنظم الدولة من جهة، وبما بينها وبين الدولة من جهة أخرى، والأخيرة تتعلق بتنظيم العلاقات بين الأفراد. ثم يتحدث عن العلاقة بين القوانين الوضعية وبين شكل الحكومة، والأسس التي يقوم عليها الحكم والبيئة الجغرافية والاقتصاد وكل هاتيك العناصر التي تسمى (الروح العامة).
والحكومات عنده أربع: الجمهورية وهي إما ديمقراطية أو أرستقراطية، والملكية، والمستبدة، ولكل حكومة فضيلة تخصها، فالديمقراطية فضيلتها حب الوطن أو حب المساواة، والأرستقراطية فضيلتها الاعتدال، والملكية فضيلتها الشرف، والاستبدادية صفتها السياسية والخوف، فهي إذن فضائل سياسية لا تمت بصلة إلى الدين أو الأخلاق.
ويقول أبن خلدون (إن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس،(855/15)
وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالخديعة والمكر والكذب، فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحرب. . .).
وللإصلاح الاجتماعي حدود في منتسكيو إذ يقول) إذا أراد أمير أن يغير من أحوال شعبه فعليه أن يصلح بالقوانين ما هو مؤسس بالقوانين، وأن يغير بالعادات ما هو مؤسس بالعادات، وإنها لسياسة عمياء أن يغير بالقوانين ما يجب تغييره بالعادات).
أما أبن خلدون فإنه ينشد الإصلاح الاجتماعي الذي غايته الاقتداء (إذ هو - أي التاريخ - يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا).
فالظواهر الاجتماعية والعوامل الطبيعية ذات علائق بالقوانين المشتقة من الروح العامة لتي تنتج عن تفاعل هذه العوامل، وتلك الظواهر في كل مجتمع على حدة.
ومن هذا العرض الموجز يرى القارئ مدى الائتلاف والاختلاف بين أبن خلدون رائد التاريخ، وبين منتسكيو رائد السياسة وكيف التقيا في ميدان الاجتماع.
محمد محمود زيتون(855/16)
صدى مقتل الحسين
في التاريخ الإسلامي والأدب العربي
للأستاذ ضياء الدخيلي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولما كان يوم عاشوراء من سنة 516 هـ جلس الخليفة الآمر بأحكام الله على باب (الباذهنج) في القصر وكان ذلك بعد قتل الأفضل وعود الأسمطة إلى القصر - على كرسي جريد بغير مخدة متلثما هو وجميع حاشيته، فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار والصغار بالقرانيز (ويقول البعض هي على ما يظهر ثياب خاصة ملونة بالقرمز) وإذن للقاضي الداعي والإشراف والأمراء بالسلام عليه وهم بغير مناديل ملثمون حافاة، وعبئ السماط في غير موضعه المعتاد وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان في الأيام الأفضلية وتقدم إلى وإلى مصر والقاهرة بأن لا يمكننا أحداً من جمع ولا قراءة مصرع الحسين وخرج الرسم المطلق للمتصدرين والقراء والوعاظ والشعراء وغيرهم على ما جرت به عاداتهم.
قال وفي ليلة عاشوراء من سنة 527 أعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضي إلى تربة قبر) أمير الجيوش وحضور جميع لمتصدرين والوعاظ وقراء القرآن والمكث إلى آخر الليل والعودة إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك وجلس الخليفة على الأرض متلثماً يرى به الحزن وحضر في شرف بالسلام عليه والجلوس على السماط بما جرت به العادة.
هذا ما كان يحدث من احتفالات في ذكرى مصرع سيدنا الحسين (ع) قبل أن يشاد الضريح الحسيني حيث دفن فيه رأس الأمام الشهيد منقولا من عسقلان. أما بعد ذلك تحدث أبن الطوير عما كان يصنع في عاشوراء فقال: إذا كان اليوم العاشر من المحرم أحتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود وقد غيروا زيهم ليكونوا كما هم عليه اليوم (في عهد الناقل أبن الطوير) ثم صاروا إلى المشهد الحسيني وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر، فإذا جلسوا فيه ومن معهم من قراء الحضرة والمتصدرين في(855/17)
الجوامع جاء الوزير فجلس صدراً والقاضي والذاعي على جانبيه والقراء يقرءون نوبة بنوبة وينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعراً يرثون به أهل البيت عليهم السلام؛ فإن كان لوزير رافضاً تغالوا، وإن كان سنياً اقتصدوا. ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي ثلاث ساعات فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل فيركب الوزير وهو بمنديل صغير إلى داره ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت مصاطبها بالحصر بدل ابسط وينصب في الأماكن الخالية من المصاطب دكك لتلحق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالساً هناك فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه والناس على اختلاف طبقاتهم فيقرأ القراء وينشد المنشدونأيضاً ثميفرش عليها سماط الحزن وفيه مقدار ألف زبديه من العدس والملحات والمخللات والاجبان والألبان الساذجة وأعسال النحل والفطير المغير لونه بالقصد فإذا قرب الظهر وقف صاب الباب وصاحب المائدة أدخل الناس للأكل منه فيدخل القاضي والداعي ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير والمذكوران إلى جانبه وفي الناس من لا يدخل ولا يلزم أحداً بذلك فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركباناً بذلك الزي الذي ظهروا فيه وطاف النواح في القاهرة ذلك اليوم وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر فيفتح الناس بعد ذلك ويتصرفون. أما الدولة الأيوبية فقد اتخذت يوم عاشوراء عيداً ومن أيام الأفراح لإرغام أناف الشيعة وإيذائهم.
هذا هو أثر فاجعة كربلاء في التاريخ الإسلامي.
أما في الأدب العربي فقد أوجدت فيه ناحية قائمة يعلو فيها الصراخ والعويل وتردد في جوانبها الثورة على الظلم القبيح وامتداح الإباء وشرف النفس والتمنع عن دنايا الأمور. كان هذا القسم من الأدب العربي طافحاً بتصوير مآسي كربلاء بخطوط واضحة سوداء وأجتهد في أن يبرز كل جانب من جوانبها مؤلماً يهطل بالدموع ويثير الآهات والحسرات خاصة بعد أن ترديد فاجعة كربلاء على الجماهير مهنة تدر الربح الوفير كما كان حال النواح والمنشدين في العصر الفاطمي بمصر كما تقدم على ما نقل المقريزي في الخطط وكما هو الشأن اليوم في العراق وإيران والهند وجبل عامل وغيرها من الأصقاع الشيعية، ويدعى هؤلاء (خطباء المنبر الحسيني) ويسمون في اللغة الفارسية (روزه خون) وهي تحريف (روضة خون) أي قارئ الروضة الإمام الشهيد يعني قبره الكريم.(855/18)
وقد ألفت كتب في هذا الموضوع استعرضت تاريخ الفاجعة بصورة مسهبة فضفاضة وشحنت بالقصائد لمعولة باللغة الفصحى والعامية كما أنه نشأ في الأدب الفارسي والأدب الهندي والتركي أيضاً قصائد طويلة تردد مأساة كربلاء ونرى أبناء هذه الأمم ينشدونها عندما يقدمون العراق لزيارة قبر الإمام الشهيد في كربلاء أو أبيه في النجف الأشرف وأن أبرز رثاة الحسين (ع) في الأدب العربي هو السيد حيدر الحلي وقد عرفنا به كتاب (العراقيات) بأنه كان رحمه الله شاعر العراق على الإطلاق حُلّى البلد (نسبة إلى مدينة الحلة على الفرات قرب أطلال بابل التاريخية) هاشمي النسب ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وقد ولد في شعبان في سنة 1246 وتوفى في ربيع الآخر من سنة 1304هـ وعرف بشاعر أهل البيت حيث انتحى في أكثر شعره مدحهم ورثاهم؛ وقد بلغ من رثائهم درجة سامية لم يدع فيها سبقاً لمستبق من مقدما الشعراء ومتأخريهم. على أنه لم يقصر في النسيب والفخر والمديح عن غيره من فطاحل شعراء العراق قال في رثاء سيدنا الحسين (ع)
قد عهدنا الربوع وهي ربيع ... أين. .؟ لا أين انسها المجموع
درج الحي أن تتبع عنها ... نجع الغيثأمبدهياء ربعوا
لا تقل شملها النوى صدعته ... إنما شمل صدري المصدوع
كيف أعدت بلسعة الهم قلبي ... وثراها يرقى به الملسوع
سبق الدمع حين قلت سقتها ... فتركت السما وقلت الدموع
فكأني في صحنها وهو قعب ... أحلب المزن والجفون ضروع
بت ليل التمام أنشد فيها ... هل لماض من الزمان رجوع
شاطرتني بزعمها الداء حزناً ... حين أنت وقلبي الموجوع
يا طروب العشي خلقك عني ... ما حنيني صبابة وولوع
لم يرعني نوى الخنيط ولكن ... من جوى الطفَّ راعني ما يروع
قد عذلت الجزوع وهو صبور ... وعذرت الصبور وهو جزوع
عجباً للعيون لم تغد بيضا ... لمصاب تحمر فيه الدموع
وأسى شابة الليالي عليه ... وهو للحشر في القلوب رضيع(855/19)
أي يوم بشفرة البغي فيه ... عاد أنف الإسلام وهو جديع
ما لشمس النهار فيه طلوع ... ولشمس الحديد فيه طلوع
أينما طارت النفوس شعاعاً ... فلطير الزدى عليها وقوع
قد تواصلت بالصبر فيه رجال ... في حشى الموت من لقاها صدوع
ضياء الدخيلي(855/20)
سلطان المماليك في العهد العثماني
للأستاذ عبد الباسط محمد حسنسلطان
كثيراً ما يتساءل المؤرخون والباحثون: لماذا لم يتخلص السلطان سليم العثماني من البقية الباقية من المماليك بعد أن تم له فتح مصر في سنة 1517م؟ ولماذا لم يقض عليهم قضاءً نهائياً حتى يستريح منهم ومن أحقادهم. . ويخلص البلاد من شرورهم وآثامهم؟
أكان ذلك ناتجاً عن ضعف الدولة العثمانية. . وعجزها عن القضاء عليهم. . أم كان ذلك. وفقاً لخطة موضوعة. . وسياسة مرسومة؟
الواقع أن السلطان سليما، كان رجلاً حربياً وإدارياً من الطراز الممتاز. . بحيث أننا لا نستطيع أن نقول أنه أخطأ في عمله هذا. . خصوصاً وأنه لم يرتجل سياسته التي سار عليها في حكم البلاد. . بل أنه فكر فيها كثيراً قبل أن يضعها. . وبقي في مصر. . فترة من الزمن بعد انتصاره على قوات المماليك، لتعرف على نظم الحكم فيها، ولوضع سياسة ثابتة، تضمن بقاء مصر تابعة له وللدولة العثمانية. . ولو كان السلطان يرى في وجود المماليك بمصر خطراً يهدده. لتخلص منه ولأفناهم عن أخرهم. .
لقد رأى السلطان ببعد نضره وثاقب فكره أن بعد مصر عن مقر الحكم في الآستانة. . قد يساعد حكامها وولاتها على الاستقلال عن الباب العالي، فقضى بتوزيع السلطة بين عدة عناصر: فالباشا ومعاونوه يمثلون السلطان العثماني ويحكمون الولاية ويشرفون على إدارتها. . والديوان يعاون الباشا في الحكم، وله حق عزله والاتصال رأساً بالباب العالي. . والحامية العثمانية تشترك في الحكم والإدارة أيضاً. . إلى جانب مهمتها الحربية. . ثم هناك إلى جانب هذه الهيئات الثلاث هيئة أمراء المماليك من رجال العسكرية. . يشتركون في الحكم والإدارة وفي الدفاع عن حدود البلاد وقد كان في مقدور السلطان وفي استطاعته أن يقضي على قوات المماليك. . خصوصاً وأن الدولة العثمانية كانت في ذلك الوقت في أوج قوتها ومجدها. . وكانت لها ممتلكات واسعة في البلقان والأناضول والشام وأرض الجزيرة والفرات، وكانت تتمتع بسيادة كبيرة على شبه جزيرة العرب. . فكان في إمكانه أن يشتت شمل هؤلاء المماليك ويفرق جموعهم. . ويقضي عليهم قضاءً مبرماً، حتى لا تقوم لهم بعد ذلك قائمة. . ولكن السلطان سليم أبقاهم في البلاد، لأنه كان في أشد الحاجة إليهم وإلى(855/21)
جهودهم. . كما أن بقائهم في مصر كان متمشيا مع سياسة الدولة العثمانية في حكم الشعوب الخاضعة لها. فالدولة العثمانية لم تُغير كثيراً من نظم البلاد المفتوحة ولا سيما أن أمراء المماليك عاشوا في مصر مدة طويلة. . وعرفوا أحوالها، وخبروا عادات أهلها ونظم الحكم فيها. فكان من السهل عليهم أن يدبروا دفة الحكم في البلاد، بخلاف العثمانيين الذين لم تكن لهم سابقة عهد بمصر ولا بالمصريين. . ومن ناحية أخرى رأى السلطان سليم أن يترك أمراء المماليك يشتركون في حكم البلاد، ليحفظوا التوازن بين الوالي ورجال الحامية العثمانية وحتى لا يفكر أحد في الاستقلال بحكم البلاد والخروج عليه في يوم من الأيام. بقول على باشا مبارك في خططته التوفيقية. . الجزء السابع (لما أخذ السلطان سليم مصر. . ورأى غالب حكامها من المماليك الذين ورثوها عن سادتهم، رأى أن بعد الولاية عن مركز الدولة. . ربما أوجب خروج حاكمها عن مركز الدولة. . ربما أوجب خروج حاكمها عن الطاعة. . وتطلعه للاستقلال. . فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاث أقسام. . . كل قسم منها يشرف على القسمين الآخرين). .
من هذا يتبين أن إبقاء المماليك في البلاد، وإشراكهم في الحكم، كان الغرض منه أيجاد التوازن بين الهيئات الحاكمة، والاستفادة منهم في حكم مصر. .
ظلت سياسة السلطان سليم معمولا بها طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر. . واستمر هذا النظام نافذاً طوال هذه المدة. . كانت فيه الدولة العثمانية حافظة لمركزها وسمعتها الحربية؛ فلما ظهر ضعف تركيا الحربي وأنتشر الفساد والاضطراب داخل البلاد لم يعد هذا النظام نافذاً. . وأخذة قوة المماليك تزداد شيئاً فشياً حتى أصبحت لهم السلطة الفعلية في البلاد. . والسبب في ذلك أن المماليك كانوا يشترون الرقيق من جورجيا والقوقاز وبلاد اجركس وكانوا يأتون بهم إلى مصر. . ويدربونهم في سن مبكرة على أعمل الحرب والفروسية. . ويعلمونهم الكتابة والقراءة ويحفظونهم القرآن. . حتى إذا بلغوا الثامنة عشرة، رقوهم إلى رتبة البكوية وجردوهم ومنحوهم مالاً وأرضاً وجواري وهؤلاء يتزوجون بدورهم. . . ويملئون بيوتهم بالرقيق كما فعل أسيادهم من قبل. . . وهذا كان سبباً في كثيرة عددهم في البلاد. . . حتى أن عدد المماليك الكبار في أواخر القرن الثامن عشر عند زيارة (فولني) لمصر بلغ نحو (8500مملوَك) ينفق الواحد منهم على سلاحه(855/22)
وملبسه وزوجاته وسراريه نحو (2500جنيه) في العام على تقدير فولني. يقول علي باشا مبارك (وأخذت البكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية، مآل الأمر والنهي لهم في الحكومة. . . وصارت سلطة الدولة العثمانية في الديار المصرية غير حقيقية. ولو كانت الدولة العثمانية تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان). . .
كانت نتيجة لهذه السياسة. . . أن قوى نفوذ المماليك لدرجة كبيرة جداً. . . حتى إنهم كانوا يعزلون الولاة حينما يشاءون. زد على ذلك أن ضباط الجيش وفرقه وهم أعضاء الديوان قد تدهورت حالتهم الأدبية، وأفقدتهم عيشة الخمول والكسل صفاتهم الحربية الأولى. . . فتقربوا من بكوات المماليك الذين استأثروا بالسلطة وأصبح بيدهم الأمر ولنهي في البلاد (حتى أن أحد بكواتهم وهو على بك الكبير) استطاع أن يعلن استقلال مصر في 1769. . كما أن المماليك كانوا كثيراً ما يماطلون الدولة في إرسال الخراج. . (ولرغبة الدولة في استرضائهم لكيلا يمنعوا الخراج عنها. . . كانت لا تكاد تبعث بوال من قبلها، حتى تعزله وتعين بدله. . . حتى لقد بلغ عدد ولاتها منذ الفتح العثماني إلى الاحتلال الفرنسي. . . إي من سنة 1517م - 1798 نحو 285 سنة أكثر من مائة وال قل من أقام منهم أكثر من عامين. . وكثير من بدل كل عام).
بهذا نكون قد بينا الأسباب التي دعت السلطان سليم إلى ترك المماليك في مصر. . وإشراكهم في الحكم. . . ونكون أيضاً قد استعرضنا حالتهم من وقت الفتح العثماني وبينا العوامل التي أدت إلى زيادة نفوذهم في البلاد. . . وهناك ناحية أخرى يجب ألا نغفلها. . . وهي حالة الشعب المصري تحت حكم هؤلاء المماليك.
قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، كانت التجارة تمر عن طريق مصر. . . فكان المماليك يأخذون منها ما يشاءون من ضرائب وهدايا ورشا. . . هذا غير السلب والنهب. . . وكانوا قانعين بما يفرضونه من الضرائب على المتاجر الأجنبية. . . وما يدخل في خزائنهم من المال. . . بحيث لم يروا ضرورة لظلم الفلاح. . . وأخذوا يعيشون عيشة بذخ وترف. . . فيرتدون أحسن المنسوجات. . . ويسكنون أفخم القصور. . . ولكن الحالة لم تدم على ذلك. . . فعندما تغير طريق التجارة إلى راس الرجاء الصالح. . . قلت الأموال(855/23)
التي كانت تتدفق على مصر. . . فلم يجد المماليك بداً من فرض ضرائب باهظة على الأهالي. . . ولم يكن شرهم إلى المال قاصراً على حاجتهم إليه. . . فلو كان الأمر كذلك لهان الأمر. . . ولكن نظامهم قضىبألا يقوم لواحد منهم شأن إلا بالإكثار من المال وذلك لشراء المماليك. . . والإغداق عليهم من أمواله وجاه حتى يضلوا على ولائهم. . . لهذا أخذوا يمتصون دماء الشعب، ويحملونه مالا طاقة له به. حتى وصل الحال بالفلاح المصري إلى أنه لم يجد سكناً يقيم فيه. فكان يلتحف العراء، وذو اليسار منهم يعيش في أكواخ من الطين، ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوى الخبز الأسود المصنوع من الذرة والحلبة. . . يتناوله بالبصل النيئ أو الأعشاب التي يجمعها من حروف الترع والمجاري، ويطبخها بغير إدام، وكان رداؤه قطعة من القماش المصبوغ بالنيلة وهي ميراث الفلاحين وأليها ينسبون (أصحاب الجلابيب الزرقاء). . . وأما الغنى والرفاهية، والبذخ، والذهب، والفضة. . . فقد كانت للمماليك. . . ذكر فولني في كتابه (رحلة إلى مصر وسوريا) أن علي بك الكبير ابتاع خنجراً مرصعاً بالجواهر الكريمة بمبلغ 225 ألف جنيه، وأنه حينما خذله أنصاره، التجأ إلى صديقه الشيخ ظاهر في عكا، وكان مقدار ما أخذه معه من الأموال (حوالي أربعة وعشرين جنيه)، يحملها على 25 جملاً، وكان معه من المصاغ والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك. ويذكر أحد المؤرخين الذين زاروا مصر بعد سقوط القاهرة في أيدي الفرنسيين أن الجنود الفرنسيين كانوا يجدون في ملابس كل واحد من المماليك الصرعى في ميدان القتال في واقعة أمبابة ما لا يقل عن مائتين أو مائتين وخمسين قطعة من الذهب عدا ما تقدر به ملابس الواحد منهم وطيلسانه وسلاحه وسراج جواده من المبالغ الطائلة، هذا في الوقت الذي لم يكن أهل مصر يجدون فيه ما يأكلون!
وكان المماليك كثيراً ما يتنازعون فيما بينهم للوصول إلى الحكم، ووجدت بينهم فتن وقلاقل وحروب داخلية عنيفة كانت توقع الفوضى بالبلاد، وكانت الدولة العثمانية تعمل على بقاء هذه المنازعات بينهم. . . بل أنها كانت تعمل على التفرقة بينهم وغرس بذور الأحقاد في صدورهم. حتى لا يستبدوا بالسلطة. فلم يكن من المعقول - والحال كذلك - أن تصلح حال الشعب المصري، وحكامه المتصرفون في أمره. . . منقسمون على أنفسهم، لا هم لهم إلا جمع الأموال. . . ولا غرض لهم ولا مأرب إلا الوصول إلى الحكم والسيطرة على مقاليد(855/24)
الأمور في البلاد.
كما أن المماليك كانوا كثيراً ما يعزلون الولاة. فلم تتح لهؤلاء الفرصة للإصلاح. . . ولقد كان بعض أولئك الولاة كما أثبت المؤرخون، من أهل الكفاية والإخلاص، وذوي الرغبة في إصلاح ما أختل وفسد من شئون هذه البلاد. . . فلا يكاد يشعر المماليك برغبته في الضرب على أيديهم. . . وكف مظالمهم. . . حتى يقرروا عزله، وكانت الدولة العثمانية تساعدهم على ذلك وتسترضيهم حتى لا يمنعوا عنها الخراج.
لقد أخطأت الدولة العثمانية في سياستها مع المماليك. . . كما أخطأ المماليك في إدارة حكم البلاد، وسواء أكان الخطأ يقع على كاهل المماليك أم على كاهل العثمانيين. . . فإن هذه السياسة الخرقاء التي أتبعها كلا الفريقين. كانت من أكبر الأسباب التي أدت إلى وقوع الفوضى والاضطراب في مصر، وبالتالي إلى دخول الفرنسيين في سنة 1798م.
(الإسكندرية)
عبد الباسط محمد حسن
ليسانس آداب(855/25)
الباكستان
وعلاقتها بالعالم العربي والإسلامي
للدكتور حسين الهمداني
شاهد العالم خلال الأحقاب الطويلة البعيدة عدة حضارات ازدهرت في كثير من أرجاء العالم منها الحضارة التي قامة حول البحر الأبيض المتوسط. وقد قسم المؤرخون هذه الحضارات إلى قسمين: قسم يشمل بلاد الشرق من هذا البحر، وقسم يشمل بلاد الغرب منه. والحضارة التي تعيننا اليوم هي حضارة هذا القسم الشرقي الذي يمتد من شمال أفريقيا شرقاً حتى يقف عند نهاية الباكستان. وقد ظلت حضارة الجناح الأيمن هذا تشع على العالم أجمع نوراً من العلم والمعرفة والثقافة، كان يسري بين خيوطه إشعاعات علم الأقدمين كاليونان والرومان.
وكانت هذه الحضارة متفقة مع الحضارة الغربية في كثير من الأسس فقد كانت الحضارتان قائمتين على أساس ديانتين عظيمتين كما كانتا تأخذان من تلك الحضارات القديمة كثيراً من مقوماتها؛ وهكذا اتحدت الحضارتان في الأسس والدعائم.
وقد كانت الباكستان، ولو أنها كانت جزء من الهند، على وثيق بالشرق الأوسط، وكانت، تأخذ من حضارة الجناح الأيمن الشرقي، لأنها كانت تدين بدينه وتتعلق بآرائه وتأخذ من ثمرات مجهودات مفكريه الذين اقتبسوا كثيراً من عصارة ذهن اليونان والرومان والفرس، وكانت شديدة الصلة بالكلدانيين الذين استوطنوا العراق قبل 7 آلاف سنة، كما اتصلت بالبابليين وكما وربطة بينها وبين دولة الفرس بروابط تجارية ثقافية.
ولدخول الإسلام في الهند قصة. . . إذ قام العرب بعد موت النبي صلوات الله عليه بخمس وعشرين سنة بغزو إيران وسوريا وأرمينيا وقسم من وسط آسيا ومصر. وسار المسلمون في فتوحاتهم نحو الشرق صوب حيوات وكابول وبلخ، حتى بلغوا بهر الأندس والسند؛ وهنا تمكنت العلائق بين العرب وأهل السند وهم الذين يكونون اليوم غرب الباكستان، وبقية متينة خصوصاً مع الحكام الهنود في الجنوب مما تنتج عنه توطن الشاطئ الغربي بواسطة كثير منهم، حيث بنوا المساجد. . . . . .
ومع أن مسلمي الهند كانوا يعيشون مع غير المسلمين هناك عيشة قريبة متمازجة يفرضها(855/26)
الوضع الجغرافي إلا أنهم كانوا شديدي البعد عنهم فيما يتصل بعباداتهم وتقاليدهم وثقافتهم ورغباتهم. وعلى رغم هذا الوضع الذي كان يقرب بينهم كان المسلمون يتجهون بكل نفوسهم إلى العرب ومسلمي الشرق الأوسط وكانوا يتخذون اللغة العربية لغة للعلم والدرس يؤلفون بها ويؤسسون لها المدارس. والمعاهد والجامعات في جميع بلدان شبه القارة.
ولم تقتصر هذه الرابطة على تبادل التجارة أو بعض الأفكار الثقافية بل امتدت الرابطة إلى ما هو أبعد من هذا، امتدت إلى أن خضع المسلمون هناك لطاعة الخليفة، كما دانوا له بالولاء. وفي فتح البلدان يقول البلاذري: إن أحكام السند العرب كانوا يقولون خطبة الجمعة متوجه باسم الخليفة، كما ضربوا العملة باسمه: وظل الحال على هذا من هذه الفترة إلى أن تقوضت الخلافة الإسلامية بتركيا.
وظلت العلاقات قائمة بين المسلمين هناك وبين اشرق الأوسط إلى عصرنا الحديث. . . . . . ولم يكن المسلمون ليتوانوا لحظة في خلال كل هذه السنين عن الشعور بنفس الشعور الذي يساور أهل الشرق فقد كانوا يفرحون لفرحه، ويتألمون لألمه. وكانوا يعتقدون أن هذا الشرق ما هو إلا جسم واحد إذا أشتكى منه عضو تألم له بقية الأعضاء، وإذا أصاب طرفاً منه ضر أو شر فإنه سرعان ما يصيب كل البلاد أقاصيها ودانيها.
ولم يكن مسلمو الهند في جهادهم بمنأى عن هذا الشرق، لأنهم كانوا على اتصال وثيق به، يربطهم به رابطة الدين ورابطة الألم ورابطة الظلم الذي يحل به، ورابطة القسوة التي يجابههم بها الأقوياء، ورابطة الحذر مما يبيت لمسلمين قاطبة من كيد ومن غدر، وقاموا من ساعتهم، في الحدود التي حاولوا فيها أن يصلوا إلى أقصى ما يستطيعون وغم الاستعمار الأجنبي، يريدون الوقوف إلى جانب إخوانهم المسلمين في كثير من العطف وفي كثير من الحزن؛ فهم حزنوا لتفكك الخلافة ولانهيار الإمبراطورية العثمانية، لأنها كانت تمثل في نظرهم قلعة الإسلام. وقاموا يحتجون لدى إنجلترا على المعاملة التعسفية التي عاملوا بها مصر عام 1924 حينما قتل السردارلي ستاك باشا، واحتجوا لديها كذلك ولدى عصبة الأمم عندما امتد الانتداب البريطاني على العراق لخمس وعشرين سنة تالية، واشتركوا في مؤتمر الخلافة سنة 1925 واحتجوا لدى الفرنسيين يوم أن ضربوا دمشق بالمدافع. . . . . . وكانوا ولا يزالون يتألمون لما يصيب إخوانهم عرب مراكش وتونس(855/27)
والجزائر من ذل يفرضه عليهم المستعمر الغاشم.
وإني لأؤكد أن الباكستان في قومتها دولة إسلامية لم تقم لخدمة بنيها فقط، وإنما قامت لخدمة الإسلام أنى وجد، فكثيراً ما كانت تناهض إنجلترا لإصدارها وعد بلفور بصدد فلسطين.
وكثيراً ما حاولت إنقاذ هذه البلدة من مخالب الصهيونية لأنها تؤمن بأنها بلادتهم المسلمين أجمعين. ولا أضنني أخالف الواقع إن قلت أن زعيمنا الخلد الذكر محمد علي جناح كان ينذر العالم الإسلامي منذ قديم الزمان باحتمال قيام الخطر الصهيوني، وها قد تحققت مخلوفة، وأصبحنا نذر الخطر تبغي الأنقاض علينا. الحق يحضنا على ذلك فقد ورد في القرآن الشريف (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) وليس هناك إلا تقوية الجيوش وحشد القوات، لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم اليوم وليس هناك إلا إنشاء المصانع وعمل الذخائر، فنحن اليوم في عالم خلا من وازع الضمير، وضاع فيه معنى الحق ومرمى الشرف وأصبحت الكلمة للمدافع والهيبة للقوي، فماذا يمنعنا والحالة هذه أن نعمل لهذه القوة وما الذي يحول دون بلوغنا هذه الغاية؟
لقد آمنت الباكستان بكل هذه وراحت تقوي جيوشها وأسطولها، وليس معنى هذا أنها تطلب سيادة أو تريد إيقاع العدوان على أحد، بل هي تريد أن تبقى محترمة مرهوبة الجانب لما قد يهددها، وتضرب من يهاجمها. . . . . .
توخيت في هذه العجالة أن أبين مدى ارتباط الباكستان بالشرق، وكيف نريد ونأمل أن يكون عليه هذا الأخير من قوة ومنعة، لأننا نريد للإسلام رفعة الشأن وقوة الجانب، وليس هناك للإسلام موطن، وليس له حدود. . . . . .
واجب أن أنوه بأن كلامي هذا لا يشتم منه رائحة العنصرية ولا المذهبية، وأريد أن أزيد بأنني لست متعصباً ضد أية ديانة أو مذهب، وإنما أنا متعصب لديني، ومتعصب لبلادي أريد لها ولمن يشترك معها أن يترسموا الطريق نحو العزة والسؤدد وأن يصلوا إلى المكانة العليا التي يهيئها لهم إيمانهم ودينهم وتسامحهم. . . . . . و (ويرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات).
حسين الهمداني(855/28)
تاريخ استخدام الدبابات
في جيش المسلمين
للأديب عطا الله ترزي باشى
يرجع تاريخ استخدام الدبابات في الحروب إلى وقت نشوء العجلات الحربية. وقد وجد في العراق كثير من التصاوير التي تكشف لنا عن وجود العجلات غير الحربية منذ سنة (2000) قبل الميلاد، أما الحربية فوجدت في الصين سنة (1450) ق م وظهر بنتيجة البحث ولتدقيق أن استخدام الدبابات لأول مرة في التاريخ كان في إحدى الحروب الدائرة بين المصريين والميتانيين (الانسيكلوبيديا التركية (اينونو) ج3، ص195، سنة1949).
وفي الواقع كان المصريون القدماء أول من استخدموا الدبابات في الحروب، ومن بعدهم الآثوريين فاليونانيون القدماء ومن بعدهم العرب (تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، ج1، ص160).
وكان المسلمون يتخذون الدبابات لتسلق أسوار العدو، وهي آلات من الخشب الصفيق، وقد تكون طباقاً، وتغلف بالجلود المنقوعة الخل لدفع النار. وتركب على عجل مستدير يدفعها الرجال ويصعد الجند في أعلاها ويستعلون على السور. قد يستخدمون الدبابات لهدم الأسوار فيسيرونها ويحتمون بجدرانها ويجعلون رأسها محدداً يصدمون بها الأسوار حتى تهدم (المرجع السابق).
وقد أستخدم المسلمون الدبابات لأول مرة في السنة الثامنة من الهجرة أثناء غزوة الطائف (أحمد رفيق، الغزوات النبوية، حاشية ص45).
وكذلك جاء ذكر هذه الآلة في كتاب آخر للأستاذ نفسه (باللغة التركية) وهو كتاب (تاريخ الانتصارات العثمانية) نقلاً عن كتاب (كوكب المسعود في كوكبة الجنود لابن إسحاق ص77). أنه في غزوة الطائف استخدم المسلمون الدبابات المصنوعة من جلود الأبقار التي لا تتأثر كثيراً بمقذوفات العدو، وتقدموا بها نحو السور لإحراق الأمكنة المجاورة له. غير أن أفراد قبيلة ثقيف المحصورين في البلدة بدءوا يرمونها بقطع الحديد المحماة بالنار. . . (حاشية ص250، 251من المرجع السابق).
ويبحث الأستاذ محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد) عن استخدام المسلمين الدبابات(855/30)
في غزوة الطائف بشيء من التفصيل، فيقول:
أنه لم يكن من اليسير أن يقتحم المسلمون هذه الحصون المنيعة إلا أن يلجئوا إلى وسائل غير التي ألفوا حتى اليوم حين حاصروا قريظة وخيبر. . . فما عسا أن تكون هذه الوسائل الجديدة التي يهاجمونها بها؟. . .
وكان لبني دوس (إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكة) علم بالرماية بالمنجنيق ومهاجمة الحصون في حماية الدبابات. وكان أحد رؤسائها الطفيل قد صحب محمداً منذ غزا خيبر؛ وكان معه عند حصار الطائف؛ فأوفده النبي إلى قومه يستنصرهم؛ فجاء بطائفة منهم ومعهم أدواتهم؛ فبلغوا الطائف بعد أربعة أيام من حصار المسلمين إياها. ورمى المسلمون الطائف بالمنجنيق وبعثوا إليها بالدبابات دخل تحتها نفر منهم ثم زحفوا بها إلى جدار لطائف ليخرقوه، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار. فقد أحموا قطعاً من الحديد بالنار، حتى إذا انصهرت القوها على الدبابات فحرقتها، فغر جنود المسلمين من تحتها خيفة أن يحترقوا. (حسين هيكل، حياة محمد، ص420، 421).
ويظهر أن الدبابات في السابق وإن كانت لها قيمة كبرى في الحروب لإخافة العدو وإثارة ضجيجهم، فإنها لم تنل حظاً في إحراز النصر حيث كانت عرضة للاحتراق، فإن موادها المركبة من الجلود والأخشاب كانت سريعة التأثر بالنار. وقد حاول المهندسون المسلمون عبثاً إيجاد بعض الوسائل لتقيها من الأخطار المعهودة. فاستعملوا الجلود المبلولة بالماء والمستقاة بالخل ولكنهم لم يفلحوا.
ويحدثنا الأستاذ أحمد بدوي في مقال له تحت عنوان (القوة الحربية في مصر والشام) كتبه في مجلة الرسالة عدد 809 وتاريخ 14 - مارت - 949 نقلا عن (النوادر لابن شداد، ص103) عن عظمة الدبابات التي استخدمها العدو في حصار عكا، بما يلي:
(صنع العدو ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها الجلود المستقاة بالخل بحيث لا تنفذ فيها النيران؛ وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال عالية على سور البلد، ومركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر، ويتسع سطحها لأن ينصب عليه منجنيق، وقد ملأ ذلك نفوس المسلمين خوفاً ورعباً، ويئس المحاصرون في المدينة،(855/31)
ورأوها وقد تم عملها ولم يبق إلا جرّها قرب السور. وأعمل صلاح الدين فكره في إحراقها ووعدهم على ذلك بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة، ولكن ضاقت حيلهم عن ذلك. وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه إن له صناعة في إحراقها وأنه إن مكن من الدخول إلى عكا وحصلت الأدوية التي يعرفها أحرقها، فحصل له جميع ما طلبه، ودخل إلى عكا وطبخ الأدوية مع النقط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ثم ضرب واحداً بقدر فلم يكن إلا أن وقعت فيه، فاشتعل من ساعته ووقته، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستغاث المسلمون بالتهليل، وعلاهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب. وبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج الثاني بالقدر الثانية فما كان إلا أن وصلت إليه واشتعل كالذي قبله فاشتد ضجيج الفئتين، وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالتهب وغشي الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوى الأحلام).
وحسب ما نعلم كانت هذه المواد هي زيت النفط والكبريت والجير والقار فتتكون النار اليونانية. وقد أشار إلى استعمال المسلمين هذه النار في الحروب الصليبية الأستاذ كوستاف لوبون في كتابه (المدينة العربية، ص 514، 515).
ويروى الأستاذ أحمد بدوي في المقال السابق الذكر نقلا عن (خطط المقريزي، ج 1ص347) أن الفرنج هاجموا دمياط سنة 615في آخر أيام العادل وعملوا آلات ومرمات وأبراجاً متحركة (والدبابات) يزحفون بها إلى برج (السلسلة) ليملكوه حتى يتمكنوا من المدينة.
وتبحث بعض المصادر التاريخية عن أهمية الدبابات التي استخدمها السلطان محمد الفاتح أثناء محاصرة القسطنطينية، فيقول المؤرخ التركي الشهيد أحمد رفيق:
أن السلطان قد أمر بإنشاء أبراج تسير بواسطة عجلات لتستخدم في خرق السور فصنعوا برجاً خشبياً سياراً يسمى ب (كشوركشا) أي (فاتح البلاد) وهو مغلف من الخارج ومبطن من الداخل بالجلود بالماء لدفع النار. وكان الجنود يتحصنون في داخله، وإذا ما أرادوا الخروج فتحوا الأبواب الثلاثة باتجاه المدينة من القسم الأسفل منه فكانوا في ذلك في مأمن من مقذوفات العدو أثناء النزول والركوب. وقد جمعت فيه أكوام من الحطب والأخشاب لإملاء الخنادق وتسهيل الهجوم، هذا ويحمل البرج مائة جندي انكشاري (ينيجرى) مع(855/32)
كامل أسلحتهم ومعداتهم.
وفي ذات ليلة جاءوا بهذا البرج إلى الموضع الذي عينه
السلطان للزحف إلى ميدان القتال. غير أن العدو تمكنوا من
إحراقه بقذفهم النار اليونانية إياها طيلة الليل (18نيسان1453)
(راجع تاريخ الانتصارات العثمانية، ص250، 251).
وقد عقد الأستاذ كوستاف شلومبرجيه فصلاً مفصلاً في كتابه (فتح القسطنطينية) باللغة الفرنسية - نقلاً عن بعض المؤرخين الذين حضروا المعركة أمثال باربارو وتتالدى وفرانجس وبيه رس - وصف فيه الدبابة الضخمة التي استخدمها الجيش العثماني أثناء محاصرتهم للقسطنطينية وصفاً دقيقاً جاء فيه:
أنه في صباح18 مايو ذُعِر المحصورين في المدينة وأخذهم فزع شديد إذا رأوا بغتة البرج الخشبي السيار كالجبل عالياً فوق السور، فملأ ذلك قلوبهم خوفاً ورعباً، وفقدوا صوابهم فتحيروا في أمرهم ولم يدروا ماذا يصنعون؟!. . . وقد حضر الإمبراطور قسطنطين - حين بلغه الخبر - مع أركان جيشه لمشاهدة هذا البرج العجيب المسمى بالقلعة الخشبية (أو الدبابة).
لقد قاموا المهندسون الأتراك بصنع هذه الآلة قرب السور أثناء الليل بصورة خفية وسريعة جداً لم تستغرق أربعة ساعات بدرجة ينبغي أن نقول بأن أهل القسطنطينية جمعاء لم يكونوا ليصنعوا مثر هذا البرج في شهر كامل وإن يساعد بعضهم بعضاً.
كانت هذه القلعة الخشبية مصنوعة من أخشاب قوية مربوطة بعضها ببعض ربطاً محكماً وهي مغلفة من الجهة العليا بطبقتين من الجلد الإبل. وقد غطيت من جميع أطرافها بالطين حفظاً من التأثيرات الخارجية: وكانت تسير على عجلات متحركة ومغلفة بجلود البقر والجاموس. وهناك يوجد في داخلها الدرج (السلم) للصعود إلى الطابق الفوقاني منها. وفيها أنواع العتاد والأسلحة، كما كان فيها أيضاً كثير من السلالم الخشبية بغية استعمالها في التسلق على الأسوار. كانت لها ثلاث نوافذ متجه نحو السور يرمون من خلالها العدو بالسهام. . .(855/33)
تحركت هذه القلعة وبدأ الجنود يرمون التراب والأخشاب في الخنادق لتسهيل السير حتى بلغوا السور وتمكنوا من فتح ثغرة فيه وبدءوا يثبتون السلالم ويستعلون بها على السور، ولم يتأثروا كثيراً بالمقذوفات التي كانت تلقى عليهم حتى تمكن العدو من إحراق هذه القلعة باستعمال النار اليونانية، وأستشهد بعض من فيها من جنود الانكشارية.
ويصف (فرانجس) هذه القلعة التي يشاهدها عن كثب وهي تلتهب وصفاً جميلاً فيقول إن السلطان كان يصيح بصوته العالي: أنني لم أكن لأعتقد أن باستطاعة العدو إحراق هذا البرج في ليلة واحدة وإن صدق ذلك سبعة وثلاثون ألف نبي.
(وللتفصيل راجع الفصل السادس من كتاب فتح القسطنطينية لكوستاف شلومبرجيه).
(بغداد)
عطا الله ترزي باش
كلية الحقوق(855/34)
3 - من شجرة الدر
لحضرة صاحب السعادة عزيز أباظة باشا
عز الدين أيبك - شجرة الدر
أيبك: قد كنتِ رائعة الآراءِ بارعة ال_تدبير ملهمةً للحزم والرشدٍ
شجرة الدر: بالغتَ أيبكُ
أيبك: بل قصرتُ مالكتي
شجرة الدر: فتلك عين الرضا يا صاح فاقتصد
أيبك: أسرفتُ يا ملكةَ الوادي؟! أما رأْمتْ=يْداك مصر فعاش عيشة الرغد
دفعت عنها عِداها واعتليت بها ... مقادم المجد في أيامك الجدُد
وقدِتها للمعالي واحتشدت لها ... فأصبحت غرضاً للحقد والحسد
يا ربة التاج
شجرة الدر: أما أبصرتَ ما يقع؟
وزادني فيه كرهاً أن نُسبت له ... وكنت باسميَ تدعونني فأستمع
أيبك: جلالة الملك أقصت عنك لي أملاً=ما زال يهفو له قلبي ويندفع
(في مرارة)
ولمعة التاج لم تطفئ برونقها ... سوى رجائي وكان الدهرَ يلتمع
يا عصمة الدين
الملكة: عز الدين قلت فلم=تنصف وأنت على نجوى مطلع
أنت الذي مسّ قلبي فاستجاب له ... وعاد يرتاح للدنيا ويتسع
رحمته وهو تاو في أضالعه ... أنحى عليه الضنى والوجد والجزع
أيبك: لما وليت أمور الملك قلتُ مضى=عهد الهوى وانقضت في إثره المُتع
وقلت للنفس: تلك الشمس كيف لها ... ترقى وأنت المعنىَّ العاجز الضِرعُ
طويت روحي على يأس وِهبت بها ... قرَّى بيأسك، لا يجنح بك الطمع
شجرة الدر: فدتك نفسيَ عزَّ الدين. أي أسى=يهتاج في عتبك الباكي ويندلع
لاشيء كالحبَّ. . . لا ملكٌ، ولا ولدٌ ... ولا شباب، ولا الدنيا بما تسع(855/35)
والحب إن كَرُمت أعراقُه وصفَت ... يسمو على قِيَم الدنيا ويرتفعُ
ما أضيع العمر إن لم تحترق كبدٌ ... وتحتدمْ لوعةٌ في القلب تصطرع
أيبك: يا عصمة الدين هذي ليلة كرُمت=كأنها من ليالي الخلد تنتزع
بعثتني حين لم أجرؤ على أملٍ ... وحين كل رجاء فيك منقطع
وحين نفسي - رعاك الله - تالفة ... وحين قلبي - وقاك الله - منصدع
أهواك. . . أهواك ألواناً فأيسرها ... مُدى تَواتر في صدري فتقتطع
مازلت والسن تعلو بي أذوب جوى ... إذا همست واستغشى وأمتقع
شجرة الدر: (وهي تسترد جأشها)
لا بل تحب كاقيال الرجال إذا ... هاموا فلا الضعف يعروهم ولا الجزع
ما كنت والتاج يُزهى بي سوى امرأة ... تأوي إلى الرجل الحامي فتمتنع
أيبك: نفسي فداؤك قد مزقتها قطعاً=وسمتها الألم القدسي والسقما
شجرة الدر: وكيف؟
أيبك: من غيرةٍ كالنار حاطمة=والموج مصطخباً، والسيل محتدماً
تظلُّ تعصفُ بي عصفاً
شجرة الدر: سلمت ولِمْ
هذي الشكاية؟
أيبك: غيري فيك من سلما
كم بت غيران ممن قد أنست به ... ومن همست له فارتاج وابتسما
ما إن تحدثت في لين إلى رجلٍ ... إلى أثرت بقلبي فتنة عمها
وما هششت لبعض الناس عن عرض ... إلا نزل الهمُّ في جنبيَّ واضطرما
الغيرةُ الحبُّ ما شبت. . . فإن خمدتْ ... فقل مضى الحبُّ في أذيالها قدُما
شجرة الدر: ممن تغار وقلبي أنت مالكه=ربا هواك وأرسى فيه فاحتكما
أيبك: إني فريس جوي ما إن خلوت له=إلا انتهى لشغاف القلب فاصطلما
(ثائراً) إني أغار من الماضي
شجرة الدر: أأعقل ما(855/36)
تلقى!
أيبك: أغار من الماضي الذي انحسما
أغار من كلَّ من قد ظنَّ أن مُلئت ... يداه منك فرد النفس واعتصما
أغار من كلَّ من أفضى إليك ومن ... أثنى عليك. . . وإن قال الذي علما
أغار من كل ذي شأن بذلت له ... عطفاً فقبَّل منه الراح والقدما
وددت لو كنت لي لم تعرفي أحداً ... ولا بني بك زوج. . . هان أو عظما
عيناك مشرع ما ألقاه من قلق ... الله بالسحر والإغراء علهما
فما تحركتا إلا وأيقظتها ... في الغافلين الهوى والشوق والنهما
يا أطهر الناس عرضاً ما نجوت من ال ... باغي الذي يثلم الأعراض والحرما
أمضهم أنك استعذبت فريتهم ... وإن رضيت على علاتها التُّهما
عزيز أباظة(855/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
من صدى الدموع التي شابت:
لله هذا القلم الذي تقلبه أناملك فيسطر كلمات هي في أغوار القلب أنغام وألحان. . . فيها الشجن العارم والحزن المقيم، وفيها الحنان الشفيف والأخوة المتسامية، وفيها الإنسانية تحلق في أجواء مترعة من الأفكار وعالم حالم من الصور؛ هنالك حيث يلتقي الناس اخوة. . . وتتناجى الأرواح في همس.
كم حلقت بي كلماتك النابضة التي تتنفس على صفحات الرسالة والتي قرأتها اليوم. . . تلك القصة الرائعة التي سجلها قلمك الحي والتي أعجب أنك إنما صنعتها من كلمات وكلمات فقط. نعرفها جميعاً ونقرؤها كثيراً، ولكنها تتجمع هنا وتتآلف لتكون لحناً وتصوغ سمفونية خالدة!
قصة الدموع التي شابت؟! كم حركت الشجن في صدري، وكم أثارت كوامن الحزن في نفسي. . . نفسي التي عرفت الحزن وألفته وهامت به، الحزن الذي يصقل النفس، ويبلور العواطف، ويجنح بالفكر إلى العلو. .
هذا الصديق الذي كان لحناً توارى بين فجاج الصمت، وكان حلماً تبدد على صيحة مفزعة لملك الموت. . . هذا الإنسان الذي عاش في حساب الزمن سنوات قلائل، وعاش دهراً في حساب التجارب والمحن. . هذا الإنسان الصديق، الذي لم أره من قبل أريد يا سيدي الكتاب أن أعرفه.
اكتب لنا قصته فهو أولى الناس بأن تكتب عنه. لا تهب يا سيدي نبش القبور، ولا تتردد في تقليب الذكريات ومبعثها من مأواها الأخير، الغائر في أعماق الصمت. . فقد مات الإنسان ولا أحد يعرفه، عاش مغموراً ومات كذلك. ذهبت الأنات لم تصل إلى أذن، وتبددت الزفرات لم يشعر بها إنسان إلى أنت. . لقد ثوى الجسد في القبر وأصبحت الذكريات ملكاً للإنسانية الهائمة على مسرح الأرض. ونحن بغير تجاربنا ندور حول أنفسنا. نبدأ ثم نعيد، مغمض الأعين، مغلق السمع، مطموس الحس. . فاكتب عنه يا سيدي على ضوء تلك الرسائل التي بعث بها إليك، فإنك إذ تفعل إنما تضيف إلى تجارب. وإلى(855/38)
روضة الفن باقة غالية!
افعل ذلك بحق الفن. . وفي الانتظار، تقبل تحيات المخلص المعجب:
سعيد كامل
كلية الآداب - قسم الفلسفة
هذه رسالة من بضع رسائل تلقيتها حول قصة الدموع التي شابت. إنها تعبر عن رجع الصدى العميق الذي هز قلوب ومشاعر وتنوب عن بقية الرسائل في إظهار المحور النبيل الذي تدور حوله رغبة ورجاء.
يا صديقي الذي كتبت إلى. . لقد كنت أود أن أقص عليك وعلى الناس قصة ذلك الإنسان البائس، ولكن هناك أحياء سينفجر مداد القلم دماء جراحهم إذا ما كتبت!. إن وراء السطور مأساة نسج خيوطها القدر، وقام بإخراجها الزمن، واشترك في تمثيلها بعض الناس. . فيهم الشيطان الغادر، وفيهم الملاك الطاهر، وفيهم الإنسان الشهيد! أما المسرح فقد كان هناك. . في الإسكندرية، وأما النظارة فقد كانوا هنا. . . في القاهرة، كانوا فرداً واحداً يستمع إلى القصة تنقل إليه على أمواج الأثير في كلمات، ولكم تناول هذا الفرد الواحد قلمه ليجفف الدموع التي فاضت. . . ولكنها شابت!!
وها هو ذا يحاول اليوم أن يكتب القصة، ولكنه يقف حائراً بين أمرين: رغبة القراء. . . ولوعة الأحياء! ترى هل يرضى الفن فيستجيب لدعائه، أم يخضع لصوت الضمير فيقبض قلمه إلى حين. . . إلى تهدأ الرياح، وتلتئم الجراح، وتتكسر أمواج المحنة على شواطئ النسيان!؟
إنني في انتظار الرأي من كل صاحب رأى. . . وعلى الذين ينشدون عرض المأساة على صفحات الرسالة أن يقدروا هذه الحقيقة وهي أن هناك أموراً على جانب من الخطورة ستذكر، ولا آمن إذا ما اطلع عليها أصحابها أن يتهدم بيت وتتحطم أسرة!!
أدبنا بين المحلية والعالمية:
أسمع صيحة تتردد على الشفاه أحياناً، ثم تنتقل من الشفاه إلى الورق أحياناً أخرى؛ أعني أنها تنتقل من ميدان الحديث المسموع إلى ميدان الرأي المكتوب. . وجوهر الصيحة أو(855/39)
خلاصتها هو أن أدبنا لا يمثلنا، وهدفها أو غايتها هو أننا نريد أدباً مصرياً؛ أدباً ينبئ عن الشخصية المصرية، ويومئ إلى الطابع المصري، وبقبس من بيئتنا صوره وألفاظه ومعانيه!
صيحة يطلقها بعض المتعصبين عن جهل، ورأى يجهر به بعض المتعالمين بغير علم، و (وطنيه أدبية) ينادي بها بعض (القوميين) على غير هدى وبصيرة. . . يريدون أدباً مصرياً، ماذا يقصدون بالأدب المصري؟ هل يقصدون أن يهمل الكتاب والشعراء والقصاصون كل ما يتصل بالتجربة الشعورية الخاصة، وبالنفس الإنسانية العامة، وبالحياة في كل أفق من آفاقها الرحيبة، ليفرغوا لكل مشكلة يومية تعترض طريق الكادحين من أبناء الشعب، وكل ظاهرة اجتماعية تهم المسئولين عن مصالح الناس، وكل مشهد تقع عليه العين ويلتقط الخاطر في نطاق المجتمع الذين يعيشون فيه؟!. أغلب الظن أنهم يرمون من وراء صيحتهم إلى هذا كله؛ وإلى ما هو أبعد من هذا كله؛ فإذا رحل الشاعر المصري مثلاً إلى ربوع سويسرا وجادت مخيلته برائعة شعرية حول بحيرة لمبان قالت له ألف صيحة وصيحة: هذاأدبسويسري وهذه بضاعة أجنبية، نريد أدباً مصرياً نريد بضاعة وطنية. . . عندك يا أخي بحيرة البرلس وبحيرة أدكو وبحيرة المنزلة، ألا ترى أننا في غنى عن أن نستورد من الخارج؟! وإذا تنقل القصاص المصري مثلاً بين أحياء باريس ثم عكست ريشته بعض صور الحياة في مونبارباس قالي له ألف صيحة وصيحة: هذا أدب فرنسي هذهآداب غربية، نريد أدباً مصري نريد آفاق شرقية. . . عندك يا أخي حي السيدة والحسين وخان الخليل، سألا ترى أننا في غنى عن أن نستورد من الخارج؟! وإذا طاف الكتاب المصري مثلاً بأي بلد أوربي فأستمع إلى أدبائه ونقل ما سمع إلى مواطنيه، أو قضى ساعات بين كتب الغرب ثم تحدث عن رحلته الفكرية إلى قارئيه قالت له ألف صيحة وصيحة: هذا أدب المبرنطين هذه أفكار أعجمية، نريد أدب المطربشين نريد أفكاراً عربية. . يا أخي عندنا فلان وفلان وإنهم لمن سلالة الجاحظ وأبي حيان وأبن المقفع وأبن العميد فمالنا ولجان سارتر وجورج ديهامل وبول كلودل وأندريه جيد؟ ألا ترى أننا في غنى عن أن نستورد من الخارج؟!
هذا هو جوهر الصيحة أو خلاصتها أو هذا هو الهدف الذي تلوذ به وتسعى إليه، ولك أن(855/40)
ترد الجوهر الهدف معاً إلى تلك الدوافع التي حدثتك عنها من قبل، ولك أن ترد تلك الدوافع إلى مصدر واحد هو مركب النقص. . . يريدون أن يحصروا الأدب المصري في بيئتهم لأنهم لا يعرفون غير هذه البيئة، ويريدون أن يفرضوا على الأدب المصري في بيئتهم لأنهم لا يعرفون غير هذه البيئة، ويريدون أن يفرضوا على الأدب المصري الحديث ألا يتحدث بغير لغتهم لأنهم لا يفهمون غير هذه اللغة، يريدون أن يقصوا أجنحة الأدب المصري إذا حلق في غير أفقهم لأنهم لا يطيقون غير هذا الأفق، ويريدون أن يكتموا أنفاس الأدب المصري إذا عب من هواء الحرية في غير جوهم لأنهم لا يستطيبون غير هذا الجو بما فيه من هواء. . . ولا بأس من الجمود والركود، ولا بأس من الخمول والرجعية، ولا بأس من البقاء في المعاقل دون التطلع إلى ما وراء الأسوار. لا بأس من هذا كله ما دمنا نريد أدباً مصرياً، أدباً يمثلنا، أدباً لا يصح أبداً أن يتخطى حدود الزمان والمكان!!
أدب محلي هذا الذي يريدون، لأنهم لا يدركون أثر العالمية في الأدب ولا قيمتها في حساب الخلود. . . كلا يا أصحاب الصيحة السافرة وغير الصاخبة، أننا نريد أدباً إنسانياً لا مصرياً، أدباً يقرؤه الذين هنا والذين هناك، أدباً يفتش عن مصادر الإلهام ومنابع الوحي في كل قطر من الأقطار وكل بقعة من البقاع، أدباً يخاطر الوجدان في كل نفس بشرية ويستنطق الحياة أينما طافت عدسته بمواكب الأحياء، أدباً يطالعه القارئ من كل جنس ولون فيحس أنه قد كتب له، أدباً يصوّر الخلجة كما تضطرب في أعماق اصدر، والخفقة كما تهدر من أغوار القلب، والنزعة كما تنحدر من أوكار النفس، والنزوة كما تتنزى بين قيود الطبع. . . وهذه هي المرآة الصافية المصقولة التي تلتقي على صفحتها كل الوجوه، وتتألف كل المشاعر، وتتعانق كل الأرواح. هنا وفي كل أرض يرتفع فوق ثراها صوت الفن، وترفرف في سمائها راية الفكر، وتتجاوب في أرجائها صيحات الباحثين عن أنفسهم في زحمة هذا الوجود!!
أنك لن تجد في فرنسا من يقول نريد أدباً فرنسياً، ولن تجد في روسيا من يقول نريد أدباً روسياً، ولن تجد في ألمانيا من يقول نريد أدباً ألمانياً، ولن تجد في إنجلترا من يقول نريد أدباً إنجليزياً. . . ذلك لأن الأدباء في كل بلد من تلك البلاد قد فهموا رسالة الفن كما يجب(855/41)
أن تفهم، على أنها مادة فكرية تحطم حواجز المحلية المقيدة لتنفذ إلى مسالك العالمية الطليقة، وبمثل هذا الفن الإنساني تمكنت هذه الآداب جميعاً من أن تحتل مكانها في كل وطن، وكل بيئة، وكل لغة. . . وهذا هو الطريق!
جان بول وسارتر والشعر:
للفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر مجلة أدبية فلسفية هي (العصور الحديثة أو. . ولا أريد أن أحدثك هنا عما ينشر فيها من بحوث، ولا عن مكانة صاحبها من الفكر الفرنسي المعاصر، وأن كنت قد حدثتك عن مكانة سارتر في عدد مضى من الرسالة. وإنما أريد أن أنقل إليك قصة طريفة تتعلق بالفيلسوف الفرنسي الكبير وبمجلته الرفيعة؛ وهي أن شاعراً من الشعراء الفرنسيين قد بعث إليه بقصيدة من (روائع شعره) لتزدان بها صفحات (العصور الحديثة). . . ومضى شهر وشهران وثلاثة والشاعر ينتظر، ينتظر نشر القصيدة التي ألقى بها سارتر إلى سلة المهملات!
وحين يئس الشاعر من عطف الفيلسوف، أطلق لغضبه العنان فكتب مقالاً ثائراً في (الفيجارو) يتهم فيه سارتر بأنه رجل لا يحترم الشعر لأنه لا يفهمه، والدليل على ذلك أنه لم يستطع أن يتذوق قصيدته (الفريدة) التي رحبت بنشرها الفيجارو في صفحها الأدبية!. . . وتناول الفيلسوف قلمه ليبعث إلى الصحيفة الفرنسية بهذه الكلمات (عزيزي رئيس تحرير (الفيجارو). . أؤكد لك أنني أفهم الشعر، وأؤكد لك أنني أحترمه أكثر مما أحترم الفلسفة، والدليل على مدى احترامي للشعر هو أنني أخرجت كتاباً عن (بودلير) الشاعر في حين أنني لم أكتب شيئاً عن (ديكارت) الفيلسوف. . . أما الدليل الأخير فهو أنني قد ألقيت بقصيدة الشاعر الذي هاجمني إلى سلة المهملات)!!
قصة طريفة أهديها إلى الشاعر المصري (الكبير) الذي بعث إليّ برسالة يتهمني فيها بأنني لا أحترم شعره لأنني لا أفهم الشعر، وكان قد أهدى إليّ إحدى قصائده لأقدمها إلى القراء على أنها من فرائد (الأداء النفسي)، ذلك الأداء الذي سبق أن بحثت مشكلته على صفحات (الرسالة). . . وأكتفي بهذا وأصفح عما جاء برسالته من عبارات مهذبة، وعليه أن يشكرني في رسالة أخرى لأنني استشرت الذوق فلم أذكر اسمه، وإذا لم يفعل فسأعمد إلى التصريح بعد التلميح!(855/42)
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
هذه رسالة من الشاعر العراقي الفاضل الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري أقول رداً عليها بعد شكره على كريم تقديره، هل تود أجيبك عما سألتني عنه هنا أم تود أن يكون الجواب في رسالة خاصة؟ أنني في انتظار رأيك. وهذه رسالة أخرى من العراق أقول لمرسلها الأديب الفاضل محمد سعيد (مسيب)، أنتي أرحب بعضويتك في محكمة الأمانة العلمية وأشكر لك حسن ظنك بصاحب (التعقيبات)، وأعتذر من نشر حكمك القاسي على الدكتور شكري لأننا لم نسمع بعد كلمته في الموضوع، أما الرسالة الثالثة فهي من الأستاذ الفاضل فؤاد الونداوي (بغداد) ومنها سؤال عن (القيود في الفن) سأعرض له بالتعقيب في العدد المقبل من (الرسالة)، ومن العراق أيضاً هذه الرسالة الرابعة وهي من الأديب الفاضل عبد الله نيازي (بغداد) يا صديقي لك خالص امتناني لتفضلك بإهدائي (نهاية الحب)، قصتك الطويل التي تلقيتها منذ أيام، وأنتقل إلى الرسالة الخامسة وهي من الأديب الفاضل عبد الله النافع (عطبرة - سودان) وفيها يرمي زميله الأديب السوداني سيد أحمد قناوي بأنه يبعث إلى (الرسالة) بأقاصيص منسوبة إلى الإنجليزية حيناً وإلى الفرنسية حيناً آخر مع أنه لا يجيد هذه ولا تلك، إن ردى على هذا لاتهام هو أن يدفع الأديب المتهم عن نفسه ما رمى به، وذلك بأن يذكر في أقاصيصه المقبلة أسماء من ينقل عنهم ويترجم لهم! أما الرسالة السادسة فمن أديب فاضل من (الإسكندرية) رمز لنفسه بهذين الحرفين (م. خ) وبها سؤال عن بعض ما جاء بكتاب (الحب الضائع) للدكتور طه حسين، يا صديقي المجهول لك خالص شكري على جميل رأيك في صاحب هذا القلم، وإلى العدد المقبل حيث أتناول بالنقد تلك الفقرات التي نقلتها إليّ. . . ويضيق النطاق اليوم عن بقية الرسائل في حقيبة البريد.
أنور المعداوي(855/43)
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
تكريم الدكتور طه حسين:
أقام اتحاد التعليم الحر يوم الخميس الماضي، حفلة تكريم للدكتور طه حسين بك في دار الاتحاد النسائي لمناسبة عودته من أوربا. وقد بدأت الحفلة بكتاب من معالي الأستاذ محمد العشماوي باشا وزير المعارف ألقاها الأستاذ محمد سعيد العريان، وقد تضمن هذا الكتاب الكريم تقدير معالي الوزير للدكتور طه، إذ قال فيه بعد التعبير عن الأسف لعدم المشاركة في الاحتفال: أنه كان يود الحضور للتنويه بفضل أديب العربية الأولى والاعتراف بما أسداه للأدب والفن، وما أداه لقضية التعليم، وما أفادت الأمة العربية من آثار سفراته العلمية الموفقة في بلاد العلم والحضارة، بما نشر في المجامع العلمية من مباحث، وما أذاع من محاضرات، وما ترجم من آثار، وما أثر عنه من أحاديث.
وقد أجمل معالي وزير المعارف بتلك الكلمات، الأسباب الداعية إلى تكريم الدكتور طه بك. وقد دعوت الأدباء في كلمة سابقة إلى الاحتفاء بعميد الأدباء بعد أن بسطت القول في دواعي هذا الاحتفال، والواقع أن الرجل لا يوفى حقه أي تكريم، لأنه لا يعطي نفسه قدر ما يعطي هذه البلاد، فهو في الداخل محاميها المدافع عن حق أبنائها في التعليم، وهو في الخارج سفير بلا مرتب وداعية ينفق من ماله، على حين نرى عشرات المندوبين توفدهم الدولة إلى المؤتمرات لعلمية، وتكلف خزانتها نفقاتهم، ثم لا نحس أثر لهذه الرحلات والنزهات في غير الصحة الجيدة التي يتمتع بها العضو الكريم. . .
حقا إن الرجل لا يفي بحقه أي تكريم، ولكني لا أخال حفلاً يقيمه الأدباء إلا نافعاً من حيث ما يتوقع أن يقدم فيه من دراسات وألوان رائقة من الأدب والفن. وقد رأينا المشاعر المتدفقة وفاء في حفلة رجال التعليم الحر، رأينها في الجهد على قدر المستطاع، وهو جهد بذل على اصدق في النية أكثر مما يدل على شيء آخر. ولا أستطيع أن أغفل الحديث عن القصيدة الممتعة التي ألقاها الشاعر الإسكندري الأستاذ محمد فضل إسماعيل، فقد خرج فيها عن قوالب المدح المعادة إلى حديث الأديب إلى الأديب، والتعبير الظريف عن الخواطر السرية.(855/44)
وأختتم الحفل بكلمة فياضة من المحتفى به، دارت حول حق المعلم في رعاية الدولة، وحق الأمة في تعليم أبنائها بالمجان في جميع مراحل التعليم؛ وقد دعا إلى (تأميم التعليم) بأن تدبر الدولة كل معاهدة، وتيسره لكل راغب، وتأتي بالمعلمين منكل قادر على أن يعلم شيئاً، فلا تقتصر على خريجي الكليات ومعاهد التربية وحاملي الشهادات، وقد سخر من (البيداجوجيا) ذهباً إلى أنه لا ينبغي لها أن تقف في سبيل نشر التعليم، وأنه لا ينبغي أن ننتظر حتى نتمكن من بناء المدارس الفخمة وتأثيثها بفاخر الأثاث، بل يجب أن نتعلم في أي مكان وعلى أية حال، حتى يتاح لنا أن نأخذ بأسباب الكمال، وضرب أمثالاً لذلك منها أن المصريين في القرى لا يستطيعون أن يمسكوا عن شرب الماء حتى يصفى لهم.
ذلك، ولقد لوحظ أن خطباء الحفل وشعراءه أجمعوا على إبراز شيء كان يجب - إن لم يكن منه بد - أن يكون (مضمراً) فلم تخل خطبة أو قصيدة من الآمال والمطالب، حتى ليمكن أن يقال إن نصيب أصاحب الحفلة من أنفسهم كان أكثر من نصيب المحتفل بتكريمه. ويمكن أيضاً أن يقال إن تكريم المعلمين لآمالهم كان أكثر من تكريمهم للرجل الذي احتشدوا لتكريمه. . . وقد جعل الخطباء والشعراء يجاذبون هذا المعنى، حتى جاء الخطيب الأخير، فرقَّم المطالب بأول وثان وثالث. . . فهذا (الجدول) المرهق للمعلم المسن في المدارس الحرة، وغيره مما لا أطيل بذكره. ولست أدري كيف غاب عن المعلمين أن الدكتور طه حسين بك ليس الآن في منصب بحيث يقال له ذلك، والقوم جديرون بالإنصاف والتقدير، والرجل أهل لصنع المكرمات، ولكن لكل شيء وقته ولكل مقام مقال.
وقد كثر الخطباء والشعراء، وأطالوا، حتى كاد ينقلب التكريم إلى ضده. ويبدو مع ذلك أنه كان هناك آخرون يبغون القول، غير من قالوا، وقد أفلت شاعر من الذمام ووقف يلقي قصيدته دون أن يُقدَّم غير عابئ بغيظ المنظمين. . وكلما قوطع قال: لم يبقى إلا بيتان!
وقد شاهدت بعض (المظطهدين) في وزارة المعارف ولسان حالهم يبغي اللياذ. . كما رأيت بعض كبار الموظفين في الوزارة يحيطون بالدكتور طه حسين، وقد سألت نفسي: هل كان هؤلاء يُلمحون بهذا المقام في غير هذا الظرف؟ ما أحسب الدكتور طه إلا يتعب كثيراً، كان الله له.
كرامة الأدباء:(855/45)
كتب (أديب ناشئ) في جريدة الزمان يوم الخميس الماضي يقول أنه حضر مجلساً في ندوة الأستاذ كامل كيلاني أني فيه ذكر الأستاذ العقاد من حيث ترفعه وكبرياؤه، فقال الأستاذ الكيلاني: إن احتفاظ العقاد بكرامته كما يقول على بن الجهم عن العلم:
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذن فأتباع الجهل قد كان أحزما
والأديب الناشئ يحكي عن الأستاذ كامل كيلاني نسبة البيت إلى علي بن الجهم، وإنما هو لعلي ابن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وقبل هذا البيت قوله:
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ... بدا مطمع سيرته لي سلما
ولا أشك في أن الأديب غاب عن ذكرياته ما سمعه من الأستاذ الكيلاني، فقد سمعت البيت من الأستاذ غير مرة منسوباً إلى صاحبه، وقد أورد صحيح النسب في بعض مؤلفاته، ويرجع ترديده البيت إلى اعتزازه بهذا المعنى.
وحتى ما قال كامل كيلاني في العقاد، كما أنه مما يجب أن يذكر في هذا الصدد أن جيل الأدباء الحالي رفع شأن أشخاصه بتوجيه همهم إلى القراء عن طريق الإنتاج، وأعراضهم عن التلصق بالكبراء، فالأديب يرتفع قدره أولاً عند الجمهور، ثم يطلب (الباشوات) مودته، وهؤلاء منهم الأديب، أو المثقف، المقدر حقيقة، ومنهم من يبهره الصدى المردد. على أن الزمن قد تطور، فقد أصبح بعض الأدباء من الباشوات ومنهم من لا تقل مكانته ولا ينقص قدره في المجتمع، بل يزيد، عن حملة هذه الألقاب.
فلم الأسبوع:
حسونة الطرابيشي يحب بِلْيه أخت عزوز الحذَّاء، وقد خطبها من أخيها، ولكن هذا لا يريد أن يزوج أخته إلا بعد يتزوج هو، ويلتقي عزوز بعزيزة فيحبها ويخطبها من أمها فترحب به؛ ولكن نعيم الحلاق الطامع في الزواج من عزيزة يقول لعزوز إن خطيبته تعمل راقصة باسم (قطر الندى) فيذهب عزوز إلى المرقص هو وأصحابه وأخته، فيشاهدون الراقصة قطر الندى فيعتقدون أنها عزيزة، والحقيقة أنها غيرها، ولكنهما تتشابهان. وتعرف الراقصة من كلامهم أن لها شبيه، وتعرف عنوانها، فتحاول أن تستغل هذا التشابه في تدبير أمر.(855/46)
تذهب إلى منزل عزيزة وتعرض عليها أن تحل محلها ليلة واحدة لتذهب إلى والدها المريض، مقابل مائة وخمسين جنيهاً، فتقبل عزيزة وتذهب إلى المرقص وترقص. أما قطر الندى فإنها تذهب إلى جوهري علمت أن لديه جوهرة ثمينة ينوي صديقها الغني أن يشتريها وتخشى أن يهديها إلى غيرها، وتحتال الراقصة على الجوهري حتى يريها الجوهرة، فتضربه على رأسه ليفقد الوعي وتأخذ الجوهرة وتتركه صريعاً، ثم يفيق بعد ذلك ويبلغ (البوليس) وتحدث عدة حوادث وتتردد الشبه في أثنائها بين قطر الندى وعزيزة. وتستطيع عزيزة أن تبرهن لوكيل النيابة على أنها بريئة وأن الجانية السارقة هي قطر الندى، فيقبض على القطر الندى ويطلق سراح عزيزة ومن اتجهت الشبه إلى اشتراكهم معها، وهم عزوز وحسونة وبلية والمعلم كودك المصور الذي كان يصورهم وكانت الصورة تلعب دوراً هاماً في وقوع هذه الأحداث ويتزوج كل صاحبته، حتى المعلم كودك، إذ يتزوج أم عزيزة.
هذه هي قصة فلم (منديل الحلو) الذي عرض أخيراً بالسينما (نحاس فلم) وقد ألف القصة وأخرج الفلم عباس كامل. رأينا الفلم يسير في جو طبيعي مشوق حتى بدأت دسيسة الحلاق لصرف الخاطب عن مخطوبته، فقد ابتدأت سلسلة من الحوادث المبهمة ذات جو بارد ممل رغم ما تخللها من رقص وغناء، ويرجع ذلك إلى التكلف والافتعال في محاولة حبك القصة، فمثلاً أية ضرورة تحمل الراقصة على أن تحل محلها واحدة تشبهها؟ وماذا في أن تتخلف عن العمل ليلة لعذر؟ وما أدراها أن عزيزة تجيد الرقص مثلها؟ والعجيب أنها اكتفت بقول عزيزة لها إنها تعرف الرقص دون أن تحقق من هذا. . . وهكذا لو تتبعنا وقائع الفلم وجدناها تسير وفق رغبة المؤلف والمخرج في أن يهيئ مواقف معينة ولو أخرج طبائع الأشياء عن حقيقتها وأجرى الأمور في غير مجاريها. وهناك الزحمة التي تربك المشاهد والجلبة التي تصدع الرؤوس وتضيع في غبارها عناصر الفكاهة والغناء والرقص. ولا سيما أن بطلته تحية كاريوكا (عزيزة) وقد تعجلها المخرج فلم يصبر عليها حتى تصل الحوادث إلى المرقص، بل جعلها ترقص لخاطبها عزوز بدكانه بين الأحذية في أول مرة يلتقيان فيها. . . وهو (عبد العزيز محمود) يغني لها ولمنديلها (الحلو) حتى استحال الدكان إلى (كباريه)!(855/47)
ومن العبث أن تسأل عن القصة: ما هي؟ ولم هي؟ فالمقصود هو (الفرقة) أو (الجوقة) أو (التخت) الذي يتكون من تحية وماري منيب وإسماعيل يس وحسن فايق وحسن كامل وسعاد مكاوي وغيرهم، فالغرض الأساسي إظهار هؤلاء في الأوضاع التي عرفوا بها، لترقص الراقصة ويغني المغني ويضحك المضحك. وهكذا نرى أن الفكرة (التخت) القديمة لا تزال كما هي في جوهرها وإن اختلفت بحكم الزمن والاختراع، فكلما كان التخت يدعى إلى الأفراح والليالي الملاح، يدعى الآن إلى (الأستوديو) للتصوير والإنتاج، أما أغراض فن القصة من عرض وتحليل وغيرهما فلا باس أن تتحقق في عرض الأجسام تحليل قدرة الممثلين على إرضاء طبقة الفارغين من الناس. . .
والتسلية في الفلم من النوع المبتذل الرخيص، ومن المؤسف أن الممثلين والممثلات - وهم مجموعة من أشهر النجوم والكواكب - كم يستغلوا استغلالاً مفيداً، لتفاهة التأليف وركاكة الحوار وضعف الإخراج، ووجه الأسف أن تكون لدينا كفاءات تمثيلية يمكن أن توضع في القوالب الفنية الراقية، ولكنها تحول إلى الابتذال والتهريج، حتى لا يجد صاحب الذوق السليم، ولا أقول المثقف - في هذا الإنشاء ما يمتعه ويبهج نفسه.
والفلم مقتر عليه في الإنفاق، وقد ظهر التكلف في انتقال أبطاله إلى الإسكندرية دون حاجة إلى هذا الانتقال، ليظهر منضر البحر والشاطئ والقطار، وهي مناظر متكررة معدة من قبل، وقد قصد بذلك تغطية فقر القلم في المناظر الجميلة، ومنظر الشارع الذي تقع فيه أهم حوادث الفلم لا ينطبق على واقع وليس له أية سمة أو معالم واضحة.
عباس خضر(855/48)
البريد الأدبي
تعبير جزل وليس فيه مجانية:
(يا ابنة الله) (ويا عين الله) تعبيران وردا في مناجاة الأستاذ الراعي للشمس في العدد 840 من الرسالة. . . وإذا كان لي أن أعقب بكلمة لذينك التعبيرين من الرائعين فإنما الدافع لذلك كلمتان للأستاذين الفاضلين دسوقي حنفي وثروة أباظة. . في الأول سؤال للتبيين. فصاحبها يطلب ما غمض عليه وأعجم من التعبير خدمة للحقيقة والأدب كما يقول. وفي الثانية استنكار لهذا التبيين (بعد أن أوضحه الأستاذ الراعي في العدد 847 من الرسالة) فصاحبها هو الأستاذ ثروة يقول: قلم شط في التعبير وكان الله غفوراً رحيماً. . . ويسترسل في استنكاره مستغفراً ربه لهذه اللغة طالباً منه الهداية والتوبة والرحمة. . . ويبدو لي من ثنايا كلمته أنه أراد أن يتوكأ على هيكل التفسير للأستاذ الراعي ليتسنى له الأصل الممثل في التعبيرين السالفين. مهما يكن الأمر غير ذلك فقد يكون الأستاذ ثروة محقاً فيما يذهب إليه ويستنكره إلى حد ما إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية واحدة ونعني بها المنطقية في متناولها السهل القريب التي تعتمد بها على المألوف وحده. ولو حومنا طويلاً وبذلنا المجهود في التعبير وأعملنا الفكر والخيال إن أردنا التحليق في أفق المعنى البعيد فيستبان ما لم يكن ليدركه العقل إذا أقتصر على أفقه المحدود للحكم الأول على الأشياء لما همّ بنا العجب إذ اتأدّت لنا (يا ابنة الله) - وهي موضع الخلف مع زميلتها الأخرى - أو بمعنى يا نفحة من الله ويا شعاعاً من عظمته وآية من قدرته وعملً من معجزاته واستخراج ذهن إلهيّ جبار. . . ألسنا نعبر عن إنتاج الأديب والفنان بقولنا (هذا من بنات أفكاره؟) فلا تعني سوى المبتكر المستخرج من مصنع الفكر ومستودع الذهن ومنبع الإلهام. . فما أقمن الشمس أن تكون من بنات الله المصنوعة المخلوقة من قدرته وإرادته. جل شأنه في الخلق والإبداع والتكوين. . ففي هذا المجال الممرع الفسيح يسهل التعليق ويلين التبيين وينظق المستغلق. . . وإذا قلنا إن الله واحد لم يلد ولم يولد كما عبر الأستاذ ثروت فالمعنى بعيد عما نحن بسبيله. ويكفي أن تفهم ما يعنيه الكاتب ويهدف إليه وإذ ذاك يبطل العجب. أما أن الشمس عين الله في المعنى الآخر فلست أقول في مجال التعليل واستنهاض المجاز إلا أنها عين الحقيقة. والحقيقة هي الله. وكذا يقولون ولك ما تشاء بعد ذلك من تمحيص وتحليل(855/49)
واستقصاء للمعنى السامق الجليل.
(السويس)
محمد عبد الرحمن
حضرة صاحب التعليقات:
قرأت في العدد 844 من مجلة الرسالة بحثاً للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي بعنوان الفلسفة الصامتة، وقد أثار انتباهي قوله: بعد أن أنها كلامه عن بوذا وفلسفته التي استوحاها من تلك القصة التي عبرت: إن الحياة أعظم الشرور وأن الخير يقضي بالتحرر منها، كما أنه قال إن هذه القصة ترمز إلى فلسفة الهند الزاهرة في الحيات المتعلقة بالروحانية: هي عين الفلسفة التي يعبر عنها سليمان الحكيم في الكتاب المقدس. وهنا أتساءل كيف قال الأستاذ المليجي إن فلسفة بوذا هي التي عبر عنها سليمان الحكيم. وكيف يكون هذا مادام بوذا يدعو إلى التخلص من هذه الحياة التي قال عنها إنها أعظم الشرور، وهل يدعو إنسان عاقل إلى التخلص من شر إذا علم أنه سيعود إليه فيما بعد؟
ومن خلال دعوته تظهر اللهفة على التخلص من هذه الحياة كما إنها تظهر من خلال كلماته أن الحياة أعظم لشرور. ومن هذه اللهفة يفهم المرءأنلا عودة إلى هذه الحياة إن خلص منها، وبما أنه لا عودة إليها تنتهي فلسفته إلى الجمود.
وأن سليمان الحكيم يقول في الكتاب المقدس: إن ما كان سوف يكون وما حدث سوف يحدث، وليس تحت الشمس من جديد. هل هناك شيء نستطيع أن نقول عنه، أنظر هذا جديد؟ كلا!
إذن. سليمان يقول أن الحياة تعيد دورها والتاريخ يعيد سيرته من ماض إلى حاضر، ومن حاضر إلى ماضي فكل ما يراه الناس جديد يستمد حياته من الفناء كطبيعة الكون في الفصول الأربعة تنتقل من فصل إلى فصل.
ما دام بوذا يقف بفلسفته عند الروحانية وهي الرتبة العليا لأبناء الدنيا، وسليمان لا يقف عند حد، بل الحياة مستمرة في دوراتها تعيد الماضي إلى الحاضر وبالعكس، فلا يمكن أن يقال إن فلسفة بوذا هي نفس الفلسفة التي عبر عنها سليمان الحكيم في الكتاب المقدس.(855/50)
وإن كلمة (عين الفلسفة) هي التي جعلتني أكتب إلى صاحب التعقيبات مستفهماً عن هذه القطة أملاً أن يغنيني عن السؤال عنها ثانياً، وله الشكر سلفاً.
اللازقية - سوريا
محمد بدر
إلى وزارة المعارف
في كتاب (المطالعة العربية) ص4 المقرر هذا العام على طلبة السنة الرابعة الابتدائية ترجمة للأمام الشافعي، وقد جاء فيها ما نصه: (وفي سنة خمس وتسعين ومائة من الهجرة سافر إلى بغداد أيام الرشيد فرحب به علماؤها) (ص35 مطبعة بولاق سنة 1949).
ولقد أجمعت كتب التاريخ على أن الرشيد توفى سنة ثلاث وتسعين ومائة من الهجرة، فكيف تكون سنة 195 هـ في أيام الرشيد؟
هذا وقد ألف الكتاب لوزارة المعارف ليدرس في مدارسها رسمياً - الأساتذة إبراهيم مصطفى بك، ومحمد عطية الأبراشي، وعبد المجيد الشافعين والدكتور عبد الوهاب عزام بك، وحامد عبد القادر، وراجعه الأساتذة الدكتور طه حسين بك، والدكتور أحمد أمين بك، ومحمد أحمد جاد المولى بك.
فهلا غيرت وزارة المعارف هذه العبارة مصححة إياها بما يتفق وحقائق التاريخ المجمع عليها؟ أو تبين لنا المصدر التاريخي الذي أعتمد عليه أساتذتها المؤلفون والمراجعون فيما تضمنته العبارة المنقولة؟
محمد خليفة التونسي
إلى الأستاذ أحمد شفيق حلمي:
قرأت ما كتبته في (الرسالة) العدد 854 تحت عنوان (الوفاء المذبوح) فأكبرت قوة الأسلوب ومتانة العبارة ورقة المعنى ودقة المبنى ولطافت الجوهر وحسن الحبكة؛ وما إن بلغت قولك في الفصل الرابع عندما سقطت سهام على الملاءات البيضاء: (هل تذبل الورود وهي تختال بين المروج) لم استسغ هذا التعبير - لأن الموقف حينئذ يبرن عليه(855/51)
الحزن والكدر، ويخيم عليه الانزعاج والكآبة والدهشة من هول ما حدث؛ ففي هذا الموقف، موقف المرء وهو يرى ميتاً يحتضر أمامه - بل بين ذراعيه - في هذا الموقف يفزع الإنسان إلى ربه أن يسلط عليه نوراً يبدد حريته، ويسكب في قلبه ضياء يوقظه من غمرته! لا ليقول عبارة هي إلى الغزل أقرب من تعزية النفس وحريتها؟!
وكيف يكون (وحيد) مجنوناً يحب عروسه وشريكته، ثم يفقدها في غمضت عين بين ذراعيه ليلة العرس؛ أنه يصرخ كالأطفال، ويولول كالنائحات - إلا ليظهر مكنون قلبه - وفقكم الله.
الزقازيق
سعيد عبد الراضي حجازي(855/52)
القصص
ليلة في الصرب
قصة الكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز
ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
الساعة الحادية عشر ليلاً، تلك الساعة التي يغلق فيها مسرح باريس أبوابه. وقد أخليت المقاهي والمطاعم من روادها قبل ذلك بنصف ساعة.
وعلى إفريز الشارع، وقفنا زمرة حائرين. كانت جموع الناس تخرج من أماكن اللهو فتختفي في ظلمات الشارع، والمصابيح ترسل ضوءاً خافتاً سرعان ما يمتصه الظلام، والسماء الحالكة تجذب إليها الأنظار بتلألؤ أضوائها، فيتطلع إليها الناس في نظرات من اقلق. فقد كان ذلك الامتداد الفجائي للنور الكاشف أحياناً ما يكشف عن منطاد، تغمره الأشعة فيبدو كالسيجار المتوهج.
وشعرنا بالرغم في الاسترسال في سهرتنا. ترى أين نذهب وقد أغلقت باريس المكتئبة كل أبوابها؟. . . وحدثنا أحد الصربيين عن مطعم لفندق معين، مفتوح الأبواب طول الليل، يستقبل رواده من الضباط، فيدلفون غليه خلسة وكأنهم من أصحابه. وكان يتردد عليه سراً إخوان في السلاح من مختلف الأمم، قد قدموا إلى باريس لقضاء بضعة أيام فيها. وقصدناه، ودلفنا إلى قاعة استقباله في احتراس، فشعرنا بالفارق الهائل بين أنواره الباهرة وظلام الليل المداهم. كانت القاعة أشبه ما تكون منار كبير، وقد أنعكس من مراياها عناقيد الثريات الكهربائية، فخيل إلينا أننا ارتددنا بأعمارنا عدة سنوات. النساء بزيناتهن، والشمبانيا، وتنهدات القيثارة، وزنجي يرقص وقد ارتعشت أجزاء جسمه في الحرارة - كان كل ذلك من مشاهد عهد ما قبل الحرب. بيد أنه لم يكن هناك من الرجال من يرتدي لباس السهرة.
وكان الجميع من فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وروسيين وصربيين - مرتدين حللهم الرسمية الرثة، وقد علاها الغبار. وكان بعض الجنود الإنجليز يعزفون على القيثارة، فيصفق لهم القوم في ابتسامات باردة كالرخام، وقد جلسوا مكان فرقة الغجر الموسيقية.(855/53)
وأومأت السيدات إلى جندي منهم يهمس باسم والده اللورد - صاحب الملايين الشهير، وهو ينشد قائلاً (دعونا نبتهج إيه الأخوان، فغداً نموت).
كان كل هؤلاء الرجال الذين قربوا حياتهم لمذبح آلهة الحرب، يشربون العرق في جرعات كبيرة، ويضحكون، وينشدون، ويلقون بتحياتهم في حماس إلى أولئك الملاحين المغامرين الذين كانوا يقضون الليل على الشاطئ، ثم يعودون في صباح اليوم التالي لمجابهة العاصفة بشجاعة.
ولاح على الضابطين الصربيين المرفقين لنا، دلائل الرضا. فقد زج بهما وطنهما إلى باريس، مدينة الأحلام، تلك التي ظالما ملأت أفكارهما أثناء إقامتهما المملة بمعسكر في بلدة ريفية. وكان كل منهم يعرف كيف يسرد قصته. موهبة عادية في بلد يكاد يكون كل من فيه شاعراً. فعندما مر لامرتين بالمقاطعة التركية بالصرب وقتئد منذ حوالي قرن، عجب لما للشعر من أهمية في تلك المقاطعة: مقاطعة الرعاة والمحاربين. وكانت الأفكار والذكريات تنظم شعراً في الأرض قلّ أن تجد فيها من يقرأ ويكتب. لقد مد المؤرخون الوطنيون من أجل الإلياذة الصربية، بما نظم من أناشيد جديدة.
ونذكر الضابطان وهما يحتسبان الشمبانيا، بؤس أيام تراجعهما منذ أشهر مضت: الكفاح ضد الجوع والبرد، والمعارك التي دارت على الجليد، واحد ضد عشرة، وفرار الناس والحيوانات في ارتباك مفزع، والمدافع الرشاشة والبنادق تنطلق دون انقطاع إلى مؤخرة الطابور، والقرى المحترق، والجرحى، والمشردون يئنون وسط اللهيب، والنساء المشوهات ولقد حامت حولهن الغربان، وفرار الملك بطرس العجوز، الكسيح من مرض الروماتزم، دون أن يكون له معين سوى عصاه الخشبية، وقد أخذ هو ومن معه من حاشيته يتسلقون الجبال، محني القامة، صامتاً، يتحدى القدر وكأنه أحد ملوك شكسبير.
وراقبت الضابطين الصربيين وهما يتحدثان. كان كلاهما في غضارة الصبا، قوياً ممشوق القمة، ذا أنف اقني كأنه منقار النسر، وشارب مدبب الطرف، وقد انفلتت خصلات الشعر من تحت قبعتيهما الصغيرتين. وارتدى كلاهما حلة في لون الخردل، ولاح عليهما الهدوء الذي يضفي على الشجعان الدائبين على نفض الموت من فوق أكتافهم.
واسترسلا في الحديث: تكلما عما حدث منذ شهور قلائل، وكأنهما يتحدثان عن مغامرات(855/54)
ماركو كرايلوفتش (السيد) الصربي الذي تسلح بأفعى كأنها الحربة، ليحارب بها شاربي الدماء بالغابات، ومال يهما الحديث إلى ذكريات طفولتهما القاسية.
ثم قام صديقنا الفرنسي، وأستأذن ورحل، وكان أحد الضابطين يقطع استماعه إلى الحديث بالتطلع إلى مائدة جانبية. كانت ترنو غليه عينان حالكتان، تعلوهما قبعة من الريش الحرير الأبيض، ولا شك أنهما استرعتا ناظريه، فقد هب واقفاً كأنما أنجذب بدافع لا يقاوم، وسارة صوب تلك المائدة وإن هي إلا لحظات حتى اختفى، واختفت معه القبعة الحريرية.
وتركت وحيداً مع الضابط الآخر، وكان أصغر من رفيقه سناً وأقل منه حديثاً. وأرتشف رشفة من قدحه وهو يتطلع إلى الساعة الموضوعة على المقصف. ثم أرتشف رشفة أخرى؛ وأخيراً نظر إليّ تلك النظرة التي تسبق دائماً الإفضاء بسر خطير. وأدركت حاجته إلى الإدلاء إلي بحادث مؤلم يعذب ذاكرته ونظر إلى الساعة مرة أخرى: كانت الواحدة صباحاً.
وعلى حين غرة، أخذ يصيغ حديث الصامت في كلمات، قال - حدث ذلك في هذا الوقت، منذ أربعة أشهر. . .
وأخذ يتابع حديثه، وأنا أتخيل معه الليل الحالك، والجليد الذي يغمر الوادي، والجبال الناصعة البياض المغطاة بأشجار الزان والصنوبر، وقد هزة الريح إفنائها فتساقطت منها ذرات البرد الأبيض. ورأيت أطلال قرية، ترابط فيها فرقة صربية، آخذة في التراجع صوب البحر الأدرياتيكي.
كان صديقي يقود مؤخرة هذا الحرس، كتلة من الرجال، محلة أصبحت قطيعاً من الرعاع. يرافقهم أهل القرى في ذهول من الألم والخوف، فيتحر كون بلا إرادة كالآلات، وينساقون إلى الأمام كالحيوانات، وكانت النساء، الداكنات، المشوقات، القويات، يسرن في صمت فاجع، وينحنين على الأموات أثناء مرورهن فينزعن منهم بنادقهم وذخيرتهم.
وبدا الظلام متوهجاً بضوء أحمر متلألئ من القنابل المتطايرة بين الأطلال. فاستجاب إليها أعماق الليل وأقبلت معه التوهجات القاتلة، وأز في الظلام الدامس الرصاص: حيوانات الليل الخفية.
كان كلما أتى الصباح، يبدأ الهجوم، وكانوا يجهلون عدد من هناك، أولئك الذين يصطفون(855/55)
ضدهم في الظلام. أهم ألمان؟ نمسيون؟ بلغاريون؟ أمأتراك؟. لقد فرض عليهم أن يجلبوا الكثيرين منهم.
وأسترسل الصربي في الحديث قال: (كان لا مناص لنا من التراجع، مخلفين وراءنا أولئك الذين يعوقون تقهقرنا. وكان لزاماً علينا أن تصل إلى الجبال قبل أن يتنفس اصبح).
وكان الطابور الطويل من النساء والأطفال والكهول وما أختلط بهم من قطيع الحيوانات قد أبتلعهم الليل، ولم يبقى في القرية سوى الرجال القادرين، يحاربون من مخابئهم بين الأطلال وقد أخذ جزء منهم فعلاً في التقهقر.
وبغتة، انتابت الضابط ذكرى قاسية.
الجرحى ما الذي تفعله بهم؟ كان أكثر من خمسين رجلاً ممددين على القش في حظيرة مزقت القنابل سقفها. رجال يعانون آلاما مبرحة، رجال مذهولون، يتململون في نومهم ويثنون، جنود أصيبوا بجراحهم منذ أيام مضت، واستطاعوا أن يجروا أنفسهم جراً إلينا، وجنود أصيبوا في ذات الليلة يتبعهم سيل من الدم الجديد، وقد ضمدت جراحهم بضمادات مستعملة، ونساء أصبنا بشظايا القنابل). .
ودلف القائد إلى ذلك الملجأ الذي تفوح منه خبيث الروائح من الأجسام المتداعية، والدم الجاف، والملابس القذرة والأنفاس المتصاعدة، وعندما تفوه بأول كلماته، تحرك أولئك الذين لا تزال لديهم بقية من القوة، في تململ ومشقة تحت ضوء المصباح الوحيد المتعالي دخانه، وصمتت الإناث، صمتة الدهشة والرعب، كما لو أن هؤلاء الرجال المحتضرين يخشون شيئاً أكثر رهبة من الموت.
ولما سمعوا أنه لا مناص من تركهم تحت رحمة العدو، حاولوا النهوض جميعاً، ولكن تهالك معظمهم في إعياء. وأرتفع نشيد من التوسلات اليائسة، والصلوات الحارة، صوب القائد وجنوده الذين كانوا بصحبته: (أيها الأخوان، لا تهجرونا، أيها الأخوان، بحق المسيح. . .).
وعندما وعت عقولهم في بطئ أنه لا مفر من تركهم، رضوا بمصيرهم في خضوع. ولكن. . . وقوعهم في أيدي الأعداء! وبقاؤهم تحت رحمة البلغاريين والأتراك، أعدائهم منذ قرون بعيدة! وأفصحت أعينهم بما لم تجرأ شفاههم على الإفصاح. أنه من اللعنة أن يؤخذ(855/56)
الصربي أسيراً. وأرتجف الكثيرون ممن شرفوا على الموت، عندما أدركوا أنهم على وشك فقد حريتهم. إن انتقام البلغاريين لأكثر خوفاً من الموت.
(أيها الأخوان، أيها الأخوان. . .).
وأدرك القائد رغباتهم المختفية في صيحاتهم، فنحى عينيه عنهم. وسألهم العديد من المرات (أتطلبون مني أن. .؟).
وحرك الكل رؤوسهم بالإيجاب. أنه إذا كان لا مفر من تركهم، فلا يليق به أن يغادر خلفه صربياً حياً. ألا يطلب هو نفس الطلب لو كان في مكانهم؟
وكانت قلة الذخيرة بسبب التقهقر قد جعلت الجنود يحتفظون برصاصهم في غيرة. وسل القائد حسامه. كان بعض الجنود قد بدأ في القيام بمهمته وقد أستعمل سلاح بندقية في تردد وبلا دقة. طعنات طائشة بلا هدف، ودافق فياض من الدم. وجر كل الجرحى أنفسهم صوب القائد لينالوا شرف الموت من يديه، وقد جذبتهم رتبته ومهارته في الضرب.
وجعل يدفع نصل حسامه الممشوق في رقابهم، جاهداً أن يقطع شريان الحياة في ضربة واحدة.
وهكذا جعل القائد يصف المشهد المهول وكأنه مائل أمام عيني وأقبلوا زاحفين على أربع، وتجمعوا حول قدميه. وحاول في بادئ الأمر أن ينحي برأسه بعيداً حتى لا يرى ما الذي يفعله، وقد امتلأت. ولكن كان من جراء ذلك الضعف الذي أنتابه أن صار يطعن بلا دقة، مما أضطره إلى إعادة الطعنات وإطالة الآلام. فليهدأ إذا! بيد ثابتة، وقلب جامد!
(أيها الأخ خذني!. . خذني!).
وتجادلوا حول أسبقيتهم في الموت، كما لو كانوا يخشون الوقوع بين أيدي أعدائهم قبل أن تتم الضحية الأخوية. وتعلموا بالغريزة كيف يضعون أعناقهم الوضع المناسب. فكان كل واحد منهم يضع رأسه ويميل به على جانب واحد، حتى يكون العنق مشدوداً، والشريان متصلباً مهيئاً للطعنة القاتلة.
(أيها الأخ، خذني!).
وأنبثق دافق من الدم. وكان كل منهم يسقط فوق الجثث الأخرى، تلك التي (نضب) منها الدم وكأنه زق من النبيذ القاني.(855/57)
وأخذ المطعم يخلوا من رواده. ومرت السيدات متكئات على الحلل الرسمية، وقد تضوع من ملابسهن عبير خفيف. وتنهدت قيثارة الإنجليزي آخر تنهداتها وسط عاصفة من الضحكات.
وكان الصربي قد أمسك سكيناً صغيراً، وجعل يطعن المائدة في حركة آلية. . . حركة رجل لم ينس. . ولن ينسى. . طعنات متتالية متواصلة. . .
محمد فتحي عبد الوهاب(855/58)
العدد 856 - بتاريخ: 28 - 11 - 1949(/)
أحقا مات على محمود طه؟!
أحقا رفاق علي لن تروه بعد اليوم يحي المجالس بروحة اللطيف، ويؤنس الجلاس بوجهة المتهلل، يدير على السمّار أكؤساً من سلاف الأحاديث تبعث المسرة في النفوس، وتحدث النشوة في المشاعر؟
أحقاً عشاق على لن تسمعوه بعد اليوم ينشد القصائد الرقيقة، ويخرج الدواوين الأنيقة، ويصور الحياة بألوان من الشعر والسحر والفتون، في إطار من الجمال والحب واللذة؟
أحقا أصدقاء علي أن تجدوه بعد اليوم يبذل من سعيه ليواسي، وينيل من جاهه ليعين، ويجعل بيته سكناً لكل نفس لا تجد الدعة ولا الأنس، ومثابة لكل طائر لا يجد الروضة ولا العش؟
أحقاًَ عباد الله سكت البلبل، وتحطم الجام، وتقوض المجلس، وانفض السامر، وتفرق الشمل، وأقفر الرّبع، وأصبح علي طه الشاعر العامل الآمل أثراً وخبراً وذكرى؟
لقد حدثني ربع ساعة في تليفون المستشفى يوم الأربعاء، فبشرني أن قلبه أنتظم وجسمه صحّ ووجهه شبا، وأن الأطباء سمحوا له بالرجوع إلىبيته، وأن استقباله في الدار سيعود، وأن مجلسه في (الأميريكين) سينعقد، وأنه سينتظرني يوم الجمعة في مكتبه ليقرأ عليَّ النشيد الأول من ملحمة (اليرموك) التي اقترحتها عليه، وربما خرج معي بعد القراءة إلىنزهة هادئة في طريق الأهرام؛ ثم ختم عليَّ حديثه الطويل بضحكة حلوة فيها أمل، وعبارة فكهة فيها تفاؤل! ولكنما كان بين يوم الأربعاء الذي حدثني فيه هذا الحديث، ويوم الجمعة الذي ضرب لي فيه هذا الموعد، يوم الخميس الذي سكن فيه قلبه الطيب فما ينبض بحياة ولا حب، وسكت لسانه الحلو فما ينطق بنثر ولا شعر: طلع صباحه الأسود المشئوم على غرفة علي وهو يلبس ثيابه ويداعب أصحابه، وينظر في الداخل فيرى طاقات الزهر تزين المنضدة، وفي الخارج فيرى ممرضات المستشفى يجمَّلن الممشى، فيهفو الشاعر المعمود إلىأزاهره التي تنفخ قلبه بالعطور، وإلى عرائسه التي تغمر شعره بالشعور، فيخرج ليؤدي ما عليه من المال للمصحة، ومن الشكر للأطباء؛ حتى إذا أبرأ ذمته من حقوق الناس أدار فيمن حوله من أصدقائه وذوي قرباه نظرة فاترة حائرة، ثم أسبل عينيه، وخر مغشيا عليه! فخف إليهأساته الذين بشروه العافية ووعدوه السلامة، وأخذوا يقلبونه ويفحصونه فإذا الجسد الجياش بالشباب والقوه هامد لا حراك به ولاحس فيه! وهكذا في(856/1)
مثل ارتداد الطرف ذهب من أرض الآدميين إنسان، وغاب من سماء العبقريين فنان!
والهف نفسي على أحبائه وقد مسهم ما مسني من غصة الريق وحرقة الجوى حين نعاه إليه م الناعي! لقد كان كل معنى أقرب إلىعلي في أذهانهم إلاّ معنى الموت. لذلك ظلّوا متبلدين ساهمين، يقلبون الأكف أسى وحسرة، ويحركون الألسن إنكاراً ودهشة!
لا يا بديع الزمان! ليس الموت كما زعمت خطبا صعب حتى هان، ولا ثوبا خشُن حتى لان! إنما الموت نقيض الحياة وبغيضها من أزل الدهر إلىأبده؛ لا تقترب من مظنته، ولا تأنس بناحيته، ولا تسكن إلىريحه، حتى يفجأها كالقضاء، ويدهمها كالوحش، ويختلها كالصائد، ويختلسها كاللص! وهل الدنيا كلها بمن فيها وما فيها إلا معركة لا تفتر بين البقاء والفناء والجدَّة والبلى؟ أرحام تدفع، وأجداث تبلع، وهجوم فيه المرض والشهوة والأثرة، ودفاع فيه الطب والسياسة والخديعة، وصرعى هذه المعركة الضَّروس لا ينفكون يتناثرون من بين شقي الرحا الهائلة أشلاء لا تُشبع جوف الأرض، ودماء لا تنقع غليل الثرى!
عرفت علياً منذ سبع وعشرين سنه على الضفاف الخضر من مدينة المنصورة. وكان حين عرفته شابا منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلاّ قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!
كان كالفراشة الجميلة الهائمة في الحقول تحوم على الزهر، وترف على الماء، وتخفق على العشب، وتسقط على النور، لا تكاد تعرف لها بغية غير السبوح، ولا لذّة إلاّ التنقل. ثم تتبعته بعد ذلك في أطواره وآثاره، فإذا الفراشة الهائمة على أرباض المنصورة تصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، (والأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، (والأرواح والأشباح) في أطباق اللانهايه؛ وإذا الشاعر الناشئ يغدو الشاعر المحلق بجناح المَلك، وتارة بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة والشياطين بالناس!
كان علي - وا حسرتا عليه - من أصدق الأمثلة للشاعر الذي خلقته الطبيعة. والشاعر الذي تخلقه الطبيعة يكون في ذاته وفي معناه نشيداً من أناشيد الجمال، ولحناً من الحان الحب؛ فيكون شاعراً في أخلاقه ومُثُلة وأحلامه وهندامه وسلوكه، وفي نمط حياته وأسلوب(856/2)
تفكيره وطريقة عمله وطبيعة صداقته. وأشهد لقد كان علي برَّد الله ثراه نسقاً فريداً في الصفاء والوفاء والمروءة والمودة. كان لا يطوي صدره على ضغينة، ولا يحرك لسانه بنقيصة، ولا يقبض يده عن معروف، ولا يعقد ضميره على غدر؛ فلم تدع له هذه الصفات الشاعرة النادرة عدوا، لا في نفسه ولا في الناس، فعاش ما عاش وادع البال في سلام الحب وأمان الصداقة.
قضى عليُّ عمره بالعرض لا بالطول، وقدر عيشه بالكيف لا بالكم، وجعل همّه في الحاضر لا في المستقبل، ونظر إلىالشعر نظر البلبل إلىالشدو، فكان يصدر عنه بالطبيعة إعلاناً لوجود، وإبرازاً لنفس، وكمالا لصوره، وجمالا لحياة! لذلك كان شعره تعبيراً صادقاً عن شعوره، وتصويراً ناطقاً لهواه، ونظاماً متسقاً مع خلقه وطبعه في الحرية والأصالة والوضوح والأناقة والسهولة والسلامة.
إن حياة علي طه كانت أشبه بالطيف خفق خفوق المَلك على حواشي الروض ثم عبر، أو الحلم نعم به رائيه في إغفاءة الفجر، ثم زال أو حبات الندى تلألأت في وجه الصباح ثم ذهبت في متوع الضحى، أو قطرات العطر سطعت في نفح النسيم ثم تبددت في عصف الريح. فالحزن على وفاته حزن على حبيب قضى، وخير مضى، وجمال ذوى، وشباب تولى، ووفاء غاض، وفن ذهب. فإذا بكينا فإنما نبكي علينا لا عليه، وإذا سألنا الله العوض منه فإنما نسأله لنا لا له. وكل ما نملكه للفقيد العزيز أن ندعو الله أن يتغمده برحمته، وأن ينزله منزلة الأبرار في نعيم جنته.
أحمد حسَن الزيات(856/3)
الصديق الراحل
اليوم هادنت الحوادث، فاطرح ... عبء السنين، وألق عبء الداء
خلفت في الدنيا بياناً خالداً ... وتركت أجيالا من الأبناء
وغداً سيذكرك الزمان ولم يزل ... للدهر إنصاف وحسن جزاء
(شوقي)
للأستاذ كامل محمود حبيب
من ضنى قلبي أذرف عبرات الحنين على قبر ثوى فيه حبيب، ومن لوعة الفؤاد أرسل زفرات الأسى لفراقك أنت، أيها الرجل. . . أيها الإنسان. ومن لهفة الروح أعاني البثّ وهو يتدفق في أعماق دمي لأنني وجدت فقدك في قرارة نفسي، أيها الصديق.
فلقد كنت - يا صاحبي - غصناً رطيباً سما ثم ذوى وصوّحت أوراقه.
وكنت روحاً تتوهج نبوغاً أشرق وتألق ثم خبا وانطفأ.
وكنت جذوة من عبقريات سطعت في سماء الشعر ثم همدت وجفَّت ذبالتها.
وكنت في قيثارة الحياة وتراً حساساً داعبته أنّات الشجون فأهتز يشدو بأنغام السماء.
وكنت في قيثارة الحياة وتراً كلما أرسل لحناً هاج للحن فؤاد شجٍٍ أو حنَّ قلب طروب.
كنت في الدنيا لمعة الفن ونور العبقرية. فكان الربيع الغض من صوغ بنانك، وشذى عطر أفواه الرياحين من فيض جنانك، وبسمة الأمل الحلو من لحن قيثارك، والبهجة والشجو من سحر يراعك.
وكنت شباباً عارماً فاض بالبشر فغنى فطرب، وشدا بالسحر فألقى الدهر للألحان سمعه، وتغنى فهفا الطير إلىأنغام عوده.
فيا للفجيعة فيك - يا صاحبي - وأنت كنت غصناً رطيباً سما ثم ذوى وصوَّحت أوراقه.
صاحب الزورق جذلان استخفًّه الطرب؛ هزّ هـ نوح نايك فانتشى فتهادى يضرب الموج بكفي رقة وحنان.
تائهاً في لجة الدنيا يرنو إلىشطئآنها في قلق الحائر.
صاحب الزورق قم وانظر هل بلغت الشاطئ الأمين بعد تيه العمر في بيداء السنين، أم أخرس الردى نغم نايك الحبيب، وقدَّ وتر قيثارك الرفيق.(856/4)
أم غمرت - الآن - أشجان نفسك وأفراح قلبك في كأس مترعة من دم القلوب. . . القلوب التي هدَّها الحزن لفراقك.
قم تر مأتم الشعر يندب ربَّه، مأتم الفن والهوى والشباب ينادي سيده والفجيعة تفعم نواحيه.
قم تر الدنيا - بعدك - خواء من مزامير الخلد ونجوى العاشقين.
قم فلقد كنت - يا صاحبي - شباباً عارماً فاض بالبشرى فغنى فطرب.
لدى مشرق الحياة تلاقينا، والدنيا رخاء ودعة. فكنت أنت ريحانة الجمع وروح المجلس وبهجة الحديث ثم مرت الأيام والعيش تلاق وافتراق.
ومنذ أيام تلاقينا وأنت على فراش المرض، فإنصدع قلبي؛ غير إنك كنت شجاع القلب جريء النفس ثابت الحنان.
ثم جاء النعي. . . فدعني انشر ضعف نفسي على أيدي رفاقي، فما بي قوة لأكتم ضنى قلبي، أو استر لوعة فؤادي أو أداري لهفة روحي.
دعني اذرف عبرات الحنين على قبر ثوى فيه حبيب. دعني أرسل زفرات الأسى لفراقك أنت أيها الرجل، أيها الإنسان. دعني أعاني البث وهو يتدفق في أعماق دمي لأنني وجدت فقدك أيها الصديق. . .
دعني أرق آلام نفسي بين يدي قبرك العزيز قبل أن يجرفني تيار الحياة القاسي. . .
دعني. . . دعني أشيعك بنظرات الأسى ونبضات الهم، ثم أناديك - وأنت في طريق الأبدية - وداعاً. . . وداعاً، أيها الحبيب. . .
كامل محمود حبيب(856/5)
سيف بن عمر
للدكتور جواد علي
ذلك سيف بن عمر، مؤرخ نشيط من مؤرخي القرن الثاني الهجرة. كان مثل زملائه نهماً في التفتيش عن إخبار الماضين، وتتبع أمورهم، والكتابة عن الأموات مثل جماعتنا أصحاب التأريخ لم يترك التأريخ حتى أحبه واصطفاه من بين الناس فمات سنة 180الهجرة فكتب عنه من كان على شاكلته، من أصحاب التأريخ. من هؤلاء المفتونين بنبش الماضي، والبحث عن الحسنات والسيئات. وهي لا تقدم المؤرخ المسكين ولا تؤخره، ولا تقدم العالم ولا تؤخره، ولكنها الدنيا، والدنيا عالم الجنون فيه فنون. وأنا مع الأسف الشديد من صرعى هذا الجنون. ولكن ولله الحمد الذي لا يحمد على محبوب أو مكروه سواء، لولا هذا الجنون لما حدث عمران ولا ظهر اختراع ولأحدثت هذه الطفرات التي هي من عمل (المجانين) الذين يمتازون عن الأسوياء بحالات سمّها يا أخي ما شئت. . .
ثم سيف بن عمر الذي أقدمه للقراء كوفي من مدينة (الكوفة) المدينة العلوية الخارجية العثمانية السفيانية المروانية العباسية، حرباء المدن، و (منجستر) زمانها، صاحبة المعامل الضخمة والشركات الكبرى لصنع الأخبار، ورواية الأحاديث ووضع القصص، المدينة التي نفقت سوقها في الأخبار، واشتغلت معاملها ليل نهار في صنع الشعر والنثر فأخرجت بضاعة مزجاة، على درجات متباينات، بينها الصحيح السليم الأصيل الذي يمثل أعلى درجات الرواية، وبينها الموضوع المنحول الفاسد، الذي له أصحاب واتباع وسوق على كل حال، يعيش عليه عدد من أصحاب الفطنة والذكاء والمكر والقصد، وأصحاب العقائد أيضاً الذين يرون في الوضع نصراً للعقيدة والمذهب، وقربى إلىالله، وراحة للضمير.
ولم يرد في الكتب أن صاحبنا كان واحداً من أولئك الذين عرفوا بالعبث والمجون وبفساد الأخلاق كوالبة بن الحبَّاب، أو مطيع بن أياس، أو حماد عجرد، أو حماد بن الزبرقان، أو حماد الرواية، أو أمثالهم ممن أختلط حديثهم بالمجون، واكتسب أدبهم لوناً، وإن أبعد ما يكون عن الشهامة والآداب، وحياة الرزانة والجد، واقرب ما إلىالعبث وتمضية الوقت، إلا أنه لون ظريف على كل حال من ألوان الأدب. والأدب في عرف الأدباء أشكال وألوان.(856/6)
ولم يعرف عنه شعر من ذلك النوع الذي كان يقوله الشعراء في دار (ابن رامين) قبلة الشعراء المجان الذين يبحثون عن الخمر والجمال في هذه الدار. ولم يعرف عنه أمر آخر من تلك الأمور التي تعد منقصة في الرجال، ومع ذلك فقد اتهم بالزندقة والوضع، والكذب في الحديث.
أما الزندقة فلا أستطيع أن أثبتها ولا أن أنفيها، فلم تذكر الكتب التي اتهمته بهذه التهمه الأسباب الداعية إلىهذا الاتهام. وأما الوضع والدس والكذب في الحديث فلها شأن ستراه فيما بعد.
وعرف سيف بتخصصه بلون واحد من الأخبار، هي أخبار (الفتوح والردة) وكلها حروب وعراك: حروب لنصر كلمة الله وإعلان شأنه، وعراك لإخماد كلمة من أراد إخماد كلمة الله وإطفاء نوره. ولذلك قيل له صاحب (كتاب الردة والفتوح) وعرف بهذا الكتاب الذي لم يصل لنا كاملا مع الأسف، ولعله لم يصل إلىالناس منذ أمد بعيد. وتدل وقائع الأحوال على أنه كان صاحب كتب أخرى في التاريخ.
وقد اعتمد على هذا الكتاب مؤرخ حصيف شهير هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير غالب أبو جعفر الطبري المتوفى سنة (310) للهجرة، وإلى هذا المؤرخ يعود الفضل في إطلاعنا على نماذج من ذلك الكتاب، وعلى فصول منه. وقد ألف عدد من كبار المؤرخين (الردة) ومع ذلك فقد رجح الطبري سيف على سواه؛ رجحه حتى على (كتاب الردة والدار) لأبى عبد الله محمد بن عمر الواقدي. وعلى (كتاب الردة) لأبى الحسن على بن محمد المدائني. وعلى كتب أخرى لمؤرخين شهيرين في هذا الموضوع كانوا الطليعة وفى مقدمة أصحاب الأخبار. ويستمر صوت (سيف) عالياً في تأريخ الطبري، حيث تجد له مكانة في الكتاب، إلىانتهاء حوادث معركة (الجمل) فينخفض هذا الصوت ثم ينقطع تماماً، ليرتفع صوت آخر، صوت قوي رنان، هو صوت أبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي الذي يتسلم دوره، ويصبح بطل الكتاب من معركة (صفين) فيما بعد يساعد، المدائني وعوانة والوافدي وعمر بن شبة وابن الكلبي وأمثالهم.
وكان سيف كأكثر أصحاب الأخبار عاطفي المزاج، متعصباً لقبيلته، يرفع من شأنها، ويضيف إليه ا، ويجعلها بطلة في كل الحوادث، مثله في ذلك مثل أكثر مؤرخي زمانه،(856/7)
الذين أضافوا إلىقبائلهم ما لا يدخل في حسابها، فخلقوا لها شعراً ونثراً ليجعلوا لها شأناً يفوق شأن القبائل الأخرى. وما الذي يهم ابن القبيلة غير قبيلته التي ينتمي إليه ا، والتي تدافع عنه، والتي تكون قوميته، أما القبائل الأخرى فأمرها إلىالله.
وأنا لا أريد أن ألوم صاحبنا على عاطفته الجامحة هذه، فقد كان عصره عصر القبائل، وقد كان النظام السياسي القائم نظاماً قبلياً، يستند على العصبية القبلية. لا حقوق للمواطن فيه إلا إذا كان ينتمي إلىقبيلة تحميه، أو إلىعشيرة تدافع عنه، فطبيعي إذا أن يكون على المؤرخ في ذلك الوقت إلىواجب شاق، ودين في عنقه للقبيلة، فهو مضطر إذا بحكم الوقت إلىالتعصب لعشيرته، وإضافة المفاخر إليه ا، فلا نلوم صاحبنا إذا إذا ما أضاف إلى (تميم) ونسب إليه افي الفتوحات والردة ما كان يجب أن ينسب لقبيلة أخرى. فالعصر عصر قبائل. وقد نسب محمد بن الساب بن بشر الكلبي المتوفى سنة 146 وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 206 للهجرة وغيرهما ممن هو أقدم أو أحدث عهداً منهما، أشياء كثيرة إلىقبائلهم لم يكن لهل أصل ولا نسب في الأخبار.
ثم لا تعجب من فعل أولئك الناس؛ فقد أضاف القرن العشرين بآلاته واختراعاته وتقدم العقل فيه أضعاف الذي أضافه أولئك الذين نتحدث عنهم، كما حذف القرن العشرون بكبريائه واعتداده بما يملكه من وسائل النقد والتدقيق، والتمحيص، شيئاً كثيراً من الحقائق والوقائع التي يعرفها الناس في كل مكان فلا عجب إذا ظهر من قال: كذب والله أصحاب التأريخ. وويل للعالم من شر المؤرخين. وأنا واحد منهم على كل حال.
درس سيف بن عمر على جماعة من المؤرخين والمحدثين والإخباريين أمثال هشام بن عروة المتوفى سنة 146 أو 147 للهجرة وهو من ممثلي مدرسة الحديث في المدينة ومن كبار المحدثين بها، وناشر طريقة أهل المدينة في العراق، ومن المحدثين بحديث أهل العراق، والذي عده أهل المدينة فيمن أسف في أواخر عهده في الحديث، وانحرف عن الجادة، جادة أهل المدينة المعروفة في كيفية رواية السند، وفي الحرج والتعديل، فتركه المشائخ مشائخ المدينة الذين حافظوا على الطريقة التي ورثوها وهي طريقة محافظة بالنظر لأهل الحديث في العراق.
ودرس على محدث آخر يرجع أصله إلىالبيزنطيين هو أبن جريج، أبو الوليد أو أبو خالد(856/8)
عبد الملك بن عبد العزيز الرومي المتوفى سنة (150) من أوائل المؤلفين في الإسلام. وكانت له كتب تتداولها الأيدي عرفت عند أصحابه بكتب الأمانة. يظهر أنها كانت مبوبه ومرتبه على فصول. وهو من المشتغلين بالسيرة والمغازي بالإضافة إلىالفقه والحديث. وأخذ عن أستاذ آخر هو موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي مولى آل الزبير المتوفى سنة 141 للهجرة من محدثي المدينة ومن قدماء المشتغلين بالسيرة والمغازي. وهو ثقة أهل المدينة في السيرة، قال عنه الإمام مالك: عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة؛ أو عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبه فإنها أصح المغازي. وهي شهادة ذات قيمة، فقد كان الإمام صعب الأرضاء، لا يعطي مثل هذه الشهادة إلا بعد امتحان.
وقد نقل من مغازيه عدد من العلماء مثل ابن جريج والواقدي وابن عيينة، وعرف مؤلفه عند المشائخ بمغازي موسى بن عقبه. وقد عثرت على قطعة منه حفظت في خزانة كتب برلين. وكان من مشائخ سيف، رجال معروفون في عالم التاريخ، لهم أسماء بارزة ترد في أكثر الكتب التي تبحث عن صدر الإسلام أمثال محمد بن السائب الكلبي عالم الكوفة ومرجع أهل الأخبار والأنساب المتوفى سنة (146هـ) ومن المؤلفين، وأمثال محمد بن إسحاق صاحب السيرة المعروف، وحامل طريقة أهل المدينة في كتابة السيرة إلىأهل العراق. وأمثال هؤلاء ممن قد يخرجنا البحث عنهم عن الاستمرار في وحدة الموضوع.
واقتبس من كتب (سيف) عدد من المؤرخين، منهم، نصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة (212) للهجرة، صاحب كتاب (وقعة صفين) والطبري أبو جعفر محمد بن جرير، في (أخبار الردة) والظاهر أنه استعان بكتاب (سيف) بالذات كالذي يفهم من قول الطبري (حكى الطبري عن سيف في كتابه عن أبي عثمان. . .). أو (ذكر سيف عن أبي الزهراء القشيري عن رجل من بني قشير. . .) ومن عادة الطبري استعمال مثل هذه العبارات عند النقل من الكتب، وإلا فيذكر السند، إلا في الحوادث التي وقعت في أيامه أو في أيام ليست بعيدة عنه. واستعان الطبري بكتاب آخر من كتاب سيف هو (كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي) وقد أخذ سيف أقواله من مظانها الأصلية، ومثل شهود عيان شهدوا المعارك، أو ثقاة سمعوا من الشهود الثقاة، وقد ذكرت أسماء قسم منهم في موضعه من تأريخ الطبري، في القطع التي انتزعها من ذلك الكتاب. فحفظ لنا (ابن جرير) بذلك نماذج من هذا المرجع(856/9)
القيم المفقود. ولعل له كتاباً في معركة (صفين) هو الكتاب الذي نقل منه (نصر بن مزاحم) في بعض الأماكن من كتابه (وقعة صفين).
ورد أسم (سيف بن عمر) في أكثر من (300) موضع من تأريخ الطبري، ورد لأول مرة في حوادث سنة (10) للهجرة وهي السنة التي بدأ مسيلمة فيها بادعاء النبوَّة في حياة الرسول. وورد أسمه لآخر مرة في حوادث سنة (36) للهجرة وفي ابتداء علي بن أبي طالب بالخروج إلىصفين. ثم تنتهي أخبار سيف عند هذا الحد وتنقطع. فهل يعني هذا أن صاحبنا لم يشتغل إلا في الردة ومعركة الجمل؟
يحدثنا ابن النديم عن سيف فيقول: أحد أصحاب السير والأحداث وله من الكتب، كتاب الفتوح الكبير والردة، كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي، وروى سيف عن شعيب ابن إبراهيم). فيظهر من كلام ابن النديم انه كان صاحب مؤلف كبير في الفتوح. يظهر أنه فقد مع الأسف، ولعل له عدداً من المؤلفات الأخرى لم يصل خبرها إلىمسامع ابن النديم.
وأخذ الطبري أخبار (سيف) عن طريق آخر هو طريق شيخه (السرَّى) الذي ورد اسمه في (241) موضعاً من تأريخ الطبري. ورد لأول مرة في أخبار الردة، وورد لآخر مرة في حوادث سنة 145 للهجرة، في معرض الكلام عن تأسيس مدينة بغداد. والسرى الذي يقصده الطبري هو: السرى بن يحيى من رواة شعيب بن إبراهيم الكوفي رواية كتب سيف بن عمر. وقد قال ابن حجر العسقلاني عن شعيب ابن إبراهيم فيه جهالة، ليس بالمعروف وله أحاديث وأخبار وفيه بعض النكرة ولا نعرف من أمرهما مع الأسف شيئاً مع كثرة ورود اسميهما في تأريخ الطبري.
لم يكن سيف بن عمر رواية شعيب بن إبراهيم كما ورد ذلك في كتاب الفهرست لابن النديم وفي كتاب (ميزان الاعتدا) للذهبي المتوفى سنة 748 للهجرة. والصحيح هو العكس. فقد كان شعيب بن إبراهيم رواية كتب سيف، وقد صرح بذلك ابن حجر العسقلاني في كتابة (لسان الميزان). كما أن الطبري نفسه يفند رأي الفهرست وميزان الاعتدال في جميع المواضع التي وردت فيها أخبار سيف حيث يقول مثلاً (وحدثني بهذا الحديث السري عن شعيب بن إبراهيم عن سيف). أو (حدثنا السرى قال أخبرنا شعيب قال حدثنا سيف) أو (كتب إلىالسرى بن يحيى عن شعيب عن سيف) أو (قال أبو جعفر فيما كتب به(856/10)
إلىالسرى بن يحيى يذكر عن شعيب بن إبراهيم أنه حدثه سيف بن عمر). فكان شعيب بن إبراهيم إذا من تلامذة سيف بن عمر ورواته وحامل كتبه والمقربين لديه.
وشعيب بن إبراهيم مثل شيخه لا نعرف من أمره مع الأسف شيئا، وقد طعن أصحاب علم الرجال فيه، وقالوا إن فيه جهالة وفيه بعض النكرة. وهي أقوال قيلت في أكثر الرجال الذين مالوا إلىالأخبار، وقيلت أقوال أخرى أشد من هذه في أناس أعرف عندنا من سيف، ومن شعيب، ومن السرى بن يحيى، مثل إسحاق صاحب السيرة الشهير، والواقدي محمد بن عمر المتوفى سنة 207 للهجرة. وابن الكلبي، وفي أناس أرفع من هؤلاء في نظر أهل الحديث مثل عبد الملك بن جريج. فلا غرابة إذا رأينا كتب الرجال وهي تجرح هؤلاء: السرى بن يحيى وشعيب بن إبراهيم وشيخه سيف بن عمر. وسبب ذلك على ما يظهر انشغالهم برواية الأخبار. وقد كان الاشتغال بهذا الفرع في القرنين الأولين من الأمور التي لا ترفع من شأن الرجل في نظر المحدثين.
وتتصل رواية الطبري عن سيف بن عمر بطريق آخر: طريق عبيد الله بن سعيد الزهري المتوفى سنة 260 للهجرة. وقد ورد اسمه في (400) موضع من تأريخ الطبري. وقد نقل روايات (سيف) عن عمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري نزيل بغداد المتوفى سنة 208 للهجرة وكان رواة (سيف) وكان من رجال الحديث، كما كان من رجال التأريخ والأدب. وقد ورد اسمه في (39) موضعاً من تأريخ الطبري ورد لأول مرة في حوادث سنة (10) للهجرة في خبر حجة الوداع ومرض الرسول. وقد نقل خبره عن سيف. ويظهر من هذا الموضع ومن مواضع أخرى أنه كان لسيف كتب أخرى في السيرة وفي الأحداث الأخرى. ربما لم تلق رواجاً، أو حدث لها ما سبب فقدانها فلم يصل خبرها إلىابن النديم وغير ابن النديم.
واعتمد الطبري في فصل الفتوح على كتاب سيف كذلك، وقد أخذ المتن من (السرى بن يحيى) في الغالب، واعتمد عليه في أخبار الفتن التي قامت على عثمان مثل فتنة (عبد الله بن سبأ) التي أظهرها في البصرة عام (33) للهجرة. وقد نقل سيف روايته عن (عطية بن الحارث أبو روق الهمداني من كبار رواة الأخبار في الكوفة ومن مشاهير المفسرين. وهو من رواة عكرمة والضحاك بن مزاحم. وقد ورد اسمه في (46) موضعاً من تأريخ الطبري(856/11)
وقد أخذ أبو روق أخباره عن عبد الله بن سبأ وخبره مع أبي ذر الغفاري، ومراسلات ابن سبأ مع زعماء الفتنة من شخص آخر هو يزيد بن الفقعسي، وورد اسمه (يزيد) في (5) مواضع من تأريخ الطبري كلها في حوادث عثمان وعلي. ومن هذا المصدر أخذ أكثر أهل الأخبار رواياتهم عن عبد الله بن سبأ وفتنته في أيام عثمان وعلي. ولذلك يجب الانتباه إلىذلك عند تدوين هذا الحادث والتعمق في البحث.
وقد ذكر الطبري أسماء مشائخ (سيف بن عمر) في المواضع التي أورد فيها قطعاً من كتب (سيف) أو رواياته، وهي تفيدنا بالطبع في معرفة أساتذة هذا الرواية من جهة، وفي معرفة الرواة الذين كانوا يتعاطون رواية الأخبار في ذلك الوقت من جهة أخرى؛ وبينهم عدد يظهر أنهم كانوا من أنشط الأخباريين في ذلك العهد ربما نتحدث عنهم في فرصة أخرى إذا طال بنا العمر.
الدكتور جواد علي(856/12)
مكانة الدين في التعليم
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
بمناسبة ما كتبه أخيراً الأستاذ عباس خضر عن مكانة الدين في التعليم ألفت نظر القراء إلىملاحظات الكاتب الإنجليزي كنث رشمند فإنه يقول في معرض الكلام عن الاتجاهات الجديدة (وهي ضد ذلك النوع من (التقدم) الذي يحاول أمثال سلامة موسى أن ينتحلوه لأنفسهم عفواً بلا كد ولا تعب) في ميدان التعليم بإنجلترا ما يلخص بأن ظروف الحرب العالمية الأخيرة - مثل اختفاء الفوارق بين الطبقات في المخابئ والمساهمة في التضحيات على السواء، والإقبال على الخدمات الاجتماعية، وضرورة الارتجال في كثير من الأمور - أثارت في الشعب شعوراً قويا يجعل التعليم جماعيا بعد ما كان إلىما قبل الحرب فرديا. ومعنى ذلك أن الفرد سيربى تربية تبعثه على الاهتمام بمصالح الشعب كله بعد ما كان يعود قصر ذلك الاهتمام على مصلحة ذاته، وبعبارة أخرى ستبذل من الآن محاولة للإبقاء على عواطف الأفراد ومشاعرهم نحو الجماعة أو الشعب في حالة السلم على ما كانت هي عليه إبان الحرب وأمام خطر الفناء المشترك. ولنضرب لذلك مثلا، فإن الفرق دقيق ويتعلق بالروح أكثر مما يتعلق بالشكل: من المعروف أن كليات العلوم والهندسة في إنجلترا كانت قد تحولت أيام الحرب إلىمصانع للقنابل والعتاد الحربي، كما أن المصانع كانت قد أنشأت فصولا لتدريب فئات مختلفة من الشبان الجدد في الصناعات المختلفة، وكان المنخرطون في هذه الصفوف طلابا ناشئين للعلم؛ وكانوا في الوقت نفسه يقومون مقام العمال المنتجين يدفع لهم بعض الأجر، ولكن الطالب كان يشتغل لا ليكتسب لنفسه ويهيئ سبيل العيش لذاته، بل إنما كان ذلك مساهمة منه في المجهود القومي للدفاع عن الشعب بأسره. وكان يكتنف العمل من أوله إلىآخره جو من الحقيقة والواقعية والحماس وإخلاص النية جعل التعليم أسرع وأنفذ وأنجع بكثير من إلقاء المحاضرات وتجريع الدروس في المعامل التجريبية.
كان من الطبيعي إذا أن يتجه المسئولون عن سياسة التعليم، غير المصابين بمركب النقص الذي يحدو المرء إلىمحاكاة التقدم الزائف، إلىالتساؤل: هل يمكن أن تستمر هذه الروح الجماعية السليمة القوية تسود معاهد التعليم بعد أن انتهت الحرب وزال الخطر؟ وكان(856/13)
الجواب: نعم بشرط أن يكون هناك مقصد عال ومرمى واضح يوضع موضع الانتصار على هتلر وأعوانه. وهل يتصور أن يتألف هذا المقصد السلمي الدائم إلا من قيم روحية وأخلاقية وإنسانية ذات منفعة عالمية يجد الفرد في تنميتها وتشييدها ما كان يجد في إمداد القوى المحاربة وتعزيز الدفاع ضد العدو؟ ثم هناك مسألة أخرى وهي: هل يمكن أن توجد وتقوى وتزدهر القيم الروحية والأخلاقية مجردة عن نظام ديني؟ مهما يقل القائلون في هذا الصدد فإنه يكفينا في هذا المقام أن المفكرين في إنجلترا رأوا أن لا معدي لهم عن الارتكاز على الدين (لا استغلاله كما نفعل نحن في بعض المناسبات) ولذلك رسموا للدين مكانا محترما ممتازاً في مشروع قانون التعليم لسنة 1944م. ولكن هناك بعض الناس يخيل إليه م أن القيم الإنسانية إذا اقترنت بالإسلام فهي لابد أن تتحول (طائفية) أرى أن الانصراف عن إقناع هؤلاء الناس أولى من الرد عليهم.
وهكذا مر التعليم بأربعة أدوار مختلفة؛ فإنه كان في الأول يقتصر على نقل بعض الملومات إلىذهن الطالب. ثم اتسع نطاقه حتى شمل الجسم السليم مع العقل السليم؛ وبعد ذلك أشاروا بإبراز شخصية الطالب وتنمية قواه الكامنة فحسب، حتى انتهى بهم المطاف في الوقت الحاضر إلىإدماج تلك الشخصية في المجتمع وضرورة توجيه عواطف وتركيز اهتمامه في المصالح الجماعية.
وللكاتب الإنجليزي المذكور استطرادات طريفة، منها أن الولاء للقدور السامية والقيم الأخلاقية من أقوى الضمانات للإقلال من أوقات الفراغ والقضاء على الكسل والبطالة والحد من المرح والهزل؛ وفوق ذلك كله هو الدواء الوحيد لتجنيب الإنسانية ويلات تقدم العلوم والحضارة الآلية التي تؤدي إلىفناء المواساة وعدم المروءة. ولعل من أهم ما استطرد إليهالكاتب مصارحته القول بأن الديمقراطية الحقة لا يمكن أن توجد إلا بالاستناد إلىالدين؛ وذلك لأن المساواة بين الناس شيء لاوجود له. في العالم الخارجي المحسوس ولا يقرَّهُ العقل. أو ليست الحقيقة البسيطة الملموسة التي تؤكد نفسها علينا كل لحظة هي استحالة وجود رجلين متساويين في الخلق والمواهب والقدرة؟ أو لا ترون أن الفيلسوف هكسلي لم يكن عنده رادع من أن يهزأ علنا من تصور وحقوق الإنسان الطبيعية؟ فهل نقنع بوجوب استبدال أرستقراطية العقل والدهاء بأرستقراطية الحسب والمال؟ حقا لا ينشأ(856/14)
تصور المساواة بين الناس إلا بالنظر إلىعلاقتهم جميعا مع خالق الزمان والمكان ومصرف الكون والفساد.
السيد محمد يوسف(856/15)
غزل أبي فراس
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
غزل أبي فراس قصير النفس، لا يكاد يتجاوز ما أنشأه للغزل قصدا البيتين والثلاثة غالبا، مكتفيا بذلك في التعبير عما ألم به، من انفعال سريع.
أعرف شاعرنا الحب؟ أم أن غزله تقليدي لا ينبعث عن حب ولا عاطفة؟
أرجح أن الشاعر عرف الحب وتأثر به، بدليل هذه القطع التي نظمها خاصة في النسيب، ولم يقف عند حد المقدمات التي يفتتح بها بعض قصائده. ولم يكن أبو فراس ممن ينشئ الشعر إلا ترجمة لعاطفته، وتعبيراً عما في نفسه، ولكننا نكاد نلمس أن هذا الحب، ما كان يشغل من هذه النفسية الشاعرة إلا حيزاً محدوداً صغيراً، لأن هذا القلب الكبير كان في شغل بكبار الأماني وسامي الآمال، ولم يدع ذلك منه إلا فراغاً يسيرا تشغله هذه العاطفة القوية.
عرف شاعرنا الحب، ولعل من بادلها تلك العاطفة كانت قريبة له، وربما كانت جميلة بنت ناصر الدولة، فإنه أنشأ قصيدة يودع فيها بعض أهله، وقد خرجت تسعى إلىالحج، وهذه القصيدة تفيض بعواطف حارة متدفقة، ينم عنها بكاؤه، ويذكيها في صدره ما امتازت به تلك الفاتنة من غرام بالصون، وحب للحجاب حتى ليكاد وجهها تخفى معالمه على خدرها، وها هو ذا يقص علينا حديثه يوم سافرت تلك الحبيبة المصونة ولعلها جميلة:
أشيعه، والدمع من شدة الأسى ... على خده نظم، وفي نحره نثر
رجعت، وقلبي في سجاف غبيطه ... ولي لفتات نحو هودجه كثر
وفيمن حوى ذاك الحجيج خريدة ... لها دون عطف الستر من صونها ستر
وفي الكم كف لا يراها عديلها ... وفي الخدروجه، ليس يعرفه الخدر
وقد سجل في هذه القصيدة شعورا صادقا حيا. وإن شدة شعوره بحيوية تلك الحبيبة، جعلته يحس كأنها تبعث الحياة فيما يحيط بها، حتى في النبات والجماد، فيقول:
فهل عرفات عارفات بزورها ... وهل شعرت تلك المشاعر والحجر
أما اخضر من ريحان مكة ما ذوى ... أما أعشب الوادي؟ أما أنبت الصخر
وقد أنشأ هذه القصيدة في الغزل خاصة؛ وهي أطول شعره فيه، وربما ذاق من هذا الحب،(856/16)
ما شجاه حينا وأضناه، حتى صح له أن يقول:
أمعنية بالعذل، رفقا بقلبه ... أيحمل ذا قلب، ولو أنه صخر؟
عذيري من اللائى يلمن على الهوى ... أما في الهوى لو ذقن طعم الهوى عذر
ومنكرة ما عاينت من شحوبه ... ولا عجب ما عاينته، ولا نكر
وقائلة: ماذا دهاك تعجبا؟ ... فقلت لها: يا هذه، أنت والدهر
أبالبين، أم بالهجر، أم بكليهما ... تشارك فيما ساءني البين، والهجر
كان صدق إحساس أبي فراس بالحب ينبوعا لتعبيرات صادقة عن عواطف صادقة، فهو يخشى على حبيبه أن تمسه العيون بأذاها فيستحلفه أن يرد عليه لثامه:
أيا سافرا، ورداء الخجل ... مقيم بوجنته، لم يزل
بعيشك، رد عليك اللثام ... أخاف عليك جراح المقل
فما حق حسنك أن يجتلى ... ولا حق وجهك أن يبتذل
ويتقبل ظلم حبيبه، بنفس راضية، بل متلذذة بهذا الظلم:
وبعض الظالمين وأن تناهى ... شهي الظلم مغفور الذنوب
ويقر أنه مذنب، وإن لم يجن ذنبا، ويتوب عن إثم لم يقترفه
أقر له بالذنب، والذنب ذنبه ... ويزعم أني ظالم فأتوب
ويقصدني بالهجر علما بأنه ... إلى، على ما كان منه، حبيب
ويجد في الهجر القصير الأجل لذة تجدد الحب:
إنما يحسن التهاجر يوما ... فإذا كان دائما فقبيح
كل هجر يدوم يوما إلىالليل، ويفنى، فذاك هجر مليح
ويتخيل حبيبه وقد غاب عنه، فيصوره في شعره، ويتساءل: أينساه وقد غاب عنه:
وبالدارين إنسان ... له في القلب داران
إذا ما ماس في القر ... طق، يسعى بين أخدان
رأيت البدر فدبا ... ن، على غصن من ألبان
وخدا يجتنى الور ... د، به، في كل إبان
ألا يا صاحبي رحلي، بالله أجيباني(856/17)
ترى من لست أنساه ... على الحالات ينساني
ويتحمل إدلاله ويحفظ عهده، لأنه ليس له عنه معدي ولا متحول:
نبوة الإدلال ليست ... عندنا ذنبا يعد
قل لمن ليس له عهد: لنا عهد، وعقد
جملة تغني عن التفصيل: مالي عنك بد
إن تغيرت فما غير منا لك عهد
ويقبل ذلة الحب برغم أنه أمير من بيت الملك:
وباخلة أنالتني قليلا ... وقد يرضى القليل من البخيل
قنعت به، وكنت أظن أني ... عزوف النفس عن نيل قليل
ولكني وجدت الحب يكسو ... عزيز القوم أثواب الذليل
وما كان يرى ذل الحب إلا عزاً:
بنفسي التي أخفت مخافة أهلها ... وداعي، وأبدت حين أبدت لنا رمزا
فلم أر مقتولين: مثلي ومثلهما ... أذلاً، وإن كان لعمر الهوى عزا
ويستسلم للحب، وأن قوبل بالجفاء:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفا ... ولئن كنى، فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول، ولا تحاش، فإنه ... لابد منه، أساء بي، أم أحسنا
الذنب لي فيما، لأنني ... مكنته من مهجتي، فتمكنا
ولكنه يثور على الحب إذا كان فيه غدر وخيانة:
الآن حين عرفت رشدي، ... واغتديت على حذر
ونهيت نفسي فإنتهت، ... وزجرت قلبي فإنزجر
ولقد أقام على الضلالة، ... ثم أذعن واستقر
الحب فيه مذلة، ... إلا على الرجل الذكر
هيهات، لست أبا فراس، ... إن وفيت لمن غدر
وتلك ثورة نفسية، تدرك المحب إذا رأى الغدر ممن يحب هذا، وأرجح أن الحب الذي كان بينه وبين قريبته كان حبا طاهرا عفيفا، تحوطه شدة الصيانة من جانب الحبيبة. وأغلب(856/18)
الظن أن هذه الليالي التي غلب الخمر فيها عقل من يهوى، والتي يصف واحدة منها بقوله:
وزيارة من غير وعد ... في ليلة طرقت بسعد
بات الحبيب إلىالصباح ... معانقي، خدا لخد
يمتار في وناظري ... ما شئت من خمر وورد
قد كان مولاي الأجل ... فصيرته الراح عبدي
ليست بأول منة ... مشكورة للراح عندي
لم تكن مع هذه القريبة المحتشمة.
وقد ذكرنا أن أبا فراس قد أخذ بنصيب من اللهو، ولعله كان يرى أن الحب لا يحول بينه وبين المتعة، إذا ظفر بها.
ومن مجموعة شعر أبي فراس نستطيع أن نرسم صورة للمرأة المثالية عنده، فهي البيضاء، المتوردة الخد، الفاترة الجفن، ذات الشعر الفاحم، الممشوقة القد، الناهدة الصدر، الهيفاء الخصر، في غير هزال.
وتغزل أبو فراس بالغلمان كذلك؛ وإن هذا الداء الوبيل قد وجد سبيله إلىقلب شاعرنا؛ وكانت البيئة التي عاش فيها تساعد عليه؛ فقد كان أميره ومثله الأعلى سيف الدولة يعشق غلاما تركيا اسمه يماك.
تغزل أبو فراس في غلمانه، وترك من هذا الغزل مقطوعات قصيرة كذلك، وبعضها يفيض بالرقة والحنان، يقول:
الورد في وجنتيه ... والسحر في مقلتيه
وإن عصاني لساني ... فالقلب طوع يديه
يا ظالما، لست أردى ... أدعو له، أم عليه
واسم هذا الغلام منصور، وله غلمان أخر، وإن كان لمنصور الغلب على قلب الشاعر. ولسنا ندري جنسيته على وجه التحقيق، ولا أن كان المقصود بتلك الأبيات التي يتغزل فيها بمملوك فارسي، وقد أستغل الشاعر فيها معركة ذي قار، التي كانت لقبائل العرب ومن بينها تغلب قبيلة الشاعر على الفرس، وقد أحسن هذا الاستغلال حين قال:
بأبي شادن، بديع الجمال ... أعجمي الهوى، فصيح الدلال(856/19)
سل سيف الهوى على، ونادي ... يا لثأر الأعمام والأخوال
كيف أرجو ممن يرى الثأر عندي ... خلفا من تعطف ووصال
ما درت أسرتي بذي قار أني ... بعض من جندلوا من الأبطال
أيها الملزمى جرائر قومي ... بعد ما قد مضت عليها الليالي
(لم أكن من جناتها علم الله، وإني بحرها اليوم سالي)
ولأبي فراس، غير هذا الغزل الحقيقي، غزل تقليدي يفتتح به قصائده، ولا يريد به غالبا التعبير عن عواطف تجيش في نفسه. وهو في هذا الغزل يتشبه بالأقدمين في وقوفهم على الديار، وسؤالهم الأطلال:
على لربع العامرية وقفة ... يملى على الشوق والدمع كاتب
فلا، وأبى العشاق، ما أنا عاشق ... إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ومن مذهبي حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
وفي هذا الغزل التقليدي يبدو الضعف، والمغالاة والصناعة اللفظية، وتكرير المعاني المألوفة، ولا تحس بروح الغزل القوية المتدفقة، وأي قوة في قولة:
قلوب فيك دامية الجراح ... وأكباد مكلمة النواحي
وحزن لا نفاد له، ودمع ... يلاحي في الصبابة كل لاح
أتدري ما أروح به، وأغدو ... فتاة الحي: حي بني رياح
ألا يا هذه، هل من مقيل ... لضيفإن الصبابة أو مراح
وترى التشبيهات المتداولة بالشمس والغزالة والأقحوان، كما تلحظ في هذا الغزل أيضاً التناقض، وعدم الوقوف عند المعقول. نجد هذا التناقض في قوله:
إن الحبيب الذي هام الفؤاد به ... ينام عن طول ليل، أنت ساهره
ما أنس لا أنس يوم البين موقفنا ... والشوق ينهى البكا عني، ويأمره
وقولها، ودموع العين واكفة ... (هذا الفراق الذي كنا نحاذره)
فحبيب تكف دموعه ويحذر الفراق، لا ينام عن طول ليل يسهره صاحبه، ويبدو البعد عن حدود المعقول في قوله:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر(856/20)
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر
ووجه الغرابة في هذا أن الشاعر قد أخبرنا في هذه القصيدة عينها أنها قد وعدته بالوصل، وأنه أحب البدو من أجل حبها، وحارب قومه في سبيل هواها، ولا يعقل بعد ذلك أن تجهله الحبيبة ولا تدري من هو؟ وهي التي يقول فيها:
معللتي بالوصل، والموت دونه ... إذا مت ضمآنا فلا نزل القطر
بدوت، وأهلي حاضرون، لأنني ... أرى أن دارا لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك، وإنهم ... وإياي - لولا حبك - الماء والخمر
نلحظ في غزل أبي فراس، سواء الحقيقي منه والتقليدي، أنه غزل فارس، تلمس فيه روح الفتوة، وتجد منثوراً بين أبياته لغة الفرسان المحاربين، ويأخذ من هذه اللغة تشبيهاته واستعاراته، فتسمعه يقول:
أغرن على قلبي بخيل من الهوى ... فطارد عنهن الغزال المغازل
بأسهم لفظ لم تركب نصالها ... وأسياف لحظ، ما جلتها الصياقل
وقائع قتلى الحب فيها كثيرة ... ولم، يشتهر سيف، ولا هز ذابل
أراميتي، كل السهام مصيبة ... وأنت لي الرامي، فكلي مقاتل
ويقول متعجباً كيف يمد حبيبه جيش سقامه بالهجر، فينصره:
بالله ربك، لم فتنت بصبره ... ونصرت بالهجران جيش سقامه
وفي سبيل طاعة الحب، قد استشهد الصبر والسلو:
مالي بكتمان هوى شادن ... عيني له عين على القلب
عرضت صبري وسلوى له ... فاستشهدا في طاعة الحب
ويشبه طرة من يحب بالزرد المضاعف:
ومرتد بطرة ... مسدولة الرفارف
كأنها مسبلة ... من زرد مضاعف
أبو فراس حين يجعل الغزل مقدمة لإغراض أخرى، يجتهد غالبا في أن يجعل روح الغزل مناسبة لروح الموضوع الذي يقصد إليه، وهل أنسب من هذا الغزل العاتب يبدأ به عتابه لسيف الدولة:(856/21)
أما لجميل عندكن ثواب ... ولا لمسيء عندكن متاب
أو أنسب من البدء بإهداء التحية لمن يحبها، في قصيدة يحيي بها إخوانه في الموصل، إذ يقول:
سلام، رائح، غادي ... على ساكنة الوادي
أو من البدء بهذا الغزل الحزين، الذي يشكو الفراق في قصيدة أرسلها إلىأخيه، وهو أسير:
فديتك إني للصبابة صاحب ... وللنوم مذ زال الخليط مجانب
وما أدعي أن الخطوب فجأنني ... لقد خبرتني بالفراق النواعب
ولكن الشاعر في أغلب الأحيان، ما كان يحسن التخلص من الغزل إلىالغرض المقصود، بل كان انتقاله فجائيا، وهو في ذلك يشبه البحتري زعيم شعراء الشام. فها هو ذا - مثلا - يتغزل، ويختم غزله بقوله:
وقد عاديت ضوء الصبح حتى ... لطرفي عن مطالعه ازورار
ثم ينتقل إلىالفخر قائلا من غير أن يحسن التخلص:
ومضطغن يرواد في عيبا ... سيلقاه إذا سكنت وبار
وفي بعض الأحيان يحسن التخلص، كما في تلك القصيدة التي بعث بها إلىابن عمه أبي زهير، وفيها يقول:
يا أخي يا أبا زهير، ألي عندك عون على الغزال الغرير -؟
لم تزل مشتكاي في كل أمر ... ومغيثي وعمدتي، ومشيري
وهكذا يمضي في حديث أبن عمه.
وقبل أن أختم الحديث عن غزله، أشير إلىما يبدو في هذا الغزل حينا، من شعور أبي فراس بنفسه محبوبا، وأنه ليس شخصا عاديا، ولكنه محب جدير أن يقابل بغبطة من يحبه، وأن يضم عليه بالنواجذ، فتسمعه يقول:
أجملي يا أم عمر ... زادك الله جمالا
لا تبيعني برخص ... إن في مثلي يغالي
بل لقد تدلل مرة على من يحب، حتى شكته إلىإحدى جاراتها:
قامت إلىجارتها ... تشكو بذل وشجا:(856/22)
أما ترين ذا الفتى ... مر بنا ما عرجا
إن كان ما ذاق الهوى ... فلا نجوت إن نجا
وليس ببعيد أن تعجب بأمير وسيم مثله، بعض أولئك الجميلات اللاتي كن يرينه في غدواته وروحاته.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(856/23)
الخطر إليه ودي
بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء
(إلى أستاذي الجليلين العقاد والزيات والأستاذ الفاضل نقولا
الحداد أهدي هذه الصفحات).
م. خ. التونسي
أما قبل، فمنذ لاحت في أفق السياسة الدولية نذر اعتزام إليه ود إنفاذ خططهم التي دبروها لتأسيس دولتهم في فلسطين - عمدت أكثر الصحف العربية إلىنشر مقالات ونُبذ تفضح فيها نيات إليه ود ومؤامراتهم وأغراضهم القريبة والبعيدة من إنشاء دولتهم، وتفنّد حججهم في استحقاقهم تأسيسها في فلسطين.
وخير ما كتب في هذا المجال وبعد دراسات علمية صحيحة المقالات التي كتبها الأستاذان الكبيران عباس محمود العقاد ونقولا الحداد، وقد نهضت بالعبء الأكبر في ذلك (الرسالة) مجلة العروبة القائمة على نشر ثمرات عقولها، الموثقة بين شعوبها، الزائدة عن كيانها وكرامتها، وقد كانت من الصحف الذي عجز إليه ود عن استصناعها أو إسكاتها كطريقتهم مع الصحف وأصحابها وكتابها مما يعلمه قليل ويجهله كثير.
فأما الأستاذ العقاد فقد عقد على صفحات (الرسالة) وصفحات (الأساس) فصولاً للكشف عن العقلية إليه ودية والخلق إليه ودي منذ موسى حتى الآن مستشهداً بأقوال العهد القديم وأحداثه وما تلاه من حوادثهم، وبين الصلة بين الصهيونية والشيوعية، وبينهما وبين إليه ود وبعض التيارات الحاضرة التي تسعى إلىتخريب العالم وتسلط إليه ود على البشرية.
وأما الأستاذ نقولا الحداد فقد قام بمثل ذلك وأفاض فيه كما أفاض في بيان الصلة بين إليه ود والماسونية والشيوعية، واستشهد لذلك بنصوص العهد القديم والتلمود وكتاب ثالث لم يشر إليهغيره مع خطره البالغ في التعريف بهم وبمؤامراتهم وسياستهم إزاء العالم أجمع ولا سيما الأمم المسيحية، لأن الشعوب التي تعتنقها هي الشعوب التي في أيديها مقاليد حكم البشر، وهذا الكتاب الثالث هو: (بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء) وهو كتاب يفضح ما لا يفضحه كتاب آخر من سوء نياتهم وفظاعة خططهم لتخريب العالم وإفساد(856/24)
نظمه وآدابه وقيمه توصلا إلىإقامة مملكة يهودية أوتقرا طية لحكم العالم جميعاً يجلس على عرشها ملك من نسل داود.
وكانت النصوص التي نقلها الأستاذ الحداد خلال مقالاته كثيرة، وكانت تمهيداته لها وتعليقاته عليها كثيرة أيضا جليلة المنفعة، عظيمة الطرافة لدى قراء العربية.
وقد كانت أحد الأسباب المباشرة التي حملتني على ترجمة الكتاب كله إلىالعربية تمدها أسباب كثيرة مباشرة وغير مباشرة حفزتني على ترجمته، فلما أطلعت أستاذي الكبير الزيات على رغبتي في نشر الترجمة تحقيقاً للغرض الذي أنشده وهو تعريف قومي بما يدبر إليه ود من مؤامرات لتخريب العالم وبخاصة بعد أن صاروا إلىجوارنا يتهددوننا بطرق مباشرة وغير مباشرة - لما أطلعته على ذلك قبل مشكوراً نشر ما تيسر منها على صفحات مجلته الزاهرة.
وأما بعد فهذه البروتوكولات منشورة أمام القراء وأني لأرجو أن يتبينوا آثار خططها في سياسات العالم جميعاً، وأن يميزوا شواهدها فيما مر، وما يمر، عليهم من أحداث، وفيمن يصادفهم من صنائعها، وكثير ما هم بين الرجال والنساء.
وألفت النظر إلىأن كل محاولة لتلخيص البروتوكولات محاولة بتراء تضل أكثر مما تهدي، وأنه لمن الخير أن نقرأها جميعاً، فكل فقرة بل فصل فيها لا يدل على أكثر مما فيه لا على ما في المواثيق كلها، ولا على خلاصتها، وهي أحوج ما تكون إلىدرسها وتوضيح شواهدها فيمن يمرون علينا وما يمر علينا، وتعرف اتجاهاتها بدقة وسداد. وهي تدل على خطة واسعة شاملة تتضمن آلاف الخطط في كل نشاط بشري لتخريب العالم.
وهي تدل على معرفة صحيحة بالمجتمع البشري وما فيه من ضعف، ووسائل استغلال كل قوة وضعف فيه، ولا تنحرف إلا عندما يعميها الغرض فتفوتها أشياء تجري تحت عينيها، ولولا إغراضها لما خفيت على ذكائها النفاذ وملاحظتها الدقيقة، وهي من أجل ذلك تدرك من المعرفة شيئاً صحيحاً وتفوتها أشياء، ويصدق عليها قول أبي نؤاس الشاعر في النظام الفيلسوف المتكلم.
(فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء).
وهي تعنى أكثر ما تعنى بتبين نواحي الضعف البشري، وتعمل على استغلاله إلىأقصى(856/25)
الحدود، متجاهلة، أو جاهلة، نواحي القوة البشرية، فترسم الخطة وكأن كل النواميس البشرية عدا النواميس المتمشية مع أهدافها - قد تعطلت بفعل ساحر، ومن أجل ذلك كثر إيغالها في الأحلام التي تدل على المقت الذي ينوء باحتماله أي قلب من لحم ودم ولو كان قلب وحش كاسر، ولكن تلك الأحلام لا تدل من أي وجه على إمكان تحقيق شيء جدي منها. ولذلك ألفت النظر إلىأن فيها كثيراً من المبالغات الدجلية الخادعة التي لا يمكن تحقق شيء منها، وخير ما نقابل به تلك المبالغات هو معرفة زيفها والثبات أمامها، إذ ما من خطر حقيقي لها إلا التهويلُ الكاذب لإضعاف العزائم، ونشر الفزع والرعب لتهويش المجتمع، كي يتوهم لليهود ما ليس لهم من القوة والنفوذ، أو يغفل عما لهم من القوة والنفوذ في الحقيقة.
ولقد كانت هذه البروتوكولات من أسرار إليه ود التي يحرصون على إخفائها أشد الحرص، ثم افتضح أمرها منذ نصف قرن تقريبا إذ وصل خبرها إلىأحد وجوه الروس في عهد القيصرية وهو سرجي نيلوس وهي مكتوبة بالروسية، فقام بطبعها في سنة 1905 وكتب لها مقدمة وتعقيبا لابد من قراءتهما لما فيهما من فوائد جليلة، ويحملنا ضيق المقام هنا على القناعة بمقتبسات ملخصة من المقدمة نعرف منها كيف تأدت إليهوماذا صنع بها. فقد ذكر أن صديقا دفعها إليهقبل وفاته سنة 1901، أكد له أنها ترجمة صحيحة لأوراق مخطوطة سرقتها سيدة من أحد رؤوس الماسونيين الأحرار في نهاية اجتماع ماسوني عقد في باريس، وقد تمت السرقة في فرنسا في خلية من خلايا الماسونية إليه ودية (الخاصة باليهود).
وقد نشر الأستاذ نيلوس هذه الوثائق الخطية في سنة 1905 مطبوعة بعنوان (بروتوكولات شيوخ صهيون) وأشار إلىأنها ليست بالدقة نصوص محاضر الاجتماعات السرية التي عقدها هؤلاء الشيوخ، بل إنها تقرير وضعه شخص قوي وقسمه أقساما لا تطرد منطقيا على الدوام، وهي بذلك تبعث على الظن بأنها جزء منتزع من وثيقة أهم قد ضاعت بعض فقره، بيد أن أصل الوثيقة يتكلم عن نفسه في هذا الجزء.
ويسلم الأستاذ نيلوس بالعجز عن الحصول على دليل كتابي أو شفوي على صحة هذه المؤامرة أو على شيء بكشف زعماءها متلبسين بإمساك خيوطها الدموية، ويكتفي بشواهد(856/26)
الملابسات والقرائن القوية التي تكفي لإقناع (من لهم آذان للسمع) وهي تُلتمس من الظروف الجارية في العالم؛ وفيها مقنع لكل باحث محترم.
وبعد عام من طبع البروتوكولات بالروسية (1905) وصلت نسخة مطبوعة إلىالمتحف البريطاني فكتب عليها قيد تسلمها وتاريخه وهو 10 أغسطس سنة 1906. وبقيت هذه النسخة في المتحف دون أن يتنبه إليه اأو يعرف خطرها حتى عثر عليها الأستاذ فكتور مارسدن مراسل جريدة (المورننج بوست) في روسيا خلال الحرب العالمية الأولى التي وقع خلالها الانقلاب الروسي الذي مكن للشيوعيين من السيطرة على روسيا، وكان لليهود نصيب عظيم في تدبير هذا الانقلاب وهم الذين استطاعوا أن يستغلوه لمصلحتهم قبل غيرها من وراء ستار حينا وجهارا حينا، وحاولوا هناك تطبيق مذهب أخيهم كارل ماركس بالنار والدم، ونجحوا في بسط سلطانهم هناك حتى اليوم، ومن العجيب أن الأستاذ نيلوس تنبأ بهذه المؤامرة إليه ودية ضد روسيا - وطنه - في سنة 1905 كما أشار إلىذلك في المقدمة، ومن العجيب أن تشير (البروتوكولات) نفسها إلىمحاولة إليه ود نشر مذهب ماركس إليه ودي المتنصر (أنظر الميثاق الثاني).
وكان الأستاذ فكتور مراسل (المورننج بوست) يعرف الروسية، فأكب على ترجمة الكتاب من الروسية إلىالإنجليزية في المتحف نفسه، ثم نشرت جمعية الطباعة البريطانية الترجمة الإنجليزية، وأعادت بعد ذلك طبعها مرات، وهذا الكتاب مجهول حتى بين علية المثقفين.
والكلام المفصل في الشواهد التي تدل على صحة المواثيق وأنها من عمل إليه ود - يستغرق عشرات الصفحات، وخير ما كتب باللغة العربية في هذا الصدد مقالات الأستاذ الحداد في الرسالة، وفيها بلاغ (راجع العدد 771 وما تلاه) ولنا إلىهذا الموضوع عود أن شاء الله بعد أن تصير النصوص في المتناول لتسهل المقارنة والاستنباط. فإلى المواثيق لفهمها وتدبرها، ولكل نبأ مستقر.
محمد خليفة التونسي
(البروتوكولات من العدد القادم)(856/27)
أهل العلم والحكم في ريف فلسطين
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
- 2 -
أنهارها وبحيراتها
ويصف لنا ياقوت أهم أنهارها وبحيراتها وقد زار بحيرة طبرية مراراً ويكشف لنا عن مشروع ري عظيم يجمع بين نهري الأردن واليرموك فتسقي مياهها الغور والبثنية (وهي الناحية الواقفة على الضفة اليسرى من الأردن بعد جريانه من بحيرة طبرية) كما يذكر لنا زراعة قصب السكر في هذه المنطقة وتصدير السكّر إلىسائر بلاد الشرق، ويروى لنا ما قاله الشعراء في هذه الأماكن.
فيقول عن الأردن في (ج1 - ص186) وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة، فهذا النهر أعني الأردن الكبير بينه وبين طبرية البحيرة. وأما الأردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسقي ضياع الغور. وأكثر مستغلهم السكّر، ومنها يحمل إلىسائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة منها بَيْسا، وفراوا، وأريحا والعوجاء وغير ذلك.
(وعلى هذا النهر قرب طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كثيرة تزيد على العشرين، ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البثلية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة (البحر الميت) في طرف الغور الغربي (كذا) (الجنوبي).
وقال أبو دهلب أحد بني ربيعة بن قريع. . . بن تميم:
حنَّت قلوصي أمس بالأرُدن ... حنى فما ظَلمت أن تحنّى
حنَّت بأعلى صوتها المُرن ... في خَرعب ٍ أجشًّ مستجِن
فيه كتهزيم نواحى الشن
وقال عدى بن الرقاع العاملي:
لولا الإله وأهل الأردن اقتسمت ... نار الجماعة يوم المرج نيرانا(856/28)
قالوا والأردن في لغة العرب النعاس، قال أبان الزبيري:
وقد علتني نعسة الأردن ... وَموهبُ مبر بها مُصن
والظاهر أن الأردن الشدة والغلبة، فإنه لا معنى لقوله (وقد علتني نعسة الأردن).
وقال المتنبي يمدح بدر بن عمار وكان قد ولى ثغور الأردن والساحل من قبل أبي بكر محمد بن واثق:
تهنا بصور أم تهنئها بكا ... وقل الذي صور وأنت له لكا
وما صغر الأردن والساحل الذي ... حبيت به إلا إلىجنب قد ركا
تحاسدت البلدان حتى لو أنها ... نفوس لسار الشرق والغرب نحوكا
وأصبح مصر لا تكون أميره ... ولو أنه ذو مقلة وفم بكا.
وحدث اليزيدي قال خرجنا مع المأمون في خرجته إلىبلاد الروم فرأيت جارية عربية في هودج. فلما رأتني قالت يا يزيدي أنشدني شعراً حتى أصنع فيه لحناً فإنشدت:
ماذا بقلبي من دوام الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من أقبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
ذاك الذي يملك منى رقّ ... ولست أبغي م حييت عتقي
قال فتنفست تنفساً ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه، فقلت هدا والله تنفس ما شق. فقالت أسكت ويلك أنا أعشق والله، لقد نظرت نظرة مريبة فادعاها من أهل المجلس عشرون رأساً ظريفاً (معجم ياقوت ج1 - 185).
وجاء في شذرات الذهب (ج6 - 273) في حوادث سنة 782هـ أن برقوق أمر ببناء جسر الشريعة (الأردن) بطريق الشام وجاء طوله مائة وعشرين ذراعاً وانتفع الناس به. وفي الشذرات أيضاً (7 - ص7) لما بنى الجسر قال فيه شمس الدين محمد المزين:
بنى سلطاننا للناس جسراً ... بأمر والوجوه له مطيعة
مجازاً في الحقيقة للبرابا ... وأمراً بالسلوك على الشريعة
وفي رواية أخرى بنى سلطاننا برقوق، والأنام بدل الوجوه والمرور بدل السلوك.
وعلى الأردن خمسة جسور هي من الشمال إلىالجنوب: جسر بنات يعقوب، وجسر المحامع، وجسر الشيخ حسين، وجسر اللنبي، وهو الذي يوصل طريق القدس بعمان، وله(856/29)
أكثر من مخاضة يسلكها العرب في غدواتهم.
أما بحيراتها، فقد جاء ذكر الحولة، بأنها كوره بين بانياس وصور وأنها أي ناحية الحولة ذات قرى كثيرة من إحداها كان الحارث الكذاب الذي ادعى النبوة أيام عبد الملك بن مروان وكان هذا من أهل دمشق وكان له أب بالحولة (معجم البلدان3 - 368).
ويقول عن بحيرة طبرية إنه رآها مراراً وهي كالبركة يحيط بها الجبل ويصب فيها فضلات أنهر كثيرة تجئ من جهة بانياس وينفصل فيها نهر عظيم فيسقي أرض الأردن الأصغر وهو بلاد الغور ويصب في البحيرة المنتنة (البحر الميت) قرب أريحا. ومدينة طبرية في لحف الجبل مشرفة على البحيرة ماؤها عذب شروب ليس بصادق الحلاوة ثقيل، وإياها أراد المتنبي يصف الأسد:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخّرت الصارم المصقولا
وقعت على الأردن منه بلية ... نضدت لها هام الرفاق تلولا
وَردُ إذا ورد البيحرة شارباً ... ورد الفرات زئيره والنيلا
(راجع معجم ياقوت ج2 - 80).
أما عن البحر الميت، أو بحر لوط، أو زُغر كما يسميها فيفول أن زغر أسم بنت لوط، نزلت بهذه القرية فسميت بها. قال حاتم الطائي:
سقى الله رب الناس سحاً وديمة ... جنوب السراة من مآب إلىزُغر
بلاد إمرىء لا يعرف الدم بيته ... له المشرب الصافي ولا يطعم الكدر
وقد جاء ذكرها في حديث الحساسة، وهذه في وادي وخم رديء في أشأم بقعة، إنما يسكنه أهله لأجل الوطن وقد يهيج فيهم في بعض الأعوام مرض فيفني كل من فيه أو أكثرهم. (معجم البلدان4 - 393) والأرجح أن المرض الذي يشير إليهياقوت إنما هو الملاريا.
أما عن الأنهر الصغيرة فيذكر نهر أبي فطرس أو نهر فطرس (العوجا، وهو تحريف كلمة انتبياترس المدينة التي ينبع هذا النهر بالقرب منه.) فيقول ياقوت، موضع قرب الرملة من أرض فلسطين مخرجه من أعين في الجبل المتصل بنابلس ويصب في البحر الملح (البحر المتوسط) بين يدي مدينتي ارسوف ويافا وبه كانت وقعة عبد الله بن العباس مع بني أمية فقتلهم في سنة 132هـ، وهي السنة التي زال فيها ملك الأمويين وقامت فيه دولة(856/30)
بني العباس.
قال إبراهيم مولى قائد العبلي يرثيهم:
أفاض المدامع فتكي كدا ... وقتلى بكثوة لم ثُرمَسِِ
وقتلي بوجٍٍ وباللابتين ... بيثرب هم خيرُ ما أنفس
وبالذابيين نفوس ثوت ... وأخرى بنهر أبي فطرس
أولئك قوم أناخت بهم ... نوائب من زمن متعس
إذا ركبوا زينوا المركبين ... وإن جلسوا زينة المجلس
هم اضرعوني لريب الزمان ... وهم الصقوا الرغم بالمعطس
فما أنس لا أنس قتلاهم ... ولا عاش بعدهم من نسي
قال المهلبي وعلى نهر ابي فطرس أوقع أحمد بن طولون بالمعتضد فهزمه. قلت إنما كانت الوقعة بموضع يقال له الطواحين بين المعتضد وخمارويه بن أحمد بن طولون قال وعليه أخذ العزيز هفتكين التركي. وفلت عساكر الشام عليه. وبالقرب منه أوقع القائد فضل بن صالح بابي ثغلب حمدان فقتله ويقال إنه ما التقى عليه عسكران إلا هزم الغربي منها.
وقد ذكر أبو نواس في قصيدته في الخصيب نهر فطرس ولم يضفه إلىكبيه فقال:
وأصبحن قد فوّزن عن نهر فطرس ... وهنّ من البيت المقدس زور
طوالب بالركبان غزّة هاشم ... وبالفرَ ما من حاجهن شعور
وقال العبلي:
ابكي على فتية رزئتهم ... ما إن لهم في الرجال من خلف
نهر أبى فطرس محلهم ... وصجوا الزابين للكتف
أشكو من الله ما بليت به ... من فقد تلك الوجوه والشرف
راجع معجم البلدان (8ج - ص333).
وقد ذكر ياقوت اليرموك مع الوديان، فقال أنه واد بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهر الأردن. كانت به حرب بين المسلمين والروم أيام أبي بكر الصديق، وقدم خالد الشام مدداً لهم. قال القعقاع بن عمر يذكر مسير خالد من العراق إلىالشام:
بدأنا بجمع الصفَّرين فلم يدع ... لغسان أنفاً فوق تلك المناصر(856/31)
صبيحة صاح الحارثان ومن به ... سوى نفر نجتذهم بالبواتر
وجئنا إلىبصرى وبصرى مقيمة ... فألقت إلينا بالحشا والمعاذر
فضضنا بها أبوابها ثم قابلت ... بنا العيش في اليرموك جمع العشائر
ذكر الجبال والوديان والحصول والمواقع:
(أنظر معم البلدان 8ج - 504):
ذكر ياقوت من الجبال، جبل الجليل في ساحل الشام ممتد إلىقرب حمص. كان معاوية يحبس في موضع منه من يظفر به ممن ينبز في قتل عثمان. وجبل الجليل بالقرب من دمشق وهو يقيل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل، وما كان بالأردن فهو جبل الجليل، وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير. قال أبو القسيس بن الأسلت:
فلولا ربنا كنا يهوداً ... وما دين إليه ود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيف ديننا عن كل جيل
قال الحافظ الدمشقي واصل بن جمبل أبو بكر السلاماني من بني سلامان الجليلي من جبل الجليل من أعمال صيدا، وبيروت، من ساحل دمشق، حدث عن مجاهد ومكحول وعطاء وطاووس والحسن البصري وروي عنه الأوزاعي. قال يحيى بن معين، واصل بن جميل مستقيم الحديث، ولما هرب الأوزاعي من عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس اختبأ عنده وكان الأوزاعي يحمد ضيافته ويقول ما تهنأت بضيافة أحد مثل ما تهنأت بضيافتي عنده، وكان خبأني في هرى العدس، فإذا كان العشاء جاءت الجارية فأخذت من العدس فطبخت ثم جاءتني به فكان لا يتكلف فتهنأت بضيافته. (معجم البلدان 3 - 131).
ويصف لنا جبل الطور (طابور) وديره فيقول الطور هو الجبل المشرف، أما هذا فمستدير واسع الأسفل، مستدير الرأس لا يتعلق به الجبال، وليس له إلا طريق واحد وهو ما بين طبرية واللجون مشرف على الغور ومرج اللجون (مرج بني عامر) وفيه عين تنبع بماء غزير وكثير، والدير في نفس القبلة مبني بالحجر وحوله الكروم يعتصرونها فالشراب عندهم كثير. ويعرف أيضاً بدير التجلي، والناس يقصدونه من كل موضع فيقيمون به ويشربون فيه. موضعه حسن يشرف على طبرية البحيرة وما والاها على اللجون وفيه(856/32)
يقول مهلهل بن غريب المزرع:
نهضت إلىالطور في فتية ... سراع النهوض إلىما أحب
كدام الجدور حسان الوجوه ... كهول العقول شباب اللعب
انخث الركاب على ديره ... وقضيت من حقه ما يجب
(معجم البلدان 4 - 212):
أحمد سالم الخالدي
للكلام بقية(856/33)
الملاح التائه!!
أسلمت بعدك للأسى خلجاتي ... يا شاعر الأحلام والصبوات
حمل المساء إلي أيّ فجيعة ... - لما نعيت - وأي خطب عات
يا دولة الشعرِ الرصين. . ترحلت ... أمجاد عرشك في ركاب رفات
هجر الجميل اليوم آخر بلبل ... هو أول بحسانه الألقات
وأرق من حمل القياثر شادياً ... بالحب والأوطان والغزوات
أودى (خليل) الشعر مثل (عليه) ... (الجارم) المفتن في الصدحات
وثوى الغداة سميه وضريبه ... في مثل خفق اللمحة المزجاة
من للفريض العبقري وقد هوت ... تلك النجوم الثرة الومضات
يا ملهمي الأشعار، كيف أصوغها ... والحزن موف والنشيج موات؟!
غشى الذهول النفس من أقطارها ... فزعاً. . وبث النار في طرقاتي
هي زورة لك يا (علي) يتيمة ... أذكت لهيب الشوق بعد شتات
لم أنس حين لقيتني متلطفاً ... وهتفت بي: الملاحن هات
وذهبت أستدني الخيال. . فأجفلت ... منك المشاعر. . واستحت خطراتي
وعرضت آلهة الخلود فلم أجد ... إلا نشيدك في فم الربات
فمضيت أتلوها عليك عرائساً ... لك يا (علي) وضيئة القسمات
وسمعت شعرك من فمي فضممنني ... ضم الحفيَّ بهذه اللفتات
. . هي زورة في العمر. كانت مالها ... - واحسرة الآمال - من أخوات
لو كنت أشتف المقادر بعدها ... أسرفت في الروحات والغدوات
جزت الحياة على شراعك ضاربا ... في المجهل النائي. . وفي الغمرات
ترتاد آفاق البحار. . مرنما ... بخوارق الأنغام والنفثات
تلقي شباك الفكر تحت عبابها ... فتصيد كل عصية السمكات
يا أيها الملاح. . . كيف عبرتها ... قبل الأوان. لآخر الضفات؟!
ما كان هذا اليوم موعدك الذي ... تلقي الشراع به إلىمرساة
يا ليته قضى الليالي تائهاً ... عن هذه الشطئان والربوات
لو لم تفض تلك البحار بمائها ... لغدت تفيض اليوم بالعبرات(856/34)
قم حدث الأجيال عنك. وصف لها ... يوم الرحيل. . . نهاية الرحلات
فجيعة الوادي عليك ورزءوه ... ومناحة الأطيار والزهرات
وصف الردى الملتاغ. . نازعنا الهوى ... في الهيكل المحمول. . . لا النفحات
صف راحلا. . أطربت في (ميلاده) ... سمع الوجود بأعذب النغمات
أولا. فما أعيى النهى. ولو أنها ... كانت نهاك عتًّية الطاقات
أنت الذي أخضعت كل مُدّلة ... وحُبيتَ سحر نتائج الملكات
لو قد بُعثت إلىالدنى. . غب النوى ... وشهدت وقع نواك في المهجات
أشفقت من هول الذي شاهدته ... وقفلت مشدوها إلىالغرفات
أنعاك للدنيا. . غداة هجرتها ... حسدت عليك شواطئ الجنات
عبد الرحيم عثمان صاروا(856/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
علي محمود طه الصديق والإنسان:
في صباح يوم الجمعة الماضي أمسكت يدان صغيرتان بجريدة الأهرام، واندفع صاحب اليدين الصغيرتين نحوي وهو يهتف في دهشة: أبي. . أنظر يا أبي. . . أليس هذا هو علي طه؟ هل مات حقا يا أبي؟! وراحت عينا الصغير تحدقان في الصورة المجللة بالسواد ثم ترتدان إلىفي لهفة المنتظر الذي يريد من فمي جوابا. . . يكذب ما رأته عيناه! ونظرت إلىالفتى الصغير الذي يحلني من نفسه محل أبيه وأجبت: نعم يا بني. . . لقد مات. . . ترى ألا تزال تذكره يا صغيري؟ وقال الصغير وقد غلبه الأسى على أمره: كيف لا أذكره يا أبي؟ ألم أذهب معكما ذات مساء إلى (الأهرام) أنت وتوفيق الحكيم، وهناك في مكتب الصاوي رأيناه؟ أليس هو الذي ضمني إلىصدره، وقبلني، وقال لي: إذا كبرت يا بني فكن أديبا من طراز عمك؟ أليس هو يا أبي. . . صاحب هذا الصورة؟! وقلت للصغير دون أن أنظر إليه حتى لا تقع عيناي على الصورة التي بين يديه: بلى يا بني إنه هو. . . ذلك الإنسان!
ومضيت أرتدي ملابسي، إلىأين يا أبي؟ إلىهناك يا بني. . . إلىحيث أودع الصديق الحبيب الذي ضمك يوما إلىصدره، وقبلك، وأوصاك أن تكون أديبا. . . ألا تأخذني معك يا أبي؟ يعز عليّ ألا آخذك يا بني، أبق هنا حتى أعود إليك. . . بدموعي!
وبعد دقائق كنت هناك. . . كنت في ذلك المكان الذي قدر لي فيه أن أرى علي طه محمولا على الأعناق! وسرت وراء نعشه، سرت في زحمة المشيعين بجسمي، أما فكري. . . فقد كان مع الماضي القريب، كان ينتزع الذكريات الغالية من قبضة الزمن!
في أول عدد من الرسالة كتبت فيه (التعقيبات) حملت سلاحي، وهو قلمي، ودافعت عن الشاعر الذي لا أعرفه: علي محمود طه. . . وفي هذا العدد من الرسالة ألقي سلاحي، وهو قلمي، لأنني لا أستطيع أن أدافع عن الشاعر الذي عرفته: علي محمود طه. . . لقد كنت بالأمس قادراً على أن أدفع عنه هجوم الناس، أما اليوم فليس بوسعي أن أدفع عنه هجوم القدر، ولا أن أرد عوادي القضاء!(856/36)
كان اللقاء الأول بيني وبينه في صحبة الأستاذ صاحب الرسالة، كان هو الذي جمع بيننا فالتقينا. . . كأكرم ما يلتقي الصديق بالصديق. وتكرر بعد ذلك لقاؤنا وعلى مر الأيام. . . ربط الحسب بين قلبينا بأقوى رباط. وفارق علي طه الدنيا وهو قطعة من نفسي. . . نفسي التي وهبتها قطعا لأصحاب الوفاء!
أشهد لقد كان علي طه مثالا فريدا في صداقته وإنسانيته. وأشهد ما رأيت إنساناً يفتح قلبه لأحبابه من أول لقاء كما رأيت هذا الإنسان. . . لقد كان علي طه يقف أبدا وراء قلبه، أشبه بالرجل الكريم الذي يقف وراء بابه في انتظار الطارقين! وما كان أعذب حديثه إذا تحدث. ما كان أروعه وأمتعه! لا أذكر مرة أنني جلست إليهدون أن يلذ لي الصمت الطويل ليفرغ هو للحديث الطويل. . . أنني أحب دائما أن أستمع إلىصوت فنان، ينطلق من بين شفتين تنتسبان إلىإنسان! مرة واحدة هي التي ضقت فيها بحديثه، وأوشكت أن أضع يدي على شفتيه. كان ذلك ونحن نزوره في مرضه الأخير الذي لقي فيه ربه. . . لقد كان الصمت المفروض عليه هو الطريق الوحيد إلىالحياة، ومع ذلك فقد آثر أن يضحي بحياته ليتحدث إلىأحبابه. . . هو الذي كان يعلم أن كل كلمة ينطق بها لسانه تحمل الفناء لكل نبضة من نبضات قلبه! يا رحمة الله له، لقد كان في ذلك اليوم أشبه بزهرة ذابلة. . . هو الذي كم أفاض علينا من عطره وشذاه!
ما سمعت علي طه مرة يذكر أنسانا بسوء، أو يتناول شاعرا بذم. وكان إذا تحدث عن نفسه فهو الحديث الطليّ الذي يخرج من أعماقه وهو قريب من فكرك وحبيب إلىقلبك، فلا زهو ولا صلف ولا غرور ولا ادعاء. . . ما أثقل الحديث تسمعه من بعض الناس إذا دار حول النفس أو طاف حول معالم الذات! ما أثقله من كل متحدث عن نفسه، وما أخف وقعه على الشعور وأبعد نفاذه إلىالعقول إذا كان المتحدث علي طه. . . كان إذا تحدث عن نفسه فليرسم صورته الإنسانية كما فطره الله عليها. وكان إذا تحدث عن شعره فليحدد طاقته الفنية كما تعارف عليها الناس. . . إيمان عميق بالنفس وإحساس صادق بالقيم. ورحم الله أولئك المؤمنين بأنفسهم، يضعونها الموضع للائق الكريم، دون جور على الحق إذا كان لهم في رحابه نصيب أي نصيب!
رحم الله علي طه، لقد كان واحدا من أولئك. . . . كان يعرف لنفسه قدرها ويعرف لشعره(856/37)
مكانه. . . لم يهبط به أو بها إلىذلك الدرك السحيق الذي يهبط إليهغيره من الشعراء؛ أولئك الذين يضحون بكرامتهم العقلية في سبيل المتعة الزائلة والشهرة الزائفة. . . ويدفعون بها إلىالحضيض لقاء كل زهيد من الأجر وكل تافه من الجزاء! كان شعلة متوقدة من الإحساس بالجمال؛ الجمال في شتى صوره وألوانه ومعانيه: جمال الصداقة، وجمال الكرامة، وجمال الحياة. . . أخلص للجمال الأول فأغترف الأحباب من نبع وفائه، وآمن بالجمال الثاني فقبس الكرام من وهج إبائه. . . وهام بالجمال الأخير فقصر الشعراء عن بلوغ مداه!
كان علي طه أشبه بالبلبل في حياته. . . إذا حلق فلا يحلق إلا في أفق يهيئ له وسائل التغريد، وإذا وقع فلا يقع إلا على غصن يشد له أوتار الغناء! وكان إذا طوّف تخير البقعة التي تثير خيال الشاعر، وإذا شد الرحال فإلى الأرض التي تفجر عواطف الفنان. لقد قضى حياته يفتش عن مواطن الإثارة في كل مشهد من مشاهد الكون وكل مجلي من مجالي الطبيعة، فإذا جلس يوما إلىمائدة الحياة. . . عب من رحيقها المصفى وصب من عصارة الروح في أشهى الدنان. . . .
وكان صاحب ذوق نادر، ذوق كنت أرقبه فيملأ جوانب نفسي تقديرا له وإعجابا به. . . كنت أرقبه إذا ما تحدث عن لوحة فنية راعته، عن قطعة موسيقية هزته، عن أثر أدبي ترك ظلاله في نفسه، عن منظر طبيعي فجر الشعر في أعماقه. . . . عن أي شيء وقعت عليه عينه والتقطه حسه وعاش في طوايا الوجدان! كان مسكنه آية على ذوقه. . . إذا دخلت حكمت على صاحبه من أول نظرة بأنه فنان. . . أنظر إلىهذه اللوحة الرائعة التي تغطي جداراً بأكمله، وإلى تلك التي تغطي الجدار الذي يواجهه. وإلى اللوحات الأخرى الصغيرة التي انتثرت هنا وهناك. . . وتأمل هذا التمثال، وأدر هذه الأسطوانة، وطف ما شئت بأجواء الشرق والغرب، وهيئ شعورك لوقع الفجيعة وأطرق لحظة من زمان. . . إن البلبل الذي كان يصدح هنا قد طوت الريح جناحيه، وهوى من سماء الفن إلىأرض السكون والعدم. . . . ولا رجعة له بعد ذلك ولا إياب!
أذكر أننا تواعدنا على اللقاء ذات مساء في (الأهرام)، ثم خرجنا معا نقصد إلىضفاف النيل والليل ساج والكون غارق في ضياء القمر. . . وراح علي طه يتحدث عن الحياة، وينشد(856/38)
من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات. . . وحين يفرغ من هذا كله يمد عينيه إلىالضفة المقابلة ثم يهتف بصوته الحالم: أنظر إلىهذا البيت الجميل الذي ينام في أحضان الزهر. وإلى ذلك البيت الأنيق الذي يستحم في مياه النهر. . . هذه يا صديقي هي الأبيات. . . الأبيات التي أقامها السعداء على دعائم الواقع. أما أبياتنا نحن الشعراء فقد أقمناها على دعائم الخيال!
وأجيبه في صوت يمتزج فيه الإنكار بالعزاء: بالله حسبك. إنها أبيات من حجارة وطين، سيعيش أصحابها نكرات ويموتون كذلك. . . وستمتد إليه ايوما يد البلى فلا يبقي منها حجر ولا أثر أما أبياتك وأبيات الموهوبين من أمثالك فهي من نفس وروح. . . لن تبلى لأنها ستعيش في الضمائر والقلوب، وسيعيش أصحابها ما نطق لسان وما كتب قلم. . . إنك يا صديقي تعكس القضية، إن أصحاب الفن هم أصحاب الواقع. . . لأنهم أصحاب الخلود!
ويعترض علي طه في لطف ثم يقول: أصحاب الفن هم أصحاب الخلود؟ هذا حق جميل، ولكن الحق المر أنهم ليسوا كذلك هنا. . . في هذا الشرق يا صديقي! الشرق الذي قال عنه الزيات كلمة ستظل إلىالأبد شعاراً له. . . ترى أتذكر قوله: (. . . إن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش؛ ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعا من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!!).
وأقول ردا على اعتراضه: إن هذه الكلمة قد تعبر عن الشرق في هذا الجيل، ولكنها لن تعبر عنه إلىالأبد كما تظن. . . إن أبناء هذا الجيل لن يؤرخوا الأدب وحدهم وكذلك لم يؤرخه أبناء الأجيال الماضية. . . إن هناك أجيالا آتية ستكون أوسع أفقا وأكثر ذوقا وأوفر فهما وأعمق ثقافة، فليطمئن كل صاحب حق إلىأنه سيظفر بحقه. . . إن لم يكن اليوم فغدا، وإن لم يكن في الغد القريب ففي الغد البعيد على كل حال. . . يا أخي ما أكثر طمعك! ألا يكفيك أنك ملء السمع والبصر في كل مكان؟!
ويتوقف علي طه عن المسير ثم يقول: كلمات يسمعها الشاعر من الناقد ما دام على قيد الحياة. . . فإذا مات. . . . قبض الناقد قلمه عن تقويم شعره واكتفى بكلمة رثاء!(856/39)
وأهمس في أذنه ضاحكا: إذا مت قبلي فلا تخف. . . سأكتب عنك مقالا! ويغرق علي طه في الضحك ثم يقول: وأنت أيضا لا تخف. . . سأرثيك ببيت من الشعر! إن مقالا واحداً من الكاتب لا يستحق غير بيت واحد من الشاعر. . . ويعود علي طه فيتحدث عن الحياة، وينشد من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات!
يا أخي. . . يا صديقي. . . يا أيها اللطيف الذي مر بدنياي مرور الطائر الغريب رفرف في سماء الله. . . يا أيها الحلم الذي أيقظ الدجى في خيالي ثم أغفى على جبين الصباح. . . يا أيها الأمل الذي عانق قلبي عناق النسمة العابرة لضفاف جدول ضمآن. . . يا آيها الشعاع الذي رقرق النور في حسي ثم أفرغ في كأسي مرارة الظلام. . . . يا أيها الشراع الذي هز بالشدو شاطئ وقَّبل أمواجي ورحل قبلي إلىالشاطئ المجهول. . . وأشواقنا التي استحالت في معبد الحب دعاءً وصلاة!!
يا أخي. . . يا صديقي إن وفاءك يطوق عنقي. إن دينك يثقل كاهلي. . . لقد تحدثت في هذا العدد عن علي طه الصديق، والإنسان أما في الأعداد المقبلة. . . فسيكون الحديث عن علي طه الشاعر والفنان.
دمعة وفاء من حقيبة البريد:
صورة يتبعها نعي. . . لمن الصورة. . . ولمن كان هذا النعي الطويل يا علي؟. . . . أحقاً أنك أنت يا شاعر؟. . . أحقاً أنك تتوارى عن الحياة التي ملأتها نغماً؟. . . أحقاً أنك أنت يا شاعر؟!
جمعتني به الحياة على شطها ألفاني قبيل مرضه بقليل. . . وطال بيننا الحديث. . . وحديثه حلو طويل. . . يسمعه السامع فلا يمل. . . . ويستزيد!. . . قال لي في ختام حديثه: من ينعيني بعد موتي. . . إنني أحس المنية تقربني. . . أتنعينني يا فتاة؟!. . . ما كنت أعلم حين سألتك عما أقول في نعيك بعد موتك. . . وحين قلت لك مازحة أأقول فيك:
يا راحلاً عن فتنة الدنيا التي ... ملئت من الأكدار والأحزان
ما كنت أعلم حين أجبتني: لا. . . دعي ذلك لأهل الزهد، وقولي في: (مات شاعر الغيد الحسان. . . مات عابد الحسن والجمال). إن هذا يكفيني أن يكون من إحداهن!(856/40)
قلت يا ويلتا. . . يرى الجميلُ الدميمَ جميلا!
والآن. . . وقد حلت الفجيعة ووقع الخطب. . . ما حيلتي في نعيك يا علي ولست من أهل البيان؟!
أحقا أنك أنت يا شاعر؟؟
هذه الدمعة الصادقة، تلقيتها من الأديبة الفاضلة (ل. م). وقد رأيت أن أسجلها هنا وفاءً للوفاء. . . ووفاء للفقيد.
أنور المعداوي(856/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
فقيدنا الشاعر علي محمود طه:
ما كدنا نستبشر بإبلال صديقنا الشاعر الكبير علي محمود طه حتى فوجئنا وفجعنا بفقده. حسبنا أن الأقدار قد خففت عنا ما أصابنا من الهم لمرضه، وأنا سنسعد بسلامته واستئناف صحبته، فإذا هي تصب علينا نعيه فتغرقنا في الهم والأسى، وإذا نحن نلقاه مسجى في نعشه، في اليوم الذي قدرناه للفرح برؤيته بعد مبارحة المستشفى، فياله من لقاء!
قضينا هذه الأيام، وما نزال، في غمرة الأسى، لا نستطيع غير الوجوم الحزين، فما لقيت أحدا من إخواننا الأدباء حتى ذكرنا الفقيد العزيز وتبادلنا النظرات المفصحة عما يعلو الوجوه من الكآبة، نلوذ بالصمت خشية التهدج، ونختلس مسح العبرة، لإظهار التجلد، وإيثار التجمل.
كان لعلي محمود طه شخصية واضحة جذابة، وكان وضوحها ينم على ما فيها من طيب وصفاء. ويخيل إلي أنه ترك كل من عرفهم أصدقاء، فلا يملك من يعرفه إلا أن يحبه، فقد كان إنسانا نقيا مما يشوب الإنسانية الصافية؛ كان مرحا طروبا، أقبل على الحياة بنفس مبسوطة لا تعقيد فيها، فراح يستشعر ما فيها من جمال، بحس الشاعر المرهف، يعب من مواردها ما يحيله إلىفن جميل، ويرتاد آفاق الحسن في الشرق والغرب، ثم يصوغه شعراً خالداً ولحنا يتغنى به الزمان. لم ينغصه غير العلة التي عصفت به وهو يغرد على أفنان هذه الحياة ليجعلها متاعا وبهجة لمن يصغي إليه، ولكن طبيعتها القاسية غلبته على أمره، فصار الأمر من بعده لوعة وحسرة بعد المتاع والبهجة.
كان على محمود طه حلقة في سلسلة تطور الشعر العربي الحديث، تتميز بالأصالة المبينة، وأعني بكل كلمة من هاتين الكلمتين معناها الواسع؛ فقد كان أصيل الشاعرية، لوى شعره عن التقليد والترديد، وقصد إلىمشاعره وخواطره لا يحرص على شيء قدر ما يحرص على أدائها وإبرازها؛ وكانت إبانته تتمثل في حسن تأتيه وبعده عن الخيال المجدب وعن الإيغال في الأجواء التي لا يأتي الموغل فيها بشيء، فكان حذواً بين المدرسة القديمة الجامدة والمدرسة الحديثة المضطربة، أو قل أنه كان يمثل المدرسة الحديثة كما ينبغي أن(856/42)
تكون.
وكان بيانه وأصالته يرتكزان على ثقافة واسعة منوعة، هضمتها طبيعته الفنية وتمثلتها، فقد اغترف من الآداب المختلفة واستوحى البيئات المتباينة، وسيطر على كل ذلك بقوة هضمه، وضبط مقايسه بفنه الهندسي، فأخرج بذلك فنا من الشعر سريا متناسق الألوان.
كان الفقيد الكريم طوال الصيف الماضي يعاني مرضا شديدا، خف عنه أولا، ثم أنتكس فعاودت قلبه العلة، وكان يعالج أخيراً في المستشفى الإيطالي، وقد تماثل وتقدم نحو الشفاء، حتى عين يوم الخميس الماضي (17 نوفمبر سنة 1949) لخروجه، وفي هذا اليوم المعين لبس ثيابه وتأهب لمغادرة المستشفى، وإذا هو يسقط صريعاً بين أيدي من أتوا لمرافقته إلىمنزله.
وتوفي الفقيد وهو في السابعة والأربعين من عمره، وقد قضى أكثر حياته العملية موظفا في الحكومة، بعد أن تخرج في مدرسة الهندسة التطبيقية، وتنقل في الوظائف حتى كان مديراً لمكتب رئيس مجلس النواب وفي سنة 1945 استقال من هذا المنصب، إذ آثر أن يغرد طليقا بعيدا عن وظائف الحكومة، وظل كذلك حتى عين في هذا العام وكيلا لدار الكتب المصرية.
أخرج الفقيد عدة دواوين، هي (الملاح التائه) و (ليالي الملاح التائه) و (أرواح وأشباح) و (الشوق العائد) و (زهر وجمر) و (شرق وغرب) وله مسرحية شعرية هي (أغنية الرياح الأربع) وله أيضاً كتاب (أرواح شاردة) وهو يحتوي على نثر وشعر.
إن يكن علي طه خلَّي مكانه بين الأحياء الفإنين، فستظل آثاره باقية في سجل الخلود، وتبقى شمائله حية ماثلة في نفوسنا ما بقينا.
تكريم دسوقي أباظة باشا
احتفلت جامعة أدباء العروبة يوم الأربعاء الماضي في فندق الكنتال، بتكريم رئيسها معالي الأستاذ دسوقي أباظة باشا، وقد تساءل معاليه في كلمته بختام الحفلة عن مناسبة هذا التكريم، فقال هيكل باشا: مناسبتها أنك عدت إليه م بعد طول غياب، فكثرة اشتغالك بالمسائل العامة حالت بينك وبينهم مدة طويلة. وقال دسوقي باشا: جرت العادة أن يكرم الوزراء المعينون لا الوزراء السابقون، فهذا تقليد جديد نبيل ولعله يغري الوزراء الحاليين(856/43)
بالخلاف. . وقد أبدى حفني محمود باشا تخوفه من إن تكون هذه مؤامرة لأخذ دسوقي باشا إلىجانب الأدب وترك زملائه السياسيين وحدهم في الميدان، ولكنه عقب بأنه يقول الحق إذ يصرح بأن مجتمع الأدباء بما فيه من سمو العاطفة وجمال الحب الصادق يفضل ألف مرة مجتمع السياسة بما فيه من عداء ونفاق.
وكان طبيعياً أن يتتابع الشعراء والخطباء مكثرين من الشعر والنثر في تكريم دسوقي باشا، فالمجال مجالهم والقوم كلهم شعراء وخطباء، والرجل حقيق بالتكريم والتقدير، لأدبه ونبله وحسن رعايته، وقد جاذبته السياسة، فلم تأخذه من الأدب بل كان هو يؤدبها. . ودسوقي باشا يحب أعضاء جامعة أدباء العروبة كما قال في كلمته إذ وصف الحفلة بأنها (تلبس) في حالة حب متبادل بينه وبينهم. ولكنه لا يقصر عليهم حبه، فهو يميل إلىالأدباء عامة ويعجب بكل مجيد منهم، ولا عجب في ذلك فهو أحد هؤلاء الأدباء، وقد ظفر عالم الأدب منه أخيراً بكتابه القيم (وميض الأدب في غيوم السياسة) على رغم اضطلاعه بأعباء الوزارة كما يدل على ذلك عنوان الكتاب.
ألقي في الحفل شعر ونثر كثير، وكنت أود أن يخرج القائلون بعض الخروج عن حدود القوالب المألوفة في المديح إلىشيء من الموضوعية، أعني أن يكون للكلمة أو القصيدة موضوع غير مجرد المدح، وقد كان ذلك في بعض ما قيل ولكنه قليل. وكنا ننتقل من سماع الجيد إلىالعادي أو المعدوم القيمة، والعكس، حتى رأيناهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً، ويبدو أنهم قدموا (أعضاء مكتب الجامعة) على غيرهم دون مراعاة الأجدر بالتقديم من هؤلاء وهؤلاء.
وممن أجادوا الأستاذ محمود غنيم وقد ألقى أبياتا أولها:
حكم تقلص عنه ظل ... ك ما تقلص عنك ظله
وكانت كلمة الدكتور حسين الهمداني الملحق الصحفي بسفارة الباكستان - ذات موضوع، فكانت كلمة الباكستان حقاً في تكريم دسوقي باشا، وقد تحدث فيها عن مكانه في الأدب وفي السياسة وقال إنه كان في سياسته عربيا مسلما قبل أن يكون مصريا قوميا، فقد شغل نفسه بالمسائل الشرقية العامة حتى كان يتخيله وزيراً باكستانيا في مجلس وزراء مصر عندما كان يستمع إليهفي مناسبة تخص الباكستان. ودعا الدكتور الهمداني إلىإقامة مؤتمرات أدبية(856/44)
ومهرجانات عربية تغذي الأرواح وتشيد بمفاخر البلاد.
ومن القصائد الجيدة قصيدة الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي ومطلعها:
عد للخميلة كالربيع الناضر ... يا نفحة الشادي وأنس السامر
وكانت قصيدة الأستاذ أحمد مخيمر أدنى إلىالتحليل، ومن قوله بعد أن تحدث عن السياسة وتلونها:
واليوم نأنس للنور الذي فقدوا ... واليوم نفرح بالمجد الذي خسروا.
وقد ألقاها الأستاذ عبد الفتاح الشناوي إلقاء جيداً. أما الأستاذ العوضي الوكيل فقد دفع بقصيدته إلىمن يلقيها، فإنتهز الفرصة وجعل يخطب قبل أن يلقي، وقد أساء إلىالنحو واللغة في الخطابة والإلقاء، عوض الله العوضي خيراً. . .
شؤم ابن الرومي:
كتب أحد الأدباء بتوقيع (م. ف. ع) بجريدة المصري، مقالا عنوانه (ابن الرومي الشاعر المشئوم الذي حلت لعنته على وزارة المعارف) أراد فيه أن يسوق طرائف يمتع بها القارىء، وأندفع مع الرغبة في الحبك الصحفي إلى (تأليف) وقائع تتعلق بشؤم ابن الرومي، فقال إن وزارة المعارف ألفت لجنة سنة 1945 لإخراج ديوان ابن الرومي، وفي اليوم الذي وقع السنهوري باشا وزير المعارف يومذاك القرار بتأليف اللجنة استقالت الوزارة، ولما تولى الأستاذ علي أيوب بك وزارة المعارف أعاد تأليف اللجنة، وفي اليوم الذي أصدر فيه القرار استقالت الوزارة، ثم جاء الأستاذ مرسي بدر بك إلىوزارة المعارف وعرضت عليه إجراءات الشروع في طبع الديوان، فلما وافق عليها استقالت الوزارة.
ولا أريد أن أقف عند ذلك كثيراً، مكتفياً بالإشارة إلىأن اللجنة الأولى التي الفت في عهد السنهوري باشا مضى على تأليفها عدة أشهر وهو وزير المعارف، وقد يكون باقي ما ذكره أو بعضة من هذا القبيل. وإنما أريد أن أعرض لقول الكاتب الأديب في آخر المقال: (ويظهر أن القدماء قد أفزعتهم هذه الروح المشؤومة التي وضحت في تصرفات هذا الشاعر فأغفلوه وأهملوا شعره وأدبه مع تقديرهم لعبقريته الشاعرية، فلم يترجم له صاحب الأغاني ولم يقدم أحد على الاهتمام بديوانه فظل ديوانه - وهو ضخم فخم - مطويا إلىاليوم في مطاوي النسيان).(856/45)
فهل من الحق أن صاحب الأغاني وغيره من القدماء أغفلوا ذكر ابن الرومي لفزعهم من شؤمه؟ أقول قبل كل شيء إننا رأينا المؤلفين يتحدثون عن تشاؤم ابن الرومي بغيره من الناس والأشياء، أما تشاؤم الناس به وفيهم المؤلفون ومنهم صاحب الأغاني فلم نره عند المتقدمين. على أن صاحب الأغاني لم يغفل ذكر ابن الرومي إطلاقا، فقد ذكره مرتين: مرة نسب إليهانتحال بيت من الشعر لإبراهيم بن العباس، ومرة أظهره بمظهر الشامت في نكبة سليمان بن وهب، فلو أنه كان يفزع من شؤمه لما أتى بذكره. إذن لماذا أهمل صاحب الأغاني الإشادة بابن الرومي وشعره؟ حقق الأستاذ كامل كيلاني هذا الموضوع في كتابه (صور جديدة من الأدب العربي) فأرجع ذلك إلىأن ابن الرومي كان مكروها من الناس لإفحاشه في الهجاء، وكان فيمن هجاهم البحتري وكانت له مكانة بين أعيان الدولة وكبار رجالها، وكان أبو الفرج يحبه ويشيد بذكره ويعني بآثاره، ومنهم الأخفش أستاذ أبي الفرج (فلا غرو أن يغرس الأستاذ في نفس تلميذه بذور الكراهية والبغض لابن الرومي منذ الصغر، أو يغضب التلميذ لأستاذه فتعمد إغفال من جعل همه الأول شتم أستاذه والتشهير به).
ومهما كان السبب في إهمال صاحب الأغاني الترجمة لابن الرومي والتنويه بشعره، فليس من المعقول أن يكون ذلك لتشاؤمه به وخوفه من أن يقع له شر، كما وقع للمازني والعقاد وكامل كيلاني حين تعرضوا لشعره ودراسته، فقد كسرت رجل الأول وسجن الثاني ومات ولد الثالث، وهي اتفاقات لا تذكر إلا في مجال التلهي والتندر.
عباس خضر(856/46)
البريد الأدبي
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:
هل تأذن أيها الأستاذ الجليل أن يكتب إليكقروي نشأ في قرية من قرى السودان الذي صور الحال فيه شاعر من شعرائه مخاطبا قصبته الخرطوم، بقوله:
يا ملتقى النيلين أنت جميلة ... بهما فتيهي وافخري واختالي
كم في مغانيك الحبيبة من فتى ... ضاعت مواهبه لفقد المال
ولكم بها من عبقري بائس ... يمسي ويضحي بالي الأسمال
ليت الذي المواهب أهلها ... لو كان زودهم بحظ عال
فإذا كانت هذه حال عاصمته فما بالك بقرية من قراه النائية؟ حالت الظروف المادية بين كاتب هذه السطور وبين مغادرة قريته ليتعلم علما أو ليكتسب أدبا فقنع بما تلقاه عن الوافدين على قريته من علماء الدين وطلاب الأدب.
ولكن الرسالة الغراء مد الله في حياتهما وكثر عدد صفحاتها وأمتع بما يدبحه قلم الأستاذ الزيات من مقالات عقول قارئيها وقارئاتها؛ هذه الرسالة قد تخطت السدود والقيود وتسللت خيطاً من النور إلىظلام هذه القرية فتعلق بها هذا القروي ورأى فيها متعة العقل والروح، وسلوى القلب والنفس، وقد ذكر تعلقه بها حتى خال نفسه تلميذاً مخلصاً لصاحب الرسالة.
قرأت في عدد الرسالة (822) في باب الكتب تحت عنوان على هامش كتابين للأستاذ كامل محمود حبيب ناقدا للكتاب (مع الناس) للأستاذ الحوماني فجاء في نقد الأستاذ حبيب يصف مؤلف الكتاب بقوله: وللمؤلف فكرة واحدة هي إيمانه بقول سيد العرب (ص) (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) الخ وأقول إن هذه الحكمة قد ذكر مؤرخو حياة الإمام مالك بن انس أنها من كلامه، وعلى هذا فهي ليست من حديث سيد الخلق صلوات الله عليه وبالمناسبة اذكر أنى قرأت منذ سنوات حديثاً للأستاذ حافظ وهبة تحدثه من إذاعة لندن ونشرته مجلة المستمع العربي، آنذاك قال فيه يتحدث عن مليكه جلالة الملك بن السعود أنه كثيراً ما يردد في مجالسه هذه الحكمة التي رويت عن للإمام مالك (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح) واذكر أني وقفت طويلاً في فهم هذا الإصلاح ونوعه لقد كان أشياخنا في دروس الفقه عندما يمرون بهذه الحكمة التي قالها أمامهم مالك يفسرونها بأن(856/47)
المسلمين الأولين انتصروا على أعدائهم بالسيف، فإذا لم ينتض المسلمون مرة أخرى لا يمكن أن يكونوا أنفسهم ويصلحوا شأنهم. وأني مع اعتقادي الجازم بأن السيف أصدق أنباء من الكتب لا أوافق هؤلاء الأشباح عفا الله عنهم الذين لم يكونوا واسعي الأفق على تفسيرهم خصوصاً بعد أن علمت أن مسألة انتصار الإسلام بالسيف حاول خصوم الإسلام من الغربيين أن يجعلوا منها ثغرة ينفذون بها إلىالطعن في تعاليم الإسلام. وقد ردَّ عليهم مفكرو المسلمين المتأخرون بما يبدد شبههم وينفي قولهم: إذن ماذا يعني مالك الذي هو من رجال الإصلاح في وقته؟ وماذا يعني الملك أبن السعود الذي يعتقد كثير من العرب والمسلمين أنه من قادة الإصلاح؟ ماذا يعنيان بهذا الإصلاح الذي صلح به المسلمون في عصرهم الأول ولا يمكن أن يصلحوا إلا به في كل عصورهم المتأخرة هذا، وقف عنده تفكيري مدةً طويلة ثم هداني فهمي القاصر إلىرأي لا أرى يأساً من عرضه على أستاذي الكبير الزيات.
إني أرى أن المناسبة التي دعت الإمام مالك أن يقول كلمته هذه هي نفس المناسبة التي دعت ابن السعود أن يرددها في مجالسه إذ أن بين المناسبتين تشابهاً كبيراً على أقل تقدير.
لقد عاش الإمام مالك في العصر العباسي ذلك العصر الذي ترجمت فيه فلسفة اليونان وانتشرت فيه ثقافة الفرس وترفهم بين الطبقات العليا المتوسطة من الأمة الإسلامية خصوصاً في العواصم الكبرى وحصل على أثر ذلك بعض الانحلال في المعتقدات والتدهور في الأخلاق. ولعل بعض من يهمه الصلاح المسلمين قد فكر في طريقة للإصلاح تكون متمشية على أسس الفلسفة والسياسة العباسية وغيرها من سياسات الأمم التي سبقت العرب إلىالحضارة والمدنية. فلما سمع الإمام هذا الرأي قال: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما يصلح به أولها) كذلك الملك ابن السعود لما رأى ثقافة الغرب وترفه يغزوان الأمم الإسلامية فينشران الإلحاد في الدين والانحلال في الأخلاق، وسمع أن بعض القادة يرون أن المسلمين لا يمكن إصلاحهم إلا إذا اتبعوا الغرب في كل خطواتهم ولو دخل حجر. كما سمع بهذا الإصلاح ردد تلك الحكمة التي سبقه إليه االإمام مالك (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) حقاً لقد صلح أول هذه الأمة بل لقد صارت هذه الأمة أمة بعد أن اهتدت بهدي هذا الوحي الإلهي السامي واسترشدت بأخلاق محمد بن عبد الله صلوات الله(856/48)
عليه وسلامه. فهل ترجع هذه الأمم إلىهذين الأصلين تستوحي منهما الإصلاح أم تظل تجري وراء مبادئ الغرب من شيوعية وديمقراطية التي هي كالسراب يحبه الضمآن ماءا حتى إذا جاء لم يجده شيئا ووحد الله عند فوفاه حسابه والله سريع الحساب؟
هذا رأي في هذه الحكمة أعرضه على القراء وأتمنى أن يجعلوها عنوانا لمقال أو مقالات تنشر في الرسالة لنستشف منها الهدي ونجد منها الرشاد.
محمد عبد الله الوالي
فداس. السودان
نهاية نقاش
شاء الأستاذ محمد عبد الرحمن أن يردني مرة أخرى إلىما كنت قد أزمعت منه انتهاء. . فإنا أشكره أن أتاح لي الفرصة لأقدم إلىالأستاذ الراعي كل اعتذار مما أخشى أن يكون قد فهمه من تعقيبي. . . وغاية الأمر أنني بسليقتي غير مهيأ لأن أستقبل من الكلام ما يند عن المألوف في العلاقة بيننا وبين الخالق.
أما الأستاذ محمد عبد الرحمن فقد شاء - مشكورا أيضا - أن يطالبني النظر إلىالتعبيرين من الناحية الخيالية والمجازية منحرفا عن هذه الزاوية التي نظرت من خلالها، وساق مثلا من قولهم (بنات الأفكار). . . الأفكار إذن في رأي الأستاذ محمد هي والله سواء. . . لا يا سيدي كان الأولى بك أن تستشهد بقوله عز وعلا (يد الله مع الجماعة) فإن هذا أقرب لما نحن فيه وردي عليه أن يد الله كلمة معنوية ولا نتخذ تجسيما في شمس أو غير ذلك من المخلوقات.
أما التخريج العجيب الذي رضي به عن عين الله فإنني ألمح من كلام الأستاذ نفسه أنه غير راض عنه. الحقيقة والحقيقة هي الله والشمس عين الحقيقة. . . أهكذا تظن.
وبعد يا سيدي فإنني ما زلت أتوكأ على شرح الأستاذ الراعي فليست هناك لغة غير لغة الناس. . . ليست هناك غير هذه اللغة مهما دافعت. وإنني ما زلت أعتذر إلىالأستاذ الراعي عن الأسلوب الذي صغت به الكلمة معجباً به.
ثروت أباظة(856/49)
القصص
بيت الذكريات
للأستاذ غائب طعمة فرمان
خمسة عشرة سنة مرت وهو بعيد عن وطنه؛ يعاني آلام الغربة، ويكافح أعياء الحياة، ويتلمس الطريق إلىمستقبل جميل.
خمسة عشرة سنة لقي فيها أشد العناء، وقاسا ضروباً من الفاقة والعسر وثقلت على عاتقه تكاليف العيش. . . واليوم يرجع إلىوطنه بعد الكفاح المضني، والفراق الطويل، وقد أمحى من عينيه إئتلاق الشباب، وتحولت صباحة وجهه إلىجهامة منكره، وذبول حزين. . . فقد حطم خمسا وثلاثين سلسلة من السلاسل التي تربطه بالوجود، وأخذ يترقب الانحدار إلىالجانب الثاني من تل الحياة ليستقبل السلام الأبدي في قراره الوادي السحيق! فلاح الإجهاد على محياه، وغشيه موج من الحزن عميق.
الآن يرجع إلىوطنه، ويستقبل هذا الشارع الضيق الذي يعرفه حق المعرفة، وتصدمه رائحة العفونة المنبعثة من أكوام الأقذار، وتملأ عيناه منظر الأحجار التي ما زالت قائمة بها يد الإنسان، ولم تنل منها صروف خمس عشرة سنة!
يا للعجب!. . ويا لمرارة الذكرى!. . خمس عشرة سنة ما أحفلها بالأحداث والغير، وما أثرعها بالشجون والغصص، وما أكثر ما غيرت منه، وما جارت على بنيانه الإنساني! ونقلته من حال إلىحال. ولكن الشارع ما زال كما عهده لم يتغير منه أي شيء! إنه ليتذكر كل شيء فيه كأنما غادره أمس. . رحل عند إغفاءة النهار في أحضان الليل، ورجع في يقظة الليل على ترانيم الفجر! فإن صور الليلة التي غادر فيها موطنه ما زالت مرتسمة في صفحة مخيلته، وما زالت ظلالها الحية عالقة في ذهنه. وإنه ليتذكر أمه وهي تتشنج لتعبر عن عاطفتها الحبيسة، وتضطرب شفتاها كورقتين ذابلتين، وتشرق عيناها بالدموع وهو بين ذراعيها مخنوق بالعبرة، ذاهل الفكر، مسلوب الإرادة. وكان الطريق - إذ ذاك - متوشحا رداء الغروب كأنه يحس بلوعة القلوب الواجفة!. .
واليوم يرجع إلىأهله، ونفسه مفعمة بالحزن الكظيم، وبمشاعر لا يتبينها في منظار ضميره، وفي عين وجدانه. ولكنه يضرب برجليه في تراب الطريق الحائل اللون، ويتعثر(856/51)
بحجارته الصغيرة السوداء، وعيناه تحدقان بالبيوت القاتمة على الجانبين كأنها تنتظره!. . .
وامتلأت خياشيمه برائحة كان ينفر منها أشد النفور، ويضيق بها أعظم الضيق، ومع ذلك فقد كان يلقاها مكرها حين يخرج من بيته، ويمر بها - مسوقا إليه ا - حين يعود إليه. ولكن اليوم يحس إحساسا قويا عنيفا بأنها تعطر نفسه التي أفسدتها الغربة، ودمرها الجفاف!
ما أجمل هذا الطريق! وما أبدع ما سطر من ذكريات في سفر السنين، قليلها حلو سائغ، وسائرها مغرق في المرارة! فهو لا يكاد يذكر أنه قطعه مرة وهو خالي النفس من الألم، صافي الفكر من الهواجس والظنون، فكثيراً ما كانت تمتلئ نفسه بالألم ويحس في الضيق يدب في مفاصله، فيهرع إلىبيته يلوذ به من الهجير ويتقي تحت سقفه لوافح الألم وسموم الهواجس والظنون.
وقطع بعضا من الطريق وهو يتلفت. كل شيء كما خلفه قبل خمسة عشر عاماً كأنما السنون تمر على جوانبه مر النسيم! وتمنى لو يدلف إلىبعض البيوت ليرى سكانها أتغيروا مثلما تغير وعضهم الدهر بناجذيه كما عضه هو؟. . ولا شك أنهم سينكرونه أشد الإنكار لما أصابه من شحوب مخيف، وكبر بالغ، حتى كأنه قطع خمسين حجة، وأفضت به السن إلىكهولة واهية!. فالشيب تسلل إلىشعره كما تتسلل الخيوط البيض من الفجر في لمة الليل الفاحم والسنون اللافحة بسمومها أذوت نظارته، وسيلته المرح، وأهدته كآبة لاذعة، ووجوماً ثقيلا.
ووصل إلىبيته، وأطل على باحتة من العتبة العالية، وألقى نظرة واجمة على الداخل. على الجدران المسودة من لفح الدخان، والأرض المهشمة البلاط، وأبواب الغرف الضيقة المظلمة الأغوار؛ ولمح في تطواف عينيه كتلة بشرية جالسة القرفصاء، ساندة رأسها على ذراعيها المتشابكتين.
وعرفها فتحركت في أرجاء نفسه اللواذع. وجاشت لواعج وجدانه فناداها: - أماه!. . أماه!
فارتفع رأس المرأة فجاءة، ونظرت عينان صغيرتان حائرتان، وأرتجفت شفتان ذابلتان، واختلجت أسارير وجه معروق.
أماه! لفظ جميل سرى في جسدها كالتيار الكهربائي. . لقد أطال عهد سماعها به، فلما(856/52)
سمعته ترددت في أعماق نفسها أصداء بعيدة، صادرة من ماضي سحيق، واعترتها رعشة. ودار في خلدها أنها تعرف صاحب هذا الصوت.
وتقدم المغترب خطوات ثقالا، فلمحت الأم شبحا يقبل عليها فنظرت بجهد إلىوجهه، فلاح لها من بين أهداب عينها وجه شاحب هزيل. فتمتمت قائلة وهي لا تصدق ما رأت عيناها.
- عبد الرحمن!؟
وألقى الرجل جسمه في أحضان أمه كالطفل الخائف من الأشباح!، وخضلت الدموع الشفاه المحمومة التي طفقت تعبر عن حنانها بالقبل النهمة، وتفصح عن شوقها بالهمهمات.
وأرادت الأم أن تقول ولكن لسانها خانها، فتلجلجت، وتعثرت الألفاظ على شفتيها المرتجفتين، فأمسكت رأس الرجل بيديها، ونظرت في عينه كأنها تريد أن تستنطقها، ولثمتها لثمات حرار وهي تبكي بصوت خافت.
ولم يستطع الرجل من جانبه أيضا أن يعبر عن إحساسه إلىبشيء واحد وهو: أماه. . . أماه. . . بينما ظلت الأم تحت اللفظة السحرية تسكر وتحس نشوة من عبيرها الذاكي. ولكنها لا تملك إلا اللثمات!
وأخيرا نطقت بصوت تترقرق فيه العبرة:
- أحق أن حلمي قد تحقق، وانك رجعت إلىبيتي بعد غياب طويل!؟
ومسدت بيديها شعره، والتهمته بنظراتها وهو صامت بين يديها كالتمثال. . .
قالت والعبرة لا تزال تقطر من ألفاضها:
- لقد عذبني غيابك، وفرى صبري. لقد كنت أشفق عليك من أغوال الغربة، وأخشى عليك انقطاع الأسباب بك. ويئس أهلك منك إلا أنا فقد كنت موقنة أعظم اليقين أنك سوف ترجع إلي يوما ما.
وضمته إلىصدرها كأنها تريد أن تطرد الوساوس التي تنتابها. ثم قالت: - والآن رجعت. واستجاب الله دعائي وصلواتي. فقد كانت نفسي ممتلئة بك، منتظرة إيابك، تترقبه في كل لحظة، وتتعزى بالأمل عن نكد الدنيا وغصص العيش.
وخنقتها العبرة كالكابوس، وتفرست في وجهه الشاحب المقطب المهيمن عليه الحزن والجمود، وتطلعت إلىالجهامة المرتسمة على صفحاته. فأغمض الرجل عينيه واستسلم(856/53)
إلىارتياح جميل!
وجاء أهله باشين متهللين. يا عجبا! كأنه لم يعرفهم. . إن خمسة عشر عاما كفيله بأن تخلق جيلا جديدا، وتباعد بين المقترب وأهله. وتخلق برزخا واسعا بينه وبينهم!
وطوف ببصره في أرجاء المنزل، منزل الذكريات. . يا الله. ما أصلب هذا الحجر، وما أعظم جبروته! إن الكائن الإنساني تهدمه معاول الدهر، وتزعزعه نكبات الأيام؛ أم الجماد فإن الدهر يترقرق من جوانبه كما يترقرق الماء الزلال من صخرة جلمود!
ووقع بصره على غرفته الخاصة فرأى بابها موصدا، ورأته أمه يحدق فيها فقالت:
- إنها كما تركتها؛ لم تطأ عتبتها قدم، ولم تجل في أرجائها عين. فقد كانت تذكرنا بك، وتجعلك حاضرا معنا، شاهدا على ما تلقاه من جراء غيابك. لقد أوصدت بابها في اليوم الذي سافرت فيه، وظللت كلما تقع عيني على بابها المغلق أتذكرك. ويخيل إلي أنك ما زلت فيها، فتلفني الذكرى، وتتحير في عيني الدموع. . .
وجالت في خاطره فكر، ومرت في مخيلته صور وأشباح. ونهض متثاقلا كأنه يحمل على عاتقه خمسة عشر جبلا من الهموم والأحزان؛ ودفع باب غرفته فسمع لها ضريرا أقشعر له بدنه. وخيل إليهأنه يدلف إلىمقبرة! وطوف ببصره في أرجاء الغرفة المعرشة بخيوط العنكبوت، المغبرة من تراب السنين. وجلس على كرسيه المغطى بطبقة سميكة من التراب، وأسند كوعه على المكتب أمامه، وظل يحدق في سقف الغرفة المختفي وراء طبقة من الظلام، وأخرى من نسيج القدم!
وتدفقت عليه سيول من الأفكار كما تتدفق الأنوار على كهف مظلم مهجور!
ورأى نفسه يلقي على عاتقه خمس عشرة سنة من الزمن، وأكثر منها في عمر العاطفة والشعور. وقال في نفسه:
- هنا. . . وقبل خمس عشرة سنة كان يعيش شاب. . . ابتلي بحمى العاطفة!
وارتسمت على فمه ابتسامة باهتة ساخرة. . . كأنه يسخر من ذلك الشاب الثمل من الأشواق!. . وراح يستطلع ما خبأه في كوة الماضي البعيد. . .
إنه ليتذكر الماضي على أحسن صورة. . . كأنما الأشياء كلها وقعت بالأمس. . . يتذكر ذلك الشاب النزق البعيد الآمال، المجنون بحب المستحيل، الساري في دياجي الأحلام، العبد(856/54)
الذليل لعواطفه! ويتذكر كيف أنه كان يضيق بالحياة، وتمتلئ جوانب نفسه بالثورة على كل شيء، ولأي شيء. . . وإنه ليتذكر ليلة كان القدر يخط سطراً كبيراً في صفحة وجوده. . . سطراً يحسبه كالعنوان لقصة حياته المملة التي فقدت عنصر التشويق. . . تلك الليلة التي لقيها فيها. . إنه ليتذكرها. . فتاة السابعة عشرة غضه لينة، تنطق قسمات وجهها بما يبعث في نفسه الحائرة برد الاطمئنان وقد سحرته عيناها البراقتان، وبثتا سحرهما في قلبه الضعيف الأسوار!. . وألهبتا وجدانه، فكان يهرب إليه امن جحيم واقعة لينظر إلىسواد عينيها. إلىتلك البحيرة التي تعكس أنوار مستقبله.
كانت (سناء) جارة الجنب يراها كل يوم. . . زهرة ندية فياضة بالعطر والندى. . فيتطلع إليه ا، وتصده نظرات من عينيها ذوات معان لم يعرفها وهو ابن العشرين. . . ولكنه كان يحس في قرارة نفسه بأن النظر إليه اشيء جميل جداً ورائع جداً. . وكان سحر العيون أشد من كل سحر قلبه، لا يستطيع أن يرده بإرادة ولا أن يخمده ببرود. . . وكانت عيناها البراقتان كفيلتين بإذكاء النار الخالدة في قلبه!. . . وأي شيء كان أضعف من قلبه؟!
وشعر بأنها هي الأخرى تحبه، فقد انبجس له من افترار شفتيها، وانطلاق روحها، وانبساط محياها أمل حلو في أنها تحبه، وتبادله عاطفة بعاطفة مثلها. . . وإنه لن ينسى تلك الليلة الحلوة الممتعة عندما رجع إلىالبيت فرآها تنتظره بقوامها الرشيق، وتحرك أوتار قلبه بابتسامتها، وتحدثه بعينها الحسنتي التعبير. . . وعندما اقترب منها عبق في وجهه عطر خدّر أوصاله!. . . وعندما دلف إلىبيته كانت شفتاه نديتين!. . . وكان حبه قد أينع عن ثمر حلو المساغ!
وأطلت من شفتي عبد الرحمن ابتسامة وقد وصل إلىهذا الموضع وقال في نفسه:
- هذه القمة السامقة من كل حب. ولكن لا بد للإنسان من الانحدار حين يصل إليه ا.
- لقد صدق الفرنسيون حين قالوا: (الحب يولد بالنظر، وينمو بالقبل، ويموت بالدموع). . فلا بد من الدموع.
وكأنه أحس بمرارة الدموع. . فقد كانت القبل تسكره، وتذهب باتزانه. . . فهام مع أحلامها في واد محرم. . وظل يهوم فيه حتى استفاق على صوت أبيها يزمجر ويقطع كل سبب من أسباب حبه.(856/55)
هناك أدركه الإعياء، وخارت قواه. . ولاحت له الدنيا مغارة مخيفة!.
وتذكر ليلة الوداع. . حين جاءت إليهتودعه، وتلقي في مسامعه كلمات تزيد لوعة وهي المرأة الضعيفة. . . وقالت له:
- أنها ستحيا من أجله. ومن أجل شيء أعز عليها من نفسها.
واختلجت في صدر عبد الرحمن لواعج وأشجان وهو يسترجع موقفه معها، ويرى في عينيها قصة آمال محطمة، وخيبة مريرة فيقول في سره:
- الحياة رحلة مضنية! أدنى ما ينال المسافر منها التعب، وأقرب ما يطرق باب نفسه فيها الإجهاد والضيق. . ثم السأم المطبق.
وأحس بأن غرفته أصبحت سجناً مظلماً، وذكرياته أشباحا مريعة. فضاق صدره وطلع منها لعل الفضاء والنور والهواء النقي يطرد أشباح الماضي وأطيافه المقيتة!
واستقبله شاب في الخامسة عشرة، منطلق الأسارير، براق العينين، مؤتلق الشباب. فنظر إليهطويلاً كأنه يعرفه. فقالت له أمه:
- هذا جميل. . ابن سناء. . .
وارتجفت شفتاه وهو ينظر إلىوجه الشاب المتسائل وفي أرجاء نفسه سمع صوتاً ينادي:
- ولدي!. .
غائب طعمة فرمان(856/56)
العدد 857 - بتاريخ: 05 - 12 - 1949(/)
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
الشاعر الذي أقدمه إليك في هذه الصفحات، كان أشبه بكتاب مفتوح. أستطيعأن أقول لك وأنا مطمئن، إنني قد قرأته كله. . . شعره على ضوء حياته، وحياته على ضوء شعره، ناحيتان تؤلفان هذا الكتاب الذي قرأته، وعشت بي سطوره، وخرجت من هذه السطور بآراء عرضتها على الذاكرة فما اعترضت وعلى الضمير فما أنكر، وعلى موازين النقد فما اختلفت مع أصوله كما أفهمها ومناهجه.
درست حياة علي طه النفسية، ودرست آثاره الفنية. . . درستهما على طريقتي التي أومن بها وأدعو إليها كلما حاولت أن أكتب عن أصحاب المواهب أو كلما حاول غيري أن يكتب عنهم: مفتاح الشخصية الإنسانية أولاً، ومفتاح الشخصية الأدبية ثانياً والربط بعد ذلك بين الشخصيتين لننفذ إلى أعماق الحقيقة في الحياة والفن ومدى التجاوب بينهما منعكساً على صفحة الشعور المعبر عنه في كلمات.
يستطيع الذين لم يعرفوا علي طه ولم يطلعوا على دخائل نفسه وآفاق حياته، يستطيع هؤلاء إذا لم ينزعوا عن الألفاظ أثوابها النفسية، أو يجردوا الأخيلة من ضلالها المعنوية، أو يفرقوا بين الصور وبين وشائج اللحم والدم. . . يستطيعون إذا لم يلجئوا إلى شيء من هذا كله أن يعرفوه حق المعرفة من خلال شعره! لقد كان شعره مرآة صادقة لهذا الوجود الذي أحاط به، لأنه كان إنساناً صادقاً في صحبته لتلك المرآة. . . لم يحاول يوماً أن يقف أمامها بوجه غير وجهه، ولم يحاول يوماً أن يلقاها بملامح لونّها المساحيق أو اختفت حقيقتها وراء الأقنعة! ما أكثر الذين تخدعك مراياهم من أصحاب الفن حين تفتش فيها عن وجوههم. . . هؤلاء لو قدر ما لي يوماً أن أكتب عنهم لكشفت عن أثر المساحيق في تشويه معاني الحق والخير والجمال، وفي خداع الذين يريدون أن يستخلصوا من السطور وحدها رأياً وعقيدة! هنا أستطيع أن أقول لهم مثلاً إن فلاناً الكاتب أو الشاعر أو القصاص، قد قدم إليكم صورته من خلال فنه كما تريد المثالية في عالمكم لا كما تريد الواقعية في عالمه. . . إياكم أن تدرسوه من صورته المقروءة، بل ادرسوه من صورته المنظورة، ثم(857/1)
قارنوا بينهما لتضموا أيديكم على مدى التفاوت أو التوافق بين الصورتين! تلك هي الأمانة العلمية في الدراسة النقدية، كلما حاول كاتب التراجم أو دارس الشخصيات أن يسلط أضواءه على الأثر الفني مرتبطاً بحياة صاحبه!
علي طه لم يكن واحداً من أصحاب المساحيق، ولكنه كان شاعراً يريد أن يجد نفسه وأن يجد الناس؛ ومن هنا لم يكذب أبداً على المرآة. . . مرآته الصافية التي تعرضه أمام ناظرتك بسماته التي لا تكلف فيها ولا رياء! أنه يمثل الوضوح في الفن، وقيمة الوضوح في الفن هو أنه. . . هو أنه يتيح للدارسين أن يطمئنوا إلى مواقع أقلامهم كلما قطعوا مرحلة من مراحل الطريق. . . لا غموض في المقدمات يدعو إلى الشك في النتائج، ولا ضباب على سطح المنظار يحول دون الرؤية إذا التمستها العيون وليس معنى هذا أن شعر علي طه يريح دارسيه ومقوميه، كلا، فما كانت هذه الحياة العريضة ولا أقول الطويلة، ما كانت هذه الحياة في ألوانها المختلفة وطعومها المتباينة، إلا ميداناً رحيب الجنبات لفن يرهق أنفاس السائرين في فجاجة ودروبه. . . إن علي طه لم يكن طاقة محدودة تسبر غورها في بضع لمسات أو لمحات ولكنه كان طاقة تشعر بينك وبين نفسك بمداها الذي تتعدد فيه الزوايا وتكثر الأبعاد!.
هذه حياته قد خبرتها، وهذه دواوينه قد قرأتها، فهل تحسب أن هناك شيئاً من الإجهاد لملكتي الناقدة إذا ما وضعت صوره الفنية في أماكنها الدقيقة التي تتسع لها ولا تزيد؟ كلا. . . لأنها كما قلت لك واضحة في منظاري كل الوضوح، ثابتة في مقاييسي كل الثبات. ولكن الإجهاد في الإحاطة الكاملة بهذا الأفق الممتد إلى أبعد حدود النظر. . . إن الظلال والأضواء على وضوحها تتشابك لكثرتها وتتداخل، ولا بد من الاحتشاد كل الاحتشاد لتفرق بين ظل وظل وتوفق بين ضوء وضوء، وتجمع بين المؤتلف منها في مكان وبين المختلف منها في مكان آخر!. . لقد كان علي طه موزع الطاقة بين فنون شعره كما كان موزع القلب والفكر بين فنون حياته؛ فالصورة الوصفية في إطارها الحسي، والصورة الوصفية في إطارها النفسي، تلتقيان وتمتزجان في شعر المرأة وشعر الغزل والطبيعة والرثاء والقومية والمناسبة، حتى يصعب عليك أن تستخلص كل لون من ألوان هاتين الصورتين، لتضعه في خانته المحدّدة التي تقدمه إليك من وراء عنوان!(857/2)
ولعل القارئ يلاحظ أنني قد فرقت بين شعر المرأة وشعر الغزل، وجعلت لكل منهما سمته الخاصة وطابعه المتميز. . . ذلك لأن هناك لونين من الشعر يجب التفرقة بينهما في هذا المجال: لون يعبر عن مكان المرأة من الشعور الإنساني عند الرجل حين يصور المشاركة الوجدانية بين عاطفتين: وهو ما أسميه بشعر الغزل. ولون يعبر عن مكان المرأة من الغريزة الإنسانية عند الرجل حين يعرض لنزوات الجسد بين طبيعتين: وهو ما أدعوه بشعر المرأة. ولكل من اللونين في شعر علي طه نصيب أي نصيب!
على مدار الأداء النفسي سأدرس هذا الشعر، وعلى أساس هذا الأداء يجب أن يدرس كل شعر عند القدامى والمحدثين. أنه في رأيي المحك الذي يظهر لك الشخصية الشعرية في ثوبها الطبيعي ويكشف لك عن الفن الشعري في معدنه الأصيل. . . ودعك من الساجدين في محراب الأداء اللفظي؛ أولئك الذين يزنون الألفاظ بضخامة هياكلها الخارجية: إنهم يذكرونني بذلك الصنف من الناس يحترم الرجل لضخامة مظهره. . . غير ملتفت إلى ضآلة مخبرة!
ولقد حدثتك في عدد مضى من (الرسالة) عن دعائم الأداء النفسي في الشعر. . . وقلت لك عنها فيما قلت: إنها تتمثل في الصدق الشعوري أولاً، وفي الصدق الفني ثانياً، وأخيراً في روافد هذين النهرين الرئيسين، ونعني بهما اللفظ والجو الموسيقي. ولا بد من رجعة إلى بعض الذي قلت بالأمس، حتى تستطيع أن تجمع بين خطوط المشكلة الكبرى وبين التطبيق عليها عن طريق الصورة أو عن طريق المثال. . .
(الصدق الشعوري) هو ذلك التجاوب بين (الوجود الخارجي) المثير للانفعال وبين (الوجود الداخلي) الذي ينصهر فيه هذا الانفعال، أو هو تلك الشرارة العاطفية التي تندلع من التقاء تيارين. أحدهما نفسي متدفق من أعماق النفس، والأخر حسي منطلق من آفاق الحياة. أو هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الطائشةفي ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما (الصدق الفني) فميدانه التعبير؛ التعبير عن دوافع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء!(857/3)
هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأخير من الأداء النفسي في الشعر، وهو الدور الذي يعتمد على اللفظ ذو الدلالة الفنية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!
هذا هو مكان اللفظ من الأداء؛ أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الروحية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي). . .
ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملاً بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلاً في عنصري الأجواء والألفاظ لا غنى له مجال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من تنقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!
ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . أن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو والموسيقى؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن نتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ والموسيقى الحالمة مثلاً في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فنتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة مثلاً في شعر الغزل والرثاء.
قلت هذا عن دعائم الأداء النفسي ثم زدت عليه هذه الفقرات: حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم أصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان. ويستطيع النقد الحديث أن يقول أنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر(857/4)
الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم شوقي، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض الشعراء الشباب وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً منها في شعر الآخرين!
من هذه الفقرات يتضح لك أنني قد جعلت أبا ماضي على رأس مدرسة الأداء النفسي عند شعراء العرب. . . ولقد أصدرت هذا الرأي بالأمس وما زلت أؤيده حتى اليوم، حتى هذه اللحظة التي أدرس فيها شاعراً ممتازاً من شعراء هذه المدرسة النفسية هو علي طه. ولكن بقيت من وراء هذا كله حقيقة، وهي أن أبا ماضي يقف في الطليعة على أساس هذا الأداء في مجموعه. . . أريد أن أقول لك إن هناك صوراً من صور هذا الأداء في شعر علي طه تعلو فوق مستوى نظائرها في شعر أبا ماضي، سواء أكانت تلك الصور وصفية في إطارها النفسي أم كانت وصفية في إطارها الحسي. ولك أن تقول والدليل بين يديك من شعر الشاعرين إن فرائد علي طه خير من فرائد أبا ماضي، ولكن النتيجة الأخيرة هي أن أبا ماضي في مجموعه خير من علي طه في مجموعه، على أساس النسبة العددية التي كلما قدمت لك عشر قصائد من شعر الأداء النفسي عند أبا ماضي، قدمت إليك في مقابلها سبعاً من شعر هذا الأداء عند علي طه. . . فإذا قلنا بعد ذلك إن ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً في شعر إيليا منها في شعر الآخرين، فيجب أن يفهم أن المقصود بكثرة اللمعان هنا في هذا التعبير هو تلك الكثرة التي أشرت إليها في مجال النسبة العددية، وفي النماذج التي سأقدمها من شعر علي طه في هذه الدراسة المطولة ما شئت من إقامة الدليل!
وأمضي في هذه الدراسة محدداً جوانبها مقسماً مراحلها، إذ لابد لكل دراسة كاملة من جوانب تحدد ومراحل تقسم. . . لابد من تصميم فني ككل تصميم يوضع عند رسم الخطوط الرئيسية في أي عمل من الأعمال الأدبية.
هناك مرحلة أولى سأتناول فيها بالنقد والتحليل أول صورة من صور الأداء النفسي في شعر علي طه، وأعني بها الصورة الوصفية في إطارها النفسي. . . وهي تمثل الشعر الذي تلمع فيه الومضة الفكرية مغمورة بأضواء الذاتية الوجدانية؛ هناك حيث يتعزى الفكر الإنساني بين جدران النزوة والنزعة والغريزة والعاطفة.(857/5)
وهناك مرحلة ثانية سأتناول فيها الصورة الأخرى من صور هذا الأداء، وأعني بها الصورة الوصفية في إطارها الحسي. . . وهي تمثل الشعر الذي ينتقل بالماديات إلى نطاق المعنويات؛ هناك حيث تستحيل الحركة الحسية في بوتقة اللفظ إلى موجة صوتية معبرة عن الوجود الداخلي. ومن ألوان الصورة الأولى عالم الطبيعة الإنسانية الخاصة، وعالم النموذج النفسي العام، وعالم النظرة الكونية في محيط الفكرة السابحة في أجواء المجهول. ومن ألوان الصورة الثانية عالم الطبيعة المادية الخاصة، وعالم النموذج البشرى العام، وعالم النظرة الواقعية في محيط الرؤية الشعرية.
بعد هذا سأنتقل إلى المرحلة الثالثة من مراحل هذه الدراسة وهي مرحلة تطبيق هذه الألوان من الأداء النفسي على حياة علي طه الشخصية. سأحاول أن أرد كل ظاهرة فكرية أو نفسية أو خلقية إلى مصادرها من الجو الطبيعي الذي تنفس فيه. . أعني أنني سأنتقل من مرحلة الأداء النفسي بمعناه الاصطلاحي في أصول النقد، إلى مرحلة الأداء النفسي بمعناه الوجودي في واقع الحياة، وهو المعنى الذي أشرت إليه من قبل حين قلت إن شعر علي طه كان مرآة صادقة لجوانب حياته.
أما المرحلة الرابعة فستخصص للحديث عن المرأة في شعر علي طه. . . هل فهمها كما يجب أن تفهم؟ هل نظر إليها كما يجب أن ينظر؟ هل شرح الطبيعة الأنثوية كما يجب أن تشرح؟ هل التقى مع شعراء المرأة هنا وهناك، في حدود الجسد حين يتخذ معبراً إلى الغريزة أو حين يتخذ معبراً إلى الإحساس بالجمال؟. . . هذا فصل خاص سأحاول فيه أن أنتزع الحقيقة الفنية من أغوار الحقيقة الوجودية.
وإذا ما انتهيت من هذه المرحلة الرابعة مضيت إلى المرحلة الخامسة، وهي أثر الثقافة الغربية في شعر علي طه. . . أثرها في الأخيلة التي تغلب عليها الواقعية حيناً، والرمزية حيناً آخر، والرومانتيكية في كثير من الأحيان. ثم أثر الآفاق الغربية في إمداد ملكته الشاعرة بتلك الخامات من المشاهد والخواطر والأحاسيس. .
يتبع
أنور المعداوي(857/6)
صور من الحياة:
ركن يتداعى
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
لما كتبت القسم الأول من هذه الصورة أسرع إليّ صديق من ذوي الجاه والشأن في وزارة الأوقاف، وحدثني حديثاً فيه الشفقة والعطف، وفيه الرجولة والإنسانية، وطلب إلي مشكوراً أن يعين صاحب هذه الصورة على بلواه بطريقة لا يحس الرجل فيها غضاضة الحاجة ولا ذل السؤال.
آه، ما أسمي رجولتك يا من تهزك الأريحية الجياشة فتمد يدك الرايقة لتمسح على أتراح رجل ضعضعته نكبات الزمن، ولتخفف من آلام إنسان فجعته الأيام في خفضه وسعادته! إنك ولا ريب روح السماء ونسيم الجنة، فدعني أشكر عطفك ورقتك بالسان صديقي الذي دهمته القارعة فاجتاحت قوته وحيلته ورزقه.
(كامل)
ندَّ عني صوابي يوم أن رأيتك - يا صاحبي - أول مرة، تطحنك مرارة الفجيعة في نور عينيك، وطار عني الحجا يوم أن لمست الأسى يتغلغل في أغوار قلبك فيحترم شبابك ونشاطك من أثر الصدمة القاسية، وماتت كلمات العزاء على شفتيَّ يوم أن شهدت الصبية يرفون حواليك كالأقمار رونقاً وبهاءً وينادونك: (انظر. . . انظر يا أبي)، وهم يتوثبون بهجة وسروراً لأنهم لا يحسون ما أصابك من لوعة وضيق.
وصرفتني عنك شواغل الحياة حيناً، فحز في نفسي أن لا أجد السبيل إليك وأنت تعاني حر المصيبة ووهج البلوى. على حين أني لم أنس أبداً أنك كنت لي ميعة الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش. وأمضَّ قلبي أن أرى حالك تحول فتغيض بشاشتك وتذوي سعادتك وتجدب حياتك ويتداعى ركنك، ولكن روحي كانت دائماً تهفو إليك فتفيض لك نفسي بالهوى والود، ويطفح قلبي بالشفقة والحنان، فأنا ما زلت أذكر حديثك يوم أن قلت لي: (الآن بعد أن نزلت بي هذه الداهية الهوجاء(857/8)
أجدبت حياتي وأقفرت دنياي وانسدت في وجهي سبل العيش، فما عدت ألمس روح الخصب إلا في لقياك، ولا أنشق شذا الإنسانية إلا في مجلسك، ولا أحس نسيم العزاء إلا في حديثك أنت. . . أنت أيها الرجل والصديق والأخ)
قال لي صاحبي: (وأخذت أروِّض نفسي على حياة الظلام الدامس والوحدة الممضة والشظف العاتي، فرقت مشاعري وأُرهفت حواسي، ولبست المنظار الأسود أبغض ما يكون إلي لأداري خلفه لوعة قلبي وضعف نفسي، وليكون حجاباً على أعين أولادي فلا تنفذ أبصارهم إلى علتي. وأحسست بعد حين أن الطبيعة تحبوني بعكف من لدنها علَّها تعوضني بعض ما سلبتني فأصبحت شديد الوعي أحفظ ما يلقي عليَّ لأول مرة؛ حديد السمع والشم أسمع النغمة الخافتة تصدر من مكان قصي، وأعرف القادم من وقع قدميه، وأنشق ريح الرجل فأتبينه مقبلاً أو مدبراً؛ دقيق الحس لا يخطئ حدسي مكان الجدار وهو على خطوات مني، ولا يكذب ظني موضع المنعطف ولما أبلغه بعد؛ نافذ البصيرة أستشف طويا النفوس وهي تختلج بين الضلوع، وأحس نوازع القلب وهي تخفق بين الحنايا. . . فهدأت ثورتي وسكنت جائشتي.
وجاء صغاري - ذات اليوم - يتدافعون ويسألون: أحقاً ما نسمع يا أبي، هل فقدت بصرك ووظيفتك؟ وأنا رجا أقدس المبدأ والعقيدة، وأومن بأن الطفل بريء بطبعه نقي بسليقته، فهو لا يتعلم الكذب والخداع إلا في داره، ولا يتلق اللؤم والمكر ألا من أبويه، ولا يسلك سبيل الضعة والحساسة إلا بقدر ما يجدهما في بيئته. ولقد أخذت على نفسي منذ أن صرت أباً لألا أحدث أولادي حديث الكذب والخداع أبداً. فقلت: (نعم يا أبنائي!) وشعرت إذ ذاك بقسوة الصراحة، فلقد خُيِّل إليَّ أن كلماتي تهبط على هذه الأرواح الصغيرة المرحة مثلما تهبط الصاعقة الجاسية على شيء تافه ضئيل. واستشعروا الصدمة العنيفة فاستخرطوا في بكاء مر طويل فيه الحرارة واللوعة، وفيه الشفقة والحنان. . . استخرطوا في بكاء مرّ طويل وأنا بينهم في حيرة وذهول أهدئ الروع فلا يهدأ، واسكن الثورة فلا تسكن. وجاءت كبرى بناتي وهي صبية جميلة القسمات خلابة السمات رائعة الحسن طيبة القلب رقيقة الزاج مرهفة الحواس، جاءت لتضمني إلى صدرها وهي تذرف عبرات حرى تتدفق مدراراً على وجهي، وتصرخ في غير وعي صرخات مفزعة: (أبي. . . أبي) واندفعت(857/9)
تصرخ في لوثة وجنون، وحار قلبي لما رأيت، وتراءى لي أنني أشهد مأتماً هو مأتمي، وهؤلاء الصبية يشيعون أباهم إلى رمسه، فنازعتني نفسي إلى أن أستسلم لضعفي فأشاطرهم البكاء وأشاركهم النواح عسى أن أسري عن نفسي أو أخفف من شجو أولادي.
(آه، يا صاحبي، لقد كان مشهداً رهيباً مرعباً، كاد يعصف بصبري وإيماني، فسولت لي خواطري أن أفر من داري لأقذف بنفسي في اليم، أو أقدّ قلبي بسكين، أو ألقي بروحي في هاوية مالها من قرار. ولكني خشيت أن أفجع أولادي مرتين، وفي القلب إيمان وأمل؛ فسكت علي أسى يتأجج، وكتمت شجوني على حزن يتوهج، وأطرقت وأنا أربت على كتف هذا، وأضم ذاك إلى صدري، وأقبل تلك في شوق وحنان.
(وعجب الصغار من صمتي وأخذتهم روعة عطفي فهدأت الثورة، وفي النظرات ذهول وحنان. وانطلقنا جميعاً في موكب الحياة؛ ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه. أما أنا فما ظفرت من ميراث أبي بشيء لأن أخي الأكبر كان قد عبث بتجارة أبي وعاث في حساباته فبعثر المال كله بطريقة شيطانية وضيعة.
(انطلقنا جميعاً في موكب الحياة ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه هي الأمل الباسم في ظلمة الحياة، هي الشعاع الدقيق ينفث في القلب الراحة ويبعث في النفس الطمأنينة. وحدثتني نفسي بأن أهجر المدينة إلى القرية خشية أن تعصف بنا طلبات المدينة أو أن ترهقنا حاجات الحضارة. ووجدت في الخاطرة منفذاً ففزعنا إلى هناك عند أول زفرات الهاجرة.
(وفي القرية وجدت الراحة التي تعصف بالنشاط، والخمول الذي يقتل الفكر، والوحدة التي تورث الفناء، والهدوء الذي يثير الأعصاب، والفراغ الذي يشغل البال، والجهل الذي يسخر من الثقافة. فكنت أقضي يومي وحيداً على مصطبة إلى جانب الباب في فيء شجرة، أفتقد الصاحب وأفتقر إلى السمير، فطالت أيامي وقد أفعمها الملل والضيق، ومن حولي أولادي تصرفهم المتعة وتشغلهم الخضرة وتسعدهم الحرية.
(ثم هبت أول نسمات الخريف تحمل معها المشكلة الكبرى. . . مشكلة الصبية تناديهم المدرسة. وأقبلت زوجتي تحدني حديثهم في رفق ولين، فألقيت السمع إلى كلامها غير أني لم أجد الرأي: ترى هل يعيش الصغار وحدهم في المدينة يقاسون الوحدة والضياع، وأظل هنا أحمل نفسي وهم أولادي، أم انطلق فأذر الأفدنه، وهي عدتي على الزمن القاسي(857/10)
ودريئتي من الفاقة العاتية. . . أذرها يتناهبها الفلاحون وما فيهم إيمان ولا أمانة؟ ثم قر قراري فتركت الصبية يسافرون إلى القاهرة. . . تركتهم بين يدي القدر.
وجاءتني رسالاتهم تترى فأحسست كأن كل رسالة تحمل في طياتها أذى نفسي وضنى قلبي، ثم جاءت رسالة تقول: (وقضينا الليلة الماضية في حال من الفزع يفرق له الشجاع، وفي رهبة من الرعب يخشع لها الأيَّد، وفي رعدة من الذعر يرتاع لها الجليد. فلقد أحسسنا باللص يتسلق أنابيب المياه حتى أوشك أن ينقضّ علينا لولا أن ندّت من أختي صيحة مضطربة طار من هولها اللص، وتبدد من شدتها الأمان من قلوبنا، وكانت لفحات القر القاسية تلفحنا فتكاد أطرافنا تتجمد من زمهريرها، والريح رفرافة تئن أنيناً تنخلع له أفئدتنا، فلصق بعضنا ببعض مثلما يلصق أجراء بأمها في ليلة قرة تلتمس الدفء والأمان. وعصف بنا الخوف فما غمضت أجفاننا حتى انطوى الليل وبزغت الشمس. . .
لشد ما أصابني الجزع والذهول مما سمعت من كلام صغاري وهو يخز قلبي وخزات قاسية عنيفة تقضّ مضجعي وتفزعني عن القرار!.
وعند الصباح ودعت القرية لألحق بصغاري، ورضيت بالشظف لأكفل لأفراخي الأمان والهدوء.
وها أنا الآن كما ترى - يا صاحبي - أعاني عنت الحياة وضيق العيش وغلظة الأيام، أتعثر في مهاوي الضياع، تتعاوني نوبات من الألم النفساني فما يمسكني إلاّ حب الولد. . . الولد الذي أطمع أن أراه رجلاً يمسح عني أتراحي بيده الحبيبة ويزيح عني أشجاني بكلماته الرفيقة. . .
وسكت صاحبي، وسكتُّ. وتلاقت خواطرنا وعبراتنا على حرقة وأسى. . .
كامل محمود حبيب(857/11)
الشعر المصري في مائة عام
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
للأستاذ محمد سيد كيلاني
- 1 -
1850 - 1882
كان حكم محمد علي بداية تحول في تاريخ مصر الحديث. ففي عهده شرعت البلاد تأخذ بأسباب النهضة والتقدم، واتصلت بأوربا وطفقت تستفيد من علومها وثقافتها.
ثم مات محمد علي وخلفه عباس الأول (1848 - 1854) وفي عهده كادت تتلاشى بوادر النهضة التي خلفها جده الكبير.
ثم جاء سعيد (1854 - 1868) وكان يمتاز بحبه للمصريين وعطفه عليهم فأدخل بعض الإصلاحات الزراعية فلهجت الألسن بالثناء عليه، ووجه عناية خاصة بالجيش فرفع مستواه، وفرض التجنيد الإجباري على جميع أفراد الشعب، وفتح باب الترقي أمام أبناء الفلاحين، واهتم بتزويد الجند بأحدث الأسلحة التي عرفت في عصره، وشيد القلاع والحصون. وقد ظهر أثر ذلك في الشعر فأخذ الشعراء يمدحون سعيداً وينوهون بشجاعته وإقدامه، ويشيدون بجيوشه وأسلحته وبقلاعه وحصونه. فمن ذلك قول السيد علي أبي النصر:
هم جنود بل أسود بأسهم ... يتقيه كل جبار عنيد
أقسمت أسيافهم لو جردت ... يوم حرب لم تدع شخصاً يحيد
والرمان اللدن أو مت بالظبا ... نافذات في الترقي والوريد
كم لهم من بندق أبدى لنا ... معجزات إذ له لن الحديد
كم لهم من مدفع آياته ... بينات لفظها لفظ مفيد
كم توالوا فوق خيل ضمر ... سابقات للقضا فيما يريد
لو أتت يوماً على رغم العدى ... مرسلات غادرته كالحصيد
إذ عليها كل ليث ضيغم ... في ملاقاة العدى برج مشيد(857/12)
وقال السيد صالح مجدي مؤرخاً بناء القلاع السعيدية بجوار القناطر الخيرية:
فأسس بالتقوى حصوناً عديدة ... بثاني جمادى بعد إبداء دعوة
ففي جانب الكبريّ لاحت بروجها ... عليها مدار الأمن في كل لحظة
ولما علت أركانها وتجهزت ... بما يدفع الأعداء عنها بهمة
وحصنت الأبراج منها مدافع ... تسوق إلى المغرور أثقل كلة
تكفل من أبطال مصر بحفظها ... رجال لهم بطش وأعظم سطوة
هكذا مدح الشعراء سعيدا. وأنت ترى أن مدح سعيد كان يقرن دائماً بذكر عساكره وجنوده؛ ومدافعه وبنادقه، ومناعة استحكاماته ومتانة قلاعه وحصونه، مع أن البلاد لم تستفد شيئاً من هذه القلاع والحصون، بل تكبدت خسائر مالية فادحة دون مقابل. ولو أن سعيداً شيد معاهد للعلم بدل تلك القلاع لأفاد البلاد فائدة محسوسة، ولكنه أهمل نشر العلوم والمعارف ولم تفتح في عهده مدرسة واحدة. لذلك أمسك الشعراء عن الخوض في هذا الباب، ولم يقرن اسم سعيد بنشر العلم والعرفان، ولم يعن الرجل بتشييد المصانع لتزويد الجيش بما يلزمه من ملابس وسلاح، بل كان يستورد من أوربا كل ما يحتاج إليه، فترتب على ذلك أن أموال البلاد أخذت تتسرب إلى الخارج ووفد على مصر كثير من الأوربيين الطامعين في الثراء وأضحى نفوذهم يزداد يوماً بعد يوم.
وفي عصر سعيد انتهت حرب القرم التي نشبت بين الدولة العلية وروسيا. وكانت مصر قد اشتركت في هذه الحرب وأبلى الجنود المصريون بلاء حسناً في ميدان القتال. وقد تغنى الشعراء المصريون بهذا النصر. فمن ذلك قول عبد الله فكري:
لقد جاء نصر الله وانشرح القلب ... لأن بفتح القرم هان لنا الصعب
وقد ذلت الأعداء في كل جانب ... وضاق عليهم من فسيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط أهولها ... يكاد يذوب الصخر والصارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت ... كؤوس منون قصَّرت دونها السحب
وقال الساعاتي:
أسياف سطاه كم فعلت ... وأرادت أن تعلو فعلت
والروس لها ذلت وعنت ... في مشهد حرب (سوستبل)(857/13)
ثم قام سعيد برحلة إلى بلاد الحجاز. وكانت هذه الرحلة أشبه بحملة عسكرية إذ صحبه من الجند والحاشية نحو ألفي رجل من مشاة وفرسان ومدفعية وأتباع. وفي ذلك يقول الساعاتي مخاطباً سعيدا:
ملأت قلوب العرب رعباً فما دروا ... بعثت لهم بالكتبأمبالكتائب
تركتهم في أمرهم بين صادق ... وآخر في تيه من الظن كاذب
تسير لهم في بحر جيش عرمرم ... يفيض بموج الحتف من كل جانب
إذا هتفوا باسم العزيز تزلزلت ... جبال عليها الذل ضربة لازب
فكيف إذا يممت بالشهب أرضهم ... وزاحمت ما في أفقهم بالنجائب
وجرد عليها الأسد في قصب القنا ... ترى الأسد في الآجام مثل الثعالب
فعصر سعيد قد امتاز في بعض فتراته بظهور الروح العسكري الوطني. وقد أثر هذا في الشعر على نحو ما بينا. وأقبل الشعراء في ذلك العصر على نظم الأناشيد العسكرية الحماسية، فنظم رفاعة رافع الطهطاوي جملة من أناشيد وطنية تذكر ما جاء في أحدها وهو:
يا جند مصر لكم فخار ... بين الورى عالي المنار
كالشمس في وسط النهار ... صيت لكم في الكون سار
حادي السعود به حدا ... والطير صاح وغردا
بشرى لمصر قد بدا ... فيها الفخار مؤبدا
بأميرها يحر الندا ... أعني السعيد محمدا
وحذا حذوه السيد صالح مجدي فأنشأ (القصائد الوطنيات) وكذلك فعل مصطفى سلامة النجاري شاعر سعيد الخاص، ومحمود صفوت الساعاتي.
وفي عصر سعيد ظهرت في مصر بعض المخترعات الحديثة كالسفن البخارية والآلات الزراعية التي تدور بالبخار وآلات رفع الماء كما أن السكك الحديد قد أخذت تحل محل شيئاً فشيئاً محل وسائل، النقل القديمة. وكذلك انتشرت الأسلاك البرقية. فتغنى الشعراء بهذه المخترعات. قال السيد صالح مجدي يصف (وابور) سعيد:
أمدينة من فوق لج الماء ... تجري بأبهج منظر وبهاء(857/14)
أم هذه إرم بدت وعمادها ... مسبوكة من فضة بيضاء
أم ذاك وابور المسرة مده ... صدر البرية أسعد السعداء
وحبا النيل المبارك فازدهى ... ببديع بهجة شكله الحسناء
فكأن هذا الفلك في تنظيمه ... فلك به تسري نجوم سماء
وكأنه في النهر عند مسيره ... برق يقصر عنه طرف الرائي
أو أنه ملك خطير جنده ... ملأ من الأمواج والأهواء
فعساكر الأمواج يرسلها على ... سفن البخار طليعة الأعداء
وهكذا أستمر الشاعر يصف هذه السفينة ويشبهها تارة بالمدينة وتارة بالفلك، وحيناً آخر بالملك.
وقال يذكر قنطرة سعيد:
لله ما أبهى وأبهج قنطرة ... سمح السعيد بها فزانت كوثره
وبصنعها سكك الحديد مد يدها ... أضحى لوافر نفعها ما أقصره
وكأنها والموج تحت رصيفها ... ملك ينظم بالشهامة عسكره
وكتائب العربات تلثم أرضها ... وتجوز وهي بأمنها مستبشرة
ثم جاء الخديو إسماعيل (1863 - 1879) وكان عهده حافلاً بجلائل الأعمال، فوجد الشعراء أمامهم مجال القول ذا سعة فقالوا. فلما حصل الخديو إسماعيل على نظام الوراثة الذي يقضي بحصر العرش في أكبر أبنائه (1866) تسابق الشعراء إلى مدحه وتهنئته. وكان عباس الأول قد سعى من قبل في سبيل الحصول على هذا الحق ففشل. وفي ذلك يقول عبد الله فكري:
ومهدت مد الله في عمرك إرثه ... لأبنائك الطهر الجحا جحة الغر
وقبلك كم مدت لما نلت شأوه ... يد ثم ردت غير ظافر الظفرة
وما كان يسمو لأمر يبالغ ... مداه ولا كل الجوارح كالصقر
وقال صالح مجدي:
وشيد أركان الوراثة فازدهت ... بذلك أوطان وسرت أناسم
وقال من قصيدة أخرى:(857/15)
وفي آلك الصيد الكماة تقررت ... وراثة تخليد رفعت لها ذكراً
وما تكاد تشيد مدرسة أو يبنى معهد أو يقام مصنع حتى يبادر الشعراء في تأريخ هذا شعراً. ومثال ذلك قول السيد صالح مجدي في أحد مصانع السكر الذي أقامها إسماعيل:
وشاد بها فوريكة السكر التي ... بها الصدر إسماعيل دو الدولة اعتنى
سمعت روضة الأنس الجمالية التي ... غدا ثغرها بالسوق للناس محسناً
فيا سكر الأحواز ما زلت سامياً ... إلى أن تسامى عنك سكر مصرنا
واهتم إسماعيل بتحسين مدينة القاهرة فشيد كثيراً من القصور الفخمة، وغرس الحدائق والبساتين، ومهد الشوارع والميادين. قال السيد صالح مجدي: (انتهزت فرصة عرضت لي في يوم من أيام المواسم الوقتية، للتنزه بالمدينة المحروسة المعزبة، بقصد رياضة ذهن أعيته كثرة الأشغال، وفهم أسقمه تراكم الأعمال، فرأيت عن يميني وشمالي وخلفي وأمامي، في جميع البقاع التي سعيت إليها بأقدامي، من التحسينات الفائقة المصرية والتنظيمات الرائقة المصرية، ما توهمت به من يقضتي أني في منام، وأن ما يبدو لناظري إنما هو من قبيل الأحلام. ومكثت على هذه الوتيرة، برهة من الزمن يسيرة، أتقلب من الدهشة في كل واد، وارمق تلك التحسينات بعين الفؤاد. فلما أفقت مما أنا فيه بعد إمكان النظر، وقفت عقب ذلك على جلية الخبر، نطق لساني بالثناء الجميل، على ولي النعم عزيز مصر إسماعيل، وقلت مصرحاً بوصف بعض مخترعاته العجيبة.
ثغور التهاني للعزيز بواسم ... وأيامه بيض الليالي مواسم
وأفنان أدواح غردت ... بمصر عليها للأنام حمائم
فأما المباني فهي في حسن نظمها ... بروج لأفلاك السماء تزاحم
وفي الأرض للأبصار تبدو كوكب ... من الغاز للبدر المنير تنادم
وأما تقسيم المياه فنفعها ... عميم وفيها للعباد مراحم
ومنها بساتين القصور تفتحت ... من الورد بعد الري فيها كمائم
وأما الميادين التي قد تجددت ... ولاحت عليها للفخار علائم
فأشرفها السامي يذكر (محمد ... علي) الذي هابت لقاه الضراغم
ومنها الذي في عابدين قصوره ... لها السعد طول الدهر في مصر خادم(857/16)
ومنها الذي في الأزبكية زانه ... بهاء وحلى ما حواه مناظم
وكيف وللتفريح فيه ملاعب ... بهن سرور للبرية دائم
وقصور ولي المهد فيه كأنه ... بما حوله فوق المجرة قائم
وفيه سرايات وفيه حدائق ... وفيه لإحياء الفنون معالم
وهكذا استمر الشاعر يذكر القصور والبساتين، والشوارع والطرقات والحدائق والمتنزهات، وكل ما ظهر من معالم الحضارة وآثار العمران كالسكك الحديدية والترع والقناطر والكباري قال:
وأما أخاديد الحديد فإنها ... قد انتشرت في القطر منها مغانم
وراجت بها بعد الكساد تجارة ... لها اليمن في ظل الأمان مسالم
وقد غرست في جانبيها بحكمة ... لتوصيل أخبار البرايا قوائم
ثم انتقل إلى ذكر دواوين الحكومة ومصالحها ومجلس الأحكام والمجلس المخصوص والمطبعة الأميرية ومصلحة التفتيش والدائرة السنية ودائرة الأنجال ومجلس النواب، قال:
وعن مجلس النواب حدث فإنه ... منوط بما فيه لمصر الغنائم
وذكر القانون القاضي بإلغاء السخرة فقال:
ولم يبق للتسخير في بر مصر ... وجود وزالت قبل ذاك مغارم
ولما ارتبكت الأحوال المالية في مصر أخذ الشعراء يتناولون الحالة السياسية بالنقد والتجريح. ومن هنا بدأ الشعر السياسي في الظهور. قال صالح مجدي معرضاً بالخديو:
رمى بلادكم في قعر هاوية ... من الديون على مرغوب جوسيار
وأنفق المال لامناً ولا كرما ... على بغي وقواد وأشرار
والمرء يقنع في الدنيا بواحدة ... من النسا وهو لم يقنع بمليار
ويكتفي ببناء واحد له ... تسعون قصراً بأخشاب وأحجار
فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم ... من غفلة ألبستكم ملبس العار
ولا شك في أن الشاعر قد تحامل كثيراً وبعد عن الصواب. فبعد أن أشاد بالأعمال الجليلة التي قامت في عصر إسماعيل، وبعد أن تغنى بمظاهر الحضارة والعمران التي ازدانت بها مصر في أيام ذلك العاهل العظيم، رجع يردد بعض التهم التي اخترعها نفر من الأوربيين(857/17)
الذين قاوم إسماعيل نفوذهم الذي أرادوا فرضه على البلاد. ولسنا هنا بصدد مناقشة ما ورد في هذا الشعر وإظهار ما فيه من رأي فاسد فقد أغنتنا كتب التاريخ عن ذلك.
وقد ترتب على ارتباك الأحوال المالية فساد كبير في الأداة الحكومية فانتشرت الرشوة وعمت الفوضى.
وقد ظهر أثر ذلك في الشعر، فنظم محمود سامي البارودي قصيدة رائعة في ذم الحكام وحض الناس على طلب العدل في الأحكام. ومما جاء فيها قوله:
لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الخمل
قامت به رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه ... بغضاً ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
ومنها يخاطب المصريين ويحضهم على الثورة في وجه الظلم والاستبداد. قال:
فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم ... ولا تزول غواشيكم من الكسل
ومنها:
فأي عار جلبتم بالخمول على ... ما شاده السيف من فخر على زحل
ومنها:
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وقلدوا أمركم شهماً أخا ثقة ... يكون ردأ لكم في الحادث الجلل
ومنها:
وطالبوا بحقوق أصبحت غرضاً ... لكلب منتزع سهماً ومختتل
ولا تخافوا نكالا فيه منشأ كم ... فالحوت في اليم لا يخشى من البلل
وقد حذا حذو البارودي كثير من شعراء ذلك العصر الذين كانوا من غير شك ينطقون بلسان الأمة ويعبرون عما يجول في خواطر أفراد الشعب.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(857/18)
مشكلات الفلسفة:
فكرة الله
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
(ليس كمثله شيء) قرآن مجيد
كتب الكثيرون في هذا الموضوع، وتناولوه من نواحيه المتعددة بحيث لم تبق لنا بقية نحكيها ولا فضلة نذكرها. وإذا كنت أمسك بالقلم الآن لأخط هذه الكلمات فليس ذلك عن تحد لهؤلاء الذين لفكرة الله قبل الآن، بالبحث والدرس، وإنما أفعل هذا عن إيمان بأنني سوف أنظر إلى الموضوع نظرة عكسية، وأنني سأنصرف إلى جانب غير الذي اهتموا به، وبذلوا عنايتهم من أجله. وأحب أن أرفع الخوف عن القارئ من إثارة هذا الموضوع مرة أخرى، وأود أن أزيل عن نفسه كل حرج أو إشفاق من مواجهة مسألة الألوهية مواجهة صريحة فأنبئه مسرعاً بأنني سأبحث مشكلة الإنسان ذاته. وستجد نفسك قادراً بعد توضيح بسيط على أن ترفع هذا العنوان لتضع بدلاً منه عنوان آخر يتصل بالإنسان ومشاعره فوق الأرض وباحساساته في الحياة. إذ أنني أومن نماماً بأن فكرة الله، كما حملها إلينا تاريخ الفلسفة، لا تصور الله ولا تقرِّب مفهومه من أذهاننا، وإنما تعطينا فكرة صحيحة عن الإنسان نفسه من حيث مطامعه وشهواته وخواطره وآرائه ومخاوفه وملاذه.
فكرة الله عند الفلاسفة والمفكرين هي كتاب حافل بأحاسيس البشر وتاريخ ثابت لانفعالات الناس ومجلد مشحون بالعواطف والمشاعر عند ما تطورت على مر العصور. والحقيقة الإنسانية تتكشف، أكثر ما تتكشف، من مراجعة هذا السجل الحاشد ومن تأمل هذه الخطرات الوافرة. فليس يفيدك تأمل الأفعال العادية التي تأتيها الجماعات أو النظر في أمور معاشهم والمخالطة لهم في الحياة العامة بقدر ما يفيدك التفكير في هذه الصور التي يعرضها عليك المفكرون عند تدبرهم لصفات الله وتحقيقهم لمشكلة وجوده.
وقديماً تنبه إكسانوفان لهذه الحقيقة على نحو بسيط عندما قال إن الإنسان يصور نفسه في آلهته، وإن هذه الأرباب من صنع الناس وابتكارهم. ولم يكن أمام إكسانوفان الفيلسوف اليوناني عندئذ غير هذه الآلهة التي صوَّرها الشعراء السابقون على عصره كأمثلة يقدمها(857/20)
لنا تدليلاً على هذه الحقيقة. أما نحن فنستطيع أن نجد كثيراً من البراهين، على ما نذهب إليه، من آراء الفلاسفة واعتقاداتهم في الله منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا. فإذا ما أخذنا إله أرسطو على سبيل المثال وجدنا أنفسنا بازاء كائن أبدي يوصف بأنه جوهر وأنه فعل محض وأنه يحرك ولا يتحرك. وهذه الصفات هي الوجه الآخر لما نلاحظه في حياتنا الأرضية من سمات الأشياء وخصائصها. فأبدية الله إنما تنشأ عن رغبتنا نحن البشر في تصور موضوع، ونتيجة لأطماعنا التي لا حد لها في معاش يستمر إلى ما لا نهاية. إذ أننا نحس في قرارة أنفسنا بأننا عاجزون أمام مظاهر الطبيعة وعوامل الفناء التي تعمل بكل قوتها على إنهاء الحياة المتمثلة في الأفراد، وعلى إبطال ما يبدو أننا نستمتع به من مناعم الوجود ولابد والأمر كذلك من تصور موضوعية أخرى غير إنسانية توصف بهذا الوصف الذي حرمتنا إياه الحياة وتتعلق بها تلك الكيفيات التي نحلم بتطبيقها على شئوننا الخاصة. فالوجود الأبدي الخالد هو الوجه الآخر لهذه الحياة التي نستشعر بأنها قد وُجدَت منذ زمن قريب ولا نعرف مبدأها على وجه ثابت، وهو الوضع المقابل لهذه المظاهر المتغيرة والأعراض الزائلة والحركة الدائمة.
ولا نستطيع أن نفسر صفات الله عند أرسطو إلا على ضوء هذه الحقيقة التي نعلنها إعلاناً صريحاً ونؤكدها توكيداً قاطعاً هنا فإلهه كما نعلم عبارة عن فكر خالص يتأمل ذاته ولا يمكن أن يكون هناك شيء آخر سوى ذاته كموضوع لتأمله ما دام شرف التفكير متوقفاً على شرف المادة، وما دام من الصعب أن نُقر برفعة العمليات العقلية من غير الوثوق برفعة الأشياء التي تكون محل اهتمامه. بل إن لذته القصوى إنما تكمن في هذه الحالة التي يستطيع بها أن يدور حول نفسه وأن يكون هو ذاته لذاته موضوعاً لا يفرغ من تأمله ولايني عن التفكير فيه. وهو لهذا السبب مشغول عن الحياة، لاه عما يجري فوق الأرض، مهمل لأحداث الكون. فهذا الإله، إن يصح أنه إله، وليد اختراعٍ عبقري ولا يمكن أن يصدر عن تصور آخر غير تصور الإنسان الذي يكلف بالبحث ويولع بالنظر العقلي الخالص. لقد كانت الحياة بمتاعبها ومضايقاتها تثير جانب الخيال قبل كل شيء في عقل أرسطو وتدفعه دفعاً إلى افتراض وجود كائن يخلو من هذه الشواغل الوقتية وينصرف عن الحياة العادية إلى العمل الفكري المجرد. أو يمكن أن نقول إن الحياة الفكرية بما كان لها(857/21)
من مقام في نفس الشعب اليوناني القديم استطاعت أن تدفع بأرسطو دفعاً إلى مذهبه الغريب وتصوره الشاذ. ومن ناحية ثالثة نلاحظ أنه من السهل جداً تصور إله على هذا النحو إذ تكرر وقوعنا في الأزمات وتعددت في سبيلنا العقبات دون أن ينقذنا منقذ وبغير أن يعيننا معين، مهما رجوناه والتجأنا إليه ودعوناه مخلصين. فالإنسان يتصور الإله محباً للخير عادة ويفترض أنه يعمل جاهداً في سبيل السعادة والهناء. ولا شيء غير ذلك. فإذا حصل أن أتجه الإنسان اتجاهاً سليماً، وأن سعى مسعى كريماً ثم ناله من وراء ذلك سوء وأصابه من جرَّائه نكر ارتد إلى رشده وعاود تفكيره وجعل ينظر مرة أخرى في شأن الإله العلي القدير. وهو في تلك الحالة إما أن ينكر وجود الإله، وإما أن يؤمن بأنه موجود ولكن لا تربطه صلة بالعالم الأرضي ولا يشغل باله من أمره شيء ولا يحتل في ذهنه أية مكانة. وهذا الموقف الأخير هو الذي ركن إليه أرسطو كما شاهدناه في كلامه عن صفات الإله.
ولو قمنا باستعراض هذه الفكرة فكرة الإله لدى الفلاسفة جميعاً لانتهينا إلى النتيجة التي أعلناها من قبل والتي قلنا فيها إن الإنسان قد عكس خيالاته وأسقط أحلامه وأمانيه على النحو الذي اعتقدناه حسب ميولنا الفلسفية واتجاهاتنا الدينية. والإنسان معذور بطبيعة الحال عندما يفعل ذلك ويقدم على عمله بالشكل الذي وصفناه. ويمكن أن نضع سببين معقولين لحدوث هذه الظاهرة في تاريخ الفكر.
أعتقد بأنه لا حيلة للإنسان أولاً بازاء الصفات التي ينسبها إلى الإله مادام لا يملك غير الصفات التي توجد بين يديه وتتوفر لديه. إن الصفات والكيفيات التي يدركها العقل الآدمي معروفة ومنتهية ولا يمكن الخروج عن نطاقها وابتكار سواها مما لا تعرفه الحواس ولا تتصوره العقول. إذا شرَعَت مثلاً في عدِّ ألوان الأشياء وأحجامها وهيئتها فلن تستمر طويلاً بل سريعاً ما سوف تحس بأنك قد انتهيت من الحسابات والتقدير. وإذا أردت أن تُعمِل عقلك في مسألة ما أو شئت أن تخضع لتفكيرك أمراً من الأمور فلن تزيد - إذا اهتممت بوصفه - حرفاً واحداً على هذه الكيفيات والشبات.
أما السبب الثاني في حدوث هذه الظاهرة فأحسبه ناشئاً عن طبيعتنا نحن البشر في صبغ كل شيء بميولنا، وعجزنا عن التخلص من أهوائنا وعدم قدرتنا على التفكير تفكيراً بريئاً من دوافعنا الباطنية مستقلاً عن شخصياتنا. إن الأشياء في ذواتها لا وجود لها قط في حياة(857/22)
الإنسان، والمعرفة الموضوعية التي تتعلق بالأشياء الخارجية لم تعرف الحياة يوماً من الأيام، ومهما تحدث العلماء عن علم نقي خال من آثار الإنسان وأهواء البشر فلن يجدي شيء من هذا الادعاء في تخفيف أو محو ما تلقيه الذاتية من ظلال على معامل التجربة، وسوف تبقى نتائج الطبيعة خاضعة للمزاج والإرادة إلى أقصى درجة.
فهناك حدث لا شك فيه وهو أننا نعتمد على أنفسنا اعتماداً كبيراً في استقصائنا للمعلومات عن العالم الخارجي وتصورنا للأشياء التي لا تدخل في نطاق التجارب العادية بالنسبة إلى الإنسان. ومن ثم وجب أن تصطبغ كل مادة لتفكيرنا، وكل موضوع أعمالنا، بقوانا الذهنية في التخيل والإدراك وبنوازعنا النفسية في الهوى والجنوح. أو قل أنه ما من شيء من الأشياء يستطيع أن يتقرر في الذهن وأن يتحقق في دائرة معارف الإنسان من غير أن يمر بالنفس التي تعده الإعداد الكافي وتنقحه التنقيح الواجب. ولا تَغرنَّك ادعاءات الرجال الذين يشتغلون بالعلم في هذا الباب لأنأقوالهم لا تصدق ولا تستحق الاحترام إلا من جهة واحدة حينما ننظر إليها على أنها ضرب من الحلم أو التمني البريء. وكذلك الأمر في مسألة الإلة؛ فنحن حيارى وسط مظاهر الحياة وبين جدران الطبيعة التي تظلنا من كل جانب، ونبدو أمام أنفسنا كالتائهين الذين يتطلعون إلى السحب القاتمة عسى أن تبرق، وإلى الآفاق المدلهمة عسى أن تضيء. ومهما تبدت لنا دلائل الإعجاز من حولنا أو تكشفت لأعيننا حقائق الباطن المستور فإننا لا نكاد نخلص من الحيرة ولا ننتهي من الشك ولا نقف عند حدٍّ من حدود الإرجاف والتخمين. وذلك لرغبتنا في برهان من الواقع المحسوس وميلنا إلى الوقوف على كل ما يمكن أن يكون هنالك سافراً مفضوحاً. ولكن الحقيقة لا تتكشف والباطن لا يبين والقلق لا ينتهي. . . فلنفكر إذا ولنُعمِل عقولنا ولنوجد نحن المشكلة ولنضعها في الصحائف والكتب على النحو الذي نريد. وهكذا انتهينا إلى تصور الله وتخيله، وشبهناه وقربناه، فكانت آراؤنا من قبيل الأمنية، وكانت أفكارنا ضرباً من الأحلام، ولا يستطيع واحد من الناس أن يزعم أن الإله الذي قدره هو نفسه الإله المشرف على نظام الكون والمدبر لأمور الناس. ولا يملك واحد من الناس القدرة على إثبات التطابق بين الإله الذي وصفه والإله الموجود فعلياً. فالله هو الله؛ أما آلهتنا التي نصفها فهي من قبيل المحاولات التي يجوز أن تتجه اتجاهاً صحيحاً، ويجوز في الوقت نفسه ألا يكون لها أي(857/23)
سند من الواقع أو أي تقريب معقول.
فالآلهة التي نتحدث عنها والتي نصف أفعالها إنما هي صدى لحياتنا العملية بما فيها من نقص واضطراب. فالله يشفي المرض لأننا نمرض، ولو لم يكن المرض من لوازم حياتنا المعيشية لما تصورنا الله قادراً على شفاء الناس من الأمراض. والله هو السبب في المكاسب والخيرات، وهوالذي يهدي إلى سبيلهم ويطعمهم ويسقيهم. وبعبارة موجزة: يأتي الله كل الأعمال الوظيفية التي لا تعدو أن تكون ضمن المطالب العادية. وكلما فكرنا في الله وصفاته لم نستطع أن نخرج به عن هذا الحيز الضيق وعن هذا النطاق المحصور، لماذا؟ لأن الأرض مسرح لها ولأن حياة الناس ملأ بهذه الأشياء التي ترضيهم أحياناً وتسوءهم أكثر الأحيان.
فالله الذي نعترف به ونقر بوجوده ونسلم بسلطانه أسير حياتنا الدنيوية ويمكن وصفه بأنه إله إنساني - إن صح التعبير - مرَّ بالعقول قبل أن تؤمن به الصدور، وامتحنه الخيال قبل أن تسلم به الروح، واستأثرت به المصلحة قبل أن ينفذ إلى عالم الضمائر. ولذلك نستطيع أن نجد فيه مشكلتنا نحن أنفسنا لا مشكلة الله، ونستطيع أن نلمس فيه ضعفنا بارزاً وأن نجد عنده آلامنا واضحة وأن نصادف على وجهه مسحة الهم البشري.
قال سارتر عندما كتب عن قصة ضياء أغسطس لفولكنيه: (تصير القصص الجيدة بُعِد قليل شبيهة تماماً بالظاهرات الطبيعية. إننا ننسى أن لها مؤلفاً وننظر إليها نظرتنا إلى الأحجار والأشجار لأنها هنالك، ولأنها موجودة.) ونستطيع القول عن الذين يتحدثون عن صفات الله إن كلامهم يصير بمضي الزمن حقيقة راسخة في نفوسنا وننظر إلى أحكامهم على أنها أمور مقطوع بها وننسى غالباً هؤلاء الذين صدرت عنهم وبدرت منهم في ظرف من الظروف. والغريب في هذه المسألة هو أننا نأخذ كلامهم مأخذ الجد ونخضع أنظارهم للبحث والنقد ونجعل منها بعد حين موضوعاً للجدل والنقاش. هذا مع أننا نستطيع من أول الأمر أن نريح أنفسنا بأن نفرق بين هؤلاء وبين الوقائع الصحيحة، وبين ما نريده نحن وبين ما هو حاصل بالفعل.
فالإنسان لا يملك إلا أن يفكر وأن يقدح ذهنه في مسائل الكون التي تشغل باله وتقلل من راحته وهدوئه. وهذا طبيعي ومقبول منه إذا لم يأت بعد ذلك ليصف لنا أشياء، لم يطلع(857/24)
عليها ولم تتكشف له، وصف المشاهد الخبير. وحتى هذا العمل الوصفي معقول ومقبول، على ألا يأتي بعد ذلك إنسان فيتحدث عنها كما لو كان يتحدث عن الحقائق المقررة.
ونعود ثانية لنقول إن الله أرفع شأناً وأسمى مقاماً من أن نخضعه لأحكامنا ومن أن يتحدد بأهوائنا ويتوقف شكله على أمورنا المعيشية. وأي وصف نلصقه به وأية كيفية نلحقها بذاته لا تخرج عن كونها تخميناً لا يرتفع إلى درجة اليقين ولا يوثق به الوثوق الكامل. أما إذا أخذنا مسألة الصفات على حقيقتها ونظرنا فيها على أنها مشكلتنا نحن البشر فأغلب الظن أننا سنبلغ أمراً علة قدر كبير من الأهمية من ناحية التحليل الخاص بالعواطف الإنسانية والتسجيل الدقيق لخواطر الناس والاحساسات التي تعم بني آدم فوق الأرض. وذلك لأننا أقرب إلى أنفسنا عندما نتحدث عن الله منا إلى الله، وأشد ارتباطاً بقلوبنا وأوضاعنا في تلك الآونة منا إلى ملكوت السماء، وأكثر حباً لمصالحنا وأهوائنا من لهدى الله ورضوانه.
أيها الإنسان! ثب لرشدك وعد إلى نفسك وانفض غبار النفاق عن جبينك لتعلم أن الرب أعظم من أن يلحقه وصف، وأرفع من أن تبلغه كيفية، وأسمى من أن يلابس المقادير ومجريات الأمور على أرض دنستها بريائك، ووسدتها بلحم آبائك.
عبد الفتاح الديدي(857/25)
أهل العلم والحكم
في ريف فلسطين
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة)
وقد بنى على هذا الدير الملك المعظم عيسى بن الملك العادل الايذي قلعة حصينة وأنفق عليها الأموال الجمة وأحكمها غاية الأحكام. فلما كان في سنة 615هـ وخرج الإفرنج من وراء البحر طالبين للبيت المقدس أمر بخرابها حتى تركها كأمس الدابر والتحق (سور) البيت المقدس بها في الخراب فهما إلى هذه الغاية خراب (القرن السابع). معجم البلدان (ج6 - 67).
وهناك طوران آخران أولهما الجبل المشرف على نابلس ولهذا يحجه السامرة. والثاني طور زيتا أو (جبل الزيتون) وهو مشرف على المسجد الأقصى، وبينهما وادي جهنم، وفيه صلى عمر بن الخطاب. وفي الأنس الجليل ج1 - 258 أن أمالخير بنت إسماعيل العدوية البصرية الصالحة المشهورة (من أعيان عصرها في القرن الثاني) وقبرها على رأس جبل طور زيتا شرقي البيت المقدس، بجوار مصعد موسى عليه السلام، وهو في زاوية ينزل إليها من درج.
ويقول في ج2 - 410 عن أبي هريرة: أقسم ربنا بالتين والزيتون، والزيتون طور زيتا. والتين مسجد دمشق. وعن صفية زوج الرسول أنها قدمت القدس فصلت به، وصعدت إلى طور زيتا فصلت وقامت على طرف الجبل وقالت (من ها هنا يتفرق الناس يوم القيامة إلى الجنة والنار) ومن هذا الجبل صعد عيسى عليه السلام، وعلى رأسه كنيسة من بناء هيلانة في وسطها قبة. ولما فتح صلاح الدين القدس سنة (583هـ) وقف أرض طور زيتا على الوالي الصالح ولي الدينأبي العباس أحمد الهكاري، سوية بينهما وعلى ذريتهما، وقبر مريم عليها السلام في كنيسة في داخل جبل طور تسمى الجسمانية وهو مكان مشهور مقصود للزيارة من المسلمين والنصارى والكنيسة من بناء هيلانة أمقسطنطين.
أما الوديان والعيون فيذكر منها وادي النمل بين بيت جبرين وعسقلان، ولا يذكر وادي(857/26)
النسور وهو بظاهر القدس من جهة الغرب يسير فيهالآن القطار الصاعد من الرملة إلى القدس وقد دفن فيه القطب الكبير بدر الدين ابن محمد من أولاد سيدنا علي ابنأبيطالب عليه السلام توفي (605هـ) وأولاده (بشرفات) وكانت تعرف (بشفرات) فلما أنتقل إليها الأشراف أولادأبيالوفا غيروا اسمها.
وقد ذكر من العيون، عين البقر وهي قرب عكا، يزورها المسلمون والنصارى واليهود، وعليها مشهد ينسب إلى علي ابنأبي طالب عليه السلام (معجم البلدان 6 - 253). وعين جالوت، وهي بليدة لطيفة بين بيسان ونابلس استولى عليها الصليبيون، واستنقذها منهم صلاح الدين سنة (579هـ) معجم 6 - 254. ولم يذكر ياقوت أن التتار هزموا بها، لأن الموقعة كانت بعد وفاته. أما عين سلوان فهي في ربض بيت المقدس تحتها عين عذبة تسقي جناناً عظيمة وقفها عثمان ابن عفان على ضعفاء البلد (المجذومين).
(ولا يزال منهم نفر بها).
أما الحصون والقلاع فيذكر منها (الجيب) ويقول هي حصنان يقال لهما الجيب الفوقاني والجيب التحتاني بين بيت المقدس ونابلس وهما متقاربان (معجم البلدان 3 - 186) وتقع الجيب إلى عين السالك من رام الله إلى القدس.
ومنها حصن العنب، وهو من أرض بيت المقدس واسمه الآن قرية (العنب) أو (أبو غوش) وأبو غوش هي عائلة إقطاعية تسكن هذه القرية، وكانت في العهد العثماني تجبى من زوار بيت المقدس جعلا مقابل خفر الطريق، وفيها عين ماء ذكرها الرحالة ناصر خسروي الذي زار بيت المقدس في سنة (483هـ) وفيها أكثر من دير.
ويذكر حيفا فيقول إنها حصن على ساحل بحر الشام قرب يافا، لم يزل بأيدي المسلمين إلى أن تغلب عليه كندفري الذي ملك بيت المقدس سنة (494هـ) وبقي في أيديهم إلى أن فتحه صلاح الدين سنة (573هـ) وخربه.
وفي تأريخ دمشق ذكر لإبراهيم بن محمد بن عبد الرزاق أبو الطاهر الحافظ الحيفي من أهل قصر (حيفه) سمع بأطرابلس (طرابلس) وحدث بصور سنة (486هـ). (معجم بلدان ج3 - ص382). ثم يقول تحت أسم (قصر حيفا) موضع بين حيفا وقيسارية ينسب إليه أبو محمد عبد لله القيسراني القصري سكن حلب وكان مفتيها. تفقه بالعراق بالمدرسة(857/27)
النظامية (أسسها نظام الملك سنة 59هـ) علىأبيالحسن الهراس، وأبي بكر الشباشيالخ وارتحل إلى دمشق وعمل بها حلقة المناظرة وانتقل إلى حلب فبنى له ابن العجمي بها مدرسة درس بها إلى أن مات سنة (544هـ؟). (معجم البلدان 7 - 100). ويعلق ياقوت على (قصر حيفه) بالهاء، وأنا أحسبه المذكور قبله أي حيفا فيعتبرهما مكاناً واحداً.
ومن الحصون الأخرى الخروبة وهو بسواحل بحر الشام مشرف على عكا، وقد جاء ذكره أكثر من مرة في حروب صلاح الدين للصليبين حول عكا. ومنها الداروم، قال ابن الكلي قال الشرقي نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ويقال لتلك الناحية الداروم، فجعل الله فيهم السواد والأدمة، وأعمر بلادهم وسماءهم وجرت الشمس والنجوم من فوقهم ورفع عنهم الطاعون، والداروم قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر والواقف فيها يرى البحر إلا أن بينها وبين البحر مقدار فرسخ وقد خربها صلاح الدين لما ملك الساحل سنة 584هـ وينسب إليها الخمر. قال إسماعيل بن يسار:
يا ربع رامه بالعلياء من ريم ... هل ترجعنّ إذا حييت تسليمي
ما بال حي غدت بزل المطي بهم ... تحدي لفرقتهم سيراً بتقحيم
كأنني يوم ساروا شارب ثملت ... فؤاده قهوة من خمر داروم
إنيّ وجدّك ما عودي بذي نَحور ... عند الحفاظ ولا حوضي بمهدم.
وغزاها المسلمون في سنة ثلاث عشرة وملكوها فقال زياد بن حنظله:
ولقد شفي نفسي وأبرأ سقمها ... شد الخيول على جموع الروم
يضربن سيدهم ولم يمهلهم ... وقتلن فلهم إلى داروم.
ويقال لها الدارون أيضاً، وينسب إليها على هذا اللفظ أبو بكر الداروني روى بن عبد العزيز العطار عن شقيق البلخي روى عنه أبو بكر الدينوري بالبيت المقدس سنة (308هـ). (معجم البلدان 4 - 13)
ومن الحصون السحيلة وهو أسم قلعة حصينة قبلي بيت المقدس والطرون (اللطرون) وهو حصن بيت المقدس والرملة، فتحه صلاح الدين سنة (583هـ)، وفيه عين ماء، وهو قرب باب الواد ويعتبر من الحصون المسيطرة على طريق يافا ببيت المقدس. ومن الحصون الشهيرة عثليت (عتليث) وهو في سواحل الشام (جنوبي حيفا) ويعرف بالحصن(857/28)
الأحمر، فتحه صلاح الدين سنة 583هـ (معجم البلدان 6 - 122)
ومنها أيضاً عفراء وهو حصن قرب بيت المقدس ويعتبر ياقوت (العفولة) بلده ويقول أنها فلسطين من نواحي فلسطين (معجم البلدان 6 - 405) أما الأنس الجليل فيقول أنها كانت من احسن الحصون، وفيها من العدد والأموال الشيء الكثير، وأن الإفرنج كانوا يتجمعون بها. وفتحها صلاح الدين سنة 583هـ (الأنس الجليل ج1 - 288). ومن الحصون في الساحل حيفا ويافا، (فافون) ويقول عنها ياقوت أنه قرب الرملة، وقيل أنه من عمل قيسارية، ومنها أبو القاسم القوقاني أمام مسجد الجامع بقيسارية روى عنه سلامة المجدلي، ومنها شبل أبو قاسم الصوبني القاقوني سمع بدمشق وروى عنه أبو الفتيان الدهشاني. (معجم البلدان 7 - 416). وكانت قاقون على طريق القوافل الواردة من الجنوب مارة بالرملة , فجلجولية، فقلنسوة فقاقون، فاللجون فمرج بني عامر فبيسان فدمشق، أو من اللجون جنوبا. وقد جاء ذكرها في حملة نابليون في أواخر القرن الثامن عشر.
وإلى الجنوب من قاقون (قلنسوة) وقد ذكرها ياقوت وقال عنها إنها حصن قرب الرملة وقد قتل بها عاصم بنأبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعمر أبن أبي بكر وعبد الملك وأبان ومسلمة بنو عاصم وعمرو بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان ويزيد ومروان وأبان وعبد العزيز والأصع بنو عامر بن سهيل بن عبد العزيز، حملوا من مصر إلى هذا الموضع وقتلوا فيه مع غيرهم من بني أمية (معجم البلدان 7 - 152)
ومن الحصون، (كرمل)، وهو حصن على الجبل المشرف على حيفا، وكان قديماً في الإسلام يعرف بمسجد سعد الدولة. وكِرْمل قرية في آخر حدود الجليل من ناحية فلسطين (معجم البلدان ج7 - 244) والكرمل هواسم الجبل الذي بني عليه الحصن.
ومن القلاع التي اشتهرت في الحروب الصليبية قلعة (كوكب) وهي على الجبل المطل على مدينة طبرية. ويقول ياقوت أنها حصينة رصينة تشرف على الأردن افتتحها صلاح الدين فيما افتتحه من البلاد ثم خربت بعد ذلك.
وقد جاء ذكرها في الأنس الجليل (1 - 316) وقال إن السلطان صلاح الدين حاصرها سنة 584هـ وقاتل أهلها أشد حصار وهدم غالب بنائها وملكها وعرض القلعة على جماعته فلم يقبلوها فولاها تايماز النجمي على كره منه.(857/29)
أما المواقع فاشهرها أجنادين وحطين، وقد ذكرهما ياقوت فقال عن الأولى (أجنادَين) وقد تكسر الدال وتفتح النون بلفظ الجمع، وأكثر أصحاب الحديث يقولون أنه بلفظ التثنية، ومن المحصلين من يقوله بلفظ الجمع، وهو موضع معروف بالشام من نواحي فلسطين. وفي كتابأبي حذيفة العبدري أن أجنادين من الرملة من كوره بيت جبرين كانت به وقعة بين المسلمين والروم المشهورة. . . وقالت العلماء بأخبار الفتوح شهد يوم أجنادين مائة ألف من الروم سرب هرقل أكثرهم وتجمع الباقي من النواحي وهرقل يومئذ بحمص فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً ثم هزموا وتفرقوا وقتل المسلمين منها خلقاً واستشهد من المسلمين عبد الله أبن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بنعبد مناف وعكرمة أبنأبيجهل والحارث أبن هشام. وأبلى خالد أبن الوليد يومئذ بلاء مشهوراً وانتهى خبر الواقعة إلى هرقل فهرب من حمص إلى إنطاكية وكانت سنة ثلاث عشرة قبل وفاةأبيبكر بنحو شهر فقال زياد ابن حنظله:
ونحن تركنا أرطئون مطرداً ... إلى المسجد الأقصى وفيه حسور
عشية أجنادين لما تتابعوا ... وقامت عليهم بالعراء نسور
عطفنا له تحت العجاج بطعنة ... لها نشج نائي الشهيق غزير
فطمنا به الروم العريضة بعده ... عن الشام أدنى ما هناك شطير
فولت جموع الروم تتبع إثره ... تكاد من الذعر الشديد تطير
رغودر صرعى في المكر كثيرة ... وعاد إليه الفل وهو حسير
وقال كثير بن عبد الرحمن:
إلى خير أحياء البرية كلها ... لذي رُحُم أو خلة متأسن
له عهد ود لم يكدر بريبة ... وقوال معروف حديث ومزمن
وليس أمرؤ من لم ينل ذاك كامرئ ... بدا نصحه فاستوجب الرفد محسن
فإن لم تكن بالشام دهري مقيمة ... فإن بأجنادين كني ومسكني
منازل صدق لم تغير رسومها ... وأخرى بميافارقين فموزن
(معجم البلدان ج1 126).
وأما (حطين) فكانت فيها الموقعة الفاصلة بين صلاح الدين والإفرنج سنة (583هـ) وهي(857/30)
قرية بين طبرية وعكا، بالقرب منها قرية يقال خيارة، وذكر الحافظان أن حطين بين أرسوف وقيسارية، وهو غير الذي عند طبرية وإلا فهو غلط منهما.
ونسب الحافظان إليها أبا محمد هياج الحطيني الزاهد نزيل مكة سمع من كثيرين منهم أبا أحمد القيسراني. وسمع منه جماعة من الحفاظ منهم محمد بن طاهر المقدس وأبو القاسم هبة الله الشيرازي كما نسب إليها جعفر محمد بن أبيعلي الحطيني وغيرهم وكان زاهداً فقيهاً مدرساً يفطر كل ثلاثة أيام ويعتمر كل يوم ثلاث عُمر، ويلقي على المستقيدين عدة دروس، ولم يدخر شيئاً. وكان يزور رسول الله كل سنة حافياً، ويزور ابن عباس بالطائف، واستشهد في مكة في وقع وقعت بين أهل السنة والشيعة، فحمله أميرها محمد بنأبيهاشم فضربه ضرباً شديداً على كبر السن ثم حمل إلى منزله فعاش بعد الضرب أياماً ثم مات سنة (472هـ) (معجم البلدان 3 - 298). (وشذرات الذهب 3 - 342) وقد وصف لنا ياقوت بعض مواقع فلسطين منها النواقير، والغور، والجعارة. أما النواقير وهي معروفة الآنبالناقورة ففرجة في جبل بين عكة وصور على ساحل بحر الشام. قيل إن الإسكندر أراد السير على طريق الساحل إلى مصر ومنها إلى العراق فقيل له ن هذا الجبل يحول بينك وبين الساحل فنقر ذلك الجبل وأصلح الطريق فيه فلذلك سمي بالنواقير. (معجم البلدان 8 - 420) وقال عن الغور أنه منخفض عنأرضدمشق والبيت المقدس وفيه نهر الأردن وبلاد وقرى كثيرة وعلى طرفه طبرية وبحيرتحا ومنها مأخذ مياهها. وأشهر بلاده بيسان بعد طبرية وهو وخيم شديد الحر، غير طيب الماء، وأكثر ما يزرع فيه قصب السكر. ومن قراه أريحا، وفي طرفه الغربي (الجنوبي) البحرية المنتنة وفي طرفه الشرقي (الشمالي) بحيرة طبرية (معجم البلدان 6 - 312).
ويصف لنا ياقوت الريف الفلسطيني بين رفح وغزة فيقول إن بينهما ثمانية عشر ميلاً. وعلى ثلاثة من رفح من جنب غزة شجر جميز مصطف من جانبي الطريق عن اليمين والشمال نحو ألف شجرة متصلة أغصان بعضها ببعض مسيرة نحو ميلين، وهناك منقطع رمل الجفار ويقع المسافرون في الجلَد. وما زال المسافر بين غزة وخان يونس يرى أشجار الجميز الباسقة هذه.
أما الجفار وهي ما يعرف بالنجب الآن (أو قضاء بئر السبع بالاصطلاح الإداري) فهي بين(857/31)
فلسطين ومصر أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل وكلها رمال سائلة بيض في غربيها منعطف نحو الشام بحر الشام وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم (البحر الحمر) وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها ولا شرب لسكانها إلا منها رأيتها مراراً. ويزعمون أنها كانت كورة جليلة في أيام الفراعنة إلى المائة الرابعة من الهجرة، فيها قرى ومزارع، أما الآنففيها نخل كثير ورطب طيب جيد وهو ملك لقوم متفرقين في قرى مصر يأتونه في أيام لقاحه فيلقحونه، وأيام إدراكه فيجتنوه، وينزلون بينه بأهليهم في بيوت من سعف النخل والحلفاء. وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل وهي (رفح والقس والزعفا والعريش والواردة وقطية) في كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكين يشتري منها كل ما يحتاج المسافر إليه. . .
قال أبو الحسن المهلبي في كتابه الذي ألفه للعزيز وكان موته سنة (386هـ) وأعيان مدن الجفار العريش ورفح والواردة، والنخل في جميع الجفار كثير وكذلك الكروم وشجر الرمان، وأهلها بادية متحضرون ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها كثير منهم، يزرعون في الرمل زرعاً ضعيفاً يؤدون فيه العشر، وكذلك يؤخذ من ثمارهم.
ويقطع في وقت السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المُرغ (الفر) يصيدون منه ما شاء الله يأكلونه طرياً ويقتنونه مملوحاً. ويقطع أيضاً إليهم من بلد الروم على البحر في وقت من السنة جارح كثير فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق، وقلما يقدرون على البازي. وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهةما لبواشقهم. . .
وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الحراس لأنه لا يقدر أحد منهم أن يعدو على أحد، لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئاً من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل، ثم قفا ذلك مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه. وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشباب من الشيخ والأبيض من الأسود والمرأة من الرجل والعاتق من الثيب؛ فإن كان هذا حقاً فهو من أعجب العجائب. (معجم البلدان 3 - 113).
أحمد سامح الخالدي(857/32)
من فلسفة الحياة:
(لذة) الألم!. .
قليلون جداً أولئك الذين يجدون في الألم لذة وفي الشقاء متعة. . . لأن الناس اعتادوا أن يملوا قلوبهم سروراً ونفوسهم مرحاً بما راق لهم من وسائل اللهو والعبث أو المال والبني ن!! أما أن يكون الألم (متعة) وفي الشقاء (لذة). . . فذلك مالم يعهدوا، وذلك ما لم تدركه أو يبلغه تفكيرهم. كنت أرى جمال العالم وأحس بروعة الوجود وإبداع الخالق خلال القطرات التي تذرفها عيناي. . . وكنت أجد نفسي في أمتع ساعاتها وأروع لحظاتها يوم يفعم قلبي ألماً وتملأ نفسي تعاسة، فينطلق لساني من معقله ويفك قلمي من قيوده، ويبدآن يتعاونان: قلم ولسان. . . ولسان وقلم. . فأصنع في ساعة الألم أضعاف ما أصنع في أجمل ساعات السرور!
كنتأبحث عن الألم في كل مكان. . . وهو مني جد قريب، في نفسي، في مأكلي ومشربي، في ملبسي ومسكني، في فؤادي وأحاسيسي ومشاعري. . . ولكني كنت لا أكتفي بذلك وإنما أطمع دوماً في مزيد. . . فأروح أبحث عنه في كل زاوية. وفي كل ركن وفي كل مكان!
حقاً لقد كان الألم ضالتي المنشودة. . وكانت الدموع مناي، فلم أكن أطيق عنهما صبراً حتى أصبحا زميلين لي رفيقين لأحاسيسي ومشاعري!
كنت إذا ما رأيت (مشهداً) يبعث على الألم والحسرة نقمت على (البشرية) الجشعة المتغطرسة المتمثلة في هؤلاء (السادة) الذين يمتصون الدماء ويحيلون عرق الكادحين إلى ذهب يعبثون به على (الموائد الخضر) والليالي الحمر. . . وبتناء ما بدا لهم من الحدائق والقصور. . . ثم أرثي لحال (البشرية) - البشرية التعسة المعذبة المتمثلة في هؤلاء الأبرياء الذين يفنون أنفسهم في سبيل المجتمع ويحيلون دماءهم حجارة يؤسسون بها صرح الأمة ثم لا ينالون أخيراً. . . بعض ما يستحقون!
أحب الألم يا صاحبي. . . حب الجبان للحياة. . . والأناني لنفسه. . . ولكنك لن تراني يوماً أتألم، فذلك سر خفي بيني وبين نفسي. . . وإنما ستراني دائماً وأبداً ضاحكاً مسروراً، مرحاً مبتهجاً بالحياة. . . لا تفارق الابتسامة شفتي. . . وإنما ستردد حنجرتي ضحكاتي الرنانة المعهودة!(857/33)
وما أعظم الألم. . . وأمتعه!
وما أقل من يدرك قيمته قيمته الحقا التي تزكي النفس وتطهر الروح من أدران الآم والأنانية والجشع والأطماع ثم تضفي على الباحث عنه عن الألم ثوب ملاك طاهر ومسوح نبي كريم!
ليتني أتألم دائماً. . . ليرتبط قلبي بالمجموع. . . ويتصل بالوجود بأواصر الرحمة القوية ورباط الحنان المتين. . .
بذلك أكون على اتصال دائم بالإنسانية المعذبة وأبنائها الأشقياء. . . وبذلك نكون شركاء في السراء والضراء. . . حتى يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه. . .
ابن الشراة
-(857/34)
نهاية شاعر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
سل الشاطئ الوسنان والطير والزهرا ... أحقاً فقدتِ اللحن والعطر والخمرا؟
أحقاً ثوى في نشوة الحلم شاعر ... على النيل كم غنى وكم رتل شعرا؟
أحقاً هوى من ذروة الأيك صادح ... وكانت به الأفنان حالمة سكرى؟
سل الشاطئ الوسنان والموج ضاحك ... تداعبه الأنسام ناعمة المسرى
وليلَ الندامى والكؤوس وكرمة ... معرّشة الأطراف والواحة الخضرا
وعُرساً جلته الفاتنات وزوَّقت ... مواكبه الدنيا فتاهت به كبرا
وشهباً أطلت تسكب النور فوقه ... وتنثر من أكمامها الماس والدرا
وطيراً كأحلام العذارى تلاغطت ... وما اتخذت إلا برفرفة وكرا
وغيداً ثقال الخطو زهواً وفتنة ... ودنيا من الآمال تستقبل البشرى:
أحقاً تثور العاصفات فتنطفي ... شموع ولم تبلغ طلائعها الفجرا؟
فيا لك عرساً مرّ كالطيف مسرعاً ... وغاب عن الآفاق إلا رُؤى الذكرى
طوته أعاصير الخطوب وأصحرت ... به وهو لمّا يمسح الطل والعطرا
سل الشاطئ الوسنان أولاً فخله ... وأحلامه والذكريات وما مرّا
فقد يرجع الملاح نشوان باسماً ... وقد ودع الأمواج والتيه والبحرا
مُنًى. . . يا لها نكباء جنَّ جنونها ... فهبت على النوتي محمومة كدْرا
وأهوت على القلع المهوّم فأنطوي ... من الأفق والمجداف قد شارف العبر
ولم تدر أن الزورق السمح مثقل ... بآمال قلب جازت العدّ والحصرا!
عروس القوافي غام ليلك وامّحت ... مساحب أذيال وريع الهوى ذعرا
وقد أصبح الريحان حولك ذاوياً ... ينوح أخاه الآس والزنبق النضرا
وغاب (عليٌّ) والنشيد وشعلة ... من الفكر في ظلماء قد سميت قبرا
وعاد الخيال العبقري قصيدة ... من الصمت تستوحي المجاهل والقفرا
كأن لم يكن بالأمس ترجيع مطرب ... ونغمة عود يسحر اللب والفكرا
عليٌّ. ودنيا الشعر بعدك راعها ... من الهول أن تستنطق الشوك والصخرا(857/35)
دعتك لليل الحائرين ويأسهم ... وللأمل المكلوم والمقلة الحسرى
وللعاشق اللهفان والشوق عارم ... وللقلب يصلي من تباريحه جمرا
وللأرغن النشوان يستشرف الربى ... ويسكب في أفيائها اللحن والسحرا
وللشرق تدعوه لكل جديدة ... وللغرب توليه المجنَّحة الغُرّا
شدوت على النيل الخصيب محلقاً ... ولحت على باريس تصطحب (النسرا)
وطوَّفت في الغرب البعيد فلم تدع ... هنالك سهلاً يستجيب ولا وعرا
ورافقت عيد (الكرنفال) مهموماً ... مع الليل و (الجندول) قد واكب النهرا
وسامرت (لوجانو) تداعب غيدها ... وغنيت (فينسيا) وشُطآنها الخضرا
وناجيت (كومو) والعرائس تلتقي ... عليها تذيع الحب والوصل والهجرا
وودعتها صديان إلا تعلة ... تسرِّي بها نفسك الألم المرا
ترانيم توحي الذكريات نشيدها ... وتمرح كالأنسام عابقة نشرا
فقالوا: أديب هام بالغرب واجتوى ... ربوعاً غذته الروح والدم والنجرا
وأغرته آفاق وغيد ونهزة ... من العمر لم يبرح بها واجداً مغرى!
وما علموا أن الخيال متى سما ... طوى بجناحيه العوالم والدهرا
عليُّ. وهذا الشعر نجوى تبثها ... نفاثات قلب عز أن يجد الصبرا
وجدتك حيناً تبعث اللحن راضياً ... فينساب عن ثغر تبسم وافترَّا
وآونة تزجيه حسران غاضباً ... وتنفث من أحشائك القطع الحمرا
فهل كنت في الأولى من الدهر بالغاً ... مسارب عيش سمحة النبع والمجرى؟
وهل كنت في الأخرى على شرّ مورد ... فأوسعت هذا العالم النظر الشزرا؟
عذرتك إذ تشكو الحياة ضنينة ... وتعرض عنها حين تعرض مزورا
وتنسى من التاريخ أحلام شاعر ... وتدفن في الأوهام عيشك والعمرا
وتستقبل الأيام لا بَرِماً بها ... فإن ضقت تلقاها بما يلهب الصدرا
فما أنت إلا الشاعر الحر قد أبى ... من الدهر ما لا يقنع الشاعر الحرا
علي وما أنسى من العمر ليلة ... صحبتك فيها باسماً كالندى ثغرا
وسامرت فيك الأريحي خلائفاً ... وصافيتني الطبع المهذب والبشرا(857/36)
وودعت إذ ودعتك القلب لم يجد ... على أحد أو يعرف اللؤم والغدرا
فيا لضريح ضم منك عوالما ... ودنيا وآمالاً وما جل أن يُطرى
فقدناك لولا الخالدات ولم تكن ... سوى روحك الخفاق يسترجع الذكرى
إليك رياض النيل والنيل مخصب ... يفيض على الشرق اللآلئ والتبرا
عزاَء القوافي الثاكلات وأنها ... دموع الفرات قد شاطرت مصرا
القاهرة
إبراهيم الوائلي
عودة الملاح التائه
بدنيا الفن ما للحزن شاعا ... وما للشعر ينفطر التياعا
وما لبحوره غاضت وكانت ... تذوب عذوبة وتشفُّ قاعا
وما لليأس يعصف بالقوافي ... وما للوحي يرتجف ارتياعا
كثكلى روِّعت بفراق ابن ... عليها أوقف العمر المُضاعا
وفيّ للأمومة لا يبالي ... أخسراناً جزتهأمانتفاعا
مآتم في مغاني الشعر ويحي ... وأي أسى عرا الوادي وذاعا
سألت فقيل (ملاح الليالي) ... تعجل عمره وطوى الشراعا
وعاد لداره تحنو عليه ... وتمحو الحزن والعلل والوجاعا
إذا عزّ الوفاء فلا دواء ... يجنبنا المكائد والنزاعا
سوى الأرض الحنون فكل عان ... سينعم حين تأويه اضجاعا
لقد عرك الحياة بجانبيها ... ومارسها انحداراً وارتفاعا
يصيبه الاضطهاد ولا يبالي ... ولا يرضى الخنوع أو الخداعا
إذا اعتنق المبادئ لم يخنها ... ليمتلك القصور أو الضياعا
توغل في النفوس فصاغ دراً ... وأبدع في نفائسه ابتداعا
وليس الشعر أوزاناً ولكن ... سمواً في المعاني واختراعا
تسرب في شعاب الوهم عمراً ... وكم من حالم في الوهم ضاعا(857/37)
وويح المرء من عبث الأماني ... إذا تبع المعاني واليراعا
آنسة
ق. ط. ع
مرسى الملاح
زورق حالم أغر ... نوره يخطف البصر
بدر العمر في سفر ... تائهاً ما له من مقر
في عباب بغير حد
أسكر البحر والعراء ... بالأغاني وبالحداء
واحتوى الظل في المساء ... والشعاعات في السماء
بجناحين من خيال
ساحر مشرق الصور ... إن تغنى وإن شعر
يترك الماء حيث مر ... جنة غضة الزهر
لم يطوف بها أحد
ساهم كله رجاء ... يتبع الموج حيث شاء
لا لغوب ولا عناء ... إن تبدت على الفضاء
بارقات من الجمال
ما شجى ربة البحَر ... في الزمان الذي غبر
مثله حينما عبر ... مائجاً هائج الذكر
يقذف الأفق بالزبد
طاف بالقطب ثم جاء ... في زماع بلا انتهاء
وقدة الفيظ والشتاء ... حول مجدافه دعاء
يجنح النجم حيث مال
كان لا يرهب الخطر ... أو يبالي بما بدر
عندما تسبح الفكر ... عندما يرقص الوتر(857/38)
كل أيامه بدد
أذعن اليوم للعناء ... واهتدى ركبة وفاء
عجباً أنه مراء ... قاهر البحر والفناء
يسلم الأمر للكلال
آه من صولة القدر ... آه من حسرة البشر
النبي الذي ظهر ... فجر آياته الكبر
لم يمتع بما وجد
آه من خيبة الرجاء ... كل آمالنا هباء
مزهر خالد الغناء ... دون أحلامه الوضاء
ترتمي قبضة الزوال
أين يا ربة البحَر ... أين ملاحك الأغر
أين من سحره بهر ... أين أمسى وأين قر
بات في شاطئ الأبد
محمد محمد علي السوداني
-(857/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ضريبة الكفاية:
تحدث رئيس الوزراء إلى مندوب الأهرام في مسألة شغل المنصب الكبرى الخالية فكان مما أفضى به قوله: إن ملء منصب مدير الجامعة الذي خلا بتعيين الدكتور شوقي بك وزيراً للصحة يقلق بالي. . . إن الكفاياتفي البلاد تبدو قليلة بل نادرة. . . وربما كانت الأنظمة القائمة في الدولة لها نصيب من المسئولية عن هذا الحال، فالمرتبات المقررة للمناصب الرئيسية المماثلة لمنصب مدير الجامعة لا تغري الكفايات بقبول شغلها ولا بالبقاء إلى النهاية فيها.
أثار انتباهي في حديث رفعة الرئيس صراحته في تقصير الدولة نحو ذوي الكفايات من حيث المكافأة المادية التي يستحقونها، وذكرت بذلك أعضاء مجمع محمد فؤاد الأول للغة العربية.
يظن كثير من الناس أن هؤلاء الأعضاء يتناولون مرتبات كبيرة تناسب فخامة هذه العضوية ومكانتهم في عالم الأدب والثقافة ولا شك أنهم يدهشون إذا علموا أن عضو المجمع يأخذ مكافأة شهرية قدرها تسعة جنيهات وقروش. . . يضاف إليها جنيهات يشترط ألا تزود على خمسة إذا عمل العضو في اللجان المختلفة فوق جلسة المجمع العادية، واللجان ومكافآتها تكون في أثناء الدورة فقط. . . ويعامل نفس المعاملة أستاذ الجيل معالي رئيس المجمع!
ومعاملة أعضاء مجمع محمد فؤاد الأول على ذلك النحو لا نظير لها فيما تنطوي عليه من غبن. ولسنا بحاجة إلى ذكر مرتبات أعضاء البرلمان فهي معروفة، ولندع البرلمان وننظر إلى هيئة علمية كجماعة كبار العلماء، فإن أعضاءها يتناول كل منهم ستين جنيهاً في الشهر والدولة لا تقصر في إثابة كبار موظفيها على جلسات اللجان المختلفة فهل ذنب أعضاء المجمع أنهم ذوو حياء. .؟ وهل تنظر الدولة حتى يؤلفوا من بينهم (رابطة) تقدم مطالبهم وتدافع عن حقوقهم؟ إنه يطلب من المجمع أن ينجز كثيراً مما بين يديه من المهام، ولكن لا يبذل للأعضاء الجزاء المادي الذي يوازي هذه المهام فكيف ينتجون بالمجان؟(857/40)
إن أعضاء مجمع محمد فؤاد الأول اختيروا من ذوي الكفايات في الآداب والعلوم والفنون، ولكي تجنى البلاد ثمرات الكفاية يجب أن تؤدي الدولة ضريبتها.
المرشحون المستقلون ومناهج التعليم:
نشرت جريدة الأهرام أن المرشحين لانتخاب مجلس النواب المستقلين اجتمعوا برياسة الأستاذ عبد الحميد عبد الحق باشا، ورأوا أن يضعوا لهم برنامجاً كبرامج الأحزاب. وعرض عليهم عبد الحميد باشا البرنامج الذي أعده ليكون عهداً على كل مرشح مستقل إذا ما نجح في الانتخاب، فوافق الجميع عليه، والذي يهمنا من هذا البرنامج هو المادة الثانية منه، ونصها: (جعل التعليم في جميع درجاته بالمجان مع تعديل البرامج تعديلاً يكفي لتخريج شبان مسلحين بالمعرفة الضرورية لاقتحام الحياة الحرة) هذا كلام طيب، فقد أصبحت مجانية التعليم من أماني البلاد في الإصلاح الداخلي، ولا ينبغي أن يشتري الكراث والبصل، كما قال الدكتور طه حسين. وحسنأيضاً أن تعدل البرامج التعديل المنشود، ولكن للمادة السابقة من برامج المرشحين المستقلين بقية هي: (وأن يضع هذا البرنامج رجال لأعمال لا موظفو وزارة المعارف)
ومعنى ذلك أن تلغى وزارة المعارف مراقباتها الفنية وتسرح رجالها، لتفسح المجال لرجال الأعمال من مديري المصانع ورؤساء (الورش) وغيرهم، كي يضعوا خطة التعليم، فتنشئ بديوانها (ورشة لتعليم اللغة العربية)،
و (معملاً لاستخراج المواد الاجتماعية) و (شركة تدير العلوم الطبيعية) وهكذا.
ولم لا وقد أخفق موظفو المعارف في وضع البرامج الكفيلة بتخريج شبان مسلحين بالمعرفة. الخ؟
ولماذا ننتظر حتى يفرغوا من تجاربهم وحتى تتطور إلى أحسن منها؟ وعلى ذلك يجب إجلاؤهم عن شؤون التعليم دون مفاوضة.
ولست أدري لم سكت برنامج المرشحين المستقلين عن الناحية الصحية مثلاً. أليست الصحة العامة على غير ما يرام؟ وكلنا يعلم حال المستشفيات وعدم العناية بالمرضى فيها، فلم إذن لا يتولى رجال الأعمال هذه الشئون بدلاً من الأطباء؟!
لا شك في أنهم يقصدون تغليب الناحية العلمية في التعليم والاستئناس بآراء من مارسوا(857/41)
الأعمال الاقتصادية، ولكن ليس معنى هذا أن التعليم كله اقتصاديات وصناعات، وأن يتولى الأمر غير ذويه. ثم أريد أناأيضاً أن أتدخل فيما لست من أهله، فأسأل وما أنا من المشتغلين بالسياسة كيف يكون المستقلون مستقلين وهم يتجمعون هيئة لها لجنة تنفيذية وبرنامج؟ أليس هذا شأن الأحزاب؟ وعلى ذلك نرى حزباً جديداً هو (حزب المستقلين!)
ليلة من ألف ليلة:
يعمل الآن الأستاذ زكي طليمات في إخراج مسرحية (ليلة من ألف ليلة) لتمثلها الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا الملكية ابتداء من أول ديسمبر الحالي. وهي مسرحية زجلية يتخللها غناء، فهي من نوع الأوبريت، كتب حوارها الأستاذ بيرم التونسي. ويرجع أصل هذه الرواية إلى رواية (قسمة) الإنجليزية التي ألفها المستر ادوارد كنبلوش ومثلت في لندن سنة 1914. وترجمت بعد ذلك إلى الفرنسية ثم ترجمها عن الفرنسية إلى العربية المرحوم خليل مطران باسم (القضاء والقدر) ومثلتها فرقة عكاشة في مسرح حديقة الأزبكية سنة 1920، وقام بالدور الأول فيها وهو دور (حسن الشحات) المرحوم محمد بهجت ثم أخرجتها الفرقة المصرية بعد ذلك باسم (حسن الشحات) وقام بالدور الأول حسين رياض. أما الرواية الزجلية فقد أجرى لها بيرم التونسي اقتباساً جديداً وكتبها بالزجل وأخرجها عزيز عيد ومثل فيها دور حسن الشحات. وأخيراً تناولها الأستاذ زكي طليمات فأضاف إليها قطعاً غنائية مندمجة في مواقفها وبه حولت إلى (أوبريت) وقد وضع ألحانها أحمد صدقي، وتغني فيها المطربة شهرزاد (في دور حسن الشحات) ويغني كذلك كارم محمود في أحد الأدوار. أما دور (حسن الشحات) فله قصة من مفاجآتها أن أعلن أن يوسف وهبي سيغني فيها. فقد عرض عليه أولاً أن يقوم بدور حسن الشحات ووافق عليه، ولكنه رأى أن الدور يحتاج جهد كبير وخاصة حفظ الزجل، وهو لا يريد أن يتعب نفسه في أدوار جديدة، فحسبه رواياته التي مثلها قديماً والتي لا تكلفه غير الاستذكار اليسير، وهو يقتصر على هذا الاجترار في النهوض بالمسرح المصري في هذا الوقت! وجعل يوسف وهبي يماطل ويتخلف عن حضور التجارب، حتى أدى ذلك إلى أزمة في الفرقة، وقدم زكي طليمات استقالته ثم عدل عنها بعد أن تم الاتفاق على أن يقوم بالدور فؤاد شفيق. وعلى ذلك صار يوسف وهبي لا علاقة له بهذه الرواية إلا أنه المدير العام للفرقة التي ستمثلها، وبهذا(857/42)
الوصف وحده ينشر الإعلانات بأنه يقدم (ليلة من ألف ليلة)! وأرجو أن أتمكن من مشاهدة المسرحية والكتابة عنها في الأسبوع القادم.
فلم الأسبوع:
هو فلم (أوعى المحفظة) الذي عرض أخيراً بسينما الكورسال وهو تأليف وإخراج وتمثيل محمود إسماعيل. . واشترك معه في التمثيل شكوكو وتحية كاريوكا وحسن فائق ولولا صدقي وآخرون. وتقع حوادث الفلم في مكان واحد هو فندق (إيزيس) فبعد أن رأينا سفرت (شكوكو) يبيع دكانه بخمسمائة جنيه، إذ أغراه بذلك عبده الإوّ (محمود إسماعيل) ليشترك معه في مغامرات السرقة والاحتيال، فبعد أن رأينا ذلك سريعاً في إحدى (الحواري) انتقل العمل بالفندق حيث نزل الاثنان وقد اتخذ عبدة الإو اسم صادق بك المواردي من رجال الأعمال، وظل الثاني على اسمه (سفرت) على أن يكون تابعاً له. ويلتقيان بالفندق بفتاة تتظاهر بالغنى والحسب، ثم يتبين أنها زميلة محتالة واسمها شناكل (تحية) وتنضم إليهما في العمل، ويتفق الثلاثة على سرقة ماسة ثمينة من أمير هندي نازل بالفندق، بوساطة شناكل التي اتصلت به. ثم يسيرون في الخطة الموضوعة حتى ينكشف أمرهم، وينكشف الأمير الهندي أيضاً عن زميل لهم محتال، وما الماسة إلا شيء مزيف.
ويريد المؤلف المخرج أن يخرج بالحوادث قليلاً عن الفندق، فماذا يصنع؟ ينصب في البهو مائدة القمار ويظهر عليها فتاة أنيقة (لولا صدقي)، ويستمر المؤلف المخرج في سيره فيجعل الفتاة الأنيقة (بنت الذوات) تتعلق بسفرت (البلدي) الأمي الذي يهجم على المائدة ليلعب بنصف ريال فيسخر منه الجميع ويهم صاحب الفندق بطرده. وللمخرج المؤلف في عقد هذه المحبة حكمة، يريد كما قلت أن يخرج الحوادث من الفندق قليلاً، وهو يشعرأيضاً أن الفلم اقترب من النهاية ولم يسمع المشاهدون غناء ولم يروا رقصاً؛ ولذلك كله عقد تلك الصلة ليخرج شكوكو مع الفتاة في سيارتها حتى يصلا إلى مكان قبيلة من الأعراب حيث ترقص هناك نبوية مصطفى وتغني سعاد مكاوي، ويشاركهما شكوكو.
وقد ظهر صادق بك المواردي يحاول التقرب من الفتاة المتظاهرة بالغنى، وهي كذلك، وانتهت المحاولة إلى المحادثة والمغازلة، وطال ذلك، ثم إذا هما يظهران التعارف الفجائي، فيعرف كل منهما الآخر علة أنه زميل قديم، فعلام كان كل ذلك العناء إذن؟ ولماذا لم(857/43)
يتعارفا من أول الأمر؟
وفي المنظر الأخير قبض على جميع المحتالين وسيقوا إلى السجن ماعدا سفرت مع أنه شارك في حوادث السرقة. . وللمؤلف المخرج في هذا أيضاً حكمة، وهي أن يظهر سفرت في مظهر البطل المحبوب الظافر بحب الفتاة الأنيقة بحيث يكون هذا حسن الختام! ولا شك أن القصة لا تشويق فيها ولا غاية لها، بل إن الفلم يعرض السرقة والقمار عرضاً إن لم يكن محبباً فيهما فهو غير منفر منهما. فلم إذن هي؟ المعتاد في أمثالها أن تحشى بما يسترها من نحو غناء أو رقص، ولكنا هنا لم نر إلا منظراً قصيراً جداً فيه رقصة بدوية تافهة وغناء غير مطرب، على أن هذا المنظر كان بمثابة رقعة في الفلم. ولست بحاجة للإشارة إلى فقر الفلم في المناظر فكل شيء يجري في الفندق حتى مله النظر، وانعدام الجمال حتى في الممثلات، فالفتاة التي قدمت على أنها أنيقة حسناء لا حسن فيها وفمها لا يفضل فم إسماعيل يس. . . وتحية كاريوكا لم ترقص!
والواقع أن الفلم قصد به عرض شكوكو. وشكوكو يكرر حركاته وكلماته المألوفة مثل (وحشة دي!) و (يا خرابي!) وقد أكثر من الكلمة الأخيرة أنها كانت تصلح اسماً للفلم بدل (أوعى المحفظة) إلا يكون المراد التحذير من أن ينفق شيء من المحفظة في مشاهدة الفلم. وليس هناك شيء ظريف غير حسن فائق الذي كان يمثل دور المخبر السري للفندق، وهذا الممثل يكون ظريفاً في الأدوار التي تلائم شخصيته وكان كذلك في هذا الدور، وإن كان الدور نفسه رقعة أخرى في الفلم. ومحمود إسماعيل ممثل قدير في أدوار الشر. ولكنه أحد الذين يأبون أن يقتصروا على ما يحسنون، فيعمدون إلى التأليف والإخراج ليجمعوا الفن من أطرافه!
عباس خضر(857/44)
البريد الأدبي
يسطون على أدب الزيات ثم لا يخجلون!
بالأمس سطا الساطون على أدب الزيات في لبنان، واليوم يسطون على هذا الأدب مرة أخرى في العراق. ولمن اللص العراقي الفاضل لم يكن في سطوة من اللصوص الشرفاء. ولو كان منهم لتناول قلمه وراجع ضميره وكتب كلمة يرد بها على ذلك المقال الذي زف إليه مجداً أدبياً هو بريء منه، لأنه مجد أدبي زائف، ترفع عن زيفه الغطاء! أما ذلك المقال فقد نشرته جريدة (النهضة) العراقية بعددها الصادر في 16 تشرين الثاني سنة 1949 بقلم أديب حرم نعمة الإطلاع فأندفع قلمه بغير زمام. . . هذا الأديب هو السيد خالد ياسين الهاشمي الذي راح يؤكد لقراء (النهضة) أن هناك مقالاً نشر في غضون عام 1948لأديب عراقي اسمه عبد الخالق عبد الرحمن تحت عنوان (يوم الهجرة) فيلا جريدة (النداء) العراقية وأن هناك فقرات قد نقلت بنصها وفصها من هذا المقال إلى مقال آخر كتيه الأستاذ الزيات في العدد (752) من (الرسالة) تحت عنوان (من وحي الهجرة) وهو العدد الصادر في 31 أكتوبر سنة 1949. . . أما هذه الفقرات فهي (كان يوم الهجرة تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغي على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز) و. . . (حمل محمد رسالة الله وهو فقير ضعيف، وحمل أبو جهل رسالة الشيطان وهو غني مسلط فحول مكة المشركة جبلاً من السمير سد على الرسول طريق الدعوة فكان يخطو على أرض تمور بالفتون وتفور بالعذاب وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبي لهب بالأذى والهون والمعاباة والمعارضة، وكل قرشي كان يومئذ أبا جهل وأبا لهب إلا من حفظه الله. وأفتن كفار مكة مشركو الطائف في أذى الرسول فعذبوه في نفسه وفي أهله وفي صحبه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لأن ولا تردد، وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في دار الندوة فقرر القتل، وتدخل الله بروحه في (غار الثور) فقدر النجاة). بعد هذا قال حضرة المطلع الكبير السيد خالد الهاشمي: أن هذه الفقرات وردت في مقال عبد الخالق عبد الرحمن في العام الماضي، ثم وردت بنصها وفصلها في مقال الأستاذ الكبير الزيات في هذا العام. . . ثم عقب على هذا الاكتشاف الخطير بقوله:(857/45)
(ولو كان حديث الأستاذ الكبير الزيات قديم عهد بالنشر لجاز لنا اتهام الأستاذ عبد الخالق عبد الرحمن بالسطو والسرقة، ولكن هل سطا الأستاذ الكبير على مقال عبد الخالق، أم أن ذلك من توارد الخواطر)؟
ونحن نقول لحضرة المطلع الكبير إن حديث الأستاذ الزيات قديم عهد بالنشر، فقد ظهر في (الرسالة) منذ أعوام. . . ولو كان حضرته من الذين يقرئون لعلم أنه قد كتب في عدد الرسالة الممتاز الصادر في 3 مارس سنة 1941 تحت عنوان (يومان من أيام الرسول)، وقد اقتبس الأستاذ الزيات هذه الفقرات من مقاله القديم ثم ألحقها بمقاله الجديد. أما المقال القديم فيستطيع من لا يملك العدد الذي ظهر فيه أن يطلع عليه في المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة) ص262 ومعنى هذا يا حضرة المطلع الكبير أن السيد عبد الخالق عبد الرحمن لص، ولكنه ليس من اللصوص الشرفاء على كل حال، فلو كان منهم لكشف عن وجه الحق حين قرأ مقالك العظيم، ولكنه سامحه الله آثر أن يرتدي أثواب مجد زائف في طويا الظلام.
إنني أرد بهذه الكلمة على حضرة المطلع الكبير لأنه خصني بالحديث في بداية مقاله، بمناسبة تعرضي لمن سطا على أدب الزيات في لبنان. . . وإذا كان لي من نصيحة أوجهها إليه فهي أن يتعلم. . . قبل أن يتهجم!!
وللأديب العراقي الفاضل السيد توفيق نعوم الذي بعث إلي بمقال حضرة المطلع الكبير طالباً إليَّ أن أعقب عليه، خالص الشكر وعاطر التحية.
أنور المعداوي
أخي الابياري:
عرفتك نافذ البصيرة لامع البصر، فلا غرابة أن تقرأ ترجمة كتاب النفس لأرسطو ثم تكتب عنه كتابة العارف، وقد امتلأت يداه من الموضوع، فحرك القلم، وجرى بالفكر على صفحات الورق. كأنك قد ملكت العنان، حتى خيل إليك أن جمهور القراء قد عرف ما عرفت، وملك ما ملكت.
وتوقعت كما توقع الناس معي أنك سوف تكتب عن الكتاب كما رثيت الشاعر، ولكنك(857/46)
آثرت التبيين، فحمدت وحمد الناس لك هذا البيان.
وقد اختلفت مذاهب القوم في النقل، أيكون ذلك عن القديم الخالد أم الجديد الحي النابض، فنقلوا عن سوفر كليس كما نقلوا عن جيته، وليس بين القوم خلاف لأن القديم والجديد متعلقان بما يكون ويفسد، ويولد ويموت، ويظهر ويزول؛ أما روائع الفكر فإنها تخرج عن دائرة الزمان وتتصف بالخلود. وكتب أرسطو خالدة على الزمان، وكتابه في النفس من أخلد آثاره وأشدها تجدداً مع تجدد الأيام.
قال في النفس كلمته، وزعم ان النفس صورة الجسم، وتناقل الشراح كلامه وزادوه تفسيراً، وتعددت المذاهب من لدن أفلاطون والمشائين إلى وليم جيمس وبرجسون، فهل حل القدماء مشكلة النفس أو كشف المحدثون عن أسرارها؟
لقد خيل إليّ وأنا أقرأ كلمتك أنك مطمئن إلى رأي المعلم الأول: ولا عجب فهو صاحب المنطق ومبدع القياس ورب الجدل. ثم قلت لنفسي: كيف استطاع اللغوي أن ينفذ إلى أسرار النفس، وكيف عرف الأديب حقيقة أمرها، وقد خفيت عن مؤثر الحكمة طالب المعرفة.
الآن عرفت السر. فأنت صاحب بيان، كهذه طائفة التي ظهرت في بلاد اليونان تعلم هذا الفن للناس يؤثرون به في العقول ويخلبون الألباب. والبيان سر يخفى على الشرح والبيان. وقد قيل بحق (إن من البيان لسحراً). وقالت العرب تصف الأديب إذا نثر، والشاعر إذا نظم الدرر: أنه حلو النفس. وقالوا أيضاً. طويل النفس وقصيرة، كما قالوا: هذا الشاعر عنبري الأنفاس.
وهل الكلام من جنس الطعوم والمشمومات حتى يوصف بهذه الأوصاف ويحمل على محمل المحسوسات؟
وأنت تعلم أن الأديب من باب المعاني وعالم الروح، فكيف يقال نفَس الأريب. أم تُراهم حين عجزوا عن التعبير نزلوا إلى التشبيه، واصرفوا عن التنزيه؟
أم النفْس بالسكون من النفَس بالفتح، فانتهت الحركة إلى السكون؟. . .
ومن غرائب اللغات وأسرارها توافق معنى النفس في اليونانية والعربية. فأصلهما في اللسانين مادي ثم أصبح من المنقول.(857/47)
ولكننا نعرف النفس لأننا نشم عبيره، فكيف السبيل إلى إدراك النفس، وما معنى نفَس الأديب؟
أحمد فؤاد الاهواني
إلى الأستاذ الديدي
قرأت مقالك عن الحرية وأعجبت به لما صادف في نفسي من المجاوبة والاتفاق في الرأي. وكنت قد قرأت لك قبل ذلك مقالاً آخر عن الفلسفة الوجودية. وأحسن أن يكون من المفيد لي ولقراء الرسالة الغراء أن تعرض لموضوع الحرية مرة أخرى من وجهة نظر المذهب الوجودي أولاً، وأن تكشف بوضوح عن الرابطة التي تصل بين الحرية والجهل ثانياً حتى تتأيد نظريتك بالتحليل والتعليل الكافيين. وتفضل بتحية المعجب.
(كلية البوليس الملكية)
طاهر الكراني
ليست آخر ما نظم:
نشرت جريدة (الأهرام) الغراء في عددها الصادر صبيحة
الأحد 27111949 قصيدة عصماء من درر فقيد الشعر
المغفور له (علي محمود طه) عن محمد علي الكبير مطلعها:
من هذه الروح وهذا الجبين ... يضيء في مصر منار السنين
وقد قدمت صحيفتنا الكبيرة هذه القصيدة بهذه المقدمة: (نظم الشاعر الكبير علي محمود طه هذه القصيدة وهو على فراش مرضه، وقد أتمها قبل موته بيوم واحد (كذا) وكان قد أعدها ليساهم مع البلاد في الاحتفال بالذكرى المئوية لوفاة منشئ مصر الحديثة ساكن الجنان: محمد علي الكبير).
غير أن الذي أعرفه وكان يجب أن تعرفه الصحيفة الكبيرة على وجه التخصيص أن هذه القصيدة ليست آخر ما نظم الفقيد الكبير (بيوم واحد). ولكنها قصيدة قديمة في حساب(857/48)
السنين تبلغ من الزمن عمر ديوانه الثالث (زهر وخمر) الصادر في عام 1943
(صارو)(857/49)
القصص
الأغلال أقصوصة عراقية
للأستاذ شاكر خصباك
- انظري إلى ذلك الحمال يا سعاد. . . أنه يتعقبنا على دراجته شأنه كل يوم.
قالت رفيقتي إحسان هذا وهي تشير إلى الحمال الذي اعتاد أن يستقبل أفواجنا كلما غادرنا المدرسة. فقلت في عدم اكتراث دون أن أحول إليه أنظاري: ما لنا وله؟!
فنظرت إلى زاوية عينيها وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة. فجأة اشتد ضجيج جرس دراجته وراءنا، فالتفتت إحسان خلفها في حركة سريعة، ولكنني لبثت متجهة بأنظاري إلى الأمام دون أن تطرف عيناي. ومرت لحظة خيل إلي أنها قاربت الساعة والجرس يواصل صخبه، ثم رأيت الحمال ينطلق بعجله أمامنا فتبعته عيناي في حنق وغيظ، وتناهى إلى صوت إحسان كريهاً ثقيلاً وهي تسألني متخابثة: ألم تلاحظي شيئاً على هذا الحمال يا سعاد؟
فأجبتها في صوت حاولت أن يكون هادئاً: كلا مالي وله؟! لماذا يجب أن ألاحظ أمثاله؟
فندت عنها ضحكة مثير وأجابت بلهجة خبيثة: من الغريب أن يخفى عليك غرض تلكؤه المريب.
فهتفت في خشونة: ما هذا الكلام السخيف؟! أمكلفة أنا برصد حركات كل من يمر بي في الطريق؟! هذا شأنك دائماً. . . تشغلين نفسك بالتوافه.
فالتفتت إلي في استياء وهتفت في تحد: بل إنك تتظاهرين بعدم الفهم. إن ذلك الحمال يحبك ما في ذلك، وما حضوره ساعة انصرافنا من المدرسة إلا ليراك.
وصمتت لحظة ثم واصلت القول وهي تضحك في سخرية: إلا ليراك من دون الطالبات جميعاً!
فصحت في وجهها بلهجة ثائرة: هكذا أنت دائماً. . تحسدين غيرك من الفتيات. حسناً، إنني جميلة محبوبة وكثير من الفتيان الممتازين يعجبون بي أراقك ذلك أم لم يرقك، ولن تجديك السخرية السخيفة نفعاً.
ثم ألقيت عليها تحية الانصراف في غضب وابتعدت عنها موسعة الخطى. وحين بلغت(857/50)
الدار وصفقت الباب ورائي تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئاً عن كاهلي. وتناولت طعام العشاء بدون شهية وذهني مشتت تائه، ولما أويت إلى الفراش واستعرضت حوادث النهار غمرتني آلام عنيفة حادة. وأغمضت عيني محاولة إبعاد صورة الحمال عن مخيلتي، لكنها ظلت تتراءى لي في بشاعة، بدوي جرس دراجته كأنني في سوق الحدادين.
استيقظت في الصباح منقبضة الصدر واهنة القوى، وتبدت لي المدرسة شبحاً مفزعاً مخيفاً. ولم أستطع طوال ساعات الدروس أن أرفع أنظاري إلى إحسان شأن من ارتكب فعلة منكرة تورده موارد الخجل. وما أن أعلن الجرس انتهاء الدروس حتى اجتاحني شعور بالضعة والهوان. وتمنيت من صميم قلبي لو أن (الفراش) سها عن دق الجرس ودعا الدرس الأخير يمتد بنا ساعات أخر. كنت أود أن أتجنب رؤية الحمال بأي ثمن كان، فقد كان يتمثل في ذهني فأحس بالاشمئزاز وتتملكني رغبة في الفرار والاختباء عن الأنظار.
حاولت أن أختفي عن عيون رفيقاتي حالما اجتزت باب المدرسة فأسرعت الخطو وأنا ألتفت حولي في خجل وحدة وعذاب. وكان الحمال يتعقبني بدراجته تارة يدنو مني وأخرى يبتعد عني. ولمحت عامر يمشي في موكب من زملائه الطلاب بطلعته البهية ولباسه الأنيق، فهممت أن أجري إليه وأحتمي به، ولكن سرعان ما تذكرت أنني لست سوى معجبة خجولة لا يعرف عنها أي شيء. فعضضت على شفتي في خيبة يمازجها الغيظ، وتابعت سيري في عجلة وارتباك وأنا أغمغم في حسرة: يا للحظ العاثر!
ذاعت قصة غرام الحمال بي وتلقفتها ألسنة زميلاتي بالتهليل والترحيب، فلا بد لألسنتهن أن تثرثر في موضوع ما. ولا يداخلني شك أن إحسان قامت بالنصيب الأوفر في نشر القصة، لا سيما وأن علاقتنا انفصمت عراها إثر ذلك اليوم. ولم يكن بوسعي أن أحتمل البسمات الغامضة التي أخذت ألمحها على شفاء زميلاتي، أو أن أطيق النظرات الساخرة التي بدأت أقرأها في عيونهن، وكم تمنيت لو تنشق بي الأرض وتبتلعني حين يعلن الجرس أوان الانصراف وتنطلق أفواجنا إلى الشارع، فتتأهب زميلاتي للتمتع بمنظر الحمال العاشق. كنت أحس أنني أوشك أن أذوب خجلاً وذله ومهانة. وكنت أضرع إلى الله أن يقع له حادث. . . حادث يعوقه عن الحضور. لكنه ظل يواظب على الحضور في الموعد المعين كل يوم كأنه المتدين يؤدي الصلاة في ميقاتها! ولم يكن باستطاعتي أن أتخذ(857/51)
أي إجراء ضده لأنه لم يتحرش بي أبداً. ولكن أعصابي بلغت من التوتر ذات يوم حداً عنيفاً، فلم أشعر إلا وأنا أنفجر صائحة في وجهه حين اقترب مني بدراجته: (ألا تكف عن ملاحقتي وتنقذني من شكلك القذر ودرّاجتك الكريهة؟!) فاصفر لونه واحمر، وانسل بعجله في هدوء دون أن يتفوه بلفظ واحد! وكانت عيناه تلمعان ببريق كئيب وشفتاه ترتجفان في انفعال شديد!. . .
وأقبل اليوم التالي وإذا بالمشهد يفقد إحدى عناصره ولأول مرة، وهو دراجة الحمال! وشعرت بسرور وارتياح مشوبين بقلق خفي. وخيل إلي أنني تخلصت من مرآه نهائياً، ولكن سرعان ما تبدد ظني، إذ لمحته منزوياً وراء إحدى أعمدة الشارع فأحسست بقليل من الكدر. وكان على غير عهده، يرتدي جلباباً نظيفاً وسترة جديدة، وينتعل حذاء لماعاً، ويضع فوق رأسه طاقية مزركشة وكان وجهه نظيفاً كمن اغتسل منذ برهة وجيزة وما كاد نظره ينالني حتى انطلق يحدق في كالمأخوذ. ولم أستشعر لنظراته وقعاً شيئاً كالذي كنت أحسه من قبل، بل خالجني شعور من يقع بصره على مشهد يبعث على الشفقة والرثاء. ولكن هذا الشعور لم يدم طويلاً، فقد عاودني في الأيام التالية الإحساس بالغيظ والحنق كلما مررت به في ركنه المعهود، ولمحته منزوياً في ترقب وشوق. وكنت أصمم كل يوم على الامتناع عن ملاحظته حين مروري بموضع انتظاره، ولكن عيني كانت تنجذب إلى تلك الزاوية بالرغم مني. واسفزني هذا الحال أشد الاستفزاز فعقدت العزم على ارتداء النقاب. ومع أن فضول زميلاتي في مراقبته كان قد فتر غاية الفتور حتى لم يعدن يأبهن لأمره، لكن رغبة شديدة ألحت بإخفاء وجهي! ولا أدري كيف فشلت في قهر تلك الرغبة مع أنني كنت على رأس الطالبات الثائرات على الحجاب، بل الداعيات إلى نبذ العباءة لا البرقع فقط. وقلت لنفسي في شيء من العناد والتشفي وأنا أبارح المدرسة والبرقع يحجب وجهي لأول مرة: (لن يستطيع أن يراني بعد الآن). وصح ما توقعته، فقد مررت به وهو منزو بركنه المعهود فلم يعرني التفاتاً، ولبث يبحث عني بين الطالبات بعينين مشوقتين.
ويبدو أنني أثرت قلقه يتصرفي الجديد. إذ برز في اليوم التالي من ركنه المعهود وظهر على الرصيف وهو مسند الظهر إلى العمود الضخم. وكان يفحص أسراب الطالبات بوجه متقلص العضلات وعينين مضطربتي النظرات. وأحسست بالسرور والارتياح حين(857/52)
مررت به ورأيته جاداً في البحث عني بين فئات التلميذات دون أن يعثر لي على أثر.
مررت أيام ثلاثة على ارتدائي النقاب والحمال ملازم لموضعه على الرصيف يتفحص وجوه الطالبات في قلق ولهفة وكنت قد اعتدت على النقاب بعض الشيء خلال تلك الأيام بعد أن كابدت في اليوم الأول من تطفله على وجهي أشد الضيق وأحسست أن أنفاسي تكاد تختنق. وفي ظهيرة اليوم الرابع حدث ما لم أكن أتوقعه، فما كدنا نتدفق من باب المدرسة كالسيل حتى فوجئت به فوق عجلته وقد عاد إلى زيه القديم؛ فبدى قذر الملابس عاري الرأس حافي القدمين! ومضى يخترق أفواجنا في تئن وهو يتمعن في وجوه الطالبات في اهتمام. وكان يصل إلى الرأس الشارع فيقفل راجعاً إلى باب المدرسة، ثم يعاود السير إلى رأس الشارع ثم يعود من حيث بدأ، إلى أن احتجب عن بصري. وغمرتني فوره من العواطف المتضاربة، وأنا أرقبه يروح ويجيء فوق عجلته والمرارة تفيض من قسماته. وأحسست بلذة يشوبها كدر وارتياح يعكره قلق مبهم.
ورأيته ساعة العصر وهو يتجول بين جموعنا في خيبة وقنوط والكآبة تغلف ملامحه بغشاء كالح. وكنت متجهة إلى الدار وأنا خالية الذهن من أية فكرة معينة. لكنني أحسست بغتة برغبة قوية في اقتفاء أثره. ولم أتردد في تحقيق تلك الرغبة طويلاً، إذ شرعت أتلكأ في السير حتى أصبحت في أعقاب الطالبات. وتسنى لي بذلك أن أرصد حركاته في حذر واحتراس. فما أن أيقن من خلو المدرسة من التلميذات حتى عاد أدراجه يسوق عجلته في يأس وخذلان. وبلغ دكان لكراء العجلات مترجل من عجلته وسلمها لصاحب الدكان بعد أن نقده مبلغ من المال. وسلك الشارع المؤدي إلى (ميدان الشرطة) فتبعته عن قرب والخوف والوجل يشداني إلى الوراء في حين تدفعني رغبة عارضة إلى الأمام. انتهى به المسير إلى الفسحة الممتدة أمام سوق البقالين فعرج على ناصية الشارع المجاورة لمركز الشرطة وجلس إلى نفر من الحمالين الذين اعتادوا أن يتخذوا تلك الناحية مركزاً. وتوقفت بالقرب من دكان بقال بجانب الناصية متظاهرة بالرغبة في الشراء بينما انطلقت عيناي تدوران في المكان. وناوله أحد الجالسين عدة العمل وسأله: (ألم ترها!؟) فهز رأسه في خيبة ومرارة دون أن ينطق حرفاً. فأندفع آخر ذو أنف معقوف كمنقار البومة وبنيان متين كالفيل يقهقه في سخرية لاذعة، فسأله في خشونة وهو مقطب الجبين: علام تضحك؟!(857/53)
فأجابه ذو الأنف المعقوف في استخفاف: على جنونك يا حسن. ألا يدعو حالك إلى الضحك؟! أية ساعة نلقاك نجدك عابس الوجه مكتئب القسمات برم الحياة، لماذا؟! لأنك تحب تلك الفتاة. .!
فسأله بصوت أجش: وماذا في ذلك؟! أليس من حقي أن أحب؟! ألم يخلقني الله كما خلق أولئك الشبان المتأنقين الذين يحل لهم الحب؟! كلما هنالك من فرق بيننا أن الله رماني في أحضان أب معدوم فاضطررت أن أشتغل حمالاً لأكسب لقمة العيش، بينما خص أولئك الشبان بآباء أثرياء يرسلونهم إلى المدارس ويكسونهم بالحلل الغالية. . وإن لله حكمة في خلقه!
فهتف ذو الأنف المعقوف بلهجة ساخرة: كفى تفلسفاً وكفراً فنحن نعترف أن من حقك أن تحب، بل وتحب تلميذة جميلة من بنات الأثرياء! ولكن، أفتظن يا قيس أن ليلاك ستتنازل يوماً وتجود عليك بنظرة أو ابتسامة؟!
فقاطعه في انفعال: اسمع يا جاسم. لا تتدخل في شئوني. أنا أدرى منك بما أفعله.
فأستطرد ذو الأنف المعقوف بقول في تهكم: طبعاً أنت أدرى بشئونك. . . لذلك أحببت تلك الفتاة!. . . حمال يحب فتاة مثقفة غنية. . .!
وسكت برهة ثم صاح في هزء كمن تذكر أمراً: اسمع يا قيس. إنني مستعد لمراهنتك على أن ليلاك قد اختارت لها صديقاً من طلاب المدارس كما هو شأن معظم التلميذات.
وكنت أترقب النقاش بنفسي متوثبة وقلب سريع الخفقان، فتملكني الغيظ حين نطق ذو الأنف المعقوف بعبارته الأخيرة، ولكن سرعان ما اهتزت جوانب نفسي بسرور عظيم عندما شاهدت حسن يقفز إليه في جنون ويمسك بخناقه وهو يصرخ هائجاً: لا تدنس اسم هذه الفتاة بلسانك القذر. . . لا تدنسه. . . لا تدنسه. . .
فسدد إليه ذو الأنف المعقوف لكمة ألقته على الأرض، واشتبك الاثنان في معركة حامية في حين بدأ الناس يجتمعون حولهما يحاولون فض المعركة، فانسللت في طريقي ونفسي نهب لعواطف الخوف والألم والإشفاق.
أقبل الليل. .
وجلست إلى كتبي لمذاكرة دروسي. محال أن أفهم شيئاً وذهني يعج بهذه الصور. دراجته(857/54)
الحزينة تخترق صفوفنا في ملل. . عيناه المتفجرتان أسى تتصفحان وجوه الطالبات في لهفة وإعياء. . ذو الأنف المعقوف وضحكاته الساخرة الكريهة. . المعركة العنيفة التي اشتبك فيها الاثنان! ويئست من استيعاب صفحة مما أقرأه فأطبقت الكتاب في ضيق وقمت إلى سريري.
اضطرب نومي بأحلام تارة أراه في صور كريهة تثير في قلبي الحنق والاشمئزاز، ويهم بالقبض على ذراعي فأنفلت من يديه مذعورة، وأركض أمامه خائفة وجلة وهو يعدو ورائي وزميلاتي يقفن على طول الطريق وهن يرمقنني هازئات. وطوراً يتمثل لي شاباً أنيقاً يرتدي السترة والبنطلون، ويغادر مدرسة البنين الثانوية المجاورة لمدرستنا في موكب من رفاقه المتأنقين، وهو يسير بينهم رافع الرأس شامخ الأنف، وأمر بالقرب منه أنا وزميلتي إحسان، فيلتفت إلي في اهتمام ويستقبلني بنظرات تفيض بالهيام. فتثير تلك النظرات في قلبي أعذب المشاعر وأحلى الأحاسيس. وحيناً أراني واقفة في أرض خضراء واسعة أتطلع إلى الأفق البعيد، وفجأة يبرز إلي وهو يمتطي صهوة جواد جميل، فينتشلني من الأرض ويردفني وراءه، ثم ينطلق بنا الجواد خبباً ونفسي تهتز نشوة وطرباً.
واستيقظت في الصباح متأخرة عن ميقات يقظتي اليومي. الصداع يلهب رأسي والضيق يكاد يكتم أنفاسي. وتناولت فطوري في غير شهية، وقصدت المدرسة وأنا منقبضة النفس حزينة المشاعر. تلقيت الدروس ضجرة متبرمة، ولما دق جرس الدرس الأخير زايلني بعض ما أحسه من ضيق وانقباض، وبادرت إلى الخروج وأنا أتوقع أن أرى حسن فوق دراجته يخترق الصفوف، ولم يكن ليزعجني التوقع تلك اللحظة، بل أحسست نحوه بشيء من الرضا والاطمئنان. ولشد ما ذهلت حين قطعت معظم الشارع دون أن يبدو له أثر. واستولى علي استغراب شديد يمازجه شعور بالاستياء والقلق، وظللت سائرة في خطي مضطربة وأنا أتلفت حولي طول الطريق، متوهمة في كل صوت عجلة تدرج ورائي. واكتسبت أذناي في تلك الدقائق قوة مدهشة، فكنت أنتبه إلى أدق صوت، بل لعلني كنت أتخيل سماع بعض أصوات وهمية. ومع ذلك فقد بلغت الدار دون أن يلوح لدراجته ظل. . .!
انتظرت فترة العصر في لهفة لا تطاق. وكنت خلال ساعات الدرس أحدق في ساعة(857/55)
معصمي بين لحظة وأخرى متأففة متململة كأنني أستحث عقاربها على الإسراع. وما أن طرق سمعي رنين الجرس حتى قفزت نحو باب الصف في رعونة أثارت استغراب معلمة التاريخ التي تعهد في الرزانة والتعقل، لكنني لم أعبأ بدهشتها، وهرعت إلى الشارع ما اجتاحني موجة عارمة من المشاعر زاخرة بالمرارة والامتعاض والخذلان حينما ألفيت الشارع خالياً من دراجته، وصاحبتني تلك المشاعر الخانقة طيلة اليوم.
مضى أسبوع دون أن يبدو لحسن أثر: وكنت أثناء أيام الأسبوع أتوقع رؤيته في شغف كلما غادرت المدرسة في فرصة الصباح والمساء، وما أن يخيب ظني حتى يمتلأ كياني بأحاسيس يمتزج فيها الضيق بالأسى والثورة بالحنق. وتصارعت الأفكار والهواجس في رأسي كل منها يعزو غيابه إلى سبب. وكنت أجزم أحياناً بأنه في السجن يتحمل عقوبة المعركة. ثم أعود حيناً آخر فأعتقد أنه في المستشفى يداوي الجراح التي ألحقتها به المعركة. وحيناً ثالثاً أنقض ذينك الخاطرين ويعجزني ارتباك الخيال عن افتراض سبب معين!
وفي الليالي الثلاث الأخيرة من الأسبوع لفت نظري ظاهرة جديدة تحت نافذتي. فمن عادتي أن أفتح نافذة غرفتي المطلة على شارع عرضي وأمدِّ رأسي في الفضاء بضع دقائق لأملأ رئتيّ من هواء الليل العذب قبل أن أتهيأ للرقاد وبعد أن أفرغ من استذكار دروسي. فكان نظري يقع على شبح شخص يتحرك في تسكع. وبما أن مصباح الشارع الكهربائي بعيد عن دارنا فإن الظلام يغمر هذه البقعة فلا يسعني أن أميز شكل من يدخل في نطاقها. وخمنت للمرة الأولى والثانية والثالثة أن هذا الشخص عابر سبيل لكنني ما عتمت أن أيقنت أن تسكعه تحت نافذتي عن قصد وتعمد. وما أن رسخ في ذهني هذا الاعتقاد حتى أصبت بنوع من الهوس، فكنت أطل على الطريق في الليالي الأخيرة بين ساعة وأخرى فألحظه يتحرك تحت النافذة في نفس الموضع. وكان يتوارى عن أنظاري كلما أبرزت رأسي. وعجبت لحاله. . . من يكون؟! وماذا يعني سهره تحت النافذة؟! ولماذا يحاول الاختفاء عن عيني؟!
ولطالما ارتددت عن النافذة وتحولت إلى المرآة أتملىَّ فيها مفاتني. . . لا شك أنني رائعة الجمال. . . عينان سوداوان واسعتان. أنف صغير جميل. شعر أسود وحف ينسدل على(857/56)
كتفي كالحرير. قامة شامخة مغرية بخصرها الدقيق وصدرها الناهد. ثم هذه النقرة اللطيفة التي تبدو في وجنتي كلما افترت شفتاي عن ابتسامة صغيرة وصحيح أنني سمراء، لكن لوني خمري كما يقول الشعراء.
وكانت تلك الأفكار تبعث في قلبي نشوة هادئة، لكنها لم تكن لتصرفني عن أمر هذا العاشق الجديد. فكنت أنفق الساعات وأنا أنقد تصرفاته. وكنت أحدس أحياناً كثيرة أنه حسن نفسه. لكن ميلي إلى الاعتقاد أنه إما يكون طريح المستشفى أو يكون السجن كان يضعف هذا الحدس.
مرت أيام ستة على هذا العاشق الجديد وهو مقيم على عهده، يروح ويجيء تحت نافذتي كل مساء. وبينما كنت عائدة من المدرسة عصر اليوم السابع انحرف نظري ت على سبيل المصادفة إلى عطفة مهملة بالقرب من المنزل كنت أرفع البرقع في العادة حين أتجاوزها، وإذا بي ألمح حسن قابعاً فيها. وخفق قلبي في شدة وعنف، وساد الارتباك مشاعري واضطربت حركاتي، فحولت عنه عيني سريعاً، وأوسعت خطواتي حتى كدت أهرول. ولما بلغت الدار ارتقيت السلالم وثباً واتجهت إلى مخدعي من فوري واستلقيت على الفراش وأحاسيس النشوة والفرح تجيش في صدري. وتمثل لي شبح العاشق الجديد وهو يخطو تحت النافذة في تلكؤ، فوجدتني أجزم بأنه حسن نفسه. . . بقامته الفارعة وكتفيه العريضتين وملامحه القوية الصارمة، وإن له قامةطويلة حسن العبلة وإن لم تبن قسمات وجهه.
وما أن أسدل الظلام أستاره حتى هرعت إلى النافذة فرأيت الشبح يتحرك بعيداً مختفياً عن أنظاري، فارتددت عن النافذة.
وتهافتُّ على المقعد صامتة. لكنني ما عتمت أن قفزت على قدمي وأنا أحس كأنني حبيسة وراء جدران ضخمة. وانطلقت أذرع أرض الغرفة بخطوات سريعة مضطربة وأنا أرزح تحت وطأة رغبة جارفة في الخروج إلى الشارع. وضجت بتلك الرغبة مشاعري واختنق صدري بصراخها فأدركت أنني أقاومها عبثاً. وارتديت ملابسي على عجل. وأستاذنت أمي في زيارة زميلة لغرض يتعلق بالواجب المدرسي. رددت باب الدار خلفي وقلبي يسرع في دقاته وأعصابي ثائرة ونفسي متوثبة، وانعطفت وراء المنزل وسلكت رأس الشارع الثاني،(857/57)
ثم ظهرت أمام العاشق الجديد فجأة بحركة مباغتة. كان حسن نفسه بلحمه ودمه وهو منكمش تحت النافذة. ورفعت البرقع عن وجهي وأنا مفترة الثغر عن بسمة رقيقة، ولبثت بضع لحظات أحدق في وجهه بنظرات تنبض باللطف والإغراء وانتابه حالة من الذهول الشديد، فجمد في موضعه وهو متسع العينين دهشة، فاغر الفم في بلاهة وتبلد كمن لا يفهم لما يراه معنى. ثم واصلت سيري بخطوات متمهلة وأنا أتلفت ورائي بين لحظة وأخرى كأنني أدعوه إلى تعقبي. وابتعدت عنه وهو ثابت في وقفته كالتمثال، وكدت أيأس من استجابته للفتاتي ثم رأيته يتحرك فجأة في ذهول كأنه واقع تحت سلطان قوة خفية. وغاب دارنا عن أنظاري بين المنعطفات التي اجتزتها، ودخلت درباً يكاد يكون مقفراً من السابلة، وحسن لا يزال يتبعني بخطوات بطيئة مترددة، وكلما ازداد اقترابه مني اشتدت ضربات قلبي واندفع الدم في شراييني حاراً لاهباً وتضرمت في لأعماقي لذة مبهمة. ودنوت من منعطف يؤدي إلى شارع عام فتوقفت عن السير، ودرت على أعقابي بحركة بطيئة وانتصبت أمامه وجها لوجه وعلى ثغري ابتسامة رقيقة. كنت أشعر تلك اللحظة أن رأسي قد ألتهب وجسمي قد تخدر وأخذ يرتعش وطأة تيارات غريبة تمسني مس الكهرباء. أما هو فوقف صامتاً وكل جزء من أجزاء وجهه يعكس عواطف قلبه المصطخبة. ومرت لحظة صمت، ثم همهم بصوت مرتعش وشفتين مرتجفتين: (أنا عبدُك).
لا ادري ماذا حدث لي تلك اللحظة، ولكنني أذكر أنني لمحت عامر ينعطف من الشارع ويدخل الطريق، فاندفعت أصيح بحركة لا إرادية: (أنقذوني. . أنقذوني). فهرع إلي وهو يردد باهتمام: (ماذا بك يا آنسة!!. . . ماذا بك يا آنسة؟!) فأجبته بلسان متلعثم وأنا أشير إلى حسن: (إنه حاول تقبيلي). فتحول إليه مزمجراً، وراح يهدده بالويل إن لم يدعني وشأني.
ولن تمحى صورة حسن الذاهلة من ذاكرتي أبداً. فقد تحجر في موضعه، وراح ينقل أنظاره بيني وبين عامر في فزع كأنه تحت رحمة كابوس مخيف. ولم ينطق كلمة واحدة، بل ألقي علي نظرة تتدفق ألماً ومرارة وتعاسة، ثم دلف يخطو في تخاذل كأنه يرزح تحت حمل ثقيل، والتفت إلي عامر وقال بأدب: (لا أظنه سيضايقك مرة أخرى أيها الآنسة. . ليلتك سعيدة). ووقف ينظر إلي برهة كأنه ينتظر أن أقدم له شكري، لكن لساني انعقد عن(857/58)
الكلام وخوى رأسي من الأفكار. فهز كتفيه وسار في طريقه. وأردت أن أستوقفه لأقول له شيئاً، لكن قوة طاغية جذبت رأسي إلى الجهة التي سلكها حسن، فاتبعه بأنظاري وأنا أحس أنني سأنفجر من شدة الغم والألم والضيق. ثم ارتد إلي طرفي مبللاً بالدمع حينما تلاشى شبحه في النور الخافت.
القاهرة
شاكر خصباك(857/59)
العدد 858 - بتاريخ: 12 - 12 - 1949(/)
علي محمود طه شيء
شاعر الأداء النفسي
الأستاذ أنور المعداوي
- 2 -
وتبقى بعد ذلك المرحلة السادسة من هذه الدراسة، وسيكون الحديث فيها مقصورا على شعر القومية المصرية والمناسبة النفسية عند علي طه؛ وأقول المناسبة النفسية لأن علي طه كان من الشعراء الذين يستجيبون لدعاء النفس وحده في شعر المناسبات. . . صوت الشعور أولا يتلوه صوت الفن، وهذان هما الصوتان الصادقان اللذان لا تضيق برنينهما الأذن في هذا اللون من الشعر، لأنه رنين يطلقه قلب من القلوب لا بوق من الأبواق. . .
ثم المرحلة السابعة والأخيرة، وهي المرحلة التي سيحدد فيها مكان علي طه بين شعراء عصره. . ولن تخلو بعد هذا التحديد من عرض ونقد لبعض الأراء الفنية التي أطلقها بعض النقاد المعاصرين حين حاولوا أن يضعوا الشاعر وشعره في الميزان.
واترك هذا التبويب الفني لأطوف معك بجوانب الصورة الأولى من صور الأداء النفسي في هذا الشعر، وهي الصورة الوصفية في إطارها النفسي. . (الموسيقية العمياء) قصيدة تطالعها في الصفحة الثامنة بعد المائسة من (ليالي الملاح التائه)، ولقد مهد لها الشاعر بهذه الكلمة التي تنقلك إلى مكان الفن وزمانه:
كان الشاعر يتردد على (الفتيا) أحد مطاعم القاهرة الشهيرة بموسيقاها. شتاء عام 1935، وكانت تترأس الفرقة الموسيقية. به حسناء دلماتية، تعزف على القيثارة، وكانت على جانب من الرقة والجمال، فلا يخيل إلى من يراها إن القدر أصابها في عينيها، فرحمها نعمة الأبصار، فلما وقف الشاعر على حقيقة حالها، أوحى إليها جمالها الجريح بالقصيدة الآتية:
إذا ما طاف بالأرض ... شعاع الكوكب الفضي
إذا ما أتت الريح ... وجاش البرق بالوميض
إذا ما فتح الفجر ... عيون النرجس الغض(858/1)
بكيت لزهرة تبكي ... بدمع غير مرفض
زواها الدهر لم تسعد ... من الإشراق باللمح
على جفنين ظمآنين ... للانداء والصبح
امهد النور: ما لليل قد ... لفك في جنح؟
أضيء في خاطر الدنيا ... ووار سناك في جرحي
أرى الأقدار ياحس ... ناء مثوى جرحك الدامي
أريها موضع السه ... م الذي سدده الرامي
انبلي مشرق الأصب ... اح هذا الكوكب الظامي
دعيه يرشف الأن ... وار من ينبوعها السامي
وخلي ادمع للفجر ... تقبل مغرب الشمس
ولا تبكي على يومك=أو تأسى على ألامس
إليك الكون فاشتفي ... جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفيك ... فالأشواك في نفسي
إذا ما اقبل الليل ... وشاع الصمت في الوادي
خذي القيثار واستوحي ... شجون سحابه الغادي
وهزي النجم إشفاقا ... انجم غير وقاد!
لعل اللحن يستدني ... شعاع الرحمة الهادي
إذا ما شقشق العص ... فور في أعشاشه الفن
وشق الروض بالألح ... ان من غصن إلى غصن
آتتك خواطري الصدا ... حة الرفافة اللحن
تغنيك بأشعاري ... وترعى عالم الحسن
إذا ما ذابت الان ... داء فوق الورق النضر
وصب العطر في الأكم ... ام إبريق من التبر
دعوت عرائس الاح ... لام من عالمها السحري
تذيب اللحن في جفني ... ك والأشجان في صدري(858/2)
عرفت الحب يا حوا ... ء أم ما زالا مجهولا؟
ألما تحملي قلبا ... على الأشواق مجبولا؟
صفيه، صفيه، فرح ... انا ومحزونا، ومخبولا!
وكيف أحس باللوع ... ة عند النظرة الأولى!
ومن أدمك المحبوب؟ ... أو ما صورة الصبَّ!
لقد ألهمت والإلها ... م يا حواء بالقلب!
هو القلب، هو الحب،
و ... ما الدنيا لدى الحب
سوى المكشوفة الأس ... رار والمهتوكة الحجب!
سلى القيثارة بي ... ن يديك أي ملاحن غنى
وأي صبابة سالت ... على أوتاره لحنا
حوى الآمال والآ ... لام والفرحة والحزنا
حوى الآباد الاك ... وان في لفظ وفي معنى
تعالى الحسن ياحس ... ناء على إطراق محسور!
أيشكو الليل في كون ... من الأنوار مغمور؟
وما جلاه من سواه ... إلا توأم النور!
وما سماه إذ ناداه ... غير الأعين الحور!
وقف عند المقطو
عة الأولى. . . في البيت الأول والثاني ذكر للشعاع، وفي البيت الثالث والرابع ذكر للعيون. الصلة هنا وثيقة بين الوجود الداخلي وبين الوجود الخارجي، بين الصورة التي في النفس والصورة التي في الحياة. والألفاظ هنا فقد استحالت أداة الربط والاتصال بين العالمين: عالم المشاهد الخفية وعالم المشاهد المرئية. . . إن الشاعر هنا أمام عيون تعيش في الظلام، ثم هي بعد ذلك قد أطبقت منها الجفون، وفي هذا المشهد يتركز المصدر الإثارة، ولابد للأداء النفسي من أن تتفق ألوان الإثارة مع مصدرها الأصيل، عيون مظلمة يجب أن نثير في الخيال الشاعر معاني الضياء: في وميض البرق أو في إشعاع القمر. وجفون مطبقة يجب أن تبعث في الشعور النابض ذكرى التفتح: وفي إكمال النرجس التي(858/3)
تبدو من وراء الحسن (عيونا). . . فتحها الفجر!
ووقفة عند المقطوعة الثانية والثالثة. . . هنا نقلة أخرى لا تبعد بنا كثيرا عن نقطة البدء الشعورية. تختلف الأدوات بعض الاختلاف وتتغير بعض التغيير، ولكننا لا نزال نستروح الاتسام الأولى تهب علينا من نفس الأفق. . . وسترى إن الوحدة الفنية هي التي رضت على الشاعر أن ينحرف بخط الاتجاه النفسي وهذا الانحراف الذي يمهد لما بعده، تبعا لهذه التعريجة الجديدة في منعطف الطريق إلى المقطوعة الرابعة. وانك لتلمس بوادر هذا الانحراف في البيت الثالث من المقطوعة الثانية، وذلك البيت الذي يبدأه الشاعر بمناجاة العيون المطفأة في وثبة ممتازة من وثبات الأداء النفسي عندما يقول: (امهد النور). . . وماثلك البوادر إلا نفحات من العزاء، العزاء المتمثل في المشاركة الوجدانية بين الطبعتين، هناك حيث تتمزج اللوعة في النفس الإنسانية بشيء من الاعتراض المهذب على حكمة القدر. . . وأي عزاء هو؟ أنه عزاء في منطق الشاعر أو في منطق الشعور وبهذا المنطق أيضاً تواجه الإنسانية قضاء السماء! إذا كان واقع الدنيا قد ضاق بالعيون المطفأة ففي خاطر الدنيا وفي خواطر الأحياء ومتسع للضياء ولأباس من أن يتواري السنا للما في أعماق الجراح، جراح القلب الإنساني حين تدميه مخالب الأيام! ترى كم يلفح شعور هذا الهتاف تلفه الثورة المذبة في قوله: (آري الأقدار يا حسناء. . . أريها موضع السهم)؟ أن الأقدار قدرات من غير شك ولكنه الأداء النفسي الذي يتغير للفض في صيغة الأمر. . . لأمر لا يخفى على البصراء!
وفي المقطوعة الرابعة تستقر النقطة للارتكاز في الوحدة الفنية حين ينتهي خط الاتجاه النفسي بعد تلك التعريجة في منعطف الطريق. . . ونقطة الارتكاز هنا محورها الاستعانة بالمعنى الحسي التي تصب في مقالبة الحركة النفسية. وأين هو المعنى الحسي هنا؟ هو في الإيحاء المعبر عنه بالاشتفاف جمال الكون عن طريق اللمس وفي الإشعاع الذي يحمله البيت السابق حين يعرض للحاضر المبلل بدموع اليوم والماضي المجلل بسواد اللمس!. . . ولا تضن إن الشاعر يقصد المعنى المادي كما يفهمه شعراء الأداء اللفضي، وكلا. فما يشتف جمال الكون عن طريق اللمس بالأصابع وإنما يشتف عن طريق اللمس بالأوتار، وهذه هي الحركة النفسية التي تفرق في الشعر بين أداء وأداء!(858/4)
علي طه في المقطوعة الخامسة يطرق أبواب هذا المعنى الذي أشرت أليه، يطرقها الطرقة الأولى التي تعقبها بعد ذلك طرقات وتستطيع أن تسمع هذه الطرقة في البيت الثاني من هذه المقطوعة عندما يقول: (خذي القيثارة). . . أن القيثارة هنا هو السلم الطبيعي الذي ترتقي الموسيقية العمياء ألي هذا الكون لتستطيع أن تلمس عن طريق الأوتار جماله المفقود وستسمع بقية الطرقات عندا نصل إلى المقطوعة العاشرة، هناك حيث يكون القيثار معبرها إلى شتى العوالم والأكوان:
حوى الآمال والآلام والفرحة والحزنا ... حوى الآباد والأكوان في لفظة وفي معنى!
شاعر الأداء اللفظي عندما يقف بك عند المعاني الجامدة المعاني التي تختنق بين الألفاظ الغارقة في لجج المادية البغيضة، ولكن شاعر الأداء النفسي هو من ينتزع من رأسك كل تهويمة ذهنية ليرددها إلى شعورها تهويمها روحيه، وهنا تجد على طه. . . لم يقف بك عند معنا (اللمس) كما يوحي به البيت الذي ورده فيه، ولكنه انتقل بك على الفور إلى مكانه المنشود من الأداء الذي يتطلع إليه النقد ولا يتطلع إلى أداء سواه. لو وقف عند المعنى المادي كما ينبأ عنه ظاهر اللفظ لبدا الأداء سخيفا في رأي الفن، وبدا العزاء تافها في رأى كل ضرير تطلب إليه أن يستعيض عن الضياء المفقود بالمس المعهود!
وفي البيت الثالث من هذه المقطوعة لون من ألوان المقابلة، ولكن أي لون هو؟ اهو لون المقابلة بين لفظ ولفظ على أتساس تلك الذاتية البينية التي يلجأ إليها عشاق الطلاء من الشعراء؟ أن المقابلة في الشعر يجب أن تكون لقاء بين موجتين صوتيتين: تندفع إحداهما من سطح الحياة الأعلى وتندفع الأخرى من قرار الشعور العميق، وعند نقطه الالتقاء بين الموجتين نستطيع آذن القاري أن نتلقى صوت الشاعر ممتزجا بصوت الحياة. . . في هذا المعرض النفسي للوحات الشعر التصورية تطالعنا هذه اللوحة:
وهزي النجم إشفاقا ... لنجم غير وقاد!
ولا حاجة بي أن اقف بك عند المشاهد التعبيرية في المقطوعتين التاليتين، لأنهما تتفق في النسق والتصوير مع المقطوعات السابقة. ولك أنت أن تطبق عليهما تلك المقاييس الفنية التي قدمها إليك.
ولكن الوقفة التي يجب أن تطول فهي عند المقطوعة الثامنة والتاسعة والعاشرة. . . هنا(858/5)
مجال (الرؤية الشعرية) التي يقسمها النقد الحديث إلى قسمين: قسم يتصل بالطبيعة النفسية وقسم يتصل بالطبيعة المادية. والرؤية الشعرية بكلا قسميها وترمز إلى مقدرة الشعر في الاستشفاف الدقيق للحقائق سواء أكانت في حدود المنظور أو خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أو فيما وراء الوعي في نطاق الاستيطان النفسي أو في نطاق التناول الحسي. فالشاعر الذي يرسم خطوط الصورة الفنية في أي ميدان من هذه الميادين، ثم نلمس في تلك الخطوط شيئا من الاهتزاز يخرج بها عن قانون النسب والأبعاد، مثل هذا الشاعر تحكم عليه بضعف الرؤية الشعرية! والشاعر الذي يتناول مفتاح الشخصية الإنسانية ليعالج به فتح المنافذ المؤدية إلى غابته من كشف مغاليق النفس، ثم ندرك أنه قد عالج المنافذ الجانبية وغفل عن المنفذ الرئيسي الذي يتدفق منه الضوء إلى كل حنية وكل ركن، مثل هذا الشاعر نحكم عليه بضعف الرؤية الشعرية!
هذه الرؤية الشعرية تجدها على خير حالاتها من القوة والنفاذ في هذه المقطوعات الثلاثة التي يجب إن تطيل عندها الوقوف. . . إن الجناح هنا قد اختار افقه النفسي الذي يكون للتحليق في أثره وصداه. وما هو هذا الأفق النفسي الذي نعنيه؟ هو ذلك المنفذ الرئيسي الذي عالجه الشاعر بمفتاح الخبرة العميقة بمسارب الطبيعة الأنثوية. . . لم يقل يا حسناء، ولكنه قال يا حواء! قالها لأنه في مجال السؤال عن اثر الحب في حياة الأنثى الخالدة، وقالها لأنه في مجال الرصد لهزات القلب من جنبي الأنثى الخالدة، وهذا هو الأداء النفسي بالنسبة إلى اللفظ الشعري، أما هذا الأداء بالنسبة إلى الجو الشعري فهو في تلك الطرقة الرائعة للباب الكبير عن أي شيء تسال المرأة وقد فقدت البصر وحرمت إلى الأبد نعمة الضياء؟ عن العاطفة الخالدة في كيانها خلود الطبع. . عن الحب! وهل هناك من أمل يبقى للعمياء غير هذا الأمل؟ أنه الضوء الوحيد الذي يمكن أن يبدد ظلام الحياة. . . والسؤال هنا ليس سؤال عن الحب وكفى، كلا. ولكنه السؤال الذي يعرف طريقه:
عرفت الحب يا حواء أم مازال مجهولا؟
وافترض الشاعر إنها قد عرفته. . . وتبعا لهذا الافتراض مستندا إلى البيت الذي يليه هتف أعماقه:
صفيه، صفيه، فرحانا، ومحزونا، ومخبولا!(858/6)
هذا التكرار في اللفظ الأمر بنبأ عن مرارة اللهفة وحرارة الانفعال، وتنبأ عنهما هذه التقطيعات الصوتية التي نكشف لك عن لهاث القلب في هذه الضربات السريعة والمتتابعة والمنعكسة صفحة الألفاظ. . . هذا ثلاثة ألوان للوصف المنشود، أو قل إنها ثلاثة نقلات نفسية مثلا مراحل الحب الثلاث في حياة امرأة عمياء: مرحلة الفرح، ومرحلة الحزن، ومرحلة الخبل العاصف بذرات الأمل. . . مرحلة الفرح يوم إن كان الضياء يجذب كل فراشة هائمة، ومرحلة الحزن بعد أن خبا الضياء وابتعدت عن المصباح كل فراشة هائمة، ومرحلة الخبل في رحاب الظلام المقيم حين لم يبق من الفراشات غير رؤى حالمة وذكريات!
وتبلغ الرؤية الشعرية منتهاها عندما يعرج الشاعر على الجانب الآخر من الصورة المتخيلة، هناك حيث يخطر في البال أنها لم تروجه الحبيب ولكنها فيه ومادامت تفكر فيه عن طريق الخيال ولاعن طريق البصر، فسلامة الرؤيا الشعرية تدفع الشاعر إلى أن يسألها عن صورته التي في الخيال، والتي ينسق طلالها وألوانها الهام القلب:
ومن آدمك المحبوب؟ ... أو ما صورة الصب؟
لقد ألهمت والإلهام ... يا حواء بالقلب!
إنه يسال هنا عن (آدم) وانه ليتخير للفظ ويعنيه. . . لآته يسال الرجل الخالد المستقر في أعماق الأنثى الخالدة أو في أعماق (حواء)! وما الدنيا في منظار القلب وما الدنيا في منظار الحب:
سوى المكشوفة الأسرار والمهتوكة الحجب!!
أداء نفسي. . . أداء غفل عنه الشعر أغفلته موازين النقد! ومن هذه الأداء تلك الصبابة المستعرة بين جوانح وقد (سالت) ألحانا على الأوتار، وتلك الأوتار التي حوت الآباد والأكوان: في (لفظ وفي معنى)! الصورة الشعرية ليست من صنع تهاويل الخيال، ولكنها الصورة التي يرسمها واقع الشعور عند من يدركون اثر الموسيقى الرفيعة في خلق تلك العوالم غير منظورة، العوالم التي ترقى إليها الأرواح في جولة تفارق فيها الأجسام ومرة أخرى تهزك سلامة الرؤيا الشعرية!
وعندما يهتف الشاعر في المقطوعة الأخيرة: (تعالى الحسن يا حسناء) فثق أنه منطق(858/7)
الأداء النفسي ولا منطق سواه. . . وهو هو المنطق نفسه حين ينعت هذا الحسن بأنه (توأم) النور، وبأنه إذا انتسب فإنما ينتسب إلى تلك العيون التي فقدت حورها عند الموسيقية العمياء وعند كل أنثى حرمت نعمة الضياء، وليس من شك في أن هناك رنين يرتاح إليه السمع في مثل قوله: وما جلاه من سواه وما سماه إذ ناداه. . . تلك هي (الذاتية الغنائية) التي سيكون لها في فصل من فصول هذه الدراسة ميزان مقام.
(يتبع)
أنور المتداوى(858/8)
صور من الحياة:
حماقة أب
الأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا صاحبي - يوم أن جذبك أبوك من خضم الأزهر وأنت فتى في ريع الشباب فارع القوام قوي البنية وثيق الأركان جذبك بعد أن عشت في رحابه سنوات تضطرب في متاهات العلم فلا تستقر، وتضل في مضلات المدينة فلا تهتدي، وتضع لقسوة الشيخ فلا تشمخ، وتفزع عن حلقة الدرس فلا تطمئن. لقد كان يعتز بك لأنك ابنه الأصغر فأرسلك إلى الأزهر عسى أن يراك - بعد حين - شيخا، كعمك، تتألق في الجبهة والقفطان وتزهو في العمة واللحية، فتكون قبسا من نور العلم في القرية، والنفحة في ضياء الهدى في المجلس، وموعظة طيبة في ضلال الجهل. ولكن بدا له أن يجذبك من الأزهر قبل أن تبلغ الغاية للتزوج بفتاة في مثل سنك فيها الثراء والجمال، وفي أهلها الجاه والسلطان وفي ذويها العز والمنعة فصحبته إلى القرية والخيال الحلو ويتوثق في رأسك، وان أهابك ليكاد ينشق من شدة الفرح وهو يتألق على جبينك وان خواطرك للتنزي مرحا جامحا ترتسم سماته على قسمات وجهك، وان ذهنك ليضطرب في آفاق جميلة من النشوة واللذة. وأحسست في أعماق نفسك - وأنت في طريقك إلى القرية - انك اليوم تفر من قسوة الشيخ وعنت الدرس، وتنأى عن خشونة العيش وجفوة الغربة لتعيش إلى جانب أمك تستشعر العطف والحنان، وانك ستفر - غدا - من سطوة أبيك وهو غليظ الكبد جافي الطبع جامد الكف لتصير رجلا. . .
وجاءت الزوجة تحمل إليك متعة القلب ولذة النفس، وتزف إليك سعة العيش وسعادة الحياة، وتنزع عنك ذل الحاجة لأبيك، وتلبس ثوب الرجولة الباكرة، وتحطم أغلالا من الإسار كبلك بها أبوك زمانا، فأصبحت حر اليدين واللسان، طليق الآخذ والعطاء، ولا يقيدك غل من سلطان أبيك، ولا تمسك ربقة من جفوته، فاطمأنت نفسك وهدأت نوازعك. ومرت السنون.
وانطلقت في فورة الشباب إلى الغيط نجد المتعة في العمل وتحس السعادة في الجهد، ولا تشغلك اللذة الوضيعة ولا بصرفك اللهو الرخيص، وأنت من بيت فيه الصلاح والدين وفيه(858/9)
الترفع والكبرياء، ففاض جيبك بآمال وفهقت دارك بالنعمة وطفح قلبك بالرضا. وجذبك أسعار المال عن أن تلتفت إلى وراء، ساعة من الزمان لترى اخوتك يتقسمون تراث أبيك وهو ضئيل لا يسمن الجوع ولا يغني من العرى. وجمدت مشاعرك فيما بضطت كفك لواحد منم بقرش ولاحق قلبك على طفل من أبناءهم، فعشت عمرا من عمرك منطويا على نفسك ولا تزيح عن اهلك غمة ولا تفرج كربة ولا تمسح لوعة , على حين انك تنعم بوفرة الثراء وتسع لكثرة المال. وهم يجدون ضيق اليد وكثرة العيال.
وابتسمت لك الحياة مرة أخرى فإذا أنت أب، فاشرق النور في قلبك لدى مطلع الصبا، وانفرجت أساريرك، فآخذت تربيه على نسق من الفساد يطم على العقل دلالا، وتنشاه على نهج من الضلال يعبث بالرأي رحمة به، وتصوغه في قالب من الغي يعطف بالأدب عطفا عليه، والى جانب زوجك تدلل الصبي وتغريه وتدفعه إلى أن يتردى في الجهل والبلج في العناية فأنطلق على سننه يغتمر في لجة من الحمق والسفاهة. وأنت - يا صاحبي تنظر فلا تردعه عن غواية ولا ترده عن نبوة.
وتراءى لك إن الصبي يخطو إلى الشباب في غير ريث، ويسير إلى الفتوة في غير مهل، فأشفقت عليه من عصا المعلم إن تقضقض عضمه، وظننت به على ظلام المدرسة أن تهد من قوته فامسكته إلى جانبك يرتشف من غفلتك ويتفيأ من حمقك، فسقط في مهاوي الجهل يعاشر البهيمة في الغيض ويهفو إلى رفاق السوء في القرية. فاخذ بأسباب اللهو الوضيع وارتدع في حماءه الرذيلة، وأنت في عمى عنه، والناس من حواليك يتهامسون بحديث ابنك الوحيد وهو ينفق عن سعة ويبذل في سخاء، ويسف في الطيش ويسف في رعونة. يتهامسون ولا يجرؤ واحد على أن ينفظ أمامك حالة خشية أن ينالك عنت الحديث أو تؤذيك قسوة الخبر، فانضمت الشفاه على عبارات السخط والكراهية وسكتت الألسن عن كلمات المقت والازدراء. وذهبت أن تصحب وحيدك - بين الفينة والفينة - إلى الحقل تبصره بالعمل وتثقفه بالفلاحة وتعلمه حاجات الغيط وتزوده بالنصيحة. علك تجد العون والمساعدة أن وهي جلدك أو انحطت قوتك، فكان يلقى السمع إلى حديثك وذهنه هناك. . . يتلمس اللذة الجارفة من لذات الشباب، ويفتش عن سلوه العارمة من أسباب الطيش، فخيل إليك أن الشباب اصبح رجلا يستطيع إن ينهض بالعمل وان يصرف الأمر، فألقيت إليه(858/10)
بزمامك ودفعته فأندفع. . . اندفع إلى الهاوية.
واطمأنت نفسك حين جاء الشاب يقص عليك - أول مرة قصة الغيط ومافية، ينشر أمامك نواحي العمل، ويبحث معك فنون الزراعة، فتسهلت له في السؤال وتيسرت له في القول، وأحس هو منك الغفلة والضعف، فأنطلق في سبيله ويبعثر في مالك في غير رفق ولا هوادة وركنت أنت إلى الراحة وسكنت إلى العبادة ولا يحز بك أمر ولا يرهقك طلب. وسوست لك زوجك وللمرأة لسان ناعم أملس كجلد الأفعى، ولها الحديث الطري وينسرب في مسالك القلب مثلما يسري سم الثعبان، فما لبثت إن نزلت عن كل مالك ومالها لوحيدك الطائش. وغاب عنك انك بمالك بين يدي لوثة الشباب وتقذف بمال زوجك إلى هوة الضياع.
أحس الفتى أنه اصبح رب هذا البيت، فأراد أن يمكر بك فيحول بينك وبين خلجان الريبة في قلبك ونزوات الضنة في نفسك، فحباك بالمال - بادي ذي بدئ - واسبغ عليك من فيض غلاتك وخصك بالطيب من الطعام وبالغالي من اللباس، وأنت في مكانك لا ترم. فشكرت له عقله الراجح وحمدت له عطفه الوثاق، وسعدت ببره السابغ. ليتك - يا صاحبي - نظرة بعين الرجل العاقل المجرب إلى زلات ابنك الفتى وهو ينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة في غير وعي أو عقل. أنه الآن يتملقك ليزدل على عينك ستارا كثيفا من الخديعة لا تستشف من وراءه ما يخبئ لك القدر من الضيق والعنت.
ومرت الأيام تصفعك بالشيخوخة الباكرة من طول ما ركنت إلى الراحة، وتقذفك بالزمان من طول ما خاصمت الحركة فذوي عودك وانطوى بشرك ورانت عليك سحابة من الكابة والحزن.
يا لقلبي، لقد اغترك الثراء عن أن تكسب العيش بالكد وصرفك الولد عم أن تقوم علا شانك بالجهد، فقضيت سنوات من عمري على كرسي وثير في ناحية من دارك الأنيقة بين رفاق الود وأخوان الصفاء، فمري الأداء في مفاصلك ويطحنك في غلطة ويعقدك في عجز. فنضرت حواليك فإذا أخوك الأكبر - وهو يكبرك بسنوات وسنوات - يسير بقدميه المسافات الطويلة بالقوة والنشاط لا يصيبه النصب ولا الإرهاق، لأنه عاش عمره يصارع أمواج الحياة ويكافح شدائد الدنيا يظفر بقوته وقوة عياله. تمنيت لو انك عشت مثله فقيرا لا(858/11)
تجد القوة ألا بالثمن الغالي. . . بعرق الجبين.
ويل لك - يا صاحبي - لقد كفرت خواطرك بالنعمة التي سعدت بها زمانا. والتي رفعتك فوق أقرانك وسمت بك على أترابك! فماذا يخبئ لك القدر جزاء ما كفرت؟
وجاءك - بعد أيام - الخبر الأسود يقسم ظهرك ويهد ركنك ويعطف بصبابة من الأمل كنت تترجاها. جاءك الخبر الأسود يقول: أن البنك العقاري قد استولى على كل ما تملك أنت وزوجك وفاء دين ابنك الداعر الغوي. وإن ابنك قد فر من القرية خشية أن يصمه عار الفقر والذل والسؤال!
الآن، فقدت المال والابن معا، أحوج ما تكون إليهما فأصابك الندم على إن ألقيت بابنك في اللجة من الجهل تجرفه في غير هوادة ولا رفق وعلى أن ألقيت بثروتك بين يدي غر أهوج يبددها في سنوات، ثم يطير عنك. . .
والآن، ماذا يختلج في فؤادك - يا صاحبي - وأنت لقي في الناحية من الدار تتعاورك الهموم وتتناهبك الأسقام، وتنوب تحت أثقال ثلاثة من الأفاقة والشيخوخة الواحدة. . .
كامل محمود حبيب(858/12)
من المفسرين في عصر الحروب الصليبية:
القرطبي
الأستاذ أحمد أحمد بدوي
محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح، من اشهر مفسري ذلك العصر، وقد بقي لنا تفسيره كاملا.
ولد بقرطبة من بلاد الأندلس، وتلقى بها ثقافة وسعة في الفقه والنحو والقراءات، وسمع من أبى العباس أحمد بن عمر القرطبي بعض كتابه: المفهم في شرح مسلم، ودرس البلاغة وعلوم القران واللغة، ثم وفد إلى مصر، كما وفد غيره من علماء الأندلس، وكانت بلادهم في ذلك الحين تتخطفها الفرنجة، ولست ادري متى قدم إلى مصر. واستقر في الصعيد، بمنية ابن خصيب (المنيا)، يقضي وقته بين العبادة والتاليف. ويقول مؤرخوه عنه: أنه كان من عباد الله الصالحين، والعلماء الورعين الزاهدين قال عنه الذهبي: إمام متفنن، متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته وكثرة اطلاعه. وفور فضله وقال عنه صاحب شذرات الذهب: كان إماما علما من الغواصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيد النقل.
وترك القرطبي مؤلفات شتى، أهمها كتابه في التفسير الذي سماه (جامع أحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان) وتقوم دار الكتب بطبعه، وتقدر إنها ستتمه في عشرين جزءا. وهو لا يقف في تفسير القرآن عند حد ما روي من ذلك عن الرسول والسلف الصالح، بل يتخذ ما أوتيه من أدوات العلم وسيلة يستعين بها على فهمه، وإن كان يعد معرفة ما اثر من ذلك ضروريا فهم كتاب الله. وهنا يحسن بنا أن نوضح الرأي الذي اختاره لنفسه في كتابه، فقد عقد بابا لما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك (ج ص27 طبع دار الكتب) وفي هذا الباب أورد ما روي عن عائشة أنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسفر من كتاب الله إلا آيا بعدد، وعلمه إياهن جبريل. وقد رأى في ذلك ما رآه ابن عطية، من أن معنى الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا يتوقف من الله تعالى. ومن جملة مغيباته ما لم يعلمه الله به، كوقت قيام الساعة ونحوها. ثم نقل ما رواه الترمذي عن ابن عباس عن(858/13)
النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال: اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. ومن قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وروي أيضاً عن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القران برأيه فأصاب فقد اخط. وفي تفسير هذين الحديثين نقل عن ابن ألا نباري أن حديث ابن عباس فسر تفسيرين: أحدهما: من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله. والتفسير الآخر، وهو اثبت القولين وأصحهما معنى: من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره، فليتبوأ مقعده من النار، إما حديث جندب، فقد حمله بعضهم على أن الرأي معنى به الهوى، فالمعنى من قال في القرآن قولا يوافق هواه، ولم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب، فقد اخطأ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف اصله ولا يقف على مذاهب أهل الإثر والنقل فيه. ونقل عن ابن عطية إن معناه أن يسال الرجل عن معنى من كتاب الله، فيتسور (أي يتهجم) عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول؛ وليس يدخل في هذا الحديث إن يفسر اللغويين لغته، والنحويون، نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا لمجرد رأيه. قال القرطبي: هذا صحيح، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن من قال فيه بما صح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ أن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على
معناه فهو ممدوح.
قال القرطبي: وقال بعض العلماء: (إن التفسير موقوف على السماع) وهذا فاسد. . . لأن النهي عن تفسير القرءان لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع، وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر، وباطل أن يكون المراد آلا يتكلم أحد في القرءان إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد قرءوا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما النهي يحمل على أحد وجهين، أحدهما أن يكون له في الشيء رأي، وأليه ميل من طبعه وهواه، فتأول القرءان على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة، لتغرير(858/14)
الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطله، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم، في أمور يعلمون قطعا أنها غير مراد.
الوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيها يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم ظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لابد منه في ظاهر التفسير أولا، ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر؛ إلا ترى إن قوله تعالى: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها)، معناه آية مبصرة، فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن إن المراد به أن الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بما ظلموا. . فهذا من الحذف والإضمار. وأمثال هذا في القرآن كثير؛ وماعدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي أليه.
وترى من هذا نموذجا لمناقشاته من ناحية، وأنه ليس من هؤلاء الذين يقفون عند حد النقل عن السالفين، يعمل فكره في الاستدلال والاستنباط، لا لمجرد الهوى، ولكن اعتمادا على قوانين العلوم، ووقوفا عند حدودها، واخذ عن السلف ما يرى ضرورة الأخذ به. من تفسير المجمل وحل الشكل.
وبدأ القرطبي تفسيره بعدة أبواب رآها قبل الدخول في التفسير، وأوضح لنا الخطة التي انتهجها في كتابه بقوله: (وبعد، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع الذي استقله بلسانه ولفرض، ونزله به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن اشتغل به مدى عمري، واستفرغ فيه منتي بأن اكتب فيه تعليقا وجيزا، يتضمن نكتا من التفسير واللغات، والأعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكال منها بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف. . . وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: (من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله). . . وأضربت عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لابد منه، ولا غناء عنه للتبيين، وأعتضت(858/15)
من ذلك بتبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل أية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما تذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، وهكذا إلى آخر الكتاب.
وصدر المؤلف كتابه بعدة أبواب: منها واحد ذكر فيه جملا من فضائل القرآن،، والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستمعه والعامل به، وباب لكيفية التلاوة، وما يكره منها وما يحرم، وآخر في فضل تفسير القرآن وأهله، وباب شرح فيه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا القران انزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر من. واعرض أقوال العلماء في ذلك، وصلته بالقراءات، وعقد بابا لجمع القران، وسبب كتابة عثمان للمصاحف، وترتيل سورة القران وآياته، وشكله، ولفظه، وتحزيبه، وعدد حروفه، وكلماته، وآيه، ثم عرض لمعنى السورة والآية، والحرف، وهل ورد في القران كلمات خارجة عن لغات العرب أولا ثم ذكر بابا في أعجاز القرآن، ووحه هذا الأعجاز.
وينقل القرطبي عن ابن عطية الذي لخص تفاسير من سبقه، ممن يرون ضرورة معرفة آراء السلف، واقتدى في ذلك القرطبي.
ولم يكتف المفسر بالفصل الذي عقده في تفسير الجامع - لبيان فضائل القران وفضل قارئه ومستمعه، بل الف في ذلك كتاب خاصا، دعاه التذكار في افضل الأذكار، وقد رأى أن يجمع في هذا الكتاب أربعين حديثا ترتبط بهذا الموضوع، وقد وضعه القرطبي على طريقة كتاب التبيان في آداب جملة القرآن للتوزي، ولكن التذكار أتم منه واكثر علما.
وللقرطبي مؤلفات أخرى، منها كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، وهو كتاب ضخم، قال مؤلفه في مقدمته وبعد فإني رأيت إن اكتب كتابا وجيزا، يكون تذكرة لنفسي، وعملا صالحا بعد موتي، في ذكر الآخرة وأحوال الموتى، وذكر النشر والحشر، والجنة والنار، والفتن والأشرار، نقلته من كتب الآمة، وتقاة أعلام هذه الآمة، حسب ما رويته أو ما رايته وبوبته بابا، بابا وجعلت عقب كل باب فصلا أو فصولا يذكر فيها ما يحتاج إليه من بيان غريب أو فقه في حديث أو إيضاح شكل، لتكمل فائدته وتعظم منفعته.
وله غير ذلك كتاب شرح أسماء الله الحسنى، وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة، ورد(858/16)
ذل السؤال بالكتب والشفاعة، قال عنه ابن فرحان في الدبياج المذهب: لم لقف على تأليف احسن منه في بابه. وله أرجوزة جميع فيها أسماء النبي، وله تأليف وتعليق غير هذه.
وكانت وفاته بالمنية سنة 671، وترك ولده شهاب الدين أحمد الذي روى عن والده بالإجازة.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم(858/17)
الخطر اليهودي
بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء
البروتوكولات الأول:
(1) سنكون صرحاء، ونناقش دلاله كل تأمل، ونصل إلى شروح وافيه بمقارنه واستنباط. وعلى هذا سنعرض فكرة سياستنا وسياسة الجوييم (وهذا هو التعريف اليهودي لكل الأجانب
(2) يجب أن يلاحظ أن ذوى الجبلات الفاسدة من الناس اكثر عددا من ذوى الجبلات النبيلة. وإذن فخير النتائج ما ينتزع بالعنف والإرهاب كل إنسان يسعى إلى القوه. وكل يود إن يصير دكتاتورا على أن يكون ذلك في استطاعته. وما أندر من لا ينزعون إلى إهدار مصالح غيرهم توصلا إلى أغراضهم الشخصية.
(3) ماذا كبح الوحوش المفترسة التي نسميها الناس عن الافتراس؟ وماذا حكمها حتى ألان؟ لقد خضعوا في الطور الأول من الأحياء الاجتماعية للقوة الوحشية العمياء، ثم خضعوا للقانون، وما القانون في الحقيقة ألا هذه القوة ذاتها مقنعة فحسب، وهذا يتأدى بي إلى تقرير أن قانون الطبيعة هو: الحق يكمن في القوة.
(4) إن الحرية السياسية ليست حقيقة بل فكرة. ويجب أن يعرف الإنسان كيف يسخر هذه الفكرة عندما تكون ضرورية، فيتخذها طعما لجذب العامة إلى صفه، إذا كان قد قرر إن ينتزع سلطة منافس له. وتكون المشكلة يسيرة إذا كان هذا المنافس موبوء بأفكار الحرية التي تسمى مذهب التحررية ومن اجل هذه الفكرة يتخلى عن بعض سلطته.
(5) وبهذا سيصير انتصار فكرتنا واضحا، فإن أزمة الحكومة المتروكة خضوعا لقانون الحياة ستقبض عليها يد جديدة، وما على الحكومة الجديدة إلا أن تحل محل القديمة التي أضعفتها لأن قوة الجمهور العمياء لا تستطيع البقاء يوما بلا قائد.
(6) لقد طغت سلطة الذهب على الحكام المتحررين. ولقد مضى زمن كانت الديانة هي الحاكمة. وإن فكرة الحرية لا يمكن أن تتحقق؛ إذ ما من أحد يستطيع استعمالها استعمالا سديدا.
(7) يكفي أن يعطى الشعب الحكم الذاتي فترة وجيزة، لكي يصير هذا الشعب رعاعا بلا(858/18)
تمييز. ومنذ تلك اللحظة تبدأ المنازعات والاختلافات التي سرعان ما تتفاقم فتصير معارك اجتماعية، وتندلع النيران في الدول، ويزول آثرها كل زوال.
(8) وسواء أنهكت الدولة الهزاهز الداخلية أم أسلمتها الحروب الأهلية إلى عدو خارجي، فإنها في كلتا الحالين تعتبر قد خربت نهائيا كل الخراب - وستقع في قبضتنا. وسيمد الاستبداد المالي - والمال كله في أيدينا - إلى الدولة عودا لا مفر لها من التعلق به، لأنها - إذا لم تفعل ذلك - ستغرق في اللجة لا محالة.
(9) ومن تخالجه - تأثرا ببواعث التحررية - الإشارة إلى أن بحوثا من هذا النمط منافية للأخلاق - فسأسأله هذا السؤال: لماذا لا يكون منافيا للأخلاق لدى دولة يتهددها عدوان: أحدهما خارجي والآخر داخلي - أن تستخدم وسائل دفاعية ضد الأول تختلف عن وسائلها ضد الآخر، وأن تضع خطط دفاع سرية، وأن تهاجمه في الليل أو بقوات اعظم؟ ولما يكون منافيا للأخلاق لدى الدولة أن تستخدم هذه الوسائل ضد من يحطم أسس حياتها وسعادتها؟
(10) هل يستطيع عقل منطقي سليم أن يأمل في أن يحكم الغوغاء حكما ناجحا باستعمال المناقشات والمجادلة، مع أنه يمكن مناقضة مثل هذه المناقشات والمجادلات بمناقشات أخرى، وربما تكون المناقشات الأخرى مضحكة غير إنها تعرض في صورة تجعلها اكثر أغراء لتلك الفئة العاجزة من الجمهور عن التفكير العميق، والهائمة وراء عواطفها التافهة وعاداتها وعرفها ونظرياتها العاطفية.
(11) إن الجمهور الغر الغبي، ومن ارتفعوا في بينه - لينغمسون في خلافات حزبية تعوق كل إمكان للاتفاق ولو على المناقشات الصحيحة، وان كل قرار للجمهور يتوقف على مجرد فرصة، أو أغلبية ملفقة تجيز لجهلها بالأسرار السياسية حلولا سخيفة، فتبذر بذور الفوضى في الحكومة.
(12) إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شئ. والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ على عرشه.
(13) لابد لطالب الحكم من الالتجاء إلى المكر والرياء؛ فإن الشمائل الإنسانية العظيمة من الإخلاص والأمانة تصير رذائل في السياسة. إنها لتبلغ في زعزعة العرش اعظم مما يبلغه(858/19)
ألد الخصوم. هذه الصفات لابد أن تكون خصال البلاد الأممية (غير اليهودية)، ولكنا غير مضطرين إلى أن نقتدي بهم الدوام.
(14) إن حقنا يكمن في القوة. وكلمة (الحق) فكرة مجردة قائمة على غير أساس، فهي كلمة لا تدل على اكثر من (اعطني ما أريد لتمكنني من أن أبرهن لك بهذا على أني أقوى منك).
(15) أين يبدأ الحق وأين ينتهي؟ أيما دولة يساء تنظيم قوتها، وترتد فيها هيبة القانون وشخصية الحاكم بتراء من جراء الاعتداءات التحررية المستمرة، فإني اتخذ لنفسي فيها خطا جديدا للهجوم مستفيدا بحق القوة لتحطيم كيان القواعد والنظم القائمة، والإمساك بالقوانين، وإعادة تنظيم الهيئات جميعا، وبذلك أصير دكتاتوريا على أولئك الذين تخلوا بمحض رغبتهم على قوتهم، وانعموا بها علينا.
(16) وفي هذه الأحوال الحاضرة المضطربة لقوى المجتمع، ستكون قوتنا اشد من أي قوة أخرى، ألانها ستكون خافية حتى اللحظة التي تبلغ فيها مبلغا لا تستطيع معه أن تنسفها أي خطة ماكرة.
(17) ومن خلال الفساد الحالي الذي نلجأ إليه مكرهين، ستظهر فائدة حكم حازم بعيدة إلى بناء الحياة الطبيعية نظامه الذي حطمته نزعة التحررية.
(18) إن الغاية تزكي الوسيلة، وعلينا - ونحن نضع خططنا أن لا نلتفت إلى ما هو خير وإخلافي بقدر ما نلتفت إلى واهو ضروري ومفيد.
(19) إن بين أيدينا خطة موضحا عليها خط استراتيجي. وما كنا لننحرف عن هذا الخط إلا كنا ماضين في تحطيم عمل قرون.
(20) إن من يريد إنقاذ خطة عمل تناسبه يجب أن يستحضر في ذهنه حقارة الجمهور، وتقلبه، وحاجته إلى الاستقرار، وعجزه عن أن يفهم ويقدر ظروف عيشته وسعادته. وعليه أن يفهم أن قوة الجمهور عمياء هواء من العقل المميز، وأنها تعير سمعها ذات اليمين وذات الشمال. إذا قاد الأعمى أعنى مثله فكلاهما سيسقطان معا في الهاوية. وأفراد الجمهور الذين امتازوا من بين الهيئات - ولو كانوا عباقرة - لا يستطيعون أن يتقدموا هيئاتهم كزعماء دون أن يحطموا الآمة.
(21) ما من أحد يستطيع أن يقرا الكلمات المركبة من الحروف الأساسية الآمن نشى(858/20)
للسلطة الاتقراطيه. أن الشعب المتروك لنفسه، أي للمتازين من الهيئات، لتحطمه الخلافات الحزينة التي من الشره على القوة والأمجاد، وتخلق الهزاهز والاضطرابات.
(22) أفي مقدور الجمهور أن يميز بهدوء ودون ما تحاسد؛ كي يدير أمور الدولة التي يجب ألا تقحم معها الأهواء الشخصية؟ أو يستطيع أن يكون وقاية ضد عدو أجنبي؟ هذا محال. أن خطة مجزاة أجزاء كثيرة بعدد ما في أفراد الجمهور عن عقول - خطة ضائعة القيمة، فهي لذلك غير معقولة ولا قابلة للتنفيذ. الاتقراطي وحده هو الذي يستطيع أن يرسم بوضوح خططا واسعة، وان يعهد بجزء معين منها لكل عضو في بنية الآلة الحكومية. ومن ثم تستنتج أن ما يحقق سعادة البلاد أن تكون حكومتها في قبضة شخص واحد مسؤول. وبغير الاستبداد المطلق لا يمكن أن توجد حضارةلأنالحضارة لا يمكن أن تكون رائجة إلا تحت حماية الحاكم كائنا من كان، لا بين أيدي الجماهير.
(23) إن الجمهور بربري، وتصرفاته في كل مناسبة على هذا النحو، فما إن يضمن الرعاع الحرية حتى يحولوها سريعا إلى فوضى، والفوضى في ذاتها قمة البربرية.
(24) وحسبكم فانظروا إلى هذه الحيوانات المخمورة التي بلدها الشراب، وان كان لينتظر لها من وراء الحرية منافع لا حصر لها! أفنسمح لا نفسنا وأبناء جنسنا بمثل ما يفعلون؟
ومن المسيحيين أناس قد أضلهم الخمر، وانقلب شبانهم مجانين بالكلاسيكيات، والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلائنا، ومعلمونا، وخدمنا وقهرماناتنا في البيوتات الغنية، وكتبتنا، ومن إليهم، ونساؤنا في أماكن لهوهم - واليهن أضيف من يسمين (نساء المجتمع) - والراغبات من زميلاتهم في الفساد والترف. يجب أن يكون شعارنا (كل وسائل القوة والخديعة)
(25) إن القوة الخالصة وحدها هي المنتصرة في السياسة، وبخاصة إذا كانت محجبة بالألمعية اللازمة لرجال الدولة.
(26) يجب أن يكون العنف هو الأساس. ويتحتم أن يكون ماكرا خداعا حكم تلك الحكومات التي تأبى أن توطأ تيجانها تحت أقدام وكلاء قوة جديدة. إن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الهدف الأخير. ومن اجل ذلك يتحتمأنلا نتردد لحظة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة إذ ما كانت تخدمنا في تحقيق غايتنا.(858/21)
(27) وفي السياسة يجب أن نعلم كيف نصادر الأملاك بلا أدنى تردد إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة. إن دواء دولتنا - المتبعة طريق الفتوح السلمية - لها الحق في أن تستبدل بأهوال الحرب الحكام الإعدام، وهي اقل ظهورا واقل تأثيرا، وإنها لضرورية لتعزيز الفزع الذي يولد الطاعة العمياء. إن العنف الحقود وحده هو العامل الرئيسي في قوة الدولة. فيجب أن نتمسك بخطة العنف والخديعة لا من اجل المنفعة فحسب بل من اجل الواجب والنصر أيضا.
(28) إن مبادئنا في مثل قوة وسائلنا التي نعدها لتنفيذها، وسوف ننتصر، ونستعبد الحكومات جميعا تحت حكومتنا العليا لا بهذه الوسائل وحدها بل بصرامة عقائدنا أيضا، وحسبنا أن يعرف عنا إننا صارمون في كبح كل تمرد.
(29) وكذلك كنا قديما أول من صاح في الناس (الحرية والمساواة والإخاء). كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة تجمهرت معا من كل مكان حول هذه الشعائر وقد حرمت بترداده العالم من نجاحه، والفرد من حريته الشخصية الحقيقية التي كانت قبل في حمى بحفظها من أن تخنقها السفلة.
(30) إن أدعي الحكمة والذكاء من الآمنين لم يتبينوا كيف كانت عواقب الكلمات التي يلو كونها، ولم يلاحظوا كيف يقل الاتفاق بين بعضها وبعض وقد يناقض بعضها بعضا.
(31) أنهم لم يروا أنه لا مساواة في الطبيعة، وأن الطبيعة نفسها قد خلقت أنماطا مختلفة غير متساوية في العقل والشخصية والطاقة. وكذلك في الخضوع لقوانين الطبيعة.
(32) أدعياء الحكمة هؤلاء لم يكهنوا أن الرعاع قوة عمياء، وأن المتميزين المختارين من وسطهم حكاما - ميان مثلهم في السياسة، فإن المرء المقدور له أن يكون حاكما - ولو كان أحمق - يستطيع أن يحكم، ولكن المرء الغير مقدور له ذلك - ولو كان عبقريا - لن يفهم شيئا في السياسة. وكل هذا كان بعيدا عن النظر الاممين (غير اليهود)، مع إن الحكم الوراثي القائم على هذا الأساس. فقد اعتاد الأب يفقه الابن في معنى التطورات السياسية وفي مجراها بأسلوب ليس لأحد غير أعضاء الآسرة أن يعرفه، وما استطاع أحد أن يفشي الأسرار للشعب المحكوم. وفي وقت كان معنى التعليمات السياسية الحقة - كما توورثت في المالكية. من جيل إلى جيل - مفقوداً، قد أعان هذا الفقد على نجاح غرضنا.(858/22)
(33) إن صيحتنا (الحرية والمساواة والإخاء) قد جلبت إلى صفوفنا فرقا كاملة من زوايا العالم الأربع عن طريق وكلائنا المغفلين، وقد حملت هذه الفرق ألويتنا في نشوة، بينما كانت هذه الكلمات - مثل كثير من الديدان - تلتهم سعادة المسيحيين، وتحطم سلامهم وثباتهم ووحدتهم، مدمرة بذلك أسس الدول. وقد جلب هذا العمل النصر لنا كما سنرى بعد. إنه مكننا بين أشياء أخرى - من لعب دور الآس في أوراق اللعب الغالبة، أي محق الامتيازات، وبتعبير آخر، محق كيان الأرستقراطية الأممية التي كانت الحماية الوحيدة للأمم والبلاد ضدنا.
(34) ولقد أقمنا على أطلال الأرستقراطية الطبيعية والوراثية أرستقراطية من لدنا على أساس بلوتقراطي (حكم الأغنياء) أقمنا الأرستقراطية الجديدة على الثروة التي نتسلط عليها، وعلى العلم الذي يروجه علماؤنا. ولقد عاد انتصارنا أيسر في الواقع، فإننا من خلال صلاتنا بالناس الذين لا غنى لنا عنهم - كنا دائما نحرك اشد أجزاء العقل الإنساني إحساسا، أي تستثير مرض فرائسنا من اجل المنافع، وشرهم ونهمهم والحاجات المادية للإنساني، وكل واحد من هذه الأمراض يستطيع مستقلا بنفسه أن يحطم الطليعة، وبذلك يضع قوة إرادة الشعب تحت رحمه أولئك الذين سيجردونه من كل قوه طليعته.
(35) إن تجرد كلمة (الحرية) جعلها قادرة على إقناع الرعاع بأن الحكومة ليست شيئا آخر غير مدير ينوب عن المالك الذي هو اللامة، وفي المستطاع خلعها كقفازين باليين. وأن حقيقة ممثلي الأمة يمكن عزلهم قد أسلمت ممثليهم لسلطاننا، ووضعت تعيينهم عمليا في أيدينا.
محمد خليفة التونسي
(يتبع)(858/23)
الشعر المصري في مائة عام
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
للأستاذ محمد سيد كيلاني
- 2 -
1850 - 1882
وقد طغى نفوذ الأجانب في عصر إسماعيل طغيانا كبيرا، واشتدت شوكتهم إلى حد لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد. وقد ألم هذا المصريين وأحزنهم. لقد أضحى الأجانب متمتمين بكل شيء، والمصريون محرومون من كل شيء. فلا عجب أن شعر المصري بأنه غريب في بلده، ذليل في وطنه. قال السيد علي أبو النصر. . .
أكرمتم الغرباء النازلين بكم ... لكن فلاحكم ضاقت مزارعه
وللسيد صالح مجدي قصيدة مؤثرة صور فيها طغيان نفوذ الأجانب على المصريين. ومما جاء فيها قوله:
ومن عجب في السلم أني بموطني ... أكون أسيرا في وثاق الأجانب
وأن زعيم القوم يحسب أنني ... إذا أمكنتني فرصة لم أحارب
وآني أغضى عن مساو عديدة ... له بعضها بخلع المناكب
واضرب صفحا عن مخاز أقلها ... لدى العد لا تحصى بدفتر كاتب
أأتركها من غير نشر فينطوي ... بأوطاننا فيها لواء المحارب
وهل يجعل الأعمى رئيسا وناظرا ... على كل حربي له لنا في المكاتب
ومن أرضه يأتي بكل ملوث ... جهول بتلقين دروس لطالب
فيمكث في مهد المعارف برهة ... من الدهر مغمورا ببحر المواهب
ويغتم الأموال لا لمنافع ... تعود على أبنائنا والأقارب
ولا ينثني عن مصر في أي حالة ... إلى أهله إلا بملء الحقائب
وهي قصيدة رائعة حقا صور فيها الشاعر أحوال هؤلاء الأوربيين الذين كانوا يفدون إلى مصر في حالة بؤس وجوع ثم يغتنمون في مدة وجيزة مع انهم مجردون من العلم والذمة(858/24)
والضمير. وإنما همهم النهب والسلب والحصول على المال بكل وسيلة.
وكان الخديوي إسماعيل عظيم العناية بإقامة الحفلات المدرسية التي تختم بها الامتحانات العامة في المدارس على اختلاف درجاتها وكان يحضر هذه الحفلات كبار رجال الدولة وتوزع فيها الجوائز على المتقدمين من الناجحين، ويلقي فيها الأساتذة ونوابغ الطلبة الخطب والقصائد. وكانت الوقائع المصرية وهي الصحيفة الرسمية للحكومة تهتم بنشر أنباء هذه الحفلات وما يلقى فيها من نثر ونظم فكان هذا من أكبر العوامل التي ساعدت على رواج سوق الشعر في ذلك العصر. واقبل الشعراء على نظم الأناشيد التي ينشدها الطلبة في هذه الاحتفالات. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
العلم تشريف وشان ... لأهله في كل آن
والفخر يوم الامتحان ... يبقى على طول الزمن
العلم أسنى ما يرام ... ويبتغي منه المرام
ويقتفي نهج الكرام ... فيه على أسنى
وظهرت في عصر إسماعيل حركة أحياء الكتب القديمة، ومال الناس إلى قراءة دواوين فحول الشعراء الذين نشئوا في أزهى عصور الأدب. وقد أثر هذا في الشعر تأثيرا بينا. فطفق بعض الشعراء يقلد المتنبي والبحتري والمعري وأبا تمام وأبا نؤاس وغيرهم من الأعلام. فلا عجب إن أخذت أساليب الشعر تميل نحو الارتقاء وتنفض عن كاهلها ما أصابها من الركة والضعف طوال العصر التركي
وقد أقام الخديوي إسماعيل بمناسبة زواج أبنائه حفلات رائعة لم ير المصريون لها مثيلا. وكانت أفراح الأنجال هذه موضوعا للشعراء فنظموا في ذلك القصائد والمقطوعات ووصفوا ما أقيم من الملاهي والملاعب وحفلات الرقص والغناء. قال رفاعة رافع الطهطاوي:
كواكب أفراح العزيز بأفقها ... كصبح يقين قد جلا ظلمة الشك
ورنات أنغام المعازف أطربت ... كأن قيام الجن تبعث بالجنك
وملعب (بال) بالحسان منعم ... عيون غوانيه تغازل بالفتك
رياضة رقص في كمال منزه ... عن الريب موزون على التم والتك(858/25)
وكم من فتاة فيه سكري بلا طلى ... يراقصها السنيور لطفا مع السبك
وفيه صفي البال بالرقص مغرم ... يقول لذات الخال لابد لي منك
تميس كغصن البان عطفا وتنثني ... تفتر عن برق تألق بالضحك
ولولا الحيا والدين والعلم والتقى ... لقال حليف الزهد قد طاب لي هتكي
ومجلس انس قد تعطر روضه ... وأرجاؤه فاحت بها نفحة المسك
وفي الجو تقليد النجوم منيرة ... صواريخ أنواء الشهب تحكي
تلون كالحرباء بل ربما حكت ... يواقيت قد مرت على حجر الحك
وحلبة سبق الجياد يزينها ... (رماح أعدت للطعان بلا شك)
بتنظيم أوربا تسامى ابتهاجه ... وما فاته في الحسن طنطنة الترك
وهكذا صور الشعراء تلك الأفراح وما اعد فيها من ضروب اللهو وأنواع التسلية وألوان البهجة والسرور.
ومال الناس في عصر إسماعيل إلى التنزه في الحدائق والبساتين فكانوا يخرجون إلى شواطئ النيل ويقضون أوقات الأصيل بين الروضة والجزيرة والجيزة. وساعد على ذلك إنشاء جسر قصر النيل والجسر المواجه الذي يطلق عليه الآن كوبري (الجلاء). وقد تغنى الشعراء بهذه الأماكن ولا سيما محمود سامي البارودي الذي اكثر من ذكر (روضة القياس) و (ارض الجزيرة). . .
وظهرت في ذلك العصر حياة اللهو والمرح واقبل الناس على المسارح والملاهي وصالات الرقص ومحال الغناء. وارتقى الذوق الموسيقي وتقدم فن الغناء وعظمة مكانة المغنين. وقد اقبل بعض الشعراء على نظم الأدوار الغنائية والمقطوعات التي تلقى في حفلات التمثيل. وكثرت الأزجال والمواويل والموشحات وذلك لقربها من إفهام الناس. وظهر شعر عليه مسحة من الخلاعة والمجون. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
وهيفاء من آل الفرنج حجابها ... على طالبي معروفها في الهوى سهل
تعلقتها لا في هواها مراقب ... يخاف ولا فيها على عاشق بخل
إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة ... من الأصفر الإبريز زلت بها النعل
هنالك لا هجر يخاف ولا جفا ... لديها ولا خلف لوعد ولا مطل(858/26)
آتيت كما شاء التصابي رحابها ... وما كان لي عهد بأمثالها قبل
فلما تعارضنا الحديث تعرضت ... لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل
فرحت بها في حيث لا عين عائن ... ترانا ولا بعل هناك ولا أهل
وبت ولي سكران من خمر لحظها ... وراح ثناياها ومن خدها نقل
وقمت ولم اعلم بما تحت ذيلها ... وإن كان شيطاني له بيننا دخل
وقد استخدمت في عصر إسماعيل السنة الميلادية بدلا من السنة الهجرية. والظاهر أن الناس قد تعذر عليهم حفظ شهور هذه السنة فاخذ بعض الشعراء ينضمون هذه الشهور شعر حتى يسهل على الناس حفظها. . ومن ذلك عبد الله فكرى. الإفرنج خذوا ترتيبها قد جاء في النظم على ماموليه يناير وفبراير ومارث أبريل مايه يونيه ويوليه أغسطس سبتمبر فادعوا ليه ولم يكتفي بهذا بل نضمها في موالهم لأنه كما قال انسب لكونها أعجميه لا يحسن انسجامها في الشعر العربي. وقد وضع مواليا يبين فيها أيام كل الشهور قال:
فبراير النص فيه يومين وتارة يوم ... وشهور سبعه تزيد يوم نملى يوم
يزيد يناير ومارث ومايه ما فيه لوم ... يوليه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر
وبقية الشهر ثلاثين في حساب القوم
ولما ازدادت الأحوال المالية سوءا في أواخر عصر إسماعيل وشدت المسالم سئم الناس حكم الخديوي وتمنوا زواله. فلما خلع فرحوا ابتهجوا. وقد عبره الشعراء عن إحساس مواطنيهم في الشعر الكثير فمن ذلك قول عبد الله فكرى من قصيده بعثه بها إلى الشيخ على الليثى.
واقرأ على الشيخ الجليل تحيه ... مقرونة بالشوق والتبجيل
وقل البشارة، مصر ولى أمرها ... توفقها من بعد إسماعيل
جاء القناصل باتفاق مبرم ... فدعوهما لتنازل وقبول
فارتاب إسماعيل واضطربت به ... أحواله ولخطب أي مهول
وأقام يبرم أمره وبحله ... متعللا بالقال بعد القيل
حتى آتى أمر الخلافة معلنا ... مضمونه بالمنع والتنويل
فقضى الخديوي بالحكومة لابنه ... ومضى يهيئ نفسه للرحل(858/27)
ويلاحظ أن الروح العسكري الذي ظهر في عهد سعيد قد اختفى اختفاء تاما في عصر إسماعيل ليسما بعد هزيمة الجيش المصري في الحبشة هزيمة ساحقه، وبعده أخلاق المدارس الحربية التي فتحت في أوائل عصره، وبعد تغلغل النفوذ الأوربي في المصالح ودواوين وزوال هبة الحاكم المصري. لذلك لم يتغن الشعراء بالجيوش المصرية ولا بمعداتها وأسلحتها، ولا بقدامها وبسالتها، كما فعلوا في عهد سعيد، بل خرست ألسنتهم وامسكوا عن الخوض في هذا الموضوع.
أنتهي عصر إسماعيل وجاء عصر توفيق (1879 - 1892م) فوجدوه أمامه مهمة شاقه فكان الشعب بأن المظالم والكوارث التي حلت به أيان حكم الخديوي السابق، ويرزح تحت أعباء الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهله، فلا عجب إذا تطلع الناس إلى حكم جديد ينشر العدل ويقضى على الظلم.
وقد عبر الشعراء عن ذلك فيما تضموا مدائح في الخديوي الجديد.
قال السيد علي أبو النصر يخاطب توفيقا.
نرجوه إنجاز إصلاح الشؤون عسى ... يصفو به الملك دانيه وشاسعة
فأن آمالنا أمته. جازمة ... بأنها لا ترى شهما يضارعها
فكن مجيبا أبي العباس دعوتها ... فباب عطفك باقي البشر قارعه
ووال فضلك يا خير الولاة لمن ... والى لأمرك يشقى من يراجعه
واستنتج الرأي إصلاحا فقد حجبت ... شمس الهدى بسحاب فاض هامعه
وطهر الملك من علت ومنهم ... تقوده للقضا جهلا مطامعه
إلى أن قال:
فان رعيت وراعيت الحقوق فما ... أولاك بالمدح يتلوا الحمد بارعة
وقال السيد صالح مجدي من قصيدة يخاطب بها الخديوي توفيق
وتعمل في رد المظالم فكرة ... بنور الهدى طول المدى تتوقد
وتطوى بلا ريب سجل المطامع ... لها كان قبل الآن غيرك يفرد
وتصرف في نشر القناعة ما به ... بحار الملاهي والشراهة تنفد
وتنسج أحكاما قضت بابتداعها ... أمور نهى عنها النبي محمد(858/28)
فنرى من هذا الشعر أن الآمة كانت تريد القضاء على المظالم وتطلب صلاحا شاملا للأداة الحكومية. وهذه الرغبات التي رددتها الشعراء تعتبر مقدمة للحركة العربية التي ظهرت فيما بعد.
بدأت الحركة العربية في فبراير 1881م وبلغت اوجها في سبتمبر من هذا العام. وكان الليثي هو الشاعر الوحيد الذي انبرى للدفاع عن العرابيين في حادثة قصر النيل المشهورة. فقال من قصيدة.
لما رأى جنده من شبهة عرضة ... قد عارضوا واتقوا بالجزم واحتزموا
يوم العروبة إذ شوال منتصف ... راموا انتصافا وكاد السلم ينحسم
أجاب سؤلهم وهو الجدير به ... فقابلوا بحسن الحمد واحترموه
ومنها:
وهب لجندك ما قد كان وارعهم ... بين أروع سيما طبعه الكرم
هب أنهم اخطأ لم يستخف بهم ... خوف به ثورة الأحشاء تضطرم
فكان ما كان من أمر مغبته ... والحمد لله لم يلمم بها ألم
أما لدي يحرك العذب الخضم لهم ... ما يثلج الصدر يطربه صدورهم
ألست أول ذي حلم محامده ... سارت مسير الصبى والناس قد علموا
رفقا وعطفا بالصفح الجميل اعد ... عادات بر لهم في عودها عشم
فهم لملكك أنصار وهم عدد ... عند الوغى ومثار النقع مرتكم
وهم سيوفك في يوم يضربه ... قلب الجبان وموج الحرب يرتطم
وهم دروع رعاياك الذين لهم ... في وصف معناك ما تعنوا له الأمم
حاشاك مولى أن تصغي لذي غرض ... لديه سيان من يحيا وينعدم
وكان من مطالب العرابيين إنشاء مجلس نيابي. وقد أجيب هذا الطلب وافتتح الخديوي توفيق مجلس النواب الجديد في 26 ديسمبر عام 1881م وكان يوما مشهودا، وصدر دستور 1882م فقوبل بالابتهاج العام وأقيمت حفلات كثيرة لهذه المناسبة وألقيت فيها الخطب والقصائد. ومدح البارودي الخديوي توفيق بقصيدة جاء فيها:
سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجرى عليها كل راع مرشد(858/29)
هي عصمة الدين التي أوحى بها ... رب العباد إلى النبي محمد
فمن أستعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد
ولكن الحركة العرابية ما لبثت أن انحرفت عن الطريق المستقيم وساعد على ذلك دسائس الدول الأوربية ولضهد العرابيون كل من خالفهم. وازدادت الحالة سوءا يوما بعد يوم، وأنتشر الرعب وعم الفزع واختل الأمن واصبح الناس عرضة للسلب والنهب والقتل. وانزوى الأتراك والجراكسة بعيدا عن الأنظار وأوضحوا في وجل جديد وخوف عظيم. وقد صور لنا هذه الحالة اصدق تصوير حسن حسني الطويراني تركي الأصل المصري المولد والنشأة، فقال:
فكم ليال أجنتنا غياهبها ... والحزم أعينه في غمض ترفيق
وكم صباح ترى حر الهجير به ... وما لنا من ضياء بعض تأليق
نمسي حيارى وتمسى الأرض واجفة ... ونصبح والصبح في رجف وتخفيق
يعالج الحر ذوق المر يجرعه ... عبئ ورشفا إلي أن مل من ريق
يمشي العزيز ذليل في مناكبها ... والهام خافضة في رفعة السوق
أيام ما يعرف الإنسان يفكر ... من الدنى بين مكروه ومعشوق
حيث اكفهر ظلام الظلم تتبعه ... حسب المعنى بين تفتيق وترنيق
حيث الوجود تشهى أهل عدما ... وود لو كان فيه غير مخلوق
يا بأسها فئة بالغي طاغية ... بطيئها بضلال غير مسبوق
أذاقت الأرض بؤسا والسماء أسى ... وكدرت صفو ذي قيد ومطلوق
وعممت ويلها والأوطان إذ فجرت ... وخصصت أهلها للجور والضيق
لم تبقى عينا بلا سهد ولا تركت ... قلبا بسهم جفاها غير مرشوق
تجمهرت وجرت في غيها وبغت ... ودمرت بين تفريق وتحريق
جارت بما ارتكبت جالت لما ركبت ... تاهت بما أنتهبت أغرت بتلفيق
لم يحفظ حرما لم يرحموا أمما ... لم يشكروا نعما شكران مرزوق
فجردوا السيف قهرا أي منصلت ... وفوقوا الغدر سهما أي تفويق
جابوا البلاد كما خانوا العباد وهمم ... يستطلعوا طريقا غير مطروق(858/30)
فكل باب ذمار غير مفتتح ... وكل باب دمار غير مغلوق
كم حرموا من مباح القول واحتجزوا ... كم حللوا من دم بالظلم مهروق
ولا ريب في أن الطويراني لم يعبر عن شعور الأمة ولم ينطلق بلسانها. فالمصريون من غير شك كانوا في جانب عرابي. أما الأتراك والجراكسة فكانوا من أعداء العرابيين. وقد عملوا ما استطاعوا على هزيمة الجيش المصري وتمهيد البلاد للاحتلال البريطاني. وهم في هذا مدفوعون بمصالح أنفسهم حريصون على جاههم وسلطانهم الذي يتعرض للضياع والزوال إذا انتصر العرابيون. فلا عجب أن اظهروا الفرح والسرور حينما انهزم المصريون أمام الجيوش البريطانية، وراحوا يلقبون عرابي وأصحابه بالفئة الباغية، والفرقة العاصية، والبغاة الجهال، والأشقياء الملحدين، والأغبياء المتمردين، وغير ذلك مما جادت به قرائحهم السقيمة
وانتهى الأمر بضرب مدينة الإسكندرية ضربا مروعا فحل بها الخراب والدمار، واشتعلت الحرائق وانتشر السلب والنهب وفي ضرب الإسكندرية يقول عبد الله فكري:
بوارج أمثال البروج تقاذفت ... بحمد كأمثال الصواعق رجم
بواخر ترمي بالشاهقات بمثلها ... سرابا كأسراب الحمام المحوم
دوارع يلقين المخاوف آمنا ... بها سربها من كل حول ومرغم
يطارحن أسراب المدافع والوغى ... بكل رجيح وزنه غير اخرم
وسالت شعاب الأرض بالجند زاحفا ... بكل سبوح من كميت وادهم
يموج به الماذي في كل مأزق ... كما زخرفت أمواج يم ميمم
وغشى ضياء الشمس اسود حالك ... من النقع معقود بافم أسحم
تغيم منه الأفق والصحو سافر ... لثاما ووجه الجو غير مغيم
وأرعدت الأرض في السماء وأبرقت ... بصيب ودق للمنية بنهمي
وجاوب أصداء البنادق مثلها ... نداء فما يبقين غير مكلم
ونازع فيه ابن الكروب ند يده ... رسائل ليست للتودد تنتمي
ولما انهزم العرابيون واقبل الخديوي إلى مدينة القاهرة اخذ الشعراء ينظمون القصائد في مدح توفيق والتعريض بالعرابين، وكان من هؤلاء الشعراء من انضم إلى الحركة العربية(858/31)
وناصرها. فلما منيت هذه الحركة بالفشل والهزيمة، شرعوا ينظمون القصائد الطوال في التبرؤ منها والاعتذار عما فرط منهم، أو نفي بتهمة الاشتراك مع العرابيين. وممن فعلوا ذلك عبد الله فكري والليثي الذي عفا عنه الخديوي وقربه أليه. وكان من الشعراء من هو من اصل غير مصري. وقد وقف هؤلاء من بدء الحركة في جانب الخديوي، فشرعوا بعد هزيمة عرابي ينظمون القصائد في هجوه وسلبه والتشهير به والطعن فيه. وكان الطوبراني الذي سبقت الإشارة إليه اكثر هؤلاء الشعراء هجاء لعرابي وأصحابه. وقصائده التي نضمها في هذا الموضوع من امتن شعره وأجوده واصدقه من حيث التعبير عن شعور البعض والكره للعرابين للحركة العرابيه. ولم يتورع بعض هؤلاء الشعراء من الكذب والافتراء على الناس وعلى التاريخ. انظر إلى مصطفى صبحي باشا حين يقول من قصيده طويلة دعاها (صدق المقال في المثالب البغاة الجهال)
ولما أتى أسطول مصر مسالما ... أثرتم بريح البغي نار التعند
ومناكم بالمستحيل خطيبكم ... رأدمج غشا في حماس مقلد
وأوهم زورا إن فيكم بسالة ... فحاولتم بالجهل خطة اصد
وهيأنم بعض الطوابي تنمرا ... وهددهم سيمور كل التهدد
فسببتم إحراقها وخرابها ... وكانت حصانا بالبناء المشيد
فهو يقول إن الأسطول البريطاني جاء مسالما وأن عرابي هو الذي هدد. وهذه الدعوة باطلة فندها بعض مؤرخي الإنجليز أنفسهم. ولكن هذا الرجل لم يتروع عن اتهام العرابيين بما برأهم منه أعداؤهم من البريطانيين.
قلنا أن روح العسكري المصري الذي ظهر في عهد سعيد قد اختفى اختفاء تام في عصر إسماعيل. ثم جاء الاحتلال البريطاني وسرح الجيش المصري ثم كون جيش جديد صغير تحت أشراف البريطانيين. لذلك لم يكن من المعقول أن يمدح الشعراء توفيقا بالشجاعة والأقدام، والجرأة، والبسالة، وغير ذلك من ألقاب البطولة التي مدحوا بها سعيدا. فاخذوا يبحثون عن صفات أخرى تصلح لهذا الخديوي. وكان توفيق أول حاكم في العصر الحديث يكثر من غشيان الأضرحة والمساجد. فأنتفع الشعراء بهذا المظهر الديني واخذوا يمدحونه بالتقوى والورع: ثم خلعوا عليه الصفات التي اعتادوا خلعها على كل من يمدحونه كالجود(858/32)
والحلم والذكاء والعدل. وقد اكثروا من مدحه بالحلم وذلك لعفوه عن كثير ممن اشتركوا في الحركة العرابية. ومدحوه بجودة الرأي وسدادة التفكير. ومثال ذلك قول الساعاتي:
مليك بحسن الرأي دبر ملكه ... وقد يبلغ المأمون شهم التدبر
أذل له التدبير عزة من طغى ... وحاول أن يسموا العلا فتحدرا
فالتدبير هو الذي أذل عز الطغاة ولم يكن السيف والمدفع.
وقال:
ملك الوجود بجودة الرأي الذي ... قد كاد أن يحيى بها الاسكندر
بمثل هذا المدح توفيق. ولن تجد في هذه المدائح على كثرتها وإشارة إلى قوة الحربية أو ذكرا للجيش أو السلاح.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(858/33)
لغة المسلمين
للأستاذ محمد حسن الأعظمي
جهاد عشرين عاما متواصلة لا أفاخر به ولكني أحمد الله عليه وأستزيده التوفيق منه.
قال مستر غاندي يوما: (إن من الخير لسكان الهند أن لا يلجأ إلى اللغة لأنها تكتب بأحرف القرآن، وهو كتاب المسلمين وحده. وعلينا أن نختار اللغة المحفوظة عن الأمهات فقط وهي اللغة السنسكريتية، وما كدت اطلع على هذا في صحف الهند العامة حتى أسرعت في اليوم التالي إلى الإجابة، وقلت لمستر غاندي: (إن المسلمين ليس لهم أمهات سوى أزواج نبيهم عليه افضل الصلاة والسلام، وهن أمهات المؤمنين، ولغة أولئك الأمهات هي للسان العربي المبين) ولما أذاع المستر غاندي نداء يدعوا فيه إلى توحيد اللغة بين المسلمين والهنود أجبته بأن ذلك لا يمكن إلا بأن نتعلم لغتكم السنسكريتية مع لغتنا العربية وعليكم أن تسلكوا إلى الوحدة هذه السبل نفسها ثم تكون النتيجة الحتمية لهذا. هي العودة إلى الأردية مرة أخرى، فهي مزيج من اللغتين معا إلا قليلا من الفارسية والتركية. وإذا لم تصنعوا ذلك ولن تصنعوا فماذا أنتم فاعلون إذا اصطدمتم بلغات تربو على المائتين بين العشائر الهندوكية المتناثرة في أقطار الهند؟ النتيجة الحتمية لهذا التعصب ضد العربية والأردية هي الاعتماد على اللغة الإنكليزية - لغة أعدائكم - في التفاهم والمكاتبات. وهذا هو الذي حدث فعلا. فقد تخلص هؤلاء من الاستعمار العسكري ليقعوا تحت السيطرة الروحية من نسيج هذه اللغة الأجنبية عنهم. فإن كنت في ريب من هذا أيها القارئ فادخل إحدى السفارات الهندية لدى أي الحكومات أن شئت، فأنت واجد فيها بين أفرادها سلطان اللغة الإنكليزية حاكما على قلوب الموظفين فأنفذ الكلمات في أذواقهم وحديثهم ومخاطباتهم؛ وأنها لهي عبودية الروح في غشاء رقيق من حرية الجسد.
أما أنا فقد رأيت أن أمشي على سنن الطريق مسترشدا بيقيني وبما أني واثقا من أنني فيما ادعوا إليه سألاقي النصر والفوز. وتركت الجدل الكلامي وأخذت أنشئ الجمعية العربية العامة في الهند، واتبعتها بإنشاء مدارس ليلية شبيهة بالمدارس والوحدات الليلية التي يعرف الجميع نشاطها بمصر. وكنت ومن معي من المؤمنين بفكرتي مثالا من النشاط الذي لم تكن فيه اقل من الغيورين على محاربة اللغة العربية واستبدال حروفها وإخراج ألفاظها.(858/34)
ولكي نستبعد فكرة التعصب القبلي دعونا إليها كلغة القرآن والإسلام. أما الآثار الأدبية لهذه الحركة المباركة فقد كان منها كتاب المعجم الأعظم الجامع بين اللغتين العربية والأردية إلى جانب عشرات من الكتب المدرسية. وكانت حيدر أباد الدكن مركزا هاما إلى ذلك الحين لنشر العربية، إذا كان بحيدر أباد مائة ألف أو يزيدون من العرب أو من أصول عربية، فلقيت الدعوة تشجيعا وإقبالا رائعا. وقام على رياسة هذا النشاط أحد سلاطين المكلا العرب، وما كدنا نقطع من مراحل الزمن سنة حتى انتشرت المدارس الليلية في جميع مناطق المدينة وشكلت الفروع المختلفة في الضواحي والأقاليم المتاخمة. وأنشأت كلية اللغة العربية في العاصمة لتقوم بتعليم على أسس دراسية قيمة. ولكي يقطع هذا النشاط مدى بعيدا قررنا إلقاء محاضرات أسبوعية في حفلات متنقلة بين أحياء المدينة، وكنا نرى إقبال الجمهور المتزايد ويجعل الأمكنة تضيق بزوارها. وكانت تلك الحفلات أدبية مشجعة على مواصلة الكفاح العلمي والأدبي ثم رأينا أن تجري مسابقات دورية تمنح فيها المكافئات والجوائز. ومما يثير العجب أن عدد الفائزين في أخر مسابقة باللغو مائة من بينهم خمسة وسبعون من الفتيات. وقد جرت المسابقة في الكتابة الإنشائية وفن الخطابة والإلقاء. وحاولت أيضاًفي سبيل تيسير هذا التعليم أن ادعوا إلى استبدال خط النسخ العربي بالخط الفارسي بالأردية.
أما حيدر أباد ومراكز الهند الأخرى بعد التقسيم فهي في ستار مغلق دونيالآن - فقد وليت وجهي شطر الوطن الإسلامي الباكستاني - ولقيت فيها الدعوة مكانا خصبا. فلعلي استمد هذا الروح نحو تعليم العربية من أيمان شعب الباكستان الذي تشرف فيه الحكومة نفسها على الجمعية العامة للغة العربية. واصبح خط النسخ العربي رسميا في مكتبات الدولة وأعمالها العامة.
واللغة العربية مادة إجبارية في مواد التعليم الثانوي. كما خصص ركن من إذاعة اللغة العربية. وحضرات أصحاب المعالي الوزراء في باكستان وفي مقدمتهم صاحب المعالي وزير المعارف العمومية فضل الرحمن مقبولون بأنفسهم على تعلم هذه اللغة.
ولعل بعض القراء يذكر أن فخامة حاكم البنجاب السردار عبد الرب تشتر - هو الذي يرأس أكثر الحفلات العربية ويلقي فيها خطبه المرتجلة في عبارات سليمة واضحة.(858/35)
وليس هذا كل شيء، فإن الخطوة المباركة الحقيقية هي وصولنا إلى ذلك القرار الحكيم الذي وافق عليه مؤتمر العالم الإسلامي الدائم وهو اعتبار لغة القرآن لغة عامة للمسلمين جميع، وكتابة لغات العالم الإسلامي بخط النسخ العربي. كما ألقيت اكثر خطب المؤتمر في كراتشي باللغة العربية. وإذا كنا نحن الباكستانيين قد بذلنا هذا الجهد المتواضع لتعميم العربية الفصحى وأحياء تراثها المجيد، فإني أهين بالناطقين بالضاد إلى المماليك العربية أن يجعلوا واجبهم الأول تعميم اللغة العربية الفصحى وأحياء تراثها المجيد، وأن لا يقصروها على مكاتباتهم في دواوين الحكومة، وعلى أعمدة الصحف. فعلى كل من يجيد العربية أن يخاطب بها غيره في المكتب والطريق وفي الأندية والأسواق وفي التعامل التجاري وفي التبادل الثقافي. وسيقول قائل أن الطريق شاق والمطلب عسير، فأقول لهؤلاء ليس بين العامية الدارجة والعربية الفصحى سوى تصحيح كلمات وإعراب جعل وصدق في توجيه قبل كل شيء. وما هو إلا قليل من التدريب يتلوه النصر القريب.
كثيرا ما رأيت طلاب البعثات الوافدة إلى مصر والأزهر يعودون مزودين باللغة العامية، وما هجروا أوطانهم إلا للغة العربية السليمة الفصحى!
وقد بدأنا نحصل الغرامة المفروضة من أعضاء المؤتمر الإسلامي على كل من يلجا إلى غير العربية الفصحى أثناء كلامه. ويتجه نظريالآنإلى الكعبة العلمية الإسلامية اعني (الأزهر الشريف) ليبدأ هذه الخطوة من جانبه بين أساتذة المعاهد وطلابها، فهل يتحقق أملي؟
محمد حسن الأعظمي
عميد كلية اللغة العربية في الباكستان(858/36)
ركن المعتزلة
إرادة الله في مذهب المعتزلة
للدكتور البير نصري نادر
الفعل الإرادي عند الإنسان يشتمل على إدراك غاية يصل إليها وعلى مشاورة، حيث أن بواعث كثيرة تبدو أمام الإنسان، وعلى عزم؛ اعني اختيار باعث من ضمن هذه البواعث؛ وهذا الاختيار يضع حدا للمشاورة؛ وأخيرا على تنفيذ أو عمل - لكن الله الكلي الكمال لا يعرف المشاورة لأنا دليل على الضعف إذ أنها تشتمل التردد. كانت لذلك أرادته تعالى تختلف كل الاختلاف عن أرادتنا.
تعريف المعتزلة لإرادة الله:
إرادة الله في مذهب المعتزلة من الاعتبارات الذهنية التي يقولون بها مثل العلم والقدرة، والتي لا يوجد حقيقة لأن ماهية الله بسيطة وكاملة. وبناء على ذلك تكون الإرادة هي ذات الماهية اعني أنها قديمة لا متناهية وكاملة. لذلك يقول النظام والكعبي أن الله غير موصوف والإرادة على الحقيقة وأن ورد الشرع بذلك. فالمراد بكونه تعالى مريدا لأفعاله أن خالقها ومنشأها، وإن وصف بكون مريدا لأفعال العباد، فالمراد بذلك أنه أمر بها، وأن وصف يكون مريدا بالأزل فالمراد بذلك أنه عالم فقط - وهكذا ترد المعتزلة إرادة الله إلى علمه اعني إلى ماهيته. وإذ قال النجار (يعني كونه تعالى مريدا أنه غير مغلوب ولا مستكره) فإنه يكرر قول النظام على شكل أخر، لأن لا يوجد في الله ولا خارجا عنه تعالى أي مؤثر يرغمه على العمل، إذ أن علمه تعالى هو أيضاً قدرته وأرادته - ويوضح الجاحظ خصائص الفعل الإرادي بقوله: مهما أنتقى السهو على الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو مريد، وإذا مالت نفسه إلى فعل الغير سمي ذلك ميلان إرادة ولكن في الله لا يوجد مثل هذه الميلان، لأن علمه لا متناهي وكامل، فلا يمكننا إذن التكلم عن إرادة الإلهية مثل أرادتنا - أن الله مريد بالمعنى الذي يعطيه الجاحظ لهذا اللفظ أي أنه يحقق علمه - وأيد الكعبي على كل ذلك بقوله إنما دل على الاختصاص على الإرادة في الشاهد لأن الفاعل لا يحيط علما بكل الوجوه في الفعل ولا بالغيب عنه ولا بالوقت والمقدار، فاحتاج إلى قصد وعزم وإلى(858/37)
تخصيص وقت دون وقت، ومقدار دون مقدار. والباري تعالى عالم بالغيب مطلع على سرائره وأحكامه فكان علمه بها على المقدرة عليها كافيا عن الإرادة والقصد إلى التخصيص، وأنه لما علم أنه كل حادث يوقت وشكل وقدرة فلا يكون إلا ما علم، فأي حاجة له إلى القصد والإرادة؟ وننتهي من هذا كله إلى أن إرادة الله هي علمه اعني ذاته.
إرادة الله وخلق العالم:
تقول المعتزلة إن خلق العالم متعلق بإرادة الله، وهذه الإرادة هي من صفات الأعمال. لكن بعض معتزلة فرع البصرة مثل بشر ابن المعتمر ومعمر كانوا يقولون أن هذه الصفة حادثة لأن موضوعها - وهو العالم المخلوق - حادث. بينما البعض الأخر كان يقول أن هذه الصفة أزلية.
حيث أنها تتعلق بماهية الله وهي أزلية - ولكن جميع المعتزلة متفقون على أن هذه الإرادة - أزلية كانت أم حادثة - سابقة على خلق العالم. فعليه يكون العالم أما أزليا وأما حادثا -
لنتعقب أقوال المعتزلة في هذا الموضوع الدقيق. يقول أبو الهذيل إن خلق الشيء الذي هو تكوينه بعد أن لم يكن هو غيره وهو أرادته تعالى له وقوله: كن - والخلق مع المخلوق في حاله وليس بجائز أن يخلق الله شيئا لا يريد ولا يقول له: كن. ويضيف أبو الهذيل على ذلك قائلا بأن خلق العرض وخلق الجوهر هو غيرهما. ويقول أخيرا أن الخلق الذي هو إرادة وقول لا في مكان من هذا القول يتضح أن الخلق هو بداية الوجود الذي يمنحه الله لشيء كان غير موجود. ثم أن هذا الخلق يتميز تماما مع الشيء الذي كان في حالة العدم قبل خلقه - فيكون الخلق متعلقا بإرادة الله التي تتحقق في وقت ما ويصبح هذا الوقت بداية الوجود - من الضروري أن نبين أن أبا الهذيل كان يؤكد الفرق الموجود بين إرادة الله لخلق الشيء وبين هذا الشيء المخلوق الذي هو موضوع الإرادة. إن هذه الإرادة في زعمه (وهي منبع الخليفة) لا توجد في محل. وسبب ذلك أن الله لا يشغل محلا لأن غير مادي، فعليه لا يمكن أن تكون أرادته في مكان لأن المادة فقط تشغل حيزا. ولكن موضوع هذه الإرادة مادي وهو الخليقة. فهي تشغل مكانا معينا. ومن هنا قامت المشكلة العويصة المتعلقة بطبيعة العالم المخلوق وطبعه لله: إنهما لطبيعتان مختلفتان كل الاختلاف ومتميزتان تمام التمييز: الواحدة منهما وهي الطبيعة الإلهية تمنح الوجود فقط للأخرى التي(858/38)
هي الطبيعة المادية - وماهية العالم المخلوق خلاف ماهية الله.
ويقول النظام من جانبه أن الخلق متعلق بإرادة الله، والخلق هو منح الوجود اعني تكوين - وهكذا يميز النظام إرادة الله عن موضوع هذه الإرادة وهو العالم المخلوق. ولكن النظام لا يقول أن هذه الإرادة متميزة عن ماهية الله. وبناء على ذلك تكون هذه الإرادة قائمة منذ الأزل. فمسالة خلق العالم مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسالة إرادة الله.
المعتزلة والمذهب الحلولي:
إن المعتزلة مجمعة على تمييز إرادة الله عن موضوع هذه الإرادة. وهكذا يقررون موقفهم ضد المذهب الحلولي. وإلاشعري يؤكد موقف المعتزلة هذا كلما ذكر أحد رؤسائهم مثل معمر وبشر ابن المعتمر والمر دار والجبائي. فنجد مثلا في مقالاته هذا القول: يزعم المعمر أن خلق الشيء غيره. وإن الخلق قبل المخلوق وهو الإرادة من الله للشيء - وكذلك كان يزعم المردار. وهذه كلها أقوال واضحة تنفي المعتزلة بمقتضاها كل مذهب حلولي أو كل ما يؤدي إلى الاعتقاد بوحدة الوجود.
إرادة الله والشرع:
كما أن المعتزلة تقول أن الخلق متعلق بإرادة الله كذلك يقولون أن الشرع (القانون الخلقي) متعلق بهذه الإرادة أيضا. إذا هم قالوا إن الإرادة توافق الأمر فإنهم يميزون أيضاً هذه الإرادة عن الشريعة التي تأمر بها. ويقول أبوالهذيل بهذا الصدد إن إرادة الله للأيمان هي غيره وغير الأمر به فعليه إذا قلنا الله يريد شيئا وجب علينا أن نميز بين أرادته تعالى وموضوع هذه الإرادة. ولإرادة الله موضوع حتما، لذلك قالت المعتزلة إن الله يريد الشريعة. لكن هل الشريعة تكتسب قيمتها الخلقية من إرادة الله أم هذه القيمة موجودة ضمنا في الشريعة نفسها؟ نكتفي هنا بقولنا إن المعتزلة كانت تزعم أن الخير خير في ذاته وأن الشر شر في ذاته وليس بموجب إرادة الله. والله يريد الخير ويأمر به لأنه خير في ذاته، وينهي عن الشر لأنه شر في ذاته. فالله لا يختار جزافا أمورا ويقول عنها أنها خير أو شر، لا بل هذه الإرادة الكلية الكمال تميل طبعا نحو الخير وتنفر طبعا من الشر.
وهكذا يكون خلق العالم متعلقا بإرادة الله، والشريعة أيضاً متعلقة بهذه الإرادة. ولكن هذه(858/39)
الإرادة وأن مالت طبعا نحو الخير لا تختار جزافا ما هو خير وتأمر به، بل أنها تأمر بما هو خير في ذاته.
إرادة الله وهوية الإنسان:
يريد الله الخير لذاته ويأمر به ولا يمكنه أن ينتج الشر، بل إن الله ترك الإنسان حرا أن يخضع أو لا يخضع لأرادته تعالى وعي إرادة الخير. فالشر يأتي إذن من كائن حر الإرادة يمكنه أن يختار الخير أو الشر بينما الله تعالى الكلي الكمال لا يمكنه أن يريد أو يختار واهو نقص وعدم كما مطلق لأن أرادته هي علمه وعلمه هو ذاته وذاته كاملة. هكذا تميز المعتزلة إرادة الله عن إرادة الإنسان.
فرد جميع صفات الله إلى ذاته تعالى جعل المعتزلة تنظر إلى العلم والقدرة والإرادة نظرة تختلف كل الاختلاف عن هذه الصفات في الإنسان. وهذا أمر طبيعي ومنطقي يتفق تماما وتعريفهم لله تعالى إذ يقولون أنه كمال لا متناهي وكل صفة فيه مجرد زعم ومجرد اعتبار ذهني ليس إلا.
البير نصري يادر
دكتور في الآداب والفلسفة(858/40)
أيها الملاح استرح
آن لك أيها الملاح التائه أن تهتدي. . .
فها هو الشاطئ الذي كنت تريده وتبغيه
رحلت أيها الصدق إلى الأبدية!
ولا زال لحنك يرن في أذن الوجود والأجيال.
كنت تريد أن تستشف الحجب لترى اللانهاية.
فها أنت فيها. فحدثنا ستسمعك القلوب النقية.
لأن الآذان البشرية أصمتها ضراخ ذبائح الفضيلة.
أيها الملاح لقد وصلت واسترحت. وتركت لنا الحيرة والعذاب!
بالأمس وعلى صفحات (الرسالة) كتبت لك.
أيها الملاح التائه يحبك قلبي.
لأنك مثله ولأنك ملؤه.
واليوم اكتب لك على صفحات رسالتك.
أيها الملاح استرح.
فقد طالت حيرتك وكثر تعبك.
وهنيئا لك. . . فاطو شراعك.
فقد آن لك أن تصل وعليك السلام.
عزت حماد منصور
مؤلف عبقرية علي طه(858/41)
بين الأمير شكيب وعزت باشا
كان المغفور له الأمير شكيب ارسلان صديقا حميما لصاحب المقام الرفيع عبد العزيز عزت باشا. وقد أقاما بسويسرة سنين متقاربين متقابلين وكان يتحف صديقه من وقت إلى أخر بفكاهة أو نكتة مليحة تسلية له وللأصدقاء.
وحصل أن مرض الأمير شكيب وقام بعلاجه طبيبة الدكتور بيكل أحد مشاهير الأطباء في جنيف، وصارت بينهما وبين هذا الطبيب مودة، فنظم الأمير بعد شفائه قصيدة ثناء على الدكتور لاهتمامه به ونجاجه، وقد ضمنها أشياء أخرى من باب تسليه دفعها اصدقه رفعة الباشا ليترجم للدكتور مضمونها. وقد فعل.
ولقد ضمني ورفعة الباشا مجلس قص علينا فهي ما كان للأمير شكيب من حسن المحاضرة وجميل العاشرة؛ ومن بين ما عرضه علينا من آثار تلك القصيدة التي حوت مع أفاكه على حد قوله تحميداً وتوحيداً، فرأيت تسلية إقواء الرسالة بها إذا راقت لصاحبها الأستاذ الجليل والسلام.
أحمد نجيب برادة
قصيدة الأمير شكيب ارسلان
سيدي لا عدمته
أريد أن أسليك وأن افكهك من وقت إلى أخر. فإن اللذات لعقلية اهادور لا ينكر. فهذا آبيات نظمتها لتطربك، فيها نكات وملح، وفيها مواعظ وحكم، وفيها تحميد وتوحيد، والله المستعان.
أقول لبيكل مذ قد غدا ... يساوره دائي المعضل
قضى بك ربي شفاء لسقمي ... وربي لما شاءة يفعل
تفردت في حكماء الزمان ... فأنت بحق لهم أول
وأحسنت ترقيع شيخوختي ... فلله درك يابيكل
وكنت قليل الرجا في الحياة ... فعادت حياتي كما أومل
وذقت لعمري لذيذ الرقاد ... وهل للكرى مثل يعدل(858/42)
وزاد اشتهائي لقضم الطعام ... فقد صلح النوم والمأكل
وقد كان لي نفس ضيق ... إذا بات يصعد أو يسفل
فقد رجعت رئتي حرة ... يجول بها النفس الأطول
وقد كنت أمشي ببطيء عظيم ... كمن قد غدا جبلا يحمل
وما كان خطوي خطوا ولكن ... خطى سحبتني بها الأرجل
فها أنذا صرت أمشي سريعا ... على قدر ما شئت أستعجل
وقد كنت أرجف بردا وإن ... تلك النار في جانبي تشعل
فقد صرت مستغنياً عن صلاها ... وأخرج ليلاً ولا أسأل
نعم قد أتاني أخيراً زكام ... وهذا بكل الورى ينزل
وكان سعال ومن ذا الذي ... يمر الشتاء ولا يسعل
على أنه قد مضى كله ... وعاد إلى صفوه المنهل
ومهما يكن المرء مستقصيا ... فلا بد من أن أنه يغفل
وينسى ولاسيما إن غدت ... هناك الخطوب التي تذهل
فاستغفر الله إني نسيت ... فللثوم في صحتي مدخل
وما في النبات لعمري نبات ... أجل من الثوم أو أمثل
كريه الروائح لكنما ... ثناه هو المسك والمندل
وأن الشرايين عند الشيوخ ... لتيبس من فرط ما تذبل
فبالثوم يمكن تليينها ... ومجرى الدماء به يسهل
فحييت ياثوم من بقلة ... خيوط الحياة بها توصل
معيد الشباب وفيه أكله ... يطول السباب ولا يأفل
وبيكل الثوم مستحسن ... ومن ذا الذي فضله يجهل
فحمدا لربي على صحتي ... إلا إنه وحده الموئل
عليه توكلت وهو اللطيف ... الذي من يرجيه لا يخذل
ولا بد لي من معاد ولكن ... معاد إلى الحق ولا يثقل
ومن حل يوماً بدار الكريم ... فياليت شعري هل يهمل(858/43)
نحب الحياة ولسنا لندري ... لعل الذي بعدها افضل
ولكن عمرا طويلا يلذ ... ويحلو لكل امرئ يعقل
وإنا برغم كروب الحياة ... لنرغب في أنها تمهل
وإن حياة الرجال العظام ... حياة لغيرهم تشمل
وإن حياة الرجال الكرام ... دوام الدعاء لها يجمل
فأبقاك ربي يا سيدي ... بثوب ألهنا دائماً ترفل
وأبقى ذويك جميعاً بخير ... سحائبه أبداً تهطل
عملت من الخير شيئاً كثيراً ... فأنعم فذا خير ما يعمل
الداعي شكيب أرسلان(858/44)
الأدب وألفن في أسبوع
الأستاذ عباس خضر
محنة وتضامن
أشرت في الأسبوع الماضي إلى مقال الدكتور طه حسين بك عن المازني في الأهرام، واقتراحه فيه على وزير المعارف أن يكتب إلى رئيس الوزراء طالبا تقرير معش لأسرة المازني. وقد عاود الدكتور طه الكتابة في هذا الموضوع بمقال عنوانه (تضامن) دعا فيه - بعد أن أبدى يأسه من استجابة الحكومة - إلى أن يتضامن الأدباء (ويجمعوا أمرهم على أن ينغصوا على رئيس الوزراء ووزير المعارف أمرهما كله، وأن يؤرقوا ليلهما ويجعلوا ليلهما عسيرا، حتى يفرغا من هذه القصة، ويفرغوا منها على النحو الذي نريده لا على غيره من الأنحاء)
وقد بدا شعور الدكتور طه في ذينك المقالين صادقا نبيلا، وقد بدا هو في كتابته إنسانا هماما، وأريد أن أستطرق إلى ما أريد أن أقول بأنه واجه الأمر مواجهة عملية على ما يقتضيه واقعنا وما تجري به الأمور في حياتنا الراهنة، فقد رأى أن آسرة المازني طال بها الانتظار أكثر مما ينبغي دون أن يعمل لها شيء يكفل لها الحياة الكريمة اللائقة بها، فلم يمن بد من أن يتناول الأمر على ذلك النحو، ولكني لا أستطيع أن اكتم إحساسا دقيقا يضطرب في نفسي، وهو أن عرض هذه المسالة على الصحف يمس كرامة الآسرة، وكان ينبغي أن يوجد الباعث على التدبير المنشود لها دون إثارة علنية، فإن لم يوجد هذا الباعث لدة ولاة الأمور أو شغلهم عن الشواغل، نبهوا عليه، وكان ينبغي أن يكون هذا التنبيه نهاية الأعذار. ولكن ما تجري به الأمور في حياتنا الراهنة غير ذلك، فقد تجاوز الكاتبون نهاية الأعذار، وجاء الدكتور طه فحمل حملته الصادقة، ومع ذلك لإنزال (الرسميات) نائمة كان أحدا لم يوقظها. . . ولو استقامت الأمور لما اضطر أحد أن يكتب في ذلك، بل كان يتم كل شيء على ما يرام دون أن يعلم الناس بشيء، فجناية الدولة مركبة من الإهمال أولا، ثم من اضطرار الكتاب إلى المجاهرة.
والرسميات التي تصم إذنيها إزاء الأدباء، ذات حساسية شديد في مواطن أخرى. وليس أبناء الأدباء بأقل استحقاقا الرعاية - لو استقامت الأمور - من أبناء (الباشوات) فليس أباء(858/45)
أولئك أقل خدمه وأثرا في مصلحة البلاد ورقبها من أباء الآخرين.
وأريد لهذا المناسبة أن أشير إلى شيء ينفع في هذا الصدد، فقد كان في وزارة المعارف لجنة تقرير الكتب للمطالعة الحرة في المدارس الثانوية،، وقد اختارت في العام الماضي كتبا كثيرة يستفاد منه مؤلفوها آلاف الجنيهات، وللآسف البالغ مداه أن المازني لم يقرر له فيها كتاب. ولندع ما فات، فوزارة المعارف تستطيع الآن أن تقرر بعض كتب المازني، فتحقق بذلك أمرين جليلين، أولهما النفع المادي للأسرة، وانتفاع الطلاب بمؤلفات الأديب الكبير، ولاشك أن هذه المؤلفات تنال إقبال الطلاب عليها، كما أن فأفئدتهم من قرائتها محققة، لما فيها من السهولة والطلاوة إلى جانب القوة والغزارة. وهي على حال ليست أقل مما قرر مهما تواضعت!
تلك هي المحنة، وما هي محنة المازني وآسرته فقط، وإنما هي محنة سائر الأدباء في مصر - وجلهم من هذا القبيل - وما ينتظر آسرهم من بعد العمر الطويل. أما التضامن فهو ما دعا إليه الدكتور طه إذ قال: (أما بعد فقد أن الأدباء فيما يعتقد أن ينظموا أمرهم، ويجمعوا كلمتهم، ويؤلفوا جماعتهم، ويضمنوا لأنفسهم أسماع الحكام وغير الحكام ما ينبغي أن يسمعوه) فهل تجد هذه الدعوى صدى عند الأدباء وخاصة كبارهم؟ لقد صار لكل طائفة فيمصر هيئة تنظم أمورها إلا الأدباء، وصار المحامين نقابة، وكذلك المهندسين والأطباء والممثلين والموسيقيين وغيرهم، أما الأدباء فهم يعيشون عيشة فردية بحتة، مع أنهم من أحوج الناس إلى النظام الجماعي لرعاية حقوقهم وتنظيم شؤونهم الأدبية والمادية؛ ولاشك أن الجماعة المنشودة يجب أن يقودها الكبار، وها نحن قد سمعنا صوت الدكتور طه حسين، وبودنا أن نسمع غيره.
مسرحية ليلة من ألف ليلة:
قدمت الفرقة المصرية هذه المسرحية على مسرح الأوبرا الملكية ابتداء من يوم الخميس الماضي، وهي مسرحية غنائية من نوع (الأوبريت) وقد سدت بها الفرقة نقصا كان ملحوظا في إنتاجها في السنوات الأخيرة، وقد جاءت الرواية حقا ليلة حالمة من ليالي ألف ليلة، أحيتها الموسيقى وشاعت فيها الأنغام وإلا لحان.
وتقع حوادثها ببغداد في عصر خليفة من العباسيين غير معين، فليس المقصود أن تكون(858/46)
رواية تاريخية، وإنما هي أقباس من تلك العهود تتسم بسمات العاصمة العباسية، أخرج منها عمل فني للإمتاع وتغذية المشاعر
تدور الأحداث حول شخصية شحاذ (شحاتة) يتزعم أهل الحرف ببغداد، ويكسب من الشحاذة ما يكفل له أكثر من الكفاف، ويعيش مع ابنته (نجف) ومربيتها، أما زوجته أم نجف فقد اختطفه (جوان) قاطع الطريق الذي يلقاه مصادفة فيشتبكان في مشادة تنتهي بتهديد الأول للثاني، ويعلن شحاتة اعتزال الشحاذة وأنه لابد منتقم من خاطف زوجته، ونعلم مما يدور بينهما أن لجوان ولدا اختطف منه وهو صبي. ويظهر موكب الخليفة في أحد الأسواق فنراه شابا صالحا محبوبا من الرعية وله وزيران حفصويه والمعتصر. تظهر بعد ذلك نجف في منزل والدها ويهبط عليها شاب في زي بستأني، وينعقد بينهما الحب والعهد على الزواج أما شحاتة فإنه يرتكب سرقة ويساق إلى الوزير المعتصر الساخط على الخليفة، وهو وزير فاسد يعكف على الخمر والنساء، فيرى في شحاتة رجلا جريئا فيعفو عن جريمته ويصطنعه لاغتيال الخليفة ثم يضبط شحاتة وهو يحاول قتل الخليفة فيساق إلى السجن ويلتقي فيه بغريمه جوان الذي سجن لأن شحاتة دل الوزير عليه باعتباره قاطع طريق. ويقتل شحاتة جوان في السجن ويهرب من بحيلة. ويقابل المعتصر ويعرف من بعض الدلائل أنه ابن جوان الذي فقده صغيرا، فيقتله أيضا. ويقبل الخليفة بحاشيته وحراسه فيسر لقتل الوزير، ويعلم من حديث شحاتة أن له بنتا اسمها نجف وهي التي هبط عليها متخفيا في زي بستأني، فيأمر بإحضارها، كما يأمر بنفي أبيها من بغداد حتى لا يرى الناس الشحاذ صهرا للخليفة وتحضر نجف وتفاجأ بأن حبيبها البستاني ما هو إلا الخليفة بعينه وينتهي المنظر الأخير بالخليفة ونجف حبيبين على أهبة الزواج.
وحوار الرواية من زجل الأستاذ بيرم التونسي، وهو ينساب على الألسنة طبيعيا، وفيه إشراق وقوة وموسيقى، ولم أجد فيه غير لفظة واحدة قلقة استدعتها قافية الزجل في غير موضعها، وذلك حين أراد الوزير المعتصر أن يتنصل من تهمة التدبير لقتل الخليفة فوصف شحاتة بأنه رجل (قبيح) وهو يقصد أنه كاذب. ويتجه سير المسرحية مع تحريك الأقدار حتى ينال كل فاعل للشر جزاءه، ويسعد في النهاية الخليفة الصالح والفتاة البريئة. وفها نماذج بشرية يتضمن عرضها معاني إنسانية والتفاتات شعورية، وقد تجلى ذلك في(858/47)
شعور الأب (شحاتة) نحو ابنته (نجف) فقد تحكم حبه أباها وحرصه على سعادتها في سير الحوادث إذ اضطره بهذا الدافع إلى المطاوعة في التدبير لاغتيال الخليفة، وغير ذلك من المواقف الرائعة.
وفي الرواية ما لا يثبت أمام منطق الوقع، من ذلك منظر نجف حين هبط عليها البستاني؛ فقد استقبلته كأنهما على ميعاد، مع أنه أول لقاء بينهما، ودار بينهما الحوار الغنائي غراميا حارا من أول وهله. . . وليس نفي الخليفة لصهره من المدينة بالذي يمنع أن يقال أنه تزوج بنت شحاذ. ولعله من القسوة على الرواية أن تأخذ بذلك، لطبيعتها إذ لا يقصد بها الواقعية، وهي إلى هذا (أوبريت) يمكن أن يتجاوز فيها عن مثل ذلك.
وجهد الكبير الذي اكسب الرواية حياة جديده، هو فلا الإخراج، فقد بذل فيها الأستاذ زكى طليمات كيرا من جهده وفنه، ويبدو ذلك في ناحيتين، الأولى ناحية المناظر الستة التي تسلسلت فيها الوقائع، المسجد، والسوق، ومنزل شحاته، والسجن، وقصر الخليفة، وبيت الوزير. كل ذلك مطبوع الزمان والمكان، تتوزع الأضواء مع كل منضر وعلى كل شخص كائنها تحليل نفسي وقد كان منضر الجو المحيط بنجف في منزلها وهى تحدث مربيتها عن الشمس الساطعة يمثل النهار في رابعته ونحن في الليل. . . الناحية الثانية هي ترتيب مواقف الممثلين وتحريكهم فقد وفقه في ذلك غير أنه يخيل إلي أن (الكورس) استعصى عليه في بعض الموطن لأنه خليط من غير المدربين الأكفاء. والجمال المعدوم في (بنات الكورس) بدرجه مخيفة. وقد بدا (فقر الجمال) جلين في اللائي رقصن. وقد كان الشحاذون أمام المسجد كثيرين جدا فكان هذا المنضر مبالغة لا داعي لها، على حين كان السوق غير عامر بالناس كما ينبغي، والدكانان اللذان به لا تظهر عليها سمة الدكاكين. وكان منظر (بائع الزردة) في السوق ظريفا وقد أضفى على المنظر روح السوق وحركته. مما أعده من قبيل التحليل النفسي في الإخراج ما صنعه الأستاذ زكى طليمات إذا ظهر صدا الوقائع الرئيسة على حركات الجمع المحتشد في كل المواضع التي تطلب ذلك فقد جعل بعض المتجمعين من الصبية وغيرهم يندمجون فيها يقع وتصدر منهم تصرفات مماثلة له، كأنهم ظلال أو خيالات في مرآة. وقد ظهره موقف الخليفة ماراً بالسوق على طريق مرتفع تمر عليها الجياد وتحمل الخليفة فكان منظرا جليلا، ولا شك أنة كان من الضرورة المسرحية(858/48)
أن يقود الخيل سائسوها لينتظم سيرها على المسرح.
وقد مثل (شحاته) فؤاد شفيق فأنقذا الدور من المصير الذي كان ينتظره لو مثله يوسف وهبي. وقد تقلبت به صروف الأحداث من شحاذ إلى مستشعر للنعمة وراغب في الترف، وواقع في الشدائد فادى ذلك كله احسن أداء وبلغ الغاية في تمثيل الأب الجاني على ابنته الوحيدة، وقام عليه عنصر الفكاهة فكان ظريفا في حركاته وجرس كلامه. والذي يأتي بعده في الترتيب أحمد علام، وكان الدور ملائما له وقد أندمج فيه، واستطاع أن يمثل دور المرح والمجون كما ينبغي على خلاف ما كان في دور امرئ القيس برواية (اليوم خمر) فقد حقق هنا ما كان ينقصه هناك.
ومثلت فردوس حسن دور زوجة الوزير المعتصر التي يهملها الزوج فيسعى إلى الآن تقام منه عن طريق الاتصال بغيره، وقد أجادت في تمثيل الأغراء، وأدت دورها في الحدود التي وضعت له وكان في هذا الدور مبالغة في التهافت على رجل غير أهل لذلك، وظاهر أنه قصد الإغراق في الفكاهة وتجديد نشاط النفوس باستمرار التشويق. وقامت المطربة شهرزاد بدور نجف، والدور لم يتطلب منا كبير عناء في التمثيل، بل كان جهدها منصبا على التعبير بالغناء، فكان غناءها معبراً وظلها خفيفا، وكانت تساير طبيعة المواقف المختلفة، فتهتم في بعضها بالتعبير والتصوير بالنغم، ولم يكن ياس من التطريب في موقعه. وقد حرصت شهرزاد على زينته حتى في المواقف التي لم تكن الزينة مناسبة لها، كما ظهرت عند باب المسجد مع أبيها الشحاذ.
أما كارم محمود فقد مثل الخليفة فلم ينطبق عليه الدور، لأن كان ضعيف الشخصية فكان منظره مثلا على الجواد كمنظر الصبي يحتفل بختانه. . . وكارم مغن مجيد في التمثيل المسرحي، وليته أمكن أن يكون في غير دور الخليفة.
وكانت الموسيقى جيدة متمشية مع الإلقاء والغناء في انسجام ممتع مصورة لجو الرواية في مواقفها المختلفة، وقد وضعها أحمد صدقي فكانت ألحانه عنصرا من عناصر النجاح في هذه (الأوبريت).
عباس خضر(858/49)
البريد الأدبي
أخي الاهواني
فما الإغراب على بابي ولا من زادي. وغيرك ناسياً ذكرت، فإنا وإياك لعلي ماتة بارث من العربية، ما اكثر دقيقاته، وأدق خفيانه. ورأيت الناشئة على اللين الهين تراد، ومن الجزال الرصين تنفر. وأحسست البائنة بين وروث ووارث، وخفت الضيعة له ولنا. فرغبت في الذي أشرت غير مكثر، أخص فئة واعية واقية، تحمل الأمانة مؤداة، حتى لا تنفصم عروة، أو تنحل عقدة، فنضل ماضينا بما أنتج.
وقولتك النقل مغناي عن إسهاب، فما ظنك بمن هم همك، ومد إلى القديم يدا فارغة إلا مما خف، واتجه إليه بعقل لا يسيغ المشكل، ولا يقوى للمعي. أتراه قادرا قدرتك ومالكا ملكك.
أخوف ما أخاف أن تفاجأ غدا بجيل يلزم أحدهم بتحرير نقل قديم فيعيا به، وأن تنظر إلى هذا التراث مركوما في عيبات لا يحل وكاء، ولا يكشف عنها غطاء.
فتراني لهذا اقدر القديم قدره، وأحبب أليه، فهو دون الجديد بمظنة نسيان، وعلى حافة ترك. وما أنا عن الجديد بمرغب، فالحضارات من هذا وذاك. وما لك حيا ترى التحول فناء، والتغير يلي، وعلى أي رأي كنت، فما الجديد إلا تحول من القديم، وامتداد له، وما مضمومات ذاك الأمور من مضمومات هذا. والرأي من الرأي، والشيء للشيء تبع.
وتجرني إلى حديث أطول من ليل العليل، واعقد من ذنب ضب. فعن أي نفس أنت مدير الحديث؟ أهذه النباتية ذات التولد، أم تلك الحيوانية ذات الحركة الإرادية، أمالإنسانية ذات الأفعال الفكرية، أو أنت عند النفس مع قول الجنيد أنها من مستأثر الله تعالى، أو مع المتكلمين في القول باشتباكها بالبدن اشتباك الماء بالعود، أو مع الفلاسفة في أنها لا جسم ولا عرض متعلقة بالبدن تعلق تدبير وتحريك.
ودعاك التشابهان بنية، المختلفان حركة، إلى أعمال فكرة. واليك يساق الحديث. فالنون والفاء والسين - كما يقول ابن فارس: اصل وأحد يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح أو غيرها.
وقول القائل (نفس الله كربته) من ذاك، لأنفي خروج النسيم روحا وراحة. وإذا قيل للماء نفس، فذلك لأن قوام النفس به قولهم (شئ نفيس) أرادوا أنه ذو نفس، بالتحريك.(858/50)
ثم جاءت (النفس) بالإسكان في شتى معانيها. وأخال اسبقها الروح، وهل هي إلا أنفاس؟
وإذا كان (النفس) بالتحريك، ما تعلم، فهو بالشمومات الصق، والعنبر أو المسك أزكى محمولا عليه وأطيبه. وما أنت بمنكر بعدها حمل (النفس) محمولا، على العنبر أو المسك، محمولا عليه. كما لست بمغيب عليك أن يصف واصف المتصل الجرية بطول النفس والمنقطعة بانقطاعها.
قدم معاوية من الشام فدخل على أبيه أبي سفيان، فقال له يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم. فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا، فصرنا اتباعا وصاروا قادة. وقد قلدوك جسيما من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه - يريد الاستراحة بعد بلوغ الغاية.
وبعد، فأحذر حذرك، وفهم غير فاهم، من قول القائل،
أخا النفس نفسنا وللنفس نفسها ... ونفسك فاشحذها أو النفس فاسفك
إبراهيم الأبياري
إلى الأستاذ أنور المعداوي
جاء من عدد الرسالة رقم 855 في تعقيباتكم بأنكم تسلمتم رسالة من الأديب عبد الله نافع (عطبرة سودان) وفيها يرمي زميله السوداني سيد أحمد فنأوي بأنه يبعث إلى (الرسالة) بأقاصيص منسوبة إلى الإنجليزية حينا وإلى الفرنسية حينا أخر، مع أنه لا يجد هذه ولا تلك، فهذا حق؛ إذ أن تلك الأقاصيص التي تصلكم للنشر ليست من ترجمته ولا من أسلوبه. وأنا أزيح الستار عن الحقيقة فأذكر لكم أنني عثرت يوما على مجلة (قصص الشهر) الصادرة في سبتمبر سنة 1945 فرأيت فيها قصتين إحداهما للقصصي الإنجليزي فيرنيك مولتار وهي قصة (اكسير الحب) ويؤلمني أن أذكر أن هذه القصة نشرت بمجلة الرسالة بالعدد نمرة 760 بتاريخ 26 يناير سنة 1948. إمضاء الأديب الفاضل، والأخرى للكاتب الإنجليزي هانسفورد جونسون وهي قصة (الوحدة) وهذه بدورها نشرت بمجلة (الرسالة) عدد 766 الصادر بتاريخ 8 مارس سنة 1948.
والعجيب أن الأديب قناوي لم يكلف نفسه أي مشقة ولم يحدث أي تغيير في الفكرة أو في(858/51)
الأسلوب بل كل ما فعله هو تغيير العنوان فبدل (الأعتزال) (الوحدة) وبدل (أكسير الحب) (قوة الحب) فأيقنت عند ذلك أن كل قصصه الباقية لم يترجمها إلا على هذا الأساس، وهو يظن بأن أمره سيظل مكتوماً. ولكن رسالة الأستاذ عبد الله نافع دفعتني إلى جلاء هذه الحقيقة فأني أنتهز هذه الفرصة لأقدم جزيل شكري له لأن الفضل راجع إليه
ص. م. ت
عطيرة سودان
رسائل كبار العلماء:
بين شيوخ الأزهر الإجلاء طائفة ممتازة يطلق عليها - هيئة كبار العلماء - وقد اشترط القانون لنيل عضوية هذه الهيئة الموقرة شروطا منها بل من أهمها أن يكون الراغب فيها ذا مكانة علمية سامية، ثم يتقدم بين يدي رجالها الأوائل بكتاب مستقل أو بحث خاص من تأليفه، فإن حاز الرضا قبل صاحبه عضوا به وأنزل منزلة رجالها الأدبية ومنح رواتبهم المادية. وهذا نهج لاعوج فيه ولا غبار عليه، لأن العلم يجب أن يكرم بتكريم أهله وإنزالهم المنازل اللائقة بهم. وإذا كان يجب تكريم هؤلاء العلماء الأفاضل فإن عليهم واجبات يؤدونها للعلم وأهمها نشر مؤلفاتهم القيمة ورسائلهم الفذة التي أهلهم لنيل الشرف بانتمائهم لهيئة العلماء.
إن تقديرهم الحق لا يكون إلا عن هذا الطريق. ومما يكبرهم لدى الخاصة ويعلي أقدارهم لدى المثقفين أن يرى هؤلاء وأولئك أثارهم العلمية مزدانة بها المكاتب تردد الألسن الإشادة بها والثناء عليها لما تحويه من دقائق البحث وطرائف الفكر وسعة الإدراك للموضوع ولما يشع من جنباتها وتنطق به صفحاتها من نور الحق وضياء اليقين، وأنه لمؤلم أن لا تجد هذه الرسائل طريقها إلى الحياة، ومؤلم كذلك أن تموت في مهدها وتلف في أقماطها لفة البلى والفناء.
(الأقصر)
علي إبراهيم القنديلي(858/52)
الكتب
معنى النكبة
للأستاذ قسطنطين زريق
الأستاذ قسطنطين زريق عميد الجامعة السورية رجل من الرجال المشهود لهم بالقدوة والكفاية في المؤلفات الوطنية والقومية، وقد كان كتابه الأول (الوعي القومي) من الكتب القيمة التي تفخر بها المكتبة العربية. ولا ريب أننا بحاجة ماسة إلى مثل هذه الكتب. أما كتابه (معنى النكبة) فيعالج نكبة فلسطين وما انطوت عليه من دروس وعبر؛ وهو يدعو كل فرد من أفراد الأمة أن يؤدي واجبه لا أن يلقى التبعة على غيره فيقول: (لست ادعي أنني في هذه الدراسة المقتضية لمحنة العرب في فلسطين قد اخترعت البارود أو بلغة هذا العصر القنبلة الذرية، أو أني اكتشفت الدواء الشافي لعلاتنا جميعا، وإنما هي محاولة لتصفية تفكيري في هذه الأزمة الخانقة التي يترتب فيها على كل فرد من أفراد الأمة قسطه من الواجب ونصيبه من التبعة. ولا شك في أن أول شرط لحسن القيام في هذا الواجب، صحة الفكر واستواء الخطة) ويحتوي الكتاب على ثمانية أبواب هي (فداحة النكبة)، وفيها يبين لنا فداحة النكبة التي أصابت العرب في مأساة فلسطين؛ فهي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من اشد المحن التي ابتلى بها العرب في تاريخها الطويل على مافية من محن ومآسي. سبع دول تعلن الحرب على الصهيونية في فلسطين فتقف أنأيتها عاجزة ثم تنكص على أعقابها، ثم يجد الجد فإذا النار خافتة باهتة، وإذا القنابل جوفاء فارغة لا تحدث أذى ولا تصيب مقتلا. ويمضي أستاذنا على هذا النحو فيشرح في الفصل الثاني (واجب المفكر) وما هي رسالته فيقول: (هي أن يأخذ على عاتقه قيادة الرأي وسط الاضطراب والحيرة، هي أن يلقى ضوءا على الوضع المتخبط فيظهره على حقيقته ويميز بين مختلف عناصره ووجوهه. وظيفته أن يفرق بين الأسباب والنتائج فلا يقدم الثانية على الأولى، وأن يفصل بين الأسباب البعيدة والقريبة، وبين الأصول والفروع، فيعطي لكل شيء أهميته وبقدره قدره في العملية المعقدة المتشابكة) ويتناول في الفصل الثالث (المعالجة القريبة) وأركانها خمسة في نظره. . . تقوية الإحساس بالخطر، إرادة الكفاح، التعبئة العامة، والتوحيد بين جهود الدول العربية، وإشراك القوى الشعبية والمساومة الدولية(858/54)
الواعية وهي شروط أساسية للنجاح في رد الخطر الصهيوني وحفظ كيان العرب أما الفصل الرابع وعنوانه الحل السياسي فيتناول فيه رأيه في الحل الأساسي فيقول (أن ما أحرز الصهيونيون من نصر ليس مرده تفوق قوم على قوم، بل تميز نظام على نظام، سببه أنهم يعيشون في الحاضر والمستقبل في حين أننا لا نزال نحلم أحلام الماضي ونخدر أنفسنا بمجده الغابر. الخطر الصهيوني، بل كان خطر اعتدائي علينا لا يرده إلا كيان عربي نتحد تقدمي. وصفات هذا الكيان العربي المنشود هي الاتحاد الفعلي في السياسة الخارجية والاقتصادية والزراعية، وتدرب العقل وتنظيمه بالإقبال على العلوم الوضعية والتجريبية، وتوجيه الجهد الثقافي في الأمة إلى تحقيق أكبر قدر من هذا الانتظام العملي، وفتح للصدر واسعا لاكتساب خير ما حققته الإنسانية من قيم عقلية وروحية) ثم يشرح بعد ذلك معنى النكبة وما أفادتنا من دروس وعبر فيقول: (إن المصائب والشدائد حتى النكبات حافزا للأفراد والجماعات، وعلة من علل تنبهها، ونهضتها ولكنه ليست كذلك في جميع الأحوال؛ ففي بعضها تكون سببا للتقدم، وفي البعض الآخر تكون سببا للانهيار والتبديد والزوال، وهي محك لوضعنا الداخلي الحاضر. فإذا كانت عوامل الرجعية والآن حلال هي المسيطرة علينا فإن هذه النكبة ستزيدنا ضعفا وانحلالا. أما إذا كان لعوامل التقدم والنمو بعض القوة فإن الصدمة العنيفة التي تلقيناها خليقة أن تعزز من قوتنا ونمشي بها قدما إلى الأمام. وعلى كل عربي أن يتفحص حاله ويتبين قدره وليمتحن نفسه ومقدرته على الصمود في وجههم التعسف والإغراء، وليختبر عقيدته إزاء المحن والخطوب ليتفحص تقدميته أما الرجعية وحملاتها. عندها وعندها فقط يكون للنكبة معنى إيجابي بناء.
وأخيرا يختتم الأستاذ قسطنطين زريق كتابه بمقالين نشر أحدهما في جريدة العمل البيروتية بعنوان (صراع بين المبدأ والقوة) والثاني أذاعه من محطة الإذاعة اللبنانية (لماذا نجاهد في فلسطين) والكتاب يقع في 88 صفحة وهو من الكتب التي تفخر بها المكتبة العربية ويجدر بكل مثقف أن يقتنيه.
جمال الدين الحجازي
* * * نقص * * *(858/55)
مبادئ علم النفس التعليمي
تأليف الأستاذ أحمد زكي محمد
على الرغم من أن علم النفس من العلوم الحديثة، إلا أن البحوث النفسية في مصر قد خطت خطوات واسعة في الأعوام الأخيرة. ولعل أهم من عوامل الازدهار هذه البحوث قيام الجمعيات العلمية التي ينضوي تحت لوائها المشتغلون بعلم النفس الذين أخذوا على عاتقهم النهوض بالدراسات النفسية، وتطبيقها في مختلف الميادين، ومن هذه الجمعيات: جماعة علم النفس التكاملي التي تصدر مجلة علم النفس وتعمل على نشر الكتب المفيدة. والجمعية المصرية للدراسات النفسية التي يرأسها الدكتور عبد العزيز القوصي عميد معهد التربية للمعلمين ووكيلها الأستاذ أحمد زكي مؤلف كتاب: مبادئ علم النفس التعليمي الذي نقدمه اليوم لقراء الرسالة. والمؤلف الأستاذ علم النفس بمهد التربية بالزمالك، وكتابه هذا خلاصة تجارب وخيرات طيلة خمسة عشر عاما، فلا عجب أن يكون الكتاب تحفة علمية تحبب علم النفس لكل قارئ.
وتأتي أهمية هذا الكتاب من أنه تطبيق لعلم النفس في ميدان التربية. وهذا هو أهم فروع علم النفس. ويشتمل الكتاب على القسم الأول من هذا الفرع وهو دراسة الطبيعة البشرية. بدأه المؤلف بالكلام عن صلة علم النفس بالتربية، ثم لمحة من تطور علم النفس. وقد (شرح) الطبيعة الفطرية البشرية تشريحا يبسط دراستها فحسب إذ أنها وحدة متكاملة. فتحدث عن الغرائز وأسهب في الاستعدادات الفطرية والاجتماعية، وفصل الكلام عن النشاط العقلي والوظائف العقلية المختلفة: طبيعتها واتجاهاتها. وقد أكثره الأستاذ المؤلف من أراد الأمثلة التي استقاها من الحياة الاجتماعية حتى يقرب النظريات الأذهان. وختم الكتاب الحديث عن الذكاء ومقاييسه. وهذا هو الموضوع هو عنوان أول منشورات الجمعية المصرية للدراسات النفسية لركس نايت (ترجمة الأستاذ عطية محمود هنا).
وليس من الشك في أن المكتبة العربية في الحاجة إلى مجهودات أمثال الأستاذ أحمد زكى. وأنا نأمل أن يتحفنا قربا بأجزاء الثاني الذي يبحث في التشكيل الملائم لطبيعة البشرية حتى تكمل الفائدة ويعم النفع، فإن بحوثه في مجلة علم النفس قد شغفتما به حبا، فزاد شوقنا إلى كتبه.(858/56)
محمد محمد علي
ليسانس في الأدب(858/57)
العدد 859 - بتاريخ: 19 - 12 - 1949(/)
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
استمعت إلى الشاعر وهو يخاطب (الموسيقية العمياء)، وأستمع إلية أخرى مرة وهو يقدم إلينا الصورة النفسية الثانية، مخاطبا فيها ذات الغلالة الرقيقة النائمة تحت نافذتها المفتوحة في ليالي الصيف المقمرة. . . هناك في قصيدة (القمر العاشق) في الصفحة العاشرة من (ليالي الملاح التائه):
إذا ما طاف بالشرفة ... ضوء القمر المضني
ورفَّ عليك مثل ... الحلم أو إشراقة المعني
وأنت على فراش الطه ... ر كالزنبقة الوسنى
فضمي جسمك العاري ... وصوني ذلك الحسنى
أغار عليك من سابٍ ... كأن لضوئه لحنا
تدق له قلوب الحور أش ... واقا إذا غنّى
رقيق اللمس عربيدٌ ... بكل مليحةٍ يعنى
جريءٌ أن دعاه الش ... وق أن يقتحم الحصنا!
تحدَّر من وراء الغيم ح ... ين رآك واستأنى
ومسَّ الأرض في رفقٍ ... يشق رياضها الغنَّا
عجبت له، وما أعجب ... كيف استلم الركنا؟
وكيف تسوَّر الشوك ... وكيف تسلَّق الغصنا؟
على خديك خمر ... صبابةٍ أفرغها دنَّا
رحيق من جني الفت ... نة لا ينضب أو يفنى
وفي نهديك طلَّس ... مان في حلَّهما افتنَّا
إلى كنزها المعبود ... بات يعالج الرَّدنا!
أغار؛ أغار أن قبَّل هـ ... ذا الثغر أو ثنَّى
ولفَّ النهد في لينٍ ... وضم الجسد اللدنا(859/1)
فإن لضوئه قلبا ... وإن لسحره جفنا
يصيد الموجة الغدرا ... َء من أغوارها وهنا!
وكم من ليلةٍ لمَّا ... دعاه الشوق واستدنى
جثا الجبار بين يَديك ... طفلاُ يشتكي الغبنا
أراد فلم ينل ثغرا ... ورام فلم يصب حضنا
موتك ذراعه رسما ... وأنت حويته فنا!
عصيت هواه فاستضرى ... كأن بصدره جِنَّا
مضى بالنضرة الرعن ... اء يطوي السهل والحزنْا
يثير الليل أحقادا ... وصدر سحابة ضغنا
وعاد الطفل جبارا ... يهز صراعه الكونا!
فردى الشرفة الحمرا ... َء دون المخدع الأسنى
وصوني الحسن من ثورة ... هذا العاشق المضنى
مخافة أن يضن الن ... اس في مخدعك الظنا
فكم أقلقت من ليلٍ ... وكم من قمر جُنَّا!
أحدثك في هذه القصيدة أول ما أتحدثك عن الموسيقى؛ الموسيقى التصويرية التي تصاحب المشهد التعبيري. ويجب أن نفرق بين لونين من الموسيقى: هما موسيقى اللفظ وموسيقى النفس. . . نفرق بينهما ما دمنا ندرس الشعر هذه الدراسة الجديدة، ونفهمه هذا الفهم الجديد، ونقومه بتقويم الأداء النفسي الذي قدمت إليك صورة وألوانه ومراميه.
شاعر الأداء اللفظي هو من يعني بالموسيقى الخارجية ليجذب سمعك، وشاعر الأداء النفسي هو من يعني بالموسيقى الداخلية ليجذب قلبك. . . وهنا مفرق الطريق بين موسيقى تستمد رنينها من اللفظ وحده لتهز منافذ الأذن ومن موسيقى تستمد رنينها من النفس لتهز مسارب العاطفة! نريد في الأداء النفسي تلك الموسيقى الداخلية، الموسيقى المعبرة تمام التعبير عن حالة شعورية خاصة، طبعت أداء الشاعر بطابع صوتي خاص، تلمسه في انسياب النفس الشعري أو تهدجه، في إسراعه أو إبطائه. . . في اندفاع النغم الشعري أو تموجه، في ارتفاعه أو انخفاضه. مثل هذه الموسيقى الداخلية تنقل إليك نقلاً أمينا كل شحنه(859/2)
من تلك الشحنات الانفعالية المصبوبة في حقول التجربة، حتى لتستطيع أن تميز كل لحظة زمنية عاشها الشاعر وتركت ظلها في نفسه وحسه فلحظة الغضب مثلاً لها جوها الموسيقي الخاص، وكذلك لحظة الألم واللذة، ولحظة الدهشة واللهفة، ولحظة الأسى والحنين. . . هذا الشاعر الغاضب في موقف من مواقف الضيق والثورة، تجده هناك: في تلك الموسيقى الصاخبة النغم، ذات الرنين العاصف، ذات المسافات الصوتية الطويلة. وهذا الشاعر النشوان في موقف من مواقف الفرح والبهجة، تجده هناك في تلك الموسيقى الراقصة النغم، ذات الرنين الحالم، ذات المسافات الصوتية القصيرة. وهذا الشاعر الملتاع في موقف من مواقف الألم والحسرة، تجده هناك: في تلك الموسيقى الهادئة النغم، ذات الرنين الخافت ذات المسافات الصوتية المترجحة بين الطول والقصر. . . الطول حين يتشح التعبير بوشاح الحزن المستكن في أغوار النفس تطلقه لحظة من لحظات البث والشكاة، والقصر حين يصطبغ التعبير بصبغة اللهفة العابرة اللوعة التي تلهب الشعور ولا تقيم. وهكذا تجد الموسيقى والتصويرية الصادقة في شعر الأداء النفسي، وهكذا تجد علي طه. . . لقد كان ذلك الشاعر الذي يمثل النموذج الموسيقي الثالث بمسافاته الصوتية القصيرة في (الموسيقى العمياء)، وهو ذلك الشاعر الأخر الذي يمثل النموذج الموسيقي الثاني في (القمر العاشق). . . هو هناك الشاعر الملتاع، وهو هنا الشاعر النشوان!
ونعود إلى موسيقى اللفظ وموسيقى النفس لنقول إننا لا ننكر اثر الموسيقى الأولى في الصياغة الشعرية، ولكن الذي ننكره هو أن يقتصر عليها الشاعر ويوجه إليها كل عنايته؛ ذلك لأن الموسيقى الخارجية من شأنها أن تخاطب السمع وحده دون أن تتسلل إلى تلك القوى الخفية المتناثرة في أفاق الشعور، وإذا كان هذا الأثر يبدو ضئيلاً إذا وقف وحده في الميدان، فإنه يحتل مكانه من غير شك إذا استند إلى الموسيقى الداخلية واعتمد على قيمها الصوتية في النهوض بالأدراء. . . أن موقف الشاعر بين الموسيقى النفسية والموسيقى اللفظية، أشبه بموقف المايسترو بين النوتة الذي يضع أصولها بنفسه وبين فرقة كاملة من العازفين: هذه الألفاظ التي تنقل النغم إلى قارئ الشعر تقوم مقام العازفين الذين ينقلون النغم إلى سامع الموسيقى، كل قيمتهم تتمثل في انهم أدوات ناقلة، النوتة هي التي تمدهم بأصول الأداء الموسيقي كما يجب أن يكون، ومن وراء النوتة يقف المايسترو ليشرف على هذا(859/3)
الأداء. . . أن المايسترو هنا يمثل الشاعر هناك، والنوتة الفنية تمثل الموسيقى الداخلية، ومجموعة العازفين تمثل مجموعة الألفاظ: الفضل كل الفضل للنوتة الموجهة وللقائد المشرف، وبغير هذا وتلك تبدو لك ضآلة الأدوات الناقلة إذا وقفت وحدها في الميدان. . . والأدوات الناقلة التي أعنيها بهذا التعبير هي مجموعة العازفين في الفرقة الموسيقية ومجموعة الألفاظ في الصياغة الشعرية! ولعل هذا التفسير المادي يوضح لك الفارق البعيد بين موسيقى اللفظ وموسيقى النفس، ومدى التفاوت العميق بين أثريهما كعنصري تنغيم في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير.
بعد هذا ننتقل بمجهر التحليل إلى زاوية أخرى من زوايا الأداء النفسي، ونعني بها زاوية (الملكة التخيلية) في شعر علي طه. . . أن أول مزية من مزايا هذه الملكة هي (التجسيم)؛ التجسيم الذي يجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كوناً يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على المس صورة تدركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي وأن تراها العيون. . . هذه القيم الشعرية النادرة تحتشد إحتشاداُ كاملاً في قصيدة (القمر العاشق). هذا القمر الذي أضفى عليه الشاعر من الصفات ما يسلكه في عداد الأحياء، هو النموذج التجسيمي للحركة الجامدة حين تنفث فيها الملكة التخيلية كل معاني الحركة المتوثبة. . . وهي حركة مادية في المقطوعة الأولى تتلوها حركة نفسية، وتتجاوب الحركتان على التعاقب فيما يرد بعد ذلك من مقطوعات. وما قيمة الأداء الذي ننشده إلا في هذا التتبع النفسي الدقيق لكل مشهد تلتقطه العين ويتملاه الخيال، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل هزة من هزات الوجود الخارجي، ويحدد مكانها من دائرة الشعور والوجدان!
هذه القصيدة تروي لنا قصة، هي قصة القمر العاشق أو قصة الخيال الفريد؛ الخيال الذي ينقله على جناحه إلى تلك الشرفة التي تمدد فيها جسد يهز (قلب الجماد). . . وتلك هي اللفتة الفنية الأولى التي تخرج بها من الفكرة الشعورية التي طافت برأس الشاعر: إنه يريد أن يرتفع بتصوير الفتنة الطاغية إلى أفق يعلو فوق مستوى الآفاق المألوفة في خيال الشعراء. إنه يريد أن يظهر سطوة الجمال الآسر في ثوب لا يكتفي بإثارة الأرض لأنه أحرى بإثارة السماء. . . وحسبه في تصوره تلك الفتنه أن يتخيل المحب المثار كوكباً من(859/4)
الكواكب لا بشراً من البشر!
في المقطوعة الأولى تبدأ الحركة المادية حين يرسل المحب المفتون ضوءه إلى الشرفة، وينطلق الأداء النفسي في أثره ليسجل أول ومضه من ومضاته أو أول حركه من حركاته. . . أن العاشق هنا (مضني) يرف ضوءه رفيف (الحلم) ويشرق (إشراقة المعنى)! في كل لفظ من هذه الألفاظ سيل لا ينتهي من الإيحاءات، مصدره قطره تنبثق من هنا وقطره تنبثق من هناك، من تلك الينابيع النفسية التي تطفئ ظمأ التعبير وترطب مسالك الكلمات. . . وفي المقطوعة الثانية تسمع رجع الصدى العميق منعكساً على الصرخة التي يضعها الأداء النفسي في موضعها الطبيعي من الشعر؛ هذه الصرخة يمثلها قوله: (أغار عليك)، وهي رجع الصدى من قوله: (فضمي جسمك العاري) يتبعها قوله: (وصوني ذلك الحسن). . . هذه هي العلاقة النفسية التي تربط بين الألفاظ برباط لا ينفصم، وتنظمها ذلك التنظيم الذي يحدد لكل لفظ مكانه. سمها أن شئت هندسة ألفاظ ومناظر، ولكن لا تنس أنها قبل ذلك هندسة خواطر ومشاعر!. . . ثم ما هذا العاشق الذي (كأن لضوئه لحناً تدق له قلوب الحور)؟ أرأيت إلى أثر التجسيم في الشعر؟ أن التجسيم في الشعر أساسه (التضخم) في الطاقة الشعورية، وفرق بين التجسيم الشعري الذي يبرز خطوط الصورة وبين التهويل الشعري الذي يطمس خطوط الصورة، وإنه لذلك الفرق الذي يكون بين قوة الملكة التخيلية وبين ضعف الرؤية الشعرية! وتطالعك هذه العلاقة النفسية بين الألفاظ مرة أخرى في البيت الثالث والرابع من نفس المقطوعة. . . هذا العاشق العربيد (رقيق اللمس) حين تصغي كل مليحة لندائه وتستجيب لدعائه، ولا يعترض طريقه معترض إذا ما قر رأيه على قرار، ولكنه (جريء) في مواقف التمنع يقدم غير وجل ولا هياب، ويقتحم الحصون على من فيها أن دعاه الشوق ويستلق الأسوار!
هذه هي (الرقة) التي يحويها أول فصل من قصة المحب الصادق يعرضها علي طه أروع عرض نفسي في البيت الأول والثاني من المقطوعة الثالثة: (تحدر من وراء الغيم. . . ومس الأرض في رفق)، هل تستطيع أن تتفيأ تلك الظلال الممتدة على حواشي الألفاظ؟ ألا تحس معي في كلمة (تحدر) ومن بعدها (استأني) ذلك المعنى الذي يحس في خطوات المحب المحاذر الذي يتمهل في سيره ويترفق، خشية أن يحدث صوتاً تستيقظ على أثره(859/5)
المحبوبة النائمة؟ ألا تشعر أن الكلمتين تنقلان إليك شبح عاشق يتسلل إلى مخدع حسناء في هدأة الليل ثم يرهب الضوء الذي يمزق مجت الظلام، ضوءه الغامر الذي يدفعه دفعاً إلى أن (يمس) الأرض في رفق وحذر؟! لقد طاف أولاً بالشرفة، حتى إذا رآها نائمة (مس الأرض في رفق)، وتسور الشوك، وتسلق الغصن، واستلم الركن. . . أرأيت إلى هذه الوحدة النفسية في تسلسل الخواطر وإلى هذه الوحدة الفنية في تسلسل الألفاظ؟ إنها الهندسة المطلوبة في مثل هذا الأداء!
وتمضي القصة في طريقها إلى فصل آخر أو إلى مرحلة أخرى من مراحل التجسيم الشعري. . . هنا في المقطوعة الرابعة يقدم الشاعر هذا المشهد الجديد الذي مهد له بالمشهد السابق في المقطوعة الثالثة لقد افلح العاشق المضني في الوصول إلى المخدع الموموق، وأصبح الجسد الفاتن أمام عينيه يثير مكامن الغريزة من مرقدها ويدفع بها محرقه في يديه. . . وبدأ المحب العربيد يفتن في حل طلاسم النهود، وراحت أصابعه المحمومة تعالج الردن بغية الظفر بالكنز المعبود! إنها لحظة سكر من لحظات الهوى الغلاب، لحظه يعرفها كل عاشق مفتون كهذا العاشق، حين يصب من خمر الصبابة دناناً على خدود الحسان!
وفي نهديك طلسمان في حلهما فتنا
إلى كنزهما المعبودات يعالج الردنا
وتمهل إذا بلغت المقطوعة الخامسة، تمهل لأن هنا مركزاً من مراكز التحول في خطوات الأداء النفسي؛ هذا التحول الذي يفرضه على الشاعر انتقال العدسة من وضع إلى وضع، ليلتقط الصورة من زاوية رئيسية يندفع فيها الضوء من الأمام إلى الخلف حتى يكتشف ما وراء المشهد من آفاق. . . وستتكشف لك تلك الآفاق في المقطوعة السادسة والسابعة على التحديد، أين هو مركز التحول في هذه المقطوعة؟ هو في تلك اللقطة الموحية بأن العاشق المضني قد حاول أن يقبل الثغر، وأن يلف النهد، وأن يضم الجسد. . . وأنه قد مني في محاولته تلك بالخيبة وباء بالخذلان، هناك في المقطوعة السادسة حيث تروعك وثبة الأداء في هذين البيتين:
أراد، فلم ينل ثغراً ... ورام، فلم يصب حضنا
حوتك ذراعه رسماً ... وأنت حويته فنا!(859/6)
ولعلك قد لاحظت أن تلك الصرخة في قوله (أغار عليك) عندما بدأ المقطوعة الثانية، قد تكررت في قوله (أغار، أغار) عندما بدأ المقطوعة الخامسة. . . تكررت لأن الحركة المادية (وأرجوا أن تفرق بين الحركة المادية للفظ وبين المعنى المادي للفظ) كانت هناك حركة واحدة فغدت هنا وهي أكثر من حركه واحدة، ولا بد في شعر الأداء النفسي من أن تستجيب الهزة الداخلية للهزة الخارجية، على مدار النسبة العددية التي تحدث شيئاً من التوازن بين عالمين. . . ولهذا ترى الهزة النفسية الممثلة في تكرار التعبير عن الغيرة قد وزعت على حركات مادية؛ هي الإقدام على التقبيل، والإقدام على الضم، والإقدام على قطف الثمار الناضجة في روض النحور! ولقد كان لضوء القمر في المقطوعة الثانية لحن فأصبح لضوئه في المقطوعة الخامسة قلب، وهو لون آخر من ألوان التجسيم يدعو إليه هذا الجو الشعري الجديد، كما يدعو إليه في أن يكون لسحره ذلك الجفن الذي عناه بقوله:
يصيد الموجة العذراء من أغوارها وهنا!
وفي المقطوعة السادسة تبلغ اللفتة النفسية أوجها عندما يقول: (وكم من ليلة لما دعاه الشوق). . . أن قيمة اللفتة في أنها إشارة إلى كثرة طواف القمر العاشق بشرفة هواه، هذا الطواف الذي أورثه المضني المعبر عنه في أول بيت من أبيات القصيدة:
إذا ما طاف بالشرفة ضوء القمر الضنى!
وتأمل رهافة المبضع حين يشرح العاطفة المشبوهة في لحظات الضعف والهوان، أن كل محب جبار يغدو في مثل تلك اللحظات طفلاً جاثياً بين يدي من يحب، (طفلاً يشتكي الغبن). . . فإذا ما حيل بين الطفل وبين الدمية الحبيبة عاد جباراً من جديد (يهز صراخه الكون)! وأي صراع هو؟ إنه الصراع الذي لا يبقي ولا يذر:
مضى بالنظرة الرعناء ... يطوي السهل والحزنا
يثير الليل أحقاداً ... وصدر سحابه ضغنا!
وأستعرض مواكب الألفاظ في هذا الأداء النفسي. . . إستعرضها في (النظرة الرعناء)، وفي الليل الذي (أثير أحقاداً) وفي السحاب الذي ألهب (صدره) ضغنا وعداء. . . وأستعرضها في المقطوعة الثامنة، في (ردى الشرفة الحمراء)، و (صوني الحسن من الثورة)، و (مخافة أن يظن الناس)! وكما طالعتك الملكة التخيلية في مطلع القصيدة فهي(859/7)
تطالعك في هذا الختام:
فكم أقلقت من ليلٍ ... وكم من قمر جُنَّا!
ولا تتهم الشاعر بضعف الرؤية الشعرية عندما يقول: (وكم من قمر). . . أنا معك في أن السماء لا تحوي غير قمر واحد، ولكن لا تنس أن في الأرض أقماراً أخرى من المحبين، أقماراً أرضية يصيبها الوجد اللافح بألوان من الجنون!!
(يتبع)
أنور المعداوي(859/8)
صور من الحياة
قسوة!
للأستاذ كامل محمود حبيب
طلع إلى الحياة طفلاً ضئيلاً يعاني الضوى من سغب، ويشكو الهزال من شظف، ويقاسي الهم من ضياع؛ يقيم على الطوى، ويغض بالضنى، ويشرق بالضيق، وتعلم من أبيه - أول ما تعلم أن المال هو الغاية العظمى، وأنه هو الهدف الأسمى. ورأى أباه وهو رجل ريفي فظ الطبع غليظ القلب شحيح النفس، ينهره في جفوة أن طوعت له نفسه أن يسأله قرشاً، ويرده في غيظ أن طلب إليه حاجة. ثم شعر بابيه وهو يقذفه إلى المدرسة هناك في المدينة ثم ينطوي عنه كأنما نسي أن له في المدينة ابنا ينظر حواليه في حيرة وقلق فيرى أبناء الناس يعيشون في دنيا غير دنياه، ويرفلون في طفولة غير طفولته، وينعمون بعيش غير عيشه، فأنضم على شجن انهمر في قلبه الغض وهو ما يزال لدى الأفق الشرقي من الحياة، انضم إلى شجن عارم فوّار لأنه لا يجد القرش؛ وهو نعيم الحياة ولين العيش ونور العين وبهجة القلب وسرور النفس. وأحس في حاجته إلى المال خشية أورثته الاستخذاء، وضعه علمته الذل، وصغاراً وسمه بالهوان، فأخذ حب المال يتدفق في قلبه جارفاً يصرفه عن إنسانيته ورجولته وكرامته جميعاً؛ والسنون تنطوي، حتى تخرج من مدرسة التجارة المتوسطة، وعين موظفاً ببنك مصر.
وظن رفاقه أن راتبه كفيل بأن يهيئ له حياة كريمة طيبة تخلع عنه ثياب رثه زريه، وتنفض عنه عفر الحاجة وغبار المسكنة وتنسق ما تشعث من حاجاته ومن خواطره، ولكن الأيام راحت تنطوي في غير ريث ولا مهل، وهو في زيه القديم البالي لم يبد علية اثر النعمة ولا سمات الخفض لأنه لا يهدف إلى غاية سوى أن يجمع المال ويكدسه فيحرص عليه فلا ينفقه ولا يبذره. وتقزز زملاءه في البنك من هذا المظهر الوضيع ومن اللباس القذر ومن الوجه الأغبر ومن الشعر المشعث، وأنفوا أن يندس في زمرتهم فتى تشغله الكزازة عن الكرامة ويصرفه الشح عن الترفع فأجمعوا أمرهم على أن ينشروا الخبر على عيني المدير؛ وثار المدير لما سمع فما تلبث أن جذبه من البنك ليقذف به في مخزن الحبوب ليتوارى هناك خلف سحابه كثيفة من الغبار الثائر، وليتيه في ضجة العمل(859/9)
الصاخب بين الحمال والعامل. وانطلق الفتى إلى عمله الجديد هادئاً لا يستشعر الحيف ولا يحس الجور.
وجاء أبوه - ذات مرة - يحدثه حديث الزواج، فدفعه عنه في رفق ودعه في هوادة، وهو يقول (دع عنك، يا أبي، هذا الحديث. فإن تكاليف العروس وحاجات الزوجة ورغبات الولد أشياء تبهظ الغني وتثقل كاهل الثري. فما بالي وأنا - كما تعلم - موظف صغير أحس الإرهاق والضيق وأشعر براتبي ينوء بأعبائي وأنا عزب. . .) فقال الأب في هدوء (لا بأس عليك أن تعللت بالضيق أو تذرعت بالحاجة ولكن الزوجة المنتظرة فتاة من ذوي قرابتك، ريفية المنشأ والمربى، تقنع بالضئيل وترضى بالتافه، لم يبهرها زخرف الحياة ولا خطفها ألق الحضارة. ثم هي يتيمة، مات أبواها منذ سنة واحدة فورثت عنه كذا وكذا من الأفدنة. . .) فهمس كأنما يتحدث إلى نفسه وقد بدا في نبرات صوته أن أسهل وانقاد (أنها ثروة. . . ثروة طائلة، تكفل لي حياة ناعمة) وأجاب الأب (إنك - ولا ريب - ستجد إلى جانبها راحة القلب وهدوء النفس ورغد العيش. فقال الفتى (ولكني أعجز عن أن أدفع المهر) فقال له أبوه (أما المهر فسأحمل عنك بعضه ليكون ديناً عليك تسدده بعد سنة من زواجك، أي بعد سنة من استيلائك على ثروة الزوجة المنتظرة) وانفرجت أسارير الفتى وتبسط في الحديث، وأقبل إلى أبيه يسأله (أو أستطيع أن أنزع ثروة زوجي من يد أخيها الأكبر؟) فأجابه الأب في ثقة واطمئنان (ومن ذا عساه يمنعك من أن تقوم على شأن زوجك؟) وفي ضحى اليوم التالي انطلق الفتى وأبوه إلى القرية. . . إلى دار العروس. وتحدثا إلى أخيها الأكبر، وهو - إذ ذاك - الوصي على مالها، فما تعسر عليها وما تمنع، فما لبثت الفتاة أن سميت إلى الفتى، وخرج الفتى من دار الفتاة وهو يتوثب فرحاً وسروراً ويتألق بهجة وأملاً.
ورأى الوصي الفتى يسر إلى أبيه بأمر فأحس بما يحس به الثري يقهق جيبه حين يسمع همسات اللص تطوف حواليه فتفزعه عن الأمان والقرار. ولكنه رجل ذو حيله وخداع وذو مكر ودهاء فأسر في نفسه أمراً.
وراح الوصي يعد الجهاز؛ ينفق عن سعة ويبذل في سخاء، يستفرغ الجهد ويستنفذ الوسع، والفتى يرى ويبسم لأنه يستشف آثار البذخ والإسراف فيخيل إليه أن الرجل يكلف نفسه(859/10)
فوق طاقتها ليرضى هو ولترضى الزوجة، فاطمأنت نفسه وسكنت نوازعه، ثم انطلق ليهيأ لنفسه حاجاتها ويعد للعرس طلباته، يغرق في الأنفاق ويفرط في العطاء حتى كاد أن ينفذ وفره، وفي رأيه أنه يوشك أن يعوض ما فقده وأن يسترد ما أنفق.
وانطوى شهر العسل، والفتى يمرح في بحبوحة من النعيم فيها الصفاء والدعة، ويرشف رضاب حياة سعيدة طبية فيها الهدوء والطمأنينة. انطوى شهر العسل، ثم آفاق الفتى فإذا يده صفر إلا من راتبه، وإذا مال زوجته بين يدي أخيها الأكبر لم ينزل له عن شبر واحد. وأحس الفتى بالألم يخز قلبه وخزات عنيفة قاسية لأنه أضاع ما ادخر في سنوات، ولكن صبابة من الأمل كانت تعاوده - بين الفينة والفينة - فيطمئن لها قلبه وتسكن ثائرته
وحين أحس الفتى الضيق والعنت، انطلق إلى شقيق زوجته يطلب إليه أن ينزل له عن مال زوجته. غير أن الرجل ربت على كتف الفتى في هدوء وهو يقول (إنك فتى صغير السن، لا تستطيع أن تشرف على أطيان زوجك) وأحس الفتى أن الرجل يسخر من غفلته في غير رفق ويهزأ من طويته في غير لين، فهم يريد أن يثور في وجهه ولكن الرجل عاجله بقوله (أتذكر، يا أخي، أن جهاز العروس قد كلفها نيفاً وألف جنيه، وهذا دين على زوجتك أنتظر وفاءه؟ فأطيانها بين يدي رهينة حتى تفي أنت بدينها أو تفي هي. . .) وهبطت كلمات الرجل على قلب الفتى صفعات شديدة تهد من قوته وتعصف بكيانها، ولكن لم يستطع أن يفعل شيئاً، فأنفلت من لدن الرجل وقد ارتاع واستطار لبه.
وبدا للفتى إنه خسر في شهر واحد كد سنوات طواها يستمرئ ضنك العيش ويستعذب جدب الحياة ويتلذذ بالحرمان، ليكون بعد سنوات - رجلاً فيه الثراء والغنى. . . بدا له أنه أضاع ماله فاستشاط غيظاً واحتدمت الثورة في قلبه، ولكن.
وانطوت الأيام فإذا الفتى قد انتكس إلى حاله الأولى، يستمرئ ضنك العيش ويستعذب جدب الحياة ويتلذذ بالحرمان ثم راح يضرب زوجته بالجوع والعرى في خشونة وعنف، لا تأخذه شفقة ولا ينبض قلبه برحمة. والفتاة صابرة لا تتحدث بما تعاني ترفعاً منها وكبرياء، ولا تشكو قسوة الزوج آنفة منها سمواً - حيناً - على هم يضطرم في قلبها عسى أن تجد الرقة في زوجها أو تحس الرأفة من أخيها، والأيام تمر.
وضاقت نفس الزوجة بما تقاسي ونفذ صبرها، فانطلقت إلى أخيها تبثه شكواها وتسر إليه(859/11)
بكربة نفسها، فما ألقى إليها السمع إلا ريثما يقول لها في فتور (وماذا أعجبك من هذا الفتى الوضيع القذر؟ لو شئت وجدت عندي الرحب والسعة)
وخرجت الفتاة من لدن أخيها الأكبر وقد حطمها الأسى وارمضها الغم، لأنها فقدت العطف من قلب زوجها، وفقدت الحنان من قلب أخيها.
وخشيت أن يجرفها تيار الحاجة إلى الهاوية فآثرت أن تستقر في دار أخيها علها تدرأ هناك غائلة السقوط والانهيار وهي تشعر بالشيطان يوسوس لها بأمر؛ وعلها تسترد ما انطبعت عليها من أنفة وإباء فهل وجدت في دار أخيها غناء عن الزوج والابن، وهما روح الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب؟
يا عجباً للنفس الإنسانية حين يطغي عليها حب الذات، ويعميها شر المال، فتنزل عن الشرف والكرامة والإنسانية جميعاً.
كامل محمود حبيب(859/12)
اللغة الفلسفية عند ابن سينا
للأستاذ محمد محمود زيتون
(هذه إشارات إلى أصول وتنبيهات على جمل يستبصر بها من تيسر له، ولا ينتفع بالأصرح منها من تعسر علية.)
بهذه العبارة يفتتح ابن سينا كتابه (الإشارات)، ونريد بهذا المقال أن نتعرف على أي نحو وإلى أي غرض أشار ابن سينا ونبه في إشاراته وتنبيهاته.
وكتاب (الإشارات) يحتوي على ثلاثة فنون: المنطق والطبيعيات والإلهيات، وكما يختلف الواحد منها عن الآخرين في موضوعه وغرضه، تختلف كذلك في طريقته للوصول إلى هذا الغرض.
ولقد خلف فيلسوف الإسلام تراثاً جليلاً شغل الفكر الإنساني في كل جيل، وتدارسه العلماء والفلاسفة من بعده في الجامعات، وليس أدل على مكانته التي تبوأها من ابن خلدون: (وترى الماهر منهم - العلماء - عاكفاً على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة)، وحلت كتب ابن سينا الفلسفية محل كتب أرسو عند فلاسفة الأجيال المتلاحقة، وأفردوه له بالبحوث الطوال.
ولا عجب إذا كتب (ماكدونالد) في الإنجليزية كتاباً عن (معاني الوهم في التفكير الإسلامي) كان لإبن سينا فيه مكان مرموق. وكتبت الآنسة (جوا شون) في الفرنسية كتابها (ثبت باللغة الفلسفية عند ابن سينا) إلى غير ذلك مما كتبه الطليان عن احتمال إطلاع (ديكارت) على آراء ابن سينا كما ذهب إلى ذلك بسبب نصوص الإشارات التي نقلها (غليوم أو فرني) عن ابن سينا إلى اللاتينية.
وأسلوب ابن سينا الفلسفي في جل كتبه - إن لم يكن في كلها - طريف فازت (الإشارات) من طرافته بأوفر نصيب، تلك الطرافة التي تتجلى في عرض المسائل عرضاً علمياً دقيقاً، ونقدها في تؤدة العلماء، وأناة الفلاسفة، مما نرى شبهاً لها في طريقة (هيجل).
والكشف عن طريقة هذه في الإشارات يستلزم النظر في ثلاث:
أولاً: معاني المفردات التي أشار ونبه بها لغة واصطلاحاً.
ثانياً: تقدير مدى إبداع ابن سينا في هذه المفردات.(859/13)
ثالثاً: تحديد الظلال السيكولوجية التي تلقيها معاني هذه المفردات.
ففي البحث عن اللغة الفلسفية عند ابن سينا مزاج طريف من اللغة والفلسفة والنفس، وفي كل ميدان حاول ابن سينا وتطاول، وكان له القدح المعلى ولما كان المنطق دهليزاً إلى سائر العلوم كانت أبوابه انهاجاً، والنهج طريق بين واضح سالك مستقيم، وهو منهاج ومنهج وجمعه أنهاج ونهجات، قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعاً ومنهاجاً) وقال العباس (لم يمت رسول الله حتى ترككم على طريق ناهجة)
والطبيعيات والإلهيات غير المنطق في كونه يتوصل منه إلى سائر العلوم. وهي إنما تقصد بذاتها، لهذا كانت أبوابها أنماطاً، والنمط في الأصل نوع من الثياب المصبغة، ولا يقال للأبيض نمط. والنمط أيضا ضرب من البسط. والعرب يشبهون الطرق بخطوط الثياب. قال طرفة يصف الطريق الذي سارت به فيه ناقته (على لا حب كأنه ظهر برجد.) والبرجد هو الثوب المخطط خطوطاً ظاهرة. وجمع النمط أنماط ونماط. قال المتنخل: علامات كتحبير النماط. ويستعمل النمط في المتاع والعلم، فيقال نمط للضرب من الظروب والنوع من الأنواع، والمذهب والفن والطريق والطريقة.
وأذن فقد انتقل المعنى عن الحس إلى المعنوي، من الثوب إلى الطريق إلى الطريقة، كما انتقل معنى (الأسلوب) من صف النخيل إلى الطريق إلى الطريقة. والنويري في (نهاية الأرب) يقسم الباب الخاصة بكيفية العلم والعمل بأسماء الله تعالى إلى عشرة أنماط في السفر.
وهكذا دل ابن سينا بالأنماط على أبواب الطبيعيات والإلهيات كما دل بالأنهاج على أبواب المنطق.
وليس الناس سواء في سيرهم وهذه الأنهاج وتلك الأنماط، لهذا نصب الشيخ الرئيس من نفسه هادياً ومرشداً للضالين والتائهين الواهمين، فمنهم من تكفيه الإشارة، ومنهم من تاه في بيداء الوهم ممن يعوزه التنبيه أو زيادة التنبيه، ومنهم من استغرقته الجهالة فكان له من ابن سينا تبصرة أو زيادة تبصرة، ومنهم من ضلَّ ضلالاً بعيداً فكان له منه حسن الهداية؛ ومنهم من أخطأ التوفيق فكان له منه فائدة، وقد يتفق معه ابن سينا ثم يفترق عنه إلى موعد أو إلى موعد وتنبيه، إلى غير ذلك من تذكير له أو تذكرة ثم تذنيب على إشارة أو تحصيل(859/14)
أو زيادة تحصيل. وبعد هذا كله لا تفونه النكتة.
نظرة في هذه المفردات ثقفنا على الصلة الوثيقة بين دلالاتها وبين علم النفس. إذ يقول مثلاً في مضلع النمط الرابع في الوجود وعلله (تنبيه: (وفي نسخة إشارة) اعلم إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وان. . . وأن. . . وأنت يتأنى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، لأنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات في هذا النص تنبيه على وهم باطل، والوهم في الطبيعيات والإلهيات يعارض العقل في مأخذهما، والباطل يشاكل الحق في مباحثهما. وبعد أن نبه على هذا الوهم دعا إلى التأمل في هذا الوهم لكي نعلم بطلان قول هؤلاء الواهمين.
ويقول (وهم وتنبيه: ولعل قائلاً منهم يقول: أن الإنسان مثلاً إنما هو إنسان من حيث له أعضاء من يدعون وحاجب وغير ذلك، ومن حيث هو كذلك فهو محسوس، فننبهه ونقول له. . .) فهو يعرض للوهم عرضاً أميناً غير مشوه، ثم ينقض عليه بتنبيهه إلى فساد هذا الوهم، ثم يتلوه تذنيب أي تفريع لهذه الفكرة فيقول: (تذنيب: كل حق فأنه من حيث حقيقته الذائبة التي هو بها حق فهو متفق واحد غير مشار إليه، فكيف ما ينال به كل حق وجوده) ويظل يأتي بتنبيه ثم تنبيه ثم إشارة بعد إشارة ويستأنف تنبيها آخر يرد فيه بإشارة ثم تنبيه على أوهام حتى يخلص من كل هذا بفائدة.
هذا، ولأن دلت التنبيهات والإشارات على الجانب النقدي من أفكار ابن سينا في (الإشارات) فإن تلك الفوائد التي يأتي بها بين الفينة والأخرى تدل على الجانب الإيجابي أو البنائي في فلسفته.
ويقول (هداية): إذا فرضنا جسماً يصدر عنه فعل، فإنما يصدر عنه إذا صار شخصه ذلك الشخص المعين، فلو كان. . .) والبارز في هذا النوع أنه جدل لم يبلغ حد البرهان بالمعنى الصحيح، إذ البراهين عند ابن رشد أنواع هي: البرهاني، الجدلي، الخطابي، المغالطي، كما هو مفصل بكتاب (مناهج الأدلة).
ويقول (مقدمة: المعنى الحسي إلى مثله يتجه (هكذا) الإرادة الحسية والمعنى العقلي إلى مثله يتجه الإرادة العقلية، وكل معنى يحمل على كثير غير محصول فهو عقلي) يأتي ابن سينا بهذه المقدمة لإثبات النفوس الفلكية، ويأتي بعدها بإشارة إلى النفس الفلكية ذات إرادة(859/15)
عقلية، وهذه الفكرة الأخيرة ولا شك في حاجة إلى تلك المقدمة التي هي بمثابة مدخل لها. وبعد الفراغ من تبيان امتناع كون القوى الجسمانية غير متناهية التحريك بالقسر يأتي بمقدمة لبيان امتناع كونها غير متناهية التحريك بالطبع أيضا، ويتلو هذه المقدمة مقدمتان بعدهما يشير وينبه ما شاءت له الإشارات والتنبيهات.
ويقول: هداية وتحصيل: فقد بان لك. . . فيكون كذا. . . وقد علمت أن. . . فنكون كذا. . . وقد علمت. . . فيجب إذن أن يكون. . . وأن يكون. . .) ولا شك في أن هذه الهداية محصورة في قوله (بان لك) و (علمت) ولا شك أيضا في أن التحصيل يمثله قوله (فيكون) و (يجب أن يكون) وهما بمثابة نتيجة منطقية مترتبة على ما سبق تبيان وعلم. ثم هو يأتي بعد هذا بزيادة وتحصيل، فيقول: وليس يجوز كذا. . . ويلزم كذا فيجل أن يكون كذا ويعقب بزيادة تحصيل فيقول (فمن الضروري إذن أن يكون. . .) أي أن النتيجة صارت من القوة بحيث صارت ضرورية (أو من الضروري) على حد تعبيره. وثمت نوع غير التنبيه بجعل غير اليقظان كالنائم يقظان، ذلك هو التبصرة، وفيه يجعل غير البصير كالأعمى يرتد بصيراً، والفرق بين التبصرة والتنبيه أن البحث في تلك أوضح مما في ذاك. وعند المبالغة في حث الغافل عن إدراك شيء حاضر أمام عينية إنما يكون باتهامه بالعمى أكثر من اتهامه بالنوم، والحث بهذا النوع - على البحث كفيل بأن يصير الأعمى بصيراً ولا سيما في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو بيان أن النفس غير البدن، وغير حالة فيه، وذلك موضوع تبصرة من تلك التبصرات السينية. ثم هو يستعمل اصطلاحاً وهو اشد من سابقه واقوى مفعولاً فيقول: زيادة تبصرة: تأمل أيضاً أن القوى القائمة بالأبدان يكلها تكرر الأفاعيل لا سيما القوية منها. وخصوصاً إذا. . . ويزيد هذه التبصرة مرتين بعد هذا.
وهنا نشعر بأن ابن سينا قد انتقل من ميدان الإلهيات إلى ميدان البيولوجيا فيذكرنا بقوانين (التنبيه) وشتى الاستجابات المترتبة على التنبيه وكيف يتم ما يسمى في هذا العلم باسم (التوتر) و (فترة العصيان) ونقف قليلاً حيال هذا الجلال الفلسفي لنرى كيف أن ابن سينا يلقي من الضوء الفلسفي إلى المشكلة بقدر ما تسمح به وأهميتها، فهولا يتفلسف لأنه يريد أن يتفلسف، وإنما التفلسف عنده غالي ثمين أو كما يقول الطفرائي: (غالي بنفعي عرفاني(859/16)
بقيمتها) ولأن (شرف العقل من شرف موضوع تعقله) كما يقول أرسطو.
وقفة أخرى عند براعة ابن سينا في إقامة القواعد والأصول لعلم النفس التعليمي. فقد كان بهذا سباقاً إلى وضع تصميم لفن (التربية العلمية) إذ ينبه الغفلان بإشارة، ويبصر الأعمى على ضوء الفلسفة، فيستبصر كلاهما على هدى من المعرفة، فلا يعود يخبط أو يتوهم.
وابن سينا لا ينبه بإشارة حيثما اتفق، ولا يبصر الأعمى كيفما كانت التبصرة، وإنما كل شيء عنده بمقدار، كما ينبه كلا بحسب طاقته، فالعبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة، والأعمى يعوزه كشف الغشاوة عن باصرتية، ولا أظن بعد التبصرة زيادة لمستزيد بعد تحصيل الفائدة التي لا ورائها.
وإذا عرفنا أن الإشارة لغة هي الإيماء والتلويح بالكف والعين والحاجب وأن التبصرة لا تكون إلا بهتك الحجب ورفع ما للغياهب من ضغوط، أمكننا أن ندرك إلى أي حد بلغ ابن سينا في براعته التعليمية. فها هو ذا ينتقل من الإشارة بالكف أو الإصبع يتطلبها كل ذهن بليد - إلى إيماء بالعين - يلازم العامة من الناس - إلى التخاطب بلغة العيون حين تأهبت القلوب وتعطلت لغة الكلام. قال لقلب
نسر الهوى إلا إشارة حاجب ... هناك وألا أن تشير الأصابع
ويربى عليه شوقي إذ يقول
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت ... عيني في لغة الهوى عيناك
وفي انتقال الإشارة هكذا من الكف إلى العين إلى الحاجب مسايرة لاستعداد المرسل إليه، وارتقاء به أو على الأصح منه عن الطريق الحسي الوضع إلى عالم المعاني والأفكار، والفكر قوة كما يقول ومن القلب إلى القلب رسول.
هذا ما تنطوي علية الإشارات والتنبيهات وزيادات التنبيهات والتبصرات وزيادة التبصرات، وما تتطلبه طبيعة كل ذهن من هذه الاصطلاحات (والرجل نفسه يقول في فاتحة الإشارات) وأنا أعيد وصيتي واكرر التماسي أن يضن بما تشمل عليه هذه الأجزاء كل الظن على من لا يوجد فيه ما اشترطه في آخر هذه الإشارة) ولعل هذا مصدر الوحي للغزالي في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام).
وبعد أن يستفيض ابن سينا في بحث ما، يعقب بالتذكير فهو أجمع لمقاصد الفصول المتعلقة(859/17)
بهذا البحث، والغرض منه هنا إنما هو (إعادة تصوير الجميع معاً) كما يقول الطوسي.
ويستعمل أيضا (متذكرة وتنبيه) فيقول (أليس قد بان لك كذا - وكذا) وهذا الاستفهام الاستنكاري معناه حث الذهن على استرجاع ما قد غاب عنه، وهذه وسيلة لها خطرها في تحقيق النشاط الذهني الذي لا يقل عن التبصير شاناً. بل هو أمس بالحياة النفسية أو الذهنية منه بالحسيات وما يليها.
وانه ليدل قبيل النمط الرابع على (موعد وتنبيه) فيعني به في النمط السادس ويستخدم (النكتة) وهي في اصطلاحه ذكر لمثال من تلك الأمثلة التي تكشف عن الغامض وتجلوه.
وهكذا يمنح ابن سينا ألفاظه حياة لها أطوراها، وبذلك ثار على المعاني الجامدة التي كادت تودي بحياة اللغة والمعاني جميعاً. وليست بدعه ابن سينا في هذا المجال قاصرة على نقل المعنى من الأصل إلى المجاز - فذاك عمل هين لين للأدباء والشعراء - وإنما الإبداع الحق في جعل اللفظ يحمل معنى نفسياً أي في منحه روحاً يتحرك بها ويفعل، وهذه ناحية أقفرت منها اللغة العربية وخلت منها ألفاظها.
وأمعن من ذلك في البراعة ما استجده ابن سينا في كلمة (الوهم) والأصل أنه الطريق الواسع، أو الواضح الذي يرد الموارد ويصدر المصادر، وهو أيضا الجمل العظيم والرجل العظيم. وإذ يقول ابن خلدون (تاهوا في بيداء الوهم) معناه أن الوهم كالبيداء في سعتها على سبيل تشبيه المضاف إليه بالمضاف، وقال لبيد:
ثم اصدر ناهماً في وارد ... صادر وهم صداه كالمثل
وتقدم (الوهم) في سلم التطور والارتقاء حتى صار سراً نفسياً تترجم عنه خطوات القلب وجمعه أوهام. قال الشاعر: (فلأيا عرفت الدار بعد توهم) والتوهم - بمعنى التفرس - مرحلة انتقال من المادية إلى اللامادية.
ثم اصطبغ الوهم بصبغه معرفية فاعتبره (المختار من قبل التصور وقال لأحمد فكري بصدد كلامه عن العلم) وهو دقيق وبحر عميق، وبالمطالعة حقيقي، ولطالبي العلم يليق، وهو بحث يتناول عند الحكماء: اليقين والشك والوهم والتقليد والجهل) وصرح الغزالي بأنه يسر تحديد العلم بعبارة محررة جامعه للجنس والفصل الذاتيين فإن ذلك متعسر في أكثر المدركات الحسية فكيف لا يعسر في الادراكات الخفية. والشك - عند صاحب دستور(859/18)
العلماء - هو تساوي طرفي الخبر: وقوعه ولا وقوعه. وقد يذكر الشك ويراد به الظن، كما قالوا أفعال القلوب تسمى أفعال الشك واليقين. وإن لم يتساو الطرفان فاراجح ظن، والمرجوع وهم، ويقول الزبيدي (هو مرجوع طرفي المتردد فيه)
وانتقل الوهم بعد ذلك نقلة واسعة، اخذ فيها صبغة تشريحية ظهر بعدها بطابع سيكولوجي متميز، (فقالوا هو قوة جسمانية للإنسان محلها آخر التجويف الأوسط من الدفاع من شأنها إدراك المعاني الجزائية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد وسخاوتة، وهذه القوة هي التي تحكم في الشاة بأن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه، وهذه القوة حاكمة على القوى الجسمانية كأنها مستخدمة إياها استخدام العقل القوى العقلية بأسرها).
هذا ما انتهى إليه الجرجاني وتابعه في غيره، ونستطيع أن نعبر عن قصدهم بالوهم هنا بأنه (غريزة) من شأنا أن تكون قوة فطرية هدفها حماية الكائن.
غير أن الفارابي يرى أن (الوهم هو القوة التي من المحسوس ما لا يحس مثل القوة التي في الشاة إذا تشبح صورة الذئب في حاسة الشاة تشبحت عداوته ورداءته فيها إذ كانت الحاسة لا تدرك ذلك).
أما الغزالي في تقسيمه العلوم فيقول (والعلم الذي يتولى النظر فيما هو بريء عن المادة في الوهم لا في الوجود هو الرياض) ويقول أيضا (الحواس الباطنة خمسة: الحس المشترك، والقوة المتصورة، والقوة المتخيلة، والقوة الوهمية، والقوة الذاكرة. . . وأما الوهمية فهي التي تدرك من المحسوس ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عداوة الذئب، وليس ذلك بالعين بل بقوة أخرى وهي للبهائم مثل العقل للإنسان).
وأخيراً ليس الوهم خلعة صوفية فقالوا إن الوهم (الوهم محتد عزرائيل من محمد (ص): خلق الله وهم محمد من نور اسمه الكامل. وخلق عزرائيل من نور وهم محمد. فلما خلق الله وهم هذا الإنسان من نور الكمال أظهره في الوجود بلباس القمر، فأقوى شيء يوجد في الإنسان القوة الواهمة فإنها تغلب العقل والفكر والمصورة والمدركة وأقوى الملائكة عزرائيل لأنه خلق منه وقالوا (إن الله تعالى جعل الوهم مرآة نفسه ومجلى قدسه، ليس شيء في العالم أسرع إدراكا منه، ثم اعلم أن الله لما خلق الوهم قال له: أقسمت ألا أنجلي لأهل التقليد إلا فيك، ولا أظهر إلا في مخافيك وأفرد أبو الحارث المحاسبي كتاباً في(859/19)
(التوهم) كما استقصى مكدونالد (معنى الوهم في التفكير الإسلامي).
ولو أن فريقاً من المتفلسفين أقاموا (معرضاً للأوهام) وعرض فيه كل فيلسوف وهمه لتميز ابن سينا بوهمه ماذا هو عقل في صورة حيوان، يقول: (والإدراك قسمان حيواني وأنساني، والإدراك الحيواني إما في الظاهر وإما في الباطن فالإدراك الظاهر بالحواس الخمس والمشاعر والإدراك الباطن من الحيوان بالوهم، وحوله كل حس من الحواس الظاهرة يتأثر من المحسوس مثل كيفيته) ويقول أيضا (ثم في الحيوان قوة تسمى بالمتوهمة والظانة وهي تحكم على الشيء بأنه كذا أو ليس كذا بالجزم وبها يهرب الحيوان عن المحذور، ويقصد المختار، وهي غير المتصورة وغير المتخيلة أيضا) وأخذت مدموازيل جواشون تستعرض في ثبتها الفلسفي كل معاني الوهم والتوهم والوهميان كما وردت في كتب ابن سينا ولا سيما في كتاب والإشارات ومنجاة والشفاء.
ويأبى الرازي إلا أن يجعل هذا الوهم مصدر الغلط في الإنسان: (إن العقل لا يعرض له الغلط إلا من قبل هذه القوة المسماة بالوهم، وذلك سبب انطلاق لفظ الوهم الرأي الباطل مجازاً، تسمية المسبب باسم السبب، فظهر أن تسمية الرأي الباطل بالوهم أولى من تسميته بالخيال، فإن سبب الرأي الباطل ليس هو الخيال بل الوهم) ويقول في موضع آخر (يريد الشيخ بالوهم في هذا الكتاب المذهب الباطل أو السؤال الباطل، وذلك لأن العقل قد يعرض له الغلط من قبل معارضة الوهم إياه فتسمية الرأي الباطل بالوهم تسمية المسبب باسم المسبب مجازاً. . .)
وعلى ذلك فإن ابن سينا في إشاراته إلى الوهم قصد به كقوة وكباطل، ولكل مرماه في اللغة الفلسفية التي ابتدعها ابن سينا، وحدد نطاقها. ولعل في مقالي هذا ما يقنع المتفلسفين بان تراث ابن سينا يتطلب في فهمه وتقديره إحاطة واسعة بشتى ضروب العلم والعرفان التي طرقها فيلسوف الإسلام وجالينوس العرب، وأجاد فيها وأفاد. وهنا فقط تكون الفلسفة حقاً وصدقاً هي علم العلوم).
محمد محمود زيتون(859/20)
تاريخ الدولة الرسولية باليمن وعلاقاتها بمصر
1229 - 1454م
626 - 858 هـ
للأستاذ احمد مختار العيادي
اختلف المؤرخون حول نسب بني رسول، فنسبهم البعض إلى تركماني، ونسبهم البعض الآخر إلى اصل عربي. ومن القائلين بالرأي الثاني المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي الذي عاش في كنف تلك الدولة قي القرن الثامن الهجري، إذ قال (ونسبهم من يعرفهم إلى غسان ومن لا يعرفهم إلى التركمان).
ورسول هذا الذي تسمت باسم هذه الدولة، هو محمد بن هارون الذي أدناه الخليفة العباسي المستنجد واختصه برسالته إلى الشام ومصر وانطلق عليه اسم رسول وشهر به وترك اسمه الحقيقي حتى جهل. ثم حدث أن انتقل رسول هذا مع أولاده وأسرته إلى مصر إبان قيام الدولة الأيوبية، فأرسلهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بصحبة أخيه الملك المعظم توران شاه عند فتحه اليمن. ودخل توران شاه اليمن سنة 1172م (569 هـ) ثم لم يلبث أن عاد إلى مصر سنة 1175م (571 هـ) وصار يحكم اليمن عن طريق نوابه حتى مات سنة 1180م. وحكم اليمن بعد توران شاه عدة من أبناء البيت الأيوبي مات أحدهم مقتولاً وآخر مسموماً.
ولما تولى السلطان العادل الأول الأيوبي ملك مصر، أرسل حفيده الملك المسعود صلاح الدين يوسف بن الكامل - المعروف بأقسيس - إلى اليمن سنة 1215م (621 هـ) وكتب إلى أولاد علي بن رسول والأمراء المصريين باليمن يأمرهم بطاعته. ولقد قويت مكانة بني رسول وعظم نفوذهم في عهد الملك المسعود حتى اشتد خوف بني أيوب على ملك اليمن منهم، واضطر الملك المسعود أن يسجن اثنين من أبناء علي بن رسول سنة 1227م ولكنه أبقى على الإبن الثالث نور الدين عمر وجعله أتايكه.
وفي سنة 1228م (625 هـ) عاد الملك المسعود إلى مصر بعد أن قلد أمور اليمن إلى أتايكه نور الدين عمر وجعله نائبه بها. وتوفى الملك المسعود في مكة أثناء عودته إلى مصر سنة(859/21)
1229 م (636 هـ) فقام نور الدين عمر يحكم اليمن قياماً كلياً، واضمن الاستقلال بملكها، وأخذ يولي في المدن والحصون من يرتضيه ويثق به، ويعزل ويقتل من يخشاه أو يخالفه، ولكنه مع ذلك اظهر أنه نائب للمسعود ولم يغير سكة ولا خطبة).
ولم يعلن نور الدين عمر استقلاله بملك اليمن وخروجه عن طاعة سلطان مصر إلا في سنة 1232 م حينما ضرب السكة باسمه وأمر الخطباء أن يخطبوا له في سائر أقطار اليمن. ولم يكتف نور الدين بذلك بل أخذ يتقرب من الخلافة العباسية ببغداد ملتمساً منها تشريفه بخلعة السلطنة أي الاعتراف به سلطاناً شرعياً على اليمن. وقد أرسل له الخليفة العباسي المستنصر بالله التشريفة الخليفية والتقليد عن طريق الحجاز سنة 1233 م ولكنها نهبت في الطريق ولم يصل منها شيء إلى اليمن. واضطر الخليفة العباسي أن يرسل غيرها في العام التالي عن طريق البحر - طريق البصرة والخليج الفارسي والمحيط الهندي؛ وعند وصولها اليمن سنة 1234م ارتقى رسول الخليفة منبر مدينة جند وقال: (يا نور الدين! إن العزيز يقرئك السلام ويقول قد تصدقت عليك باليمن ووليتك إياه؛ ثم ألبسه الخلعه الشريفة على المنبر. ولم يكتف السلطان نور الدين بملك اليمن بل حاول السيطرة على الحجاز وانتزاعه من أيدي المصريين، فأخرج الجيوش المصرية من مكة المشرفة مرة بعد أخرى واستعمال عدة من قوادها ونخص بالذكر القائد المصري مبارز الدين علي بن برطاس الذي استسلم لنور الدين ودخل في خدمته سنة 1241 م (639 هـ) وبذا امتد نفوذ بني رسول من مكة إلى حضرموت.
ويروى الخزرجي أن عهد ذلك السلطان انتهى في ذي القعدة سنة 647 هـ (1250 م) عندما اغتاله بعض مماليكه وقتلوه في قصر الجند، كما يروى أن هذا السلطان (استكثر من المماليك البحرية حتى بلغت عدتهم ألف فارس وقيل ثمانمائة، وكانوا يحسنون من الفروسية والرمي ما لا يحسنه المماليك في مصر. وكان معه من المماليك الصغار قريب منهم في العدد خارجاً عن حلقته وعساكر أمرائه). ويلاحظ من رواية الخزرجي أن وفاة السلطان نور الدين عمر كانت في نفس السنة التي توفي فيها السلطان الصالح نجم الدين أيوب في مصر، وهذا يدل على أن فرقة المماليك البحرية التي أسسها نور الدين عمر باليمن تكونت في نفس الوقت الذي تكونت في نفس الوقت الذي تكونت فيه فرقة المماليك البحرية(859/22)
الصالحية التي أسسها السلطان أيوب. وهذا يدل ضمناً على وجود اتصال وثيق بين مصر واليمن، كما يدل أيضا على بطلان الزعم القائل بان لفظ بحرية يرجع إلى بحر النيل وذلك بعد أن ثبت فعلاً وجود فرقة من المماليك البحرية بعيدة عن مصر والنيل.
ومهما يكن من شيء فقد استطاع قتلة السلطان نور الدين أن يجذبوا بقية المماليك إلى جانبهم وان ينادوا بابن أخ السلطان القتيل يدعى فخر الدين، سلطاناً على اليمن، ويسيروا معه نحو العاصمة زبيد لاحتلالها، ولكن الدار الشمس ابنة السلطان المتوفى استطاعت أن تدافع عن المدينة ببسالة ريثما يجيء أخوها الملك المظفر بن نور الدين الذي كان مقيماُ بحصن المهجم، والذي حينما علم بوفاة أبيه وأطماع ابن عمه في ملك اليمن أسرع من فوره نحو زبيد في فبراير سنة 1250م، وصار كلما مر بقبيلة من العرب استخدم خيلها ورجالها حتى تجمع له جيش قوي أوقع الرعب في صفوف أعدائه. وعلى أثر ذلك اجتمع رؤساء المماليك وأعيانهم وهم غالبية جيش الأمير فخر الدين وكتبوا إلى الملك المظفر يطلبون منه الأمان، مأمنهم على أن يسلموه ابن عمه وجماعة المماليك الذين قتلوا أباه. فأجابوه إلى طلبه ودخل المظفر مدينة زبيد في موكب عظيم في مارس سنة 1250 م. واستطاع السلطان المظفر في ظرف ثلاث سنوات أن يستعيد جمع ممتلكات والده التي استقلت عقب مصرعه وأهمها صنعاء والدملوءة وتعز، كما استطاع أن يقضي ثورة على شرفاء الزيدية ومن انضم إليهم من المماليك في صنعاء سنة 1260م.
وتروي المصادر المعاصرة أنه في سنة 1262 م (659 هـ) سار السلطان المظفر بجيش كبير إلى مكة لأداء فريضة الحج. وهناك (طلعت أعلامه الشريفة وأعلام سلطان مصر، فقال له أحد الأمراء: هلاَّ أطلعت أعلامك يا مولانا السلطان قبل أعلام المصريين؟ فقال له السلطان المظفر: أتراني أؤخر أعلام ملك كسر التتر بالأمس وأقدم أعلامي لحضوري). وهذه العبارة إن دلت على شيء فإنما تدل على مقدار النفوذ الذي اكتسبته مصر في أنحاء العالم الإسلامي عقب انتصار سلطانها الملك سيف الدين قطز على المغول في واقعة عين جالوت بفلسطين سنة 1260 م.
وكيفما كان الأمر، أجمعت المصادر المعاصرة على أن السلطان المظفر كان حاكماً قوياً موفقاً ولقد لقبه الخزرجي بلقب خليفة في آخر حكمه. وتوفي السلطان المظفر سنة 1294(859/23)
م وخلفه على عرش اليمن ابنه الأشرف عمر ثم ابنه المؤيد داود سنة 1297 م.
وفي عهد السلطان المؤيد (سنة 1318 م) أعيد تنظيم الجيش اليمني على نظام الجيش المصري، فيروي الخزرجي أن الأمير علاء الدين كشدغدي (رتب عساكر السلطان المنصورة على ترتيب العساكر المصرية وجعل لها جناحاً للميمنة وجناحاً للميسرة وجعل خلف السلطان عصاب كثيرة، وركب المماليك بالنفخ وجعل منهم طائفة طبردارية، وركب السلطان بهذا الزي). ويجدر بنا أن نلاحظ بصدد تاريخ هذا التنظيم أنه يوافق عهد سلطنة الناصر محمد في مصر أي في الوقت الذي تبلورت فيه النظم الملوكية في مصر وبلغت ذروة الازدهار، فلا عجب إن صارت مصر في ذلك الوقت قبلة أنظار الدول الإسلامية الأخرى وموضع محاكاتها.
وتوفي السلطان المؤيد سنة 1321 م وخلفه ابنه المجاهد الذي سرعان ما قبض على عمه المنصور بن المظفر وسجنه في قلعة تعز وأعلن نفسه سلطاناً سنة 1322 م. غير أن مماليك السلطان المجاهد تمكنوا من تسلق حصن تعز خفية وأطلقوا سراح أستاذهم المجاهد وقبضوا على المعارضين لسلطته وعلى رأسهم الملك المنصور الذي حل محل ابن أخيه في السجن.
وكان السلطان المجاهد يخشى قوة المماليك البحرية، ويخاف خطرهم ولذا (دارت بينه وبينهم عهود وذمم وكتب لهم ميثاقاً بالأمان والوفاء ونادى لهم بذلك في الأسواق ومجامع الناس). غير أن المماليك البحرية سرعان ما قلبوا له ظهر المجن وثاروا عليه سنة 1332 م وهاجموا مدينتي تعز وجند، وعاثوا فيها فساداً كما هاجموا مدينة زبيد واحتلوها، ولما علم السلطان بما فعله المماليك، أمر بقطع أعطياتهم حتى (تعبوا وباع الكثير منهم عدته وثيابه، وجاهروا السلطان القبيح). ولم يكتف السلطان بذلك بل أمر بإباحة قتل المماليك ونهبهم، ووزع قواته على مختلف الطرقات لحراستها وحفظها من عبثهم. ولم يستطع السلطان كبح جماح المماليك إلا في سنة 1334 م حينما أوقع بهم الأشراف والأكراد هزيمة منكرة في وادي جاحف بالقرب من المهجم، حيث قتل كثير من أعيان المماليك نذكر منهم أزبك الصاربي، ولطيناً المجموري، وأيلة السراجي. واحتل السلطان مدينة زبيد وخطب له على منابرها سنة 335 م.(859/24)
ويروى الخزرجي في حوادث سنة 725 هـ (1325 م) من عهد السلطان المجاهد أن جيشاً مصرياً يبلغ عدده ألفي فارس، وصل إلى اليمن في شهر رجب (يونيو) من تلك السنة وعليه الأمير سيف الدين بيبرس والأمير جمال الدين طيلان، ومعهم اثنان وعشرون ألف جمل تحمل عددهم، فأستقبلهم السلطان في زبيد، فلما دنو منه ترجلوا وقبلوا الأرض بين يديه وساروا في خدمته ساعة، وألبسوه خلعة فاخرة وعمامة بعدبتين. وبعد أن أقاموا في زبيد عدة أيام صحبوا السلطان إلى تعز. ويضيف الخزرجي أن المصريين عاثوا في المدينة فساداً، فكانوا لا يجدون طعاماً إلا أخذوه بثمن بخس وانتهبوا بيوتاً كثيرة، وضربوا كثيراً من الناس حتى قتلوهم، وقطعوا جميع الزرع في مدينة تعز وضواحيها، وارتفعت أسعار الحاجيات وضاقت البلاد على أهلها.
ولم يرحل الجيش المصري عن اليمن متوجهاً إلى الشام ألا في شهر يوليو (شعبان) من نفس السنة، وقد فرح أهل اليمن برحيلهم.
وتوفي السلطان المجاهد سنة 1363 م وخلفه ابنه الأفضل العباسي الذي تخلل عهده عدة ثورات قام بها الأشراف والمماليك وبعض أخوته. وبالرغم من أن أجزاء كثيرة من الدولة الرسولية استقلت في عهد السلطان الأشرف بن الأفضل سنة 1379 م، فإن نفوذ ذلك السلطان ظل قوياً وظلت وفود الدولة المجاورة مثل الهند والحبشة تفد إلية وتخطب وده وتقدم له مختلف الهدايا. وبعد موت السلطان الأشرف سنة 1400 م صار تولية السلاطين وغزلهم يحدث في فترات قصيرة تتخللها عدة ثورات للمماليك وتخص بالذكر المماليك المصريين المقيمين باليمن والمعروفين هناك باسم (المماليك الغرباء).
وانتهى الأمر باستيلاء بني طاهر على اليمن سنة 1454 م فانتهت بذلك دولة بني رسول.
من كل ما تقدم ترى أن هناك أوجه شبه عديدة بين الدولة الرسولية في اليمن ودولة المماليك في مصر. فلقد عاصرت كل منهما الأخرى تقريباً إذ قامت الدولة الرسولية سنة 1229 م أحد وعشرين سنة قبيل قيام الدولة المملوكية، وظلت تلك الدولة زمناً وعاصرت الدولة المملوكية بمصر حتى سنة 1454 م. وكان سلاطين الدولتين في بادئ الأمر أتباعاً لسلاطين الأيوبيين ثم تمكنوا بقوة نفوذهم وضعف أسيادهم أن يستأثروا بالملك لأنفسهم. واعتمدت كلتا الدولتين على فرق من المماليك ولا سيما المماليك البحرية الذين لعبوا درواً(859/25)
خطيراً في تاريخ كلا البلدين. هذا وقد عرف عن سلاطين الدولتين بصفة عامه ميلهم الشديد نحو الفنون والآداب وبناء المدارس والمساجد والقصور. وهناك وجه شبه أخير تتلمسه في تقرب سلاطين الدولتين للخلافة العباسية ببغداد لأن اعترافها بهم سوف يقوي من نفوذهم الأدبي ويكسبهم صفة شرعية للحكم. وقد ظلت الدولة الرسولية على ولائها واحترامها لخلافة بغداد حتى بعد أن قضى المغول عليها وقتلوا الخليفة المستعصم سنة 1258 م (656 هـ) إذ ظل اسم الخليفة المقتول يدعى له سائر منابر اليمن حتى أواخر القرن الثامن الهجري. وفي ذلك يقول الخزرجي (في سنة 640 هـ مات الخليفة المستنصر وتولى الخلافة بعده ولده المستعصم بالله أمير المؤمنين أبو احمد، وهو الذي يدعى له سائر المنابر إلى وقتنا هذا من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة).
أحمد مختار العبادي(859/26)
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ محمد سيد كيلاني
الدور الأول
1850 - 1882
3
1 - أغراضه
بقيت أغراض الشعر في هذا الدور كما كانت علية من قبل. فكان باب المدح يحتل معظم ديوان الشاعر، فالشاعر في هذا العصر مداح ليس إلا، يعيش ليمدح هذا وذاك، وينظم القصائد الطوال في الإشادة بمناقب هذا الأمير أو ذاك الوزير، راجياً صلة أو وظيفة أو ترقية أو علاوة. فإن رأيت شيئاً غير المدح فهو قليل لا يكاد يذكر. وكانت قصائد المدح تبدأ غالباً بغزل متكلف مصطنع.
وكانوا يبدءون قصائد الرثاء بالتحدث عن الموت الذي يسطو على الناس فيختار الجياد منهم. ويشيرون إلى هلاك الملوك وفناء العظماء. ويذكرون استحالة البقاء وأن الموت غاية كل حي، وطريق تسير فيه السادة والعبيد، والأغنياء والفقراء، والصعاليك والأمراء. ثم ينتقلون من هذا إلى ذكر مناقب الفقيد والتنويه بمزاياه وصفاته. ثم يختم الرثاء بإشارة موجزة إلى ما أعد للفقيد في الجنة من نعيم مقيم وحور عين. ومثال ذلك قول الليثي في رثاء عبد الله فكري:
ومن بان في الفراديس ناعم ... يظل ظليل دوحه يتهدل
يغازل ولدانا وحورا على صفا ... وفي حسنها من لطفه يتغزل
تبارك من قد خاره لجواره ... وخيره في أنعم تتذلل
وإذا رثى الشاعر زوجته أو ابنه أو بنته أو أباه وصف أدوار المرض التي تقلب فيها الميت وأشار إلى الطبيب وما قام به من علاج، ومثال ذلك قول صالح مجدي يرثى زوجته:
ولا كان (بدر) جاء يحيي مواتها ... بطب عسيف كان فيه أذاها(859/27)
فإن انصباب الماء من فوق رأسها ... على رغم أنفي كان فيه بلاها
وفي الأخذ منها للدماء مدامعي ... روت كل أرض لا يقاس فضاها
وفي الخردل الموضوع من فوق ساقها ... شواظ بقلب فيه شيد حمامها
وهكذا قص علينا الشاعر ما حدث لزوجته إبان مرضها، مستمداً القول من الواقع لا من الخيال. وهذه طريقه جديدة في الرثاء لم تعرف من قبل.
ومنذ عصر سعيد بدأ الشعراء يصفون بعض المخترعات الحديثة كالسفن البخارية وآلات الري والأسلاك البرقية والسكك الحديدية والكباري والقطر وغير ذلك مما ظهر وقتئذ. ولكن الشعر الذي قيل في هذا الغرض كان قليلاً جداّ.
وكان بعض الشعراء في هذا الدور إذا وصف حفلة من الحفلات أو مشهدا من المشاهد انغمس في الواقعية إلى أبعد حد، وحرص على أن يسجل في شعره كل صغيرة وكبيرة مما تراه عينه ومثال ذلك قول عبد الله فكري حينما عاد من مؤتمر المستشرقين:
مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي ... لرضاك ما تسمو به الأقدار
ومنها:
ثم امتطينا للسويد ركائباً ... لا الركض يجهدها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه التيار
سرنا بهن على العشي فأصبحت ... في (استكهلم) وقد بدا الإسفار
ولقيت صاحب تاجها في قصره ... والوفد ثم بصحبني نظار
فدنا وصافح باليمين مردداً ... شكر الخديو يزينه التكرار
فشرعت مقتصدا ًأجاوبه بما ... أرضاه لا قل ولا إكثار
وهذه الطريقة الواقعية التي أغرم بها بعض الشعراء في ذلك العصر قد جعلت قصائدهم شبيهة بالتقارير التي يدون فيها كل شيء مع مراعاة الترتيب الزماني والمكاني.
وفي عصر سعيد كثر إقبال الشعراء على نظم الأناشيد العسكرية الحماسية وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وأخذ بعضهم يصف القلاع والحصون ويذكر البنادق والمدافع.
وفي عهد إسماعيل تأثر الشعراء بالحياة الاجتماعية الجديدة فذكروا القصور والبساتين والشوارع والميادين ومصالح الحكومة ودواوينها. وأخذوا يشيرون إلى إضاءة المدينة(859/28)
بمصابيح الغاز وتوصيل المياه إلى المنازل وغير ذلك من مظاهر الحضارة والعمران. وفي أواخر هذا العصر بدأ الشعر السياسي في الظهور. ورأينا قصائد قليلة تنظم في نقد المجتمع وفي الشكوى من تغلغل النفوذ الأجنبي.
وحينما تولى توفيق ارتفعت أصوات الشعراء مطالبين بالإصلاح ورفع المظالم التي حاقت بالشعب. وهكذا اصبح الشعراء ينظرون إلى الصالح العام بعد أن كانوا ينظرون إلى صالح أنفسهم. ولكن يجب أن نقول بأن النظرة الذاتية كانت غالبة فتأمل في قول الساعاتي حين يمدح إسماعيل صديق فيقول:
وحسبك بالإجماع منا فصادح ... بحمدك غريد وآخر باغم
وقد أجمع الناس واتفقت كلمة المؤرخين من مصريين وأجانب على أن إسماعيل صديق كان مثالاً للظلم والقسوة وعلى أنه هو الذي جر البلاد إلى الخراب والدمار وأرهق الفلاحين وأثقل كاهلهم بالضرائب الفادحة. ولكن الساعاتي لم ير بأساً في الكذب ولم يجد ضيراً من الافتراء. فهو في نظير مصلحة يرجوها أو عطاء يؤمله قد صور الناس مجمعين على التغني بفضائل إسماعيل والإشادة بمناقبه. على أن هذه النظرة الذاتية والتضحية بمصلحة المجتمع في سبيل مصلحة الشاعر قد لازمت الشعراء المصريين حتى هذه الأيام.
وقلت المدائح النبوية في هذا الدور حتى أننا لا نجد للشعراء في هذا الباب شيئاً ذا قيمه اللهم إلا قصيدة بديعة للساعاتي ضمنها مائه وخمسين نوعاً من أنواع البديع.
وظهرت في عهد إسماعيل الأناشيد المدرسية التي يلقيها الطلبة في الحفلات، وفي هذه الأناشيد إشادة بقيمة العلم ومنافعه للأمم والشعوب والترغيب في الجد والاجتهاد والاستعداد ليوم الامتحان الذي يكرم المرء فيه أو يهان كما كانوا يقولون.
وفي هذا العصر أكثر الشعراء من نظم التواريخ وذلك لكثرة ما أقيم من المعاهد والمدارس والمصانع والقلاع والحصون والقصور والمساجد، وقد أرخ الشعراء حفلات أنجال إسماعيل في شعر كثير.
وحينما شبت الحرب بين الإنجليز والعرابيين انضم إلى الحركة العرابية شعراء كثيرون في القاهرة والأرياف وأخذ هؤلاء الشعراء ينظمون القصائد الحماسية في الحض على الجهاد والتحريض على الكفاح وفي هجاء الإنجليز وكل من يتعاون معهم. ومن هؤلاء(859/29)
الشعراء محمد النجار وله قصيدة جاء فيها (والخطاب لعرابي):
فازحف بجيشك يا مظفر ضاربا ... في الإنجليز وقاتلاُ سيمورا
واقطع بسيفك أمة قد أمروا ... أنثى عليهم إذ عدمن ذكورا
ومنها في هجاء الإنجليز:
قوم تربوا في الثلوج فطبعهم ... يهوى البرود ولا يطيق حرورا
كتبوا لسيدة لهم أن جهزي ... غنماً لعيد المسلمين كثيرا
يا إنجليز ومن ينادي ميتاً ... يخطي وكيف أخاطب المقبورا
ولأحمد عبد الغني قصيدة مطلعها:
لعمرك ليس ذا وقت التصابي ... ولا وقت السماع على الشراب
ولا وقت الجلوس على القهاوي ... ولا وقت التغافل والتغابي
ولا وقت التشبب في سليمى ... ولا وقت التشاغل بالرباب
إلى أن قال:
ولكن ذا زمان الجد وافى ... وذا وقت الفتوة والشباب
ووقت الاتحاد مع التصافي ... وعقد عرى الإخاء والانتساب
ووقت ليس فيه يليق إلا ال ... إقامة بالقلاع وبالطوابي
ووقت فيه الاستعداد فرض ... لتنفيذ الأوامر من عرابي
وامتازت هذه القائد بظهور العاطفة الوطنية فيها ظهوراً لم يعرف من قبل. ولو طال أمد الحرب بين المصريين والبريطانيين لاستفاد الشعر كثيراً. ولكن الحرب انتهت في مدة وجيزة، لذلك انطفأت هذه الجذوة بانتهاء الحرب.
ولما قضي على الحركة العرابية اخذ الشعراء الخديو ينظمون القصائد في مدحه، وقد مزجوا هذا المدح بالتحريض على التنكيل بالعرابين وأطلقوا عليهم اسم (العصاة) و (البغاة). ومن أشهر ما نظم في هذا الغرض قصيدة لمصطفى صبحي باشا دعاها (صدق المقال في مثالب البغاة الجهال) قال إنه ذكر فيها (دسائس الأشقياء الملحدين، ومفاسد الأغبياء المتمردين وكيف قابلوا الإحسان بالكفران والنعمة بالطغيان من مبدأ أمرهم ليوم سفرهم) وطلعها:(859/30)
تبين عقبي غيه كل معتدي ... وأمسى العرابي وهو بالذل مرتدي
يعض بنان المستكين ندامة ... ويقرع بالدلال سن المهند
وعقيب إخماد الحركة العرابية أقبل الشعراء الذين كانوا قد انظموا إليها على نظم القصائد في الاعتذار مما فرط منهم والتنصل مما عزي إليهم من تهمة الاشتراك في حركة العصيان.
وانتشر في هذا العصر الفخر الكاذب. فترى الشاعر يفخر بنفسه ويسند إليها من صفات ما ليس منها. ومثال ذلك قول الساعاتي:
ماذا تريد الحادثات من امرئ ... من جنده الأمراء والشعراء
فأي الشعراء هؤلاء الذين كانوا من جنده؟ ومن هم الأمراء الذين كانوا من عسكرة؟ وتأمل قولة:
أنا ذلك الصل الذي عن نابه ... تلو المنون وتلوي الرقطاء
وفمي هو القوس الأبد مقولي ال ... وتر الشديد وأسهمي الإنشاء
فكر ينظم في البديع فرائداً ... من دونها ما يلفظ الدأماء
ولا شك في أن هذا بعد عن الحقيقة وكذب وافتراء، وتقليد أعمى لبعض القدماء.
وأكثر الشعراء. فإذا نظم أحدهم قصيدة وصفها بالجودة والانفراد في الحسن، ومثال ذلك قول صالح مجدي:
امولاي هابكرا تتيه بحسنها ... وتفعل بالألباب فعل مدام
وهذا الشاعر يختم قصائده في الغالب بمثل هذا الفخل الكاذبين. هذا ما يمكن أن يقال عن أغراض الشعر في هذا الدور.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني(859/31)
روح ومادة
للأستاذ ثروت أباظة
صديقي رجل أرضى مغرق في أرضيته. . . نحرص عليه فهو من أنجب محبيها، ويحرص عليها فهي في عينه طريق اللقمة إلى جوفه، واللذة إلى جسده، والقرش إلى جيبه. . . وتفكيره لا يذهب به إلى أكثر من لقمه ولذة وقرش، وحياته أو الحياة كلها في راسخ عقيدته هي هؤلاء الأرضيات الثلاث؛ فالأرض إذن هي الحياة، فهو متمسك بها تمسكه بالحياة، حريص عليها حرصه عليها، فما يمتد له خلفها شدف ولا يلوح له بعدها غاية. . . هو صديق لأن طرق الحياة كثيراً ما ترمي بالند إلى غيره نده. فنحن مختلفان مزاجاً، مفترقان رأيا، مجتمعان في صداقة أشبه ما تكون بتلك القائمة بين الشيوعية والديمقراطية، ولكننا لا نشبه هاتين الجبهتين في سوء الطوية وسواد السريرة. . . وصديقي متبجح. . . فهو لا يخزى مطلقاً أن يعرض آراءه ويدافع عنها وكأنها مثل العالم الرفيعة، بل هو يريد أن يسير على هداه الأغبر، فهو ما يزال يندد بأفكاري الصبيانية الصغيرة في سخرية تواتيه على سليقة.
لنا مكان يجمعنا فكأننا كلنا أصحابه، لا يدور فيه غير النقاش، ولا نقاش يدور به إلا وهو محتدم ولا انتهاء لنا إلا بافتراق الرأي وتباين الفكرة وصفاء النفس. وان أحدا منا لا يحاول أبداً أن يقنع أو يقتنع؛ وإنما نلقي بأقوالنا لمجرد إلقائها، فإذا جاء صديقي هذا كنا جميعاً على جانب وكان هو في الجانب الآخر متمسكاً بأرضيته لا يحيد عنها ولا تتخلى عنه.
وكان أن جاء وأحد الصحاب يتكلم في الأدب، فقعد يستمع وطال الحديث ودار النقاش وهو صامت لا يمد إليه لساناً. . . فسأله أحد الجالسين:
- خيراً. . . تصمت لأول مرة في حياتك. . . فما خبرك!
- أو رأيتني عمرك أتكلم في الأدب؟
- أو شرف هذا؟
-. . . إنما هي حقيقة
- حقيقة مخجلة!
- هذا رأيك(859/32)
- ورأي لك إنسان
- وما الإنسان في عقيدتك؟
- هو تلك الروح السامية التي وهب الله لها العقل لتفهم، والقلب تسري به العواطف رفيعة، وهو الشعور الرهيف والحس الدقيق الذوق.
- الفن والأدب العالي وسائر ما تعرف به أنت وصحبك هؤلاء ليقنع كل منكم الآخر أنه، فنان وتستتلون أن المخلوق غير الفنان حيوان، وأنكم أنتم وحدكم الصفوة المختارة والرهط. . .
لم أطلق السكوت بعد أن أشار إلينا بسخريته الصفيقة فقلت له:
- من قال ذا. . . وما شأنك والفنان حتى تعرض به. . .
- ما شأني. . . أماسونيةً هي! ماذا تريدني أن أكون حتى أتكلم عن الفن. . . هل حتم عليَّ أن أملأ صفحة مما تملأ حتى أصبح فناناً.
- من قال إن الفنان صفحة
- فما هو إذن
- هو الذي علمه الأدب أن يقول من هو لا ما هو. الفنان هو ذلك الإنسان الذي يحس باللفظ على لسانه وفي عقله؛ وهو ذلك الرؤوف الشفيق، هو ذلك القلب الخافق والشعور الرهيف. إن في المخلوق ناحيتين: ناحية تنتظم العقل والقلب والحس، وأخرى تحوي المعدة وما يتلوها مما وهب الله للحيوان، فمن نظر إلى عقله وقلبه وحسه كان إنسانا، والإنسان فنان لأنه يغلب الشعور على المادية. ومن نظر إلى معدته كان حيواناً، لأنه يبحث دائماً عما يسكت به نهمه.
- الله. . . شرَّع أنت شرَّع. . . على أنني حتى إذا طبقت قولك هذا على نفسي وجدتني إنساناً فأنا أغلب العقل دائماً. . .
- يخيل إليك أنك تغلبه. . . وأنت دائماً تقول إنك تغلب العقل على شعورك وعاطفتك، وهذا كذب لأنك إذا كنت تنظر إلى نفسك دائماً وتفعل فأنت إنما تغلب أنانيتك لا عقلك.
- وما تراني فاعلاً إذا نظرت إلى نفسي بعاطفتي وحسي. أتراني أجد عاطفتي تكرهني. اللهم إنكم جميعاً تعلمون أن أحب خلق الله إلى نفسك هي نفسك.(859/33)
- نعم نعلم ذاك، ولكننا نرضيها بعمل الخير لغيرنا ويحب الخير للناس. والنفس الإنسانة هي تلك. . . ليست والله لقمة وقرشاً هي حب وعاطفة.
- تتكلم وكأنك جاهل أحمق. . . ألم تقرأ آخر ما كتب علماء النفس. . . ألم يقولوا أن كل الأعمال مردها إلى الغريزة فأين من هذا الشعور والعاطفة. . . فالحب الذي تقول عنه ما هو إلا غريزة.
- هو ذاك ونحن نعلمه قبل أن تسمع به أنت. . . غير أننا نعرف أيضا كيف نهذب هذه الغريزة ونرقى بها. . .
- أرني بربك. . . هذب غريزتي ولك الأجر والثواب عند الله.
- هذا إليك. أنظر إلى الأمور بقلبك وشورك وعقلك تهذب غريزتك وتصبح إنساناً. . . الإنسان هو من يستطيع أن يغلف هذه الغريزة. وعمل الفنون في كل العالم هو أن يضربوا حول الغريزة سياجاً من الوميض يعميهم عنها فيرتفعوا بإنسانيتهم.
- تدعوني إلى أن أغش نفسي.
- بل إلى أن تعيش إنساناً لا حيواناً. . . أدعوك إلى أن تغلب ما ميزك به الله على الحيوان فإذا أنت رفيع النظرة دقيق الحس
- والحقيقة؟
- تدركها وترتفع عنها.
- وعقلي؟
- تدرك به هذه الحقيقة وتسمو به وتصرفه إلى الأهداف السامية من الحياة.
ارتج على الصديق فعالجه أحد الجالسين
- لا تناقش فالله ما قصد واحد منا إلى إقناعك. . . إنها يا بني نفسك وليس لنا معها حيله. . . والله أن كنت قد اقتنعت فأنك ستكابر. والجو على أسوأ أحواله ورؤوسنا مصدوعة. . . فقم إلى جسدك فليس لنا من الفراغ ما نضيعه معك أكثر من هذا.
سكت الأرضي على مضض وما لبث أن استأذن وقام. . . قام لأول مرة مهزوماً على غير اقتناع. . . يحمل في صدره سخيمة الهزيمة ونحن نعلم ولكننا لم تملك أنفسنا أن نشفق عليه.(859/34)
إنها نفوس إنسانة.
ثروت أباظه(859/35)
الخطر اليهودي
بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء
للأستاذ محمد خليفة التونسي
البروتوكول الثاني
يلزم لغرضنا ألا تعقب الحروب أي تغييرات إقليمية، فبدون التعديلات الإقليمية ستستحيل الحروب إلى سباق اقتصادي. ومن ثم تتبين الأمم تفوقها في المساعدة التي سنقدمها وأطراد الأمور هكذا سيضع الجانبين كليهما تحت رحمة وكلائنا الدوليين ذوي ملايين العيون الذين لهم على الإطلاق وسائل غير محدودة، وعندئذ ستكتسح حقوقنا الدولية كل قوانين العالم، وسنحكم البلاد بالأسلوب ذاته الذي تحكم به الحكومات الفردية رعاياها.
إننا سنختار من بين العامة رؤساء للإدارات لهم ميول العبيد ولن يكونوا مدريين على فن الحكم، ولذلك سيكون من اليسير أن يمسخوا قطع شطرنج في لعبتنا، بأيدي مستشارينا العلماء الحكماء خصيصاً على حكم العالم منذ الطفولة الباكره. وهؤلاء الرجال - كما هو معلوم لكم قبل - قد درسوا على الحكم من خططنا السياسية، ومن تجربة التاريخ، ومن ملاحظة الأحداث الجارية. والأمميون لا ينتفعون بالملاحظات التاريخية المستمرة بل يتبعون نسقاً نظرياً من غير تفكير فيما يمكن أن تكون نتائجه، ومن أجل ذلك لسنا في حاجة إلى أن نرعى للأمميين قدراً.
ودعوهم يتمتعوا بأنفسهم حتى يأتي الوقت؛ أو دعوهم يعيشوا في أحلامهم بملاه جديدة، أو على ذكرياتهم للأفراح الماضية دعوهم يعتقدوا أن هذه القوانين النظرية التي أوحينا بها إليهم لها القدر الأسمى من أجلهم، وبتقييد أبصارهم إلى هذا الموضوع، وبمساعدة صحافتنا - ننمي باطراد ثقتهم العمياء بهذه القوانين. وسنختال الطبقات المتعلمة أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ جزافاً في مزاولة المعرفة التي حصلت من العلم الذي قدمه إليها وكلائنا بغية توجيه أذهانها في الاتجاه الذي نرضاه.
لا تتصور أن تصريحاتنا كلمات جوفاء. ولاحظوا هنا أن نجاح دارون وماركس ونيتشه قد دبرناه من قبل. وسيكون واضحاً لنا على التأكيد الأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم(859/36)
في الفكر الأممي. يتحتم علينا - كي نتجنب الأخطاء في سياستنا وعملنا الإداري - أن ندرس ونستحضر في الذهن هذا الخطر الحالي من الرأي وهو أخلاق الأمم وميولها.
إن نجاح نظريتنا في موافقتها لأمزجة الأمم التي نتصل بها، وهي لا يمكن أن تكون ناجحة إذا كانت ممارستها العملية غير مؤسسة على تجربة الماضي متصلة بملاحظات الحاضر.
والصحافة التي في أيدي الحكومات القائمة قوة عظيمة، بها تحصل على توجيه عقول الناس، فالصحافة تبين مطالب الجمهور الحيوية، وتعلن المسالمين، وتولد الضجر أحيانا في الغوغاء. وفي الصحافة تحقيق مولد حرية الكلام، غير أن الحكومات لم تعرف كيف تستعمل هذه القوة بالطريقة المناسبة، فسقطت في أيدينا. ومن خلال الصحافة أحرزناً نفوذاً وإن ظللنا نحن من وراء الستار. وبفضل الصحافة كدسنا الذهب، ولو أن ذلك كلفنا أنهارا من الدم: فقد كلفنا مفاداته بكثير من بني جنسنا ولكن كل فدية من جانبنا تقوم بآلاف من الامميين عند الله.
تعقيب على المترجم
أما كارل ماركس فهو صاحب مذهب (المادية الثنائية) وتترجم أحياناً (بالمادية الجدلية) تجوزاً، وخلاصة مذهبه أن المادة أزلية متحركة بذاتها منطوية على كل العناصر التي تخلق منها الحياة والعقل وما إليها حسب الطبيعة الكامنة فيها، ومن قوانينها اجتماع الأضداد وتنازعها حتى يغلب أحدهما الآخر، والمغالبة باقية أبدا، وكل صفة من الكيف تنشأ عن صفة في الكم. وهكذا نشأت الحياة والعقل وما إليهما من الأشياء التي تعد غير مادية في العرف، ومؤدى ذلك أن لاشيء في الوجود إلا المادة، فليس ثمت إله ولا أرواح غير المادة، ومن ثم تبطل الديانات جميعاً. وهذه هي نهاية المذهب الذي أخرجه عقل ماركس اليهودي المتنصر، ومن وراء ذلك الشيوعية التي أساسها إنكار الروحانيات وإنكار الامتيازات فلا فرق بين رجل ورجل ولا بين رجل وإمرة. ولا قيمة لشيء لا يقوم، المال با فلا قيمة للفنون ولا الفلسفات ونحوها، ولا سعى إلى هدف غير سد حاجات الإنسانية البدنية، ولا حكم لشيء غير البدن وحاجاته الغليظة. . .
وأما نتشه فقد طبق مذهب التطور الداروني في الأخلاق ونادى بمذهب القوة. فالتنازع سنة الحياة ولا يبقى إلا القوي؛ والأخلاق نوعان أخلاق السادة كالشجاعة والخداع والقسوة(859/37)
ونحوها: وأخلاق العبيد كالتسامح والشفقة والإحسان ونحوها. والإنسان القوي لا يتقيد بالقانون ولا بالأخلاق وكل هذا مما يرضي اليهود ومما يسيرون عليه في حياتهم إزاء غيرهم وهذا يتفق والسياسة التي ترسمها هذه البروتوكولات.
وهذا الإنجاز المخل في توضيح مذهب هؤلاء وفي مصلحة اليهود من ترويج مذاهبهم - يشير إلى السر ولا يوضحه كل إيضاح. ولنا عودة إلى هذه الموضوعات مستقلة عن التعليقات على هذه البروتوكول أن شاء الله.
محمد خليفة التونسي(859/38)
في الأيام الخوالي
بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
اشتهر الكاتب التشيكوسلوفاكي كارل كابك بكتابته اللاذعة وأسلوبه التهكمي وتحليله الدقيق في مختلف نواحي الحياة والمجتمع، فضلاً عن أنه كاتب قصص قدير وقد ظهر له أخيراً كتاب (قصص أبو قريفية) يحتوي على صور من الحياة وبعض الشخصيات التاريخية المشهورة في مختلف العصور: والقصة التالية إحدى هذه الصور،
كان يوباتر صانع السلال - وموطنه طيبة (الإغريقية) - جالساً في فناء داره يحيك سلاله، عندما أقبل عليه جاره فلاجاروس مهرولاً صائحاً من بعيد:
(يوباتر. دع سلالك وأصغ! إن أشياء مروعة تحدث!)
فسأله يوباتر وهو يهم بالوقوف (دار من التي أصابها الحريق؟)
فأجابه فيلاجاروس (أنه شيء أسوأ من الحريق. أتعرف ما الذي حدث؟ أنهم يودون أن يقدموا جنرالنا نيكوماكوس إلى المحاكمة! أن بعضهم يقول أنه متهم بالتآمر مع التسالونيين ويصرح البعض الآخر بأنه متداخل مع حزب الساخطين. هيا أسرع إننا مجتمعون في ساحة السوق!
فسأله يوباتر في خمول (وماذا أفعل هناك؟)
فأجاب فيلاجاروس (هذا شيء في غاية الأهمية. إن المكان زاخر بالخطباء. فمنهم من يقول أنه بريء أو منهم من يقول أنه مدان. تعال استمع إليهم.
قال يوباتر (تمهل لحظة حتى انتهي من هذه السلة. خبرني ما هي حقيقة التهمة الموجهة إلى نيكوماكوس.
قال الجار (أنهم لا يعرفونها على وجه الدقة. فأحدهم يقول شيئاً، والآخرون يقولون أشياء؛ وأولو الشأن لا ينبضون ببنت شفة لأن؛ التحقيق لم ينتهي بعد. بيد أن هناك أمور تحدث في ساحة السوق ينبغي أن تراها؛ فبعض الناس يصبح قائلاً أن نيكوماكوس بريء.
- رويدك! كيف يستطيعون القول بأنه بريء في حين أنهم لا يعرفون تمام المعرفة التهمة الموجهة إلية؟
- أن ذلك لا يهم. لقد سمع كل منهم شيئا؛ فهو لذلك يتحدث عنه. ألسنا جميعاً لنا حق(859/39)
التكلم؟ أعتقد أن نيكوماكوس كان يحاول خيانتنا لدى التسالونين. فقد أخبرنا أحدهم بذلك. فقد قال أن أحد معارفه قد اطلع على رسالة. ولكن أحد الرجال قال إنها مؤامرة ضد نيكوماكوس وأنه يعرف عن ذلك الشيء الكثير. وهم يقولون أن الحكومة ضالعة في ذلك الأمر. أصغ إلي يابوباتر؟ والسؤال هو. . .
- فقاطعه صانع السلال قائلاً: (تمهل لحظة. . . السؤال هو: هل القوانين التي شرعناها لأنفسنا قوانين عادلة أو ظالمة؟ هل تحدث أحد عن ذلك في ساحة السوق).
- (كلا. ولكن هذا ليس بيت القصيد، إنما هو نيكوماكوس)
- (وهل قال أي واحد من الموجودين في ساحة السوق إن أولي الشأن الذين يحققون مع نيكوماكوس شر يرون ظالمون؟)
- كلا لم يتفوهوا بكلمة واحدة من ذلك.
- إذن ما الذي قالوه؟
- ماذا! ألم أخبرك؟! أنهم يتجادلون فيما إذا كان نيكوماكوس متهما أو بريئاً.
- إلي أصغ التي يا فيلاجاورس. لو فرض أن زوجتك قد تشاجرت مع القصاب لأنها تدعي أنه لم يعطها رطلاً كاملاً من اللحم. فما الذي تفعله؟.
- أساعد زوجتي
- كلا. كلا. انك تذهب لترى إذا كانت الأوزان لدى القصاب صحيحة.
- أني أعرف ذلك بغير حاجة لأن تخبرني به أيها الرجل.
- عظيم. ثم انك ترى إذا كان الميزان سليماً.
- لست أيضاً في حاجة لأن تخبرني بذلك يا يوباتر.
- أنا مسرور. وإذا كانت الأوزان والميزان سليمة فأنك سترى كم تزن قطعة اللحم وهنا سيظهر لك من هو الذي على حق: القصاب أم زوجتك. ومن العجب يا فيلاجاروس أن يكون الناس أكثر عقلاً في مسألة خاصة بقطعة من اللحم مما لو كانت مسألة عامة. إن الميزان سيبين هل نيكوماكوس مذنب أو بريء. ولكن، لا ينبغي لهم أن ينفخوا في إحدى كفتي الميزان لكي ترجح الأخرى. فلماذا أذن نصر على القول بأن أولي الشأن الذين يفحصون قضية نيكوماكوس أشخاص مشتبه في عدالتهم أو شيء من هذا القبيل؟.(859/40)
- لم يقل أحد ذلك يا يوباتر.
- لقد ظننت أنكم على ألا تؤمنوا بهم. بيد أنه إذا لم يكن عندكم من الأسباب ما يجعلكم لا تؤمنون بهم، فلماذا بحق السماء تنفخون لترجيح إحدى الكفتين؟ إما أنه لا يهمكم أن يتبلج ضوء الحقيقة، وإما أنكم ترغبون في الانقسام إلى حزبين حتى تتجادلوا. ألا فليلعنكم الله. إني لا أعرف إذا كان نيكوماكوس مذنباً. ولكني أعرف أنكم جميعاً مدانون لمحاولتكم التدخل في مجرى العدالة.
عجب ما أرد أعواد السلال هذا العام. أنها تلين كالخيوط ولكنها ليست ثابتة على الإطلاق.
- نحن يا فيلاجاروس في حاجة إلى جو أكثر حرارة. بيد أن ذلك الأمر في أيدي الآلهه وليس في أيدينا.
محمد فتحي عبد الوهاب(859/41)
مرثية طائر
للأستاذ محمد إبراهيم نجا
قصيدة رمزية في رثاء الصديق الكريم، والشاعر العظيم
الأستاذ علي محمود طه، فقيد الشعر العربي.
طائر كان في ذرى الأغصان ... يتغنى بأجمل الألحان
كان يحيا كما يشاء طليقاً ... وطروباً كما تشاء الأماني
سابحاً في الفضا حبيناً، وحيناً ... ثاوياً في خميلة الفينان
كان ملء الوجود صوتاً ندياً ... حافلاً بالحنان والتحنان
عاش أيامه بإحساس فنا ... ن، وأحلام عاشق ولهان
طالما هز بالغناء قلوبا ... عذبتها الأيام بالأشجان
وسقاها الرحيق وهي ضماء ... تشتكي من مرارة الحومان
كان روحاً مجنحاً في سماء ... تتحلى بأجمل الألوان
صاغه الله من ضياء وعطر ... وصفاء ورقة وحنان
هام بالنور والظلال، ولكن ... لم يهم بالضباب كالغربان
كلما هزه الجمال تغنى ... بأغان تهز قلب الزمان
كان قلباً كأنه همس ناي ... عانقته ترنيمة من كمان
يزدهيه الجمال في كل شيء ... وهو بالحب دائم الخفقان
أسكرته الحياة بالوهم حتى ... ليرى الغيب مائلاً للعيان
يبصر النور والوجود ظلام! ... ويحس الربيع قبل الأوان!
ويرى الروض في القفار، ويشفي ... هـ سراب من حرقة الضمآن!
خير ما في الحياة وهم جميل ... في حياة المتيم الهيمان
هكذا عاش ذلك الطائر الشا ... دي، يغني في غبطة وأمان
فهو أنس وسلوه وعزاء ... في حياة المعذب الحيران
غير أن الزمان، وهو بكاءٌ ... من غناءٍ وفُرقةٌ من تدان(859/42)
أبصر الطائر العزيز يغني ... في الأعالي بقلبه النشوان
فرمى قلبه بسهم رهيب ... مستطار من قوس الرنان!
فهوى مسبل الجناح، يعاني ... من جراح بقلبه ما يعاني
فهفت نحوه الطيور، وناحت ... إذ رأت جرحه عميق المكان!
وانحنت فوقه، وطارت به تس ... عى إلى عشه الجميل الحاني
وأست جرحه بوحي هواها ... والهوى بلسم الجريح العاني
ومضت حقبة، فصار كما كا ... نت تراه في سالف الأزمان
فاستفاض السرور في كل قلبٍ ... وتعالى الفناء في المهرجان
جملت عشه بزهر ندى ... أنبتته له روابي الجنان
ثم قالت له: ليهنك. رنمِّ ... بالأغاني في ظل تلك المغاني
ثم حلق في كل أفق جميل ... يتلقاك بالسنا الفتان
هكذا قالت الطيور، ولكن ... رنَّ صوت الغناء في الوجدان!
رفع الطائر العزيز جناحاً ... فارتمى عاجزاً عن الطيران!
قلَّبته فما رأت غير جسم ... غادرته الحياة منذ ثوان!
لمحة وانطوت حياة تروَّى ... كل حي من نبعها الريان!
والذي لم يسعه كون رحيب ... دفنوه في حفرة بمكان!
والذي عاش في الحياة طليقاً ... جعلوا قيده من الأكفان!
أيها الطائر العزيز وداعاً ... بل لقاء في عالم غير فان
يا رفيقي الذي عرفت هواه ... حين كان الشباب في الريعان
وبقلبي سقيته صفو ورودي ... وبأصفى مما سقيت سقاني
أبعدتني عنك الحياة، وكنا ... نتلاقى في أكثر الأحيان
فتصبرت حين قلت لنفسي: ... عن قريب يكون يوم التداني
وطواك الفناء، فاليوم أطوي ... ما بقلبي من أمنيات حسان!
ليت هذا الفناء لم يدع يوماً ... شخصك المفتدى، وكان دعاني
ما له يؤثر البقاء لنفس ... لا ترى في البقاء غير الهوان؟!(859/43)
والتي ثؤثر البقاء نراها ... غرضاً للفناء في كل آن!
كم تعرضت للفناء بنفس ... فعداني كأنه ما رآني!
عبث هذه الحياة، وفوضى ... ما نراه في هذه الأكوان
ولو أن الحياة تنظم شعراً ... جعلت شعرها بلا أوزان
ولو أن الحياة ترسل نثراً ... جعلت نثرها بغير معان
يا رفيقي تدري بأن حياتي ... ملأت بالدموع كل دناني!
يا رفيقي تدري بأني غريب ... بين قومي! أجل، وفي أوطاني
يا رفيقي تدري بأني وحيد ... في حياتي إلا من الأحزان!
قد شربت الأحزان من كأس أيا ... مي بروحي ومهجتي وكياني
وألفت النواح دهراً، فلو شئ ... تُ غناء، بقلبي الأغاني
أنا أبكيت يا رفيقي، وأرثي ... لشباب بكيته وبكاني!
أنا أبكيت يا رفيقي، وأبكي ... من حياة بها الزمان رماني!
تنثر الشوك في طريقي، وأزها ... رُ الروابي تود لو تلقاني!
تملأ الكأس من دموعي وتسقي ... ني، وكم قلت: يا حياتي كفاني!
شهد الله أن طيفك دان ... إن يكن صار شخصه غير دان
شهد الله أن ذكراك أقوى ... في حياة الورى من النسيان
وأغانيك تملأ الكون سحراً ... بصداها المنغم الرنان
عش قرير الجفون في عالم الخل ... د وغرد في جنة الرضوان
ولعل الحياة تخلي سراحي ... وعسى الموت أن يكون اصطفاني
إبراهيم محمد نجا(859/44)
قلب يتعذب
للآنسة فدوى طوقان
(هديتي إلى صديقتي الشاعرة الرفيعة نازك الملائكة)
غاضت ينابيع المنى يا حزين ... فمن يروّي فيك شوقَ السنين!
أذبل وجفَّ اليوم في أضلعي ... وأرجع كما كنت، حطاماً دفين
تحت ثلوج الوحدة القاسيه ... نبكي معاً آمالنا الذاويه
بنكي ضياع الذمم الوافيه ... في عالم ما فيه روح أمين
أين الذي نادى ومدَّ اليدين ... وقلبه العاني على الراحتين
ملوحاً بالأمل المشتهي ... كيف مضى؟ فيم توارى وأين؟!
راح كأن لم يحي فينا نداه ... بعد خمود الموت روحَ الحياة
أهكذا حين أجبنا هواه ... يردنا للموت في لمحتين؟!
مالك؟ ما بالك واهي الوجيب ... تراك في كف النزاع الرهيب؟
لا، لا تخف، فالموت أحنى يداً ... مت يا صريع الغدر، مت يا كئيب
أرقدك الجاني على مهدِ ... من زهر الآمال ممتدّ
لم تدر أن الجمر في الوردِ ... والسم في نفح العبير الرطيب!
همت به نجماً خلوب الضياء ... فطرتَ بي نشوان نحو السماء
مستغرقاً في سبحات الهوى ... تبني من الوهم قصور الهواء
يا قلب يا مسكين يا ابن الخيال ... أين القصور الدافئات الظلال
ما شدته نحت الليالي الطوال ... مضى مع الريح، وولى هباء. . .
لم تدر أن النجم غدّار ... لم تدر أن الضوء غرّار
يا عجباً حتى نجوم السما ... يعلقها وحل وأكدار!
يكفيك يا قلبي ويكفيني ... ولتصح من حلم المجانين
فهو كباقي الناس من طين ... لا نور فيه، لا ولا نارُ
فدوى طوقان(859/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
هل تقدمنا في الميدان الاجتماعي؟.
جرت يوم السبت الماضي مناظرة في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية موضوعها: (لقد تقدمنا تقدماً مرضياً في الميدان الاجتماعي) أيد الرأي رجلان هما الدكتور محمد عوض محمد بك والدكتور محمد صلاح الدين بك، وعارضه سيدتان هما السيدة زاهية مرزوق والسيدة أسمى فهمي. وقد بدأ الكلام الدكتور عوض فقال إن وجود هاتين السيدتين الفاضلتين بهذا المكان الآن في هذه المناظرة دليل على التقدم الاجتماعي الذي نؤيده، فهما بنشاطهما المعروف تدلان على تقدم المرآة المصرية.
وألقت السيدة زاهية مرزوق كلمة طيبة تضمنت نظرات فاحصة في أحوال المجتمع المصري وأيدت آرائها بالإحصاء ونتيجة البحوث العلمية الاجتماعية، وقد تعرضت لعدة نواح مهملة في مجتمعنا كالأمومة والطفولة ومستوى المعيشة وانحطاط المساكن في الريف ومما قالته أن المطاعم الشعبية التي تقام في المدن تنشئ جيوشاً من الشحاذين، فما هي إلا صورة أخرى من الشحاذة إلى جانب توزيع الخبر والفول النابت أمام المساجد والأضرحة، وهذه المطاعم تلجأ اليها الأمم في حالات الضرورة للمنكوبين واللاجئين في أيام الحروب، ولكننا في مصر اتخذناها نظاماً دائماً، فبدلاً من أن نساعد الناس ونمهد لهم كي يحصلوا أرزاقهم بعملهم نهدر كرامتهم بهذه الصورة التي لا تتفق والآدمية الكريمة. وقالت السيدة زاهية إن مما زاد مستوى المعيشة انحطاط الغلاء الذي كاد يذهب بالطبقة المتوسطة التي هي ميزان المجتمع وأصبحنا مهددين بانعدام هذه الطبقة بحيث تكون البلاد طبقتين طبقة عليا وطبقة سفلى، ولا شك أن إهمال طبقات الشعب يغرس في النفوس الشعور بالظلم، فتنعدم روح التضامن، وهذا يؤدي إلى التفكك الاجتماعي.
ووقف الدكتور صلاح الدين فقال أنه يشعر بالحرج إزاء هذا لبحث القيم الذي سمعه من السيدة زاهية، ولكنه مضى في تأييد الموضوع فذكر أننا حقيقة لم نبلغ أوج التقدم ولكننا تقدمنا تقدماً مرضياً في ربع القرن الماضي، ودلل على ذلك بالمقارنة بيننا وبين بعض الأمم المتأخرة! وبأن ممثلي مصر في حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدت بلبنان تحت(859/47)
أشراف هيئة الأمم المتحدة كانوا متفوقين بعددهم وبحوثهم وكانوا لا يقلون في مستواهم العلمي عن مندوبي أوربا وأمريكيا، وقال أن مصر تقدمت هذا التقدم رغم انشغالها بالنضال السياسي.
وقد ردت عليه السيدة أسمى فهمي، ومما قالته أن التناحر الحزبي والخصومات السياسية شغلت القادة والرؤساء عن الإصلاح الاجتماعي، وكان من الممكن لولا ذلك أن تنهض الأمة نهوضاً اجتماعيا كبيراً في هذه الفترة، واستدلت بما أحدثه محمد علي من الأثر في حياة الأمة المصرية في وقت قصير، وبنهضة تركيا الحديثة في زمن قليل.
والواقع أن حجج المؤيدين لم تستطع أن تقف أمام الحقائق الصارخة، ولا أشك في أن ذلك يرجع إلى ضعف جانبهما لا إلى عدم احتفالهما وإعدادهما وان كان ذلك ملحوظاً أيضاً. . . وقد طغت السيدة زاهية مرزوق على الجميع وكسبت الموقف حتى إنه عندما اخذ رأي الحاضرين لم يشذ عن القول بتأخرنا الاجتماعي سوى بضعة أفراد. وقد كانت هي - على خلاف ما قال عوض بك - دليلاً على الهوة الواسعة بين عدد قليل من النساء النابغات وبين سائر النساء الجاهلات. وقل مثل ذلك في علماء حلقة الدراسات، فليس وجود طبقة من المثقفين لدينا تماثل علماء الأمم الكبيرة يستلزم تقدمنا في الناحية الاجتماعية.
الأجسام العارية والفن الهزيل:
استفاضت الشكوى أخيراً من نشر الصور العارية في الصحف وإسراف السينما في عرض أجسام الممثلات والراقصات والمواقف الحيوانية بين الذكر والأنثى. وأرسل صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي إلى رفعة رئيس الوزراء في شأن الصور الخليعة التي تنشرها بعض الجرائد والمجلات. فكان ذلك مثار اهتمام الحكومة بالأمر، وكتب رئيس الوزراء إلى الأمير الجليل بأنه معني بدرس أوجه العلاج الحاسم لهذا المرض.
أما الناحية الخلقية في هذا الموضوع فهي ظاهرة. والذي أقصد اليه هو أن ذلك العمل إنما يراد به ستر العجز الفني واتخاذ تلك المغريات أداة للترويج والربح المادي، فالمجلات التي جعلت من صفحاتها معارض للإثارة الجنسية إنما تلجأ إلى ذلك لأن أصحابها ليسوا من ذوي الرسالات الصحفية القلميه، وبدلاً من أن يتعبوا أنفسهم في التماس القوة التحريرية والمادة الصحفية القويمة يقدمون تلك الصور، وصارت الحالة إلى حد التنافس في ذلك، فإذا(859/48)
ظهرت مجلة بصورة بالغة في الإثارة حرصت الثانية على نشر صورة (أنأح) منها!
ولاشك أن الحكومة إذا منعت هذه البضاعة فأن أولئك الصحفيين يضطرون إلى كسب القارئ عن طريق الفن الصحفي المستقيم، فإذا أخفقوا في ذلك طهرت منهم الصحافة وأفسحوا للعناصر الصالحة النافعة.
وكذلك الحال في الأفلام السينمائية، فأن القائمين بها يوجهون همهم إلى جذب الجمهور بتلك الوسائل بدلا من أن يقدموا قصصاً ذات موضوعات قيمة، وقد أسرفوا في ذلك أخيراً إسرافا طغى على الناحية الفنية، فأصبح الفلم الناجح عندهم هو الذي يحتوي على تلك الأثارات دون اعتبار للقيم الإنسانية والاجتماعية التي تهدف اليها الفنون.
وإن واجب الدولة أن تحمي الفن الصحيح والذوق السليم من ذلك الانحدار البهيمي، وأعتقد أن الرقابة الحكومية لا تخدم الأخلاق، بل هي أيضا بذلك تعمل على ترقية الفن السينمائي وتصفية جوه من الدخلاء الذين لا يفهمونه إلا على هذا الوضع المذري. وهنا كما في الصحافة تطهير من أشياء القوادين وإفساح لذوي الكفايات الفنية، وعندئذ يكون التنافس في الإجادة الصحيحة وتقديم الإنتاج الجيد في ذاته.
فلم الأسبوع:
(التخت) في هذه المرة بسينما أستوديو مصر، وهو يتكون من فريد الأطرش وسامية جمال وإسماعيل يس ولولا صدقي وآخرين، فالأول مغن والثانية رقاصة والثالث مضحك والرابعة على الهامش الخ. . . ولابد من قصة تظهر فيها هذه (الكفايات) وقد جاءت القصة على وفق المراد. كنا نرى الأبطال في الأفلام الأخرى تخرج من المجتمع، لأسباب مختلفة، إلى المسارح والمراقص حيث تهيأ الفرصة لإظهار الرقاصة والمغني، أما هنا في فلم (عفريتة هانم) فتبدأ القصة على المسرح مباشرة، فالرقاصة علية (لولا صدقي) هي ابنة صاحب المسرح الاستعراضي الذي يعمل فيه المغني عصفور (فريد الأطرش)، ويملى صاحب المسرح على ابنته علية أن تغري الشاب الغني (ميمي بك) وتتصيده زوجاً لها، وتقوم بهذا الأغراء ويقع ميمي بك في شباكها فيخطبها إلى أبيها ويدفع إليه ثلاثة آلاف جنيه مهراً لها. ويظهر من خلال ذلك أن عصفور يحب علية ويرى علاقتها بميمي بك ولكنه لا ييأس. إذ يعتقد واهماً أنه تبادله الحب فيتقدم لخطبتها فيسخر منه أبوها ويطلب(859/49)
منه أن يمهرها ثلاثة آلاف جنيه.
ولكن السيد عصفور مفلس طروب. . . فماذا يصنع؟ لجأ إلى حديقة يغني فيها، وإذا شيخ عجوز يظهر له ويدور بينهما حديث عن القسمة والنصيب، ثم يختفي بعد أن يتفق معه على مقابلته في غار بجبل المقطم، ويذهب عصفور ومعه صديقه بُقًّو (إسماعيل يس) إلى الغار، ويظهر الشيخ في الغار فيدفع إلى عصفور مصباحاً، ويتلاشى الشيخ، ويقلب عصفور المصباح فتخرج منه العفريتة الحسناء كهرمانة (سامية جمال) وتقول له إنها تحبه منذ ألف سنه!
وتصنع كهرمانة أعاجيب، منها أن في الحال قصراً لعصفور وصديقه بقو، وتمدهما بالمال فيشتريان المسرح المقابل للمسرح الذي كانا يعملان به، وينافسان صاحبه، وتحضر رقاصة تشبهها تماماً ليغني لها عصفور وهي ترقص، واسم هذه سمسم (سامية جمال أيضاً) وفي أثناء ذلك تغازل كهرمانه عصفور وهو يغازل سمسم. ويتضايق أبو علية من هذه المنافسة وقد تحول الناس عن مسرحه إلى المسرح الجديد، فيبعث بابنتة إلى عصفور لتحاول مصالحته وإغراءه، فتاتي إليه وهو لا يزال يحبها فيرحب بها، ويأتي معها أبوها بعد ذلك ويتودد أليه، ثم تعلن خطبة عصفور لعلية، فتغضب سمسم وكهرمانه، وتعمل الثانية بأساليبها الخارقة على إفساد هذه الخطبة ومنع الزواج، فيغضب منها عصفور ويذهب إلى المصباح ويلقي به، فيأخذه الشيخ العجوز ويضع علية فيه. . . ويذهب القصر ويعود كل شيء إلى ما كان عليه.
ويغني عصفور ويظهر له الشيخ فيقول له إنه ضيع الفرصة التي لا يمكن أن تتكرر ومع ذلك يستطيع أن يسعد بسمسم. ويستأنف عصفور عملة على مسرحه، فيعد (أوبريت) وتظهر فيها سمسم وقد عادت إليه بعد أن هجرته غاضبة. وبعد انتهاء (الأوبريت) يظهران سعيدين في الختام.
ويقال إن القصة وضعها (أبو السعود الأبياري) تعرض لمسألة القسمة والنصيب وجزاء من لم يرض بما قسم له. وهذا كلام فارغ، لأن هذه مسألة قديمة مبتذلة، على أن تطبيقها في الفلم لا هدف له، فعصفور يحب علية وكل ما يريد أن يظفر بها فكيف يؤخذ عليه سعيه لنيل أمنيته ورفضه قسمة العفاريت؟ ثم إن صرفه عن حب عليه ليس طبيعياً وإنما هو(859/50)
مفتعل إذ نصحه الشيخ بحب سمسم. . . ومتى كان الحب بالنصيحة؟ وليس في القصة أي مغزى اجتماعي، بل هي بعيدة عن المجتمع العام فحوادثها تجري في بيئة (الأرتستات) تربط بينهما تلك الروابط الخرافية التي لا غاية لها سوى عرض الغناء والرقص.
والمجهود القيم (نسبياً) في هذا الفلم للمخرج (بركات) وهو الذي أجرى تقطيع القصة (السيناريو) فقد قام بعملة في الحدود المرسومة، ومما أجاد إخراجه المنظر الذي ظهرت فيه عليه وهي تحدث ميمي بك بالتليفون ويحدثها عصفور من وراء ستار إذ قالت له أنها تبدل ثيابها، فيجيء حديثها رداً على كليهما في آن، وأريد أن أسأل بعد ذلك: لماذا بدا القصر خالياً من الأثاث؟ وكيف عجزت العفريتة عن تأثيثه وهي التي أوجدته في طرفة عين. . .؟ وكيف وجد هذا القصر في القاهرة فجأة وذهب فجأة على أعين الناس؟!
وقد شاهدنا عصفوراً حين أزمع الذهاب إلى صاحب المسرح ليخطب عليه، مع أصحابه في سيارة قديمة يقودها، وهم يخترقون الشوارع في منظر غاية في التهريج السخيف، هو بغني وهم يتراقصون منظرفين، وهذا إنما هو أليق بالنسوة اللائى يركبن عربة (كارو) وينشدن (سلمى يا سلامه!) ومن أين لعصفور هذه السيارة (الملاكي) وهو يعمل بقروش في المسرح مهما كانت قديمة؟
وترى كهرمانه تعرض على عصفور أن ترقص أمامه على مسرحه الجديد، فيقول لها إن الناس لا يرون رقصها لأنه هو وحده الذي يراها، فتأتي له بسمسم، وكهرمانه تعرف أن الناس لا يرونها فكيف كانت تريد أن ترقص على المسرح؟
نخلص بعد ذلك إلى المقصود من هذا الفلم (الاستعراضي) هو الرقص والغناء، قيل إن عليه رقاصة مع أنها لم ترقص أبداً بل ظهرت على المسرح مع عصفور يغني لها وهي إلى صدره يتحسسها وتميل إلى عليه فقط! أما سامية جمال فقد رقصت ورقصت ويعتمد رقصها على رشاقة جسمها وإظهار مفاتنه، وليس وراء ذلك فن من تعبير.
أما فريد الأطرش فقد أمطر الفلم غناء. غناؤه كرقص سامية لا تعبير في كليهما، والأوبريت التي قدمها كلها تطريب فهو يقف ليغني ولا شيء وراء ذلك، فكل مواقفه (فواصل) غناء ليس إلا، وفن الأوبريت مظلوم! وهو يغني في موقف الحزن كما يغني في الفرح، ووجهه جامد في التمثيل أيضا، وان كان لا بأس به فيما عدا قصور وجهه في(859/51)
التعبير، وكان دوره ملائماً لشخصيته الهادئة، فلم يستفزه منظر حبيبته في أحضان غريمه، واكتفى بأن راح يستعد لخطبتها!
أما إسماعيل يس فقد أصبح دوره في الأفلام المختلفة أن يكون صديقاً للبطل بقصد التضحيك. وهو ظريف الشخصية أينما وضع، غير أن حظه من ذلك قليل في هذا الفلم.
عباس خضر(859/52)
البريد الأدبي
وفاة الأستاذ محمود حسن زناتي
قُبض إلى رحمة الله صديقنا المغفور له الأستاذ محمود حسن زناتي في صباح يوم الأربعاء الماضي في (ناي) من قرية القليوبية، وكان أخواله آل عطية قد نقلوه من القاهرة إلى ديارهم حين تبلغت به العلة واحتاج إلى رعاية الأهل وعناية القربى.
أصيب هذا الرجل الفاضل بالفالج النصفي منذ ثلاث سنوات فأنقطع عن الناس وانقطع الناس عنه وكان بطبعه ألوفا ودوداً يحب الخلطة، ويعشق الحديث، ويسأل عن صاحبه إذا غاب، ويزوره إذا حضر، وكان أشق عليه من مرضه أن ينعزل عن العالم في مسكن نابي الفراش موحش الجوانب، يظل فيه النهار، ويبيت به الليل، قلق الو ساد موجوع البدن لا ينعم فيه بحنان الولد ولا عطف القريب، ولا يطرقه عليه إلا جار كريم أو صديق قديم.
درس زناتي في الأزهر، وتتلمذ على أستاذنا العالم الناقد سيد بن علي المرصفي، وعلى شيخنا اللغوي الحجة محمد محمود الشنقيطي.
وكان أثيراً لدى الرجلين، يزورهما في البيت، ويلزمهما في الجامع، ويصحبهما في الطريق ويروي عنهما الأشعار والأخبار والطرف، ثم عين مصححاً في المطبعة الأميرية فقضى بها ردحاً من الزمن حتى انتقل القسم الأدبي منها إلى مطبعة دار الكتب فأنتقل معه. ثم أختاره المرحوم احمد زكي باشا ليكون أميناً للمكتبة الزكية التي وقفها وجعل النظر فيها لوزارة الأوقاف، وكانت يومئذ بقبة السلطان الغوري. فلما فصلت عن وزارة الأوقاف ووصلت بدار الكتب انتقل موظفاً بديوان الوزارة؛ ولكن العمل الجديد لم يرضه ولا بيئته ولا بطبيعته فطلب الإحالة على المعاش فأحيل. ومنذ يومئذ تفرغ للأدب فأخذ يزجي فراغه نظم الشعر واقتناء المخطوطات ونشر الكتب. فمن الكتب التي نقحها وعلق عليها ونشرها، مختارات ابن لشجري والمفضليات للضبي، ثم الجزء الأول من الفصول والغايات للمعري، ثم انتهى أمره إلى هذه العلة الفادحة فكابد من وصبها ما كابد حتى أختار الله له ما عنده. تغمده الله برضوانه ورحمته، وأنزله منزلة الأوفياء من فسيح جنته.
في ذمة الله يا زناتي:
أيها الراحل الكريم سلاما ... آه لو كنت تستطيع الكلاما!(859/53)
سكت الصوت سكتة، ودفنا ... في التراب النشيد والإلهاما
أيها الناطق المحدث ماذا ... أسكت اليوم هذه الأنغاما؟
رحم الله في الندى حديثاً ... كان يطوي الزمان والأياما!
كنت تروية كالزلال نميراً ... وتساقيه كاللهيب ضراما
وتقص الزمان جيلاً فجيلاً ... وتعيد التاريخ عاماً فعاما
كنت في ندوة البيان طرازاً ... يأسر الفاهمين والأفهاما
حطمتك الأيام حتى رأينا ... رجلاً صار في الحياة حطاما
قم ترى الأرض لم تبدل قليلاً ... من رحاها، ولم تغير نظاما
فالليالي - كما عهدت - الليالي ... والندامى كما عرفت - الندامى
من يفته الحمام في هدأة اللي ... ل ففي صحبه سيلقى الحمام. . .
أجل دائر علينا، وكأس ... سوف نسقى منها ونروي الأواما!
أيها الراحل الذي لم يودع ... ما ملكنا في البين إلا السلاما
حمد عبد الغني حسن
أخي الابياري
لك أنفس تحية وعليك أروح سلام.
زعمتَ أني دفعتك إلى حديث شأنك، وما رغبت فيه إلا لأنه حبيب شائق، ولبست أثواب العلماء تواضعاً، ثم بان علمك وفاض فضلك، فإذا بك تسأل سؤال العارف. أومأت إلى مذهب المعلم الأول في أنفسه الغازية والحساسة والناطقة، وأشرت إلى المتكلمين في قولهم بالامتزاج كالماء بالعود، وأخذت عن بعض الفلاسفة حكاياتهم عن النفس المدبرة للأبدان المحركة للجسوم، وحكيت قول الجنيد من الصوفية أنها من مستأثر الله تعالى.
ثم استقصيت قول أصحاب اللغة ووقفت بباب ابن فارس إن النفْس من النفس (اصل واحد يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح أو غيرها).
قلت: (وقول القائل) نفس الله كربته (من ذاك لأن خروج النسيم روحاً وراحة).
قلت: هذا عند من يوحدون بين النفْس والروح، ويجعلون النفس من الريح. وقالوا: (ومعنى(859/54)
لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن، أنها تفرج الكرب، وتنشر الغيث، وتذهب الجدب). وهذا وجه آخر للمسألة يؤول تنفيس الكرب بما تسوقه الرياح من خير، لا بما يشعر به المرء من داخل فنقلوا الظاهر إلى الباطن، وهذا أليق.
قلتَ: وقولهم (شيء نفيس) أرادوا أنه ذو نفس، بالتحريك
قلتُ: وهذا معنى طريف لست أدري أوقع القدماء عليه أم لا، وقد وقفت عنده، وتساءلت أكل متنفس نفيس؟ وفي الصحراء أحياء من نبات وحيوان ينفر العربي منها ويحط من شأنها لقلة نفعها أو مظنة ضررها. وما بالك بالثعبان الذي ينفث السم، أهو شيء نفيس؟ ولعلك زاعم أن النفث بالثاء من النفس بالسين، فيهما معان متقاربة كنفثات الشاعر، في العقد من السحر. أو قائل أن النفش بالشين من ذلك أيضاً، من التفريق والانتشار. قال الحكيم الترمذي في كتاب الرياضة (والنفس مسكنها في الرئة، ثم هي منفشة في جميع الحسد).
قلتُ: الثاه والسين والشين متقاربة، والحروف أصل الألفاظ والأصوات محاكاة للطبيعة أو تعبير عن المشاعر الباطنة. ترى أيكون سر المعنى في النون أو الغاء أو السين؟ أهو في حرف واحد أو في حرفين أم في ثلاثة؟ ولقد زعم قوم أن اللغة العربية ثنائية، ولعلهم على صواب. ثنائية أم ثلاثية فحرف السين جوهري في هذه اللفظة، وإننا لنجده في لغات كثيرة، وليس ذلك من قبيل الاتفاق: في اليونانية بسيشي ونحتت منها في اللغات الحديثة البسيكولوجيا أو علم النفس. وفي الإنجليزية سول وفي الفرنسية أسبريت والأصل في هذا الصوت وهو السين ما يسمعه المرء من صوت الهواء إذا كان نسيماً، فإذا أشتد أصبح صريراً والصاد تشديد السين، وقد يكون الصوت حاء ومنه الرياح والريح، ولذلك قالوا فحيح الأفاعي.
قلت: ثم جاءت النفس بالإسكان في شتى معانيها. وأخال أسبقها الروح، وهل هي إلا أنفاس؟
قلت: هذا مذهب في التوحيد بين النفس والروح. والتحقيق غير ذلك. النفس مؤنث إن أريد بها الروح، ومذكر أن أريد بها الشخص، تقول خرجت نفسه أي روحه، وعندي ثلاثة أنفس فأنثت العدد لأنه عكس المعدود.(859/55)
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي من صوفية القرن الثالث: (الروح نور فيه روح الحياة، والنفس ريح كدرة جنسها أرضية) فرق بين الروح والنفس، وبين الروح والريح، وقول الجنيد الذي ذكرت من أن النفس من مستأثر الله تعالى) يريد الروح لا النفس قال ابن الفارض في تائيته. . .
وإني وآياها لذات ومن وشى ... بها وثنى عنها صفات تبدت
فذا مظهر للروح هاد لأفقها ... شهوداً بدا في صيغة ممنوية
وذا مظهر للنفس حادى لرفقتها ... وجودا غدا في صيفة صورية
قال ابن القهار: والذي يرجح ويغرب هو أن الإنسان له نفسان حيوانية ونفس روحانية. فالنفس الحيوانية لا تفارقه إلا بالموت. والنفس الروحانية التي هي من أمر الله فيما يفهم ويعقل فيتوجه لها الخطاب، وهي التي تفارق الإنسان عند النوم، واليها الإشارة بقوله تعالى: يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها. والدليل على أن الذي من مستأثر الله تعالى هو الروح قوله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) لأن الروح من الغيب لا تدركها العقول وتعجز عن معرفتها الإفهام.
وبعد فقد طال بنا النفس في الاستطراد، وكنت أطمع في جواب عن معنى نفس الأديب، لأن هذه صناعتك، فصدفت عن الجواب، ورددت السؤال بسؤال، وعدلت عن الأدب إلى الحكمة واللغة نفاساً، ولك نُفْسه إلى أمد، فلعلك لا تنفس بالجواب.
احمد فؤاد الاهواني(859/56)
رسالة النقد
نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
شهد العراق في القرن التاسع عشر نهضة أدبية كبرى كان لها الصدى المدوي في وادي الرافدين، وكان لها الأثر الفعال في انبعاث الشعر المعاصر في العراق، وهذا القرن - بما فيه تبلبل سياسي والتواء في الحكم، وبما فيه من ظلم واستبداد - كان نشيطاً في حركته العلمية والأدبية. وكان اكثر نشاطاً في الناحية الشعرية. ففي بغداد والحلة والنجف والموصل كانت الحركة العلمية في نهاية المعركة مع الأحداث والخطوب التي كانت تحارب العقول والأذهان والحريات؛ لأن الأولى كانت تستمد قوتها من تاريخ حافل بالأمجاد والروائع؛ ولأن الثانية كانت تطل من دنيا الجهل والجبروت تحارب هذه الأمجاد بقوة وعنف وانتصرت الحركة العلمية في العراق بفضل أبنائه الساهرين على تأريخهم وأمجادهم، فقد كانت في القرن التاسع عشر - ولا تزال - بيوت أثيرة المكانة منيعة الجانب تجمع بين النفوذ السياسي والديني، وكان فيها إلى جانب ذلك من يعشق الأدب ويمارس الشعر. وقد حدبت هذه البيوت على الشعر والأدب تمده بالرعاية وتبذل له من التشجيع ما وسعها ذلك. ومن هذه البيوت: الشاوي والنقيب وكبة في بغداد، والقزويني في الحلة، وكاشف الغطاء والجواهري وبحر العلوم في النجف، والعمري في الموصل. وتحت رعاية هذه البيوت أستظل الشعر بنجاح وريف الظل ونبغ كثير من الشعراء الأفذاذ الذين لا يقلون في التعبير والمعاني والأخيلة عن شعراء العصر العباسي الأخير. ومن هؤلاء: الحليان السيد حيدر والسيد جعفر، والموصليان عبد الغفار الأخرس وعبد الباقي العمري، والنجفيون السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد إبراهيم الطباطبائي، والشيخ عباس والشيخ جعفر الشرقي والشيخ جواد الشبيبي وغيرهم. وقد ترك معظم هؤلاء الشعراء دواوين مطبوعة وأثاراً مخطوطة يتدارسها أدباء العراق ويعنون بها، لأنها الينبوع الذي تدفق من بين الرمال والصخور بعد فترة طويلة فسقى وأنبت وأمد نهضتها الحديثة بذخيرة قوية وافرة.
ومن المعنيين بهؤلاء الشعراء الشاعر المعروف الدكتور محمد مهدي البصير أستاذ الأدب(859/57)
العربي بدار المعلمين ببغداد فقد أصدر عنهم كتاباً سماه: (نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر) تحدث فيه عن ثمانية وعشرين شاعراً بين شهير أضاف إلى حياته صفحة جديدة، وبين مغمور كشف عن حياته وشعره. وهذا الكتاب هو مجموعة أحاديث أذاعها أديبنا الكبير من دار الإذاعة العراقية ثم شاء له حرصه الأدبي والتاريخي أن يجمعها في كتاب منشور.
هؤلاء الشعراء - كما يقول الدكتور في المقدمة -: (ليسوا كل من أنجب العراق من قالة القريض في القرن المنصرم ولا أكثرهم ولا كل من أعرف منهم، ولكنهم صفوة من أعرف وخير من وصلني علمه منهم) أما دراسته لهؤلاء فليست من الدراسات التي تعتمد على الترجمة والرواية فحسب، بل هي مزيج من هذا ومن غيره. ولعل اللون الذي يطغي على هذه الدراسة هو اللون التحليلي الذي يعتمد فيه على أثر الشاعر ويستقي من شعره، ولذلك فإن للدكتور البصير أراء أستخلصها من شعر هؤلاء قد لا يقره عشاق التراجم، كما أن له آراء قد لا يوافقه عليه نقاد الأدب، ونراه في بعض الشعراء يبدو واضح الرأي والفكرة، وفي بعضهم يظهر متردداً متهيباً من الإفصاح والجهد، والسبب في ذلك يعود إلى أن الذين تحدث عنهم لم يكونوا جميعاً ممن انقطعت صلتهم بالأحياء. بل أن معظمهم ترك وراءه أسرة وأحفادا يحاسبون الأديب والناقد الحر، وأن معظمهم قد جمع بين الشعر والعلم، وبينهما وبين التقشف والزهد، فكان من البديهي أن يقع الدكتور في مأزق من جلاء الدراسة ووضوح الرأي فلم تسلم دراسته من بعض الغموض، ولم يسلم رأيه من الترجح والتردد في بعض المواطن، ونشير إلى ذلك وغيره.
يتحدث - أول ما يتحدث - عن السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي الشاعر الشهير وصاحب الموشحات الكثر فيقارن بينه وبين الشريف الرضي وتسلم مقارنته في كثير من المواطن، في الشعر والعلم، وفي الحياة والجهاد، وفي مواطن الترفع عن التكسب بالشعر، ويغفل المقارنة بينهما في النسب، فكلا الشاعرين علويان يتصل نسبهما بالإمام علي، وقد ترتب على هذا الإغفال - مادمنا في صدد المقارنة إغفال ناحية أخرى وهي تعصب الشريف الرضي لعلويته ودفاعه عنها واعتزازه بها وتفجعه لمآسي أجداده أما الحبوبي فإنه قليل المحاولة في ذلك، فما هو السبب ولماذا؟ هذا ما كنا ننتظره من الدكتور.(859/58)
ويتردد الدكتور في رأيه بين الجهر والتكتم عندما يتحدث عن غزل الحبوبي، فهو لا يستطيع أن يحكم بأن الحبوبي قد أكتوى بنار الحب وأنه أستمتع من شبابه بما يستمتع به كل شاب مترف لأن سمعتة الفقيه تأبى ذلك: ثم يقول: (أننا نظلم الحبوبي ظلماً فاحشا إذا افترضنا أن قلبه لم يكن من القلوب التي بداخلها الحب)! فالدكتور البصير لا يريد أن يظلم الحبوبي فيقول عنه أنه احب ولا يريد أن يظلمه فيقول: أنه لم يحب في الأولى يتنافى مع علمه وفقهه وفي الثانية يتنافى مع غزله الرقيق؟! هذا هو موطن الغرابة في رأي الدكتور، ولقد كان بإمكانه أن يعلن عن رأيه بوضوح ولا يتحفظ ما دام يتنقل من ديوان الحبوبي بين شعر واضح التصوير والصور، ولا أحسب ذلك عسيراً على الدكتور وهو يعتمد في دراسته على الشعر أكثر من غيره.
ثم ما المانع من أن يكون الحبوبي قد عشق وأحب ولكن في سياج من العفة والأخلاق؟ وهل كانت قلوب الفقهاء إلا كقلوب سائر البشر تحس بالجمال وتنفعل به، ولكنها كقلوب بعض البشر أيضاً لا تواكب هذا الجمال ولا تنطلق مع الحب إلى ما وراء العفة؟ وليس الحبوبي إلا واحداً من هؤلاء يحس بالجمال ويحترمه وقد يهيم به ولكن في دائرة محدودة هي النزاهة والعفة.
ثم ألبس الشيخ عباس النجفي - وقد تحدث عنه الدكتور فيمن تحدث عنهم - كان فقيهاً وكان محباً تعرض في حبه لكثير من المتاعب وتحدثت عنه القصص الغرامية كما تتحدث عن أي شاعر عاشق صدق في شعره كما صدق في حبه؟ فلماذا كان الشيخ عباس شاعراً محباً صادق الحب؟ ولماذا كان الحبوبي يظلم حين يتهم بالحب ويظلم حين يجرد منه؟.
أعتقد أن هذا التشكيك وهذا التحفظ ما كان لهما شأن عند الدكتور لو أنه عني بدراسة البيئة العراقية عناية دقيقة وربط بين هذه البيئة وبين شعر الحبوبي. ولو أنه أعطى البيئة نصيباً من الدراسة لجرد الحبوبي من تبعات الحب في مختلف أدواره، ولننظر إلى شعر الحبوبي:
قلن لي: علك يا بادي الشجن ... ذلك الصب العراقي الوطن
مولع القلب يتسآل الدمن
لست تنفك تحي الاربعا ... ولكم عجت ضحى في سفح ضاح؟
قلت: هل تنكرن صباً مولعاً ... يا ذوات الأعين المرضى الصحاح(859/59)
هذا نموذج ذكره للدكتور من غزل الحبوبي واستشف من ذلك أن الشاعر كان عاشقاً ولكنه تحفظ بهذا الرأي كما يقول. ولو انه أنكر على الحبوبي (تسآل الدمن) و (الأربع) و (سفح ضاح) والجناس بين (ضحى وضاح) و (الأعين المرضى الصحاح) أقول: لو أن الدكتور فعل ذلك لأنكر على الحبوبي هذا الحب وهذه المحاورة. ولنستمع إلى الدور الآتي من الموشح:
ثم قدنا شدنها بالذمم ... وتلطفن بطيب الكلم
قلن لي: الموعد في ذي سلم
فانتظر حارسها أن يهجعا ... ورعاة الحي أن تأوى المراح
وهزيع الليل أن ينزعا ... وتهيج الروض أنفاس الرياح
فأين الحبوبي من ذي سلم ورعاة الحي والمراح وهو يعيش في مدينة النجف؟ كل ذلك تقليد للصور الشعرية التي نجدها في محاورات ابن أبي ربيعه، ولكنه تقليد واضح الشخصية متين الأداء. أما الانفعالات التي يثيرها الحب في نفس الشاعر المحب وتنعكس في تعبيره فأننا لا نكاد نلمحها في ثنايا هذه الأبيات على أن السيد الحبوبي - رحمه الله - قد هدم كل رأي يقال فيه عن الحب في موشحة أخرى وصرح بأن هذا الغول كله كان غزلاً مادياً لا ينعكس فيه أي صورة من صور الحب الصحيح:
لا تخل ويك - ومن يسمع يخل - ... أنني بالراح مشفوف الفؤاد
أو بمهضوم الحشا ساهي المقل ... أخجلت قامته السمر الصعاد
أو بربات خدور وكلل ... يتفنن بقرب وبعاد
إن لي من شرفي برداً ضفا ... هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رميت نهج الضرفا ... عفة النفس وفسق الألسن
ولا داعي لأن يقول الدكتور إن هذه الأبيات قد زادت (المسألة تعقيداً) بعد الذي أشرنا إليه.
حقاً إننا نجد الحب في أعنف صوره عند الشيخ عباس النجفي لأنه كان شاعراً صادق التعبير، وفي حدود ذلك الحب لم يتجاوزه إلى الذي سلم وسفح ضاح، بل وقف عنده يؤديه أحسن أداء ويصوره أحسن تصوير. وهذه قصيدته الشهيرة خير دليل على حبه الصادق العنيف:(859/60)
عديني وامطلي وعدي عديني ... وديني بالصبابة فهي ديني
ومني قبل بينك بالأماني ... فإن منيتي في أن تبيني
سلي شهب الكواكب عن سهادي ... وعن عد الكواكب فاسأليني
أما وهوى ملكت به فؤادي ... وليس وراء ذلك من يمين
لأنت أعز من نفسي عليها ... ولست أرى لنفسي من قرين
أما لنواكم أمد فيقضي ... إذا لم تقض عندكم ديوني؟
هبوني أن لي ذنباً - ومالي ... سوى كلفي بكم ذنب - هبوني
ألست بكم أكابد كل هول ... وأحمل من هواكم كل هون
إذا ما الليل جن بكيت شجواً ... وطارحت الحمام في الغصون
ولو أبقت لي الزفرات صوتاً ... لأسكت السواجع بالحنين
بنفسي من وفيت لها وخانت ... وأين أخو الوفاء من الخئون؟
وهي قصيدة أكثر مما ذكرناه منها وقد أشار إليها الدكتور بقوله: لا أغالي إذا قلت إني لا أعرف لجميل من معمر شيخ المحبين قصيدة أحفل منها بالعواطف الصادقة وأغنى بالأحاسيس والمشاعر الرقيقة إذا فالدكتور قد استجاب لهذه القصيدة وأنفعل بعواطف الشاعر ورافقه لحظة من الزمن أدرك خلالها أنه محب صادق الحب. فهل استجاب لغزل الحبوبي حتى استجاب لعواطفه ولكنه تحفظ برأيه؟ نقطة الخلاف بيننا وبين الدكتور هي البيئة وحدها، فالدكتور لم يتعرض لها حتى يصل منها إلى نتيجة، لذلك وقع فيما وقع فيه من الاضطراب في الرأي، إذ الواقع أن غزل الحبوبي لم يكن ليصور بيئته أدق التصوير. والواقع أن الحبوبي كان موفقاً إلى حد بعيد في الأداء اللفظي وفي التعابير الرقيقة وإن كانت من غير بيئته، ولكنه لم يكن معبراً عن عواطف وانفعالات تثير القارئ فيستشف منها ضلالاً تختفي وراء هذا التعبير، لأن الشاعر لم يكن محباً في يوم من الأيام، لا لأنه كان عالماً فقيهاً، وإنما لأنه لم يحب وكفى وإلا لصور حبه تصويراً لا يخرج به عن حدود البيئة، لتحدث عن إحساسه العاطفي قبل أن يكثر من الغزل المادي.
على أن الدكتور حين يستعرض الغزل عند السيد حيدر الحلي يقول عنه: ليس هناك أدنى شك في أن السيد حيدر لم يقع في شرك الحب ولم يخضع لسلطان الغرام في يوم من الأيام(859/61)
إذا كان ما نعرفه من أخلاقه وأحواله صحيحاً. وهنا نضع أكثر من علامة استفهام لنسأل الدكتور عن السر في تفاوت الشاعرين وكون الحبوبي يظلم حين يجرد من الحب، وان الحلي لم يقع في شرك الحب؟.
ثم ما هو المانع من أن يجتمع الحب النزيه مع الأخلاق الكريمة إذا كانت الأخلاق مقياس الحب؟
وهذه أبيات للسيد حيدر نرويها كما رواها الدكتور:
سارقتها النظر المريب بمقلة ... لم تقض من لمحاتها آرائها
ولقد دعوت وما دعوت مجيبة ... ودعت بقلبي للهوى فأجابها
أعقيلة الحيين شقت فنولى ... كبدا هوتك فكابدت أواصابها
ما دمية المحراب أنت بل التي ... ننسين نساك الورى محرابها
أن هذه الأبيات خالية من الأحاسيس والعواطف في نظر الدكتور مع أن الشاعر لم يزخرف فيها ولم يتصنع. أما الغزل عند الحبوبي فإن من الظلم أن نجرده من العواطف!!
البقية في العدد القادم
إبراهيم الوائلي(859/62)
العدد 860 - بتاريخ: 26 - 12 - 1949(/)
محمود حسن زناتي
كنا ثلاثة ألفت بيننا وحدة الطبع والهوى والسن؛ فالطبع مرح فكه، والهوى درس الأدب وقرض الشعر، والسن فتية لا تجاوز السادسة عشرة. وكان طه قاعدة المثلث، ومحمود وأنا ضلعيه القائمتين، أو كان المبرد صاحب الكامل قلب الطائر، والزمخشري صاحب الكشاف، وثعلب صاحب الفصيح، جناحيه الخافقين وتلك كانت ألقابنا على الترتيب، لقب بها بعضنا بعضاً لنزعة فكرية أو فنية كان ينزعها كل منا في نظر أخويه. ووجه الشبه بيننا وبين المثلث أن وجودنا كان كوجوده، لا يتصور في الذهن ولا في الخارج إلا بأضلاعه الثلاث على أي شكل يكون وأما وجه الشبه بيننا وبين الطائر فإن حياتنا كانت كحياته، تردد إلى كل روضة، وتغريد على كل شجرة، وتحليق في كل جو. كنا نتنقل من حلقة العلم إلى درس الأدب، ومن درس الأدب إلى مجلس الشعر، ومن مجلس الشعر إلى دار الكتب، ومن دار الكتب إلى الجامعة المصرية القديمة، ومن الجامعة إلى إدارات الصحف نعرض عليها ما كنا نسميه يومئذ شعراً؛ ثم ننتهي إلى دار أحدنا فنتدارس ما حصلنا من علم، ونتذاكر ما حفظنا من أدب، ونتنادر بما سمعنا أو رأينا من سخف، فإذا أخطأنا أو نسينا لجأنا إلى ذاكرة طه العجيبة فتعيد ما وعت لا تخرم منه حرفاً؛ فنصحح أو نستكمل أو نستفيد. وإذا سئمنا أو ونينا فزعنا إلى حافظة محمود الخصيبة فيسري عن خواطرنا بمقطعات من أعذب النوادر يحكيها عن نفسه، أو يرويها عن أبيه، أو ينقلها عن حياته وزناتي محدث طليق اللسان متفنن الحديث تسمع منه النادرة عشرين مرة وكأنك لم تسمعها من قبل لجمال عرضه وجاذبية أسلوبه. ثم كان الطائر بقلبه النابض بالأمل والحب، وبجناحيه لخافقين بالخيال والنشوة، يضيق أحياناً بعشه الباغم في ركن من الرواق العباسي بالأزهر المدوي الهادر، فيخرج إلى هدوء الطبيعة يستمتع بمفاتنها في خمائل المطرية أو حدائق الجزيرة، فنتصل بالحياة العصرية، وننال من ثمار المدينة، ثم نعود إلى الأزهر فنجد الاختلاف شديداً بين حياته وحياة الناس فنقلق ونثور، ويكون مظهر هذا القلق وهذه الثورة التمرد على الأزهر المنعزل عن العالم، والسخر من الطلاب المنصرفين إلى الفقه، والعبث بالشيوخ الجاهلين بالأدب وكنا حينئذ في عهد اليفاعة حين يكون العيش كله حباً عارماً لحبيب غير مشهود ولا معهود. كان كل منا يحب أخويه حباً غلب على كل شيء. فإذا اجتمعنا عكفنا على هوى واحد هو الأدب، وإذا افترقنا نزعنا إلى هوى واحد(860/1)
هو نحن الثلاثة. وكنا نعبد الجمال في أي معنى وفي أي صورة، والجمال في حياة أيفاع من طلاب الأزهر لا يرون غير الدمامة، ولا يسمعون غير الفدامة لا يمكن إلا أن يكون حلماً أو خيالاً أو مثالاً أو شيئاً من نحو ذلك، وكنا نعشق الكتب فلم ندع كتاباً في الأدب مطبوعاً ولا مخطوطاً إلا قرأناه أو قلبناه، والمكتبة العربية كانت يومئذ بالنسبة إلينا (الكتب خانة المصرية). وكان محمود أشدنا غراماً بالمكتبات والمخطوطات، فكنا حين ننصرف، طه وأنا، لدراسة الفرنسية ينصرف هو إلى مكتبة الأتراك، أو مكتبة الأزهر، أو دكاكين الوراقين، ينقب عن نوادر الكتب فيستعيرها أو ينسخها أو يشتريها، لذلك كان أعلم الناس بأسماء الكتب وسماتها وشياتها وموضوعاتها ومؤلفيها، وقد ظهر أثر ذلك حينما عمل مغيرا في دار الكتب المصرية فقد انتقد فهارس الدار نقداً قويا عنيفا كان مثار خصومة بينه وبين زملائه. ومحمود كان لا يلاين ولا يهادن إذا كان معه الحق. ولقد كان عمله في وزارة المعارف وفي وزارة الأوقاف نزعاً متصلاً بينه وبين رؤسائه، لأن الوظيفة الحكومية تقتضي صاحبها المصانعة والمهاواة والمساهلة، ومحمود كان مستقيم الطبع فلا يلتوي، شديد الإباء فلا يستكين، قوي الشكيمة فلا ينقاد، حافظ العهد فلا يغضى. من أجل ذلك طلب أن يحال إلى المعاش فأحيل قبل سنه بعشر سنين.
عرفت محموداً في درس النحو، وعرفت طه في درس الأدب، وكان بين المعرفتين شهران أو ثلاثة. كنت أحضر درس النحو الذي يلقيه الشيخ عبد الله دراز في مسجد محمد بك أبو الذهب، وكانت لي بين رفاقي شهرة بصنع الكلام الموزون المقفى، فكان هذا يطلب مدحه في باشا، وذاك بطلب تهنئة لعمدة، وذلك يريد مرثية في قريب. وعلم ذلك محمود فجاءني ذات يوم وأنا في الدرس يشكو إلي أنه صنع تاريخاً لمولود في شطر ولكنه يحتاج إلى واحد ليتم به عدد السنين 1904. فنظرت في التاريخ فأعياني أن أجد هذا الواحد، فقلت له أكتب الشطر الأول هكذا: (وبالفرد استعنت لكي أؤرخ) والفرد معناه الله ومعناه الواحد المطلوب. فضعه بين قوسين واحسبه واحداً. أما جزم المضارع فللضرورة، والضرورات ترفع المجرورات. فسر محمود بهذا الحل سروراً عظيماً وصحبني في ذلك اليوم لا نكاد نفترق حتى أثلثنا بطه في درس المرصفي، فتوثقت بيننا عرى المودة، وتصادقنا على المحبوب والمكروه، وتصافينا على القرب والبعد، ومُلِّي كل منا أخويه خمساً وأربعين سنة(860/2)
تصدع فيها الشمل، وافترق الطريق، واختلفت الحظوظ، واتسعت الفروق، وثقلت الأعباء، وكثرت الأصدقاء، وتوزع القلب، وتغيرت الدنيا، واحترب العالم كله مرتين، ولكن صداقة الشباب ظلت راسخة الأصل في أعماق الفؤاد لا يعبث بها الحدثان ولا ينال منها الزمن.
كنا ثلاثة فأصبحنا اثنين: طه حسين وأنا. أما محمود زناتي فقد سبقنا إلى الغاية التي لا بد أن يبلغها كل حي. مات محمود وبكاه طه في (الأهرام) بكاء هز قلب الخلي واستدر عين الغريب. وبكاء طه على محمود بكاء على عهد مضى لن يعود، وعلى صديق قضى لن يعوض - مات محمود على فراش غير دافئ ولا وثير؛ لأنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه وحيد جديه، فلم يكن له من عصبيته لا أخ ولا عم، وكان الله قد جعله عقيماً فلم يكن له من صلبه ابن ولا بنت. ونزل به منذ ثلاث سنين مرض فادح طال وأعضل حتى سلبه الأمل وحرمه الراحة ونقله بنو أخواله إلى ناي وهو في نهاية الشوط ونزاع الروح. وكان طيلة مرضه إذا هذى ينشد شعر الشنقيطي وكان يحفظه كله، وإذا وعى ذكر طه والزيات وتمنى لو يهادنه المرض وتعاوده الصحة فيغشى ما كان يغشى من أماكن، ويزور ما كان يزور من أصحاب! رحمك الله يا محمود وبرد بالغفران والرضوان ثراك! لقد كنت حريصاً على الوداد حين ضاع الوداد، وسخياً بالوفاء حين عز الوفاء. وأحسن الله عزاءك وأطال بقائك يا أخي طه! لقد ذكرتني أواخر الصبا وأوائل الشباب وعهداً غفل عنا الزمان فيه فنعمنا بالإخاء المحض والصفاء الخالص! ومن الذي ينسى أيها الأخ الكريم ربيعه وهو في الخريف، وشروقه وهو في الغروب؟ لقد ابتدأنا في الرواق العباسي ومعنا الشباب والأمل ومحمود، ثم انتهينا إلى مجمع فؤاد ومعنا الشيخوخة والذكرى ولا شيء!
احمد حسن الزيات(860/3)
علي محمود طه شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 4 -
الإنسان صانع الأمل، ينحت تمثاله من قلبه ومن روحه، ولا يزال عاكفاً عليه يبدع في تصويره وصقله متخيلاً فيه الحياة ومرحها وجمالها، ولكن الزمن يمضي ولا يزال تمثاله طينا جامداً وحجراً أصم، حتى تخمد وقد الشباب في دم الصانع الطامح وتشعره السنون بالعجز والضعف فيفزع إلى معبد أحلامه هاتفاً بتمثاله! ولكن التمثال لا يتحرك، ولكن الحلم الجميل لا يتحقق، وهكذا نجتاح الليالي ذات المعبد وتعصف بالتمثال فيهوي حطاماً، وهنا يصرخ اليأس الإنساني ويمضي القدر في عمله!
بهذه المقدمة النثرية المحلقة في الصفحة الثانية والثمانين من (ليالي الملاح التائه) يبدأ الشاعر قصيدته (التمثال) أو قصة الأمل الإنساني في فصولها الأربعة. . . وأقدم إليك اليوم هذه القصيدة، أو هذه الصورة النفسية الثالثة:
أقبل الليل واتخذت طريقي ... لك والنجم مؤنسي ورفيقي
وتوارى النهار خلف ستار ... شفقي من الغمام رقيق
مد طير السماء فيه جناحا ... كشراع في لجة من عقيق
هو مثلي، حيران يضرب في الليل ويجتاز كل واد سحيق
عاد من رحلة الحياة كما عد ... ت وكل لوكره في الطريق!!
أبهذا التمثال هاأنذا جئت لألقاك في السكون العميق
حاملا من غرائب البر والبحر ومن كل محدث وعريق
ذاك صيدي الذي أعود به ليلا وأمضي إليه عند الشروق
جئت ألقي به على قدميك الآ ... ن في لهفة الغريب المشوق
عاقداً منه فوق رأسك تاجاً ... ووشاحاً لقدك الممشوق
صورة أنت من بدائع شتى ... ومثال من كل فن رشيق
بيدي هذه جبلتك من قلبي ... ومن رونق الشباب الأنيق
كلما شمت بارقاً من جمال ... طرت في إثره أشق طريقي(860/4)
شهد النجم كم أخذت من الروعة عنه؛ ومن صفاء البريق
شهد الطير كم سكبت أغانيه على مسمعيك سكب الرحيق
شهد الكوم كم عصرت جناه ... وملأت الكؤوس من إبريقي
شهد البر ما تركت من الغار على معطف الربيع الوريق
شهد البحر لم أدع فيه من در ... جدير بمفرقيك خليق
ولقد حير الطبيعة إسرا ... ئي لها كل ليلة وطروقي
واقتحامي الضحى عليها كراع ... أسيوي أو صائد أفريقي
أو إله مجنح يتراءى ... في أساطير شاعر إغريقي
قلت لا تعجبي فما أنا إلا ... شبح لج في الخفاء الوثيق
أنا يا أم صانع الأمل الضا ... حك في صورة الغد المرموق
صغته صوغ عاشق يعشق الفن ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظرته حياة، فأعياني ... دبيب الحياة في مخلوقي!!
كل يوم أقول: في الغد لكن ... لست ألقاه في غد بالمفيق
ضاع عمري وما بلغت طريقي ... وشكا القلب من عذاب وضيق
معبدي معبدي دجا الليل إلا ... رعشة الضوء في السراج الخفوق
زأرت حولك العواصف لما ... قهقه الرعد لا لماع البريق البروق
لطمت في الدجى نوافذك الصم ... ودقت بكل سيلدفوق
يا لتمثالي الجميل، احتواه ... سارب الماء كالشهيد الغريق
لم اعد ذلك القوي فأحميه ... من الويل والبلاء المحيق
ليلتي؛ ليلتي جنيت من الآ ... ثام حتى حملت ما لم تطيقي
فاطربي واشربي صبابة كأس ... خمرها سال من صميم عروقي!
مر نور الضحى على آدمي ... مطرق في اختلاجة المصعوق
في يديه حطامه الأمل الذا ... هب في ميعه الصبا المرموق
واجما أطبق الأسى شفتيه ... غير صوت عبر الحياة طليق
صاح بالشمس: لا يرعك عذابي ... فاسكبي النار في دمي وأريقي(860/5)
نارك المشتهاة أندى على القلب ... وأحنى من الفؤاد الشفيق
فخذي الجسم حفنة من رماد ... وخذي الروح سعلة من حريق
جن قلبي فما يرى دمه القاني ... على خنجر القضاء الرقيق
في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكية التي نسميها (ملكة التنظيم)، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه، كل فن يخلو من هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو فوضى فكرية أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى غيره من الميادين فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع بطابع التسلسل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود، وشبيه بتلك الحركة في جنايتها هي معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك الملكة التنظيمية التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.
نريد من الفنان سواء كان شاعراً أو مصوراً أو موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم برسم أصوله وقواعده قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. . . نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم يأمره بالوقوف عند هذا المشهد وبالتقاط الصور من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد نظاماً، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن. هذا التصميم الذي ندعو إليه ينظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى.(860/6)
هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الضلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي)، لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى حيز الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات.
هذه كلمة نمهد بها لتلك القصيدة التي يعرض فيها الشاعر قصة الأمل الإنساني كما تعرفها الأيام في دنيا الأحياء، وإنها لتمثل خير تمثيل ذلك التصميم الداخلي الذي ندعو إليه، أو ذلك التصميم النفسي الذي يقود الإخراج الفني تلك القيادة التي يندر أن يفلت فيها الزمام. . .
في المقطوعة الأولى التي تنتظم عشرة أبيات من الشعر، يقدم الشاعر أول فصل من فصول القصة. إنه في طريقه إلى التمثال، تمثال الأمل الذي نحته من قلبه وروحه، إنه يريد أن ينفرد به ليناجيه، وفي الليل حين تنام الكائنات. . . تستيقظ الذكريات! ليس النهار بالوقت الذي تطيب فيه المناجاة. إن المناجاة تنفر من الضوء وتستنكر الضوضاء، لأن مهدها الظلام الشامل ولأن موطنها السكون العميق. . . من يفطن إلى هذا المعنى، إنه شاعر الأداء النفسي، إنه على طه! لو كان من شعراء الأداء اللفظي لخاطب التمثال من مذياع اللفظ لا مذياع النفس، حيث لا يفرق المذياع الأول بين الوقت المناسب وغير المناسب لفنون الخطاب. . . مذياع النفس حين تنطلق الدافقة الصوتية في وقتتها المعلوم، ومنظار النفس حين تشق الرؤية الشعرية طريقها ولو كان بين الغيوم:
مد طير المساء فيه جناحا ... كشراع في لجة من عقيق
ليست الألفاظ في مثل هذه الصورة مما يقذف به قذفاً لتستقر في أي موضع يقدر لها أن تستقر فيه، ولكنها مفاتيح، مفاتيح (غرف نفسية) يتصل بعضها ببعض حيث تشف الجدران فلا حاجة بك إلى معالجة الأبواب. . . إن (الستار الشفقي) غرفة و (طير المساء ذا الجناح الممدود) غرفة أخرى، و (الشراع الذي في لجة من عقيق) غرفة ثالثة، وأداة الاتصال بين(860/7)
هذه الغرف الثلاث هي وحدة اللون بين الستار واللجة، ووحدة الشبه بين الجناح والشراع، ووحدة اللمسة الفنية في البيت الرابع الذي يعد الممر الطبيعي المفضي إلى (البهو) الكبير. . . وأين هو البهو الكبير الذي ينتهي إليه السالكون بعد طوافهم في الغرف الثلاث؟ هو في تلك اللمحة النفسية المعبر عنها في البيت الخامس بكلمة واحدة، هي ذلك (الوكر) الذي يفزع إليه كل طائر أجهدته رحلة الحياة:
عاد من رحلة الحياة كما عد ... ت، وكل لوكره في الطريق
وفي المقطوعة الثانية ينثر لشاعر بين يدي القارئ مجموعة هداياه، وهي المجموعة التي نثرها يوما تحت قدمي تمثاله عسى أن يتحرك، ولكن الحلم الجميل لم يتحقق! إنها مجموعة من الغرائب حوت كل محدث وعريق، مجموعة أحلام وأوهام لم تبعث في التمثال ما كان ينشده الشاعر من حياة، ولكنها بعثت في الشعر النفسي كل ما ينشده الأداء النفسي من لمعات. . . لقد أخذ من النجم، وأخذ من الطير، وأخذ من الكرم، وأخذ من البر، وأخذ من البحر، واستعار من حلى الطبيعة ما زين به الرأس والمفرقين والقوام. وهنا تبدو دقة التصميم الداخلي بالنسبة إلى الوحدة الجزئية موزعة على الأبيات، أما الوحدة الكلية الموزعة على الهيكل العام للقصيدة فهي في التقاء المعاني الشعرية المتداخلة على مدار المقطوعات الأربع ولا تنس هذا الأداء النفسي في قوله: (ذاك صيدي) و (جبلتك من قلبي) و (سكبت أغانيه) و (معطف الربيع الوريق). إن الأداء النفسي في اختيار الألفاظ ينكر الصنعة ويضيق بالارتجال!
وكما يرسل المصباح شعاعا من هنا وشعاعاً من هناك لتلتقي هذه الأشعة وتتجمع في (بؤرة) بعينها تتركز فيها الطاقة الضوئية يرسل شاعر الأداء النفسي معانيه من شتى الجوانب والجهات لتلتقي هذه المعاني وتتجمع في (صورة) بعينها تتركز فيها الطاقة الشعورية. وكذلك تجد علي طه. . . فبعد أن عدد تلك الجولات المرهقة في وحلة الحياة، وبعد أن طاف بكل مجلى من مجالي الطبيعة، وبعد أن حلق بأحلام الشباب وأمانيه في كل أفق؛ بعد أن سجل كل تلك المعاني النفسية المتفرقة، عاد ليؤلف بينها وليخرج منها (الصورة الكبرى) التي تعرف موقعها في الإطار والجدار:
قلت لا تعجبي فما أنا إلا ... شبح لج في الخفاء الوثيق(860/8)
أنا يا أم صانع الأمل الضا ... حك في صورة الغد المرموق!
وما تلك الأم التي يخاطبها الشاعر في هذا المجال؟ إنها الطبيعة. . . الطبيعة التي (حيرها إسراؤه) في ليالي الشوق والهيام، و (اقتحامه عليها الضحى) اقتحام الرعاة والصائدين، أو اقتحام تلك الآلهة المجنحة في أساطير الأولين!
وأعود بالذاكرة إلى شاعر آخر يتفق مع شاعرنا في هذا الفناء المطلق في هوى الطبيعة، الفناء الذي يربط بينها وبينه بتلك الخيوط الوجدانية التي تربط بين وفاء البنوة وحنان الأمومة. إنه الشاعر الإنكليزي (بيرن) في (تشايلد هارولد). . . لقد عشق كلاهما الطبيعة، وهام بها كما يهيم (الابن) البار بخير (أم) تسقيه من ثديها رحيق الحياة! وهاهو ذا (بيرن) يشير إلى هذا المعنى الكبير عندما يقول: (إن الطبيعة الحبيبة رغم اختلاف صورها ما زالت خير أم، فدعني أنقل عن قلبها العاري كل فكرة ملهمة، أنا أبر أطفالها بها وإن لم أكن إلى قلبها أحب البنين)!
لقد سجدت أفكار الشاعرين في محراب واحد، والتقت منهما الخواطر في صلاة واحدة، وهتفا في صوت واحد مولين وجهيهما شطر الطبيعة: أماه. . . وكلاهما صادق في حبه مخلص في هواه! وفي ميدان هذا الحب المتغلغل بين الجوانح يتفقان، ولكنهما في ميدان التعبير عنه والإشادة به يفترقان، تبعا لما بين (الصدق الفني) (والصدق الشعوري) من فروق، وسنعود إلى توضيح تلك الفروق في فصل مقبل من فصول هذه الدراسة النفسية. . . وسترى أن الطبيعة في شعر علي طه لم تكن خير أم فحسب، واكنها كانت أيضا خير أستاذ، وحسبك أن تستمع إليه في الصفحة الأربعين بعد المائة من (الملاح التائه) حيث يقول:
وأنا الشاعر الذي أفتن بالحسن وأذكت يد الحياة افتتانه
معهدي هذه المروج وأستاذي ربيع الطبيعة ألفيناه!
ونترك جو الطبيعة الأم إلى جو آخر؛ جو الأمل اليائس حين يعود إليه الشاعر من جديد ليطلق صرخته الخالدة، صرخة الفنان لخالق ينظر إلى صنع خياله فتصدمه الحقيقة البشعة، حين تنهار صروح الوهم الجميل تحت ضربات القدر أو تحت معاول الرياح. . . وستلمس أن الروافد الشعرية ما زالت تتصل بالنهر الأول وتسير في نفس الاتجاه محاذية(860/9)
لمجراه، وسمها إن شئت ذلك الامتداد الأخير لخط الاتجاه النفسي في الصورة الرئيسية؛ تلك التي تتشابك في داخلها بقية الخطوط الأخرى لتمضي بعد ذلك مجتمعة في خط واحد كبير:
صغته صوغ عاشق يعشق الفن ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظرته حياة، فأعياني دبيب الحياة في مخلوقي!!
ولقد طالت المقطوعة الثانية حتى بلغت سبعة عشر بيتا من الشعر. إنها أطول المقطوعات وأحفلها بتنوع السبحات والرؤى والأطياف. . . ولو رحت تتقصى أثر التصميم الداخلي في بناء العمل الفني لانتهيت إلى أن هذه المقطوعة يجب أن تطول؛ ذلك لأنها بمكان القلب الذي ينظم حركات النبض في مختلف الشرايين الشعرية في المقطوعات الثلاث!
ولا تنتظم المقطوعة الثالثة من الشعر غير سبعة أبيات، لأن النفس الإنسانية تمر هنا بلحظة من لحظات الهزيمة التي تترك في أعماقها ذلك الخور المتخلف عن آثار اليأس والقنوط، وفي غمرة هذا الشعور المظلم لا يتسع المجال لغير الزفرة المحرقة التي تغنى فيها فور العواطف عن وفرة الصور وتعدد اللمحات. . . ولعلك تحس لفح هذه الزفرة في تهدج النفس الشعري عندما يهتف الشاعر في البيت الأول من هذه المقطوعة:
معبدي! معبدي! دجا من الليل إلا ... رعشة الضوء في السراج الخفوق
أو في ذلك البيت الذي يمهد به لما يليه:
ليلتي! ليلتي جنيت من الآ ... ثام حتى حملت ما لم تطيقي!
ومرة أخرى تهزك العلاقة النفسية بين الألفاظ في البيت الثاني والثالث والرابع من هذه المقطوعة: لقد (زأرت العواصف) و (قهقه الرعد) و (التمع البرق) و (تدفق السيل) و (احتوى التمثال الجميل سارب الماء). . .
ومن وراء هذا كله يقف الأداء النفسي على قدميه ليثب وثبته الأخيرة حين يصف التمثال (بالشهيد الغريق)!!
وتتفق المقطوعة الأخيرة مع المقطوعة السابقة اتفاق قيم ومقاييس، ولكنها تصور ختام المعركة بين الوهم والحقيقة أو بين الخيال والواقع. وويح أبناء الخيال من كل معركة تنشب داخل النفس ويكتوي بنارها القلب وتمتلئ بغبارها العين، وتنجلي حين تنجلي عن(860/10)
صرعى ظنون وعن شهداء آمال! شهداء (يمر عليهم نور الضحى) فلا يمر إلا على كل آدمي مصعوق) (أطبق الأسى شفتيه) إلا من أنات. . . تنطلق (عبر الحياة) لتصيح بالشمس في لهفة الضارع المستجير:
نارك المشتهاة أندى على القلب ... وأحنى من الفؤاد الشقيق الشفيق
فخذي الجفن حفنة من رماد ... وخذي الروح شعلة من حريق
(يتبع)
أنور المعداوي(860/11)
بودلير وفن الشعر
للأستاذ عبد الفتاح الديدى
يرتكن الأساس الوضعي للنقد الأدبي عند كتاب الغرب إلى أمرين: نظرية في الجمال ونظرية في الخيال. فهاتان النظريتان بمثابة العمود الفقري عند الغربيين في كل نقد أدبي، ويكونان المحور الأصلي الذي تدور حوله الأقوال وتنبعث منه الأحكام. وبتوالي الأيام نشأت في نفوسنا عادة البدء بالسؤال عن هذين الجانبين عند الإطلاع على مؤلف في الأصول النقدية أو عند الوقوف على استعراض أدبي للمذاهب. وإذا كنت أحاول التقديم بهذه الملاحظة فلأنني أحب أن أوجه أنظار النقاد في مصر إلى أن عملهم لن يكون ذا قيمة أو اعتبار ما دام منحصراً في تلك الدائرة المقفلة دائرة التعليق الخالص.
فهكذا عودنا نقاد الغرب واستطعنا بذلك أن ندرك الأغوار البعيدة التي تسند كلامهم الظاهر وتتعهد أفكارهم الجادية. فإذا ما ساق إليك أحدهم حكما في إحدى مشكلات الفن، قدم له تحليلا وافرا عن النظرية الفلسفية التي يبني عليها آرائه، والبحث النفسي الذي يعتمد عليه في تفسير ما يبديه من الاعتراضات والتوضيحات. فلا يخلو - والأمر كذلك - بحث نقدي من فكرة في الجمال وفكرة في الخيال.
أما فكرة الجمال فمن شأنها أن تربط بين مفهوم الذوق عند الفنان وبين مفهومه عند عامة الناس. إلى جانب أنها تحدد البعد الذي يستند إليه الناقد في تحديد القيمة الأدبية من جانب الشكل والتنغيم. وبذلك تصبح فكرة الجمال موضع الاتفاق الشعوري بين الناس، وملتقى الاحساسات الغامضة في الاستحسان والاستهجان. ثم نلاحظ شيئا آخر وهو أن نظرية الجمال عند الناقد تبرر مسلكه في الاعتراض، وتؤيد مذهبه في المآخذ التي يبديها عند مراجعة الأعمال الأدبية. فأول ما يخطر على ذهن القارئ عندما يقرأ مقالا في النقد الأدبي هو التساؤل عن السبب الذي يجعلك في موقف بالذات لا تكون في سواه، أو الدافع الذي يحملك على إعلان رأيك خاليا من المسوغات أو المبررات. فالفكرة الجمالية عند الناقد من هذه الناحية تغنيه - في الوقت نفسه - عن الشرح والتعليل في كل لحظة من اللحظات التي تمر به وهو بصدد التفنيد والمؤاخذة والوزن.
أما فكرة الخيال فتنفذ إلى أعماق النفس البشرية كما تفسر لنا شيئين على جانب عظيم من(860/12)
الأهمية بالنسبة إلى العمل الأدبي. أما الشيء الأول فهو الكشف عن مقومات العمل الأدبي كما هي مطبوعة في نفسية الفنان المبدع، والإعلان عن قيمة الخلق الفني بطريقة من الطرق الخاصة التي انفردت بها مدرسة وتحدد بها اتجاه. كذلك يعين التفسير السيكلوجي للخيال الفني المبدع على تقييد الأديب بطريقة معينة في التعبير عن الأزمات التي تمر به والأهواء التي تنتابه. فالفنان محصور - في هذا النطاق الضيق الذي يهيئه خياله - بآفاق مدارك خاصة. وعلاوة على هذا نستطيع أن نجد في غضون كلامنا عن الخيال ما يبرز لنل ملامح التصور الذهني في العقلية المبدعة، وما يرينا تلك الصلة التي تربط بين خيال الفنان وبين عناصر الطبيعة الخارجية من ناحية التكوين والملاحظة والالتفات.
وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نرتفع بالاتجاه النقدي عند بودلير إلى حد الحكم على عمله بأنه مذهب متكامل، يمكننا - مع ذلك - أن نجد لديه أساسين من الجمال والخيال اللذين يكفيان لدعم أقواله. فمن ناحية الجمال نشاهد عنده تفصيلا دقيقا لبعض الأمور التي تكون شبكة مترابطة، وتقيم بنيانا متماسكا إلى حد بعيد. فهو أولا يخص الجمال بصفة تعبر عن شخصيته أجمل تعبير، وتوضح طابعه الروحي في الإعداد الشعري والتقويم النقدي سواء بسواء. إذ يقول أن الجمال لا يمكن أن يكون مطلقا وأبديا، ويلزمه الارتباط بالحياة اليومية والأشياء العامة حتى يتمثل ويصير حقيقة من الحقائق. فالجمال الخالص أسطورة من الأساطير لا يعرفها العمل الأدبي إلا إذا كانت متعلقة بالجزئيات الحاصلة في مجرى أمورنا العادية.
وبذلك ينتهي الجمال إلى أن يكون عملا نسبيا في كل الأحوال ما دام الاختلاف قائما في نماذج الحياة تتأثر بالزمان والمكان. وفي رأي بودلير أن هؤلاء الشعراء الذين يطلبون الجمال المطلق، وينشدون البدعة الخالدة ليسوا إلا شيعة من المفتونين. فكل زمن وكل جماعة - كما يقول - لها تعبيرها الخاص عن الجمال في نظرها. ولا بد للشاعر أن يسعى حثيثا كيما يحقق مثلا للجمال في نفسه يلائم أوضاع العصر ويساير ركب الزمن ويفي بما للبيئة عليه من الآثار والأفضال.
ومن أهم خصائص الجمال في العمل الأدبي لديه أن يلفت النظر ويثير الدهشة بأي شكل من الأشكال. فلا بد من تحقيق هذه اللفتة وتلك الدهشة بأن يعمد الأديب إلى القواعد النقدية(860/13)
والأصول المدرسية فيخرج عليها، وأن يفارق سنة الاتباع الحرفي لأحكام الرقباء مهما كانوا. ويقول إنه من أجل المحافظة على الفرحة التي تثيرها الدهشة في النفس، والإبقاء على النشوة التي تحدثها الجدة والغرابة في الوجدان، ينبغي أن يظل الكاتب حريصا على التنويع والابتكار في النماذج المعروضة والأحاسيس المجتلاة. ذلك لأنه إذا ضاع التنوع في أعمال الأديب اختلطت النماذج واعتجنت الوحدات وصارت على هيئة رتيبة خالية من الشخصية والحياة، شبيهة بالانقفال والعدم. ويؤكد بودلير دائما هذه الحقيقة: وهي أن الجميل دائما خارق للعادة وخارج على المألوف وغير موافق لما أتى به الغير في نفس المجال.
أما نظريته في الارتباط فهي وثيقة الارتباط بمنحاه الشعري وشديدة الالتصاق بروحه في الفن والتأليف. فبودلير واحد من أولئك الحالمين الذين نشدوا اللذة في استقصاء المجهول، وبحثوا عن المتعة بعيدا عن الحياة الواقعية الكالحة. فأبعد شيء عن فهم بودلير هو القول بالرسالة الاجتماعية والأخلاقية التي يؤديها فن من الفنون والشعر خاصة. وذلك طبيعي ولازم جدا ما دمنا نجد في الانفعال الشعري فسحة من أجل الانطلاق إلى حيث تستطيع النفس أن ترضي شهوتها في البزوغ، وتبعا لما نصادفه أمام وهج الإحساس الفني من اللفحات التي تهبنا كل عوامل الشرود والانبثاق. ففي مقابل الطبيعة التي يلمس بشاعتها، والواقع الماثل الذي يحس بقبحه ودمامته، يضع بودلير عالم الخيال. وهناك يفضل بودلير مظاهر التشوه والمرض على مظاهر الصحة والانسجام، ويضع نتاج الوهم في مرتبة من التقدير والاهتمام أعلى من مرتبة الحقائق الواردة من عالم الحياة.
فالخيال بالنسبة إلى الفنان يعلو على أية موهبة أخرى ويفوق كل ملكات الدماغ. وإذا كان هناك ما يؤيد هذا القول فإننا نكتفي بأن نعرف معرفة أكيدة أن عالم الفنان من خلقه، وأن الدنيا عنده وليدة وهمه وتصوره، حتى نقدر ما لهذه الوظيفة العقلية من أهمية بالغة. فالعالم الظاهري الموجود عبارة عن المجال الذي ينشط فيه الفنان كيما ينتقي آلاته وأدواته، ويختار النماذج والصور اللازمة بالنسبة إليه. ولا يتم ذلك إلا على نحو معين هو الذي يكشف عن مقومات الشخصية التي تقوم بالانتقاء، والذاتية التي تستتر وراء عملية الاختيار. فالمجال الحيوي لنفسية الفنان هو الأشياء الخارجية.(860/14)
ولا ترجع أهمية الخيال عند بودلير إلى هذا فحسب، وإنما ترجع أيضا إلى اعتقاد بودلير في نوع من الواقعية الداخلية أو من الانطواء الذاتي. وإذا صح ذلك لعب الخيال دوراً كبيراً في أعمال الفنان تبعا للارتباط الحاصل فيما بين التكييف الداخلي ووسائل النقل؛ أعني فيما بين القدرة على التهيئة والإعداد وبين الحواس المختلفة. فالهدف الذي يسعى الفن إلى تحقيقه ذاتي إلى أقصى درجة، والمرمى الذي يبغي النفاذ إليه فردي بحكم الضرورة، ولا يكاد الفنان خاصة من بين كل الناس يفارق نفسه. فالفنان يمتاز أولا وقبل كل شيء بأنه صاحب خيال أو متخيل، يقبس النار من روحه ليضئ بها الأشياء، ويعكس المشاعر على باطنه لتعود فتنير الحياة. فالخيال الخصب عند الفنان هو الذي يوحي إليه بترجمة المظاهر الطبيعية في صورة أشعار منظومة وترانيم حية، وفعل الخيال إنما يظهر حقيقة في عملية الاختيار بين الأشياء التي يتجاوب معها، والأحداث التي ينفعل لها، والمظاهر التي يتأثر بها.
وبناء على هذه الأنظار المتتالية في الخيال والجمال، آمن بودلير بضرورة الفصل بين المهمة التي يقوم بها الشعر والمهمات الأخرى التي تقوم بها علوم الأخلاق والفلسفة. فالشعر لا يعرف شيئاً عن هذه الخدمات التي يزعم بعض أصحاب المدارس الفنية أنها تقوم على يديه وتتأدى به وتخلص عن طريقه. وإذا أخذنا الشعر على أنه أداة اجتماعية لرفع المستوى العام في الأخلاق أو ترقية المنحى الشائع في التفكير، فقد كل ما له من صبغة الذاتية، وصار محكوما عليه بالموت بين أكفان التقليد الزائف، وعلى صحائف الخطابة الجوفاء. وهذا الحكم مبني في نظر بودلير على أساس أن الفن بنقص قدره حينما يخضع لما تمليه عليه الطبيعة الخارجية وعند ما ينحى بازاء مشاهد الحياة.
فالدور الذي يقوم به الفنان لا يعتمد على النقل والتقليد وإنما يعتمد على معارضة الأشياء الموجودة وإنكارها إنكاراً يتمثل في إقحام الذات عند الكتابة النثرية أو الشعرية كلما أمكن. فأول عمل من أعمال الفنان هو إسقاط الطبيعة في الخارج وإحلال النفس الإنسانية محلها. وإذا أمكن هذا أصبح من العسير أن نخضع الشعر للقيود البرانية، وخرجت عن نطاق العمل الأدبي كل محاولة من قبيل الإصلاح والإرشاد والتعليم. وعلى هذا النحو يكون للشعر غرض واحد؛ وهذا الغرض الواحد هو نفسه. وفي صورته العليا أو على نحوه(860/15)
الأمثل تغيب عن الشعر كل نزعة سياسة وتختفي مظاهر البحث الفلسفي حتى يبقى في النهاية جوهرة الفردي العميق.
وإذا نظرنا في هذه الآراء التي سردها بودلير والتي آمن بها إلى آخر حياته، وجدناها لا تخلو من اتجاه موحد أو من نظرية مستقلة. وعلى الرغم مما قد نجده في شعره من توزع بين كثير من المذاهب الشعرية ومن تأثر بما شاع وقتئذ من المدارس لا نكاد نعثر في نقده على خطوط غير أصيلة أو على سمات طفيلية. ويستطيع النقاد بعد تحليل بسيط أن يوقفوك على عناصر رومانتيكية أو على عناصر برناسية في شعر بودلير؛ أما في موقفة النقدي فلا يمكنهم إلا أن يقروا بشخصيته الناقدة التي تقف في الناحية المقابلة للرومانتيكية والتي تسخر من البارناسية وتواجه المذهب الواقعي بدون أي تراجع أو انثناء عن نزعته الفردية الواضحة وعن إيمانه الفني الخاص به دون سواه.
ومما يلاحظ في النهاية أنه لا يستطيع واحد من الناس اتباع ما جاء في كلام بودلير من الأفكار وما تخلل عباراته من الآراء النقدية. وذلك لأن بودلير لم يعمل على إتمام حلقات مفقودة كثيرة في طيات مذهبه، ولم يكن من المثابرة والانكباب بحيث يمكنه أن يأخذ شيئاً من الأشياء مأخذا جديا وأن ينظر إلى الحياة نظرة فيها عناية أو غيرة أو اهتمام. والعيب الأصيل الذي يتمثل في غياب عنصر الحيوية من النقد البودليري إنما يأتي عن هذه الروح الذاتية المفرطة التي أمتاز بها الرجل طيلة أيامه على الأرض. كان فرديا زيادة عما يلزم بالنسبة إلى ناقد يريد الخير للأدب وينشد الرفعة للفن الذي يعمل كاهنا في محرابه. وكان يشعر بالعبث والتفاهة في شئون الحياة على نحو أفقده كل اعتبار للتقدم وكل تقدير للارتقاء الذي تصيبه الأعمال العادية.
وإذا ذهبنا إلى القول بأن بودلير لم يكن قادراً على تركيز مجهوداته في عمل من الأعمال أو بذل عنايته في باب من الأبواب فليس معنى ذلك أنه كان قليل الأهمية في تاريخ النقد؛ لأن مذهبه النقدي لا يخلو من نفحة عبقرية استندت إلى فلسفة في التحليل وجمال في التفصيل وقوة من الأداء. ويقول (رينيه لالو) تأييدا لكلامنا هذا في كتابه عن مراحل الشعر الفرنسي (ص86) إن مقالتيه عن الفن الرومانتيكي والتشوفات الجمالية تثبتان ضلاعة مواهبه النقدية. وأغلب ظني أنه استفاد كثيرا من التوجيهات التي كان يصدرها في تعليقاته(860/16)
عن الفنون الأخرى كالموسيقى والرسم ولكن الذي لا شك فيه أنه قد استفاد كثيراً من الاتجاه الذي سار فيه سان بيف والخطوات التي مشى في إثرها. إن الاثنين - بودلير وسان بيف - هما الناقدان المهمان في الحركة الرومانتيكية إذا نظرنا إليها محصورة في النطاق الفرنسي.
وأهم ما يمكن أن يعزى إلى بودلير في حركته النقدية هو أنه فتح الباب أمام الرمزية الصحيحة كيما تتقدم وكيما تأخذ مكانها المرموق بين المذاهب. فليس فن بودلير في النظم وحده هو الذي يضع جرثومة الرمزية وإنما يأتي في غضون كلامه النظري عن الفن الخالص ما يمكن أن ينظر إليه المؤرخ على أنه إرهاصات خالية من الزيف، وتباشير ممتلئة بالحياة، ودلائل قاطعة على الأسبقية والبدء.
وإذ نعتى هاهنا بتوكيد هذه الحقيقة فلأننا نؤمن إيمانا قويا بأن كل حركة نقدية لا تلتفت هذه اللفتة ولا تبذل عنايتها في هذا الجانب ستفقد غير قليل من أهميتها. لسبب بسيط وهو أن الأدب الخالص لا يكون إلا رمزيا للغاية، ولا يستطيعإلا أن ينصرف هذا المنصرف للتفرقة بين بعضه كفن وبين بعضه الآخر كعلم. وأول بيان كامل عن الرمزية هو ذلك الذي كتبه موريا في الملحق الأدبي للفيجارو بتاريخ 18 سبتمبر عام 1886 حيث جاء فيه أن هذا المذهب إنما يهتدي بآثار بودلير عن (المجاوبات) عادة كنمط فريد للشعر الرمزي وهذه ترجمتها:
إن الطبيعة معبد أركانه أحياء،
يدعون ألسنهم أحيانا فتنطق بالكلمات المبهمة.
ويجوس الإنسان بين غابات الرموز،
فيرمقها بنظرات أليفة.
ومثلما تختلط إرجاع الصوت من بعيد،
في وحدة مظلمة عميقة،
رحبة مثل الليل ومثل الضوء،
تتشابه الروائح والألوان والأصوات،
والمعبد ملآن بالروائح الزكية كلحم الأطفال،(860/17)
الحلوة كأنغام المزمار
الخضراء كلون المراعي
وملآن بأشياء أخرى مرتشاة وغنية ومنتصرة
وله اتساع الأشياء اللانهائية،
بفضل العنبر والمسك واللبان والبخور،
الذي يذكي هيمان الروح والحواس،
أما من ناحية العمل النقدي فيذكرون أنه هاجم الشعر بنزعاته الفكرية والإصلاحية وأسبغ عليه من لدنه روح الغموض وأدخل فيه موجة التحليق. ثم أنه قد عمل على تخليص الشعر من العقبات التي عاقته عن التقدم وحرمته الحياة فترة طويلة من الزمن. وإذا كان الكثيرون من النقاد قد اكتفوا بأنهم نقاد فبودلير قد أعطانا النموذج قبل أن يعطينا الفكرة وبين لنا تفصيلا وإجمالا. . أعني نظريا وواقعيا معا، فأصبح يعد بحق من بين أكبر من أثر في الشعر والنقد الحديثين وأخطر من رسم عليهما خطوطا بارزة ستبقى إلى الأبد محتفظة باسمه وطابعه.
عبد الفتاح الديدي(860/18)
الشعر المصري في مائة عام
1850 - 1950
الدور الأول
1850 - 1882
3
1 - معانيه
ذكرنا أن المدح قد احتل الجزء الأكبر من دواوين الشعراء في ذلك العصر. ولم يكن في هذا المدح معنى مبتكر، ولا خاطر جديد، ولا فكرة مخترعة، ولا تشبيه محدث. بل ردد الشعراء المعاني القديمة التي سبقهم إليها الأقدمون. ولم يحسنوا أداء هذه المعاني كما أحسن السابقون. فتراهم إذا مدحوا ملكا شبهوه في العدل بكسرى، وذكروا عجز قيصر إلى البلوغ إلى مرتبة الممدوح فالساعاتي يقول:
رفع القواعد من دعائم دولة ... عزت به فنظيرها لا ينظر
قد طاولت بالعدل كسرى واعتلت ... شرفا وقصر عن مداها قيصر
وصالح مجدي يقول في سعيد:
عدل كسرى وإن سما لا يساوي ... عشر معشار عدل هذا العميد
قيصر الروم عزمه في قصور ... عند صدر مؤيد وسعيد
فهؤلاء الشعراء كما ترى مفلسون من المعاني لا يجدون أمامهم غير كسرى وقيصر. وإذا مدحوا الحاكم بالجود والكرم قالوا: بأن جود معن وحاتم لا يذكر بجانب كرم هذا الممدوح.
وكر عمرو لا يقاس بكر ممدوحهم، وذكاء إياس لا يساوي ذرة من ذكائه. وهم يكررون هذا في معظم قصائد المدح. فمن ذلك قول إبراهيم مرزوق في عباس الأول:
ما حلم أحنف؟ ما سماحة حاتم؟ ... ما كر عمرو؟ ما ذكاء إياس؟
وقال صالح مجدي مادحاً سعيدا:
جود معن وحاتم لا يضاهي ... ذرة من شعاع جود مديد(860/19)
كر عمرو بكره لا تقسه ... هو في حربه مبيد الأسود
هل يجاريه في الذكاء إياس ... وهو فيه إمام كل مجيد
ولم يكتف صالح مجدي بإسناد هذه الصفات إلى سعيد وإسماعيل، بل أسندها إلى كثير ممن مدحهم من الوزراء والأعيان.
وممدوحهم فريد ليس له مثيل. قال علي فهمي رفاعه:
راموا مراعاة النظير فلم يروا ... مثلا له هيهات عز مثيل
وقال أبو النصر:
إلى ملك الدنيا تود انتسابها ... لما علمت في الكون أنك أوحد
وقال الليثي:
من في المعالي وعين الله تحرسه ... في الكون يحكيه أو من ذا ينازعه
وهكذا جال الشعراء في دائرة ضيقة محدودة. فمدائح كل منهم قصيدة معادة ومدائحهم كلهم صورة مكررة.
وكانوا لإفلاسهم وضيق خيالهم يأتون بالمعنى القليل في عدة أبيات. ومثال ذلك ما جاء في قصيدة لمحمد سعيد يهنئ بها الخديو توفيق:
تهني مصر بالبشرى ... وتسمو في العلا قدرا
وللتوفيق توفيق ... خديويها لها البشرى
يتيه الملك من عجب ... بشامخ مجده كبرا
تراه حين شرفه ... تبدى باسماً ثغرا
وأصبح وهو منشرح ... لفرط سروره صدرا
لقطر النيل أفراح ... تعم بأنسها القطرا
به كل الرعية في ... حبور زادهم بشرا
وقاهرة تبسم ثغ ... رها إذ لاح مفترا
فمعنى هذه الأبيات تافه جدا، ولا يستدعي هذا الإسهاب. فالشاعر يريد أن يقول: إن مصر تهنأ بالخديوي الذي اختال به الملك وفرحت بتوليته البلاد وأهلها. وكان في استطاعته أن يأتي بهذا المعنى في لفظ موجز، ولكن رغبته في الإطالة مع خلو جعبته من المعاني(860/20)
اضطره إلى هذا الإطناب الذي لا فائدة منه. وهكذا كان يفعل شعراء هذا الدور.
وإذا رثوا شخصاً بدءوا القصائد بذكر الموت الذي يختار من الناس الجياد، ويصفي الكرام. وأسهبوا وأطنبوا بما لا يخرج عن معنى هذين البيتين:
الناس للموت كخيل الطراد ... فالسابق السابق منها الجواد
والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
أو يشيرون إلى كأس المنون التي تدور على البرية فيشرب منها كل إنسان. ويختمون الرثاء بذكر الحور العين وما يلقاه الميت في الجنة من مظاهر النعيم.
ومثال ذلك قول أحمد عبد الغني في رثاء عبد الله فكري:
فأحله الرحمن أعلى جنة ... وأحله فيها وقد أعلاه
والحور والولدان قد فرحوا به ... واستقبلوه بالسرور وتاهوا
وقول أبي النصر في رثاء أحد العلماء:
فله البشارة حيث حل بروضة ... فيحابها للعلم طيب عاطر
والحور في دار البقا لقدومه ... في الانتظار وبشرها متبادر
وقوله في رثاء طوسون بن سعيد:
فأنعم بروضة قبرك الفيحا وطب ... وأنس بما قدمت من حسنات
ولسوف تمنح ما يسر من الرضا ... ما بين حور ثم مقصورات
بشراك في دار النعيم بمشتهى ... ما تشتهي من يانع الثمرات
وبك الحدائق تزدهي أنوارها ... وإليك يهدى عاطر النفحات
وبجنة المأوى تفوز بما تشا ... من فضل ربك واسع الرحمات
فمن هذا نتبين كيف أن الشعراء يشتركون معا في الوقوع على هذه المعاني. وهذا أكبر دليل على ضيق المجال أمام هؤلاء الشعراء.
وإذا وصف أحدهم اختراعا حديثاً ظهر عجزه واضطرابه. ومثال ذلك قصيدة لصالح مجدي في وصف وابور سعيد مطلعها:
أمدينة من فوق لج الماء ... تجري بأبهج منظر وبهاء
أم هذه إرم بدت وعمادها ... مسبوكة من فضة بيضاء(860/21)
أم ذاك وابور المسرة مده ... صدر البرية أسعد السعداء
فشبه السفينة البخارية بمدينة، ثم شبهها بإرم ذات العماد وهي مدينة كذلك. ثم هوى من بعد ذلك من شاهق فذكر (وابور المسرة) مع أن الصورة التي يتركها في الذهن (وابور المسرة) لا تضارع الصورة التي تتركها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وذكر كلمة (بيضاء) بعد (الفضة) لغو لأن لون الفضة معروف. ثم شبهها بعد ذلك بالفلك. قال:
فكأن هذا الفلك في تعظيمه ... فلك به تسري نجوم سماء
والذي أوحى إليه بهذا التشبيه هو الجناس بين الكلمتين. والحقيقة أن وجه الشبه معدوم بين السفينة وبين الفلك الذي هو دائرة وهمية تسير فيها النجوم. وذكر (سماء) بعد (نجوم) لغو لا طائل وراءه.
ثم قال:
وكأنه في النهر عند مسيره ... برق يقصر عنه طرف الرائي
ثم قال بعد ذلك بأبيات:
فإذا تصدى للسباق فدونه ... وابور بر طار في البيداء
والاضطراب هنا ظاهر. فهذا الوابور إذا سار سيراً عاديا فهو يشبه البرق، وإذا تصدى للسباق وجرى بأقصى سرعة كان أعظم من وابور البر. فأنت ترى أن الشاعر قد انتقل من صورة رائعة في قوله (برق يقصر عنه طرف الرائي) إلى صورة ضعيفة في قوله (وابور بر طار في البيداء).
ويلاحظ أن الشاعر حينما أراد أن يصف وابور البحر وقف أمامه حائرا متسائلا عن حقيقة أمر هذا الشيء الذي يراه. أهو مدينة أم إرم ذات العماد أم وابور المسرة؟ وهذه الحيرة في إدراك كنه بعض المخترعات الحديثة قد عبر به كل من تصدى لوصفها. فقال رفاعة من قصيدة في وصف وابور البحر:
العقل في الوابور حار ... نبغي الجواب فلا يحير
وقال عبد الله نديم في وصف القطار:
نظر الحكيم صفاته فتحيرا ... شكلا كطود بالبخار مسيرا
ثم إنهم خلعوا على (وابور البر) الصفات عينها التي خلعوها على (وابور البحر). مثال(860/22)
ذلك قول رفاعة في وابور البحر:
صب وفي الأحشاء نار ... شوقا إلى القمر المنير
وقول عبد الله نديم في وابور البر:
دوما يحن إلى ديار أصوله ... بحديد قلب باللهيب تسعرا
وقد يتعرض أحدهم لوصف القطار فيوازن بينه وبين وسائل المواصلات القديمة. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
ثم امتطينا للسويد ركائبا ... لا الركض يتعبها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها ... كالماء ساعد جريه التيار
سرع الخطى لا السوط حل بجلدها ... يوما ولا شدت بها أكوار
تذر الرياح إذا جرين وراءها ... حسري طلائع جريهن عثار
يقول الشاعر أنه استقل في سفرة ركائب لا يدركها كد ولا إعياء. وهي تجري مسرعة دون حاجة إلى سوط أو وحال يشد عليها. وفي هذا تعريض بالناقة التي أكثر الشعراء من وصفها في العصور القديمة.
وكانوا يستوحون من اسم الممدوح بعض المعاني. ومثال ذلك قول أبي النصر يمدح سعيداً.
هم رجال أحرزوا إسعادهم ... كيف لا والسعد في أمر السعيد
فالشاعر قد أتى في هذا البيت بإسعاد وسعد وسعيد.
وما فعل ذلك إلا لأن الممدوح يسمى سعيداً. فالجو الذي يشيع من اسم (سعيد) قد أملى على أبي النصر هذا البيت.
وقال السيد أباظة مشيراً إلى الأنباء الواردة بقدوم الخديوي إسماعيل
وما هي إسماعيل صبري لبعدها ... ولكنها إسماعيل بالنصر آتيا
فصدر البيت قد صنع خصيصاً ليظفر الشاعر بالجناس بين (إسماعيل) و (إسماعيل).
وقال عبد الله فكري في الخديوي توفيق:
نور تلألأ في جبين موفق ... للحق في توفيقه أسرار
والبيت كله من وحي اسم الممدوح.
وكانوا يستوحون المعاني أيضا من أسماء المدن التي يذكرونها في شعرهم. ومثال ذلك قول(860/23)
محمد النجار أحمد شعراء العرابيين مندداً بمن تعاون مع الإنجليز من المصريين.
في بور سعيد وغيره قد خنتم ... وفعلتم للإنجليز أمورا
فاستوحى من اسم بور سعيد معنى هذين البيتين.
بور لكم وسعيد طالع وقتنا ... ولكم بذا يوم يكون عسيرا
سارا بسعد الفال شعري ناطقا ... ولرب أشعار تكون جفورا
هذا ما يمكن أن يقال عن معاني الشعر في هذا الدور.
محمد سيد كيلاني(860/24)
المشكلة اليهودية والعالم
للأستاذ عدنان الكيالى
لعل أعظم الكوارث التي حلت بالعالم العربي منذ مئات السنين هي هذه الكارثة المروعة التي حلت به بإنشاء دولة يهودية في بقعة من صميم كيانه الأساسي فهزته هزا عنيفا وخلفته حائرا مذهولا، ثم ما لبثت الشعوب العربية أن أفاقت على الحقيقة القاسية فكادت تفقد الثقة في نفسها وفي زعامتها بل وفي المثل العليا التي كانت ترسمها وتحيا في ظلها. ولعل هذه الحالة النفسية السيئة التي يكاد يتردى فيها الشعب العربي أمر من الكارثة نفسها وأثكى ولعلها من الأهداف الرئيسية التي استهدفها اليهود وأعدوا لها عدتهم وساروا بها جنبا إلى جنب مع استعداداتهم المادية المباشرة. على أننا بحمد الله ما نزال من المؤمنين بإمكانيات هذه الأمة العظيمة وبطاقتها الكبرى الكامنة فيها بانتظار زوال هذه المحنة التي تجتازها. ولا شك أن الوجوم الذي قابلت به الأمة هذه النهاية المريرة وما يبدو أنه يتلوه من توثب وتحفز دليل على ما تنطوي عليه من مواهب ومزايا، ونذير بثورة فكرية شاملة تتناول الأوضاع الراهنة من أساسها، ولعلها تكون فاتحة عهد جديد في تاريخ هذه الأمة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
والبحث في هذه الكارثة يدعو المرء إلى تأمل أحوال اليهود وعلاقاتهم بالعالم وسر ما يتمتعون به من نفوذ واسع في معظم أنحاء الكرة الأرضية لا يتفق مع مظاهر ضعفهم وتشردهم في أنحاء المعمورة. وإنك لتلاحظ بدهشة مدى ما يستشعره نحوهم البشر على العموم من بغضاء وكراهية لم تستطع أن تحول بينهم وبين النفوذ الواسع والسيطرة الفعلية. ولقد كانت هذه الظاهرة رفيقة لهم في كافة عصور التاريخ وفي مختلف البلدان والأقطار وفي ظل معظم الأنظمة السياسية، وذلك بفضل ما يملكونه من ثروات واسعة يجمعونها بطرق شتى تمنع سائر البشر من مجاراتهم فيها مثلهم العليا الخلقية والإنسانية والدينية. وهنا يجدر بنا أن نتساءل عن سر سكوت العالم بأسره عن بقاء هذه الثروة الهائلة في أيديهم وخصوصا في العصور التي لم تكن مصادر الثروات فيه بالشيء المستهجن العجيب. . .
ومن الواضح أن معظم سكان الكرة الأرضية يحملون لليهود أمر شعور البغضاء(860/25)
والكراهية، وينظرون باستنكار واشمئزاز إلى الطرق الملتوية التي يجمعون بها الأموال الطائلة بغير حق، وهم مع ذلك يسكتون على هذا المكروه صاغرين، تارة باسم حرية العمل وحيازة المال في ظل الديمقراطية وتارة لعوامل أخرى سيأتي ذكرها. وبعض هذه الشعوب الديمقراطية، نفسها لم تتورع عن سوم العبيد في أمريكا أصناف الخسف والعذاب وحرمانهم أبسط حقوق الإنسان، وبعض هذه الشعوب نفسها فرضت أنظمة وقيودا على الهنود والشرقيين في أفريقيا الجنوبية بحيث جردوا تجريدا تاما من الحقوق الطبيعية الإنسانية بله السيطرة والنفوذ. والأمر في الظاهر بسيط التفسير فاليهود في الأمم الديمقراطية كما أسلفنا يتمتعون بموجب نظم تلك البلادبحرية العمل وحرية حيازة المال ويجمعون ثروات واسعة ما طبعواعليه من قدرة على جمع الثروة بمختلف الوسائل الشريفة وغير الشريفة، ويستغلون بالتالي هذه الثروة في فرض سيطرتهم على الصحافة ووسائل الدعاية وغير ذلك. . . وهم في البلاد الديكتاتورية يتوصلون إلى أغراضهم بجمع المال أيضا بطرق دنيئة خسيسة بحيث يتقربون بهذا المال إلى رجال الحكم والنفوذ، وبالتالي يسخرونهم في أغراضهم ودسائسهم المختلفة، ولكن أليس عجيبا أن هذا العالم بأنظمته المختلفة كثيرا ما ضاق ذرعا ببعض عناصر البشر ففرض عليهم قيودا جردتهم من أبسط حقوقهم الطبيعية رغم ضعف الأسباب والبواعث التي أدت إلى ذلك وتقاعس هذا العالم نفسه عن فرض مثل هذه القيود على اليهود؟ أما كان باستطاعة دول العالم بأسرها، لو شاءت، أن تحذو حذو هتلر فيما اتخذه من تدابير تؤدي في النهاية لو بقي له الأمر إلى خنق نفوذهم مهما بذلوا من نشاط.
فلماذا لم يتبع العالم مثل هذه الأساليب نحو اليهود وآثر أن يكبت ما يستشعره من مرارة نحو هؤلاء الطفيليين.
ليس الجواب عن هذه النقطة واضحا ميسورا. ولكن إذا خطر ببالك أن توجه السؤال إلى مسيحي متدين فسيكون جوابه بلا شك أن هذه هي إرادة الله، أو هذا هو ما أرادته التوراة. والذي يتتبع تاريخ بني إسرائيل ويلاحظ مدى ارتباط تاريخهم بتاريخ الديانات المختلفة ولا سيما الديانة المسيحية يلاحظ أن الدعاية والتهليل لبني إسرائيل يسود روحها ونصوصها بشكل عجيب. ويبدو أن اليهود كتدبير معاكس لروح البغضاء والكراهية السائدة ضدهم قد(860/26)
أفلحوا في بث سمومهم في مختلف مذاهب وعقائد البشر. والمتتبع لتاريخ اليهود والمحتك بهم يعلم حق العلم أن اليهودي يهودي قبل كل شيء آخر، مهما كانت تبعيته ومهما اعتنق في الظاهر من مبادئ وعقائد؛ فهو لذلك يتوسل لخدمة بني قومه بأية وسيلة، فلا يتورع عن التظاهر باعتناق الديانة الإسلامية إذا اقتضت المصلحة ذلك، وإذا شعر أن بإمكانه بث أفكار معينة في تقاليد ذلك الدين من شأنها أن تعود على اليهود بالنفع.
وفي التاريخ الإسلامي كثير من اليهود اعتنقوا الإسلام ويظن بأنهم مسؤولون عن اختلاق كثير من الأحاديث التي يراد بها تفكيك عرى الإسلام من جهة، وبث روح العطف على اليهود إذا أمكن من جهة أخرى.
أما الماسونية والشيوعية والفوضوية وما شابه ذلك من المذاهب السياسية والاجتماعية الحديثة فلا شك عندي بأن اليهود قد قاموا بدور كبير في إيحائها ونشرها، وذلك بقصد نشر الأفكار بين الناس بضرورة التساوي بين البشر في الحقوق بحيث لا يكون فرق بين يهودي وغير يهودي الخ. . . . يضاف إلى ذلك أنهم ما داموا قد فقدوا وطنهم وتفككت عرى مقوماتهم القومية فلا بأس أن يفككوا روح القومية الوطنية أينما وجدت. وما داموا عنصرا مضطهداً فلا بأس بأن يبثوا وينشروا أفكارا من شأنها إزالة الفروق العنصرية. وما داموا موتورين لهذا العالم الظالم - حسب رأيهم - فليؤلبوا فيه الرعاع على الطبقات الخاصة وينفسوا بذلك ما يعانونه من الكبت على العالم بأسره.
وعلى الجملة فإن الفضل في سيطرة اليهود وسعة نفوذهم ليس في الحقيقة راجعا إلى ثرواتهم الواسعة، لأن هذه الثروات مكن حصرها ووقفها عند حد، ولأنه يمكن لأية دولة وضع الأنظمة والأساليب التي تكفل القضاء تجاريا واقتصاديا على فئة من الناس يهمها القضاء عليها، وإنما الخطر كل الخطر هو في أن العالم لا يستطيع أن يضع مثل هذه الأنظمة التي تؤدي إلى القضاء على اليهود ماليا. ذلك لأنه يتأثر بالعقائد الدينية والأفكار المختلفة التي ينشرها اليهود أنفسهم والتي تحول بين العالم وبين تنفيذ مثل هذه الأنظمة؛ أي أن الخطأ ناشئ مما ينشره اليهود من الأفكار والعقائد التي يسممون بها عقول البشر بحيث تكون أشبه بشبكة من الأسلحة الفتاكة تظللهم وتقيهم شر خصومهم، على حين يبقون هم - أي اليهود - على أفكارهم وعقليهم التاريخية غير متأثرين بالأفكار الجديدة التي(860/27)
خلقوها هم أنفسهم. وإلى أن يتحرر العالم من هذه العقائد والأفكار اليهودية فلن تكتب له النجاة من شرور اليهود ونفوذهم وإذا أفلح اليهود في بث أفكارهم في وسط من الأوساط - وإنهم لناجحون في ذلك فعلا في معظم أنحاء العالم - أمنوا العدوان عليهم فينصرفون عندئذ بأساليبهم الجهنمية إلى جمع الثروات الواسعة فيدعمون بذلك كيانهم ويثبتونه. ولقد ساعدهم على ذلك كله ما تبرره لهم دياناتهم من إتباع لوسائل الدنيئة في الحياة.
واليهودية دين عجيب في العالم، أو هو الدين الوحيد الذي يعتقد أتباعه أنه بأنه خاص بهم ووقف عليهم، وإن الله خلقهم لسيادة هذا البشر وتسخيره في سبيل أغراضهم ومصالحهم؛ فهم لذلك لا يرحبون بأن يدخل في دينهم أحد لأنهم لا يحبون أن يشاركهم في المغانم التي وعدهم الله بها. والمسلم مثلا مهما بلغ به التعصب الديني يرحب بأن يشاركه في هذه السعادة - حسب اعتقاده - كل البشر لأنه يؤمن بأن الدين إنما أنزل لخير البشر أجمعين. وكذلك الحال بالمسيحي فإنه لاعتقاده بأن المسيحية دين نزل ليسعد ويهدي البشر عامة فهو يتوق إلى إشراك غيره من البشر في هذه السعادة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ومتى أصبح غير المسيحي مسيحيا فقد أصبحت له نفس الحقوق الأخرى التي يتمتع بها المسيحيون ويسعدون بإشراكه فيها. وهذا لعمري أقل ما ينتظر من دين سماوي محترم. ومن هنا ينشأ خلاف أساسي بين اليهود من جهة وبين سائر البشر - مسلمين ومسيحيين - من جهة أخرى؛ فإن بني البشر جميعا مهما اختلفت مذاهبهم السياسية وغاياتهم الدنيوية لا يستطيعون أن يتجردوا من إنسانيتهم تجردا تاما، ولا بد لتسكين هذه الحوافز الإنسانية من اعتناقهم لمذاهب دينية تهدف في النهاية إلى اشترك العالم بأسره في السعادة والخلاص. هذا ما يؤمن به المسلم ويعتقده المسيحي وما يحبه كل البشر بعضهم لبعض عدا اليهود الذين كما أسلفنا يعتقدون في إله يصطفيهم دون البشر ويقصر عليهم المغانم والامتيازات، وهو إذ يبسط عليهم كل هذا النعيم المنتظر يمنعهم بحرمان غيرهم منه.
وبعد فإن شعباً يحمل هذه العقيدة وينظر إلى البشر هذه النظرة لا يمكن أن ينسجم مع سائر البشر في حال من الأحوال. وإنك لتقابل رجلا من المسلمين مغالين في تعصبهم ولكنهم كلما غالوا في تمسكهم بشعائر الدين شعرت بتمكن العواطف الإنسانية منهم وتمنيهم على الله أن ينتشر الإسلام فيشمل كافة البشر ليظللهم أجمعين بالسعادة والاطمئنان. وهذا هو(860/28)
الحال مع المسيحيين وسائر أهل المذاهب والمعتقدات الدينية؛ فالمبشر المسيحي المغالي في عقيدته الدينية إنما يجوب الأرض ويطوف بها رغبة منه في إسعاد أكبر عدد من البشر وهدايته - من وجهة نظره - فهو من هذه الوجهة إنسان كمل الإنسانية. وهذا هو عكس الحال مع اليهود تماما؛ فكلما كان اليهودي أكثر رغبة في إقصاء غير اليهودي كان أكثر تدينا وأكثر إيمانا بوجوب تسخير بني البشر لليهود. ويعتقد اليهود أنهم كلما أمعنوا في ذلك كان عملهم أدعى لمرضاة الله عنهم. ولو تصفح القارئ كتابهم المقدس لوجد على ذلك أدلة كثيرة، ففي محاصرتهم لأريحا عند خروجهم من مصر إلى فلسطين يأمرهم الرب أن لا يبقوا على ولد صغير وامرأة عجوز من أعدائهم بل يذبحونهم جميعا، فتأمل. . ومن قبل يأمرهم قبل مغادرتهم مصر أن يسرقوا ما تصل إليه أيديهم من حلي النساء المصريات، أي أن الله تبارك وتعالى يحلل لهم أموال ودماء غيرهم من البشر وغير ذلك وذلك كثير. بيد أنني لأعجب من اعتناق اليهود لمثل هذه العقيدة بقدر ما أعجب من أن كثيرين من غير اليهود وممن يفرض بأنهم مثقفون متنورون يؤمنون بأن الله عز وجل يمكن أن ينزل مثل هذه الأوامر لا لغاية ردعية أو عبرة معقولة وإنما ليمتع شعبه المختار بسفك دماء بني البشر الآخرين. وكيف بالله يسوغ عقل جواز الجمع بين مثل هذه الروح الشريرة وبين الروح النبيلة السامية التي تتجلى في دعوة السيد المسيح عليه السلام إلى نشر السلام والوئام والحب بين بني البشر أجمعين.
ولست أشك لحظة في أن الدرس اليهودي تناول كل مرافق حياة البشر رغبة منهم في أن يخففوا من غلواء مقاومة البشر لهم وقد نجحوا في ذلك نجاحا ملموسا، فأينما رأيت اضطهادهم يزداد في بقعة من الأرض رأيت عقائد جديدة تنتشر في تلك البقعة من شأنها أن تؤدي إلى التخفيف من هذا الشعور نحوهم؛ ففي روسيا انتشرت المبادئ الشيوعية التي لا تعتبر العنصر أو الدين مقياسا للتمييز بين الناس، وكأنما جاءت هذه العقيدة علاجا للتخفيف من الشعور المر الذي كان الروس يحملونه لليهود. وفي القرون الوسطى حينما انكشفت للناس أعمال اليهود القذرة من ربا واستغلال واحتكار انتشرت إلى جانب ذلك الروح المسيحية المتدينة بين الفرسان ومختلف طبقات الشعب في ولا شك أن المتمسكين بشكليات الدين وحرفيته من المسيحيين لا يستطيعون أن يتحرروا من العطف على الشعب(860/29)
الذي تدور كل حوادث التوراة حوله. وكأنما لم يوجد البشر هذا العالم إلا ليستمتع ببحث شؤون هذا الشعب المصطفى وتتبع مراحل تقربه من الله أو ابتعاده عنه. وكأنما لا يستطيع الله أن يرسل أنبياء وهادين إلا من هذا الشعب المختار. ولا شك عندي في أن تقوى أهل القرون الوسطى والهالة التي يرونها تحيط بني إسرائيل في كتبهم المقدسة هي التي حالت بينهم وبين استئصال شأفة اليهود والقضاء عليهم في أوربا خلال تلك القرون. فهذه الهالة التي تحيطها كثير من الكتب المقدسة في العالم باليهود، وهذه الروح التي تبثها مختلف العقائد السياسية الحديثة من ديمقراطية وشيوعية وفوضوية والتي تشترك جميعها في عدم اعتبار الدين والعنصر أساسا للتمييز بين البشر؛ هذه العقائد في نظري هي المسؤولة الأولى عن الإبقاء على اليهود وإحاطتهم بضروب الحماية المختلفة وتركهم يعيثون في الأرض فسادا برغم ما عهده العالم بأسره فيهم من منافاة للطبائع والغرائز الإنسانية. وإني أعتقد مخلصا بأن العالم لن يصيب الراحة والهدوء ولن يسود السلم والاستقرار ما دام اليهود عنصراً فعالا فيه، وما دام بين الناس من لا يزالون ينخدعون بهم وينظرون إليهم نظرتهم لسائر أبناء البشر الآخرين. ولا مفر للبشر من اتباع أحد وجهين لا ثالث لهما لوضع حد لمفاسد اليهود وشرورهم، فأما أن ينبذوهم نبذا تاما ويقصوهم عن مراكز العمران في العالم يحصروهم في بقاع نائية حصرا لا مجال لهم معه إلى بث سمومهم في الناس. وإما أن يصدقوا النية في تغيير عقلية اليهود ومعتقداتهم بأخذ الأجيال الناشئة منهم وتربيتها تربية بعيدة كل البعد عن معتقدات آبائهم وأجدادهم بحيث يهدون إلى دين جديد كالإسلام أو المسيحية أو الكونفوشية أو البوذية أو أي عقيدة أخرى ويهذبون ويوجهون توجيها جديداً يتفق مع الخلق الكريم والمثل الإنسانية العليا لتصبح نفوسهم مثل نفوس سائر البشر. ولن يكون ذلك إلا بتفريقهم مجموعات بين الأمم بحيث ينسون لغتهم وتاريخهم ودينهم ويندمجون اندماجا تاما في الأمم التي يعيشون بينها ابتغاء حياة أسعد وأشرف لهم ولغيرهم من البشر. أما البريطانيون الذين أخذوا على أنفسهم تأسيس دولة لليهود في فلسطين فإنهم إذا لم يسارعوا إلى تدارك الأمر فسيكوون قريبا بنار ما جنوا ويحرقون معهم أجيالا من البشر وبقاعا من الأرض كانت قبلهم آمنة ومطمئنة البصرة.
عدنان الكيالى(860/30)
قلبي. . .
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
أُنفضي عنه نَداهُ ... واُنشقيهِ فهو زهره
غسلتها في سكون السّحر المفتون قطره
نفضَ الفجرُ عليها سحرهُ، والصبحُ بشره
وعلاها في الضحى النُّو ... رُ فنالت منه سرَّه
وبدتْ عند الأِصيل الأُرجوانيِّ كخمرة
عطف الليلُ إليها ... فمضى يفتح صدْرَهْ
ورأى الشاعرُ فيها ... مصدراً يلهم شعْرَهْ
فاقطفيها إنها قلبي. . . فما أروح عطره!
أرهفي السمع إليه ... إنه البلبل يشدو
ساهر الليل ولكن ... هو لا يضنيه سهدُ
أو تدرين الذي ينشد؟ لا تدرين بعدُ!
ملأ الجوَّ أغاريد فهذا الجوُّ عبدُ
ينقل الأنغام كالوحي، أميناً، فهي عهدُ
لم يضيعه ولكن ... سامع الأنغام صلدُ
كلهم للنوم عبدا ... نٌ، وللأوهام جندُ
فاسمعيه أنت فالبلبل قلبي بات يشدو!
املئي فهو كأسٌ ... لمستها يد ربي
جمعت فيه الأماني ... خضراً من كل صوب
وهو من صنع يد الأحلام في ليلة حبِّ
وهو أنقى من رؤى الشاعر في ساعة قربِ
انتشت منه العذارى ... وهو أسطورة غيب
كان مملوءاً ولكن ... جف من إدمان شربي
فاملئيه خمرة معصو ... رة من كرم حبي(860/32)
واشربيها فهي روحي ... واحفظيه فهو قلبي
أترين الجدول الجا ... ري في عطف الحليم
سكبت فيه اليالي ... من أشعات المجوم
أدمعا مازجن أنداء من الفجر الوسيم
كوثر الفردوس أوحا ... هـ إلى دنيا الهموم
فجرى يبعث فيها ... من تهاويل النعيم
راحة الله التي حطت على الكون الأليم
انهلي منه فما تعدله خمرُ الكرومِ
إنه قلبي على شطَّيهِ أطيافُ رسومي. . .
وإذا مرَّت بك الأيام تطوي الصفحات
وتلاشت من فم الدنيا معاني البسماِت
وتلاشت إِثْرهَا عندك ... أحْلىَ الذكرياِت
بَقِيَ العطرُ الذي استروحته من زهراتي
والصدى العذب الذي اسْتَطرَبْتِه من أغنياتي
وجلالُ النشوة الحُلْوة من كأس حياتي
وخريرُ الجدولِ الحا ... لم في هذا السباِت
فأعادت لك أحلا ... م الليالي الخالدات
حسن كامل الصيرفي(860/33)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي بافتتاح دورة المؤتمر السادس عشر، وقد جرى على أن تكون جلسة الافتتاح حفلا يدعو إليه جمهرة من رجال العلم والأدب، وقد امتلأ المكان بهؤلاء إلى جانب أعضاء المجمع من مصريين وأجانب شرقيين وغربيين. افتتح الجلسة معالي رئيس المجمع بكلمة وجيزة رحب فيها بالعضوين الجديدين، وذكر من توفي من الأعضاء بالثناء والترحم. وبعد ذلك ألقى المراقب الإداري للمجمع كلمة معالي وزير المعارف التي حيا بها الأعضاء وأشاد بما يبذلون من الجهد في النهوض باللغة العربية، ومما جاء في هذه الكلمة قول معالي الوزير: وقد يطرق مسامعكم حينا بعد حين، دعوة يصيح بها صائح من وراء الجدران السامقة، يريد أن يحملكم على شيء من التسامح والرفق في علاج بعض مشكلات اللغة، بتقبل بعض العامية في معاجم الفصحى، أو بمحاولة تفصيح بعض الكلمات الأعجمية، ولست أشك - وأنتم بالمكان الرفيع بين أهل العلم والفن والأدب - أنكم حين تستمعون لمثل هذه الدعوة ستضعونها تحت مجهر البحث والتحقيق، لتلائموا بين حق اللغة في وجوب حياطتها والمحافظة على سلامتها، وبين مقتضيات التطور الطبيعي في التعبير بهذه اللغة عن حاجات الحياة دون أن يكون لذلك أثر في سلامتها وفي خصائصها، فأنتم هنا حماة الفصحى وأنتم سدنة معبدها المقدس.
ثم ألقى الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع، كلمة أجمل فيها أعمال المجمع في عام، وقد قدم لها بمقدمة اعتذر فيها من إملال هذا السرد الذي يتكرر في كل عام، فكانت هذه المقدمة بمثابة إنذار. . . ولكنه لم يطل في ذلك بل أسرع إلى التعليق خشية أن يكون ذلك السرد كالرغيف يؤكل بلا أدام، والشطيرة تؤخذ دون أن تدهن بالزبد، كما قال، وقد كان الأدام أو الزبد تصويره لجهود المجمع ببعض التشبيهات التي منها أن هذه الجهود مثل طاقة الكهرباء في فعلها وأثرها مع فارق ملحوظ هو أن الكهرباء تؤثر في الأطوال البعيدة والأعراض الممتدة في لحظة يسيره ويصل تيارها إلى غاياته في لمح البصر، أما المجرى الذي يسير فيه التفكير اللغوي فتتكون مادته من نفوس الناس التي لا تتجانس كما تتجانس(860/34)
الأسلاك الموصلة، أي أن أعمال المجمع يعوقها اختلاف الناس عن سرعة السريان. . وقد سلك هذا السبيل الطويل لتبرير بطئ المجمع في أعماله! وقد أدركنا بعد ذلك أن سرد أعمال المجمع لم يكن مملا. .
وألقى الدكتور إبراهيم بيومي مدكور كلمة عن جهود المجمع في خمسة عشر عاما، أي منذ إنشاءه إلى الآن، وقد رض أهم الموضوعات التي تعرض لها المجمع وما أنجزه من الأعمال. وهو وإن لم يسلك سبيل الخيال الذي سلكه منصور باشا إلا أنه طول الكلام وعرضه في بعض المسائل الشكلية، وقد اتفق كلاهما في دفع ما يتهم به المجمع من البطيءوالتكاسل وضرب المثل بالمجمع الفرنسي في ذلك.
وألقى معالي السيد محمد رضا الشبيبي كلمة موضوعها (بعث العربية) تحدث فيها عن عصور التأخر اللغوي ومرحلة النهوض الحديث، والموضوع وإن كان مطروقا إلا أنه أتى في ثناياه بما أكسبه بعض الجدة وشيئا من القيمة. وقد قال بعد أن ذكر المجامع العلمية واللغوية واهتمام مجمع فؤاد الأول بتأليف المعاجم - قال: يجب أن نرى بين معجمنا الحديث المنشود وبين معجماتنا القديمة اختلافا بينا في المادة والجوهر، وفي كيفية التكوين والتأليف، فإن معجما يوضع لسد حاجة هذا الجيل وما يليه من أجيال لهو غير المعجمات القديمة، بل نحن نذهب أيضاً إلى أبعد من ذلك فنقول إن معجمنا الحديث يجب أن يختلف أيضاً عن هذه المعجمات الحديثة التي وضعها المعاصرون في مصر ولبنان والشام. نريد معجما يوضع على غرار أحدث المعجمات اللغوية المصنفة في اللغات الأوربية الحديثة من حيث الدقة والإتقان والاستيعاب. نريد معجما يعني واضعوه بتاريخ الكلمة وكيف تحولت مدلولاتها بتحول العصور على أن تكون عنايتهم معززة بالشواهد والنصوص المقتبسة من آداب لغتنا العربية في مختلف عصورها، على النحو المتبع في المعجم الإنجليزي المعروف بمعجم اكسفورد.
وكانت الكلمة الأخيرة للأستاذ ماسنيون وكان موضوعها (خواطر مستشرق في التضمين) وقد صاغها على طريقته لمعروفة في التعبير الرمزي، ومما استطعت أن أعيه من عبارات هذه الكلمة قوله: التضمين هو نوع من نبض الفكر لاستخلاص الجوهر من الأصول اللغوية الثلاثية المثبتة في المعجمات، وإن من فضل اللغات السامية، وبخاصة اللغة(860/35)
العربية، تعدد المعاني واكتنازها في أصل لغوي واحد، واجتهاد الكاتب في أن يتعمق في هذه المعاني لإحكامها وإخضاعها لأقدم معنى يصل إليه. وهذا النوع من الهجرة العقلية في خلوات التأمل. ومن عباراته أيضاً أن المستشرقين المحدثين يشبهون وجوب الإصلاح في اللغة بالاغتراب في الزواج لأنه لا فائدة من استعمال حجاب الكلمات مع ذوي الأرحام.
قال لي صاحبي ونحن نستمع إلى الأستاذ ماسينيون: يظهر أن مذهب (السريالزم) قد وصل إلى اللغة!
فلم الأسبوع
هو فلم (بنت العمدة) الذي عرض في الأسابيع الأخيرة بسينما الكورسال، وهو من تأليف وإخراج عباس كامل، وتمثيل هاجر حمدي وكمال الشناوي وهدى شمس الدين وآخرين. وتتلخص القصة في أن الدكتور عادل (كمال الشناوي) شاب تخرج حديثا في كلية الطب ويعمل في عيادته الخاصة مكبا على عمله؛ يأوي إلى زوجته القروية (هاجر حمدي) وهي ابنة عمه العمدة، وتبدو هذه الزوجة منهمكة في أعمال البيت من طبخ وكنس وغسل وغيرها منصرفة بذلك عن العناية بنظافتها وزينتها حتى لا يكاد زوجها يشم منها غير رائحة الثوم والبصل. تقتحم عليه العيادة الرقاصة لولا (هدى شمس الدين) لعلاج خدش في ركبتها فتغريه بها حتى يندفع معها إلى آخر الشوط. ويهمل زوجته بل يضيق بها ويعما على إبعادها إلى القرية مرارا لخلو له الجو. وأخيرا تكشف الزوجة الأمر، وعندما ترى الرقاصة توشك أن تستلب منها زوجهاتهرع إليها وتهددها وتحملها على أن تتفق معها على حيلة تقومان بها. تظهر عزيزة راقصة في المرقص الذي تعمل به لولا، ويراها زوجها الدكتور عادل فيفتتن بها وهو لا يعرفها، وتصل بينهما لولا فيبثها هواه، وتمعن هي في الأغراء والدلال حتى تطلب إليه أن يتزوجها ويطلق زوجته ثم تبين له أنها هي زوجته، فيعتذر إليها ويستأنفان حياتهما سعيدين.
والفلم من أفلام هذا الموسم التي توالى ظهورها أخيرا جاعلة همها اجتذاب الجمهور بعرض الرقص والفكاهة والغناء، إلا أن به موضوعا هو تصوير الزوجات اللائى لا يعنين بمظهرهن أمام أزواجهن الذين يضطرون إلى التماس المتعة في الخارج. ولكن الموضوع لم يوجه توجيها حسناً ولم يعالج على نحو طبيعي، وقد سيقت الحوادث كما أرادها المؤلف(860/36)
المخرج رغم طبيعتها، فقد جعل الأبطال يتصرفون وفق رغبته في حبك القصة، لا كما تقضي طبائع الأمور؛ فهذه الزوجة القروية الساذجة التي يتبرم بها زوجها ويمعن في احتقارها فلا تدرك تغيره ولا تشعر أن شيئا غير عادي وقع له حتى تفاجئها الحقيقة سافرة - هذه الزوجة نراها قد انقلبت بقدرة المؤلف رقاصة من طراز غربي مرة واحدة! وامتدت هذه القدرة كذلك إلى خادمها الفلاح عبد الموجود (عبد الغني السيد) الذي أحضرته من القرية، فجعلته شابا (مودرن) يغني لها وهي ترقص! وعلى أي أساس اتفقت لولا وعزيزة على تلك الحيلة؟ وكيف رضت الأولى وهي التي تعمل على استخلاص الزوج لنفسها؟ لأن عزيزة هددتها بالمسدس! كان يكفي أن تتخلى الرقاصة عن الزوج إزاء تهديد الزوجة، ولكن قدرة المؤلف المخرج فوق الطبيعة، فقد أبت إلا أن تجعلها تدبر لها لتعيد إليها زوجها. . . ولم يتعذر على المخرج أن يجعل الزوج لا يعرف زوجته وهي في دور الراقصة؛ فحسبه أن يضع على عينيها عصابة سوداء تشبه النظارة، وتتسرب القدرة الفائقة إلى عقل الزوج فتجعله - وهو الذكي المثقف - تخفى عليه شخصية زوجته لأنها لبست حلة الرقص ووضعت على عينيها منظاراً أسود!
وقد رأينا الدكتور عادل يقع سريعا في حب لولا الرقاصة مع أنه ظهر في البدء مستقيما مجدا في عمله، دون أن يتنبه ضميره فيتردد ولو قليلا فيكون هناك شيء من الصراع النفسي، ولكن الجهد منصرف بسرعة إلى مواقف الرقص فليس هناك وقت لمثل هذا التحليل.
وكان ظاهراً أن الغاية من مناظر القرويين الإضحاك بالمفارقات بين أوضاع المدينة والقرية، وما في ذلك بأس على أن يكون في حدود المعقول، ومن المقبول في ذلك منظر العريس وبيده كرنبة يأكل أوراقها ويقشر رأسها في حفلة الزفاف؛ ولكن هناك مناظر بولغ فيها إلى درجة غير مقبولة، مثل منظر عزيزة بنت العمدة وزوجة الدكتور تهبط من سيارة عامة فيحملها أحد الفلاحين ويركبها حمارا ثم يبلغ بها الحمار إلى حيث اصطف لاستقبالها تلاميذ المدرسة الإلزامية بقيادة الناظر في شكل مزر، ولست أدري أين يقع مثل هذا! ومما لا يقع أيضا أن ترقص بنت العمدة شبه عارية أمام الرجال في عرس قريبها إلا أن تكون هاجر حمدي ويكون هناك مخرج يحرص على تهيئة مواقف ترقص فيها. . . وقد تكررت(860/37)
هذه التهيئة في غير موضعها. وقد أفسد هذا الاتجاه إلى الاستعراض الكثير من المواقف وأدى إلى الاضطراب والتناقض في تصوير شخصية عزيزة، فآنا لم ندر أهي فتاة قروية ساذجة أم هي هاجر حمدي (الأرتست) الرقاصة. . . فقد كانت تنقلب من الأولى إلى الثانية بدافع الرغبة الشديدة في (الاستعراض) دون التفات إلى ما ينبغي من مراعاة المنطق الطبيعي لتسلسل الحوادث. وكان التمثيل لا بأس به على العموم، فكانت هاجر حمدي موفقة في تصوير شخصية الفتاة القروية، غير أنها كانت في موقف تتكلم بلهجة قاهرية وفي آخر تنطق بلغة قروية دون داع إلى هذا الاختلاف. أما هدى شمس الدين فهي فتاة جميلة ولكن تمثيلها قليل الحظ من الحيوية والتعبير، وكذلك كمال الشناوي. وقد مثل عبد الغني السيد شخصية الخادم الفلاح عبد الموجود فأحسن كما أحسن في الغناء الريفي، ولكنه عاد في المرقص إلى غنائه العادي الذي تسمعنا إياه محطة الإذاعة ومن الشخصيات الفكاهية الظريفة محمد كامل في دور الممرض وعبد الحميد زكي في دور العمدة.
عباس خضر(860/38)
البريد الأدبي
القصيدة الأسدية
اطلع زميلنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي على قصيدة صديقه الأمير شكيب المنشورة في العدد 858 والتي قالها عقب شفاءه من مرض ثقيل فأنشدنا قصيدة له في معنى قصيدة الأمير قالها في شهر أكتوبر الماضي وقد أصيب بخراج خطر قيل أنه المسمى بكف الأسد (شيربنجه) فعولج بالبنسلين وشفى. وقد أطرف بهذه القصيدة رفاقه (الشيوخ) بدمشق وأنشدها في ندوتهم مداعباً مفاكهاً وهاهي ذي:
كفكفت كفك يا أسد ... يا أيها الخصم الألد
بالله ثم البنسلين ... وقل هو الله أحد
وأويت من ربي ورحمته ... إلى ركن أشد
أنشب ظفرك في لا ... ترثى لبنت أو ولد
أو صاحب يرجو لي الإ ... بلال من سقم الجسد
ونسيت في الآجال ما ... حكم الإله وما وعد
هذا يعجل حتفه ... وحياة ذا أنسا ومد
أرسلت طير الشؤم من ... قضاً فحام وما ورد
وسللت سيف البغي منسلطاً ... فحاك وما عضد
ورميت سهمك خلسة ... فأصاب درعاً من زرد
إن كنت ترصد موتتي ... فالبنسلين لك الرصد
أو إن أردت مساءتي ... فالله ربي لم يرد
وأراك مغرى بالشيو ... خ تسومهم برح الكمد
متهدداً متوعداً ... لا بالصداع ولا الرمد
بل بالتصلب والحصا ... والضغط أو ريح السدد
والفلج والرثيات أو ... مرض المثانة والدرد
والكل سهل هين ... في جنب تخليط الفند
هي علة الرأس لكن ... ذكرها عم البلد(860/39)
هي علة في النكر تح ... كي الكفر بالله الصمد
هي علة قد رد صا ... حبها إلى عمر نكد
من بعد علم لم يعد ... يدري ولا سرد العدد
هي علة أيعيش صا ... حبها بجد أم بدد
عدوه في الأحيا وفي ... الأموات أجدر أن يعد
فاعجب له يمشي على الأ ... رضين هاماً قد لحد
يا رب تلك شكيتي=فاغفر ووفق للرشد
عبد القادر المغربي
إلى الأستاذ كامل محمود حبيب:
حضرة الأستاذ الأديب العربي الألمعي؛ أحمد الله إليك والسلام عليكم ورحمة الله. وبعد فإني أعلم أنك كنت صديقا لإمام الأدب وحجة اللغة عبقرينا الرافعي. لهذا أرى أن للعربية حقا عليك تؤديه بعمل تنشر به للرافعي ذكرا جديدا وتلفت إلى أدبه (الباعث لأمة) وأقترح أن يكون هذا العمل كما يأتي.
أولا - جمع ما أثنى به الكتاب والعظماء على الرافعي وهو شيء كثير يؤلف مجلدا ضخما أو أكثر وما رأيت أحدا يثني عليه بمثله وفيه أبلغ القول وأجمله.
ثانيا - جمع كل ما عرف له من شعر ونثر والمبالغة في هذا الجمع حتى لا يفلت مما أثر عنه شيء.
ثالثا - السعي لإنشاء كرسي لأدبه في الجامعة فما هو بأقل من شوقي، ولا منزلته بأقل من منزلته، بل له ميزة لم يشاركه فيها أحد وهي إلزامه نفسه إلا يكتب - وما أدراك ما كتابته - إلا في مثل الشرق والإنسانية العليا.
وأما بعد فإن الجو العقلي والوجداني قد تهيأ لأدب هذا العبقري والمسؤولية اليوم على عارفي أدبه فإن أفلتوا الفرصة وأضاعوا (شمس الأدب) فإن للتاريخ لعتابا ولوما. أما أملي فيك أيها الألمعي فهو أبلغ من الرجاء لأني أدعوك إلى ما تحب بل إلى ما تجاهد في سبيله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(860/40)
محمود الطاهر الصافي
برمل الإسكندرية(860/41)
رسالة النقد
نهضة العراق الأدبية القرن التاسع عشر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
لندع هذا ونتحدث عن إعجابنا بموقف الدكتور من الرثاء عند السيد حيدر ولا سيما في رثائه لأل البيت وبخاصة الإمام الحسين، فقد وفى الدراسة هنا عمقا وتحليلا وتحدث عن العوامل النفسية والثقافية التي هيأت للشاعر هذا الجو الفسيح وكونت منه شاعراً متين التعبير قوي العاطفة مشبوب الإحساس يستطيع أن يحلق بجناحين من صدق الشعور والأداء مع الشريف الرضي ومهيار الديلمي. وأهم هذه العوامل كونه علوي النسب يتصل بالإمام الحسين، وكونه نشأ يتيما فقيراً، ثم ثقافته التي تلقاها في مدينة الحلة تحت رعاية عمه السيد مهدي الشاعر المعروف وتردد على أندية بغداد والنجف حتى ذاعت شهرته في العراق بما وهب من قلبه للألم والحسرة، ومن لسانه للتعبير الصادق، فترك سبعا
وعشرين قصيدة معظمها في مأساة الحسين وكلها من وحي الألم الدفين واللوعة المكبوتة. ومن هذه الروائع قوله في قصيدة يرثي بها الإمام الحسين ويبدؤها بالفخر والتحسر:
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم ... فلا مشت بي في طرق العلا قدم
لا بد أن أتداوى بالقنا فلقد ... صبرت حتى فؤادي كله ألم
عندي من العزم سر لا أبوح به ... حتى تبوح به الهندية الخذم
لا أرضعت لي العلا ابنا صفو درتها ... إن هكذا ظل رمحي وهو منفطم
والقصيدة طويلة فيها من الملاحم تصوير البطولة في أعنف أدوارها، ومن المآسي نهاية هذه البطولة إلى القتل الشنيع، ذلك هو موقف الحسين كيف بدأ وكيف انتهى. وكل قصائد السيد حيدر في فاجعة كربلاء لا تقل أهمية عن هذه القصيدة من حيث التصوير والعاطفة.
وكنت أود من الدكتور أن يضع السيد حيدراً في مصاف شعراء المآسي أمثال (إشيل) و (اسفوكل) و (اوروبيد) قبل أن ينتظر منه آلام (فرتر) وتأملات (لامارتين) فإن المآسي توجد في كل زمان ومكان. وقد وجد السيد حيدر مأساة حقيقية علقت دماؤها بالفرات وامتد(860/42)
شفقها الأحمر إلى ما وراء ذلك فأطلق لها لسان الشعر يصبغه بمشاهدها الحزينة وألوانها الحمر ويسبغ عليها من القصة حبك الأسلوب وربط الحوادث وروعة التصوير. ولا تزال - تحتل المكانة الأولى من قصائد السيد حيدر - وستبقى في مواكب عاشوراء في العراق وغير العراق.
وتحدث الدكتور عن الشيخ التميمي وسماه (أبا تمام الصغير) لأن المترجم له كان مولعا بشعر الطائي معجبا به مقتفيا أثره في البديع والتلوين اللفظي وإن لم يدرك شأوه. ولولع التميمي بالطائي رثاه بقصيدة على ما بينهما من بعد في الزمن. ودراسة الدكتور لهذا الشاعر لا تعدو ترجمة حياته العلمية والمادية مع شيء من المقارنة بينه وبين أبي تمام. ولكنها على كل حال دراسة قيمة ذات شأن في تاريخ هذا الشاعر.
وممن تحدث عنهم الدكتور البصير شاعر أثير في نسبه ومكانته السياسية والأدبية وهذا الشاعر هو عبد الباقي العمري الموصلي، ففي نسبه يتصل بالخليفة عمر ابن الخطاب، وفي مكانته السياسية كان نائبا لوالي الموصل فنائبا لوالي بغداد وهو منصب له خطره وشأنه في ذلك الوقت، وفي مكانته الأدبية كان شاعراً من الطبقة الممتازة في عصره. وكان لشعره صدى عظيم في مدن العراق وقد ساجله وقرظ شعره طائفة كبيرة من شعراء عصره منهم السيد حيدر والأخرس، وأنتج غير مؤلفاته الأخر ديوانين من الشعر أحدهما (الترياق الفاروقي في منشآت الفاروقي) وقد طبع في مصر، ويشمل هذا الديوان قصائده السياسية والاجتماعية وما قاله في المدح وفي مطارحاته مع الشعراء، ومن أبدع النماذج التي اختارها الدكتور من هذا الديوان قول الفاروقي في وصف التلغراف.
ذو نقرات تسمع الصم الدعا ... وكم بها من عبرة لمن وعى
نهاية الإيجاز في تقريره ... وغاية الإعجاز في تعبيره
مسافة العام مع العامين ... يقطعها كطرفة في العين
في لحظة من مركز الخلافة ... يسري فينتهي إلى الرصافة
وسيره في سائر الأقطار ... ألطف من طيف الخيال الساري
إن الذي أبدعه تخييلا ... (مستوجب ثنائي الجميلا)
أما ديوانه الثاني فهو (الباقيات الصالحات) ويشتمل على مدائحه في النبي الكريم والإمام(860/43)
علي وأولاده من الأئمة الإثنى عشر، والذي يجب أن يقال: أن العمري لم يكن شيعي المذهب ولكنه يظهر في ديوانه هذا صاحب فكرة واضحة فهو يحمل إلى جانب إحساسه الديني شعوراً سياسياً يتجلى كل منهما في حملته الشعواء على بني أمية لجعلهم الخلافة وراثية بعد أن كانت انتخابية، ويتعرض لمصرع الحسين في كربلاء بأكثر من قصيدة ويحكم بكفر يزيد بن معاوية، ومما قاله في بني أمية:
واحربا يا آل حرب منكم ... يا آل حرب منكم واحربا
لكم وفيكم وعليكم وبكم ... ما لو شرحناه فضحنا الكتبا
ومن أشهر مدائحه في النبي (ص) قصيدته التي يقول فيها:
تخيرك الله من آدم ... ولولاك آدم لم يخلق
كما أن له في الإمام علي قصائد مشهورة منها التي يقول في أولها:
أنت العلي الذي فوق السما رفعا ... ببطن مكة وسط لبيت إذ وضعا
وقد شرحها أبو الثناء الآلوسي. ومن هذه القصائد قصيدة مشهورة يصف بها رحلته النهرية إلى الكوفة وهو قاصد زيارة الإمام علي ففيها إلى جانب المدح وصف رائع للسفينة التي أقلته إلى الكوفة:
بنا من بنات الماء للكوفة الغرا ... سبوح سرت ليلا فسبحان من أسرى
تمد جناحا من قوادمه الصبا ... تروم بأكتاف الغري لها وكرا
والغري أسم من أسماء النجف، وكان المنتظر أن لا يغفل الدكتور هذه القصيدة من بين ما اختاره للشاعر فهي من روائع الشعر.
ومن أبياته المشهورة في رثاء الحسين قول يخاطب نهر الفرات:
بعداً لشطك يا فرات فمر لا ... تحلو فإنك لا هنى ولا مرى
أيسوغ لي منك الورود وعنك قد ... صدر الإمام سليل ساقي الكوثر
ومن طريف ما يذكر عن وفائه لأصحابه ببيتان كتبهما على ديوان الشيخ صالح التميمي الذي سبقت الإشارة إليه وهما:
نعم، رب هذا الشعر قد كان صاحبي ... يلائمني في فنه وألائمه
وقفت على ديوانه بعد بعده ... (وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه)(860/44)
وتحدث الدكتور عن عبد الغفار الأخرس فتناول شعره وحياته خير تناول وسايره في كل المواضيع التي نظم فيها ماعدا ناحية واحدة لا أدري لماذا أغفلها الدكتور وهي ناحية الألم والحزن والتبرم بالحياة، فالأخرس إلى جانب مجونه ولهوه وما يصوره شعره من هذا المجون واللهو كان يضيق بدنياه في كثير من اللحظات ولا سيما أن حياته المادية كانت ضنينة النبع - فيتألم ويصف ألمه، وفي ديوانه ما يكفي لتسجيل هذه الظاهرة وقد أتناول هذه الناحية عند الأخرس في فرصة أخرى.
وفي الكتابة عدا هؤلاء دراسات وافية عن السيد جعفر الحلي والسيد إبراهيم الطباطبائي أستاذ الشيخ محسن الكاظمي دفين مصر. وعن الشيخ محمد - أو الشيخ حمادي - نوح والشيخ محسن الخضري النجفي، والشاعر العاشق الشهير الشيخ عباس النجفي صاحب القصيدة النونية التي أشرنا إليها في معرض الحديث عن الحبوبي.
كما تحدث بإفاضة واستيعاب عن العالم الشهير السيد محمود الآلوسي الحسيني صاحب المؤلفات الكثيرة ومنها تفسيره الشائع في مصر والبلاد العربية والمسمى (روح المعاني). وعن الشيخ جعفر الشرقي النجفي والد الشاعر الكبير الشيخ علي الشرقي عضو مجلس الشيوخ ووزير الدولة ببغداد. ودراسات أخرى لشعراء وعلماء آخرين. وفي خاتمة الكتاب استطراد لهؤلاء الشعراء واستعراض لقيمة هذه النهضة الأدبية في العراق ومقدار ما تتسم به من مكانة بالنسبة للقرون الهجرية الأولى. ثم مقارنة بين مركز العراق الأدبي في القرن التاسع عشر وبين مركز الآداب في البلاد العربية الأخرى؛ وهنا يصرح الدكتور بأن مركز العراق الأدبي في هذا القرن يبذ البلاد العربية جميعا سوى مصر التي أنجبت البارودي وإن يكن في العراق ثلاثة من أمثاله آنذاك.
وفي الكتاب ملحق تضمن دراسة شاعرين ممن تحدث عنهم في محطة الشرق الأدنى أولهما السيد عبد المطلب وهو ابن أخ السيد حيدر الحلي السالف الذكر، والثاني أبو المحاسن الشاعر الكربلائي ووزير المعارف في وزارة جعفر باشا العسكري سنة 1923 وقد توفي بعدها بقليل. وكان الأنسب ألا يقحم هذا الشاعر الأخير مع هؤلاء الذين تقدموا لا من الناحية الشعرية بل من الناحية الزمنية.
والذي يجب أن نختم به كلمتنا عن هذا الكتاب الذي استصفاه الدكتور البصير من ينابيع(860/45)
متعددة فأجراه في جدول فياض رقيق الحواشي هو القيمة التاريخية بل القيمة الأدبية والفنية. فإن هذا الكتاب قد جمع أشتاتا من صفحات الأدب كانت متفرقة هنا وهناك، وظلالا من الشعر كانت متباعدة تجهد الرائد والمتتبع، وأكثر من هذا الذي قلناه أن الكتاب لا يستغني عنه من يريد أن يؤرخ للأدب العربي الحديث تاريخا صحيحاً شاملا. فإلى الدكتور البصير شكرنا الجزيل على ما أسداه للمكتبة العربية وللأدباء والباحثين في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفاته الأخر.
إبراهيم الوائلي(860/46)
العدد 861 - بتاريخ: 02 - 01 - 1950(/)
في ذكرى مولد الرسول
على جبل النور
قضى الصادق الأمين محمد بن عبد الله خمساً وعشرين سنة في شعاب مكة وبطاحها يتيماً فقيراً ثم راعياً صغيراً، ثم تاجراً أجيراً، فلم ينعم بدفء الفراش كمن له أم، ولم يجلس أمام المعلم كمن له مال؛ وإنما تولى الله تأديبه وتهذيبه، لأنه أراد لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده وسلطانه أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقرأنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع للعقول، وكلمته أعلق بالأفئدة، فكمله بالخلق العظيم والحياء الوقور والصبر المطمئن واللسان الصادق والذمة الوثيقة والقلب الشجاع، ثم طهره من أرجاس الوثنية وأوزار الجاهلية، فلم يشرب الخمر، ولم يأكل الربا، ولم يلعب الميسر، ولم يشهد اللهو، ولم يعن وجهه لصنم.
ثم شاء الله لمصطفاه أن ينعم بسكينة القلب ورفاه العيش خمس عشرة سنة أخرى بعد ذلك في ظلال زوجه الغنية الوفية خديجة بنت خويلد استعداداً لأعباء الرسالة وكاره الدعوة ومجاهدة الشرك. وكان النبي الكريم في هذه الفترة الهادئة السعيدة يؤثر الوحدة ويطيل السكوت ويديم التفكير: يفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في أمر قريش والعرب، ويسأل نفسه: من الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، ودبر أمر هذه العوالم، ونظم سير الكواكب؟ فتجيبه: إله آخر غير اللات والعزى ومناة، لا يحل في بشر، ولا يتمثل في حجر، ولا يتحيز في مكان. فيفكر محمد ويطيل التفكير، ويبحث النبي ويعمق البحث، ويتعبد المتحنث ويكثر التعبد. فإذا جاء شهر رمضان من كل سنة، هجر المهاد اللين، وفارق الزوجة الحنون، وتزود الزاد اليسير، ثم صعد إلى جبل حرّاء على 1500 متر من شمال مكة، ليستعين بالصوم والاعتكاف على استجلاء الحقيقة. وهنالك على قمة الجبل المخروطي الشاهق، وفي صمته الملهم الرائع، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق. فإذا جنه الليل أرسل نظره وفكره في أشعة القمر أو في أضواء النجوم، يستطلع المجهول، ويستجلي الغامض، ويرقب انبثاق النور عن الخالق، وانكشاف الستور عن الحق. حتى إذا أجهده التفكير وأرهقته الحيرة، آوى إلى الغار الموحش النابي فيستلقي على صخره سويعات ثم يستيقظ قبل أن(861/1)
تغور النجوم، فيتعبد ويتجه بروحه اللطيف الصافي إلى الملأ الأعلى، حتى يتهيأ بطول الرياضة والعبادة والخلوة إلى تبليغ الرسالة، فرأى في الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان من السنة الحادية والأربعين من مولده صلوات الله عليه وهو نائم في الغار أن رجلاً جاءه بنمط من ديباج فيه كتاب وقال له: أقرأ. فأحس كأن الرجل يخنقه ثم يرسله ويقول له: أقرأ. فقال: ما أقرأ. فعاد إليه بمثل ما صنع وقال له أقرأ. فقال له: ماذا أقرأ؟ خشية أن يعود إليه بمثل ما فعل. فقال له: (أقرأ بأسم ربّك الذي خلق؛ خلق الإنسان منن علق؛ أقرأ وربُّك الأكرم؛ الذي علّم بالقلم؛ علّم الإنسان ما لم يعلم) فقرأها وانصرف الرجل عنه وقد نقشت في لوح قلبه.
وما لبث أن هبَّ من نومه فزعاً مذعوراً يدير بصره في الأرض، ويجيل طرفه في السماء. ثم تمثل له في اليقظة ما رآه في المنام فأدركه الخوف على نفسه فأنطلق مسرعاً إلى السكن الذي يسكن إليه، وإلى الصدر الذي يحنو عليه، فتلقته خديجة بالنظر المشفق والقلب العطوف، فقال لها وهو ينتفض كأن به مساً من الحمى، زملوني فزملته، حتى إذا ذهب عنه الروع وعاودته السكينة، نظر إلى زوجه نظر اللائذ العائذ وقال لها، يا خديجة، مالي؟ وحدثها بالذي رأى، فطمأنته وقالت له: (أبشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمّة. والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
وفتر الوحي مدة جزع لها محمد وقلقت خديجة، ثم نزل على قلبه الروح الأمين بقول الله تعالى: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر) فقام بأعباء الرسالة والتبليغ ثلاث سنين في طي الخفاء، حتى أوحى الله إليه: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، وأنذر عشيرتك الأقربين) فعالن بالدعوة قريشاً وسفه أحلامها وعاب أصنامها، فكاشفوه بالعداء، وقصدوه بالإيذاء، وهو يتقي كيدهم بجنة صبره وعدة إيمانه، ومن وراءه عمه أبوطالب يذود عنه ويحميه، وزوجه السيدة خديجة تواسيه وتقويه. ولكن قريشاً أنذروا أبا طالب لئن لم يكف أبن أخيه عما هو فيه ليقاتِلَنَّهُ هو وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فلما أعاد أبو طالب قولهم على سمع الرسول أجابه ذلك الجواب الذي خيَّس أنف الشيطان، وغيّر وجه الزمان، وحسم الأمر بين التوحيد والشرك، قال: والله يا عمُّ، لو وضعوا الشمس في يميني،(861/2)
والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونَهُ) فلم يسع العم النبيل إلا أن يقول له: (أذهب يا أبن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيءٍ تكرهه أبداً).
عند ذلك تألبت على الرسول عناصر الشرك جمعاء، فأصيب في بدنه، وأتهم عقله، وأوذي في أهله، وعذِّب في صحبه. ثم فجعه الموتُ في عمِّه الشهم وزوجه المخلصة في يومين متقاربين من ألسنة العاشرة للرسالة، فأشتدَّ عليهما حزنه، وحرج بعدهما في مكة مقامه، فخرج منها إلى الطائف يدعو ثقيفاً إلى الله فأغروا به صبيانهم وسفهاءهم فقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه، فلجأ إلى بستان يعصمه منهم، وتفيء شجرة من شجر الكرم وهو يدعو الله ويقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربّي. إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي).
ولما نبت قفار مكة على الغراس الإلهي انتوى الرسول الهجرة بالمسلمين إلى المدينة، وقد أسلم فيها جماعة من الأوس والخزرج، فأحس المشركون منه هذا العزم فائتمروا به ليقتلوه. ولكنه خرج ليلة اجتماعهم على قتله هو وصديقه أبو بكر إلى طيبة، تكلؤهما عين لا تغفو وقوة لا يقام لها بسبيل. وهنالك تجلّت في الرسول مواهب الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس، فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثر باللسان، وقهر باليد. وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل. فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة؛ كان رسولاً في الدين، وعلماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب. وبهذه المواهب التي نشأت في محمد بالفطرة، وانتقلت إلى أصحابه بالقدوة، أصبح الإسلام الذي بدأ بخديجة وعلى وأبي بكر وزيد، دين الناس ودنيا العالم؛ يقف به في آخر الغرب عقبة بن نافع على شاطئ المحيط الأطلسي ويقول وقد خوض جواده في الماء: (اللهم ربَّ محمد! لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك. اللهم أشهد) ويتجه به إلى آخر الشرق قتيبة الباهلي، ويأبى إلا أن يوغل في بلاد الصين، فيقول له أحد أصحابه محذراً: (لقد أوغلت في بلاد الترك يا قتيبة والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر) فيجيبه قتيبة: (بثقتي بنصر الله توغلت.(861/3)
وإذا انقضت المدة، لم تنفع العدة) فيرد عليه المشفق المحذر: (أسلك سبيلك حيث شئت، فهذا عزم لا يقله إلا الله).
فليت شعري يا علماء الإسلام ويا زعماء العرب، ماذا في نفوسنا وأيدينا من دين محمد وأخلاق محمد وتراث محمد؟ ألسنا نعيش اليوم مسلمين من غير إيمان، ومستقلين من غير سلطان، ومتحالفين من غير ألفة؟ وهل كان ذلك يكون لو اتخذنا من أحكام الله منهاجاً ومن وصايا رسوله علاجاً ومن حياة السابقين الأولين قدوةً؟
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام وطغيان الحكام وسلطان الجهالة. فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!
أحمد حسن الزيات(861/4)
المكانة العالمية للإسلام في هذا العصر
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
بعد أن مرت على النوع الإنساني عشرات من القرون في حالة تنازع للبقاء، ثم لطلب السيادة وبسطة السلطان، جرياً على عادات جاهلية فرضتها الحاجات الجسدية تارة والميول الهوائية تارة أخرى. وتبعت هذه التعديات تصرفات ومجريات تعسفية، أملتها على المتغلبين الغرائز الحيوانية، والطبائع الوحشية، فأصبحت رسوماً تقليدية، لا تثير عاطفة، ولا تجرح إحساساً؛ بعد أن مر هذا كلّه على النوع الإنساني، أخذ يبدو في حيز التفكير البشري رد فعل لهذا العدوان المتأصل في النفوس، ترجمت عنه بحوث خلقية، ودراسات فلسفية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، تدل على وشك حدوث دور انتقال من هذه الحال الحيوانية التي درج عليها الأقوياء في جميع الأجيال حيال الضعفاء إلى حالة وسطى من العدل والإنصاف والرحمة؛ وكان ذلك سبباً في حدوث كتابات تدافع عن الضعفاء المقهورين، وتستدر لهم من الأقوياء المتغلبين العطف والشفقة، ولم تبخل عليهم باعتبار هذا العطف حقاً لهم يجب على سادتهم الاعتراف به.
لم تكتف هذه البحوث والدراسات بالناحية المادية لتلك الطوائف المقهورة، بل تناولت ناحيتهم الدينية والأدبية، التي يحتقرها الأقوياء ويأنفون البحث فيها، ويعتبرونها من الأضاليل الوحشية، فوجدتها لا تقل عن سواها دعوة إلى الخير، وردعاً عن الشر، ومطالبة بالإحسان والبر؛ وهي وإن كان قد أصابها التحريف فليست بأكثر من سواها التياثاً بالخرافات، ولا بأعصى منها قبولاً للإصلاح، فنشأ من كل هذه الكتابات والبحوث تلطيف لخشونة الاستعمار، فرضخ القاهرون للمقهورين بقسط من التسامح مكنهم من فتح المدارس لأبنائهم، ونشر الصحف للمطالبة بحقوقهم. واضطرت الأمم المتغلبة إلى زيادة قسطهم من الحرية فلم يلبثوا أن تطورت مطالبتهم بحقوقهم إلى ثورات مسلحة، وقلاقل متوالية، اضطرت معها أكبر الدول الاستعمارية إلى التخلي عن أكبر مستعمراتها، وتخفيف الوطأة عن سواها مراعاة لهذا التيار الجارف من الشعور بالحقوق الطبيعية. وأصبحت الأمم القوية المحافظة على الشكائم الحديدية في جهاد جهيد مع مستعمراتها، وهي تعلم أنها تحاول المحال في الإبقاء على التقاليد القديمة، وإنه سيأتي يوم وهو ليس بعيداً، ينتقل فيه سلطانها(861/5)
المغتصب إلى أهل البلاد يحكمون بلادهم بأنفسهم تسليماً بالحق الطبيعي للأمم.
وقد اشتغل من ناحية أخرى رجال من المنقبين عن المدنيات القديمة، فوجد وأن للأديان كلها أصلاً واحداً وغرضاً واحداً؛ فإما أصلها فهو التسليم بوجود خالق للوجود؛ وأما غرضها فهو العمل بما شرعه سبحانه للناس من السيرة الصالحة والأخلاق الحميدة. وأما ما وقعت فيه الأديان من تعديد الآلهة، ومن الشطط في ضروب العبادات، وصنوف الخرافات، فكلها ليست من الدين في شيء؛ ولكنها من وضع رجال الأديان حرصاً على المحافظة على سلطانهم وتسخيراً للشعوب لإرادتهم.
تحت تأثير هذين العاملين، وهما ثبوت وحدة الأديان، وتعذر الاستيلاء على الأمم الضعيفة وتسخيرها بالقوة، ارتسم في الجو العالمي حقيقتان كبريان: أولاهما وجوب إيجاد تعارف سلمي بين الشعوب المختلفة، يرمي إلى تعاون بين أجناس النوع البشري، تبطل في ظله الظليل المنافسات الاستعمارية، والمنازعات بين الشعوب القوية. أخذهما التنويه بوحدة الأديان ووجوب تطهيرها مما التصق بها من الآراء البشرية، والخباليات الشعرية لتؤدي مهمتها في رفع النفوس إلى المستوى الرفيع الذي يليق بكرامتها الفطرية.
هذان الأصلان هما أخص ما دعا إليه الإسلام منذ نحو أربعة عشر قرناً. فأما عن الزمالة الإنسانية العامة، ووجوب وجود المساواة بين الناس والتعارف بين الشعوب، فقد جاء عنه في الكتاب الكريم قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير). وقد عمل المسلمون بهذه القاعدة فلم ينساحوا في الأقطار طلباً لاستغلال الأمم، ولا رغبة في تسخيرها، ولكن لمعاونتها على النهوض، وإحكام أوامر التحاب معها. وقد برت بما وعدت ورفعتها من حالتها التعسة إلى مستوى رفيع من الثقافة والمدنية، حتى أن شعوباً كانت تستدعيها لتحل بين ظهرانينا تخلصاً من نير حكوماتها الوطنية.
وأما من الناحية الدينية فإن الكتاب الكريم قد صرح بما أكتشفه العلم في القرن التاسع عشر من أن أصل الأديان واحد وأنها ما تخالفت إلا بسبب ما أدخله إليها المتسلطون عليها، إشباعاً لشهواتهم من الحكم والسيطرة. فقال تعالى عن الإسلام: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين(861/6)
ولا تفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم اليه، ألله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربِّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فأدعو (أي لوحدة الدين فأدع)، وأستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، والله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم (أي لا محاجة ولا خصومة)، الله يجمع بيننا واليه المصير). أي أنه شرع لكم من الدين ما نزل على أبيكم آدم، فإن دين الله لا يتغير، ولكن الأمم هي التي تولته فحرقته وصرفته عن أصله. فإياك أن تعدل عن هذا إلى سواه (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء).
وأبلغ مما مر في وجوب رد الأديان إلى وحدتها الأولى قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورُسُلِهِ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقاً، واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً). فقد أُمر المسلم أن يؤمن بجميع الأنبياء والرسل، وأن لا يتخير بعضهم فيؤمن بهم ويكفر بالبعض الآخر، فلا تتهم الوحدة البشرية التي يريدها الخالق لعباده، وهذا أقوى في الدلالة على هذا المبدأ في الإسلام، وهو عينه مرمى الإنسانية؛ ومردها الذي لا مصير لها غيره كما يتبينه الذين يتتبعون تطور المدركات البشرية.
وعلى هذا يكون الإسلام قد قصد بما شرعه للناس من دين عام توحيد البشرية. ووافق الطبيعة الإنسانية فيما ستؤول إليه تحت توجيه النواميس الاجتماعية؛ ويكون قد ترجم عما سيقع في مستقبل بعيد بقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).
محمد فريد وجدي(861/7)
أعداء ثلاثة
للأستاذ محمد تيمور بك
أعداء الإنسانية كثير، وصولتها في مملكة الشر قائمة على قدم وساق، وإنها لتعبث في الأرض فساداً ما وسعها أن تعبث.
ومنذ نجمت هذه الأعداء قام في وجهها دعاة الخير، وأحلاف الفضيلة، يحدون من عدوانها على وجه الأرض، ويكفون أذاها عن الناس.
وما برحت أسماعنا تهزها أصداء الحملة على ثلاثة من هذه الأعداء، أوغلت في البغي، وأمعنت في الشر، فنهض لها قادة الأمة يشنون عليها غارة شعواء. . . تلك هي: ثالوث الفقر والجهل والمرض.
وليس ينكر أحد ما لهذا الثالوث الكريه من جسيم الخطر، فإليه مردَّ ما تعانيه الأمة من آلام شداد، وما يعتاق خطاها إلى الأمام من عقاب صعاب.
بيد أن هذه الأعداء الثلاثة على جسامة خطرها تبرز في المعسكر المادي للعيان، وتغنى في محاربتها عدَّة حازمة من وسائل الاقتصاد. فما أشبهها بالقروح الظاهرة، داؤها مكشوف، ودواؤها معروف، إذا أنت أخذت فيها بأسباب العلاج، خبيراً به، محكماً له، كان لك أن تستقبل طلائع الشفاء.
وثمة في حياتنا العامة أعداء باطنة تكمن في دخيلة النفوس، ويسري أذاها في المجتمع مسرى الدم في العروق. وهذه الأعداء المعنوية هي التي يتعذر التخلص منها إلا بجهد ورياضة ومعاناة.
ومما لا ريب فيه أن المعنويات هي الأساس في سعادة الإنسان. فكلما صلحت المعنويات أفاضت من صلاحها على الماديات.
ليست تلك المعنويات إلا الروح، وإذا قويت طاقات الروح لم تقو عقبة على أن يبقى لها سلطان.
متى توافرت للنفس عقيدة وإيمان، مضت في طريقها تشقه، حتى تروعك من أعمالها بالمعجزات.
أفي مستطاع امرئ أن يسعى في مطاولة أعداء الإنسانية في المعسكر المادي، دون أن(861/8)
يكون مدفوعاً إلى ذلك بعامل نفسي قوي موصول بحب الخير؟
إن العالم يدين برفاهيته، وبشمول الخيرات فيه، لقوى نفسية اتخذت من المثل العليا رائدها في الطريق، فأحبت الخير، وعملت عليه، وبذلت جهدها له، حتى بلغت ما تريد.
المعنويات إذن هي نواة الرقي الماديّ. فإذا شئنا أن نعلي من شأن الماديات في حياتنا العامة، فعلينا أولاً أن نجند قوى النفوس للتخلص من أمراض النفوس.
ويلوح لي أن أعداء الإنسانية في المعسكر النفسي ثلاثة: الحسد، والبغض، والحقد.
وإن شئت قلت: أنه عدوٌّ واحد، يتشكل في ثلاثة أطوار من حياته، يبدأ في طور الطفولة حسداً، ثم يجتاز طور الشباب بغضاً، ثم يكون في كهولته حقداً.
يمد المرء عينه إلى ما حوله فإذا هو حاسد، ولا يلبث أن يسلمه الحسد إلى إبغاض لمن يحسده، وما هي إلا أن يحقد عليه، فيطوي النفس على إيذاء له، وإيقاع به.
ذلك العدو المثلث هو حجر الزاوية في مأساة البشرية، وليس ميدانه مقصوراً على الفرد وحده، ولكنه يتعداه إلى الجماعات على اختلافها، بل أنه يتخطاها إلى الدول على تفاوتها، والى الأجناس على ما بينها من تباين.
ولكي يناهض الإنسان هذا العدو الصميم، عليه أن يواجهه في معسكره الأول، أعني نفس الفرد. فإذا انكشفت عن الفرد عداوته، لم ينبسط لها ظل في الجماعات والدول والأجناس.
ولا تحسبن النفس الواحدة من الضآلة بحيث يتيسر علاجها على كل طالب، فإن هذه النفس عالم زاخر يحتاج إلى تنظيم وتدبير وسياسة لا تقل عن تنظيم الممالك وتدبير الأمم وسياسة الدول.
متى اشتملت نفس بهذه العداوة المثلثة عانت حالة من الضعف والمرض، وهذه الحالة لا تصيب النفس بدافع الحرمان وحده، فكم من نفوس حسدت فأبغضت فحقدت، لغير مسوِّغ من حاجة ملجئة، أو ضرورة داعية.
مرجع هذه العلّة النفسية إلى بذرة الأنانية، تلك التي تجعل النفس في بوتقة من القلق والاضطراب، يهيجها ما تراه حولها من خير ينصرف دونها إلى سائر الناس. فهذه النفس لا تسكن ولا تقر إلا إن وقفت بمرصد، لتردّ عن السبيل خطوات الساعين إلى الغايات.
كيف نكافح هذا العدو المثلث؟(861/9)
كيف نهوّن من بطشه إن عزّ علينا أن نستأصل شافته؟
كيف السبيل إلى أن نوفر للنفس حظها من الصحة والعافية، فيجتمع لها من القوة والثقة ما تعتصم به من شر ذلك المرض الوبيل؟
لا جدوى لمختلف العقاقير والأدواء في علاج أمراض النفوس، فالسبيل في شفائها مرهون بترويضها على إيثار الخير، وحب الغير. . .
ليس في مقدورنا أن نروض أنفسنا على الخير الشامل دفعة واحدة، فالنفس حرون، وإن النفس لأمارة بالسوء، ولابد لها من مدارجة وملاينة، حتى تأبى الجماح، وتخفض الجناح.
ليأخذ المرء بادئ بدء بحبّ أقرب الناس اليه، وفي ذلك الميدان يتسنى له أن يقنع النفس بالحدِّ من الأنانية، فيهب من يشاركهم في العيش فضل سعيه، وموفور إخلاصه. ثم يخطو بخيره درجة أخرى، فيضم إلى أهله من يجدهم من حوله أعواناً وإخواناً. ولن يستعصي عليه بعد ذلك أن ينزل عن أنانيته طوعاً لمن لا صلة بينه وبينهم إلا صلة الإنسان للإنسان.
وبذلك التدرج في ترويض النفس على التخلص من الأثرة والأنانية، تتأصل تلك النزعة الإنسانية من الحب والخير. وفي هذا كسب للبشرية عظيم!
أذكر - فيما أذكر - قصة فتى فنان الروح، كان بالريحان ولوعاً، فأراد أن يستنبت وردة مثالية لا عهد بها لأحد، فقضى أعواماً يزاول تجاربه لجمع خصائص الورود الزكية في وردته المنشودة. وكانت تصاحبه فتاة رعناء، يطوي لها قلبه على حب فوّار، فأغدق عليها عطفه، واحتمل رعونتها في مصابرة ومطاولة، وأعانه حبه لصاحبته على أن يضل ساعياً لخيرها، لا يبالي أنانية نفسه وحقها عليه. وبينما كان الفتى مسترسلاً في تجارب الورود، كانت الفتاة تفكر في حسن معاملته لها، وصبره على أذاها. فأخذت تحاسب نفسها على ما كان منها، ورجعت تتودد إلى فتاها في دماثة خلق؛ ولين جانب. . .
ويوماً جاس الفتى مغتماً، يتحسر لإخفاقه في استنبات الوردة المثالية؛ فجاءته الفتاة مترفقة به، تسأله: فيم تفكر؟
فأبتسم لها ابتسامة يأس. فقالت له، وهي تلاطفه:
ألا يكفيك أن أكون وردتك المثالية التي نجحت في خلقها خلقاً جديداً؟(861/10)
فإذا أردنا أن تكون الحياة روحاً وريحاناً، فلنحرص على أن نستنبت في نفوسنا تلك الورود المثالية التي يضوع منها عطر المحبة والإخاء!
محمود تيمور(861/11)
كلمات مرسلة
للدكتور محمد يوسف موسى
نحن - العرب أو المسلمين عامة - نعيش على هامش الحياة ننفعل بما يكون من أحداثها، دون أن تكون قوة في إيجاد هذه الأحداث. وبعبارة أخرى، نحن مادة قابلة لما يريد الغير من صور لا قوة تفعل وتفرض على الغير ما تريد صور في هذه الحياة من كل أو بعض نواحيها. ونجد مصداق هذا القول الذي نقوله فيما نحن عليه من نظم: في التعليم، والبرلمان، والقانون، والسياسة وفي سيرة ممثلينا في البلاد العربية.
ونظن الأمر تكفي فيه الإشارة والتلميح، ولا يحتاج لشيء من الإيضاح. فتلك حقيقة لا ريب فيها وهي نكبة على الأمة. إذ ليس معنى هذا إلا فقداننا الثقة بنا كأمة أو جنس، وفقداننا الشعور بأن لنا شخصية مستقلة، بها نتميز عن غيرنا ونستمدها من ديننا والخير من تقاليدنا وحضارتنا، وبها يجب أن نعتز في غير كبرياء فارغ.
ليس من ضير على أيةأمةأن تأخذ عن غيرها بعض ما تراه خيراً من نظمها وتقاليدها، وتضمه إلى ما تحرص عليه من التقاليد الخاصة بها، ولكن من الشر كل الشر، أن تذهب الأمة تلتمس لها نظاماً في التعليم أو القانون أو الحكم من أمم مختلفة، فيجيء هذا النظام مِزقاً متهافتة ليس له وحدة حقيقية تضم أطرافه، وليس له هدف مُوحد يسير إليه، وليس له من فضل إلا أنه مأخوذ عن أمم ترى أنها تقدمتنا في الحضارة؛ وهو - مع هذا كله - لا يتفق وديننا، ولا يتفق مع ما هو خير من عاداتنا وتقاليدنا.
لقد آن الوقت الذي يجب أن نضع من جديد في الميزان تقاليدنا وحضارتنا كي نرى منها ما به نصلح في هذا العصر، فنبقى عليه ونعتصم به ونعتز؛ وما كان منها خيراً لزمن غير زماننا، فلا نأسى على أطراحه واتخاذ بديل منه من هنا أو هناك.
وآن الوقت الذي يجب فيه أن نتساءل في جد: هل الإسلام هو الدين الحق الذي رضيه الله لنا كما يقول القرآن؟ وهل نحن كما يذكر القرآن حقاً خير أمة أخرجت للناس؟ فإذا وصلنا إلى اليقين بأن هذا وذاك حق، وذلك ما لا ريب فيه، يجب أخيراً أن نتساءل عن السبب الذي من أجله لا يستخلفنا الله في الأرض كما استخلف الذين من قبلنا ولا يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا، ولا يبدلنا من بعد خوفنا أمناً كما جاء في سورة النور من القرآن.(861/12)
هذه آية كريمة تتضمن وعداً كريماً صادقاً من الله، ومن أوفى بعهده من الله؟ وقد صدق الله وعده في فجر الإسلام وبعده في أزمان مختلفة، لأجدادنا الذين آمنوا به حقاً بقلوبهم لا بألسنتهم وحدها، إيماناً واجهوا من أجله الموت راضين سعداء، فلماذا لا يتحقق لنا كل هذا الذي وعد الله به مرة أخرى في هذا العصر إن حصلنا ما يجب أن يكون منا من أسباب؟
إن ارتباط المسبب بالسبب أمر ضروري لا شك فيه. وقد أخطأ الغزالي خطأ بليغاً، لا زلنا نعاني حتى اليوم من أثره السيئ، على العقل والفلسفة والصالح العام للمسلمين، وذلك حين حاول باسم الدين هدم القول بارتباط المسببات بأسبابها ارتباطاً ضرورياً لا عادياً.
نقول أخطأ الغزالي خطأ بليغاً، إذ كان من صنيعه أن وقر في نفوس عامة المسلمين - بعد أن قرر ما قرر وهو حجة الإسلام - أن المرء قد ينجح في حياته وهو لم يتخذ للنجاح أسبابه الضرورية، سواء أكان زارعاً أو صانعاً أو تاجراً أو رجل سياسة ودولة!
وكان من هذاأيضاً أن أخذ كثير، حتى من المثقفين، يتساءلون عن العلة التي لم يحقق الله للمسلمين هذه الأيام مظاهر القوة والسيادة، ما به يؤكد أننا حقاً خيرأمة أخرجت للناس وأن الإسلام خير الأديان. عن هذا يتساءلون، وينسون أن أي مسبب لا بد أن يكون له سبب، وإن خرق ذلك لن يكون إلا معجزة وقد مضى زمن المعجزات، يتساءلون عن هذا، وينسون إننا لسنا مؤمنين ولا مسلمين حقاً.
نعم! لنقل هذا صراحة، فلسنا من الأيمان بالقدر الذي به يحقق الله ما وعد لعباده المؤمنين. وأدنى هذا القدر أن نؤمن بالله وحده، وألا نرجوا أو نخاف غيره، وأن نتذكر أينما كنا من العالم أننا مسلمون، وأن نعمل دائماً عمل المؤمنين المسلمين.
هذا هو جماع السبب الذي به نكون أهلاً لنصرة الله لنا، وذلك ما ليس متحقق فينا بكل أسف. ولنكثف في هذا المقام بالقليل من الأمثلة، أو الواقعات التي شهدتها بنفسي وشهدها معي كثير من الإخوان المصريين المسلمين.
1 - دعيت أكثر من مرة لحفلات استقبال أقامتها هذه أو تلك من الدور الرسمية التي تمثل البلاد الإسلامية في باريس؛ فكان يجري في هذه الحفلات ما لا يذكرنا قط أننا في دار تمثل دولة من دول الإسلام. وحسبي أن أذكر أن من ضروريات هذه الحفلات أن تسيل الخمر كأنها الماء، وألا يتعفف عن شربها إلا القليل جداً ممن عصم الله، وأن يكون ذلك كله على(861/13)
مشهد من الأجانب الذين يعجبون أن يحدث هذا من ممثلي الأمة الإسلامية.
ثم ذلك لا يحدث في الأيام العادية فقط، بل حدث أحياناً في رمضان، شهر الصوم، وأثناء النهار! بينما دعيت مرة في رمضان أيضاً لحفلة استقبال أقامتها وزارة التربية الوطنية بباريس، فكان مما عني به القوم أن بدء الحفلة كان بعد غروب الشمس بقليل! تلك مفارقة، وأي مفارقة!
2 - حاولت إدارة رسمية تشرف هناك على طلاب البعثات عقد صلات بين الطلاب وأساتذتهم الأجانب، فلم تر إلا أن تقيم حفلة راقصة فيها كانت الخمر أصنافاً وألواناً، وذلك في وسط من الفوضى عجيب، حتى اضطر بعض هؤلاء الأساتذة إلى الانصراف في عجب بالغ وألم شديد.
وهذان مثالان، ولو شئنا لأتينا بأخرى، ولكن المقام لا يسمح وحيز الكتابة محدود. على أني، مع هذا، أضيف أيضاً هذه الكلمة التي نرى منها أننا نبتعد كل يوم عن الإسلام.
يكون من بعض من جعل الله إليهم الأمر في الأمة الإسلامية في مصر أو غيرها من بلاد الشرق الإسلامي، الحدث الجلل من الأحداث، الحدث الذي هو ظلم سافر، ظلم يتناقض صراحة وأمر الله ورسوله، ومع هذا لا نجد كلمة اعتراض من واحد من الأمة. أي والله، لا نجد أحداً يعترض، حتى ممن يجب عليهم - بحكم مناصبهم الرسمية ومكانتهم من الأمة - الذود عن الدين والشريعة وحمايتها من العدوان.
ثم، مع هذا كله، نعجب من أننا في ذلة وهوان، بينما الغربي في عزة واستعلاء! ومتناسين قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)! ومتناسينأيضاًقوله في موضع آخر من القرآن: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فيالأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً). ففي هاتين الآيتين الكريمتين بين الله الأسباب التي يكون عنها النصر والعزة، وبين أن بين هذه الأسباب ومسبباتها رابطة لا انفصام لها، تلك سنة الله في خلقه.
هذا، وهناك ناحية أخرى أحب أن أتناولها في هذه الكلمات. لقد لمست طوال الأعوام التي قضيتها في فرنسا، وفي الفترات القصيرة التي عشتها في ألمانيا وإنجلترا وأسبانيا، أن(861/14)
القوم هناك بعد الحرب يجتازون دوراً خطيراً من ناحية العقيدة والدين.
إن كثيراً من الشباب في أوروبا، وبخاصة شباب الجامعة، صاروا يعترفون بعجزهم عن فهم الديانة المسيحية وما فيها من أسرار تعجز العقل. وأن كثيراً من هؤلاء، بلغ بهم التفكير الجاد في هذه المشكلة؛ أن صاروا يتلمسون لأنفسهم عقيدة أخرى يفهمها العقل ويطمئن لها القلب؛ عقيدة تتفق وهذا العصر الذي نعيش فيه، العصر الذي لا سبيل فيه للأيمان بما يعجز العقل عن إدراكه.
رأيتهم يطلبون دنيا فيه للقلب هوى، وللعقل رضى، وفيه من الروحية ومن المادية؛ دين لا يرفض الدنيا، بل يأخذ منها ويعمل في الوقت الآخر نفسه للآخرة. وإن منهم من فكر حقاً في الإسلام ومن أطلعني على الأزمة متى يحسها ويجد لها قلبه وعقله مساً أليماً. ولكن هؤلاء وأولئك لا يجرؤن، مع هذا، على اليسير بعيداً فيما يفكرون فيه، إذ لا يجدون الوسيلة الصحيحة لمعرفة الإسلام ولا يطمئنون مع ذلك إلى هذا اليد مع ما يرون من سوء حالة المسلمين.
علينا أذاً، أن نقرّب هذا الدين، وأن نجلوه للطالبين: عقيدة وأخلاقاً ونظاماً اجتماعياً، في كتاب قريب التناول نترجمه للغات جميعاً في الغرب والشرق، ثم نوزعه في أقطار الأرض كلها. بهذا وحده يستطيع أن يعرف الإسلام من يريد، وبهذا نكون أدينا واجباً لهؤلاء الحائرين وما أكثرهم، وللإنسانية كلها، لأن أكثر ما كتبه غير المسلمين عن الإسلام تعوزه الدقة أو الأنصاف.
إني لأعرف ما يتطلب هذا العمل الضخم من جهود ومال، ولكني أعتقد أنه مع الإرادة الطيبة تستطيع أن تصل منه إلى ما تريد إن شاء الله الذي يوفق للخير ويعين عليه. وعندنا من رجال الأزهر والجامعة من يحتاج إليهم هذا العمل تأليفاً وترجمة ولنا من ذوي النعمة الطويلة واليسار العريض من لا تؤودهم التكاليف المالية.
ولعل فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الجامع الأزهر ينشرح صدره لهذا العمل فيتقدم الجميع في الدعوة له وإعداد العدة لتنفيذه؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
محمد يوسف موسى(861/15)
إلى الطائف. . .
مسرحية شعرية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
النبي العربي في طريقه إلى (الطائف)، وفي صحبته مولاه زيد ابن حارثة - كما يروي المقريزي وابن الأثير المؤرخ وكان الشهر يناير من سنة 620 ميلادية، والثلج الأبيض الناصع يجلل ذرا جبل غزوان، وهو أبرد مكان في الحجاز. وقد شهد هذا العام وفاة اثنين من أعز أنصار النبي: عمه أبى طالب الذي كان يدفع عنه أذى المشركين، وزوجه خديجة أم المؤمنين التي وقفت بجانبه أربعة وعشرين عاماً وستة أشهر. ولم يبق له من أوفى الأوفياء إلا مولاه وربيبه زيد بن حارثة.
زيد:
يا نبي الهدى تلوح لعيني ... قمة كللت ببيض الثلوج
هي في الطائف الذي يتحلى ... بالروابي، ويزدهي بالمروج
قمة أشرفت على السهل والحز ... ن كإشراف شاهقات البروج
قد خرجنا بها إلى الله نبغي ... نصرة في سبيل هذا الخروج
إن في الواحة الخصيبة مأوى ... للمطايا، وراحة للحدوج
محمد:
هيا بنا إلى أشراف ثقيف في (الطائف) ندعوهم إلى الله!
زيد:
الله جارك حين تنتقل ... والله جارك حين ترتحل
يا ضارباً في الصبر أمثلة ... بك في الشدائد يضرب المثل
هان الطريق فسر عليه كما ... سارت على أشواكه الرسل!
هذا سبيلك غير ذي عوج ... حاشاك ما ضلت بك السبل
المشركون عليه ترصدنا ... منهم لحاظ الكيد والمقل
الله جارك لا تخف أحداً ... والله حسبك أيها البطل
هذي (ثقيف) وتلك أربعها ... فلعلها بهداك تمتثل. .(861/16)
طال الطريق على غوايتها ... ومضت بها آباؤها الأول
فلعلها تهفو إليك كما ... تهفو إلى أعطانها الإبل!
وهنا يعرج النبي على جماعة من أشراف ثقيف ويدعوهم إلى الإسلام فيجيبه واحدٌ منهم:
رجل من ثقيف: -
يا راحلاً من بطن مكة يبتغي ... في ذلك الوادي الخصيب فكاكاً
هل جئت تنشر في ثقيف دعوة ... أم جئت ترصد بينها الأملاكا؟!
دعها وما ألفتهُ من آبائها ... واترك لها الأزهار والأشواكا!
هي رحلة لا ترج منها نصرة ... أجهدت في وعث الطريق خطاكا
لو كان ربك مرسلاً أحداً لنا ... أفما رأى من مرسليه سواكا؟؟
وهنا تذهب الجماعة في قهقهة مدوية وترسل ضحكاتها عالية، فيقوم آخر منهم ويقول:
رجل آخر من ثقيف:
إن كنت تحمل حقاً ... رسالة قدسية
فأنت أعظم قدراً ... من أن نرد التحية
وإن تخرصت كذباً ... على إلاه البرية
فأنت أهون شأناً ... من خوضنا في القضية
وتستمر الجماعة الضالة الهازئة في ضحكاتها، وهم يسبون النبي ويرمونه بالحجارة ويصيحون به. فيقوم واحد منهم، ويتجه إلى جماعة من العبيد والسفهاء يغريهم به قائلاً.
ثقفيٌّ ثالث: -
ما بثقيف حاجة ... إلى الدعاوى والكذب
أيقصد المغلوب في ... مكة بيننا الغلب؟
عجيبة منه ... تثير في نفوسنا العجب!
ما للفتى وللرسا ... لات لدينا والكتب
سيفسد الأمر علي ... كم بالحديث والخطب
فما لنا في دينه ... شأن ولا لنا أرب
الخير كل الخير في ... رمان (وج) والعنب(861/17)
نعتصر الخمرة من ... هـ في أباريق الذهب
وهنا يكرر الفتيان والسفهاء هذا البيت الخير، ثم يستمرون في عربدتهم وسخفهم، حتى يلجئوا النبي إلى حائط، وقد أدموا رجليه. . . فحين يرجع عنه السفهاء ويصيبه بعض الاطمئنان يتجه إلى ربه قائلاً.
محمد:
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا ارحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة غلا بك).
وهنا يرى عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة ما حل بالرسول فتتحرك الشفقة عليه في قلبيهما، ويدعوان غلامهما النصراني وأسمه (عداس)، قائلين له:
عتبة وشيبة:
عداس خذ عنباً من بعض كرمتنا ... وأعطه - في حنان - ذلك الرجلا!
إنا نرى الجوع يبدو من نواجذه! ... فما تبلغ من زاد ولا أكلا
إن المروءة تأبى أن نجوعه ... وأن يقال: غريب بيننا هزلا. . .!
ثم يذهب (عداس) إلى النبي ويضع طبق العنب بين يديه فيبدأ النبي يلتقط حبة منه قائلاً. بأسم الله. فينظر (عداس) إلى وجهه ثم يقول
عداس:
هذا كلام لم يقل ... هـ الناس في هذا البلد
ولم أكن أسمعه ... ولم يدر لي في خلد. . .!
هذا كلام واحد ... يسبح الله الأحد!
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلّم
محمد:
ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟(861/18)
عداس:
أنا من (نينوى) وديني دين ... ينتمي للمسيح عيسى بن مريم
محمد:
أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متي؟
عداس:
يونس الصالح بن متي؟ أجبني ... كيف تدري بأمره كيف تعلم؟
محمد:
ذلك أخي كان نبياً، وأنا نبي!
وهنا يكب (عداس) على رأس الرسول يقبلها ويقبل يديه ورجليه، فيراه سيداه عتبة وشيبة، فيقولان له حين يرجع إليهما.
عتبة وشيبة:
ويلك يا عداس ما ... هذا بفعل طيب
ماذا الذي صنعته ... مع الغريب الأجنبي
قبلت منه رأسه ... وزدت تحت الركب
فما الذي أبقيته ... لمجدنا من أدب؟
وما الذي عادلنا ... في قومنا من أرب
عداس:
المجد لله القوي ... والعزيز الأغلب
آمنت أن الضيف هـ ... ذا هو فخر العرب
وأن فيه آية ... تدل أنه النبي. . .
عتبة وشيبة في ذهول:
تدل أنه النبي؟؟ تدل أنه النبي؟؟
محمد عبد الغني حسن(861/19)
إيمان عظيم
للأستاذ أنور المعداوي
امرأة أحبت كل الحب، وآمنت كل الأيمان بمن تحب. . . وكانت عاشقة برح بها العشق فأذبل منها العيون وقرح الجفون وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفده الشوق؛ وحنيناً مضطرماً يلهبه الوجد؛ وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع وتسبح الدموع!
كان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وهكذا تجسد الحب الصادق في أرفع منازله وأعمق منابعه وأنبل معانيه؛ لم تشوه من جلاله غاية، ولم تعبث بطهره غواية، ولم يرق إلى سمائه جناح في دنيا المحبين!
وما كان أعجبها قصة حب. . . بل وما كان أعجبها قصة حياة! حب لم يكن الباعث عليه شيئاً من الترهيب أو من الترغيب؛ وحياة ما أبعد الشقة فيها بين طرفين؛ وما أكثر التنافر بين بداية ونهاية. وحين يكون الحب خالصاً لوجه الحبيب فقد بلغ الذروة وأشرف على الأوج؛ وحين تكون الحياة تطرفاً في شوطها الأول فهي تطرف في شوطها الأخير، سواء أكان التطرف مصدره الاعتدال هناأمكان مصدره الانحراف هناك!
وهكذا كانت رابعة العدوية. . . وهكذا كانت عاشقة السماء. عاشت في عصر يحفل بالشذوذ ويعج بالمتناقضات، عصر أقبل فيه أناس على الرذيلة حتى ما يردعهم رادع من دين وحتى ما يزجرهم زاجر من خلق؛ فليلهم إغراق في الأثم ونهارهم إمعان في المعصية وأقبل غيرهم على الفضيلة متى ما تهدأ قلوبهم من خوف وما تسكن نفوسهم من قلق، فليلهم إيغال في التهجد ونهارهم إسراف في البكاء. وكانت البصرة في القرن الثاني للهجرة موطناً لأولئك كما كانت موطناً لهؤلاء. . . وإلى المتطرفين في الضلال والوزر سلكت رابعة أول الطريق، وإلى المتطرفين في الإيمان والزهد بلغت من هذا الطريق منتهاه.
انحدرت من صلب أبوين فقيرين؛ لم يجدا ليلة مولدها شيئاً مما يلف به كل وليد. . . وكانت مولاة لآل عتيك، وإلى بطن من بطون قيس تنتسب هذه القبيلة كما تنتسب إليها قبيلة أخرى هي بنو عدوة، ومن هنا سميت عند بعض المؤرخين برابعة القيسية وسميت عند البعض الآخر برابعة العدوية. وحين اكتملت لها الأنوثة ونضجت فيها الفتاة، فقدت العائل في شخص الأب حين مات وحرمت أسباب البقاء في البصرة حين أصابها القحط. .(861/20)
فهامت على وجهها تلتمس المأوى الذي يرد عنها غائلة الجوع ويدفع مرارة الحرمان. ولكن الأمر ينتهي بها إلى أن تقع في يد من يذيقها ذل الأسر ووطأة الرق وحرقة الهوان!
وهناك، في ذلك السجن الذي لقيت بين جدرانه ألواناً من الظلم وفنوناً من الظلام، رفت روحها في سماء الحبيب أول رفة، وهمس صوتها أول همسة، وانطلقت من بين الجوانح أول مناجاة (إلهي! أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرق، ولكن غمي الكبير هو أن أعرف: أراض أنت عنيأم غير راض)؟!. . .
ويجيبها صوت لا تعرف مصدره، ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم: (لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون في السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه)!
وامتد أول خيط تعلقت به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!!
وكانت لحظة من لحظات الانقلاب في حياة تلك الصوفية المؤمنة، ابتدأت بالصوم والتهجد وقيام الليل، وانتهت بالتحرر من هذا الرق الذي عصف بكل بقية من أمل لولا رعاية السماء. . لقد رآها سيدها ذات ليلة ساجدة تصلي واستمع إليها مبتهلة تقول: (إلهي! أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمة عتبتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن خدمتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبدتك)! وانبثق في هذه المرة ضوء كما انطلق في المرة السابقة صوت، وكلاهما لا تعرف مصدره ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم. . . وإذا بسيدها مرتاع النفس ملتاع الضمير، يقضي الليل كله مؤرق الجفن مضطرب المضجع يريد أن ينتهي في أمرها إلى قرار. فإذا كان النهار مضى إليها يقول: (أي رابعة! لقد وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت هنا ونحن جميعاً في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت)!. . . وانطلقت رابعة إلى هناك، إلى حيث تقطف من رياض الحرية كل زهرة، وتعب من ينابيعها كل قطرة، وتستروح من أنسامها كل رخي طيب.
ولا ندري لم تخلت عنها يد الله فنسيت رسالة الأيمان لتتبع خطوات الشيطان؟ ولكنها لم تتخل عنها إلا إلى حين، لتعود بعد ذلك أكثر ما تكون تعلقاً به وحنيناً إليه وتهالكاً عليه. . . لقد اتخذت رابعة من مهنة العزف والغناء وسيلة لكسب العيش والسعي وراء الرزق، وهي(861/21)
وسيلة لم تكن مأمونة العواقب على كل حال، لأنها دفعت بصاحبتها إلى أن تغشى مجالس فيها اللهو والعبث والمجون، وفيها المشاركة في اللذات والانغماس في الشهوات ولا مناص عندئذ من الاستجابة لفنون الأغراء شأن كل جميلة من بنات حواء، وبخاصة إذا ما كانت صاحبة مزاج شاعري كمزاج رابعة، تقوده رهافة الحس وصفاء الطبع وجموح الخيال!
كانت فنانة، وكانت إنسانة. . . وفي الفن تسطع ومضات الرؤى وتتوهج الأحلام، وفي الإنسانية تشف نبضات الهوى وتفيض منابع الإلهام؛ وبهذين السلاحين راحت رابعة تشق صفوف البشر باحثة عن حبيب! ولكن الأرضليست موطناً لهذا الحب المثالي الذي ينشده الفن خالصاً من الشوائب وتبتغيه الإنسانية مبرأ من الأهواء. . . وإذن فلا مناص من أن تولي الفنانة الإنسانة وجهها شطر السماء!
وبدأت نقطة التحول في حياة رابعة. . . إن الماضي الجميل في كنف الحبيب الأعظم لا يزال يطل بذكرياته من خلف ستائر الضباب، وإن القلب الممنى لا يزال يبحث عن قطرة ماء يمكن أن تطفئ ظمأ هواه، وإن الخيال الحائر لا يزال يرقب الأفق البعيد في لهفة المتطلع إلى ما وراء الغمام. ومرة أخرى يمتد ذلك الخيط الإلهي غير المنظور، وتتعلق به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!
وكان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وإذا ما أحبت المرأة من أعماق قلبها فلا شيء في الدنيا يصرفها عن هذا الحب، مهما اعترضت طريقها المحن وامتحنت روحها المغريات! إنها تؤمن بحبها هذا الإيمان الخالص تبذله من ذات نفسها دون أن تنتظر عليه شيئاً من الأجر أو أشياء من العوض. حسبها أن تهب قلبها لمن تحب، وحسبها أن تفني فيه وتذر له الحياة، وحسبها أن تخرج من هذا الفناء بكثير من العزاء!
وأنها لتقدم الدليل من نثرها حيث تناجيه في هدأة الليل والناس نيام: (إلهي! أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك)!. . . فإذا أسفر الصبح هتف في موكب الشجن وقدة الهيام: (إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري: أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أمرددتها علي فأشقى؟! فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، ولو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك)!. . . وإنها لتقدم الدليل من شعرها مرة أخرى حيث تقول:(861/22)
أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فذكر شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي ... ولكن الحمد في ذا وذاكا
وتسوق بعض المصادر هذه الأبيات في موقف اللقاء بينهما وبين (ذي النون المصري) حيث تطالعنا هذه القصة: (قال سعد بن عثمان: كنت مع ذي النون المصري رحمه الله في تيه بني إسرائيل، وإذا بشخص قد أقبل، فقلت: يا أستاذ! شخص قد أتى. فقال لي: أنظر من هو، فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق. فنظرت فإذا هي أمرأة، فقلت: إنها امرأة. صديقة ورب الكعبة. فابتدر إليها وسلم عليها فقالت: ما للرجال ومخاطبة النساء! فقال: أنا أخوك ذو النون ولست من أهل التهم. فقالت: مرحباً، حياك الله بالسلام. فقال لها: ما حملك على الدخول في هذا الموضع؟ فقالت: آية من كتاب الله عز وجل، قوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)؛ فقال لها: صفي لي المحبة، فقالت: سبحان الله! أنت عارفٌ بها وتتكلم بلسان المعرفة وتسألني عنها؟! فقال لها: للسائل حق الجواب. فأنشدت تقول:
أحبك حبين حب الهوى=وحب لأنك أهلٌ لذاكا
هذه نماذج من النثر والشعر تصور هذا الحب الإلهي في إطارها لخالد، وأنها لقليل من كثير. . . وأي إطار هو؟ أنه إطار اللهفة الضارعة التي تنشد الرضا عن هذا الحب ولا تنشد سواه، وتلجأ إلى كل وسيلة من الوسائل بغية الكشف عن أثر البذل والتضحية في حساب الخالق العظيم. . . وإنه لحساب لا يخطئ التقدير حين يزن بذل الباذلين وتضحية الصابرين، وأي بذل وتضحية في حياة رابعة أبلغ من أن تقص خادمتها (عبدة) من أنبائها فتقول: (كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها وهي فزعة: يا نفسُ، كم تنامين! وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور)! أو أن تحدث هي عن نفسها فتقول: (إني لأضن باللقمة الطيبة أن أطعمها نفسي، وإني لأرى ذراعي قد سمن لأحزن)!. . . أو أن يقول عنها ابن منظور: (دخلت علي رابعة وهي ساجدة، فلما أحست بمكاني(861/23)
رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من كثرة البكاء)!
ولم تكن تعبده رغبة في جنته ولا رهبة من ناره، وإنما كانت تعبده عبادة الذين يرون وجهه: (يا الهي، إذا كنت أعبدك خوف النار فأحرقني بنارك، أو طمعاً في الجنة فحرِّم علي جنتك، وإذا كنت لا أعبدك إلا من أجلك فلا تحرمني جمال وجهك). . . ويا له من حب ذلك الذي أذبل منها العيون وقرح الجفون، وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفدهُ الشوق، وحنيناً مضطرماً يلهب الوجد، وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع، وتسبح الدموع.
وما أروع العقاب حين يصل المحب من نفس حبيبه إلى المكان الذي يؤثره ويرضاه، هنالك ترفع الكلفة ويفسح الطريق ويتسع العفو الإلهي لكل مقال يقتضيه مقام، ولو كان اعتراضاً مهذباً أو غير مهذب في رأي الذين لا يشعرون. . . وإذا ما اعترضت رابعة على حكم القدر فلا تثريب عليها ولا جناح، لأنها في موقف النجوى التي يطلقها القلب المفعم بصدق الحب وحرارة الولاء، أو في لحظة الهوى العارم التي يخفت فيها صوت الشعور والوجدان؛ ولن يضيق حلم الخالق العظيم بصيحة تنبعث من فجاج روح كم قدمت إلى ربها صوراً فاتنة من أدب الخطاب، روح تلك الصوفية المؤمنة التي قال عنها مالك بن دينار: (أتيتها فإذا هي تقول: كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها. . . يا رب، أما كان لك عقوبة ولا أدب غير النار)؟!
لا يضيرني في رأيي من هذا العقاب الذي خطر لها يوماً أن تتوجه به إلى رحاب الخالق العظيم، لأنالعقوبة الكبرى في منطق رابعة العدوية ليست النار التي تحرق الأجساد حين يحال بينها وبين جنته، ولكنها النار التي تحرق القلوب حين يحال بينها وبين رضاه. . . وهذا هو الجحيم الذي كانت تتصوره في عالمها الفكري الذي طبع حبها بذلك الطابع الذي لا شبيه له ولا نظير.
ومع ذلك فقد ذهب بعض الغلاة إلى أن رابعة بهذا القول قد اجترأت على مقام الخالق العظيم. . . ولكنهم في غمرة هذا الغلو الحائر قد نسوا أن يذكروا هذه الحقيقة؛ وهي أن رابعة قد مكثت أربعين سنة لا ترفع رأسها حياءً من الله!!
أنور المعداوي(861/24)
الطريق
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(وإن صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) صدق الله العظيم
لكن المسلمين وا أسفاه قد ضلوا السبيل واتبعوا السبل - وما أكثرها - فتفرقت بهم عن سبيل الله، فحقت عليهم كلمة الله في كل ما خالفوا الله فيه. وتاريخهم الحديث فيما يقرب من قرن كله أمثلة توضيحية لهذا.
أهملوا أمره تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فعاشت دولة خلافتهم - التي كانت - لا تجدد جيشاً ولا تصنع سلاحاً حتى ثار عليها عقبان البلقان فألجئوها إلى شطلجة. ولولا أن دبت الفرقة بين أعدائها ما استردت منهم أدرنه ولجاءت الحرب الكبرى الأولى وما بيده من أوربا شيء. ولم ينتفع المسلمون بتلك العبرة فظلوا كما كانوا لا يهتمون بالجيش ولا يصنعون السلاح وإنما يعتمدون في تسليح جيوشهم على الأجنبي، إن شاء أعطى وإن شاء منع. وهو لا يعطي إلا بثمن، والثمن هو ما نعلم من احتلال الديار والتقييد بتلك المعاهدات المخزية التي لا يزالون يحاولون التحرر منها فلا يستطيعون.
والاتحاد قوة، يعلم ذلك كل أحد. وأحق الخلق بالاتحاد الضعفاء، يعلم ذلك حتى ضعاف الحيوان في الغاب. وقد جعل الله الاتحاد على المسلمين فرضاً وديناً حين أمرهم به في قوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) لكن المسلمون لم يعتصموا بحبل الله في الماضي وما هم بمعتصمين به في الحاضر ثم هم ليسوا بجميع. حتى في أحرج الأوقات وأحوجها إلى اجتماع القلوب وتساند القوى، كانوا ولا يزالون متفرقين. ففي الحرب الكبرى الأولى بلغ بهم التفرق أن حارب بعضهم بعضاً طمعاً في استقلال بعضهم عن بعض وفي تأسيس دولة عربية تضم شتات العرب. فكان أن انهزمت دولة الخلافة إذ ذاك في الشرق، في ديارها، على أيدي أبناءها العرب. وكان أن دخل العدو بيت المقدس بما مد له عمال المسلمين ومهد له جنودهم، فإذا به يظهر ما كان يبطن إذ أعلن أن فتح بيت المقدس خاتمة لآخر الحروب الصليبية! فيالها من خدعة خدعها الناس لا تزال ممتدة(861/25)
إلى اليوم فإن من العرب من لا يزال يثق فيه كأنه وفي لهم بعهوده التي استذلهم بها وعاونوه من أجلها وما وفاؤه الذي كان إلا أن أنزل اليهود فلسطين، ونزل هو بجنوده في العراق، وأنزل إخوانه وأعوانه في لبنان والشام. أما مصر فظل محتلاً لها ولا يزال.
وليت المسلمين حين جاءت الحرب الثانية الكبرى اعتبروا بالحرب الكبرى الأولى وبما كان فيها وفي أعقابها من أحداث عملاً بقوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وبقول رسوله صلى الله وسلم عليه (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين). ولكنهم لم يعتبروا وسار العدو معهم وساروا معه سيرته وسيرتهم الأولى: يقول فيصدقون، ويعد فيثقون، ويخدع فينخدعون. وهاهو قد مكن لليهود في فلسطين بأكثر مما مكن لهم في أعقاب الحرب الأولى، فصارت لهم صولة وصارت لهم دولة والمسلمون من حولهم كثير، ولكنهم في تفرقهم قليل.
حتى في حرب فلسطين لم يعتصم المسلمون بحبل الله بل تفرقوا. دخلوها جميعاً وقلوبهم شتى. ومع ذلك فقد وفى الله لهم بوعده وأتاهم نصره ما كانوا جميعاً، فلما دحروا اليهود وجحروهم في تل أبيب ولم يبق إلا احتلالها واستئصالها استغاث اليهود فلباهم الغرب والغرب كله في محاربة الشرق أمة واحدة. ارعد الغرب في هيئة أممه وبرق، وأوعد وأنذر، وأمر أن تقف الجيوش العربية في زحفها فوقفت، وأن تدخل الدول العربية في هدنة مع العدو المنحجر فدخلت، كأن قادة العرب إذ ذاك لم يكونوا قرءوا قط آيات القتال في القرآن، ولا طالعوا قط غزوات الرسول في السيرة الكريمة: كأنهم لم يقرءوا قط سورة القتال، ولا سورة براءة، ولا سورة الأنفال، ولا درسوا غزوة بدر، ولا آيات آخر سورة الأنفال التي نزلت في أسرى بدر، والتي كادت تنزل بالعذاب على المسلمين حين آثروا أخذ الفدية على الإثخان في الأرضبعد وقعة مكن الله للمسلمين فيها من المشركين بعد الهجرة كما مكن للعرب من اليهود بعد دخولهم فلسطين. لقد وقى الله المسلمين العذاب بعد بدر بكتاب سبق منه سبحانه: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). وكان هذا إنذاراً عظيماً منه سبحانه أهمله المسلمون في فلسطين فكان من نزول العذاب بإخوانهم فيها ما كان، ومع ذلك فقد أتاح الله للمسلمين الفرصة مرة أخرى حين تحركت طبيعة الغدر في اليهود لما استقووا بالسلاح المختلس في غفلة هيئة الأمم أو بأعين منها،(861/26)
فحرقوا الهدنة، وشردوا عرب فلسطين، وغدروا بالجيش المصري في العيد الأكبر غدرة هي شر من غدرة اليابان بأمريكا في بيرل هاربر. فلو أن قادة المسلمين في شمال فلسطين وفوا بعهد الجامعة العربية، أو فعلوا ما يفعله أولو النجدة والحمية، أو ما تقتضيه أبسط قواعد الكيد والحرب، فهاجموا اليهود من ورائهم حين أوغلوا في الجنوب وانشغلوا بالجيش المصري من أمامهم، إذن لحصر وهم حصر الحب بين شقي الرحا، ولانتصف الله بهم للمستضعفين من رجال القرى العربية ونسائها وولدانها الذين فعل اليهود بهم الأفاعيل، ولم يرعوا فيهم عهداً ولا عقداً، ولا إلا ولا ذمة. لكن ثالثة الأثافي وعجيبة العجائبوغلطة الدهر ومعرة العمر أن قعدت جيوش المسلمين في الشمال، وتركت اليهود ينفردون بجيش المسلمين في الجنوب، تقاعساً من الحكام وتفرقاً، وتنازعاً وتحاسداً، فعصوا بذلك ربهم مرة أخرى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين). وقد حقت كلمة الله على المتنازعين ففشلوا في فلسطين. ووفى الله بوعده للجيش الذي قاتل وثبت وحده فكانت آية الفالوجة، وكان من الممكن في سياستهم الخارجية قد ضلوا السبيل سبيل الله الذي انزل الكتاب والذي يتولى الصالحين وهم في أمورهم الداخلية أيضاً قد ضلوا الطريق لأن الذي حملهم على غير سبيل الله في الخارج لا يزال بهم بحملهم على غير سبيل الله في الداخل: هو أن في النفس وقلة ثقة بها يحمل على إكبار العدو وتقليده، وضعف في الإيمان وقلة طاعة لله يعرض لغضب الله ونقمته وزوال نعمته.
لقد وقى الله العالم الإسلامي ما نزل بالعالم الغربي في حربين كبيرتين أكلتا الأخضر واليابس، وخربتا العامر والغامر، ولم يرعو الغرب ولم يعتبر فهو لا يزال يظلم، ولا يزال يحكم طبق الهوى والمنفعة لا طبق العدل والإنصاف، ولا يزال العيش فيه عيش شهوة واستمتاع، لا عيش فضيلة ودين. والشرق هو أيضاً لا يزال في اغتراره بالغرب يظنه المثل الأعلى ولا يعتبر بما جرته عليه مدنيته المادية من وبال، ولا بما يهدده به علمه المادي من دمار، إذا وقع فلن يدع منه أو يذر. والعلة التي جرت على العالم الغربي حربيه الماضيتين هي التي توشك أن تجر عليه الثالثة ساحقة ماحقة: نسيانه الفضيلة وضلاله عن الله وقد عرف الغرب ذلك حين كان مأزوماً مهزوماً في الحرب. لكنه بعد النصر نسي ما(861/27)
كان يدعوا من قبل وظن أنه إذا أغدق المال على صنائعه وأشبع البطون من الأمم التي أفقرها بطمعه وجشعه عمرت الدنيا واستقام الحال وعم السلام، ولكن هيهات! فلن يكون سلام إلا إذا رجع الغرب والشرق كلاهما إلى الله الحق السلام. ومهما يكن ما بين الغرب فالمسلمون بيدهم من الله كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليرجعوا إليه ويعملوا به ويستمسكوا به استمساك الغريق بحبل النجاة عسى الله أن ينجيهم مما يظل العالم اليوم من كارثة لا تبقى ولا تذر. فإن لم يفعلوا وركنوا إلى الغرب ومدنيته وماديته فلا يلومن إلا أنفسهم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) ويقول في مثل أهل الغرب اليوم (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا، كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين) وقد أعذر من أنذر. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
محمد أحمد الغمراوي(861/28)
الخدمة الاجتماعية في الإسلام
للأستاذ لبيب السعيد
ألقت مصر بالها أخيراً إلى الخدمة الاجتماعية، وشرعت تستعينها في الطب لأدواء الأفراد والجماعات، وقد استجدت لهذا الفن في مصر معاهد ودراسات يلاحظ من يراقبها أنها مكبة على إنتاج الغرب في هذه الناحية تنقل منه وتترجم عنه. ولا حرج في هذا لو أنه كان مصحوباً بلفتات جادة غير بعيدة إلى أصول تلك الخدمة في ديننا وفي تاريخنا، حتى تكسب الخدمة الاجتماعية نفسها حياة قوية تمدها بها المبادئ الإسلامية الصريحة، وحتى لا يستقر في ضمير الشباب خطأ أن هذا الفن مستورد أيضاً من الخارج، وحتى نتفادى نتيجة مرجحة هي أن يتنكر لتاريخنا الاجتماعي أو لا يثق به من وقفوا على تفوق الخدمة الاجتماعية الحديثة في الغرب، وجهلوا في الوقت نفسه أو لم يفهموا ما في الإسلام من المبادئ الاجتماعية السامية.
لم يقف الإسلام عند تقرير التوحيد وبث الإيمان وتنقية العقائد وفرض العبادات وسن الأحكام، ولكنه عالج النظم الاجتماعية كلها، فأعلى شأن الكرامة الإنسانية، وأرسى القواعد للحياة البيتية الصالحة، ووصل الأرحام، وبسط يد الحنان للصغير وغمر اليتامى والضعفاء والمرضى بزاخر من الرحمة والرعاية، وسن التأسية والتسلية، وكان بتعاليمه وسير رجاله دعوة دائبة إلى تلمس القوة والجمال للنفس والعقل والبدن على السواء، وأولى الشؤون الاقتصادية عنايته المسددة وتنظيمه الراشد، ودعا إلى كل فضيلة وعادى كل رذيلة.
فعل الإسلام كل هذا بنصوص صريحة يظاهر بعضها بعضاً وتصدقها أفعال الرسول وصحبه، فاستطاع المسلمون الأولون في نور هذه النصوص والأعمال وفي كريم نهجها أن يوفوا على الغاية من النجاح الاجتماعي بقدر ما سمح لهم زمانهم.
لم يتناول التنزيل كل مبادئ الخدمة الاجتماعية بالبيان المفصل ولكن المبادئ التي وردت فيه مجملة لم تقصر عن مدى التفصيل وقد تناولت السنة بأنواعها القولية والفعلية والتقريرية بالشرح والإتمام هذه المبادئ، كما هو الشأن في كثير من أمور الدين ثم كان التطبيق الرائع لتلك المبادئ على أيدي المسلمين في عصور مختلفة، فأصبحت بعض أخلاقهم بل بعض حياتهم، وبدت في تاريخهم وضاءة، لها نورها ولونها المتميز.(861/29)
ولقد نجد أسماء خدمات اجتماعية تؤدى في زماننا ولا يعرف بعضنا لها نظيراً في النظم الإسلامية، ومثل هذه الخدمات في الأغلب موجودة في هذه النظم بالروح والجوهر وإن لم توجد بالاسم والسمات العصرية. وفي الوسع إذا درسنا الأصول والنظم التي وضع الإسلام أساسها، وإذا عرفنا الأشباه، وقسنا الأمور بنظائرها وانتفعنا بما لفقهاء المسلمين من تفصيلات مبينة واستدلالات صائبة وتفريعات منطقية، في الوسع عندئذ أن نقرر أن أنفع وأحدث ما استجد من فنون الخدمة الاجتماعية هو أصيل في الإسلام كل الأصالة.
يقول القرآن في اختصار: (إنما المؤمنون أخوة) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فتجمل كلتا الآيتين الوجيزتين أمهات مبادئ الخدمة الاجتماعية من تكافل ورفاه ورحمة ومعاونة شاملة.
ويؤكد الرسول هذا المعنى في لفظ قليل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) فلا يبقى في معرض الخدمات التي يبذلها المؤمن للمؤمن معنى من معاني الخدمة إلا تزاحم على عقل المتفكر
ومن كلام النبوة: (ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون بضعفائكم) فلا يبقى ضعيف سواء في حاله أو بدنه أو في نفسه إلا ويتجه إليه كل مقتف أثر النبوة بالخدمة الاجتماعية بمعناها الرحيب، يتفقد حاله ويحفظ حقوقه ويحسن إليه ما وسعه الإحسان.
والمسلمون حين يتفهمون أصول الدين تتفطن طبائعهم لهذه الخدمة ومن الأمثلة أن النبي يقول: (الدين النصيحة) فيقول بعض أصحابه: لمن؟ فيقول: (لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فيرى أحد الشراح أن نصيحة عامة المسلمين تنتظم (تعليمهم ما يجهلون من دينهم وعونهم عليه بالقول وبالفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع، إليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، برفق وإخلاص والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب المرء لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط هممهم إلى الطاعات. . . الخ).
وسير كثير من الشخصيات الإسلامية تملأ من الناحية الاجتماعية صحائف تنطق بأنهم(861/30)
كانوا خداماً اجتماعيين من الطراز الأمثل.
فعمر بن الخطاب مثلاً إذ يعلم الناس في أماكنهم ويخلف الغزاة في أهلهم، وإذ يتعاهد العجوز العمياء المقعدة فيأتيها في بيتها بما يصلحها ويخرج عنها الأذى، وإذ يسمع بكاء الطفل في الليل فيتوجه نحوه غير مرة، ويسأل أمه أن تتقي الله وتحسن إليه وإذ يكتشف الأرملة وأبناءها الجياع، فيحمل إليهم الدقيق والشحم ويطبخ لهم ويطعمهم، عمر إذ يفعل هذا خادم اجتماعي يفهم واجباته ويؤديها في غير سطحية ولا قصور.
وإذا لم تكن قامت في الإسلام بصفة مطردة ودائمة هيئات اجتماعية تقصر رسالتها على الخدمة الاجتماعية على النحو المتبع الآن فإن الإسلام جعل هذه الخدمة ضمن الواجبات الدينية العامة التي تضيق عنها الجمعيات المحدودة وإنما تقومبها الأمة كلها متكافلة متضامنة: ولهذا ليس من حق أحد أن يقول إذا سيقت له شواهد في الخدمة الاجتماعية الإسلامية مصدرها فرد أو أفراد إن الأمر مخصوص بهم.
ولو قد درست وثائق الأوقاف الإسلامية لوجدنا أفانين متى الخدمة الاجتماعية تجل عن الإحصاء وكلها تستهدف الإحسان إلى الفقراء والضعفاء، لأنها بمقتضى الفقه لا تجوز إن كانت على الأغنياء وحدهم. والكثير من اتجاهات الواقفين المسلمين هو آية إدراك اجتماعي عال. وما أجدر تلك الوثائق بدراستنا على نحو عميق لنستوعب كل غاياتها وندرك كل دلالاتها الاجتماعية.
والحق أن على المختصين أن يجلوا ما أنبهم من تاريخ الخدمة الاجتماعية في الإسلام، فيبسطوا القول في كيف كافح هذا الدين الفقر ودرأ أسبابه ومسبباته، وكيف سبق إلى جعل الزكاة من قواعده قبل عشرة قرون ونصف قرن من قانون الفقر في إنجلترا الذي جعل البر واجباً ينظمه التشريع. وكيف سبق المسلمون إلى تعيين الموظفين وإنشاء (ديوان البر والصدقات) وهو بمثابة وزارة الشؤون الاجتماعية الآن؛ و (ديوان الحبوس) الذي كان ينهض بأعمال وزارة الأوقاف، فنظم الإحسان على نحو لم تصل إليه النظم الحديثة إلا متأخراً، وكيف أن نبي الإسلام سبق إلى نظام بحث حالة السائل الذي هو أنفع ما تقرره الخدمة الاجتماعية الحديثة. وكيف يدق الإسلام ويعلو في تعريف المسكين وكيف يحفظ الوجوه عن المسألة؛ وكذلك كيف يكافح التسول أشد كفاح، ويحبب في العمل، ويعمل على(861/31)
إتاحته للمتعطلين، ويرى تنشيطاً للحياة الاقتصادية عدم حبس المال عن الاستغلال، فيسوغ إقراض مال الوقف والغائب واللقطة بل مال اليتيم ومال المسجد، وكيف كان تخديم المتعطلين الغرباء من التقاليد الإسلامية الراسخة وكيف استولى المسلمون على الأمد من فضيلة إكرام الغرباء، وكيف عنوا بإقامة السبل والأحواض لسقاية العطشان، وسبقوا إلى إقامة المطاعم للفقراء، فمن كان من هؤلاء يمنعه الحياء من الجلوس إلى الموائد العامة أرسل الطعام إليه في داره.
ومن حق الدراسات الاجتماعية الحديثة أن تعي أن الإسلام في عطفه على الضعفاء يلتفت إلى الصانع لفتة بر ورحمة، فيوصي بمعاونته. وكذلك يفعل مع الأخرق فيثبت عطفاً مبصراً.
أما اليتامى فبره بهم يجول في أسمى الآفاق إذ يمنحهم عناية بالغة الرقة والحرارة. ثم هو بعد ذلك يرى أن يزول اسم اليتيم عمن بلغ الحلم. ولعل من مقاصد هذا حكمة تربوية هي إلا يظل اليتيم يتلقى عطف الناس فيعجزه في مستقبل أيامه أن يواجه الحياة من غير سناد.
والخدمة الاجتماعية التي تهدف إلى خدمة الزواج تبذل في النظم الإسلامية إلى أبعد مدى. والمسلمون يمدون يد العون لراغبي الزواج بعامة والعوانس بخاصة. وقد كان عمر بن عبد العزيز يعدل الحاجة إلى الزواج بحاجة المدين إلى سداد دينه وحاجة المسكين وحاجة اليتيم. ومن الأوقاف الإسلامية أوقاف تعنى بتجهيز العرائس الفقيرات إلى أزواجهن.
وعني الإسلام بلأيم، فدعا إلى الزواج منها، وحبب في السعي على الأرملة صيانة لها في حيائها وشرفها.
وكفل الإسلام اللقطاء، وصان لهم كل حقوقهم، وسهر على إنباتهم نباتاً حسناً.
والإسلام يمنح المدين رحمته، بأنظاره إن كان معسراً، ويحبب في التصدق عليه وبجعله من المصارف المحددة للزكاة.
وتهب النظم الإسلامية التفاتها وعطفها للذين لا أهل لهم ولا عائل، ولا طاقة لهم بعمل، فالزوايا والرباطات والخانقاهات كان يقيمها أغنياء المسلمين مثابة لهؤلاء، وقد كان بعض الرباطات (للنساء المنقطعات أو المطلقات أو العجائز الأرامل والعابدات).
وتجهيز الموتى ودفنهم من أعمال البر المقدمة عند المسلمين.(861/32)
وفي ميدان الخدمة الاجتماعية الطبية، سبق الإسلام المدنية الحديثة إلى الحمل على أساليب العلاج التي لا سند لها من المعرفة، وقرر مسؤولية الطبيب الجاهل.
والنظافة عند المسلمين عبادة، بل هي فاتحة عدة عبادات لهم وهي بالضرورة من قوانين حياتهم اليومية. وقد دعت السنة إلى نظافة طرق الناس وكل مكان يرودونه أو يأوون إليه، وحفلت البلاد الإسلامية بالحمامات على نحو لافت، فمصر الفسطاط مثلاً كان بها ألف ومائة وسبعون حماماً، وبغداد كانت عدة الحمامات بها في وقت ما نحو ألفي حمام، وقرطبة كان فيها تسعمائة حمام.
ومما يصح أن يهدى إلى دراساتنا الاجتماعية أن النظم الإسلامية توقي الناس الأمراض المعدية، وأنها تولي ذوي العاهات التفاتاً خاصاً، فالعميان أجرت عليهم الأرزاق وعينت لهم من يقودهم والمقعدون خصصت لكل منهم خادماً.
ومن دلائل النضج الاجتماعي أن تظفر السجون في البلاد الإسلامية في زمان مبكر بعناية طبية فيخصص لها الأطباء.
والعناية الطبية في المحيط الإسلامي لا تقف عند الأجساد، بل تقدر الأثر البيئي وتقدر حالات النفس، قالوا في التطبيب: (وإن الأجساد الحيوانية تتغير بالأهوية المحيطة بها وبالحركة والسكون والأغذية من المأكول والمشروب والنوم واليقظة واستفراغ ما يخرج من الجسد واحتباسه من الأعراض النفسانية من الغم والحزن والهم. . . الخ).
ولقد سبقت المستشفيات الإسلامية إلى العناية بالمريض نفسانياً وهي الغاية التي تحفل بها الخدمة الاجتماعية الحديثة، سبقت تلك المستشفيات إلى ذلك على نحو متفوق، فمثلاً كان المؤرقون من المرضى بمارستان قلاوون بالقاهرة يتسلون بسماع الموسيقى والغناء والقصص ليطرحوا الهموم والأوصاب، وكان الرقص والروايات المضحكة تعرض على بعض المرضى لعلها تفيء عليهم في محنتهم المتعة والإيناس.
وتغذية المرضى وكسوتهم في المستشفيات الإسلامية كانتا تظفران بأوفى عناية.
والفقه الإسلامي لا يغفل عن أثر الاستجمام والراحة في تحقيق الصحة. فهو يتيحهما لكل عامل بل يجعلهما حقاً لا ينبغي أن يتره صاحب العمل ولو كان أجيره من دين آخر.
وقد سبق المسلمون إلى العناية بالفاقة، فكان يعطي مالاً ينفق منه ريثما يقوى على العمل،(861/33)
فضلاً عن كسوته. وقد عرف المسلمون الإسعاف الطبي الاحتياطي.
وخدمة الفرد عن طريق الجماعة كانت مما عرف المسلمون. والطرق الصوفية في بعض مناهجها تستهدف تلك الخدمة.
وقد مارس المسلمون الرياضة البدنية وأعظموها. يقول ابن طباطبا مثلاً عن فوائد الصيد: (. . . ومنها أن حركة الصيد حركة رياضية تعين على الهضم وتحفظ صحة المزاج).
وقد عرفت للمسلمين ألعاب جمعية خاصة، ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه - كما يبدو من استقراء أخباره - كان رياضي السيرة.
والإسلام يتيح لأهله التسلية البريئة، ويروى عن النبي أنه قال: (الهوا والعبوا فإني أكره أن يرى في دينكم غلظة)، ولذلك عرف المسلمون ألعاباً متعددة للتسلية. على أن الإسلام في حرصه على أهله ومروءتهم ووقتهم يكره لهم بعض الألعاب كالقمار مثلاً.
وعبء الخدمة الاجتماعية الجليل الذي تتصدى اليوم بعض السيدات لحمله حملته المرأة المسلمة منذ قديم، فقد كانت تتعهد المريض والجريح بالمداواة والعناية والعون، وفي الحرب كانت تصنع للمحاربين طعامهم وتحرس رحالهم.
هذه إشارة عابرة لا يتحمل المقام تعزيزها بالنصوص والأسانيد، ولكنها حرية أن تنبه إلى ذلك التراث الفخم الذي يعيبنا ألا نوليه دراسة باحثة صابرة وأن ندعه صامتاً لا ينطق به لسان ولا قلم، والذي لا تعدو الاتجاهات الغربية الحديثة أن تكون ضرباً على بعض قوالبه.
ليت حماستنا لديننا وتاريخنا تتوقد. . . وليت إمامتنا للعالم تتجدد.
لبيب السعيد(861/34)
إيمان قلب
للأستاذ كامل محمود حبيب
(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٌ منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم نفسهم وظنواأن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا أن الله هو التواب الرحيم). (قرآن كريم)
اندفع الجيش اللجب يوفض إلى غايته - إلى بلاد الروم - يطوي فجاج البيداء في صبر، ويقتحم فيافي الصحراء في جلد؛ يغذ السير لا يهاب الموت ولا يخشى الردى. ومن أمامه: الشقة بعيدة، والمسلك وعر، والعدو ذو قوة وذو عدد. ومن بين يديه: القيظ تتوقد سمائمه فتدمغ الجلد، والسوافي تهب عاصفة فتسفع الوجه وتقذى العين، والضيق يطحن الصبر ويعبث بالقوة، ومن خلفه، في المدينة ظلال وارفة يهفو إليها القلب وتصبو إليها النفس. ثم طال بالناس السفر وامتد الطريق، فاجتمعت عليهم فنون ثلاثة من العسرة: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، فاشتدت بالمسلمين الحال وغشيتهم المحنة: فكان النفر يأخذون التمرة الواحدة يلوكها الواحد منهم حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه ليشرب عليها جرعة من ماء حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى على التمرة إلا النواة، وكان القيظ اللافح يصيبهم فيحسون لذع الحِرَّة في حلوقهم فيخيل إليهم أن الرقاب توشك أن تنقطع من شدة العطش، فلا يجد الواحد منهم مفزعاً إلا أن ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. ولكن الإيمان كان يفعم القلوب فيدفعها إلى ميدان الجهاد في حماسة لا تعرف الخور، وفي جرأة لا ينسرب إليها الضعف، وفي بسالة لا تؤمن بالتردد. واندفع الجيش يوفض إلى غايته.
وانطوت الأيام والجيش في سبيله، يجالد الشدة بالأيمان، ويصارع الغير بالعقيدة، ويكافح الخطب بالصبر؛ وهو لا يحس أن أناساً بهم صَعر إلى الثمار والظلال قد أبطأت بهم النية عن الجيش فتخلفوا عن الجهاد في غير شك ولا ارتياب، وهم نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم ولا يغمزون في إيمانهم. . . نفر صدق من بينهم كعب بن مالك بن أبى كعب أخو بني سلمة، وهو فتى أيّد جلد، فارع القوام وثيق الأركان، تتألق على جبينه سمات القوة(861/35)
والفتوة، ويتوثب من إهابه النشاط والشباب، لم يقعد به عن الجهاد نفاق ولا صرفته شهوة الدعة، ولكنه رأى أصحاب النبي (ص) يتهيئون للغزو فطفق يغدو لكي يتجهز معهم فيرجع - آخر النهار - ولم يقض شيئاً، وإنه على ذلك لقادر. ولم يزل يتمادى به الأمل حتى شمَّر الناس بالجد. . .
وأفاق كعب من غفوة الأمل فإذا الناس قد أسرعوا وتفرَّط الغزو، وهو في مكانه لم يقدر له أن يهم فيرتجل فيدرك الركب. لشد ما أحزنه أن يضرب في أرجاء المدينة فلا يرى له أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، مطعوناً عليه في الدين؛ أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء!
وعاش الرجل زماناً غريباً في داره، يضل في غاشية من خواطره السود، ويضطرب في لجة من الندم، لا يجد الراحة ولا الأمان ولا يلمس الهدوء ولا الاستقرار. وهو يعجب - أشد العجب - كيف وسوس له الشيطان فتردى في هاوية مالها من قرار، وإنه لذو قوة وإيمان لا تعوزه الراحلة ولا يفتقر إلى الزاد، وإنه لمن أصحاب بيعة العقبة الكبرى، سبق إلى الإسلام عن عقيدة ثابتة وجاهد الكفار عن إيمان عميق.
وتناهى إلى الرجل خبر عودة النبي (ص) قافلاً من غزوة تبوك فتعاورته الأوهام وساورته الهموم واغتمر في لجة من الحيرة والارتباك، وخشي الرجل أن يلقى النبي (ص) وقد جللته الزلة ودنسته الخطيئة وأشفق على نفسه أن يبدوا أمام المسلمين وهو يتعثر في ذنبه فيعجزه أن يتلمس العذر أو أن يجيد الدفاع، فحضره بثه وطفق يقلب الرأي يريد أن يزور كلاماً يجد فيه الخلاص أو ينمق حديثاً يدرأ به غضب الرسول (ص). غير أنه أيقن - بعد لأي - أنه لن ينجو إلا بحديث فيه الصدق والإخلاص والصراحة جميعاً.
وصبح رسول الله (ص) قادماً فأسرع إليه المتخلفون يعتذرون بالكذب ويحلفون بالباطل، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم النبي (ص) علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله.
وأقبل كعب بن مالك فسلم فتبسم النبي (ص) تبسم المغضب ثم قال (تعال) فجاء الرجل يمشي على مهل والحياء يوشك أن يبعثر نفسه والخجل يكاد يبدد فؤاده. . . جاء يمشي حتى جلس بين يديه فقال له (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟) فقال كعب (يا رسول(861/36)
الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني، والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك). قال رسول الله (ص) (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك).
ورأى رجال من بني سلمة ما كان فثاروا واتبعوا الرجل يؤنبونه على ما كان منه، وحاولوا أن يرغموه على أن يرجع إلى النبي (ص) فيعتذر إليه بما اعتذر به إليه المتخلفون غير أن إيمان الرجل دفعه عن أن يتردى في الهاوية مرة أخرى، فمضى. . .
ونهى النبي (ص) عن كلام كعب بن مالك - وعن كلام رجلين آخرين لقيا مثل ما لقي كعب، هما: مرارة بن ربيعة وهلال ابن أمية - فخاصم الناس الرجل وتغيروا له، فأحس كأن في نظراتهم سهاماً من المقت والكراهية تتناوشه كلما مر بهم وكأن الأرض وقد تنكرت له حين عافه الأهل واجتنبه الرفيق فما هي بالأرض التي عرف. وكان كعب شاباً فتياً فما قعد ولا استكان، فراح يشهد الصلاة في مكابرة ويطوف بالأسواق في إصرار، ولكن واحداً من المسلمين لم يكلمه؛ ثم يأتي مجلس رسول الله (ص) فيسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فما يظفر منه برد السلام.
وطالت عليه جفوة المسلمين فأحس مس الضيق في قلبه، فأنطلق إلى دار أبى قتادة، وهو ابن عمه وأحب الناس إليه، فتسور عليه جداره وسلم عليه فما رد السلام، فقال له يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟) فسكت. فعاد فناشده، فسكت. فعاد فناشده، فقال له (الله ورسوله أعلم!) ففاضت عينا الرجل وتولى يضرب في الأرض وقد أمضه الحزن وأرهقه الأسى، يتخبط في ظلمات من الضيق والألم، فما راعه إلا نبطي من الشام يدفع إليه كتاباً في سرقة من حرير من ملك غسان يقول فيه (أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
لقد قرأ كعب كتاب الملك فما وسوست له نفسه بريبة، ولا اختلج قلبه بشك، ولا خطفه بريق الأمل ولا سيطرت عليه روعة السلطان. هذا القلب أفعمه الإيمان الحق فسما بالرجل على النوازع الأرضية، وغمرته العقيدة الصادقة فسخر من بهرج الحياة وزيف الدنيا،(861/37)
وأشرق فيه نور السماء فترفع على رب التاج والصولجان. لقد كان الرجل سماوياً يعيش بين دقات النور الإلهي ينعم بأفراح الجنة وهي تتألق في قلبه ويسعد باللذة الروحانية وهي تتدفق بين جوانحه؛ فأعرض عن حديث الملك الغساني لأنه حديث أرضى فيه التراب والطين معاً.
يا للقلب الكبير! لقد تساقطت كلمات الكتاب على قلب الرجل شواظاً من نار فيه المهانة والاحتقار وفيه الرزء والبلاء، لأن رجلاً طوعت له نفسه أن يغمز إيمان كعب بن مالك وأن يعبث بعقيدته. وأحس كعب في كلمات الملك الغساني معاني السخرية الجامحة والامتهان المرير فنشر الكتاب أمامه - مرة أخرى - فبدت له كلماته تتلوى كأنها حيات توشك أن تنفث فيه سمومها فتعصف به فأصابه الذعر والفزع، فأنطلق إلى التنور يسجره بالصحيفة خشية أن يصيبه الأذى، ثم هام على وجهه أياماً يرسل الدمع في حسرة ولوعة لا ترقأ عبرته ولا تجف.
ومضى أربعون يوماً منذ أن جلس كعب أمام النبي (ص) يحدثه حديث الصدق والإخلاص والصراحة، ثم أرسل النبي (ص) رسوله خزيمة ابن ثابت إلى الرجل يأمره بأن يعتزل امرأته فما تلبث ولا تعوق ولا جادل. ولكنه أحس العنت والبلاء، هذه - ولا ريب - قاصمة الظهر، إن الرسول (ص) لا يأمر الرجل بأن يعتزل زوجته إلا أن يكون كافراً وهي مسلمة، وشمل الرجل حزن عميق حين رأى النبي (ص) يوشك أن ينزع عنه حلة الإيمان ليجلله العار والضعة، فاستسلم إلى البكاء عسى أن يكفر عن ذنبه أو ينفس عن أشجانه.
وقسا الرجل على نفسه - مرة أخرى - فابتنى خيمة على ظهر جبل سلع يخلو فيها إلى نفسه وإلى همومه، ويقضي هناك عمره يبتغي التوبة مما فرط منه، وقد ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
وصلى كعب صلاة الفجر صباح خمسين ليلة في خيمته التي ابتنى فما فرغ من الصلاة حتى سمع صوت صارخ أوفىعلى سلع ينادي بأعلى صوته يا كعب بن مالك: بشر، فخر الرجل ساجداً حين تبين له أن قد جاء فرج من الله. . . خر ساجداً والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً. وجاء البشير فكساه كعب ثوبيه ببشارته، وهو - إذ ذاك - لا يملك(861/38)