المعترف الصانع. والتمسوا الرزق بالوظيفة في القضاء أو الكتابة في الدواوين، أو التجارة والصناعة. ورفهوا عن أنفسهم بين الفينة والفينة بأبيات من الشعر ينظمونها في حاجاتهم النفسية. ولم يسلموا مصيرهم إلى يد الشعر، يستمطر لهم الرزق من الملوك وأشباه الملوك، كما كان أسلافهم في عهد بني أمية، وعهد بني العباس - حتى بدا لبعضهم أن يحمل على صناعة الشعر، ويفضل عليها صناعته الدنيا التي يقتات منها. ويعلل لذلك فيحسن التعليل، ويوري فيجيد التورية. وقد قال أبو الحسين الجزار (679 هـ):
كيف لا أشكر الجزارة ما عاش ... ت حفاضاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجِّي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا.
أما ابن نباتة، فقد صمم على أن يعيش لفنه، لا تلهيه عنه تجارة أو بيع. . . ظانا أنه سيدر عليه من الذهب النضار، ومن الفضة النثار. فانساق إلى مهواة التكسب حتى أدركته حرفة الأدب، ولحقه كساد الشعر وبواره. ولم يجن من وراء ذلك إلا القلق والبؤس وصار كما يقول عن نفسه وهو بدمشق، متذكراً ما مضى من أيامه:
شهور وصل كساعات قد انقرضت ... بمن أحب وأعوام كأيام
ولَّت كأني منها كنت في سنة ... ثم انبرت لي أيام كأعوام
مقلقلاً بيد الأيام مضطرباً ... كأنما استقسمت مني بأزلام
قد حرمت حالتي طيب الحياة بها ... كأن طيب حياتي طيب إحرام
هي المقادير لا تنفك مقدمة ... وللحجا خطرات ذات إحجام
وهذه حالة لا مفر منها، مادام قد طرق أبوابها، وسلك رحابها. وما ظنك بمتكسب في غير سوق، وسادر دون وثوق. ليقرع بابا، ويهجر مقصوداً لييمم شطر مقصود. هذا يعطيه وذاك يمنعه، وهذا يهب له وذاك يدفعه. وهو ما بين هذا وذاك ساخط على من حرمه وقلاه، شاك فيمن منحه وأعطاه. هذه - لعمرك - حياة المتبطل الكسول الذي يلبس لبوس عصره، ولم يرتد مسوح زمانه. يقول:
يا سائلي بدمشق عن أحوالي ... قف واستمع عن سيرة البطال
ودع استماع تغزلي وتعشقي ... ماذا زمان العشق والأغزال
طول النهار لباب ذا من باب ذا ... أسعى لعمر أبيك سعي الظلال(838/13)
وبقول منها:
أترى الزمان يعينني بولاية ... أحمي بها وجهي عن التسآل
زحل يقارن حاجتي وقد انحنى ... ظهري من الهم انحناء الدال
لم تهتم المقادير بإجابة ابن نباتة إلى سؤله، بل ادخرت له في جعابها أقسى ما ادخرت لإنسان. وحفظت له في قرابها أحد ما أرهقته لامرئ. وهي تعلم - بلا ريب - خبيآت نفسه ومغيبات حسه. فادخرت له ما ادخرت، وأرهفت ما أرهفت لملاءمته لها. وبذلك وحده، ينبغ أدبه، وينبغ فنه، ويصبح شاعر البؤس والشكوى. وما كلُّ بائس بملتئم مع بؤسه في أعماق نفسه. أما ابن نباتة فقد نعم بهذا البؤس، لأن نفسه وجدت فيه معيناً لشكايتها حتى خلقت لتجيدها وتحسن القول فيها. لهذا جاء شعره ترجماناً صادقاً عن مطوى نفسه، ولساناً معبراً عن مذخور حسه. وصارت الشكوى في خلال أبياته، على اختلاف منازعها، اللون الأصيل، واللحن المشترك، الذي لا تتم ألوان القصيدة أو أنغامها إلا به، يقول وقد عجل إليه المشيب:
عجبت خلتي لو خط مشيبي ... في أوان الصبا وغير عجيب
من يعم في بحار همي يظهر ... زبد فوق فرعه الغربيب
من يحارب حوادث الدهر بخفي ... لون فوديه في غبار الحروب
أي فرع جون على عنت الأ ... يام يبقى وأي غصن رطيب
لو همي ماء معطفي من ال ... ين لأفنته مهجتي بلهيب
ونعتقد أن ابن نباتة، كان في مقدوره أن ينجو بنفسه بعيداً عن نحسه، وأن يجنبها مشاق الحياة ووعثاء العيش بالأرتزاق بإحدى الطرق المألوفة في زمانه، وأيسرها عليه الكتابة في ديوان الإنشاء. ونعتقد أنه لو سعى جاداً إلى الوظيفة لظفر بها. فهو لا يقل باعاً ولا يقصر ذراعاً عن رؤساء هذا الديوان، إن لم يكن في الإنشاء أحفل منهم وأفضل. ولا ندري ما نعلل به حرمانه من وظائف الديوان - وما خلقت إلا لأمثاله - إلا وثوقه من شعره واعتقاده أنه سيكون سبيله إلى الغنى والثراء والعيش الكريم، وإلا خوفه مما في الديوان من قيود ونظم لا تتلاءم مع قلقه وحبه للتنقل. ولعل استحواذ جملة من أدباء العصر - أمثال العلاء بن الأثير، وأبناء فضل الله العمري - على قلب الناصر سلطان مصر حينذاك، كان(838/14)
في جملة أسباب حرمانه، وتأبى وظائف الديوان عليه.
على أن ابن نباتة كانت لأبيه ثروة بدمشق وبمصر، وكان يعينه بشيء منها بين الآن والآن. فلما مات أبوه بدد ما ورث في مسارح اللهو ومطارح الهوى ومغامرات الشباب، وأنفق وأسرف، وبذر واتلف، كأنما وعده القدر أن يهيء له الأمل الجديد في المستقبل السعيد. ولكن القدر ضحك منه ملء شدقيه وأسلمه للحاجة تأزمه، وللفاقة لا ترحمه.
هذه أمور كان لها أثر في ابتئاسه وشكواه. ويأبى الدهر إلا أن يضاعف له في هذه الأسباب كلما تراخت الأيام وتطاولت عليه الليالي.
فقد ابتلى بالزواج الباكر. والزواج الباكر نعمة وعصمة، لولا مسئولياته الضخمة وأعباؤه الثقال. ولو كان ابن نباتة في بحبوحة من العيش، وسعة من النعمة، لما أرهقه الزواج وآده. وقد كان شاعراً. والشاعر تطن الأحداث في دنياه الباطنة طنيناً مضاعفاً. وكانت أوتار نفسه تجيد ألحان الشكوى، فوجدت في أحداثه ما يحسن التوقيع عليها.
لقد ولد له نحو ستة عشر وليداً. والأبناء عزة وقوة وزينة، إلا مع الفاقه، فإنهم ذلة وجبنة ومذمة. . . هكذا جرى العرف بين الناس. يقول ابن نباتة:
لقد أصبحت ذا عمر عجيب ... أقضى فيه بالأنكاد وقتي
من الأولاد خمس حول أم ... فوا حرباه من خمس وست
ويقول:
كنت في الشعر جواداً ... يحرز السبق بلمحه
فثناني العسر والأو - لاد لا أملك فسحه
كلُّ ابن لي وبنت ... كشكال لي وسبحه
وزناد القول لا يس - مح في وجهي بقدحه
وتأبى الأقدار مرة أخرى إلا أن تتخذ من هؤلاء الأبناء هدفاً تقذفه فيه وتصميه منه. فقد كان أبناؤه يموتون واحداً إثر واحد إذا بلغوا الثامنة أو نحوها. فتكررت فجيعته في كلُّ واحد منهم يوم ميلاده ويوم وفاته. . . بكاهم وأودع في رثائهم ما في قلب الأب من وله ولوعة، وما في صدره من زفرة، وفي عينه من دمعة ورثاء الأبناء من أمر ضروب الشكوى. يقول الشاعر في رثاء ولده عبد الرحيم.(838/15)
أسكنت قلبي لحدك ... لا خير في العيش بعدك
يسيل أحمر دمعي ... لما تذكرت خدك
وقدَّ بالهم قلبي ... لما تذكرت قدَّك
يا سائل الدمع إيه ... فما أجوَّز ردك
أقصدتني يا زماني ... كأنني كنت قصدك
وكان ما خفت منه ... فاجهد الآن جهدك. . . الخ
نبا بابن المقام بمصر، فنزح إلى دمشق ولقي وزراءها أبناء فضل الله العمري، ووجد من لدنهم شيئاً من الخير والبر أطلق لسانه مادحاً مشيداً بذكرهم، حتى قال:
من مبلغ الأهلين عني أنني ... بدمشق عدت لطيب عيشي الأرغد
وأمنت من نار الحطوب ولفحها ... لما لجأت إلى الجناب الأحمدي
ويقول شهاب الدين بن فضل الله:
نظرت أبا العباس نظرة باسم ... لحال امرئ كاد الزمان يبيده
فأحييته بعد الردى وأقمته ... وقد طال من تحت التراب هموده
ولكنا لا ندري بالضبط ما الذي نفره من دمشق فزايلها إلى حماة، إلا ما كان في نفسه وطبيعته من حب التنقل، وكراهة الاستقرار. ولعل أريحية المؤيد صاحب حماة، جاذبته عصا تسياره ورحل أسفاره. وهناك في حماة وجد طمأنينة وبلهنية، ورفاهة ونعيماً، وصحبة كريمة، وظفر منه المؤيد وأبنه الأفضل، لقاء ذلك، بأعطر ما تطمع فيه الملوك من القصيد. قال يذكر لقاء المؤيد له ويمدحه:
زمن الأنس قائم بالتهاني ... ونوال الملك المؤيد يسري
ملك باهر المكارم يروي ... وجه لقياه عن عطاء وبشر
زرت أبوابه فقرب شخصي ... ومحا عسرتي ونوه ذكرى
ونحا لي من المكارم نحواً ... صانني عن لقاء زيد وعمرو الخ
غير أن الزمان تجهم له في حماة. ولعل ذلك بسبب وفاة المؤيد ثم زوال الأفضل، فعاد إلى دمشق يطرق أبواب وزرائها مرة أخرى، فأدخله ابن فضل الله في ديوان الرسائل. وهكذا نال في شفق حياته ما حرمه وعز عليه في ضحاها. وضج لسانه بشكر ابن فضل حيث(838/16)
يقول:
بلغتني يا ابن فضل الله مطَّلباً ... لم أرجه من بني الدنيا ولم أخل
وقد سموت لديوان الرسائل في ... طي ادكارك لا كتبي ولا رسلي
غير أنه ابتلى حينذاك بتأخر مرتبه، وانقطاع هبات علاء الدين بن فضل الله وتغير قلبه عليه. وكان ذلك مثاراً لشكاية ابن نباتة فمدح علاء الدين مدحاً امتزج فيه العتاب واللوم، والاعتذار والشكوى، والأمل والرجاء. فمن ذلك قوله:
أمولاي قد غنى بمدحي لك الورى ... وسارت به الركبان في السهل والوعر
إلى أن قال:
على أن عندي كأس شكوى أديرها ... على السمع ممزوجاً بدمعي الغمر
أيكسر حالي بالخفاء وطالما ... تعودت من نعماك عاطفة الجبر
ويدفعني عن قوت يومي معشر ... وأنت عليهم نافذ النهى والأمر
ولو كان ذنب لاعترفت به ولا ... تحيلت في عذر ولا جئت من غفر
ويقول له:
يا صاحب الذيل من لفظ وفضل علا ... هل أنت مصغ لما تمليه أسمالي
عاثت يد الدهر في يومي وقد بليت ... أضعاف ما بليت بالهم أقوالي
وقد تكررت هذه المعاني منه في أبيات كثيرة. ومما زاد في آلامه حينذاك أن أشتد به الحنين والشوق إلى بقية أبنائه ممن تركهم بمصر، وكأنما أبقاهم بها وسيلة ميسورة لقلقه وهمه وشكواه. يقول:
صب بمصر حيث أولاده ... بالشام يذري الدمع مصبوبا
ذو كبد حرى وهم بعضها ... فالكل يشكو الشوق ألهوبا
ويقول:
يا ساكني مصر تبت للفراق يد ... قد صيرت بعدكم حزني أبا لهب
ويقول في سياق مرثيته للتقي السبكي يتشوق إلى مصر
ويصف قلبه الموزع:
من لي بمصر التي ضمتك، تجمعنا ... ولو بطون الثرى فيها فيا طربي(838/17)
ما أعجب الحال، لي قلب بمصر وفي ... دمشق جسمي، ودمع العين في حلب
وتنتابه ذكرى أيامه الماضية وما جنت فيه من لذة ومتاع، والذكرى ضرب آخر من الشكوى، فيصف شعوره في أبيات موجعة حيث يقول:
رعى الله دهراً كنت فارس لهوه ... أروح إلى وصل الأحبة أو أغدو
جوادي من الكاسات في حلبة الهنا ... كميت، وإلا من صدور المها نهد
إلى قوله:
زمان تولى بالشبيبة وانقضى ... وفي فيَّ طعم من مجاجته بعد
عاد ابن نباتة إلى مصر بعد رحلة طويلة غير موفقة، إلا في فترات متفرقة. فلقي من الناصر حسن سلطانها الجديد شيئاً من العطف شكره عليه. ولكن كانت لا تزال جراح قلبه نافلة، وعبارات الشكوى على شفتيه حيث يقول:
قضيت العمر مداحا ... وهذا يا أخي الحال
فقير الوجه والكف ... فلا جاه ولا مال
آمن ابن نباتة أخيراً بالحظ إيمان المضطر، وزهد زهد المغلوب، يقول:
هي الحظوظ فعش منها بما وهبت ... ولا تقل عالياً عزمي ولا دونا
ويقول:
منعتني الدنيا جنى فتزهد ... ت ولكن تزهد المغلوب
ويلتمس لكساد أدبه المعاذير، فيقول:
لا عار في أدبي إن لم ينل رتباً ... وإنما العار في دهري وفي بلدي
والإيمان بالحظ قد يكون مظهراً من مظاهر اليأس، ودليلاً على القلق والبؤس، إذ لا يصل المرء إلى حظيرته إلا بعد مدافعة وممانعة، وأمل وإخفاق. آمن ابن نباتة بالحظ ولكن إيمان البرم به الساخط عليه، الذي عالجه فلم ينجع علاجه، وأوقد له فخبأ سراجه. آمن به إيمان المهزوم المستسلم، وفي نفسه ثورة عليه مكبوتة.
غير أن هذا الحظ الذي تعصى عليه، والقدر الذي عبث به، قد انضجا في شعره فن الشكوى. ولكم لهذا الفن بين الناس من عشاق!
(حلوان)(838/18)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(838/19)
حديث الصيام
عدالة قاض
للأستاذ محمد رجب البيومي
(مهداة إلى أستاذي الأديب الشاعر الرواية أحمد شفيع السيد)
- 1 -
كلفت أخيراً بالبحث في تاريخ القضاء الإسلامي فشاهدت صفحات لامعة تغري بالتتبع والاستقصاء، ووقفت على جهود محمودة لنخبة ممتازة من رجال الحق وأنصار العدالة، فتعجبت كيف لا تُجمع هذه الدرر الوضيئة في عقد نضيد يكون موضعاً للمفاخرة والمباهاة!!
وتحن لا نستغرب إذ نجد رجال القضاء في عصور الإسلام الزاهية على جانب كبير من التحرر والدقة، فقد تمكنت تعاليم الإسلام الخالدة من نفوسهم فعرفوا الله حق معرفة، وقرءوا الكتاب والحديث ودرسوا مسائل القياس وقوانين النظر. هذا إلى ما يشرق في قلب المؤمن التقي من نور يهديه إلى الحق مهما تكاثف الظلام!!
ومن هؤلاء الأئمة الأفذاذ القاضي أبو جعفر أحمد بن اسحق أبن البهلول التنوخي الأنباري. وقد أجمع الذين كتبوا عنه على سلامة استنباط وصحة توجهه، وصدق تعليله. وأنت تجدهم يصفونه - في إسهاب زائد - بالبلاغة العالية إذا خطب أو ترسل كما ينقلون شذرات ثمينة من شعره تُنبئ عن عاطفة وذوق، ويجعلونه حجة في التفسير والحديث والرواية والإسناد. أما تبحره في الفقه على مذهب أهل القياس فقد بوّأه منصة القضاء أكثر حياته التي زادت على الثمانين. وإذا اجتمع لفاضل من الناس كلُّ هذه المميزات الرفيعة، فماذا ينقصه من الشمائل والصفات؟!
على أننا لا نكبر الرجل لعلمه وحده، فكثير من الأئمة في القديم والحديث قد جاوزوه في التحصيل والدراية، ولكننا ننظر بكثير من الإجلال والإكبار إلى صرامته في الحق دون مبالاة، وهجومه على الباطل في غير هوادة، مهما جر عليه ذلك من بلاء وعنت. وناهيك بمن يفاجئ رؤساء وصدور الدولة في عهد بما لا يطيق المؤمن الورع صبراً عليه من ميل(838/20)
عن الحق ونكوص عن الجادة، وولوع في البهتان!!
وهاأنذا أقدم للقارئ الكريم موقفين متشابهين له في نصرة الحق، راجياً أن يكون أسوة حسنة، ومثالا يحتذيه الناس.
- 2 -
نحن في أوائل القرن الرابع الهجري وقد انحدرت الدولة العباسية من أوجها السابق إلى وهدة سحيقة سقطت فيها هيبة الخلفاء والأمراء، وتنازع الوزراء وأعيان الدولة على الحكم شر تنازع وأبشعه، فكان هم كلُّ وزير أن ينكل بمن سبقه، فيخلق له الاتهامات الخطيرة التي تطيح بحياته ليأمن على منصبه وجاهه فلا يجد المنافس العنيد. وقد كان حامد بن العباس وزير الخليفة المقتدر بالله يضيق ذرعاً بسلفة الوزير أبي الحسن بن الفرات.
فحاك له من خياله الآثم أفظع تهمة يمكن أن توجه إلى إنسان حيث اختلى بالخليفة، وأخبره أنه عثر على وثائق هامة تثبت اتصال ابن الفرات ببعض العلويين المطالبين بالخلافة، وأن الحزم يوجب أخذه بالشدة لتجري الأمور في وضعنا الصحيح. وقد لهتم الخليفة المقتدر بالأمر، فعقد لفوره مجلساً برئاسة لمحاكمة الوزير السابق، وقد أحضر فيه على بن عيسى بن إسحق بن البهلول وأبا عمر محمد بن يوسف. وجئ بابن الفرات مخفوراً إلى المحاكمة حيث وقف غريمة الوزير حامد بن أمام الخليفة يبسط التهمة الخطيرة، ويبين مغبتها الجريئة، ثم اتجه إلى الباب فجأة وصاح بأحد الحجاب: أدخل الجندي في الحال!
فدخل جندي مديد القامة، مكتمل الصحة، فاتجه حامد إلى المقتدر وقال: لقد ضبط هذا الجندي قادماً من مدينة (أردبيل) ومعه كتب خاصة من لأبن الفرات إلى ابن أبي الساج يطلب فيها معاونه الداعي العلوي وتجهيزه للغد إلى بغداد، حيث يستقبله ابن الفرات فيتعاونان معاً على تقويض الخلافة العباسية، وإنهائها إلى العلويين!!
ثم التفت الوزير إلى الجندي وقال له: قل ما سبق أن اعترفت به لدي فقال الجندي: لقد ترددت بضع مرات على ابن أبي الساج في أردبيل أحمل الرسائل المتنوعة من ابن أبى الفرات جاهلا عاقبتها الخطيرة، فهو المسئول عنها وحده، وما أنا غير حامل فدم يتكسب بالمسير والتجول.
دهش الخليفة من هذا الاعتراف الجرئ، وطار شرر الغصب من عينه، وأخذ يصوب(838/21)
نظراته المحرقة إلى أبي الفرات وهو يتملل في مكانه ممتقع الوجه منقبض الأسارير!
ثم التفت المقتدر إلى القاضي أبي عمر فسأله: ما عندك في ذلك يا أبا عمر؟! فقال في غير روية: لقد أتى ابن الفرات أمراً تخر له الجبال، وللخليفة - أيده الله - أن ينزل به ما شاء من العقاب!. .
فتألق وجه الوزير بالبشر وظن أن المحاكمة ستنتهي على ما يريده من البطش بصاحبه، وجعل يرنح عطفه في نشوة الظافر المنتصر ولكنه رأى الخليفة يتجه إلى بن أسحق فسأله: وما عندك في ذلك يا أبا جعفر؟ فيقول القاضي: لا بد من مناقشة الجندي، فهل يأذن الخليفة بذلك؟ فيجيبه إلى طلبة، ثم تدو هذه الأسئلة بين القاضي والجندي.
القاضي - تدعي أنك رسول ابن الفرات ابن أبي الساج في أردبيل؟
الجندي - نعم رأيتها ودخلها عدة مرات.
- صف لي أردبيل، أعليها سور أم لا؟
فسكت الجندي.
قال القاضي: وما صفة باب الإمارة الذي دخلت منه؟ أحديد أم خشب؟
فسكت الجندي أيضاً.
قال القاضي: ومن هو كاتب ابن أبي الساج الذي ذهبت إليه؟ ما اسمه؟ ما كنيته؟ ما لقبه؟
فبهت الجندي، ولم يرد بشيء.
قال القاضي: وأين الكتب التي كانت معك من أبن أبي الساج لابن الفرات؟
فقال الجندي متلجلجاً مضطرباً: رميتها في البحر حين وقعت في أيدي الجنود.
فاتجه القاضي إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وقد صح عندي أن هذا الجندي جاهل متكسب مدسوس على ابن الفرات.
فقال علي بن عيسى في حماسة مشتعلة: قد قلت ذلك مراراً للوزير حامد بن العباس فلم يقبل قولي، وأرى أن يهدد هذا الجندي بالضرب حتى يقر بالواقع الصريح!
أمر الخليفة بإحضار من يضرب الجندي في المجلس، فما كان السوط يلهب جسمه حتى صار: كذبتُ وغدرت، وضمنت لي الضمانات. والله ما رأيت أردبيل، ولا حملت كتباً إليها(838/22)
طيلة الحياة!
وهنا أمر الخليفة بحبس الجندي وتعذيبه. وكاد يغشي على الوزير المختلق من الهم والانكسار، وانتصر الحق على الباطل بصرامة القاضي النزيه أبى جعفر أحمد بن إسحاق البهلول!
- 3 -
كرت الأعوام تلو الأعوام، فتغير الخليفة المقتدر على وزيره حامد بن العباس فأقاله من منصبه مخفوراً، وأسند الوزارة إلى المتهم السابق أبي الحسن بن الفرات، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
ولقد سعى الوزير الجديد - لأول عهده بالرئاسة - إلى قتل غريمه السابق فشفى لواعج صدره، واستراح من ناحيته، ثم دار بذهنه فيمن حوله من المقربين لدى الخليفة، فرأى أن الوزير الأسبق علي بن عيسى لا يزال متمتعاً بالحياة، وقد يتم صفاؤه مع الخليفة في وقت من الأوقات فيعيده إلى الحكم رامياً يأبى الحسن إلى غياهب السجن، ومن ثم أخذ الوزير يدبر لعلي مكيدة تردبه مع أنه كان من أنصاره المتحمسين يوم حوكم في التهمة الخطيرة، ولكن يالضيعة الوفاء!
رأى ابن الفرات - لانحطاط نفسه - أن يقتدي بسلفه السابق في الاختلاق والوقيعة، فاتجه إلى الخليفة المقتدر وأفهمه أن علي بن عيسى على اتصال بالقرامطة أعداء الدولة، وقد أرسل لهم في مدة وزارته بعض المواد الحربية التي يحظر إرسالها إلى العدو كما أنه لا يعترف بتفكيرهم وخروجهم عن مبادئ الإسلام!
أهتم الخليفة بالوقيعة، وأصدر أمره بمحاكمة علي، على أن يسمع بأذنه ما يدور المحاكمة من وراء حجاب، وقد تم الأمر في أسرع من البرق وشكلت لجنة المحاكمة برئاسة الوزير، وحضر القاضيان السابقان في المحاكمة الأولى: أبو عمر محمد بن يوسف وأبو جعفر أحمد بن إسحاق البهلول.
أفتتح الرئيس الجلسة، وسيق علي بن عيسى إلى المحاكمة وبدأ الوزير فأسرع بإحضار رجل يدعى (ابن قليجة) وأذن له في الكلام فقال:
لقد أرسلني علي بن عيسى إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق(838/23)
وعدة حوائج فأنفذها إليهم، ومعي خطابه الذي بعث به في هذا الشأن، ثم قرأ الخطاب فُوجد خالياً من تكفيرهم وسبهم كما ينبغي أن يكون في نظر ابن الفرات.
وشاء الرئيس أن يلخص الاتهام في نقط مركزة محدودة، فصاح في وجه علي، والمقتدر يسمع من وراء حجاب.
تقول إن القرامطة مسلمون والإجماع قد وقع على كفرهم، فهل أهل ردة لا يصومون ولا يصلون، وتبعث لهم الأدوات الحربية وهم أعداء الخلافة ومبعث الفساد والشقاق!
قال علي: أردت بذلك المصلحة وإعادتهم إلى الطاعة، دون أن تراق الدماء.
قال الرئيس: ويحك لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته، فكيف يجوز لك التعاون مع أهل الفساد؟!
ثم التفت إلى القاضي أبي عمر فقال له: ما عندك في أمر علي؟ فأفحم ولم ينطق بحرف. فاتجه إلى أبي جعفر وسأله ما عندك يا أحمد ابن أسحاق؟!
قال أحمد: لقد صح عندي أن علياً افتدى بكتابه إلى القرامطة ثلاثة آلاف رجل من المسلمين كانوا مستعبدين فرجعوا إلى أوطانهم أحراراً، فإذا فعل إنسان ذلك على سبيل المغالطة للعدو، فلا لوم عليه بل يستحق أطيب الثناء.
تجهم وجه ابن الفرات، وسأل القاضي: ما تقول فيما أقر به علي من إسلام القرامطة وهم أهل طغيان.
قال القاضي: إنهم كاتبوه بحمد الله والصلاة على رسوله فلم يصح عنده كفرهم، فهم لا ينازعون في الإسلام ولكن ينازعون في الإمامة فقط، ومن نازع فيها فهو غير كافر عند الأئمة الأعلام دهش الوزير من الرد المفحم، ثم أستأنف أسئلته فقال:
- ما رأيك في الأدوات الحربية التي أرسلها إلى الأعداء، أكان ينوي بذلك تقويتهم على الشغب والفساد؟!
- هو لم يعترف بذلك فلا تؤاخذه به.
- كيف نصدقه مع أن رسوله وثقته ابن قليجة قد قال إنه أرسل لهم المعدات!
- إذا قال رسوله ذلك فهو مدع وعليه البينة!
- كيف يكون مدعياً وهو ثقته الذي أستأمنه على حمل الكتب والرسائل؟(838/24)
- إن علياً قد استوثق به في حمل الكتب، فلا يقبل قوله في الأدوات الحربية بحال من الأحوال.
- أأنت وكيله حتى تحتج عنه أم أنت حاكم وقاض؟
- لست وكيله، ولكني أقول الحق كما قلته فيك يوم أراد حامد بن العباس أن يتهمك أمام الخليفة بما هو أعظم من هذه التهمة، فهل كنت وكيلك حينذاك؟
بهت الوزير، وانكسر انسكاراً طأطأ رأسه إلى الغبراء، وانتصر الحق مرة ثانية على يد أحمد بن إسحاق.
- 4 -
وبعد فقد كان الورع والصلاح ديدن قضاة السلف الصالح في صدر الإسلام، فكانوا يتحرزون ويدققون، مقدرين عظم المسئولية وفداحة التبعة، ومهما قارنت هؤلاء الأتقياء بأعلام القضاء الحديث في الشرق والغرب، فهم الراجحون الفائزون، حيث كانوا يبتغون وجه الله وحده، فأنزلهم منازل الصالحين، وفازوا بأعظم الدرجات!
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر وأن لا خلة غير زينب.
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(838/25)
من كتاب قصور العرب:
الخَوَرْنَقْ
للأستاذ كاظم المظفر
إن من يتجول في جهات العراق، ويطلع على آثاره التاريخية المنتشرة في أنحائه وزواياه؛ تلك الآثار التي تشير إلى ما كان لهذه البلاد من الماضي المجيد، والحضارة الزاهية، وما بلغته في تلك العصور من الرقي والعظمة، والفن والذوق؛ وخاصة من الناحيتين - المعمارية والزراعية - بما هو جلي في معالمها التي صارعت الدهور، وبارزت الخطوب، وتمردت على الجائرين والعابثين، وأبت إلا أن تستمر على ما قطعته على نفسها من العهود، تسامر النجوم، وتضاحك الشمس، وتماشي الخلود. . . ولا يستكثر على العراق الذي يسميه المؤرخون (مهد الإمبراطوريات) إذا ضمَّ بين أطباقه من النفائس الأثرية ما كان من الأهمية من الدرجة الأولى، وفي طليعة نفائس العالم. . . وقد شاهدنا مواقع مهمة من هذه الآثار في سامراء القديمة، وفي الحيرة، وفي القادسية، وفي بابل وأور، وهي لا تفتأ تناطح الزمن، وتصمد للحوادث غير عابئة بهجمات العواصف ولا مكترثة بزعازع الأنواء. آثار قيمة وكنوز ثمينة؛ تتمثل فيها عظمة الأجداد وفخر الأسلاف.
ولما عاد الأستاذ البحاثة (وولى) إلى لندن بعد أن تولى الحفر في أور للسنة الخامسة قال في حديث له: (نعلم اليوم أن حضارة العراق كانت في درجة رفيعة حينما كان سكان مصر القدماء في حالة الهمجية) ولا يبعد ذلك فإن الآثار التي نراها ونشاهدها والتي عثر عليها حتى الآن لتدل دلالة واضحة على ما كان عليه العراق سابقاً من تقدم في المدنية ورقي في الحضارة.
أما الحيرة فقد أشتهرت بحضارتها الواسعة، وملوكها الذين أسسو المدن حين توسعوا في ملكهم، وامتد سلم إلى بعيد، فشيدوا القصور الشامخة، وأقاموا الصروح والعمارات العالية المشمخرة التي تعلوها الشرفات، الحدائق الغناء، والرياض الزاهرة. . وقد سارت بذكر قصة الركبان، وتغنى الشعراء بخورنقها وسديرها، وأنشدوا القوافي لحيانها وأبيضها. . وفيها يقول عاصم بن عمرو.
صبحنا الحيرة الروحاء خيلاً ... ورجلاً فوق أثباج الركاب(838/26)
حضرنا في نواحيها قصوراً ... مشرفة كأضراس الكلاب
وكان لقصور الحيرة شأن خطير وأحاديث طويلة، دونها التاريخ فأعطانا صورة واضحة عما بذله أولئك الملوك والأمر من جهود جبارة في تشييدها وإقامتها. كما سنرى ذلك فيما.
ومن أشهر قصور الحيرة (اَلخوَرْنقْ) الذي عقدنا هذا الفصل للتحدث عنه. وهو قصر يقع بظهر الحيرة بالقرب منها مما يلي الشرق على نحو ميل أو في شرقي الحيرة في الطريق بينها وبين النجف، وكان على نهر يسمى بأسمه. وقد تجاهل الأستاذ درويش المقدادي قصر اَلخوَرْنقْ وموقعه وآثاره الظاهرة فقال: وفي جنوبي النجف اليوم تل يقال له اَلخوَرْنقْ لعله من آثار المناذرة.
وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في أصل هذا الاسم ومعناه الأوَّلى الذي اشتق منه، فذهب الخليل إلى أنه عربي الاشتقاق من الخرنق ومعناه الصغير من الأرانب. وارتأى البحاثة الألماني (نلدكة) أنه حرف من العبرية الربانية بمعنى المزرعة والعريش. وذهب (أندريا) أنه إيراني من (كوورنة) بمعنى ذي السقف الجميل. وقيل أنه معرب من (خورنكاه) أي موضع الأكل والشرب. وقيل بل تعريب (خور نقاه) أو على الأصح (خانقاه) وهو الموضع الذي يؤكل فيه ويشرب وإلى هذا المعنى الأخير تميل كفة الرجحان عند معظم الباحثين واللغويين.
وكما اختلف في أسم القصر فقد اختلف أيضاً في بانيه فقال ابن السكيت: اَلخوَرْنقْ بناه سنمار للنعمان الأكبر الأعور السائح ابن امرئ القيس وإلى هذا القول ذهب الهيثم بن عدي فقال: إن الذي أمر ببناء اَلخوَرْنقْ النعمان ابن امرئ القيس بن عمرو. وقال الكلبي: صاحب الخورنق والذي أمر ببناء بهرام جوز بن يزد جرد بن سأبور ذي الأكتاف؛ وذلك أن يزدجرد كان لا يبقى له ولد، وكان قد لحق ابنه بهرام جوز في صغره علة تشبه الاستسقاء فسأل عن منزل صحيح ليبعث بهرام إليه خوفاً عليه من العلة، فأشار عليه أطباؤه أن يخرجه من بلده إلى أرض العرب فأنفذه إلى النعمان وأمره أن يبنى له قصراً مثله على شكل الخورنق فبناه له وأنزله إياه. وقال المسعودى في حديثه عن ملوك الحيرة: وملك الحيرة بن النعمان فارس حليمة وهو الذي بني اَلخوَرْنقْ. . .
ولما فرغ سنمار من بناء الخورنق عجب النعمان من حسن بنائه وإتقانه فأمر أن يلقي(838/27)
سنمار من أعلاه حتى لا يبني مثله لأحد. ويقال إنه إنما فعل ذلك به لأنه لما أعجبه شكره على عمله ووصله، فقال: لو علمت أن الملك يحسن إليَّ هذا الأحسان لبنيت له بناء يدور مع الشمس كيفما دارت، فقال له النعمان: وإنك لتقدر على أن تبني أفضل منه، ولم تبنه! فأمر به فطرح من أعلاه. وقيل: بل قال: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله. فقال النعمان: أيعرفها غيرك؟ قال: لا. فقال لأدعنها وما يعرفها أحد؛ ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع. ويقال إن الذي قذف بسنمار أحبحة بن الجلاح بعد أن فرغ من بناء أطم له وهذا القول ضعيف بالنسبة إلى أغلبية أقوال المؤرخين فيما نقلناه أولاً.
والعرب تضرب المثل بفعل النعمان مع سنمار في المكافأة على الفعل الحسن القبيح. فيقال: جازاه مجازاة سنمار. وفيه يقول بعض الشعراء:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رمه البنيان ستين حجة ... يعل عليه بالقراميد والسكب
وقال أبو الطحان القيني في قصة سنمار:
جزاء سنمار جزوها وربها ... وباللات والعزى جزاء المكفر
وقال سليط بن سعد:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار
وقال آخر:
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
وقال يزيد بن إياس النهشلي:
جزى الله كمالاً بأسوء فعله ... جزاء سنمار جزاء موفرا
وكان النعمان هذا قد غزا الشام مراراً، وكان من أشد الملوك بأساً؛ فبينما هو ذات يوم جالس في مجلسه في اَلخوَرْنقْ إذ أشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المشرق، واَلخوَرْنقْ مقابل الفرات يدور عليه على عاقول كاَلخوَرْنقْ فأعجبه ما رأى من الخضر والنور والأنهار، فقال وزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟ فقال لا والله أيها الملك ما رأيت مثله لو كان يدوم. قال. فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في(838/28)
الآخرة. قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك هذه الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه في ليلته ولبس المسوح، وخرج مختفياً هارباً، ولا يعلم به أحد؛ ولم يقف الناس على خبره إلى الآن. وفي ذلك يقول عدي بن زيد:
وتبين رب اَلخوَرْنقْ إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
سره ما رأى وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير
فارعوى فلبه وقال فما غب ... طة حي إلى الممات يصير
وقد أكثر العرب من ذكر اَلخوَرْنقْ في أشعارهم وصار مضرب أمثالهم ولم يتصدوا لوصفه وصفاً مسهباً. غير أن المؤرخ يستنتج من أقوالهم أنه كان طرفة من طرف البناء جامعاً بين العظمة وبهاه الزخرف وروعة الموضع. وجاء في كتاب (البرهان القاطع) مادة سنمار: إن السنمار البناء الرومي بنى اَلخوَرْنقْ وأجاد في صنعة كلُّ الإجادة، حتى أن القصر الذي بناه كان يتلألأ ليلاً ونهاراً بالألوان المتنوعة نظير أبى قلمون، فكان يظهر صباحاً أزرق وظهراً أبيض وعصراً أصفر. وفي ذلك خطاب شريح القاضي للضحاك بن قيس: يا أبا أمية أرأيت بناء أحسن من هذا؟ قال: نعم السماء وما بناها.
وفي الروايات أن بناء اَلخوَرْنقْ دام ستين سنة فكان يبنى سنمار السنتين والثلاث، ويغيب الخمس سنين وأكثر من ذلك، فيطلب فلا يوجد؛ ثم يأتى فيحتج حتى فرغ من بنائه. ولا يخفى على القارئ المحقق ما في هذه الروايات من المبالغة القصصية، وما عليها من مسحة الافتعال؛ لأننا إذا دققنا النظر في زمان ملك النعمان نرى أنه حكم تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، فكيف جاز أن تستغرق مدة بنائه ستين سنة مع أن ملك النعمان الذي أمر ببنائه لم يتجاوز الثلاثين بعد أن قتل سنمار وبقي في القصر مدة طويلة.
ومما كان يزيد هذا الجوسق بهاء وروعة موقعه الطبيعي الفتان، فكان يشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار. وكان البحر تجاهه، وفيه الملاحون والغواصون والحوت، وخلفه البر وفيه الضب والظبي، ويقابل الفرات فيدور عليه على عاقول كالخندق ولهذا افتتن المؤرخون والشعراء بهذا القصر وهاموا في الإشادة بذكره فقال المنخل اليشكري من قصيدة:
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير(838/29)
فإذا سكرت فإنني ... رب اَلخوَرْنقْ والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وقال الأسود بن يعفر النهشلي:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد أياد
أهل اَلخوَرْنقْ والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
وقال المتلمس للمحرق عمر بن هند مهرط الحجارة:
ألك السدير وبارق ... ومرايض ولك الخورنق
وقال ابن كناسة:
الآن حين تزين الظهر ... ميثاؤه وبراقه العقر
بسط الربيع بها الرياض كما ... بسطت قطوع اليمنة الحمر
وجرى الفرات على مياسرها ... وجرى على أيمانها الزهر
وبدا اَلخوَرْنقْ في مطالعها ... فرداً يلوح كأنه الفجر
وقال سلامة بن جندل:
ألا هل أتى أبناءها أهل مأرب ... كما قد أتى أهل النقا واَلخوَرْنقْ
وقال الأعشى:
ويجبى إليه السيلحون ودونها ... صربفون في أنهارها واَلخوَرْنقْ
وقال الثرواني:
يا دير حنة عند القائم الساقي ... إلى اَلخوَرْنقْ من دير ابن براق
وقال الثراوني أيضاً يصف دير مارت مريم:
بمارت مريم الكبرى ... وظل فنائها فقف
فقصر أبي الخصيب المش ... رف الموفى على النجف
فأكناف اَلخوَرْنقْ والس ... دير ملاعب السلف
إلى النخل المكمم والحم ... ائم فوق الهتف
وقال ابن المولى:
موركة أرض العذيب وقد بدا ... فسر به للآئبين اَلخوَرْنقْ(838/30)
وقد بقى اَلخوَرْنقْ إلى عهد الفتح الإسلامي حين دالت الحيرة بدخول القائد خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ونزوله باَلخوَرْنقْ.
وقال في ذلك عبد المسيح بن بقيلة:
أبعد المنذرين أرى سواماً ... يروِّح باَلخوَرْنقْ والسدير
تحاماه فوارس كلُّ حي ... مخافة ضيغم عالي الزئير
وأنشد علي بن محمد العلوي الكوفي الحماني:
سقياً لمنزلة وطيب ... بين اَلخوَرْنقْ والكثيب
بمدافع الجرعات من ... أكناف قصر أبي الخصيب
دار تخيرها الملو ... ك فهتكت رأي اللبيب
قال الحماني أيضاً:
فيا أسفي على النجف المعرى ... وأودية منورة الأقاحي
وما بسط اَلخوَرْنقْ من رياض ... مفجرة بأفنية فساح
وقال أيضاً:
كم وقفة لك باَلخوَرْنقْ ... ما توازى بالمواقف
بين الغدير إلى السد ... ير إلى ديارات الأساقف
وقد بقي هذا القصر عامراً - كما ترى من أقوال الشعراء فيه - بعد الفتح الإسلامي وتخطيط الكوفة زمناً؛ وإن كلاً من ولاة الكوفة أحدث فيه شيئاً من الأبنية ومنهم الضحاك ابن قيس بنى فيه مواضع وبيضه وتفقده. وقد سكنه الأمراء العباسيون، وبقي قائماً إلى القرن السابع الهجري، ومفاد ذلك ما جاء في مراصد الاطلاع: والمعروف أنه - أي اَلخوَرْنقْ - القصر القائم إلى الآن بالكوفة بظاهرة الحيرة. بل ظل عامراً إلى القرن الثامن الهجري وذلك حين ذكره محمد بن بطوطه في رحلته المشهورة إذ قال: ولما تحصلت لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سافر الركب إلى بغداد وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة وخرجنا من مشهد علي عليه السلام فنزلنا اَلخوَرْنقْ موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات. . . أما ما جاء في المعلمة الإسلامية مادة(838/31)
خوَرْنقْ من أنه أصبح خراباً في القرن الرابع عشر للميلاد فليس بصحيح لما قدمناه من قول ابن بطوطه والحنبلي صاحب مراصد الاطلاع.
وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري أرادت الحكومة العثمانية إنشاء سراي وثكنة وأنبار (مخزن) لواردات الخزينة العينية فأوعزت ولاية بغداد إلى حكومة أبي ضمير أن تشرع بهذا العمل فلم يكن من تفكير قائمقام أبي صخير العثماني في إنشاء هذه البنايات إلا القضاء على قصر اَلخوَرْنقْ هذا الأثر العربي القديم فأمر بهدم ما كان مائلاً من جدرانه وقبابه ونقل تلكم الأحجار والأنقاض إلى أبي صخير وبنوا بها المواقع التي أشرنا إليها ولا زالت قائمة إلى اليوم. وحكى بعض الشيوخ أنهم وجدوا أثناء الحفريات في إحدى غرف اَلخوَرْنقْ المطلة على بحيرة النجف عصاً من الخشب الأسود وعليها نقوش وزخرف، ولما أخبر القائمقام وإلى بغداد بذلك أمره بإرسالها إلى بغداد، ومن ثم أرسلت إلى الأستانة بطلب من السلطان عبد الحميد.
وقد زرت موقع اَلخوَرْنقْ منذ أيام معدودة لقربه من مدينتي النجف، فوجدت آثاره ظاهرة بالقرب من نهر السدير أو ما يسمى اليوم بنهر كرى سعد، ويقع جنوبي النهر المذكور بمسافة قدرها (300) متراً تقريباً، ويبعد عن بدء آثار الكوفة الحادثة على عهد الإسلام بمسافة تقديرها ستة كيلو مترات، وعن بدء آثار مدينة الحيرة بمسافة قدرها أربعة كيلو مترات، وعن النجف (12) كيلو متراً أيضاً. وتقع آثاره على أرض رملية جافة مرتفعة ومتصلة بسلسلة مرتفعات طف الحيرة، ويبعد عن فضاء أبي صخير ستة كيلو مترات تقريباً من جهة الغرب، كما يبعد عن آثار مدينة الحيرة القديمة (كنيدرة) بمسافة تقدر بأربعة كيلو مترات تقريباً ويشرف على أرض منخفضة من أراضي الطف انخفاضاً يقدر بعشرين متراً تقريباً من جهة الجنوب الشرقي، ويطل على مناظر جميلة من الرياض الرحبة والبساتين والأنهر. وإذا توجهت إليه من جهة الجنوب تراه واقفاً على قمة جبل مرتفع وهو يتصل من جهاته الثلاث الأخرى بأراض سهلة من أراضي كوفان الرملية، فضاؤه رحب وهواؤه طلق، مبتعداً عن آثار مباني المدن شأو قصور الملوك، أما مساحة أثار هذا القصر فتقدر بعشرة آلاف متر مربع تقريباً بما في ذلك آثار المباني المندرسة والملحقة به والمرافق المتصلة فيه.(838/32)
(النجف - العراق)
كاظم المظفر(838/33)
هروب!
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
كرهتِ حقائق دنيا الورى ... وهمت بأوهام دنيا الخيال
فما يتصبَّاك إلاَّ الرؤى ... وسحر الطيوف وسحر الظلال
متى يا ابنة الوهم تستيقظين، ... متى ينجلي عنك هذا الخبال
أفيقي، كفاك، لقد طال مس ... راك عطشى وراء سراب الرمال
تعيشين في ذهلة الحالمين ... بعيداً بآفاق كون عجيبِ!
ويملأ روحك في قيده ... حنين المشوق وشجو الغريب
ومن فلك الأرض كم تطلقين ... خيالك فوق الفضاء الرحيب
يجوز مدار النجوم ويمعن ... في اللانهايات، عبر الغيوبِ
قفي، أين تمضين؟ فيمَ اندفاعك؟ ... من ذا ترين بأفق الشرودْ
وما هذه؟ رجفة في كيان ... ك مما تشدُّ عليه القيود
تمرد روحك في سجنه ... يريد يحطم تلك السدود
ليسمو طليقاً خفيف الجناح ... وراء الزمان، وراء الحدود!
قفي، أين تمضين؟ من ذا تر ... ين هنالك عبر الفضاء العظيم
وماذا يشوقك، أم من ينادي ... ويومئ من شرفات السديم؟!
تمرُّ أمامك هذي الحياة ... مواكبَ مختلفاتِ الرسوم
فتلوين وجهك لا تنظرين ... وفي مقلتيك ظلال الوجوم
ألا كم تهيمين في عالم ... تناءى بعيداً بعيداً مداه
وفي عمق روحك شوق ملح ... جموح لضاه، عنيف ظماه!
تراك هنالك تستلهمين السمو - ات سر الردى والحياة!؟
تراك هنالك تستطلعين ... خفايا الوجود وكنه الإله!؟
أَلست من الأرض، فيم انخطا ... فك فيم انجدابك نحو الأعالى!
أأنكرت في الأرض هول ألف ... ناء، وظلم القضاء، وجور الليالي؟
تراك افتقدت جمال العدالة ... فيها فهمت بأفق الخيال(838/34)
محيرة والهاً تنشدين الحق ... يقة في غامضات المجالي!
أراعك في الأرض سيل الدماء ... وبطش القوي والرزايا الكبر؟
أرعاك فيها شقاء الحياة ... أراعك فيها صراع البشر
أمن صرخات القلوب الدوامي ... تعض عليها نيوب القدر
تلوذين في لهف ضارع ... بكون تسامى نقي الصور!؟
بلى، هي هذي المآسي الك ... بار تعذب فيك الشعور الرقيق
فتنأين عن واقع راعب ... إلى عالم عبقري سحيق. .
ويمضي خيالك مستغرقاً ... هناك بتهويمه ما يفيق
هو الوهم، عالمك الشاعري، ... المثالي، مسرى الخيال الطليق
توَّحدت فيه بأشواقك الحي ... ارى. . . بهذا الحنين العميق!
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(838/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
لحظات في سجن أبي العلاء
جلست وصاحبي
نتجاذب أطرف الحديث في نواحي الحياة المختلفة من بقاء الجنس والنزوع إلى البقاء وآراء بعض الفلاسفة في الحياة، وساقنا الحديث إلى أبو العلاء، فذكرت لصاحبي قوله في بقاء الجنس:
فليت وليداً مات ساعة وضعه ... ولم يرتضع من أمه النفساء!
واسترسلنا في الحديث فذكرت قوله في النزوع إلى عدم البقاء:
تواصل حبل النسل ما بين آدم ... وبيني ولم يوصل بلامي باء
وأخيراً تطرقنا إلى رأيه في الحياة، وحبه في عدم البقاء، وتشاؤمه من الدنيا، فعرضت لقوله:
دعاني بالبقاء أخو وداد ... رويدك إنما تدعو عليَّ
فما كان البقاء لي اختياراً ... لو أن الأمر موكول إليَّ
فقال صاحبي: ما هي أهم صفة له؟ فقلت: أعمى! فارتسمت على وجهه علامة استنكار لهذا الرأي، كأنه لم يرتح له، ولم يطمئن إليه. . . ولذا جئت أسألك، وقد سبقني إلى هذا السؤال شاعرناالرصافي حينما خاطب طه حسين قائلاً: (لو لم يكن أبو العلاء أعمى، فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك)؟!
ذلك الله إلى الطريق السوي لطلاب المعرفة الحقة، وجعلك هادياً لمن يريد الهداية، وأدامك ما دمت مجيباً لكل سائل.
(ف. ح)
يوسفية - العراق
سؤال الأديب العراقي الفاضل سؤال يجئ في إبانه. . . لقد قضيت لحظات في سجن أبي العلاء قبل أن أتلقى هذه الرسالة بأيام، وليس أحب إليَّ من أن أعود إلى أبي العلاء من(838/36)
حين إلى حين لأرجع إلى كثير مما قال، ولأراجع كثيراً مما قيل فيه، سواء أكانت المراجعة لأقوال القدامى، أم كانت لأقوال المحدثين.
إن شخصية أبي العلاء لتعد في رأيي أهم شخصية قلقة في الفكر العربي كله؛ ومن هنا يلذ لي أن أعود إليه، كما تلذ لي العودة إلى الشخصيتين الأخريين المقابلتين في الفكر الغربي، وأعنى بهما بودلير وليوباردي!
إن الشخصيات القلقة تستهويني دائما؛ تستهويني لأنها مصدر خصب من مصادر الدراسة النفسية، تلك التي تحيل الشخصية الإنسانية غرفة تشريح يتكشف بين جدرانها وتحت لمسات المبضع مكامن الداء ومنابع الانحراف. . . إن هؤلاء الأعلام الثلاثة - وإن افترقوا في الوطن والدين واللغة - إلا أنهم يلتقون في ميدان واحد توجههم فيه نزعة نفسية واحدة: هي القلق. . . والقلق - كما يقول صديقي الأستاذ راجي الراعي - هو أبرز صفحة في كتاب العبقرية!
لو قال الباحثون عن أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كلُّ عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره التشاؤم في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!
من الخطأ - في رأيي - أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!
أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأى واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كلُّ يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات!
نعم، فلم يكن أبو العلاء إلا تاجر آراء على التحقيق. . . آراء فلسفية مختلفة متناقضة لا(838/37)
تستطيع أن تصدق رأياً منها لتكذب الآخر، فإما أن تقبلها جميعاً، وإما أن ترفضها جميعاً، أما أن تقف منها عند رأي بعينه لتخرج منه بلافتة كبرى هي (التشاؤم) فذلك أمر تثور عليه فلسفة أبي العلاء كلُّ الثورة، لأنها فلسفة الإثبات هنا وفلسفة الإنكار هناك! إن وجه الشبه بين تاجر البضائع وتاجر الآراء هو أنك لا تستطيع أن تنسب الأول إلى صنف واحد مما يقدمه إلى الشارين، ولا تنسب الثاني إلى رأي واحد مما يقدمه إلى المريدين؛ وإنما تستطيع أن تنسب الأول إلى أصناف بضائعه كلها فتقول عنه مثلاً إنه يبيع (البقالة)! وهكذا كان أبو العلاء في حقيقة شخصيته وحقيقة فلسفته. . . تاجر آراء. . . فيها التشاؤم وفيها التفاؤل، وفيها الإلحاد وفيها الإيمان، وفيها الإقبال وفيها الإعراض، وفيها الهدم وفيها البناء، وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي (القلق)!
هذا القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء؛ فإذا أراد الدارسون أن يقتفوا آثاره ليصلوا إلى أسبابه، فليس أمامهم غير حقيقة واحدة، هي أن الذبذبة الفكرية ما هي إلا انعكاس مباشر للذبذبة النفسية. . . وهذه هي المرحلة الثانية التي تدفع بهم إلى الباب الأخير ليفتح على مصراعيه!
ولنا بعد ذلك أن نسأل: ما هو المفتاح الأصيل الذي نعالج به هذا الباب لنضع أيدينا على سر تلك الذبذبة التي وجهت العقلية العلائية هذه الواجهة التي لا تطمئن إلى رأى ولا تستقر على حال؟ أهو العمى؟ أهو تلك الآفة التي أصيب بها وحرمته نعمة الضياء وردد وقعها على نفسه في كثير من شعره؟!
إن العمى قد يبعث على الألم، وقد يدفع إلى الشكوى، وقد يحض على والتشاؤم فما بال الرجل قد خرج عن هذه الدائرة وتذبذب بين الأمر ونقيضه، وأنحرف مرة نحو اليمين ومرة أخرى نحو الشمال؟!
ونعرض للمشكلة من زاوية أخرى فنقول: إذا مال الباحثون إلى الأخذ بهذا التفسير الذي يلتمس في الآفة الجسيمة سر النظرة إلى الحياة فهو تفسير غير مقبول. . . فما أكثر المكفوفين الذين امتلأت حياتهم بالنور، وامتلأت نفوسهم بالرضا، ونظروا إلى الدنيا من خلال منظار أبيض يحمل الدمعة في عيونهم فرحة وابتسامة، وما أكثر المبصرين الذين(838/38)
نظروا إلى الدنيا من خلال منظار أسود فقضوا كلُّ أيام الحياة وهم يتخبطون في الظلام!
ليست الآفة الجسمية إذن هي مصدر هذا القلق الذي أقض مضاجع الفكر في شخصية أبى العلاء، ولكنه فيما أعتقد شئ آخر نفسر على ضوئه المشكلة دون أن نحمل النفسية العلائية ما لا تطيق. . . إنك لو رحت تبحث عن سر القلق والاطمئنان في كلُّ شخصية إنسانية لما وجدته ممثلا إلا في كلمتين: هما فراغ الحياة، وامتلاء الحياة!
نعم، وهذا هو المفتاح. . . المفتاح النفسي البسيط الذي لا غموض فيه ولا تعقيد. . . لو مأساة تحفل باللوعة والألم والعذاب، ولغدا الفكر الثابت المستقر وهو نهب لزلزلة الرياح والأعاصير!
ولو امتلأت الحياة عند المبصر وغير المبصر لأصبحت في رأى الشعور أملا كبيراً تتبخر تحت أشعة المتوهجة قطرات الهم والأسى وتفر أشباح الحرمان!
الفراغ في حياة أبي العلاء ولاشيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصيلة لتلك الذبذبة النفسية ممثلةً في هذه الذبذبة الفكرية!
ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟
إنها ثلاثة ألوان: فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردها جميعاً إلى الحرمان؛ فنفس أبي العلاء كان تشكو الحرمان من العطف وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة!
وقف طويلا عند هذا الحرمان؟ الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيره بين ألف رأى وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر حيث يتجلى التناقض التضارب والاختلاف!
هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في توجيه العقول والأفكار!
لقد سألني الأديب العراقي الفاضل: لو يكن أبو العلاء أعمى فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك؟
ترى أيحتاج بعد هذه الدراسة النفسية إلى جواب؟!(838/39)
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
أشكر للأديبة الفاضلة التي كتبت إلي مهنئه بشهر الصوم، أشكر لها هذه العاطفة النبيلة التي حملتها إليَّ سطور وكلمات، أما عن سؤالها إذا كنت مسلماً أو مسيحياً فأنا مسلم والحمد لله. ولو رجعت إلى بعض أعداد (الرسالة) لتأكدت من صدق هذه الحقيقة! أما عن قضيتها الأدبية فأرجو أن تثق كلُّ الثقة بأنني معني لها كلُّ العناية، وسأبذل كلُّ ما في وسعي لأقنع (صاحب الأمر) بعدالة هذه القضية. وأنتقل إلى الرسالة الثانية التي تلقيتها منذ أيام من (دمشق) حيث يقول مرسلها الأديب الفاضل عزة عثمان: (أود أن أتقدم بواجب الشكر وعظيم الامتنان، لما أفدته من أبحاثك حول (الفن والحياة). . . لقد تفهمت تماماً - على الرغم مما قاله الدكتور طه حسين - كلُّ معنى قصدت إليه، وقد توارد على فكري وأنا أقرأ ردك على كلمتي الأستاذين طه والحكيم، ما يقول الأستاذ راجي الراعي: (جميلة هي الموجة المقتحمة الهائجة واجمل منها الصخرة التي تردها!) يا صديقي، أشكر لك هذه التحية الكريمة وأقول لك رداً على الأسئلة التي وجهتها إليَّ: إن الترجمة القديمة، خير من الترجمة الجديدة، خير منها من جميع الوجوه التي عرضت لها في رسالتك، وأكتفي بهذا القدر من الإجابة دون التعرض للأسماء حتى لا يحرج بعض الناس! أما عن رجائك في أن أترجم لقراء الرسالة - ولو مرة في كلُّ شهرين - فصلاً أو قصيدة أو قصة أختارها مما بين يدي من نتاج كتاب الغرب، فإنني أجيبك على هذا الرجاء بأنني لا أميل كثيراً إلى الترجمة لأنها ميدان لا تظهر فيه الشخصية الفكرية كما تحب أن تظهر، ولعلك تلمس من كتاباتي أنني إذا قرأت فصلاً من الفصول في الأدب الغربي أو الأدب العربي حرصت كلُّ الحرص على أن أقف منه موقف العارض والمحلل والناقد، وأظنك توافقني على أن الترجمة لا تحقق لي شيئاً من هذا الشغف الذي فطرت عليه! ومع ذلك فأنا أرجو أن أحقق هذه الرغبة يوماً لأنها رغبة صديق.
ولابد من الشكر مرة ثالثة لصاحب الرسالة الثالثة، وهو الأديب الفاضل محمد دويلة من (شرق الأردن). . . يا صديقي إنني أرحب بصداقتك وبكل صداقة يعطرها الخلق والوفاء، وإذا كانت (من الأعماق) و (من وراء الأبد) قد ربطتا بيني وبين كثير من القراء برباط المودة الروحية المتسامية فكم أود أن أكثر من هذا اللون الوجداني ليزداد عدد الأصدقاء(838/40)
المتذوقين. أما الرسالة الرابعة فهي من الأديب الفاضل محمد تميم بمصر الجديدة يقول الأديب الفاضل: (أرسلت إليكم كتاباً طلبت فيه شرح الخطوط الفنية التي درستم على ضوئها إنتاج الأستاذ سهيل إدريس القصاص اللبناني في العدد (834) من (الرسالة)، واليوم أعود فأطالبكم ثانية بهذا الشرح، وأرجو أن يكون وافياً موضحاً بالأمثلة من كتاب القصة عندنا وفي الغرب). إن ردي على هذه الرغبة هو أن بين يدي كثيراً من كتب الأدباء في انتظار النقد وكثيراً من أسئلة القراء في انتظار الإجابة، فإذا أرجأت التعقيب بعض الوقت على هذا الموضوع فأرجو المعذرة!
كتاب جديد للأستاذ أحمد الصاوي محمد:
لست أدري كيف أشكر للصديق الأثير الأستاذ أحمد الصاوي محمد هذه المتعة الروحية الخالصة التي غمرني بفيضها حين أهدى إليَّ كتابه الجديد (بنات). . . إن الذين يعرفون الصاوي كما أعرفه، يعرفون فيه إنساناً يضع قلبه على يديه ليقدمه إلى الناس في غلاف من سمو العاطفة، ومن هنا كان الصاوي في أكثر كتاباته دقات قلب تسبق وثبات قلم، وبخاصة في هذا الكتاب الجديد الذي كنت أود أن أقدمه إلى القراء في هذا العدد لولا ضيق النطاق، فإلى العدد القادم حيث أضعه على مشرحة النقد والتحليل.
أنور المعداوي(838/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكريات منسية
جاءت ذكريات ثلاثة أعلام النهضة الأدبية والفكرية بمصر في الأسبوع الماضي، وهم الشيخ محمد عبده، والمنفلوطي، وحافظ إبراهيم، فماذا لقيت هذه الذكريات من اهتمام؟
أما الشيخ محمد عبده أستاذ الأساتذة والرائد الأول لإصلاح الأزهر، ونافض الغبار عن الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقد انحصر إحياء ذكراه في حديث عنه للدكتور عثمان أمين بالإذاعة يوم الذكرى الموافق 11 يوليه الحالي، وكذلك السيد مصطفى لطفي المنفلوطي الكاتب الإنساني الذي أحبه كلُّ قارئ وقرأه كلُّ شاد في الأدب، إذ كان كلُّ نصيبه من الذكرى حديث عنه للأستاذ محمد خلف الله أحمد يوم ذكراه الموافق 12 يوليه الحالي، أما حافظ إبراهيم شاعر النيل الذي ظل حياته يشجي بالتعبير عن أوجاع مصر، فقد نسيته مصر وتجاهلت ذكراه الموافقة 21 يوليه الحاضر، وأنكرته الإذاعة كأنها لا تعلم أنه كان في مصر شاعر أسمه حافظ إبراهيم!
وقد اقتربت ذكرى أمير الشعراء أحمد شوقي بك، ولابد أن الإذاعة ستستعد لإحيائها كما تفعل كلُّ عام بذلك البرنامج الحافل الذي يتلخص في إذاعة فصل من مسرحية مجنون ليلى، وإدارة (اسطوانة) يا جارة الوادي، وجفنه علم الغزل!
منذ شهور احتفلت سفارة الباكستان في القاهرة بذكرى شاعرها الكبير محمد إقبال، وكان ذلك فرعاً أو مشاركة للمهرجان الكبير الذي أقيم في الباكستان للشاعر العظيم، ومن نحو شهرين تألفت لجنة من مصر للاشتراك في إحياء ذكرى الموسيقى العالمي شوبان، واجتمعت هذه اللجنة في وزارة الخارجية، ووضعت برنامج الاحتفال الذي سيكون في سبتمبر القادم، ومنذ قليل تلقت وزارة المعارف من هيئة اليونسكو كتاباً يتضمن أنها ستحتفي بذكرى الشاعر الألماني جيته وتدعو مصر إلى الاشتراك في إحياء ذكراه، ونشرت الصحف أن الوزارة أخذت في العمل على تأليف لجنة من الأدباء والفنانين المصريين للاحتفال في مصر بذكرى جيته.
ولو ذهبنا نسوق الأمثلة لاهتمام الأمم والدول بذكريات أعلامها من الأدباء والفنانين(838/42)
والمفكرين لطال المقام، كما يطول بسياق الأمثلة لجحود مصر ونسيان الراحلين عنها بعد أن فنوا بأداء رسالاتهمفيها، والعجيب أن تهتم بمشاركة غيرها في الاحتفال للذكريات وهي لا تهتم بذكريات أبنائها!
وجدير بالغير ألا يهتم بهم ما دامت هي غافلة عنهم!
والتقصير في ذلك يرجع إلى الجهات الحكومية وإلى الهيئات الأهلية، أذكر من الأولى وزاراتي المعارف والشؤون الاجتماعية والإذاعة، ويختص الأزهر بالتقصير في جانب الشيخ محمد عبدة!
وما أكثر الجمعيات الأدبية والثقافية في مصر، وما أقل الأدب والثقافة في مصر، وما أقل الأدب والثقافة فيها! وإن أليق شيء به أن تقوم بإحياء ذكريات الأدباء والمفكرين.
ولا ينبغي أن يمهل ذكر الصحافة في هذا التقصير، فإنه لا تغنى كلمة هنا ونتفة هناك، ولا شئ هنا وهناك. . .
وكذلك الكتاب الذين عاصروا وعاشوا الشخصيات التي نسيت ذكرياتهم، وهم أولى الناس بأن يذكروها.
وأعتقد أن أولئك الراحلين ليسوا في حاجة إلى تلك الجفاوات والاحتفالات، إنما تنفع الذكرى الأحياء بما يجلي عليهم في إحيائها من آثار أدبية ومثل عالية في حياة من تحيا ذكرياتهم، فهي للجيل الحاضر معرض رائع من صور الإنسانية الراقية في حياة الماضيين ومما يلابسها من آداب وعلوم وفنون. . . فاذكروا الأحياء بذكرى الأموات!
تعليم العربية في جنوب السودان:
رددت الصحف أخيراً أنباء خلاف وقع في السودان بين وزير المعارف هناك السيد عبد الرحمن علي طه وبين السلطات البريطانية على دراسة اللغة العربية في مدارس السودان الجنوبي، وقالت الأنباء إن السيد عبد الرحمن قام برحلة إلى الجنوب تفقد فيها حالة التعليم هناك، ولما عاد إلى الخرطوم رأى ضرورة اعتبار اللغة العربية لغة أساسية في مدارس الجنوبوهذا النبأ يدل على حقيقة تدعو إلى الأسف، وهي أن أهل السودان الجنوبي يعلم من يعلم منهم بغير اللغة العربية، بالإنجليزية طبعاً. . ولكن الإنجليز لا يشاركوننا هذا الأسف بطبيعة الحال، بل هم يدهشون لاجتراء وزير المعارف السوداني على الاهتمام باللغة(838/43)
العربية واتخاذها مادة أساسية بتلك المدارس، ولا بد أن يعارضوا في ذلك ويلتمسوا لمعارضتهم أسباباً تحمل (ماركة) البرود الإنجليزي المشهورة. . . قالوا: إن هذه خطوة سابقة لأوانها! واعتلوا بعدم وجود مدرسين للغة العربية ملمين باللغة المحلية الجنوبية: أنه يجب ألا الإنجليزية ولا تفتح أبوابه إلا للإرساليات المسيحية التبشيرية، أي يجنب كلُّ ما يربطه بالشمال من تلك الروابط التي تقلق البال البريطاني ولعلك تعلم أن في (ملكان) من جنوب السودان مدرسة ابتدائية مصرية أنشأتها وزارة المعارف المصرية منذ سنوات هناك حيث توجد إدارة للري المصري، وأن هذه المدرسة يعلم فيها معلمون مصريون أبناء الجنوب باللغة العربية، ويمتحن تلاميذها في امتحان الشهادة الابتدائية المصرية، وقد نجحت جهود هذه المدرسة نجاحاً ملحوظاً. فهل المعلمون المصريون يفهمون اللغة المحلية في جنوب السودان أكثر مما يفهمها معلمو شمال السودان؟
ثم كيف توافر معلمو اللغة الإنجليزية الذين يعرفون لغة أهل الجنوب دون أن يتوفر مثلهم معلمون للغة العربية؟ إذا كان معلمو الإنجليزية من السودانيين الشماليين فحكمهم حكم من يعلمون اللغة العربية من مواطنيهم، وإن كانوا من الإنجليز فما أحسبهم يدعون أن هؤلاء هم الذين أوتوا القدرة على فهم لغة الجنوب.
إن ما يبديه البريطانيون في السودان بهذا الصدد إنما هو تعلات يقصد بها الوقوف في وجه الثقافة المصرية ووجه انتشار التعليم على العموم، فهم لا يريدون تعليماً يستنير به المتعلمون وإنما يريدون تعليماً (يجلنز) وحسب. وزمام الإنجليزية في يدهم يطبعون من يعلمونه بها كما يشاءون، بخلاف الأمر في تعليم العربية غير المأمون.
وتلك (التعلات) ليست جديدة علينا، فقد سمعناهم من عهد قريب يقولون - لمعارضته التوسيع في إنشاء المدارس المصرية بمدن السودان - إنه ليس من مصلحة البلاد تعدد الثقافات فيها وقد فندت هذا القول في حينه. ثم خطب بعد ذلك معالي الأستاذ على أيوب وزير المعارف في حفاة نهاية العام الدراسي الماضي بكلية فيكتوريا الإنجليزية فقال إنه يرى نجاح هذه الكلية في مصر دليلا على فائدة تعدد الثقافات!
وكانت هذه رمية مسددة من معاليه كان أحرى بالإنجليز في أن يبعثوا بها إلى زملائهم في السودان، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم يوقنون أن ما يقوله الزملاء هناك إنما هو (تعلات).(838/44)
وبعد، فإني أبعث إلى السيد عبد الرحمن علي طه بتحية من شمال الوادي، لتشدده في أن تدرس اللغة العربية دراسة أساسية في جنوب السودان، تشدداً بلغ حد التهديد بالاستقالة، ويبدو من آخر الأخبار أنه مصر على رأيه وأنه أدنى إلى النجاح فيه، وهو موقف مشرف ينظر إليه التاريخ نظرة ملؤها الاحترام والاعتبار.
مركب إذاعة
إذا رأيت في الصحف أو سمعت في البرلمان نقداً للإذاعة ينصب على تقصيرها في مسألة من المسائل التي يجب أن تهتم بها، فلابد أن ترى على أثر ذلك في مجلة الإذاعة المصرية - إن كنت تراها - أن إذاعتنا مهتمة بهذه المسألة أكبر الاهتمام ولم تتوان عن أن تتخذ فيها كيت وكيت، وذلك بأسلوب يجتهد فيه كاتبه أن يغطي موضع المؤاخذة بالتعميم والتهويش دون أن يحرج نفسه بالتفصيل والتبيين؛ وبذلك تحاول الإذاعة أن تعوض النقص، ولكنها تركبه. .
وآخر مثل لذلك ما أخذه الكتاب على الإذاعة من تقصيرها في تسجيل روايات نجيب الريحاني المسرحية، وكانت الإذاعة تذيعها من مسرحه، فكان أن توفي ولم يسجل له عمل مسرحي.
ثم طلعت مجلة الإذاعة في الأسبوع الماضي (عدد745) تقول إننا سنقدم قريباً رواية للريحاني، وأعقبت ذلك بأن الإذاعة المصرية تحتفظ بتسجيلات وافية لأصوات العظماء والأدباء والفنانين، وأنها لم تقصر في هذا المضمار.
وتوهم المجلة بذلك أنها سجلت شيئاً للريحاني، دون أن تحرج نفسها بذكر أسم الرواية، على طريقتها التعويضية المتقدمة.
وأخيراً، يوم الخميس الماضي تمخض المذياع فنقل من سينما استديو مصر فلم (سي عمر) لنجيب الريحاني!
وكفى الفلم الإذاعة عناء التسجيلات!!
عباس خضر(838/45)
البريد الأدبي
بيان وتنبيه!
1 - قرأت للمرة الأولى كتاب التصوف وفريد الدين العطار للدكتور عبد الوهاب عزام بك مع نقده في مجلة الكتاب الغراء، وقد طلب الناقد الكشف عن فقرة فشرحتها، ولم يتيسر إيضاح الفقرة الثانية.
ثم قرأته للمرة الثانية ولا زالت تلك الكلمة أمام ناظري، حتى تبين لي وجه الصواب فيها. وتلك الكلمة هي قول الجنيد كما وردت في الكتاب المذكور (ليس الاعتبار بالخرقة، إنما الاعتبار باُلحرقة).
وقد قال الناقد عنها في مجلة الكتاب (وهذا يدعو أن نسأل الدكتور عن تساهله أحياناً في إيراد القول الواحد على وجهين قد لا يتأثر بهما المعنى، ولكن تتأثر بهما إرادة التحقيق، فقد روى في ص 29 عن الجنيد أنه قال: ليس الاعتبار بالخرقة، إنما الاعتبار بالحرقة) وفي ص 31 ذكر أن الجنيد قال: إنما الاعتبار بالحرقة وليس الاعتبار بالخرقة (ومؤدي الروايتين وملفوظهما يكاد يكون واحداً لولا الفرق بين إيراد النفي أولاً والحصر بإنما ثانياً وما يتبع ذلك من فرق دقيق في المعنى من حيث علم المعاني. . .).
وأقول: إن الصوفية همهم العمل ظاهراً وباطناً، فظاهراً الاحتراف وعدم الكسل، وباطناً تنقية النفس من أدرانها حتى تكون العبادة على صفاء. وقد كان الأكابر من رجال الطريق عندما يأخذون على أحد العهد يقرونه على حرفته ويطلبونه منه عدم تركها والإحسان فيها. ولذا كان الخواص يقول: إن الذي يأكل من كسبه ولو مكروهاً كالحجام أحسن من المتعبد الذي يأكل بدينه ويطعمه الناس لصلاحه. وكان رضي الله عنه لا يجيب فقيراً إلى طعامه إلا إذا علم أن له كسباً شرعياً من تجارة أو زراعة أو صنعة. وقد سأل شخص من الأمراء أن يعمل له مولداً فأبى الشيخ وقال: والله إن كسبي من هذا الخوص لا يعجبني الأكل منه، فكيف آكل من كسب الأمراء أو أدعو الناس إلى الأكل منه!
مما ذكر يتضح أن التصوف الحق هو العمل وهو المراد من قول الجنيد رضى الله عنه. وصحة قول هو: ليس الاعتبار بالخرقة، أي بلبس ثياب المتصوفة، إنما الاعتبار بالِحرفة أي الصنعة، بمعنى أن الدين الصحيح والعبادة الحقة ليس لبس الإنسان لباس التقشف(838/46)
والمعيشة على حساب الغير وترك التكسب، وإنما هو الإحتراف ومنفعة العباد، فلا خير في شخص لا فائدة في حياته. وهذا بنى الله داود عليه السلام مع مرتبته (كان يأكل من عمل يده).
فالعمل في نظر المتصوفة هو الحياة، ولا خير في حياة بلا عمل.
2 - ظللت أرتع في رياض كتاب (عبقرية محمد) للأستاذ عباس محمود العقاد وأستمتع بالنظر إليها وبأريجها، وبما فيها من جمال وجلال، ولكني وجدت نبتة صغيرة - ليس لها مكان - يسهل اقتلاعها إذ لا يصح أن يشملها هذا الروض العطر.
وأفصح فأقول وجدت حديثاً في ص 239 وهو (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف. . .).
وهذا الحديث القدسي ليس مذكوراً في الكتب المعتمدة في الحديث، وقد قال عنه ابن تيمية: ليس من كلام النبي عليه السلام ولا يعرف له سند صحيح. (وتبعه الزركشي وابن حجر والسيوطي وغيرهم، ومن المتأخرين من أفتى ببطلانه. ولو ورد على لسان بعض المتصوفة فليس لبعضهم باع في ذلك وقد قال أحد أكابرهم وهو الغزالي (أنا مزجي البضاعة في الحديث). ولأن مدار صحة الحديث على السند، وهذا الحديث الذي معنا لا سند له.
ولو خلا منه كتاب الأستاذ العقاد لما أثر فيه ولما ذهب من جماله شيء بل يزيده جمالاً فوق جماله.
(شطانوف)
محمد منصور خضر
حب عذري
يكاد يجتمع الكاتبون في عصرنا على أن الحب الطاهر لم يعد له وجود إلا في بطون الكتب، وخيالات الشعراء، وأدمغة المحررين، ويرون أن الحب إن كان بالأمس سمواً بالنفس عن الدنيات، واتفاعاً بالروح عن أوضار التراب، فإنه اليوم شهوة جسد إلى جسد، ورغبة جنس في جنس، قالوا، ولا يدعي الهوى الطاهر إلا أحد رجلين إما مجنون أو(838/47)
مغالط.
وقد حدثني صاحبي - وما عهدته يكذب - بقصة أسوقها لقراء الرسالة، أنا أعلم أن الجم الفقير منهم سيزم شفتيه، وبجحظ بعينيه، ويرسل خياله في الأفق ثم يقول: أين، ومتى؟ وأن القليل، أو الأقل من القليل، سيتغافل، ويقول: يحتمل، ولكنني على كلُّ حال واثق من صدق صاحبي، مؤمن بما قال، وقد أوجز قصة صاحبته فقال: هي فتاة لم تبلغ العشرين من عمرها، وهذه السن هي سن الطيش والنزق عند الفتيان والفتيات، ولكن هذه الآنسة أثبتت بسلوكها أن الفتاة المتدنية المحافظة، المترفعة بنفسها، الخاضعة لكبريائها، تستطيع أن تكون قوية الإرادة، صادقة العزيمة، فلا تندفع وراء عواطفها، ولا يجرفها التيار، رأته فأحبته، أحبته حباً شديداً ملك عليها نفسها، وسيطر على مشاعرها، وكما يقول الرافعي رحمه الله: (أراه حباً فالقاً كبدي) كان شاباً مديد القامة، أبيض الوجه، مفتول العضل؛ وكان فوق ذلك (فناناً)، أحبته، وتطلعت نفسها إليه، وأوشكت أن تنزل إلى الشارع لتتحدث إليه، وتنعم بقربه، ولكنها - بعد جهاد نفسي عنيف - خضعت لكبريائها، ونزلت عند تقاليد أسرتها، فآلت على نفسها أن تتجلد، وتتحمل، وأن تترك حبه يفعل في نفسها ما يفعل.
قال صاحبي: وأتيح لي أن أطلع على سرها وأن أتحدث إليها فيه، فسألتها مرة: كيف عرفت هذا الفتى؟ قالت: ذلك أسم مقدس، لا أسمح لنفسي أن تنطق به، ولا أبيح لغيري أن ينطق به أمامي، قلت: هل تريدينه زوجاً لك؟ قالت: لا. أنه جميل، إنه أجمل مني، وأنا لا أصلح له. إن يتزوج بفتاة جميلة تسعده، ولا أريد أن يضحي بعواطفه في سبيلي. قلت: كأنه يحب أخرى، قالت نعم، قلت هذا شاب صغير النفس، قالت تريد شيدي، أرجو أن تتأدب في الحديث عنه. إنني أحبه حباً خالصاً؟، لا أريد من ورائه ما تريده الفتيات أمثالي، وسأضل وفية له، ولو أحب مائة فتاة أخرى. ويا حبذا لو استطعت أن أقدم إليه ما يساعده على بلوغ آماله.
تلك هي قصة هذه الفتاة المثالية، فما رأي قراء الرسالة؟
علي العماري
الجمع بين الأختين:(838/48)
ورد في القصة التي نشرتها السيدة بنت الشاطئ في مجلة الهلال لشهر حزيران (يونيه) إن الزواج قد جمع بين أختين في زواج واحد، حيث قالت الكاتبه: (حيث شاع في الحي بعد حين أنه تزوج من أختها وهي أرملة. . .) وجاء أيضاً في الصفحة ذاتها (. . . فسكنت حيث هي، تضع عيناً على طفلتها، وترسل الأخرى وراء الزوج والضرة الأخت وبنتيها).
ولما كان أدب القصة يقضي أن تكون القصة منتزعة من صميم المجتمع مصورة تقاليده، واعية شعائره، ممثلة لشتى النزعات والخلجات التي تدور في نفوس أشخاصه لكي يسهل أداء الرسالة وتحقيق الغاية التي يهدف من ورائها القاص. ولست أدري كيف غرب عن بال الكاتبة الفاضلة أن الجمع بين الأختين محرم في الشريعة الإسلامية السمحة، إذ أن القاعدة فيها أنه يحرم الجمع بين الأختين وبين امرأة وعمتها أو خالتها أو بنت أخيها أو بنت أختها. لأنه لو كانت إحداهما رجلاً كانت الأخرى أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو بنت أخته وذلك لقوله تعالى في كتابه الكريم: (وأن تجمعوا بين الأختين). ولقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها، فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) وبهذه المناسبة أقول إن الجعفرية تذهب إلى أنه يجوز للرجل أن يتزوج على امرأته بنت أخيها أو بنت أختها برضاً من امرأته. وبعمتها وخالتها مطلقاً قاصرين الجمع على ما ورد في النص.
هذا وللكاتبة الفاضلة ولصاحب (الرسالة) الغراء جزيل الشكر.
(بغداد - كرخ)
محمد العبطة المحامي(838/49)
القصص
قصة من لبنان
رفيق علام
(مهداة إلى الصديق الأستاذ أنور المعداوي)
للأستاذ سهيل إدريس
كانت تشدني إلى رفيق علام صداقة مخلصة وثقت أواصرها خمسة أعوام تلازمنا فيها تلازم الظل وصاحبه، فلم يكن عجباً أن أدرك من شأن رفيق، ويدرك هو من شأني، مثل الذي يتاح للأخ من أخيه. وقد كانت طبيعة عملنا التجاري الواحد، وتجاورنا في السوق بيسر أن لنا اللقاء، كلما وجدنا من وقتنا سانحة. وكنا إلى ذلك نتواعد على قضاء سهراتنا في الملاهي، فيجد كلانا أن صاحبه أقرب إليه من نفسه.
والحق أن صديقي رفيق كان شاباً وسيما جذاب الملامح، ممشوق القامة، تحسبه إذا ما رأيته من أولئك الذين يختارون اختياراً لتمثيل الأفلام السينمائية. . . وكانت الملابس - إذا ما ارتداها - تكتسب أناقة ليست هي من طبعها، فتجتذب إليه أنظار النساء قبل الرجال.
وكان يسعدني أن يجد رفيق فيّ وأجد فيه مستودعاً ينفض كلانا عنده ذات نفسه، فكنا نتعاون على شؤوننا ونتبادل المشورة في الشجون، حتى لم يكن أحدنا يحبس عن صاحبه خبيئة، وقد أتيح لي بفضل ذلك أن أقف من حياة صديقي على نفسية شاب تعد نموذجاً بشرياً في حياة الناس.
لقد تابعت عن كثب قصة حبه الأول، ذلك الحب الذي كانت بطلته فتاة أقسم أني لم أر أجمل منها في النساء اللواتي أعرف وأرى. وقد عاش رفيق هذا الحب بكل ما في أرادته من طاقة الحيوية وبقصارى ما تنطوي عليه جوانحه من رصيد الشباب وحميا الفتوة؛ ثم تحطمت كأس الحب في يده ذات يوم لشدة ما عصرتها أصابعه، فخرج من ميدان المعركة مثخناً بجراحات دامية، لا يكاد يملك وعيه من فرط ما كانت تورث في نفسه من الآم. ولما اندملت الجراحات حسب أنه شفى، وأن بوسعه أن يستأنف طريقه أثبت قدماً، وآمن غاية.
ولقد سلك هذه الطريق حقاً، ولكني رأيته يتهاوى على الجانبين، فأدركت أن آثار الصدمة(838/50)
لا تزال تفقده توازنه.
كنت أعرف الأثر الذي تركه حب (مها) في قلبه وكيانه ونفسه. كنت أعرف عمق هذا الأثر؛ فلم يكن بدعاً أن يبدو أعمق منه جرح خيانتها إياه، في أعنف فترة من فترات حبه. وقد بلغ من شدة هذه الصدمة أن رفيق لم يحدثني عن الخيانة إلا مرة واحدة بكلمات قليلة مقتضبة، كأنما كان يرغب في أن يوفر على نفسه العذاب الشديد الذي تبتعثه ذكراها. . .
ومنذ ذلك اليوم، تبدى لي صديقي كالشبح التائه الحائر، يسير دون أن يعين مقصداً ومن غير أن يستشرف محجة. كان كهؤلاء الذين كتب عليهم أن يقضوا حياتهم هائمين سادرين، في طريق ضالة، يتناولون الأحداث كما تأتي، ولا يفكرون بغير اللحظة التي يحيون.
على أن شيئاً من ذلك لم يكن ليبدو في ظاهر الحياة التي يسوقها صديقي. . . بل لقد كانت آثار السعادة وآيات الرضى والمرح بادية على وجهه، حتى تحسبه قد طرح عنه هموم الدنيا وتدرع باللامبالاة واتخذ من الحياة كلها أداة لهو ومتعة. . . أفيكون هذا رد فعل عنيفاً للصدمة النفسية التي حطمت أعصابه وأوهنت قواه؟
ولعل أعجب ما في أمره أن سعادته تلك كانت تتجلى أكثر ما تتجلى إزاء مبعث شفائه الغامض ومصدر ألمه المكنون. . . إزاء المرأة نفسها. . . سعادة ترتسم بسمة على ثغره لا تفيض، ومرحاً في عطفه لا ينفذ.
وكنت كلما لقيته أستمع إليه يحدثني عن مغامراته فيصدفني الحديث، فلا أعجب من أن تقبل عليه الفتيات كلفات بحبه شديدات الإعجاب بشبابه، وكان هذا يتيح له أن يحظى من المرأة بما تمتنع عن بذله غالب الأحيان.
وقد كنت موقناً أن صديقي يطلب في المرأة أول ما يطلب الجمال الفاره، والفتنة الطاغية، وكان سرعان ما ينصرف عن الفتاة التي لم يجد عليها القدر بحظ بالغ من الجاذبية والحسن. وقد عرفني ذات مساء بفتاة في متجره ظلت صورتها مطبوعة في عيني طوال تلك الليلة، ولم أستطع أن أخنق شعور الحسد الذي داخلني منه! كانت (سميرة) - وهذا هو أسمها - ذات عينين تنفثان السحر، وملامح تعجز يد فنان النابغ عن أن تخط مثلها في الدقة والانسجام، وقامة نحتت في قالب صناع.
وأقبلت على رفيقي في اليوم التالي أسائله؟(838/51)
- إنها لجديرة بك حقاً. . . فما تنوي أن تفعل؟
فانتفض يقول: - أتزوجها؟ أهذا ما تعنيه؟
فأومأت برأسي إيجاباً، فإذا هو يصمت لحظات؛ ويرنو إلى بعيد فلا أرى في عينيه غير الشرود. إنه لم يفكر في هذا من قبل، وها هو ذا غير مطمئن ولا مستقر، كأنما كانت تخيفه فكرة الزواج.
وكان هذا شأنه أيضاً يوم سألته لماذا لا يخطب ابنة عمه التي كانت تهوى إليه بكل ما في كيانها من حب، وكانت تنعم بحظ وافر من الجمال والأناقة والثقافة. . . وقد حدثني هو نفسه عنها، ولم يخف علي أنه معجب بها، وأنه سعيد في أن يشعر نحوها بالحب، ولكني إذ جابهته بفكرة الزواج، ألقيته يعود إلى حيرته وتردده، كأنما لم يكن له الخيار في أمره. . .
على أن صديقي أخفى عني أمراً واحداً، هو أنه كان على علاقة بفتاة ثالثة لم يحدثني عنها لحظة، وقد رأيته في صحبتها غير مرة في مطعم أو ملهى. . . وفاجأته ذات مساء بذكرها فعراه الارتباك، ثم أخذ يضحك قائلاً:
- لم أحدثك عنها خجلاً منك. . . إنني أبالغ حقاً في علاقاتي مع النساء!
- فبادلته ضحكته، ولكني لم أجرؤ على مصارحته بأني بت أخشى عليه كلُّ الخشية، وإني أود لو يقر في حياته على قرار. . . هكذا كان رفيق: تحسبه إذا رأيته سعيداً مرحاً راضياً، فإذا أحببت أن تكشف عن دخيلته، ألقيت فكره وحسه غارقين في أمواج متلاطمة من الحيرة والشك والاضطراب.
لقد كنت أقرأ في عينيه أن شقي في أعماقه، وأنه لا يدري هو نفسه ما الذي يريد. وكان هذا الاضطراب مسطراً في نظراً الشاردة التي لا تستقر على معنى. . . بل كنت ألاحظ أنه كان يحاول جاهداً أن يتفادى النظر في عيني والتحديق بهما، كأنما كان يخشى أن اشرف من عينيه على عالمه النفسي المتهافت. . .
ولم أجد آخر الأمر مناصاً من أن أجابهه برأيي الصريح، فانتهزت فرصة أدركت أنه كان متهيئاً فيها للبوح والبث، وساءلته بلهجة لا تخلو من تعنيف:
- إلام تنتظر يا رفيق؟ ألست راغباً في أن تستقر بحياتك على قاعدة؟ أنك الآن في فجر(838/52)
شبابك، وإن بيدك المال وافراً، فلماذا لا تتزوج إحدى فتياتك الثلاث، وكلهن رائعات الحسن، فتحظى بالطمأنينة التي تفتقر إليها؟
وحاول أن يضحك وأن يعمد إلى المزاح، ولكن سرعان ما انقبضت أسارير وجهه ونظر إليَّ بإحداد، ثم قال بعصبية:
- لا. . . لست أطمع في واحدة منهن. . . إنهن لسن جميلات. . . وأنا لا أحب إحداهن ولست أرغب في الزواج.
وحين حاولت أن أظهر له خطأ نظرته إلى جمالهن قاطعني يقول:
لا. . . ليست واحدة منهن في مثل جمال (مها) ويخيل إليَّ أني لن ألقى بعد الآن فتاة جميلة مثلها، وإني سابقى أبد الدهر أعزب.
وكان هذا كلُّ ما نطق به تلك الليلة، ثم أنصرف عني، على شدة رغبتي في أن أستمع إليه وألتمس المزيد مما يشجيه. . . والحق أن هذه العبارات اليسيرة كانت غامضة لم تحسر لي عن طوايا نفسه. وكل ما خلته ساعتذاك أن امتناعه عن التفكير بالزواج عائد إلى هذا الخوف الغامض الذي تمتلئ به نفسه من الخيانة. . . ومن المرأة. . . ومن الجمال. . . ومع ذلك فهو لا يلتمس غير المرأة وغير الجمال! إنه دون ريب لا يعي هذا الخوف، ولو كان يعيه لما غرق في هذه الحيرة التي تجعله تائهاً في خضم الحياة. . .
ثم وقع صديقي رفيق ذات يوم يرم فجأة في مرض أقعده زهاء ثلاثة أسابيع في داره. وقد عدته في هذه المدة غير مرة، وكان يشكو (الدوسنطريا)، ولكني أيقنت أن مرضاً نفسياً هو الذي أودى بصحته، وإنه كان يشكو عقدة توهن قواه.
وفي تلك الفترة، عادت جراحات الذكرى تدمي روحه وضميره وترهق أعصابه، ثم صارحني بعزمه على أن يهجر البلاد ويسافر إلى أوربا. فإذا وجد راحة لنفسه استقر فيها، وإلا عاد بعد أن يكون قد التمس من العزاء والتفريج قدراً كافياً للانطلاق في طريق جديدة من طرق الحياة.
ولم أجد أنا مبرراً لأن أقنعه بالبقاء، بل لقد شعرت بأن عليَّ أن أحثه على مغادرة الجو الذي فجع فيه بعاطفته البكر، فلعله إذ يبتعد عنه يسلو ويتعزى. . . ولعله يجد هناك - في أوربا - المرأة الجميلة الرائعة التي تمحو من قلبه ونفسه صورة الفتاة الأولى التي يخيل(838/53)
إليه أنه لن يلقي أجمل منها. . .
وكأن هذا العزم أزال طرفاً من الحيرة التي كانت تقلق حياة رفيق، فإذا البشر يعاوده، وإذا سيماء المرح تشيع على محياه، وإذا هو يشفى من نكسته في وقت يسير، ويأخذ يعد عدته للسفر إلى بلاد الغرب.
ولكنه ما لبث أن فاجأني يوماً بأنه قد عدل عن السفر، وأنه لا ينوي أن يغادر بيروت. وحين سألته تعليل هذا الانقلاب، دعاني إلى تناول الغداء معه ذلك اليوم، ووعدني أن يزيل فضولي إذ أوافيه إلى داره عند الظهيرة. وجعلت أترقب حلول موعد اللقاء، وبي عجب لا ينفضي، ورحت أتساءل: لعل رفيق لقي فتاة حظي جمالها من إعجابه بما لم يحظه جمال سابقاتها الثلاث! أو لعل (مها) نفسها عادت إليه تستغفره، فصفح عنها، واستسلم لجمالها الطاغي؟. . .
وظللت في حيرة وتساؤل شديدين حتى بلغت داره عند الظهر فاستقبلني بترحاب لم أعهده منه، وما عتم أن دلف بي إلى غرفة الطعام. . .
وسرعان ما لا حظت أن المائدة كانت قد أعدت لثلاثة أشخاص، وابتسم رفيق إذ أدرك أني لاحظت ذلك. . . ولكنه امتنع عن أن ينغم بحرف.
وإن هي إلا برهة وجيزة حتى قطع صمتنا وقع خطى متجه إلينا، وقبل أن يتاح لي أن ألتفت إلى مصدر الصوت، كان رفيق قد نهض مرحباً. . .
وحين عدت إلى الجلوس، بعد أن جلست هي. . . كنت ملتاث الحس، مختلط الذهن، أكاد لا أميز معاني الأشياء.
لقد كانت هي. . . علياء، خادمة رفيق. . .
يا إلهي. . . إنها هذه الفتاة التي لم تكن تمتاز بأي حظ من الجمال. . . هذه الفتاة التي كانت تخدمه في إبان مرضه، فلم أكن أوليها نظرة من نظراتي. إنها خادمته. . . خادمته. . .
وانتزعني هو من وهدة التفكير المضنى، حين سمعته يقول لي:
- إنها علياء. . . وقد عرفتها ولا ريب. . . لقد خطبتها أمس.
وكنت مطرقاً ببصري إلى المائدة لا أرفعه إليه، حتى رأيت يده تمتد إليَّ منبسطة تبغي(838/54)
المصافحة، وسمعته يسألني:
- ما بالك. . . ألا تهنئني يا صلاح؟
وسرعان ما أحسست بكفي تمتد إلى كفه، فتصافحها، ثم تشد عليها بحرارة، بينما كنت أتطلع في عينيه.
لأول مرة منذ عرفت رفيق، قرأت في عينيه الطمأنينة والاستقرار.
(بيروت)
سهيل إدريس(838/55)
العدد 839 - بتاريخ: 01 - 08 - 1949(/)
13 - أمم حائرة
العدل أيضاً
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
(وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية)
إذا أنار الأيمان النفوس ورفعها وهداها إلى العدل، ثم أنفت العدل ودربت عليه واطمأنت إليه، وأخذت به في الكبير والصغير والعظيم والحقير، والجليل والدقيق، وارتفعت عن الأهواء المتصادمة، والمنافع المتقاتلة، وأََمَرٌّتْ كلَّ هذا في الأنفس الثقافة والتربية والأسوة الحسنة، والمثل الصالح، سيطر العدل على الآراء والأقوال والأفعال، وماتت العصبيات المضلة، وهلك الهوى المفرَّق. يخلص الإنسان في الفكر، ويتنزه فيه عن الهوى، ويعدل بين الحجج، ويلتمس الصواب حيث كان، يسأل الله الهدى، ويحرص عليه مبرأ من الميل، والجور وابتغاء مصلحة له أو مضرة لغيره فيدرك الحق أو يقاربه، ويخلص الإنسان في قوله، فلا يقول إلا بالحق، وبالعدل، ولا يتزيد لنفسه، ولا يبخس حق غيره، ويهجر الكلمة المضللة، والقولة الفاتنة، ولا يلبس الحق بالباطل فيما يدعي لنفسه أو جماعته وفيما يدعي على غيره من الآحاد والجماعات، ويتعاون الوحدان والجماعات على بيان الحق، وإيضاعه، وحياطته، والدفع عنه، وتيسيره للعقول، وتقريبه إلى الأذهان، وعرضه على الناس، نقياً جلياً، لا يحجبه ضباب الباطل، ولا يخفيه زخرف الكذب وتمويهه (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا) ولو سار الناس على هذه السيرة أو قريب منها، ما فتنتهم الدعاوي الباطلة، وما أضلتهم الأقوال الخادعة، وما سولت لهم أنفسهم أن يلبسوا الباطل ثوب الحق ابتغاء منفعة لهم، ويصوروا الحق في صورة الباطل للأضرار بغيرهم، وما ابتليت الأمم بهذه الجلبة والضوضاء التي يسمونها الدعاوة، يدعى كل قبيل لنفسه، ويزين باطله، ويفترى على غيره ويبطل حقه، وما أخذت الناس هذه الفتن، والمحن في العقائد والأقوال والأعمال، وما سد القوى على الضعيف الآفاق، وضرب عليه الأسداد بما ينشره يذيع ويكرر نشره وأذاعته ابتغاء الغلب بالحق والباطل بل إيثاراً للغلب بالباطل وحباً للظفر الفرية والبهتان. لو سار الناس على السيرة العادلة أو قاربوها ما استعانوا(839/1)
بالنشر والإذاعة لترويج الأباطيل، يفسدون بها الاخلاق، ويفتنون بها الضعفاء ويثيرون الخوف والقلق ويشيعون الهرج والمرج ويزلزلون الجماعات لينالوا في الفتن المائجة رغائبهم، ويبلغوا في النقع المثار رغائبهم، لا يبالون انصروا الحق أم خذلوه، وباعدوا العدل أم قاربوه لو عدل الناس في الرأي والقول، وجعلوا العدل قسطاساً لهم ولغيرهم، وحداً بينهم وبين إخوانهم، ما أجازوا بذل الأموال، لفتنة الأفكار، والتوسل بالشهوات إلى تضليل العقول، وما رضوا أن يحكم السلاح في نشر المذاهب، وزلزلة الجماعات ليبثوا فيها رأياً أو مذهباً. ثم لو عمل الناس في أعمالهم. ما شهدت الأمم هذا النزاع المستمر، والقتال المستعر بين أمة وأمة، وما رأينا قوياً يظلم ضعيفاً، ولا غنياً يجور على فقير. ولا رأينا أنفس الأنيس كأنفس السباع يتفارسن جهرة واغتيالا كم قال أبو الطب. لو عدل الناس في أعمالهم لجمعهم العدل على الحب، وأحاطهم الحب بالاخوة، وتعاونوا بالاخوة على الخير، وأدى التعاون إلى الرفاهية والطمأنينة والسعادة. لو فكر الناس بالعدل وقالوا به، وعملوا، كما قال القرآن: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). ما شقي الناس في هذه المدينة الحاضرة، وقد أتت بكل عجاب، واخترعت كل بدع من الصناعات وكشفت الخليقة عن أسرارها، وسخرتها بقوانينها، وبلغت في العلوم والمعارف ما تمنى الناس بل أكثر مما تمنوا. لو عدل الناس ما رأينا هذه الأمم التي بلغت الذروة من هذه الحضارة تفرق بين شرقي وغربي، وأبيض وأسود، وما شهدناها تشقى بعلمها، وتهلك بصنعها، وتقاد إلى الموت بأسباب الحياة، وتتوسل إلى الدمار بوسائل العمران، ولما صارت، كما ترى، أجساداً تتصادم، وآلات تتقاتل، وقطعاناً تتفانى. لقد حرموا العدل في كل نفس، وبين الواحد والواحد والطائفة والطائفة، والأمة والامة، والشعب والشعب. ففرقتهم المعارف وكانت حرية أن تجمعهم، وأهلكتهم الصناعات، وكانت جديرة أن تحييهم. ولو عدلوا ما تفرق بهم السبل، واختلفت الوجهات، ولجمعهم سبيل الحق الواحد، وطريق العدالة البين. (وأن هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) إن الناس يريدون الاخوة، ويحاولون السلام، ويسعون ليجمع أممهم نظام واحد من الحق والعدل، ولكن تخفق أعمالهم وتخيب مساعيهم بما أستقر في أنفسهم، من الأثرة والهوى، وتمكن فيها من العصبية والجور. وقد رأينا هيئة الأمم تتكلم باسم الامم، وتتحدث عن الحق والعدل والاخوة والسلام(839/2)
حتى إذا امتحنها الحادثات القضايا، رأينا الهواء تنأى بهم هن الحق والعدل، والتبعد عنهم عن الاخوة والسلام. وشهدنا المنافع والشهوات تسخرهم للباطل، وتغريهم بالظلم. فعرفنا أنهم أهلاً للأمانة التي حملوها، وأن دون ما يبتغون من السلام، ولكنهم حرموا العدل والإيمان. إن البشر لا يجتمعون على الأهواء المختلفة، ولا يأتلفون الشهوات المتفرقة، فلا مناص لهم - إن أرادوا السعادة يحكموا العدل في الأهواء والشهوات ليجمعهم على ويشملهم بقانون، ويربط بينهم بالحق، ويحكم بينهم إلا ولن يستطيعوا حتى تغلب الروح المادة في أنفسهم وتنتصر القوانين على الجزيئات في معيشتهم، قوانين والعدل والخير. ولن يبلغوا هذا المستوى إلا بإيمان ينير النفوس ويرفعها ويعظمها. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(839/3)
أنا والصحراء. . .
للأستاذ راجي الراعي
وقفت أمس في قلب الصحراء أتحدث إليها، وإليك ما دار بيننا:
من أنت أيتها الصحراء؟
أنا الجبال منبطحة وقد صرعتها الأقدار. . .
ألست شيئاً آخر؟
أنا بحر ماتت أمواجه وتقمصت رمالاً. . .
كيف أنت والأفق؟
أرى في نجومه رمالي ويرى في شمسه. .
والعبقرية؟
أنا أذنها التي تلتقط أصواتها التي لا يلتقطها الناس. .
والمرأة والحب؟
أنا ليلى ومجنونها. . وجميل وبثينة. . وعروة وعفراء. . والبحتري وعلوة. . وابن أبي
ربيعة والثريا. .
والجمل؟
هو رفيقي القديم، أحبه ويحبني ويعانق صبره صبري. .
على أي شيء تصبرين؟
أصبر على لهيب القدر الذي جاءني بهذه الأرحام المضطرمة. .
أنا في رمالي نار تأكل نفسها!. .
أقاسية أنت أيتها الصحراء أم رحيمة؟
أنا قاسية لأضل الذين يضلون الناس، ورحيمة إذا رضيت بأن أكون الصحراء لتبقى لك
الروضة تستلذها، وليبقى لكالماء نستطيبه. . . ألا ترى أنه لولا شبح الليل لم يكن لشعاع النور معناه. . . إن القدر أقامني رحمة بك. . لقد بسطني لتطوى مراحلك في الحياة طروباً. . .
كيف أنت والشعر؟(839/4)
إن رمالي جاءت (ببحورة). لقد عرف الشعر نفسه في مجاهلي. . . أنا امرؤ القيس
والأعشى وزهير والنابغة والأخطل وبشار وأبو نواس وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والبحتري وأبو تمام والمعري فيلسوف الشعراء وشاعر الشعر. . أنا ألف عبقري في ألف جنة خالدة. .
هذه الرمال فيك، ما هي؟
هي حبات قلبي. . .
بماذا تحلمين أيتها الصحراء؟
إذا شققت قلبي تكشف لك عن ينبوع تظله شجرة. .
أتريدين أن تكوني الغابة الغبياء؟
بربك يا شاعري ارحمني من وطأتي. . اجعلني في خيالك أشجاراً خضراء لأستريح فيك
ساعة من الزمن. . ارحمني يا ابن الخيال فأنا أرضي قاحلة موحشة. . . غذني بمائك وارفعني إلى سمائك. . . دعني أتنشق هواء الجبال وعبير الرياض. . أقمني في مملكتك قمة لجبل أو فماً لينبوع أو نهراً في جنة. . ارحمني أيها الشاعر واستر عريي. . ارحمني. . أنا امرأة تحلم بالينابيع والظلال. . لقد تعبت من رمالي. . أنا قتيلة الشمس التي لا ترحمني. . . أنا ظمأى ظمأى أفتش عمن يبرد لظاي. .
ظمأى؟. ولكنك سقيت التاريخ كؤوساً من الشعر والخمر قل أن مر على شفتيه مثلها. . .
إني أخاف إذا ما تخليت عن رمالك للماء والشجر أن تضيعي شاعرك العظيم وثائرك الخالد وروحانيتك المضطرمة وأحلامك الكبار وإلهامك البديع. . إن ظمأك هو الذي سقى الناس، ونارك هي التي جاءت بأجرأ وثبة دهش لها التاريخ. . إن سرك في الرمال فلم تفتشين عن الظلال؟ أنت تائهة أيتها الصحراء كالحالمين التائهين فيك. . . إذا كانت شمس قتلتك فالقمر الذي يغمرك بنوره قد أحياك. . . وإذا كنت بعدت عن ضجيج الناس فقد اقتربت من الخالق. . . أنت للحالم فلا تظلميه. . أنت للأحرار المستقلين فلا تقيدي نفسك بحجر أو شجر. . أنت أرحمك حمر ولكنك امرأة ولود، وإن في رياحك روحاً وفي ضلالك هدى ينير السبيل. . ليس الدواء كله في الماء، وليست الثمرة كلها في شجرة، فإن في وهج وحيك ألف بلسم لألف جريح، وفي خصب خيالك من الأشجار ما تضيق عنه ألف غابة(839/5)
كثيفة. . . أنت للملهمين فلا تستري أقمارك بالأوراق، وللروحانيين فلا تحجبي جمال الأرواح بما يقف بينها وبين أهدافها. . لا تلبسي الثوب مهما يكن لونه ونسيجه. . أنت امرأة عريانة ولكنها في عريها تكسو الشعراء والحالمين.
راجي الراعي(839/6)
صور من الحياة:
يوم عيد. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
ما أشد وقعك - يا يوم العيد - على نفسي، لأنك قذى في عيني وشجى في حلقي وأسى في قلبي! فالدار خاوية من الأحباء تلفظني في غير هوادة ولا لين، والطريق خلو من الرفيق يدعني إلى غير غاية، والنفس خواء إلا من خطرات الحزن وخلجات الاسى، والقلب يحس لذع الوحدة فيلمس الجدب والامحال فيما حوله وإنه ليرى الدنيا أمامه تموج بالزهر النضير والفرحة المتوثية والعبث البريء والثوب الجديد. وهؤلاء أقاربي قد حبوني بالجفوة والقلى، فرق بيني وبينهم نهم المال وجشع الذهب فما أرى فيهم إلا العداوة والبغضاء وإلا الازورار والعبوس، وأخي. . . أخي الذي أحبه قد أوصد بابه من دوني لأنه أراد أن يكون واحداً من ذوي قرابتي. أما زوجي فقد فزعت عني لاختلاف في الرأي والثقافة وتباين في المشرب والبيئة، فخلعت رشدها واستنامت إلى حماقته فطارت إلى دار أبيها لتذرني وحيداً في يوم العيد. وأبنائي أين هم؟ إنهم لم يدرجوا - بعد - في فناء الدار فتمتلئ به حياة وبهجة، ويطفح في قلبي نوراً وضياء وتزخر نفسي هدوداً وسكينة. وجلست إلى نفسي أشكو بثي وأنا أشرف على الناس من حولي وهم يضطربون في لجة العيد، يرفلون في الجديد ويتدافعون إلى البشرى ويغتمرون في المرح. ووجدت لوحدتي حرقة ضاقت لها نفسي فترقرقت العبرات في محجري تريد أن تنهمر. . وشملني الخزي على أن أكون رجلاً لمعت في فوديه شعرات بيض علامة الرجولة والعقل، وتألقت في رأسه فلسفة الحياة، وكابد حلو العيش ومره؛ ثم استخذى لهذه الخواطر أو أتعبد للضعف الإنساني وآذاني أن أستسلم للوحدة فتصفعني مرة وتعكرني مرة ثم لا أستطيع أن أنفلت من بين مخالبها وإنها لتعصرني عصراً. وأهبت بشجاعتي فطرت عن الدار على أجد السلوى والراحة أو أجد متنفساً من همومي أو أنفض عن نفسي الشجن، فألفيت - آخر الأمر - ملجأ في مقهى من مقاهي القاهرة. وفي المقهى جلست إلى فنجان القهوة والسيجارة إليها أتحدث حديث ميراث ضئيل لم أطعم لذته بعد ولكني أدفع قطرات من دمي الحار أنزفها يوم العيد من خلال هموم تتوالى فلا تذرني إلا حطاماً. وغرقت في خضم الفكرة فاستولت مشاعري فما أحس(839/7)
مما يدر حولي شيئا. وغبرت ساعة فما عن شواغل نفسي غير رجل يطلب صدقة. وفي مقاهي القاهرة مفزعات تغضي عنها الحكومة فتنطلق من مكامنها في وضح النهار لتزعج الآمن في جلسته وتقطع خواطره وتؤذي نفسه. . . مفزعات منها ماسح الأحذية وأوراق النصيب و. . والشحاذ. ليت الحكومة تعرف أن القهوةمثابة يستجم فيها المرء من عناء أو يستريح من نصب، وليتها توقنبأن هذه الزمر من المفزعات وصمة في جبين البلد لا تستطيع يد أن تمتد إليها فتمحوها إلا يدها هي، ليتها تعلم، ليت. . واستقر الرجل إلى جانبي لا يريم فرفعت بصري إليه أنظر وعجبت أن رأيت أمامي شحاذاً في ثوب العيد وسمته، لعله هو أيضاً أن ينعم بفرحة العيد وسعادته! وهو رجل قد تخطى عمر الكهولة فبدا عليه أثر الضعف والهزال، ولكنه تجمل للأيام فهو حليق الذقن مفتول الشارب تفوح منه رائحة خفيفة لا يتنشاها إلا من أصاب قوة في حاسة الشم، وهو يرتدي بذلة إفرنجية أنيقة قريبة عهد بالكواء، وقميصاً أبيض ناصع البياض يزينه رباط رقبة أسود جميل، ويتألق على رأسه طربوش أحمر قان، وحذاؤه لامع نظيف. ووقف الرجل بإزائي في أدب يسأل في هدوء ويطلب في خضوع رغم أنه شديد الإلحاح صفيق الوجه. وراعني أن أرى هذا الرجل في زيه وهندامه يتكفف الناس في غير حياء وخجل، ولكن نفسي حدثتني قائلة (لعل ما ترى بقية عز باد من زمان!) فحبوته بعض عطفي ثم صرفته في لين. ونظر إلى النادل - وهو يعرفني منذ سنوات - نظرة ذات معنى وابتسم حين رآني أنفح هذا الشحاذ الأنيق بشيء من المال ورابني ما رأيت من النادل. فقلت لعل في الأمر حادثة أو متعة فناديته أريد أن أكشف عن الخبر، فقال: (أفلا منحت دراهمك - يا سيدي - لفقير تقتله الحاجة، أو مسكين تلح عليه الفاقة) ولكن الرجل يسأل الناس فما باله؟ وإني لأراه جميل الهيأة، أنيق المظهر، يسري في عروقه دم الشباب، وإن بلغ سن الشيخوخة؟) قال: (إن له حديثاً). قلت: (هات). فقال: هذا الرجل واهي الرجولة، ساقط الانسانية، وضيع الكرامة، وهو شحيح النفس، كز اليد، بخيل الجبلة يقضي نهاره بين مقاهي القاهرة يتكفف الناس في أدب ويسألهم في ذوق، يموه عليهم بخضوعه ويزور بمسكنته، يتخذ من ذلك مهنة يزجى بها الفراغ، وعملاً يقتل به الوقت، فلا يأوى إلى داره آخر النهار أو الليل إلا وقد امتلأت يده وفاض جبينه، ثم هو يحرم نفسه من كل ما أصاب فيقنع باللقمة ويرضى بالكسرة. . .(839/8)
ولقد كان موظفاً في الحكومة أحيل على المعاش لبلوغه سن التقاعد، سن الستين. والحكومة تلفظ الموظف حين يصيبه الكلال من أثر الكبر والشيخوخة، ولا تطرده إن انحلت أخلاقه واتضعت كرامته وتمزقت إنسانيته. وهي تطلب من ذي العمل الشريف أن يحصل على رخصة، فترهقه في الطلب وتسد عليه المسالك وتضيق الخناق، ثم تذر صاحب المهنة الوضيعة يتقلب في الشوارع كيف يشاء. وهي - دائماً - تزعج التاجر في متجره أو الصانع في مصنعه، تكلفه الشطط وتحمله الرهق، على حين تطلق العنان للشحاذ يستلب الناس من أموالهم في غير رقبة ولا حذر. إن أخي - يا سيدي - خياط، دفعه الأمل إلى أن يفتح دكاناً عسى أن يصيب منه قوت عياله، وطمع أن يدر عليه إخلاف الرزق بعد عسرة، فانحطت عليه وزارة الصحة ومصلحة العمل في وقت معاً، حتى أرغمته أن يغلق الدكان بعد أن سار شوطاً فيه التوفيق والنجاح. فماذا ترى؟ لعل الحكومة تريد أن تقول للعامل الشريف: كن عاطلاً. وتقول للشحاذ: تمتع كيف تشاء! هذا الرجل أحيل على المعاش، وإن دخله ليربو على خمسة عشر جنيهاً، وله زوجة وأولاد. فلما أحيل على المعاش سول له خرف الشيخوخة أن يطرد زوجه وأولاده ثم ينطلق هو في نواحي القاهرة يتكفف الناس، فطرد أولاده جميعاً وإن فيها الصبي واليافع، ألقي بهم إلى الشارع ليذوقوا مرارة الحرمان وحرقة الفاقة ولذع الضياع، ولفظتهم المدرسة حين لم يجدوا ثمن العلم، وفيهم الذكي المجتهد والسابق المتفوق، ورآهم هو على حالهم هذه فلم ينبض قلبه برحمة ولا خفقت نفسه بشفقة. ثم غوى مرة أخرى فطرد زوجه وهي عجوز انهد كيانها وذوى عودها، وهي فقيرة لا تجد ما تتبلغ به إلا دريهمات يغلها وقف. والوقف ملك ضائع وقع بين فكين شديدين: ناظر الوقف وهو رجل لا يرتدع من دين ولا يرعوى من ذمة، يثقل الوقف بما لا يطيق، ثم يزعم بأن الأرض لا تغل شيئاً. ووزارة الأوقاف وهي ترقب في غير رعاية وتحاسب في غيردقة، والمستحق يقف ببابها مثلما يقف الشحاذ فيه الحياء بباب كز شحيح فلا يظفر إلا بالشتيمة والطرد. . . يقف دهراً لينال فضلة من مال لا تسمن من جوع ولا تغني من عرى. . . أما هو فهو كما ترى. . . . وتركني النادل وأن الأفكار لتصطرع في خاطري من أثرحديثه، وأصابني الجزع أن تثور حماقة صعلوك عجوز فتلقى بصبية صغار إلى عرض الشارع، تضربهم الفاقة وتصفعهم الحاجة وقد فقدوا - على حين فجأة -(839/9)
عطف الأب وحنان الأم وسعادة العيش في وقت معاً، وأن أرى زوجة عجوزاً تضطرب في غمرات الكرب تأسى على تاريخ طويل كانت تنعم فيه براحة الضمير في الدار، وبهجة القلب في الأولاد، وعز الحياة في الزوج. وآذاني أن يكفر هذا الرجل بحق زوجته وهي رفيقة الصبا وصديقة الشباب وعمود الأسرة، وأن يجحد فضلها وهو قد قضى عمره في كنفها يسعد بالهدوء والطمأنينة، وأن ينسى أن الأسرة معنى من معاني الإنسانية السامية لا يفزع عنها إلا الأحمق والمجنون! أفأمن الرجل أن تتدفق عليه بلايا الأيام أو أن تنصب عليه مصائب الزمن، فتذره حطاماً في ناحية من حجرة يقاسي العنت والشدة، ثم لا يجد الأسى في زوجته ولا العون في أولاده؟ ولكن. . . آه، إن في الناس وحوشاً ضارية لا تشبع إلا أن تلغ في دم الأنسان، وأن تهش لحمه، وأن تفرى عظمه! يا لقلبي! لقد فزعت من داري لأنفض عن نفسي هماً واحداً فرجعت بهيمن: همي وهم هذا الحيوان المفترس الذي يتكفف الناس في غير حياء ولا خجل! فما أشد وقعك على نفسي. . . يا يوم العيد!
كامل محمود حبيب(839/10)
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة!. . .
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 1 -
اسم هذا الظريف زَند بن الجون، و (أكثر الناس - كما قال صاحب الأغاني - بصحف اسمه فيقول: (زيد) بالياء، وذلك خطأ. . . إنما هو زند بالنون). وإنما سلكناه في عداد الظرفاء العباسيين - مع أنه أدرك شبابه آخر عهود بني أمية - لأنه لم يكن له في أيامهم نباهة، ولم يذع له في عصور خلفائهم صيت، فما نبغ واشتهر إلا في أيام بني العباس، إذ انقطع إلى أبي العباس السفاح وأبي جعفرالمنصوروالمهدي، فكانوا يقدمونه في المجامع، ويصلونه أحسن الصلات، ويستطيبون مجالسته، ويستعذبون نوادره.
وإذا كانت المراجع التي بين أيدينا لم تلق ضوءاً كافياً على مولد هذا الظريف، ففي وسعنا أن نستنبط ذلك من خلال السطور، فهو لم ينسب إلى الكوفة إلا لمولده فيها أو نشأته بها على الأقل. وهو - بلا ريب - لم يدرك آخر أيام بني أمية طفلاً لا يعي شيئاً لأننا سنرى في نوادره وطرائفه ما يشير إلى أنه بلغ سن الشيخوخة بعد أن عاش في ظلال الدولة العباسية وحدها تسعة وعشرين عاماً: إذ حضر خلافة السفاح التي دامت أربع سنوات وتسعة أشهر ثم خلافة المنصور التي دامت اثنتين وعشرين سنة هلالية إلا ستة أيام، ثم شهد من خلافة المهدي ما يقارب ثلاث سنوات توفي على أثرها إحدى وستين ومائة.
ولكي نقبل أنه بلغ سن الشيخوخة يحسن بنا أن نفترض أن أبا دلامة ولد بين سنة مائة - ومائة وخمسة، فقضى طفولته وصباه وشبابه حتى بلغ الثلاثين - أو الخامس والعشرين - في أواخر العصر الأموي ثم أمضى ما تبقى من عمره في أيام السفاح والمنصور والمهدي. ولم يوصف أبو دلامة بأكثر من أنه كان أسود، بيد أنه أضطر - هو نفسه - في مجلس حافل إلى وصف خلقه بشعر يجعلنا موقنين بأنه كان على جانب من الدمامة عظيم: دخل على المهدي يوماً وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد(839/11)
بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم. فقال له المهدي: أنا أعطي الله عهداً لئن لم تهج واحداً ممن في البيت لأقطعن لسانك - وفي رواية لأضربن عنقك - فنظر إليه القوم، فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه. . . قال أبو دلامة: فعلمت أني قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لابد منها، فلم أر أحداً أحق بالهجاء مني، ولا أدعي إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت:
ألا ابلغ إليك أبا دلامة - فليس من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قرداً - وخنزيراً إذا نزع العمامة
جمعت دمامة وجمعت لؤماً - كذاك اللؤم تتبعه الدمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا - فلا تفرح فقد دنت القيامة
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه وما أحسبه رضى أن يسلك هذا المسلك في هجاء نفسه لمجرد التخلص من هذا الموقف الحرج الذي أوقعه فيه الخليفة المهدي، فقد كان في مكنته أن يحسن التخلص بما لا يؤذي نفسه أو يجرح كرامته، ولكن هذا النوع من الناس قلما يكترث بتلك المظاهر التي يقيم لها المجتمع أكبر الوزن، لأنه - لشدة صراحته - يصف حقائق نفسه مكشوفة مفضوحة. ولو ظننا أبا دلامة مغروراً يحسب أنه في الجمال بدر مشرق وهو مشوه كالقرد، قذر كالخنزير، فهل يمنع غروره الناس من وصفه بأنه جمع الدمامة كلها ما دامت أعينهم لم تكن تقع منه إلا على رأس كرأس الدب في ضخامته، وعيون كعيون الحرباء من الضيق، وأنف عارض في احديداب، وشفتين منتفختين من الغلظ، وعلى جسم مكتنز على قصر، وذراعين مرتخيتين من الشحم، وساقين مقوستين في تموج. . . وليس الناس عمياً فيحتجب عنهم هذا الجمال الساحر في تقاطيع هذا المخلوق العجيب! ولك أبا دلامة كان من الدهاء بحيث لم يفسح للآخرين مجالاً لوصف خلقه والشماتة به والضحك منه فأظهر الناس على حقيقة نفسه ليقطع عليهم سبيل السخرية اللاذعة التي تجد في دمامة المخلوق باعثاً على مواصلة التهكم والازدراء. وهذا الأسلوب الذي نهجه أبو دلامة في إظهار الناس على مدى بشاعته وفر عليه كثيراً من مفارقات غلاظ القلوب، ومن سخافات صلاب الافئدة، إذا ما كانوا ليجدوا في هجائه وصفاً لدمامته أعنف من وصفه. والإنسان إذا سمع ما حكم به على نفسه رضى بحكمه، وإن سمع ما حكم(839/12)
عليه سواه لم يرضه منه إلا ما يتفق مع عزته، ولا يتنافى وكرامته. والذي يعنينا ما سبق أن هذا الظريف قد جمع إلى سواد لونه دمامة شكله، ولكن الله عوضه من هذا النقص لساناً حلو الحديث، رائع البيان قوي البرهان. ونعرف أنه كان مولى لبني أسد، فقد كان أبوه (جون) عبداً لفضافض الأسدي الذي أعتقه. فمن نسب أبا دلامة إلى بني أسد فإنما يقصد أنه كان أسدياً بالولاء. ولذلك تتسامح مع الذين وقعوا في هذه النسبة خطأ أو عفواً كأبي حيان التوحيدي في كتابة (الإمتاع والمؤانسة) وإن الباحث لتأخذه الحيرة إذا ما استعرض حياة هذا الظريف إذ يتساءل كيف أمضى شبابه - حتى أواخر العصر الأموي - مغموراً لا يحس به أحد، ولا يعرف له شعر، ولا يطير له ذكر، ثم وثب إلى الشهرة فجأة في أيام السفاح والمنصور والمهدي، فأصبح ينادمهم ويداعبهم ولا يكاد ينقطع عن مجالستهم! فأين كان قبل اتصاله بأبي العباس السفاح؟ وأين ومتى وكيف تلقى العلم؟ كل هذا مما أغفلته المراجع كأنها لا ترى فائدة في الإشارة إليه. ونحن نحاول أن نرجح - على الأقل - أصوب الأجوبة على الأسئلة المتقدمة: فأبو دلامة كان في بلدة (الكوفة) قبل اتصاله بالخلفاء العباسيين، ولم يكن من السهل على مثله أن يتصل بمن كان قبلهم في قصر الخلافة بدمشق لبعد الشقة من ناحية، ولانشغاله بتحصيل شيء من العلم وكسب قليل من القوت من ناحية أخرى، ولأنه أيقن بأن بضاعته المنادمة والمداعبة، وأن مثل هذه البضاعة مزجاة في أواخر أيام بني أمية التي كانت بركاناً يثور، وزلزلة لا يقر لها قرار. أما الأشخاص الذين طلب عليهم شيئاً من العلم فلم يكونوا من نباهة الذكر بحيث يفردهم الرواة من قبلنا أو نفردهم من بعدهم بالتخصيص، بل لنا أن نحكم بأن أبا دلامة لا رواية له، لأن معلوماته ليست نصوصاً تنقل، وإنما كانت فكراً نابعة من ذكائه الوقاد، وبديهته الحاضرة التي كانت تأذن لمن يسمعه إن يظن أنه على جانب من العلم عظيم! والحق أن أبا دلامة كان من هؤلاء الظرفاء الذين عرفوا بخفة الروح، ورشاقة النكتة، ولطف الدعابة، لا عن علم محفوظ، ولا عن سند مقبول، ولا عن استنباط للأصول. غير أنك إذا تلوت أشعاره طالعتك فيها قوة السبك ورصانة في التعبير، فتغزو قلبك الحيرة وتميل إلى الظن بغزارة علمه، فنوفر عليك حيرتك ونؤكد لك أنه بلغ هذا كله بمواهب فطرية لا باجتهاد عملي، فقد كان مطبوعاً على الشعر في سليقته، يرسله متى شاء دون توقف ولا انقطاع. وأظنك راغباً في(839/13)
معرفة سبب اشتهار هذا الظريف بأبي دلامة إذ تجد في هذه الكنية شيئاً من الطرافة، والأمر أهون من هذا فطرافة كنيته دعت إليها الصدفة المحضة التي وهبته ولداً متعباً سماه (دلامة) لأنه (كنى باسم جبل بأعلى مكة يقال له أبو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات في الجاهلية) كما روى الأصبهاني في أغانيه ذاهلاً عن تصريحه - في مواضع من ترجمة هذا الظريف - يذكر اسم ابنه (دلامة) وضروب عبثه مع أبيه! ومن النوادر التي صرح فيها أبو الفرج بذكر دلامة بن هذا الظريف - قصة نذكرها على سبيل المثال، ونقرأ فيها - في الوقت نفسه - شيئاً من نفسية أبي دلامة وابنه الخبيث: حجت الخيزران، فلما خرجت صاح بها أبو دلامة. قالت: سلوه ما أمره؟ فقالوا له: ما أمرك؟ فقال: أدنوني من حملها. قالت: أدنوه فأدنى. فقال: أيتها السيدة إني شيخ كبير وأجرك في عظيم. قالت: فمه؟ قال تهبين لي جارية من جواريك تؤنسني وترفق بي وتريحني من عجوز عندي قد أكللت رفدي، وأطالت كدي، وقد عاف جلدي جلدها، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها. فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلما رجعت تلقاها وذكرها، وخرج معها إلى بغداد فأقام حتى غرض. ثم دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها:
أبلغي سيدتي بالله يا أم عبيدة
أنها أرشدها الله وإن كانت رشيدة
وعدتني قبل إن تخرج للحج وليده
فتأنيت وأرسلت بعشرين قصيدة
كلما أخلفت لها أخرى جديدة
ليس في بيتي لتمهيد فراشي من قعيدة
غير عجفاء عجوز ساقها مثل القديدة
وجهها أقبح من حوت طري في عصيدة
ما حياة مع أنثى مثل عرسي بسعيدة
فلما قرأت عليها الأبيات استعادتها منه لقوله (حوت طري في عصيدة) وجعلت تضحك. ودعت بجارية من جواريها فائقة فقالت لها: خذي كلما لك في قصري، ففعلت. ثم دعت(839/14)
ببعض الخدم وقالت له: سلمها إلى أبي دلامة. فأنطلق الخادم بها، فلم يصادفه في منزله. فقال لامرأته: إذا رجع فادفعيها إليه وقولي له تقول لك السيدة، أحسن صحبة هذه الجارية فقد آثرتك بها. فقالت له نعم. فلما خرج دخل ابنها دلامة فوجد أمه تبكي، فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت تبرني يوماً الدهر فاليوم فقال: قولي ما شئت فأني أفعله، قالت تدخل علي فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرم عليه، وإلا ذهبت بعد وجفاني وجفاك. ففعل ودخل إلى الجارية فوطئها ووافقها ذا منه، وخرج. ثم دخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية قالت في ذلك البيت. فدخل إليها شيخ محطم ذاهب، فمد يده إليها وذهب ليقبلها. فقالت له: مالك ويلك! تنح عني وإلا لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيدة فقالت: إنها قد بعثت بي إلى فتى من حاله وهيئته كيت وكيت وقد كان عندي آنفاً، ونال مني حاجته. فعلم أنه قد دهى من أم دلامة وابنها. فخرج إليه أبو دلامة فلطمه ولببه وحلف ألا يفارقه إلا عند المهدي. فمضى به ملياً حتى وقف على باب المهدي فعرف خبره وأنه جاء بابنه على تلك الحالة فأمر بإدخاله. فلما دخل قال له: مالك ويلك؟ قال: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمل ولد بأبيه، ولا ترضيني إلا أن تقتله. فقال له ويلك ما فعل؟ فأخبره الخبر. فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟ فقال: على بالسيف والنطع. فقال له دلامة: قد سمعت حجته يا أمير المؤمنين فاسمع حجتي. قال هات قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً، (يلامس) أمي منذ أربعين ما غضبت، (ولامست) جاريته مرة واحدة فغضب وصنع بي ما ترى! فضحك المهدي أكثر من ضحكة، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة وأنا أعطيك خيراً منها. قال: على أن تخبأها لي بين السماء والأرض، وإلا (لامسها) كما لامس هذه فتقدم إلى دلامة ألا يعاود بمثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ووهب له جارية أخرى كما وعده إنها قصة طريفة كما رأيت، وفيها تصريح بذكر دلامة (ابن شاعرنا الظريف) وتصريح بذكر أم دلامة زوجته الخبيثة فنفهم منها أولاً إنما اشتهر هذا الظريف بأبي دلامة كما يشتهر الآباء عادة بابنهم البكر، لا لشيء آخر، وتفهم منها - وهو الأهم - شيئاً من نفسية هذا الظريف وابنه وزوجته. فأما أبو دلامة فجريء يتدلل على أهل الخليفة، فيصيح بالخيزران ويطلب ما يريد في غير ما خجل، ويستبطئ الوعد فيؤكد غرضه بشعر يفيض بالدعابة حتى يجاب طلبه، فترسل إليه(839/15)
تلك الجارية الحسناء التي طالما حلم بالوصول إلى مثيلاتها بعد أن مل امرأته التي أقعدها كبر السن عن تمهيد فراشه والقيام على خدمته. وأما دلامة فهو أصدق مثل للولد الخبيث الذي لا يرعى حرمة أبيه ولا يقيم له وزناً، وإنما يسترسل في إيذائه وتعذيبه، فيوافق أمه الماكرة على أن ينال حاجته من جارية أبيه كأنه لا يجد خيراً من هذا ليبر أمه. ثم نراه أمام الخليفة المهدي يدافع عن نفسه مضحكاً، فهو لم يقض تلك الحاجة مع الجارية الحسناء إلا بعد أن قضى أبوه مع أمه أربعين سنة، ويصف مع ذلك أباه بأنه أصفق الناس وجهاً. فما أهون - بعد هذا - جميع الأوصاف التي يلصقها ابن بأبيه! وأما أم دلامة فيالها من عجوز شمطاء، سليطة اللسان، خبيثة النفس، عرفت الأسلوب الذي تستطيع به إلزام زوجها بما تشاء، فاستعملت ولدها في إيذاء أبيه. وهكذا ترى أن بيت أبي دلامة جمع أنواع الدعابة وأسباب الطرافة؛ في الأب والأم والولد، وكأنما خلق الله كل واحد من هؤلاء الثلاثة لكي ينسجم مع الآخرين، ولقد كان الانسجام من توثق العرى بحيث أنه جعل ما يبدو من أي واحد منهم مفهوماً للآخرين لا يستغربه أحد منهما وإن أضحك الناس زمناً طويلاً. ولكي يتضح لك هذا الانسجام العجيب بين هؤلاء الثلاثة فتعرف مقدار ما انطوت عليه أنفسهم من خبث، تأنى على ذكر قصة جديدة فيها بعض ما تريد.
جاء دلامة يوماً إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته جلس فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إن شيخي - كما ترون - قد كبرت سنة، ورق جلده، ودق عظمه وبنا إلى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقى قوته، فيخالفني فيه. وأنا أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم فيها صلاح لجسمه، وبقاء لحياته، فأسعفوني بمسألته. فقالوا: نفعل حباً وكرامة. ثم أقبلوا على أبو دلامة بألسنتهم وتناولوه بالعتاب حتى رضى وهو ساكت، فقال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية. فقالوا له: قل. فقال: إن أبي إنما يقتله كثرة إتيان النساء فتعاونني عليه حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء، فيكون أصح لجسمه، وأطول لعمره. فعجبوا من ذلك وعلموا أنه إنما أراد أن يعبث بأبيه ويخجله حتى يشيع ذلك عنه فيرتفع له بذلك ذكره، فضحكوا منه. ثم قالوا لأبي دلامة: فأجب. قال: قد سمعتم أنتم وعرفتكم أنه لن يأتي بخير. قالوا فما عندك في هذا؟ قال قد جعلت أمه حكماً بيني وبينه(839/16)
فقوموا بنا إليها. فقاموا بأجمعهم فدخلوا إليها، وقص أبو دلامة القصة عليها وقال لها: حكمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابني - أصلحه الله - قد نصح أباه وبره ولم يأل جهداً، وما أنا إلى بقاء أبيه يأحوج مني إلى بقائه، وهذا أمر لم تقع به تجربة منا، ولا جرت به عادة لنا، وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فإذا عوفي ورأينا ذلك قد أثر عليه أثراً محموداً استعمله أبوه. فنعر أبوه وجعل يضحك به، وخجل ابنه وانصرف القوم يضحكون ويعجبون من خبثهم جميعاً واتفاقهم في المذهب. وللقوم الذين شهدوا هذه المحاورة التي تضحك الثكلى أن يعجبوا ما شاءوا، ولهم أن يروا فيها دليلاً على خبث الثلاثة واتفاقهم في مذهب العبث والمجون، فقد رأينا فيها ولدا يخجل أباه، وأماً تخجل ابنها، وأباً يوزع خبثه على الاثنين، فيسمع كلام ابنه غير غبي ولا متغاب، ثم يحتكم إلى زوجته احتكام العالم بما ستقوله، لأن عبث ابنه ينالها. ومن هنا نرى أن أم دلامة - وإن كانت تحب أن تخجل زوجها في بعض الفرص - لم تكن لتخذله دائماً، فهي تحبه على ما فيه من عبث ومنقصة، وهو يثق بها في تمام ما يعجز عن إتمامه بنفسه، لأنه عرفها وعرفته، واستطاع كل منهما أن يستكمل بالآخر مواضع نقصه، ونقط الضعف فيه!.
صبحي إبراهيم الصالح(839/17)
أساليب التفكير
فلسفة الشعب
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
اعتذار:
منذ أكثر من شهرين كنت أتحدث إلى قراءة الرسالة عن الأسلوب الفلسفي في التفكير، وكلي عزم أن أواصل الحديث حتى يكتمل؛ ولكن شئون العيش، وشجون الحياة، وهموم العمل الرتيب، وفوضى المعاملات الإنسانية، تحرم المفكر نعمة التأمل، وتسلبه صفاء الذهن؛ فلا يعود يعمل إلا كما تعمل الآلة ويمضي في غمار الحياة اليومية كما تمضي قطرة الماء في خضم التيار: مسلوب الإرادة، فاقد الوعي، خامد الحس، موزع النفس. وهل من سبيل إلى التفكير المشرق الصافي، ما لم نكن بمنجاة من عمل مرهق يأخذنا من جميع أقطارنا، وما لم نهتد إلى فرجة من وقت نتسلل من خلالها إلى الوطن العزيز: وطن الفكر المقدس؟ والمثل اللاتيني يعزينا بقوله: (عش أولاً وتفلسف بعد ذلك).
لا مفر من الفلسفة:
انتهينا في مقالات سابقة إلى أن أداة التفكير الفلسفي هي العقل بوسائله الخاصة: من تجريد إلى حكم إلى استدلال إلى برهان. ولما كانت هذه الوسائل في متناول كل إنسان - أياً كان ذكاؤه وأياً كانت ثقافته - لم يكن مناص من أن يتفلسف الناس جميعا، وإن كانت الانفعالات والأهواء تتدخل أحياناً فتفسد ملكة الحكم السليم، وتطمس إشراقة الذهن، فليس ذلك بمنك وجود القدرة على التفكير الخالص. إن ومضات الفكر قد تنبثق في لحظات لدى أجهل الناس، كما أن ضياء العقل قد تكتنفه سحب الانفعال أحياناً لدى أعمق المفكرين. وقد كان إمامنا سقراط يؤكد هذا المعنى فيخاطب العامة والخاصة على حد سواء، ويدعو إلى فلسفته في عرض الطريق، وفي الأسواق، وفي أروقة المحاكم كان يناقش الصبي الغرير، واليافع البحاثة، والمثقف المتحذلق، موقناً أن الجهل عرض زائل، وغشاوة تنجاب بشيء من الجهد والاخلاص، حتى ليذهب إلى أن الصبي يمكنه بقليل من التوجيه والارشاد، أن يستنتج جميع مبادئ الهندسة التي وضعها أقليدس الرياضي. وكان منهج ديكارت (أبو الفلسفة(839/18)
الحديثة) يقوم على أساس أن العقل (أعدل الأمور قسمة بين الناس، وأنصبة الناس منه متساوية. .) وقد يعجز الناس في عصر من العصور عن فهم ما يكتبه فيلسوف من الفلاسفة، بل قد يرمونه بالخلط والالتواء في التفكير، ويسخرون منه، وينالون من عقليته. وعندي أن ذلك لا ينهض دليلاً على استحالة فهم الناس لتلك الفلسفة، إنما مرده إلى قلة حظ هؤلاء من الثقافة، وعدم اعتيادهم التعمق في التفكير وخشيتهم من كل جديد يزلزل عقائدهم فضلاً عن كون الفيلسوف يعمد أحياناً إلى التعبير في غموض عن أفكار تخطر ببال كثير من الناس العاديين، ويستخدم أسلوباً فنياً مشحوناً بالمصطلحات الغريبة عنهم، فيقيم بذلك بينه وبين أذهانهم سداً منيعاً. ولذلك كانت لا تكاد تمضي حقبة من الزمن، يكون الشراح قد تناولوا فيها إنتاج الفيلسوف بالشرح والتفسير، وتكون العقول قد نضجت بعض الشيء، والإفهام تهيأت بقبول ما نبذت، فإذا المجنون عبقري خالد، والمارق قديس متبتل، ومذهبه عقيدة راسخة. وقد كان الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كنت) يقول: (جئت بمؤلفاتي قرناً قبل موعدها، ولن أفهم إلا بعد مائة سنة، وحينذاك ستقرأ كتبي وتقدر قدرها.) وقد صدقت نبوءة الفيلسوف العظيم فلم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى كان في كل قطر من أقطار أوربا مدرسة فلسفية بأسرها تستمد مبادئها من فلسفة كنت.
الفيلسوف إنسان:
إن الفيلسوف لا يأتي بدعا، ولكنه يرى ويسمع، فيحكم ويستنتج، وما يراه وما يسمعه أمور تقع تحت بصر الناس وسمعهم، وملكة الحكم أو ملكة الاستنتاج ليست وقفاً عليه، فالناس جميعاً يحكمون ويستنتجون؛ ولكنه أدق منهم حساً، ولديه من الفراغ والذكاء والصفات المزاجية ما يكفل له التعمق في تأملانه ومزاولتها أغلب الوقت، والانشغال بمحاولة فهم الكون عن كل ما عداها من شئون الحياة الجارية. ناهيك بقدرته على التجرد من أهوائه، والوقوف من حوادث الكون موقف المحايد: لا تعنيه التقاليد الموروثة والآراء الشائعة، إن تعارضت مع العقل. وكل امرئ بمقدوره ذلك ولو في فترات متقطعة عبر حياته. ويمكننا كمربين أن نعود النشيء كيف ينتزع نفسه - زمناً ما - من استغراقه في تيار الحياة اليومية، وكيف يستخلص العبر العامة من حادث مفرد، وكيف يتجرد من عواطفه، ويتجرد من تأثير غيره ليحكم في نزاهة، وينقذ في جرأة، ويسمو فوق المشاغل الجزئية التافهة.(839/19)
لست أقصد بطبيعة الحال أن الناس جميعاً فلاسفة ولكنني أقصد أن كل امرئ بمقدوره أن ينتهج في حياته نهجاً فلسفياً، وأن الفيلسوف لا يفضل المفكر العادي إلا في الدرجة، وأقصد علاوة على ذلك ما أقصده أرسطو بقوله: (إذا لم يلزم التفلسف فلتتفلسف أيضاً لتثبت عدم لزوم التفلسف.) أي أن المرء ليس بوسعه إلا أن يتفلسف ما دام كائناً في عالم دائب الحركة، زاخر بالتطورات والمشاهدات والمفارقات كل ما يقع عليه البصر يثير العجب والدهشة، ويستفز نزعة الاستطلاع الكامنة في تحفز هو لا يستطيع أن يقف موقف المسجل لهذه الظواهر فحسب، فعقله دائب التساؤل، وهو قلق ما لم يصل إلى تفسير لما يرى، وتصور معقول للكون في مجموعة أو في ناحية من نواحيه. وهو إذا ما صاغ نظرية ما، هدأ القلق، وحقق - إلى حين - الطمأنينية العقلية التي لا غنى عنها للمضي في رحلة الحياة. قد تكون النظرية التي يفضي اليها تفكير المرء خاطئة أو قاصرة ولكن ذلك لا يقضى على قيمتها من حيث إنها كافية لإعادة الأمن العقلي إلى نفسه القلقة، والتعلل بها حتى يتهدى لتفسير نهائي. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن الوصول إلى تفسير نهائي، فلا يبرر ذلك أن ننكر الفلسفة أو نمتنع عن التفلسف كما حدث لبعض المفكرين: شكوا في قدرة العقل الإنساني، ويئسوا من بلوغ الحقيقة كاملة، فارتموا في أحضان التصوف، ومنهم من آثار الجهل على علم ناقص. يذكرني ذلك بالنقاش الطويل الذي احتدم بين سقراط - إبان إعدامه - وبين تلامذته حول وجود الروح وعلى خلودها، وبعد موافقة تلامذته عليها، بصعوبة المسألة وعدم جواز القطع برأي نهائي بصددها. حينئذ يتشجع أحد الحاضرين، (سيبيس) ويقول قولاً حكيماً: (يبدو لي يا سقراط، كما يبدو لك، أنه من المستحيل، أو بالأحرى من العسير جداً، بصدد هذه الأمور، أن نعرف الحقيقة في حياتنا هذه. ومع ذلك نرى من الجبن ألا نفحص بعناية فائقة كل ما أسلفنا قوله، وأن ندع جزءاً دون بذل قصارى جهودنا: ذلك أنه لا مناص من أحد أمرين؛ إما أن نعلم الحقيقة عن غيرنا وإما أن نكتشفها بأنفسنا؛ فإن استحال كلا الأمرين فلنتخذ من الآراء الإنسانية أقومها وأبعدها عن التفنيد، ولنمتط هذه الآراء كما نمتطي زورقاً يعبر بنا، مخاطرين، هذه الحياة حتى يتيسرلنا أن نعبرها على نحو أسلم وأقل تعرضاً للخطر. . . أجل إن لكل نظرة فلسفية قيمتها، وليس بقادح فيها بعدها عن الصواب أو قصورها عن مطابقة الحقيقة، ما دامت ضرورة(839/20)
حيوية لتهدئة توتر الذهن عند ما يعجز عن حل مشكلة من المشاكل. وعلى هذا الأساس يحق لي أن أتحدث عن فلسفة شعبية تنطوي عليها حياة عامة الناس، وقد يصرح بها نبهاؤهم قولا كما سنبين:
فلسفة الخير والشر:
رجل الشارع إذ يقول: (كله فانٍ) إنما يركز في لفظين اثنين مذهباً فلسفياً ضافياً ملأ أسفار كثير من فلاسفة الأخلاق، لم يستمده من بطون الكتب ولا هداه إليه معلم، إنما هي مدرسة الحياة بتجاريبها تمده بالعرفان، وملكة الحكم السليم: (أعدل الأشياء قسمة بين الناس) تهديه إلى نظرياته. إنه يستقرئ الحوادث والكائنات، ويلمس انتهاء حياة كل كائن إلى الموت. كلما يقع تحت حسه ينمو ويزهو، ثم يذوي ويذبل. كل حي يدب على البسيطة دبيباً قد يتجاوب صداه في الآفاق، وينتفض من فرط القوة والحيوية، ويأتي من الأفعال ما نحمده وما ننكره، ثم إن هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى يتلاشى الدبيب، ويزول الصدى، وتخمد الحركة وتستحيل السيرة ذكريات لا تلبث أن تنمحي:
أتُرى الدنيا سوى دار سفار ... ذات بابين ظلام ونهار
كم وكم من ملك جمِّ الفخار ... حلَّ فيها برهة وارتحلا
حين لبى دعوة الداعي المطاع
ذلك ما يدور بخلد العامي حينما يخلو إلى نفسه يناجيها، أو إلى جماعته يؤانسها، أي حينما ينتزع نفسه من غمار العيش الرتيب، فيطل على الكون من قمة الفكر التي تشرف على الزمان والمكان، ويتحرر إلى حين من إلحاح الحاجات الجسدية التي تعطل التفكير الخالص ما لم ترتو. وحكيم الشعب الذي يقضي العمر لا يحمل حقداً أو ضغينة، ولا يحس إحناً أو سخيمة، يقدم للناس كل خير فلا يجد منهم غير الحسد ونكران الجميل، تقصد مضجعة خيانة الإنسان لأخيه الإنسان، وتترك عشرة الناس في نفسه ندوباً أليمة، حتى ليعصف به شك في وجود الخير في هذه الحياة التي نحياها، شكاً يعبر عنه غناء في أسى نبيل:
(يا زارع الودّ هو الودّ شجرهُ قل ... ولا سواقي الوداد نزحت وماءها قل؟) وقد يكون لشكه
هذا أبلغ الأثر في سلوكه العملي: إما نقمة وسخط على المجتمع فإعلان الحرب عليه وتلمس السبل للانتقام، وإما عفو وغفران فمضى على الصراط المستقيم لا يرعى في شيء(839/21)
إلاً ولا ذمة، ولا ينتظر جزاء ولا شكوراً. وهو في الحالين مبرر سلوكه بفلفسة تثبت فؤاده، وتؤكد سلامة اتجاهه أمام نفسه أو أمام الناس. فهو في الحالة الأولى نفعي، قيمة الفعل الأخلاقي في نظره رهن بمقدار ما يجلب لصاحبه من نفع وما يدفع من نكر، وهو في الحالة الثانية مثالي يفعل الخير للخير، قيمة الفعل عنده لا ترتهن بما يجلبه من نفع، ولكن بما تحدثه في النفس من رضى وطمأنينة. ولو تتبعنا تاريخ الفلسفة لوجدنا كلا الاتجاهين في الفلسفة الأخلاقية. يمثل الاتجاه الأول طائفة السوفسطائيين الذين قادوا حركة فكرية في أثينا إبان القرن الخامس قبل المسيح أعلنوا الثورة على العقائد الموروثة، وسخروا في جسارة من آلهة اليونان ومضوا في شكهم حتى تناول قواعد الأخلاق فأنكروها زاعمين أنها بدعة ابتدعها ضعاف النفوس ممن جردتهم الطبيعة من القوة والامتياز، فتوسلوا بالأخلاق والدين للسيطرة على الأقوياء والموهوبين. أما الخير عندهم فهو المنفعة، والسعادة في إشباع الرغبات والميول التي فطر عليها الإنسان. والواجب يقتضي تحطيم أغلال الأخلاق، لأنها ابتداع يتعارض مع الطبيعة البشرية، وعليه فالإنسان كما يقول أحدهم (بروتا غوارس) مقياس الأشياء جميعاً. . . (فالأشياء هي بالنسبة إلى على ما تبدو لي، وهي بالنسبة إليك على ما تبدو لك، وأنت إنسان وأنا إنسان.) أجل: أنا إنسان، وأنت إنسان - فليمض كل منا وفق هواه، وليجرد كل سلاحه، فالقوة فوق الحق والبقاء للاصلح. وقد أجاد الكاتب الفرنسي (هو نوريه دي بلزاك) في تصوير هذا الأتجاه الوصولي النفعي فيشخص مجرم خطير هو (فوتران) الخارج على المجتمع. يلتقي (فوتران) ذات يوم بشاب هبط باريس يطلب العلم هو (راستنياك) الذي يحمل بين جنبيه نفساً أبية وقلباً ذكياً، وطموحاً نبيلاً، ولكنه مع ذلك كغيره من الموهوبين في مجتمع منحل يعجز عن بلوغ المجد لأنه وقف على من يضحي بمبادئ الشرف والكرامة. يلقاه (فوتران) وهو على هذه الحال من الألم واليأس والرضا - مع ذلك - بالأوضاع والمقادير فيلقنه فلسفة في تلك الكلمات: (أندري كيف يشق الناس طريقهم في هذه الدنيا؟ يشقونه ببريق العبقرية، أو بالمهارة في الخسة. يجب أن تسقط في صفوف البشر كقنبلة أو أن تتسلل بينها كوباء. أما الشرف فلا فائدة فيه). تلك فلسفة يتخذها نفرمن الناس يؤيدون بها مسلكاً عملياً ويبررون بها ثورتهم على مجتمع يرونه ظالماً، وهي لعمري تحمل بين طياتها اعتذاراً ضمنياً عن فعال يحسون(839/22)
في قرارة نفوسهم مجانبتها للصواب. وفي المقال القادم أحدث القراء عن الفلسفة المقابلة، تلك التي ترى الخير غاية في ذاته، والسعادة في رضى النفس وراحة الضمير. . .
عبد المنعم المليجي(839/23)
دراسة الطفل
من الوجهة النفسية الحديثة
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
بعد بحث وتنقيب دام حوالي النصف قرن قدمت لنا صورة عن طبيعة سلوك الطفل تختلف كل الاختلاف عن الصورة التي قدمها لنا الباحثون القدماء في ميدان التحليل النفسي. فقد قدم لنا العلماء الحديثون القواعد الأولى التي بنيت عليها الدراسات الجديدة، وإن النقاط الرئيسية التالية تلخص وجهات النظر الحديثة في ميدان الدراسات العلمية التجريبية، في علم النفس الحديث يقول:
1 - إن الطفل تركيب عضوي حي نام يتطور على شكل تحولات وتغيرات متناهية في الدقة من الخلية الأولى إلى التكوين العضوي المعقد الذي يؤهل الفرد للعمل وفق مستويات الراشدين. وفي ميدان هذا النمو والتطور يشرح العلماء خصائص الأعمال والتكوينات الجديدة، وعناصر التغيرات التي تتناول الحجم والشكل والتركيب، وصفات التغيرات التي تتناول مستوى الفعاليات وأوجه النشاط. كما أنهم يبحثون أيضاً في المبادئ الأساسية التي تحلل أساليب هذا النحو المستمر وأحواله وهذه الفعاليات النشطة.
2 - إن الطفل وحدة حية مستقلة بنفسها، تعمل بمفردها عملاً منظماً إزاء المواقف التي تواجهها. وهذه الخصائص الجزئية التي يتميز بها السلوك تحتاج إلى تأكيدات خاصة. وتثبت العلوم الكيمياوية والفيزيولوجية بأن الوحدات المنظمة تستطيع أن تنقسم إلى أجزاء متشابهة، وهذه الأجزاء تنقسم إلى أجزاء أصغر منها، وهكذا باستمرار. وبمقتضى هذا فإن القوانين التي تحكم هذه الوحدات المنظمة ستستمر في عملها بنوع من الدقة والتماثل ينتج أعمالاً منسجمة متحدة. وبما أنه لا الطفل ولا سلوكه يتجزأ هذا التجزؤ نفسه، فقد وجدت الصعوبات في ميدان التحليل العلمي للطفل من هذه الناحية، لأن كل الوسائل النفسية والأساليب القياسية التي استعملت لتحليل السلوك إلى وحدات نموذجية معينة قد اقتصرت على الأعمال التي يقوم بها التركيب العضوي بمجموعه. ولهذا السبب عندما نتكلم عن الذاكرة وعن التعليم وعن العاطفة، فإنما نتكلم عن أعمال سلوكية مستقلة صنفت وفق قواعد التماثل والتشابه، لأن هذه المظاهر ليست ظاهرة قائمة بذاتها، ولكنها جمعت مع بعضها(839/24)
لخصائصها الجوهرية المتماثلة، فكل نشاط يمكن أن يصنف تحت عدد من المراتب المختلفة، فإنما نفعل ذلك تسهيلاً لمهمتنا العلمية. ولهذا فإن نفس السلوك الواحد يمكن أن يصنف كإحساس أو كمعرفة أو كعاطفة أو كذاكرة. . . الخ. وهذه الوحدة في قوى النشاط الطفولي تستعمل إجراءات تبدو شاذة ولا تتصل اتصالاً مباشراً بالعلوم البيولوجية.
3 - إن الطفل يعيش في محيط لا يتميز هو نفسه لا بطابع الوحدة، ولا بمظهر البساطة، ويعمل باستمرار مؤثراً على سلوك ونمو الطفل. وإن نماذج الدوافع الفعالة تأتيه من خارج محيطه، وبعد ذلك - بصورة غير مباشرة - وبواسطة دفع ذاتي فيه، يختار من بين مظاهر محيطه ما يناسبه ويوافقه. ويظل هذا التبادل المشترك بين الكائن البشري وبين المحيط الاجتماعي الطبيعي مستمراً في جميع الأوقات. وبما أنه قد يحصل نوع من التثبيت والتوقف في النمو، فإن صنفاً من السلوك يتشكل ويتحدد، وإن النماذج النوعية السلوكية تتطور في ميدان البواعث المتحركة وفي ميدان النظام الذاتي الخالص. وإن بعض هذه البواعث تصبح بواعث محركة منتجة بسبب تأثيرها على مجرى النمو بالتجارب العلمية وبالعلاقات الاجتماعية مع الآخرين، بينما تبقى بواعث غيرها غير ذات تأثير، لأنها لم تؤثر في هذه العلاقات المتشابكة المتبادلة. وأما لماذا تصبج يعض البواعث مؤثرة، وتبقى غيرها، مؤثرة، فإن هذه مسألة لم يبت فيها نهائياً في الدراسات النفسية الطفولية.
4 - إن الطفل يبقى خاضعاً لعملية نمو مستمرة متتابعة، لا ترتد إلى الوراء ولا تقف. فلايمكن للبيئة ولا للعلاقات الطبيعية والاجتماعية أن تظهر مرة ثانية بنفس الشكل الذي ظهرت فيه في مرة سابقة، وذلك بسبب تجدد النمو وتجدد العلاقات المشتركة المتبادلة. إن السلوك في أية لحظة من اللحظات هو ثمرة تاريخ الطفل وتعبير عن باعث مؤثر معاصر. وعلى ضوء هذه القاعدة، فإن دراسة الأسباب المفردة والبسيطة يجب أن تستبدل ويستعاض عنها بدراسة البواعث المتجددة، والعلاقات المتبادلة، والتأثيرات النامية المتراكمة.
المشاكل النفسية للطفل:
ينقسم منهج العالم الذي يبحث في المشاكل النفسية للطفل إلى قسمين رئيسين مختلفين من(839/25)
ناحية البحث والعمل. فهو يبحث أولا عن قواعد عامة، أو مبادئ تنطبق على نماذج وأشكال كثيرة تعين على فهم السلوك وعلى السيطرة عليه والتكهن بمداه ونتائجه. وفي هذه العملية يتناول بحثه:
(أ) أعمال الكائن الحي الآلية، أو ما تسمى النوازع الذاتية الأصلية للكائن الحي نفسه التي توجه أعماله توجيهاً مستقلاً عن تأثير خاص يسببه شخص معين أو بيئة معينة.
التأثيرات التي يؤثر بها الكائن الحي على البيئة التي تحيط به، أو ما تتركه الكائنات الحية من مظاهر خاصة على العالم الخارجي الذي حولها.
(ج) التأثيرات التي تؤثر بها البيئة على الكائن الحي، ودراسة كيف يحكي تغيير السلوك وتكييفه البيئة التي ينمو بداخلها الكائن الحي. وأما القسم الثاني، فيتناول تفسير وشرح الظواهر، وهما الأمران اللذان يتمثلان تمثلاً رئيسياً في عدد من العلوم. فالعالم النفسي يحاول أن يفسر عملية النمو نفسها بنماذج متقاربة ومفهومة، إذ يشمل عمله أولاً أن يصنع القواعد العامة المشتركة بين جميع الأفراد. وفي هذا المجال توجد طائفتان من القواعد:
(أ) قواعد النمو التناسلي أو التكويني المتعارض أو المتقاطع.
(ب) قواعد النمو التناسلي أو التكويني الطولي.
ثم يقوم ثانياً بمهمة شرح وتفسير وفهم السلوك الفردي بحثاً عن الوحدة العامة بين أنواع السلوك. وفي هذا المجال يجب التمييز أيضاً بين أمرين:
(أ) ترتيب الأفراد حسب مستواهم.
(ب) شرح حالة الفرد شرحاً يتناوله كوحدة جامعة.
أعمال الكائن الحي الميكانيكية:
في كل نظام من الأنظمة تنجز فيه الأعمال بمجموعها ومتحدة نتائج معينة في مرحلة وزمن معينين يفترض العلم بأن هذا النظام يقوم على مبادئ منطقية، وأن هذه المبادئ تعمل مستقلة استقلالاً يتفاوت كثرة وقلة عن المجهودات الآلية للكائن الحي، وعن تأثيرات البيئة التي تحيط بهذا الكائن، وأن هذه المبادئ تعمل بصورة ميكانيكية مختلفة ومتعددة وفي بيئات مختلفة، فإذا عرفنا هذه المبادئ فهمنا سلوك الأفراد واستطعنا السيطرة على هذا السلوك، وان كنا لم نعرفها فلا نحصل على ما يسمى السلوك غير المفهوم. هذه هي -(839/26)
بصورة عانة - المبادئ الأولى في علم النفس، ومن استعراضها يظهر لنا بان التجربة أصبحت الأساس الفني لتنظيم الدوافع والعوامل والسيطرة عليها. لذلك فإن فهمنا يزداد وإنتاجنا يغزر كلما:
1 - رتبت الدراسات بشكل يسمح للدوافع والحوافز بأن تعمل بكل قواها لتجنب الانهماك بأجزاء صغيرة من العلافات موضوعة البحث.
2 - ونظمت الدراسات على أساس اتصال العوامل والحوافز وأشراكها.
3 - وأعطى اهتمام أكثر سواء عند وضع التجربة وتنظيم المبادئ، أو عند المباشرة في الدرس والبحث، إلى المبادئ المتشابكة وتوافقها مع البيانات الإيضاحية. ولذلك بدلا من إشاعة الاضطراب والفوضى في البحث باستعمال الأساليب التقليدية التي تخضع الكائن الحي لآراء متنوعة بدلاً من إخضاعه للطرق البيانية المستمدة من الوقائع والتجارب. وهناك مسألة أخرى - تجابهنا في حقل الدراسات النفسية لمشاكل الطفل - وهي اختلاف قابليات النمو، واختلاف الأعمار وتأثيرها على الآراء والتجارب، ثم درجة وطبيعة التغير بالنسبة لهذه الاختلافات في الأعمار والقابليات.
تأثير الكائن الحي على البيئة:
يجب أن ينظر إلى الطفل في أية لحظة من اللحظات كنموذج خاص، أو كنظام تركيبي مشغول في مواجهة البيئة الخارجية، وكلما تحرك إلى الأمام مع الزمن، فإن علاقته بالعالم الخارجي تتحدد في جانب منها بانفعالاته الخاصة، فإن الأطفال يختلفون اختلافاً كبيراً من ناحية الذكاء، والقابلية الموسيقية، والقدرة لإنتاجية، والقابلية الأساسية، والأحوال البيئية. فإذا أمكن ترتيب الأساليب حسب ما يمكن قياسه من هذه الخصائص مفردة ومجتمعة، فإنه يمكن فيما بعد تسجيل وتحديد وتعميم الإنجازات الفردية التي لوحظت بدرجات متقاربة. ولكن هذه الملاحظات جميعها قد أجريت - وهذا مما يؤسف له في قياس الذكاء - مع أنه ليس هناك ما يمنع من توسيع هذا القياسات لتتناول مجالات أخرى غير دراسة الذكاء وقياسه، إذ أن مواضيع علم النفس المقارن كتلك التي تتناول الفروق الجنسية والعنصرية من الممكن أن تؤدي إلى وضع تصميمات نافعة جداً إذا أمكن تصنيف الجماعات في المراحل الأولى وتبع ذلك دراستهم دراسة مثمرة. ومثل هذه الدراسات الآن غير كاملة(839/27)
تماماً لاختلاطها بالتأثيرات الطبيعية الكثيرة المزدحمة. ولهذا، ففي هذه الناحية يستعمل الفرد كنشاط متطور مستقل نام، أو ينظر إليه كبيئة نفسية يقوم هو نفسه ببنائها.
تأثير البيئة على الكائن الحي:
يقوم المجتمع عن طريق إرشاد وتدريب الأطفال بتكييف البيئات التي ينمو بداخلها الطفل، فالعالم يهتم بتكيف البيئات تكييفاً تجريبياً مقصوداً لاستكشاف المبادئ الرئيسية والإجراءات العملية التي يمكن استعمالها في تعليم وتدريب الأطفال.
وهنا تجابهنا مواضع كثيرة تتعلق بالأسلوب المنتج الذي يمكن الاستفادة منه في التعليم والتدريب. . . كيف يحدد مستوى المناهج؟ ما هي المواد التي يجب أن تدرس في الجغرافية مثلا؟ وهل الصور المتحركة والصور الحركية تساعد في تحسين نوعية التعليم؟ إن الدراسات التي تتناول تكييف البيئة تشمل في بعض الأحيان على دراسة العوامل والبواعث الموجهة كل على انفراد، بينما تشتمل في ظروف أخرى على رأسه نماذج معقدة جداً من قوى النشاط، ومن الواضح بأن التصميم التجريبي يتألف من تصنيف جماعات من الأطفال كل جماعة تتميز بعامل من العوامل موضوعة البحث، ويؤخذ بهذه الطريقة، لأن دراسة عوامل وبواعث بسيطة أسهل من تناول بحث يتألف من عناصر متشابكة ومتداخلة. وعلى كل يجب أن لا نفترض بأن المشاكل في هذا المجال تتمركز فقط حول مثل هذه العوامل والبواعث، إذ الحقيقة أن العامل الفرد ذا التأثير الواحد يعتبر حالة محددة من طرف واحد، وان البيئة مع كل تأثيراتها تعتبر حالة محددة من طرف آخر. ولذلك فإن هدفنا النهائي يتناول جميع العلاقات البيئية في جميع درجات الاشتباك والتعقد، فإن كافة البحوث في هذه الدراسات تنتهي بتعميم يعبر عنه باصطلاحات عددية، وبفروض تنبؤية، وبتحديدات معينة تطبق على الجماعات والأفراد. إن مهمة علم النفس في الماضي كانت تنحصر في جمع إنجازات السلوك والرجوع إلى الوراء للبحث عن العوامل المسببة. وهكذا يقارن تحت ظل هذا النوع من الدراسة بين الأطفال الحاذقين وغير الحاذقين، وبين الحسودين وغير الحسودين، وفي هذه الدراسات كذلك يعتبر (النموذج) النتيجة النهائية. وعلى كل فإنه إذا حصل تقدم في معارفنا عن الطفل، فإن البيئة يجب أن تصبح ظاهرة مستقلة متطورة، ويصبح السلوك نشاطاً متحولاً غير مستقل، وذلك بشكل يمكننا أن نتعرف(839/28)
على السلوك من دراسة البيئة لا التعرف على البيئة من دراسة السلوك. ولكن هناك في هذه الناحية صعوبات عديدة، فقد قام العلامتان شيرمان وهنري (1933) باختيار خمس بيئات متفاوتة حسب قربها وبعدها من المدينة، ثم قاسا بعد ذلك الأطفال، وفي النهاية فشلا في الوصول إلى نتائج واضحة قاطعة من وجهة نظر التعميم العلمي. ويعود سبب هذا الفشل إلى حقيقة أن أية بيئة توجد لمدة طويلة من الزمن ستجرب إخضاع أفرادها إلى نوع من التأثير البيولوجي الانتقائي. ولكن إذا ما رتبت سلفاً البيئات التي تختلف اختلافاً جوهرياً فيما بينها، ثم وزع الأطفال عليها توزيعاً متناسباً يمكن بواسطته السيطرة على العامل البيولوجي الانتقائي، فإنه يمكن الحصول على نتائج هامة.
وقد أمكن الحصول على تعميمات عديدة حول تأثير النظام والإدارة على الأطفال ومن دراسة الأطفال العاديين ومن شرح حالات البيوت التي يجيء منها الأطفال وشرح خصائص جيرانهم ومعارفهم. وعلى كل فإذا أمكن ملاحظة نماذج من البيوت المتباينة من ناحية الأنظمة السائدة فيها والمتشابهة من النواحي الأخرى، وأمكن كذلك قياس سلوك الأطفال، فمن الممكن الحصول على نتائج هامة أكبر. إن السؤال العلمي الدقيق في بحوث علم النفس الحديث اليوم ليس هو من أي بيت جاء الطفل الذي تبدو عليه متناقضات السلوك، بل هو: ما هي أنواع الحالات البيئية التي تعرض الأطفال لمتناقضات السلوك؟ لأن الانتقال في العصر العلمي الجديد من السلوك إلى البيئة أقل إنتاجاً من الانتقال من البيئة إلى السلوك.
فؤاد طرزي(839/29)
الربيع
للأستاذ محمد هارون الحلو
غدا الربيع فنجوى الحب ألحان ... دن يراق وقينات وولدان
أرى بنات الربى يرقصن في طرب ... مع النسيم وفردوس الهوى حان
خماره بات يسقيها على ظمأ ... وهن من حوله شرب وندمان
حلم يجاذب قلبي وهو مفتتن ... وكل قلب به ظام وهيمان
لقد نماه بسر الغيب مبدعه ... تبارك الله ما سواه إنسان
يد تخط كما شاءت مصورة ... وكل ما نمنمه فهو بستان
ما للأماليد في أعطافها زهر ... ينهل من نشره روح وريحان
كأنهن عذارى قد خطرن وفي ... معاصم السحر ياقوت ومرجان
يمسن في خفر عبر الظلال كما ... يميس من طرب بالراح نشوان
بكرت أصطبح النجوى على شغف ... بين الورود وكم فيهن فتان
يا للحداق بها كم أيقظت شجناً ... فنوْح طير الهوى يدنيه لهفان
أنا المصاب وهذا السهم في كبدي ... رماه ظبي إلى جنبي غيران
يوم استبقت إلى النجوى فغامزني ... بلحظه وبريق اللحظ وسنان
فملت منه بأذيال معطرة ... ومال مني. . . وقلبي منه ظمآن
قطفت منه ندياً غير معتصر ... كما تألق تفاح ورمان
آذار مهلا دفقت الحب في وتري ... فدف شدو به في القلب حيران
نشدتك الله عرس الروض بلبلني ... وهاج مني خيالي فهو يقظان
الأمنيات أباريق معتقة ... تديرهن على الأرواح غزلان
ولؤلؤي الندي المنضور مؤتلق ... على الخمائل قد وشته عقيان
والدر والتبر في الياقوت نضده ... بطابع الحسن في الفردوس فنان
له يكف الورى آلاء ذي منن ... يحفهن به فضل وإحسان
والشمس تضفي غلالات مزركشة ... يرف منها على الموشى تيجان
كأنها ملك يسمو به أفق ... وللربيع بها عرش وسلطان(839/30)
ما كان أسنى بنات الليل شاردة ... والفها شارد الوجدان سهران
يرنو إليها فتغضى في موادعة ... وقد أضر به ضد وهجران
فهل ترى أملاً يهفو على أمل ... وهن منه حوارى وأخدان
أنا الذي هاجت النجوى بلابله ... وللقمارى في الأغصان ألحان
لكم تسمعت منها ذى وتر ... يضم عطفيه آلام وأشجان
أما لقلبي ينبوع أذوق به ... من الأفاويق ما يهواه ندمان
بين الربيع ودنيا الحب آصرة ... هما على الدهر إن شبهت صنوان
هما حياة بعثناها بأرغنة ... وكم تغنى بها في الخلد رضوان
لا تسألني أذات الطوق حالية ... كأمس حيث رياض الحب أفنان
وما حلاها أسوسان الربى عبقا ... وزئبق القاع في الأعطاف فيان
أم الحوادث بين الشرق قد عصفت ... بمهرجان الهوى فالتاع غصان
ربيع هذا الورى في كل بارقة ... للخير، ما لربيع العيش أوطان
ربيع قلبي شبابي طالما انبجست ... منه عيون إلى النجوى وخلجان
ربيع روحي يقين أستضئ به ... يشف عنه بنور الله أيمان
ربيعنا العلم إن قرت دعائمه ... فما يزعزعه بغي وطغيان
الله للعرب قد ناداهم سبب ... إلى الجهاد فهم في البأس فرسان
إن مال بالقدس إعصار فروعه ... فسوف يحمى ربيع الحق رحمان
محمد هارون الحلو(839/31)
إلى الشاطئ
للأستاذ إبراهيم الوائلي
أيها الملاح - والزورق ينساب ويجنح
ونسيم الفجر يختال على الماء ويمرح -
يمم الشاطئ حيث الحلم النشوان يسنح
فهنا كنت مع الطير أناجيها فتصدح
أيها الملاح - والشاطئ مسحور الهضاب
وعروش الكرم تزهي فوق هامات الروابي
وشعاع الفجر ينساب على الطل المذاب
أعد الذكرى وجدد لي أحلام الشباب
مل إلى الضفة فالزنبق يختال ويعبق
ومذاب الطل في الزهر دموع تترقرق
فلكم ينقر مجداف وكم يسبح زورق
والدجى لفت جناحيها وهذا الصبح أشرق
هذه الفتنة في الشاطئ - والطير تغني -
إنها مبعث إلهامي وإحساسي وفني
أيها الملاح جدد لي عهداً ضاع مني
فلكم وقعت كالطير هنا بالأمس لحني
إن في الشاطئ من حبي عهداً لا يزال
هائماً مثلي في الآفاق مشبوب الخيال
في دموع الطل، في النرجس، في خفق الظلال
في خرير الماء، في الانسام، في صمت الرمال
ها هنا حبي واقداحي وساعات اللقاء
وربيع ذاب فيه الصيف واندك الشقاء
وانطلاق قد تساوى الصبح فيه والمساء(839/32)
وهنا ودعت أمسي مثلما شئت وشاء
أيها الملاح في نفسي للماضي رغاب
لم تزل تضحك للفجر وتحيا في الشعاب
فهنا كان رفاق، وهنا مر شباب
وهنا كان صباح وأماسي عذاب
أيها الملاح في جفني طيف لا يغيب
لترانيم وكأس ولقاء وحبيب
فهنا دنياي بالأمس وماضي الرتيب
وهنا مجلى خيالاتي ومغناي الخصيب
أترى مثلي تشجيك ترانيم الطيور؟
والسواقي تهداى في رمال وصخور؟
والندى الذائب خمر سكرت منها الزهور
فهنا شعت كئوس وهنا رفت ثغور
إيه يا ملاح: إني طال في الشط اغترابي
فلكم أطوى حياتي بين موج وضباب؟
أنا في الزورق ظمآن فهل تدرك ما بي؟
وعلى الشاطئ سمارى وأقداح شرابي
مل إلى الضفة كي ننسى تهاويل الطريق
فهنا العيش رغيداً، وهنا الظل الرقيق
علني أدفن همي بين أكواب الرحيق
وأرى الحاضر يزهي مثل ماضي الطليق
أيها الملاح - والزورق ينساب ويجنح
ونسيم الفجر يختال على الماء ويمرح -
يمم الشاطئ حيث الحلم النشوان يسنح
فهنا كنت مع الطير أناجيها فتصدح(839/33)
(القاهرة)
إبراهيم الوائلي(839/34)
اعصفي يا رياح. .!
للأستاذ رضوان إبراهيم
اعصفي أيتها الرياح وزمجري
من كان له في هذا البلد كوخ يخشى عليه التحطيم فليستعطفك!
اعصفي أيتها الرياح. . من كان له في هذا الحقل سنابل يخاف أن تتقصف فليسترحمك!
اعصفي أيتها الرياح. . من كان له في هذا الوجود أحبة يشفق عليهم من لفحات فليطلب
إليك أن تترفقي!
اعصفي. . . اعصفي يا رياح!؟
مهما عصفت فلن تزلزلي هذا الأساس، لأنه لاصق بالأرض!؟
ومما غضبت فلن تهز في هذا البناء، لأنه وهم من الأوهام!؟
ومهما زمجرت فلن تدكي هذه الصروح، لأنها أشباح الأبدية!؟
اعصفي أيتها الرياح. . . اعصفي!
إنني سار غريب. . . مهما عصفت فلن ينشق عني هذا الإهاب الذي يشد عظامي. . .
إنه هدية أمي يوم جاءت بي إلى هذا الوجود!؟
ومهما ثارت ثائرتك فلن تطيحي بهذه القبة الزرقاء التي أستظل بها كلما ألهبت رأسي
زفرات الهجير. . . هجير المجتمع. كل موطئ لقدمي وطن حتى أنقل القدم إلى غيره. . . وكل مضجع آوى إليه تحت سماء الله بيت حتى أنفض غبار الجهد. وكل كسرة أتبلغ بها مائدة ما دامت تحفظ على الحياة!؟
اعصفي أيتها الرياح. . . اعصفي.
اعصفي زلزلي. . . فقد تزلزلين يوماً صروح الظلام!
اعصفي ودكدكي، فقد تدكين مرة معاقل الظلم والطغيان!
اعصفي وثوري. فقد تحطمين سدود الرحمة فتتدفق فتغمر الوجود!
اعصفي. . . فقد يصحبك برق يمزق الغشاوة التي ترين على الأبصار والقلوب، فيرتد
إليها البصر والبصير، فترى حكمة السماء على الأرض، ونور الله على ظلام الناس.
اعصفي وغبري، فقد يعقبك غيث يهطل على القلوب فيحييها فتخضر في جوانبها(839/35)
الرحمة، ويمرع فيها الايمان، وتزدهر في حواشيها الإنسانية!
اعصفي واملأي الدنيا ظلاماً ورعباً، فقد تنجلين عن شمس ساطعة تغمر الكون بضيائها،
فتطرد أشباح اليأس، وتتعقب قلول الظلام، وتنشر الأمل والنور والطمأنينية والسلام.
رضوان إبراهيم
مدرس مساعد - العباسية(839/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(بنات) للأستاذ أحمد الصاوي محمد:
كتاب يطرق أبواب الشعور في النفس الإنسانية طرقاً عنيفاً في كل فصل من فصوله قصة، وفي كل قصة قلب، وفي كل قلب عاطفة. ويقف المؤلف من وراء هذا كله ليلهب القلب الذي يخفق، وليؤجج العاطفة التي تحرق، وليقدم من صور الحياة نماذج فيها من زهر الشرق، وفيها من عطر الغرب، وفيها القلم الذي يصب الزهر والعطر في قارورة الوجدان! في هذا الكتاب فتاة ظلمها الصاوي كل الظلم حين لخص قصتها الرائعة في ثلاثين صفحة؛ فتاة ليست ككل الفتيات، لأن مبدع شخصيتها كاتب ليس ككل الكتاب! هذا الكتاب الفرنسي أخفض قلمي تحية لفنه، ولا تصفني بالغلو إذا أحنيت رأسي إجلالا لعبقريته! وتسألني لماذا ظلمها الصاوي؟ فأقول لك: لأن هذه المسرحية تهز منك الأعماق وهي ملخصة في ثلاثين صفحة، فما بالك لو أفرد لها الصاوي كتاباً نقل في كل همسة نفسية من همسات الكتاب الفرنسي وكل وثبة فنية من وثبات قلمه؟! مسرحية تعد في رأي النقد نموذجاً فنياً بلغ من النضج في كل عنصر من عناصره ما يدفع إلى القمة من الأدب المسرحي الحديث. . . الفكرة من تلك الأفكار التي لا يلتقطها من أعماق النفس إلا ملقط خبير بمسارب الشعور الإنساني حين يرتطم بواقع الحياة، والحوار موهبة فذة ترقب الشخوص من مرصد الوعي المرهف لتسجل الحركة النفسية قبل الحركة الفكرية، والصراع من هذا اللون الذي تستحيل معه الكلمات إلى متحف من متاحف العرض الفني لصور الأهواء والنزعات، أما طريقة التوزيع المسرحي للأدوار الرئيسية فتذكرك بطريقة الكاتب النرويجي إبسن في مسرحيته الخالدة البطة المتوحشة؛ كل دور يلائم شخصيته القائمة به ملاءمة تجمع بين منطق الحياة ومنطق الفن. ويبقى بعد ذك للكتاب الفرنسي تفرده بحرارة الصراع وعنف الوجيب في القلب الإنساني!
دعني أقدم إليك هذه المسرحية الرائعة التي لخصها الصاوي تلخيصاً أميناً تحت عنوان (بنت بين أبوين). . . هي فتاة كما قلت لك ليست ككل الفتيات، فتاة رقيقة الحس، مكتملة العقل، مشبوبة العاطفة. نشأت في بيت من تلك البيوت التي تظلل سماءها الصافية غيوم(839/37)
من الحيرة والشك والضلال؛ فأبوها رجل مغلق القلب، مغمض العينين، متبلد الشعور والوجدان. زوجته في رأيه ليست زوجته، وابنته في وهمه ليست ابنته. . وتمضي عجلة الزمن لتطوي من حياة الأسرة المعذبة الحائرة عشرين عاما؛ ً لقيت فيها الزوجة ما لقيت من شكوك الزوج وإهماله، ولقيت فيها الفتاة ما لقيت من خشونة الأب وإعراضه! وتشب الفتاة عن الطوق وبين جنبيها قلب يتقلب على جمرات من الحقد على هذا الأب الذي لم يشعرها يوماً بحنان الأبوة، وعلى تلك الأم التي حرمتها هذا الحنان في فجر العمر وشبابه، حين جاءت بها إلى الحياة من رجل غير الرجل. . . وللأسرة صديق يتهمه الزوج بانتهاك حرمة العطر في زهرة كان يمكن أن تملأ بيته بالأرج، وتقف الزوجة والصديق أمام هذا الاتهام السافر موقف المظلوم من القاضي الجائر، فهو إن قدم الدليل على براءته يجد الأذن التي تسمع ولا القلب الذي يشفع! والفتاة البائسة تجلس في الصف الأول من صفوف النظارة لتشهد المأساة بكل خلجة من خلجات الفكر الموزع والعقل المشتت والضمير الملتاع. وينتهي الفصل الأخير بأن تغادر الفتاة المسرح الذي ملأ عينيها بالدمع وأرمض جوانحها بالعذاب، ولكن أين؟. . . إلى هناك إلى البيت الآخر الذي يضم بين جدرانه رجلاً كانت تناديه أبداً بيا (أبي) تناديه بها بالقلب والروح واللسان! كان أبوها حقاً ذلك الرجل الذي لجأت إليه؟ الله يشهد أنه لم يكن للعائلة غير صديق، صديق يحب الزوج ويجل الزوجة ويعطف على الفتاة، ولكن الشك قد أظهره في عيني الزوج المضل بظهر العاشق وفي عيني الفتاة الشقية بمظهر الأب، وما أثقلها من كلمة كانت تلهب شعوره بسياط الأسى الدفين حين تناديه الفتاة بنداء الأبوة وهو عنه بعيد! ويأتي يوم يتدخل فيه القدر ليرفع الغطاء عن وجه الحقيقة، والغشاوة عن عيني الزوج، وكما يستيقظ النائم من نومه الطويل وأحلامه المفزعة، فقد استيقظ الزوج بعد عشرين عاماً ليطلب الصفح من الزوجة والابنة والصديق. . . . ويصفح الصديق عن زلته، وتعفو الزوجة عن سقطته، وتبقى الفتاة يحول البغض والحقد بينها وبين الصفح والمغفرة! وهنا يبد الصراع النفسي العنيف الذي يرتفع بالفن المسرحي إلى الأوج. . . أب يتوسل إلى ابنته أن تصفح، وأت تعفو، وان تعود إليه، أب فرغ قلبه وفرغت حياته من الحب البنوي عشرين عاماً ويريد أن يملأ فراغ القلب والحياة، أب يئن أمام عاطفة ابنته المتحجرة أنين حيوان شجته السهام فراح يلعق جراحه،(839/38)
أب يحاول أن يقنعها بأنه أبوها وأنها ابنته، وكلما شق طريقاً إلى القلب المغلق وقف الماضي البغيض ليعترض طريق أحلامه وأمانيه!. . . إذا قال لها إن عينيه تشبهان عينيها قال له: أجل يا أبي بما ليس فيهما من حنان! وإذا قال لها يجب أن تؤمن بطهارة الأم التي أنجبتك، قالت له: إن من يعيش معك يا أبي لا يؤمن بأحد! وإذا قال لها أحبي يا ابنتي ما كرهته واجتويته ونفرت منه عشرين عاماً، أنا بشكلي ورأسي ويدي وظهري قالت له: ولكن ابتسامتك يا أبي، ونبرة صوتك، ووقع خطا! وإذا قال لها ألا نحاول يا ابنتي أن يقترب أحدنا من الآخر قالت له: إن من واجبنا يا أبي أن نحاول! ويهتف الأب وهو يغص بلوعته: أرأيت يا ابنتي أن الكلمة الوحيدة التي وجدتها هي كلمة (الواجب) وهي كلمة ينقصها السحر؟! وتجيبه الفتاة وهي تشرق بالدمع: آه لو أمكننا! ويهمس الأب من أعماقه: أن نتسامح، وأن ونتصافح! وأمام اللهفة الضارعة تقول له: تكفي لحظة حنان في حياتنا العدائية، وتذكر شيئاً، شيئا نستطيع أن ننسج عليه مودتنا، ثم محبتنا ثم سعادتنا تذكر عندما كنت طفلة ومرضت، ألا تذكر؟ فلنبحث عن شيء آخر يا أبي، شيء أكون قد قلته لك. . . . كلمة. . . . أو إشارة تسعفنا وتقرب أحدنا إلى الآخرّ ويصرخ الأب في يأس مرير: آه يا ابنتي، لا أكاد أجد شيئاً، لقد كنت بلا ريب طفلة لطيفة، ثم بنتاً جميلة، ولكنني لن أنظر إليك، لقد كرهتك منذ مولدك، أما الآن فلشد ما أحبك يا ابنتي!!. . . انظري أليس مثلنا كمثل كفيفين عمى منهما البصر وهما يتخبطان في الظلام مادين أيديهما ليلتقيا؟ هيا يا ابنتي إلى البيت، ولن نكون الأسرة الوحيدة على ظهر الأرض التي يعيش فيها أب وابنته جنباً إلى جنب بغير حب!
ترى هل ذهبت معه؟ كلا! إن الريشة المبدعة تريد أن تختم المسرحية الفذة ختاماً نفسياً لا نظير له. . إن الكاتب الفرنسي يريد أن يلقي على رجال الفن دروساً ترسم لهم الطريق؛ وها هوذا ينطق الفتاة بأعمق وأروع ما يمكن تنطقها به الحياة: (لن أذهب معك يا أبي لأنني أريد أن أحبك. . . يجب أن نتحاب يا أبي وقد أحبك لأنني أريد أن أحبك. . . يجب أن نتحاب يا أبي وقد أحبك إذا سافرت إلى أي مكان بعيد! إنني لا أستطيع أن أنطق أمامك بشعور الميل والانعطاف لأنك أمامي وحتى لو قلت لي أرني ما عندك فإني لم أتأثر به إذ أنك تقوله بذلك الصوت الذي طالما تثلجت منه أرافي وجرح فؤادي. . لا حيلة لي فيه فهو(839/39)
ما زال يثلجني ويجرحني! حتى لو بكيت يا أبي فإن دموعك تسيل على وجهك الذي ظل عشرين عاماً وهو يتجهم لي!!. . . وعلى ذلك فلا بد لبناء شيء بيننا من أن نهدم أولا كل شيء، ولكي أحبك لا بد لي من أن أنساك. . . ولكي تزداد قرباً مني ينبغي أن تزداد بعداً. . . سافر إذن لأفكر فيك. وأكتب إليك. . . ولكي تكون أبي الذي بعد عني والذي سيعود إلي. . . أبي المجهول الذي لا يعرفنني، والذي سيجيء يوماً ما. . . سوف ترى، فإنه ما إن يتم البعد بينا قليلاً حتى يشب الحب بيننا قليلاً. . . وفي رسالة من رسائلنا، نزداد جرأة عل إبدائه، والتعبير عنه. . . ثم نتحاب حقاً يوماً، وعندئذ تعود. . . أتريد ذلك يا أبي)؟ ويجيبها الأب وهو يجر قدميه مندفعاً إلى الخارج وفي صوته رائحة الدموع: نعم يا بنيتي. . . وسأنتظر رسالتك الأولى!!
فتاة كما قلت لك ليست ككل الفتيات، لأن القلم الذي قدمها إلى الناس قلم كاتب ليس ككل الكتاب. . . وأقرأ بعد ذلك للصاوي قصصاً أخر وبعضها لكتاب آخرين من الأدب الفرنسي، ومهما بدا لك من الاعتراض هنا وهناك فلن تستطيع أن تنكر على الصاوي أنه إنسان، إنسان يستشير قلبه في قصصه حين يكتب، ويرجع إليه دائماً في قصص غيره حين يعرب! اقرأ مثلاً في الفصل الأول قصة الفتاة التي تضحي بحبها الذاتي في سبيل الكرامة، وفي الفصل الثاني قصة الفتاة التي تضحي بحبها الأبوي في سبيل الزوج، وفي الفصل الرابع قصة الفتاة التي تضحي بحبها الخيالي في سبيل الوطن! واقرأ إذ شئت في الفصول الأخرى ألواناً من المرأة وألواناً من الحب، وإذا كانت هذه الألوان لا تبلغ المستوى الرفيع في قصة الكاتب الفرنسي والقصص الأربع التي أشرت إليها في الفصل الأول والثاني والرابع والأخير، فحسبك أن خفقات القلب فيها تسبق وثبات القلم!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
قلت وما زلت أقول لماذا يؤثر بعض القراء أن يظلوا مجهولين وهم أصدقاء؟. . هذه رسالة من (القضارف - سودان) تحمل إلي من أديب لم يذكر اسمه تحية ملؤها التقدير الكريم لهذا القلم المتواضع الذي يسطر تعقيباته من أسبوع إلى أسبوع. إن هذه التحية الكريمة وأمثالها من التحايا الصادرة من أعماق الشعور والقلب والعاطفة، لتؤكد لي أن رسالة الأدب بخير ما دام هناك خلق وعقل وذوق ووفاء، أما أنا فلا أملك لهؤلاء القراء(839/40)
الأصدقاء جميعاً غير الشكر، وإنه لشكر العاجز المقصر عن بلوغ ما يريد!. وهذه رسالة أخرى من (الإسكندرية) تحمل إلي أيضاً ما حملته الرسالة السابقة من عاطر الثناء، ولكن مرسلها الأديب الفاضل سعيد كامل غير راض عن الكلمة التي كتبتها منذ أسبوعين عن الريف، لأن قضية الريف كانت تنتظر مني تصويراً أصدق وأوفى واكثر إحاطة مما كتبت! إن ردي على الأديب الفاضل بعد خالص شكري له هو أنني ما أردت من وراء كلمتي عن الريف إلا أن أسجل حالة شعورية صادقة تركت أثرها في نفسي وحسي، وأعتقد أنني قد نقلت حديث الشعور إلى الورق نقلاً يمكن أن يحرك ذوي النفوس الشاعرة من أصحاب الأقلام وأصحاب السلطان أما الرسالة الثالثة فمن تاجر فاضل (بمحلة مرحوم) يهوى الأدب ويحب (الرسالة) وهو السيد حنفي الشريف. . . يسألني التاجر الأديب حلاً لمشكلة سببها له صديقي الأستاذ راجي الراعي في قطرات نداه حين قال: (أتعس الناس رجل ذو ذاكرة قوية يصرف الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة ولا يرى فيه قوة لتعبير عما يشعر به، فتظل تلك الخلائق في رحامه لا تقوى على الخروج وتتراكم مع الزمن حتى يصاب بالاستسقاء الذهني وفي مساء يوم من أيامه ينفجر رازحاً تحت أثقاله ويسلم الروح منتحراً أو مجنوناً! إن النفس إذا غصت ساحتها بما فيها ولم تجد منفذاً أصيبت بالاختناق، فلا تصرفوا أوقاتكم في القراءة إذا كنتم لا تستطيعون أن تكتبوا. القلم فرجة الروح فاكتبوا كلما قرأتم لترتفع أشجاركم بدورها بين تلك الأشجار التي تتفيأونها في غابات الفكر والإحساس. افتحوا كوى أرواحكم بين الحين والحين لئلا يفسد هواؤها)!. . . إن مشكلة التاجر الأديب أنه مشغوف بالقراءة والاطلاع والاغتراف من منابع الأدب، ولكنه لا يملك القدرة على التعبير عما يجيش بنفسه من شتى لا خواطر والأحاسيس بما يرضي أديباً كبيراً كالأستاذ الراعي، فهل يترك القراءة والاطلاع لأنه لا يستطيع أن يعبر؟! هذا السؤال يوجهه إلي صاحب الرسالة، وأنا أترك الجواب للأستاذ راجي الراعي لأن الموضوع موضوعه وهو أحق مني بالجواب! وتبقى بعد ذلك الرسالة الرابعة وهي من (السودان) أيضاً إنها رسالة عزيزة علي لأن ما فيها من عتاب وطني حار قد لفح مني الشعور والوجدان! أود أن أقول لمرسلها الأديب الفاضل ج. البشير إنني سأفرد للموضوع الذي أثرته بكلماتك الملتهبة بصدق الوطنية والإيمان مكاناً خاصاً من (تعقيبات) العدد(839/41)
القادم. . .
قصة (مالك الحزين) في مجلة الثقافة:
قصة مالك الحزين قصة معروفة لكل من قرأ كتاب (كليلة ودمنة)، وهي قصة قصها بيدبا الفيليسوف على دبشليم الملك حين طلب إليه أن يضرب له مثلاً للرجل يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. . هذا المثل الذي ضربه الفيلسوف لهذا الصنف من الناس مستمداً معناه من شخصية مالك الحزين، هذا المثل تستطيع أن تعثر عليه في العدد الصادر منذ أسبوعين من الثقافة في صورة دكتور من الدكاترة الشبان يلذ له دائماً أن يحمل عصا الأستاذية في النقد الأدبي! قال الدكتور وهو يعرض لأحد الكتب بالنقد والتوجيه: (دعوت في مقال إلى أن لا يكتب المؤلف كتاباً إلا وقد أصبحت أفكاره تجارب يعيشها ويحياها، حتى يكون الكتاب ذا قيمة حقيقية وحتى يمكن أن ينتفع به الناس؛ فإن الكتاب إن لم يصدر عن منطق المؤلف وروحه، ولم يصبح جزءاً لا يتجزأ من ذهنه ونفسه، يكون شيئاً تافهاً، ولا يكون خليقاً بالنظر والدرس. وقد يظن بعض المؤلفين في هذا عنفاً وقسوة في الحكم على الكتب، ولكنهم إذا نظروا في الساعات التي اقتطعوها من القارئ في غير جدوى، إلا أن يأتوا بأخبار من هنا وهناك، حتى ليغدو الكتاب كأنه سوق غير منظمة يختلط فيها الزائف بغير الزائف والمهوش، إذا نظروا في ذلك اعترفوا بصحة ما تذهب إليه). كلمات الدكتور الناقد حق في حق، ولكن هل يتفصل بتطبيقها على كتبه قبل أن يطبقها على كتب الناس؟ أم أنه يريد أن يعيد لنا قصة مالك الحزين، ذلك الذي قال عنه بيدبا الفيلسوف أنه يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه؟!. .
أنور المعداوي(839/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بيني وبين رجل طيب:
تصدى كاتب في مجلة المقتطف لما كنت كتبته في العدد (830) من الرسالة بعنوان (مجمع سلامة موسى للغة العامية) فكتب تحت عنوان (النقد والتعقيب في الصحف والمجلات) متوهماً أنني نقدت في ذلك الموضوع كتاب (البلاغة العصرية واللغة العربية) للأستاذ سلامه موسى، نقداً (إنعدم فيه التجاوب وضاعت الأمانة الواجبة على الناقد. . . الخ) وأنا أبادر أولاً فأقول إني لم أتعرض لنقد الكتاب، وإنما كان مبنى الموضوع على طلب الأستاذ سلامة موسى عضوية مجمع فؤاد الأول للغة العربية، إذ قلت إن الأستاذ دائب الطعن على اللغة العربية وأدبها وثقافتها. والغرض الأول من المجمع هذه المحافظة على هذه اللغة وتنمية أدبها وثقافتها، والأستاذ سلامة يدعو إلى اتخاذ اللغة العامية بدلاً من العربية الفصيحه، وعلى ذلك فهو ليس أهلاً إلا لعضوية مجمع ينشأ للغة العامية، ومن التخليد له أن يسمى المجمع العامي باسمه. واستشهدت على ما قلت ببعض نصوص وردت في كتابه المذكور آنفاً نعى فيها على العربية وثقافتها ودعا إلى اللغة العامية. فهل يعد الاستشهاد ببعض ما جاء في كتاب، نقداً له؟ ولو أنني نقدته حقاً لما ضيعت الأمانة، ولما انعدم (التجاوب) في نقدي ولو أنه في غير صالح الكتاب. ويظهر أن الكتاب رجل طيب مجد مجتهد، كما يظهر نم قوله (وغايتنا من وراء هذا إعلاء مكانة النقد وتنقيته من الشوائب) أنه أيضاً غيور على صالح النقد الأدبي، ولكن كل هذه أشياء غير الأصالة والإصابة، وفقدان هذين هو الذي جر على ما ندبه قلم الكاتب، سامحه الله. وقد صدق الرجل الطيب الغيور في مؤدى قوله: (لقد زعم الكاتب الشاب (الذي هو أنا) أن الأستاذ سلامة موسى يهجم على اللغة العربية ويعيب أدبها ويدعو إلى اللغة العامية وأن آراءه في هذا الكتاب ككل الآراء التي في كتبه وأن رجلاً هكذا اتجاهه لا يجوز أن يحتل مقعداً مع الخالدين في المجمع اللغوي بل إنه ليرشحه لرياسة مجمع يطلق عليه المجمع العامي ويسمى باسمه نعم قلت ذلك ودللت عليه بما جاء في الكتاب، وأزيد عليه الآن ما قاله المؤلف بعد أن ادعي أن السلفية - ويقصد بها الكتابة عن الأسلاف دون هنري فورد وكارل ماركس - منعت الأمة(839/43)
من التقدم الصناعي، قال في (ص12): (لأن المجتمع الصناعي كان جدياً بأن يحدث مجتمعاً مستقبلياً يكتب مؤلفوه بلغة الشعب وتنتقل اهتماماتهم الذهنية من التأليف عن قدماء العرب إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية في الأخلاق والتعليم والاقتصاد ومكافحة الفاقة. وإني بالطبع لا اغفل هنا ارتباط اللغة بالتقاليد والعقائد وأن هذا الارتباط من أسباب الكراهية للتطور اللغوي) وفي الكتاب كثير من أمثال هذا الكلام. على أن عنوان الكتاب نفسه يدل على أن المؤلف يدعو إلى اللغة العامية، فهي المعنية بـ (البلاغة العصرية) لأن الواو الواقعة بينها وبين (اللغة العربية) في اسم الكتاب، تقتضي التغاير بينهما، أي أن البلاغة العصرية شيء مغاير للغة العربية! والرجل الطيب المجد الغيور ينفي عن الأستاذ سلامة موسى أنه يعيب العربية ويدعو إلى العامية، وقد دفعته طيبته إلى الإغضاء عما استشهدت به من اكتاب، وأعمل جده واجتهاده في عرض أبواب الكتاب ومحتوياته التي منها بحوث في (أثر الألفاظ من الناحية السيكولوجية والاجتماعية والخلقية) ولم يدرك الرجل الطيب - لطيبته - أن المؤلف يقصد بذلك ثلب اللغة العربية فهو يقول مثلاً في أثر الألفاظ النفسي ص 146: (في لغتنا كلمات تحمل شحنات عاطفية سيئة تؤدي إلى ارتكاب الجرائم (الدم والعرض في الصعيد). ومن محتويات الكتاب التي أشاد بها الرجل الطيب ما جاء في قوله (ولم يقف مؤلف كتاب البلاغة العصرية عند هذه الفكرات بل ارتأى أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة (ولا تنس أنها العامية) وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلاً من مخاطبة العواطف، وذلك لأن البلاغة العربية تخاطب العواطف دون العقل، وهذا ضرر عظيم) ومعنى هذا أن نلغي الأدب كله لأنه يخاطب العواطف ونعمل بلاغة عصرية عامية تحرر بها العلوم ويكتب بها عن كارل ماركس وهنري فورد من أجل خاطر سلامة موسى الذي ألف هذا الكتاب متأثراً ب (عاطفة) الكراهية للغة العربية! إن النتيجة التي يستخلصها القارئ الفطن من هذا الكتاب - بعد أن (يتجاوب) معه - هي أن اللغة العربية علة تأخرنا في كل شيء. . . ففيها كلمات تفسد الأخلاق كالدم والعرض في الصعيد، وهناك ألفاظ مثل الحريم تهدر كرامة المرأة، وهناك كلمات أرستقراطية تبسط السيادة الطبقية كصاحب السعادة وصاحب العزة، وخلوها من ألفاظ الصناعة أدى إلى تأخرنا الصناعي، كل ذلك إلى ما فيها من مترادفات وما تمتلئ به من كلمات بدوية منحوتة(839/44)
من أصول حسية لا تنفع للحضارة العصرية. لذلك الهذيان كله، الذي يوجع القلب ويذهب الوقت سدى بقراءته، وجب أن نتخذ البلاغة العصرية بدلا من تلك اللغة العربية. . . . والتعبير بالبلاغة العصرية ما هو إلا تزويق وطلاء للفظ (اللغة العامية) إذ ترى الدعوة في الكتاب سافرة إلى الكتابة بلغة الشعب والمجتمع وما إلى ذلك، ليكون (المعلم دبشة) الجزار أمير البلاغة العصرية. . . وكاتبنا ذاك رجل طيب جداً، لأنه يدفع تهمة الدعوة إلى العامية عن الأستاذ سلامة موسى، مع أن هذا يجاهر بها ولا يرى فيها عيباً ويسره أن ينشأ باسمه مجمع للغة العامية أو بعبارة أخرى، مجمع للبلاغة العصرية. وقد خير إلى الكاتب المجتهد بعد أن تعب من عرض أبواب الكتاب (أن ما جاء في أقوال كاتب مجلة الرسالة من أن الكتاب يدعو إلى التهجم على اللغة العربية ويعيب أدبها ويدعو إلى العامية لا يقوم على أي أساس من الصدق والحق، ونخشى أن نقول إنه تشويه متعمد قصد به التشهير وإذاعة الآراء الباطلة، وهذا ما نشجى له كل الشجى). يا أخي لا تغضب ولا تشج فأنا لم أشوه ولم أقصد التشهير، لأني لم أرم الأستاذ سلامة بما يكره، وإذا لم تكن مصدقي فسله أو سل أي أحد ممن لا تأخذهم غفلة الناس الطيبين.
هدى:
هو الفلم الجديد الذي يعرض بالقاهرة في سينما ريفولي، أخرجه حلمي رفلة، ووضع قصته نقولا بدران، وكتب حواره بديع خيري، وقام بتمثيل البطلين فيه نور الهدى وكمال الشناوي، واشترك معهما في التمثيل حسن فائق ومحمد كمال المصري (شرفنطح) وآخرون. (هدى) اسم الفتاة التي بنى الفلم على تقديم شخصيتها (مثلتها نور الهدى) تظهر في أول منظر بمنزل والدها فتحي بك (حسن فائق) مدير شركة التصوير والتوريد ببور سعيد، وهي تستذكر دروسها استعداداً لامتحان التوجيهية. ثم تنجح في الامتحان، وما تكاد تفرح بنجاحها حتى تحزن لزواج أبيها من نعيمة الموظفة عنده بالشركة، ويسوئها أن تحل نعيمة، وهي من بيئة سيئة، محل أمها المتوفاة، ولكن والدها يسترضيها وزوجته تحسن معاملتها في أول الأمر تملقاً للوالد الحدب على ابنته، ثم تتغير عليها تغيراً شنيعاً وتذيقها ألوان الهوان حتى يصل الأمر إلى أن تحاول تزويجها من أخيها عاشور الذي كان بائعاً على عربة يد ثم أصبح مديراً للمخازن بشركة صهره فتحي بك، وكانت هدى قد عادت من(839/45)
القاهرة حيث كانت تقيم مع خالتها وقد لحقت بكلية الحقوق طالبة فيها، ولما كانت في القاهرة عرفها شكري (كمال الشناوي) أخو زميلة لها في الكلية، فغازلها وهم بإغرائها، ولكنها أعرضت عنه وصفعته. وشكري ضابط بحرية يعرف والد هدى من تردده على ميناء بور سعيد، فذهب إليه يخطبها منه، فعارضت نعيمة زوجة الأب وأصرت على تزويج هدى من أخيها عاشور. فهربت هدى وقصدت إلى الأستاذ عبد الصبور الموسيقى الذي عرفته في حفلة بمنزل زميلتها بالكلية، وأفضت إليه برغبتها في الاشتغال بالغناء فرحب بها ومهد لها السبيل إلى الغناء بأحد الملاهي وتستبد نعيمة بزوجها فتحي بك وتمكن لأخيها عاشور في الشركة، فيدأب على سرقة البضائع وتهريبها حتى تسوء حال الشركة ويفلس فتحي بك. ويذهب شكري مرة إلى الملهى فيرى به هدى التي تأبى مقابلته، فيتصل بأبيها ويخبره فيحضر فوراً، ثم نرى في المنظر الأخير شكري وهدى عروسين. والفلم يعتمد - في موضوعه - على تقديم هذه الفتاة المكافحة التي أصرت على أن تحيا حياة كريمة شريفة، فكان ما أرادت رغم ما اعترضها من عقبات وشدائد. ولكنه في الوقت نفسه كلفها معجزات، فقد كانت تقوم، عدا ما قدم في تلخيص القصة، بأعمال (بوليسية) في بور سعيد لكثرة البضائع التي سرقها عاشور، واقتضاها ذلك أن تسقي عاشور وشركاءه الخمر في إحدى الحانات، حتى عرفت منهم وهم سكارى موضع البضائع. وقد أدى ذلك إلى زحمة الفلم بالحوادث الثانوية إلى جانب إرهاق هدى بما ليس في الإمكان المعتاد، فهي طالبة بالحقوق ومطربة بالقاهرة و (أرسين لوبين) في بور سعيد ألم يكن في الإمكان تصوير هذه الشخصية دون وقوع المتناقضات في حياة فتاة نشأت في منزل محافظ ودرست في الجامعة، نراها تحذق سقاية الخمر واللعب بعقول رواد الحانات. .؟ وقصة الحب في هذا الفلم وضعها عجيب، الفتى يحب الفتاة من أول نظرة وهي لا تعيره أية نظرة حتى النهاية حيث نراهم عروسين. نعم هو حاول إغرائها وهي فتاة شريفة، ولكن هذا الوضع؟ لم نر ما يبرره غير أن نشاهد الفتاة معرضة عنه لتتزوجه برغبتها أخيرا. . وقد اضعف ذلك مركز كمال الشناوي في الفلم وأظهره في مظهر تافه رغم أنه الفتى الأول فيه، وقد طغت عليه شخصية حسن فائق حتى تحول مجرى الفلم من قصة حب بين فتى وفتاة إلى قصة بنت وأبيها. ونور الهدى ممثلة بارعة، معبرة في التمثيل وفي الغناء، وقد(839/46)
قام نجاح التمثيل في الفلم عليها وعلى حسن فائق، فقد أبرزا الحياة فيه ممثله في روعتها وظرفه. ويمتاز الفلم بما اشتمل عليه من مشاهد الفن والجمال الخالية من الإسفاف والتهريج، وقد وجه المخرج عناية كبيرة إلى برنامج الملهى الذي كانت تغني فيه هدى، ومن روائع هذا البرنامج منظر قطع فيه بيت شوقي المشهور:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
ولا تحسبن تقطيعه على (فاعلاتن مستفعلن) بل جسم كلا من النظرة والابتسامة و. . . الخ في هدف تحمله بنت ويرمي إليه السهم وتمر هدى بكل منها وتغني له غناء يشرح القصة الخالدة من النظرة إلى اللقاء.
عباس خضر(839/47)
البريد الأدبي
الضمير الأدبي. . . وأين يوجد؟!
اعتادت الرسالة الزاهرة أن تقدم لقرائها في سائر أقطار العالم أنضج الثمرات الأدبية وأشهاها لمختلف أدباء العربية من نثر وشعر وفن وعلم ونقد. . وكانت رسالة النقد في (الرسالة) أسمى الرسالات حيث يوضع المؤلف على بساط الفن والبحث ويحمل المبضع ناقد نزيه لا هم له إلا الحرص على المستوى الأدبي والحقيقة العلمية وتميز القول، وتلك رسالة النقد الجليلة. ولكن الأستاذ أنور المعداوي كاتب (التعقيبات) بعد أن سطع نجمه في النقد البريء شط به الهوى فنسى قلمه ونسى ضميره حين كتب في العدد (835) من الرسالة قوله (ولقد كنت أود أن أفي بهذا الوعد لولا رغبة كريمة من صديقين عزيزين بأن أكف يدي وأقبض قلمي تحقيقاً لغاية نبيلة هي إعادة الصفاء إلى النفوس. (إلى هنا وأتسأل في حيرة وتردد أين الضمير الأدبي؟! وأين الحقيقة العلمية السامية التي من أجلها خلق النقد؟ أحب أن أسأل الأستاذ المعداوي ما معنى إعادة الصفاء إلى النفوس؟! وما معنى الاستجابة للصديقين وترك الحقيقية الأدبية تنتحب وتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي الصداقة. . .! ويعلم الله كم كنت مبتهجاً لجرأة هذا الأديب حين تناول بعض الأدباء بالنقد النزيه في إحدى تعقيباتها وكتب (وأنا حين أكتب أنسى المجاملة والصداقة وأتوخى الحقيقية العلمية والأدبية ما استطعت إلى ذلك سبيلا). ولا شك أن هذا الكلام جدير بالتقدير والإعجاب أسطره للأستاذ المعداوي بكل غبطة وسرور. ولع الأستاذ المعداوي يذكر قول القائل (إذا كنت حريصاً على الصداقة فكن على الحق أكثر حرصاً). ولعله يجيب على كلمتي هذه في تعقيباته ليستأنس به الضمير الأدبي ضمير النقد النزيه الذي تعودناه منه. . . وإني أناشد الأستاذ الكبير عميد الرسالة باسم الأدب والحق نشر كلمتي هذه في (الرسالة) الغراء منبر الحق. وللأستاذ المعداوي تحيات المؤمل المنتظر.
سلمان البغدادي
ليسانس آداب
رد على الهجوم:(839/48)
قرأت في العدد 836 من الرسالة الغراء كلمة للأستاذ كامل محمود حبيب أوجز الرد عليها في السطور التالية: أولاً: يقول إن قصة (مادلين) نشرت من قبل بالبلاغ بدون توقيع. . . وأقول إن التوقيع سقط عند الطبع، ويستطيع السيد أن يسأل الأستاذ إبراهيم نوار بالبلاغ! ثانياً: يريد مني أن أثبت له أن القصة لي. . . وأقول إني أتحدى أن يثبت أي كاتب هذا الشيء بالنسبة لقصة نشرها بإحدى الصحف! أما الأدلة التي أملكها فهي. . . أولاً شهادة والدي الشيخ وأشقائي، وذلك أن أخي الثالث هو بطل القصة، ولأن القصة لا فضل لي فيها غير وضعها في الحروف!. . ثانياً شهادة صديق من الأدباء. . . ثالثاً شهادة (الثلاث أخوات السوريات) وشهادة شقيق (مادلين) وهو طبيب بالقاهرة. . فهل يريد سيدي أن أحمل إليه كل هؤلاء في (تاكسي) ليشهدوا لي؟. . . لقد اضطررت مرة للهرب من القاهرة بسبب قصة لي، هربت من (النبابيت)، فهل يرضى السيد أن أفعلها ثانية؟ ثالثاً: يأخذ على نشر القصة بالرسالة بعد نشرتها بالبلاغ. . وأقول: أين كنت يوم نشر غيري من الأدباء قصائدهم في عد من المجلات في وقت واحد. . . لا أريد بهذا كبار الأدباء بالطبع لأن المسألة هنا فيها نظر؟!. . . نشرت (مادلين) بالرسالة لأن البلاغ لا يخرج عن القاهرة والإسكندرية فيما أظن، بينما تذهب الرسالة إلى مشارق الأرض مغاربها! وإذا علم السيد إني لا أطلب للآن أجراً عما أكتب فهل يعود ليلومني على نشر قصة - سقط منها - للمرة الثانية؟ رابعاً: يشير إلى (سابقة) لي ويعني بها أسطورة (الديك الذهبي) لبوشكين. . هذه القصة بعث بها لرسالة منذ شهور. . . ثم حسبت أنها فقدت بالبريد، فعدت وأرسلتها للبلاغ. وشاء سوء الحظ أو حسنه أن تنشر بالرسالة في نفس الأسبوع! خامساً: يرى أن نشر قصة للمرة الثانية هو (فرار من الجهد، وضعف، وخواء) وأقول إني لا أجهد نفسي في كتابة القصص. . وإنما أتلقاها (جاهزة) من السماء أو الأرض وقد حاولت أن (أجهد) في كتابة بعض القصص فكانت النتيجة أن ضميري الفني أبى حتى الآن أن أرسلها لصحيفة ما! هذا يا سيدي. وحسبي الله ونعم الوكيل!
يوسف جبرا
بويضة وانسجام:(839/49)
جاء في (الأهرام) تحت عنوان (بعض أوهام الكتاب) أن تصغير بيضة على (بويضة) خطأ في اللغة، وانه من أوهام الكتاب، وأن الصواب: (بييضة) بيائين متعاقبين. كما جاء في مع هذا أن (بينهم انسجام) أي وفاق من أوهام الكتاب أيضاً! وأقول: إن تصغير بيضة على بويضة ليس بخطأ ولا هم، بل هو وارد ومسموع عن العرب الخل. وقد يدهش القارئ إذا علم أن كلمة (بويضة) تصغير بيضة هي مستند النحاة الكوفيين منذ أكثر من ألف سنة في تجويزهم في كل مصغر فيه ياءان متعاقبان أن تقلب الياء الأولى منهما واواً، فيقولون في تصغير شيخ شويخ، وفي بين بويت، وفي عين عوينة وهكذا. وذلك قياساً على ما سمعوه عن العرب. وهو (بويضة). نص على ذلك الأشموني على الألفية عند شرح قول ابن مالك: واردد لأصل ثانياً ليناً قلب. . . والعلامة السيوطي في كتابه همع الهوامع عند الكلام على التصغير بالجزء الثاني من هذا الكتاب. نعم وقد وقع تقصير في كتب المعاجم اللغوية، فلم تذكر ذلك، ولكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود. وكم من مفردات لغوية تذكرها كتب المعاجم! أما (بينهم انسجام) فهو صحيح على ضرب من التجوز الذي لا حجر فيه في اللغة العربية متى وجدت العلاقة والقرينة المصححتان للاستعمال. وهذا من تشبيه توافق الناس وانتظامهم في مشاربهم بتوالي انسجام الدمع مع العين، أو الماء النازل من السماء على نمط واحد بدون اختلال. ومن هذا يعلم صحة قول الأطباء: بويضات جمع بويضة، ووجاهة قول من قال: هؤلاء بينهم أو ليس بينهم انسجام.
(كلية التربية)
عبد الحميد عنتر
1 - حول المؤرخ المصري أحمد بن زنبل الرمال وكتابه:
يذكر أنور زقلمه في كتابه المماليك في مصر أنه اعتمد على كتاب صغير وضعه رجل يدعى ابن زنبل الرمال. وللحقيقية والتاريخ أقول إنه ليس هناك ثمة مؤرخ عرف بهذا الاسم إلا المؤرخ المسلم أحمد بن علي بن أحمد المحل. ولقد ذكر الدكتور محمد مصطفى زيادة طرفاً من الحديث عن هذا المؤرخ في كتابه (المؤرخون في مصر في القرن الخامس عشر الميلادي القرن التاسع الهجري) في ص75، ص76. ويذكر الدكتور زيادة أن لابن(839/50)
زنبل كتاباً عنوانه (أخذ مصر من الجراكسة) وبالرجوع للكتب المخطوطة والمطبوعة بدار الكتب الملكية لم أجد لابن زنبل مؤلفاً بهذا العنوان. وإنما وجدت عدة كتب مختلفة العناوين تعالج موضوعاً واحداً هو فتح السلطان سليم لمصر وتقارب هذه الكتب في عباراتها بل وألفاظها. فمن عناوين هذه الكتب كتاب السلطان سليم العثماني مع السلطان قانصوه الغوري. ويسمى سيرة السلطان سليم خان والجراسكة وما جرى بينهم ومع قانصوه الغوري، وكذلك يسمى تاريخ ابن زنبل الرمال. وثمة كتاب آخر بعنوان آخر هو الواقعة بين السلطان سليم خان في فتوح مصر مع السلطان الغوري وطومان باي. ومن هذا نرى أنه ليس في دار الكتب الملكية نسخة تحمل عنوان (أخذ مصر من الجراكسة) لهذا آمل أن يحافظ الناشر على عنوان الكتاب وأن يجعله أقرب إلى أحد العناوين السابقة، بل إنني أرى أن خير عنوان للكتاب هو (الواقعة بين السلطان سليم خان في فتوح مصر. . . الخ هذا إذا لم يكن الناشر قد عثر على مخطوطات أخرى تحمله على أن يجعل عنوان الكتاب (أخذ مصر من الجراكسة). ونرجو من ناشر ومحقق الكتاب أن يضرب صفحاً عن هذه الأشعار الكثيرة التي وردت في النسخة المخطوطة رقم 44 تاريخ بدار الكتب الملكية لأن هذه الأشعار تفسد كثيراً رونق الحقائق التاريخية التي ذكرها المؤرخ المصري وتجعل الكتاب أقرب إلى الملاحم الشعرية الأدبية. كذلك على الناشر أن يلاحظ كثرة الأخطاء النحوية والإملائية التي تزخر بها النسخ المخطوطة من الكتاب بجانب اللغة العامية الفاشية في معظم صفحات الكتاب. حقاً إنها شاقة على الناشر والمحقق نأمل أن يوفق فيها فيخرج لنا سفراً هاماً في تاريخ مصر في أواخر عهد المماليك وبداية الحكم العثماني.
2 - الغَوري لا الغُوري:
وبمناسبة ذكر اسم الغوري أقول إن من الخطأ نطق الغوري بضم الغين وخاصة بعد أن حقق الدكتور عبد الوهاب عزام بك اسم الغوري في كتابه (مجالس السلطان الغوري) فذهب الدكتور عزام إلى أن الضبط الصحيح لهذا الاسم الغوري بفتح الغين لا ضمها. فهل لمدرسة تحفيظ القرآن الكريم التي اتخذت من ذلك البناء الأثري يطل على كل من شارعي الأزهر والغورية - ذلك البناء الذي فيه سبيل الغوري ومسجده على ما اعتقد، ومدفن طومان باي عل ما أرجح، هل لهذه المدرسة أن تبقى اسم الغوري مكتوباً خطأ بضم الغين(839/51)
وخاصة بعد أن ظهر الحق وبان؟ ارفعوا اليافطة واكتبوا اسم الغوري صحيحاً تخلدوا ذكر الغورى حقاً.
شفيق أحمد عبد الغفور
كلية الآداب - قسم التاريخ جامعة فؤاد الأول(839/52)
نماذج من عناية المستشرقين بالمخطوطات العربية
للأستاذ عبد العزيز مزروع الأزهري
مما سبقنا إليه عناية المستشرقين منهم ببعث الكنوز الشرقية في عالم المؤلفات المخطوطة وبخاصة ما كان منهم نفيساً نادراً. وساعد على هذا أنهم تخصصوا في كل فرع من فروع الثقافة الشرقية: عربية وهندية و. . . ن وأن مراجع كل فن تحت أيديهم بالمئات، وأن لكل مرجع منها فهارس منظمة لكل ما اشتمل عليه، ففهرس للشعراء وآخر للأعلام، وثالث للأمم والقبائل، ورابع للبقاع، وخامس للقوافي، وسادس لرجال السند مثلاً وهكذا. فكل ما يحتاج إليه الباحث جملة وتفصيلاً في أي علم أو فن يستطيع العثور عليه بنظرة خاطفة بفضل هذا التنظيم المثمر الذي ثبتت دعائمه على تضافر علمائهم، وهيئاتهم الثقافية، وسخاء أغنيائهم، وتقديرهم لكل ما يوضح جانباً من جوانب الثقافة الشرقية التي هي إحدى الجوانب المشرقة للثقافة الإنسانية. وقد كان همنا فيما مضى أن نستفيد من آثار هؤلاء المستشرقين بشراء ما طبعوه من مباحث، أو نشروه من دفائن في مدائنهم الكبرى، ومكاتبهم العامر، أو بعض حواضرنا الشرقية إذا أشرفوا إلى الطبع. أما الآن فقد رأينا جديداً في مصر في هذا الميدان، إذ قد تضافر (المستشرق. ليفي بروفتسال) أستاذ اللغة والحاضرة العربية بالسربون، ومدير معهد الدراسات الإسلامية بجامعة باريس مع (دار المعارف بمصر) فكان من نتائج هذا التضافر نشر كتاب ثمين من أمهات الكتب المخطوطة في الأنساب وهو (جمهرة العرب لابن حزم) الأندلسي المتوفي في منتصف القرن الخامس الهجري، فأراحوا الباحثين من عناء المباحث المرهقة في صحاري المخطوطات القديمة التي هي أشبه بألغاز الخطوط الهيروغليفية أو المسمارية أو الحميرية، ومهدوا بفهارسه سيل البحث لرواد الثقافة. فهل عثر المتصفح لهذا الكتاب الضخم على بعض هنات يرفع عقيرته من قيمة ما صنعوا ويبالغ في النقد والتجريح وينسى الجوانب المشرقة لهذا المجهود الجبار!! إن الإنصاف يدعو إلى تقدير ذلك العمل، وإنصاف من أشرفوا على طبعه، لأنهم لم يألوا جهداً، ولأنهم اختاروا فأحسنوا الاختيار، واجتهدوا وللمجتهد حقه واجتهاده. فإذا ما زل القلم فلا تثريب عليهم، لأن صفحات الكتاب تربى على 524 صفحة، وكثير من أعلامه وقبائله غريب صعب فوق أنها تبلغ عشرات الألوف، وبخط مغربي لا(839/53)
يكاد يقرأ أنها تبلغ عشرات الألوف، وبخط مغربي لا يكاد يقرأ. . . هذا جوابي لمن طلبوا إلي إبداء رأيي في هذا الكتاب باعتباري من المشتغلين بهذا النوع بل من المؤلفين فيه. أما الإشارة إلى بعض ما ند عن التصحيح، أو ما سها عنه الأستاذ بروفنسال فسأنشر منه في كل فقرة جزء مما عثرت عليه. وإلى حضرات القراء أولى كلماتي في هذا الموضوع إيضاحاً للحقيقية وتبصرة للباحثين: 1 - أول ما عثرت عليه من تلك الهنات كان في صفحة 366 وقد جاء في السطر الثالث: (ومن بنى عرينه بن (نذير) بن قسر بن عبقر: حية بن (جوين) بن علي بن (نهم)) وضبطهم (نذيرا) بوزن زبير خطأ، كما أن ضبطهم (نهماً) بوزن نمس خطأ آخر، والصواب في (نذير) أنه بوزن بشير، (نهم) بوزن قفل بضم النون لا كسرها. يؤيد هذا الضبط ما جاء في أحدث مؤلفاتي (قاموس الأعلام والقبائل) وقد اعتمدت فيه على أمهات المعاجم، وكتب الأنساب المضبوطة بالأوزان، وما جاء في (مختلف القبائل ومؤلفاته (لابن حبيب ص5؛ وما ورد في (القاموس المحيط). وقد يكون الناشر متأثراً في هذا الضبط ببعض المستشرقين الآخرين
2 - وفي صفحة 220 في الكلام على بني عبد الله بن دارم ذكر خمسة منهم ثم قال: أنهم من بني (اسيد) كزبير بن عمرو ابن تميم، والصواب (أسيّد) بتشديد الياء التحتية المثناء كما في صفحة 45 من المؤتلف والمختلف، ولما ضبطه طابعو الاشتقاق لابن دريد وهم من المستشرقين، بل بدليل ضبط (بروفنسال) نفسه قبل ذلك ص 199 من الجمهرة نفسها.
3 - وفي ص 190 أمران: (هما) أن المؤلف قال في نسب (بلال بن حارث) إنه من بني مازن بن حلاوة بن ثعلبة، فشاء الأستاذ الناشر أن يضبط باقي سلسلة النسب فقال: (ابن هدمة) بالدال المهملة (ابن الأصم). والصواب: (ابن هذمة) بالذال المنقوطة و (لاطم) لا الأصم وهو من به صم، وقد وضح الصواب فيهما معاً الفيروز ابادي في قاموسه في مادة (هـ ذ م) والمختلف لابن حبيب صفحة 3 بل إن في الجمهرة نفسها ضبطها الناشر نفسه ص 192 اعترفت بلاطم هذا، فوق أن (أسد الغابة) ج2 في ترجمة (شرح بن ضمرة المازني) وترجمة (عبد الله بن درة المزني ج1 منها) وقبل هذا أثبت القاموس المحيط حقيقية الاسم الثاني وهو لاطم فقال: (جرس بن لاطم بن عثمان من مزينة) لا الأصم.
4 - وفي ص192 (ولد ضبة بن أد: سعد بن ضبة وسعيد، قتله الحارث بن سعد، ثم قتل(839/54)
ضبة الحارث بن كب، وفي ذلك سارت الأمثال: (أسعد أم سعيد) كأمير، والصواب: سعيد كزبير.
5 - وفي ص 193 وهي الصفحة التالية قال المؤلف: منهم - أي من بني ضبة - ضرار بن عمرو بم مالك بن زيد بن كعب، فجعل المصحح أبا كعب (بجادا) وهو ابن ذهل بن مالك والصواب: (بجالة) بن ذهل بن مالك بدليل الاشتقاق لابن دريد في كلامه على قبائل بني ضبة ورجالهم 119. 6
- وفي ص 210 قال الناشر في ترجمة (زهرة التميمي قاتل جالينوس الفارسي): (زُهرة) كحجرة بن (جويرية) والصواب في الكلمتين: (زهرة كفرحة) و (جوية بالجيم المضمومة والواو المفتوحة، ويراجع هذا في (أسد الغابة) وغيره كالاشتقاق ص155.
7 - وفي ص213 عند الحديث في نسب (بني يربوع) ابن حنظلة بن مالك التميمي نقرأ: (منهم واقد بن عبد مناف) (عُزير) وزن زبير بن ثعلبة، وكرر هذا عدة مرات، والحق أن عبد مناف هو بن (عرين) وزن رئيس بالراء لا بالزاي، والنون الأخيرة لا الراء، ولم تختلف كتب الأنساب في هذا الضبط، ولا المعاجم اللغوية كمختلف القبائل ص 46، والقاموس المحيط مادة (عرن) والاشتقاق 135، 138. 8
- وفي نفس الصفحة أراد المؤلف أن يفيض في ذكر (مالك ومتمم ابني نويرة) فجاء مسيو بروفنسال وجعل أبا نويرة (نميرة) بن شداد بن عبيد بن ثعلبة، والصواب (جمرة) فالاختلاف في (الحروف) و (عددها) و (ضبطها) ويراجع هذا في المؤتلف ص 35 والمفضل الضبي ص525 والأغاني ح14
9 - وفي ص200 عند الكلام عن (الهمهام التميمي) جعل من أجداده (كافية) بن حرقوص، وفعل هذا الضبط في نسب (خفاف بن هبيرة) وأعاد الاسم ست مرات بالضبط نفسه، والصواب: (كابية) وزن رابية بالباء المفردة التحتية قبل الياء المثناة التحتية لا الفاء أخت القاف ويراجع الأدب للبغدادي. 10
- وجعل الأستاذ المستشرق في ص201 (حبيل) ابن ربيعة تصغير حبل جداً لمالك بن الريب التميمي أول من رثى نفسه قبل موته، والصواب: (حسل) وزن عجل كما في المراجع السابقة.(839/55)
إشارات إلى الهنات:
11 - وفي ص 136 سطر 15 قال: فأما هاشم فإنه ولد (حنتمة أم عمرو بن الخطاب) والصواب: (عمر) وهو الخليفة التالي لأبي بكر.
12 - وفي ص 175 سطر 3 قال: وأبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو (جندب) بن يعمر بن (حابس) والصواب: ابن (جندل) بن يعمر بن (حلس)، وقد تكونان غلطتين مطبعيتين. 13 - وفي الصفحة نفيها في سطر 4 قال: ابن عدي بن (الدئل) وابن حبيب مثلا يرى أن ضبطه (الديل) كزير
14 - وفي ص179 جاء في العنوان: وهؤلاء بنو (ملكان) ابن كنانة بفتح الميم، والصواب كسرها.
15 - وفي الصفحة ذاتها ولكنفي السطر 11 قال: ولد الهون بن خزيمة (مليح) كأمير، وكررها في السطر 17، والصواب (مُليح) كزبير بضم الأول وفتح الثاني.
16 - وفي ص 184 سطر 19 قال: فمن ولد نمقذ بن طريف الشاعر (عبد الله بن الزبير) بضم الزاي وفتح الباء، والصواب (الزبير كأمير) أي بفتح الزاي وكسر الباء المفردة التحتية.
17 - وفي ص 192 سطر 9 قال: (يزيد بن عمرو بن أوس بن سيف بن (عمرو) بن (جلدة) في الوقت الذي سبق أن قال فيه في ص 197 سطر 4 (ابن عرم لا عمرو) بن (حلزة لا جلدة) فأيهما الصواب؟!
18 - وفي ص 209 سطر 11 قال: فنم بني حمان (ثمرة) ابن مرة والصواب (النمر)
19 - وفي ص213 سطر 14 قال: وصرد بن (حمزة) الذي سقاه أبو شواح المنى، والصواب:) جُمرة) بالجيم المضمومة لا الحاء المفتوحة، وقبل التاء المربوطة راء لا زاي.
20 - وفي الصفحة عينها سطر 19 قال: فمن بني سليط (أُسيد) بن حياة، والصواب: (أُسيد) كأمير.
21 - وفي ص 214 سطر 16 قال: أم مسحل المذكور (الريداة) بنت جرير الشاعر، والصواب: (الربذاء) بالذال المعجمة وهي المنقوطة لا الدال المهملة.
22 - وفي ص 244 سطر 3 في البيت الثالث:(839/56)
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى (الريح) والمطرا
أما ضبط الذئب بالضم فأرجو أن يتذكر قول ابن مالك في الألفية:
(فالسابق أنصبه بفعل أضمرا - حتما موافق لما قد أظهرا)
وأما الريح، فصوابه: (الرياح) أولاً: لأنها الروام؛ ثانياً: لأنه العروض وحسبي هذا الآن وإلى اللقاء. . .
عبد العزيز مزروع الأزهري
بالقبة الثانوية(839/57)
العدد 840 - بتاريخ: 08 - 08 - 1949(/)
14 - أمم حائرة
الخاتمة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
بالعدل، وهو شريعة لا تناقض فيها، ولا اضطراب، ولا تخلف، تسكن نفس العادل إلى طريق الأحبة، وتطمئن إلى خطة بينه، ويملأها السلام. وكذلك تسكن وترضى وتطمئن أنفس الآحاد والجماعات التي يدير العدل أمورها، ويصرف شئونها، فيسري السلام فيها ويربط الوئام بينها، ثم يشيع السلام والوئام في أمور الجماعة جليلها ودقيقها، كلها أو أكثرها، والسلام هو سعادة الأحدان والجماعات، وقوام الخير والشر بينها، ووسيلة الصلاح والاستقامة في كل أمورها. وقد سمى الله تعالى نفسه السلام. وفي القرآن الكريم: (والله يدعو إلى دار السلام) (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور).
فالإيمان بالله يؤدي إلى العدل وفضائل أخرى كثيرة عظيمة. والعدل يؤدي إلى السلام، والسلام قوام السعادة والطمأنينة في نفوس الوحدات والجماعات.
فلهذا فليعمل العاملون، وعلى هذه القواعد فليبين بناة الجماعات والأمم، وهذه السبيل فليسلك دعاة الحق والخير، وهذا النهج فلينهج المعلمون والمربون على اختلاف درجاتهم، وأممهم ومواطنهم وعصورهم.
إن الناشئ في هذا العصر تتلقفه آراء لم تحكمها الروية والتثبت، وأقوال لم يزنها الصدق والإخلاص، وأفعال لم يرد بها وجه الله. وتحيط به هذه الآراء والأقوال والأفعال أنى سار، وتلزمه كل حين بما اخترع العلم من وسائل النشر والإذاعة. وهو هالك إن لم يدركه العقل والعمل.
وعلى قادة الرأي وأولى العلم أن يجنبوا النشء كل حين بكل وسيلة القلق والحيرة والزلل والشطط بهذه الآراء والأقوال والأفعال، في الدار والمدرسة وبالإذاعة والكتب والصحف، وبكل ما هدى إليه العقل السليم والعلم الصحيح من وسائل.(840/1)
إن هذا الصخب المحيط بنا، وهذا القلق المستمكن في أنفسنا والظاهر في كثير من معايشنا ونظمنا وشرائعنا وأمورنا، وهذه الحيرة الدائرة بالناس على غير طريق إلى غير غاية، وهذا التناهر في الأقوال، والتخالف في الأفعال، كل أولئك مردة إلى فقد السلام في النفس الواحدة، وبين الأنفس المتعددة، في كل طائفة وكل قبيل وكل أمة ثم بين الناس أجمعين.
ولا سبيل إلى السلام إلا بالعدل يجمع الناس على شرائع من الحق وسنن من الخير والبر، ويقيها الأهواء المتصادمة في الأنفس المتنافرة، والأحداث المتلاطمة في الأمم المختلفة.
ومرجع العدل وأخوات له بها أمن الناس وائتلافهم وتوادهم وتعاونهم وأخونهم، وفيها الخير العميم والسعادة الشاملة، هو الإيمان بالله، والإيمان الذي يعظم النفس كما قلت آنفاً، ويجمعها ويرفعها عن الدنايا وعن سفاسف الأمور وعن الأهواء وعن المادة إلى معالي الأمور وجلائلها، وإلى الحق وإلى عالم الروح المتلائم المتناسق الطرد المنسجم.
نحن في عالم تتصادم آراؤه لأنها لا ترجع إلى أصل يوحد بينها، بل تنشأ عن نزعات ونزعات؛ وتختلف أقواله لأنها لا ترجع إلى صلة يجمعها ويؤلف بينها، وتتقاتل بما فقدت الحق والعدل، والمعاني العامة، والشرائع الهادية الجامعة.
ولا منجاة من التصادم والتخالف والتقاتل إلا بالسمو عن الأهواء إلى الخ وعن الظلم إلى العدل، وعن الأحداث الجزئية إلى القوانين الكلية. ولا يتسنى هذا إلا بالعلو إلى أصل الأصول وحقيقة الحقائق وهو الله تعالى مصدر الخير والجمال والعدل والسلام وما يتصل بأولئك جميعها.
هذا الكلام الموجز عنوان لمعان لاتحد، يعيا عنها البيان، وتحسر فيها العقول والألسن والأقلام وإنما هو إشارة إلى عالم فسيح، للعقل فيه مراد، وللوجدان في أرجائه مجال. فليفكر المفكرون، وليتأمل المتأملون، وليدع المصلحون، وليضرب الأخيار الأمثال، وليبين هذا للناس كل من أوتي نصيباً من العلم وحظاً من الرأي: غير آل جهداً ولا مقصر في فكر أو عمل حتى تستبين السبيل ويتضح النهج وتلوح الغاية ويستقيم المسير. والله ولى التوفيق.
أما بعد فهذه كلمات مخلصة لله، اطرد فيها، وفاض بها القلب في غير تكلف ولا تزيد ولا مراءاة.(840/2)
وقد عرضت فيها أسباباً لقلق الناس وحيرتهم، وشقاوتهم بعقولهم وأعمالهم، وبما صنعت أيديهم، وراء هذه الأسباب أسباب أخر. وما أردت الاستيعاب والاستقصاء. وقد دعوت إلى أمور رأيتها طباً لهذه الأدواء، وشفاء لهذه العلل، ومعها أمور أخرى، متصلة بها أو تابعة وما حاولت الاستقراء والإحصاء
ولم يقف بالقلم عند هذا الحد بلوغ الغاية أو الإبقاء عليها. ولا ضيق المجال، ولا نضوب الرأي وقصور القول: بل وقف بالقلم طول لا طريق وبعد الغاية، وأنها سبيل يغني فيها الإيجاز، وتكفي فيها اللمحة والإشارة والدعوة والتنبيه والإيقاظ والتحذير. وكذلك وقف بالقلم الترويح عن القارئ والإشفاق من أن يمل من هذه السلسلة الطويلة وراء هذا العنوان الوحيد.
وإني لأدعو كل مفكر وأحفز كل كاتب إلى أن يمنح هذا الموضوع بعض عنايته، ويصرف له بعض وقته أداء للأمانة وقياماً بالواجب.
وعسى أن أعود إلى هذا الموضوع أو موضوع يتصل به ويمت إليه. والله نسأل السداد في الرأي والإخلاص في القول والعمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الوهاب عزام(840/3)
أيتها الشمس
للأستاذ راجي الراعي
أيتها الخمرة البيضاء التي يسكبها لنا الله في وليمة الحياة. .
أيتها النقية الطاهرة التي لم تمسها يد البشر. . . ولم يتسرب إليها لؤم الأرض ونفاقها. ..
أيتها الكريمة الباسطة يدها لتصافح الخارجين من الظلمة. . .
أيتها الجندية الأمينة الواقفة على باب السماء. . .
أيتها الجبارة التي تحتل الخليقة. . .
أيتها الساحرة التي علقت باشتراكها الأرض. . .
أيتها الشعلة المتقدة في دماغ الأفق. . .
أيها الثغر الجميل الذي يفتر عن الشعاع. . .
أيتها الشمس!
يا مصدر النور
ويا هدية السماء إلى الأرض
أيتها اليد الحمراء التي ترفع ستار الليل وتسدله والليل صابر مطيع. . .
أيتها الأميرة المتكئة على وسادة الفجر. . .
أيها القلب المشتعل الذي يفيض حباً وحناناً. . .
أيتها الناظرة إلى الأرض نظرة السيد القديم إلى العبد القديم
أيتها الرفيقة المخلصة الشريفة النادرة التي عاهدت الخالق أن ترافق الخليقة من يومها
الأول إلى يومها الأخير ولم تنقض عهدها
أيتها الكرة النارية التي تتقاذفها القرون. . .
أيتها الشمس!
يا ابنة الله. . .
ويا صاحبة الجلالة
ويا فتنة الخليقة(840/4)
ويا منارة الهدى
أيتها الفاتحة التي تغزو بأشعتها القاهرة. . .
أيتها الضاربة خيامها في كل بقعة من بقاع الأرض. . .
أيها الشلال الذي يتدفق نوراً من جبال الآلهة. . .
أيتها الرقيبة التي ترقب الخلائق بعين لا تنام. . .
أيتها المستحمة في البحور، المرتدية حلة العذراء، الضاحكة بأشعتها كالأطفال، الواقفة
مكانها لا تتزحزح عنه، وقد سحرها جلال الله. . .
أيتها الموزعة هداها على الضالين. . .
أيتها المرأة التي اقترنت بالأفق ولم تخن رجلها. . .
أيتها الأميرة الناصبة عرشها على رءوس الليالي. . .
أيتها الدرة المستقرة في أعماق بحر الأثير. . .
أيتها الشمس!
يا عين الله. . .
ويا قلب الزمان. . .
ويا كبد السماء. . .
ويا ذروة الكمال. . .
ويا حجة المؤمنين على الكافرين!
أيتها الأم الكبرى الحنون التي لم تستطع الأمومة في الأرض أن تجاريها في حنانها. . .
أيتها الشمس!
يا معقل الكبرياء
ويا وطن الكهرباء
ويا عدوة الخبث والرياء
ويارسولة المساواة والإخاء
ويا سيدة الفضاء
ويا علة الهناء والشقاء(840/5)
لقد فررت من الأرض وأتيتك أسألك عن اليوم العتيد. . .
هل أنت مقيمة على عرشك إلى الأبد؟
أيطول أمر هذه الخلقية؟
اكشفي لي سرك. . . أنت النور. . . والنور فضاح. . .
ألم تسأم نفسك الشروق والغروب؟
إلى متى نظل مسحورين بجمالك الذي لا يعدله جمال؟
لقد أنهك السحر قوانا. . .
إلى متى تأخذين منا ليالينا وتعيدينها إلينا؟
لقد حار فيك الليل! إن جلالك لا حد له ولا يفوقه جلال وقد ناء به كاهل الخليقة
الضعيف. . .
أيتها الشمس المشرقة علي اليوم. . .
هل أنت تلك الشمس التي أشرقت على الرجل الأول؟
هل نورك اليوم كنورك بالأمس؟
هل أنت تلك التي عرفتها القرون الأولى؟
أم أن العمر فعل فعله فخف ضرامك واعتراك العياء؟
اكشفي لي سرك. . . أيتها الشمس. . .
إن لك الملايين من الأشعة. . . فانفذي إلي شعاعاً واحداً يهمس في أذني كلمة السر
ويريحني. . .!
راجي الراعي(840/6)
إلى اللقاء
للأستاذ كامل محمود حبيب
(إلى أبنائي الذين أحسوا لذع الفراق يوم الوداع الأول، وهم
ما يزالون أطفالا، فاغغرورقت عيونهم بالعبرات، ثم كفكفوها
لأنني قلت لهم: يازجال!)
إلى اللقاء، يا بني، هناك على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى.
إن الإنسان ليحن - دائماً - إلى حيوانيته الأولى فيسعى ليتحلل من أعباء الرزانة والعقل وليحطم أغلال الإنسانية حين يحس أنها قد كبلته بقيود من الجدار والثوب.
يا لبؤس الحيوان حين تعصره الزريبة بين جدرانها فلا يستطيع أن ينفلت منها إلى الحقل. . . إلى العشب والنور والشمس والهواء! ويا لشقاوة الطير حين يضغطه القفص بين قضبانه فلا يجد السبيل إلى روح الغابة. . . إلى الحرية والسعادة والجمال!
هناك على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق، يخلع المرء ثوبه فيخلع إنسانيته حيناً بالحيوانية، ويئد عقله لينعم بالجهل، ويفزع عن صوابه ليسعد بالحمق.
وأنت - بابني - طفل يلذ لك أن تنطلق إلى طفولتك لا يربطك ولا يمسكك غل ولا يحدك عقل.
فإلى اللقاء، يا بني، على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى.
أتذكر - بابني - يوم أن جاء خالك يطلب إلي أن أدعك تصحبه إلى الإسكندرية فتشبثت بي ترجوني، لأنه شاقك أن تمرح على شاطئ البحر مرة أخرى. ونزلت أنا عند رأيك الفطير، رأى الطفولة الوثابة، لأنني خشيت أن يضربك الأسى والحزن وأشفقت أن تعصف بك معاني الخيبة واليأس، فتستشعر الصغار والذلة وأنت ما تزال غض الإهاب لين العود لدن العظم
لقد كان بودي أن أرافقك لولا غل الوظيفة وشواغل العيش وعنت الصيام، فبقيت أنا هنا -(840/7)
في القاهرة - ترمضني الهاجرة ويمضي لا فراق. ونسيت أنني سأجد فقدك لاذعاً في قرارة نفسي
ولبثت ليلتك تهيئ حاجاتك، وإن إهابك ليكاد ينقد من شدة الطرب والسرور. وأرغمني على أن أشاطرك فرحة نفسك فغبرت حيناً طفلاً كبيراً وقد وخطه الشيب وهدته السنون يعبث بين أطفال صغار. واستشعرت اللذة والسعادة فاندفعت أرتب حاجاتك بين المزاح والدعابة. ثم انحلت عزيمتك وكلت قوتك فانحططت في فراشك تغط في نومك، ووقفت أنا إلى جانبك أتملى سمات البهجة وقد رسمها الأمل الحلو على قسمات وجهك النائم!
وفي القطار أقبلت أقبلك قبلة الوداع، فأحسست أنت مرارة الفراق، فاغرورقت عيناك بالدمع وشرقت بالكلمات، وأوشكت عواطفك أن تثور، فتشبثت بي وقد طغت مشاعرك الطاهرة على نوازع طفولتك وهي تدفعك إلى البحر. ولكنني قلت لك: (ماذا جرى، يا رجل؟). . . فكفكت عبراتك وتماسكت وكتمت خفقات قلبك النقي، ثم تعلقت عينك بي فما تطرف حتى تحرك القطار، وتواريت أنا عن ناظريك. . .
لشد ما حز في قلبي أن تحمل نفسك عل تكفف عبراتك الرقراقة الغالية، يابني لتبدو رجلا قبل الأوان!
آه، يا بني، لقد كانت هذه الكلمة - كلمة الرجولة - شديدة الوطأة على نفسك لأنها حملت طفولتك فوق الطاقة وكلفتها فوق الجهد، ولكن. . .
ولكن إلى اللقاء، يا بني على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعري!
لقد دعوتك، يا بني، أن أفسح صدري لطهر الطفولة وسخفها، وأن أسع عبثها ومجونها، وأن أتقبل نزواتها وطيشها، وأن أستسيغ حلوها ومرها، فلا تنفض طفولتك كلها أمام خالك فيحس بالجفوة أو يستشعر الضيق، أو يجد الملل!
وإذا ربت على كتفك في عطفن أو قبلك في حنان، أو ضمك في شوق، فلم تحس لين كفه، ولا حرارة قلبه، ولا دفء صدره، فلا تمتعض ولا تتململ، لأنك لن تلمس اللين والحرارة والدفء إلا في رجل واحد هو أنا. . . لأنني أنا أبوك!
وإذا طلبت إليه أمراً فأغضي عنك، أو أمتهن رغبتك، فلا تحزن لأنني أنا وحدي الذي لا(840/8)
أضيق بحاجاتك ولا أسخر من نزواتك. . . أنا أبوك!
وإذا ابتسمت فعبس أو عبست فابتسم فلا تأس لأنني أنا وحدي الذي أشاطرك سرورك وحزنك، وأشاركك مرحك وشجوك. . أنا أبوك!
وإذا افتقدني - على حين فجأة - فضاقت نفسك بالحياة وهي تتألق فيك عن اللذة وهي تضطرم في قلبك، فلا تدع شجونك تستلبك من سعادتك وأنت على شاطئ البحر كالفراشة الطروب تطير وتقع فلا تقع إلا على مرح وبهجة!
وإذا أحسست بالغربة والضياع فلا تضق بما ترى ولا تفزع مما تجد فغداً أكون معك!
وإلى اللقاء، يا بني، على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى!
لست آسي، يا بني على عمر مضى خلو من نبضات القلب، ولا على شباب انطوى من دفعات الهوى، لأنك أنت أفعمت قلبي بالحب والأمل والحياة جميعاً!
فأنت النبتة اليانعة النضيرة في صحراء العمر، وأنت الزهرة الرفافة الزاهية في بيداء الحياة، وأنت النشاط في زمن الخمول، والقوة في سني، والخلود في دنيا الفناء!
وأنت نور العين إن أظلمت الحياة، وانطوت زهرة الشباب، وأنت بهجة القلب إن ذوى العود وهي الجلد. . . إن أوشكت القدم أن تنزلق إلى طريق الأبد!
وأنت عمري الدائم، وصوتي المدوي، وحكمتي الأبدية، وروحي الخالدة!
فدعني، يا بني أوقع على أوتار القيثارة الإلهية - قلبي - لحن الحنان الأبوي الذي فاضت به مشاعري يوم أن دفعني العطف لينزل عند نزوات طفولتك الطائشة، فافترقنا لأول مرة!
إن ألحاني شجية أخاذة، غير أن عقلك الغض لا يدرك معناها، ما تبرح في جهلك الأول. . . ولكن حين تصقل السنون عقلك، حينذاك أجلس إلى نفسك وأستشف - في إمعان - ما وراء هذا النغم الحي. . .
لقد رأيت يا بني - ذات مرة - رجلاً يضن على صغاره بالضئيل ويبخل بالتافه، ولكنني رأيت - أيضاً - الحيوان يطعم صغاره ويستمرئ هو المسغبة، ورأيت الطير يزق فراخه ويستعذب المخمصة!
آه، يا من أفنيت عمرك صعلوكاً في دنيا العزوبية!(840/9)
لقد سفلت حين نبذت معاني الأبوة في نفسك، وصغرت حين مسحت على آثار النبوة في دارك، وانحططت حين استعبدت لأنانيتك الوضيعة!
يا لحكمتك أيها الفلاح الساذج حين ذهبت تجتث جذور الشجرة التي لا تثمر ولا تفيء الظل!
ويا بني، لا تجزع إن تراءت لك كلماتي فوق عقلك الصغير، وبدت لك خواطري فوق قلبك الغض!
فإلى اللقاء على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى. . .
وإلى اللقاء حين تصقل السنون عقلك وتشحذ الأيام ذهنك فترقى إلى المعاني السامية التي تفيض بها قلب أبيك الكبير، وهي تتدفق بالعطف والحنان. . .
كامل محمود حبيب(840/10)
قناة السويس ومستقبلها
للأستاذ أحمد رمزي بك
حديث الليلة، يتناول قناة السويس، وموقع مصر الممتاز باعتبارها صاحبة البذخ، الذي كان يفصل بين البرين لافتتاح القناة.
1 - ولبيان أهمية هذا الموقع، أعرض عليكم تاريخين مهمين:
في 7 مارس سنة 1949 وقعت الحكومة الملكية المصرية اتفاقاً مع شركة القناة بعد مفاوضات ومباحثات قامت بها وزارة التجارة والصناعة: وهو اتفاق تناول أقطاب الوزارة نصوصه وبنوده بأحاديث، وأبانوا ما حصلت عليه مصر من مزايا وما حققته لنفسها من أهداف: وبعد إتمام هذا الاتفاق عملاً وطنياً كبيراً يصح لوزارة التجارة والصناعة أن تفخر به، وهو عمل معروض الآن على الهيئات التشريعية للبلاد لإقراره والتصديق عليه.
وفي 17 مارس سنة 1968 ينتهي عقد الامتياز المنوح للشركة.
2 - وبين هذين التاريخين تقع فترة من الزمن تقرب من عشرين عاماً، تحتم علينا أخذ الأهبة والاستعداد لتسلم هذا العمل العظيم حتى ننهض به ويتحمل أعبائه أمام العالم بالتوقيع على الاتفاق أصبحنا شركاء لحد ما مع الشركة نقاسمها وتقاسمنا المغانم والأعباء ونعمل معها على قواعد أكثر ملاءمة لنا مما عهدناه من قبل وفي فترة تحضر لتمصير القناة وجعلها مشروعاً قومياً صميما.
3 - فهل لنا أن نتساءل، ماذا أعددنا لهذا اليوم؟ أما من الناحية الإدارية والفنية، فأعتقد أن مصر لن تعجز عن إخراج الفنيين والإداريين الذين يتولون هذا العمل ويثبتون كفايتهم وجدارتهم على صيانة هذا الطريق العالمي: أما من ناحية المستقبل الذي يحيط بالقناة وما يتبعها من اثر موقع مصر الجغرافي الممتاز، فهذا الذي يجعلنا نفكر تفكيراً منطقياً يتفق مع ما يحيط من أحداث وما يغمر الدنيا من اتجاهات وتطورات، أخشى أن تؤثر في أهمية القناة وموقعنا الجغرافي، أو تساعد على الإقلال مما كان لهذا الموقع العالمي يسبغه علينا من مظاهر احتكار إحدى طرق المواصلات العالمية.
4 - إنا لا ننسى أن مصر تعرضت مرتين وسط كل من الحربين العالميتين في القرن العشرين لهجومين يرمي كل منها إلى انتزاع هذا الموقع الجغرافي الهام. ففي سنتي(840/11)
1915، 1916 تعرضت القناة مباشرة لهجوم من جانب الجيش التركي، وإذا من ضفة القناة الشرقية تبدأ حملة الهجوم المضاد الذي اقتحم سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان وانتهى عند جبال طوروس سنة 1918
وفي سنة 1941 - 1942 تكرر الهجوم من ناحية الصحراء الغربية ووجهته منطقة القناة، والذي ساعدته الظروف لزيارة هذه الجهة أيام معارك العلمين كان يرى التجمعات التي أتت تترى من قوات الجيش التاسع وأخذت أماكنها على الضفة الشرقية لقبول المعركة إذا قدر لقوات المحور اقتحام استحكامات الدلتا ووصولها إلى منفا في قناة السويس.
فهذه الجيوش التي تجمعت في الحرب العالمية الأولى والثانية كانت تقصد بهجمتها قناة السويس وانتزاع هذا الموقع الهام باعتباره الشريان الحيوي الذي يربط القارات الثلاث، وجاءت هزيمتها في العلمين بهجوم مضاد استمر حتى تونس في الحرب الأخيرة 1942.
فالذي يسيطر على القناة، يسيطر على مقدرات الحروب وتوجيهها وانتصاراته، ويفرض على خصمه ما شاء من القرارات الحاسمة التي يتوقف عليها مصير الحروب ونهاية المعارك ونحن إزاء هذه الأهمية نرجو ألا يشاركنا غيرنا بامتلاك طريق عالمي آخر يقلل من أهمية هذه المنطقة في يوم من الأيام.
5 - هذا ما لمسناه في السنوات الاخيرة، أما في الماضي فقد لعب هذا الموقع الجغرافي لمصر صاحبة السيادة على برزخ السويس دوراً هاماً في حياتها، إذ جعلها صاحبة احتكار الطرق البرية والبحرية بين الشرق والغرب.
ففي القرون الوسطى، كانت مصر تحتل مكاناً مرموقاً في اقتصاديات العالم المعروف وقتئذ. وكانت تجارة جزء كبير من الدنيا يمر من البحر الأحمر عبر مصر إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت مراكز التجارة في إيطاليا تشارك مصر في هذا الاحتكار وخصوصاً مدينة البندقية.
6 - وما كاد يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند حتى فقدت مصر أهمية موقعها الجغرافي الممتاز الذي كان يدر الخير عليها، ولم تقبل مصر أن تقف موقفاً سلبياً بل أرسلت حملات بحرية إلى آسيا عن طريق برزخ السويس وساعدها في ذلك حلفاءها من البنادقة، وكان القصد منها رد غائلة البرتغاليين عن الهند. وأراد هؤلاء أن يهاجموا مراكز(840/12)
مصر في البحر الأحمر فتعرضت سواكن وغيرها لحروبهم، واستمر هذا النزاع حتى العهد العثماني.
7 - وفي عدد المجلة الجغرافية الأمريكية بواشنجتن، مقال تحدث فيه كاتبه عن أثر التوابل في اكتشاف طرق الملاحة وفي خدمة علم الجغرافية العالمية، ويفهم منه أن مصر بحكم سيطرتها على هذا الموقع الجغرافي، كانت تسيطر أيضاً على تجارة التوابل، وأن هذا الاحتكار للطرق المائية أدى في النهاية إلى اندفاع الدول البحرية نحو اكتشاف آفاق بعيدة وطرق مواصلات تقلل من أهمية هذا المركز الممتاز وتضعف من أثر هذا الاحتكار
وتنتهي هذه الاكتشافات العظيمة بأن تفقد مصر هذا المركز الذي يدر عليها الخير، وتهبط أهمية البندقية وجنوة وغيرها وتصبح ثغوراً من الدرجة الثانية بعد أن كانت دولاً مستقلة فيها مستودعات المتاجر ومراكز الثروات المالية.
8 - وها نحن اليوم نواجه عهداً يذكرنا بتلك الأيام البعيدة: إننا نرى أمامنا تقدماً بعيد المدى وانقلاباً شاملاً في طرق المواصلات الجوية والبرية والبحرية التي تربط الأرض.
ونعيش في زمن مليء بالأحداث الكبرى والتطورات السريعة وأرى في الآفاق بنا قوات قد اتجهت إلى البناء والخلق والإنشاء وهي نعتقد أن عمل المعجزات ممكناً وأنه بوسعها إحياء الأموات من الأرض ونقل السكان وإجلائهم عن مواطنهم. ونشعر بأن الشرق الأوسط يتمخض عن تطور وتغيير شامل.
9 - فمن ناحية المواصلات يتحدثون عن طرق القوافل القديمة التي كانت تخترق ويؤملون في إعادة تعبيدها حتى تستعمل لنقل البضائع، ويتحدثون عن العقبة وأثرها ومستقبل خليجها، ونسمع عن طرق حديدية توضع على الخرائط ثم تنفذ مشاريعها، ونرى أنابيب البترول تأتي من الأماكن البعيدة لتصب في أماكن معينة، ونسمع عن موانئ وثغور توسع وتفرض نفسها على هذا الجزء من شرقي المتوسط.
10 - وقد يبدو هذا لأول وهلة صعب التحقيق ولكن المطلع على ما كان عليه الشرق من عظمة وحضارة وغنى لا يعجب أن يسمع في القريب العاجل بعودة العمران إلى هذه المناطق، ويكفي أن نستعيد ما كانت عليه مدينة أنطاكية في العصور السالفة لنعرف شيئاً مما يخبئه المستقبل لثغر مثل حيفا يطل علينا.(840/13)
11 - إنه من أصعب الأمور مواجهة المستقبل على قياس الحاض، كما أنه من أخطر الأمور الاكتفاء بنظرتنا القومية بل يجب أن نتبعها بنظرة عامة لما يبدو حولنا.
ولهذا نقول أن منطق الحوادث الدائرة حولنا يحتم علينا دراسة مستقبل قناة السويس دراسة علمية، لا من ناحية المصلحة المحلية وحدها، بل على ضوء التطور العالمي وما يدور في بقاع هذه المنطقة المحيطة بنا والتي تحاول أن تشاركنا في مركزنا الممتاز.
12 - إننا في حاجة إلى عدة مشاريع إنشائية: أهمها توسيع الموانئ المصرية في بور سعيد والسويس، وإنشاء مناطق حرة متسعة، وفي وضع شبكة من المواصلات البرية السهلة من الشرق إلى القناة ومن الغرب إليها، وفي حاجة لسياسة عامة للخطوط الحديدية حول القناة، ثم في حاجة إلى عدد من المطارات الكبرى والمحطات المائية لبتي تسمح بهبوط أي نوع كبير من الطائرات فيها.
13 - إن تطور مصر سيفرض نشر العمران في سينا، ومصلحة القناة تحتم إنشاء منطقة صناعية كبرى في المثلث الذي تشغله المعسكرات البريطانية: لأن توسيع الصناعات الكبرى يفرض من المبدأ أن تكون على الطرق المائية.
هذه نظرة لمستقبل القناة في السنوات القادمة إذا أخذنا بها نقول: أن مصر قد انتقلت من الزمن الذي كانت معدة فيه لخدمة القناة ودخلت العهد الجديد الذي يضع القناة في خدمة مصر
أحمد رمزي(840/14)
خلف الرداء الجامعي
للأستاذ أبي حيان
لم أكد آخذ في قراءة كتاب (الهجاء والهجاءون في الجاهلي) للدكتور م. محمد حسين المدرس بجامعة فاروق الأول، وأتجاوز الفقرات الأولى منه، حتى وقفتني هذه العبارة التي يقولها في سياق الكلام عن تصنيف الشعر العربي ونصيب أبي تمام من ذلك في حماسته. قال:
(أما أبو تمام، فهو يخرج الأبيات في كثير من الأحيان عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها. وقد لاحظ هذا الخلط بعض المتقدمين كصاحب اليتيمة) (ص3).
وقفتني هذه العبارة وصرفتني عن المضي في القراءة، إذ أحسست فيها - لأول وهلة - نوعاً من التناقض الصارخ يشيع فيها، ويباعد بين طرفيها، ويضرب بعضها ببعض.
صاحب اليتيمة يعرض لأبي تمام في يتيمته، وينقد منهجه في حماسته، إذ يلاحظ عليه خلطه الأبواب بعضها ببعض؟!
هذا هو العجب العجاب الذي لفتني إليه لفتاً شديداَ، ووقفني عليه وقفاً طويلاً، وأنا أحاذر ألا يكون في طرفي ضل فيه، أو تاه عقلي في أدراك مراميه ومغازيه، ألا أن العبارة - كما نرى - يسيرة صريحة مستوية لا عوج فيها ولا أمت. فما لليتيمة وأبي تمام، وأين يمكن أن يقع منها؟ وكيف له أن يقتحم نطاقها ولم يتجاوز الثعالبي بها الشعراء المعاصرين، أو على حد قوله - في تحديد موضوعها -: (نجوم الأرض من أهل العصر، ومن تقدمهم قليلاً وسبقهم يسير)؛ ومن هنا كانت تسميتها: (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر). وعصر الثعالبي هو ما بين منتصف القرن الرابع وأوائل القرن الخامس. فكيف أمكن لأبي تمام من أهل القرن الثالث، بل أوائل ذلك القرن، أن يطوي الزمن، ويتخطى أعناق الأجيال، ثم ينضو عنه الكفن، وينفض عنه ركام التراب، ثم ينتفض قائماً، ليستوي مائلاً بين أصحاب الثعالبي ورجال اليتيمة؟!
أليس هذا عجباً عاجباً جديراً بأن يشتت الذهن ويستغرقه، ويثير بعض ألوان الإعجاب بهذه الجامعية الجديدة القديرة على (الخلق الفن)، والجمع بين الاشتات والاضداد؟!
بلى! وتلك هي الأعجوبة التي ساورتني وملكت على مذاهبي منذ نظرت في تلك العبارة(840/15)
السالفة. وقد جعلت الحيرة تشيع في نفسي: بينما كنت أحسبه حقائق مقررة، وصفات ثابتة محررة وبين ما ينبغي أن توحي به الجامعية من ثقة، أن تقترن به في الذهن من ضبط ودقة، وما تدعو القارئ أو الدارس إليه من طمأنينة وإيمان، ومن تسليم وإذعان. فبأيهما آخذ، وإلى أيهما أطمئن وأسكن، ألا أن يتحقق الإعجاز، وتلتحق الأولى بالإعجاز. وهكذا جعلت أسائل نفسي: أو يمكن لهذه الجامعية الجديدة أن تغير طبائع الاشياء، وأن تبدل الأرض غير الأرض والسماء، وتنسخ قوانين الوجود فتضع من تشاء حيث تشاء وأيان تشاء، فتنشر أبا تمام بين ناس غير ناسه، وفي زمان ير زمانه؟!
وبعد، فها هنا إذن نوع من الاستحالة الظاهرة في نسبة هذه الملاحظة إلى صاحب اليتيمة، وهي - كما رأينا - استحالة لا مساغ لها ألا على ذلك المذهب العابث، فكيف تأتي للأستاذ ذلك؟ وأنى صدر بهذه النسبة الغريبة التي كان يجب أن تلفته لو أنه وقع عليها على ما فيها من غرابة على الأقل؟! أن تتبع هذه المسألة يثير بين أيدينا لوناً من ألوان الطرافة بديعاً، فلم يظن علينا الأستاذ الفاضل ببيان المصدر الذي صدر بتلك الملاحظة عنه، وإ كان هو لا يعبأ في كثير من الأحيان بالتنبيه إلى مصادره، فأثبت في الهامش تعليقاُ على تلك العبارة الآنفة: (تاريخ آداب العرب للرافعي 366: 3 نقلاً عن اليتيمة3: 416).
وهكذا تكون - والله - الدقة الجامعية والأمانة العلمية! تاريخ آداب العرب عن اليتيمة! عنعنة جديرة بالبحوث العلمية الجامعية!
على أنه ينبغي أن تكون اليتيمة هذه مصدراً نادراً أتيح للأستاذ الرافعي أن يطلع عليه، ويرجع إليه، ويصدر عنه بتلك الملاحظة، ثم تقطعت أسبابه، وغاب عن حياتنا الأديبة وجهه، فلم يبقى لنا من ذلك ألا ما نقل الرافعي عنه.
هكذا يجب أن يكون الأمر لتكون هذه العنعنة قيمتها، إذا كان من الأوليات المقررة في أسلوب البحث العلمي أن يكون النص في مصدره الأصلي هو الذي لا معدل عنه، ولا مترخص في التزامه، ولا سبيل إلى تجاوزه أو المسامحة فيه، ما دام ذلك المصدر الأصلي ممكناً بأي وجه من وجوه الإمكان، فلابد إذن أن تكون اليتيمة مصدر غير ممكن.
أفكذلك هي؟
أما أن اليتيمة ليست مصدراً ممكناً فحسب ولكنها مصدر قريب ميسور حاضر، فقد طبع(840/16)
غير مرة في دمشق والقاهرة، ولم يبعد العهد بعد بطبعته الأخيرة. ويستطيع أي إنسان - دون أن يكون أستاذاً جامعياً تفتح له خزائن الكتب وتتاح له ذخائر الآثار - أن يمد يده إلى أية دار من دور الكتب، أو أي دكان من دكاكين الوراقين، فإذا به يديه. فكيف ساغ للأستاذ الباحث أن يتجاوز هذا المصدر الأصلي، وهو - كما رأينا - قريب حاضر، إلى مصدر آخر غير مباشر؟ وكيف أجيز في رسالة جامعية أن ينكب عن هذه السبيل العلمية المعهودة، وأن يتحدى على هذا النحو أوليات البحث المقررة؟
وقد فعل الأستاذ هذه الفعلة مرة أخرى، بالنسبة لكتاب ككتاب اليتيمة، ذيوعاً وقرباً، وهو أمالي الشريف المرتضى، فقد تجاوزه في نص من نصوصه نقله في كتابه (ص59)، فلم يتكلف الرجوع إليه والأخذ مباشرة عنه، وإنما اكتفي بأن ينقله من كتاب الرافعي أيضاً!
فماذا عسى أن يسمى هذا الصنيع الذي يصر عليه صاحبه إصرارا، ويكرره تكراراً، وبأي وصف يمكن أن يوصف؟ وماذا يرى الجامعيون في هذا المنهج العلمي الجديد الذي يؤثر الدعة، ويأخذ الأمور من حيث تتفق لا من حيث يجب، ويحسب إنما يكفيه في تحقيق الصورة العلمية أن يورد هذه العنعنة التي لا معنى لها، إلا أن يكون القصد إلا شيء من الخداع الرخيص المفضوح؟!
ومع ذلك، فهذا الخطأ المنهجي، وذلك التحدي لقواعد البحث الاولية، أو ذلك الإهمال والاستخفاف بما يجب للعلم والصفة الجامعية الصحيحة من حق وحرمة. . . كل ذلك ليس شيئاً كبير الخطر بالقياس إلى ما وراءه من منكر علمي لا ندري كيف أباحه الأستاذ لنفسه، وكيف أجازته له الجامعة وأجازته عليه:
الرافعي - بمقتضى ذلك التعليق المعنعن - هو المسؤول المباشر عن تلك الإحالة الظاهرة في نسبة القول في حماسة أبي تمام إلى صاحب اليتيمة. . . هكذا جعله الأستاذ - غفر الله له - في سذاجة وغفلة، وبذلك مثله أمام القارئ المتفحص أدنى تفحص في مظهر شائن من الجهالة بالتاريخ الأدبي، والإغفال، لجانب التحقيق العلمي.
والذين يعرفون الرافعي - رحمه الله وأكرم مثواه - يعلمون علم اليقين أنه كان من سعة العلم وقوة العقل، ونفاذ البصر في حقائق التاريخ الأدبي، أنه كان من سعة العلم وقوة العقل، ونفاذ البصر في حقائق التاريخ الأدبي، ورهافة التذوق لأسراره، والإحاطة التامة(840/17)
بأطرافه المختلفة، والدقة العلمية البالغة، وقوة الشخصية والضمير العلمي الذي لا تتطرق إليه الشبه، بحيث لا يمكن أن يتورط في مثل هذه الإحالة، فيضع أبا تمام بين رجال اليتيمة.
وكذلك كنت مستيقناً منذ أول وهلة أن هذه النسبة إلى الرافعي لا يمكن إلا أن تكون مدخولة، وأنه قد أصابها - ولا ريب - نوع من أنواع التزوير، أو فسرت على لون من ألوان التحريف والتحوير. . . . ومعذرة إلى سيدي الأستاذ - غفر الله لنا وله - فالذي استشعرته سلفاً حققته المراجعة، وها هو ذا نص الرافعي - كما جاء في كتابه تاريخ آداب العرب -: (وقد انتقد كتاب الحماسة حمزة بن الحسين، فزعم أن فيه تكريراً وتصحيفاً وإبطاء وإقواء، ونقلا لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليقبها، ولا تصلح لها، إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة).
هذا هو كلام الرافعي بنصه عن حماسة أبي تمام، وقد صدر به عن رسالة لأبي الحسين أحمد فارس، أوردها صاحب اليتيمة في سياق ترجمته له بين رجال (الجيل)، فليت شعري كيف استطاع الأستاذ الفاضل أن يفهم من هذا النص ما قرره من أن صاحب اليتيمة هو الذي لا حظ على أبي تمام أنه (يخرج الأبيات في كثير من الأحيان عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها)؟
كيف جاز هذا الفهم في نص صريح مستقيم هين قريب، لا عوج فيه ولا غرابة ولا تعقيد، إلا أن تبطل العلاقة بين اللفظ والمعنى، وتنقطع الصلة بين الدال والمدلول، وتصبح اللغة عبثاً وباطلاً، أو هذيانا لا مؤدى له؟ ليس في هذا النص إشارة ما إلى صاحب اليتيمة، فمن أين جاء به؟
هذا هو الأمر الذي يغمرني بالحيرة من جميع جوانبي، إذ لا أستطيع أن أجد له تعليلاً، أو أنفذ فيه إلى تأويل، مهما ساء ظني بالقيم الجامعية الجديدة في هذه السنوات الأخيرة، منذ وقعت في ذلك الكتاب على تلك الأبيات التي عرضت لها في (الرسالة) من قبل، وعرفت بها كيف يفهم الشعر القديم في هذه الأيام، وكيف تدرس النصوص الأدبية في بعض حلقات الجامعة!
ولكن الأمر لم يعد - فيما يبدو - قاصراً على النصوص الأدبية التي تحتاج في درسها إلى(840/18)
ألوان من الثقافة مختلفة، فقد أصبحت النصوص التقريرية أيضاً موضع خلط في فهمها والاستدلال بها، فهل في هذا النص الذي بين أيدينا أية علاقة أو شبه علاقة بينه وبين ما فهمه الأستاذ منه ونسبة إليه؟ لا شيء من ذلك مطلقاً، إلا أن يكون قد خيل للأستاذ الفاضل أن حمزة بن الحسين المذكور في النص هو صاحب اليتيمة. نعوذ بالله ونبرأ إليه أن يذهب بنا التشاؤم وإساءة الظن إلى هذه الغاية المنكرة!
فهذه سلسلة من الأخطاء يأخذ بعضها برقاب بعض في نقطة واحدة بعينها لم نتجاوزها إلى غيرها، وكلها أخطاء غليظة فاحشة تبعث الفزع وتثير الرعب من هذا المنحدر السحيق الذي يبدو لنا - من خلال هذه النظرات - أن القيم الجامعية التي ظلت الجامعة زماناً حفية بها، حريصة عليها، قد أخذت تتهاوى فيه، ويوشك أن تتردى في قاعه، إلا أن يقيض الله - جلت قدرته - للجامعة من يستطيع أن يعصمها ويحيد بها عن ذلك المصير المزعج المشؤوم!!
وبعد، فما نريد أن ندع هذا الفصل قبل أن نبين للقارئ كيف كان أبو تمام - في نظرة الدكتور الفاضل - يخرج الأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق به، وهي الدعوى التي ادعاها حمزة بن الحسين في القرن الرابع، وأخذها عنه صاحبنا في القرن الرابع عشر، ثم أبى إلا أن يوجهها ويستشهد لها، ليكون أحق بها وأجدر أن يتبناها، أو لهتف مع الشاعر:
كم ترك الأول للآخر؟
وسنكتفي هنا بأن نورد شاهداً واحداً من الشواهد ساقها تقريراً لتلك الدعوى، لنتبين مبلغ ما أتيح له ووفر في سبيل تبنيها، ونتعرف قيمة تصدى مثله في العلماء، لمثل أبي تمام في الشعراء، نقدا ًله، وتسفيهاً لصنيعه. ولعلنا نستطيع نرى في خلال ذلك مدى فهم الشعر في صورته المجملة، رأينا في ذلك الفصل، مدى فهمه له في صورته المفصلة:
عقد أبو تمام في حماسته باباً سماه باب (الأضياف والمديح قد اعترض أستاذنا الفاضل على عقد هذا الباب بقوله: باب الأضياف والمديح، فهو لا يصلح أن يكون قسماً من الشعر أصلاً، لأن تفريقه على الأقسام الأخرى ممكن، فما يدخل في الفخر فهو حماسة. . . وبعض هذا الباب يدخل الهجاء. . .)
وهذا اعتراض - كما يرى القارئ - متهافت لا قيماً إذ كان تصنيف الشعر أمراً اعتبارياً(840/19)
وليس من قبيل التقسيم العقلي.
على أن هذا لا يعنينا الآن، وإنما نحن بصدد استشارة لدعوى الخلط في أبواب الشعر، وقد أورد في عقب تلك التي اعترض بها من الأمثلة، مما أخطأ - عنده - أبو تمام - وأي خطأ! - فجعلها من هذا الباب، باب الأرض والمديح وحقها عنده أن يكون في باب الهجاء. فخطأ أبى تمام هنا إذن لا سبيل إلى اغتفاره أو تمحل العلل له، إذ هو - لو صح - غليظ كل الغلظ، شنيع غاية الشناعة، أن يمحو اسمه من ديوان الأدباء والمتأدبين، بل جدير أن ينأى عن خواص العامة، والمثقفين منهم أدنى ثقافة، أو الذين يملكوا منهم قدراً يسيراً من الذوق والإدراك، ليلحقه الحفاة الأقدام الذين لا يفرقون بين ما هو مديح ما هو هجاء!
فالاتهام - كما نرى - خطير غاية الخطورة، وبقدر خطورته هذه يحتاج مع الجرأة - وهي موفورة جداً عند صالح فيما يبدو - إلى بذل غاية الجهد في تأييده والتدليل عليه والاستشارة له، والتبسط في ذلك، وتحليل الشواهد تحليلاً تسطع فيه الحجج وتمتلخ به الشبهة. ولكن الدكتور لم يلبث - بعد أن يتشدق بالتهمة ويرفع بها عقيرته - أن انكمش وتضاءل في بسطها وبيانها وتأييدها وتوجيهه، فاكتفى من ذلك كله بالإشارة العاجلة المسرفة في العجلة، إلى بعض الشواهد التي اعتبرها حجة له، بإيراد مطالعها وحسب، دون بيان الموضع الحجة فيها.
وها هو ذا أحد هذه الشواهد، نورده كاملاً عن ديوان الحماسة لنتبين فيه مبلغ المطابقة بين الدعوى والدليل، وقد زعم الدكتور أنه مما يدخل في الهجاء، وهو من شعر حطائط بن يعفر:
تقول ابنة العَّباب رُهم: حربتنا ... حطائط، لم تترك لنفسك مقعدا
إذا ما أفدنا صرمة بعد هجمة ... تكون عليها كابن عمك: أسودا
فقلت، ولم أعي الجواب، تبينى: ... أكان الهزال حتف زيد وأربدا
أريني جواداً مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وليت شعري أين رائحة الهجاء هنا؟ ليتني أستطيع أن أدرك مهب هذه الرائحة التي زكمت أنف الأستاذ الفاضل، فجعلته يراها هجاء صريحاً برغم أبي تمام، بل برغم أنف كل من يقرأ الشعر ويلم به أدنى إلمام.(840/20)
ألا ليت من يدلني على لمحة خفيفة من الهجاء في هذه الأبيات، أم لعلها كلمة (أسود) (ويعني الشاعر بها أسود بن يعفر النهشلي) هي التي غامت في عين الأستاذ واحلولكت، فغمرت جو الأبيات بالسواد، وإن يكن لون المديح أبيض فلون الهجاء لا شك أسود، وكذلك أخطأ أبو تمام - عفا الله عنه - فأقحم في المديح هذه الأبيات السوداء، وقد غفل عن أن السواد لون الهجاء!
أستغفر الله وأتوب إليه!
هذا الشاهد وحده - وسائر الشواهد مثله في مبلغ المطابقة بينها وبين الدعوى - بين لنا بياناً صريحاً قاطعاً مبلغ وفاء الأستاذ بما أخذه على عاتقه وأراد أن يبذ بها الأوائل والأواخر من الاحتجاج لتلك الدعوى، وتعزيز ذلك الاتهام الخطير ضد أبي تمام.
لقد كنا نرقب أن نرى وجهاً جديداً من وجوه المعركة القديمة بين العلماء والشعراء، فإذا بنا أمام مهزلة تملأ النفس خجلاً وتغمرنا معشر أهل العلم بمعاني الخزي والاستخذاء!!
ومن حقنا وحق كل قارئ أن يتساءل إذ كان هذا مبلغ فهم صاحب كتاب (الهجاء والهجاءون) لشعر الهجاء، على النحو الذي رأينا - فيما يزعم - لهذه القطعة من صفة هجائية، فما عسى أن يكون الظن بكتاب يضعه في هذا الفن، ويريد أن يؤرخ به له، ولابد أن يعتمد - أول ما يعتمد بطبيعة الحال - على ما أثر في الأدب العربي من شعر هجائي ليكون مادة بحثه؟
وبعد فهل لنا أن نعتبر هذا مثلاً من أمثلة الدرس الأدبي الجامعي في هذه السنوات الأخيرة؟
وهل لمؤرخي الحياة الجامعية في مصر أن يروا في هذا الكتاب وثيقة تبين بعض مسالك هذه الحياة في هذه الأيام؟
وددت والله ألا يكون الأمر كذلك، وأن يكون مثل هذا الكتاب شذوذاً ولا يؤخذ به وفلتة لا تدل على الحالة العامة، فإنه ليحزنني أشد الحزن ويأخذ بأكظام قلبي أن تتكشف الحياة الجامعية أخيراً عن مثل هذا الاستخفاف، وأن ينفرج الرداء الجامعي عن مثل هذا الخزي!
(أبو حيان)(840/21)
ٍفلسفة المعتزلة
للدكتور ألبير نصري نادر
إن المعتزلة يمثلون سلسلة من المفكرين المسلمين تبدأ بواصل ابن عطاء المتوفى سنة 131هـ أي 748م وتمتد إلى أبي هاشم بن الجبائي المتوفى سنة 321 هـ أي 933م وهو أستاذ أبي الحسن الاشعري رأس الأشاعرة.
بعد الأبحاث التي قام بها الغربيون والشرقيون، وبعدما كُتب عن المعتزلة بقى أن نبين طريقتهم الفلسفية وأن نستخرج الأصول التي بنيت عليها. هذا ما حاولنا نفعله في الرسالة الكبرى التي تقدمنا بها إلى أساتذة جامعة السريون بباريس وعنوانها فلسفة المعتزلة.
الأصل الأول والعام لهذه الفرقة التي توصلنا إليه بعد كل ما طالعناه من مراجع، هو أن العقل البشري عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يتوصل إلى الحقائق الكبرى الأول وهي:
أولاً: أن وجود العالم يدل حتماً على وجود كائن أسمى متعال منح العالم هذا الوجود.
ثانياً: أن الإنسان يفعل حراً وهو مسئول عن أعماله محاسب عليه.
لذلك قسمنا الرسالة إلى قسمين كبيرين: أحدهما خاص بالتوحيد وما يتعلق به من مسألة الخلق، والآخر خاص بالحرية عند الإنسان وما يتوقف عليها.
في القسم الأول بينا أن المعتزلة لا تقول بأي مشابهة أو تمثيل بين الله والعالم من جهة، ومن جهة أخرى هم يقولون بالمذهب الوجودي، فلا نعرف عن الله سوى حقيقة واحدة هو أنه موجود، ولكن ماهيته لا يمكننا إدراكها لأنه غير متناه ونحن متناهون. ثم أن ماهيته هي علمه وقدرته وإرادته. وإذا ما تكلمنا عن صفاته تعالى فهذه الصفات لا توجد حقيقة بل هي اعتبارات ذهنية نلجأ إليها لضعف عقلنا. ونتيجة لمنع المشابهة بين الله والعالم المخلوق قالت المعتزلة إن الله لم يخلق ماهية العالم بل إنه وهب الوجود فقط لماهية كانت في حالة العدم. وحسب قولهم هذا يصبح المعدوم شيئاً وذاتاً وعيناً ينقصها الوجود فقط. وهذه نتيجة منطقية لقولهم بالمذهب الوجودي ومؤداه أن لكل فكرة مقابل في الحقيقة ففكرة المعدوم نقابلها حقيقة.
ذهبت المعتزلة إلى هذه النتيجة لأنهم كانوا يريدون أن يصونوا فكرة التوحيد من كل شرك ومن كل مذهب حلولي؛ وهو يفتخرون بأنهم أهل توحيد - وقولهم إن العالم لا يستمد(840/22)
ماهيته من الله بل يستمد منه وجوده فقط يدلنا على أنهم تأثروا بعض التأثر بالفلسفة الأربسطوطالية ولا سيما فيما يختص بفكرة الهيولي، وهي عند أريسطو المادة الأولى التي لا صورة لها والتي يقول عنها إنها قديمة وأنها الماهية الأولى للعالم. وفي هذه المناسبة تقول إن القسط الأكبر من مؤلفات الفلاسفة والطبيعيين اليونانيين ترجمت إلى السريانية والعربية في عهد المعتزلة؛ ويكفينا أن نذكر (دار الحكمة) في عهد الخليفة المأمون وعلى رأسه حنين بن إسحق.
إن المعتزلة متفقون على تفسير خلق العالم هذا التفسير وهو أصل أساسي في مذهبهم؛ ولكن هناك مسائل تعد ثانوية في نظرهم تختلف آراؤهم فيها. إذ بينما نرى مثلاً أبا الهذيل العلاف يقول بالجوهر الفرد أي الذرة، نجد النظام يقول إنه لا جزء وإن تقسيمه جائز ولو بالوهم. وبناء على هذا القول كان النظام أول من قال بالطفرة في الفلسفة الإسلامية؛ ومعناها أن الجسم يمكنه أن يمر من مكان أول إلى مكان ثالث أو رابع بينها أجزاء غير متناهية في القسمة وذلك بأن يطفر من الأول إلى الثالث أو الرابع.
الأصل الثاني في فلسفة المعتزلة هو الحرية عند الإنسان. فهم يقولون إن العقل عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يصل إلى إدراك الحقائق الأولى التي يسترشد بها الإنسان في أعماله، وذلك قبل أي تنزيل. ثم إن الإنسان حر أن يعمل بمقتضاها أولاً. فإذا معرفة الخير والشر وما يترتب عن الإعمال من مسئولية وجزاء كلها مسائل يدركها العقل المكتمل. وإذا ما جاء تنزيل فلا يجوز أن يناقض ما يدركه العقل في هذا المضمار بل يجب أن يقويه ويتممه.
جزأنا هذا الأصل أيضاً جزأين: أحدهما خاص بعلم النفس - وكل هم المعتزلة في دراسة النفس هو البرهنة على حرية الإنسان في عمله؛ وهم يردون بكل حماس على الجبرية، في مذهبهم دور أخلاقي مهم يقوم به وهو التمييز بين ما هو خير وما هو شر بواسطة النظر. والجزء الثاني خصصناه للمسألة الأخلاقية. إنهم يقولون إن الخير خير في ذاته، وان الشر شر في ذاته، وليس بموجب إرادة خارجية حتى ولو كانت إرادة إلهية هذه النظرة سيكون لها أهميتها عند دانس سكوت والقديس توما والأكويني في القرن الثالث عشر، ورأى المعتزلة فيها هو رأى توماوي قبل القديس توما بحوالي ثلاثة قرون.(840/23)
عندما يصل العقل إلى معرفة الشريعة يكون الإنسان حراً أن يفعل بمقتضاه أولاً يفعل. فحينئذ تظهر مسألة المعاصي والفسق، ولكن المعتزلة لا يبدون حكماً على الظواهر (أي أعمال الإنسان الخارجية) لأنها لا تدل على ما تكنه القلوب؛ لذلك يلزمون التحفظ في الحكم على أعمال الغير.
ولما كان الإنسان يأتي المعصية حراً فيمكنه أيضاً أن ينوب منها. ولكن المعتزلة يضعون شروطاً للتوبة حتى تكون مقبولة. فيقولون إنها لا تجوز إلا إذا ندم الإنسان على فعله وعزم على أن لا يأتي بمثله. ولكن ألا يمكن أن يتدارك الله الفاسق بلطف ويساعده حتى يصبح مؤمناً؟ إنها لمسألة دقيقة ولكن المعتزلة قالت: إذا وهب الله ذا الكبيرة أي فاسق لطفاً من عنده ليؤمن جاز أن يقول أنه يهيئ كفراً للمؤمنين لصيبح كافراً. ويزيدون على ذلك قائلين إن من آمن حراً فضله أكبر من فضل الذي وهب لطفاً ليؤمن. ومع ذلك لا ينكرون أن الله يهب أحياناً لطفه لبعض الناس ليؤمنوا ولكنها حالات شاذة.
بقي أخيراً مسألة الجزاء. فإن المعاصي تجلب حتماً العقاب، كما أن العمل الحسن يجلب حتماً الثواب. والعقل يدل على ذلك وبطلبه. ولكن في هذا العالم لا يوجد تكافؤ بين الأعمال وجزائها وعقابها فيجب أن يصير هذا التكافؤ في عالم آخر. وعليه فالجنة والنار لازمتان.
فها نحن أولاء بصدد فلسفة كاملة شاملة متماسكة الأجزاء: النقطة الأولى: الله متميز تام التمييز عن العالم - ليس بينه وبين العالم أي مشابه أو تمثيل.
العالم كان في حالة عدم - العالم لا يستمد من الله إلا الوجود
النقطة الثانية: المسالة الأخلاقية - في عالم خاضع لقوانين ثابتة لا يمكنه رد نظرية الجبر وجعل الإنسان مسئولاً عن أعماله إلا إذا كان حائزاً على ملكه خاصة تمكنه من تمييز الخير من الشر كما يجب أن يكون حراً في قصده وعمله.
لذلك سميت المعتزلة أهل توحيد وأهل عدل.
هذا المجهود الفكري مدة قرنين متتاليين فتح الطريق للفكر الإسلامي. وأثر المعتزلة سيكون بيناً واضحاً عند الفلاسفة المسلمين المعاصرين أو اللاحقين لهم مثل الكندي والأشعري.
لذلك سميناهم فلاسفة الإسلام الأسبقيين.
البير نصري نادر(840/24)
دكتور في الآداب والفلسفة(840/25)
حول بيتين للخطيل بن أوس
للأستاذ السيد مصطفى غازي
عرض الأستاذ (أبو حيان) في العدد 834 في مجلة الرسالة الغراء مثلاً من فهم الشعر القديم في كتاب (الهجاء والهجاءون) للدكتور (م. محمد حسين). وكان مدار الحديث حول بيتين للخطيل بن أوس هما:
فدى لبني ذُبيان رحلي وناقتي ... عشية يحدى بالرماح أبو بكر
ولكن يد هدى بالرجال فهبنه ... إلى قدر ما إن تقيم ولا تسري
قالهما الخطيل في حركة الردة، وأوردهما الدكتور في مستهل حديثه عن نشأة الأحزاب السياسية في المجلد الثاني من كتابه.
وقد أحس الأستاذ أبو حيان (بالحسرة تلذع قلبه) وهو يقرأ هذين البيتين مضبوطين بهذا الضبط، مرويين على هذا النحو، وهالهه أن يتجاوز الدكتور البيت الأول فلا يعلق عليه بشرح أو تفسير أو تحرير. وإلا فكيف مر بكلمة (يحدي) دون أن يحس في البيت إشكالاً؟ كيف يحدى أبو بكر بالرماح والحادي من يحدو الإبل بغنائه فتنساق خلفه وتطرد وراء حداثه؟ كيف يمكن أن تكون الصورة حين تأتي الرماح في مواضع الحداء؟. . . إن الأمر - في رأي الأستاذ أبو حيان - أيسر من هذا العناء. فالدال (يحدي) إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها. والعبارة في البيت الأول إنما هي (عشية يحذى بالرماح أبو بكر) بمعنى يطعن ويمزق جسده كما هو الأصل في معنى هذا وأخواتها، كحذ وحذق وحذف وحزم.
ثم أنتقل الأستاذ أبو حيان إلى البيت الثاني (فأفزعه أشد الفزع) أن يعلق المؤلف عليه، شارحاً له، بقوله: (دهديت الحجر فتهدى دحرجت. هبنه كذلك هي بالنص. لعلها من أهاب الإبل والخيل إذا زجرها قائلاً: هاب، هاب فيكون المقصود أن هؤلاء الرجال يزجرون أبا بكر وجيوشه ويدفعونهم إلى قدرهم وحينهم) وهاله أن يروي الدكتور (يدهدى) بصيغته المبني للمفعول، وأن يجمد عند (فهبنه) فيتعسف في تأويلها هذا التعسف وإلا فكيف يمكن أن تكون (هبنه) معدولة عما ينبغي أن تكون عليه باعتبارها من (أهاب)؟ ومن هم هؤلاء الرجال الذين يزجرون أبا بكر وجيوشه؟ أهم رجال أبي بكر يريدهم أن يزجروا انفسهم؟ أم هم بنو ذبيان يجعلهم يتدحرجون كما تتدحرج الحجارة؟. . . إن الأمر في هذا البيت شبيه(840/26)
- في رأي الأستاذ أبي حيان - بالأمر في البيت الاول، تصحيف يسير قريب ولكنه أدى إلى ذلك الخلط العجيب. فليس كلمة (فهبنه) المؤلفة من فاء عطف لا يدري ماذا تعطفه وماذا تعطف عليه، وفعل لا يعرف من أي أصل هو، ونون نسوة لا موضع لها، وضمير غيبة لا مرجع له - ليست هذه الكلمة والجملة إلا تصحيفاً قريباً لكلمة واحدة، هي كلمة (مهينة) من الهوان وبذلك يكون البيت.
ولكن يدهدي بالرجال مهينة ... إلى قدر ما أن تقيم ولا تسرى
ويدهدى بصيغة المبني للفاعل لا المبني للمفعول والفاعل هو أبو بكر، وبذلك يستقيم البيت وبطرد المعنى، دون تحد للنحو أو معاندة للصرف أو معارضة للمنطق.
ويبدو لنا أن الأستاذ أبا حيان قد أعجلته الرغبة في النقد، وشغله الاهتمام بالتجريح واللمز، عن أن يرجع إلى المصدر الذي نقل عنه المؤلف بيتي الخطيل. ولو أنه رجع إلى الطبرى في تاريخه وأصطنع التحقيق والتدقيق في بحثه، لأفاد من فهم التي لابست هذين البيتين، ولأطمئن إلى (يحدى) في البيت الأول كما اطمأن المؤلف، ولم يجزم هذا الجزم العجيب بأن الدال إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها. فقد روى الطبري في تاريخه أن بعض المرتدة، وفيهم نفر من ذبيان أعدوا العدة للإغارة على المدين ليلاً بعد أن خلفوا بعض رجالهم في ذي حي ليكونا لهم رداءاً. فأسرع أبو بكر للقائهم (وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فأنفس العدو، فأتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حي، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نقخوها وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل، فتدهده كل نحي في طوله، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر من شيء نفارها من الانحاء - فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، فلم يصرع مسلم ولم يرهب. فقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة بن أوس. . . الأبيات (أهو فأبو بكر ورجاله قد عادوا إلى المدينة إذن دون يصيب أحدهم مكروه (فلم يصرع مسلم ولم يصب)، ولم يطعن أبو بكر أو يمزق جسده كما أراد الأستاذ أبو حيان أيفرض ذلك علينا فرضاً. وعلى ذلك فلا محل للجزم بأن الدال (يحدى) إنما ذال معجمة ذهب إعجامها. ولا غرابة بعد ذلك (يحدى) أبو بكر بالرماح، وان يساق بها سوقاً كما تساق الإبل بالحداء. فالاستعارة في ذلك مألوفة مأنوسة، واستعمال الحداء هنا على سبيل التهكم كاستعمال القرى في معرض التنديد(840/27)
بالقتل، وكاستعمال البشرة في معرض الهديد بالعذاب.
ولو أن الأستاذ أبا حيان رجع إلى نص الطبري، ولم تجعله الرغبة في النقد والتجريح، لعدل عما أنزلق إليه في البيت الثاني من تأويل. فالطبري يحدثنا بأن المرتدة هم الذين دهدهوا الأنحاء في وجه أبي بكر، وأن أبا بكر هو الذي دهده بهذه الأنحاء، دهدهه بها الرجال، رجال بني ذبيان فيمن معهم من المرتدين. وعلى ذلك فالقصة كما رواها الطبري تقتضي أن يكون (يدهدى) بصيغة المبني للمفعول لا المبني للفاعل. وإذا فلا محل للجزم بأن الفعل مبني للفاعل وأن الفاعل أبو بكر، وأن المقصود بالرجال هنا المرتدة من بني ذبيان وليس ببعيد أن تكون (فهبنه) التي تشكك المؤلف في أمرها قائلاً: (كذلك هي بالنص) والتي حاول تأويلها قائلاً: (لعلها من أهاب الإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب) - ليس ببعيد أن تكون هذه الكلمة من (الهاب) وهو زجر الإبل عند سوقها فقد جاء في لسان العرب في مادة (هـ ي ب): (ولهاب: زجر الإبل، عند السوق. . . وإما الإهابة: فالصوت بالإبل ودعاؤها). فالهاب إذن زجر الإبل وتنفيرها، والإهابة دعاؤها وجمعها. والهاب - كما لا يخفى على الأستاذ أبي حيان - مصدر من الفعل الثلاثي. فأي غرابة في أن يكون الثلاثي من هذه المادة مستعملاً؟ وكيف تكون (هاب) بعد ذلك مجهولة الأصل والمصدر منها موجود في معاجم اللغة؟ أما ضمير الغيبة في (فهبنه) فرجعه أبو بكر في البيت الأول. والفاء تعطف (هاب) على (يدهدى). ويدهدى فعل مضارع، ولكنه يدل على المضي هنا، وإنما عدل به عن المضارع لاستحضاره صورة الحادث فكأنه يقع الآن أمام أعيننا. والأمثلة لاستحضار صورة الحادث فكأنه يقع الآن أمام أعيننا. والأمثلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بما ورد في السيرة: (فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ). وإذا كان استعمال نون النسوة هنا غريباً، فليس هناك ما يقطع بأن الشاعر القديم لم يقصد إلى استعمالها قصداً. وما أكثر ما كان الشاعر القديم يخرج على قوانين النحو والصرف لقيم شعره! وما أكثر ما كان يخرج على هذه القوانين نتيجة السهو والخطأ. فإذا أخذنا بعد ذلك براوية الشطر الثاني من البيت (إلى قدر، ما إن يقيم ولا يسرى) - وهي رواية أوردها ناشر تاريخ الطبري في حاشية الكتاب إذا أخذنا بهذه الرواية، فقد استقام البيت واطرد المعنى، إذ أن عبارة (ما إن يقيم ولا يسرى) تعود(840/28)
بذلك إلى بكر مصورة حالة حين عاد إلى المدينة مضطرباً مفزعاً قد أخذت منه الحيرة والمفاجأة كل مأخذ. وعلى ذلك تكون قراءة البيت:
ولكن يدهدي بالرجال فهبنه - إلى قدر، ما أن يقيم ولا يسرى
أي أن رجال بني ذبيان يدهدهون أبا بكر بالزقاق، فيزجونه إلى قدره وقضائه، وقد سدت في وجهه المسالك، وأعيته الحيلة وأخذت منه الحيرة، ونالت منه المفاجأة، فهو لا يقيم ولا يسري
ذلك - فيما نرى - أدنى إلى سياق القصة، وأقرب إلى روح العلم، وما ينبغي لطالب من الأمانة في التدقيق، ومن البعد عن البت والجزم حين تحتمل المسائل أكثر من وجه. ولعل الأستاذ أبا حيان واجد في كلمتنا هذه ما يشيع الرضا في قلبه فلا يحس (بالحسرة تلدعه)، وما يعيد الطمأنينية إلى نفسه فلا يعود (يشكو إلى الله) أن يتهجم الجامعيون على الشعر القديم فيما يعرضون له من بحوث.
السيد مصطفى غازي
ليسانس في الآداب من جامعة فاروق الأول(840/29)
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة!. . .
توفي سنة 161هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
وحين ندرس نفسية هذا الظريف من خلال قصصه ونوادره - وهي غاية ما وصل إلى أيدينا من حياته - سنضطر إلى ذكر بعض مداعباته لنستدل بها على شيء مما نراه. ومن تلك المداعبات التي نشير بها إلى ما كان من انسجام بين أبي دلامة وزوجته اشتراكهما في خداع المهدي وزوجته الخيزران: فقد دخل أبو دلامة يوماً على المهدي وهو يبكي. فقال له مالك؟ ماتت أم دلامة، وأنشده فيها:
وكنا كزوج من قطاً في مفازه ... لدى خفض عيش ناعم مؤنق رغد
فأفردني ريب الزمان بصرفه ... ولم أر شيئاً قط أوحش من فرد!
فأمر له بثياب وطيب ودنانير، وخرج. فدخلت أم دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك، فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
ومثل هذا الاشتراك في الخداع الذي كان يمضي طليقاً حتى يصل إلى الخليفة وزوجته - يدل على تفاهم عميق بين الزوجين، وعلى وحدة في نظرتهما إلى الحياة، فكأنهما يشرفان على العالم من منظار واحد فيه مرح النكة، ولطف الدعابة.
وهنا نرغب في معرفة اسم هذه المرأة الخبيثة - زوجة شاعرنا الظريف - فتضن به علينا المصادر كأنها لا ترى في ذكره فائدة.
ونعلل هذا - كما يبدو لنا - بأن أمثال هذا الظريف تروى في كتب الأدب حياتهم للإشارة إلى جانب يستحق الدراسة فيهم وهو ظرفهم ومرحهم وسلاطة ألسنتهم، وما بعد هذا الجانب فأمور تتعلق بأحدهم من قريب أو بعيد كما تتعلق بآحاد الناس فلا تستأهل الدراسة، ولا تستحق التسجيل.
لذلك سنمر - في أثناء عرضنا لحياة أبي دلامة - مروراً رفيقاً بما يتصل بأسرته، فنعلم(840/30)
أنه كان له أولاد غير دلامة وأن فيهم بنتاً قبيحة ولكنا لا نعرف أسماءهم، ولا نحاول أن نعرف ما إذا كان له أخوة، فقد سكتت عن هذا كله النصوص التي بين أيدينا. ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه منزلة هذا الظريف لدى أبي العباس السفاح، وأبي جعفر المنصور والمهدي أيام انقطع إلى مجالستهم ومناداتهم.
ويبدو أنه كان رفيع المكانة لدى السفاح، وأنه - للطف محله منه - كان ينال ما يشاء من المطالب ولا سيما إذا أحسن في أسلوب الطلب: من ذلك أنه وقف يوماً بين يدي السفاح - فقال له: سلني حاجتك. قال أبو دلامة: كلب أتصيد به. قال: أعطوه إياه. قال ودابة أتصيد عليها. قال: أعطوه دابة. قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده. قال: أعطوه غلاماً: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك فلابد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه داراً تجمعهم. قال: فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أعطيتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: ما لا نبات فيه؟ قد أعطيتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة. قال: فائذن لي أن أقبل يدك. قال: أما هذه فدعها. قال: والله ما منعت عيالي شيئاً أقل ضرراَ عليهم منها.
فانظر في هذه القصة - إلى مكانة أبي دلامة لدى السفاح، تلك المكانة التي تهيئ له أن يجاب له كل طلب بعد أن يصير عليه الخليفة فلا يسكته، بل يتقبل جرأته ويثيبه عليها فيجزل ثوابه، ثم انظر - كما قال الجاحظ - (إلى حذقة بالمسألة ولطفه فيها: ابتدأ بكلب فسهل القصة به، وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة، حتى نال ما سأله بديهة إليه!)
وكما أحسن السفاح إلى أبى دلامة الظريف مقيماً على الوفاء له يمدحه في كل مناسبة ويذكره بكل خير، بل لقد أقام يذكر جميله حتى بعد موته، فرثاه بأبيات كثيرة. ومما قاله في قصيدته الهمزية:
وكنا بالخليفة قد عقدنا ... لواء الأمر فانتفض اللواء
فنحن رعية هلكت ضياعاً ... تسوق بنا إلى الفتن الرعاء
ولم يكتف بهذا، بل إنه دخل على المنصور والناس عنده يعزونه في السفاح فأنشأ يقول:
أمسيت بالأنبار يا ابن محمد ... لم تستطع عن عقرها تحويلا(840/31)
ويلي عليك وويل أهلي كلهم ... ويلا في الحياة طويلا
فلتبكين لك النساء بعبرة ... وليبكين لك الرجال عويلا
مات الندى إذ مت يا ابن محمد ... فجعلته لك في الثراء عديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم ... فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتي أخرت بعدك للتي ... تدع العزيز من الرجال ذليلا
فلأحلفن يمين حق برة ... بالله ما أعطيت بعدك سولا
فلم سمع الناس هذه الأبيات بكوا. فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقلا أبو دلامة: يا أمير المؤمنين إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بأخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لأخواته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) فسرى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً - وهو مريض - ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر، فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلن ذلك فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغبظ: يا سليمان ادفعها إليه.
ولو لم يكن السفاح يكثر العطاء والصلة لأبي دلامة مقرباً إياه على سواه لما مدحه الشاعر هذا المدح العظيم، ولما رثاه أمام المنصور ذاك الرثاء البليغ، ولما بقى مقيماً على الوفاء له. ويظهر أن لحذق أبى دلامة في المسألة ومهارته في إظهار حاجته ولباقته في طلب ما يريد - أكبر الأثر في رغبة الخلفاء العباسيين بوصله ولا سيما الذي اشتهر ببخله، ومع ذلك (لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة منه خاصة) كما قال صاحب الأغاني.
وحسبك أن تعلم أن أبا دلامة دخل على المنصور يوماً فأنشده:
أما ورب العاديات ضبحا ... حقاً ورب الموريات قدحا
إن المغيرات على صبحاً ... والناكئات من فؤادي قرحا
عشر ليال بينهن ضبحا ... يجلعن مالي كل عام صبحا. . .(840/32)
فقال له أبو جعفر: وكم تذبح يا أبا دلامة؟ قال: أربعاً وعشرين شاة. ففرض له على كل هاشمي أربعة وعشرين ديناراً، فكان يأخذها منهم، فأتى العباس بن محمد في عشر الأضحى يتنجزها. فقال: يا أبا دلامة، أليس قد مات أبوك؟ قال بلى. قال: انقصوه دينارين. قال: أصلح الله الأمير لا تفعل، فإنه ترك على ولدين. فأبى إلا ينقصه. فخرج وهو يقول:
أخطاك ما كنت ترجوه وتأمله ... فأغسل يديك من العباس بالياس
واغسل يديك بأشنان فأفقهما ... مما تؤمل من معروف عباس
جزاك ربك يا عباس عن فرج ... جنات عدن وعن جرزتي آس
فبلغ ذلك أبا جعفر فضحك، واغتاظ على العباس، وأمره بأن يبعث إليه بأربعة وعشرين ديناراً أخرى
فرجل يفرض له المنصور عطاء على كل هاشمي لا بد أن يكون محبوباً، مقرباً عنده. ولم لا يقرب المنصور أبا دلامة وهو لا يستريح إلى منادمة أحد سواهن بل يضحك لدعابته في أدق الظروف؟
توفيت حمادة بنت عيسى وحضر المنصور جنازتها. فلما وقف على حفرتها قال لأبي دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: بنت عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها! فضحك المنصور حتى غُلب فستر وجهه.
وما أظنك إلا ضاحكاً مع المنصور لو سمعت من أبي دلامة مثل هذا الجواب الذي يدل على بديهة حاضرة، ونكتة سريعة، لا يستطيع صاحبنا أن يغلبها حتى في أحرج المواقف.
ويمثل هذه الطلاقة في الرد والسهولة في الجواب تستطيع أن تفرق بين نكتتين إحداهما متكلفة مصطنعة، والأخرى صادرة عن طبع وملكة. وأنت نفسك إذا سمعت النكتة الباردة - أو التي يسمونها (بايخة) - رفضتها وضجرت من سماعها ونبا عنها ذوقك، وإن أنت سمعت النكتة الموافقة المحكمة أدركت حلاوتها فضحكت لها من صميم قلبك، لأنك تحس فيها روح الدعابة كما تحس في الشعر الرفيع عبقرية الإلهام، فتنتقل من عالمك الصغير المحدود، إلى عالم الجمال والخلود!
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح(840/33)
وداع مصر. . .
للشاعر الكبير الأستاذ محمد علي الحوماني
جددي يا مصر. . . فينا الخيلاء ... نُخِف الأرض ونحتل السماء
(المعز) اختال في كل حشا ... من بنيك الشوس، عزا وإباء
منذ كان (النيل) كانت (مصره) ... جنة تطفح بشراً وراء
وعلى شطيه من فم. . . ... درة تضفي على الفجر الضياء
يا لماء النيل ما اسمره! ... في شريانك ناراً لا دماء
تنشدين المجد من عبقرية ... زاحفاً جيشاً، وخفاقاً لواء
كل قرم قذفت (مصر) به ... لم يخر عزماً ولم ينكل مضاء
سل فلسطين به إذ رخصت ... عندها الأنفس بيعاً وشراء
في سبيل الحق من أمته ... نبذ الفردوس واختار العراء
يا لمرأى النيل، ما أروعه ... تحت أفيائك صبحاً ومساء
يا لأفق النيل ما أحفله ... بالمنى منك خلوصاً وصفاء
بالوشى النيل ما أبهجه ... فوق إعطائك ظلا لا رداء
يا لصوت الفن ما أعذبه ... في فم النيل خريراً لا غناء
كلما أمعنت في تحليله ... هزني العجب وعفت الكيمياء
ذهب سال فأجني ثمراً ... لفظ الشمس، ومج الكهرباء
بالماء النيل، ما أنضره ... في وجوه الغيد، لوناً لا طلاء
شفق ذاب على كل فم. . . ... فجلا الكأس وحيا الندماء
وبدا خلف المآقي حورا ... يرصد ويصطاد الظباء
وعلى المعصم من كل يد ... أفعوانا يتحدى السفهاء
هذه (مصر) وهذا نيلها ... خصنا الله بما شاءت وشاء
شرف من عهد (خوفو) لم يزل ... يخلع الدهر عليه الكبرياء
ثقف الدنيا على أمجاده ... فتغض الطرف أو تغضى حياء
وجمال يحلم (السين) به ... فيرى (باريس) أن لا تتراءى(840/35)
فاتها من (مصر) أفق لم تفت ... أوجه الأقمار صيفاً وشتاء
وعلى ضاحية النيل رؤى ... تذهل الرائي أماماً ووراء
يرد النزهة والماء معاً ... كتل الخلق رجالاً ونساء
فقبيل حال منهم بشراً ... وقبيل لم يزل طيناً وماء
فبنات القصر يركعن الطلا ... وبنات الكوخ يشددن الوكاء
مشهد إن شئت أغواك وإن ... شئت أشجاك وساء
بالماء النيل، ما أعرقه!! ... في الدم المصري، حذقاً ودهاء
عالجوا الحكم فسادوا ساسة ... ورعوا الفن فسادوا أدباء
وبنو الأزهر فاءوا بنا ... للهدى بروا فكانوا حنفاء
لغة القرآن عزت بهمو ... فمشوا فيها إلى الله ظماء
ينشدون الحق فيما كتبوا ... أبعد الناس، خداعاً ورياء
عهد الفن أقلامهم ... بأمانيه فكانوا أمناء
لا يريم الخلد عن ساحتهم، ... وعلى الأهرام، باثوا خفراء
يا لماء النيل، ما أحفله!! ... بالدم الفائر خوفا ورجاء
يتقي الزائف فيما يتقي ... ويرجى من بنيه الخلصاء
حكمة أفضت به عن كثب ... أن يري الداء ويختار الدواء
لم أجد في البلد أنظمة ... قام أهلوه عليها حكماء
ورأيت النيل يحمى بلداً ... سادت الحكمة فيه الرؤساء
رب شخص أو شخص منيت ... بهمُ مصر، فكانوا دخلاء
بيد أن النيل لم ينبت على ... ضفتيه شجر يثمر داء
يا لماء النيل،، ما أطهره ... في الدم المصري عطفاً وإخاء
كن كما شئت، ولكن مسلماً ... عربياً، تنل (النيل) جزاء
يحسب النازل فيهم أنه ... وطني ويراهم غرباء
هكذا أعرق فيهم خلق ... حال في الأعراق نبلا ووفاء
لم أقف منهم على غير يد ... تمطر الدنيا عفافاً وسخاء(840/36)
لطفت في يد من لاطفها ... وجفت في يد من أولى الجفاء
إيه: يا مصر، على أي يد ... لك عندي، أبعث الشعر ثناء؟؟
كم جديد حفل الغرب به ... طبق الداعي له الأرض نداء
لم يسوءني منه إلا أسف ... كلما خامرني زدت استياء
كل زهر نغمت عيني به ... لم يهب روحي من العطر غذاء
وجمال صبت النفس له ... لم أجد فيه من الروح شفاء
وغناء وعت الأذن به ... لم يجد عنك به السمع غناء
ولدى أن همست روح الصبي ... بين جنبي تنسمت الهواء
وعرفت السر في الزهر الذي ... وهب الصب له القلب وعاء
هو من روضك في (أندلس) ... يحسد النجم عليه الظرفاء
هو في (الندوة) حيث اتقدت ... شهب الندوة من (عين ذكاء)
هو في (الجيزة) روض وشعث ... حبب الكاس لياليه الوضاء
سر هذا الزهر عطر لبست ... ضفة النيل به هذا الكساء
وجمال هو في كل دم: ... حركات تستخف الشعراء
هذه مصر وهذا نيلها ... تنعم الدنيا بها ما أفاء
هذه (نويرك) لم تبطر ولم ... يغبط العقل عليها الرقعاء
ناطحات السحاب فيها همم ... شمخت عزاً ولم تشمخ بناء
إنها (نويرك) لم تعمل بها ... يد إسرائيل كيداً وبغاء
هذه (لندن) لم تطغ ولم ... يملك البغي عليها النبلاء
كانت الدنيا. فلما عبثت ... يد (صهيون) بها عادت هباء
وستلقى ضعف ما ألقت على ... جيرة (الأردن) ذلا وشقاء
هذه (باريس) لم تخسف ولم ... تبذل العرض من الخسف وقاء
تنشد القوة لم يعصف بها ... نزوان يسترق الضعفاء
هذه الدنيا يرى السعد بها ... محسن الناس ويشقى من أساء
أي مستقبل عز ظافر ... لك يا مصر. يناديك النجباء!(840/37)
عرب الدنيا تفديك بما ... لم تجد إلا لك الدنيا فداء
نحن يا مصر، بنو الصيد الأولى ... فتحوا غُلباً وسادوا رُحماء
لا ترى في قول من ينعتنا ... أننا عُرج الوفا، إلا افتراء
لم ترم (دجلة) عن نصرتكم ... في (فلسطين) ولم تحجم عداء
البلاء المر في (أهرامنا) ... لم يزل في (بابل) ذاك البلاء
لا يرد الغرب عن إجرامه ... أن يرى منا خصوما شرفاء
غمة لا تنجلي ما لم نعد ... مرة أخرى غزاة رُعناء
ضيف مصر (1949)
محمد علي الحوماني(840/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
كبار الأدباء وعضوية البرلمان:
حديث الانتخابات المقبلة أهم ما يشغل الصحف في هذه الأيام وقد أمسكت بإحداها وغرقت ساعة في أنهارها وجداولها المملوءة بأحاديث الوزراء ورجال السياسية وتعليقات المحرر، تعديل الدوائر وفتحها وإغلاقها وما إلى ذلك. ثم ألقيت الصحيفة جانباً ورحتُ أفكر في الموضوع على نحو آخر، قلت في نفسي: لا شك أن تمثيل الأمة في البرلمان يتطور من حيث المستوى الفكري لنوابها وشيوخها، تبعاً لتطور الأمة نفسها لانتشار التعليم وازدياد المتعلمين، أن عهد (النمر) الذي بدأت به الحياة النيابية في مصر آخذ في الانقراض شيئاً فشيئاً، و (الموافقون) على ما لا يعرفون ما يوافقون عليه ويوشكون أن يتركوا أماكنهم للعناصر الجديدة. ثم قفز إلى ذهني خاطر آخر، فقلت في نفسي أيضاً: هل أقترب التطور من الحال التي يمكن فيها أن يشتمل البرلمان على الصفوة من رجال الأدب والفكر في مصر؟ ولكن كيف السبيل؟ هل يخوضون معامع الانتخابات؟. وهنا جعلت أتصور بعض هؤلاء الأعلام وقد رشحوا أنفسهم للانتخاب. . .
الدكتور طه حسين خطيب يسحر الجماهير ولكنها ليست جماهير الانتخاب، وهو لا يستطيع أن يجلس إلى أهل الدائرة إذا ارتفع الضحى وإذا أقبل المساء، يسمع منهم ولا يسمعون منه، فيضيق به وقد يضيقون به، حتى إذا بلغ الأمر ما اعتاد أن يبلغ كل عام في أوائل الصيف، ولم يعد في وسعه أحتمال الحر والشر والنكر، فر إلى باريس. . .
والأستاذ توفيق الحكيم لا يستطيع مخالفة حماره الذي هو مصر على مقاطعة الانتخابات ومجانبة (التمرغ) في أحوالها، وقد خبرها أيام كان صاحبه نائباً في الأرياف، فاصبح فيها من الزاهدين.
والأستاذ المازني إذا طاف بالدائرة فسيرغب عن سماع القصائد التي ينظمها أنصاره والداعون له، فقد أنكر شعره فهل يسمع شعر هؤلاء؟ وقد لا يجد له جلداً على قصيدة من الشعر الوسط فلا يصبر عليها ولو أدى ذلك إلى ضياع (تأمين) الانتخابات. . . وسيشعر بضيق وقته عن هذا العناء والعبث فيهرب إلى حين يكتب المقالات المطلوبة للصحف(840/39)
والمجلات.
والدكتور أحمد أمين بك رجل فكر ومنطق لا يعجبان الناخبين، وعندما يشاهدون ما يبدو عليه من الجد المئوس، وما يصطنعه أحياناً من التغافل، ينصرفون عنه إلى منافسه ويتركونه قائماً يعزى بـ (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) وقد يدرك بعض الخلفاء أنه سيكون عضواً في كل لجنة من لجان المجلس الذي أنتخب له، وقد يكون رئيس لبعضها، فيعملون على محاربته ليظل قانعاً بلجان وزارة المعارف ولجان المجمع اللغوي واللجنة الثقافية بالجامعة العربية ولجنة التأليف والترجمة والنشر.
أما الأستاذ الزيات فتقف (الرسالة) في طريقه عقبة أي عقبة. . . إذا لا بد أن ينجم له في الدائرة (شعراء وكتاب) يريدون أن ينشروا في الرسالة ما تجود به قرائحهم من النظم والنثر، وقد يطلبون تغيير عنوان هذا الباب بحيث يكون (الأدب والفن) في الدائرة وعميد الرسالة لم ينشر لأحد من هؤلاء شيئاُ، والأدب والفن لن يخضعا للدائر. وهكذا تتعقد المسألة على احل فيقنع الأستاذ بظل (الكافورة) في المنصورة صيفاً ونظفر نحن بمجلسه في ندوة الرسالة إذا جاء الشتاء.
وأما الأستاذ العقاد فهو عضو بمجلس الشيوخ عن طريق التعيين، ولو أنه دخل الانتخابات لاصطدم بطلاب الوظائف ومطالب الموظفين من أهل الدائرة فالكاتب الجبار لن يرجو مخلوقاً لمخلوق، فإذا وصل الأمر إلى أن يطلب موظف نقله من أسوان فإن الأستاذ الكبير يعتبر ذلك إساءة بالغة إلى مسقط رأسه، فينسحب من الدائرة في الحال، ويكتب مقالاً بجريدة الأساس منذراً بسوء المآل.
إذا ما هو الطريق المفضي بأولئك الأعلام إلى البرلمان؟ عضوية الأستاذ العقاد بمجلس الشيوخ تبعث إلينا بصيصاً من الضوء، حقاً إنه ينتمي إلى حزب سياسي، والسياسية الحزبية تعين على تقديم الحزبين، ولكن ألست ترى إننا الآن قد أخذنا في عهد قومي جديد وجه إليه جلالة الفاروق، إذا أمر بتأليف الوزارة من جميع الأحزاب على أن يخلع رداء الحزبية في خدمة البلاد.
وقد أوشكت الدورة البرلمانية الحاضرة أن تنتهي، وسيجري الانتخاب في مجلس النواب ولثلثي مجلس الشيوخ، ولندع ذلك لنحصر النظر في الثلث الباقي من مجلس الشيوخ وهو(840/40)
الذي يختار أعضائه من ذوي الكفايات في الميادين المختلفة فإذا كان يختار الأعضاء من رجال السياسة ومن رجال الاقتصاد وغيرهم، أفلا ينبغي أن يتجه النظر إلى رجال الأدب والفكر فتختار خلاصة منهم أعضاء في مجلس الشيوخ؟ فذلك هو المنفذ الوحيد الذي يصل منه أولئك الرجال إلى مقاعد النيابة عن الأمة. كما أن ذلك يعتبر من دلائل القومية التي تهدف إلى صالح البلاد.
فاطمة وماريكا وراشيل:
هذا هو اسم الفلم الجديد الذي عرض في هذا الأسبوع بسينما راديو، أخرجه حلمي رفلة ووضع قصته وحواره أبو السعود الابياري، وأهم ممثليه محمد فوزي وإسماعيل يس ومديحة يسري ولولا صدقي ونيللي مظلوم.
يوسف جلال (محمد فوزي) شاب لا هم له إلا خداع البنات باسم الحب والتأميل في الزواج وقد اعد له أحد الصاغة تسعة وعشرين خاتماً، على عدد حروف الهجاء، نقش على كل خاتم حرف منها، فإذا اتصل ببنت قدم لها الخاتم الذي يوافق أول حروف أسمها. ويقيم معه حمص أفندي (إسماعيل يس) وهو صديقه وسكرتيره عند اللزوم، يتصل يوسف بفتاة يهودية هي راشيل (نيللي مظلوم) في حفلة زفاف إذ كانت ترقص في الحفلة وكان هو يغني فيها، فيغازلها وتبدي له الحب فقد عرفت أنه غني ويتفقان على الزواج بعد أن يقول لها أن اسمه يوسف كوهين وتذهب به إلى محل تجاري لتشتري ثوباُ، فتستقبلهما ماريكا (لولا صدقي) مديرة المحل وفي غفلة من راشيل يوسف الفتاة الرومية ماريكا ويتسمى بها بإسم جوزيف ترياكو، ويتفقان على الزواج. ثم ينتهي أمره مع كل منها عندما تفاجئه راشيل في حفلة خطوبته لماريكا فيطفيء حمص أفندي الأنوار ويقفز هو وصاحبه من إحدى الشرفات. ثم يتلقى يوسف برقية من والده القروي الثري يأمره فيها بالحضور إلى القرية في الحال. وهناك ينهي إليه أبوه أن يغير راض عن سلوكه وأنه لن يعطيه نقوداً حتى يطيع أمره ويتزوج من فاطمة (مديحة) بنت وصفي بك التي ورثت عن أبيها ثلثمائة فدان، وتقيم مع عمها راشد بك في الضيعة المجاورة، فيعارض يوسف في الزواج من بنت لم يرها ولكنه يضطر إلى الموافقة إزاء تهديد أبيه، وكذلك تعارض فاطمة في الزواج من أبن جلال بك لأنها ظنته فلاحاً ساذجاً، ولكن عمها راشد بك المرشح في الانتخابات والذي(840/41)
يرجو جلال بك يلح عليها ويرغمها ويذهب يوسف إلى حمص أفندي ويبلغه خبر الكارثة، ويطلعه على صورة الفتاة التي يريد أبوه أن يزوجه إياها، وهي في الحقيقة صورة علية بنت راشد بك الدميمة، وقد اتفقت مع ابنة عمها على إرسالها للخاطب لتنفيره. . . ويتفق يوسف وحمص من الجهة الأخرى على خطة لتنفير العروس من يوسف، فيذهبان إلى منزل راشد بك في زي قروي وقد حمل يوسف (بلاص عسل) وقفة مملؤة من (كيزان الذرة) واحتضن حمص (لبشة قصب)، ثم ينتهي المنظر بطردهما من المنزل في غيبة راشد بك. وفي خلال ذلك يلمح يوسف فاطمة من بعيد وهو لا يعلم إنها المخطوبة، فيضع خطة لما قبلتها ومغازلتها ويتبين إنها تحب رجلاً أسمه ظريف بك النابلسي، ولكن يوسف يظل يطاردها ويضياق ظريف بك حتى يظفر بها ويتفقان على الزواج، وتحدث عدة حوادث يتخللها إصرار كل من جلال بك وراشد بك على الزواج ابن الأول من بت أخ الثاني، ثم يحضر جلال بك أبنه يوسف بالإكراه لعقد الزواج، وكذلك يكره راشد بك بنت أخيه فاطمة ويأمر بحملها حملاً إلى حيث أعدت معدات العقد. وهناك تحدث المفاجأة إذ تنكشف الحقيقة ويعرف كل من يوسف وفاطمة أنه المقصود بالإكراه على الزواج من صاحبه، فيتعانقان ويكون منظر زفافهما حسن الختام
والذي يتبادر إلى الذهن من اسم الفلم (فاطمة وماريكا وراشيل). وهو فلم مصري، أنه يقدم كلاً من هؤلاء الثلاث بخصائصها، على أن تظفر صورة فاطمة المصرية بأحسن إطار، ولكنا نراها فتاة عابثة ليس لها مثل تتمسك به ولم ترسم لها غاية نبيلة تهدف إليها فكل ما تريده رجل كهل (ظريف بك النابلسي) لم يقدم لنا الفلم ما يبرر تعلقها به، ثم هذا الشاب الذي تسمى إليه بعد أن نفضت من ذاك الكهل، إذا تذهب إلى منزله لتخطب حبه، أو في الحقيقة ليرنا المخرج منظرهما في حديقة المنزل وهما يجوسان خلالها حيث تبدي مديحة فتنتها ودلالها ومحمد فوزي يغني لها. . . ولك أن تستمتع بمنظر الجمال وعليك أن تسمع الغناء! وهذا المنظر يعطينا (فكرة) الفلم كله، فهو إحدى الخلايا التي يتكون منها، فاكثر مناظره وأهمها معارض لهؤلاء الحسان الثلاث: مديحة ولولا ونيللي، جمال ورقص وسحر وفتنة. . . والقصة (مفصلة) على قدودهن الرشيقة، وليس لك أن تطلب شيئاً في الفلم غير ذلك، حتى محمد فوزي عليك نتغاضى إدلاله بنفسه وفرحه بشبابه، وقد أخذ إسماعيل يس(840/42)
في هذا الفلم ملحقاً فكاهياً على الهامش.
والفلم ليس معدوم الغاية القيمة فحسب بل هو على عكس ذلك، لأنه يقدم بطلين منحرفين هما: يوسف وفاطمة، ويظل يعرض انحرافهما وعبثهما في تصوير مغر جميل، ويظل يعطف عليهما حتى النهاية السعيدة، فهو وأن تم له الجمال الحسي، يفقد ناحية الجمال المعنوي الذي يبرز من مناصرة الحق والخير.
وحوادث الفلم تجري نحو مناظر الرقص والمال الغناء، فتعثر في جريها. ومن هذه العثرات أن نرى يوسف يغني في حفلة زفاف ويقود فرقة يحمل أفرادها الطبول من غير أن نعرف صفته في ذلك. ولا نرى أي سبب يدعو إلى يأتي هذا الشاب الغني الغير محترف ليحي حفلة زفاف، ولكن الحادثة تجري بيوسف إلى هذه الحفلة ليلتقي براشيل التي ترقص فيها. والعجيب أن الفلم يملي علينا إملاء أن تعرف راشيل يوسف على أنه شاب غني وهي تراه في زمرة المحترفين حاملي الطبول. . .
ولم أقف على سر الطريقة العجيبة التي كان يتبعها يوسف عندما يعرف أسم الفتاة التي تقع له، فيدس يده في جيبه ويخرج الخاتم المنقوش عليه أول أسمها. . . فلو فرضنا أنه يحمل معه دائماً التسعة والعشرين خاتماً فكيف ينتقي الخاتم ويخرجه بمجرد معرفته الاسم؟
ويظهر أن المنازل و (الفلات) صنعت في هذا الفلم على طراز خاص بحيث يمكن القفز من شرفاتها ونوافذها في غاية اليسر، فترى الهارب يسير من النافذة إلى ممر ممهد فيصل إلى الشجرة المعدة خاصة للهرب. . . حتى يصل إلى الأرض سالماً غانماً. وهل يليق بفاطمة التي تفر من النافذة حين يمنعها عمها عن الخروج، لتلقي حبيبها بثيابها الحريرية المكوية - هل يليق بهذه الفتاة الناعمة أن يمسها أذى أو يذهب صقل المكواة عن ثيابها، من القفز على الجدران والسقوط على الأشجار. . .؟ لا يليق غير ذلك لأن المخرج يريد ذلك!
وفي أي مكان من بلاد الله تقام حفلة يبحث فيها فتى عن فتاته، فيظل يشتبه في عدد من الفتيات، يتوسم كلا منهن ويقبلها وهي ساكنة تبتسم، فيعرف من طعم القبلة أن (المشتبه فيه) ليست فتاته، وإنما هي تشبهها فقط. . . ولو أن (العدوى) الذي يدعوه الناس للبحث عما يضيع منهم، جرى في عمله على ذلك النمط الذي جرى عليه بطل الفلم في البحث عن(840/43)
فتاته، لما مل دوام البحث عن الضائعات. . .
عباس خضر(840/44)
رسالة النقد
الوزراء العباسيون
تأليف الأستاذ محمد أحمد برانق
بقلم الأستاذ محمود رزق سليم
تحتاج الدول إلى رجال، من أفذاذ أبنائها، ليعاونوا ولي الأمر فيها، على الاضطلاع بمسئوليتها، والقيام بأعباء الحكم فيها، على الاضطلاع بمسئوليتها، والقيام بأعباء الحكم فيها، وتنفيذ مشروعاتها الإصلاحية، والسهر على حياطتها، والعمل على الترفيه عنها، وإشاعة الأمن والعدل فيا، وراعية الدولة، وتثبيت أركانها، وتدعيم بناينها. ويختارون - عادة - ممن حصفت عقولهم، وصفت أذهانهم، وبلغوا من الثقافة الواسعة حداً متازاً، وأوتوا من الرأي صائبه، ومن النظر ثاقبه، ومن الحيلة نافذها، ومن الدعاء أوسعه - هذه مؤهلاتهم الأولى - وإن اشترطت مؤهلات ثانية في العصر الحديث - التي ترشحهم لأسمى منصب في بلادهم، وهو معونة السلطان على رعاية ملكه وشعبه.
ومن هؤلاء طبقة الوزراء. عرفتها الدول الإسلامية، منذ بنى بنو العباس ملكهم المجيد ودولتهم العتيدة. وقد كان الخليفة حينذاك هو الدولة. وكثير ما كان يلقى بأمور دولته إلى وزيره. ومن هنا كان الوزير - في الحق - هو الدولة، وأن كان المفروض أنه يسير في تصرفاته وفق مشيئة أميره. ومن هنا أيضاً كانت سيرة الوزير جزءاً هاماً من تاريخ عصره، بل ربما كان لعمل الوزير أثر فيما يلي عصره من العصور.
لهذا، كانت دراسة حياة وزراء الدولة، أمراً حيوياً ضرورياً لفهم حياتها واتجاهاتها وتصرفاتها. وتاريخهم من أبرز أجزاء تاريخ دولتهم. وهو يلقي أضواء وهاجة على حوادثها، ويكشف الخبيء من أحوالها، والمستتر المكنون من وقائعها. وذلك لمكانة الوزير من صاحب السلطان.
ومنصب الوزارة - عادة - من المناصب التي إليها تتواثب الآمال، ومن حولها تصطرع الرجال. يسعون للوصول إليها، ويجاهدون لاحتيازها. ولهذا تكثر حولها الدسائس والمؤامرات، وتنشط الشباك وألاحابيل. وهنا تتكشف الأخلاق والنفوس والنيات، وتشتد(840/45)
المغامرات. ويتألف من هذا كله، قصص من قصص الحياة، ممتعة، فيها كثير من العضات والعبر.
ونقرأ كثير من أخبار وزراء الدول الإسلامية في كتب التاريخ العام، وفي كتب التراجم وكتب الأدب العربي، وهي كثيرة واسعة، غير إنها على رحابتها وامتداد آفاقها، مبعثرة متفرقة، تحتاج إلى مستوعب يستوعبها، ومؤلف يجمع شتاتها، وملائم يلم شعثها، ومنشيء يسبع على عرضها ثوباً جديداً من أساليب الإنشاء، ويضفي عليها من جميل رأيه، وحصيف نضرته، ما يوضح للقارئ خفي أمور فيها، وغامض الحوادث من بينها.
وقد فطن صديقي وزميلي الأستاذ النابه (محمد أحمد برانق) إلى ذلك كله، فوجه عناية محمودة إلى الدولة العباسية وهي الدولة الحافلة بحوادثها، الآهلة بعظيم الأمور. وهي أولى الدول الإسلامية التي جعلت (الوزارة) منصباً من أبرز مناصبها. حتى كاد الوزير سنيها أن يكون المهيمن على أقدارها، والموجه الفرد إلى مسالكها - فطن صديقي إلى ذلك، فأتخذ سير وزرائها وسيلة إلى دراسة تاريخها، وإلى دراسة هذا التاريخ في أعلى مكامنه وأغلق جهاته. وعنى بخاصة بعلاقات الوزراء بالخلفاء وقصورهم. وكشف الغطاء عن كثير مما يحاك في الخفاء، بعيداً عن الدهماء فكان الأستاذ في هذه الدراسة موفقاً ورشيداً.
وقد أصدر الأستاذ من كتابه الكبير (الوزراء العباسيون) الجزء الأول. وقد صدره بمقدمة حافلة واسعة المدى رحبة الأفق طاف فيها طوفة كبرى بالأمة العربية في جاهليتها، وأثبت كيانها السياسي. والاقتصادي. وعنى علي من يفرضونها أمة مغلقة الحدود ضئيلة الصلات بمن حولها من الأمم، تافهة النظم، محرومة من كل نشاط سياسي أو اقتصادي.
وقد دلل ذلك بأدلة كثيرة قاطعة، قذف بها في وجوه بعض المستشرقين ومن لف لفهم من أدباء الشرق، ممن يرمون العرب بالجهل والتفكك ونحو ذلك، في عصرهم الجاهلي،
وتحدث عن الملكة العربية ونظمها في عهد النبوة وما بعدها حتى جاءت الدولة العباسية، فاتخذ خلفائها لأنفسهم وزراء يعينونهم في شؤون دولتهم. وقد شرح المؤلف، كيف قامت الدولة العباسية، وركز حديثه بصفة خاصة في ثلاثة رجال من الأعاجم، وهبوا لها الرأي والنفس، حتى أقاموا عمودها ونشروا بنودها، وهم أبو مسلم الخرساني، وأبو مسلم الخلال، وخالد بن يرمك. وقص قصة كل رجل منهم وما لابس حياته من حوادث وأهوال، مشيراً(840/46)
إلى موقف كل خليفة من وزيره. ومن رجاله، وأدى إلى ذلك الموقف من حوادث، وما أدى إليه هذا الموقف من نتائج.
وعلى نمط من هذا، درس حياة عدد من وزراء الدولة العباسية، منهم: أبو أيوب المورياني والربيع بن يونس وأبو عبيدة ومعاوية أبن عبد الله، ويعقوب بن داوود، والفيض بن صالح، وإبراهيم أبن ذكوان الحراني
ونود لو عنى الأستاذ في أبحاثه بأن يزيدنا علماً بمنشأ كل رجل من أعلامه، وأن يقدم لنا شيئاً عن سني حياته الأولى، مما يكون له أثر - بلا ريب - في تكوينهه وتوجيهه. نقول ذلك لخلو بعض التراجم منه.
على إنني لحظت أن كثير من دراسات هذا السفر القيم، تركزت في حوادث شخصية. فردية. واعتقد أن الأستاذ الفاضل بجوار ذلك، لو عنى بالحوادث العامة وصلتها بالوزير وصلة الوزير بها، لكان حديثه أرفه وأمتع.
ثم أني أحسب الوزراء في الدول العربية الأولى إنما أختيروا لفرط أدبهم وسليم منطقهم ورائع لفظهم وجامع حكمتهم. وهذه ناحية لم تتضح وضوحها المرجو في كتاب ككتاب صديقنا الأستاذ برانق، وهو من تعرفه علماً وأدباً. وإني لواثق كل الثقة أنه سيعير هذه الناحية عناية في أجزاء الكتاب التالية.
وأخيراً، كنت أحب أن يعقد الأستاذ نبذة بين نبذ تصويره الطويل، يتحدث فيها عن منصب (الوزارة) من الناحية التاريخية، ومن اختصاصات الوزير، والفرق بينه وبين غيره كالحاجب، وبلغ تقلب هذه الاختصاصات في الدول الإسلامية ودرجة سمو منصب الوزير، أو صفته في كل منها. إلى غير ذلك مما يتصل بهذا المنصب الهام ولعل الأستاذ أن يلم بها الموضوع في مناسبة من مناسبات بحوثه القادمة.
وبعد فقد سد هذا الكتاب فراغاً ملحوظاُ في المكتبة العربية الإسلامية. من أجل ذلك نزجي لمؤلفه الفاضل الثناء الجم والشكر المتصل وجزاه الله عن العربية والإسلام خير الجزاء
(حلوان)
محمود رزق سليم(840/47)
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(840/48)
البريد الأدبي
أهذا من نوادر الخواطر؟!
في 1371949م طالعتنا جريدة المصري بكلمة لأستاذ فاضل
تحت عنوان (آن الأوان لتخليص مصر من الامتيازات) وقد
استرعى نظري في هذه الكلمة بعض جمل وعبارات نقلت
معشيء من التصرف من مقال للأستاذ أحمد حسن الزيات نشر
في الرسالة الغراء في 15 أغسطس سنة 1933 م بعنوان (بين
النيل والأكروبول) ويستطيع أن يعثر عليه القارئ بسهولة في
كتاب وحي الرسالة (الجزء الأول) ص35 وسأنقل هذه الجمل
إثباتاُ لدعواي وإنصافاً للحق وتقريراً للواقع.
يقول الأستاذ الزيات وهو يصف الشعب المصري (أسرف في اللين حتى رمى بالجبن، وأمعن في التسامح حتى وصف بالبلادة، وأفرط في التواضع حتى نسى الأنفة، وبالغ في إكرام الغريب حتى أصبح هو الغريب).
وهذه الكلمات بنصها وفصها مذكورة في كلمة الأستاذ عمر ثم يقول الأستاذ الزيات (وليت الذي قاسمنا أنعم الوادي الحبيب يذكر فضيلة الإحسان ويشكر عطف الإنسان على الإنسان! إنما يتمتع بخيرنا تمتع الغازي الفاتح في يمناه سيفه، وفي يسراه قانونه، فإذا عاملنا احتقرنا، وإذا عافينا أنهرنا، وإذا ضج المغبون أو صاح المسروق أو صرخ الجائع ضربه (الخواجة) ضربته، ثم استعدى عليه دولته).
ويذكر الأستاذ عمر هذا الكلام مع شيء من التصرف إذ يقول (وليت ذلك الأجنبي الذي أغتصب منا أنعم الوادي الحبيب كان على شيء من الأدب والذوق وأحسن معاملة هؤلاء الذين فتحوا له بلادهم على مصراعيها فدخلها دخول الفتح الغازي وأصبح فيها السيد المطاع وحرم أهلها سبل الحياة وحجز عنهم اللقمة، فلا تراه ينظر إليهم نظرة الازدراء(840/49)
والامتهان ويعاملهم في خشونة وقسوة فإذا ضج المظلوم وصاح الجائع ضربه الدخيل ضربة، واستعدى عليه دولته وحمته قنصليته، وتلك الامتيازات البغيضة).
هذا قولي: فماذا يقول الأستاذ عمر؟!
أحمد محمد مصطفى
أستاذ الأدب بمعهد طنطا الثانوي
الضمير الأدبي والكرامة العقلية:
في العدد الماضي من (الرسالة) قرأت كلمة لأديب فاضل تحت عنوان (الضمير الأدبي وأين يوجد؟). . . ولقد أسفت أن يفلت زمام التعبير من يد الكاتب، حتى خطر لي أن أراد عليه في شيء من القسوة والعنف، ولكنني عدت فقلت لنفسي: ترفق. . . فلعل الأديب الفاضل قد نسي نفسه - وهو في غمرة الحماسة لفكرته - فاندفع قلمه بغير زمام!
مهما يكن من شيء فقد كففت قلمي رعاية لحق قارئ لاح لي من كلماته حسن الظن حين قال: (ولعل الأستاذ المعداوي يجيب على كلمتي هذه (تعقيباته) ليستانس به الضمير الأدبي، ضمير النقد المزيه الذي تعودناه منه)!
يا صديقي، ما دمت قد تعودت من قلمي نزاهة الضمير، فلم ارتضيت أن يكون عنوان كلمتك موحياً بعكس هذا الذي قلت؟ أما أنا، فأؤكد لك أنني لن أتخل عن ضميري الأدبي في يوم من الأيام لسبب واحد، هو أنني أقدس شي أسمه الكرامة العقلية، والكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب عقله وعقول الناس، فإذا فعل فقد أرتفع في رأي نفسه ورأي غيره، وهذا هو ما أحرص عليه كل الحرص منذ أن تناولت قلمي لأكتب!
تسألني ما معنى إعادة الصفاء إلى النفوس وما معنى الاستجابة للصديقين وترك الحقيقة الدبية تنتحب وتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي الصداقة؟!. . . معذرة إذا قلت لك أن عبارتك قد صيغت في قالب خيالي أشبه بقوالب الكتاب القصصيين، ذلك لأنك - على حد تعبير النقاد القدامى لشعر امرئ القيس - وقد وقفت وأستوقفت وبكيت وأستبكيت على مصرع حقيقة أدبية ليس لها وجود!. . . أين هي الحقيقية الأدبية وأنا لم اكن في موقف الكشف عن مذهب أدبي جديد، ولا في موقف النقد لكتاب أدبي جديد؟! كل ما حدث هو أن أدبياً من(840/50)
الأدباء هاجمني على صفحات (المقتطف) لأسباب شخصية فرددت عليه بكلمة أوضحت فيها الدوافع الحقيقية لهذا الهجوم، وإذا كان هناك لون من ألوان الحقيقة فقد عرضت له في كلمتي الأولى ورفعت القناع عن كل ناحية من نواحيه. . . وإذن فكل ما يمكن أن يقال قد يل بالفعل، ولو كتبت كلمتي الثانية لما هدفت إلا إلى تأكيد ما جاء في كلمتي الأولى على ضوء الدليل المادي الذي لا يدفع.
بقي أن أقول لك ما دامت الحقيقة قد ذكرت فلا بأس من الاستجابة لغربات الساعين إلى الخير والداعين إلى الصفاء. . . ترى أتكره الصفاء في الأدب وهو الأمنية الكبرى لكل قارئ ولكل أديب؟ أم أنك أردت أن تثيرها زوبعة فكانت زوبعة في فنجان على حد تعبير الصحفيين؟!
أنور المعداوي
حول تعقيب:
عقب الأستاذ محمد غنيم في العدد (834) من الرسالة الغراء على قول الأستاذ أنور المعداوي (لم أكن أعرف - لم تكن تتح) - بأن جزم بأن هذين التعبيرين بينا الخطأ وأوجب إلحاق لام الجحود، ولكنني لا أرى لجزم الأستاذ الناقد بالخطأ هنا محلاً وما كان استعمال القرآن لهذا التعبير بلام الجحود في موضع لينفي استعمال تعبير آخر يجري في مجراه بغير لام الجحود في موضع آخر، ولو حصرنا كل الشواهد في هذا التعبير - من القرآن الكريم - لرأينا كيف يتخلى عنه الصواب في رأيه هذا وجزمه. . . يقول الله تعالى في سورة هود (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ويقول في السورة نفسها (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) ويقول في سورة العنكبوت (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) ويقول في سورة الزمر (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون).
وإني أسوق هذه الشواهد وأجمعها إلى شاهدة لنقول إن وجود لام الجحود يتوقف على وجود الكون المنفي، ولكن وجود الكون المنفي لا يحتم وجود لام الجحود، ألا ما رأته الأذن العربية وأوحى به الذوق العربي السليم. والسلام. . .(840/51)
عبد العظيم طه الحمبلي(840/52)
القصص
روز. . .!
للكاتب القصصي الفرنسي جي دي موباسان
ترجمة الأستاذ أنور المعداوي
(إلى صديقي الأستاذ الكبير الزيات
أنت قدمت موباسان إلى الناس فنقلت الفن صادقاً من لغة إلى لغة، ونقلت السحر خالصاً من قلن إلى قلم. . . قدمته في قممه الثلاث: (ضوء القمر) و (الحلية) و (جولي رومان)، فهل تأذن لي في أن أقدم إليك هذه القمة الرابعة، تحية متواضعة؟)
الفتاتان تبدوان للعين غاصتين في فراش من الزهور، وحيدتين في عربة فارهة قد اكتظت بطاقات الزهر، فهي أشبه بسلة مفرطة في الضخامة، وعلى المقعد الخلفي سفطان صغيران قد ملئا بزهور البنفسج (النيسيّ)، وفوق فراء الدب الذي يغطي الركبتين أكداس من الورد والزهور الأقحوان والزنبق والبرتقال، شد بعضها إلى بعض بأشرطة من الحرير يخيل إلى الظن إنها ستصهر الجسدين الناعمين. . . ومن الفراش المعطر في العربة الفسيحة لم يكن يظهر من كلتيهما غير الكتفين والذرعين، وجزء صغير من نطاقين يلتفان حول الخصر النحيل أحدهما أزرق اللون بينما الآخر في لون البنفسج!
وتظهر إلى سوط السائق فتراه وقد لف بغطاء من زهور الأنيمون، بينما أزدانت رءوس الخيل بزهور الزينة وأكتست العجلات بثوب من زهور الخزامي. . . وفي مكان المصابيح طاقتان من الزهر مستديرتان كبيرتا الحجم، أشبه بعينين تطلان من وجه هذا الحيوان الغريب المتدحرج على الأرض في هيكل من الزهور! وتندفع العربة إلى شارع (أنتيب) خفيفة الركض، يحف بها من الأمام والخلف والجانبين جمع من العربات المكللة بالزهور تحمل نساء قد أختفين تحت لجة من بنفسج. . . أنه عيد الزهور في (كان).
وانتهى بهن المطاف إلى شارع (بوليفار)، وعلى طول الطريق من الشارع الضخم كان هناك صف مزدوج من العربات المزركشة يروح ويجيء كخيط بلا نهاية. . . ومن عربة إلى أخرى رحن ينثرن زهوراً تشتق الفضاء كالكرات، ثم ترتطم بالوجوه المشرقة، ثم(840/53)
ترفرف بالهواء وتسقط على الأرض حيث يلتقطها جيش من الصبية الصغار. وأصطف على الجانبين حشد كثيف من النضارة يثير الضجيج ولكن في شيء من النظام، لقد بقي كل في مكانه بفضل الجنود وهم يعبرون الشارع على ظهور الخيل، ويدفعون بأقدامهم أصحاب الفضول في عنف إلى الوراء، حتى لا يختلط الأوشاب بأصحاب الثراء. ومن داخل العربات راح كل راكب يتطلع إلى صاحبه ويناديه ويطلق عليه قذائف من الورد. وها هي ذي عربة قد غصت بالفتيات الأنيقات في ثيابهن الحمر كالشياطين تتعلق بها الأنظار، وتنظر فترى أحد الفتيان في ثياب هنري الرابع يقذفهن في نشوة الشوق بطاقة ضخمة من الزهر في غلاف من (المطاط)، يقذفهن مرة بعد مرة، وكلما هم خفضت الفتيات رؤسهن وأخفين عيونهن، ولكن القذيفة الرشيقة تنطلق في انثناء ثم لا تلبث أن ترتد إلى صاحبها ليقذف بها ثانية إلى وجه جديد!. . . ويستمر الموكب في طوافه ساعة من الزمن يعتري الفتاتين بعدها شيء من الفتور، فترغبان إلى السائق أن يلتمس طريقه إلى خليج (جوان).
وغابت الشمس وراء (الإستريل)، مخالفة ظلالها القاتمة فوق أرض من اللهب، عل القطاع الجانبي من الجبل الممتد عبر الفضاء. وأنبسط البحر الساكن أزرق صافياً على مدار الأفق البعيد، هناك حيث يمتزج بالسماء، ويمتلك الجماعة التي التقت مراسيها وسط الخليج كقطيع من الحيوانات الغريبة، تلك التي تظل فوق سطح الماء جامدة بلا حراك. . . حيوانات من عالم الغيب تقوست منها الظهور وتدثرت بدروع من الزرد، واتخذت غطاء الرأس من عوارض رقيقة كريش الطير، ولها تلك العيون التي تقدح الشرر حين يهبط الظلام!
وانتثرت الفتيات تحت سماء أشبه برداء فراؤه السحب، ورحن يتطلعن إليها من استرخاء ثم همست إحداهن قائلة:
- لله ما أرق هذه الأمسيات!. . . ألا ترين أن كل شيء يبدو جميلاً يا مارجو؟
- بلى، كل شيء جميل ولكن. . . ألا تشعرين أن هناك شيئاً ما ينقصنا دائماً؟
ما هو؟ من جانبي، أنني لأحس السعادة كاملة فلا ارغب في شيء!
- نعم؟ هكذا تظنين، ربما. . . ولكن مهما كانت السعادة التي تحيط بأجسامنا، فإننا نرغب(840/54)
فيما هو أكثر في هذا الشيء الذي يسعد القلب! وقالت الأخرى وهي تبتسم: قليل من الحب؟ فأجابت: نعم!
وساد بينهن الصمت، ورحن يرسلن البصر مستقيماً إلى الأمام، وعندئذ هتفت إحداهن وتدعى مرجريت:
- الحياة. . . إنها لا تبدو لعيني محتملة بغير حب. لكم أشتهي أن أحب. . . ولو من كلب! هكذا نحن جميعاً مهما خطر لك من فنون القول يا سيمون!
وصاحت سيمون قائلة:
- كلا كلا يا عزيزتي، أنني لأوثر ألا أحب على الإطلاق على أن أحب من شخص لا خطر له! هل تظنين مثلاً أنه قد يكون من الملائم لي أن أحب من. . . من. . .
وتطلعت سيمون إلى من تستطيع أن تظفر بحبه، وألقت ببصرها إلى الفضاء المجاور، وبعد جولة طوت بها كل جنبات الأفق، هبطت عيناها على زرين من المعدن يتألقان على ظهر السائق، واستمرت في حديثها ضاحكة:
- من. . . من سائق عربتي؟!
وأجابت مرجريت وقد لاح على شفتيها ظل ابتسامة:
- أستطيع أن أؤكد لك أنه ما من شيء يبعث على التسلية مثل أن يقع خادم في حبك. . . لقد جربت ذلك مثنى وثلاث!
ودرن بعيونهن شاخصات، إلى تلك التي كادت تموت من الضحك. . . واسترسلت مرجريت قائلة:
- من الطبيعي أن تلك التي تلقى المزيد من الحب تصبح وهي أكثر النساء قسوة. وعلى النقيض تلك التي تزج بنفسها في طريق لا تجني منه غير السخرية، لسبب تافه يستطيع أي إنسان أن يلحظه!
- وأرهفت سيمون سمعها وألقت ببصرها إلى الأمام ثم قالت معقبة:
- كلا يا مرجريت، أن قلب خادمي ينقع لي غلة ما دام تحت قدمي. . . ولكن هل خبرتني كيف أدركت أنهم قد وقعوا في حبك؟
- لقد أدركت ذلك منهم كما أدركته من الآخرين. . . ولذا فهم يصبحون في نظري أغبياء!(840/55)
- ولكن الآخرين لا يبدون لي أغبياء عندما يقعون في الحب!
- بلهاء يا عزيزتي، عاجزون عن الكلام، عاجزون عن الجواب، عاجزون عن فهم أي شيء! - وأنت؟ ما الذي أثر فيك حتى وقعت في حب خادم؟ أكنت مسيرة بدافع الملق؟
- مسيرة! كلا! ملق؟ نعم! قليل من الملق. . . أن كل فتاة ليسعدها الملق دائماً إذا ما أحبها رجل، مهما كان هذا الرجل!
- أوه. . . الآن جاء دورك يامرجو!
- نعم يا عزيزتي، انتظري. . . سأقص عليك نبأ مغامرة فريدة وقعت لي، وسترين كيف أن أشياء بالغة الغرابة تحتل مكانها من حياتها في أحوال مماثلة!. . . كان ذلك في الخريف منذ أعوام أربعة، عندما ألفيت نفسي وحيدة بلا خادمة. لقد جربت من الخادمات عدداً من الخادمات يربى على الخمس، جربتهن واحدة بعد أخرى ولكنهن كن جميعاً لا يصلحن لشيء. ولقد تملكني اليأس من أن أعثر على واحدة، حتى وقعت في إعلانات إحدى الصحف على خبر فتاة صغيرة تبحث عن عمل، فتاة تجيد الحياكة، وتجيد التطريز، وتجيد تصفيف الشعر، وتستطيع أن تقدم خبر الشهادات على تتمتع به من خبرة وكفاية، وهي في الوقت نفسه تحسن التحدث بالإنجليزية.
وكتبت إلى الصحيفة على العنوان الذي قرأت، وفي اليوم التالي حضرت الفتاة لتقدم نفسها إلي. كانت أقرب إلى الطول، رقيقة البدن، شاحبة اللون، ينم مظهرها عن خوف بالغ. لها عينان سوداوان جميلتان، عينان تنفثان السحر، حتى لقد راقت لي على الفور. وسألتها عما تحمل من شهادات فقدمت إلي واحدة مكتوبة بالإنجليزية، لأنها جاءت - كما قالت لي - من بيت السيدة (رزويل) حيث طوت من عمرها عشرة أعوام. . . كانت الشهادة تقرر أن الفتاة قد عادت إلى فرنسا بمحض رغبتها الشخصية، وإذا كان هناك شيء تستحق عليه اللوم في خلال خدمتها الطويلة للسيدة (رزويل)، فهو هذا الشيء اليسير من (الدلال) الفرنسي!
وابتسمت قليلاً وأنا ألمح ما وراء العبارة الإنجليزية من تورية مهذبة، ولكنني تعاقدت مع الفتاة على الفور وحضرت إلى بيتي في نفس اليوم، وكانت تسمي نفسها (روز).
وجاء علي يوم أحببتها فيه إلى الحد الذي ينقلب معه الحب إلى عبادة. . . لقد كانت كنزاً(840/56)
من الكنوز، لقد كانت درة من الدرر، لقد كانت ظاهرة من ظواهر الطبيعية. كانت في تصفيف الشعر صاحبه ذوق شائق، وفي تثنية شريط (الدنتيلا) على غطاء الرأس أكثر دراية من خير الممتهنات، وكانت تجيد حياكة (الفساتين). . . أبداً لم أرى لها مثيلاً في خدمتها لي!
كانت تساعدني في ارتداء ملابسي في سرعة فائقة، وخفة يد تثير العجب، ما شعرت أبداً بمر أناملها على بشرتي الرقيقة، ولا شيء يبدو لي خالياً من اللياقة مثل أن تلمسني يد خادمة!. . وانغمست على الفور في عادات تميز بالإفراط في البطالة، فلكم كنت أشعر بالسرور حين أدعها تدثرني من الرأس إلى القدم، من القميص إلى القفاز، هذه الفتاة الطويلة، الخائفة، التي تخجل كثيراً ولا تتكلم أبداً! وبعد الاستحمام قد تجففني، وتدلكني بينما أكون على أهبة النوم أو مضطجعة على الأريكة. . . وعلى مر الأيام بدأت أنظر إليها كصديقة بائسة أكثر ما أنظر إليها كخادمة!
وذات صباح أقبل البواب في مظهر يثير الظنون، معلناً عن رغبته في التحدث إلي، واستولت علي الدهشة ولكنني أذنت له في الدخول.
كان جندياً كهلاً يبدو عليه التردد في الإفصاح عما يريد أن يقول. . وأخيراً همس في صوت متلعثم:
- سيدتي، أن ضابط بوليس المنطقة موجود في الطابق الأسفل
وقلت متسائلة: ماذا يريد؟
- أنه يريد أن يفتش البيت!
حقاً أن رجال البوليس ضرورة لازمة ولكنني أمقتهم. . . ولا أستطيع أبداً أن أعرف بأنهم يزوالون مهنة شريفة! وأجبت في صوت ألهبته الكرامة الجريحة:
لماذا يفتش هنا؟ لأي غرض؟ أننا لا تعرف السطو! ورد الحارس قائلاً:
- أنه يعتقد أن أحد المجرمين يختفي هنا في مكان ما.
وبدأت أشعر بشيء من الرهبة، وأمرت بأن يصعد إلى ضابط البوليس عسى أن أظفر منه بشيء من الإيضاح. . . كان رجلاً جم الأدب يزدان صدره بوسام (اللجيون دونير). وبدأت أحدثه معرباً عن أسفه، مقدماً اعتذاره، مؤكداً أن هناك مجرماً بين ما لدى من خدم. . .(840/57)
وكدت أصعق، وأجبت بأني أستطيع أن أشهد لكل واحد منهم، بل وينبغي أن أقدمهم لديه مستعرضة ليقتنع.
هناك (بير كورتان)، جندي كهل. . . ليس هو سائق العربة (فرانسيس بنجو)، مزارع، أبن الشرف على مزارع أبي. . أنه ليس هو.
صبي يعمل في الحضيرة، شمباني، من أبناء مزارعين أعرفهم. . . ليس هو.
ولا أحد بعد ذلك غير هذا الخادم الذي تراه. . . أنه ليس واحداُ من كل من ذكرت. وإذن فأنت ترى انك قد خدعت يا سيدي
- معذرة يا سيدتي، ولكنني واثق من أنني لن أخدع: هل تسمحين بأن يكون استعراضك لخدمك عن طريق إحضارهم هنا ليظهروا أمامي وأمامك، كل خدمك بلا استثناء؟
وترددت بادئ الأمر، وأخيراً أذعنت، ولم أرى بداً من استدعاء كل الخدم رجلاً ونساءً.
وتفحصهم جميعاً في لحظة ثم أوضح: أنهم ليسوا كل الخدم وأجبت قائلة: معذرة يا سيدي، ليس هناك غير خادمتي الخاصة، تلك التي لا يمكن بحال أن تخلط بينها وبين أحد المجرمين!
- هل أستطيع أراها أيضاً! - من غير شك!
وغمزت الجرس فظهرت (روز) على الفور: وفي اللحظة التي دخلت فيها الفتاة أرسل الضابط إشارة إلى رجلين قد كانا وراء الباب فلم تقع عليهما عيناي، وألقى الرجلان بثقليهما فوق الفتاة ثم أمسكا بيدها. وشدت أحدهما إلى الأخرى بالقيود!
وأطلقت صرخة غضب، ورحت أحاول الدفاع عنها ولكن الضابط أوقفني قائلاً:
- هذه الفتاة يا سيدتي ليست إلا رجلاً يسمى نفسه (جان نيكولا ليكابيه). . . حكم عليه بالإعدام لأقدامه على جريمة قتل سبقتها جريمة هتك عرض، ثم استبدلت العقوبة بالسجن مدى الحياة. لقد فر منذ أربعة أشهر، ومنذ ذلك الحين ونحن نجد في البحث عنه.
أصابني الفزع، وعقلت الدهشة لساني، ولم أستطع أن أصدق. . . وأستمر الضابط في حديثه ضاحكاً:
- أستطيع أن أقدم لك دليلاً واحداً، هو أن هناك وشماً على ساعده الأيمن وتحققت من صدق هذا القول عندما كشف عن ساعده، ولكن ضابط البوليس أردف في لهجة نيابة:(840/58)
- ليس من شك في أنك غير محتاجة إلى الإقناع عن طريق الأدلة الاخرى؟
قالها ثم انصرف مصحوباً. . . بخادمتي!
صدقيني أن أقصى شعور تملكني هو شعور الغضب من أن يغرر بي على هذا الوجه، وأن أخدع، وأن أعرض للسخرية: وصدقيني أنه لم يكن شعوراً بالخزي أن يلمسني ذلك الرجل، وأن يمسكني بيده، وأن أبدو أمامه عارية وكاسية، ولكنه كان شعوراً آخر. . . شعوراً عميقاً بالضعة: ضعة امرأة! ترى هل فهمت ماذا أقصد؟
- كلا، لم أفهم تماماً ماذا تقصدين!
فكري هنيهة. . . لقد أدين ذلك الرجل لأنه قد اقدم على هتك عرض. . . وهذا هو الشيء. . . الشيء الوحيد هناك. . . الذي أشعرني بالضعة! ترى هل فهمت الآن؟
ولم تجب سيمون، بل راحت ترسل البصر مستقيماً إلى الأمام إلى حلة السائق حيث ثبتت عيناها في زرين يتألقان، وعلى شفتيها تلك الابتسامة الغامضة التي تعرفها الغانيات. . . . في بعض المناسبات!!
أنور المعداوي(840/59)
العدد 841 - بتاريخ: 15 - 08 - 1949(/)
أخي عزام
قرأت فصولك الأربعة عشر التي كتبتها لقراءة الرسالة بقلم المؤمن الصادق والمصلح الحكيم والخبير المجرب والكاتب المفتن، من هذه الحيرة الاجتماعية التي عوقت الأمم، وهذا القلق النفسي الذي أشقى الأفراد؛ فكنت كلما قرأت منها فصلاً نشأت في خاطري فكرة، وحفزتني إلى الكتابة رغبة؛ فإذا قرأت الفصل الذي يليه ذهبت فكرة وجاءت فكرة، وسكنت رغبة وتحركت رغبة، حتى قرأت (الخاتمة) فوجدتك قد جمعت شتيت الأخطاء والأدواء ثم رددتها إلى مصدر واحد هو ضلال الإنسان، ووصفت لها طباباً واحداً هو هُدى الله، فلم تدع في الموضوع فضلةً يناقشها أديب، ولا علةً يعالجها طبيب.
كلام يشرق في الحق وعلاج يهدي إليه العقل، فما كان يجوز أن يختلف فيهما صاحب دين ولا صاحب دنيا، ولا أن يعمى عنهما أهل شرقٍ ولا أهل غرب؛ ولك الله لأمره يعلمه شاء أن يجوز العمى على البصير فلا يرى إلا بتنبيه، وإن يجري الصمم على السميع إلا بتبليغ!
ولقد كان من بداءة المنطق ومسلمات الطبع إلا تستبد الحيرة والقلق بقوم يأمر ربهم بالعدل والإحسان، ويقوم شرعهم على الهدى والفرقان؛ ولكن المسلمين اليوم قد اتبعوا سبيلاً غير سبيل محمد، واتخذوا دليلًا غير دليل الله؛ فأصبحوا كسائر الأمم الغربية عباداً للذهب والسلطان والهوى، لا يتبعون غير رجال المال والسياسة بالطمع، ولا يطيعون غير رجال الحكم والحرب بالخوف. إمارجال الفكر ورجال الدين فقد جعلوهم من نوافل الحياة؛ مكانهم على الهامش لا في المتن، وميدانهم نوازع الكمال لا دوافع الضرورة؛ إلا من استغنوا منهم فقد استحبَ عماهم على هداه، وآثر هواهم إلى عقله.
ورجال الفكر أمثالك يا أخي قومُ جعلوا (وظيفتهم) التفكير للناس. فهم ينتجون الفكر كما ينتج أصحاب العمل المال، ورجال السياسة الخداع، وأرباب الحكم الغطرسة! فما كان اجدر بابن آدم وهو لا يزال يتبجح بالعقل ويتمزى به على غيره أن يجعل قياده لرجل الفكر! ولكن ابن آدم إنسان وحيوان، فإن استجر بإنسانيته للقلم، فلن يستجر بحيوانيته إلا للعصا!
لقد قرأ الناس ما كتبت واعجبوا بما قرأوا. ولكن إعجابهم به لا يعدوا أن يكون إعجاباً بالجمال في ذاته. سيزعم كل قارئ انك عنيت بكلامك سواه. فالفرد يقول أنا ضعيف؛ فليتني أقوى لتكون لي إرادة. والشعب يقول أنا جاهل؛ فليتني أعلم ليكون لي رأي.(841/1)
والحزب المعارض يقول أنا غير مسؤول؛ فليتني أحكم ليكون لي أمر. الحزب الحاكم يقول أنا غير مستقر؛ فليتني أثبت ليكون لي تنفيذ! فإذا قوى الفرد عمل لنفسه، وإذا تعلم الشعب عصف الطغيان في رأسه، وإذا حكم المعارض لها بيومه عن أمسه!! وإذن تذهب كلماتك الطيبة وأمثالها يا عزام كما تذهب النغمات الرخيمة في هزيم العاصفة، أو النسمات الرخيمة في لفاف الغابة!
أغلب الظن يا صديقي أن أبرار الكتاب سيظلون يقولون الخير لأن لذتهم في أن يقولوه، وأن فجار الساسة سيظلون يعملون الشر لأن لذتهم في أن يعملوه؛ حتى يشاء الله وحده للوئام أن يعم وللسلام أن يعود، فيهيأ حينئذ لكلام الكتاب السبيل إلى أذهان الأحزاب والأقطاب، فتتجدد دعوة الأنبياء، وتتصل الأرض بأسباب السماء، ويصبح الإدلاء في ركاب الحياة من أمثال عمر وصلاح الدين، لا من أمثال ترومان وستالين.
فكر يا أخي وعبر، ضير عليك ألا يفهم الناس عنك؛ فإن التفكير متعة العقل، كما أن التعبير متعة الروح.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(841/2)
حديث الطائر الصداح
للأستاذ كمال كيلاني
مر السلطان ذات ليلة بمنزل، فتسمع فيه إلى ثلاث أخوات يتمنين الأماني
وقالت الكبرى: أتمنى ان يبنى بي خباز السلطان!
وقالت الوسطى: أتمنى ان يبنى بي طباخ السلطان!
وقالت الصغرى: أتمنى ان يبنى بي السلطان نفسه!
ثم اصبح الصباح، فحقق السلطان للأخوات الثلاثة أمانيهن، دبفي نفس الأختين الكبرى والوسطى دبيب الغيرة من أختهما الصغرى. . . فكيف تفسدان بينها وبين السلطان؟
حملت الصغرى، وجاءها المخاض، ولكن لم تضع أميرا صغيراً، بل وضعت - فيما زعمته شقيقاتها - كلباً!
وفي العام التالي وضعت قطاً! وفي الثالث وضعت قرداً! جازت حيلة الشقيقتين على السلطان، وفعلت الخيانة فعلها في نفسه. . . فهجر زوجته البريئة!.
ترعرع الأمراء الثلاثة أبناء السلطان الحقيقيون. . . وفي ذات يوم أقاموا مأدبة حضرها البلبل الصداح. . . وكان قد أشار على الأمراء ان يحشو الخس والخيار باللآلئ!.
غير ان السلطان لم يرقه ذلك، فلما أبدى استنكاره، هتف البلبل الصداح بالنشيد التالي، وهو مقتبس من قصة (عجائب الدنيا ثلاث) للأستاذ كامل الكيلاني
حباتُ هذا اللؤلؤ الصغار ... حشى بها الخسُ أو الخيار
تثيرُ منكَ حيرةً فتنكرُ ... عينكَ - من دهشتها - ما تبصر
ترى عجيباً قد تناها في العجبِ ... وغفلةْ، في طيها سوءُأدب
تراه شيئاً لا يجوزُ أبدًا ... تنكرهُ، وليسَ يؤذي أحد
وقبلُهذا صدقَ السلطانُ ... أن يلدِ البهائمُالإنسان
هل تلدُالكلبةُعنزاً أو حملا ... أو تلدُالنعجةُفيلاً أو جمل؟
أو تلدُالنمورة الغز لأنا ... أو تخرجُالتفاحةُالرمانا
أو تلدُالوحشيةُالإنسانية ... أو تلدُالقطةُآدمية؟!
فكيفَ جازَ في العقولِ ان تلدَ ... سيدة الساداتِ في هذا البلد(841/3)
كلباً وقطاً بعدهُ، وقردا ... أيهزلونَ. . . فتراهُجدا!
وهو محالُ، عقلنا يأباهُ ... وسنةُالحياةِ لا ترضاه!
حشو الطعامِ بنفيسِ الماس ... أدنى إلى المنطقِ والقياس.(841/4)
3 - فلسفة الشعب
الفلسفة الصامتة
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
لست ابغي ان امحي الفروق العديدة التي تميز فكر الفيلسوف من فكر الجمهور، إنما أريد التقريب وعقد الصلات بينهما، وبيان ان الهوة المزعومة بينهما لا وجود لها. ذلك ان المذاهب الفلسفية استمرار طبيعي لفلسفة صامتة، تتسلسل في آلاف الأذهان خفية كما تتسلسل النار الكامنة، حتى تشتعل وتومض وميضاً يبهر الأبصار بعد ان تكون مرت بدور كمون طويل. فما من مذب جديد إلا وله دور وسوابق وممهدات في مذاهب السابقين، وهذه بدورها سبقتها نضرات ولمحات صامتة تبدو في حكم العامة وأساطيرهم وشعر الشعراء وقصص الأدباء. ولكن هؤلاء جميعاً بدت النظرات الفلسفية في إنتاجهم دون قصد أو وعي بها ومن اجل هذا اسميها فلسفة صامتة. إنما الفلسفة الناطقة هي التي تعبر عنها المذاهب الفلسفية التي صاغها أصحابها على وعي منهم بها، والتي تبدو جديدة مبتكرة. وما هي - لو تأملناها أحطنا بملابساتها - غير تأليف وتفيق جديد بين عناصر قديمة مرت بالعقل البشري من قبل وبوسعنا الاهتداء أليها في مذاهب السابقين بل مثبتة في ثنايا الشعر والحكمة الشعبية القديمة قدم الإنسان ذاته،
إليك مثلاً أفلاطون وهو صاحب أول مذهب متكامل شامل في تاريخ الفلسفة، يبدو مذهبه عملا ابتكارياً صرفاً، ولمن الحقيقة التي يكشف عنها تاريخ الفلسفة ان بعض النتائج التي وصل إليها غيره من المفكرين السابقين عليه، قد دخلت في تكوين هيكل فلسفته: نظرية هرقليطس في التغير المستمر، وفكرة فيثاغورس في العدد والموسيقى، ورأي بارمنيدس في الوجود ثم فلسفة سقراط أستاذه الحبيب، هذه جميعها امتصها أفلاطون وتمثلها حتى استحالت إلى كيانه الفكري كما تستحيل الأغذية إلى كياننا الجسمي. ليس هذا فحسب بل نستطيع لو ثابرنا ان نجد في الفكر القديم عند الهنود والمصريين أفكارا تتصل بسبب قريب بأفكار منبثة من مذاهب أفلاطون.
يقول الأستاذ إسماعيل مظهر:
(ان مبادئ أفلاطون الأساسية وفكراته الجوهرية التي قام عليها مذهبه، تدفع بنا إلى(841/5)
الرجوع سعياً، لا إلى أسلافه الأقربين ولا إلى معلمه العميق الغور سقراط، الذي عاش في صفحات ما كتب أفلاطون، ولكن إلى مدارس سبقته فأكبت على التأمل الفكري في إغريقية وايونانا وإيطاليا. ومن قبل هؤلاء قد نرجع إلى عصر العر، ذلك العصر الذي ترى فيه بدايات الفلسفة تكاد تبدو في ضباب الزمن، وهي لا تكاد تعرف حتى من قيمة ذاتها شيئاً. ثم مد بصرك إلى ابعد من هذه الفلسفة غير الواعية الحقيقية ما هي، وانغمر في ضمير الزمان إلى تلك البدايات التي تمثلت في الميول العقلية الخلجات النفسية وترامي قوى الفكر إلى حجب العالم، تجد ان هذه الأشياء قد شهدت ميلاد فكرات أفلاطون بنسب، منحدرة إليه من مدنيات عتيقة موغلة في القدم من الهند ومصر، وتجد فوق ذلك ان هذه الفكرات لا تزال حتى اليوم تؤثر أثرها المحتوم في عالم التأمل)
وليس هذا غريباً إذا علمنا ان الطريق إلى التعليمات الفلسفية ليس عقل الفيلسوف وحده فهنالك لدى العامة حدس صادق، أو حس سليم هو طريق آخر يفضي إلى نظرات عامة في الكون والأخلاق فيها من الصدق والصفاء ما يجعل لها قيمة تداني قيمة مذاهب الفلاسفة والخلاصة ان المذاهبالفلسفية يقابلها فلسفة واقعية صامتة أو هي - كما قال الأستاذ إسماعيل مظهر: (لاتعي ذاتها).
عقد الأستاذ (البير بأبيه) في كتابه (أخلاق العلم) فصلاً يبين فيه النظريات الفلسفية الأخلاقية، سبقتها أخلاق واقعية، وإنها مجرد تركيز أو تبلور لتصورات الناس الواقعية لمثل أعلى. بل ويفضل الأخلاق الواقعية على النظريات الفلسفية لان اثر الأخير في المجتمع اثر يكاد ينعدم.
يقول الأستاذ بابيه بهذا الصدد:
(أتنظر في اكبر تحول عرفته المجتمعات البشرية: وهو إلغاء الرق. ولو سئلنا اليوم في القرن العشرين باسم أي مذهب نستنكر الرق؟ استطعنا ان نجيب جواباً لا يخلو من منطق: ان ذلك باسم فلسفة القرن الثامن عشر التي أعلنت حقوق الإنسان ولكنا نعلم حق العلم ان تلك النظرية لم تحرر إلا بعد حين، أي بعد ان كانت المهمة قد تمت، وبعد ان كان الرق كله قد اختفى أو كاد ان يختفي من مجتمعاتنا، ولكن نبحث في التاريخ عن المبادئ التي أدت إلى إلغاء الرق: يحيل بعض المفكرين إلى الأخلاق الرواقية، ولكن الرواقيين كان لهم(841/6)
أرقاء. ولقد كان المفكرون من جميع المدارس يجدون صيغة مرنة تعينهم على ان يراعوا النظام العتيق، وكأنهم يحملون عليه بإحدى اليدين ويؤيدونه باليد الأخرى. ابحث ما شئت في التاريخ، فانك لن تجد ذلك المشهد الرائع: مشهد مذهب يقوم فيقضي على الرق. ولكن من حسن الحظ ان هناك أخلاقا واقعية كانت تعمل وتؤثر، بينما كان الفلاسفة يكتبون ويتكلمون. وتلك الأخلاق الواقعية هي التي ألهمت (نيرون) ذلك المحسن إلى الإنسانية، ان يحقق ذلك العمل الثوري العظيم الذي أباح للرقيق إذا عومل معاملة بالغة القسوة ان يرفع شكواه إلى القضاء. وألهمت القرارات الكثيرة التي أصلحت حال الرقيق ثم الموالي. فماذا كانت حقيقة تلك الأخلاق الواقعية؟.
لو سئل الذين كانوا أول من عمل هذه الأخلاق، يقومون في متناقضات تستدعي الإشفاق حين يستهدفون إلى الإشارة بهذا الصدد إلى شئ من المبادئ. ولكنا نرى بعد حين النهج الذي سلكوه، والذي انتهى إلى حقوق الإنسان. ان الأخلاق الصامتة المتضمنة في جهودهم المتواصلة أقوى من العبارات المزعومة التي نقرأها في كتب الفلاسفة).
اجل، بينا كان الفلاسفة يكتبون ويناقشون مذاهبهم الفلسفية في الأخلاق كانت عناك في ضمير الشعب فلسفات أخلاقية صامتة، تؤثر اثراً قوياً ولكن في صمت حتى تحققت بعد ان كان أملا تهفو إليه النفوس ذلك هو التحرير من الرق والعبودية.
الفلسفة في الإنتاج الأدبي
ألا ينهض ذلك دليلاً على ان الفلسفة تمد جذورها في حياتنا إلى أعماق سحيقة؟ وان لحظات قد تواتي جمهور الناس - رغم طغيان المشاغل اليومية - فتنف بصائرهم إلى هذه الأعماق، وتغوص عقولهم إلى القاع لتصعد محملة بلآلئ الأفكار يذيعونها أمثالا مأثورة أو حكما، وقد لا يفصحون عنها لفظاً ولكن تفصح عنها حياتهم بما تنطوي عليه من معنى فلسفي؟ ولو تركنا طبقة الجمهور إلى طبقة الكتاب من غير الفلاسفة، لوجدنا في طيات كتبهم نظرات وتعميمات فلسفية. مثال ذلك: مسرحيات سوفوكليس وشكسبير وموليير وروايات برناندشو واندريه جيد ونجيب الريحاني وشارلي شابلن وجوته، نرى فيها جميعاً لمحات فلسفية منبثة هنا وهناك في أنتاجهم، وطالما كانوا اكثر توفيقاً من الفلاسفة؛ إذ سرعان ما تنفذ اتجاهاتهم إلى شعاب نفسك في يسر لتستقر في الأعماق. وما ذلك إلا لأنهم(841/7)
لم يعمدوا إلى ما يعمد إليه أهل الصنعة من الفلاسفة حين يجرون الأفكار من الحياة، وينتزعونها من الواقع الذي ولدت فيه، ونمت وازدهرت.
أينما نولي الطرف في الإنتاج الخالد يقع بصرنا على بطل يجسم مشكلة من المشاكل الإنسانية، تعترضنا جميعاً أيا كان زمننا وأيا كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال كما تصورها مأساة (فاوست)، والصراع الدائم بين قوى الفرد وقوة المجتمع العاتية التي لا تأبه لآمال الأفراد وآلامهم كما تبرزها قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، أو روايات نجيب الريحاني التي تضحكنا رغم انطوائها على المأساة البشرية الكبرى: ما تلقيه النفوس الخيرة من عنت في هذا الأعلم والتي تنتهي جميعاً إلى اعتبار الخير غاية في ذاته والسعادة في راحة الضمير. والمتتبع لروايات شارلي شابلن خاصة في الفترة الأخيرة من حياته يلمس روحاً فلسفياً تسري في جوانبها. وتأملنا آخر روايات (المسيو فيردو) محترف قتل السيدات لاستخلصنا الدرس العميق الذي يلقيه على الإنسانية العاتية الحمقاء (التي ترفع مثيري الحروب الذين يسفكون دماء الملايين إلى منزلة الأبطال الخالدين، وتحكم الإعدام على فرد قتل عدداً القليل من النساء ليحصل منهم على ان يقيم الأود بعد ان طرق الأبواب فلا يجد رزقاً)، ذلك الدرس يقره شارلي العظيم في الحوار الأخير بينه وبين القسيس الذي أتى يباركه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه، إذ يعلن للقسيس عدم احتياجه إليه فيلح القسيس عليه ان يصلي ويتحدث إليه لعل الله يستجيب له فيقول (المسيو فيردو): (ليس الخلاف يا سيدي بيني وبين الله انه بيني وبين البشر) اجل ان النظام الطبيعي خير لكن البشر هم الذين يفسدونه. البشر وحدهم هم مسؤولون عن وجود الشر في العالم ويخطئ من يدعي ان الله يرد بالعالم شراً.
عالج كثير من الفلاسفة في أسفار عدة موضوع الإرادة الإنسانية أهي حرة أم مجبرة، وعالجوا فكرة القضاء والقدر، وفكرة الاتفاق في الطبيعة والحظ لدى الإنسان. ونستطيع الاستنارة في هذه الموضوعات لو فتشنا عنها في كتب الفلاسفة، ولكنا نراها في ضوء باهر ونلمسها ونحياها لو أنا عشنا لحظات مع الشاعر الروائي سوفوكليس في مسرحيته (أوديب ملكا) التي كتبها في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد، أو أنا جلسنا إلى (اندري جيد) نقرأ روايته (أوديب) التي كتبها في فرنسا منذ أعوام قلائل. خمسة وعشرون قرناً من(841/8)
الزمان تفرق بين الخالدين. دون ان تمحو من الأذهان مشكلة فلسفية كبرى: تلك هي الصراع بين القضاء المحتوم والإرادة الإنسانية المختارة.
ولأترك القارئ لحظات إلى أستاذنا الدكتور طه حسين يكشف له عن الفلسفة التي تتضمنها قصة أوديب عند كل من سو فوكل وجيد:
(هناك قضاء كان اليونان يؤمنون بأنه مسيطراً على كل شئ وعلى كل كائن لا يفلت منه الآلهة أنفسهم. وهناك الإنسان كان يشعر بان له عقلاً يميز به بين الخير والشر، وبان له إرادة يعمد بها إلى أحد هذين الشيئين اللذين يميز العقل بينهما وهما: الخير والشر. فليس هناك إذن بد من ان يكون اصطدام بين القضاء المحتوم الذي لا يفلت منه الإنسان والآلهة، وبين هذه الإرادة التي زعم الإنسان إنها حرة مختارة تستطيع ان تعمد إلى ما تحب وتنصرف عما تكره سواء أراد القضاء أم لم يرد.
هذه الفكرة التي عمد سو فوكل إلى ان يصورها في قصته ومن قبله كان الشعار اليوناني الممثل (ايسكاوس) الذي ذهب في تمثيله إلى تغليب القضاء على الإرادة الحرة المختارة، ومن بعده جاء الشاعر اليوناني الممثل (اروبيد) الذي ذهب إلى كسب الحرية للإرادة الإنسانية وانكر القضاء أو كاد ينكره. إماسو فوكل فتوسط بين الأمرين. لم ينكر القضاء ولكنه لم يلغي الإرادة الإنسانية، وإنما اعترف لها بشيء من الحق واعتراف لها بأنها ان لم تستطع تغيير مجرى القضاء، فإنها تستطيع ان تقاوم هذا القضاء مقاومة ما. . .
صور لنا سو فوكل صراع بين القضاء وبين الإرادة واظهر لنا الإنسان وقد غلبه القضاء. ولكنه لم يغلبه في سهولة ويسر. وإنما غلبه بعد قاومه الإنسان مقاومة عنيفة متصلة، بالغة أقصى ما يمكن ان تبلغ من القوة والعنف. . .).
ثم بمضي الدكتور طه مبيناً تصور اندري جيد لنفس المشكلة: (يصور لنا أوديب مصارعاً للقضاء يغلبه القضاء أولاً. ثم مؤمناً بنفسه معتزاً بآرائه وينتصر على القضاء آخر الأمر. . . أوديب عنده رمز الإنسان الذي لا يؤمن لا بنفسه وبإرادته، قد قبل سعادته راضياً عنها، وهو يقبل شقاءه راضياً عنه، وهو مطمئن كل الاطمئنان إلى ان الرجل الحق هو الذي يتلقى الحياة صامداً لها راضياً عنها، متنعماً بخيرها على علم وثقة أيضا، لا يشكو ولا يتوعوع، فهناك سؤال واحد دائما يلقى على كل إنسان ليس له إلا جواب واحد. إماالسؤال(841/9)
فهو: ما اللغز وكيف يحل لغز الحياة الإنسانية؟ وإماالجواب فهو: ان اللغز هو الإنسان، وحله ان يمضي الإنسان تبعا لإرادته، وفق عواطفه وشعوره وغرائزه وعقله.
هذه هي القصة التي كتبها اندري جيد وهي كما ترون تمعن في الفلسفة، وتبعد عن العناية الفنية).
(الإسكندرية)
عبد المنعم المليجي(841/10)
عبقرية محمد علي الكبير
للأستاذ كمال السيد درويش
(حقا لقد كان عبقريا!)
هتفت بهذه العبارة من أعماق قلبي ونطق بها لساني بعد ان ملك الإعجاب نفسي. كان ذلك بعد ان انتهيت من قراءة بعض صفحات تاريخه الخالد بمناسبة ذكراه.
قلبت تلك الصفحات، فاستوقفني ذلك الحوار الذي دار بين محمد علي وبين بركارت الرحالة السويسري. كان الرحالة قد اعتنق الإسلام وتسمى بالشيخ إبراهيم أطلق لحيته حتى يتسنى له الاختلاط التام بالمسلمين. وكان محمد علي قد سافر بنفسه - كما هو معروف - إلى بلاد العرب على راس حملة عسكرية لمساعدة نجله في قتال الوهابيين. ويصل الشيخ إبراهيم إلى الحجاز في ذلك الحين ليؤدي فريضة الحج مع المسلمين ومدون ذلك كله في كتابه المشهور.
ويستدعي الباشا الرحالة - وقد علم بوجوده - ما السر في حضوره إلى الحجاز؟ وفي ذلك الحين بالذات؟ إلا يحتمل ان يكون جاسوسا إنجليزيا؟ دارت هذه الأفكار في ذهن الباشا فالتفت إلى بركات وهو يقول مداعبا: إلا ترى معي يا شيخ إبراهيم ان اللحية وحدها لا تكفي لجعل الإنسان مسلما حقيقيا؟ وحين يحجم الرحالة بين ذلك على تكرار الزيارة لان الباشا يشك في أمره - كما فهم - يقول محمد علي لترجمانه: اخبره باني ارحب به سواء كان مسلما أو غير مسلم.
وتعددت المقابلات بينهما. . .
ويستفسر محمد علي منه عن أسفاره السابقة إلى بلاد النوبة، ثم يستدرج السؤال عن المماليك ومدى قوتهم وعن رائيه في عدد القوة التي تكفي للقضاء عليهم، وافضل الطرق للوصول إلى السودان وعن المال اللازم لإعدادها.
وتصل إليهما في أثناء ذلك الحين أخبار هزيمة نابليون وبدخول الحلفاء باريس وإبعاد نابليون إلى جزيرة ألبا، ويسأله الرحالة عن رأيه في تلك الحوادث، ويعلق محمد علي بقوله: ان نابليون كان جبانا في سلوكه. وكان يجدر به ان يلقى حتفه في الميدان بدلا من الاستسلام للذل والهوان وللحبس في هذا القفص حتى غدا أضحوكة العالم بأسره. ثم يلتمس(841/11)
محمد علي العذر لنابليون فيقول: لقد كان أعوانه خونة كالعثمانيين. لقد تخلى عنه أعوانه الممتازون وقواده المشهورون من يدينون له بالفضل والشهرة والجاه، فهو ضحية خيانة الأصدقاء قبل ان يكون ضحية الأعداء!.
ويروي الرحالة ان الباشا كان شديد الشوق لمعرفة اثر التطورات الأخيرة في حوادث أوربا على العلاقة بين روسيا وبريطانيا في نيات الأخيرة نحو مصر. وحين حاول الرحالة إزالة مخاوف محمد على وشكوكه من جانب إنكلترا وإقناعه بسلامة نيتها نحو الدولة العثمانية ونحو مصر بالذات أبى الباشا ان يستجيب له، وهز رأسه في إنكار وهو يقول: ان السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة، ومصر ضرورية لإنكلترا، فكيف اطمئن على نيتها نحو مصر؟ أنا لا أخاف من السلطان، فأنا اعرف كيف أتفوق عليه في المكر والدهاء، ولكني أخشى على مصر من إنجلترا وأطماعها.
ولاحظ بركات في لهجة محمد علي حماس الشاب الولهان، وغيرته على زوجته الصغيرة الحسناء من الغرباء، بالرغم من تأكده من حبها وإخلاصها.
عند ذلك يرد محمد علي على محدثه وهو يقول في حماس شديد كلمته الخالدة: (حقا أنا احب مصر، احبها حب العاشق المتيم الولهان، ولو كنت املك سوى روحي عشرة ألف أخرى، لضحيت بها في سبيلها).
أفلا يحق للقارئ - وقد انتهى من هذا الحديث الخالد - ان يهتف من أعماق قلبه: (حقا، لقد كان رجلا عبقريا؟)
كان وهو يحار الوهابيين في بلاد العرب يفكر في مصر وفي أهلها، وفي علاقتهم بولده إبراهيم وتركه حاكما عليها، فيسأله الرحالة عن مدى حب الأهالي لولده وعن رأيهم فيه؟ ألم يكن بهذا أول حاكم يبني علاقة الحاكم بالمحكوم على أساس متين من المحبة الصادقة؟ في الوقت الذي كان فيه الاستبداد من الأصول المرعية لدى الحكام والمحكومين؟
ألم يتابع - وهو في عزلته - تطور الحوادث العالمية مقدرا ما سيكون لها من اثر على مستقبل مصر؟ ألم يدرك بثقاب فكره وحسن تقديره، ونفاذ بصيرته، حقيقة العلاقة بين إنكلترا ومصر؟ وان واجب مصر يحتم عليها الأخذ بأسباب القوة حتى لا تلتهمها تلك السمكة الكبيرة؟(841/12)
ولقد فعل فلم تكشف إنكلترا عن نواياها، حتى إذا تركنا الأخذ بأسباب القوة، وتنكبنا الطريق التي رسمها، هب إعصار الآنجليز، فاكتسح استقلالنا، ومسخ قوميتنا، وشوه تاريخنا؟
حقا، لقد أيدت الحوادث صدق نظر محمد علي وسذاجة الرحالة السويسري!.
وهكذا تفتحت عبقرية محمد علي الكبير وهو بعد لم يزل واليا صغيرا!
لقد احب مصر لدرجة العشق والهيام، وتمنى ان لو كان لديه اكثر من روح واحدة حتى يقدم الآلاف في سبيلها؟
ولقد ضحى فعلا بابنه إسماعيل وبطوسون وبإبراهيم، وأخيرا بروحه هو نفسه.
وهكذا أعطى مصر اكثر مما أعطته، ومنحها اكثر مما منحته واصبح اسمه علما على نهضتها وعظمتها في تاريخها الحديث. لقد اخلص محمد علي في حبه لمصر لمعشوقته الحسناء، وفتاته الهيفاء، حتى الرمق الأخير. . .
فلا عجب إذا احتفلت قلوب المصريين بذكرى المؤسس الأول الخالد في سجل الخالدين وهي تهتف بلسان واحد:
حقا لقد كان عبقريا!
كمال السيد درويش
مدرس بالرمل الثانوية - الإسكندرية ليسانسيه الآداب بامتياز
ودبلوم معهد التربية العالي وعضو الجمعية التاريخية لخريجي
جامعة فاروق(841/13)
من ظرفاء العصر العباسي
أبو دلامة
توفي سنة 161هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 3 -
عرف أبو دلامة بخل المنصور، وانه لن ينال منه العطاء إلا بعد تعب طويل، فكان ينتهز الفرصة في إرضائه إلى ما يعلم انه يستريح إلى سماعه. فهو يعرف مثلا المنصور - بعد قتله أبا مسلم الخرساني - كان يحب من الناس ان يبرروا عمله ويعتبروا أبا مسلم مستحقا لتلك المأساة التي ختمت بها حياته، فلينتهز أبو دلامة هذه الفرصة ولينشد المنصور في محفل من الناس:
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورْدُ
أبا مسلم ما غير الله نعمةً ... على عبده حتى يغيرها العبد
وانك لتجد في هذين البيتين قوة في السبك تشعرك بان أبا دلامة في القصيدة لم يكن شيئا يستهان به أو يستخف بوزنه. لذلك سر المنصور بهذه القصيدة وقال لأبى دلامة: احتكم، قال: عشرة ألف درهم. فأمر له بها: فلما خلا به قال له مازحاً: ايه! إماوالله لو تعديتها لقتلتك!
بل أعطاه المنصور دارا وكسوة لإعجابه بقصيدة وصف له فيها سوء حاله وقلة ماله وجوع أهله، ومدحه فيها أثنى على بني العباس واسمع إذ شئت هذه القصيدة:
هاتيك والدتي عجوز همةٌ ... مثل البليلة دِرعها في المِشجب
مهزولة اللَحيين من يرها يقلْ ... أبصرتُ غولاً أو خيالَ القُطرب
ما إن تركتُ لها ولا لابن لها ... مالاً يؤمل غير بَكْر اجرب
ودجائجاً خمساً يُرحن إليهمُ ... لما يبضن، وغيرَ عَيْرٍ مغرب
كتبوا إليَ صحيفة مطبوعة ... جعلوا عليها طينة كالعقرب
فعلمت ان الشر عند فكاكها ... ففككتها عن مثل ريح الجورب(841/14)
وإذا شبيه بالأفعى رُقشتْ ... يوعدني بتلمُظ وتثؤب
يشكون أن الجوع اهلك بعضهم ... لَزَباً فهل لك من عيال لزَُب
لا يسألونك غير طل سحابة ... تغشاهمُمن سيلك المتحلب
يا باذل الخيرات يا بن بذولها ... وابن الكرام وكلٍ قرم منجب
أنتم بنو العباس يُعلَم أنكم ... قدْماً فوارسُ كل يوم أشهب
احلاس خيل الله وهي مغيرة ... يخرجن من خَلَل الغبار الاكهب
وكانت الدار التي أعطاها المنصور أبو دلامة قريبة من قصره، فأمر بان تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها. فدخل عليه أبو دلامة فانشده قوله:
يا ابن عم النبي دعوة شيخٍ ... قد دنا هدم داره ودمارُه
فهو كالماخض التي اعتادها الطلـ - ق فقرَت وما يقر قراره
ان تحزْ عسرة بكفيك يوماً ... فبكفيك عسره ويساره
أو تدَعه فللبوار وأني ... ولماذا وأنت حي بواره؟
هل يخاف الهلاك شاعرُ قوم ... قدمتْ في مديحه أشعارُه؟
لكم الأرض كلها فأعيروا ... شيخكم ما احتوى عليه جداره
فكأنْ قد مضى وخلَف فيكم ... ما أعرتم أقفرت منه داره
فاستعبر المنصور، أمر بتعويضه داراً خيرا منها ووصله. ولو لم يتأثر بمعاني الشعر أبو جعفر، لما دمعت عيناه فاستعبر، ولما عوض عليه تلك الدار بأحسن منها وطيب خاطره واجزل سلته مع علمه بأنه اكثر إجادة للتمثيل منه لوصف حقيقة حاله. وانظر إلى تمثيل أبى دلامة واستخدامه الأساليب التي ترقق من قلب المنصور تارة، وتضحكه حتى تبدو نواجذه تارة أخرى، يوم دخل عليه فانشد قصيدته التي يقول فيها:
ان الخليط أجد البيَنَ فانتجعوا ... وزودوك خبالاً بئس ما صنعوا
والله يعلم ان كادت لبيْنيهمُ ... يوم الفراق حصاة القلب تنصدع
عجبتُ من صبيتي يوماً وأمهمُ ... أمَ الدلامة لما هاجها الجزَع
لا بارك الله فيها منْ منبهة ... هبت تلوم عيالي بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهون الألوان أوجُهنا ... سُودُ قباح وفي أسمائنا شَنع(841/15)
أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا ... على الخليفة منه الرَيُ والشبع
لا والذي يا أمير المؤمنين قضى ... لك الخلافةَ في أسبابها الرَفع
ما زلت أخلصها كسبي فتأكله ... دوني ودون عيالي ثم تضطجع
شوهاء مشنأةُ في بطنها ثجَلُ ... وفي المفاصل من أوصالها فدع
ذكرتها بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله تنتفع
فاخرنطمتْ ثم قالت وهي مغضبةُ ... أأنت تتلو كتاب الله يا لكعُ
أخرج لتبلغ لنا مالاً ومزرعة ... كما لجيراننا مال ومزدَرَعُ
واخدع خليفتنا عنها بمسألة ... ان الخليفة للسؤال ينخدع
ولقد انخدع أبو جعفر حقا بهذه المسالة فانه ضحك ثم قال: أرضوها عني واكتبوا له بمائتي جريب عامرة ومائتي جريب غامرة فقال له: أنا اقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف تجريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وان شئت أزدك. فضحك وقال: اجعلها كلها عامرة.
ولعلك تذكر أن قد مر بك - حول الجريب العامر والجريب الغامر محاورة شبيهة بهذه بين أبي دلامة والسفاح فلا تسرع إلى اعتبار أحدهما موضوعة، فكثيراً ما يستطيع اللاحق نكته للسابق فيتناقلها استمتاعاً بها ورغبة في سماع جواب جديد عليها. وجواب أبي دلامة للمنصور هنا - وان أشبه جوابه للسفاح - إلا ان الرد الجديد اكثر طرافة. فقد قال هناك. لقد اقطعتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد، ولم يكتفي بفيافي بني أتسد فقد ابعد الثقة فقال له: أنا اقطعتك يا أمير المؤمنين أربعة ألف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وان شئت زدتك.
ولأبي دلامة في مسألة المنصور والوصول إلى عطائه أسلوب ادعى إلى الغرابة من كل ما سبق، فقد تطوع له نفسه تلفيق الرؤيا، وهو يعلم انه متهم بالكذب فيطلب من الخليفة تصديقه كأنه يريد ان يشهده على خداعه.
دخل على المنصور يوماً فانشده:
رأيتك في المنام كسوت جلدي ... ثياباً جمةً وقضيت دَيني
فكان بنفسجيُ الخز فيها ... وساجٌ ناعم فأتم زيني(841/16)
فصدقْ يا فدتك النفس رؤيا ... رأتها في المنام كذاك عيني
فأمر له بذلك وقال له: لا تعد ان تتحلم علي ثانية، فاجعل حلمك أضغاثا ولا أحققه
ونديم يجد في نفسه الجرأة على تلفيق الرؤيا إما م الخليفة له من الدلال عليه ما يشفع له، وإلا لالتمس لنفسه أسلوبا اسلم. ونعرف دلال أبى دلامة على المنصور من إعفائه إياه من السواد والقلانس دون الناس: فقد أمر أبو جعفر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وان يلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورهم (فسيكفيكم الله وهو السميع العليم). فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شر حال، وجهي في نصفي، وسيفي في استي، وكتاب الله وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي. فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له: إياك ان يسمع هذا منك أحد.
وفي هذا يقول أبو دلامة:
وكنا نرجى من إما م زيادة ... فجاد بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس
فهل كان الخليفة يعفيه من ذلك اللباس من دون الناس لولا دلاله عليه؟. . .
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح(841/17)
تعقيبات
للأستاذ انور المعداوي
عتاب وطني كريم من السودان
تحية طيبة وتقديرا عظيما، وشكرا على هذا الأدبالحار الذي تمتعنا به في (الرسالة) كل أسبوع. . .
وبعد فقد ذكرت في كلمتك بعدد (الرسالة) (833)
تحت عنوان (بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية) كلمات مدحت بها الإنجليز في حفاظهم على مبدأ الحرية وتأثرهم بالحياة الديمقراطية الحرية حينما تقارنهم بالأمريكيين أو الروس.
وكاتب هذه السطور يحتقر الشيوعية، كما يكفر بكل هذه النظم الغربية الفاشلة. إماالذي دعاني إلى الكتابة إليك، فهو أني استكثرت جدا ذلك المدح المعمم الذي اضفيته على الإنجليز عندما قلت انهم (أصحاب ديمقراطية يؤمن بها الحكام ويستشعرها المحكوم، ويلتقون جميعا في رحاب كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم). . .
إذ كنت تقصد يا سيدي انهم يسيرون وفق هذا المبدأ في إنجلترا وحدها فهو صحيح، لكن الإنجليز لا يستحقون على ذلك كل هذا المدح، بل يجب ان نقول انهم أنانيون وغير إنسانيين، وانهم لم يؤمنوا بعد بمبدأ الحرية الذي يجعل الناس سواسية كأسنان المشط مستعمرين أو مستعمرين. فالإنجليز خارج إنجلترا حكام إرهابيون بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وأظنك قد سمعتك بالقنابل التي فتكت مواطنيك من أبناء الجنوب في شهر نوفمبر الماضي من (عطبرة) و (بورسودان)، وبمئات الجرحى ومئات الذين ضربوا بالعصى الغليظة في (الخرطوم)، ومئات الذين زجوا في سجون البلدان الأخرى بالسودان لشيء بسيط هو ابسط ما يسمح به للفرد في ظل الحكومة الديمقراطية، هو إعلان الرأي سواء بالكتابة أو الخطابة أو المظاهرة السلمية العزلاء!.
واظنك تسمع بسلسلة المحكمات الجارية اليوم تحت المادة (105 من قانون عقوبات السودان)، لان فلانا كتب مقالا، أو أدلى بتصريح من شانه ان يسبب كراهية الإنجليز أو حكومة السودان، وغير ذلك. . . فما رأي الأستاذ في هذه الديمقراطية المزيفة؟ أقول لن(841/18)
يستطيع الإنكليز الحصول على مدحك هذا عن جدارة واستحقاق حتى يتساوى المحكوم في (الخرطوم) بالمحكوم في (لندن) في كل الحقوق الديمقراطية، وحتى يؤمن الإنكليز ببيتي فيلسوف العرب المعري:
ولو أني جبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
واني لفي انتظار ردك الكريم.
(السودان)
ج. ح. البشير
هذا هو العتاب الوطني الكريم الذي تلقيته من الجنوب أشرت إليه في عدد مضى من (الرسالة). . . ان كلماته الملتهبة بصدق الوطنية وحرارة الأيمان لتهزني هزا عنيفا، تهزني لأنها تحمل ألي من أعماق النفوس الأبية نفحات ونفحات، وتنقل إلى من سجل الجهاد النادر سطورا هي في حساب الشعور صفحات. . . إماالعتاب - وان كنت لا استحقه - إلا أنني انزل من نفسي منزلة الود الخالص والاخوة المتسامية، الاخوة التي استروحت انسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد!.
يا اخي، يا اخي في الله والدين والوطن. . . ان الأرض التي جمعت بين قلبي وقلبك لتجمع بين جراح وجراح، وان النيل الذي ربط بين روحي وروحك ليربط بين كفاح وكفاح. . . أنا هنا وأنت هناك، ويا بعد الشقة في منطق الظلم البغيض، ويا قربها في منطق الحب المتغلغل في طوايا الوجدان. . . نحن يا اخي ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة. . . فكيف تعاتبني على كلمات قلتها في سياق الحديث عن قوم يؤمنون بالديمقراطية في أرضهم، ويكفرون بها في أرض الناس؟!.
اجل، يا صديقي، لقد كنت أتحدث عن الإنجليز في بلادهم، انهم هناك أصحاب ديمقراطية يؤمن بها الحكام ويستشعرها المحكوم، ويلقون جميعا في رحابها كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم. . . حقيقة نسجلها في اطمئنان ويسجلها التاريخ، حتى إذا ما سجلنا(841/19)
النقيض كنا أمناء على الحق سواء أشدنا بالعدل أم أشرنا إلى الظلم والطغيان!.
من الحق ان ننعت الإنجليز بأنهم مثاليون في بلادهم، مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق وموازين الإنسانية والضمير! ومن الحق ان ننعتهم أيضا بأنهم مثاليون في غير بلادهم، مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانتفاء العدل والإنصاف. وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها التاريخ كلماته الخالدة حين يعرض للحكم البريطاني في أرضه وكل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!
يا أخي، يا أخي في الله والدين والوطن. . . ان الأنشودة الرائعة التي بدأناها في شمال الوادي، أنشودة الجهاد التي انطلقت من قيثارة الأحرار، قد أذن الله ان ترسل أنغامها في جنوبه. وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . . ولكن أنغامنا ستضل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن، ولكن نارنا ستضل إلى الأبد تضيء الطريق للسالكين، ولكن ذكرانا ستضل إلى الأبد قصة تروى وعطر يفوح!
ولا عليك يا اخي من تلك القيود. . . ان معدنها الرخيص سيذوب يوما تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع!
ولقد قال أبو العلاء ما قال لأنه إنسان، ولكن أين من يستمع لنداء الإنسانية وقانون السماء؟ ألا ليت الطغاة قد جعلوا شعار حكمهم هذه الكلمات التي انطلقت من أعماق بطل الحرية أبرا هام لنكولن: (ان ضوء الشمس لا يفرق في يد الله بين أحرار وعبيد، فلم يفرق ضوء الحرية في أيدينا بين انصار وخصوم)! ومع ذلك فنسير يوما جنبا إلى جنب، وقلبا إلى قلب، وعيوننا أبدا إلى الأفق البعيد!.
ضجة أدبية حول كتاب لأرتير رامبو:
ارترير رامبو شاعر من شعراء الرمزية في الأدبالفرنسي توفي في أواخر القرن التاسع عشر عام 1891. . . ولقد كان رامبو صديقا حميما لشاعر الرمزية الأول بول فرلين، حتى لقد تعرضت تلك الصداقة الوطيدة لتجريح بعض النقاد من ناحية السلوك الأخلاقي! ونترك هذه الناحية الشائكة لنقول ان إحدى دور النشر الكبرى في باريس قد اعلنت في الأيام الأخيرة عن حصولها على مجموعة شعرية لرامبو، وانها على أهبة طبعها لتكون بين أيدي القراء. . . ولقد كان معروفا ان هناك أديبا فارسيا كبيرا يمتلك هذه المجموعة التي(841/20)
كتبها رامبو بخط يده وتركها بعد موته دون ان تأخذ طريقها إلى المطبعة. ومن هنا احدث الخبر ضجة كبرى في الأوساط الأدبية الفرنسية، حتى لقد تهافت المعجبون بفن رامبو على ألوف النسخ المطبوعة فنفذت في مدى يومين! إماالنقاد الفرنسيون، فقد استقبلوا الكتاب بحفاوة بالغة دفعت أحدهم وهو (باسكال بيا) إلى ان يكتب عنه كلمة مستفيضة رفع فيها شعر رامبو إلى القمة من الأدبالفرنسي الحديث. . . وحين فرغ الكاتب الفرنسي الكبير (فرانسو مورياك) عضو الأكاديمية الفرنسية من مطالعة المجموعة تناول قلمه ليكتب مقالاً يصب فيه إعجابه البالغ بفن رامبو، ذلك الإعجاب الذي فجر الدموع في عينيه وهي ينصت لهمسات الشاعر في كل قصيدة من قصائده! وفي الوقت الذي هم فيه مورياك بان يبعث بمقالة إلى جريدة (الفيجارو) أذاع أحد الكتاب الفرنسيين وهو (بيير بريسون) خبرا فحواه ان هناك خدعة كبرى وقعت فيها (المار كيردي فرانس) حين أقدمت على نشر كتاب لا يمت إلى الشاعر الفرنسي بصلة من الصلات، مؤكدا ان النسخة الخطية التي طبعت لم يكتبها رامبو وإنما كتبها شابان عابثان يسعيان إلى جمع المال عن طريق غير شريف! واهتزت الأوساط الأدبية الفرنسية تحت وقع الخبر، وبخاصة حين أعلن الكاتب السريالي الكبير (اندريه بريتون) ان النسخة الخطية التي كتبها رامبو بين يديه وان تلك التي نشرت ما هي إلا تقليد بارع! وانقلبت الضجة إلى خصومة عنيفة انقسم بسببها الأدباء الفرنسيون إلى فريقين: فريق ينتصر لباسكال بيا وفرانسو مورياك حين يزعمان ان التقليد لايمكن ان يسمو إلى مثل هذا الأداء الفني الرفيع، وفريق آخر ينتصر لندريه بريتون وبيير بريسون حين يؤكدان ان الأمر لم يكن الا خدعة نسجت خيوطها بمهارة! واخيرا انتهت الخصومة العنيفة إلى مهزلة ليس لها نظير. . . لقد اعترف الأديبان الناشئان بفعلتهما الجريئة، ذاهبين إلى انهما لم يهدفا إلى الحصول إلى المال عن طريق غير شريف، ولكن هدفهما ان يحصلا على شهرة أدبية لا يستطيعان ان يصلا إليها عن طريق اسمين غير معروفين، وقد دانت لهما تلك الشهرة عن جدارة أيدهما بقلبه وقلمه عضو من أعضاء الأكاديمية الفرنسية. . . هو فرانسو مورياك!.
قصة فريدة نهديها إلى أدبائنا الناشئين ممن تعرض على إنتاجهم دور النشر وتوصد المجلات الأدب يه أبوابها في وجوههم. . . نهديها إليهم لندلهم على اقصر طريق يصلون(841/21)
منه إلى الشهرة الأدبية وقلوب الناشرين!!.
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
رسالتان من (العراق) وكلتاهما من (بغداد)، إماالأول فمن الأديب الفاضل عمر عيسى السأمرائي بمعهد التربية البدنية وبها سؤال عن بعض ما بكتاب (على هامش السيرة) من آراء متناقضة للدكتور طه حسين، وإماالثانية فمن الأديب الفاضل إسماعيل محمد السامرائي وبها سؤال آخر عن بعض ما جاءبمسرحية (شهرزاد) من فلسفة لفضية تخالف منطق الواقع للأستاذ توفيق الحكيم، وسأجيب على السؤالين في العدد القادم من (الرسالة). وهذه هي الرسالة الثالثة من (عمان - شرق الأردن) تحمل إلى معلومات طريفة صبت في قالب التهكم اللاذع على ذلك القصاص العامي النابغ الذي قلت عنه انه درس فن القصة في كتاب القرية، ولقد كنت أود ان اثبت هذا التهكم غير أني تذكرت ان المقصود به أهون إليه ان يشار بأي لون من ألوان الذكر، ولذا اعتذر للأديب الفاضل أحمد عزيز بيتوغن شاكرا! له كريم تقديره. والرسالة الرابعة من (المحرق - البحرين) اشكر لمرسلها الأديب الفاضل مبارك راشد الخاطر حسن ظنه، وأجيبه ان رأيي في شعره هو ان أداءه اللفظي لا بأس به وان كل ما ينقصه هو العناية بالأدبالنفسي، وتلك ناحية سأعرض لها بالتحليل والنقد في عدد مقبل من (الرسالة) تحت عنوان (الأداء النفسي في شعر المهجر). والرسالة الخامسة من (عدن) يا أخ علي بها الأديب الفاضل علي باذيب ذلك الرأي الذي سبق وان أبديت فيه اعتراضي عن إخراج كتاب مادام الجمهور معرضاً عن شراء الكتب، يا صديقي أنا شاكر لك ثنائك وثقتك الغالية، إماالإعراض عن التأليف فهو إلى حين، وليس بمستبعد ان تنتهي أزمة القراء ويتجدد الأمل!.
وأنتقل بعد ذلك إلى الرسالة السادسة وهي من (عطبرة - سودان) لأقول لصاحبها الأديب الفاضل مكرم سعيد أنني مقدر له هذا الشعور النبيل المتدفق من كلماته، ولست املك الا ان استجيب لرغبته في الأيام المقبلة. وإلى الرسالة السابعة وهي من (الخرطوم - السودان) أيضا لاقدم خالص امتناني للأديب الفاضل عبد الرحيم محمد أحمد على تحيته الصادقة، ولاجيب عن رغبته في ان أخص الأدبالسوداني بشيء من العناية بأنه يؤسفني كل الأسف الا يكون بين يدي من نصوص هذا الأدبما يمكنني من الكتابة عنه، وحبذا لو بعث ألي(841/22)
كتاب السودان وشعراؤه بإنتاجهم الأدبي مطبوعا لاقوم بدراسته وتقديمه إلى القراء. إماالرسالة الثامنة فمن الأديب الفاضل عبد الرحمن السياسي بهيئة الإذاعة البريطانية (بالخرطوم - سودان) وفيها يرد على الأستاذ محمد غنيم بمناسبة تخطئته لي حين قلت (لم اكن اعرف) مستشهدا بالآية الكريمة من سورة المدثر (ولم نكن نطعم المسكين) ان تعقيبي على هذه اللفتة الموفقة بعد خالص الإعجاب هو ان الأستاذ غنيم معذور لأنه (لم يكن يعرف): ان التعبير صحيح لا غبار عليه.
وتبقى بعد ذلك أربع رسائل مصرية. . . الأولى من الأديب الفاضل السيد علي الشوربجي الطالب بكلية الحقوق، وفيها يناقشني نقاشا طويلا حول الكلمة التي كتبتها عن أبى العلاء، يا صديقي أرجو ان تعود مرة أخرى إلى ما كتبت لان هناك بعض معاني قد خفيت عليك ولعلها تتكشف لك بعد التأمل والمراجعة. والثانية حول أبى العلاء أيضا وهي من جندي فاضل بالجيش المصري رمز لنفسه بتلك الحروف الأولى من اسمه (م. ف. أ). . . أنا شديد الإعجاب ان يكون بين جنودنا من يقرا (الرسالة) ويعشق الأدب، ويغوص في بفكره فيما كتبت عن أبي العلاء، ويخاطبني بقوله (سيدي طبيب الأدب، أنا مؤمن بما جئ به عن الحرمان النفسي والأدب ي عند أبي العلاء، ولكن ماذا تقصد بالحرمان القلبي حين قلت ان قلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة مع ان هذا القلب كان عامرا بالعاطفة الإنسانية)؟. . . عزيزي أديب الجيش، أنا اقصد العاطفة الأنثوية لا العاطفة الإنسانية.، تلك التي تنسب إلى المرآة وكان يمكن ان تملا بعض الفراغ في حياة أبي العلاء. إماالرسالة الثالثة فمن الأديب الفاضل (م. م. س) بمعهد أسيوط الديني، ان ردي عليه انه يستطيع ان يدرس اللغة الإنجليزية وهو باقي في دراسته الأزهرية، وذلك عن طريق الدروس الخاصة من أحد المدرسين الأكفاء، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يحقق له ما يصبو إليه. وأنتهي إلى الرسالة الرابعة أو الثانية عشر والأخيرة لشكر لمرسلها الأديب الفاضل محمد فتحي سعيد بدمنهور هذا الإخلاص الرائع للمثل العليا الفكرية، إماالشعر الذي بعث الي به فأود ان يتعهد بالصقل لأرضى عنه بالمستقبل القريب.
أنور المعداوي(841/23)
الأدبوالفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
لسنا أوربيين ولا حالمين:
كتب الأستاذ إبراهيم المصري في العدد الأخير من (أخبار اليوم) حديثا جرى في مجلس حضره، بين رجل أجنبي يستوطن مصر وبين شاب مصري جامعي. حمل الرجل الأجنبي على الثقافة الشرقية، واتهم العقل الشرقي بالهوس الديني والتواكل القدري والتجرد المطلق من الروح العملية، وزعم ان العلم المادي التجريبي كما تفهمه الحضارة الحديثة دخيل على العقل الشرقي المولع منذ القدم بالأخيلة الدينية.
وقد رد عليه الشاب الجامعي بالتفرقة بين الشرق الإسلامي وبين الشرق الأقصى والعقائد الأسيوية التي تنفر من الحياة وتحتقر العمل وتنادي بخنق الرغبات البشرية، وقال الشاب ان الحضارة الإسلامية استمدت قواها من الغرب اكثر مما استمدتها من الشرق، فالعلم العربي مدين للإغريق اكثر مما هو مدين للهند أو للصين أو للشرق الأقصى. إلى ان قال: (فالشرق الإسلامي إذن ليس هو الشرق الذي تزعم. ونحن في الحقيقة لسنا الشرقيين الأسيويين الحالمين. نحن من الغرب. نحن أوربيون).
أعجبني تفريق الشاب بين الشرق الإسلامي وبين الشرق الحالم المغرق في العقائد البعيدة عن الحياة العملية، كما أعجبني إرجاعه التأخر الملحوظ علينا اليوم إلى سياسة الأجنبي المستعمر وسياسة بعض الإقطاعيين من رجالنا. ولكن الشاب لم يعرف الشرق الإسلامي تعريفا صحيحا، فليس استمدادنا من أوربا بالذي يجعلنا أوربيين، كما ان أوربا لم تصبح من الشرق الإسلامي لأنها أخذت منه في بعض العصور. ونحن لسنا بحاجة إلى ثبات اتصالنا بأوربا أو نسبتنا إليها لننفي عن أنفسنا ما نتهم به من الإغراق في الخيال والبعد عن الحياة المادية وما يسمونه الهوس الديني. والواقع ان بعض الذي يرموننا به هو الذي ينفي عنا هذه التهم، وهو النزعة الدينية فالدين الإسلامي لم يفصل في شؤون الحياة بين مادي وروحي يدعوا إلى هذا وينهى عن ذاك، بل هو ينظر إلى الحياة باعتبارها وحدة كاملة، وليس هو دين عزلة، بل هو نظام حياة إنسانية وتشريع مجتمع كامل.
والعقلية العربية هي كذلك عقلية عملية، إلى جانب تمسكها بالقيم الإنسانية والمثل العليا، فقد(841/24)
كان العربي يصنع الصنم فإذا جاع أكله، وهذا يدل على العقلية العملية البعيدة عن العقائد الحالمة.
فنحن لسنا من الحلمين ولسنا أوربيين، إنما نحن. . . نحن عرب مسلمون، لم تؤخرنا نزعة دينية ولا فلسفة روحية، وأنا لم يأخذني أبدا رنين الكلمة السائرة التي قالها أمين الريحاني وهي: (أنا الشرق عند فلسفات، فمن يبيعني بها دبابات؟) فالشرق العربي الإسلامي لم تعقه فلسفات عن دبابات، وإنما العائق، كما جاء في مقالة الأستاذ المصري سياسة الاستعمار والاقطاع، وبالتخلص من هذين يشتري الشرق العربي الإسلامي الدبابات، لا بما لديه من فلسفات.
في مسابقة المجمع اللغوي:
أعلن المجمع العربي عن مسابقة في نقد الشعر العربي من منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم.
فهل يريد المجمع الشعر العربي في جميع البلاد الناطقة بلغة الضاد الممتدة من المحيط الأطلسي غربا إلى الخليج الفارسي شرقا، ومن جبال طوروس شمالا إلى خط الاستواء جنوبا، بالإضافة إلى إنتاج الشعراء الذين يقيمون في أمريكا وأوربا؟
ارجوا التكرم بالإفادة ولكم جزيل الشكر.
محمد سيد كيلاني
رجعت لنص المسابقة وهي مسابقة سنة 1949 - 1950 فوجدته يتضمن ان يجاز بمائتي جنيه (احسن بحث في نقد الشعر العربي في الفترة التي تبدأ في النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى اليوم - ولا ينقد شعر الأحياء) والواقع انه موضوع مترامي الأطراف، وهذه الفترة بالذات زاخرة بالإنتاج الشعري المتنوع المذاهب والمختلف الألوان، بل هي تشمل الشعر العربي الحديث كله وهذا الشعر ليس من السهل الحصول عليه أو على نماذج لمذاهبه ومواطنه، ومراجعه نادرة، وطرقه متشعبة. وهو الموضوع الذي قررت الجامع إنشاء كرسي له يسمى (شوقي) ولا تزال حائرة في اختيار أستاذه.
فكيف يوفى ذلك الموضوع في بحث يقدم في مثل هذه المسابقة؟ ان المجمع ينظم هذه(841/25)
المسابقات لتشجيع الإنتاج الأدب ي، ولكن الأمر يكاد يخرج من هذا الموضوع إلى التعجيز الأدبي. .
لقد حاولت ان افهم ان المقصود من الموضوع بحث جزئي لا يخرج عن نطاق الفترة المحددة حتى يكون معقولا، ولكني رأيت النص لا يساعد على هذا الفهم، ولو كان هذا هو المراد لما اعيا بيانه لجنة الأدببالمجمع.
المرأة:
تعيش فاطمة مع أبيها المقعد في الإسكندرية. يتهدم المنزل الذي يقطناه وهي في المدرسة، فيذهب بأبيها ولا عائل لها سواه، فتتوجه إلى القاهرة حيث أمها متزوجة من رجل آخر. يرحب بها زوج أمها ويتودد إليها توددا مريبا، ولما تقف على حقيقة نواياه تغادر منزله ليلا، وتنقذها الحاجة محروسة من يد الشرطي الذي اشتبه فيها، وتأخذها إلى منزلها وتكرمها. والحاجة محروسة هي (ملكة البسبوسة) التي تبيع هذا الصنف من الطعام وامثال إلى عمال مصانع الزجاج الأهلية. تعيش فاطمة في منزل الحاجة محروسة الملاصق لمنزل يسكنه أخوان من عمال المصنع هما محمود وفريد، ويشاهد كل منهما فاطمة وهي تغني في نافذة مقابلة لنافذتهما، فيحاول كل منهما ان يظفر بها، بخطبها فريد من الحاجة محروسة، ولكنها تحب محمودا. ولما يعم محمود بالخطبة يحزن ويذهب إلى مرقص ليتسلى هناك. وتأتي إليه نجمة الراقصة ويشربان معا، وتوصله إلى منزله وهو ثمل، ويراها عنده أخوه فريد، ويدور حديث بين الأخوين يقول فيه فريد لمحمود انه تنازل له عن فاطمة لما عرف انها لا تحبه ولم يكن فريد صادقا في ذلك وإنما كان يريد أمرا، اتفق فريد مع نجمة الراقصة على ان تذهب إلى أخيه محمود بحيث تراها عنده فاطمة. ويظل الأخوان يتنازعان إلى ان ينتهز فريد فرصة صعود أخيه على آلة عالية في المصنع فيعبث بأسفلها حتى يسقطه، وينقل محمود إلى المستشفى، وتذهب إليه نجمة الراقصة، فتدرك من حديثه إليها ان أخاه هو الذي دبر اسقاطه، فتصر على إبلاغ (البوليس) ويسمعها فريد، فيلقها في ممر بالمستشفى ويطعنها بسكين، ويفر ثم يقبض عليه. ويشفى محمد فتاتي فاطمة إليه ويخرج بصحبتها من المستشفى مسرورين. ذلك هو مخلص قصة فلم (المرآة) الذي عرض لأول مرة في سينما أوبرا بالقاهرة، والقصة من وضع عبد الفتاح حسن ومحمود(841/26)
السباعي، والأول هو مخرج الفلم، واشترك الثاني في التمثيل وهو في الفلم (فريد) ومثل كمال الشناوي (محمود) وأحلام (فاطمة) وسميحة توفيق (نجمة) وماري منيب (الحاجة محروسة).
والقصة كما ترى تدور عن نزاع أخوين على امرأة، وهي قصة عريقة في القدم، قصة ابني آدم قابيل وهابيل. ولننظر كيف عولجت في هذا الفلم، ولكن أرى أني أمام أمر آخر هو ولا شك أهم من موضوع القصة في نظر العاملين في إعداد الأفلام المصري، وذلك هو استخدام مميزات في الممثلين وتطويع الحوادث لإبراز هذه المميزات، معنا الآن: صوت أحلام، ووسامة كمال الشناوي، وظرف ماري منيب، ورشاقة سميحة توفيق. إماأحلام (فاطمة) فتراها في أول الفلم تلميذة في المدرسة، فلا بد ان تكون مدرسة موسيقى لتغني في (الفصل) أغنية تتضمن التنديد بظلم الرجل للمرأة، وهي أغنية لا مناسبة لها، وهي أيضا تافهة فهي تلخص ظلم الرجل للمرأة في انه يريدها عالة عليه! ثم تقول انها لا بد ان تطالب بحق الانتخاب، وهناك تضع أحلام اسفل قبضة يدها على كفها اليسرى وتحركها لغيظ الرجال واشعارهم بحرقة الفلفل! وهي حركة غير لائقة، وهي كذلك بائخة.
وفي أحد المناظر يقال ان فاطمة ذهبت إلى أمها بحلوان، ثم تظهر فاطمة في حلوان لا مع أمها ولا في منزلها بل في حديقة كبيرة، وذلك لتغني أحلام بين الأشجار والأزهار في حديقة حلوان التي خلت لها. . . ارأيت حديقة عامة تخلو لمطربة كي تغني فيها وحدها. .؟.
وأحلام مغنية ذات صوت جميل، ولكنها في الفلم تغني بطريقة واحدة في المواقف المختلفة، ولا ينسجم غناؤها مع الحوادث، فتشعر كأنها تغني ريثما يتيسر تتابع المناظر. وقد أجادت تمثيل البنت المسكينة، وهي تصلح للأدوار التي تستحق فيها العطف لا الحب.
إماكمال الشناوي فله نصيب الأسد في هذا الفلم، فقد طغى على من معه، وهو الممثل الأول فيه، وتسير به القصة على انه البطل الجميل المحبوب الخير، واخوه مكروه لا تستخف البطلة ظله فلا بد ان يكون مرذولا يدبر الأذى حتى يقع في شر أعماله. قد يقع هذا في الحياة أو قد لا يقع، لكنه لزام في اكثر أفلامنا المصرية.
وإماماري منيب فقد اختيرت (ملكة للبسبوسة) وملجأ لفاطمة، ولكثرة قيامها بمثل هذا الدور(841/27)
في الأفلام المختلفة أصبحت ذات شخصية تتميز بالظرف الشعبي الأصيل، وهي كذلك في هذا الفلم، إماعلاقة فاطمة بها عجيبة. . . أمراه ترتزق من صنع البسبوسة والكنافة والمهلبية، تؤوي في بيتها فتاة لا عمل لها الا الغناء في الشرفة، كأنها تعدها خاصة لمغازلة محمود إياها وليتنازع عليها الأخوان!.
وإماسميحة توفيق فقد قامت بدور الفتاة اللعوب فأجادت في هذا الدور اكثر من تأديتها لدور الفتاة المحبة المضحية، فلقد كانت متكلفة في هذا، كما كانت متكلفة في الأغنية التي غنتها، والأغنية نفسها كانت سخيفة، فهي تغني لحبيبها فتقول: (يا خرابي عليك!) وفي هذه الفتاة الحيوية والقدرة على التعبير، ويلمح المشاهد فيها مواهب لم تظهر، لأنها لم تغتسل، في هذا الفلم.
واظهر شئ في الفلم مجافاته للواقعية، فحياة العمال ومساكنهم وملابسهم وسائر مظاهرهم لا تقل عن أمثالها في حياة العمال بأمريكا! وتصور ان منزل الحاجة محروسة بائعة البسبوسة فيه أشجار وأزهار تغرد بينها أحلام!.
وعهدنا بالمرقص الكبير ان تكون مرادا للأغنياء والوارثين ولكنا نرى رواد المرقص الفخم في هذا الفلم، ومحط انظار حسانه الفاتنات، من عمال مصانع الزجاج الأهلية. . .
ومن مآخذ القصة ان والد فاطمة بدا في أول القصة شيخا ضعيفا مقعداً، فهو لا يكسب شيئا من عمل يزاوله، ويدل منظره وحالته في المنزل وأثاثه على معيشة لا باس بها، فلا بد ان يكون له أيراد ما، وتهدم المنزل لا يذهب الا بالرجل وأثاثه، ولكنا نرى ابنته شريدة لا تجد قوتها، فأين مصادر الإيراد التي كان يستمد منها أبوها؟
عباس خضر(841/28)
البريد الأدبي
نعي خليل مطران في جريدة الهدى التي تصدر في نيويورك:
رب القريض وسيد القلم ... وفيت قسطك للعلى فنم
هذا البيت الجامع الي عبر به المطران عن شعور العالم العربي نحو اليازجي يصح فيه.
بل ان الشعور بفقد خليل مطران أوفر شمولا وامتدادا لان العالم العبي اصبح أوسع اتساعا بعد ان أنتشر أبناء العربية في مشارق الأرض ومغاربها وهم ما يزالون أوفياء بعهد أوطانهم الأولى، والرعيل الأول منهم شديد التمسك والتفاخر بوطنه ألام. ومعظم المهاجرين من المتكلمين اللغة العربية هم من اللبنانيين. وخليل مطران يمت إليهم بصلة النسب.، لأنه رأى النور في ظلال بعلبك: مدينة الشمس ومهب الوحي العلمي في مسارح الفن والجمال. الا ان خليلاً من الهبات التي جاد بها لبنان على العالم، فصار لا شاعر القطرين فقط بل شاعر الأقطار العربية. وكل للقطر الشقيق مصر الفضل الأكبر في إفساح المجال لإنماء مواهبه وتجلي عبقريته. فافضلت مصر بذلك على عالم العروبة بأجمعه.
ولقد رأينا في شواهد المنزلة العليا التي يحتلها خليل مطران في عالم العروبة بشتى فروعه ما كان من إجماع الرأي في العالمين: القديم والجديد على تكريمه في ذكرى يوبيله الذهبي الذي وافق الاحتفال به في سنة 1947. ففي مصر جرى الاحتفال الرائع في الأوبرا الملكية برعاية جلالة الملك، واقيم في نفس الموعد احتفالا متشابها في سائر الأقطار العربية، كما أقيمت حفلة في نيويورك برعاية جريدة الهدى وبحضور الأستاذ أميل زيدان صاحب الهلال ومندوب لجنة التكريم المركزية في القاهرة، وبمشاركة عدد كبير من رجال الأدبمن مقيمين وزائرين، ومن ساسة العرب وفي مقدمتهم فارس بك الخوري.
وما دمنا قد أكرمنا خليل مطران حيا، اعترافا برفيع أدب هـ وعميم فضله فاحر بنا ان نشارك العالم العربي في تكريم ذكراه برهانا على شدة شعورنا بألم خسارتنا إياه وحقا ان الخسارة بليغة والألم شديد، وإذ نحن نقوم بواجب الذكرى فإنما نقدم على ذلك عن شعور صميم.
وما هذه بالمرة الأولى التي تنهض بها جريدة الهدى للقيام بواجب نحو أدباء أفذاذ افضلوا على عالمنا بما خلفوا فيه من آثار خالدة من نتاج الأدب. وإذا نحن لم نذكرهم جميعا فنكتفي(841/29)
بالإشارة إلى شوقي وحافظ والبستانيين عبد الله وسليمان الذين كانت حفلة تكريم ذكرى كل منهم مجلى لا ينبع نتاج الأدبواجمل مظاهر الشعور الصافي بين المهاجرين.
وقد خاطبنا في أمر الحفلة التأبينية للخليل مطران طائفة من الأدباء فاجتمعوا على إقامتها في موعد الأربعين الموافق اليوم العشر من شهر آب القادم. وكان في طليعة المحبذين الأديب المصري الكبير المقيم بيننا الآن في نيويورك الدكتور أحمد زكي أبو شادي الذي كتب إلينا في الموضوع يقول:
(ان فجيعة العالم العربي في شاعره العبقري النبيل لاعظم من ان تصور. وما الغاية من التأبين الا الاعتراف بالجميل واستخلاص العضات والدروس المهمة من حياة مجيدة، وإذا كانت مصر ولبنان تتنافسان في نسبة الفقيد العزيز إلى ربوعهما فلا مشاحة في ان لبنان - مسقط راس مطران - أحق برعاية تأبينه وان كانت مصر قد تصدرت لطبع آثاره ودواوينه).
وقد تلطف الدكتور أبو شادي بقبول تولي سكرتارية حفل التأبين، كما كان قد تلطف بتولي عرافة حفلة التكريم التي أقيمت للفقيد في نيويورك منذ سنتين بقينا بان علينا جميعا واجب التآزر والتعاون في تكريم النبوغ في ذويه وقد كان الخليل في الطليعة.
في النقد الأدبي:
تتجه مراقبتنا إلى الناقدين في هذه الآونة؛ فلم نجد صراحة التنزه عن الممالاة، فافاضة الإطراء تفيض على الناتج ما يباعد بينه وبين المؤاخذة، وإذا كان العمل الأدبي الفذ أساسه (التعبير عن الحياة).، فقد نأى التذوق عن تبيانه على أسلوب قوام مسقط بعيد عن التحامل والدخل!.
وان منهج (النقد الأدبي) يقوم على (الفهم، والأناة، والإلمام والموازنة)، ولكن أداته لم تعد ذات جلال لانحرافها عن القصد إلى الغاية.، فالوساطة قد تغلغلت في حياتنا حتى شملت حاسة الضمير فأبدلته وأثرت في حكمه، والفت رقابته التي لها القول الفصل في الحكم على الأمور.
وأدبالقصة لون يلون (التجربة والخبرة).، لأنه يصور الحياة تصويرا دقيقا.، فينقل المشاهدات من عبارات تختلف قربا وبعدا على قدر الملابسة (النفسية) لموضوع القصة.(841/30)
ورسالة القاص يجب ان تلم إلماماشاملا بمعنى (التجربة) حتى يجئ عمله الفني صورة حية مشخصة إما م باشرته، على ان لا يوغل في الخيال الجزاف أو الاسترسال المسرف، استدناء لميول (شعبية)، أو استثارة لغرائز بدائية.
نقول هذا بعد قراءتنا قصة للرجل المهم الأستاذ (توفيق الحكيم). . . اسماها (ليلة الزفاف). وحسبك ان ترى في العنوان سمة استمالة الغريزة، لكنك سترى تصويرا لرجل (مثالي) أضفى عليه الخيال الحكيم ما باعد بينه وبين البشرية، حتى كاد ان يلحقه بالتجريد، ويدينه في خلائق النبوة! وان تلك الصورة - الوهمية - على ما فيها من تجاف عمن الواقع (في الحياة)، تدلنا على مدى رغبة القاص في السمو بالمعاني الروحية، ومجانية الماديات، لكنها في الوقت نفسه تثير الغريزة الفوارة بالجسدية عن طريق أسلوب العرض القصصي استجابة للميول (الشعبية) التي أشرنا إليها.
ولقد صورت لنا صورة (البطلة) انها تنام على وجهها (كذا!) ثم تحتضن الوسادة. فهل يرضى الفن الرفيع ان يعبر رجل أصيل في التعبير الأدب ي السامي: (وطوقته وضمته. . . وإذا هو يجد نفسه مكان الوسادة التي اعتادت ان تحتضنها ليلا!).
كان يمكن للحكيم ان يقول: (ودنت منه. . . ثم سبحت روحاهما في سماء الحب القدسي). . . لكنه تعبير شعبي أثره، وليس هذا فيما نعتقد الرمز الصادق لما يسمونه (الأدبالواقعي).
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
تعلم اللغة بدراسة الأساليب:
حضرة المحترم الكاتب النابه الأستاذ عباس خضر
قرأت كلمتكم السامية بالرسالة الغراء عن تعليم اللغة بدراسة الأساليب. وقد كنت ارقب من حين إلى حين الكتابة عن هذا الموضوع الحيوي الذي يتصل بقوميتنا وحياتنا اتصالا قويا.
ولقد راقني جدا الإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه، فشفيت نفسي، وأثلجت صدري، غير أني احب ان ازداد فهما لمعرفة استخلاص قواعد اللغة من الأساليب، فانك مع تعليقك عليها لم تشفي غليلي، وتنقع غلتي، لانك أتيت بتفسير من عندك وكان ينبغي ان تأتي(841/31)
البيوت من أبوابها، تسال حضرات المفتشين عن المراد من تعليم القواعد بالأساليب.، لأنني رائيتك تتكلم عن القواعد باعتبار ما كان. حتى انك قلت: (ولا تزال منهج اللغة العربة في المدار مثقلة بهذا النحو، وخاصة في المدارس الابتدائية. فالطفل في السنة الثانية مكلف ان يعرف الفاعل والمفعول به والمبتدأ والخبر ومطالب بتكوين جمل. . .).
وفاتك ان تعرف بان تلميذ السنة الثانية غير مكلف بمعرفة الفاعل والمفعول به ولا بمعرفة تكوين الجمل، فقد حذف النحو من منهجه، وصار يتعلم اللغة بالأساليب من غير استخلاص القواعد. والواقع ان اللغة العربية في أمر مريح وقلق شديد، فمنهاجها في تغيير دائم، فقد يغير المنهاج الدراسي في العام الواحد مرتين أو اكثر - كما حصل في هذا العام - وبجوارها اللغة الإنجليزية لا تغير منهاجها الا في فترات مختلفة متباعدة.
ومنهج اللغة العربية لو اطلعت عليه لوجدته عجيبا غريبا يدعو للسخرية والابتسام، فالمدرس مكلف - كما تعلم - ان يستخرج القواعد من الأمثلة أو بتعبير أدق من الأساليب، ولكن الكتب المقررة لا تفيد المطلوب، ولا المنهج نفسه يعين على الاستخراج والاستنباط.
فتلميذ المدارس الابتدائية حدد له منهج في اللغة العربية يبدا بمعرفة المبتدأ والخبر فكيف يستنبط المبتدأ ويعرف انه اسم وهو لم يعرف الاسم والفعل والحرف؟ ثم يطالبه المنهج بالمطابقة بين الخبر والمبتدأ وهو لم يعرف علامات الإعراب: الأصلية والفرعية ثم يطالبه بالإعراب والتلميذ قد حماه الله من المعرب والمبني، ثم يطالبه بالمطابقة بين الحال وصاحبها والصفة والموصوف، وهو لم يطالب بمعرفة النكرة والمعرفة، ليفرق بين الحال والصفة، إذ الحال ينبغي ان يكون صاحبها معرفة إلى غير ذلك من الأشياء المتناقضة المتعادية، فليس يكفي ان نقول استخلاص القواعد من الأساليب ونسكت، بل يجب ان يبين لنا الأستاذ العميد الطريقة فالأبواب المقررة على التلميذ معلقة بين السماء والأرض. لا تستند إلى شئ، ولا تقف على أساس.
وما تلك الأساليب أهي أساليب عصرية أم قديمة؟ فاللغة العصرية الموضوعة أمام التلميذ إمامفتعلة متكلمة وضعها الواضع للصغار وقد خلت من الرونق والبهاء وإمامختارة من شعراء وكتاب كشوقي وحافظ والمنفلوطي، ولغتهم أعلى من إدراكه، وإذا كانت الأساليب المشار إليها قديمة فتلك أدهى وأمر، فأنت أيها الأستاذ في حيرة معي، فالنحو في المدارس(841/32)
قد بتر بترا، والأساليب غير كافية وغير شافية. فماذا نصنع للإبقاء على تلك اللغة والمحافظة على رونقها وبهائها، لقد ابغضنا النحو والإعراب وحيل بين التلميذ والرياضة الذهنية - كما كان يقال - فماذا يقدم حتى يجد في نفسه لنفسه دافعا يدفعه إلى العناية بها، والتعلق بآدابها؟.
إماأنا.، فمتشائم لان إهمال النحو سيعطي للتلميذ فكرة خاطئة بجانب فكرة خاطئة سابقة فهو سيعتقد ان اللغة محفوظات ومطالعة وإنشاء لا بالمفهوم الذي نفهمه نحن، ولكن بالمعنى الذي يفهمه التلميذ، فأي قصيدة تكفيه، والمطالعة فيها تسامح، والإنشاء أي كلام ينفع لان اللغة العامية لغة عربية، وصدقني ان بعض المدرسين لا يتورع من وضع الدرجة على اللغة العامية ما دام المعنى مستقيما. وبجانب ذلك قد تعلم اللغة الأوربية تعلما صحيحا ودرسها بعناية، واهتم بها ليله ونهاره، فهو يتلقاها نقية من العامية، ويتمرن عليها بجد واجتهاد، إمااللغة العربية فتاتيه بعاميتها، ويقبل عليها من غير اهتمام.، لأنه سينجح فيها اهتم بها أو لم يهتم، وهذه نهاية محزنة، وخطب جسيم يجب ان نتحاشاه فالواجب إذن ان يوضع المنهج وضعا جديدا يلائم بين أبواب النحو حتى يفهمها التلميذ فهماً تاماونقدم إليه أساليب جيدة تختار بعد تمحيص وتنقيب.
فإليك أيها الأديب الغيور كلمتي راجيا منك ان تعاود الكتابة في ذلك الموضوع حتى تصل إلى حل يرضي المفتش والمدرس والتلميذ.
السيد حسين قرون
المدرس بسوهاج الابتدائية للبنات
رد على معترض
قرأت في العدد (833) من الرسالة الزاهرة كلمة في البريد الأدب ي بتوقيع السيد راتب يحيى الشامي. يعترض بها على فقرتين من كلمة سبقت لي في الرسالة بعنوان (ثلاثة جاهدوا فصدقوا).
وفيما يتعلق بتلك الفقرتين انبه المعترض الكريم إلى انه حين يدقق النظر في الكلمة نفسها يجد جواب ما يتساءل عنه في ثنايا الكلام.(841/33)
على ان الذي عجبت له ان يعرف هذا السيد (الشامي!) أنني من (السلط من شرق الأردن) ثم لا يعرف إلى جانب هذه الحقيقة - التي لم أنكرها يوما - أنني مواطن من فلسطين منذ ما ينيف على الأربعة عشر عاماأساهم في التوجيه الثقافي في هذه الفترة من الزمن. ولقد طفت في مختلف أنحاء البلاد زائرا أو محاضرا، فتعرضت إلى النفر المثقف من أبنائها. ولعلي لا أبالغ حين ازعم ان الكثيرين من هذا النفر الطيب يعدونني في معارفهم ان لم اكن في أصدقائهم.
ولقد عجبت أيضا ان يفوت هذا السيد (الشامي!) - إلى جانب ما عرف - أنني منذ سبع سنوات أحاضر من محطتي القدس والشرق الأدنى، ثم من محطتي دمشق وبغداد (بعد ذلك) عن الأدبوالأدباء في فلسطين من قديم وحديث، حتى انتهيت من هذا كله إلى ان أضع كتابا بعنوان (الأدبفي فلسطين) وان انشر في مجلة الرسالة الزاهرة ما يزيد على عشرة فصول منه، دون ان أجد من يعترض على ما كتبته أو حاضرت به من أدباء البلاد وأبنائها!!.
ثم لا ادري أخيرا كيف فاته ان يعلم ان إدارة المعارف الفلسطينية انتدبتني للعمل في معاهدها بفضل هذه المواطنة التي أشرت إليها آنفا. . . فهل ترى يا أخي المعترض بعد ذلك كله؟ (ان معرفتي بجغرافية فلسطين واهلها (على رأيك) محدودة جداً)، فان كان (خطبك!) - يا أفادك الله - يقف عند حدود الإشفاق على جغرافيا فلسطين (وليس غير؟) فليفرغ روعك، ولتعلم أني ما تحدثت عن مكان الا وقد نطاته قدماي، ولا ترجمت لأديب الا بعد روية وتبصر واطلاع على ما تصل إليه يدي من أثاره. ثم ان الذي نشرته (أو أذعت به) فصول من كتاب، وان في الكتاب ما تفتقده من تتبع تلك الفصول.
ومع ذلك لن يضيرني أبدا ان أجد من يأتي بأوفى مما أتيت به، ويصنع اكمل مما صنعت. فما أنا وذاك الا خادما حقيقة، لا نستوفي عما نصنعه اجراً، الا ان يكون مثل هذا الإعجاب الذي كتمه فؤادك ونم عليه قلمك!.
محمد سليم الرشدان(841/34)
البلاغة العربية في دور نشأتها
تأليف الدكتور سيد نوفل
بقلم الأستاذ علي العماري
هذا الكتاب يؤرخ الدور الأول للبلاغة العربية، وقبل ان أتحدث عنه أحب ان أقول ان البلاغة العربية تنوء بظلم فادح، فكل فن ينال قسطا غير يسير من عناية العلماء، وهي وحدها التي ظلت قرونا عديدة تضطرب في دائرة ضيقة من قواعدها السكاكية، فدراستها في معاهد التعليم على اختلاف أنواعها في مصر وفي غير مصر لا تبعد كثيرا عن هذا المنهج القديم، والتأليففيها مشدود إلى هذا المنهج نفسه بأمراس كتان، حتى الطريقة الأدبية التي عنى بها بعض العلماء، وخصوصا قبل العصر السكاكي لا تنال حظها من الدراسة والتأليف، ولهذا فكل كتاب يؤلف في علوم البلاغة على نمط جديد نعتبره خدمة جليلة لهذه العلوم، والكتب المؤلفة فيها معدودة تعد على أصابع اليدين وبعضها لا غناء فيه، فلا تزال البلاغة العربية مجاهل يسلكها طلاب المعرفة من غير دليل، ويعتسفون مثانيها ومحانيها على غير الهدى، ولا بد من جهود جبارة ومن عمل دائب، مع إخلاص وصدق حتى ان تعقد على أسس قويمة خالصة من تلك الشوائب الكثيرة التي تعقد مسائلها، وتعكر مناهلها.
والكتاب التي نحن بصدد الحديث عنه عالج شأنا من شؤون البلاغة المهمة، عالج البلاغة في أبان نشأتها، وتحدث عنها في لفائف المهد تباركها أيد قليلة وتربت عليها برفق وحنان وتفديها بما تستطيع ان تقدمها لها في العهود البعيدة والكلام في تاريخ نشأة البلاغة ليس حديث العهد بالدراسة، ولكن أقلاماتناوله، وأظن ان أول من تناول هذا التاريخ صاحب المعالي الأستاذ الشيخ عبد الرزاق في كتاب الأسماء (الأمالي) ومن الذين كتبوا فيه الأستاذ الشيخ أمين الخولي أستاذ البلاغة العربية في الجامعة المصرية في كتابه (فن القول).
وقد قرأت رسالة في هذا الموضوع للأستاذ الشيخ أبي الوفا المراغي مدير المكتبة الأزهرية، غير ان الدكتور نوفل زاد على هؤلاء انه ركز موضوعه في البلاغة عند الجاحظ، والكتاب مقسم إلى قسمين: القسم الأول تحدث فيه عن البلاغة قبل عصر الجاحظ، وقد سجل فيه جهود العلماء والأدباء والمتكلمين والمعلمين ومجالس النقد في نشأة البلاغة، والقسم الثاني تحدث فيه عن جهود الجاحظ في البلاغة، وهذا القسم يعتبر جديدا،(841/35)
ويا حبذا لو اقتصر المؤلف على هذا القسم، فانه موضوع بكر، وقد بسط القول ووفاه، ولو كتابه (البلاغة عند الجاحظ) لأصاب المحز، وطبق المفصل - كما يقولون - على ان القسم الأول من كتابه جاء تكرارا لما كتبه العلماء، وفيه بسط يعتبر من فضول القول، فقد اخذ الأستاذ على نفسه ان يترجم لكل من له حكمة في البلاغة أو إشارة إليها من قريب أو بعيد، ترجم لأبي بكر وعمر ومعاوية، وترجم للعتابي وسهل بن هارون وشبيب بن شبة وعبد الحميد والمقفع، وجعل كلامهم في فصل مستقل، وكان يمكن ان يكتب فصلا يذكر فيه آراء هؤلاء في البلاغة، ومدى تأثير هذه الآراء في نشأة علومها، وهل يترجم لواصل بن عطاء لأنه ألف كتأبين يحتمل ان يكونا في البلاغة، أو لان الجاحظ نسب إليه العلم بان الخطابة في بحاجة إلى البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة؟ فإذا تجاوزنا الرجال إلى الموضوعات وجدنا فصولا لاحاجة بالكتاب إليها كالفصل الذي عنوانه (العصر الجاهلي) ولو نقل منه كلمة أكثم بن صيفي، واصطناع الكهان للسجع إلى الفصل السابق لاستغنى عن هذا الفصل، وكذلك الفصل الذي يليه لا حاجة إليه، وما دخل حديث القران أو الرسول عن البيان في نشأة البلاغة ليس فيه ما يمس البلاغة إلا الحديث عن مذهب الرسول في القول، وهو كلمات، ولو انه صح لنا ان نرسم للمؤلف المنهج لقلنا: ان القسم الأول الذي ينتهي بالصفحة 92 كان يكفي فيه عشر صفحات، فصل يجمل فيه القول عن اثر النقد في البلاغة، وأظن المؤلف لن يزيد شيئا عما كتبه الدكتور طه إبراهيم في كتابه (تاريخ النقد عند العرب) - كما فعل - مع شئ كثير مما لا حاجة إليه، وفصل يتحدث فيه عن المدارس التي درجت البلاغة قي ظلها، ويكتفي في هذا الفصل بجهود المتكلمين واللغويين والنحاة والأدباء. إماالفصل الثالث فيتتبع فيه آراء السابقين للجاحظ في البلاغة، ويترجم لاثنين منهم أو ثلاثة كأبي عبيده، ثم يتحدث عن كتابه، وكل هذا لا يستغرق عشرين صفحة، وقد استغرق فيه المؤلف تسعين صفحة!
على ان المؤلف فاته ان ينوه بأثر عالمين جليلين في البلاغة، وهما من أوائل العلماء قولا فيها، أحدهما الخليل بن أحمد وقد تحدث عن الجناس والمطابقة والاستعمال المجازي، والآخر سيبويه وقد تحدث في (الكتاب) عن مجاز الحذف، وعن التأخير والتقديم، إلى مباحث أخرى تمس البلاغة.(841/36)
إماالقسم الثاني، فهو لب الكتاب، وقد بيت القصيد في كتابه، فانه قال في المقدمة: (لما كان الجاحظ هو مؤسس علم البلاغة العربية وجامع مسائلها لم يكن مناص من اتخاذه الأساس الأول لهذه الدراسة). وقد وفق كل التوفيق في دراسة البلاغة الجاحظية وبلغ الغاية، ولا نملك إلا الثناء المستطاب على هذا الجزء من الكتاب، ولو أردنا ان نصور عمله لما وجدنا أوفى من تصويره وهو لمجهوده قال: (ولما كان - يريد الجاحظ - أكثر معاصريه استطرادا، أبعدهم عن مراعاة النظام في التأليف، فقد كان من العسير على من يبحث موضوعا عنده ان يركن إلى كتاب معين، وكان لابد لدارس بلاغته من قراءة جميع كتبه، وجمع المتفرق فيها، والمقابلة بينه وتفسيره، إذ كثيرا ما يبدو متناقضا، وهذا ما صنعت، قرأت ما بأيدينا من كتبه، وجمعت النصوص التي ورد فيها ذكر البلاغة أو أي اصطلاح من اصطلاحات علومها، أو لفظ من ألفاظها، أو معنى من معانيها، وحاولت ان أصور هذه الاصطلاحات كما تدل عليها تلك النصوص المبعثرة). ولم يفته ان يتحدث عن بعض معاصري الجاحظ وعن بعض الذين جاءوا بعده، وان كان حديثه إشارات عابرة.
وقصارى القول في جملة هذا الكتاب ان الجزء الأول منه سابغ فضفاض، وكان من الواجب ان يركز ويقتصر فيه على الأغراض الرئيسية في الموضوع. إماالجزء الثاني، فقد بلغ فيه الغاية، أجاد أفاد، لكن بقيت لنا تفصيلات نحب ان نراجع المؤلف فيها ونطرحها للبحث والدراسة، وسنغض الطرف عن الأغلاط الجزئية، وإنما نتناول مسائل ذات أهمية:
تحدث المؤلف عن قصة نقد النابغة لحسان بن ثابت في بيته المشهور: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى=وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وما كان من قول النابغة له: أقللت جفاتك وأسيافك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان ابلغ في المدح؛ وقلت يقطرن من نجدة دما، ولو قلت يجرين لكان اكثر لانصباب الدم؛ ثم يقول المؤلف: (وقد يقال ان هذه الروايات ضعيفة - على ما قرر ابن رشيق من شهرة حديث النابغة، لكنها تلائم طبيعة الحياة الفنية، فيمكن الاطمئنان إلى وقوعها).
ونقول ان الحديث مشهور، ومشهور كذلك انه موضوع، ولسنا نلف وندور، ولكنا نضع هنا(841/37)
قول الدكتور طه إبراهيم في هذه القصة، فلعل فيه بلاغا؛ قال بعد ذكر هذه القصة واختلاف وجوه النقد فيها: (وكل ذلك تأباه طبيعة الأشياء، وكل ذلك يرفض رفضا علميا من عدة وجوه:
1 - فلم يكن الجاهل يعرف جمع التصحيح، وجمع التكسير،
وجموع الكثرة والقلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين هذه
الأشياء، كما فرق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد
لا يصدر الا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف
الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألم بشيء من المنطق.
علي العماري(841/38)
القصص
الأحلام
مسرحية للكاتب الإنجليزي أرك برادول
ترجمة الأستاذ علي محمد سرطاوي
أشخاص المسرحية:
إيف: (حواء) وهي فتاة جميلة في الثامنة عشرة من العمر
الجد: وعمره فوق الثمانين
روح
طبيب
أمير
امرأة
مكان المسرحية:
(منزل الجد: غرفة مريحة كسيت جدرانها بألواح من خشب البلوط قد عبث بها الدهر. في طرفها موقد كبير يتأجج في ناره حطب جزلي. ضوء الغرفة شاحب مضطرب، يتألف معظمه من لهيب النار. وهي غرفة تتراقص فيها الأشباح ويتراخى فيها هدوء عميق شامل. جلس الجد أمام الموقد، وقد أحنت ظهره السنون، وقد راح ينفث الدخان من غليون يماثله في القدم. ويبدو في مطلع المسرحية هادئاً لا يتحرك إلا قليلاً.
وجلست إيف أمام الموقد، منحرفة عن النار قليلاً، وقد تراقصت على وجهها ظلال اللهب، وتدل نظرات وجهها على القلق والحيرة. وكلما امتد شوط المسرحية يبدو معنى اسمها (حواء) واضحاً جلياً. أما لباسها فبترك لذوق المخرج وفنه وكل ما يتصل بحوادث المسرحية نفسها فإذا أخذ نصب عينيه أن يقلل من أهمية الزمن للمشاهدين فقد يوفق كثيراً وحينما ترتفع الستارة، تقف إيف ناظرة إلى الباب. ولا داعي مطلقاً لقطع الصمت الذي نستغرق فيه. وعندما يبتدئ الحوار يجب أن يكون هادئاً وبطيئاً).
الجد: فيم تفكرين يا بنيتي، وماذا يدور في خلدك؟(841/39)
إيف: (في بطء) أفكر قليلا في أمور خطيرة، وكثيرا في أمور تافهة!
الجد: أصحيح ما تقولين؟ إذا لم تخني الذاكرة، فقد كانت أمك كذلك، وكانت أمها مثلها.
إيف: نعم! إننا من طينة واحدة. ما اغرب ذلك. الا يدعو أمر من هذا النوع إلى العجب!
الجد: لا يدعو إلى الغرابة الا السر المجهول، وحتى ذلك لا يبدو غريبا إذا اتصل بعلم الإنسان!
إيف: (متنهدة) نعم يا جدي!
الجد: لماذا تتنهدين يا وردتي العابقة!
إيف: لماذا تتنهد كل امرأة!
الجد: حقا. . . لماذا. . .؟ لقد حيرني هذا الأمر طويلا!
إيف: آه. . ترى لو قيل لي اختاري شيئا واحدا بمفرده من الدنيا بأسرها، فهل كنت أستطيع ذلك؟
الجد: لا تتعلقي بأمل واحد، مخافة ان تمر بك آمال أخرى فلا تتلفتين إليها في سير الحياة!
إيف: لست اعرف بالضبط أملا واحدا أهفو إليه.
الجد: أكان هذا سبب تنهدك؟
إيف: نعم. . . انه عمر حافل، تكاد صوره تفلت من ذاكرتي. (يتنهد) والذي اعرفه انه كان طويلا جدا.
إيف: إذن في مقدرك ان تخبرني عن اثمن شئ في الدنيا؟
الجد: ان اثمن شئ في الحياة يا بنيتي، هو الشيء الذي لا تصل إليه يد الإنسان، والإخفاق هو أساس التقدير. لا تتعبي خيالك المرهف بأفكار معقدة من هذا النوع.
إيف: لست أنا التي تضطرب في مهب هذه الأفكار، ولكنها هي التي تدفعني إلى الاضطراب دفعا عنيفا في تيارها.
الجد: ان كل إنسان في الدنيا يتمنى ان يحصل على الصحة والثروة والسعادة.
إيف: (مفكرة) الصحة. . . والثروة. . . والسعادة.
الجد: لا اعرف إنسانا اجتمعت عنده هذه الإما ني الثلاث، وقلما أدرك أحد أمنيتين منهما؛ وإذا كان في استطاعتك الحصول على واحدة منها فان حظك لسعيد.(841/40)
إيف: (في رقة) نعم. . . يا جدي. (تشير فجأة إلى النار) آه! انظر!
الجد: ماذا؟
إيف: لقد تلاشى. آه. . آه. . لقد خيل إلى إنني أرى شبحاْ صغيراْ يرقص على اللهيب.
الجد: انك مرهق الإحساس، وكثيراْ ما يرى صاحب هذا الإحساس أحلاماغريبة.
إيف: وكثيرا ما أراه هناك حينما أفكر كثيرا (بسذاجة) لعلني أحلم دائما بالآمال
الجد: (ملاطفا) ان الأحلام لا تضر أحدا.
إيف: أحب ان أتمنى الثروة لأننا فقراء. . .
الجد: لكن لا تنسي ان الثروة كثيراً ما تسير في ركبها التعاسة!
إيف: إذن سأتمنى السعادة.
الجد: هل في استطاعتك ان تكوني سعيدة بغير صحة؟
إيف: آه. لقد فاتني ان أتمنى الصحة التي هي اثمن شئ في الحياة (في تصميم) نعم. . . نعم سأتمنى الصحة. ولكن إذا لم أتمن الثروة فسنظل فقراء، ولم اعرف ان الفقر حمل السعادة لنا في الماضي، فأريد أن أتمنى الثروة أيضا. وما دمت ترى ان الثروة لا تجلب السعادة، فأود ان أتمنى السعادة أيضا. (بحرارة) آه. . يا أبت. . . لقد تمنيت الثلاثة مجتمعة بدل من واحدة! (يداعب النعاس عيني الجد، فيأخذ رأسه في حركة بطيئة يميل إلى الإما م، ويستقر على صدره. . . وترتخي يده الممسكة بالغليون فيسقط على صدره أيضا. تخمد النار فجأة. . يمر بالغرفة تغيير مفاجئ تتراقص في جوها الأشباح. . تحملق أيضا في اللهب مبهورة. . . وعلى غير توقع تسمع من ورائها. . . من الظلام صوتا يقول: (
الروح: ولكن ليس في مقدورك الحصول على الثلاث معا.
إيف: لماذا؟ من أنت؟
الروح: أنا روح اللهيب الذي لا يفنى. . . أنا الذي يمنح الإما ني النادرة للذين يستطيعون الاختيار.
(ترى إيف الروح الآن في الظلام الذي يعتصم به غير جلي. . . وقد بدا كتلة من السواد لا تستطيع تبيان شكله. في استطاعة المخرج ان يطلق لفته العنان في الترتيب)
إيف: (في شئ من السرور) يا للسماء؟ لقد رأيتك ترقص في اللهيب.(841/41)
الروح: آه. . نعم. أنني أرى في كل نار. . . في نار الشباب. . . وفي نار الحب. . . وفي نار الطموح. .!
إيف: ولماذا أتيت إلي!
الروح: لأحضر لك هدية!
إيف: (تدق يدا بيد) ما أجمل ذلك. ما هي؟
الروح: أثمن شئ في الدنيا!
إيف: (في لهفة) ولكن ما هو ذلك الشيء؟
الروح: ان اختياره يتوقف عليك.
إيف: (باكية) ولكنني لا أعرف.
الروح: يجب عليك ان تختاري.
إيف: (في شك) كيف في استطاعتك إعطائي ما اختار!
الروح: أستطيع ان أعطيك شيئا واحدا. . . أي شئ. . . على ان يكون من اختيار نفسك ومن غير إيحاء الآخرين.
إيف: ولكن جدي الذي تراه يغط في نومه إما م النار يقول ان أثمن ثلاثة أشياء في الدنيا هي الصحة والثروة والسعادة كيف أستطيع اختيار واحد منها؟
الروح: هنالك أشياء أخرى (محذرا) ولكن تذكري انك لا تعطين الا شيئا واحدا فقط.
إيف: يبدو لي الأمر أكثر صعوبة مما توقعت. علي ان لا أكون متهورة في الاختيار.
الروح: (بعد صمت) هل اخترت؟
إيف: واأسفآه! لم أستطع. أليس في امكانك مساعدتي؟
(يتلاشى خيال الروح مبتعدا في الظلام)
إيف: أرجوك البقاء! لما أختر! أريد ان أكون أكثر رؤية وحذرا!
الروح: أوه! أود مساعدتك! سأريك الصحة والثروة والسعادة. ولكن اذكري دائما ان هنالك أشياء أخرى غيرها في الحياة.
إيف: كيف؟ أيمكنني ان أرى ذلك؟
الروح: (في غضب) سأريك ذلك. لا تسأليني كيف؟(841/42)
إيف: أنني لشديدة الأسف! (بعد صمت) أرجو ان لا أكون قد أسأت إليك.
(لا تسمع جوابا. تفتش الغرفة. لقد اختفى)
إيف: (مضطربة) أرجو ان لا أكون قد أسأت إليه.
(قرع عنيف على الباب)
إيف: آه. . من الطارق؟
(تقترب من جدها لتوقظه، ولكنها تتوقف عن ذلك. . . تتراجع إلى الباب ماشية على رؤوس أصابع رجليها. تفتح الباب. يدخل شاب جميل يبتسم)
الطبيب: عمي مساء. أرجو ان تغتفري لي تطفلي بالمجيء إليكم في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل. لكنها زيارة لم أجد بدا منها.
إيف: هل طلب ذلك إليك أحد؟
الطبيب: لم يطلب الي ذلك! الفرق طفيف. . . أكرر اعتذاري مرة ثانية؟
إيف: آه. . لم نرسل في طلبك أبدا! أتريد ان تقابل جدي؟
الطبيب: رغبة من هذا النوع لم أفكر فيها!
إيف: إذن لماذا أتيت؟
الطبيب: أتيت لأراك!
إيف: أرجو ان توضح ذلك!
الطبيب: أنني طبيب كمعظم الأطباء، غير أنني أختلف عنهم قليلا.
إيف: في أي شئ تختلف عنهم!
الطبيب: أنني لا أعالج مرضى.
إيف: لا تعالج مرضى! ألا يبدو كلامك غريبا!
الطبيب: غريبا! لماذا يبدو لك غريبا!
إيف: (بصراحة) حسنا! إذا كان ما تقوله صحيحا فانك طبيب غير ماهر لا يستعمل معرفته وفنه.
الطبيب: لكنني من طراز نادر من الأطباء.
إيف: إذن لماذا لا تعالج المرضى؟(841/43)
الطبيب: لا أعالجهم لأنني لا أستطيع شفاء أمراضهم!
إيف: (في لهجة قاسية) فلست طبيبا أبدا!
الطبيب: ما الذي يدعوك إلى هذا الظن؟
إيف: لانك لا تستطيع شفاء المرضى.
الطبيب: (في لطف) لا أستطيع شفاء المرضى لأنني لا أراهم ولعلك تلاحظين الآن الفرق جليا.
إيف: بالتأكيد. هنالك فر ق عظيم.
الطبيب: وان حزنا غريبا ليعتادني من وقت إلى آخر.
إيف: قد يكون ذلك صحيحا.
الطبيب: لا تبصر عيناي المرضى على كثرة عددهم. لا ترى عيناي غير الصحة في أجمل وأروع مظاهرها.
إيف: ان ذلك يبدو غريبا محيرا.
الطبيب: لقد مر ألف عام علي، لم أجد فيها مريضا واحدا أجرب فني في معالجته.
إيف: (غير مصدقة) ألف عام؟
الطبيب: (متلطفا) هل بدا ذلك مخيفاً؟
إيف: آه. ربما. . . لا. . . لا
الطبيب: أتظنين ان ملامح وجهي تدل على عمري
إيف: أبد. انك تبدو قوياً، جميلاً، فاتناً
الطبيب: شكراً لك. ان هذه النقطة مهمة جداً
(يتململ الجد ويسمع لاستيقاظه صوت)
الجد: (يعتدل في جلسته) لقد غلبني الكرى على أمري
إيف: نعم يا أبت
الجد: من هو هذا الشاب يا إيف؟
الطبيب: عم مساء يا سيدي الشيخ الوقور
إيف: انه طبيب يا أبت. هكذا أخبرني(841/44)
الجد: (مرتجفاً) طبيب! هل نحن في حاجة إلى طبيب؟ أكرر قولي هل نحن في حاجة إلى طبيب يا إيف: (إلى طبيب) لماذا أتيت؟
الطبيب: أتيت لأشاهد جمال حفيدتك الساحر الذي تحدثت به الركبان في كل مكان ذهبت إليه في البر والبحر.
الجد: وماذا تريد؟
الطبيب: أريد ان أطلب يدها للزواج
الجد: أتعني ما تقول؟ ان هذا أول طلب أسمعه. هل في استطاعتك إسعادها؟
الطبيب: كيف تريد ان تكون سعادتها؟
الجد: بمتاع الدنيا
الطبيب: لا أحب متاع الدنيا وما فيها من نوهم وغرور
الجد: (بلهجة جافة) ولكن حفيدتي تحب ذلك. ما هي ثروتك؟
الطبيب: أتريد ثروة الجسد، أو الروح، أو ثروة المادة البراقة الخادعة؟
الجد: لا تدر حول الحقائق. أريد المادة. وأعني الثروة
الطبيب: أنني لا أملك يا سيدي شيئاً من ذلك أبداً. ان مهنتي قد علمتني ان لا أقيم وزناً لأمور تافهة من هذا النوع. ان الجمال في حاجة إلى الصحة، وفي مقدوري ان أمنحها ذلك، كما في استطاعتي منحها أموراً أخرى
إيف: ما هي الأمور الأخرى؟
الطبيب: لا أعطي ما عندي إلا لأولئك الذين يغمرونني بالحب ورغماً عن طلبي يدها للزواج فأريد منها الحب قبل ان أمنحها أي شئ. وسوف ترى كيف يصنع الحب المعجزات وينيل السعادة
إيف: انتهى كل شئ بيننا. لا أحب هذه الصفقة. أنني راغبة عنها. ان التوفيق ينقصها
الطبيب: أنني أعطي الصحة ولكنني أفتش عن الحب
إيف: (غاضبة) اذهب إلى غير رجعة أيها الذي يطلب الحب ولا يشعر به، ولا يعطي إلا الصحة. . . الصحة ليس إلا، لا أريد صحتك. . . ان مرض الجسم ليس شيئاً بالقياس إلى مرض الروح أنني أرضى عن طيبة خاطر ان تهاجم الأمراض جسدي في سبيل المحافظة(841/45)
على هناءة روحي. إذهب. . . إذهب. . . إذهب
الطبيب: ما دام الأمر قد انتهى إلى هذه النتيجة، فمن العبث الاستمرار في الحديث. لن تتكرر هذه الفرصة التي أتيحت لك فرغبت عنها. أتمنى لك يا آنستي مساءاً سعيداً
(يختفي الطبيب قبل ان يتلاشى صدى كلماته)
الجد: (يعود إلى كلماته) شاب غريب الطباع. ما رأيت على شاكلته أحداً قبل اليوم
إيف: انه لكما تقول. ويخيل إلي الآن أنني كنت متهورة. لقد كان جميلاً جذاباً رائعاً. (يتسلط النوم على الجد فيغفو مرة ثانية) لا أستطيع ان أصدق انه عاش ألف سنة، ولعله لم يكن جاداً في حديثه يا أبت. كم يكون جميلاً ان يكون لإنسان صحة رائعة ثم لا يموت، وان يكون إلى جانب ذلك رائعاً فتاناً. ليتني لمست في بعض حديثه معنى من معاني الحب. لقد ساومني على جسدي فاحتقرته. من يدري! لعله يعود مرة أخرى
(يظهر الروح مرة ثانية بين الضلال المتراصة في الغرفة)
الروح: انه لن يعود إليك أبداً
إيف: أهو أنت مرة أخرى! لقد روعتني!
الروح: ألم تتوقعي حضوري؟
إيف: لا
الروح: تقولين لا. . . ان الانتظار يحمل في ثناياه معنى الشك، ويخيل إلي ان ليس لديك شك أبداً. لعلي مصيب في رأيي!
إيف: لم أفهم معنى ما تقول
الروح: أنني أتكلم كما أعيش
إيف: بالكلام الذي لا يفهم
الروح: أليست الحياة لغزاً؟ ألم تجديها كذلك؟
إيف: ان جميع ما تحدثني عنه غير واضح بالنسبة إلي أليس كذلك؟
الروح: ليس فيه شئ غامض مطلقاً
إيف: أستميحك المعذرة!
الروح: هل احتفلت بالزائر الذي أرسلته إليك؟(841/46)
إيف: أأنت أرسلته؟
الروح: نعم ألم تعرفي ذلك؟
إيف: ربما. . . لم أكن متأكدة!
الروح: وهل أحببته؟
إيف: (مذعورة). . . لست. . . حقيقة. . .
الروح: (بصراحة) كما توقعت تماما
إيف: (بهدوء) أبداً. . . كيف عرفت ما كان يدور في خاطري؟
الروح: هل كانت مهمته إذن غير موفقة
إيف: (في حنان) بالتأكيد. . . كما تقول
الروح: ان الأشياء في حد ذاتها لا قيمة لها، وإنما ترتفع تلك القيمة حينما تتلاقى الأضداد. ان التناقض أساس الانسجام في الحياة. ان الانسجام هو الذي يولد السعادة
إيف: لقد أحسنت التعبير. لا فض فوك!
الروح: لست في حاجتك إلى معرفة المتناقضات ودراستها، ليكون حكمك صحيحاً على طبائع الأشياء
إيف: كيف؟
الروح: (محتداً) لا تسأليني أسئلة في هذا النوع
إيف: (بهدوء) آسفة جداً. عفواً
الروح: سأريك الثروة، ولست أدري كيف يكون موقفك منها؟
إيف: ولست أدري أيضا
(تسمع أصوات أبواق خارج المنزل، يختفي الروح مرة ثانية، يفيق الجد مذعورا من الأصوات)
الجد: ماذا تسمع إذناي! يا للسماء!
(أصوات في الخارج تردد الأميرالأميرالأميرتسمع إيف الأصوات فتسرع إلى مرآتها تصلح هندامها. ينهض الجد متثاقلا إلى الباب ويفتحه)
الأمير: (من طرف المسرح) أهذا منزل إيف؟(841/47)
الجد: ان لي حفيدة بهذا الاسم!
الأمير: (يدخل) إذن أرجو ان تحضرها أيها الشيخ. أريد ان أقول لها كلمة.
(يبدو الأمير في ملابس حريرية مزركشة بالحجارة الكريمة النادرة قصير وضخم الجثة. يتلفت حواليه في قلق ظاهر)
إيف: (تشير إليه) أنني إيف التي تسأل عنها.
الأمير: (يحس بشعور من الحب مفاجئ نحوها) آه. رحلة موفقة إنها جميلة.
إيف: ماذا تريد أيها الأمير؟
الأمير: (مرتبكا قليلا) أتيت لأحملك معي الآن!
إيف: تحملني معك!
الأمير: نعم فماذا تقولين؟
الجد: لا. . . ان هذا الأمر مستحيل. لقد مضى الموعد الذي تأوي فيه إلى فراشها. . قد مضى. . عليها ان. . .
الأمير: أغرب عن وجهي أيها الأثر القديم. داعب شعر لحيتك إما م النار. . إياك ان تنبس ببنت شفة
(يتراجع الجد مذعورا دون ان يقول شيئا)
إيف: (في غضب) كيف تجرأت على قول هذه الكلمات القاسية لجدي.
الأمير: تقولين تجرأت أيتها الشابة. ومن غير الأمير يفعل ذلك ويأمر الناس؟
إيف: (بجرأة) أنت تعتقد ذلك. . وربما. . .
الأمير: أنني أعجب بجرأتك التي تماثل جمالك البديع.
إيف: (ببساطة) الجمال؟ أتراني جميلة في عينك؟
الأمير: جميلة ورائعة أكثر مما أصف، وهذا الجمال هو الذي جذبني إليك.
إيف: هذا شئ يحيرني تماما.
الأمير: لقد سمعت كثيرا عن جمالك وسحرك وجمال عينيك فأحببت ان يكون كل ذلك لي من دون الناس جميعا.
إيف: لأية غاية تريد هذا الجمال؟(841/48)
الأمير: (مقهقها) انك تحملين عقل طفل برئ، وهذا من حسن حظي ويمن طالعي. وهو مما يزيد في رغبتي فيك وحبي لك وتلمسي العزاء والراحة بالقرب منك.
إيف: هل الأمير في حاجة إلى مواساة من أحد؟
الأمير: (في سرور زائد) ان لها لسانا ساحراً أيضا ومنطقا سليما.
إيف: وماذا تريد مني؟
الأمير: أريد. . . نفسك وحسبي ذلك. (يحرك يدا قد أثقلت كمها الجواهر اللامعة) انظري. أنني أدفع ثمن ما أريد ذلك غاليا. من هذا الجوهر الثمين. سيكون كل ذلك لك. . . ولك وحدك
إيف: الثروة؟
الأمير: طبعا
إيف: (في هدوء) يخيل ألي أنني قد بدأت أدرك الحقائق.
الأمير: يسرني جدا ان أساعدك على ذلك.
إيف: كيف تساعدني؟
الأمير: في فهم الأمور على وجهها الصحيح.
إيف: ليبدو لي أننا نتحدث عن أمرين متناقضين، ونرمي عن قوسين مختلفين.
الأمير: ان الثروة فصيحة لا تحتاج إلى لسان.
إيف: (بمرارة) ان الحياة مع أمير لا تروق لي.
الأمير: (بلطف) معذرة يا آنستي، لم يدر بخلدي ان أجعلك أميرة.
إيف: لكن. . . لكن ظننت انك قلت. . .
الأمير: قلت ان ثروتي ستكون تحت تصرفك. وهي كما ترين صفقة رابحة بالنسبة إليك وبالنسبة إلى ما ستقدمين لي من جمال وحب.
إيف: أوه. . . الحب!
الأمير: لقد نسيت ان أذكر لك ذلك، أعطيك الثروة وتعطيني الحب.
إيف: أتعني انك تريد ان تتزوجني؟
الأمير: (ينفد صبره) كلا، كلا. أحسب أنني قد أوضحت لك ذلك بصراحة لا غموض فيها.(841/49)
أنني أقدم لك الثروة والملابس الفاخرة والمجوهرات.
إيف: وماذا تريد مني عندئذ؟
الأمير: (بقهقهة) أريد منك ان تحبيني كما تفعل كل فتاة جميلة
إيف: لنتحدث الآن بصراحة مهما تكلفنا ذلك!
الأمير: إذن فقد اتضحت لك مقاصدي
إيف: تمامابالضبط
الأمير: هل أنت راغبة فيها
إيف: كلا. بكل أسف.
الأمير: ولكن لماذا؟
إيف: ان الزواج يتراءى خيالا جميلا ساحرا إما م عيني
الأمير: لماذا تثرثر النساء كثيرا عن الزواج في مناسبات من هذا النوع؟
إيف: ألا توافقني على ذلك؟
الأمير: ان الزواج حيلة اخترعتها المرأة لترفع من شان نفسها. دعينا من هذه الأمور السخيفة وامضى معي. لا أستطيع الزواج لان زوجتي أميرة ولي محظيات غيرها
إيف: ما أقبح ذلك بك أيها الأمير
الأمير: ليس قبيحا ما يبدو لك. إنما هي عادة اعتدتها. لقد وجدتها بعد التجربة متعبة
إيف: إذن لماذا الي بأسم الحب
الأمير: أنني أبحث عن الحب في كل مكان. انه الشيء الذي لا تستطيع ثروتي الحصول عليه. جربت ان أطلبه بثروتي في محاولات متنوعة، ولكنني عدت منها بخفي حنين. كثيرا ما يبدو لي هذا الأمر غريبا لأنني أدفع ثمن هذا الحب غاليا فلا أعثر عليه.
إيف: مرد ذلك الفشل إلى انك لا تعطي من قلبك ثمن الحب ولكن مما تملك يداك
الأمير: أخشى ان يكون ذلك مستحيلا
إيف: (تنظر إليه) ان لتجده حتما لو دفعت من قلبك ثمن الحب
الأمير: إذن ما الفائدة من الثروة إذا لم تكن وسيلة للحصول على شئ في الحياة؟
إيف: لست أعرف من الثروة ولا من فوائدها شيئا(841/50)
الأمير: تعالي. . . لتعرفي كل شئ إيف: أنني آسفة لا يمكنني ان أفعل ذلك الأمير: ولكن لماذا لا تريدين؟ (في لهجة منكسرة) لابد من سبب دعاك إلى الرفض
إيف: لانك سمين جدا وغير جميل
الأمير: (في مرارة) كنت أظن ان بريق الجواهر سيذهب بنور عينيك فلا تبصرين عيوبي. واأسفآه. ان المرء لا يستطيع ان يملك كل شئ.
إيف: ربما كان ذلك. ولكنني لم أجد صعوبة كبيرة في اكتشاف ما فيك من العيوب
الأمير: إذن ترفضين طلبي!
إيف: رفضا قاطعا
الأمير: (في لهجة حزينة) هذا ما كنت أخشاه. لقد رضيت بالغاية وكرهت الوسيلة. ان الثروة هي أحبولة الشيطان للمرأة، ولم أجد امرأة لم تقع فيها.
إيف: ان ما تقوله صعب التصديق
الأمير: لقد ولدت أحلام الحب ميتة بيننا. لقد أخفقت وانتهى كل شئ
إيف: إماأنا فلقد ربحت المعركة التي كنت احسبني مدحورة فيها
الأمير: نعم. ان ذلك يدعو إلى التفكير
إيف فكر مليا في سبب إخفاقك، ولعل ذلك يعود عليك بالخير الكثير
الأمير: (متذمرا) لا أجد شيئا يبعث الراحة إلى قلبي غير الحب الذي أضناني التفتيش عليه. لقد أخفقت فيما كان يداعب قلبي من إما ن وأحلام. كم أتمنى ان أنام نوما عميقا في الليل، وأترك الثروة التي لا تنيل الحب، طائعا مختارا
إيف: أوه. أتجد النوم صعبا بالنسبة إليك
الأمير: انه سوء الهضم أيتها الآنسة. ان الثروة لا تسير جنبا إلى جنب مع الصحة لقد دفعت ثمن الثروة غاليا من راحة جسدي. أنني ضعيف الإرادة.
إيف: إذا أصبحت إرادتك قوية فماذا تفعل؟
الأمير: لعل الأمور تختلف آنذاك. إرادة أي إنسان تقوى على الصمود إما م جمال فتاة ساحرة. ان الثروة تفتح أبوابا كثيرة ولا نعرف - إلا متأخرين ان أبوابا أخرى لا تستطيع فتحها. لا أريد ان أعترف لك كثيرا، ولكنني اندفع إلى ذلك تحت تأثير جمالك. أود لو أنني(841/51)
فقير بائس جميل الصورة فنجد السعادة بدلا من الحب.
إيف: أتحسب ان الفقر والحب لا يجتمعان؟
الأمير: قد يكون ذلك صحيحا أو غير صحيح. إنما مرد كل إلى طبيعة الإنسان.
إيف: (في هدوء) كل رأي مرده إلى طبيعة الإنسان! والآن أرجو ان تذهب، فان بقائك حتى الآن إلى جانبي لمما يؤلم جدي إذا استيقظ.
الأمير: (بدون احتشام) ألا تعاودين النظر في أمري!
إيف: أبدا. أبدا. . . جد آسفة. لن أرغب فيك مطلقا.
الأمير: (متذمرا) أنني لا أحسن الهجوم وهذا ذنبي (مبتهجا) لكن الجواهر لا تزال معي. ما أقبح الحياة إذا لم يجد المرء فيها ما ينسيه الإخفاق في حب امرأة. (صوت أبواق من الخارج) استمعي! ان رجال حاشيتي قد قلقوا لتأخري. الوداع أيتها العذراء الطاهرة. إذكريني. . . لا تجعلي ذكرياتي في نفسك مرتبطة بما تكرهين وإذكري. . . أنني قدمت إليك أحسن ما عندي. (خرج).
إيف: ما أثقل ظل هذا المخلوق القميء!
الروح: (يظهر) لقد بدا لي انك لم تحتفلي به أبدا.
إيف: أبدا. . أبدا.
الروح: ألا يدعو ذلك إلى الأسف؟ لقد كان لديه الشيء الكثير من الذي يتهالك الناس عليه في الحياة وكان راغبا في تقديمه إليك.
إيف: لقد تعلمت من ذلك أيضا ان لدي ثروة نادرة أغلى من الدر والجوهر والذهب يطلبها الناس.
الروح: نعم. نعم. صدقت.
إيف: وعلى ان أكون حريصة على هذه الكنوز فلا أمنحها من لا يستحقها.
الروح: صحيح مرة أخرى. لكن الذي أريد معرفته: ما هو اعتراضك على صديقي الأمير؟
إيف: أنني لأحس في قرارة نفسي بالأسف على خيبته، وانه إحساس يملأ نفسي بالزهو ان أشعر بالأسف على فشل أمير لقد وجدته قد فقد الإدراك الصحيح لموازين الأشياء ومقياس الحقائق.(841/52)
الروح: إماصديقي الزائر الأول، أفلم يفقد إحساسه بالزمن! ألا بربك خبريني: أيهما وجدت أكثر أهمية إدراك الزمن، أم إدراك حقائق الأشياء؟
إيف: انك تسأل أسئلة محيرة أيها الروح!
الروح: ان الأسئلة المحيرة تغلب على أجوبتها الطرافة.
إيف: اسمح لي ان أقول لك أنني تعلمت كثيرا من صديقك وكثيرا جدا.
الروح: وماذا تعلمت أيتها الآنسة؟
إيف: تعلمت ان الصحة لا تقيم وزنا للثروة، وان الثروة كثيرا ما تطلب الصحة.
الروح: يا للأسف! هل اكتشفت ذلك؟
إيف: ذلك ما تأثرت به على الأقل. وخيل ألي انهما يفتشان عن السعادة. وقد يكون مبهجا - إن لم يكن مغريا - أن يعرف المرء ما هي السعادة. (تضم بيديها) السعادة! ترى أتكون السعادة أثمن ما في الدنيا؟ لست أدري
الروح: أراك تتعجبين؟ ان كثيرا من الناس على شاكلتك
إيف: أتستطيع ان تريني السعادة يا صديقي؟
(يختفي الروح، تتلفت إيف حولهاتسير إلى الموقد وهي تفكر تفكيرا عميقا، يفتح الباب، تدخل امرأة قصيرة الجسم يبدو على محيآها الشحوب والإعياء)
إيف: (مذعورة) آه. لا شك ان هنالك خطأ. .! ماذا تريدين أيتها السيدة؟
المرأة: (في لهجة حزينة) أسفا يا بنيتي! ألا تعرفينني؟
إيف: (تهز رأسها) لا
المرأة: (في حنان) أنني أمك
إيف: أمي؟ أمي! لقد ماتت أمي!
المرأة: ألا تتذكرين تلك الأم؟
إيف: لقد ماتت منذ زمن بعيد، ومحا الزمن صورتها من خيالي.
المرأة: لقد مات جسدها، إماروحها فلم تمت. إنها الشيء الذي لا يموت.
إيف: ولماذا رجعت من العالم الآخر؟
المرأة: لا تقولي هذه الكلمة فما بارحتك أبدا(841/53)
إيف: وما هي غايتك من هذه الزيارة الآن؟
المرأة: أتيت لأحملك معي. لقد بلغ جدك من الكبر عتيا، ولسوف يسير جسده في الطريق التي تسير فيه الأجساد إلى نهاياتها. سنذهب معا وهناك تعتادين على حبي، وسنجد السعادة معا
إيف: ولماذا غبت عني طويلا!
المرأة: لم أعرف ان الفراق كان طويلا إلا الآن.
إيف: أمي! أرى حديثك غريبا. ماذا تريدين مني!
المرأة: أريد حبك ولا شئ آخر.
إيف: وماذا تعطيني إذا أنا منحتك هذا الحب؟
المرأة: حنان الأم وحبها العميق. لا شئ، غير ما لك في قلبي من حنين، وما لي في قلبك من لهفة وشوق. لك مني الاطمئنان والسكينة والسعادة.
إيف: كيف أسعد الآخرين وأنا لا أجد الطريق إلى السعادة
المرأة: السعادة بين يديك إذا كان في مقدورك ان تحملي بين جوانحك حب الفتاة لأمها.
إيف: لقد سمعت الناس يتحدثون كثيرا عن الحب؛ انهم دائما يطلبون ولا يعطون.
المرأة: إمابالنسبة ألي فانك ستأخذين وتعطين. هذا هو السر. ان البساطة هي الطريق المعبد إلى السعادة.
إيف: ان البساطة هي مفتاح القناعة. لكن أين السعادة الحقيقية من ذلك. هل هنالك شئ يطلق عليه هذا الاسم؟ هل السعادة حديث خرافة يا أم عمرو؟ يخيل ألي إنها شئ معقد جبار يتألف من ألف فكرة، ومن ألف عاطفة، ومن ألف زخرة، ومن ألف عذاب. انها ليست شيئا واحدا أنني لن أجد السعادة الحقة معك
المرأة: ولماذا لا تجدينها معي معي أيتها الابنة الفيلسوفة!
إيف: لان ليس في استطاعة الإنسان ان يتذوق السعادة الخالصة الا إذا شرب كؤوسا مترعة بالشقاء من يد الزمن. ان السعادة شئ بعيد جدا عن مجرد القناعة، والسكون إلى حقائق الواقع المريرة. ليس في استطاعتنا الحكم على حقائق الأشياء دون الغوص إلى أعماقها.(841/54)
المرأة: ان هذه الأفكار القوية لا تدور بخلد فتاة في عمرك
إيف: (ببساطة) أصحيح ما تقولين؟
المرأة: بعد ان يتعبك السير في الطريق الذي سترسمه لك الحياة، وبعد ان تبدد اليقظة أحلامك الجميلة؛ وبعد ان يتحطم الطموح فيك على صخرة الفشل - تعالي إلي - فستجدينني في انتظارك
إيف: أتحسبين أنني ان ذاك في حاجة إليك. ومع ذلك فان السعادة هي الحلم الجميل الذي لا يستحيل إلى حقيقة ملموسة. ويبدو لي أنني سأحلم كثيرا؛ وأتعلم كثيرا؛ وأعطي شيئا ليس بالقليل من عواطفي.
المرأة: سأنتظرك. سوف تمر بك ساعة تدركين فيها ان السعادة لا تتعلق بزمان ومكان. إنما هي سعادة الروح
إيف: ألا تحبين الصحة والثروة؛ ما رأيك فيهما؟
المرأة: أية قيمة للصحة حينما يموت الحسد؟ وما نفع الثروة إذا لم يستطع الإنسان استعمالها. وماذا يبغي بعد ذلك غير السعادة؟
إيف: نعم انك على حق. ولكن هل هنالك أمور أخرى في الحياة؟
المرأة: (في لهفة) الأمر المهم بالنسبة إلى ذهابك معي
إيف: (تهز رأسها) كلا. لن أذهب معك! ان العجز والهزيمة من الحياة أمر سهل جدا. أريد ان أحل ألغاز الحياة بنفسي. لن تهزمني الحياة أبدا. سأصمد لزوابعها
المرأة: سأكون في انتظارك اذكري ذلك جيدا.
إيف: سوف أتذكر ذلك
(تقف إيف مفكرة ومحملقة في النار، بينما تعود المرأة أدراجها من حيث أتت وتختفي)
إيف: هلم إلي يا صديقي! إلي يا مانح الهبات! ساعدني!
الروح: (يظهر) لبيك! لقد حان الوقت. هل اخترت!
إيف: واآسفآه! لم أستطع، لأنني لا أريد الصحة ولا الثروة ولا السعادة. لا أريد هذه في حد ذاتها بعيدة عن المعاني الإنسانية
الروح: يخيل إلي انك لم تتوقعي رؤيتها على هذا الشكل الذي بدت لك فيه.(841/55)
إيف: نعم
الروح: لا تنسي ان هنالك أشياء أخرى في استطاعتك اختيار منحة منها
إيف: نعم هنالك أشياء أخرى. انك على صواب!
الروح: (في سأم) إنما عليك ان تختاري واحدة منها
إيف: لقد لاحظت ان الأشياء الثلاثة التي عرضتها علي، كان كل واحد منها يزعم ان في مقدوره إعطائي كل ما أريده، ومع ان كل واحد منها كان يمنح شيئا يختلف عن الآخر، الا انها جميعا كانت تطلب مني ثمن ذلك
الروح: وما هو ذلك الثمن؟
إيف: انه الحب. انها جميعا كانت تفتش عن الحب فيخيل إلي ان الحب أثمن شئ في الوجود.
الروح: أنني لا أستطيع تقرير ذلك.
إيف: لقد ظهر ذلك لي واضحا جليا لا غموض فيه.
الروح: إذن هل تختارين الحب كأغلى منحة!
إيف: كلا. لن أختار الحب. لأنه إذا كان من جانب واحد لم يكن حبا، وإنما هو خداع الطبيعة لاستدامة النوع ومد جذوره إلى المستقبل في وجه مستعار من شهوة الجسد. ليس الحب إلا امتزاج روحين، وتقارب قلبين وفناء جسدين في هدف لا يدرك. أنني لن أطلب الحب. ينبغي ان يأخذ الحب طريقه إلى القلوب بعيدا عن الإرادة والتوجيه. ان الحب الصحيح لا يطلب، ولكنه كالجوهر النفيس تكتشفه القلوب في مسارب الحياة
الروح: إذن أي شئ تختارين
إيف: إذا كان لابد من الاختيار فأختار العقل. انه ينجدني في الشدة؛ فأختار اختيارا صائبا، وأعيش حياة متزنة، وأحب حبا صحيحا. نعم سأختار العقل
الروح: (مقهقها) ها. . . ها. . . لا يختار العقل إلا إنسان مدرك عاقل. وأنت باختيارك لم تطلبي شيئا جديدا. لقد طلبت ما هو لديك. أهذا كل ما تطلبين؟ (يقهقه بصوت مسموع) انك يا آنستي العزيزة في غير ما حاجة إلى من يقدمه إليك!. . . ها. . ها. . ها. . ها. . . .
(يتلاشى الروح)(841/56)
إيف: (مفكرة) أنني لا أشك في سلامة عقلي
(ترجع إيف إلى وضعها الأول، جالسة إما م الموقد، محملقة في اللهيب، تتلاشى الخيالات تدريجيا ويتوهج لهيب النار، وبعد فترة تفرك عينيها، بينما يأخذ غطيط الجد يخفت، ثم يفتح عينيه)
الجد: لقد غلبني الكرى على أمري
إيف: لقد أغضيت طويلا يا أبت
الجد: ماذا كنت تصنعين أثناء نومي يا إيف؟
إيف: كنت أفكر
الجد: تفكرين! هل أضعت كل ذلك الوقت في التفكير؟
إيف: نعم يا أبت
الجد: لا أحسب انك فعلت ذلك! ربما يخيل إليك انك كنت تفكرين!
إيف: أنني واثقة من ذلك وثوقك بأنك كنت نائما
الجد: انك تفكرين كثيرا يا بنيتي؛ بماذا كنت تفكرين!
إيف: أفكر قليلا في أمور هامة، وكثيرا في أشياء لا أهمية لها! أليس كذلك يا أبت!
الجد: ان أساليب النساء تعجز الفهم، هلمي إلى فراشك
إيف: (تنهض) سمعا وطاعة يا أبت وشكرا
(أصوات ضحك تنبعث من بعيد)
(يهبط الستار)
علي محمد سرطاوي(841/57)
العدد 842 - بتاريخ: 22 - 08 - 1949(/)
إبراهيم عبد القادر المازني
موجة من الأسى غمرت شعوري كله وأنا أقرأ نعي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني منذ أيام. . . ألأنه ودع الحياة وفارق أصدقائه ومحبيه على غير ترقب وانتظار، أملأني قد رأيته وجلست إليه ساعة أو بعض ساعة كانت هي اللقاء الأول والأخير، أم لأني قد هاجمته على صفحات (الرسالة) هجوماً عنيفاً راعيت فيه جانب الحق وأهملت كل ماعداه؟!
ليس من شك في أن تلك الأمور جميعاً قد تركت في نفسي إحساساً
عميقاً بالأسى لفقده؛ ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء
ويصبحون فلا يجدون المازني يملأ مكانه، وأن ألقاه أنا منذ قريب
فيتحدث إلي وأتحدث إليه، ثم يشاء القدر أن أهاجمه هجوماً عنيفاً دون
أن أعلم أنه قد شد الرحال ومضى في طريقه. . . إلى لقاء الله!
لقيت المازني أول لقاء وآخر لقاء بمكتب الأستاذ توفيق الحكيم في (أخبار اليوم)، وكان ذلك منذ شهور. . . وحين دخلت الحجرة لم يكن بها غير بضعة أشخاص ما لبثوا أن استأذنوا مودعين وبقينا نحن الثلاثة: المازني وتوفيق الحكيم وأنا. . . ومضينا نطرق من أبواب الحديث ما شاءت السياسة والأدب والفن، متفقين حيناً ومختلفين حيناً آخر، ثم شاءت الظروف أن نعرض لمشكلة طال حولها الجدل بيني وبين المازني حيث قنع توفيق الحكيم بالإنصات ومضى يرقب نهاية الشوط بصبر لا ينفذ.
كان - رحمه الله - إنساناً جم الأدب في نقاشه، مهذب العبارة، مشرق اللمحة، لبقاً في التخفيف من حدة الجدل بالبسمة العذبة والنكتة البارعة، ولكن القضية كانت قضية بعدت فيها الشقة بين نظرتين: نظرة الشيوخ ونظرة الشباب، أو نظرة الأمس ممثلة في الماضي القريب، ونظرة اليوم ممثلة في الحاضر المشهود. وكأنما ضاق المازني بحجج محدثه فراح يسأل عنه توفيق الحكيم!. . .
ونظر إليه توفيق الحكيم في شئ من الدهشة وهو يقول: لقد ظننتك تعرفه حق المعرفة، ومن هنا لم يخطر لي أن أقدم كلاً منكما للآخر. . . هذا (فلان) كاتب (التعقيبات) في(842/1)
الرسالة.
ورأيت المازني - رحمه الله - يمد إلي يده مصافحاً في حرارة، مصافحاً للمرة الثانية وهو يقول: معذرة، فأنا أقرأ لك ولا أراك! ومن العجيب أنك ثائر هنا وثائر هناك! ولكن لماذا تهاجم بعض من أعزهم من حين إلى حين. . . لماذا تهاجم العقاد مثلاً وفضله على الثقافة والأدب لا ينكر؟!
وأجبت وعلى فمي ابتسامة تسجل للمازني معاني الوفاء: ومن قال لك أني أنكر هذا الفضل؟ أنا أول من يعترف به، وإذا كنت قد هاجمت العقاد يوماً فلأنني أقدره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طه حسين وتوفيق الحكيم!
وكأنما أعجب المازني بهذا الجواب فارتسمت معالم السرور على وجهه، ثم قال وهو يغرق في الضحك ونغرق معه: هل أفهم من هذا أن ليس لي عندك منزلة هؤلاء السادة لأنك لم تهاجمني حتى الآن؟!
فقلت معقباً على اللفتة الرائعة: معاذ الله يا صديقي، أنك سترغمني إرغاماً على أن أقول عنك ما في نفسي إثباتاً لتقديري لك!
ويهتف المازني والابتسامة العذبة لا تفارق شفتيه: أنا أدرى الناس بما يمكن أن تقوله عني. . . ستقول إن المازني كان بالأمس خيراً منه اليوم، وإنه ترك زمرة الأدباء وانضم إلى زمرة الصحفيين، وإنه يكتب في كل مكان، ويكتب في كل شئ، حتى أصبح تاجر مقالات يهمه ملاحقة السوق أكثر مما تهمه جودة البضاعة، أليس كذلك؟. . . ولكن لا تنس أن الأديب في (بلدكم) مجبر على أن يسلك هذا الطريق ليكسب عيشه وعيش أولاده، وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه إنسان. . . ترى هل بقي شيء يمكن أن تقوله؟
فأجبت وأنا مأخوذ بصراحته المحببة وتواضعه الجم: نعم، بقي أن المازني لم يهتد حتى الآن إلى خير ملكاته، خيرها على الإطلاق. . . لو عرف المازني أن معدنه القصصي من أنفس المعادن لأفسح الطريق لملكته القاصة، ولغدا في ميدان القصة وهو قمة من القمم. . . لقد قلت ذلك لتوفيق الحكيم أكثر من مرة فكان يوافقني كل الموافقة!
وضحك المازني وهو يقول: هذا حق، ولكنك تريدني على أن أكون منافساً يسد الطريق في وجه توفيق الحكيم. . . لا يا سيدي، أنا لا أحب أن أرزاق الناس!(842/2)
ويهتز توفيق الحكيم من الضحك وأهتز معه، ويمضي الوقت حافلاً بأسباب الأنس الأنيس والمتعة التي تغمر آفاق النفس والروح
ويستأذن المازني فأنهض لتوديعه قائلاً: أنا سعيد بلقائك!
ويشد المازني على يدي بكلتا يديه قائلاً لي: ويسعدني أن يتكرر هذا اللقاء!
ولكن اللقاء لا يتكرر، ثم تشاء الظروف أن يثيرني رحمه الله مرتين فأهاجمه مرتين: أهاجمه وأنا لا أعلم أنه شد الرحال ومضى في طريقه. . . إلى لقاء الله!
لقد كان المازني عالماً من خفة الظل وعذوبة الروح، وعالماً من سماحة الطبع ونقاء السريرة، وعالماً من كرم الخلق وندرة الوفاء، وكان المازني وكان. . . وأصبح كل شيء في عداد الذكريات!
هذه كلمة عابرة تحدد من نفسي ونفوس عارفيه؛ أما مكانه من تاريخ الأدب العربي المعاصر فله حديث غير الحديث، ومناسبة غير المناسبة. . .
وأهتف مع العقاد في غمرة حزنه ووهج أساه: سلام على إبراهيم، وسلام على الدنيا!!
(أ. م)(842/3)
ترميم الجامعة العربية
للأستاذ نيقولا الحداد
تقرر أن تجتمع اللجنة السياسية للجامعة العربية في 20 أغسطس الحالي. وقد نشرت جريدة المصري مجموعة الاقتراحات التي تقدمت بها الحكومات العربية وستكون جدول أعمال اللجنة. وهي مستخلصة في 12 مادة. وبالاطلاع على هذه المواد رأيت أن المقصود من التعديلات المقترحة هو ترميم الجامعة كترميم منزل آيل إلى السقوط وتلافي سقوطه أو تأجيل سقوطه إلى أجل قصير، كالبت في موضوع الأمانة العامة وربما كان هذا أهم موضوع عند المرممين. ثم يليه في الأهمية الروابط الاقتصادية والثقافية والمواصلات. ثم مشروع الدينار العربي وبنك الجامعة إلى غير ذلك مما لا يمكن أن يتقرر ما دامت الجامعة متداعية إلى السقوط. ليس في هذه الاقتراحات والتعديلات المطلوبة ما يبني جامعة عربية بل ستبقى في تداعيها وتزعزعها بحيث يستحيل أن تتعدل هذه التعديلات والجامعة في هذا الوهن المتناهي والتقلقل المنذر بالهبوط العاجل.
فبل أن تفكروا يا قوم بالأمانة العامة والدينار والاقتصاديات الخ يجب أن تهدموا هذه الجامعة إلى الحضيض وتقذفوا بأنقاضها إلى البحر أو إلى الصحراء وثم تبنوها من جديد على أساس متين بمواد قوية وبنيان راسخ.
والمقترحات المقترحة آنفاً إنما هي مقترحة على هيئة سياسية إدارية غير موجودة ولا وجود إلا لظل لها - فظل جامعة أو جمعية لا يمكن أن ينشئ بنكاً ولا يقرر ضريبة ولا ينظم علائق اقتصادية الخ - لابد من وجود الجامعة أو الهيئة أولا، والجامعة غير موجودة. كانت خيالاً وقد أمحى الخيال حين طلعت شمس الحقيقة
شمس الحقيقة التي طلعت ومحت الظل هي انخذال 30 مليون عربي أمام 3 أرباع مليون صهيوني وقيام دولة إسرائيل أمام الدولة العربية المزعومة وتشرد مليون عربي أمام 3 أرباع مليون يهودي وانصباغ فلسطين بالصبغة اليهودية أمام كلمة فلسطين عربية وستبقى عربية للعرب. ولم يبقى للعروبة إلا استجداء حقوق عرب فلسطين من أيدي اليهود. واليهود لا يتكرمون إلا بعودة مائة ألف من المليون عربي اللاجئين إلى فلسطين ممن ينتقيهم اليهود ليكونوا فعلة وخداماً عند اليهود وعبيداً وإماء.(842/4)
هذه هي الحقيقة التي طمست معالم الجامعة العربية.
الجامعة العربية صارت في خبر كان، والزائل لا يرمم، والذي مات لا يقوم من الموت قبل يوم الحشر. نحن الآن في حاجة إلى جامعة عربية جديدة توجد مادة وروحاً وقوة.
الجامعة لا تكون باجتماع وفود من الدول العربية تحت رئاسة أمين عام. ما هذه جامعة. هذه جمعية لا تمثل إلا الأشخاص المجتمعين فيها. الجامعة العربية ليست الجماعة التي لا تمثل إلا أشخاصها ولا التي تمثل الدول التي أرسلتها. الجامعة العربية هي التي تمثل الأمم العربية أنفسها تمثيلاً حقيقياً بمعنى أن يجوز لكل فرد عربي أن يقول إني ممثل شخصياً في جامعة العرب (لا حكومتي بل أنا شخصياً).
الجامعة العربية الحقيقية هي التي تجمع أفراداً عرباً ينتخبهم العرب لا التي توفدهم دولهم كما حدث في الجامعة الحالية التي حبطت وأمحى ظلها.
الجامعة العربية الحقيقية هي برلمان عربي أعلى والنواب فيه يمثلون الأفراد العرب كل نائب يمثل مليوناً أو نصف مليون. ينتخبه أفراد العرب من مثقفين أكفاء خبيرين لا من ذوي الأملاك أو ذوي الثروات.
ويكون لهذا البرلمان (الجامعة العربية) السلطة العليا الدفاعية على جميع الدول العربية المشتركة فيه. وليس للدولة مهما كانت عظيمة وقوية سلطة على هذا البرلمان أو الجمعية.
يقتصر اختصاص هذا البرلمان على الإدارة الدفاعية عن جميع الدول العربية. ولهذا يجب أن تنتقل قوة الدفاع الجندية من أيدي الدول إلى يد هذا البرلمان. ولا يبقى للدولة من القوى الجندية سوى قوة البوليس وقوة الجندية (المليشيا) المحدودة اللازمة لحفظ الأمن في الدولة.
بناء على هذا يجب أن يكون تحت أمر البرلمان الدولي العربي المذكور لا أقل من ربع مليون جندي وإذا لزم الأمر فنصف مليون أو أكثر حسب اللزوم. تؤخذ هذه الجنود من الأمم العربية بالنسبة العددية المعلومة.
ثم هذا البرلمان يجبي من جميع الدول بنسبة عدد السكان المال اللازم للدفاع عن وجوهه بحيث لا يقل عن مائتي مليون جنيه. وإذا لزم أكثر فأكثر يجبيها هذا البرلمان من جميع الأمم العربية من غير اعتراض ولا تمنع أو نقاش. هذا المال هو حق للدفاع عن الأمم العربية قاطبة وهو واجب على هذه الأمم.(842/5)
تكون سلطة هذا البرلمان نافذة لا مرد لها. وهو ينفذ مقتضياتها بما له من السلطة المسلحة.
يتولى هذا البرلمان سياسات الدول العربية الخارجية.
هذا البرلمان يفض خلافات الدول الدولية العربية وينفذ أحكامه بقوة السلاح.
يكتسب هذا البرلمان هذا الحق لأنه ممثل جميع الأمم العربية.
قد يعترض عليه لأن لبعض الأمم كمصر مثلاً نصف البرلمان تقريباً ولهذا تكون أحكامه متحيزة لمصر. ولتلافي هذا التحيز يختار مجلس شيوخ إلى جانبه لا يكون أعضاؤه بنسبة عدد الأهالي بل كعدد الأمم الممثلة فيه عضو أو عضوان عن كل أمة صغيرة أو كبيرة على حد مجلس الشيوخ الأمريكي.
هذا البرلمان الشامل المجلسين يعتبر (الجامعة العربية) القانونية النافعة الذي يستطيع أن يحمي ذمار العرب ويدافع عن العروبة.
هذا البرلمان سيختار قيادة الجيش العليا ومجلس أركان الحرب وهو يقرر الحرب أو الصلح. وليس لأية دولة حق التدخل بشئونه. يكفي أن يكون لكل أمة ممثلون فيه يحرصون على حقوقها وحياتها.
إذا شبت الجامعة على هذا النحو أمكن الأربعون مليون عربي أن يرغموا أنف مليون إسرائيلي أو مليونين وإلا فالمليون إسرائيلي يستعبدون الأربعون مليون عربي.
في أقل من خمس سنين يتم هذا الحلم لإسرائيل فليفتح العرب عيونهم وآذانهم قبليروا أنفسهم أمام الأمر الواقع.
في عشرين الجاري سيجتمع أعضاء الجامعة العربية لكي يفضوا هذه الجامعة ويبددوا أنقاضها فنطالبهم بما يأتي:
1 - أن يطردوا الخونة من بينهم سواء كانوا وفوداً أو دولاً أو ممثلي دول.
2 - عليهم أن يقدموا حساباً عن كل ما دخل إلى خزينة الجامعة تبرعاً أو اشتراكات دول - حساباً صريحاً واضحا من داخل وخارج بالتفصيل وأن يعلن في الجرائد العربية.
متى تكونت الجامعة على هذا الشكل يشرع البرلمان العربي الأعلى الذي يعتبر جامعة العرب - يشرع أن يعمل الإصلاحات المطلوبة المقترحة على اختلاف أنواعها من بنوك واقتصاديات وجمركيات و. . . الخ(842/6)
هذا العمل الإنشائي يجب أن يشرع به حالاً وأن ينجز حالاً لأن اليهود لا يصبرون. فقد وضعوا عيونهم على جبال أراراط وأعالي النيل وما بينهما.
نقولا الحداد(842/7)
طفيلي من الناس
ماذا سألني. . وكيف أجبته؟
للأستاذ راجي الراعي
كنت أسبح في أفق من آفاق الخيال والتفكير فخطر لأحدهم أن يتطفل على نفسي وهي تخوض عباب الأثير وينهال علي بالأسئلة. . وإليك ما دار بيننا:
- لماذا تحلم؟
- لأتعرى من الدنيا.
- ولماذا تكتب؟
- لأرهق دمي في القراطيس.
- ولماذا تنشد المجد؟
- لأنجو من سخرية النجوم.
- ولماذا ترحم؟
- لأنني أتألم.
- ولماذا تصمت؟
- لأن موجة التفكير أغرقت بياني.
- ولماذا تنظم الشعر؟
- لأن أبياته هي الأصابع التي أبسط بها يدي في الوجود.
- ولماذا تحب؟
- لأنني أحب.
- ولماذا تفكر في الغد؟
- لأنني لا أرى أمامي سواه وقد فر الأمس من يدي وأضعت يومي.
- ولماذا تدوس القبور؟
- نكاية بالموت الذي يدوس الأحياء.
- ولماذا تحاول أن تخترع؟
- لأدنو من الخالق.(842/8)
- ولماذا تشمخ بجبينك؟
- لأنه نطح الأفق ولم يجرح.
- ولماذا تلجأ إلى الهيولي؟
- لأفر من هولك.
- ولماذا تأوي إلى الظلال؟
- لأتحدى الشمس.
- ولماذا تنشق الزهر؟
- لأنه سينبت في ترابي.
- ولماذا تهوى الفجر؟
- لأن فيه من (قطرات نداي).
- ولماذا تصلي؟
- لأصطلي بإيمان.
- من أنت؟
- كلمة نطقت بها الحياة.
- وما هي مهنتك؟
- حفار يحفر في نفسه ليستكشف دفينها.
- وما تلك بيمينك؟
- عصاي.
- ولمن أعددتها؟
- لأمثالك أيها الوقح الثرثار الفضولي المتطفل على هياكل النفوس المنساب بيت القلم ودواته.
ورفعت عصاي ففر الثقيل فتنفست الصعداء وقمت أخط ما وقع بيننا في هذا المقال.
راجي الراعي(842/9)
القراءة وأصول الثقافة
للأستاذ إيليا حليم حنا
القراءة والحياة:
القراءة فن يربط بين الكتب والحياة ويفتح أبواب التفكير والتصور. وهي وسيلة لتوسيع عقولنا وتنمية تفكيرنا الحر وإيجاد ملكة النقد عندنا وزيادة ثقتنا بأنفسنا وبقيمة آرائنا الشخصية.
ويخطئ شبابنا المتعلم عندما يظن أن أيام الدراسة هي مرحلة القراءة والإطلاع. إننا عندما نقطع أكبر مرحلة دراسية لا نكون قد قبضنا على زمام الحياة بل نكون قد بنينا لأنفسنا أساساً صلباً يمكننا أن نثبت عليه أقدامنا لنسير في الحياة نحو الكمال حتى الشوط الأخير فيها. ولا يمكننا أن نساير روح العصر الذي نعيش فيه مرحلة عمرنا إلا بالقراءة المستمرة والوقوف على أسرار الحياة المختلفة التي يميط العلم اللثام عنها كل يوم ويظهر منها شيئاً جديداً كان مجهولاً. ويموت الشخص عقلياً عندما يقف عند حد محدود من ثمار العقل البشري ويتخلف عن قافلة زمانه الذي يعيش فيه.
والقراءة ليست غاية في ذاتها وإنما وسيلة للعيش عيشة إنسانية سعيدة عندما ننتفع بما نطالع انتفاعاً عملياً يقودنا إلى عمل متقن وحياة أفضل. ولا فائدة من القراءة التي لا نبغي من ورائها إلا حشو رءوسنا لنظهر أمام الناس أننا ملكنا ناصية العلم والثقافة
والكتاب وحده لا يصل بنا إلى النمو والنفسي إلا إذا مزجنا قراءاتنا بتأملاتنا وخبراتنا وتجاريب الغير وما يجري معنا وحولنا كل يوم وكل ما نراه في الطبيعة ويقع تحت حسنا وإدراكنا. فكل هذه كتب مفتوحة يجب ألا نهملها عندما نقرأ ونفكر. قال جو نسن: (من يتصور أن الأفكار لا توجد إلا في الكتب وأن في الكتب كل الأفكار، فما هو إلا واهم. والأفكار تجري مع الأنهار والمجاري. وتطفو على وجه البحر، وتتكسر على شواطئه، وتسكن التلال والجبال، وتسطع مع نور الشمس، وتنسدل طي أجنحة الظلام، إن الأفكار موجودة في كل مكان وزمان).
وتصديق كل ما هو مكتوب والأخذ به دون تأمل وبحث عن حقيقة دلالة على جهل القارئ وموته العقلي فالقارئ الحي اليقظ المتوثب لا يترك كتاباً دون أن يقتله دوساً وتأملاً ونقداً.(842/10)
يقول جون ستوارت مل (يجب على طالب الثقافة أن يشعر بأنه حر الفكر، له أن يجاري الغير في معتقداتهم، وله أن يخالفهم فيها. عليه إذا شك في أمر أن يبحث وينقب جهده ليقف على ما يروقه ويقنعه. وعليه ألا يلقي الكلام على عواهنه، وألا يأخذه دون روية وإعمال فكر).
هذه القراءة الحية التي تقترن دواماً بالتفكير والتأمل والتجرد من أهواء النفس وعدم التعصب للعادات العامة والآراء المتواترة والعقائد الشائعة تخلق منا الإنسان الحي الكامل الذي يتأثر بثقافة عصره ويؤثر فيها بعد أن يكون قد أرضى من البحث حاجته وشفى غليله وأحس الحياة وأمعن فيها إمعاناً بانصرافه إلى التفكير والملاحظة والاستنباط.
القراءة والثقافة:
الغرض الأول من القراءة هو التهذيب الكامل للنفس وليس تعبئة الذهن بالمفردات والتراكيب أو الحقائق مستقلة منفردة. والقراءة الحية تنمي القوى والمواهب الإنسانية وترقيها. فإن ما نكسبه من معلومات ونهضمه ونجعله جزءاً من حياتنا الفكرية وتفكيرنا الخاص يكسبنا قوة ذهنية تتجه بنا نحو الإصلاح بأنواعه وتؤهلنا إلى الاندماج في مشاكل المجتمع الذي نعيش فيه وإنهاض ذلك المجتمع وتجديده، ويزودنا بقوة فكرية مهمتها البحث عن الحقيقة أي كانت والسعي لرقي الإنسان عقلياً وروحياً.
هذه هي الثقافة المنتجة التي تمكننا أن ننعم بالحياة، نسرح فيها ونمرح، ننشط ونستنبط فتنتعش قوانا العقلية وتظهر كفاياتنا المغمورة وتزهو مقدرتنا في أعمالنا أو في أي نشاط ابتكاري تغذيه ميولنا.
هذا كله فعل القراءة الثقافية المجدية التي قال عنها (بيكون) إنها تجعل العقل البشري ينطلق من عقاله لنقبل على كل مجهول ونفكر لنعيش ونعيش لنفكر.
التثقيف الذاتي:
يمكن للقارئ العربي أن يثقف نفسه لو توافر له الميل إلى القراءة المفيدة المحبوبة التي تهدف إلى غرض ثقافي واضح وليست تلك التي يقصد بها التسلية وقطع الوقت.
وقد طرق الكثير من المفكرين والفلاسفة موضوع التثقيف الذاتي فقال (لوك) للتهذيب(842/11)
الذاتي ثلاثة طرق تبتدئ الواحدة من حيث تنتهي الأخرى:
الأولى: قراءة الكتب وإدراك معانيها.
الثانية: التفكير والتأمل في تلك الأفكار والمعاني.
الثالثة: التحدث مع الناس بها واختبار سقيمها من صحيحها وسليمها من فاسدها.
ويرى الفيلسوف النفساني وليم جيمس ثلاثة طرق أخرى للتثقيف الذاتي وهي:
1 - إتقان اللغة القومية اتقاناً يمكن الفرد من التعبير عما يدور برأسه من أفكار وآراء تعبيراً صحيحاً. ويقول (باوند) عميد هارفارد في هذا الخصوص: (الرجل الذي لا تبلغ غرائزه اللغوية النضج لا يمكن أن يفكر تفكيراً متقناً أو يصل إلى نتائج دقيقة).
2 - استيعاب ما يمكن استيعابه من أنواع المعارف المختلفة حتى يمكنه مسايرة الثروة العقلية التي وصل إليها عصره.
3 - تكوين مبادئ وعادات تخلق منه رجلاً كاملاً خليق بما استوعب من ثقافة. ويعرض (أرنولد بنيت) اقتراحين عامين لتثقيف النفس بالقراءة وهما:
1 - عين اتجاه جهودك ومداها وأختر فترة معينة أو موضوعاً معيناً أو مؤلفاً واحداً وقل لنفسك مثلاً: أريد أن أعرف شيئاً عن الثورة الفرنسية أو عن اختراع السكك الحديدية أو. . . وتفرغ في زمن معين لما وقع عليه اختيارك فإن متعة عظيمة تستفاد من التخصص.
2 - فكر واقرأ في آن واحد، فإني أعرف أناساً يقرئون ويفكرون كثيراً ولا يستفيدون شيئاً. . . ذلك لأنهم يجوبون أقاليم الأدب في سيارة وكل همهم الحركة ويفتخرون بعدد ما قرءوا من كتب في العام.
ويقول (أندريه مورو): لا تهمل آراء الأجيال التي سبقتك بل يجب أن تعنى عناية خالصة بالكتب القديمة الخالدة ولنثق بما اختارته القرون السالفة من روائع الكتب، فقد يخطئ الاختيار رجل واحد وقد يخطئه جيل واحد ولكن الأجيال لا تخطئ جميعاً فشكسبير وموليير جديران بما نالا من مجد خالد على الدهر. . . ومن الضروري أيضاً أن نهتم بالكتاب المعاصرين لأننا بدون شك نجد فيهم أصدقاء يشعرون بما نشعر ويحتاجون لما نحتاج إليه).
فيما تقدم آراء مختلفة تصلح جميعاً أن يعمل بها للتثقيف الذاتي وأرى بالإضافة إليها أن(842/12)
تدرس كاتباً من كبار الكتاب المعاصرين وتتابع مؤلفاته وآراءه ثم تدرسها دراسة وافية فإنك ترتقي معه ذهنياً وتصل إلى مستواه وتقف على أساليب التفكير المنظم في جيلك. وبذلك تكتسب عصارة قلبه وفكره وتفكر مع إنسان يحسن التفكير ولكن لا يجب أن تنساق معه بدون تفكيرك الحر. حاول أن توسع دائرة اطلاعك واجعل ما أنتجه المفكرون أساساً لتكون لك رأياً على ضوئه. وبذلك قد تكتشف نقصاً تكمله في رسالة زميلك الكاتب فتعلو عليه في هذا الزاد العقلي وترقى بالإنتاج الثقافي.
فند آراء كبار الكتاب وحللها وقارن بين ما احتوت عليه مؤلفاتهم. ولا تكتفي بهذا، بل كرس جهودك في ناحية من نواحي الثقافة وأقتلها بحثاً وتمحيصاً وتتبع جميع ما يكتب عنها في اللغات التي تعرفها. ولكن مع هذا لابد أن تعرف أشياء كثيرة دون أن تتعمق فيها.
القراءة للاستلهام والابتكار والاختراع:
هذه هي أرقى أنواع القراءة التي تعمل عملها العظيم في حياة الفرد والمجتمع وتدفع الأمة نحو حضارة أرقى بما يدفع هذه القراءة البارعة من التفوق العلمي والأدبي والروحي.
ويقبل على هذه القراءة أصحاب العقول الممتازة الذين يرون مع الفيلسوف العالم (إسحاق نيوتن): (إن الناس مع كل ما بلغوه من المعرفة وتوصلوا إليه من الاكتشافات، ليسوا إلا أولاداً صغاراً يلتقطون الأصداف والأعشاب التي ينبذها ويقذف بها بحر الحقائق وخضم المجهولات من حين إلى آخر).
ويؤسفنا أن المضمار العلمي عندما يخلو من مثل هذا القارئ العبقري ونسأل أنفسنا ما الذي جعل الاختراع والاستنباط والتفوق العلمي وقفاً على أبناء العرب! ليس السبب في عقولهم أو ذكائهم ولكن لأنهم عرفوا لذة القراءة وانغمسوا فيها وجعلوا شعارهم (اقرأ وفكر وأعمل) فمكنهم ما اكتسبوه من محصول من فهم العالم الذي حولهم وضبطه والكشف عن قوى الطبيعة المجهولة وإخضاعها لفائدة البشر. وهؤلاء القراء البارعون هم حملة المشاعل في الأمم النواهض واجبهم ملائمة التطور والعون على التقدم والسبق.
والقارئ العبقري يقرأ ويهضم ويفكر ويجرب ليستخلص شيئاً جديداً يضيفه إلى تراثنا وحضارتنا ويعمل على تغيير حياتنا وتكييفها. وكلما أكثر من هذه القراءة المركزة المنظمة كلما وجد نفسه يقترب من هدفه فيزداد تفكيراً. وأثناء حرارة التفكير والانغماس فيه بعقله(842/13)
وكل حواسه تنقدح في ذهنه الأفكار الملهمة فيزداد محصوله العقلي ويزداد هو استحواذاً على العالم الخارجي واندماجا في حياته العقلية.
ومثل هذا القارئ يتبع في قراءته طريقة التفرغ والاستيعاب أي طريقة أخذ الشيء والتمكن من كل جزء من أجزاءه فتظل أفكاره في حركة دائمة تتحرك حول غرض عملي واضح فتتحرك هذه الأفكار إلى ملكة. يقول (هربرت سبنسر): المعرفة لا يكاد يعيها الواعي حتى تتحول عنده إلى ملكة، وتظل بعدها تعينه على التفكير عامة. ويأخذ هذا القارئ المفكر ينمو في نشاطه العقلي يبني المقدمات بالخبرة والمشاهدة والاستقراء والقياس حتى يصل إلى النتائج التي يهدف إليها.
وهذه القراءة المركزة المنظمة السبب القوي في توجيه حياة الأفراد الممتازين إلى نواح معينة وحفزهم لتحقيق غايات جليلة سامية عاد عليهم تحقيقها بالصيت الخالد والجاه والثروة. وأذكر على سبيل المثال أمثلة حية خالدة لما توحي به القراءة عندما تقترن بالتفكير العميق واليقظة المستمرة والرغبة القوية وتحديد الهدف وحشد الجهود.
اشترى لورد كلفن كتاباً عن الحرارة تأليف عالم طبيعي اسمه (فورييه) وانغمس في قراءته واستيعابه. فكان لهذا الكتاب أكبر الأثر في حياة الرجل بما أوحى إليه من الاختراعات.
وقرأ (بت) كتاب (ثروة الأمم) تأليف (آدم سمث) فاستطاع أن يرسم للأمة الإنجليزية سياستها الاقتصادية الرشيدة في وقته. وقرأ (سسل رودس) كتاب (الإمبراطورية الرومانية)، تأليف (جبون) فذهب إلى أفريقية يوسع نطاق الإمبراطورية البريطانية.
وقرأ (فورد) مقالا في مجلة عن العربات التي لا تجرها الخيل؛ فأوحى إليه هذا المقال بالتفكير في صنع السيارة ودأب على تحقيق هذا الحلم الجميل حتى كان له ما أراد.
كل من هؤلاء عرف كيف يستفيد مما يقرأه، وهضم ما قرأه فأصبح جزءاً من كيانه العقلي وحجراً أساسياً لابتكار أو خلق أو عمل شيء جديد.
والأديب الفنان كالمخترع ورجل العلم يقرأ للابتكار والاستلهام وليس ليشبع جشعه الثقافي فقط؛ بل لتوحي إليه الفكرة المقروءة بفكرة جديدة، وهو في قراءته يحلق في الآفاق العليا منطوياً على نفسه، ولا يتقيد بمكان وزمان بالغاً المكانة التي يستشرف منها للإلهام ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي فيمزق حجب الأشياء وينفذ تواً إلى(842/14)
صميمها، ويصل إلى أعمق الأغوار من الفكر الإنساني الأصيل.
هكذا يقبل القارئ الأديب على القراءة لتفتح لذهنه آفاقاً جديدة فتنهال عليه الخواطر التي تضطرب في نفسه وتريد أن تظهر، وتملأ قلبه وتريد أن تفيض، وتكرهه على أن يأخذ القلم ويسجل ما تمليه عليه تلك الأصوات الخافتة التي يسمعها داخل عقله وقلبه ويلمسها بإحساسه المرهف في جوه السحري الصامت. إنه لا يقرأ لينقل ولكن ليحس نبضات الفن والإلهام والبصيرة.
(أسيوط)
إيليا حليم حنا
مدرس أول للغة الإنجليزية والآداب
مدرسة النهضة الوسطى: الأبيض - سودان(842/15)
صور من الحياة
يقتل أخاه. . .!
(مهداة إلى الأستاذ كامل محمود حبيب)
للأستاذ عمر عودة الخطيب
درج الناس في القرية على أن يستقبلوا صباح اليوم الأول من العيد في المقبرة، فيزوروا الأموات قبل الأحياء، ويضعوا على قبورهم أكاليل الزهر، وفروع النخيل، وباقات الورد، ويواسي بعضهم بعضاً، ويخفف الخلي مصاب الشجي، ويجفف القريب دمع القريب. . . وذهبت صباحاً مع القوم، وبدأت بزيارة ذوي القربى والأصحاب، أقرأ للجميع آيات من القرآن، وأستلهم الله لهم الرحمة والرضوان، وما لبثت أن فوجئت - خلال تطوافي - بصيوان كبير فوق ضريح أبيض قد ازدان بالأقمشة الحريرية الزاهية والورود، كأنه عروس مجلوة ليلة الزفاف وقد تدلت على صدرها أجمل العقود، وكما يزدان رأس العروس ووجهها بالأصباغ والعطور، قد أفعم رأس هذا القبر بأوراق الآس وأكمام الزهور، فوقفت - من بعيد - أنظر إلى هذا القبر، وقد استهواني ما فيه من بهرج وزينة، ألهاني عما يعاني ذووه من حزن ولوعة، فسألت صاحبي عن أهل هذا الميت، ولم يخامرني ريب في أنها (عروس تزف إلى قبرها)، وقد أقام لها أهلها وزوجها المفجوع هذا المأتم الحافل، وهذا الزفاف الباكي. . . أو خيل إلي أن هذا صنيع حبيب رزئ قبل العيد بحبيبته. . . أنس نفسه، وروح فؤاده. . . فدعاه الهوى - والهوى ذو أعاجيب - إلى ما أرى من عناية وتكريم، ولم يفته أن يهدي إلى القب - برهاناً على وفائه وصدق حبه - أجمل الورود وأشذى العطور، إذ فاته أن يضع بين يدي حبيبته أزهى الثياب وأروع الحلي. . . وكادت عيني تبض بقطرات من الدمع، حزناً وأسى، لولا أن صاحبي أخذ بيدي قائلاً: هلم نزور هذا الضريح ونواسي هؤلاء المحزونين! وانحدرت معه إلى الصيوان، فرأيت - على جوانبه - نسوة نائحات، ورجالا باكين، ولفت نظري أن الجمع - وكان كثيراً - كان يبكي بحرقة لاعجة وحزن شديد. . . وليسوا كلهم أهلا للميت أو إخواناً له، فاعتراني خشوع ملك علي نفسي، وهز ما بين جوانحي، فعالجت دمعي فلم يذرف، فجلست ساكتاً مطرق(842/16)
الرأس، أستمع - بحزن صامت - إلى هذا النواح المتواصل، وهذا البكاء الطويل، ورأيت - والله - أن هذا الدمع الغزير، يغسل من النفس أوزارها، ويشيع فيها الصفاء والنور، ويجعلها بيضاء نقية، وادعة كالحمل، عذبة كالماء، جميلة كالزهر، فواحة كالعطر. . . ونظرت بعيداً بعيداً. . . إلى ما وراء الأبد. . . وقلت لنفسي: لو أن هذا الإنسان القاسي الذي يسعى للمال الكثير والجاه الوفير، والسيطرة والطغيان، متخذا لذلك أعنف الأسباب وأقسى الوسائل. . . لو أنه يختلف كل أسبوع، أو كل شهر، إلى هذه المقابر، ليتلقى منها دروس الرضى والقناعة، والمحبة والصفاء. . . لكن هذا الضجيج، وهدأ هذا العجيج، وعاش الناس سعداء هانئين، تظللهم المحبة، ويرفرف عليهم السلام. . .
ووثب إلى ذهني حينذاك جواب ذلك الفيلسوف الصيني العظيم (كونفوشيوس) حين كتب إليه بعض تلاميذه: (إني أرى للناس أخوة وليس لي أخ)! فأجابه بقوله: (إن الإنسان الكامل ينظر إلى جميع من يسكنون بين المحيطات الأربعة كما لو كانوا اخوته. . .)
قلت لنفسي بعد أن رددت هذا الجواب كثيراً: لو أن الناس جميعاً كانوا هكذا لاختفت من الدنيا هذه الحروب، وانطوت - إلى الأبد - هذه المآسي والكروب. . . ووثبت إلى ذهني - مرة أخرى - محاورة ممتعة بين (بوذا) وتلميذه (برنا)، تصور ما كان يحويه هذا من نفس طيبة، وخلق كريم، وتسامح عظيم، وحب للإنسانية، ورحمة لها وعطف عليها:
بوذا: إنك يا برنا مسل إلى شعب غضوب قاس متوحش سفيه، فلو أنهم بادروك بالسب واللعن، فماذا يكون رأيك فيهم؟
برنا: أرى إنهم أناس طيبون، لأنهم شتموني ولم يضربوني بيد ولا بحجر!
- فإن ضربوك بيد أو حجر؟
- أرى إنهم أناس طيبون، لأنهم ضربوني باليد أو الحجر، ولم يضربوني بعصاً ولا بسيف!
- فإن ضربوك بالعصا أو بالسيف؟
- أرى أنهم أناس طيبون، لأنهم ضربوني بالعصا أو بالسيف ولم يقضوا على حياتي!
- فإن قضوا على حياتك؟
- أرى أنهم أناس طيبون رحماء، لأنهم خلصوا روحي من هذا الجسم المليء بالأدناس(842/17)
بأقل ما يمكن من الألم!
- هذا حسن يا برنا! وإنك لخير من يستطيع أن يعاشر تلك الشعوب البربرية. . . اذهب يا برنا فإنت الخالص فخلص غيرك وأنت المعزي، فعز غيرك، وأنت الواصل إلى النرقانا، فاذهب وادع إليها الآخرين!
وانصرفت بهذه الوثبات الذهنية عمن حولي، ولم أعد أبصر التياع الباكين والباكيات، أو أسمع صوت النائحات الحزينات، ولم يردني إلى الواقع الدامع، إلا امرأة معفرة الوجه بالتراب، ممزقة الثياب والحجاب، يمشي خلفها شاب دامع العينين، قد اتشح بالسواد، فجثا على أحد جانبي القبر يبكي ويمرغ به وجهه، وجثت المرأة على الجانب الآخر تنتحب وتولول، وكان مشهداً محزنا رأيت فيه عيني تسحان بالدموع. . وبعد قليل رأيت المرأة وقد غابت عن وعيها، وفقدت صوابها، ونظرت إلى ذلك الشاب بعينين دامعتين جاحظتين قد اختلطت فيهما نار الحقد بدموع الأسى. . . ونهضت إليه، وأهوت بيدها عليه تضربه، وهو ساكت ساكن لم يرفع بصره إليها، ولم يحاول أن يفر من أمامها، ونظرت إلى صاحبي ومن حولي، فإذا بهم جميعاً يبكون، وألسنتهم تتمتم قائلة: (لا حول ولا قوة إلا بالله. . .)
أخذت بيد صاحبي ونهضت والدهشة ملء نفسي، والألم يحز في فؤادي، ولم يغب عن فكري أنها مأساة باكية، بيد أني لم أفهم منها شيئاً، وبقيت صامتاً أمشي بين القبور رويداً رويداً وأبو العلاء يصيح في أذني:
سر إن أسطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد
وما إن ابتعدت عن المقبرة، وغاب عن بصري مرأى الصيوان، وانقطع عن سمعي صوت البكاء والنواح حتى التفت إلى صاحبي قائلا:
- يبدو أن ما رأيته فصل محزن من مأساة دامعة وقصة باكية:
فتنهد صاحبي وجفف بمنديله دموعه. . . ثم قال:
- لعلك - يا صاحبي - لم تشهد من هذه المأساة إلا أقل فصولها ألماً، وأيسرها حزناً. . . أتذكر - يا صاحبي - ذلك الشاب الوادع الهادئ الظريف الذي كان يملأ المجالس أنسا وصفاء، والذي كان زهرة عطرة بين أترابه، ونجمة لامعة بين أصحابه. . . جميل؟(842/18)
وسكت صاحبي ثم قال: نعم. . . جميل الذي. . .
فقاطعته قائلا كان زينة القرية وبهجتها، وأنسها وأمنيتها، ماذا أصابه؟!
فقال وكأنه يتحاشى النبأ:
- أسفاً على شبابه الغض! هو - يا صاحبي - هو. . . (القتيل) الذي رأيت على قبره الصيوان والأحزان. . . وتلك التي رأيتها تولول وتنوح (أمه)، وذلك المتشح بالسواد الذي كانت تضربه فل يتحرك هو (أخوه)!
- قتيل. . . ومن القاتل؟!
وهنا تململ صاحبي وهمس بأذني والدمع قد بلل وجهه:
- حقاً إنها مأساة! لقد قتل (أخوه). . . يا صاحبي!
- وكيف قتله ولماذا؟!
- ذلك هو حكم القدر!
وهنا تمثل لي (بوذا وبرنا وكونفوشيوس) باكين محزونين، يلقون على هذه الإنسانية نظرة إشفاق ورثاء، وقد نظر كل واحد منهم إلى صاحبه - والألم يمض نفسه - كمن يذكره بمصير تعاليمه، ومآل مبادئه. . .
ولقد أثار حديث صاحبي كوامن الألم في نفسي، والأسى في لبي. . . فقلت: عليه رحمة الله، ولم أشعر - قبل أن أترك يد صاحبي إلا ولساني يتلو قوله تعالى:
(وأتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين).
(دمشق - المزة)
عمر عودة الخطيب(842/19)
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 4 -
وما ترك المنصور أبا دلامة يتدلل محققاً له كثيراً من رغباته إلا لأنه كان يحب العبث به وسماع نوادره، ولا يريد أن ينقطع عنه: بل كان يحاول أن يجعله قريباً منه في مقره. وكان كلما سأل عنه قيل له: أنه في بيوت الخمارين لا فضل فيه. فعاتبه على انقطاعه عنه. فقال أبو دلامة: إنما أفعل ذلك خوفاً أن تملني. فعلم أنه يحاجزه فأمر الربيع أن يوكل به من يحضره الصلوات معه في جماعة في الدار. فلما طال ذلك عليه قال:
ألم تريا أن الخليفة لزَني ... بمسجده والقصر مالي وللقصر!
فقد صدني عن مسجد أستلذه ... أعللُ فيه بالسماع وبالخمر
وكلفني الأولى جميعاً وعصرها ... فويلي من الأولى وعولي من العصر
أصليهما بالكَرْه في غير مسجدي ... فما لي من الأولى ولا العصر من أجر
يكلفني من بعد ما شبت توبةً ... يَحطُ بها عني المثاقيل من وزري
لقد كان في قومي مساجدُ جمةٌ ... ولم ينشرح يوماً لغشيانها صدري
ووالله مالي نية في صلاته=ولا البرُ والإحسان والخير من أمري
وما ضره - والله يغفر ذنبه=لو أن ذنوب العالمين على ظهري؟
فبلغته الأبيات فقال: صدق، ما يضرني ذلك، والله لا يصلح هذا أبداً، فدعوه يعمل ما يشاء.
وقد لا ترضى عن هذا التساهل صادراً من الخليفة المنصور، إذ تراه يدع أبا دلامة وشأنه فلا يعاقبه على تهاونه بشعائر الدين أو على اعترافه بشرب الخمر وإتيان المنكر: ولكنك تغفر للمنصور كثيراً من تساهله إذا حاولت أن تعرف كيف كان فهمه لأبي دلامة: كان يفهمه على أنه مخلوق لابد منه ليسد في هذه الدنيا فراغاً لا يسده إلا أمثاله من الظرفاء، وأن هؤلاء كثيراً ما يطغى هزلهم على جدهم فليس من الحكمة أن تحمل كل بادرة منهم(842/20)
محمل الجد، وإلا لخرست ألسنتهم فما تنطق، وسكنت حركاتهم فما تداعب، وانطووا على أنفسهم فما يضحكون ولا يضحكون: وبذلك نفقد هذا العنصر من المرح الذي لا نكاد نجده على حقيقته إلا لديهم، والذي ننظر بدونه إلى الحياة بمنظار أسود كئيب.
ولا ريب أن المنصور لم يلز أبا دلامة بمسجده في القصر لمجرد حمله على الصلاة، وإنما أراد قبل كل شئ - كما أفهم - أن يظفر منه بين الحين والحين بشيء من نكاته الظريفة، ومداعباته اللطيفة. حتى إذا وجد أن إلزامه بالصلاة في مسجده سيرهقه من أمره عسراً حتى ليوشك أن تغيب بديهته الحاضرة، وترقد دعابته اليقظة، عاد يعفيه من ملازمة الجماعة؛ ويقال في رواية أخرى أنه أحلفه أن يصلي في مسجد قبيلته.
بيد أن دلال أبي دلامة على المنصور ولطف محله منه لم يحولا دون تطبيق حكم الشرع عليه أحياناً وإن كان هذا التطبيق مشوباً بشيء من التساهل وقابلاً للتعديل السريع: شرب أبو دلامة في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل. فلقيه العسس فأخذوه وقيل له: من أنت وما دينك؟ فقال:
ديني على دين بني العباس ... ما خُتم الطينُ على القرطاس
إني اصطحبت أربعاً بالكأس ... فقد أدار شربها برأسي
فهل بما قلت لكم من بأس؟
فأخذوه ومضوا، وخرقوا ثيابه وساجه وأتى به أبو جعفر المنصور - وكان يؤتى بكل من أخذه العسس - فحبسه مع الدجاج في بيت. فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو في ذلك يسمع صوت الدجاج وزقاء الديوك. فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت وأين أنا؟ قال: في الحبس وأنا فلان السجان. قال: ومن حبسني قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلساني؟ قال: الحرس. فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:
أمير المؤمنين فدتْك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي؟
أمن صفراء صافية المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج؟
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النُطف النضاج
تهشُ لها القلوب وتشتهيها ... إذا برزت ترقرقُ في الزجاج(842/21)
أقاد إلى السجون بغير جُرمٍ ... كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حُبستُ لكان سهلاً ... ولكني حبست مع الدجاج
وقد كانت تخبرني ذنوبي ... بأني من عقابك غيرُ ناجي
على أني وإن لاقيت شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راجي
فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقي معهن حتى أصبحت. فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال له الربيع: أنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين. أما سمعت قوله (وقد طبخت بنار الله) - يعني الشمس - فأمر برده ثم قال: يا خبيث شربت الخمر؟ قال: لا. قال: أفلم تقل (طبخت بنار الله) تعني الشمس؟ قال: لا والله ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرض.
فقد رأيت - في هذه القصة - أن المنصور أراد أن يطبق حكم الشرع على أبي دلامة، فعزره على شرب الخمر بالحبس، ولكنه لم يشأ أن يحبسه مع الناس، وأنما ابتكر له سجناً مع الدجاج لعله يسمع منه كلمة تضحكه: فالخليفة كان يتنازعه عاملان: عامل الدين الذي يأمره بمساواة نديمه بغيره من الناس في كل حكم شرعي، وعامل المنادمة الذي يدخل السرور عليه كلما أطلق العنان لأبي دلامة: ولعل العامل الثاني كان أغلب على المنصور مع مثل هذا الظريف.
وإذا كنا قد أطلنا الحديث على نوادر أبي دلامة مع المنصور فلأنه حضر خلافته كلها - وقد دامت اثنتين وعشرين سنة - وكان مقرباً منه، مكرماً لديه. حتى إذا توفي أبو جعفر وبويع بالخلافة من بعده لابنه المهدي ثم علم أبو دلامة بقدومه من الري سارع إليه فورد عليه بغداد وأنشده:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفْر
لتصلينَ على النبي محمَد ... ولتملأن دراهماً حجري!
فقال: صلى الله عليه وسلم، وأما الدراهم فلا. فقال له: أنت أكرم من أن تفرق بينهما ثم تختار أسهلهما. فأمر بأن تملأ حجره دراهم.
وقد لا تحمد لأبي دلامة مسارعته إلى المهدي - بعد وفاة أبيه - وإنشاده هذين البيتين(842/22)
اللذين لم يزد فيهما على أن طلب المال بأسلوب طريف، وترى أن قد كان جديراً به أن يعزيه بوفاة أبيه ويهنئه بالخلافة ثم يؤخر مسألته إلى وقت أكثر ملائمة ومناسبة: لكنك تعذر أبا دلامة متى علمت أنه ورد على المهدي بعد مضي زمن غير قصير على وفاة المنصور فأعفى نفسه من التذكير بما طوته الأيام لئلا يكون كمن ينكأ الجرح بعد اندماله؛ ثم إن له من حب المهدي ما يشفع له، فكثيراً ما كان يداعبه - وأحياناً ما كان يعذبه - في حياة أبيه؛ وقد قالوا - وصدقوا -: من لم يوقرك صغيراً لا يوقرك كبيراً.
فأبو دلامة أراد أن يذكر المهدي حين قدم عليه لأول مرة بما كان بينهما في حياة أبيه من دعابة ومزاح ليحتفظ عنده بما كان له من مكانة، وليستشعر بنفسه مدى موقف الخليفة الجديد من ظرفه وهزله، فإن غيرته الخلافة فعبس في وجهه لزم صاحبنا الصمت ووجد الخير فيه، وإن بقي على مرحه وأنسه به زاده من المداعبة ألواناً وظل نديمه الظريف.
ولتهنأ يا أبا دلامة، فما قطب لك المهدي وجهاً، ولا غل عنك يداً، ولا رد لك طلباً، بل ملأ حجرك دراهم منذ أول يوم قدمت فيه!
وكان هم أبي دلامة الأكبر أن يكسب بمنادمته كثيراً من المال: ويأخذه في قصر الخليفة منه ومن أقربائه وممن يتردد على الخليفة من الأمراء والوزراء، بل كان يأخذه من الموالي أنفسهم؛ فإن أمسك أحد منهم يده عنه تنادر به ليفضحه!
دخل على المهدي وبين يديه سلمة الوصيف واقفاً، فقال: إني أهديت إليك يا أمير مهراً ليس لأحد مثله، فإن رأيت أن تشرفني بقبوله. فأمره بإدخاله إليه. فخرج وأدخل إليه دابته التي كانت تحته، فإذا به برذون محطم أعجف هرم. فقال له المهدي: أي شيء هذا ويلك! ألم تزعم أنه مهر؟ فقال له: أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف! فإن كان سلمة وصيفاً فهذا مهر! فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة: ويلك! إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بها في محفل فضحك. فقال أبو دلامة: والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين؛ فليس مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك. قال سلمة: قد فعلت على أن لا يعاود. فقال المهدي لأبي دلامة: ما ترى؟ قال: افعل، فلولا أني ما أخذت منه شيئاً قط ما فعلت منه مثل هذه فمضى(842/23)
سلمة فحملها إليه.
فأنظر كيف لم يرض أبا دلامة إلا حمل سلمة ألف درهم إليه كانت أشبه بضريبة لم يستطع أن يتخلص منها أحد من موالي الخليفة فكيف بأهل بيته وذوي قرباه؟
وقد صرح الظريف في هذه القصة بأنه لولا أنه ما أخذ من سلمة شيئاً قط ما تنادر به، ففي هذا إنذار لكل من يدخل قصر الخلافة سيداً كان أو مولى بأنه معرض للفضيحة إذا هو لم يرضخ شيئاً لأبي دلامة!
فما كان أعجب هذا الظريف!
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح(842/24)
من صور النكبة:
رقية. . .
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
تدلَت عن الأفق أم الضياء ... ملفعَةً باصفرار كئيبِ
وقد لملمت عن صدور الهضاب ... وهام التلال ذيول الغروب
وجرَت خطاها رويداً رويداً ... وأومتْ إلى شرفات المغيب
فأطبقن دون رحاب الوجود ... وأغرقنه في الظلام الرهيب
وغشَى الدجى مهجات نبضن ... بشوق الحياة، بوهج اللهيب!
وأخرى تلاعب ثلج السنين ... بها فخبت في حنايا الجنوب!
وأوغل في حاليات القصور، ... وأوغل في كل كوخ سليب
فمدَ الجناح على بسمات الشفاه، ... وفوق جراح القلوب
وضمَ السعيد بأحلامه، ... وضمَ أخا البؤس نِضْو الكروب
وفي وحشة الليل، ليل المواجع، ... ليل المواجد، ليل الهموم
وللريح ولولة في الشعاب ... وللرعد جلجلة في الغيوم
وللبرق خفق توالى دراكاً ... يشق حجاب الظلام البهيم
بدا (جبل النار) ترب الخلود ... له روعة الأزليِ القديم
تعالى أشمَ أمام السماء ... يجاذب منها حواشي الأديم
كأنَ ذراه رُفعن هناك، ... على الأفق، متكأ للنجوم
وكان وراء غواشي الدجى ... رهيب السكون عميق الوجوم
تحسُ به رجفة الكبرياء ... الجريحة والعنفوان الكليم
وفي قلبه النار مكبوتة الزَفير، ... فيا للهيب الكظيم!
هنالك، في سمح مهد البطولات، ... والمجد، والوثبات الكُبَرْ!
هنالك، تحت الضباب المسفِ ... والأرض غرقى بدفق المطر
كأن الرحاب العلى بعيون ... السحائب تبكي شقاء البشر. . .
هنالك ضمَ (رُقيَة) كهفٌ ... رغيب عميق كجرح القدر(842/25)
تدور به لفحات الصقيع ... فيوشك يصطك حتى الصخر
وتجمد حتى عروق الحياة ... ويطفأ فيها الدم المستعر
(رقية)؛ يا قصة من مآسي ... الحمى سطرتها أكفَ الغير
ويا صورة من رسوم التشرد، ... والذل، والصدعات الأخر. . .
طغى القُرُ، فإنطرحت هيكلاً ... شقيَ الظلال، شقيَ الصور!
تعلَق شيءٌ كفرخ مهيض ... على صدرها الواهن المرتعدْ
وقد وسَدت رأسَه ساعداً ... وشدَت بآخر حول الجسد
ولو قدرت أودعته حنايا الضلو ... ع، وضمَت عليه الكبد!
عساها تقيه بدفء الحنان ... ضراوةَ ذاك المساء الصَرِد
وعانقها وهو يصغي إلى ... تلاحق أنفاسها المطَرِد
وكانت خلال الدجى مقلتاه ... كنجمين ضاَءا بصدر الجلد
تشعَان في قلبها المدلهمُ ... فيوشك في جنبها يتَقد
وغمغم: أُمَ، وراحت يداه ... تعيثان ما بين نحرٍ وخد
فأهوت على الطفل تشتمُ فيه ... روائح فردوسها المفتقد
وفي مثل تهويمة الحالمين ... وغيبوبة الأنفس الصَافيه
أطلَت على أفق الذكريات ... وفي عمقها لهفة ظاميه
تعانق بالروح طيف الديار ... وتلثم تربتها الزاكيه
وتبصر في سبحات الخيال ... ملاعبها الرحبة الحانيه
وأفياَءها الدافئات وتلك الدهاليز ... في الروضة الحاليه
ومن ههنا ظّلة الياسمين ... ومن ههنا ظّلة الداليه
وإلفُ الحياة يُشيع الحياة ... بأجواء جنَها الهانيه
فيا دار ما فعلته الليالي ... بأشيائك الحلوة الغاليه؟
وربُك. . . كيف تهاوت به ... يدُ البغي والقوة الجانيه!
ومرَ على قلبها طيف يومٍ ... دجيِّ الضحى، عاصف مربد
وقد نفرت في جموح الإباءِ ... نسور الحمى للحمى تفتدي(842/26)
دعاها نفير العلى والجهاد ... فهبَت خفافاً إلى الموعد
تذود عن الشرف المستباح ... وتدفع عنه يد المعتدي
وتقتحم الهول مستحكماً ... وتسخر باللهب الموقد
فتنقضُ مثل القضاء المتاح ... وتهبط كالأجل المرصد
وليست تبالي وجوه الردى ... كوالح في الموقف الأربد
فياللحِمى! كم حميٍ أبيٍ ... تجدَل فيه. . . وكم أصيد!
أباحوا له المهج الغاليات ... وأسقوا ثراه دم الأكبد
وطالعها في رؤى الذكريات ... فتاها، نجيُ العلى والطماح
إباء الرجولة في بردتيه ... وزهو البطولة ملء الوشاح
يشدُ على الغاصب المستبد ... ويضرب دون الحمى المستباح
ويلقى عراك المنايا وجاهاً ... ويكتسح الهول أيَ اكتساح
وتعرف منه الوغى كاسراً ... قويَ الجناح عنيد الجماح
يخط على صفحات الجهاد، ... سطور الفدا بدماء الجراح
نبيل الكفاح إذا الخصم راغ ... ومن شرف الحرب نبل الكفاح
فيا من رأى النسر تجتاحه ... وتلوي به بغتات الرياح
تهاوى صريعاً وأرخى على ... حطام أمانيه ريش الجناح!. . .
وفاضت لواعجها، لا أنيناً ... جريحاً، ولا عبرة زافره
ولكن ذعافاً من الحقد والبغض والضغن والنقم الغامره!
متى يشتفي الثأر؟ يا للضحايا ... أتهدر تلك الدماء الطاهره
ويا للحمى! من يجيب النداَء ... نداَء جراحاته النافره
وقد أغمد السيف، لا رد حقاً ... ولا أطفأ الغلة الساعره
تململ في حضنها فرخها ... فضمته محمومةً ثائره. .
ومالت عليه وفي صدرها ... مشاعر وحشيةٌ هادرة. .
لترضعه من لظى حقدها ... ونار ضغائنها الفائره. .
وتسكب من سم خلجاتها ... بأعماقه دفقةً زاخره!.(842/27)
هنا (جبل النار) كان يطوَف ... حُلمٌ بأجفانه الساهره
تغاديه فيه طيوف نسورٍ ... تغلَ بأفق العلى طائره
مخالبها راعفات. . . وملء ... جوانحها نشوة ظافره. .
وبرد التشفيَ بثاراتها ... وراء مناسرها الكاسره
(نابلس - جبل النار)
فدوى عبد الفتاح طوقان(842/28)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقاومة الفكرة بالفكرة في المبادئ الهدامة:
من رأي معالي مصطفى مرعي بك وزير الدولة أن مقاومة الفكرة بالفكرة هي أنجع الوسائل في سبيل القضاء على المبادئ الهدامة. . . ذلك لأن التربة الصالحة لنمو الأفكار المنحرفة هي رؤوس الطبقة المتعلمة قبل الطبقة الجاهلة؛ فإذا حاربنا تلك الرؤوس بنفس السلاح الذي تلجأ إليه، كان ذلك أجدى على طلاب الحقيقة سواء أكانوا من الداعين إلى الانحراف والساعين إلى الخراب، أم كانوا من هواة التصديق الذي يعقبه التصفيق لكل رأي جديد يغرقهم في تيه من المظاهر الخداعة!
الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة والدليل بالدليل، وتلك هي الأضواء الثلاثة التي يجب أن تسلط على الأوكار الفكرية التي يعيش أصحابها في الظلام. . . رأي يحمل كثيراً من الصواب ما في ذلك شك؛ لأننا لو جندنا بعض الأقلام لمثل تلك الغاية لأتينا بخير النتائج ولظفرنا بالكثير، ولأزهقنا باطل الدعاة حين يذيعون على الملأ أننا قد لجأنا إلى منطق الإرهاب في محاسبتهم حين عجزنا عن منطق الإقناع. . . وتلك نغمة خبيثة يرددها اليوم أعداء النظام كما كان يرددها بالأمس أعداء الإسلام، حين نادوا بأن الدين الجديد قد فرض على خصومه بقوة السيف لا بقوة الدليل والبرهان!!
نحن مع وزير الدولة في هذا الرأي الصائب الذي يدعو إليه. . . وإنه لمن أيسر الأمور أن ندلل على فساد بعض المبادئ وفساد العقول التي تؤمن بها عن غير رؤية ولا تفكير، وتتخذها في بعض الأحيان تجارة لتصل من ورائها إلى كثير من الأغراض! ولكن لابد لذلك من حملة تجند لها القوى الفكرية ولابد للحملة من هيئة تشرف عليها في شتى السبل والميادين، ولا بأس من أن تخصص وزارة من وزارات الدولة لهذا الهدف وحده دون سواه. . . هناك كتب تكشف عن مساوئ الشيوعية وتزيح عن وجهها الدميم كل نقاب، فلم لا يعهد إلى بعض الأقلام بترجمة هذه الكتب لتوزع على طبقات الشعب بالمجان؟ تلك هي إحدى الوسائل المثلى ليطلع الناس على تصوير الأفكار المنحرفة تصويراً صادقاً، يكون بالنسبة إليهم كالأمصال الواقية من جراثيم المبادئ الهدامة!. . .(842/29)
قد يعترض معترض بأن هناك لوناً من الاستحالة المادية في طبع الملايين من الكتب لتوزع على الملايين من الأفراد، فضلاً عن التكاليف الباهظة التي ترهق الميزانية وفضلاً عن الوقت الطويل الذي ينفق في سبيل الترجمة والمراجعة والنشر. . . إذا تحقق شئ من هذا فلا بأس من التلخيص والتركيز لنقدم إلى الشعب فصلاً صغيرة تقوم مقام النشرات، وعندئذ ينتفي الاعتراض إذا ما تفادينا إضاعة الوقت والجهد والمال!
وهناك فضلاً عن ذلك ميادين الصحافة اليومية والأسبوعية ومحطة الإذاعة اللاسلكية؛ ففي تلك الميادين تستطيع وزارة الدولة أن تكرس الجهود عن طريق المقالات والمحاضرات، لتغلق كل نافذة يمكن أن تهب منها الرياح التي تزكم الأنوف المريضة، وتهز العقول الفارغة، وتعصف بنفوس السذج ممن يصدقون كل ما يقال!
وقد يعترض معترض آخر بأن هناك مشكلة ستظل رغم تلك الحلول وهي مشكلة المشكلات؛ وخلاصة المشكلة الكبرى هي أن هناك أناساً سيبقون على أمانيهم بالأفكار المنحرفة مهما جاهدنا في مكافحة الفكرة بالفكرة ومحاربة الدليل بالدليل، ذلك لأنهم تجار مبادئ وأصحاب أهواء وأغراض. . . وتلك فئة قد عاهدت الشيطان على أن تسد منافذ السمع دون صوت الحق ومنطق الضمير، فلا وسائل الإقناع بمجدية، ولا بنافعة طرائق التوجيه والإرشاد!. . .
إذا واجهتنا تلك المشكلة الخطيرة فلدينا العلاج الحقيقي للقضية كلها، أو قل أنه السلاح الرئيسي الذي يرد أسلحة الدعاة وهي مفلوله لا تقطع ولا تدفع. . . إنهم ينفثون سمومهم في كل بقعة يلوح لهم منها شبح الفقر وتبدو معالم الحرمان، وفي كل مجموعة من الأحياء تجأر بالشكوى منادية برفع غبن أو مطالبة برد حق مهضوم. وإذن لنعمل جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا تفرق بين فرد وفرد ولا بين فريق وفريق. . . علينا أن نهيئ العلم للجاهل، والعمل للعاطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح، وعندئذ تذهب دعوة السوء صرخة فارغة في واد عميق وتكسد البضاعة الزائفة حين تغلق في وجه تجار المبادئ المنحرفة كل سوق من الأسواق!
لحظات مع توفيق الحكيم في (شهرزاد):
ورد الحوار التالي في مسرحية (شهرزاد) للأستاذ توفيق الحكيم. . . المنظر السابع ص(842/30)
(172):
شهرزاد - لا أظن أنها تقارعك أو تتكلف لك. ما أنت إلا شعرة في رأس الطبيعة.
شهريار - كلما (ابيضت) نزعتها.
شهرزاد - إنها تكره الهرم.
شهريار - نعم.
شهرزاد - تنزعها كي تعود من جديد.
شهريار - (فتية قوية)!
والشعرة البيضاء إذا انتزعت لا تخرج محلها إلا شعرة بيضاء لا فتوة فيها ولا قوة، ضعيفة كأصلها واهية كأصلها. . . فهل ترى أن الأستاذ الحكيم قد وفق في تكوين هذه الصورة البيانية أم أنه قد أعجم علي الفهم؟ نرجو أن تبينوا لنا هذا في تعقيباتكم ودمتم ذخراً للأدب.
إسماعيل محمد السامرائي
بغداد - العراق
هذه اللمسة من الأديب العراقي الفاضل لمسة جد موفقة. وإنه ليستحق عليها خالص الإعجاب. . . ذلك لن الواقع المحس يؤيده كل التأييد فيما ذهب إليه! إن الصورة الفكرية هنا تبدو مهزوزة، أتدري لماذا؟ لأن توفيق الحكيم يعمد أحياناً إلى الفلسفة اللفظية؛ الفلسفة التي تعتمد على ظاهر اللفظ دون أن تنبع من أغوار النفس، وهذا هو المأخذ الذي نستطيع أن نعثر عليه في كثير من قصص الأستاذ الحكيم ومسرحياته!
صراع الأفكار لا صراع النفوس، هو السمة الغالبة على فن توفيق الحكيم، ومن هنا تهتز الصورة الفنية أحياناً وتهتز معها الصورة الفكرية. . . إن صراع النفوس حين ينقل عن واقع الشعور ينتفي معه كل تناقض لمنطق الحياة، وعلى العكس من ذلك تجد صراع الأفكار؛ لأنه صراع جدلي في أغلب حالاته يهمه مقارعة الحجة بالحجة، لتنتصر في معركة الألفاظ فكرة معينة نبتت في رأس الفنان فوضعها على لسان شخص من الشخوص، ولا بد لها أن تنتصر على سنان قلمه؛ لأنه يريد لها أن تنتصر، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة النفسية التي تعبر عن الواقع فتصدق في التعبير!(842/31)
إنك لو رجعت مثلا إلى (أوديب الملك) لوجدت أن إغراق توفيق الحكيم في الفلسفة اللفظية قد أفسد الجانب الواقعي من المسرحية في فصلها الأخير؛ ذلك الفصل الذي كان يجب أن يعالج علاجا نفسيا ليستقيم مع منطق الحياة والأحياء. . . ولكن منطق الفلسفة اللفظية قد ارتضى لأوديب أن ينظر إلى نهاية الكارثة نظرة لا تتفق وطبيعة البشر ولا تتفق وجلال المأساة؛ لأنها نظرة قوامها الرضا عن الحاضر بما فيه من قسوة ومرارة، ونسيان الماضي بما فيه من شرور وآثام، وهذا هو الطريق إلى السعادة: سعادة المستقبل الذي يكفر بهناءته عن حاضره وماضيه. . . ولا بأس من أن يقضي أوديب ما بقى من حياته إلى جانب جوكاست، على الرغم من أنه قد اكتشف أن تلك التي يريد أن يعيش معها من جديد هي أمه، أمه التي عاشرها معاشرة الأزواج وأنجب منها عدداً من الأخوة يقال عنهم أنهم أبناء؟!
إن هناك فارقاً كبيراً في القيم الفنية بين الصراع الفكري والصراع النفسي، وحسبك أن ترجع إلى مسرحية فرنسية عرضت لها بالنقد والتحليل في عدد ماضي من (الرسالة)، وأعني بها مسرحية (بنت بين أبوين). . . تلك التي نقلها الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى العربية في كتابه الجديد: (بنات)، حسبك أن ترجع إليها لترى كيف تعبر الألفاظ عن دخائل النفوس، وكيف تستحيل الكلمات إلى ظلال نفسية موحية، وكيف يصب الحوار في قالب من اللمعات الشعورية المشرقة، وكيف تضئ الصورة الفكرية تحت إشعاع الحياة!
لحظات أخرى مع طه حسين في (هامش السيرة):
ينقل لنا الدكتور طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) الجزء الثالث، حديثا يدور بين ورقة بن نوفل وصديقه نسطاس حول رواية سمعها ورقة من السيدة خديجة بنت خويلد عن الرسول الكريم فراح يقصها عليه، وعندما فرغ الدكتور من سرد هذا الحديث عقب عليه بهذه العبارات في ص (51): (ثم سكت ورقة فلم يقل شيئاً، وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً. . . وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما شئ. ولو قد رآهما راء على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم، وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق. ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة(842/32)
صامتة، ثم مد كل منهما يده إلى صاحبه فصافحه مصافحة طويلة. . . الخ)
ثم يعود الدكتور في الفصل نفسه فيقول في ص (53): (وكان ورقة يقص هذا الحديث هادئاً مشرق الوجه باسم الثغر وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان)!
كيف تتفق هذه الفقرة الأخيرة يا سيدي مع الفقرات السابقة ألا ترى أن هناك شيئاً من التناقض بين القولين، التناقض الذي يتمثل في أن نسطاس قد كف عن الكتابة هناك بعد أن سكت ورقة، وفي أنه قد عاد هنا لتجري يده على قرطاسه بتفسير ما يسمع؟ أرجو أن أسمع رأيك، وما جئت إليك أسألك إلا لأن رأيك هو الصواب، ودمتم عوناً لطلاب المعرفة.
عمر عيسى السامرائي
العراق - معهد التربية البدنية
عندما اطلعت على رسالة الأديب الفاضل قلت لنفسي: تناقض لاشك فيه. . . وعندما رجعت إلى كتاب الدكتور طه حسين وجدت الأمر على غير ما صوره الأديب الفاضل في رسالته، لأنني وقفت عند صفحة بين الصفحتين اللتين نقل عنهما صاحب السؤال تلك الفقرات التي بدا له أن فيها رأيين متناقضين وقفت عند هذه الصفحة لخرج من سطورها بحقيقة ملموسة، وهي أن الأديب العراقي الفاضل قد مر بها معجلا فيما يظهر، فلم يتنبه لتلك القصة الأخرى التي قصها ورقة على نسطاس بعد فراغه من القصة الأولى. . . الواقع أنه لا تناقض على الإطلاق ففي ص (51) كان ورقة ينقل إلى نسطاس أول قصة سمعها من السيدة خديجة عن الرسول الكريم، وعندما انتهى ورقة من قصته تلك (سكت فلم يقل شيئاً وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة. . . وعندما ذعرا من هذا الصمت وكأنما هبا من نوم عميق) بدأ ورقة في ص (52) يقص على نسطاس قصة أخرى عن الرسول الكريم، وعندما انتهى ورقة من قصته الثانية كان في ص (53) (هادئاً مشرق الوجه باسم الثغر، وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان. . .) ومن هنا يرى الأديب الفاضل أنه قد ظلم الدكتور طه حسين بلا ذنب ولا جريرة؟(842/33)
نهضة أدبية موفقة في عدن:
من دواعي الغبطة أن هناك نهضة أدبية مباركة في عدن، يشرف عليها ويرعاها نخبة من الشباب المخلصين لرسالتهم في الحياة ومن دواعي الغبطة أيضاً أن اطلع على دعائم هذه النهضة فيما يرسل ألي من إنتاجهم، ممثلا في مجلة شهرية هي مجلة (المستقبل)، وفي بضعة آثار فنية أهمها الشعر. . . الله يشهد أنني سعيد بهذه النهضة؛ لأنها وثبة رائعة من وثبات الشباب العربي في جنوب الجزيرة، ومتفائل بها كل التفاؤل؛ لأنني أؤمن كل الإيمان بأن النهضات الأدبية ما هي إلا مقدمات طبيعية لنهضات أخرى، ولو قلبت صفحات التاريخ في كل أمة من الأمم لرأيت أن كل وثبة في ميدان السياسة والعلم والاجتماع قد مهد لها الطريق على أكتاف رجال الأدب والفن؛ لأنهم كانوا وما يزالون حملة المشاعل في الصفوف الأولى من ركب الإنسانية في سيرها الطويل
أنا مقدر للشبيبة العدنية تلك الجهود الموفقة راجياً لها من الأعماق كل مزيد من التوفيق.
أنور المعداوي(842/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
المازني:
فجعنا بوفاة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يوم الأربعاء الماضي (10 أغسطس الحالي)، وأقول (فجعنا) وأنا أشعر بألم الفجيعة في واحد من أساتذتنا الذين تعلمنا وما زلنا نتعلم مما يكتبون وليس من السهل أن نرى كاتباً كالمازني يسلم الروح بعد عشرة روحية طويلة، وقد كان رحمه الله يصدر في كتابته عن ذات نفسه يحدثك حديث الإنسان المجرد من الزهو والتصنع والرياء، كان يصور نفسه، وما ينعكس على صفحاتها من صور، وما يضطرب فيها من أحاسيس، تصويراً طبيعياً صادقاً، فيشعر القارئ أنه إزاء إنسان صديق ممتاز. وكان من أقرب الكتاب إلى النفوس، لأنه كان قريباً إلى نفسه، وإلى حياة الناس، يأخذ مادته من الواقع، ويصوغها في أسلوب يستمد حياته من الواقع أيضاً، أسلوب عربي متين، ومع ذلك يطابق به لغة الخطاب في روحها وسياقها، ويخيل إلي أنه حين كان يكتب يتمثل الحديث العادي في الحياة الواقعة، فيترجمه إلى أسلوب يجمع قوة البيان العربي وروح الطبيعة الصادقة، وكثيرا ما كان يتوخى الكلمات العربية السائرة في العامية أو المحرفة فيها التي نكتب ويمكن قراءتها على أصلها العربي، فيقول مثلاً: (ربنا يجازيك) مؤثراً هذا التعبير على (جزاك الله) لأن الأول يستعمله الناس في خطابهم مع سلامته في العربية بتصحيح نطقه. وأنا أميل إلى هذا المذهب في الكتابة، وأحب أن أتابع فقيدنا المازني فيه.
وكان الفقيد الكبير من النقاد الأوائل القلائل الذين بدءوا حياتهم الأدبية بالثورة على المناهج الدبية القديمة، فدعا فيمن دعا إلى تجنب التقليد وتزييف الشعور، وأن ينظر الأديب في حياته وإلى ما يحيط به، ليصدر فيما يكتب عن صدق وأصالة. وقد نشأوا جيل الأدباء الحاضر على تلك الأفكار التجديدية، ورددها تلاميذهم وطبقوها على إنتاجهم ونقدهم، حتى استقرت في الأذهان وأصبحت حقائق أدبية مسلمة.
وفي أدب المازني إنسانية تتجلى في تحليله للضعف البشري الذي يشعر به من نفسه ومن الناس، فتراه فيما يصور من أمر نفسه صريحا ظريفا ممتعا، وتراه عطوفا كريما في(842/35)
عرض عيوب الناس ومقابحهم، يلتمس العذر لأهله، وينظر إلى المخطئ والمسيء نظرة الطبيب إلى المريض.
أراني استطردت إلى شئ من قبيل النظرة الدراسية التي لا يتسع لها المجال، وإنما أردت أن أبين أثر فقيدنا الراحل في هذا الجيل الأدبي وفي واقع حياة الناس. ولست بحاجة إلى بيان صفاته الإنسانية التي هي صفات الأديب المطبوع، المتسامي عن سفساف الناس، الساخر من غرورهم، الزاهد في زخرف الحياة، العازف عن أباطيلها.
تخرج المازني في مدرسة المعلمين العليا، واشتغل بالتدريس حيناً في مدارس الحكومة، ثم تمرد على تسلط المستعمرين وأذنابهم في ذلك الحين، فاستقال، واشتغل بالتدريس أيضاً في بعض المدارس الأهلية، ثم خلص للكتابة والصحافة فقضى فيهما أطول مرحلة من حياته العلمية، وكان يكتب في الأدب والاجتماع والسياسة، وقد تميزت كتابته في السياسة بالكياسة والنظرة القومية.
وقد لقي المازني عنتاً وشقاء في بعض أيامه الأولى، حتى اضطر إلى بيع الكتب التي تحويها مكتبته. وابتسمت له الأيام في العهد الأخير، ولكن هذا الابتسام كان افتراراً يسيراً مقتصداً فقد كان الرجل يحمل عبء العيال، وكان يضطر إلى كثرة الكتابة ليواجه تبعاته، حتى كان يكتب بعدة صحف ومجلات في وقت واحد. ولم يكن شيء من ذلك يبلغ حد التقدير الذي يستحقه هذا الرجل العظيم الذي عزف عن المناصب الحكومية التي ارتقى إليها من دونه، وظل يكافح ويستنبط رزقه بقلمه حتى أسلم الروح.
إن الفجيعة بفقد المازني، هي فجيعة الأدب في الأديب الحر الصادق، وفجيعة الحياة الإنسانية في هذا الإنسان الكريم، وفجيعة مصر وكافة أقطار العروبة في الكاتب العظيم.
أبو شادي العجيب:
كتب الأستاذ مصطفى أمين بك صاحب (أخبار اليوم) بعد رحلته في أمريكا - أن الدكتور أحمد زكي أبو شادي الطبيب والشاعر المصري الذي يقيم الآن في نيويورك، نشر سلسلة مقالات في جريدة (الهدى) التي تصدر في نيويورك هاجم مصر فيها هجوماً عجيباً! وأنه تقدم إلى الحكومة الأمريكية يطلب التجنس بالجنسية الأمريكية. .
وأبو شادي هذا سافر إلى أمريكا منذ سنوات، معلناً أنه لن يعود وأنه يبقى هناك حتى(842/36)
توافيه أم قشعم.
وقد طهرت منه مصر منذ ذلك الحين، وتنفس الجو الأدبي الصعداء، وشرع بعض الشعراء اللذين أفسد سليقتهم الشعرية في إصلاحها، ولا يزال بعضهم على ذلك الفساد.
وقد مكث أبو شادي دهراً ينظم كلاما فارغا ويقذف به ديوانا وراء ديوان، وهو يحاول أن يقنع الناس بأنه شاعر، فأخفق، ولم يفلح إلا بإفساد المذهب التجديدي في الشعر العربي الذي دعا إليه العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري، وكان من رواده خليل مطران حتى لقد نفر أبو شادي بعض الشعراء المجيدين من لفظ التجديد وأصبح مثار التندر في مجالسهم فلا غرابة أن يأتي إلينا نبأ انحراف ذلك الرجل عن الكرامة الوطنية، ومصر لا تستحق هجومه عليها إلا لسبب واحد هو أنه من أبنائها. . وإن كانت قد كفرت عن ذنبها بلفظه وقذفه إلى ما وراء البحار. . .
حمير الإذاعة:
سمعت في هذا الأسبوع حديث ندوة (الحيوانات) ببرنامج الأطفال في الإذاعة المصرية. خارت البقرة وافتخرت بأن الشعراء يشبهون بعينيها العيون الجميلة. فما كان من الحمار إلا أن نهق وقال: حتى أنا يذكر الشعراء صوتي في أشعارهم فيقولون: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير! ولا لوم عليه في اعتقاده أن هذا من كلام الشعراء فهو حمار. .
إنما السبيل على من أنطقه!
وقديماً قرأنا في نوادر الحمقى والمعتوهين بكتب الأدب، أن أحدهم قام يخطب قي الحث على الجهاد فقال: قال الله تعالى:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
تعليم اللغة باللغة:
قرأت كلمة الأستاذ السيد حسن قرون المنشورة بالعدد الماضي من (الرسالة) تعليقاً على ما كتبته في عدد ماضي بعنوان: (تعليم اللغة بدراسة الأساليب)
وأقول للأستاذ أولاً: إن مؤتمر مفتشي اللغة العربية انعقد باعتباره هيئة فنية تنظر فيما يتعلق بأعمالها وتبدي الرأي في المسائل المتصلة بها، على أنه رأي فقط، يصح أن تأخذ به(842/37)
السلطة الرئيسية في الوزارة أولاً. وأنا كتبت في موضوع تعليم اللغة العربية بمناسبة ما قرره المؤتمر فيه، لا لعرض ما انتهى إليه، والواقع أن المؤتمر لم ينته إلى أمر ذي خطر يغير واقعاً، فقد رأى أن تدرس اللغة العربية عن طريق نصوصها وأساليبها لتستخلص منها القواعد من غير إسراف في الاصطلاحات النحوية المطولة. وهذا متبع فعلاً، فالمدرس يعرض الأمثلة على التلاميذ ويستنتج منها القاعدة، والذي يمكن أن يعد جديداً في قرار المؤتمر هو عدم الإسراف في الاصطلاحات النحوية المطولة، وهذا هو ما يطلق عليه (تيسير النحو) على أن هذا أيضاً هو ما اتجهت إليه لجنة تيسير تدريس اللغة العربية بوزارة المعارف في منهج اللغة العربية الجديد الذي يوشك أن يأخذ طريقه إلى التطبيق والتنفيذ في المدارس.
وما ذكره الأستاذ من اضطراب منهج اللغة العربية في المدارس صحيح، وقد ذكر أمثلة له. وأنا أريد أن اعدي عن هذا فما هو بذي شأن فيما أريد أن أحصر الكلام فيه، وهو تعليم اللغة بالكلام الفصيح، وقد تسائل الأستاذ قرون عن المقصود باستخلاص اللغة من الأساليب، فإن كان يبغي ما عند المفتشين والوزارة فقد تقدم بيانه، وإن كان يريد ما رميت إليه بكتابتي السابقة في الموضوع فهو ما قلت (أن يترك الناشئ سنوات يسمع فيها اللغة ويقرؤها ويعالج التعبير بها، بحيث يشعر بالحاجة إلى ضوابط لها، وعند ذاك ننتهز فرصة تشوقه إلى الضوابط، فيعرف بها طرقة سهلة ميسرة)
وتفصيل ذلك أو تطبيقه أن تحذف القواعد من المدارس الابتدائية، لا أن تؤخر فقط من السنة الثانية إلى الثالثة، وليس معنى ذلك أن تظل الحال في المطالعة والمحفوظات والإنشاء على ما هي عليه الآن؛ ولا ندع التلميذ يفهمها على أن أي قصيدة تكفيه، والمطالعة فيها تسامح، والإنشاء أي كلام ينفع له ولو كان عامياً؛ ولا ندع حصص القواعد لصنع الصلصال وشؤون الفلاحة والبساتين.
وإنما يجب أن يعنى بالمطالعة على أنواعها منه جهرية وسرية ومدرسية ومنزلية، ويجب أن يكون أكثر ما يطالع قصصاً مناسباً لعقول التلاميذ من حيث الأسلوب السهل والفكرة المستساغة الواضحة والموضوع المشوق المأخوذ مما يدور في بيئاتهم وتقع عليه حواسهم، ويجب أن تشجع الوزارة على تأليف ذلك كما يجب أن تستعين بالأدباء المعروفين بالإنتاج(842/38)
للأطفال والناشئين. وكذلك ينبغي الاهتمام باختيار ما يحفظ ووضعه وبالتعبير الذي يسمونه الإنشاء، من شفوي وتحريري، بحيث يتجه فيه إلى الاستفادة مما يقرأ ومما يحفظ.
وبذلك نهيئ للناشئ فرصة طويلة يستطيع فيها أن يتذوق اللغة من كلامها الفصيح، ويعيش في جوها، فتنطبع ملكته بأساليبها، دون أن نفسد عليه ذلك بربكه باستخلاص القواعد، لأننا عندما نقدم له القطعة أو القصة ولا نتركه يهنأ بجمالها ومتعتها فنطالبه على أثرها بالمبتدأ والخبر والفاعل في جملها، ونأخذ منها ما يكمله بمفعول أو ظرف - عندما نفعل ذلك يحار التلميذ في المراد من القطعة أو القصة، وقد يذهب به الفكر الغض إلى أن المقصود من هذه الحكاية بيان جملها الاسمية والفعلية. . .
وبعد ذلك، أي بعد أن يتصفح التلميذ أساليب اللغة ويكتسب ملكتها ويدركها إدراكا كلياً، نعمد به إلى التحليل والتعليل، ويكون قد جاوز المرحلة الابتدائية وبدأ التعليم الثانوي فنعلمه القواعد الميسرة مع الاكتفاء بالضروري منها. وهذا ينطبق على القاعدة التربوية المعروفة وهي الانتقال من الكلي إلى الجزئي. وسيشعر التلميذ بالحاجة إلى القواعد في أثناء تجاربه اللغوية الابتدائية ويتشوق إلى معرفتها للانتفاع بها، وهنا أيضاً يتحقق ما يراه علماء التربية من إثارة شوق التلميذ ودفعه إلى طلب المعلومات بنفسه.
ونجني من كل ذلك غاية أخرى جليلة الشأن، هي أن نعود الناشئ القراءة والإطلاع منذ الصغر، فإذا شب وكبر طلب من زاد الفكر ما يناسبه.
عباس خضر(842/39)
رسالة النقد
ديوان أبي فراس الحمداني
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم يجمع أبو فراس أشعاره بنفسه، وإنما كان يدفعها إلى أحد أساتذته المعجبين به، أبي عبد الله الحسين بن خالويه، وهو من أشهر علماء البلاط الحمداني، ولعله بهذا، كان يريد أن يلقيه بين يدي أستاذ يذيعه في الناس، ويشرح لهم ما غمض عليهم منه، ويبين ما فيه من إشارات تاريخية يدركها، بحكم اتصاله بأفراد الأسرة؛ ولهذا أستبعد صحة الرواية التي تدعي على أبي فراس أنه حظر على أستاذه نشر شعره، فلو أنه كان يقصد حقاً حظر هذا النشر لكفى نفسه مئونة إلقائه إلى أستاذه، بل مئونة إنشائه وكيف ومن هذا الشعر ما أرسل به إلى أقربائه وأصدقائه، ومنه ما قصد به إلى تسجيل مفاخره ومفاخر أسرته، ولا معنى لهذا التسجيل إذا لم يشع بين الناس، ويجر على الألسنة، ويحفظ في الصدور، وتحل به الكتب، وكان أبو فراس يعد الشعر ديوان العرب، وعنوان الأدب، لا شيئاً يحط من قدره، ويرغب في إخفاءه، بل لقد كانت قدرته البيانية من أسباب فخره، وإذا كان قد نفى عن نفسه أنه شاعر حين قال:
طفت بمدحي، وامتدحت عشيرتي ... وما أنا مداح، ولا أنا شاعر
فإنما كان يرمي إلى أنه ليس من هؤلاء الشعراء الذين ينسبون إلى ممدوحيهم ما ليس فيهم رغبة في الصلات والعطايا.
وإن في مقدمة ابن خالويه ما يدل على أنه كان يلقيه إليه، ثقة منه بحفظه إياه، إذ يقول: وما زال، رحمه الله، إيجابا لحق الأدب، ورعاية للصحبة، وعلماً بأهل المحافظة، يلقي إلى دون الناس شعره. . . فجمعت منه ما ألقاه إلي، وشرحته بما أرجو أن يقرنه الله، عز وجل بالصواب، والرشاد، بمنه وطوله، وقوته وحوله؛ ولا ينبغي أن يفهم من كلمة ابن خالويه أنه شرح الديوان ببيان معاني أبياته، وإنما ذكر أحيانا الظروف التي قيلت فيها القصائد فحسب، كما شرح الحوادث التاريخية، لقصيدة الفخر الرائية، من غير تعرض لشرح لغوي، أو تفسير غامض.
لست أدري الترتيب الذي اختاره ابن خالويه لديوان أبي فراس وربما كان يضم المحدث(842/40)
الذي كان الشاعر يلقي به إليه، ويضيفه إلى القديم الذي عنده، فيكون بذلك أقرب إلى الترتيب التاريخي.
أما النسخ الباقية لنا من الديوان فغير متفقة في ترتيب قصائده، وقد شوه نساخها شعر أبي فراس، فحذف بعضهم بعضه، حتى لم تبق نسخة واحدة تجمع كل شعره، فضلا عن المسخ الذي أصيب به كثير من ألفاظه حتى صار من العسير فهم النص في كثير من الأحيان، والوصول إلى حقيقة معاني الشاعر، ولم تخل من هذه العيوب النسخ المطبوعة للديوان ببيروت سنة 1873 وسنة 1900 وسنة 1910 م.
ومن العجيب أن شارح ديوان أبي فراس، وهو عبد اللطيف البهائي، أحد فقهاء القرن الحادي عشر، وأحد قضاة بلغراد، كما حقق ذلك ناشر الديوان الحديث الدكتور سامي الدهان - عثر على إحدى هذه النسخ المشوهة فشرحها، وجره الخطأ إلى شرح خاطئ، وقد أشار ناشر الديوان إلى أمثلة كثيرة من هذا الخطأ، ومنه أن أبا فراس قال بيتين، لما مضى سيف الدولة يطالب قتلة عامله على قنسرين بدمه، ثم كف عنهم بتوسط أبي فراس، ولكنهم قصروا في شكره، وهما:
وما نعمة مكفورة قد صنعتها ... إلى غير ذي شكر بمانعتي أخرى
سآتي جميلا ما حييت، فإنني ... إذا لم أفد شكراً أفدت به أجرا
فوقع للشارح البيت الأول محرفا إلى:
وما نعمة مكفورة قد صنعتها ... إلى غير ذي شكر بما تبتغي أخرى
فلم يحقق النص، بل شرح البيتين بقوله: (يقول مخاطباً لسيف الدولة: إن النعمة التي صنعتها بعفوك عن قاتلي الصباح الذي وليته قنسرين، لكونها مكفورة، لا تقتضي أن تعاد عليهم مرة أخرى، لكن عادتي أن أفعل الجميل مدة حياتي، فإن لم أستفد منه الشكر استفدت منه الأجر)؛ وهو بهذا الشرح لا يلحظ أن الشاعر يجعل الأمير حينئذ في منزلة أقل من منزلته، إذ يخبره بأن نعمته ما دامت مكفورة لا يجدر به أن يسدي للمنكرين يداً أخرى، بينما أبو فراس من عادته فعل الجميل دائماً شكر أم كفر.
كما شرح قول أبي فراس:
وفارق عمرو بن الزبير خليله=وخلى أمير المؤمنين عقيل(842/41)
فقال: (يعني هذا شأن الدنيا وشأن أهليها من الغدر وعدم البقاء على الصحبة، كما في قصة عمرو بن الخليل مع خليله وتخلية أمير المؤمنين سيف الدولة قبيلة عقيل الذين قادهم ندى بن جعفر كما ذكر سالفاً). وهذا شرح يدل على جهل بالتاريخ، أما أبو فراس فيشير إلى عداوة عمرو بن الزبير لأخيه عبد الله وقيامه ضده، وإلى عقيل بن أبي طالب الذي فارق علي بن أبي طالب أخاه في خلافته، ومضى إلى معاوية.
وعن شرح هذا الفقيه أخذ نخلة بن قلفاط في حل بعض أبيات الديوان عندما طبع ببيروت وكثيراً ما يوجز ويختصر.
لم يعثر البهائي على ديوان أبي فراس كاملا، بل ينقصه الكثير من قصائده، ولم يقف في شرحه عند الإشارات التاريخية التي في الديوان يوضح المراد بها، ولم ينقل ما أورده ابن خالويه في توضيحها بل كان التفسير اللغوي وجهته، فيذكر النص، ويشرح ما فيه من ألفاظ لغوية، ذاكراً بعض ما لكلمه من مشتقات وجموع، ومبيناً ما في الكلام من أنواع البيان والبديع، ومتبعاً ذلك بذكر المعنى الإجمالي للنص، وكل ذلك في إيجاز، دفعه إليه إسراعه في هذا الشرح الذي أتمه في عشرين يوماً، وكثيراً ما كان يعفي نفسه من عناء الشرح، فيقول عن البيت من الشعر: (ظاهر غني عن الشرح) وربما كان خفياً غامضا.
ظل ديوان أبي فراس على ما وصفنا من النقص والتشويه حتى هيئ له أحد العلماء الناشرين، وهو الدكتور سامي الدهان، فأخرجه متبعا أمثل طرق الإخراج، ووقف عليه حقبة من عمره، حتى استطاع أن يخرج أصح وأكمل ما استطاع أن يظهره لديوان أبي فراس، وإن من يعاني ما عاناه الناشر ليقدر ما بذله من جهد مضن في التنقيب والتحقيق والاختيار، ولا يسعنا إلا أن نشكر له هذا الجهد الموفق.
وبرغم التحقيق الدقيق الذي بذله الناشر الكريم لم يدع أنه وصل إلى المثل الأعلى الذي يبغيه، وطلب من النقاد أن يوافوه بآرائهم في عمله المثمر إذ قال: (غير أني لم أظفر بمن يقرؤه من الدفة إلى الدفة يسجل نقده وأسجل يده. . وأملي أن يحظى بالناقد الحكيم والقارئ الكريم فيرد إلى معايبه، ويبصرني بزلله)؛ وعلى هذا الأساس أبدى بعض ملحوظات عنت لي بعد قراءة الديوان كله قراءة دارسة ناقدة، من غير أن تقلل هذه الملحوظات اليسيرة من قيمة هذا الجهد المشكور، والعمل الصالح.(842/42)
وأول ما ألحظه على الديوان ترتيبه فقد اتبع نهجا صناعيا لا فنيا في هذا الترتيب، إذ قسمه على نظام حروف القوافي، وإني أؤثر على ذلك النظام نظامين آخرين، هما الترتيب التاريخي، والترتيب الموضوعي؛ ذلك أن الترتيب على حسب القوافي ليس له قيمة فنية ما، وليس له من فائدة سوى سهولة العثور على القصيدة في الديوان، ويغني عن ذلك فهرس يوضع في آخر الكتاب لتسهيل المراجعة، أما الترتيب التاريخي فيساعد على تتبع التدرج الفني للشاعر، ويعين على معرفة أثر الزمن في نفس الشاعر ونظراته إلى الحياة، وربما كان الترتيب الذي سار عليه ابن خالويه أقرب إلى الترتيب التاريخي كما ذكرنا، فإذا عز علينا الترتيب التاريخي، فالأفضل أن نرتب الديوان على حسب موضوعاته، فنجمع قصائد كل باب متجاورة، فذلك خليق بأن يبرز لنا خصائص الشاعر في كل فن من فنونه في سهولة ويسر، فإذا جمعنا بين الترتيب الموضوعي والتاريخي معا فذلك هو المثل الأعلى للجمع والترتيب؛ أما وقد سار الناشر على هذا الترتيب الصناعي فإني كنت أرجو أن يؤرخ القصائد إذا استطاع الوصول إلى تاريخها.
وكنت أؤثر أن لو أضاف الناشر إلى جهده الضخم شرح غريب الديوان في ذيل الصفحات حتى يكون بذلك قد خلى بين القارئ والشعر لا يحول بينهما تحريف في عبارة، ولا غرابة في لفظ، ولم يكن أبو فراس مغرماً بالغريب أو مستكثراً منه، فكان من السهل على الناشر شرح هذا القليل حتى يصبح كتابه مستغنياً بنفسه عما سواه، كما حمدنا له جهده في شرح الإشارات الجغرافية الواردة في الديوان.
وقد تحرى الناشر أقرب الروايات إلى الصحة من بين الروايات المختلفة في النسخ، ولكني أرى أن قد اختار، في أحيان قليلة، رواية أراها مرجوحة، كما آثر أن يروي هذا البيت:
وهل لقضاء الله في الخلق غالب ... وهل لقضاء الله في الخلق هارب
وإني أؤثر رواية الشطر الثاني بمن بدل اللام فيكون:
وهل من قضاء الله في الخلق هارب.
وآثر أن يروى هذا البيت، وهو في خطاب سيف الدولة:
دعوناك، والهجران دونك، دعوة ... أتاك بها يقظانَ، فكرُك، لا البرد
وأؤثر رواية العاملي: البحران بدل الهجران الذي لا معنى له هنا، ولعله يقصد بالبحرين(842/43)
نهرين يفصلان بينه وبينهم.
وروى البيت:
يا طلعة الشمس لما صادفت حللا ... من السحاب على أرض من الزهر
وأؤثر خللا بالخاء، أي منفرجا بين السحب، لأن طلعة الشمس إذا لبست حلل السحب لا ترى، ولا تفرح بها أرض الزهر.
وروى البيت:
أخو الغمرات في جدٍ وهزلٍ ... أخو النفقات من سعة وضيق
وأفضل رواية: في سعة وضيق، أو في جد وضيق، إذ أنه ينفق من سعة ولكن لا يقال ينفق من ضيق. وروى البيت:
ولكن دهراً دافعتني خطوبه ... كما دفع الدين الغريم المماطل
وأفضل: كما دافع الدين الغريم المماطل، لأن الغريم المماطل يدافع الدين ولا يدفعه، وروى البيت:
خليليَ شدَا لي على ناقتيكما ... إذا ما بدا شيب من العجز ناصل
ولا معنى للعجز هنا، وأختار رواية الفجر. وروى البيت:
وإنَ مقيما منهج العجز خائب ... وإنَ مريغاً خائب الجهد نائل
وأفضل على ذلك رواية: وإن مقيما منجح العجز، خائب. فإن أبا فراس يوازن بين رجلين أحدهما مقيم لا يطلب، عاجز عن الجهاد، غير أنه قد نجح، وثانيهما طالب مجد ولكن جهده قد خاب، فأبو فراس لا يعد نجاح الأول نجاحاً، ولا فشل الثاني خيبة وإخفاقا، ورجح رواية البيت:
لقد ظننتك بين الجحفلين ترى ... أن السلامة من وقع القنا تصم
والأفضل رواية: لقد رأيتك. لما فيها من اليقين الذي يناسبه التوكيد. وآثر رواية البيت:
ومن لقي الذي لاقيت هانت ... عليه موارد الموت الزؤام
ثناء طيب لا خلف فيه ... وآثار كآثار الغمام
وأنا أؤثر الرواية الأخرى وهي: ومن أبقى الذي أبقيت هانت لأنه فسر ما أبقاه في البيت الثاني، وبدون ذلك يبقى هذا البيت منقطعاً عن صاحبه. وروى البيت:(842/44)
فيغلط قلبي ساعة ثم ينثني ... وأقسو عليه تارة ويلين
والأفضل عندي رواية: وأقسو عليه تارة وألين؛ حتى يكون المتحدث عنه واحد في الشطر الثاني، كما هو واحد في الشطر الأول هذا، ويخيل إلي أن أبياتاً ثلاثة قد تسللت إلى القصيدة رقم 332 ص406 من غير أن تكون هذه الأبيات فيها، أو أن موضعها في القصيدة ليس هو الموضع الذي أختير، وذلك حيث يقول أبو فراس:
مالي جزعت من الخطوب بعدما ... أخذ المهيمن بعض ما أعطاني
ولقد سررت كما غممت عشائري ... زمناً، وهنأني الذي عزاني
وأسرت في مجرى خيولي غازياً ... وحبست فيما أشعلت نيراني
فأنت تراه هنا يتحدث عن حاضره المؤلم، متسلياً بماضيه، ولكن ينتقل من ذلك إلى مدح سيف الدولة فيقول:
يرمي بنا شطر البلاد ومشيع ... صدق الكريهة فائض الإحسان
بلد لعمرك لم أزل زواره ... مع سيد قوم أغر هجان
إنا لنلقى الخطب فيك وغيره ... بموفق عند الخطوب معان
ثم يعود مرة أخرى إلى الحديث عن حاله اليوم والأمس فيقول:
أصبحت ممتنع الحراك، وربما ... أصبحت ممتنعاً على الأقران
مما أرجح معه أن هذه الأبيات قد دست بين الغرض الواحد دساً، فضلا عن حديثه عن بلد غير مذكور في القصيدة، وعن غموض المعنى وضعف الأسلوب في قوله: إنا لنلقي الخطب فيك وغيره.
وفي الديوان عنوان خاطئ هو: وقال في ابنته زوجة أبي العشائر (ص375)، فأبو العشائر لم يتزوج ابنة أبي فراس ولكن أخته، والصواب أن هذه القطعة قالها أبو فراس في زوجته وهي ابنة أبي العشائر، والشعر نفسه يدل على ذلك يقول:
وأديبة اخترتها عربية ... تعزى إلى الجد الكريم وتنتمي
محجوبة لم تبتذل، أمارة ... لم تأتمر، مخدومة لم تخدم
لو لم يكن لي فيك إلا أنني ... بك قد غنيت عن ارتكاب المحرم
فواضح أن التي أغنته عن ارتكاب المحرم زوجته لا ابنته.(842/45)
وهناك - وإن كان ذلك نادراً - بعض جمل غير مفهومة مما يدل على أننا لم نصل إلى النص الصحيح. وذلك مثل قوله:
حملت على ورود الموت نفسي ... وقلت لصحبتي: موتوا كراما
ولم أبذل لخوفهم مجناً ... ولم ألبس حذار الموت لاما
فلا معنى لكلمة أبذل هنا.
وأشعر بقلق في كلمة صباح من هذا البيت:
يئول به الصياح إلى صباح ... ويسلمه الظلام إلى ظلام
فالشاعر في الشطر الثاني يريد أن يقول: إن ظلام الليل يسلمه إلى ظلام في نظرته إلى الحياة، وإلى متاعب قلبية يظلم بها عيشه، ومن هنا لا أجد لكلمة صباح موضعاً.
وعنى الناشر بأن يستدرك ما أخطأت فيه المطبعة من الشكل، ولكن لم يزل هناك بعض لم يشر إليه، فمن ذلك زَمَّت أباعره، والصحيح زمت بضم الزاي (ص181) وينسُون (ص271) والصواب ينسَوْن، وُتعال (ص284) وصوابها تعال بفتح التاء. وولُّوا (ص285) والصحيح ولوْا. وتوْضع (ص379) وصحيحها توضِع. ولكن الكلامِ والصواب: ولكن الكلامَ (ص371).
هذا وكنت أؤثر للناشر أن ينقل إلى العربية آراء المستشرقين في الشاعر، كما نقل إلى الفرنسية، موجز ما كتبه العرب عنه، حتى يقف من لا علم عنده بالفرنسية، على آراء المستشرقين في الشاعر العربي.
وبعد فهذه ملحوظات لا تقلل شيئاً من قيمة جهد الناشر الكريم، الذي أحيا بجده ديوان أبي فراس، وقد ذكرناها أمانة للعلم، وسعياً للوصول إلى الكمال.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(842/46)
البريد الأدبي
ابن زنبل الرمال:
تحت يدي نسخة من كتاب له تحت اسم:
(كتاب تاريخ السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان مع قانصوه الغوري سلطان مصر وأعمالها) تأليف الشيخ أحمد بن زنبل الرمال المحلي رضي الله تعالى عنه على التمام والكمال والحمد لله على كل حال وبه نستعين. وفيه نهايته.
(تم طبع هذا الكتاب في أوائل شهر ربيع الآخر سنة 1278)
ولم أعثر على ترجمة لابن زنبل في الكواكب السائرة ولا في شذرات الذهب، وإنما وجدت في كتاب تاريخ آداب اللغة العربية للمرحوم جرجي زيدان بك أنه توفى بعيد 960
وهو أحمد بن أبي الحسن بن أحمد نور الدين المحلي الشافعي بن زنبل الرمال كان ضمن موظفي نظارة الجيش إلى سنة 960.
(لا أعتقد بأن نظارة الجيش استمرت إلى هذا العهد) وكان يتعاطى ضرب الرمل والنجامة. ولم يذكر جرجي زيدان من أين استقى هذه المعلومات وعرض لمؤلفاته وهي:
1 - فتح مصر: أو أخذها من الجراكسة على يد السلطان سليم من غلبة قانصوه الغوري 921إلى فتح مصر 922منه نسخ خطية في المكتبة الخديوية في 218صفحة وطبع في مصر على الحجر سنة 1287 (وصحتها1278 هـ) وعبارته ركيكة ومنه نسخ في فيينا ولندن وباريس. ومن هذا الكتاب نسخة مختصرة أسمها (واقعات السلطان سليم خان والجراكسة في فيينا). وعليه ذيل إلى وفاة السلطان سليم سنة1926. وذيل آخر ينتهي إلى فتح رودس ومالطة كلاهما في غوطا.
وسيرة السلطان سليم والجراكسة وما جرى بينه وبين قانصوه الغوري، يشبه في موضوعه وأسلوبه الكتاب المتقدم، نسخة منه في المكتبة الخديوية256 صفحة.
2 - تحفة الملوك والرغائب في أكسفورد.
3 - المقالات في حل المشكلات في السحر والرمل.
القانون في دنيا النجامة. منه قطعة في برلين)
انتهى كلام المرحوم جرجي زيدان بك.(842/47)
وقد اشتهر في هذا العصر سنبل مقدم المماليك. وقد تتبعت تاريخه فإنتهيت به إلى ترحيله ضمن أعيان المصريين الذين سافروا إلى استانبول سنة 923، ثم انقطعت أخباره. ولا أجزم للآن بأن هذا كتب تاريخياً؛ ولكني أشير بطبع إحدى النسخ الخطية المطولة وأرى ألا تهمل الأشعار والملاحم فإنها تمثل حقيقة مشاعر الشعب المصري أيام الفتح العثماني. وقد يكون بعضها زاد عليه الرواة من عندهم.
أحمد رمزي
1 - أعداد من الرسالة خاصة بالأقطار العربية:
في عام سنة 1361هـ أصدرت مجلة (الرسالة) الغراء أعداداً خاصة بالأقطار العربية الشقيقة ساهم في تحريرها نخبة من كبار الأدباء فيها، وكان لصدورها في ذلك الوقت الذي لم تولد فيه (الجامعة العربية) ولم يكن فيه للعرب التضامن الذي يكفل لهم الحرية والسيادة؛ صدى ذو نتائج طيبة في الأوساط الأدبية والسياسية. كما كان له أكبر الأثر في التعريف بالأدب العربي المعاصر على اختلاف أنواعه في شتى أقطاره.
ولكم وددت - والله - لو سارت (الرسالة) على هذا النهج مرة في كل عام؛ مسجلة بعملها هذا، التطور الذي يمر عليه الأدب العربي الحديث في كل قطر من أقطاره الشقيقة - غير الرسالة - مجلة تستطيع القيام بهذا العمل الجليل: ذلك لأن للرسالة كتابها اللذين - إذا ما ذكر كتاب العرب - كانوا في مقدمة من يذكرون. هذه كلمة أرجو أن يكون لها صدى طيب لدى أستاذنا عميد الرسالة.
2 - نسبة بيت:
أورد الأستاذ الكبير راجي الراعي في مقاله عن (المتنبي) المنشور في العدد (837) من الرسالة الغراء: هذا البيت ونسبه لأبي الطيب:
لي النفوس وللطير اللحوم ولل ... ==وحش العظام وللخيالة السلب!
والبيت - كما أعرف لعنترة العبسي من قصيدته التي يتوعد بها النعمان بن المنذر ومطلعها:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلى من طبعه الغضب(842/48)
وبهذه المناسبة أكرر للأستاذ الراعي شكري وتحياتي راجيا منه أن لا يضن على قراء الرسالة - المعجبين بأدبه - بما لديه من قصائد رائعة، وبحوث قيمة.
محمد عامر الرميح
المدينة المنورة - 3. ع. الرميح
1 - مباع ومباعة:
جاء في (لغة الجرائد) بعد الكلام على الأفعال التي يزيدون الهمزة في أولها خطأ. . . ويقولون سلعة مباعة
وهذه التخطئة خطأ فقد جاء في المخصص ج14ص227 - 229في الكلام على باب (فعلت وأفعلت) بمعنى واحد ما نصه باع الرجل متاعه بيعاً وأباعه بمعنى، قال النحويون أباعه عرضه للبيع والمعنيان متقاربان وأنشد ابن السكيت.
فرضيت (آلاء) الكميت فمن يُبِعْ ... فرساً فليس جوادنا بمباع
آلاؤه نعمه، وهذه رواية أبي إسحاق، وروى غيره (أفلاء) الكميت جمع فلوه.
وجاء في المصباح: باعه يبيعه بيعاً ومبيعاً فهو بائع وبيع وأباعه بالألف، لغة قاله ابن القطاع اهـ.
أي في كتاب الأفعال والمصريون يستخفون استعمال مباع ومباعاة، ولكن لا يستعملون الفعل الرباعي أباعه أصلاً.
2 - أبحاث:
أنكر أحد الكتاب جمع بحث على أبحاث في مجلة الرسالة الغراء، وهذا ليس بصحيح فقد جاء في (معيار اللغة) ما نصه:
بحث عن الأمر بحثاً كنفع فتش وتفحص واستقصى. . ثم استعمل المصدر (البحث) اسماً (للبحوث) وجمع على أبحاث كبعض وأبعاض اهـ.
ولم يجمعه على بحوث مع أنه الجمع القياسي المشهور وبجعله اسماً ساغ جمعه لأن المصدر لا يجمع لأنه يصدق على القليل والكثير وللصرفيين في جمع (فعل) المفتوح الفاء على (أفعال) كلام شاذ، لا مستند له لنا فإنه المأثور عن العرب من منظوم ومنثور وإني(842/49)
أستطيع أن اذكر للقراء مئات من الجموع كبحث وأبحاث وقد لاحظت أن كل اسم ثلاثي مفتوح الأول وثانيه واو يطرد جمعه على (أفعال) مثل ثوب وأثواب. أثوار. أحواض. أحوال. أدوار. أذواق. أزواج. أشواط. أشواق. أشواك. أطواد. أطوار. أطواق. أفواج. أقواس. أقوال. أقوام. أكوام. ألواح. ألوان. أمواج. أنواء. أنوار. أنواع. أنوال. أهوال وهكذا.
وجمع هذا شأنه يجب أن يكون قياساً، ومن المضحك المبكي أن ننتظر من العرب أن يوردوا لنا كل شئ وإنما:
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلما فعلوا
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
تصويب (أبحاث):
كتب الأستاذ رياض عباس كلمة في بريد الرسالة الأدبي عدد (837) تحت عنوان (من صميم العربية) جاء من عناصرها قوله: إن من الأخطاء الشائعة على ألسنة الكتاب جمع بحث على أبحاث ثم قال: وهو خطأ لا يجيزه القياس، وكتب اللغة لم تذكره. اللهم إلا (أقرب الموارد). ثم سأل الكاتب الفاضل عن مصدر صحة هذا الجمع الذي استقى منه صاحب أقرب الموارد.
وإجابة عن هذا السؤال أذكر له قاعدة النحاة الكوفيين العامة، ومنهجهم في القياس على المسموع من كلام العرب. وهي تتلخص في جواز القياس على ما ثبت ورود نوعه عن العرب ولو كان هذا الوارد قليلا. بينما يتزمت النحاة البصريون ويتشددون في أمر القياس، فلا يقيسون إلا على المسموع الكثير: سواء في ذلك التراكيب والمفردات.
وقد ثبت أن العرب جمعت وزن (فعل) المفتوح الفاء الساكن العين الصحيحها على (أفعال).
من ذلك حمل وأحمال، فرخ وأفراخ، وزند وأزناد. قال تعالى: (وأولات الأحمال). قال الحطيئة:(842/50)
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟
وقال الأعشى:
وُجدت إذا أصلحوا خيرَهم ... وزندك أثقب أزنادها
يرى البصريون أن هذه الجموع ونحوها مما شذ عن القياس فهي من النادر الذي لا يجوز القياس عليه. فأبحاث ونحوه جمع خطأ؛ لأن العرب لم تنطق به بذاته.
ويرى الكوفيون احترام المسموع ولو كان قليلاً. فأبحاث ونحوه عندهم جمع صحيح لا غبار عليه؛ لأن العرب نطقوا بنوعه وإن كان قليلاً.
وبعد فلعل هذا الرأي هو المصدر الذي استقى منه أقرب الموارد ما أورده. وأكبر الظن أنه ليس له مصدر سوى هذا
أما ترجيح أحد الرأيين على الآخر فالذي أميل إليه في هذا النزاع بذاته رأي الكوفيين؛ إذ قد ورد في اللغة الفصحى مع ما ذكرت أولا: أفراد وآلاف وآراء. وفي هذا قلب مكاني وأنجاد وأنهار وأنحاء. وكثر هذا الجمع في واوي الفاء ومضعف اللام. مثل: أوقاف وأوقات وأوصاف وأوكار وأوعار وأوغاد؛ وبمثل: أجداد وأعمال وأبرار وأفذاذ. وربما كان في اللغة وغيرها. وهي طائفة صالحة للقياس عليها. وهذا يدل على أن العرب طردوا هذا الوزن (أفعال) في جميع أوزان الاسم الثلاثي المجرد العشرة بلا قيد ولا شرط. نعم إنهم لم يكثروا منه في جمع المفرد المفتوح الفاء الساكن العين الصحيحها. ولكن هذا لا يمنع من القياس على ما سمع منه كما ذهب إليه نحاة الكوفة. وبهذا ظهر أن قول الأستاذ رياض: (وهو خطأ لا يجيزه قياس) إن أراد قياس البصريين فمسلم، وإن أراد قياس الكوفيين فلا. كما عرفت، وأن مصدر (أقرب الموارد) اللغوي هو الاعتماد على هذا القياس، لأن كتب اللغة في الغالب لا تذكر الجموع القياسية اتكالا على معرفة القواعد. فهذا جواب السائل المفضال. (وفوق كل ذي علم عليم).
عبد الحميد عنتر
الأستاذ بكلية اللغة العربية
الاعتبار بالحرفة!(842/51)
يرى الأستاذ محمد منصور خضر أن (الاعتبار بالحرقة) في كلام الجنيد خطأ وأن صحته (الاعتبار بالحرفة) بمعنى المهنة أو الصنعة لأن التصوف الحق هو العمل والعمل عندهم هو الحياة.
وأرى أن (الاعتبار بالحرقة) هو الصحيح هنا ومعناه الحب والتشوق الذي يشغل الإنسان عن ما سوى الله ويزداد حرقة وحرارة بازدياد القرب ومعنى قول الجنيد أنه ليس الاعتبار بالظاهر من اتخاذ الشارات ولبس الصوف وأكل الخشن وإنما الاعتبار بالباطن وما وقر في الصدور من الإخلاص والصدق والحب والمراقبة. . . والمواجيد الأخرى.
ومن ناحية سلبية يمكن القول أن التجرد عند الصوفية أسمى من التعلق بالأسباب ولكن الصوفي قد لا يتأتى له من الاجتهاد ورفع الهمة حتى يتحقق بالتجرد فيأخذ بالأسباب ويدعو السالكين في بدء دخولهم في الإرادة إلى ذلك. فرفع الهمة والأخذ بالأسباب معا في نفس الصوفي يجني تزايد هذا من تناقص ذا. ولكن غاية الصوفي التجرد ورفع الهمة حتى قال أحدهم (من تزوج أو تحدث أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا) وشاور أحد المريدين الخواص في أن يعتزل الناس ويعتكف في المسجد فقال (إن كنت على إيمان إبراهيم الخليل فاعتكف) وفي حكم ابن عطاء الله (إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية).
فالاعتبار بالحرفة أمر لا يتفق وروح الصوفي الذي ينزع إلى الخروج إلى الله والتجرد من الأسباب والتحرر من رق الآثار والأكوان.
أحمد الكاشف
ليسانس في التاريخ(842/52)
الكتب
البلاغة العربية في دور نشأتها
تأليف الدكتور سيد نوفل
بقلم الأستاذ علي العماري
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
2 - ولو أن هذه الروح جاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة. يوم تحدى القرآن العرب وأفحمهم إفحاماً، فقد لجئوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً؛ فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين، ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين سنة، هذا إلى أن تلك الروح للنقد لا أثر لها في العصر الإسلامي، لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحاة واللغويين.
3 - على أن من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق، أبو الفتح بن جني يحكى عن أبي الفارس أنه طعن في صحة هذه الحكاية. هذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيد كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق، الذي يحلل ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.
4 - وردت القصة في الجزء الثاني من نقائض جرير والفرزدق، وليس فيها إشارة إلى شئ من ذكر النابغة أو النقد الذي قيل في عكاظ.
وهكذا يسوق صاحب تاريخ النقد عند العرب الأدلة التي لا تدع مجالاً للاطمئنان إلى صحة هذه القصة، ولكن المؤلف يكتفي بقوله أنها تلائم طبيعة الحياة الفنية، ويرى ذلك داعياً إلى الاطمئنان إليها، أما ما هي الحياة الفنية في ذلك العصر، وكيف تلائمها هذه القصة، فلا خبر، ولا أثر؟
2 - ذكر مذهب الجاحظ في إعجاز القرآن، فقال أنه في نظم القرآن، ولكن الله صرف العرب في الوقت نفسه عن محاولة محاكاته خشية الفتنة. ومر سريعاً، واكتفى بنقل أثبته من كتاب الحيوان والمؤلف في نشأة البلاغة في حاجة شديدة إلى أن يتحدث عن مذهب(842/53)
(الصرفة) وما كان له من الأثر في نشأة هذه العلوم، والمؤلف في بلاغة الجاحظ على الخصوص لا يقبل منه أن يلصق هذا المذهب بالجاحظ ثم يمر كأن الأمر من الهوان بحيث تكفي فيه الكلمات. بل كان الواجب أن ينقب في كتب الجاحظ عن هذا المذهب، ويحققه، ويبين مدى تأثر الجاحظ به، ومدى تأثيره في علماء عصره، وقد رجعت إلى النص الذي نقله من كتاب الحيوان، فبدي لي فيه أمر أنا ذاكره بعد أن أثبت هنا ما يقوله الرافعي رحمه الله في نسبة مذهب الصرفة إلى الجاحظ قال عن هذا المذهب أولا (وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم اللذين افتتحوه وابتدعوه لكان ذلك من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنهم قد عرفوا) ثم قال ثانيا عن مذهب الجاحظ نفسه: (أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال تشير إلى بعضها في موضعه، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في منخل. . . ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها، وأومأ إليها عن عرض، فقد سرد في موضع من كتاب الحيوان طائفة من أنواع العجز وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها، ورفع ذلك القصد من صدورهم ثم عد منها (ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة لقراءته بعد أن تحداهم بنظمه) وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له، أو نبه عليه، أو هو يكون ناقلا ولا ندري).
قلت وفي كلام الجاحظ ما يؤيد الشطر الأول من هذا الكلام وهو أنه يرى في الإعجاز ما يراه أهل العربية، فقد قرأت في كتابه البيان والتبيين تصريحاً بأن العرب يعجزون عن أن يساموا الرسول في البلاغة، قال (فإذا رأت مكانه - يريد النبي صلى الله عليه وسلم - الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن تعبد للمعاني، وتعود نظمها، وتنضيدها وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مدافنها وإثارتها من أماكنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم، واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد خولوه قليلا مما يكون معه على البداهة والفجاءة من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله). فإذا كان هذا رأيه في بلاغة(842/54)
الرسول، فلا يمكن أن يكون رأيه في بلاغة القرآن ما يفهمه العلماء من مذهب الصرفة، وهو أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، ولكن الله صرفهم عن أن يعارضوا على أنه في ذاك الموضع من كتاب الحيوان التصريح بعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن قال: (وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد. الخ).
هذا. والذي يظهر - والله أعلم - أن القائلين بالصرفة لم يكونوا يقصدون إلى أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، وأن الله صرفهم عن هذا الإتيان، حتى يثبت أن القرآن في متناول البشر، كما فهمه طائفة من العلماء، وأطالوا الرد عليه، وبديهي أن هذا لا يشمل آراء أولئك اللذين صرحوا في مقالاتهم بأن القرآن غير معجز وأن الناس يقدرون على مثله، وعلى أحسن منه، ومن أمثال الجعد بن درهم - وإنما الذي افهمه من مذهبه أن الله منع العرب أن يأتوا بمعارضة للقرآن، مع أنهم غير قادرين عليها، وإنما صرفهم لئلا تكون فتنة، وهذا صريح في كلام صريح في كلام الجاحظ حيث يقول: (وصرف نفوسهم - يعني العرب - عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنساء وأشباه النساء ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض الأعراب، ولكثر القيل والقال) وهذا كلام واضح جداً وصريح في أن الجاحظ لا يجعل الصرف عن المعارضة هو السر في الإعجاز، وإنما يجعل الصرف أمرا ثانويا جاء بعد التحدي والعجز، وأنهم لو عارضوا لوجدوا من يستجيد كما يقول في موضع آخر (فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال) ونحن يعنينا الشطر الأول من هذا الكلام، أما الشطر الثاني فسقناه لأنا نلمح فيه أن الجاحظ(842/55)
يرى أن المعارضة كانت ميسورة للعرب، ولكن بعد التدقيق في كلامه يظهر أنه لم يجعل هذا العجز سراً من أسرار الإعجاز بل جعله دليلا على أن المعارضة لم تكن، ولم يكن لهم أن يأتوا بسورة ولو مفتراة، وليس أدل على عجزهم عن المعارضة أنهم تركوها وهي - لو أمكنت - كانت افسد لأمر الدعوة، وأسرع في تفريق أتباعها، ومما يؤيد ما ذهبت إليه، أن لكل من الجاحظ، وأستاذه النظام - وينسب إليه مذهب الصرفة - رأيا في الإعجاز غير الصرفة، فالنظام يرى أن الإعجاز كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية، والآتية، والجاحظ يرى الإعجاز في النظم، على أن ترديد العلماء في ماهية المذهب يقوي جانبنا (أنظر الطراز ج3ص392). ومهما يكن من شئ فأنا أستبعد أن يكون الجاحظ قائلاً بالصرفة على ما فهمها العلماء، وأرجح أن يكون ذكاها على المعنى الذي أشرت إليه، وفوق كل ذي علم عليم.
4 - في حديثه عن السجع ذكر عبارتين تؤديان إلى حكمين متناقضين وهما يتعلقان بأمر ذي بال، قال: (وليس من شك في أن معارضة المتنبئين للقرآن، واصطناعهم السجع في هذه المعارضة كان له أثر كبير في كراهية النبي والخلفاء له، وخشيتهم الفتنة به) ومعنى هذا الكلام أنه كان للمتنبئين معارضات، ثم قال: (وقد روت كتب السيرة نماذج من سجع مسيلمة وطليحة وسجاح وغيرهم قصد رواتها - في أغلب الظن إلى تسخيف أولئك المتنبئين) ومعنى هذا أن هذه المعارضات من وضع الرواة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مسيلمة تنبأ في آخر حياة الرسول، فهل بلغت معارضاته حداً جعل الرسول يكره السجع؟ أما طليحة، فإنه وإن كان تنبأ في حياة الرسول، إلا أن أمره لم يعظم إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الرافعي أنه لم يدع لنفسه قرآناً لأن قومه من الفصحاء ولم يتابعوه إلا عصبية، وإنما كانت له كلمات يزعم أنها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بشيء، ففي أي كتب السيرة وجد المؤلف معارضة لطليحة؟ أما أنا فقد عثرت على كلمة له نشرت في مقال سبق من الرسالة ولكني لم أظفر بها في كتب السيرة، وأما سجاح فتنبأت بعد وفاة الرسول، ولم تدع قرآناً وإنما كانت تزعم أنه يوحي إليها، أفليس من حق العلم على المؤلف أن يحرر عباراته، ويحققها، ولا يلقي القول هكذا. .؟!
5 - وقد سبق أن ذكرت أن في الكتاب مآخذ كثيرة جزئية، وأنا سأعرض منها، وسأفي،(842/56)
ولكني لا أجد مندوحة من ذكر بعض أغلاط، ربما لبست على الناشئة من قراء كتابه: ذكر أن الخطبة التي لم تشتمل على شئ من القرآن تسمى (بتراء) وذكر مثلا لذلك خطبة عمران بن حطان، وليس الأمر كذلك فالخطبة البتراء هي التي لم يحمد الله فيها ابتداء، وذكر كذلك الجاحظ في أول الجزء الثاني من البيان، وذكرته معاجم اللغة ومثلت له بخطبة زياد بن أبيه، ولا محل للإطالة وأما خطبة عمران وأشباهها مما لم يشتمل على شئ من القرآن فتسمى (شوهاء).
وذكر قوله تعالى (إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً) وقال إن في الآية استعارة، والذي نعرفه أن في الآية مجازا مرسلا، والفرق بينهما معروف للمؤلف.
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نثني على المؤلف، ونرجو أن تتبع محاولاته هذه محاولات، وأن يكون - كما يقول - بداية تنتهي إلى غاية.
علي العماري(842/57)
العدد 843 - بتاريخ: 29 - 08 - 1949(/)
كانتا أمتين. .!
في عيد الباكستان
لحضرة صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظه باشا
كانتا أمتين انبثقت أحدهما عن الأخرى، ثم حثت الأولى خطاها إلى مستقر الخلود، وظلت الأخرى وستظل تصعد في مراقي الحرية والكرامة، مدفوعة بما ينبض في تجاليدها من حرارة الإيمان وصدق الجهاد اللذين تحدرا إليها من الأمة المائلة في الرجل الخالد محمد علي جناح. .
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
كان، أجزل الله مثوبته، أمة وحده حقاً خلق أمته من حلم رف في يقينه، وخاطر استبد بخلد؛ ثم نشأها على معان عالية من العزة والكرامة، فكانت بين عشية وضحاها خامس دولة بين دول العالم، وأول دولة بين الإسلام.
إن محمد علي جناح الزعيم المسلم يقف وحده بين عظماء التاريخ وزعمائه فوق قمة لم يطاولها ولن يطاولها عظيم من عظماء الرجال وأفذاذهم، فقد تميز بسمات وخصائص لم تتوفر لسواه
رجل تمخضت حركته عن إنشاء دولة وبناء أمة.
ولو تراخى الزمن بفيلسوف الضاد وشاعرها المعري، ورأى كيف تسنم جناح هضبة المجد بأمته الباكستان وأحلها أعلى قممها وأرفعها سموقاً وعظمة ما قال هذا البيت:
وزهدني في هضبة المجد خبرتي ... بأن قرارات الرجال وهودها
ومن هنا طاب لي أن يدور حديثي في تحية عيد استقلال الباكستان على صاحب الفضل الأول والأخير في هذا الاستقلال الضخم العتيد.
فالحديث عن جناح إذن هو الحديث عن الباكستان، فهما اسمان مترادفان يتواردان على مدلول واحد من العمل الخالد والمجهود العظيم.
سمعت عن منشئ الباكستان العجب العجاب من أحاديث البطولة والتفوق، ثم أتيح لي شرف الصلة الوثيقة به، وأسعدني بزيارة كريمة في بيتي، فشهدت عن كثب هذه الشخصية الفريدة؛ وتحدثت إليه وتحدث إلي في فنون شتى من ألوان الحديث لمست خلالها تلكم(843/1)
المثل العالية في الوطنية الممتازة، والسيرة العامرة بمعجزات الجهاد.
إيمان عميق، وعزيمة غلابة، ونضال كريم، يترجمها مع حديث القائد الأعظم هذا الحديث الحاد المتدفق من عينيه النفاذتين، ثم هذه التجاعيد المرسومة على وجهه الدقيق التي تلخص جهاده الطويل المرير في جمع شتات قومه ودعم استقلال دولته.
عامان مرا على ميلاد هذه الأمة الفتية؛ ففي 15 أغسطس سنة 1947 أشرقت الباكستان في الأفق الدولي دولة مستقلة ذات سيادة ولقد كانت الدعوة الدينية التي اضطلع بها القائد الأعظم عدته وعديدة في بناء صرح الباكستان وجعلها قوة ملحوظة الجانب مرهوبة الشأن.
ولقد ثارت العواصف حول هذه الدولة إبان قيامها، واكتنفتها الهزاهز تريدها على أن تحني الهام وتعود إلى الوحدة، فأبى لها جناح الخنوع والذلة قائلاً: (نحن نعلم المصير الأسود المهيأ لنا إذا اضطررنا يوماً إلى الركوع وطلب المغفرة والعودة إلى الوحدة؛ ولذلك وطدنا العزم على ألاّ نفعل مهما نقاسي ومهما نشقى. امنحونا سنتين ولن يستطيع أحد بعدئذ أن يرغمنا على الركوع)
ولقد صدق القائد الأعظم حين صدق الله وعده له، فها هي ذي دولة الباكستان تسير بخطى فسيحة متوثبة طموحة إلى أبعد الغايات وأسماها في الوطنية والقومية والاجتماع.
هيأ الله للباكستان من أمرها رشدا، وشد أزر رجالها العاملين ليؤدوا رسالة قائدهم الأعظم التي تركها أمانة في أعناقهم. وسيكتب الله للباكستان الظفر بحقوقها كاملة والغلبة على ما يعترضها من صعاب، لأنها شعب عميق الأيمان بشريعته السمحة، عظيم الثقة برب السماء.
وفقنا الله جميعاً لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
إبراهيم دسوقي أباظة(843/2)
من معجزات الإسلام في القرن الرابع عشر
الهجري:
بين مهاجري قفقاسيا الجنوبية
قالت السيدة: (هذه الأرض الطيبة فليباركها الله الرب لأهلها)
للأستاذ أحمد رمزي بك
إن القوة الإسلامية التي بعث بها الخليفة عثمان بن عفان وكانت من عرب الجزيرة وأهل الشام تحت قيادة حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرض الشمال لازمها الحظ في الحروب حتى أخضعت ما وراء أرمينية ونفذت إلى بلاد القوقاز، ولما طلبت الإمداد جاء إليها جيش من عرب الكوفة عليهم سلمان بن ربيعه الباهلي وهو سلمان الخيل وكان ذلك المدد من المنمية عن طريق أذربيجان التي يتحدثون عنها اليوم.
وانضم الجيشان حتى أتوا إلى بلاد الكرج وجاء صاحب فتوح البلدان بكتاب الأمان الذي أهل تفليس وقال صاحب معجم البلدان إنها أي تفليس بقيت قروناً بيد المسلمين ثم خرجت من أيدهم ثم عادت فخضت لآل سلجوق ثم لأهل خوارزم وأخيراً لملك التتار ولا تزال بأيديهم.
فهذه البقعة من أراضي القوقاز بجبالها العالية ومروجها الخضراء وغاباتها وثلوجها ومياهها العذبة روتها دماء الفاتحين من المسلمين، وطالما سرحوا خيولهم فيها كما أنها استظلت بأعلام العروبة والإسلام في عهود الراشدين وبني أمية وبني العباس وفي يوم قريب من الأيام القادمة سنعثر حتما على بقايا الآثار الإسلامية وسنقرأ ويقرأ من يأتي بعدنا ما نقشه السلف على الأحجار تأكيداً لتلك الفتوح وإثباتاً بأن هذه الأرض لشعوب أسلمت ودخل أهلها في دين الله أفواجاً.
ومن حوادث القرن السابع الهجري أن الأمير بدر الدين الخازندار كان على ولاية يافا من قبل المصريين في عهد الملك الظاهر بيبرس وكان لا تشرد منه شاردة فأتاه الخبر بأن ملكاً من ملوك الكرج قد دخل عكا عن طريق البحر في زي الرهبان يقصد بيت المقدس للزيارة فبعث إليه وقبض عليه وسيره للسلطان بدمشق فأنزله ببرج من أبراج قلعتها حتى بعث(843/3)
بنفرين إلى بلاده ليعرفهم بأمره حتى إذا تأكد السلطان من حقيقته أعاده معززاً مكرماً.
وكانت الصلات قائمة على أهل تفليس وبقية سكان من جهة جورجيا وبلاد المسلمين ومن جهة أخرى وأطلعني صديق لي على صور لبعض المساجد هناك وعلى المنائر وقد ظهرت بغير أهلة وقال الصديق هذا أن الناس يؤكدون أن زعيم روسيا من جورجيا والحقيقة أن والدته كرجية أما والده فهو من الشمال من إقليم (استويا) وهو الذي يطلق عليه الجبليون (قوشحا) وهذا الصديق من أهل هذا الإقليم ويقول إن غالبية (الأساتين) مسلمون ويغلب عليهم التشيع وأن والد الزعيم البلشفي كان مسلماً شيعيا وأمه كرجية مسيحية ولما مات أبوه أرادت أن تجعل منه قسيساً فأدخلته مدرسة دينية: فخرج منها يدعو إلى الثورة.
كنت في أواخر عام 1928 بمدينة استنبول بين القارتين أوربا وآسيا على ضفاف البوسفور ومرمرة حيث يلتقي البحران وكان قد مضى تسعة أعوام أو عشرة على إمضاء هدنة الحرب الأولى، ومر أكثر من ذلك على قيام الثورة الروسية الكبرى التي حررت الملايين من البشر في زعمها وسببت تشتيت الآلاف من الناس ففر المرء من مواطنه ومن أمه وأبيه والتمس الخلاص من الموت، فكانت استنبول أول مرحلة من مراحل الهجرة الطويلة التي بدأت عام 1918 ولم تنته بعد.
وكان المهاجرون يفضلون العاصمة التركية القديمة لا لأنها بقعة من أجمل بقاع الأرض فحسب بل لأن من بينهم من هم من أصحاب العقول أي الفكر ومن هم من أصحاب القلوب أي العاطفة، فالأوائل يفضلون مركزاً قريباً يرابضون فيه للمراقبة وتلمس الأخبار في بلادهم أما أصحاب العاطفة فهم الذين لا يصدقون بوقوع ما قد حدث ولا يسلمون بما قد رأته أعينهم ولمسته أيديهم، إذ ليست الثورة عندهم إلا كحلم من الأحلام، فمثلهم ممن طالت به الغربة كمثل أهل الكهف (إذ يتساءلون بينهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) كذلك هم تمرَّ بهم الأيام والشهور والسنوات وهم في حلم دائم ينتظرون اليقظة لتأتي إليهم بالحقيقة أو هم يسرح بهم فيقولون: (سنفتح أعيننا يوماً لنعود إلى بلادنا وأعز شيء لدينا ولن نترك استنبول أبداً لأننا الطليعة الأولى التي ستترك أرض المهجر وتستأنف حياتها الأولى بأرض الوطن يوم يزول حكم البلاشفة وليأت من بعدنا من يشاء).
تلك كانت أمانيهم وهذه كانت آمالهم تقرأها مرسومة واضحة في عيون الفريق الأكبر من(843/4)
مهاجري روسيا سواء من موسكو أو شبه جزيرة القريم أو بلاد القوقاز. رأيتهم وعاشرتهم وصادقتهم وأنست بهم في العاصمة القديمة للدولة العثمانية، كانوا من أجناس وأعمار مختلفة ولم يكونوا من طبقة أو فئة واحدة فنقول النبلاء مثلاً أو الرأسماليين أو التجار أو الصناع أي الذين أضرت بهم الثورة بل كان بينهم العمال والمزارعون والخدام، لم يكونوا من جنس واحد أو وطن واحد أو دين واحد بل كانوا يهوداً ونصارى ومسلمين كانوا شيعة وسنية: فهم مع اختلاف أديانهم وطبقاتهم وأجناسهم ومراتبهم يمثلون دنيا بأكملها لا وطناً واحداً بل يمثلون قارة من القارات.
وكانوا مع اختلافهم هذا وتباين مذاهبهم السياسية والفكرية تجمعهم عقيدة واحدة وأمل ثابت وفكرة راسخة: هي أنهم مهما طال بهم الزمن وأن تقطعت بهم الأسباب سيعودون يوماً ما إلى تلك الأرض الشرود التي ولدوا عليها ونشئوا بها، والتي ذهبت من بين أيديهم فصارت حلماً في أذهانهم يمثله الحنين الدائم والذكريات الخاثمة على صدورهم وخفقات القلوب لدى أي خبر يأتي من عزيز في بلاد لا طريق للوصول إليها.
وكانت الحكومة التركية قد أمضت مع الحكومة السوفيتية الروسية اتفاقاً للجنسية جعلت فيه نصاً بخول كلُّ مسلم من مسلمي روسيا يلجأ إلى الأراضي التركية الحق في اختيار الجنسية التركية وحرمت على اللاجئين من غير المسلمين هذا الاختيار فكان من نتيجة ذلك أن حصل المسلمون من المهاجرين على تبعية البلاد التي استوطنوها وتمتعوا بحقوق المواطن التركي بينما بقي آلاف غيرهم يحملون جوازات السفر التي أطلقوا عليها أسم (نانسن) والتي تجعلهم عرضة للنفي والتشريد في أي وقت - وبمرور الزمن تبين لفريق كبير من المهاجرين هذا النص فقالوا لأنفسهم إن كلُّ مهاجر من أصل روسي أو من الأجناس التي خضعت لروسيا ينشرح صدره للإسلام ويشهر اعتناقه له، يكتسب تواً الجنسية التركية ويصبح عالقاً بتلك الأرض الطيبة التي تفيض عسلاً ولبناً حيث المناظر الخلابة والمياه العذبة والطيور المغردة وحيث الحياة اللينة السهلة التي تعطي ما تشتهي، وأهم من كلُّ ذلك العيش في عالم قريب من الأرض التي نحن إليها - فلم لا تقدم على ذلك؟
وكان أن دخل عدد من المهاجرين في دين الله أفواجاً منهم اليهودي والارثوذكسي والحر(843/5)
العقيدة، وفيهم التاجر والمالي والفنان، منهم من آمن بحق ومنهم آمن ظاهرياً وبقي على دينه الأصلي ولكنهم جميعاً تسموا بأسماء تركية وأخرى إسلامية وسجلوا ذلك على أنفسهم فأصبحت معاملاتهم وتصرفاتهم خاضعة لصفتهم الجديدة وشخصيتهم التي أخذوها وبهذا ضمنوا كإخوانهم المسلمين البقاء في تركيا والحصول على تبعية خاصة وتنازلوا عن أوراق (نانسن) وقواعدها ومضايقاتها وفي ذلك كله راحة كبرى واستقرار لهم.
ومن العائلات التي قذفت بها ثورة 1917 إلى الهجرة عائلة من أشراف مدينة تفليس تعرفت إليها بمدينة استنبول وارتبطت منها بروابط الصداقة والمودة الدائمة وكان تركها لموطنها الأصلي شاملاً أي كان بالخدم والاتباع صغاراً وكباراً وكانت إقامتها في مدينة استنبول ثم نقلت إلى ضاحية على الشاطئ الأسيوي. وكان منزل هذه الجماعة قطعة صغيرة من أراضي جورجيا الشهيدة يجمع كلُّ ما في الروح القوقازية من مرح وسرور وحيوية مع أدب جم وحساسية متناهية وعطف على الفقير وتواضع مع الناس بغير تبذل وكانت مظاهر الكرم والرغبة في إدخال السرور وإراحة على الضيوف من الأمور الثابتة الراسخة التي يقوم بها الصغير قبل الكبير أو الخادم عند غياب السيد، وتفليس ملتقى الشرق مع الغرب بل هي قطعة من هذا الشرق الأوسط ارتباطنا بها خلال القرون الماضية، لا يفصلنا عنا فاصل.
ومن منا لم يسمع بمدينة مراغه وعلمائها أو برذعة وما كان عليه في الماضي وهذه الأنهار المنحدرة من جبال قفقاسيا أو من جبال آسيا الصغرى يعرفها مؤرخو العرب ويتحدث عنها مؤلفوهم ويشاء القدر أن تلتقي الأنهر وتصب في بحر قزوين. فالصلات بيننا وبين تفليس كانت قائمة مستمرة ولم يقطعها إلا مجيء الروس في غفلة من الزمن وقطعهم لهذه البلاد وحرماننا منهم وحرمانهم منا. فالوصل حالة طبيعية والقطع الروسي حالة غير طبيعية: تتساءل إلى متى تدوم؟ ولذلك تشعر أنك لست غريباً عن هؤلاء القوم من أهل تفليس حيث تطل جبال قفقاسيا من الشمال وحيث تظهر في أحيائها المنابر وبقايا المساجد التي كانت يوماً ما عامرة.
لقد أنسنا بالأيام والليالي التي قضيناها مع القوم بل سعدنا بها وكان بالمنزل الذي يقع على شاطئ بحر مرمرة وكيل يدعى قاقتراتز نشأ أرثوذكسياً على مذهب كنيسة جورجيا وانتهى(843/6)
به المطاف أن دخل وتسمى باسم تركي، وكان يعامل كأحد أفراد العائلة، لا يرد له طلب ولا يجنح بطبعه إلى شدة أو إلحاح؛ فهو جزء من البيت الذي اعتاد عليه في تفليس واستمر على العيش فيه بتركيا لا فارق بين الحالين سوى السنوات تمضي سراعاً.
كان محدثاً لبقاً له مكانه على المائدة الرئيسية: يشرب الأنخاب ويحضر لكل ضيف كلمة طيبة يلقيها بأسلوبه الخطابي مرحباً بالضيف هاتفاً باسمه ولا تنسى أن الموائد تبدأ من الثامنة ولا تنتهي إلا عند انتصاف الليل، كانت تمد بالردهة الكبرى شتاء، وفي الحديقة تحت ظلال الأشجار المطلة على البحر صيفاً، حيث تكشف وأنت جالس مناظر جزر الأمراء (برينكبو)، ومرت الأيام واعتدنا اللغة الكرجية وألفاظ التحية بها، وأعقب الصيف شتاء وجاءت السنوات تترى. وفي يوم أيام الصيف 1934 توفي هذا الرجل الذي أمضى حياته مع أهل هذا البيت الكريم.
وكانت السيدة الفاضلة تعرف قدر إيمانه وتمسكه، فأمرت بأن يؤتى بقسيس أرثوذكسي وأن يقيم مراسم الصلاة ليلاً، وأوقدت الشموع وسهر أهل البيت يرتلون الصلاة وينشدون ترانيم بلاد الكرج بلسان أوطانهم، حتى انتهى الأمر عند مطلع الفجر، وانصرف رجال الدين وقد نفحتهم بمبلغ لا يستهان به. وكان خروجهم من المنزل تحت جنح الظلام في قارب أعد لهم لينقلهم إلى المرسى المجاور حتى لا ينتبه لمقدمهم ومسيرهم أهل القرية.
وفي الصباح المبكر جاء مختار القرية ومعه الهيئة الاختيارية من أهل بوستنجي ومعهم الخطيب والإمام، وتسلموا جثمان الوكيل وتولوا غسله وتكفينه على سنة النبي وتعاليم الإسلام، وساروا به في جنازة محمولاً في نعش على الاعتناق، حتى أتوا المسجد فصلوا عليه المسلمين، وقاموا بدفنه في قبور المسلمين وانصرفوا بعد أن قدموا تعازيهم لأهل الفقيد والسيدة الفاضلة
وكانت السيدة على شيء كبير من مكارم الأخلاق، يغلب عليها الحياء وتخشى أن تجرح الناس في عواطفهم وأفكارهم، فاستعملت الحيلة مع القرية وإمامها، ووسطت من حادثهم برفق وتؤدة، وطلبت إليهم أن يعملوها عن رسوم الحكومة وتكاليف الجنازة، وما يطلبه أهل المسجد الذي أقيمت الصلاة فيه، وما تكلفته البلدية من ثمن للكفن والغسل ومكان للدفن فدهشت السيدة حينما تقدم كبير القرية وقرر أمامها: أن القرية لا تطلب شيئاً وأن الجماعة(843/7)
من الرجال الذين حملوا النعش متطوعون وأن ما قام به إمام المسجد وخطيبه إنما هو واجب عليهم إزاء كلُّ مسلم، وأن هذا البلد ليرحب بأن يدفن في ثراه رجل نطق بالشهادتين وأتى إلى بلادهم لاجئاً فحباه الله بنور الإسلام والهداية.
ونظرت السيدة الفاضلة إلينا نحن معاشر المسلمين وقد أتمت حديثها، وقامت من مقعدها وأخذت حفنة من تراب الحديقة وقالت: هذه الأرض الطيبة فليباركها الله، لقد حمتنا بعد جور وأنقذتنا من ظلم، أما إن أر ما رأيت من أهل الإسلام وما بذلوه لغريب ليس منهم، فإني لولا قدم الأسم الذي أحمله لأعلنت اليوم إسلامي لأعلنت اليوم إسلامي ودخلت بينكم. إني أفهم لماذا لا تدخل الشيوعية بينكم. . . .
أحمد رمزي(843/8)
جيوفاني بوكاشيو
للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي
1313 - 1375
ولد جيوفاني بوكاشيو في باريس عام1313، كان والده في زيارة لتلك المدينة في مهمة تجارية. فقد أحب الوالد فتاة فرنسية تدعى (جان) وكان جيوفاني ثمرة هذا الحب الجامح، ولم يعرف من حنان هذه الأم أو ذكرياتها سوى بعض الحروف المتشابهة التي يحملها اسمه من اسمها، إذ عاد والده إلى فلورنسا بعد سنة من ولادته، وتزوج مباشرة بفتاة اسمها (مرغريتا) ولدت له ولداً شرعياً سماه (فرنسسكو). لقد كانت طفولة خالية من الحنان والرحمة والرعاية، فماتت في نفسه الغضة المعاني الإنسانية في الحياة لأنه لم يشعر بها، وهذا يفسر من ناحية نفسية قسوته الشديدة وتهكمه المرير وعبثه بالفضائل المعنوية التي يعلم أن البشر لا يعرفونها أبداً، في قصصه، وفي الأشخاص الذين تتصل بهم تلك القصص من قريب أو بعيد.
وقد قضى وقتاً غير يسير من طفولته في تسكانيا، ووقتاً في مسقط رأس والده، وحينماً في ضواحي فلورنسا، وخاصة في التلال حول فيزول، حيث كتب كتابه العظيم (دى كامرون) وأعماله الأدبية الأخرى. وأرسله أبوه إلى (نابولي) وهو لا يزال شاباً في الحادية والعشرين من عمره ليتعلم مهنة تكون عوناً له على حياته المقبلة. وهناك في تلك المدينة الساحرة، لقي صبيحة يوم السبت - المقدس في كنيسة القديس لورنزو - فياميتا الابنة غير الشرعية للملك روبرت ملك نابولي الملقب (بالعاقل)، فأحبها من النظرة الأولى حباً ملك عليه قلبه وحياته وجعله مسلوب اللب لا يعيش إلا لأجلها مدة اثنتي عشرة سنة، حتى ماتت عام 1348 في الوباء المعروف في التاريخ الأوربي بالموت الأسود.
كان حبه يشابه في شدته حب بتراك للورا، وقد أوحى إليه هذا الوله العنيف جميع أعماله الأدبية الأولى، ومن بينها أول قصة سيكولوجية في التاريخ سماها (فياميتا المحبوبة).
وظهر ميله الأدبي المبكر وهو في نابولي، فرأى والده أن يوافق على رغبته في تعلم القانون، وأن يترك ما كان فيه، ولكن إفلاس والده المالي، وعودته مضطراً إلى فلورنسا عام 1341، أعاده إلى الأدب وحال بينه وبين المضي في دراسة القانون.(843/9)
وبدأ في نابولي آثار أدبية أتمها في فلورنسا منها (فيلوكولو) و (فيلوستراتو) و (تسيد)؛ وزاد تلك الآثار (اميتو) و (فياميتا) و (نتفال فينسالانو). وعاد بعد ذلك إلى نابولي. أما فياميتا، فقد كان قلبها يخفق بحب غيره حتى قبل مغادرته نابولي. والمعتقد أنها توفيت سنة 1348 في وباء الموت الأسود المروع الذي يعتبر نهاية العصور الوسيطة في التاريخ، فقد أهلك ثلاثة من كلُّ خمسة أشخاص في فلورنسا ونابولي ومختلف بقاع أوربا وإنجلترا، فكان موتها ضربة أليمة لقلبه المعذب. وقد خلدها في الفصل الأول الذي يفتتح به كتابه العظيم (دي كامرون) إذ يعترف أن هذا الحب هو الذي دفعه إلى كتابة هذا الأثر الخالد، وفي القصص التي كتبها سابقاً يعود إليها فصلا فصلا، فيشيع في جوها حب فياميتا واللوعة على فراقها والحنين إليها.
لقد كان حبه لفياميتا الأساس لجميع أعماله الأدبية، حتى رأى بترارك فنشأت بينهما مودة متبادلة كانت عوناً على تناسى بعض آلامه وعلى شفاه بعض الجراح العميقة التي سببها موتها.
لقد مات الحس المرهف في خياله، وخبا النور الذي كان يشرق على بصيرته في شمس الحب، فتلبد حسه، وتحجرت عواطفه، وانتهت أجمل فترة من فترات الإلهام، فكتب بعد (دي كامرون) كتابه (كاربا كشيو) وهو مجموعة من الهجاء المقذع ما رأته لغة من اللغات، صب جام غضبه فيه على الدنيا التي حرمته الحب وعذبته بقسوتها. . .
ثم هدأت الثورة قليلا في عواطفه، ومال من تلقاء نفسه وبتشجيع من صديقه بترارك إلى نوع من الاستقرار وتناسي الماضي، فأخذ يدرس الآداب اللاتينية والإغريقية، وكتب كتابه (تاريخ حياة دانتي) وأهدى نسخة من (الكوميديا الإلهية) إلى صديقه بترارك، وأهدى إليه بترارك في مقابل ذلك مجموعة خطية من إلياذة هوميروس.
لقد رأى بترارك للمرة الأولى في ربيع عام1351 في مدينة بادوا، حيث ذهب إليه يرحب به بإسم مدينة فلورنسا ليعود من منفاه. فشاهد حماسه الشديد للآداب الكلاسيكية أو الدراسات المقدسة، وعدم رضاه عن الأدب الإيطالي، وقد كان لذلك، لسوء الحظ الأثر الفعال في نفس بوكاشيو، فترك العناية بالأدب المعاصر، وقصر مجهوده الأدبي على دراسة آداب اللغة اللاتينية وكل ما يتصل بها.(843/10)
لقد كان بوكاشيو أديبا أصيلاً، وفناناً مبدعاً، وفلته نادرة من فلتات الذكاء التي تراها الإنسانية في سيرها الطويل في فترات متباعدة جداً وفي أشخاص تخلقهم القدرة المبدعة لعمل يحمله الزمن إلى ذروة الخلود. لقد خلق في كتابه (دي كامرون) عالماً جميلا يموج بالحركة والإحساس العميق. فهو يجلس في عالم الخلود الأدبي إلى جانب دانتى وتشوسر وشكسبير. وقلما عرف التاريخ الأدبي فناناً مرهف الحس يجمع إلى فنه علماً غزيراً وجلداً على دراسات مضنية تتطلب صبراً جميلاً. ليس في مقدورنا أن نزعم أن بوكاشيو كان من هذا الطراز النادر، كما أنه ليس من الإنصاف أن نبخس مؤلفاته في اللغة اللاتينية حقها من التقدير، فقد كانت دائرة معارف الأدباء ومعجمهم في أوائل عصر النهضة، وهو وإن لم يبذل في تأليفها أكثر من مجموع الجمع والترتيب، كان بجلده الرائع وصبره وأناته الوحيد الذي حفظ للعالم قصائد للعالم قصائد هوميروس.
إن إيطاليا وأوربا مدينتان لبوكاشيو بحفظ آثار أعظم شاعر تفخر به الأجيال. . . لقد بذل بترارك مجهوداً في جمع تلك القصائد التي لم يكن في مقدور أحد في أوربا قراءتها في اللغة اليونانية، ولكن بوكاشيو هو الذي أخذ تلك القصائد وراح يراجعها كلمة كلمة ويعيد كتابتها مستعيناً بليون بلاتوس الذي كان يلفظ له حروف الكلمات اليونانية، وبذلك تمكن بوكاشيو من ترجمتها بأسرها إلى اللسان اللاتيني.
كانت حياته الخاصة سلسلة من الآلام والعذاب، ولم يكن يخفف من قسوتها عليه غير العطف الذي كان يغمره به بترارك وزيارته لأسرة هذا الصديق. كان معدماً ينغص عليه الحياة القاسية خوف وتشاؤم من الموت ومن المصير المجهول في العالم الأخر، ذلك الخوف الذي استطاع بترارك أن يخفف شيئاً من وقعة عليه ويهدي قليلا من سواد أفكاره. كان مهملا في زمانه لا يعرف أحداً. وأبتسم الحظ له في أخريات أيامه، فاختير لملء أول كرسي في جامعة فلورنسا أسس بإسم دانتي، وكأنما جاء تكريم دانتي في الوقت المناسب لتخفيف وطأة الفقر، وراح يحاضر عن (الكوميديا الإلهية) ويدافع عن شعر دانتي، ذلك الشعر الذي أحبه وتعصب له حتى مع صديقه بترارك. وألقي محاضرته الأولى في شهر تشرين الأول عام 1373، وكان في الستين من عمره، واستمر يحاضر حتى بلغ النشيد السابع عشر من الجحيم في الكوميديا الإلهية، فداهمه مرض شديد أقعده عن العمل، وبقي(843/11)
يعاني سكرات الموت حتى اليوم الحادي والعشرين من شهر كانون الأول 1376، فأراحه الموت من عذاب الحياة بعد أن ذاق حسرة موت صديقه بترارك في صيف 1374.
لقد ذكرنا فيما مضى أن جميع ما كتبه بوكاشيو في اللغة الإيطالية كان من وحي فياميتا التي أحبها، ففي الصفحات الأولى من كتابه (دي كامرون) نرى أنه لم ينس حب تلك الفتاة بعد أن كتب عنها - أو متأثراً - ستة مؤلفات نثرية، فافتتح ذلك الكتاب العظيم بالإشارة إليها أن يذكر اسمها، وختمه بنفس الطريقة والأسلوب. إن جميع الأسماء التي قص على لسانها في كتابه مائة قصة في عشرة أيام خيالية محضة ما عدا اسمها (فياميتا). أما بوكاشيو، فإنك لا تجد له ظلا في تلك القصص المائة. إن العجب ليأخذ الناقد الحصيف وهو يرسل رأيه ويتأمل كتابه الخالد (دي كامرون) الذي يمثل نبوغه ومجونه وتسامحه الكثير ومحبته العميقة للإنسانية، إذ يجد على النقيض في مؤلفاته الأخرى التي كتبها باللغة الإيطالية الدارجة، لا يعبر كما عبرت عن حوادث حياته الخاصة، وآرائه في الحياة وحبه وكرهه وسخطه.
إننا نتلاقى مع بوكاشيو في هذا الكتاب مرة أو مرتين، ولكن في غير القصص التي يبدو غامضاً جداً في حوادثها وأشخاصها ورسم أهدافها.
إن تصميمه الفني لهذه القصص يدل على فن أصيل وعبقرية فذة وذكاء مفرط، استطاع أن يشيع فيها عالماً تضطرم فيه الحياة بكل ما فيها من أحزان ومسرات، وظواهر وأسرار. لقد نفذ بعبقريته الفذة إلى ما وراء مظاهر الأشياء، نفذ إلى أسرار النفس الإنسانية فصور أفراحها وأحزانها، صفحها وانتقامها، رحمتها وحقدها، كرمها وبخلها، تصويراً عميقاً شاملا، لم تشذ عنه النفس، ولم يتوار عنه ضمير؛ فكان بذلك (شكسبير) عظيم الأثر في عصره، وفي العصور التي حملها فجر الزمن من بعده، يقرأها المرء فيجد فيها وصفاً لما يضطرع بين جنبيه من ألم وعذاب، ومرح وسرور، في أي عصر كان، وهذا عمل العباقرة الخالدين!
إن كتاب ألف ليلة وليلة يتوارى خجلا أمام دي كامرون إذ وضعا في ميزان التقدير وتحت ضوء النقد. إن كتاب ألف ليلة وليلة لا يقوم في مجموعه إلا على ملك مستبد يقتل زوجاته لألم في نفسه من النساء، وعلى شهرزاد الفتاة الأريبة التي تقص عليه تلك القصص، ولا(843/12)
تهدف إلى غاية غير استبعاد الكارثة وإطالة أمد المقاومة والتعلق بآمال الغيب، لعل المعجزة تتم فتنجو بحياتها، ولكن هذا القلق لا يلبث أن يتلاشى رويداً رويداً من نفسها بحكم ما تثيره قصصها من لذة في النفس الملك شهريار. أما دي كامرون، فتقوم حوادثه على ثلاثة من الفتيان وسبع من الفتيات ولواّ هاربين إلى سفوح تلال الفيزول من الموت الذي أباد مدناً بأسرها. . . يرون تلك القصص تناسياً للآلام وتوارياً خلقها من خيال الموت!
تعتبر مقدمة اليوم الأول من قطع الوصف الخالدة في الآداب الإنسانية عامة صور فيها مدينة فلورنسا في قبضة الوباء المهلك عام 1348 وقد أقفرت شوارعها من الحركة وتكدست الجثث هنا وهناك وقد فاحت منها الروائح المنكرة، تصويراً لا يلحقه فيه لا حق. . . صور ذلك الصمت الشامل الذي يغشى المدينة فلا يسمع فيها غير قهقهات خافتة من بقايا أجساد حطمت الكارثة كلُّ ما فيها من حس إنساني وشعور نبيل، وغير مجموعات أخرى تتحرك وفد خولطت عقولها وعبث بها الرعب فغدت كأشباح الموتى.
وفي صبيحة يوم من أيام الثلاثاء تلاقت في الصلاة سبع فتيات في كنيسة القديسة ماريا فلورنسا، فاقترحت عليهن كبراهن بامبينا أن يرافقنها إلى الريف هرباً من الموت، حيث يعشن في أحضان الطبيعة، في قصر ريفي لإحداهن عيشة الفضيلة والانقطاع عن الناس فلا تصل إليهن يد الموت وتشاء المصادفات أن يدخل الكنيسة في تلك اللحظة ثلاثة شبان يتصل أكبرهم ببامبينا بصلة القرابة، فاقترحت عليهم الانضمام إليهن فوافقوا مغتبطين.
وفي فجر اليوم التالي كانوا في طريقهم إلى ذلك الريف، فاستقر بهم النوى في قصر جميل وارته الأشجار وقامت على جوانبه الحدائق الوارفة. واقترحت بامبينا أيضاً أن يختاروا في كلُّ يوم رئيساً عليهم يكلون إليه أمرهم بحيث يكون كلُّ منهم مسؤولا بدوره. وتم انتخاب بامبينا في اليوم الأول فوضعوا على رأسها إكليلا من أغصان شجر الغار. وبعد غروب الشمس أخذوا طريقهم إلى حقل غطى العشب الأخضر أرضه. . . وهنالك جلسوا في دائرة وطلبت بامبينا ملكة ذلك اليوم أن يقص كلُّ واحد قصة في كلُّ يوم، وقد رأوا في اقتراحها طرافة فوافقوا عليه. . . وتلفتت بامبينا إلى بامفيلو الذي كان يجلس على يمينها وأمرته أن يبتدئ بقصة، وهكذا تأخذ هذه القصص طريقها إلى الوجود.(843/13)
من هذا النوع من التصميم تنبع قص بوكاشيو في دي كامرون، وهي تشابه قصص ألف ليلة وليلة في بقاء القاصين في مكان واحد في حقل العشب الأخضر في تلال الفيزول، وفي غرفة الملك شهريار في بغداد. وهو جمود يضفي على قصص الكاتبين لوناً من الكسل والخمول. أما قصص كانتباري تشوسر فتتسم بالحركة والنشاط والحياة، فالحجاج الذين يقصون القصص لهم سمات الأحياء تميزهم وتتعرف شخصياتهم في سهوله ويسر.
والضعف الذي نلمسه في قصص دي كامرون حين نقارنها بقصص كانتاباى لا يتصل بالخطوط الرئيسية في بنائها وإنما يتصل في الأشخاص. فأشخاص قصص كانتباري يتحركون فيمثلون الحياة الاجتماعية الإنجليزية في القرن الرابع عشر، لكل منهم شخصيته مستقلة واضحة المعالم. أما أشخاص بوكاشيو فليس في المقدور تمييز الواحد عن الآخر. وليس هنالك فارق بين لورنا وفيلومينا، وربما حسبناهما ديونيو أو فيلستراتو. أما فيتاميتا أقوى أشخاصه فإننا لا نراها وإنما نستمع إليه يصف جمالها وذكرياتها ويقحمها في مجال القصص من وقت إلى آخر.
(البقية في العدد القادم)
ماهرة النقشبندي(843/14)
على هامش (دراسات عن المقدمة):
رأي ابن خلدون عند الحصري
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 1 -
كتب الأستاذ أبو خلدون (ساطع الحصري بك) في العددين (819 و820) من الرسالة الزاهرة، بحثاً قيماً أورده جواباً على سؤال تقدم به إليه الأستاذ الكبير (صاحب الرسالة) وكأن مؤداه: (هل الشقاق طبع في العرب؟). وقد تطرق الأستاذ الحصري في جوابه إلى الحديث عن ابن خلدون وعن رأيه في العرب الذي جاء في مقدمة تاريخه. ثم تدرج من خلال ذلك إلى الحديث عن كتابه (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) واستشهد من هذه الدراسات (نموذجين من البراهين المسرودة فيها). كان أحدهما من القسم الأول عن المقدمة، والثاني من القسم الأخير منها.
فأغراني حديث الأستاذ هناك أن أصطحب (دراساته) تلك، لأجعلها شغل فراغي في المصيف الذي جنحت إليه، فكانت خير مشغلة، وكانت نعم الرفيق. وهأنذا أتقدم بهذه الكلمة المتواضعة، تعليقاً على هامش تلك (الدراسات) فأقول:
لقد كان الوازع الذي حفز الأستاذ الحصري لإصدار هذا الكتاب - كما أحسست من دراسته - أنه معجب بابن خلدون إعجاباً جعله يتكنى باسمه، ولذلك يدافع عنه في رد هذا المأخذ الذي أخذه الناس عليه من رأيه (في العرب). ولقد حاول جهد طاقته أن يظهره بمظهر الحدب الشفيق، وأن يلبس أقواله زخرفاً يخضد معه كثيراً من هذه الأشواك التي يلمسها (ناتئة وخازة) كلُّ من ينصرف إلى دراسة آراء هذا المؤرخ الفاضل في الأمة العربية منذ أقدم أزمانها إلى أيامه.
وإنك لتجد الأستاذ الحصري في (دراساته) يبذل غاية الجهد في هذا السبيل. فهو لا يدع حجة تلوح له من قريب أو بعيد إلا ساقها فيستشهد بنص يورده كاتب فرنسي. كما يشير إلى آخر يورده كاتب تركي. ويقبل بعد هذا كلام المؤرخ يستقرئه حيناً، ويحمله فوق ما يحتمل أحايين. ثم لا يقف عند هذا الحد، بل يلجأ إلى كلام تواطأت عليه العامة، فيدور(843/15)
حوله طويلاً حتى يكاد يبرزه بين معظم هذه السطور التي أعدها للدفاع عن ابن خلدون. وهاأنذا أسوق للقارئ الكريم طرفاً من دفاعه، وأظهر مبلغ تساوقه مع الحقيقة، مستشهداً - ما وسعني المقام - في استجلاء ما أشكل وأنبهم، بكلام المؤرخ نفسه كما أورده في مقدمته.
يقول الأستاذ الحصري عن كلمة العرب عند ابن خلدون ما يلي: (إن كلمة العرب في مقدمة ابن خلدون من الكلمات التي ولدت أغرب الالتباسات وأنتجت أسوأ النتائج. ذلك لأن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى البدو والأعراب، خلافاً للمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما تبين من الدلائل والقرائن الكثيرة المنبثة في جميع أقسام المقدمة).
ويتحدث بعد هذا طويلاً عن دحضه أقوال لكثير ممن تحاملوا على ابن خلدون بسبب خطئهم في فهم ما يقصده من كلمة (العرب) ومن هؤلاء - على حد تعبيره - مدير المعارف العراقية الذي دعا إلى (حرق كتبه ونبش قبره باسم القومية، زاعماً أنه من الكافرين بالعروبة. . .).
ثم يورد بعد ذلك ما يذكره علماء اللغة في تعريف كلمتي (العرب والأعراب) فيعقب عليه بقوله: (يظهر من ذلك أن مدلول كلمة العرب تطور تطوراً كبيراً خلال أدوار التاريخ. ويمكننا أن نعين اتجاه هذا التطور بالصفات الثلاث التالية:
أولاً: كان مدلول كلمة العرب يختص بالبدو وحدهم.
ثانياً: صار يشمل هذا المدلول من يسكن المدن والأمصار من غير أن يقطع صلاته بالبادية. . .
ثالثاً: (وهنا موضع الشاهد) صار يشمل مدلول كلمة العرب سكنة الأمصار أيضاً، بقطع النظر عن صلاتهم بالبادية، أو رجوع نسبهم إلى البادية. . .).
وهكذا يحدد الحصري مدلول هذه الكلمة في صفات ثلاث تطورات - كما يقول - مع أدوار التاريخ. ودعني أيُها القارئ الكريم أوقف بك عند كلُّ واحد منهم، مبتدئاً - حسب الترتيب الذي سار عليه - بالأولى حيث يقول: (كان مدلول كلمة العرب يختص بالبدو وحدهم. .) و (كان) هذه تحتمل من الإمكان ما نعيدها معه إلى إبان صدر الإسلام وما قبله، حيث جعلها الأستاذ بداية التطور خلال أدوار التاريخ. ولو تسائلنا على ضوء هذا التحديد، عما إذا ورد في القرآن الكريم - وهو قاموس العربية - ما يؤيد قول الحصري! لألفينا(843/16)
الجواب بأن القرآن الكريم لم يخصص كلمة (العرب) للبدو، وإنما خصص لهم غيرها حين يقول: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً. . .) و (وقالت الأعراب آمنا. . .). وهذا النبي صلوات الله عليه يقول: (ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. . .) وما أظنه يقصد بالعربي (هنا) من كان مقيماً في البادية دون سواه! وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول يوم السقيفة: (نحن المهاجرون، أول الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً. . . وأكثر الناس ولادة في العرب. . .) وهو يقصد بالعرب أهل (مكة). وهي حاضرة الجزيرة يومذاك.
وبما أن الأستاذ الحصري لم يحدد زمناً يربط به تطور مدلول هذه الكلمة، فالاعتراض عليه لا يتجاوز حد الافتراض. ولذلك فإننا نقف بهذا الذي أوردناه إلى جانب أول وصف لمدلول هذه الكلمة عنده، ثم نترك للقارئ الكريم الحكم عليها. . وننتقل إلى الصفة الثانية فنجده يقول فيها: (صار يشمل هذا المدلول من يسكن المدن والأمصار من غير أن يقطع ِصلاتة بالبادية. .) ولا أظنه يقف ابن خلدون عند هذا التعريف. وإنه لو فعل ذلك لأقام الدليل بنفسه على بطلان ما يقوله في دفاعه عنه. ولأثبت عندئذ أن ابن خلدون إنما قصد أهل الأمصار من العرب بقوله، وهو عكس ما يريده ويبتغيه. . إذن فلم يبقِ أمامنا غير التعريف الثالث، وهو الذي يقول فيه: أن مدلول كلمة العرب (صار يشمل. . سكنة الأمصار بقطع النظر عن صلاتهم بالبادية. .) وفي هذا الوصف ثالثة الأثافي! فهو إن كان قد تطور خلال أدوار التاريخ، فلابد من أن يكون قد عاصر ابن خلدون أو تقدم عنه أو جاء بعده. فإن كانت الأولى أو الثانية، فقد جعل قوله حجة عليه، ولن تبقِ هنالك حاجة لإقامة برهان. وإن كانت الثالثة، فقد أنطق ابن خلدون بالغيب، وجعله يتحدث بلسان الزمن قبل أن يجيء. وهيهات أن يكون ذلك كذلك؟!
وإليك أيُها القارئ ما يجيبنا به الأستاذ على كلُّ ما تقدم حين بقول: (ومما تجب ملاحظته أن هذا التطور لم يكن تاماً ولا قاطعاً. . لأن الطور الأول لا يزال مستمراً في استعمال العوام. . فقد تعود الناس في جميع البلاد العربية استعمال كلمة (العرب) بمعنى البدوي والفلاح. . .).
ولا أدري كيف (تطور تطوراً كبيراً خلال أدوار التاريخ) ثم نجد تطوره بعد ذلك (لم يكن تاماً ولا قاطعاً)!! بل يستمر الطور الأول منه في استعمال العوام إلى يوم الناس هذا!! وإنه(843/17)
ليلذ لي أن أتساءل في هذا المقام: لماذا لم يظهر مثل هذا الالتباس في مدلول كلمة العرب على أقلام المؤرخين ممن سبق ابن خلدون أو تأخر عنه؟! ولماذا لم يظهر كذلك في شعر الشعراء ممن تقدموه أو عاصروه، ما دام هذا هو مدلول الكلمة منذ طورها الأول الذي كان في بداية أدوار التاريخ؟!
ويورد الحصري بعد ذلك - تأييداً لابن خلدون - مثلاً شعبياً كثيراً ما تلوكه ألسنة العامة من أهل الحواضر، فيوردونه شاهداً على فساد ذوق البدوي، وهو قولهم: (الكل عند العرب صابون. . .) وأشهد لقد سمعته كثيراً ولكن بتحريف بسيط، فذكرني بـ (غير عزيز!)، وأعاد للنفس ذكريات مفزعة من الماضي الرهيب الذي توالى على الأمة العربية فصبرت عليه صبر الجبال. . . أجل لقد سمعت هذا القول كما سمعه الحصري فذكرني بشيء غاب عنه تذكره، ذكرني بذلك الاستعباد الطويل الذي تقلبت هذه الأمة بشتى مطارفه، يوم كان العربي في حاضرته يضطر - كارهاً أو مختاراً - أن يتشبه بذلك المتسلط القاهر فيحاكيه في عجمته، ويماثله في بزته. يوم كان العلج في عنجهيته يقف أمام هؤلاء الأعراب الذين يردون الحواضر، فيتأذى بصره المترف برؤية شقائهم البادي من فتوق أسمالهم، فلا يجد شيمته يحقرهم بها، فتوصل إلى قرارة نفسه الرضوان، أكثر من أن يردد على ملأ منهم قائلاً: (عرب! عرب!).
وإن كنت في ريب من ذلك فسل من شئت: هل عسيت إن شاكسك رجل من أهل هذه الدساكر حتى بلغ منك ما تكره ثم أردت أن تثار لنفسك منه، فهل رأيتك تغمغم بأكثر من أن تقول له: (فلاح! فلاح!) إلا أن هذه قرينة تلك، وكلتاهما مما خلفته لنا عصور الاستعباد الطويل، وتلقفناه عن أفواه أولئك المستعبدين، بعد أن يورد الأستاذ الحصري هذا الشاهد يعلق عليه طويلاً ويتحدث عن مبلغ تفشيه بين العامة في شتى الأقطار، وهذا أمر سلمنا له به، ولعل في ردنا عليه الكفاية، ثم ينتقل الاستشهاد بأقوال كبار المؤرخين والباحثين، ملتمساً في ذلك ما يقوله شاهداً على صواب ما يورد. وإنني أتناول واحداً من هذه الأقوال الكثيرة، فاتخذه شاهداً على عكس ما يقول، وأؤكد له أن (الثعالبي والفالي وابن السكيت وابن الأثير) وغيرهم ممن استشهد بهم، لم يخرجوا قيد أنملة عما تآلف عليه الناس منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم. إنهم حين لا يفرقون بين باد وحاضر يقولون: (عرباً) وإذا ما أرادوا(843/18)
أهل البادية دون سواهم قالوا: (أعرابياً) أو (بدوياً). وهذا نص يورده الأستاذ يؤيدني على ذلك، وهو قوله: (وأننا نجد في المثل السائر. . لابن الأثير. . ما يلي: (فإن قيل إن ذلك البدوي كان له طبعاً وخليقة. . . فالجواب على ذلك أني أقول: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا نقول فيمن جاء بعدهم من مشاعر وخطيب.
أرأيت كيف يقفك عند قوله: (البدري) حين أراده قبل أن يهجر باديته، ثم يطلقها بعد ذلك حين لا يريد مثل هذا التحديد؟!
وليت شعري كيف يرتضي الأستاذ الحصري أن (يحصر) مثل العدد الوافر من كرام المؤرخين، وأن (يحصر) نفسه أيضاً في حدود هذه الدائرة الضيقة حين يؤكد أنهم أرادوا جميعاً بقولهم (العرب) أهل البادية فقط؟! وبماذا سموا إذن - الله أبوهم - أهل الحواضر من عرب الشام والحجاز ومصر والعراق والمغرب والأندلس؟! هل قالوا حاضري أم حضري أم كيف؟! لقد توقعت أن أجد للأستاذ قولا مثل هذا، فكنت أجد منه مولجاً للاعتراض، ولكنه لم يفعل بل ترك الأمر غامضاً ملتبسا! وأن الأستاذ الحصري بعد ذلك يتحدث عن ابن خلدون بما يؤكد (ما ذهبت إليه) غاية التأكيد. وذلك حين يقول: (لم يستعمل ابن خلدون في المقدمة كلمة (الأعراب) و (الأعراب)، إلا قليلا جداً. فإنه قد استعمل كلمة (العرب) أو (العربي) في نحو (330) موضعاً، في حين أنه لم يستعمل كلمة (الأعراب والأعرابي) إلا في بضعة مواضع. . .)
هو ذاك! لأن الرجل أراد أن يسير على نهج زمانه، وهو منهج كلُّ زمان من أزمان العربية، لذلك يطلق كلمته العرب على كلُّ عربي من غير ما تخصيص، ويخص أهل البادية - حين يريد أن يميزهم عن سواهم - بقوله: (الأعراب). وهذا القرآن الكريم - وكان وما يزال (قراناً عربياً غير ذي عوج) - وقف عند هذا التحديد بعينه، وسار الناس بعد ذلك على منهاجه.
و (أرى) أبن خلدون ما تجاوز ذلك إلى سواه. .
ويأخذ الأستاذ الحصري بعد هذا ي اقتباس الشواهد من المقدمة، للتدليل على ما ذهب إليه، فيقول: (لنبدأ من الفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على (العرب). فلنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: (أن العرب إذا ما تغلبوا على أوطان أسرع(843/19)
إليها الخراب)، ولننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل وتأييد رأيه هذا: (فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب. . . فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخرجونها عليه. . . والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم. . .) ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام، فلا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات لم يفكر قط بأهل دمشق أو القاهرة. . . بل إنما قصد أعراب البادية وحدهم. . .).
والذي أقوله، ويقوله ذلك الفصل بعينه، يغاير ما أورده الأستاذ الحصري، ويؤكد أن ابن خلدون أراد البدو وغير البدو، وأقول بتعبير آخر: إنه أراد للعرب على اختلاف مشاربهم. وتبين ذلك من قوله الذي يكمل به ذلك الفصل بعينه. فهو يقول بعد الكلام الذي استشهد به الحصري (مباشرة) ما يلي: (فهم متنافسون في الرئاسة، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض، وأنظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان، كيف تقوض عمرانه وأقفر ساكنه، فاليمن قراهم خراب، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب). فهل نتبين من ذلك كله أنهم البدو فقط؟! وإذا كان الذين عمروا اليمن والشام والعراق وأفريقية والمغرب هم (البدو)، فمن هم (العرب) إذن؟! ثم يخطو الأستاذ الحصري بعد ذلك خطوة لا تخلو من تعسف، وهي أنه يصدر بحكم مبرم مؤداه أن ابن خلدون لم يقصد بقوله (العرب) في سائر فصول المقدمة غير (البدو)، ولم يتجاوز ذلك إلى غيره قط. فيورد هذا بأن يقول: (إن ابن خلدون لم يستعمل كلمة (العرب) بمعنى البدو في فصول الباب التي ذكرتها فحسب، بل استعملها على نفس المنوال في فصول الأبواب الأخرى أيضاً).
وهكذا يجعلنا الأستاذ في حل، لنلتمس ما يناقض دفاعه (في سائر الفصول)، بعد أن أكد - كما رأيت - أن ابن خلدون لم يقصد بقوله (العرب) في سائر الفصول سوى البدو وليس غير! ويستشهد بعد هذا ببعض كلام ابن خلدون مقدماً له بما يأتي: (يوجد في الباب الرابع أيضاً فصل خاص بالعرب، وهو الفصل الذي يقرر: (أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل). ثم يأتي على ذكر ما قاله ابن خلدون عن العرب في هذا(843/20)
الباب فيقول: (والعرب إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، ولا يبالون بالماء طلب أو خبث. . . ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابث والأهوية، لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات).
ويعلق على ما سلف بما يلي: (يظهر من ذلك بكل وضوح أن العرب المقصودين في هذا الفصل هم البدو الذين يعيشون في القفار ولا يوجد في هذا الفصل كلمة واحدة تنطبق على أهل الأمصار).
وفي هذا المقام أيضاً استشهد من الفصل عينه، مؤكداً أن في هذا الفصل أكثر من (كلمة واحدة) تنطبق على العرب الأولين الذين خرجوا من الحجاز واليمن، من مكة والمدينة والطائف وصنعاء وظفار وغيرها (وهي أمصار كلها!) بل خرجوا جميعاً من مدرسة محمد (ص) بعد أن قذف في قلوبهم هذا الإيمان الراسخ، فإذا هم يعلمون الحضارة لأهل الحضارة.
أجل، تنطبق على هؤلاء بعينهم، ويتضح ذلك مباشرة بعد آخر كلمة يوردها الأستاذ الحصري في النص الذي استشهد به من كلام ابن خلدون، وذلك حين يقول: (وأنظر لما اختطفوا الكوفة والبصرة والقيروان، فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس).
ألا ترى - يا أخي القارئ - صدق ما أشرت إليه من خلال هذا النص الذي (بُتر) أوله ليؤدي معنى غير معناه الذي أراده له صاحبه؟! وهل اختط الكوفة والبصرة والقيروان إلا رجال أفذاذ من أقران (عمر ومعاوية وابن العاص) وغيرهم ممن ساسوا البدو والحضر فأحكموا السياسة؟!
ثم يتدرج الأستاذ الحصري بعد كلام طويل إلى قوله: (ومما يزيد الأمر وضوحاً وقطيعة أن ابن خلدون يعود إلى هذه القضية (أي أن العرب بمعنى البدو) في بحث العلوم أيضاً، إذ يقول بعد أن يشبه العلوم بالصنائع: (وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها). . . يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة (العرب) مرتين مقابلا لكلمة (الحضر) بشكل لا يترك مجالا للشك في أنه يقصد منها (البدو).(843/21)
والذي أقوله: إن كلام ابن خلدون لا يدع مجالا للشك فيما يقصد. ويوضح لنا كلمات تلي (ما استشهد به الأستاذ الحصري) ما يقصده من الكلمتين (العرب والحضر). وهأنذا أورد قوله ليتضح وجه الصواب: (والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف).
أرأيت كيف كان يقصد بقوله (الحضر) غير العرب، وأن العرب لديه هم العرب سواء سكنوا البادية أم الحاضرة؟!
ولما كان المقام لا يتسع لمناقشة جميع الشواهد التي أوردها الأستاذ الحصري من كلام ابن خلدون، لذلك أكتفي بهذا المقدار الذي أوردته منها، ملمحاً إلى أن جميع ما جاء في هذا الصدد لا يعدو ما ذكرته في مكانته من الحقيقة. وحسبك - في كشف الغطاء عنه - أن تواصل قراءة تلك النصوص في المقدمة عينها لينطق لك ذلك الكلام (المبتور) بأن ابن خلدون إنما عني بقوله (العرب)، العرب الذين يعرفهم الناس منذ خلق الله العرب في الناس!
وأما الكاتب الفرنسي الذي أشرت إليه في بداية هذه الكلمة وقلت إن الأستاذ الحصري استشهد به، فهو الأستاذ (العرباني) البارون (دوسلان)، وقد ترجم مقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية قبل ثمانين عاماً، وقال فيها عن مدلول كلمته العرب عند ابن خلدون عند ابن خلدون ما يلي:
وترجمة ذلك: (أن عرب ابن خلدون هم الأعراب. .). كما أن الكاتب التركي الذي أشار إليه الأستاذ الحصري هو المؤرخ (جودت باشا). وقد ترجم كلمة عرب - كما يقول الأستاذ في (دراساته) اعتماداً على ما فهم من كلام ابن خلدون، فأثبتها: (في مواضع كثيرة على شكل (قبائل عرب). .).
ومن هنا (أكاد) أجزم بأن الأستاذ الحصري إنما جاءنا بهذا الرأي الجديد نقلاً عن هذين الكاتبين. وإنني لا أجد تعليلاً (لوهمهما) هذا إلا أنهما أبصرا في بعض المواضع اقتران كلمة العرب بالإبل والخيام فحسبما أن عرب ابن خلدون ليسوا سوى أهل البادية من الأعراب. غير أن الحقيقة التي لا تغيب عن باحث هي أن ابن خلدون لم يكن يدقق في(843/22)
التمييز بين أهل البادية وأهل الحاضرة من العرب، فكان يسميهم جميعاً (عرباً) على أنه كان يستعمل كلمة (الأعراب) أو (البدو) حين يريد أن يحصر مدلول كلامه في حدود معينة. وهذه الحقيقة مشاهدة في مقدمته، وظهورها أعم وأبين في دراسات الأستاذ الحصري عن ابن خلدون، وذلك حين يحصى عدد ما أورد ابن خلدون من كلا التعبيرين فيقول أنه ذكر العرب (كذا) مرة، وذكر الأعراب (كذا) مرة. وقد ذكر ذلك وعلقت عليه في خلال ما أسلفت.
(البقية في العدد القادم)
محمد سليم الرشدان
ماجستير في الآداب واللغات السامية(843/23)
من ظرفاء العصر العباسي
أبو دلامة
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 5 -
ونلاحظ أن أبا دلامة لم يكن يصله - غالباً - شيء من المال إلا بنادرة كما رأينا في قصة الوصيف، أو بحيلة كما سنرى الآن في قصته مع العباس بن محمد - عم المهدي - الذي كان من أبخل الناس:
دخل أبو لامة يوماً على المهدي، فحادثه ساعة وهو يضحك وقال له: هل بقي أحد من أهلي لم يصلك؟ قال: إن أمنيتي أخبرتك، وإن أعفيتني فهو أحب إليَّ. قال: بل تخبرني وأنت آمن. قال: كلهم قد وصلني إلا حاتم بن العباس. قال ومن هو؟ قال: عمك العباس بن محمد. فالتفت إلى خادم على رأسه وقال: جَأُ عُنق العاض بظر أمه. فلما دنا منه صاح به أبو دلامة: تنحَّ يا عبد السوْء لا تحنثْ يمين مولاك وتنكث عهده وأمانه. فضحك المهدي وأمر الخادم فتنحى عنه، ثم قال لأبي دلامة: ويلك! والله عمى أبخل الناس. فقال أبو دلامة: بل هو أسخى الناس. فقال له المهدي: والله لو مت ما أعطاك شيئاً. قال: فإن أنا أتيته فأجارني؟ قال: لك بكل درهم تأخذه منه ثلاثة دراهم. فانصرف أبو دلامة فحبر للعباس قصيدة ثم غدا بها عليه وأنشده:
قف بالديار وأيَّ الدهر لم تقفِ ... على المنازل بين الظهر والنجف
وما وقوفك في أطلال منزلة ... لولا الذي استدرجتْ من قلبك الكلف
إن كنت أصبحت مشغوفاً بساكنها ... فلا وربك لا تشفيك من شغف
دَع ذا وقُل في الذي قد فاز من مُضر ... بالمكرمات وعز غير مقترَف
هذي رسالة شيخ من بني أسد ... يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصر كاتبةً ... قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفاً وشاتيةً ... إلى معلمها باللوح والكتِف(843/24)
حتى إذا نهد الثديان وامتلأا ... منها وخيفت على الإسراف والقرف
صينت ثلاث سنين ما ترى أحداً ... كما يصون تجارٌ درة الصدف
فبينما الشيخ يهدي نحو مجلسه ... مبادراً لصلاة الصبح بالسدف
حانت له لمحة منها منها فابصرها ... مطلة بين سجفيها من الغرَف
فخر والله ما يدري غداتئذ ... أخر منكشفاً أم غير منكشف
وجاءه الناس أفواجاً بمائهمُ ... ليغسلوا الرجل المغشى بالنُّطف
ووسوسوا بقُران في مسامعه ... مخافة الجن والإنسان لم يخف
شيئاً ولكنه من حب جارية ... أمسى وأصبح موقوفاً على التلف
قالوا: لك الويل ما أبصرت؟ قلت لهم ... تطلعتْ من أعالي القصر ذي الشِرَف
فقلتُ - أيكمُ والله يأجرُه - ... يعين قوته فيها على ضَعف
فقام شيخ بهيٌّ من رجالهمُ ... قد طالما خدع الأقوام بالحِلف
فابتاعها لي بألفي درهم فأني ... بها إليَّ فألقاها على كتفي
فبتُّ ألثمها طوراً وألزمها ... طوراً واصنع بعض الشيء في اللحف
فبين ذاك كذا إذا جاء صاحبها ... يبغي الدراهم بالميزان ذي الكفف
وذكرَ حق على زند وصاحبه ... والحق في طرف والطين في طرف
وبين ذاك شهود لا يضرُّهمُ ... أكنت معترفاً أم غير معترف
فإن يكن منك شيء فهو حقهمُ ... أوْ لا فإني مدفوع إلى التلف
فضحك العباس وقال: ويحك أصادق أنت؟ قال نعم والله. قال: يا غلام أدفع إليه ألفي درهم ثمنها. فأخذها ثم دخل على المهدي فأخبره ثم دخل على المهدي فأخبره القصة وما احتال له به. فأمر له المهدي بستة آلاف درهم وقال له المهدي كيف لا يضرهم ذلك؟ قال: لأني مُعدم لا شيء عندي. وفي رواية: إن العباس بن محمد قال له: شاركني في هذه الجارية يا أبا دلامة. قال: أفعلُ ولكن على شريطة. قال: وما هي؟ قال: الشركة لا تكون إلا مفاوضة فاشتر معها أخرى، ليبعث كلُّ منا إلى صاحبه ما عنده، ويأخذ الأخرى مكانها ليلةً وليلة. فقال له العباس: قبحك الله وقبح ما جئت به! خذ الدراهم لا بارك الله لك فيها وانصرف.
وإنما أوردنا هذه القصة بتمامها لكيلا نمسخها إذا اختصرناها فتفقدها كثيراً من جمالها:(843/25)
ولعلك تذكر أننا استشهدنا بها على وصول أبي دلامة إلى المال بأسلوب الاحتيال، ولاسيما مع البخلاء من الناس.
والواقع أنه كان لا ينجو من تنادر أبي دلامة وهجائه إلا من أعطاه فأجزل عطيته. وإنه ليكون المرء أبغض الناس إلى قلبه، فإن هو وصله بشيء أضحى أحبهم إليه. وكان الناس يفرون من هجاء أبي دلامة فرارهم من تنادره بهم، فإذا تجرأ أحدهم على النيل منه أو ذمه عرف كيف يسلقه بلسانه الحاد.
دخل أبو دلامة على المهدي وعنده مُحرز ومقاتل أبنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة ويعيبانه عنده. فقال أبو دلامة:
ألا أيها المهدي هل أنت مخبري ... وإن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي؟
ألم ترحم اللَّحْييْن من لحيتيهما ... وكلتاهما في طولها غيرُ طائل؟
وإن أنت لم تفعل فهل أنت مكرمي ... بحَلْقهما من محرزٍ ومقاتل؟
فإن يأذن المهدي لي فيهما أقُلْ ... مقالاً كوقع السيف بين المفاصل
وإلا ندْعني والهموم تنوبني ... وقلبي من العلجين جمُّ البلابل
فلم يدعه الخليفة للهموم تنويه، وإنما ساعده على العلجين فقال له يتمتم أسئلته: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف درهم يفديان بهما أعراضهما منك؟ قال ذلك إلى أمير المؤمنين. فأخذها له منهما وأمسك عنهما.
فلا يُرضى المهديَّ إذا أن يسمع من أحد تجريحاً بشخص أبي دلامة لأنه واجدٌ فيه أنسه ومرحه، وقابلٌ إياه على ما فيه من عيب ومنقصة. . . ولا يرضى أبا دلامة ويُسكتُ لسانه السليط إلا المالُ يُعطاه وفيراً!
وكما يهجو أبو دلامة مخلوقاً أملاً في الوصول إلى بعض ماله، تراه يمدح آخر للغرض ذاته. وقد ينتظر مطلوبه من سواه كما حدث يوم دخل أبو دلامة على المهدي وعنده شاعر ينشده. فقال له: ما ترى فيه؟ قال: إنه قد جهد نفسه لك فاجهد نفسك له فقال المهدي: وأبيك إنها لكلمة عذراء منك أحسبك تعرفه! قال لا والله ما عرفته ولا قلت أنا إلا حقاً. فأمر للشاعر بجائزة، ولأبي دلامة بمثلها لحسن محضره.
ولقد صدق أبو دلامة، فما كان إطراؤه للشاعر عن معرفة سابقة به أو بعد وقوف على(843/26)
شيء من شعره - وإنما هي كلمة تعجب المهدي وتسر قلبه، وهي - بعد ذلك - وسيلة هينة للوصول إلى شيء من المال الذي يجزى به الخليفة من كان لبقاً حديثهُ، حاضرة بهديته، سديداً جوابه.
وكما درس أبو دلامة نفسية المنصور فاستطاع أن يأخذ منه الجوائز السنية - على بخله - عرف كيف المهدي حق فهمه لكي ينال منه - في مختلف المناسبات - أكثر مما يحلم به. وتجده لذلك يحرص على إضحاك الخليفة الذي تفيض يداه كلما نهلل وجهه: خرج المهدي وعلى بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظبياً، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهديُّ ظبياً بسهم فصرعه، ورمى على بن سلمان فأصاب بعض الكلاب فقتله. فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤادَهْ
وعلى بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما، كل ام ... رئ يأكل زاده!
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية. ويقال: إن علي بن سلمان لقب منذ ذلك اليوم (صائد الكلب) وعلق به.
وما دام الخليفة يملأ عين أبي عين أبي دلامة ويشبع بطنه ويعطيه من المال ما يجعله مغموراً بفضله، فما على الظريف إلا الإخلاص في طاعته، والصدق في محبته، وإدخال السرور عليه ولو لم ينتظر منه شيئاً، لأن فضله سابق عليه: لذلك كان أبو دلامة ينتهز الفرصة ليثبت أن تقريب الخليفة له مصيب موضعه، فهو الذي يتنفس عنه كربة، ويسرى عنه غمه، ولو كان هو نفسه مغموماً.
مر أبو دلامة بنخاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهنَّ من كلُّ شئ حسن، فانصرف مهموماَ، فدخل على المهدي فأنشده:
إن كنت تبغي العيش حلواً صافياً ... فالشعرَ أعزبْه وكن نخاساً
تَنَل الطرائف من ظراف نهَّدٍ ... يحدثن كلُّ عيشةٍ أعراساً
والربح فيما بين ذلك راهنُ ... سمحاً ببيعك كنت أو مكاسا
دارت على الشعراء حرفة نوبة ... فتجرعوا من بعد كأس كاسا(843/27)
وتسربلوا قُمص الكساء فحاولوا ... بالنخس كسباً يذهب الإفلاسا
فجعل المهدي يضحك منه.
وليضحك الخليفة ما شاء فما عليه أبو دلامة هذه القصة ولا نظم ذاك الشعر إلا ليضحكه ويسري عنه، ويحيطه بجو مشبع بالأنس والسرور!
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح(843/28)
قلب يتحدث. . . على أي شيء؟!
الأستاذ محمد رجب البيومي
تبأطأت عني بعد طولِ تسرعٍ ... على أي شئٍ كلُّ هذا التمنعِ
تصنعت هجراً فاستحال طبيعةً ... فيالك طبعاً قد أنى من تصنع
يخادعني شوقي فأحسب أنني ... أراك تُناجيني بمرأى ومسمع
أحاديث يحْسوها الفؤاد كأنما ... تعاطي بها كأس الرحيق المشعشع
ويدهشني أني أرى كلُّ ليلةٍ ... خيالَك عندي لا يبارح مضجعي
تذكرت ما قد كان بالأمس بيننا ... من الود فانهلت على الفور أدمعي
عيشة تلقاني ببشر كأنما ... نزلت بروض ضاحك الزهر مونع
أراك على بُعد فأقفز عاجلا ... إليك وقلبي خافق بين أضلعي
تجاورني جنباً لجنب كأنما ... أتيتَ إلى الدنيا لتبقي بها معي
وكُنا إذا نمشي يقولون أخوةُ ... تغذّوْا معاً في المهد من ثدي مرضع
فكيف غدا روض الصداقة بلقعاً ... تصيح به الغربان في كل موضع
أمرَّ على ناديك كلُّ عشية ... وبي غلّة إن أقتربْ منك تنقع
أحدث نفسي أن أجيئك زائرا ... وأحذر ما عودتني من ترفّع
فأرجع حران الجوانح صاديا ... وقد كنت من عيني على قيد إصبع
أنقل خطوتي فوق شوك من الأس - ى كأني أمشي إذا أسير لمصرعي
ويرهقني التفكير فيك فانثنى ... إلى مكتبي كالخائر المتصدع
تمر فلا تلقي على تحية ً!! ... وتلك التي تدمي فؤادي بمبضع
وتقُرئ أعدائي السلام ودونهم ... مهامه أعيتْ ناظر المتطلع
فيا ليت شعري هل توهمت أنني ... أمامك تمثال من الصخر لا يعي
ويا ليت أني حين أخجلت موقفي ... تسترتُ - حتى لا تراني - ببرقع
أتعرض عمن كان ظلا مجاورا ... فأين تسرْ في رقعة الأرض يتبع
هنيئاً لأرباب الوشاية بيننا قد حققوا في أمرنا كل مطمع
أطأطأ رأسي إنْ قدمت تزلفا ... وإن كان في جنبيَّ مهجة أروع(843/29)
وفاء بعهد قد تغيب في الثرى ... وشيعته عمداً ولما أشيع
إذا هاج بي وجدي أقول لعلها ... سحابة صيف آذنت بتقشع
ولكن أرى الجو الرحيب ملبدا ... بغيمٍ متى يشخص لعيني تهمع
تمر الليالي وهو اللقب راسخ ... رسوخ الأسى في قلبي المتوجع
تهيج بي الذكرى فأطرق جازعاً ... ومن يدَّ كر عهد الصداقة يجزع
وأخفض للغبراء رأسي كأنما ... أقول لها: إني أمامك فْابلعي
فيا كبدي صبراً جميلاً على النوى ... ويا مهجتي بالله لا تتقطعي
ويا من نآى عني بغير جريرة ... ولم يُبق غير النار تلهب أضلعي
نصحتك بالحسنى وأنت مخير ... فدونك فافعل ما بدا لك واصنع
فإن تغترب عني إلى غير رجعة ... فبين يدي السم فْلأَ تجرع
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(843/30)
وداع. . .
عن الإنجليزية للشاعر (كوفنتري باتمور)
ترجمة الآنسة (ن. ظ. ع)
رغم إحساسي وطوع ال ... عقل لبيت الوداعْ
قد بدا الآتي وما لي ... من عزاء في الصراع
رغم إعيائي سأمضي ... في خطاي الواهيهْ
لست أدري كيف أخطو ... من دموعي الهاميه
وجهتي للغرب هيا ... أنت نحو المشرقِ
لهف نفسي كيف أنَّا ... بعد هذا نلتقي
حين يخبو حزننا الغا ... لي ويتلو الهجوع
حين تجلو عن مآقي ... نا غمامات الدموعْ
سوف نلقي الليل مزدا ... ناً بأسراب النجومْ
والأماني عاودتنا ... بعد إعصار الهموم
رغم ما تبدين من صد ... قٍ وأبدى من إباء
وارتحالي في طريق ... لا يؤدي للقاء
نلتقي وجهاً لوجه ... في ذهول قاهر
لست أدري كيف سرنا ... في طريق دائر
بعد ذاك النأي والتجو ... ال في وادي الشقاء
سوف نحيي ما حيينا ... ذكر هذا لالتقاء
ق. ط. ع.(843/31)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
واقعة حال مع المازني:
وقعت هذه الواقعة من نحو ثلاثة عشر عاماً، وكنت طالباً في مطلع الشباب. كان الأستاذ كامل كيلاني قد أصدر كتاب (أساطير ألف يوم) فكتب الأستاذ المازني نقداً له في جريدة (البلاغ) وكنت د قرأت الكتاب فسررت من قصصه وأعجبني أسلوب المؤلف في سياقتها. فلما قرأت نقد المازني له بدت لي أوجه في الرد عليه، فكتبتها وبعث بالرد إلى (البلاغ) فنشرته ونشرت معه تعقيب المازني عليه. وقد ساءني من التعقيب أنه لم يتضمن تفنيد شئ مما أوردته في الرد، ولو أنه سفه كلامي وبين فيه وجه فساد أو قال مثلا إنه يدل على عدم الفهم أو نحو ذلك، لكان الأمر أهون عليَّ مما وقع. . .
ذلك أنه ألمع إلى أن للأستاذ كامل كيلاني يداً في الرد إن لم يكن كاتبه، وزاد على هذا أن ذلك مما يزهده في نقد الكتب وأنه سيمسك عن هذا النقد. . .
كدت أجن من ذلك، وامتلأت نفسي سخطاً على المازني، فكتب رداً على ذلك التعقيب ناقشه فيه مناقشة عنفت فيها، ومما قلته إنه لا ينبغي أن يكتب ما يكتب ثم يعتصم مني في (قلعة التقديس) وأذكر أن كلمتي تضمنت هذا اللفظ بعينه، وتوجهت إلى دار البلاغ، وقصدت إلى مكتب المازني حيث ألقيته، فدفعت إليه الرد وأنا أنظر إليه نظرة معناها: هأنذا فهل تريد أن تعرف أني صاحب الرد الأول؟
وتناول المازني ردي وألقى عليه نظرة خاطفة، ولم يرد على أن قال: (طيب حاضر) فسلمت بالإشارة منصرفاً كما فعلت مقبلا. ورضيت نفسي بأن أبلغته الرد، وقلت يستوي بعد ذلك أن ينشره أولا ينشره، المهم أني جابهته بما أريد.
وفي اليوم التالي رأيت كلمتي منشورة في البلاغ بحذافيرها وفيها ما فيها من عبارات القاسية الموجهة إلى فقيدنا اليوم.
اغتبطت بنشر الرد، ولكن خاطراً قلل من قيمة هذا الاغتباط في نفسي: أيكون الرجل قد استهان بي وأراد أن يدلل على أنه لا يحفل بمثلي مهما كتب؟ ولكن ألا يكون ذلك من قبيل الإفساح لحرية الرأي؟ ترددت بين هذا وذاك، ولكن الأمر المحقق الذي لا شك فيه أني(843/32)
أكبرت المازني منذ ذلك الحين وصنعت له في نفسي تمثالا سيبقي ما بقيت.
وبعد أن مضت سنوات على ذلك الحادث، التقيت بالأستاذ كامل كيلاني، وقال لي غير مرة: أنا لا أنسى أنك هاجمت الأسد في عرينه! ولكني لم أغتر بكلمة الأستاذ كيلاني، لأن الذي قرَّ بنفسي أن الأسد أكبر نفسه من أن يصغر في مدافعتي، فمكن لي من الهجوم عليه. . .
المازني ولإذاعة:
على أثر وجهه بعض الكتاب إلى إدارة الإذاعة من اللوم على تقصيرها في تسجيل مسرحيات الريحاني أعلنت الإذاعة في مجلتها أن همتها لم تقعد عن تسجيل أصوات العظماء وأعلام الأدب والفكر والفن في مصر، وأنها قامت بذلك فعلا، حتى أصبحت لديها هذه المسجلات.
ثم توفي المازني، ولا وظهر أن الإذاعة الهمامة ليس لديها أي تسجيل لأحاديثه. . . ولا أظن المشرفين على الإذاعة لم يسمعوا بأن المازني أديب كبير، فلماذا لم يسجلوا شيئا من أحاديثه؟ لقد قالوا إنهم سجلوا أصوات أعلام، الأدب؟ وأريد أن أصدقهم، فلم إذا لم يسجلوا لهم؟ فيمن سجلوا لهم؟ أليس هو من أعلام الأدب؟
ولم يظفر المازني من عناية الإذاعة بعد وفاته، بغير نعي قصير في نشرة الأخبار، في الوقت الذي نسمع فيه المحطات العربية من خارج مصر تتحدث عن المازني وتفيض في الحديث عنه.
فلم كلُّ هذا يا إذاعة؟ ألأنه غضب من الفوضى المتغلغلة في أعمالك، ولم ترضه تصرفاته غير اللائقة معه، فانقطع عن مواصلة أحاديثه؟
وأريد بعد ذلك أن أسأل: هل الإذاعة مرفق عام من مرافق الدولة العامة تعرف للناس أقدارهم كيفما كانت علاقة موظفيها بهم أو هي ملك خاص لهذه الفئة المشرفة عليها، من رضيت عنه قربته وكالت له، ومن لم يحظ برضاها أعرضت عنه وأهملت شأنه مهما كان مكانه
عيد الباكستان:(843/33)
احتفلت سفارة الباكستان بالذكرى الثانية لاستقلال الباكستان يوم الاثنين يوم 15 أغسطس الحالي بدار جمعية الشبان المسلمين. وقد اشتمل الحفل على برنامج حافل من الخطب والقصائد والموسيقى والغناء، وتجلى فيه روح المودة والإخاء بين الدولتين الإسلاميتين الباكستان ومصر، تجلياً رائعاً بعث الأمل في استعادة تماسك البنيان الإسلامي، ولقد كان سرورنا نحن المصريون لا يقل عن سرور إخواننا الباكستانيين بعيدهم وعيدنا عيد استقلال الشقيقة الناشئة الكبيرة: الباكستان.
وقد تحدث الخطباء وأنشد الشعراء فعبروا جميعاً عن ذلك الشعور وأشادوا بما يجمع بيننا من التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية، ومن هؤلاء الخطباء والشعراء الدكتور حسين الهمداني الملحق الصحفي بالسفارة وأصحاب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا وحافظ رمضان باشا وصالح حرب باشا والأستاذ إبراهيم اللبان والدكتور إبراهيم ناجي والأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم المحامي.
وقد أفاض حافظ رمضان باشا في الكلام على الإسلام من حيث هو عقيدة ونظام، وبدأ حديثه بالإعراب عن شعوره حينما دعي إلى هذا الحفل، فقال إنه لبى هذه الدعوة، وقد جرى أخيراً على رفض الدعوات إلى الحفلات الكثيرة التي تقام لناسبات وأغراض مختلفة، لأن رجال الباكستان أعلنوا أنهم يضعون دستور بلادهم على أساس التعاليم الإسلامية، وقال إن الإسلام هو دين العدل والحرية والمساواة والإخاء، وإنه لا يوافق الديمقراطيات الحديثة فحسب بل إن هذه الديموقراطية لم تستطيع أن تخالف مبدأ واحداً من مبادئ الإسلام.
ولما جاء دور الأستاذ إبراهيم اللبان شرع في بيان تاريخي لتطوير الدولة الإسلامية في الهند، واسترسل إلى إجادة المثقفين الباكستان للغة الإنجليزية، ذهاباً إلى أن هذا يتيح لهم التقريب بين الإسلام والعقلية الأوربية. والأستاذ اللبان عالم مستقيم الفكر، ولكنه لم يراع مقتضى المقام في حفل يتعاقب فيه خطباء كثيرون، فأطال مع خلو كلامه من العناصر الخطابية المشوقة، فنال أكبر حظ من تصفيق الحاضرين. . . حتى اضطره هذا التصفيق إلى أن يقطع كلامه ويجلس ساخطاً على المصطفين المحتجين.
وكم كان جميلً وظريفاً أن تعتلى المطربة تلك خشبة المسرح، وقد ارتدت (الساري) ثوب(843/34)
المرأة الباكستانية، فغنت (نشيد الباكستان) الذي نظمه الأستاذ عبد المنعم إبراهيم، وهو نشيد جيد حبذا أن تتخذ الباكستان نشيداً دائما، على أن يلحن تلحين الأناشيد، فقد (عنت) فيه ملك على طريقها المعروفة بصوتها الجميل، فأطربت ولكنها لم تؤده باعتباره نشيداً، فقد كانت تلين وتطرو عندما تنشد أو تغني مثلا:
عيد باكستان أضحى ... عيد مجد المسلمين
وكسَّرت (المسلمين) وأنثته برقة صوتها، وهو جمع مذكر سالم. . .
الباكستان تتجه نحو العروبة:
التفت هذا القلم إلى دولة الباكستان الفتية منذ أشرقت عليها شمس الاستقلال، واتجهت مشاعر أهلها وأنظار قادتها إلى توطيد العلاقات بالبلاد العربية وإحياء اللغة العربية وآدابها وثقافتها بين مسلمي الهند الذين أصبح لهم كيان مستقل بالباكستان. وقلت مرة: إنني أرصد هذه الدولة الفتية كما يرصد الفلكي حركات نجم جديدة. وهأنذا اليوم أنظر إلى هذا النجم فيسرني أن أراه صاعداً في السماء. . .
إن حضارة الأمة الباكستانية ولغتها وعاداتها وتقاليدها، مستمدة من الحضارة العربية الإسلامية، ولم يستطع الزمان أن يمحو ميلها الشديد إلى العرب بسبب الروابط الدينية والتاريخية الوثيقة التي تربطها بهم، ولم يمنع اكتمالها عروبتها إلا الظروف والأحداث التاريخية في القرون الأخيرة إذ حكمها الترك والمغول ثم الاستعمار الإنجليزي في آخر المطاف. ورغم هذه الظروف والأحداث لا تزال الصبغة الإسلامية باقية، ولا يزال الأثر العربي بارزاً في مظاهر الحياة المختلفة، فاللغات المحلية كالسندية وغيرها تحتوي على ألفاظ لا حصر لها من اللغة العربية كألفاظ الجبل والنهر والخطر والقلم والعلم والمدرسة والكتاب والحكيم والمدير وغيرها، واللغة السندية تكتب حتى اليوم كتابة عربية. ويقال إن اللغة الأردية لو أسقط منها الكلمات العربية استحال استعمالها.
وقد تخلصت الباكستان من الاستعمار البريطاني، وأصبحت بلاداً حرة، فجعلت تقوى صلاتها بالعرب، وكان من ذلك ما أبدته من المؤازرة في قضية فلسطين أمام هيئة الأمم المتحدة، ثم هذه الأريحية العظيمة التي جادت بنحو خمسين ألفاً من الجنيهات للاجئين من عرب فلسطين، وهو مجموع ما تبرعت به دولة الباكستان وشعبها.(843/35)
ولاشك أن الإسلام والعروبة صنوان، والباكستان الإسلامية تتجه الآن إلى العروبة اتجاهاً ظاهراً، لا بتعزيز علاقاتها بالدول العربية فحسب، بل كذلك بما شرعت فيه من العمل على نشر اللغة العربية بين أهليها والبدء باتخاذها لغة ثقافية لها، إلى ما تدعو إليه الضرورة الدينية من فهم لغة القرآن الكريم، وسيفضي ذلك إلى اتخاذ العربية لساناً قومياً لا ثقاً بأكثر أمة إسلامية، وإن توحيد لغة التفاهم بين المسلمين كفيل بالتقارب وتبادل الآراء بينهم. وحكومة الباكستان جادة في تعليم اللغة العربية بمدارسها، وهي تتجه في ذلك إلى مصر كما تتجه إلى الأزهر خاصة للتوسع في التعليم الإسلامي. وقد افتتحت الإذاعة العربية من الباكستان يوم الاحتفال بعيد استقلالها، وبرامج هذه الإذاعة حافلة بالإنتاج المصري في الفنون والثقافة، وقد اختير لإرادة هذه الإذاعة شبان مصريون مثقفون.
وبعد فإني أريد - مع اغتباطي بكل تلك المظاهر - أن أهمس في آذان زعماء الباكستان وقادتها، أن يبدؤا بأنفسهم فيتعبوها قليلاً بتعليم اللغة العربية، لتكون لساناً لهم، بدل الإنجليزية في البلاد العربية على الأقل.
عباس خضر(843/36)
البريد الأدبي
حياة الريف في الأدب:
إن الخضرة المترامية التي تكسو الوادي الخصب لتبدو رائعة حينما تأتلق بين أعطافها الإشعاعات الحانية المرسلة من شمسنا الوادعة، والأبصار تختلف حينما يجذب أحداقها مرائي الصور الخلابة في مرامي الأحاسيس الشاعرة؛ فأين تصوير حياة الريف بعد الانفعال بمظاهر روائعه الأخاذة؟.
لقد صعد بنا الخيال إلى أقاصي الصعيد، ومتعنا برؤية المرئيات التي
شاهدت بها عواطفنا أسمى ما يصل بين الخالق والمخلوق، وعلى
الرغم من معاناتها التأزم النفسي لم يتقلص شعورنا بل كانت الباصرة
تطل من نافذة الإيمان على مشاهد الوجود، فتأنس إلى الوحدة،
وتستأنس الوحدة، ويقال: إن نقد الشيء أيسر من وجوده؛ ونحن لا
نتطاول في نقدنا إلى درجة التعجز، أو تدفعنا غرة الغرور إلى
الاستصلاف، وإنما نبغي التنويه بما يجب أن تتجه إليه المشاعر؛
فالأدب مقفر من معالم (البيئة)، لانصراف الأذهان عن الاتصال
بالحياة الأصيلة الفطرية إلى الصنعة الوافدة الراكدة!.
لقد بلغت الجهود الاكتفاء بأوصاف أجزاء الأجسام (العارية) عن الإنسانية، فكيد الشاعر خياله، وديباجته، ولغته في تصيد الألفاظ التي تكشف سيئاتها عن سوآتها!، وهو يكون رائعاً إذ يصف الثغر، والنهد، والساق، والشعر وما (يلي. .!، وقد تناسى تلك المتناهية في خفر الأنوثة حاملة جرتها على رأسها تناغي مع مناغاة ماء النيل أعذب غنوة من أطهر شفة!.، يذهب بالتغني (بالعوامة) إلى تجاهل روعة (المركب الشراعي) الذي لا زال وفياً بعهده، باقياً على وده!.
إن أدبنا فقير في تصوير (البيئة)، وطفت موجة التقليد للصحف البعيدة عن حياتنا وعاداتنا، وطبيعة بلادنا، حتى كاد يغمرنا طوفان ننسي معه قوميتنا!(843/37)
لا نعني بالأدب المنثور والمنظوم من الكلام، وإنما نقصد كلُّ لون فني يسموا بالمعاني الإنسانية، كالتصوير والنحت والخيالة ذات التقصير المعيب!. ولا ننسى أديبة ملهمة موفقة كالسيدة (بنت الشاطئ) قد كتبت عن الريف، ولا زالت تنتهز النهزات (للتعريف) به لمن جحدوه وجفوه وأنكروه لكن صوتاً واحداً مهما تبلغ جهارته لن يكون بعيداً الأثر إذا لم يكن من دخائل الطباع ما يحثها على تعرف مواضع الجمال في هذا الريف وتمجيده، والتباهي. في مقام المفاخرة، والإشارة بما يرسمه الفن على صفحة النفس من الانفعالات التي ترتفع بمعالم الوطن إلى مواطن الخلود!
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
من لحن القول
1 - دأب الكتاب على جمع باسل على بواسل، وتردد هذا الجمع في الأيام وصفاً لجنودنا. ويعلم السادة الأفاضل - الكتاب - أن الجنود رجال أبطال وقوم عقلاء فلما يضعونهم - من الوجهة الصرفية - بين ربات الجمال وفاقدي العقول.
وهذا الجمع غريب شاذ، فلا المعاجم تذكره ولا القياس يبره ولا السماع يؤيده، فلما لا نقتله ونحيي لفظين رشيقين صحيحين يستعذبها الذوق ويستلهمهما القلم وهما بسل وبسلاء.
وقد ورد هذا الجمع في تعقيبات الأستاذ أنور المعداوي في العدد (481) من الرسالة.
2 - ومما يقبله الكتاب - عامتهم - قلباً ويمسخونه مسخاً ويسلخونه سلخاً استعمالهم تواً بمعنى (الساعة وحلاً) فيقولون ذهب تواً وذهب لتوه.
وهذا المعنى تلفظه المعاجم وتنبذه اللغة وما قالته هو تواً بمعنى الفرد، فذهب تواً أي فرداً أو لم يلوه شئ والصواب توه.
3 - ويقال التحق بالجيش وبالمدرسة، وهذا غير فصيح وليس بالصريح، بل هو عامي مولد كما جاء في تاج العروس والصواب لحق بالحق.
هذا ما أردت إثباته، ثبتنا الله على الفصيح والسلام. . .
(المنصورة)(843/38)
عبد الجليل السيد حسن
نقد وتعقيب:
كان الأستاذ أبو حيان جائراً أشد الجور في نقده لكتاب. . (الهجاء والهجائين) ولو كان محقاً فيما قاله لقبلناه منه وحمدناه له برغم ما في المقال من ألفاظ التهكم التي لا تليق بكبار الكتاب ولكنه مع هذا كان مجانباً للصواب في بعض ما أخذه على المؤلف الكريم. . .
فالأستاذ الناقد يقول في البيت الأول: (كيف يحدي أبو بكر بالرماح. . فالحادي يحدو الإبل بغنائه فتنساق خلفه وتطرد وراء حداثة. فكيف يمكن أن تكون الصورة حين يضع الرماح في موضع الحداء. . وفات الناقد أن الحدو أو الحداء ليس الغناء فقط، وإنما هو سوق الإبل والغناء لها. . وللرماح - حالة إرسالها. صوت يشبه الترنم قال الشماخ:
إذا نبض الرامون فيها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعها الجنائز
وعلى هذا فالصورة الشعرية واضحة لا تعقيد فيها ولا التباس. . أما قوله بأن يحذى بالذال المعجمة بمعنى يطعن فدخلها التحريف. فلا حاجة إليه بعد أن اتضح المعنى على التخريج الذي ذكره المؤلف ورضيناه. . فضلاً. . عن أنه لم يُسمع حذا بالذال بمعنى طعن كحذ وحذق وحذف. . وأنني أود أن يكون الناقد رفيقاً فيما يتناوله بالنقد. . .
(أسيوط)
كيلاني حسن سند
إلى الأديب الأستاذ الكبير راجي الراعي:
أعجبتني خطرات فكرية رقيقة، وأضواء ذهنية مشرقة دبجتها براعتكم بالعدد 840 من الرسالة. ولقصوري عن الإحاطة بالمراد من العبارتين الواردتين في مناجاة الشمس وهما (يا ابنة الله) (يا عين الله) أرجو التفضل بجلاء ما غمض منهما خدمة للحقيقة والأدب ولكم منا عاطر الثناء، ومن الله أحسن الجزاء.
(المنيا)(843/39)
دسوقي إبراهيم حنفي
حول تصحيح:
طالعت تعقيب الأستاذ (غازي) على شرح الأستاذ (أبي حيان) لبيتي الخطيل بن أوس - ومع تقديري لرأي الأستاذين رأيت أن أدلي في الدلاء، فأقول: كلمة (الرجال) في البيت الثاني قد تكون محرفة من (الرحال) جمع رحل والمقصود بها الأنحاء وكذلك كلمة (هبنه) محرفة من (هجنه) بمعنى أفزعنه وأثرنه، فلا يبقى محل لتخطئة الأستاذ (غازي) للشاعر: فيكون البيت هكذا:
ولكن يدهدي بالرجال فهجنه ... إلى قدر ما إن يقيم ولا يسري
وبذلك يستقيم معنى البيت والله أعلم.
(كفر الدوار)
أبو جعاذة(843/40)
القصَصُ
الشقاء المقدّس. . .!
(إلى اللائى يعشن في مأتم الروح. . . عزاء من الحياة)
للأستاذ أنور المعداوي
كانت أجمل امرأة في عصرها، وكانت أشقى امرأة. . . أما جمالها فحسبه أنه كان وحياً لأمير النثر الفرنسي شاتوبريان، وأمير الشعر لامرتين، وسيد كتاب القصة الذاتية بنجامان كونستان. وأما شقاؤها فلو قدر لفنان أن يصنع تمثالاً للجمال البائس، أو يرسم لوحة للأمل اليائس، لما وجد لفنه خيراً من قصة مدام ريكامييه!
عندما وفدت إلى باريس عام 1793، كانت الثورة الفرنسية المجنونة تلتهم أبناءها من غير رفق ولا هوادة. وكانت نفس الصغيرة جولييت برنار تفيض أسى ولوعة، لمنظر الذاهبين إلى المقصلة: نساء ورجال، في ميعة الصبا وفجر العمر. . . يذهبون إلى غير رجعة. وشعب يصفق للدماء المراقة تجري هنا وهناك، وهو أبداً ظمآن لا يرتوي!. . . أية نفوس تلك التي خلت من معاني الرحمة وأية قلوب تلك التي تحجرت فلا ينبض فيها عرق بعاطفة، وأية عقول تلك أذهلتها القسوة فلا تصغي لصوت برئ ولا تحفل بشكاة مظلوم؟!. . كانت جولييت الفاتنة تحدث نفسها بهذا كله وهي تصبح وتمسي على منظر واحد: مقصلة، ودماء، وشعب يلهو بضحاياه كما يلهو عالم التشريح بحيوان بائس، يئن تحت أطراف مبضعه. . . ولكم ودت أن تفر من هذا العذاب إلى بلد آخر، تنعم فيه بالهدوء والصفاء والأمن، وتلقي بنفسها في أحضان الطبيعة الحانية: تشبع عينيها من النهار المشمس والليل المقمر، وتملأ رئتيها من الهواء النقي، يحمل إليها رائحة الزهر لا رائحة الدم، وغناء الطير لا أنين الضحايا، وتلقي نفوساً لم يدنسها حقد ولا ضغينة، بل يجمع بينها صفاء ووفاء، ووداعة وقناعة، ولكن أين هي من هذا كله؟. . . لقد قدر لهم منذ أن فتحت عينيها على الوجود، أن تعيش في العذاب: إحساساً ورؤية!
كانت في ربيعها الخامس عشر حين كان مسيو ريكامييه يتردد على بيت أبويها، وكان أبواها يدركان أن ريكامييه الثرى وصاحب المصرف الشهير، لا يتردد على بيتهما إلا لأنه(843/41)
يحب ابنتهما كلُّ الحب، ويعجب بها كلُّ الإعجاب. . . وما أكثر الذين كانوا يتهافتون على جمالها النادر فيرتدون على أعقابهم إلا ريكامييه، فقد وصل. وصل بماله إلى قلب الأم والأب، ولكنه لم يصل إلى قلب جولييت. . . وحين خطبها إلى أبويها ألحا على ابنتهما أن تقبله زوجاً فقبلت على مضض! كان في الأربعين من عمره. . . خمسة وعشرون عاماً تفصل بين قلبين، ومزاجين، وشعورين. وهنا يلتقي الخريف بالربيع، ربيع حياتها بخريف حياته! وعاشت في قصر ريكامييه كما تعيش الملكات، لكنها كانت تحس القفر في كلُّ مكان تطؤه قدماها. . . لقد مضت بها الأيام قلقة متشابهة، لا يشع فيها أمل يبدد من ظلام القلب والروح. أي شباب هذا الذي تقذف به المقادير في خضم من أعاصير الحيرة، فلا يدري على أي شاطئ ترسو سفينة أحلامه وأوهامه؟!. . . لقد مرت شهور ومدام ريكامييه لا تزال عذراء كما كانت. حياة كلها غموض وأسرار، ولقد كان الحياء وحده هو الذي يمنعها أن تسأله عن سره. . . سره الذي طال! أي إنسان هذا الذي يحوطها بعطفه وحبه وحنانه، ثم لا يقربها كما يقرب الأزواج. . .؟! كانت تتعذب في صمت، وتبكي للجمال يذوي بين يدي الحرمان، ولا تجد الجرأة على أن تفاتحه يوما بما يعتلج في نفسها: أليس رجلاً؟ أليس زوجاً؟ ألا يهزه هذا الجمال؟ ألا يصير راهباً إلا حين تربط بينهما المقادير؟! وتتلظى الكلمات على شفتيها كصفوف جيش أعدت للهجوم، وتلتهب الأفكار فيما بينها التهاب القنابل. . . ولكنها حين تلتقي بزوجها وجهاً لوجه، تموت الكلمات، وتخور العزيمة، وتخمد الجرأة، ولا يبقى إلا الحياء يشل منها اللسان، ويجعل منها إنسانة ضعيفة مسلوبة الإرادة! كانت تتلهف إلى شيء واحد. . . هو أن تعلم سره. ولكن سره الرهيب كان أمنية بعيدة المنال، وعاشت مدام ريكامييه وماتت، دون أن تعلم شيئاً. لقد عاشت عذراء، وماتت عذراء!!
ثلاثة هم الذين كانوا يعلمون سر ريكامييه: الله. . . وهو. . . وأمها! أكان يمكن أن يبوح مسيو ريكامييه بسره إلى زوجته ألا ما أقسى سخرية القدر!. . . أيقول لها إنه أبوها، وإنها ثمرة حبه من أمها؟! أمن الممكن هذا؟ زوج وأب؟ وتريد ابنته أن يعاشرها كزوج؟. . . إنه يحنو عليها كما لم يحن على إنسان، ويؤثرها بحبه وعطفه ورعايته، لينسيها على مر الزمن هذا الذي تفكر فيه، ويرمض جوانحها بالعذاب! واستطاع مسيو ريكامييه على الأيام(843/42)
أن يحل الروح نفسها محل الجسد، وان يزيح عن كاهلها كثيراً مما تعانيه.
أما لماذا تزوجها وهو يعلم أنها ابنته، فذلك سر آخر. . . كان ريكامييه من أنصار الملكية، وكان ينتظر يومه الذي لا مفر منه على أيدي الثوار. وكان يدرك أن المقصلة في انتظاره، وإذا كانت قد أخطأته اليوم فلن تخطئه غداً، فلمن يترك ملايينه بعد مصرعه؟ ليس هناك من يستحقها غير ابنته. . جولييت برنار! ومن هنا تزوجها ليكفل لها حياة هنيئة، يسعد فيها هذا الجمال الذي ينتسب إليه. كان يخشى أن يثير الظنون إذا ما ترك لها ثروته دون علاقة تربط بينها وبينه. . . ولكن المقصلة تخطئه، والثوار يغفلون عنه، ويقدر لمسيو ريكامييه أن يعيش ليتعذب وأي عذاب أكثر من هول الشعور الذي كان يرزح تحت أثقاله. . الشعور بأن زوجته هي ابنته؟! لكم ود أن يطلقها ولكنه لم يستطع، إنها ابنته ومن حقها وحدها أن تنعم بثروة أبيها. وماذا يقول زوجها الآخر إذا ما قدر لها أن تتزوج من بعده، حين يكتشف أنها خرجت من بيته وهي عذراء؟! أليس في ذلك ما يجرح كرامته كرجل يعتز برجولته؟ أليس من المحتمل أن يكشف سره فيتهامس به الناس، فلا يلبث أن يكون حديثاً تجهر به الشفاه؟!. . . ويلح عليه العذاب حين يخلو إلى نفسه، ويشعر أن زوجته، تلك الزنبقة الغضة، قد أرغمت على أن تعيش بسببه بين سفى الرمال ولفح السمائم! شيء واحد كان يعجب له مسيو ريكامييه ولا ينتهي له عجب، هو ما تتحلى به ابنته من طهر وعفاف، على الرغم من أن حياتها الزوجية قد خلت من الرجل!. . . لقد كانت مدام ريكامييه محط أنظار الشباب وحديث أمانيهم، يتهافتون عليها في كلُّ مكان من أجل نظرة أو ابتسامة. وما أكثر ما كانت تنظر إليهم وتبتسم لهم، وتضن عليهم بما دون ذاك. . . إنها امرأة، وجميلة، فلم لا تفيض على ركب المعجبين من هذا النبع الفياض، وهم الذين يشعرونها في كلُّ لحظة بأنها إنسانة ساحرة، تنطق بذلك وجوههم فلا حاجة بها إلى مرآة؟! من هنا كان ريكامييه يعجب بها ويعجب لها، ويزداد حبه لزوجته وتقديره لابنته. . . وكانت مدام ريكامييه تنسى مرارة الحرمان حين ترمقها نظرات المعجبين، وحين تنادي شفتيها شفاههم الظامئة، فتمتنع وفاء للزوج، واستجابة للضمير، وإرضاء للدلال!. . . جمال تتقاذفه أمواج الحرمان فحرم من نعيم الحياة وحرم معه الناس، وزهرة ندية بالعطر فواحة بالأرج، عاشت في تربة من عفاف وصون فعزت على القاطفين!(843/43)
كان قصرها في (كليشي) أشبه بندوة عامرة يؤمها رجال السيف والقلم بين حين وحين، وصالوناً من تلك الصالونات الفخمة التي كانت تزجر بها باريس ويقصد إليها المترفون من الرجال والنساء لتغذية العين والفكر والخيال. . . وفي يوم من أيام قصرها الحافلة بالترف والإيناس والمتعة، يقع لمدام ريكامييه حادث يهز كيانها هزاً عنيفاً، وتتذوق في ظلاله طعم الري، وتنسى حرقة الظمأ، وتشعر كما لم تشعر من قبل. . . بأنها امرأة! كان ذلك في حديقة القصر حين ركض وراءها ابن أخت ريكامييه، وكان شاباً جميلاً من ذلك النوع الذي يخلب ألباب العذارى. . . وكانت هي تنفر منه في دلال، وتضحك من عجزه عن اللحاق بها، ولكنه يلحق بها ويحتويها بين ذراعيه. . . وكادت تصعق من هول المفاجأة، فراحت تقاوم في عنف، ولكنها أحست بوجهها يلتهب تحت أنفاسه المحترقة، وبشفتيها تذوبان في شفتيه، وبكيانها يتلاشى في كيانه. وفي غمرة النشوة رأت نفسها تغيب معه في حلم جميل، وتطوق عنقه بذراعيها، وتدفن وجهها في صدره، وتنظر في عينه نظرة طويلة حالمة. . . نظرة امرأة استيقظ في أعماقها الرجل! وحين أفلتت من بين يديه تطلعت إليه كغزال مذعور، وانطلقت تجري إلى القصر. . . كانت تريد أن تخلو إلى نفسها لتستعيد الحلم الجميل مرة أخرى!
حرك هذا الحادث في نفس مدام ريكامييه كلُّ عاطفة خامدة، وأثار كلُّ شعور كامن. . . وراح الفكر الحيران يسبح في خضم الوجود، باحثاً عن أمنيات ضلت طريقها من طول ما لقيت من ظلام وضباب. والذهن الكليل يحلق في أجواء الخيال، بيني من قصور الأوهام ما شاءت فنونه وشجونه. والقلب الثائر يرسل أناته في نبضاته، فلا يسمع لها صدى من عطف حبيب أو رفيق، والروح الشاردة تعبر عالم الأسى والأنين مرتاعة ملتاعة، تنشد الري فلا تجد إلا الظمأ، وتترقب النشوة فلا تحس إلا الألم، وترجو الفرحة فلا تلقى إلا الشجن، ولا تعود من عالمها هذا إلا بأشتات المنى تحتضر!
وتمضي الحياة في طريقها تطوي الأيام حتى تقف بمدام ريكامييه عند يوم لا ينسى. . . لقد رآها نابليون في ذلك اليوم في حفلة من تلك الحفلات الصاخبة التي كان يعج بها قصر أخيه لوسيان!
كان لوسيان يهيم بها، ويتقرب إليها، ويلقي إلى الصيد الجميل بكل ما شاء من شباك، ولكنه(843/44)
لم يكن يظفر إلا بابتسامة عذبة تحمل إليه كثيراً من المعاني. . . ولوسيان من هو؟ جمال تحلم به كلُّ فاتنة، ووزير الداخلية، وأخو القنصل الأول والحاكم بأمره! وعلى كثرة الوجوه الفاتنة التي كانت تزخر بها حجرات القصر وردهاته، فإن نظرات بونابرت النفاذة لم تستقر إلا على وجه مدام ريكامييه، وحين مرت بغيره، راح يسأل الجنرال برنادوت عن هذا الجمال الذي لم يحفل بنظرات القنصل الأول:
- برنادوت. . . أتعرف هذه الفاتنة؟
- أية فاتنة يا مولاي؟!
- تلك التي تتحدث إلى أخي لوسيان. . .
- أتعني مدام ريكاميية يا صاحب الجلالة؟!
وهتف بونابرت في صوت حالم: مدام ريكامييه. . . يالها من امرأة. . .!
وغادر المكان وفي رأسه ثورة تحتدم. . . لقد قرر أن ينالها مهما يكن، وأن يكن الثمن، وأن يخوضها معركة حامية. . . ضد امرأة!
ويا لها من معركة كانت أسلحتها من أهداب وجفون. . . معركة لم يكن يقدر لها أن تطول، وأن تنتهي بهزيمة! لقد جرب القائد الشجاع كلُّ سلاح، واستنفذ كلُّ خطة، وحارب في كلُّ ميدان، وحين باء بالخذلان راح يصب نقمتة على الجمال الغادر. . . وابتدأت حياة العذاب، تلفح بنارها الوجه المشرق، والثغر الباسم، والعينين الساحرتين. . . وعلى مر السنين، وتحت وطأة الشجن، ذبل السباب النصر، وسكت الصوت العذب إلا من أنات!
لقد بدأ النضال بين بونابرت ومدام ريكامييه في ذلك اليوم الذي قبض فيه على أبيها، أعنى زوج أمها ليحاكم في اليوم التالي بتهمة الخيانة العظمى. . . كان الرجل مديراً عاماً للبريد، وكان من الذين يدينون بالولاء للنظام الملكي، فاشترك في إيصال بعض المكاتبات للحزب الملكي الذي كان يعمل في الخفاء ضد الحكم القنصلي. . . لقد خارت قواها في ذلك اليوم من هول الصدمة، ومضت تنشد العون عند كلُّ صديق، لتبعد شبح المقصلة عن الرجل الذي كانت تظنه أباها. ويتوسط لها الجنرال برنادوت، ويصحبها إلى قصر التويلري لمقابلة القنصل الأول، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يرى فيها بونابرت مدام ريكامييه. . . وخضع الجبار لسطوة الجمال القاهر، فأمر بحفظ الدعوى والإفراج عن الرجل! وخيل(843/45)
إلى الصقر الفرنسي أنه بهذا الصنيع الذي أسداه إلى الحمامة الوديعة، خيل إليه أنه يستطيع أن يدنيها منه حين يشاء، وأن يخضعها لرغباته!
وتدور عجلة الزمن، ويصبح القنصل الأول إمبراطوراً تدين له فرنسا وما حولها بالطاعة والولاء. وعلى الرغم من المهام الكثيرة الملقاة على عاتقه، وما يشغل فكره من أمجاد وأطماع، فإن صورة مدام ريكامييه ما فتئت تداعب أحلامه وأمانيه. . . عرض عليها أن تكون وصيفة لزوجته الإمبراطورة فاعتذرت عن قبول هذا الشرف في لطف ولباقة! كانت خطة محكمة رسمها القائد العظيم لينهي بها المعركة التي طالت، وكان يهدف من ورائها إلى يدني منه مدام ريكامييه. . . وحين ألح عليها أن تقبل ما عرضه عليها، اعتذرت مرة أخرى في عزم وإباء. . . كلُّ شيء قد خضع لنابليون إلا مدام ريكامييه! ومن هنا أعلنها حرباً سافرة لا تبقي ولا تذر. . . وتحت ضرباته الرهيبة المتوالية، هوى الجمال النادر من قمة الثراء إلى حضيض الفاقة. . . وفقدت مدام ريكاميية كلُّ صديق، وانطلقت الأراجيف تنال من سمعتها كلُّ منال، ولقي كلُّ من ينتسب إليها أعنف ألوان الاضطهاد والتشريد. . . هذه صديقتها الكاتبة الفرنسية الشهيرة مدام دي ستايل يلقي بها بونابرت بعيداً عن أرض الوطن، ولا يلبث أن يلحق بها صديقها الآخر بنجامان كونستان! أما مسيو ريكامييه فقد أمر بونابرت بأن يقطع عنه بنك فرنسا كلُّ معونة مالية، وأسرع الناس يسحبون ودائعهم من مصرفه، وحين أوشك على الإفلاس، لم تجد مدام ريكامييه بداً من أن تتوسل إلى الجنرال مينو حاكم باريس ليشفع لها لدى الإمبراطور. . . ويرفض بونابرت، ويصيح بشماته صارخاً في وجه صديقه:
قل لمدام ريكامييه إنني لست عشيقاً لها حتى أنتشلها من مهاويها. . . وهكذا تردَّى مسيو ريكامييه إلى هوة الفقر والشقاء، وذاقت معه مدام ريكامييه طعم البؤس والحرمان كما لم يذقه إنسان
وحين فقدت أمها وهي آخر أحبابها وأعز أمانيها؛ قررت أن تهجر فرنسا أرض العذاب، لتلحق بصديقتها الوفية مدام دي ستايل. . . وهناك على شاطئ بحيرة ليمان في سويسرا، التقى قلب بقلب، وتصافحت روح بروح، وامتزجت دموع بدموع! وفي رحاب صديقتها وعلى مر الأيام استطاعت مدام ريكامييه أن تنسى بعض آلامها وأن تجد لقلبها بعض(843/46)
العزاء. . . لقد التقى بها أحد الأمراء البروسيين، وكان له من جماله وشبابه ونبل محتده ما ألهب عواطفها الخامدة. وحين صارحها بحبه، تفتح له قلبها المغلق كما تتفتح الزهرة تحت أنداء الفجر. . . وراحت تكتب إلى زوجها مسيو ريكامييه، طالبة إليه أن يطلقها لتتزوج من الرجل الذي أحبها وأحبته. وعندما تلقت رد زوجها من باريس لم تملك إلا أن تبلل سطوره بالدمع! ومضت تقرأ وهي لا تكاد تتماسك من الأسى واللوعة: (عزيزتي جولييت. . . لم أكن أنتظر أن أفقد كلُّ شيء في دنياي حتى زوجتي الحبيبة. . . ذلك الأمل الأخير الذي كان يسطع في أفق حياتي فينير لي الطريق. . . ما أقساك يا جولييت؟. . . إنك لا ترحمين وحدتي وغربة روحي. أتريدين أن تتخلي عني لأنني أصبحت فقيراً؟. . . أنا الذي ضحيت بمالي في سبيل إسعادك!. . . إن كان ذلك يسعدك يا جولييت، فلا يسعني إلا أن أفسح لك الطريق. . . وإلا أن أدعو لك الله. . . دعاء تباركه الدموع). وحين فرغت من تلاوة رسالته الحزينة، تطلعت إلى الأمير أوجست وهي تقول له: يا صديقي، أرجو أن تغفر لي. . . لقد عدت إلى قلبي أسأله، فوجدت أن زوجي هو الرجل الوحيد الذي أحببته. . . لك دعواتي، ووداعاً! وشدت رحالها مرة أخرى إلى فرنسا إلى أرض العذاب، فما عادت تطيق البقاء في ذلك المكان الذي لف حبها في أكفانه.
وإلى جانب مسيو ريكامييه راحت في مأتم الأحلام تقتات على بقايا الذكريات. . . ولكن الذكريات تلح على القلب الحزين فيطول ليلها ويطول أرقها في رحاب الشجن. ويشير عليها الأطباء بتناول بعض المخدرات لتمنع عن نفسها الأرق فلا يفلح الدواء. . . ويخطر لها ذات يوم أن تضع حداً لهذه الحياة المريرة، فتتناول زجاجة فيها سائل مميت، وحين تهم بوضعها على شفتيها يسرع ريكامييه وهو لا يملك نفسه من الفزع. . . ويختطفها من يديها وهو يصيح صيحة ملتاعة: ابنتي. . . ابنتي!. وتطلعت إليه في ذهول كمن أفاق من حلم مروع، وأخذت تنظر إلى عينيه كأنما تريد أن تستل من أعماقها سر ما نطق به لسانه. . . وحين أوشك ريكامييه أن يفضي إليها بسره الرهيب، دخل أبوها برنار! وانتابها شعور خفي لم تدرك له كنها، شعور فيه حيرة تجلت في عينيها تساؤلاً ولهفة، ومضت تنقل بصرها بين الرجلين، وصاحت وهي ترتمي في أحضان برنار: أبي. . . أحبك يا أبي! أما ريكامييه فكان يغالب دموعه!! وعلى الرغم من كلُّ هذا العذاب، فقد أمر نابليون بنفيها إلى(843/47)
خارج فرنسا حين علم أن بعض الرسائل تصلها من مدام دي ستايل، تلك الكاتبة التي أصلته بقلمها ناراً حامية، هي وصديقها بنجامان كونستان. . . ومرة أخرى يممت شطر صديقتها الوفية، والتقى قلب بقلب، وتصافحت روح بروح، وامتزجت دموع بدموع!
وحين دالت دولة الجبار، عادت من جديد إلى أرض العذاب لتقضي بقية أيامها في أحد الأديرة. . . بعيداً عن الناس. وفي مكانها هذه المنعزل يقضي إلى جانبها أمير النثر الفرنسي شاتوبريان أكثر أوقاته، ويضفي عليها من عذوبة روحه، وسحر حديثه، وذوب قلبه، ما يعزيها عن فقد الأحباب، ولكن أين من يعزيها عن فقد الشباب؛ لقد أطفأت الأيام بريق عينيها، وعبثت بنضارة وجهها، وحكمت على شبابها بالأفول!
وقالت له وهو يعرض عليها أن تكون شريكة حياته: يا صديقي. . . إن حبك لي هو آخر واحة ترسل ظلالها في صحراء حياتي. . . ولكن أصوات من سبقوني إلى الله، تهتف بي أن أظل كما كنت. . . مدام ريكامييه!. . ومع ذلك فماذا يجدي من التقاء قلبينا وضم جسمينا، ونحن نحث الخطى إلى القبر؟!.
وهكذا عاشت مدام ريكامييه. . . وكانت حياة كلها شقاء. . . شقاء مقدس!!
أنور المعداوي(843/48)
رسالة النقد
موسيقى الشعر
تأليف الدكتور إبراهيم أنيس
بقلم الأستاذ إبراهيم الوائلي
تفضل الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس أستاذ فقه اللغة بكلية دار العلوم فأهدى إليَّ نسخة من كتابه (موسيقى الشعر) وقد أخرجه أوائل هذا الصيف دارساً الأوزان الشعرية عند العرب ومقدار تعرض الباحثين لها مؤيداً تارة ومخالفاً تارة أخرى. وقد بنى بحثه على القواعد علم الأصوات وخصائص الحروف من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة. وقد استأثر بآراء جديدة في التنافر وعيوب الشعر والأوزان الإضافية الزائدة، وابتداع تفاعيل جديدة.
والكتاب يتألف من أحد عشر فصلاً تنوعت إلى مواضيع مختلفة، وسنشير إلى الفصول ذات الأهمية، كما أننا سوف لا نكتم ما نجده من ملاحظات على هذه الفصول.
يتحدث الدكتور في الفصل الأول عن الإحساس الأدبي وعلاقته بالفطرة والتجارب المكتسبة، ثم أثر النعم في حفظ الشعر، وعن أبرز صفات الشعر وهي الموسيقى، وعن التجديد في هذه الموسيقى التي هي عبارة عن الوزن والقافية وينعى على الشعراء المتحدثين عدم تجديدهم في الأوزان ويعزز ذلك إلى البطء في تطور الأوزان وأن هذا البطء طبيعي (لأن الناس عادة لا يقبلون الطفرة في تطوير موسيقاهم أو أوزان شعرهم) ثم يضيف إلى هذا إهمال الإنشاد في عصرنا الحديث، وهذا الإهمال (أفقدنا إلى حد كبير تذوق الموسيقى الشعرية). هذا رأي سديد، ولكن لماذا لا نظيف إليه التزام شعر المناسبات: من مدح ورثاء وغيرها من الأوزان التي لا تزال آخذة بتلابيب كثيرة من الشعراء؟. وآية ذلك أن الشعراء الذين تحرروا من كلاسيكية المناسبات يجددون في أوزانهم وقوافيهم كما عند المهاجرين واللبنانيين وبعض العراقيين، وقد أشار الدكتور إلى هذا التجديد عند المهاجرين وذكر لهم بعض شواهد، ولكنه لا يريد أن يبقي ذلك مقصوراً عليهم بل يجب أن يشيع في البيئات العربية.
وفي الفصل الثاني يتحدث عن (الجرس في اللفظ الشعري). وأهم ما فيه تعرضه للتنافر(843/49)
وتعريف علماء البلاغة له وهو يتفق مع القائلين بأن التنافر إنما يكون إذا تقاربت الحروف في مخارجها، ولكنه يشترط لذلك ألا يفصل بين الحرفين حركة من الحركات لأن الحركة صوت كسائر الأصوات الأخر. وعلى هذه القاعدة يجب أن تنظر في الشواهد التي ساقها البلاغيون للتنافر.
ثم يتحدث عن طبيعة الأصوات وصلتها بموسيقى الشعر، فالأصوات المهموسة وأصوات الأطباق وبعض أصوات الحلق لا تستسيغها موسيقى الشعر كما تستسيغ الأصوات المجهورة، والشديدة أسهل من الرخوة فعدم استحسان كلمة (اطلخم) يرجع إلى الطاء والخاء لأن الأولى من أصوات الأطباق والثانية من أصوات الحلق وكلاهما مهموسان.
وفي هذا الفصل يتحدث عن (جرس الألفاظ في البديع) ويناقش عبد القاهر الجرجاني مناقشة عنيفة لأن الجرجاني لا يهتم بجرس الألفاظ بل يعزو الجمال في التعبير - إذا كان هناك جمال - إلى المعنى وحده.
يقول الدكتور في صفحة 44: (ولاشك أن عبد القاهر قد بالغ في هذا مبالغة غير محمودة، فجمال الجرس أمر معترف به بين أهل الأدب ونقاده ولا معنى لإنكاره).
ثم يقول في الصفحة نفسها: (وتظهر مبالغة الجرجاني حين نتذكر أن نقاد الأدب، قديمهم وحديثهم، قد أجمعوا على أمر واحد وهو وجوب إخضاع اللفظ للمعنى). وإلى هنا يبدو شيء من التناقض بين التعبيرين، ويظهر أن الدكتور أراد أن يقول: إنهم يجمعون على إخضاع المعنى للفظ حتى يتناسب هذا مع إنكاره لرأي الجرجاني، وإلاّ فأية مبالغة تظهر عند الجرجاني وهو الذي لا يقيم لجرس الألفاظ وزناً: (فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً ويستجيد نثراً يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ. . . فأعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده). ويقول معلقاً على الجناس والسجع: (وعلى الجملة فانك لا تجد تجنيساً مقبولاً ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساقه إليك). والجرجاني يستحسن سجع الجاحظ لأنه خال من التكلف والصنعة ويزيف كثيراً من التجنيس عند أبي تمام ومن نحا نحوه لأنه مصطنع متكلف، ويسوق لذلك أمثلة كثيرة في أسرار البلاغة الحسن والقبيح.(843/50)
نعم إننا لا نريد أن نزركش الثياب على جسم ناحل متداعي الأوصال كما أننا لا نريد من الزهرة أن تبتسم وهي بين الأشواك والصخور، ولعل الجرجاني لا يند عن هذا الرأي.
أما الفصل الثالث فإنه يبحث في الأوزان وأنواعها وبحث القدماء لها وفيه نقد للقدماء على إغراقهم في خصائص الأوزان ومصطلحاتها وإتيانهم بأوزان لم يرد عليها من الشعر العربي شيء وإذا ورد فلا يكاد يتجاوز البيت أو البيتين، ولعل أكثرها موضوع. كذلك ناقش القدماء في بعض الأوزان التي افترضوا لها أصولاً ثم سقطت منها بعض التفاعيل مع أنه لم يرد لهذا الأصل الذي افترضوه شاهد من الشعر العربي. ونحن مع الدكتور في مناقشته لهذا التحمل الذي شغل العروضيون به أنفسهم فلا داعي للافتراض لأن الدوائر العروضية لم توضع اعتباطاً وإنما وضعت وفق ما جاء من الشعر العربي. وفي أثناء بحثه تعرض لبحر المقتضب بشي من الحذر لأنه نادر الشواهد وذكر قطعة للحسين بن الضاحك شاهداً عليه وأولها:
عالم بحبيه ... مطرق من التيه
ومنها:
لا وحق ما أنا ... فيه من عطف أرجيه
وآخرها:
تائه تزهده ... في رغبتي فيه
فقال: إننا مضطرون إلى منع كلمة (عطف) من الصرف حتى يستقيم الوزن. والحقيقة أن الوزن لا يستقيم حتى مع هذا الاضطرار بل يكون الشطر الثاني من الهزج على كلتا القراءتين، ويخيل إليَّ أن البيت مصحف ولا يستقيم إلا إذا فيه هكذا:
لا وحق ما أنا ... فيه فلا أرتجيه
وإن اختلف المعنى وقال: إن الشطر الأخير من القطعة لا يستقيم له وزن، والصحيح أن الوزن مستقيم بتشديد (فيّ) وهذا ما يقتضيه المعنى كذلك.
وعالج في هذا الفضل نسبة شيوع الأوزان في الشعر مقدماً بعضها على بعض حسب هذا الشيوع وابتدأ بالطويل وذكر ما فيه من التفاعيل الشاذة التي تأباها الأذن الموسيقية ونحا باللوم على العروضيين الذين أقروها لمثل أو مثلين قد تكون من أخطاء الرواة أو من(843/51)
التصحيف. ومن هذه التفاعيل ورود (مفاعيل) و (مفاعل) حشواً في البيت الأول قول امرئ القيس:
ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
ونحن نوافق الدكتور على هذا ونعتقد أن البيت مصحف إذ تكاد تكون أمثلته نادرة جداً وقد يكون هو وحده الذي روى بهذه الصورة ولذلك روى هكذا:
ألا رب يوم لي من البيض صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
فراراً من هذه الشذوذ. ومن الثاني قول امرئ القيس أيضاً:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجباً من رحلها المتحمل
وقد افترض الدكتور قراءة: (عقرنا) فراراً من الزحاف. كما افترض لبعض الأبيات التي ساقها شاهداً لهذا النوع قراءة تتفق مع الوزن الصحيح، وإلى هنا لا نستطيع أن نوافق الدكتور على تخطئة الرواة أو التصحيف؛ لأن هذا النوع شائع عند العرب في الجاهلية والإسلام وفي العصر العباسي وشواهده كثيرة في الشعر الجاهلي، ويكثر عند الأخطل في صدر الإسلام ومنه قوله:
فجاء بها كأنما في إنائه ... بها الكوكب المريخ تصفو وتزبد
وعند البحتري في العصر العباسي ومنه قوله:
جديد الشباب كبره لفعاله ... وبعض الرجال كبره بسنيه
ومثل هذا كثير لا يتسع المقام لذكره. ولعل مرجع ذلك إلى طبيعة الغناء في العصر الجاهلي فإن معظم الشعراء كانوا يترنمون بأشعارهم حين ينشدون وهذا الإنشاد قد يطيل المقاطع والحركات فلا يحس الشاعر بنبوة أو شذوذ. وإطالة الحركة شائعة في الشعر قال لبيد:
فبنى لنا بيتاً رفيقاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
فوزن البيت يقتضي إطالة الكسرة في هاء (إليه) وعلى هذا فلا يبعد أن امرأ القيس كان ينشد بيته هكذا:
ويوم عقرت (و) للعذارى مطيتي ... فيا عجباً من رحلها المحتمل
أما شيوعه فيما بعد العصر الجاهلي فلأن الشعراء وجدوه شائعاً فنسجوا عليه. على أننا مع(843/52)
الدكتور في أن هذا النوع من التفاعيل يجب الابتعاد عنه.
وفي استعراضه لبحر البسيط ذكر شواهد لمجيء (متفعلن) بدل (مستفعلن) في حشو البيت. ومن هذه الشواهد بيت النابغة وهو:
سراته، مدخلا (لبانه)، لهق ... وفي القوائم مثل الوشم بالقار
وآخر لأعشى باهلة وهو:
طاوى المصير على (الغراء) منجرد ... بالقوم ليله، لا ماء ولا ثمر
وقد وضعنا كلمتي (لبانه) و (العزاء) بين قوسين إذ فيهما يرد احتمال الشذوذ. أما القراءة الصحيحة فأنها تجعل البيتين مستقيمي الوزن، فصحة الكلمة الأولى: (لبَّاته) بياء مشددة وتاء جمع لبَّة وهي موضع القلادة. وصحة الكلمة الثانية (المزَّاء) بتشديد الزاء وهي السنة الشديدة وهذا ما يقتضيه المعنى أيضاً.
تعرض الدكتور في ص 94 لبحر المديد وذكر أنه وزن قديم جداً هجره الشعراء وليس في القدماء الجاهليين من نظم عليه ما يستحق الذكر إلاّ بضعة أبيات نسبت للمهلهل بن ربيعة. ولا أدري هل يوافق الدكتور على رواية أبي تمام فقد روى قصيدة ذات 26 بيتاً لتأبط شراً وأولها:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطل
ولعل رأي الدكتور في بحر المديد أرجح لأن الأصمعي نفسه شك في أن تكون هذه القصيدة جاهلية لبعض المعاني والتعابير التي وردت فيها؟ وقد أشار إلى هذا التبريزي في شرحه للحماسة وبَّين الآراء التي قيلت فيها.
وقد جمع الدكتور بين الهزج ومجزوء الوافر في بحث واحد وسرُّ هذا الجمع كون البحرين يلتقيان في تفاعيلهما ويفترقان في بعض التغييرات. فالهزج يأتي فيه (مفاعيل) أحياناً بدل (مفاعيلن) ولا يجوز ذلك في مجزوء الوافر. وقول الدكتور: (فإذا جاءت الأبيات مكونة من مكرر مفاعلتن وحدها فذلك هو مجزوء الوفر) قول صحيح لا غبار عليه. أما قوله: (وإذا رويت من مكرر (مفاعيلن) وحدها فهنا يلتبس الأمر بين مجزوء الوافر والهزج) فهذا ما لا نستطيع أن نؤيده بل تقول: إنه الهزج بصورته الأصلية القديمة، وكان على الدكتور أن يبرئ الهزج من (مفاعلتن) ليستريح من كلُّ هذا العناء، والذي جعله يمزج بين البحرين(843/53)
هو هذا الخلط العجيب الذي درج عليه بعض المحدثين فلم يفرقا بين الهزج ومجزوء الوافر بل تأتي القطعة وهي خليط من هذا وذاك. فالقطعة التي نقلها الدكتور من ديوان (الملاح التائه) شاهداً على الهزج لا يقرها الوزن الصحيح لأنه يقول فيها:
هناك على ربي الوادي ... لنا مهد من العشب
فإن الشطر الأول من مجزوء الوافر حتما لمجيء (مفاعلتن) فيه
وقال: (ويظهر أن الهزج تطور لمجزوء الوافر جاءت به عصور الغناء أيام العباسيين ولم يكن معروفاً أيام الجاهليين) وقد بنى رأيه هذا على ندرة الشواهد وعدم اعتماده على الرواة في معظم الأحيان. ولو أنه اعتمد على رواية أبي تمام لما أنكر وجود الهزج فقد روى أبو تمام في الجزء الأول من الحماسة قطعة نسبها إلى الفند الزماني من شعراء بكر بن وائل ومنها:
صحفنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
والدليل على أنها من الهزج قوله فيها:
ولم يبقِ سوى الأعداء ... دّناهم كما دانوا
وقوله:
بطعن كفم الزق ... غذا والزق ملآن
فقد وردت (مفاعيل) في البيتين الأخيرين وهي من خصائص الهزج:
هناك شيء يجب أن أشير إليه بإعجاب وهو التفاعيل التي استنبطها الدكتور لتبنى منها الأوزان الشائعة بعد ترك الأوزان التي لم يرد عليها شاهد صحيح، وهذه التفاعيل ثلاث: فعولن، فاعلن، مستفعلن. ثم يضاف إلى كلُّ تفعيلة مقطع ساكن فيتولد ثلاث تفاعيل أخر: وهي فعولانن، فاعلاتن، مستفعلاتن. ومن هذه التفاعل الست يمكن بناء عشرة أبحر ما عدا الكامل والوافر والهزج. وعذر الدكتور في استثناء هذه الثلاثة أنها قد تشتمل على مقطعين قصيرين متواليين فيتعذر بناؤها. وكان على الدكتور أن يضم الهزج إلى هذه البحور العشرة ويبنيه من (فعولاتن) مكررة بعد أن قلنا: إن الهزج لا تأتي فيه مفاعلتن، أما الكامل والوافر فإنه يمكن أن تجري فيها على قواعد الصرفيين. ونقول: إن الحرف المتحرك لا ينافي أن يقابله الساكن في الكلمة بالمتحرك في الميزان الصرفي؛ فيقولون: اشتد على وزن(843/54)
افتعل. وإن كان في هذا مجال للبحث.
وفي الفصل الرابع تعرض لتحليل المستشرقين للأوزان واتخاذ نظام المقاطع بدل التفاعيل. ولعل هذا يحتاج إلى دراسة شاملة؛ لأن نظام المقاطع مبنى على دراسة الأصوات اللغوية وهذه لا تزال في بداية مراحلها.
وفي الفصل الخامس تحدث عن غناء الشعر وإنشاده وعلاقة هذا بجودة الشعر وموسيقاه ونبه على ضرورة العناية بالإنشاد في المدارس لتؤدي رسالة الشعر غير منقوصة. ولدى الحقيقة أن إهمال الإنشاد في العصر الحديث قد أفقد الشعر ميزة كبرى لا تقل عن العاطفة والتعبير.
واختص السابع بدراسة أوزان المولدين كالمستطيل والممتد والمتوفر وغيرها وشيوع الأزجال المبنية على نظام البحور القديمة وقد ذكر لهذا عدة شواهد من مقدمة ابن خلدون ومن الأزجال المصرية الحديثة وحاول جهد الطاقة على البحور الشائعة.
والحق أن الأزجال في البلاد العربية كلها أو معظمها موزون كالشعر الفصيح ولكن الوزن يختلف باختلاف اللهجات والأغاني في الشعوب العربية؛ لأن الشقة قد أصبحت بعيدة بين البيئات العربية في تأدية الكلمات العامية.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أثنى على المؤلف الجليل لما بذله من عناية وجهد في هذا الكتاب فجاء تحفة رائعة تغني عما كتبه العروضيون وتكفي من يريد دس العروض دراسة صحيحة يستطيع بواسطتها أن يعرف النسج الشعري دون مشقة أو عناء ويتجنب العيوب الشعرية من علل وزحافات وغيرها.
إبراهيم الوائلي(843/55)
العدد 844 - بتاريخ: 05 - 09 - 1949(/)
أقوال بصراحة. .!
أقول بصراحة: إن الجامعة العربية في محنة، وإنها تجتاز مرحلة ينظر إليها العقلاء بعين الرثاء حيناً وبعين الإشفاق حيناً آخر. . . مرحلة سبقها ماض لم يخل من الشوائب، ويصحبها حاضر لا يبرأ من التنابذ، وينتظرها مستقبل لا يبشر الخير. . . وهي خطوات يشيع فيها التعثر والانحراف على كل حال، والذنب - كما يقرره الواقع - ذنب الأفراد الذين يسمون أنفسهم ساسة وقادة، وليس ذنب الأفراد الذين يكوِّنون الشعوب والجماعات!
الشعوب العربية في ميزان التعاطف والسلام والوئام والحب، أيادٍ وليس متحدة وقلوب مؤتلفة. . ولو ترك لها الأمر لتعبر عن دخائل النفوس ومكامن الشعور لاقتربت الآمال المتفرقة، وتوطدت الأواصر المفككة، وتركزت الجهود المشتتة بفعل الفردية المتأصلة في بعض الضمائر والقلوب!
وماذا ينقص الساسة في غمرة الأزمات وزحمة المشكلات؟ ماذا ليقيموا بناء الجامعة العربية على دعائم جديدة تقيها الزلزلة في مهب الرياح والأعاصير؟!
ينقصهم الكثير في هذا المجال، ومن هذا الكثير شيء من الصراحة أولا، وشيء من خلوص النية ثانياً، ومن الثقة ثالثاً، وأخيراً أشياء من التضحية والإيثار وإنكار الذات، وأمانة التعبير عن أهداف الجماعة الكبرى ممثلة في شعب بأكمله، شعب يضم صوته إلى أصوات جيرانه لتنطلق الصيحة الواحدة من أعماق حنجرة واحدة. . . هي حنجرة الأمة العربية في كل بقعة من البقاع، وكل قطر من الأقطار!
تجتمع اللجنة السياسية من حين إلى حين، تجتمع ثم تنفض، ثم لا يعلم أحد أي قرار اتخذت، ولا أي طريق رسمت، ولا أي هدف من الأهداف سعت إليه في طوايا الظلام. . .
لو ملكنا الصراحة لكشفنا للشعوب عما دار من حديث بين أربعة جدران، ولو و ' هبنا خلوص النية لبدت الوجوه سافرة بغير قناع، ولو طبعنا على شيء من الثقة بالنفس والثقة بالغير لما احتلفنا على التافه وقنعنا باليسير، ولو فطرنا على التضحية وإنكار الذات لما تفرَّق الشمل وتصدَّع البنيان، ولو حرصنا على أن نعبر في صدق عن التيارات النفسية التي توجه الشعوب لما بعدت الشقة بين رأي ورأي في حديث الساسة وذهب كل في طريق!!
غموض وحيرة وقلق. . . وهذا هو العنوان الوحيد الذي يجب أن يعلو كل مقال يشير إلى(844/1)
حاضر الجامعة العربية ومستقبلها. ولست أدري ما هي المعجزة التي يمكن أن تطمس تلك الكلمات لتحل محلها كلمات أخرى تبرز لنا عنواناً آخر يضفي على الحاضر المظلم من إشراقه ما يملأ جوانب النفوس بالنور، ويرسل إلى المستقبل المجهول من أقباس ضيائه ما يطمئن الحيارى على مواطئ أقدامهم في مقبل الأيام!
أليس من المخجل أن نتلقى الدروس في كل حين من تلك الدولة التي نحيط بها من كل ناحية إحاطة السوار بالمعصم؟
لقد كان الأمل أن نحيط بها لنزهق بأيدينا المتحدة أنفاس هذا الوليد اللقيط الذي اعترف العالم بشرعية مولده، ولكننا وا أسفاه قد أحطنا به لنتلقى عنه آخر الأمر كثيراً من الدروس. . . الدروس التي تنقصنا وتكتب للشعوب معاني الحياة والبقاء!!
(أ. م)(844/2)
أنا. . . والقمر!
للأستاذ راجي الراعي
لقيت القمر أمس، وكان بدراً، وإليك ما دار بيننا:
- من أنت أيها القمر؟!
- أنا. . . أنا هو القمر!
- ولم هذه الغطرسة؟!
- ألا ترى أين أنا؟ إني أتوسط الأفق. . .!
- ولكنك مع علائك لست بالعصامي، فأنت تستعير نورك من الشمس. . .
- وهل ترى في ذلك ما يشير إلى الضعف. . . من هو الذي لا يحتاج ولا يستعير ولا يستجير. . . أتحسب أن في الأرض والسماء حراً مستقلا غير الله؟. . . الإنسان مدين لدمه، ودمه مدين للأرض التي غذته بثمارها، والأرض مدينة لعناصرها التي تصون كيانها، وقلب الأرض مدين لقلب الأفق الذي يسقيه ويحييه. . . الغمامة التي تراها عالقة بأهداب السماء، مدينة للبحر الذي قذف بها إلى سمائها. . . البحار مدينة للأنهار، والأنهار للينابيع، والينابيع للجبال، والجبال لذرتها التي تضامنت فكونتها. . . نعم، أنا مدين للشمس، والشمس مدينة لدائنها، ودائنها مدين لدائنه. . . الحياة مدينة للأرحام التي تقذف لها بالأجنة، والموت مدين للحياة التي تملأ لحوده. . . القرون مدين بعضها لبعض، وكلها مدينة للرجل الأول. . الموسيقى والغرام والتصوير والنقش والشعر فنون مدينة للخيال، والخيال مدين للمرأة، والمرأة مدينة للحب والجمال. . . الليل مدين لشمس التي غابت، فلولاها لم يضرب خيامه في الأرض، والفجر مدين لليل، فلولاه لم يطلع. . . أنا مدين للشمس أستعير نورها، ولكن الليالي مدينة لي، وأنت مدين لي ساعة تتسكع في الظلمة، وساعة أثير صدر حبيبتك النابض في ظلى فتضمك إليه، إن في كل قبلة من قبل حبك شيئاً مني. . . أنا هو القمر. . . أنا القمر. . أنا البدر وكفى. . .
- ما عهدتك يا صاحبي فصيحاً إلى هذا الحد وغزيراً. . . ولم أر قبلك من يدافع عن نفسه بمثل هذه البلاغة. . . حقاً إنك لنقيب المحامين، وإنك لجميل، وأجمل ما فيك وضوحك وجلاؤك! عبقريتك عبقرية الوضوح والجلاء. . . ليس فيك شئ من الإبهام والقلق(844/3)
والاضطراب، وهي نعمة أحسدك عليها. . .
- لا، لا تحسبها نعمة ولا تحسدني. . . أرأيت تلك النجمة التي تقلق الناظرين إليها وتدفعهم إلى السؤال عن وجهها، إنها أجمل مني، لأنها تحجب بعض ما فيها عن الخلائق ولا ترفع الحجاب عن محياها فيبدو بكل ما فيه، ولا تقف مثلي على ملتقى الطرق لتهدي بوضوحها التائهين. . . إنها تتشبث بسرها، وتخفي عنك ضميرها، فهي ليست عارية مثلي، وعيبي الذي تحسبه جمالا هو أنني نزعت كل ثيابي وانبطحت أمامك فأريتك نفسي. . . أنا رجل ساذج أبله. . . وهل يتعرى أمام الناس إلا السذج البله. . أنا رجل صريح سرَّه في وجهه وقلبه على لسانه، ولكن صراحتي وسذاجتي ووضوحي صور لا يعرضها الجمال الحقيقي على لوحته، فهو يرتاح إلى ما تفتش عنه العيون، إلى الأسرار، إلى الإبهام الذي يهز أعماق النفوس ويثيرها. . انظر إلى الموسيقى كيف تؤجج النار في نفسك كلما زادت إبهاماً، وانظر إلى الليل كيف يقلّب صفحات قلبك وأنت تتلمس فيه طريقك، والى المستقبل كيف يجذبك إليه وأنت محجوب عنه، والى الشعر كيف يطربك وأنت لا تدري لذلك من سبب، والى الحب المفعم باللذات لأنك لا تعرف له بداية ولا نهاية. . . حبذا لو كان لي وشاح واحد من أوشحة هذا الليل الذي يكتنفني!
- ما الذي تراه فيك جميلا أيها القمر البدر؟
- رأفتي بالمتسكعين في الظلمة!
- ولمن أَنت؟
- أنا لامي الشمس
- من هو عدوك الأكبر؟
- الفجر
- من يقيم في دارك؟
- العاشق والفيلسوف والشاعر
- ومن أيضاً؟
- المرأة. . . المرأة. . . المرأة!
- كيف تحتج أيها القمر، وكيف تغضب إذا ما طفحت كأسك وضاق صدرك؟(844/4)
- بخسوفي
- هل جاءك يوماً جارك النسر وهمس في أذنيك من كلماته؟
- أنا في رأفتي بالعباد أكره منقار الذي ينقض به على الفريسة. . .
- كيف أنت والنجوم؟
- القوي والضعيف لا يتحابان ولا يتصافيان. . .
- هل أنت راض عن الليل؟
- لي معه يومان: يوم ولاء، ويوم عداء!
- ألم تسأم من العلياء؟
- ومن يسأم منها؟
- ألم تحدثك نفسك يوماً بالتخلي عن عرشك؟
فضحك القمر البدر حتى ضحكت لضحكه، وما زلنا نضحك في أعالي الفضاء حتى أقبل علينا الفجر متململا من ثرثرتها وانقض على جنون البدر وجنوني، وأعادنا من سماء الخيال الرفيع إلى الحقيقة الكثيفة. . .
راجي الراعي(844/5)
خواطر مسجوعة:
قد يقتل الألم الشعر!
(إن القوة التي تشد الأوتار هي التي تمزقها، والنار التي تشد
الدفوف هي التي تحرقها.
فإلى من تمزقت أوتارهم، واحترقت دفوفهم، أهدي رماد النار، وتراب القيثارة!!)
يقال إن الألم يوقظ الحواس، ويشد أوتار الإحساس، ولهذا القول من الصواب خلاق، لكن على غير الإطلاق. فإن القوة التي تشد الأوتار هي التي تمزقها، والنار التي تشد الدفوف هي التي تحرقها، والقسر الذي يضغط الشفاف حتى يلهبه، ليس أقتل منه للموهبة! فالشاعر كالطائر يعبر عن كل آلامه بالبكاء، إلا ألم القسر فقد يموت به من غير اشتكاء. والأملاق ضرب من القسر والإذلال، والإذلال غل من أبغض الأغلال! فإذا حصر الشاعر في عيشة محدودة، ودراهم معدودة، كبت القسر إحساسه، وكتم العسر أنفاسه!
وقد قيل إن البؤس أسدى إلى حافظ إحساناً، وأضفى على شعره إتقاناً، فلم يأت بالنفائس، إلا وهو بائس، وأنه لما لمس بعض السعادة، أخلد إلى البلادة، ولما ارتاح باله، قل في الشعر مقاله، فهل استراح هذا الشاعر إلا بعد أن هدت الأيام قواه، وأشرف من العمر على منتهاه؟ وحسبنا البيت الذي قاله، مصوراً حاله
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ... وعدت فما أعقبت إلا التندما
لقد كان فعل الآلام قوياً متماسكاً، عندما لاذ الشاعر بالغاية لاهثاً متفككا، فلم يصمت مؤثراً الصمت، وإنما كان يتأهب للموت، ومن قطع جل عمره في لأواء، ناء في منتهى الشوط بالداء العمياء!
وإذا كان البؤس هو الذي جعل حافظاً شاعراً كبيراً، فبماذا كان شوقي للشعر أميراً؟ وقد نشأ في أنعم دار، ولعب باللؤلؤ والنضار، وتربى في أحضان البلهنية، ولم تعز عليه أمنية؟ أعتقد أن البحبوحة، هي التي أطلقت روحه، فنبغ في ظلال السعة، والعيشة الممتعة.
حامد بدر(844/6)
القاهرة الإسلامية:
جامع الأشرف جانبلاط
مدرسته وضريحه
للأستاذ أحمد رمزي بك
كتب الجبرتى في تاريخه عن حوادث شهر ذي الحجة الحرام سنة 1215 هجرية (وانقضت هذه السنة بحوادثها وما حصل فيها، فمنها توالي الهدم والخراب، وتغير المعالم وتنويع المظالم، وعم الخراب خط الحسينية، خارج باب الفتوح والخروبى، فهدموا تلك الأخطاط والجهات والحارات والدروب والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا وما بها من الدور والقصور المزخرفة وجامع الجنبلاطية بباب النصر، وما كان به من القباب العظام، المعقودة من الحجر المنحوت المربعة الأركان الشبيهة بالأهرام، والمنارة العظيمة ذات الهلالية، واتصل الهدم خارج باب النصر وباب الفتوح وباب القوص إلى باب الحديد، حتى بقى ذلك كله خراباً متصلاً وبقى سور المدينة الأصلي ظاهراً مكشوفاً).
لماذا أقدم الفرنسيون على هذا التدمير والتخريب وإزالة هذه العالم؟.
وما الذي جنته الآثار الإسلامية لكي تسوى بالأرض وتزال من الوجود؟.
واستمر الجبرتي يحدثنا عن المساجد والمدارس والدور والآثار التي هدمت، والنفس تفيض أسى وحسرة، ثم ختم بقول (قصدوا بذلك إنشاء عدة قلاع ومتاريس وتحصينات لحماية القاهرة).
كنت أسمع للمؤرخ المصري وكأنه ينتزع بكلامه عن كل أثر قطعة مني لأني قاهري مولداً ونشأة، وأرى في القاهرة مدينة حية خلال العصور الماضية إذا أصابها سوء فكأنه أصابني. وأعجب لقوم لا يشعرون بشعوري، ولا يقدرون عظمة القاهرة الإسلامية! وقمت مسرعاً في سيارة وقد حملت في يدي خريطة الحملة الفرنسية وأخرى مفصله لتلك الناحية، ونظرت إلى باب القصر وإلى باب الفتوح، وقلت من هنا مر صلاح الدين وبعده نابليون، وهذا جامع الحاكم: ترى لو كان مع غيرنا هل يتركونه على حالته؟ أم كانوا يعيدون إليه رونقه، ويجعلونه بيتاً للعبادة؟(844/7)
وفتحت أطالس الفرنسيين وعثرت على جامع الأشرف ورسمه وشكله فإذا بي أكون فكرة عما كان عليه المسجد قبل هدمه، ومن نظرة واحدة تعرفت على ركن قائم منه في زاوية من سور القاهرة في الجهة الشرقية من باب النصر.
ونظرت إلى الباقي منه أنادمه منادمة من يصبو إلى بانيه وواضعه، ويرثى لسقطة هادميه ويقول ألم يجدوا لقلاعهم وخنادقهم غير حجارة هذا المسجد!
وما الذي كسبوه بإزالة معالمه؟ لقد أصبح مكانه قضاء كساحة خالية، فأخذت أسير فيها وقد تملكتني رهبة، ثم مر بخاطري المنظر الآتي:
كيف جاء صاحب المسجد بعد زيارته لقبر قايتباي فكشف عن عمارة هذه المدرسة، ثم دخل من باب النصر وشق المدينة فكان آخر عهده بها إلى أن أحضرت جثته من الإسكندرية في شوال سنة 906 في عهد الغوري فدفنت بتربة الأشرف قايتباى ثم تقدمت مماليكه (فقالوا لا ندفن أستاذناً إلا في تربته التي بباب النصر (فنقل إليها وهذه ثالث نقلة لجثمانه.
ومررت منذ مدة فإذا الركن الذي كان عالقاً بالسور عند باب النصر وبقى من هدم جيوش نابليون قد أزيل بدوره. وذهبت المدرسة وضاع الضريح. ويقول حارس الأضرحة إن جماعة يسكنون في جهة تحت الربع كانوا يدفنون موتاهم في أرض المدرسة ويقولون إنهم من سلالة الأشرف جانبلاط الرابع والأربعين من ملوك الترك، والثامن عشر من ملوك الجراكسة بالديار المصرية. قلت نعم وهو الذي تولى إمارة ركب المحمل المصري سنة 894 وكان قاصداً (سفيراً) لدى بني عثمان سنة 896 هجرية ثم نائب مصر بحلب ثم بالشام ثم أتابك العساكر المصرية بعد الأنابكي أزبك.
وانتهى أمره وأمر مدرسته وعهده وضاعت معالم قبره وتذكرت أبا الطيب المتنبي وقوله:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمة
(شارع الأهرام بالجيزة)
أحمد رمزي(844/8)
على هامش (دراسات عن المقدمة):
تحامل ابن خلدون على العرب
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 2 -
(في الفصل السابق من هذا البحث برهنت على أن دفاع الأستاذ الحصري بك عن ابن خلدون في تحامله على العرب (بكتابه دراسات عن المقدمة) لم تكن تؤيده أقوال ابن خلدون نفسه، واستشهدت بنصوص (المقدمة) التي اعتمد عليها، مثبتاً أن الاستمرار بتلاوة تلك النصوص ينطق بعكس ما يريده الحصري، ويقوم حجة على أن ابن خلدون تعمد ذلك التحامل، وأراد به العرب في أمصارهم وبواديهم. . . وها هنا أكمل التعليق على هامش تلك (الدراسات)، مبيناً وجوه الرأي في ذلك التحامل وأسبابه المحتملة. فأقول:)
لعل سائلاً يسأل، ما سبب تحامل ابن خلدون على العرب بهذه الصورة التي لفتت أنظار الباحثين، حتى من غير العرب؟! فجعلت البعض يظنون في حقيقة نسبة شتى الظنون، وجعلت البعض الآخر يتهمونه في قوميته. كما جعلت هذين الكاتبين، وأعنى بهما (بارون دوسلان الفرنسي) و (جودت باشا التركي) يتلمسان له وجه العذر بهذا التأويل الذي أولا به كلمة (العرب) عنده كما مر آنفاً.
فهل كان حقيقة دعياً في (نسبه)، فهو يحمل في نفسه موجدة على العرب الذين هدموا مجد أسلافه - فيما إذا كانوا من غير العرب! - وسلبوا حريتهم. فهو من أجل ذلك موتور، وصاحب الترة كثيراً ما يجنج به الخطل، ويميل مع الهوى كل الميل دون روية أو تبصر.
أم كان حقيقة متهماً في (قوميته)، فهو من أجل هذا الالتواء والشذوذ، يتحامل على العرب شر تحامل، ويرميهم بهذه العيوب التي أحاطهم بها، وينسب إليهم أسوأ الصفات، وأية صفات أسوأ من هذا الذي وصف به العرب وبالغ في وصفه؟!
هذا ما نقف للإجابة عليه، وأنه لموقف عسر شائك، لا يخلو صاحبه من أن يتحكم به هواه، أو يضل طريق الصواب في اجتهاده. على أنني سأحاول - جهد الطاقة - أن أتقي ذلك (بالشمال وباليمين) وأن أقف عند حد الاعتدال فيما أعرض له. فأقول:(844/9)
إن اتهام ابن خلدون في وجه من الوجوه التي ذكرت، والتي يمكن أن تفترض كذلك، ليس بالأمر البسيط الهين. وإن ابن خلدون لو لم يكن له من الفضل إلا أنه المبتكر الفذ الذي سبق الأولين والآخرين من سلفه، في استنباط فلسفة علم التاريخ وفلسفة علم الاجتماع لكفاه ذلك فخراً. وحسب هذا الذي تراوده نفسه أن يتهم ابن خلدون في أية ناحية (فكرية أو نفسية)، أن يضع بين يديه شيئاً من أقوال عظماء الأجيال فيه، في شتى العصور ومختلف الأمم. وحينذاك - بعد أن يعرف ابن خلدون حق المعرفة - يستطيع أن يتحدث عنه بالكيفية التي يطمئن إليها. وأن تلك الأقوال التي أثرت عن كبار الباحثين في (ابن خلدون) لوافرة جمة يضيق عنها الحصر. على أنني برغم ذلك استشهد منها تأييداً لما ذكرته عن ذلك المؤرخ العلم الفيلسوف.
يقول (البارون فون كرايمر) العرباني النمسوى، في رسالته (ابن خلدون وتاريخه لحضارة الدول الإسلامية) أن ابن خلدون يؤرخ الحضارة الإسلامية وهو: (من بين المؤرخين المسلمين أول من خصص فصولاً ضافية للتحدث عن النظم السياسية وأنواع الحكم. . .).
ويقول الأستاذ (ثميث) الإنجليزي، وهو أحدث من درس ابن خلدون ونقده ما يأتي: (إذا وجب - مع بعض التحفظ - أن نعتبر ابن خلدون مؤرخاً للحضارة الإسلامية، فيحسن أن نتدبر ما إذا لم يكن قصد ابن خلدون الحقيقي، هو أن يقدم لنا أمثلة إيضاحية، ومجموعة تبين لنا ما يعبره موضوع التاريخ وجوهره. . . ولقد كانت هذه الفكرة العظيمة المستنيرة في فهم التاريخ بأنه سجل لتطور الإنسان الاجتماعي مترتباً على العوامل الطبيعية، وناشئاً عن تأثير الوسط وتفاعل الفرد والجماعة، خليفة بأن تجعل كتابة مفتتج عهد جديد. . .)
ويعتبر الأستاذ الهولندي (دي بوير) ابن خلدون فيلسوفاً (ويضعه في ثبت الفلاسفة المسلمين إلى جانب ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن الطفيل، وينوه بقيمة المنطق في صوغ نظرياته. ويصفه بأنه مفكر متزن. . .)
ويعبره آخرون كثيرون في مكانة لا تقل عن هذه المكانة التي وضعه فيها هؤلاء الباحثون. ويصرحون بذلك على مرأى ومسمع من أساطين العلم والفكر، دون أن يجدوا من يعارض قولهم، أو ينتقص قيمته من حيث الحقيقة، أو يتهمهم بالمبالغة في سرد هذه الحقيقة.
ونحن حين نعرف ابن خلدون عن هذا الطريق، نقف حيال آثاره موقفاً لا يزايلنا معه(844/10)
أجلاله وأكباره، وتقدير اللائق بمكانته العلمية الرفيعة. . . على أنه من الجدير بنا في هذا المقام إلا نتمهن رأينا وتفكيرنا، فيصور لنا احترامنا لابن خلدون سقطاته التي وقع فيها حسنات كلها. وهيهات! فالحق أبلج والباطل لجج، وأن الحقيقة التي لا نرتاب في صحتها هي أن ابن خلدون قسا في حكمه على العرب قسوة بالغة، وحكم عليهم حكما كان من القمين به وبمكانته العلمية أن يتبصر كثيراً في إصداره والمجاهرة به.
وأما أنه أصدر هذا الحكم لأنه كان دعي النسب في العرب، فذلك أمر يحتاج البت فيه والجزم في صحته إلى كثير من التدقيق. ولا أدري هل كان ابن خلدون دعياً في نسبه حقاً؟! وأنى لنا معرفة ذلك لا تخالطها ريبة، ولا يمازجها شك!!
يقول الرجل (أعني ابن خلدون) عن نفسه أن يرجع في أصله إلى العرب اليمانية في حضر موت، (ونسبه إلى وائل بن حجر، ويعتمد في ذلك على رواية النسابة الأندلسي ابن حزم (توفي سنة 457هـ) غير أنه يشك في صحة هذه السلسلة، ويعتمد أن أسماء منها قد سقطت. لأنه إذا كان خلدون هو جده الداخل إلى الأندلس عند الفتح، فإن عشرة أجداد لا تكفي لقطع ستة قرون ونصف التي انقضت منذ الفتح حتى مولده. وفي رأيه أنه يجب لقطعها عشرون، باعتبار ثلاثة أجداد لكل قرن. وأما نسب جده خلدون الداخل إلى الأندلس، فهو كما روى ابن حزم أيضاً: خالد، المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريب بن معد بن الحارث بن وائل بن حجر. فابن خلدون - طبقاً لهذه النسبة - سليل أصل من أعرق الأصول العربية اليمانية. . .).
هذا ما يقوله ابن خلدون من نفسه مستقى من تلخيص الأستاذ عبد الله عناني المحامي الذي يقول في تعليقه على هذا النسب ما يلي: (ولكن هنالك ما يجعل على الشك في صحة هذا النسب البعيد، الذي يدونه ابن حزم لأول مرة في القرن الخامس الهجري. ويقوي هذا الشك لدينا ما نعرفه من ظروف الخصومة والتنافس بين العرب والبربر في الأندلس. . . وكانت العروبة في الأندلس شرفاً يرغب في الانتساب إليه، لما كان لها من السيادة والنفوذ، ولكن الشك كان يحيق بأنساب كثيرة من أهل العصبية والرياسة. بل لقد تطرق هذا الشك إلى أنساب زعماء الفاتحين أنفسهم، فقيل عن طارق بن زياد أنه من البربر، وقيل أنه فارسي من موالي العرب. . .).(844/11)
ويلتفت الأستاذ عنان بعد هذا التعليق إلى نسب ابن خلدون، التفاتة بارعة، مستقرئاً ذلك من الحقيقة الراهنة مع ابن خلدون. فيقول: (وهناك أيضاً ما يبعث على التأمل في تعلق ابن خلدون بهذه النسبة العربية، وهو أنه في مقدمته يضطرم نحو العرب بنزعة قوية من الخصومة والتحامل، بينما نواه في مكان آخر من تاريخه يمتدح البربر ويشيد بخلالهم وصفاتهم).
وهذا الذي يقوله الأستاذ عنان يكاد يقره الكثيرون، وذلك حين يؤكدون: أن مثل هذه الخصومة البادية في تحامل ابن خلدون على العرب، لا يمكن أن تصدر عن مؤرخ استهدف الحقيقة، وزاملته النزاهة، وصحبته الاستقامة. كما أنه من البعيد المستهجن أن لا تكون الأمة استطاعت أن تتغلب على دولتين من أقوى دول الأرض يومذاك، وأن تشيد على أعقاب ملكهما ملكاً تزدهر فيه الحضارة ويعم الرخاء، ويستبحر العمران، ويقوى على مقارعة الخطوب ومصاولة الأيام سنين طويلة وعصوراً مديدة.
أجل، إنه من المستهجن حقاً ألا يكون لهذه الأمة من المزايا ما يجعلها في نظر ابن خلدون في مصاف الفرس والرومان، أو في مصاف (البربر) على الأقل!! الذين امتدحهم كثيراً، وأطنب في مدحهم، وذكرهم في كثير من المواطن التي كان للعرب ما يفوقها، فضلاً عن أن يماثلها ويسير في تهجمها. وأن ذلك عجيب يستفز الريبة!!
إذن فلم يبق أمامنا إلا أحد وجهين: إما أن ابن خلدون كان اتهامه في نسبه حقيقة راهنة، حتى بدر على لسانه هذا الذي بدر الشك في ترتيب ذلك النسب، ثم هو يدعيه ويتظاهر به، حرصاً على مكانته لدى الملوك والأمراء، إذ كانت العروبة - كما يذكره الرواة - (شرفاً يرغب في الانتساب إليه). إلا أنه ينم عليه قلمه، ويكشفه تعصبه، فإذا هو عدو في ثياب صديق، وإذا هو يحمل ضغينيين:
أولاهما: هذا العداء الموروث الذي كانت تنطوي عليه تلك الأقوام المختلفة من دعاة الشعوبية في شتى الأقطار التي دخلها العرب غزاة فاتحين.
وأخرهما: هذا الحقد المرير الذي يضطرم في دخيلة نفسه، كلما الفاه محمولاً على أن يتظاهر بالانتساب إلى غير أهله، حرصاً على مكانه بين الناس!
ومن جراء هذه وتلك ينبري ملتمساً المثالب في كل باب، ومقتنصاً المعايب من كل سبيل،(844/12)
ومنقباً عن أسباب الخيبة والفشل وانتقاض العمران، ليلبس ذلك كله للعرب ويسنده إليهم، ويلحقه بهم غير مستنكف ولا متورع.
وإما أن يكون ابن خلدون على النقيض من ذلك، أي أنه عربي محض، وأن تحامله على العرب كان وليد تأثره بأوضاع شخصية، وظروف خاصة أحاطت به في شتى أطوار حياته وتشتت بها شمله، وتغرب عن بلده، وقاسى من العناء والمشقة الدسائس وحسد الحاسدين، ما يجعله يسئ الظن بأقرب المقربين إليه فيعيد هذا الفساد الخلقي إلى نقص موروث، تناقله الأبناء عن الآباء.
أضعف إلى ذلك أنه كان يعيش في زمان كثرت فيه الدويلات، وانتقصت فيه ممالك الإسلام من أطرفها. فهذا (تيمور لنك) يكتسح الممالك الإسلامية من الشرق فتخر بين يديه دولة أثر دولة. . . وهؤلاء الأسبان في الأندلس، يدحرون المسلمين أمامهم، وينتزعون منهم بلداً أثر بلد. وهنالك الثورات والقلاقل التي كانت لا تخبو نارها، ولا يخمد أوارها. ثم هو لا يزال يشاهد من أهوالها ما يجعله ذاهلاً حائراً، لا يدري إلى أية فئة ينحاز، ولا إلى أي قبيل يلتجئ!!
وأذا ما التزم العافية عاش عالة على سواه، وبقى هملا لا قيمة له ولا أثر، وهيهات أن يرتضي ذلك ابن خلدون، وهو سليل السادات، وحفيد الأمجاد. إذن فلا بد من أن يخوض هذه المعممة، ويصيبه من شرورها شتى الألوان.
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظن عجزا
فابن خلدون إذن حين يحمل على العرب هذه الحملات، إنما يتحدث عن عرب زمانه، ومن يدري، فلعلهم - شأن من يؤثرون الشقاق على الألفة، ويظهرون العدو للإيقاع بأخوانهم!! - جديرون بهذا الذي نعتهم به، بل خليقون بأكثر منه. . . وهو حين يتجاوزهم إلى من سبق من أسلافهم لم يزد على أن يأخذ البرئ بجريرة العاصي، وتلك سنة من جمع به هواه.
وعين الرضا عن كلُّ عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
هذا ما عن لي أن أقوله في تعليقي على رأي ابن خلدون في العرب، وذلك (على هامش دراسات الأستاذ الحصري). ولعلي أميل في تعليل تحامله إلى الرأي الثاني وهو في يقيني(844/13)
أقرب إلى الحقيقة والواقع.
وهنا أختم كلامي بتعبير كان يكرره ابن خلدون كثيراً - وذلك على سبيل التيمن والبركة - فأقول: والله تعالى أعلم!
(زحلة - نزل إلياس ثابت)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)(844/14)
الفلسفة الصامتة
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
(تتمة)
الحياة أعظم الشرور:
تحدثنا الحكمة الهندية أن الأمير السعيد (ساكياموني) وهو من نعرف باسم (بوذا) خرج في عربته وهو شاب قد خفي عنه العلم بالمرض والشيخوخة والموت. فوقعت عيناه على رجل مسن مفزع، تحطمت أسنانه وسال لعابه من فمه. فدهش الأمير الذي خفي عنه حتى اليوم العلم بالشيخوخة، وسأل سائق عربته عما رأى، وكيف آل هذا الرجل إلى مثل هذه الحال الزرية المقززة. ولما علم أن ذلك هو المصير المألوف للناس جميعاً، وأن تلك الحال عينها تنتظره بغير مناص - وهو الأمير الشاب - لم يستطع أن يواصل السير، وأمر السائق أن يقفل راجعاً إلى البيت كي يتدبر الأمر. ثم حبس نفسه وأخذ يفكر. وربما وجد في نفسه ما يعزيه، لأنه خرج بعدئذ في العربة مرة أخرى وهو مرح سعيد. غير أنه رأى هذه المرة رجلاً مريضاً: رأى رجلاً هزيلاً شاحب اللون قاتم العينين يرتعش من شدة الهزال. فوقف الأمير الذي خفي عنه العلم بالمرض، وسأل عما رأى. ولما علم أن ذلك هو المرض الذي قد يتعرض له أي إنسان، وأنه هو نفسه - وهو الأمير الصحيح البدن الهانئ القلب - قد تصيبه العلة في غده، عاد إليه ذلك الاكتئاب الذي يحرمه المتعة بحياته وأمر سائقه أن يقفل راجعاً إلى البيت. وبحث عن العزاء مرة أخرى، وربما وجده، لأنه خرج في عروبته للمرة الثالثة قصد النزهة. ولكنه في هذه المرة الثالثة رأى مشهداً آخر جديداً: رأى جماعة تحمل شيئاً فسأل:
(ما هذا؟) فقيل له:
(هذا رجل ميت). قال:
(ما معنى كلمة ميت؟) فقيل له:
(إن المرء حين يموت يمسي كذلك الرجل).
واقترب الأمير من الجثة، ورفع عنها الغطاء، ونظر إليها، وسأل:(844/15)
(ما الذي سيحدث له الآن؟) فقيل له:
إن الجثة ستوارى التراب.
(لماذا؟).
(لأنه بالتأكيد لن يعود إلى الحياة، ولن يصدر عنه غير النتن والدود).
(وهل هذا هو مصير الناس أجمعين؟ هل يحدث لي نفس هذا الشيء؟ هل يدفنوني؟ وهل تصدر عني الرائحة الكريهة ويأكلني الدود؟).
(نعم).
(إلى البيت! لن أركب عربتي للنزهة، ولن أفعل ذلك مرة أخرى).
ولم يجد ساكياموني في الحياة ما ينطوي على أية قيمة وانتهى إلى فلسفته التي تقرر أن الحياة أعظم الشرور، وأن الخير يقضي بالتحرر منها ودعوة الناس للتحرر منها بكل ما يملكون من طاقة روحية. وهذه القصة ترمز إلى فلسفة الهند الزاهرة في الحياة، المتعلقة بالروحانية. وهي عين الفلسفة التي يعبر عنها سليمان الحكيم في الكتاب المقدس إذ يقول:
(باطل الأباطيل - كل شيء باطل. ما فائدة الإنسان من أي عمل بتولاه تحت الشمس؟ جيل يتولى وجيل يقبل إلى الأبد. إن ما كان سوف يكون وما حدث سوف يحدث، وليس تحت الشمس جديد؟ هل هناك شيء نستطيع أن نقول عنه: انظر! هذا جديد؟ كلا. إنه من قديم الزمان الذي سلف. ليس لما سلف ذكرى، ولن تكون لما يُقبل ذكرى. أنا الذي أعظكم كنت ملكاً على بني إسرائيل في بيت المقدس، ولقد وهبت قلبي للتنقيب والبحث عن طريق الحكمة في كل ما حدث تحت السماء. . . وناجيت قلبي وقلت له: هيه، أنا مالك لضيعة كبرى وعندي من الحكمة أكثر من كل من سبقني ببيت المقدس - أجل، إن قلبي مفعم بكثير من تجارب الحكمة والمعرفة. ولقد وهبت قلبي لإدراك الحكمة ولمعرفة الجنون والحماقة، فرأيت أن ذلك يبعث على الحزن العميق. ومن يزدد علماً يزدد أسى.
قلت لنفسي: الآن انطلق، ولسوف أمتحنك بالمرح. وإذن فلتنعم بمختلف المتع. فكان ذلك باطلاً كذلك. . . شيدت لي بيوتاً وزرعت الكروم، وأنشأت الحدائق والبساتين، وغرست فيها الشجر من كل الثمار، وحفرت البرك أروى من مائها الغابة التي تنمو بها الأشجار، واستخدمت الخدم والإماء، وولدت الخدم في بيتي، وامتلكت من قطعان الغنم والماشية أكثر(844/16)
من كل من سبقني في بيت المقدس. وجمعت كذلك الذهب والفضة ونوادر الكنوز من مختلف الملوك والأقاليم. وظفرت بالمغنين والمغنيات، وبكل ما يلهو به ابن آدم، كآلات الموسيقى وما إليها. وهكذا كنت عظيما، وتوفر لي ما لم يتوفر لكل من سبقني ببيت المقدس. وبقيت حكمتي معي كذلك، ولم أحرم عيني من كل ما اشتهتا، ولم أبعد قلبي عن أي لون من ألوان السرور. . . ثم نظرت إلى كل عمل عملته يداي، والى الجهد الذي بذلت. . . فرأيت أن الكل باطل يبعث على حنق النفوس، وليس من ورائه جدوى تحت الشمس. وهناك حدث واحد يقع للطيبين كما يقع للأشرار ولمحبي الخير ومحبي الشر، وللطاهر والدنس، ولمن يضحى ومن لا يضحى، والطيب كالخبيث، ومن يقسم بالباطل ومن يخشى القسم. إنه شر يتخلل كل ما يقع تحت الشمس، وكل شيء يتعرض لحدث واحد. نعم إن قلوب بني الإنسان كذلك مليئة بالشر، والجنة في قلوبهم ما داموا أحياء، وبعد ذلك يذهبون إلى الموتى).
شوبنهور وسقراط
لندع أسطورة بوذا وموعظة سليمان فهما من الحكمة الشعبية الصامتة، لنتأمل قليلا رأى كل من سقراط وشوبنهور الفيلسوفين بقول سقراط وهو يتأهب للموت: (إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة؛ إذ ما الذي نجاهد في سبيله نحن محبي الحقيقة؟ أننا نجاهد في تحرر أنفسنا من الجسد! ولما كان الأمر كذلك، فلماذا إذن لا نفرح حينما يأتي إلينا الموت؟ إن الرجل الحكيم يبحث عن الموت طوال حياته، ولذا فالموت لا يفزعه).
ويقول شوبنهور: (إذا ما أدركنا أن طبيعة العالم الخفية ليست سوى (الإدارة)، وأن كل مظاهر الطبيعة - من الحركة اللاشعورية لقوى الطبيعة الغامضة إلى عمل الإنسان الكامل الوعي - إن هي إلا مظاهر لهذه الإرادة، لم يعد لنا ما يبرر التخلص من هذه النتائج: وذلك أنا إن نبذنا الإرادة وتخلينا عنها طائعين، ألفينا كذلك كل تلك المظاهر - ذلك التيار الدافق والجهد الذي لا يكل ولا يهدا في كل مرحلة من مراحل المظاهر الطبيعية التي منها وعن طريقها يتألف العالم؛ وتلك الصور المتعددة التي تتلو إحداها الأخرى في تدرجها، وستختفي مع هذه الصور كل دلائل الإرادة، وستختفي كذلك في النهاية الصور العالمية لتلك الدلائل - الزمان والمكان، والصور النهائية الأساسية، أي أن كل ما ذاتي وكل ما هو موضوعي(844/17)
سوف يتلاشى. إذا لم تكن هناك إرادة فلن يكون هناك مظهر لشيء، ولن يكون هناك عالم. إنه لا يبقى أمامنا بالتأكيد سوى العدم)
وقف تولستوي أمام هذه الأقوال الأربعة فوجدها جميعاً تجيب عن سؤال واحد عرض لكل منهم بصدد مشكلة الحياة، وتنتهي إلى نتيجة واحدة:
يقول سقراط: (إن حياة الجسد شر وأكذوبة. وإذن فتحطيم حياة الجسد نعمة، يجب أن نتمناها.)
ويقول شوبنهور: (الحياة هي ما لا ينبغي أن يكون - هي شر، والانتقال إلى العدم هو وحده ما في الحياة من خير.)
ويقول سليمان: (كل ما في الحياة - من حماقة وحكمة وثراء وفقر ومرح وحزن - باطل وعدم. يموت المرء ولا يبقى منه شيء وهذا سخف).
ويقول بوذا: (يستحيل على المرء أن يعيش وهو يدرك أن الألم والضعف والشيخوخة والموت أمور لا مفر منها - يجب أن تتحرر من الحياة الممكنة كلها).
ويعلق تولستوي على هذه الأقوال بما يؤيد دعوانا التي سبقت الإشارة إليها وأعني انتساب المذاهب الفلسفية إلى الحكمة الشعبية فيقول:
(وما ذكره أصحاب العقول الجبارة فكرت وأحسست به وعبرت عنه ملايين الملايين من أمثالهم من البشر. وقد فكرت فيه وأحسست به أنا كذلك).
كتاب الحياة:
لعل قارئي العزيز اقتنع بعد هذا العرض لنصوص الكتاب والحكماء أن حس هؤلاء الدقيق يكفل لهم في كثير من الأحيان النفاذ إلى كنه الحياة، وأن حكمهم السليم المبرأ عن الهوى وسيلة من وسائل المعرفة الفلسفية، وأن إنتاجهم لا يخلو من نظرات عامة في الكون لم تفسدها الصنعة ولم يعزوها الصدق في التصور ولعله قد تبين أن كتب الفلاسفة ليست وحدها المصدر الذي نستقي منه الفلسفة، فقد نسقيها من حكمة الشعب كما بينا في مقال سابق، وقد نستخلصها من الأدب الروائي أو الشعر والأساطير وقد نهتدي إليها في مسلك كثير من الناس، وبالجملة قد نتعلمها في مدرسة الحياة. وقد تنبه ديكارت إلى هذه الحقيقة فأنحى باللائمة على العلوم التي تدارسها في المدرسة، واتهم بالقصور والتفاهة المعارف(844/18)
التي تلقاها على أساتذته. فألقى بالكتب عرض الحائط، وعول على أن يبدأ حياته الفكرية من جديد بقراءة (الكتاب الكبير) كتاب الحياة. فأقبل على الناس يضطرب وإياهم في مناكب الحياة، وأنفق بقية أيام شبابه في الارتحال ورؤية القصور، وتعلم صنعة الحرب على يد أشهر جندي في أوربا في ذلك الحين وهو هولندي (موريس دي ناسو). ثم رحل إلى ألمانيا، وهناك ساهم إلى جانب بارفايا في مقاتلة بوهيميا الثائرة في الحرب المعروفة بحرب الثلاثين، وخالط مختلف الأجناس والشخصيات. وهكذا طفق يستمد فلسفته من مصدرين: نفسه حيث (النور الفطري وحيث تكمن الحقيقة كون النار في الحجر الصوان) والعالم حيث الحقيقة حية بسيطة لم يفسدها التجريد والحفاف، فجاءت فلسفته مثلاً رائعاً للوضوح والإشراق والتكامل المذهبي، واستحق بجدارة لقب (أبو الفلسفة الحديثة).
الأبراج العاجية:
إن المتفلسفين الأكاديميين ليكشفون عن غرور أحمق - إذ يزدرون هذه المصادر الكبرى ويعتزلون في أبراج عاجية شاهقة بمعزل عن الحياة التي تلفهم جسداً وعقلاً، يقضون العمر فيها يجترون أفكاراً جامدة لا حياة فيها، فارغة خلوا من المعنى، متوهمين أنها الحق في حين أنه هنالك عند أقدامهم: في عقول المحنكين، ذوي الحس الدقيق والبصيرة النافذة من العامة والكتاب، ممن لم يفسد تفكيرهم التعمل. إلى هؤلاء أسوق سخرية عمر الخيام من الفلاسفة ليطامنوا من كبريائهم:
(طالما خضنا غمار الفلسفة ... وسمعنا من صواب وسفه
وخبطنا في مضلِّ معسفه ... ثم صرنا حيث كنا أولاً
لم نسر نحو الهدى قيد ذراع
كم بذرنا حكمة الفكر البصير ... وسقيناها حيا العقل الغزير
ما جنينا غير بهتان وزور ... ما علمنا غير أنا في الملا
شغل البرق خبت بعد التماع
ولا يفوتني أن أعيد إلى الأذهان سخرية باسكال من فلسفة أفلاطون في عبارته الشهيرة (أراد أفلاطون أن يعلو على الطبيعة فسقط إلى الحضيض.) إذا كان أفلاطون العبقري الفذ مهدداً بالسقوط إلى الحضيض فما رأى المتفلسفين الذين يقيمون بينهم وبين البصيرة(844/19)
الشعبية سداً منيعاً؟ لقد كان لأفلاطون من تماسك مذهبه أسس مكينة تحميه من السقوط فبماذا يتشبث أصدقاؤنا هؤلاء وهم يحتمون بأبراج من خيوط العنكبوت؟!
خاتمة
بعد كل ما تقدم أخشى أن نسف في فهم الفلسفة ونظن كل نظرة عابرة فلسفة كبرى، وصاحبها فيلسوفاً كبيراً، فنخدع عن أنفسنا، ويركبنا الغرور. ولذلك أنبه القارئ إلى أن تلك النظرات ليست سوى محاولات للنظر الفلسفي يأتيها الحكيم الشعبي أو الروائي، ثم إنها محاولات تلونها الانفعالات والأمزجة الخاصة، ولا تكاد تنفصل عن السلوك العملي وشئون الأخلاق، وقلما تتعرض لمسائل ما بعد الطبيعة. فلسفة الشعب مزيج من القول والفعل والنقل. مصدرها تجاريب العيش وصروف الأيام، أفراح الحياة وأتراحها؛ ويقين الشعب بفلسفته أشبه باليقين الديني لا يحتاج إلى دليل أو برهان، وذلك ما يخلع عليها حرارة تعوز مذاهب الفلاسفة التي تتميز ببرود المنطق وجفاف الجدل. وأداة الفلسفة الشعبية ليست المنطق الصوري، ولكنها ملكة الحكم السليم التي يدعوها الفرنسيون ويسميها الإنجليز وأثرها في نفسية الشعب عميق غاية العمق: تثبت فؤاده، وتعزيه عما يصادف من محن، وتبرر كثيراً من تصرفاته. أما صورتها العامة فيعوزها التكامل لأنها نظرات مبعثرة وخواطر متفرقة يندر أن تأتلف كلا واحداً.
أما الفلسفة بالمعنى الخاص فبريئة من أمرين: النظرة السطحية، والنظرة الجزئية. فلسفة الخاصة (أي فلسفة الفلاسفة) تهدف إلى تفسير عام شامل للكون في مجموعه، ولذلك كنا نجد تفسيرات الفيلسوف لمختلف نواحي الكون تنتظم كلا واحداً متناسقاً هو (المذهب). نواة المذهب الفلسفي نظرية كبرى تتشعب منهما أو تدور في فلكها نظريات فرعية صغرى في المعرفة والوجود والأخلاق، بل والسياسة والجمال أحياناً. نواة مذهب أفلاطون مثلا (نظرية المثل)، وأرسطو (الهيولي أي المادة الأولى والصورة)، وأفلوطين (الفيض الإلهي)، وشوبنهور (إرادة الحياة) الخ. . .
وللمذاهب الفلسفية قيمة كبرى فهي الوسيلة التي ينمى بها العقل الإنساني أعمق نظراته وتفسيراته. إنها تعينه على تعمق كنه الحقيقة، وتعطي الأفكار المبعثرة حياة وحركة وقوة. مثل المذهب مثل البلورة تلم شتات الأشعة، وتركزها في نقطة ضوئية صغيرة، ولكنها(844/20)
أكثر التماعاً والتهاباً من الأشعة المتفرقة. وبدون هذه الجهود التي يحتملها الفلاسفة من ذوي المذاهب المتكاملة، فإن الأفكار الإنسانية المتفرقة قد تومض في لحظات من التأمل المتكامل المتراخي وسرعان ما ينطفئ الوميض.
وأضيف أخيراً أن الفيلسوف أقدر من المفكر العادي على التحرر من شطحات الخيال، ونزوات الانفعال، أكثر منه فردية وابتعاداً عن تيار الحياة الجارف الرتيب. لا يوقن بأمر قبل أن يتناوله بالنقد، ولا يسلم برأي دون تمحيص؛ لا تراوده فكرة إلا قبلها على جميع الوجوه؛ تلقي إليه بالرأي فيطلب الدليل، وتنقل إليه الخبر فيلتمس البرهان، وتقدم إليه التفسير فيسعى إلى تفسير لذلك التفسير. منهجه الشك قبل اليقين. الشك من كل شيء حتى في عقله، وشعاره النقد قبل التسليم. الاستسلام للعاطفة عنده خطأ مبين، والرضا بالمزاعم الجارية إثم لا يغتفر. عقل مستديم القلق، وذهن لا نهائي التساؤل، وفكر لا ينى عن التحميص. النظرة العابرة لا ترضيه، واستكشاف الجزيئات لا يكفيه، فميدانه الكون في مجموعه، وهدفه الحقيقة كاملة غير منقوصة.
(الإسكندرية)
عبد العزيز المليجي(844/21)
جيوفاني بوكاشيو
للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي
1313 - 1375
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أن المقارنة بين الكتابين تدفعنا إلى المقارنة بين الفن الأدبي في اللغة اللاتينية وبينه في اللغة الإنجليزية. يقوم الفن في اللاتينية على التصميم في القصة وعلى رسم حوادثها وعدم الاهتمام بأشخاصها.
أما في اللغة الإنجليزية فيعتمد على الأشخاص وجعل الفن متصلاً بهم وموسوماً بما في نفوسهم وطبائعهم من خير أو شر وتعاسة ونعيم. وعلى هذا الأساس يجد القارىء ما يبعث السأم في نفسه وهو يقرأ قصص كانتبارى، ولكن أشخاصها يبعثون في سأمه ما فيهم من حياة وحركة. أما في قصص دى كامرون، فإن القصص رائعة والأشخاص أموات لا يتحركون. فالأشخاص في دى كارمون غير مسؤولين مطلقاً عما يدور على ألسنتهم من حوار وقصص قد لا يتفق في كثير أو قليل مع احتشام الفتاة التي تقصها، حينما تتصل المعاني بالأدب الجنسي المكشوف الذي ضرب بوكاشيو بسهم وآفر. وليس في استطاعة وليس في استطاعة الناقد إلا أن يسقط هذه الشخصيات من اعتباراتها الشكلية التي وضعت مرغمة فيها وعلى وجهها أقنعة مستعارة لا تتصل بها ولا تمثلها. . . وناقل الكفر ليس بكافر، إذا أراد أن ينصفها ويدلل على مكانها من الحقيقة. . .
لكن هذه الشخصيات في بعض أحاديثها خارج القصص تصور لنا المناظر الجميلة حول فلورنسا، والقصور المترفة، والمروج التي تجري فيها الأنهار تصويراً رائعا. . .
لم تقع حوادث القصص المائة في مكان واحد، وإنما وقعت في ثلاثة أماكن: أولهما يبعد ميلين عن فلورنسا، وهو قصر باذخ تقوم على أطرافه حدائق غناء، وسواقي جارية، وحقول خضر، وتلال مغطاة بأشجار الفاكهة، وموقعه الآن على مقربة من قرية ستجنانو التي تصلها طريقة ضيقة تبعد ميلين عن ضاحية بورنالا كروز، وكان هذا القصر يقع في مزرعة تدعى بوجيوجراردو وهي حصة مارجريتا زوجة أبيه من إرثها من أسرتها.(844/22)
في نهاية اليوم الثاني بعد أن تم اختيار نيفيل ملكة لليوم الثالث اقترحت عليهم أن يزوروا مكاناً جديداً بالغت في مدحه، وهو قصر فخم على سفوح تلال الفيزول ويسمى فيلا بالميرى. . .
وفي مساء اليوم السادس، وكان يوماً من أيام الربيع، وبعد الانتهاء من القصص، وكانت قصيرة، وبينما كان الرجال الثلاثة منهمكين في لعبة النرد، أشارت أليسا من طرف خفي إلى صواحبها الست، فتجمعن واقترحت عليهن الذهاب إلى مكان جميل جداً يدعى لافلا ويلدون. وبعد مسيرة ميل واحد وصلن إلى مجرى يسيل منه ماء عذب رقراق كالبور، وكان السهل الذي يجري فيه ذلك المجرى عبارة عن دائرة قطرها نصف ميل تحيط بها ستة تلال وينبع من بين تلين، ويكون في طرف السهل بركة لا يزيد عمقها عن بضعة أقدام وقد أغراهن صمت المكان والماء فنزعهن ملابسهن وابتدأن في الاستحمام، ولا تزال هذه البقعة تدعى بالاسم نفسه حتى الآن. . .
ونعود الآن إلى القصص نفسها فنرى أنها تعود في أصولها إلى المصرين القدامى والعرب والفرس والفرنسيين. ومن المحقق أن بوكاشيو لم يعرف مصادرها، وإنما سمعها في نابولي وأنحاء إيطاليا، ولعل ثلثها يعود في أصوله إلى المصادر الفرنسية وقسما إلى الهنود والفرس، والقليل إلى المصادر اللاتينية. إننا نستطيع توجيه التهمة نفسها إلى شكسبير وتشوسر ونتهمهما بالنقل وعدم الإبداع. ولكننا حين نوجه التهمة نفسها إلى بوكاشيو نقول واثقين إنه لم يعرف تلك الصادر، وإنما رأى فيها عملا إبداعياً أصيلاً. . .
إنه كتاب يتصل بالناس كما تتصل بهم الحياة، يتصل بهم في الجد واللهو، في الفضيلة والرذيلة، في الشر والخير، في التهكم والمجون، وهو إلى جانب ذلك مفعم بالمجازفات والمآسي والأفراح والنهايات التي يلعب الحظ فيها دوراً كبيراً، وهو في تفصيله مجموعات من الحقائق الصحيحة أضفت عليها عين الفنان اليقظة ثوباً قشيباً تراءت فيه أعمال الناس وعاداتهم وطبائعهم في ذلك العصر واضحة جلية. . . أنه البؤرة التي انعكست عليها الحياة بكل ما فيها من مظاهر. . . فهو كتاب قريب إلى الإنسانية أكثر من أي كتاب آخر لدانتى أو تبرارك، حتى قصص شوسر، فإن الإنسانية فيها غير كاملة حينما تتصل بالحب وما يدور وراء النفس الإنسانية من شعور مكبوت. . .(844/23)
وتتسم هذه القصص بتنوع صور الحياة التي عبرت عنها، فهي تكشف لنا القناع عن عدد من المتهورين المجازفين، وعن الحياة الخاصة التي يحياها وراء الستار عدد آخر من الناس تعرفهم على حقيقتهم المعرفة الصحيحة، وهذا هو فن بوكاشيو، لأن هذه القصص لم تكن عملا إبداعياً ولا دراسة للأخلاق، وإنما هي قصص تختلف في طولها وقصرها باختلاف الموضوع الذي تتصل به عن مجازفات، أو حب غير مشروع، أو راهب، أو امرأة؛ إما للتسلية أو إثارة الضحك وإشاعة السرور، أو جواب مختصر لتوبيخ شخص، أو لدفع خطر جسيم. ومهما كان نوع هذه القصص، على روعتها وشهرتها فإنها ليست الدافع الوحيد الذي يدفع المولعين بديكامرون إلى قراءتها المرة بعد الأخرى في رغبة وسرور.
إن سر خلود هذا الكتاب هو الجماهير الحية التي تتحرك فيه. هنالك شخصيات أخرجتها فنه فيه حية وبقيت كذلك وستبقى إلى يوم يبعثون تثير في قرائها الدهشة الإعجاب إثارة لا تقل عما تفعله شخصيات شكسبير الخالدة فينا. . . لقد عاشت للأبد لأن الفن الخالد حملها إلى عالم الخلود. . .
أنه صورة مصغرة للدنيا، ومرآة انعكست عليها حياة الناس في ذلك الزمن، إلا أن المثالية والهدف السامي يرفع الأعين إلى النور، ة ويجعل للعمل الفني قيمته التي لا ينكرها أحد، لا توجدان فيه.
أما الأدب المكشوف والتعابير الجنسية الساخرة التي تفيض بها القصص فمرده إلى الأصول الفرنسية التي نقل عنها وهذبها كثيراً. . . ومن المحقق أن التعبير عن الأدب الجنسي المكشوف في ذلك الوقت، كما هو الآن غير مألوف ولا مستساغ. . . لكن بوكاشيو جعل منه فناً أبدع فيه أيما إبداع، وأخرجه من مكانه المستور من حياة الأفراد والجماعات ورجال الدين إلى الحياة اليومية وجعله ملموساً مألوفاً يتحدث عنه متهكما كأنه يتحدث عن شئ لا يتعارض مع قيم المجتمع الروحية والخلقية.
إن كل ما في الكتاب مبالغ فيه، وخصوماً الموضوع الجنسي الذي أسرف فيه إسرافاً عظيماً، فصور الشبان والشابات غارقين في الإثم والفجور والخلاعة إلى أبعد الحدود، وصور الزوجة تلهو ما شاء لها اللهو والزوج غير مكترث بما يدور حوله، وصور رجال الدين لا يعلمون شيئاً عدا الانقياد للشهوات والسير وراء مطالب الجسد. . . يصور كل(844/24)
ذلك في تهكم لاذع وقسوة متناهية. . .!
والدافع الأساسي الخفي الذي دفعه إلى ذلك - كما اعتقد - هو طفولته الأولى، فعند ما فتح عينيه في الحياة ووجد أنه بن غير شرعي لأبيه. . . وحينما فهم ما يدور حوله من حقائق، وأدرك قيود الكنيسة والمجتمع، وإنه غير مسؤول عن خطأ أبيه، جرد القلم لينتقم لأمه جان، فجعل نساء عصره ساقطات، وتلفت إلى رجال الدين فتأثر منهم بما يضطرم في قلبه من ألم وحقد وحرمان.
وعلى هذا الأساس، لا يجمل بنا أن نحكم على نساء عصره بالحكم الجائر الذي أصدره عليهن في قصصه، ولا يصح كذلك أن نتصور رجال الدين من الرهبان والقاسية غارقين في الفجور كما أرادهم أن يكونوا، ومع ذلك فلا يعني أننا ننفي نفياً باتاً عن المجتمع في عصره بعض الصور المخجلة التي صور فيها الرهبان والنساء. . . لقد كان فناناً لا يشق له غبار في (الكوميديا)، وتربة صالحة من هذا النوع تنمو فيها بذور التهكم والمجون والعبث.
ويجدر بنا أن نشك كثيراً في صحة هذه القصص. إن الرذائل تثير عادة ضجة أكثر من الفضائل، ورجال الدين في القرن الرابع عشر في إيطاليا كانوا يمدون أنحاء الكرة الأرضية بالمبشرين الذين تلهبهم الحماسة والعقيدة لنشر دينهم بين الشعوب، وإيطالياً نفسها كانت المكان الوحيد الذي اشتهر بالقديسين، فلا يعقل - والحالة هذه - أن يسوء يلوك رجال الدين إلى هذا الحد دون أن يكون له رد فعل سيئ على الكنيسة في إيطاليا وخارجها. ولكن هذا لا يمنع من وجود طبقة غير نقية السمعة اختلطت برجال الدين فشوهت سمعتها لأنه لم يسبق لأحد أن يشك في أخلاق الناس في القرن الثالث عشر بسبب جحيم دانتي، وتماشياً مع ذلك، لا يجوز أن نحكم على أخلاق الناس في القرن الرابع عشر بسبب قصص ديكامرون.
إن هذا الكتاب والكوميديا الإلهية يعبران تعبيراً صادقاً بحكم ما فيهما من قوة وحيوية ونشاط عن العصر الذي ولدا فيه، وعلى ما كان عليه ذلك العصر من حركة ووعي.
إن انتشار دي كامرون وحماس الناس له، لم يحولا دون النقد الشديد الذي وجه إليه في ذلك الزمان، ونجد دليلا على ذلك في مقدمة اليوم الرابع وفي نهاية الكتاب. لقد قاومته الكنيسة(844/25)
مقاومة عنيفة، لكن سلطانه غلب سلطانها، فكان ينتشر في أوربا وإنجلترا، كما تنتشر النار في الهشيم. ويعتبر في نظر النقد أعظم أثر نثري كتب في اللسان التسكاني، وأسلوبه غاية في الجمال وغاية في التعقيد. . . ولكن من يستطيع أن يهاجمه؟ لقد مكن لنفسه في عصور التاريخ في نفوس البشر، لأنه صرخة مدوية من أعماق الإنسانية على ممر العصور!
إن مخطوطات الكتاب الأصلية قد نفذت، وإن أقدم مخطوطاته تلك التي كتبها فرنسسكو مانيلي في سنة 1368. والنسخة الخطية المحفوظة في برلين باسم هملتن هي المعتمد عليها.
لقد أعيد طبع هذا الكتاب عشر مرات في القرن الخامس عشر وسبعة وسبعين طبعة في القرن في القرن السادس عشر، ولم ينشأ أديب في إيطاليا إلا وتتلمذ على هذا الكتاب في عصور أدب هذه اللغة. . .
أما نصيبه من الذيوع خارج إيطاليا فكان عظيماً جداً، فقد تتلمذ عليه موليير ولافونتين وهانس ساكس ولوب دي فيجا. أما في إنجلترا، فقد نقل عنه كثير من الأدباء والشعراء، وكان الموحى الذي استوحوا منه أدبهم الخالد، منهم تشوسر وسدني وشكسبير ودريدن وكيتس وتتسون، الأمر الذي يظهر مقدار ما تدين به إنجلترا لبوكاشيو!
إن أدب اللغة الإنكليزية لا يعرف كتاباً نثرياً أصيلا، ويرجع ذلك إلى أن التوراة قد أصبحت جزءاً من الأدب المنثور في هذه اللغة، ولكن (إشام) يقول: (إن كثيراً من قصص ديكامرون كانت تنتشر بين الناس أكثر من قصص التوراة نفسها).
لقد ظهرت كثير من قصص ديكامرون مترجمة إلى الإنجليزية في القرن السادس عشر. وفي عام 1620 ظهرت الترجمة الكاملة لهذا الكتاب منقولة عن اللغة الفرنسية ترجمة أنطيون لاماكون، لكنها لم تكن دقيقة كما يجب، وقد قام الناشر إسحاق جكارد بطبع هذه الترجمة في مجلدين، ولم تكن تحمل اسم المترجم، وأعيد طبع هذه الترجمة خمس مرات في القرن السابع عشر.
ولم تظهر الترجمة الدقيقة الوافية لهذا الكتاب إلا عام 1886، فقد نقلها المستر جون بن لجمعية فلون.
أما الترجمة التي تتداولها الأيدي وانتشرت في الأسواق، فقد قام بها المستر (ج. م. رج)،(844/26)
وهي دقيقة، ولعلها أقرب الترجمات إلى روح هذا الكتاب القيم.
(بغداد)
ماهرة النقشبندي(844/27)
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة
توفي سنة 161هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 6 -
وأبو دلامة - مرحه وهزله - كان يلتزم مع المهدي الجد، فيسري عنه بغير الدعابة إذا وجد الموقف يستدعي الوقار: وما ذاك من هذا الظريف إلا دليل جديد على حسن تفهمه لنفسية الخليفة ومهارته في استخدام الأساليب المرضية له حسب الظروف والمناسبات:
كان المهدي رجل من بني مروان، فدخل إليه وسلم عليه. فأتى المهدي بعلج فأمر المروانيَّ بضرب عنقه، فأخذ السيف وقام فضربه فنبا السيف عنه، فرمى به المروانيَّ وقال: لو كان من سيوفنا ما نبا. فسمع المهدي الكلام فغاظه حتى تغير لونه وبان فيه. فقام بقطين فأخذ السيف وحسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه سيوف الطاعة لا تعمل إلا في أيدي الأولياء، ولا تعمل في أيدي أهل المعصية. ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، قد حضرني بيتان أفأقولهما؟ قال: قل. فأنشده.
أيهذا الإمام سيفك ماض ... وبكف الولي غير كهام
فإذا ما نبا بكف علمنا ... أنها كف مبغض للإمام
فسرى عن المهدي وقام من مجلسه، وأمر حجابه بقتل المرواني فقتل.
وهذه المواقف التي كان يقفها أبو دلامة جاداً على هزله، وقوراً على مرحه، حببت تصرفاته إلى المهدي فرضى عنه ود لله مثل أبيه أو أكثر: فإذا كان المنصور قد أعفاه من صلاة الجماعة بالقصر ومن لبس السواد والقلانس دون الناس وأخرجه من حبس الدجاج رغم سكره - فإن الخليفة المهدي عجل جائزة كان قد أمر له بها حين كتب إليه رقعته يشكو فيها أذى الحر والصوم، وهي:
أدعوك بالرحم التي هي جمعت ... في القرب بين قريبنا والأبعد
ألا سمعت، وأنت أكرم من مشى ... من منشد يرجو جزاء المنشد(844/28)
جاء الصيام فصمته متعبداً ... أرجو رجاء الصائم المتعبد
ولقيت من أمر الصيام وحره ... أمرين قيسا بالعذاب المؤصد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما يناطحني الحصا في المسجد
فامنن بتسريحي بمطلك بالذي ... أسلفتنيه من البلاء المرصد
فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: يا عاض كذا من أمه أي قرابة بيني وبينك؟ قال: رحم آدم حواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين؟ فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما. وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه.
فنفهم من القصة أنه لولا شديد عطف المهدي على أبي دلامة لما أحسن جزاءه رغم شكواه من الصوم، ونفهم منها أن أبا دلامة كان رقيق الدين، فهو يلقي من أمر الصيام وحره أمرين لا يعيشهما إلا بالعذاب المطبق، وهو يتضجر من كثرة ما سجد حتى ليدعي أن جبهته قد شجت مما يؤثر فيها من الحصى المنتثر في أرض المسجد: وما كان ليعترف بهذا مظهراً ضجره وملاله لولا رقة دينه، وضعف يقينه.
وكيف لا يكون رقيق الدين ضعيف اليقين وهو مدمن على شرب الخمر لا يكاد يصل إلى شيء من المال حتى يسكر به. وكثيراً ما كان يعطي المال ليقوم بفريضة دينية يستغفر بها من ماضيه، ويصلح بها حاضره، فلا ينثره إلا في المعصية التي أحاطت به ورانت على قلبه واستحوزت على فؤاده!
عزم موسى بن داود علي الهاشمي على الحج. فقال لأبي دلامة: أحجج معي ولك عشرة آلاف درهم. فقال هاتها؛ فدفعت إليه، فأخذها وهرب إلى السواد فجعل ينفقها هناك ويشرب بها الخمر. فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشى فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية أخرى وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده وطرحه في محمل بين يديه ففعل ذلك به. فلما سار غير بعيد أقبل على موسى وناداه:
يا أيها الناس قولوا أجمعون معاً ... صلى الإله على موسى بن داود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا لك أثوابه السود
إني أعوذ بداود وأعظمه ... من أن أكلف حجاً يا ابن داود
خبرت أن طريق الحج معطشة ... من الشراب وما شربي بتصريد(844/29)
والله ما في من أجر فتطلبه ... ولا الثناء على ديني بمحمود
فقال موسى: ألقوه لعنه الله عن المحمل ودعوه ينصرف، فألقى وعاد إلى قصفه بالسواد، حتى نفذت العشرة آلاف درهم.
ولاريب أن أبا دلامة لم يكذب في وصف نفسه، فما فيه أجر فيطلبه أحد، وليس الثناء على دينه بمحمود، فعلام يكلف بالحج وسواه من الفروض؟
لذلك قال صاحب الأغاني في وصفه: (كان فاسد الدين، رديء المذهب، مرتكباً للمحارم، مضيعاً للفروض، مجاهراً بذلك. وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محله).
وهو - لفساد دينه - لم يكن يكتفي بشرب الخمر والعربدة، وإنما كان يقضي أكثر أوقاته في أسواق النخاسين الذين يبيعون الرقيق، ليستمتع برؤية الجواري الحسان. وكان كثير الزيارة للجنيد النخاس، إذ كان يتعشق جارية له ويغضبه، فجاءه يوماً فقال: أخرج لي فلانة. فقال: إلى متى تخرج إليك ولست بمشتر؟! قال: فإن لم أكن مشترياً فإني أخ يمدح ويطري. قال: ما أنا بمخرجها إليك أو تقول فيها شعراً. قال: فاحلف بعتقها أن ترويها إيان وتأمرها بإنشاده من أتاك يعترضها ولا تحجبها. فحلف لا يحجبها. فقال أبو دلامة:
إني لأحسب أن سأمسي ميتاً ... أو سوف أصبح ثم لا أمسي
من حب جارية الجنيد وبغضه ... وكلاهما قاض على نفسي
فكلامهما يشفي به سقمي ... فإذا تكلم عاد لي نكسي
فما قولك بهذا الشيخ الذي لم يمنعه العجز والكبر من خروج الجواري الحسان إليه ليملأ عينيه من جمالهن الجذاب، وسحرهن الخلاب؟
وإنك لترى صورة من أخلاق أبى دلامة في مسلكه مع الناس ومعاملته لهم - ولا سيما العاديين منهم - فهو يقسم كاذباً، وهو يلفق الأحلام، وهو يبالي بأية وسيلة يصل إلى مبتغاه: مر أبو دلامة بتمار (بالكوفة) فقال له:
رأيتك أطعمتني في المنام ... قواصر من تمرك البارحة
فأم العيال وصييانها ... إلى الباب أعينهم طامحه!
فأعطاه جلتي تمر وقال له: إن رأيت هذه الرؤيا ثانية لم يصح تفسيرها. فأخذهما(844/30)
وانصرف.
وللتمار الحق في ألا يصدق منامه مرة ثانية، فإنه مستعد للتحلم وتلفيق الرؤى في كل يوم ما دام يأخذ جلات التمر وقواصره، ومستعد للكذب أمام كل مخلوق ما دام ينتظر من ورائه منفعة، لأنه كان نفعياً بكل ما في الكلمة من معنى، ولم يكن يخجل من التماس المنفعة والعمد إليها حتى مع الذين لا ينتظرون أن يخدعهم ولو خدع الناس جميعاً.
دخل أبو دلامة على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضاً شديداً، ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفاً، وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوى بدنه، فقال أبو دلامة للطبيب: يا ابن الكافرة! أتصف الأدوية لرجل أضعفه المرض! ما أردت والله إلا قتله. ثم التفت إلى إسحاق فقال: أسمع أيها الأمير مني. قال: هات ما عندك يا أبا دلامة. فأنشأ يقول:
تنح عنك الطبيب وأسمع لعنتي ... إنني ناصح من النصاح
ذو تجاريب قد تقلبت في الصنعة دهراً وفي السقام المتاح
غاد هذا الكباب كل صباح ... من متون الفتية السحاح
فإذا ما عطشت فأشرب ثلاثاً ... من عتيق في الشم كالتفاح
ثم عند المساء فاعكف على ذا ... وعلى ذا بأعظم الأقداح
فتقوى ذا الضعف منك وتلغى ... عن ليال أصح هذي الصحاح
ذا شفاء ودع مقالة هذا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونسكت عن الشطر الثاني من البيت الأخير لأن فيه ألفاظاً ينبو عنها الذوق، وننزه عنها القلم. لكنها - على كل حال - أضحكت إسحاق وعواده فأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم. وكان الطبيب نصرانياً فقال: أعوذ بالله من شرك ياركل (يريد يا رجل) ثم قال الطبيب لإسحاق: إقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شئ قدامه. فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي، فأنعت له الآن أنت ما أحببت.
فهل من النصيحة أن يدعو المريض إلى مجانبة الطبيب وأكل الكباب والعكوف على شرب الخمر وهو ما زال ضعيفاً يطلب أن يتقوى، أم رغبة أبي دلامة في إضحاك إسحاق وعواده هي التي حملته على هذا النعت العجيب، ليصل إلى شئ من النفع القريب؟(844/31)
ولكن لا تنس أن الناصح ظريف، وبمثل هذا ينصح الظرفاء!
(النهاية في العدد القادم)
صبحي إبراهيم الصالح(844/32)
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم
للآنسة فدوي عبد الفتاح طوقان
يا وطني، مالك يُخني على ... روحك معنى الموت، معنى العدم
أمضَّك الجرح الذي خانه ... أساته في المأزق المحتدم!؟
جرحك، ما أعمق أغواره ... كم يتنزَّى تحت ناب الألم
أين الألى استصرختهم ضارعاً ... تحسبهم ذَراك والمعتصم
ما بالهم قد حال من دونهم ... ودون مأساتك حسٌّ أصم
قلبت فيهم طرفَ مستنجد ... فعزك المندفع المقتحم
وأخجلتا، حتام أهواؤهم ... تغرقهم في لجها الملتطم!
همُ الأنانيون. . . قد أغلقوا ... قلوبهم دون البلاء الملم
لا روح يستنهض من عزمهم ... لا نخوة تحفزهم، لا همم
أحنوا رقاب الذل، يا ضعفهم ... واستلموا للقادر المحتكم
يا هذه الأقدار لا ترحمي ... فرائسَ الضعف، بقايا الرمم
بالمعول المحمول أهوى على ... تلك الجذوع الناخرات الحطم
كوني أتيَّا عارماً واجرفي ... كلَّ ضعيف الروح واهي القدم
كوني كما شئت، لظى يغتلي ... أو عاصفاً يقذف حمر الحمم
واكتسحي أنقاض هذا الحمى ... من كل ركن خائر، منهدم
اكتسحيها وانفضي أمتى ... مما علاها من رماد القدم
ستنجلي الغمرة يا موطني ... وبمسح الفجر غواشي الظلم
والأمل الظامئ مهما ذوى ... لسوف يروي بلهيب ودم
فالجوهر الكامن في أمتي ... ما يأتلى يحمل معنى الضرم
هو الشباب الحر ذخر الحمى ... اليقظ المستوفز المنتقم
غلوا جناحيه وقالوا انطلق ... وشارف الأفق وجز بالقمم
واستنهضوه لاقتحام اللظى. . ... والقيد، يا للقيد! يدمي القدم
لكن للثأر غداً هبَّةً ... جارفة الهول، عصوفاً عمم(844/33)
فالضربة الصمَّاء قد ألهبت ... في كل حر جذوة تضطرم
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم ... وفي دم الأحرار تغلي النقم!
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(844/34)
رسالة العلم
الوقت
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
يقابلك زيد من الناس في الطريق، ويسألك عن الوقت. فتنظر إلى ساعتك لتجيب قائلاً: (إنها الثالثة بعد الظهر). ولكنه يهز رأسه ويقول إنما يقصد بسؤاله تعريف الوقت. فتتولاك الحيرة ولا تجيب. ثم تسير وأنت تتساءل: ما هو الوقت؟ وتذهب وتبحث في الكتب والمعاجم فتخبرك بأن الوقت: هو الذي تتميز به الحوادث بالدلالة إلى (ما قبل) أو (ما بعد) أو (البداية) أو (النهاية) فلا يساعدك هذا التعريف في شئ. وتذهب إلى صديقك العالم لتسأله عن معنى الوقت، فيفكر ملياً قبل أن يقول لك (إنه الفترة التي بين حادث وآخر) فتزداد حيرتك. فيبتسم صديقك ويخبرك أنه لا يوجد حتى الآن تعريف صريح للوقت. ولكن أقرب تعريف إليه هو الذي أخبرك به.
والوقت في الواقع أحد الأشياء التي لا نستطيع تعريفها تعريفاً صريحاً كالحياة والموت والكهرباء وما إلى ذلك من تلك التي لا ندركها إلا عن طريق تأثيرها علينا.
وقد يقول قائل إنما الوقت هو حركة عقربي الساعة. ولكنه قول غير صحيح. فإن هذه الحركة هي أسهل طريق لمعرفة مسار الوقت؛ فالساعة لا تساعدنا على الدلالة على مقدار الوقت الذي مرّ منذ أن وقع حادث من أمد طويل. إنها لا تصنع الوقت، بل كل ما تعمله أن تسجل لنا الوقت في الحاضر.
والشمس أكبر حارس للوقت في العالم، ولو أنها لا تخلو من أخطاء طفيفة. فطوال النهار في منطقة خط الاستواء يعادل طول الليل خلال سنة، أما في القطبين فهناك ستة أشهر من النهار تعقبها ستة أشهر من الليل، بينما تختلف أوقات شروق الشمس وغروبها في المناطق الوسطى باختلاف الفصول.
والأرض تدور حول محورها في 24 ساعة. والفترة التي تمر بانتهاء دورة كاملة تسمى باليوم. ثم أن الأرض ترحل حول الشمس فيما يقرب من 365 يوماً، وهذا ما نسميه بالعام. هذا هو التقسيم الطبيعي للوقت. بيد أننا - للسهولة - نقسم كلا من اليوم والسنة إلى فترات صغيرة. فاليوم يقسم إلى ساعات ودقائق وثوان، والسنة إلى شهور وأسابيع.(844/35)
والناس يقيسون الوقت عن طريق الشمس. فعندما نقول إنها الساعة السادسة مساء نعني أنه مرت ست ساعات منذ أن وصلت الشمس إلى أعلى نقطة في السماء، وتسمى نقطة السمت، أو الظهر. واليوم هو الفترة التي انقضت منذ ظهور الشمس في السمت وظهورها مرة أخرى.
وهناك دورتان للأرض: دورة بالنسبة إلى نجم معلوم، وتستغرق مدتها 23 ساعة و56 دقيقة؛ ودورة بالنسبة إلى الشمس وطولها حوالي 24 ساعة. والدورة الأولى تسمى اليوم النجمي، والدورة الثانية تسمى اليوم الشمسي. واليوم النجمي لا يهم سوى الفلكيين. أما اليوم الشمسي فنظراً لأنه يمثل حالة الأرض بالنسبة إلى الشمس فأنه أهم عندنا من اليوم النجمي. على أنه لا ينطبق تماماً على دورة الكرة الأرضية حول محورها. وبينما تدور الأرض حول محورها، تدور في الوقت نفسه من حول الشمس. والوقت الذي يمر لدورة كاملة يسمى بالسنة الشمسية، وهو الذي نشير إليه عندما نتحدث عن (سِنة). وهذا هو العام الذي نحاول أن ندونه في نتائجنا الزمنية. وطوله على وجه الدقة 2422 و365 يوماً، أو 365 يوماً و5 ساعات و28 دقيقة و51 و45 ثانية.
وكان الناس من قديم الأزل يستعملون القمر في قياس الوقت. والشعوب الإسلامية تدون نتائجها الزمنية بالشهور القمرية والسنة القمرية تتكون من 12 شهراً قمرياً، يحتوي كل شهر منها على 30 أو 29 يوماً على التتابع.
وكانت سنة قدماء المصريين تتكون من 12، كل شهر منها يحتوي على 30 يوماً. وكان يضاف إلى كل سنة خمسة أيام، فيفقدون بهذه الطريقة يوماً كاملاً كل أربع سنوات مما يسبب اختلاف في مواعيد الفصول بمرور الوقت.
وقد حاول الناس منذ آلاف السنين ضبط نتائجهم الزمنية حتى تنتظم مواعيد الفصول سنة بعد أخرى.
كان الرومان يقسمون السنة إلى عشرة أشهر. وكانت الشهور السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة تسمى على التعاقب سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر، ومنها اشتققنا حالياً أسماء الشهور الأربعة الأخيرة ولو أنها تعد في نتائجها الزمنية الشهور التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. ثم أضيف بعد ذلك شهران: يناير وفبراير.(844/36)
ولما كان متوسط الشهري القمري 12 29 يوماً، فقد أدى ذلك
إلى أن تكون السنة 12 شهراً قمرياً أي 354 يوماً.
وتشاءم الناس من كون هذا العدد زوجياً، فأضافوا إليه يوماً منعا للتشاؤم وأصبحت السنة 355 يوماً. ومع ذلك كانت تنقص السنة عشرة أيام مما أدى إلى اختلاف في مواعيد الفصول، ولذلك أضاف الرومان شهرا إضافياً سموه مرمسيدرنياس. ولكنهم لم يقرروا عدد أيامه، بل تركوا ذلك للكهنة فاستعملوه للاستفادة بتحديد أيامه حسب أغراضهم، حتى يستطيع أصدقاؤهم المطالبة بديونهم في وقت أقل من ميعاد استحقاق دفع الديون، أو مد أجل الدين في حالة استدانتهم.
وفي عام 46 قبل الميلاد استنبط يوليوس قيصر نتيجة زمنية سميت النتيجة الجوليانية. وجعل الشهور الفردية 31 يوماً، والشهور الزوجية 30 يوماً، ما عدا شهر فبراير فقد جعله 29 يوماً فإذا مرت أربع سنوات صار 30 يوماً.
وهكذا جعل عدد أيام السنة 14 365 يوماً، أي أطول من
السنة الحقيقية بمقدار ما يقرب من 23 دقيقة.
ثم جاء أغسطس فأخذ يوماً من فبراير وأضافه إلى شهر أغسطس بعد أن سمي بأسمه (وكان يدعي قبل ذلك سكستليس - أي الشهر السادس، كما أن الشهر الخامس (كوينتيلس) سمي بأسم يوليو بالنسبة إلى يوليوس قيصر عم أغسطس). ولكي يتجنب أن تكون الثلاثة أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر ذات أيام عددها 31 يوماً - منعاً للتشاؤم - أخذ يوماً من شهر سبتمبر وأضافه إلى أكتوبر، ويوماً من شهر نوفمبر وأضافه إلى ديسمبر. وهذه هي النتيجة المتبعة حالياً، إلا أنه في السنوات البسيطة أي التي لا يقبل عددها القسمة على 4 يكون شهر فبراير 28 يوماً، وفي السنوات الكبيسة أي التي يقبل عددها القسمة على 4 يكون شهر فبراير 29 يوماً.
وانتشرت هذه النتيجة في أنحاء أوربا. ومع ذلك كان الخطأ البسيط بينها وبين السنة الحقيقية وهو لا يتعدى 0 , 0078 من اليوم، يتراكم بمرور الزمن ويصير عدداً من الأيام.
وفي عام 1582 استنبط البابايوس الثالث عشر (جريجورى) نتيجة زمنية سميت النتيجة(844/37)
الجريجورية. فصحح خطأ الأيام العشر بأن دعا اليوم الذي يلي اليوم الرابع من أكتوبر، اليوم الخامس عشر من نفس الشهر. وجعل سني القرون التي تقبل القسمة على 400 سنين كبيسة. فالسنوات 1600و2000و2400 تعد سنوات كبيسة، أما السنوات 1700و1800و1900و2100 تعد سنوات بسيطة. وبذلك جعل السنة الصحيحة تقريباً. وفي الواقع، تعد النتيجة الجريجورية من الدقة حتى أنه يجب أن تمر 4000 سنة قبل أن يتراكم الخطأ ويصير يوماً واحداً.
وطريقة يوليوس قيصر تدعى الطريقة القديمة، أما الطريقة الجريجورية فتدعى الطريقة الحديثة، وأحياناً ما يؤرخ المؤرخون حادثاً ما بالطريقتين معاً.
ويعد العلماء الصفر القياسي للوقت، اللحظة التي تعبر فيها السمت في مكان ما. وقد اختارت إنجلترا بلدة جرينتس مكاناً لقياس الصفر الزمني، واعترفت به جميع البلاد الأخرى؛ ثم استنبط الفلكيون صفر القياس الزمني، أي بدء اليوم، من منتصف الليل، ومع ذلك لم تعمل به إنجلترا بل ظلت تقيس الصفر الزمني من الظهر.
وتسبق أوقات أوربا الوسطى وقت جرينتش بساعة واحدة. ثم يزيد الفرق عن ذلك كلما بعدت البلدان عن جرينتش.
محمد فتحي عبد الوهاب(844/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
كلمات عن الإذاعة موجهة إلى الوزير المسئول:
نقلت الصحف أن معالي الدكتور محمد هاشم وزير الدولة سيخص محطة الإذاعة المصرية بجزء من وقته وجهده، عسى أن تفلح العناية والرعاية في تخفيف شيء من سخط الجمهور المستمع في كل مكان. . . هذا الخبر إذا تخطى مرحلة التصديق إلى التحقيق كان حرياً أن يبعث في النفوس اليائسة من إصلاح الأمور في الإذاعة، أملاً كبيراً مبعثه الإيمان الصادق بأن الشباب في أكثر خطواته. . . عمل وأمل!
أعرف وزير الدولة الشاب منذ تسع سنوات على التحديد؛ أعرفه معرفة هيأتها قاعة المحاضرات في كلية الآداب، يوم كنا نجلس متجاورين لنستمع إلى محاضرات الدكتور طه حسين بك عن الأدب المصري الحديث. . . ولو علم القراء مبلغ عشق الوزير الشاب للأدب ومدى تعلقه به لبدا لهم الأمر عادياً لا غرابة فيه، فيما لو قدر لهم أن يروا الدكتور هاشم المدرس بكلية الحقوق في ذلك الحين وهو يترك محاضراته ليأخذ مجلسه بين الطلبة في كلية الآداب! كنت أدخل إلى قاعة المحاضرات فأرى الدكتور هاشم وقد سبق الطلاب إلى التبكير بالحضور، حتى لقد كان في الكثير الغالب من الأحيان أول (طالب) يلقي على القاعة تحية الصباح. وآخذ مكاني إلى جانبه دون أن أعرف شيئاً عن هذا الذي أجاوره؛ فكثيراً ما كان يقع في الظن أنه زائر غريب أقبل من خارج الجامعة ليستمع إلى الدكتور طه حسين، شأن أولئك الزائرين الغرباء الذين كانوا يسعون إلى محاضراته ليروه رأي العين والفكر في وقت معاً!
ولكن هذا الزائر الغريب كان يثير اهتمامي بشخصية، تلك الشخصية التي كنت ألمح في سماتها مظهر العلماء. . . جلسة هادئة متزنة فيها الكثير من الوقار، ونظرة نفاذة ساهمة تزن حقيقة المحاضر على ضوء كلماته، وأذن مصيخة واعية تحتشد للحديث لتلتقط كل ما يقال، ووجهة مشرق القسمات يعبر عن إمتلاه النفس والعقل والشعور. . . هذا كله دفعني يوماً إلى أسأله عن أسمه شغفاً بمعرفته، ولشد ما راعني أن أعرف أنه الدكتور محمد هاشم المدرس بكلية الحقوق. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحمل له في نفسي كثيراً من معاني الإكبار(844/39)
والإعجاب!
واليوم، وبعد تسع سنوات من اللقاء الأول في قاعة المحاضرات بكلية الآداب يصبح الدكتور هاشم وزيراً للدولة. . أنا سعيد بأن يكون في كرسي الوزارة هذا الشاب العالم الأديب فليس من شك في أن كل عمل ينتسب إليه إنما ينتسب إلى همة الشباب، ويصطبغ بصبغة الخلق، ويطبع بطابع الآفاق الرحيبة التي تحلق فيها أجنحة ممتازة من الثقافة والعلم والأدب. . . ولهذا أود أن أخاطب فيه كل تلك الصفحات مجتمعة، حين أسوق إليه بعض الحقائق عن الإذاعة المصرية وهو أهبة النهوض بها من وضع كما يقال.
يعلم وزير الدولة أن الإذاعة في كل أمة من الأمم ما هي إلا وسيلة من وسائل الترفيه والتثقيف والإصلاح. . . الترفيه عن طريق تغذية النفوس بالتسلية الرفيعة التي تهدف إلى مثل عليا وغايات، والتثقيف عن طريق إمداد العقول بكل مفيد في ميدان الآداب والعلوم والفنون، والإصلاح عن طريق تنوير الأذهان بعرض كل مشكلة في نطاق صلة الفرد بالمجتمع الذي يعيش فيه ولن يتحقق هذا كله إلا إذا تحقق التوفيق في الاختيار. . . اختيار المشرفين على أقسام الإذاعة، واختيار المشتركين في برامج الإذاعة ثم أولئك الذين يوجهون دفة الأمور في كل شأن من الشئون.
المراقب العام للإذاعة يجب أن يكون من صفوة المثقفين، وكذلك المشرفون على الأقسام والمشتركون في البرامج؛ ولست أطالب هنا بأن يكون هؤلاء السادة من حملة الإجازات العلمية كالدكتوراه والماجستير، كلا فليست العبرة بما يحمل الإنسان في يده من شهادات ولكن بما يحمل في رأسه من ثقافات. هؤلاء جميعاً هم المسئولون عن سخط الجمهور وتذمره وضيقه بما يسمع في الصباح والمساء: محاضرات دينية يقف الجهد فيها عند سطحية السرد وسذاجة العرض، فهي أشبه بتلك القصص التي تلقى على الأطفال، ومحاضرات أدبية تخلو من عمق الفكرة وإشراق اللمحة فهي ترديد وتقليد، ومحاضرات سياسية وعلمية واجتماعية تنقل نقلا عن الصحف، فإذا قرأت هذه أمكنك أن تستغني عن سماع تلك! وتمثيليات تافه مسفة قصد بها إلى ملء الفراغ الذي تحسه البرامج لا الفراغ الذي تحسه الأذهان، وعناء مريض يدغدغ الغرائز ويرضى هواة الانحلال ممن يعانون مركب النقص في صفات الخلق والرجولة، ومقرئون يسيئون إلى روعة الترتيل بأصواتهم(844/40)
المنفرة التي يقع عليها اختيار الآذان الصم والأذواق الفاسدة!
وأعجب العجب أن الأسماء التي تطالعك اليوم من وراء المذياع هي الأسماء التي طالعتك بالأمس القريب والأمس البعيد، وستطالعك في الغد القريب والغد البعيد، أتدري لماذا؟ لأنها أسماء فرضت فرضاً وكأنها ضريبة يدفعها الجمهور المستمع من وقته الضائع وأعصابه المرهقة! وإذا رجعت إلى بعض دعاة الإصلاح في الإذاعة قالوا لك: لقد حاولنا فضاع الجهد وتبدد الأمل وذهب التوجيه مع الريح. . . إذا رغبنا في هذا (الفلان) رغب غيرنا في ذاك، وإذا رأينا الرأي هنا صدر الأمر بإلغائه من هناك! أسماء مفروضة ولو شكت رءوس أصحابها من أزمة الخواء، وأسماء مرفوضة ولو ناءت رؤوس أصحابها بنعمة الامتلاء، وهذا هو مصدر الداء الذي يجب أن يعالج ليستقيم كل معوج من الأمور وكل منحرف من الأوضاع!
إذا أراد الدكتور هاشم أن ينهض بالإذاعة فليس أمامه إلا أن يعيد النظر في تلك الفئة من المشرفين على الإذاعة، فإذا خطر له أن يبقى كلا منهم في مكانه فلا بأس من تكوين لجنة من العقول الممتازة في ميدان الأدب والعلم والفن، تكون مهمتها الإشراف على هؤلاء المشرفين حتى لا يخطوا خطوة يمليها الهوى والغرض أو يميلها الجهل الأصيل بقواعد الذوق السليم. . . وعليه بعد ذلك أن يراجع تلك الجهات التي تصدر أمرها وتفرض رأيها على الإذاعة في مسألة تلك الأسماء المعروفة التي ملتها النفوس ومجتها الأسماع، فإذا حقق تلك الغاية فلا بأس مرة أخرى من تكوين بضع لجان تقوم بتنظيم البرامج في كل قسم من الأقسام، وانتهاج خطة دائمة يسير عليها العمل وتجنبه الركود والجمود، ولها أن تختار من يصلحون للإذاعة من الأدباء والعلماء والفنانين على ضوء الكفاية الشخصية لا الكفاية الحزبية!
هذا هو الطريق. . . ونحن في انتظار الخطوة التالية لوزير الدولة ووزير الشباب، وعهدنا بالشباب دائماً إذا اهتدى بنور العلم ونور الخلق أن يتخطى السدود ويحطم القيود!!
جائزة أدبية والمقال مسروق من (وحي الرسالة):
جريدة (بيروت المساء) اللبنانية جريدة عزيزة على نفسي حبيبة إلى قلبي. . . عزيزة وحبيبة لأنها من لبنان، ولأن محررها الفاضل الأستاذ عبد الله المشنوق صديق كريم، وما(844/41)
أكثر أصدقاء القلب والروح في لبنان الشقيق.
ولست أدري ما هو رأي الصديق الكريم في هذه القضية التي يشترك فيها بنصيب. . . ولعله قد جهر بهذا الرأي على صفحات (بيروت المساء)، ثم لم يقدر لي أن أطلع عليه، لأن الجريدة العزيزة الحبيبة قد انقطعت عن الوصول إليَّ منذ أمد بعيد، انقطعت على الرغم من وعود الأستاذ سهيل إدريس بأن (بيروت المساء) و (الصياد) في طريقها إليَّ من أسبوع إلى أسبوع. . . وها هو شهر قد مضى وأعقبته شهور ولم أر وجه الصحيفتين الحبيبتين، ولا أدري. . . أأعتب على الصديق سهيل إدريس، أم أعتب على الصديقين عبد الله المشنوق وسعيد فريحه؟!
مهما يكن من شيء، فحسبنا أننا نستروح أنسام لبنان ونتسقط أخباره من مصادر أخرى تحمل إلينا مما نريد قليلاً من كثير. . . هذه جريدة (صدى الأحوال) اللبنانية تطالعنا في عددها الصادر يوم السبت 6 آب بمقال افتتاحي أشارت فيه إلى سرقة أدبية وقعت بين جدران كلية المقاصد الإسلامية ببيروت، أما تلك السرقة، فمن كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الكبير الزيات، وأما الذي أقدم عليها في رابعة النهار فهو طالب جرئ من طلاب كلية المقاصد لم يجد حرجاً في السطو على أدب الأستاذ الزيات من جهة، وعلى مال الأستاذ محي الدين النصولي من جهة أخرى!
هذه القصة الغربية أشارت إليها (صدى الأحوال) بهذه
الكلمات: (نشرت جريدة بيروت المساء بعددها الصادر في
3051949 مقالاً بعنوان (مقارنة خلقية بين بريطانيا وفرنسا)
مهد له قلم التحرير بهذه المقدمة: منذ أثنين وعشرين عاماً
والزميل الكبير الأستاذ محي الدين النصولي يقدم بانتظام
جائزة مالية سنوية توزع على الفائزين من طلاب كلية
المقاصد الإسلامية في مباراة خطابية إنشائية. وقد امتازت(844/42)
مباراة هذا العام بالمستوى الرفيع الذي بلغه المتبارون في
ناحيتي الكتابة والخطابة، وكان المحكمون الأساتذة: حسن
فروخ، وموسى سليمان، والدكتور جميل عانوتي موفقين في
أحكامهم. ويبدو في الصورة المحكمون الثلاثة وخلفهم الطلاب
الفائزون الثلاثة، ونحن إذ نشكر الأستاذ النصولي على
الأريحية العتيقة (عمرها 22 سنة) يسرنا أن ننشر فيما يلي
الخطاب الذي كتبه وألقاه الشاب الأديب السيد ظافر تميم الفائز
بالجائزة الثانية وعنوانه (مقارنة خلقية بين بريطانيا وفرنسا).
. .).
بعد هذا يعقب الأستاذ يوسف أبو عبد الله محرر (صدى الأحوال) قائلا: (إن المقال الذي فاز بتلك الجائزة منقول نقلاً أميناً عن مقال لأحد مشاهير الكتاب وهو الأستاذ الزيات تحت عنوان (إنجلترا هي المثل) في الجزء الثاني من (وحي الرسالة)، منقول بنصه وفصه، فلا تحريف ولا تأويل ولا استيحاء ولا اقتباس!. . . ولقد عدت إلى نفسي متسائلا: كيف جازت هذه السرقة على لجنة من المحكمين الجهابذة! وكيف لم يفطن لها الأستاذ الكبير عبد الله المشنوق، بل كيف لم يتمكن أحد من كبار الأدباء ممن يساهمون في تحرير الزميلة (بيروت المساء) من معرفة ذلك؟!. . لقد ذهب قسم من الجائزة إلى من لا يستحقها، إلى مختلس جازت حليته على المحكمين! إنني أقترح على الأستاذ النصولي أن يبدي رأيه في الموضوع وفيما عساه أن يفعل بالجائزة التي تمكن منها من هو غير أهل لها، وفيما إذا كان مستعداً للتعويض على من يجيئ بعده من المتبارين، ومكافأة الفتى زهير لاوند مكتشف السرقة الأدبية. . . أما كلمتي للجنة (الموفقة)، فهي أنها دون شك لم تكن مطلعة على الاختلاس، ولم يخامرها ريب في أن الموضوع هو من وضع الطالب، وسوى ذلك لما(844/43)
جازفت بنشره في الجريدة كأداة جرمية تدين المجرم والمتواطئين معه، فهي غير ملومة من هذا القبيل، ولها من حسن نيتها خير شفيع، إنما يمكن نعتها بالقصور وعدم الاطلاع الكافي لتكون أهلا لضبط مثل هذه المهمات البسيطة)!
هذه هي الكلمات التي عقب بها المحرر الفاضل على السرقة الجريئة، وإنك لتلمس فيها غيرة كريمة على القيم الأدبية والأوضاع الخلقية يستحق عليها كل ثناء وكل تقدير.
حول الفن والحياة مرة أخرى:
يذكر القراء تلك الرسالة التي بعثت بها إليَّ شاعرة فاضلة في العدد (839) من (الرسالة) ويذكرون أنها سألتني عن صلة الفن بالحياة وعما إذا كانت الثقافة الناضجة يكفي فيها الكتاب وحده عن كل ما عداه. . . ولقد رددت عليها في ذلك الحين بهذه الكلمات: (إن جوابي عن هذا السؤال هو أن الكتب لا يمكن أن تكفي لسبب واحد هو أن ثقافة من هذا الطراز يشوبها النقص ويعتريها القصور؛ لأنها تفقد عنصراً خطيراً هو عنصر التطبيق على الحياة! كيف تستطيعين أن تتذوقي آثار الفن وأنت بعيدة عن منابعه؟ وكيف تستطيعين أن تحكمي على نتاج القرائح وليس بين يديك قاعدة ولا ميزان؟ إن الثقافة يا آنستي ليست قراءة فحسب، ولكنها فهم وهضم وتذوق واستيعاب. . . وحياة من وراء هذا كله تعين الذهن على الإحاطة، وتسعف الحواس على التوهج، وترفع من قيم المواهب والكلمات)!
قلت هذا فعقب الدكتور طه حسين في (الأهرام) على ما قلت، وكذلك فعل الأستاذ توفيق الحكيم في (أخبار اليوم)، وذهب الأول إلى أن الإنسان يستطيع أن يكون مثقفاً عن طريق القراءة والاستماع فلا حاجة إلى الحياة، وأكد الثاني أن الكاتب يستطيع أن يخرج فناً ولو حسبته في جب وأغلقت عليه بسبعة أختام وتركته الأعوام. . . إلى آخر هذا الكلام العجيب الذي يفتقر إلى سلامة المنطق وقوة الدليل كما أثبت ذلك في حينه!
واليوم أعود إلى الموضوع بمناسبة مقال ظهر في (الرسالة) منذ أسبوعين تحت عنوان (القراءة وأصول الثقافة) للأستاذ الفاضل إيليا حليم حنا. . . في ذلك المقال أورد الأستاذ إيليا كلمات قالها (جونسن)، وهي كلمات تؤيد الواقع الذي ناديت به، وتغنى عن كل تعقيب!
يقول جونسن: (من يتصور أن الأفكار لا توجد إلا في الكتب، وأن في الكتب كل الأفكار،(844/44)
فما هو إلا واهم. . . الأفكار تجري مع الأنهار والمجاري، وتطفو على وجه البحر، وتتكسر على شواطئه، وتسكن التلال والجبال، وتسطع مع نور الشمس، وتنسدل على أجنحة الظلام. . . إن الأفكار موجودة في كل مكان وزمان)!
فإلى الكاتبين الكبيرين اللذين خالفاني فيما ناديت به. . . أهدي هذه الكلمات!!
أنور المعداوي(844/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بعثات البنات والرقص التوقيعي:
نشب الجدل أخيراً في الصحف والمجلات حول ما رآه معالي وزير المعارف مرسي بدر بك وقرره، من منع بعثات البنات إلى الخارج، وإلغاء الرقص التوقيعي في مدارس البنات، وقد انقسم الكاتبون والمعقبون إلى معارضين ومؤيدين، واتخذت بعض المجلات هذا الموضوع مجالاً للفكاهة والتندر. وقد اشتملت حملة المعارضين لمنع البعثات على مغالطات واندفاعات وجانبت القصد وجاوزت الاتزان.
لقد أفضى معالي الوزير بوجهة نظره فقال: إني لا أوافق على إيفاد بعثات بنات إلى الخارج ما عدا لندن لوجود بيت خاص للطالبات بها وتقوم بالإشراف عليهن مربية فاضلة ترعى مصالحهن وتشرف على تصرفاتهن، أما إلى أي بلد آخر فلا أسمح بذلك مطلقا. وإذا كنت أنا وزير المعارف لا أسمح بأن أرسل ابنتي إلى سويسرا أو فرنسا بمفردها دون رقيب، فلهذا لا أسمح بإرسال فتيات للخارج أنا مسئول عن سلوكهن دون أن يوجد من يشرف عليهن.
هذا كلام (رجل) يمسك الزمام ويقدر المسئولية العامة كما يقدر المسئولية الخاصة. ولا شك أن الذين يعارضون - ولندع السيدات جانباً - إنما يسترسلون في حملتهم غير شاعرين بشعور الرجل الحر المسئول عن أخواته وبناته، وإلا فكيف يتفق هذا الشعور وأن يرسل الرجل ابنته إلى بلاد كفرنسا أو سويسرا لتعيش هناك كالغزال الشارد في مجتمع يستبيح كثيراً مما نحظر؟ وإذا كنا لا نسمح للفتاة التي تأتي إلى جامعة فؤاد من غير القاهرة، أن تعيش وحدها من غير رعاية أقارب ورقابتهم لها، فكيف نرسلها إلى باريس مثلا بمفردها دون رقيب أو موجه؟ أخشى - إن فعلنا - أن تعود إلينا فتتحدث عن مغامراتها هناك كما يتحدث الفتيان. . .
وأعجب العجب أن يذكر أولئك المعارضون في هذا الصدد، التقدم والرجعية والعلم والجهل، ويبدون خجلهم مما يقوله عنا الأجانب. . . إلى آخر هذا الكلام المعروف. وليست أدرى ما الذي جرى للعلم والتقدم بهذا الإجراء الذي لا يقصد منه إلا تنظيم الخطة والحفاظ(844/46)
على الكرامة والأخلاق؟ هذه مدارس البنات وكليات الجامعة التي يتعلم فيها البنات، لا تزال قائمة تتيح للبنات من العلم والتثقيف ما تتيح للبنين، ومنع بعثاتهن إلى أوربا ليس عاماً ولا دائماً، فالبعثات إلى إنجلترا لم تقف، والمانع منها إلى سائر البلاد سيزول بتدبير مثل ما في إنجلترا من بيت ورعاية، فلا بأس على العلم، كما أنه لا بأس على التقدم إلى إن كان يراد به الإباحية والإفساد. وجدير بهؤلاء أن يخجلوا من ببغاويتهم ومن فراغ نفوسهم من الشعور بكرامة الأسرة، أكثر مما يخجلون من أي شئ آخر.
أما الرقص التوقعي فما أرى به بأساً، على أن يكون محصوراً في بيئة المدرسة بعيدا عن أنظار الرجال، فإن الناس يبعثون ببناتهم إلى المدارس ليكن في صيانتها، إنما البأس في إظهار الفتيات بالحفلات العامة ليبدين هذا الرقص التوقيعي، أو ليقيمن حتى بالألعاب الرياضية - وفيهن ناضجات الأنوثة - على نحو ما يقع في حفل الجزيرة. والبأس كل البأس في التمكين للمجلات المصورة من أخذ صور الفتيات بالمدارس في أثناء قيامهن بالألعاب الرياضية في أوضاع تظهر فيها العورات والسوءات. . .
أما الرقص التوقيعي من حيث هو رياضة موسيقية مرحة فلم يعلق به الغبار إلا من كلمة (الرقص) وهو لا يزيد على رياضة تفيد الجسم وتكسبه الجمال والرشاقة، وحركاته المتسقة مع الموسيقي تبعث السرور والسعادة في نفوس البنات فيقبلهن عليه أكثر مما يقبلن على الألعاب الرياضية الأخرى.
تسعير الأدب في الإذاعة:
وقعت إدارة الإذاعة أخيراً في مشكلة عمقها شبر. . . وإن كانت تبدو لها مغرقة. . . وذلك عندما أرادت أن تقدر أجر الأستاذ محمود أبو الوفا على ما ألقاه من شعره بالمذياع. فهي تحسب أجور الأدباء والشعراء وسائر المحدثين، الموظفين بالحكومة، على حسب درجات وظائفهم، وأبو الوفا موظف باليومية في دار الكتب المصرية، وهو مع ذلك شاعر معروف متمسك بكرامته اللائقة بمكانته الأدبية، فلن يرضى أن يوزن قدره بميزان الوظيفة.
وحدث كذلك عندما أرادت إدارة الإذاعة محاسبة الأستاذ محمود حسن إسماعيل على إذاعة شعره - أن كتب الموظف الذي طلب إليه تقدر أجره، مشيراً يعتبر الشاعر كمدرس (حرف ا) وهي رتبة جديدة اخترعها هذا الموظف. . ولولا الخوف على وزارة المعارف من(844/47)
عدوى الإذاعة لاقترحت عليها أن تضم إليها هذا المخترع الفذ لاستخدام عبقرية في تقدير المدرسين. . . وذلك كله مع العلم بأن الأستاذ محمود موظف بالإذاعة نفسها!!
ولا أدري إلى الآن كيف حل عباقرة الإذاعة تينك المعضلتين، وإن كان ذلك يجرنا إلى النظر في هذا الموضوع العجيب، موضوع تقدير الأدباء في الإذاعة على حسب درجات الوظائف، لا على القيمة الأدبية، ويخيل إلى أنها تلجأ إلى ذلك لتخلص نفسها من ورطة الحكم على هذه القيمة، وعلى هذا يمكن أن نعتبر هذه الطريقة أسلم مما كان يحتمل أن يقع، فقد يحسبون حديثاً جيداً، أو يظنون آخر رديئاً، والأمر على خلاف ما يحسبون ويظنون. . فلا مناص إذن من القياس على درجات الوظائف، فمن كان يشغل إحدى الدرجات العلا فهو أستاذ كبير، ومن يشغل الدرجة السادسة أو الخامسة مثلا فيحال إلى ذلك الموظف العبقري ليختار له حرف ب أو ج. . .
ولست أدري هل هم ينظرون أيضاً في أحوال أولئك الأدباء الموظفين، من حيث من يكون منهم عزبا، أو متزوجاً ليس له أولاده، أو متزوجاً وله أولاد، وكم عدد الأولاد، وهل يعول أقارب آخرين، وهل هو من (المنسيين) أو ممن إدراكهم (التنسيق) وما إلى ذلك. . . ومن يدري؟ فقد تتألف جمعية من زوجات محدثي الإذاعة المغبونين كتلك الجمعية المؤلفة من زوجات الموظفين المنسيين. . .
من طرف المجالس:
في ندوة الأستاذ كامل كيلاني بدار مكتبة الأطفال، قال فؤاد شيرين باشا محافظ القاهرة إنه دخل مرة بابنته الصغيرة محلاً لبيع (الشكولاته) بإحدى مدن ألمانيا، وكانت التي تبيع فيه سيدة، وبعد أن اشتريا منها وخرجا قالت الابنة لأبيها: لماذا تبيع المرأة (الشكولاته) ولا تأكلها؟
قال الأستاذ كامل كيلاني: هذا بعينه هو معنى الخيام في رباعياته إذ يقول: هل يشترى الخمار بما يبيع به الخمر أثمن منها؟
وكان المجاهد الأمير عبد الكريم الخطابي حاضراً، فانتقل الحديث إلى الاستبسال في الحروب وأثر الإيمان فيه، وهنا انبرى أحمد حلمي باشا رئيس عموم حكومة فلسطين، فجعل يقص روائع شاهده من حسن البلاء في المواقع التي اشترك فيها، قال: سقط أحد(844/48)
الجنود المسلمين في حرب الأتراك مع الإنجليز سنة 1914 - جريحاً ولم يستطع الكلام، فأخرج ورقة من جيبه وتناول عوداً من الأرض وجعل يغرزه في جرحه الغائر برقبته ويكتب في الورقة بالدم، فكتب أولاً: أين القبلة؟ فدلوه عليها، فاستقبلها، ثم كتب: فليأخذ جيشنا بثأري. وأخيراً كتب: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم فاضت نفسه وقال حلمي باشا: وهذه الورقة محفوظة بأحد المتاحف بتركيا.
قال الأستاذ كامل كيلاني: لم أر في هذا المجال أبدع مما قالت أم حكيم زوجة قطري بن الفجاءة وهي تتقدم في الحرب ولا أدل منه على الصدق في الجهاد، قالت:
أحمل رأساً قد مللت حمله.
وقد مللت دهنه وغسله.
ألا فتى عني ثقله؟
فأين جان دارك وغير جان دارك من هذه الروعة؟
قالت شيرين باشا: وهل تعرف جان دارك أن تقول مثل هذا؟
السنة المدرسية:
نشرت بعض الصحف أن وزارة المعارف تفكر في أن تجعل بدء الدراسة بالمدارس من أول سبتمبر وأن تجري الامتحانات في أبريل بدلا من مايو ويونيه، حتى لا يرهق الطلاب بالامتحان في أوقات اشتداد الحر. وهذا اتجاه حسن، وإن كانت الفكرة لم تنضج في الوزارة، على ما يظهر فلم يمكن تنفيذها في هذا العام. ولا شك أن الجو في شهر سبتمبر معتدل وملائم للعمل المدرسي وخاصة حين تبدأ الدراسة هينة خفيفة في أول السنة، فليس من الحكمة أن يضيع هذا الشهر ويترتب على ضياعه تراخي الدراسة إلى الصيف ثم إجراء الامتحانات في القيظ الذي يصب شره الطلبة والمدرسين جميعاً، وإن فترة الامتحانات التي تقع في أوائل الصيف كل عام لهي مأساة الشباب في مصر، تنهك فيها أبدانهم وترتهك أعصابهم وتكل أذهانهم وتضطرب أفكارهم.
والمدرسون لو رأيتهم وقد حشدوا في الحجرات للتصحيح وجلسوا على مقاعد التلاميذ حتى ضاقت بهم، يتصببون عرقاً يجففونه وتارة يمسكون بالأقلام الحمراء ويهوون بها على أوراق الإجابة - لو رأيتهم على هذه الحال لأشفقت عليهم وعلى الطلاب الذي وضعت(844/49)
مصائرهم بين أيديهم في هذا الجو المنهك المرهق.
وأذكر بذلك أن وزارة المعارف في السودان تنظم زمن الدراسة في العام تنظيماً موافقاً للبلاد الحارة، فالسنة المدرسية تبدأ في أول يناير ويستمر العمل إلى آخر أبريل، ثم تكون بعد ذلك إجازة الصيف التي تقع في خلال السنة الدراسي، وتستأنف الدراسة بعدها في يولية (يبدأ فصل الخريف في السودان من يولية) وتستمر حتى أول ديسمبر، ثم يجري الامتحان النهائي في أوائل ديسمبر وبذلك تنتهي السنة المدرسية.
أما المدارس المصرية في السودان فتجري على مواعيد المدارس في مصر، ويلاقي الطلبة والمدرسون هناك في الامتحان عنتا أكبر مما يلاقيه زملاؤهم في مصر.
ويمكننا الانتفاع بنظام الحكومة السودانية مع شئ من التحوير الذي يناسب جو مصر. يمكن أن تبدأ السنة وتنتهي كما تبدأ وتنتهي هناك، على أن تكون إجازة الصيف شهري يونية ويولية فقط، ولا ضير من العمل في أوائل الصيف وأواخره، لأن الامتحان لا يقع فيها وإنما يكون في ديسمبر. والمزية الكبرى لهذا النظام هي إجراء الامتحان في الشتاء وقت النشاط والعمل.
أما المدارس المصرية في السودان فيجب أن ينظم أمرها بحيث تكون مواعيدها موافقة للنظام السوداني الملائم للبيئة الطبيعية هناك.
عباس خضر(844/50)
البريد الأدبي
قطرة في قطرة:
تلقى صديق الأستاذ أنور المعداوي رسالة حملتها إليه (حقيبة البريد) من السيد حسني الشريف وفيها أن قطرة من قطرات نداي سببت له مشكلة يرجو لها حلاً، وخير القطرات عندي تلك التي تثير المشكلات. أما القطرة فهي إنني خفت على الذين يقضون السنوات في المطالعات ولا يكتبون أن يصابوا وقد غصت النفس بما فيها ولم تجد لها منفذاً، بالاستسقاء الذهني والاختناق ودعوتهم إلى الكتابة والتعبير عما يجيش في نفوسهم بين الحين والحين، ويقول المراسل إنه لا يستطيع أن يعبر بما يرضي الأديب الكبير فهل يكف عن المطالعة وهو يحبها؟
أنا حين أقول للسيد حسني الشريف وأمثاله الذين يطالعون ولا يكتبون: إكتبوا كلما قرأتم لكي لا تصابوا بالاختناق وبما سميته الاستسقاء الذهني لا أطلب إليهم أن يأتوا بما يأتي به هوميروس وشكسبير وهيجل وملتن فللتعبير ألف وجه ولون وأسلوب ويكفي أن يعبر المرء عما يجول في صدره بالطريقة التي تلائم مزاجه وذهنيته وقالبه الوراثي وما انتهى إليه عقله وقلبه بحيث يأتي التعبير صدى للصوت الخارج من أعماق النفس ولكل نفس طبقاتها وأعماقها ولونها وهيكلها وجذورها وهواتفها وأرحامها، ومتى عبر المرء بطريقته الخاصة نفس عن نفسه وظهر بوجهه الذي خلق له ولم يستعر وجه غيره وأقبح الوجوه الوجه المستعار وأمن شر ذلك الداء، داء الاستسقاء. . كل يعبر بلسانه وأسلوبه فللأسد زئيره وللعصفور تغريده وللحمام هديله وللاقواس حنينها وللورود شذاها وللرعد هزيمة وللبركان حتمه، وليست القرائح كلها براكين، ومن الخير أن لا تكون كلها براكين ليظل للعبقرية ندورتها وللموهبة مكانتها، وفي كل قريحة تنفجر شيء من البركان وإن كانت لا تطلق المعجزات والروائع.
وإني لأعجب لمن يسلخ الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة كيف لا يثير فيه ما يقرؤه ويتمثله قوة التعبير ويوقظ ما رقد في نفسه وتلك الخواطر والرسوم التي يلقي بها المؤلفون في ساحات النفس وأعماق العقل والخيال والشعور بذور صالحة للنمو وكائنات حية لها أعصابها وطرقها وأيامها وحيويتها التي تأبى إلا أن تشق لها المنافذ إلى أهدافها. .(844/51)
إن الذي يغنم كنوز المطالعات ما يغنم ولا يكتب بدوره سطوراً يقدمها للحياة وللناس يقف موقف من ينعم بمال الدائن ولا يفي الدين وليس ذلك بالموقف الكريم المستحب. . . إن من أخذ يجب أن يعطي، هكذا تقول لنا الطبيعة. . .
ولاشك أن تاجرنا المراسل الذي يهوى الأدب ويحب (الرسالة) يعرف من تجارته أنها استيراد وتصدير، وكذلك هو الأدب، وإني لأدعوه إلى الكتابة بالشكل الذي يراه وقد تكون فيه وراء شغفه بالمطالعة قوة كامنة لم يهتد إليها بعهد ولم يسمع صوتها. . إن فينا من القوى الخفية ما يفوق بكثير ما يطفو على بحورنا من القوى الظاهرة. وكم من أديب قضى الحياة والقلم من يده خائف متردد والينبوع كامن راقد في أعماقه ينتظر حريته ويومه. . .
راجي الراعي
ليس في كلام العرب:
نقرأ كثيراً في هذه الأيام تصحيحات لغوية لبعض الكاتبين في الصحف والمجلات وعلى كثرة هذه التصحيحات لم نجد إلا القليل منها سلم من التصحيح، مما يدلنا على أن الكاتبين لا يتعمقون في البحث والاستقراء. وليست اللغة ضيقة المادة، حتى يتمكن كل من تحدثه نفسه بأن يقول هذا خطأ. وهذا لم يرد عن العرب، بل الواقع أن لهجات العرب كثيرة متشعبة، ولذلك قالوا: عجبت لنحوي يخطئ، ومجال التوسع في الاستعمال فسيح، الاستعارة والمجاز، والاشتقاق، كل ذلك مما يجعل مهمة (المخطئ) شاقة وعسيرة.
وقديماً ألف الحريري كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) وأطال فيما أعتقد أنه من الأوهام ولكن الشهاب الخفاجي تتبعه في (شرح الدرة) ورد أكثر ما كتبه.
وبين أيدينا كتاب (ليس في كلام العرب) لابن خالويه، وهو كتاب مملوء بالفوائد العلمية، وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء مستطاباً، غير أنه جاء ناقص الاستقراء، والقارئ للجزء الموجود بين أيدينا من الكتاب يجد فيه مواضع كثيرة فيها نظر، وقد اعتمد بعض مؤلفينا الكبار على هذا الكتاب فتابعوه في الخطأ، وأريد أن أذكر أمثلة مما قصر فيه ابن خالويه حتى يطيل الناشئون التريث قبل أن يقدموا على الحكم في المواد اللغوية.(844/52)
1 - يقول: ليس في كلام العرب أسم جمع ست مرات غير الجمل، فقد جمع على جمال وأجمل وجماله وجمالات وجامل وأجمال لأنه أكثر ما يكون الجمع مرتين أو ثلاثاً وهذا ست مرات فهو نادر، يقولون نعم وأنعام وأناعيم وقوم وأقوام وأقاويم لا يجاوزون ذلك. وينقل الرافعي رحمه الله هذا القول بنصه في كتاب (تاريخ آداب العرب)، ويزيد أنه وجد صاحب القاموس عد للجمل جموعا ثمانية.
وهذا كله غير صحيح؛ فإن هناك أسماء جمعت أكثر من هذا الجمع، ولنذكر على سبيل المثال (الدار) فقد ذكر لها صاحب القاموس أحد عشر جمعا، وكذلك ذكر للفظة (الشيخ). وذكر لبعض الكلمات جموعا ستة، وعبارة الرافعي الأخيرة غير صحيحة لأن صاحب القاموس ذكر للجمل أثنى عشر جمعا، فإنه قال: وجماله وجمالات مثلثين، ومعنى ذلك أن هذين اللفظين مع الضبط ينتجان جموعاً ستة.
2 - ويقول: ليس في كلام العرب أفعلت أنا وفعلته لأنه صند كلام العرب غير أكب وأقشع، ولكن في كتب اللغة من ذلك أفعال، وقد أوصلها بعضهم إلى ثلاثة عشر فعلا، ومنها أنقض وألام وأظأرت الناقة وأنزفت البئر وأمرت الناقة، وأسبق البعير وقلعه الله فأقلع، وحجمه فأحجم وأنسل ريش الطائر ونسلته.
3 - ليس في كلام العرب اسم على فعال ليس بمصدر إلا كلمة واحدة وهي قولهم أدخل الفعال في خرق الحدثان فأس له رأس واحد، والفعال خشبة الفأس، فأما المصادر تطرد على الفعال في باب فاعل نحو ضارب مضاربة وضراباً وهو منقوص بنحو زمام الناقة وسوار المرآة وصوان الثوب وملاك الأمر ووجار الضبع. . . الخ.
علي العماري
أخطاء مطبعية:
تقع أحياناً رغم التصحيح والمراجعة بعض الأخطاء المطبعية التي لا تغيب عن فطنة القراء. . . ومن هذه الأخطاء ما جاء بمقال الأستاذ أنور المعداوي عن فقيد الأدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في العدد (842) من الرسالة حيث ورد هذا التعبير: (ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء ويصبحون فلا يجدون المازني يملأ مكانة) وصحته:(844/53)
(ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء ويصبحوا الخ). كما ورد في مقال الأستاذ المعداوي أيضاً عن (مدام ريكامبيه) في العدد الماضي من الرسالة هذه الكلمات: (وتنادي شفتيها شفاههم الظامئة. . . وتصافحت روح بروح) وصحتها: (وتنادي شفتيها شفاههم. . . وتصافحت روح وروح).
وفي العدد (840) من الرسالة ورد هذا البيت في قصيدة الأستاذ محمد علي الحوماني:
جددي يا مصر فينا الخيلاء ... نخف الأرض ونحتل السماء
وصحته:
جددي يا مصر فينا الخيلاء ... نخسف الأرض ونحتل السماء
وفي العدد الماضي ورد هذا التعبير في مقال الأستاذ إبراهيم الوائلي على كتاب (موسيقى الشعر): (والذي جعله يمزج بين البحرين هو هذا الخلط العجيب الذي درج عليه بعض المحدثين فلم يفرقا بين الهزج ومجزوء الوافر) وصحته: (. . . فلم يفرقوا بين الهزج ومجزوء الوافر) كما ورد هذا البيت: لا وحق ما أنا فيه فلا أرتجيه وصحته: فلا أرجيه.
(الرسالة)(844/54)
القصص
عاصفة في قلب
للأديب يوسف يعقوب حداد
الحب، والأمومة، اتفقنا على الصراع في قلب زوجة. . .
فلماذا تراها فاعلة؟!
كنت قرب النافذة أتلهى بشغل الأبرة، واستروح آخر نسمات الربيع، وألقى على الطريق نظرات متباعدة لعلى أرى طفلي وهما في طريقهما من المدرسة إلى البيت. وفي آخر نظرة لم تقع عيناي على وجهي طفلي، وإنما رأيت زوجي يجتاز آخر مرحلة من الطريق إلى البيت، فألقيت على الساعة نظرة وجلة، فإذا زوجي قد عاد اليوم مبكر بنصف ساعة على غير عادته! واستولى على القلق، فألقيت ما في يدي، وأسرعت إليه خافقة القلب، وسألته - ما بك يا عزيزي؟
فأجابني بصوته الهادئ النبرات - لا شئ.
ولكنه كان يخفي عني الحقيقة، فقد كان وجهه شديد التجهم والانقباض. وحين دلفنا إلى داخل المنزل، جلس (جان) على حافة المقعد، وقال:
- الحقيقة أنني استلمت رسالة اليوم، أثارت اهتمامي. هي من ابن عمتي (دك برنت) ولعلك تتذكرين مقابلتك له في الشمال، يوم كنا نقضي شهر العسل.
فأمنت على قوله - نعم. . . أتذكره جيداً، وقد استلطفته كثيرا. ثم قلت مازحة - كان يؤمئذ يجتاز أخطر أدوار الشباب وقد أولع بي فكان ولعه هذا مصدر سخريتنا منه. لعله اليوم في الرابعة والعشرين. . . أليس كذلك؟!
ولكنه لم يهتم بحديثي، ومضى يقول - استطاع الحصول على عمل في المطار لنا، وأنه يتساءل فيما إذا كنا نقبله عندنا ريثما يجد له مكاناً آخر.
وبدا عليه أنه يسألني رأيي، فقلت له - لم لا؟. لدينا غرف كثيرة، يستطيع أن يشغل إحداها. . . ثم أننا هنا نشكو الوحدة، فلا قريب ولا صديق يزورنا ونزوره فسيخفف عنا (دك) هذه الوحدة. . . والأطفال؟. . تصور وقع الخير عليهم.(844/55)
وسرعان ما أولع الطفلان بدك، وسرعان ما انسجم دك معهما. . . وكثيراً ما كانوا يتحدثون عن الطيران، حتى أصبح كل من في المنزل خبيراً بأموره وما يتعلق به!. . ولكن ولع دك بالطفلين لم يكن أكثر من اهتمامه بي!
ومرت الأيام، فإذا زوجي يتغير. لم يعد يدير دفة الحديث كما كان يفعل من قبل، وبدأ ينفرد بنفسه كثيرا. . . وازداد اهتمامه بالصيد وكان الصيد هوايته المفضلة. وكنا ذات مساء نجلس حول مائدة العشاء، فبدأ الطفلان سلسلة أسئلتهم الساذجة.
قال جاك - كيف كان طيرانك اليوم يا دك؟
- لا بأس به يا عزيزي.
وقال (بل) محدثاً شقيقه - ألم تر مغامرته اليوم فوق بناية المطار؟
فتحدث جان زوجي من بعيد، وقال لبل وفي حديثه الشيء الكثير من العتب واللوم: إذن فقد ذهبت اليوم إلى المطار وقد وعدتني بالأمس ألا تذهب!. . أنسيت أننا اتفقنا على تنسيق طوابع البريد معا؟ فهتف الطفل في أسف قائلا - والله. . . لقد نسيت. . . معذرة يا أبي.
ثم عاد إلى دك يحدثه عن الطيران، فاستطعت أن أرى نظرات الحقد والغضب في عيني زوجي جان!
وصعد جان إلى غرفته لينام، وجلسنا أنا ودك والطفلان نصنع نموذجاً لطائرة دك من الكارتون، ومضى الوقت ونحن لاهون، وشعرت وقتئذ بسعادة الشباب تعود إلى تخدير حواسي مرة أخرى. . .
دك الشاب المرح. . . وهذا العمل الصبياني. . . أعاد إلى ذكريات الشباب.
وسمعت زوجي يقول وهو واقف على باب مخدعه في الطابق الثاني - لقد حان موعد الأطفال. . . الساعة الآن النصف بعد العاشرة!
ثم عاد إلى فراشه. وصعد الطفلان إلى فراشيهما، وبقينا أنا ودك الذي قال لي ضاحكا - ألم يحن موعد نومك أنت الأخرى؟
فضحكت، وأدرت عيني إلى النافذة، فإذا أنا أرى القمر الساطع يتوسط كبد السماء، فخيل إلى القمر يشاركني سعادتي!
قال دك - ألم تجربي الطيران في ليلة مقمرة؟(844/56)
- إنها خسارة. . . أليس كذلك؟
- عندي طائرة جاهزة في أي وقت.
شكراً. . . إنني متعبة الآن.
لا شك أن دك كان يدعوني لنزهة ليلية. . . ولكنه أم يجسر على توضيح رغبته. . . ولكنني فهمتها. . . مسكين دك!
وصعدت درجات السلم متخاذلة، وفتحت باب مخدع زوجي فإذا هو غارق في نومه. فاقتربت منه أمشي على رؤوس أصابعي، وانحنيت عليه أقبله، ولست أدري لماذا جاءتني تلك الفكرة. فكرة المقارنة بين وجهه الذي دبت فيه معالم الكبر، ووجه دك الريان بالشباب!
وسرت إلى النافذة حزينة متألمة، فطالعني القمر بوجهه الضاحك. . . فإذا أعود أنا إلى دك. . . وما هي إلا لحظات، حتى كنا نشق طريقنا مسرعين إلى أرض المطار.
قلت لنفسي وأنا أسبح في الجو إلى جانب دك - يالها من سعادة! وتمنيت لو أن هذه النزهة الجوية لا تنتهي أبداً.
- أأعجبتك هذه النزهة؟
- بل أحببتها كل الحب.
- وأنا؟
في هذا السؤال كان بل جاداً كل الجد، وخيل إلى أن الحب يصرخ في عيني: دك - أوه دك!. . لا تكن.
ولكنه لم يمهلني، وعاجلني بذراعين قويتين، وشفاه ملتهبة.
- أحبك يا روث. . أتذكرين أول مرة قابلتك فيها. . . وكنت تقضين شهر العسل؟. . منذ ذاك اليوم أحببتك، ولكني لم أجد فرصة لأعرب لك عن حبي.
كان زوجي شديد الولع بطفليه. . . لم يكن بعاملهما كما يعامل الأب أولاده، وإنما كان يعاملها كما يعامل الصديق صديقه. لا يكاد يدخل البيت حتى يأخذ طفليه ليشغل كل وقته معها. وأعتاد الطفلان هذه الحياة، حتى أنهما كانا يدعوان والدهما باسمه المجرد، حتى خلا البيت من (بابا) أو (ماما) وكنت أنتقد هذه الطريقة في تربيته لولديه. ولكن رأيه لم يكن ليتأثر برأيي أنا.(844/57)
وذات يوم أخذ زوجي يعد معدات السفر مع طفليه. . . مع طفليه فقط!. . وتوسلت إليه أن يأخذني معهما، ولكنه أبى على هذه الرغبة - جان. . . خذني معك. ستحتاج لمن يطبخ طعامكم، ويغسل ملابسكم. . . جان، ربما تمرض الطفلان، فماذا تفعل وحدك؟
ولكن السيارة ابتعدت بهم عن عيوني، فوقفت وراء النافذة أسكب دموعي في حرقة ولوعة.
وسمت دك يقول لي في تأثير شديد لماذا تحاربين حبنا يا ورث؟ إن الحب لأسمى من هذه القيود البغيضة التي تقيد عاطفتك بالأغلال
وأمطرني بسيل منهمر من قبلاته.
وكتبت لجان رسالة طويلة أطلب حريتي. . . وانتقلت مع دك إلى منزل صغير أحلناه إلى جنة صغيرة. ولكن حبي لدك لم يكن كل شئ بالنسبة لسعادتي. . . حب دك لم يستطع أن ينسيني طفلي، فأنا في منتصف الليل استيقظ من نومي، فإذا وسادتي مبللة بدموعي. . . كنت أحلم بهما.
وأقف أمام المرآة فأرى جمالي يعتريه الذبول. . . إنني أكبر من دك بعشرة أعوام، ومعنى هذا أنني أسبقه إلى الشيخوخة بعشرة أعوام. . . وفي هذه المدة من يدري ماذا سيكون. . . ربما انصرف دك عن حبي إلى حب امرأة أصغر مني وأجمل!. . وربما هذا لن يكون. وربما كبر طفلاي فيدركان معنى الأمومة، فيعودان إلي. . . من يدري ماذا يخبئ لي المستقبل. على كل حال، فإنني أتمنى لو أستطيع إعادة عقارب الساعة إلى تلك الأيام التي سبقت دخول دك منزلنا الهادئ لأول مرة.
(البصرة - العراق)
يوسف يعقوب حداد(844/58)
العدد 845 - بتاريخ: 12 - 09 - 1949(/)
رحم الله صديقي المازني!
لقد كان رَجُلْ وَحْدِه في طراز عيشه ونظام عمله ونمط تفكيره وأسلوب
كلامه. والتفرد في الحياة والعمل والفكر والعبارة معناه في دنيا الأدب
الشخصية الممتازة التي لا يغنى عن وجودها وجود، ولا يَجزى عن
جهدها جهود، ولا يسهل من فقدها عِوض. فإذاأُضيف إلى ذلك أن
المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون
أدبها عن فقه، ويعالجون بيانها عن طبع؛ وأن هؤلاء العشرة البررة
متى خلَت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا
الزمن الثائر الحائر العجلان من يحمل عنهم أمانة البيان ويبلغ بعدهم
رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفى
هذا الكاتب العظيم.
عرفت المرحوم المازني في خريف سنة 1914 يوم دخلنا المدرسة الإعدادية الثانوية معلمين، وكان يومئذ في مرح شبابه وميعه نشاطه يتوسط باحة الأدب ويطرق باب الشهرة ويحاول هو وصاحباه العقاد وشكري أن يشقوا طريقهم إلى المجد في أرض غليظة صلدة يقوم في بدايتها عقبتان: صاحب (الشوقيات) بشعره الرائع، وصاحب (النظرات) بنثره البليغ. ولكنهم كانوا أصحاب مِعول ومِسطرين: يهدمون بالنقد والثلب والتجريح، ويبنون بالتجويد والتجديد والدرس؛ فلم يفعلوا فِعل ضعفاء الملكة اليوم، يخفضون مستوى البلاغة ليصعد القميء، ويقربون غاية الفن ليلحق البطيء!!
وكان المازني على هذه الثورة وهذا الطموح خافض الجناح لأنه قوي النفس، راكد السطح لأنه عميق النور، فما كنت تراه يوماً ذاهباً بنفسه ولا متبجحاً بعلمه ولا مباهياً بعمله. ثم كان على ضآلة جسمه ووهن عظمه مهيب الجانب لذكاء قلبه ورجاحة عقله، فلا يعبث في درسه تلميذ ولا يجرؤ على كرامته معلم. ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة، فزاملته في التعليم، وصادقته في الأدب، وعاملته في الصحافة، فلم أجرب عليه شهد الله لؤماً في(845/1)
زمالة، ولا غشّاً في صداقة، ولا سوءاً في معاملة.
كان أدب المازني أداة عيشه ووسيلة رزقه. لذلك كان يكره أن يعرضه لكيد الخصومة وعنت النقد. وكان سبيله إلى هذا أن يغضّ هو من قدر فنه، وأن يقلل من قيمة نتاجه، حتى يفوّت بذلك على خصمه لذة التجني عليه فلا يجد ما يقوله إذا أراد أن يتنقصه بنقده أو حقده. وتصغيرك لشأنك فيه معنى التواضع، ولكن تصغير غيرك لك فيه معنى الضَّعة. على أنه كان إذا أكرِه على الخصومة شديد العارضة حديد القلم يقرع صاحبه بالتهكم أكثر مما يقرعه بالحجة. ولو كان المازني مكفول الرزق من طريق غير طريق الأدب لما قَصر أكثر جهده على الصحافة. ومن مساوئ الصحافة أنها تفرض على الكاتب الموضوع وتحمله على السرعة. وموضوع المازني القَصص وفنه الوصف. فلو أنه خلص لهذين البابين لأتى فيهما أعجب العجب.
هذه بعض صفات الصديق الراحل ذكرتها مجملة في مقام الحزن على فقده والجزع لمصابه. أما سائر صفاته وتحليل ملكاته وترجمة حياته فلها في تاريخ الأدب فصل طويل سأكتبه بعد قليل.
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(845/2)
الظمآن. .!
للأستاذ راجي الراعي
في ذلك المساء كنت عائداً إلى بيتي لأطرح على عتبته أعباء اليوم وأنا أمسح العرق الذي يتفصد به جبيني وألتقط حجارة البؤس وأرجم بها الدنيا، فشعرت بيد ناعمة تمتد إلى ونظرت فإذا بشبح في عينيه ألف شعاع انتصب أمامي وبادرني قائلاً: أنت من البائسين ولكن خفف عنك فالحياة التي ترجمها تدعوك الليلة إلى جلسة شراب تقيمها لك ولأمثالك في القصر القائم على تلك الرابية التي تراها فاذهب واشرب وتمتع، فسألته: ومن تكون أيها الشبح المشع؟ فأجاب: أنا الرحمة، وما هي إلا طرفة عين حتى حملة النسيم وتوارى عني فقلت لنفسي: هل لمثلي أن يتمتع بشيء في هذه الدنيا؟ هي ولا شك مهزلة جديدة فلأذهب إليها لأشهد فصولها وواصلت السير إلى حيث ألقيت بأحمالي على عتبة البيت، وخرجت والليل يشتملني، أهبط الوادي وأتسلق الجبل حتى بلغت القصر فإذا هو يعج بالخلائق يتدافعون بالمناكب ليستمعوا إلى الكلمات التي كانت تعيدها عليهم امرأة توسطت المكان، طويلة القامة بدينة، ورحت أشق الصفوف المتواصلة حتى دنوت من تلك المرأة فسمعتها تقول: أنا الحياة. . . أعرف أنكم البائسون من أبنائي الذين طالما عبست في وجوههم وقد رأيت أن أجمعكم منذ اليوم مرة في العام لأعرض لكم أثمن ما لدي من الكؤوس وأسكب لكم منها فتبتل شفاههم الجافة ببعض ما حرمتموه من دناني. . . أنا الحياة، ولي كؤوس وأفخرها وأجملها وأعزها ثلاث:
ورفعت بيدها الكأس الأولى وقالت: هذه هي الكأس الصفراء كأس الثروة من شربها اتسع أمامه مدى العيش وأقام القصور الناطحة السحاب واقتنى الأرض الفسيحة الرحاب ونال ما يشتهيه من الطيبات وتحدى الأقدار، ورفل بالدمقس والحرير وبسط الموائد المثقلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب. . . ورمت الحضور بقبضة من الدنانير فهجموا يلتقطونها وصبت خمرة الثروة فشربوا جميعهم. . . أما أنا فلم أشرب. . .
ثم رفعت الكأس الثانية وقالت: هذه كأس الكؤوس، كأس المرأة يحفها الحب والجمال، من شربها فرشت له الجنات تجري من تحتها الأنهار وتدفقت عليه قبل الحسان وحملته أجنحة القلب إلى آفاق الغبطة والنعيم وتنشق الرياحين وسجع له الحمام وانتقل بين الزهر والورد(845/3)
وذاق الشهد. . . وأطلقت في تلك القاعات فتاة غضة بضة سمراء الوجه دعجاء العينين رشيقة القد يفوح منها عبير الحسن وتشع عيناها بالإغراء والفتنة فتخاطفت وجنتيها وتنافست في ثغرها القبلات. . . وصبت الحياة خمرة المرأة فشرب الجميع. . أما أنا فلم أشرب. . .
ورفعت الكأس الثالثة وقالت هذه هي الكأس الحمراء، كأس المجد، كأس الفاتحين الغزاة من شربها دقت له الطبول وخفقت في سمائه الرايات وسارت في ركابه الجيوش واكتسح البلدان وأخضع الشعوب وثمل بخمرة النصر ونصبت له التماثيل والعروش. . . ودارت في الناس بأكاليل من الغار فزينوا بها رؤوسهم، وصبت خمرة المجد فشرب الجميع. . . أما أنا فلم أشرب. . .
كنا عشرة آلاف من بائسي (هيجو) يغص بنا القصر، وكان الجميع من حولي يهللون للحياة ويترنحون بخصرها ويثنون على كرمها وحنانها إذ جادت عليهم وهم المحرومون بساعة من ساعات نعيمها. . وكانت الحياة تطرب لبنيها وهم يطربون ولكن ساءها أن لا أكون من دعاتها المهللين وسكاراها الطروبين وراحت تسأل عني وقد جرحت كبريائها وما لبثت أن أقبلت علي والعيون تحدق إلينا والفوم يتهامسون وسألتني: من أنت؟ فأجبتها: أنا الظمأ. . الظمأ القامح، الظمأ كله! فقالت: ولم لا تشرب من كؤوسي التي أدرتها على رفاقك؟ فقلت: أنت تجهلين نفسك أو تعرفينها ولكنك تخدعين فالكؤوس التي عرضتها وسكبت فيها أيتها الضالة المضللة كؤوس وهمية خداعة لا تجدي ولا تروى. . إنك لا تستطيعين أن تعطي أكثر مما عندك، وما عندك ليس بالشيء الكثير ولا هو بالترياق لعليل مثلي فلو أعطيتني كل ما لديك من الذهب ونفحتني بكل ما لديك من النساء وصور الحب والجمال وزينت رأسي بكل ما لديك من أكاليل الغار ووهبتني الدنيا بأسرها لما اكتفيت ولا هدأت نفسي. . ما الفائدة من الكأس إذا لم ترو شاربها؟ أنا هو الإنسان، أنا هو الظمأ المستديم وليس في كؤوسك ما يرويني، أنا لسان من اللهيب يندلع وليس في وسعك أن تقطعيه، أنا نار ليس في يدك رمادها. . إن بينك وبين نفسي منذ تعرف أحدنا إلى الآخر لفلوات شاسعات كتب لي أن أظل مكتوباً بضرامها حتى يفتح الله لي شرفة من دارك على الآخرة حيث آمل أن أرى وجه الله وأذوب فيه وأرتوي. . أنا الظمأ وأنت لا ترويني، أنا الإنسان الكبير وأنت(845/4)
الحياة الصغيرة وما هو ذهبك، ما هي نساؤك وما هو مجدك إذا جاشت الجائشات في صدري وأطلقت خيالي. . . أنا ظمآن، ظمآن إلى الله وأنت كافرة ظمآن إلى الحق وأنت الباطل، ظمآن إلى الوفاء وأنت الخيانة، ظمآن إلى الخلود وفي كأسك ثمالة الموت! أنا ظمآن خلقت ظمآن من قوم ظامئين وأجتاز صحاريك ظامئاً وسأموت ولساني جاف وشفتاي المرتعشتان تتلمسان الغيب وتلتهبان شوقاً وحنيناً إلى الماء الذي هو الماء والخمرة التي هي الخمرة. . ومن أجل ذلك أنا واجم كئيب وبائس يائس فلا ترأفي بي أيتها الحياة، إن رأفتك لا تجديني ولا تفخري بكؤوسك بعد اليوم ولا تسكبيها فهي تؤلمني ولا تكفيني. . .
راجي الراعي(845/5)
في الأدب المهجري
للأستاذ حبيب مسعود
ليس من شأني في هذا الحديث أن أعرض عليكم صورة عن الأدب العربي في كل أنحاء العالم الجديد. فذلك يقتضي وقتاً طويلاً ودراسة مستفيضة، وإنما أقتصر في حديثي على أدبنا في البرازيل؛ ومتى ذكرت هذا القطر الكبير بمساحته وشعبه فلا يسعني إلا أن أحيي فيه رمز الكرامة والسماحة، وموطن الحرية والضيافة؛ فقد فتح صدره لقومنا وغمرهم بعطفه ومتعهم بشرائعه الحرة فأصابوا فيه من نعمه ما أصابوا وكان لهم هذا المقام الذي يحتلونه.
لقد بلغكم ولا شك الشيء الكثير عن مآتي قومنا في البرازيل وسمعتم عن المكانة المادية والأدبية التي وصلوا إليها بعد جهاد سبعة عقود من الزمن وفروا له من العزيمة والجلاد ما تضؤل عنده بطولة الأساطير.
ولست معيداً فصول المآسي والبطولة في حياتهم المهجرية فهي أبعد من أن تستوعبها الكلمة العجلى فأحصر كلامي في الناحية الأدبية لعل فيها جلاء للذين يعتقدون أن المغتربين أصحاب بيع وشراء وحسب، أو أن الأدب العربي المهجري أدب مسيخ لا يمت إلى الفصحى بنسب.
الأندلس الجديدة لقب أطلقوه على البيئات العربية (وكلها من سوريا ولبنان وفلسطين) التي تكتلت في العالم الجديد وكونت عنصراً له قواه المادية والمعنوية، تشبهاً بالأندلس القديمة التي فتحها العرب وأنشئوا فيها تلك الدولة التي لم يجل ما قيل فيها حتى الآن حقيقة كيانها، فإن كل ما كتب في التاريخ الأندلسي من دوزي وكونده ودلريو إلى بروفنسال وكوديرا وريبيرا وبالاسيوس وغيرهم من الإفرنج والعرب لم يسبر غور تلك الحقبة الطويلة من الزمن وهي تناهز الثمانمائة من السنين. أما نحن فإننا نستقي تاريخ الأندلس من مناهل مؤرخي الغرب وعلمائه ونعتمدهم في دروسهم الاستقرائية ومباحثهم التعليلية فنستشهد بما قاله دوزي الهولاندي وريبيرا الأسباني.
إن بين الأندلس القديمة والأندلس الجديدة فرقاً من وجهة وشبهاً من وجهة أخرى. فالفرق هو أن العرب دخلوا الأندلس فاتحين ففرضوا سلطانهم ونشروا هيبتهم وحموا بسيوفهم(845/6)
مؤسساتهم ومعاهدهم ولغتهم فدرج الأدب والعلم في ظلال أعلامهم وزها الشعر في خمائل مجدهم، في حين أن قومنا دخلوا أرض كولمبس مسترزقين طالبين عطفاً وسائلين عدلاً. أما وجه الشبه ففي هذه الدولة الأدبية التي بناها قومنا هناك شأن العرب في الأندلس.
إن لانتقال العربية إلى الوطن البرازيلي ونشرها بين عشيرتنا المغتربة بالصحف والكتب حكايات لا تقل غرابة عن حكايات ألف ليلة وليلة، فالصحافة العربية كانت في أول عهدها ضرباً من الاستشهاد، ومزاولة الأدب العربي في تلك البيئة الغربية كانت نوعاً من الانتحار. ذلك لأن مغتربينا الأوائل كانوا في معظمهم أميين أو شبه أميين، ولم يكن همهم الأوحد إلا انتقاص الرزق وادخار الكسب. فما يجري في عروقنا قد ورثناه عن أولئك الذين قذفوا بأول قارب إلى البحر وعرفوا العالم الجديد قبل كولمبوس وأمير كو بآلاف السنين، وعن أولئك الذين توغلوا في قلب آسيا وفتحوا بلاد القوط من مغامرة مغتربنا الأول الذي ركب البحر إلى ديار بعيدة يجهل حتى اسمها أُسست دولة ضخمة بصناعتها وتجارتها لا يدرك عظمتها إلا من خبرها، ومن مجازفة ذلك الأديب الذي أنشأ أول نشرة عربية قامت الدولة الأدبية التي دعيت الأندلس الجديدة.
فالأندلس الجديدة هي نشيئة الأديب المغترب الذي استشهد في سبيل قومه ومن أجل لغته. زهد في كل شيء ما خلا وطنه، وقنع بالبلغة لكي يحافظ على لسانه. وليس الفضل أن تصون لغتك وأنت قابع في ديارك وبين عشيرتك، وإنما الفضل كل الفضل أن تصونها وتحضنها وتشقى من أجلها وأنت في بلاد غريبة عنك لساناً وعادةً وعرقاً.
على أن هذا المناضل الذي ذكرت لم يسلم من افتراء بعضهم حتى أن أحدهم وهو من أدباء دمشق عرض بأدباء المهجر عامة وتنقص شعراءه. وقد يكون عذره الوحيد أنه ألقى كلامه جزافاً أو أنه وقع عرضاً على بضاعة تافهة، ومثل هذه البضاعة كثير هنا وهناك وفي كل مكان. ولو تروى ومحص وكشف الرغوة عن الصريح لأدرك أن في المهجر عناصر لها مكانتها الرفيعة في اللغة والأدب والشعر، وأن أمثالها قليل في أي قطر من الأقطار العربية. لست مفاخراً ولا مغرقاً فسأورد لكم بعد قليل أمثلة من نتاج أدبائنا المغموطين ولكم أن تتخذوا منها حجة لي أو علي
تقلب الأدب العربي في البرازيل بين مد وجزر، وتنازعته عوامل البقاء والفناء مراراً، ولد(845/7)
فقيراً بين حفنة من البشر نزحت عن وطنها طلباً للرزق، ودرج هزيلاً لسوء غذائه المادي والأدبي، وشب نشيطاً يجري في عروقه دم استمده من قافلة أدبية جديدة لحقت بالقافلة الأولى، وتعطف عليه بيئة ارتفع مستواها العقلي وباتت تتذوق الأدب وتقبل على جيده. أما اليوم فقد دخل في طور كهولته فأينعت ثماره وطاب شرابه. عندنا اللغوي المدقق، والشاعر المنطلق في أجواء الإيداع، والمنشئ الناصع الديباجة، والكاتب الذي يجمع بين روعة الأسلوب وعمق التفكير
وعندنا المدارس التي تعلم العربية وقد طالما أخرجت الألوف من نشئنا وعلى ألسنتهم لغة قحطان، وفي قلوبهم صبوة لوطن آبائهم، وعندنا الأندية التي ما برحت سوقاً يتبارى فيها فرسان الشعر والأدب. ما انطوى علم من أعلام الأدب أو الوطنية إلا مجدت ذكراه بمهرجان أدبي. وفي تلك الأندية شهر فضل محمد عبدو، وفرح أنطون، وسليمان البستاني، ومصطفى المنفلوطي، والحسين، وفيصل، وعبد الله البستاني، وفوزي المعلوف، وجبران، ورشيد أيوب، والريحاني، ورشيد نخلة، وميشال المعلوف، ونعمة يافث، وشكري الخوري، وعقل الجر وغيرهم ممن تفوتني أسماؤهم. أما الحفلة الكبرى التي أقامتها العصبة الأندلسية لذكرى المتنبي الألفية فقد بزَّت بروعتها وبما قيل فيها من الشعر كل ما ألقى في الحفلات الأخرى، ولقد حلق شعراؤنا في سماء الإبداع حتى جاوروا شاعر العرب الأكبر.
أما الصحف العربية التي ظهرت في البرازيل منذ بدء الهجرة حتى يومنا فتجاوز الخمسين، وقد بلغ عددها قبيل الحرب العالمية نحواً من خمس وعشرين صحيفة بين مجلة وجريدة لم يبق منها إلا مجلتان وثلاث جرائد.
لم تكن الصحافة العربية في المهجر إلا مدارس نقالة تحمل إلى قومنا الثقافة والأدب، ورسولاً ينقل إليهم أخبار أوطانهم وذويهم، وبوقاً يذيع مآثرهم، وصديقاً يواسيهم في أتراحهم ويشاركهم في أفراحهم ومعلماً يلقنهم القراءة والكتابة.
بيد أن ظهور العصبة الأندلسية كان أكبر أثر أدبي في تاريخ الأدب العربي بالبرازيل. ففي عام 1933 وقد استفحلت فوضى الأقلام، شعر نفر من أدبائنا على رأسهم الطيب الذكر ميشال بك معلوف بافتقارهم إلى رابطة تجمع شملهم وتصون أدبهم فتنادوا وتعاقدوا وأجمعوا على إنشاء مؤسسة أدبية دعوها العصبة الأندلسية تيمناً بالعصر الأندلس الزاهر.(845/8)
وفي عام 1935 قر رأيهم على إصدار مجلة تنقل نتاجهم الأدبي وعهدوا إلى هذا الحقير الواقف أمامكم في رئاسة تحريرها. وليس لي أن أقول شيئاً في هذه المجلة فالرأي والحكم لمن رافق حياتها وبينكم منهم كثيرون، وإنما لي كلمة أقولها وفاء لحرمة الأدب وهي أن (العصبة) كانت وما تبرح الصحيفة التي لم تعن لتأثير شخصي مهما كان حوله وطوله، ولم تعن بغير الأدب والثقافة، فمن الأدب الذي لا يؤمن إلا بالكفاءة والنزاهة والصراحة والتضحية نشأت، ولأجل هذا الأدب وحده تعيش.
تحمل (العصبة) شهرياً في المائة والعشرين من الصفحات نتاج الأدباء المنضمين تحت لوائها وغيرهم. ورسالة (العصبة) أن تنقل إلى الشرق العربي أدب المهجر، وإلى المهجر أدب الشرق، وهي رسالة وقفنا لها قلوبنا ودفعنا إليها هيامنا بهذه اللغة التي حضناها في جوانحنا. ورسالة (العصبة) أيضاً أن تطلع العالم العربي على بدائع الفكر الغربي ولا سيما البرازيلي. هاكم مثالاً، هذا المقطع عن الشاعر البرازيلي الكبير كاسترو الفس وقد نقله شعراً شفيق معلوف رئيس العصبة الأندلسية وعنوانه (العبقري):
هو لو طوف في الدنيا وجابا ... مدن الأرض ذهاباً وإياباً
لقضى العمر يند الناس عنه
كفه فارغة، والأرض ملأى ... ولئن قرَّب، والأحشاء ظمأى،
فمه للنهر، فر النهر منه
لم يصب مأوى على وسع الفيافي ... لا ولا ظلا، وظل الغاب ضاف
لا ولا ضمة تحنان وعطف
ولئن لوح في عرض الطريق ... بيديه ناشداً كف صديق
لم يفز إلا بتصفيق الأكف
سار في قفر بعيد الدرب وعز ... ينقل الخطوات من نصر لنصر
حاملاً من مجده زاداً وقوتاً
قيل هذا عبقري لا يموت ... فمضى يسأل: هل يوماً حييت
يا بني قومي لأخشى أن أموتا
ودونكم هذه القطعة للشاعر البرازيلي فيسنتي دي كارفاليو وقد ترجمها نثراً أخواناً في(845/9)
العصبة الأندلسية يوسف البعيني وعنوانها (اختراع الشيطان):
(تقاسم الله والشيطان هذا العالم فكانت حصة الله الأفلاك، وحصة الشيطان العالم الموبوء بالمعاصي والشرور والذي لا ينبت إلا العوسج ولا يلد سوى الأفاعي والغيلان. وخرج الشيطان مرة من وكره الناغل بالعفاريت وصعد إلى السماء حيث يرتكز عرش الآلهة. وفيما هو يتهادى مخلوباً بمناظر النعيم شاهد حواء مستلقية بجسمها العاري في ضوء القمر فحسبها في أول الأمر قطعة من المرمر الشفاف. ولكنه دهش إذ علم أن صاحب هذا الهيكل البض امرأة تتمشى في أعضائها حرارة مبهمة - هي حرارة كل كائن حي.
وما كاد يفكر قليلاً حتى تجسدت في مخيلته صورة اختراعه الفذ فاقترب من حواء وسكب في فمها الوردي الجميل كأساً من السم. عند ذاك تبسم بخبث ودهاء ومضى مسروراً لأنه اخترع قبلة المرأة!. . .)
ولا أزيدكم، ففيما أوردت كفاية للدلالة على بدائع الأدب البرازيلي
وقعت أخيراً على بحث لأحدهم في أدب المهجر عزا فيه روح التجدد إلى أدباء الشمال يوم كان جبران يتزعمهم، واتهم إخوان العصبة الأندلسية بالمحافظة على الأساليب القديمة. أقول إذا كان جبران وبعض إخوان الرابطة القلمية قد فتحوا بتفكيرهم جواء جديدة فهذا لا يعني أن كل أديب في أميركا الشمالية بلغ شأوهم، أو أن أدباء العصبة محافظون لأنهم لم يسبحوا في تلك الجواء. أما إذا كان المراد من الأساليب القديمة الصيغة اللفظية والمحافظة على ضوابط اللغة فليس في ذلك موضع للغمز واللمز. ألم يخلق جواً حديداً فوزي المعلوف في بساط ريحه، وأخوه شفيق في عبقره، والشاعر القروي في حضن الأم؟ أما إذا كان التفكير الجديد يقتضي أسلوباً جديداً، والأسلوب الجديد يقتضي خروجاً على اللغة وبلبلة في التركيب ورطانة في التعبير، فلست مبرئاً إخواني من التهمة بل أعلن على رؤوس الأشهاد أنهم محافظون أكثر من تشرشل وأعوانه.
ثم لا أدري ماذا يقصد بعضهم بالتجدد وقصة التجدد طويلة عالجتها الأقلام وتناولتها مساجلات عنيفة بين مقدسي الأدب القديم، ومحقري تراث الغابرين. وكلا الرأيين في شرعي مغال، فليس في الأدب قديم ولا حديث، وإنما فيه جيد وسقط، والجيد يظل جيداً مهما قدم، والسقط لا قيمة له سواء كان قديماً أو حديثاً. بعد ألف عام ما ننفك نطأطأ الرأس(845/10)
احتراماً لخرائد المتنبي، وبعد أحد عشر قرناً ما يزال ابن المقفع والجاحظ أميري القلم وسيدي البيان وإمامي المنشئين.
والتجدد ليس علماً يلقن أو قواعد تدرس، إنما هو نزعة خلاقة في الفكر، وصبوة في النفس إلى الإبداع، وملكة في الطبع تأبى الانقياد. والمجددون هم صنف من العباقرة أوتوا موهبة الفتح والقدرة على الخلق، وليس في طاقة كل أحد أن يكون مجدداً، وإنما في طاقته ألا يكون مقلداً.
وسألني بعضهم هل لأدب العصبة الأندلسية اتجاه خاص أو طابع معروف به، فكنت أجيب: لا أعرف للأدب اتجاهاً واحداً ولا طابعاً خاصاً، وإنما أعرف أن الأدب فن كسائر الفنون الجميلة يمكنك من التعبير عن مشاعرك وتصوير ما يرتسم بأفكارك وتدوين ما يجري في أيامك وتعريف ما يقع تحت نظرك من المشاهد وغير ذلك من الأغراض. وأعرف أيضاً أن لكل أديب اتجاهاً وطابعاً لميوله وثقافته وبيئته. أما هذه الأنماط التي يعرفونها تارة بالمدرسية وطوراً بالوجدانية ومرة بالرمزية فهي أشبه شيء بالأزياء التي يستحدثها هواة الطرافة يقبل عليها الناس زمناً ثم يهملونها. قالوا إن هوجو وجماعته ابتدعوا المذهب الرومانطيقي الذي يعتمد المشاعر والخيالات والصور الطبيعية، والواقع أن هذا المذهب قديم جداً تلقاه في التوراة وفي أدب الهند والأندلس وغيرها، فهو لا يخرج عن زي قديم؛ كما أن الرمزية التي يريد دعاتها اليوم أن يرفعوا علمها على أنقاض الرومانطيقية ليست سوى الصوفية يعينها.
أنا لا أستنكر المذاهب الكتابية مهما كان شأنها لأنها تحمل روح الابتكار ودلائل الحياة؛ فالركود آخرته العفن والجمود معناه الموت، لكني لا أعتبرها من الأدب أسسه وأركانه، فالمذاهب تتغير أما الأدب فباق. لقد كانت الموحشات في عصرها بدعة استهوت الألباب، ثم خمل شأنها مع الزمن حتى كادت تهمل في أيامنا على انتشار الغناء وهي في أصلها ابتدعت للغناء والطرب. أما أدب امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعه والمتنبي وابن المقفع والجاحظ وابن خلدون وإضرابهم فراسخ كالطود مهما تنوعت المذاهب وتجددت طرق التعبير.
وهذه بعض قطع لشعرائنا لم أخترها وإنما وقعت على أكثرها هنا في بضعة أجزاء من(845/11)
(العصبة). ابتدئ بقصيدة (ساعي البريد) وقد نظمها شاعرنا شفيق معلوف في أثناء الحرب الأخيرة تخيل فيها أما في وطننا تترقب ساعي البريد لعله يحمل إليها خبراً من ابنها في المهجر:
ساعي البريد وما ينفك منطلقاً ... وكل باب عليه غير موصود
يسعى بأكداس أوراق مغلغة ... تفوح منهن أطياب المواعيد
خلف النوافذ أجفان مشوقة ... إليه تخفق من وجد وتسهيد
بدا فهز عقود الغيد مقدمه ... هز النسيم لحبات العناقيد
كم قبلة من فم العشاق يحملها ... على يديه ويهديها إلى الغيد
يا ساعياً بابتسامات توزعها ... على الشفاه بلا من وترديد
كم وجه أم عجوز إن بززت له ... لم يبق من أثر فيه لتجعيد
تلقى إليها كتاباً إن يصب يدها ... شدته باليد بين النحر والجيد
كأن كل غلاف منك ملتحف ... بابن إلى صدر تلك الأم مردود
وهذه قطعة لشاعرنا رشيد سليم خوري المعروف بالشاعر القروي عنوانها (الغفران):
قمت قبل الطيور أشدو جبوراً ... لا أرى باعثاً لفرط حبوراً
مؤنساً وحشة الفضاء كأني ... نبأ طيب سرى في الأثير
أتهادى بين الغصون كغصن ... وأناغي العصفور كالعصفور
وعلى وجنتي للورد ظل ... عائم فوق موجة من نور
قلت ربي أزال عهد شقائي ... أم أراني في عالم مسحور
وإذا زهرة كوجنة طفل ... جنبها شوكة كناب هصور
فتذكرت ليلة الأمس رؤيا ... باح لي وردها بسر سروري
إن كف الرحمن تحت سكون ... الليل بالعفو غلغلت في سريري
فرمت نفحة من العطر في قلبي ... وعادت بشوكة من ضميري
وهذه مقاطع من قصيدة (النغم الأخيرة) لشاعرنا شكر الله الجر:
وقفت. . . وقد نفث الدجى في وجنتيها نجمتين
وأذاب حبة قلبه في شعرها والحدقتين(845/12)
وتفتقت في الأفق أكمام الغمام عن القمر
فبد لها كالوردة البيضاء فتحها السحر
والنهر كالديباجة الخضراء جعدها النسيم
ينساب مثل اللوعة الخرساء في صدر الكريم
والحور عند ضعافه مما ألم به أرتبك
ألقى شباك ظلاله فاصطاد أخيلة السمك
وأقتطف هذه الأبيات من قصيدة نظمها شاعرنا نصر سمعان في (المصدور):
نزيف دم أرقت به شبابك ... أصاب الأرض منه ما أصابك
أقبل الموت تنثره وتشقى ... به في كل آونة ترابك
ملأت مسامع الدنيا أنيناً ... أذعت به على الدنيا مصابك
وما لك يا حليف اليأس إلا ... حديث اليأس عن ألم أذابك
تحس الكف كف الموت فيها ... إذا لمستك أو مست ثيابك
وهذه أبيات من قصيدة (مخازن الإظلال) لشاعرنا المدني قيصر سليم الخوري:
يا دهر كم لك منه عندي وكم ... من منة للدهر رهن الزوال
نأوي البيوت إذا استهلت ديمة ... ونفر منها ساعة الزلزال
متع الليالي لا تدوم وطالما ... حذر المحاذر جره لوبال
ينجو المغفل وهو في حدق الردى ... ويصاب في عينيه حين يبالي
وهذه أبيات لشاعرنا حسني غراب من قصيدة يدفع فيها ما اتهم به العرب أحد كتاب الأجانب:
قل للألي حملوا علينا حملة ... شعواء شبت نارها الأهواء
ما نحن ما رسمت لكم أوهامكم ... بل نحن مما تزعمون براء
نهتز عجباً واختيالاً كلما ... عصفت بنا من ريحكم هوجاء
وتظل أعراض الكرام نقية ... بيضاء مهما عابها السفهاء
وأخيراً هاكم هذه الأبيات من قصيدة لفقيد الأدب العربي عقل الجر بعنوان (أمي):
ذكرت ولكن كحلم عبر ... أموراً تقضت زمان الصغر(845/13)
غداة أدب دبيب النمال ... وحولي تدب صروف القدر
أتغتغ لا مفصح كلمة ... فتحسب أمي كلامي درر
وأعبث في البيت مستبسلاً ... فأي إناء أصبت انكسر
وأبكي فيضجر بي والدي ... وليس يلم بأمي الضجر
فتلهب خدي في لمسها ... وتمسح من مدمعي ما انهمر
فيتك أماً تسام العذاب ... النهار وفي الليل ضنك السهر
هذا مثال خطيف من أدب الأندلس الجديدة اقتصرت فيه على النظم دون النثر. هذا من شعر المهجر الذي أبى أحدهم أن يتعرف إليه لأنه ليس شعراً عربياً. وهذا أيضاً شيء من نتاج العصبة الأندلسية وقد قال فيه آخر إنه من طراز الجاهلية.
لا هذا ولا ذاك، بل هو شعر جمع إلى فخامة الديباجة دنيا من الألوان والصور والرقة والفتنة، فليس فيه ميعه الشعر الأندلسي ولا خشونة الشعر الجاهلي.
أقول مجاهراً في هذا المعهد العلمي الذي يحترم حرية الرأي: إن أديب المهجر مغموط حقه، وإن أديب الأندلس الجديدة مبخوس فضله. ولكن إن لم تقدر الأقوام العربية اليوم شأنه فسوف يقدرونه غداً بعد أن تفقد الأندلس الثانية ويقيمون له ضريحاً رمزياً يحمل هذه الكلمات: (هنا يرقد الأديب العربي المجهول).
حبيب مسعود
رئيس تحرير مجلة العصبة الأندلسية(845/14)
ركن المعتزلة:
فكرة الله عند المعتزلة
للدكتور ألبير نصري نادر
نزل القرآن الكريم يتحدث عن الله تعالى خالقاً للكون مدبراً له. والتوراة والإنجيل يتحدثان عن الله وعن صفاته. والكون بأثره وما فيه من نظام يدل على وجود كائن أول متعال، والمعتزلة لا تشك أبداً في وجوده تعالى ولكن جل همها كان البحث في ماهيته وعلاقته بهذا العالم المخلوق.
نفي صفات الله:
تفخر المعتزلة بأنهم أهل التوحيد. ولكن كل مؤمن موحد أيضاً - ولما كان التوحيد اعترافاً بوجود إله واحد نجد المعتزلة على حذر كبير في التحدث عن صفاته تعالى خوفاً من أن يؤدي الكلام في هذا الموضوع إلى شرك يقضي على كل توحيد. لذلك نفت الصفات عن الله.
والأصل الأول الذي كان يقول به واصل بن عطاء رأس المعتزلة (المتوفى سنة 131هـ) هو نفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة. لأن واصل أراد أن يرد فكرة الأقاليم عند النصارى، وكان يرى فيها ثلاثة آلهة، إذ أن الثلاثة قديمة. فخشي أن تؤدي فكرة الصفات حتى الأزلية إلى شرك عند المسلمين؛ لذلك جنح إلى التنزيه البحت وبه نفى أن يكون لله تعالى صفات غير ذاته.
كانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الإنفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين، لأنه من أثبت معنى وصفه قديمة فقد أثبت إلهين.
ثم شرع أصحاب واصل في هذه المقالة بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه عالماً قادراً ثم الحكم بأنها صفتان ذاتيتان هما اعتباران للذات القديمة
وللمعتزلة حجة قوية في نفي الصفات وردها إلى اعتبارات ذهنية للذات.(845/15)
حجتهم:
يقول المعتزلة: لو قامت الحوادث بذات الباري لا تصف بها بعد أن لم يتصف؛ ولو اتصف لتغير، والتغير دليل الحدوث إذ لابد من مغير. فإذا ما تكلمنا عن علم الله مثلاً لا يجوز أن نعتبر العلم صفة قائمة بذاته تعالى؛ لأنه إما أن تكون هذه الصفة أزلية كالذات، وإما أن تكون حادثة. فإذا كانت أزلية فكيف يمكنها أن تحل في الذات؟ وإذا حلت فيها كان هناك أزليان. . . وإذا كانت حادثة وحلت في الذات فكانت الذات قد تغيرت من حال (حال عدم العلم) إلى حال (حال العلم) والتغير دليل حدوث؟ فتكون الذات حادثة في صفاتها. وهذا ما لا يتفق وكماله تعالى.
تعريف المعتزلة لله:
نجد في كتاب (مقالات الإسلاميين) للأشعري تعريفاً كاملاً شاملاً لله رأي المعتزلة. فيقول: (أجمعت المعتزلة على أن الله واحد) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض. وليس بذي إيعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن.
ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحات، ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له.
لم يزل أولاً سابقاً متقدماً للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم يزل عالماً قادراً حياً، ولا يزال كذلك، ولا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع.
شيء لا كالأشياء. عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم(845/16)
غيره ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه. لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولا يصل إليه الأذى والآلام. ليس بذي غاية يتناهى ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص. تقدس عن ملامسة النساء، وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء.
فها نحن بصدد تعريف جله نفي كل صفة عن الله؛ ونتيجة لهذا التعريف لا يمكننا أن نكوِّن عن الله فكرة حقيقية وواقعية أي موضوعية، ولا يمكننا أن ندرك فكرة اللا ألوهية حتى ولا بالمشابهة مع المخلوقات، لأن فكرة اللا ألوهية متعالية عن كل مخلوق مجردة عن كل صفة يتصف بها المخلوق - وهذا ما جعل المعتزلة تقول بأن الخلق لا يستمد ماهيته من الله، لأنه لو كان الأمر كذلك لوجد تشابه في الماهية بين الله والخلق؛ ولكن ماهية الخلق لا تشارك البتة ماهية الله التي نجهلها تمام الجهل - وتنتهي المعتزلة إلى القول بأن الله لا يمنح سوى الوجود للخلق، وكل ما عدا الوجود فلا يوجد أي تشابه بينه وبين الله.
أن هذه النقطة في غاية الأهمية لما يترتب عليها من أقوال ونظريات تتعلق بمسألة خلق العالم وماهيته.
تحليل هذا التعريف:
إذا نظرنا إلى هذا التعريف نظرة تحليلية وجدنا أنه رد على اعتقادات مختلفة إسلامية كانت أو مسيحية أو مجوسية؛ كما أنه رد أيضاً على نظريات لسفيه كانت منتشرة في عصر المعتزلة أي في القرنين الثاني والثالث للهجرة.
كانت الرافضة تقول وهي معتقدة أن ربها جسم ذو هيئة وصورة يتحرك ويسكن ويزول وينتقل؛ وأنه كان غير عالم ثم علم، وأنه يريد الشيء ثم يبدو له فيريد غيره.
ومن وجهة أخرى تقول المشبهة بأن الباري تعالى يشبه الخلق في شعوره وإحساسه وتفكيره وإرادته حتى أن بعضهم قال بأن له أعضاء كأعضائنا تماماً محتجين ببعض آيات مثل (يد الله فوق أيديهم). (وقالتِ اليهود يدُ الله مغلولة). (وَيبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن على العرش استوى) والمشبهة تأخذ بهذه الآيات حرفياً بدون أي تأويل.(845/17)
لذلك نفت المعتزلة الجسمية عن الله كما نفت كل ما يتعلق بالجسم من حركة وسكون وصورة ولون الخ. . . كما هو واضح في الجزء الأول من التعريف. وكذلك نفت عنه تعالى كل ما يتعلق بالنفس الإنسانية من شعور ومعرفة (بمعنى المرور من درجة إلى درجة أسمى في المعرفة) وإرادة (بمعنى الاختيار)، وقالت إنه تعالى (لا يقال بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه) ولا نعلم شيئاً عن ماهيته سوى أنه الواحد، فتكون المعتزلة لا أدرية.
وبينما يقول النصارى بثلاثة أقاليم في الله نجد المعتزلة يرفضون كل فكرة عن الأسرار ويعلنون بأن الله (لا والد ولا مولود ولا شريك له في ملكه).
ونجد أخيراً في هذا التعريف رداً على المثل الأفلاطونية التي كما يقول أفلاطون قد أنشأ الله الخلق على صورتها. ولكن المعتزلة ترى في هذه مثل الأزلية شرك لله وتقول أن لا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. ولم يخلق الخلق على مثال سبق).
ما يترتب على هذا التعريف:
تقول المعتزلة بأن الله واحد ومتميز تمام التميز عن الخلق، هو الأصل الوحيد الذي بمقتضاه يفرقون بين ما هو حق وما هو باطل في التوحيد؛ ويعتبرون أنفسهم بأنهم هم فقط (أهل التوحيد). وعلى هذه الفكرة بنى المعتزلة مسألة الخلق وهي مسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ نفي كل مشابهة بين ماهية الله وماهية العالم المخلوق. وبما أن هاتين الماهيتين مختلفتان ومتباينتان تماماً في عرف المعتزلة قالوا إن الماهية المحدثة المخلوقة ليست حاصلة من الماهية القديمة؛ لذلك قالوا بالعدم واعتبروه شيئاً وذاتاً وعيناً وحقيقة يمنحه الله الوجود ليصير كائناً
مصدر هذه الفكرة:
إنا نجد في القرآن الكريم هذه الآية (ليس كمثله شيء) وكذلك (لا تدركه الأبصار) ولكن كم أيضاً من الآيات التي تتحدث عن أعضاء الله وعن الشبه بينه تعالى وبين الإنسان؟
هل تكفي آية أو آيتان حتى تبنى عليهما المعتزلة هذا التعريف المنفي لله ويصبح تعالى كائناً متميزاً تمام التمييز عن خلقه؟ لاشك في أن المعتزلة استرشدت أيضاً بمصادر أخرى.(845/18)
كان واصل بن عطاء متصلاً بالنصارى. ولكنه رأى في سر الثالوث الأقدس (وهو سر إله واحد في ثلاثة أقاليم) شركا لله؛ فأحذ يرده بقوة حتى يصل إلى فكرة عن إله واحد في غاية البساطة ومميز تماماً عن خلقه. وابتداء من أبي الهذيل العلاف أخذت المعتزلة تطالع كتب الفلاسفة اليونانيين التي ترجمت إلى السريانية والعربية في ذلك العهد. فكانت محاورة تيماوس لأفلاطون قد ترجمت إلى العربية والله في عرف أفلاطون لا يكوِّن العالم على صورته بل على صورة المثل الأزلية. فساعدت هذه الفكرة المعتزلة على القول بأن العالم المخلوق لا يشبه الله الخالق أعني (في لغة المعتزلة) المانح الوجود لماهيات مختلفة ومميزة عنه؛ كما أنهم نفوا أن الله يخلق الخلق على مثال سبق.
ومن جهة أخرى يقول أرسطو إن الله ليس بالعلة الفاعلية للعالم وإنما العالم يجتهد بأن يحيى بقدر المستطاع حياة مماثلة لحياة الله، ولكنه لا يستطيع ذلك لسبب مادته، فيقلد الحياة الإلهية بحركة مستمرة وأزلية وهي الحركة الدائرية (أنظر أرسطو كتاب الطبيعة ص265 ب1) التي هي العلة الغائية للعالم - فإذا لا توجد أي مشابهة بين الله والعالم، والله على رأي أرسطو لم يبدع ماهية العالم ولا وجوده؛ إنما المعتزلة مع نفيها كل مشابهة بين الله والخلق تقول إن الله منح الوجود فقط للعدم حتى صار كائناً.
وعندما أغلقت مدارس أثينا الفلسفية لجأ سمبلقيوس الفيلسوف إلى كسرى ملك الفرس وصديق الفلاسفة. وترك سمبلقيوس عدة شروح لنظريات أرسطو وكان أغلب المعتزلة على صلة بالفرس حتى إن بعضهم كان من أصل فارسي مثل أبو علي الأسواري.
فهذه الترجمات العربية لكتب الفلاسفة اليونانيين التي قام بها السريانيون من جهة، والترجمات التي قام بها الفرس من جهة أخرى، ساعدت المعتزلة على مطالعة الفكر اليوناني وقدمت لهم ما يلزمهم من براهين للدفاع عن التوحيد كما فهموه.
لكن هذا لا يعني أن المعتزلة وجدت الأفكار التي تدافع عنها وقامت بها جاهزة كاملة - أن فضلهم لكبير، لأنهم اقتبسوا من الفكر اليوناني ما رأوه مناسباً للرد على المشبهة ودفع كل شرك مفاخرين بأنهم (حماة التوحيد).
نفي المعتزلة لصفات الله تعالى لا يمنعهم من البحث في بعض الصفات على زعم أنها اعتبارات ذهنية فقط وليست حقائق تتصف بها الذات الإلهية.(845/19)
وهذا ما سنتطرق إليه في مقالنا القادم إن شاء الله.
ألبير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة(845/20)
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة)
لا ريب أن شذوذ هذا الرجل قد بلغ أشده، فعلى الرغم من كثرة ما كان يصل إلى يده من المال من الخلفاء والأمراء والأغنياء كنت لا ترى عليه إلا سيماء الفقر، إذ لا يعنى بملبسه، ولا يكترث بمظهره، بل ربما بدا أمام الناس بثياب لا تليق إلا بالمتسولين: وقد رأى عليه أبو عبد الله العقيلي مرة فروة في الصيف، فقال له: ألا تمل هذه الفروة! قال: بلى، ورب مملول لا يستطاع فراقه. فنزع العقيلي فاضل ثيابه في موضعه فدفعها إليه.
وما كان ليعجز عن فراق فروته في الصيف على رغم ملله منها وضجره مما تحمله من الحرارة لولا أنه كان يعيش عيشة المحتاجين، وإن أعطى عطاء المترفين. لكنك عرفت أنه كان ينفق أكثر ما يأتيه من المال في شرب الخمر وإتيان الحرمات، فلا غرابة إذا بدا أمام الناس بهذا المظهر الخشن البغيض!
ومع أن رداءة المظهر تصم صاحبها بالازدراء في أعين الناس - فإن لسان أبي دلامة كان من الطول والسلاطة بحيث يمنع الأذكياء من الاستخفاف بشأنه، بل يدعوهم إلى الحذر منه والخوف من طعنه في أعراضهم:
أدلى أبو دلامة بشهادة لجارة له عند أبي ليلى على أتان نازعها فيها رجل. فلما فرغ من الشهادة قال اسمع ما قلت فيك قبل أن آتيك ثم أفض ما شئت. قال: هات؛ فأنشده:
إذا الناسْ فطوبى تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
وإن حفروا بثرى حفرت بئارهم ... ليعلم يوماً كيف تلك النبائث
ثم أقبل ابن أبي ليلى على المرأة فقال: أتبيعينني الأتان؟ قالت: نعم. قال: بكم؟ قالت: بمائة درهم. قال: ادفعوا إليها ففعلوا. وأقبل على الرجل فقال: وهبتها لك. وقال لأبي دلامة: قد أمضيت شهادتك ولم أبحث عنك وابتعت ممن شهدت له، ووهبت ملكي لمن رأيت.(845/21)
أرضيت؟ قال: نعم. وانصرف
وهكذا أمضى القاضي شهادته ولم يبحث عنه ولم يطلب تزكيته خوفاً من لسانه الفضاح الذي استبان بعض شره في بيتين من الشعر. وقد ترى - من هذا - أن أبا دلامة كان جريئاً لا يخاف أحداً. والحق أن هناك فرقاً عظيماً بين جرأة اللسان وثبات الجنان، فقد كان هذا الظريف جباناً من الطراز الأول يكاد يخاف من ظله ولو خاف جميع الناس لسانه.
أهدى للمهدي فيل، فرآه أبو دلامة فولى هارباً وقال:
يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم ... لا بارك الله لي في رؤية الفيل
أبصرت قصراً له عين بقلبها ... فكدت أرمي بسحلي في سراويلي
ورجل يخاف من رؤية الفيل - وهو الحيوان الأليف الذي لا يجزع من ركوبه الأطفال - جبان ما في ذلك ريب. وهو - لجبنه - كان يفر من مبارزة الرجال فراره من الأسود!
كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروب مع بني أمية. فدعا رجل إلى البراز، فقال له أبو مسلم: أبرز إليه. فأنشأ يقول:
ألا لا تلمني إن فررت فإنني ... أخاف على فخارتي إن تحطما
فلو أنني في السوق أبتاع مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما
فضحك أبو مسلم وأعفاه.
ولقد حدث أبو دلامة عن نفسه - وفي حديثه إثبات لجبنه - قال: أتى بي المنصور أو المهدي وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك، ولآخذنك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى، ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال: هات، فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهورة ... فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجئ وما يرى ... من واردات الموت في النشاب(845/22)
فقال: دع عنك هذا وستعلم. وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فقال: أخرج إليه يا أبا دلامة. فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي. قال: والله لتخرجن. فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف. فلما رآني الشاري أقبل نحوي عليه فرو وقد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان، فأسرع إلي. فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت، فوقف. فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا. قلت: أتقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله: قلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً؟ قال: لا والله. قلت: ولا أنا، والله لا أحفظ لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أراده لك. قال: يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: إن معي زاداً أحب أن آكله معك وأحب مؤاكلتك لتتوكد المودة بيننا، ويرى أهل العسكر هو انهم علينا. قال: فافعل. فتقدمت إليه حتى اختلف أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني. ثم قلت له: إن هذا الجاهل أن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب؛ فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت. ثم انصرف وانصرفت. فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه، فقلت:
إني أعوذُ بروْح أنْ يُقدمني ... إلى البراز فتخزى بي بنو أَسَدٍ
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرِّق بين الروح والجسدِ
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لها ... وأصبحت لجميع الخلق بالرَّصَد
إن المهلب حبَّ الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خُلقت فرداً فلم أجُدِ
فضحك وأعفاني
فأبو دلامة يعترف هنا بجبنه، بل يصفه فيبدع في وصفه! وكأني به لا يجد فيه غضاضة،(845/23)
أو يريد بذكر قصته ما يريده أمثاله من الظرفاء من إضحاك الناس ولو اتهموا أنفسهم بما لا يرضاه مخلوق لنفسه. والجبن خلق قديم في طبع أبي دلامة، فهو حتى في أيام شبابه - والشباب زمن التهور والحماسة - كان لا يخجل من الفرار من الأقران. وإليك اعترافه بذلك في هذه القصة:
كنت في عسكر مروان أيام زحف إلى سِنانٍ الخارجي. فلما التقى الزحفان خرج منهم رجل فنادى: من يبارز! فلم يخرج إليه أحد إلا أعجله ولم يُنهنهْه فغاظ ذلك مروان وجعل يندب الناس على خمسمائة، فقُتِل أصحاب الخمسمائة، فزاد مروان وندبهم على ألف، ولم يزل يزيدهم حتى بلغ خمسة آلاف درهم. وكان تحتي فرس لا أخاف خونه؛ فلما سمعت بالخمسة آلاف ترقبته واقتحمت الصف. فلما نظرني الخارجي علم أني خرجت للطمع، فأقبل إلي متهيئاً وإذا عليه فرو قد أصابه المطر فابتل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وإذا عيناه تقدان كأنها من غورهما في وقبين. فلماذا مني أنشأ يقول:
وخارجٍ أخرجه حبُّ الطمهْ ... فرَّ من الموتِ وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجَعْ
فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هارباً. وجعل مروان يقول: من هذا الفاضح؟ ائتوني به، فدخلت في غمار الناس فنجوت.
فهذه القصة التي يرويها أبو دلامة عن نفسه كانت في أيام شبابه لأنه لم يجاوز عهد الشباب حتى أواخر الخلافة الأموية، ففيها دليل أقوى على جبنه وخوفه. وقد تشم فيها رائحة الوضع لأنَّ فيها صِيَغاً وأوصافاً تقارب ما في القصة السابقة مع روْح المهلبي، حين صور الخارجي المبارز بأن (عليه فرواً قد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل، وعيناه تقدان. . .) الخ. ويمكننا القول بأن الحادثة قد تعددت على هذه الصورة مصادفة، أو أن أبا دلامة أعجبته هذه الأوصاف التي صوَّر بها مبارزه في المرة الأولى فأعادها في وصف مبارزه الثاني ليبرر موقفه في هربه أو فزعه من هذا المنظر الذي يملأ قلوب الجبناء رعباً.
ونحن - على كل حال - لا نريد أن نعفي كثيراً من أخبار أبي دلامة من ضعف الرواية، فقد لاحظنا بعض التضارب في قصصه، إذ رأينا مثلاً أن الخيزران هي التي وعدته جارية(845/24)
فاستنجزها بشعر، مع أننا نجد في الأغاني (ص268 جـ10) أن ريطة هي التي وعدته، ورأينا أن أبا دلامة طلب من السفاح كلب صيد ثم تدرج في الطلب إلى أشياء كثيرة، مع أننا نجد الجاحظ يروي القصة على أنها في زمن المنصور لا السفاح، ورأينا أبا دلامة يداعب السفاح فيقطعه خمسمائة ألف جريب غامرة على حين أننا نجده في موضع آخر قد أقطع أمثالها مازحاً للمنصور - وانتحلنا هناك لمنع التضارب علة لعلها غير مقبولة - لكن هذا كله لا يمنعنا من قبول أخبار أبي دلامة - على ما فيها من ضعف في الرواية - لأننا نجزم بأن مثل هذا الظريف لا بد من الزيادة في نوادره، والمبالغة في دعاباته. ومن المعروف أن الرجل إذا اشتهر بالظرف نسب إليه الناس كثيراً مما يستظرفون عمداً أو عفواً؛ بل إن الظرفاء أنفسهم كثيراً ما يجدون رغبة في اختلاق الروايات المعجبة وابتكار الأخبار المدهشة التي تدل على خيال خصيب، وذكاء عجيب، وتدل في الوقت نفسه على ميل إلى إرضاء المسامحين والظفر بإعجابهم. . .
ومن هنا لن نعجب إذا وجدنا في ترجمة أبي دلامة في كتاب (شذرات الذهب): (إنه مطعون فيه، وليست له رواية) ولن نعجب إذا قال مثل ذلك الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والحافظ ابن حجر التعسقلاني في (لسان الميزان).
وهكذا شابه أبو دلامة أبا العيناء الذي سبق أن كتبنا عنه في الرسالة في الطعن في روايته وعدم الثقة بأخباره. والفرق بين الظريفين من هذه الناحية أن أبا العيناء كان أحياناً ما يروي السنة فكان ضرورياً أن يطيل الحافظ في بيان ضعفه تحذيراً منه بينما اكتفى أَبو دلامة برواية أخباره ووصف نوادره التي تضحك الثكلى.
هذا هو الفرق بينهما من ناحية الرواية، وأما من حيث الشخصية فإننا نرى أن قد كان لأبي العيناء نوع من الفلسفة الخاصة في هذه الحياة، فقد كان معتزاً بنفسه إلى أبعد الحدود، يرى أن الله قد عوضه عن عماه لساناً سليطاً وشعراً متيناً وذكاءاً نادراً، بينما نرى أن أبا دلامة كان يعيش على هامش الحياة عيشة لاهية، فكثيراً ما كان يحقر نفسه ويذل كرامته ليضحك سواه رغباً في عرض أدنى يناله. ثم إن أبا العيناء كان ينتقد مجمعه ويتهكم بأهل زمنه تهكماً يدل على أن الألم كان يعصر قلبه على حين كان أبو دلامة لا ينتقد عيباً ولا يكاد يتألم من شيء، وإنما كان يعيش عيشة فردية همه فيها إرضاء شهواته، وبلوغ مآربه.(845/25)
ولا شك أن رقة الدين ورداءة المذهب وارتكاب المحارم وتضييع الفروض والمجاهرة بالاثم - من الأوصاف التي توشك أن تجعل من الظريفين شخصاً واحداً لشدة التشابه بينهما فيها. ولا ينتظر الناس من ظريف يضحكهم أن يكون ملاكاً أو قديساً، فإذا كان بعض القدامى قد صرح بأن (أعذب الشعر أكذبه) فإن كثيراً من المحدثين لا يعجزهم أن يزيدوا على ذلك (وأعذب الدعابة أكثرها فضحاً من المستور، وكشفاً للمحجوب).
والطريف في أبي دلامة - وما رأيت فيه إلا طريفاً - أنه عاش حياته كلها ضاحك السن لا يتألم ولا يبكي، ثم مات سنة إحدى وستين ومائة وهو ما زال ضاحكاً لا يتألم ولا يبكي!
فهل كتب الظريف عهداً على نفسه ليضحكن مدى الحياة؟
لعله فعل. . . فما أكثر شذوذ الظرفاء!
صبحي إبراهيم الصالح(845/26)
أساليب التفكير:
فلسفة الشعب
للأستاذ عبد المنعم المليجي
- 2 -
يقول حكيم الشعب: (اعمل خيراً وارمه في البحر). فماذا يملي عليه هذا القول؟ إنه يرى فناء كل حي، وزوال كل نعمة، وضياع كل مجد؛ ويرى إلى ذلك أن ذكرى العمل الصالح تبقى حية في الأذهان والقلوب والضمائر، وأن لفعل الخير حلاوة تجعل منه غاية جديرة بأن تُطلب لذاتها وكفيلة وحدها أن تحقق السعادة في نظره ليست في جاه نبلغه، أو صيت نذيعه، أو مال نصيبه، إنما هو في راحة الضمير وهدوء النفس، ولا سبيل إلى ذلك بغير سلامة النية وصفاء الطوية وهما لا يتفقان مع طلب الخير لغير الخير. اعمل خيراً وألق به في البحر، وترقب السعادة بعد ذلك تأتك طوعاً من حيث لا تدري ولا تحتسب.
أيختلف هذا الاتجاه المثالي في شيء عن اتجاه الشاعر الفيلسوف (جوته) في قصة (فاوست)؟. لقد جاهد فاوست جهاداً طويلاً مريراً دون أن يظفر بشيء، ولكن حياته لم تضع هدراً إذ رفعه المؤلف إلى جنات ربه، وما ذلك إلا لأنه قد أحس بالحق والخير والجمال فجاهد في سبيلها وكان في جهاده هذا خلاصه. نعم إن معنى تلك الحياة والأثر الذي خلفته خطى فاوست على صفحات الزمن هو أنه علينا أن ندأب ما استطعنا في سبيل المثل العليا، وسيان بعد ذلك أأصبنا نجاحاً أم إخفاقاً، فالجهاد نبل في ذاته). ذلك هو الاتجاه الفلسفي الذي تنطوي عليه قصة فاوست وهو نفسه الاتجاه الذي تنطوي عليه عبارة حكيم الشعب (اعمل خيراً وألق به في البحر). أي هدوء تحس به النفوس الخيرة إذ تتمثل هذا الدرس فتغالب بقوته السحرية تيار الجشع والاستهتار. حقاً إن الفلسفة الشعبية الساذجة لتساهم مع الفن والدين في التخفيف من أعباء الحياة.
وبعد، أليس ما ذهب إليه الشعب في حكمته أو (جوته) في قصته، من اعتبار الخير غاية تُقصد لذاتها، هو في جوهره عين ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني العظيم (عمانوئيل كنط) في مذهبه الأخلاقي الذي يرى أن الخير الأسمى الذي يتعين علينا أن نخضع له هو(845/27)
(الواجب) المجرد الذي يمليه علينا (أمر مطلق) يصدر من تلك القوة الذاتية الخفيفة التي ندعوها (الضمير)، تلك القوة التي تعتبر صورة الله في نفوسنا، فالله في الأبدية والضمير في أعماق النفس البشرية؟ إن السعادة في نظر كنط إنما هي في الخضوع للأمر المطلق الصادر من الضمير، والعمل للواجب لذاته وأمر يتفق تماماً مع ما ذهب إليه كل من جوته والحكيم الشعبي. . .
ويعرض أرسطو لنفس المسألة فيحصر الخيرات في ثلاثة: إما اللذة، وإما المجد، وإما الحكمة. ويُعمل عقله أيها يختار على اعتبار أنه الخير الأسمة؟ فيرى اللذة شعوراً نفسياً يصاحب فعلاً من الأفعال أو وظيفة من الوظائف، وعليه فلا يمكن أن تكون غاية في ذاتها؛ وإنما هي عرض يزول بانتهاء الفعل أو الوظيفة، ويرى المجد لمال نصيبه، أو شهوة تنالها، أو تكريم نحصل عليه، فليس المجد هو الغاية القصوى، إنما الغاية المال أو الشهرة أو التكريم. وهكذا تنتهي فلسفة أرسطو الأخلاقية إلى اعتبار الحكمة هي الخير الأسمى الذي ينبغي أن نطلبه ونعمل وفقاً له، وما الحكمة إلا تغلب قوى العقل على قوى الحس، وتفضيل السعادة الدائمة على اللذات المؤقتة، ونشدان الاتزان النفسي وراحة الضمير - وهل لأحدهما أو كليهما أن يتحقق ما لم (نفعل الخير ونلقه في البحر) كما يفعل الحكيم الشعبي، وما لم (ندأب ما استطعنا في سبيل المثل العليا) كما فعل (فاوست)، وما لم نصغ لصوت الضمير الكامن في أعماق نفوسنا شأن (عمانوئيل كنط)؟!
فن السعادة:
حلا للأستاذ الزيات أن يسأل قروية ساذجة: (كيف ترضى بالحياة وهي فقيرة، وتبسم للدنيا وهي منهوكة)؟ فأجابت: (الماء في الكوز والعيش مخبوز). ثم مضى أستاذنا يحاورها حتى ينتزع من فمها درساً غالياً في فن السعادة. قالت أم عامر:
(نشأتُ كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية؛ آكل العشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله. والذي أحلى المر في فمي، وجمَّل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي: صحي كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة، ولم تحتج يوماً إلى دواء؛ ومرانة على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء، ولا(845/28)
بين صيف وشتاء؛ ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء. . .).
لقد استطاعت صاحبتنا بجهد ذاتي أن تنتصر على أقسى ظروف الحياة وتنعم بالرضا والهدوء، ذلك أنها (مرنت على عنف الطبيعة، وقنعت بميسور العيش، وخضعت لمكتوب القضاء.) هي إذن ببصيرة نافذة وبملكة الحكم السليم ترى السعادة أمراً شخصياً وليس رهناً بالظروف الخارجية، هي شأن من شئون الذات بمقدور كل إنسان أن يحققها على رغم قسوة الظروف الخارجية.
تلك فلسفة نستشفها من ثنايا العبارات الصادقة على سذاجتها يفوه بها نفر من البسطاء وهي لا تفترق في جوهرها عن فلسفة الرواقيين التي سادت الفكر اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد وسيطرت على العقلية الرومانية بعد ذلك، وكان لها أثر فعال في الفلسفة المسيحية، وتقترب هذه الفلسفة من الفلسفة البوذية. عرض لجميع هؤلاء سؤال واحد: (كيف السبيل إلى السعادة رغم قساوة الظروف الخارجية، وهل يمكن بلوغها مع ذلك؟) واتفق الجميع على إمكان الوصول إلى السعادة رغم قساوة الظروف ورسموا طريقاً واحدة، وجاء تعريفهم للسعادة واحداً في معناه رغم اختلاف الألفاظ. فقال أم عامر: هي (مرانة على عنف الطبيعة ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء.) وقال الرواقي: هي أن تمتلك نفسك امتلاكاً حراً، وتتحرر النفس من قيود الظروف الخارجية، وتخضع إرادتك الجزئية لإرادة الكون الكلية، تلك الإرادة الكلية الخيرة المنبثة في أرجاء الكون جميعاً.) وقال البوذي: (هي أن تعرف كل شيء، وتفهم كل شيء. تنطلق من عبء الحدث وعبء الوجود، لا تشعر بأية حاجة، تسافر منفرداً لا يعنيك اللوم ولا المديح، تقود الغير ولا يقودك أحد.
دعوة مخلصة:
قد يعجب البعض كيف أقارن بين الحكمة الشعبية وبين المذاهب الفلسفية الكبرى، وقد يرى بعض المهتمين بالدراسات الفلسفية من القحة والتهجم على قدسية الفلسفة أن أحاول التقريب في مجال الأخلاق بين الحكمة الشعبية وبين المذاهب الفلسفية الكبرى. فلهؤلاء أؤكد أن بذور التفكير الفلسفي مغروسة في جميع العقول تقضي عليها لدى البعض ظروف معينة، وتنميها لدى آخرين ظروف مواتية. ليست الفلسفة ركاماً من المعارف المختزنة،(845/29)
إنما هي اتجاه فكري، إحساس بمشكلة تعترض الذهن وتأملها تأملاً حراً بغية الاهتداء إلى سرها عن طريق العقل والمنطق. وإذا فهمت الفلسفة على هذا النحو قرَّ في نفوسنا أن الواجب يقضي علينا أن نتعمق حياة العامة ونغوص على حكمهم السائرة، ونجيل البصر في كتب الشعراء والأدباء، لتبرز بدايات التفكير الفلسفي. ويقضي علينا أيضاً أن نكشف عن بساطة المذاهب الفلسفية وكيف أنها تنبغ على نحو طبيعي من نفس المنابع التي تنبع منها الحكم الشعبية مع فرق في درجة الإتقان والتوفيق. حينئذ يتحقق الوئام بين الحكمة الشعبية والفلسفة المذهبية برفعنا من مقام الأولى وردنا الحياة إلى الثانية، وتندمج عقول العامة وعقول العباقرة في وحدة فكرية نبيلة لا تنفصم عراها.
تلك رسالتي أدعو إليها بكل ما أوتيت من قوة، وأجهد في سبيلها حتى تتلاشى الحواجز الصناعية التي يقيمها نفر من المثقفين. وأؤكد لهؤلاء أن أعقد المذاهب الفلسفية لا يفهم بفهم الألفاظ التي تنقله إلينا، ولكن تفهم المذهب عندما تلمس المشكلة التي اعترضت ذهن صاحبه وتتمثل الكفاح الفكري الذي قام به حتى توصَّل إلى حل المشكلة وتفسيرها بمذهبه، أي عندما تعيش اللحظات الفكرية التي عاشها حينئذ تكتشف أن المشكلة ذاتها قد تعترض أي ذهن، حتى ليمكننا في أحوال كثيرة أن نوفق في رد بعض المذاهب الكبرى إلى أصول في الحكمة الشعبية. إن الفلسفة حركة فكرية طبيعية قبل أن تكون معرضاً لفظياً لمصطلحات مبتسرة، وهي بهذا المعنى بسيطة كما رآها ديكارت وغير واحد من فلاسفة الفرنسيين.
وفيما أنا مشغول بالتفكير في هذه المحاولة، أقرأ رسالة صغيرة أهداها إلينا أستاذنا الدكتور عثمان أمين يحلل فيها خصائص العقلية الفرنسية، إذا بي أجد ما يؤيد محاولتي. وكم كان سروري عظيماً عندما بلغت قوله: (ليست عبقرية الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين إلا كمال ذلك المعنى الذي نجده متحلياً عند فلاحي فرنسا ملموساً في أعمالهم اليومية.) وعندما ردد مع (برجسون) (ليس هنالك فكرة فلسفية مهما يكن حظها من العمق والدقة إلا ويستطاع - بل يحسن - التعبير عنها بلغة الناس المتداولة البسيطة.) ومع (بوالو):
(إن ما أجد تصوره استطعنا أن نعبر عنه تعبيراً واضحاً، وجاءتنا الألفاظ عنه طائعة مختارة.) وعندما علق على قولي برجسون وبوالو بعبارة ساخرة تحفزني إلى المضي في(845/30)
طريقي وتعتبر خير سند لفكرة التقريب بين عقول الفلاسفة وعقول المستنيرين من البشر: (ليست كل المياه الملوثة بالطين مياهاً عميقة، ولا كل المياه الصافية مياهاً سطحية).
لست إذن أدعو إلى المستحيل، ولا أنا أطلب بدعاً، فالفلاسفة الفرنسيون أنفسهم مهدوا السبيل أمامنا فلم يشحنوا مؤلفاتهم بتلك المصطلحات الفنية التي تعتبر ستاراً صفيقاً يحول بين الكثيرين وبين فهمها، بل عرضوا أفكارهم في بساطة ووضوح، ولم يعمدوا إلى غموض هو كما قال برجسون: (في منزلة القناع يلقيه المؤلف على فكر لم يوفق بعد إلى أن يستبين ذاته تمام الاستبانة.) وتوجهوا بفلسفتهم إلى الجمهور كله بل إلى الإنسانية جمعاء؛ ذلك أن الفلسفة في رأيهم حق للبشر جميعاً، وليست امتيازاً لطبقة على أخرى. وعليَّ بيان ذلك في العدد القادم إن شاء الله.
(الإسكندرية)
عبد المنعم المليجي(845/31)
دخان ولهب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
لا تخلها - وهي تذكو شعلاً - ... بنت كرم إنها كانت ضراما
كلما أفرغتها في كبدي ... غادرتها بين أضلاعي حطاماً
قد عصرت الروح في الكأس ومن ... قلبي المشبوب ذوبت الحبيب
وحسبت اللحن في صدري أسى ... فإذا اللحن دخان ولهب
وتراميت على وقد الجوى ... مثلما يلقى على النار الحطب
أتراني - ولقد ودعت أمسي
ودفنت اللحن في ظلمة يأسي -
أبعث الأنغام أو تعذب كأسي؟
لا وعينيك فما خمري سوى ... قطرات لم تكن إلا ضراما
وفنائي لم يكن إلا صدى ... لرنين صيَّر القلب حطاما
يا حبيبي إنَّ لحناً مرَّ في ... شفتي بالأمس قد عاد خيالا
وربيعاً كان مفتان الرؤى ... لا أرى منه على السفح ظلالا
وغديراً كم بثثناه الهوى ... كفنته الريح شوكاً ورمالا
أتراني - ولقد بات نشيدي
همسة ترقد في الماضي البعيد
أحتسي الخمرَ على رنة عُودي
لا وعينيك فما لحني سِوى ... قطع ينفثها الصَّدر ضراما
وشعاع الكأس ما كان سوى ... لهب قد صيَّر القلبَ حطاما
إيه يا أيامي اللائي مضتْ ... وتلاشتْ في زَوايا الأبد
هل يعود اللحن مونان الصدى ... وتمسُّ القدح العذب يدي؟
كلما قلتُ: ستخبو جذوة ... أيقظتها أختها في كبدي
آه ما كأسي، ما عُودي وفَنِّي
غير أحلام توارتْ خلف دجنْ(845/32)
يا حبيبي لا تسَلْني أينَ لحني؟
إنَّ أنغامي في ليْلِ الأسى ... لم تكنْ إلا دُخاناً وضراما
وبقايا الكأس ما كانت سوى ... حرق صيَّرت القلبَ حطاما
إبراهيم الوائلي(845/33)
غب النوى. . .
للآنسة الفاضلة (المطوقة)
مضيتَ؟ إلى أين؟ هلاَّ تعود ... إليَّ، إلى روحيَ اللائبِ
حنانك، ضقْتُ، وضاقت حياتي ... بهذا الصدى المحرق اللاهب
بأشواق العاتيات تزلزل ص_دريَ في عنفها الصاخب
حنانك، قلبي يذوب وراءك _، أواه من قلبي الذائب
تلفَّتْ، وراعِ بقاياه تذوى ... وتفنى مع الأمل الغارب
مضيتَ؟ وكيف؟ ألا رجعة ... ترد إلي القلب دنيا رؤاه؟
لقد أقفر الكون في ناظريَّ ... وغشى الظلام مجالي ضياه
وكيف أحس جمالَ الوجود ... ووجهك عني توارى سناه
فما أقبح العيش يا موحشي ... وياما أشد سواد الحياه
وأنت بعيد بعيد هناك. . . ... وقلبي وحيد يعاني أساه
مضيتَ؟ فيا لحنيني إليك ... وواهاً لأمسى القريب البعيدِ
زمان أمر بدرب الكروم ... وللدرب نفح جنان الخلود
ويشرد طرفي زيطوي المدى ... ولقياك غاية طرفي الشرود
وفي القلب نار جموح الوقود ... ينادي بها الشوق: يا نار زيدي
وطرفي قرير بذاك الشرود ... وقلبي سعيد بذاك الوقود
ويفجأني وقع خطو بعيد ... ورائيَ، أصغي إليه طويلا
ويهتف قلبيَ: هذي خطاه ... أرى في صداها عليه دليلا
خطى العنفوان، خطى الكبرياء ... تنم عليه عظيماً نبيلا
وتختطف الروحَ غيبوبةٌ ... وقد رحتَ تدنو قليلاً قليلا
وأغرق في حلم ساحرٍ ... أحال حياتي فناً جميلا
وفي غمرات الذهول العميق ... تطالعني القامة الفارعة
فأشخص، ثم أغمضْ حياءً ... واكسر من لهفتي الجائعة
وأبدى جمودَ الخلِّي كأن لم ... ترج دمي الطلعة الرائعة(845/34)
وتحت جمودي اضطراب عصوف ... أداريه مغضيةً وادعه
وتحت جمودي من العاطفات ... أعاصير جارفة دافعة
وتنهب عيناك وجهي وقد ... عرا مهجتي منهما ما عرا
فيمحى بعينيَّ كل الوجود ... ويمحى بعينيَّ كلَّ الورى
وما لفتة النسر يا فتنتي ... تطلع من عاليات الذُّرى
وسلّط لحظاً على إلفِهِ ... عنيفَ التوقد، مستكبرا
بأروع منك وعيناك فيَّ ... أوارٌ تلظى وسحر سري
وتمضي، وأمضي مع العابرين ... وما بيننا غير نجوى النظر
وطيف ابتسام على شفتيك ... ووهْجُ هيام بعمقي استعر
وقد هبط الليل حلوَ الغموض ... خلوبَ الرؤى، عبقريَّ الصور
وماجت الريح خضر الكروم ... مشعشعةً بضياء القمر
وفاض الوجود شعوراً وشعراً ... وذاب من الوجد حتى الحجر!
سل الدرب كم جئت غبَّ النوى ... أجرُّ الخطى في الغروب الحزينْ
وحولي من الذكريات الخوالي ... طيوف تثير لهيب الحنين
أخاف تكرُّ عليها الليالي ... وتدفن تحت ركام السنين
فيبسط قلبي جناحيْ هواه ... عليها ويحنو حنوَّ الضنيين
وأنت بأعماق روحي صلاة ... يسبح باسمك روحي الأمين
مضيت؟ إلى أين؟ هلاَّ تعود ... لروحي اللهيف، لقلبي الغريب؟
توحدتُ بعدك يا موحشي ... على الدرب، درب الكروم الجديب
أسير إلى غير ما غاية ... وكفى على جرح قلبي الخضيب
وفي مقلتيَّ غيوم حزانى ... وفوق جبيني وجوم كئيب
وسمتك في خاطري مائل ... يهيج الحنين ويذكي اللهيب
إلى أين؟ رحماك يا ابن الصحاري=وبرد ظماء الفؤاد العميدْ
فما برمال عطاشى نَمتْكَ ... كهذا الغليل الملح العنيد
إلى أين؟ يا لك طيفاً ألمَّ ... وعانق روحي بحلم سعيد(845/35)
ويا لك وهْمَ سراب تألق ... في قفر عمري لقلبي الشريد
حنانك، عد، كيف أحيا الحياةَ ... وأنت هناك بعيد، بعيد
(المطوقة)(845/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(تحت المبضع) للأديب السوري محمد روحي فيصل:
كتاب في بضع وثمانين صفحة، ولكنه يقدم صاحبه خير تقديم؛ يقدمه في معرض النقد الأدبي حين يكون للذوق المرهف أثره الملحوظ في اللمحة الفنية التي تغنى عن لمحات، وفي اللمعة الفكرية التي تهدي إلى لمعات. . . أما الكتاب، فهو (تحت المبضع)، وأما الكاتب فهو الأستاذ محمد روحي فيصل رئيس قلم المطبوعات في (حمص).
هذه كلمات يجب أن تقال قبل أن أقدم للأستاذ روحي فيصل خالص الشكر على هديته، وقبل أن أضع مبضعه تحت المبضع، فأتفق معه حيناً، وأختلف معه حيناً آخر. . . ولا بأس أبداً من أن نلتقي هنا لنفترق هناك، وما دامت السطور الأولى من هذه الكلمة النقدية تحمل إلى القراء حكما صادقاً وأخيراً على شخصية الكاتب وما كتب!
في هذا الكتاب فصول أفردت لنقد الشعر والنثر ممثلين في مهرجان أبي العلاء. . . ومرة أخرى نعود إلى فيلسوف المعرة لننظر فيما قاله الأستاذ روحي فيصل عن هؤلاء الذين اشتركوا في إحياء ذكراه، وبخاصة تلك النخبة من الشعراء أمثال الأساتذة: عمر أبي ريشة، وبدوي الجبل، وشفيق جبري، ومحمد البزم، ومهدي الجواهري. . . شعراء خمسة تقدم كل منهم إلى المهرجان بأبيات من الشعر تفاوتت في سبحات الخيال ورفات الجناح، وكاتب يقف منهم جميعاً موقف العارض في أمانة، المحلل في أناة، الناقد في ثقة واحتشاد.
أول شيء أود أن أشير إليه هو تلك الكوى الفكرية التي أطلت منها رؤوس الشعراء والناثرين لتنفذ إلى أغوار الشخصية العلائية. . . بماذا خرجت تلك الرؤوس من ذلك الفكر المسجى على فراش الأجيال والعصور؟ أكاد أقول لا شيء!. . . لا شيء غير تلك القصة المكررة التي ترويها كتب القدامى والمحدثين، ولا شيء غير ذلك (الفلم) الذي تعرض مناظره على (شاشة) الشعر والنثر دون أن تتجدد الزوايا العديدة في الصور النفيسة، وكأن أبا العلاء على كثرة (المخرجين) و (المصورين) نسخة واحدة أبرز فصولها مخرج واحد، والتقط مشاهدها مصور واحد، وكأني كنت أمد عيني إلى مهرجان أبي العلاء، وأرهف سمعي إلى ما يقال عنه يوم أن فلت في عدد مضى من (الرسالة): (لو قال الباحثون عن(845/37)
أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كل عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان، واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره (التشاؤم) في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!. . . من الخطأ في رأيي أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل، كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!. . . أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأي واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كل يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات؛ وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي: القلق!
ولقد فسرت هذا القلق على ضوء علم النفس الأدبي تفسيراً جديداً، حيث قلت بعد كلام طويل في هذا المجال: (الفراغ في حياة أبي العلاء، ولا شيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصلية لتلك الذبذبة النفسية ممثلة في هذه الذبذبة الفكرية ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟ إنها ثلاثة ألوان: فراغ الشمس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردهما جميعاً إلى الحرمان، فنفس أبي العلاء كانت تشكو الحرمان من العطف، وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة. . . وقفْ طويلاً عند هذا الحرمان الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيرة بين ألف رأي وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر، حيث يتجلى التناقض والتضارب والاختلاف! هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأيي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في(845/38)
توجيه العقول والأفكار)!!
قلت هذا بعد أن تعرضت لآراء الباحثين ممن وقفوا عند الآفة الجسمية في حياة أبي العلاء مفسرين على ضوئها معالم الاضطراب في نظراته وآرائه. . . فليرجع القراء إلى ما قلت، لأن تلك السطور التي نقلتها هنا لا تغنيهم عن البحث كاملا مرتبط الفصول، متماسك الأجزاء، مسلسل النقلات، بين النتائج والمقدمات. . . قلته بالأمس، وأعود اليوم فأذكّر به، لأن الأستاذ روحي فيصل يتفق معي في خطباء المهرجان لم يأتوا بجديد حين يقول في مقدمة كتابه: (فأما إن أبا العلاء المعري نفسه قد استبان لنا على غير ما كنا نعرف من صورته، فذلك لا يقوله أديب له شيء من مشاركة في فهم الأدب على العموم، وفي فهم الأدب العربي على الخصوص. فما شع من هذا المهرجان الذي انقضى ضوء نظرية جديدة من شأنها أن تنير ناحية من أبي العلاء كانت مجهولة أو مظلمة، ولا انبثق عرض شامل بنظم هذا الرجل الكبير في شتى مجاليه)!
وأقف هنا وقفة قصيرة لأهمس في أذن الأستاذ فيصل قائلاً له: لقد كنت أرجو ألا يكون ناقداً فحسب، وإنما كنت أرجو أن يكون ناقداً وباحثاً في وقت معاً. . . أعني أنني كنت أود، وقد أشار إلى هذا الاجترار الممل فيما قيل عن أبي العلاء، أن يحاول هو من جانبه أن يضع شخصية الرجل تحت المبضع عسى أن يخرج من دراسته بنظرات جديدة. ولكن الأستاذ فيصل قد ترك أبا العلاء إلى هؤلاء الذين تحدثوا عنه من الكتاب والشعراء، مقتصراً على الإشارة العابرة إلى كلمات الفريق الأول، والنقد المفصل لقصائد الفريق الأخير!
وأنتقل بعد هذه اللفتة إلى الفصول النقدية الخمسة التي أفردها الأستاذ فيصل لشعرِ أبي ريشة والجبل وجبري والبزم والجواهري.
في تلك الفصول لمسات تنبئ في الكثير الغالب عن سلامة التقويم، ونزاهة التقدير، وعرض موقف للشخصية الأدبية على مدار الحقل الشعري واتساع مداه. . . هناك حيث تبحث عن معدن الملكة الناقدة فيشع في اللمحة الفنية التي تغنى - كما قلت لك - عن لمحات، وفي اللمعة الفكرية التي تهدى إلى لمعات. . . انظر مثلا إلى هذين البيتين من قصيدة بدوي الجبل حول مشكلة الآفة الجسمية في حياة أبي العلاء، وأحكم - بعد ذلك -(845/39)
على الذوق الأدبي عند روحي فيصل:
من راح يحمل في جوانحه الضحى ... هانت عليه أشعة المصباح
وجلا المصون من الضمائر فانتهى ... همس النفوس لضجة وصياح
(فاقرأ هذين البيتين كما قرأتهما أنا، وأعد تلاوتهما على نفسك، وانفذ إلى مطاويهما، وتذوق حلاوتهما، فستجد أنك حيال لون من الشعر المجنح الجميل طالما رغبنا في مثله، وطالما حرصنا على أن يسحب الشعراء على ذيله. وسترى عمل البيان في الخروج بخوافي النفس إلى دنيا النور أو دنيا الضجة والصياح كما يقول البدوي؛ وإنما يعجبني البيت الأول لأن صورة (الضحى بين الجوانح) من أرق الصور وأدناها إلى الخيال وأعقلها بالجمال. . . ويعجبني البيت الثاني لأن كناية (الضجة والصياح) من أبرع الكنايات في الدلالة على الكشف والإعراب).
هنا ذوق رائع في فهم الشعر ورفع الغطاء عن أسرار مراميه، ولكنني أختلف مع صاحبه حين يزن هذا البيت بميزان الأداء اللفظي في الوقت الذي أنادي فيه بإقامة الميزان للأداء النفسي في الشعر العربي الحديث. . . يقول بدوي الجبل في مجال الحديث عن موقع المرأة من شعور أبي العلاء:
يا ظالم التفاح في وجناتها ... لو ذقت بعض شمائل التفاح!
ويقول روحي فيصل في مجال التحليل والنقد: (فهنا عتاب ناعم يوجهه الشاعر لأبي العلاء فيما تجنى على المرأة من نقد، وهنا إغراء جميل على محاسن الأنوثة، وهنا فوق ذلك، ألفاظ خفاف، ومسرى حلو، ونغم لطيف، وشعور - على أنه سطحي وابتدائي وجماهيري - لا يخلو من شيء من الإحساس بفتنة المرأة وسحر الجمال).
معذرة إذا قلت للأستاذ فيصل: إن هذا الشعور الذي يصفه بأنه سطحي وابتدائي وجماهيري، هو وحده الذي أكسب بيت بدوي الجبل ذلك الأداء النفسي الذي أدعو الشعراء إلى أن يطرقوا أبوابه. . . إن كلمة (لو ذقت) هي التي أوحت إلى الأستاذ فيصل بهذا الوصف، ولكنه لو نظر إلى الظلال الفنية التي أسكنها الشاعر بناء التعبير ممثلة في تلك الكلمة، لتكشف له عمق الحركة النفسية في ذلك الصدق الشعوري المنبعث من بساطة الأداء.(845/40)
ولقد كنت أود أن أطيل القول في مشكلة الأداء النفسي في الشعر، لولا أن هناك بحثاً يدور حول هذا الموضوع في انتظار العرض على صفحات (الرسالة) في الأيام المقبلة.
ويبدو لك من كتاب الأستاذ روحي فيصل أنه يفضل قصيدة عمر أبي ريشة على غيرها من الشعر الذي ألقى في المهرجان. . . وهنا أختلف معه مرة أخرى ما دام هو يضع الشعر أحياناً تحت مجهر الحركة اللفظية، وما دمت أنا أضعه أبداً تحت مجهر الحركة النفسية.
يقول أبو ريشة مثلاً:
أتريد الوجود منتهك الستر ... يرينا أسراره عريانا
ويفض الفدام عن قلبه السمح ... ويجريه للعطاش دنانا
لو بلغنا ما نشتهي لرأينا الله ... في نشوة الشعور عيانا
هنا معرض ألفاظ يعج بصور فكرية عادية التلوين مألوفة الأضواء، كل ما يهزك منها هو هذا الإطار التعبيري الذي يحيط بالصورة، ويضفي عليها شيئاً من الجمال، الجمال الذي يطالع الأنظار والأسماع ولا يطالع المشاعر والنفوس! ولكن الذوق المرهف يعود إلى محرابه الأصيل عند روحي فيصل عندما يهتز طرباً، وأهتز معه لهذا التصوير النفسي الموفق في هذين البيتين لمهدي الجواهري حول قسوة القدر على حياة أبي العلاء:
على الحصير وكوز الماء يرفده ... وذهنه، ورفوف تحمل الكتبا
أهوى على كوة في وجهه قدر ... فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا
ولمحة أخرى للأستاذ فيصل تبلغ الغاية في الإشراق، لمحة أصافح عليها يقظة النقد عند هذا الناقد الذواق. . . بيت من الشعر في قصيدة عمر أبي ريشة مأخوذ من بيت آخر في شعر شوقي، ويشهد الله أنني وقفت عند هذا البيت ورددته إلى منبعه الأصيل وتحدثت عنه منذ عام إلى بعض إخواننا من الأدباء، وكان ذلك يوم أن تلقيت من لبنان ذلك الديوان الجديد الذي أخرجته دار مجلة (الأديب) للشاعر أبي ريشة، والذي حوى إلى جانب ما حوى من شعره قصيدته التي ألقاها في مهرجان أبي العلاء. . . يقول شوقي في (مجنون ليلى):
قد يهون العمر إلا ساعة ... وتهون الأرض إلا موضعا(845/41)
ويقول عمر أبو ريشة:
قد تجف الحياة إلا وريداً ... ويضيق الوجود إلا مكانا
ويقول روحي فيصل: (. . . والتقى شاعرنا مع شوقي في بيت لا أدري كيف أخذه في رابعة النهار)! ثم يسكت عن الموازنة، تاركاً الحكم للقراء، حيث يقول: (أي البيتين أجمل وأروع؟ لا أريد أن أقطع أنا بالجواب الواضح، فالترجيح متروك لذوقك وفطنتك، ولفهمك فن البيان وفلسفة اللفظ، وحسبي الآن أني أثرت شوقك إلى البحث والموازنة، على ضوء مزاجك وثقافتك وصراحتك). . .
سكت الأستاذ فيصل عن الموازنة، ولكن هذا السكوت أفصح من كل الكلام. . . ولو كان في المجال متسع للإفاضة لقدمت أنا إلى القراء نقداً مفصلاً في مجال الموازنة بين البيتين، نقداً ينتهي فيه الحكم الأخير إلى هذه الكلمات:
لقد حاول أبو ريشة أن يقف من شوقي موقف سلم الخاسر من بشار فلم يبلغ شيئاً. . . إن الفارق بين بيت أبي ريشة وبيت شوقي، هو الفارق بين الجميز البلدي والتفاح الأمريكاني!!
وتبقى بعد هذا كله كلمة أخيرة أوجهها إلى الأستاذ روحي فيصل، وهي أن كثيراً من النقاد المتذوقين قد خلا منهم الميدان منذ أمد طويل، وحبذا لو تفرغ للنقد الأدبي ليضم جهده إلى جهود هذه القلة التي تعمل مخلصة على سد هذا الفراغ!
مصرع الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل:
أسفت كل الأسف وأنا أطالع في الصحف منذ أيام نبأ مصرع الكاتبة القصصية الأمريكية مرجريت ميتشل. . . ومرجريت ميتشل كما لا يخفى على القراء هي مؤلفة تلك القصة الرائعة التي قرأها الملايين وشاهدوها على الشاشة، وأعني بها قصة (ذهب مع الريح. إن مصدر أسفي على مصرع هذه الكاتبة العظيمة هو أنها استطاعت بقصتها تلك أن تخرج أثراً فنياً لا يمكن أن تقاس إليه آثار كاتبة أخرى مثل جورج صاند، وأن تقدم الدليل على أن الأدب الأمريكي الحديث على تفاهته لا يخلو من الروائع، وأن قدرة المرأة على استكناه حقائق الحياة واستكمال أدوات الفن تفوق قدرة الرجال في بعض الأحيان!
ومن دواعي الأسف أيضاً أن تختم حياة هذه الفنانة بمثل هذا الختام الذي يثير الأسى(845/42)
والشجن. . . لقد كان من الممكن لو لم يقض القدر القاهر بانطفاء الشعلة المتوهجة في الخيال الخلاق، أن يفيض النبع أكثر مما فاض فيظفر عشاق القصة الطويلة بأثر فني آخر يضاف إلى ذلك الأثر الوحيد الفريد، وأعني به (ذهب مع الريح)! مهما يكن من شيء فحسب مارجريت متشل أن يدرج اسمها في سجل كتاب القصة الأفذاذ بهذه التحفة اليتيمة التي كانت في حساب الفن كل رصيدها المدخر، وإنه في ميزان النقد لرصيد عظيم. . . ومهما يكن من شيء أيضاً، فإن طريق الخلود لا يسلكه السالكون بكثرة ما قدموا إلى الناس من نتاج القرائح وعصارة الأذهان، وإنما يسلكونه بقيمة هذا النتاج ومدى تمثيله لصور الحياة وتصويره لحقائق النفوس على اختلاف الميول والأذواق وتفاوت الأجيال والعصور. الكيف لا الكم في ميزان الفن هو وحده أساس الخلود والبقاء؛ وإلا لما استطاع كاتب مثل بنجامان كونستان أن يأخذ مكانه في صفوف الخالدين بقصة واحدة هي أدولف تلك القصة التي قال عنها بول جورجيه: (إن أدولف لتعد مثلاً أعلى للقصة الذاتية، ولقد بقيت من كل تلك القصص التي ظهرت في القرن التاسع عشر وهي أحفلها بالحياة، وأكثرها إنسانية، وأشدها أسراً للشعور، ولا توجد قصة أخرى تهزني كما هزتني هذه القصة). . . كما قال عنها فردينال برنتيير: (إن أدولف قصة إنسانية لا يمكن أن ترقى إلى حقيقتها التحليلية قصة أخرى
ينظر بورجيه إلى الفن من ناحية القيم الإنسانية، وينظر إليه برنتيير من ناحية القيم التحليلية، وبهذين الجناحين معاً يحلق الفن في أرحب الآفاق، فإذا ما نال منه الجهد فهبط ليستريح فإن مكانه هناك. . . في أعالي القمم! أما الإنسانية في (ذهب مع الريح) فهي في تلك الدفقات العاطفية العميقة المنبعثة من قلب امرأة حائرة بين رجلين: رجل جدير بحبها ومع ذلك فهي لا تحبه ورجل غير جدير بهذا الحب ومع ذلك فهي تحبه، وهكذا كان حال (سكارليت) وهي موزعة الفكر والشعور بين (أشلي) و (بتلر)!. . . وأما التحليل فهو في تلك الصفحات الزاخرة بقصف المدافع ودوي القذائف وأنات الضحايا وزفرات الثكالى وعصف الحديد، هناك حيث تقدم مرجريت ميتشل للحرب الأهلية الأمريكية صورتين لا مثيل لهما في متاحف الفن ومتاحف التاريخ!. . .
بعض الرسائل من حقيبة البريد:(845/43)
بين يدي وأنا أكتب هذه الكلمات كثير من رسائل القراء في مصر والأقطار العربية. . . أما الذين يبعثون إليَّ برسائلهم معبرين عن حسن الظن وكريم التقدير فلهم خالص الشكر وعاطر التحية، وأما أصحاب الأسئلة التي يوجهونها إليّ في محيط الأدب والفن فبودي أن أوجه إلى بعضهم رجاء خاصاً، هو أن يراعوا في أسئلتهم مدى الفائدة التي يمكن أن تعود على القارئ وهم في انتظار الجواب؛ وذلك بأن تكون الموضوعات التي تثار جديرة بخلق قضية من القضايا الأدبية بهم القراء وضعها على بساط البحث والمناقشة. وإلى الأعداد المقبلة حيث أتناول بالتعقيب بعض هذه الأسئلة، ولا بأس من تسجيل الشكر في مجال الرد على بعض التحيات. . .
أنور المعداوي(845/44)
الأدب والفن في أسبوع
سلامة موسى يعارض التعليم الديني:
منذ أسابيع أصدر معالي وزير المعارف قراراً يجعل التعليم الديني مادة إجبارية في المدارس الابتدائية بعد أن كان مادة اختيارية لا يجب تحصيلها لاجتياز الامتحانات، فأصبح من المواد الأساسية التي لا بد من الامتحان فيها لبلوغ النجاح. وقد كان لهذا القرار موقع حسن في النفوس، اغتبط له كل من يقدرون أثر الدين في طبع الناشئة بطابعه، وتشُّرب نفوسهم روحه، وتبصيرهم بحقائقه، ليكونوا مواطنين متعاونين على الخير، متمسكين بالفضائل، متهجين نحو المثل العالية.
ولكن في مصر - مع الأسف - مفكراً حرا، أو هكذا يقولون، لم يغتبط لذلك، بل ابتأس له، واعتبره تخلفاً ورجعية. . . ذلك المفكر الحر المزعوم هو سلامة موسى، كتب مقالا في جريدة (النداء) بعنوان (الرجعية تتحدى الزمن) قال فيه: (ونحن نقرأ هذه الأيام عن حركات يراد منها تقييد التعليم في الجامعة، وبعث التعليم الديني في المدارس على الرغم مما سوف يحدثه من خلاف بل شجار بين المسلمين والأقباط) ولست أدري أين قرأ عن الحركات التي تقيد التعليم في الجامعة. وقال (. . . وعباس العقاد أيضاً يقول بأننا نكون شيوعيين حين نقول بفصل الدين عن الدولة، فهل فهم نهرو ذلك أيضاً؟ وهل كان شيوعياً عندما فصل دولة الهند عن ديانتها الهندوكية؟ إن لنهروا مذهباً في الوطنية وللرجعيين في مصر مذهباً آخر، فأيهما أصح؟) ثم قال (وأعود فأطلب المقارنة بين الساسة الهنود والساسة العرب في أقطار الشرق العربي كله، وأعود فأتساءل: هل نحن المصيبون وهم المخطئون أو العكس؟ لقد فصلت الهند الدين من الدولة في حين أننا شرعنا في تعليمه بالمدارس وجعلناه مادة أساسية).
وسلامة موسى، إذ يقول هذا الكلام ويفكر ذلك (التفكير الحر) إما أن يكون سيئ النية نحو الدين الإسلامي متعصباً ضده، وإما أنه يجهل حقائق هذا الدين فهو يكتب عن جهل ويدس أنفه فيما لا يعنيه، وقد يجتمع الأمران ولكني أوثر الإغضاء عن الأمر الأول، فحسبه جزاء عليه، إن كان، ما يجد من الغيظ في نفسه، وإذن لا أجد مناصاً من الأمر الثاني وهو جهل مفكرنا الحر حقائق الإسلام.(845/45)
إن الإسلام ليس دين عزلة، وإنما هو نظام حياة وتشريع مجتمع، وتعليمه في المدارس يهدف إلى التهذيب والتثقيف وتطبيق شريعته على مسائل الحياة المختلفة. فهو يختلف عن الديانة الهندوكية، وأظن أن سلامة يعرف الهندوكية ويعرف ما يبرر فصلها عن الدولة في الهند، ولكن الذي لا يعرفه - على أحسن الفرضين السابقين - أن الإسلام ليس كالهندوكية في ذلك. فلا محل للمقارنة، التي بدأها وعاد إليها، بين ساسة الهنود وساسة العرب، وما كان أحراه أن يمسك بزمام (فكره الحر) فلا يدعه يخبط ذلك الخبط العجيب.
ومن جهل سلامة موسى أنه لا يعرف أن المجتمع الإسلامي عاش قروناً على الجمع بين الدين والدولة، وأن الأزمان التي أصابه فيها الضعف هي التي كان فيها الساسة يبعدون عن الدين، وأن المجتمع الإسلامي والدول الإسلامية كانت تحتضن علماء ومفكرين من غير المسلمين وتكرمهم وتحلهم المكان اللائق بهم، وأن هؤلاء وغيرهم من سائر المخالفين في الدين كانوا يعيشون مع المسلمين عيش المواطنين المتضامنين، فلم نسمع عن خلاف أو شجار حدث بسبب التعليم الديني بين المسلمين والمسيحيين، ولم نسمع أن أحداً من المسيحيين خرج على مقتضى الترابط الاجتماعي فآذى أحداً أو أطلق (أفكاراً حرة) كالتي يطلقها سلامة موسى في آخر الزمان. . .
وبعد فإن سلامة موسى يقول دائماً، ويردد مريدوه، إنه صاحب دعوة جديدة في الكتابة، تلغي العاطفة وتحكم العقل وتقوم على الاطلاع والبصر بالأمور، فهل ينطبق هذا على ما كتبه عن تعليم الدين الإسلامي بالمدارس ومقارنته بالهندوكية؟ لقد بينت أنه في ذلك إما صادراً عن التعصب أو الجهل أو كليهما، وفي التعصب (عاطفة) الكراهية، وفي الجهل جهل. . . فهل هذا من مقتضيات تلك الدعوة؟ أو هي (أفكار حرة والسلام!)؟
العصر الإذاعي:
تحدثت السيدة تماضر توفيق المذيعة، إلى محرر مجلة (الاستديو) بعد عودتهما من انجلترا حيث كانت تشترك في دراسات إذاعية بمحطة لندن، فجاء في حديثها عن الإذاعة البريطانية أنه لو حدث أن أذيع هناك حديث يخالف النهج المرسوم لأحاديث الإذاعة فإن المقالات تكتب في نقد هذا التصرف ولوم المشرفين على البرنامج الذين يهتمون بهذا النقد ويعملون على تحقيق ما يوجه إليه.(845/46)
قرأت ذلك وقارنته بما يحدث عندنا فشعرت بالأسف. هناك الجمهور راض عن برنامج الإذاعة في جملته لأنه مرض فعلا، فإذا حاد منه شيء عن الجادة دفعه الحماس والغيرة إلى اللوم والنقد وهو يثق أن هناك من يصغي إليه. وهنا اعتاد الناس أن يسمعوا الإذاعة تخبط كما تشاء، لا منهج لها ولا غاية، وإنما هو الاعتساف والفوضى وسوء الاختيار، وما ينشأ عن كل ذلك من تقديم بضاعة ليس لأكثرها من فائدة إلا تزجية الوقت وسد الفراغ، فإذا كتب ناقداً أو صاح غيور وذهبت الكتابة والصيحة مع الريح، ولا نجد لها صدى إلا ما تنشره مجلة الإذاعة من أشباه البلاغات الرسمية التي تقول فيها إن ما تنشره الصحف والمجلان جميعاً عن الإذاعة غير صحيح. . .
وعلى ذكر مجلة الإذاعة أذكر أن محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية تصدر مجلة أول ما تقرأ فيها نقد برامج المحطة، وقد وزعت أبواب البرامج من أدبيات وتمثيليات وموسيقى على كتاب يتتبع كل منهم ما يذاع في بابه ويتناوله النقد. أما مجلة إذاعتنا فهي تشبه بعض صحف الأحزاب السياسية المتطرفة في الحزبية، لا هم لها إلا الدفاع عما هي لسان حاله ورمى المعارضين بكل الصفات الذميمة.
وقد أفضى كل ذلك إلى أن انصرفت قلوب الناس عن الإذاعة، وأيأسهم من صلاحها ضياع صيحاتهم مع الهباء، ولم يسمعهم إلا أن يسكتوا مسلمين أمرهم إلى الله، وقد وطنوا أنفسهم على احتمال الأذى وسماع جانبه صباح مساء. . . وأخذوا أنفسهم بالصبر على استبداد الإذاعة بهم وإسماعهم ما يكرهون وفرض برامجها عليهم ضريبة ثانية إلى جانب الضريبة المالية السنوية.
والعادة المتأصلة في المصريين أن ينفسوا عن أنفسهم وينتقموا من المستبد بهم بالفكاهة والتندر عليه، وما أكثر وأظرف ما نسمع من ذلك عن الإذاعة. ولباحث اجتماعي أو تاريخي أن يرجع هذه الظاهرة إلى أن الفترة التي تمر بها الإذاعة الآن تشبه عصور الاستبداد الماضية، فقد تسمى هذه الفترة بعد ذلك (العصر الإذاعي) نسأل الله الخلاص والسلامة. .
الموضوع في قنوتنا:
أقصد بهذه الفنون السينما والغناء والموسيقى، وأعني بالموضوع فيها فكرة التأليف، وهي(845/47)
تكاد تكون معدومة في هذه الفترة من زماننا. والملاحظة أن تلك الفنون قد تقدمت وارتفعت فيما عدا الموضوع، وخاصة السينما، فالتمثبل فيها جيد على العموم وكذلك ما يسمونه (حرفية السينما) وعندنا بعض المخرجين الذين يجيدون فنهم، وإن كان بعضهم يفرض نفسه على التأليف فيأبى إلا أن يكون مخرجاً ومؤلفاً في آن فلا يكون شيئاً. . . أما القصة فهي بيت الداء في السينما المصرية، وتسعة وتسعون في المائة من قصص الأفلام المصرية لا موضوع لها، فهي حوادث يتخللها غناء ورقص وإضحاك، وأحسنها ما كانت هذه الأشياء فيه ممتعة بعيدة عن السخف، ومن اللوازم التي تتكرر في معظم الأفلام أن تنزل بالبطلة كارثة، أو تقع في أزمة، فتضطر إلى كسب رزقها، ولابد أن تكون مطربة، فتلتجئ إلى ملهي تغني وترقص فيه، وهنا تجئ الفرصة الذهبية لتقف حوادث القصة ريثما يستمع المشاهدون ببرنامج الملهى الطويل. . . وبعد ذلك وعلى مهل يعثر الأب على ابنته والأخ على أخته والمحب على حبيبته حيث تعمل في الملهى، بعد أن يشبع الناس من السماع والنظر والضحك. وهذا كله قد يكون لا بأس به ولكن على أن يغلف شيئاً، أما أن يكون فارغاً فإنه لا يدل إلا على الفراغ الهائل في ذهن المؤلف.
ومن المضحك أن بعضهم يحاول أن يجعل لقصّته موضوعاً (تلبية لرغبة الصحافة والنقاد) وقد قرأت هذه العبارة التي بين الأقواس على الشاشة في تقديم أحد الأفلام، يحاول المؤلف أو المخرج ذلك فيدس فيها شيئاً من قبيل الوعظ الخلقي أو بعض العبارات الوطنية الجوفاء، فلا تزيد الفلم إلا بروداً وسماجة، وذلك للتكلف وإيراد الشيء في غير موضعه. ومما يدعو إلى الضحك والأسف معا أن يقولوا في الدعاية عن الفلم إنه يعالج مشكلة اجتماعية، وليس فيه عن المشكلة إلا بعض مناظر عابرة أو كلمات متناثرة لا تبرز ناحية ذات شأن من المشكلة فضلاً عن معالجتها.
ويدعى هؤلاء المؤلفون أنهم ينزلون إلى مستوى الجمهور، وهذا ليس صحيحاً، لأنهم ليسوا في مستوى أعلى ينزلون منه. . . والنزول إلى مستوى الجماهير لا يكون مفيداً إلا إذا كان مع النازل شيء يقدمه إلى من ينزل إليهم بالاحتيال على إساغتهم إياه.
هذا وفي وزارة الشؤون الاجتماعية لجنة للنهوض بالسينما، لست أدري ماذا تعمل لهذا النهوض إن لم تكن في مقدمة ما تعمله العناية بهذا النقص في الأفلام. وهناك رقابة تمنع ما(845/48)
يخالف الآداب العامة أو يمس الأمن العام، ولست أدري لماذا لا تكون هناك رقابة تمنع ما يفسد الذوق العام.
أما الغناء والموسيقى والأغاني الفكاهية (المنلوجات) فهي كذلك في مجموعها، ينقصها الفكرة والموضوع، وقد كانت الأغاني الفكاهية تدور حول موضوعات وطنية واجتماعية ولكنا الآن صرنا لا نكاد نسمع من الإذاعة غير (ورد عليك فل عليك) وأشباه ذلك. وأغاني الأفلام تصلح بصلاحها إن صح العزم على ترقيتها. أما الأغاني التي تقدمها الإذاعة فالله المستعان عليها وعلى الإذاعة.
عباس خضر(845/49)
البَريدُ الأدَبيّ
بين الأدب والوطنية والأخلاق:
تفضلتم في عدد (الرسالة) المؤرَّخ 22 أبريل سنة 1946 بأُمنيَّاتكم الودِّية لي وأنا في طريقي إلى أمريكا، وكان تلطفكم هذا تعليقاً على رسالتي إليكم التي هي آخره ما كتبتُ إلى أصدقائي الصحفيين في مصر، فجعلتكم رمزَ مَن أُقدِّرهم من رجال المهنة التي لستُ غريباً عنها، ولذلك أحرص على ألا تشوب مودَّتنا أية شائبة، ولذلك يؤسفني - وأنتم تعلمون مبلغَ إعزازي الشخصي لأدبكم، ومهما يكن مبلغُ تقديركم لحرية النشر - أن تنشروا ما نشرتم ضدِّي في عدد الرسالة رقم 842 المؤرَّخ 22 أغسطس سنة 1949 دون أن تُقابلوا مودَّتي المحرَّبة لكم بكلمة استفهام خاصَّةٍ ترسلونها إليَّ قبل أن تسمحوا لمنبركم العالي بترديد مطاعن جارحة في أخلاقي وفي محبتي لمسقط رأسي، اعتماداً على كلمة يذيعها صاحب جريدة اشتهرت بتلفيق الأخبار كما اشتهرت بمجانبتها حرية الرأي، وقد بلوتُها من قبل تكراراً، ولا ينبئك مثل خبير
إن كاتبكم الفاضل على غير علم - على ما يبدو - بقانون الجنسية المصرية، كما أنه لا يعرف مدلول (الجنسية المزدوجة) التي يتمتع بها آلاف الأفاضل بل العظماء والمتفوقين من اللبنانيين في أمريكا حتى يتمكنوا من الانتفاع بحقوقهم المدنية بهذه البلاد أولئك الذين تمجدهم الحكومة اللبنانية ذاتها وتفتخر بهم بأعلى صوتها، وقد صفق لهم حافظ إبراهيم بك وهتف بمديحهم وبالدعوة إلى التشبه بهم، فهتف المتعلمون من المصريين، بل ومن جميع أقطار الضاد بعده وأمَّنوا على مديحه. ولستُ إلا أحد القلائل من المصريين الذينَ جاورهم، ولن أستفيد من هذا الحق إذا شئتُ إلا بعد استئذان حكومتي المصرية.
وأن ما نشرته (أخبار اليوم) ضدي ليس إلا مثالاً من الجحود الظاهر العنيف جزاء لخدماتي لوطني الأول في شتى البيئات ابتداء بهيئة الأمم المتحدة وانتهاء بجامعة نيويورك فضلا عن منابر الصحافة الحرة الراقية وفي مقدمتها (الهدى) و (السائح) و (النيويورك هرالدتربيون) بعد أن حال الرقيب دون نشر آرائي الحرة في مصر، ولحمتها وسداها الدفاع عن صوالحها العليا وعن معاملها وفلاحها وعن حرياتها العامة وعن عرش مصر.
أما ادعاء انحرافي عن الكرامة الوطنية والقول (بأن مصر لا تستحق جموحي عليها إلا(845/50)
لسبب واحد هو أني من أبنائها، وإن كانت كفرت عن ذنبها بلفظي وقذفي إلى ما وراء البحار)، فجوابي على هذه الفلسفة الباطلة من أساسها أن مصر ذاتها أكرم من أن تصنع ذلك برجل خدمها طول حياته وبسليل أسرتين عريقتين لم تعرف عنها إلا محبة مصر والتضحية لها، وما تركت مسقط رأس إلا وأنا المحب له والباقي على محبتي. أجل، من الظلم توجيه هذه التهمة إلى مصر الخالدة التي اتسع صدرها وحلمها لآلاف المرتزقة والوصوليين وشذاذ الآفاق وقليلي الأدب.
بقيت الأوصاف الكريمة التي نعت بها أدبي وشعري، وهذه من حق ناقدكم التلفظ بها وتدوينها وسأعمل على اطلاع أدباء المهجر عليها حتى لا يقعوا في نفس الغلطة التي وقع فيها زملائهم بمصر وفي غير مصر من أقطار الضاد، فيتجنبوا المغالاة في تقديري وقد يرون حينئذ أني غير أهل لأي تقدير. . . كذلك سأعمل على اطلاعهم على الآراء النيرة الأخرى ليعرفوا مصادر عبقرية خليل مطران بك وعلى من تتلمذ في مصر!.
وإني إذ أرجو إليكم التفضل بنشر رسالتي هذه أهدي إليكم تحيتي واحترامي.
(نيويورك)
المخلص
أحمد زكي أبو شادي
(الرسالة) التعليق للأستاذ عباس خضر
حول (أبو شادي العجيب)!
قرأت بالرسالة الغراء عدد (842) كلمة للأستاذ عباس خضر عن (أبو شادي العجيب). وقد آلمني حقاً الأسلوب الذي تحدث به الكاتب الفاضل عن رجل كان له في الحياة الأدبية أثر لا ينكر. وإذ تركنا قيمة أبو شادي كشاعر جانباً لأنه يحتاج لنقد دقيق ودراسة كاملة تخرج منها إما للشاعر أو عليه، فلا يستطيع منصف أن يذهب معه إلى أن أبو شادي (حاول أن يقنع الناس بأنه شاعر فأخفق ولم يفلح إلا في إفساد المذهب التجديدي في الشعر العربي الذي دعا إليه العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري وكان من رواده خليل مطران(845/51)
(فأولا من المعروف أن أبو شادي بذل مجهوداً صادقاً في خدمة الأدب الحديث وأقل ما ينسب إليه من فضل أنه جمع جمهور شعراء العربية وحفز همم الشباب منهم بنوع خاص. ومن ينكر نشاط جماعة أبولو التي كان رئيسها شوقي ووكيلها أحمد محرم وسكرتيرها أبو شادي؟ وأعتقد أنه قبل مجلة أبولو وهي مجلة خاصة بالشعر ودراساته مما لم يسبق له نظير في عالم الصحافة العربية كان القارئ العربي لا يعرف شيئاً عن هذا العدد الكبير من شعراء الشباب بنوع خاص نذكر في طليعتهم الشاعر أبو القاسم الشابي. . . فهل أفسد سليقته أبو شادي؟
وأعجب لقول الكاتب عنه (وقد طهرت منه مصر منذ ذلك الحين وتنفس الجو الأدبي الصعداء وشرع بعض الشعراء الذين أفسد سليقتهم الشعرية في إصلاحها).
ونقطة أخرى نحب أن نصححها لوجه الله والتاريخ. . . أظن أن من المعروف أن خليل مطران كان إمام المذاهب التجديدي للشعر العربي الحديث قبل أن يدعو إلى ذلك العقاد والمازني، وعبارة الكاتب تقول إن خليل مطران كان من رواد المذهب الذي دعوا إليه. . . فكيف يستقيم هذا مع التاريخ الأدبي الصحيح؟
أما الخبر الذي ساق الأستاذ عباس خضر لهذا التجني على أبو شادي وعلى التاريخ الأدبي فلم يحفل بالتحقق منه وما كان يصح أن يستقي مصادر (الأدب والفن في أسبوع) من غير مصادرها و (الهدى) جريدة عربية وإن صدرت في نيويورك ولا يعدم معرفة مهاجر هناك أو قارئ عربي لها هنا. . . إن لم تكن تهدى للرسالة.
وهل تأكد الأستاذ من أن ما كتبه أبو شادي كان في غير مشاكل مصر؟ وقليلون في مصر هم الذين يجسدون الحرية والشجاعة للكتابة عنها. .؟
وهل يعرف الأستاذ أن الدكتور أبو شادي آثر أن ينجوا بكرامته حتى لا تمتهن وإن فقد بذلك مصدر عيشه وإن ضاق به وطن عاش من أجله في خدمة الأدب والعلم. . . لا مهرجاً في الأسواق السياسية وكان من قبله أبوه أحد أعلام الحركة الوطنية.
عز على الرجل أن يهمل ويقدم عليه من هم دونه.
لقد هضم حق أبو شادي فلم يذكره أحد في محنته بكلمة حتى وهاجر فما ذكره أديب ممن كانت له عليهم أياد. . .(845/52)
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار
1 - بواسل ليست من لحن القول:
كتب الأستاذ (أنور المعداوي) في بعض تعقيباته يقول: (أنا شديد الإعجاب بأن يكون بين جنودنا البواسل من يقرأ الرسالة ويعشق الأدب) وقد حسب الأستاذ (عبد الجليل السيد حسن) أن جمع باسل على بواسل من لحن القول الذي شاع استعماله في هذه الأيام بين عامة الكتاب فكتب في البريد الأدبي كلمة يعلم بها (السادة الأفاضل الكتاب) صواب هذا اللحن قال فيها (وهذا الجمع غريب شاذ، فلا المعاجم تذكره، ولا القياس يبرره، ولا السماع يؤيده، فلم لا نقتله وتحيي لفظين رشيقين صحيحين يستعذبهما الذوق وهما بسل وبسلاء)
وهذا قول كما تعوده بعض المصححين من جرأة بالغة على اللغة وعلى ما لا يعلمون. إن (بواسل) كلمة عربية رشيقة فصيحة صحيحة، مسموعة عن العرب الخلص منذ الجاهلية الأولى، قال باعث بن صريم البشكري بذكر يوم الحاجر:
وخِمَار غانية عقدت برأسها ... أُصُلاً وكان منشراً بشمالها
وعقيلة يسعى عليها قيم ... متغطرس أَبدَيت عن خَلْخالها
وكتيبةُ سفع الوجوه (بواسل) ... كالأسد حين تذبُّ عن أشبالها
قدْ قُدْتُ أول عنفوان رعيلها ... فلففتها بكتيبة أمثالها
وتمر الأبيات من ديوان الحماسة 211 وقال المحاربي كما
روى ابن الشجري في حماسته ص73
أيا راكباً إما عرضت فبلغن ... خداشا وعبد الله ما أنا قائل
فلا توعدونا بالحروب فإننا ... لدى الحرب أسد خادرات (بواسل)
2 - ذهب توا:
وكما جانب المعقب الصواب في إنكار (بواسل) فقد جانبه كذلك في إنكار (ذهب توا) حيث يقول (ومما يقلبه الكاتب عامتهم قلباً ويمسخونه مسخاً ويسلخونه سلخاً استعمالهم توا بمعنى(845/53)
الساعة وحالاً فيقولون ذهب توا وذهب لتوه. وهذا المعنى تلفظه المعاجم وتنبذه اللغة، وما قالته هو: التو بمعنى الفرد فذهب توا أي فرداً أو لم يلوه شيء. والصواب توه) وهذا الذي قاله غير صحيح أيضاً، قال الزمخشري في الفائق: (ومنه قولهم سافر توا إذا لم يعرِّج في طريقه على ما كان) وفي القاموس: (التو الفرد والحبل، وبهاء الساعة، وجاء توا: إذا جاء قاصداً لا يعرجه شيء فإن أقام ببعض الطريق فليس بتو).
هذا وإني أنصح الأستاذ المعقب بنصيحة خالصة نصحني بها منذ أكثر من عشرة أعوام صديقي الرواية الأستاذ (محمود محمد شاكر) ونحن نقرأ حماسة ابن الشجري، قال لي عندما قرأت قول باعث البشكري: وكتيبة سفع الوجوه بواسل: (وهذه كلمة أغفلتها المعاجم فيما أغفلت من أوابد اللغة وشواردها، ومن ثم أنصح لك ألا تقطع برأي فيما لا تجده في المعاجم إلا بعد تثبت؛ فإن كثيراً من ألفاظ اللغة موجود في الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي ولم يقيده الرواة في معاجم اللغة، واقتصروا أيضاً في شرح بعض الكلمات على ما ورد في أبيات يعينها مما رووه، وفيما لم يرووه ولم يشرحوه كثير ما ينبغي أن يشرح مرة ثانية بدلالة هذا الشعر).
هذه نصيحة صديقي الأستاذ (محمود محمد شاكر) وهي نصيحة قيمة تعصم من اتبع هداها من التردي في مهاوي العثرات. وإني لأرجو من المعقبين اللغويين أن يلقوا إليها أسماعهم ليجنبوا القراء متاعب (الجعاجع) الفارغة التي يثيرونها كل حين باسم الحافظ على العربية، وما بالعربية إلا قلة يصرهم بها، وذهابهم توا إلى إنكار مالا يعلمون من ألفاظها، ونضر الله وجه الشافعي إذ يقول:
(ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه).
السيد أحمد صفر
حول (ترميم الجامعة العربية):
الأستاذ نقولا الحداد في هذا المقال قد سما به تفكيره الإصلاحي إلى غاية قصوى فوضع أمامنا سياسة رائعة للجامعة العربية وما ينبغي أن تكون عليه في الواقع، ورسم لنا صورة(845/54)
خيالية أخاذة للجامعة المنتجة التي يراها جديرة بالحياة. . .
وفكرة الأستاذ جميلة من حيث هي مجرد فكرة ولكنها مستحيلة من حيث هي منهاج لتنفيذه في الواقع، فأنا لا يمكنني أن أتصور الدول العربية تنزل عن سلطتها الدفاعية لبرلمان الجامعة، كما أنه من العبث أن أتخيل الدول العربية تستطيع أن تدفع من ميزانيتها ذلك المبلغ الضخم الذي يقترحه الأستاذ والذي لا يقل مائتي مليون جنيه يجبيها هذا البرلمان من جميع الأمم العربية من غير اعتراض ولا تمنع أو نقاش، وأخيراً أرى خيالي قاصراً عن إدراك ذلك المطمح البعيد الذي يدرك الدول العربية وقد أسلمت سياستها الخارجية لذلك البرلمان يتولاها وينفذ رأيه بماله من السلطة المسلحة ويفرض أحكامه بقوة السلاح. . .
لو فكر الأستاذ الفاضل بعقلية الواقع لأدرك استحالة فكرته لأن ذلك البرلمان الذي يقترحه لا يمكن أن يحقق كل ما نصبو إليه من آمال وأهداف، فغاية الدول العربية ليست واحدة في جميع النواحي ومصالحها غير متفقة تماماً وظروفها الخارجية ليست موحدة تمام التوحيد، وعلى ذلك لا يمكن أن تسلم الدول العربية سياستها الخارجية لبرلمان من هذا النوع مكون من أفراد لا يدركون جميعهم مصلحة الدول الممثلة فيه كما أنهم قد يرون رأياً يخالف ما أجمع عليه شعب من الشعوب ويكون في تنفيذه. نكال بهذا الشعب، والعذر لهم في ذلك لأن الغريب عن بلد لا يمكنه أن ينظر إلى مصلحته بعين المواطن الذي يدرك مصلحته تمام الإدراك ويبذل من نفسه مخلصاً في سبيل تلك المصلحة، وعلى فرض أن الغايات توحدت - واعتبرت مصالح الجميع هدفاً واحداً للجميع - فإنه لا يمكن أن تتفق الأساليب في إدراك ذلك الهدف والعمل به. وهذه الحقيقة الواقعة تواجهنا في مجال الدولة الواحدة ممثلة في أحزابها، فكل حزب له أسلوب خاص يتبعه، ومن هنا نشأت الخلافات والمشاحنات وانقلبت الأحزاب إلى جبهات مختلفة متعادية تقف كل واحدة أمام الأخرى لتحاربها مخلفة وراءها الأهداف التي قامت من أجلها. . .
ولا شك أن ذلك سيحدث في مجال البرلمان الجامع المقترح إذ يقف ممثلو كل دولة للدفاع عن وجهة نظرهم التي تخالف وجهات النظر الأخرى فينقلب البرلمان إلى ساحة فوضوية تتكسر فيها المصالح على صخرة الخلاف، ولقد حدث ذلك الأمر تماماً في الجامعة العربية الحالية عندما كانت في أوج عظمتها في أول الحرب الفلسطينية، ذلك أنه رغم أن هدف(845/55)
العرب جميعاً كان تحطيم الدولة اليهودية المزعومة وتطهير فلسطين من أرجاس الصهيونية إلا أنه حدث نفس الخلاف عندما أمر مجلس الأمن بوقف القتال وتنفيذ هدنة مؤقتة، وبذلك انقسم المجلس إلى جهتين إحداهما ترى رفض الهدنة والأخرى تحبذها، ثم كان أن تنازل الفريق الأول عن مبدئهم إشفاقاً منهم على وحدة العرب في ذلك الوقت الحرج وقبلت الهدنة التي كانت الغلطة الكبرى في حرب فلسطين والتي تسبب عنها هزيمة العرب في تلك المعركة.
هذا فضلاً عما ثراه من انصياع بعض الدول العربية إلى السياسة البريطانية انصياعاً تاماً، ولا يشك أحد في أن بريطانيا التي تعمل جاهدة على تحطيم وحدة العرب بشتى الوسائل والأساليب يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا الأمر بالنسبة للدول التي تسيرها على الأقل.
هذه الدول العربية المتخمة بالمشاكل والأدواء لا يمكن أن تجتمع في برلمان. هذا وإنه لا يمكنني أن أتخيل العراق أو شرق الأردن أو غيرها من الدول العربية تقبل أن تضحى بشبابها وجنودها لتخرج الإنجليز من مصر أو السودان، كما أنني لا أقدر على أن تصور جيشاً مصرياً يستطيع اجتياز الحدود ليذهب إلى تركيا فيحاربها في سبيل مصلحة سوريا التي تنازع تركيا إقليم الإسكندرونة. ومن العبث أخيراً أن نتوهم جيش الجامعة وقد أعلن الحرب على سوريا ولبنان وفيه جنود من أبناء سوريا ولبنان - ليكون بذلك سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب، أليس ذلك المشروع من مصلحة شرق الأردن والعراق والجامعة تعمل لمصلحة الجميع
أرى أن تتجه كل دولة إلى تقوية جيشها وإعداده لتحقيق أهدافها وإدراك استقلالها التام وحريتها الكاملة، ونوم تتحقق للدولة العربية آمالها وتصبح دولا قوته فتية مستقلة لها كيان محترم غير مزعزع. . . يومئذ يجوز أن تتجه أنظارنا إلى تنفيذ مشروع كهذا.
السيد علي الشوربجي
كلية الحقوق(845/56)
الكتب
صور من الريف
تأليف الأستاذ محمد زكي عبد القادر
بقلم الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
لقد استحفزت همة الكاتبين بعد أن أهمني إغفال (الريف)، وما فطر عليه من وداعة تبدو على قسماته، والعمل الفني يجب أن يسحق إلى غاية عالية، بخلوده إلى الحياة الملابسة لوجوده.
وليست المهابة في استبهام البيان على الإفهام، وإنما الإبانة المستدنية التي تداخل العواطف، وتعاطف القلوب، وتناجي الآمال هي التي تكشف جوانب الجمال مع صدق التعبير.
واللفظ الشعري في مبناه ومعناه له إيقاع عجيب إذا اتسق مع سواه، لأن موسيقاه لها صدى يتردد في أعماق النفوس، والمصور المفتن في تصويره المقتدر على ندائي مشاهد الحقائق حتى تتجسد في مرأى الأبصار كأنها تحسها بين الألفاظ.
وخصوصية الكاتب تظهر في لمعة ذهنه، وبراعة إلماعه وروعة تفرده مع رصانة الأداء، وجاذبية العرض، وسلامة الوحدة التعبيرية! لهذا أردت تقديم (صور من الريف) في الرسالة الزهراء؛ فقد استبنت فيها ما استبانه الإحساس الإنساني على تفاوت درجاته، وإن عمل القاص عسير إذا أراد الإلمام بالفطر الإنسانية، والتنويه يتناقض الحياة على اختلاف تخالف الأحياء!
وإن تلك الصور الرائعة قد وضحت فيها ناحية جميلة تغيب عن تقدير متناولي الأسلوب القصصي لأنها تدور مع الحوادث ثم تعود إلى التلاقي مع (وصف الريف. . . في كل خطرة منها؛ فالقصص لا تورد لذاتها، وإنما يقصد منها تبيان السذاجة الريفية في عواطفها، ومشاعرها، وعقائدها وإيمانها، وقناعتها، واستسلامها، ورضاها بالمقدور.
يقول المؤلف المقتدر في (العيد): (هذا الريف صنعه الله، والله أيضاً هو الذي صنع هؤلاء الريفيين، والله طهارة ونور وقداسة).(845/57)
ثم يسكت الكاتب الرائع تاركاً نتيجة هذا (القياس). . . المنطقي التعبيري تلمع في خاطر قارئه المأخوذ بروعة بيانه.
ويقول في موضع آخر: (العيد في الريف ذكرى، وخشوع، وإيمان مطلق لكنه في المدن قطعة من اللهو والعبث والاستهتار).
وليس المصور في هذا التعبير متجنياً على المدينة؛ فالواقع أن جنون المظاهر تلعب، فالانطلاق على غلواء الأهواء لا يعترف بزمام التؤدة والوقار! ويدعى المدينون أن ضيق نطاق القرية يدعو إلى التحفظ وتكلف التجمل لكن الواقع يناقض دعواهم: (فالعيد في الريف نور وجمال له قدسيته وجلاله الذي يستمده من الدين)، وقد أبدع الوصاف في تلك القولة الموجزة، لأنه صور بها قوة عاطفة الإيمان لدى القروي الذي يبصر في نهاره وليله دلائل القدرة تتجمع في الآفاق؛ فتوحي إليه بتقدير القدرة العالية! وفي قطعة (ورقة النصيب): (صورة ممتعة حقاً لأنها تجمع إلى قناعة الريف المتواضع الراضي طمع الحياة الإنسانية).
ويعتقد المؤلف بين خيبة المؤمل وحب الأمل فيقول: (لم يربح سعيد بالأمل، سعيد في خياله ورجائه، ولابد أن يواتيه الرجاء والخيال يوماً).
إن في (صور من الريف) نواحي متعددة تصور لك كما قلت حقائق الحياة في نطاق التجربة، وإنما عمدت إلى (وصف العيد) و (ورقة النصيب) لأنهما يصوران حقيقة النفوس، ويدلان على تعلقها بما يستحقها أو يدفعها إلى السكينة والدعة.
ولقد تهادت بين أعطاف هذه الصور، أطياف من الحب الريفي القائم على التكتم واعتصار الفؤاد، ومن دون الإفصاح عن الانفعال حيث تضغط المشاعر بمضغط القسر والإرغام، ويصور إحساس عذراء القرية حينما تفاتح في الزواج: (سألوني هل تتزوجين؟ فعقد الحياء لساني ولم أستطع أن أتكلم، وإنما أجبت بالدموع، ألحوا في السؤال فألححت في البكاء، ولو كانوا يفهمون أو يريدون أن يفهموا لأدركوا ماذا تعني دموع عذراء).
إن الأستاذ محمد زكي عبد القادر يحب الاستدلال على ما يصدر بمقول غيره توكيداً لمراده، ونلمح دائماً حبه الاستشهاد بأقوال الفرنجة، والأدباء ملهمون يصدرون المعاني الإنسانية المشتركة على تباين الأديان والأقطار، وقد نقل عبارة عن (واشنجطن أرفنج) في(845/58)
قطعة (على قبور أعزائنا ترمز إلى أن زيارة القبور مدعاة إلى التوبة والندم، ومع اعترافي بحسن اختياره ورشاقة ترجمته أوثر الاستدلال بما ورد في لغتنا إيناساً لها، وتقريباً لموضوع الكتاب الداعي إلى تمجيد البيئة.
هذا، ولست في إيرادي مؤاخذاً، وإنما أقصد أن يكون هذا السفر الجليل خالياً من الكلف في وجه البدر.
(بورسعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر(845/59)
العدد 846 - بتاريخ: 19 - 09 - 1949(/)
أخي صاحب (الرسالة)
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
أخَّرتني الأسفار والأشغال عن الاطلاع على الكلمة الكريمة التي قفَّيتَ بها على الفصول الأربعة عشر التي كتبتُها لقراء الرسالة؛ فلعلك قابل عذري في تأخير الجواب والشكر.
فأما رأيك في الكاتب وفي فصوله فقد سرَّني وحفزني إلى أن أصدَق ظنك بي ورجاءك فيَّ. وناهيك بشهادة الزيَّات، وإعجابه بمقالات، وحسبك صاحب الرسالة كاتباً وشاهداً.
وقد عجبتَ وألِمتَ من الناس لا يُبالون (بكلام يُشرق فيه الحق، وعلاج يهدي إليه العقل)، وأَعجبُ من هذا أن كثيراً من كتابنا وممن يتصدرون للتفكير والتحرير، سيرون في أقوالهم وأفعالهم سيرةً أصدقُ أسمائها أنها (الاستسلام للتيار)؛ فهم يرضون بكل بدعة، ويسايرون كل ضلالة، جرياً مع التيار، وسيراً مع الحياة، وخضوعاً للشهرة (المُودة). وإنَّ من نكد الدنيا أن تتقلب العقول والآراء مع المودة كما تتقلب أثواب النساء في هذا العصر.
وشدَّ ما يُؤلم العاقلَ الناقدَ أن يتسمى هؤلاء المسايرُون المستسلمون أحراراً وأن يهزءوا بكل ما يدعو إلى رشد، أو ينذر قومه ألا يسيروا إلى الهاوية.
وأشد إيلاماً من هذا أن الناقدين المتثبتين الداعين إلى المحافظة على ما عندنا من خير، ورد ما يأتينا من شر، تأخذهم أحياناً رهبة هذا الموكب، موكب العصر في صخبه وضوضائه، ودعاويه وأهوائه، وفتنه وزخارفه، ويرهبون أحياناً هؤلاء المسايرين للموكب يصفقون له، ويهتفون به، ويسخرون بكل ما يعترض طريقه أو يتجنب المسير فيه.
إن الخارجين على سنننا وآدابنا ليسوا في حاجة إلى المطالبة بالحرية، فهم يظفرون بها في كل مكان؛ إنما يطلب الحرية فلا يظفر بها هؤلاء المستمسكون بتاريخهم وآدابهم. أضرب مثلاً المرأة التي تسبح في البحر وترود على شاطئه عارية أو كالعارية، لها الحرية أن تسبح وترود أينما شاءت ومتى شاءت؛ ولكن المسكينة التي تريد أن تستمتع بماء البحر وهوائه وشمسه وتأبى أن يراها الناس في لباس البحر، لا تجد حريتها ولا تمكَّن مما تريد، ولا يحميها القانون لييسر لها الاستمتاع بالبحر، ولا يخصص لها مكان أو زمان لتستمتع بحريتها وتستمسك بأخلاقها.
والأمثال في هذا كثيرة والقياس يسير والخطب جليل.(846/1)
رأى بالأمس وزير معارفنا أن يصون بنات الأمة بما يصون به بناته، فصاح به دعاة الحرية من كل جانب، وأخذه هزئ النساء والرجال على أساليب شتى. وما تجد في بلدنا داعياً يملك عقله وقلبه فيدعو إلى ما يراه حقاً وخيراً إلا كان أحدوثة الساخرين والساخرات واتخذته الصحف تفكهة لقرائها وضُحْكة.
وقد كتب كاتب من كبار كتابنا يسمى هذا الوزير وزير التقاليد ويسخر به، ويتحدث عن الحياة وقضيتها، ويتكلم عن الأيام والساعات والدقائق والثواني، وهي ماضية سراعاً، ونحن ماضون معها لا نستطيع لها رداً. فلا نستطيع لأمر وقفاً ولا تغييراً
لست أدري فيم عِلمنا وفِكرنا إن حَملَنا تيار الساعات والدقائق راضين بكل واقع مستسلمين لكل حدث. إنما يذهب التيار بالأجسام الجامدة أو الميتة، فأما الحي فلا يستسلم للتيار وبه قوة، ولا يرضى الغرق وفيه رمق.
إن علينا أن نسيطر على الخليقة ونسخرها كما نشاء جهد طاقتنا، وإن علينا أن نسيِّر الحياة بعقولنا وعلومنا، وأن نقهرها لإرادتنا ما استطعنا. فما هذه الدعوة إلى الاستسلام بل المضيُّ إلى الموت؟ وما هذا الخضوع للعبودية باسم الحرية؟
إن الاستعباد قبيح في كل صوره؛ ولكنه أقبِح ما يكون حين يصيب النفوس، فتخضع للواقع، وتحتج بسير الزمان. إن الحر يفكر ويقول ويفعل كأن إرادته من قضاء الله، وجهادَه من قدرة الله، ساخراً بسلطان الزمان والمكان - ليخلق تاريخاً، ينشئ جيلاً، ويغير الزمان والمكان. وهل خلد في تاريخ البشر إلا من تصدى للباطل يدمغه بالحق، وللشر يغلبه بالخير، وللفساد يمحوه بالصلاح؟ وهل دعا نبي أو نادى مصلح إلا بصد التيار الجاري، ورد الأحداث السائرة، وتغيير السيرة الفاسدة.
إن الذي يربح نفسه وعقله من تكاليف الإصلاح ومشقة الجهاد يساير الزمان، ويحتج بالمكان، ويمضي مع الماء أو الريح؛ ولكنِ لله خلقاً يحملون كل عبء، ويعانون كل مشقة، ويستصغرون كل هول، ويسخرون من كل سخرية، ليثبتوا بالحق وفي الحق على مضى الأيام والساعات والدقائق والثواني كالطود في مجرى السيل، والحق في معترك الأباطيل.
يا أخي الزيات: إنها لفتنة، وإنها لمحنة. وسيمضي الأحرار لا العبيد، يقولون ويفعلون ويجاهدون حتى يبلغوا غايتهم أو يقضوا نحبهم على السبيل قاصدين وعلى الله متوكلين.(846/2)
وإني لأدعوك وأمثالك من الفئة القليلة الغاضبة للحق، الناصرة للخير، إلى الكتابة، والصدع بالدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الأمانة، على رغم الزمان، وعبيد الزمان.
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
(الإسكندرية)
عبد الوهاب عزام(846/3)
صور من الحياة:
جنة الشيطان!
للأستاذ كامل محمود حبيب
(يا لحوم البحر. . . سلخك من ثيابك جزار!)
مصطفى صادق الرافعي
لشد ما شاقني أن أقضي ساعة من العمر إلى جوارك - أيها البحر - ساعة أفزع فيها من وقدة الغيظ إلى ربيعك الغض الرطيب، أسعد بالراحة من عناء العمل، وأسكن إلى الهدوء من صخب الحياة، وأتحلل من دواعي العيش، وأنفض وعثاء الطريق! فأنا - دائماً - أجد فيك هدوء البال، وراحة النفس، وصحة البدن. . . إنني ما زلت أذكر يوم اللقاء الأول - أيها البحر - يوم أن كنت فتى غضَّ الإهاب، ويّق العود، بسَّام الخواطر، لا تشغلني نوازع الحياة، ولا ترمضني صفعات الرزق، لا أرى الدنيا سوى متعة الروح ولذة القلب وفرحة النفس. . . ورأيتك - لأول مرة - فراعني موجك الثائر وهو يتلاطم في قسوة ويتهارش في عنف، وأزعجني هديرك الصاخب وهو يصّاعد في عنفوان لا يهمد، وأخذتني روعة المنظر الهائل حين كلَّ البصر عن أن يحيط بنواحيك، وحين عجز الخاطر عن أن يلم بأطرافك، وسحرتني الشمس وهي تكاد تتوارى خلف الأفق، فتندفع تبكي أفولها بعبرات من دم أحمر قان يتألق على صفحة اللجة التي توشك أن تتردَّى فيها. . . فوقفت أتأمل في صمت، وقد غلبتني الحيرة، وسيطر عليَّ الذهول. . . فما استطاعت الكلمات أن تتحدث عن بعض خلجات فؤادي، لأن عالمك أدهشني يوم اللقاء الأول، أيها البحر. . . وكنت حينذاك شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه في غير غناء وأبلغه في غير عنت. وللشباب أساليب شيطانية ماكرة تؤرثها عزيمة جياشة لا يعبث بها وهن ولا يقعدها ضعف، فانسربت في مسالك الطيش أنعم بأفانين اللذة وأرشف رضاب السعادة، هنا. . . هنا على شاطئك الجميل الجذاب، أيها البحر.
والآن - وقد انطوت سنوات وسنوات منذ يوم اللقاء الأول - وما زلت أحس بالذكرى الرفافة تتقد في خاطري، لأنني كنت شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه.(846/4)
واليوم جئت إليك بقلب الرجل وعقل الفيلسوف، فماذا رأيت فيك، أيها البحر؟
وجلست بازائك أياماً استشف حكمك من خلال الموج وأقرأ خواطرك من ثنايا الزبد وأتسمع كلماتك من بين الصخب، وإن قلبي ليفتقد جمالك الأول لأنه شاب فلم يعد يحس سحرك القديم.
وأخذ القوم يغدون إليك أرجالا خلف أرجال وزمراً من وراء زمر، فغطى لغطهم على همساتك وتلاشت نبرات صوتك الرقيقة خلال الضجة العنيفة على الشاطئ. فغاظك أن تعجز - وأنت عظيم - عن أن تسكت هذا اللجب، ففار موَّارك واضطربن أمواجك، ووقف الجمع حيالك ينظرون في عجب ومن أمامهم (الراية السوداء) تنذرهم بالخطر العظيم. ثم استخفك الطرب حين رأيتك تظفر بهذا الجمع فتنفث في نفوسهم الفزع والرهبة، فغبرت أياماً تقهقه بضحكات ساخرة مخيفة، وطالت ثورتك فرحت أحدث نفسي: (غداً، حين ينفرط عقد الصيف، يعود إليك - أيها البحر - الهدوء وتشملك السكينة لأنك تكون - إذ ذاك - قد نفضت عن نفسك همَّ هذا المشهد.
وسمعتك - أيها البحر - تحدثني من خلال ثورتك قائلاً:
(هذا الشاطئ كان هاجعاً يغط في نومه فلما دبت في جنباته أول سمات النشاط والحركة هب الشيطان من سباته العميق ينشر زخرفه على أعين الناس وهو يترنم بالنشيد الأرضي الساحر فانطلق الحشد صوبه يتهافتون على بضاعته في غير وعي ولا عقل، وما زخرف الشيطان إلا اللذة والشهوة والفجور. . .
(هذا الشاطئ هو الجنة الشيطانية التي تضم ألف آدم وألف حواء، ولكنها لا تبسم عن نبتة واحدة ولا تزدهر بثمرة، إلا ورقة التوت. . . ورقة صاغها الشيطان بيده الصناع ليتوارى خلفها ثم يندفع من بين ثناياها يبذر فراس الإثم في القلوب الفاجرة فتؤتي أكلها - بعد حين - ندماً وحسرة. والشاطئ في الصيف ملعب الفجور ومسرح الفسق ومرتع اللهو
(لا عجب، فإن حرارة الشاطئ لا تصهر إلا الفضيلة والإباء، وإن مائي - ماء البحر الملح - لا يغسل إلا الشهامة والكبرياء، وأن نسماتي اللطيفة لا تزيح عن الأنفس سوى الأنفة والعفة!. . .
(هذه اللحوم البشرية العارية جاءت تطلب الصحة والعافية والجمام فارتدغت في حمأة(846/5)
الرذيلة، وتلك النظرات الزائغة تطوِّف بأرجاء المكان وفيها نهم ما يشبع وبها قحة ما تترفع، وهي - دائماً - لا ترعوى من حياء ولا ترتدع من خجل. وهذه المباذل الإنسانية تنحط إلى حوانيتها حين تتعرى عن الدين والشرف
(إنني أتقزز من هذا الفتى الذي جاء يغسل قاذورات جسمه ليكشف عن أدران نفسه
(وأمقت هذه الفتاة الطائشة حين تنفلت - بين الحين والحين - من بين يدي الرقيب، وهو هين لين، لتسمر ساعة إلى فتى من فتيان الشاطئ؛ تعرفت إليه في نزوة من نزوات القلب، واطمأنت إليه في ثورة من ثورات الشباب، فاغترها بحديثه، وخلبها بشبابه. والتاث عليها الأمر فعميت عن أن تراه وهو يجرها إلى هاوية من العبث والخطيئة، والشيطان من بينهما يُزوق الحديث ويمهد السبيل). وقلت لي، أيها البحر:
(أما هذا الرجل، فهو قصة الشاطئ وروح الشر وبلاء الإنسانية. هو رجل جاوز سن الشباب، فلمعت في فوديه شعرات بيض علامة العقل في رأس أحمق، وعبثت أنامل الأيام بنضارته فسطرت خطوط الرزانة على جبين فارغ. هو أب وزوج، ولكن أنانية عاصفة دفعت به إلى هنا ليعيش وحده عمراً من عمره ينبغي الفراغ من أعباء الحياة وينشد الراحة من قيود الأسرة ويطلب النجاء من أغلال الدار. ومن ورائه زوجته وأولاده يتلهبون في لظى القاهرة، ويتحرقون في عذاب الوحدة، ويتقلبون في ألم الفراق
(وبهره منظر البحر وهو يموج في آذِّيه، وخلبته هبات النسيم وهي عليلة ندية، وسحرته الأجسام العارية وهي تتألق في ضياء الشمس، ووسوس له الشيطان فانطلق الرجل فيتبانة يذرع الشاطئ وإن في عينيه الظمأ والفجور
(يا لضعة الإنسان إن خلع إنسانيته ليصبح وحشاً كاسراً لا يؤمن إلا بشريعة الناب والظفر!
(واطمأن الرجل - بعد لأي - إلى فتاة من فتيات الشاطئ. . . فتاة في ريعان الشباب ةرونق الحياة وجمال الأنوثة، تقضي سحابة يومها بين طفلين تحت مظلة، فهو يرمقها بنظرات شرهة جامحة، وهي تختلس إليه نظرات متكسرة. وابتسم هو وابتسمت. ثم انطوت الأيام فإذا الفتاة قد أسهلت وانقادت، وإذا هي إلى جانب صاحبها يتحدثان في غير رقبة ولا حذر رغم أنها زوجة وأم؛ زوجة موظف صغير طارت عن بيته لتنعم هنا بالحرية بين طفليها. لقد نبذت زوجها هناك في القاهرة يذوق مرارة الوحدة والحرمان في(846/6)
الدار؛ ويعاني عنت العمل في الديوان ويقاسي لظى الهاجرة في المدينة. نبذته هناك ليدخر للذاتها ثمرات جهده وكدَّ عقله وراتب شهره.
(ليت شعري، ماذا عسى أن تقول الخائنة لزوجها إن هي جلست إليه في خلوة تحدثه حديث البحر؟ وماذا عسى أن الزوج الوضيع لزوجته المسكينة؟
غداً تعود الزوجة إلى دارها وفي قلبها ذكرى، ويعود الزوج إلى أهله وفي فؤاده هوى).
ثم تلاشت همساتك - أيها البحر - بين صيحات الجمع الزاخر وهو ينادي: أن أنقذوا الغريق. فنظرت فرأيت كهلاً من كهول الشاطئ تصفعه الأمواج في غير رحمة ويجرفه البحر في غير شفقة، وقد خارت قوته ونفذ جهده، وأبناؤه على الشاطئ يصرخون في لوعة وأسى: أبي. . أبي! وزوجته تصك وجهها في جزع وحزن. وتدافع الشباب يشقون أمواج البحر في قوة وعزيمة، ثم حملوا الرجل إلى الشاطئ بعد جهد فإذا هو جثة هامدة
يا لقلبي! لقد جاء الناس يطلبون الصحة والعافية والجمام فإذا هم بين غريق في الشهوات وغريق في اليم. . .
كامل محمود حبيب(846/7)
فن القراءة
للأستاذ إيليا حليم حنا
القراءة فن له أصوله وقواعده كأي فن آخر، وهي أداة تثقيف واستزادة في كل الفنون المنوعة الأخرى. وقد أصبح لها الآن عيادات ملحقة بالجامعات في أمريكا اسمها (عيادات المطالعة) غرضها إصلاح عيوب القراءة والإرشاد إلى أصولها وقواعدها. هذا بالإضافة إلى آلاف الكتب والمقالات التي عالجت هذا الفن وما زالت تمدنا بخبرة رجال التربية وعلم النفس وتجاريهم في ضبط أصول هذا الموضوع الحيوي الذي لم يكتب عنه في العربية إلا القليل من المقالات التي لا تتعدى أصابع اليدين.
إننا ما زلنا لا تولي درس المطالعة العناية الكافية في مدارسنا. والذين يقومون بتدريس هذه المادة المهمة يرون أنها فرع تافه من فروع اللغة العربية، ولذا تراهم كثيراً ما يشغلون وقتها بقواعد اللغة أو التطبيق، وذلك لأننا لا نعد مدرس اللغة الإعداد الكافي لتدريس هذه المادة المهمة، وإننا نجهل حتى الآن أن القراءة فن يجب أن يدرس على الأقل للذين نعدهم للتدريس فيعرف المعلمكيف يعلم الطفل القراءة في مراحل نموه العقلي ومتى يقوم بتعليم القراءة الجهرية والقراءة السرية والقراءة البطيئة والقراءة السريعة ويعرف أن الغرض من المطالعة تعويد الأطفال على حب القراءة وتربية ملكه الانتباه وسرعة الإدراك وإنماء قوة التفكير والقوة المتخيلة.
ويتكلم (الدكتور نيل رايت) رئيس قسم علم النفس بكلية (جور دانهل) عن أهمية درس المطالعة في حياة الطالب فيقول (تعليم الطفل القراءة مهمة ذات مسئولية خطيرة تتطلب درجة عالية من المهارة في فن التدريس والثقافة)
إننا لا نشترط في مدرس المطالعة إلا أن يكون ملماً بفنون اللغة فيرهق التلاميذ الصغار بضبط أواخر الكلمات والكبار بالإعراب فيرى كل منهما درس المطالعة عبئاً ثقيلاً لا لذة فيه، وهي الطريقة العتيقة المسئولة عن تنفيرنا من القراءة وكراهيتنا لها أثناء مرحلتنا الدراسية وبعدها.
القراءة الناطقة:
القراءة قد تكون ناطقة ولكنها غير مسموعة وإليك ما قالته الدكتورة (ستلاسنتر) رئيسة(846/8)
عيادة المطالعة بجامعة نيويورك: (إذا أردت أن تعرف هل تقرأ بصوت أو لا فالمس شفتيك بخفة وأنت تقرأ، فإذا كانتا لا تتحركان فالمس عنقك عند أوتار الصوت، فإن وجدتها تختلع قليلا فأنت تقرأ بصوت).
ويلذ للطفل حتى سن الثامنة أو التاسعة أن يقرأ قراءة منطوقة جهرية لأنه يدرك أثناءها نبرات صوته ويتذوقها ولذا يجب أن نستغل حبة هذا للقراءة.
وفي هذه القراءة المنطوقة يستعمل الطفل عضلات النطق ويحرك شفتيه ويتوقف لفهم المنطوق وبوساطتها يكون معجمه اللغوي. وهذه القراءة لازمة لتعليم الطفل في مراحل نموه الأولى لإتقان النطق وإخراج الألفاظ من مخارجها وضبطها بالشكل وجودة الإلقاء، كما أنها تساعده في تلك المرحلة على محاولة فهم ما يقرأ لأن استعمال حاستين في القراءة أقوى من استعمال حاسة واحدة؛ ففي القراءة الناطقة تصل رسالتان إلى الدماغ في وقت واحد فتصبح العبارة أقرب للفهم وأثبت في الذهن، أي أنها تترك أثراً أعمق في طيات المخ. وهي تخلق الجرأة في الطفل وتعوده على الخطابة والتكلم في الجماعات. ولكن القراءة الصامتة تفضلها في هجاء الكلمات لأنه فيها يكون غير مقيد بمستلزمات المطالعة الجهرية من جودة النطق وتنويع الصوت حسب المناسبات. والتلميذ في المطالعة الجهرية قد يخشى النقد فيقرأ دون أن يعي ما يقرأه.
والقراءة الناطقة المسموعة فن لازم لبعض الناس؛ فهي وسيلة لإسماع الغير ما نقول بصوت عال واضح ونبرات تتمثل فيها احساساتنا وشعورنا. ويحتاج إليها الزعماء والخطباء والمحامون والمعلمون وأعضاء المجالس النيابية. ولكن هؤلاء لا يحتاجون إليها مطلقاً في قراءاتهم الخاصة. إننا إذا أردنا الاطلاع على التقدم العلمي والثقافات المختلفة لنجارى في التفكير العصر الذي نعيش فيه وننتفع بما تقرأ في حياتنا العملية فإننا نستعمل القراءة الصامتة، لأن القراءة الناطقة قراءة بطيئة لا تستعمل بعد التاسعة إلا فيما ترغب أن نسمعه لغيرنا. والسبب في هذا البطء أنها تتقيد بالسرعة التي تنتج بها عضلاتنا الصوتية الصوت. ومعدل القراءة بها 120 كلمة في الدقيقة للشخص العادي الكبير.
ولا يخفى أن القراءة الجهرية تجهد العضلات الصوتية ويشعر بها كل من يستمر نصف ساعة يقرأ بصوت مرتفع، ويعجز الشخص عن القراءة بصوت عال مدة تزيد على الساعة(846/9)
مع أنه يستطيع مواصلة القراءة الصامتة ساعات متوالية.
القراءة الصامتة:
القراءة الصامتة قراءة بصرية دون نطق، تتعطل فيها وظيفة الأوتار الصوتية والشفاه، ومداها البصر والتركيز الذهني. وهي قراءة سريعة لأننا لا نتقيد فيها إلا بالسرعة التي يعي بها العقل معنى ما نقرأه. وقد دلت تجارب الدكتور استارك على أن سرعة القراءة الصامتة للطفل الذي في الثامنة من عمره كلمة أو كلمتان في الثانية، أو 126 كلمة في الدقيقة، أي أنه يكون أسرع من الشخص الكبير الذي يقرأ قراءة منطوقة. والطفل الذي في الثالثة عشرة من عمره يقرأ قراءة صامتة بمعدل أربع كلمات في الثانية أي 240 كلمة في الدقيقة.
والقراءة الصامتة أكبر معين على فهم العبارات التي تقرأ والإلمام السريع بما تنطوي عليه من الآراء، لأنه فيها ينطوي الإنسان على نفسه ويتجرد من عالمه الخارجي، ويكون مخه مصدر النشاط لا يشغله سماع اللفظ ورنين الصوت ومحاولة ضبط الكلمات بالشكل، بل ويشعر بحماسة ولذة لأن ما يقرأه يملأ عقله وشعوره وحسه.
والقارئ الصامت يقتنص المعاني من أطراف الألفاظ ويلتقطها من خلال السطور ويقفز ببصره قفزاً فوق حروف الجر والعطف. . . والأفكار السهلة المعروفة لديه من قبل. وهو لا يرى الكلمات مركبة من حروف بل يراها صوراً يعرفها من مظهرها العام. وهو أثناء القراءة لا يحمل الكلمات إلى مخه بل يمر عليها بنظره فيقفز معناها إلى عقله. وتتوقف سرعة استيعاب معاني الألفاظ على مبلغ تمكن الشخص من لغته ومن الموضوع الذي يقرأه. وهو عندما يقرأ الجمل تتحول بسرعة إلى صور في عقله. فمثلاً عندما يقرأ هذه الجملة (أسرع الأسد خلف الرجل فأدركه وألقى به على الأرض وأخذ يمزقه بأنيابه ومخالبه) يراها بعين عقله صوراً لا ألفاظاً؛ يرى ثلاث صور متلاحقة تمر مروراً خاطفاً في مخيلته؛ يرى صورة الأسد يعد مسرعاً وراء الرجل، ثم الأسد يلقي بالرجل على الأرض، ثم الأسد وقد جثم فوق الرجل يمزقه بأنيابه ومخالبه.
وعندما يجول القارئ الصامت بين بدائع الفن وآيات الأدب وحقائق العلم تنتقل نفسه لحظات إلى ما وراء عالم الحس وينكب على الفكرة إنكباب العالم في معلمه على أدواته(846/10)
يرصد الحقائق العارضة وتستيقظ فيه خصائص المخيلة ووظائف التفكير ونراه في نوبة توقد يحس بمعاني الكاتب حساً ويشعر بالحياة والحرارة في أفكاره.
ويتعود الطفل القراءة الصامتة إليه إن وضعنا بين يديه الكتب التي تمده بغذاء عقلي لا يثقل عليه هضمه ويتمشى مع معجمه اللغوي في مرحلة النمو التي يمر بها ويثير ميوله ورغباته ويشبع غريزة حب الاستطلاع فيه كما يجب أن نعطيه الكتب الصغيرة التي لا تستغرق وقتاً طويلاً في القراءة حتى لا يسئمه طول الوقت وطول الموضوع فيلجأ إلى القراءة الجهرية ليتخلص من سأمه بسماع صوته الذي يساعده على التركيز الذهني الذي أوشك أن يفقده بطول مدة القراءة.
القراءة البطيئة:
(أ) تطور السرعة في القراءة:
يتدرج الطفل في القراءة من بطئ إلى سريع ومن سريع إلى أسرع تبعاً لربط الكلمات بمدلولاتها؛ وحينئذ يتمكن من أن يقرأ الكلمة بدون أن يقطعها إلى حروف ويفهم معناها بدون تفكير. وتزداد سرعته في القراءة بوفرة محصوله اللغوي والذهني.
ونحن الكبار تزداد سرعتنا أيضاً بنضوجنا الذهني وسعة اطلاعنا ووفرة معلوماتنا وتمكننا من اللغة ومفرداتها ومدى اطلاعنا في الموضوع الذي نقرأه؛ لذا نرى المبتدئين في بعض العلوم لا يسرعون في قراءتها لأن عدم الإلمام بها يلزمهم التوقف.
(ب) متى يلزم البطء في القراءة:
لا تدل القراءة البطيئة على شيء إلا على قلة المحصول اللغوي للفرد وعدم نضوجه الذهني. والقارئ البطيء غالباً ما يكون آلياً يحرك شفتيه عند القراءة أو سماعياً يقرأ بصوت مسموع لتنتقل الألفاظ من أوتار صوته إلى أذنيه.
والقراءة البطيئة من أكبر عيوب فن القراءة ولكنها تكون ضرورة لازمة في الحالات الآتية:
1 - عند القراءة التي يقصد بها التحليل والنقد.
2 - في الكتب العلمية الدقيقة ككتب الطبيعة والفلك وعلم النفس.
3 - في الكتب التي تقرأ لإشباع لذة وجدانية كالشعر والنثر الفني والأدب الراقي وكل ما(846/11)
يقرأ للتذوق.
والقارئ في هذه الحالات قد يقرأ بصوت مسموع بعض الفقرات والأبيات للاستمتاع بها، وقد يعيد قراءتها عدت مرات للتمعن فيها أو استيعابها ولكنه يقرأ كل ما يراه مفهوماً قراءة سريعة خاطفة ليوفر الوقت لكل ما هو معقد يحتاج إلى الروية في التفكير والاستيعاب.
(جـ) القارئ الضعيف (البطيء):
1 - يقرأ كتاباً سهلا بسرعة تتراوح بين 100و150 كلمة في الدقيقة.
2 - يقرأ كلمة ويقف عند كل لفظ تقريباً لأنه ضيق المعرفة كما أن محصوله اللغوي ضئيل.
3 - يقرأ الكلمة أو الجملة مرات حتى يفهمها جيداً باستجماع كل مدلولاتها في ذهنه.
4 - يقرأ بعينيه وشفتيه ولسانه وحنجرته وأوتاره الصوتية.
5 - لا يركز تفكيره تركيزاً كاملاً بل ينشغل كثيراً بالعالم الخارجي من ضوضاء ومناظر وحوادث لأنه يتلكأ ويتبطأ في الوقوف عند كل كلمة.
6 - غالباً ما يترك ما يقرأه دون أن يتم قراءته وأقصى ما يستطيع أن يقرأه في المرة الواحدة لا يزيد على اثنى عشرة صفحة
(د) القارئ العادي:
أما القارئ الوسط البالغ الذي يقرأ 225 كلمة في الدقيقة في الكتب فهو قارئ عادي في حاجة أن يدرب نفسه ليزيد سرعته
ومعدل سرعة القارئ العادي في المدارس الثانوية 300 كلمة في الدقيقة وفي المدارس العليا 350 كلمة في الدقيقة.
القراءة السريعة:
(أ) متى يمكننا القراءة بسرعة:
1 - كلما زاد عدد المفردات التي يفهم الفرد معناها الحقيقي المقصود منها ازدادت قدرته على التفكير والفهم بسرعة.
2 - عندما يزيد النضوج الذهني للشخص بوفرة المعلومات وسعة الاطلاع يكون أقدر على التفكير الهادئ السريع.(846/12)
(ب) القارئ السريع:
1 - يقرأ بسرعة لأنه يفكر بسرعة نتيجة لمحصوله اللغوي الوافي ومعلوماته الواسعة وقوة بصره.
2 - يقرأ 600 كلمة أو أكثر في الدقيقة في المجلات أو القصص ومن 400 إلى 500 كلمة في الأبحاث العميقة الدقيقة.
3 - يلتقط المعنى الكامل للجملة من نظرة واحدة ولا يقرأ كلمات منفردة، ويتخطى الكلمات التي لا أهمية لها مثل حروف الجر وأدوات التعريف وحروف العطف والضمائر. . . الخ.
4 - يستطيع قراءة الكتاب في جلسة واحدة.
5 - يتجه كل وعيه إلى ما يقرأ ولا يشغله عن ذلك مؤثر خارجي، بل يركز فهمه ويحصر ذهنه ويشعر بلذة وحماسة تجعلانه يلتهم ما يقرأه التهاماً.
6 - يفهم ما يقرأ ويتمشى تفكيره مع المؤلف ويوافقه أو يخالفه بسرعة.
7 - يستوعب السطر العادي المطبوع في حركتين أو ثلاث حركات للعين.
8 - يمكنه أن يقرأ كتاباً أسبوعياً ما عدا ما يقرأ من الكتب التي تتعلق بمهنته والمجلات الأسبوعية والشهرية والدورية والصحف اليومية والنشرات.
(جـ) القراءة السريعة ضرورية لازمة:
إنها ضرورة ماسة لجميع رجال الفكر والأعمال لمجاراة العصر في تفكيره وخاصة وإن الإنتاج العقلي لا يحده حصر وأعمالنا وواجباتنا لا تتيح لنا وقتاً كافياً للقراءة. وهي أشد ما تكون لزوماً في الأحوال الآتية:
1 - عندما يكون أمامك مراجع كثيرة للبحث عن نقطة معينة.
2 - عند قراءة الصحف اليومية والمجلات لأنك في مثل هذه القراءات تريد الفكرة العامة بالإضافة إلى كون الأسلوب الصحافي في غاية السهولة يفهم بدون بطء.
3 - عند قراءة الأجزاء المعروفة لديك في كتاب جديد أو مقال.
4 - عندما تريد اكتساب نظرة طائرة عن الموضوع.
5 - عندما تكون راسخاً في الفن الذي تقرأه أو ملماً به ولست مبتدئاً فيه.
(د) اختبر سرعتك:(846/13)
اختر صفحة من كتاب لم تكن قد قرأتها من قبل بحيث لا تكون معقدة لغوياً ولا تحوي أفكاراً بعيدة عن مجرى تفكيرك اليومي ومحصولك الثقافي ثم أقرأها بسرعة كما تقرأ في المجلة للتسلية وليس للفحص والتدقيق، ثم وقت ما تفعل بدقة ثم اقسم عدد كلمات الصفحة على عدد الدقائق التي استغرقتها في قراءتها فتعرف سرعتك في الوقت الحاضر. لو وجدت أنك تقرأ 300 كلمة في الدقيقة فأنت في حاجة إلى أن تزيد سرعتك. تمرن لمدة شهر واختبر مقدار سرعتك يومياً في مذكرتك فتجد أنك في نهاية الشهر تقرأ من 400 إلى 600 كلمة في الدقيقة فإنه من الممكن أن تمرن نفسك على السرعة حتى تقرأ صامتاً ثلاثة أو أربعة أضعاف ما يقرأ الآن.
(هـ) كيف تحسن القراءة:
دلت التجارب على أن سرعة الفرد في القراءة تزداد بمقدار 35 % بالتمرين اليومي. فاحمل نفسك على أن تقرأ ربع ساعة يومياً بأسرع ما يمكنك حاصراً كل ذهنك وانتباهك فيما تقرأ، ثم سجل عدد الكلمات التي أمكنك قراءتها كل يوم. قد تجد أول الأمر أن السرعة تحول بينك وبين الفهم، ولكن لا تلبث بعد التدريب اليومي أن تجد أنك تستوعب من المعاني أكثر فأكثر.
زد عدد الكلمات التي تقرأها كل يوم عن سابقه بالتدريج بحيث تفهم ما تقرأ. لا تقرأ كلمة كلمة واعتد قراءة الجمل. وإذا كنت ترجع نظرك بين الفينة والفينة إلى كلمة أو كلمتين تريد استيعاب المعنى فاقض على عادة الرجوع هذه واستمر حتى تنتهي من الجملة على الأقل. ويمكنك تجنب إعادة القراءة بأن تجعل بالك إلى فكرة الكاتب.
تعلم أن تثب وثباً حكيماً لتقبض على الفكرة الرئيسية، ولكن لا تتجاوز الكلام بل اعبره بأن تمر عليه بلحظك مراً سريعاً والتقط الألفاظ الرئيسية.
بعد قراءتك التدريبية يومياً لخص الأفكار الرئيسية التي خرجت بها من قراءتك السريعة ثم عد وتمعن في قراءة نفس القطعة، ولخص في أثناء قراءتك هذه، المعاني الرئيسية والفكرات الأساسية واعمل نسبة مئوية لمقدار استيعابك ما قرأت بسرعة.
وفق بين سرعتك والمادة التي تقرأها، فمثلاً في قراءة الصحف والمجلات يمكنك أن تمر مراً خاطفاً على الأخبار مستوعباً معنى فقرة بأكملها في نظرة واحدة وبعد ذلك تتمكن من(846/14)
أن تمر مراً خاطفاً بارعاً على الصفحة كلها مختاراً الفقرات والأفكار الدالة، وفي الإمكان أن تصل إلى سرعة من 800 إلى 1000 كلمة في الدقيقة في القراءة الخاطفة في الموضوعات البسيطة التي لا تحتاج إلى دراسة عميقة وإمعان كالقراءة في الصحف اليومية.
ويدهشك أن توماس كارليل وثيودور روزفلت كان لهما قدرة عجيبة على قراءة صفحة بأكملها بنظرة واحدة. ويدهشك أكثر عندما تعرف أن السر في إنتاج البروفسور لاسكي الإنكليزي في عالم التأليف يرجع إلى قوته الغريبة وسرعته في القراءة التي لا تفوقها سرعة إذ يستطيع أن يتصفح مجلداً ضخماً ويستوعب كل ما يستحق الاستيعاب بسرعة 260 صفحة في الساعة.
(أسيوط)
إيليا حليم حنا
مدرس أول للغة الإنجليزية والآداب
مدرسة النهضة الوسطى الأبيض، سودان(846/15)
الشاعر في الشارع
للأستاذ أنور لوقا
نشرت (الرسالة) في أعداد سابقة بعض أقاصيص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه. وألفونس دوديه كاتب ساحر، حلو الحديث، كبير القلب، ساذج عميق، أحبته النفوس على تنافر نزعاتها، واستعذبته الأذواق على اختلاف مواردها، والتف به الجمهور على تشعب مذاهبه وتناثر أهدافه. . . سحر النساء والشعراء، وسحر الكافرين بالشعور والضاربين في طين المادة، فتن أولئك المحلقين في الخيال، وفتن هؤلاء المحدقين في الواقع، راق المدنفين بالرقة، وراع الهاتفين للقوة، وأطرب الذين يجول الدمع في عيونهم، وأشجى الذين لا تفارق البسمات شفاههم، ومزج فيض الحنان بمرح الفكاهة دائماً. . .
كاتب ساحر نظر إلى الشيء الصغير نظرة كبيرة، وكشف في الشيء المبتذل ناحية طريفة، وقرن المعنى القديم بالظاهرة الجديدة، وصور الحقيقة الملموسة في وشى من الوهم الجميل. . .
وإذا حاولنا أن نقف على منبع هذا (السحر) في أدبه، رجعنا إلى شبابه ونشأته.
ليس من العبث أن يبدأ الأديب بالشعر، ولا الفتى الشاعر يضيع وقته لأنه ينفقه في الحلم والتأمل.
أو لا ينبغي للكاتب الناشئ أن يعيش في برج من العاج قبل أن يهبط إلى الأرض، ويخبط في زحمة الشارع؟
يقول الناقد (جول لميتر) في سياق حديث له عن ألفونس دوديه: إن خير ما تفعله، حتى نحسن تقدير ما تعج به الدنيا، هو أن نلم أول الأمر بأطراف من جمال السماء. . . وتلك ملاحظة خليقة بأن تسلط الضوء على وجه كاتبنا الساحر من زاوية ممتازة.
ومن هو الشاعر؟
يجب أن نتفق أولاً على أنه ليس الذي ينظم الأبيات، كما تظن العامة دائماً.
الشاعر قبل كل شيء - وما أصدق تسميته في اللغة العربية - كائن مرهف الشعور، يسره شيء صغير، ويبكيه شيء صغير، وتكاد تهتز أوتار حسه من لا شيء. . .
إنه يستأنس الأشياء جميعاً، ويندمج في وجودها، ويعيش فيها وتعيش فيه، فيخفق قلبه إذا(846/16)
أسرعت، ويهدأ إذا أبطأت، وتلهث أنفاسه لضيقها وكربتها، أو ينشرح صدره لبردها وسلامها، وتصطبغ نفسه بلونها قاتماً كان أو زاهياً.
لكل شيء عنده قيمة شعورية، وطاقة عاطفية، ومعنى باطني، فهو يعنيه النبض والدبيب لا الحجم والمساحة، هو يعي ألباب الأشياء وقلوبها قبل أن يعي أشكالها ومظاهرها. لا يكاد ينظر إلى الصور، وإنما يستقبل ما تلقى هذه الصور في نفسه من أحاسيس. . . ذلك أن البصيرة عنده أنفذ من البصر، والوجدان عنده أقوى من العين، وبهذا يمتاز الشاعر من المصور: ذاك تطغى عليه ملكة الشعور، وهذا تطغى عليه ملكة الملاحظة.
وحين ينزل الشاعر من عليائه ويلتفت إلى دنيا الواقع، ثم يتجه نحو سوق المجتمع، ويريد هناك أن يخالط الناس، ويتفهم الخلائق، ويدرس الحياة، إذن فسيهمل الشيء المبتذل، والشيء الأجوف، والشيء الرخيص. سيهمل في الحياة كل ما هو حشو. سيصغي ويرى ويلمس، ولكن هيهات أن يعلق بذهنه إلا كل طريف عميق، ولن يسجل من كل ما يجد حوله إلا الجدير بالتسجيل، ولن يقدم لنا في آخر الأمر إلا مشاهد فنية غريبة رائعة استطاعت أن تستأثر بوعيه وتستغرقه استغراق خياله السابق.
وألفونس دوديه بدأ بالأحلام، وإنا لنقرأ في الصفحات الأولى من قصة حياته المؤثرة (الشيء الصغير) كيف كان طفلاً رقيق العاطفة في (نيم)، يقضي نهاره في حديقة الار وفناء مصنع النسيج الذي أنشأه أبوه، متخيلاً أنه (روبنسون كروزو) في جزيرته، ثم كيف أحزنه فراق تلك الربوع عندما أفلس أبوه وهاجرت العائلة من المدينة. قال: (شهراً كاملاً، بينما كان أهل البيت يحزمون الأمتعة، كنت أتمشى حزيناً وحيداً في مصنعي العزيز. لم يكن قلبي لينصرف إلى اللعب في تلك الأيام كما تقدرون، لا، بل رحت أجلس في كل ركن، أنظر إلى الأشياء من حولي وأخاطبها كأني أخاطب أشخاصاً. . . وكانت في أقصى الحديقة شجرة رمان كبيرة قد تفتحت أزهارها الحمراء الجميلة للشمس، سألتها واحدة من أزهارها فأعطتني، ووضعت الزهرة في صدري تذكاراً لها. . . لقد كنت بائساً شقياً. . . ثم خرجنا. . . وكلما ابتعدت قافلتنا من البيت كانت شجرة الرمان تشرئب ما استطاعت فوق جدران الحديقة لتنظر إلينا وتنظر إليها قبل أن تغيب. . . وكانت الأشجار الأخرى تلوح لنا بأوراقها وتقرئنا الوداع. . . وكنت شديد التأثر أرسل إليهم في خلسة قبلات حارة(846/17)
على أطراف أناملي). . .
وفي ليون، يفتقد الصبي شمس (نيم) المشرقة وهوائها الطيب، فلا يجد إلا سماء قاتمة وضباباً كثيفاً، ويُلحق بكتاب (سان بيير)، حيث تستغرق الصلاة والترنيم معظم الوقت، والدرس أقله. . . وفي هذا الجو القابض، جو البيت المفلس، وجو المدينة القائمة الموحشة، سرعان ما يصبح ألفونس غلاماً عابثاً متمرداً شريراً، فإذا أدخل المدرسة الابتدائية لم يرعو عن عبثه، ولم يقتصد من لهوه، بل مضى يطلق لنفسه العنان في التخلف والتغيب والهرب، ليجدف في نهر السون حيناً، ويهيم في الريف حيناً، ويعرج على المقاهي والحافات بين ذلك. . . ولكنه يطلق لنفسه العنان أيضاً في القراءة والمطالعة، فيلتهم كتب القصص ودواوين الشعر، ويعيش في عالم مسحور بعيد عن إبداع خياله، يهرع إليه ويلوذ به كلما ضاق بالبيت والمدرسة والمدينة. . . وفي الخامسة عشرة من عمره بدأ يقرض الشعر، وأخذ ينشر الأبيات تلو الأبيات في صحيفة محلية من صحف ليون، وينضد في دفتر أنيق مادة ديوان أنيق. . .
ولكن الشعر لا يقوت أصحابه. . . لا بد من كسب العيش. . . ولابد لهذا الفتى بعينه من الاعتماد على نفسه منذ سن مبكرة، لأن مالية الأسرة ما زالت مضطربة. . . هناك يأتيه نبأ وظيفة خالية، وظيفة (مشرف) في مدرسة (إلياس) الثانوية، دفعته شجاعته إلى طلبها، وأتعسه حظه بنوالها - كما يقول هو - فقد جرعته سنة مرة من العذاب القاسي في جحيم تلاميذ خبثاء، لم يطق بعدها صبراً، بل انطلق إلى باريس يهلك في سبيلها فرنكاته المائة التي كان قد ادخرها طيلة العام لمشروع رحلة دبرها طموحه إلى مونبلييه، حيث أزمع أن يتقدم لامتحان البكالوريا. . .
ويحط في باريس فتى حالم العينين، صبوح الوجه، متهدج الصوت، حيياً كأنه عذراء. . . ولا يزال يستلهم الشعر والخيال في غرفة عالية على سطح منزل فقير، حتى يتصل - لنشر ديوانه - بصغار الأدباء والفنانين في مجالسهم وحاناتهم. . . إذ ذاك يرى ويلمس واقعاً من الحياة ساحراً نابضاً غريباً، حافلاً بروائع كالتي أنسها في أحلامه. . . وها هو ذا يقبل على تلك الحياة (البوهيمية) إقبال الظامئ على شراب عذب، يعب ولكنه يتذوق، ويرتوي ولكنه يستمتع ويتلذذ. . . يخرج يتسكع على أرصفة باريس، ويضرب في(846/18)
أحيائها، ويغشى جميع أوساطها، وينغمر في عبابها المصطخب، وحواسه المتفتحة المرهفة دائماً تتصيد الأطياف الخفية، وتسجل الصور الظاهرة، وتلتقط من الدقائق ما يغيب عن أعين الباريسيين التي اعتادت النظر وأعين المحترفين التي كلت من التحديق.
هناك وجد الشاعر بين يديه ما يجذب بصره الذي كان شارداً إلى الأفق البعيد، وجد ما يسترعي حواسه كلها، أشياء جديرة بأن ينظر إليها ويتأملها ويطيل تأملها والنظر إليها، أشياء طريفة لاحظها وعلمته كيف يلاحظها، أو لعلها أشياء عادية مبتذلة يهملها سواد الناس ولكن ملكات الشاعر فيه قد تنبهت إلى روعتها وطرافتها وامتيازها. ومن هنا كادت صور باريس ومفاتنها ومآسيها أن تصبح مادة جميع قصصه فيما بعد، ومادة (أقاصيص يوم الاثنين) بوجه خاص.
ليس إذن أفضل للكاتب الذي يريد رسم طبيعة الحياة من أن يحظى، قبل أن يخوض غمارها، بخيال خصب وشعور خصب ونحن نحس اليوم أن نفس ألفونس دوديه التي حرمت هناء الطفولة وأفراح الصبا، فباتت تنشد السعادة والحنان أحلاماً عريضة يبسطها لها الأمل ويوشيها الخيال ويحدوها الشعر، ما زالت ترفرف على أقاصيصه، تضيف إلى دقة النظرة هزة التأثر، وتؤلف من جزيئات الواقع وتفاصيل الحياة المتناثرة هنا وهناك صوراً فريدة صادقة، لا يدخل في نظمها من صنعة إلا سحر الاختيار الساذج، ولكنها لا تحتاج إلى أكثر من ذلك لكي تثير فينا هذا الشعور الغزير المتدفق الخيال النزق من صميم الواقع والملموس. . .
ولقد كان دوديه يعي عن نفسه هذا كله، ويرى في الشعار الذي اتخذه جوته - (الحقيقة والشعر) - حكمة غنية تشمل الحياة الإنسانية بأسرها.
أنور لوفا
مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول(846/19)
سحابة صيف
للأستاذ ثروت أباظة
على شاطئ البحر أرسل ناظري فينطلق لا يعوقه إلا الأفق البعيد. . . تتهادى منه إلى الشاطئ موجات كل منها تتزين لملاقاة هذا الشاطئ بلون يختلف عما اتخذته صاحبتها، وإذا هي مرتمية عليه في إلحاح العاشق المشوق حاملة معها نسيماً يشتد حيناً ويلين أحياناً. . . يشتد فالشوق عارم، ويخفت فالشوق خفيف. . . والشاطئ رابض يستقبل كل ما برد، لا تلمح عليه من التغير غير بعض الماء يعلوه من أثر الخجل، ثم لا تلبث الرمال الظامئة أن تبتلع هذا الماء إلى غير رجعة وفي غير اكتفاء. . . والناس بين ذهاب وأوبة منهم من يولي الموجات نظره واهتمامه، ومنهم من شغلته حوريات أخرى، فهو غير حافل بشيء مما يدور حوله من غزل يرق ويحتدم. . . ومن الناس من اقتحم على الموجات غزلها فافسد من زينتها وعاق من شوقها. . . قاسياً عاتياً. . . وهل كان الإنسان إلا كذلك. . . فما الذي ساق صاحبي وأنا في هدأتي هذه يقطعها علي قائلاً في صوت أجش:
- سلام عليك!
- بسم الله الرحمن الرحيم. . . لا أنزل الله عليك السلام أبداً. . . من أين خرجت؟
- أعوذ بالله! أهذا لقاء؟
- فليكن وداعاً
- خيراً، ماذا بك!؟
- ليس بي غيرك، فاجلس صامتاً أو انصرف مشكوراً.
- آه. . . آسف، لقد قطعت عليك خيالك. . . آسف يا حضرة. . .
لا فائدة إذن، لقد آلمه لقائي فأراد أن يرده سخرية، وحسبي الله. . . لابد أن أقطع السخرية بمثلها واجعل الحديث كله مزاحاً. . . ليجلس. . . والبحر لن يغيض، والشاطئ لن يفر، والقسوة في الناس لن تزول: -
- لا. . . لا تأسف فهكذا أنت والله. . . با أنك عادة أكثر جموداً منك الساعة، فها أنت ذا تحس فتأسف وما كنت في يوم ذا إحساس، إجلس. . . وتكلم. . .
- أذنت لي. . . أي تنازل. . . كيف حالك وما حال الصيف معك؟(846/20)
- أما حالي فالله محمود على كل شيء؛ وأما الصَّيف فلا أدري لماذا يمر بطيئاً. يخيل إلي أنه لن يزول. . . أنا لا التذ شيئاً هنا ولا يسرني غير وحدتي؛ وما كنت في يوم محباً للوحدة. . . ولكنني أجدها أقل سوءاً من غيرها.
- سحابة من ملل الصيف تزول إن شاء الله.
- وأنت. . .؟
- أنا ماذا؟
- متى تزول؟
- أعوذ بالله ماذا جرى لك؟ لقد أصبحت طويل اللسان إلى حد لا يطاق.
- أراك تطيقه
- فمتى أراك؟
- أمر عليك
- فأنت لا تريد أن تراني. . . ماذا بك. . . لن أنصرف أو أعرف.
- لقد أحسنت التهديد. . . مللت من قلة العمل والاسترخاء، وكسلت عن العمل في ذاته فاصبح حالي مزيجاً عجيباً من عمل أمامي أكسل عنه، وملل من هذا الكسل، وقعود عن إزالة هذا الملل
- كنودٌ ذلك الإنسان. . . لقد رأيتك والعمل يتكاثف عليك فتناشد الله العون وترجو منه أن يسوق إليك الصيف يرفع عنك حملك. . . وأجاب سبحانه الدعاء، وأزال عنك كدرك وساق إليك الصيف فإذا أنت تستقبله في هذا الفتور العابس وذلك الملل المصطنع.
- مرض. . .
- أنت طبيبه. . . إن نفسك هي أضرى أعدائك فحاربها. . . تضع أمامك المسالك المسدودة وهي قديرة أن تفتحها لك، وأنت قدير. . . مر نفسك تطعك، وامنعها أن تمل تمرح، وازجرها أن تعوج بك تستقم لك الحياة
- خطيب بارع. . .
- لا فائدة منك اليوم. أنا آت إليك غداً، وسوف أصحب معي رفقة ترتاح إليهم، ولأحارب أنا نفسك ما دمت تضعف عنها، سلام عليك.(846/21)
- سلام؟
ومضى وسيأتي غداً. . كم كنت فظاً معه! ولكنه الحبيب الذي لا يكلفني اصطناعاً في إظهار عواطفي، فهو يقبلها كما أبديها، وأبديها كما أحسها. . . كم أحبه وكم تحمل!. على أية حال إنه غداً آت وما أظنه إلا متغلباً على نفسي. . . نعم إنها كما قال. . . سحابة صيف.
ثروت أباظة(846/22)
أيها القمر
للشاعر الإيطالي (جاكو مولييو باردي)
ترجمة الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(صحب الشاعر في إحدى رحلاته أحد الرعاة فأوحت إليه هذه الصحبة روائع من الشعر. هذه القصيدة إحداها. ويعد شعره نموذجاً للإبداع والرقة والرشاقة الجذابة والعواطف المتأججة، ولم يكن شاعراً فحسب، بل كان عالماً فاضلاً متقناً لعدة لغات (العبرية واللاتينية والأسبانية وغيرها) وقد ولد في 1898 بمدينة (ريكانتي) ومات في نابولي 1939م).
. . . أيها القمر ما عملك في السماء؟ خبرني ماذا تعمل أيها الوحيد الصامت؟ إنك تظهر ليلاً وتسير مشاهداً البوادي ثم تختفي
ما حل بك التعب من مرورك دوماً في هذا الفضاء الخالد؟ ألم يعترك الضجر والملل؟ ألا زلت ترغب في مشاهدة هذه الوديان؟
ما أشبه حياة الرعاة بحياتك! إنهم يستيقظون في تباشير السحر يسوقون أغنامهم إلى الحقول، فيرون أمامهم قطعاناً ومروجاً واسعة وعيوناً نابعة. . . فإذا ما حل بهم التعب من الطواف طول النهار، ناموا في المساء ولا أمل لهم غير الراحة.
أيها البدر! خبرني ماذا ينفع العيش وماذا تجدي الحياة؟
ليت شعري ما الفائدة من عبورنا السريع لهذه الحياة، وما الغرض من مسيرك المتواصل دائماً؟
ها أنت ذا ترى الواحد من الرعاة شيخاً مسكيناً معُهاً يكاد ثوبه البالي لا يستر بعض جسمه، حافي القدمين، مشعث الشعر، يحمل على عاتقه عبئاً ثقيلاً لا يفارقه. . . فهو تارة يتسلق الجبال العالية وطوراً تسوخ قدماه في الرمال، يخترق الخمائل الملفتة ويسير في العواصف الهوجاء، يقاسي قر البرد وهجير الحر، يواصل جريه فلا يعوقه مستنقع يخوضه ولا صخرة يتسلقها. تراه يكبو ثم ينهض فيسرع في جريه دون توقف ليستريح ولو تمزق جسمه وانبثقت منه الدماء إلى أن يبلغ نهاية الطريق التي حددها له النصب والعناء، وهناك تتلقفه هاوية سحيقة يهوى فيها، فينسى كل ما لقيه من هم وبلاء. هذا مثل الحياة الفانية أيها البدر المنير(846/23)
أيها المتفرد في عليائه؛ يولد الإنسان بالتعب والعناء، فيكون عرضة للعرض، ثم طعمة للموت. يحس أول حياته الألم والشقاء، فيبدأ أبواه يعزبانه عن ميلاده من يوم أن يوجد في المهد، فإذا نما وترعرع شرعا في مساعدته حتى يكبر، فيبذلان جهدهما في إعداده لما ينتظره من هموم الحياة، بالأقوال والأفعال، فإذا أصبح رجلاً تركاه ليحمل نصيبه من أعباء الحياة.
أخبرني لماذا نولد ونوهب الحياة ما دمنا سنسلَبُها؟ وما دام الوجود هما وشفاء فلماذا نعمل على تقوية دعائمه؟ هذه حالنا نحن الفانين. . .
أما أنت أيها القمر فلست عرضة للموت، لذلك لا تحفل بما أفضيت لك به.
أيها الساري في الليل! ربما تعلم سر الحياة وسر ما ينتابنا من آلام وما تذرف من دموع. ربما تعرف سر الموت، وشدة شحوب ألوان وجوهما عندما تودع الحياة، والحزن الذي يلم بنا عند مفارقة خلان أوفياء ومحبين أمناء.
إنك لتعلم علة الأشياء وتعرف فائدة الصباح والمساء ومسير الزمن الذي لا نهاية له.
أنت الذي تدرك سر تبسم الزهر في الربيع وذبوله في الخريف، وما فائدة الصيف المحرق والشتاء القارس. إنك تعرف آلافاً من الأسرار وتكشف فيها عن أشياء لا تخطر لنا على بال.
إنني حينما أراك صامتاً محلقاً فوق السهول المقفرة والجبال العالية، وكلما أراك تتبعني أينما سرت خطوة خطوة، وكلما نظرت الكواكب تتلألأ في السماء، أقول وأنا سابح في بحار من التفكير لم هذا الضوء الساطع والنور الكثير؟ وما معنى هذه الوحدة العظيمة! ومن أكون أنا؟
هذا ما يجول فيهفكري. . . أما المقام العظيم الذي لا تقاس مدته، والكائنات التي اختلفت أنواعها وتعددت فضائلها. . . والنشاط المستمر والحركات المتعددة التي تصدر عن الأجرام السماوية والأجسام الأرضية، تدور بغير توقف وتسير بلا انقطاع ثم إلى مصدرها الأول، فلا أستطيع أن أفهم أي غرض لها، ولا أية فائدة تقوم بها.
أما أنت أيها المختال بشبابه، المدل بجماله، فإنك لا تجهل منها شيئاً. وأما أنا فجل ما يصل إليه علمي، أن هذه الحركة المستمرة والدوران الدائم ووجدي الواهي، ربما كان فيهما خير(846/24)
أو إرضاء شيء آخر، ولكن حياتي كلها شقاء وشر
ما أسعدك أيتها الشياه فأنت سعيدة مستريحة، لأنك لا تعرفين البؤس والشقاء، ولا تحسين لذع الهموم والأحزان وكثيراً ما نظرت إليك بعين الحسد، كلما نزلت بي الهموم والأحزان، لأنك لست عرضة لها.
إنك حينما تضطجعين تحت ظل الأشجار فوق العشب الأخضر النامي تكونين مطمئنة مسرورة، تقضين معظم أيام حياتك خلية البال مرتاحة الفكر.
إنني أنام كما تنامين تحت الأفياء وفوق الكلأ، ولكن لا يلبث الضيق أن يغمر نفسي، ويخيل إلي أن أشواكا تخزني وإبراً تغرز في جسمي، وأكون وأنا على هذه الحال بعيداً عن الراحة والدعة.
أما أنت فسعيدة في كل حال. وأنا قليل السرور وليس هذا كل ما أشكوه.
آه أيها الصامت إلى الأبد! لو أنك تستطيع النطق لسألتك: لم تسترح كل بهيمة كيفما تريد في حالة السكون، بينما أنا يكاد يقتلني الضيق والسأم كلما ركنت إلى الراحة والهدوء.
آه أيها القمر الزاهر! لو كان لي جناحان فاحلق بهما فوق السحاب وأعد النجوم واحدة واحدة والكواكب كوكباً كوكباً، وأطوف من ذروة لأخرى، لكنت أسعد حظاً وأهنأ بالا أيها الكوكب الفضي.
وربما كنت أنعم بالحياة وأسعد بالعيش مما أنا فيه.
إن عقلي يكاد يضل كلما حاولت النظر في حظوظ الكائنات.
إنه يخيل إلي أن يوم الميلاد يوم مشئوم لكل محلوق من المخلوقات مهما كانت فصيلته التي ينتسب إليها والحالة التي يكون عليها سواء أكانت في المهود أم في الزرائب.
فهل جانبني الصواب أيها الساحر على تعاقب الأجيال.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ(846/25)
من الأعماق. . .
للآنسة الفاضلة (المطوقة)
سرت وحدي في غربة العمر، وفي التيه المعمي، تيه الحياة السحيق
لا أرى غاية لسيري ولا أبصر قصداً يوفى إليه طريقي
ملل في صميم روحي ينساب، وفيض من الظلام الدفوق
وأنا في توحشي، تنفض الحيرة حول أشباح رعب محيق
سرت وحدي في التيه، لا قلب يهتز صدى خفقه بقلبي الوحيد
سرت وحدي، لا وقع خطو سوى خطوي على المجهل المخوف البعيد
لا رفيق، لا صاحب، لا دليل ... غير يأسي ووحدتي وشرودي
وجمود الحياة يضفي على عمري ظلَّ الفناء، ظلَّ الهمود. . .
والتقينا. . . لم أدر أي قوى ساقتكَ حتى عبرت درب حياتي!
كيف كان اللقاء؟ من ذا هدى خطوك؟ كيف انبعثت في طرقاتي؟
لست أدري، لكن رأيتك روحاً ... يوقظ الشوق في مسارب ذاتي
ويذرّي الرمادَ عن روحي الخابي، ويذكى ناري، ويحيي مواتي. . .
حدقت مقلتاك فيَّ، وآلامي يغّشى ضبابها مقلتيَّه
لست أدري ما استجلتاه ولا ما رأتا خلف وحدتي الأبدية. . .
غير أني أبصرت روحك تهتز انعطافاً، في رقة علوية
وهنا خلتني شعرت بروح الله رفت من السماء عليَّه!
يا لعينك! أي نفضة بعث ... أوجدتها عيناك في أعماقي
فإذا بالحياة عارمة النبض بفيض الحنين. . . بالأشواق. . .
وإذا بالجمال يعكس ألوان ... رؤاه على مدى آفاقي
وإذا بي في ظل حب عظيم ... معجز السحر، مبدعٍ، خلاق
نظرة فتحت لقلبي أبواب السماوات والجنان العليه!
وجلت لي أفقاً يموج به الوحي وتستعلن الرؤى القدسية. . .
فيه سحر الألوان، فيه صدى الألحان، فيه منابع الشاعريه!(846/26)
نظرة خلف عمقها رحت أستشرف عمق الخلود والأبدية!
ومضت بي الأيام، لا أنا صرَّحتُ، ولا لهفتي الحييَّةُ تبدو
كم وكم راح يحتوينا مكان ... وأنا صبوة توارت. . . ووجد. . .
كم حديث حدثتني، كم قصيد ... هز روحي وأنت تروي وتشدو
وبقلبي السعيد شيء كعنف الموج، يطغى تياره ويمدّ!
ومضت بي الأيام، والزمن العجلان يجري كالهارب المجنون
وسكوني ما انفك يرخى سدولاً فوق رعشات قلبي المفتون
وتلفَّتُ بغتة، وبعمقي ... نشوة السحر والهوى والفتون
وإذا قلبي المريح أشلاء على راحة الوداع الحزين!
وافترقنا، وملء نفسي - لو تدري - أحاسيس هائمات حيارى
وهواي المكبوت يجهش في صمت، وتهمي دموعه أشعارا
كم شجاني وداعك المرّ، كم ساءلت قلبي الممزق المستطارا
كيف كان الفراق؟ كيف انزوى وجهك عني في لحظة وتوارى؟
وافترقنا، وبين كفيَّ رسم ... لم يزل كل زاد روحي المتيم
كم تلمستُ عمق عينيك فيه ... وبعينيَّ أدمع تتضرم
يا لقلبي، كم راح بين يديه ... يهتك الحجب عن هواه المكتم
أصغ، تسمع عبر الصحارى صداه ... يترامى إليك شعراً مرنم. . .
(المطوقة)(846/27)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى الأديب اللبناني الصديق سهيل إدريس:
سألتني أن أطالعك برأيي في قصتك اللبنانية الطويلة (سراب)، وتفضلت فبعثت إليَّ بعشرة أعداد من (بيروت المساء) في كل عدد منها فصل من فصول القصة، وهاأنذا أطالعك بهذا الرأي على صفحات (الرسالة) بعد أن فرغت من قراءة فصلك الأخير، ذلك الفصل الرائع الذي هزَّ في عينيَّ قطرات الدموع!
إذا قلت لك إنك قد بلغت غاية التوفيق فثق أنني لا أجاملك، وإذا قلت لك إنني أود أن أشد على يديك مهنئاً فثق مرة أخرى أنني لا أجاملك! وأظنك تعلم حق العلم أنني ما جاملتك قط، أنت بالذات، بل لعلي كنت أقسو عليك أحياناً حتى لا أترك في نفسي قارئ أثراً للشبهات ولا موضعاً للظنون!
ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغت من قراءة قصتك: ترى أي صدى خلفته هذه القصة بين جوانح القراء والأدباء في لبنان؟
أما القراء، فأنا أعلم أنهم يعجبون بك ويعطفون عليك، وأما الأدباء، فلهم معك شأن آخر؛ شأن أبرز سماته الحقد الذي يدفع إلى الظلم، وملء الطريق بالحجارة لتتعثر أقدام الناجحين!
هذا هو الشعور الذي كان يخالجني كلما خطوتَ إلى الأمام خطوة، شعور بعطف القراء وحقد الأدباء. . . هذا الحقد الذي كنت ألمسه كلما ظهرت لك مجموعة قصصية جديدة. لقد كان إخوانك في لبنان يحرصون دائماً على أن يقدموك إلى الناس في كفة تغلب فيها السيئات على الحسنات، بل لعلهم لم يشيروا إلى حسناتك إلا في القليل النادر، ومع ذلك يقال عنهم إنهم حملة الأقلام وأصحاب الميزان! وأشهد أنك كنت تلقى ظالميك دائماً وعلى شفتيك ابتسامة، وعلى قسمات وجهك آيات من الصبر الجميل. . . وتشهد رسائلي إليك أنني كنت ألومك أعنف اللوم على هذا المسلك الذي كان يثيرني منك، ذلك لأن أكثر الناس لا يفهمون ولا يدركون. . . لا يفهمون سر الابتسامة على أنه من أثر الثقة بالنفس، ولا يدركون أن الصبر الجميل مصدره الإيمان بالمستقبل! وكم قلت لك إن بين يديك قلماً(846/28)
يستطيع أن يرد الطعنة طعنات، وأن يدرأ عن صاحبه تلك الحملات الظالمة التي لا تستند إلى شرعة من إنصاف ولا إلى مسكة من ضمير، فلم لا ترفع معول الهدم لتهوى به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!
وتزداد أنت صمتاً وأزداد أنا ثورة، لأنني أريد لك ولكل إنسان ناجح أن يتخذ شعاره من هذه الكلمات التي نطق بها نيتشه: (حطم كل مألوف يعترض طريقك)!
ومع ذلك، فقد مضيت في طريقك لا تكاد تصغي إلى هذا الصوت الثائر الذي يهيب بك أن تلقى العنف بالعنف، ولا إلى تلك الصيحات المنكرة التي كانت تتجاوب من حولك كلما قطعت مرحلة من مراحل الطريق. . . لقد كانت البسمة على شفتيك وليدة الثقة، وكان الصبر بين جنبيك ضريبة الإيمان! وبهذين السلاحين النادرين استطعت أن تبلغ الغاية التي كنت أرجوها لك. . . صدقني إن الدموع التي اضطربت في قلبي قبل أن تندفع إلى عينيَّ، كانت صدى صادقاً لهذا الفصل الرائع الذي ختمت به (سراب)، وكانت - فوق ذلك - انعكاساً مباشراً لتلك الأضواء التي غمرت جوانب نفسي وأنا أراك تجني ثمار الصبر والجهد والأيام المضنية!
لقد كنت آخذ عليك أحياناً ضعف النبض المنبثق من قلب الحياة خفاقاً على صفحات فنك، وكنت آخذ عليك أحياناً أخرى عدم العناية بوضع التصميم الفني الكامل قبل رص اللبنات الأولى في بناء القصة. . . وكأنك كنت تحشد تجاربك كلها وتشحذ أسلحتك كلها لهذه المعركة الفنية التي انتصرت فيها على وخزات النقد، وإذا (سراب) قصة تصور في جلاء مراحل هذه المعركة قبل أن تصور في صدق حياة الجبل في لبنان. . . قصة تروي لقرائها قصة أخرى، خير ما فيها أنك قد رسمت خط الاتجاه التفكيري في صبر وأناة، فبدوت ثابت القدم إلى حد بعيد. . . هذه واحدة، أما الثانية، فهي اكتمال التصميم الفني قبل الشروع في البناء، ومن هنا ظهرت كل طبقة من طبقات القصة وهي في مكانها الذي حددته المقاييس، وتبقى بعد ذلك هذه الإنسانية التي تترجم في صدق عن لغة الشعور، وتلك الواقعية التي تنقل في أمانة عن لغة الحياة!
ولقد كنت أود أن أقدم للقراء تلخيصاً كاملاً لقصتك ولكنني عدت أخيراً فأحجمت. . . أحجمت لأن التلخيص سيظلم (سراب) الطويلة كل الظلم، وأنا لا أحب أن أظلم هذه القصة(846/29)
التي يجب أن تقرأ كاملة. هناك الأفق الذي رحب، وهناك القلب الذي وجب، وهناك رفات الجناح المحلق في سماء جديدة، وكل تلك القيم يجنى عليها التلخيص العابر والعرض السريع!
يا صديقي، حسبك هذه الكلمات رأياً فيك وفي قصتك. . . ويشهد الله أنها كلمات تمليها نزاهة النقد لا عاطفة الصداقة!!
مسرحية (الملك أوديب) بين الكتاب والمسرح:
. . . . . . . . .
قرأت تعقيبك حول الملاحظات التي توجهت بها إليك على صفحات (الرسالة) عن كتاب (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم. وقد أعجبني منطقك حقاً، وأشهد أنه كان في منتهى الروعة والدقة، وإذا كان هناك أي خلاف بيني وبينك حول بعض النقاط، فأحسب أنه يقتصر على التفاصيل والجزيئات فحسب. وقبل أن توصد باب الحديث في هذا الموضوع وددت أن أحتكم إليك في مسألة جديدة هامة حول مسرحية أوديب. فقد لفت نظري في مسرحية (أوديب ملكا) لسوفوكليس أمر هام، إذ لاحظت أنه في الموضع الذي تخنق فيه الملكة جوكاستا نفسها ويطعن أوديب عينيه، لا يصور المؤلف المشهد مباشرة ولا ينقلنا إلى المكان الذي حدثت فيه الفاجعة، وإنما يسرد لنا خبرها وتفاصيلها على لسان خادم. وقد اتبع أندريه جيد النفس الطريقة في معالجة المشهد المذكور وكذلك فعل توفيق الحكيم. ومعنى هذا أنه لو مثلت هذه المسرحية على المسرح فإن المتفرج لن يرى الملكة جوكاستا معلقة من رقبتها بالحبل وان يرى أوديب يفقأ عينيه بالمشابك الذهبية، وإنما يرى أمامه شخصاً واحداً استبد به الجزع فوقف يسرد تفاصيل الفاجعة. وأحسب أن هذه الخطوة تخل بالمأساة إلى حد بعيد، وتغض من قيمتها بدرجة محسوسة، لأن ثمة فرقاً كبيراً بين عرض المشهد مباشرة على المتفرج وبين تصويره له عن طريق الرواية والسرد. وهذا الفرق يتعاظم دون شك إذا كان المشهد المقصود من أدق وأبرز مشاهد المسرحية كما هي الحال في مسرحية أوديب.
لهذا فقد شككت كثيراً في أن يكون جان كوكتو قد انتهج في معالجته لهذا المشهد في (الآلة الجهنمية) نفس المسلك الذي انتهجه أقرانه المشار إليهم فيما سلف من كلام. ومبعث الشك(846/30)
هو كون جان كوكتو فناناً مسرحياً خبر المسرح عن قرب ودرس مطاليبه ومطاليب رواده وألم من قريب بكل ما من شأنه أن يهيئ للمسرحية النجاح أو يكتب لها الإخفاق. وبدافع هذا الشعور تحققت حاجتي إلى قراءة كتاب كوكتو عن أوديب، ولكن الظروف لم تهيئ لي ذلك، ولم تيسر لي الحصول على نسخة من الكتاب في لغته الأصلية. ولذا فقد جئت أسألك عن هذه النقطة آملاً أن تغنيني إجابتك عن قراءة النص. وأرجو ألا تحرمنا بعد ذلك من تعقيبك حول هذه الملاحظة، فيما إذا كنت تقرني على رأيي أو تخالفني فيه.
ولك جزيل شكري وخالص امتناني وفائق مودتي وتقيري.
(بغداد)
فؤاد الونداوي
ليسانسيه في الحقوق
مرة أخرى يؤسفني أن أختلف مع الصديق العراقي الفاضل في هذه الملاحظة التي أبداها وفي ذلك الرأي الذي نادى به. . . إن هؤلاء الكتاب المسرحيين الذين أشار إليهم قد نظروا إلى طبيعة المسرح وإمكانياته المادية، حين خطر لهم ألا يعرضوا على النظارة ذلك المشهد يرى الأستاذ الونداوي في إغفال عرضه إخلالاً بالمأساة وغضا من قيمتها التمثيلية! الواقع أنه لا إخلال هناك ولا إفساد، ما دام سير الحوادث في المسرحية قد هيأ أذهان النظارة لوقوع الفاجعة وتلقى خبرها على لسان شخص من الشخوص. . . ثم إن هناك لوناً من الاستحالة المادية في إظهار الملكة جوكاست على المسرح وهي معلقة من رقبتها بحبل وكذلك الملك أوديب وقد طعن عينيه بالمشابك الذهبية، ذلك لأننا إذا أقدمنا على إخراج هذا المشهد كما يريد له الأستاذ الونداوي أن يكون، لا تقلب الأمر من عالم التمثيل إلى عالم الواقع، ولتحول من دنيا الخيال إلى دنيا الحقيقة. . أي أننا لو فرضنا على إحدى الممثلات أن تقوم بدور الملكة جوكاست ووضعنا الحبل حول عنقها ثم تركناها تتأرجح على المسرح، فمعنى هذا أن الانتحار الذي نريده تمثيلاً يصبح آخر الأمر وهو حقيقة ماثلة!.
هذه الاستحالة المادية في إبراز مشهد الانتحار بالنسبة إلى الملكة جوكاست تتكرر مرة أخرى بالنسبة إلى الملك أوديب. . . إن أي مخرج مسرحي لا يستطيع أبداً أن يعرض(846/31)
على النظارة منظراً رهيباً يتمثل في رجل يفقأ عينيه بالمشابك الذهبية حتى لتتدحرج حدقتاه على خديه وسط فيض من الدماء! استحالة مادية تقف في وجه المخرج والممثل وتضيق بها طبيعة المسرح قبل أن يضيق بها شعور النظارة على التحقيق. . . ولكن هذه الاستحالة يمكن التغلب عليها بسهولة إذا ما نقلنا القصة من خشبة المسرح إلى شاشة السينما، لأن هناك من الحيل السينمائية ما يستطاع التغلب به على شتى المواقف والعقبات!
أما الكاتب المسرحي الفرنسي جان كوكتو فقد سار على نفس النهج في (الآلة الجهنمية) مع العلم بأنه هو الذي يشرف على إخراج مسرحياته، وليس من شك في أن كوكتو مخرج مسرحي ممتاز يدرك طبيعة العمل المسرحي ومدى التفاوت بين حاضره وماضيه، من ناحية القيم الفنية والتمثيلية.
هذا وللأستاذ الونداوي خالص الشكر على صادق تقديره وكريم مودته.
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
هذه رسالة طريفة من الآنسة الفاضلة سعاد عبد الهادي بالقناطر الخيرية، تستشيرني فيها حول أمر يقلقها قليلاً كل مساء، أما هذا الأمر فهو أنها كثيراً ما تقف وهي عائدة إلى البيت أمام واجهة إحدى المكتبات، حيث يطالعها في كل مرة كتاب يجذبها إليه اسمه وينفرها منه اسمه أيضاً، وهو كتاب (صور من العشق). . . وتسألني الآنسة الفاضلة: هل تقدم على شراء هذا الكتاب؟ وهل مما يليق أن تقرأ فتاة كتاباً عن العشق؟ (إن كلمة العشق رغم لذتها وظرفها فإنها أيضاً تخيف وتخجل وتضايق)! إن ردي على الآنسة هو أنه لا بأس أبداً من قراءة هذا الكتاب لأنه كتاب يتحدث عن ألوان من الحب استخلصها المؤلف من زوايا التاريخ، ومهما يكن من شيء فإن الفتاة التي تجد الشجاعة على أن تصف الحب بأنه لذيذ وظريف، وهذه الفتاة يمكنها أيضاً أن تجد الشجاعة على أن تقرأ كتاباً من هذا الطراز!!. . . أما الرسالة الثانية فمن (بغداد - العراق) أشكر لمرسلها الأديب الفاضل عبد الله نيازي بمديرية التسوية العامة رقيق تهنئته، وأجيبه بأنه يؤسفني جد الأسف أن كتاب (نهاية حب) الذي تفضل بإرساله إلي قد وقع في يد غير يدي على التحقيق! وهذه رسالة ثالثة من (بغداد - العراق) أيضاً تحمل إلي كريم التقدير ما يستحق خالص امتناني لمرسلها الأديب الفاضل عبد الوهاب البياتي، أما المسألة التي أشار إليها فهي موضع عنايتي. ورسالة رابعة عن(846/32)
الشاعر الفاضل جعفر عثمان موسى (كوستي - السودان) تحوي بضعة أسئلة حول فن القصة وفنون أخرى، كما تحوي عتاباً رقيقاً على سؤال قديم شغلت عن الإجابة عنه، الواقع أن كثرة شواغلي قد ألهتني عن هذا الصديق الذي سأكتب إليه رسالة خاصة تصله بعد أيام. ورسالة خامسة من (مدني - السودان) أيضاً يطلب إلي فيها مرسلها الفاضل ع. عبد الله أن أكتب مرة أخرى عن الشيوعية البغيضة التي (يحاول المتشبثون بأهدابها تسفيه النصوص والآراء الدينية نابذين في سبيل منطقهم المتهافت كل منطق قويم وكل برهان قاطع وكل حجة دامغة، وأي منطق متهافت هذا الذي يتحدى القرآن)؟!. . . إنني أشكر للأديب الفاضل هذا الشعور الصادق نحو المبادئ الهدامة، وأعده بالكتابة في هذا المجال كلمات حانت الفرصة. وتبقى بعد ذلك بضع رسائل سأشير إليها في العدد القادم إن شاء الله.
أنور المعداوي(846/33)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
شاعر يثور على الطبيعة:
لكثير من الكتاب والشعراء - في القديم وفي الحديث - ولع بمشاهد الطبيعة والسكون إليها والتغني بجمالها، حتى لقد صار ذلك تقليداً متبعاً يجري عليه الناشئون في الأدب والمتطلعون إلى قرض الشعر، تراهم يقصدون إليها ويسرحون الطرف في مغانيها، عسى أن تزف إلى قرائحهم بنات الأدب والفن.
وقد قرأنا كثيراً من القصائد والقطع الجيدة وصف مناظر الطبيعة والتفنن في التعبير عن جمالها، وقد أوحت بها إلى أصحابها تأملاتهم تلك المناظر وسبحات أفكارهم في جوها، ولعل هذا النوع من الأدب أقل أنواعه رواجاً في عصرنا هذا الذي يفضل الخوض في مسائل الحياة والتحدث عن الحقائق الإنسانية وتحليلها. فالأديب يذهب إلى الحدائق والشواطئ ليأخذ قسطه من الاستجمام والترويح عن النفس وصحة الجسم، كأي أنسان آخر، ثم هو مطلق الحرية في أن يأخذ موضوعه من أي مكان شاء، لا يتقيد إلا بما يثير عقله وإحساسه من صور الحياة وشؤون الناس.
أثارت تلك الخواطر بنفسي، قصيدة نشرت بالأهرام للأستاذ محمد مفيد الشوباشي، عنوانها (شاطئ بلطيم) ذهب بها في الحديث عن هذا الشاطئ مذهباً إنسانياً طريفاً يعاكس مذهب شعراء الطبيعة المفتونين بها، فهو لم يسكت عنها ويعدل إلى غيرها، بل إنه استنكر السكون والروعة والجلال وما إلى ذلك من الأوصاف التي تجذب أولئك الشعراء إلى أماكنهم المحببة إليهم، فلم يرقه شيء من ذلك بل شعر بالوحشة والملل فيها، قال:
على الشاطئ المهجور قضيت حقبة ... من الدهر محزون الفؤاد وحيداً
يباب خلا من كل أنس وبهجة ... يمر به الدهر الممل وئيدا
تمر به الأيام جرداء مثله ... فلست ترى فيما تراه جديدا
ويمضي على هذا النحو في التبرم بتلك الأماكن المقفرة، حتى يقول:
حننت إلى الإنسان في خلواتها ... وإن كان شيطان الخصال مريدا
ألا ليتني ألقى عدوي فأرتمي ... على صدره سهل القياد سعيدا(846/34)
فلم يعد الليل الرتيب يشوقني ... ولا البدر وضاح الجبين فريدا
ولا الريح تشدو ولا الموج راقصا ... ولا الشطر منداح الرمال مديدا
حننت إلى شط يموج بأهله ... ترى فيه حفل الغانيات نضيدا
والذي استرعى انتباهي في هذا الشعر وأطربني منه، قيمة هذه المشاعر والصدق في التعبير عنها، فالشاعر يضيق بالليل والبدر والموج، ويحن إلى الإنسان مهما كان، ويشتاق إلى لقاء عدوه ليرتمي على صدره. . . لأنه إنسان!
هل يباح التعليم الجامعي لكل من يطلبه؟:
جاء في (كشكول الأسبوع) الماضي أن البحث في المؤتمر الثقافي العربي القادم سيدور على مسألتين، إحداهما: هل من الخير للدول العربية أن تبيح التعليم الجامعي لكل من يطلبه أو يقتصر على قبول المتفوقين. والموضوع حقيق بالنظر. نحن الآن نقبل في التعليم الجامعي كل من يطلبونه تقريباً، وهم كثيرون لا يرد منهم إلا القليل، حتى ازدحمت الجامعة، وتعذر إشراف الأساتذة والمدرسين على العدد الكبير من الطلبة، وتعذر قيام العلاقة المرجوة بين الطالب والأستاذ. ويتخرج في كليات الجامعة كل عام مئات المنتهين منها، قلَّ أن تجد فيهم من تكون تكوناً جامعياً حقيقياً. ومعنى ذلك أن الجامعة لا تغربل المتقدمين إليها، لتعرف ذوي الاستعداد للدراسة الجامعية من غيرهم، وكل ما تقيس به هو (التفوق) في الشهادة التوجيهية، وليس هذا المقياس دقيقاً لأن هذا التفوق كثيراً ما يكون في تحصيل المعلومات وحفظها، أما العقلية الدراسية فشيء آخر، وقد يختلف صاحبها في التحصيل والاستظهار. ومن ثم أشير بأن يعدل تعبير اللجنة الثقافية بإبدال ذوي الاستعداد للدراسة الجامعية بـ (المتفوقين).
وأذكر أن خطاب العرش لافتتاح الدورة البرلمانية في العام الماضي، تضمن أن الحكومة تهتم بإنشاء معاهد للتعليم الفني العالي تغلب عليها الصبغة العملية تقوم بجانب الكليات الجامعية، ليحلق بها طائفة كبيرة ممن أتموا التعليم الثانوي. ولا شك أن هذه المعاهد تحل أزمة الراغبين في إتمام التعليم العالي كما تحل أزمة الجامعة أو أزمة الدراسة الجامعية المنشودة إذ يتحول عنها إلى تلك المعاهد العدد الضخم من الشباب الراغب في الشهادات العالية دون استعداد حقيقي للحياة الجامعية.(846/35)
الرد على الدكتور أبي شادي:
قرأت رسالة الدكتور أحمد زكي أبو شادي المنشورة في العدد الماضي من (الرسالة) التي كتبها رداً على ما كتبته عنه في العدد (842).
أما طلبه الجنسية الأمريكية الذي نفاه في (الأهرام) و (البلاغ) وخرَّجه في (الرسالة) على مدلول (الجنسية المزدوجة) فليكن كما خرج. فأساس الموضوع هو طعن الدكتور أبي شادي على مصر في حملات بجريدة (الهدى) وقد دافع عن نفسه بأن ما نشرته (أخبار اليوم) جحود للجهود التي يقول إنه بذلها في خدمة (وطنه الأول) في شتى البيئات بأمريكا وعلى منابر الصحافة الحرة ومن العجيب ألا نعلم شيئاً عن هذه الجهود كأن الصحافة المصرية قد أتفقت على إغفالها حتى جاءت أخبار اليوم فعكست الوضع واتهمته بالتحامل على مصر. . ولم يتعرض الدكتور لبيان ما كتبه في (الهدى) عن مصر، وهو موضع التهمة، ويؤسفني أن أتفقد صحيفة الهدى في القاهرة فلا أجدها.
ولا أستطيع إزاء ما نسبه الأستاذ مصطفى أمين بك - وجهوده الصحفية القيمة معروفة - إلى الدكتور أبي شادي من التحامل على مصر، وإزاء نفي الدكتور هذا التحامل أن أرجح أحد الأمرين على الآخر وإن كنت أستريح إلى مبادرة أبي شادي بالدفاع عن نفسه وتكذيب ما نسب إليه. وبودي لو أستدل بذلك على اتجاهه نحو الوفاء للوطن كما يرجى من كل مصري ينأى عن بلاده وإن هجر الإقامة فيها.
وكما صدر ما كتبته تعليقاً على اتهام أبي شادي بالخروج على مصر، عن شعور وطني كذلك، صدر ما وصفت به أدبه عن رأيي في هذا الأدب أو الإنتاج الذي يقل فيه الأدب. وقد لمحت دفاعاً عنه نشر أيضاً في العدد الماضي من (الرسالة) قال فيه كاتبه الأديب عبد الحفيظ نصار إنه يصحح لوجه الله والتاريخ ما قلته عن المذهب التجديدي، فذكر أن مطران سلك هذا المذهب قبل أن يدعو إليه العقاد والمازني وشكري. وأنا لم أرتب ترتيباً تاريخياً، وإنما ذكرت العقاد وزميله في الدعوة، وقلت إن مطران كان من رواد التجديد وأنا أعني حظه العملي في إنتاج الشعر. أما سائر ما تضمنه هذا الدفاع فلا أرى داعياً لمناقشته.
فرقة الكوميدي المصرية:(846/36)
هي فرقة جديدة بدأت عملها في الأسبوع الماضي على مسرح كازينو أوبرا، وهي إحدى فرقتين محور كل منهما ممثل يقلد نجيب الريحاني، وممثل هذه الفرقة هو نعيم مصطفى، ويشترك معه بشارة واكيم وعباس فارس وكاميليا وآخرون. ويظهر أن اسم بشارة واكيم يستخدم للإعلان، فإنه لم يظهر بالرواية الأولى إلا في منظرين قصيرين تكلم فيها بضع كلمات وكان يمكن أن يقوم بدوره أي ممثل من الدرجة الثالثة.
أما الفرقة الثانية فتتكون من بعض الممثلين والممثلات الذين كانوا يعملون مع الريحاني، وممثلها الذي يقلده هو عادل خيري ابن بديع خيري زميل الريحاني في التأليف، وستبدأ عملها على مسرح الريحاني في الأسبوع القادم.
بدأت فرقة الكوميدي المصرية برواية (خطف مراتي) وهي تأليف نعيم مصطفى، ولابد أنه أراد أن يظهر كليفة للريحاني وأكثر. . فالريحاني كان يؤلف بالاشتراك مع بديع خيري، ولكن هذا ينفرد بالتأليف. بدأت الرواية بمنظر حمودة وزوجته، مع الزوج إبريق والزوجة (قلة) يفضل كل منهما ما معه على ما مع الآخر، فالابريق في نظر الزوج رمز الابن، و (القلة) عند الزوجة كناية عن البنت، وليس لهذا الحوار أي أثر في حوادث الرواية بعد ذلك ولا ارتباط له بها. ولهذين الزوجين بنت (سامية) متزوجة من الدكتور عادل، والجميع يشكون في سيرته ويتفقون مع (مدام كاميليا) الخياطة لاختباره و (مدام كاميليا) هذه فتاة جميلة صغيرة متزوجة من رجل كبير في السن، ولا تدري على أي أساس بني هذا الزواج، إن كان على غنى الزوج فلم إذن تعمل هي خياطة؟ والمسلي المشوق في الرَّواية هو ظُهور الشخصية التي يُمثلها نعيم مُصطفى، وهي (قراقيش) الصعلوك الذي يفرض صداقته على الدكتور عادل ويتقمص شخصيته في علاج الموضى بطرق مضحكة. ويطلع قراقيش على رسالة من الخياطة إلى الدكتور عادل تستدعيه فيها لمعالجتها - تنفيذاً للخطة التي وضعتها لاختبار أمانته الزوجية - فيذهب قراقيش إليها على أنه الدكتور عادل، وتحدُث مفارقات في منزل الخياطة، بسبب ادعاء قراقيش أنه دكتور، ويلتقي الجميع هناك في مناظر مضحكة، وتنتهي الرواية بأن يتزوَّج قراقيش بمدام كاميليا. . وكيف ذلك وهي متزوجة؟ لا تدري! إنه يخطفها (والسلام!).
والرواية محشوة بالمناظر المقصودة ذاتها لا لسياق الحوادث، وقد كثر هذا الحشو المقصود(846/37)
حتى أخرجها عن الطبيعة إلى التكلف الافتعال. وعلى المناظر المتكلفة تعتمد الفكاهة في الرواية، وما كان هكذا فن الريحاني، فن الفكاهة الراقية والنكتة الرائقة.
ومجموعة الممثلين والممثلات لا بأس بها، ولكن الرواية مبتذلة مسفة كنت أفضل ألا يبدؤا بها إن كان لديهم خير منها، وأرجوا أن يكون حظهم في غيرها أحسن منها. وقد أجاد نعيم مصطفى في تمثيل شخصية الصعلوك وهو ممثل خفيف الظل، ولا أخشى عليه إلا أن يصر على التأليف فإنه يحتاج إلى تأليف قوي يظهر كفايته التمثيلية، وهو يشبه الريحاني فعلاً في صوته وطريقة كلامه وسخريته. ولا بأس أن يبدأ بهذا على سبيل الإعلان، ولكن لابد له أن يكون لنفسه شخصية مستقلة. وإني لأعجب من أولئك الذين يتحدثون عمن يخلف الريحاني، هل الريحاني منصب يبحثون عمن يشغله؟ وهل كان هو صورة لأحد قبله؟ إن الفنان الأصيل هو الذي يأتي على غير مثال سابق.
عباس خضر(846/38)
من هنا وهناك
للأستاذ السيد أحمد مصطفى
توماس مان:
عندما وصل توماس مان الروائي الألماني الأشهر لندن في أواخر شهر مايو الماضي أخبره ناشرو كتبه بأن متوسط ما يباع من كتابه الأخير (الدكتور فاوستس) يبلغ الثلاثمائة نسخة في اليوم الواحد. هذا بالرغم من أنه ليس من الروايات التي يستطيع عامة القراء هضمها بسهولة، وأن النقاد لم تجتمع كلمتهم جميعاً في الإشادة به والثناء عليه.
وفي خلال إقامة الدكتور مان بإنكلترا سجلت له دار الإذاعة البريطانية أحاديت أدبية متنوعة، كما كلّف بإلقاء محاظرات عن (جوت) في جامعة أكسفورد (باللغة الألملنية) وفي جامعة لندن (باللغة الإنكليزية) وذلك قبل أن ينهي رحلته التي يقوم بها الآن إلى قارة أوربية.
ومع أن الروائي الألماني الكبير لم يكن يبغي زيارة ألمانيا في بادئ الأمر، إلا أن الدعوة التي وصلته من فرانكفورت، وجائزة جوت (أرفع جائزة يمكن أن ينالها مؤلف أديب) التي أنعم بها عليع، غيرتا رأيه في هذا الخصوص. فقرر السفر إلى ألمانيا، والاشتراك في حفلات ذكرى جودت التي أقيمت هناك في اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس الماضي وذلك لمناسبة مرور مائتي عام على مولد هذا العبقري الألماني الفذ.
أريكا:
وترافق الدكتور مان في رحلته الأوربية هذه زوجته وكبرى بناته الثلاث؛ أريكا المرحة الخفيفة الروح ذات الشعر القاتم والتي تجتاز أواسط العقد الرابع من عمرها الآن، وتتكلم الإنكليزية بطلاقة عجيبة.
وأريكا هي التي تمكنت من إنقاذ النسخة الأصلية من رواية أبيها (يوسف وإخوته) وحالت دون وقوعها في أيدي النازيين على أثر استيلائهم المفاجئ على مقاليد الحكم في ألمانيا، حيث صادف أن كان أبواها آنذاك يقضيان عطلتهما السنوية في سويسرة.
وقد هرَّبت أريكا هذه الرواية التي لم تكن حينذاك سوى مسودات فحسب إلى سويسرة بعد(846/39)
أن خبأتها في صندوق الأدوات في سيارة من طراز فورد.
أسرة أدبية:
وأريكا في الوقت نفسه أديبة موهوبة ومؤلفة طائفة من الكتب الرائجة. . . ومن آثارها الأدبية كتاب قامت بتأليفه بالاشتراك مع أخيها الأصغر منها سناً (كلاوص مان) صديق أندريه جيد المؤلف الفرنسي الذائع الصيت ومترجم حياته. . .
ويقيم أفراد هذه الأسرة الأدبية في سان ريمو بكاليفورنيا، وعلى بعد مسافة قليلة منهم، في بيفرلي هيلز، يقيم هنريخ مان الشقيق المؤلف لحائز جائزة نوبل.
القصة الطويلة:
أخذت القصة الطويلة تعود إلى الظهور مرة ثانية في لندن على أثر انتهاء الحرب وعودة الأمور إلى مجاريها وزوال العقبات التي كانت تعترض طريق المؤلفين والأدباء في الحصول على القدر الكافي من الورق لطبع مؤلفاتهم وإخراج كتبهم.
ويستطيع المتفرج والمتنقل بين مختلف مكتبات لندن ودور نشرها أن يشاهد بغير عناء أن الكتب التي تبلغ صفحاتها الخمسمائة فما فوق ليست بالقليل النادر هماك في هذه الأيام.
فثمة كتابان ظهرا في خلال هذا العام أربى عدد صفحات كل منهما على ال (700) صفحة؛ هما (الفيل والقصر) للكاتب الإنجليزي (هتجنسون) و (العالم غير كاف) و (زوى أولد بنركس) كما أن هناك كتباً أخرى مماثلة آخذة طريقها إلى الظهور الآن.
ومن الكتب التي امتازت بحجمها الكبير أيضاً قصة (الدكتور
فاوستس) لتوماس مان التي نقلت إلى الإنجليزية ونشرت في
لندن في الربيع الفائت، فقد بلغ عدد كلماتها (000300)
وصفحاتها (520) ولكن فاقتها في الطول قصة (العاري
والميت) للكاتب الأمريكي نورمان ميار التي أثارت عاصفة
من النقد في بريطانية عندما ظهرت طبعتها الإنجليزية هناك(846/40)
منذ عهد قريب. أما أطول الكتب في هذه السلسلة فهو بلا
نزاع كتاب بقلم روز لوكريدج الذي سيظهر قريباً والذي
ستبلغ صفحاته أكثر من ألف صفحة كاملة.
كتب التراجم أيضاً:
ليست القصص وحدها التي أتيح لها أن تفوز بكل هذه الزيادة في عدد صفحاتها بل أن الأمر شمل كتب السير والتراجم أيضاً، فأخذت تنعم هي كذلك بما تنعم به أختها القصة من المجال الفسيح والمضطرب الواسع. . . فترجمة (روزتي) الجديدة بقلم أحد أساتذة جامعة مدينة الكاب بجنوبي أفريقية تقع في (700) صفحة، وترجمة (تولستوي) للأستاذ أرنست سيمون في (900) صفحة، وكتاب المؤلف الإنجليزي هالدي وعنوانه (شكسبير وناقدوه) في (500) صفحة.
كتب (حرب):
ذكرت مجلة (جون أولندن) الأدبية الإنجليزية أن الكتب التي تقوم حوادثها على أساس ما وقع في الحرب الأخيرة من أحداث لم تعد تثير اهتمام الناشرين الإنجليز وتجلب انتباههم في هذه الأيام مثلما كان عليه الحال في الماضي القريب، هذا بالرغم (من أن هناك حرب) ضربت رقماً قياسياً في الزواج والانتشار في خلال الأثني عشر شهراً الأخيرة، مثل: قصة (العاري والميت) لنورمان ميلر، التي لا تزال في طليعة الكتب الرائجة، وكتاب , لمؤلفه (الآن باتون) الذي ظهر في الخريف الماضي وأعيد طبعه تسع مرات حتى الآن. . . وكتاب للكاتب الإنكليزي الكسندر بارون. هذا، وستظهر لهذا الأخير طبعة أمريكية في نيويورك في الخريف القادم.
أما في أمريكا فالإقبال على كتب الحرب لا يزال على أشده. وقد نالت قصة (الأشبال) التي صدرت أخيراً لمؤلفها أروين شو استحساناً عاماً من النقاد، كما أن الأديب الأمريكي المعروف (هيمنجوى) يعمل الآن بجد لوضع قصة جديدة تقوم على أساس اختباراته وتجاربه في حملة نورماندي حيث كان مراسلاً حربياً هناك في خلال الحرب العالمية(846/41)
الثانية.
ضعف الإنتاج الأدبي في تركية:
قرأنا في أحد أعداد مجلة (شادروان) الأدبية التركية التي يقوم بإصدارها الشاعر التركي المعروف (بهجت كمال جاغلار) ملخصاً لخطاب مستفيض ألقاه الروائي الزكي الشاب موفق إحسان جاران في حفلة افتتاح معرض (المؤلفين الأتراك الحديثين) الذي أقيم أخيراً في استانبول، ندد فيه بحالة الأدب والأدباء البائسة في تركية، وعدم استطاعة المؤلفين الأتراك إنتاج آثار أدبية تضاهي ما ينتجه زملاؤهم أدباء الأمم الأخرى المعروفين، في القوة والجودة. وقد عزا المؤلف الناشئ عدم ظهور أديب تركي يأخذ موضعه بين الخالدين العالميين حتى الآن إلى العوامل التالية:
1 - إن الذين يعرفون القراءة والكتابة في تركية قليلون. (ولا يمكن اعتبار القارئ مشجعاً حقيقياً للأدب العالي الرصين إلا إذا كان مثقفاً ثقافة حقيقية).
2 - إن الذين يعتبرون أنفسهم من عشاق الأدب ومحبيه لم يتعودوا اقتناء الكتب الأدبية وجمعها وإنشاء مكتبات أدبية خاصة في بيوتهم.
3 - إن اللغة التركية ليست منتشرة انتشاراً كباقي اللغات العالمية، وفي ذلك ما يثبط همم المؤلفين الأتراك من الناحيتين: المادية والمعنوية، ويعرقل سيرهم قُدماً إلى الأمام في طريق الخلق والإبداع.
4 - إن المؤلف هو الشخص الوحيد الذي لم تتضاعف أرباحه في موجة الغلاء التي اجتاحت المملكة بسبب الحرب الأخيرة (فعندما تشتري كتاباً بـ (250) مليماً فإنك لا تدفع للمؤلف سوى ستة مليمات فقط، وقد صادف أن يبعث حقوق مؤلَّف يزيد على مائة صفحة بأقل من جنيه مصري واحد).
5 - حالة التوزيع سيئة للغاية ولا يمكن الثقة بالباعة الذين هم في خارج المدن الكبيرة بأي حال من الأحوال، فهم لا يهتمون ببيع الكتب، وإن اهتموا فلا يسلمون أثمان الكتب التي يبيعونها إلى أصحابها.
6 - الدولة غير سخية ولا متساهلة، مع المؤلفين الوطنيين فهي تغدق عميم خيرها على المؤلفات الأجنبية التي تنتقل إلى اللغة التركية بغير حساب وتغل يدها إلى عنقها عندما(846/42)
يأتي دور المؤلفات التي يضعها الأدباء الأتراك.
7 - ليس ثمة قانون يحمي حقوق المؤلف حسبما تقتضيه الظروف والأوضاع الجديدة (فالقطع التمثيلية التي تمثلها مختلف الفرق في طول البلاد وعرضها لا تأتي للمؤلف بمليم واحد، وقد يهمل أصحاب هذه الفرقة حتى سلوك مسلك الأدب واللياقة مع المؤلف، ومجاملته في الحصول على موافقته على تمثيل رواياته، بل وقد يجهل المؤلف نفسه جهلاً تاماً أن رواياته تمثل هنا وهناك من أنحاء البلاد).
8 - لماذا يدفع الناشر أجراً للمؤلف ما دام هناك طريق ترجمة أرقى الآثار الأدبية العالمية - ولو ترجمة هزيلة - مفتوحاً أمامه بلا رقيب أو حسيب؟. . وما دام أن ليس ثمت أي تشريع يلزمه ولو يدفع مليم واحد لأصحابها الشرعيين. . .
وقد أكد الروائي الشاب بعد ذلك أنه ما لم يعثر على علاج شاف لهذه الأدواء الثمانية، فإن ظهور الأديب التركي العالمي المرتقب سيتأخر كثيراً إن لم يكن أمراً عسيراً التحقق، بعيداً عن التصور.
(العراق - أربيل)
السيد أحمد مصطفى(846/43)
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 6 -
يجمل بي قبل أن أستأنف كتابة الحلقة السادسة من هذا البحث أن أعرض بالنقد لما نقدت به في بريد الرسالة.
أما النقد الأول، فقد كتبه الأستاذ عدنان وجعل عنوانه (لفظة في بيت). قال: (في مقال للأستاذ السيد أحمد صقر حول كتاب (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي بك). وفي هذه الجملة خطأ طريف، فإني لا أنقد كتاباً اسمه (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي بك، وإنما أنقد كتاب (الأشربة) لابن قتيبة التي نشره الأستاذ كرد علي، ولكي يستطيع القارئ متابعة النقاش في يسر وسهولة أنقل ما قلته أولاً، وما عقب به الأستاذ عدنان ثانياً.
قلت (ع 831ص963) (في ص37، 38 من الأشربة) وقد شهر المتعاشرون على الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك، قال الشاعر:
أرى كل قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فدميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سؤوم
فهذا ثباتي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
والصواب (فهذا ثنائي) كما في العقد الفريد 4321 وليس
للثبات هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام ويقوم عليه بناء
معناه)
وقال الأستاذ عدنان في تعقيبه (بل للثبات هنا معنى يستقيم به نظم الكلام وهو إلى(846/44)
الصواب أقرب مما ورد بالعقد، وذلك لسببين: الأول أن الشاعر يقرر حالة هي إلى قدح القادح أقرب منها إلى (ثناء) المادح، وأي (ثناء) ذلك الذي يوجه إلى قوم لا يحفظون الحريم وينقلبون بين الجيئة والذهاب من حب إلى بغضاء ومن وفاء إلى عداء. والثاني أن الأستاذ الناقد فهم من (الثبات) أنه الدوام والاستقرار، ومن ثم كتب ما كتب معتمداً على رواية العقد وهي كما سبق رواية لا يزكيها واقع الحال. وإنما يقال في مقام التصحيح أن (الثبات) بمعنى الحجة والبرهان تقول: لا أحكم بكذا إلا يثبت أو بثبات أي بحجة وبرهان ودليل).
ليس في كلام الأستاذ عدنان ما يجعلني أعدل عن رأيي في أن الثبات ليس لها هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام ويقوم عليه بناء معناه، وأما تفسيره له بمعنى الحجة والبرهان فتكلف وتمحل وتعمل ينبو عنه الذوق الشعري. وهل يقول شاعر (فهذا ثباتي)؟
وليس في كتب اللغة التي بين أيدينا (ثبات) بمعنى الحجة والبينة، وقد جاء في اللسان: (الثبت بالتحريك الحجة، وتقول أيضاً: لا أحكم إلا يثبت أي بحجة) ولست أدري من أين جاء الأستاذ (بثبات).
والذي حمل الأستاذ على أن يتكلف في تصحيح (الثبات) هذا التكلف البعيد أنه لم يفهم معنى (الثناء)، وعجب من أن أقولإن الصواب (فهذا ثنائي) فقال (وأي ثناء ذلك الذي يوجه إلى قول لا يحفظون الحريم الخ). ولو قد عرف الأستاذ حقيقة الثناء لما قال ذلك بل لما كتب من نقده حرفاً واحداً. إن الثناء ليس مدحاً فقط بل هو ذم أيضاً، يستعمل في الخير والشر على السواء، وقد ورد في شعر زهير:
سيأتي آل حصن أين كانوا ... من المثلات ما فيها ثناء
وفُسر بالوجهين: فمن قال إن (ما) نافية قال: إن الثناء بمعنى المدح، ومن قال إنها موصولة قال: إنه بمعنى الهجاء. جاء في لسان العرب (الثناء ما اتصف به الإنسان من مدح أو ذم وخص بعضهم به المدح. الثناء ممدوح: تعمدك لتثني على إنسان بحسن أو قبيح. أثنى يثني إثناء أو ثناء يستعمل في القبيح من الذكر في المخلوقين وضده).
وإذا كان الثناء يستعمل في الذم في أصل اللغة فليس هناك ما
يدفع قولي إن الصواب (فهذا ثنائي) على أني وجدت للبيت(846/45)
رواية أخرى حبت إليها نفسي وهي كما في نهاية الأرب
4108
فهذا بياني لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
براع لا يراعوا:
أما النقد الثاني، فقد كتبه الأستاذ (عمر إسماعيل منصور) وجعل عنوانه (يراعوا لا يراع) وأنا أورد ما قلته وما قاله على نحو ما فعلت في سالفه.
قلت في العدد 833 وفي ص38 من الأشربة: وقال آخر:
بلوت النبيذ بين في كل بلدة ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظ
إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ
مواعيدهم ريح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاظوا
بطان إذا ما الليل ألقى رواقه ... وقد أخذوها فالبطون كظاظ
يراغ إذا ما كان يوم كريهة ... وأسد إذا أكل الشريد فظاظ
وعلق الأستاذ محمد كرد علي على هذه الكلمة بقوله في ع: يراعوا.
والصواب (يراع إذا ما كان يوم كريهة) جاء في لسان العرب (اليراع: القصب واحدته يراعة. واليراعة، واليراع: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب. أنشد ابن بري لكعب الأمثال:
ولا تك من أخذان كل يراعة ... هواء كسقب البان جوف مكاسره.
هذا ما قلته ولكن الأستاذ (عمر) لم يرقه قولي واتهمني بعدم الفهم وقلة الإدراك بل بعدمه أَيضاً وإليك ما قال: (وأقول إن يراعوا هي الصواب، وهي من الروع بمعنى الفزع، قال قطري ابن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعى
ولو قرأ الأستاذ الفاضل هذه الأبيات لأدرك أن الكلام عن جماعة لا عن فرد، وأن يراعا بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط. قال في الأساس (ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعة ويراع قال: فارس في اللقاء غير يراع)(846/46)
ولست أدري كيف يكون (فاضلا) من ينقل أبياتاً لشاعر يقول فيها (بلوت النبيذيين ومواعيدهم ريح قطعوا بها برد الشتاء وقاظوا) ثم لا يدرك (أن الكلام عن جماعة لا عن فرد) كما يقول الناقد ونضرب صفحاً عن هذا اللغو ونأخذ في مناقشة كلامه فإن ذلك أخلق بنا وأحجى.
يزعم الناقد المدرك أن الصواب (يرعوا) من الروع بمعنى الفزع ولو كان يعرف أن يراعوا فعل مضارع، وأن كل مضارع اتصلت به واو الجماعة يرفع بثبوت النون وينصب ويجزم بحذفها لما قال إن الصواب (يراعوا) ولساءل نفسه: أين النون؟ ولم ذهبت؟ ويزعم الناقد صاحب المدارك الثاقبة (أن يراعا بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط!! وهذا زعم لا حقيقة له لم يقله أحد من علماء العربية، ولكن الناقد افتراه وأوهم القارئ أنه اعتمد في نفيه على الأساس حيث يقول: (قال في الأساس ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعة ويراع). وأنا أنقل للقارئ نص كلام الزمخشري في الأساس ليعلم كيف داس الناقد في نقله وكيف فهم منه ما افتراه. قال الزمخشري في ص561 (وقع الحريق في اليراع: في القصب، قال المسيب ابن عيسى:
ومهما يرف كأنه إن ذقته ... عانيَّة شُجَّت بماء يراع
أراد قصب السكر. ونفح الراعي في اليراعة، وكتب الكاتب باليراعة، قال:
أحنّ إلى ليلى وقد شطت النوى ... باليلى كما حن اليراع المثقَّبُ
أي المزامير. وغشى اليراع الوجوه. وهو شبه البعوض. ومن المجاز قولهم للجبان الخ).
وهذا النص صريح في أن اليراع: هو القصب، وأن اليراع المثقب المراد به المزامير، وأن واحدة هذا كله يراعة.
ولست أدري كيف قرأ الأستاذ هذا الكلام ولا كيف طواه لئلا يناقض دعواه، ولكن الذي أدريه أن الأستاذ لم يفهم كلامي ولم يفطن إلى معنى النص الذي نقلته عن اللسان، وكان فيه الغناء لو تدبره. لقد قلت إن الصواب (يراع) ونقلت ما في اللسان من أن اليراع: القصب واحدته يراعة، واليراعة واليراع الجبان الذي لا عقل له ولا رأى، مشتق من القصب).
ولكن الناقد المدرك لم يفطن إلى أن هذا النص صريح في أن(846/47)
اليراع اسم جنس. واسم الجنس هو ما يفرق بينه وبين واحدة
بالتاء، جاء في المخصص 16100 (باب دخول التاء فرقاً بين
الجمع والواحد منه، وذلك نحو تمر وتمرة وبقر وبقرة وشعير
وشعيرة وجراد وجرادة فالتاء إذا ألحقت في هذا الباب دلت
على المفرد وإذا حذفت دلت على الجنس والكثرة، وإذا حذفت
التاء ذكر الأسم وأنث، وجاء التنزيل بالأمرين جميعاً. . .)
واليراع واليراعة كالزَّباب والزَّبابة جاء في اللسان: (الزَّباب: جنس الفأر لا شعر عليه. قال الحارث بن حلّزة:
وهمُ زَبَابٌ حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
أي لا تسمع آذانهم صوت الرعد لأنهم صم طرش، والعرب تضرب بها المثل فتقول أسرق من زبابة، ويشبه بها الجاهل، واحدته زبابة).
على أن جو الأبيات يتطلب كلمة (يراع) ولو جاز أن يقع الفعل موقعها؛ لأن الشاعر وصف النبيذيين قبل ذلك بأنهم (بطان) ووصفهم بعد ذلك بأنهم (أسد) وسبيل يراع في المجاز كسبيل (أسد) ومع ذلك فإننا إذا نحينا المجاز جانباً ولجأنا إلى الحقيقة وسمينا الجبان باسم (يراع ويراعة) كان الجمع فيهما (يراع ويرعات). ورحم الله الشافعي إذ يقول: (فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له).
ونرجع إلى ما كنا فيه من بيان الأوهام في كتاب (الأشربة) فنقول:
45 - جاء في ص 24: (قال عثمان رحمة الله عليه: ما تغنيت ولا تفتيت، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام).
وشرح الأستاذ كرد علي على معنى (ولا تفتيت بقوله: ولا
تشبهت بالفتيان)! ومعاذ الرجولة أن يقول ذلك عثمان عن(846/48)
نفسه، ومعاذ الأدب أن يظن به ظان أنه يمكن أن يقوله، وبمن
يتشبه عثمان إذا لم يتشبه بالفتيان؟ إن في العبارة خطأ لم
يفطن إليه الأستاذ، وصوابه: (ما تغنيت ولا تمنيت) أي ولا
كذبت جاء في النهاية 4119 (وفي حديث عثمان: ما تغنيت
ولا تمنيت، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام وفي
رواية: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. التمني: التكذب،
تفعَّل من منى يمني إذا قدَّر لأن الكاذب يقدر الحديث في نفسه
ثم بقوله. قال رجل لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم
شيء تمنيته؟ أي اختلقته ولا أصل له).
وقد كان ابن دأب هذا - واسمه عيسى بن يزيد - من أحسن الناس حديثاً وبياناً، وكان شاعراً رواية وافر الأدب، صاحب رسائل وخطب غير أنه كان يضع الأشعار ويزيد في الأحاديث ما ليس منها. وناهيك برجل يسمه خلف الأحمر بالكذب ويصفه بأنه آفة، وفيه يقول ابن مناذر:
ومن يبغ الوصاة فإن عندي ... وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا حديث ابن دأب
ترى الهلاك ينتجعون منها ... ملاهي من أحاديث كذاب
إذا طلبت منافعها اضمحلت ... كما يرفض رقراقي السحاب
وقد توفي ابن دأب في سنة إحدى وسبعين ومائة في أول
خلافة الرشيد. وترجمته في لسان الميزان 4408 وتاريخ بغداد
11148 والمعارف 234 ومعجم الأدباء 16152.(846/49)
(يتبع)
السيد أحمد صفر(846/50)
البَريدُ الأدَبيَ
مصحف من عهد عثمان بن عفان في روسيا:
هكذا نشرت الأهرام بعددها الصادر بتاريخ 30 من أغسطس سنة 1949.
وإذا كان المشتغلون بالحفريات، وبالتثقيب عن الآثار، يسرهم أعظم السرور وأطيبه، أن يجدوا قطعة حجر متآكلة، قد نقشت عليها بضع كلمات؛ رجاة أن يقدموا إلى العلم شيئاً؛ وإن يكن تصحيحاً لتاريخ وفاة أمير، أو ميلاد وزير، أو نسب وليد، فقدَّركم يكون سرور المعنيين بالمخطوطات، حين يجدون كتاباً ضخماً، يحوي بين دفتيه كثيراً من العلوم والمعارف، والآراء والنظريات؟! خصوصاً إذا كان موغلا في القدم، ويرجع تاريخه إلى ما يقرب من الثلاثة عشر قرناً.
وقدركم يكون سرور المشتغلين بالإسلاميات على وجه العموم وسرور المسلمين على وجه الخصوص، إذا كان هذا المخطوط، هو المصدر الأول لعقائد المسلمين وثقافتهم؟!
إنه لا يداخل المسلمين أدنى شك، في صحة كتابهم، ولا في شيء مما يحتويه من آيٍ هي غرر البيان ومعجزة الدهر؛ تتقدم العلوم، وتتسامى الفهوم، وتتكشف الحقائق، وتتجلى الغوامض؛ ولا يزيده ذلك إلا ثباتاً ورسوخاً، وانفهاماً ووضوحاً؛ حتى لقد كان أن يعد لدى الباحثين على اختلاف مشاربهم، وتباين ميولهم ونزعاتهم، معيار الحقيقة، يكون حظ الفكرة من القبول أو الرفض بمقدار ما تنال من القرب منه أو البعد.
ولكن هذا لا يمنع من أن يداخلهم سرور أي سرور، حين يجدون لهذه النسخ التي بين أيديهم أصلا يرجعون إليه، ويطابقونها عليه، ليكون النسب متصلا.
وإذا كان المسلمون الذين امتزج الإسلام بطبيعة وجودهم، وجرى منهم مجرى الدم في شرايينهم، لا يحسون أن هناك فراغاً كان ينتظر هذا المخطوط ليشغله، ولا أن هناك نقصاً جاء هذا المخطوط فكمله؛ فهم على حق في حكمهم؟ لأن العناية الإلهية قد تكفلت بحفظ الكتاب الكريم وصيانته من أن تمتد إليه يد بتحريف أو تبديل.
ولكنهم يكونون على حق أيضاً، حين لا يغفلون ما عسى أن تعتلج به نفوس غير المسلمين، أو حديثوا العهد بالإسلام من تساؤل حول نسب هذه النسخ التي بين أيدينا الآن.
وحين لا يغفلون ما تعتلج به نفوس العلماء والباحثين، من افتراضات واعتراضات، تتطلب(846/51)
إجابات من نحو آخر، غير تلك الإجابات التي تقوم على أساس من التفويض إلى ما تكلفت به العناية الإلهية.
وإن أنس لا أنس ذلك الحرج الذي شعرت به حين وجه إلينا - أنا ونفر من هيأة التدريس بكلية أصول الدين - ذلك الشاب الأمريكي المسلم، الذي حضر إلى مصر بعامة، وإلى الأزهر بخاصة، منذ عامين تقريباً، ليتأكد من صحة إسلامه، بعرضه على الهيئة المختصة، وليؤكده بإزالة ما عسى يكون في نفسه من شبه وشكوك حول العقيدة، على يدي العلماء المختصين بهذه الشؤون. أقول: لست أنسى ما شعرت به من حرج حين وجه إلينا ذلك الشاب هذا السؤال الذي لم يكن لدينا جميعاً جواب عنه:
(هل يوجد لديكم أصل من مصحف عثمان؟ وكيف يطمئن الباحث الحر إلى أن ما بأيديكم الآن هو صورة طبق الأصل منه؟)
وقد شاءت إرادة الله أن تظفرنا بجواب هذا السؤال - وإن يكن بعد عامين - عن طريق هذا الأثر العلمي الجليل.
وإني لا أشك في أن فضيلة مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الجامع الأزهر - بما عرف عنه من غيرة على الدين، وحرص على خدمته، وقصر الجهود على رفع شأنه - أن يدخر جهداً أو مالا في سبيل العمل للحصول على هذا الأثر العلمي الجليل، الذي تكمل به مكتبتنا وتقوى به حجتنا.
وإني - ليشهد الله - لجد مشفق على هذا الأثر النفيس، حين أنظر إلى صورته في الأهرام، وهو بين يدي علماء التركستان، يقلبون أوراقه، ثم يبدءون القراءة فيه ويعيدون، وأخشى أن لا يكونوا مقدرين لقيمته العلمية، وأنه أسمى من أن يستعمل للقراءة والاستذكار؛ فتسرع إليه يد العفاء، إذ حسبنا منه أن يكون أصلا نرجع إليه عند الضرورة.
فاللهم وفق للعمل على اجتلاب هذا الأثر وصيانته، وإحلاله من نفوس أولى الأمر وعنايتهم في المكان اللائق به.
سليمان دنيا
مدرس الفلسفة بكلية أصول الدين ومبعوث الأزهر بجامعة(846/52)
لندن
إلى معالي وزير المعارف:
مرحى يا معالي وزير المعارف والعلم والأخلاق! مرحى أيها الرجل الغيور!
لقد أصبت إذ قررت أن ترتدي الطالبات والمدرسات ملابس طويلة تخفي معظم الجسد عملاً بالدين واحتراماً لمحاريب العلم والأخلاق. إنني إحدى المؤيدات من الطالبات آلمني الضجيج الذي علا أخيراً في الصحف بين (المتمدنيين) أنصار الإباحية وعجبت لمعارضتهم التي لا تستند إلى حجة اللهم إلا (التقدم والرجعية) الكلمتين اللتين بليتا من كثرة الاستعمال بالحق والباطل.
يا معالي الوزير: ناشدتك الله ألا تلتفت إلى هذر أدعياء المدنية فالعلم بدون أخلاق مدرجة للشر وسبيل للفساد.
الطالبة
(ف. أ. ع)
حول قصر الخورنق:
في عدد سالف من الرسالة. . . نشر الأستاذ كاظم المظفر. . . تبحث عن (الخورنق) القصر المشهور بالحيرة. . وكانت طريقته في تأليف تلك السطور طريفة. . غاية بالطرافة. . إذ دس بها أقوالاً حول آثار العراق التاريخية. . كانت قد نشرت بنصها في مجلة الاعتدال النجفية. . كما أشار هو إليها، وأقوالاً مثلها حول قصر الخورنق نشرت هي أيضاً في كتاب الحيرة للباحث القدير يوسف غنيمة. . . ولكنه لم يشر إلى هذا الكتاب إلا قليلاً. . . حيث شغله عنه ذكر بعض المصادر القديمة التي اعتمد عليها يوسف غنيمة من قبيل (المعلمة الإسلامية) و (الألفاظ الفارسية المعربة) و (حمزة الأصفهاني) و (البرهان القاطع). . .
والطريف هنا أن يوسف غنيمة كان يصوغ النصوص القديمة بتعبيره الحديث ويشير إلى أصولها في كتب القدماء. . . فجاء كاظم فنسب هذه النصوص بألفاظها الحديثة إلى القدماء(846/53)
ليوهم أنه اطلع عليها رأساً. ولم يأخذها من كتاب الحيرة المطبوع. وإنا لو أردنا أن نبرز السطور التي أخذها من مصادرها ومن يوسف غنيمة خاصة لما ظل لكاظم المظفر من هذا المقال الطويل شيئاً. . . إذ هو جميعه مأخوذ من هنا ومن هنا. . وإن حاول أن يخفى ذلك بذكره لكثير من المراجع التي لم ير أغلبها.
(بصرة - عشار - عراق)
قارئ(846/54)
القصص
قلب محروم. .!
للأستاذ غائب طعمة فرمان
(إلى صاحب القلب الكبير الذي كتب (من وراء الأبد). . .
إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي أهدي هذه القصة).
عزيزي. . .
حين تصلك رسالتي أكون قد غادرت أرض الكنانة ميمماً شطر وطني. . . وبين جوانحي قلب مضطرب، ونفس مغممة بشتى الأحاسيس. . . قلب جريح تجرع كؤوس الأسى مترعة، ونفس عصفت بها رياح صارمة فخلفت أرض مصر زهوراً. ذابلة هي ذكريات ليال وأيام؛ ستظل رؤى مرة في فكري لا يطردها النور، وجذوة مستمرة في قلبي لا يخمدها تقاوم العهد، وتطاول الأيام.
كنت تسألني كثيراً والابتسامة على شفتيك عن سبب سكناي في مصر الجديدة، والشقة بعيدة بينها وبين جامعتي، فأقابل ابتسامتك بابتسامة، ويظل سؤالك من غير جواب.
وأراني الآن مدفوعاً بقوة صارمة صادرة من أعماقي إلى أن أقص عليك طرفاً من تاريخ قلبي، علك تشاركني آلامه، وأشجان دنياي.
لست أدري السر في أن الإنسان يستطيع أن يكتم كل شيء إلا الحب والبغض، حتى أصبح هذان الأمران محورين أساسيين للانسانية: الحب يبني، والبغض يهدم.
فلا جناح عليّ - إذن - في أن أقول لك: إنني أحببت. . . نعم أحببت حباً امتزج بدمي، وطوق روحي، وشغلني عن كل شيء، فظللت أهيم في زورقي، والأمل سد أقطار الحقيقة عني، ومنافذ النور عن بصيرتي، ورحت أدنو إلى الشاطئ الثاني، والضباب قائم من حولي، وفي أغواري الظلمة واليأس المرير.
إنني لأذكر أول لقاء لي بها في أحد تلك المقاهي المخضلة الأضواء وقد عرفني بها ضابط مصري عشت معه في دار واحدة زمناً طويلاً. . . وقد كانت شعلة من إغراء، وقد بدت لي صغيرة. . . صغيرة جداً حتى عبق في وجهي عطر الطفولة الآسر. . وكانت الابتسامة(846/55)
بين شفتيها كأنها تشجع القلب المحروم على أن يحب. . .
. . . فتاة في العشرين من عمرها أجمل ما فيها عيناها السوداوان المتألقتان كنجمتين في سماء غسلتها دموع الملائكة.
وقد تحدثنا كثيراً، وكان حديثها عذباً، حلو النبرات، وشعرت بأن عينيها تحدثاني فأنصت إلى الإيقاع الروحي الصادر من الأعماق. . . وبان لي إنها متذمرة كأنها تعيش في سجن، خائفة كأنها تتوقع شيئاً مؤلماً، وكانت ثقافتها الفرنسية ذات اثر عظيم على نفسها، بذرت فيها بذور الانطلاق، ونسجت حول مخيلتها العوالم تخلقها قصص الحب. . . والعاطفة الملتهبة.
ولما رجعت إلى بيتي لم أكن وحيداً. . . فقد كان خيالها لا يبرح مخيلتي، وما زلت أشم عطرها الآسر، وألمح ابتسامتها الجميلة. . . وكانت معي أحلامي المجنحة. . . يا عجباً أبهذه السرعة تنبت. . . فأشعر بظلالها تعمر فكري؟
ورحت أنتظر صديقي والنوم هجر أجفاني، والرؤى ملأت عالمي. . . ولما سمعت وقع أقدامه قفزت من فراشي، وطفقت أتطلع إلى شفتيه المنفرجتين عن ابتسامة ماكرة.
قال:
- أتعرف ماذا تقول عنك. . . إنك في نظرها طفل غرير. بالمكر المرأة يا صديقي. . . هل أحست بنظراتي تضرعاً، وباختلاج شفتي ظمأ لرحمة؟!
ثم قال: ولكنها تريد مقابلتك مرة ثانية.
فقفزت فرحاً كأنني أبرهن على صحة نظرها. . . وقلت:
رحماك يا صاح حدثني عنها. . . أقصص على أخبارها. . . أي نوع من النساء هي؟ فصاح صاحبي.
- يالك من طفل. . . أتعلقت بها من أول لقاء؟
لا. . . لا. . . لم أتعلق بها. . . ولكني أحس بظمأ يحرف روحي إلى أن التقي بها وأنظر إليها. وأتحدث معها. . . وأتملى سحر وجهها. . . وأتحدث إلى عينيها الساحرتين. . . وأغمر قلبي في وجهها العاطر.!!
وفي اليوم الثاني ذهبت إليها.(846/56)
وجلسنا في أحد مقاهي مصر الجديدة، والأنوار في ألوانها المختلفة تخلق لنا في آفاق مخيلتنا عوالم غريبة. . . والجو الساجي يرهق أعصابنا، والنسيم المنبعث من وراء الأشجار الخضر نديُّ كأنه يداعب أحلامنا، ويشرق في عالمنا بأطياف جميلة. . . ومن خلف عالمنا السحري تتألق النجوم من بعيد كأنها أشباح لدينا مسحورة مختفية في ضمير الأبد.
جلست إليها وهي أمامي ساحرة مشرقة القسمات، وجفناها مسبلان بدلال على عينيها السوداوين، وأنا أرتشف من كؤوس نشوتي. . . ولاحت لي الأيام الماضية طلولا ينعق فيها غراب الوحدة، وتصرخ في جنباتها ريح اليأس المرير. . . وحرقت ذكرياتي كلها في نار وجدي، وهمت في الأجواء البعيدة التي تخلقها حواء. . . أنا المحروم من. . . العائش في ضباب، المسحور بتهاويل الأحلام.
وطال صمتنا ونطقت حواء أخيراً:
- ما بالك يا صاحبي ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟
ولمعت عيناها، ووقفت أمام سؤالها حائراً. . . وأردت أن أصرخ في وجهها:
- أقسم لك إنها هذا حق. . . فأنا في رحاب المستحيل.
ولكنني آثرت الصمت، وانطلقت من شفتي ابتسامة هاربة كأنها جواب مبهم.
قالت: - إن الشباب دائماً يفكر في المستحيل. . . أتخالفني بعيدة عن عالمك الغامض؟
- ولكن أية قوة قادتك إلى تلك الأبراج الشاهقة؟!
- القوة التي تدفع الشباب إلى المستحيل. . . ولكن لست أدري لم يهيم الشباب بالمستحيل؟
- لأنه كثير الآمال. . . وكل أمل يخبو يزيد حياته ظلمة، وينقلب في سفر أيامه إلى ذكرى إخفاق. . . مؤلم.
الآن بدأت أعرف لم يلف عمري سحاب من الأحزان. . . إن أشياء كثيرة تحزنني هي جراح أحلامي. . . إن عمري يذبل من غير غاية. . . فأنا الآن في العشرين من عمري ولم يتحقق حلمي الجميل.
وأشفقت على حلمها الجميل الذي لم يتحقق وشعرت بيد من حديد تصهر قلبي وأردت أن أقول لها.(846/57)
أيتها الهائمة في الصحراء تفتشين عن حلمط الجميل. . . أيتها الفراشة التي أصلتها نار الحرمان، قلبي المحروم يناديك. . . أتسمعين نداءه؟. . إنه يدعوك إلى أن تتنكبي عن الماضي ومآسيه، وتدخلي في الجنة التي خلقتها عيناك له. . . جنة أحلامه وأمانيه.
وافترقنا على ميعاد. . . وظللنا ندلف إلى عرائش أحلامنا مدة طويلة.
وجئت إليها مرة وفي قلبي همس. . . قلت
- اسمعي يا (نادية) في ضميري سر يعذبني قد تكون اختلاجاتي نمت عليه. . . إنني أحبك!. . من أعماق نفسي، وإنك قد دخلت دائرة حياتي، ولا يمكنني أن أخرجك منها. ولا يمكنني أن أنساك. . . إن آلامك آلامي، وآمالك آمالي، وقلبي يدعوك إلى أن نسير جنباً إلى جنب في طريق الحياة.
فضغطت يدي وابتسمت عيناها. . . ثم شفتاها. . . وقالت:
كأنك تقرأ أفكاري. . . فأنا أخاف من طريق حياتي هذا المقفر.
. . . وعندما رجعت إلى بيتي كنت إنساناً جديداً
أقسم لك يا عزيزي لقد تغيرت نظرتي إلى الحياة. . . فقد تخيلتها إلى جنبي ملكاً حلالاً لي. . . أنا وحدي. . . أنا الذي قطعت حياتي في صحراء الوحدة. . . أنا الذي أذبل قلبي الحرمان والظمأ القاتل إلى الحنان. . . إلى الصدر العامر بحبي والإخلاص لي. إلى القلب الذي يضمد جراحي. . . إلى الروح التي تنشلني من الأوحال. . . دنياي المظلمة القاتمة المضطربة التي لا تستقر على قرار.
وبنيت في مخيلتي بيتي المنتظر. . . بيتاً بسيطاً لاثنين. . وتخيلتها إلى جنبي زهرة تمدني بالعطر، وتملأ حياتي حبوراً، وروحي قوة وحيوية، وترد لي سعادتي الضائعة مع الأوهام.
كانت الدنيا في عيني جميلة بهيجة، حتى لقد أسفت على عمر قضيت شطراً منه في عمى وجداني من غير شعور ببهجة الدنيا وجمالها. . . وشعرت بأن الناس يشاركونني أفراحي فقد رنت في أذني ضحكاتهم، وابتسامتهم الحلوة، وانطلاق أساريرهم، وولائل السعادة في محياهم. . . ووددت أن تكون معي لتشاركني بما أشعر به من سعادة.
. . . ووصلت إلى البيت فرأيت بطاقة من صديقي الضابط يقول: إنه سافر إلى الأسكندرية لعمل هام يتطلب منه أن يغيب عشرة أيام. . . أو أكثر.(846/58)
ولم أعر الخبر شيئاً من اهتمام لعلمي بما تقتضيه الحياة العسكرية من تنقل فجائي. . . وفي أصيل اليوم ذاته سمعت أن (نادية) سافرت إلى (رأس البر) لقضاء أسبوع مع أقاربها. وقد تركت لي رسالة تخبرني بذلك.
وظللت حائراً أمام هذه المصادفة العجيبة. . . ورأيتني فجأة وحيداً إلا من وساوسي وخيالاتي، وأشواقي المضطرمة.
أنت تعرف - يا عزيزي - أن الوحدة لدى الإنسان العادي جحيم لا يطاق. . . فكيف بوحدة الإنسان الممتلئ بالظنون، المتأرجح في الأجواء، تتلاقفه الأهواء، وتستبد به الخيالات، ويحس بشوق إلى أكتناه حجب المستقبل.
لقد تعذبت كثيراً وتحطمت أعصابي تحب أعباء الظنون القاسية، وهزت نفسي هزات من القنوط، وصرت صريع دياجير من أفكاري وتصوراتي.
وأخيراً رجع صاحبي. . . ومعه زوجته
لست أعرف السر في إخفاء خبر زواجه عني أنا الصديق المقرب له.
وبعد يومين رجعت نادية. . . وفي مساء اليوم ذاته ألتقيت بها. . . وكانت معي (دبلة) تختفي في حياء إحدى زوايا جيوبي.
ولكن رأيتها صورة ثانية. . . كأنني لم أرها قبل عشر سنوات
ولمحت على وجهها اكتئاباً عميقاً، وفي عينيها شروداً وغموضاً، وفي اختلاج صورتها رنة من العبرات المحبوسة.
تكلمت في مواضيع مختلفة، ولكنها لم تتطرق إلى موضوع زواجنا. . . أنسيته أم تناسته، أم ندمت على ما قالته؟. . . لست أدري فقد بلغ الغيظ مني مبلغاً عظيماً وأحسست بأن الأرض من تحتي تتحول إلى رمال هشة، وتحاول أن تبلعني.
قلت لها:
- أنسيت ما عاهدتني عليه؟
أي عهد؟
- أي عهد؟! أنسيت أحلامنا وأمانينا؟
سكتت وشردت بصرها أثر النجوم التي تطل على عالمنا ساخرة كأنها تضحك من مآسينا.(846/59)
ورأيتها تمسك يدي وتقول: فلان. . . أنت عزيز علي. . . إنني أشفق على حياتك أن تتحطم، وعلى روحك أن يعصف بها إعصار. . . لهذا فأنا لا أوافق على الخطبة!!
. . . عزيزي الأستاذ لقد حدثتك عن الأحلام التي كانت تعمر فكري. . . وعجبت من سرعة إزدهارها. لقد ذبلت اليوم بسرعة أيضاً. . . وها أنا أحس بقسوتها وضراوتها في فكري
قالت:
- أنت الآن في نظري صديق عزيز أثق بقلبه، وأطمئن إلى إنسانيته. . . لهذا سأقص عليك سراً كتمته عن جميع أصدقائي وأوثق الناس بي صلة. . . الماثلة أمامك فتاة تجرعت صاب الخديعة، ولقيت جزاء سذاجتها وبراءتها، وطيبة قلبها. . . لقد كنت أتصور الدنيا خالية إلا من الحب والطيبة فأوغلت في دروبها منقادة بانطلاقي حتى تعرفت على رجل! صورته ليالي سهادي ملاكاً يمثل القدسية على وجه الأرض، وانجرفت مع تيار تصوراتي إلى شاطئه، فأحببته من صميم قلبي، حباً جارفاً مجنوناً عاصفاً حتى رحت أهرع إلى صدره حين يستبد بي الضجر، وتزرع الدنيا بذور الأحزان في قلبي. . . لقد كنت أقرأ كثيراً مما يكتبه الفرنسيون المصابون بهستريا الحب، فأنصاع إلى آرائهم وأدخل في جنائن مخيلاتهم، وأهيم في الأودية التي تخلقها أفكارهم. . . وأمتص رحيق الحب المحرق من شفتي محبوبي!!. كان صاحبي يعدني بالزواج، ويمنيني بالأماني العذاب، ويطفئ ظمئي بالتعلات. . . ولكنني والحمد لله ما زلت محتفظة بجوهرتي الغالية على رغم إغرائه وتوسله، وخوري أمام قوته الجارفة!!
ولكن الأيام والليالي تسير مسرعة غير متوانية. . . وصاحبي صامت إلا من إحراق أزهار أحلامي، حتى رأيت حبه لي يتحول إلى فتور، وشوقه ينقلب إلى نفور، وأراني وحيدة إلا من حب يائس لم تصبه الأيام المضنية بوهن. . . تلك الأيام التي قضيتها في ظلال هجرانه لي، وتتكية عني، ونفوره مني.
وذات يوم سمعت أنه سافر إلى الإسكندرية للزواج من فتاة من أسرة محترمة. . . وتوهج الحب في قلبي، وانقلب إلى شواظ من نار. . . وقام في نفسي ميل شديد إلى الانتقام ممن سلبني قلبي، وربطني معه، ثم ولى هارباً إلى الوجهة التي ليست وجهتي. فسافرت إلى(846/60)
الإسكندرية، وعرفت البيت الذي سيظلل حبيبي، فذهبت إليه، ورأيت صاحبي مع عروسة يتألق ويفيض سعادة، وتشرق الابتسامة في فمه في الجهة المنيرة من الحياة كأنه نسي أن هناك قلباً يلهج بحبه، ويتعذب فيشقى في هوة سحيقة في الجهة المظلمة العابسة من الحياة. . . وأحسست بالعبرة تخنقني، وبكياني ينهار كأنه جدار خاو، وعدت أدراجي من البيت الذي سرق مصباح حياتي وتركني أهيم في الدجى وحدي. . . إنه نكث عهده، ولكنني ما زلت أحبه حباً عميقاً وأنا عارفة أنه سبب شقائي، ولكنني لن أتنكب عنه. . . أما أنت فلا أريدك تتعذب بسببي، ولا تتجرع كأس الأسى معي. . . وسأظل مخلصة لحبي اليائس حتى يضع الله حداً لحياتي التعسة.
وطفقت تبكي بدموع لم أتبين حقيقتها. . . ثم قالت: - أعرفته؟. . فأجبت: - لست غبياً إلى هذه الدرجة. . . وامتلأ صدري بالحقد على تلك العلائق التي تربط الإنسانية.
قلت: أتذكرين عندما التقينا ثاني مرة في هذا المقهى، وقلت: مالك ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟. . . لقد أردت أن أصرخ في وجهك: هذا حق. . . فأنا الآن في رحاب المستحيل. ذلك لأنني سمعت هاجساً يهجس بي أن حبك لي مستحيل. . . لأن القوة التي صاغت حياتي كانت قاسية كتبت عليّ أن أسير وحيداً في طريق عامر بالأشواك.
ومددت يدي في جيبي وأمسكت بالدبلة وحطمتها بين أصابعي بقوة. . . ثم رميت حطامها بعيداً. . . ومعها أحلام قلب محروم.
غائب طعمة فرمان(846/61)
العدد 847 - بتاريخ: 26 - 09 - 1949(/)
مشكلة واحدة وعلاج واحد!
يقولون إن مشكلاتنا الاجتماعية ثلاث: هي الفقر والجهل والمرض. . . وأقول إنها مشكلة واحدة: هي الفقر وحده دون سواه! ولا أريد بهذا القول أن ألغي وجود المشكلتين الأخريين، ولكنني أردهما إلى المشكلة الأولى حين نلتمس موضع العلة الرئيسية، ونضع أيدينا على موطن الداء الأصيل، ونبحث عن الحل الموفق والعلاج الناجح. ونستطيع في حساب المنطق السليم أن تبرهن على صحة هذه القضية حين تقول إن الفقر يدفع بأصحابه إلى مهاوي المرض وظلمات الجهل، ولا يستقيم لك هذا المنطق إذا قلت إن الجهل وحده أو المرض وحده يقود أصحابه إلى حومة الفقر الذي لا حيلة لهم فيه!
على هذا الأساس يجب أن ننظر إلى المشكلة؛ المشكلة التي تخص السواد الأعظم من هذا الشعب ممثلا في طبقات الكادحين من العمال والفلاحين؛ فهنا الفاقة التي تحول بين الفرد وبين نور العلم، وتحول بينه وبين نعمة العافية. . . وماذا يفعل الفقير إذا أراد أن يتعلم وهو موزع الفكر بين مشكلتي الغذاء والكساء، وماذا يقدم للجسد المنهك تحت عوادي السقم وهو لا يملك ثمن الدواء؟! في هذه التربة الخصيمة ينثر دعاة الشيوعية بذور المبادئ الهدامة ويشيعون دعوة السوء، وفي ساحة الفقر وحدها يركزون هجماتهم في الظلام بغية تمهيد الطريق لحملة المشاعل. . . وفي غمرة الأماني الكاذبة والدعوة الباطلة يصور الفقر لأصحابه أن الدجالين قادة، وأن المستضعفين سادة، وأن الشياطين ملائكة، وأن المشاعل التي وعدوا بها ستحمل إليهم الإشراق كل الإشراق، وما دروا أن فيها الإحراق كل الإحراق!
من العجيب حقاً أن يفطن دعاة السوء إلى موطن الداء الأصيل في مصر، ولا يفطن إليه المسئولون ومن بيدهم الأمر جرياً وراء التعلق بالروافد غافلين عن النهر الكبير، نهر الفقر الذي يصب مياهه الملوثة بجراثيم الجهل والمرض في أودية النفوس والعقول. . . ويقولون تبعاً لذلك إن مشكلاتنا الاجتماعية ثلاث، ولا بأس أبداً من أن نبحث لكل مشكلة عما يلائمها من علاج. وتمضي الأيام والفقر هو الفقر، والجهل هو الجهل، والمرض هو المرض. . . لماذا؟ لأن الخطوة الواحدة قد أريد لها أن تكون خطوات، ولأن الجهد الواحد قد قدر له أن يصير إلى جهود. . . وهكذا تشتت القوي في شتى الميادين بدلاً من أن تركز في ميدان واحد، ولا ضير من أن تظفر ببعض النتائج في عدد من السنين قد يستحيل إلى(847/1)
عدد من القرون! ومن العجيب أيضاً أننا لا نزال نأخذ بسياسة الارتجال في سبيل القضاء على المشكلة الخالدة؛ ومن هذا الارتجال أننا نحاول مكافحة الفقر والمرض والجهل عن طريق الاستجداء وبيع أوراق اليانصيب. . . فمن مشروع البر إلى مشروع الحفاء، إلى مبرة محمد علي ويوم المستشفيات، إلى آخر تلك الأشياء التي يسخر منها منظر الملايين من المعوزين والجهال والمرضى والحفاة!
لو نظرنا إلى الأمور بمنظار الواقع لعرفنا كيف نسلك الطريق. . . هناك مشكلة واحدة وعلاج واحد، أما المشكلة فهي الفقر وأما العلاج فهو النهضة الصناعية. وبهذه النهضة نقضي على المشكلة الخالدة وتخضع من تلقاء نفسها بقية المشكلات. أما السبيل إلى تحقيق هذا الأمل الكبير فهو أن نستغل الأموال المكدسة في المصارف كما يفعل الرجل العصامي أحمد عبود في سبيل تلك النهضة المنشودة، وعندئذ تنتعش الثروات التي يعيش لها أغنياؤنا وينتعش المجتمع الذي يعيشون فيه!
(أ. م)(847/2)
الاستقلال في الأدب
للأستاذ راجي الراعي
الأدب قديم يعود إلى ذلك اليوم البعيد الذي بدأ الدماغ ينسج فيه خيوطه الأولى وله دولته ذات الهياكل والأبراج والعروش وهي أعظم الدول وأضخمها وأجملها وأبعدها مدى وأغناها.
الأدب عظيم له كلمته الفيحاء الفينانة الخلابة الشاملة أتناولها فيعرض أمامي الأدب القديم مواكبه ويأتي امراؤه الذين ضخمناهم وأطلنا قاماتهم خلال القرون ويتربعون في ساحتي قائلين:
نحن أرباب الأدب ودعائمه وأساطينه كتبنا الآيات الرائعات واحتللنا في قصور التاريخ أفخم القاعات وغردنا في جنان الأدب على كل غصن فيه فلم نبق غصناً لطائر وحمنا حومتنا في جميع آفاق الفن واستقطرنا النجوم نجمة نجمة فلم نترك لغيرنا أفقاً ونجمة في كأسها خمرة وحي وإلهام فما أنت كاتب بعدنا؟ ما هذا الجنون فيك تأتي بالدواة وقد استنفدنا مدادها وتكتب المقال وترسل الآية وتؤلف الكتاب ونحن أمامك لم نبق لك جديداً، أنسيت أن العالم قديم وأن الذين فكروا وأحسوا قبل أن ولدت جيوش لو عرضت كلها أمام عينيك لسحقتك أمجاد القلم وأعماك غبار العباقرة عما أنت فيه، لقد عصروا رأس الأدب وقلبه ولم يدعوا لك قطرة.
نحن هنا أيها الدعي المغرور ولم نمت بعد وهذه أصواتنا المدوية في الدهور فقل، فل أنك تردد أصداءها.
أجل، أجل. . . أن لكم ذهبكم الذي يبرق في الأدب القديم ولكن ليس كل ما أخرجتموه للناس ذهباً ففي جواره نحاس كثير، ولكم نفائسكم ولكن ليس ما عرضتموه في المتاحف كل ما يمكن أن يعرض فيها، وأنتم أغنياء في الأدب ولكنكم لم تحتكروا الثروة الأدبية فهناك دنانير لم تضرب في أيامكم وأسواق للأدب تعرض فيها بضاعة لم تعرفوا حريرها. . . أجل، لقد عصرتم رأس الأدب وقلبه وأسكرتم الناس ولكن خمرة الروح لم تفرغ دنانها فهي دنان الزمان الذي لا يفرغ كأسه. . . أنت يا (هيجو) نسر في الخيال عظيم ولكنك لم تحتل الآفاق كلها ولم تقو على إخضاع أثير الشعر لمشيئتك فلا يحمل غير روحك ولا يطرب(847/3)
لغير صوتك. . . وأنت يا شكسبير لست الفن كله. . . وأنت يا (روسو) لست رب النثر. . . وأنت يا من نظر الأعمى إلى أدبك لست وحدك الذي ينظر إلى أدبه العميان. . . أنتم ورفاقكم القدماء موجات في بحر الأدب والفن والخيال الذي لا ساحل له، وفي وسعي أن آتيكم اليوم وغداً وبعد غد وأنا أصف هذه الشمس في شروقها وغروبها بصورة جديدة لم تخطر لكم وأن ألبس ما أراه وأسمعه ثوباً جديداً ليس فيه خيط واحد من خيوطكم.
أن الوجوه التي أراها والأصوات التي أسمعها هي غير وجوهكم وأصواتكم، والأدب ليس وقفاً على جيل من الناس وإنما هو مرعى للأنسانية لكل أديب مفكر موهوب قطيعه فيه. . . أنتم في الأدب بشر ونحن الذين الهناكم وأقمنا لكم الهياكل وجعلنا الكلمة لا صدى لها إلا إذا خرجت من أفواهكم.
نحن الذين خلقنا لكم وجوهاً لم يعرفها لكم معاصروكم، لقد أقصاكم عنا تعاقب الأجيال في لجة القدم نقام الخيال ينسج نسيجه ويلبسكم الأثواب الفضفاضة التي خاطتها الأساطير والأوهام. . . أنتم أسياد في الأدب ولكننا لا نعترف بكم طغاة مستبدين.
أن للأدب تاجاً يطمح كل أديب موهوب إلى درة فيه، وهذا النير، نير الأدب العتيق يجب أن نتحرر منه فليس في الأدب أنيار وإنما فيه أنهار تتدفق من ينابيع الألهام الذي ينزله الله على من يشاء في أي وقت شاء.
تلك هي اللغة التي يجب أن يخاطب بها أديب اليوم أديب الأمس، إن ما نطلبه من أديب اليوم هو الجرأة في التفكير والثقة بالقدرة على الإبداع والطموح بالعاطفة والخيال إلى آخر نجمة في أقصى الآفاق وغمس القلم في مداد حر ورفع البناء بحجارة جديدة فكم هو جميل أن تبنى بناءك وتقول: هذا حجوي، وما الفائدة من القلم وأين جماله وجلاله إذا غمس في دواة قديمة.
لقد اجتازت بنا قوة التفكير والإحساس مراحل لا تعد واتسعت عيوننا وجباهنا فتكشفت لنا آفاق لا عهد للأمس بها ووعينا ما لم يكتب للأقدمين أن يقفوا عليه وغصنا إلى أعماق الوجدان وعرضنا مواكب السماء والأرض موكباً موكباً وجئنا بالكهرباء وما وراء الكهرباء. . . أبعد هذا كله نظل أتباعاً لشاعر قديم أو ناثر مفكر موهوب بيننا وبينه ألف جيل.(847/4)
أن ما نطلبه من أديب اليوم هو الاستقلال في الأدب فلا وصاية ولا انتداب للأدب القديم على الأدب الحديث.
أن الاستقلال هرم له جوانبه الثلاثة فإلى جانب الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي يقوم الاستقلال الأدبي الذي لا رقابة فيه ولا قيود.
خلقت الفكرة طليقة شامخة وولد الفن عزيزاً حراً وجمال الفكر والشعور يطلع علينا في كل صباح ومساء بوجه جديد واللانهاية في الأفاق هي في الأدب أيضاً فشموسه وكواكبه وسياراته ونجومه تشع في الدهور وما وراءها.
أن هياكل الأدب أوفر عدداً من النجوم والرمال والأمواج
ولكل منا مذبحه الأدبي إذا كان في روحه دم يهرق فلنرفع الرأس في معابد الأدب والخيال أحراراً مستقلين ولننفض يدنا من الخانعين المستبدين
راجي الراعي(847/5)
منادمة الماضي:
على طريق الحملات المصرية في لبنان أيام دولة سلاطين
المماليك البحرية
للأستاذ أحمد رمزي بك
إن الطريق الموصل بين بعلبك ومدينة طرابلس يعد أعلى طريق معبد في الشرق الأدنى، ويخترق مناطق من أجمل المناطق في جبال لبنان ويمر قريباً من شجر الأرز الذي عاصر القرون الطويلة. وكلما اتجهت لزيارة هذه الجهة الخالدة واجتزت بلدتي بشرى وأهدن تواردت الخواطر تترى عليّ، ومرّت أمامي ذكريات حوادث التاريخ، ففي سنة 882 هجرية قام الأشرف قايتباي برحلته المشهورة إلى أقاصي الحدود المصرية في الشمال حيث القلاع الإسلامية في داخل الأراضي التركية الحالية.
كان وصوله إلى بعلبك في يوم السبت 19 جمادي الآخرة وغادرنا الأحد وقت الظهر متخذاً طريق طرابلس مخترقاً الجبال العالية فأمضى الليل في عقبه (ليمونة) على أرتفاع 1960 متراً على سطح البحر. ويقول كاتب رحلة السلطان إن الطريق إليها كان وعراً وهي وسط الجبال تحيط بها أشجار الكمثرى.
ولما اجتاز العقبة اتخذ طريقه إلى الحدث (حدث الجبة) حيث صلى الصبح ومن هذه إلى كفر فاحل ويسميها صاحب الرحلة قاهر. والطريق إليها يمر بحوالي 360 لفتة، ثم انحدر السلطان إلى طرابلس فوصلها في مساء الاثنين وأقام بها إلى الخميس 24 جمادي الآخرة سنة 882.
وهذه الرحلة تعيد إلى مخيلتي الحملات التي وجهها جند مصر إلى هذه النواحي فأنا لا أذكر للقارئ ما كتبه البطريك اسطفانوس الدويهي عن تاريخ سنة 1283 نقلا عن بعض كتب للصلاة عن فتح (جبة بشرى) وحصار (أهدن) كما لا أعرض لما كتبه صالح ابن يحيى في كتابه عن تاريخ أمراء الغرب وما جاء فيه نقلا عن النويري والصلاح الكتبي في فتوح المصريين للسكسروان لأن العبارات الواردة في كتابه صفحة 29 هي بعينها التي أوردها ابن الفرات في كتابه جزء 8 صفحة 142 مما يدل على أنهم جميعاً ينقلون عن(847/6)
مصدر واحد حينما يتحدثون عن توجه الأمير بدر الدين (بيدار) قائد السلطنة بمصر ومعه العساكر المصرية وصحبته أمراء الجند يقصد جبال كسروان في شهر شعبان سنة 691 (1202) ميلادية. وإنما اكتفى بالنوبات التي جاءت بعد ذلك وأولها الحملة التي قام بها جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام في عهد الملك ناصر محمد. آقوش هذا ترجم له صاحب الدرر الكامنة فقال عنه (آقش الأفرم الجركسي كان من مماليك المنصور (قلاوون) ذكر عنه أنه التمس من أستاذه ولاية الشام فأجابه السلطان (ما هو في أيامي) وذكر صاحب الدرر نقلاً عن ابن فضل الله العمري: إن الأفرم كان يتردد على فقير مغربي بالقرافة في مصر فقال له الفقير: (ماذا تعطيني إذا صرت يوماً نائب السلطنة بالشام، فقال الأفرم (ومن أنا حتى تسند إلى نيابة الشام) قال الفقير: لابد في ذلك وإذا حصل هذا تصدق بألفي درهم عند السيدة نفيسة وبألف عند الإمام الشافعي.
وذكر الأفرم أنه نسى كل هذا وفي يوم من الأيام وقد عاد هارباً من حروب غازان ملك التتار بعد نوبته الأولى وفتحه دمشق وصل القاهرة، وبينما هو يتجول بالقرافة تذكر قول المغربي فأحضر الدراهم وفرقها في الموضعين. ويقول صاحب الدرر (كان الأفرم فارساً بطلاً عاقلا جواداً يحب الصيد وكان خليقاً للملك لما فيه من المهابة والحماية، وكان خيراً عديم الشر والأذى يكره الظلم ولم يحفظ أنه سفك دم أحد ولا لوجه شرعي، وكان يعاشر أهل العلم كابن الوكيل وكان لأهل دمشق فيه محبة مفرطة ومدحه جماعة من الشعراء). أما هو فبلغ تلهفه على دمشق وأهلها مبلغاً جعله يقول (لولا القصر الأبيض (الأبلق) والميدان الأخضر ما خليت بيبرس وسلار ينفردان بمملكة مصر). وهما مكانان بدمشق
ولذا أقام بدمشق إحدى عشر عاماً وأنشأ بها جامعه المشهور سنة 706 الذي تولى الخطابة فيه قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عطاء العو الاوزعي الحنفي.
ويعجبني في الأفرم هذا الود لمدينة دمشق وهذه المنزلة التي أوجدها لنفسه هناك حينما تولى نيابة السلطنة عن مصر في ربوع الشام وما تم على أيديه من عظائم الأمور.
ذكر صاحب البداية والنهاية أنه عقب انكسار التتار وأخلائهم لدمشق حدث: في يوم الجمعة 17 رجب 699 أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر. وفي يوم السبت 18 رجب 699 نودي بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية وفي يوم الأحد 19 رجب 699 فتح باب(847/7)
الفرج مضافاً إلى باب النصر. وفي 10 شعبان دخل الجيش الشامي وعلى رأسه نائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم. وفي يوم الجمعة 29 شوال (ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم وعقائدهم).
(ولما وصلوا بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ فاستتابهم).
وفي يوم الأحد 13 ذي القعدة عاد الأفرم من طريق الجبال فتلقاه الناس بالشموع على طريق بعلبك وسط النهار.
وهذه هي النوبة الأولى فلننتقل إلى الثانية: -
وكان خطر التتار جاثماً على الصدور رغم انتصار المصريين في البر والبحر ورغم حروبهم ضد الأرمن في سيس ورغم أنهم فتحوا جزيرة أرواد سنة 702 وكان بقلعة دمشق علم الدين (أرجواش) وهو من أقدر قواد مصر فصمد بالقلعة فاقتدت به بقية القلاع الشامية، ومع كل هذا اشتد الجزع وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري بالمساجد حينما ظهرت طلائع التتار وأخيراً جاءت المعركة، أي وقعة شقحب المشهورة التي وقف فيها الناصر محمد مع خليفة الزمن، وانتصر فيها جند مصر والشام، وكان النساء والأطفال على أسطحة المنازل والمآذن يتتبعون مراحلهم وقد كشفوا رؤوسهم وارتفعت أصواتهم بالدعاء.
ومرت سنتان على تلك الحوادث فإذا بالأفرم يقوم من دمشق بقيادة حملة إلى الجبال بعد أن استراحت الجيوش الإسلامية واستعادت قوتها.
ذكر المقريزي في سلوك هذه النوبة على الترتيب الآتي:
سنة 704 توجه شيخ الإسلام تسقي الدين أحمد بن تيمية في ذي الحجة من دمشق ومعه الأمير بهاء الدين قراقوش المنصوري إلى أهل جبل كسروان يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا. فجمعت العساكر لقتالهم.
سنة 705 سار الأمير جمال الدين آق كوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل كسروان ونادى بالمدينة من تأخر من الرجال والأجناد شنق فاجتمع له نحو(847/8)
الخمسين ألف راجل، وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم ومزقهم بعد ما قاتلهم أحد عشر يوماً، قتل فيها الملك الأوحد شادي بن الملك الزاهد داوود وأربعة من الجند، وملك الجبل عنوة ووضع السيف وأسر ستمائة رجل وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً وعاد إلى دمشق في أربع عشر صفر 75
وفي المقريزي: أن السلطان أقطع في جمادي الآخر جبال كسروان بعد فتحها للأمير علاء الدين ابن معبد البعلبكي وسيف الدين بكتمر عتيق بكتاش الفخري، وحسام الدين لاجين، وعز الدين خطاب العراقي، فركبوا بالشربوش وخرجوا إليها فزرعها لهم الجبلية ورفعت أيدي الرفضة عنها.
وسنعود بعد قليل إلى هذا الإقطاع بالذات لأهميته.
ويظهر جلياً أن أهل الجبال كانوا السبب المباشر لشن الغارة على أراضيهم فقد ذكر صالح بن يحيى: في تاريخ بيروت ما يأتي عن النوبة الثانية نقلا عن النويري:
(كان أهل كسروان قد كثروا وطغوا واشتدت شوكتهم وامتدوا في أذى العسكر عند انهزامه من التتر سنة 699 (1300 ميلادية) وتراخى الأمر عنهم وتمادى وحصل إغفال أمرهم فزاد طغيانهم وأظهروا الخروج عن الطاعة واعتزلوا بجبالهم المنيعة وجموعهم الكثيرة وأنه لا يمكن الوصول إليهم).
وهكذا يتضح أن الفوضى عمت جبال كسروان وأن الأعتداء حصل على الجيش عند تراجعه من حملة التتار الأولى قبل موقعة شقحب، وفي ذلك يقول أبو الفداء وهو معاصر أنه على أثر حملة الأمير أقوش الأفرم 705 طهرت تلك الجبال الشاهقة بين دمشق وطرابلس، وأمنت الطرق بعد ذلك، وهذا يفسر اجتياز هذه الطرق بالذات بواسطة السلطان قايتباي بعد قرنين تقريباً من الزمن حينما اشتدت الحوادث بين مصر من جهة ودولة حسن الأكبر (اوزون حسن) ثم مع بني عثمان من بعده وذلك للتأكد من أمن الطرق إذا قدر للجيوش المصرية أن تتراجع فلا تهاجم من الخلف.
ويستمر صالح بن يحيى يحدثنا فيقول:
في ذي الحجة 704 جهز إليهم (أي أهل كسروان) جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام زين الدين عدنان ثم توجه بعده تقي الدين (ابن تيمية) وقراقوش وتحدثنا معهم في الرجوع(847/9)
إلى الطاعة فما أجابوا إلى ذلك فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل جهة وكل مملكة من الممالك الشامية).
وهذه العبارة نقلها البطريك اسطفانوس الدويهي في كتابه وأخذها منه المطران الدبس في كتابه مشيراً إلى أن الأفرم أمر الجبليين أن يصلحوا شؤونهم مع التنوخيين (أي أمراء الغرب في لبنان حلفاء المصريين) وأن يدخلوا في طاعتهم فلم يحصل اتفاق فافتى العلماء حينئذ بنهب بلادهم لاستمرارهم على العصيان ولذلك جردت العساكر من جميع بلاد الشام ولم تزل الجموع تزداد من كل ناحية.
وفي كتاب صالح بن يحيى: أن أقوش الأفرم توجه من دمشق بسائر الجيوش في يوم الاثنين 2 المحرم سنة 705 (وهو ما جاء في ابن كثير ص35) وجمع جمعاً كثيراً من الرجال نحو 50 الفاً وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين، وتوجه سيف الدين أسندمر نائب طرابلس، وشمس الدين سنقرجاه المنصوري نائب صفد، وطلع اسندمر المذكور من جهة طرابلس، وكان قد نسب إلى مباطنهم فجرد العزم واراد بجهاده في هذا الأمر أن ينفي عنه هذه الشناعة التي وقعت به، فطلع إلى جبل كسروان من أصعب مسالكه واجتمعت عليهم العساكر واحتوت على جبالهم ووطئت أرضا لم يكن أهلها يظنون أن أحداً يطأها، وقطعت كرومهم وأخربت بيوتهم وقتل منهم خلق كثير وتفرقوا في البلاد واستخدم أسندمر جماعة منهم في طرابلس بجامكيته وخزائنه من الأموال الديوانية فأقاموا على ذلك سنين. وأقطع بعضهم (أخبازاً) من حلقة طرابلس واختفى بعضهم في البلاد واضمحل أمرهم وخمل ذكرهم)
وينقل المطران يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت الماروني عن ابن الحريري وابن سباط (أنه في يوم الاثنين ثاني محرم سار آقوش الأفرم نائب دمشق بخمسين الفاً بين فارس وراجل إلى جبل الجرد وكسروان التي حيال بيروت. فجمع الدروز رجال الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل والتقت الجموع عند عين صوفر وجرى بينهم قتال شديد وكانت الدائرة على الأمراء فهربوا بحريمهم وأموالهم وأولادهم ونحو 300 نفس واحتموا في غار غربي كسروان يعرف بمغارة نيبية فوق أنطلياس بالقرب من مغارة البلانة فدافعوا عن أنفسهم ولم يقدر الجيش أن ينال منهم ثم بذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا فأمر نائب الشام(847/10)
أن يبنوا على الغار سداً من الحجر والكلس وهالوا عليه تلاً من التراب وجعلوا الأمير قطلو بك حارساً عليهم مدة أربعين يوماً حتى هلكوا داخل الغار.
وفي أسباب هذه النوبة يقول صاحب كتاب أخبار الأعيان في تاريخ جبل لبنان أن أهل كسروان والجبال قتلوا أميرين من التنوخيين حين تعرضوا العساكر الإسلامية في واقعة جبيل.
وأن نائب الشام آقوش الأفرم أراد حقن الدماء وبعث الشريف زين الدين بن عدنان للتوسط في الصلح بين الأمراء التنوخيين وخصومهم فلم يقبل هؤلاء).
هذه صفحة أولى لتلك الحملات وسنرى كيف أثرت في تاريخ لبنان وعلاقات أمرائه مع مصر الإسلامية التي خاضت أشد الحروب هولا وكتبت أعظم ملاحم التاريخ.
(يتبع)
أحمد رمزي(847/11)
صور من الحياة:
ربة الشاطئ
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا ويح قلب ينبض بالحب والهوى ةيخفق بالصبا والغرام على حين قد جاوز سن الطيش وطوى أيام العبث! ولكن ماذا عسى أن يضير المرء إن هو نفض عن نفسه أغلالها ساعة من الزمان ليستمتع برواء الحياة ورونق العمر، هناك على سِيف البحر، حيث تضطرب الدنيا بالجمال والمرح وتموج الأرض بالشباب والحركة؟
لشد ما راع صاحبي أن أستمرئ الوحدة وأستعذب الخلوة فأقضي صدر يومي وحيداً في ناحية من الشاطئ، أستروح نسمات البحر في شغف ولذة، وأنشق عبير الحياة في هدوء بعيداً عن نزوات الشاطئ ومباذله، وأنطوي على نفسي أحدثها حديث عقلي حيناً وحديث قلبي حيناً آخر، ثم أوفق خواطري بين أضعاف كتاب اخترته رفيقاً لي. ولشد ما آذاه أن ألصق في مكاني لا أريم إلا حين تدعوني حاجات الدار أو رغبات الابن أو شهوة البطن.
وإنه لنزَّاع إلى اللذة وصاحبي فتى عذب تتدفق الحياة في قلبه مرحاً وسعادة، وتتألق الدنيا في ناظريه حبوراً ودعة، تجذبه الفكاهة ويستخفه الطرب، لا تشغله الزوجة ولا يرهقه الولد ولا تثقله الدار.
وعجب صاحبي أن أفزع من حر القاهرة لأتخذ خلوة على الشاطئ، فأراد أن يستشف ما وراء. . . وحاول - مرات ومرات - أن يكشف عن سر صاحبه - أنا - وإنه ليرى فيه شغل البال وقلق الضمير، فما كان ليظفر مني إلا بنظرة خاطفة أو كلمة عابرة ثم يضيق بي فينطلق من لدني ليتسكع على الشاطئ أو ليسبح في البحر أو ليملأ ناظريه من جمال الأجسام العارية الملقاة على الرمال.
ولكن صاحبي كان ضيق الصدر قليل الصبر فأصر على أن ينفذ إلى سر نفسي - كزعمه - في لباقة ومكر، فجلس إليَّ يحدثني قائلاً: هلا حدثتني عن بعض ما يفدحك؟ (قلت) يفدحني؟ يفدحني أنا؟ ماذا بك؟ (قال) لعلك جئت إلى هنا تريد أن تدفن همومك في رمال الشاطئ أو تطمع في أن تغرقها في لجة اليم! فقلت له مقاطعاً (على رسلك! يا صاحبي) ولكنه استمر في حديثه لا يعبأ: فلما أعجزك أن تفعل جلست في ناحية تبدأ فيها ثم تعيد(847/12)
فعميت عن أن ترى هنا غير خواطرك السود وتفعم الشاطئ والبحر معاً وتسدل بينك وبين الحياة ستراً ثقيلاً (قلت) ها. . . ها! وَيْ كأنَّ حاجة في نفسك دفعتك إلى أن توهمني بأن أعباء تثقلني لتبلغ غاية في نفسك! (قال) فما بالي أراك ساكتاً في سهوم تنضم على خطرات قلبك وتنطوي على دفعات نفسك تغضي الطرف عن الدنيا في قناعة وتكبت القلب عن المتعة في زهد ومن حواليك بسمات الشاطئ تتكشف عن نشوة ولذة (قلت) وماذا عساي أن أفعل وأنا من ترى؟ ثم أشرت إلى شعرات بيض تلمع في فودي. فقال (أرى؟ أرى؟) ثم جذبني وهو يضحك في سخرية ويقول (أراك شاب القلب واليد واللسان!)
وألقيت السلم إلى صاحبي وفي رأيي أنني أهرب من سجني. . . من المظلة والكتاب، وخُيَّل إليَّ أن المظلة هي سجن جسمي وأن الكتاب هو سجن عقلي، فانطلقت إلى جانبه.
واندفع صاحبي ينشر أمامي تاريخ قلبه منذ أن فزعنا من لظى القاهرة إلى ربيع الإسكندرية، ومنذ أن انطلق هو على سنته تدفعه حرية الشباب والعزوبة، وجلست أنا تحت المظلة تقيدني أغلال الرجولة والأسرة. وقال فيما قال. . . ورأيت هنا ربة الشاطئ، وهي فتاة أشربت روح الخمر، في جسمها نشوة، وفي عطرها سكر، وفي نظراتها سحر، هي زهرة الشاطئ اليانعة وجماله الخلاب وروحه الرفافة، وهي. . . (فقلت مقاطعاً) كفى! لقد أصبحت شاعراً وعهدي بك بليد اللسان بليد العاطفة. ولا عجب، فالشاطئ الآن - في ناظريك - يلد ألف ربة (قال) لا تعجب فسأريكها.
وأقبلت ربة الشاطئ تتهادى في رقة وتخطر في دلال فتعلق بها بصري ما يطرف، ورأيت فتاة تشع جمالاً يعصف بالقلب ويعبث بالفؤاد، وهي تسير الهويني في تبَّان أنيق حاكته يد صناغ فبدت عليه سمات الذوق السليم والفن السامي، وإنه ليكشف عن فتنة يقظي ويواري فتنة عارمة، وإن نسمات البحر الهادئة تداعب شعرها الذهبي المرسل فيضطرب على كتفيها ويداري صفحة خدها الأسيل حيناً ويكشف عنها حيناً فتتراءى الروعة والبهاء من خلالها. ورأيت في نظراتها عزوفاً عن التطلع وفي مشيتها كبرياء الأنفة وفي حركتها امتهاناً للنظرات النهمة وفي أذنيها وقراً عن كلمات الإعجاب والملق، كأنها تعيش في عالمها هي. . . عالم الجمال والسحر والفتنة، عالم السمو الترفع والصلف. ومرَّت بي فأحسست بقلبي يعربد بين ضلوعي في شدَّة وعنف ويتشبث بها في إصرار وعناد فوهي(847/13)
ما اشتدَّ من عزمي وتحطم ما تماسك من قوتي، وحاولت عبثاً أن أصرف عنها خواطري لأن قلبي كان قد علقها على حين غفلة مني. ورأيتني أندفع خلفها، بالرغم مني، وأنا أجرُّ صاحبي خشية يبتلعها الجمع الزاخر على سيف البحر.
وانتحت ربة الشاطئ مكاناً قصياً من منأى عن أمواج البشرية المتلاطمة على سيف البحر عسى أن تسكن ساعة إلى نفسها. وهناك، نزلت إلى البحر ثم اندفعت بين طيات الماء تصارع الموج في عزيمة لا تخشى نصباً ولا رهباً.
وفي صباح اليوم التالي شهد الشاطئ أمراً عجيباً، شهد هذا الرجل الذي ظلَّ أياماً طوالاً يعيش في ثنايا فلسفته، ينطوي على نفسه ويسكن إلى كتابه وحيداً تحت مظلة لا يمل الوحدة ولا يأنس إلى رفيق. . . شهده - لأول مرَّة - يذرع الشاطئ في تبَّانه وبرنسه ونظراته زائغة ما تستقر وعقله قلق ما يهدأ وفؤاده مضطرب ما يسكن.
وحين اندفعت ربة الشاطئ إلى البحر - كدأبها - اندفعت أنا من ورائها أغالب الموج وأنا أحس بفورة الشباب تتدفق في عروقي وتدفعني - في حرارة - إلى غاية. وشعرت الفتاة بي وأنا أتأثرها في خفة وصمت فنظرت فارتاعت - بادئ ذي بدء - ولكن حديثي بعث في نفسها الرضا والطمأنينة، فانطلقنا معاً جنباً إلى جنب لا أستشعر الكلال ولا أحس التعب
وعدنا إلى الشاطئ صديقين جمعتنا أمواج البحر على الصفاء ساعة فيها لذة القلب وسعادة العمر، عدنا لنتلاقى - بين الحين والحين - على ميعاد.
وأحسست بالسعادة تتسرب إلى قلبي وبالهدوء يتدفق في فؤادي وبالنشاط يتألق في عروقي وبالشباب يفعم روحي، وانطوت أيام. . .
لك الله يا صاحبي! لقد جذبتني من خلوتي لأكون صديق روحاتك ورفيق غدواتك، ففقدت في الصاحب والرفيق حين دفعتني إلى الفتاة التي سحرتك. . إلى ربة الشاطئ.
وعز علي صاحبي أن تستشعر الدار فقدي، وهو من ذوي قرابتي الأدنين، وأن يحس هو مني الإهمال وإنه لذو دالة علي، فجاء يشكوني إلى نفسي. وأنصت إلى حديثه بأذني وقلبي هناك. هناك عند الفترة التي صرفتني عن الزوجة والابن والدار جميعاً.
وبدا لعينيه أن الفتاة قد سيطرت على مشاعري فغدوت مسلوب العقل مختلب اللب لا أجد النور إلا من خلال نظراتها الساحرة ولا ألمس السعادة إلا في نبرات صوتها الموسيقي ولا(847/14)
أحس بالدفء إلا إلى جانبها، فأراد أن يبلغ غايته من بين خفقات قلبي، فقال: (لقد شغلت - منذ حين - عني وأنا أطمع أن أظفر ببعض وقتك لأصحبك في نزهة جميلة) قلت في جفوة (أي نزهة تريد؟) قال (نقضي معاً سهرة الليلة في كازينو كذا) قلت (ولكنني أمقت السهر لأنه عناء ينفث العلة في الجسم ويبذر الضعف في الشباب وبلد الخبل في العقل) قال (إنك ولا ريب تحتال لتضنَّ عليّ ببعض فراغك، وأنا معك من تعلم) ثم نظر إلى نظرة فيها الرجاء والاستعطاف رق لها قلبي فما استطعت أن أرفض طلبته.
وهناك في الكازينو شملني جو المرح وسيطرت علي روح البهجة فرحت أنا وصاحبي نبعث في هدوء ونسخر في أدب ونضحك في رقة. وعلى حين فجأة قال لي صاحبي وهو يشير إلى المسرح (انظر، ما أجمل هذه الراقصة!) ونظرت. . . نظرت فإذا الراقصة هي فتاتي. . . هي ربة الشاطئ.
وأصابتني الدهشة والذهول لما رأيت. إنها راقصة من بنات الهوى تنفث السم في قلوب الناس لتسرق الرجل من رجولته وماله وتستلب الزوج من زوجته وأولاده. إنها عون الشيطان يريد أن يهدم الدار ويشتت شمل الأسرة.
وهدني الحزن لما رأيتها - بعد حين - تتنقل بين موائد الشباب والشيوخ على السواء كذبابة خمصانة بها نهم فهي تسقط فلا تسقط إلا على القذر والنتن. وأوشك الأسى أن يعصف بي لولا صبابة من رجولة ما تبرح تتأجج بين ضلوعي.
وانطلقت إليها وفي نفسي ثورة مكفوفة، ورحت أهزها في عنف وأحدثها في كمد ثم دفعتها عني وأنا أناديها وداعاً. . . وداعاً، يا ربة الشاطئ).
يا ربة الشاطئ! إن حب الابن في قلب الرجل فوق حبك، وإن هوى الزوجة فوق هواك، وإن راحة الدار فوق رغباتك! فوداعاً. . . وداعاً يا ربة الشاطئ.
كامل محمود حبيب(847/15)
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وأثر رحلته إلى
الديار المصرية
للأستاذ حسني كنعان
- 5 -
كان هبوط القباني مصر في عهد ساكني الجنان المغفور لهم: (الخديوي إسماعيل والخديوي (توفيق) والخديوي (عباس)) وكان هؤلاء يعطفون عليه عطف بعض ولاة الشام ويشجعونه حتى بلغ من شدة عطف الخديوي توفيق عليه أنه طيب الله ثراه ونفر ضريحه كان له في مسرحه حجرة خاصة يؤمها كلما لفست نفسه وتاقت لمشاهدة فن هذا النابغ السوري العظيم.
ومما حببه إليه أن مدة إقامته الطويلة في مصر صادفت هذا العهد التوفيقي الذي كتب له فيه النجاح والفلاح.
ولقد اشتهر نابغتنا في هذا العهد وفي هذه البلاد التي تعرف قيمة الفن وأربابه نال شهرة فائقة لا تقاس بها شهرته في وطنه حتى غدا مسرحه في برهة وجيزة كعبة القصاد وقبلة أنظار عشاقه. وكانت شهرته في سورية مقتصرة على هذا المحيط الضيق، أما هنا فلقد طارت شهرته في كافة أقطار العالم وأصبح بهذا مفناً عالمياً عرف له أهل الخبرة من الفنيين المتكسبين من هذه الصناعة والمتلذذين قدره ولزموا مجالسه - وأقبلوا على مسرحه إقبالاً رائعاً إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار عظمة مصر وتقديرها للنابغين، فأخذ عنه الكثيرون منهم وتتلمذوا عليه - وناصروه وآزروه فانتعشت بذلك آماله وتجددت همته فأرى أبناء الوادي من عظيم فنه وخوارق مواهبه ما صيره موضع الإكرام والإجلال بينهم، فنسى بهذا أيامه السود التي مرت عليه في الشام مجفواً من السلطان ومنبوذاً من الأهل والخلان). وكان (عبده الحمولي) المغني المعروف والمطربة المبدعة (ألماظ) لا يتورعان عن حضور حفلاته ولا يبخلان على الجماهير بعرض بعض أدوارهما وقطعاتهما الموسيقية والغنائية في فترات فصول رواياته، ولهذا كان مسرحه يحوي العبرة والعظة في التمثيل والفن والطرب والإبداع في التغني والإنشاد. . .) وهنا أراني ملزماً بإثبات بعض(847/16)
ما ورد عنه في كتاب الموسيقى الشرقي لأحد تلاميذه المرحوم (كامل الخلعي) من وصف عام شامل يدرك القارئ منه مقدار المكانة الفنية الرائعة التي كان يتمتع نابغتنا بها في مصر ومقدار تقدير المعاصرين له. قال بالحرف الواحد ما نصه.
فكان مسرحه مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته وجلها من منشآته لما جمعت بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها - أرهفت نواحيها بالتهذيب، وطرزت حواشيها بكل غريب - شهد لحسنها الكثير من أهل البلاغة ومنقبي صناعة الصياغة كما شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين - وكان بعد انتهاء كل رواية يلقي من القطع الموسيقية شذوراً تنزو لها الأكباد، ويتحرك لحسن وقعها الفؤاد، حتى أحرزت مصرنا من إقامته فيها فنوناً جزيلة وفضائل جليلة يقدرها حتى قدرها أولو السجايا الحميدة والعقول الحصيفة - ولا ينكرها إلا ذوو الأغراض السافلة السخيفة اه). هذا وقد أفرد له تلميذ بحثاً خاصاً ذاكراً فيه مزاياه الفنية والأدبية والأخلاقية والعلمية يراه القارئ في تراجم عظماء الموهوبين من رجالات الفن على الصفحة (137) من هذا الكتاب التي أشرت إليه آنفاً ونقلت عنه هذه الفقرة من الترجمة مدللاً بها على صحة ما أوردته من تقدير هذا النابغ في مصر العزيزة وهي غيض من فيض ما كتب عنه في هذا الفصل يراه الباحث المنقب الذي يريد أن يعرف عظمة القباني يومئذ في ربوع النيل السعيد، وقد عرف عن الشيخ سلامة حجازي أنه كان يحضر رواياته وهو فتى حدث لم يبلغ الحلم بعد فلفت نظر القباني هذا الفتى المداوم على مشاهدة رواياته كل ليلة فسأل عنه فقيل إنه منشد حدث ينشد في الأزكار والموالد يدعى سلامة حجازي فدعاه لإسماعه فأسمعه إياه فسر به كل السرور وتنبأ له بمستقبل باهر وصيت بعيد. ولقد صدقت نبوءة القباني فيما بعد وأرتنا الأيام أن الشيخ سلامة أمس باقعة عصره في فنه وأن الزمان قل أن يجود بمثله في عصر ضن بالأصوات الكاملة التي تشبه صوته، ولابد أن يكون الشيخ سلامة بهذه المداومة على رواياته كل ليلة قد أخذ عنه الكثير من أصول التمثيل والفن وتتلمذ عليه لأن هذا الفن كان مجهولاً لدى المصريين كما أن أولاد عكاشة عبد الله وأخويه كانوا من تلاميذه المداومين، وعبد العزيز خليل وكامل الخلعي كانا من أنبغ تلاميذه المقربين إليه. وأول من ساعده في عمله من المصريين (أنطون فرح) اشتغل في جوقته بحديقة الأزبكية. ولما طبقت شهرته(847/17)
الآفاق طلب للذهاب إلى معرض (واشنطون) ليعرض بعض رواياته، وقطعاته الفنية فيه، فأبحر مع أفراد فرقته إلى الدنيا الجديدة وكلهم أمل وغبطة لإطلاع زوار المعرض على الذكاء العربي ومقدار ما وصل إليه فنه - بيد أن الدّوارّ الذي اعتراه في طريقه جعله يعدل عن السفر فعاد أدراجه من إيطاليا إلى القاهرة وسافر أفراد فرقته وحدهم إلى (واشنطون) وعرضوا على زواره بعض فصول من قطعاته الموسيقية وبعض رواياته كانت موضع تقدير القوم وإعجابهم هناك.) رأى نابغتنا بعد عودته من إيطاليا أن ينقل مسرحه من الأزبكية إلى قرب دار (الأبرا) الملكية ففعل. وبعد مدة من الزمن احترق مسرحه وعاد الشؤم والنحس بصحبانه من جديد، وكان قد انتشر هذا الفن في ربوع النيل وكشفت غوامضه مما أهاب بصاحبنا أن يهجر القاهرة لتفرق أفراد جوقته وقلة ذات يده ويؤم الأرياف متكسباً مع بعض أفراد جوقته المتخلفين عن السفر إلى (واشنطن) فزاول العمل مدة في الأرياف ثم قل العمل وتاقت نفسه للعودة إلى بلاده التي دفن فيها أحلامه.)
وحببّ أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا
وفي نزوة من نزوات النفس الأمّارة وموجبةٍ من موجبات الشوق المبرح المضني عاد القباني إلى دمشق بعد أن نشر رسالة الفن في القطر الشقيق، وكانت الحال قد تبدلت في وطنه ومات من مات من عشاق فنه ورواد مجالسه، وهلك من هلك من حساده ومناوئيه. وكان المشيب يومئذ قد أشعل رأسه وكلل جبينه بهالة بيضاء من نور الشيخوخة والوقار فلم يجد في نفسه الهمة الفتيّة والكفاءة للقيام بأي عمل فني فأقام في دمشق مدة كان معتزلاً العمل خلالها زاهداً في بيته منقطعاً إلى صلاته ونسكه حتى أتاه رسول أحمد عزة باشا العابد) يدعوه باسمه للشخوص إلى الآستانة ليمهد له سبل المثول بين يدي الذات الشاهانية، فتجددت عزائمه بهذا الطلب وعاد الأمل يداعبه من جديد وقد نسي أن لكل زمان دولة ورجالاً، وقد هتف به هاتف من نفسه أن يعتذر عن هذه السفرة؛ بيد أن شبح (البروفسور) وآفاته التي تبتلع أشلاء الضحايا مثل أمامه ودفعه إلى إجابة الباشا إلى طلبه، وفور وصوله الآستانة استقبل من قبل الحاشية استقبالاً فخماً وحل ضيفاً على الوزير الغابه صاحب الدعوة، وكان يتقن اللغتين التركية والفارسية فبقى هناك ضيفاً يتمتع بعطف مضيفه مدة من الزمن حتى احتال الوزير الداهية على المماليك بوعد لمقابلة القباني، وكان من شروطها(847/18)
الدخول على السلطان وهو محني الرأس ومطرقاً إجلالاً وإكباراً مقبلاً الأعتاب بين يديه، وهي مراسيم كانت تطبق على كل من يريد المثول أمام هذا الطاغية الجبار، ومن يخالفها لا يكتب له الحظوة بهذه المقابلة. وعندما عرضت على صاحبنا القباني رفضها بشمم وإباء قائلاً: أنا رجل نسيج وحدي لا أحني رأسي لغير خالقي الذي يميتني ويحييني ويطعمني ويسقسني وبيده ضري ونفعي؛ فإن شئت يا سيدي الباشا أن تكون مقابلتي لمولاي المعظم كمقابلتي لكل إنسان آخر من الناس فعلت، وإن أبيت إلا هذه الشروط فاعفني من هذه الزيارة التي فيها المذلة والمهانة).
فلم يكد الباشا يسمع من صاحبه هذه العبارات حتى كاد يجن لشدة ما عراه من الغضب والحنق، فغض الطرف عن هذه الزيارة ثم صدف القباني عنه قائلاً أرجوك رجاءً حاراً ألا تذكر ما دار بيني وبينك من حوار إلى أي مخلوق لئلا يصل ذلك إلى مسامع السلطان فتكون الطامة الكبرى علينا نحن الأثنين، كما أني آمرك أن ترحل من هذه الديار على الفور دون أن يشعر بك إنسان، وقد خصص له بعد سفره معاشاً من خزينة الدولة يكفيه هو وأفراد أسرته.
بقى القباني يتقاضى في دمشق هذا الراتب منحة من الوزير المشجع لكل موهبة حقبة من الزمن كان فيها معتزلاً الناس إلى أن اختاره ربه إلى جواره، فانطفأت بانقضائه تلك الشعلة الفنية التي أضاءت النور للشرق عامة ونفذ إشعاعها إلى ديار الغرب، وكانت السبب في انبعاث هذه النهضة الفنية التي قامت في ربوع الشام والنيل والتي لا يزال أثرها ماثلاً للعيان يذكرها أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة كابراً عن كابر). . .
وكانت وفاته في دمشق سنة 1320 هجرية ودفن في مقبرة الباب الصغير. قضى كما يقضى عظماء الرجال دون أن يترك لأسرته من بعده سبداً ولا لبداً ولم يبق لأسرته سوى بيت للسكن تقطنه الآن ابنتاه الكهلتان. ومما يجدر ذكره هنا في هذه الترجمة إقراراً بالجميل أن معاشه ظلت ابنتاه تتقاضيانه حتى موت الوزير العابد ولم ينقطع عنهما إلا في عهد زوال الدولة العثمانية وظهور الدولة الكمالية.
هذا ما بدا لي أن أكتبه خدمة للتاريخ والحقيقة عن القباني الممثل راجياً أن تتاح لي فرصة أخرى وأكتب نبذة عن القباني الموسيقي الملحن الذي أضاف إلى رقصة السماح نوعاً آخر(847/19)
في هذه الرقصة وهي الإيقاع بنقل الأرجل وتقديم الصدر وتأخيره في جولات الرقص. ولهذا النابغ موشحات وقدودٌ وأما دبح نبوية لا تزال متداولة بين المنشدين في مسجد بني أمية وما فتئت مستعملة حتى الآن يتبارى بها أرباب هذه الصناعة في حفلات الأذكار - وفي المساجد في ليالي رمضان وغيرها من الأيام المباركة كليلة النصف من شعبان وليلة القدر وغيرها وسنفرد لهذا البحث صفحة كاملة.
حسن كنعان(847/20)
برلمان الأقلام
للأستاذ عمر عودة الخطيب
بعد أن امتحن العرب تلك المحنة القاسية بفلسطين، فكانت لهم - وا أسفاه - نكبة ومأساة، شطرت الأمة العربية اشطاراً متناحرة، ودولاً متنافرة، وقضت على شعب كريم بالتشريد والفناء، وألقت به منبوذاً بالعراء، يقاسي مرارة المهانة وألم الحرمان، وينتظر رحمة الضمير الأوربي في مؤتمر (لوزان)، بعد هذا كله انصرفت الأقلام عن الكتابة في موضوع فلسطين، وآثرت أن تجنح إلى الراحة، وتثاءبت على أوراق الكتاب، أو عاد بعضها سيرته الأولى، يكتب ما لا غناء فيه، ولا طائل تحته، ولا جدوى منه مما لا يمس أدواء الأمة الخطيرة، أو يصور مآسيها الدامية، ونكبتها الماحقة. . . وكأن فلسطين - إبان المعارك فيها - كانت لبعض الأقلام الفاترة، رفداً أنقذها من مسغبة، وأحياها من موات، ذلك لأن من خطل الرأي وفساد الذوق - ولا شك - أن تشغل (فلسطين) الدنيا كلها، والعالم العربي خاصة، ثم لا تشارك أقلامهم الناس فيما هم فيه، ولا تبض - على الأقل - ببعض كلمات، تنير السبيل، وتبصّر الضال، وتهدي الحائر. . . وكأني بهؤلاء كانوا يضيقون ذرعاً بهذا الموضوع الذي طال الكلام فيه، والجدل حوله، فكانوا - كما أحسب - يتلمسون منه خلاصاً، فلا يجدون منه مناصاً، حتى إذا ما انقطع زئير المدافع، ودوي النسور، وأذعن العرب لهذه (الهدنة) الممقوتة، هادنت أقلامهم هذه الموضوعات ورجعت إلى الشواطئ والحانات، تصف الأجساد العارية، والأقداح الدافقة، والرقص والابتذال، ومسابقات الجمال. . . ولولا أن (الرسالة) الغراء تنقل إلينا بين فترة وأخرى، بعض المقالات الرائعة في هذه الموضوعات الحية، من كتاب مجيدين، وأدباء يقظين، لأوشك القارئ العربي أن تعظم محنته، وتكبر بليته، فيرى اسم (فلسطين) يحتضر - الآن - على أسنة الأقلام، كما احتضر - من قبل - على ألسنة بعض الحكام.
ذكرت هذا حين قرأت ذلك المقال الرائع (البرلمان الشعوبي العربي والاستعداد للحرب مع اليهود) للأستاذ نقولا الحداد، عاد إلى مقالات مضت، وأبحاث غبرت، وكلمات قيمة نشرت، للأستاذ الفاضل، ولأستاذنا الجليل (الزيات) ولغيرهما من أعلام البيان، ورجال الفكر. . . وعلى الرغم قارنت بين الأمس واليوم فألفيت بالأمس شعوراً دافقاً، وحماساً(847/21)
لاهباً، أحيا العزائم، وأيقظ المشاعر، وكان له - فيما أرى - أثر بالغ في توجيه الأنظار، وتنبيه الأفكار.
أما اليوم فأننا - نحن شعوب العرب - بحاجة إلى أن نضم إلى إعدادنا الحربي والسياسي، وإعدادنا فكرياً شعورياً آخر، يصور لنا - بصراحة تامة - عوامل تخاذلنا، وأسباب انهزامنا، كما يصف لنا عدونا كما هو بشره المستطير، وخطره الوبيل، ومكائده وأجابيله ومطامعه من الفرات إلى النيل، حتى يدرك كل عربي معركة الغد، فيأخذ لها أهبتها، ويعدلها عدتها، لئلا يقع في المستقبل، - كما وقع بالأمس - صريع الغفلة والجهالة، والضعف والاستسلام.
إذا أبى علينا - فيما معنى - طغيان أعدائنا من أوربيين وأمريكيين، واستسلام إخواننا وأبناء عمنا من السادة اليعربيين، أن نمضي في جهادنا، ونثابر على نضالنا، ونتيح للشباب الظامئ المتوئب، أن يروي ظمأه من دماء اليهود، وينقع غلته في الأرض المقدسة، فلن يصل طغيان أولئك واستسلام هؤلاء، إلى الأقلام الحرة، فعليها أن تجدد حملتها، وتعيد كرتها، فتوقظ النائمين، وتفضح الخائنين، وتحيي في نفوس الشباب تلك العزيمة التي أوهتها الصدمة، وتذكي بين جوانحهم تلك الجذوة التي أخمدتها النكبة، وذلك الحماس الذي أذهله مكر الماكرين وشعله بغي الباغين. نعم نريد من هذه الأقلام - وهذه إرادة الشباب - أن ترأب الصدع، وتجمع الشمل، وتلم الشعث، وتدفع في تيار من الحياة جديد، ذي قوة ومراس، ورجولة واحتراس، هذه القافلة التائهة وهذا الموكب الحائر. . . وليس أجدى علينا من أن تكون هذه الأقلام - الأقلام الكبيرة - بريد اليقظة الكاملة، والنهضة الشاملة، لهذه الأمة العاثرة.
وأن لنا في التاريخ، لأمثلة حية من جهاد الأقلام، في إنهاض الأمم، وإيقاظ الهمم، وهذه كتب (روسو ومونتسكيو وفولتير) وغيرهم بين أيدينا، تشهد على ما فعلته في فرنسا أيام غفلتها، وأبان رقدتها.
فإذا لم تسبق فكرة (البرلمان الشعوبي العربي) هذه الهزة الفكرية من (برلمان الأقلام) في مصر وغيرها، وقادة الرأي، وأعلام الفكر في الأمة العربية كلها، حتى تتناجى الأرواح، وتتلقى الأفكار، وتتحدث المشاعر، فلن نجد عند المعركة، الأذن التي تسمع، والقلب الذي(847/22)
يعي، والعقل الذي يفكر، والإرادة التي تعمل، وإذا خسرنا هذه كلها، فلن تنفعنا - حين ذاك - هذه (المؤتمرات) ولا تلك (البرلمانات).
فلعل أدباءنا الأمجاد، يعرفون هذه الحقيقة، فيعطوها نصيباً من أقلامهم، وقليلا من وقتهم، ويسيراً من تفكيرهم، وهم - دون شك - يعلمون بأن دولة الأفكار في حصن مكين، لا تناولها قوة، ولا يصل إليها عدوان. . . ولنذكر أخيراً كلمة شكسبير الخالدة (تستطيع أن تسلبني مالي، وأن تسجنني، وأن تقبض روحي، ولكنك عاجز عن قتل فكرة واحدة من أفكاري. إن الأفكار تستمد وجودها من الله.)
(دمشق - المزه)
عمر عودة الخطيب(847/23)
أوهام في الزيتون
للآنسة الفاضلة فدوى عبد الفتاح طوقان
(في السفح الغربي من جبل (جرزيم) حيث تملأ مغارس الزيتون القلوب والعيون، هناك، ألفت القعود في أصيل كل يوم عند زيتونة مباركة، تحنو على نفسي ظلالها، وتمسح على رأسي عذبات أغصانها؛ وطالما خيل إلي أنها تبادلني الألفة والمحبة، فتحسن بإحساني، وتشعر بشعوري.
وفي ظلال هذه الزيتونة الشاعرة كم حلمت أحلاماً ووهمت أوهاماً).
هنا، هنا، في ظل زيتزنتي ... تحطم الروحُ قيودَ الثرى
وتخلد النفس إلى عزلة ... يخنق فيها الصمتُ لغوَ الورى
هنا، هنا، في ظل زيتونتي ... في عدوة الوادي، بسفح الجبل
أصغي إلى الكون ولما تزل ... آياته تروي حديثَ الأزل
هنا يهيم القلب في عالم ... تخلقه أحلاميَ المبهمة
لأفقه في ناظري روعة ... وللرؤى في مسمعي هيمنة
عالم أشواق سماويى ... تطلق روحي في الرحاب الفساح
خفيفةً، لا الأرض تثنى لها ... خطواً، ولا الجسم يهيض الجناح
واهاً! هنا يهفو على مجلسي ... من عالم الأشواق روح حبيب
لم تره عيناي، لكنه ... في خاطري، يا للبعيد القريب
أكاد بالوهم أراه معي ... يغمر قلبي بالحنان الدفيق
يمضي به نحو سماء الهوى ... على جناح من شعاع طليق
زيتونتي، لله كم هاجس ... أوحت به أشواقي الحائرة. . .
وكم خيالات وعى خاطري ... تدري بها أغصانك الشاعره!
نجيتي أنت وقد عزَّني ... نجيُّ روحي يا عروس الجبل
دعي فؤادي يشتكي بثَّه ... لعل في النجوى شفاءً، لعل
يا ليت شعري إن مضت بي غداً ... عنك يدُ الموت إلى حفرتي
تراك تنسين مقامي هنا ... وأنت تحنين على مهجتي؟(847/24)
ترك تنسين فؤاداً وَعتْ ... أسراره أغصانك الراحمات
باركها الله، لكم ناغمت ... وهدهدت أشواقه الصارخات!
زيتونتي، بالله إما هفت ... نحوك بعدي النسمة الهائمة
فأذَّكري كم نفحتنا مهاً ... عطورها الغامرة الفاغمة
وحين يستهويك طيرُ الربى ... بنغمة ترعش منك الغصون
فأذَّكري، كم طائر شاعر ... ألهمه شدوي شجيَّ اللحون!
تذكريني كلما شعشعت ... أوراقك الخضراَء شمس الأصيل
فكم أصيل فيه شيعتها ... بمهجة حرَّى، وطرف كليل
إن يزوِها المغربُ عن عرشها ... فالمشرق الزاهي بها يرجع
لكنني، آهاً، غداً تنزوي ... شمس حياتي ثم لا تطلع!
ويحي، أتطويني الليالي غداً ... وتحتويني داجيات القبور؟
فأين تمضي حفقاتُ الهوى ... وأين تمضي خلجات الشعور؟!
ونور قلبي، والرؤى، والمنى ... وهذه النار بأعماقيه. . .
هل تتلاشى بدداً كلها ... كأنها ما ألهبت ذاتيه!. . .
أما لهذا القلب من رجعة ... للوجد، للشعر، لوحي الخيال؟
أيخمد المشبوب من ناره ... واشقوة القلب بهذا المآل!.
يا رب إما حان حين الردى ... وانعتقت روحي من هيكلي
وأعنقت نحوك مشتاقة ... تهفو إلى ينبوعها الأول. . .
وبات هذا الجسم رهن الثرى ... لقيَ على أيدي البلى الجائره
فلتبعث القدرة من تربتي ... زيتونة ملهمة. . . شاعره. . .
جذورها تمتص من هيكلي ... ولم يزل بعد طرياً رطيب
تعبُّ من قلبي أنواره ... ومنه تستلهم سرَّ اللهيب!
حتى إذا يا خالقي أفعمت ... عناصري أعصابها والجذور
انتفضت تهتز أوراقها ... من وقدة الحسَّ ووهج الشعور
وأفرعت غيناَء فينانةً ... مما تروَّت من رحيق الحياه(847/25)
نشوى بهذا البعث، ما تأتي ... تذكر حلماً قد نلاشت رؤاه
حلم حياة سربت وانطوت ... طفاحة بالوهم. . . بالنشوةِ
لم تك إلا نغماً شاجياً ... على رباب الشوق والصبوةِ!
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(847/26)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي:
مشكلة الأداء النفسي في الشعر مشكلة تهم الشعراء المحدثين، وتهم النقاد المحدثين، وتهم القراء المحدثين. تهمهم جميعاً لأن نظرة الشاعر إلى النفس والحياة قد تفاوتت بين الأمس واليوم، وكذلك نظرة الناقد ونظرة القارئ. . . ويلاحظ هنا أنني أقصر الحديث على الشعر العربي وحده دون سواه.
إن رأيي في الشعر العربي القديم هو رأيي في مشكلة الأداء اللفظي في هذا الشعر، وهي مشكلة شغلت الشعراء القدامى فأفرغوا فيها كل طاقاتهم الشعرية لا الشعورية، وشغلت النقاد القدامى فأقاموا موازينهم للألفاظ من حيث الدلالة المادية لا النفسية، وشغلت القراء القدامى لأن فهمهم للشعر قد استمد أسباب وجوده مما بين أيديهم من نتاج شعري يسير في ركابه النقد الموجه لهذا النتاج. . . إذا قلت لك إن الشعر العربي القديم كان في جملته شعر (السطوح الخارجية) للنفس والحياة، فلا تحمل هذا القول على التعصب للحديث والوقوف إلى جانبه. إن أمامك هذا الشعر، فراجع فيه نفسك، واستشر في حقيقته ذوقك وحسك، إنه شعر يشعرك بفراغ (الوجود الداخلي) عند قائليه، لأنهم كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية) في الكثير الغالب من الأحيان، فإذا عادوا إلى تلك الحدود فتغلبوا على مشكلة (الصدق الشعوري) قامت في وجوههم مشكلة أخرى هي مشكلة (الصدق الفني). . . وهنا مفرق الطريق بين المشكلتين الرئيسيتين: مشكلة (الأداء النفسي) ومشكلة (الأداء اللفظي)، في معرض الموازنة بين الشعر العربي الحديث والشعر العربي القديم!
وأحب هنا أن أوضح الفوارق بين هذه القضايا الفنية في حدود التعبيرات الاصلاحية والنقدية. . . فما هو الصدق الشعوري أولا، وما هو الصدق الفني ثانياً، حتى نستطيع أن نصل إلى الهدف الأخير حول مشكلتي الأداء في الشعر؟
الصدق الشعوري هو ذلك التجاوب بين الوجود الخارجي المثير للانفعال، وبين الوجود الداخلي الذي ينصهر فيه هذا الانفعال. أو هو تلك الشرارة العاطفية التي تندلع من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق النفس، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة. أو(847/27)
هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الجائشة في ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير؛ التعبير عن واقع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء!
هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن، لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأداء النفسي في الشعر، وهو الأداء الذي يعتمد على اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ ذو الدلالة النفسية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!
هذا هو مكان اللفظ من الأداء، أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي ينقلك بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الوجدانية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي).
ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء، وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملا بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلا في عنصري الألفاظ والأجواء لا غنى له بحال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من نقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!
ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . إن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو الموسيقي؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن تتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ، والموسيقى الحالمة مثلا في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فتتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة(847/28)
مثلا في شعر الغزل والرثاء!
نترك هذا التحديد لكل تلك القضايا الفنية لنقول إن أصحاب الشعر العربي القديم لم يفطنوا إلى قيم الأداء النفسي في الشعر إلا في القليل النادر الذي لا يحسب له حساب. . . وإذا كانت هناك ومضات من هذا الأداء تطالعك في هذا الشعر، فهي ومضات متفرقة يصعب أن تجمع بينها لتخرج من هذا الجمع برصيد يمكن أن ينسب إلى شاعر واحد، لتخلق من شخصيته الشعرية قمة من قمم الأداء النفسي! مصدر الداء أنهم نظروا إلى مظهر اللفظ أكثر مما نظروا إلى مخبره، وأنهم شغلوا عن (الذاتية النفسية) بتلك (الذاتية البيانية)، وأنهم عبروا عن الشعور المصنوع أكثر مما عبروا عن الشعور المطبوع!
على هذا الأساس سار الشعر القديم يبارك خطواته النقد القديم؛ ذلك لأن الأجيال قد دأبت على أن تخلق أبناءها في ميدان الفن من طينة واحدة، وأن تصوغ ملكاتهم من معدن واحد: يقف الشاعر عند (الهياكل العظمية) للألفاظ ويقف معه الناقد، وغاية الفن عند هذا وذاك أن يطلب الأول إلى صاحبيه أن يقفا لحظات ليبكيا معه، وأن يشير الثاني إلى أنه بلغ القمة لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى، أو لأنه مثلا قد وقف إلى تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد!
لا أريد أن أذهب في القول إلى أكثر مما ذهبت في هذا المجال، لأن مشكلة الأداء اللفظي لا تحتاج إلى أن نستخلص لها الشواهد من الشعر العربي القديم، ولأن تلك الشواهد قد مر بها القراء والأدباء في مطالعتهم لذلك الشعر، وهي بعد ذلك أوضح في حساب الكثرة من أن يشار إليها أو تجمع في حساب التسجيل والإحصاء!
حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم لأصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان ويستطيع النقد الحديث أن يقول إنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم (شوقي)، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم (إليا أبو ماضي)، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات(847/29)
الأداء النفسي أكثر لمعاناً منها في شعر الآخرين!. . .
ولقد قدمت إلى القراء نقداً تحليلياً لمشكلة الأداء النفسي في الشعر، ويبقى أن أقدم إليهم نموذجاً كاملاً لهذا الأداء، حتى تتكشف لهم جوانب ذلك النقد على ضوء هذا المثال، وهو قصيدة للشاعر إليا أبو ماضي، وقعت عليها دون أن أعمد إلى شيء من الاختيار. . . عنوان القصيدة (وطني)، وبناؤها هذه الأبيات:
وطن النجوم. . . أنا هنا حدِّق. . . أتذكر من أنا؟
ألمحت في الماضي البعيد فتى غريراً أرعنا
جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنا
المقتنى المملوك ملعبه وغير المقتنى
يتسلق الأشجار لا ضجراً يحس ولا ونى
ويعود بالأغصان يبريها سيوفاً أو قنا
ويخوض في وحل الشتاء مهللا متيمنا
لا يتقي شر العيون ولا يخاف الألسنا
ولكم تشيطن كي يدور القول عنه: تشيطنا!
أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت هاهنا
أنا في مياهك قطرة فاضت جداول من منى
أنا من ترابك ذرة ماجت مواكب من منى
أنا من طيورك بلبل غنى بمجدك فاغتنى
حمل الطلاقة والبشاشة من ربوعك للدنى
كم عانقت روحي رباك وصفقت في المنحنى
للبحر ينشره بنوك حضارة وتمدنا
لليل فيك مصلياً. . . للصبح فيك مؤذنا
للشمس تبطئ في وداع ذراك كيلا تحزنا
للبدر في نيسان يكحل بالضياء الأعينا
فيذوب في حدق المهى سحراً لطيفاً لينا(847/30)
للحقل يرتجل الروائع زنبقاً أو سوسنا
للعشب أثقله الندى. . . للغصن أثقله الجنى
عاش الجمال مشرداً في الأرض ينشد مسكنا
حتى انكشفت له فألقى رحله وتوطنا
واستعرض الفن الجبال فكنت أنت الأحسنا
هذا هو الأداء النفسي الذي أبحث عنه وأدعو إليه، الأداء النفسي الذي يستمد صورته التعبيرية من الصدق الفني والصدق الشعوري، ويعتمد على العناصر الثلاثة التي حدثتك عن قيمها الفنية، وهي اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ الخاص، والجو الخاص، والموسيقى الخاصة. . . وتعال نستعرض مواكب الألفاظ أولا في شعر أبي ماضي:
قف عند البيت الأول لتتفيأ الظلال النفيسة في كلمة (حدِّق). وقف مرّة أخرى عند البيت الثاني لتنفذ إلى أعماق الواقعية في كلمة (أرعن). وقف مرة ثالثة عند البيت الثالث لتتذوق المعاني الحسية في كلمة (مدندن). وطبق هذه اللمحات واللفتات على الأبيات التالية حين تقف عند كلمة (يتسلق) و (يخوض) و (تشيطن) من ناحية الحركة المتدفقة في ثنايا التعبير. وعندما تبلغ البيت العاشر قف طويلا لتطرق الأبواب الشعورية الضخمة في كلمة (ولد). . . لو قال أبو ماضي مثلا (أنا ذلك الطفل) بدلا من (أنا ذلك الولد) لغدت اللفظة عادية لا تثير في النفس شيئاً من المشاعر والأحاسيس. ولو قال مثلا (أنظر) بدلا من (حدق) لبدت اللفظة مغرقة في المادية فلا إشعاع ولا إيحاء!
إن الألفاظ هنا قد اختيرت لتوضع في مواطنها الأصيلة لتؤدي دورها الأصيل في إرسال الموجات الصوتية المعبرة عن واقع الهزات المنبعثة من الوجود الداخلي. . . وانظر إلى كلمتي (فاضت) و (ماجت) في البيتين الحادي عشر والثاني عشر، وإلى كلمتي (عانقت) و (صفقت) في البيت الخامس عشر لترى مبلغ الإثارة الوجدانية في الصورة الوصفية. وقل مثل ذلك عن البيت الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين عندما تضع في بوتقة الشعور كلمة (تبطئ) و (يكحل) و (يذوب). . . وأقم الميزان كل الميزان لهذا الحقل الذي (يرتجل) الروائع من الزنبق والسوسن، ولهذا الجمال الذي (شرد) في شعاب الأرض يلتمس المأوى حتى إذا ظفر به (ألقى رحله) واستراح. ولا تنس ذلك الفن الذي (استعرض) الجبال ليختار(847/31)
أحسن الأوطان!
وتعال بعد ذلك أحدثك عن عنصري (الجو والموسيقى) في هذا الأداء؛ الجو الذي قلت لك عنه إنه الأفق الشعوري الذي ينقلنا إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لنا المشاركة الوجدانية بيننا وبين الشاعر، ويحدث لنا نفس الهزات الداخلية التي يتلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود الخارجي. . . إن الشاعر هنا يصور ملاعب الطفولة البريئة في رحاب الوطن الأول، وهو بعد ذلك يستعيد ذكرى عهود، عهود مرت بنا ونسيناها، فإذا هي تعود إلينا من وراء الوعي حية نابضة، وما هذا النبض وتلك الحياة إلا من أثر القدرة على البعث والإثارة!
إنك لتحس من هذا (الجو) الذي ترسمه ريشة الشاعر على لوحة الشعور أنك قد نقلت نقلا على جناح الخيال إلى هناك، إلى ذلك الأفق البعيد الموغل في طوايا الزمن. . . وإذا أنت في كل بيت من أبيات أبي ماضي تكاد تلمح طفلا يتوثب مرحاً ونشاطاً وحيوية، طفلا يخيل إليك أن كل نقلة من نقلات الإيقاع الموسيقي هي وقع الخطى من قدميه الصغيرتين!
ولعلك تلحظ أن الإيقاع هنا هو إيقاع الموسيقى الحالمة، ذلك لأن الجو الشعري هو جو الأحلام الخالصة، جو الذكريات التي يهمس بها الماضي الحبيب في مسارب النفس الخفية، فيرتد الصدى العميق من تلك الأغوار إلى ثنايا الكلمات، ممثلا في تلك الوقدات الملتهبة من جيشان العاطفة. . .
وهذا هو دور الموسيقى التصويرية التي قلت لك عنها إنها تصاحب المشهد التعبيري في الأداء النفسي، وتعمل على تلوين الانفعالات المختلفة تلويناً خاصاً يتناسب وطبيعة الألفاظ في مجال القيم الفنية والنفسية.
أنور المعداوي(847/32)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تأبين المجمع اللغوي للمازني:
أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية حفل تأبين للمغفور له الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يوم الأثنين الماضي بدار الجمعية الجغرافية الملكية. وقد اقتصر الحفل على كلمة الأستاذ عباس محمود العقاد التي رؤى الاكتفاء بها تجنباً للتكرار والإملال، وقد جاءت فعلا وافية بالغرض، فقد ألم فيها بحياة الفقيد إلماماً إجمالياً حلل في ثناياه أدبه وبَعض صفاته الشخصية التي أثرت في هذا الأدب. فأغنت عن كثير من خطب وقصائد مما يلقى في هذه المناسبة.
استهّل الأستاذ العقاد حديثه عن صديقه فقيد الأدب الأستاذ المازني بأنه كان (منذوراً) للأدب بكل ما نفهمه اليوم من معنى هذه الكلمة، وقد كان الأقدمون إذا قيل لهم عن أحد من الناس إنه منذور لهذا المعبد أو لهذا الحرم، فهموا من ذلك أنه قائم في خدمة معبده طول حياته، وأنه لا يملك أن ينحرف عن خدمته باختياره. وقد خيل للمازني أن يعطي مطالب المعيشة حقها، فلم يلبث حتى تبين له أنه للأدب وحده، وأن الأدب يلاحقه أينما ذهب، فلا يتركه حتى يعيده إلى جواره.
وبعد أن تحدث عن المرحلة التي لحق فيها المازني بمدرسة المعلمين العليا وتخرج فيها، قال: لقيت المازني في هذه الفترة، ولقيت الأستاذ عبد الرحمن شكري بعد ذلك، فمن عجيب التوفيق أن يكون شكري في الإسكندرية، وأن يكون المازني في القاهرة، وأن أكون أنا في أسوان، ثم نلتقي على قدر وعلى اتفاق فيما قرأناه وفيما نحب أن نقرأه، مع اختلاف في حواشي الموضوعات من غير اختلاف على جوهرها، وكان المازني أكثرنا ولعاً بالقصة والمقالة الوصفية، وكنا نلتقي في ناحية واحدة من نواحي القصة على الخصوص، وهي القصة الروسية، وأحسب أن القصة الروسية من أقوى المؤثرات في نزعته التي جنح إليها بقوته كلها بعد ذلك فيما نسميه بفلسفة الحياة.
وتحدث العقاد عن نزعة الاستخفاف عند المازني فقال إنها ترجع إلى جملة أسباب بعضها ما كمن في طبعه وأتى بعضها من عراك الحوادث ووحي المطالعة والتفكير. درج صديقنا(847/33)
رحمه الله على حب الدعابة منذ طفولته، يسري عن النفس، ولا يضير أحداً ممن يمسه بتلك الدعابة. . . كنا يوماً نركب الترام لأول مرة إلى ظاهر المدينة، فلما وقف في إحدى محطاته التفت المازني إلى رجل واقف يغري منظره بالمعاكسة - والحق يقال - فحياه وألح في تحيته والترام يتحرك ويبتعد، والرجل واقف حائر حتى استخار الله على شكه ورد التحية، فما فعلها حتى أومأ إليه صديقنا بلسانه إيماءة ساخرة ولكنها غير جارحة، وجعل يقول: والله إنه لرجل ظريف، والله إنه (لجنتلمان)
أما جانب التجربة في نزعة المازني إلى الاستخفاف، فمنه النفساني الذي خامره من إرساله الشعر خاصة بغير صدى يتلقاه ممن يعنيهم بشعره، ومنه آلام الصدمات والشدائد التي كان يخفف ثقلها بما استكن في طبيعته من نوازع الاستخفاف.
أما الجانب الذي أوحت به المطالعة فأحسبه راجعاً على الأرجح إلى كتابين من القصص الروسي أحدهما قصة (سانين) لمؤلفها (أرتزيباشف) والآخر قصة الآباء والأبناء لثورجنيف، وكلتاهما تخلق الاستخفاف على الأقل حين قراءتها لمن لا عهد له بالاستخفاف. ونحب أن نصف هنا هذا الاستخفاف بأصدق صفاته، لأن المستخف قد يبدي قلة الاكتراث لسببين نقيضين: قد يبديها لقلة إحساسه، وقد يبديها لفرط إحساسه. وقد كان فرط الإحساس هو الينبوع الذي يصدر عنه استخفاف المازني.
ثم قال الأستاذ العقاد: ولقد كانت ملكات المازني أول ما تناوله باستخفافه، وكان الشعر أول ما تناوله من تلك الملكات، ولكن استخفافه بشعره من قبيل استخفافه بكل شيء: فرط إحساس لا قلة إحساس. وإنه لمن الحظ السيئ للشرق العربي أنه لم يأخذ من المازني كل ما كان قادراً على أن يعطيه من صفوة ملكاته، وليست كلها مقصورة على الشعر ونقده، فقد امتاز بملكة أخرى هي ملكة الترجمة المطبوعة، أو ما يصح أن نسميه بعبقرية الترجمة، فقد كان يترجم الكلام في سليقته شعوراً قبل أن يترجمه لفظاً ومعنى. وختم الأستاذ العقاد كلمته الحافلة بتوجيه الخطاب إلى الفقيد الراحل قائلاً: ما أنت ممن يحسن إليه الناس بذكره، وإنما يحسنون إلى أنفسهم كلما ذكروك.
بين الفتى وأستاذه الشيخ:
قال الفتى لأستاذه الشيخ: سمعت أخيراً من الإذاعة المصرية حديثاً لأستاذ من أساتذة(847/34)
الجامعة عن شاعر عباس في سلسلة أعلام الأدب العربي، ولأن الشاعر معروف ومدروس في المناهج المدرسية وغيرها توقعت أن حديث الأستاذ عنه لابد أن يتضمن جديداً في شأنه، ولكنني وجدت الأمر على خلاف ما توقعت، فإن الأستاذ تحدث عن الشاعر حديثاً مكرراً مقتضباً وشغل أكثر الوقت بأمثلة من شعره.
قال الأستاذ الشيخ: إنني يا بني قد بلوت هذه الأحاديث فلم أر فيها غناء، والإذاعة تختار أولئك الأساتذة لمناصبهم، وهم يستندون إلى هذه المناصب فلا يشعرون بالحاجة إلى كد أذهانهم المترفة، لإحداث طريف أو إضافة جديد، وقد لا يأتون بشيء إن كدوا.
قال الفتى: وماذا ترى لعلاج هذا الأمر؟
قال الأستاذ الشيخ: العلاج يا بني يسير جدا، وهو أن يختار الأشخاص لا المناصب، ويجب قبل ذلك أن يُختار من يَختار.
كل بيت له راجل:
هذا هو اسم الفلم الذي عرض لأول مرة في هذا الأسبوع بسينما أوبرا. وتعالج قصة الفلم مشكلة عاطفية عرضت هكذا:
أمينة هانم لا تزال في شبابها تعيش في قصر زوجها المتوفي ومعها ابنتها (فاتن) وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وتبدو الأم في المنظر الأول حزينة على زوجها الراحل، فلا تكاد تسمع لحناً معيناً تعزفه ابنتها على البيان حتى تتأثر وتنهاها عنه، لأنه اللحن الذي كان يعجب به زوجها حين تعزفه ابنته. ولكن رجل يدخل المنزل فيغير مجرى الحياة فيه وتتحول إليه مشاعر الأم والبنت، وهو محمود بك رامي الذي ندبته دارالآثار ليفحص مكتبة الزوج المتوفي كي تشتريها الدار أو تشتري بعض محتوياتها. ولم نعرف بناء على أي شيء حضر المندوب لهذه المهمة ويبدو من حديث الأم مع ابنتها عند حضوره أنهما لم تطلبا ذلك من دار الآثار. ولا أدري لماذا لم يكن محمود بك موفداً من دار الكتب بدلا من دار الآثار!
يتبين محمود بك رامي في أثناء فحص المكتبة بحضور أمينة هانم وبمساعدتها، أنها سيدة مثقفة، كما يتأثر بجمالها وشخصيتها، فيثني عليها ويبدي لها إعجابه ويدعوها إلى حضور محاضرة له بمكتبة الأميرة فريال، فتلبي، وتعود إلى ابنتها فاتن التي تسألها عنه باهتمام،(847/35)
ويتحدثان عنه حديثاً يدل على إعجابهما به بل على حب كل منهما له، فقد شاهدته فاتن خلال حضوره إلى المنزل زعلقت نظراتها به. وتتطور علاقة محمود بك بأمينة هانم حتى يتكاشفا بحبهما، وتعده بزواجه بعد زواج فاتن. وتسافر فاتن مع صاحبتها ميمي ووجيه بك أخي ميمي الذي عاد من أمريكا بعد أن درس فن الزراعة وإصلاح الأراضي البور - تسافر معهما إلى القرية التي بها أملاك أبيهما، وفي أثناء ذلك يتودد وجيه بك إلى فاتن ولكنها تقابل تودده بتحفظ يدل على عدم حبها إياه. وتعود فاتن فتشاهد مظاهر الحب بين أمها وبين محمود بك، فتحزن لذلك. وتتولى حوادث تتخللها محاولات من جانب فاتن للظفر بحب محمود بك ولكنه يتخلص منها مع التلطف، ويقبل على أمها كل الإقبال، حتى يحدث أن تراه البنت يقبل أمها، فتتأثر من هذا المشهد غاية التأثر، وتلزم فراشها؛ وعند حضور أمها إليها تبدي لها استنكارها وتثور عليها ثم يقول لها صوت الضمير الذي ينطق مسموعاً: ما هذا يا فاتن؟ إن أمك لا تزال في شبابها ونضارتها ومن حقها أن تتمتع بالحياة، ومحمود بك رجل في سن والدك وهو يلائم أمك، فكيف تحبينه أنت وتحرمينه من أمك؟ وأنت يلائمك شاب صغير ينتظر إشارة منك. . . فتعود إلى عقلها وتستصفح أمها. ثم نرى المشهد الأخير وقد تزوج محمود بك بأمينة هانم وفاتن تقول له: لقد أخطأت في تكييف شعوري نحوك فأنا أحبك حقاً ولكنني أحبك كأبي ويظهر الجميع في منظر يقدم فيه وجيه بك إلى فاتن على أنه عريسها وفجأة ينشأ الحب بينهما ويلتقيان في ضمة وقبلة.
القصة سليمة في أَولها وتسلسل حوادثها، وقد عرضت عرضاً طبيعياً جميلا، وحددت سمات أبطالها وأشخاصها تحديداً دقيقاً، وصورت المشكلة فيها تصويراً واضحاً. ولكن ما كادت الوقائع تتقدم نحو الحل حتى ظهرت اللهوجة فهدمت البناء، وقصم الحل ظهر القصة.
كيف يمكن القضاء على عاطفة أو تحويلها، وإنشاء عاطفة أخرى مكانها، في لحظة واحدة دون تمهيد طويل أو قصير؟ هل يكفي صوت ينطق بتلك الجمل لكي تغمض الفتاة عينيها وتفتحها فترى الحبيب أباً والفتى الجامد محبوباً؟ لقد كان يمكن أن يكون وجيه بك شابا جذابا مغريا بالحب على أن يؤخر اتصاله بفاتن في الوقت الذي يمهد فيه لتحولها عن حب محمود بك. ولكن الفلم يعرض هذا الشاب في صورة جامدة كئيبة ثم يفرضه في النهاية(847/36)
محبوباً لفتاة رائعة تحب أو كانت تحب غيره!
وكان لوحيد بك مشروع لإصلاح الأراضي البور في القرية، لم يأخذ حقه في الإبراز، فقد قالوا لنا في الآخر إنه نفذ ونجح ولم نر علامة لذلك غير بضعة أشجار يغني بينهما عبد العزيز محمود. والحق أنه أجاد في غنائه وموسيقاه. وفي الفلم ظاهرة تتكرر في معظم الأفلام المصرية وهي إظهار الفلاحين أذلاء خاضعين لسلطان السيد صاحب الضيعة، وهي ظاهرة موجودة في بعض الجهات ولكن تكررها في الأفلام يدل على أن ذلك هو طابع الحياة في القرى المصرية، وليس الأمر كذلك إلا في القليل.
وقد أخرج الفلم محمود كامل مرسي ووضع قصته مجدي فريد، وهو فلم نظيف، ومناظره متسقة، وحواره جيد، والقصة لا بأس بها بصرف النظر عن تلك المآخذ، والتمثيل ممتاز، فقد أجادت أمينة رزق (أمينة هانم) في دور المرأة المحترمة المحبة، وكذلك فاتن حمامة (الآنسة فاتن) وخاصة في أثناء مصاحبتها لوجيه بك فقد مثلت دور الفتاة (الاسبور) المترفعة المتحفظة أحسن تمثيل، وكانت ظريفة عندما كانت تناقش نفسها في خلوتها: أيهما، هي أو أمها، أحق بحب محمود بك. ومثل محمود المليجي دور (محمود بك رامي) وهو شخصية محبوبة في الرواية، وكان المشاهدون يتوقعون أن يكون شريراً لكثرة ما شاهدوا المليجي في تمثيل الأشرار. ولكنه استطاع رغم ذلك - ان يقنع الجمهور بأنه رجل طيب. . .
أما الوجه الجديد وجيه عزت الذي قام بدور (وجيه بك) فوضعه في الفلم اقتضاه أن يظهر في جد (زيادة على اللزوم) وهو يجيد في مثل هذا الدور، على ألا ينتهي بحب فتاة مثل فاتن حمامة.
عباس خضر(847/37)
رسالة النقد
ديوان الوزير
محمد بن عبد الملك الزيات
نشره وحققه الدكتور جميل سعيد
بقلم الأستاذ بدوي أحمد طبانة
يخيل لكثير من الناس أن إخراج كتاب أو نشره عمل يسير، يستطيع أن ينهض به كل من يستطيع أن ينسخ، ثم يستطيع بعد ذلك أن يقدم ما نسخه إلى المطبعة. هكذا يخيل لأكثر الناس، وكذلك كان يخيل إلي أيضاً قبل أن أبتلي بهذا اللون من الجهد العلمي، حتى إذا كان ذلك تبين لي أن جهداً يبذل في نشر كتاب وتحقيقه دونه بكثير كل جهد يبذل في التأليف وإن كان عظيما؛ لأن المؤلف صاحب الموضوع الذي يؤلفه، اختمرت في رأسه فكرته، وأعد له ما يعينه من المراجع. أما الناشر فما اكثر ما يصادف من عقبات لا يستطيع اجتيازها إلا الكفء الجلد، وناهيك بعقبات التمزيق والعث وما يقع فيه النساخ من أخطاء التصحيف والتحريف.
وفي المكتبة العربية نفائس لا يحصيها إلا الله، ولكنها مطمورة في زوايا النسيان، لا تصل إليها الأيدي، ولا ينتفع الناس بما تحوي من علم وفن، حتى يتاح لهذه النفائس من ذوي الغيرة من يأخذ بيدها فينفض عنها غبار السنين، ويعم الانتفاع بها.
ونحن في نهضتنا الحاضرة محتاجون أشد الحاجة إلى بعث هذه الكنوز من مدافنها؛ فإن في هذا البعث خدمة قومية إلى ما يؤديه من خدمات علمية أو فنية، فإحياؤها فرض ليس لقادر عليه أن يكف عنه.
ولهذا لا يسعنا إلا أن نرحب بديوان الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وإلا أن نشيد بفضل ناشره العالم الأديب الدكتور جميل سعيد أحد أساتذة الأدب في دار المعلمين العالية في بغداد، الذي أضاف إلى الأدب ثروة فنية تعين الباحثين ومؤرخي الأدب بنشره هذا الديوان، فعامة العلماء والأدباء يعرفون ابن الزيات كاتباً أكثر مما يعرفونه شاعراً، وهم يعرفون كيف سما الأدب بإبن الزيات حتى كان الوزير والمصرِّف للأمور في عصر من(847/38)
أزهى عصور الدولة العباسية، ولم يكن له من الحسب أو الجاه ما يرشحه لهذا المنصب الخطير، وهو زيات ابن زيات، سوى الموهبة الأدبية.
وقد قدَّم الدكتور جميل الديوان بترجمة موجزة لحياة الرجل ووضفت النسخة التي نقل عنها، ثم ذكر في مقدمته عدة آراء في ابن الزيات وشاعريته استخلصها من شعره، وأكثر هذه الآراء وفق فيه توفيقاً مظيما يشهد له بالأصالة والبراعة والحاسة الفنية المرهفة
وكان سر هذا التوفيق أن صاحبه كان صادقاً، وكان ميزاناً هدلاً لنفسه، ولصاحب الديوان الذي نشره، فلم يفرط في تقريظه والتنويه به؛ شأن كثير من الذين يعتدون بالموضوع الذي يدرسونه أو الشخصية التي يعالجون تحليلها. . .
ومن أمثلة الإنصاف قوله عن الشعر الذي عثر عليه في ديوان ابن الزيات: إنه (لا يمثل حياة ابن الزيات كاملة. وربما كان له شعر لم يجمعه جامعه).
ثم تراه يقول: (إن أشعاره التي في ديوانه هذا لا نراها تضعه في مصاف الشعراء المطبوعين، وقد لج الهجاء بينه وبين علي ابن جبلة، والقارئ حين يقرؤه يجد الفرق واضحاً بين ابن الزيات وبين الشاعر المطبوع علي بن جبلة).
ومثل هذه الآراء سديد موفق، ومبعث السداد والتوفيق - كما قدمنا - أن صاحبها كان صادقاً في قوله صدقه في إحساسه الفني.
ولكننا على الرغم من إعجابنا بهذه الآراء وتقديرنا للجهود الفنية التي بذلت في نشر الديوان، لا نتفق مع الأستاذ الناشر في فهم معنى ما أورده ابن رشيق في العمدة نقلا عن الجاحظ في قوله: (طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينتقي إلا ما اتصل بالأخيار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات).
فقد فهم الدكتور جميل من هذه العبارة أن الجاحظ يفضل هذين وأضرابهما على سائر الشعراء تفضيلا مطلقاً، وقد بنى على هذا الفهم مناقشة هذا الرأي في قوله: (وبعد، أفكان ابن الزيات من المكانة الشعرية بالمحل الذي ذكره به الجاحظ والصاحب وابن رشيق.
إننا لا نستطيع أن نفهم هذا الفهم الذي تبادر إلى ذهن الدكتور جميل من هذه العبارة، فإن(847/39)
سياق الكلام يدل على أن البحث في فهم الشعر، وتذوقه، ونقده، ومعرفة ما يسمو به وما يتضع.
يريد الجاحظ أن يقول: إنه لا يفهم الأدب - ومنه الشعر - إلا الأدباء، وأما هؤلاء الأعلام الذين رددوا أسماءهم فهم علماء كل في ناحيته التي يجيدها: فالأصمعي يحذق معرفة الغريب من ألفاظه اللغوية، والأخفش رجل نحوي لا يعرف إلا الإعراب، وأبو عبيدة قد تخصص في معرفة السير وأيام العرب وأنسابهم. أما المتذوقون للشعر القادرون على نقده من الناحية الفنية فهم طائفة الأدباء الكتاب.
ودليل آخر يؤيد ما نذهب إليه في فهم هذه العبارة هو قول الجاحظ في أولها: (طلبت علم الشعر. . .) والجاحظ عالم أديب يعني ما يقول، ويستطيع أن يفرّق بين الشاعر وبين العالم بالشعر
ولو أراد الجاحظ الموازنة بين الشعراء لم يفته، وهو الخبير، أن يذكر أسماء فحول الشعراء لا أساطين العلماء.
ودليل ثالث: هو أن الباب الذي عقده ابن رشيق قد جعل له عنواناً (باب في التصرف ونقد الشعر) ونحن مضطرون لأن نورد من هذا الباب ما يؤيد قولنا.
حكى الصاحب بن عباد في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري فقال: يا أبا عبادة أمسلم أشعر أم أبو نؤاس، فقال: بل أبو نؤاس لأنه يتصرَّف في كل طريق ويبرع في كل مذهب إن شاء جدَّ وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتعلق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله، فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة! إن حكمك في عميك أبي نؤاس ومسلم، وافق حكم أبي نؤاس في عميه: جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما، ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبيدة لا يوافقك على هذا، فقال ليس هذا من علم أبي عبيدة فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر!
والخلاصة أن الجاحظ والصاحب وابن رشيق لم يفضلوا ابن الزيات وابن وهب وغيرهما(847/40)
من الكتاب على الشعراء في إحكام صنعة الشعر، وإنما فضلوهم على العلماء في نقد الشعر.
وإن أردت المزيد فاقرأ قول ابن رشيق في باب آخر أسماه: (باب في أشعار الكتاب) قال: (وليس يلزم الكاتب أن يجاري الشاعر في إحكام صنعة الشعر لرغبة الكتاب في حلاوة الألفاظ وطيرانها، وقلة الكلفة، والإتيان بما يخفف على النفس منها. وأيضاً فإن أكثر أشعارهم إنما يأتي تظرفاً لا عن رغبة ولا رهبة فهم مطلقون مخلون في شهواتهم، مسامحون في مذهبهم إذ كانوا يصفون الشعر تخيراً واستظرافاً).
ولنا بعد هذه الملاحظة ملاحظة أخرى تلك هي مسألة القوافي وترتيبها في الديوان، فقد سلك في بعضها مسلكا غير المتفق عليه عند العروضيين وعلماء القافية، ووضع بعضها في غير موضعه، وقد يعتذر عنه بأنه نقل ألقاب القوافي وترتيبها كما وردت في الأصل الذي اعتمد عليه، ونقل عنه.
وهذا الخطأ في أول الديوان وفي أواخره. من ذلك أنه جعل الشعر الذي أوله:
من يكن رام حاجة بعدت عن ... هـ وأعيت عليه كل العياء
والذي أوله:
جمع الله للخليفة ما كا ... ن حواه لسائر الخلفاء
من قافية الألف، وهي ليست كذلك، وإنما القافية المهمزة والقصائد تنسب إلى الحرف الذي بنيت عليه، وهو الروى، فيقال قصيدة دالية أو رائية أو ميمية وهكذا إذا كان الحرف الذي بنيت عليه دالا أو راء ميما، أما الألف هنا فهي ردف والردف هو حرف مد قبل الرويِّ.
ومن هذا أن في الديوان خلطاً عجيباً فيما سماه قافية الهاء فقد جعل منها كل شعر آخره هاء، وإن لم تكن الهاء روياً، ففي:
ما أعجب الحب في مذاهبه ... ما ينقضي القول في عجائبه
القافية الباء لا الهاء، وقوله:
وعائب عابني بشيب ... لم يفد لما ألمَّ وقته
قافيتها التاء لا الهاء وفي:
ظالم ما علمته ... معتد لا عدمته(847/41)
كتلك، وفي:
يا من يومي وغده ... ويمن ما بعد غده
القافية الدال على الهاء. والقصيدة التي أولها:
يا ذا الذي لا أهجره ... وعلى القلى لا أغدره
قافيتها الراء لا الهاء، والتي أولها:
أبكي الفتى بعد الخليط مربعه ... وكاد وجد القلب منه يصرعه
قافيتها العين، ومثلها:
قولا لأنف وقزعه ... أخطا كما وزن سبعه
والقصيدة التي كتبها إلى الحسين بن المرزبان النحاس:
فديتك إن انبساطي إلي ... ك علمي بأخلاقك الطاهرة
والتي أولها:
ألا من غدير النفس ممن يلومها ... على حبها جهلا ألا مَن غديرها
كلتاهما هائية القافية. ومن قافية الفاء قوله:
من العين طرفه ... ومن الظبي ظرفه
وقوله:
قل لعيسى أنف أنفه ... أنفه ضعف لأنفه
وقوله:
إن الخلافة أصبحت سراؤها ... مجلوبة وشورها مصروفة
ومن قافية اللام:
أخنى عليَّ الدهر كلكله ... وعدا (علي) عيشي فبدله
ومن قافية النون:
نزلت بالخائنين سنة ... سنة للناس محتمة
وقوله:
ما للغواني من رأين برأسه ... يققاً مللن وصاله وشثينه
ومن قافية الميم:(847/42)
سقيا لنضر الوجه بسَّامه ... مذهب الوالد قمقامه
ومن قافية الياء:
وللنفوس وإن كانت على وجل ... من المنية آمال تقويها
وقوله:
ما باله وابنه لم ... يزوجا عربيه
وقوله:
الآن قام على بغداد ناعيها ... فليبكها لخراب الدهر باكيها
وقوله:
إنك مني بحيث يطرد النا ... ظر من تحت ماء دمعتيه
والهاء في كل أولئك القصائد التي ذكرنا مطالعها إنما هي وصل سمعي بذلك لوصله بالروى، والوصل كما عرفه علماء القافية حرف لين ناشئ من إشباع حركة الروى أو هاء تليه.
وأعتقد أن مثل هذا الأمر لا يخفى على فطنة الأستاذ الصديق الأديب، وأعتقد أيضاً أن العجلة وحدها هي التي فوتت عليه الإشارة إلى الأخطاء التي وقع فيها جامع الديوان في الشروح والتعاليق التي ذبل بها على شعر ابن الزيات.
وبعد، فهذه هنات هينات، لا تغض بحال من قيمة العمل الأدبي الجليل الذي اضطلع به الأستاذ الأديب.
بدوي أحمد طبانة(847/43)
البَريدُ الأدَبيَ
برلمان الأمم العربية:
يرى الأستاذ السيد علي الشوربجي في العدد الأخير من الرسالة أن فكرة برلمان الأمم العربية خيالية ومستحيلة. أما أنا فلم أخترع الفكرة بل اقتبست نظرية موجودة الآن بالفعل. وما من عملية إلا كانت في الأصل نظرية.
ففكرة الحكم الجمهوري نشأت من قديم الزمان في ذهن الإنسان وتصورها أفلاطون وجربها اليونانيون ففشلت وما زالت تجرب حتى تحققت، وصار الآن معظم أمم العالم جمهوريات، ولا ينقضي قرن حتى يعم الحكم الجمهوري العالم كله بلا استثناء، وأخيراً يصبح كله جمهورية واحدة لأمم متحدة.
الولايات (المتحدة) الأمريكية لم تكن متحدة تحت الحكم البريطاني ولكن لما تحررت من هذا الحكم اتحدت في 13 ولاية والآن صارت 51 ولاية. وقس عليها سويسرا وكندا.
وما قول الأستاذ في برلمان إحدى عشر دولة أوربية انعقد في الشهر الماضي؟ - فهل يرى الآن أن ما استحال في نظره صار ممكناً - وهل يتعذر عليه تصوره كما يتعذر عليه تصور برلمان دولي عربي؟
أنا لم أقترح أتحاداً تاماً كاتحاد الولايات الأمريكية، وإنما اقترحت اتحاداً عسكرياً حربياً فقط لا نجاة بدونه للدول العربية من غارات إسرائيل التي يهددنا بها إسرائيل من اليوم. وكل آت قريب. وإذا كنت قد اقترحت أن يتولى هذا البرلمان سياسة الدولة العربية الخارجية فلأني أخاف من تدخل الدول الأجنبية الذي كان ولا يزال سبب هزيمتنا الفاضحة في حرب فلسطين
فإذا كانت سياستنا الخارجية يتعذر عليها الخضوع لهذا البرلمان في بادئ الأمر فلا بأس في أن تبقى كل دولة مستقلة فيها تحت شرط أن لا تسمح للدول الأجنبية أن تمد أحابيلها إلى هذا البرلمان وتفرتكه.
ثن إن الأستاذ لا يمكنه أن يتصور الدول العربية تنزل من سلطتها الدفاعية لبرلمان الجامعة. وأنا أقول له إن الدول العربية لا تقوم لها قائمة لدى الخطر الصهيوني المثبل إلا إذا تنازعت عن سلطتها الدفاعية لبرلمان يمثلها جميعاً، كما أن الولايات الأمريكية تنازلت(847/44)
عن سلطتها الدفاعية لوزارة الدفاع في واشنطون. لا تستطيع أن تتصور هذا التنازل لأنك مأخوذ بحكم الحاضر. ولكن حكم المستقبل يسهل لك هذا التصور. وإذا أمكنك أن تتصور الخطر الهائل الذي يهددنا به وزير إسرائيل بنغربون أمكنك أن تتصور ضرورة اتحاد الدول العربية في برلمان حربي دفاعي وإلا فاليهود ينفذون ما يقولون. ولا يردهم عن التنفيذ إلا قيام هذا البرلمان. وهم يقولون بصراحة إن ما يفعله العرب في عام نحن نفعله في يوم. فإذا لم نفعل نحن في يوم ما يفعله اليهود في عام تغدونا قبل أن نتعشاهم. فأرجو منك أن توسع دائرة تصورك حتى تشمل هذه الحقائق ولا تكن مثبطاً للعزائم.
ثم إن الأستاذ لا يمكنه أن يتخيل الدول العربية تستطيع أن تدفع من ميزانياتها ذلك المبلغ الضخم الذي لا يقل عن مائتي مليون جنيه (والمقتَرح هو مائة مليون أولا تزاد سنة بعد سنة حسب اللزوم). ولكن إذا لم تدفع الدول العربية هذا المبلغ فستدفعه رغم أنوفها وتدفع أضعافه يوم يستوي الأمر في دولة إسرائيل وتصبح سيدة العرب ومالكة رقابهم وبترولهم وووالخ
وإذا كانت مصر قد أنفقت في نصف سنة في حرب فلسطين أكثر من ستين أو سبعين مليون جنيه أفلا تستطيع الدول العربية كلها أن تجمع مائة مليون للدفاع عن استقلالها واتقاء عبوديتها لإسرائيل؟
تركيا تعد 14 مليوناً من النفوس وميزانية دفاعها تستغرق نصف ميزانيتها لأنها مجندة مليون جندي ولأنها رأت أنها إذا لم تفعل هكذا وقعت بين براثن روسيا وهي على مرمى حجر منها.
يا صاحبي لما وقعت الحرب الكبرى الأخيرة عبأت إنجلترا كل رجل وأمرأة للعمل للحرب ورصدت كل إيراد الشعب الإنجليزي للنفقة. ولولا هذا لوقعت تحت سنابك خيل الألمان. فهذا المبلغ المائة مليون أو المائتان الذي اقترحته ليس ضخماً يا عزيزي بل هي قطرة من بحر النفقات الحربية. فكانت إنجلترا تنفق في الحرب كل يوم 14 مليوناً من الجنيهات وأمريكا تنفق أكثر من ستين مليوناً منها.
إنها لمبالغ ضخمة حقاً كانت تذهب إلى دولة الشيطان. فلا تعجب يا عزيزي. ولعلك لم تر بعد عِبر هذا الدهر فلا تستطيع أن تتصور الآتي منها. وماذا تفعل والجنس البشري قد(847/45)
بطر بل جُنْ، فهو من باذخ مدنيته يقذف بنفسه إلى وادي الهلاك - المدنية تنتحر -
إن ما تراه يا سيدي مستحيلاً يجب أن يكون واقعاً. وإذا بقينا نتخيل الواجبات إلى أمامنا مستحيلات واليهود يتصورونها ممكنات فلا ريب أننا فاقدون استقلالنا وديننا وأخيراً حياتنا.
وأَخيراً أقول لك إذا لم تعمل الأمم العربية كلها لهذه الغاية وتنشئ هذا البرلمان وتسلمه كل السلطة الحربية وتزيل من أمامه كل الصعوبات الداخلية والأجنبية فلا حياة لها. فلتؤبن نفسها منذ اليوم وتبكي حظها.
لو ذكرت لي من أسباب استحالة هذا المشروع الخيانات العربية التي شهدناها في هذه الأيام وما نكبت به الجامعة العربية من خيانات وأشباه خيانات لصدقتك وقلت هذا المشروع مستحيل. نعم بهذه الخيانات يستحيل هذا المشروع. ولكن هل فقد الوجدان العربي قوة التقدير لإمكانيات المستقبل؟ هذا ما يحيرني. . . والسلام عليك.
2ش البورصة الجديدة القاهرة
نقولا الحداد
ابنة الله وعين الله:
في البريد الأدبي للعدد 843 من (الرسالة) كلمة من الأستاذ دسوقي ابراهيم حنفي يسألني فيها جلاء ما غمض عليه في العبارتين الواردتين في مقال لي في مناجاة الشمس وهما. (يا ابنة الله) و (يا عين الله).
إن للنجوى لغتها التي تختلف عن لغة الناس، وشررها الذي يتطاير من الوجد، وضبابها الذي هو سر قوتها وجمالها، وليس من السهل أن نهبط بها من سمائها إلى حيث نخضعها للمقاييس والموازين التي نعرفها ونضعها على مائدة التشريح نقطع ونحلل ما شاء التقطيع والتحليل، فنفقدها الكثير من قوتها ومعناها. إن لها رعشة لها صورها التي قد لا تجد لها إطاراً توحي بها أطياف وأطياف لا نعرف من أمرها إلا أنها مرت بنا وأملت ما شاء لها خيالها أن تملي. . .
كنت مأخوذاً بالشمس وسلطانها يوم ناجيتها، وأصبت بدوار الإعجاب، وتهافتت عليَّ(847/46)
الصور أشكالاً وألواناً، وبينها الصورتان اللتان حملهما إليَّ السائل مستوضحاً. . . فماذا أقول له؟ وكيف أوضح هذا الذي يراه غامضاً؟. . . كل ما لديَّ الآن للايضاح أن الكائنات - والشمس منها - تنبثق عن الخلق فهي مواليده. ولقد تخيل الله الخليقة قبل خلقها فكانت الشمس واحدة من بنات خياله. أما أن الشمس (عين الله)، فإن لله عيوناً والشموس منها ترعى الوجود. وهل الرعاية إلا الرفق والرحمة يتجليان في النور والشعاع. إن الله هو النور لا يرى غير النور، فكيف لا تكون الشمس عين الله؟!
راجي الراعي
اللغة في الإذاعة:
إن المذياع مفصاح فضاح يرسل على الأثير الصوت مبيناً نغماته ونبراته فكان لابد من الاتئاد قبل أن يئود اللسان الثقل، وتراوده الخطأة، فينزلق إلى المجهلة! ونحن لا نتجنى على أحد حينما نشير إلى عدم العناية بضبط الألفاظ، في إفرادها، وإغفال قواعد الإعراب، وبخاصة إذا تنكب الجادة فيها (الخاصة)! وما دامت مصر اللسان الناطق بالعربية الخالصة وجب أن تضرب المثل الأعلى في المحافظة على حفاظها!
وإنا ليعجبنا صنيع مذيعي الإذاعات العربية في الأقطار الشقيقة لشدة تمسكهم باللفظ الموغل في عربيته، من دون ارتضاخه بعجمة مدخولة؛ فقد سمعنا مذيعاً يقول: لقد تقدم الجيش في منطقة كذا بكسر الميم، بينما يصر المصري على فتح الميم وكسر الطاء بقدرة قادرة!. . .
ولا يغيب عنا قول أحدهم: نذيع (آذان) الظهر وخطبة الخطبة؛ فيبدل الأسماع مكان الإسماع! ويحيل الإعلام إلى المسامع!
أما لغة المحاظرات؛ فبينها وبين الإبانة السليمة عداء مستحكم، ما عدا الطبقة الممتازة من أدباء وعلماء العربية؛ فما مرد هذه الظاهرة الأليمة؟ لا نعتقد أن المحاضرين على غير علم بالضوابط اللفظية والإعرابية، فالمفروض فيهم الثقافة التي تخول لهم على أقل تقدير إجادة ما يقرأون، لكنا نرد هذا التقصير إلى عدم العناية، أو إغفال الذهن حين القراءة، أو إغفال أن هناك مستمعين إلى خطايا الأخطاء!
ومن المؤسى تفصح المذيع أو المحاضر إذا أراد التعبير بلغة ذات عجمة، فإنه يرق(847/47)
الحروف، ويدقفها، ويخشى أن تفلت من لسانه فلتة تكون سبة، اعتقاداً منه أن التزامه مخارج الحروف يشير إلى سعة ثقافته!
إن اللغة الإذاعية يجب أن تنأى عن المؤاخذة، فالأداء الصحيح سبيل الإيضاح، وليس هناك ما يضير المذيع أو المحاضر في معاودة قراءة محاضرته أو إذاعته، وكل من في الإذاعة مثقف ثقافة عالية ترتفع به عن الغثاثة والركة والأغلوطة!. . .
وبعد؛ فليس لنا مطمع في الإذاعة حتى نذيع عنها التقصير، وإنما تعمل على التنويه في مقام التنبيه حتى تصل إلى مرتبة الكمال.
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
إلى الدكتور م شهاب (باريس):
قرأت كتابك يا صديقي رغم مشاغلي المتعددة، ولكني أرجأت الكتابة عنه ريثما أعود من سفري ليتيسر لي الاستيثاق من بعض المراجع التي يتعذر عليها الحصول هنا.
ولي بعض ملاحظات أرجو أن أرسلها في خطاب خاص بعد أن توضح لي عنوانك بالكامل.
ولا يفوتني أن أشكر لكم هذه الأريحية الكريمة التي أبديتموها نحوي، وقد سرني أن يكون لمقالاتي في الرسالة خلال شهر مايو ويونيه من هذا العام عن (قضايا الشباب بين العلم والفلسفة)، ذلك الأثر الحميد في نفوس إخواننا الشرقيين. وما ذكرتَ من تغير عقيدة بعضهم وتبدل نظرتهم لتلك الفلسفة المنحرفة المتطرفة. . . مما أثار صديقك الفرنسي وزملاءه لدرجة القيام بترجمتها و (العمل على نشرها في فرنسا كمثال لما يمكن أن تستقبل به الفلسفات (الحديثة) في الشرق العربي عموماً والإسلام في الخصوص. . .) الخ
ولسنا نمانع في ذلك يا صديقي - بل إنا نرحب به - ما دمت تعرض علينا تلك الترجمات قبل نشرها أولا بأول.
أما سبب ذلك التركيز الذي رأيتم في مقالاتي تلك فهو ضيق المقام ثم الظروف التي كتبت فيها ذلك البحث؛ فقد لبيت به دعوة من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول وجهتها إلى(847/48)
جماعات الأبحاث النفسية بها (لألقاء محاضرة عن الشك كإحدى المراحل النفسية) وعقب إلقاء المحاضرة في يوم 4 مايو الماضي - قام بعض أساتذة كلية الآداب من المتعصبين لسلرتر وأثار جدالاً رأينا معه نشر البحث - من غير ما زيادة أو نقصان - لتعم فائدته من جهة وليكون المجال أرحب للأخذ والرد فيه من جهة أخرى، ولم نر أحق بهذا وأجدر من حبيبتنا (الرسالة) منبر الشرق العالمي فآثرناها بتلك المقالات التي انتظمت محاضرتنا المذكورة.
وأظنك معي الآن في أن المجال لم يكن مجال شرح وتفصيل بقدر ما كان مجال إيجاز واستيعاب، فإن هذا الموضوع من السعة والخطورة بحيث تضيق به المجلدات فضلاً عن محاضرة أو بضع مقالات. إلا أني قد راعيت ذلك وتلافيته في كتابي (الاتجاهات الدينية في الفلسفة الحديثة) الذي هيء الجزء الأول منه للطبع في أقرب وقت مستطاع.
هذا وأرجو أن يعينني الله سبحانه على تحقيق رغبتكم وسائر الأصدقاء بمواصلة الكتابة في (الرسالة) عن هذا الموضوع عقب عودتي إلى مصر إن شاء الله وبقيت في العمر بقية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فلنسيه - إسبانيا
إبراهيم البطراوي
دراسة الأدب المعاصر:
هل هناك برنامج محدد الأهداف موفق الخطوات لدراسة الأدب المعاصر؟ سؤال خطير يستأهل النظر والأهتمام. وخطورته تنجم عن المشاكل التي ستثار في الكليات التي تعنى بدراسة الأدب العربي. فإن تلك الكليات لم تعن بدراسته في وقت من الأوقات، وقد مضى زمن كان حرياً بأن نرى الأدب المعاصر قد أخذ حيزه في مناهج تلك الكليات - ويرى كثير من الأساتذة أن هذه الدراسة لابد منها لأسباب: فأدباؤنا المعاصرون حريون بأن تدرس آثارهم الخالدة؛ ذلك لأن عصرنا هذا يعتبر من أزهى عصور الأدب العربي، وهم - بحق - دعامة النهضة الأدبية الحديثة. وأتقدم في هذا المقام باقتراح وهو أن تنشأ شعبة(847/49)
خاصة لدراسة الأدب المعاصر في كل كلية من الكليات الثلاث التي تعنى بدراسة الأدب العربي - اللغة العربية - دار العلوم - الآداب - وأرى فوق ذلك أن تكون الدراسة موحدة في تلك الشعب. وجدير بعمداء تلك الكليات أن يدعوا الأساتذة الأعلام إلى إلقاء المحاضرات ليكون الطلبة على اتصال بالحركة الفكرية المعاصرة.
(دميرة)
علي منصور عبد الرزاق(847/50)
القصص
يوم وليلة
تأليف الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل
بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
ليس الطريف في هذا الكتاب عنوانه المشوق، وإنما الطريف فيه حقاً أسلوبه القصصي التاريخي الممتع الذي وصف به مؤلفه الفاضل الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل خلافة ابن المعتز التي ضرب بها المثل في القصر.
وأحسب أن لو كان مؤلف هذه القصة التاريخية كاتباً معروفاً أو أديباً مشهوراً لأسرع النقاد يمدحونه ويتملقونه لتقرن أسماؤهم باسمه، أو يلتمسون عثراته ويخالفونه ليشتهروا بذمه؛ ولكن كتاباً ككتاب (يوم وليلة) وقد وضعه أديب غير مشهور، لا يحظى من تحليل النقاد بحظ وفير!
على أن دار العلم للملايين في بيروت كانت أكثر تقديراً للكاتب الفاضل، إذ تكلفت بكتابه فطبعته آنق طباعة وألطفها، على أصقل ورق وأنعمه، كما نشرت له منذ عام بحثاً طريفاً جامعاً حول (النكتة المصرية) كان له صدى في الأوساط الأدبية اللبنانية. وأريد اليوم لأكون أحد المعترفين بفضل هذا الأستاذ فأظهر الناس على أدبه الرفيع، وأطلعهم على علمه الغزير، وإن كنت لم أجلس إليه في ناد، ولم أقابله في زيارة: فإن قلم الكاتب لسان عقله وتفكيره، ووحي قلبه وشعوره.
لا ريب عندي في أن هذا الكتاب الذي يمكنك أن تقرأه في جلسة واحدة وأنت مستمتع بجمال عرضه، وجزالة أسلوبه، ورصانة تعبيره، قد كلف الأستاذ عبد العزيز عناء طويلاً وجهداً ثقيلاً، فلقد حاولت من قبله أن أعلم شيئاً يغني عن خلافة ابن المعتز، ففتشت بطون الكتب كما فتش؛ واستقصيت في الطلب كما استقصى فلم أجد - كما قال الأستاذ في مقدمته - (كتاباً واحداً ولا كتابين ولا ثلاثة ولا عشرة تسعدني بما تمنيت) وأدركني الملالة فانصرفت عن هذا الموضوع إلى سواه. أما الأستاذ فلم يعرف الضجر، وإنما زاد في الاستطلاع وما انفك يزيد حتى أربى على الستين كتاباً، ثم تتبع الأخبار المبثوثة في طوايا(847/51)
هذه الكتب فإذا هي متفرقة متمزقة كأنها الأشلاء المبعثرة بأطراف الصحراء!
وأني لواثق أنه ما كان لقصة ابن المعتز أن تستحكم حلقاتها لولا أن الأستاذ قد غامر فتنقل فعلاً (بين طوائف شتى من كتب التاريخ والطبقات والأدب والفقه والمُلَح والدواوين) فاستطاع بهذا التنقل الفكري المرهق أن يريح قارئ قصته، إذ أوضح له خفيات الأمور، وتطوع بنفض الغبار عن كثير من الحقائق، حتى ليظن أولئك الذين تعودوا أن يقرءوا غير محتكمين إلى العقل والمنطق أن ليس في الكتاب عناء البحث ولا وعورة المسلك، لاتخاذ الكاتب طريق القصص الذي يبدو سهلاً لمن يراه، ولا يعرف صعوبته إلا من عاناه.
ومن المعروف لدى المشتغلين بأدب القصة ونقدها أن الأسلوب القصصي حين يعتمد على الخيال الخالق وحده في تأليف الحوادث وربطها، أو حين يعتمد على التاريخ الصادق وحده في رواية الأخبار وجمعها، لا يعترضه من العقبات ما يعترض القصاصي الذي لا غنى له عن الجميع في آن واحد بين ما ارتضاه من خيال وما صدقه من تاريخ. وأكثر ما يكون ذلك في القصص التاريخية التي تدور حول فتنة حمراء لعب المؤرخين فيها دور الجبناء، خوفاً من سطوة القادر ونفوذ الحاكم وعنت الجبار.
وخلافة ابن المعتز التي تقرأ وصفها في كتاب (يوم وليلة) كانت فتنة اندلعت ألسنتها بسرعة وسكت غضبها بسرعة، لكنها - رغم استحالة جمرها إلى رماد - أخافت كثيرين من التصدي لأخطارها لئلا يحترقوا بنارها، ولتجدن أكثر الذين عاشوا في هذه الفتنة وبلوا أخبارها قد أفضوا بذات أنفسهم إلى معاصريهم لكنهم أبوا أن بدونهم لمن بعدهم شيئاً مذكوراً يكشفون به مسدل الأستار، ويذيعون به خفي الأسرار؛ ولولا كلمات مبثوثة هما وهماك على ألسنة الوزراء والندماء والقواد والقضاة والتجار والسوقة لاندثرت معالم هذه القصة ولما استطاع الخيال أن يرتكز في وصف حوادثها إلا على أسطر قليلة لا تغني من الحق شيئاً.
وهنا تظهر مقدرة الكاتب بوضوح، فلقد عرض القصة عرضاً فنياً، وسبح في جوها سبحاً طويلاً. وقد خاف أن يأخذ عليه النقاد ابتعاده بالقصة عن وجهها الحقيقي فقيد نفسه بقيود كثيرة، وألزم قلمه ألا بنطق إلا فيما تدعو إليه حلقات القصة لتكون قوية التماسك وثيقة الإحكام. . . وأشهد أن الأستاذ كان موفقاً في ما حبس به نفسه وفي ما أطلقها فيه؛ بل إن(847/52)
في ما زاده من حوار بين الأشخاص أو تمهيدات بين يدي الأحداث لبراعةً نادرة تجعل القارئ يظن نفسه أمام قصة محبوكة الأطراف قد وثَّق الزمن ذاته عراها ولم يترك للخيال في نسجها يداً.
وإن كاتباً هذه مقدرته في خلق الحوادث خلقاً يوشك أن يكون طبيعياً حرى أن يخرج لنا كتباً كثيرة عن بعض أدبائنا الأقدمين وعلمائنا السالفين الذين لم يسعدنا طول البحث بالتعرف إلى آرائهم وتحليل نفسياتهم. وإن هذه لخدمة جلى يستطيع الكاتب وأمثاله ممن أوتوا موهبته أن يسدوها إلى عشاق العربية من أبناء هذا الجيل.
وما برحت موقناً بأن جمال العرض وقوة الأسلوب هما عامتا العمل الغني في حياتنا الأدبية؛ فبمقدار ما نُعنَى بهما تعلو قيمة إبحاثنا، وتستحق من الخلود.
وحين أذكر قوة الأسلوب ههنا لا يسعني إلى أن أهنئ الكاتب من صميم قلبي على تعبيره الرصين، وألفاظه الجزلة، وجمله المحكمة، وطول نفسه للاحتفاظ بوحدة الفكر. وتلك مزايا أدبية لا نكاد نجدها مجتمعة حتى في أساليب بعض المشهورين من كتابنا في مصر والشرق العربي؛ ومن خيل إليه أن في حكمي هذا شيئاً من المبالغة فليقرأ الكتاب بنفسه وليطالعني برأيه.
ولقد تأخذ على المؤلف بعض مآخذ فنية، فترى أنه أطال حواراً كان في مكنته اختصاره، أو أنه أوجز في فصل كان يستحسن فيه الأطناب، أو أنه أهتم بعض الشيء بأشخاص ليسوا من أملاذ الفتنة، أو بأحداث ليست في صميم القصة؛ لكن هذه المآخذ - لفتها وضآلتها - لا تغض من قيمة هذا الأثر الفني الرائع الذي ما أشك في أن صاحبه انفق عليه من الليالي الساهرة مثلماً كان ينفق الرسام الذي يبغي الخلود، أمام لوحة يريد أن يبهر بها الوجود.
وأنك لتستطيع أن تقرأ نظرة الكاتب إلى الحياة من خلال الأحاديث التي أنطلق بها أشخاص قصته، فلقد أشفق على أبن المعتز في ضعفه، ولقد شمت به في غروره، ثم عاد يترجم عليه بعد مماته. وحِكَم الكاتب التي زين بها كتابه بدت طبيعة في أحاديث الأشخاص إلا في مواضع قليلة ظهرت فيها مقمحة كأن صاحبها يتكلف الموعظة، ويصطنع أداء الحكمة.(847/53)
ولكن. . . مهما يكن من شيء فهذا الكتاب الصغير الحجم عظيم الفائدة، حتى لا أظن متأدباً ولا أدبياً يستغني عن اقتنائه إذا كان يريد أن يعلم معظم ما يمكن أن يُعلَم عن خلافة ابن المعتز.
ولا بد لي - قبل أن أختم مقالي - من الإشارة إلى هفوة نحوية لم أقع على سواها في سائر الكتاب رغم إمعاني في قراءته: فقد قال الأستاذ في ص79 (وهرب بعضهم إلى دار ابن المعتز لعلو أمره، الأمونس الحاجب وخاصة رجاله وغريب خال المقتدر) وواضح أن هذا سهو أو سبق قلم، وإن الصواب أن يقال: ألا مؤنساً. . . وخاصةَ. . وغريباً. . لأن المستثنى بالا يجب نصبه إذا كان ما قبلها تاماً مثبتاً.
واغتنم هذه الفرصة لافتتح - صفحات الرسالة الزهراء - صداقة أدبية خالصة مع الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل مؤلف هذه القصة التاريخية، مهنئاً وزارة المعارف المصرية بمبعوثها الفاضل، راجياً من حضرته أن يسرع بإتحاف المكتبة العربية بكتابه الجديد (ابن المعتز أدبه وعلمه) الذي وعد بإصداره قريباً وفي انتظار كتابه الموعود لي كبير الأمل في إقبال قراء الرسالة على (يوم وليلة) ليعرفوا الأشخاص بالأدب، لا الأدب بالأشخاص.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح(847/54)
فن الخطابة
تأليف الأستاذ أحمد الحوفي
بقلم الأستاذ إبراهيم الجعفراوي
الأستاذ الحوفي ليس بمجهول لدى قراء الرسالة الغراء؛ فقد قدمه إليهم الأستاذ محمود الخفيف منذ بضع عشرة سنة - وكان يومئذ طالباً بدار العلوم - منوها بباكورة أبحاثه وحي التسبيب في شعر شوقي - ثم تخرج الأستاذ، وتوالت الأيام، وأخذت الرسالة تنشر له بعض الفصول عن شوقي.
وفن الخطابة الذي تقدمه اليوم، هو باكورة أيضاً لعمل الأستاذ الجديد في دار العلوم، والكتاب ثمرة جهد عظيم بذله الأستاذ رغم عمله المرهق، واشتغاله ببحث بعده للحصول على درجة جامعية.
وليس أدل على قيمة الكتاب مما سطره القلم البليغ - قلم الدكتور إبراهيم سلامة - في تقديم الكتاب: ويمكن أن أقول إن الكتاب أول في نوعه من بين المؤلفات الحديثة التي تعرضت للخطابة. . إلى أن يقول بعد أن تعرض لقارئ الاستفادة، وقارئ الاستزادة: وما ينتظره كل منهما من المؤلف.
على أن قارئ الاستفادة، وقارئ الاستزادة أمام كل مؤلف يحسب لقرانه وجودهم، كلاهما يريد أن يخرج بجديد، فالمستفيد من الفراء يعلم ما لا يعلم، ويضيف جديداً إلى ما يعلم، ويمحو خطأ مما علم؛ ليحل الصواب محله بعد القراءة. والمستزيد يعرف في سهولة ما سبق أن عرفه في جهد؛ لأن المؤلف عرض له ما يعرف عرضاً فنياً فيه - زيادة - على المعرفة - الإيحاء، باستزادة، والانتفاع باللذة العلمية، فلذة المستفيد المعروفة المحضة، ولذة المستزيد في أن يلمح إلى جانب المعرفة الحياة، وحركات الأفكار؛ لأن المؤلف فناً في العرض وفناً في الأسلوب، وفناً من دقة البحث، وفنوناً من الإثارة والإغراء تدفعه إلى أن يقرأ ما يعلم، ويستلذ ما سبق له أن عرفه.
هذا سر المؤلفين الناجحين، وهنا سر النجاح في التأليف لمن يكتبون في موضوع سبق البحث فيه. والأستاذ أحمد الحوفي قد كشف عن كثير من عناصر هذا السر.
وقارئ الكتاب يدهش لهذه المادة الغزيرة، والإحاطة بكل أطراف الموضوع، فهو مقدم(847/55)
بكلمة عن تعريف الخطابة، يليها فضل عن الخطيب، تحدث فيه عن الاستعداد الطبيعي. والوقفة والإشارة، واللسن، والعلاقة بين الخطيب والشاعر والممثل، وأتبع ذلك بفصل ضاف عن نشأة الخطابة ورقيها، وآخر عن نفسية الجماعة وملك الخطيب نحوها، ثم تعرض لأنواع الخطب، وناقش التقاسيم المختلفة، وأسهب في الكلام عن الخطب السياسية والفضائية والحربية والحفلية، والدينية. يلي ذلك فصل عن الأسلوب الخطابي وخصائصه، استهله بالكلام على مذهبي الأسلوب والمعنى. والمقارنة بين أسلوب الخطبة، وأسلوب المقالة، ثم أعقب ذلك بفصل عن الارتجال والإعداد، ومزايا كل وعيوبه ومواضعه.
وختم المؤلف كتابه بفصل عن الخطابة في تصور الأمم: عند اليونان والرومان والعرب والمحدثين.
هذا عرض سريع لفصول الكتاب القيمة أردت منه أن يتعرف القارئ الكريم على مادة الكتاب، وكيف يسير المؤلف في بحثه متعمقاً مستقصياً مما يدل على أنه قد رجع إلى كثير من المراجع.
ولعلي أرجع قريباً إلى هذا الكتاب، فأتحدث عن بعض فصوله بالتفصيل والنقد.
إبراهيم الجعفراوي
دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بمدرسة الجيزة الابتدائية للبنات(847/56)
العدد 848 - بتاريخ: 03 - 10 - 1949(/)
من المسؤول عن اللاجئين؟
للأستاذ نقولا الحداد
قضى مليون لاجئ عربي مشرَّدين عن منازلهم وأملاكهم إلى الآن نحو عام وهم يعانون زمهرير الشتاء وقيظ الصيف فضلا عن الأمراض والأوبئة ثم الموت بالجملة، فهل يقضون أيضاً عاماً آخر؟!
واللجان الموفدة من قِبل مجلس الأمن وهيئة الأمم العربية تدرس وتباحث وتناقش. . . وإلى الآن لم تصل إلى نتيجة حاسمة ولا نظنها تصل!!
واليهود يسرهم كل هذا. . . وهم في بيوت العرب آمنون مستريحون يستغلون أملاك العرب. . . وتستمر الحال على هذا المنوال إلى أن يملّ العرب، وثم لا يبقى أما اللاجئين إلا أمر واحد. . . هو الانتحار!!
فمن المسؤول عن هذه الكارثة؟!
المسؤول الأول هو إنكلترا، لأنها هي سبب هذه الكارثة أولا وأخرا. . . فهي الملزمة أن تفتح السبيل لعودة العرب الفلسطينيين إلى بيوتهم وأملاكهم وأرزاقهم، وأن تجعل هذا السبيل مأموناً من غدر هؤلاء اليهود الجوييم وهمجيتهم، وحمايتهم مدة إقامتهم في ديارهم. . . وهذا يستلزم أولا أن تجرد اليهود من أسلحتهم تجريداً مطلقاً ولا تعترض على تسلح العرب.
ثم على إنكلترا أن تعوِّض العرب من خسائرهم الجسيمة التي خسروها في مدة التشريد. . .
ومن يقرأ هذين القولين يقل لك إنّك تطلب المستحيل، لأن إنكلترا التي دللت اليهود منذ إعلان وعد بلفور، وسكتت على تعديات اليهود المتعددة على إنكلترا - كما هو معلوم - لا يمكن أن تتحمل هذه المسؤولية، وإن كانت حقاً صارخاً، لأنها، أي إنكلترا، خاضعة لعون اليهود في بلادها، وهناك خمسة في المائة من أعضاء البرلمان يهود، وخمسة وزراء يهود، وهؤلاء راكبون على خناف إنكلترا وكاتمو أنفاسها، لا نعلم بأي سحر تخضع لهم وهم يقهرونها!
هذا هو الواقع!(848/1)
يبقى أننا إلى الآن لم نفهم كيف أن الدولة التي لا تغيب الشمس عن أملاكها (أو كانت هكذا) تخنع هذا الخنوع لزمرة من صعاليك الأمم!
وعلى أي حال يجب على بريطانيا العظمى أن تمسح هذا العار عن جبينها بأن تدبر أمر اللاجئين تدبيراً يوافق عليه العرب جميعاً، وإلا فتاريخ إنكلترا أسود بالقلم العريض حاضراً ومستقبلا. . .!
ولكن. . . هل يا ترى يكترث الإنكليز لسمعتهم وتاريخهم؟ هنا نقف ونسأل وننتظر. . . وإلى متى ننتظر؟!
يلي إنكلترا في المسؤولية أمريكا الانجلوسكسونية. فعليها أكثر من خمسين في المائة فيها، ولكن أمريكا لا تبجح بشرفها، ولا تحترم سمعتها، ولا تكترث لتاريخها، ما دامت تلعب بالدولار. ولعل اليهود هناك يعتقدون أنهم هم الذين سكُّوا الدولار المعدني وطبعوا الدولار الورقي. فهم يوسخون وعلى الشعب الأمريكي أن ينظف!
إنكلترا وأمريكا مسؤولتان في الدرجة الأولى، ويهود العالم كله مسؤولون في الدرجة الثانية، فهم مسؤولون لأن اليهود الصهيونية هم الذين نهبوا وأفظعوا وقتلوا وشرَّدوا العرب، ولأنهم كانوا يموِّنون هؤلاء المجرمين بملايين الدولارات. ولكن من يرغم هؤلاء اليهود على التعويض وعلى العرب وعلى قبولهم رغم أنوفهم في بلادهم؟
قالوا: إن مجلس الأمن المسؤول عن الأمن العالمي هو الذي يرغم اليهود على التعويض وعلى القبول - قبول العرب.
ولكن المصيبة الأخيرة جاءت عن يد مجلس الأمن، فإذا كانت إنكلترا - وهي المسلَّحة - تجثو أمام سحر اليهود، فمجلس الأمن - وهو بلا سلاح البتة - لا يستطيع أن يهز رمحاً في وجه الصهيونيين، فهو كالدجاجة، وهي بلا براثن ولا أنياب أمام السباع والذئاب. . . فإذاً، إنكلترا أولا، ثم أمريكا الانجلوسكسونية ثانياً - هؤلاء هم المسؤولون عن نكبة عرب فلسطين أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام العالم. . . ولكن إذا كانوا لا يخافون الله، ولا يحترمون التاريخ، والعالم كله مثلهم لا يخاف الله ولا يبالي بالتاريخ. . . فلمن نشكو أمرنا؟!
لا نشكو أمرنا إلا للعرب أنفسهم، فإن كانت عندهم بقية من مروءة العرب التي طالما(848/2)
تبجحنا بها فالنجدة يا قوم. . . وإلا فليقرأ كل عربي - من الوزير إلى الصغير - ما لقنه أحمد الشقيري بك مستشار الوفد السوري أمام لجنة التوفيق الدولية بعد عودته من لوزان لمندوب جريدة المصري في يوم 16 سبتمبر، لكي يعلم ما يبيته اليهود للعرب جميعاً من الشر. فلعلهم يتحمسون للدفاع عن أنفسهم قبل أن يحدث لهم ما حدث لعرب فلسطين، ويتشردوا في الصحارى والبحار فيموتون ظمأَ ثم غرقاً. . . وكل آت قريب. . .
نقولا الحداد
2 ش البورصة الجديدة بالقاهرة(848/3)
منادمة الماضي:
على طريق الحملات المصرية في لبنان
أيام دولة سلاطين المماليك البحرية
للأستاذ أحمد رمزي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ثلاثة من سلاطين مصر العظام يبدو عملهم خالداً أمام الزمن في هذه البقعة من الأرض: الملك الظاهر بيبرس صاحب الفتوحات الكبرى، ثم المنصور قلاوون الذي حاصر مدينة طرابلس ستة وعشرين يوماً ثم فتحها بالسيف، وأخيراً الأشرف خليل بن قلاوون صاحب الفتح الأشرفي من الممالك الساحلية والجبلية وهو الذي بقي لمدة قُرون والناس يُؤرِّخون في لبنان الحوادث على ذكره وتأتي هذه الحملات في عهد الناصر محمد تكملة لتلك الفتوحات.
ولكن الباحث في تاريخها يسير دائماً في المراجع التي بين أيدينا وهو يتلمس الأسماء والمواقع وسط الصعاب التي يُقيمها المعاصرون والمؤرخون والنساخ. فهناك طائفة من أسماء البلاد والمقاطعات تغيرت مواضعها مع الزَّمن أو تعدًّلت حدودها، ومع اعتمادي على الخرائط التفصيلية التي وضعتها القيادة الفرنسية مدة عهد الانتداب، ومع أنني زُرت أغلب المناطق لعدة مرَّات أراني أحياناً وسط بحر واسع الأطراف في المسائل التي تحتاج إلى تحقيق، أراني أخوض فأوفق في بعض الشيء ولا أوفق في البعض الآخر فأتركه ليتمكن غيري من تحقيقه.
ويحصل الخطأ في النقل من النسخ التي بين أيدينا، أو في عدم اعتناء المؤرخين عند كلامهم على الحوادث فيطلقون أسماء عامة مثل جبال الجرد والكسروان من غير تحديد.
فقد جاء ذكر بعض الحملات في الجزء الشمالي الجبلي الواقع بين الممالك الساحلية والممالك البعلبكية: والمعروف أن كسروان هو الإقليم الجبلي الذي تقع فيه مدينة (بسكنتا) وهي التي كانت تسمى قديماً بأسم (العاصية) لصعوبة مسالكها والمرور إليها من وادي الجماجم. ومع أنها قسمان في التقسيم القديم داخلة وخارجة. فالداخلة حدها من نهر الكلب(848/4)
إلى نهر إبراهيم، والخارجة حدها القديم من نهر الكلب إلى الحد الفاصل بينها وبين مقاطعة المتن: وتمتد الحدود من البحر إلى الجبال: ومع علمنا بهذا التحديد يطلق المؤرخون اسم كسروان تساهلاً منهم على بقاع تقع في الجزء الشمالي من هذه البقعة بالذات: ويتكرر هذا في معظم من كتب بعد حوادث الفتوحات التي تمت في عصر الملوك الثلاثة.
ولكن المدقق يجد أن الحوادث التي كانت مدينتا (أهدن) (وبشرى) مسرحاً لها تقع في مقاطعة كانت تسمى باسم (جبة بشرى) في هذا العهد ثم أصبحت (جبة الحدث) في عهد قايتباي: ومن هذه الناحية بالذات مقاطعة كانت تسمى الضنية وهي ترد في كتب المؤرخين باسم جبال الظنيين: ولقد اعتمدت في تحقيق هذا الاسم على مصدرين:
الأول: هو ما ورد في وثيقة الهدنة التي عقدها الملك المنصور قلاوون صاحب مصر مع جماعة الاسبتار وبيت طرابلس (681هـ 1280م).
الثاني: ما جاء في كتاب الشيخ طنوس بن يُوسف الشدياق
جاء في عقد الهدنة ذكر بلاد السلطان الملك المنصور: (ما هو مجاور لطرابلس ومحادد لها من المملكة البعلبكية جميعها وجبالها وقُراها الرحلية والجبلية وجبال الضنيين)
وجاء في المرجع الثاني: (لما قدمت الفرنج من إنطاكية سنة 1099، وفد إليهم أناس من المردة من جبل سير وصقع الضنية). فجبال الضنيين هي إقليم أو صقع الضنية الذي أشرنا إليه والواقع في الجزء الشمالي من إقليم جبة بشرى وهذا الإقليم ينحدر من أرز لبنان إلى سير ثم إلى طرابلس.
ومن هذا نعلم أن ذكر (أهدن) و (بشرى) في إحدى الحملات لا يجعل لكسروان شأناً وبينها وهذه البلاد مناطق: أو قطاعات كانت تسمى باسم بلاد واقعة على الساحل أو في الجبال كما يتضح ذلك من وثيقة الهدنة نفسها.
فقد جاء فيها عند الكلام على بلاد الفرنجة أي الأبرنس صاحب طرابلس ما يأتي:
طرابلس وما هو داخل بها ومحسوب عليها. أنفة وبلادها. جبيل وبلادها. صنم جبيل وبلادها (وأرجح أم جبيل). البترون وبلادها (وكلها على الساحل) وضع هذا النص عند قصد - ثم عرقاً وعدتها 51 ناحية.
وما هو للفارس روجار دي لالاولاي من قبلي طرابلس.(848/5)
أقول إننا إذن في حاجة ماسة إلى جمع نصوص الوثائق المملوكية من عقود الهدنة والصلح الموزعة في الكتب وتحقيق كلماتها حتى تراجع مراجعة صحيحة لكي نستفيد من محتوياتها: هذا علاوة على المراسيم الخاصة بولاية العهد أو الصادرة بتوليه الأمراء أو بالإقطاعات: ومن بعض هذه الوثائق يتضح مدى اتساع الإمبراطورية الإسلامية لمصر في أزهى عصورها بلا استثناء وقد جاء في نهاية عقد هدنة المنصور قلاوون (وما سيفتحه الله على يده ويد ولده وعساكرهما وجنودهما من الممالك والحصون).
وقد تمت الفتوحات جميعاً حتى ذكر ابن الفرات (ولم يتأخر بالبلاد الشامية غير فلاحيها وهم داخلون في الذمة).
وأرجح أن الجزء الجنوبي من لبنان حيث كان يسكن أمراء الغرب من آل بحتر التنوخيين لم يتعرض لهذه الحملات ما عدا الجرد الشمالي، إذ المعروف أنهم كانوا حلفاء وأعواناً لملوك مصر ابتداء من الدولة التركية المعز ايبك، إذ جاء في كتاب صالح بن يحيى ذكر منشور المعز إيبك للأمير سعد الدين خضر، وجاء فيه أن الأمير زين الدين بن علي وفد على السلطان قطز واشترك محارباً في معركة عين جالوت لما قهر المصريون التتار، وجاء فيه ذكر عدة مراسيم أرسلها الظاهر بيبرس إلى الأمراء وقال عنهم (الأمراء المثاغرون على صيدا وبيروت) وكذلك ما صدر من ابنه الملك السعيد بركة خان، ولم تكن صيدا وبيروت بيد المصريين في ذلك الوقت. ويبدو مؤرخو الحروب الصليبية في حيرة من موقف بعض الأمراء.
فالأب لويس شيخو يستخلص من حادثة معينة أن بعض الأمراء كان حليفاًللصليبيين فيقول أن أحد أعداء الأمراء المسمى تقي الدين نجا بن أبي الجيش سعى بهم زوراً إلى ملك مصر الظاهر بيبرس مدعياً أنهم حالفوا الإفرنج وخانوا الدولة.
وأعتقد أن هذه الحادثة بالذات تحتاج إلى عناية المشتغلين بالتاريخ المصري لأن المكتبات التي صدرت من جهتهم لبلاط القاهرة وإجابة الملك الظاهر بإفرار أقطاعهم وبلادهم تكشف لنا عن ناحية فذة من عظمة الظاهر وسياسته.
ولا أعتقد بوجود سياسة للأمراء مرسومة للعمل على ناحيتين في تلك الحقبة بالذات خصوصاً وقد بدأت طلائع الظفر والمجد والقوة تبرز بروزاً في ناحية الجانب المصري(848/6)
تحت عبقرية الظاهر ومن جاء بعده من الملوك العظام.
والظاهر أن العلاقات بين أمراء الغرب ومصر أقدم من ابتداء الدولة التركية بل كانت متأثرة دائماً بملك مصر بدليل أنه لما وقعت النفرة بين الملك محمود نور الدين زنكي ملك الشام والملك صلاح الدين يوسف الأيوبي ملك مصر كان هؤلاء الأمراء يوالون صلاح الدين وكانوا يعضدونه على محاربة الإفرنج وكان ملك مصر يجعلهم أمام عساكره.
وقد أبلى الأمراء كما رأينا في حروب قطز وبيبرس ثم في أيام قلاوون في معركة حمص حين اشترك من جنودهم تحت قيادة الأمير قرقماز ما مقداره أربعة آلاف مقاتل هذا خلاف ما قاموا به في صد هجمات التتار أيام الناصر محمد بن قلاوون ولعل هنالك فترة غامضة في تاريخ لبنان هي فترة الخمس سنوات التي أخلى فيها وادي التيم فلم تبق فيه غير حاصبياً مسكونة: ذلك حينما تقدم التتار في زحفهم أيام الملك الناصر فاضطر الأمراء إلى التراجع أمامهم: لهذا أرجح أن المشاكل التي جاءت بعد حملات الأشرف خليل تحت قيادة بيدار أي حملات الناصر محمد تحت قيادة جمال الدين أقوش الأفرم كانت نتيجة للتقلقل والفوضى التي سادت الجزء الجنوبي من لبنان في تلك الفترة من الزمن: أي بين 698 و 705 هجرية.
ويقول المطران الدبس في الجزء السادس من كتابه (أما من هم الذين سماهم صالح بن يحيى الجرديين وسماهم الدويهي الجبليين فلا شك أنهم غير الكسروانيين ونرى أنهم سكان العمل المسمى إلى الآن الجرد ومن قراه رشيما وشارون وبتاتر ويحمدون وإنهم كانوا دروزا)
ويؤكد خروجهم عن طاعة الأمراء التنوخيين وإنهم كانوا يسطون على بلادهم وإن نذير جمال الدين أقوش أمرهم أن يصلحوا شؤونهم مع الأمراء ومع قلة المصادر أو صمت المراجع فالدلائل المنطقية تجزم بأن هؤلاء هم الذين انتهزوا فرصة إخلاء أراضي التيم من أهلها فاعتدوا على بعض أملاك الأمراء وهم الذين انسحبوا بعد ذلك إلى مقاطعة كسروان ويظهر أن الجرديين كانوا دروزا والكسروانيين كانوا موازنة فتخلفا أمام زحف المصريين: وهرب الدروز بعد أن دارت عليهم الدائرة في معركة عين صوفر إلى غربي كسروان أي إلى نيبية وانطلياس التي كانت حينئذ من كسروان وكان نهر الجعماني الفاصل(848/7)
للمقاطعة من الجنوب.
ويعجبني صاحب البداية والنهاية حينما يتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية فهو يعرفنا بأن الشيخ خرج ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيداً منصوراً ومنه نعرف أن وسيط أو نذير الأمير جمال الدين أقوش المسمى زين الدين بن عدنان كان يشغل وظيفة نقيب الإشراف بدمشق وحدثت هذه الوساطة في مستهل ذي الحجة سنة 704.
إذن سبقت الحملات بعثة سياسية دينية، وفقت في إقناع البعض ولم توفق في إقناع البعض الآخر وهؤلاء الآخرين هم الذين أفتى العلماء بقتالهم. لأنه في ثاني المحرم سنة 705 خرج نائب السلطنة الأفرم جمال الدين أقوش وجنوده إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة (أي وادي التيم) السالف الذكر ويقول ابن كثير (فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقاً كثيراً) ثم أردف (وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير وأبان الشيخ علماً وشجاعة وقد امتلأت قلوب أعدائه حسداً له وغماً).
وفعلاً بدأ أعداؤه حملة الافتراء والأكاذيب والدسائس عليه شأنه شأن كل الرجال النافعين القادرين على العمل بإخلاص وشجاعة في هذا الشرق.
وأعود إلى ما سموه جبال الجرد: فهذه نهايتها آخر حد ولايات الغرب شمالا وفيها بلدة المديرج الواقعة على طريق الشام.
وفيها نهر الصفا وبها كانت واقعة عين صوفر المشهورة: ويحدثنا صاحب كتاب أخبار الأعيان عن حملة الجرديين (سنة 702 هجرية - 1293 ميلادية) إنها بدأت بمنشور أرسله الملك محمد الناصر بن قلاوون إلى جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق وإلى أسندمر نائب طرابلس وإلى سنقر المنصوري وإلى الأمراء التنوخية يأمرهم بحشد الجيوش لمحاربة كسروان وأهل الجبال جاء فيه (من نهب امرأة كانت له جارية أو صبياً كان له غلاماً ومن أتى منهم برأس مقتول كان له دينار لأن المذكورين كانوا نجدة الإفرنج).
ويقول المطران الدبس نقلاً عن الأسقف جبرائيل أبي القلاعي أن المعركة دارت عند جبيل وأن المقدمين الذين نزلوا من الجبال كانوا ثلاثين مقدماً منهم خالد مقدم مشمش. سنان وسليمان مقدما إبليج. سعادة وسركيس مقدما لحفد. عنتر مقدم العاقورة. بنيامين مقدم(848/8)
جردين. ويقول إنهم رتبوا ألفين مقاتلاً كمنوا على الفيدار وألفين على نهر المدفون.
ومن مراجعة وثيقة هدنة المنصور قلاوون يتبين لنا أن هذه البلاد واقعة خارج الجرد وكسروان بل هي داخل القطاع الواقع بين قطاع البترون وقطاع كسروان أو هي تكون ما أسميه قطاع جبيل الواقع بين موقع فيدار وبلدة البترون وتتوسطه مدينة جبيل، ويرتفع إلى بلدة العاقورة في الجبال وبلدة تنورين أمامها وكانت ضمن أملاك صاحب طرابلس وما زال حكم الصليبيين أصبح فتح هذه البلاد هيناً على المصريين ويقول صاحب تاريخ الأعيان بدون أن يذكر المصدر الذي استقى منه (حينئذ اندفقت سكان الجبال على جيوش الإسلام اندفاق الماء المنهمر) (واقتحم مقدم مشمش على قائد جيش الإسلام واحتز رأسه) (ووقعت الكرة على جيوش الإسلام وتمزقت منهم الكتايب والأعلام).
ويصف ملاحقة الجبليين أمراء الغرب إلى عقر ديارهم وكيف قتل الأمير محمد وأخوه الأمير أحمد من أبناء محمد بن كرامة التنوخي وكيف أن المنتصرين زحفوا حتى أحرقوا بلاد عين صوفر وشمليخ وعين زوينة وبحطوش من قرى أمراء الغرب التنوخيين في الجرد الشمالي.
تلك هي رواية المراجع المسيحية عن الحوادث التي تقدمت الحملة التي قادها الأمير جمال أقوش الأفرم سنة 705 وانتهت إلى بما جاء في هذه المراجع بالذات (ثم أحاطت العساكر بتلك الجبال المنيعة وترجلوا على خيولهم وصعدوا في تلك الجبال من كل الجهات فأخرجوا القرى وقطعوا الكروم وهدموا الكنائس وقتلوا وأسروا جميع من فيها من الدرزية والنصرانية وزلت قلوب أهلها.) (ثم أمر جمال الدين أقوش أن تستقر التركمان في ساحل كسروان) ونشأت بذلك أمارة آل عساف وسكن التركمان بلدة ذوق ميكابل وحفظوا الدروب والمسالك، ونظم الأمير جمال الدين الأفرم طريقة الاتصال بالنيران بين الساحل ودمشق: إذ كانت تقام شعلة نار في رأس بيروت ومنها إلى جبل بوارش ومنها إلى بيرس ومنها لجبل بالصالحية ثم إلى قلعة دمشق حتى تصل الأخبار في وقتها، وترتب الحمام الزاجل بمحطاته وخيل البريد إلى دمشق عن ثلاث طرق، وهكذا انقطع اتصال الإفرنج بأهل كسروان انقطاعاً تاماً ودخل أهل الجبال في طاعة ملوك مصر فلما قامت الفتنة بين الظاهر برقوش والأميرين الناصري ومنطاش انضم لعسكر الشام العربان والتركمان وأهل(848/9)
كسروان والجرد من أهل لبنان، ولما عاد برقوق لملكه بعث بجند مصر إلى الساحل فأخضعت البلاد بأكملها وجاء في أخبار الأعيان أن الظاهر برقوق تةجه بنفسه إلى بلدة بشرى فأقام يعقوب ابن أيوب مقدماً وكتب له صحيفة نحاسية ثم نزل إلى (دير قنوبين) حيث مدافن بطاركة الموازنة فأنعم على الدير العتيق بإعفائه من الأموال الأميرية بموجب صحيفة نحاسية.
وأعود فأقول بأن القطاع الشمالي من لبنان حيث يقع أرز لبنان كان خارجاً عن نطاق الهدنة (بين قلاوون وصاحب طرابلس) كما قلنا ولذلك جاء في كتاب البطريرك اسطفانوس الدويهي إنه وجد في أرض الحدث بقرب دير القديس يوحنا كتاباً للصلاة مدونا فيه ما يأتي عن فتح أهدن وبشرى:
إنه في سنة 1283 أي بعد هدنة طرابلس التي تمت في أيام المنصور قلاوون بعامين (إن العساكر الإسلامية سارت إلى فتح جبة بشرى وصعدت إلى وادي حيرونا وحاصرت قرية أهدن وتم فتحها بعد أربعين يوماً وأخرجت القلعة والحصن الذي على رأس الجبل) ولم يكن بوسع الإفرنج في طرابلس ولا جماعة الاسبتار تقديم المساعدة لأهل أهدن لارتباطهم بنصوص عقد الهدنة ولذلك أتم المصريون فتحها قبل سقوط القطاع - الكسرواني وقطاع جبيل في أيديهم. وقد رأيت كيف تمكن الظاهر برقوق بلباقته بعد قرن من الزمن أن يجذب قلوب هؤلاء السكان الأشاوس وأن ينقلهم من معسكر أعدائه إلى معسكر الحلفاء الأوفياء: فلله دره.
أما الأمير جمال الدين أقرش الأفرم نائب السلطنة فبقي بنيابة الشام حتى دخلت سنة 711 لما نقله الملك الناصر محمد إلى نيابة طرابلس بإشارة الإمام ابن تيمية فبقى بها حتى انضم إلى قرانسنقر وذهبا سوياً إلى بلاد التتار بعد أن أديا لمصر أكبر الخدم.
أحمد رمزي(848/10)
صور من الحياة:
وفاء. .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قلت لصاحبي: ما لهذا الرجل يسير الهويني يتخلع في مشيته وإن إهابه يكاد ينقد من أثر الخيلاء، وينفض الشاطئ بالنظر الشزر وإنه ليتنزى ترفعاً وكبرياءً، ويزهي في تبَّانه وبرنسه وقد ورم أنفه من صلف كأنه رب هذا البحر لا يلوي على أحد ولا ينزل إلى دنيا الناس ولا تتطامن من عظمته ولا تهدأ غطرسته!
فقال صاحبي: آه إن في الناس رجالاً لو انشقَّ عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار. وإن لهذا الرجل حديثاً عجيباً لو اطلعت عليه لألفيته ذئباً لا يترفع عن أن يبلغ في دم الإنسان حتى يرتوي. وإنه ليتصنع ما ترى ليوهم الناس بأنه شيء وما هو بشيء.
قلت لصاحبي: إن له حديثاً؟ هاته! فإن في النفس شوقاً إلى حديثك فأنا أحس فيه طلاوة وراءً وعقلاً.
قال: هذا الرجل ضابط كبير في الجيش، والجيش دائماً رمز القوة والفتوة وعلامة الترفع والإباء، وهو مدرسة تعلم الرجل كيف يصبح قوي القلب في شجاعة، ثبت الحنان في حزم، رابط الجأش في عزم، شديد المراس في بأس. ليكون - حين يجد الجد - فتى الوطن الأول يذود عن حوضه ويحمي حوزته، لا يقعد عن أن يغشى غمرات الموت في غير رهبة، ولا يفزع عن أن يرد مضلاَّت الردى في غير خوف، فهو فخر الوطن عند الجلاد وذخره في ميدان الجهاد. ولكن هذا الرجل تاه في نزوات نفسه فما لمس في الجيش معنى واحداً من معانيه السامية.
كان هذا الرجل - منذ سنوات - ضابطاً صغيراً في مقتبل العمر وزهرة الحياة يتوثب قوة ونشاطاً ويتألق فتوة ورواءً، يبسم للأمل ويبسم هو له، ويسكن إلى أخيلة المستقبل وهي - في ناظريه - وضاءة مشرقة. ثم بدت له في ثنايا حياته فتاة كانت حلم قلبه ونور عينه وسحر فؤاده فما تلبث أن أنطلق إلى أبيها يخطبها: ورضى الأب الثرى بالضابط الفقير زوجاً لابنته الجميلة الفاتنة حين رأى فيه الرجولة والصلاح وحين بدا له أن المستقبل(848/11)
يوشك أن ينفرج أمامه عن منصب في الجيش ذي شأن، ورضيت الفتاة به حين خلبها بشبابه وزيه وحين أسرها جماله وحديثه.
وعاشت الفتاة إلى جانب زوجها تسعد برفقته وتطمئن إلى رأيه، وترعى شأنه، وتصبر على شظف العيش وراتبه ضئيل تافه؛ وأبوها يرى ثم لا يقبض يده عنها. وعاش الزوج شقياً بجمالها تأكله الغيرة حين يراها تشع نوراً يخطف البصر، وتصفعه الأنانية حين يلمس فيها معاني الشباب تخطف القلب. لطالما حدثته نفسه بأن يضرب بينها وبين العالم بحجاب لا تستطيع أن تظهره. ولكن أنى له أن يفعل وهو لم يرى عليها من سوء ولم يحِّس فيها من عقوق. وتصرمت الأيام تبذر فيها معاني الإخلاص والمحبة، وتؤرث فيه هو معاني الأنانية والغيرة. والفتاة تسبح في حمق عميق لا ينفذ بصبرها - وهي في عمايتها - إلى بعض ما يتأجج في صدر زوجها.
ومضت سبع سنوات جنت الزوجة في خلالها ثمرتين من ثمار الحياة فيهما سعادة القلب وراحة البال وفيهما جمال الحياة وفرحة الدار. . ثمرتين هما الابن والابنة. واطمأنت الزوجة إلى حياتها والى ولديها، فهي تقضي يومها بين حاجات الزوج ورغبات الطفلين لا تحس الضيق ولا تجد الملل.
وطمع الزوج الأحمق أن تنحط الأيام على الزوجة المسكينة فتتوزعها بين شغل الدار وشغل الابن وهم الزوج جميعاً فتستلبها من جمالها أو تعبث بسحرها. ولكن الأيام لم تزد الفتاة إلا إغراء وفتنة، وغاظ الزوج ما رأى فاندفع يذيقها فنوناً من العنت والإرهاق لعل الأسى يمد يده الجاسية إلى مفاتنها فيمسح سمات الجاذبية والروعة ويمحو آثار الحسن والرواء. غير أن الفتاة العاقلة لم تلق بالاً إلى حماقات يرتكبها زوجها عن عمد ليثير في الدار لظى من خلاف يعصف بها وبولديها في وقت معاً.
وضاق الفتى بصبر زوجته فانطلق ينفِّس عن نوازع شيطانية تثور في نفسه ويكفكفها على كره منه. انطلق ينفس عن نفسه فتعرَّف على فتاة من بنات الهوى، وسوَّلت له نفسه الوضيعة أن يدس لزوجته من يخبرها خبر حبه الجديد. وقالت الزوجة الحصيفة للرسول (ويل لك! لا أخال زوجي يرضى بأن ينحط في مهاوي الرذيلة بعد أن جاوز سن العبث!) قال الرسول (لعلك ترمينني بالكذب! إنه يلقاها مساء كل يوم في مكان كذا من القاهرة)(848/12)
فقالت الزوجة (وماذا يعنيني! سأدعه يستمتع بأي امرأة شاء ما دمت أرى بين يدي هاتين الزهرتين الجميلتين أجد فيهما اللذة والسلوة) وأحس الرسول بالخيبة والإخفاق فانفلت من لدنها لا يلوي على شيء. وأسرت الزوجة في نفسها أمراً. . .
وفي المساء انطلقت الفتاة تسترق الخطى. . . انطلقت لترى زوجها بين يدي فتاته التي أحب. وأحست بالدوار يكاد يغلبها على أمرها من عنف الصدمة وشعرت أن قلبها الطاهر يكاد ينشق عن صدع يتوثب من خلاله الضيق والكمد، وأن عقلها يتضرم ناراً حامية توشك أن تلتهمها هي، فأسرعت إلى الدار لتضع عنها أصرها في زفرات كاوية يتلظى الغيظ من جوانبها، ولترسل الأسى من عينيها عبرات متدفقة هتانة ما تستطيع أن تكفكفها إلا حين تسمع وقع أقدام زوجها وهو يرقى درج السلم، وإلا حين يهفو ولداها نحوها فتضمهما إلى صدرها في شوق وحنان.
يا لقلب الأنثى! إنك صلب عنيد لا تضرب إلا أن تحس الخيانة من قلب رجل حملت أنت له الإخلاص والوفاء!
يا لقلب الأنثى! إنك راسخ متين لا يعصف بك إلا أن تستشعر المهانة والاحتقار والإهمال من قلب رجل أحببته ساعة من الزمان!
أما أنت أيها الرجل، فلقد سفلت أسفل سافلين، حتى بعت زوجك وأولادك بالثمن البخس بفتاة من عرض الشارع تستلبك من رجولتك ومن شهامتك ومن إنسانيتك في وقت معاً!
وانضم قلب الفتاة على أسى فتَّاك تخر الجبال من هوله، فما استطاعت أن تكشف عن حسرتها أمام أبيها. ولا أن تحدث أمها بحديث كربتها، فراحت تتلمس السلوة في ولديها وفي كلب صغير كان هملا في الدار من قبل، فأخذت تدلله في رقة وتحدب عليه في عناية. وأحس الكلب بسليقته الحيوانية أن سيدته تحنو عليه، فذهب يتمسح بها ويخضع لها ويقع عند قدميها. ورضى الكلب بأن يكون عبد السيدة حين أحس فيها الشفقة والرحمة!
ومضت الأيام والشهور تبذر في دار غراس الشقاق والاضطراب، والزوجة تصبر على ضيق وتغضي على مضض، وهي تنظر إلى طفليها في عطف وتضمهما في حنان. . . ثلاث سنوات عجاف والمسكينة في الميدان تجاهل الرجل وهو غليظ الكبد واهي الرجولة لا يرعوي ولا يرتدع.(848/13)
يا عجباً! أفيكون شيطان الكبر قد ركبه لأنه تدرَّج في مناصب الجيش العليا في سرعة فأخذت نفسه تهوى إلى أسفل كلما سما منصبه إلى أعلى؟
وضاق صدر الزوجة على رحابته، ونفذ صبرها على سعته. . . فجاء حكم من أهلها وحكم من أهله، فما استطاعا أن يصلحا ذات البين، واتفق الزوجان - بعد لأى - على الطلاق!
وخيل للزوجة أنها تهرب من سجن أرغمت على البقاء فيه سنوات، فهبت تعد حاجاتها في نشاط، وتلم شعثها في جد، وإن قلبها ليضطرب اضطراباً شديداً كلما تراءى لها أن أبنيها سيعيشان في كنف هذا الشيطان الفظ، وإن كلبها ليتبعها في خضوع ويتمسح بها في ذلة. . . ثم انطلقت صوب الباب فاندفع الكلب على أثرها، ولكنها صفقت الباب من دونه لتحول بينها وبين كلب هذا الرجل. . . الرجل الجاثم في ركن تجذبه خواطره الأرضية إلى أسفل، فلا ينبض قلبه بعاطفة ولا تخفق أفكاره بنسمة روحانية.
وأحس الكلب بسليقته الحيوانية أن سيدته قد خرجت من هذه الدار ولن تعود أبداً، فانطلق إلى الطنف يريد أن يودعها الواع الأخير. يا لله! أفأصيب الكلب بمس من الجنون فراح يذرع الطنف في سرعة، ينظر إلى الشارع من هنا ومن هناك وهو ينبح نباحاً عالياً فيه الشجو والبكاء؟ ولذَّ للسيدة أن تستمتع بقلق الكلب وحيرته، فوقفت حيناً تشير إليه وتناديه وهي تبسم، ثم همت أن تركب سيارة أبيها وهي تنتظرها لدى الباب، فما راعها إلا الكلب وهو يقذف بنفسه بين يديها.
ووقع الكلب فانكسرت رجله، ولكنه - برغم ما يقاسي من ألم - اندفع صوب سيدته وهو ينبح نباحاً فيه الشجو والبكاء، اندفع ليدفن نفسه في حجرها.
وطفرت من عيني السيدة عبرة. . . عبرة واحدة. . لأن كلباً حفظ عهد الود ورعى حق الوفاء على حين لم يفعل الرجل.
آه، يا صاحبي، إن في الناس رجالاً لو انشق عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار او. . .
كامل محمود حبيب(848/14)
غروب
للأستاذ شكري فيصل
(منذ عام حطمت أقلامي التي كنت ألقى بها الناس، وعشت
بين أحزاني وأصدقائي. . . هذه تغزوني وأولئك يعزونني. .
. واليوم أفيق على نحيب الذكرى ولوعة المصاب. وتختلط
علي الصور والأشياء. . . فإلى الروح التي تسبح في أعلى
عليين. . . إلى روح خالي الذي علمني وأدبني. . . هذه
النفحات).
- 1 -
حين جزت ضفة النيل. . . من هذه الخضرة الخضراء والبساتين الممروعة إلى الضفة الأخرى التي تستريح على راعها الرمال الصفراء وتخفق على جنباتها الأمواج الزرق في (رأس البر) كنت في مثل ذهول المأخوذ وغيبوبة المنتشي. . . كانت الساعة قرابة السادسة، والشمس تميل عن سمائها التي عاشت فيها، وتنحدر في شيء من البطئ وفي كثير من الأسى نحو الأفق البعيد الذي يبسط لها جناحان من ضباب ونور.
ولم يكن في وسع الإنسان، إذ يتجرد من كل ما حوله من حركة الناس، أن يدرك أكانت تلك ساعة من ساعات الصباح الفتي أو لحظة من لحظات المساء المتداعي. . . فقد كانت هذه الأستار العريضة التي تلقيها السماء هنا وهناك علامة من علامات الظلمة، وكانت الشعاعات الرضية التي تند عن الشمس شارة من شارات النور. . . كان هناك هذا المزيج الذي يغشى بعضه بعضا من الليل والنهار، وهذا الخليط المتشابك من الأخلاط والضباب، وكان في ذلك كله تناسق أصيل محبب.
- 2 -
وألقيت أقدامي في الطريق إلى البحر. . . وأدرت ظهري إلى الشارع الذي يطفح بالناس(848/15)
على ضفة النيل، ولم أحاول أن أستجيب إلى شيء مما حوله من جلبة الأشياء وحياة الأحياء، وخلفت من ورائي في نظرة عابرة كل هذه الحركة التي يتحرك بها هذا الشارع الأنيق وهذه الزينة التي يزدان بها. . . ولم يكن من بأس أن أخاف عن عادة الناس، هنا في رأس البر، حين يقسمون وقتهم قسمة مناصفة بين البحر والنهر. . . فإذا كان الضحى لجئوا إلى البحر، وأخلد بعضهم إلى رماله وانتهى بعضهم يصارع أمواجه. . . وإذا كان الأصيل لجئوا إلى النهر فانسابوا على شاطئه، عين إلى صفحته الهادئة، وعين إلى الصفحات الأسيلة التي لوحتها الشمسفي الصباح وخففتها الأصباغ في الأصيل.
وجزت طريقاً من هذه الطرق المتعارضة وحدي. . . كنت أشبه بالضال أو كذلك خيل إلى. . . فقد كانت الأنظار التي تمر بي كأنما تتحدث إلى، بعضها يتحدث مشفقاً علي وبعضها هازئاً مني. . . ولكني كنت أنا مشفقاً عليها دائماً رائياً لها أبداً. وإلا فكيف يخلي هؤلاء الناس بينهم وبين هذه اللحظات التي لا تنسى من عمر الشمس. . . كيف يبيحون أن يجلسوا إليها أكثر النهار يستمدون منها القوة ويستجدون العافية ويتقلبون في مهاد من أشعتها الحلوة، حتى إذا غلبها على أمرها الفلك الدوار وانحنت تودع هذا الشاطئ انصرفوا عنها. . . لم يكن في وداعها إلا ثلاثة: شاعر حالم، ومحب مستخف، وحارس كهل من حراس الشاطئ ينتظر موعد الصلاة؟!
ولكن ما ينفع العجب؟. . . وهل هذا إلا صورة من وفاء الناس للناس، يتجاوز الأحياء إلى الأشياء.
. . . وانتهيت إلى البحر من أقرب طرقه - وكل الطرق إليه قريب - فأنا مع هذا القرص المتوهج الذي يبقى من الشمس على ميعاد، في كل يوم، لا أخلفه إلا مكرها على إخلافه، ولا أنصرف عنه إلا أن يحول بيني وبينه ما لا قبل لي بدفعه، فإن فاتني أن أراه عشت معه أتخيله، حتى تطويه لغة الأفق في لحن سماوي من الألوان، حزين.
- 3 -
ورأيتني أشهد الشمس الهاوية في استغراق، وغشى عيني دمع ثر، كأنما استعار من الموج تدفقه. . . ولم أحس لهذه الصورة التي أراها كل يوم مثل الذي أحسسته لها اليوم. . . كنت أحس بعض هذا الاستغراق غير أني لم أكن أضل ذاتي. . . كان حاجز رقيق أو صفيق(848/16)
يحول بيني وبين الفناء ويبقي علي شيئاً من كياني، ولكني في هذه اللحظات لم أعرف أين أنا ومن أنا فقد اشتملني جناح رفيق رقيق، وطار بي في هذا الأفق الموغل المترامي ليتركني بين وجيب الشمس المحتضرة وثنايا السحب المنتصرة:
كان من أمامي صراع. . . الليل الزاحف كالموت، والأفق الذي ينبسط في مهوى الشمس المنحدرة كالحد، والسحب الكثيفة التي تصرفها الريح فتغطي بها على النور كسكرات النزع. . . ثم وجدتني في صميم هذا الصراع جزءاً منه. . . كان يبدو لعيني من بعيد فآسى له، أما الآن فأنا في ظلماته الطاغية وأنواره الخافتة أبكي منه. . . كان حلماً مزعجاً يثيرني، ولكنه اليوم واقع يأسرني ويدميني. . . كان مشهداً أستمد منه ألوانه وأنغامه، أما الساعة فألوانه من دم قلبي وأنغامه من أناتي.
- 4 -
وفي صميم المعركة لا يملك المجروح أن يعي ما كان. . . يفنى فيما حوله وتفنيه الأشياء التي حوله. . يستغرق فيها وتغرقه. . . لا يدرك أكان هو الذي استوعبها أم هي التي استوعبته. . . ولكنه حين يفيق، يفيق على السكون الحزين الذي لا يفسده إلا نض الجرح بالدم ونبض الصدر بالأنين.
. . . وكأنما استيقظت، حين نظرت من حولي فلم أجد شيئاً ولم أحس حركة ولم أبصر إنساناً. . . لم يبق إلا سكون الموت وأنين الموج. . . أما هناك، في الأفق، حيث كان الصراع فقد انطوى البحر على الحطام الباقي من الشمس. . . لم تبق من الشعاعات الأخيرة إلا ظلالها. . ثم نحلت هذه الظلال فلم يبق إلا انطباعها على بعض السحب. . . ثم محت أنفاس الظلمة المنتصرة هذا الانطباع فلم يبق شيء.
- 5 -
لقد زايلتني كل هذه الصور التي كانت من حولي، وخفتت كل الأصوات التي كانت في أذني. . . هدأ الموج الذي كان يتكسر على الشاطئ، واختفت الغلالات التي توشي السماء، وركدت الريح التي كانت تطرز البحر. . . لقد طمس الموت الصور فأحالها ظلالا، وامتص الحركة فأحالها سكوناً وعمقاً. . . فلم يبق إلا الذكريات أعيش بها وأعيش عليها، ومن وراء هذه الذكريات أرى الألوان الزاهية والجوانب المتوردة والصفحات المشرقة،(848/17)
ومن وراء هذه الذكريات أستمع إلى الأصوات النشيطة والحركة الحية. . . السكون والظلام والذكرى كل ما أنا فيه، وما أقسى ما أنا فيه.
- 6 -
وارتددت إلى البيت. . . كان في طريقي حين استقبلت البحر شعاعات وظلال وأغصان خضر لها براعم توشك إن تتفتح عنها. كان في طريقي، في هذه المرحلة، أنوار وآمال. . . أما الآن فأنا لن أرى، حين أستقبل البيت إلا الأشباح التي تتشح بالسواد ويلي من هذا السواد. . . لقد غام النور الذي كان هنا، ولكنه ترك هذه الدفقة المتدفقة التي تتوهج في أعماقنا.
. . . غروب ومعركة وموت. . . لقد غيب الليل كل شيء، وتركنا للذعة الوحدة وصهر الآلام. . . وما أطول الليل. . . أما الشمس التي غابت عن عيوننا فكل عزائنا أنها دائماً في قلوبنا.
(القاهرة)
شكري فيصل(848/18)
من كتاب قصور العرب:
غُمْدَانُ
للأستاذ كاظم المظفر
يظنُّ الكثير أن العرب في الجاهلية كانوا بدوا لم تكن لهم حضارة ولم يُؤسسوا الدول والممالك، ولم يُقيموا الشرائع والأنظمة. ولكنا إذا درسنا تاريخ اليمن فقط، نجد الأمر بخلاف ذلك، لأن العرب في اليمن كانوا أصحاب دول منظمة، حكومتها بيد ملوك يتمتعون بالسلطة المطلقة. لهم جيوش للتعمير وليست للتخريب. يجمعون الرجال لبناء المدن والقصور، وإنشاء السدود، وحكومتهم وراثية لها نقود رسمية مزينة بالنقوش والصور كرأس الثور رمز الزراعة أو صور الهلال أو البقر، وعلى نقودهم كتابة عربية بالخط المسند.
واليمن من أقدم الأقطار التي نشأت فيها حضارة، فلو قام علماء العاديات بالحفر في أنحاء اليمن لأطلعوا العلم على آثار تلك الحضارة. وحضارة اليمن العربية القديمة بادية في بناء أسداد الري، وتشييد القصور، وتأسيس القصبات والمدن؛ ففي اليمن حضارة عربية قديمة، وخزانة الأقوام العربية المتدفقة.
وكان اليمانيون طبقات، منهم الجنود والفلاحون والصناع والتجار؛ غير أن التجارة غلبت على البلاد لوقوعها على الطرق. وقد اشتغلوا بالزراعة لخصب تربة البلاد؛ واشتهرت اليمن بمعادنها من الذهب والفضة والحجارة الكريمة. وهذا ما زاد في ثروة البلاد، فأصبح أهلها أغنياء. بنو القصور العالية، وشيدوا المدن الكبيرة، والقلاع العظيمة. . . وأشهر قُصورها قصر غُمدان في مدينة صنعاء. ذكر الهمداني وياقوت أن بانيه اليشرح يحصب؛ فإذا صحَّ قولهما كان بناؤه في القرن الأول للميلاد، وظل باقياً إلى أيام عثمان بن عفان في أوائل القرن الأول للهجرة فيكون قد عاش نحو (620) سنة.
وقد شاهد الهمداني بقاياه تلاً عظيماً كالجبل؛ وقال في وصفه أنه كان عشرين سقفاً غرفاً بعضها فوق بعض أي عشرين طبقة مثل أبنية العالم المتمدن وأعلاها. بين كل سقفين عشرة أذرع
وفي الإكليل أن محمد بن خالد رفع حديثاً إلى وهب، فقال: لما بني غُمدان صاحب غمدان،(848/19)
وبلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة شفافة، وكان يستلقي على فراشه في الغرفة فيمر به الطائر فيعرف الغراب من الحدأة وهو تحت الرخام. وكانت حروفه أربعة تماثيل أُسود من نحاس مجوفة، رجلا الأسد في الدار، ورأسه وصدره خارجان من القصر، وما بين فمه إلى مؤخره حركات مدبرة. فإذا هبت الريح دخلت أجوافها، فيسمع زئير كزئير الأسد. وكان يُصبح فيها بالقناديل، فترى من رأس عجيب. وذلك حين تُسرج المصابيح في بُيوت الرخام إلى الصبح؛ فكان القصر يلمع من ظاهره كلمع البرق. فإذا أشرف الإنسان ليلاً قال أرى بصنعاء برقاً شديداً كثيراً، وهو لا يعلم أن ذلك من ضوء السُرج. وكانت غرفة الرأس العليا مجلس الملك أثنى عشر ذراعاً. وكان للغرفة أربعة أبواب قبالة الصبا والدبور والشمال والجنوب؛ وعند كل باب منها تمثال من نحاس إذا هبت الريح زأر؛ وفيها مقيل من الساج والآبنوس وكان فيها ستور لها أجراس إذا ضربت الريح تلك الستور تسمع الأصوات عن بُعد.
وكان غمدان على يبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً، وهذا لا يمكن؛ لأن أربعين ذراعاً بين كل سقفين كثير، والثبت ما ذكرناه أنه عشرون سقفاً كل سقف على عشر أذرع، فذلك مائتا ذراع، ولن يتعذَّر لقدرتهم على كل معجز من البناء. وأن أبا شرح كان ملك غمدان، وقد بناه على سبعة أسقف كل سقف منها على أربعين ذراعاً. وكانت له أربعة أوجه في ترابيعه: وجهٌ مبني بحجارة بيض، ووجه بحجارة سود، ووجه بحجارة خضر، ووجه بحجارة حُمر. وكان في أعلاه غُرفة لها لجٌّ وهي الكوى. كل موَّة منها بناء رخام في مقيل من الساج والآبنوس، وسقف الغرفة رخامة واحدة صفيحة. وقال آخر: كانت الغرفة تحت بيضة رخام من ثماني قطع مؤلفة؛ وذلك أحرى لأنهم كانوا يثقبون فيها السرُج فترى من رأس عجيب، ولا ترى فيها حُمرة النار مع الرُّخامة المبسوطة، ويؤيد ذلك قول علقمة:
مصابيح السليط يلحن فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
ويقال: إن غمدان أول قصر بني باليمن، ووجد فيه حجر في بعض زواياه فيه مكتوب بالخط المسند: (بناه غمدان). وإنه البناء الذي ذكره الله عز وجل بقوله: (لا يزَالُ بنيانهمُ الذي بنوْا رِيبَةً في قُلوبهمْ). فلما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مُسبك ليهدمه، فلما أراد هدمه لم يقدر عليه، حتى أحرقه بالنار، ولم يهدم إلاّ بعد(848/20)
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند وفاته. لأنه لم يهدم إلا بعد أن عمل فروة بن مُسبك وقيس بن هُبَيْرة المكشوح في قتل الأسود بن كعب العنسي الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي صلة الله عليه وسلم، وله خبر طويل؛ وكان في القصر فقتل في السنة التي توفي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل هدم في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقيل له: إن كهان اليمن يزعمون أن الذي يهدمه يُقتل؛ فأمر بإعادة بنائه، فقيل له: لو أنفقت عليه خرج الأرض ما أعدته كما كان فتركه. . وقيل أيضاً وجد على خشبة لما خُرِّب وهُدم مكتوب برصاص مصبوب: (أسلم غمدان، هادمُكَ مقتول) فهدمه عثمان رضي الله عنه فقتل. وهناك وجه آخر قال فيه ابن الكلبي: كان على كلِّ ركن من أركان غمدان مكتوب (أسم غمدان، معاديك مقتول بسيف العدوان).
وقد اضطربت آراء المؤرخين في بانيه، وتشعبت أقاويلهم في ذلك، وذهبوا مذاهب شتى، نذكر ما استطعنا أن نعثر عليه من أقاويلهم.
1 - سليمان بن داود عليهما السلام، وذلك أنه أمر الشياطين أن يبنوا لزوجته بلقيس أربعةُ قصور: غُمدان، وصِرْواح، وبينين، وسَلحين. وكلها باليمن. ومال إلى هذا القول كثير من المفسرين، ولعلَّ سليمان أقدم من نسب إليه بناء غمدان.
2 - جاء في الروض الأنف: غمدان حصن كان لهوذة بن علي ملك اليمامة.
3 - وجاء فيه أيضاً: ذكر ابن هشام أن غمدان أنشأه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده وائل بن سبأ بن يعرب، وكان ملكاً مُنوَّجاً كأبيه وجدَّه وله ذكر في حديث سيف ابن ذي يزن.
4 - سام بن نوح.
5 - بيو راسب وقد بناه على اسم الزُّهرة. وهذا القول ضعيف فلم يورده إلا النويري في نهاية الأرب جـ1 ص370
6 - ليشرح ابن الحرث (أو الحارث) بن صيفي. وقد رجح هذا القول جماعة من المؤرخين واعتمده صاحب القاموس.
7 - سيف بن ذي يزن. وقد انفرد بهذا القول الزمخشري. وقد أخطأ فيه لأنه سبق بناؤه قبل وجوده بقرون عديدة.
وقد ذكر الهمداني أن الذي أسس غمدان وابتدأ بناءه واحتفر بئره التي هي اليوم سقاية(848/21)
المسجد الجامع بصنعاء (سام بن نوح) اجتوى بعده السكنى في أرض الشمال، وأقبل طالعاً في الجنوب يرتاد أطيب البلاد. حتى صار إلى الإقليم الأول؛ فوجد اليمن أطيب مسكناً، وارتاد اليمن فوجد حقل صنعاء أطيب ماء بعد المدة الطويلة، فوضع مقرانه؛ وهو الخيط الذي يقدر به البنَّاء ويبني عليه بناءَه إذا مدَّه بموضع الأساس في ناحية فج غمدان، في غربي حقل صنعاء، فبنى الظِّبر، وهو اليوم معروف بصنعاء، فلما ارتفع بعث الله طائراً، واختطف المقرانة، وطار بها، فتبعه سام لينظر أين وقع، فأقام بها إلى جنوب النعيم من سفح نقم، فوضعها بها، فلما رهقه طار بها فطرحها على حرجة غُمدان، فلما قرَّت على حرث غُمدان علم سام أن قد أُمِر بالبناء هناك؛ فأسس غمدان، وأحتفر بئره، وتسمى كرامة وهي: سفاء إلى اليوم ولكنها أجاج.
(يتبع)
كاظم المظفر(848/22)
على ضريح خليل مطران
للأستاذ راجي الراعي
مسح الخلود جبينه إعظاماً ... فأفاق من بين العظام وقاما
وأزاح عنه ترابه وطلامه ... وعلا يسفق بالجناح وحاما
يا من تخيرك البيان لسحره ... لم يرض غيرك سيداً وإماما
كيف استطاع الموت أن يلقي على ... عينيك من ليل التراب ظلاما
ماذا دهاك فلم يحول وجهه ... سحر البيان فنال منك مراما
ما كان يعمى السحر عما تبتغي ... أتراه أغواه الردى فتعامى
ألقى الحمام وقد مررت بداره ... ما في يديه وصادق الأرحاما
لما أحس بمجد من أودى به ... أخلى القبور من النيام وناما
هذا هو الجبار في أحلامه ... تخذ المجرة في السماء مقاما
يستنزل الآيات يرسلها على ... مر الدهور أشعة ومهاما
بخياله ضم العلاء وما حوى ... وبفنه أفنى الفناء فداما
أَنَّى التفت رأيت من أمجاده ... علماً يتيه ومارداً يتسامى
وكتيبة في الجو إثر كتيبة ... تعلو وتبسط باسمه الأعلاما
سل عنه رب الشعر من أعلى له ... بيت الصلاة وحطم الأصناما
جاءوه بالحجر الكريم المنتقي ... فبنى القباب وشيد الأهراما
وأتته جنات النعيم بحورها ... تشدو وفي أحضانه تترامى
خاض العباب ولم يبلل ثوبه ... وغزا الفضاء ولم يسل حساما
كم من رماد غاب فيه ضرامه ... فاستل من قلب الرماد ضراما
ما كان يحمل غير سيف لهيبه ... سيفاً يضيء محبة وسلاما
يمشي به في موكب من روحه ... ويحيل حقد الحاقدين هياما
لا يستريح وفي المدينة بائس ... يشكو وجرحى للردى ويتامى
يبكي الوفاء به أعز رفاقه ... حفظ العهود وحقق الأقساما
لو كان يختار الوفاء رسومه ... ما اختار غير (خليله) رساما(848/23)
صبت له الدنيا الكؤوس فلم يجد ... في ما سقته من الكؤوس مداما
لم يكشف السر الدفين وعاش في ... أيامه يستنطق الأياما
ويجاذب الغيب العصى لثامه ... والغيب يأبى أن يزيح لثاما
واليوم يسقى ما اشتهاه خياله ... في الجنة الخضراء حيث أقاما
راجي الراعي(848/24)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
تعقيب علي مقال في (الثقافة):
كتب الأستاذ أحمد أمين بك في العدد (560) من (الثقافة) مقالاً طريفاً تحت عنوان (نظرية طريفة). وخلاصة المقال، أو خلاصةُ النظرية: أن هناك كتاباً للكاتب الصيني (لن يوتانج) يرى في أحد فصوله: (إن لكل أمة مزاجاً، وهذا المزاج يتكون من عناصر أربعة: عنصر الواقع، أو بعبارة أخرى: النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعنصر الحلم أو الخيال أو المثالية، وعنصر المرح أو روح الفكاهة، وعنصر الحساسية أو قوة الشعور بالأحداث. . . واصطلح الكاتب الصيني على أن يجعل كل عنصر من هذه العناصر الأربعة إذا بلغ درجة (4) فشاذ، أعلى مما يلزم، وإذا بلغ (3) فمرتفع، وإذا بلغ (2) فمعتدل، وإذا بلغ (1) فمنخفض. . . وكل أمة لديها هذه العناصر الأربعة ولكن بأقدار مختلفة، وهي تسير في الحياة وتتصرف في الأحداث وفق امتزاج هذه العناصر ومقاديرها. وعلل بعض ما يبدو في الأمم من مظاهر بهذا المزاج؛ فالفرنسيون مثلا يميلون إلى النظريات المجردة وسعة الخيال، كما يتجلى ذلك في أدبهم وفنهم وكثرة حركاتهم السياسية، وذلك ناشئ عن علو درجتهم في المثالية، والصينيون أعرق الناس في الواقعية، والألمان أحوج الناس إلى روح الفكاهة، حتى لقد كدت أعطيهم صفراً. وهذا ما أتعبهم في السياسة في الماضي والحاضر، ولو منحوا قدراً كافياً منها لتغير تاريخهم وتغير وجه الحرب. . . ثم ذكر أن المثل الأعلى لأمة أن يكون قانونها: واقعية 3 مثالية 2 فكاهة 3 حساسية 2، وأقرب الأمم إلى هذا المثل الإنجليزي).
هذا هو رأي (لن يونانج) الذي نقله الأستاذ أحمد أمين بك دون تعقيب أو مناقشة. . . أما نحن فنقول عن تفسير الكاتب الصيني لإخفاق الألمان في ميدان الحرب والسياسة بأنه من أثر النقص في عنصر المرح والفكاهة، نقول عنه إنه تفسير مضطرب يقوم على أسس تفكيرية منحرفة؛ فلو اهتدى (لن يوتانج) بمنطق الحوادث ومنطق التاريخ لوضع النقص في عنصر الواقعية مكان النقص في عنصر الفكاهة. . . ذلك لأن الألمان قد دأبوا على ألا ينظروا إلى الوجود كما هو موجود، ولو أنهم كانوا واقعيين لما أثاروا حقد العالم في ميدان(848/25)
السياسة بتلك النزعة العنصرية التي تنشد الغلبة والتفوق في مجال الفخر والمباهاة، ولو أنهم كانوا واقعيين لما تحدوا العالم كله في ميدان الحرب بتلك النزعة البروسية التي تتمثل أمجاد الماضي البعيد في مجال التطبيق على الحاضر المشهود!. . . ومن العجيب أن (لن يوتانج) قد منح الألمان ثلاث درجات لأنهم واقعيون، وهي نفس الدرجات التي وضعها في مواجهة الواقعية البريطانية!
بعد هذا ينتقل الأستاذ أحمد أمين بك إلى تطبيق هذه العناصر على المصريين منتهجاً نفس الخطة التي سار عليها (لن يوتانج) فيقول: (في نظري أن المصريين يغالون في الواقعية ويقصرون في المثالية، ومن أجل هذا يغلب عليهم احتذاء التقاليد والأوضاع القديمة، حتى التي كانت في عهد قدماء المصريين التزاماً للواقع).
يؤسفني أن أعقب على هذا الرأي فأقول: إن نظرة الأستاذ الفاضل إلى الواقعية تتنافى مع الأساس الذي تعارف عليه الناس ومع الأساس الذي وضعه (لن يوتانج) حين فسر الواقعية بأنها النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعلى ضوء هذا التفسير المقبول لا يستقيم التطبيق الذي أورده الأستاذ أحمد أمين بك فيما يختص بالمصريين، فلو مال المصريون إلى الأخذ بأسباب الواقعية لنبذوا تلك النزعة الخيالية التي تدفع بهم إلى التمسح بأنقاض ماض يفصل بينهم وبينه آلاف السنين! ترى هل يمكننا أن نفسر احتذاء المصريين للتقاليد والأوضاع القديمة بأنه التزام للواقع كما يقول الأستاذ أحمد أمين بك؟ أغلب الظن أننا لا نستطيع أن نفسره إلا بأنه التزام للخيال.
ولقد أعجبت بمنطق الأستاذ أحمد أمين بك حين تناول عنصر المثالية في حياة المصريين بقوله: (. . وحتى الأدب والفنون عندهم تنقصها الأحلام والخيالات، ولذلك ضعفت القصة في أدبهم وكثرت الحكم، لأن الحكم واقعية والقصة خيالية.
والأدب المصري يسير سيراً تقليدياً، إما تقليداً للأدب العربي القديم أو للغربي الحديث، وقل فيه الابتكار، لأن الابتكار خلق والخلق يحتاج إلى تصميم والتصميم يحتاج إلى خيال أو مثالية. ولعل هذا هو شأن الشرق بأجمعه لا المصريين وحدهم، فإن صح هذا وجب على المصلحين أن يؤسسوا إصلاحهم وبرامجهم على الإقلال مما يسبب الواقعية والإكثار مما ينمي المثالية). ويلاحظ هنا أن الأستاذ أحمد أمين بك يدعو إلى الإقلال من الواقعية(848/26)
لأنه كما قلنا ينظر إليها نظرة خاصة تجعل منها أداة تأخر ورجعية، ولو استخدم الأستاذ منطق (لن يوتانج) لأدرك أن الواقعية هي سر هذا التوفيق الذي لازم الأمة البريطانية في تاريخها الطويل، ومن هنا استقام منطق الكاتب الصيني حين منح الإنجليز ثلاث درجات في هذا المجال
أما في مجال الفكاهة والحساسية، فقد بلغ الأستاذ أحمد أمين فيه التوفيق، وقد وقع في شيء من التناقض حين قال: (أما روح الفكاهة فهي نامية عند المصريين، وقد خففت عنهم كثيراً من متاعبهم، بل وقد تكون حفظت عليهم وجودهم، فما تحملوه من ضغط آلاف السنين كان يكفي للقضاء عليهم ولولا روح الفكاهة، فأنا أقدر روحهم الفكاهية بثلاث درجات على الأقل. . . ثم إن المصريين كالفرنسيين ينالون ثلاث درجات في الحساسية، فهم سريعو الغضب سريعو الانفعال في شدة، وقد يلاحظ عليهم أنهم ينفعلون لدواعي الحزن أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور)!. . . إن التوفيق هنا مرجعه إلى تقرير الواقع في كثير من الدقة بالنسبة إلى الفكاهة في حياة المصريين، ولكن التناقض يظهر عندما يقال إن المصريين ينفعلون لدواعي الحزن أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور. كيف نوفق بين قول يسجل الغلبة لعنصر الفكاهة والمرح وقول يسجل هذه الغلبة نفسها لروح الحزن والاكتئاب؟
ويمضي (لن يوتانج) في تطبيق نظريته على الكتاب والشعراء، ثم ينتهي آخر الأمر إلى تقدير بعض الشعراء بهذه المقاييس:
شكسبير: واقعية 4 مثالية 4 فكاهة 3 حساسية 4
هايني: واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 4 حساسية 3
شلي: واقعية 1 مثالية 4 فكاهة 1 حساسية 3
ويسلك الأستاذ أحمد أمين بك طريق الكاتب الصيني ليصل إلى حقيقة تلك العناصر عند المتنبي وابن الرومي فيمنحهما هذه الدرجات:
المتنبي: واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 2 حساسية 3
ابن الرومي: واقعية 2 مثالية 3 فكاهة 3 حساسية 4
ونقف قليلا لنعترض على تقدير (لن يوتانج) لعنصر الحساسية عند شلي وهايني وشكسبير. . . إن الميزان قد اهتز في يد الكاتب الصيني اهتزازاً شوه معالم الذوق الأدبي(848/27)
السليم وجنى على حقيقة القيم الفنية عند الشعراء الثلاثة؛ ذلك لأن رفاهة الحس أو قوة الشعور عند الشاعرين الإنجليزيين لا يمكن أن ترقى إلى مثيلتها عند الشاعر الألماني. . . إن استكناه دخائل النفس واستشفاف حقائق الحياة شيء وتلقي الموجات الشعورية من أعماق هذه وتلك وصبها في انعكاسات تعبيرية شيء آخر، وهذا هو الخلط الذي يبدو لي أن الكاتب الصيني قد وقع فيه حين نظر إلى عنصر الحساسية عند الشعراء الثلاثة، وهو نفس الشيء الذي وقع فيه الأستاذ أحمد أمين بك حين نظر إلى ملكة السخرية في شعر ابن الرومي على أنها عنصر الفكاهة الذي يقصد إليه (لن يوتانج) إن هناك فارقاً كبيراً بين الفكاهة والسخرية من ناحية الدلالة اللفظية، فقد يكون الكاتب أو الشاعر على نصيب وافر من روح المرح في إنتاجه الأدبي ثم لا يستطيع أن يبلغ هذا المدى في مجال السخرية؛ السخرية التي تهدف أول ما تهدف إلى تناول مظاهر الحياة والأحياء بالتهكم اللاذع والتعريض المقذع والتجريح المرير، وتستطيع أن تلمس هذا الفارق الكبير بين طابع الفكاهة وطابع السخرية في إنتاج كاتبين كبيرين هما مارك توين وبرناردشو، ذاك في المجال الأول وهذا في المجال الأخير.
ثم إننا لو منحنا ابن الرومي على عنصر الفكاهة ثلاث درجات لأضفناه إلى قائمة الظرفاء من أمثال أبي دلامة وأبي العيناء، وهذا هو الأمر الذي لا يستطيع التاريخ الأدبي أن يهضمه حين يضع في بوتقة النقد معادن الشعراء. . . وإذا وافقنا على أنه يستحق على عنصر الحساسية تلك الدرجات الأربع، فإننا لا نستطيع أن نوافق على أن المتنبي مثلا يستحق على هذا العنصر تلك الدرجات الثلاث.
حرية الرأي العلمي بين طلاب الجامعة:
بالأمس شكا إلي طالب في كلية الآداب ظلماً وقع عليه، ظلماً يتمثل في مظهر من المظاهر التي لا تتفق وطبيعة التعليم الجامعي كما يفهمه الجامعيون، لقد فقد هذا الطالب الممتاز درجة امتيازه التي حصل عليها بجهده وعلمه لأنه أراد أن يكون جامعياً، أي أن يكون حر الرأي مستقل النظرة في بحث المسائل العلمية التي تعرض عليه في صفحات كتاب وعلى لسان أستاذ. . . وتتلخص قضية الطالب المظلوم في أنه عارض آراء أساتذته في ورقة الامتحان لأنه يثق بعقله إلى الحد الذي يحول بينه وبين الإيمان بكل ما يقال، وذنبه أنه لا(848/28)
يريد أن يكون ذلك (الإنسان الآلي) الذي يردد بعض الحروف والأرقام دون وعي أو إرادة، ومن هنا ضاق الأساتذة المصححون بتلك العقلية التي تنشد حرية الفكر واستقلال الرأي فحرم صاحبها درجة الامتياز!
هذه هي القضية، وهي ليست قضية هذا الطالب وحده فيما أظن ولكنها قضية الألوف من طلاب الجامعة، أولئك الذين يراد لهم أن يخرجوا إلى الحياة مزودين بأسلحة فكرية مفلولة لا تقرها النظم الجامعية في العالم. . . إن المفروض في التعليم الجامعي أنه مرحلة ينتقل فيها طالب المدارس الثانوية إلى آفاق علمية جديدة، جديدة في مناهج البحث وطرائق التفكير وحرية التناول العقلي لشتى المشكلات العلمية والأدبية والفنية. فإذا ألغينا كل هذه القيم ليكون الطلاب أبواقا للأساتذة فقد قضينا على المثل العليا الفكرية التي ينشدها كل نظام جامعي قويم!
نحن لا ننكر أن بين جدار الجامعة أساتذة ممتازين، ولا ننكر أيضاً أن بين تلك الجدران أساتذة يعلم الله اين يجب أن يكون مكانهم. . . ولقد قلنا من قبل إن العبرة ليست بما يحمل المرء في يده من شهادات ولكن بما يحمل في رأسه من ثقافات! وإذن فمن الظلم أن يحال بين الطالب المجتهد وبين حرية الرأي العلمي إذا أراد أن يجهر به، وبخاصة إذا كان يتلقى معلوماته من هذا الفريق الأخير. لقد كنا ننتظر أن يظفر مثل هذا الطالب المجتهد بتقدير أساتذته بدلاً من أن يبوء منهم بمثل هذا الخذلان، ولكن أساتذته غفر الله لهم قد نظروا إلى طبيعة عقليته الجامعية الأصيلة على أنها ضرب من الخروج على كرامة علمهم الغزير. . . وفي سبيل هذه الكرامة المزعومة تلغى الكرامة العقلية في حياة جيل جامعي ومن بعده أجيال.
لتكن الجامعة جامعة وإلا فلنعلن أننا ما زلنا نأخذ بنظام الكتاتيب. . . إن وجه الشبه بين طالب الجامعة اليوم وطالب الكتاب بالأمس أن طالب الكتاب كان يئن تحت عصا الأستاذ إذا نسي منطق الترديد أو انحرف لسانه عن طريقة الببغاوات، وأن طالب الجامعة يقف اليوم نفس الموقف وإن كان بلوغه مبلغ الرجال قد صرف عنه العصا وأحل محلها قلم الأستاذ في أوراق الامتحان.
بقية الرسائل في حقيبة البريد:(848/29)
في العدد (846) من الرسالة كنت قد أشرت إلى أنني سأعرض بالتعقيب لبقية الرسائل التي تلقيتها من القراء في العدد الذي يليه، ولكن ضيق النطاق في العدد الماضي قد حال بيني وبين هذه الأمنية، وكذلك في هذا العدد. . . فإلى العدد القادم إن شاء الله حيث أعقب أيضاً على بعض الرسائل الجديدة.
أنور المعداوي(848/30)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تأبين الصحفيين للمازني:
هنا في هذه القاعة، قاعة فاروق الأول بنادي نقابة الصحفيين، كان المازني يؤبن الريحاني من نحو ثلاثة أشهر، وها قد أصبح هو اليوم يؤبن. . . هذا هو ما جال بخاطري وأنا آخذ مكان في القاعة قبيل ابتداء حفلة التأبين التي أقامتها نقابة الصحفيين اليوم الثلاثاء الماضي لتأبين المغفور له إبراهيم عبد القادر المازني. وقد كانت كلمته - رحمه الله - خير ما قيل في تأبين الريحاني، فقد أبرز فيها فن الريحاني ممثلاً في صوته، وحلل ذلك تحليلاً دقيقاً كما ذكرت ذلك في حينه، واليوم في هذا الحفل الذي يقام لتأبين المازني لم نظفر بكلمة دراسية وافية دقيقة لأدب المازني.
تحدث الأستاذ فكري أباظة بك نقيب الصحفيين والأستاذ محمد عبد القادر حمزة، عن الفقيد من حيث مكانته في الصحافة وزمالته في النقابة، وأثنيا على شمائله، ومما قاله الثاني أنه وقف إلى جانبه في تحرير (البلاغ) في وقت لم يكن من الميسور فيه أن تستوفي الجريدة حاجتها من المحررين والمترجمين والمخبرين، لأزمة وقعت فيها (البلاغ) إذ ذاك. فجعل الأستاذ المازني من نفسه محرراً ومترجماً ومخبراً بالجريدة، ودلل الأستاذ بذلك على تواضع المازني ومرونته قائلاً: إن ذلك لم يزده في نظرنا إلا رفعة قدر، وإنه على هذا التواضع كان من أحرص الناس على كرامته. وقد نبه في آخر كلمته على ما يجب على النقابة والحكومة نحو أسرة الفقيد التي ينبغي أن تشعر بنوع من عرفان الجميل.
وارتجل الدكتور محمد مندور كلمة عن مكانة الفقيد الأدبية ألمع فيها إلى مقال كتبه بجريدة البلاغ في (سخرية المازني) وقال إن هذه السخرية لم تكن حلوى تزجى إلى الجماهير إنما كانت عصارة نفسه، كانت سخرية مرة يسوقها في أسلوب النكتة، وكانت مرارتها مما لقيه في حياته، فالكاتب في الشرق يجنى من غرس القمح عشباً. وكان مع استهانته بكل شيء حتى نفسه، يحرص على القيم الأخلاقية والاجتماعية، وكان حين يكتب يعرف ما يقول وهو مالك زمام نفسه.
وألقى الأستاذ محمد الحناوي مرئية جيدة، ولم يكن في حاجة إلى شاعر ينيبه كما قال:(848/31)
أيها الراثون، هل من ... شاعر عني أنيبه
إنني مما دهاني ... شارد اللب سليبه
ثم أجهش الشاعر وهو يقول:
دونكم دمعي فقد يغ ... ني عن القول صبيبه
ليس غير الدمع ما يم ... لك من مات حبيبه
وألقى الأستاذ صالح جودت قصيدة مؤثرة، تمتاز بمعانيها الرقيقة الهادئة وأدائها الطبيعي الصادق.
وفي ختام الحقل وقف الأستاذ أحمد المازني شقيق الفقيد، فألقى كلمة شكر فيها الحاضرين والنقابة، وقال إنه يزجي هذا الشكر على ما جرت به العادة وإن كان فقيدنا هو فقيدكم، وأنتم كما نحن أسرته.
ولعل من المفارقات أنه في الوقت الذي يشيد فيه الخطباء والشعراء بفضيلة التواضع في المازني، نرى أكثرهم يعمدون إلى شيء من إبراز الذات. فقد قال الأستاذ صالح جودت في قصيدته إنه كان يقصد المازني ويسمعه شعره فيثني عليه ويشيد بشاعريته، وقد يرخص للشاعر في الفجر، ولكن ما أظن ذلك لائقاً في الرثاء. وقال الدكتور مندور: إن أحد الوزراء أرسل إليه كتاباً أثنى فيه على مقاله عن المازني، أو لم يكفه أن نشر هذا الكتاب في البلاغ؟ وقال الأستاذ النقيب إنه عرض النقابة على المازني فأبى لتواضعه وقال إن غيره أولى منه. . . وقال الأستاذ محمد عبد القادر حمزة إن المازني كان زميلا له. فلماذا يكبر نفسه هكذا؟ إنما كان المازني زميلا للمغفور له عبد القادر حمزة باشا.
ولم يعجبني ما أشار إليه الأستاذ صالح جودت في قصيدته، والأستاذ محمد عبد القادر حمزة في كلمته، من أن المازني تقام له حفلة تأبين وتلقى في رثائه خطبة وتنشد قصيدته، ثم ينسى كما نسى غيره - لم يعجبني هذا وإن كانا يقصدان إلى ما جرت عليه هذه البلاد من إهمال ذكرى أعلامها الراحلين، فالمازني لا ينسى، لأنه إن كان قد انتقل جسمه إلى عالم الفناء، فقد انتقل اسمه إلى الخلود في تاريخ الأدب، ولن يستطيع هذا التاريخ أن ينسى واحداً من هؤلاء الأساتذة الذين نقلوا الأدب في مصر وفي سائر العالم العربي من حال إلى حال.(848/32)
غزل البنات:
هو الفلم الجديد الذي عرض هذا الأسبوع بسينما أستوديو مصر، فرأى فيه الناس نجيب الريحاني حياً بعد موته، بعثه على الشاشة فنه الخالد، فعاد يضحك الناس ويمتعهم بعد أن خالوا البكاء عليه آخر العهد به.
إن الريحاني هو عصب هذا الفلم (غزل البنات) ولولاه ما كان شيئاً، فقد اشترك في التمثيل به ليلى مراد ويوسف وهبي، وأنور وجدي وسليمان نجيب وغني عبد الوهاب ولكن هؤلاء قامُوا بأدوار قصيرة، ما عدا ليلى مراد فهي بطلة الفلم أمام الريحاني. وقد أقحم أكثر أولئك الأعلام في الفلم لاستغلال أسمائهم، كما سنرى من عرض موضوع الرواية. ويخيل إلي أن انسجام الريحاني في هذا الفلم من أسبابه أنه وضع له الحوار، فضمنه فكاهاته الساخرة المعروفة، وبعث به الحياة في جسد القصة. ويقلل بعض النقاد من قيمة الحوار في الأفلام السينمائية، ذاهبين إلى أنها مناظر وصور أكثر منها كلاماً وحواراً، وأنا لا أوافقهم على ذلك، فإن الصور والحركة إذا كانت من أدوات التعبير فالحوار هو الأصل في ذلك، وهو ذو أهمية في السينما كما هو مهم في المسرح.
ليلى (ليلى مراد) بنت مراد باشا (سليمان نجيب) تلهو بالغناء والرقص ورُكوب الخيل، وترسب بالامتحان في اللغة العربية، فيحضرون لها معلماً بائساً طرده ناظر المدرسة الأهلية التي كان يدرس بها، وهو الأستاذ حمام (الريحاني) فيستقبله الباشا وابنته استقبالا مهيناً في أول الأمر لبعض الأسباب الناشئة عن الغلط وسوء التفاهم ثم يسترضيانه ويكرمانه، وما يكاد يبدأ في التدريس لليلى حتى تبدأ هي في مغازلته وإبداء حبها له وإحاطته بأسباب قوية من الإغراء، فيستجيب لها في تردد وتحفظ وإن كان قد أحبها فعلاً ويرى نفسه أخيراً قد وقع في حرج من هذه العلاقة، فيعتزم مبارحة الدار، وكان الباشا قد أمر بإقامته في القصر، فتفاجئه ليلى وهو يهم بالرحيل، وتمنعه وترغمه على مصاحبتها في السيارة وقد أوهمته أنهما يفرَّان معاً، وتقف السيارة أمام مرقص تلقى فيه ليلى شاباً تحبه (محمود المليجي) وهو يريد الاحتيال عليها، فيثور الأستاذ حمام محتجاً على هذا اللقاء، فيطرد من الرقص. ويرى ضابط طيران (أنور وجدي وهو واضع قصة الفلم ومخرجه) داخلاً، فيكلمه ويعرض عليه أن يدعي أنه ابن عم ليلى لينقذها من الشاب المحتال،(848/33)
فيدخلان معاً، وتحدث معركة يتدخل فيها الضابط فيضرب الشاب ويستنقذ ليلى ويركبها السيارة إلى جانبه ويغازلها، فيحتج الأستاذ حمام الجالس خلفهما ويعمل على وقف السيارة وينزل بليلى هرباً من الضابط الذي أحب ليلى وأحبته. . . ويريد الأستاذ حمام أن يضلل الضابط، فيدعى أن المنزل المجاور هو منزل الباشا والد ليلى، ويطرق الباب ويتبين أنه منزل الأستاذ يوسف وهبي بك (يوسف وهبي) فيستقبلهما الممثل الكبير ولا يلح في معرفة السبب الذي من أجله طرقا بيته ليلاً، بل يغازل الفتاة غير عابئ باحتجاج الأستاذ حمام ويقول لهما إن المطرب الكبير محمد عبد الوهاب موجود في منزله وإنه سيغني أغنية من قصة يضعها (يوسف وهبي) موضوعها تضحية المحب بحبه لإسعاد حبيبه. ثم يقصدون إلى حيث يغني عبد الوهاب، فيسمعون غناءه الذي يجري في موضوع التضحية بالحب في سبيل إسعاد الحبيب، فيتأثر الأستاذ حمام إذ يجد نفسه ذلك المحب، فهو رجل كبير لا يُلائم ليلى التي أحبت ضابط الطيران الشاب، ثم يقبل هذا الضابط، فنراه يأخذ بيد ليلى وهي تهش له مقبلة عليه، والأستاذ حمام خلفهما راضياً بالموقف على سبيل التضحية، ومنظره الحزين هو النهاية.
بدأ الفلم بمناظر ممتعة وظريفة، تخللها نقد اجتماعي فكاهي، فهذا الأستاذ حمام يقف في (الفصل) بين تلميذاته يطالعن موضوعاً عن الأسد، فتسأله تلميذة: هل يتكلم الأسد؟ فيقول لها: وزارة المعارف تريده يتكلم! وهذا هو يدخل منزل الباشا ويحدث مربي كلب الباشا ومعلمه فيعلم أنه يتقاضى ثلاثين جنيهاً، فيقول: إنه لو كان يعلم الكلاب من زمان لأصبح من الأغنياء. ثم تجري الحوادث بعد ذلك في نطاق خاص بين الأستاذ حمام وبين تلميذته ليلى التي صارت حبيبته. وعلى أي أساس قام هذا الحب رغم الفوارق الكبيرة بينهما التي أظهرُها تفاوت السن؟ تقول له إنها استظرفته وهي في نفس الوقت تحادث الشاب الذي تحبه بالتليفون، فتنتقل من مغازلة هذا إلى ذاك، وهي فتاة لاهية عابثة، تذهب إلى المراقص وتجالس الشبان هناك وتشرب معهم وتراقصهم، فليس مثلها بالذي يحب الأستاذ حمام، ولو لم تكن كذلك لأمكن أن نفهم أنها فتاة عاقلة تلمس فيه صفات إنسانية وتقدر شخصيته.
وظاهر أن المؤلف يرمي إلى فكرة التضحية بالحب من أجل سعادة الحبيب، وهي التي قال(848/34)
يوسف وهبي إنه يعالجها في القصص التي يؤلفها! والتي تضمنتها أغنية عبد الوهاب. ولكن هل تنطبق هذه الفكرة على موقف بطلي الفلم؟ إن فكرة التضحية يمكن استساغتها إذا كان الحب من طرف واحد، والطرف الآخر لا يجد هذا الحب، بل يحب شخصاً آخر. ولكنا هنا إزاء اثنين يتبادلان الحب، فانحراف أحدهما عن صاحبه بعد طول التهافت عليه، بعد خيانة لا يستحق من أجلها التضحية الممزوجة بالرضى والغبطة لسعادته. . .
والفلم، رغم فخامة مناظره وما حشد فية من ألوان المتعة، مملوء بالمآخذ، فقد ظهر الباشا أول ما ظهر على فرع شجرة. . . لأنه يهوى جمع الأزهار، وليس في الشجرة أزهار! ويظهر أنه قصد بهذا التمهيد لمقابلته الأستاذ حمام وهو يحمل سلتين، فلا يعرف أنه الباشا، فيحدث سوء التفاهم المضحك. . . وليلى فتاة كبيرة ولم يقولوا في أي مرحلة هي من مراحل التعليم، ولكن من الدروس التي تتلقاها نفهم أنها لا تزال في السنة الثالثة الابتدائية!
وحدث أن خرج الأستاذ حمام من غرفته إلى الحديقة ليستمع إلى غناء ليلى، فينبحه الكلب، فيتسلق الجدار إلى غرفتها هرباً من الكلب، ويضطر في الغرفة إلى تمثيل الكلب بالنباح مثله وهو مختف خلف قطعة من الأثاث ليدفع شك المربية في وجود أحد، فلم يكن تسلقه اضطرارياً لأنه كان يستطيع أن ينجو من الكلب الذي يعرفه لأنه مقيم بالقصر. وعندما تدخل ضابط الطيران في المرقص لإنقاذ ليلى بدعوى أنه ابن عمها وأنكرته هي، صفعها وجرها من يدها إلى الخارج، فركب بها السيارة، ولم تنزل حتى كانت قد أحبته، وكنا نسمع عن الحب من أول نظرة، فهل هذا الحب من أول صفعة. . .؟ ولا أدري كيف دخل الضابط منزل يوسف وهبي دون أن يعلم به أحد. والفتيات اللاتي يرافقن ليلى في ركوب الخيل، كن يركبن الأفراس بطريقة مضحكة، وكان يجب تدريسهن واختيارهن بحيث يتحقق المراد من المنظر وهو المظهر الجمالي.
أما يوسف وهبي فقد أقحم في الفلم إقحاماً أو وضعت له فيه قطعة يظهر فيها، ليقال إنه اشترك في التمثيل، وهو يظهر بأسمه الحقيقي، فيشبع ميله إلى العظمة الفنية التي تأبى إلا الظهور بمظهر المؤلف الذي يعالج الموضوعات في رواياته.
والأغنية التي غناها عبد الوهاب كانت فاترة وأحسن ما فيها عادي، وكذلك موسيقاها، على خلاف بقية ألحان الفلم وموسيقاه التي وضعها عبد الوهاب نفسه، فهذه جيدة. وقد أجادت(848/35)
ليلى مراد في الغناء، كما أجادت في التمثيل، وإن كان أكثر الأغاني غير معبر عن مواقف الفلم، بل هو يصلح في أي موقف!
إن الجهد الأكبر المثمر في هذا الفلم، لنجيب الريحاني، فقد قام عبء التمثيل عليه من الأول إلى الآخر، ونهضت معه بهذا العبء ليلى مراد، ولعل الريحاني هنا في خير أدواره على الإطلاق.
عباس خضر(848/36)
البَريدُ الأدَبيَ
سلف ولا خلف:
كتب الأستاذ الكبير الزيات في رثاء صديقه المازني يقول: (فإذا أضيف إلى ذلك أن المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون أدبها عن ثقة، ويعالجون يبانها عن طبع، وأن هؤلاء العشرة البررة متى خلت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان من يحمل عنهم أمانة البيان، ويبلغ بعدهم رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفي هذا الكاتب العظيم).
وهذا كلام سداه ولحمته الحق والأنصاف، وأن كان يعبر عن خيبة الأمل في الجيل الناشئ، ويصور الواقع المؤلم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان.
مات شوقي، وتبعه حافظ، فقال الناس خسرت مصر شاعرين عظيمين، وليس فيها من يخلفهما، ولكن هذا القول عز على بعض الشعراء، وآلمهم. فراح المرحوم أحمد الكاشف يدفعه بقوة، ويصيح:
قالوا قضى اشعر بعد الشاعرين ولم ... يعمر بمثلهما ميدانه الخالي
ولست وحدي له في مصر بعدهما ... فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي
ولكنها كانت صيحة مكابر في الواقع المر، ولم يجد هذا الشاعر في مصر كثيراً ولا قليلاً من أشباهه وأمثاله، فأين مكان الشاعرين في ميدان الشعر ظل خالياً، وازداد ميدان الشعر فراغاً يموت الجارم ومطران، ولم تجد مصر من يشغل هذا الفراغ الهائل من شعرائها، وكان أكثر هؤلاء الشعراء كالفقاقيع ساعة وجودهما هي ساعة عدمها كما يقول الرافعي رحمه الله.
ومات الرافعي فقال المعجبون بفنه وعلمه ونبوغه، قضى كاتب العربية، وخلا مكانه في دولة الأدب، وهيهات أن يكون منه عوض، ولكن بعض القائلين رأى في تلاميذه ما يبشر بخير، وما يقوي الأمل في أن يكون من الرافعي عوض، لكن الزمن أيقظهم من أحلامهم اللذيذة، وردهم إلى الحقيقة المرة، ولم تظفر دولة الأدب العربي بخلف للرافعي العظيم.
في الشباب شعراء كثيرون، وكتاب أكثر، ولكن أين النابغة العبقري الذي تقول أنه(848/37)
سيخسف شوقي أو الرافعي؟!
نحن لا ننكر أن فيهم من يؤلف الكتب، ومن يكتب المقالة، ومن يقرض الشعر، ولكن بين هؤلاء وبين شيوخهم في الأدب مراحل بعيدة الأطراف، فليس فيهم من يكتب بأسلوب الزيات، ولا من يؤلف بعقلية أحمد أمين، ولا من يجود تجويد طه حسين.
على أن الداء الدوي في هؤلاء الشباب، الغرور، والادعاء، والتنفج، والتكذب، وهو - في رأيي - ما عاقهم، ويعوقهم، عن بلوغ الغاية، والوصول إلى الهدف، فإذا عاش المازني ومات، متواضعاً، فاخفض الجناح (وما كنت تراه يوماً ذاهباً بنفسه، ولا متبجحاً بعلمه، ولا مباهياً بعمله) كما يقول الزيات، فإن عندنا من الشباب من هو عند نفسه (شاعر الدنيا) ومن هو (نموذج وحده في الآداب العربية، وستطفر به الآداب إلى عليين) وحسبنا أن ننظر في ديوان هذا الشاعر الصغير الذي لم يسمع به إلا أصدقاؤه، فتراه يقول:
قد صغت شعراً لو بعثت بدره ... للخلد لاستبقت إليه الحور
كم عز آبده على طلابه ... وكم ابتغاه متوّج وأمير
لم تُنْشِ أحرفه اللغاتُ وإنما ... صنع الجمال حروفه والنور
ولا نعدم في الكتاب كثيرين من أمثال هؤلاء، فهذا الكاتب الصغير الذي لم تعرف الصحف اسمه إلا منذ شهور (أرسى قواعد النقد على أسس سليمة) وذاك الخامل المجهول (لا يتطاول النقد إلى آثاره) وهكذا غرور وإدعاء، ووقاحة، وتخلف.
وفي الشبان طائفة لا يكتبون، وإنما هم أصداء لبعض كتاب الغرب، يفكرون بتفكيرهم ويكتبون بأساليبهم، وينهجون منهجهم في كل شيء، فلا ترى لهم شخصية فيما يطالعونك به وإنما هم عالة على أولئك الكتاب، ينقلون عنهم، فيصرحون حيناً، ويدلسون في أحيان كثيرة، ويخدع الناشئون بهم، ويظنونهم من كبار النقاد، ومن عباقرة الفن، وكل ما لهم من فضل - إن كان - أنهم يمحزقون على الشادين في الأدب ويوهمونهم أنهم أساتذة الجيل، وأن الكتاب جميعاً كبيرهم وصغيرهم يعترفون بفضلهم ويخطبون ودهم، وفي الحق أنهم يفقدون صفة الحياء، فهم يرفعون أصواتهم عالية بأنهم خلقوا للفن وخُلق الفن لهم، فإذا ساء حظك وجلست معهم رأيت ما شئت من باب جهل قد فتحوه - كما يقول الجرجاني -
وإن تعجب فعجب أمر هؤلاء الشبان الذين قصرت خطاهم وطالت ألسنتهم، فهم لا يزالون(848/38)
يدعون أن الطريق مسدود، وأن هؤلاء الشيوخ هم الذين سدوه عليهم، وما علموا - أرشدهم الله إلى الصواب - أن الجواد الأصيل يتخطى العقبات الكئاد، ليصل إلى الغاية، فإذا غلبته العوائق، ووقف دون غايته رأى الناس في وجهه وفي أَعضائه وفي شياته ما يدل على أنه أصيل، أصيل!
على الشبان أن يجاهدوا، وأن يصبروا على لأواء الجهاد، وعليهم ألا يتعجلوا الشهرة، وألا تكون أكبر همهم. ثم عليهم أن يسهروا الليالي الطوال يطالعون ويدرسون ويفهمون، وعسى أن يكون فيهم بعد ذلك من يؤدي الأمانة، ولو أيسر أداء، أما إذا ظلوا على حالهم التي تراهم عليها، يحاربهم الزمن، ويعجل فأننا نترحم على دولة الأدب بعد هؤلاء العشرة، أطال الله في أعمار من بقي منهم، وهدى الشباب إلى الجادة.
علي العماري
مسابقات مجمع فؤاد الأول للغة العربية لتشجيع الإنتاج الأدبي
سنة 1950 - 1951:
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية توزيع جوائز لتشجيع الإنتاج الأدبي على النحو الآتي:
أولاً - تخصص مائتا جنيه لكل فرع من الفروع الآتية على أن يكون المتسابق من أدباء وادي النيل وحدهم.
(أ) قصة اجتماعية أو تاريخية، جيدة الموضوع والأسلوب باللغة العربية الفصحى، بحيث لا يقل عدد صفحاتها عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة منه عن 180 كلمة.
(ب) إنتاج شعري باللغة العربية الفصحى لا يقل عن 1000 بيت من الشعر في موضوعات متنوعة: في الاجتماع أو وصف الطبيعة أو تحليل العواطف أو نحو ذلك.
(جـ) بحث مستوفي مبتكر في موضوع لغوي أو أدبي يسير على المنهج العلمي الحديث وتظهر فيه شخصية الباحث، ولا يقل عدد صفحاته عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة فيه عن 18 كلمة.
ثانياً: تخصص لأدباء وادي النيل وغيره جائزة قدرها مائتا جنيه لمن يترجم لابن سينا(848/39)
ترجمة وافية دقيقة تصور حياته ونواحيه الفلسفية والعلمية والأدبية في أسلوب رائق بحيث لا ينقص عدد الصفحات عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تقل كلمات الصفحة منه عن 180 كلمة.
وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع أربعة نسخ مطبوعة أو مكتوبة على الآلة الكاتبة كتابة واضحة من الموضوع المقدم للحصول على الجائزة قبل أول أكتوبر سنة 1950.
وللمتبارين أن يذكروا أسمائهم أو يختاروا أسماء مستعارة، وعليهم أن يكتبوا عنوانهم واضحة وأن يوقعوا على كل نسخة يقدمونها.
ولا يجوز أن يدخل مسابقات المجمع الأدبية من سبق أن أجازه المجمع على إنتاج له فرع المسابقة المتقدم إليه، ولا أن يعاد تقديم أي إنتاج أدبي سبق أن قدم للمجمع أو لأية مباراة عامة في غير المجمع، أو لمناقشة عامة للحصول على لقب أو درجة علمية.
ويشترط في الموضوع المقدم لكل هذه المسابقات ألا يكون قد طبع قبل سنة 145، وسيحتفظ المجمع بنسخة من كل ما يقدم إليه من الإنتاج الفائز وغيره. وترسل الموضوعات بعنوان لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية شارع قصر العيني 110 القاهرة.
أين مكتبة الأقصر؟
استفهام إنكاري يجول بخاطري كلما استعرضت شؤون هذه المدينة العظيمة وبسطت يدي صفحاتها المشرقة وتأملت تاريخها الحافل بالمجد وذكرياتها المليئة بالفخار وإني لأعجب كثيراً كيف تبقى هذه المدينة بلا مكتبة عامة يرتادها محبو العلم ويلجأ إليها الباحثون سواء أكانوا سائحين أم أبناء المدينة وسكانها؟ وإذا كانت الحكومة تأخذ بكل الوسائل الممكنة لتجميل الأقصر وتحسين مناظرها فلا مندوحة إذا عن إنشاء مكتبة عامة بها لأن ذلك من ألزم وسائل تجميلها وهو عنوان على مبلغ حضارتها الحديثة وآية على سلامة شعور أهلها ومبلغ حسهم بالجمال الروحي ومدى تذوقهم لهذه المعاني السامية ولست أدري والله لمن أتوجه بالرجاء لتحقيق هذه الرغبة، وحسبي الرسالة وأثرها في الرأي العام.
(الأقصر)(848/40)
علي إبراهيم القنديلي(848/41)
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 7 -
46 - ص76: (ومن عجيب شأنهم أيضاً شربهم منه الغليظ الكاظ، القبيح منظراً الرديء مخبراً، الذي نشوته سُدُد، وعاقبته داء).
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (السُّدُد: بضمتين العيون المفتوحة لا تبصر بصراً قوياً. وهي عين سادة، أو التي ابيضت ولا تبصر بها ولم تنقي بعد كما في القاموس).
والصواب: (الذي نشوته سدَر) والسدر كما في اللسان: هو ما يُصيب شارب الخمر من الدُّوار وتحيُّر البصر.
47 - ص77: (وقال أعرابي:
صلى فأزعجني وصام فرابني ... نح القلوص عن المصلى الصائم
وقال آخر:
شمر ثيابك واستعد لقابل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وامشي الدبيب إذا مشيت لحاجة ... حتى تصيب وديعة ليتيم
ورواية البيت الأول في العقد (صلى فأزعجني وصام فراعني)
وقد رواه الجاحظ في البيان والتبيين 3111 كما هنا ولكنه
ذكر سبب قوله هو: (نظر أعرابي في سفره إلى شيخ قد
صحبه فرآه يُصلي فسكن إليه، فلما قال: أنا صائم ارتاب به
وأنشأ يقول: صلى. . . الخ).
ولم يسم ابن قتيبة قائل شمر ثيابك، وهو مساور الوراق كما
ذكر الجاحظ في البيان والتبيين 3115، ورواية البيت الأول(848/42)
عنه (واستعد لقائل) ورواية الشطر الأول من البيت الثاني
هكذا: (وعليك بالفتوى فاجلس عنده)، وكذلك رواها أبو الفرج
في ترجمة مساور 17168. قال أبو الفرج:
(مساور بن سوار بن عبد الحميد من آل قيس بن عيلان ابن مُضر، ويقال: إنه مولى خُويلد من عدنان، كوفي قليل الشعر من أصحاب الحديث ورواته، وقد روى عن صدر من التابعين وروى عنه وجوه أصحاب الحديث. . .
وقال لابنه يُوصيه:
شمِّر ثيلبك واستعد لقائل ... واحكك جبينك للعهود بثوم
إن العهود صفت لكلِّ مشمر ... دبر الجبين مُصفر موسوم
أحسن وصاحب كل قار ناسك ... حسن التعهد للصلاة صؤوم
من حزب حماد هناك ومسعر ... وسماك العتكى وابن حكيم
وعليكَ بالغنوى فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعةً لتميم
تغنيك عن طلب البيوع نسيئة ... وتكف عنك لسان كل غريم
وإذا دخلت على الربيع مسلماً ... فاخصص شبابة منكَ بالتسليم
48 - ص83 (وكان أيوب يلبس قلنسوة أفراب وقال: لأن ألبسها لعيون خير أحب إليّ من أن أدعها لعيون الناس).
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (هكذا بدون نقط في المخطوطتين المصرية والبغدادية).
ولو علم الأستاذ من هو أيوب لاستطاع أن يهتدي إلى وجه
الصواب في هذه الكلمة. وهو أيوب السختياني، راجع ترجمته
في حلية الأولياء 33 - 14، روى أبو نعيم عن حماد بن زيد
قال: قدم أيوب من مكة فخرج إلى الجمعة وعليه كمة أفواف
فقيل له فيها فقال: قدمت ولم يكن عندي غيرها فلم أر بها بأساً(848/43)
وكرهت أن أدعها لأعين الناس) وفي النهاية: أفواف جمع
فوف، وهو القطن. وعلى ذلك فصواب العبارة (. . . قلنسوة
أفواف وقال: لأن ألبسها لعيون الناس أحب إليّ من أَن أَدعها
لعيون الناس) راجع المعارف للمؤلف ص207
49 - ص84 (قال حفص بن عتاب: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قوم من طلبة الحديث فسترته، فقال لي: لم سترته؟ فكرهت أن أقول لئلا يراه من يدخل، فقلت كرهت أن يقع فيه ذباب، فقال لي: هيهات إنه أمنع (من ذلك) جانباً).
والصواب: (قال حفص بن غياث) قال ابن قتيبة في كتاب
المعارف ص222 (حفص بن غياث طلق. هو من النخع من
مذحج، ويكنى أبا عمر، وولاه هارون الرشيد القضاء ببغداد
بالشرقية، ثم ولاه الكوفة فمات بها سنة أربع وتسعين ومائة. .
.) وترجمته في طبقات ابن سعد 6273 وتاريخ بغداد 8188
50 - 84 (وحضر ابن أبي الجواري بالشام، وكان معروفا
بالرقائق والزهد، مائدة صالح العباسي مع فقهاء البلد، فحدثني
من حضر المجلس وهو البحتري بن عبد الله أنه بعث إليه
بقدح من نبيذ فشربه ابن أبي الجواري. . .) وابن أبي
الجواري: هو أبو الحسين أحمد بن أبي الجواري من أهل
دمشق توفي سنة ثلاثين ومائتين كما في رسالة القشيري(848/44)
ص17 وأما البحتري ابن عبد الله فلم أعرف من هو وقد
رجعت إلى العقد فألقيت فيه ص4343 (فحدثني البحتري عن
عبادة وكان ممن حضر المجلس) ويخيل إلى أن الاسم محرف
في الكتابين وأن صوابه (البحتري أبو عبادة) وقد كان
البحتري معاصراً لابن قتيبة، وكانت بينهما صلات ومراجعات
وقد جاء في عيون الأحبار 3161 (وقال بعض الشعراء
المحدثين، وقيل: إنه للبحتري، فبعثت إليه أسأل عنه، فأعلمني
أنه ليس له:
فلو كان للشكر شخص يبين ... إذا ما تأمله الناظر
لبيَّنتهُ لك حتى تراه ... فتعلم أني امرؤ شاكر
ولكنه ساكن في الضمير ... يحركه الكلم السائر
وبمناسبة ذكر (الرقائق والزهد) و (العقد) هاهنا أذكر أنها قد
وردت في الطبعة الجديدة من العقد وشرحت بغير المراد
منها. قال ابن عبد ربه 5285 (ومن شعراء الفقهاء المبرزين
عبد الله بن المبارك صاحب الرقائق) وعلق عليها الناشرون
بقولهم (يريد الرقائق من نسيبه وانظر ما سيأتي من شعره)
فإذا نظرنا في ص290 وجدنا فيها ما يلي: (ومن قول عبد الله
بن المبارك، وكان فقيهاً ناسكاً شاعراً رقيق النسيب معجب(848/45)
التشبيب حيث يقول:
زعموها سألت جارتها ... وتعرَّت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله لمْ لا يقتصدْ
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسداً حملنه من شأنها ... وقدكان في الحب الحسد)
ولم يعلق الناشرون على هذا بشيء وكان خليقاً بهم أن يفعلوا فإن هذه الأبيات ليست لابن المبارك وإنما هي لعمر بن أبي ربيعة من قصيدة مشهورة مطلعها:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرَّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
ولقد قالت لجارات لها ... وتعرَّت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسد حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد
وللقصيدة بقية تجدها في ديوانه ص146 وأما شرح الناشرين
للرقائق بأنها رقائق النسيب فإنه شرح بعيد عن الصواب،
والرقائق جمع رقيقة وأصلها الأحاديث التي ترقق القلب وقد
أفردها البخاري في صحيحه بكتاب سماه كتاب (الرقائق) قال
ابن حجر في فتح الباري 11180 (والرقائق: جمع رقيقة،
وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منهما ما يحدث في
القلب رقة. . .) وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
10167 (ولابن المبارك كتاب اسمه الزهد والرقائق. قال نعيم(848/46)
بن حماد كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقائق يصير كأنه
ثور منخور من البكاء) وقال أيضاً في ترجمة ابن أبي الدنيا
1089 (صاحب الزهد والرقائق) وقال في ترجمة ابن الخبازة
الشاعر 5425 (وله شعر كثير في الزهد والرقائق).
السيد أحمد صقر(848/47)
الموالى في العصر الأموي
تأليف الشيخ محمد الطيب النجار
بقلم الأستاذ علي العماري
هذا كتاب ألفه الشيخ محمد الطيب النجار، وهو رسالة قدمها لينل درجة الأستاذية في التاريخ الإسلامي.
ونحن يسرنا أن ينشر هؤلاء المتخرجون في قسم الأستاذية بالأزهر الشريف، رسائلهم، ولكن نحب وننصح ألا ينشر منها إلا الصالح للنشر، وأنا أعرف أن في هذه الرسائل ما يعد في مقدمة المؤلفات العصرية، عمقاً في البحث، وسلامة في الاستنباط، ونصاعة في الأسلوب، ومع الأسف لم تظفر المكتبة العربية بشيء من هذه المؤلفات التي تشرف الأزهر والأزهريين، وإنما أتيح النشر لبعض رسائل ليست أقوى تلك الرسائل بل ولا من أقواها، وكنا نتمنى، ولكن كما يقول البارودي:
يرى بصري من لا أود لقاءه ... وتسمع أذني ما تعاف من اللحن
وقد ترددت طويلا في نقد هذا الكتاب خوفاً من تقولات إخواننا وأساتذتنا من الأزهريين وسترا لما يبدو من بعض مؤلفينا من نقص في التفكير، وضعف في التأليف، ولكني - بعد التردد الطويل - رأيت من الواجب أن أنشر نقداً لهذا الكتاب، حتى يكون نبراساً لمن يريد أن ينشر مؤلفه، وحتى نبقى على سمعة الأزهر العلمية، وحتى لا يقدم من تحدثه نفسه، ويجد في جيبه المساعدة على النشر أن ينشر، بل يجب أن يتريث وأن يتريث طويلاً قبل أن يقدم، فإن الناس لهم عقول ناقدة، وعيون مبصرة.
وقد رأيت أن أبدأ بنقد شكلي أرفه به عن القراء، وإن كنت أعتقد أنه ضرورة، وأنه ربما كان فيه نفع كثير، وسأبدأ بنقد الكتاب من غلافه، فإذا انتهيت أخذت في نقد موضع الكتاب، وأرجو أن أهيئ ذهن القارئ بهذا النقد الهامشي إلى ما يأتي بعده من نقد جدي في صميم الموضوع، فلعل أعون شيء على الجد ما يصحبه من بعض الهزل.
في أعلى الغلاف كتب المؤلف هذه العبارة (صفحات من تاريخ الصراع بين العصبية والدين) ثم ذكر عنوان الكتاب، والذي أعرفه أن هذه الكتابات الجانبية إنما هي من (تقليعات) كتاب المقالة، ونظام الشعر من المحدثين، أما المؤلفون فإنهم يكتفون بذكر عنوان(848/48)
الكتاب في وسط الغلاف، ويرون في هذا بلاغاً، على أن هذا التعبير لا ينطبق على حقيقة الكتاب، فليس موضوع المولى من موضوعات الصراع بين العصبية والدين، وإلا ففي أي نفوس كان هذا الصراع، أفي نفوس العرب؟ فما نعرف أن الذين قسوا على الموالى من الأمويين أو من غيرهم كانوا يجدون في أنفسهم صراعاً بين الدين والعصبية، وإنما كانوا يعتقدون أن العرب أفضل من الموالى ديناً ونسباً، وأن هؤلاء الموالى يحاولون القضاء على الإسلام، لو مد لهم الحبل، ووطئت لهم الأكناف، فمن الإسلام أن يضرب على أيديهم، وأن يحال بينهم وبين ما يبتغون، ونمد الشوط فنقول أن بعض العرب كانوا يقسون على الموالى صادرين عن عصبية عربية، وهؤلاء فيما نعتقد ونؤكد لم يكونوا يشعرون بسلطان الإسلام على نفوسهم حتى تكون هذه النفوس ميداناً للصراع بين العصبية والدين. أم كان هذا الصراع بين الموالى والعرب وهؤلاء متعصبون وأولئك متدينون؟ فقد أخطأ المؤلف التوفيق، فإن دفاع الموالى عن أنفسهم، وتحينهم الفرص، وتربصهم الدوائر بالعرب لم يصدر شيء من ذلك عن تدين في نفوسهم، بل كانوا يصرحون بأن أصولهم وأنسابهم وماضيهم لا تتضاءل أمام أصول العرب وأنسابهم وماضيهم، وإن كان للعرب ماضٍ يفخرون به، بل كانوا يرون أنهم أنقى جوهراً، وأعرق مجداً، والمؤلف نفسه يصرح بهذا المعنى في غير موضع من كتابه، فالصراع إذن إنما كان بين عصبية فارسية، وعصبية عربية، حتى الذين تذرعوا بالدين وحاربوا به الأمويين لم يكونوا يحاربون العصبية العربية، وإنما كانوا يحاربون الأمويين لأنهم اغتصبوا الخلافة من الهاشميين، وهم أحق بها، ومعروف أن المظهر الدين في محاربة الأمويين إنما كان يخفي وراءه عصبية فارسية قاسية، وحقداً أعجمياً عنيفاً. وعنوان الكتاب نفسه أضيق مدلولا، وأقصر ذيلا عن موضوع الكتاب، فالذي يرى العنوان يظن أن المؤلف قصر بحثه عن حال الموالى في عصر الدولة الأموية، ولكن الذي يجد في نفسه الرغبة، فيقرأ الكتاب يجد المؤلف تحدث عن الموالى منذ قيام الإسلام وأفاض في ذلك، فقد تحدث عنهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى حديثاً مستفيضاً، بل تعدى ذلك إلى العصر الجاهلي، وإن كان اختصر في هذا البحث، وكان المؤلف - لو نُبِّه أو تنبه - أن يجعل عنوان الكتاب (الموالى في العصر الإسلامي الأول) أو ما أشبه هذا العنوان مما يكون شاملاً لكل موضوعات الكتاب، وإلا فأي مبرر لأن يقصر(848/49)
العنوان على العصر الأموي في حين أن ما ذكره عن الموالى في عهد أبي بكر وعمر لا يقل استيعاباً عما ذكره عنهم في العصر الأموي؟.
ثم كتب المؤلف العنوان (بقلم محمد النجار الحائز لدرجة الأستاذية في التاريخ الإسلامي، وأستاذ التاريخ بالأزهر الشريف) ونحن نحب أن نقف معه قليلا عند (الحائز) وتسأله كيف عداها بآلام مع أن الفعل متعد بنفسه، فكان الأحسن أن يقول: الحائز درجة. . . الخ فإذا تسامحنا وقلنا إن اسم الفاعل فرع في العمل، وأنه لذلك ضعيف فلا بأس أن يأتي بآلام تقوى فعله وتشد أزره، فلا تتسامح مع المؤلف في تركه الأفصح في عنوان كتابه حتى لا يعطى للقارئ في بادئ الأمر فكرة غير جميلة عن إيثاره للضعيف أو غفلته عن قواعد اللغة. على أن يقيني أن المؤلف لم يدر بخلده أن ذلك جائز. وإنما انساق مع عوام المؤلفين.
(يتبع)
علي العماري(848/50)
الكتب
العالم الذي نعيش فيه
تأليف جرترود هارتمان
تعريب الأستاذين عثمان نويه ومحمود حامد شوكت
بقلم الأستاذ ثروت أباظة
كتاب يعرض الجهود العبقرية التي بذلها أجدادنا الأولون حتى أهدوا إلينا هذا العالم الذي تمرح به جنباته اليوم، لا يقف في سبيلنا وعر أو موج أو ريح. ولا شك أن المترجمين قد أحسنا الاختيار حين وقفا إلى هذا الكتاب. وهما بعد ذلك قد ترجماه في لغة سهلة ميسورة عربية صريحة لا ضعف فيها ولا كلفة. وقد كانا بارعين في هاته الترجمة إلى درجة تحس معها أنهما إنما يؤلفان لا يترجمان. وإن في الكتاب مقياساً عادلاً لحبكة الترجمة فقد لاحظ الأستاذ عثمان نويه أحد المترجمين وكاتب المقدمة، لاحظ أن الكتاب الإنجليزي لم يلتفت إلى الحضارة الإسلامية وما طلعت به على العالم من تقدم. نعقد لها فصلاً لو لم يعترف الأستاذ عثمان في مقدمته أنه هو الذي أضافه، لاعتبره القارئ من أحسن فصول الكتاب جميعاً. فإن فيه إجمالاً تاريخياً كاملاً، وعرضا لما دعمته الحضارة الإسلامية من أسس في حضارة العالم. كل ذلك في صفحات قلائل، تطالعك فيها المعلومات في حشد هائل، يقفو بعضه بعضا وهي مع ذلك مبسوطة في يسر، تغريك بنفسها فتكاد لا تحس بما ينسرب إلى ذهنك من حقائق كانت جافة، جرى عليها قلم نويه، فكسب فيها الماء ينديها ويرسلها إلى ذهنك في لطف القصة الشائقة.
والكتاب كله يترقرق بهذه المائية في عرضه. فأنت مرتاح لما تقرأ دائماً، مقبل عليه لذة. وتمتاز مؤلفة الكتاب بخاصية عجيبة، تدرك بها أين يمل القارئ، فهي منتقلة به إلى الجديد، فتجدد عنده حب المتابعة. وهكذا تظل به واثبة من عصر إلى عصر، ومن تقدم إلى تقدم.
وإنك لتلمح في الكتاب ظلاً واسعاً لفنانة مخلصة، تتتبع نشأة الفن تتبعاً دقيقاً، فتراها تلقى ضوءاً باهراً على أثر الفن في حياة الأجداد، ثم الأبناء فالأحفاد. كما تبين المصادر الأولى(848/51)
التي انبثق الفن من بينها. فكانت تركن حيناً إلى الحقائق التاريخية، فإن انتقدتها وفقدتها عمدت إلى خيالها، وتصورت الأسباب التي نشأ عنها كل فن من الفنون. ولكن يبدو أن الكاتبة ليس لها ولع كبير بالموسيقى، فقد اكتفت بأن ألمعت إليها في عجالة يسيرة. وقد صورت الكاتبة حياة الإنسان الأول، بل صورت الحياة الأولى كلها، وكيف كان العالم، ثم كيف تطولت فيه الجبال الشم، وكيف انفرجت الأرضون فيه عن البحار والمحيطات؛ ثم تنتقل بعد ذلك إلى الحيوانات وبدء خلقها، وكيف تشكلت كل منها لقوائم الحياة التي تعيش فيها، ثم كيف جاء الإنسان هذا وتسلح بعقله ليقابل الأسلحة التي سبقه بها الحيوان الذي تقدمه في الظهور، واستطاع أن يشكل نفسه بما يبقى عليه حياته. ولكن الكتابة تربك أن سلاح الإنسان كان أفتك وأشد قتلا، وأنه به استطاع أن يعيش، ويصل إلى ما هو عليه يتتبع الكتاب ما أحدثه هذا السلاح من تغير العالم، وتظل تتابعه في رشاقة وخفة، حتى تصل به إلى منتهاه، فترى الكاتبة وقد هالها ما فعل السلاح من أعمال مجيدة، ثم هي تقف إليه رانية إلى مستقبله في خشية؛ فتراها تحذره مغبة التقدم إذا كان إلى شرها وقاء. وترى الكاتبة تتساءل عما سيفعله الإنسان بعد أن هيأ لنفسه هذا الفراغ العريض، وبعد أن أرسل الآلات تأخذ مكانه في كل عمل يقوم به. تتساءل ترى أيرد الجيل الحاضر جميل الغابر. . . يرده بالخير والبركة على الأحفاد، أم تراه سيتقدم ليقذف كل عود يستوي إلى أتون من الظلم، فينصهر الشاب، وتنحطم الآمال، وتتواكب الظلمات من عقول آنسة لاهم لها إلا الخراب والتدمير. تخاف الكاتبة، فتناشد قومها - والعالم كله قومها - أن يمثلوا فراغهم بالفن، فهو سبيلهم إلى التحرر من الحيوانية، وهو سبيلهم إلى التحرر من الآلية، وقمة الرقي إذا ارتفاعها الإنسان فقد ارتقى.
هكذا تفكر كاتبة الغرب، فهل قرأ الغرب أفكار ابنته؟ وإذا كانوا، أتراهم بها سائرين؟ إلا فليتقوا الله في إخوانهم من بني الإنسان. وليتقوا الله في آبائهم العباقرة. وليتقوا الله في هذا العالم الذي نعيش فيه.
ثروت أباظة(848/52)
القصص
متى يعود بابا؟!
للأستاذ شاكر خصباك
وأخيراً تحققت أُمنيتي بالسكنى في ضاحية (مصر الجديدة). كنت قد زرتها مرة وأُعجبت بأبنيتها المتشابهة الطراز والألوان، وسحرت بشوارعها النظيفة الهادئة. وتلك صفات لا تتوفر في (باب اللوق) الذي أقطن فيه. قصدت إلى (مكتب السماسرة) وعرضت على الموظف المختص شروطي. نقر الموظف على المنضدة متأملاً، ودس قلم الرصاص في شعره يبعث به مفطراً، ثم رفع رأسه وقال متسائلاً: غرفة هادئة في (شقة) تسكنها أرملة قبطية توفي زوجها منذ شهراً مخلفاً بنتاً في السابعة من عمرها، والإيجار خمسة جنيهات شهرياً. . . أتعجبك؟!
- اتفقنا.
ونقلت متاعي إلى المنزل الجديد. وعلى بابه وقفت امرأة وطفلة المرأة في مقتبل العقد الثالث متوسطة القامة على شيء من البدانة. عيناها السوداوان جميلتان، وكذلك أنفها الأقنى الصغير، لكن فمها يميل إلى الاتساع، والطفلة جميلة مرحة ذات وجه بشوش وهيئة ضاحكة.
- سعيدة.
- سعيدة! أهلاً وسهلاً.
واجتزت الباب يتبعني الحمال. تلفت ورائي فرأيت الطفلة ترسل إلى نظرات فرحة. ابتسمت لها فقفزت نحوي وتعلقت بأذيال سترتي. ثم رفعت إلى وجهها الضاحك وهتفت جذلة:
- أنت طويل مثل بابا.
- صحيح؟!
وامتدت يدي إلى رأسها تلاطف شعرها في حنان. وفجأة انطلقت كالقذيفة. انحنيت على حقائبي أُفرغ محتوياتها في الصِّوان والمكتب.
- يا أستاذ. . . يا أستاذ. . .(848/53)
سمعت صوت الطفلة فتحولت بأنظاري إلى الباب أرقبها في شغف. تقدمت نحوي تتعثر في مشيتها وذراعاها تنوءان بحملهما. (عروسة) عاجية وحصان خشبي وسيارة صغيرة، وضعتها على الأرض في عناية وشرعت تناولني واحدة بعد أُخرى في زهو واعتزاز. قلت وأنا أقلّبها بين يدي في إعجاب:
من أهدى إليك هذه اللعب الجميلة؟!
فلمعت عيناها ببريق الغبطة وهتفت في حماس: بابا اشترى لي هذه اللعب كلها. . . بابا يحبني كثيراً.
فرنتّ على خدها في لطف وقلت: طيب. . . غداً سأشتري لك لعبة جميلة.
فتطلق وجهها وبان السرور في عينيها وهمست في مسودة: أنت تحبني كبابا.
ربما!. . . وبمضي الأيام اشتدت محبتي لها. ما سبب تلك المحبة؟! الله أعلم. قد يكون مبعثها رثاء لطفلة يتيمة الأب. قد يكون مصدرها إعجاب بروحها الأليفة، روح يفيض حيويته على البيت فيملؤه بهجة وحركة ونشاطاً.
وفي كل مساء كنت أخرج إلى شرفة الدار وأتمدد على مقعد الراحة، (المترو) يزفر في الشارع تحتي كأنه يضيق بحمله. وكمساري (الترام) ينفخ في زمارته بملل، ونفير السيارة يعوي بين حين وآخر، والناس يروحون ويجيئون، وفريدة تقبل على قفزاً بصحبة دُماها لتسألني مشاركتها في اللعب كعادتها كلما رأتني منفرداً في الشرفة.
- هالو! فيفي.
وكومت لعبها على الأرض وتربعت إزاءها. ثم شرعت تملأ السيارة الصغيرة. وفجأة توقفت يدها عن الحركة وبدت كأن أمراً يشغل بالها، ماذا يقلقها؟! رفعت عينيها إلى وسألتني في استعطاف.
- هل تشترك معي في اللعب عندما يعود بابا؟! سنلعب ثلاثتنا معاً.
سرت في جسدي رعدة خفيفة وأنا أحدق في وجهها البرئ وأصغي إلى سؤالها الساذج، ألا تعلم بموت أبيها؟! وسمعت لساني يهمس في تردد: حسناًـ سأفعل.
صفقت فرحاً وهرعت إلى الغرفة أُمها وتركت السيارة الصغيرة تدور حول نفسها، وترامى إلى مسامعي صوتها وهي تسأل الأم في لهفة: ماما. . . متى يعود بابا؟!(848/54)
تأخر صوت الأم في الرد ثم تتاهى إلى يغمغم في بطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي.
وظهرت أمامي ثانية (تتنطط) كالعفريت!
- بابا سيعود قريباً من الإسكندرية وسنلعب ثلاثتنا معاً.
- إن شاء الله.
قضيت تلك الأمسية موزع النفس بين شتيت من العواطف والأحاسيس؛ ألم وسخط وضيق وحزن. ثم أوتفريدة إلى فراشها فانطلقت إلى الأم.
- ألا تعلم فريدة بموت أبيها المرحوم؟!
سألت الأم، فأجابتني بنغمة كئيبة تفيض بالحزن والألم: كلا. لقد بعثتها إلى بيت عمتها في (المنصورة) أثناء مرض أبيها، ولما توفي استدعيتها ثانية وزعمت لها أنه سافر إلى الإسكندرية لمهمة تتعلق بعمله.
وقرأت معاني التوسل العميق في عينيها وهي تضيف قائلة: أرجو أن تساعدني على إخفاء الحقيقة عنها، فهي تحب أباها حباً عظيماً، وأخشى أن تصيبها صدمة نفسية إن اكتشفت الحقيقة
في هذه المرة أدركت لماذا تضاعف حبي لها واشتد شغفي بها. وكالنهر حين تزدحم مياهه فتتدفق على جوانبه فاضت عواطفي على فريدة. فيفي، احتفظي بعلبة الشوكولاتة لك وحدك. . . فيفي، أعطيني قبلة في عينيك. . . فيفي، أتعجبك هذه العروسة الصغيرة؟! فيفي، هيا نلعب لعبة القط والفار. فيفي، سأصحبك غداً إلى مدينة الملاهي
وسارت الحياة، وانطوى الزمن، وبدأت الأم تتخلى عن تحفظها شيئاً فشيئاً وتتقرب إلى اشتراكنا أول الأمر في عاطفة واحدة؛ حب فريدة. ثم تطور الاشتراك في العواطف وتعددت جلساتنا وطال انفرادنا. في الأسبوع الأول راحت تنتهز فرص غيبة فريدة لتجلس إليّ وتحدثني عن موضوع يتعلق بزوجها مبتدئة بعبارة تقليدية: لقد كان مثال الزوج المخلص رحمه الله. الحمد لله الذي عوض فريدة بشاب مثلك يعوضها من حنان أبيها ومحبته
وفي الأسبوع الثاني تحررت من قيد البيت فتأبطت ذراعي وهمست في حياء: هيا بنا يا سي زكي نقضي الأمسية في أحد المقاهي.(848/55)
وفي الأسبوع الثالث، في عصر ذلك اليوم دعتني إلى السينما قائلة: في سينما (كايروبالاس) فلم ممتاز لتيرون باور. . . فلنشهده هذه الليلة يا زكي.
وعدنا في الساعة العاشرة والدار يغمرها الظلام وفريدة والخادمة الصغيرة نائمتان أو المفروض أنهما نائمتان. خلعت بدلة السهرة واستبدلت بها لباس النوم. ودسست جسدي بين طيات الفراش فتناهى إلى صوت فريدة تسأل أمها في ضيق وقلق: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وجمجم صوت الأم في تردد وبطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي. خيَّم الصمت لحظة ثم ارتفع صوت فريدة في لهجة المرتاب: ولكن متى يعود؟! في كل مرة تقولين قريباً، وأنتظر فلا يعود!
- سيعود قريباً يا فيفي وسيجلب لك هدايا كثيرة. والآن يجب أن تنامي وإلا فإنه لن يحبك إذا علم أنك ظللت ساهرة حتى هذا الوقت المتأخر.
حلَّ السكون ثانية فأغمضت عيني ومشاعر الألم والسخط والضيق والحزن تمور في صدري. إلى متى يستمر جهلها بمصير أبيها؟! إلى متى يدوم تضليلها؟! ما أحوجها إلى محبة تعوضها حنان أبيها وتلقى على ذكراه رداء النسيان.
في اليوم التالي ابتعت لها (عروسة) كبيرة ذات عينين تُفتحان وتُغلقان كلما تحرك جسدها.
- فيفي. . . تعالي هنا أتيتك بهدية ظريفة.
دقيقة ودقيقتان وثلاث. . . لماذا تأخرت؟! ثم ظهرت على عتبة الغرفة تخطو في تمهل وتردد.
- خذي هذه (العروسة) يا فيفي. . . أتعجبك؟
وحدقت فيها ملّاً والتردد يشيع في صفحة وجهها النقية، حركت الدمية يميناً وشمالاً فانفتحت عيناها وأغلقتا. وفي لمح البرق اختطفتها من يدي وعدت خارج الغرفة. . ماذا أصابها؟! خرجت وراءها مذهولاً فعالجني بكاؤها منبعثاً من غرفة الاستقبال، مددت رأسي من الباب فرأيتها منبطحة على الأريكة ورأسها مدفون بين الوسائد والدمية مضمومة إلى صدرها، فتهافت على الأريكة بجانبها ومررت بكفّب على شعرها في حنان وأنا أهمس في رقة:
- لا تبكي يا فيفي. . . ما الذي يضايقك؟!(848/56)
فرفعت إلى عينين مخضلتين بالدموع ودمعت بصوت مخنوق وهي تشهق: ألا يعود بابا ليشتري (عروسة) كهذه؟
- بالطبع سيعود يا فيفي. . . سيعود بعد أيام قليلة.
ولم يعد الأب بعد أيام قليلة، وأصبحت في مقامه لدى الأم. اليوم نخرج إلى المنتزه وغداً إلى المقهى وبعد غد إلى السينما، وفي (كازينو سفير) نالت إعجابنا مائدة منزوية في الزاوية اليسرى المطلة على شارع عثمان بن عفان، واعتادت فريدة أن تمر على رصيف هذا الشارع بصحبة الخادمة الصغيرة في طريقها إلى المنزل عمتها فترانا منهمكين في الحديث أو الضحك وتتوقف قليلاً وترمقنا بنظرات جامدة وتواصل سيرها مكفهرة الوجه. ثم تلتفت نحونا مرة ومرتين وثلاثاً حتى تختفي عن أنظارنا!.
وأصبحت فريدة اليوم غيرها بالأمس! كل شيء تغير فيها. أضحى الصمت طابعها المميز والكآبة سمتها الدائمة! واختفى الضجيج والمرح من البيت، وخيم عليه جو من الكآبة الثقيلة. فيفي، لماذا لا تضحكين؟! فيفي، لماذا لا تجرين في ساحة الدار؟! سلبت البيت بهجته ونشاطه؟!
وتحمل فريدة لعبها وتتخير ركناً منعزلاً وتنفرد بها وتمضي الوقت معها في صمت، وأقبل عليها ضاحكاً وأهتف مرحاً: أتسمحين لي بمشاركتك في اللعب يا فيفي؟
وتجمع دماها في هدوء وتنسل إلى غرفتها في سكون. . . لماذا أضربت عن مشاركتي في اللعب؟ ما الذي يبعث في نفسها الكآبة والصمت؟!
وفكرت هنيهة. دمية جميلة تعيد علاقتنا إلى صفائها. واشتريت (عروسة) كبيرة من الجنس تضع على رأسها طرطوراً وتجلس في هيئة المتأمل؛ الرأس بين الكفين والمرفقان على الركبتين
- فيفي. . . اشتريت لك (عروسة) عظيمة. . . تفضلي.
- لا أريدها.
ولبثت ترنو إليها في جمود دون أن تمد إليها يداً.
- كوني عاقلة يا فيفي. خذيها.
- قلت لك لا أريدها.(848/57)
وانفلتت ذاهبة، ثم عادت بعد حين. نظرت إليها مشدوهاً وهي تكوِّم أمامي اللعب التي أهديتها إليها ووجهها عابس وشفتاها ملتويتان. واستدارت لتعود أدراجها فتشبثت بذراعها.
- ماذا بك يا فيفي؟! لماذا خاصمتيني؟!
حاولت أن تتملص من قبضتي فخابت، وعندئذ انفجرت بالبكاء. وصرخت في غضب حزين:
- أنت كذاب. لا أنت لا تحبني. . . وأنا لا أحبك أيضاً. أنا أحب بابا. سيعود بابا وسيضربك أنت وماما.
وتركت قبضتها مذهولاً فمرقت من الباب كأنها تفر من سجن: وتحولت إلى كوم الدمى أرقبه في لوعة وأسف. ما الذي غير قلبها عليّ؟! وما شأني في الأمر إن كان غياب أبيها مصدر لوعتها؟! ولماذا باتت تحس نحوي بهذا النفور الشديد؟!
وأصبح مرآي يثير الاشمئزاز والكراهية في نفسها، ما تكاد عينها تنالني حتى تفيض بنظرة مقت. وتتقلص ملامح وجهها ويغمره فيض من عواطف البغض. وبدأت تعيش كالغريبة في الدار. ما تكاد تعود من مدرستها حتى تلجأ إلى غرفتها لتناجي لعبها في صمت. ولم تعد تسأل أمها عن أبيها، وأخذت تمضي معظم ساعات النهار في بيت عمتها، فأمسى المنزل كئيباً موحشاً. واقتنعت بتلك اللحظات القصيرة التي تتهيأ لي فيها رؤيتها حين تجلس إلى مائدة الفطور. وفي تلك الدقائق كانت تثبت عينيها المتألقتين ببريق الحقد على وجهي وتتأملني في وجوم. حاولت مرة أن أحدق في عينيها لأستشف من ورائهما ما يدور في فكرها. ولشد ما دهشت حين قفزت من مقعدها في صمت وحملت كوب الشاي وانسلت إلى غرفتها بهدوء. وجرت أمها خلفها لتعيدها إلى مقعدها فواجهتها بالصراخ والنحيب حتى أفلحت في الذهاب. وصار من المألوف أن تسبقني إلى الفطور، فإذا رأتني مقبلاً على المائدة تركت الفطور واختفت في غرفتها بسكون. . لماذا تكرهيني يا فيفي، لماذا؟!
ودب النحول في جسمها وغمر الشحوب وجهها وانطفأ بريق عينيها سوى بصيص من الحزن والمقت. والأم حزينة لحال ابنتها مسرورة بحبها الجديد. أنا مهموم محزون لا أدري ماذا أفعل وكيف أستعيد محبة الطفلة ثم حدث أن عدت من (السينما) ذات مساء في الساعة(848/58)
الثانية عشرة والنصف بصحبة الأم. فتحت الأم الباب فراعنا أن تبصر فريدة منطرحة على أحد مقاعد الصالة في وضع مهمل، اتجهت إليها الأم وهزت جسدها في رفق فهبت من رقادها تصرخ في جنون. وحملتها الأم بين ذراعيها في اضطراب، لكنها انطلقت ترفس الهواء برجليها محاولة التملص منها
- ماذا بك يا فيفي؟. . . لماذا تبكين يا فيفي؟!
لا جواب سوى الصراخ. صراخ يصل عنان السماء. . ثم انحلت عقدة لسانها واندفعت صائحة:
أنت تكذبين عليَّ يا ماما. . . بابا لن يعود إلا حين يترك سي زكي دارنا. . . أنت بعثته إلى الإسكندرية لكي تحضري سي زكي هنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لماذا يعيش في دارنا بدل بابا؟. أنا لا أحبه، لا أحبه. . . بابا أحسن منه. بابا أحسن منه يا ماما. . .
انسللت إلى غرفتي في صمت وأنا أشعر بقبضة قوية تعصر قلبي. وتهالكت على المقعد ووضعت رأسي بين كفي وأغمضت عينيَّ مُفكراً، وقبل أن ألجأ إلى الفراش كانت حقائبي معدة للرحيل
وقفت الأم في الصباح التالي في ركن من ساحة الدار ترقب الحمال في وجوم وهو يروح ويغدو حاملاً متاعي. واختفت فريدة وراءها تخلس إلى النظرات في ابتهاج. وتمَّ كل شيء فأقبلت عليهما مودعاً وابتسامة باهتة ترفرف على ثغري شددت على يد الأم في حرارة فاستبقت كفي بين كفَّيها وحدَّقت في وجهي بعينين تحيَّرت فيهما الدموع. ولم تفه بكلمة واحدة وقبل أن أستدير مولِّياً الأدبار رنوت إلى فريدة بنظرات تجمعت فيها عواطف الحب والحزن والألم، فابتسمت في سرور وتشفَّ، وهبت السلم متمهلاً ثم توقفت حين سمعت فريدة تسأل أمها في فرح: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وواصلت هبوطي ثانية ولساني يجمجم في أمسىً: قريباً إن شاء الله يا فيفي!
(القاهرة)
شاكر خصباك(848/59)
العدد 849 - بتاريخ: 10 - 10 - 1949(/)
صور من الحياة:
حكمة القدر!
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا لحكمة القدر! أفتؤمن يا من تسخر من قوانين الحياة وأنت في عنفوان الصبا، وتهزأ بتقاليد الأسرة وأنت في فورة الشباب، وتعبث بقواعد الأخلاق السامية وأنت في ريعان العمر. . . أفتؤمن يا من تفعل كل ذلك غروراً منك وجهلاً بأن الحياة تمهلك حيناً لتنقْض عليك كالصاعقة الهوجاء فتستلبك من شبابك وقوتك وتذرك وحيداً في ركن من الدار تأكلك الحسرة على أن انطوت سنوات عمرك المشرق عجافاً لم تلدن السعادة في الدار ولا اللذة في الولد، ولا الراحة في الزوجة؟
لقد ضننت بقلبك ومالك يوم أن كنت في الشباب النضير، والقوة العارمة، فصفرت حياتك - وأنت تحبو نحو الشيخوخة الباردة - من قلب ينبض بحبك، أو فؤاد يخفق بالعطف عليك! نشأ الفتى في كنف أبيه وهو يدلّله، ونما وأشتد غرسه في رعاية أمه وهي تحنو عليه، وعاش بينهما سعيداً، رضىَّ البال، مطمئن الخاطر، يبذل جهد الطاقة في الدرس، ويستنفذ وسع النشاط في المدرسة، لا تشغله نوازع الحياة، ولا تفزعه مسارب الرزق، وأبوه رجل فيه العطف والحنان، وفيه الثراء والعقل. . .
وأحس الفتى بالعاطفة المشبوبة تتدفق من قلب أبويه فتفعم حياته بالنشوة والسعادة، فأحب أمه وعلق بأبيه على حين قد حمل لأخيه الأكبر لوماً وعتاباً لأنه طاوع شيطانيته الطائشة، فنبذ المدرسة ولمَّا ينل من العلم إلا قطرات لا تغنى من جهل ولا تدفع من سفه. . نبذ المدرسة ليكون موظفاً صغيراً ينعم بالوظيفة الوضيعة، ويستمتع بالراتب الضئيل، ثم دفعه شبابه - بعد أن خلص من المدرسة - إلى أن يحدث أبويه حديث قلبه، فما تلبث الأب، ولا تعوَّقت الأم، فإذا هو ينتظر الزوجة لتزف إليه. . . والزوجة فتاة من بنات الجيل الفائت، فيها أثر النعمة، وعليها سمة الجمال. . . ورأى الفتى الفتاة وهيتزف إلى أخيه الأكبر. . . فاختلج قلبه، وأخذته روعة المنظر، وخلبته أنوار لزواج، فتمنى أن تنطوي السنوات في سرعة ليصبح هو الآخر زوجاً ورب أسرة. وأحس الأب بما يختلج في نفس ابنه الأصغر، فجلس إليه يحدثه بقلب الأب: (متى. . . متى يا بنى أسعد بزواجك أنت؟) فقال الفتى: (إن(849/1)
الزواج يا أبت يحول بين المرء وبين الدرس، فما يستطيع العقل أن يفرغ للدرس والقلب مشغول بالزوجة، وأنا أطمع أن أكون مهندساً كبيراً) قال الأب: (إن الأيام - يا بنى - تمر في غير تمهل، وغداً تنال الشهادة العالية. حينذاكأستطيعأن أحبوك بما لم أبذله في سبيل أخيك). . .
واطمأنت نفس الفتى، ودفعته عزيمته إلى أن ينكب على الدرس في غير هوادة ولا لين ليخلص من الدرس إلى الزوجة، وتأججت الفكرة في خاطره، فأنطلق على سننه ليبلغ الغاية. . . فبلغ. . . ولكنه لم يصل إلى نهاية الشوط. . . إلى دبلوم الهندسة الملكية. . . إلا ليرى أباه يلفظ النفس الأخير!
لم يلمس الفتى فرحة النجاح، ولا نشوة الوظيفة، وإن قلبه لينتفض من أثر الأسى والضيق لموت أبيه، وإن أمه إلى جانبه تحس فراغ القلب، وفراغ الدار، لأنها فقدت الزوج والعائل!
أما أخوه الأكبر، فجاء يطلب نصيبه من ميراث أبيه ولما تجف العبرات في محجري أمه. . . جاء يطلب نصيبه ويلح في الطلب ليستعين به - كزعمه - على حاجات العيش وطلبات الدار. . .!
وحاول الفتى أن يملأ فراغ الدار، فلصق بأمه يعينها على أمرها ويهيئ لها رغباتها عسى أن يزيح عن قلبها بعض همه. وعز عليه أن يصر أخوه الأكبر على أن ينزع بعض تركة أبيه من بين يدي أمه، فاحتقر الزواج احتقاراً انجابت له أخيلته القديمة، وهي كانت لذيذة جذابة. . . انجابت حين أحس أن الزواج وحده هو الذي قذفه بأخيه إلى أن ينكأ جراح قلب أمه كلما أوشكت أن تندمل!
وأرادت الأم - بعد سنة - أن ترى ابنها الأصغر زوجاً ورب أسرة، فتحس فيه فرحة قلب صفعة الخوف، ولكن الألم كان ما يبرح يضرب الفتى ضربات قاسية كلما تراءى له الأخ الأكبر وهو ينزع بعض ميراث أبيه من بين يدي أمه، ثم يهجرها لا يعبأ بنزعات قلبها، ولا يرحم ضعفها. وخشي أن ترغمه الزوجة - يوماً - على أن يفعل ما فعله أخوه فيذر أمه وحيدة تحبس فقد الزواج والابن في وقت معاً!
وعاش الفتى أبن أمه المطيع، وخادمها الأمين، والأيام تمر سراعاً، حتى عصف بها الحزن، وقصمتها السنون فماتت. . . ماتت وخلفت له - فيما خلفت - خادماً تقوم على(849/2)
راحته، وترعى شأنه!
وأحس الفتى بفراغ داره، وفراغ قلبه، وفراغ حياته، وهو يدلف رويداً رويداً إلى الكهولة الفارغة، وإن الشعرات البيض لتأخذ طريقها إلى فوديه في غير ريث ولا مهل، وإن الضعف لينسرب إلى أوصاله في غير وناء ولا بطأ. . . فانطوى على نفسه وفيه الخجل والحياء، وسكن إلى عمله يجد فيه السلوى والهدوء، والخادم إلى جانبه تدرج إلى الشباب والنضوج، وهي فتاة من بنات الريف جاءت من القرية لتخدم سيدتها، ولتتعلم هنا - في القاهرة - أموراً لا يرقى إليها عقل ابنة قرية. . . أموراً فيها اللهو والعبث، وفيها الشرهة إلى المال، والكلب على الزينة، وفيها المكر والخداع!
وتيقظت الأنثى في قلب الفتاة، فانطلقت تتودد إلى سيدها في لطف، وتتقرب منه في رقة، والدار خواء إلاَّ منهما معاً. . .
واستشعر هو الدفء يشع من شبابها ومن أنوثتها، فهبت في نفسه دواعي الرجولة المكفوفة منذ زمان، فما ترفع عن أن يمد يده ولسانه على حين أنه يكبرها بسنوات وسنوات. . .
وابتسمت الفتاة لسيدها في لين، ولصقت به في تكسر، وعقلها يحدثها بأنها توشك أن تختله عن رجولته وماله، وأن تسيطر على الدار التي عاشت فيها - زماناً - خادماً لا تظفر إلا بالتافه، ولا تنال إلا الحقير. . وراحت الفتاة تمكر بسيدها وتخدعه عن نفسه حتى أسهل وأنقاد، وظلت إلى جانبه سنوات تسيطر على خواطره الحائرة وهو يستخذى، وتملك نوازعه الفاترة وهو يتصاغر، فتمادت في غوايتها تذيقه ألواناً من الحرمان، وفنوناً من الضيق لتدخر ماله لنفسها وتعتقده لحاجتها!
يا عجباً! لقد أصبح الرجل مهندساً كبيراً في وزارة الأشغال، له من منصبه الجاه والثراء، وله في عمله العزة والسلطان، ولكنه يحس الضياع ويستشعر الضيق لأنه يعيش في داره غريباً وهي خواء إلامن خادم لعوب تسيطر عليه فتسلبه المتعة في ماله وتحرمه السعادة في قلبه.
لقد طوت السنون كل آماله، فمات الحنان في قلب أبويه، وطار عنه العطف في قلب أخيه الأكبر، وذوت أمانيه جميعاً فغدا محروماً من أحبائه: الزوجة والولد ز والدار، لايجد السبيل إليهم وإن جهد.(849/3)
وأرادت الأيام أن تسخر من المهندس الكبير مرة أخرى فسولت للخادم اللعوب أن تلصق به - ذات مرة - وتحدثه حديث أملها هي، وتوحي إليه بأمر، قالت. (وأنا أخشى أن تتناولك الألسن، فتصبح مضغة في الأفواه فتنهار كرامتك، وينحط قدرك، فدعني أبحث عن عمل آخر) وأحس المهندس الكبير بالصدمة تكاد تذهله فهو لا يطيق أن يعيش وحده بعد أن حطمته السنون، فقال (وأنا؟. . . افأعيش هنا وحيداً؟) قالت (فإن استشعرت الألم لفراقي فدعني أتزوج من فلان، وهو خادم في المنزل المجاور، فأكون له زوجة بالليل وأكون لك خادماً بالنهار!) وتهلل وجه الرجل للخاطر، واطمأن قلبه.
وهم الرجل يهيئ لزواج الخادمين وينفق من ماله عن سعة ويبذل في سخاء، ثم زفّت الزوجة - ذات ليلة - إلى زوجها. . .
وفي الصباح بكر المهندس إلى دار الزوجين، وبين يديه هدية ثمينة يطمع أن يخطف بها قلب الزوجة وأن يسترضى الزوج. ولكن لشد ما أصابه الذهول حين رأى الدار خاوية إلا من أشياء تافهة متناثرة هنا وهنالك. لقد طارت الزوجة بين ذراعي زوجها إلى حيث لا يعلم بعد أن سلبته ماله وقوته.
وارتد الرجل إلى داره يجرر أذيال الخيبة والحسرة. ارتد ليرى داره خالية إلا منه وهو يتهالك ضعفاً وفتوراً تأكله الوحدة وتلتهمه الوحشة.
فيا لحكمة القدر. . . يا لحكمة القدر!.
كامل محمود حبيب(849/4)
صحائف مطوية في السياسة العربية:
هّاشم الأتاسي في سنة 1939 وفي عام1943
للأستاذ أحمد رمزي بك
إن لانقلاب الذي قام به المندوب السامي الفرنسي المسيو جبريل بيو عند تعيينه مندوباً سامياً لفرنسا في أوائل سنة 1939 كان يرمي إلى إيقاف العمل بالمعاهدتين اللتين عقدتهما بلاده والعودة إلى النظام السابق.
وترتب على هذا الحال إبطال الدستور في سوريا ولبنان والعودة إلى تأكيد الاستقلال الذاتي أو الإداري الذي كان يتمتع به كل من جبل الدروز وإقليم العلويين.
وبتت فرنسا الأسباب المبررة لاتّخاذ هذه الخطوة على تطرق الفساد إلى الأنظمة البرلمانية القائمة وتدهور الحكم الوطني في كل من البلدين وما سببه من انتشار الرشوة والتغاضي عن تنفيذ العدالة، والإسراف في إنفاق الأموال العامة وإضاعتها على الأقارب والمحاسيب، ثم فيما أصاب الأقليات من ظلم واضطهاد جعل رجالها يستصرخون بممثلي فرنسا ويطلبون إغاثتهم مما هم فيه. وكانت هذه الحملات المغرضة موجهة بالذات إلى سوريا وإن كان أصاب لبنان رذاذُ منها بحكم اشتراكه مع جارته في إمضاء معاهدة تشبه أو تقارب المعاهدة التي أمضتها فرنسا مع سوريا. ولقد قام الحكم الوطني في سوريا على أساس دستوري سليم وخُيل إلى القائمين بالأمر أنه يكفى إمضاء المعاهدة ثم التصديق عليها لكف اليد الفرنسية عن التدخل في أمرهم والسيطرة على الشئون الداخلية التي أصبحت من اختصاص الحكومة السورية وحدها ولا بشأن لفرنسا فيها بعد أن سلّمت السلطات إلى الرجال الذين جاءوا إلى الحكم بمقتضى قواعد الدستور الذي وضعته فرنسا أو وافقت عليه
ولم يتبادر إلى ذهن الوطنيين خطر الرجوع في هذه الاتفاقات بعد إمضائها إذا كانوا على يقين من أن أغلبية الشعب السوري تؤازرهم وإن البلاد تؤيد بإجماع الاستقلال التام وتأكيد الحياة الدستورية.
وكان جيش الدولة المنتدبة يحتل البلاد وتخضع قوات الأمن العام وغيرها من القوات المسلحة لضباط من الفرنسيين، وكان أعظم ما تظهر قوة العسكريين في الأماكن المتطرفة على الحدود أو في المقاطعات التي تتمتع بإدارة ذاتية، وكان ضباط الارتباط الفرنسيون(849/5)
يمثلون قوة الدولة المنتدبة الحاكمة. ولما أغلبهم تأتي به فرنسا من المناطق الخاصة للحكم العرفي من مستعمراتها في شمال أفريقيا فقد جاءوا ومعهم عقلية وأساليب فرنسا في مستعمراتها، فتمادى بعضهم في الاستهانة بممثلي الحكم الوطني وظن أن من اختصاصه إقامة العدالة - كما يفهمها - وإيقاف تنفيذ الأحكام وإعفاء المحظوظين من دفع الضرائب.
وهكذا برهنت الحوادث على تعذر قيام السلطتين معاً وأن هذه الحالة لابد أن تؤول إلى تغلب السلطة الأجنبية المنتدبة التي يدعمها جيش الاحتلال. فهل تعجلت الحكومة الوطنية في تعيين ممثليها في أماكن بعيدة اعتادت تجاهل وجود كومة دمشق منذ قيام الانتداب؟ وهل أحسنتصنعاً في تسلم السلطات المباشرة في المقاطعات التي كانت تتمتع باستقلالها؟ هذه أسئلة من استقلالها باستقلالها؟ هذه أسئلة من الصعب الإجابة عنها، ولكن الذي ظهر من أثر هذه السياسة أن رجال الحكومة المركزية تعرضوا للإهانات في بعض الجهات خصوصاً بعد حادث اختطاف محافظ الجزيرة الوطني في داخل حدود المقاطعة التي جاء ليحكمها وصعب على الحكومة الوطنية حمايتهم
وهكذا ضج السوريون جميعاً من تدخل سلطات الانتداب ومن سكوتها على هذه الأعمال ومن تشجيع بعض ممثليها واشتراكهم في تدبيرها، وألقيت في البرلمان خطب حماسية شديدة اللهجة ولكن صداها لم يتعد الأماكن التي ألقيت فيها، وكتبت مقالات قوية الحجة ولكن أثرها لم يتعد أعمدة الجرائد التي نشرتها
في وسط هذه الظروف القائمة والهجمات المتتالية وجد رئيس الجمهورية هاشم بك الأتاسي بين قوتين لا قبل له بأن يوفق بينهما. ولما كانت آمال الشعب السوري وحرياته أمانة في عنقه وكان يعتقد أن التساهل مع الفرنسيين ولو مرة واحدة سيؤدي إلى سلسلة لانهاية لها من التفريط في حقوق الوطن، فضَّل الاحتفاظ بكرامة البلاد واستقلالها كاملين وبادر بتقديم استقالته إلى مجلس النواب الممثل للامة السورية. وسجل في هذه الاستقالة احتجاجه على فرنسا التي بعد أن قبلت التعاون مع سوريا عادت إلى أساليبها القديمة ورجعت تطبق تجارب جديدة تناقض الاتفاقات التي وقعها ممثلوها وتعهدوا بتنفيذها. وهكذا جاء عمله هذا دليلا على وطنيته وإخلاصه وشجاعته، ويندر أن نجد الكثير من أمثاله هاشم بك الأتاسي في تاريخ الأمم الشرقية في القرن العشرين.(849/6)
ثم قامت الحرب العالمية الثانية وجاء الجنرال فيجان وغيره من قواد فرنسا، وسادت البلاد فترة هدوء وتعرضت سوري ولبنان كما تعرض غيرها لما مرَّ ببقية بلدان الشرق الأوسط من متاعب حتى عقدت الهدنة فازدادت هذه المتاعب الاقتصادية والتموينية، ثم اشتبكت قوات الحلفاء مع قوات فيشي وانتهي الأمر بدخول الحلفاء وخروج فرنسا المهزومة ودخولممثل فرنسا الحرة أو المقاتلة.
وقد قضى هاشم الأتاسي هذه المدة بأكملها معتكفاً بمدينة حمص لا يقوم بأي نشاط سياسي ولا يزوره أحد. وأذكر أنني مررتُ مراراً بهذه المدينة ولم أنس أن أترك له بطاقتي في كل مرة، إذا لم يكن في هذا العمل ما يمكن المؤاخذة عليه؛ ولكن موظفي إدارة الأمن من العام الفرنسية ومن بينهم بالذات من أصبح موضع ثقة الحكم الوطني بعد ذلك، لم يتركوا هذه الفرصة تفلت من أيديهم دون أن يبنوا عليها من خيالهم الكثير من الظنون التي ضمنوها تقاريرهم السرية، وهي التي طالما ضّللت السلطات وأفقدتها الكثير من هيبتها في كثير من بلاد الشرق الوسط.
لابد أن القارئ يعرف ما حدث بعد دخول الحلفاء سوريا ولبنان وكيف أعلن استقلال البلاد السورية، وكيف نودي بالشيخ تاج الدين الحسنى رئيساً للجمهورية، ثم اعتراف مصر بهذا الاستقلال، ثم ما أعقب ذلك الاعتراف من اتصالات ومفاوضات كانت ترمى إلى دعم هذا الاستقلال وجعله متمشياً مع الأغراض العالمية الكبرى التي رسمها ميثاق الأطلنطي ونادى بها كل من روزفلت وتشرشل لكسب الحرب. ولو أن الكثير من مذكرات رجال السياسة والحكم قد نشر بمختلف اللغات وأصبح متداولا. بين أيدي الجمهور وفيه إشارات معينة إلى ما تم في هذه الحقبة الدقيقة من الأمم العربية والشرقية، إلا أن موقف مصر الحاسموأثرها الفعال وما قامت به من أعمال وما كان لوجهة نظرها وسياستها من احترام في المحافل الدولية، لا تزال حلقة مجهولة غير معروفة للناس ولا للمصريين خاصة. وليس في نيتي أن أسردها في هذه العجالة، وإنما اكتفى بأن أقول إنني وجدت نفسي مجنداً في هذه الناحية وعرضة لأحاديث ومفاوضات مع أصحاب الشأن من السوريين واللبنانيين ومع ممثلي فرنسا وبريطانيا وأمريكا ثم مع السلطات القائمة حينئذ في سوريا وفى مقدمتهم المغفور له الشيخ تاج الدين الحسنى وغيره من الوزراء وأهل الرأي.(849/7)
في تلك الأثناء دارت مقابلات بمصر حضرها الجنرال كاترو وزعماء من السوريين واللبنانيين وعند نهايتها عدت إلى بيروت وكان من المفروض أن تبقى المباحثات تحت طي الكتمان؛ ولكنى فوجئت في يوم من الأيام بزيارة نجل هاشم بك الأتاسي الذي نقل إلى رغبة والده في مقابلتي أن يتم ذلك في فندق معين بمدينة بعلبك. وقد قمت بهذه الزيارة فعلاً في اليوم الذي حدّده الرئيس هاشم بك الأتاسي فجاءت كأنها مقابلة عرضية في أحد صالونات الفندق المذكور. وفى أثنائها تحادثنا عما تم في القاهرة من اتفاق على النقاط الأساسية التي تعهد الفرنسيون الأحرار بإتمامها والتي ستكلَّل بعودة هاشم بك الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية ليتولى إجراء الانتخابات الجديدة. وقد أبدى هاشم بك الأتاسي لي ارتياحه لهذه الفكرة ولم يعترض عليها وقتئذ.
وبعد يومين تلقيت دعوة من وزير العراق المفوض تحسين بك قدري للغداء بفندق صوفر، وهنالك وجدت دولة رياض بك الصلح الذي كان مدعواً معي فأخذ دولته أثناء الطعام يتحدث بلباقته المعروفة وذكائه الفائق عن اهتمام الرأي العام الوطني بالمفاوضات التي تولتها مصر وما يُرجى لها من خير وعند نهاية تناول الطعام أبلغني أن الكتلة الوطنية بالشام ترتب الآن شئونها وتجمع شملها كحزب منظم، وأنها قررت ألا ترتبط بشيء لا يأتي عن طريق رئيسها فخامة هاشم الأتاسي وطلب إلى وإلى وزير العراق المفوض أن يبلغ كل منا حكومته هذا الإجراء الذي يتفق مع مصلحة البلاد القومية والاستقلالية.
ولا أدري لماذا مرَّ بخاطري في تلك اللحظة الكثير من الحوادث التي قرأت عنها طويلاً، إذا عدت بمخيلتيإلى أعوام 1910 حينما كانت البلاد العربية جزءاً من الإمبراطورية العثمانية في الأعوام التي قام خديو مصر برحلته إلى الأقطار الحجازية وما أحيطت به رحلته في مختلف البلاد الأوربية من تأويلات ثم مجيء كتشنر إلى القاهرة ووضعه حداً لسياسة الوفاق التي رسمها غورست وما تبع ذلك من مقابلات تمت في دار العميد البريطاني مع بعض زعماء العرب سنة 1913، ثم برز أمامي النزاع القائم بين وزارة الخارجية البريطانية وحكومة الهند البريطانية في قيادة السياسة العربية وما تمخضت عنه سنة 1916 من قيام الملك حسين بن على وحروب لورنس المعروفة والمناداة بفيصل الأول ملكاً في دمشق؛ ثم تمثلت اتفاقات سيكس - بيكو والتفاهم الذي تم على حصص(849/8)
البترول العراقي ومجيء وعد بلفور وإنشاء الوطن القومي الصهيوني ومفاوضات الوسطاء بين فيصل الأول والدكتور وايزمان العميد االصهيوني، واستجمعت ذكرى الليالي الطويلة التي أمضيتها في فندق الملك داود بمدينة القدس استمع فيها إلى أحاديث رجال من البريطانيين واليهود وأنصت إلى أنصار الهاشميين وأنصار الحاج أمين الحسيني. لقد أمضيت سنتين بفلسطين تمر أمام ناظري الحوادث والمقابلات بين مختلف الرجال الذين يضعون الخطط ويجتمعون ثم ينفضون إذا كانت توضع أسس دولة إسرائيل. . . على احتمالات الأخطاء التي سوف يرتكبها رجال السياسة من العرب - لقد مر كل هذا أمامي عند تناولي الطعام - ولقد نزلت من صوفر إلى بيروت وأنا غير مرتاح لمقابلتي هذه إذ كنت أشعر بأننا على أبواب مفاجئات جديدة. . . وفعلا تحقق هذا الشعور الذي قلما أخطئ فيه؛ إذ أطل علينا شهر مارس سنة 1943 وهو الشهر المملوء بالحوادث التي جاءت متتابعة متلاحقة، فبدأ الجنرال كاترو يجد في تنفيذ ما اتفق عليه بالقاهرة فكثرت تنقلاته بين بيروت وحلب وحمص، وكان يؤكد في أحاديثه أنه ينفذ قرارات حكومة فرنسا المقاتلة الممثلة في اللجنة الفرنسية بالجزائر، وأن التعليمات التي لديه من شرائطها قيام معاهدة بين فرنسا ودولتي سوري ولبنان. وكان يبدو لي من حديثي من أغلب الزعماء الذين قابلتهم أنهم يرحبون بعودة معاهدة سنة 1936 بل قال بعضهم إن هذه المعاهدة أوسع نطاقاً من المعاهدتين اللتين عقدتهما بريطانيا مع مصر والعراق، وأنه لو كانت بريطانيا في مكان فرنسا لاستفادت سوريا كثيراً من تطبيق هذه المعاهدة. كنت أقابل هذه التصريحات بالصمت المؤذن بأن صاحبه لا يهتم بهذه الناحية. . . ولا يود الخوض في موضوعها بالذات.
ومادامت مفاوضات القاهرة لم تتعرض لموضوع المعاهدة لم يكن من المصلحة إثارة شئ عن ذلك، ما يبقى اسم مصر بعيدا عن هذه الدعاية القائمة. والحقيقة أن الفرنسيين أثاروا الموضوع حينما وجدوا شبه إجماع على العودة إلى إحياء المعاهدة السورية الفرنسية، ولم يبدأ الزعماء في التحرر من أقوالهم إلا عند ما ظهرت في الأفق اتجاهات سياسة معينة؛ ولكن الذي أعلمه تماماً أن هاشم بك الأتاسي كان أول من هاجم المعاهدة أمام الجنرال كاترو. وقد أبلغني الجنرال أن هاشم بك لم يستطيع شرح وجهة نظره وتقديم أدلة كافية(849/9)
على اقتناعه شخصياً بهذه الفكرة. . . ونظر إلى مبتسماً.
وقد كنت على حق في أن موضوع المعاهدة سوف يتخذ دعاية ضد مصر؛ مع أن المراجع المصرية لم تتعرض بتاتاً لمسالة عقد معاهدة جديدة بين سوريا وفرنسا أو إعادة المعاهدة السابقة. ولذلك دهشت حين سمعت شكري بك القوتلي يصرح في منزله (أن مفاوضات القاهرة لم تعد أساساً يصلح للسير عليه) فهل كان يقصد بذلك عودة هاشم الأتاسي للرئاسةأم موضوع المعاهدة؟ لم يترك لي الحاضرون الوقت الكافي لقراءة ما يجول بخاطره، فقد تدخل بسرعة سعد الله الجابري، فاعتذر شكري بك بأنه لم يطلع الإطلاع الكافي على تفاصيل هذه المفاوضات وأسرارها.
ولما توجهت بنظري نحو جميل مردم بك قال أنه سيتولى تفاصيلها وشرحها لشكري بك. أما أنا فانتهزت الفرصة وأكدت أمام الحاضرين أن موضوع المعاهدة لم يكن محل بحث في القاهرة. ولست مكلفاً بالدخول في أى شأن يخص العلاقات بين سوريا وفرنسا من هذه الناحية وقد استشهدت بجميل بك فأقرني على ذلك
ولما عدت إلى بيروت علمت من المصادر المختصة أن الإنجليز المحليين لا يوافقهم إبرام أي معاهدة بين الفرنسيين وسوريا ولبنان، وأن رأيهم فيما يخص معاهدة 1936 هو أنها تؤكد سيطرة فرنسا في البلدين، أما السفير الأمريكي فاكتفى بأن قرأ على مجموعة من برقيات واشنجتون وكلما نشرح وجهة النظر الأمريكية التي تتمسك بنصوص نظام ميثاق الأطلنطي وأنه يجبُّ كل ماعداه. ولا لزوم لعقد مثل هذه المعاهدات: ومن هنا فهمت سر التطور الجديد ضد فرنسا.
كثرت مقابلاتي في شهر مارس سنة 1943 مع الجنرال كاترو وتناولت أحاديثي معه عدة مسائل كان بعضها خاصاً بمركز القوات الفرنسية ومعسكراتها في مصر. وفي إحدى هذه المقابلات أشار إلى المتاعب التي يلقاها لجمع شمل رجال السياسة السوريين وقال أنه دائم الاتصال بهم ويحاول جهده التغلب على المصاعب التي تبرر كل يوم أمامه. وكان مما ذكره أن عودة الدستور والحياة النيابية إلى سوريا ولبنان أمر مفروغ منه، وهذا لما تم الاتفاق عليه بالقاهرة، ذلك الاتفاق الذي اعتبره الجنرال خاصاً به، ولذا فقد بذل الجهود حتى أقنع الجنرال ديجول ولجنة الفرنسيين الأحرار، حتى وافقوا على تنفيذه، وأن(849/10)
المشروع الذي أوحت به مصر يعد في نظره الحل الوحيد المطابق لروح المبادئ الدستورية، ولذا فهو الذي يسعى أن ينفذه في كل من سوريا ولبنان على السواء. وعند اقتراب انصرافي أسر إلى بأن مركز فرنسا وديعة في يده ولذلك فإنه سيحتفظ بالمصالح المشتركة لحين التفاهم على معاهدة التحالف بين البلدين. ولم أعلق على هذا التصريح بشيء علماً منى بأن الظروف قد بدأت تسير اتجاه آخر مضاد لفكرته، وإن أساليب السياسة البريطانية قد بدأت تؤتى أكلها في كل من سوريا ولبنان وتوجه القيادة إلى وجهة نظرها.
وفى 13 مارس سنة 1943 علمت من عدة مصادر أن الجنرال كاترو لم يعد يتعرض بتاتاً لمعاهدة 1936 في أحاديثه مع الساسة السوريين، وظهر أن هذا كان نتيجة إبداء البريطانيين امتعاضهم. ولكنى علمت بأن شكري بك القوتلي مصرُّ على رئاسة الوزارة إذا عرضها عليه هاشم بك الأتاسي. ولما أشير إلى خالد بك العظم أجمع الساسة على أن صحته سوف لا تمكنه من مواجهة الحالة القادمة وما تتطلبه من كفاح ومجالدة أمام مجلس النواب. وهنا بدأت المفاجأة الثانية.
(يتبع)
أحمد رمزي(849/11)
مسئولية
الاحتلال الإنجليزي لمصر
في مثل هذا الشهر من عام سنة1882 تم الاحتلال الإنجليزي لمصر. ذلك الاحتلال الذي لم تستغرق حوادثه - منذ ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليه الى استسلام عرابيبالقاهرة في الرابع عشر من شهر سبتمبر - سوى شهرين اثنين. ولموقعة التل الكبير أهميتها الخاصة بعد تحصينات كفر الدوار في حوادث ذلك الاحتلال مع إنها لم تدم سوى عشرين دقيقة فر بعدها عرابي إلى القاهرة ليستسلم في اليوم التالي.
ولقد دعت السهولة التي تم بها الاحتلال الإنجليزي لمصر إلى الاختلاف حول تحديد المسؤولية في ذلك الاحتلال. أتقع المسؤولية على عاتق عرابي أم على عاتق الدولة العثمانية أم على الإنجليز وجشعهم الاستعماري؟
وهكذا تأرجحت آراء الكتاب حول هذا الموضوع بين هذا الرأي أو ذاك.
عرابي هو المسؤول الأول والأخير. لقد اعتنق بعض الكتاب هذا الرأي وأيدوه بحجج قوية.
ألم يدفع بسلوكه الخديوي إلى الارتماء في أحضان الإنجليز؟ ألم يهمل الدفاع عن حدود مصر الشرقية؟ أما كان من الحكمة أن يلجأ إلى سد القناة فيؤخر الزحف الإنجليزي على الأقل إن لم يعقه؟ يقول له دلسبس في تلغرافه: (إن الإنجليز يستحيل أن يدخلوا القناة، فينخدع بهذا التلغراف وبالتلغراف الذي يليه: (لا تعمل عملاً ما لسد قناتي، فأني هنا ولا تخش شيئاً من هذه الناحية، إذ لا ينزل جندي إنجليزي واحد إلا ويصحبه جندي فرنسي، وأنا المسئول عن كل ذلك).
أي قائد هذا الذي يصدق مثل هذا التصريح الأجوف فيركن أليه في تحصين بلاده؟ ألم يقل فيه صديقه جون نينيه (إن بساطة عرابي جعلته يرتكب أغلاطا كبيرة ظهرت عواقبها بعد، فمقدار ما بذل من الهمة في الدَّفاع عن الإسكندرية وتحصين خطوط الدفاع في كفر الدوار بحيث امتنعت على الإنجليز، قد أظهر منذ ابتداء القتال غفلة بالغة إذ استمع إلى النصائح الكاذبة التي خدعه بها المسيو فردبناند دلسيبس حين زعم أن الإنجليز لا يمكن أن يتعرضوا للعمل الفرنسي، فامتنع عرابي عن سد القناة في الوقت المناسب واستمسك برأيه(849/12)
رغم ما كانت تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما أرتاه زملاؤه وما ارتأيته أنا وكررته عشر مرات تارة بالقول القارس وطوراً بالكتابة في وجوب سد القناة؛ رغم كل ذلك أصرَّ عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلى نصراً من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك. ويحذره جون نينيه قائلا: (إن قناة السويس هي خط الدفاع الوحيد الذي لكم في هذه الناحية، وإذا لم تحتلوه فسيحتله العدو غداً ولن يجد صعوبة في احتلاله) ومع ذلك كله يأبى عرابي إلا أن يصمَّ أذنيه ويقف مكتوف اليدين حتى تساءل كاتب تاريخ الحركة القومية بقوله: (فليت شعري ما الذي جعله يعدل عن هذا الرأي الصواب ويمتنع عن سدَّها حتى احتلها الإنجليز؟) وموقعة التل الكبير!! كيف يخوض تلك الموقعة الفاصلة وهو بعد لم يستكمل وسائل الدفاع؟ لقد أقيمت خطوط الدفاع على عَجل، ولم تكن هيفي ذاتها محكمة الوضع. يقول المستر بلنت في التاريخ السري للاحتلال: إن جيش عرابي بالتل الكبير لم يزيد على عشرة آلاف أو اثني عشر ألف جندي، والباقون كانوا من المجندين الأحداث الذين لم يسبق لهم إطلاق بندقية واحدة. أضف إلى ذلك أن خيرة الجنود لم يكونوا بلتل الكبير بل كانوا في كفر الدوار أو في دمياط، وهؤلاء لم يشتركوا قط في المعركة، وكان من حسن التدبير أن يستدعى عرابي على الأقل الألاي المرابط في دمياط لأنه كان يحتوى على خيرة الجند المدربين، ولكنه لم يفعل. بل لقد عهد عرابي بالقيادة إلى علي باشا الروبي فحضر قبل الواقعة بيوم واحد وهو وقت لا يكفي لتعرف مواقع القتال ووضع الخطط الصالحة.
وكيف لا يشتم رائحة الخيانة في صفوف أعوانه؟! أترسم خطة الموقعة ليلا فلا تستقر في نفس الليلة إلا عند الأعداء؟! ويتحرك الجيش الإنجليزي إلى أن يصل إلى ميدان الموقعة مسافة تبلغ نحو خمسة عشر كيلو متراً دون أن تصادفه طلائع المصريين؟ أيوقع الإنجليز بالجند (على حين كان راقداً فدهشت العساكر وتولاها الانذهال حيث رأوا ضرب النار من خلفهم وأمامهم، فألقوا أسلحتهم وفروا طالبين النجاة) على حد عرابي نفسه في روايته عن تلك المعركة.
وأخيراً كيف يرتضى عرابي لنفسه أن يرخى لفرسه العنان ثم يستسلم بعد فراره هذا الاستسلام الذليل؟ لقد قال الرافعي بك في هذا الموقف الذي ختم به عرابي فصول الثورة: (ولكن عرابي آثر الحياة على الواجب المقدس ففقد روح البطولة والتضحية، ولم يكن هذا(849/13)
عهده للأمة قبل نشوب الحرب، فقد كان يقول أنه لا يخشى تهديد إنجلترا ولا أوربا ولا تركيا وإنهُ مُصرُّ على أن يدافع عن مصر حتى آخر رمق من حياته. فليت شعري لمَ لم يف بعهده فيكون دفاعه على الأقل صفحة بطولة في تاريخه وفي تاريخ مصر، أما إذا كان معتزماً التسليم لمجرد الهزيمة فكان الأولى به أن لا يغامر بالبلاد في حرب أدَّت إلى الاحتلال والهوان، فهزيمة التل الكبير لم تكن هزيمة عرابي وحده أو هزيمة لجيشه بل هي هزيمة لمصر بأسرها إذا كانت نتيجتها الاحتلال البريطاني) بل لقد ذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك في تفسير فرار عرابي فقال أنه لم يفر من الموقعة ليواصل الجهاد ولكن لكي ينجو بنفسه؛ ولو كان مجاهداً حقاً لظلَّ يجاهد حتى آخر نسمة من حياته.
أفلا يرى القارىء العزيز إلى أي حد يذهب بعض الكتاب في إلقاء مسئولية ذلك الاحتلال المشئوم على عرابي والعرابيين؟ إن الاتهام تلو الاتهام ينصب في غير رحمة أو هوادة على العرابيين وعلى رأس عرابي بالذات.
ولكن مهلاً أيها القارئ العزيز فسنستعرض بقية الآراء حتى نعثر على الحقيقة في ثنايا ذلك الاستعراض فتكون الحقيقة والحقيقة وحدها سبيلنا إلى تحديد المسئولية والمسئولين وحتى نستطيع استخلاص العبرة من تاريخ ذلك الاحتلال.
- 2 -
لا، ليس عرابي هو المسئول. ولكن المسئول الأول والأخير هو الدولة العثمانية. تلك الدولة التي دبَّ الضعف والانحلال في جميع أرجائها فاستحقت بذلك لقبها المشهور (الرجل المريض)
ألم تقف الدولة العثمانية عقبة كؤودا في سبيل نهوض مصر؟ ألم تعمل السياسة العثمانية على إبقاء مصر ضعيفة ظناً أن هذا الضعف هو الوسيلة الوحيدة لبقاء مصر داخل نطاقها؟! ثم هذا الموقف المضحك المزري الذي وقفته إزاء الثورة العربية! كيف ترتضى لنفسها الاشتراك في تمثيلية مؤتمر الآستانة؟! وبأي حق تسمح للدول الأوربية أن تقحم أنوفها فيما لا يعنيها؟!
وكيف تنخدع هي الأخرى بهذا المؤتمر وبسراب الخطب التي ألقيت فيه؟ يضع مندوبو الدول في هذا المؤتمر ما أسموه: (ميثاق النزاهة) وفيه تتعهد الحكومات التي يوقع(849/14)
مندوبوها على هذا القرار بأنها في كل اتفاق يحصل بشأن المسألة المصرية لا تبحث عن احتلال أي جزء من أراضى مصر ولا الحصول على امتياز خاص ولا على نيل امتياز تجارى. . الخ)
أحقاً هذا؟! أحقاً ينخدع الباب العالي ويؤمن بنزاهة الميثاق وتنجح السياسة الإنجليزية في اتخاذه مخلب القط أثناء الاحتلال. خطب اللورد دفرين سفير إنجلترا وممثلها في المؤتمر فعرض لتفاصيل الحالة في مصر قائلاً: (إن وزارة راغب باشا هي أداة في أيدي الثائرين، وأن الخديوي لا حول له ولا قوَّة. ثم أهاب بالدول أن تأخذ الثورة المصرية - على حدَّ قوله - بالشدة حتى لا يستعمل نفوذها فلا يعود من السَّهل استئصال شأفتها. وقال إن الوسائل الفعالية التي يجب اتخاذها لإعادة حكومة منتظمة إلى مصر يجب أن تصدر عن الحضرة السلطانية.
وهكذا نجحت إنجلترا في إقرار مبدأ التدخل في شئون مصر الداخلية. بل إن جمود الدولة العثمانية كان سبباً في تمكين الإنجليز من التدخل بمفردهم بعد أن خلقوا (الحالة القهرية) التي استدعت في زعمهم ضرب الإسكندرية.
ألم تكن مهزلة المهازل أن يتم ضرب الإسكندرية واحتلالها ومؤتمر الآستانة مع ذلك موجود ولا يستحي المندوبون فيه من مواصلة عقد الجلسات بعد أن تمًّ ذلك العدوان؟ ألا تكون الدولة العثمانية مسئولة عن هذا الاحتلال وهي التي مكنت - سواء بضعفها أو غفلتها أو جمودها - من التدخل الإنجليزي باسمها وباسم الخديوي؟!
كيف ترضى الوقوف في جانب الإنجليز - وهي تعلم سياستهم ونياتهم فتؤيدهّم بنفوذها الروحي والسَّياسي ويُجارها في ذلك الخديوي فيطعن الحركة العرابية في الصميم بإيقاع الانقسام بين رجالها وبالتالي في القضاء عليها؟ كيف ترضى الدولة لنفسها هذا الموقف العجيب فتؤيد دهاقنة الإنجليز ضد عرابي. . . عرابي الذي كانت تعلم حق العلم حقيقة نواياه وأطماعه. أليس من العجيب أن يكون عرابي من الخطورة على الدولة العثمانية وعلى الخديوي بحيث يضطرها إلى الاستعانة بإنجلترا في القضاء عليه؟ أما كانت الدَّولة العثمانية بتصرفها هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ والله يعلم أن حركة عرابي والعرابيين كانت على الدولة وعلى مصر أبعد شيء عن الرمضاء، وأن الإنجليز كانوا(849/15)
على البلاد وعلى الدولة أشد خطراً من النار.
ألم يكن موقف الخديوي من الحركة العرابية معولاً قوياً من معاول هدمها؟ كتب الخديوي إلى الإمبراطور سيمور بعد ضرب الإسكندرية يقول على لسان رئيس وزرائه: (كونوا إذن على علم بأن الجناب الخديوي عزم على عزل عرابي من وظيفته، فهو لذلك وحده المسئول عما يحدث) ويرسل الخديوي تلغرافاً إلى عرابي بكفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية ويؤيد بذلك وجهة النظر الإنجليزية في ضرب الإسكندرية (اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدوننمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفائها وإنكارها) ثم يعزله في النهاية (لقد عزلناكم من نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم بما ذكر ليكون معلوماً) ويكتب الخديوي بعد ذلك منشوراً إلى الأمة يحذرها فيه من الانضمام إلى عرابي وإلى مناصرة الجيش الإنجليزي والامتناع عن معاونة العرابيين.
وهكذا نجح الإنجليز في صبغ تدخلهم بالصبغة الشرعية تلك الصبغة التي أخذت تزداد كلما توالت المنشورات وهي لا تفتأ تردد عصيان عرابي وتتوعده هو ومن ينحز إليه بالعقاب. وحين فتح الإنجليز الجبهة الشرقية كان الخديوي في الوقت الذي يتوعد فيه عرابي يرسل كتب التهنئة إلى أركان حرب الجيش الإنجليزي بما يحرزون من انتصارات! وهكذا مكن موقف الدولة العثمانية وموقف الخديوي قائد الجيش الإنجليزي من أن يعلن المصريين بأن جيشهم إنما هو تجريدة عسكرية إلى القطر المصري ليست إلا لتأييد سلطة الحضرة الخديوية؛ وأن قائد الجيش يُسرُّ جداً من زيارة مشايخ البلاد وغيرهم من الذين يودون المساعدة لردع العصيان الذي هو ضد الحضرة الخديوية الحاكم والوالي الشرعي على القطر المصري المعين من لدن الذات الشاهانية.
وقد كان محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب نائباً عن الخديوي في مرافقة الجنرال ولسي في زحفه على العاصمة، بل لقد كان الخديوي قد أعطى للإنجليز ترخيصاً باحتلال القناة.
وجاءت الدولة العثمانية فأعلنت عصيان عرابي والحرب قائمة ونشر ذلك الإعلان في(849/16)
جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر باللغة العربية بالآستانة، وقام سلطان باشا بتوزيع نسخ تلك الجريدة بين الأهالي والأعيان بل وبين كبار الضباط.
حقاً لقد كانت الدولة العثمانية بتصرفاتها طابوراً خامساً طعن الحركة العرابية طعنة نجلاء ومهد لرسوخ قدم الاحتلال. ولكن مهلاً أيها القارىء العزيز حتى نستعرض الرأي الثالث والأخير.
(البقية في العدد القادم)
كمال السير درويس
نقص
القول بنفي الصفات إلى القول بأن الله تعالى محال أن يعلم نفسهلأن من شرط المعلوم عنده أن يكون غير العالم به، وهكذا يكون العالم متميزاً عن المعلوم. ولكن معمر رد هذا التمييز بينهما خوفا من أن يؤدى بنا إلى الاعتقاد بأن علم اللَّه مميز حقيقة عن ذاته فرفض القول بأن اللَّه يعلم نفسه وقال بأن العالم والمعلوم واحد أي أن علم اللَّه هو ذاته (أي ذات اللَّه) وعلى ذلك لا يكون العلم منفصلا في اللَّه ولكنه دائماً فيه قديم وغير مميز عن ذاته.
لذلك قال جمهور المعتزلة: إطلاق العلم لله غز وجل إنما هو مجاز لا حقيقة، وإنما معناه أنه تعالى لا يجهل فتكون المعادلة خالصة كاملة تامة بين ماهية الله وعلمه، كما أن هذه المعادلة كاملةأيضاً بين الماهية وأي صفة من الصفات الأخرى والتي هي في نظر المعتزلة اعتبارات ذهنية ليس إلا -
مصدر هذه الفكرة:
يقول أرسطو في مقالته الثانية عشرة من كتاب ما بعد الطبيعة أن الله علمُ كله؛ قدرةٌ كله؛ حياةٌ كله؛ سمعٌ كله؛ بصر كله. وقرأ أبوالهذيل والنظام في بغداد ترجمة مؤلفات أرسطو وأفلاطون فيكون أبوالهذيل قد أخذ هذا القول عن أريسطو على حسب ما جاء في مقالات الإسلاميين للاشعرى وحسَّن أبوالهذيل اللفظ من عند نفسه وقال: علمه هوهو، وقدرته هي هو - ويؤكد الشهرستانى ذلك بقوله إن أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة اللذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثيرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة(849/17)
بذاته بل هي ذاته. والمعروف أن هذا هو قول أرسطو.
وهناك سبب آخر جعل أبا الهذيل أولا ثم المعتزلة ثانياً يردون الصفات إلى الذات. يقول أبو الهذيل: هناك فرق بين قول القائل إن الله عالم بذاته لا يعلم، وبين القائل إن الله عالم يعلم هو ذاته، وهو أن القول الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذاته هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات؛ وإذا أثبت أبوالهذيل هذه الصفات (العلم والقدرة والحياة والعدل) وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى - لذلك نفى القول الثاني القائل بأن الله عالم يعلم هو ذاته حتى يرد الأقانيم عند النصارى.
قدم علم الله:
لما كان علم الّه هو الله، ولما كانت ذاته تعالى تتصف بالقدم، فإذاً علمه قديم أيضاً. وهذه نقطة في غاية الأهمية عند المعتزلة. ولا ينفك أبوالهذيل والنظام يرددان القول يقدم العلم. ويقول هشام الفوطي إن الله لم يزل عالماً لنفسه لا يعلم سواه قديم ولا يعلم محدث وإن الله لم يزل عالماً بأنه سيخلق الدنيا ثم يفنيها ثم يعيد أهلها (فريق في الجنة وفريق في السعير).
تضيف المعتزلة على قولها إن الله لم يزل عالماً بنفسه قولها بأنه تعالى عالم لذاته أزلا بما سيكون (والمستقبل لا يوجد إلا بالنسبة لنا وليس له وجود عند الله). وهناك فارق كبير بين علم الله وعلم الإنسان: فعلمنا بما سيكون هو علم بشيء جائر، على عكس علمنا بما يكون فإنه علم بشيء متحقق واقعي. ولكن علم الله هو علم بشيء حقيقي لا بشيء جائز، لأنالجائز يمكن أن لا يتحقق وعلم الله لا يتعلق به.
اعتراض على هذا القول: اعتراض هشام بن الحكم:
بما أن الله لم يزل عالماً بالأشياء حتى قبل وجودها ولم يزل قادراًً عليها فهل ما يعلمه الله وما يقدر عليه قديم أيضاً؟ هذا سؤال وجهه هشام بن الحكم (الرافضي) إلى المعتزلة قائلا لهم: إن كان الله عالماً بدقائق الأمور وجلائلها لنفسه فهو لم يزل يعلم أن الجسم متحرك لنفسه لأنهالآن عالم لذلك وما عَلمهالآنفهو لم يزل عالماً به. فإن كان هذا هكذا فلم يزل الجسم متحركا لأنه لا يجوز أن يكون الله يزل عالماً بأن الجسم متحرك إلا وفى الوجود جسم متحرك على ما وقع به العلم.(849/18)
رد المعتزلة:
يبدوا هذا الاعتراض وجيهاً في أول وهله. ولكن المعتزلة وجدت فيه نقصاً وضعفاً كبيرين - يوجد أولا نقص منطقي في الاعتراض نفسه لأنالله في مذهب هشام بن الحكم جاهل بالأمور غير عالم بها وهو يعلمها عند وقوعها. وهذا تشبيه شنيع لله بخلقه يناقض كماله تعالى.
ثم هناك ضعف آخر في الاعتراض وهو إن كان الله لم يزل عالماً بالأشياء قادراً عليها فهذا لا يعني أن الأشياء المعلومة والمقدور عليها موجودة منذ القدم - لأن الفاعل لابد من أن يكون قبل عالماً يكيف يفعله وإلا لم يجز وقوع الفعل منه، كما أنه إذا لم يكن قادراً على فعله قبل أن يفعله لم يجز وقوع الفعل منه أبداً. ألا ترى أن من لم يحسن السباحة أو الكتابة لم يجز منه وقوعهما؛ فإذا تعلمهما وعلم كيف يكتب أو يسبح جاز وقوعّ الكتابة أو السباحة منه. وهذا حكم كل فاعل: لابد من أن يكون قبل فعله عالماً به وإلا لم يجز وقوعه منه - وبناءً على ذلك تقول المعتزلة إن الله كان ولا شئ معه، وأنه لم يزل بعلم أنه سيخلق الأجسام وأنها ستتحرك بعد خلقه أياما وتكن. وإنه لم يزل يعلم أنها متحركة إذا حلتها الحركة وأنها ساكنة إذا حلها السكون؛ وهو لنفسه لم يزل يعلم أن الجسم قبل حلول الحركة فيه يتحرك، وأنه في حال حلول الحركة فيه متحرك - فلا ماض ولا مستقبل في علمه تعالى لأن علمه هو ذاته وعلمه سابق للمعلومات. فتكون هكذا الأشياء أزلية في علم الله، محدثه في الزمان المعين والمحدد لها من الله. وحدوثها في الزمان لا يضيف ولا يبدل شيئاً في علم الله لأن هذا العلم سابق لها.
تبقى مسألة جواز وجود ما يعلمه الله أنه لم يوجد، ومسألة حرية الإنسان في فعل المعاصي مع معرفة الله الأزلية لما يفعله الإنسان، وهذه المسألة الأخيرة في غاية الدقة لأن المعتزلة تفخر بأنها ليست (أهل توحيد) فحسب بل أيضاً (أهل عدل) - وسنبحث إن شاء الله في مقالنا القادم هذه المسألة الخطيرة.
(البقية في العدد القادم)
ألبير نصرى نادر(849/19)
دكتور في الآداب والفلسفة(849/20)
من كتاب قصور العرب:
غُمْدانُ
للأستاذ كاظم المظفر
(بقية ما نشر في العدد الماضى)
وقد وصف الشعراء غُمداناً وصفاً يكاد القارئ أن يتوهم لأول وهلة أنه بعيد عن الحقيقة، أو هو من نسخ أخيلة الشعراء؛ ولكن عند التأمل والإمعان لا يرى فيه غرابة، ولاسيما وإن كثيراً من المؤرخين الباحثين (المستشرقين) الذين أخذوا على عاتقهم إحياء آثار العرب القديمة، شاهدوا بعض أنقاض تلكم القصور العظيمة، وتحدثوا عن عظمة الأسلاف، وما كانوا عليه من قديم العصور من رقي وتقدم في مضمار الحضارة.
وفي غمدان وملوك اليمن يقول دعبل بن علي الخزاعي:
منازل الحي من غمدان فالنضد ... فمأرب فظفار الملك فالَجَند
أرى التبابع والأقيال من يَمن ... أهل الجياد وأهل البيض والزَّرد
ما دخلوا قرية إلا وقد كتبوا ... بها كتاباً فلم يُدرس ولم يبد
بالقيروان وباب الصين قد زبروا ... وباب مرو وباب الهند والصُّغد
وقال أبو الصلَّت يمدح ذا يزَن:
أرسلتَ أسداً على بُقع الكلاب فقد ... أضحى شريدهم فيالأرضفلاَّلا
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا
قصر بناه أبوك القيل ذوشرح ... فهل يُرى أحد نال الذي نالا
منطق بالرخام المستزاد له ... ترى على كل ركن منه تمثالا
تلك المكارم لا قَعبان من لبن ... شِيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا
وأنشد لعصابة اَلجرْجرَاى:
الدار داران إيوان وغُمدان ... والملك ملكان ساسان وقحطان
وقال علقمة بن ذى يزن:
أبعد غُمدان حين أسنى ... يسفى به المور والرَّياح(849/21)
ياعين سلحين فإندبيه ... إذا هاض من أهله الجناح
وقال أيضاً:
لاتهلكن جزعاً في إثر من ماتا ... فإنه لا يردُّ الدَّهر ما فاتا
أبعد غمدان لا عين ولا أثر ... أم بعد بينون يبنى الناس أبياتا
وقال أيضاً:
فذاك غُمدان محزئلاً ... كأنهُ جبلُ منيفُ
يسكنهُ ماجدُ أبىُّ ... تُرغمُ قُدَّامهُ الأنوفُ
وقال أيضاً:
هذاك غُمدان مُحزئلاً ... بناؤهُ العجبُ العجيب
أعلاهُ مبهمة رخام ... عالٍِ وأسفله جروب
وقال أيضاً:
وتكوَّرت غُمدانُ من صرف الرّدى ... من بعد مملكة وبعد تنكير
القيل من قحطان أبهم صخرها ... وعمادها والقطر خير الأقطر
وقال أيضاً:
قد كان حسان في ذؤابة غمدان ... قريراً يعيش من رغدا
وقال أيضاً:
ولم يخلد الحدثانبان ... بني غمدان تتهمه التهوم
وقال ابن أبى عاصية السُّلي:
فهل ناظر من بطن غمدان مبصر ... قفا أُحد رمُمت المدى المتراخيا
ولو أن داء اليأس بي فأعانني ... طبيب بأرواح العقيق شفانيا
وقد ذكر الهمداني في بعض مخاطباته لأهل العراق، وقد كانوا وصفوا بغداد في مخاطبتهم له؛ حيث يقول:
أرض تخيرها سام وأوطانها ... وأسَّ غمدان فيها بعدما احتفرا
وقال الهمداني أيضاً:
مازال سام يرودالأرض مطلباً ... للطيب غير بقاع الأرض بينهما(849/22)
حتى تبوَّأ غمدانا وشيدها ... عشرين سقفاً يناغى النجم عاليها
فإن تكن جنة الفردوس عاليةً=فوق السماء فغمدان يحاذيها
وقال ذو جدن الهمداني:
وهذا المال ينفد كل يوم ... لنزل الضيف أوصلة الحقوق
وغمدان الذي حدثت عنه ... بناء مشيداً في رأس نيق
بمرمرة وأعلاهُ رخام ... تحام لا يغيب بالشقوق
مصابيح السليط يلحن فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
فأضحى بعد جدته رماداً ... وغيَّر حُسنه لهب الحريق
وقد يقال عنى غمدان بمأرب وفيه يقول الهمداني:
من بعد غمدان المنيف وأهله ... وهو الشفاء لقلب من يتفكر
يسمو إلى كبد السماء مصعَّداً ... عشرين سقفاً سمكها لا يقصر
ومن السحاب معصب بعمامة ... ومن الرُّخام منطق ومُؤزر
متلاصقاً بالقطر منه صخرة ... والجزع بين صروحه والمرمر
وبكل ركن رأس نسر طائر ... أو رأس ليث من نحاس يزأر
متضمناً في صدره قطارة ... لحساب أجزاء النهار تقطر
والطير واقفة عليه وفودها ... ومياهه قنواتها تتهدَّر
ينبوع عين لا يصردُ شربها ... وبرأسه من فوق ذلك منظر
برخامة مبهومة فمتى ترد ... أربابه مدخولة لم يعسر
وقال الأعشى:
وأهل غُمدانُ حيثُ كانوا ... أجمع ما يجمع الخيار
فصيحتهم من الدواهي ... نائحة عقبها الدّمار
وقال آخر من حمير:
وكان لنا غمدان أرضاً نحاها ... وقاعاً وفيها ربن الخير مرثد
وقال ثعلبة بن عمر العبقسي بن سلمة وقيل بل هما لعبد القيس الأزدي:
ولو كنت في غمدان تحرس بابه ... علىّ أراجيل كميّ وسانف(849/23)
إذاً لأتتني حيث كنت منيتي ... لعبء مخب لا يرى وهو قائف
وقال مالك بن عمرو بن قضاعة:
وفي الفرع من غمدان لوح عزنا ... يمسي وفيه بالفلاح يصيح
وقال الربيع بن ضبع بن ذبيان:
أجار مجير النمل من عزَّملكه ... وأنزلَ سيفَ البأس مِن رأس غُمدان
وقال النعمان بن الأسود بن عمرو بن يعفر الحميري يرثى بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل من قصيدة:
هدهد من طيور أرضبشام ... فرمى في الهوا على العرش نور
باقتضاء الهدى على ملك بلقي ... س بغمدان إذا أتاها النذير
وأنشد أسعد تبع بن ملكي كرب من قصيدة:
جدَّي المتوَّج عبد شمس ذو العلا ... شيخ الملوك ومحتوى غُمدان
وقال أسعد تبَّع أيضاً:
وغمدان قصر لنا مشرق ... مآجله حوله تُزهر
وكان معسكرنا دائماً ... أزال وعسكره عسكر
وذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد في باب وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد طرده للحبشة قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وشعرائها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزي وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غُمدان وقال النويري: ويقال أن آثار غُمدان باقية إلى عصرنا هذا، وإنه تلُّ عالٍ مطلُّ على صنعاء.
وقال الهمداني: وقد بقى من خدَّ غمدان القديم قطعة ذات خراب متلاحك عجيب، فهي قبالة الباب الأول والثاني من أبواب الجامع الشرقية، وباقي غمدان تلُّ عظيم كالجبل وكثير مما حوله من منازل الصفانيين.
وقال الواسعي اليماني عند ذكره لدخول الجيوش التركية لبلاد اليمن: (وقد استولى قسم من(849/24)
الجيش على بقية المعاقل نحو قصر غمدان وأبواب صنعاء وهي عشرة)
وقال الأستاذ أمين الريحاني: قصر غمدان القديم دُرس والبناء قائم مكانه اليوم يدعى باسمه، ويختصرونه في صنعاء فيقولون: القصر، وفيه معمل الخرطوش، والسكة، والسجن.
وقالأيضاً عند ذكره للأمام يحيى ملك اليمن وما لديه من الأخصائيين الذين يستشيرهم في أعماله ويستعين بهم في تمشية أموره: (وهذا السيد محمد زيارة أمير القصر، قصر غمدان، ومدير السكة والسجن فيه.
ويستنتج من هذا القول الذي ذكره الأستاذ الريحاني أن معالم غمدان لم يبق لها أي مشهد معروف، وأن آثاره التي قال فيها الهمداني أنها قطعة خربة بينة الأثر، والتي قال فيها النويري أنها تلُّ عالٍ مطلُّ على صنعاء. لم تكن كتلك الحال الأول، وإنما جرى عليها الاضمحلال، وتغيرت رسومها، واستبدلت مكانها بناية أخرى تابعة لحكومة الإمام يحيى، إلا أنها لازالت تحتفظ بذلك الاسم القديم (غمدان) الذي فاخرت الأجيال بعظمة بنائه، وجمال صنعه.(849/25)
الشيء الصغير
للأستاذ أنور لوقا
تحت هذا العنوان الساذج الغريب قص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه تاريخ حياته في كتاب نشره سنة 1868، وقد أطلق هذا اللقب على بطل القصة، دانييل إيسيت، ذلك الغلام النكرة المهمَل الذي لا يعنى به أحد لأنه شئ صغير!
أَلا يعبر هذا اللقب عن معنى بعيد عميق في نفس الكاتب؟ أليست له قيمة رمزية أصيلة؟ ألا يلخص ويعنون ناحية ممتازة من شخصية دودية وفنه كما لخص وعنون شطراً من حياته؟. . .
الشيء الصغير هو ما تراه أمامك ولا تلحظه، ما قد تصطدم به ولا تلتفت إليه، هو ما يجاورك ويلازمك في أكثر الأحيان ولكنك لا تعيره اهتمامك ولا تأبه له لأنك اعتدته أو لأنه. . شئ صغير!
وهذا (الشيء الصغير) هو قوام قسط كبير من سحر دوديه. فإن كل صفحة من أدبه عامرة بالتفاصيل الدقيقة المنتقاة، والملامح الخفية الشاردة، والكلمات القصيرة العابرة التي تترجم خليقة من خلائق الناس، أو تبرز وضعاً من أوضاع الأشياء، وتطبع في ذاكرتك إلى الأبد هذا المشهد أو ذاك مما يصف الكاتب
وليس أدل على ذلك من أن لدوديه (طاحونة) أصبحت علماً من أعلام الأدب الفرنسي منذ أن رسم صورة حية لها لا تفارق مخيلة من قرأ ديوان أقاصيصه الريفية (رسائل من طاحونتي): فهناك قط ضاويّ على نافذتها، وبومة غبراء فوق سطحها المتهدم وشعاع من القمر الساجي يكسوها ليلاً، ونور غامر يتفجر في أركانها نهاراً، ونفخة من ريح الشمال تهب عليها، وغابة من شجر الصنوبر تتدرَّج أمامها سفح الجبل. . .
وقد نشرت (الرسالة) في 441949 ترجمة لتحفة جميلة من
أقاصيص ذلك الكتاب عنوانها (الشيخان)، لا يقرؤها القارئ
مرة إلا عاودته مشاهدها مراراً: أولاً مشهد الساعي القروي
العجوز الذي يفتتح القصة مزهواً فخوراً إذا يحمل في يده(849/26)
رسالة واردة من باريس، ثم منظر ميدان إيجوير المقفر في
جير الظهيرة، ثم بيت صغير يبزغ على الأرضكأنما كان من
إشارة عصا سحرية، ثم صوت نحيل متقطع ينطق من هذا
البيت، صوت طفلة من تلميذات المدارس تقرأ كلمة كلمة
وحرفاً حرفاً في كتاب أكبر منها: (حينئذ. . صاح. . القديس.
. إيرنيه. . أنني. . قمح. . المولى. . ويجب. . أن. . أطحن.
. بأنياب. . هذه. . الوحوش. .) وإنها لعبارة خليقة بأن تبعث
إلى مخيلتك المكان والزمان والوجوه التي طالعتها بل ودرجة
الحرارة إذا ذاك، فهي تمثل لك الشيخين، والطفلين، وقفص
العصافير، والذباب العالق بالسقف، والساعة المعتمدة على
الحائط، وقد أخذتهم جميعاً سِنة من النوم. ما ناسب كلام
مقتضى الحال كهذه الجملة الوحشية من تاريخ الشهداء الأوائل
الذي يشبه الأساطير، تلقيها على مسمع شيخ سطا عليه الكري
في مقعده ساعة القيلولة صبية من بنات ملجأ الأيتام لا تكاد
تجيد الهجاء. وأكبر الظن أن دوديه لم يبتدع هذه العبارة
ابتداعاً، وإنما اقتنصها أو اقتنص مثيلة لها على شفتي طفل
يتعلم القراءة في بعض كتاتيب القرية أو بعض زوايا الريف.(849/27)
ثم بلى ذلك مشهد الاستجواب الطريف، والشيخ الذي
يوشك أن يهذي وهو يسأل الفتى الزائر عن لون ورق الغرفة
التي يسكنها حفيدة العزيز. . . ثم تلك المأساة الرهيبة التي
تجري فصولها أمام الصوان العالي إذا تركب الشيخ نزعة
الكرم فيحاول إنزال زجاجة الشراب المعتق من مكانها القصي
على حين تقف زوجه مرتاعة تثنيه عن عزمه وهي باسطة
ذراعيها المرتعشتين لتسنده إذا هوى. . . ثم مشهد خروج
الشيخ مع الفتى معتمداً بقوته ووقوف الشيخة على باب الدار
تشيعهما في مقة. . . هذا كله، لابد أن الكتاب قد رآه بعينه
ذات يوم ثم وشاه بخياله الممراح ولدينا خير دليل على هذا
الخيال المبدع في الحوار الذي أدراه الفتى بين مهدى الشيخين
في السَحر، وخير دليل على مزج الواقع بالخيال في ملاحظته
أن الشيخين متشابهان غاية التشابه لا يميزهما إلا اختلاف
الملابس، أو مطالعته في ابتسامتيهما الذابلتين صورة باهتة
نائية لوجه حفيدهما العزيز، صديقه موريس.
ولقد طار صيت ألفونس دوديه بأقصوصته (عنزة السيد
سيجان) (نشرت (الرسالة) ترجمة لها في العدد التاسع من(849/28)
السنة الأولى 1551933، فما من طفل فرنسي لا يعرف هذه
القصة ولا يرويها لك؛ وإنك لتسمعها منه في شغف؛ ويروقك
أن تستعيدها من حين إلى حين. ومع ذلك فليس أيسر من
تلخيصها في سطر واحد: عنيزة كرهت الحظيرة والقيد
فانطلقت إلى الجبل حيث أكلها الذئب. ولكنها آية من (السهل
الممتنع) لا شك تعجز عن تدبيج مثلها الأقلام المرتفعة
الكبيرة. وإنها لتحقيق طيب لقولة راسين: (ما الفن إلا خلق
شئ من لا شئ).
وإذا ضاق المقام عن استعراض روائع التفاصيل في كثير من قصص دودية الممتازة، فلن نستطيع أن نهمل حديث دودية نفسه عن (الأشياء الصغيرة) وأسلوبه في النظر إليها - فهو يقول في سياق قصة شجية، خالية تمام الخلو من الأحداث، جعل عنوانها عبارة صاحبه (بثلاثمائة ألف فرنك وعدني بها جيراردان. . .):
(هناك آلام غريبة عنا، لا تربطنا بها وشيجة، ولا نلمحها إلا مصادفة، ونحن نعبر مكاناً ما، في دقيقة، أثناء سعينا الحثيث وخلال زحمة الشارع. . . تلك أجزاء من أحاديث متقطعة يتبادلها اثنان بين اهتزازات مركبة؛ هموم عمياء تتكلم وحدها، وبصوت مرتفع؛ كتفان مكدودتان؛ حركات مجنونة؛ عيون محمومة؛ وجوه شاحبة منتفخة من الدموع؛ أو أحزان حديثة العهد لم يحسن أصحابها كفكفتها في طيات ما يتدثرون به من سواد. . . ثم، أشياء صغيرة، تفاصيل خاطفة، ويالها من توافه! زيق رداء، أطالت الفرشاة حَتَّه، بالٍن يلتمس الظل. . صندوق من صناديق الطرب والموسيقى، تحت باب مسقوف، تديره يد متسول ولا يُخرج صوتاً. . شرط من المخمل في عنق حدباء، مشدود في قسوة، محكم العقدة مستقامها بين الكتفين الشائهتين. . . وتمر بك جميع هذه المناظر، مناظر البلايا(849/29)
المغمورة مراً سريعاً، وتنساها وأنت سائر. . ولكنك في آخر النهار تشعر بدبيب كل ما في نفسك من التأثر والرثاء والمضض لأنك دون أن تدري، قد علقت، عند منعرج طريق أو أُسكُفّة باب بهذا الخيط غير المنظور الذي يربط تلك البلايا معاً، ويرجها جميعاً إذا اهتز هزة واحدة).
وكان ألفونس دوديه ممن يشكون قصر البصر. ولعل لهذه العاهة أثراً في عنايته بكل شئ صغير. فإن الرجل المرهف الحس الذي لا تستطيع عينه أن تلم من بعيد بجميع خطوط المنظورات، يحرص دائماً على أن يقترب من الأشياء، ويحدق في كل شئ من كل ناحية، وينتهي به الأمر إلى أن يسجل للمرئيات صوراً أدق وأصدق وأروع من الصور التي نلتقطها نحن بعيوننا السليمة. أضف إلى ذلك ما رأينا من اندماجه في زحمة الشارع واعتزاله في برج الشاعر (راجع عدد 846 من (الرسالة). ولقد كان أديبنا الساحر ينشد سيكون الريف أو الشاطئ أو الصحراء كلما دار رأسه في باريس، وكان يعي نعمة العزلة التي فيها تصفو ملكة الناظر وتصفو أحلام الشاعر وتصفوا عبارات الكاتب.
يقول برجسون، وهو خير من فطن إلى معنى الفن وغايته وعلاقته بالحياة: (لقد انسدل بين الطبيعة وبيننا، بل بيننا وبين إدراكنا، حجاب صفيق عند عامة الناس، رقيق ويكاد أن يكون شفافاً عند الفنان والشاعر. فالناس لابد أن يعيشوا، وأن يكسبوا قوتهم، والحياة تقتضينا أن نقدر الأشياء تقديرا مبنياً على مدى صلتها بحاجاتنا. فنحن لا نقبل من تأثير الأشياء علينا إلا التأثير النافع لنا، ثم نلبي هذا التأثير بأعمال هيرد فعل خاص، أما التأثيرات الأخرى للأشياء فإننا لانفعل، ولابد أنها تظلم وتعتم ولا تبلغنا إلا غامضة مبهمة مشوشة.
أنا أنظر وأظن أنني أرى، وأصغى وأظن أنني أسمع، وأختبر نفسي وأظن أنني أقرأ ما سطر في أعماق قلبى، على حين أن ماراه وما أسمعه من العالم الخارجي ليس إلا تستخلصه حواسي لإرشاد سلوكى، وعلى حين أن أعرفه عن نفسي ليس إلا ما يطفو على سطحها وما يشترك بنصب في حياتي العملية. . . لقد صنفت الأشياء تصنيفاً غايته مقدار الفائدة الذيأستطيع أن أصيبه منها. وهذا التصنيف هو الذي أراه أكثر مما أرى ألوان الأشياء وأشكالها. . إن شخصية الأشياء والكائنات تغيب عنا ما دام لا يعود علينا تمييزها(849/30)
بنفع مادي. فإذا لاحظناها فلن تكشف عيننا شخصية الشيء أي هذا الاتساق الخاص من الإشكال والألوان، هذا الاتساق الأصيل كل الأصالة، وإنما تكشف واحدة أو اثنتين من الملامح التي تيسر لنا معرفة الشيء عمليا.
جملة القول أننا لا نرى الأشياء نفسها، وإنما تقتصر في أكثر الأحيانعلى قراءة بطاقات ملصقة عليها. وقد قوبت هذه النزعة، وهي وليدة الحاجة، تحت تأثير اللغة. . . فاللفظ الذي لا يسجل من الشيء إلا وظيفته العامة الشائعة ومظهره الغليظ المبتذل، يندس بين هذا الشيء وبيننا فيقنع شكله عن عيوننا، إن لم يكن ذلك الشكل قد احتجب من قبل وراء الحاجات التي خلقت اللفظ نفسه).
ويخلص برجسون من هذا إلى أن الفنان نفس منقطعة عن الحياة، لا هذا الانقطاع المقصود المدبر المعتمد، وإنما هو انقطاع طبيعي راجع إلى خليقة الحس، يغمر الفنان في حياة روحية خالصة كالأحلام والرؤى، وتظهر آثاره مباشرة في أسلوب البصر والسمع والتفكير بما يزيح الرموز والكنايات والعموميات ذات النفع المادي ويوقفنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة. . .
ولألفونس دوديه صفحات كثيرة تصل إلى هذه الطبقة، حسبنا هنا أن نقتبس فقرة قصيرة من حديث الراعي البروفنسى الذي بات يروى أساطير (النجوم) لابنة سادته. أنه يشعر شعوراً ساحراً فوق الجبل، فهو يعرف ما الذي يجرى فيها أحسن مما يعرفه أهل السهل). وهو مع ذلك لا يتكلم إلا كلاما ساذجا (لو أتيح لك تقضى الليل ساهراً؛ لعرفت أن في الساعة التي نرقد فيها، يستيقظ عالم سحري يعمر العزلة والسكون. هناك تغنى الينابيع غناء أصفى وأجهر، وتوقد الغدران جذوات صغاراً، وتذهب جميع الأرواح الهائمة في الجبل وتجيء حسرة طليقة؛ وإذا أنت تحس في الهواء خفيفاً وأصواتاً خفيضة لا تكاد تدركها الأذن، إن النهار دنيا الأحياء، أما الليل فحياة الأشياء).
وقد عاش دوديه مع الأشياء الصغيرة، بل عاش فيها وعاشت فيه، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات. هو ذا يصف أياما قضاها على شاطئ كورسيكا فيقول: (كنت إذا لم تعصف المسترال أو ريح الشمال آتي فأستلقي بين صخرتين قائمتين في مستوى سطح الماء، وسط الحمائم والشحارير والسنونو، وأكاد أقيم النهار كله على هذه الحال من الشرود والاعتلال(849/31)
اللذيذ الذي يغدقه تأمل البحر. ألا تعرف هذه النشوة العذبة التي تغمر النفس؟ هناك لا يفكر المرء، ولا يحلم، وإنما يشرد كل كيانه، ويطير، ويتشتت. فإذا، أنت هذا الطائر الذي يغطس في الماء، وإذا أنت رذاذ هذا الزبد الذي يطفو في نور الشمس بين موجتين، وإذا أنت ذلك الدخان الأبيض الذي يتصاعد من تلك السفينة التي تبتعد، وإذا أنت هذا الزورق الصغير الأحمر الشراع، وأنت هذه اللؤلؤة من الماء، وهذا الغشاء من الضباب، أنت كل شىء ما عدا نفسك. . .)
وقد يكون من العبث الطريف أن تحاول إحصاء كلمة (الصغير) في كتاب من كتب دوديه. إنها تتردد مراراً في الصفحة الواحدة، بل في الفترة الواحدة. . . ولكن الحياة المادية الحديثة التي أصبح المرء لا يبحث فيها إلا عن الكسب، والمتعة القريبة المباشرة، وقد أنهت بالحس الإنساني إلى التبلد والمجون، وصرفت النفوس عن الأشياء البعيدة والأشياء الصغيرة صرفاً يكاد يصل إلى إنكار وجود هذه الأشياء. . . على أننا نستطيع أن نستعير من منطلق المادية الغليظة دفاعا عن الشيء الصغير: فتلك البذرة الضئيلة التي لم تستوقف عينك لحظة هي التي أنبتت هذه الدوحة العظيمة التي تروعك بجذعها الضخم وأغصانها الملتفة، وزهرها الوضاح وثمرها الغزير؛ وبعض الغدد الصغيرة التي كان يجهل الطب القديم مكانها من جسم الإنسان أضحت اليوم في ضوء الطب الحديث أهم وظيفة وأخطر شأنا من الأعضاء الكبيرة الشهيرة؛ بل حسبنا أن نذكر أن عصرنا هو عصر (الذرة). . .
يرحم الله جوته فقد قال عن الشاعر إنه (من يستخلص المعنى الرفيع من الشىء الوضيع)؛ ويرحم الله ألفونس دوديه، فقد كان يقول لابنه ليون: (إن للاشياء معنى، مكانا نستطيع أن نمسكها منه).
أنور لوقا
مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول(849/32)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوى
قضية الأمانة العلمية بين أستاذين في الجامعة:
. . . . . . . . .
هذه القضية يعرضها علينا الدكتور جمال الدين الشيال مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة فاروق، أما موضوعها فيدور حول محور الأمانة العلمية كما يفهمها الجامعيون طلاباً وأساتذة، وكما يجب أن يفهمها الرأي العام الفني ممثلا في طبقات المثقفين ممن يقرئون (الرسالة)، وهذه هي المحكمة التي نود أن نعرض عليها أدوار القضية، القضية التي يريد الدكتور الشيال من جهته أن يتقدم بها إلى ساحة القضاء مطالباً بحفظ حقوقه الأدبية والمادية. . . ونترك الدكتور الشيال يروى فصول القصة، ونرجى، التعقيب حتى نهيئ بهذا الإرجاء فرصة الرد للدكتور محمد فؤاد شكري أستاذ التاريخ الحديث المساعد بجامعة فؤاد:
(في إبريل سنة 1945 تقدمت إلى جامعة فاروق الأول برسالة عنوانها (تاريخ الترجمة في مصر النصف الأول من القرن التاسع عشر) أرخت فيها - ولأول مرة - لحركة النقل عن الغرب في عهد الحملة الفرنسية وفي عصر محمد على، وقد نوقشت هذه الرسالة أمام لجنة مكونة من الأساتذة: عبد الحميد العبادي بك، ومحمد شفيق غربال بك، والدكتور محمد مصطفى صفوت الذين أجازوها لدرجة الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى. . . ثم تقدمت بهذه الرسالة إلى مسابقة البحث الأدبي لسنة 1946 التي عقدها المجمع الملكي للغة العربية ففازت بالجائزة، وكانت اللجنة التي قرأت الرسالة وأقرت أحقيتها بالجائزة تتكون من الأساتذة: المرحوم أنطون الجميل باشا، ومحمد فريد أبوحديد بيك، ومحمد أحمد العوامري بك، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور.
وفي صيف سنة 1947 زارني في منزلي بالإسكندرية الدكتور محمد فؤاد شكري أستاذ التاريخ الحديث المساعد بجامعة فؤاد، وطلب مني أن أعيره رسالتي ليطلع عليها فبينت لحضرته أنني لا أملك إلا نسختي الأولى المخطوطة بيدي وقدمتها إليه بكل ترحاب، فأخذها معه، وأبقاها عنده أكثر من عشرة أيام قرأها كلها في خلالها، ثم أعادها إلي فلم(849/33)
يجدني بالمنزل فسلمها لمن به ومعها بطاقة باسمه - لازلت أحتفظ بها - قال فيها بالحرف الواحد:
(أهنئك على هذا المجهود العلمي الصادق، وأرجو أن تتاح لك الفرصة لنشر هذه البحوث القيمة حتى يفيد منها المشتغلون بتاريخ مصر الحديث، وأشكرك بإعطائي هذا البحث الرصين لقراءته والإفادة منه، وأرجو أن أتمكن من زيارتكم في فرصة قريبة أخرى لإسداء الشكر الخالص).
وفي صيف سنة 1948 ظهر كتاب جديد في 840 صفحة من تأليف الدكتور شكري وزميلين له من المدرسين في المدارس الثانوية، وعنوان الكتاب: (بناء دولة - مصر محمد على) وقرأت في الصحف أن الكتاب يتضمن ترجمة كاملة لكثير من تقارير الأوربيين عن حكومة محمد علي، أمثال بورنج وبوالكمت وكامبل. . ولحاجتي الدائمة لهذه التقارير أسرعت فاشتريت نسخة من الكتاب. وتصفحتها فإذا بها تتكون من قسمين: قسم مؤلف في نحو 200 صفحة، وقسم يحتوي الترجمات السابق ذكرها في 600 صفحة، وقلبت صفحات القسم المؤلف فإذا بي أجد فصلاً في عشرين صفحة كبيرة عن (الترجمة والطبع والنشر في عصر محمد علي)، وقرأت هذا الفصل فرأيت ويا لهول ما رأيت، رأيت الصديق والزميل الفاضل أستاذ التاريخ الحديث المساعد قد سطا على رسالتي سطواً تاماً فلخصها في هذا الفصل تلخيصاً كاملاً!!
حتى المنهج - منهجي في البحث - قد سطا عليه فقد ألتزمه عند التلخيص وتتبع أبوابه وفصوله باباً باباً وفصلاً فصلا، لم يحد عنه قيد أنملة: فهو قد بدأ بالكلام عن بواعث حركة الترجمة في عصر محمد علي، وانتقل إلى الحديث عن المترجمين فقسم إلى مترجمين من السوريين، ثم من خريجي المدارس والبعثات، ثم من خريجي مدرسة الألسن، ثم من الموظفين. . . تماماً كما فعلت.
وترك هذا الفصل إلى الفصل الذي يليه في رسالتي وموضوعه التحدث عن المحررين والمصححين، فإذا فرغ منه انتقل إلى الحديث عن القواميس والمعاجم كما انتقلت أنا، وترك هذا كله فتحدث كما تحدثت عن حركة الطباعة والنشر باعتبارها آخر مرحلة من مرحلة من مراحل حركة الترجمة. . . حتى الملاحق - ملاحق الرسالة - لم يتركها لي،(849/34)
فقد ألحقت بالرسالة مجموعة كبيرة من الجداول أحصيت فيها بعد جهود شاقة الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي، مع بيانات وافية عن مؤلفيها ومترجميها وأوصافها الخ، وقد قدمت لهذه الملاحق بالحديث عن المحاولات التي سبقتني في هذا الميدان، ورتبتها ترتيباً تاريخياً مع بيان نواحي القصور فيها لإيضاح قيمة الجديد في جداولي، وقد سطا الدكتور شكري على هذاأيضاً فأثبته تماماً كما أوردته في رسالتي!
ومن هنا ترى أن الدكتور شكري قد سطا على الرسالة منهجاً وموضوعاً، وإذا أنت قارنت بعد ذلك بينها وبين فصله لتبين في وضوح تام أنه لم يسلط على المنهج والأفكار فقط، وإنما قد سطا على العبارات والألفاظ كذلك، فنحو 80 % من عباراته هي عباراتي بألفاظها وحروفها. ومع هذا كله لم يشر حضرته بحرف واحد - لا في الهامش ولا في قوائم المراجع على كثرتها البالغة في نهاية الكتاب - إلىّ أو إلى رسالتي، لا بشكر ولا بما يفيد رجوعه إليها واعتماده عليها وحدها اعتماداً كاملاً تاماً عند كتابة هذا الفصل. . . وهكذا ترى كيف يقيم أساتذة الجامعة لواء الأمانة العلمية!!
سلسلة من الأخطاء: هذه رسالة علمية لم تطبع بعد، فالنقل عنها والرجوع إليها يستلزم أن يستأذن صاحبها أولا، والدكتور شكري لم يستأني في هذا، مع أن التقاليد الجامعية في العالم كله تلزم الناس بهذا، فكل بحث يقدم إلى أي جامعة تودع نسخة منه في مكتبتها، ولكن هذه النسخة تظل عشرة سنوات كاملة - مادامت لم تطبع - ولا يمكن أن تعار لإنسان كائناً من كان إلا بإذن صاحبها الخاص، وإذا اطلع عليها مطلع وأراد النقل عنها في مؤلف له سيطبعه فلابد أن يستأذن صاحب البحث في هذا، بل أنني أعرف كتباً استعمل أصحابها صوراً - صوراً شمسية لا أفكاراً - موجودة في كتب المؤلفين آخرين، فاستأذنوا أصحاب هذه الصور، ونصوا في كتبهم على هذا مع تقديم الشكر لأصحاب الصور!
أما الخطأ الثاني فأغرب، فالمعروف أن المؤلف إذا أفاد من جهوده غيره نقل عنها فكرة أو جملة، أما أن يسطو على مؤلف بحاله فيلخصه تلخيصاً كاملاً، وينقل معظم عباراته بحروفها فأمر لم أره إلا في كتاب الزميل الدكتور شكري!. . . أما الخطأ الثالث فأغرب وأغرب، فالمعتاد إذا استشهد المؤلف بأقوال غيره أن يضعها بين أقواس وأن يشير إلى المرجع في الهوامش، وأن يقدم الشكر لمن ينقل عنه وخاصة إذا كان مرجعه الوحيد في(849/35)
الموضوع الذي يكتب عنه، والزميل الفاضل الدكتور شكري أهمل الإشارة إلى بحثي إهمالاً تاماً. . . قد يدعى حضرته بعد هذا أنه نسي أو تناسى، أما كان يمكن أن يذكر نسيانه بالإشارة السريعة في آخر صفحة من الكتاب أو في المقدمة، وهي آخر شىء، قدمه إلى المطبعة، حتى هذا لم يفعله، ولكنه قال في مقدمة كتابه: (وليس من سبيل إلى معالجة هذا الاضطراب إلا بمعاودة النظر في ذلك التاريخ (تاريخ محمد على) لكشف ما خفي من حقائقه، وتفصيل ما أجمل من دقائقه في حدود الأمانة العلمية). . . أجل، في حدود الأمانة العلمية كما يقول الدكتور شكري، وأقرأ معي واضحك، وشر البلية ما يضحك!!
وأخيراً لعل الشك يساورك فيما أقول، ولكنني أعلن إليك أنني أحتكم في هذا الموضوع إلى حضرات الأساتذة الإجلاء الذين ناقشوا الرسالة في الجامعة، والذين رشحوها لنيل الجائزة في المجمع، فهم جميعاً قرءوها قراءة فهم واستيعاب، وأمامهم كتاب الدكتور شكري يقرئونه ويقارنون. . وأني على استعداد لأنأقدم نماذج من المقارنات، بين نصوص رسالتي الأصلية ونصوص الدكتور شكري الملخصة لتتبين في وضوح صدق هذا الذي أقرره! وقد فكرت جدياً في رفع الأمر للقضاء محافظة على حقوقي الأدبية، ولكنني رفقت أخيراً بسمعة الدكتور شكري العلمية، وآثرت أن أكتب إلى عميد كلية الآداب والدكتور شكري أستاذ من أساتذة الكلية، وغاية ما أرجو أن يطلب إليه الأستاذ العميد:
1 - أن ينشر تصريحاً موقعاً عليه منه في الأهرام ومجلة الرسالة ومجلة الكتاب بنص فيه صراحة أنه اعتمد - عند كتابة هذا الفصل من كتابه - على رسالتي اعتماداً كلياً، ويعتذر عن عدم الإشارة إلى ذلك في هوامش الكتاب ومراجعه.
2 - أن يكتب لي كتاباً خاصاً يذكر فيه هذه الحقيقة ويعتذر عما فعل.
(دكتور جمال الدين الشيال)
هذه هي الحقيقة كما يعرض أدوارها علينا الدكتور الشيال، ومن حقه علينا أن نعرضها بدورنا على محكمة الرأي العام الغني، كما أن من حق الدكتور شكري عليناأيضاً ألا نتناوله بكلمة واحدة في مجال التعقيب على ما حدث، حتى نسمع دفاعه. . . وهذا هو الإنصاف الذي تفرضه علينا (الأمانة العلمية) بالنسبة إلى الأستاذين الفاضلين!
حول الموسيقار الإيطالي الصغير فيرونشكو بوركو:(849/36)
طفل إيطالي لم يتخط الحادية عشرة من عمره، ومع ذلك فهو يفهم النوتة الموسيقية كما وضعها كبار الأساتذة، ويؤديها أنغاماً كأدق ما يكون الأداء، وتعي ذاكرته النادرة وذوقه الموهوب ألحان العباقرة من أمثال بتهوفن وموزار وشوبير وفردى وروسينى وتشايكوفسكى وبرامزوليست. . . وهو بعد ذلك يقود فرقة موسيقية مكونة من ستين عازفاً من أشهر عازفي الموسيقى في العالم. هذا الطفل النابغ هو فيروتشوبوركو الذي أذهل بنبوغه المبكر أقطاب الفن في كل من إيطاليا وسويسرا وفرنسا وأمريكا، والذي حل ضيفاً على مصر منذ أيام تصحبه فرقته الموسيقية الضخمة ليقيم فيها بضع حفلات موسيقية يترقبها الجمهور باهتمام بالغ!.
ينحدر هذا الموهوب الصغير من صلب أبوين وهبا حياتهما للفن ونذرا له الإبن؛ فأمه مغنية من مغنيات الأوبرا بذرت في نفس وليدها بذور الموهبة الفنية عندما كانت تصحبه معها إلى المسارح وعمره سنتان ونصف، وهناك أخذ الطفل بسحر الموسيقى التي استولت أنغامها على مشاعره وهزت كل ذرة في كيانه، ولمح المحيطون به بوادر النبوّغ في أذنه الموسيقية وإحساسه المرهف، فأشاروا على أمه المغنية وأبيه المثال أن يدفعا به إلى من يتعهده بالتوجيه والرعاية، وفي ظل أستاذه درس الطفل أصول الفن الموسيقى حتى أَصبح على مر الأيام أعجوبة بهرت الأنظار والأسماع هنا وهناك!
هذا هو الموسيقار الإيطالي الطفل فيروتشوبروكو الذي تنافس شهرتهالآن شهرة الموسيقار الإيطالي الشيخ توسكانينى. . . وإذا كان لنا من كلمة نعقب بها حول هذا الموسيقار الصغير فهيأنه يقتصر على عزف موسيقى غيره من عباقرة الفن الذين أشرنا إليهم في بداية هذه الكلمة أي أنه لم يمتلك القدرة بعد على التأليف الموسيقى الذي يتمثل في وضع نوتة من صنع موهبته الذاتية، ولكن ذلك لا يغض من قيمته لا يزال في بداية حياته الفنية التي تنتظرها الأيام ويرتقبها المستقبل، ثم إن توسكلنينى الشيخ ذا الشهرة المدوية والمكانة الرفيعة لا يفترق عنه في هذا المجال، مجال قيادة الأوركسترا وعزف ألحان الغير!. . . وإذا كان بعض النقاد يشيدون بهذه العبقرية المبكرة في حياة هذا الطفل الفنان، فماذا يقولون في سيد العباقرة موزار، ذلك الفنان الذي وهب القدرة على التأليف الموسيقى وهو في الرابعة من عمره، حتى أن بعض ألحانه الخاصة التي تنسب إليه وهو في تلك السن يعزفها(849/37)
الآن كثير من قادة الفرق الموسيقية وفي جملتهم بور كووتوسكانينى؟! هنا يقام الميزان الحق للعبقرية المتفردة!!
بقية الرسائل في حقيبة البريد:
أقول لصاحب الرسالة الأولى الأديب الفاضل ص. م. ت (عطبرة - سودان) إن الموضوع الذي عرضته علىّ سأكتب عنه في فرصة مناسبة. وأقول لصاحب الرسالة الثانية الأديب الفاضل عمر عيسى السامرائي (بغداد - العراق) إن تعقيبك على ما رددت به عليك حول ما جاء بكتاب (على هامش السيرة) لا يغير شيئاً من الحقيقة التي أشرت إليها من قبل، حين نفيت لك ما رميت به صاحب الكتاب من التناقض في أقواله، وإذا كنت قد قلت إن ورقة قد قص على نسطاس قصة أخرى في ص (52) فإنما كنت أعنى أنه قد أفضي إليه بمصدر القصة الأولى الواردة في ص (51) أي أنه سرد له قصة أخرى هي قصة القصة! وأقول لصاحب الرسالة الثالثة الأديب الفاضل م. س (قنا) إن الأقدام على الأمر الذي حدثني عنه خير من الأحجام وأقول لصاحب الرسالة الرابعة بعد شكره على كريم تقديره وهو الأديب الفاضل إبراهيم جوهر (قنا) أنه يؤسفني ألا تكون (مذكرات إديسون) بين يدي حتى كان يمكنني أن أجيبه عن سؤاله. وأقول لصاحب الرسالة الخامسة الأديب الفاضل محمد العديسي (العديسات) إن مما يحول بيني وبين الكتابة عن الشاعر المصري الذي أشار إليه هو أنه ليس بين يدي شيء من شعره. وأقول لصاحب الرسالة السادسة بعد شكره على حسن ظنه وهو الشاعر الفاضل محمود البكري محمد (الكيمان) إن رسالته محل عنايتي. كما أقول ذلك أيضاً لصاحب الرسالة السابعة وهو الشاعر الفاضل محمد مفتاح الفيتورى (الإسكندرية). . . ولهؤلاء الأصدقاء جميعاً خالص التحية.
أنور المعداوي(849/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس
اليوم خمر:
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الحالي يوم السبت الماضي على مسرح الأوبرا الملكية، برواية (اليوم خمر) للأستاذ محمود تيمور بك، وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة. وهي مسرحية (كوميدية) تصور حياة الشاعر امرئ القيس شابا لاهياً سادراً في لهوه وعبثه نزاعا إلى حياة الطلاقة والتحرر مما يعرض له من الأمور الجسام، حتى الحب الذي أثقله في النهاية بثلاث نساء، لم يستطع أن يواجهه ففر منه. . .
وتمازح عرض تلك الشخصية صور إنسانية وقيم أخلاقية واجتماعية وقضايا فكرية، تتخلل كل ذلك مفارقات وطرائف أضفت على جو المسرحي روحا فكها مرحا، جعلها ملهاة من الأدب الرفيع.
وقد قرأت هذه المسرحية عند ظهورها مطبوعة منذ شهور، ثم شاهدتها على المسرح، فلاحظت أن المخرج الأستاذ زكى طليمات تصرف فيها تصرفا غايته الاختصار لطولها، وتيسير بعض كلماتها توخيا للملاءمة بينها وبين الجمهور، فقد وضعها المؤلف لتكون أثراً أدبياً يقرأ قبل أي شيء، وقد جعل أسلوبها قريباً من عصرها ولم يبعد عن ذوق عصرنا، ومع هذا كان لابد من أن يصنع المخرج ما صنع، وهو مع ذلك لم يمس الأسلوب المتين والتركيب القوى. وقد بذل الأستاذ زكى طليمات من فن الإخراج في هذه المسرحية ما جعل الفن الرفيع يتعاون مع الأدب الرفيع، وما أظن هذا القول يتعارض مع ما سأتناوله بعد من الملاحظات والمآخذ.
تتكون المسرحية من خمسة مشاهد، نرى في الأول امرأ القيس وحاشيته من رفاق وخدم عند غدير دارة جلجل، يلهون ويقصفون ثم توافيهم هناك الجارية الجميلة (أقحوان) حيث تلتقي بامرئ القيس لأول مرة، وترقص أقحوان قربانا للصنم (هبل) الذي يتوسط المكان، ثم تأخذ هي وامرؤ القيس في مداعبة ومنازلة تنتهي بغضب أقحوان من امرئ القيس لانصرافه عن تقبيلها إلى إطراء عينيها ثم التوجه إلى مناجاة القمر في السماء، وتنصرف بعد أن تقول لرفاقه: إن صاحبكم ليتشدق بالطعن والضرب، آخذاً للحرب أهبتها في كل(849/39)
وقت، فإن حانت ساعة العراك تبوأ مقعده يرقب السماء ويحصى نجوم الليل. وهكذا تظهره هراجا نفاجا ليس كمثله هراج ولا نفاج، كما تقول له.
ثم يقبل سرب من العذاري، قاصدات غدير دارة جلجل يبتردن، فيخلون لهن المكان، ثم يتسلل إليهن امرؤ القيس وحده وقد خلعن ثيابهن - يطفأ نور المسرح في هذه اللحظة - ويجرى بينه وبينهن حديث طريف ينتهي بإصراره على ألا يدفع إليهن ثيابهن - وقد استولى عليها - إلا بعد أن يخرجن إليه متجردات.
ثم يقبل الملك حجر وبصحبته فاطمة بنت أخيه، فيؤنب الوالد ولده على مسلكه وتحاول فاطمة أن تلطف من حدة الموقف ونتبين في أثناء ذلك أن فاطمة فتاة طموح تريد أن تحث امرأ القيس على الأخذ بأسباب المجد، وهما يتبادلان عبارات الحب والمودة.
وفي المشهد الثاني نرى امرئ القيس في ناحية من سفح جبل دمون باليمن، يلعب بالشطرنج مع أحد أصحابه، وبقية رفاقه على مقربة منه يشربون الخمر وأمامهم قينة ترقص. ثم يقبل عامر ابن معاوية عضد الملك حجر، متهجم الوجه، وينعى إلى امرئ القيس أباه الملك، فيستمر امرؤ القيس في اللعب غير عابئ بالنبأ، حتى يتم الدست. . . ثم يعلن أن اليوم خمر وغداً أمرّ، وينشد:
خليلي ما في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك بالكأس نشرب
وتدخل عليه فاطمة وتستحثه على الثأر من بنى أسد قتلة أبيه، فيبدى لها عزمه على المضي في أخذ الثأر. ثم يأخذ في تأمل عينيها وهو ثمل يترنح، فتصده عنها، فيبثها حبه، فتعده بمبادلته الحب بعد أخذ الثأر.
وقبل المشهد الثالث نرى على المسرح منظراً عجبا: سحبا متكاثفة تسير في جو البادية، ونسمع خلال سيرها صوت الأستاذ زكى طليمات يحدثنا حديثاً موجزاً عن حروب امرئ القيس مع بنى أسد وانتصاره عليهم وإيقاعه بهم، وعودته إلى الشرب واللهو
بعد ما نال منهم ماعده ثأراً، وتحريض ابنة عمه فاطمة له على الاستمرار في حروبهم.
والواقع أن هذا الحديث إجمال لما حدث في فصل حذف من أصل الرواية، وكان ذلك، مع منظر السحب الملائم للحوادث، تجديداً رائعاً في المسرح المصري.
ثم يأتي المشهد الثالث وهو في كهف بشمال اليمن حيث يجلس امرؤ القيس مهموماً، ينتظر(849/40)
عامر بن معاوية الذي أرسله إلى رؤساء القبائل يستنجد بهم، بعد أن خذلته قبيلتا بكر وتغلب ولحقته الهزائم، وتقبل عليه فاطمة، فيغلظ لها في القول، ولكنها تحزن لمرآه وتتود إليه وتعبر عن ندمها على تحريضه حتى أوقعته في هذه الحال، وتنقلب إزاء تجهمه لها أنثى وديعةمحبة مستسلمة، وما تزال به حتى يلين لها ويعاهدها على الحب. ويقبل عامر وينهي إليه أن أحداً لم يستجب له، ثم يشير عليه أن يتوجه إلى الحارث الغساني بالشام ليستعين به، وهو عدو المنذر الذي أعان بنى أسد وأهدر دم امرئ القيس.
ولكن صديقا لامرئ القيس (صمصام) عاد من رحلته التجارية وأقبل عليه في هذا الموقف، فأشار بالتوجه إلى قيصر بالقسطنطينية، ويقول فيما يقول لامرئ القيس إنها عروس المدائن وتزخر بالحسان والخمر المعتقة. . . ويعلن الرحيل إلى القسطنطينية.
والمشهد الرابع في حانة ميخايلوس بالقسطنطينية حيث نرى أبا زبيبة وحنظلة خادمي امرئ القيس يشربان ويغازلان لاريسكا ابنة ميخايلوس ومينورقا الفتاة الخليعة بالخانة. ويظهر لنا من الحديث أن لاريسكا قد أحبت امرأ القيس، وأن المدينة تردد نبأ العلاقة الجديدة بين الفتى العربي (قيس) وبين ابنة القيصر التي أحبته. ويقبل امرؤ القيس إلى الحانة. وفيما هو ولاريسكا يتبادلان عبارات الحب يقدم عامر بن معاوية وفاطمة، فتنصرف لاريسكا وتتسمع حديثهم الذي يتضمن أن كسرى مستعد أن ينصر امرأ القيس الذي يتأبى أن يلجأ إلى عدو قيصر بعد وعده المعونة على أمره.
والمشهد الخامس في الحانة أيضاً، وبينماحنظلة يغازل مينورقا يقبل امرؤ القيس، ثم تقبل فاطمة وعامر وصمصام، وتقدم ابنة القيصر لتلوم امرأ القيس على غشيانه هذه الحانة الوضيعة. ويقف امرؤ القيس بين ثلاث محبات يتنازعه: فاطمة وابنة القيصر ولاريسكا. وفجأة يدخل صاحب شرطة قيصر يريد القبض على هؤلاء البدو بتهمة التجسس لكسرى. ويتضح أن لاريسكا هي التي أبلغت أمرهم، لتحول دون رحيل امرئ القيس ويتصدى امرؤ القيس للشرطة ويأبى أن يسلم فاطمة وعامر وصمصاماً، ويستل سيفه وتدور بينه وبين الشرطة معركة يقضى عليهم فيها، ويصيحأهله أن يقفزوا من على سور الحانة إلى البحر ويلحق بهم، يطلبون في البحر مهربا.
الصورة الواضحة لامرئ القيس في الرواية هيأنه فتى عابث ما جن نفاج لا يعرف الجد(849/41)
ولا يتحمل التبعات، ولكن امرأ القيس (الشاعر) لا يكاد يوجد فيها. نعم إنه أنشد أقحوان بتين، وروى خادمة أبو زبيبة الأبيات التي مطلعها:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
وأنشد بضعة أبيات بالمشهد الثالث. ولكن كان ذلك ضئيلا لا يكون للشاعر صورة، وقد حذف جزء من الفصل الأول كان فيه ينشد أبياتاً ظريفة لعذارى الغدير. وكان هذا الجزء بسبيل إلى إبراز صفة الشاعرية. ومن تصرفات امرئ القيس القليلة الدالة على رقة الشاعر وإنسانيته، موقفه أمام الغزال الذي اصطاده وأسفه على أن صرعه وقوله في ذلك: ألا يستطيع المرء منا أن يأكل دون أن يقتل؟
ولم يكن تغزله بفاطمة ليلة نعى أبيه وهي مكتئبة حزينة باكية وإلحاحه في معابثتها ومجاذبتها على هذه الحال، مما يتفق والإحساس الدقيق النبيل الذي يتميز به الشاعر، بل كان هذا الموقف أدنى إلى الحيوانية، ولا يبرره السكر، فإن الإحساس الأصيل لا يتغلب عليه شيء. والطبع الفني الرقيق لا يخرجه العبث والمجون عن دائرة مشاعره الإنسانية العالية.
والفصل الثالث الذي اضطر المخرج إلى حذفه، كان يحتوى أمرين مهمين، أولهما بيان خلة امرئ القيس في حرصه على ألا يضيع حظه من اللهو والشراب طويلاً، فما إن من بنى أسد بعض النيل حتى هرع إلى اللهو وإباحة الشراب.
الأمر الثاني تصوير فاطمة وهي تجد في العمل على مواصلة القتال وتحريض امرئ القيس، وهذا التصوير ضروري لكي يدرك المشاهد روعة انقلابها عندما عرض عنها امرؤ القيس وأغلظ لها فإن هذا الانقلاب الشعوري لمعة في أثناء الحوادث يدل على حرص الأنثى على الناحية العاطفية مهما اشتدت وتطلعت إلى المجد. ولم يكن الحديث الموجز الذي نطق به الصوت المسموع كافياً لإبراز ذينك الأمرين.
وفي المشهد الثالث عندما يئس امرؤ القيس من مساعدة من استنجد بهم نراه يستغرق في تأملاته وتفكيره استغراق المجرب الذي عرك الحياة وعلمته الشدائد، فيتحدث عن تغير الأصدقاء، وعن قيمة الحياة وهل هي المتعة بإشباع البطن وقضاء الشهوة يستوي في ذلك الإنسان وغيره من الحيوان، أولها أهداف ومقاصد يسعى إليها كل ذي عقل ورشد،(849/42)
ويتحدث عن القدر وموقف الإنسان منه حتى ينتهي إلى أن القدر لا يستطاع دفعه ولكن للإنسان تبعته ونصيبه، فللأقدار يد تدفع ولكن إرادة الإنسان تغالب. وقد كان هذا الموقف يثقل على المشاهدين لولا ما نخلله من مفاكهات الخادمين حنظلة وأبي زبيبة، فالأول يرى أن القدر هو كل شيء فقد رمى الوعل بأسهم عشرات فما أصابت منه مقتلاً، وشاء القدر أن يرتطم في حفرة فناله بلا كد ولا عناء. ويرى الثاني أن الإنسان إن لم تكن له إرادة لم يتيسر له مطلب، كيف استمتاعك بالمرأة إذا لم تسع جاهداً حتى يتبدل عسرها يسراً ويعود جماحها ميلاً وانعطافاً؟
وهكذا نرى تلك الأفكار تساق في مساق ظريف يندى جفافها على المشاهدين. ولكن في بعض الفترات خلا امرؤ القيس إلى نفسه وأطال في المناجاة حتى أمل. وحدث ذلك مرتين، أنهي الأولى دخول حنظلة، وأنقذ الجمهور في الثانية قدوم صمصام.
وقد كانت الخاتمة جيدة في أمر، ومضحكة في أمر آخر، فقد كان رائعاً ألا يتخلى امرؤ القيس عن أهله ويقف بالسيف دونهم على رغم إغراء البيئة التي أغرق فيها. أما القفز إلى البحر والهرب فيه مجاهره من قيصر وشرطته، فلا أستطيع أن أتصور عجز الحكومة القيصرية عن اللحاق بأربعة من البدو متهمين بالتجسس للعدو، يقلعون من شاطئ القسطنطينية أمام الأبصار.
وجهد الأستاذ زكى طليمات في إخراج الرواية بارز عظيم، وقد جسم الجو البدوى الملائم للحوادث على المسرح، ووفق في توزيع الأدوار على قدر الإمكان. . .
وقد مثل (امرأ القيس) أحمد علام، فنهض بالدور وإن لم يكن نجاحه فيه كاملا، وذلك أنه لم يعبر عن طبيعة امرئ القيس الماجنة، لا بالصوت ولا بالحركات، ولم يكن يظهر عليه المرح في وقته كما ينبغي أن يظهر، ولم يكن ثمة فارق كبير بين أحواله المختلفة في الإلقاء ونبرة الصوت، وأحمد علام أليق بالأدوار الجدية كدور مجنون ليلى منه بمثل هذا الدور العابث الماجن. وقد تبين كسله في حفظ دوره، وهذا الكسل وإن كان ملحوظاً لدى أكثر الممثلين والممثلات، إلى أنه كان ظاهراً في أحمد علام الذي يعتمد على الملقن حتى أنه كان ينطق بعض الجملة ويصغي إلى الملقن ليسعفه ببقيتها. ويبدو أن الممثلين والممثلات لم يمرنوا التمرين الكافي على سلامة النطق وتصحيح اللغة، فقد عم التكسير في(849/43)
الكلمات وضبطها، ولم يكن ذلك منتظراً ولا لائقاً بأستاذ كأحمد علام.
ومثلت (فاطمة) فردوس حسن، فأجادت التمثيل وأدت دورها أداء باهراً، ولم ينقصها غير النطق العربي الصحيح، وهذا غير سلامة الضبط، إنما هو اللهجة وكيفية إخراج الكلمات، وأظهر ما في نطقها دغم الكلام وعدم الإبانة. ومن المفارقات أن اللائى مثلن لاريسكا (إحسان شريف) وميفورقا (زوزو حمدى الحكيم) وابنة القيصر (روحية خالد) كن ينطقن نطقاً عربياً - وهن يمثلن أعجميات - أحسن من نطق فردوس وهيتمثل فاطمة العربية.
أما فؤاد شفيق فأنا معجب به لظرفه وقدرته على أداء هذا الظرف باللغة الفصيحة، وهو روح نابض في الرواية، وقد مثل (حنظلة).
وقد وفق سائر الممثلين والممثلات في الاندماج في أدوارهم، وخاصة فاخر فاخر (صمصام) وكان حسن البارودي في دور (قبيصة بن نعيم) موفقاً في التعبير بصوته وإلقائه إلى جد بعيد، عندما تكلم عن وفد بنى أسد إلى امرئ القيس.
عباس خضر(849/44)
البريد الأدبي
الوعي الأدبي في الرسالة!
1 - يعجبني كتاب الرسالة وقراؤها الكرام، فهم بحق وبلا منازع تلك الفئة المستنيرة التي تتذوق الأدب وتتعشقه، وتتعرف فنونه وأساليبه، وتتفانى في خدمته، فلا عجب إذا رأينا ألا تفلت منهم صادرة أو واردة من القول، حتى يتعرفوا مصدرها ويسروا غورها، فهم تارة يظهرون عوار الكاتب إذا لحن أو زل قلمه فغزا قولا لنفسه ولم يرده إلى قائله، أو نقل فكرة أو قصة ونسبها إلى قلمه زوراً.
وهاهي أقلام كتابها تتبارى ولا تفتأ تذكر أن تلك الفكرة لفلان، أو أن هذه القصة من وضع فلان، أو أن هذا المقال قد نشر في مجلة كذا للمرة الثانية، حتى أصبحت الرسالة النيرة مضرب المثل في التثبت والتحقيق والتدقيق والأمانة الأدبية الممتازة، فهي لا تحابي صديقاً أو تغمط عدواً، لأن مركزها الأدبي يحتم عليها أن تقوم بالقسطاس، وهو الذي أهلها لتلك المنزلة الرفيعة بين زميلاتها. أكتب هذه الكلمة البريئة - والأسف يملأ النفس - إذ أنظر إلى مقال قد نشر مرتين في وقت واحد وفي قطر واحد تحت عنوانين مختلفين - وصلب المقال واحد لم يتغير - وذلك المقال قد نشر في مجلة الأزهر الرسمية في الجزء السادس ص555 من المجلد الثامن عشر تحت عنوان (على قيثارة الذكرى) ثم نشر في مجلة الأمانة في العدد السابع ص26 من المجلد الأول تحت عنوان (ليلة كاملية). وها قد مضى على نشر هذا المقال بصورتيه مدة طويلة وقراء الأزهر والأمانة في سبات لم يحرك أحدهم ساكناً، وفات الأستاذ الفاضل أن يشير إلى ذلك - حتى لا يعاتب أو يؤاخذ - على هامش أحد المقالين.
ولا أدري السبب الذي دعا فضيلة الأستاذ وهو عالم ومدرس بالأزهر إلى ذلك، بل ما سبب تغيير العنوان على هذه الصورة المريبة؟ نريد جواباً!
وبعد فنحن في عصر كثرت فيه الأقوال بلا ميزان، وقلت بل عزت الأفعال، وكثيراً ما تخطر الفكرة ويسطرها القلم ثم تحجم النفس عن إرسالها للنشر، حتى لا تكون حجة أمام الله سبحانه وتعالى.
على أن العبرة ليست بكثرة الكتابة والتحبير في الجرائد والمجلات على أية صورة، وإنما(849/45)
تقاس قيمة الكاتب الناضج بمقدار ما ينتج مما يفيد قراءه في حياتهم العاجلة والآجلة، وإلا كانت الكتابة من الترهات التي هي وعدمها - في نظر العقلاء - سواء.
2 - انقطعت الأخبار من مدة وزاد الحنين إلى الجار العزيز الأستاذ على الطنطاوي فهل نرى قلمه يصف (مأساة فلسطين) نرجو أن يفصح ويجيب مع قبول التحيات.
(شطانوف)
محمد منصور خضر
النم وليس البجعة:
يكثر فنانو الغرب من تسمية بعض أعمالهم الفنية باسم الطير المائي المعروف واعتبارهم إياه مصدر وحي لهم. ولعل السبب في ذلك هو أن لهذا الطير منظراً جذاباً، ومنه استوحى تشايكوفسكى رقصة ومنه استلهم تشيخوف تمثيليته ذات الفصل الواحد المعروفة ب (أغنية
ومما يثير الدهشة أن أدباء مصر وفنانيها قد أجمعوا على تعريب كلمة هذه ب (البجعة)، وهذا خطأ لغوى وفني كبيرلأنالبجعة هيغير
فالبجعة هي طائر مائيأيضاً لكنه عريض المنقار طويلة، له حويصلة عظيمة تحت منقاره، يخزن فيها كمية من الأسماك.
وأما الّتم فهو طائر مائي له عنق طويل معقوف على شكل حرف عادى المنقار، قصير اليدين وتقعان إلى القسم الخلفي من جسمه.
والتم طائر أبيض، أرستوقراطى الشكل، كان يعتبر في كثير من الممالك الأوربية طيراً ملكياً، ولا يحق لأحد غير الملك أن يقتنيه إلا بإذن ملكي خاص.
ومن التم طائر أبيض، أرستوقراطى الشكل، كان يعتبر في كثير من الممالك الأوربية طيراً ملكياً، ولا يحق لأحد غير الملك أن يقتنيه إلا بإذن ملكي خاص.
ومن التم ما يسمى بالمصفَّر فهو يصفر صفيراً ملحناً، ويشدو بأنغام جميلة جداً، ويشتد غناؤه إذا ما جرح أو وقع في ضيق.
يروى أهل الغرب أسطورة عن هذا الطير بقولهم أنه يغنى اللحن الأخير قبل موته، ومن(849/46)
هنا جاء قولهم (أغنية التم) أى آخر عمل يقوم به الفنان وهو مشرف على أبواب الأبدية، ومن هنا جعل شكسبير أميليا تقول في (عطيل) (سأمثل دور التم وأموت في الموسيقى). فالبجعة هيطير والتم هو طير فهل لنا أن نميز بينهما؟. . .
(ليماسول - قبرص)
نجاتي صدقي(849/47)
القصص
انهيار جدار
مترجمة عن الإنجليزية
بقلم الآنسة سلوى الحومانى
كان ضحى يوم من أيام نوار الضاحكة وقد أشرقت الطبيعة بابتسامة الربيع، فرفلت الحقول بحلته الزمردية المزركشة، وعبق الجو بأنفاس الزهور العطرة. وانطلقت الطيور صادحة تبنى أعشاشها على أفنان الشجر وبين العشب النامي في مرتفعات الأرض التي بدت بانحداراتها كستائر من السحر أو كلوحات فنية هي أروع ما أبدعت يد عبقري.
وفي ذلك اليوم المشرق، وفي حقول قرية (هاثرتون)، كانت (جيزيا أنوين) القروية الحسناء تنحدر مسرعة إلى تلك القرية وقد حملت سلة بيض توصلها إلى السيدة (برسكلوف) العجوز كهدية من إنتاج طيورها التي تفننت في تربيتها في مزرعة أبيها الموسر.
كانت جيزيا تبدو آية من آيات الفن بثوبها الأزرق البديع التصق بقدها السمهري بزهو وخيلاء، وقبعتها الباريسية الأنيقة التي علت رأسها الجميل تحاكى زهور الأرض روعة وجمالاً. فكأنما كانت تلك القروية مرآة للربيع الغض الزاجر بالحياة، فصاغت من ثراء أبيها حلل الأناقة والفن بعينها على ذلك ذوقها السليم وجمالها الفتان.
كان جمالها حديث أهل القرية ومطمع عيون الشبان فيها ومعقد آمالهم، فتسابقوا عليها يطرحون بين يديها قلوبهم ومهجمهم. فلم يرض واحد منهم طموحها، فضاقت بهم ذرعاً وطغى بها غرورها فراحت تسخر منهم وتهزأ بعواطفهم المحمومة ثم بالغت في القسوة حتى لم تتورع عن صب وعاء من الماء البارد على راس هائم جاء يشكو إليها لواعج قلبه فلم ترقها لعثمته ولهجته الحمقاء. وبعد أن استرد روعه من تأثير الماء طردته بلطف وهيتربت على كتفه باسمه وتقول بهزء: ظننتك محموماً تهذي يا عزيزي فأسعفتك بالماء البارد.
وكذلك قصتها مع (ريف بارامور) زميلها في الدراسة ورفيق صباها الذي قطعت معه مرحلة الطفولة العابثة المرحة فلعبا الحلجة وفتشا أعشاش العصافير ركضاً معاً في حقول(849/48)
القرية يمثلان لعبة (الاستخفاء) حتى إذا داعب الشباب قلبيهما بنسمات الحب، تطلعت الفتاة حولها حيرى، وسعى الشاب يطرح بين يديها قلبه وماله ومستقبله. فصدمت بمنظره المتخاذل الذليل، وكلماته المترددة المتلعثمة، ولهجته البلهاء المتهالكة، فطردته شر طردة هازئة ساخرة.
ولكن هذه المعاملة لم تزد الفتى إلا حباً وهياماً. بل أن هذا الحب ظل يضطرم ويشب مع الأيام كلما ازدادت الفتاة حياله بروداً ونفوراً.
ولنعد الآنإلى جيزيا وهي تقطع تلك الحقول مسرعة إلى قرية هاثرتون. ووقفت في منعطف يؤدي إلى الطريق العام تفكر في أي الطريقين أقصر إلى القرية. فرأت أنها إذا اتبعت الطريق العام فسيكون عليها أن تقطع مسافة ميلين لتصل إلى بيت السيدة برسكلوف في تلك القرية. ولكن إذا اختصرت فسلكت هذا الحقل الوعر الذي ستعترضها فيه انحدارات خطرة وكثير من النباتات المتشابكة وصفوف من الحيطان المترنحة الواهية البناء، بذلك تستطيع أن تصل إلى القرية في أقل من ربع ساعة. قالت: هذه حقول ريف بارامور، وأعتقد أنه ليس فيها اليوم فسأغامر وأقطعها لأني متضايقة من الحر فلا أستطيعالمشي طويلاً في الطريق العام.
ووضعت السلة من يدها وجعلت تزحف بين النباتات البرية النامية وخلال الأغصان المتشابكة حتى كانت بعد دقائق على ضفة جدول كبير تجتازها بحذر وتماسك لئلا تزل قدميها وتقع فيه. ووصلت إلى رأس منبعه حيث يتفجر من خلال كومة من حجارة رملية فتسلقتها بخفة وقفزت إلى حقل قمح منبسط انطلقت تمشى فيه براحة واطمئنان يغمرها النبات المتطاول، حتى رأت أمامها حائطاً عالياً يعترض طريقها.
كان هذا الحائط صعب التسلق لضعف بنائه وتداعى حجارته. ولكن هذا لم يثبط من عزمها ولم يضعف همتها وهي الفتية النشيطة، فلم تجفل أمامه ولم تحجم عن تسلقه. فوضعت سلة البيض على حجر ثابت فيه، وبدأت تصعد بخفة ونشاط. ولكن راعها أن رأت خطر الصعود أشد مما كانت تتصور. فكانت نتوء حجارة الكلس تتفتت تحت قدميها حتى كادت تهوى إلىالأرضلولا جهد المستميت.
وكادت أن تصل أعلى الحائط عندما هلع قلبها وهي تراه قد بدأ يميد بها ويهتز تحت ثقلها(849/49)
فما أحست إلا وهي ترمى بنفسها إلىالأرضوقد انهار من ورائها.
ونهضت مذعورة فزعة، ولكن سرعان مازال خوفها وانبسطت أساريرها ولمعت عيناها بخبث وهي تنظر إلى الجدار المنهار ثم قالت بحقد وتشف: أنه سيكون شغلاً مناسباً لريف الأبله أن يعيد بناءه، ولسوف أهدمه ثانية وثالثة، أيضاً كلما بناه، فالتعب هو أنجح دواء للحمقى المائعين أمثاله.
ولدى آخر كلمة قالتها إذا بعينيها تتسع ذعراً عنها صيحة مكبوتة عندما حانت منها التفاته فرأت من ورائها تماماً ريف بارامور.
لقد كان ريف بعينه جالساً إلى جذع شجرة منهمكاً في صنع أوتاد خشبية. وكان ينظر إليها وعلى فمه ابتسامة الظفر.
فأسرعت جيزيا واختطفت سلة البيض وركضت هاربة. ولكن ريف قفز وراءها يتبعها بخطوات واسعة ويقول: لقد سمعت كل ما قلت يا جيزيا، ولا أظن أنك بهذا العمل على شيء من النبل أو اللطف، ولكن على أي حال فأنت تعرفين العادة في قريتنا التي تحتم على من يهدم جداراً أن يبنيه بنفسه، لذلك فأنت الآنيجب أن تبنيه كما هدمته.
فوقفت جيزيا تنظر إليه بازدراء وتتحداه قائلة: كلا لا أريد أن أبنيه
فقال ريف بتهكم: ولكنك ستبنيه لأنني سأجبرك على ذلك.
فغاض لونها وقالت: إن سخرية الأقدار أن تكون أنت أول رجل يجبرني على عمل لم يخطر لي على بال. تنح جانباً ودعني أذهب.
قال كلا لن أفعل، فأنت معتدية، والمعتدى يجب أن يدان، وأنا الذي سأدينك بإكراهك على بناء الحائط بنفسك.
فقالت بصوت مختنق: إذا فعلت هذا فسأملأ الدنيا صراخاً.
فقال بتهكم: اصرخي ما شئت فلن يسمع صراخك في هذا الحقل النائي أحد غيري.
فلم تجد جيزيا بداً عن كبريائها فقالت بلهجة المتوسل: ليس من النبل والرجولة في شيء أن تجبر فتاة مثلى على هذا العمل الشاق ياريف. فإنا لم أخلق لبناء الجدران. وكأن لهجتها الرقيقة هذه قد حركت أوتار قلب ريف، فتبدلت ملامح وجهه فجأة وجعل يتفرس فيها برهة ثم قال: إن بناءك للحائط سيكون لك درساً في إذلال كبريائك كما أذللت كبريائي من قبل(849/50)
بطردي من بيتك، أتذكرين. .؟ والآن هيا اشرعي في البناء. فراعها لا تخفف توسلاتها من عناده شيئاً. ولأول مرة في هذه المناقشة رفعت رأسها إليه تتأمله بإمعان. فتصنع هو الصرامة والعبوس. وتقلصت عضلات وجهها اشمئزازا من خلقته. يا الله ما أغلظ هذا المخلوق الواقف أمامها بوجهه الكاحل المكفهر وقامته المتخاذلة وثيابه الشعثة التي تتصبب عرقاً! إن ظنها في أنه أبشع رجل في العالم، وأقسى رجل أيضاً. ما أقسى هذا الجنس وأظلمه، لقد اقتنعت الآنفقط أن الرجال أفظع المخلوقات وأنه لا يوجد واحد منهم جدير باسم رجل.
وأحست بأن أعصابها تكاد تنفجر غيضاً فأشاحت بوجهها عنه حانقة، ولمعت عيناها حقداً، وارتجفت شفتاها في ثورة مكبوتة. ودمدمت بحدة قائلة: إنني أمقتك يا هذا، أنت تريد أن تقضى على بهذا العمل، فإنا لست رجلاً حتىأستطيعبناء الحائط.
فأنفجر ريف ضاحكاً وقال: إنك تجورين علي بهذه التهمة يا جيزيا. فما أردت إجبارك على بناء الحائط إلا تلقينك درساً عملياً في احترام كبرياء الغير كما أخبرتك الآن. أما وأنت تصرين على الاعتقاد بأن هذا العمل سيقتلك حقاً، فأنا لا أريد أن أحمل ظهيري وزر قتلك. لذلك فأني سأساعدك في بنائه، سأجنبك المهمة الشاقة فيه فأجمع الحجارة الكبيرة الثقيلة وأنت عليك جمع الصغير منها.
فلم تجب جيزيا بكلمة، ولكنها جعلت تنزع قفازها الأنيق بألم وقنوط ثم بدأت تشتغل بتثاقل وصمت والدموع تترقرق في مقلتيها.
وابتسم ريف وهو يرى عملها البطيء وأحجارها التي لا يزيد أحدها عن حجم التفاحة. واستمرا يشتغلان دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة حتى تم بناء صفين من الحجارة وكان الوقت قد صار ظهراً فقال ريف: يظهر أن بناء الحائط سيستغرق معنا يوماً كاملاً، والآن قد حل وقت الغداء فهيا إلى ظل الشجرة لنتغدى معاً بما كنت أحضرته من خبز وجبن.
فقالت هامسة في استنكار: أتغذى معك تحت الشجرة.؟ ولكن ماذا يقول الناس عنى إذا عرفوا. .؟ بربك أعفني من هذا. فأجابها وقد عاد إلى تقطيبه: بل يجب أن نتغدى معاً فسوف لا أخبر أحداً بذلك.
ورأت جيزيا نفسها مجبرة على طاعته فانقادت له صاغرة. ولم تستطع ازدراد الطعام(849/51)
لانفعالها، وأحست به يلتصق بحنجرتها فقالت متظاهرة بالشبع تبغي العودة لعملها. ولكن ريف استبقاها إلى جانبه قائلاً: أنا معتاد أن أدخن غليوناً بعد الوجبات. دعينا نستعيد ذكريات الطفولة في هذه الأثناء. أتذكرين عندما كنت أتسلق أعالي الأشجار لأجلب لك العصافير من أعشاشها. . .؟
فنفضته جيزيا بنظرة حانقة لهذا الأسلوب الكريه الذي يحاول أن يستعيلها به ثم مشت عائدة إلى عملها دون أن تنبس بكلمة.
ولاحظ عليها ريف أنها نشطت في عملها عما قبل، فراحت تسرع في جمع الحجارة قلقة وجلة كلما انحدرت الشمس نحو المغيب. فقابل هو إسراعها ووجلها بالبرود والبطيء في عمله دون رحمة أو شفقة. حتى إذا ما قارب النهار الزوال، ورأت الحائط لم يتم منه النصف، نظرت حولها جزعة، ثم ارتمت على الأرض تبكى بحرارة.
وفوجئ ريف ببكائها لم يكن يتوقعه منها وهي العنيدة الصلبة. فشعر بخطئه في تلك المعاملة القاسية لها فتألم واضطرب خوفاً من سوء العاقبة. وقال يخاطبها برقة: جيزيا ما بك.؟ أعتقد أنني أتعبك كثيراً. في وسعك أن تذهبيالآنوأنا سأكمل بناء الجدار وحدي.
ولشد ما كانت دهشته عندما رآها تهب واقفة قبل أن يتم كلامه وتمسح دموعها بسرعة وتعود إلى عملها نشيطة في جمع الأحجار أكثر مما كانت عليه. فردد في نفسه: يا لهذه الفتاة الصلبة! إن كبريائها لم تتحطم بعد، فهي تأبى مظاهر الضعف والذل في بكائها الذي استدر عطفي.
وأحس بالشفقة نحوها، فراح يساعدها بهمة لا تعرف الكلل حتى تم بناء الحائط بعد ساعتين.
عندئذ أسرعت جيزيا وقبل أن تلتقط أنفاسها، اختطفت سلتها بحركة عصبية وراحت مهرولة في طريقها إلى القرية. كانت صامتة واجمة شاحبة الوجه تعتسف طريقها الشائك مستجمعة قواها المحطمة.
وشعر ريف بالندم وهو يراها في هذه الحال المؤلمة، وأنبه ضميره بشدة وعصر قلبه الألم فأسرع وراءها يصيح معتذراً: جيزيا إنني أسألك المعذرة.
فوقفت جيزيا ووضعت سلتها على الأرضوبسطت أمامه يديها تقلبها لتريه أصابعها الدامية(849/52)