نترحم على الجارم بعدما استعصى على الشعراء رثاؤه.
وأقول: إن الوقوع في سرقات أدبية لا ينافي الإجادة والشاعرية الفذة، وقد ألفت كتب في سرقات شعراء كالمتنبي، وقد وصل الأمر إلى الاغتصاب مع إكراه الشاعر القائل على أن يتنازل عن ملكية ما قاله مفاداة لعرضه من هجاء المغتصب. والدلالة على السرقة الأدبية لا تنافي أيضاً الترحم على الفقيد، وعندما تتقدم في الدراسة الأدبية سترى في باب السرقات بكتب الأدب أن كل السارقين المذكورين في هذه الكتب قد ماتوا. . يرحمهم الله. . .
ويقول لي الأديب الشحات السيد زغلول (مدرسة رأس التين الثانوية - توجيهة آداب): من الله علي بالنجاح فهممت بقلمي لأكتب لك وأزف إليك تلك البشرى، كأنك ممن يهمهم أمري وممن يسرون لنجاحي.
وقد يبدو لبعض القراء أن هذا (المقول) تافه، ولكنه ليس كذلك، فهو تعبير عن شعور. إن الطالب الأديب (الشحات السيد زغلول) دائب على قراءة (الرسالة) وقد كتاب إلي قبل ذلك، وهو يشعر من طول الملازمة الفكرية كأني من أسرته. . . وحقا لقد سرني نجاحه كأنني ممن يهمهم أمره. نجاح مبارك يا سيد شحات. . .
ويقول لي الأستاذ أحمد طه السنوسي: اطلعت على كلمة لكم تحت عنوان (نصف مليون جنيه يصدع رأس الدولة) في الرسالة الغراء، فأحببت أن أكتب لك شيئا عن ذلك (الروتين) العجيب، وإن له مساوئ ولكنها طريفة تفتر لها الأفواه عن بسمات، وقد صارت هذه البسمات أيضاً من (الروتين). . كثيرا ما ترسل المصالح الحكومية خطابات مسجلة إلى أفراد من الناس تطالبهم فيها بمبالغ قد تكون عشرة مليمات أو سبعة، وتنفق على الخطاب ثمانية عشر مليما!
ويقول لي الأستاذ الشاعر محمد العديسي: إن الأبراج المقدسة لم تدع لنا إلا آمالا في أمثالكم الذين يهيئون لأنفسهم مكانة عند أمثالنا. . .
وأقول له: إن (رغبتنا) في المكانة عند أمثالكم لا تجديكم شيئا. . . كما أننا لم نستفد من رغبة أحد في مكانة لدينا. . .
عباس خضر(826/53)
البريد الأدبي
في تفسير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
ترتيب آيات الكتاب العزيز حصل بتوقيف من الرسول صلوات الله وسلامه عليه، على ذلك انعقد الإجماع، فكان الرسول إذا نزلت عليه الآية وتلقاها من جبريل الأمين لقنها أصحابه فوعتها صدور الحفظة منهم، وأمرهم بأن تكون مع آية كذا من السورة التي تكون فيها الآية، وإن كان ذلك على خلاف ترتيبها في النزول. وعلى أساس هذا الترتيب الذي أرشد إليه الرسول قام بناء نظم القرآن المعجز، وأحكمت آياته، وتوثقت معانيه واتسقت كلماته.
وأما ترتيب السور فيرى كثير من العلماء أنه توقيفي كترتيب الآيات وقال آخرون إنه عن اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم. وسوى أكان الترتيب بين السور بتوقيف من الرسول أم كان عن اجتهاد من الأصحاب، فمما لا شك فيه أن اتفاق جمهور الصحابة على هذا الترتيب المعروف الذي عليه المصحف العثماني أمر له قيمته ومعناه، وليس يخفى على ذوي البصائر من أهل العلم والذوق سره ومغزاه، وإن لم يكن على حسب ترتيب السور في النزول؛ فالترتيب بين السور كالترتيب بين الآيات ليس مبنيا على ترتيبها في النزول ولكنه قائم على ما بينها من الروابط والمناسبات.
وإدراك ما بين الآيات وما بين السور من صلة ومن مناسبات يحتاج إلى علم جم، وطبع ملهم، وشعور مرهف، وبذلك اختلفت أنظار العلماء وتفاوتت مداركهم. ولقد كان للأستاذ الإمام القدح المعلي والسبق في هذا الميدان، يعرف ذلك بالإطلاع على تفسيره جزء (عم).
أسوق هذا لمناسبة ما كتبه الأستاذ محمد عبد الله السمان في الرسالة - عدد 18 إبريل - ردا لما قرره الأستاذ الإمام في تفسيره (جزء عم) من بيان المناسبة بين سورة (الليل) وسورة (الشمس)، إذ اختلط الأمر على الكاتب والتبست عليه المناسبة بين السورتين والمناسبة بين القسم والمقسم عليه في (سورة الليل) فقال ما نصه:
(جاء في تفسير جزء عم للأستاذ الإمام - رحمه الله - عند تفسير أول سورة الليل ما يأتي (والليل إذ يغشى) يبتدئ في هذه السورة بأن يقسم بالليل وهو الظلمة لأنها الأنسب بما ختمت به السورة السابقة - سورة الشمس - من الدمدمة وإطباق العذاب. . اه (ولم يذكر(826/54)
بقية المناسبة)، ثم قال: والمعلوم أن سورة الشمس سابقة لسورة الليل في الترتيب لا في النزول، إذ أن سورة الليل نزلت بعد سورة الأعلى (لعله يريد أن يقول إن سورة الليل نزلت قبل سورة الشمس)، وبذلك يكون لا محل هنا لذكر المناسبة التي ذكرها الإمام. أما المناسبة فلما كان المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة اشتملت صيغة القسم على أشياء مختلفة لتركيز المعنى المقصود في عقول المخاطبين. . فقد أقسم بالليل والنهار في قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) وهما مختلفان - كما أقسم بخالق الذكر والأنثى في قوله (وما خلق الذكر والأنثى) وهما مختلفان أيضا، كأنه يريد أن يقول لهم: (إن اختلاف سعيكم في الحياة مؤكد تأكيد اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى. .) اه
وأعود فأقول إن الكاتب قد وهم في رد ما قرره الأستاذ الإمام، إذ توهم أن ترتيب السور مبني على ترتيب النزول وأن المناسبة بينها تتبع ذلك، وإذ ئوهم المناسبة بين المقسم عليه والقسم مناسبة بين السورتين، فالتبس عليه الأمر. ووهم أيضاً في زعمه أن المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة فحسب، وأن الغرض من القسم تركيز هذا المعنى المقصود في عقول المخاطبين. ذلك بأن المقسم عليه هو الإجمال والتفصيل معا في قوله تعالى (إن سعيكم لشتى، فأما من أعطى واتقى). . الخ، وأن المقصود من القسم هو تقرير المعنى الإجمالي والتفصيلي في النفوس وتأكيده حتى لا يرتاب أحد في أن عواقب الخير والجزاء عليه ليست كعاقبة الشر وجزائه. وقد أوضح الأستاذ الإمام هذا المعنى أتم إيضاح إذ يقول: (فإن خطر لك سؤال كيف يقسم سبحانه على أن سعي الناس شتى مختلف مع أن هذه القضية بديهية لأن جميع من يفهم الخطاب يعلم أن مساعي الناس وأعمالهم مختلفة متنوعة إلى هذه الأنواع التي ذكرت، ومثل هذا الخير البديهي لا يحتاج إلى تأكيد، بل الإخبار به غير مقيد - فإني أجيبك أولا بأن المقسم عليه هو الإجمال والتفصيل معا؛ ولا شك في أن الوعد على الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى بالتيسير لليسرى، والوعيد على البخل والاستفناء والتكذيب بالحسنى، بالتيسير للعسرى، يحتاج إلى تأكيد، فيكون التأكيد لمجموع الأخبار للأول منها فقط). . فما ذكره الكاتب من الرد والتعليل بعيد عن الصواب.
محمد أحمد العمراوي(826/55)
المرحوم خليل بيدس:
سلاما وإكراما، وبعد فلا بد أنك سمعت بخليل بيدس وعلمت من هو من الناس.
لقد مات خليل بيدس وكل الناس يموتون. بيد أنه أبى، ويشق على أن أنعاه إليك في مثل هذا الوقت وفي بلاد غير البلاد التي أحبها وتمنى على الله أن يكون فيها مثواه الأخير.
مات أبي بعيدا عن بيت المقدس. وكان أخي قد رجا منه أن يغادرها أسوة بسواه فينقذ نفسه وينجو بمكتبته وأثاث منزله. ولكنه أبى وسفه رأى كل محبذ للفرار، وأكد للجميع بأن الجيش العربي سوف لا يتأخر عن احتلال القدس في ليلة 15 أيار سنة 1948. كان يؤمن بذلك إيمانا عظيما. . . ويسخر من كل من يرتاب بنوايا الملك عبد الله. بيد أن الملك عبد الله خيب الأمل، وسقطت القدس الجديدة في يد العدو. وكان أبي وابنته هما الشخصين الوحيدين الباقيين في حي البقعة، فانسحبا على أثر احتلال اليهود للتلال المشرقة على ذلك الحي، وكابدا في هربهما المشقات والأهوال.
ولما استقر به المقام في بيروت، وأجال الطرف حوله، فلم يجد كتبه ومخطوطاته ومؤلفاته، ولم يعثر على مقعده ومكتبه، طارت نفسه شعاعا؛ بيد أنه تجلد وأخفى ما جاش في صدره. . . . ولم يزل يتقلب على جمرات متفدة من اللوعة والأسى حتى اخترمه الموت أخيرا، فأراحه من همه وغمه، وأراحه من وصبه وألمه.
وفي الليلة التي فاضت فيها روحه، نفث جميع أحزانه في كلمات وجيزة خاطب بها زوجه. . . قال لها وهو يتألم ولكن لا يدري أنه سينام فلا يستيقظ: نفسي حزينة حتى الموت. .
والشيء الذي حز في قلبي وأرمض نفسي يا سيدي، هو أن يمضي والدي فلا يلتفت إليه أحد ممن نهل منه مناهل أدبه، ولا يكترث بموته مخلوق من الذين كانوا يطرونه ويمتدحونه ويثنون عليه ويشيدون بعلمه وبفضله أثناء حياته. . . وكأنه إنسان عادي ما خدم العلم والأدب وما هذب النشء وما وضع المؤلفات وما أنشأ الفصول والقصص والمقالات. .! هذا الجحود يا سيدي أمضني كثيرا وهذا النكران للجميل هطلت له دموعي.
أرجو أن تتكرم علي أو على الأستاذ خليل بيدس - الذي لم يجد بعد موته من يكتب عنه سوى ابنه - بنشر الكلمة المرفقة مع هذا الكتاب في الرسالة الغراء. وتفضل بقبول جزيل(826/56)
احترامي وتقديري.
أميل خليل بيدس
(الرسالة) ستنشر الكلمة في العدد التالي، ورحم الأستاذ خليل بيدس وجزاه خيرا على ما قدم للعربية، وعوضه برضاه عنه من جحود الناس لفضله.
تصويب:
حدث سقط مطبعي في فقرة من موضوع (عراك فكري بندوة الرسالة) في العدد الماضي؛ إذ جاءت الفقرة هكذا: (وأنا لا أرى أن هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر) والصواب: (وأنا لا أرى أن هناك شرقيا وغربيا، وإنما هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر).
عباس خضر(826/57)
القصص
أسطورة الديك الذهبي
لألكسندر بوشكين
كان يجلس على عرش مملكة قوية، لن أذكر اسمها، قيصر اسمه دادون، لا شبه له في الرجال. ولما كان دادون شجاع القلب، فإنه لم يترك واحدا من جيرانه دون أن يشن عليه الحرب. أما وقد كبر الآن فقد رأى أن يتيح لجسمه الهرم شيئا من الدعة والاطمئنان. غير أن الأعداء انتهزوا الفرصة، فهاجموا المملكة من دون رحمة، ونهبوا الديار، وطحنوا جيش دادون طحنا. أما جنوب المملكة فقد كان محصنا، والشرق هو الجهة التي كان يأتي منها العدو.
وفي ذات يوم نزلت بالشواطئ كتببة عاصفة، فاضطرب القيصر أيما اضطراب، وهجر النوم جفنه. خيل إليه أن حياته لم تكن في يوم ما أمر منها الأن، فلم ير إلا أن يطلب العون من منجم الدولة، ذلك الخصي الشيخ الممتلئ حكمة ومعرفة. . لبى الخصي النداء، وجاء البلاط يحمل في حقيبته ديكا ذهبيا، وقال: (ليأمر مولاي بنصيب هذا الديك على عمود من الخشب، فيحرس المملكة. فإنه إذا لم يكن ثمت خطر ظل هادئا مطمئنا، فإذا لاح الخطر في الأفق انتفض من سكونه، وانتفخ عرفه الأحمر، وصاح صيحة تنبه القوم، وأشار إلى الجهة التي يأتي منها العدو).
فرح القيصر لهذا الحل السعيد، وقال: (سأعطيك في مقابل هذا ما تريد. ستكون رغبتك رغبة القيصر أين شئت ومتى أردت).
وجثم الديك في مكانه يسهر على المملكة، بينما أوى القيصر الهرم إلى فراشه ينعم بالنوم الهنيء، ولا يلقي بالا إلى حوادث الزمن. ولم يعد الخطر يدهم الناس، ولم تعد فخاخ تهدد القيصر العجوز. . دادون!. . .
فلما مر عامان كاملان، إذا بأصوات تزلزل الأفق وتطرد النوم الهنيء عن عيون الناس. وأقبل قائد الجيش صائحا: قيصري وسيدي، انهض فالمملكة في حاجة إلى ابنيك الباسلين! تأوه القيصر ثم قال: ما الخبر؟ فأجاب قائد الجيش: الديك صاح. . والناس في رعب شديد. وتلفت القيصر حواليه، وأرهف السمع، فإذا صيحات من المشرق، وإذا الديك قائم منتفض(826/58)
يصيح: كوكو. . روكو!. . كوكو. . روكو! فالتفت القيصر إلى القائد صارخا: أعدوا الجياد. . أعدوا السلاح. . . انطلقوا سريعا إلى الحدود!. وإلى الشرق طار الجيش الكثيف يقوده الابن الأكبر لدادون. . حينئذ هدأت ثورة الديك؛ وكف عن الصياح!.
مضت أيام ثمانية ولم يأتي عن الجيش خبر: أقاتل، أم فر؟ صه. .! صه. .! لقد صاح الديك من جديد - فليذهب الجيش الثاني إلى الشرق وعلى رأسه الابن الثاني لدادون. نعم، وفي هذه المرة أيضاً مرت أيام ثمانية ولم يأت الخبر! فلما صاح الديك للمرة الثالثة، هب دادون العجوز، وقاد سائر الجند بنفسه، ومضى إلى الشرق وهو يطمئن الناس، وإن لم يكن هو في داخيلة نفسه بمطمئن. . .
ساروا الليل والنهار حتى أدركهم التعب وهمدت قواهم. هذا والقيصر في عجب ودهشة: لا دليل على معركة. . . ولا أثر لساحة. . . ولا معسكر. . . ولا رجمة يثوى تحتها بطل. . .
في نهاية اليوم الثامن، صعد القيصر في شعب نل، فصعد خلفه الجنود - فماذا رأوا؟!
بين قمتين من الصخر رأوا خيمة من الحرير قائمة! كان صمت عجيب يسيطر على المكان. . وفي مجرى ضيق بسفح الجبل، وجد القيصر أبطاله الذين أرسلهم مذبوحين. . . وأمام باب الخيمة وجد ابنيه الأكبر والأصغر، كلا ملقى بلا دروع، وقد أغمد سيفه في جنب أخيه. كان الكلأ مصبوغا بالدم، والجياد تمرح في الوديان والقيصر المسكين يولول في جنون: آه يا ابنيَّ! كلا النسرين صاده الصياد. . . وا ضيعتي!!) وناحت الجنود لنواحه، ورددت الآفاق الصدى، فكأنما شارك الجماد في الحزن والأنين. . .
وعلى حين فجأة انشق ستار الخيمة عن ملكة شاماخان تلمع لمعان الشروق، أومأت إلى القصر محيية، فلاح دادون وكأنه طير من طيور الليل في سناها الخاطف، سمرت عيناه في جمالها، وطار من رأسه كل حزن وأسى على ابنيه اللذين لقيا الهلاك. وتبسمت هي لدادون، ثم انحنت قليلا، فأمسكت بيده وقادته إلى داخل خدرها، وقدمت إليه طعاما ملكيا فاخرا، فلما تناول منه، قادته إلى أريكة موشاة بالذهب، مسترة بالدمقس.
سبعة أيام وسبع ليال، والقيصر (دادون) ينهل من السرور، ويطيع الملكة طاعة عمياء. ثم حان الرحيل، فتأهبت الجنود، وهيئوا الركاب، وسار الجميع في طريقهم إلى عاصمة(826/59)
المملكة. .
كان الناس قد بلغهم الخبر، فإذا جموع هائلة بأبواب المدينة، وإذا هتاف عال يستقبل الموكب: عاش دادون! عاشت الملكة! عاش دادون! عاشت الملكة!
ولكن من هذا الرجل الأبيض الرأس واللحية الذي يشق الجموع ليلحق بعربة القيصر؟ إنه الخصي الحكيم!
أقبل على القيصر يقول: تحيتي يا مولاي! فقال القيصر: ماذا تريد؟ قال: حساب بيننا يا سيدي. . . لقد أقسمت أن تجيب رغبتي. . . إني أريد هذه الفتاة. . . ملكة شاماخان!
فصرخ الملك دهشا: إنك تهذي. . . ما نفع فتاة لخصي؟ اطلب شيئا آخر فأقدمه إليك. . . اطلب خير ما في حظيرتي من جياد، أو مرتبة من مراتب الحكم، أو إن شئت فاطلب ذهبا. . . حتى نصف ما في المملكة!
قال الساحر: لا شيء مما يوهب يستحق أن يرغب فيه. . . إني لا أطلب غير ملكة شاماخان!
جن القيصر من الغضب وصاح: لقد أخطأت في تقدير ثمنك أيها العبد. . . لم يكن جديرا بي أن أتركك تتحدث!
وبصولجانه قرع دادون هامة الخصي قرعة شديدة، فسقط الرجل على الأرض ميتا!
وحينئذ اهتزت المدينة اهتزازا شديدا ارتعب له قلب دادون! ولكن الفتاة علا ضحكها في تلك الساعة. . . فما كان منه إلا أن تكلف الابتسام، وأمر بمواصلة المسير. . .
وعلى حين فجأة سمع صوت ضئيل، وإذا بالديك الذهبي يطير إلى العربة الملكية، وإذا به يستقر على هامة القيصر فنفض ريشه أولا، ثم نقر دادون في وسط هامته، ثم حلق في الجو عائدا إلى السماء. . .
ونزل القيصر من العربة، فإذا به يسقط على الأرض بدوره، وإذا به يئن أنة واحدة. . . ثم يسلم الروح!
أما الملكة، فإن أحدا لم يرها بعد، وكأنها لم تكن هناك!!
إن الأساطير وإن بعدت عن الحقائق قد يستفيد منها اللبيب عظة أو اثنتين. .
يوسف جبرا(826/60)
العدد 827 - بتاريخ: 09 - 05 - 1949(/)
3 - أمم حائرة
نحن والمدينة الأوربية
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بجدة
أعني بكلامي هذا الأمة المصرية أولا، ويتناول الكلام الأمم المشابهة لها المتصلة بها من العرب والمسلمين بما تشابهت أحوالهم فيما ورثوا من حضارة قديمة، وبما تقارب نظرهم إلى الحضارة الحديثة.
طلعت هذه الحضارة على المشرق مع قوم يعدّهم الشرقيون - ولاسيما العرب والمسلمون - أعداء، سجَّل التاريخ كثيراً من حروبهم ووقائعهم، ولم يخل عصر من إغارتهم على المسلمين، أو إغارة المسلمين عليهم، منذ انتشر الإسلام في غربي آسيا وشمالي أفريقية وفي جنوبي أوربا: أسبانيا وجزر البحر الأبيض ثم البلقان.
وظهرت هذه الحضارة والنزاع مستمر، والمعارك دائرة، ولم يغير أصحاب هذه الحضارة من خططهم، ولا عدلوا عن سِيَرهم، بل استعانوا بما أمدتهم به الحضارة الحديثة من علم وصناعة في الغلبة والسيطرة على من عجزوا عن قهرهم وتذليلهم من قبل.
فلم يكن بد أن ينفر الشرقيون، وبخاصة الدول الإسلامية، إذ كانت مجاورة لأوربا، وكانت صاحبة السلطان في آسيا كلها ما عدا الصين، وفي أفريقية - لم يكن بد أن ينفر هؤلاء من الحضارة التي طلعت عليهم بين الحديد والنار على أيدي أعدائهم القدماء، وطلعت مشوبة بكثير مما يخالف عقائدهم وآدابهم وسننهم.
وسرعان ما أيقن المدافعون عن أنفسهم من أهل الشرق أنهم مغلوبون لا محالة إن لم يدفعوا هؤلاء الأعداء الأشداء، بمثل سلاحهم، ويلقَوهم بمثل عددهم، ويكيدوهم بمثل خططهم وتدبيرهم. فلم يجدوا مناصاً من أن يأخذوا من أوربا حضارتها الصناعية على قدر الطاقة وعلى قدر ضرورات الدفاع.
لم تكن هذه الحضارة موضع تردد، إذ دعت إليها ضرورة الدفاع عن الأنفس والأوطان، ولم تكن موضع ريبة لأنها قائمة على قوانين طبيعية لا تختلف في المشرق والمغرب، ولا(827/1)
تلائم أمة دون أمة، ولا تتصل بتاريخ دون آخر، وهي لا صلة لها بالدين والأخلاق والآداب والعادات والعرف والطباع ونحوها.
أخذ المسلمون الحضارة الصناعية على قدر ما مكّنهم علمهم وخبرتهم وأحوالهم، وعلى قدر ما يسرت لهم أوربا الأخذ. أخذوا نتائج هذه الحضارة الصناعية، وحاولوا أن يأخذوا ما تعتمد عليه من علوم وفنون.
ثم أخذوا كذلك ما لم يجدوا مناصاً من المسارعة إليه من نظم للجيوش، ونظم للدولة، ونظم للإدارة.
ثم زاد اتصال الغرب والشرق بالاقتباس والاقتداء، ثم بغلبة الغربيين على كثير من الأقطار وإقامتهم فيها واختلاطهم بأهلها. وأخذت هذه الحضارة أمم الشرق بالرغبة والرهبة. وبالسطوة والزينة، فسايروها راضين وكارهين، وعارفين ومنكرين، وافتتن كثير من الناس فرأوا كل ما أتى من أوربا حسناً، وكل ما ورثه الشرق من تاريخه قبيحاً. وزادت هذه الحضارة إغراء بما ازينت به من مناظر، وما اتصلت به من لذة ولعب ولهو، فلم يقو على معارضتها والصبر على فتنتها إلا قليل.
واشتبهت الأمور، وانبهمت السبل، والتبست الأشياء، فلم يفرق الناس بين طيب وخبيث، ونافع وضار، ومعروف ومنكر، هذه الفتن التي تدع الحليم حيران، فكيف بالجهلاء والعامة في هذا السبل الجارف والطوفان الطام؟
ولم يفرق الناس في هذه الفتنة العمياء، وهذه المحنة الصماء، بين الحضارة الصناعية والحضارة الأخلاقية، ولم يميزوا بين ما يلائم وما لا يلائم، فقاسوا الأخلاق والآداب وسنن الجماعات وروابط الأسر، وقاسوا العقائد والمذاهب، على السيارات والطائرات والغواصات والمدمرات، وعلى البرق والهاتف والمذياع، وفتنوا بالمسرح والمرقص، وبالتزين والتبرج والتعري. واختلط الحابل بالنابل، وضاع الحق في هذه الضوضاء، وضلت المروءة في هذه السوق. ونادى العقلاء فلم يسمع لهم، وقال الحكماء فلم يبالَ بقولهم، وغُلِب الناس على أمرهم حتى أختلف القول والعمل، فترى الإنسان ينكر الشيء ويفعله سيراً مع الدهماء، ويخلفه اعتقاداً ورأياً وقولا ويخضع له في داره بين أهله وأولاده. وبلغت الفتنة أن قال بعض الكبراء وأنا أحاوره في الطرقة المثلى: (إن الطريقة المثلى هي(827/2)
الواقع).
وقد أنكرنا أنفسنا وحقرنا ما عندنا وأعظمنا ما عند غيرنا وأخذتنا الرهبة والروعة من كل جانب. وكم زرينا على أشياء ورثناها وعرفناها، حتى أخذها أهل أوروبا وأعجبوا بها فنقلناها عنهم، ورضينا بها إذ رجعت إلينا من بلادهم، كما هجرنا الهندسة العربية في الأثاث وغيره، ثم حاكيناهم في الإعجاب بها فأخذناها بعد أن سميناها (أربسكا).
وكما أعرضنا عن سباق الخيل وضروب الفروسية والرياضة التي كانت لنا، ثم عكفنا على قمار في سباق يربِّي خيلا ولا ينشئ فرساناً. . . وأمثال هذين كثير.
والإنسان في هذا الضعف والخوف لا يصح له رأي، ولا تستقيم له طريقة. وكيف يصح الرأي إن لم يعتد الإنسان بنفسه، فيثق بعقله. ويعرف أن له كياناً واستقلالاً، وأن له الحق أن يأخذ يرد، ويستحسن ويستنكر؟
إن الحياة التي لا تشعر بنفسها، ولا تستمد قواها، ولا تستعين بمواهبها، لأشبه بالموت، لها صور الحياة وليس فيها حقائقها. . .
عظمت حيرتنا في التقليد على غير هدى، وقلقنا على المحاكاة على غير بينة، وضعفنا في هذا الاستسلام، والذهاب مع التيار، والتعلل بحكم الزمان وسنة العصر، وما حكم الزمان وسنة العصر إلا تعِلّة العاجزين، وعذر المفلسين، وإنما الإنسان الحق الذي يسير الزمان، ويخلق سنة العصر، ويرد الحادثات عن مجراها، ويسيرها على الطريقة التي يرضاها.
فلما ألفينا أفكارنا وحقرنا مذاهبنا، والطرق أمامنا مختلفة، والمذاهب ملتبسة، نزع كل منا منزعا ً، وذهب على ما تخيل مذهباً، فكان اختلاف الآراء في الجماعة، وتناكر المذاهب فيها، وكانت هذه الحيرة، وهذا القلق، وهذا الاضطراب.
ليتنا حين أخذنا عن غيرنا أخذنا الجليل والحقير، وحاكينا في الجد والهزل! وكم من الغربيين من قدوة صالحة، أسوة نافعة، وخطة حميدة. ولكن عظائم الأعمال لها وسائل من الكد والدأب واحتمال المشاق والصبر عليها. وللمجد مصاعد شاقة، وتكاليف مرهقة. وسفساف الأعمال هينة قريبة لذيذة يستطيعها كل من شاءها، ويهبط إليها من لم يكلف نفسه الصعود. فقد أسرعنا في هزل الغربيين ولهوهم ومظاهرهم، وشق علينا أن نضلع بكثير مما اضطلعوا به وعملوا له، في نظام محكم وخطة شاقة، ودأب لا يكل.(827/3)
لسنا جاهلين بمحاسن الحضارة الحديثة وفضائلها ومزاياها، ولا غافلين لذاتها ومتعها؛ ولكنا لا نجهل كذلك رذائلها وعيوبها، ولا نغفل عما وراء لذاتها من مهالك للأمم ومفاسد للجماعات. ما أيسر أن يُعِفىَ الإنسان نفسه من الإصلاح، وينهز مع الغُواة، ويستمتع مع المستمتعين، ولسنا عن هذا عاجزين، ولكن الأمانة التي في أعناقنا للأمة، والواجب الذي علينا لها، والبصر بما وراء المظاهر، والبصر بما وراء المظاهر، إدراك ما بعد الحاضر، كل أولئك يعَنّي المفكر، ويقلقه ويسلط عليه هموما لا تنام ولا تُنيم. فيُلزم نفسه الدعوة إلى الإصلاح، والأخذ بالأشق، وحرمان نقسه من كل ما يأباه الوجدان اليقظ، والعقل الصحيح.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(827/4)
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
صديقي الأستاذ توفيق الحكيم.
شكراً لك على هديتك الكريمة: كتابك الجدير (الملك أوديب) إنها شيء عزيز ثمين بالقياس إلى هنا في تلك (الورشة) الضخمة السخيفة، التي يسمونها: (العالم الجديد)!
لقد استروحت في كلمة الإهداء: (ممن يذكرك دائماً) نسمة رخيمة من روح الشرق الأليف - فالذكرى هي خلاصة هذه الروح - وما كان أحوجني هنا إلى تلك النسمة الرخيمة. . . إن شيئاً واحداً ينقص هؤلاء الأمريكيين - على حين تذخر أمريكا بكل شيء - شيء واحد لا قيمة له عندهم. . . الروح!
بحيث يقدم الدكتوراه في إحدى جامعاتهم - وقد قدم فعلا - عن: (أفضل الطرق لغسل الأطباق) أحب إليهم ألف مرة وأهم من رسالة عن (الإنجيل)، إن لم يكن أهم من ذات الإنجيل!
أمامي وأنا أكتب إليك هذه الكلمات في مطعم، شاب أمريكي يثب على صدره (سبع) ويجثم على ظهره (فيل)! لا تُرعْ! فذلك السبع إنما هو رسم يملأ فراغ رباط عنقه، وهذا الفيل إنما هو رسم كذلك يملأ فراغ صدريته! لقد رسم السبع باللون البرتقالي الفاتح على أرضية (أخضر زرعي)، ورسم الفيل باللون الكحلي على أرضية (كرنبي) وهذا السبع مع رباط الرقبة مدلى فوق الصدرية لا تحتها وحسب مزاج (التقاليع)!
هذا هو الذوق الأمريكي الغالب في الألوان!
والموسيقى. . . ولكن مالي وهذا كله؟ إن ذلك حديث آخر ليس وقته الآن.
أردت فقط أن أقول لك: كيف كانت هديتك لي في (العالم الجديد)!
أشعر بأنني أرد لك بعض جميلك حين أحدثك بصراحة كاملة عن عملك الفني الجديد، مؤثراً هذه الطريقة على كتابة مقالة نقد. ليست بي الآن أقل رغبة لكتابة مقالات، وليس لدي الوقت أيضا؛ إنما يشجعني إلى الكتابة اللحظة أنني أستحضر شخصك في خيالي، وأبادلك حديثاً بحديث، ليس فيه كلفة التحضير، ولا تعمل الفكرة، ولا اصطناع الأسلوب. .(827/5)
ما أحوجني هنا لمن أبادله حديثاً بحديث، في غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. . . حديثاً في شؤون الإنسان والفكر والروح!
دعني أحدثك أولاً عن (المقدمة) فهي تكوِّن مع (مقدمة الترجمة الفرنسية) و (التعقيب على المقدمة الفرنسية) مبحثاً خاصاً له قيمة ذاتية في موضوعه. ثم إن الحديث عنه قد يكون في ذاته حديثاً عن تمثيليتك الجديدة.
ولنسر معاً خطوة فخطوة في بحثك الممتع الطويل. . .
مالي أحس - أيها الصديق الكريم - كأنك خائف قلق من ذاكرة التاريخ؟ ذلك الخوف وهذا القلق اللذان يدفعانك دفعاً إلى تسجيل دورك بقلمك في خط التمثيلية العربية؟
أحب أن أطمئنك منذ اليوم على التاريخ الأدبي لن ينسى لك دورك الأساسي الذي قمت به في وضع (القالب الفني) للمرة الأولى في التاريخ الأدب العربي للرواية التمثيلية. . . وصنعه على أساس فني صحيح. وإلا فإن محاولات كثيرة قد سبقتك لوضع هذا القالب (أشرت أنت إليها إشارة سريعة في مقدمتك، وسيتناولها تاريخ النقد بالتفصيل والتطويل) إلى أن جئت أنت فوفقت نهائياً لتكون قلب فني للحوار يحمل (فكرة) تدخله في باب الأدب، وينهج نهجاً لم يلحقك فيه إلى اليوم أحد، ولست أدري متى يظهر التالي لك، أو المتفوق عليك، فيه؟
هذا دورك الذي لن ينسى. دور في (تاريخ التطور الفني). أما نصيبك الذي سيبقى في باب (القيم الفنية المطلقة) فأخشى أن أقول: إنك لم تقم به، لأنك - في باب التمثيليات - لم تهتد بعد إلى النبع الأصيل الذي تستسقي منه روحك العميقة لا فكرك الواعي، فتنشئ عملا خالداُ فيه حياة وروح
لقد اهتديت أحيانا إلى النبع - ولكن في باب غير باب التمثيلية - في: (نائب في الأرياف) وفي (عودة الروح) وفي لمحات متفرقة في (زهرة العمر) وبعض كتبك الأخرى. أما في باب التمثيلية، فلم يكن لك - غير القالب الفني - شيء يبقى، اللهم إلا خفقات ضائعة مخنوقة في ركام أجنبي غريب!
معذرة يا صديقي، فذلك وجه الحق فيما أرى. وستعلم بعد قليل لماذا أرى. أما الآن فأحب أن أسجل حقيقة أخرى. . . إن دورك هذا الذي حققته إلى اليوم فعلاُ، ليس صغيراً ولا(827/6)
قليل الأهمية. فهو دور حاسم في تاريخ هذا الفصل من كتاب الأدب العربي. أنه القنطرة التي لم يكن منها بد، ليعبر عليها الفنان الأصيل الموهوب فيما بعد. وقد تكون أنت نفسك ذلك الفنان الأصيل الموهوب في عمل فني جدير، حينما تهتدي إلى النبع الأصيل المخنوق في نفسك تحت ركام من الثقافة الغربية الطاغية.
إنني لا أعيب الثقافة - فهي أمر لا بد منه اليوم لتكوين الأديب - ولكن الذي أعنيه أنك أيها الصديق - شأنك في هذا شأن ذلك الجيل كله من الشيوخ - تستلهم ثقافتك الفنية الغربية، قبل أن تجد ذاتك الأصلية.
من هنا يفقد فنك - كما تفقد أعمالهم جميعاً - ذلك الطعم الخاص الذي يتذوقه القارئ في آداب كل أمة، والذي يميزه عن آداب الأمم الأخرى.
إنكم لا تجدون أنفسكم في خضم ثقافتكم. إنكم تمتحون من رؤوسكم أكثر مما تستحون قلوبكم. وهذا هو العنصر الخطر عليكم جميعا.
إنك تهتدي إلي النبع في مقدمتك، ولكن بذهنك الواعي، لا بشعورك الغامض. لهذا يخطئك التوفيق عند التطبيق.
تقول:
(ما من شيء أقوى من الميراث!. . إذا كان للخلود يد فإن يده التي ينقل بها الكائنات من زمان إلى زمان. . . ما طبائع الأفراد وخصائص الشعوب ومقومات الأمم، إلا ميراث صفات وسمات، تنحدر من جيل إلى جيل. وإن ما يسمونه العراقة في شعب ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب. وإن الأصالة في الأشياء والأحياء هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة كابرا ًعن كابر، وحلقة بعد حلقة. . هكذا يقال في شعب أو رجل أو جواد. وكذلك يقال في فن أو علم أو أدب. . .).
كلام صادق ثمين عميق جميل. . . ولكنك تعرفه بوعيك يا صديقي، ولا يكمن مبهماً فعالاً دون أن تدري، في اتجاهاتك الفنية وأعمالك. . .
لقد اتجهت وأنت تحاول وضع القالب الفني للتمثيلية المصرية إلى الأساطير الإغريقية تستلهمها موضوعاتك. . . لماذا لأن نشأة المسرح كانت إغريقية، ولأن الأوربيين - وهم ورثة الإغريق - قد جعلوا المسرح الإغريقي والتمثيلية الإغريقية والأساطير أساساً(827/7)
لأعمالهم!
ولكنك أنت يا سيدي لست من ورثة الإغريق. لا أنت ولا شعبك الذي تعيش فيه. قد تكون من ورثتهم بثقافتك وقراءتك ولن هذه قشرة رقيقة لا تنشئ فناً خالداً أصيلاً.
(ما من شيء أقوى من الميراث. إذا كان للخلود يد فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات، كما تقول!
إنك في حاجة لأن تستلهم وراثتك الأصلية المتغلغلة في ضميرك آلاف السنين ومئات الأحقاب، لا أن تستلهم ثقافتك الطارئة في عمرك الفردي المحدود.
هنالك النبع يا صديقي لو شئت لأعمالك الخلود!
لقد تساءلت. لماذا لا ينقل العرب، فيما نقلوا عن الإغريق، التراجيديا الإغريقية؟ وكان من بين التعديلات التي ذكرتها - وأن لم ترضها - (صعوبة الفهم لذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير لا سبيل إلى فهمها إلا بشرح طويل، يذهب بلذة المتتبع لها، ويقضي على متعة الراغب في تذوقها).
لقد كدت تضع يدك على السر، ولكنك تركته مسرعاً لتقول:
(لكن على الرغم من وجاهة هذا التعليل، فإني لا أعتقد أن هذا أيضاً يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن. فإن كتاب الجمهورية لأفلاطون قد ترجم إلى العربية. وما من شك أن فيه من الأفكار حول تلك المدينة المثالية ما يشق على العقلية الإسلامية أن تسيغه. ولكن ذلك لم يمنع من نقله. . . بل إن هذه الصعوبة بالذات قد دفعت الفارابي إلى أن يتناول جمهورية أفلاطون، فيضفي عليها ثوباً جديداً من خواطره، ويصبها في قالب عقليته الفلسفية الإسلامية).
وهكذا تبعد نهائيا عن السر وكان منك على لمسة إصبع!
إن الفارق بين كتاب الجمهورية والتراجيديا الإغريقية لبعيد. . . . إن الجمهورية موضوع يحتاج إلى (فهم) والتراجيديا موضوع يحتاج إلى (شعور). وهذه هي العقدة في قضية العرب والفن الإغريقي؛ ثم قضيتك أنت بالذات يا صديقي العزيز.
إن الصعوبة الأساسية في الأساطير واستلهامها ليست في الحاجة إلى (فهم) فالفهم قد يكون ممكناً بالشرح على نحو من الأنحاء. ولكن الصعوبة الحقيقية كامنة في الشعور بها في(827/8)
أعماق الضمير. إن الأسطورة تنبع من ضمير الشعب لا من رأسه؛ وتعيش كامنة في دمه وأحاسيسه. هي (ميراث) شخصي لكل شعب، لا يمكن نقله إلى ضمائر الشعوب الأخرى، كما يمكن نقل الثقافات إلى الرؤوس، بل كما يمكن أحياناً نقل الأعمال الأدبية التي تقوم على أسس وراثية كالأساطير.
لابد أن تعيش الأسطورة حياتها في تاريخ الأمة وضميرها، حتى يستسيغها ذوقها، وتنبض لها قلوبها.
لهذا لم يكن ممكناً أن يشعر العرب بجمال التراجيديا الإغريقية المستمدة في صميمها من هذه الأساطير، ولا أن تنتقل إلى تراثهم كما انتقلت الفلسفة، لأن الفلسفة تراث ذهني في الأغلب، والأسطورة تراث شعوري في الصميم.
هذه هي المشكلة. أما ما قلته من أن السبب الأساسي هو شعور العرب بحاجتهم إلى الفلسفة وإلى العمارة، وعدم شعورهم بالحاجة إلى الشعر. فهو نفسه يحتاج إلى تعليل! لماذا لم يشعروا بحاجتهم إلى الشعر؟ لأن شعرهم كان فيه الكفاية للتعبير الكامل عن حياتهم الشعورية الأصلية؛ ولأن الشعر الإغريقي لم تعش أساطيره في ضميرهم، ولم تندس في كيانهم لتصبح شيئاً غامضاً تائهاً كما كانت في كيان الإغريق!
هنا نجيء لمشكلتك أنت بالذات. بل لمشكلة جميع اللذين يجعلون الأساطير الإغريقية أساساً لأعمالهم الفنية؛ ولو كانوا من الأوربيين - المحدثين - على أنهم ورثة هؤلاء الإغريق -!
إن الأسطورة لا تعيش في دمائكم - وفي دمك أنت بالذات المصري بوجه خاص. إنها لم تنبع من ضمير شعبك. إنها لم تصاحب تاريخك. فكيف تنشئ منها أدباً له حياة؟
قد تقول: إنك تحسن عملك الفني على أساس يتفق مع طبيعة الأسطورة؛ بل مع طبيعة التراجيديا الإغريقية، وقد قلت ذلك. قلت: إن الشعور الديني هو أساس التراجيديا، وأن هذا الشعور عميق في حسك. فأنت تشعر بازدواج العالم ولا ترى أن الإنسان وحده في هذا الوجود.
ولكن هذا كلام عام. ألمح فيه تفكير الذهن ولا أتذوق فيه طعم الشعور.
إن الميثولوجيا الإغريقية مختلفة في طبيعتها عن المتبعين الأصليين لك كمصري مسلم. فلا هي تتفق مع الميثولوجيا المصرية ولا مع العقيدة الإسلامية الحديثة.(827/9)
الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية تدفعها حيوية عارمة إلى كل تصرفاتها. حيوية لا تعرف العدل والحق والخلق والضمير، لأنها حيوية عاتية شهوانية باطشة. فليس لديها ما يمنع من صب كل هذه اللعنة على (أوديب) لمجرد شهوة أو حقد من (أيولون). كذلك صنعت مع (هرقل) وكذلك صنعت مع (برومثيوس) وغيرهما. وجو الأساطير الإغريقية كلها يوحي بهذا الطابع الخاص الأصيل. . . وهذه الآلهة نفسها يسيطر عليها (القدر) أو قوة تشبهه، وقد لا تكون مخيرة هي الأخرى في دفعاتها وشهواتها وبطشاتها!
والآلهة في الميثولوجيا المصرية القديمة تسيطر عليها فكرة العدل والخلق والحق - في الغالب - فلعنة مثل لعنة (أوديب) غير مستساغة في ضمير الميثولوجيا المصرية القديمة.
فأنت - يا صديقي - بضميرك المصري القديم لا تعيش في نفسك هذه الأسطورة الإغريقية!
وأما الإسلام فينبذ نهائياً فكرة الشهوة والظلم عن ذات الله. وقد بينت أنت نفسك أن فكرة القدر في الإسلام لا تتفق مع الفكرة الإغريقية.
فأنت - يا صديقي - بضميرك الإسلامي الحديث، لا تعيش هذه الأسطورة الإغريقية!
وقد يعن لك أن تقول كما قلت فعلاً: إنك عالجت الأسطورة من جانب آخر جديد. جانبها الإنساني العام. ففي (أوديب) مثلاً جعلت (الموجب للكارثة طبيعة أوديب ذاتها. طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة).
ولكن الأسطورة هي الأسطورة. فلعنة الآلهة هي التي خلقت جوها وحوادثها.
لقد عاشت تراجيديا سوفوكل، لأنها نبعت من حرارة وجدانه بالأسطورة الحية في ضميره وضمير شعبه. أما عملك أنت وعمل الآخرين من المعاصرين الذين لا يؤمنون بالأسطورة إيمان سوفوكل. فلن تكتب له الحياة إلا بمقدار ما في نفس كل منكم من إيمان حار بأسطورة (أوديب)، وبمقدار ما عاشت هذه الأسطورة في ضمير شعبه وضميره من الحقب والسنيين، وبمقدار تناسق هذه الأسطورة مع الحياة الشعورية له بوجه عام.
ولا تؤمن بما يقوله الدكتور طه - مساء الله بالخير - ويردده من أن مصر إغريقية التفكير، لأن مدرسة الإسكندرية القائمة على أساس الفلسفة الإغريقية تركت آثاراً عميقة لا تمحى! لا تؤمن بهذا فإنما هذه هي فتنة الدكتور الكبرى بالإغريق!(827/10)
قد يكون ذلك صحيحاً في الفلسفة؛ في منطقة من مناطق الفكر المصري لا في سائر مناطقه. أما المنطقة الشعورية فلم تمسها تلك الفلسفة. فضمائر الشعوب لا علاقة لها بالفلسفة. والأساطير تنبع من الضمائر الحية لا من الأذهان الجرداء!
والفنون لا تكتب لها الحياة إلا حين تمتح من هذه الضمائر المكنونة، حين تتصل بالنبع العميق الساري وراء الأذهان والأفكار. . .
ما من عمل واحد يخلد إلا إذا فاض من الشعور.
(واشنطون)
سيد قطب(827/11)
منادمة الماضي:
الإسكندرية في عصورها الإسلامية
للأستاذ أحمد رمزي
قال ياقوت الحموي: (لو استقصينا في أخبار الإسكندرية جميع
ما بلغنا لجاء في غير مجلد)
قدَّم إلي في الأسبوع الماضي، حضرة رئيس مكتب السجل التجاري بمدينة الإسكندرية، نسخة من كتاب طبعته الغرفة التجارية المصرية وعنوانه (الإسكندرية) من وضع لجنة المدينة التي أشرفت على تنسيق قسم خاص للثغر في شارع وادي النيل بالعرض الزراعي الصناعي السادس عشر.
ولما تصفحت مقدمة الكتاب، قرأت نبذة تاريخية ألفها أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة فاروق، ما انتهيت منها حتى أكبرت همتهم، وشعرت بعظمة الإنتاج الذي تخلفه البيئات العلمية، تلك التي تعيش وتحيى حيث توجد الجامعات.
وكان تفاؤلي في محله لأني قرأت في الأقسام التي أفردت لتاريخ الإسكندرية الإسلامي، كلمات تعبر عن شعور النفس العربية المسلمة حينما يتعلق الأمر بتاريخها المهضوم الحق. انظر إلى كلمة الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة واستفتاحه: (ما فقدت الإسكندرية في العصر الإسلامي شيئاً إلا استعادت به غيره). واسمع قوله: (لم تلبث المدينة أن تعربت، ودليل ذلك أننا لا نجد إلا عصبيات عربية في فتنة الأندلس سنة 183هـ) فهذا كلام لم نسمعه من قبل: فيه حيوية وإخلاص.
ثم اطلعت على بحث الدكتور جمال الدين الشيال وعرضه للعصرين الأيوبي والمملوكي، فأعجبني حين أعطى لصلاح الدين حقه، وكلنا يعرف ما هي علاقة هذا العاهل العظيم بمدينة الإسكندرية. وكم كان موفقاً في حديثه عن تاريخ المدينة حينما أفاض عليها حلة شائقة من التحقيق العلمي وحين توج كل ذلك بذكره لزيارات الملك الظاهر بيبرس واهتمامه بأمرها.
كان هذا في نظري بمثابة فتح جديد في تأريخ مدننا المصرية. إذ ما رأيت كتاباً أو دليلا(827/12)
تعرض لتعريف مدينة الإسكندرية إلا ومر على عهدها العربي والإسلامي مروراً بسيطاً لا يشفي الغليل كأن عهد الإسلام والعروبة كان عهداً غريباً عن مصر وأهلها!! فكل من كتب عن تاريخ الإسكندرية من كتاب الفرنجة وغيرهم يولي العهدين الروماني واليوناني جُلَّ اهتمامه، ويبرزهما بروزاً ساطعاً، بل منهم فريق يسرف في القول ويغالط في الحقائق حتى إذا جاء لعهدنا قال: (إن المدينة فقدت أهميتها وعمرانها وأصبحت خراباً بلقعاً). فكأنه يقول في مواجهتنا: لدى هؤلاء القدماء المدينة والحضارة، ولدينا الجهل والخراب.! لديهم كل ما يحبب ولدينا كل ما ينفر!. أليس في هذا دعوة إلى إنكار شخصيتنا وإلى الفناء في الغير فناء لا نرضاه لأنفسنا ولا لأحفادنا ولا لنهضتنا القومية؟!
كنت منذ سنة أعمل على رأس السياحة المصرية، وكان من ضمن عملي الاطلاع على بعض الكتب والنشرات التي تتكلم عن الإسكندرية وعرضت علي مجموعة من هذه منها القديم والحديث، وكان من بينها كتاب لعلم غربي أريد إعادة طبعه على نفقة الحكومة المصرية، ولما قرأته دهشت من كثرة ما حواه من الأخطاء عن تأريخنا القومي، فحاولت جهدي أن أرد الحق لنصابه وأرفع بعض الإبهام وأعطي صورة واضحة عن تاريخ المسلمين وأثرهم، وكنت أؤمل وقتئذ من جمهرة المثقفين في مصر ومن أهل المدينة أن يقوموا بواجبهم في سد هذه الثغرة التي تضعف من أيماننا في أنفسنا، وتقلل من أمجادنا، وتجعلنا في النهاية غرباء عن تاريخنا.
كل هذا دفعني إلى الإلمام إلماماً تمهيدياً لما كانت عليه عظمت هذه المدينة. فخرجت بأشياء تجعلني أسلم بما جاء به ياقوت الحموي في معجم البلدان من أن ما وصله عنها يستحق أكثر من كتاب واحد. ونحن أمام تاريخ الإسلام في الإسكندرية نقرر أنه في حاجة إلى عدد من المجلدات الضخمة.
وإليكم أول ما تبادر إلى ذهني في تلك الأيام، أنقله كما هو، قلت: (الذي أعرفه وأشعر به عن الإسكندرية حين أزور مدينتهم، هو أنهم أهل رباط ونجدة، نرى في وجوههم أن أصولهم وفروعهم تنحدر من صميم القبائل العربية التي رابطت في هذا الثغر الإسلامي؛ فيهم نخوة وشدة وحماس ودفعة وأقدام على المخاطر. وتلك صفات أنفرد فيها أهل المثاغرة والمرابطة في أنحاء العالم الإسلامي من أهل الثغور والعواصم الذين كتبوا بدمائهم ملاحم(827/13)
الحروب، فهم أذن سلالة أولئك الذين فتح الله على أيديهم هذا الثغر وأبناء الأبطال الذين صدوا وهزموا كل من حاول الاعتداء على أراضي مصر الإسلامية طول مدة العصور الطويلة الماضية التي نعمت فيها البلاد بنعمة الاستقلال الصحيح والعزة والكرامة). وأراني اليوم أكثر تمسكا بهذا الرأي مما كنت.
رجعت إلى ما كتبته أيام السياحة؛ لأني أعجبت بالقسم التاريخي من كتاب الغرفة التجارية، فعدت إلى أوراق الماضي أقلبها، ثم حمدت الله أن تنبهت الغرفة لهذا التاريخ الإسلامي، وسلمت أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب هذه الأمانة، فأدوها وهذه لفتة جديدة لم تعرفها المدينة قبل اليوم.
ولكن مثلي يطمع في الكثير من هذا؛ يطمع أن تعرض عليه حوادث التاريخ الحي، وأن يتغنى بمواقف أهل المدينة، وينادم آثارها الإسلامية؛ ويشمخ بأدبها العربي وبروحها الوثابة وبما خلفته وتركته لنا تلك العصور العزيزة علينا، وهذا عمل عظيم، أؤمل أن يتولاه الأدباء والعلماء والمؤرخون وأهل الآثار ورجال الدين والقضاة وكل محب للإسلام والعروبة.
فهذه مدينة أصبحت أكبر منازل الرباط في مصر منذ أتم الله فتحها على يد منقذ مصر الأكبر (عمرو بن العاص)، فبرزت بروزاً في تاريخنا لا يمكن إنكاره ولا الإقلال من أهميته رغم الطعنات التي يوجهها الغير إلينا وتحديهم لنا.
إن أيام الفتح توحي بالكثير من المواقف وقد أوحت بالفعل شيئاً من ذلك: أنني لا أزال أذكر ما نقل عن عمر وهو يحدثنا قائلا: (ثلاث قبائل من مصر؛ أما مهرة: فقوم يَقتلون ولا يُقتلون، أما غافق: فقوم يقتلون ويقتلون، وأما بِلى: فأكثرها رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارساً). قال هذا عندما نزل بعض هذه القبائل في الإسكندرية إبان القتال الدائر حول أسوارها عندما حمل الروم على العرب فقتلوا لأول مرة رجلا من مهرة - ولم يكن قد قتل أحد منهم قبل ذلك اليوم - واحتزوا رأسه وحملوها. وقالوا: (لن ندفعها حتى نأتي برأسه). فقال لهم عمرو: (كأنكم تغضبون على من يبالي بغضبكم. احملوا على القوم واقتلوا منهم ثم ارموا برأس قتيل منهم يرموكم برأس صاحبكم) فخرجت الروم واقتتلوا. فقتل من الروم رجل من بطارقتهم، فاحتزوا رأسه ورموا به الروم، فألقت الروم(827/14)
برأس المهري إليهم، فقال: (دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم). وقد تكون هذه القصة واقعية أو من عمل الرواة بقصد الدعوة إلى الحماس، وهذا لا يهمنا بقدر أنها تعرفنا من كان على أبواب الإسكندرية يقاتل. وهؤلاء هم أصحاب المدينة. إذ أجمع المؤرخون على أنهم عند الفتح كانوا من خلاصة القبائل العربية التي استوطنتها بعد جلاء الروم عنها. قال المقريزي: (إن لخماً كانت أعز من في ناحية الإسكندرية وأطرافها). وهي قبيلة امتدت فروعها وبطونها في صميم مصر ولا يزال أبناؤها في إقليمي البحيرة والشرقية، ولها المواقف التاريخية في كل حادث من حوادث التاريخ. وليس من السهل إنكار التاريخ والخروج على الأصول والأنساب.
وللإسكندرية مواقف ومعارك وأحداث تحدث التاريخ عنها وأهلها أحق من غيرها بآثارها والتفاخر بها، ولم يكن سكانها في تلك العصور ممن تلين قناتهم. أو لا يعتد الخصوم بهم فيصفونهم بالأصفار المتراصة، وإنما كانت سيوفهم مرهفة، ورماحهم للجهاد قائمة، وكانت لهم في البحر جولات، طالما أدخلت الرعب والخوف في نفوس الروم والفرنجة ومن معهم. نعم؛ جاءتهم قبائل عربية من المغرب ومن الأندلس، أنزلوها حيناً باختيارهم، وحيناً بعد حروب دامية. ومن نزل منهم رحبوا به، ومن لم ينزل على حكمهم أرجعوه على سفنهم وبعثوا به إلى البحر ثانية، فهم مرابطون بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.
نقل الكندي في فضائل مصر ما قاله سفيان بن عيينة لأحمد ابن صالح: (يا مصري، أين تسكن؟) قلت: (أسكن الفسطاط) قال: (أتأتي الإسكندرية؟) قلت: (نعم) قال سفيان: (تلك كنانة الله يحمل فيها خير سهامه).
ونقل السيوطي في كتابه: أنه نُعي إلى عبد الله بن مرزوق الصيرفي، ابن عم له اسمه خالد بن يزيد، وكانت وفاته بالثغر الإسكندري، فلقيه ثلاثة هم: موسى بن رباح وعبد الله بن لهيفة والليث بن سعد، منصرفين وكل منهم يقول: (ألم تكن ميتته بالإسكندرية؟. إذن هو حي عند الله يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما قامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك).
(البقية في العدد القادم)
أحمد رمزي(827/15)
حكيم فيلسوف يتكلم. . .
للأستاذ راجي الراعي
مشى كعادته كل صباح إلى ساحة المدينة بخطوات الفيلسوف الحكيم، وأقبل عليه الناس فحمد الله وشكر، ثم حدجهم بنظراته القوية الصافية العميقة، فأنشق ألف حجاب، وانقلب الظل شعاعاً وتجلت الفلسفة، وعبق الجو بالروحانية، وفاح عطر الحكمة. . .
وسأله واحد من الجمع:
حدثنا أيها السيد فقال:
- جميل أن تضحوا بنفوسكم في سبيل المثل العليا، وأجمل منه أن تبقوا أحياء لتكملوا أداء الرسالة الروحية. . .
جميل أن تحترقوا ليستضاء بكم ويهتدي بنوركم، وأجمل منه أن لا تضرموا فيكم الأحطاب لتنقذوا من تأكله النار، وتقطعوا عنه ألسنة اللهب.
لا تغرقوا أنفسكم في بحر الوجود ليتسنى لكم أن تنقذوا الغرقى. . وكلما أنقذتم غريقاً وأقفلتم في وجهه باب الموت فتح لكم باب في السماء. . .
أبقوا المناجل في أيديكم لتحصدوا حصادكم. . . إن الحياة ليست بمعطف تلقونه بسرعة وخفة عن أكتافكم، ولا هي قطعة النقد ترمون بها في الخزانة. . إن للحياة طعما ووزناً. . أن لها حوضاً من مائها لا يجوز لكم أن تفرغوه في لحظة لتسقوا الأرض مهما أشتد جفافها وطال. . . إن مياهكم تنبع من صدر الله. . الحياة أمانة في أيديكم فمن جازف بها خان الأمانة وإن ارتدت خيانته ثوب الصدق الإخلاص. . .
وسأله آخر: ما هي كلمتك في الكبرياء أيها الحكيم فقال
- لا صغير ولا كبير في الكون. . . كل شعاع من الشمس شمس مقتضبة وكل قطرة من البحر بحر بليغ، وكل حبة من الرمال صحراء مكبوتة، وكل نسمة في الأثير أثير ينطوي على نفسه. الجزء في الكل والكل في الجزء، والكل واحد. . . إن في الذرة الصغيرة ما في الأفق الذي لا حد له، هما صفحتان في كتاب وعينان في وجه. . .
ليس لأحد أن يشمخ على الآخر:
الحجر يقول للجدار: لولاي لم تكن، والجدار يقول للحجر لولاي لم تلق وسادة تلقى عليها(827/17)
رأسك. . . الخمرة تقول للكأس: لولاي لم تنعم بك شفة، والكأس تقول لها: لولاي لذهبت هدراً. . .
لا كبير ولا صغير في الكون. . .
إن الرسالة واحدة وإن تغير الغلاف، واصل الحياة واحد وهدفها واحد فلا تشمخوا بأنوفكم على الخلق. . . المهود واللحود تجمعكم في صعيد واحد. .
كلما شمختم على الآخرين وتخيلتم أنفسكم عظاماً ضربتم القبور بهيا كل عظامها. . .
وارتفع في الساحة صوت ملائكي يسأل عن الصلاة فأطرق الفيلسوف ثم قال:
- الصلاة هدير بحر الأيمان، والمرساة التي تقف بها سفنكم في مرفأ الخالق. . . الصلاة هي وهج الأيمان الذي يشتعل فيكم فكلما ألقيتم الأحطاب في ناركم صليتم. . هي الحنين إلى الأصل الذي جئتم منه، والى الوطن الأكبر الذي تهتم عنه. . إنكم تصلون لتطلبوا إلى الخالق إكمال ما نقص فيكم وأيقاظ ما كمن في أعماقكم ولتبلغوه شوقكم إلى الآخرة، إلى اليوم الذي تنطلقون فيه من أسر هذه الكرة التي تستبد بكم وتدميكم بقيودها، ولتفتحوا له جراحاتكم فيرى فيها مواضع الألم وطوابع المجرمين وحنق الطغاة وقسوة الزمن. . .
الصلاة لسان الظمأ الناري في النفس يستجدي الماء من ينابيع النعيم. . . وأنتم كلما حننتم إلى جريح أقمتم لله هيكلا، وكلما حطمتم سيفاً من سيوف الغدر والخيانة والظلم برق لكم سيف في السماء، وكلما قابلتم الإثم والرذيلة بجباه مقطبة بسم لكم السيد. . .
الصلاة أن تستعجلوا الرحيل من هذه الفانية. . .
وإذا صليتم فلا تنسوا هذه الكلمات:
اجعلني يا رب صالحاً للمثول بين يديك. . . اعطني جناحين لأطير إليك. . . أنا تائه فأهدني. . خذني بيديك وتنقل بي من شمس إلى شمس ومن نجمة إلى نجمة ومن مجرة إلى مجرة حتى أقع متهالكا على عتبة بيتك وأستريح. . . أخل ساحة نفسي من كل شيء عداك. . . اعطني القوة لا لأصرع الجبار، ولكن لأجعل من الصعلوك جباراً يطاول برأسه النجوم حتى يشرف على دارك. قيدني بحبك. . أنت في ضميري وطفولتي فخذني بيدك ولا تدعني أنا الطفل الكبير أقع في الهاوية. . .
وسأله أحدهم عن الصبر فقال:(827/18)
أنتم بين إرادتين: إرادة الإقدام وإرادة الصبر وأعظمها الثانية.
جميلة هي الموجة المقتحمة الهائجة وأجمل منها الصخرة التي تردها. . .
جميل السيف وأجمل منه الدرع التي تتقيه. . .
جميل البركان وأجمل منه الجبل الذي يعرف أنه الجبل الوقور الرصين فيبقى حممه في أحشائه لا يزعج بها الفضاء ولا يقلق العابرين. . .
وتقدم منه شاعر وسأله عن الطبيعة وكتابها فقال:
- إن الطبيعة رسوماً وأصواتاً فهل أنتم تنظرون وتسمعون؟ الشمس تقول: أنا صورة من خيال الله إطارها الأفق فيسمعها البحر فيقول: أنا خلجة في الصورة، وتسمعها الرياح والأعاصير فتتنادى وتصرخ بصوت عظيم: نحن من أبواق الله ننذركم بشر المصير إذا كنتم لا تؤمنون. . والجبل يتكلم ويقول: أنا الجلال والوقار لا أبرح مكاني ولكن الإيمان، الإيمان وحده يذهب بي حيث يشاء من مكان إلى آخر، أنا في مهب الإيمان على الرغم من صخوري وضخامتها وعلوها، ريشة طائرة. . . ويسمع الينبوع كلمة الجبل فيقول أنا قطرة من خمرة الله. . . وتهب الخمرة من الكأس لتقول: أنا من دمه. . . وكل نجمة من هذه النجوم تقول لكم: إن بيني وبين رفيقتي عالماً مهجورا وفراغاً مخيفاً، كذلك أنتم في مناطق نفوسكم التي لا تعد. . . إن بينها أبعاداً شاسعة وقد تموتون والمنطقة الواحدة تجهل الأخرى.
وللقمر كلمته وهي أن لا نخدع به فهو يستعير نوره من الشمس وفي شعاعه المطمئن اضطراب العاجز. . . والزهرة تتنهد وتتأوه قائلة: مادمتم تقطفونني بأيديكم السمجة الغليظة، فلستم من المؤمنين بالفن والأرج والجمال، وإذا ذبلت وتحولت عنكم فذاك لأنكم لا تفهمونني. . .
والمطر رحمة وكرم والبرق إلهام، والرعد غرور وثرثرة، والصاعقة جنون، والسنابل أصابع كف الحياة وهي تصفع الموت، والبركان عقل باطن ثار وانفجر، وندى الفجر دموع، والظهيرة جحيم، والأصيل هدنة والليل وشاح من أوشحة الموت، والغابة أسرار والدرر في الأعماق مواهب، والضباب حيرة والنار ألسنة تخطب على منبر الفناء، والنور نار وادعه ساكنة(827/19)
وتعالت الأصوات صائحة:
- حدثنا عن الخالق والخليقة فنظر إلى السماء ثم قال:
- الخليقة قصيدة كانت مطوية تحت جناح الله فأطلقها شعراً منثوراً في ساعة طاب له فيها أن ينثر الشعر. . . هي قصيدة الحب والجمال وشاعرها الله. . . لقد كنتم طيوراً تغرد في حديقة الخالق، والشوق إلى تلك الحديقة التي تنقلتم على أفنانها قبل أن عرفتكم هذه الشمس هو اسمي وأبرز ما في نفوسكم التي تحن أجنحتها حنيناً لا يغذيه ولا يبلغه هدفه إلا الحب الروحاني ينير الطريق ويحرق الحجب الكثيفة. . . إن وجه الله الحبيب لا يُرى على ضوء العقل والعلم وإنما يُرى على ضوء النار التي يضطرم بها الوجدان. . . إن الله يدرك بالوجد وبالعشق الإلهي الذي يقطع إليه وحده المراحل والأدوية فإذا أطفأتم ناره في صدوركم انقلبتم رماداً. . .
واقترب منه ملاك وسأله عن الملك والملاكين فقال:
إن اليد التي تلتمس الأشياء ويندلع بين أصابعها لهيب الحلو والشوق والحنين هي اليد الحمراء الجميلة، فإذا ظفرت بها تروم وقبضت عليه أثقلها الرماد والتراب وتوارى جمالها. . . إلا ترون الينبوع كيف يفقد روحه إذا بلغ البحر، والصحراء كيف تهدم كيانها إذا اهتدت إلى الينبوع فجربوا ما استطعتم أن تطيقوا المسافة بين ينابيعكم وبحورها وبين صحاريكم وينابيعها. وبعد فما هو هذا الذي تملكون؟ هذه الأجسام، أجسامكم، أتحسبون أنها لكم؟ إنها للتراب الذي تخلى عنها إلى حين ثم يستردها ويقفل العين التي كانت النفس تطل منها على الوجود. . وهذه الأموال التي تحشدونها وخزائنها الحديدية، هي من التراب أيضاً، من مناجمه التي تفتحون لحودها ثم تعودون إليها وليس في أيديكم غير أصابعها التي تتحول إلى سنابل في الحقول. . . وهذه البيوت التي تقيمون بين جدرانها ليست لكم وكيف تملكونها وهي باقية يوم ترحلون. . . إن الحجر أشد منكم شكيمة وقوة وصبراً في ساحة البقاء. . . ما الذي تملكون؟؟ أتحسبون أنكم تملكون الفكرة والعاطفة، إن أفكاركم وعواطفكم حلقات كسلاسل قديمة لا يد لكم فيها ولا تعرفون من أمرها إلا أنها توثقكم. . . إن قلوبكم ليست لكم فهي تقيم فيكم على الرغم منها وتلح بنبضاتها المتعاقبة للخروج من أقفاصها، أصابها (كوبيد) ببعض سهامه الطائشة، فوقفت في صدوركم وظلت هناك جريحة تئن(827/20)
وتستغيث طارقة باب النجدة للانعتاق من الأسر. . .
والمرأة التي تتخذونها لكم رفيقة ليست لكم أيضاً فستظل إلى الأبد لغزاً لا يدرك سره، وكيف يملك المجهول؟ وهؤلاء الأطفال الذين تلدونهم قطرات دم كثيفة من سهام (كوبيد) تجمدت وتجسدت وأطلقها (كوبيد) لتلعب في فنائكم. . . وهذه الحدائق ليست حدائقكم ففي أشجارها الألوف من الخلق الذي تقمصوا وتجلوا أزهاراً وثماراً. . . لا، إنكم لا تملكون شيئاً أنتم وملوككم. . الملك لله. . . هو وحده المالك. . .
وسألوه عن الصمت والكلام فقال:
الصمت هو الأصل، وقد خلق الإنسان ليفكر ويتأمل ويحلم. . . إن ما يحيط به من الأسرار والأعاجيب في السماء والأرض يوقفهم وقف المعجب الثمل المشدود المأخوذ بالعظائم والروائع لا تترك مجالا ً لكلمة يقولها. . .
إن الحيرة والإعجاب والوجد والذهول والانجذاب تخرس الألسنة وساحة الحياة أضيق من أن تسع قصور الخيال والتأمل والأحلام فأين فيها مكان الكلام؟ ألا ترونه الدخيل يحشر نفسه في صفوف الحياة حشراً ويتطفل على مائدتها؟ الصمت وشاح تتشح به النجوى والتقوى ويتورع به التصوف والإيمان وعليه يقوم بيت الله. . . الصمت يجمع نفوسكم والكلام يفرقها. . . إن الآفاق كلها بنيراتها وشموسها ومجراتها صامتة فكيف تتكلمون؟؟
ودنا منه فيلسوف وسأله عن الكلمات وقوتها وطنينها فقال:
إن الصور والرسوم التي تعرضها لكم الحياة لا تبدو لكم على حقيقتها فأنتم تلبسونها بكلماتكم الأثواب التي يحلو لكم أن تنسجونها. . . إن الكلمات التي تستقونها من معاجمكم هي التي تسيركم، الكلمات الضخمة القوية الطنانة التي تجعل من النسيم عاطفة ومن الشرارة ناراً تحرق الغابة، ومن الشيء التافه شيئاً يتضخم ويعلوا حتى يملأ الجو والساحة. .
قد يكون ما ترونه مظلماً فتطلقون عليه كلمة تشع فتصبح في نظركم منيراً. . . إن كلماتكم منافخ تنفخ الروح في الأموات ومطافئ تطفئ الحياة في الأحياء. . . كلها من نسيجكم وإبركم تضيق وتتسع بإرادتكم وأوهامكم ومعاجمكم. . . إن الفقر لا يحمل الجراحات التي تتخذونها ولكن كلماتكم فيه حملته المدى والطعنات القاتلة، والغنى ليس الطريق إلى(827/21)
السعادة، ولكن ما نسجتموه حوله أجلسه على عرش العروش يوزع اللذات ويفتح أبواب النعيم.
إنكم تكثرون من الكلمات فيضيع عليكم الكثير من أهدافكم وانتم في ذلك كالشجرة التي تكثر أوراقها فتقل ثمارها. التفخيم والتضخيم ووراءهما التشويش والتعقيد والحيرة والإلهام والإبهام من صنع أيديكم كأنه يلذ لكم أن تكثروا النجوم في آفاقكم لتضيعوا في مسالكها. . . إنكم تلهون بطنين الألفاظ عن دقة المعاني وحقيقة الحياة وجوهرها وكأن كل كلمة من كلماتكم حجر تلقون به في البحيرة الهادئة الحكيمة الوداعة فتقلق وتضطرب وتفقد الكثير من سكينتها وجمالها. . .
إن الله لم يلفظ بغير كلمتين (ليكن النور) يوم رفع عنا الستار في حين أنه رب الأبجدية والمعاجم. . إن الخالق يوم خلقنا كان بليغاً. . .
وسألوه عن القوة الظاهرة والكامنة فقال:
- في عالم الروح قوى كامنة تنتظر من يطلقها فإن شخصية الإنسان لا يبدو منها إلا عشر ما تنطوي عليه والباقي مختزن راقد في الأعماق. . إن القوى الدفينة في رمالكم عديدة بعيدة الأغوار، وما يستطيعه هذا المخلوق البشري الذي يحسب نفسه ضعيفاً يمتد على مسافات لو كان له أن يجتازها في عالم الحقيقة المحسوس لأتى بالمدهشات. . . إن في الإنسان فيضاً من نور الخالق، ولكن العيون لا تقع منه إلا على بضعة أشعة هي التي تأتي بكل هذا الذي ندعوه العبقرية والموهبة والوحي والخيال الخلاق والفن الرفيع، والبقية الباقية غائبة عن الحس منطوية على نفسها ولا أدري ما يكون من أمركم وأية أهوال تقذفون بها في هذه الأجواء، وأية أسرار تهتكون حجبها إذا لم تصب شموسكم بالكسوف وتجلت شخصياتكم على وجهها الأتم. . خذوا من ساعاتكم ساعة الإلهام وساعة الخطر وساعة الحلم وساعة الخطر وساعة الخمر تلمسوا بأيديكم ما تقوى عليه عقولكم الباطنة إذا ما خرجت عن ذهولها. .
إن نظرة واحدة من نظرات تلك العقول في يقظتها تكفي لخلق هذه الروائع في الفن، وتلك العجائب في العلم، وإن شهاباً واحداً من تلك الشهب النفسية يتصل بكم نوره يكفي ليضعكم في عدد الأبطال والمستشهدين، ويجعل من أسمائكم سيوفاً تبلغ من المضاء حداً تخترقون(827/22)
به كثافة الأجيال. .
آه لو استيقظتم اليقظة التامة الكبرى لتأخذ العين ما قدر لها من مجال في هذا الوجود، وتنطلق ذراتكم الروحية لتذليل هذه الصخرة الشامخة العاتية الهازئة القديمة القائمة في طريقكم، صخرة المستحيل. .
إن في قبتكم النفسية التي لا تقل عن هذه القبة الزرقاء روعة وسناء مائة ألف نجمة لا يضيء منها إلا نجوم قليلة معدودة فإذا ما أضيئت كلها وجدتم نفوسكم التائهة وشعرتم بذلك الارتياح النفسي الذي تسموه السعادة، ولقد حان لكم أن تنشروا كل ما في كتابكم من صفحات لتحقيق حلمكم الأكبر.
راجي الراعي(827/23)
مسرحية (سليمان الحكيم)
للأستاذ توفيق الحكيم
بقلم الدكتور محمد القصاص
(تتمة)
كنا نتكلم في نهاية المقال السابق عن رأي الأستاذ توفيق الحكيم في أن التراجيدية تقوم على أساس من الدين، ووافقناه على هذا الرأي، وذكرنا أن تلك كانت حالها عند الإغريق. والآن نقول بأن ذلك كان شأن التراجيدية أيضاً في أوربا المسيحية خلال العصور الوسطى. فقد كانت تستعد موضوعاتها من صميم العبادة المسيحية والطقوس الكنسية. ففي بادئ الأمر لم يكن المسرح إلا صورة مكبرة لما يعمل في الكنيسة أثناء القداس لجعله أبلغهم تأثيراً في النفوس، وأشد أسراً للقلوب، وأفعل في استثارة العاطفة. بعد ذلك صارت تمثل حياة ابن الإله في صورة درامية تنفطر لها القلوب، وحياة السيدة العذراء، ومعجزاتهما، ثم معجزات القديسين. ومن بعدهما أخذت الخرافات والأساطير الدينية تغذي التراجيديا بمادتها التي لا تنضب. وكلها أشياء شعبية أليفة للشاهدين، وفي متناول فهم الجميع وإحساسهم. كانت تمتزج بها الدعابة من حين لحين، بل كانت تنزل في بعض الأحيان إلى درجة من السخرية لا تليق بقداسة الدين؛ حتى كانت السلطة الزمنية تضطر إلى التدخل؛ ومع ذلك فقد ظلت الأرض الخصبة التي أزهر عليها المسرح التراجيدي أكثر من ثلاثة قرون هي عصره الذهبي دون جدال.
هل هذا ما يعني الأستاذ توفيق الحكيم عندما يقول بأن التراجيدية لا تقوم إلا على أساس ديني؟ إن كان ذلك مقصوده فإننا نوافقه كل الموافقة. ولكننا نأسف أن نرانا مضطرين إلى التصريح بأن التوفيق قد أخطأه دائماً عند الاختيار، لأن الأستاذ لعله يخلط بين الإيمان والعواطف الدينية من جهة، وبين جدل المتكلمين من أمثال أبي حنيفة، وإبراهيم النظام، وأبي الحسن الأشعري من جهة أخرى، فبدل أن يتخذ موضوع مسرحيته من صميم العاطفة الدينية وما يغذيها من أساطير، وكرامات، ومآس يؤمن المؤمنون بحقيقتها وواقعيتها إيمانهم بالتاريخ والحقائق الكونية، راح يبحث عن هذا الموضوع في الكلام والفلسفة السكولاستية.(827/24)
أفيظن أن فكرة القضاء والقدر، ولا سيما على النحو الذي يعالجها به في مسرحيته، في وسعها أن تحرك قلب إنسان، أو أن تثير انفعال مؤمن أياً كان؟ الواقع أن الإيمان شيء والفلسفة مهما انحطت شيء آخر. ومع ذلك فقد عرف العالم الإسلامي - على نحو ما - هذا النوع من التمثيل، تمثيل المآسي الدينية في الطرقات والميادين العامة على نحو ما كان يفعل الإغريق القدماء أول عهدهم بالتمثيل. من ذلك مأساة مقتل الحسين، ابن بنت رسول الله (ص) التي يقوم الشيعة في إيران والعراق بتمثيلها يوم عاشوراء من كل عام.
في هذا اليوم يحي عامة الناس من ممثلين ومشاهدين أحداث يوم كربلاء، لا على حقيقتها، بل كما أرادت الأساطير وحماسة الإيمان أن تكون. يحيون هذه الأحداث الجسام التي تجتمع عليها خفقات قلوبهم، وتثير في نفوسهم عواطف اجتماعية، وبفنون في نفوس تكثيلها لشدة امتزاجها بنفوسهم واستيلائها على قلوبهم ولصوقها بإيمانهم. حتى لقد حدثني بعض الأصدقاء ممن شاهدوا هذا اليوم بأن من المشاهدين من نسي نفسه نسياناً تاماً، حتى ليصيب نفسه بأذى قد يودي بحياته على غير شعور منه. على مثل هذه (العواطف الدينية) قامت التراجيديا الإغريقية، وتراجيدية أوربا المسيحية حتى عهد كرني. وهذه العواطف الدينية هي التي يجب أن تكون أساساً للتراجيدية، هذه العواطف التي تلهب النفوس وتجمع بين القلوب، لا جدل المتكلمين ومذاهب الفلاسفة السكولستيين، كما فعل مؤلف سليمان الحكيم، خلطاً منه بين العاطفة الدينية، وبين الجدل حول الدين الذي لم يمس يوماً قلب إنسان، وقد ينبو عنه في عصرنا الحاضر عقل كل إنسان.
فإذا رأى الأستاذ الحكيم أن هذه المواضيع الدينية الساذجة أصبحت شيئاً بالياً، وأن على الكاتب أن يشغل قلمه بما هو أجدى في عصر طغى فيه جد الحياة وقسوة العمل، فليترك إذن ميدان التراجيديا لتموت في هدوء كما هي حالها في كل مكان من بلاد الغرب، ولينزل إلى ميدان (الدرامة) ميدان الحياة الاجتماعية، إلى العالم الذي نعيش فيه، فيصفه لنا بخيره وشره، وإلى العالم الذي يريد لنا أن نعيش فيه، فيهدينا إلى طريقه، سواء أكان ذلك في ميدان العمل أم في ميدان الروح، في ميدان الاجتماع أم في ميدان الميتافيزيقة. أما أن يصر على التراديجية وهو يبتعد عن موضوعها على غير شعور منه لأن نفسه غير مهيأة له، فتلك خسارة كبرى على فن توفيق الحكيم، وهو فنان كبير، وتبديد لمواهبه في الهباء، وهو(827/25)
ذو مواهب حقة لا نظن أحداً يشك في قيمتها.
ومن أفدح ما أصاب فن الأستاذ الحكيم في القصة التي تدرسها من جراء الفكرة التي تقوم عليها، والتي دفع الكاتب إليها تشبثه بالتراديجية مع بعده عن الصواب في إدراكه للأسس التي تقوم عليها وإغراقه في حب التفلسف، أن جاءت روايته غير قابلة للتحقيق المسرحي لخلوها مما يثير قلب الإنسان أو يتصل بنفسه، وبعدها عن واقع الناس والحياة الحقيقية، والظاهر أنه يدافع عن هذا المذهب، ويعده مذهباً مقبولاً، أعني كتابة أدب مسرحي، وعمل روايات مسرحية، لا لتمثل بل لتقرأ في أوقات الفراغ. ففضلا عن تجلي هذه الظاهرة في (سليمان الحكيم) نراه يقول في مقدمته (لأوديب الملك): (وأعني بالمسرح هنا كل فن يرمي إلى تصوير الأشياء والأفكار على خشبة أو شاشة أو موجة أو صحيفة. . . بأن يقيمها حية تتحادث وتتحاور وتبرز مكنون سرها أمام الناظر أو السامع أو القارئ) ولكنا - كما قلنا في مقال سابق - إذا سلمنا بأن الأدب المسرحي فن من فنون الأدب قائم بذاته، وجب علينا أن نسلم بأن ميزة هذا الفن إنما هي في الصفات التي تمكنه من التحقق في الخارج، من اللعب على خشبة المسرح. لذلك قلنا أنه إذا تأتى له ألا يكون أدبياً فلا يصبح له بحال من الأحوال إلا يكون مسرحياً. هذا هو شرط المسرحية الأول بل حدها. فأول الأضرار التي أصابت المسرحية من جراء الفكرة التي حملها المؤلف إياها، إنما جاءت مسرحيته لا تمت بشيء إلى قلب الجمهور وعقله، مسرحية لا تحرك فيه عاطفة ولا صدى لعاطفة وهذا ضرر لا يستهان به لأنه جعل منها قصة غير تمثيلية ولكن في صورة حوار.
أما الضرر الثاني فلا يقل خطورة عن الأول، وهو انعدام الشخصيات في المسرحية، انعدام ما يميز بعضها من بعض تمييزاً ذاتياً. إذا لا تكاد توجد بينها شخصية واحدة تصدر في مسلكها في الحياة عن بواعث نفسية وإرادة إنسانية، عن تقدير شخصي، وعن عواطف وميول ودوافع داخلية هي ملك لها وجزء من كيانها المعنوي، وتمييزها عن غيرها من أبناء جنسها وتلون مسلكها في الحياة بألوان تختلف عما عند الآخرين اختلافاً قد يكون كبيراً وقد يكون طفيفاً ولكنه جوهري وذو خطورة عظمى، لأنه هو الذي يهب الإنسان إنسانيته ويسبغ على كل فرد فرديته. وهو الذي يجعل من كل إنسان كوناً شاملا شاسعا غامضاً يستحق الدراسة والتأمل، كوناً منطقياً تارة وغير منطقي تارة، تتصارع فيه الأهواء(827/26)
والعواطف والشهوات والأفكار وجميع العوامل النفسية والانعكاسات الخارجية. من هذا الصراع الداخلي، جلياً كان أو خفياً، ومن اصطدام حرية الفرد بحرية الآخرين؛ ومن نضاله ضد القوانين الكون الراسخة، تنفجر درامة الحياة الواقعية بما فيها من مآس ومهازل وأبطال هم بنو الإنسان جميعاً. وكلهم شاهد، وكلهم ممثل. وكلهم يلعب دوراً أصيلا في الدرامة؛ دوراً لا يلغى شخصيته ولو كان ملغى الشخصية، ولا يجعل منه نسخة من الآخرين لأنه يصدر في عمله عن نفسه، عما فيه من صفات؛ حتى عندما يحاكي الآخرين؛ لأنه وجود إنساني له كيانه. درامة الحياة هذه هي التي يجدر بالكتاب المسرحي أن ينقلها على المسرح كما يراها بعينه وكما يدركها هو؛ ينقلها بأبطالها بعد أن بتقمصهم الممثلون.
أما شخصيات الأستاذ توفيق الحكيم في رواية سليمان الحكيم فهي أشبه بالآلات؛ تأتيها الحياة من خارجها بدل من أن تنبثق من داخلها؛ وتفرض عليها الحركة من السماء فرضاً بدلا من أن تخلق هي الحركة؛ لذلك كانت كلها بسيطة متجانسة تجانس حبات القمح، حتى عندما تبدو مختلفة بعض الشيء. وذلك لأن أفعالها وتصميمها غير ذاتية. ومرجع هذا كله، مرجع انعدام الصراع وعدم التميز والحياة الحقيقية في شخصيات سليمان الحكيم إنما هو إلى دعوى المؤلف أن الحب وسائر أمور القلب، بل كل وازع خلقي وكل ما يستطاع الحكم به على سلوك الفرد والجماعة إنما هو اثر لقدر صارم يضرب ضربته حيث يريد هو، لا حيث نريد نحن. وتلك عقبة كبرى تحول بين القصة وبين المسرح، لأن المسرح كما قلنا يشترط الحياة والحركة، الحركة الداخلية والحركة الخارجية، والارتباط بين هذه وتلك. ولكنا إذا أخذنا أبطال الحكيم واحداً واحداً، وقذفنا بهم خارج الرواية لنحل محلهم أفراداً غيرهم أياً كانوا، لبلغت الرواية نفس النتيجة التي بلغتها ولما تغير شيء في الوجود، مادامت القوة الخفية هي القوة الخفية والإطار المادي الذي يحيط بهم هو هو لم يتغير. فهي أشخاص تشبه العرائس الخشبية قد تصدر عنها حركات بهلوانية عجيبة، ولكن الفضل فيها يرجع إلى اليد الخفية التي تحركها من وراء الستار. وإلا فهل يمكن لإنسان، ولو كان المؤلف نفسه، أن يستخرج لنا من قصة سليمان الحكيم صورة لسليمان نتبين فيها أنموذجا بشرياً خاصاً؛ أو حتى صورة إنسانية شائعة؟ وأرجو من القارئ الكريم ألا يخلط بين ما قد يكون في ذهنه من صورة لسليمان الذي عرفه في النصوص القديمة وصورة سليمان الذي(827/27)
نفتش عنه عبثاً في القصة.
فلسنا نعرف شيئاً عن باطن سليمان، ولا عن مذهبه في الحياة إن كان له فيها مذهب، ولا عن وازعه الخلقي، ولا عن صلة كل هذا بما يظهر من أعماله في الحياة الخارجية وبحظه فيها من سعادة وشقاء له ولمن يحيط به. بل كل ما نعرفه عنه أنه أوتي الحكمة والثراء، وأنه أحب بلقيس قضاء وقدراً، وأن بلقيس لم تحبه قضاء وقدراً أيضاً، فسعى له العفريت لاستمالة قلبها إليه بالوسائل التي نعرفها في القصة؛ فلما لم يفلح علم أن كل شيء بقضاء وقدر. ويمكننا أن نقول نفس الشيء بالنسبة لبلقيس ومنذر وغيرها، فبلقيس أحبت منذراً دون أن يحبها، فسعت لاستمالة قلبه إليها على غير جدوى، وبقدرة قادر استبان لها أن كل ذلك كان بقضاء وقدر. وأحب الصياد الجارية التي اشتراها بماله ولم تحبه، فسرحها من فوره، ولم يحاول أن يستميلها إليه كما فعل سليمان، وعرف من البداية أن كل ذلك بقضاء وقدر. عرف ذلك لأنه لم يعط ما أعطى لسليمان من القدرة التي تحجب المعرفة عن الإنسان وتجنح به دائماً - على ما يفهم من الفلسفة الأستاذ الحكيم - إلى أن يسيء استعمالها فيحاول المحال. يقول على لسان سليمان: (هي القوة يا بلقيس تغمض بصائرنا أحياناً عن رؤية عجزنا الآدمي، وتنينا ما منحنا من حكمة، وتزين لنا المضي في كفاح لا أمل فيه. . . فنسير بغرورنا تحت نظرات الرب الساخرة. . . آه يا بلقيس ليس يخشى شيء على الحكمة غير القدرة. . . الآن أدرك لماذا أعطاني ربي وهو السلطان والغنى والقدرة إلى جانب ما سألت وهو التمييز والحكمة). فليس يتميز الإنسان إذن إلا بما يحوطه من مظاهر الحياة الخارجية.
وكان الطبيعي أن تؤدي تفاهة الشخصيات وسطحيتها إلى خلوها من الصراع الداخلي (من أي نوع كان) خلواً يكاد يكون تاماً. أما الصراع الخارجي، صراع الإنسان ضد القوة الخفية التي أراد الكاتب الكريم أن يجعلها أساساً لمسرحيته، فلا يكاد يحسه القارئ في شيء؛ لأن الإنسان فيها إذا صارع هذه القوة، لم يفعله إلا بوحي من هذه القوة نفسها، وكان صراعه معها أقرب إلى العبث منه إلى الجد، لأنه صراع مدبر مصطنع، صراع الملهاة لا صراع المأساة، صادر من شخصيات سلبية، إذا صح لنا أن نستعمل هذا التعبير. وإذا خلت التراجيدية من الصراع، فقد فقدت كيانها كما يذهب الأستاذ الحكيم نفسه في رأيه الذي(827/28)
أشرنا إليه في المقال السابق. وكانت نتيجة كل ذلك لصوق الرواية بحروفها، وضحالة حوارها وجموده. نعم نحن لا نخفي إعجابنا الشديد بمهارة الأستاذ النادرة في إدارة الحوار، وقدرته الفذة في جعله يتتابع بعضه من بعض سلساً كالماء، دون أن يبدو فيه أدنى تكلف. ولكنه خلو من الحياة والحركة؛ إذ كان أصحابه شخصيات مجردة منهما. وذلك يجعل إحساسنا بوجود تلك الشخصيات الإنسانية التي مسخت أحجاراً؛ فجاء حوارهم حواراً غير مسرحي، وصار الكتاب من الوجهة الفنية، أشبه بمحاورات أفلاطون مثلا منه برواية تمثيلية. فلولا تدخل الكاتب في كل حين ليلقي بحكمه وأحكامه الحلقية والميتافيزيقية لتعذر على القارئ فهم غرضه من روايته ونظرته للحياة. من مجرد تتبعه لمسلك أبطاله النفسي (إذا سلمنا بأن في الرواية ما يشعر بما يبدو في طوايا نفوسهم) والخارجي. ولعل الفصلين السادس والسابع من الرواية خير شاهد على ما نقول، ففيهما يحاول الأستاذ أن يلخص وجهة نظره، ويحرر دعواه الفلسفية، ويستخلص مغزى قصته، التي كان قد نوى أن تحملها عنه أحداث الرواية إلى القراء والشاهدين؛ يفعل ذلك على نحو ما يفعل مؤلفو الدراسات والرسائل العلمية فيما يسمونه بالخاتمة ولكنه يرسله على شكل حوار على لسان أبطاله. والواقع أن هذا العمل ضروري لإيضاح مقاصد المسرحية ولكنه عمل غير مسرحي.
والآن إذا أردنا أن نجمل في سطور ما فصلناه في مقالاتنا الثلاثة قلنا بأن أساس الفكرة التي بنا عليها الأستاذ توفيق الحكيم قصته غير سديد، ولا سيما أن استخراج هذه الفكرة من وقائع المسرحية أمر عسير، بل قد توحي هذه الوقائع نفسها على ما فيها من بعد عن واقع الحياة الحقيقي - بعكس الفكرة المدعاة، وفي تلك الحياة يبدو التناقض من وقائع الرواية وبين الحكم والأحكام التي ينطق بها المؤلف أبطاله. ولما كانت فكرة الرواية غير جديرة بإثارة الجمهور أو تحريك عواطفه، كان حظ الرواية من النجاح في التمثيل ضئيلا. وإذا أضفنا إلى ذلك تفاهة شخصياتها وحرمانهم من الحركة الذاتية، نقول كل هذه الأشياء مجتمعة تبعد عن الرواية صفة المسرحية الحقة بعداً شاسعاً. كما أن اطمئنان الأشخاص النفسي، إلا فيما يضيف المؤلف في حكمه على لسانها من قلق لا يظهر أثرها في مسلكها في الحياة، مما جعل الرواية خالية من كل صراع.
وبعد فتلك دراسة إجمالية للرواية لا ندعي لها الشمول؛ فقد تركنا التفاصيل جانباً، ولم نهتم(827/29)
بتحليل حوارها، وبيان مقدار ما فيها من ملائمة بين أصلها ومعانيها. وإذا كنا قد سجلنا عليها بعض المآخذ، فإننا نعترف لمؤلفها الكاتب الكبير بأصالة فنه، وصدق فهمه للأدب فهماً يختلف عما هو شائع لدى كثير من كتابنا - ولا سيما في باب القصة - من أن الأدب فن مهارة وحذق يهدف إلى توليد المعاني المبتكرة البراقة المعجبة وخلق المفاجآت العجيبة المسلية دون أن يكون فيه أثر لنماء الفكر الجدية. وإذا كان ذلك حكمنا على سليمان الحكيم، فإننا نعتقد أن أدب الأستاذ توفيق الحكيم وفنه أوسع وأخطر من أن يمثلها كتاب واحد من كتبه. لذلك نرجو أن تتاح لنا فرصة قريبة ندرسه فيها دراسة تليق بمكانه في نفوسنا ومقامه في نهضتنا الأدبية. ونرجو أن تحتل هذه الدراسة مكانها في كتابنا عن المسرح في مصر الذي نعمل على إخراجه إن شاء الله.
محمد القصاص
دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس(827/30)
صور من الحياة:
ضعف
للأستاذ كامل محمود حبيب
تباً لك يا من تتشح بالمبادئ الفجة والنظريات السقيمة لتغوى العقول المتداعية والأذهان الضعيفة فتخدعهم عن الوطن وهو روح القلب، وتصرفهم عن الدين وهو روح الحياة، وتشغلهم عن اللغة وهي سر الكرامة. أي شيطان وسوس لك - يا صاحبي - فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذر هم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية. لقد قلت لي يوماً (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة. دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقيلة تشل عقلي وتصعق خواطري وتعبث بأفكاري) آه يا صاحبي، إنك حين تنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة تسجل على نفسك أن في عقلك لوثة وأن في خواطرك خللاً، وأن في أفكارك صدعاً.
لقد درج أحمد وشب في كنف الريف، ونما وترعرع في حضن الغيط، وقوى وأشتد في ظل الدين. ثم دفعه أبوه إلى الكُتاب ليقرأ - أول ما يقرأ - القرآن، ويتعلم - أول شيء - الوضوء والصلاة. وقضى سنوات يغدو إلى الكتاب ويروح إلى الدار أو إلى الحقل ويختلف إلى المسجد، وأبوه رجل ريفي جلف، غليظ الكبد، شديد البخل، سريع الغضب، ضيق العقل، ثائر الأعصاب، تنزعج الدار لرؤيته، وتتفزع لغضبه، وهو - دائما - يتلمس أوهى الأسباب ليزجر زوجه في عنف، ويعاقبها في جفوة ويقسو عليها في إفراط، والزوجة تضطرب بين يديه في صمت وتبكي في تخاذل، والدار في عينيها جحيم تتسعر ما يهدأ أوارها، ولا يسكن لهبها إلا حين يتوارى هذا الوحش الكاسر.
وشب الفتى بين أب جاف وأم متكسرة، يشهد عنت الأب وثورته ويقاسي هوان الأم وذلتها، وهو عاجز اليد واللسان لا يستطيع أن يرد أباه ولا أن يدفع عن أمه، فعاش هملاً في ناحية من الدار يفتقد العطف، وقلب أبيه صلب لا ينبض بشفقة، ولا يخفق برحمة. والبخيل - دائماً - رجل أرضي النزعات ترابي المشاعر طيني الجبلة لا تشرق في نفسه أضواء الرجولة ولا ومضات الإنسانية. وأمه في شغل تجتاحها العواصف من حولها فلا تحس في(827/31)
قرارتها معاني المرأة ولا روح الأنثى.
وهكذا اضطربت الحياة في ناظري الفتى وتزعزعت أركانها، فنشا ضعيف النفس، واهي الروح سقيم الخلق وضيع الهمة، وبدا منقبض الأسارير مشلول العقل، لا يحس السعادة في طفولته ولا يجد اللذة في صباه ولا يستشعر المتعة في شبابه، يأنس بالوحدة ويطمئن إلى الخلوة، وتعقدت نفسه فأنحط عن أترابه، وسفل عن زملائه. ولزمته هذه الخصال فعاش عمره مضعضع الجانب مفلول العزيمة مستلب الحرية.
وحين أنتظم في سلك المدرسة وجد في الكتاب سلوه وعزاء فدفن نفسه بين دفتيه لا يبغي عنه حولا، فصدأ عقله من طول ما أنكب على الدرس، ونحل جسمه من طول ما أرهق ذهنه، وذوى شبابه من طول ما ذاق من حبس ومن حرمان. وإن الطالب في المدرسة ليقع بين عدوين: المدرس والمنهج. فالمدرس في المدرسة يسيطر عليه الفتور والملل فهو يشرح في خمول ويعامل تلامذته في قسوة، لا يندفع إلى العمل في نشاط، ولا يهب إلى الدرس في رغبة، وإن نفسه لتتوثب سخطاً وكراهية حين يحس عنت العمل وضياع الحق، وإن حيويته لتخبوا رويداً رويداً حين يخيل إليه أنه قد تخلف عن الركب، فهو - في رأي نفسه - يبذل غاية الجهد ولا يجد الجزاء، ويستفرغ منتهى الطاقة ولا يلمس الوفاء. أما المنهج فهو أخلاط من العلم ينوء بها العقل المتألق، وأشتات من النظريات يتيه في أضعافها الذهن المشرق، وألوان من الدرس يضل في ثناياها الفكر المتوثب. فما بال أحمد؟ لطالما كان يتعثر في علومه، ولكنه سكن إلى الدرس لا يريم، فهو يخشى وطأة أبيه وإن يده لغليظة، ويكره داره في القرية، وإن جنباتها لموحشة، ولا يطمئن إلى أمه وإن فيها التكسر والخذلان.
وتخرج أحمد - بعد لأي - في مدرسة المعلمين العليا قسم الآداب ولكن أعجزه أن يكون مدرساً ناجحاً بالمدارس الثانوية فأنطلق يتلمس مخرجاً. ووجد الخلاص على يد رجل من رجال الدولة ذي مكانة وشأن، فراح يتملقه ويستخذي له ويستجدي عطفه، فقربه الرجل إلى نفسه وأدناه من مجلسه، ونقله من المدرسة إلى الديوان ليكون صنيعة له هو، وليكون مرءوساً، وليكون آلة صماء يديرها على أي نسق شاء.
وجلس الفتى إلى مكتبه في الديوان وإن قلبه ليتوثب أن رأى نفسه ساقة بين زملائه، منبتاً(827/32)
عن رفاقه، لا يكاد يبلغ شأوهم، ولا يستطيع أن يرقي إليهم، فاستولى عليه اليأس وتملكته الحيرة.
أما الرجل، فهو موظف كبير في الحكومة، وسمته الوظيفة بميسمها ولّفته في خصالها. والوظيفة الحكومية تسم الموظف الكبير بالغطرسة والكبرياء وتصبغه بالعظمة والتسامي، فهو - يركن دائما - إلى من يتملق ويتمسح به، وينفر - أبداً - ممن يحس فيه الإباء والكرامة والشرف. وتسم الموظف الصغير بالضعة والذلة. واطمأن الفتى إلى رئيسه الكبير حين وجد فيه العون والساعد، واطمأن الرئيس إلى الفتى حين لمس فيه الطاعة والاستكانة. وعاش أحمد تبعاً لرئيسه يتصاغر أمامه إن أغلظ له القول، ويتضاءل له إن أرهقه بالعمل، لا يستشعر في ذلك الاحتقار ولا المهانة، وهو يرى أن الأمر قد تهيأ له واستقام، وأن المستقبل - في رأي عينه - قد تفتح له وازدهر على يدي هذا الرئيس. . .
وكان الرئيس يتصنع الأدب ولم توافرت له أداته، ويتكلف العلم وما تكاملت له أسبابه، فاتخذ من الشباب المثقف صنائع ضمهم تحت جناحيه وحباهم بعطف موهوم، بذل لهم الوعد الخلاب، ومد لهم في الأماني البراقة، ثم راح يستنزف شبابهم الغض ويستغل عقولهم الناضجة، فامتلأت داره بمن يقدم له الأبحاث العلمية، ومن يترجم له أمهات الكتب الغربية، ومن ينشئوا له المقالات القيمة لقاء كلمة معسولة، أو ابتسامة عابرة، أو دريهمات لا تقيم أود. . .
ووجد الرئيس في أحمد فتى سلس القياد، سهل الخضوع، لين العريكة، لا يمل العمل وأن أضناه، ولا يضيق بالجهد وأن أسقمه، ولا يقصر في أمر وإن أعضل عليه، فأصطفاه لنفسه وعهد إليه - فيما عهد - أن يترجم فصولا من كتاب الفلسفة
ودخلت - ذات مرة - إلى مكتبه في الوزارة فألفيته جالساً إلى هذا الكتاب يترجم فصوله إلى اللغة العربية، وبين يديه قاموس كبير، ومن حوله رفاقه في المكتب وقد انغمروا في نقاش عنيف صاخب، فامتلأت أرجاء الحجرة بالضجة واللغط والضوضاء والفتى منصرف عن الحديث إلى الترجمة لا يعبأ بما حوله. . . وعجبت أن يؤدي الفتى هذا العمل الفني الدقيق في هذه الضجة الصاخبة، وهو يتطلب المكان الساكن والأعصاب الهادئة والفكر المتفرغ!(827/33)
وَيْ. . . كأن هذا الفتى يعمل عملا آلياً لا روح فيه ولا معنى! لا عجب إن أخرج للناس صفحات مهلهلة متداعية تتكدس في جوانبها الأخطاء اللغوية والأغلاط الفنية. . . ولكن الفتى كان حريصاً على أن يرضي رئيسه وأن يقدم له أكبر إنتاج في أقصر وقت. . .
وحين لمس الرئيس في الفتى الجد والإخلاص والجلد عزم على أن يجزيه أجر ما فعل. وفي ذات يوم أخذ يحدثه قائلا: (كيف تقضي وقت فراغك يا أحمد؟) قال: (في البيت يا سيدي). فقال الرئيس: (أفلا تريد أن تشغل فراغك بعمل يدر عليك مالاً؟) قال الفتى: (وكيف السبيل يا سيدي؟) قال: (لقد وجدت لك عملاً يرضيك، أقدمه لك جزاء إخلاصك واجتهادك) قال الفتى في سرور ونشوة: (وما هو يا سيدي؟) قال: (أن تقوم بالتدريس مساءً في معهد (كذا) الأجنبي). . . واندفع الفتى إلى رئيسه يلثم راحته شكراً له على فضله وتقديره!
ودخل الفتى المعهد ليبيع كرامته وشرفه ورجولته بثمن بخس دراهم معدودات. . . واطمأن عميد المعهد إلى استخذائه وضعفه، فشمله بعطفه وحباه بصداقته. . . ثم. . . ثم قرر - بعد حين - أن يوفده في بعثة إلى الخارج ليتم دراسته على نفقة المعهد ليكون صنيعة له وعوناً وساعداً.
ولبس الفتى القبعة. . لبس القبعة لينزل عن كرامته ولينبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة. . .
كامل محمود حبيب(827/34)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 8 -
تقدم ما شاركت قبيلة أسد فيه غيرها عند الكلام على تميم وهذيل، وهذا ما نسب إليها بخصوصها، أو مع غيرها مما لم يسبق الكلام عليه، وقد مرت الترجمة لها وتبيان أماكنها.
1 - الفعل الماضي الثلاثي المعتل الوسط، وهو المسمى الأجوف مثل: قال، وباع إذا بني للمجهول، فأكثر القبائل تكسر الحرف الأول وتقلب حرف العلة ياء يقولون: بيع وقيل بإخلاص الكسر في أول اللفظ، وهذه اللغة هي المشورة بين قبائل العرب، لكن بني فقمس وبني دبير من أسد، وبعض قبيلة هذيل يضمون الحرف الأول ويقلبون الألف واواً يقولون: بوع وقول بإخلاص الضم في أول اللفظ، وقد روي عليه قول الشاعر:
ليت وهل ينفع شيئاً ليت ... ليت شباباً (بوع) فاشتريت
وقول الآخر:
(حوكت) على نيرين إذ تحاك ... تختبط الشوك ولا تشاك
ولم يقرأ أحد على هذه اللغة مما ورد مبنيًا للمجهول في القرآن الكريم.
وهناك وجه ثالث في طريقة هذا النوع للمجهول وهي لهجة لبعض أسد وبطول من قيس منها عقيل ذلك بأن يجعلوا حركة الحرف الأول بين الضمة والكسرة، وبهذه اللهجة قرأ الكساني وهشام: قيل وغيض وحيل وسيء، وجيء وسيق وافقهما نافع وابن ذكوان في سيء، وسيئت وزاد ابن ذكوان في موافقته: حيل وسيق. وهذه اللهجة تسمى في اصطلاح القراء والنحاة: الإشمام. وهناك إشمام آخر ليس هذا موضع بحثه.
2 - ما كان صفة على وزن فعلان بفتح الفاء، فالقبائل العربية تجعل مؤنثة إذا كان له مؤنث على فعلى ما عدا صفات قليلة، عددها الأشموني، تبلغ أربع عشر صفة منها خمصان بمعنى الضامرالبطن، وقشوان بمعنى الرقيق الساقين، وسيفان للرجل الطويل.
ولهذا فإن ما كان مؤنثه فعلى يمنع من الصرف - أي التنوين - ويرفع بالضمة، وينصب ويجر بالفتحة بشرط عدم إضافته، وعدم تعريفه بأل، لكن قبيلة أسد تجعل المؤنث دائماً على وزن فعلانة، فيقولون مثلاً في مؤنث غضبان: غضبانة، وغيرهم يقول غضبى.(827/35)
وغلى لغة أسد تصرف جميع الصفات المذكرة وتجر بالكسرة.
وهنا نتساءل عن هذه الصفات الأربع عشر التي استثناها النجاة وقالوا إن مؤنثها فعلانة، أكانت في أول أمرها تستعمل بلفظها، ومعناها عند قبيلة أسد؟ أو غلب استعمال أسد لها؟ وعنها أخذتها القبائل العربية بمؤنثها؟ واستعملت مذكرها مصروفاً كاستعمال أسد لها؟ أم أن النجاة واللغويين وجدوا في الآثار الأدبية مؤنثها فعلانة - وما ذلك إلا من استعمال أسد - فحكموا بصرفها ومنعوا غيرها من الصرف؟ مع أنه قد يكون هناك مثلها؟ وإذا كانت هذه الصفات مستعملة من أول الأمر عند القبائل العربية الأخرى، فلم كانت وحدها هي التي تؤنث على فعلانة؟
في رأيي أن هذا كان من الآثار الأدبية التي استقرأها النجاة واللغويون فاقتصروا على استثنائها وكان حقهم ألا يخضعوا لهذا الاستثناء. كما أرى أنه يجوز لنا أن نمنعها من الصرف حتى تسير على النمط الغالب في القبائل الأخرى بأن تعرب إعراب ما لا ينصرف كما يجوز لنا أن نؤنثها على فعلى تبعاً للقاعدة العامة عند القبائل حتى مع عدم النص على ذلك في معاجم اللغة! ولا معنى لاستثناء بدون معنى، ويجوز لنا أن نصرف جميع الصفات المذكرة التي على هذا الوزن إذا سلكنا طريقة أسد. على أن بعض هذه الصفات التي استثنوها، سمح له تأنيث على فعلى بجانب تأنيثه على فعلانة. حكي ابن الأعرابي امرأة خمصى؛ وأنشد للأصم الدبيري:
لكن فتاة طفلة خمصى الحشى ... غريرة تنام نومات الضحى
ونلحظ هنا أن الأصم الدبيري من دبير وهي بطن من أسد فإما أنه خالف لغته وجرى على نهج القبائل الأخرى في تأنيث فعلانة، وإما أن هذا البطن الذي ينتمي إليه، يخالف بقية بطون أسد في تأنيثه.
وسمع أيضاً: كبش أليان ونعجة أليانة وأليا. وجاء ضحيانة وضحيا.
ونجد صفات لم يستثنوها ومؤنثها فعلانة، فقد ورد شفة ذبانة أي ذابلة، ونظر القاموس لها بقوله كريانة. وقال شارحة إنها من الصفات التي جاءت إلى فعلانة في حين أن القاموس وشارحه لم يذكروا لفظة ريانة في مادتها. وقالت أعرابية: أجد عيني هجانة لم يذكروها في المستثنيات ولم ذكروها أيضاً في مادتها، وإنما جاءت غرضاً في مادة أخرى.(827/36)
وقد جرت القراءات القرآنية على اللهجات الغالبة في استعمال ما كان له مؤنث على فعلى ممنوعاً من الصرف حيث لم يقرأ أحد بالتنوين (غضبان أسفاً. . .) (حيران له أصحاب) بل اتفقوا على منع الصرف. ولم تجيء أي لفظة من المستثنيات في القرآن حتى نحكم عليها.
3 - بنو مالك من أسد يضمون (ها) التنبيه التي تأتي بعد (أي) فيقولون في يا أيها الرجل، ويا أيها الناس: أيه ' الرجل، ويا أيه الناس إلا إذا تلاها اسم إشارة، فحينئذ يوافقون بقية القبائل في فتحها وذلك مثل أيهذا. وقد قرأ ابن عامر أيه الثقلان وأيه المؤمنون بالضم في حالة الوصل على لغة بني مالك. ونسب شارح القاموس هذا إلى بني أسد عموماً.
4 - إذا كان الاستثناء مفرغاً بمعنى أن المستثنى منه ليس مذكوراً في الكلام فإن ما بعد إلا يكون حسب ما يقتضيه العامل تقول ما جاءني إلا محمدٌ. ومعلوم أن لفظة (غير) تقوم في بعض استعمالها مقام (إلا) على أن تكون حركة المستثنى التي يستحقها ظاهرة على (غير) نفسها وهي مضافة إلى ما بعدها تقول ما جاءني غير محمد برفع غير، وإضافتها إلى ما بعدها. . . الخ المعروف في علم النحو لكن بعض بني أسد ويشاركهم بعض قضاعة يفتحون (غير) في الاستثناء مطلقا سواء تم الكلام قبلها أم لم يتم يقولون (ما جاءني غيرك) (وما جاءني أحد غيرَك) بفتح الراء فيهما وتكون لفظة (غير) على لغتهم هذه مبنية على الفتح عند استعمالها في الاستثناء.
5 - فقيس ودبير من أسد يخفضون (حيث) في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب يقولون كان ذلك التقينا. ومن حيث لا يعلمون (ولم يقرأ أحد عن لهجتهم في حالة الجر أما حالة النصب فقد وافقوا بعض بني تميم. وسبق من قرأ بها كما سبق أن اللغة المشهورة هي بناء حيث على الضم دائماً.
6 - بنو أسد يلقون حركة الهمزة إلى ما قبلها إذا كان ساكناً وذلك في حالة الوقف فيقولون هذا البُطُؤ وكرهت البُطَأ وهو يسير ببطيء. وسبق أن بعض تميم يفعلون ذلك.
7 - تقدم أن فعل الأمر المضعف يفك إدغامه عند الحجازيين ويظل على إدغامه عند النجديين إلا أن النجديين يختلفون في حركته الأخيرة فكعب وغنى وقيس تحركه بالكسرة مطلقاً وأغلب النجديين يحركون بالفتح سواء كان ساكن أم متحرك أما أسد فتحركه بالفتح(827/37)
ما لم يكن بعده ساكن فإنها تكسره فمثل قولك. ردَّ الجواب يقولون ردَّ الجواب وتقدم لنا أن بعض تميم يحركون الآخر بحرَكة فاء الكلمة في الأمر فتحاً وضماً وكسراً.
8 - الفعل الذي ينتهي بواو الجماعة أو ياء المؤنثة يقف عليه بنو أسد وبعض قيس في قوافي الشعر بحذف الضمير يقولون عند الوقف على صنعوا وتكلمي: صنع وتكلم وليس لوقفهم هذا أثر في القراءات.
9 - تقول أسد في جبريل بالام (جبرين) بالنون بكسر الجيم أو فتحها ولم يقرأ أحد بلغتهم. كذلك يؤنثون الهُدى والسُرى بمعنى أنهم يعيدون إليها الضمير مؤنثاً. . . الخ والقرآن الكريم استعمل الهدى على اللغة المشهورة بالتذكير. (قل إن هدى الله هو العدى. وذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) ولم تقع لفظة السرى في القرآن الكريم.
10 - هُوَ وهَي الضميران يسكنون آخرهما في الموصل والوقف ولا يفتحون الواو ولا الياء وقد روي:
وكنا إذا ما كان يوم كريهة ... فقد علموا أني وهُو فتيان
11 - العضد بفتح فضم ينطقونه بفتح فكسر وذكر البحد أن بعضهم قرأ سنشهد عضدك بأخيك بفتح فكسر أي على لغتهم ولم يسم القارئين.
12 - يقولون قنط يقنط كضرب يضرب وغيرهم يقول كعلم يعلم وقرأ الجمهور قنطوا بالفتح على لغتهم وقرأ الأعمش وابن وثاب بالكسر على لغة غيرهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش ومن يقنط على لغتهم بالكسر والباقون بالفتح على لغة غيرهم.
13 - المسكين ينطقونه بفتح الميم. ويكسره غيرهم ولم يقرأ أحد بلغة أسد.
14 - من ألفاظهم: إن السعر لمخادع: أرتفع وعلا. كلمت فلاناً فما رأيت له ركيزة: أي ليس بثبات العقل. ما أعوج بكلامه: أي ما التفت إليه كرثأ الشعر وغيره: كثر والتفت وتراكم. الأصلج: الأصم.
15 - حكي الأخفش أن بني أسد يقولون فإنهم، وإما بكسر الفاء والواو بمعنى أن الكسرة أثرت فيما قبلها وتغلبت عليها.
قبيلة كنانة:
وهذا ما ينسب إلى كنانة التي سبق أن ترجمت لها وبينت مساكنها.(827/38)
1 - المشهور في المثنى أن يرفع بالألف وينصب ويجر بالياء ولكن بني الحرث بن كعب وزبيد ومراد وهم من مذحج من كهلان وخثعم وهمدان من كهلان وعذرة من قضاعة وبطون من ربيعة وبكر بن وائل من ربيعة وبني العنبر وبني الهجيم من تميم كل هؤلاء مع كنانة يلزمون المثنى الألف في جميع أحواله رفعاً ونصباً وجراً، وقد جاء على لغة هؤلاء في القراءات المشهورة إن هذان لهاجران، وقرأ أبو سعيد الخدري والجدري فكان أبواه مؤمنان وحمل على هذه اللغة حديث (لا وتران في ليلة) وقد أقتصر كتاب الصاحبي وكتاب النوادر وكتاب المغنى على نسبة إلزام المثنى الألف مطلقاً إلى لغة بني الحارث بن كعب، وذكر غيرها كنانة وأضاف بعض الكتب قوله: وأهل تلك (الناحية) وأغلب هذه القبائل متجاورة وكنانة التي تشترك في هذا الإجراء هم بنو بكر بن عبد مناة لأنهم هم المجاورون لبني الحارث بن كعب.
ويلحق بما سبق أن كلاً وكلتا في اللغة المشهورة ترفعان وتنصبان وتجران بالياء إذا أضيفتا إلى الضمير وتعربان إعراب المقصور بأن تلزما الألف في جميع الأحوال إذا أضيفتا إلى الاسم الظاهر لكن لغة كنانة - ولا بد أن من شاركوها في المثنى مثلها - تلزمهما الألف دائماً.
والقرآن الكريم جاءت به كلتا في حالة رفع بالألف (كلتا الجنتين) وليس فيه كلتا في حالة نصب أو جُر لتبين استعماله وكذلك (كلا) في القرآن جاءت في حالة رفع (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما).
2 - الأسماء الخمسة أو الستة ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء، لكن كنانة وخثعم وبني الحارث بن كعب - ولابد أن من سبق ذكرهم مثلهم - يلزمونها الألف في الرفع والنصب والجر وقد روي:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
وفي البيت شاهد على إلزامهم المثنى الألف.
وقد صرح أبو زيد في كتابه النوادر وأحمد بن فارس في كتابه الصاحبي وغيرهما أن هذه القبائل تقلب الياء ألفاً إذا جاءت ساكنة بعد فتحه ولو كان ذلك في الحرف وقد روي:
(طاروا علاهن فطر علاه)(827/39)
وأصله عليهن وعليها وروي:
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمها
ورويت أبيات كثيرة على لغتهم.
3 - تقول كنانة في (نعم) حرف الجواب نعم بكسر العين وقد قرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي بكسرها على لغتهم.
4 - أكثر العرب تقول سيناء بالفتح والمد أما كنانة فتقول سيناء بكسر السين والمد أيضاً. وقد0 قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والحسن (طور سيناء) بكسر السين على لغة كنانة. وقرأ الباقون بالفتح.
5 - تقول كنانة لقيته على غشاش بكسر الغين وفتحها ولقيته غشاشاً بالفتح والكسر بمعنى لقيته على عجلة.
6 - تقدم أن هذيلاً تقول يازع فيوزاع ولم ينصوا على أنها تبدل الواو ياء أما بنو ضمرة من كنانة فقد نص بعض اللغويين إلى أنها تقلب الواو ياء يقولون يازع في وازع وقد روي لخصيب الضمري:
لما رأيت بني عمرو ويازعهم ... أيقنت أني لهم في هذه قود
لكن هذا النص أرى أنه توسع كثير فهل يقولون في والد ووارث وواهب وواحد. . الخ يالد وياهب. . . أو أن نصه استنتاج من لفظة بازع التي نطقها شاعر منهم؟ أو أن لها نظائر وأمثال أخرى لم يذكروها؟ على أننا لا ينبغي أن نقيس على هذا الإبدال فيه على السماع.
عبد الستار أحمد فراج
المحرر بالمجمع اللغوي(827/40)
ربيع. . . وربيع!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
قال لي صاحبي غداة رآني ... باكياً، فوق الروابي
كيف تبكي وفي الوجود ربيع ... شارف الكون من وراء السحاب؟!
وسرى فيه بهجة ونماء ... وشباباً يضم روح الشباب
هو في الزهر رقة وعبير ... وخرير في الجدول المنساب
وهو في الأفق بسمة وصفاء ... وانطلاق من أسر كل حجاب
وهو في القلب كل عذراء حُلمٌ ... بحياة في جنة الأحباب
أَنت يا صاح بلبل فترنم ... في الروابي أو في رحاب الفضاءِ
واقطف الزهر، وانسم العطر، واسكر ... من رحيق الندى، وخمر الضياءِ
زهرة في الربيع - لو كنت تدري - ... هي خير من عالم في الشتاء
قطرة الماء في الربيع تراها ... بهجةَ النفس، وهي قطرة ماء!
لمعة النور في الربيع لها في النفس رَجعٌ كأعذب الأصداء!
ساحر ذلك الربيع المفدَّى ... مبدع للحياة والأحياء!
أنت في ريقَّ الشباب، فلا تب ... ك، فإن الشباب روح الحياةِ
وإذا لم يكن من الدمع بُدُّ ... فتنظّر عهد المنى الضائعات
حين يأتي المشيب وهو خريف ... تدرك النفس فيه سر الممات
سوف تبِكي عند المشيب كما تج ... هش نفس عميقة الحسرات
أو كروح قد أخطأت عالم النو ... ر، فهامت في عالم الظلمات
لذة العمر في الشباب، فبادر ... لذة العمر قبل يوم الفوات!
ليت شعري: ما سر هذا البكاء ... والمعاني نشوى بخمر الغناءِ؟
فالربيع الجميل لحن جميل ... عرفته ملائك في السماء
والصباح الوضيء لحن مضيء ... تتراءى ظلالهُ في السماء!
كل ما في الحياء يعزف لحناً ... من بهاء ورقة وصفاء
كل ما في الحياة ينشر في النف ... س أريج المنى، وعطر الرجاء(827/41)
أنت تبكي، وكل شيء يغني! ... ليت شعري: ما سر هذا البكاء؟
قلت: يا صاحبي بكيت لأني ... لم أجد الحياة أسباب أُنسي!
الربيع الذي تراه، بعيد ... عن شعوري وعن ضميري وحسي
والربيع الذي أريد، بعيد ... عن حياتي كأنه حلم أمسي
أنت لا تنظر الوجود بعيني ... لا. . . ولا تدرك الحياة بنفسي
رب شمس تشع في الكون نوراً ... حجبتها عني سحائب يأسي!
وربيعٍ يسقي الرحيق المصَّفى ... ما سقاني إلا مرارة كأسي
لا تحدث عن الربيع، فإني ... قد عرفت الربيع روحاً ومعنى
أنت لا تعرف الربيع إذا كنت ... تراه زهراً ونهراً وغصناً
ليس روح الربيع ما تجد النف ... سُ، ولكنه الذي تتمنى
هو عند العشاق ليلة حب ... طار فيها طير الهوى وتغنى
ويراه المفزَّعون الحياري ... في صحاري الحياة، هدناً وأمناً
خير ما في الحياة أن تتمنى ... فمُرِ القلب دائماً أَن يخبَّا
إن تمنيتَ أََن تعيش وحيداً ... في الصحاري، أو في أََعالي الجبال
فهناك الربيع. . . تبصره النف ... س إذا حلقت وراء الأعالي
وهناك الربيع. . . في هدأَة اللي ... ل، وهمس الربا، وصمت الرمال
وانطلاق الحياة من عالم الحس، ... إلى عالم الرؤى والخيال
واهتزاز الوجدان إذ يتلقى ... من جمال الحياة سرَّ الجمال
خالد ذلك الربيع المرجىَّ ... وربيع الأنام مِلك الزوال
وإذا شئت أن تعيش مع النا ... س، وتلقى الربيع زهراً وعطراً
فاقطف الزهر، وانسم العطر منه ... واملأ الكأس من ندى الفجر خمراً
غير أنَّ الزهر الجميل سيفنى ... ثم يغدو في باطن الأرض سراً!
وتجف الأوراق في كل غصن ... فترى الغصن ذاهلاً مصفراً!
هذه سُنَّةُ الحياة، فلا تح ... زن إذا أَقبل الربيع ومرَّا
كل ما ليس باللباب سيمضى ... ثم يأتي، وهكذا مستمراً(827/42)
لا تلمني إذا أََضعت ربيعي ... فربيعي مكفن بالدموع!
ما غناء الربيع إن لم يُثر قل ... بي وروحي، ولم يهز ضلوعي؟
ما غناء الربيع ما دام لم يب ... عث ولهفتي ونزوعي؟
كان عندي من الربيع مثال ... فأباد الردى مثال الربيع!
فطويت الأعراس. . . أعراس أيا ... مي، وأطفأ بالدموع شموعي!
إن يكن حل في الربوع ربيع ... فربيعي هناك تحت الربوع!
يا ربيع الحياة إني غريب ... عنك، فاذهب إلى سواي ودعني
يا ربيع الحياة إن حياتي ... لربيع أضلاعه الموت مني!
كان روحاً مرفرفاً في ضميري ... وشعوري، وكان قلباً يغني
كان وحيداَ لكل فن جميل ... ومثالاً لكل روعة حسن
كم سقاني الأفراح في كأس أيا ... مي، وأصغى إلى غنائي ولحني
ثم جفَّت أفراح كأسيَ لما ... غاب عني، فصرت أشرب حزني!
لا تحدث عن الشباب، فإني ... فقدت الشباب قبل المشيب!
أين مني الشباب، والقلب يحيا ... بين جنبيَّ كالأسير الغريب!
كان قلبي - إذ كنت أحيا بقلبي - ... يتغنى مثل الهزار الطرُوب
كان يبني بالوهم عشاً، ويمضي ... بالأماني في كل أفق رحيب!
ماله الآن لا يعيش على الوه ... م، كما عاش منذ وقت قريب!
أين أشواقه، وخفقُ جناحي ... هـ، وراء الأفق البعيد الرهيب!
ليت شعري كيف استحال رماداً ... بعد أن كان جذوة من لهيب!
هذه آية المشيب، وإن كن ... تُ أراني في عمر غصن رطب!
كيف لا أذرف الدموع وقد حا ... ن مغيبي من قبل وقت المغيب!
الوداع الوداع أيامَ عمري ... وسلام على الشباب الحبيب
(الإسكندرية)
إبراهيم محمد نجا(827/43)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
طالبات الفلسفة بكلية الآداب وحقوق المرأة المصرية:
قرأت في (الرسالة) الغراء كلمتكم التي تدور حول (حقوق المرأة المصرية بين الأنصار والخصوم). . . لقد كانت كلمة قاسية، ولكن ماذا يضير؟ لقد علمتنا القسوة التي يرمينا بها الدهر من حين إلى حين رحابة الصدر، وهذه ميزة أخرى تفيدنا في حياتنا السياسية التي هي حياة كفاح ونضال وصبر على المكاره!
تقولون عن كلمة الأستاذ زكي عبد القادر إنها موزونة، ولست أدري ماذا يضيركم معشر الرجال أن تروا المرأة وقد أعجبت بمدح أو إطراء! أتريدون أن تخرج عن طبيعتها الوداعة ولو في أشد الشئون قسوة ومشقة؟ إن هذا لما يسري عنها ويجعلها تطمئن إلأى مستقبلها بخطى وئيدة وهو إنها بالرغم من اشتغالها بهذه الأعمال المضنية إلا أنها ما زالت محتفظة بأنوثتها الفياضة. . . إن هذا من جانبكم لا يعد حسداً بل غبطة!
ثم ذلك السؤال الذي لا تنتظرون الجواب عنه، وهو أن عدد المثقفات قليل. . مهلاً مهلاً يا سيدي الأستاذ! كم كان عدد الرجال المثقفين يوم سن القانون الانتخاب عام 1924؟! لقد كنا نود أن يوجه إلينا السؤال بعد مضي ربع قرن آخر من تعديل قانون الانتخاب تعديلاً يلائمنا نحن معشر النساء. . . إنني لواثقة من أنه لو كان هذا العدد الموجود الآن من المثقفات وهو لا يرضيكم لقلته، أقول لو كان موجوداً يوم أن سن قانون الانتخاب لكفل المرأة وحقوقها من ربع قرن مضى! ولكن في تلك الأيام لم يكن إقبال الفتيات على كليات الجامعة كمثل إقبالهن اليوم، مما يبشر بالمضي في تحقيق هذه الغاية وإخراجها إلى حيز التنفيذ. والآن وقد أصبحت الكليات مفتوحة الأبواب للطالبات، تراهن وقد أسند إليهن ما يسند إلى الرجل من أمور يقمن بها على ما يرجى وينتظر، بعد هذا ما الذي يمنع من إعطاء المرأة حقوقها السياسية، بل وأقول كرسي الوزارة؟!
أما قولكم بأن الفتاة المصرية لا تذهب إلى الجامعة طلباً للعلم بل طلباً لزواج فما كنا ننتظر من أستاذنا هذا الكلام. . لنفرض أنه بطريق المصادفة قد لمستم بعض الأمثلة الشاذة يوم أن كنتم في الجامعة، ألا يكون من الظلم أن تخرجوا من هذه الأمثلة بقاعدة عامة تطبقونها(827/45)
على المئات؟! إن الإنجليز وهم أساتذتنا في العلم والسياسة قد منحوا المرأة حقوقها السياسية متمثلين بقول شريدان: (النساء يحكمننا فلنجهد في جعلهن صالحات). . . ولقد برهنت في سنين قلائل على أنها جديرة بهذا الحق، وجديرة بقول لامارتين: (إن كل عمل مجيد وعظيم أساسه المرأة)!
عن طالبات قسم الفلسفة بكلية الآداب
آنسة رسمية علي خليل
أشكر للآنسة الفاضلة أدب الخطاب ولطف العبارة. . . أنه ليسعدني حقاً أن يكون بين فتيات الجامعة في هذه الأيام من تخاطبني بهذا الذوق الجميل، ومن تناقشني بهذا الخلق الكريم، ومن ترد على بهذا الأسلوب المهذب.
بعد هذا أقول للآنسة الفاضلة إن ما جاء بكلمتي من عبارات غلقت بالقسوة واتشحت بالمرارة، كان مرده ' إلى الواقع الذي تكشف لعيني يوم أن كنت في الجامعة، ممثلاً في جيل الفتيات قد تكون منه اليوم بقية. . ولمن هذه البقية لا يمكن أن تحول دون وجود المثقفات والمهذبات من أمثال الآنسة ومن تحدثت إلي باسمهن من طالبات قسم الفلسفة بكلية الآداب. هذا أمر يفرض على الحق أن أسجله في كثير من الغبطة، ويفرض علي الإنصاف أن أخصه بكثير من الإعجاب. . . وأكتفي بهذا القدر الذي تنوب فيه الإشارة عن الإفاضة ويغني فيه التلميح عن التصريح، حتى لا نثير الغبار من جديد حول قضية طالبات العلم وطالبات الزواج!
تسألني الآنسة الفاضلة في مجال التعرض لعدد المثقفات في مصر كم كان عدد المثقفين يوم أن سن قانون الانتخاب في عام 1924. من قال لك يا آنستي إنني أنظر إلى القلة في عدد المثقفات بمنظار؟ إنني ما نظرت في يوم من الأيام إلى عدد المثقفين في مصر ممن منحوا حقوقاً سياسية إلا بمنظار قائم يمتزج فيه الإشفاق بالرثاء! أقسم لك لو كان الأمر بيدي لما منحت طلاب الحقوق السياسية ما يتطلعون إليه من سلطان إلا بمعيار. . . معيار قوامه الثقافة الكاملة في كل أمر من أمور الحياة، ولا ضير على الإطلاق من أن نظفر بمائة رجل من هذا الطراز لأنهم لو وضعوا في الميزان لكانوا خيراً من ألوف!(827/46)
المثقفون في مصر قليل يا آنستي والمثقفات أقل. . . ومن الخطأ أن نعمم وضعاً من الأوضاع بما فيه من أسباب النقص والقصور لأنه قد أصبح حقيقة واقعة، كلا! فما كان النقص في صورة من الصور ليبيح لنا أن نتخذه مقياساً في نظرتنا إلى كل قيمة من القيم وكل حق من الحقوق. . إنني أرد بهذه الكلمات على ما سقته من حجج وما أتيت به من براهين، ولو شئتِ لنقلتُ القضية من ميدان إلى ميدان ولا بأس لدي من هذه النقلة التي تتيح للحديث أن يفيض ولأفق النقاش أن يمتد! إننا نستطيع أن ندير دفة الجدل إلى ناحية أخرى لا صلة لها بمسألة القلة العددية في مجال التعليم والتثقيف. . . هناك حيث نلتقي في رحاب قضية أخرى تتصل بوظيفة المرأة الأساسية في الكون ومكانها الطبيعي في الحياة.
تطالب المرأة بحقها في كرسي النيابة وبحقها في كرسي الوزارة، وبالمشاركة في كل أمر من أمور الدولة وكل شأن من شئون الحكم، وكأننا قد فرغنا من كل ما يواجهنا من صعاب في إصلاح المجتمع ولم يبق أمامنا ما يتطلب العلاج الحاسم غير هذه المشكلة بالذات، لا فقر هناك ولا مرض ولا جهل ولا ألف مشكلة تتفرع عن هذه المشكلات الثلاث وتتطلب الكثير من الرعاية والاهتمام! تنسى المرأة المصرية هذا كله وتنسى معه وظيفتها الحيوية وطبيعتها الأنثوية. . تنسى وظيفتها في كيان الأسرة، وطبيعتها في نظام البيت، ومكانها في رحاب الأمومة، ولا تفكر إلا في أن تكون صاحبة جاه وسلطان!
إننا نريد أن نسأل المرأة المصرية عن غايتها من كرسي النيابة وعن هدفها من كرسي الوزارة؟ إن الغاية المبرأة من الهوى وإن الهدف المنزه من الغرض هو أن تضع جهودها وعلمها وثقافتها وخبرتها بشئون الحياة في خدمة المجتمع الذي تعيش فيه. . . كل هذا ميسر وكل هذا جميل، ولكنها تنسى أن البيت سيهمل في سبيل كل أمل مرجو وكل منصب منشود، والبيت الذي تشرف الزوجة الصالحة والأم الفاضلة هو صانع الرجال وخالق الأجيال!. إن المرأة تستطيع أن تحقق رسالتها المثلى وهي في رحاب البيت وفي نطاق الأسرة؛ تستطيع أن تمد الوطن عن طريق الرعاية الكاملة والتربية الناضجة والتوجه الرشيد بالأبناء النابغين. . وعن طريق هؤلاء الأبناء يتهيأ لها أن تضع يديها على عدد من المناصب بدلا من هذا المنصب الواحد الذي تسعى إليه، حين ينوب عنها في خدمة المجتمع أفراد متعددون، وعشرون يداً تشارك في إقامة البناء خير من يدين!!(827/47)
في هذا المجال يا آنستي نطق شريدان بكلماته وكذلك مرتين، وحول هذا المعنى الذي قصدت إليه دار أغلب ما قيل في المرأة من كلمات جهر بها رجال الإصلاح أما عن عدد النساء في البرلمان البريطاني والكونجرس الأمريكي فإنه لا يتجاوز أصابع اليدين. وهذا مع بعد الفارق بيننا وبينهم في ميدان العلم والسياسة والتقاليد والعادات إذا لم يقنعك اليوم المنطق يا آنستي، فأرجو أن يقنعك منطق الحياة في مقتبل الأيام!
مقال قيم عن الشيوعية للأستاذ العقاد:
يهودي، متعلم فاشل، وفتاة عابثة، وماجن مستهتر، ومشاغب يبيع الشغب لمن يشتريه، ومسخ مشوه منبوذ من الحياة هذا هو قوام كل مجموعة شيوعية توجد في مصر أو في غيرها من فلا تخلو الخلايا الشيوعية من أصناف هذه التشكيلة، وقد يكون الشيوعي الواحد تشكيلة كاملة من جميع هذه الأصناف!
وكل شيء يمكن أن تدعيه هذه المخلوقات فيصدق، إلا أنهم محبون للخير مخلصون لبني الإنسان غيورون على الإنصاف؟ ولم يعجب أحد إذا قيل له إن هذه (اللمامة) البشرية تسعى إلى الخراب، وإنهم يدينون بالشيوعية لأنها ترضي في نفوسهم تلك النزعة إلى التخريب! أما أن يقال، ولو من قبيل الخيال إن هذه اللمامة هي التي تنشد الخير وتصلح نظام الاجتماع فذلك من وراء التصديق، ومن وراء المعقول!
وكلهم معقولون مفهومون إذا كان التخريب هو الغاية التي يسعون إليها، لأن اليهودي يستفيد من هدم المجتمع أن يستولي على العالم الذي لا أثر فيه للأخلاق، أو للعقائد، أو للوطنية، أو للأسرة والمتعلم الفاشل يحقد على الناجحين فلا يبالي أن ينفي غليل الحقد بكل مصيبة تسوي بين الإخفاق والنجاح والفتاة العابثة تهدم المجتمع الذي يسميها على الأقل عابثة، وتتطلع إلى المجتمع الذي يسميها (بطلة) أو رائدة من رواد التقدم والتحرر من قيود الآداب والأخلاق. والماجن المستهتر بطل كتلك البطلة حين يصبح الأدب وضبط النفس نكسة إلى الوراء وجموداً يعاب. والعامي الجاهل تابع لكل ناعق. والمشاغب المتاجر بالشغب صاحب بضاعة يعرضها في كل سوق، ولا سيما السوق التي تضاعف له الثمن وتغنيه عن الكدح الشريف والمسخ المشوه لديه من أسباب التخريب مالا يحتاج إلى بيان!!
طالعت هذه الكلمات منذ أيام في جريدة (الأساس) للأستاذ العقاد. . وأجمل ما فيها هذا(827/48)
التقسيم الرائع لعناصر الشيوعية في مصر وغير مصر، وهو تقسيم لا يعدو الواقع الذي تراه العين ويتمثله الفكر ويردده اللسان؛ ولا يعدو الحق حين نرده مع الأستاذ العقاد إلى مصادره الأصلية من التحليل والتعليل ونقيمه على دعائمه الطبيعية من الدراسة النفسية والخلقية!. . . أنا واثق أن هناك (أحراراً وتقدميين) سيشفقون علي من هذه (الرجعية الفكرية) التي أؤيدها بقلبي وقلمي فيما كتب الأستاذ العقاد، ولكنهم لو علموا مبلغ إيماني بهذه (الرجعية) لأشفقوا على أنفسهم من نعمة التقدم والتحرر التي تدفع بكل مثل أعلى إلى الحضيض! حسبهم كما يقول العقاد أنك لن تلقي منهم أحداً يعرف الشيوعية معرفة بحث وتحقيق، فإن وجدت منهم من قرأ بعض الكتب فيها أو أحاط بما نشره كارل ماركس ولنين وغيرهما من (فلسفتها) فلن تجد الباعث له على الإيمان بها فكرة صالحة للإقناع؛ فما من فكرة صالحة للإقناع تقنع أحداً سليم العقل والنفس بتقويض المجتمعات الإنسانية كافة تنفيذاً لحكم قضى به فيلسوف واحد أو مائة فيلسوف!. . . إن العقاد يبلغ الغاية حين يقول: كل فكرة لغط بها كارل ماركس وأتباعه هي في الواقع محل بحث طويل وشك كثير، كلها جدليات في جدليات، ولكن الشيوعي (المفطور) يؤمن بهذه الجدليات إيماناً لا يسمح بذرة من الشك ولا بشيء من الحيطة والمراجعة؛ لأنه لا يؤمن بالشيوعية على قدر ما في عقله من برهان بل على قدر ما في نفسه من الهجوم على الخراب!
أدباؤنا بين الشرق والغرب:
هذا عنوان مقال كتبه الدكتور محمد مندور منذ أسبوعين في جريدة (الأهرام) متحدثاً فيه عن مدى تأثر كتابنا وشعرائنا بالثقافة الغربية في إنتاجهم الأدبي، ولقد ذهب الدكتور إلى أن روح هذه الثقافة قد ظهرت في بعض شعرائنا ولم تظهر في البعض الآخر. . . إن أكبر شاعرين عرفتهما مصر الحديثة في رأيه وهما محمود سامي البارودي وأحمد شوقي قد اتصلا بثقافة الغرب لمعرفتهما باللغة الفرنسية، ومع ذلك لا نكاد نعثر على أثر للآداب الغربية في شعرهما، بينما يظهر هذا الأثر في شعر ولي الدين يكن وخليل مطران وإسماعيل صبري!
إن الذي يدهشني في كلام الدكتور مندور هو فهمه الاتصال بثقافة الغرب متمثلاً في معرفة اللغة! متى كان فهم اللغة وإجادتها دليلاً على أن صاحبها قد نهل من ثقافة هذه اللغة وعب(827/49)
من آدابها؟! إنني أعرف أفراداً هنا في مصر يعرفون اللغة الفرنسية كما يعرفها الدكتور مندور ومع ذلك فهم لا يعرفون إذا كان (سارتر) فرنسياً أم أمريكياً، فيلسوفاً يتحدث عن (الوجود والعدم) أم عالماً يبحث في (النسبية وتحطيم الذرة)!. . . ثم هل تأثر رجل كإسماعيل صبري بالثقافة الغربية في شعره كما يقول الدكتور مندور؟ إن ديوان صبري بين يدي وأنا أكتب هذه الكلمة، وهذا شعره أراجع في قصائده نفسي وأرسل وراء أبياته ذوقي فلا أخرج بشيء على الإطلاق مما انتهى إليه الدكتور مندور. . إن صبري كما يدل عليه شعره لأبعد من ذكرهم الدكتور جميعاً عن التأثر بروح الثقافة الغربية، اللهم إلا إذا كان الدكتور يفهم (التأثر) على وجه لا يشاركه فيه أحد من الناس، كما فهم (الاتصال) على أنه معرفة لغة من اللغات!
سلامة موسى أشهر مني:
بعد أن فرغت من كتابة التعقيبات تلقيت رسالة عاجلة من قارئ شاء أن يغفل ذكر أسمه، خضوعاً لمقتضيات الشجاعة. يكفي أن القارئ الفاضل قد غضب علي غضبة مضرية ختمها بهذه الكلمات: (مهما حملت على الأستاذ سلامة موسى فهو أشهر منك في مصر والبلاد العربية وأعرف عند الناطقين بالضاد)!
أنا لا أنكر يا أستاذ أن سلامة موسى أشهر مني. . . ولكن لا تنس أيضاً أن محمود شكوكو أشهر مني بكثير!!
أنور المعداوي(827/50)
البريد الأدبي
الاتجاهات الحديثة في إعداد المعلمين:
كانت قاعة المحاضرات هذا المساء بمعهد التربية العلي بالإسكندرية لا تكاد على سعتها تسع المستمعين. وما إن جاء موعد المحاضرة حتى وقف صاحب العزة عميد المعهد يقدم السيدة أسماء فهمي بقوله: إنها كانت أول طالبة في الجامعة المصرية وقد سافرت إلى أوربا وتخصصت في التربية. وكانت أول عميده مصرية لمعهد التربية للمعلمات. ثم وقفت السيدة (أسماء فهمي) وأشارت إلى أنها ستعرض للاتجاهات الحديثة في إعداد المعلمين لا في مصر وحدها بل في أمريكا وإنجلترا وفرنسا. فقالت: لم تكن هناك مشكلة الإعداد للمعلمين فكان كل من أراد أن يتصدى للتعليم يجد أمامه السبيل ميسره. وفي سنة 1872 أنشئت أول مدرسة لهذا الغرض وهي دار العلوم. وفي سنة 1880 أنشئت مدرسة المعلمين؛ حتى إذا كان الركن الأول من القرن التاسع عشر أنشئت أول مدرسة لإعداد المدرسين للمدارس الأولية كانت تدرس فيها التربية بجانب المواد الأخرى. ثم أشارت إلى الحالة في إنجلترا فقالت: وفي لإنجلترا حتى سنة 1861 ألفت لجنة لدراسة حال المعلمين، وأشارت إلى من كان يتولى التدريس في تلك العهود بقولها: فالخدم والعاملون وأصحاب المطاعم والفقراء والمصبون بالسل، كل هؤلاء كان يمكنهم التدريس في المراحل الأولى. أما التدريس في الثانوي فكان يستمد من الجامعات. وفي أمريكا قبل منتصف القرن التاسع عشر لم تكن هناك مدارس للمعلمين، حتى إذا ارتفع لسان النقد قائلاً: كيف لا نفكر في المعلمين وإذا أردنا إصلاح حذاء فكرنا فيمن يجيدون ذلك! وسرعان ما اتجهت بفضل هذا النقد إلى طرق إعداد المعلمين. وبعد الحرب العالمية الأولى نشطت الاتجاهات الإنسانية وتجلى ذلك في إعداد المعلمين ففي مصر اتجهت العناية بمدرسة المعلمين واهتموا بتعديل مناهج المدرسة السنية، ولم يكتفوا بمدارس المعلمين، بل قامت معاهد التربية. ثم تحدثت عن إعداد المعلم في أمريكا بقولها إن أهم الهيئات في أمريكا لإعداد المعلمين هي الجامعات، والكليات ومدارس النورمال؛ ففي الولايات يبلغ عدد الجامعات 95 جامعة. وبأمريكا 1700 معهد لإعداد المعلم وأمريكا مع هذا تشكو قلت المعاهد. وأهم ما يسترعي النظر أن الجامعة هناك تطلب إلى من يتقدم إليها للتدريس شهادة بحسن السير والسلوك(827/51)
وشهادة تثبت اهتمامه بالشئون الاجتماعية. وفي أمريكا يجمعون بين التعليم المهني والنظري. أما في إنجلترا فالدراسة في الجامعة نظرية؛ وبعد الجامعة يتلقى الطالب التعليم المهني. وفي أمريكا لا يفرقون في الإعداد بين المدرس الأولي والثانوي فشهادتهما واحدة، وإن كان بينهما اختلاف ففي بعض المواد التي يقومان بتدريسها وتبدي أمريكا اهتمامها الشديد بمشاكل البيئة، فكل طالب يكلف ببحث عن البيئة التي يعيش فيها، ثم تقرأ هذه البحوث في اجتماعات خاصة ومن الاتجاهات الحديثة في أمريكا عمل دراسات صيفية يختلف إليها المدرسون في الصيف فتكون الجامعات في الصيف أشبه بخلايا. وهناك عيادات لعلاج عيوب القراءة أو عدم القدرة على النطق. وفي أمريكا خصصت الجامعات مراكز للإيضاح فيحصل المدرس على ما يريد من أشرطة سينمائية أو ملابس أو غيرها بواسطة الأخصائيين. ثم أشارت إلى أن الجامعات في أمريكا يقصدها الشعب من جميع الطوائف من أطباء وتجار وأصحاب مهن؛ فإذا ما اجتمع المدرس بهؤلاء كان عاملاً مهماً في توسيع دائرة فكره. ومن الاتجاهات الحديثة أيضاً العناية بسيكولوجية الطفل المباشر ولا يكتفي بالمحاضرات في علم النفس بل يطلب إلى الطالب أن يلازم بعض التلاميذ إلى البيت والمدرسة وفي ألعابهم وفي غدوهم ورواحهم ويدرسهم على ضوء علم النفس دراسة موضوعية غير مفسرة، ثم تقدم هذه الدراسة إلى الجامعة.
ثم أشارت إلى الحالة في مصر بقولها: إلى أي حد يتمشى في مصر هذا النظام لقد تعددت فيها المعاهد دون ترابط: فهذه معاهد التربية ومدارس المعلمين والمعلمات الأولية والراقية. وإلى جانب ذلك يوجد عدد آخر، فلا شك أنها تشكيلة كبيرة، وهذا ينافي مبدأ الديمقراطية. ولا يزال الكثير منا يدين بالتفرقة بين مدرس المدارس الأولية والابتدائية والثانوية، ويذهب في زعمه إلى أنه لا حاجة بنا إلى إمداد مدة دراسة المعلم الأولى، فعمله لا يحتاج إلى كثرة المعلومات.
وهذا خطأ من الوجه السيكولوجية، فمهمة المدرس خطرة في كل مرحلة من المراحل الأولية أو الابتدائية أو الثانوية، ويجب أن يكون حاصلاً على أكبر قدر من الثقافة. وقد يكون لنا بعض العذر في قبولنا لهذا القدر الضئيل من الثقافة بالنسبة للمدرس الأولى لو كان الغرض هو إيصال المعلومات، ولكنه مدرس ومرب ومنشئ جيل. وختمت السيدة(827/52)
الفاضلة المحاضرة بالإشارة إلى حاجتنا إلى تقوية الوعي القومي في معاهد المعلمين، ثم قالت: وعلى المعلم تقع أخطر المسائل، وفي عنقه أعز الأمانات، فإذا نجحنا في إعداد المدرس الصالح فلابد أن ننتصر على كل مشاكلنا التي تعترضنا في التربية والأخلاق.
محمد عبد الحليم أبو زيد
إحياء الجليس:
عهد المجمع اللغوي الملكي إلى لجنة من الأدباء في تحقيق هذا الكتاب للقيام بنشره، والمنتظر من هذه اللجنة أن لا تغفل التعليق عليه بمآخذ العلماء عليه. وإني ناقل كليمة من (سيرة الإمام أبي يوسف للعلامة الكوثري) كمثال لعثرات المعافى النهرواني مؤلف الجليس الصالح: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقرىء، حدثنا محمد بن خزيمة بنيسابور عن المزني عن الشافعي قال: مضى أبو يوسف القاضي ليسمع المغازي من ابن إسحاق أو من غيره، فترك مجلس أبي حنيفة أياماً، فلما أتاه قال له أبو حنيفة: يا أبا يوسف من كان صاحب راية جالوت؟ قال له أبو يوسف: إنك إمام، وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ: أيها كانت أولاً، بدر أو أحد؟ فإنك لا تدري أيها كان قبل، فأمسك عنه. يقول الأستاذ الكوثري: هذا اختلاق صرف تكذبه شواهد الحال، لأن أبا حنيفة هو الذي يحدث أصحابه في مسانده عن تفضيل عمر - رضوان الله عليه - أصحاب بدر فيما فرض لهم من الديوان على باقي أصحاب الغزوات المتأخرة. وهو الذي يتلو في ختماته ليلاً ونهاراً قوله تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) المعروف نزوله في أحد. . .
وصاحب الجلس الصالح يحكي أن المأمون حمل الشافعي على شرب عشرين رطلاً من النبيذ، ففعل ولم يتغير عقله، كما في لسان الميزان: يقول الأستاذ الكوثري: إن الإمام الشافعي لم يلقى المأمون في عهد خلافته ألبتة. فهذا كذب بحت كتلك الأقصوصة. والمعافى النهرواني ليس من رجال التحري في النقل، وكتابه يجمع بين الجد والهزل. وفي سند الحكاية الأولى محمد بن الحسن بن زياد، وهو النقاش المشهور بالكذب. قال الخطيب البغدادي: في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة. وقال الذهبي أنه كذاب وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر، وقال طلحة بن محمد الشاهد: كان النقاش يكذب في الحديث، والغالب(827/53)
عليه القصص. وترجمته في تاريخ بغداد للخطيب ولسان الميزان وميزان الاعتدال وغيرها.
عبد الله معروف(827/54)
القصص
بنت عمي راقصة
للأستاذ عباس خضر
حينما أقبلت على صديقي الأديب المعروف الأستاذ محمد مختار البرجي، وهو جالس في إحدى أمسيات الصيف الماضي على طوار (بار اللواء) - ألفيته متثاقلا يضع مرفقه على المنضدة ويسند رأسه إلى راحته، فأخذت مجلسي على الكرسي المقابل له في الناحية الثانية من المنضدة، مكتفياً بتحية خفيفة دون أن أمد يدي لمصافحته، ورد هو التحية رداً خفيفاً أيضاً، ثم أردف يقول وهو يميل برأسه على يديه المشتبكتين فوق المنضدة:
- سأنعس خمس دقائق.
- فلتكن عشراً.
وأرسلت بصري إلى الشارع وإلى العابرين به، ولكن فكري كان مشغولاً بأمر الصديق، أهو متعب أم مهموم؟ ولم يدع هو هذا التفكير يشغلني طويلاً ويقلق بالي، فقد رفع رأسه وأشعل لفافته؛ وابتدأ الحديث بيننا تافهاً، وقد تجنبت أن أسأله عما يهمه، ولكنه نظر إلي وقال:
سأقص عليك قصة. . . كنت أصطاف منذ سنين في رأس البر، فقام بنفسي في إحدى الليالي أن أجول بمدينة دمياط، وطاب لي الجلوس على قهوة بها. وبينما أنا جالس اقترب مني شاب كان يتأملني من بعد وأنا أتغافل عنه وقال لي:
- حضرتك الأستاذ محمد مختار البرجي. .؟
- أتعرفني؟
- أنت خالي. . .
- خالك؟! ومن أنت؟
- أتعرف أن لك عماً اسمه على مختار؟
- نعم أسمع عنه، لقد توفى أبي وأنا صغير، ونشأت مع أمي في القاهرة، وكانت تذكر لي عمي هذا وعماً آخر وتقول إنهما في دمياط، ولكن من أنت؟ وما مكانك من عمي علي مختار؟ قل لي أولاً كيف عرفتني!(827/55)
- كيف لا أعرفك وصورك تملأ بيتنا. . نفصلها من الصحف والمجلات ونزين بها الجدران، واسمك يملأ أسماعنا ويبعث النشوة في نفوسنا. . . هلم يا خالي. . . كم تسر أمي برؤيتك! أمي بنت عمك علي المختار. . .
طرق الشاب باب منزلهم، وقد طلب إلي أن أتأخر قليلاً حتى أكون بحيث لا يراني من يفتح الباب، وفتحت له أمه، فبادرها بأنه سيفاجئها الآن بهدية نفيسة هي أعز أمانيها، ثم أردف: سترين الآن يا أماه ابن عمك الأستاذ محمد مختار البرجي.
وتقدمت، وكن لقاء حاراً أترك وصفه لأنك تدركه من طبيعة الموقف. واستمر الصديق يقول: لا أطيل عليك الكلام. عرفت مما دار بيننا من حديث أن الشاب يحل محل أبيه المتوفى في تجارته الموفقة، وأن عمي الثاني وله أولاد يعيشون أيضاً في دمياط، كما عرفت من بنت عمي هذه أن لها شقيقتين متزوجتين.
وتبادلنا الزيارات العائلية، وتوطدت العلاقة، وتم التعارف بين هؤلاء الأقارب الأعزاء وبين أسرتي وأولادي في القاهرة، وساد هذه العلاقة مودة وسرور كان لهما أثر كبير في تجديد نفوسنا جميعا. ثم مضت الأيام، وصرنا نشعر بالقرابة، وغفرنا لصروف الزمن ما قضت به من التشتت فيما مضى.
واحتسى الأستاذ البرجي قهوته، وجذب أنفاسا من لفافة أشعلها واستأنف يقول: وجاء إلى مرزوق أفندي، وهو ابن عمي الثاني، وقد اعتاد زيارتي عندما يأتي إلى القاهرة، ولكنه هذه المرة جاء لأمر. . . قال:
- أعد نفسك لما سألقي عليك من نبأ.
- قل. . .
- إنه نبأ مؤلم! وأحب أن تكون شجاعاً في تلقيه.
- هاته، أسرع، فقد يكون كلامك أشد منه.
- ما أحسبك لقيت في حياتك أشد مما سأفضي إليك به، ولا مفر لي من ذلك، لأن هذا الأمر يهمك كما يهمنا.
- لا تخش شيئاً فأنا أليف شدائد.
- أتعلم أن لك أبنت عم اسمها سنية وأنها. . . راقصة!!(827/56)
- إيِه. . .
- ألم تقل إنك حليف شدائد؟ لا تجزع يا أخي لأني أريد أن تعاونني في ثبات على ما جد في أمرها. وأجمل لك قصتها في أن أمها كانت قد تزوجت بعد وفاة أبيها، وكانت أخواتها الثلاث قد كبرن وتزوجن، أما سنية فقد ضاق بها زوج أمها، وضاقت هي بما لقيت من قسوة وخشونة، فتسللت إلى القاهرة، ثم احترفت الرقص، وهي الآن تعمل في إحدى (الصالات) وكانت قد تزوجت بشاب من أهل الفن توثقت بينها وبينه أسباب المودة في أثناء عملها معاً في (الصالة) وعاشرها سبع سنين ثم طلقها أخيراً.
- إيِه. . .
- وقد ذهبت إليها اليوم وأردت أن أنقذها من هذه البيئة فعرضت عليها الزواج، فأبت، وسخرت مني. وقد اعتزمت أمراً أريد أن تعاونني عليه. . . نقتلها فنغسل عارنا بدمها.
- هون عليك يا أخي، فالذي بنفسك سيذهب بعد حين، ولن تقتلها، وأنا لا أستطيع قتل دجاجة. اذهب إلى حالك ودع الأمور تجري في مجاريها.
ولم أرد أن أخاشن ابن عمي وهو في زيارتي، فتلطفت معه حتى ودعته وانصرف بعد الغداء، وقد انفثأ غضبه، وعاد أدراجه إلى بلده كأن لم يكن شيء. وكنت حرياً أن أسأله عما جد في شأن ابنة عمنا وهي هي كما يعلم منذ أمد بعيد، وجعلت أفكر في الأمر وأنا لا أستطيع أن أتصور كيف نقتل فتاة دفعها التيار إلى هذه الناحية من الحياة. . . وهل تقتل الفتاة لأنها راقصة؟! وكلما تذكرت ما كان يريدني عليه من المعاونة على قتلها عرتني رعدة اشمئزاز واستنكار لفكرة القتل البشعة. ويختلط هذا كله بألم يحز فيها حينما أتصور حياة الراقصات التي أعرفها، وأن بنت عمي واحدة منهن. . . ودار رأسي من التفكير والألم.
وأخذت طريقي إلى نادي الصحفيين. وما أخذت مجلسي هناك حتى جاء الخادم يدعوني إلى التليفون، فأمسكت السماعة وأصغيت، فسمعت صوتاً ناعماً يقول:
- أنا قريبة لك.
- أعرفك. . . سنية بنت عمي.
- إذن حضر إليك اليوم مرزوق أفندي. ولكن كيف تقول إني بنت عمك؟ ألا تنكرني؟!(827/57)
- إنك بنت عمي من غير شك. أريد أن أراك.
- وتريد أيضاً أن تراني؟ أجاد أنت في كلامك؟
- دعي هذا، ولنتم الحديث حين تحضرين.
وأقبلت سنية بعد قليل، ومن المتبع في النادي أن يكتب الزائر اسمه في دفتر الزائرين، فأمسكت أنا القلم وكتبت اسمها هكذا: سنية علي البرجي.
- وانتبذنا ركناً قصياً بالنادي، وهي تقول لي:
- إنّ اسمي سنية علي فقط. فلم أرد أن ألوث اسم (البرجي) الذي عرفت أنت به.
- ليكن اسمك من الآن سنية علي البرجي!
- لا أكاد أصدق ما أرى، فما كنت أطمع أن أنال اعترافك بي فيما بيننا فضلاً عن مجاهرتك بقرابتي!
قالت ذلك وطأطأت تفتح حقيبة يدها وتخرج منديلاً تمسح به دموعها، ثم تابعت:
أما مرزوق أفندي سامحه الله. . . لقد كان منزلي مثواه كلما جاء إلى القاهرة، ولم أكن أضن عليه بما يطلب حين تقصر يده. . . فما باله اليوم يستشعر العار في مسلكي؟!
- قال لي أنه عرض عليك الزواج.
- نعم ورفضت. ومن أجل هذا تعرضت لعاصفته. . . وأنا ما زلت - ولا أخفي عنك - أحب زوجي السابق، وقد تعودت لوناً من الحياة معه، ولم يذهب من نفسي الأمل في أن يعود إلينا حسن التفاهم ويرجع الماء إلى مجراه. ثم أنا إن تزوجت مرزوق أفندي فسيكون خيال الماضي منغصاً لحياتنا، وهناك الأهل الذين لفظوني ثم أنكروني. . . كيف يطيب لي العيش في وسطهم؟ ثم نظرت إلى نظرة فيها مزيج من الحنان والشكر، وقالت:
وأنت يا أبن عمي. . . كم أنا سعيدة بهذه الكلمة. ابن عمي كلمة بحثت عنها كثيراً فلم أجدها إلا حينما رأيتك تكتب أسمي في الدفتر سنية على البرجي!
وأجهشت، فانخرطت في بكاء. . . ثم قالت:
وأنت يا ابن عمي جبرت نفسي، جبر الله نفسك!
وانصرفت سنية وقد وعدتها بالزيارة في منزلها. وارتاحت نفسي لحسن استقبالي لها واغتباطها بذلك. ولكن كان في نفسي شيء يدفعني إلى بحث ما يحيط بها. . . نعم لقد(827/58)
مكثت سبع سنين متزوجة، وقد عرضت عليها في النادي أن يكون على حريتها فتطلب ما تشاء ففي المقصف كل شيء. . . ولكنها أبت وأكدت أنها لا تشرب الخمر وأنها ليست كما قد أظن. . . الخ. ولكني في الوقت نفسه أعرف (الصالات) وما فيها من (فتح) وغيره. . . لذلك جعلت أرقب أحوالها في زياراتي لها؛ فلم أجد ما يريب.
وكنت مرة في نادي نقابة الممثلين مع صديقي الأستاذ أحمد كامل أحد نجوم المسرح والسينما وعضو مجلس إدارة النقابة؛ وقصصت عليه قصة بنت عمي؛ وتعمدت أن أذكر اسمها - في عرض الكلام - قبل أن أفضي إليه بقرابتها وقصتها؛ وهو صاحب مغامرات مع كثيرات من هؤلاء الراقصات ومثيلاتهن. فلما وصلت في القصة إلى التلويح بشيء من التشكك، قال لي: حسبك لأن تطمئن أن تعلم أني لا أعرفها!
وصحبت سنية بعد ذلك إلى نادي نقابة الممثلين؛ وعرفت أعضاء النادي بها. ثم طلبت أن تشترك في النقابة؛ فقال لي الأستاذ أحمد كامل: إننا لا نقبل في النقابة راقصات (الصالات) ولكن من أجلك سأعمل على قبولها.
وقيد اسم سنية في نقابة الممثلين. وأقترن ذلك بالاتصال بأحد منتجي الأفلام؛ وتم الاتفاق على أن تظهر سنية في فلم جديد، وهي الآن تعمل به وقد تركت العمل في (الصالة).
واغتبطت اغتباطاً كبيراً بهذا التوفيق في نقل ابنة عمي من بيئة (الصالات) إلى مستوى الممثلين والممثلات، وأنت تعلم أن هذه الطائفة من أهل الفن قد أصبحت لها اعتبارها ومكانتها في مجتمعنا الحديث. وقد صرت أنظر إلى سنية نظرة المطمئن الذي لا يجد غضاضة في الظهور معها في المجتمعات، ولا أخفى أنني كنت قبل ذلك أواجه الأمر الواقع، وكنت أحدث نفسي بأنه يجب أن أقول للناس: هذه ابنة عمي! فلا أدعهم يتسارون بذلك. . . وكان سرورها بي وبمسلكي هذا يعوض في نفسي بل يفوق كثيراً ما أشعر به من خفي الشعور، بل يكاد يمنعه. أما بعد أن صارت ممثلة وعضواً في نقابة الممثلين فقد طابت نفسي وراق بالي.
وسكت الأستاذ البرجي، وهو ينزع الغلاف الشفاف عن علبة اللفائف الجديدة، ويطويه بيده ويرمي به، ثم يشعل لفافة ويأخذ منها نفسا؛ ويسند رأسه المثقل إلى راحته وسحابة الدخان تتراقص أمام سحابة الهم على وجهه.(827/59)
قلت له: إن ما فعلت شيء عظيم، وهو يدعو إلى الارتياح، فما لك مهموماً؟
فنظرت إلى كمن يطلب الصبر حتى آخر القصة، وقال:
كنا أمس في النادي، أنا وسنية وأحد الوزراء السابقين، وهو صديق قديم معروف بميله إلى الأدباء والفنانين. جلسنا نحن الثلاثة معاً، فطاب مجلسنا، وتبسط معنا صديقنا الوزير السابق فأكثرنا من الطرف والدعابات، وأشرقت البسمات على وجوهنا، حتى جذب ذلك إلينا الأنظار. ثم أنفض المجلس، وتفرقنا في أرجاء النادي، وإذا أحدهم يدنو مني قائلاً في شبه همس:
لا تسرف في الظهور مع بنت عمك فنحن في مصر. . .
ولست أدري أحاسد هو أم ناصح، وعلى أي حال قد قال ما قال. . .
عباس خضر(827/60)
العدد 828 - بتاريخ: 16 - 05 - 1949(/)
4 - أمم حائرة
الهداية والرقابة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
إن قامت الجماعة على غير طريقة، وعملت على غير خطة، فكيف تستقيم على محجة، وكيف تقصد إلى غاية؟ وإذا انبهمت الغاية، واشتبهت السبل، ساغ لكل جاهل أن يدل على الطريق، واستطاع كل ناعق أن يقول: (هذا هو النهج) وليس بعد هذا إلا الضلال والحيرة.
لابد من عقل رقيب، وفكر ناقد ورأي سديد. ولابد أن يكون للعقل والفكر والرأي طريقة تؤدي إلى الناس نصيحتها، ونظام يعرف الناس بدعوتها، وقانون ينفذها فلا تضيع الآراء السديدة في ضوضاء المضلين، وصيحات المبطلين. ولابد من رقابة الجماعة ومن سلطانها متمثلين في نظام الحكومات وفي الطوائف التي تقر لها الجماعة بالهداية والرقابة والتقويم.
إني لأرى أموراُ تحدث في نظام الأسر وسنن الجماعة، لا يعرف كيف نشأت؛ وهي لا تجد من أولى الشأن رعاية إن كانت صالحة، ولا حرباُ إن كانت فاسدة. وأرى كثير من العادات تشيع على كره عقلاء الأمة والمصلحين فيها. فأسأل نفسي وأسأل أصحابي: لمن قيادة الجماعة؟ وبأي يد أزمتها؟ فأرى أحياناً مبتدعي هذه العادات الكريهة، ودعاة هذه العادات السيئة، من أصحاب الهوى المولعين بالتقليد، أو طائفة من التجار الساعين وراء الكسب بأية وسيلة، ومن أصحاب الملاهي أو وأشباه هؤلاء. فهؤلاء يقضون في أمور تحسب هينة، وهي في سير الجماعة ذات عواقب وخيمة؛ يراها المفكرون المبصرون وتكل عنها أبصار من لا يتجاوزون الظاهر، ولا يدركون ما بعد اليوم. هؤلاء ومن ورائهم الدهماء، يسيرون الجماعة أحيانا بأهوائهم ومآربهم، ويدعو الخيار فلا يستجاب لهم، ويقول المصلحون فيسخر منهم، ويغضي أولو الأمر تهاونا واحتقاراً، عن أمور يرونها صغيرة وما هي بصغيرة.
قد شمل القانون والنظام كل الجوانب في الجماعات الحاضرة قانون الحكومة وقانون الهيئات التي تقرها الحكومة على اختلاف النظم والأسماء.(828/1)
كانت الجماعات، فيما سلف، لا ينالها القانون والسلطان إلا في بعض شئونها، ولكن حكومات هذا العصر تشرف على كل شيء، بالإجبار أو الإرشاد، فالتعليم والصحة والرياضة وأمور اجتماعية كثيرة تتولاها الحكومات أو الهيئات تقرها الحكومة وكانت من قبل لا تعنى بها الحكومات إلا قليلا.
فلا جرم أن هذه الحكومات والجماعات المختلفة قادرة على الهداية والرقابة والتقويم والتهذيب إن عنيت بالأمور النفسية والاجتماعية العناية الخليقة بها
وليس على الهداية الرقابة جور على الحرية. فإن الحكومة والهيئات الأخرى مشتقة من الأمة قائمة باختيارها ورضاها. والأمة تغتبط بأن تفيد بكل نظام صالح، وتربط بكل خلق كريم وسنة حميدة، وتصد عما يضر بها ويذهب بسعادتها.
ثم الصحف والمدارس ما خطبها في التقويم والإصلاح والقيام على النشء والإشراف على الجماعة؟ إن خطبها لعظيم. فأين هي من احتمال الاضطلاع بالعبء وتأدية الواجب؟ إن لكل منها لحديثاُ، وأبدأ بحديث الصحافة:
هي من نعم هذا العصر ومحاسنه، وهي من نقمه ومساوئه. وهي عظيمة الخطر كبيرة الأثر في الجماعات. تطلع على الناس صباح مساء بأخبار وآراء، وعلم وفن، وأمر ونهي، وجد وهزل، لا تدع أمراُ مما يهم الإنسان في معيشته الخاصة، أو أحوال الجماعة التي يعيش فيها، أو الأمم الأخرى إلا عرضت عليه خبراُ عنه، أو رأيا فيه، أو نبذة من علم يتصل به، أو فن يرجع أليه، أو تاريخ يبينه، أو قصة تصوره.
وهي تنتشر في كل جانب وتلقى الإنسان في طريقه وداره ومدرسته ومتجره ومصنعه وحيثما كان في شأن عام أو خاص. تطلبه وإن لم يطلبها، وتقتحم عليه وإن لم يدعها.
وأمر الصحافة أبين وأوضح، وأشيع وأجليمن أن يعني الكاتب ببيانه، أو يحس حاجة إلىالكلام فيه.
فانظر كيف أثرها إن صدقت، وتحرت الصدق، وطلبت الحق، وأخلصت في طلبه، وعملت للخير ودعت إليه، وسارت على طريقه لا تحيد ولا تضل، ولا تميل ولا تزيغ ولا تجور ولا تحابي!
وانظر كيف أثرها إن خلطت صدقاُ بكذب، ولبست حقاُ بباطل، وعملت لنصرة فرد أو(828/2)
طائفة أو حزب، وزينت لها العصبية أن تزين كل ما يقول حزبها وما يفعل، وإن تقبح كل ما ينطق به خصمها وما يعمل! وانظر كيف أثرها إن بغت الانتشار والربح بكل وسيلة، واحتالت لهما بكل حيلة، ولم تبال صلاح الناس وفسادهم ولا خيرهم وشرهم! وانظر كيف هي إن فتنت القراء وأضلتهم وتركتهم على قلق وتردد في آرائهم وأعمالهم، ولبس وحيرة في أخلاقهم وآدابهم. وأقامتهم في بيداء مضلة لا تبين سبلها ولا تعرف أعلامها؟ كيف أثرها إن احتالت على القراء بما يهوي القراء، وبما يستهوي الدهماء من قصة مفسدة وصورة فاتنة وما إلى القصص والصور من أقوال لم يصدرها عقل ولم يراقبها وجدان. إن الداء عضال وإلى الله المشتكي.
إن الصحافة حبر ورأي ودعوة وتعليم. وشروط هذه كلها التثبت والنقد وقصد الحق والخير والإخلاص فيه ابتغاء وجه الله، فليس كل ما يسمع من أخبار يروى قبل التثبت والتحري. وليس كل ما يصح بعد التثبت والتحري ينشر حتى ينظر هل هو جدير بالنشر؟ أيستحق أن يذكر؟ أليس في نشره إثارة فتنة أو إضرار بفرد أو جماعة، أو إفشاء لسر يحسن أن يكتم، أو إظهار لأمر يجمل أن يسر؟ ومرجع هذا كله إلى وجدان القوام على الصحف وعملهم وبصرهم وإخلاصهم. وإن لهم من أولئك رقيباُ أكبر من كل رقيب وأعظم شأناُ وأقوى سلطان من الحكومات والقوانين.
وأما أن يختلق الخبر، أو ينشر تثبت، أو يذاع لنكاية أو لتشنيع أو تسميع أو إثارة فتنة فيها هوى للناشر أو مصلحة له أو لحزبه، فهذا تنكره مروءتنا وأخلاقنا وديننا وتاريخنا. ومهما يقل القائلون في حرية الأخبار وحق النشر، فلن يجد من عقولنا مقبولاُ ولا في ضمائرنا رضا، فليتق الله في أنفسهم ومواطنيهم وأمتهم وفي الناس جميعاً هؤلاء الكاتبون والقائمون على الصحف.
وأما الرأي فعماده علم ونظر وترو. فإن رمي بالرأي دون إحاطة بموضوعه، أو دون تفكير فيه، أو بغير إعمال الروية كان حرباُ أن يبعد من السداد، وأن يخذله الرشاد، وكان خليقاُ أن يضل ويضل ولا يصلح.
فهل الآراء التي تطلع الصحف صباح مساء، أعطيت حقها من المعرفة، وشرطها من الروية، وحظها من الإخلاص؟ أي فارق بين الكاتب الذي يكتب فيما لم يحط به علماُ،(828/3)
وبين المعلم الذي يتكلم على تلاميذه وهو لم يحط بدرسه ولم يوفه بحثاُ وفكراُ؟
هذا، إن حاد بالرأي عن الصواب جهل أو تهاون أو عجلة. فما بالك إن زاغ به الهوى، وأربد به تضليل، وقصد به إلى مأرب؟ وكيف إذا اختلفت الأهواء وكثرت الآراء وكلها لا تهدي إلى الحق، ولا تبغي الخير، ولا تبالي إلا بهزيمة الخصم والتسميع به والقارئ الساذج في حيرة بين الآراء المتصادمة، والأهواء المتقاتلة حتى يميل به طبعه أو هواه إلى جانب، أو تستمر به الحيرة والضلال. إن كل من يمسك قلماُ ليكتب في صحيفة يتصدى لأمر عظيم، ويتحمل تبعة جسيمة. فليتق الله في كل فكرة يفكر فيها، وفي كلمة يسطرها. ولينظر ما أثر فكرته وكلمته في أمته، وما حق هذه الأمة عليه.
وأما الدعوة فينبغي أن تكون إلى الأخلاق العالية والسنن الصالحة يدعى إليها بكل وسيلة، وتسلك إليها كل سبيل. وينبغي أن يحذر كل الحذر من الدعوة، صريحة أو خفية، إلى التحلل من الأخلاق والفرار من التبعات؛ فإن النفوس قد احتملت أعباء الواجب وصهرت عليها ولم تبال بما فيها من مشقة وحرمان؛ ابتغاء ما هو أعلى وأشرف وأعظم، ابتغاء الحق والخير وإيثاراُ لما هو أجل من خير الناس وصلاحهم. فإن ارتابت في هذه الأعباء الثقيلة ودعيت إلى الدعة، وإيثار الأهون عليها والأحب إليها، والاستجابة إلى الأهواء والإخلاء إلى اللذات والخضوع للمطامع، والسكون إلى سفاسف الأمور والإشفاق من جليلها. صادفت الدعوة منها هوى ولقيت منها إصاخة واستراحة إليها باطناُ وإن نفرت منها ظاهراُ، إلى أن يضعف الوجدان الذي يحجب إلى النفس إيثار الأشق الأعظم من الأمور، وإلى أن تسف الهمة التي تتقدم بالإنسان على الصعاب وتنأى به عن اللذات، استجانة للمعاني الجليلة التي يسير الله بها البشر إلى الكمال الذي قدره لهم.
إن الإنسان يعيش تحت أوقار من الواجبات وأوامر الأخلاق وتكاليف المجد، كما يغيش تحت أثقال من الضغط الجوي. فإن دعي إلى هذه طرح هذه الأعباء واستراح إلى هذه الدعوة هلك كما يهلك إذا خف عنه ضغط الجو. ورب كلمة فاتنة أو قصة ساخرة تنقض في نفس الناشئ أو تزلزل كل ما أمرت التربية في نفسه، وتاريخ البشر في فؤاده! فلينظر الكاتبون وليتقوا الله.
وأما التعليم فكذلك يعمل له الفكر والنظر، ويختار ما هو أنفع للناس وأقرب إلى الصواب(828/4)
من الأمور النفسية والآفاقية على هدى العلم، وإرشاد التجارب وهلم جرا.
ما أقدر الصحافة على الإصلاح! وما أقدرها على الإفساد! وما أكثر المصلح منها في عصرنا هذا وما أكثر المفسد منها! فمن كان مصلحاُ فليزدد إصلاحاُ، ومن كان مسيئاُ فلينزع عن إساءته.
عبد الوهاب عزام(828/5)
الأدب بين عالمين
للدكتور إبراهيم سلامة
نحن نعيش بين عالمين يتجاذباننا ويحاول كل منهما أن يردنا إلى ناحيته: (العالم الخارجي) و (العالم الداخلي). ولك أن تقول إننا لا نحيا متجاذبين بين هاتين القوتين، بل نحن نعيش فيهما، فلنا حواس تنقل ما تقع عليها، فتدرك العين المرئيات، والأذن المسموعات، واليد الملموسات. فحواسنا تنقل إلينا صور الحياة كما هي، ولكننا لا نعيش في هذا المادي وحده، وإلا ضقنا به وتخلصنا منه، وكان من حرم حاسة من هذه الحواس كأنما اغلق أمامه باب من أبواب المعرفة بالحياة. وما هكذا خلقنا وما هكذا نعيش! فنحن نعيش في عالم داخلي من إدراكنا لما تجلبه حواسنا، ومن تأويلاتنا لهذا المدركات بعد عرضها على ما فينا من حاسية وميول ونوازع وتفكير نحلل به ما يرد إلي نفوسنا، وذكاء نرد به ما يرد علينا من العالم الخارجي إلي الناحية التي نجد فيها منفعته وصلاح شئوننا وغذاء عواطفنا. ومن هنا ما يقول (ديكارت): من أن (الأشياء التي تحرك حواسنا تهيج فينا الميول المختلفة لا للاختلافات الكثيرة التي تدور بها المحسات، ولكن لاتصال هذه الاختلافات بنفعنا أو ضررنا)
ومن هنا أيضاُ ما قاله (مال برانش) من أن حواسنا أمينة مخلصة في تعليمنا العلاقات المختلفة التي بيننا وبين ما يحيط بنا من الأشياء في العالم الخارجي، ولكنها نع أمانتها وإخلاصها لا تعطينا صورة صادقة عن كل ما نحس به، فما حواسنا إلا هبة إلهية لحفظ حياتنا).
فديكارت الفيلسوف ومال برانش الأديب متفقان على أن العالم الخارجي الذي تربطنا به حواسنا ليس عالمنا وحده، بل فينا ميول تهيج وتثار بتلك الآثار المحسة ليست صورة صادقة لما نحس به، فنحن نعيش أيضاُ في عالمنا الداخلي الذي يحررنا من الخضوع للعالم الخارجي، ويجعلنا عبيداُ له عبودية العالم إلى الملاحظة والمشاهدة الاستقراء، وعبودية التقليدي إلى قاعدة يلتزمها ويقيس بها مسائل العالم. والعالمان كما ترى مشتبكان متداخلان، ولكن ينفرد العالم (بالعالم الخارجي) يستمده في الملاحظة والمشاهدة، وينفرد الأديب (بالعالم الداخلي) يستغرق فيه ويتسع بطبيعته لتأملاته وتصوراته. إن الأديب الذي استمتع بمنظار(828/6)
من مناظر الجمالية، ثم جلس بعد مشاهداته إلى مكتبه إنما يجلس إلى تأملاته، ويجلس إلى صور وتصورات قد تكون موادها الأولى من العالم الخارجي عالم المحسات، وقد يزيد فيها وينقص بما يهبها من حيوية وخيال وإضافات لم تكن لها في عالمها الأول. والفرق بين ما يسميه علماء النفس (بالخيال الاسترجاعي) و (الخيال الابتكاري) وإذا كان الخيال الثاني أسمى من الخيال الأول سمواُ قد يصل إلى درجة الاختراع في الصور العقلية، وإلى درجة الخلق والابتكار والإبداع في الصور الأدبية، فذلك لأن الخيال الاسترجاعي يعتمد على أكثر ما يعتمد على استعادت المحسات كما هي في العالم الخارجي، في حين يعتمد الخيال الابتكاري على العالم الذي يمده بكثير من القوى النفسية التي تعتبر أساساُ للجدة والإبداع.
إن عالم الحس ضاغط ملزم، أما عالم الصور والتصور فحر طليق. إنني أمام شجرة وقع عليها نظري، ولابد لي من أن أراها شجرة، ولا يمكنني إلا أن أقول إلا إنها شجرة. أما الأديب فله أن يقول (إنها كلمة طيبة كالشجرة الطيبة) وله أن يقول إن صاحبه الذي لا فائدة فيه كشجر السرو (له رواء وما له ثمر) ولابن الرومي أن يقول إن صاحبه جاف جامد كشجر الخلاف:
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الأثمار كل الآباء
إن المحسات تتحكم في الأدب لأنها ضاغطة ملزمة كما قدمنا. فلا حرية للأديب أمام العالم الخارجي، أما في عالمه الداخلي فحر طليق يتحكم في صوره حتى ولو جاءته من عالم الحس فيطاردها ويحل أخرى محلها ويجمعها ويفرقها ويتركها أمامه، تتجمع وتتفرق، وتتناصر وتتزاحم، وتتوالد وتتقلص، ليؤلف خياله كما يريد، أو لتطاوع هذه الصور خياله كما يريد أن يبرزها الخيال. فعالم الحس يعرف بشاراُ ضخماُ قوياُ لو توكأ على جدار لإنهدم الجدار؛ ولكن بشاراُ لا يرى في برديه إلا جسماُ ناحلاُ (لو توكأت عليه لإنهدم) والناس تسمع للمتنبي وتراه ملء العين وملء برديه، ولكنه يرى نفسه ضئيلاُ هزيلاُ، بل يريد أن يخائل الناس في حواسهم ليروه كما يرى نفسه من النحول والذبول ولولا كلامه ما كان في جسمه معلم يدل على حياته:
كفى بجسمي نحولاُ أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
إن (تين) شيخ المقتنين في الأدب والنقد إذا كان لا يرى في (الصورة) إلا أنها (إحساس(828/7)
ضعيف) وإذا كان (ابنجهوس) من علماء النفس يفرق بين الإحساس والصورة فيرى أنها باهتة مصفرة كأنها من مادة الأثير، وإذا كان غيره من علماء النفس أمثال بهنس لا يرى في الصورة إلا مادة ضئيلة شفافة متشمعة نحيلة قابلة للذوبان بل للتبخير، فأن الأدباء يرحبون بمثل هذه الصور ويرون فيها مادتهم المطاوعة للخيال، ومن ثم للخلق والابتكار. لنحذر إذن علم النفس فلا نتورط في تقسيماته وقواعده إذا أردنا أن نحتفظ بالأدب وموارده، فإن الصور هي متاع الأديب ينضده كيفما شاء ويستمتع بمرآها ولو كان باهتاُ مصفراُ. إن علم النفس (بموضوعيته) الحاضرة التي يريد بها أن يثبت شخصه أمام غيره من العلوم يريد أن يضغط على (الذاتية) التي يعتز بها الأدب ولا يمكنه أن يتخلص منها لا في الإنتاج ولا في النقد. فكما للأديب عالمه فإن للأدب (علم نفسه) الذي لا يحب أن يخضع إلى العلم الخاص دائماُ، بل له أن يتحكم فيه أحياناُ. إن هذه الصور الباهتة تتجسم أمام الأديب حتى تكون حقيقة ماثلة أمامه، وحتى لا يستطيع أن يفرق مع تسلطها بين الحقيقة وبين الخيال؛ وفي هذا الاتصال سر الأدب. فأجمله ما تخيلت فيه لترجع بحقيقة، وما حققت فيه لترجع بخيال. فحقيقة الأدب تبدو لجدتها أنها متخيلة، وخيال الأديب يبدو لإمكان وقوعه أنه حقيقة واقعة. فسر الجمال الأدبي في الإضافات التي تضيفها إلى العالم الخارجي، وفي المثالية التي ندركها من الصور الداخلية سواء أكانت صوراً نفسية محضة، أم صوراً خارجية تحولت وباعدنا بينها وبين عالمها الأول بما أضفينا عليها من المثالية. إن الأدب وجماله في هذه الزيادة التي نضيفها إلى القيم الوجودية في العالم الخارجي، وإلى القيم الإصلاحية اللغوية. وإن الذوق الأدبي ليس في القيم اللغوية للألفاظ ولا في القيم الحقيقية للمعاني، بل في القيمة التقديرية التي يهبها الأديب هبة للألفاظ والمعاني، أي في القيمة التصويرية. وبعبارة حديثة في الانسجام الذي نحسه في الموسيقى، ونحسه أكثر عند النشاز، وفي الملاءمة التي نحسها بين الألوان في التصوير، ونحسها أكثر إذا اختلطت الألوان ونبا بها النظر وفي الفترات الزمنية التي نحسها في التقسيم الوزن والفواصل وإيراد المعنى؛ هذا التقسيم المعبر عنه بالمقابلة وبقدر احتفاظنا بهذه التقديرية أو الإضافية تكون نظرتنا للأدب. فالأدب (الكلاسيكي) اهتم بالقيم الحقيقية وغالى فيها. والأدب (الرومانتيكي) اهتم بالقيم الإضافية والفردية التي نضيفها إلى القيم الوجودية الحسية(828/8)
والعقلية. وقد غالت الرومانتيكية في أهمية القيم الإضافية الجمالية فأصبح كل شيء في نظرها فناُ، وكل ظاهرة ولو علمية فنية، حتى قيل أن الطبيعة نفسها عمل فني، وإن الكائن الحي نفسه فن، فالفن الحديث ليس في إضافة جمالية إلى قيمة علمية فحسب، بل في اتحاد الفكرتين: العلمية والجمالية في صورة تدرك في العمل العقلي المستمر.
هذه المغالات في الرومانتيكية وهذا التعصب للكلاسيكية آثار الأدباء والنقاد في القرن التاسع؛ فإن سيانت بيف وغيرهما بعد سنة 1855 قاموا للمناداة بالحقيقة في قومة ضد الرومانتيكية وضد الكلاسيكية معاً، وفي مصلحة المذهب (السريالزم) (الحقيقة) في الأدب.
لقد ابتدأ أنصار المذهب بوصف العالم الخارجي وحده فالتجئوا إلى الحياة نفسها بوصفها كما هي، ويصفون الأحياء في الأحياء الفقيرة كما هم، ولكنهم أخفقوا لأن الوصف كان لمجرد الوصف لا للحكم عليهم ولا للاهتمام بهم، فكانوا كالنباتيين ينظرون إلى المزروعات التي أمامهم من غير أن يميزوا بين أنواعها ولا بين الفروق البارزة في هذه الأنواع، وكشفت هذه النهضة عن أمثال ستاندال وبلزاك وفلوبير ممن جعلوا لهذه المدرسة الحديثة معالم مقررة، فلم يعد العمل الأدبي خيالياُ محضاُ أو فردياُ محضاُ يصدره الأديب وهو في عالمه الداخلي من غير رعاية للحياة. فلقد نادى فلوبير بأن الإنتاج الأدبي لابد أن يكون موضوعياُ وأن يكون في نفس الأديب عكساُ ذهنياُ لما تعرضه الحياة مؤسساُ على مصادر حقيقية يطيل الأديب فيها النظر ليتخير منها ما يريد (العالم الخارجي) هذه المصادر لا تشل الخيال ولا تمنعه الحركة، فإنه سيكون الرقيب على هذه المصادر والصور يتخير منها ما يتلاءم مع فنه وخياله (العالم الداخلي)، فكان فلوبير يجري هنا وهناك وراء الحقيقة التي تتفق وأحلامه، وبذا ينتقل عمله الأدبي من أن يكون مجرد وصف أو تحليل إلى أن يكون خلقاً وابتكاراً. لهذا أسبغ فلوبير على أدبه نوعاً من المنطق ولكنه منطق الحياة، وأفترض كثيراً من الصور العقلية للطب والفلسفة، ولكنه لم يفترض من الطب والفلسفة قوانين بل افترض منهما معنى الحياة. وأعمال الأبطال في رواياته تبدو طبيعية كما تبدو المسببات عن الأسباب، فالوسط والظروف والأمزجة التي تعيش فيها شخصياته الروائية هي التي تقودهم بدوافعها وتعقدها وتطلعاتها ورغائبها إلى مصائرهم، وكأنها أسباب لنتيجة حتمية(828/9)
واقعية. وهذه الحقيقة أو هذه الواقعية في الموضوع قادت أسلوب فلوبير إلى الصورة المعبرة والكلمة الحقيقية والوزن المنسجم والرقابة على خياله حتى لحق أسلوبه بالكلاسيكية في كثير من مظاهره، وبعد عن الرومانتيكية باعتماده على الواقع؛ فقد كان يجمع بين حقيقة العبارة والكلمة في معناها الحاضر، وبين حقيقتهما في معناهما الدائم المعروف.
وكان إدموند، وجول دي كونكر، من أصحاب نظرية المصادر (العالم الخارجي) لكنهما لم يقفا موقفاً فاتراً بارداً أمام هذه المصادر فكانا فنانين تلتهب أعصابهما وتتألم لتألم الإنسانية (العالم الداخلي) فابتكروا صوراً وكلمات جديدة وأخضعاها لإحساسهما وخيالهما حتى قادها هذا الازدواج من ناحية إلى مذهب الطبيعة ومن ناحية أخرى إلى مذهب الثائريين
بعدما تقدم ننكر الأدب وننكر رسالة الأديب بل ننكر طبيعة النفس إن حاولنا أن نجعل من الأدب أداة وصفية لما يقع تحت أسماعنا وأبصارنا لنكون واقعيين من غير أن نتعرض لما تحدثه هذه المناظر والمشاهد في نفوسنا من ألم وامتعاض أو لذة ومسرة، وننكر رسالة الأدب ونمنع عنها مدداً غريراً إن حاولنا أن نصف نفوسنا وأن نفرضها فرضاً على قارئينا في غير رعاية للواقع وللحياة. إن الذكاء في آخر تحليلاته معناه إدراك العالم الخارجي والداخلي معاً، فالذكي هو الذي أدرك شيئاً ما وأدرك أنه المدرك لذلك الشيء. وللأدب ذكاؤه وحساسيته.
دكتور إبراهيم سلامة(828/10)
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ سيد قطب
. . . لكأنما أسمعك تقول في عتب يشوبه الألم والغضب: لماذا تنسى أنني من قبل قد عالجت: (أهل الكهف) و (شهرزاد) و (سليمان الحكيم) وكلها موضوعات إسلامية أو شرقية. ولم تكن محاولاتي قاصرة على (أوديب) و (بيجماليون) و (يراكسا).
شيئاُ من التمهل يا صديقي الكبير.
أتذكر على أي أساس عالجت هذه الأساطير الشرقية؟
لقد عالجتها على الأساس الذهني. . . فكرة تناضل فكرة؛ أفكار مجردة تتحرك على (مسرح الذهن) كما ألهمت أنت أن تسميه!
إن عبقرية الشرق الأصلية لم تكن مجرد عبقرية ذهن تجريدية. لقد كان الذهن قوة من قواتها ولكن لم يكن قوامها الأصيل: إنها أبدا كانت عبقرية حس حي أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعاُ حياُ متوفزا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانا.
إن عبقرية الشرق الأصيلة لم تكن يوما ما مجرد عبقرية ذهن تجريدية. لقد كان الذهن قوة من قواتها ولكنه لم يكن قوامها الأصيل: إنها أبدا كانت عبقرية حس حي أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعا حيا متوفرا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانا.
إن عبقرية الذهن التجريدية عبقرية غربية. وعلى وجه خاص، عبقرية فرنسية!
آه يا صديقي! ليتك لم تذهب إلى فرنسا!
ولكنك ما كنت بمستطيع إذن أن تقوم بدورك الأساسي في وضع القالب الفني الصحيح للتمثيليةالعربية. فدراستك هناك للمسرح الإغريقي هي التي مكنتك من وضع القالب السليم.
إن الخير لا يمكن تمحيضه. والشر لا يخلو من الخير بحال.
والآن يا صديقي هل أدلك على النبع؟
لقد قال لك أستاذك الفرنسي كما قلت في زهرة العمر، وأنت تعرض عليه محاولاتك باللغة الفرنسية: (أكتب بلغتك لتبدع)!(828/11)
هذا هو نفسه ما أقوله لك: استوح (ميراثك) لتبدع!
إن هذا الميراث هناك كامن في ضميرك، تخنقه ثقافتك الفنية الفرنسية. إنك تبعد عنه كلما ذهبت إلى الإغريق وغير الإغريق تستلهم أساطيرهم القديمة. إنك مصري. مصر القديمة الغائرة في أعماق التاريخ، السارية في ضمير الزمن. . . مصر هذه ما تزال كامنة في مصر الحديثة التي تعيش في ثوب مستعار. . . مصر القديمة بأساطيرها هي نبعك الشخصي العميق. ولن تحتاج إلى رحلة وراء آلاف السنين. ما عليك إلا أن تعيش مفتوح القلب والحس والعين في ريف مصر وفي أحيائها العامة. . . دعك من (سليمان باشا) و (الزمالك) و (المعادي) و (الدقي). . . هذه رقع مستعارة في الثوب الأصيل. هذه لطخ شوهاء في اللوحة المتناسقة.
أفتح قلبك وحسك وعينك، ثم أقرأ شيئا عن مصر القديمة ولاحظها ما تزال حية في ضمير الشعب وعاداته وسلوكه. . . ثم أكتب. . .
خذ القالب الأوربي. القالب وحده. ولكن صور في هذا القالب الضمير المصري، بروح مصرية، وحاول أن تهتدي إلى عبقرية الشرق الأصلية. وهي ليست مجرد عبقرية الذهن التجريدية!
وحين تتناول الأسطورة المصرية لا تحاول أن تجردها من اللحم والدم، والانفعالات والمشاعر، لترى ما وراء ذلك كله من فكرة ذهنية تجريدية. . . خذها حية بلحمها ودمها، وصغ منها مسرحيتك.
ولكنك لن تصنع هذا إلا أحسست الأسطورة حية في شعورك، غامضة غائرة في ضميرك.
إن أجمل الأعمال الفنية ما تمت في نصف وعي ونصف غيبوبة. أستيقظ حين تضع القالب فحسب، أما ذات الموضوعفيجب لكي يعيش ويخلد أن يكون غائرا في أعماق ضميرك إلى حد أن تشعر وأنت تكتبه كأنك عشته في زمن لا تذكره ولا تدريه!
إنك يا صديقي لن تتجاوز منطقة التاريخ الأدبي إلى منطقة القيم الفنية المطلقة، إلا حين تهتدي إلى النبع - نبعك الموروث الأصيل - والى عبقرية الشرق - عبقرية القلب والضمير.
ولكني أعرف أن هذا عمل عسير.(828/12)
إن (اللعب) الذهني على الأساطير الإغريقية يسير على قواعد موجودة فعلا، فالأوربيون عبدوا الطريق. أما استلهام الأساطير المصرية فممل تبدؤه أنت بلا نموذج أمامك مرسوم!
ولقد يكون من المغالاة والإرهاق أن نطلب إلى فرد واحد، وضع القالب الجديد في الشكل وفي الوضع. . . ولكنني لا أجد حتى اليوم سواك في عالم التمثيلية أطلب إليه هذا الاقتراح المعقول!
لقد وجد في عالم القصة والرواية من يستلهم الطبيعة المصرية الخالصة، بروح مصرية خالصة - وهذا هو الأهم. فليس من الضروري - في غير الأساطير وما يشبه الأساطير - أن يكون الموضوع مصرياً، ولكن المهم أن يعالج بروح مصرية.
والاستطراد يسوقني إلى (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي. وإلى (خان الخليلي) لنجيب محفوظ.
لقد استلهم يحيى حقي أعمال الطبيعة المصرية وهو يصور الإيمان بكرامات الست (أم هاشم) وما يتصل بها من عقائد وأساطير. كذلك استلهم نجيب محفوظ هذه الأعماق وهو يصور (سخرية القدر) بآمال الناس وأحلامهم وحياتهم جميعاً.
لقد كانا مصريين دماً ولحماً وعاطفة وشعوراً في هذين العملين المعجبين. . . وذلك هو الطريق!
وعلى ذكر (نجيب محفوظ) فإني أستشعر في نفسي الخوف على هذا الشاب القصاص الموهوب!
لست أذكر متى سمعته يقول ونحن نتحدث عن رواية: (زقاق المدق) إنه أراد أن يدخل قالباً معيناً في الرواية المصرية. قالب الرواية العرضية لا الطولية، وأنه لهذا صاغ روايته في هذا القالب الجديد.
القالب. . .! هذا هو الخطر الأكبر يا صديقي نجيب! لست أفهم هذه الكلمة اللعينة! أفهم أن يتم العمل الفني أولا فإنك لا بد أن تخنق عملك ليكون وفق هذا القالب. وفي كل خطوة ستستيقظ لتقيس هذا العمل، وترى إن كان قد خرج على القالب الموضوع!
لا. لا. حذار أيها الصديق المرجو. إن القالب لا قيمة له إلا في عالم التاريخ!
معذرة - أيها الأستاذ الكبير توفيق الحكيم - لقد شطح بي الحديث إلى هنالك. والحديث(828/13)
شجون!
فلنعد إلى ما كانا فيه. . .
فكرة أريد أن أصححها عن (الفلسفة الإسلامية) كما يصورها ابن رشيد وابن سينا والفارابي. . . فقد ألمت بهذا في بحثك الممتع الطويل.
إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها (الفلسفة الإسلامية) بمعنى أنها قد وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين.
ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها (فلسفة الإسلام) وقد آن أن تصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة!
إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات للفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة.
ما أشبه الدور الذي قام به هؤلاء الفلاسفة الإسلاميون بالدور الذي تقومون أنتم به الآن - أنت وجيل التمهيد من الشيوخ - فتنة بالفلسفة الإغريقية، ومحاولة لتفسير الإسلام على ضوء هذه الفلسفة. والإسلام يحمل فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها الأصلية، عن طبيعة الفكرة الإغريقية من الأساس!
من أذهانهم لا من قلوبهم استمدوا فلسفتهم. . . وهكذا تعملون!
لهذا وجدت تلك الفلسفة اهتماماً وعناية من الأوربيين ورثة الإغريق؛ لأنهم قادرون على فهمها والإحساس بها. أما فكرة الإسلام الصميمة الكلية عن الكون والحياة والإنسان فهي شيء آخر لم تصوره تلك الفلسفة، ولم يتمثله الأوربيون. وتبعاً لذلك لم يتمثله المحدثون من المسلمين الذين يتلقون كل ثقافتهم عن الأوربيين!
ومالي ألومكم أنتم، والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام!
أنا واثق أن سيكون لنا أدب خالد؛ وأن ستكون لنا حياة فكرته وإنسانية ملحوظة. ذلك يوم نؤمن بأنفسنا، يوم نشعر أن لدينا ما نعطيه، يوم نستلهم طبيعتنا الأصلية. يوم نهتدي في ذواتنا إلى النبع العميق.(828/14)
(واشنطون)
سيد قطب(828/15)
صور من الحياة:
قبعة. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا صاحبي - يوم لبست القبعة لأول مرة، يوم أن كنت ترسف في قيود أربعة: أبيك وهو جافي الطبع شيطاني الجبلة أرضي النزعة، وأمك وهي مستكينة واهية متداعية، ورئيسك وهو يستذلك بفضله وأياديه، وعميدك وهو يتخذك صنيعة له وداعية لأغراضه. لطالما استيقظت كرامتك فتراءيت في عين نفسك سقيم الوجدان مستلب الرأي والإرادة، وكنت لا تجد خلاصاً إلا أن تعق والديك فلا تزورها أبداً ولا تعني بأمرها، وإلا أن تستخذي لرئيسك وأن تتودد لعميدك عسى أن تكسب الرضا أو تدفع الأذى.
ورأيت الميناء يموج بالسفر من كل جنس، وإلى جانب كل مسافر ثلة من الأهل والأصدقاء يودعون وينصحون ويشجعون. وإن كلمات الوداع الحارة لتصاعد حواليك تصك مسمعيك، وإن عبرات الحب والإخلاص لتنهمر هنا وهنالك على خطوات منك لتكون قذى في عينيك. ولكنكأنت لم تجد صاحباً واحداً يرفه عنك وينفث فيك من روحه ومن شجاعته ومن حبه، فوقفت وحيداً تنظر.
وتحركت الباخرة فوقفت على ظهرها جامداً ترمق أرض الوطن وهي تتوارى خلف الأفق فما نبض قلبك بشوق ولا خفقت روحك بحنين ولا جاشت مشاعرك بعاطفة. ثم وليت وجهك شطر الغرب، ورحت تتنسم أول نسمات الحرية - كرأيك - حين خيل إليك أنك ألقيت عن نفسك قيوداً أربعة كبلك بها الوطن.
ترى هل استمتعت هناك بالحرية التي افتقدت هنا؟
وتقبلك عميد الجامعة هناك بقبول حسن لأنك صنيعة معهد (كذا) الأجنبي، وإن جناب العميد لرجل علم وأدب وإنه لذو حيلة ودهاء، ولكن ماذا أفدت هناك؟
لقد عشت هناك مثلما عشت هنا: منقبض الأسارير تأنس بالوحدة وتطمئن إلى الخلوة، تغدو إلى الجامعة وتروح إلى الحجرة، تصغي إلى الدرس - صدر النهار - في غير ملل، وتنكّب على الكتاب - شطراً من الليل - في غير ضجر، وإن عميد الجامعة هنا ليحبوك بعطفه ويغمرك بفضله لأنه يمتّ إلى عميد المعهد هنا بأواصر هي: الصداقة في الشباب(828/16)
والأخوة في الدرس والوحدة في الجنس والتآلف في الرأي. وأنت هناك طالب الجامعة مثلما كنت هنا طالباً في المدرسة ترضى بالقليل وتقنع بالتافه، وأنت هناك خامل الذكر مثلما كنت هنا وضيع الهمة، وأنت هناك بعيد عن لذائذ الحياة ومتعها مثلما كنت هنا تعاني الحرمان والضيق. ولكن عميد الجامعة أراد فأصبحت، بعد سنتين، دكتوراً في الفلسفة. وتراءيت في عيني رأيك فيلسوفاً وجرفتك الكبرياء، فما كان يليق بك أن تكون رجلاً ممن يعيش فيمضطرب الحياة ونوازعها، وأنت ابن سقراط وترب كنت وصاحب ديكارت. ولكن، آه - يا صاحبي - لقد عجزت الفلسفة عن أن تسوّى منك رجلاً آخر غير الذي كان منذ سنين، إلا أن تلوي لسانك بكلمات لاتينية فتزيدك عيّا على عيك، إلا أن تشوب لهجتك لكنة أعجمية بغيضة إلى القلب والنفس فتضيف حمقاً إلى حمق فيك، وإلا أن تجهر بآراء هدّامة تحسبها حديثة مبتكرة فتضم سفهاً إلى سفه فيك. ثم. . . ثم جلست إلى في ندوة ثقافية في القاهرة تحدثني بآرائك قائلا (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة. دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقال تشل عقلي وتصعق خواطري وتبعث بأفكاري) فعجبت أن يكون هذا حديثك وأنت ابن الريف وثمرة الغيط وربيب الدين!
ماذا دهاك يا صاحبي؟ أفكان لسنتين أن تحولا عقلك من حال إلى حال فتنزل عن كرامتك وتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة، على حين قد عشت نيفا واربعين سنة في وطنك، عشتها جميعا نتنقل بين المدينة والريف، وأنت في المدينة لا تحس إلا العمل الشاق المظنى وإلا هذا الزقاق الضيق القذر الذي تسكن في ناحية منه، وأنت في الريف لا ترى إلا اهلك وهم من أواسط الناس وإلا دارك وان رائحة الروث لما تبرح تتأرجح في جنباتها. يا عجباً! فما بال الشباب يذهب إلى هناك ليعيش سنوات وسنوات، وهو في ثورة الشباب وفورة الصبا، يستمتع بالقوةوالتراث ويتألق في النضارة والذكاء. . . ما باله إلى وطنه فلا تحس في لسانه التواء ولا في كلامه لكنه ولا في آرائه جفوة، على حين أنه بلغ غاية العلم وتسنم ذورة الفلسفة.
قد كان لي أن أقول: لعل أضواء المدينة في الغرب قد خلبتك فمشى بصرك فما عدت ترى في الشرق إلا ذبالة توشك أن تنطفئ، أو لعل نور الثقافة الإفرنجية قد سلبك عقلك فما(828/17)
أصبحت تلمس هنا - في الشرق - إلا ظلمات من الجهل تكثف بعضها فوق بعض، أو لعل بهرج الحضارة هناك قد طمس على قلبك فرحت تحتقر الوطن والدين واللغة. . . قد كان لي أن أتلمس لك عذراً في شيء من هذا لو أنك أخذت منها بنصيب أو ضربت فيها بسهم، ولكنك عشت هناك على حيد الحياة لا ترى إلا الكتاب والدرس والحجرة، ولا تحس إلا العمل المرهق، ثم. . . ثم الوحدة والحرمان.
ورجعت - يا صاحبي - إلى وطنك لتتلقفك قيودك من جديد. ولكن القبعة التي لبست ترفعت عن القرية وتسامت عن الريف، وأبوك شيخ همّ عصفت به السنون فانحطت قوته ووهى جلده فهو يرنو إلى عطفك ويصبو إلى حنانك، وأمك عجوز شمطاء قد عبث بها الزمن فتقوس ظهرها وسقطت أسنانها فهي تهفو إليك، وقلبها يرف حواليك. لقد ترفعت القبعة عن القرية في حين أنها تعبدك لرئيسك القديم واستخذت لعميد المعهد الأجنبي. وهكذا تحررت من قيدين لترسف في قيدين.
وجاءك رسول أبيك يقول لك (إن أباك يكاد يلفظ آخر أنفاسه، وإنه ليهتف باسمك بين الحين والحين، وهو في غمرة المرض ووطأة الحمى. . .) وأصغيت إلى الحديث - يا صاحبي - بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية؛ فما انطلقت إلى القرية إلا حين جاءك البرق يقول (مات أبوك اليوم) مات أبوك وفي قلبه شوق يتأجج لأن يرى ابنه العاق.
وجلست إليك أمك في ضعفها وشيخوختها تستجدي عطفك ورجولتك، فأصغيت أنت إلى حديثها بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية. وجرفتك كبرياء القبعة فاستوليت على ميراثك من أبيك وهو ضئيل، ثم طرت عن القرية إلى الأبد لتذر أمك وحدها. . .
وجئت أنا - بعد أيام - لأعزيك في أبيك، فألفيتك تبسم - لأول مرة في حياتك - وأنت مسفر الوجه طلق المحيا. لقد كان يخيل إلى أنني سأراك منكسف البال شارد الذهن وقد أرمضك الحزن وهدّك الأسى، يفريك الندم على أن قصرت في حق أبيك، وامتهنت أمنيته الأخيرة وهو على فراش الموت. فما بالي أراك في نشوتك وسرورك لا يعنيك إلا أن تظفر ببعض ماله؟ لقد تراءيت في ناظري رجلاً نزل عن رجولتك وإنسانيته وكرامته في وقت معاً، فكرهتك واحتقرتك.
يا لقلبي! إن في الحياة أناساً يتشحون بثوب الإنسان وإن ضلوعهم لتنضم على مثل روح(828/18)
الثعلب! آه لو انسلخوا من إهابهم لتكشف نفوسهم عن مثل نتن الجيفة!
وهناك، في البلد الأجنبي، تعلمت فلسفات ثلاثاً نبعث كلها من القبعة التي لبست بعد أن نيّفت على الاربعين: فلسفة العقوق والجمود، وفلسفة الكفران والكنود، وفلسفة الاستسلام والخضوع. . .
وتلقفك هنا رئيسك وعميدك معاً. أما رئيسك فموظف كبير في الحكومة ذو شأن ومكانة، وأما عميدك فرجل أجنبي ذو جاه وسلطان. وتنازعك الرجلان حيناً، ثم ظفر بك العميد. ظفر بك لتتحدث بلسانه وتفكر برأيه وتتفلسف بعقيدته، ولتنفث سموم جنسه في شباب الجيل، ولتعلم النشء أن القبعة شيء مقدس يستهوي العقل ويسجد له الفكر، على حين أنها شيطان يتوثب مكراً وخداعاً.
وجلست إلى تلامذتك توحي إليهم بفلسفة القبعة. وبدا لأعينهم ما يتوارى خلف كلماتك فتلاقت نظراتهم في عجب، وتقابلت ابتساماتهم في سخط، ثم انصرفوا من لدنك وعلى ألسنتهم كلمات الاحتقار والسخرية. لقد سخروا منك أنت أيها الفيلسوف العظيم لأنك أردت أن تمكر بهم وتستلبهم من الوطن والدين واللغة فما انطلى عليهم أسلوبك ولا خدعتهم فلسفتك. وقال واحد منهم: إن أستاذنا الفيلسوف قد لبس القبعة ذات مرة. . . لبسها لينزل عن كرامته، ولينبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة. . .
كامل محمود حبيب(828/19)
الغريزة
للدكتور فضل أبو بكر
الغريزة عبارة عن ميل خاص ونزعة مجبولة في نفس الكائنات الحية منذ ظهورها إلى عالم الحس والوجود. وقد تكون نتيجة المعرفة وليدة التجارب حيناً، كما قد تتجرد عن كل ذلك في معظم الأحيان، وأن ذلك الميل وتلك النزعة تمليهما ضرورة الحياة والكفاح من أجلها.
ذلك الميل وتلك النزعة يتجليان في صورة نشاط تبدو بواكره في مستهل حياة الكائن، ويكون أشبه بالنشاط الفسيولوجي كما يظنه الإنسان لأول وهلة نتيجة لعقل أوروبية. وعمل الغريزة يكون أوضح في الحيوانات ولا سيما الدنيا منها مثل الحشرات مثلا.
أما موضوع الغريزة، فهو من المسائل التي كثر حولها الجدل وتضاربت الآراء إلى حد بعيد، إذ يرى البعض فيها عملا آلياً ميكانيكياً كعمل الساعة، أو فسيولوجياً بحتاً غير إرادي كعملية الهضم، وفريق آخر يعتبرها ناتجة عن معرفة وفهم، أو على الأقل فيها مسحة من الذكاء.
كذلك هم يتساءلون مختلفين عن نشأتهم ووجودها في الكائن: يظن البعض أنها تنشأ كاملة من أول وهلة ومن غير حاجة إلى صقل وتهذيب. ويقول البعض إنها تولد ناقصة بدائية ثم تنمو وتتطور بنمو الكائن. ويقف فريق آخر موقفاً وسطاً بين هذا وذاك ويعتقد بأن بعض الغرائز - وهي الموروثة - تولد كاملة من غير حاجة إلى تطور، وبعضها - وهي المكتسبة - تكون ناقصة تتم وتكتمل شيئاً فشيئاً بمرور الزمن.
يقف الإنسان حائراً إزاء هذه الآراء المتضاربة المتنافرة، وسبب هذا التنافر - كما اتضح أخيراً للباحثين - هو أن بعضهم يخلطبين الغرائز وبين بعض المظاهر الحيوية الفسيولوجية لما يوجد بينها من تشابه يشتد في بعض الأحيان. وأول من ألمع إلى هذا اللبس هو العالم السيكولوجي البلجيكي (لوي فرلين) وفرق بين الغرائز والظاهرات الفسيولوجية، وأن هذه الظاهرات وإن كانت في بعض الأحيان تحتم وجود الغرائز وتدعو لخلقها إلا أن هنالك عوامل أخرى غير العوامل الفسيولوجية كما سيتضح لنا جلياً فيما يلي:
خواص الغريزة ومميزاتها:(828/20)
يقول البعض إن الغريزة لها صفة (نوعية) بمعنى أن كل الحيوانات التي تنتمي إلى نوع واحد تشترك في الغرائز، ويكون عمل الغريزة فيها بطريقة واحدة، والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها أن لحشرة الزنبور نحو ألف من الأنواع، وكل نوع له طريقته الخاصة في صيد الفريسة التي يقتات منها، فالنوع المسمى يفترس حشرة من ذوات الأربعة أجنحة، والتي تعيش على البقول الجافة والحبوب واسمها النوع من الزنابير - وكل الأفراد التي تنتمي إلى نوعه - له طريقة خاصة فيما يتعلق بالصيد، إذ يلسعها ويحقنها بمادة يفرزها، ومفعول هذه المادة هو شل حركة الفريسة فقط دون موتها، ثم ينقلها إلى مأواه ويبيض عليها، حتى إذا ما فقست البويضات، وجد صغار الزنابير طعاماً جاهزاً من دون سعي ولا مشقة. ونوع آخر من أنواع الزنابير هو دائماً على حشرات الذباب، وضرب آخر منها هو لا يأكل غير حشرات العنكبوت، إلى غير ذلك من الأنواع الكثيرة ولكل نوع طريقة خاصة في اقتناص الفريسة ونوع الفريسة.
كذلك لكل نوع طرقة خاصة فيما يتعلق بالمسكن، فمنها ما يحفر جحره في هامات الصخور، أو على أديم الأرض، أو فوق الجدر والحيطان، أو جذوع الأشجار؛ ومنها ما لا يحفر ولا يشق، ولكنه يعيش في مخابئ طبيعية بين لحاء عيدان الأشجار، أو داخل ما تجوف من الأصداف والمحار.
غير أن نوعية الغريزة لا يمكن أن نقبلها إلا بشيء من التحفظ، إذ هي ليست بنوعية مطلقة، ولكنها نسبية لحد ما، تعتريها بعض الشواذ، كما أشار إلى ذلك (فرلين) بعد تجاربه التي أجراها في الإناث من طير الكناري تولد في أقفاص الأسر، وجد أن بعض الإناث لا تكون عندها غريزة بناء العش كاملة، إذ تبني عشها بطريقة مشوهة ناقصة، وقد تخفق إخفاقاً تاماً، بينما البعض الآخر - وهو من نفس النوع - يعشعش بطريقة عادية تامة. كذلك يروي العالم السيكولوجي (أشيل يوربان) في كتابة (سيكولوجية الحيوانات المتوحشة) بأن لأشبال الأسود وصغار الفهود عادات وغرائز ليست ثابتة كما هو المتوقع.
هذا، ونجد العكس في بعض الحيوانات والحشرات بمعنى إنه رغماً من انتمائها إلى أنواع مختلفة، تتحد في بعض الغرائز أحياناً كعادة تصنع الموت، وهي حيلة تلجأ إليها بعض الحيوانات والحشرات بقصد الدفاع أو الهجوم. مثال ذلك حشرة من ذوات الأربعة أجنحة(828/21)
حمراء مبرقشة بنقط سوداء، وهي أشبه شكلا بحشرة (الجعران) وهذه الحشرة اسمها وإذا ما أسرها الإنسان ووضعها على كفه مثلا أو فوق سطح مستو، فإنها تستلقي على ظهرها وتقبض أرجلها ولا تبدي أي حركة أو علامة للحياة، وإذا ما تركتها وشأنها استعادت حيويتها وأطلقت أنفاسها ثم ولت هاربة طلباً للنجاة. وهذه طريقة دفاعية مدهشة حقاً قد يحسدها عليها الإنسان في بعض الأحيان كما أن هنالك بعض الحيوانات من ذوات الثدي أشبه بالفار الصغير واسمه لأنه لا يأكل شيئاً إلا إذا غمسه وغسله في الماء، ويسميه الأنجلوسكسون النوع من ذوات الثدي يلجأ إلى نفس الحيلة ويشترك مع الحشرة المذكورة في هذه الغريزة، ولكنه يستعملها طريقة للهجوم على صغار الطيور.
نشأة الغريزة:
يقول عالم الحشرات الفرنسي (فابر) بأن الغريزة تولد كاملة منذ وجود الحيوان وعليه فهي ليست في حاجة إلى صقل وتهذيب مستشهداً بما أجراه من تجارب في مجموعة من حشرات الفراش والزنابير؛ غير أن الكثير من العلماء نذكر منهم (بول مارشال) لا يرى رأي (فابر) إذ يقول (مارشال) بأن بعض إناث الزنابير وإن كانت حقيقة كما شاهد (فابر) بأنها تلسع الفريسة لسعة من غير أن تميتها ثم تتركها لصغارها لتأكل منها طعاماً شهياً يقيم الأولاد ويسد الرمق بعكس ما إذا كانت الإناث تميت فريستها وتتركها جثة هامدة، إذ يكون الطعام في هذه الحالة أقل إثارة للشهية وأضعف قيمة غذائية، كما أن هذه الغريزة عند إناث الزنابير والتي تبدو لأول وهلة وليدة عقل مدبر؛ إلا أنه يظن أن الإناث لم تصل إلى هذا الحد من الإتقان إلا بعد مرور أزمان سحيقة خلال تطورها ونشوئها.
كذلك العالم البيولوجي الإنجليزي (بريد) يعتبر الغريزة ناقصة في أول نشأة الحيوان تتطور وتنمو بنموه. مثال ذلك ما نشاهده في صغار الدجاج إذ هي لا تجيد في حداثتها عملية (التنقير) الأزمة لقوتها، فتراها تخطيء كثيراً حين تنقر الحبوب إذ لا تصل إلى هدفها إلا بعد محاولات ثم تزداد مهارة شيئاً فشيئاً خلال نموها.
ويوافق (بريد) (فرلين)؛ إذ هو أيضاً يؤمن بتطور الغريزة؛ إذ شاهد أن إناث بعض الطيور لا تتقن بناء الأوكار في حداثتها ولا تصل إلى حد الإجادة إلا بعد أن تبلغ من عمرها حداً يؤهلها لذلك.(828/22)
غاية الغريزة وأهدافها:
إن المرمى البعيد الذي تهدف إليه الغرائز إنما هو بقاء النوع على مدى الأزمان. وتتخذ لذلك عدة وسائل: منها ملائمة البيئة، وهي غريزة سبق أن تكلمنا عنها في مقال سابق وتعرضنا إلى آراء (دروين) و (لامارك) و (اسبنر) فيما يتعلق بها. ونضيف إلى ذلك أنه كلما كان الحيوان أرقى كانت ملاءمته للبيئة أوضح وأكبر. وعلى ذلك فهي عند الطيور دائماً ملاءمة البيئة في بناء أوكارها من حيث طقس المكان الذي تعيش فيه وباختلاف الفصول في ذلك المكان. أما عند الحشرات فهي أقل وضوحاً. مثال ذلك ما شاهده (فرلين) في بعض أنواع الحشرات التي تبني بيوتها من الطين أو الصلصال، يقول (فرلين) إذا أدخل بعض التعديلات داخل تلك البيوت فإن بعض الحشرات لا تعيره انتباهاً وتستمر في حياتها كما لو لم يحدث شيء؛ ولكن البعض الآخر - وهو من نفس النوع - لا يحلو العيش ولا يطيب له المقام في هذه البيئة الجديدة فيعيد هندسة ويقدم ما قوض من أركانه مهما طال أمد التجربة ومهما كلفه من مشقة وعناء.
قلنا إن المرمى البعيد للغريزة هو بقاء النوع فهي في خدمة النوع أكثر مما هي في خدمة الفرد، ولو تراءى العكس في بعض الأحيان. والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما شاهده (فابر) و (فرلين) في هذه الحالة إذ تبين لهما أن إناث الدبور عند ما تدخر لصغارها الحشرات التي تشلها وقبل أن تفقس البويضات وتظهر الصغار إلى عالم الحس والوجود في هذه الفترة شاهد أن الإناث قد تجوع وتشتد بها غائلة الجوع إذ يندر الصيد أحياناً ويتعذر الطعام. وقد شاهدا أيضاً أن تلك الإناث تلف وتدور حول الفريسة المشلولة وتتلمسها في حالة عصبية. ولم يشاهد قط عنها أن التهمت ما نذرته لبنيها من طعام، فتؤثر بنيها على نفسها رغماً عما بها من خصاصة وحرمان.
غير أن (أشيل بوربان) في كتابه سيكولوجية الحيوانات المتوحشة يقول أن هذه القاعدة قد ينتابها بعض الشذوذ أحياناً، إذ شاهد بعد تجارب أجراها في بعض الحيوانات المتوحشة المأسورة لهذا القصد، شاهد بعض إناث النمور والأسود والدببة تتخلى عن صغارها يوم ولادتها وتنفر منها نفوراً تاماً، وسمى هذه الظاهرة الشاذة (بالغريزة الضالة) وقد عزاها غير إلى حالة مرضية تنتاب تلك الإناث. وقد يكون الأسر دخل في ذلك وشبهوها بما(828/23)
يحدث للمرأة النفساء أحيناً بما يسمى (جنون الولادة) وهو نوع من الذهان والهلوسية الحسية والشعور بالاضطهاد يقودها إلى التخلي عن مولودها بل وقتله إذا اشتدت وطأة الداء ولم تتخذ الاحتياطات اللازمة بإبعاده عنها.
وهنالك ظاهرة أخرى غربية تشبه من حيث الشذوذ - الغريزة الضالة وتسمى (بغريزة الروتين) بمعنى أنها لا ترمي - كغيرها من الغرائز - إلى هدف يستفيد منه الحيوان وهو ما نشاهده عند الكثير من الكلاب وهي عادة دفن الأطعمة كاللحوم أو العظام أو غيرها بعد أن تحفر له حفرة بمخالبها الأمامية ثم تواريه التراب. وقد تلجأ أو لا تلجأ إليه بعد ذلك مع أن بعض الكلاب التي تفعل مثل هذا قد تكون كلاباً مدللة من أصحابها ولم تعرض إلى الجوع يوماً ما!!
ولكن (روسل) يقول إن الكلاب إنما تخبئ ما زاد على حاجتها وتدخره مهما توفرت الأطعمة، وفي هذا شيء من بعد النظر بلا شك، وهو ما يطابق المثل العربي الذي يقول: (أن ترد الماء بماء أكيس).
قد يكون (روسل) مقبولا لحد ما، ولكن هنالك فريقاً من الكلاب يدفن أشياء غير قابلة للأكل مثل الحجارة، أو قطع الأخشاب، أو الملابس، وهو يدفنها بنفس الاهتمام كما لو كانت ذات فائدة غذائية. وفي هذا المثل الأخير تتضح غريزة الروتين بصورة أوضح. ثم إن الكلاب في دفنها الأشياء من غذائية أو غير غذائية تختلف، فتارة تلجأ إلى مكان بعيد وتختفي عن الأنظار، وتارة تدفن ما تريد بمرأى ومسمع عن الناس بغض النظر عما إذا كان المدفون مما يؤكل أو مما لا يؤكل!!
أسباب الغريزة ودوافعها:
إن للغريزة أسباباً داخلية وأخرى خارجية مؤثرة على الحيوان. ويقول (رابو) إن عمل الغريزة يتوقف على استمالات خارجية ومؤثرات حسية، فإناث بعض الحيوانات حين تتهيأ للحبل وتكون في حالة فسيولوجية قابلة له تبعث منها روائح خاصة من شأنها جلب الذكور وإغرائها جنسياً، وحاسة الشم عند تلك الحيوانات تلعب دوراً أهم من غيره فيما يتعلق بالناحية الجنسية، والدليل على ذلك ما قام به (فابر) من تجارب. وضع (فابر) أنثى من أنواع الفراش هو ما يسمى داخل إناء مقفل الجوانب عدا نافذتين صغيرتين تسمحان(828/24)
للهواء بالمرور ووضع الإناء وما يحوي في مكان منعزل، فوجد بعد مضي ثلاثة أيام نحو ستين من ذكور الفراش تلتف حول الإناء لما ينبعث منه روائح جلبت ذلك الجيش من الذكور، ثم وضع بعد ذلك نفس الأنثى في إناء من زجاج يشف عما بداخل الإناء، ولكنه محكم القفل لا يسمح بمرور الهواء، ثم تركه في مكان منعزل مدة ثلاثة أيام، فلم ير غير اثنين من الذكور، وقد أجرى العمليتين عدة مرات، وكانت النتائج دائماً واحدة. أما لدى بعض الحشرات مثل العنكبوت، فإن حاسة السمع تلعب دوراً أهم من غيره من بقية الحواس، إذ تعتمد عليها في اصطياد الفريسة.
من هذا يحق لنا أن نقارن عمل الغريزة بظاهرة عبارة عن قوة طبيعية تؤثر على الكائن وتجذبه إليها فتكون إيجابية، أو تصده عنها وتقصيه فتكون في هذه الحالة سلبية مثل ذلك (الجذب الأرضي)، إذ يكون إيجابياً في النبات بالنسبة للأصول والعروق، إذ هي تتجه نحو الأرض وتندفن في جوفها، وسلبياً بالنسبة للسيقان والجذوع والأوراق، إذ تتجه اتجاهاً مضاداً وتنفر عن جوف الأرض، وكذلك ظاهرة (الجذب الضوئي) تكون في النبات عكس ما يحدث بالنسبة إلى ظاهرة الجذب الأرضي.
كذلك نشاهد مفعول تلك الظاهرة، أي بعض أنواع الحشرات من ذوات الأجنحة النصفية تعيش على عصير النباتات واسمها فإذا وضعتها في مكان فهي تتجه دائماً نحو النور. وكذلك نوع من أنواع الذباب الروائح الأثيرية والحمضية المنبعثة من الفواكه المختمرة، وهذا ما يسمونه بالجذب الكيمائي.
وقد حاول العالم الإنجليزي (لوب) تعليل مثل هذه الظاهرات، ولكنه عللها تعليلا ميكانيكياً خالياً من الإدارة، بل ومن مظاهر الحياة، وزعم بأن كل أنواع ما هي إلا إحدى مظاهر الجاذبية العامة خاضعة لها، وهي كذلك أشبه بالجذب المغناطيسي.
لقيت آراء (لوب) شيئاً من الرواج حيناً ولكنها هوجمت وتبين خطأها. خذ مثلا حشرة العثة فهي تنجذب نحو النور ولكن حين يحين موعد البيض تبحث عن مكان مظلم لا يتطرق إليه بصيص من نور. والأمثال كثيرة في هذا الصدد مما دعا الباحثين إلى أن يعتقدوا بأن عملاً ميكانيكياً كما يظن (لوب) وأن الغريزة ليست إلا نوعاً منه كما كان يعتقد.(828/25)
كذلك توجد عند الحيوانات غريزة التوجيه تعتمد فيها على الذاكرة وعلى حاسة البصر أكثر من سواها من الحواس؛ فإذا فصلت النحل من خلاياه وباعدت بينه وبينها نحو أكثر من أربعة كيلو مترات ثم أطلقت سراحه بعد ذلك فإنه يرجع بسهولة إلى خلياه من غير ما يضل طريقه إليها، كما تتفاوت درجة غريزة التوجيه لدى الحيوانات.
الغريزة والعقل:
رأينا مما تقدم أن الحيوانات حتى الدنيا منها مثل الحشرات كالنحل والزنبور والطيور تقوم بأعمال يظنها الإنسان لأول وهلة ناتجة عن عقل مفكر مدبر مما دعا إلى الخلط بين العقل والغريزة في كثير من الأحيان. فبرجسون يقول إن العقل والغريزة ينشآن جنباً لجنب ويتشابهان في كثير من الأحيان ويكمل بعضها عمل البعض الآخر ولكنهما يختلفان في كثير من الأوجه، ويعتقد بأن الغريزة أميل إلى الآلية وإن كانت لا تخلو من مهارة وشيء من الإلهام.
فالغريزة تتوغل داخل الأشياء، بينما العقل يطرقها من الخارج ويعلم ما يربطها ببعضها البعض، فهو يبتكر ويحلل ولكنه مع ذلك يفتقر إلى موهبة فلسفية وفنية لفهم الحياة على وجهها الصحيح.
كذلك كان يظن (أسبنسر) (ودانتك) بأن الغريزة عبارة عن صفة فسيولوجية يرثها الفرد من النوع الذي ينتمي إليه؛ ولكن المتفق عليه الآن هو أن الغرائز عبارة عن ميول سيكولوجية وفسيولوجية بعضها موروث وآخر مكتسب، تولد ضعيفة مترددة ثم تتهذب وتنصقل بنمو الحيوان.
ولنذكر الآن بعض الغرائز عند الإنسان:
غريزة الملك:
وهي تظهر جلياً عند الطفل إذ يحاول أن يمتلك كل ما تمتد إليه يده أو يقع تحت بصره. وسبب ذلك تنازع البقاء وطلب الخلود؛ وهذه الغريزة تشمل عدة غرائز أخرى مثل غريزة الصيد؛ فإذا أتيحت للطفل الفرصة أن يقتحم عشاً للطير أو قفصاً للدجاج فإنه يأسر صغارها ويستولي على بيضها، كما يحلو له أن يتصيد الحشرات مثل الجراد والفراش(828/26)
وتبدو عليه سيماء الغبطة؛ وقد يكون ذلك بدافع من غريزة التملك أو يكون ذلك نتيجة لبقايا وآثار وراثية كامنة في نفسه وقتما كان الصيد ضرورة حيوية للإنسان الأول يقتات منها.
غريزة الحروب:
كثيراً ما نشاهد الأطفال من مختلف الأجناس والبيئات مولعين بتنظيم صفوفهم في هيئة جنود محاربة، ويشنون الحرب بعضهم على بعض متسلحين بالطوب والحجارة أو العصي الرفيعة في حرب هجومية قد يكون الدافع لها غريزة التملك إذا كان هنالك من الأشياء ما ينازعون من أجله ويود كل فريق أن يكون له دون غيره، أو بدافع حب السيطرة، أو تكون حرباً دفاعية بمواعز من غريزة حب البقاء.
غير أن بعض السيكولوجيين يرى في حروب الأطفال هذه عاملاً جنسياً؛ إذ أن الطفل يتهيأ بهذه الحروب الصغيرة إلى حرب أكبر وهي حرب الغرامية بكرها وفرها، بعنفها ولينها، مع المرأة، أو حرب دامية من أجل المرأة إذا ما حاول غيره أن يتملكها أو يغتصبها منه. غير أن هذا التأويل قد يكون بعيداً لا يخلو من المبالغة حتى أن (فرويد) نفسه الذي يعزو كثيراً من مظاهر سيكولوجية الإنسان إلى دوافع جنسية لا يرى في غريزة الحروب عاملاً جنسياً. ويقول فرويد: إن غريزة الحروب عند الأطفال ناشئة عن غريزة الاعتداء والميل إلى الخراب والتدمير.
الغريزة التناسلية
كان الرأي السائد قديماً أنها تبدو عند سن المراهقة، ولكن المسلم به الآن أنها تظهر عند الطفل وهو في مهده رضيعاً كما يقول (فرويد) كما تدخل في طور جديد عند ما يبلغ الطفل الخامسة من عمره، ومن الخامسة إلى أن يبلغ سن المراهقة يسمونه (بالطور الكامن) تكون فيه الغريزة مكبوتة بدافع من الحياء وحب قواعد الأخلاق والعرف، ثم بعد سن المراهقة بعامين أو ثلاثة يكون ميل الشاب أو الشابة أقرب إلى الحب الأفلاطوني والهوى العذري البريء إلى الحب المادي. والسبب في ذلك أن الشاب في مثل هذه السن يكون ميالاً إلى المثالية (والرومانتزم) وتحوله الأحلام وقد يتهرب من لقاء المرأة مكتفياً بالطيف محتقراً - إلى حد ما - الملذات الجسدية. وقد عزا السيكولوجي (مندوس) هذه الظاهرة إلى حصانة(828/27)
من جانب الطبيعة ترمي إلى التراث حتى تنضج الأحياء الملقحة فتكون وقتئذ أقدر على أداء وظيفتها. وقد شرح (مندوس) هذه الظاهرة وغيرها في كتابة الممتع (عقلية المراهق).
والغريزة التناسلية كما يعلم الجميع ترمي إلى بقاء النوع. وكلما كان الكائن الحي من حيوان أو نبات ضعيفاً كان لزاماً عليه أن يكثر من النسل؛ لأن أغلب ذراريه - لضعفها - عرضة للفناء على حد قول الشاعر العربي:
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلاة نذور
دكتور فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(828/28)
منادمة الماضي:
الإسكندرية في عصورها الإسلامية
للأستاذ أحمد رمزي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
فهذه الإسكندرية التي يحاول البعض أن تطغى على عروبتها كليوبطرة والبطالة الأغارقة! هي كما ترى في تاريخنا الحي الذي ننحدر من أصلابه: كانت موئل المجاهدين والمقاتلين والمثاغرين الذين لم ترهبهم قوة الحدثان، ولا أخافهم بأس العدو ولا هد من عزيمتهم توالي الخطوب.
ولذلك عاشوا وفي قلوبهم - كما قلت - نخوة وحماسة ودفعة، وفي أخلاقهم بأس المجاهدين والمرابطين، وفي عروقهم دماء أولئك الأبطال، الذين كانوا يقومون كل عام بالصائفة في بلاد الروم، ويحشدون الحشود إلى آسيا الصغرى وإنطاكية وثغورها. فأين هم والأغارقة؟!. ولماذا لا تسمي الأشياء بأسمائها؟!.
ومن الغريب أن أسلافنا لم يغمطوا القدماء حقهم!!.
فقد ذكر المقريزي في خططه: (أن المدينة أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعاً). ونقل عن وصيف شاه: (أن العمارة كانت ممتدة من رمال رشيد إلى الإسكندرية ومنها إلى برقة.) فكيف يأتي إلى عصرنا من يغمط حق أسلافنا؟ ومع هذا فالعمران الذي كان سائداً في القدم تولاه بعنايتهم المسلمون في أيامهم، فقد ذكر جغرافيو العرب أن هذا العمان يبقى وزاد بدليل ما جاء من وصف البلاد بين سخا والإسكندرية، وما ذكروه عن الحمامات والمساجد والأسواق على الطريق ووصفهم لزراعة الكتان ومعاصر زيت الفجل، وما كانت عليه المدينة من رواج الصناعةوالتجارة، واحتكارها للتوابل وطرق النقل بين الشرق والغرب. . فأين هذا مما يدعون من الخراب والفوضى وحشر هذا دائماً مع العروبة والإسلام؟!.
فإذا تركنا العصور الأولى ودخلنا العصور الوسطى كما يقولون: أراني على حق إذا أشرت إلى ما جاء به الدكتور جمال الدين الشيال في العصر المملوكي: من ذكره ما أدخل على نيابة الإسكندرية من محاسن ووصفه كيف كان يخرج نائبها بالموكب الرسمي من دار(828/29)
الأمارة. وقد عدت إلى صبح الأعشى وقرأت ما كتب عنها وما ذكر من أنها نيابة جليلة ونائبها من الأمراء المقدمين وهي تضاهى في الرتبة نيابة طرابلس الشام، وجاء فيه: (فإذا سار (النائب) إلى دار النيابة. . . وضع الكرسي في صدر الديوان مغشى بالأطلس الأصفر ووضع عليه سيف تمجاه سلطانية ومد السماط تحته).
لقد أنصف قسم التاريخ - في شخص الدكتور الشيال - الإسكندرية لأول مرة، وانصف فيها تاريخ مصر الإسلامي. وكم يكون عمله مستكملاً لو كشف لنا أسماء النواب ابتداء من سنة 767 هجرية أي في الدولة الأشرقية شعبان إلى زوال الدولة المصرية بانتهاء حكم الغورى.
إنه ليسهل الحصول عليها في نظري، فقد اطلعت في عصر الملك الظاهر برقوق من حوادث يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة 789 هجرية (ديسمبر 1387 - يناير 1388 ميلادية): (خلع الملك الظاهر برقوق على الأمير زين الدين أمير حاج بن الأمير علاء الدين مغلطاي وولاه نيابة السلطنة بثغر الإسكندرية عوضاُ عن الأمير بجمان المحمدي بحكم عزله. وفي يوم الجمعة 12 ذي الحجة توجه طلب الأمير زين الدين أمير حاج إلى ثغر الإسكندرية نائباً بها).
وممن ولى نيابة الإسكندرية بزلار بن عبد الله العمري المتوفى سنة 791 هجرية ترجم له القاضي زين الدين طاهر بن حبيب فقال عنه: (كان أميراُ لطيف المقالة وافر الهمة والشجاعة في كل ملحة شديد القوة في اللعب بالسمهري والحسام نصيب سهامه كل غرض بصوبها عليه).
فهؤلاء رجال الحكم في العهد الإسلامي، وأعتقد أن أسماءهم جديرة بأن توضع على الطرق والشوارع، بل هي أولى من الأسماء الأعجمية التي يواجهها كل من زار الثغر الإسكندري؟ فينظر أليها ويتأسف.
إنني واثق من أن جامعة فاروق ستكشف صفحات خالدة في تاريخنا القومي للمدينة، وتغير رأي الناس فينا.
أكتب هذا وانتظر الشيء الكثير من معهد الإسكندرية الديني وأؤمل أن يبعث رجاله وعلماؤه الحياة في التراث الديني للثغر الإسكندري لكي نتعرف إلى أئمته لزيارة قبورهم(828/30)
وتبهرنا آثارهم وما خلفوه من ورائهم.
وإليك قطرة من بحر زاخر بالأحبة من السلف الصالح، قطرة من أوائل القرون الأولى:
في 177 هجرية توفى بالإسكندرية عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني صاحب أبي هريرة.
135 - (توفي أبو عقيل زهرة بن معبد بالإسكندرية عن سن عالية. قال الدرامي زعموا أنه كان من الإبدال روي عن أبي عمر وابن الزبير.
167 - (في أبو شريح عبد الرحمن بن شريح المعافري بالإسكندرية روى عن أبي قبيل وطبقته وكان ذا عبادة وفضل؛ قال السيوطي في حسن المحاضرة ذكره ابن حيان في الثقاة.
181 - (ومات بالإسكندرية يعقوب بن عبد الرحمن القارئ المدني روى عن زيد بن اسلم وطبقته.
281 - (توفي العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المواز الإسكندراني المالكي صاحب التصانيف اخذ عن أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم وانتهت إليه رياسة المذهب واليه كان المنتهى في تفريع المسائل.
أين علماء الإسلام وحملة أنوار الشريعة المحمدية وأين قضاة الإسكندرية في هذا الزمن، بل أين أصحاب المذهب المالكي؟ ما لهم يخفون هذه الأنوار عنا وراء ظلال المتهجمين على تاريخنا الخالد؟
أقولها كلمة حق: يا قوم إن تسعة أعشار الأيمان قوة وصلابة وشجاعة في برج من أبراج مدينتكم وكان له شبا كان أحدهما يطل على البحر والآخر على المدينة وتردد عليه أسلافكم من الأكابر والأعيان والفقهاء يقرؤون ويستفيدون منه، فهل هد الاعتقال من عزيمته؟ وهل أنقصت الأيام وشدتها من حماسته وشجاعته؟ كان قوة من قوى الإسلام الدافعة، فليكن منكم فريق على سنته وإقدامه. . .
أقول هذا وأمامي أسماء من تولوا القضاء بهذا الثغر في عصور الإسلام الزاهية، أود لو يتسع المدى فأتكلم عن كل واحد منهم، أحقق عصره واخرج من كتب التراجم حياته وآثاره؛ ولا أخص أشهرهم ولا أعلمهم، وإنما بين يدي قضاة الملك الظاهر برقوق وبينهم القاضي جمال الدين الشهير بالحميدي الفقيه الحنفي تولى بعد القاضي همام الدين، ولو(828/31)
شئت المزيد فارجع إلى ما تركه من آثار نجد أن ناحية القضاة الإسلامي ميدان لا يزال بكراً بطلب البحث والدرس والتقييد والإفاضة.
فإلى قضاة الثغر الوطنيين والشرعيين أوجه كلامي ففي عنق كل منهم أمانة. وما الفضاء الوطني إلا تكملة للقضاء الإسلامي وشعاع انبثق من أنوار ساطعة في فترة أربعة عشر قرناً من الزمن.
أما تاريخ الإسكندرية الحربي فهو صفحة من صفحات الخلود لم تكتب بعد. ولن أحدثكم عن عمل الإسكندريين في حروبهم وقتالهم، وأنما أكتفي بأن أشير إلى بطولة امتازوا بها خلال القرون الماضية وهي حماية الحصون والقلاع، وخدمة الأساطيل الإسلامية.
جاء في حوادث سنة 261 هجرية أن إبراهيم بن أحمد بن محمد ابن الأغلب ولي أفريقية وحسنت سيرته فكانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة، وبنى الحصون والمحارس على ساحل أبحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبته إلى الإسكندرية فيصل الخبر منها الإسكندرية في ليلة أو اكثر وبينهما مسيرة أشهر
وجاء في حوادث سنة 671: اهتمام الملك الظاهر يبيرس بأمر الشواني وكيف أمر بأعداد مائة منجنيق ونصبها على أسوار الإسكندرية.
وجاء ذكر أبطال من الرجال حذقوا رماية القوس من أهل الثغر واختصوا بحماية الأبراج؛ فهؤلاء آتي يوماً الظاهر برقوق واستعرضهم بالقاهرة تحت اسم رماة القوس بالرجل؟
ولست أعرف مدينة من مدن البلاد العربية ضاعت آثارها الإسلامية وأزيلت أغلب معالمها مثل الإسكندرية وقد حاولت أن أجد لذلك مبرراُ فلم أقدر: سوى تلك الرغبة التي نراها في عبادة المدينات التي انقرضت، واتهام المسلمين بأنهم قوم يسرع الخراب على أيديهم. فأسوار المدينة في العهد الإسلامي وأبراجها قد أزيلت؛ وكانت بقايا باب رشيد لا تزال قائمة فإذا بمكانها يستعمل حديقة عامة؛ وتحت شعار أن القبور لا تحوي أصحابها أزيلت معالم المدينة الإسلامية وقبور العلماء والأولياء والصالحين، وكل ما يذكرنا بماضينا: حتى أسماء الأحياء والشوارع قد تغيرت باسم التجديد. فكأنما قد ولدنا اليوم، وكأننا قد بعثنا وليس لنا ماض يذكر وتاريخ يعرف. ولولا عناية كريمة شملت قلعة السلطان قايتباى تستحق أن تحمد وتشكر، لبقيت جدرانها مهدمة ولزالت مع الزمن.(828/32)
إن النهضة الصحيحة هي التي تستند على تاريخنا العربي وتذكرنا بأيامنا ومواقفنا، وأعيد ما سبق لي أن كتبته يوماً ونشرته:
(إننا معاشر الأمم الإسلامية أصحاب مجد وتاريخ وصوله على هذا الكوكب الأرضي، وهو تاريخ حافل بأيام العراك والكفاح والنصر والهزيمة، وهو في قوته وبروزه وأثره لا يمكن أن يقارن به تاريخ أية أمة من أمم الأرض مهما علا كعبها في الحضارة).
أحمد رمزي(828/33)
كيف تقرأ كتاباُ؟
للأستاذ إيليا حليم حنا
كيف أقرأ كتاباً؟!
نعم كيف تقرأ كتاباُ تنغمس فيه فيستغرقك ويستولي عليك فتعيش في عالم كاتبه وتحيط نفسك بجوه، تشعر بإحساساته وشعوره وخوالجه التي هي عصارة عقله قلبه، وتحلق بروحك وفكرك في عالم علوي ساحر متجرداُ عن الزمن والمكان وكل ما يدور في محيطك المادي سائراً في دروب التفكير العميق منسجماُ مع الكاتب تحادثه وتناقشه بصوت عقلك. في هذا العالم الفكري المهيمن الأخاذ تستشف ما وراء الكلمات والسطور وترى غير ما يراه الناس وتحكم غير حكمهم وتحس إحساسا خاصاً بك وتصل إلى نتائج قد تكون مكملة لما قصد الكاتب، وهذه ناحية من نواحي الإبداع والتوليد لا تظهرها إلا الحمية الذهنية والتركيز الفكري والاندماج في جو الكاتب.
هذه هي القراءة التي أعنيها والتي توسع الفكر وتصقل الملكات وتغني النفس وتظهر ما تنطوي عليه من قوى الخلق والابتكار الكامنة وتخلق من الفرد العادي شخصاً ممتازاُ متفوقاً بمثل أرقى طبقات الذهن البشري.
والنقاط الآتية هي دستور القارئ الذي يرى في القراءة نموه الفكري وزاده النفسي، ويسعى إليها يقضي فيها أهنأ أوقاته وأحبها إلى قلبه كلما أراد الاستزادة والاستلهام.
1 - لا تستفيد مما تقرأ إن لم يكن لك غرض من قراءتك؛ فلا تدع الكتاب يكون لذة عابرة بل اخزن من ثروته وأضف جديداً إلى معلوماتك وحياتك.
2 - يجب أن تقرن القراءة بالتفكير يرمى فيه القارئ
إلى فهم ما يقرأ وحذفه وهضمه ولا يتأتى هذا إلا بالتجرد عن العالم الخارجي وحصر كل
انتباهه وتفكيره وانطوائه وتفكيره وانطوائه على نفسه وهو صامتاُ.
3 - اقرأ بسرعة متفاوتة، فالعسير من الأفكار والآراء يحتاج إلى تأن حتى تنفذ إليه. والسهل أقراه بأقصى سرعتك في القراءة
4 - إلى جانب الكتاب الذي تقرأه جهز كراسة تقيد فيها سوانحك الطارئة كما هي بغير تهذيب أو صقل حتى تفرغ من قراءة الكتاب، فتعود إليها تصوغاً صوغاُ مناسباً. ولكن لا(828/34)
تدع هذه الخاطرة تفلت وتطير.
5 - إذا آتتك فكرة تجلو غوامض موضوع سبق قراءته فبادر بكتابتها حتى لا تضيع فبضباب الذاكرة المطبق لئلا تفر ويتقطع أثرها.
6 - إذا عرضت لك فكره وسلكت بك طريقاً جديدة من التفكير فدع عقلك يسبح طليقاً مسجلاً تفكيرك حتى تفرغ منه ثم تعود إلى الكتاب.
7 - اكتب ملاحظاتك واستنتاجاتك التي تعن لك على هامش الكتاب - إذا كان ملكك - وضع الخطوط تحت الأفكار والقطع التي ترغب في تذكرها بصفة خاصة.
8 - لاحظ كيف تسير النقاط الفرعية ومقدار انسجامها مع الغرض الرئيس ثم سجل الفكرة الرئيسية في كل جزء مما تقرأ وضع علامة استفهام أمام النقاط التي صعب عليك فهمها أو التي تريد أن تتوسع فيها واكتب ملخص الفكرة التي استخلصتها من الجزء الذي تقرأه وسجل كل ما يخطر ببالك من الأسئلة والأفكار.
سجل الآراء الجديدة التي هي نتاج تفكيرك وضع تحتها الحرف الأول من اسمك أو علامة تدل على أنها لك.
9 - لا تنتقل من فكرة إلى فكرة دون غاية ودون رابطة معقولة بين الأفكار حتى تشعر بلذة التفكير وتنساق مع الكتاب في عالم فكري جميل وقد حصرت كل انتباهك وتأملك دون أن تشعر.
10 - لا تأخذ كل ما تقرأ قضية مسلمة بل زن أهم الآراء وانقدها نقداً بريئاً ثم احكم عل كل منها حكماً مجرداً عن الأهواء على ضوء معلوماتك السابقة واربط الماضي بالحديث فيتحول إلى فكرة جديدة مستقلة بعد أن تعمل فيها تفاعلاتك الذهنية وتجاربك. قف عند هذه الفكرة متسائلاً (ماذا عسانا أن تستخلص منها لأنفسنا وللإنسانية من فائدة عملية؟).
11 - بعد الفراغ من قراءة الكتاب حاول في اليوم التالي أن تكتب بإيجاز رأيك عنه وما يعن لك من آراء حرة في الموضوع وسيدهشك انك تكتب عنه أكثر مما قرأت فيه؛ وتنساب الأفكار على القرطاس سلسلة طبيعة لا التواء ولا صعوبة في تسلسلها كأنك تنقل من صفحة أمامك بل أسهل؛ ذلك لان العقل الباطن يشتغل بالموضوع في الوقت الذي يبدو لنا فيه أن عقلنا الظاهر في دعة وخمول.(828/35)
12 - إذا كان موضوع الكتاب قد أثار اهتمامك فاجعل هذا حافزاً للاستزادة من نفس الموضوع في كتب أخرى.
13 - إذا كنت لا تعرف شيئاُ عن الكتاب الذي تريد قراءته فاقرأه بسرعة لتكون لك فكرة إجمالية عنه بعد ذلك انتقل إلى دراسة التفاصيل فيه أن أعجبك موضوعه.
14 - ليكن رائدك (أقرأ وفكر واعمل) فإن أجمل صيغ الحياة وأجلها وانفعها هي التي يمتزج فيها نبل المثل الأعلى وجدوى العمل المحك، والعمل بغير ثقافة حركة بصيرة، والثقافة بدون عمل بصيرة مشلولة.
الأبيض - سودان
إيليا حليم حنا
دبلوم عال في التربية - دبلوم صحافة(828/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
ومضات فكر من وحي الربيع:
قلت لنفسي وجحيم يلفح الوجوه في يوم من أيام الأسبوع الماضي: أنحن حقاً في الربيع؟. . أين هو الربيع الذي يفيض على الحياة من رقة أنسامه، ويضفي على الأحياء من روعة أحلامه، ويوحي إلى الأقلام من سحر معانيه؟!.
الربيع في لغة الفن بسمة ترف على الشفة، وومضة تشع في العين، وفرحة تختلج في الشعور، وهمسة تحلق في فجاج الروح. . .
والربيع في لغة الطبيعة زهرة تفوح بالأرج، وطير يصدح على غصن، موجة تهدهد موجة، ونسمة تداعب نسمة، ونغم ينساب من خرير جدول. . فأين لغة الفن والطبيعة من لغة الواقع الذي نعيش فيه؟!.
الربيع عندنا حلم من أحلام اليقظة يستغرق فيه الخاطر ولا تراه العيون، وصفة من كتاب الطبيعة نطالعها في وجوم وحيرة، ونطريها في سكون وصمت. . ثم لا تثير بعد ذلك في حنايا الضلوع عاطفة!
وقلت لنفسي: إن أدبنا لو خلا من الروح فهو مظلوم. . أين الطبيعة الوادعة التي يستطيع في رحابها أن يتنفس، وأين الأفاق الحانية التي يتهيأ له في ظلها أن يعبر، وأين الأجواء الطليقة التي تمده بينابيع الجمال ليتدفق ويفيض؟!.
لا شيء في أيدينا من هذه النعم التي اصطفى بها الله أرضاً دون ارض، وخص بها سماء دون سماء. . . وبشراً يموجون في موكب الحياة دون بشر!!
من صفاء الطبيعة يستمد الأدب إشراقه اللفظ، ومن إشعاع الطبيعة يقبس الأدب حرارة العبارة، ومن ألوان الطبيعة يرسم الأدب جوانب الصورة، ومن توثب الطبيعة يحلق الأدب على أجنحة الفكر والخيال. . . ولكننا محرمون من الربيع في ريعانه، ومحرومون من عيد الطبيعة في أبانه؛ ومن هنا عاشت نفوسنا في حرمان من البهجة التي تفيض ولا تقطر، وعاش أدبنا في حرمان من الموهبة التي تبدع ولا تقلد، وانتهى بنا المطاف إلى لون من الفن الكئيب الذي ينقل عن الطبيعة الواجمة كال معنى حزين، وكل فكرة حيرى، وكل(828/37)
مشهد قاتم. . . هناك حيث تلقى الحياة في خمارها الأسود الذي يحيل البسمات إلى أنات!
أدبنا المصري صورة من بيئتنا المادية. . . فيه ما فيها من طابع الكآبة والخمول، وفيه ما فها من صبغة التكرار والجمود، وفيه ما فيها من سمة المظهر البراق الذي يلوذ بالسطوح ولا يدرك الأعماق!.
إنك تظلم الأديب في مصر حين تدفع إليه بالقلم وهو محروم من مصادر الوحي، وتظلم الفنان في مصر حين تفرض عليه الإبداع وهو بعيد عن عناصر الخلق، وظلم هذه البقعة من الأرض حين تطالبها بإخراج العباقرة وهي خواء من منابع الإلهام!!
أدبنا في الخريف، ونفوسنا في الخريف. . . وذنبنا أننا نتلقف أنسام الربيع من صفحات الكتب ومن أفواه الناس!
ردود قصيرة علي رسائل القراء:
حقيبة البريد في هذا الأسبوع عامرة بالرسائل. . . بعضها شعر بعث به إلى أصحابه ليأخذ طريقه إلى صفحات (الرسالة)، وبعضها الآخر أسئلة من القراء وتعقيبات.
أما الرسالة الأولى فمن الأديب الشاعر يوسف جبرا وبها قصيدة اسماها (صرخة)؛ إنه يسألني عن رأيي في قصيدته قائلاً: (وإن كان فيها خروج على أدب يحول دون نشرها فلماذا لا تحرق (الدبكامرون) و (ألف ليلة) و (اعترافات جاك جاك)؟. .
أود أن أجيب الشاعر الفاضل بأنني من الذين يدينون بالقول المأثور:: ' ' الفن للفن. وقد كتبت في هذا الموضوع مقالاً في (الرسالة) تحت عنوان (دفاع عن الأدب) تعرضت فيه لرأى الفيلسوف الإيطالي نبدتوكر وتشه في أدب الاعترافات عامة وأدب جاك جاك على الأخص. هذا من جهتي، أما من جهة الأستاذ صاحب (الرسالة) فأعرض القصيدة عليه ليرى فيها رأيه. . . في نطاق فكرتها الفنية لا في نطاق روحها الشعرية، لأنها ترضيني في حدود هذا النطاق الأخير.
أما الرسالة الثانية فيها قصيدة أخرى للأديب الشاعر كيلاني حسن سند تحت عنوان (في طريق الحياة). . . في شعر الأديب الفاضل نفحات طيبة تنبئ عن موهبة، وسأعرض قصيدته على الأستاذ الزيات مع قصيدتين أخريين إحداهما تحت عنوان (ذكرى وربيع: للشاعر الإسكندري احمد محمود عرفه، والأخرى تحت عنوان (إلى السودان يا أماه)(828/38)
للشاعر الدمنهوري عبد المطلب منجى.
وهذه رسالة خامسة من (كوستى - سودان) أشكر لمرسلها الفاضل (ع. م) ولعله الأديب الشاعر عبد الله موسى كريم تقديره، وأجيبه بأنني في انتظار رسالته الثانية لأرد عليه في رسالة خاصة. ورسالة سادسة من (أم رواية - سودان) يعرض علي فيها الأديب الفاضل محمد الحسن شاع الدين بالنيابة عن زملائه أعضاء نادي (أم رواية) الأدبي، أن يوجه إلى الأعضاء بعض الأسئلة الأدبية في كل أسبوع لأجيب عنها على صفحات (الرسالة) نظراً لخلو بلدهم من أديب (حجة) يرجعون إليه. . . إنني مع شكري الخالص لهذه التحية الكريمة يؤسفني جد الأسف إلا أستطيع تلبية هذه الرغبة الغالية نظراً لضيق وقتي من جهة، ولكثرة الموضوعات المحلية التي تحتاج إلى تعقيب من جهة أخرى. . .
وفي الرسالة الساعة يسألني الأديب الفاضل محمود احمد سعيد بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية عن بعض كتاب (الرسالة) القدماء، ولماذا اثروا هجر رسالتهم في خدمة الأدب والفن باختفائهم عن العيون والأسماع. . . الحق يا أخي أنني اعجب معك لهذا الاختفاء الذي لا اعرف سبباُ يبرره أو يدعو إليه! وانتقل إلى الرسالة الثامنة. . أن مرسلها الأديب الفاضل ع. ص العرابي من (ساحل سليم) يعقب على ما كتبه حول الصبي الأمريكي المقعد الذي أذاع نداء الحاجة إلى ذوى القلوب الرحيمة من إحدى دور الإذاعة الأمريكية بقوله: (إن هذا الصبي المقعد لو كان في مصر لما سمح له بالوقوف أمام باب الإذاعة، فما بالك بالوقوف أمام الميكروفون الذي اصبح وقفاً على المحا سيب والأذناب. . ومع ذلك يقولون أن الشرق شروق ونور وأن الغرب غروب وظلام)! أما الرسالة التاسعة فمن (العدلية)، يعبر فيها الأديب الفاضل مصطفى احمد عثمان عن رغبته في أن أفسح له طريقاً إلى صفحات (الرسالة) بعد استئذان عميدها في عرض نتاج قلمه. . إن ردي بعد شكره على كلماته الأولى التي خصني فيها بفيض من ثنائه، هو أن (الرسالة) ترحب بكل إنتاج أدبي يتسم بالنضج والأصالة بصرف النظر عن الأسماء والألقاب!.
وهذه هي الرسالة العاشرة والأخيرة يقول فيها مرسلها الأديب القاهري الفاضل عمر إسماعيل منصور بعد كلام طويل عن الأستاذ سلامة موسى: (أناشدك الله يا سيدي إلا تكتفي بما كتبت عن هذا الرجل. . . أننا نلح في الرجاء بأن تنزع عنه هذا الثوب الشفاف(828/39)
الذي يضلل به المخدوعين والجهلة وضعاف)! وأنا أقول للسيد عمر أن الأستاذ سلامة موسى أهون من أن اشغل نفسي به وأشغل معي القراء، بعد أن كتبت عنه ما كتبت على صفحات (الرسالة)!
ولهؤلاء الأصدقاء جميعاً خالص الشكر وعاطر التحية.
حقوق الأدباء بين الرعاية والإهمال:
كتب الأستاذ توفيق الحكيم منذ أيام كلمة في (أخبار اليوم) أشاد فيها بتلك الروح المثالية التي تجلت في موقف معالي وزير المعارف من الأستاذ الشاعر على محمود طه والدكتور طه حسين بك فقد اصدر الوزير آمرا بتعيين الشاعر وكيلاً لدار الكتب المصرية ثم أفاض في الثناء على الدكتور بمناسبة فوزه بجائزة من جوائز المغفور له الملك فؤاد، وهي جائزة الأدب. أشاد الحكيم بتلك الروح النادرة أن صاحبها قد تجرد من رداء الحزينة حين كرم الأدب في شخص الكاتب والشاعر، وكلاهما لا يمت بصلة من الصلات إلى حزب الوزير وميوله السياسية. . . ثم انتهى الأستاذ الحكيم إلى أن هذه الظاهرة الكريمة أن دلت على شيء فإنما تدل على أن الأدب بخير ما دامت الدولة ترعى حقوق الأدباء.
كتب الأستاذ الحكيم هذا الكلمة في (أخبار اليوم) فانبرى الدكتور إبراهيم ناجي للرد عليه في جريدة (صوت الأمة) بكلمة أخرى ذهب فيها إلى أن الأدب في مصر ليس بخير كما يخيل للأستاذ توفيق الحكيم؛ لان الدولة إذا كانت قد رعت حق الكاتب الكبير والشاعر الكبير فما أكثر المهملين من الكتاب والشعراء. . . أولئك لم يحظوا من رعاية الدولة بنصيب؟
إنني أعقب على الرأيين فأقول: إن بعض الأدباء في مصر قد ظفروا برعاية الدولة وهم آهل لهذه الرعاية، فليس لمعترض أن يعترض على ما رد إليهم من حقوق. . . ومن هذا البعض الدكتور طه حسين والشاعر على محمود طه! ولا أستطيع أن أختلف مع الدكتور ناجي في أن هناك أدباء قد أغفلت جهودهم في خدمة الأدب إغفالا لا يليق بدولة ناهضة أن تقدم عليه. . كما لا يستطيع الدكتور ناجي أن ينكر أن هناك أدباء قد نالوا من عطف الدولة أكثر مما يستحقون لأنهم أبواق، ولا حاجة بي إلى الإفصاح فهم أغنياء عن التعريف!!
نخرج من هذا كله بأن الأدب في مصر بخير بالنسبة إلى الفئة الأولى من الأدباء، وليس(828/40)
بخير إلى الفئتين الأخريين وهذا هو التحديد الذي يجب أن يذكر عند التعرض لموقف الدولة من الأدب وأهله بوجه عام!
الفن والحياة بين أمس واليوم:
هذا عنوان كلمة في (الأهرام) تناولت فيها السيدة بنت الشاطئ بالعرض الطلي والتحليل النابض موقف الفن من الحياة بين الماضي الغابر والحاضر المشهود. ولقد كانت الكلمة من وحي مشاهدتها للحفل الرائع الذي أقيم لتكريم الأدب والعلم في جامعة فؤاد الأول، حين أقبل مندوب صاحب الجلالة الملك ليقدم الجوائز للمتفوقين الأعلام.
لقد كان رائعاً حقاً أن تجول الأدبية الفاضلة بفكرها بين ألامس واليوم، لتقوم بموازنة طريفة بين موقف الفن من القصر وموقف القصر من الفن في عهد القدامى والمحدثين. . . يوم أن كان الشعراء يقفون بأبواب الملوك وقفة الذل والخضوع في انتظار صلة قد يظفرون بها وقد لا يظفرون، ولا بأس من صيغة الكرامة الشخصية والعقلية في غمرة القول الملفق والشعور المصنوع. . كما فعل ابن نباته السعدي حين ورد على ابن العميد، وكما فعل ابن هانئ الأندلس حين طرق أبواب المعز، وكما فعل أبو الطيب المتنبي حين احسن الظن بتقدير كافوراً!
من عهد أولئك القدامى تنتقل السيدة بنت الشاطئ إلى عهد المحدثين بهذه الكلمات: (فأين هذا مما ترى اليوم؟ اليوم تقدم جائزة الملك تقديراً للأدب وتكريماً للعلم!. . . ولمن تقدم؟ للأديب والعالم، لم يقفا بباب، ولا امتهنا بسؤال، وإنما عكفا على الدرس وشغلا به!. . . وعلى أي شيء تمنح؟ على درس أدبي لم يرد فيه ذكر الملك صاحب الجائزة، وعلى بحث علمي لا صلة له بالقصر!. . . وأين؟ في دار العلم، يسعى بها من القصر العامر رسل كرام مختارون، تقديراً للجامعة واعتزازاً بها!. . . وهكذا أصبحت أموال الملوك ترعى الفن والعلم وتبذل لرفع شأنهما، وقد كانا - كلاهما - من قبل مسخرين في خدمة كل ذي مال أو سلطان! فهل انعكست الأوضاع ودارت الدنيا وتغير نظام الكون؟ كلا، لا شيء من ذاك. . فأن مشهد اليوم ومشهد ألامس ليسا سوى مظهرين اثنين، لصلة الفن بالحياة).
هذا كلام جميل، وأجمل منه قول الأديبة الفاضلة: (ونحن (الأمناء) الذين اتخذنا الكرامة شعاراً وحاربنا الأدب الرخيص المرتزق، نبارك هذا المظهر الكريم، ونرى فيه طلائع(828/41)
النهضة التي طالما تمثلناها، وبشرنا بها)!.
أنور المعداوي(828/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تقرير الدولة للأدباء:
بدا في الأسبوعين الأخيرين تقدير الدولة للأدب والأدباء في أشخاص جماعة كرمة من رجال الأدب، فقد ظفر الدكتور طه حسين بك بجائزة فؤاد الأول الأدبية لهذا العام، وتفل مندوب جلالة الملك في الحفل الذي أقيم لذلك بالجامعة فصافح عميد الأدباء وسلمه الجائزة. وقد كان للعطف الملكي الكريم نحو الدكتور طه وقع حسن وأثر بليغ وخاصة في نفوس الأدباء، لما ينطوي عليه من التكريم والتقدير لعميدهم العظيم.
وانتخب أستاذنا الكبير احمد حسن الزيت عضواً بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، ولم يكن من اللائق أن يظل الأستاذ بعيداً عن المجمع وقد ضم أقرانه من أعلام الأدب في مصر؛ وأن لانتخابه لمعنى من التقدير الخالص، فهو لا ينتمي إلى حزب يقدمه ولا شيعة تنصره.
وعين الأستاذ الشاعر على محمود وكيلاً لدار الكتب المصرية، وكان قد ترك خدمة الحكومة لملابسات اضطرته إلى الاستقالة، ولكن معالي الأستاذ على أبواب وزير المعارف مسح على آثار تلك الملابسات فأعاد للشاعر حقه. وإن لمعاليه فضلاً ملحوظاً في ذلك رددته الصحف وتحدثت به المجالس، إذ تعالى بهذا العمل وبتحيته السمحة للدكتور طه حسين في احتفال الجامعة في كل اعتبار من الاعتبارات التي اعتدنا أن نرى رجال السياسة عندما يضعونها موضع الاهتمام. ويضاف إلى ذلك عطف معاليه على الأستاذ محمد سعيد العريان؛ إذ أحله المحل اللائق به في الوزارة بعد أن تفاد فته الوظائف المختلفة على كره منه.
وإن الدولة، إذ ترعى الأدب بمثل هذه العناية وذلك الروح إنما تقوى الحركة الأدبية في الآمة وتنمي ثروتها الفكرية الخالدة وإذا كانت الدولة تهتم بتقويم الجيش وتعزيز أسلحته للدفاع عن حرية البلاد واستقلالها، فإن أقلام الأدباء لها شأنها في الدفاع المعنوي ضد كل الشرور والآفات إلى ما تضطلع به من رسم المثل وتحقيق الغايات البعيدة والقريبة.
قلة الأدب في الإذاعة:(828/43)
لا أقصد هذه الأغاني الرخوة التي يشكو بعض الناس من أذاعتها على أبنائهم وبناتهم إذ يخشون بأسها على أخلاقهم ولا أقصد تلك الألحان المثيرة التي أذاعتها الإذاعة فاعترض عليها فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وأقنع إدارة الإذاعة بأنها تنافي الحياء، فاقتنعت. وكثيراً ما تخطيء الإذاعة، وقليلاً ما تهتم بإصلاح الخطأ، ويكون هذا القليل من قبل ما لا قبل لها بدفعه.
ولندع هذا، فما إليه قصدت، إنما أقصد الأدب بالمعنى الفني وما إليه من ألوان الفكر والثقافة. والأدب في إذاعتنا المصرية قليل من زمان، ولكنا نراه أخيرا يكاد يمحى في برامجها، وقد كانت تذيع سلسلة اسمها (أعلام الأدب العربي) وقد قطعتها منذ شهور. وحسناً فعلت، فما كان هذا البرنامج إلا صفحات من مذكرات تاريخ أدب اللغة في المدارس الثانوية، وليست أدري هل منعتها الإذاعة لتفاهتها وسخفها أو لغير ذلك، ولكن هلا فكرت في برنامج أدبي آخر؟ ويقولون أن في الإذاعة قسماً لسماع الإذاعات الأجنبية للاستفادة من برامجها، فهلا استمع هذا القسم إلى الإذاعات العربية المختلفة التي تقدم ألوانا حية من الأدب العربي قديمه وحديثه. وفي العام الماضي قام مدير الإذاعة برحلة إلى عواصم أوربا لزيارة دور الإذاعة فيها والاطلاع على برامجها. . . أفلا قام بزيارة لدور الإذاعة العربية ليرى كيف تنتفع بالكفايات الأدبية وخاصة المصرية؟ وقد زار فيما زار دار الإذاعة البريطانية، فهل عرج على القسم الأدبي فيها ورأى الجهود المصرية الأدبية فيه؟.
ومما كانت تقدمه الإذاعة من ألوان الأدب وأمسكت عنه التعريف بكتب الأدب العربي القديمة، وكان يقوم بذلك الأستاذ على أذهم على خير وجه، ويعلم علام الغيوب لم منعت الإذاعة هذا البرنامج، وتقول هي في مجلتها أنها تهتم بالأحاديث التي تعالج الشؤون الحيوية والمسائل العامة، ولنفرض أن المستمعين جميعاً. أغلقوا أذهانهم وأذواقهم دون الغذاء الأدبي والفكري وأصبحوا لا تعنيهم إلا المنافع المادية القريبة، فلماذا تقدم لهم الإذاعة؟ نظرة واحدة إلى البرنامج - ولا أجشمك الإصغاء إليه - ترى منها أن اكثر الموضوعات لا فائدة منها، فهذا (أهم حوادث الأسبوع) يتلو عليك ما نشرته الصحف من أيام، وكذلك البرلمان في أسبوع، وهذه أحاديث يلقيها كبار الموظفين كالنشرات التي تصدرها المصالح بالإحصاءات وما تم من الأعمال وما أدرج في مشروع الميزانية إلى(828/44)
غير ذلك من الهذر الذي لا فائدة منه إلا بأقفال أجهزة الإذاعة فيخف الضغط على تيار الكهربا ويقل الاستهلاك. . .
الليل لنا:
هو الفلم الذي عرض أخيرا بسينما استديو مصر، ألفه يوسف جوهر، وأخرجه ومثل دور البطل الأول فيه محمود ذو الفقار، وأشترك في التمثيل سليمان بك نجيب والمطربة صباح. يبدأ عرض الفلم فإذا حشد من الحوادث المختلطة المزدحمة يؤدي إلى نشوء حب بين نوال (صباح) المغنية بفرقة الكواكب وبين طبيب شاب (محمود ذو الفقار) من أبناء الباشوات، ينتهي هذا الحب إلى الزواج. ولا بد أن تجتاز كل هذه الحوادث الكثيرة حتى تصل إلى نبضة القصة أو فكرتها، عند ما تلجأ نوال إلى شقة رسام شاب هربا من الشرطي الذي اشتبه فيها فظنها من بنات الليل، وكانت في أثناء ذلك لا تزال تعمل بفرقة الكواكب ولم تتزوج بعد من الطبيب؛ يستقبلها عباس (الرسام) في شقته ويعرض عليها الشراب فتأبى، فيستشعر نبل الفنان ويرفق بها، ثم يسرف في الشراب ويأخذه النوم، ثم يصحو فيجدها نائمة على مقعدها فيتأمل جمالها ويغطيها بمعطفه ويعود إلى النوم، ثم تصحو هي فتجده نائماً على مقعده فتغطيه بالمعطف، وتتسلل خارجة بعد أن اطمأن إلى ذهاب الشرطي من أمام المنزل. ويتهم بعد ذلك الرسام بقتل عمه لخلاف بينهما، وقد وقعت جريمة القتل في الليلة التي كانت نوال بشقته فيها، وفي الوقت الذي كانا فيه معاً؛ وعند محاكمته يطلب شهادة نوال وكانت قد تزوجت من الدكتور وحيد (الطبيب ابن الباشا) ويصل علم ذلك إلى زوجها وأبيه، فيعمل الباشا (سليمان نجيب) على أبعادها عن الشهادة خشية تلويث سمعته وتعاني هي صراعاً هائلاً بين واجبين: المحافظة على كرامة أسرة الزوج، وإنقاذ الشاب البريء من الإعدام وليس له دليل على البراءة غير شهادتها، وتبدع صباح في تمثيل هذا الموقف ونصب حيرتها في أغنية رائعة. وأخيراً تذهب إلى المحكمة وتشهد بأنها كانت مع المتهم في شقته وقت وقوع حادث القتل، وتم ذلك في موقف أجاد المخرج تهيئته بحيث لم يغضب الباشا الذي كان بعارض في شهادة زوج ابنة أشد المعارضة.
هذا الجزء الذي ذكرته من وقائع الفلم هو أقوم ما فيه، ولكنه لم يأخذ حقه من العرض والإبراز، بل راح ضحية الزحمة والاختلاط في حوادث القصة وضحية تلك الفواصل(828/45)
الطويلة من الرقص والغناء، والغناء خاصة في غير موقعه؛ ولم أفهم الحكمة في عرض منظر الرقص الزنجي الذي كانت تغني فيه نوال وهي مطلية بالسواد في شكل قبيح إمام حبيبها الدكتور وحيد الذي جاء يشاهدها في فرقة الكواكب بعد أن عرف إنها ممثلة، وتسميها حوادث الفلم ممثلة مع أنها تمثل شيئاً إنما كانت تغنى فقط، هل أريد بذلك أن يراها الدكتور على هذا القبح فيزداد شغفه بها؟.
وفي منظر واحد يبدو على مسرح فرقة الكواكب أبو الهول والأهرام في وسط أشجار وأزهار. . وغناء لبناني ورقص مصري بلدي والقدرة التي تجمع بين كل ذلك في مكان واحد هي التي تجمع في طبق بين السمك واللبن والتمر هندي. .
وعندما تلتقي نوال وصاحبتها الراقصة بالدكتور وحيد لأول مرة، وتزعمان انهها مدرستان، تنفرج فلقتا ثوب الراقصة عن بطنها العاري في زي الرقص، فيلاحظ الدكتور ذلك، وأنه لا يتفق مع ادعائهما انهما مدرستان، فتقولان انهما كانت في حفلة مدرسية. . . فأي حفلة مدرسية ترقص فيها المدرسات عاريات البطون؟.
وأظن أن حكاية ابن الباشا الذي يحب البنت الفقيرة (الخفة) قد أكلت عليها الأفلام المصرية وشربت حتى شبعت وارتوت، ومن المؤسف أنها تلف في هذا الجزء المدعم القيم؛ ومن عيوب الأفلام المصرية أن بعضها يحاكي بعضاً، ثم تتكرر المحاكاة حتى تمل، ثم تسخف.
أما اسم الفلم (الليل لنا)، فهو كلمة من أغنية غنتها المغنية في فترة الكواكب بالليل. . . ولست أدري إذا كانت المغنية غنت بالنهار - هل كان يسمى الفلم (النهار لنا)؟!
دفاع شاعر عن الربيع:
يقول صديقي الشاعر الأستاذ إبراهيم محمد نجا: أنت تقول يا صديقي أن الربيع لا وجود له في الطبيعة المصرية، والربيع موجود أمام ناظري ألان وأنا أكتب لك هذه الكلمات. . . موجود في الحديقة التي أشرف عليها من نافذتي، موجود في أزهارها المختلفة الأشكال والألوان، هذه التي كانت في فصل الشتاء سراً في باطن الأرض، حتى جاء الربيع فكشف السر وأزاح الستار! وقد أعجبني قوله: أما اضطراب الجو في بعض أيام الربيع فذلك شيء لا يؤثر على الشعر والشعور، لان القصيدة هي وليدة حالة نفسي في لحظة زمنية تمتلئ فيها النفس بالمشاعر ويمتلئ فيها الذهن بالتأملات.(828/46)
وهو دفاع صادق من شاعر إزاء هجوم رآه موجهاً، ضمناً، إلى ما قال من الشعر في الربيع، وللأستاذ نجا قصيدة في العدد الماضي من (الرسالة) عنوانها (ربيع وربيع) وقد عدل في خلالها عن الحديث في ربيع الطبيعة إلى ربيع القلوب والأماني، وأنا أوافقه على هذا النحو فهو حقيقة شعورية ظاهرة، أما ربيع الطبيعة في مصر فأنا لا أزال أسال: أين هو؟ وقد وصل إلى كتاب الأستاذ في يوم شديد القيظ وهو اليوم التالي لكتابته! فإن كان ينعم بالربيع في الإسكندرية، حيث هو، فأنا في القاهرة لا نجد ربيعاً ننعم به، وقد نالني الربيع المزعوم بالقذى في عيني فحجب وجه (الأدب والفن) في الأسبوع الماضي. . . وإذا كانت الإسكندرية تنعم بالربيع فربيعها إذن يتصل بربيع آخر، هو الصيف على شاطئ البحر، كما يقول الأستاذ في رسالته، ربيع آخر أزهاره السابحات الفاتنات!
وقلت في كلمتي السابقة: إن الفصل الممتع عندنا حقاً هو فصل الخريف، وقد قال البحتري:
وليالي الخريف خضر ولكن ... شغلتنا عنها ليالي الربيع
وكان البحتري يعيش في بلاد ذات ربيع جميل، ولذلك شغلته ليالي الربيع، أما نحن فما لنا - ما عدا الأستاذ نجا في الإسكندرية - غير ليالي الخريف.
عباس خضر(828/47)
البريد الأدبي
العمل الأدبى:
عرف الأستاذ أحمد أحمد بدوي العمل الأدبي في مقاله بالرسالة الغراء أنه (التعبير عن تجربة للأديب، بألفاظ موحية) وقد لفت هذا التعريف نظري إلى ما عرف به الأستاذ سيد قطب العمل الأدبي في كتابه (النقد الأدبي. أصوله ومناهجه) أنه (التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية). . ولعل التعريف الثاني أعم وأوحى. . واستشهد الأستاذ بأبيات لقتيلة بنت الحارث وهي تعاتب الرسول. . . الخ. بأبياتها البليغة. . . وأن الرسول (صلعم) بكى.
فأذكر هنا أيضاً أن المرحوم الأستاذ الكبير النشاشيبى قد تعرض إلى هذه الأبيات (في إرشاد الأديب إلى معرفة الأديب) في الرسالة الزهراء العدد 645 السنة الثالثة عشر - بنقله عن السيرة لابن هام - تعرضاً أثبت اختلافها. وقال المرحوم في تعليقه على النقل: (إن الذي قيل هو من الأباطيل، فما عملت قتيلة في أخيها شعراً، ولم يقل النبي ما عزى إليه، وما كان النضر المحتشد المجتهد في هدم ذاك البناء الإسلامي الإنساني العربي حقيقيا بان يمن ذلك الباني عليه) ولولا أن الخبرين نشرا في الرسالة الزهراء، ما كتبت هذه الكلمة، وذكر. . . وجاء أيضاً في الاستشهاد يقول الشاعر (وهو حمدونة الأندلسية) (نزلنا دوحه فحنا عليه) والصواب (فحنا علينا) حتى يستقيم المعنى ويجمل؛ أبقى الله الرسالة سجلاً للحق والأدب الرفيع.
صبري حسن علوان
1 - الأشقياء:
قرأت حديثاً في الصحف: أن الحكومة توالى البحث عن هؤلاء الأشقياء. والكتاب يريدون المجرمين والقتلة واللصوص. ويستعملون كلمة الشقي بمعنى المجرم أو الجاني. والصحيح الذي نؤيده المعاجم: أن الشقي ذو الشقاء. . والشقا، والشقاء، والشقوة، والشقاوة: البؤس والشدة ونقيض السعادة فالصواب أن يقال: توالى الحكومة البحث عن الجناة والجرمين.
2 - الكساء:(828/48)
نقرأ كثيراً، أن كثيراً من الوزارات قد أقيلت: لأنها لم تهيئ للشعوب الغذاء والكساء. وهذا تعبير خاطئ؛ لأن الكتاب يستعملون الكساء بالمد: لمطلق الملبوس.
والحق الذي تؤيده النصوص أن الكساء: ثوب بعينه. وهو نحو العباءة من الصوف. قال الشاعر:
جزاك الله خيراً من كساء ... فقد أدفأتني في ذا الشتاء
فأمك نعجة وأبوك كبش ... وأنت الصوف من غزل النساء
والصواب: أن يقولوا: (الكسا) بالقصر مع ضم الكاف جمع كسوة بكسر الكاف وضمها. وهو كل ما يكتسي.
عبد السميع على محمود
المدرس بمعلمات أسيوط
رجعة إلى الفلم الصنع:
قلت في عدد سابق معقباً أن ال (قلم صناع) خطأ وأن الصواب (قلم صنع) لا صناع؛ إذ الصنع وصف للمذكر، والصناع للمؤنث غير أن هذا القول لم يرض الأستاذ العجمي وأصر على صواب (قلم صناع) مسدلاً بهذه العبارة في القاموس (رجل صناع اليدين، وصناعهما).
والحق أن (القلم صناع) خطأ، والعبارة القاموسية لا تنهض دليلاً على الجواز، لأن (اليد) مؤنثة (والقلم) مذكر. فنقول القاموس (صناع اليدين) وصف مضاف للفاعل المؤنث فلا تقس القلم المذكر على اليد المؤنثة. واليك ما في لسان العرب نصل الصاد حرف العين قال: (رجل صنع اليد وصناع اليد وامرأة صناع اليد. والذي اختاره ثعلب رجل صنع اليد وامرأة صناع اليد. . ورجل صنع اللسان ولسان صنع).
وفي هذا الكفاية؛ لمن يريد الهداية.
(المنصورة)
إسماعيل أبو ضيف(828/49)
الضبع يذكر ويؤنث:
قرأت كلمة في مجلة الرسالة الغراء تحت عنوان (الضبع مؤنثة) أنكر فيها كاتبها الضبع، وهذا ليس بصحيح؛ فقد جاء في المصباح ومعيار اللغة: الضبع بضم الباء في لغة قيس بسكونها في لغة تميم، وهي أنثى، وقيل تقع على المذكر والأنثى، وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء كما قيل في سبع والذكر ضبعان بكسر الضاد كسرحان، والأنثى منه ضبعانة أ. هـ
وجاء في حياة الحيوان للدميري وعن ابن ألا نباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى، وكذلك حكاه ابن هشام الحضر أوى في كتاب الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس (المبرد) وغيره أه
علي حسن هلال
المجمع اللغوي
وقعة صفين:
قال الدكتور جواد علي في رسالة: (وقد ألف غير واحد من المؤرخين في وقعة صفين)، وسرد طائفة منهم، وفي (تاريخ الإسلام للذهبي) الذي يطبع في القاهرة أن ممن ألف في هذا الموضوع يحيى الجعفري، حيث نقل عنه.
راقني ذلك:
ويقول الأستاذ عبد الستار احمد فراج في عدد (الرسالة 807): (واقتبسوا من لغاتهم ما راق لهم). والصواب: (ماراقهم).
عبد الله معروف(828/50)
القصص
قصة مصرية:
(من وراء الأبد)
للأستاذ أنور المعداوي
(إلى الذين يفهمون القصة على خير ما تفهم القصة على أنها لوحة نفسية، وطلال إنسانية، وفكرة من أعماق الحياة).
يا صديقي العزيز:
تسألني عن هذا السر الذي آثار فضول الناس، سر زواجي الذي لم يدم؟. . ولم لا تقول إنه أثار فضولك أيضا فكتبت إلى تسألني!؟ ومع ذلك فسأكشف لك عن سري الذي أصبح ذكرى. . . كل ما أرجوه منك أن تحتفظ بهذه الذكرى الغالية كما احتفظت بغيرها من ذكريات شبابنا. فلا تدعها أذن تترك مكانها من قلبك، حسبها أنها تركت مكانها من قلبي. . . لنقص عليك وحدك قصة الحرمان!.
أتذكر يوم كنت تصفني بأنني أضاع عمره محلقاً على أجنحة الخيال يرتاد عوالم مجهولة، ويطرق آفاقاً لم يطرقها مخلوق على أرض البشر؟!. أنا معك يا صديقي في أنني كنت وما أزل ذلك الإنسان الذي يقف على الأرض كما يقف غيره من الناس، ومع ذلك فهو يمد يديه إلى السماء ليلتقط النجوم!. . لقد كنت أعيش في دنياي الخاصة وكنت تعيش في دنياك، وعلى الرغم من هذا التناقض فقد التقينا حول مائدة العلم في الجامعة، لقاء شب من لحظاته الأولى بين أحضان الصداقة. . وكانت صداقة بريئة حلوة، لم يعكر صفوها بعد الشقة بين طبعي وطبعك، وبين مزاجي ومزاجك. أنت في أعماق الواقع وأنا في أعماق الخيال. . . ومع ذلك فقد التقينا في الجامعة، وتركناها ذات يوم إلى الحياة، وظللا كما كنا صديقين!.
وفرقت بيننا بعد ذلك الأيام، بقيت أنا في القاهرة وذهبت أنت إلى أطراف الجنوب. . . واختلف طريقي وطريقك ألم نكن دائماً في نظرتنا إلى الحياة مختلفين؟! لقد فضلت العمل في وظائف الحكومة وآثرت العمل الحر. . . أتذكر يوم خطر لي أن افتح محلاً لبيع الزهور في حي الزمالك؟ إنك رميتني بما كنت ترميني به دائماً يوم كنا في الجامعة. . .(828/51)
بالنزق والطيش والجري وراء الخيال! لقد كنت تقول لي بلهجتك الساخرة الحبيبة: زهور؟ يالك من شاعر! ماذا من وراء الزهور يا حليف الخيال؟. . . ستذيل زهورك يوماً ما، وستمشي وحدك في جنازة العطر!! ومضيت في طريقي لا أكاد أصغي إلى سخرياتك فتحت المحل، وربحت الكثير من المال، وانتصرت بسلاح الخيال في أول معركة خضت غمارها ضد الخيال!. . ومع ذلك فإن كلماتك لا تزال ترن في أذني رنينها بالأمس، ترى أكنت تقرأ صفحة الغيب سطوراً خطتها لي وحدي يد الزمن؟ أم أنك يوم أطلقت جملتك تلك الساخرة كنت تنفذ بوعيك الباطن إلى ما وراء المجهول؟!. . لقد ذبلت زهوري يا صديقي، ومشيت وحدي في جنازة العطر، والأمل، والدنيا التي ذهبت إلى غير ميعاد!
أتذكر يوم كنت ترغبني في الزواج وتقود أفكاري إلى حواء؟ لقد كنت ألقاك دائماً بجواب واحد هو أنني لم أجدها! إن الذين يعيشون في دنيا الواقع ترضيهم نفحات من الجمار المادي المنشود بالأرض، أما أنا فكنت أبحث عن جمال آخر جمال تربطه بالسماء خيوط إلهية غير منظورة! إن جمال الروح يا صديقي هو الذي كنت أبحث عنه، وحين يثبت من وجوده على أرض البشر رحت أنشده في سماء الوهم! لقد كنت ألتمس في الزهور شيئاً من العزاء. . . رائحتها، نظارتها، ألوانها البهيجة. . أليس في هذا كله بعض ما كنت أنشد من جمال الروح؟ هل تصدق أن هذا الخاطر هو الذي حملني على أن افتح محلاً لبيع الزهور أنسقه بذوق الشاعر وخيال الفنان؟!. . . بالله لا تدع الابتسامة ترف على شفتيك، فقد تستحيل في عينيك دموعاً!!
لعلك تستحثني على أن القصة، فاستمع أذن لقصتي:
كان أول لقاء بيني وبينها ذات صباح، حين هبطت من عربة التاكسي ودلفت إلى المحل تطلب باقة من الزهور. . . ولأول مرة رأيتني أترك مكاني، وأسبق أحد عمالي إلى لقائها، وأقدم لها بنفسي باقة من زهور البنفسج غلفتها - كما طلبت - بزهور البانسيه، ونظرت إلى الفتاة نظرة امتنان، وتمتمت بضع كلمات شكر. . . وخرجت!
كان مظهرها ينم عن حزن عميق، تجلى واضحاً في قسمات الوجه ونبرات الصوت. . . وخيل إلى أن هناك عزيزاً قد فقدته، وأن تلك الزهور قد أعدت لتوضع فوق القبر الذي لف أحلام شبابها بغلاف من الصمت الأبدي الرهيب، هناك حيث تقفز من كوى الفناء(828/52)
أشباح وطيوف! أما جمالها فريداً في نوعه. . . لم يكن جمالاً صارخاً يهز العيون حين تنظر إليه، ولكنه كان جمالاً هادئاً، وعبراً، يهز الروح والعاطفة. . . كان أشبه بقطعة موسيقية حزينة يثرى لإيقاعها الفكر الحار والشعور الملتاع!. . . أما عيناها، فقد كان فيهما أكثر من معنى مبهم، لقد كان فيهما يا صديقي آثار رحلة طويلة إلى عالم مجهول. . وفي هذا اللقاء الأول رثيت للجمال يتشح في الربيع بوشاح الأسى والشجن! وتكرر بعد ذلك لقاؤنا في موعد لا يتغير. . . في الساعة العاشرة من صباح كل ثلاثاء، حين تهبط من عربة التاكسي، تلك الزائرة الحزينة لتطلب كعادتها باقة من زهور البنفسج أغلفها كعادتي بزهور ألبانسيه! وعلى مر الأيام نشأ بيننا نوع من الود البريء تحول معه الرثاء في قلبي إلى حب عميق. . . وجاء على يوم شعرت فيه بأن أحلامي الحيرى في خضم الحياة في متاهات الخيال السابح وراء الوهم قد وجدت ملاذها هنا. . . في هذا الوجه النبيل الذي شعت منه في روحي ومضات الأمل!!
سألت عن أسرتها فعلمت أنها من أكرم الأسر، وسألت عن قصتها فعلمت أن خطيبها الشاب قد ودع الحياة منذ شهور، وان هذا الأسى الدفين هو كل ما خلف لها من ثروة أثقلتها الأحزان. . . وفكرت في غير تردد بأن أتقدم لخطبتها لأملأ فراغ قلبها ودنياها وفراغ قلبي ودنياي، وخيل إلى أنني قد وجدتها. . . حواء، تلك التي قضيت العمر أبحث عنها في سماء الوهم حتى لقيتها أخيراً على أرض البشر!
وفي رحاب الزوجة الحبيبة ذقت - لأول مرة - طعم الحياة. . . كانت قبل أن ألقاها أشبه لفكرة شريدة معذبة لم تجد دفء خاطر تأوي إليه! كانت لحناً حائراً لا معنى له. . . لحناً نبذته شفتاي حين لم تستجب لأنغامه في حنايا الضلوع عاطفة! كان الوفاء والحب المتبادل هي كل معالم الطريق الذي سرنا فيه جنباً إلى جنب، وقلباً إلى قلب، وروحاً إلى روح. . . كنت أنسى كل متاعب الحياة حين تلقاني وعلى شفتيها ابتسامة مشرقة، وفي عينها بريق العودة من لقاء طويل، هيأته الأحلام تحت ظل وريف في واد من أودية السعادة!
ومضت بنا الحياة في طريقها تطوى الأيام حتى أقبل يوم لا أنساه. . . كان ذلك حين خرجت من البيت ذات صباح، ثم عدت إليه بعد ساعتين لأمر من الأمور فلم أجدها هناك! سألت عنها الخادمة الصغيرة فأنبأنني بأن سيدتها لن تعين لها المكان الذي ذهبت إليه.(828/53)
وساورتني الظنون وانتابني شك قاتل ملح عنيف. . . ترى أكانت زوجتي تترك البيت قبل اليوم أثناء غيابي عنه؟! عدت إلى الخادم الصغيرة أسألها فأنكرت، وتحت الضرب المبرح لم تجديداً من الاعتراف، وأصبح الظن حقيقة. . . سيدة محترمة تغادر بيتها مرة في كل أسبوع إلى حيث لا يعلم أحد، ترى ماذا يخبئ لي القدر القاهر في جعبته؟! ورحت أذرع أرض الشرفة ذهاباً وجيئة في انتظار الزوجة الغائبة. . . وفي غمرة الوعي الذاهل والفكر المحموم، لم أدر كم من الوقت مر علي وأنا أتلفت إلى كل عربة مقبلة من هنا أو من هناك، مترقباً أن تكون قد عادت بها من المكان المجهول!
وأخيراً أقبلت عربة تاكسي ما لبثت أن هدأت من سرعتها ووقفت أمام البيت. . . وهبطت منها زوجتي! وأسرعت كالمجنون أهبط الدرج وثباً حتى كنت في ثوان معدودات أمامها وجهاً لوجه. . وحين رأيت لونها قد شحب، ونظراتها قد عراها الذهول. . . رحت أسأل السائق عن المكان الذي ركبت منه. . . وفي صوت هامس متلعثم أنبأني الرجل بأنه قد عاد بالزوجة الحبيبة من مقابر الأمام الشافعي!
وصعدنا إلى البيت صامتين. . . وحين احتوتنا إحدى حجراته رحت أنظر إلى عينها الشاردتين، محاولاً أن أستشف سرهما المخبأ وراء قطرات الدموع!
أما هي، فقد أطرقت برأسها إلى الأرض، وراح صدرها يعلو ويهبط، وجسدها ينتفض انتفاضة الحمى. . .
وأخيراً أمسكت بيدي بين يديها لتقول لي بصوتها اللاهث المتهدج:
- محمود. . . يا زوجي الحبيب. . . إغفر لي أن أقول لك كل شيء. . . أقسم لك أني كنت أضع بعض الزهور على قبره. . . لقد عاهدته أن أظل وفيه لذاكراه. . . لقد أقسمت له يوماً أن أظل على عهدي له. . . كان ذلك حين ودع الدنيا وتركني من بعده وحيدة. . . محمود. . . إن قلبي الذي كان له أصبح لك. . . حسبك قلبي. . . بالله لا تضق بأفكاري إذا انحت إليه لتؤنسه في وحشته. . . وبيدي إذا وضعت يوماً على قبره زهوراً ترطب ثراه. . . محمود. . . هل تغار من رجل مات؟. . . تكلم. . . تكلم يا زوجي الحبيب واغفر لي. . . اغفر لي أنني لم أبح لك قبل اليوم بشيء!!
حاولت أن أتكلم فماتت الكلمات على شفتي. . . كنت كمن أغفى إغفاءة طويلة استيقظ من(828/54)
بعدها على حلم مخف بعث رجة افزع في أوصاله!
ولأول مرة شعرت بأن أشباح الشقاء ترفرف على المكان بأجنحتها السود فتحيل النور في عيني ظلاماً. . . وتركتها تنتخب وعدت إلى غرفتي مكدود القوى، أشبه بجندي عاد إلى بيته بعد المعركة. . . عاد ليبحث عن أحبابه بين ركام الأنقاض!
ومرت على ليال لم أذق للنوم فيها طعماً. . حاولت أن أنسى وأن أغفر ولكني لم أستطيع! لقد تكشفت لي الحقيقة الكريهة البشعة، وهي أن زوجتي لم تكن صادقة في حبها لي. . لقد كان قلبها هناك، يمسح بيد الذكريات فوق ألقب الذي طوى بين جنباته أول أمل!. . . سبع ليال مرت علي كأنها سبعة ذئاب جائعة تنشب أظفارها في قلبي، كنت أشعر شعوراً عميقاً أن هذا القبر الرابض في صحراء الأمام قد سلبني أعز ما أملك، وأن هذا الفتى المسجى في جوف الثرى لص. . . ضل طريقه إلى بيوت الناس وقادته قدماء إلى بيتي وحده، ليسق أنفس كنز وهبته لي الحياة! وكلما نظرت إلى وجه زوجتي بدت لي الدنيا جحيماً لا يطاق، لقد عاد إلى سابق عهده يوم رأيتها لأول مرة: الحزن العميق والأسى الدفين! أما عيناها فقد أطل منهما الماضي البعيد. . . حار فيهما ألف معنى مبهم أو ألف رحلة طويلة إلى عالم مجهول!
ومر شهر وشهران وثلاثة وكلانا يعيش في العذاب. . . العذاب الملح المبرح المتصل الذي تراودني أشباحه الرهيبة في الليل والنهار، وتقذف بي إلى خارج بيتي أنشد العزاء في الجلوس إلى الناس! لم أعد أطيق رؤية البيت إلا حين آوي إليه لأنام، لا تجمع بيني وبينها كسابق عهدنا حجرة واحدة. . . كان الخيال يصور لي أن هناك حاجزاً هائلاً يحول بين ضم جسمينا في فراش واحد، هو ذلك القبر الكئيب البغيض الرابض في صحراء الأمام. القبر الذي كان يخيل إلى أنه يترك مكانه كل ليلة لينعم بأحضان زوجتي حتى الصباح!!
ولم يكن هناك يا صديقي بد من نفترق. . ترى هل جنى علي الخيال؟ لست أدري!. . كل ما أدريه أن حواء قد ذهبت، وأن زهوري قد ذبلت، وأنني قد طويت القلب على أحلامه وقذفت به بعيداً. . . بعيداً في وادي الذكريات.
أنور المعداوي
خوفاً من أبيه!(828/55)
وأخيراً تهالك (خالد) على مقعده في قنوط وقد أيقن أنه فقد ساعته، فلم يترك مكاناً إلا بحث فيه ولا صديقاً إلا سأله عنها
وبالرغم من أن حجرته خالية إلا من أجلاد جسمه، هادئة إلا من دقات قلبه، فأن طيفاً فارع العود منقبض الأسارير راح يحدق فيه مستخفاً بذكائه وعلى شفتيه ابتسامة تهكم وفي صوته نبرة ازدراء!!
وخرج من الغرفة إلى عرض الطريق ضائقاً بذلك الطيف الذي أعاد إلى خياله صوراً كتلك المواقف التي تكون بينه وبين والده حين يفقد أحقر حاجاته!!. .
واستقبله الشارع على غير ما تعود. لقد بدا له كالرسوم الحائلة في كراس عتيق! وكأنما أصوات المارة لضعفها تصل إلى أذنيه من بعيد. . .
وعجزت أضواء الطريق الألافة ومعروضات المحال المغرية أن تخرجه عن نفسه أو تبعث إليها شعاعاً من أنس. . .
ولكن محلاً لبيع الساعات في نهاية الطريق استطاع أن يخترق بأضوائه نطاق كآبته، وأن يستوقفه أمام معرضه، وأن يتملق نظراته الموزعة بمرأى ساعاته الجذاب. . .
وأخذت عيناه في لهفة ساعة تشبه ساعته في لحجم والغطاء، وأن كانت دونها في الثمن والرواء!
وهنا افتر ثغره ليبارك فكرة رائعة تفتح عنها ذهنه المضطرب. إن والده لا يستطيع أن يدرك الفرق الداخلي بينهما؛ وسيكفى شراؤها لتعود المياه إلى مجاريها. . .
ولكن سرعان ما شعر بخيبة مرة تخاذلت لها قدماء وانطبقت شفتاه على حطام ابتسامة. . . الشراء؟! إن ما معه من المال لا يبقى منه إذا اشترى الساعة ما يسد عوزه إلى أن تبدأ الإجازة
التي سيرجع فيها إلى قريته. . .
وهنا مرت أمام عينيه متلاصقة لتلك المواقف التي تكون بينه وبين والده حين يفقد شيئاً من أشيائه، ثم تذكر في مرارة زوجة أبيه وهي تفترص تلك المواقف لتملأ عينها الوقحة بمنظر دموعه الذليلة وهي تتلمس طريقها على حده الشاحب الهزيل!
وهنا وجد نفسه مدفوعاً إلى شراء تلك الساعة، هازئاً من آلام الحرمان التي سيلاقيها ما دام(828/56)
يقاسيها وحده ولن يطلع عليها سواه!
وبعد أسبوع كانت مائدته قد سئمت تلك الوجبات الخشنة، ومعدته قد عافت تلك الأكلات التافهة. وكان قد تعود أن يسمع رفاقه يتساءلون عن تلك الصفرة التي تغطي وجهه والإعياء الذي يحد نشاطه! واستطاع أن يجيب رفاقه بما تعود من لباقة، وأن يتحمل الألم بما أنفطر عليه من صبر. .!!
ولكننا نرى نفسه القوية تنهار في يد الألم وتتخاذل في حلبة الصراع مع الأقدار، حين يطلب ناظر مدرسته إلى كل طالب أن يتبرع بعشرة قروش للنشاط الرياضي بالمدرسة!!
لقد شعر بأن القدر يتحداه ويسخر من إيمانه بكرامته!!
إنه لا يستطيع أن ينكص عن دفع هذا المبلغ لشهرته الرياضية بالمدرسة، ولا يستطيع أن يدفعه إلا إذا قدر أن يبقى يومين بدون طعام
وتحامل الشجاع الجريح على نفسه وصوب إلى صدر القدر آخر سهم من كنانة صبره وإيمانه. . .
وفي اليوم الذي ابتدأت فيه أجازته كان يسرع على إفريز المحطة ليلحق بالقطار المسافر إلى قريته. . .
وفي إحدى عربات الدرجة الثالثة ألقي بجسمه المنهوك وجعل يستعرض آلامه المضنية التي مرت به، وكأنه جندي مثخن يشفى غليله بمرأى قتلاه في الميدان!
واختلجت على شفتيه ابتسامة باهتة كانت تسترجع شجاعته وتستنهض أمله وتزف إليه كرامته في إطار من الثقة. . .
وسمع صوتاً يهتف من أعماقه: مرحى أيها الجندي الباسل! لقد آن لك أن تلقي الجزاء!! ولكن أي جزاء يا ترى؟؟
لقد راح يتخيل موقف واله منه وقد علم بفقد ساعته وطفق ينحي عليه بألوان من القسوة وضروب من العنف لتكون فرحته أشد حين يعلم أن شيئاً من ذلك لن يحدث!! وازدادت البسمة وضوحاً حين غادر القطار إلى بيته في أقصى القرية، كأنما استردت نشاطها من طول ما نامت على شفتيه. . .
وفي حجرة من حجرات البيت وقف يقبل يد والده قبلة آلية، ثم رفع رأسه ليرى وجه(828/57)
والده، وكأنما غادر حجرته بالمدينة منذ أسابيع، وسمعه يقول وعلى شفتيه ابتسامة تهكم وفي صوته نبرة استخفاف: ما هذا الذهول الذي لا ينفك مستولياً عليك؟ كيف نسيت أن تأخذ ساعتك وأنت مسافر؟!
محمد أبو المعاطي أبو النجا(828/58)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(828/59)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(828/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(828/61)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(828/62)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(828/63)
العدد 829 - بتاريخ: 23 - 05 - 1949(/)
تيتو والشيوعية (القومية)
للأستاذ عمر حليق
يقف المارشال تيتو سيد يوغسلافيا موقفاً فريداً إزاء هذه التيارات الجارفة التي تهب عليه من المعسكرين المتطاحنين: السوفيتي والغربي.
فهذا الخليط من الأقليات العنصرية والطائفية والتي تؤلف (اتحاداً جمهورياً من الشعب اليوغسلافية) يمر في فترة غريبة في خطورتها. ذلك لأن موقف التحدي الذي يقفه المارشال تيتو من الإدارة المركزية للشيوعية الدولية (الكومنفورم) الذي يعمل يوحي من موسكو جلب عليه غضب المعسكر الروسي في شرقي أوربا وأواسطها في البلقان، ولم يكسبه - إلى الآن على الأقل - بركة حلفاء الغرب ومؤازرتهم ونصرتهم. وتيتو على رغم ذلك قوى العقيدة في صلاح الماركسية الأصلية كما تنص عليها تعاليم ماركس ولينين كأساس للحياة السعيدة، وهو كافر بالنظم التي يعيش عليها المعسكر المعادي للشيوعية.
وماركسية تيتو ليست اشتراكية معتدلة على غرار المجتمعات الاسكندنافية مثلاً، أو تلك التي تحاول توطيدها في بريطانيا حكومة العمال.
فالنظام الذي يصوغ به تيتو حاضر يوغسلافيا هو نظام شيوعي أصيل في وسائله وأهدافه. وليس خلافه مع موسكو والكومنفورم يمس العقيدة الماركسية وإنما يمس تفسيرها والوسائل لتدعيمها وتحقيق مراميها.
والواقع أن تيتو (سوفياتي) أكثر من ستالين؛ فإن جوهر الخلاف بين يوغسلافيا وموسكو يعود إلى إصرار تيتو على الاعتقاد بأن نجاح الماركسية ورسوخها في الفكر والمسلك لن يتحقق في هذه المركزية الدقيقة الصارمة التي تفرضها موسكو بواسطة الكومنفورم على الأحزاب والجماعات الشيوعية التي تعيش خارج الاتحاد السوفياتي؛ بل أنه يؤمن بأن لك مجتمع ظروفاً خاصة ومؤثرات خاصة ونزعات عاطفية وتكويناً خلقياً خاصاً، فلا يمكن أن تصهر جميعا لتكون
لينة مطاوعة لتوجيهات دقيقة تصدر عن موسكو أو الكومنفورم وتمس المصلح القومية للذين اختاروا الاشتراكية نظاما للحياة.
وقد انقضت أكثر من عشرة أشهر على انفصام عرى الوئام بين المارشال تيتو وبين(829/1)
موسكو والدول الشيوعية الأخرى، واتخذ هذا الخلاف صورة جدية في الأسابيع الأخيرة عندما حشدت ألبانيا وبلغاريا بعض قواتها على الحدود المشتركة مع يوغسلافيا ولكن هذه الحالة السيئة لم تضعف من مركز تيتو ولم تقلل ثقة الشعب اليوغسلافي بزعامته.
وتركز النظام الحالي في يوغسلافيا يعود إلى أسباب، منها أن الأغنياء ومترفي الطبقة الوسطى بالرغم من استيائهم من الاشتراكية التي حققها تيتو هم الآن مشلولو النشاط ليس لديهم من الآمال والأنصار ما يستطيعون بواسطته إقصاء تيتو عن الحكم. وعامة الشعب من المزارعين والعمال لا مفر لهم في يوغسلافيا من اختيار أهون الشرين: فإما ستالين وإما تيتو. وهذه الوضعية كذلك تنطبق على المثقفين. ويبدو جلياً أن الكثرة من كلا الفريقين قد رضيت بالمارشال تيتو مواطنهم. وقد فر أنصار موسكو والكومنفورم إلى خارج البلاد، ولم يعد لهم أثر في السياسة والحياة العامة.
والصعاب التي تواجه تيتو جمة؛ فقد قطعت الحكومات الشيوعية المحالفة لروسيا صلاتها الاقتصادية مع يوغسلافيا؛ وتحفظ حلفاء الغرب في تعاملهم مع تيتو في السياسة والاقتصاد. وبقي هذا الاشتراكي العنيد مصراً على ألا يساوم طرفاً من الطرفين (السوفياتي والغربي) على حساب الاشتراكية القومية التي يعمل لتوطيدها في وطنه. فتيتو يرى أن الوسائل التي يتبعها السوفيات وحلفائهم من الدول الشيوعية الأخرى لتحقيق الماركسية الصحيحة هي طريقة خاطئة تخالف تعاليم لينين من حيث أنها تراعي الخصائص الفردية لكل مجتمع، ولا تحاول أن تفرض على العالم بأسره نظاماً موحداً لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات وما هي عليه من تباين في كثير من الطبائع والميول والاتجاهات. ومع أن الماركسية تصر على بلشفة العالم في المراحل النهائية من التطور، فإن لينين رأى أن يراعي طبيعة هذا التباين الاجتماعي عندما انكب على توطيد الماركسية في الاتحاد السوفياتي أولاً تاركاً العالم الخارجي وشأنه، وهذا على عكس ما جرت عليه السياسة الروسية في سنوات ما بعد الحرب.
وتيتو كذلك لا يرى أن من الخير ليوغسلافيا أن تترك التجربة الاشتراكية الناجحة التي توطدت فيها الآن لترتمي في أحضان الرأس مالية.
وخلاف تيتو مع موسكو لا يقتصر على المبادئ الفكرية وتفاسيرها، بل أنه يمس التعامل(829/2)
الاقتصادي كذلك.
فان سيطرة موسكو على منطقة نفوذها في شرقي أوربا تستدعي أن تنسق يوغسلافيا إنتاجها الزراعي والصناعي بحيث لا ينافس الصناعة والإنتاج الروسيين وإنتاج الدول الشيوعية الأخرى لئلا تنقصم عرى الوحدة الاقتصادية في منطقة النفوذ الشيوعي وتيتو لا يرى أن من المصلحة القومية أن يحصر إنتاج بلاده ونشاطها الاقتصادي في أصناف معينة أو مقادير محدودة مراعاة لمصلحة موسكو والدول الموالية لها. وهو يرى إن يوغسلافيا تستطيع أن تحقق إنتاجاً وافراً دون قيود والتزامات اختيارية أو اضطرارية فتستفيد وترفع مستوى معيشته سكانها بدل أن تضحي بذلك إرضاء لتعليمات الكومنفورم.
ويقول تيتو صراحة إن بلاده لم تتحرر على يد الجيش الروسي أو الجيوش الحلفاء من النير الطلياني والألماني، وإنما الذي حرر يوغسلافيا هم أبنائها من الثوار ورجال المقاومة السرية، ولذلك فليست يوغسلافيا مدينة لأحد، وهي ترفض الانصياع لأوامر موسكو والاستسلام لرغبات الغرب.
هذه العزلة الاقتصادية والسياسية التي اختارها تيتو لنفسه ولبلاده قد استوجبت التزامات ثقيلة. وقد أصر تيتو على أن يلمس بنفسه طبيعة هذه الالتزامات وانعكاساتها على طبقات الشعب فقام يجوب إنحاء البلاد ليتعرف مطالبها ويقف على مشكلات الأقليات العنصرية والطائفية المختلفة الميول والنزعات.
وكان لاختبار تيتو حالة الشعب ووسائل الإنتاج اختباراً شخصياً أثر بليغ في تفهمه لحقيقة الوضع ومواطن الضعف وإمكانيات القوة. كما إن اتصالاته الشخصية قد عززت مكانته في قلوب الشعب تعزيزاً متيناً. وتيتو هو أول زعيم شيوعي مسؤول يترك قصره المحاط بالحراس ويندفع في طول البلاد وعرضها يدرس ويتعرف عن كثب.
ولقد اكتشف تيتو البون الشاسع بين وضع المشروعات والبرامج على الخرائط والورق وبين حقيقة تنفيذها. فقد وجد إن العمال في المصانع والمزارع التي تملكها الدولة بطيئو النشاط قليلو الإنتاج منحطو المعنوية بسبب الظروف الصعبة التي تحيط بالحياة العمالية فعمل تيتو جاداً لزيادة نشاطهم وإنتاجهم ورفع معنوياتهم عن طريق التحسين في شؤون العمل وظروفه وشروطه الصحية وساعات الراحة وحصة في الأرباح وجوائز التفوق(829/3)
وغير ذلك من المؤثرات النفسانية التي يعلمها المعنيون بشؤون العمل والعمال.
وقد أفاد تيتو كثيراً من الجولات في طول البلاد وعرضها للتعرف على الاتجاهات السياسية ومبلغ مناصرة الشعب له في موقف الضغط السوفياتي الشرقي ومن السلبية الغربية.
والظاهر أن موسكو والكومنفورم لن تترك تيتو يطبع الشيوعية بطابع قومي محلي وينفر من المركزية الصارمة التي استنتها موسكو لنفسها ولحلفائها. فبالإضافة إلى حرب الأعصاب وتجمع الجيوش الشيوعية على الحدود اليوغسلافية وحملات الدعاية والتشنيع الذي تتعرض له يوغسلافيا وعاهلها فإن تيتو يواجه حركة جدية من المعسكر السوفياتي تبتغي اقتطاع أجزاء واسعة من الأرض اليوغسلافية وضمها إلى قطاعات يونانية وبلغارية وألبانية لتأليف دولة بلقانية شيوعية جديدة تعرف باسم (مقدونيا)
وهذا التحدي السوفياتي لتيتو يلاقي منه صلابة حازمة. والى الآن لم يطلب تيتو معونة من حلفاء الغرب. ولا يبدو أن الحلفاء قد عرضوا عليه هذه المعونة، وكل ما طلبته يوغسلافيا من الحلفاء وغيرهم من الدول الحيادية هو زيادة التبادل التجاري دون التقيد بالتزامات سياسية أو عسكرية.
ومن الجدير بالإشارة إليه أنه بالرغم من هذا الاختلاف الجدي بين تيتو وموسكو فإن الوفد اليوغسلافي في الأمم المتحدة لا يحيد مطلقاً عن الأخذ بوجهة النظر السوفياتية والتصويت بجانب الكتلة السوفياتية في القضايا المعروضة على الأمم المتحدة.
وللمرء أن يتساءل عن المدى الذي قد يستطيع تيتو أن يثبت فيه على هذه الصلابة، وهل سيدفع في هذه المراحل النهائية لمحالفة المعسكر الغربي أم سيخضع لموسكو؟
الجواب في هذه الأيام الحبالى التي تلد كل عجيب. . .
(نيويورك)
عمر حليق(829/4)
قطرات ندي
للأستاذ راجي الراعي
سم زعاف، والمحبة سلاف، والغرور أصداف، والحياة غلاف.
كلما رفعت ستاراً من ستائر الغيب غرد لي طائر في الجنة.
الأبراج كثيرة وأعلاها تلك التي تنتقل بينها الشمس ويقيم فيها العباقرة.
اليأس جدار يتداعى.
ثلاثة حدود لم تعرف بعد: الحد الذي عنده قدرة المرء والحد بين العقل والجنون، والحد بين الجريمة والعبقرية.
كيف ترجو أن يقوم بناؤك في الأرض والحجر في إحساسك وضميرك؟
كأني بهذه الجبال جبلت من كبرياؤك وكبريائي!
أنا في رأسي وما يحويه من ذاكرة وإرادة وعقل وشعور وخيال بين منجم وجواد وميزان وقيثارة ومجنون.
أرى في المحراث مركبة للعلاء تجر إلى الخالق.
إن المواهب رفيعة عزيزة منيعة أنيقة لا تعرف التطفل والابتذال، ولا القيد والإذلال، ولا تؤخذ رخيصة ولا يسمع لها في كل مقام مقال: اسقني خمراً لأسقيك خمراً. . . هلت لي أجوائي لآتيك بجناحي. . أرسل بطاقة الدعوى إلى العلاء، لترى وجهي في الوليمة الخالدة.
البركان تطلقه الأرض إذا جأرت بالدعاء الله.
الليل ضباب أسود.
كلما مر بي نزع الموت من طريقه إلى حجراً!
للفجر مهمته، يقوم بها في كل صباح بنشاطه المعروف: يبدأ بتلاوة سيرة الليل، ويسكب نداء، ويمهد طريق الشمس، ثم يتوارى أمامها تهيباً وإجلالاً.
العقل يهمس والهوى يصرخ.
الصدى رسم الصوت.
أين أذهب بأحلامي إذا ما أحضرت غداً؟ أأذبحها حلماً حلماً على عتبة القبر؟ ليست يدي حمراء فلا قدرة لي ولا جرأة على هذه المجزرة.(829/5)
الميت أمانة نودعها التراب ولكنه لا يحفظ الوديعة.
لم تهتد بعد إلى الطريق، ولم تختر الرفيق وأنت بين ذاك الرحيق رحيق الجنة، وهذا الشهيق شهيق الجحيم؟
بين المرافئ والبحيرات صلات.
بين الأوراق والثمار ما بين الأصداف واللآلئ.
لكل دمعة؛ فإذا بكى الجبل ذرف ينبوعاً.
إن لطريق الواجب منعطفات هي الخيانات.
الفم الذي لا يشبع ولا يرتوي هو فم الشهرة الشرهة.
كلما تمثلت مرارة يومي الأخير قمت إلى الأيام بفم الشره الولهان أمتص ما فيها من الشهد.
أنا مثقل بأيامي وبلاياي ومطامعي وموتاي وأحلامي، ولا أزال مع ذلك قائماً أسعى لم أرزح بعد تحت أثقالي. . . أفي ساقي هذه القوة الجبارة وأنا احسبني ضعيفاً؟. أفي هذا العتو وأتململ، وأخاف وأشكو؟
أقدم الممالك وأشدها رسوخاً وهولاً وطغياناً مملكة الأموات، يتولاها رجل صولجانه المنجل وشريعته الغدر، وجيشه راقد وخزانته فارغة وعلمه هو العلم وعرشه من تراب تخلعه عنه بين الحين والحين يد تمتد إليه من دار الخلد.
من وثق بالله وثق بنفسه ووثق به الناس. إنها الثقة المثلثة.
كم من عبد ذليل هيل عليه التراب ألف مرة قبل يومه الأخير فانطوى قبره على ألف قبر!
في كل عاصفة وإعصار خطيب عظيم من خطباء الطبيعة يدعو إلى الثورة، وفي كل صاعقة غضبة لجوبيتر، وفي كل بركان أرض تمزق أحشائها، وفي كل فجر ستار يرفع، وفي كل جبل كبرياء مجسدة، وفي كل سهل خضوع واستسلام، وفي كل ينبوع قلب لشاعر عبقري، وفي كل نجمة عين رقيب، وفي كل ليل طليعة من طلائع الموت، وفي كل شيطان ساع من سعاة الجحيم.
لقد خلقتم أفراساً لتنطلقوا في الفضاء الرحب والسهل الفسيح حتى تبلغ الحد الذي رسمه لكم القدر.
لولا العين التي تفرقني في الدنيا لجمعت نفسي وخلوت بها وعشنا معاً في جو من الطهر(829/6)
الناصع والمجد الساطع والفلسفة الجامحة التي لا رادع لها ولا وازع.
أنا حي ولكنني أحمل موتاي وموتي العتيد الذي غرز في وتداً منذ ولدت ورحل على أن يعود إلى بعد حين حاملاً خيمتي لينصبها لي هناك على رابيةٍ عساها تكون زاهرة وبين قوم أرجو ألا يكون الشياطين.
قد ترقد الفكرة أعواماً ثم تمر بها فكرة أخرى فتوقظها وتمشي الفكرتان متعانقتين كأنهما على موعدٍ في طريقهما إلى هنائك أو شقائك. . .
إذا جفت البحور أطلقها الإنسان من صدره وعينيه فزخرت ببلايا. . .
الثدي قرب الحب.
الأساطير هوس التاريخ وتهاويله.
الله هو الطيب يفوح ريحه في العبقرية.
الأصداء هي الأصوات في أبانيتها وقحتها وعنادها
الجنون عقل سقط تحت أثقاله
الرأس والصدر والبطن ثلاثة أقفاص أنا طيرها السجين.
الجبين هو الشاطئ الذي يبقى فيه الدماغ مراسيه كلما خاض عبابه التفكير وعاد من رحلته. . .
الحجر في أسس البناء تضحية ونكران، وفي زاويته سيادة وزعامة، وفي جداره شباب ومعونة، وفي سقفه عطف وحماية؛ وهو في سفح الجبل طموح، وفي شعابه مخاطرة، وفي قمته غطرسة وشمم؛ وفي الأعمدة تمرد وشموخ، وفي الخرائب حنين وذكرى، وفي القبور سأم وهجران. . .
المجنون رجل مجنون يلبس حداد عقله الميت!
البحر كأس من الماء إذا شرب هرقل.
الأمثال دنانير تضربها الحكمة وتوزعها على الناس.
الغصن الذي يحمل الثمرة اليانعة يد تشير إلى الخبرة والحنكة.
البصر بعض البصيرة أو هو أداتها.
بين السحر والغسق يوم يتقلب بين الهم والقلق، ودهر وعد وما صدق. . . ويجيئني الليل(829/7)
ويأتي الأرق وما أنا إلا سهم أطلقه الحب فانطلق، ولسان نطق وقلب خفق. . . وطارق طرق وكان جزاؤه الفلق. . . والله سره في ما خلق. . .
ماذا تفعل تلك المئات من الشموس الهاجعة في المجرة. . . أتراها تنام على غارها القديم أم هي تنتظر خلائقها وأمجادها العتيدة؟
الزمان فمه لعاب الأمل ولسانه التاريخ ولقمته العمر ونابه الموت. . .
الضباب فكرة غمضت في رأس الطبيعة.
الذكرى جرس يطن في أعاق وادي النسيان.
الشمم هو ما ارتفع فيك من الهضاب والقمم.
في اليوم الواحد يتصارع العقل والجنون ألف مرة كأنهما الأسد والنمر في غابة الرأس.
النجوم وشى الليل، أو جيش غلب على أمره، أو نظرات الخالق في ما صنع، أو شهودنا ونحن نحتكم إلى الزمان أو سلك من اللآلئ انتثر، أو بقايا سيارة كان لها يومها في ما ارتطمت بما شقها ووزعها في الفضاء. . .
كلما احتك الخالق بخليقته سكنت رياح الكفر وتألق في سماء الإيمان كوكب جديد.
إن في كسوف الشمس وخسوف القمر شيئا من العياء والسأم والقنوط.
كل فكرة نبضة من نبضات الرأس.
الليل عقد ينفرط نجوما. . .
الكفن آخر هبات الناس للناس!
المهد أول اللحد، واللحد مهد الآخرة.
كلما أقمر الهلال ترنح أملي واطمأن طموحي.
من قلت شموسه وكثر ضبابه فتح له الفن ذراعيه وضمه إلى صدره.
الأعوام أعمدة الزمن.
كلما رأيت الشجرة السامقة الشامخة حسبت أن الأرض تتطاول إلى السماء لتراها وتبثها الشكوى.
من نحر الحب أكل قلبه.
ما دام هناك رقاب تنحني فلا بد من بقاء النير!(829/8)
يدفنونه هنا فينهض هناك: تلك هي البطولة.
خلقت لنا الجباه لنجابه بها الدهر، فمن ألقى سلاحه أمام الحياة تخلى عن جبينه.
السهول أكتاف الجبال، والأدوية بطونها، والقمم وموسها، والشعاب عروقها، والمغاور أقفاصها، والآكام أطفالها، والثلوج شيبها، والأشجار خيالها، والرياح وحيها وتذكاراتها، والصخور ضلوعها، والرسوخ في الأرض عقلها وبقاؤها. . .
الرجل الكبير تقرأ على صحيفة قبره في كل صباح سطراً جديداً.
الموت هدنة ثم يستأنف العراك.
غضون الوجه والجبين أثلام يشقها محراث الحياة.
القراطيس لا تحمل وطأة العباقرة.
الطمع سكرة لا كؤوس لها.
الأرض التي ترحمك بسنابل خيراتها هي التي تظلمك بحديد قيودها.
كلما تعددت ذاتيتك قل عنادك.
كلما رأيت الشمس تميل إلى المغيب خشيت على ما نسجته من الأحلام.
الإيمان ذراع النفس مرتفعة إلى السماء تبتهل، والكفر ذراعها المبتورة.
المخترعون أقرب الناس إلى الخالق.
كلما فنيت أحلامي في أهدافها طاب لي البقاء.
الموت وحده هو الذي يعتقك مما أنت فيه. . إن في حريتك تراباً ولحداً.
الأبله ساعة تحطمت آلتها.
الفجر طفولة، والظهيرة كهولة، والمساء شيخوخة، والليل هو الموت.
حكاية الليل والنهار حكاية جدار تبنيه وجدار ينهار.
السماء ترمي الأرض بصواعقها فترميها الأرض ببراكينها. .
قد يكون البركان احتجاجاً على الإنسان الذي تلعب يده بأحشاء الأرض.
للكهرباء العظيم أسلاك توثقه بالخلود.
إنني أرى التراب عالقاً بالجباه الذليلة.
العقيم صفر في سفر الوجود.(829/9)
النجوم عديدة ولكن هل لك بينها نجمة؟
كلما نظرت إلى الأفق الجبار شعرت أني ما أزال طفلاً.
راجي الراعي(829/10)
صور من الحياة
قبعة تتفلسف
للأستاذ كامل محمد حبيب
يا صاحبي، أي شيطان وسوس لك فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذرهم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية؟
لقد كان حديثاً عجباً أن تقول (أنا لا أؤمن بالوطن ولا بالدين ولا باللغة لأنها قيود ثقال. وأحر بمن يتحرر منها أن يسود العالم كله.
أما الوطن فهو كلمة براقة تستهوي القلوب الضعيفة وتستغرق الألباب السقيمة، وتخلب العقول الجامدة. على حين أنها - في رأي الفيلسوف - فارغة من المعنى خالية من الحياة. والوطن هو نعرة بالية توارثها جيل عن جيل في غير إمعان ولا رؤية، وهو آثار فكرة التعصب العتيق حين كانت القبائل المتشعبة تنبث في فجاج الأرض ومتاهاتها، تخشى أن يتخطفها الناس من حولها، وهو لفظ جاف لا يحمل في ثناياه إلا صورة من جشع الإنسان الأول وكلبه حين اضطربت الأنانية في نفسه - لأول مرة - فاختار قطعة من الأرض ووضع حواليها الصوى والعلامات ثم قال: هذه ملكي. . هي وطني!)
ونسيت أن الوطن روح تتدفق في مسارب الدم وتخفق بين طيات القلب، وهو تأريخ حي ينبض في ملاعب الصبا ومسارح الشباب، هنالك تحت الدوحة الباسقة على شاطئ النيل، وفي ظلال شجرة الجميز على ضفة الغدير، حيث تداعبهما أنفاس الصبح الندية أو تعابثها نسمات الأصيل الهينة، والسماء صافية والجو صحو، وصوت خرير الماء يصاعد نغماً شجياً يلعب بالفؤاد ويعانق القلب ويهز المشاعر.
هناك في موكب الحياة على بساط الطبيعة السندسي وهو يتراقص في رأى العين ليوقع لحناً عذباً فيه جمال الحياة وجمال الموسيقى. . .
وقلت (أن الوطن فكرة تتفجر من خلالها ألوان من صراع القوميات العاصف وتفور من جنباتها ضروب من الحروب الطاحنة فتدفع العالم ليتردى في هاوية من الهلاك والدمار. . . هاوية ما لها من قرار. . . آه، لو أصبحت الدنيا كلها وطناً واحداً، إذن لانمحت الآثام(829/11)
والشرور! والوطن هو قانون الغابة في الملكة الحيوانية لأنه للأسد بأن يحمي حوزته ويذود عن عرينه، ثم لا يتورع عن أن يقتحم كناس الظبي الوديع فيفتك به ويهدم داره)
ونسيت أن الوطن هو أم يتدفق الحنان من قلبها، وأب يتوثب العطف من حناياه، وأبناء هم نور العين وجمال الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب، وأهل تهدأ بهم النفس ويأنس إليهم الفؤاد، وهو عش الطير يأوي إليه ليجد الراحة من عناء العمل ويلمس الطمأنينة من عراك العيش ويشعر بالأرض من فزع العاصفة. أرأيت - يا صاحبي - طيراً يحوم حول بقايا عشه المتهدم بعد أن عصفت به ريح صرصر عاتية أو عبثت به يد غشوم قاسية؟ أنه - لا ريب - يتضرم أسى ولوعة ويتنزى ألماً وحسرة لأن عشه الحبيب قد تمزق فوجد - في قرارة نفسه - فقد وطنه العزيز.
هذا هو الوطن في نفس الطير، فما بال الإنسان؟ ولكنك أنت أحسست الضياع في طفولتك والحرمان في شبابك والوحدة في رجولتك، فلا عجب إن أنت كفرت بالوطن لأنك لم تستشعر معناه إلا في تلك الحجرة الضيقة المظلمة في ذلك الزقاق القذر الوضيع حيث عشت وحدك ضائعاً منبوذاً؛ فحملت لأهلك ووطنك كراهية وبغضاً، وتأرثت نفسك حقداً وحسداً، وحاولت - جاهداً - أن تضع من جمال الوطن وفتنته وأن تثلب فنونه وآدابه وأن تحتقر ذكاءه وعبقريته وأن تحطمن صفائه ورونقه عسى أن تشفى داء نفسك السقيمة أو أن تنقع غلة قلبك المريض ورحت تنافح عن الأجنبي وتشيد بعلمه وترفع من قدره لأنه نفخ فيك أنت، يا صاحبي، من روحه ووسمك بسماته وخلق منك فيلسوفاً كبيراً، تفلسفت آراؤه فخان الوطن والدين واللغة.
وسمعتك تقول: (أما الدين فهو غسل ثقيل ينحط بهمم الرجال عن أن تنهض بجلائل الأعمال، وهو خرافة الأخلاق السامية، وهو روح التخاذل والتواكل. ألا تعلم بأن اليهودي يتوسل إلى الثراء بالسرقة والربا، ثم يسيطر - بالمال - على الأمم يصرفها كيف شاءت أنانيته وأطماعه؟ وأن الدول القوية تغتر الشعوب الضعيفة بكلمات الشرف والعدل ولا رأفة وما بها غير الرياء والمكر والخداع وغير شره المال وكلب الذهب؟ وأن الأخلاق القويمة لتصطرع في نفس الرجل القوي مثلما تصطرع الأحزاب في قلب الأمة الفتية فتنهش لحمها وتعصف بحيويتها).(829/12)
ونسيت أن الدين نور سماوي يهبط إلى الأرض فتنجاب له ظلمات الحياة ومتاعبها، ويتدفق في نواحي الروح فيغمرها بالسلام والطمأنينة ويجذب الإنسان عن النوازع الأرضية ويترفع به عن الوساوس الشيطانية ليلبس ثوب الملك وهو إنسان يسير على الأرض. . .
إنني أذكر - يا صاحبي - يوم أن أرغمت على أن أعيش في قرية نزل بها بلاء الحمى النخاعية الشوكية يحطم أهلها ويعصف بشبابها فانطلقت إلى طبيب القرية - وهو صديقي - أسأله دواء أتقي به شر هذا الوباء الجارف، فما راعني إلا أن أرى في نظراته علامة الدهشة، فقلت له! (ما بالك؟) قال (ألست مسلماً؟) قلت (بلى، وما للإسلام ولهذا البلاء النازل؟) قال (فأنت تتوضأ خمس مرات كل يوم، وفي كل مرة تتمضمض ثلاث مرات؟) قلت (نعم!) قال (هذا وقاء من شر هذا البلاء) ثم اندفع في حماسة يحصي الفوائد الصحية للوضوء والصلاة. هذا هو رأي العلم في بعض معاني الدين، فماذا تقول فلسفتك أنت؟
والدين يشفي الأدواء الاجتماعية مثلما يشفي الأدواء الجسمانية.
وسمعتك تقول (وأنا رجل أناني لا أعتقد إلا في الكسب المالي ولا أوقن إلا بالفوز المادي. وهذا (فلان بك) رجل عظيم، سلك إلى غايته طرقاً لا يردعه عنها دين ولا خلق، فزوجه فتاة شابة ذات جمال ودلال تمهد له السبيل الوعر وتفتح له الباب الموصد ثم تدفعه إلى الهدف وفي سهولة ويسر، وهو من ورائها يندفع حتى كاد يبلغ. ولو أنه تشبث بخرافة الدين أو تعلق بسراب الأخلاق لقعد عن الغاية وتخلف عن الركب).
ونسيت أن الرجولة والشهامة والنزاهة كلها من أمور الدين.
ثم قلت (إن من عبث الأخلاق ما نرى: فالفضائل أشياء نسبية، يتحلى بها الرجل من أوساط الناس فيبدو في أعين الناس فاضلاً كاملاً ويتمسك بها الرجل وهو من العظماء فيتمثله الناس منافقاً مخادعاً. وإن الناس ليتندرون بالرجل العظيم إن هو خلا إلى المسجد والمسبحة والمصحف بقدر ما يسخرون من الرجل العادي إن هو عكف على مجالس الخمر والقمار والفجور. وإن الرجل العظيم ليسرق الآلاف فلا تزدريه عين ولا يحتقره قلب، وإن سرق الرجل العادي درهماً واحداً كبله القيد الحديدي وأن الزعيم اللبق ليسطو على الشعب فيستلبه من ماله ومن مشاعره ليعبث بها في لذائذه ومسراته ثم لا يجد إلا التبجيل والتقديس)(829/13)
ونسيت أن ميزان الأخلاق - في رأي الدين - واحد لا يتغير: فالسارق لص أبداً، ومن يفرط في عرضه فهو الديوث.
ولكن لا عجب، فأتت تريد أن تبلغ غاية المجد في غير كد ولا جهد، وأن المرء ليستطيع أن يشبع رغبات نفسه ونوازع قلبه عن طريقين: الجهاد المر المتواصل والاستخذاء الهين الوضيع. وأنت قد دأبت على أن تستخذى لرئيسك لتكون - في يوم ما - رجلاً ذا مكانة وشأن. وفاتك أن المجد الذي يقام على دعائم من المداهنة والخداع والتمويه مجد متداع يوشك أن يهوى ويتهدم.
وقلت: (أما اللغة فقد انحطت من غيرها من اللغات الحية، فماذا فيها غير كلمات صلبة جاسية وعبارات جافة قاسية وألفاظ واهية متداعية، في حين أن اللغات الغربية تموج بالحياة وتنبض بالعقل وتخفق بالثقافة وتتألق بالعلم. ونحن أمة وهى عزمها وانحلت قوتها فذهبت - في ضعف - تفخر بما تلفظ بطن الأرض من آثار وتتعلق بأهداب خيال زال منذ زمان. لقد أصابتنا كبوة لا نستطيع أن نفيق منها إلا أن تغلق أذهاننا في وجه الثقافة العربية النابضة).
ونسيت أن في اللغة مجد الأمة وعزتها القومية، وأن من خلالها تتأرث حرارة الوطنية والكرامة. هذه اللغة - يا صاحبي - قد وسعت علوم اليونان وفلسفتهم في فجر النهضة العلمية الإسلامية واقتحمت باب الرياضة والفلك والطب، ولم تقتصر عن العلوم الطبيعية والميكانيكا. . . فوضعت بذلك أسس النهضة العلمية في أوربا حين كان الغرب يغط في سبات عميق ويرسف في أغلال من الجهل والعمى.
وغفلت عن أن المكتبة العربية التي بين أيدينا الآن لا تمثل إلا خمسة في المائة من إنتاج الذهن العربي الشرقي، فلطالما عبث بها الفاتحون فأوسعوها حرقاً وتمزيقاً وقذفاً في أعماق النهر.
لعلك - يا صاحبي - تؤمن في قرارة نفسك بما أقول، ولكنك لبست القبعة ذات مرة. . . لبستها لتنزل عن كرامتك ولتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة.
كامل محمود حبيب(829/14)
الأعلام والروايات
للأستاذ أحمد رمزي بك
أرى الراية الصفراء يرمي اصطفاقها ... بين أصفرٍ بالراعفات اللهازم
فتستبي فلسطيناً وتجبى جزائراً ... وتملك من يونان أرض الأساحم
إن التاريخ الإسلامي بأكمله لا يزال بكراً لم يدرس بعد الدراسة العلمية الصحيحة. وأغلب ما نشر من الكتب الحديثة عنه هو من قبيل جمع المعلومات وتبويبها ولذلك جاء أكثر ما بيم أيدينا من المطبوعات وهو لا يتعرض لحل مشكلة مشكلات البحث ولا قضى بأمر نهائي في مسألة مستعصاة.
وقد أثير أخيراً في مجلة الرسالة موضوع لون الراية التي أتخذها صلاح الدين لجنوده، واتخاذه اللون الأصفر الذي بقي علماً للأيوبيين ولملوك مصر من دولتي الأتراك والشراكسة.
والكتابة عن موضوع الأعلام وألوانها، قد تكون جزءاً من الكتابة عن أنظمة الجيوش الإسلامية وتقاليدها، وقد تكون جزءاً مما أطلق عليه القدماء اسم ترتيب المملكة ونظام المواكب العظام. . .
ويدخل في ترتيب المملكة نظام الملك وتقاليده وأبهته وقواعد المراسم في الحفلات العامة.
وكل هذه المسائل لم تدرس بعد الدراسة الكافية في الدول الإسلامية ابتداء من عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية الدولة المملوكية أو إلى نهاية الدولة العثمانية، ثم قيام الأسرة العلوية بمصر.
وقد تعرض لمثل هذه الأبحاث المرحوم جورجي زيدان بك في كتابه عن تاريخ التمدن الإسلامي، واعتقد ما أن جاء في هذا الكتاب هو من قبيل جمع المعلومات المتفرقة، لا من قبيل الدراسة العلمية الصحيحة، ولم يصل إلى علمي بعد أن هناك من تعرض لدراسة هذه الأمور دراسة علمية سوى الأستاذ (ماير) بالجامعة العبرية بمدينة القدس الذي أخرج كتاباً عن (الرنوك) فوضع بذلك أساساً علمياً يصح أن يتخذ لزيادة الأبحاث وتطورها ومعرفة أصول الرنوك وألوانها وهو عمل يحتاج إلى عناية وتدقيق وإلمام بالغات الشرقية ومدنيات الشعوب الطورانية ولهجاتها ومقدار تأثرها بمدنيات آسيا وكل هذا لا شك أ، المستقبل كفيل(829/15)
بتحقيقه.
أما ما يخص جانبي ترتيب المملكة وتنظيم الجيوش، فكل دولة من الدول الإسلامية لها طابعها الخاص بها. ويمكن فيما يخص مصر أن نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ترتيب المملكة في زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر الدولة الإخشيدية.
القسم الثاني: الدولة الفاطمية.
القسم الثالث: الدولة الإسلامية التي بدأت من عهد صلاح الدين إلى ابتداء الحملة الفرنسية.
أما الكلام عن القسم الأول، فكان ولا يزال ميداناً للبحث والاكتشاف العلمي وجمع المعلومات، ويظهر أنه كان محاطاً بالغموض في العصور الماضية بدليل أن صاحب صبح الأعشى يقول أنه لم يتحر له معرفة ترتيب المملكة فيها، والظاهر له أن أغلب النواب والأمراء حينئذ كانوا على هيئة العرب واستمروا كذلك حتى ولى مصر أحمد بن طولون وأبناؤه فأحدثوا فيها ترتيب الملك. وهذا الباب الأخير من القسم الأول أي من ابتداء الدولة الطولونية إلى نهاية الإخشيدية يحتاج إلى عناية الباحثين، والدخول فيه عسير لأن مواده لا تزال قيد البحث والتنسيق.
فإذا دخلنا العصر الفاطمي، نجد أنه كان موضع عناية المتقدمين وأن بين أيدينا مادة للبحث مدونة ومبوبة وتصلح للدرس والمقارنة.
أي أنه توسع الكاتب أن يتناول ترتيب المملكة ترتيب المملكة من جهة نظام الملك وتقاليده وأبهته وقواعد المراسم في الحفلات العامة كما قلنا، ثم يعرض لملابس التشريفة الكبرى وما كان يلبسه الخاصة والعامة والجند والأمراء، ثم يخلص إلى الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العامة كالتاج وشدة الوقار والمظلة وغيرها.
أما الأعلام في العهد الفاطمي بالذات، فيحتاج درسها إلى احتراس شديد، وكذلك دراسة السلاح وأصناف الجند وتعبئتهم في الصفوف والمواكب، وأعتقد أن لدينا من المواد المعلومات ما يجعل دراستها تحت متناول يد الباحث، لو كان ملماً بالقواعد المعمول بها في العالم الآن، إذ لكل دولة من الدول القائمة ومنها مصر مراسمها الخاصة بها وتقاليدها، كما أن لجيوش البر والبحر قواعد تختلف بعضها عن بعض ولكنها ترجع في النهاية إلى أصول متعارف عليها. وقد نجد في بعض هذه الأنظمة بقايا من أثر الشعوب الشرقية(829/16)
واضحاً ملموساً.
فإذا اطلعنا على أنظمة الجيش البريطاني، نجد أن قواعد الأعلام والرايات واستعمالها منظمة فيما يخص ما يرفع منها للملك وللقواد ولأصناف الفرق، ونجد قواعد التحية بالمدفعية وأنظمة خاصة بالموسيقى.
وما يقال عن الجيش البريطاني ينصرف أيضاً إلى الجيش الإيطالي، فقواعد التحية بالأعلام وغيرها منظمة في كتب معمول بها يطلق عليها
فهذه قواعد قائمة إلى اليوم ونحن في حاجة إلى الإلمام بها وتعرفها قبل الدخول في موضوع الأعلام والرايات ولو كان الكلام عنها تاريخياً؛ إذ أنه إخراج ما في بطون الكتب من المعلومات وتنسيقها يحتاج إلى تفهم ما يجري به النظام والعرف في الوقت الحاضر لكي يجيء عملنا على أساس علمي.
قرأت في البحث الذي نشرته مجلة الرسالة للأستاذ بدوي قوله في تبرير اختيار صلاح الدين للراية الصفراء (وكان في ذلك إشارة إلى أن مصر وإن كانت قد عادت إلى أحضان الدولة العباسية - فهي مستقلة ذات كيان خاص بها)
وأختلف معه فأقول:
أولاً: إن إعادة الخطبة لبني العباس لم يجعل من مصر ولاية عباسية وإنما كان هذا العمل دينياً أكثر منه سياسياً أو إذا شئت هو إعادة اعتبار المذهب السني وضم ولاية من الولايات إلى الأقطار التي تدين بالولاء الديني لخليفة بغداد.
ثانياً: إن صلاح الدين حينما اتخذ اللون الأصفر وإن كان يؤمل في الاستقلال بولاية أو سلطنة لم يقصد ولم يبرر عمله باختيار لون خاص يضعه على أعلامه.
أذن علينا أن ندرس لون العلم على أساس غير هذه الناحية التي أشار إليها الأستاذ بدوي ويخيل إلي إن العصر امتاز بوجود نظامين: نظام الخلافة العباسية،. ونظام الملك. وعلى هذا يمكن استخلاص بعض الحقائق الملازمة لهذا الاختيار:
للخلافة شعارها وللسلطنة شعارها:
إن اختيار اللون الأسود لبني العباس قديم والكلام عنه يخرجنا عن غايتنا. وهو لون اشتهر به بنو العباس وأصبح شعاراً لهم منذ إنشاء الدولة العباسية ولا يفهم من هذا إن نظام الدولة(829/17)
العباسية وترتيب الملك فيها حرم استعمال لون آخر بل كان للدولة عدة رايات وأعلام مختلفة اللون والشكل بدليل ما جاء في الطبري إن أحد الخلفاء ولعله المتوكل على الله ٍنصب علناً أبيض اللون وسماه لواء العمل وهذه ناحية كما قات تبعدنا عن الغرض الذي رسمناه لأنفسنا. ولذلك أعود إلى القرن السادس الهجري وأقول: أنه ورث كما كان متبعاً في القرنين السابقين: الخامس والرابع، أي ابتداء من دولة بني بويه ثم قيام الدولة السلجوقية فالذي المسه هو أن العالم الإسلامي الذي يدين بالولاء الديني لبني العباس عاش في تلك الحقبة من الزمن وبلادة تحمل شعارين: شعار الخلافة بأعلامها وألويتها وتقاليدها وشعار المملكة أو السلطنة بترتيبها وألويتها وإعلامها.
ولم يكن هناك ما يحول دون قيام الشعارين أو النظامين في وقت واحد ولذلك اجزم بان صلاح الدين حينما أعلن الخطبة لبني العباس وأقام شعائرهم في المساجد جاء إلى مصر ومعه شعائر السلطنة أو المملكة المتغلبة. وهى منبثقة من نظام الدولة السلجوقية التي كان يتبعها الأتابكة ولو في مظهرها وشعائرها، ومنهم نور الدين الشهيد الذي فتح صلاح الدين مصر باسمه. وكان تابعا له وقائدا من قواده على راس جنود من التركمان والأكراد الذين يدينون بالولاء للدولة الأتابكية التي تخضع في أنظمتها وتقاليدها لآل سلجوق الذين يمثلهم رغم استقلال الولايات وتغلب المتغلبين عليهم ما يطلق عليه.
سلطان السلاطين أو ملك الملوك:
وكان هذا اللقب من مسميات الدولة السلجوقية وهو لا يطلق إلا على من يكون في ولايته ملوك تحت سيطرته. فالملك في نظرهم من يملك مثل الشام أو مصر أو مثل أفريقية أو الأندلس وتكون عدة عسكره عشرة آلاف فارس على الأقل.
فإن زاد بلاد أو عددا الجيش كان اعظم في السلطنة وجاز له أن يطلق عليه السلطان الأعظم فأن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة، ومثل خراسان وعراق العجم وفارس، ومثل أفريقية والمغرب الأوسط والأندلس كان سمته سلطان السلاطين السلجوقية) اهـ. قاله ابن فضل الله في المسالك نقلا عن على ابن سعيد.
تقليد سلطان السلاجقة:(829/18)
ولدينا وصف كامل للمراسم التي اتبعتها خلافة بغداد في تقليد سلطان السلاجقة وهي جديرة بالتأمل والدرس؛ لأنها تعطينا صورة حية لأساليب هذا العصر ثم تجعلنا نعود إلى أوائل دولة بني بويه فنجد أن هذا التقليد اتبع في عهد عضد الدولة فناخسرو الذي كان أول من خوطب في الإسلام بالملك شاهنشاه. ولدينا صورة لتقليد صمصام الدولة سنة 373هـ لا تختلف في مظاهرها عن تقليد السلطان السلجوقي سنة 447 هـ. ونعود إلى هذه الحفلة فنعرضها كما جاءت في كتب الأقدمين:
جلس الخليفة القائم بأمر الله يوم السبت 25 ذي القعدة سنة 447 هـ دخل عليه سلطان السلاطين طفرل بك.
توج وطوق وسور.
أفيضت عليه سبع خلع سود في زيق واحد واتخذت له بها مملكة الأقاليم السبعة.
شرف بعمامة مسكيه مذهبة فجمع بين تاجي العرب والعجم.
لقب بالمتوج والمعمم.
قلد سيفا محلى بالذهب.
عاد وجلس على الكرسي.
قام ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن لموضع التاج الخسروي.
سأل مصافحة الخلفة فأعطاه يده دفعتين
قلده سيفا آخر كان بين يديه.
ختم له بتقليد السيفين، فقلد ولاية الدولتين.
خاطبه بملك المشرق والمغرب.
من ذلك يتضح أن تقليد الخليفة للسلطان تم بمقتضى مراسم موضوعة روعي فيها جلال سلطان الخلافة وعظمة سلطان الأرض.
قارن هذه المراسم بحرص الملك الظاهر بيبرس أن يتم تقليده طبقا لها عند إعادته للخلافة العباسية في مصر مع اختلاف في بعض مظاهرها.
(للكلام بقية)(829/19)
أحمد رمزي(829/20)
فلسفة طاغور الأخلاقية:
الآلام ثروة الإنسان الناقص
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
أن طاغور الذي برأ الحياة من الشر، وأرجع وجوده فيها إلى عصيان الإنسان لقانونه الأخلاقي، لم يغب عن باله ما يعتري الإنسان من نقص في عقله أو إرادته، ولم يغفل ما يسببه هذا النقص للإنسان من متاعب، وما يجره إليه من فشل يثير في نفسه ألواناً متضاربة من الآلام قد تنقش حياته وتنفث فيها التعس.
ومع ذلك لم يلق طاغور تبعة هذه الآلام على الحياة، وأخذ يدلل على أنها لا تتعارض مع السيادة، ولا تسوق الإنسان بالضرورة إلى الشقاء. وزعم أن الله خلق قوى الإنسان ناقصة وإرادته محدودة، وأن النقص في حد ذاته لا يؤذي الإنسان، وأن حدود الإرادة لا تحد من نشاطها، وإنما الذي يؤذيه هو أن تظل قواه على ما هي عليه من نقص، وتبقى إرادته حبيسة حدودها على الدوام بدون أن يسعى لاستكمال قواه الناقصة، ولا يجد في أن تصير إرادته المحدودة غير محدودة.
ولو خلق الله بادئ ذي بدئ قوى الإنسان كاملة وإرادته غير محدودة، لفقدت قدرته اللانهائية من ناحية كل معنى لها ولتعذر على الإنسان من ناحية أخرى أن يرتقي في سلم الوجود حتى يصل إلى تلك الدرجة الروحية النموذجية التي يندمج فيها وجوده في وجود الله، ويصبح هو والله حقيقة واحدة، لأن القوة لا تطور إلى أن تتم نموها إلا إذا دفعها النقص لتكمل، وإن الإرادة لا تتحرك حتى تصبح غير محدودة إلا إذا كانت تعمل على التحرر من نطاق حدودها الذاتية لتفنى في إرادة الله غير المحدودة. فلولا نقص الإنسان ما عرف الكمال، ولولا حدود إرادته ما صارت غير محدودة.
فنقص الإنسان ونهاية إرادته لا يسيئان إليه بقدر ما يدفعانه إلى طلب أرقى مراتب الكمال، وبلوغ السعادة القصوى بالتلاشي في لانهاية الله. وما خص الله الإنسان بهما إلا ليمكنه من العودة إلى المنبع الذي انبعث منه، ويحفزه على الفناء في روحه الكبرى التي تشمل كل الوجود. وان جمود النقص وبقاء نهاية الإرادة على ما هي عليه، يمدان الحياة بسموم الألم وما يتفرع منه من حزن وخوف وقلق.(829/21)
ولذلك يجب على الإنسان أن يفتش عن أسباب نقصه سواء أكان في عقله أم في إرادته، ويعمل على أن يقومه، ولا ييأس من طول مدة التقويم، ويثابر على معالجة عقله وإرادته حتى يصل إلى مكانة من الرقي الروحي ينمحي فيها شعوره بأي نوع من الآلام سواء أكانت من تلك الآلام التي تنتاب النفس حين يصدر عنها أثم من الآثام، أو من تلك الآلام التي تطرأ عيها عند الفشل في أداء عمل من الأعمال.
أما عن الآلام التي سببها اقتراف الخطايا، فترجع إلى جهل الإنسان بجوهر حقيقته وغفلته عن إن إرادته مرتبطة بقانون خلقي ليس إلا صورة من صور سرور الله التي تتجلى في الكون؛ وأنه يجب على النفس أن تعلم أن الله مستقر فيها في قالب القانون الخلقي، كما يجب على الإرادة أن تأتمر بأوامر هذا القانون، فإنه هو الذي يفك أسرها ويساعدها على تحطيم قيود الرغبات والأهواء، ويفتح لها الشعب لتنساب تدريجياً إلى نهاية الله وتوصلها إلى تلك الحالة الروحية التي تبلغ بها ملكوت السماء، فيستحيل عليها ارتكاب الذنوب التي تقلقها وتبعث فيها الأحزان، وإنما تمتعها بنعيم الحياة في الحقيقة المطلقة الأبدية التي لا تتباين فيها جميع الموجودات. بينما الفشل في العمل يمكن التغلب عليه بتنمية المواهب، وترقية الملكات، وتربية المهارات عن طريق العلم والعمل، لأن التزود بثقافة توسع من أفق المعرفة، وتزيد من قوة الإدراك، تجنب الوقوع في غلطات تجلب مشكلات شاقة. وان ممارسة العمل ممارسة واقعية تكسب دراية عملية، وبراعة فائقة في أدائه إلا أن كثيرا من الناس يزعمون أن هذه البراعة لا تكتسب بدون مشقة ترهق النفس وتذيقها بعض الآلام، وان الذين نضجت مداركهم ومهرت قدراتهم لا تخلو حياتهم من الآم ومتاعب، فضلاً عن إن مجرد وجود الإنسان في الحياة يكلفه عذابا دائما، إذ يتطلب منه كفاحا متواصلا ليحصل على ما يوفر له حاجاته المادية.
ولكن طاغور يسخر من هؤلاء القوم ويصورهم في صورة من يحسب ثقل ضغط الهواء على جسم الإنسان، فيجده ثقلاً هائلاً فيبالغ في تقدير ما يرزح تحته جسم الإنسان من أحمال، وينسى أن من خواص هذا الجسم أن تتعادل مقاومته مع هذا الضغط، بحيث لا يشعر بأي شيء ينوءه حمله، فإن كل ما يلاقيه الإنسان في الحياة من محن وخطوب لا يفوق الطاقة البشرية، ويشبه إلى حد كبير ضغط الهواء الذي لا تكاد تحس بوجوده، وإن(829/22)
في قدرة الإنسان يقاومه ويتغلب عليه بأقل جهد.
وإذا بحثنا عن سبب شدة وطأة الآلام، وعنف وقع المتاعب على الإنسان، وجدنا أنه يرجع إلى أنه ينظر إلى الحياة نظرة ضيقة تنحصر في الحاضر دون المستقبل، وتقصر مطالب ذاتية عارضة دون المطالب العامة الدائمة، فإن لم يحرز ما يريد بأسرع ما يمكن، وفي أقرب فرصة، وبأقل جهد، يقلق ويضطرب ويظن بالحياة الظنون. وإن نزل فيه خطب جزع لضياع غنم عاجل لا يستفيد منه إلا شخصه. وإن خذل في تحقيق مآربه أحس بخيبة مرة تضايقه. وإن عاقته عوارض الحياة دب فيه اليأس والقنوط، بينما لو نظر إلى الحياة نظرة رحيبة تضم الحاضر والمستقبل، وتحتضن خير كافة البشر الذي لا يتحتم تحقيقه في الوقت الحاضر، إذ قد يتحقق في المستقبل القريب أو البعيد لما أكترث بما يقابله من أهوال، ولما حركت المتاعب كوامن أشجانه، ولا قدم غير هياب على تنفيذ كل عمل يراه ينفع الإنسانية ولا يرهب العذاب في سبيله، وكان على استعداد دائم لأن يتحمل المشاق طائعاً مختاراً، ويقاس الحرمان دون تذمر، لا يسأم النضال الطويل، ولا يثبط همته الفشل المتوالي، لأنه يدرك إن هذه الآلام ما هي إلا قرابين زهيدة فرضت على من يريد أن يحظى بالحياة في الذات الإلهية عن طريق تعميم ضرب من الخير الدائم بين الناس. فمن يرضى أن يعاني الآلام ليسعد البشر، تقوى عزيمته على تذليل كل عقبة تعترض هذه الغاية، وتهون عليه نفسه فيضحي بها في سبيل خير الإنسانية، ويسير سيراً حثيثاً نحو تلك الحياة الروحية التي لا يحس فيها المرء إلا بحقيقة فريدة لا مثيل لها، هي حقيقة اتحاد الخالق بالمخلوق التي يتمتع في كنفها بسعادة عذبة هادئة، ويتلذذ بغبطة حلوة تحيط الإنسان بهالة من النشوة والحبور، تدفع عنه مرارة الألم، وتحميه من تعس الأحزان.
فطلب الحياة في الله يصهر المعاني المألوفة، فيصبح السرور الذي تريد أن تنعم به مضنياً؛ لأن طريقه وعر صعب، كما يصبح الألم الذي نسقاه محبوباً لأنه يقودنا إلى إسعاد الغير، ويسوقنا إلى الاتحاد بالله. فمن يرحب بالتضحيات من أجل الخير العام المستمر، يعطي لحياته قيمة عليا ينمحي فيها الفوارق بين شتى المعاني التي يحياها عامة الناس، ويفقد السرور والألم عنده تأثيرهما المتناقص المتداول ويتساويان، ولا يتمايز بعضها عن بعضها بشيء لان التمتع بالسرور لا يحدث بدون مقاسات الآلام، والآلام هي الضريبة التي تمهد(829/23)
لنا طريق السرور. فالسرور والألم مختلطان، لا يسهل التمييز بينهما في مثل هذه الأحوال الإلهية.
ولكي يعيش الإنسان في سرور دائم يجب أن يخوض ميدان الحياة الاجتماعية ليبني ويهدم ما لا يروقه ما بناه، ويضع القوانين ويغيرها إذا وجدها لا تلائم خير المجتمع، ويخلق الأكداس المكدسة من الآراء، ولا يبالي ما قد يقع فيه من أخطاء فأن استمراره في خلق أفكار جديده يصحح غلطاته ويكشف عن أسرار الطبيعة وقوانينها الحق، ويخترع مختلف الآلات، أي يعمل بلا انقطاع ولا يخشى الفشل فإنها سبيل النجاح والتقدم، ولا ينفك يبدل فيما وصل إليه من علم وعمل، ويغير مادام فيها نقص أو عيب ويبحث راضيا مرضيا، لا يفكر مطلقا في تجنب الألم أو الهروب من المتاعب، بل يظهر براعته في القضاء على ما به من نقص وتحويله إلى كمال ويبرز مهارته في مختلف أنواع الألم من خذلان ونصب وشجن وخوف، ويجعلها عنصر من عناصر السرور. فلا ينبغي لأحد أن يعتزل الحياة رعبا من آلامها ومتاعبها، وإنما يجب عليه أن يتحملها صابرا، علما أن الألم ثروة الإنسان الناقص، وعلامة على أنه اكبر من حاضره، وبمثابة قوة دافعه تصيره عظيما في الحياة، وتخطو به من حاضره المحدود نحو مستقبل باهر غير محدود.
إن تطور الحضارات، وتقلب المدنيات، ونبذ الإنسان للقديم وابتكار حديث يقوم مقامه، لدليل على أن الإنسان لا يفتأ يجد ويخلق ويسير من مرحله إلى مرحله افضل منها، حتى يبلغ أقصى درجات الكمال التي تكفل له السعادة المرجوة.
فالشكوى من الآلام والمتاعب شكوى لا مسوغ لها، ولا ينبغي أن نترك لها أي منفذ لتتسرب منه إلى نفوسنا، وتلقى فيها نواة التشاؤم؛ لان الآلام ضرورية لتقدم الحياة، ومحك دقيق يقيس رقي الإنسان وبحسب مدى ما وصل إليه من سعادة ويبين ما بقى عليه من أشواط ليصل إلى ذلك السرور السرمدي الذي ينبعث في النفس من توافق حياه الإنسان مع حياة الله.
عبد العزيز محمد الزكي(829/24)
في دنيا البطولات
ثلاثة جاهدوا فصدقوا. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
من مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وانف حميْ؟!
وإباء محلق بي عن الضي ... م كما زاغ طائر وحشي؟!
(الإمام الشريف الرضي)
لعلك - أيها القارئ - تخالني حين تقرا هذا العنوان، سأحدثك عن ثلاثة من أعلام الجهاد، ممن تردد ذكرهم على السنة الناس؟ لا يا أخي! ما أنا وذاك؟ أن لهؤلاء في مواطنيهم من يفي بطولتهم حقا؛ وان حديثي عنهم - لو فعلت - لا يجاوز أن يكون إلمامه عابر، لمح في الأفق البعيد جبلا، فهو يصف منه تهاويل ما خيل إليه، دون أن يصل بيقينه إلى كنه مسالكه وشعابه!
إذن فما لي ولأولئك! ودعني أحدثك عن ثلاثة عرفتهم بنفسي، وصحبتهم عمرا من دهري. وقد جاهدوا فصدقوا في جهادهم، حتى ارتقوا إلى مراتب البطولة، إلا أنها صامتة متواضعة، لم يتبعها زيف من الجلبة، ولم يتقدمها بهرج من الرياء.
أن هؤلاء الثلاثة من القرويين، وان شئت فقل من (الفلاحين)، على رأى مواطنيهم (من أبناء الذوات)! وهم من ثلاث قرى مختلفة، إحداها نكرة في القرى، لا يصلها طريق ذلول، إلا أن يكون انحدارا من شعاف الجبال، أو صعودا من بطون الوديان، فإذا ما التمست إليها سبيلا، كنت كمن يرقى في السماء، أو ينحدر في هاوية ليس لها قرار!
ولا يذهب بك الظن بعيدا، فتخالهم من سواد الدهماء! وانك لتعلم أن الظلمة لا تمتزج مع النور، وأن الجهل شر الضروب العمي، وأن من عمي له قلبه لا تستقيم له المسالك، فهو يخبط خبط عشواء لا ينتهي بصاحبه إلى غاية. فلو لم يهذبهم العلم لما أدركوا معنى الجهاد، ولو لم تصقلهم المعرفة لما استيقنت قلوبهم:
(أن حب الوطن من الإيمان. .)
فهم من أبناء الجامعات، حملوا منها رسالة العلم، ثم تقلبوا في الآفاق يؤدون هذه الرسالة(829/25)
وأخيرا هتف بهم الوطن فلبوا نداءه، ثم عز عليهم أن يهجروه في محنته حين هجره الكثيرون من ابنائه، وكانت العاقبة أن سقط أحدهم شهيدا ولسان حاله يردد قوله:
وأهِوى يعفَّر وجهي ثراك ... قريراً وذلك جهد المقلّ!
وبقي الآخران مرابطين صابرين، أحدهما يجاهد بقلق، بعد أن ألقى من حوله السلاح؛ والثاني ما يزال في خطوط القتال، يبذل حشاشته، ويراوغ منيته. يدفعه أمل باسم يحمله على أن يردد في نجواه: (من طلب الموت وهبت له الحياة)
اتذكر فيما مر بك أن شاعرا قتله بيت من شعره؟ انه المتنبي حين هتف به غلامه: (أتفر وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟)
فرد عنان جواده وقال: (بلى؛ أنا القائل)، ثم قاتل حتى قتل. . وان هذا البطل الذي أسوق إليك نباه قتلته (كذلك) أبيات من شعره! أو تدري كيف؟ كانت جحافل (جيش الاتقاد) تستعد للانسحاب من مدينة (الناصرة)، ما خلا كتائب تنتشر هنا وهناك، يقابلها العدو وجها لوجه. وكان ذلك الفتى يقود كتيبه منها، وصمد هو ورفاقه في وجه العدو المنتصر، حتى ضاقت عليهم السبل، وكادوا يطوقون.
التفت إلى أصحابه يصدر أمره بالانسحاب، فإذا بأحد المجاهدين يصيح في وجهه - وقد ألهبته سورة الجهاد -: وأذلاه! أتفر وأنت القائل: سأحمل روحي على راحتي. .؟) فأجاب - وقد اشرق في وجهه نور الشهادة -: (نعم والله! أنا الذي أقول ذلك (ووثب من مكمنه يخترق حجابا كثيفا من الرصاص، وهو يردد بصوت يسمعه من خلفه:
سأحمل روحي راحتي ... وألقي بها مهاوي الردى
فأما حياة تسر صديق ... وأما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتا ... ن ورد المنايا ونيل المنى
أرى مقتلي دون حقي السليب ... ودون بلادي هو المبتغى
لعمرك هذا ممات الرجال ... ومن رام موتا كريماً: فذا!!
وسقط المجاهد البطل يلفظ أنفاسه وهو يردد عجز البيت الأخير: (ومن رام موتا كريما: فذا!!) وكان آخر ما تلفظ به قوله: (الحمد لله على الشهادة. .) ولم يكن ذلك أول جهاد قام(829/26)
به، فلقد كان له قبل ذلك جهاد طويل، ولكنه في ميدان آخر. فقد تولى التدريس زمناً في كلية النجاح الوطنية بنابلس، كما تولاها زمناً في العراق. فلقن طلابه دروساً في الوطنية، أضعاف دروسه في اللغة والأدب وكان له في الصحافة المحلية ميداناً لا يفتأ ينثر فيه من آيات إبداعه شتى الألوان وقد طوف في الأقطار العربية المجاورة وتعرف إلى جماعة الأدباء فيها، فأصبح بينهم علماُ يعرفه القريب والبعيد ومن من أدباء فلسطين ومتأدبيها لا يذكر القصيدة العصماء التي استقبل فيها الأمير السعودي يوم زار بيت المقدس. وكان أحد أبياتها قوله:
(المسجد الأقصى) أتيت تزوره؟ ... أم جئته قبل الضياع تودعه؟
لقد كانت تلك القصيدة - يومذاك - حديث المجالس وطرفة الأدباء. وكأنما تكشف له فيها حجاب الغيب، فنظر من خلفه ما صارت إليه الأمور!
وان لهذا الشاعر من ضروب القول ما يضيق عن سرده المجال (لو وصلت إليه يدي!)، حسبك أنه يقع في دواوين! ولا أدري ماذا فعل الله بآثاره، وأني لأعلم أنها كانت لا تزال مخطوطة كلها. . ويحضرني من غزله أبيات - له ما يفضلها - من قصيدة عنوانها (يا غادرة!) قال فيها:
روحي فقد راح الذي بيننا ... كالبارح السالف ما أن يعود!
روحي ولا تأسي على حالتي ... وأنسي مواثيقي وخوني العهود
لا تحملي من ذكرى عهد الهوى ... أن الهوى صعب وحمل يؤدد!
روحي فقد راح الذي بيننا
إذا تلاقينا فلا تنظري ... أرى وميض الغدر في ناظريك
ولا تشيري لي ولا تومئي ... وددت تقطع كلتا يديك!
روحي فقد راح الذي بيننا ... فلعنة الحب وقلبي عليك. .
هذا هو أحد الثلاثة المجاهدين، بذل من أجل وطنه غاية ما يملكه (وهو دمه!) وخلف من وراءه في قرية (عنتبا) أطفالاً ليس لهم عائل، وأيما لم يترك لها تراثاً، إلا أن تكون هذه البطولة الفذة، تنشئ عليها صغاره!!، فرحم الله الشهيد البطل (عبد الرحيم محمود). . .
يا أخي القارئ؛ لست أزعم لك ما قام به هؤلاء الثلاثة بطولة نادرة، وأعمال خارقة يعجز(829/27)
عنها هؤلاء الآخرون من بني الإنسان! ولكنها مواقف كريمة، تتمثل فيها الرجولة الصادقة، ويطمئن إلها الخلق النبيل. وإنك لتسمع في (مجالس)، وتقرأ في صفحات (كتب)، الكثير عن (النجدة والحفاظ؛ فزيد يأنف الضيم والعار، وعمرو يأبى الذل والصغار) ولكنك حين تلتمس هذا ال (زيد)، أو تطلب ذاك ال (عمرو)، تجدهما - إلا أن تواتيك المصادفة العجيبة - قد تخلفا في زوايا تلك (المجالس) أصداء تتردد، وفي صفحات تلك (الكتب) مداداً تحتضنه سطور!!
أرأيت إذن إن الأعمال تقاس بمال يحوطها من ظروف، وأن الشاعر كان صادقاً كل الصدق حين قال: (وبضدها تتميز الأشياء)! إنك - من غير شك - قرأت قول الطغراني:
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
ولكنني لا أخالك لقيت من عبث الأقدار ما يقفك ذلك الموقف الذي يجعلك تحس (بنفسك) ما يريده الشاعر من (حب السلامة)، كأن يخيرك بين أمرين إما الحياة، وأما الموت! وإنه لاختيار عسير، ندر أن تجد في الناس من يتردد طويلاً في الانحياز إلى أحد شقيه أو لعلك لا تعجب أن يختار (بنو الموت) شقه الأول، فهذا هو الذي يحتمله - على علاته - منطقنا الصحيح أو السقيم لست أدري! وهل عسيتك - إن أنت وقفت حيال رجل فر من الموت - أن تستهجن ما صنع؟!
وعل ذلك القياس نجد أن حب السلامة يتساوى فيه الناس جميعاً، ومن هنا يمتاز من يزهدون فيه، ويقدمون على الموت بملء اختيارهم، في سبيل غاية سامية، أو ثباتاً على مبدأ يعز عليهم أن يجاوزوا حدودهم. . وكذلك كان أصحابي الثلاثة، فقد أقدم أحدهم على الموت كما رأيت، لأنه أحب أن يقول فيفعل، وقال غيره (وهم كثيرون!) أبلغ من قوله، ولكنهم آثروا العافية، وهتف بهم (حب السلامة) فخفوا إليه راغبين مسرعين، كأنما أرهف مسمعهم لندائه شاعريتهم المبدعة، فسمعوه قبل أن يسمعه أحد سواهم. وسرعان ما انتشروا بين القاهرة وبغداد (ومنهم من جاز البحر إلى قبرص)، وجعلوا من هناك يحرضون الناس على القتال! ولكن ذلك الأديب المجاهد ثبت لا يبرح مكانه متجاهلاً (سلامته)، فبذل حياته ثمن ذلك التجاهل، وإنه لثمن لا يملك صاحبه أعز منه. يلجئون
وقد فعل رفيقاه مثلما فعله، إلا أنه لكل أجل كتاب! فهذا أحدهما تصبح قريته (قلقيلية) في(829/28)
صميم خطوط القتال فلا يظن بحياته على تلك القرية، ويندفع في سواد أبنائها يقاتل كما يقاتلون، ويسعه ما يسعهم من شظف العيش وعنائه، ثم يعدهم ألا يبرح مكانه بينهم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ويحين له فرصتان، أحدهما في العراق والآخر في الشام، ولكنه لا يحول عن عهده الذي قطع، ليغتنم فرصة العمل - على حاجته إليه - بينما اغتنمها الكثيرون من زملائه! وما زال الأستاذ (احمد السبع) إلى اليوم هناك، يرتقب ما الله صانع، فحيا الله المجاهد الكريم، فقد صدق الوعد وحفظ العهد!.
وذلك ثالثهم يعود إلى القرية (بروقين)، وهي التي حدثتك إنها: (نكرة في القرى)، بعد أن يجاهد حتى تغلق في وجهه مسالك الجهاد، ويقبع فيها إلى أن تحل تلك الليلة المشؤومة، ليلة سقوط مدينة اللد، وهي منها على غلوه أو غلوتين. (ومن ذا الذي لم يسمع بكارثة اللد وجارتها الرملة؟) وينطلق أهل القرية يعدون العدة للجلاء، ويتفقون على ذلك جميعاً كبيرهم قبل صغيرهم؛ ولكنه هو وحده يعارضهم فيما اتفقوا عليه، ويعلن لهم أنه لن يبرح مكانه حذر الموت، ولن يسلمه مادام فيه عرق ينبض! فتبسمت بقوله خائر العزائم، فلم يبرح أحد بيته!
وما زال هذا الأستاذ المناضل هناك، يصدر جريدته (البعث) على مقربة من هذه القرية، ويضرب صفحاً عما يعرض له من فرص، وإن اختصاصه النادر يضاعف الحاجة إليه، وإن آثاره العلمية بين مخطوط ومطبوع، تدل على سعة اطلاعه في موضوعه الذي انصرف إلى التخصص فيه، ولكنه لم يستغل السانحة التي استغلها سواه، وذلك ثباتاً منه على مبدئه الذي انف أن يحول عنه - على الرغم ما حاطه من سيئ الظروف - وقيل ما ألئك! لقد سبق أن تحدث في (الرسالة الزاهرة) عن هذا المجاهد، وأتيت على ذكر آثاره مفصلاً حين تحدثت عن ذوي الآثار العلمية في موضوع (الأدب في فلسطين) منذ عام. وذلك هو الأستاذ (عبد الله الريماوي)، ثالث ثلاثة جاهدوا فصدقوا، فحق لي أن أسجل جهادهم الصامت، وأنا اردد في أعقاب ما سردت:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
محمد سليم الرشداق
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)(829/29)
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراوي
قليل من المصلحين الاجتماعيين هم أولئك الذين يبحثون مشكلات الشباب بحثاً جدياً لوجه الحق. واقل من هؤلاء أولئك الذين يوفقون في حل لا تتدخل فيه الأغراض الخبيثة ولا العناصر الذاتية التي تختلف وتتعدد تبعاً لاختلاف الأفراد وتعدد الجماعات.
والشباب بين هؤلاء وهؤلاء يضطرب في مسالك الحياة حائراً لا يدري - وسط هذا التناقض الفكري والمذهبي في كل مظاهر الحياة تقريباً - لا يدري
ما يأخذ، ولا يدري ما يترك، ولا يدري ما يفعل؛ ولكن لديه طاقة فتية يتأجج أوارها ولا بد له من استنفاذها على أي وجه من الوجوه.
وأنا لنراه - برغم تعدد السبل التي يسلكها في استجابته لرغباته ونزعاته - يصل إلى نتيجة واحدة هي (الشك): الشك في القيم والمثل، لأنها لم تتكاتف في الأخذ بناصره وتحقق غايته؛ والشك في العرف والأوضاع، لأنها تتجاهله في أكثر الأحيان؛ والشك في السياسة، لأنها تتملقه لنيل مآربها؛ والشك في كل شيء حتى نفسه، لأنه اصبح لا يرضى عن شيء حتى نفسه: لهذا نراه قلقاً متبرماً بكل شيء، ثائراً على كل شيء.
ويحاول المصلحون الاجتماعيون أن يعزوا هذه الظاهرة - ظاهره الثورة في الشباب - إلى عوامل فسيولوجية وسيكولوجية (معينة) يستغلها أرباب المذاهب السياسية والاقتصادية في تحقيق غاياتهم بإثارتها بأنواع المثيرات المغرية.
ويبدأ أولو الأمر يعالجون المشكلة على هذا الأساس، ولكنهم عبثاً يحاولون أن يصلوا إلى نتيجة.
وانهم ليخطئون كثيراً حين يقدرون انهم حصروا العلة في هذه الدائرة الضيقة.
والواقع أن الأمر أعظم واخطر بكثير مما نتصور، بحيث تتضاءل بجانبه جميع الاحتمالات التي قدرنا حتى الآن: أنه يتخطى العوامل الفسيولوجية والسيكولوجية إلى ما وراءها: إلى تلك الحواجز القوية التي تضبطها وتمنع انفجارها وانحرافها، بل وتحول بينها وبين الاستجابة لأي مؤثر في غير ما رسم لها.
نعم، إن الاتجاه يهدف إلى وراء هذه الجزيئات، إلى الكليات، محاولاً القضاء عليها حتى لا(829/31)
يكون ثمة شيء يقف في سبيله بعد ذلك. هذا الشيء الذي يخشاه أرباب المذاهب السياسية والاقتصادية، ويحسبون له ألف حساب، متحينين كل فرصة وكل وسيلة للقضاء عليه هو (الدين). ويتذرعون بمختلف الحيل والأحابيل لإلغاء فطرة الله: تارة باسم الحرية الفردية، وتارة باسم الأدب والفن، وتارة باسم العلم والفلسفة، وتارة باسم الوجودية، وتارات بإشاعة الفجور ومغرياته بمهوناته من الحاديات وأشياء يزعمون أنها طابع العصر وعنوان المدينة!
والشباب موزع يحس صراعاً في ذات نفسه - من حيث يدري ولا يدري - بين هذه الفلسفات والمثيرات، وبين ما ورثه من حقائق الدين، وعقائد الألوهية، ومواضعات العرف. ونتيجة لهذا تتشتت قواه وتنقسم شخصيته بين عاملي الشك واليقين، وثم تتملكه الهموم ويتنازعه الشقاء، وما يستتبع ذلك من نزعات منحرفة قد تودي بحياة الشاب في بعض حالاتها. وأضننا ما زلنا نذكر تلك النزعة الرومانتيكية التي طغت على أوربا حيناً فغشيتها آنئذ موجة الانتحار المشهورة، والتي هونت على الشاعر الألماني الفيلسوف جوته سبيل الانتحار تخلصاً من يأس الشك، حتى يرى ماذا يكون وراء الطبيعة، أحقيقة هو أم كذب بقوله لنفسه: (لتقتحمي الطريق الذي يوصلك إليه حتى ولو اعترضتك نيران الجحيم المستعرة). . . لولا أن تداركه لطف الله. وربما يحدث غير ذلك، فينغمس الشاب في الشهوات تخلصاً من آلامه حتى يهلك. وما إلى ذلك من مآس لا يسمح المقام بذكرها.
ولكن أين إذن موضع الحق من ذلك كله؟
هذا ما سنحاول الكشف عنه فيما يلي:
رأينا فيما سبق كيف أن الاجتماعيين جانبهم التوفيق في تلمسهم أسباب الثورة عند الشبيبة في حدود العوامل الفسيولوجية والسيكولوجية ليس غير؛ فتورطوا في غلطة لن يغتفرها التأريخ لهم أبداً، وهي نصحهم بالعلاج السيكولوجي لنفسيات الشبيبة، فماذا ترون إذن يكون هذا العلاج؟
لاشيء عند السيكولوجيين غير حل العقد الفرويدية وما إليها بالطرق التي نعرفها جميعاً، وغير تجنب عوامل الكبت بما يسمونه (التنفيس)؛ وفي سبيل هذا التنفيس يهون كل مرتخص وقال. ويجب قبل كل شيء أن نعرف أن الحياء مرض نفسي، ولا يمكن أن تكون النفس كاملة إلا بإزالة هذا المرض الخطير (يعني بقلة الحياء)!(829/32)
ومن أجل التنفيس لا بأس عندهم من إباحة شيء من المحرمات (ولكن في حدود الاعتدال) هكذا يقولون! ومن عوامله في الغريزة الجنسية مثلاً الاختلاط والرقص وترويج الوريقات الخليعة التي تسير على مذهب الصراحة الجنسية، وما في هذا المعنى الفاجر.
وكأن حال لسان السلطات يقول: إن لم تكن هذه الأشياء مجدية، فهي على كل حال ملهية! إي والله! إن هذا هو ما حدث! ويل لهؤلاء المحترمين إن سكتوا بد اليوم عن هذا الحال وظلوا هكذا متشبثين بذنب الحية دون رأسها!
ألم يعلموا أن هذا العلاج الجنسي والنفسي إشاعة للفجور، وأن ترويج المفاسد والفجور هو أفعل سلاح قضى على العقائد والمبادئ حتى الآن؟!
والقانون الذي يمكن أن نستنتجه من استقراء حوادث التأريخ قديمها وحديثها هو (أن الثورات وليدة الفجور والإباحية التي معول الأديان والعقائد). وإن أصحاب المبادئ السياسية والاقتصادية لا يمكن أن تتنسم مبادئهم الحياة إلا عن طريق هذا الذي استنتجناه الآن وسميناه - ولو على سبيل المجاز - قانون الهدم الاجتماعي.
والقاعدة التي نستخلصها من تطبيق هذا القانون هي أن كل ملحد أو داع إلى إلحاد لا يمكن أن يكون غير واحد أو أكثر من هذه الثلاثة: (استعاري، إباحي، مغفل كالقرد لا هم له إلا أن يقلد، فهم أو لم يفهم). ولا يجوز أن يتعدى الملحد بأي حال هؤلاء الثلاثة.
تلك مقدمات لابد منها لكي نعرف هل الملحدون الذين بلبلوا أفكاراً ورطونا في هذه الأزمات النفسية الخطيرة - يؤمنون حقاً بمبادئهم تلك، أم أن لهم غايات أخرى وراء ما يظهرون؟
وإذ كانوا هم لا يؤمنون بهذه النظريات ذاتها إلا بقدر ما بقدر ما نحق لهم من أغراض كما أثبت التاريخ على نحو ما رأينا؛ فواضيعة أعمارنا وزهرة شبابنا في شيء ليس له حتى عند أصحابه وجود!
على أننا متى عرفنا هذا وتيقناه؛ فلن تسحرنا أقوالهم ولن نقع - بعد اليوم - في شباكهم، وكفانا بهذه المعرفة العاملة سعادة!
والآن يبدو لي أننا بحاجة لأن نمتطي الزمن لحظات عبر التاريخ في سياحة علميه نلم فيها إلمامه قصيرة بشيء من ختل هؤلاء الممثلين البارعين:(829/33)
هذه هي فرنسا ظهر فيها فولتير وروسو (باسم حماة العدل، ورافعي الظلم، ودعاة الحرية بإنارة الفكر، وهداية العقول).
وبدأ راهبا (الحرية) هذان ينشران مبادئهما التي تتلخص في تسفيه الأنبياء وإنكارهم الألوهية بزعم أنها خرافات. وان الدين الحق هو دين الطبيعة الحرة، والمعبود الحق هو الشهوة. . .
وبذلك حدثت المآسي الخلقية التي يذكرها التاريخ خجلاً، والتي رأينا صورة منها في اعترافات روسو نفسه.
وعلى أثر تسمم الناس في هذه الآراء قامت الثورة المعروفة على أنقاض الدين.
وهذه هي الروسيا لم تتمكن فيها مبادئ ماركس من الوجود إلا على أساس الشيوعية الإباحية التي أعقبتها الثورة على الدين والنظم السياسية والاجتماعية والقضاء على ذلك كله.
والأمثلة تفوق الحصر ولكن ليس هذا محلها: إنما اقتصرت على مثالين حديثين يذكرهم ويعرف تفاصيلهما كل منا، وإن التأريخ اجمع من أوله إلى آخره هو حجتي وبرهاني على صدق الأرقام التي ذكرت: فما من صاحب مذهب الحادي إلا وله قصد غير الإلحاد في ذاته.
أما في الأمم التي لم تنضج ثقافتها فإني أصدق أن فيها من يلحدون إخلاصاً للإلحاد ذاته أو لأن الإلحاد قال به ديكارت أو فلان من الناس، أو للاشتهار بالمخالفة. . .
ويعلم الله أنهم - على حسب مقاييس سادتهم الغربيين - لا يفهمون من معاني هذه الألفاظ التي يتشدقون بها غير أسمائهم، وأن التقليد الجاهل فيما يضر ولا يفيد - إن دل على شيء - فليس إلا على أحط دركات الانحطاط الخلقي والعلمي أما الذين يدعون إلى الشك بدعوى العلم قد قال به في يوم من الأيام، فلست أدري إن كانوا يفهمون حقاً ديكارت ذاك، هل شك ديكارت في الأديان وفي العلوم وفي التأريخ لأنه قديم وكفى؟ وهل كان يصل إلى نتيجة لو أنه قدر وحدث هذا؟ آخره آ
ومهما يكن فيا ليت هؤلاء فعلوا ما فعل ديكارت؛ إذن لكنا جنينا من ورائهم خيراً كثيراً كما جنت العلوم بل والأديان من نهج ديكارت هذا الذي يضللون به السذج ممن لم يعرفوا(829/34)
حقيقته
(جاء في الجزء الثالث من دائرة معارف من قواعد فلسفة ديكارت أن ما وجد في الذهن واضحاً جلياً فهو حق يجب أن يسلم به تسليماً) أين هذا من قولهم بالشك في التأريخ والدين وفي كل قديم لأنه قديم وهذا حسبه؟ (لم تكن عظمة ديكارت راجعة إلى أنه شك؛ ولكن إلى أنه اهتدى بالبحث إلى طريق وصله إلى اليقين) (على أنه حين أخذ الشك يساوره كان غلاماً ناشئاً لم تجاوز سنة العشرين (ولما يتم دراسته الجامعية) فشكه حينئذ لم يكن ليحتج به)
ولكنه على كل حال بحث وجد في بحثه حتى توصل إلى أن قال كلمته المشهورة (أنا أشك فأنا إذن موجود) ثم قال بعد ذلك (إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت نفسه بوجود ذات كاملة، وأراني مضطراً إلى اعتقادي بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال وهي الله)
وقد اعتذر ديكارت الكهل نفسه عما بدر منه أيام الشباب برسالة صغيرة أخرجها للناس في سن الأربعين بين فيها كيف تخلص من أزمة الشك إلى اليقين بهذه الطريقة العلمية الرائعة التي يعرفها التاريخ باسمه عنوانها (مقال في الطريقة).
ومن أهم مبادئها كما شرحت في دائرة المعارف البريطانية إننا لا نقبل شيئاً ولا نسل به ما لم يختبره العقل اختباراً دقيقاً ويتحقق من وجوده بما ليس فيه أدنى ريب؛ فكل ما كان مصدره الحدس والتخمين يجب رفضه ونبذه قطعاً.
يجب أن يكون بحثنا على الترتيب الآتي من البسيط إلى المركب ومن الصعب إلى الأصعب.
ومن أهم شروط صحة البحث ألا نحكم بصحة رأي أو مقدمة أو خطأ حتى تتحقق من ذلك بالامتحان.
ولو أننا طبقنا هذه الحقيقة على ما يرجف به السادة المشككون باسمه، لقضت على آرائهم في مهدها، ولاستراح الشباب والشيوخ من سفسفاتهم وترهاتهم. . .
(للكلام صلة)
إبراهيم البطراوي(829/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
شاعرة حائرة تسأل عن الفن والحياة:
أحييك وأهنئك، فقد سموت بفن النقد الذي لم نكن نعرف عنه سوى أنه أما مدح أو تملق يحط من كرامة الكاتب، وأما ذم وتحقير مغرض لا هوادة فيه ولا رحمة. . . لقد أعجبني وأفادني مقالك عن الأستاذ توفيق الحكيم تحت عنوان (الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة) ولكنه لسوء الحظ ساءني وأفزعني!
لقد قرأته مراراً ثم قلت لنفسي: إذا كان إنتاج الأستاذ الحكيم قد تأثر بسبب انطوائه على نفسه وابتعاده عن الحياة، وإغلاقه (تلك النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه)، إذا كان هذا قد حدث مع الأستاذ الحكيم فكيف آمل أنا أن أكون شاعرة ناجحة؟! أنا ربيبة الانطواء المرير والعزلة الطويلة، أنا التي لم أرى العالم ولم أعرف المجتمع إلا عن طريق الصحف والكتب والخيال!
لقد كان أملي في الحياة أن أتعلم إلى آخر مرحلة من مراحل التعليم، ولكنني حين أتممت تعليمي الثانوي بوحش ضار أعترض طريقي إلى الجامعة وقال بصوته الرهيب: إلى أين أيتها الحالمة؟ قلت إلى الجامعة. قال: حذار وإلا أشقيت أسرتك، ألا تعلمين أن سلطاني عليهم عظيم؟ وأنني سأقلق مضاجعكم جميعاً إذا لم تتبعوني؟ وسألته واجفة خاشعة: ومن أنت أيها السلطان الجبار؟ قال: أنا سلطان التقاليد: تفقدت الوجوه الواجمة من حولي وعز علي وجومها، وقلت لن ألتحق بالجامعة ولأكن كبش الفداء. . . وما أنا بأول ضحية من ضحايا التقاليد ولم تئن تلك المحنة القاسية من عزيمتي وداومت على القراءة ليلاً ونهاراً. . .
وأخيراً أخذت الغيوم الكثيفة تنقشع عن سمائي، وأذن لي بنشر شعري بالجرائد اليومية. ولكنني ما كدت أشعر بالسعادة وبأن حلم حياتي قد تحقق حنى هب الكثيرون والكثيرات يهيبون بي أن أترك انطوائي وعزلتي، وأن أخرج إلى المجتمع وأن أتردد على زيد وعبيد من كبار الكتاب والشعراء. وقيل لي إن لم تفعلي ذلك فسينحط إنتاجك وينضب معينك. ومما زاد في شقوتي وارتباكي وكاد أن يطيح بي إلى هوة سحيقة من اليأس القائل ما أقرأه(829/37)
لك حول هذا المعنى في هذه الأيام. فهل من المحال أن يكون الأديب أو الشاعر قديراً ناجحاً ما دام منطوياً عل نفسه بعيداً عن دنيا الناس؟ وهل الكتب لا تكفي ولا يمكن لأن تكفي ليكون الإنسان مثقفاً كما يقول الدكتور مندور؟
إذا كانت هذه هي الحقيقة فيا لمرارتها ويا لقسوة المقادير ويا لظلم التقاليد!. إذا كانت هي الحقيقة فسلام علي وفي ذمة الله آمالي وأحلامي ومستقبلي الأدبي لقد حلمت به السنين الطوال!
إن رجائي الحار هو أن تجيب عن هذين السؤالين على صفحات مجلتي الحبيبة (الرسالة) ولست أدري لماذا أشعر شعوراً قوياً أنك لن تخيب رجائي ولن تهمل الرد علي.
شاعرة حائرة
إنسانة فنانه، وشاعرة حائرة. . . وكلمات أحس فيها لوعة القلب وألمس حيرة القلم، وأكاد أشم رائحة الدموع! وأعود بذاكرتي إلى الوراء وأستعرض ما قرأت من شعر على صفحات الجرائد اليومية، عسى أن أضع يدي على مفتاح هذه الشخصية المجهولة التي تعرض على قضيتها في انتظار الجواب. . . وقد يسأل سائل عن سر هذا الاهتمام فأقول له: أنه شغف الملكة الناقدة بتتبع سير الحياة الأدبية، والكشف عن ظواهر هذه الحياة، والربط بين شخصية الكاتب وما كتب!
وأقف في الذاكرة طويلاً عند صحيفة من صحف المساء، لأسترجع عن طريق التمثل الفكري بعض ما كنت أقرأ فيها من شعر لآنسة مجهولة. . لآنسة كانت ترمز إلى شخصيتها بالحروف الأولى من أسمها ولا تزيد! لماذا لا تفصح عن أسمها صاحبة هذا الشعر؟ لماذا أحس في روحها هذه التهويمات التي يئن فيها النبض وتختنق العاطفة؟ لماذا تهب علي من شعرها رائحة الفن السجين؟ أسئلة لم أكن أجد لها غير جواب واحد أطمئن إليه، هو أن صاحبة هذا الشعر إنسانة منطوية على نفسها قد فرضت عليها التقاليد أن تبتعد عن الحياة!.
وكم قلت لنفسي: هنا أقباس من وهج الشاعرية ولكن لماذا تطل من تحت الرماد؟ وهنا جناح يملك القدرة على التحليق ولكن لماذا تحد الرياح من رفاته؟ وهنا روح تود أن تنطلق، ولكن لماذا المح في انطلاقها أثر القيود والأصفاد؟! هذه الخواطر التي كانت تجيش(829/38)
في النفس منذ حين قد ردتني إليها اليوم رسالة الشاعرة الحائرة، وجعلتني أتساءل بيني وبين نفسي: ترى أتكون صاحبة هذه الرسالة التي تلقيتها منذ أيام هي صاحبة الشعر الذي طالعته في إحدى صحف المساء منذ أسابيع؟ إن الروح هي روح ممثلة في التحدث إلى الحياة من وراء حجاب، وأن اللوعة هي اللوعة مصورة في شكوى التقاليد وظلم التقاليد. . . رباه، هل يقدر لهذه الإنسانة الفنانة أن تحطم قيودها يوماً ما، وأن تستشعر حرارة الحياة كما يستشعرها كثير من الأحياء؟!
إنها تسألني هل من المحال أن يكون الأديب الشاعر قديراً ناجحاً ما دام منطوياً على نفسه بعيداً عن دنيا الناس.؟
إن الجواب يا آنستي هو أن الفن بعيداً عن الحياة جسد تنقصه الحركة، وفكرة يعوزها الروح، ولوحة تخلو من الأضواء والظلال. . والفن كما قلت غير مرة ما هو إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور، ولن يتحقق الصدق في الفن ما لم يستخدم الفنان كل حواسه في تذوق الحياة: يرقب، ويتأمل، ويهتك الحجب، وينفذ إلى ما وراء المجهول. فإذا استطاع أن ينقل كل ما يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني فهو الفنان. . . وإذا استطاع أن ينقل إلى هذه اللوحات كل ما في القلب الإنساني من نبض وخفوق فهو الفنان الإنسان. وعلى مدار القوة والضعف خفقت القلب ودفقه الحياة يفترق العمل الفني عن مثيله في كل فن من الفنون!
الحياة يا آنستي هي المنبع الأصيل لكل أثر من آثار الفن يترك ظله في النفس وبقاءه على الزمن، في أدب الكاتب، في شعر الشاعر، في لحن الموسيقار، في لوحة الرسام! لتكن الحياة نقمة أو نعمة، لتكن مأساة أو ملهاة، لتكن ألماً أو لذة، لتكن دمعة أو ابتسامة. حسب الفن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير، وحسبه أن يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب فيسموا بالأداء! (أدولف) لكونستان، (آلام فرتر) لجيته (مانون ليسكو) لبريفوست، (رفائيل) للإمرتين، (البعث لتولستوي، (نانا) لإميل زولا، (أرض الميعاد) لأندريه موروا (الباب الضيق) لأندريه جيد. . . كل تلك الآثار القصصية وما يماثلها في أدب الغرب قد تنفست فيها الحياة فعبقت بعطر الخلود.
آلام بتهوفن التي صبها في أنغامه خالدة لأنها من الحياة، لذات بايرون التي تدفقت في(829/39)
أغنياته خالدة لأنها من الحياة، دموع هايني التي ترقرقت في أناته خالدة لأنها من الحياة. . . وقولي مثل ذلك عن بسمات جورج صاند وتشاؤم ليوباردي وصرخات بودلير
وإذا ما تركت الأدب والشعر والموسيقى إلى التصوير، فهناك لوحات من كتب لها البقاء ما بقيت الحياة التي ألهمت الريشة المبدعة وأوحت إلى الخيال الوثاب. . . ترى هل سعدت بالوقوف لحظات أمام (الجيوكندا) لدافنشي، و (الربيع) لبوتشيلي و (الخريف) لهالي نويل و (الحرية تقود الشعب) لدلا كروا، و (وحي الشاعر) لبوسان و (حارس الليل) لرامبرانت و (نجوى الرعي) لبوشيه و (الينبوع) لآنجر؟
الحياة يا آنستي هي الدعامة الأولى التي يقوم عليها كل بناء فني جدير بالخلود. . . هي النهر الجبار المتدفق وكل ما عداه روافد هي البذرة النادرة التي تنشق عنها تربة الفن فإذا الغصن المزهر والثمرة الناضجة!
وتسألينني هل الكتب لا تكفي ولا يمكن ن تكفي ليكون الإنسان مثقفاً؟. . . إن جوابي عن هذا السؤال هو أنها لا يمكن أن تكفي لسبب واحد هو أن ثقافة من هذا الطراز يشوبها النقص ويعتريها القصور؛ لأنها تفقد عنصراً خطيراً هو عنصر التطبيق على الحياة! كيف تستطيعين أن تتذوقي آثر الفن وأنت بعيدة عن منابعه؟ وكيف تستطيعين أن تحكمي على نتاج القرائح وليس بين يديك لا قاعدة ولا ميزان؟ إن الثقافة يا آنستي ليست قراءة فحسب، ولكنها فهم وتذوق وهضم وتطبيق واستيعاب. . . وحياة من وراء هذا كله تعين الذهن على الإحاطة، وتسعف الحواس على التوهج، وترفع من القيم المواهب والملكات!
معذرة يا آنستي فهذه هي الحقيقة. . . ومع ذلك فلا موجب لهذا اليأس الذي ألهب مني الشعور في كلماتك في كلماتك، إنني أشعر شعوراً عميقاً بأن القيد سيتحطم يوماً ما، وعندئذ يمكنك أن تستشعري حرارة الحياة كما يستشعرها كثير من الأحياء!
رأي في مقدمة (أوديب الملك) حول الفلسفة الإسلامية:
كتب الأستاذ سيد قطب - رد الله غربته في الوطن والروح - كتب في عدد (الرسالة) الماضي موجهاً حديثه إلى الأستاذ توفيق الحكيم: (فكرة أريد أن أصححها عن (الفلسفة الإسلامية) كما يصورها ابن رشد وأبن سينا والفارابي فقد ألممت بهذا في بحثك الممتع الطويل. إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها (الفلسفة الإسلامية) بمعنى أنها وجدت في أرض(829/40)
إسلامية على يد أفراد مسلمين. ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها (فلسفة الإسلام)، وقد آن أنصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة! إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات الفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة)!
معذرة يا صديقي إذا قلت لك إن هذه الفكرة عن (الفلسفة الإسلامية) قد صححت في أحد أعداد (الرسالة) منذ ثلاثة أشهر عندما تناولت بالنقد مقدمة (أوديب الملك) في (التعقيبات) ولقد قدر لهذه الغلطة القديمة الحديثة أن ترد إلى الصواب في هذه الكلمات التي لم تطلع عليها لبعدك عن أرض الوطن حيث قلت: (ثم يقول الأستاذ الحكيم في موضع رابع إن فلاسفة العرب قد صبغوا آثار أفلاطون وأرسطو بلون تفكيرنا وطبعوها بطابع عقائدنا. . . في رأيي أ، شيء من هذا لم يحدث، إن كل ما فعله فلاسفة العرب هو أنهم نظروا في الفلسفة اليونانية فنقلوا بعض ما فيها من آراء ومذاهب نقلاً يحفل بالخلط والتشويه؛ ذلك لأنهم حاولوا أن يوفقوا بين تعاليم الفلسفة اليونانية وبين تعاليم الدين الإسلامي فكانت محاولة انتهت بأصحابها إلى الإخفاق. أما الإخفاق فمرجعه إلى بعد الشقة بين العقلية اليونانية والعقلية العربية من جهة، وبين منهج الفلسفة اليونانية ومنهج الديانة الإسلامية من جهة أخرى. . . ومن هنا كانت الفلسفة الإسلامية خليطاً عجيباً من أفكار مضطربة لا تقترب كثيراً من الدين ولا من الفلسفة)
بقي أن أبعث إليك بعاطر الشوق على صفحات (الرسالة) وبخالص الشكر على تفضلك بإهدائي كتابك الجديد القيم عن (العدالة الاجتماعية في الإسلام)
ثلاثة كتب لأحمد الصاوي محمد
صديقي الأستاذ أحمد الصاوي محمد وهبه الله قدرة على الإنتاج لا تحد، واستجابة لدعاء القلم لا تنتهي، وجلداً على إرهاق العمل لا يعتريه وهن ولا فتور؛ فهو لا يكاد يفرغ من كتاب يقدمه إلى القراء حنى يدفع إلى المطبعة بكتاب آخر. . . أستنفر الذاكرة بل بكتب أخرى تنقل إلى الشرق كثيراً من روائع الغرب!
من هذه الكتب التي ظهرت له منذ قريب (كفاح الشباب) و (مآسي الشباب) و (زواج الشباب)، ومن قبلها بضعة وعشرون كتاباً في شتى ألوان الأدب والفن. . . وبهذا الإنتاج(829/41)
الضخم يشارك الصاوي في بناء نهضتنا الثقافية بدعائم من الجهد الأدبي الجدير بالإعجاب.
وكتب اليوم الثلاثة التي تعرض لكفاح الشباب ومآسيه صور من الحياة وللحياة. . . يصبها الصاوي في قالب قصصي ممتع يحتفظ بروح الوقع المحس، داخل إطار من طلاوة العرض والتحليل والأداء. هي فصول نشرها في (أخبار اليوم) يوم أن كان يدرس مشكلات الشباب من رسائلهم إليه، ليقدم العلاج في رأي يدلي به أو نصح أو مشورة؛ ومن هنا جاءت هذه المجموعة التي تنتظم كتباً ثلاثة هي (كفاح الشباب) و (مآسي الشباب) و (زواج الشباب)، جاءت كما يقول الأستاذ الصديق في مقدمته: (اسطع نبراس للشباب المتطلع لحياة أفضل وأنفع وأكرم، وأثمن مرجع للمصلحين الحريصين على توجيه شباب الجيل وتقويمه ونفعه ليكون جديراً بوطنه).
مشكلة في حياتنا الأدبية:
يقول الأديب الإسكندري الفاضل عمر عبد السلام مجاهد في رسالة بعث بها إلي: (يا أخي في يدك قلم وفي كتابك عمق وحياة، فلماذا لا تخرج كتاباً في الأدب أو الفن أو النقد تمدنا فيه بمثل هذه الأفكار التي تطالعنا بها في مقالاتك وتعقيباتك؟ إن هذه الرغبة ليست رغبتي وحدي ولكنها كما أعتقد رغبة الكثيرين من المعجبين بك).
أود أن أجيب الأديب الفاضل بعد شكره على حسن ظنه وجميل رأيه بأنني قد فكرت في هذا الأمر أكثر من مرة، ولكنني اقتنعت أخيراً بأن الأحجام خير من الأقدام، لماذا هذه هي المشكلة التي سأتناولها في الأسبوع المقبل بالعرض والتحليل؛ وهي مشكلة لا تتعلق بي ولكنها تتعلق بهذا الجيل من القراء!
أنور المعداوي(829/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عيسى بن هشام يبتذل في الإذاعة:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى القضية التي ستنظر أمام محكمة مصر الكلية يوم 13 يونيه القادم بشأن التمثيليات التي تذيعها محطة الإذاعة بعنوان (عيسى بن هشام) وقد رفع الدعوى إلى المحكمة خليل المويلحي بك شقيق محمد المويلحي بك مؤلف كتاب (عيسى بن هشام أو فترة من الزمن) مطالباً وزير الشؤون الاجتماعية ومدير الإذاعة ومؤلف التمثيليات ومخرجها، بأن يدفعوا إليه ألف جنيه متضامنين.
وقد بدأت قصة هذه المسألة في سنة 1941 حينما عرض الأستاذ أحمد شكري على خليل المويلحي بك أن يصرح له باقتباس تمثيليات إذاعية من الكتاب، فوقع له بالتصريح، ولكنه لما سمع التمثيلية الأولى رأى أنها مسخت مقاصد مؤلف الكتاب، إلى أنها أعدت باللغة العامية المبتذلة، فألغى ذلك التصريح، وأفضى بالأمر إلى الدكتور طه حسين بك - وكان إذ ذاك المستشار الفني للإذاعة - فمنع الدكتور الاستمرار في هذا العمل. وفي سنة 1948 استأنفت الإذاعة تلك التمثيليات، وراح المذيع يقول في عبارته التقليدية: (محمد الغزاوي يقدم عيسى بن هشام تأليف أحمد شكري وإخراج محمد الغزاوي. . . الخ) فأرسل شقيق المؤلف الحقيقي إلى الإذاعة يطلب عدم إذاعة التمثيلية والكف عن التمادي في هذا التصرف. ولكن الإذاعة استمرت تذيع حلقات متتابعات تدور حوادثها على ما تضمنته قصة الكتاب مع تشويه الأهداف الأدبية فبه وابتذال اللغة، ففي إحداها إزراء بالمنيكلي باشا بطل قصة الكتاب، من أحد (الخواجات) مما لا يتفق مع تصوير المؤلف الأصيل لهذه الشخصية، وفي إحداها تقول امرأة في المحكمة الشرعية للباشا: (يا منيل على عينك. . . يا مدهول. .)
وهكذا إلى هذا الحال يسير ذلك الأثر الأدبي الذي يمد المحاولة الأولى المصرية الحديثة الأصيلة، بل هو في رأي التاريخ الأدبي المعبر من المقامة إلى القصة في عصرين من عصور الأدب العربي.
ولنفرض أن الإذاعة ليس فيها أدباء يعرفون مكان (عيسى ابن هشام أو فترة من الزمن)(829/43)
وعلى هذا أذاعت مرارا أن مؤلف (عيسى بن هشام) هو أحمد شكري، ولكن ما بالها تستمر في ذلك وقد علمت علم مديرها - من الخطاب المرسل إليه من الاتصالات التي حدثت من أجل الموضوع التي احتج فيها المدير بالتصريح السابق - إن مؤلف (عيسى بن هشام) هو كاتب مصري اسمه محمد بك المويلحي - ما بال الإذاعة وقد علمت ذلك لا تزال تعلن أن المؤلف هو أحمد شكري بعد أن تعلن أن الغزاوي يقدم. .؟ وكيف تستبيح الإذاعة ومن يعملون فيها الحقوق الأدبية العامة - بصرف النظر عن حقوق الورثة المادية - فتحيل الأدب الرفيع إلى كلام مرذول، والفن العالي إلى بضاعة مما تسجيه إلى الناس. . .؟
تمثيل كريمات الرسول:
طلبت جمعية الشبان المسلمين من محطة الإذاعة، إذاعة مسرحية تمثلها على مسرحها، فاطلعت المحطة على المسرحية فرأت فيها مشهدا تظهر فيه شخصيات تمثل بعض الصحابة وآل الرسول وخاصة فاطمة الزهراء، فأرسلت إلى فضيلة مفتي الديار المصرية تستطلع رأيه فيها قبل إذاعتها، فرأى فضيلته أنه لا يليق إطلاقا أن تمثل شخصية فاطمة الزهراء أو يسمع الناس ممثلة تتحدث باسمها.
وقبل ذلك أذاعت المحطة تمثيلية قصيرة اسمها (زينب وأبو العاص) ونشرت مجلة آخر ساعة صور هذه التمثيلية وهي تمثل في دار الإذاعة، ومن بينها صورة زوزو حمدي الحكيم تمثل شخصية زينب بنت رسول الله. . . فلماذا لم تستفت الإذاعة فضيلة المفتي قبل إذاعة تمثيليتها وقبل الإذن بنشر صورها في المجلة؟
وهل يا ترى تمنع إذاعة (تسجيلها)؟
مظاهر النشاط المدرسي مظاهر فقط:
نحن الآن في أواخر العام الدراسي وقد حفل الشهر الأخير كما يحفل كل عام، بماهر النشاط المدرسي أو بالحفلات النهائية لهذا النشاط، من تمثيل والعاب ومعارض فنية وغبر ذلك. . .
ويبذل المشرفون على المدارس جهدا كبيرا في ذلك، ولكن هل تتجه هذه الجهود نحو الفائدة(829/44)
التربوية المتوخاة من هذا النشاط أو هي تنسرب نحو أغراض أخرى؟
لا أنسى منظر ذلك الناظر الذي رأيته في مكتب أحد رجال الوزارة الكبار، وهو يتحرق شوقا إلى تشريف الكبير حفلة التمثيل التي ستقيمها المدرسة، أنه يلح على السكرتير في طلب الإذن له، وكل ملامحه تنطق بالأهمية القصوى التي يعقدها على حضور الشخصية الكبيرة حفلة المدرسة. إن الرجل يبغي الظهور بالمقدرة والنشاط أمام الرؤساء وتصور ما وراء ذلك وما سبقه من إعداد.
هؤلاء نفر من الطلاب أختارهم المشرفون لتمثيل الرواية التي تعتزم المدرسة تقديمها على أحد المسارح في آخر العام، وعكف المدربون - وقد يختار بعضهم من خارج المدرسة - على تدريبهم، وكثيرا ما يحتاج الأمر إلى ترك الحصص والدروس للقيام بهذا التدريب في الوقت الذي يستعد فيه جميع الطلاب للامتحان آخر العام. والنتيجة هي أن تنجح الحفلة ويتباهى الناظر. أما الطلبة فسبعه أو ثمانية منهم دربوا على التمثيل تدريبا شاغلا عن بعض الدروس، وباقي الطلاب كل غنمهم مشاهدة التمثيل. . .
وهذا معرض يشتمل على أعمال فنية تنسب إلى التلاميذ، ويعلم الله أن أيدي المدرسين، أو بعض الفنيين من الخارج، هي الغالبة عليها. . . وقد دعيت في هذا الأسبوع إلى حفلة شاي أعدت لمناسبة افتتاح معرض مدرسي، ولا أقدر نفقات الحفلة بقل من خمسون جنيها، ثم نهضنا إلى المعروضات فإذا هي لا تساوي كل هذا الزئاط، ولمحت الطلبة بجوارها لا يفقهون أسرارها، والبركة في شرح المدرسين. . .
لو إن وراء تلك المظاهر ما يدل على أصالة الطلاب فيها وعلى استفادتهم من الدربة عليها استفادة شاملة أو غالبة، لكان الآمر على ما نحب لهم. ولكن يبدو أن مظاهر النشاط المدرسي خطوط متوازية مع الخط الرئيسي وهو السباق نحو الفوز في الامتحان. وكل ذلك دون العناية بما هو في الأصل غاية.
كرسي الاعتراف:
يعيش الكردينال (جيوفاني) أحد رجال الكنيسة بروما، في قصر أسرته العريقة (آل ميدتشي) مع والدته التي تأمل أن يصل الكاردينال إلى كرسي البابوية، ومع أخيه الشاب (جوليانو)، بجوار أسرته (تشيجي) وأسمها (فليبرتا) وهي تحبه. ويحاول (أندريا(829/45)
ستروتسي) الذي يقر به البابا لأنه يجاهد في خدمة الكنيسة بسيفه - يحاول أن يظفر بالفتاة (فليبرتا) فيخطبها من أبيها، فيرفض الأب، ويدور بينهما نقاش حاد ينتهي بأن يقتل (جوليانو) (تشيجي) بخنجره، ويأمر تابعين له بنقله إلى باب داره، ويذهب إلى الكردينال، ليعترف بخطيئته أمام كرسي الاعتراف، ثن يذهب إلى حرب أمره البابا بالسير إليها. وعندما يكون (جوليانو) وخطيبته التي فقدها أباها عند أخيه الكردينال، يقبل محافظ روما ليقبض على (جوليانو) مهماً بقتل (تشيجي) لأنه وجد خنجره بجوار الجثة وكان قد وقع منه عند ما خف لنجدته ولأن أسم (جوليانو) كان آخر ما لفظه القتيل. ويصعق الكردينال لهذه المفاجأة ويؤكد للمحافظ أن أخاه بريء، ولكن المحافظ لا يعبأ به ويسوق المتهم إلى السجن، ثم يحاكم ويقضي بإعدامه؛ وتمر المحنة بالكردينال شديدة عاصفة لأنه يعرف القاتل ولا يستطيع أن يفشي سر (الاعتراف) وأخوه يساق إلى الإعدام. . . وفي خلال ذلك يقبل أندريا القاتل الحقيقي من ميدان القتال ظافراً، فتستقبله روما بالحفاوة، ويطلب إليه الكردينال أن يكشف عن الحقيقة في قتل (تشيجي) ولا بأس عليه لأن البابا لا بد أن يعفو عنه جزاء بلائه في الحرب، فيطلب ثمناً لذلك أن يتزوج (فليبرتا) فيعنف الكردينال في مخاطبته فيطرده ويلعنه. ثم يتصنع الجنون ويهيأ الجو بحيث يستدرج (أندريا) إلى الإقرار بجريمته على مسمع من محافظ روما الذي كان لدى الكردينال عند ما أقبل (أندريا) وهم بالانصراف ولكنه لما سمع الجدال يعلو بين الرجلين اختبأ قريباً منهما خشية أن يعتدي (أندريا) على الكردينال. ثم يهجم المحافظ على (أندريا) ويمسك به ويطلق سراح (جوليانو)
هذه هي قصة فلم (كرسي الاعتراف) الذي يعض بسينما أوبرا، والذي أخرجه يوسف وهبي ومثل دور الكردينال فيه، وهي قصة مسرحية قديمة مترجمة عن الإنكليزية، ومثلها يوسف وهبي على المسرح مراراً قديماً وحديثاً. . . وأخيراً قدمها على الشاشة كما هي بحوارها وشخصياتها، لم يغير فيها إلا قليلا مما اقتضته الحركة السينمائية فبدت في ثوب سينمائي يكاد يتمزق ليكشف عن مناظر مسرحية بحتة، وقد عدمت من السينما ألزم لوازمها وهي المناظر المنوعة، فقد جرت كل الحوادث في قصر (آل ميدتشي) ولم نر شيئاً يذكر من روما مدينة السحر ومهد الفن ومبعث الشعر، كما تقول الأغنية التي بدأ بها الفلم.
ويخيل إلى أن هذا الفلم يتمثل فيه (التقتير) من ناحيتين، فالتقتير من جانب المنتج في عدم(829/46)
الإنفاق على المناظر والاكتفاء بهذا الاسم المدوي في عالم الفن: يوسف وهبي، وهو أي يوسف وهبي يبدو رائعاً بمظهر الكردينال كما ترى في صورته بالإعلان في الصحف وقد رفع يديه فبدت فتحتا القميص الرشيقتان. . . وقد عنى مصور الفلم بالتقاط مناظره في المواقف المختلفة عناية ظاهرة.
والتقتير من جانب يوسف وهبي بتقديم بضاعة قديمة، لا تكلفه عناء ولا مجهوداً ولا عناء، فقد حفظ دوره في الرواية وأجاد تمثيله، وأقوم ما في الفلم إتقان يوسف وهبي في تمثيل دوره الذي مرن عليه في المسرح، ولا آخذ عليه إلا ما ينتابه من الصياح في بعض المواقف دون داع إليه، كما صنع وهو يتعشى أمه منفردين بجو هادئ، إذ هب يخطب فجأة قائلاً أنه لا بد أن يحافظ على مجد (آل مديتشي) ولا جمهور يخطبه غير أمه والمائدة.
ويبدو لي أن هذه الرواية لم تصل إلى السينما حتى كان (زيتها) قد أعتصر. . . فلم تكن تحتمل كل هذا الذي جرى لها في مصر. . . ألم يكن يكفي تمثيلها على المسرح والاعتبار بشكوى (الخشبة) من تكراها عليها حتى تبلى بها (الشاشة) في آخر المطاف؟ أو لم تكن أولى بهذه الجهود السينمائية رواية مصرية جديدة؟ وماذا يهم الجمهور المصري من (آل مديتشي) وحب السيد (جوليانو) واعتراف (أندريا ستروتستي)؟ لقد كان الممثلون أنفسهم - فيما بدا لي - ضائقين بهذا الجو يؤدون أدوارهم فيه (والسلام!) وإلا فبماذا أفسر جمود فاتن حمامة (فليبريا) وفاخر فاخر (جوليانو) وظهورهما في مواقف الفلم كأنهما يتفرجان بمناظر قصر (آل مديتشي) وما حوى من العجائب والغرائب. . . وهما من أقدر الممثلين.؟
عباس خضر(829/47)
البريد الأدبي
الأزهر والفلسفة الإسلامية:
في مقال الأستاذ سيد قطب في عدد الرسالة رقم 828 كتب الأستاذ هذه العبارة التالية موجهاً الكلام إلى الأستاذ توفيق الحكيم:
(. . . ومالي ألومكم أنتم والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام).
وأود أن أطمئن الأستاذ الكاتب الفاضل على أن الأزهر في تأريخه لم يدرس الفلسفة الإسلامية على اعتبارها أن تمثل فلسفة الإسلام، أن تحكي مبدأ من مبادئه، أو هدفاً من أهداف.
ففي ماضيه كان يحرم دراسة النوع الإلهي من الفلسفة الإسلامية، لأنه كان يرى في هذا النوع انحرافاً واضحاً عن الإسلام. ومن أجل ذلك كان يلوم فلاسفة المشرق، أمثال الكندي والفارابي وأبن سينا، على اشتغالهم به، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وجاري الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وكفر هؤلاء الفلاسفة لمسايرتهم الفكر الإغريقي في القول بقدم العالم، وقصر علم الله على الكليات، وإنكار بعث الأجسام.
وفي العصر الحديث يدرس الأزهر في كلياته الفلسفة الإسلامية كما يدرس أنواع الفلسفات الأخرى من الإغريقية، إلى الدينية في القرون الوسطى، إلى المذاهب الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة. . . على أنها اتجاهات للفكر الإنساني في أزمنة متعاقبة وفي بيئات مختلفة، وقد يكون بعضها ترديداً لبعض، أو إضافة جديدة لما سبق.
وهو في هذه الدراسة يوازن بين إنتاج الفكر الإنساني في عصوره المختلفة وبين الإسلام كدين أوحى به من عند من له الكمال المطلق.
ومع شكري للأستاذ الفاضل سيد قطب على غيرته القومية والإسلامية، ودفاعه عن (أصالة) الشرق في تفكيره، ورغبته الشديدة في أن يرى اعتزاز أهل الشرق والإسلام بما لهم من ثقافة وتوجيه في المرتبة الأولى مما يعتز به الإنسان المثقف أؤكد له أن الأزهر الحاضر تسيطر عليه في البحث والتوجيه روح إسلامية شرقية عرفت ما في الغرب من ثقافة واتجاه بعدما وعت ما في الإسلام من مبادئ، ودرست ما كان لشعوبه من خصائص(829/48)
في الأدب والحكمة.
ويسعدني أن يكون كتابي (الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي) وسيلة يعف بها الأستاذ هذه الروح في الأزهر.
دكتور محمد البهي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بالأزهر
النكتة:
جاء في شرح القاموس النكتة النقطة، ونقل شيخنا عن الفتاوى في حاشية التلويح هي اللطيفة المؤثرة في القلب من النكت كالنقطة من النقط، وتطلق على المسائل الحاصلة بالنقد، المؤثرة في القلب التي يقارنها نكت الأرض غالباً بنحو الإصبع.
وفي التعريفات النكتة هي مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثير الخواطر في استنباطها اهـ
وفي (الكليات) النكتة هي المسألة الحاصلة بالتفكير المؤثرة في القالب، لتي يقارنها نكت الأرض بنحو الإصبع غالباً، والبيضاوي أطلق النكتة على نفس الكلام، حيث قال هي طائفة من الكلام منقحة، مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب. وقال بعضهم هي طائفة من الكلام تؤثر في النفس نوعاً من التأثير قبضاً أو بسطاً، وفي بعض الحواشي هي ما يستخرج من الكلام، وفي بعضها هي الدقيقة التي تستخرج بدقة من النظر، أو يقارنها غالباً نكت الأرض بإصبع أو نحوها، وفي حاشية الكشاف ونكت الكلام أسراره ولطائفه لحصولها بالتفكر، ولا يخلو صاحبها غالباً من النكت في الأرض بنحو الإصبع اهـ
وجمعها نكت ونكات، وفي (أساس البلاغة) ومن المجاز جاء بنكتة ونكت في كلامه ونكت في قوله تنكيتاً، ورجل منكت ونكات اهـ. وقد الفت كنب باسم التنكيت والنكت.
هذا، ومن هذا يظهر لك تطور الكلمة وصحة استعمالها في الفكاهة ونحوها.
علي حسن هلال
بالمجمع اللغوي(829/49)
1 - من قوة المرأة:
في (تاريخ الإسلام الذهبي) المطبوع بالقاهرة: كان صلة بن أشيم في الغزو ومعه أبن له، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك! فحمل يقاتل حتى قتل، ثم تقدم هو فقتل! فأجتمع النساء عند امرأته معاذة العدوية، فقالت: إن كنتن جئن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فأرجعن!
2 - يعطيهم من ماله ليرخصوا الغلة:
يذكرنا عمل الحكومة اليوم بما فعله نصر بن أحمد العابدي السمرقندي الدهقان، فقد كان كثير المال والغلات، فوقع بسمرقند قحط، فباع غلاته بنصف أثمانها، وكان يعطي الذين يجلبون الطعام من ماله ليرخصوا الغلة. . . الخ ما أورده أبن الأثير في كتابه (اللباب في الأنساب جـ2 ص103) المطبوع بالقاهرة.
عبد الله معروف
الكساء:
خطأ الأستاذ عبد السميع على محمود استعمال الكتاب للكلمة (كساء) في كل ملبوس وقال: الحق الذي تؤيده النصوص أن الكساء ثوب بعينه، وهو نحو العباءة من الصوف. والصواب أن يقولوا (الكُسا) جمع كسوة الخ.
والصواب الذي تؤيده النصوص - هو ما يستعمله الكتاب، فالكساء يطلق ويراد به مطلق ملبوس لا ثوب بعينه، كما أدعى الناقد لكريم - ولو لم يكن كذلك لما أحتاج الشاعر إلى تخصيصه بما ذكره من فأمك نعجة - البيت - كما أنه لا حاجة إلى استعمال (كُسَّا) جمع كسوة (فكِساء) جمع كسوة أيضاً. قال في القاموس: الكسوة بالضم وتكسر الثوب وجمعها كُساً وكِساء.
(القاهرة)
كيلاني حسن سند(829/50)
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ أحمد الصقر
اختلفت كلمة العلماء في (الأشربة) منذ فجر الإسلام، وذهبوا في موقعها من الحل والحرمة مذاهب شتى، ولجت بينهم الخصومة، وابتغى كل فريق أن يظهر على خصمه، ويدفع عن رأيه، فماج الشك في عقول الناس وأفكارهم، وتداخلتهم الحيرة، وتنازعتهم الروايات المتشاجنة، والأحاديث المتباينة. وكانوا منها في أمر مريج. وقد ألف في الأشربة كثير من العلماء. وممن ألف فيها أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ وقد ظل هذا الكتاب مطوياً في الخزائن حتى عثر عليه المستشرق الفرنسي (أرتوركي) فأعجب به حتى نشر أكثره في سنة 1325 هـ - 1907 في مجلة (المقتبس) التي كان يصدرها في القاهرة الأستاذ محمد كرد علي. وقد رأى الأستاذ أن الكتاب خليق بالعناية، جدير بأن يطبع مستقلاً، فبذل وسعه في تحقيقه وأدرجه في مطبوعات المجمع العلمي، وقدم له بمقدمة طويلة يبدو أنها جاءت وحي ساعتها، وفيض جلستها، لم يجمع لها عزماً، ولم يشحذ فهماً، ولم يعمل فكراً؛ وإنما أطلق لقلمه العنان يجول هنا وهناك حسبما توحي به النظرة الطائرة، والفكرة العابرة، والهوى الجموح.
ومما جاء في هذه المقدمة العجيبة قول الأستاذ في ص4: (اشتد ابن قتيبة على مخالفيه ولا سيما المعتزل منهم، وفي كتابه (تأويل مختلف الحديث) طعن مبرح في الجاحظ قال فيه: أنه أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل، فتجلى حسده جلياً ظاهراً، هجن أبن قتيبة الجاحظ وكفره، ورماه بأعظم كبيرة وهي الكذب، وسجل عليه أنه أكذب واحد في الأمة لأنه كتب أشياء تنفع في تربية العقول في الدنيا، كما كتب كل ما ينفع في الدين، وابتدع أدباً يسلي ويعلم، فهل من العدل أن يرمى بوضع الحديث، وتشدد أهل مذهبه في تحري السليم من السقيم في الحديث لا يحتاج إلى دليل؟)
أن ابن قتيبة لم يظلم الجاحظ، ولم يهجنه حسداً من عند نفسه، ولم يتهمه بالكذب لما زعمه الأستاذ، بل أنصفه وقال فيه ما له كاملاً غير منقوص، ونقده في بعض رأيه بم لا يسع المسلم الحقيقي إلا نقده ورده على قائله كائناً من كان. واليك نص كلام ابن قتيبة في كتابه(829/52)
تأويل مختلف الحديث، جاء في ص71 من هذا الكتاب ما يلي (ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلمين، والمعاير على المتقدمين، وأحسنهما للحجة استثارة، وأشدهم تلطفاً لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار أن يعمل الشيء ونقيضه، وتجده يقص في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفي على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كن يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وبذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة أكلتها الشاة، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه رأسه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، وأشباه هذا مما سنذكره فيما بعد إن شاء الله، وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل).
هذا هو رأي ابن قتيبة في الجاحظ، وهو يلقف ما يقوله عنه الأستاذ. ولست أدري كيف استباح لنفسه الطعن في ابن قتيبة بذلك الأسلوب التهكمي مع أنه لم يستطع أن ينقذ مما قاله حرفاً وأحداً، أتراه كان ينتظر منه تقريظ الجاحظ لاستهزائه بحديث الرسول؟
وأن تعجب فعجب قول الأستاذ بعد ذلك (كيف لعمري قضى ابن قتيبة على خصمه في مذهبه هذا القضاء وهو القائل في عيون الأخبار من تأليفه: وليس الطريق إلى الله واحداً، بل الطرق إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير) ما هذا الكلام؟ وماذا يريد الأستاذ بإيراده؟ بل ما معناه؟ وما علاقته بالموضوع؟ ولست أدري، ولعل الأستاذ وحده يدري!
وأجب مما سبق قول الأستاذ بعد ذلك عن أبن قتيبة: (ورمى أيضاً أبا الهذيل العلاف بما ليس فيه، ووصفه بأنه كذاب أفاك، وطعن فيه أشنع طعن. وكذلك كان حظ ثمامة بن الأشرس منه، وهما الأئمة، ورمى هذا برقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به. وطعن في النظام أيضاً وهو الذي رد على الملحدين والدهريين شطراً كبيراً من عمره)
من أين علم الأستاذ أن أبن قتيبة افترى على أبي الهذيل
الكذب ووصفه بما ليس فيه؟ هل قرأ كتب التوحيد وألفى فيها(829/53)
ما يكذبه؟ هل قرأ كتب التراجم ووجد فيها تكأة له في تكذيبه؟
أنه لم يقرأ شيئاً من هذه ولا تلك وآية ذلك أنه وصف ابن
قتيبة له بالبخل ورقة الدين مسطوراً فيها جميعاً وقد كرر
الجاحظ في كتبه وصفه له بالبخل، وقال عنه: (أنه كان أبخل
الناس) ووصفه كذلك بأوصاف كثيرة وفي طليعتها النفاق.
وأتفق المترجمون له والباحثون لمذهبه في كتب التوحيد على
أن دينه كان أوهى من بيت العنكبوت. قال الخطيب البغدادي
في ترجمته 3366 (وكان أبو الهذيل خبيث القول، فارق
إجماع المسلمين ورد نص كتاب الله إذ زعم أن أهل الجنة
تنقطع حركاتهم فيها حتى لا ينطقوا ولا يتكلموا بكلمة، فلزمه
القول بانقطاع نعيم الجنة عنهم والله يقول: (أكلها دائم)، وجحد
صفات الله التي وصف بها نفسه، وزعم أن علم الله هو الله،
وقدرة الله هي الله، فجعل الله علماً وقدرة، تعالى الله عما
وصفه به علواً كبيراً) ومذهب أبى الهذيل في انتهاء حركات
أهل الجنة والنار قريب من مذهب جهنم بن صفوان الذي زعم
أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى من فيهما حتى لا يبقى
إل الله وحده كما كان وحده لا شيء معه. بل أن مذهبه شر(829/54)
من مذهب جهم كما يقول البغدادي في (الفرق بين الفرق).
(لأن جهماً وأن قال بفناء الجنة والنار فقد قال: أن الله قادر
بعد فنائهما أن يخلق غيرهما. وأبو الهذيل زعم أن ربه لا
يقدر بعد إنهاء الحركات على تحريك ساكن أو أحياء ميت أو
إحداث شيء). ويقول البغدادي عنه أيضاً في ص 72
(وفضائحه تتري، تكفره فيها سائر فرق الأمة من أصحابه في
الاعتزال ومن غيرهم) أفبعد ذلك يصر الأستاذ على اتهام ابن
كتيبة بأنه وصف أبو الهذيل بما ليس فيه طعناً بغير الحق
وتشنيعاً! وكما كان ابن قتيبة صادقاً منصفاً في حكمة على
ثمامة بن الأشرس بأنه كان كذلك صادقاً منصفاً في حكمه على
ثمامة بن الأشرس بأنه كان يتنقص الإسلام ورسول الإسلام
ويحقد عليهما حقداً غليظاً، ولا أريد أن أنقل من حصائد لسانه
في ذلك شيئاً وحسبي أن أنقل من حصائد لسانه في ذلك شيئاً
وحسبي أن أنقل للأستاذ الناشر ماذا قاله البغدادي عنه في ص
102، 104 (وكان زعيم القدرية في زمان المأمون
والمعتصم والواثق، وانفرد عن سائر أسلاف المعتزلة ببدعتين
أكفرته الأمة كلها فيهما)(829/55)
وأما طعن ابن قتيبة في النظام فيكفي في تبريره فوق ما ذكره بالتفصيل في كتابه قول البغدادي في ص 80 (وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث، مع الخوارج والشيعة والنجارية، وأكثر المعتزلة متفقين على تكفير النظام). ولعل الأستاذ (محمد كردي علي) يؤمن بعد هذا بأن ابن قتيبة لم يغال (في طعنه بما لا يناسب عظمة علمه وأخلاقه) وانه إنما انتهج النهج الذي رسمه لنفسه، وهو أن يصحر برأيه فيما ارتأى، لا يظلم الخصم ولا يؤثر الهوى. . .
(يتبع)
السيد أحمد صفر(829/56)
الكتب
العقد الفريد
للأستاذ محمود أبو ريه
كتاب العقد أو العقد الفريد - لابن عبد ربه اشهر من أن ينبه عليه، أو ينوه به، فهو من كتب الأدب الممتعة بل هو موسوعة أدبية غزيرة ضمت بين صفحاتها مما يفيد الأديب ويمد الكاتب، ويعين المنشئ ما لا يوجد في غيرها؛ ففيها أدب وتاريخ ولغة وشعر وعروض، وما إلى ذلك مما لم يجمع مثله في كتاب.
ولو رأينا أن نجمل الكلام في هذا الكتاب لقلنا: أن ابن عبد ربه قد حشد فيه خلاصة ما جمع من قبله كالجاحظ والمبرد وأبى عبيده والأصمعي والكلبي وابن قتيبه، وغيرهم مما يطول القول بذكرهم.
وهو لم يقف في مختاراته عند ما وقف غيره ممن سبقه، على ما عرف عن العرب ولا على ما أثر عنهم من أدب، بل نقل مما ترجم إلى العربية عن الهندية واليونانية والفارسية، وقد قال هو عن كتابه:
(وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي تأليف الأخبار وفضل الاختيار وحسن الاختصار وفرش في صدر كل كتاب؛ وما سواء فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء، واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله. فتطلبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال؛ ثم قرنت كل جنس إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته. . وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار جوهرا وأظهرها رونقا وألطفها معنى وأجزلها لفظا وأحسنها ديباجة وأكثرها طلاوة وحلاوة، آخذاَ بقبول الله تبارك وتعالى:
(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
مؤلف الكتاب:
أما مؤلف الكتاب فهو: أبو عمر أحمد بن عبد ربه سنة 246هـ ونشأ بقرطبة وتوفي سنة(829/57)
328هـ.
وقد قال فيه ياقوت (وكانت له بالعلم جلالة، وبالأدب رياسة وشهرة ديانة وصيانة) وقال الفتح بن خاقان (إنه حجة الأدب وإن له شعراً انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسهاه):
وقال ابن خلكان: (كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس.
وقال فيه ابن سعيد:
إمام أهل أدب المائة الرابعة وفرسان شعرائها في المغرب كله) ولقد كان فوق ثقافته العالية في الأدب والتأريخ والفقه والتفسير والحديث، له شغف بالموسيقى والغناء.
طبعات هذا الكتاب:
طبع هذا الكتاب أكثر من أربع طبعات أميرية وأهلية - وكلها - كما يقول الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك: (في العيوب سواء - إذ ملئت بالتحريف والتصحيف والنقص والزيادة حتى كاد يكون شيئاً آخر)
ولقد كان هذا الكتاب هذا الكتاب من الكتب التي قرأناها في صدر شبابنا، وذقنا من أغلاطه وتحريفاته مثل ما ذاق غيرنا. وكم كنا نتمنى - كما يتمنى سوانا - لو أن هذا الكتاب القيم قد خرج في طبعة صحيحة منقحة كما خرج غيره من أمهات كتب الأدب مثل الكامل للمبرد الذي شرحه شيخ الأدب الشيخ سيد المرصفي رحمه الله، وعيون الأخبار الذي طبعته دار الكتب، وكتاب الأغاني الذي لا يزال يطبع أو غيرها.
وحوالي سنة 1938 كنت في زيارة الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكان من حديثي معه أن اللجنة التي يرأسها قد وجهت أكثر غايتها - وكان هذا يومئذ أمرها - إلى لتأليف والترجمة، ولم تعن بالنشر؛ ولو أنها حاولت نصيباً من جهودها إلى النشر لكان ذلك خيراً للناس ولها. وبخاصة فأن النشر من صميم عملها.
ومما ذكرته لحضرته حينئذ، وحبذا لو اهتمت اللجنة بطبع كتاب العقد الفريد على نفقتها، فأنه لا يستطيع أحد أن ينشره صحيحاً غيرها، فأجابني حفظه الله بأن اللجنة قد أخذت فعلاً في نشر هذا الكتاب وأنها تعد العدة لذلك.(829/58)
عمل اللجنة:
أما عمل اللجنة في طبع هذا الكتاب فإنا ندع القول في بيانه إلى الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك.
قال حضرته - بعد أن ذكر عمل الأستاذ محمد شفيع أستاذ العربية في جامع بنجاب الذي بذل مجهوداً كبيراً في العقد، وأخرج جزءين كبيرين منه، وأن اللجنة قد استفادت من عمل هذا الأستاذ فوائد عظيمة - (ثم هانحن أولاء نحاول أن نخرج الكتاب إخراجاً علمياً - مصححين ما استطعنا - أغلاطه معارضين نسخه المختلفة بعضها على بعض مثبتين أصحها ذاكرين في حواشي الكتاب ما ورد في النسخ الأخرى مكملين ما نقص من عباراته مفسرين ما أبهم من كلماته، شارحين ما غمض من مشكلاته، ضابطين ألفاظه، متحرين أصح الأقوال في نسبة المقطوعات الشعرية والنثرية والأخبار إلى أصحابها مبينين اختلاف الروايات في الشعر والنثر، منبهين على أحسنها معنونين كل خبر وكل مقطوعة بعنوان خاص يدل عليه ويجمع ما فيه من الإيجاز وكان أول ما فعلنا أن كتبنا إلى الأستاذ ريتر المستشرق الألماني بالأستانة نرجوه أن يتحرى نسخ (العقد) في مكاتب الأستانة ليتبين خيرها وأحسنها فكتب لنا وصفاً مطولاً بالموجود من نسخ الكتاب ومزاياها وعيوبها، وقد اخترنا خيرها - بناء على وصفه - ورجوناه أن يصورها لنا بالفوتوغراف، ففعل مشكوراً، وقد استعنا في جانب هذه النسخة بجميع نسخ العقد الموجود في دار الكتب المصرية خطة ومطبوعة).
وبعد أن جمعت اللجنة من هذه النسخ تسعاً أخذت في طبع هذا الكتاب، وكان ذلك ف سنة 1940، وقد ظهر منه إلى الآن خمسة أجزاء في حوالي 2700 صفحة من أكبر قطع وبقي على ما نظن جزء غير الفهارس.
هذا هو كتاب العقد في حالته البديعة التي أخرجته بها لجنة التأليف والترجمة والنشر ونشرته على الناس بتصحيح فائق، وتنسيق رائق، وطبع جميل وورق صقيل ليكون من كل طالب على حبل الذراع بعد أن ظل قروناً لا يجد من يعني به أو يهتم بأمره على نفاسته وعظم شانه وحاجة الناس إليه. وقد أصبحت هذه الطبعة التي خرجت اليوم بهذه الدقة وهذا الرواء، هي التي يطمئن إليها قلب الأديب ويثق بها فكر الباحث، وما سواها من(829/59)
كل ما طبع - ولا نستثني - إن هو إلا عمل (تجاري) لا يقصد منه إلا الربح المادي.
وإنا إذ نقدم اليوم إلى المتأدبين - في هذه الكلمة الموجزة - هذا الكتاب الممتع لا نحسب أنا قد وفيناه حقه من التعريف الكافي أو البيان الوافي، لأن ذلك يدعو ل ريب إلى إنشاء مقالات مستفيضة. فلندع هذا كله إلى الذين يقرءونه ويستمتعون بما فيه. ولعلنا ننشط يوماً لنري قراء الرسالة نماذج تبين الجهود العظيمة التي بذلت في سبيل تصحيح هذا الكتاب
ولا يسعنا إلا أن نزجي خالص الشكر إلى هذه اللجنة الموقرة في شخص رئيسها الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك، على إخراج هذا الكتاب خاصة، وعلى ما قدمت - وتقدم - كل يوم للعلم والأدب والتأريخ والفن من أسفار جليلة وذخائر نفيسة تقرأ في كل عصر ويظل نفعها على وجه الدهر. . .
(المنصورة)
محمود أبو ريه(829/60)
العدد 830 - بتاريخ: 30 - 05 - 1949(/)
5 - أمم حائرة
المدارس أو دور العلم
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
أعني كل موضع درس، من المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية والمدارس العالية ومنها الجامعات، فلنتوجه إليها لعلنا نجد هدى بعد حيرة، واطمئناناً بعد قلق. ولعلنا نجد صلاحاً لأمورنا، وطباً لأدوائنا، وتأليفاً لنفرتنا، وجمعاً لشملنا:
كان من عناية الأمم والحكومات بالتعليم والتربية أن أنشئت هذه الأنواع من المدارس وعم نظامها؛ وقد سرنا على نهج الأوربيين في أنواعها، وموضوعات دروسها، ومناهجها، إلا قليلا. وكثرت هذه المدارس وشاعت في المدن والقرى ولا تزال تكثر وتشيع.
وزالت، أو كادت تزول، ضروب الدراسة القديمة؛ سواء ما كان لتعليم الصبيان مثل الكتاتيب أو دور الكتَّاب، وما كان لتعليم الكبار كالمدارس التي كانت في القاهرة والإسكندرية وأسيوط وقوص وغيرها، ومدارس العلماء الخاصة في بيوتهم أو مساجدهم. وتم قيام الحكومة على التعليم وإشرافها عليه، واضطلاعها بأعبائه، وانفرادها بتدبيره.
غفلنا في فتنة المدارس والشهادات عن ضروب من الدراسة للمبتدئين والمنتهين كان يضطلع بها ناس في القرى والمدن ابتغاء خير الناس أنفسهم. ولو عنينا بهم، وحمدنا فعلهم، وأثبناهم عليه، وحفزناهم إليه، لمضوا يحملون عن الحكومة بعض العبء، ويسدون بعض الحاجة. ولكنا أغفلنا أمرهم، وهجرهم الناس إلى المدارس الجديدة فحملت الحكومة العبء باهظاً، واحتملت الأمانة وحدها.
وقد سرنا سيراً، وتقدمنا تقدماً، وأصبنا مغانم كثيرة. فازداد إقبال الناس على المدارس، وعظمت عناية الحكومة بها، واستجابت لرغبات الراغبين في دخولها والحصول على شهاداتها فنيل وظائفها. فكثرت المدارس ثم كثرت، وازدحمت بالمدرسين ثم ازدحمت.
وغلونا في الاعتداد بالتعليم المدرسي غلواً دفعنا إلى الإسراع فيه قبل الإعداد له، وإلى الازدحام على المدارس بأكثر مما تسع.(830/1)
وغفلنا في هذا الغلو عن ضروب من التعليم والتهذيب خارج المدارس وحسبنا أن القراءة والكتابة هي وسيلة التثقيف لا وسيلة غيرها. وكم من أناس نبغوا وهو لا يقرءون، ودرسوا وهم لا يكتبون، هدتهم التجارب وهداهم السمع والبصر إلى ما اهتدى إليه القارئون أو قصروا عنه.
لا أجحد فضل الكتابة على الحضارة، ونعمتها على البشر. ولكني آخذ على الناس الغلو في إعظامها والغلو في احتقار ما سواها من الوسائل. ولا أنكر أن الوسائل الأخرى في أكثر الأحيان راجعة إليها مستمدة منها. لا أنكر هذا وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولكن أدعو إلى أن يسجل الناس معارفهم ثم ينتفعوا بها بكل وسيلة من إقراء أو إشهاد أو إسماع إلى أن تعم الكتابة كل فرد. وكم في تاريخ العلم من نابغ ضرير لم يقرأ.
وانتبهنا فراعنا جموع تغدو وتروح إلى دور العلم، لا تمس الثقافة أرواحها، ولا يتصل العلم بقلوبها، وإذا المدارس كالمطابع تخرج كتباً لا عقولاً، وتكثر أمثلة لا أنفسا، أو كالمصانع ترمي بقوالب متشابهة وأشكال متماثلة.
وانتبهنا فراعنا أن نرى هم الطالب في الجامعة أن يمضي سنوات تنتهي به إلى شهادة، وأن نراه يكتفي بما يجتاز به الامتحان، ويجتاز الامتحان بأية وسيلة، فإذا طوى السنين واجتاز الامتحان وظفر بالشهادة شرع يطالب بحقه في الوظائف، وينادي بما في يده، لا في عقله وقلبه، من شهادة، ويخدع نفسه بما يدعي من علم، ويزدري الناس إذ لم يبلغوا من العلم ما بلغ، ولم تشهد لهم الأوراق كما شهدت له.
وتنظر إلى المتعلم في الطريق وفي المدرسة فلا يرضيك هيئته، وتكلمه فلا يعجبك حديثه، وتختبره فلا يسرك علمه ولا اعتقاده ولا رأيه، إلا قليلاً من الطلبة الصالحين غلبت طبائعهم وأخلاقهم وأسرهم هذه البيئة الفاسدة المفسدة الحائرة الجائرة.
وننظر فإذا التلاميذ يهجرون الدرس إن استطاعوا، ويقعدون عن دور العلم إن قدروا؛ وإذا طلبة الجامعة، وقد أوتوا نصيباً من الحرية؛ يهجرون المحاضرات أو يكتفون بالقدر الذي يحتمه القانون، بل يحتالون له بتوقيعات مزورة أحياناً ليسجلوا لأنفسهم هذا المقدار.
لقد رأيت تلميذاً خارجاً من الجامعة ضحوة النهار ينادي صاحبه في غير خجل (الأمريكيين الساعة 11). ويكاد يكون الداء كله، والشر جميعه هنا. هذه المقاهي والملاهي التي تجذب(830/2)
الصبيان والشبان بالليل والنهار وتشغلهم عن أعمالهم، وتفتنهم عن آدابهم، وتفسدهم بكل ضروب الفساد.
إن التلميذ الذي يترك محاضرته وأستاذه ومكتبته ليسارع إلى الأمريكيين وغير الأمريكيين لا يرجى منه خير. وإن التلميذ الذي يمضي ليله أو بعض ليله ساهراً في هذه الملاهي لا تبقى فيه بقية لتعليم أو تهذيب. وليس الإثم عليه ولكن على من أحاطوه بهذه الفتن ثم خلوا بينه وبينها.
ثم نظرنا فإذا التلميذ خارج على كل نظام، مزدر بكل قانون، مستهين بمعلمه ومدرسته وحكومته وأمته، من حيث يدري ولا يدري؛ وإذا أقرب شيء إلى نفوس التلاميذ أن يصيح صائح بهجر الدرس، أو ينعق ناعق بتدمير المدرسة، أو يأمر شيطان بالهجوم على معلم أو ناظر، أو الاقتحام على مجلس الجامعة وفيه كبار الأساتيذ، فتردد الصيحة، وتستجاب الدعوة، فينطلق الشر من عقاله إلى غير غاية. ونظرنا فإذا هذا الهرج والمرج وما هو أشنع من الهرج والمرج.
ويقولون الحرية! لنا الحرية أن نخرج إذا شئنا، وأن نضرب إذا أردنا. ويمضون في دعوى الحرية فإذا لهم الحرية في أن يخرجوا غيرهم من دور العلم قَسراً، وإذا لهم الحرية في أن يحرموا إخوانهم حريتهم في الاستماع إلى الدرس، وينكروا على معلمهم الحرية في التدريس، وإذا الفئة القليلة الشاغبة لها الحرية في أن تخرج الفئة الكثيرة الحريصة على العلم، وإذا هذه الكثرة المستمعة إلى الدرس ليس لها الحرية في أن تستمع، ولهذه القلة الصاخبة كل الحرية في أن تمتنع عن الدرس وأن تمنع غيرها.
وانتبهنا فراعنا أن شفقة الآباء وبر الأولاد - وكانا عماد ما بين التلميذ وأستاذه - قد ضلاّ في هذه الضوضاء، وامّحيا في هذا الشقاء. وإذا آلات كآلات المكينة تدور لا عقل لها ولا قلب، ولا سمع ولا بصر.
فنقول رحم الله زماناً كان سرور التلميذ وفخره بأن يكلمه أستاذه، وأن يكبّ هو على يد أستاذه يقبلها في المدرسة وغير المدرسة! ورحم الله أيام كان طلبة الأزهر يقبلون يد الشيخ عقب كل درس ويتنافسون في حمل حذائه إلى الباب.
وعلى ذكر الأزهر أقول: إنه لم ينج من هذه الفتن، وكان الرجاء أن ينجو، ولم يبعد عن(830/3)
هذا القلق، وكان الأمل أن يبعد، فزهِد طلابه في العلم زُهدَ غيرهم، وضربوا واختصموا وكان منهم ما كان من طلبة المعاهد الأخرى لم يتخلفوا عنهم، ولم تثبتهم سُنن الإسلام، ولا وقرهم تاريخ الأزهر ووقاره وسمعته، ولا عصمهم من هذا البلاء عاصم.
ذلك بأن الأمة عامة لا تحرص على السنن، ولا تعني بالاحتفاظ بالتاريخ، وأن الأزهر خاصة أخذته فتنة الحديث والقديم، فأشفق من تاريخه، وجهد أن ينافس غيره في الأخذ بالمحدثات، وخشي أن يقال إنه دون غيره معرفة بالعصر، ومسايرة له، واقتباساً منه، فغلبه التقليد حقيقة وإن تظاهر بالاستقلال والاجتهاد. ولو ثبته الفكر الحر، ووقره التاريخ المديد، لأخذ من العصر شيئاً ورد أشياء، ووافق في أمر وخالف في أمور، وخط لنفسه من تاريخه ومما أحدثت المدنية من علوم وآداب خطة تميزه، وسار على طريقة هي طريقته ومنهج هو منهجه، ولكان للأمة ملجأ إذا حارت الأفكار وتنازعت الأهواء، ولكان للأمة قدوة في الدين الحق، والعمل الصالح، وفي مقاصد الإسلام ووسائله وسننه وغاياته، وفي البعد عن سفساف الأمور والأخذ بجلائلها.
لقد حافظت جامعات إنكلترا على سننها أكثر مما حافظ الأزهر، وهي لا تتصل بالدين اتصاله، ولا توغل في التاريخ إيغاله.
إننا في حاجة إلى من يقتبس الصالح غير متردد، ومن يتمسك بالصالح غير هياب، ومن يعتد بنفسه وأمته وتاريخه فيقول: هذا حسن وهذا قبيح، وهذا يصلح لي وهذا لا يصلح. ذلكم هو الأساس الذي يرسو عليه البناء، وتلكم الخطة التي تستقيم بها الأمور.
وأنا حين آخذ على الطلبة هذه المآخذ لا ألقي التبعة عليهم، وأرد الذنب إليهم، فإنهم يَنشئون كما يُنَشَّئون، وينبتون كما يزرعون، وتصوغهم البيئة على أحوالها، وتربيهم الأمة على مثالها. لا ألومهم ولكن ألوم البيئة التي سيرتهم هذه السيرة، ولا أحقد عليهم بل أرحمهم مما تهافتوا فيه على غير علم. فأنا أعيب المعلم قبل المتعلم، وآخذ الأستاذ بأشد مما آخذ به التلميذ، وأعيب البيئة والنظام قبل أن أعيب الناشئ الغِرّ، وأشفق على الشاب وأرحمه، وأذم أثر البيئة فيه، وطابع التربية عليه، لنعمل على إصلاحه، ونجهد في إنقاذه.
ولست في قولي هذا يائساً ولا متشائماً؛ ولكني أدعو إلى تدارك الشر قبل استفحاله، ومداواة الداء قبل إعضاله، وإلى تجنب هذه الطرائق، والحذر مما تؤدي إليه، وأنهى عن السير(830/4)
على غير هدى، والأخذ بغير تمييز، والقبول بغير نقد.
أرى أمورنا في حاجة إلى بحث ودرس، ونقد وتمييز، وإلى أن تسيرها آراء العلماء على خطة واضحة، وطريقة مستقيمة، فلا تترك الأمور فوضى، ولا تبحث الأشياء فُرادى، بل يتناولها النظر المحيط، والنقد الشامل، ويجمعها النظام التام، والخطة الجامعة، يضعها علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الأخلاق وعلماء التاريخ وعلماء الدين.
نريد مدارسنا ومعاهدنا دور تعليم وتثقيف، ومباءة إصلاح وتهذيب، ومصدر محبة ومودة وألفة وأخوة، يتجلى فيها الخضوع للقانون، والإجلال للنظام، والقيام بالواجب، وإيثار الخير العام، والكلف بالمروءات، والتحلي بالآداب، والترفع عن الدنايا. نريد أن كون بين المعلمين والمتعلمين ما بين الأب الرحيم والابن البار، وأن تكون المعاهد كلها أسراً كبيرة قائمة على التراحم والتعاضد، تخرج للأمة كل حين من يتولى إصلاحها ويكفل هدايتها. نريد أرواحاً لا أجساداً، وأشخاصاً لا أعداداً، ومعاني لا ألفاظاً، وحقائق لا صوراً. ونسأل الله التوفيق.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(830/5)
من أعلام رجال الفكر في عصر الحروب الصليبية:
ابن دقيق العيد
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
تقي الدين أبو الفتح محمد بن مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب ابن مطيع القشيري.
ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة 625 بظهر البحر الأحمر، قريباً من ساحل مدينة ينبع بالحجاز، وأبواه متوجهان من قوص للحج، قالوا: وحمله والده على يديه، ودعا ربه، وهو يطوف به الكعبة أن يجعله من العلماء العاملين، فاستجاب الله دعوته.
وكانت أسرة ابن دقيق العيد قد اتخذت قوص موطناً لها بعد أن هجرت مدينتها الأولى منفلوط، فنشأ الفتى بقوص، وكانت من أهم مراكز الثقافة في ذلك الحين، فحفظ القرآن الكريم، ثم درس فقه مالك على والده الذي كان من أئمة المالكية، كما أخذ عنه الحديث والأصول، ودرس في قوص إلى غير والده أيضاً، فأخذ فقه الشافعية عن تلميذ والده بهاد الدين القفطي، ودرس الأصول على علم من أعلام هذه المادة وهو شمس الدين الأصبهاني، والنحو على شرف الدين المرسي، ثم رحل في طلب العلم إلى القاهرة والإسكندرية ودمشق والحجاز، وأخذ عن كبار علماء عصره مثل الحافظ المنذري وعز الدين بن عبد السلام، وعليه درس فقه الشافعي أيضاً، وبهذا أتقن وهو شاب مذهبي الشافعي ومالك إتقاناً عظيما بلغ به درجة الإفتاء بهما، وقد قال فيه ابن القوبع من قصيدة يمدحه بها:
صبا للعلم صبَّا في صباه ... فأعْلِ بهمة الصب الصبي
وأتقن والشباب له لباس ... أدلّة مالك والشافعي
وعاد الشاب إلى مدينته وقد درس الفقه على المذهبين، وأصول الفقه، والحديث وعلومه، وعلم الكلام، والتفسير والنحو واللغة والأدب، وكان أكبر ما امتاز فيه الفقه والحديث.
أما في الفقه، فقد ارتفع عن مستوى التقليد المطلق الذي يقف فيه عند نصوص الأئمة لا يحيد عنها، بل يرتفع إلى حيث يستخلص الأحكام من أدلتها في الكتاب والسنة.
قال مؤرخه فتح الدين اليعمري: (وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، بلب يسحر الألباب، وفكر يفتح له ما يستغلق على غيره من الأبواب، مستعيناً على ذلك بما رواه من العلوم).(830/6)
وقال عنه أبو حيان: (هو أشبه من رأيناه يميل إلى الاجتهاد)
ولعل ابن دقيق العيد كان يرى نفسه مجتهد عصره، فإنه كان يؤمن بأن كل وقت لا يخلو من مجتهد. وقد وضع كتاب الإلمام، وجمع فيه الأحاديث التي يستنبط منها الأحكام، مما يدل على ما وصل إليه من درجة ممتازة في الاستنباط والاستدلال.
وأما في الحديث، فقد برع في معرفة متنه وإسناده وعلله، حتى أصبح أوحد عصره فيه، وله في علوم الحديث مؤلف دعاه (الاقتراح في معرفة الإصلاح)، وإليه أسند وإلى قوص التدريس في دار الحديث التي أنشأها بها.
وقد ساعده على بلوغ هذه المنزلة من العلم ذكاء ممتاز، ودأب على التحصيل، وسهر بالليل للدرس، وشره في القراءة، وغرام بالإطلاع. قال الأدفويّ في الطالع السعيد: (كان له قدرة على المطالعة. رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب، من جملتها عيون الأدلة لابن القصَّار في نحو من ثلاثين مجلدة، وعليها علامات له. وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على السنن الكبير للبيهقي، فيها من كل مجلدة علامة، وفيها تاريخ الخطيب كذلك، ومعجم الطبراني الكبير، والبسيط للواحدي، وغير ذلك)؛ وأخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الترندري أنه لما ظهر الشرح الكبير للرافعي اشتراه بألف درهم وصار يصلي الفرائض فقط، واشتغل بالمطالعة إلى أن أنهاه مطالعة. ويقال إنه طالع كتب مكتبة المدرسة الفاضلية عن آخرها، وكانت ذات مكتبة ضخمة حافلة.
وإلى جانب غرامه بالقراءة كان كثير النقد والتحري والتدقيق فيما يقرأ، لا يقبل الشيء من غير أن يعمل فيه فكره فيقبله أو يرفضه.
ولعل كثيرين من مقدريه وعارفي فضله قد نصحوه بمغادرة قوص إلى القاهرة، حيث يظفر فيها بالتقدير وبعد الصوت والرزق الواسع، وحيث يجد المجال واسعاً لذيوع علمه والشهرة ورفيع المناصب، وقد تردد ابن دقيق العيد في قبول هذا العرض، ظنَّا منه أن نيل ذلك كله لا يكون إلا بفقد شيء من الكرامة، والتهاون في كثير من أمور الدين، وهو يحدثنا عن ذلك في قوله:
يقولون لي: (هلا نهضت إلى العلا ... فما لذ عيش الصابر المتقنع
وهلا شددت العيس حتى تحلها ... بمصر إلى ذاك الجناب المرفع(830/7)
ففيها من الأعيان مَن فيض كفه ... إذا شاء روى سيله كل بلقع
وفيها قضاة ليس يخفى عليهمُ ... تيقن كون العلم غير مضيّع
وفيها شيوخ الدين والفضل والأولى ... يشير إليهم بالعلا كل إصبع
وفيها. . . وفيها. . . والمهابة ذله ... فقم، واسع، واقصد باب رزقك، واقرع)
فقلت: (نعم أسعى إذا شئت أن أُرَى ... ذليلا مهاناً مستحقاً لموضع
وأسعى إذا ما لذ لي طول موقفي ... على باب محجوب اللقاء ممنع
وأسعى إذا كان النفاق طريقتي ... أروح وأغدو في ثياب التصنع
وأسعى إذا لم يبق فيَّ بقية ... أراعي بها حق التقى والتورع
وكم بين أرباب الصدور مجالس ... يشب لها نار الغضا بين أضلع
فإما توقي مسلك الدين والنهي ... وإما تلقي غصة المتجرع)
وكان في صميم قلبه يرجو أن يظفر بالرفعة من غير أن يفقد في سبيلها كرامته، وهذا هو السر في نقمته على أرباب المناصب الذين لم يعرفوا قدره، ولم ينزلوه ما هو جدير به من رفيع المنازل، تحس بذلك في قوله:
أهل المناصب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم
فما لهم في توقي ضرنا نظر ... وما لهم في ترقي قدرنا همم
فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم ... مقدارهم عندنا أو لو دروه هم
لهم مريحان: من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان: العلم والعدم
ولكن يظهر أن الحالة المالية لابن دقيق العيد دفعته إلى المجيء إلى القاهرة، حيث ولي المدرسة الصلاحية سنة 680، ودرس الحديث بدار الحديث الكاملية وكان له منزل بها، وعلم الفقه على مذهبي الشافعي ومالك بالمدرسة الفاضلية، كما درَّس أيضاً بالمدرسة الصالحية والقبة المنصورية.
ومع ذلك لم يُثرِ ابن دقيق العيد، بل لم يدفع عن نفسه شر الفاقة، وكان يضطر إلى الاستدانة أحياناً، وإن كان قد ظفر أخيراً بالثراء والرخاء، فاستمتع وأكثر من التسري، وكان ينعى حظه قائلا:(830/8)
سحاب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راحلا
قد أتعبتني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلا
وربما كانت رغبة ابن دقيق العيد في الاستمتاع بمباهج الحياة هي التي دفعته إلى أن يعترف للشيخ زكي الدين بأنه أدين منه. حكى تاج الدين الدشناوي قال: (خلوت به مرة فقال: يا فقيه، أفزت برؤية الشيخ زكي الدين عبد العظيم؟ فقلت: وبرؤيتك؛ فكرر الكلام، وكررت الجواب؛ فقال: كان الشيخ زكي الدين أدين مني؛ ثم سكت ساعة وقال: غير أني أعلم منه!
وظفر ابن دقيق العيد بشهرة واسعة، وصوت بعيد، وتقدير عميق في قوص والقاهرة، حتى في أيام أساتذته. وفي سنة 695 ولّي قضاء قضاة الشافعية في الديار المصرية، وقد استقبل كثير من مقدريه قبوله هذا المنصب بشيء من العتب عليه واللوم، ورأوا فيه حطاً من عظيم قدره، وكانوا يفضلون بعده عن مناصب السلطان ويعدون ذلك زلة له، ولكني لا أوافقهم على ما ذهبوا إليه، ولا سيما أن ابن دقيق العيد كان أحب الناس برعاية الحقوق وإحقاق العدالة، ورسائله إلى من كان يعينهم من القضاة يحثهم فيها على تحري الحق، ويخوفهم من الظلم، ويشعرهم بما عليهم من التبعة تدلنا على مقدار ما ظفر به المنصب يوم حله هذا العالم الممتاز. وكان هو نفسه يشعر بثقل العبء الملقى عليه قاضياً، فكان يقول: (والله ما خار الله لمن بلي بالقضاء)؛ ويقول: (لو لم يكن إلا طول الوقوف للسؤال والحساب لكفى). وأثر عنه في القضاء آثار حسنة، منها انتزاع أوقاف كانت أخذت واقتطعت لمقتطعين، ومنها أن القضاة كان يخلع عليهم الحرير، فخلع على الشيخ الصوف واستمرت، ورتب على الأوصياء مباشراً من جهته، وكان يكتب إلى نوابه يذكرهم ويحذرهم.
ولم ينج ابن دقيق العيد وهو في منصب القضاء من ساخطين عليه، هجوه بالشعر حيناً، وبالزجل حيناً آخر. قال برهان الدين المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين: (كنت أباشر وقفاً فأخذه مني شمس الدين محمد بن أخي الشيخ وولاه لآخر، فعز عليَّ، ونظمت أبياتاً في الشيخ فبلغته، فأنا أمشي مرة خلفه وإذا به قد التفت إليَّ وقال: (يا فقيه، بلغني أنك هجوتني؟) فسكت زماناً فقال: (أنشدني)؛ وألح عليَّ، فأنشدته:(830/9)
وليت فولي الزهد عنك بأسره ... وبان لنا غير الذي كنت تظهر
ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها ... ولو كان عن جبر لقد كنت تعذر
فسكت زماناً، ثم قال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان؛ فقال: ما علمت بهذا. ورد الوقف إليه.
وارتفعت منزلته عند سلاطين عصره، فكان السلطان لاجين ينزل له عن سريره ويقبل يده. وفي سنة 698 بعد وفاة الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله، أرسل إليه السلطان الناصر محمد يستشيره فيمن يوليه الخلافة بعده.
واستمر ابن دقيق العيد في منصب القضاء، وإن كان قد عزل منه نفسه أحياناً، حتى مات يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة 702، ودفن يوم السبت بسفح المقطم.
قال الأدفوي في الطالع السعيد: (وكان ذلك يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، سارع الناس إليه، ووقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه، رحمه الله تعالى، وهو ممن تألمت على فوات رؤيته، والتملي بفوائده وبركاته).
ورثاه الشريف محمد بن محمد القوصي بقصيدة طويلة منها قوله:
سيطول بعدك في الطلول وقوفي ... أروي الثرى من مدمعي المذروف
لو كان يقبل فيك حتفك فدية ... لفديت من علمائنا بألوف!
يا طالبي المعروف، أين مسيركم؟ ... مات الفتى المعروف بالمعروف!
ما عنَّف الجلساء قط، ونفسه ... لم يخلها يوماً من التَّعنيف
يا مرشد الفتيا إذا ما أشكلت ... طرق الصواب، ومنجد الملهوف
من للضعيف يعينه أنَّى أتى ... مستصرخاً، يا غوث كل ضعيف
أفنيت عمرك في تقي وعبادة ... وإفادة للعلم أو تصنيف
لهفي على حبر، بكل فضيلة ... علياء من زمن الصبا مشفوف
كان الخفيف على تقيّ مؤمن ... لكن على الفجار غير خفيف
أمنت أحاديث الرسول به من ... التبديل والتحريف والتصحيف
ومضى وما كتبت عليه كبيرة ... من يوم حل بساحة التكليف
صبراً بنيه، قوة من بعده ... صبر الكريم الماجد الغطريف(830/10)
كما رثاه جماعة من الفضلاء والأدباء بالقاهرة وقوص.
وترك كثيراً من الأولاد، فكان له من الذكور عشرة سماهم بأسماء الصحابة، وأخذ عنه عدد ضخم نبغ من بينهم جم غفير صار منهم المحدثون والنحويون وقضاة القضاة.
وألف كثيراً من الكتب: منها كتاب الإلمام، الجامع أحاديث الأحكام، وقد أثنى العلماء ثناء جما على هذا الكتاب، حتى ادعى بعضهم أنه ما وضع في هذا الفن مثله. وقال عنه تقي الدين بن تيميه: (هو كتاب الإسلام) وشرع في شرحه؛ ولكن يظهر أنه لم يتمه. وقد اشتمل الشرح فضلا عن الأحكام المستنبطة على أنواع أدبية، ونكت خلافية، ومباحث منطقية، ولطائف بيانية، ومواد لغوية، وأبحاث نحوية، وعلوم حديث، وملح تاريخية، وإشارات صوفية. ومنها كتاب الإمام في الأحكام، وهو في عشرين مجلداً، وشرح كتاب التبريزي في الفقه، ومقدمة المطرزي في أصوله، كما شرح بعض مختصر ابن الحاجب في الفقه، ووضع في علوم الحديث كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح. وله مصنف في أصول الدين.
وكان ابن دقيق العيد إلى جانب امتيازه في التدريس والتأليف خطيباً بارعاً سمعه الشاعر المعروف أبو الحسين الجزار وهو يخطب بقوص فأعجب ببلاغته، ثم أنشده مادحاً له:
يا سيد العلماء، والأدباء، ... والبلغاء، والخطباء، والحفاظ
شنفت أسماع الأنام بخطبة ... كست المعاني رونق الألفاظ
أبكت عيون السامعين فصولها ... فزكت على الخطباء والوعاظ
ستقول مصر إذ رأتك لغيرها ... ما الدهر إلا قسمة وأحاظ
ويقول قوم إذ رأوك خطيبهم: ... أنسيتنا قسِّا بسوق عكاظ
وجمع له ديوان خطب.
وكان يقول الشعر، وقد رأينا بعض نماذج له، وتستطيع بقراءته أن تعرف بعض خلجات نفسه، وروى مؤرخوه كثيراً من هذه النماذج، فتسمعه حيناً ينقم على حظه ويقول:
الحمد لله، كم أسعى بعزمي في ... نيل العلا، وقضاء الله ينكسه
كأني البدر أبغي الشرق والفلك ... الأعلى يعارض مسعاه فيعكسه
كما جأر مرة أخرى بالشكوى من الفقر حين قال:(830/11)
لعمري، لقد قاسيت بالفقر شدة ... وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح، بالصبر خفت مماتي
وأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي
ويلجأ إلى الله قائلا:
وقائلة: مات الكرام، فمن لنا ... إذا عضنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها: من كان غاية قصده ... سؤالا لمخلوق فليس بنابه
لئن مات من يرجى فمعطيهم الذي ... يرجونه باق فلوذوا ببابه
وتلمس حبه للوقار وغرامه به، حتى قالوا: إن العادَّ يستطيع إحصاء كلامه، لأن كثرة الكلام تذهب بالوقار في قوله:
تمنيت أن الشيب عاجل لمَّتي ... وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره
وله شعر كثير في مدح الرسول، ومن ذلك موشحه أوردها صاحب الفوات منها قوله:
بنى العز للتوحيد من بعد هدمه ... وأوجب ذل المشركين بجده
عزيز قضى رب السماء بسعده ... وأيده عند اللقاء بجنده
فأورده للنصر أعظم مشرع
وله نثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين أغرموا بالسجع والمحسنات البديعية، ونجد له نماذج في كتبه وفي الطالع السعيد، كما كان مطلعاً على كتب الأدب، حتى لقد كان الشهاب محمود يقول عنه: (لم تر عيني أدب منه).
ويثني مؤرخوه على أخلاقه الاجتماعية والشخصية، وكان خفيف الروح لطيفاً على نسك وورع، ودين متبع، يقابل الإساءة بالعطف والإحسان، شفيعاً بالمشتغلين، كثير البر لهم، جواداً كريماً، يحاسب نفسه ويشتد في حسابها.
كل ذلك قد دفع معاصريه ومؤرخيه إلى أن يغمروه بإعجابهم إلى آخر درجات الإعجاب. فهذا فتح الدين بن سيد الناس يقول: (لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت أنثى بأجل منه فيما رأيت ورويت، لا يشق له غبار، ولا يجري معه سواه في مضمار). وقال الذهبي عنه: (كان إماماً متفنناً، مجوداً محرراً، فقيهاً مدققاً، غواصاً على المعاني، وافر العقل، كثير(830/12)
السكينة، تام الورع، سمحاً، جواداً، زكي النفس، عديم الدعوى).
أما السبكي فيقول عنه: (شيخ الإسلام، الحافظ الزاهد الورع، الناسك المجتهد المطلق، ذو الخبرة التامة بعلوم الشريعة، الجامع بين العلم والدين، والسالك سبيل الأقدمين، أكمل المتأخرين وبحر العلم الذي لا تكدره الدلاء، ومعدن الفضل الذي لقاصدة منه ما يشاء. . . ولم ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، وأنه أستاذ زمانه علماً وديناً).
وذكره ابن أبي الإصبع صاحب كتاب البديع في كتابه فقال: (هو من الذكاء والمعرفة على حالة لا أعرف أحداً في زمني عليها).
وهكذا ظفر ابن دقيق العيد بإعجاب لا حد له، ولا يزال اسمه إلى اليوم يذكر في الفقه محاطاً بهالة من الإكبار والإجلال.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(830/13)
الأعلام والرايات
للأستاذ أحمد رمزي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
السلطان وأتباعه من الملوك المتغلبين:
كان أولَ من ملك مع خلفاء الإسلام وتلقب بالسلطان هم بنو بويه، ثم جاءت دولة آل سلجوق ففاق ملوكها من تقدمهم وأصبحت دولتهم إمبراطورية ضخمة، خطب لملوكها فيما بين الصين وأسوار القسطنطينية، ثم ظهر في أنحائها المختلفة أتباعها وهم:
بنو طفتكينبالشام
بنو قطلميشببلاد الروم
بنو سكمانبخلاط وأرمينية
بنو ارتقبماردين
بنو زنكيبالشام
بنو أيوببمصر والشام
ثم التركالذين ورثوا ملك مصر
ويهمنا منهم أمر زنكي: لأن صاحب النجوم الزاهرة يقول (أنشأ بنو زنكي بني أيوب سلاطين مصر وأنشأ بنو أيوب دولة الترك وأول ملوكهم الملك المعز (أيبك). فانظر إلى أمر الدنيا وكيف أن كل طائفة سبب نعمة طائفة)
وتم هذا التسلسل في سيادة الممالك وتولي أراضيها وكل بيت جاء من أتباع من تقدمه وأصل الأتابكة أي آل زنكي هو قسيم الدولة آق سنقر وكانت تركيا من أصحاب السلطان ركن الدين ملكشاه ابن ألب أرسلان السلجوقي.
وكان آق سنقر من أتباع هذا السلطان.
وبدأ ملكه في حلب والذي أشار بتوليته هذه المدينة الوزير نظام الملك.
وكان ملكشاه هذا من جملة الملوك السلجوقيين المتغلبين على البلاد.
إذن كانت ولاية البيت الأتابكي في نطاق الدولة السلجوقية، واستمرت هذه التبعية قائمة مدة(830/14)
زنكي وفي أيام نور الدين الشهيد، وهي العلاقة القائمة بين التابع والمتبوع. كانت تنكمش أحياناً حتى لا تصبح شيئاً ثم تظهر في ترتيب المملكة وقواعدها ومردُّ ذلك إلى سلطة المتغلبين على الأراضي التي يفتحونها أو يستولون عليها. وبقدر ما يزيد استقلالهم يزيد تمسكهم بتقليد من كانوا هم تابعين لهم في أبهة الملك والسلطنة وأخصها الأعلام وترتيب الجيوش ونظام الإقطاع.
وتبدو هذه التبعية في ثنايا التاريخ غير واضحة تماماً فيما كتبه مؤرخو مصر والشام، ولكن مؤرخي المشرق، أقصد بذلك بغداد وما يليها من الأقاليم يتحدثون عنها في فقرات متباعدة.
ومن قبل هذا ما جاء في ابن الجوزي عن حوادث سنة 538 من أن العلاقات ساءت بين السلطان وزنكي، حتى جمع الأول العساكر لقصد الموصل والشام وترددت رسل زنكي (حتى تم الصلح على مائة ألف دينار تحمل في ثوب فحمل ثلاثون ألفاً ثم تقلبت الأحوال فاحتيج إلى مداراة زنكي وسقط المال وقيل بل خرج ابن الأنباري فقبض المال).
ولو شئنا تفصيل هذه العلاقات لخرجنا عن موضوعنا إلى دراسة الإمبراطورية السلجوقية وعلاقاتها مع التابعين لها، ومع ذلك أنقل فقرة لتفسير ما جاء في ابن الجوزي فنحن نعلم أن زنكي وجد ولايته وقد أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب. الخليفة المسترشد والسلطان مسعود وأصحاب أرمينية وأعمالها وبيت سكمان وركن الدولة داود صاحب حصن كيفا وابن عمه صاحب مردين ثم الفرنج صاحب دمشق.
ولذلك جاء في أعلام النبلاء نقلا عن الروضتين (أن زنكي كان ينتصف منهم ويغزو كلا منهم في عقر داره ويفتح بلادهم ما عدا السلطان (مسعود السلجوقي) فإنه لا يباشر قصده، بل يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته) وفي هذا تفسير الحاجة إلى مداراته.
ودليلي على أن الخلافة كانت تنكمش أحياناً فلا تملك من الأمر شيئاً أمام سلطان السلاجقة والمتغلبين وأن سلطان هؤلاء كان ينصرف إلى السيطرة على أراضي الممالك، وهذا ما أجاب به الخليفة سنة 530 حينما طالبه زنكي بمال لتجهيز الجند إلى واسط إذ قال (البلاد معكم وليس معي شيئا فاقطعوا البلاد) أي أعيدوا توزيعها.
من هذا يتضح أن الخلافة العباسية أصبحت في ذلك الوقت مظهراً دينياً أكثر من أن تكون(830/15)
صاحبة قوة وغلبة، وأن شعائرها هي شعائر الخليفة السني العباسي وإن مبادرة السلاطين والملوك إلى الحصول على تقليد الخلافة، كان القصد منه أن يرتكز الملك والفتح على أسس شرعية متفقة مع قواعد الدين: لا الخضوع إلى ملك العباسيين والإقرار بسيادتهم الفعلية.
فنور الدين حينما يرسل صلاح الدين لفتح مصر، يفهم أنه يمد في سلطانه وهذا في حرصه على الاستقلال بمصر لا يجهر بما يبيته في نفسه، بل يحتفظ بمظاهر التبعية في شعار المملكة وترتيبها، كما كان يحرص الأتابكة في الاحتفاظ بمظاهر التبعية لآل سلجق ما دام هؤلاء على شيء من القوة والعظمة، فإذا ضعف السلاجقة أو الأتابكة أخذوا البلاد لأنفسهم وحصلوا على إقرار الخليفة كما حصل من قبلهم آل سلجوق على الملك والسلطنة.
وفي ذلك يقول صاحب صبح الأعشى (واعلم أن الدولة الأيوبية لما طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية خالفتها في كثير من ترتيب المملكة وغيرت غالب معالمها وجرت على ما كانت عليه الدولة الأتابكية عماد الدين زنكي ثم ولده الملك العادل نور الدين محمود بالشام).
وألمس أن الأتابكة لم يبتدعوا بل ساروا على سنن السلاجقة في كل ما استحدثوه من أنظمة ثم كانوا حريصين على أن يحتفظوا بمظاهر السلطنة السلجوقية في الأعلام والرايات وأنظمة الجند والإقطاع وغير ذلك. بل كان اتخاذ الأعلام السلجوقية مما يقوي مركزهم ويجعلهم مساوين لأصحاب هذا العلم ثم جاء صلاح الدين فنحى نحوهم واتخذ شعائر السلطنة على أعلامه ابتداء من فتح حلب كما سيأتي.
الأعلام:
حدد صاحب صبح الأعشى هذه الأعلام بقوله (هي عدة رايات منها راية عظيمة من حرير أصفر مطرزة بالذهب عليها ألقاب السلطان واسمه وتسمى العصابة وراية عظيمة في رأسها خصلة من الشعر تسمى الجاليش ورايات صفر صغار وتسمى الصناجق).
والدخول في شرح هذا التقسيم واستعمال كل نوع وأصله مطلب صعب المرتقى، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أن استعمال هذه الأعلام كان من عمل الدولة الكبرى أولاً أي من شعائر الدولة السلجوقية قبل أن يستعملها ملوك مصر من الترك أو الأيوبيين أوآل زنكي الذين(830/16)
كانوا في ذلك مقلدين لا مبتدعين.
قال السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه: (وأول من حمل السنجق على رأسه من الملوك في ركوبه غازي ابن زنكي وهو أخو السلطان نور الدين محمود ابن زنكي صاحب الشام).
ونقل هذا صاحب صبح الأعشى فقال: (إن غازي أحدث حمل السنجق على رأسه فتبعه الملوك في ذلك وألزم الجنود أن يشدوا السيوف إلى أوساطهم ويجعلوا الدبابيس تحت ركبهم عند الركوب).
ويفهم عن عبارته أنه اخترع هذا الشعار الذي أخذ به بعده أبناء عمه في الشام، ولكن صاحب النجوم الزاهرة يقول: (الملك غازي ابن زنكي بن آق سنقر التركي أخو السلطان نور الدين محمود الشهيد الأتابكي هو أول من حمل السنجق على رأسه من الأتابكية ولم يحمله قبله لأجل ملوك السلجوقية).
ويقول صاحب عقد الجمان (وهو أول من حمل على رأسه السنجق من أصحاب الأطراف فإنه لم يكن فيهم من يفعله لأجل السلاطين السلجوقية).
إذن كانت الأتابكية أقل من السلطنة وكان أصحابها من ملوك الأطراف وكانوا يتحاشون الأخذ بمظاهر السلطنة، التي هي من حق ملوك آل سلجوق الذين لهم وحدهم هذا بانتمائهم إلى البيت المالك الذي يمثل سلطان السلاطين كما يفهم أن ملوك الأطراف كانوا يحاولون أن يتشبهوا بمن هم أعلى منهم، وأن هؤلاء كانوا يمنعونهم من ذلك حتى لا يرقوا إلى مرتبة تقرب من مرتبة من يتولى الرياسة والصدارة بين السلاطين لأن استعمال شعار السلطنة معناه التساوي في المرتبة والقوة.
ويظهر من كلام فضل الله في عهد دولة المماليك الأتراك: (أن من عادة السلطان إذا ركب يوم العيدين ويوم دخول المدينة يركب وعلى رأسه العصائب السلطانية وهي صفر مطرزة بألقابه وترفع المظلة على رأسه وهي قبة مغشاة بأطلس أصفر مزركش عليها طائرة من فضة مذهبة يحملها بعض أمراء المئين وهو راكب فرسه إلى جانبه وأمامه الطبردارية مشاة وبأيديهم الأطبار).
ويعلق صاحب المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ناقل هذه الفقرة بقوله: (العصائب(830/17)
المذكورة حرام وقد بطلت الآن والحمد لله) مما يدل كراهية الناس لها النوع من مظاهر الأبهة المأخوذة من ترتيب ممالك آل سلجوق وبني بويه وغيرهم.
ولكن اللون الأصفر بقى حتى نهاية استقلال مصر بل وأدخل على المظلة وهي من بقايا ترتيب الفاطميين مع أنها من صميم المراسيم المصرية وليست من تقاليد ملوك الشرق من الأتراك وغيرهم.
اللون الأصفر واللون الأسود:
الذي أمكنني استخلاصه هو أن اللون الأصفر أصبح شعار السلطنة والأسود استمر للخلافة بل أن العصائب أصبحت في بعض الأحيان من تقاليد الخلافة في مصر: وهذا من أغرب ما أدخل من شعائر الملوك المتغلبين على نظام الخلافة المفروض أن يستمر عريقاً في تمسكه بمراسم الأبهة العباسية ولا يأخذ بمظاهر أجنبية عن العروبة والإسلام. فمن ناحية اللونين والعلمين أشير إلى ما جاء في السلوك.
(إن رسل ملك القبجاق وصلت إلى مصر ومعهم كتاب بالخط المغلي يتضمن أنه أسلم ويريد أن ينعت نعتاً من نعوت الإسلام ويهجز له علم خليفتي وعلم سلطاني يقاتل بهما أعداء الدين).
وجاء في تاريخ أبي الفداء من حوادث ربيع الآخر سنة 732 هجرية حينما جاء ابن أبي الفداء بعد وفاة والده إلى القاهرة في ربيع آخر سنة 732 هجرية.
(ركب بشعار السلطنة الملك الأفضل الحموي بالقاهرة، وبين يديه الغاشية، ونشرت العصائب السلطانية والخليفية على رأسه وبين يديه الحجاب وجماعة من الأمراء وفرسه بالرقبة وأمامه الشبابة وصعد إلى القلعة) وفي هذا تصديق لما بدأ به هذا البحث من قيام شعارين.
فلا محل إذن للتساؤل عن اللون الأسود العباسي وعدم اختياره للأعلام في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية إذ أن ولاية الأيوبيين كانت مرتكزة على آل زنكي وهؤلاء يتبعون آل سلجوق ويتقلدون بهم ولذلك لما دخل صلاح الدين حلب وتيقن من ثبوت ملكه (نشر سنجق السلطان الأصفر على سور القلعة وضربت له البشائر).
فهو قد شعر في هذه اللحظة بقوته، ونحا نحو السلاطين من آل سلجوق، وطمع في أن(830/18)
يعامل مثلهم، فاتخذ شعارهم وجعل علمه أصفر اللون، وهو علم السلاطين الذين يسيطرون على الأرض، وطمع أن يصل إليه التقليد من خليفة بغداد بإقامته سيداً على الأراضي والممالك التي دانت له.
تراث الدولة السلجوقية:
إنني لا أزعم أن آل سلجوق ابتدعوا كل شيء، بل أقول إن طبيعة الأشياء تحتم أنهم أخذوا ممن تقدمهم أشياء ليس بوسعي تحديدها بواسطة ما لدي من مراجع، وإنما عمل الباحثين سواي موالاة البحث عنها، ولكني أقول أن أثرهم كان كبيراً في ترتيب نظام الممالك التي جاءت من بعدهم: وأقول أن نظام الإقطاع في التاريخ الإسلامي لن يقدّر له البحث العلمي الصحيح بدون أن نلم بأصل هذا النظام في أواسط آسيا ونرجع إلى نشأته الأولى.
وكذلك نظام الجيوش وتعبئتها ومراتبها تأثرت إلى حد كبير بما أدخله السلجوقيون، ولن تقدر قوة دولتي المماليك العسكرية بدون أن نلم بما كانت عليه أنظمة جيوش السلاجقة.
ولم يكن أثرهم قاصراً على مصر والشام بل شمل الجزء الشرقي من العالم الإسلامي وأخذ به ملوك خوارزم من بعدهم (ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية جرى على منهجهم أو ما قاربه وجاءت الدولة التركية وقد تنقحت المملكة وترتبت فأخذت في الزيادة وفي تحسين الترتيب وتعضيد الملك وقيام أبهته، ونقلت عن كل مملكة أحسن ما فيها، فسلكت سبيله ونسجت على منواله حتى تهذبت وترتبت أحسن ترتيب وفاقت سائر الممالك وفخر ملكها على سائر الملوك).
وفي ذلك يقول الأستاذ فييت: (إن سلاطين المماليك كانوا الوحيدين الذين نجحوا في تاريخ مصر في تأسيس إمبراطورية ضخمة).
أما تفسير اختيار الراية الصفراء الذي أشار إليه بيبرس في كتابه إلى بومند صاحب طرابلس الشام بقوله (إن رايتنا الصفراء قد علت على رايتكم الحمراء وسادت الأرض) فأرده إلى أواسط آسيا حيث منبت السلاجقة، فقد وجدت في كتاب (تاريخ مدنية الأتراك) تأليف (ضيا كوك ألب) إن الأتراك اتخذوا لعناصر الحياة: الماء والتراب والنار ألواناً: فالسواد للماء والبياض للنار واللون الأصفر للأرض وقال (طوبراغك رنكي صاريدر).
فهل اتخذت الراية الصفراء من القدم شعاراً لسلطان الأرض؟(830/19)
إنه ليصعب علي أن أقرر شيئاً من ذلك، حتى بعد المعلومات المتفرقة التي وضعتها أمام القارئ، لأن ما نعلمه عن آل سلجوق وبني بويه وآل سبكتكين وغيرهم من المتغلبين لا يزال في حاجة إلى الجمع والتبويب والتنظيم.
وإن كنت أقرر أن بحث نظام الإقطاع في تلك الأزمان سيفتح لنا حتما الطريق الذي يوصلنا إلى نواح لا تزال مجهولة، أرجو أن يتولاها المهتمون بالتاريخ الإسلامي بعنايتهم.
أحمد رمزي(830/20)
عرائس الربيع
للأستاذ علي محمود طه
وثبن في موكب الطبيعةْ ... وثوب غزلانها الوديعهْ
منشّراتٍ ومُرسلاتٍ ... غلائل الفتنةِ الرَّصيعه
أثار دفء النسيم روحاً ... فيهن مشبوبة وليعهْ
وهاج عطر الصباح فيها ... ما هاج في النحلة الرضيعه
فرحن يمرحنَ في غناء ... تُصغي، وتتلو الرُّبى رجيعه
يحملن ورداً بها لورد ... ينثال بالحمرة الينيعه
كأنما الروض قلبُ صَبٍّ ... أسَلْنَ فوق الثرى نجيعه
هذا الربيعُ الجميلُ يجلو ... فنون إبداعه الرفيعه
مشى تُحييِّ الرياض منه ... خُطىً على صدرها سريعه
وديعةُ الخلد بين يديه ... وبركت فيهما الوديعه
انتشت الأرض من شذاه ... وأُترعتْ كأنها الرصيعه
ولي فمٌ ناضبٌ وقلبٌ ... فارغةٌ كأسه صديعه
عرائس الحسن لا تَدَعن ال ... محبَّ للهجر والقطيعه
فإنهُ شاعِرٌ يُغَنَّي ... أحلامه الحلوة البديعه
لكُنَّ يُحيي صِبا الليالي ... شدواً، ويُغني الهوى دموعه!
عاد ربيعُ الثرَى وعادتْ ... صوادح الدوحَة الوشيعه
هفتْ بجوقاتها إليه ... مُفشيةً سِرَّهُ مُذيعه
وزفَّهُ بلبل لعوب ... في حِضنه وردةٌ خليعه
وحدَّق الزهرُ واشرأَبتْ ... كمائمٌ حوله سميعه
شريعة الغاب ما أراها ... دماً ولا ميتةً ذريعه
لكنهُ الحبُّ فوضوياً ... يتقحم الذروة المنيعة
تدعو له الكائناتُ طراً ... وقُدِّس الحبُّ من شريعه
فيا عروس الربيع هاتي ... مِن وحيه وانشري صنيعه(830/21)
أنتِ شبابُ الحياة أنت ... الجمالُ في موكب الطليعه
وأنتِ أنتِ الرَّبيعُ، لا ما ... تبدعه ريشة الطبيعه
خدَّاك، نهداك، من جناهُ ... فاكهة الجنة المضيعه
ثغرك ريَّانُ من رحيق ... الحبُّ يحيى به صريعه
شعرك من نور ناظريه ... يقيس منه السَّنى سطوعه
وُقيت لمح العيون إمَّا ... رَمتك بالنظرة الجميعه
وقيت لفح الشفاه إما ... هفت بها قُبلة الخديعه
وقيت فحَّ الصدور إما ... غلتْ بها الشهوة الوضيعه
فأرجعي يا عروس فني ... صِباً يود الهوى رجوعه
أيامَ كلُّ الطريق زهرٌ ... وكلُّ حافاته مُريعه
أيام كلُّ الحياة فجرٌ ... ترقب عين الفتى طلوعه
وليله مهرجان عرس ... قد أوقدوا حوله شموعه
إن أنت لم تُحسني إليه ... قتلت في صدره نزوعه
ومن لقل أضاع بين الهوى ... وبين الصبا ربيعه!!
علي محمود طه(830/22)
كن زهرة
للأستاذ إيليا أبو ماضي
قل للذي أحصى السنين مفاخراً ... يا صاح ليس السرُّ في السنوات
لكنه في المرء كيف يعيشها ... في يقظةٍ أم في عميق سباتِ
قم عُدّ آلاف السنين على الحصى ... أتعدُّ شبه فضيلةٍ لحصاةِ؟
خير من الفلوات لا حد لها ... روضٌ أغنّ يقاسُ بالخطوات
كن زهرةً أو نفحةً في زهرة ... فالمجدُ للزهرات والنفحات
تمشى الشهورُ على الورود ضحوكة ... وتنام على الأشواك مكتئبات
وتموت هذي العقم قبل مماتها ... وتعيش تلك الدهرَ في ساعات
تحصي على أهل الحياة دقائق ... والدهر لا يحصى على الأموات
العمرُ إلا بالمآثر فارغٌ ... كالبيتِ مهجوراً وكالموماِة
جعل السنين جميلةً وكبيرةُ ... ما في مطاويها من الحسنات
إيليا أبو ماضي(830/23)
صور من الحياة
غَدْرٌ. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
لقد كان عهدي بك - يا صاحبي - فتى مشرق الوجه وضاح الجبين ريق الشباب، تتألق - دائماً - في الغالي الثمين من اللباس فتبدو في رأي العين حسن الهيئة جميل الشارة، تتوثب نفسك سعادة ومرحاً ويفيض قلبك بهجة وحبوراً، يشغلك سهل الحياة عن حزَنها وتصرفك سعة العيش عن شظفه، تتفتح لك الدنيا عن مثل بسمة الزهرة النضيرة سقاها ندى الفجر الرطيب ورفت عليها نسمات الصبح الرقيقة، فتتدفق في قلبك لذة وهدوءاً، فكنت - إذ ذاك - تبدو كفراشة سعيدة ما بها إلا أن تثب بين الورود والرياحين ترشف الرحيق العذب في شوق وشغف ثم تنطلق إلى غايتها لا تأسى على شيء. فمالي أراك الآن وقد حال لونك وذوى عودك، إنني أحس كأن حادثة عصفت بك فلفَّت بهجتك في ثناياها وطوت البشر عن عينيك، فبدت على جبينك سمات الحزن وارتسمت على وجهك علامات الكآبة. يا عجبا! لقد تغضَّن جبينك بعد إشراق، وتكسرت شوكتك بعد صلابة واستحالت أناقتك إلى أسمال خلقة! فماذا كان من الأيام وماذا كان منك، يا صاحبي؟
وأطرق الرجل حيناً في خجل ثم قال وفي صوته ضعف وفي نبراته اضطراب (إن لي حديثاً طويلاً لا أستطيع أن أفضي به إلا أن يطمئن بطني، فأنا منذ ليلتين أبيت على الطوى لا أجد ما أسد به رمقي، وحاولتُ جهدي أن أحتال لأمري فعجزتُ، وتنكَّرت لي الأيام وعصرتني الحياة بين فكين من حديد، فانسدت مسالكها وأوصدت مساربها، وتراءت لي قلوب الناس جامدة لا تنبض بشفقة ولا تهتز برحمة. . .)
وحزَّ حديثه في نفسي فانطلقت أهيئ له طعاماً وشراباً، فما راعني إلا أن يلوك اللقمة ولا يكاد يزدرها ويحركها بين أسنانه ولا يكاد يستسيغها. فقلت له في دهشة (ما بالك لا تقبل على الطعام؟) قال: (يا سيدي، إن الطير ليزق فراخه وهو خمصان فيحس الشبع والراحة حين تهدأ نفوسها، وإن الوحش الكاسر ليطعم صغاره دون نفسه وبه قرم إلى اللحم فيجد السعادة والهدوء. وإن لي صبية يتلهَّبون جوعاً. . . قلتُ: (إن لعنة الله لتنحط على المكتظ فتصيبه بالتخمة ليعلم أن بطنه لا يسع ما يشبع بطنين) ثم أخذتً أعدُّ لصغاره طعاماً يكفيهم(830/24)
أياماً، ورأى هو الطعام فهب - في بشر - يريد أن يحمله إليهم، فقلت له: (مهلاً! إن الخادم سيحمله إليهم وستبقى أنت هنا لتقص قصتك. . .)
وجلس صاحبي إلى جانبي مطرقاً في سهوم، وإن خواطره لتضطرب في بيداء السنين وإن الحوادث لتشتجر في قلبه، وإن نفسه ليتنازعه عن أن يفضي إلى بذات نفسه. فقلت: (يا أخي، لا بد من شكوى. . .!) قال: (آه، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية) ثم قال: (نشأت أنا وأخي الأكبر وحيدين تجمعنا صلاة الأخوة والصداقة وتضمنا روابط الطفولة واليتم، لم نشعر بعطف الأب ولم نتنسم حنان الأم، ولنا دار وتجارة، فتكفلنا عمنا، وماله ولد ولا فيه طمع فشملنا بعطفه وخصنا بعنايته وإنه لرجل دين وقناعة، فما امتدت يده إلى درهم من مالنا ولا عبث بالضئيل من تجارتنا ولا خلبه بريق الذهب ولا استهواه شره المال، فعاش وعشنا في كنفه سنوات، ثم أصابه الكبر وعصفت به الشيخوخة على حين قد نما أخي الأكبر واشتد عوده، فقام هو على تجارتنا يصرفها ويرعاها ومن ورائه رأي عمي وتجاره وإخلاصه.
وانطوت السنون تصقل أخي وتحبوه بالمران والدربة، وأنا منصرف عن شواغل الحياة وعن رواعي العمل إلى عبث الشباب وطيش الصبا، لا يعنيني إلا أن أجد المتعة واللذة. . . وغَرَّني ما ألاقي من حب أخي ووفائه فسكنت إلى صفاء ودَّه وخالص حبه. . .
ثم تزوج هو وتزوجت أنا، ودخلت المرأة بيننا تريد أن تفصم عروة عقدتها يد الزمن، وأن تقطع آصرة ربطتها جفوة الحياة منذ أن شب كلانا عن الطوق. والمرأة شيطان جميل ينسرب حديثه الطلي إلى القلب رقيقاً في مثل نسمات الربيع اللطيفة، وهي ثعبان ينفث سموماً تتدفق في النفس في مثل حلاوة الرحيق. . . ووجدت كلمات المرأة من أخي أذناً صاغية فما تلبث أن شطر الدار شطرين، وأقام بيني وبينه جدر، لا يستطيع واحد أن يظهره. وأحسست أنا - لأول مرة في حياتي - مسَّ الأسى والحزن حين أحسست فقد أخي وهو إلى جواري.
وانجابت غشاوة من على عيني فتراءى لي ما يتوارى خلف أستار الزمان، وخشيت أن يخلو أخي إلى زوجه يلقي السمع إلى حديثها ويلقى السَّلم إلى رأيها فإذا تجارتنا شطرين مثلما أصبحت دارنا شطرين، وغبرتُ أياماً تؤرقني الفكرة وتزعجني الخاطرة، لا أستطيع(830/25)
أن أصرف نفسي عنها ولا أن أمحوها من خيالي، ثم رحت إلى أخي أكشف له عن هواجس نفسي وأنشر أمامه خلجات فؤاده فقلت: (أيْ أخي! أنا لا أستطيع أن أجحد فضلك ولا أن أنكر جميلك، فلولا ما بذلت من جهد وعناية ما زهت تجارتنا ولا ازدهرت ولا درَّت علينا هذا الرزق العميم. ولقد كنتُ في حياتي كلها أحس منك شفقة الأخ الأكبر وحنان الأب الرحيم، أطمئن إلى حبك وأسكن إلى إخلاصك. وإني لأخشى أن تسوس لك نفسك فتستقل بنصيبك في التجارة وتذرني ضائعاً، وأنا حريص على ألا تعصف بنا نوازع المادة فتتصدع وحدتنا وتنشق عصانا وتتقطع وشائج القلب وصلات الروح. وهذه تجارتنا بين يديك، هي لك كلها إن شئت ولك جلها إن أردت، وأنا قانع بما تنزل لي عنه لأنني لا أرضى بأن يشمت عدو أو أن يتشفَّى حسود).
وسمع أخي الأكبر حديثي فاستيقظ تاريخنا كله في قلبه منذ أن كنا طفلين نستشعر الذلة ونحن الضياع فترقرقت عينيه عبرات ما تتحدر وفاض قلبه بالعاطفة السامية، ثم ربت على كتفي وهو يقول (لا يزعجك هذا الأمر فإنا أشد حرصاً عليه. ولقد اقتسمنا الدار لأنني كنت أخشى أن يدب خلاف بين زوجي وزوجك أو أن يطغى ابني على ابنك فتتهدم سعادتنا وتنقض راحتنا. أما التجارة فهي لي ولك. .)
وقمت من لدن أخي وإن الفرحة لتفعم قلبي.
ومضت سنة واحدة، ثم انحط عليَّ مرض يعركني عركاً شديداً. وحبسني الداء في حجرة من الدار لا أستطيع أن أبرحها وإلى جانبي زوجي تقدم على حاجاتي في غير غضاضة ولا ملل، وأخي يغدو إليَّ ويروح وإلى جانبه طبيب وبين يديه دواء، وأنا لا أنوء بأثقال المرض، وإن زوجي وأخي بين يدي يرفهان عن نفسي شدة الضنى ويخففان عني صولة العلة، ومن بينهما طبيب. والطبيب رجل غليظ الكبد، سقيم الوجدان، واهي الرجولة؛ لا يشفي غلته سيل من المال، ولا ينقع صداه بحر من الذهب يصرفه الجشع عن الواجب، ويشغله الشره عن الإنسانية. وطالت بي العلة، فما أرمضني إلا صغاري يحومون حولي، وإن قلوبهم لتتفطر أسى ولوعة لما أعاني من ألم. ثم برئت - بعد لأي - من سقامي لأخرج للناس شبحاً ضامراً هزيلا شاحب الوجه، مرتعش اليد، منحط القوة.
ورأى أخي عجزي وضعفي فتنكر لي وانطوى عني فلا يزورني إلا لماماً ولا يحدثني في(830/26)
شأن تجارتنا إلا قليلا، وقبض يده عني فلا يبض إلا بدريهمات لا تسد حاجة ولا ترأب صدعاً. ولمست أنا فيه الجفوة والقسوة فاضطرب قلبي وانزعج فؤادي، ولكني لم أستطيع أن أتحدث إليه بأمر. ماذا أقول وأنا أوقن بأن مرضي قد كلفني فوق الطاقة استنفد الكثير من مالي، غير أن حاجات العيش ثقال ومن ورائي زوجي وصغاري يطلبون القوة واللباس ولا يقنعون بالتافه من العيش ولا يرضون بالرخيص من اللباس؛ فذهبت إليه أدفع نفسي دفعاً عنيفاً وأحملها أمراً لا تطيقه.
وجلس وجلست أنا، وتحدثت إليه بحاجتي فأعرض عني ولم يلق بالا إلى كلماتي، بل قام في أناة وتؤدة ليجمع أوراقه ودفاتره ثم لينشرها أمامي وهو يقول: لقد استنزفت أيام مرضك كل ما ادخرنا وركبنا الدين ونحن الآن نسير إلى الإفلاس في سرعة. وهذه أوراقنا تدل على صدق ما أقول) ووجمت أنا لحديث أخي، وتراءى لي أن يداً عبثت بالتجارة وعقلا عاث في الأوراق ولكن الكلمات ماتت على شفتي، واستمر هو في حديثه يقول: (والآن أصبح لا معدى لنا عن أحد أمرين: إما أن نبيع الدكان بما فيه لرجل غريب، وإما أن يشتريه أحدنا ويدفع الثمن فوراً) وصدمني الرأي صدمة عنيفة، فأخي يثق بأنني خاوي اليد والجيب وأنني أضن بتجارتنا أن تصبح في يد غريبة وأنني في حاجة شديدة إلى المال. فقلت في استسلام وكمد (خذ أنت حصتي) قال (فهي تساوي كذا وكذا يخصم منها ثمن الدواء وأجر الطبيب وهو كذا فيبقى كذا) وأرغمتني الحاجة على أن أنزل عند رأيه فكتبت له تنازلا عن حقي لقاء المبلغ الذي أراد) ثم انفلت من لدنه وبين يدي جنيهات وفي عيني عبرة وفي قلبي لوعة
آه، يا صاحبي، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية). . .
كامل محمود حبيب(830/27)
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراوي
- 2 -
بقى بعد هذا بدعة أخرى، وهي آخر ما سنتكلم عنه - جاءتنا هذه الأيام من فرنسا، وفرنسا دائماً بلد العجائب وأم البدع. هذه البدعة الجديدة وأعجب ما في أمرها أنها تدعي لنفسها عراقة نسب في التاريخ وكرم محتد في الفلسفة تسمى (الوجودية) '
وأعجب من هذا أن يظهر مثيل لهذا المذهب في ألمانيا على يد الفيلسوف الأديب نيتشه قبل القرن العشرين، ويظهر المذهب نفسه بعد ذلك على يد هيديحر في ألمانيا أيضاً؛ فلم يكد يعرفه أحد هنا حتى ظهر هذه الأيام في فرنسا على يد سارتر فسرعان ما وجدنا له أساتذة عندنا وأعواناً قبل أن يجد سارتر الأعوان والأساتذة؛ لأن فرنسا غدت بعد الحرب في فقر من الرجال كما يقول سارتر.
لا يدخلن في روعكم أن هذه الفلسفة أتت بجديد؛ فهي عين ما جاء به روسو وفولتير ومزدك والإسماعيلية وماركس: البهيمية والإباحية. . . مع اختلاف الأسماء وتزويق في الألفاظ! ولكنها على كل حال تجلت في ثوب جديد، وعرفت كذلك باسم جديد يلائم ذوق العصر وثقافته ' فلنعرف أولا ما هي هذه الوجودية ثم ليكن بعد ذلك ما يكون:
خلاصة ما فهمت من شروحهم بعد دراستي لهذا المذهب وبخاصة ما كتب زعيمهم سارتر ولا سيما في كتابيه (الوجود والعدم) ' والمتوهم '
أنهم يقابلون قسمة الكائنات الحية في الدين وعند كل الفلاسفة القائلين (بالإثنينية) إلى روح وجسد، أو إلى مثال وصورة، أو إلى جور وعرض. تتقدم الروح في الوجود ظهور الجسد، ويتقدم المثال تجسيد الصورة، ويتقدم الجوهرُ العرض، إلى آخر تلك الأشياء التي هي في واقعيتها ومعقوليتها أقرب إلى أن تكون بدائه؛ فيزعمون أنها خرافات تأصلت في النفوس بعد أن ابتليت بداء الدين العضال!!
فلو سألناهم: إذا كان هذا باطلاً حقاً يتجافى الواقع كما تدعون فعرفونا بما لديكم من أنباء الأمور الصحائح لعلنا نهتدي بهديكم، وجدناهم يعمدون إلى الغموض والتعمية وإلى المراوغة والتكايس، ولم يزد كل أمرهم على أن يقابلوا شيئاً بشيء فيضعوا لفظاً مكان(830/28)
لفظ، ويغيروا اسماً باسم، ويقلبوا وضعاً لينصبوا مكانه آخر وهكذا. . .
فيقولون إن أي كائن يتكون من شيئين اثنين هما: جِبلَّته ووجوده.
فالجبلة: هي تلك السمة التي تميز كل نوع من الكائنات عن النوع الآخر؛ فبها تتميز الأنواع.
والوجود: هو الظهور الفعلي النافذ في هذه الحياة.
ففكرة المهندس في تصميمه لآلة من الآلات مثلا هي جبلة هذه الآلة. وتنفيذ هذه الفكرة أو تجسيدها - كما في المثال المتقدم - هو وجود هذه الآلة.
من هذا نعرف أن الجبلة هي التي تتقدم الوجود؛ ولكن هذا عند الوجوديين خطأ محض إذا طبقناه على الإنسان: فلنا أن نطبقه على كل شيء إلا الإنسان؛ فإن له قانوناً خاصاً غير قانون الدين المتقدم، فهو - كما في زعمهم - خطأ!! وغير قوانيني الطبيعة؛ لأن كل قوانينها (أوهام) اختلقها العقل وقيد بها نفسه. فليس هنالك شيء اسمه القانون! ولكن لا بأس عليهم أن يلزمونا بقانون، ولا بأس علينا إذا أخذنا بقانونهم هذا فهم أئمة الهدى المعصومون! وهو: أن وجود الإنسان هو الذي يتقدم جبلته!
فلم يعد ثمة جبلة خلقها الله؛ ولكن الإنسان - وهو في نظرهم ذلك اللقى الذي قذف به في هذا العالم قذفاً من هاوية لا يدريها ولا يجب (إن كان وجودياً عاقلا) أن يفكر فيها، فما عليه إلا أن يعرف أنه هكذا وجد! - هو الذي يخلق جبلة لنفسه بنفسه حال صراعه مع الكائنات الأخرى ومع الطبيعة في سبيل الحياة. . . وما عدا ذلك أوهام وترهات!
وأود أن أطمئن من يجد في هذه النظرية شيئاً من التناقض أو الغموض بأن سارتر نفسه يعاني من هذه الحال، ويعز عليه أحياناً أن يكون هذا حظه في فهم المذهب الذي به يعيش؛ فلا يستحي أن يقول إن التناقض والغموض من أغراض الوجودية، لأنها تصوير (صادق) للحياة بما هي، والحياة كلها متناقضات ومعميات!
فإذا قلنا لهم: في أي منطق يصح هذا ويستقيم، وبأي عقل يمكن أن نسيغه أو نقبله؟ وجدنا الجواب حاضراً - فهم قوم أعدوا لكل شيء عدته، ولكل محتمل جواباً، ولا يتهافت على الهبوط إلى وكرهم للاندماج في عصابتهم إلا كل بارع في فن الجدال والمداورة، وفي فن التمويه والمكابرة - فما أسرع ما يقولون وما علينا إذا لم تفهم البقر!.(830/29)
وفي شرح هذه النظرية والدفاع عنها ألفت كتب وأبحاث. كما أن سارتر يدير مجلة في فرنسا لهذا الغرض هي (العصور الحديثة)
والشعار الذي يقدمونه لكل مطلع على مؤلفاتهم هو (الحرية) وأنهم دعاتها وحماتها. وتحت هذا الشعار - مهما خدعوا بالألفاظ المزورة واصطلاحات الشعبذة - تسير جيوش الإباحية وادعة آمنة. (أنا حر فأنا إذن موجود) هذا هو شعار القوم. ولكن الحرية هنا ليست بالمعنى الذي نفهمه معشر الشرقيين، أو الذي يفهمه معظم سكان العالم، وإنما هي من ذلك النوع الذي نادى به أجدادهم ومن هم على شاكلتهم قبل اليوم بعشرات السنين
الحرية هنا هي أن يتمتع الإنسان بكل شيء وعلى أي نحو بشرط ألا يندم بفعل أي شيء وإلا كان وجوده ناقصاً (أو كان غير موجود!) واسمحوا لي أن أكون أكثر حرية من ذي قبل حتى أستطيع أن أحدثكم عن هذه الحرية الجديدة.
ومهما يكن من أمر ما نادى به سارتر من (وجوب أن يكون الأدب صورة للقارئ) أو الكاتب أو حتى البيئة - وقد أثير ذلك في بعض مجلات مصر العريقة - فإني لم أقف على هذا متحققاً فيما بين يدي من مؤلفات سارتر ولم يكن ليهمني أن أقف عليه قدر ما كان يهمني أن أحلل هذه المؤلفات من حيث هي ومن حيث هي وسائل وضعت لغرض مخصوص هو نشر مذهب معين وأقصد به الوجودية كما يقول بها سارتر.
وما عدا الخطوط الأساسية التي هي أصول (المذهب) والتي أشرنا إليها آنفاً، فإن مما يلفت النظر - وقد أجمع جمهور النقاد الفرنسيين عليه - هو أن سارتر يفرض على نفسه دائماً أن يبرز أشخاصه الروائية وهي (تقترف عملا من الأعمال) مريباً أو غير مريب، فهذا أمر ثانوي، لأن جميع القيم المتعارفة كلها (مُتَوَهمات) - ويشرح اتجاه هذه (الأعمال) وما يجب أن تكون عليه كقاعدة مثلى للآداب عامة والوجودي منها خاصة، فيقول في بعض رواياته وهي (سبل الحرية)
(هاأنذا موجود أتذوق نفسي، إني أحس بالطعم القديم للدم وللماء الحديدي، وذوقي هو أني أتذوق بنفسي. إني أوجد والوجود هو هذا: أن أتمتع بنفسي وأرتوي منها بدون ظمأ. أربعة وثلاثون عاماً، أربعة وثلاثون عاماً أتذوق فيها نفسي، وقد كبرت - قد اشتغلت وانتظرت وبلغت ما كنت أريد: مارسيل وباريس والاستقلال، وقد انتهى كل شيء فلا أنتظر شيئاً بعد(830/30)
ذلك)
هذا الشذوذ الأعمى هو بيت القصيد في الوجودية السارترية. ولكي يهون الأمر على المضللين به أخرج قصة غاية في السخف والتهافت دعاها (الذباب) ترمي إلى إبطال الألوهية إطلاقاً وإلى إنكار القيم الاجتماعية، وبالتالي يستتبع هذا بالطبع الإباحية الهمجية حسب القانون الذي استنتجناه في أول الكلام، وحسب ما يفهم من كلامه في غير هذه القصة وإن كان يرمي إلى هذا من طرف خفي، أو من وراء حجاب بتعبير أوضح، وهذا أخطر الخطر: فلا شيء هو الإله ولا شيء هو العلم ولا شيء هو الحب أو البغض أو الغنى أو الفقر له وجود، وإنما هنالك شيء هو الوجود حقيقة ألا وهو الحرية يتمتع بها الآدميون). .
(يتبع)
إبراهيم البطراوي(830/31)
نفحة من العبقرية
(في الذكرى الثانية عشرة للرافعي)
للأستاذ أحمد مصطفى حافظ
(. . . وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو
الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالبِ من البيان)
مصطفى كامل
المرحوم، الأستاذ خالد الذكر والأثر، مصطفى صادق الرافعي أديب عبقري متفنن، ذو عقلية وضاءة مبدعة، مولدة قوية صافية خصت وتميزت باتقادها بالأحاسيس المشبوبة، والنوازع الطماحة، والأخيلة الجياشة السيالة. . . وتفردت بقدرتها التعبيرية الطيعة، التي تسمو بنا إلى أجواء رقيقة ندية. . . ننسى فيها عالمنا المادي المتطاحن. . . ونقبل عليها بكليتنا مشغوفين مأسورين فنسبح في فيض علوي زاخر، مليء بالأنغام العذاب، مفعم بأطايب نسمات الجنات
نشأ الرافعي في بيئة دينية تقية؛ تولت إفتاء مصر وقضاءها زمناً طيباً عادلا. . . ففقه النور الإلهي الغامر الباهر، واستوعب العربية وآدابها، وفنون أساليبها. . . وتعلق قلبه بسيرة سيد المرسلين، فأخذت براعته تدبج الفصول الرائعة، والآيات البينات في حبه وتقديره صلى الله عليه وسلم. . . فكانت لروعتها وسموها كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم؛ كما يقول (سعد) العظيم. وظل يعمل ويكافح في سبيل إعلاء كلمة الشرق، وتوجيه الأجيال إلى خير منهج يضمن له العز والفخار ويعيد له تراثه المضيع، ويحقق له نسبه الرائع المختلط، وكان في كل ذلك (واحد الآحاد في فنه). وكان يحمل رسالته التي أخذ على عاتقه أمر تنفيذها وتحقيقها - وإن كانت المنايا قد عرقلت الكثير من أمنياته - بقوله: (أنا لا أعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب، إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها؛ فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة. . . ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيل إلى دائماً أنني(830/32)
رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه).
فالرافعي يعد من جهابذة أعلام الإسلام الخالدين إذ كان أعلم أهل عصره وأبرعهم في تبيان فضائل القرآن، التي تتفق مع كل زمان، وتساير كل تطور. . . كان يبذل جهد الجبابرة لبعث الثقافة العربية التليدة المجيدة، وإبراز محاسن (الجملة القرآنية) الناصعة الرائعة المعجزة. كل ذلك بأسلوب رصين مكين، وعبارة مشرقة مونقة، ولفظ فخم جزل منتقى. . . يكسو معاني أرتنا النجوم والشمس حية! وجلت صدأ الأذهان وأنارتها، وفجرت ينابيع الرحمة والحنان، والإيمان والعرفان، في صحراء القلوب المجدبة! فأضاف إلى العربية كنوزاً نفيسة من الآداب الرفيعة، والمآثر الجليلة. . . الباقية على الدهر ما بقي الدهر، بل هي أبقى على الدهر من الدهر!؟ فأنت إذا ما حاولت أن تستوعب تلك المآثر وتحتويها في لب لبك، سوف تجد نفسك أمام بحر عجيب لجب، واسع عميق، يحوي كل نفيس من غالي الدرر واللآلئ، أو قل يحوي ما هو أغلى من ذلك وأنفس؟! فالدرر النضيدة، واللآلئ الثمينة تتفق مع غرره الفريدة اليتيمة في جميع المزايا؛ من حيث الندرة والنفاسة، وجمال السبك وفنية الصياغة. إلا أن الدرر واللآلئ تنقصها تلك الروح الشهية البهية، التي تترقرق حياة خلال منطقه السامق السديد المحكم!. وأنت إذا ما بحثت في تلك المؤلفات ألفيت بحوثاً شائقة رائقة، وإنشاء وصفياً حكمياً في الأدب وتاريخه وسموه وعبقرياته.
وأول مؤلفاته ديوانان من براعم الشعر وعيونه. . هما: ديوان الرافعي (في ثلاثة أجزاء)، وديوان النظرات. . . وفي شعر الرافعي يقول حافظ:
أراك - وأنت نبت اليوم - تمشي ... بشعرك فوق هام الأولينا
وأُوتيتَ النبوة في المعاني ... وما دانيتَ حد الأربعينا
فَزِن تاج الرآسة بعد سامي ... كما زانت فرائده الجبينا
وهذا الصولجان فكن حريصاً ... على ملك القريض وكن أمينا
فحسبك أن مُطْرِيك (ابن هاني) ... وأنك قد غدوت له قرينا
ونذكر بعد ذلك من آثاره أخطرها شأناً وأعزها مقاماً في عالم الأدب المعاصر؛ ونعني به كتاب (تاريخ آداب العرب) بأجزائه الثلاثة المنوعة. . . الذي تجلت لنا فيه شخصية الرافعي الشاب النابغة، والمؤرخ العالم المحقق الثقة، الذي ينيف عمره عن الثلاثين!(830/33)
ونترك أمر الحكم على هذا الكتاب الجامع، بعد أن فرغ الكرام الناقدون من هذا الأمر. . . فليرجع إليه من شاء أن يستقي الأدب عذباً فراتا سائغاً، من موارده النميرية المصفاة.
ثم كتابه (حديث القمر) وله أثر عظيم في تكوين الأسلوب الإنشائي لكثير من أدبائنا ومتأدبينا المعاصرين. . .
ثم كتبه (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر) و (أوراق الورد). وهي خلاصة آرائه في فلسفة الجمال والحب. . . وهي من أنضج الثمار لنتاج عبقرية الرجل الملهمة. . . وقد أحدثت تلك الكتب الثلاثة ضجة أدبية، إذ تمخضت عن مجادلات نزيهة صادقة معتدلة قيمة. . . ومجادلات أخرى عنيفة عقيمة، ساخطة متبرمة، قاسية مريرة!. . .
وأخيراً يأتي دور كتابيه في النقد (المعركة تحت راية القرآن) و (على السَّفُّود) وفيهما تبيان لما كان بينه وبين الدكتور طه حسين ثم المرحوم عبد الله عفيفي والأستاذ عباس محمود العقاد على الترتيب. . . ويمتازان بطابع العنف والعنفوان في أسلوبهما. إلى درجة ينكرها البعض وينفر منها، ويتحمس لها البعض الآخر ويحبذها. . .
ولا يحق لي أن أخوض غمار هذا الحديث المطوي غير الشهي.! هذا إلى شتيت من المقالات تدخل في عداد هذا اللون من أدب الرافعي، بينه وبين الكاتب سلامة موسى والدكتور زكي مبارك وغيرهما. . . ثم مقالاته المتفرقة في الصحف والمجلات، التي جمعها بين دفتي كتابه (وحي القلم) وهذا الكتاب يعد الصرح الشامخ في تراث العربية في العصر الحديث.
وجماع الأمر فقد امتازت أحاديثه، رحمه الله، بالتبحر والإفاضة والإشراق بدون إسعاف أو إضجار، وإن كان يغرق أحياناً في السبك الفني لمعانيه وألفاظه. . . وبخاصة إذا تكلم في أدب الوصف والحكمة. . .
وللرافعي أناشيد مشهورة مشكورة. . . منها الوطني الملتهب شعوراً وحماسة ونبلا، ومنها الاجتماعي التهذيبي القوي، ومنها الشعبي الصادق الساذج الفطري
وقد أكسب الرافعي فن القصة القصيرة بهاء، وأبرزه في أنصع ديباجة وأروع صياغة. . . فشق للأقصوصة طريقاً مستقيما امتاز بخصبه وقوة حججه وأسانيده المؤثرة.
ولقد ظل الرافعي على طبيعته المطمئنة الراضية، وفيا للأدب يقظاً على تراثه. . . غايته(830/34)
وهواه ومسعاه أن يستنقذ الشرق مما اعتراه من ألوان الفجور وأسباب الطيش والتبرج والضياع. . ومما نزل به من فساد في الأرض، وبوار في العرض، وعنس للعذارى - اللائي كسبن الشارع وخسرن الزوج، وانزلقن في مهاوي الرذيلة!
وقد انبرى الرافعي - وهو شبه وحيد في الميدان لا يسنده جاه ولا سلطان حزبي - إلى هدم تخرصات الدجاجلة المغررين، من شياطين الآدميين الداعين إلى مسايرة مدنية زائفة، مظهرها خالب وجوهرها كاذب.
وإن رجلا هذا شأنه، وذاك تراثه يجب على كل رجال الدين والأدب على السواء، أن يقوموا بدراسته واستيعابه وتدبره؛ فيكون لهم كمشكاة زيتها لا ينفد، ونورها لا يخبو ولا يخمد. فالرافعي حجة دينية، ومصلح اجتماعي، ولغوي علامة، وفيلسوف إسلامي مفكر بعيد الغور في الأدبين القديم والمعاصر.
ولقد أطلت الكلام قليلا عن أدبه الديني، لأنه عندي أعلى وأرقى أدب للراحل الكريم طيب الله ثراه؛ ولأن النفس تستريح به وتستريح إليه. . لأنه لسان القرآن الفصيح الذي جلى معانيه وبرهن على إيجازه المعجز، وإطنابه الصافي الوافي الذي لا يلحق
وختاماً أكرر ترحمي على الرافعي الذي مسح الدمع عن أعين (المساكين) وسكب الدر في أفواههم. . . كما أشكره وهو في دار الخلد، على اللذة العقلية التي أورثنيها خلال قيامي بدراسة آثاره. . . وهذه الكلمة اعتراف مني بجميلة، وتقدير خالص لفضله على العرب والعربية. يرحمه الله.
أحمد مصطفى حافظ
محرر بمجلة المدينة المنورة(830/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلة القراء في حياتنا الأدبية:
في الأسبوع الماضي سألني أديب فاضل من الإسكندرية: لماذا لا تخرج كتاباً في الأدب أو الفن أو النقد تمدنا فيه بمثل هذه الأفكار التي تطالعنا بها في مقالاتك وتعقيباتك؟ وكان ردي عليه أنني فكرت في هذا الأمر أكثر من مرة ثم خرجت من هذا التفكير بأن الإحجام خير من الإقدام، لماذا؟ لأن هناك مشكلة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية، هي مشكلة القراء في هذا الجيل!
إنني لا أعدو الحق إذا قلت إننا نعاني أزمة في القراء قل أن نجد لها مثيلا في بلد آخر غير مصر. . . وحين أقرر هذه الحقيقة الماثلة للعيون والأذهان، أقررها وأنا أعني هذه الطبقة من القراء الممتازين في محيط الأدب والفن، أولئك الذين يسعون وراء القراءة إيثاراً للعلم وشغفاً بالتثقيف. أما تلك الطبقة الأخرى من قراء الصحف الإخبارية والأدب السهل الرخيص، أولئك الذين ينشدون الفكرة العارية والصورة العارية فهم ألوف والحمد لله!
ومرة أخرى لا أعدو الحق إذا قلت إن القراء في مصر قد حد من طموحهم قصور في الثقافة العامة، وتمكنت من نفوسهم سموم في الصحافة اليومية، وعصف بأناتهم عصر السرعة وما يجر وراءه من جناية على العقول والأذواق. . . هذه هي الأمور الثلاثة التي تشل حركة التثقيف في مصر وتدفع بها إلى الوراء بدلا من تدفع بها إلى الأمام!
أما قصور الثقافة فنسأل عنه برامجنا التعليمية حين تلمس طابعها في هذه الأمية الفاشية بين صفوف المتعلمين، وأما سموم الصحافة فيسأل عنها فريف من الكتاب هبط بالفكر إلى مستوى رجل الشارع بدلا من أن يرفع رجل الشارع إلى مستواه، وأما عصر السرعة فيسأل عنه السائرون في ركابه القانعون بالسطوح فراراً من الأعماق!
نظرة متأملة إلى الطرقات والمحال العامة تكشف لك عن ألوف الأيدي الفارغة من كتاب مفيد، وجولة متأنية في المنتديات ودور العلم تطلعك على ألوف الأذهان الفارغة من فكر عميق، ودراسة متغلغلة في صميم مجتمعنا المصري تقنعك بأن وقت المتعلمين يتسع لخمسة أَيام تنفق بين ملهى وملهى ويضيق بخمس ساعات تنفق بين كتاب وكتاب. . . أما(830/36)
ميزانية هؤلاء المتعلمين فتضن بعدد من القروش هنا وتجود بعدد من الجنيهات هناك! ولا تعجب بعد ذلك إذا امتلأت على سعتها دور السينما وخلت على ضيقها دور الكتب، وإذا ماجت بالفارغين أسواق اللهو وأقفرت من الوافدين أسواق الفن!!
حتى أولئك الذين يقرئون في مصر قد أصبحوا قراء مقالة! إن أعصابهم لم تعد تحتمل عناء البحث العميق يتشعب فيه التحليل والتعليل، ولا مكاره الكتاب الضخم تتعدد فيه الفصول والأبواب إنهم يريدون مقالاً خفيفاً لطيفاً يفرغون منه على القهوة مع فنجان الشاي، ويلهون به في الترام عن طول الطريق، ويفزعون إليه في مقر العمل من فراغ الحياة!
إن أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة كتاباً للفيلسوف الفرنسي سارتر عنوانه (الغثيان) وطبعته الثامنة والثلاثون. . . ولا تنس أن في كل طبعة من هذه الطبعات ألوفاً من النسخ يتلقفها ألوف من القراء! هذا في فرنسا وغير فرنسا من البلاد الأوربية، أما في مصر فتعال نسأل الكتاب عن موقفهم من دور النشر، وتعال نسأل القائمين على دور النشر عن موقفهم من الكتاب. . . إعراض من الجمهور القارئ عن شراء الكتب يتبعه في الكثير الغالب إعراض من الناشرين عن الطبع، وتكون النتيجة هذا الركود الذي لا يجدي معه الإنفاق على إخراج الآثار الأدبية من أموال المؤلفين.
ولقد نسيت أن أحدثك عن مشكلة أخرى تدخل في نطاق هذه المشكلة الرئيسية؛ وأعني بها مشكلة هذه الفئة من عشاق الإطلاع على حساب الغير. ترى كم يجني على المؤلف المصري هذا القارئ الذي يدفع من جيبه عشرين قرشاً ثمناً لكتاب من كتبه ثم يدفع به آخر الأمر إلى عشرات الأصدقاء من هواة الاستعارة الشخصية؟! إن أبلغ ما يمكن أن يساق إلى أمثال هؤلاء المتطفلين على موائد الأدب والمتعدين على حقوق الأدباء، هذه الكلمات التي قرأتها عن كاتب من كتاب الغرب قدم لأحد مؤلفاته بهذا النداء الساخر العميق: (أيها القارئ. . . أرجو أن لا تعير هذا الكتاب لأحد! إنك إن فعلت فقد سرقت مني قارئاً)!!
على ضوء هذا كله أرى الإقدام على إخراج كتاب في هذه الآونة مغامرة غير مرجوة الفائدة ولا مأمولة العواقب. . . وما دام عشاق الأدب في مصر قد طبعوا على هذا اللون الموجز من القراءات فلا بأس من أن ألتقي معهم كل أسبوع في رحاب هذه التعقيبات؟(830/37)
هجوم عنيف على الصحافة المصرية:
لا أراني مبالغاً حين أقول إن الصحافة المصرية تسف كثيراً وتسمو بنفسها قليلاً، وإنها لتعرف قوتها ومصادر هذه القوة، ولكنها تسيء استعمالها؛ فهي يندر أن تحاول رفع الجمهور إليها، ولا تتحرج من أنت تنزل إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين ومن أنصاف الأميين أو أنصاف المتعلمين، على حد قول المتنبي:
فيابن كروس يا نصف أعمى ... فإن تفخر فيا نصف البصير!
ولا أدري ماذا يرجى لأمة ثقافة جمهورها الأكبر من هذا النوع الرخيص؟ ولست ترى فيها أكثر من تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق وصور الفتيات كاسية أو عارية، بلا أدنى مناسبة؛ وعلى الجملة كل ما يمكن أن يغري القارئ الفارغ باقتناء الصحيفة أو المجلة والإقبال عليها والتزود بما فيها. إن الله جميل يحب الجمال؛ ولكن الجمال معنى أوسع من أن يقصر على الوجوه المليحة المصنعة، والقدود الرشيقة الممشوقة؛ وإنه لإفساد لعقول الشعب، وتضييق لأفقها، وتشويه لمعنى الجمال عنده أن تلح عليه الصحف بهذه الصور التي يراها على كل صفحة تقريباً؛ ولا مسوغ لنشرها سوى الرغبة في الفتنة والإغراء!
أما البحوث فهي في الأغلب والأعم ملهوجة، أي مسلوقة غير ناضجة، والآراء التي تبسط خطيرة، تقل فيها الروية والتقدير السليم المنزه عن الهوى؛ وكثيراً ما ترى الرأي ينشر لا لأنه هو الصواب أو الذي حصل به الاقتناع، بل لأنه الخليق أن يعجب العامة ويرضيهم!
إننا نريد من صحافتنا أن تسمو بنفسها ولا تسف، وترفع الجمهور إليها ولا تهبط إليه، وتتقي أن تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، وتتوقى المصلحة العامة ولو بشيء من التضحية، وتحترم المسئوليات، وتحرص على التثقيف - مع التبسيط - لا على التهريج؛ وتدرك إدراكاً صحيحاً عميقاً أنها أداة خير جزيل إذا أحسنت استخدام قوتها، وأنها تصبح أداة شر وبيل إذا أساءت هذا الاستخدام!!
هذه الكلمات القوية الملتهبة الصادقة الموجِّهة ليست لي؛ ولكنها للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (أخبار اليوم) منذ أيام. . . إن أروع ما فيها أنها تقرر الواقع في قسوة تخلو من التجني وعنف يسمو على المغالاة، ولكن أين كان المازني منذ زمان؟ ولماذا لم يتناول قلمه قبل اليوم ليعرض للمشكلة الخطيرة بالدرس والعلاج؟! وفيم كانت هذه الإغفاءة(830/38)
الطويلة والداء يسري والأزمة تتفاقم والألسنة تضج بالألم والشكوى والصراخ؟ مهما يكن من شيء فإننا نشكر للأستاذ هذه الغيرة تعلى الأوضاع المهدرة وإن جاءت متأخرة؛ ونحمد له هذه الثورة على القيم المشوهة ولا نعفيه من تحمل بعض المسؤولية ومن تقبل بعض العتاب!
لقد كان المازني قاسياً وعنيفاً وصريحاً في ثورته على الصحافة المصرية، فهل يأذن لي أن أكون على شيء من قسوته وعنفه وصراحته حين أنسب إليه بعض المشاركة في هذه الأوضاع التي يهاجمها في غير رفق ولا هوادة؟!. . .
معذرة يا سيدي، فإنا لا أظلمك حين أقول لك إن طريقتك في الكتابة - منذ سنين - لا ترضيني، إنك حين تأخذ على الصحافة إغراقها في تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق والصور العارية، تنسى أنك كثيراً ما تقدم لقرائك مادة فكرية يشهد الله أنك تهبط بها إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين دون أن تحاول رفعهم إلى مستواك. . . ترى أتذكر ذلك المقال الذي كتبته منذ شهور تحت عنوان (لو أصبحت امرأة)؟! ذلك المقال الذي تخيلت فيه بعض شيوخ الأدب من أمثال طه حسين وهيكل والحكيم في صور نسائية خلعت عليها ما يناسبها من أسماء. . . فهذا (توحة)، وذاك (علية)، وذلك (ميمي)، وغير ذلك مما أذكره هنا على سبيل المثال؟!
هل يستطيع الأستاذ المازني أن يدلني على القارئ الذي يمكن أن يستفيد ويتثقف من أمثال هذه الفكاهات؟!
ومن العجيب أنه يهيب بالصحافة ألا تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، هو الذي كتب مرة مقالا عن بائعة برتقال أدار فيه الحوار حول أمور جنسية يمنعني من الإشارة إليها وقار (الرسالة)!
أنا والله يؤسفني أن أهاجم المازني، هذا الرجل الذي لمست أدبه وظرفه وتواضعه يوم أن لقيته في مكتب الأستاذ توفيق الحكيم. . . ولكنني لا أستطيع أن أنسى الحق في غمرة هذه الفضائل التي تكشفت لي منها في ذلك اللقاء!
هذا الرجل العظيم وزير المعارف:
يخيل إلي أن ليس هناك من يبلغ بهذا الرجل مبلغ إعجابي به. . . إنه مثل أعلى في(830/39)
سماحة الخلق ورحابة الأفق وصفاء الضمير. مثل أعلى يجب أن يحتذيه الشباب في أيامهم المقبلة والشيوخ في أيامهم الموشكة على الذهاب!
إن معالي الأستاذ علي أيوب يفتح في سجل الكرامة العقلية صفحة جديدة لم يرها المصريون منذ أمد بعيد. . . صفحة أقل ما يقال فيها إنها مفخرة في ميزان أنصار العهود وأرباب المناصب وأصحاب السلطان. وإلا فمن يدلني على رجل آخر غير علي أيوب قد واجه نداء العاطفة بمنطق العقل، ولقي غواية المنصب بترفع العظيم، وبدد ظلام الحزبية بهذا الضوء الباهر من كرامة القومية؟!
معدن نفسي كريم ما في ذلك شك، معدن هذا الرجل الذي أجمع على نفاسته الخصوم قبل الأصدقاء. . . إنني أشيد بذكره هنا لأنه كرم الأدب والعلم في أشخاص أدباء تربطني بهم صلات من الفكر والروح؛ أدباء لا أرى حرجاً في القول بأنهم يخالفونه في أهوائه السياسية وميوله الحزبية، وهذا هو الخلق القويم الذي يندر أن تجد له مثيلاً في هذا العصر الذي نعيش فيه!
جاشت في نفسي هذه الخواطر وأنا أقرأ عن الرجل العظيم هذه الكلمة الطيبة منذ أيام في إحدى المجلات الأسبوعية: (لا شك في أن معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف معلم عظيم، يؤمن بما كان أرسطو (المعلم الأول) يؤمن به، وهو أن الخير مصدر العلم كله. فهو يفتح ذراعيه لرجال الأدب والفكر ممن خاصمهم غيره من الوزراء السابقين، ويعيدهم إلى أعمالهم، أو يكرمهم لوجه الخير العام وحده. . . لقد بدأ الوزير عهده بهذا التقدير الرفيع للأدب والعلم في شخص الدكتور طه حسين، ثم أعاد إلى خدمة الدولة الشاعر المبدع علي محمود طه والكاتب المعروف محمد سعيد العريان. وآخر مأثرة له في هذا الباب تعيين الدكتور زكي مبارك في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية.
هذه روح كريمة ينبغي أن نسجلها لأننا في حاجة إلى كثير من هذا التسامح المحبب الذي ينسى كل شيء في سبيل المصلحة العامة والذي يضفي على حياتنا المصرية روحاً من الحب السامي نحن أحوج ما نكون إليها. . .)
هذا ما قالته مجلة (الاثنين) في معالي الأستاذ علي أيوب، وإنها لكلمات تشير في مجال الحديث عن مزاياه إلى قليل من كثير!(830/40)
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
رسالة مطولة من (السويس) تناقشني فيها الآنسة الفاضلة ع. عبد الرحمن حول ما كتبته عن حقوق المرأة المصرية. . .
يا آنستي، أشكر لك هذه الغيرة الصادقة، ويؤسفني أن أقول لك إن رأيي الذي سبق أن أدليت به يعززه الإيمان والدراسة، فلا تحاولي أن تقنعيني بعدالة قضية تفتقر إلى كثير من عناصر الإقناع! وهذه رسالة أخرى من (الخرطوم - سودان) أشكر لمرسلها الأديب الشاعر محمد مجذوب كريم تقديره وعاطر ثنائه، ويسرني أن أبعث إليه في القريب برسالة خاصة أجيبه فيها عن بعض ما سألني عنه. أما الرسالة الثالثة، فمن (الناصرية - العراق) يعرض فيها الأديب الفاضل عبد الكريم الأمين مأمور مكتبة المعارف العامة لبعض أقوال الأدباء المصريين في مذهب الرمزية، من أمثال الأساتذة الزيات والعقاد وأبي حديد، ثم يطلب إلي أن أعقب على أقوالهم، وأن أتحدث عن هذا النوع من الأدب، ومتى نشأ، وإلى أي حد تأثر الأدباء العرب بأصوله ومناهجه. . . الحق أن الجواب عن هذا كله يحتاج إلى بحث طويل لا تتسع له (التعقيبات)، ومع ذلك فإنا أرجو أن أتحدث عن هذا المذهب الأدبي يوماً ما في بحث يخصص له. ورسالة رابعة من (عدن) أشكر لمرسلها الأديب الفاضل علي باذيب جميل ثقته وحسن ظنه، أما هديته القيمة فكان لها أبعد الأثر في نفسي، ولا يسعني إلا أن أستجيب لرغبته في رسالة خاصة.
بقي أن أبعث بخالص التحية إلى الأديب الفاضل س. ع الطالب بكلية الهندسة بجامعة فؤاد رداً على تحيته الكريمة. وأود أن أطمئنه على أنني ما زلت عند موقفي من حقوق المرأة المصرية. أما الأديب الفاضل محمد محمود حسنين الطالب بكلية الآداب بجامعة فاروق فنصيحتي له أن يترك ما لا يحسن فهمه إلى غيره مما يحسن فهمه، وحبذا لو انصرف عن التوافه إلى استذكار دروسه!
أنور المعداوي(830/41)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
مجمع سلامة موسى للغة العامية:
في مجمع فؤاد الأول للغة العربية الآن، كرسيان خلوا بوفاة الدكتور محمد شرف بك والمستشرق الألماني الدكتور فيشر، وقد فتح باب الترشيح لهما، فتقدم عضوان من أعضاء المجمع، هما سعادة عبد الحميد بدوي باشا والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، بترشيح سعادة واصف غالي باشا ليملأ أحد ذينك الكرسيين. وحدث قبل ذلك أن كتب الأستاذ سلامة موسى إلى بعض أعضاء المجمع يطلب ترشيحه للعضوية، ويقول إن سعادة واصف غالي باشا يزكيه.
وتدل تلك الرسالة التي كتبها الأستاذ سلامة إلى عدد من أعضاء المجمع، على أنه غير واقف على حقيقة ما يتبع في انتخاب الأعضاء، فإن تزكية أحد من غير الأعضاء ليست سبباً إلى الترشيح للعضوية، وإنما يجب أن يرشحه عضوان ويقدما مسوغات الترشيح من إنتاج المرشح ومؤلفاته.
ولنفرض أن اثنين من الأعضاء أرادا أن يرشحا الأستاذ سلامة موسى، فماذا عساهما أن يقدما للمجمع من مسوغات هذا الترشيح؟ إنهما لا بد يقعان في حرج شديد بالغ الشدة ما كان أغناهما عن أن يتورطا فيه، فالأستاذ سلامة دائب - منذ أمسك القلم - على مهاجمة اللغة العربية والأدب العربي والثقافة العربية على العموم، والمجمع مهمته الأولى المحافظة على سلامة اللغة العربية، وهو يعمل على تنمية الثقافة العربية، ويشجع الباحثين في الأدب العربي، بل إن هذا الأدب الذي لا يعجب الأستاذ سلامة هو معين اللغة التي يتسمى المجمع باسمها ويقوم عليها.
ماذا يقدم العضوان اللذان يجازفان بترشيح الأستاذ سلامة؟ هذا كتاب يأخذ عنوانه النظر لقربه من موضوع الترشيح، وهو (البلاغة العصرية واللغة العربية) وهو كسائر مؤلفات الأستاذ سلامة يحتوي (أفكاراً حرة) مما يقذف به هذا (المفكر الحر) كما يقول الذين يشيعون عنه هذه الشائعة.
يهجم الأستاذ سلامة في كتابه هذا على اللغة العربية ويعيب أدبها ويدعو إلى اللغة العامية،(830/42)
يقول مثلا: (وقد التفت إلى عبارة قالها الأستاذ عباس محمود العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون، على غير ما يحب، إلى اللغة العامية. وقد حسب عليهم هذه الدعوة في مقدمة رذائلهم. لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت) ومعنى هذا أن الاشتراكيين في مصر يدعون إلى اللغة العامية، على ما يحب الأستاذ سلامة الذي يعتز بفضيلة اللغة العامية ويريد أن يؤلف بها عن غير خالد بن الوليد وحسان بن ثابت، لأن الكتابة عنهما وعن أمثالهما - في رأي المفكر الحر المزعوم - من أسباب تأخرنا!. . . لا يا شيخ!
ويقول بعد قليل من تلك الفقرات إن ارتباط اللغة بالتقاليد والعقائد هو سبب التبلد والجمود في اللغة، وإن الدعوة إلى غير ذلك هي إحدى الغايات التي قصدها من تأليف الكتاب، وهو يدعو في مواضع مختلفة من الكتاب مرة إلى دفن اللغة العربية، ومرة إلى إلغاء الإعراب والمترادفات فيها، ومرة يرى أننا بحاجة إلى لغة المجتمع لا إلى لغة القرآن، ويقرن ذلك أحياناً بحرية المرأة والتقدم الصناعي! إلى آخر ذلك الخلط العجيب الذي يتفنن به من يشيعون عن الأستاذ سلامة أنه مفكر حر. وتلك عينه من أفكاره الحرة!
نرجع إلى مجمع اللغة العربية وترشيح الأستاذ سلامة موسى لعضويته، لنتساءل: هل تتفق تلك الأفكار الحرة وهذه العضوية؟ أنا لا أنكر على الأستاذ سلامة أن يكون عضواً في مجمع، ولكن أي مجمع؟ هو بلا شك مجمع للغة العامية، بل أنا أرشحه لرياسة هذا المجمع العامي، وهذه مسوغاته. وليس هذا فقط فالرجل جدير بالتخليد، ولذلك يجب أن يسمى المجمع باسمه فيقال (مجمع سلامة موسى للغة العامية).
الفن (في أجازه):
أربعة من الأصدقاء جمع بينهم سوء الحال وبؤس العيش، اتفقوا على أن يهجروا أعمالهم التي يزاولونها ويلقون فيها الشقاء ويكونوا عصابة للسرقة، وانضمت إليهم فتاة راقصة. واختاروا مدينة الأقصر مجالا لعملهم الجديد، حيث يكون هناك الأغنياء في موسم السياحة. ويلاحظهم في الفندق الذي نزلوا به رجل غني مولع بقراءة الروايات (البوليسية) فيهتم بأمرهم، ويشجعهم على الاتصال به وخاصة الفتاة الراقصة التي تعرف أن لديه تمثالا من الذهب فتحتال لسرقته، ثم يضبطها وهي تسرقه فيهددها ثم يعفو عنها على أن تعاونه على(830/43)
ما اعتزم من التدبير نحو زملائها الأربعة. ويرتب الأمر بعد ذلك على أن يوهمهم أن صاحبتهم قد ماتت، ويتراءى لهم روحها فيهتف بهم أنهم سيلحقون بها عما قريب، ويدبر لكل منهم حادثة يوقن فيها أنه مات، ويرمي به إلى كهف أعد ليكون (جهنم) يأكلون فيه البرسيم والتبن والشعير، ويسامون فيه بعض العذاب، ثم يفزعون برؤية (الزبانية) يتراقصون من حولهم. وأخيراً يبدو لهم الرجل الغني فيقول لهم إنهم ليسوا أمواتاً كما وهموا. بل هم أحياء عنده يعذبون لسوء أعمالهم، ثم يعظهم ويرشدهم ويتلو عليهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. . . وكنت عندهم في سينما الكورسال وجيت. وأكلت ورك الديك. كما كانوا يقولون لنا في نهاية (الحواديت) ونحن صغار.
تلك هي حكاية فلم (أجازه في جهنم) التي وضعها يوسف جوهر، وقد أخرج الفلم عز الدين ذو الفقار، ومثل الأربعة الأصدقاء حسن فايق وإسماعيل يس وكمال المصري واستفان روستي، ومثل الرجل الغني عباس فارس واسمه في الفلم (أدهم بك) أما الراقصة فهي سامية جمال.
وهو فلم فكاهي كما زعموا، فقد اجتمع فيه جماعة من أبطال التمثيل الفكاهي في مصر؛ ولكن ما هدف الفلم وما موضوعه؟ وهل تكون الفكاهة في الهواء؟ هناك في آخر الفلم يقف أدهم بك على منبر بجهنمه ليبين للمعذبين أن الشرف والاستقامة مع الفقر أحسن مما لجئوا إليه وأنه خير لهم أن يتوبوا ويعودوا إلى أعمالهم الشريفة الأولى. ويذكرني هذا بما كنا نقرأه في كتب المطالعة المدرسية القديمة في ختام كل حكاية: من مثل (والمقصود من هذه الحكاية أن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل).
أما حوادث الفلم فلا تعرض إلا الاعوجاج ومجانية الشرف، ولم تعرض عواقب طبيعية لذلك حتى تستخلص العظة من الوقائع وليس مما يقع في الحياة أن يكون جزاء السارق والمحتال في الدنيا عذاب الآخرة. . . فأحداث القصة خلط بين الحياتين لا هدف له إلا الإضحاك؛ وحينما يصل الأمر إلى مجرد الرغبة في الإضحاك يؤدي إلى شيء آخر غير المراد؛ وهو الإشفاق على القائمين بالأمر لإخفاقهم فيما قصدوا إليه. . وتتركز آفة القلم في هذا القصد؛ فقد جعل منتجوه نصب أعينهم أن يخرجوا فلماً فكاهياً فحشدوا أبطال الفكاهة، وأوصوا المؤلف أن يضع لهم قصة تميت من الضحك، فأمات الأبطال وألقى بهم في(830/44)
الجحيم لكي يضحك الناس. واتجه المخرج أيضاً نحو هذه الغاية، فضحى في سبيلها بكل قيمة فنية، وأظهر مناظر الفلم كأنهم في عالم غير عالمنا ولست أدري في أي مكان من القاهرة تقع القهوة التي يغني فيها أحد المغنين فيرميه المستمعون بالحصى والأحجار؟ وكيف يسافر أربعة من الفقراء ذوي الحرف إلى الأقصر في عربة نوم فاخرة بالقطار ولما يسرقوا شيئاً بعد؟ وكيف يجلس رجل في ردهة فندق كبير والناس من حوله وقد خرق الصحيفة التي يتظاهر بقراءتها خرقاً واسعاً ليرقب منه أفراد العصابة الجالسين على كثب منه ويستدعي سكرتيره ليشاركه النظر من الخرق؟ وكيف يتصور الإنسان في فندق فخم أن يكون بالجدران بين الغرف ثقوب يرى منها الناس بعضهم بعضاً؟ هذه أسئلة على سبيل المثال فقط؛ تبين ما في الفلم من (خروق) واسعة وقع فيها من قاموا به، لا لشيء إلا للإضحاك. . . وقد كنا نستطيع أن نضحك تصنعاً من أجل (خاطرهم) لولا أنهم في أثناء العمل به سرحوا الفن ومنحوه (أجازه).
ولا يمنعني ذلك أن أذكر إجادة الممثلين على قدر ما هيئ لهم وفي حدود القالب الذي وضعوا فيه، غير أن (استفان روستي) كان جامد الحركة، قليل التعبير، وكان الفرق واضحاً بينه وبين زملائه الثلاثة، وكان عباس فارس موفقاً في دور (أدهم بك) ولكنه بدا ثقيل الظل في خطابته الأخيرة؛ أما سامية جمال فهي في الفلم فتاة جميلة بارعة الرقص وكفى. . .
وقد صاحب بعض مناظر الفلم، قطع موسيقية جيدة، كالقطعة التي صاحبت إسماعيل يس وهو يندب نفسه حين يتوهم أنه مات، وقد وفق واضع هذه القطعة في تصوير جو المآتم المصرية، وكان إسماعيل يس يوقع عليها ندب نفسه توقيعاً ظريفاً.
يقولان لي:
يقول الأديب عبد العزيز سالم بعد استنكار ما كتبه التابعي عن أسمهان في (آخر ساعة): (وقد مات المراغي كما مات مصطفى عبد الرازق فلم تظفر حياتهما بشيء من تقدير حياة أسمهان، الآن أسمهان أفادت الفن وخدمت الغناء أكثر مما خدم المراغي الدين ومصطفى الأدب والفلسفة؟)
وأقول: لكل صحيفة أو مجلة لونها الخاص، وما كتبه التابعي يلائم لون (آخر ساعة)،(830/45)
وليست المجلات مرفقاً من مرافق الدولة، وإنما هي بضاعة تعرض للراغب فيها. وليس لأحد - كما أرى - أن يقول إن مجلة كذا تشغل صفحاتها بكذا، لأنها هي تريد أن تكون كذلك، وما عليك إذا لم يعجبك ما فيها إلا أن تبحث عن غيرها. ثم ما ذنب التابعي إذا كان أصدقاء المراغي ومصطفى عبد الرازق لم يفوا لهما بمثل ما وفى التابعي لصاحبته؟
ويسألني الأديب (السيد عوض محمود الجعفري بمعهد فاروق الأول بقنا) عن مجلة (الرواية)، وعن انقطاع الأساتذة: سيد قطب، وشاكر، والطنطاوي عن الكتابة؛ والسؤال الثالث: (هل يجب على من تنشر له مقالة، أو قصة، أو رد على سؤال، أن إصلاح كلمة في مقالة، أو أي شيء - أن يكون من المشاهير؟)
أما (الرواية)، فقد تأخر ظهورها لما أشار به الأطباء على الأستاذ الزيات من الاحتياط لاستكمال الصحة ببعض العلاج، ولانقضاء موسم النشاط وحلول الصيف. والمأمول بعد ذلك أن تتحقق آمال عشاق القصة الرفيعة في (الرواية).
وأما السؤال الثاني، فيحال إلى الأساتذة المسؤول عنهم، ولعل الأستاذ سيد قطب قد أجاب إجابة عملية كما رأيت في عددين ماضيين من (الرسالة) ولعله يجد مندوحات من مهام بعثته فيبعث بنفحاته الشرقية من ذلك العالم الغربي.
وأما الإجابة عن السؤال الثالث فقد فصلتها في العدد (790) من الرسالة ولا داعي للتكرار.
عباس خضر(830/46)
البَريدُ الأدبيّ
تصحيح:
في الجزء الخامس من المجلد السابع لمجلة الكتاب كتب الدكتور مصطفى جواد - من بغداد - مقالاً تحت عنوان (ناصر الدين شافع الكَناني) وهو أحد المؤرخين من ذوي الآثار المغفلة. وقد عرض لي في تضاعيف مقال التعريف بهذا المؤرخ الأديب أمور أجملها فيما يلي:
نقل الكاتب المؤرخ ما جاء في الورقة 16 هو ما نصه: (. . . وطهر منهم البلاد، وأمن من عدوانهم العباد، وأحدهم (كذا) عن آخرهم) وأقول: إشارة الأستاذ الكاتب ب (كذا) لا تغني شيئاً عن الصواب الذي ينشده الكاتب فيما يكتب والقارئ مما يقرأ. . . وحين تقصر المراجع عن الإفادة بالأصل لا يبقى لدى الكاتب والمحقق على الخصوص غير الاجتهاد. وعندي أن أصل الكلمة إن لم يكن (وأبادهم) فهو (وأخذهم) بالخاء والذال المعجمتين، والمعنى أنه أذهب ريحهم وشتت شملهم وجعلهم في الأرض بدداً أي أنه أخذهم - مع الفارق - أخذ عزيز مقتدر.
وجاء نقلاً عن هذه الورقة أيضاً: (ووصل إلى غازان ملكهم ما ساءه من خبرهم وأيس من (صدرهم) قلت: وصواب الكلمة (صدهم) بحذف الراء على الأرجح، ويرجح هذا ما جاء بعده (وأخذ في ترقيع جيشه ولا يترقع، وفي لم شعثه هذا وما في قوسه مرمى ولا في سهمه منزع).
وورد أيضاً: (ولم يصل إليه منهم إلا اليسير (أو) جريح أو مذعور). قلت: ليس ل (أو) هذه مكان في جملة الخبر، وصوابها (من) الجارة وبها يستقيم الكلام.
وجاء أخيراً ما نصه: (. . . تجوس بلاده وتعرف (طارده) وتلاده. .) قلت: الصواب (طارفه) بالفاء وهو ضد التالد والتلاد. على أن لجملة (طارده وتلاده) الواردة تخريجاً آخر ولكنه بعيد المراد، ولا أظن صاحب الرسالة قصد إليه، وإن جار القصد إليه من طريق غير هذا الطريق.
وبعد فما رأيناه أجملنا صواب هناته مجتهدين، ونرجو أن يكون في هذا الاجتهاد السداد، والسلام.(830/47)
(الزيتون)
عدنان
الضبع مؤنثة:
كتب محرر بالمجمع اللغوي (يثبت) تذكير الضبع على أسلوب عجيب في التحقيق اللغوي، فقد اكتفى بنقل (ضعيف) عن المصباح المنير فيه إحالة على مجهول، إذ قال: (وهي أنثى) - وقيل - تقع على الذكر والأنثى، ثم أراد (المحرر) التوهيم فنقل ما في (الإفصاح) في رواية غير مؤيدة بشاهد عن (المبرد).
وما ساقه بعيد عن التحقيق في إيراد (المسموع)، فإن دوران الكلمة يحقق مدلولها الوضعي ما لم تعارض بنص سماعي، وهو - كعادته - يعتمد على النقل من المعاجم من دون استعمال المقايسة، وصنيعه ليس شيئاً يعطي الإفادة، ونحن لا زلنا نؤثر تأنيث الضبع، فقد ورد: (فإن قومك لم تأكلهم الضبع).
وفي نظرة إلى ميسرة نأمل بعد التأمل سياق شاهد على التذكير
(بورسعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
العمل الأدبي أيضا:
كتب الأديب صبري حسن علوان بالعدد 828 من الرسالة الغراء معقباً على تعريف الأستاذ أحمد أحمد بدوي للعمل الأدبي بأنه التعبير عن تجربة للأديب، بألفاظ موحية؛ فقال (قد لفت نظري هذا التعريف إلى ما عرف به الأستاذ سيد قطب العمل الأدبي في كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) أنه (التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية) ثم قال المعقب (ولعل التعريف الثاني أعم وأوحى) والمهم هو هذا التذييل الأخير فإنه كما يبدو يدل على أن المعقب غير متأكد في تحقيقه العموم في التعريفين. والحقيقة أن تعريف الأستاذ أحمد بدوي أعم من التعريف الآخر لأنه لم يقيد التجربة بوصف يحد من نطاقها فصح أن تطلق على التجربة الشعورية وغيرها؛ أما الأستاذ قطب فقد قيد التجربة(830/48)
(بالشعورية).
(الإسكندرية)
أحمد محمود عرفه
1 - راق له
تعبير عربي صحيح فقد جاء في الأفعال لابن القوطية طبع أوروبا ص110 ما نصه:
راق الشيء أعجب، والشراب صفا. أهـ.
وجاء في مقاييس اللغة (الراء والواو والقاف) أصلان يدل أحدهما على تقدم شيء والثاني على حسن وجمال أهـ.
ومن هذا يظهر لك صحة استعمال قولهم راق له وراق في نظره.
أليس هذا مثل قولهم حلا له وساغ له وصفا له.
2 - الكساء والكسوة:
خطأ أحد أفاضل المدرسين استعمال الكساء بمعنى الملبوس مطلقاً، لأنه ثوب بعينه وهو نحو العباءة من الصوف، واقترح استعمال الكسى جمع كسوة لأنها كل ما يكتسي به، فيقال الغذاء والكسى الخ.
وهذا ليس بصحيح؛ فقد جاء في المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ما نصه: الكساء والكسوة اللباس. أهـ.
ولا يخفى أن الكساء ألطف من الكسى، حتى أن القدامى عدلوا عنها إلى الكساوي كما نقول الرشاوى والقهاوي.
3 - الأشقياء:
خطأ أحد المدرسين استعمال الأشقياء بمعنى المجرمين والجناة واللصوص، لأن الشقي خلاف السعيد، وأقول إن هذا الاستعمال صحيح بل فصيح لأنه استعمال مجازي. ألا ترى أن المجرم ونحوه غير سعيد؟ ومعاني الشقاء وهي البؤس والشدة والعسر والتعب ونحوه متوافرة فيه؛ بل هو شقي الدارين: شقي في حياته وشقي بعد مماته.(830/49)
علي حسن هلالي
المجمع اللغوي
حول كتاب (المنصف):
سقطت سهواً أثناء جمع القسم الأول من كلمتي عن كتاب (المنصف) لابن وكيع المصري جملة لا مناص من ذكرها، وهي: (وعند صديقي الدكتور خليل محمود عساكر المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول صورة من هذه النسخة الفريدة ظفر بها قبيل الحرب الأخيرة بأيام قلائل، وقد كتب على الصديق الفاضل أن يظل في ألمانيا مدة الحرب كلها).
وإني أنتهز فرصة هذا التصويب وأتوجه إلى الدكتور خليل بخالص الشكر وجزيل الثناء.
السيد أحمد صقر(830/50)
رسَالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 2 -
ثم يقول الأستاذ محمد كرد علي: (ولما عزمت هذه الأيمان على طبعه تفضل صديقي الأستاذ عباس العزاوي وأرسل لي نسخة من مخطوطة خزانته من هذا الكتاب معارضة على نسخة أخرى، وبوجود ثلاث نسخ منه سهل الاهتداء إلى أصح روايات المؤلف، فجاءت هذه الطبعة صحيحة على ما يحب المؤتمنون على نصوص القدماء).
حسب الأستاذ أن ظفره بهذه النسخ قد هداه إلى أصح روايات الكتاب، ومكنه من نشره نشراً علمياً صحيحاً يرضي النقاد الأمناء على تراث العرب، وليس ذلك من الحق في شيء، فإنه لم يفطن إلى أصح الروايات إلا قليلاً، وخرج الكتاب من بين يديه مفعماً بالتحريف، مترعاً بالتصحيف، ووقعت في حواشي الكتاب التي صنعها أوهام لغوية غريبة عجيبة ما كنت لأعنى بتبيانها لولا أن الأستاذ رئيس للمجمع العلمي العربي بدمشق وعضو في مجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة.
1 - جاء في ص74 (وماذا يقولون في رجل زنى وهو لا يعلم أن الله حرَّم الزنا؟ وآخر زنى وهو يعلم أن الزنا من الكبائر التي تسخط الرب وتوجب النار؟ أيهم أقرب إلى السلامة وأولى من الله بالعفو؟ أو ليس أهل العلم على أن الذي لا يعلم لا حدَّ عليه من جَلْد وتعزير ولا رجم؟ وأن على الآخر حد البكر إن كان بِكراً، وحدّ المحصن إن كان محصناً؟ فهذه أحكام الدنيا، وأما أحكام الآخرة فلولا كراهة التألي على الله لقلنا في الذي ركب الفاحشة وهو لا يعلم أن الله حرمها، معفو عنه)
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (التألي: التكبر)!!!
وهذا شرح ينبو عنه الذوق، ولا يسوغ في شرعة العقل والدين. ولا يتصور أن يكون التكبر على الله قد دار بخلد ابن قتيبة أو طاف بفكره عندما كتب هذا الكلام
إن ابن قتيبة لم يقصد بكلمة: (التألي) إلا معناها المشهور، وهو القسم والحكم على الله. جاء(830/51)
في لسان العرب: (وقد تألّيتُ، وائتليت: أقسمت، وفي الحديث: من يتأل على الله يُكْذبْهُ، أي من حكم عليه وحلف، كقولك: والله ليدخلنَّ اللهُ فلاناً النار ويُنجحن اللهُ سعي فلان. وفي الحديث: ويل للمتألّين من أمتي، يعني الذين يحكمون على الله ويقولون: فلان في الجنة وفلان في النار).
وسيرى القارئ بإذن الله من أمثلة هذا الشرح العجيب ما يستنفد عجبه، ويستفرغ دهشته.
2 - ص15 يقول ابن قتيبة في معرض حديثه عن الله وإكرامه لأمة محمد عليه السلام (وأوسع لنا من طيب الرزق، وحرم علينا الخبائث، ولم يجعل في الدين من حرج، ولا خطر بالاستعباد إلا ما جعل منه الخلف الأطيب والبذْلَ الأوفر رحمة منه وبراً ولطفاً وعطفاً).
وليس للبذل هنا أي معنى، والصواب: (والبدَل الأوفر)
3 - ص16 تحدث ابن قتيبة عن اختلاف الناس في الأشربة (. . . حتى يحتاج ابن سيرين مع ثاقب علمه، وبارع فهمه إلى أن يسأل عبيده السلماني عن النبيذ، وحتى يقول له عبيده، وقد لحق خيار الصحابة وعلماءهم ومنهم علي وابن مسعود، اختلف علناً في النبيذ. وفي رواية أخرى آخذت الناس أشربة كثيرة فمالي شراب منذ عشرين سنة إلا من لبن أو ماء أو عسل)
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (في ع: علينا والغالب أنها علنا)
وقد أخطأ في تصويبه، ولم يدرك أن (اختلف) مبني للمجهول. والصواب: (اختُلِفَ علينا في النبيذ. وفي رواية أخرى: أحدث الناس أشربة كثيرة. . .)
وابن سيرين هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري روى عن مولاه أنس بن مالك وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة وطائفة من كبار التابعين. قال ابن سعد، وكان ثقة مأموناً عالياً رفيعاً فقيهاً إماما كثير العلم. مات سنة عشر ومائة.
وقد ترجم ابن قتيبة لعبيده السلماني في كتاب المعارف ص188 فقال: (هو عبيده بن قيس السلماني من مراد. قال ابن سيرين. قال عبيده: أسلمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فصليت ولم ألق رسول الله. ومات سنة اثنتين وسبعين)
4 - ص17 ذكر ابن قتيبة أنه بين مذاهب الناس في الشراب وحجة كل فريق (لعل الله(830/52)
يهدي به مسترشداً، ويكشف من غمّةً، وينقذ من حيرة، ويعصم شارباً ما دخل على الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة. . .).
والصواب (ويعصم شارباً مما أحِلَّ على الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة) قال ابن قتيبة في ص36 (. . . وتتابع الناس في الأشربة المسكرة على التأويل. . .)
5 - ص17 يقول ابن قتيبة (قد أجمع الناس على تحريم الخمر بكتاب الله إلا قوماً من مَجَّان أصحاب الكلام وفساقهم لا يعبأ الله بهم. . .)
هكذا ضبط الأستاذ كلمة (مجان) بفتح الميم، والصواب ضمها.
6 - ص18 ذكر ابن قتيبة بعض أقوال هؤلاء المُجَّان ثم عقب عليه بقوله (وليس للشغل بهؤلاء وجه، ولا لتشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى؟ إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع، وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يختل على عاقل ولا جاهل)
والصواب (لا يُخِيلُ) أي لا يشكل من قولهم: هذا شيء لا يخيل على أحد أي لا يلتبس أو يجوز عليه.
7 - ص21 قال الشاعر:
نبيذ إذا مرَّ الذباب بدَنّه ... تفطَّر أو خر الذباب وقيذا
والصواب (تقطر) بالقاف لا بالفاء، جاء في لسان العرب (طعنه فقطره، أي ألقاه على قطره أي جانبه، فتقطر، أي سقط وقال الليث إذا صرعت الرجل صرعة شديدة قلت: قطرته، وأنشد:
قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا
8 - ص21 (وقال آخر:
تركت النبيذ وشراره ... وصرت حديثاً لمن عابه
شراباً يضل سبيل الرشاد ... ويفتح للشر أبوابه
والصواب كما في العقد الفريد 4319 (وصرت خديناً لمن
عابه. شارب يضل. . .)
9 - ص21 (عن عمر بن شيبة بن أبي كبير الأشجعي عن أبيه أن رسول الله صلى الله(830/53)
عليه وسلم قال: (خدر الوجه من النبيذ تتناثر منه الحسنات).
والصواب (عن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي) كما في
الإصابة 3218 - 219 ولسان الميزان 4312 مجمع الزوائد
4230 والجرح والتعديل 3115 من القسم الأول.
والحديث مذكور في الإصابة 3219 وفي لسان الميزان
4482483 وهو حديث منكر.
وشيبة بن أب كثير هذا هو الذي داعب امرأته فماتت من وقع يده عليها في غزوة تبوك. وقد سأل النبي عليه السلام عن ذلك فقال: لا ترثها، كما في الإصابة ومجمع الزوائد من رواية ابنه عمر عنه.
10 - ص22 (وحدثني سبابة، عن عمرو بن حميد، عن كبير بن سُليم قال: حدثني أصحاب أنس عنه أنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي كون في الخوابي) والصواب (وحدثني شبابه. . . عن كثير بن سليم).
وهو شبابه بن سوار المتوفى سنة ست ومائتين كما في تهذيب
التهذيب 4300 والمعارف لابن قتيبة ص229 وخلاصة
تذهيب الكمال ص142 وطبقات ابن سعد766
وأما كثير فهو كما جاء في خلاصة تذهيب الكمال 272 (كثير بن سليم الضبي، أبو سلمة المدائني، روى عن أنس. قال أبو حاتم وهو منكر الحديث.
11 - ص22، 23 قال ابن قتيبة: وأما المسكر فإن فريقاً يذهبون إلى أن كل شيء أسكر كثيره كائناً ما كان ولو بلغ فرقاً فقليله كائناً ما كان ولو كان مثقال حبة من خردل حرام. . . عن عائشة رحمة الله عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مسكر حرام. وما أسكر الفرق فالحسوه منه حرام).
شرح الأستاذ كلمة الفرق بقوله (الفرق بكسر الفاء القسم من كل شيء).(830/54)
والصواب (الفرق بفتح الفاء والراء) قال ابن قتيبة في ص109 من هذا الكتاب (والعوام يقولون الفرق بسكون الراء؛ ويذهبون إلى أنه مائة وعشرون رطلا على ما اصطلحوا عليه في فرق الدوشاب. ومن في وسعه أن يشرب مائة وعشرين رطلا حتى يعلم ما يسكر منه هذا المقدار من الشراب؟ وإنما هو الفرق بنصب الراء، وهو ستة عشر رطلا، قال خداش بن زهير.
يأخذون الأرش من إخوانهم ... فرَق السمن وشاة في الغنم
وللعرب أربعة مكاييل مشهورة. المدَّ. والصاع. والقسط، والفرق، وهو ستة عشر رطلاً، ستة أقساط في قول الناس جميعاً
12 - ص25 قيل للعباس بن مرداس (بعد ما آمن وأسلم: قد كبرت سنك، ودق عظمك، فلو أخذت من هذا النبيذ شيئاً يقويك! فقال: أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم! وآليت ألا يدخل رأسي ما يحول بيني وبين عقلي) والصواب: (ورق عظمك. . . سفيههم آليت. . .)
13 - ص27 (ودخل أمية بن خالد بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه آثار فقال: ما هذا؟ فقال: قمت الليل فأصاب الباب وجهي. فقال عبد الملك:
رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقال أمية: لا آخذني الله بسوء ظنك يا أمير المؤمنين. فقال بل لا آخذني الله بسوء مصرعك).
والصواب: (ودخل أمية بن عبد الله بين خالد بن أسيد).
والقصة موجودة في العقد 4321 ومحاضرات الأدباء 1326
وقد ذكر ابن قتيبة أمية بن عبد الله في عدة مواضع من كتاب
(عيون الأخبار) وقد ورد في الجزء الأول منه ص166 هذا
النص: وقال عبد الملك بن مروان في أمية بن عبد الله بن
خالد:
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد(830/55)
وهو خطأ لأن عبد الملك لم يقل هذا البيت وإنما قاله عمرو بن حرثان. وروى العتبي أن عبد الملك بن مروان قال لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: مالك بعمرو بن حرثان حيث يقول فيك:
إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
فقال يا أمير المؤمنين، وجب عليه حد فأقمته، فقال: هلا درأت عنه بالشبهات؟ فقال: الحد أبين، وكان رغمه علي أهون. فقال عبد الملك: يا بني أمية أحسابكم وأنسابكم لا تعرِّضوها للهجاء. وإياكم وما سار به الشعر، فإنه باق ما بقى الدهر. والله ما يسرني أني هجيت بهذا البيت وأن لي ما طلعت عليه الشمس:
يبيتون في المشتى ملاء بطونهم ... وجاراتهم غرثى يبتنَ خمائصا
وما يبالي من مُدح بهذين البيتين ألا يمدح بغيرهما:
هنالك إن يُستخبلوا المال يُخبلوا ... وإن يسألوا يُعطوا وإن ييسروا يُغلوا
على مكثريهم رزق من يعتريهمُ ... وعند المقلين السامحة والبذل
راجع أخبار أمية بن عبد الله مع أبي فديك الخارجي في
الطبري 7194، 195
14 - ص28 (وكان ابن هرمة الشاعر في شرفه ونسبه وجوده يشرب الخمر بالمدينة ويسكر فلا يزال الشرط وقد أخذوه ورفعوه إلى الوالي في المدينة فحده. . .).
والصواب (فلا يزال الشرط قد أخذوه. . . في المدينة يحده)
15 - ص30 (وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال: كان عقيل بن علقمة المري غيوراً. . .)
والصواب (عقيل بن عُلَّفَة). قال البغدادي في خزانة الأدب
2278 (وعقيل بفتح العين، وكسر القاف، وعلفه بضم العين
المهملة وتشديد اللام المفتوحة بعدها فاء، وهو علم منقول من
واحد العلف وهو ثمر الطلع. ونقل الشريف المرتضى في(830/56)
آماليه 240 معنى العلفة عن ابن الأعرابي وأبي سعيد
السكري وكرر ابن قتيبة ذكر عقيل ابن علفة في عيون
الأخبار، وقد ترجم له أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني
ترجمة طويلة
1185 - 93 قال فيها (وعقيل شاعر مجيد مقل، من شعراء
الدولة الأموية. وكان أعرج جافيا شديد الهوج والعجرفية
والبذخ بنسبه في بني مرة، لا يرى له كفؤاً، وكانت قريش
ترغب في مصاهرته، تزوج إليه حلفاؤها وأشرافها).
(يتبع)
السيد أحمد صقر
المدرس بالليسيه الفرنسية بمصر الجديدة(830/57)
العدد 831 - بتاريخ: 06 - 06 - 1949(/)
6 - أمم حائرة
الأسرة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
تعالوا نلتمس الطمأنينة في موضعها، والسكينةَ في موطنها، ونظفر بالسعادة في مكانها، ونسعد بالمحبة في دارها. هلم إلى الأسرة، إلى البيت الذي يُنبت الودّ والصفاء، والإخلاص والولاء، إلى الجنة التي يرد سلسبيلها الظماء، ويتفيأ ظلالها من برَّحت به الرمضاء، ويأوي إليها من مسَّه العناء، فيجد الروح والرَيحان، والسلم والأمان، والغِبطة والرضوان.
هلمَّ إلى المعبد الذي تطهر فيه الأشباح، وتصفو الأرواح، وتقام على الإخلاص الشعائر، وتتناجى به السرائر، الحرم الذي تهفو إليه الأفئدة، ويظلله الأمان، وتمحى فيه الأضغان، ويتمكن فيه التوحيد، فإذا نفس واحدة في أجسام متعددة، وإذا ألفاظ كثيرة لمعنى واحد!
تعالوا ننظر إلى المدرسة التي تعلّم الودّ والحب، والتعاونَ والإيثار، وتُنشِّئ على الأخلاق العالية، والفضيلة الكاملة، وتعلّم الإخلاص والفِداء، والبر والولاء، والصدق والوفاء.
تعالوا إلى العش يأتلف فيه الزوجان على الخير والشر، والنفع والضر، يأوي إليه الزوج مجهوداً فتمسح تعبه يد رحيمة، ويدخله غاضباً فترضيه كلمة حكيمة، ويفر من ضوضاء الأسواق، ونصب العمل، وكد العيش، فيظفر بالهدوء والسكينة، والقرار والطمأنينة؛ فيتلو الآية الكريمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
إلى دار الأمومة والأبوة، والبنوة والأخوة، حيث الأم على أولادها مشبلة، ولتربيتهم عاملة، ولنومهم ساهرة، ولراحتهم جاهدة؛ الأم مبعث الشفقة والرحمة، وموئل البر والعطف، أعظم الناس عملاً، وأبلغهم أثراً، وأرفع الخلق مكانة، وأعلاهم منزلة، وأطهرهم فكراً ولساناً ويداً، وأحسن الناس حملاً للأعباء، وأصبرهم احتمالاً للأمانة؛ الأم التي تحمل الأمم وتضعها، وتربيها وتنشئها، وتزكيها وتعلمها. والأب يغدو ويروح بثمار كده، ونتاج سعيه، فيضع ما في يده من تعب، وما في فكره من كد، وما في نفسه من هم، وما في قلبه من(831/1)
بغض، ساكناً إلى زوج كريمة هي أم رحيمة. الوالدان اللذان عظَّمهما القرآن، وكاد يؤلّههما الإسلام. فذكرهما مع الله، وقرن البر بهما بتوحيده: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (قل تعالَوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) الوالدان اللذان أعطاهما الله من سلطانه وبرهانه، ونوره وهدايته، ورأفته ورحمته.
هلمَّ ننظر إلى الأسرة، دار الأمومة والأبوة والبنوة والأخوة، حيث تنشأ الأمم وتموت، وتقوى وتضعف، وتسعد وتشقى، وتجتمع وتفترق، وتصلح وتفسد، وتضيء وتظلم، حيث النواة التي تنشأ منها الجماعة، والطينة التي فيها تنمو الأمة، والصورة التي عليها تكبر، والسر الذي أودع سرائرها، وسيرها من المهد إلى اللحد. . . الأسرة سر الله في خلقه، وآيته في عباده.
هلمَّ ننظر إلى هذا البيت، إلى هذه الجنة، إلى هذا المعبد، إلى هذه المدرسة، إلى هذا العش، إلى هذه الدار مشفقين عليها من أعاصير هذا العصر، خائفين من آفاته، وَجِلين من فتنه، فَزعين أن يمتدّ الرجس إلى طهارتها، والقلق إلى هدوئها، والبغض إلى محبتها، والافتراق إلى اجتماعها، حَذِرين أن تمتد المادة إلى روحانيتها، والضوضاء إلى سكونها، والحيرة إلى طمأنينتها، جاهدين أن تبقى لها حرمتها وتدوم قداستها ولا يغلب عليها شر الأسواق والأندية والملاهي، فليس بعدها وَزر، ولا في غيرها مستقَر.
أحذروا أن تُحرم الإنسانية هذا الينبوع الطاهر الذي يمُد بالعواطف رقراقة، وبالأخلاق صافية، فتقسو القلوب، وتذبل الأخلاق، ويضل النشء في الطرق والأسواق وما إليها، يشرب من ماء كدر، ويقتات من سم قاتل، ويذهب به القلق إلى المهالك، وتسوقه الحيرة إلى الضلال البعيد.
ألسنا نرى البيت يُهجر يوماً بعد يوم، تؤثر الأمُّ عليه جولات في الأسواق أحياناً، وجلسات في الملاهي أحياناً، ويفر الأب إلى المقهى والملهى مؤثراً لذاته وراحته، ساكناً إلى لهوه ولعبه، مشفقاً من تبعاته في داره، وواجباته في أسرته؟
إن تمادي الوالدان في إيثار الطريق على المسكن، والملهى على الأسرة، وأغفلا ما يحبب البيت إليهما وإلى الأولاد كان النفور من الدار، ثم زاد إهمالهما، فازداد النفور منها. . .(831/2)
وهكذا حتى تذهب بهجتها، وتفقد سعادتها، وتزول حرمتها، وتختفي قداستها.
وليس البشر - وإن حرصوا - بقادرين على أن يستبدلوا بالدار معهداً للتربية والتهذيب، ولا بقادرين على أن ينشّئوا في غير الأسرة عواطفها وأخلاقها وتعاطفها وتراحمها، وتآلفها وتعاضدها، وفداءها وإيثارها.
وإن زالت حرمة البيت، وضعفت عواطفه، وطغت المادة على روحانيته، فجعلناه مكاناً من الأمكنة التي نقسم بينها الليل والنهار، وعدلنا به الطريق والمقهى والملهى، وصارت عواطف الوالدين والأولاد واجبات تؤدى على كره، وأعمالا تتصل بالأعضاء أكثر مما تتصل بالقلوب - فقد حُرِمنا الخير كل الخير، وأصبنا الإنسانية في صميمها، وقضينا على الأخلاق في منابتها، وعلى السعادة في مهدها.
ولو أتت المدنية الحاضرة بكل صناعة وكل علم وكل نظام وكل متاع، وذهبت بسعادة البيت، فقد باءت بالخسار، وعملت للبوار.
ولو جاءت الشيوعية بكل طعام وشراب لكل إنسان بغير عناء، ومتَّعت الإنسان بكل متعة، ويسرت له كل لذة، ثم حرمته أسرته، وسلبته رحمة الوالدين وبر الأولاد، وعواطف الأمومة والأبوة والبنوة، وأبعدته من ظلال البيت الوارفة، وأفيائه العاطفة، وموارده الصافية، لكانت قد ربَّت له الجسم وسلبته الروح، وهيأت له الصورة وأخذت الحقيقة، ووفرت له لذات جثمانية قليلة ضيقة، وباعدت بينه وبين لذات الروح التي لا تُعد ولا تُحد، ولكانت قد ردته حيواناً لا إنساناً، ويسرت له العلَف وسلبته الإنسانية!
الأسرة حُوطوها بكل رعاية، وأحكموا أواصرها، ووفروا بركاتها، وادفعوا عنها كل ما يخل بسعادتها وطهارتها وقداستها، وزودوها بالعلم النافع والتربية الصالحة.
إني أرى الأم تُخدع عن سلطانها في البيت، وتُنزل عن عرشها في الأسرة، وتُضلل عن منزلتها، وتُفنن عن واجبها، فيقال لها: دعي البيت إلى السوق، واهجري الأولاد إلى المصنع، اتركي تدبير الأسرة إلى تدبير الشئون العامة.
وأرى الوالد يستبدل بداره الأندية، وبأسرته جلساء المقاهي، ويسهو عن كثير من تبعاته.
وأرى الولد يقسو على والديه، ويلقى بالغلظة أبويه، ويطلب بحقه ويحاسب عليه، ويعصي الوالدين أحياناً ويطيعهما أحياناً.(831/3)
إني أرى صلة ما بين الوالدين والأولاد تهِن، وسلطان الوالدين على الأولاد يضعف، وأخشى إن لم نتدارك الأمور أن تزلزل أركان الأسرة، وتتقطع وشائجها، ويتبدد نظامها. . . وكيف تقوم الأمة على قواعد واهية وأركان متداعية!
إني أخاف على الأسرة، وأشفق على البيت - الجنة والمعبد والمدرسة - أن يُستباح حماه، وتدخل الفتن إلى مغناه. . . والمرأة وقاية من هذا الشر، وطب لهذا الداء، وشفاء لهذه العلة. . .
وللمرأة حديثنا الآتي إن شاء الله.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(831/4)
المستغربون
(مهداة إلى الأستاذ عباس خضر)
للأستاذ علي محمد سرطاوي
الاستغراب كالاستشراق، حذوك النعل بالنعل - إذا جاز هذا التعبير - هو الهيام بالغرب والوله في حبه وكل ما يصدر عنه من خير وشر وأوهام وأباطيل.
والمستشرقون فحول من أبناء الغرب، بسقوا من جرثومة شعوب قد استكملت الاستقرار الاجتماعي الصحيح العميق، وفتحوا عيونهم في الحياة على كيان قد توطدت أركان الأسرة فيه على أسس من تصميم الزمن، وبناء من مجتمع قد أرهفت الثقافة الشاملة الفرد فيه.
والشعوب الغربية التي نشأ فيها المستشرقون قد نضج الفرد فيها وفني في المجموع فناء تاماً. والمواطن الصحيح عند تلك الشعوب، ذلك الذي يؤدي واجبه في الخدمة الاجتماعية تاماً غير منقوص، وهو الذي يفتش عن أحسن دور يستطيع تمثيله على مسرح الخدمة العامة مهما تجشم من صعاب في سبيل إتقان ذلك الدور دون أن ينتظر ثناء أو تقديراً.
ولم يكن كل ما قدمه المستشرقون من الدراسات المضنية التي وقفوا حياتهم عليها خالصاً لوجه العلم؛ بل إنما كان في كثير من الأحايين ضرباً شاقاً من الخدمة الاجتماعية يؤديه المستشرق لأمته في هذا الميدان الذي يحطم الأعصاب، ولا يصمد فيه غير الأبطال والجبارين الموهوبين.
والمستغربون عندنا نكرات اجتماعية بسقوا من جرثومة شعوب لا تزال تعتز بالعظام، وتعيش على أمجاد التاريخ، وتدور حول حقائق الحياة، وتدبر عن النور وتقبل على الظلام، وتغفو في وادي الأحلام.
وهؤلاء ليسوا إلا أفراداً تميزوا عن القطيع الذي لا يزال في مستوى الحيوان يرعى العشب ويرضى بالهوان ويقيم على الضيم كالأذلين: عير الحي والوتد.
والذكاء على قلة عند الفقراء، والثراء على كثرة عند الأغنياء، هما اللذان دفعا بعض الشرقيين إلى حضارة الغرب يتتلمذون عليه في دراسات لا تزيد على بضع سنوات، كان بعضها خالصاً لوجه العلم بالنسبة للذين كان يصرفهم عن العبث نقص جسدي في العينين أو مادي في الجيب، وبعضها كان بريئاً في العلم بالنسبة للذين آتاهم الله بسطة في الجسم(831/5)
وسخاء في الإنفاق، ومصدراً لا ينضب له معين من النضار.
هذه السنوات لم تصنع المعجزة في أولئك الرواد المستغربين في الشرق، أو الغربان التي تنعق - على أصح تعبير - وكل ما في الأمر أنها صبغت ظواهرهم بطلاء براق من الألقاب العليمة ولم تنفذ إلى جوهر الروح الذي بقي مربوطاً بالأمة التي لا يزال مجموعها يعيش في الجهل، وبالأسرة التي لا تزال على غرار أسرة الإنسان الأول في طفولة الحياة البشرية.
ولا نستطيع أن ننكر عقولنا ونسلم جدلا بأن هؤلاء قد أصبحوا - على سوء الجيرة - كالغربيين روحاً وذوقاً وفناً، وإنما كل ما في الأمر - وهو الصحيح والواقع - أن حضارة الغرب قد بهرتهم ماديتها ولم يفهموها فهماً صحيحاً، وفي محاولتهم تجريح الشرق بأظافر مستعارة من روح الغرب، البرهان الذي لا يقبل الجدل على أنهم يشعرون بذلك في أعماق نفوسهم ويحاولون التضليل.
والبيئة الجغرافية تترك أثراً عميقاً من سماتها في الأخلاق والدين والفن والذوق والاجتماع في الجماعات التي تعيش فيها وتطبعها بطابع خاص لا تجد سبيلا إلى الخلاص منه مهما أوتيت من عزيمة وجبروت.
ولو أنك غرست شجرة من مناطق خط الاستواء في غير تربتها ومناخها، وحاولت كل طريقة لاستدامة روعتها ورونقها ولذة فاكهتها، لما وجدت إلى ذلك سبيلا.
والأفكار المستوردة من بيئات بعيدة لا تستطيع الحياة في مناخ غير مناخها، وفي تربة غير تربتها، وغالباً ما يكون نصيبها الموت.
أرأيت نتيجة تلك المحاولة التي قام بها ملك من الشرق لينقل حضارة الغرب إلى بلاده عن طريق اللباس في بلاد الأفغان، وهي على بعد سحيق من أوربا، غير مقدر النتائج الخطيرة التي آلت إليها، وغير مفرق بين موضع تركيا الجغرافي والفارق البعيد بين الأتراك والأفغان؟
وأولئك المربين المستغربين الذين يغيرون على أفكار أساطين التربية في الغرب - تلك الآراء التي ترعرعت وشبت في جو ملائم وبيئة جغرافية خاصة - فيملئون بها المجلدات نقلا حرفياً وتقليداً وتشويهاً ومسخاً للعمل بها في بيئات وشعوب لا صلة لها بالشعوب التي(831/6)
انتزعت من حياتها تلك الأفكار. أليس مثلهم مثل الطبيب الذي يأتيه المريض وقد هد جسمه الداء فلا يستأصل شأفة المرض، وإنما يصبغ وجه المريض باللون الأحمر، وكفى الله المؤمنين القتال؟
والنكسات الروحية والخلقية والقومية التي تصاب بها الأمم والشعوب من حين إلى آخر في سير الزمن لا تمس جوهر الروح في تلك الأمم والشعوب، بل لعلها تجدد شبابها وتخلع عليها أبراداً قشيبة من اليقظة فتفيق من سباتها وتعاود السير من جديد، عزيزة الجانب، قوية الخلق، متحدة كالبنيان المرصوص.
والكسب المادي، والأشخاص الذين حرمهم الله نعمة الذوق الذي لا تعلمه الكتب والجامعات، والذين في نفوسهم مرض - كل ذلك وهؤلاء لا يزيدون في نظر الواقع على غبار تثيره أقدام الأمة في مسالك الحياة دهى سائرة إلى غايتها البعيدة.
ولعل شر فئة من هؤلاء المستغربين تلك الفئة الخاملة الجاهلة التي تعيش في الحياة كالنباتات الطفيلية على أفكار غيرها من مرضى الضمائر ومعتلي النفوس، فقد يضمك مجلس مع جماعة فينبري منها من يكيل الثناء لشكسبير لأنه غربي، ويطعن في المتنبي لأنه شرقي، حتى إذا حز في نفسك هذا المسلك وطلبت منه تحديد النقد وتقديم الأمثلة، تكشف لك عن عامية مغرقة في الجهل، لأنه لم يقرأ للمتنبي، ولم يعرف لغة شكسبير، وإنما كل ما في الأمر أنه يقلد التقليد الأعمى ليضاف إلى قائمة أصحاب الرأي الحر الذين يهدمون بيوتهم ليبنوا من حجارتها بيوتاً للآخرين.
وفي كل قطر عربي مجموعة من هؤلاء المستغربين يحملون الإجازات الدراسية العالية وقد مكنت لهم تلك الدراسات من الجلوس على المقاعد الأمامية في رواية الحياة وتوجيه الأجيال المقبلة التي تضع الأمة العربية آمالها وأحلامها فيها.
ومن رعاية الله لهذه الأمة أن جعل في جذورها الغضة التي تستمد حياتها إلى الغد المجهول قوة شديدة تقاوم تلك الرياح اللافحة، وجعل في كنانته جنوداً يذودون عن المجد التليد والدين الحنيف والتاريخ المشرق، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ومكن (لرسالته) في النفوس.
(العراق)(831/7)
علي محمد سرطاوي
مدرس في متوسطة المسيب(831/8)
صور من الحياة
جزاء. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
آه، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه نزلت به عن معاني الإنسانية!
قال لي صاحبي: وانفلتّ من لدن أخي بعد أن سخر من ضعفي وسلبني مالي. . . انفلت من لدنه وفي يدي جنيهات، وفي قلبي لوعة، وفي عيني عبرة، وأحسست بقلبي يحتدم غيظاً وكمداً، وشعرت بفؤادي ينشق أسى وألماً.
ولبسني الشيطان، وسيطر عليَّ الأرق، وتناهبتني الهموم، فقضيت ليلتي أتقلب في أتراحي وشجوني والشيطان إلى جانبي ما يبرح ينفث فيَّ سموماً شيطانية ويسوِّل لي أمراً، وأنا ألقي السمع إلى كلماته، أطمئن إلى حديثه حيناً، وأفزع عنه حيناً، وبين يديَّ جنيهاتي أقلبها ذات الشمال وذات اليمين وفي قلبي قلق واضطراب، وفي رأسي خواطر سود ما تنقشع. . . ولكن أخي هو أخي، ضمني وإياه تاريخ سنوات عجاف، ولطالما استشعرت منه العطف والحنان والتضحية.
وقال لي الشيطان: لقد غالك أخوك وأنت في مرضك تهفو إلى شفقته وترنو إلى رحمته، غالك لتصبح فقيراً ترى أبناءك يحسون لذع الفاقة ومرارة العوز وقسوة الحرمان على حين يرفل أبناؤه في السعة ويتقلبون في النعيم.
لا عجب، فهو رجل ترابي العقل، أرضي العاطفة، نشر حواليك شباك الجشع - على حين غفلة منك - ليستلبك من مالك، وأنت في سقامك لا تستطيع أن تذود عن نفسك بعض طمعه ولا أن تناقشه الرأي، فاستسلمت - على الرغم منك - في فتور وضعف. لقد عبث بالأوراق في خسة، ورتب الحساب على نسق أراده هو ليبلغ غاية يتلظى الشره في ثناياها منذ أن شطر الدار شطرين، وأرهقك بالدين عن عمد منه، ثم صدمك بفكرة بيع الدكان ليرغمك على أن تنزل له عن حصتك بثمن بخس. تلك أمور سوَّنها إرادة طينية تغلغلت في نفسه ليستولي على مالك في غير حق. فأنت عاجز الهمة، فاتر المروءة، إن لم تدفع ما أصابك من ظلم وطغيان. ستراه - بعد أيام - يرفل - هو وصغاره - في الحرير والدمقس ويستمتع بأطايب الطعام ولذيذ المأكل، على حين لا تجد أنت إلا صبابة من مال لا تغني(831/9)
من عرى ولا تسمن من جوع. فلا تقعد عن أن تغمد هذا الخنجر في صدره، أو تصوب فوهة ذاك المسدس إلى قلبه. تسلل إليه في سكون الليل، تحت ستر الظلام، ثم استل روحه من بين جنبيه وارتد إلى فراشك هادئ البال، ساكن الجأش، فتكون قد انتقمت لكرامتك ومالك. وإلا فأنت عاجز الهمة فاتر المروءة.
وظل الشيطان يوقع لحن شيطانيته على أوتار أذني في دربة ولباقة، حتى أوشكت أن ألقي إليه السَّلم فأتردى في الهاوية، وظللت أنا أضطرب في مضلات لا أهتدي ولا يغمض لي جفن، فما سكنت جائشة نفسي إلا حين سمعت صوت المؤذن ينادي في الفجر: (الله أكبر، الله أكبر). . . فاستيقظت الروحانية في قلبي، وقمت في تراخ وكسل أدس جنيهاتي في درج مكتبي، ثم انطلقت صوب المسجد عسى أن أجد هناك راحة النفس وهدوء الضمير، أو أن أنفض عني الخواطر الشيطانية وهي ما زالت تتدفق في قلبي منذ الغسق. وهناك - في المسجد - أحسست السكينة والأمن حين ألقيت عن كاهلي متاعبي وشجوني. وكنت كلما سمعت (الله أكبر) شعرت بروح المسجد تغمر قلبي نوراً وهدوءاً، وتملأ جوانحي ثقة وإيماناً، وتنفث في روحي الحياة والنشاط. وللمسجد في قلب المؤمن معان سماوية تسمو به عن النوازع الأرضية الوضيعة، وترتفع به عن شواغل المادة الحقيرة. وسكنت إلى المسجد فجلست في ناحية منه استلهم وحيه السماوي وأجتلي نوره الفياض، فما أفقت إلى حين ملأ نور الصبح صحن الجامع.
ورجعت إلى داري يهدني الجهد والإعياء مما قاسيت في ليلتي وأنا مؤرق الجفن، مضطرب البال، مشتت الذهن، فبدا عليَّ الشحوب والذبول. ورأت زوجي عذاب نفسي مسطوراً على جبيني فنظرت إليَّ في ذهول وشفقة، ثم انعقد لسانها فما استطاعت أن تحدثني بأمر ولا أن تشير برأي، وخشيت أن تقول كلاماً ينكأ جرحي ويدمي قلبي ويركسني إلى العلة التي برئت منها منذ أيام، فأمسكت بالرغم منها.
وقضيت يومي أضطرب في أنحاء القرية لا أستقر، أريد أن أفر من خواطري، وأن أهرب من أخيلتي، فلا أستطيع إلى ذلك سبيلا، وظلت هي تلاحقني وتتشبث بي حتى رجعت إلى داري عند الأصيل. وألفيت زوجي تختلج اختلاج مكروب أرمضه الأسى، وفي عينيها أثر البكاء والضنى.(831/10)
وعزَّ عليَّ أن أحمِّلها بعض وزري، أو أن أشركها في هذا البلاء، فأطفئ فيها جذوة الشباب وأخمد فيها نور الحياة. وعزَّ عليَّ أن تتساقط أسفاً وحسرة، وأنا قد لمست فيها العطف والحنان في ساعة العسرة، فجلست إلى جانبها أحدثها: (ما بك؟) قالت: (لا شيء، إلا أن أراك تأسى على أمر تافه ضئيل). قلت: (لقد غالني أخي فسلبني مالي). قالت: (لا بأس عليك، فهو أخوك الأكبر، وهو منك بمنزلة الأب، وله عليك ألف حق وحق). قلت: (أفيذرني وحيداً عاجزاً يلتهمني الألم وتعصرني الفاقة). قالت: (آه، إن في السماء أموراً غُيِّبتْ عنا لتكون بلاءً للصابرينّ! وما أقسى فقر النفس!). قلت: (هذه فلسفة عفنة). قالت: (ولكنها فلسفة روحانية تذر النفس هادئة مطمئنة، فكم أخذت من أخيك بالأمس ثمناً لحصتك من الدكان). فسحبت جنيهاتي من درج المكتب في فتور، ثم ألقيتها بين يديها في صمت. ونثرت هي الجنيهات بين يديها تعدها وأنا أرمقها في سكون، ثم قالت: (الحمد لله، هذا شيء كثير). وعجبت أنا لقولها. ولكن نفسي اطمأنت حين أحسست بكلماتها تزيح عني عبئاً ثقيلاً يمضني ويضجرني. . .
وفاضت روح الإيمان والعقيدة على المبلغ الضئيل فملأته خيراً وبركة، وفاض نور المسجد على قلبي فغمره فاستحال اليأس القاتل إلى أمل واسع جيَّاش، وانقلب الفتور إلى نشاط يتوثب، وأحسست بالصحة تسري في عروقي، وانطوت الأيام فإذا جنيهاتي تصبح دكاناً يفهق بالبضائع من كل صنف، ورفّت السعادة على داري فأفعمتها بالهدوء والطمأنينة. . . ثم. . . ثم نسيت ما كان من أخي الأكبر.
أما أخي فظل يدل عليَّ بمال وصحته وأولاده حيناً من الزمان، ثم ضربته العلة وركبه السقام فانهدت قوته وذوى نشاطه. أفكان ذلك من أثر الندم الذي يتأجج بين جوانحه على أن غالني حقي وأنا مهدود القوة لا أستطيع أن أدفع أذى ولا أن أرد شراً؟ أفكان من أثر أكل المال الحرام وهو ينسرب إلى جوفه لظىً يتضرم؟ أفكان من عدل السماء وهو يجازي الشر بالشر ويدفع السيئة بالسيئة؟ من ذا يدري؟ ولكنه انطلق يطب لداءين: داء نفسه وداء جسمه. . . وثقلت عليه وطأة المرض فانحط في فراشه لا يبرحه، وانصرف عن تجارته فأغلق دكانه، وتسلل المال من بين يديه إلى الدواء والطبيب، وبدا على وجه زوجه سمات الجزع والقلق - بادئ ذي بدئ - ثم برمت به فهي لا تصغي إلى حديثه إلا في ملل، ولا(831/11)
تجيب نداءه إلا في ضجر، ولا تقوم على خدمته إلا في تثاقل.
واختلفت إليه أريد أن أخفف عنه لوعة المرض، وأن أزيل عنه جفوة الوحدة، فاستقبلتني زوجه - أول الأمر - في بشر وتلقتني في بشاشة وتحدثت إليَّ في سرور، ثم تراءى لي أنها تطمع في أن تصرفني عن أخي، وأن تخدعني عن نفسي، وأن تستلبني من قلبي، فدفعتها في رفق ونصحتها في لين، ولكنها كانت فتاة جميلة فيها المكر والمداهنة، تتوسل إلى رغبات نفسها بأساليب شيطانية فيها الإصرار والعناد. وخشيت أن أغلظ لها القول فتنطلق إلى أخي توسوس له وتوحي إليه بأنني أريد أن أعبث بكرامته، أو أن أسطو على عرضه فتقمصه الصدمة، وهي قوية عنيفة، وهو ما يزال يعاني عنت المرض ولأواء العلة.
لشدَّ ما آذاني أن أراك - يا أخي - تفقد مالك وصحتك وزوجك في وقت معاً! ولشدَّ ما حزَّ في نفسي أن أرى زوجك تحاول أن تغترني عن كرامتي وشرفي ورجولتي لأكون حيواناً يرتدع في حيوانيته في بيتك أنت يا أخي!
بالرغم مني - يا أخي - أن أنزوي عنك فلا أزورك إلا بين الحين والحين، وبالرغم مني أن أصانع زوجك اللعوب لأحفظ ودك. . . آه، لو أن لك أذناً تسمع حديثي وتطمئن إلى قولي! ولكني أوقن بأنك لا تسكن إلا إلى حديث زوجك، ولا تستعذب إلا كلماتها، ولا تستسيغ إلا خداعها!
ومضت الأيام، فإذا أخي يخرج إلى الناس يتكفأ في مشيته من الضعف والهزال، وقد ضربه الإفلاس وركبه الدَّين، لا يجد من يحنو عليه غيري أنا. . . أنا أخوه الذي اغتال مالي وسلبني حقي ليشبع رغبات نفسه ورغبات زوجه.
فيا أخي، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية!
كامل محمود حبيب(831/12)
شعر المعتمد بن عباد
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
ولد في مهاد الملك، وعاش أميراً فملكا، لم تدفعه الحاجة إلى الارتزاق بشعره، وإنما كان كالعصفور الغَرِد، يمتلئ شعوراً بالحياة، فيغني، وتبهجه آيات الجمال، فيصدح، لا يضطر إلى أن يلبس عواطفه غير لبوسها.
وقد رأى والده فيه بادرة هذا النبوغ، فشجعه على أن يقرض الشعر، وعرف الابن في أبيه حبه للشعر، فاتخذه في رسائله إليه: يمدحه آنا، ويستعطفه حيناً، ويعتذر إليه مرة، ويطلب منه بعض أنعامه تارة أخرى كما سنرى علماً منه بما للشعر من تأثير في نفس والده، وبأنه جدير أن يبلغ به ما يريد.
وأغرم المعتمد بالشعر، حتى إنه ليفضل أن يكتبه في رقعة الدعوة إذا دعا، ويستجيز الشعراء، ويطلب إليهم أن يكملوا ما بدأ، وكثيراً ما كان يرسل إلى وزرائه، وندمائه، وشعرائه رسائل بالشعر بدل منثور الكلام.
- 2 -
وكان شعره صورة للحياة التي عاشها في عهد الإمارة والملك، حياة الترف والجلال معاً، تراها ممثلة في قوله:
ولقد شربت الراح يسطع نورها ... والليل قد مد الظلام رداء
حتى تبدى البدر في جوزائه ... ملكا تناهى بهجة وبهاء
لما أراد تنزها في غربه ... جعل المظلة فوقه الجوزاء
وتناهضت زهر النجوم يحفه ... لألاؤها، فاستكمل الآلاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله ... رفعت ثرياها عليه لواء
وحكيته في الأرض بين مواكب ... وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروعَ حنادسها ... ملأت لنا هذي الكؤوسَ ضياء
وإذا تغنت هذه في مِزهر ... لم تأل تلك على التريك غناء(831/13)
فحياته كما ترى بين راح يسطع نورها في ظلمة الليل، تحت أضواء بدر يملأ الكون بهاء وبهجة، تحف به النجوم المتلألئة كما تحف الرعية بمليكها. وهنا يعقد موازنة بين نفسه في الأرض والبدر في السماء، فهو في ملكه بين مواكب من الجند، أو بين كواعب أتراب، يصدحن بأعذب الموسيقى، وأرق الغناء.
وملهاة أخرى كانت أثيرة لديه، تلك هي ملهاة الصيد؛ يطلب من والده حيناً أن يأذن له بساعة ينفقها فيه، ويرى في ذلك منة من والده عليه، وحيناً يرسل إلى أبيه يحدثه عن ساعة قضاها في الصيد والقنص.
وكان لبعض الأحداث السياسية صداها في شعره، ولعل من أعظم تلك الأحداث استيلاءه على قرطبة، وهو حادث ملأ نفسه زهواً، وربما أفعم قلبه بالأمل، في أن يوحد الأندلس العربية تحت رايته، ويقيم في البلاد دولة بني عباد. ولا جرم فقد كانت قرطبة عاصمة الأندلس كلها، يوم كان الحكم العربي مزدهراً بتلك الديار. ويبين المعتمد عن هذا الزهو، وذلك الأمل في قوله:
من للملوك بشأن الأصيد البطل ... هيهات، جاءتكمُ مهدية الدول
خطبة قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء بخطبها بالبيض والأسل
عِرْس الملوك لنا في قصرها عُرُس ... كل الملوك به في مأتم الوجل
فراقبوا عن قريب، لا أبا لكم ... هجوم ليث بدرع البأس مشتمل
ومن أعظم هذه الأحداث أيضاً تلك المعركة التي دارت رحاها يوم العروبة بين المعتمد بن عباد، والمرابطين، وأمراء الأندلس من ناحية، وبين ألفونس السادس ملك إسبانيا المسيحية من ناحية أخرى، وعرفت في التاريخ بمعركة الزلاقة، وقد تحدث عن صبره على أوار تلك المعركة. والمؤرخون يروون بلاءه فيها، ويثنون على شجاعته واستبساله، وسجل ذلك في حديثه عن ابنه أبي هاشم، وقد ذكره ورحى القتال دائرة، إذ يقول:
أبا هاشم، هشمتني الشفار ... فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك ما بينها ... فلم يَثْنِني حبه للفرار
ويظهر أنه كان رقيق المعاملة لوزرائه وندمائه، عظيم التواضع لهم، كتب مرة إلى ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون؛ وكان المعتضد قد أمر أن يكون مجلس الوزير دون(831/14)
مجلس ولده المعتمد:
أيها المنحط عني مجلسا ... وله في النفس أعلى مجلس
بفؤادي لك حب يقتضي ... أن تُرى تُحمل فوق الأرؤس
ولذا لا نعجب أن يجيبه ابن زيدون فيصفه بأنه ملك مالك بالبررق الأنفس.
كما كان يحب أن يأخذ الأمور بالرفق واللين، ويدل على ذلك شعره الذي أرسل به إلى ابن عمار عقب نزوع هذا إلى أن يستأثر بمرسية:
متى تلقني تلق الذي قد بلوته ... صفوحاً عن الجاني، رءوفاً على الصحب
كان شعر المعتمد أميراً وملكاً يفيض بالبهجة، ويغمر بالسرور، حتى إذا ما قلب الدهر له ظهر المجن، فهاجمه يوسف بن تاشفين حليفه بالأمس، انقلبت تلك الحياة الراضية حياة بؤس وشقاء. ولعل من أوائل الكوارث التي نزلت به وفاة ولديه اللذين كانا على قرطبة ورندة عندما أغار عليهما جيش يوسف، وهنا يبدأ عهد المحنة ويفيض شعره الباكي الحزين، حتى إذا تم أسره مضى الشعر يروي احساساته الحزينة، وآلامه الدفينة، وذكرياته المؤلمة، وخواطره القائمة، كما سنرى.
- 3 -
كان الغزل أهم أغراض شعر المعتمد في عهد الإمارة والملك، وهو غزل حقيقي تحدث فيه عن عواطفه في حال الرضا والغضب والقرب والبعد؛ وأظهر ما فيه أنه غير وقف على واحدة بل هن جوار وزوجات عرفنا منهن جوهرة، وسحر، ووداد، وأم الربيع، وزوجه اعتماد، يقول في الأولى منهن:
سرورنا دونكمُ ناقص ... والطيب، لا صاف ولا خالص
والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت فهو الآفل الناكص
سموك بالجوهر مظلومة ... مثلك لا يدركه غائص
ويقول في الثانية:
عفا الله عن (سحر) على كل حالة ... ولا حوسبت عما بها أنا واجد
أسحرُ، ظلمت النفس واخترت فرقتي ... فجمعت أحزاني، وهن شوارد
وكانت شجوني باقترابك نزحا ... فها هن لما أن نأيت شواهد(831/15)
ويقول في ثالثتهن:
أشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك
قمر غاب عن جفونك مرآ ... هـ، وسكناه في سواد فؤادك
ويقول في أم الربيع:
تظن بنا أم الربيع سآمة ... ألا غفر الرحمن ذنباً تواقعه
أأهجر ظبياً في ضلوعي كناسه ... وبدر تمام في جفوني مطالعه
وروضة حسن اجتنيها وباردا ... من الظلم لم تحظر علي شرائعه
إذاً عدمت كفي نوالا تفيضه ... على معتفيها أو عدواً تقارعه
أما زوجه اعتماد فيقول فيها:
بكرت تلوم، وفي الفؤاد بلابل ... سفها، وهل يثني الحليم الجاهل
يا هذه، كفي فإني عاشق ... من لا يرد هواي عنها عاذل
حب اعتماد في الجوانح ساكن ... لا القلب ضاق به، ولا هو راحل
يا ظبية سلبت فؤاد محمد ... أَوَ لم يروعك الهزبر الباسل
من شك أني هائم بك مغرم ... فعلى هواك له علي دلائل:
لون كسته صفرة ومدامع ... هطلت سحائبها وجسم ناحل
وهذا الغزل الذي لا يقتصر على واحدة يدل على أن صاحبه مغرم بالجمال، ويعجب به أينما كان، لا كهؤلاء المحبين الذين لا يرون الجمال إلا ممثلا في واحدة. وليس حبه حباً عذرياً، يقنع من الحب بالذكرى وطيف الخيال، فلا ترى في غزله صوفية، ولكنه غزل دائم الحديث عن لذة المتعة بالجمال، فتسمعه يقول:
الصبح قد مزق ثوب الدجى ... فمزق الهم بكفي مها
خذ بلسما من ريقها خمرة ... في لون خديها تجلى الأسى
ويخاطب من يحب قائلاً:
متى أدواي - يا فدا ... ك السمع مني والبصر
ما بفؤادي من جوى ... بما بفيك من خمر
ويقول:(831/16)
وشادن أسأله قهوة ... فجاء بالقهوة والورد
فبت أسقى الراح من ريقه ... وأجتني الورد من الخد
حتى في النوم عندما يزوره طيف من يهوى لا يقنع إلا بالحب الواصل، ولا يرضيه إلا أن يظفر في النوم بما كان يظفر به في اليقظة، فهو يرسل إلى من يحب رسالته منها:
إني رأيتك في المنام ضجيعتي ... وكأن ساعدك الوثير وسادي
وكأنما عانقتِني وشكوتِ ما ... أشكوه من وجدي وطول سهادي
وكأنني قبلت ثغرك والطلا ... والوجنتين ونلت منك مرادي
والمعتمد يسجل في شعره ما ظفر به من متع حسية بالجمال، ويحن إليها إذا نأى عنها، وشعره في الشوق إلى الجمال المفارق بارع قوي، ومن ذلك ما كتب به إلى ابن عمار يذكر عهده بشلب (إحدى مدن الأندلس) ولياليه السعيدة بها، ومعاهد لهوه فيها، فقال:
ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر ... وسلهن هل عهد الوصال كما أدري
وسلم على قصر الشراحيب عن فتى ... له أبدا شوق إلى ذلك القصر
منازل آساد وبيض نواعم ... فناهيك من غيل وناهيك من خدر
وكم ليلة قد بت أنعم صبحها ... بمخصبة الأرداف مجدية الخصر
وبيض وسمر فاعلات بمهجتي ... فعال الصفاح البيض والأسَل السمر
وليل بسد النهر لهواً قطعته ... بذات سوار مثل منعطف البدر
نضت بردها عن غصن بان منعم ... فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر
وباتت تسقيني المدام بلحظها ... فمن كأسها حيناً وحيناً من الثغر
وأغلب الظن أن ميدان حبه كان جواريه وحظاياه، وهؤلاء كن قريبات منه؛ ولهذا لا تحس في شعره لوعة ولا حرمانا، فهجر الجواري دلال ينتهي بوصل، وخصام لا يلبث الصلح أن يعقبه، والفراق إذا كان اليوم، ففي غد اللقيا والوصال، وهو حين يغالي في التعبير عن أساه للهجر والفراق - مدلل لمن يهواه، وكثيراً ما صور لنا مداعبات جرت بينه وبين من يهوى. ولعل من أرقها تلك التي صورها وقد جرى بينه وبين جاريته جوهر عتاب فكتب إليها يسترضيها، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:
لم تَصْفُ لي بعد، وإلا فلمْ ... لم أر في عنوانها جوهره(831/17)
درت بأني عاشق لاسمها ... لم ترد للغيظ أن تذكره
قالت: إذا أبصره ثانياً ... قبَّله، والله لا أَبصره
وللمعتمد شعر بعث به إلى أبيه تلمس فيه ما كان يحمله الفتى الأمير لوالده من إكبار وإجلال، فهو حيناً يمدحه إلى التفرد بالمجد والسيادة إذ يقول له:
ألا يا مليكا ظل في الخطب مفزعا ... ويا واحداً قد فاق ذا الخلق أجمعا
وحيناً يرسل إليه يسأله بعض نعمه، كما كتب إليه يطلب مجنا، وحيناً يشكره على كثرة ما أولى وأنعم، ومن ذلك أن أباه أرسل إليه فرساً أصدأ، فكتب إليه المعتمد:
نوال جزيل ينهر الشكر والحمدا ... وصنع جميل يوجب النصح والودا
لقد جدت بالطِّرف الذي لو أباعه ... بذلت ولم أغبن به العيشة الرغدا
جواد أتاني من جواد تطابقا ... فيا كرم المهدي ويا كرم المهدى
وكم من أيدٍ أوليت موقعها نَدٍ ... لدى، ولكن أين موضع ذا الأصدى
لعلي يوماً أن أوفي حقه ... فأنعله ممن عصى أمرك الخدا
فإذا ما غضب الوالد على الأمير وجد هذا من شعره وسيلة يستل بها هذا الغضب. ولعل أكبر قصيدة في الديوان تلك التي بعث إليه بها، وقد خرج من مالقة منهزماً أمام باديس، وقد تصرف في هذه القصيدة تصرفاً بارعاً، فبدأها بالحديث إلى نفسه، يطلب منها أن تهدأ وتستقر، إذ لا فائدة في البكاء، ولا خير يرجى من الحزن والألم، ما دام القدر قد عاق عن بلوغ الأمل فيقول:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر ... ماذا يعيد عليك البث والحذر
ثم ينتقل انتقالا طبيعياً إلى مدح والده مدحاً رائعاً قويا بدأه بقوله:
سميدع يهب الآلاف مبتدئاً ... ويستقل عطاياه ويعتذر
ويمزج المدح بالاعتذار إليه، طالباً منه أن يبقي عليه ولا يوهنه فهو العدة في حوادث الدهر، وهو الناب والظفر وقت الشدة. ويظهر مما وصف به المعتمد نفسه، معتذراً إلى والده حين يقول:
فالنفس جازعة، والعين دامعة ... والصوت منخفض، والطرف منكسر
وزاد همي ما بالجسم من سقم ... وشبت رأساً، ولم يبلغني الكبر(831/18)
وذبت إلا ذماء فيّ يمسكني ... أني عهدتك تعفو حين تقتدر
يظهر أن وقع الهزيمة كان شديداً على نفس أبيه، وأكاد ألمح أن والده المعتضد قد أرجع سبب الهزيمة إلى انصراف ولده المعتمد إلى اللهو والغناء، والخمر والنساء، ومن أجل هذا بذل المعتمد جهداً كبيراً في أن يبرئ نفسه منها، منحياً على قوم ذوي دغل، لعلهم هم الذين نقلوا إلى أبيه أموراً لا ترضيه، فقال المعتمد يتنصل:
لم أوت من زمني شيئاً ألذ به ... فلست أعهد ما كاس ولا وتر
ولا تملكني دل ولا خفر ... ولا سبى خلدي غنج ولا حور
ما تركي الخمر من هذر ولا ورع ... فلم يفارق لعمري سني الصغر
وإنما أنا ساع في رضاك فإن ... أخفقت فيه فلا يفسح لي العمر
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي(831/19)
من أسرار الوضع في اللغة العربية
للأستاذ جلال الحنفي
ليس للشك مجال إلى أفكار الباحثين في أن اللغة العربية ذات سلطان مبين في عالم اللغات؛ وأن معجماً واحداً من معاجم اللغة العربية يكفي للدلالة على أن هذه اللغة لغة بالغة أوج المراتب من بين سائر الألسنة؛ وأن أهلها الذين وضعوها كانوا على جانب عظيم من الرجحان العقلي والنضج والإحساس.
ومن البديهي أن لغة كل قوم حجة لهم أو عليهم. فإذا كانت لغتهم حصيفة موزونة، فهم أولو أفكار عالية وأذهان خصبة؛ وإذا كانت لغتهم ركيكة ضئيلة فإن ذلك يدل على أنهم متفككو عرى التفكير ومتقطعو سلاسل الثقافة.
والعرب وإن كانوا أميين لا يعنون بالقراءة ولا بالكتابة فإنهم استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم لغة محكمة مفصلة في خلال أدوار أميتهم ومن قبل أن ينتقلوا إلى عهود الكتابة والتدوين.
وليس المهم أن يضع العرب الأميون لأنفسهم لغة واسعة للتخاطب كغيرهم من الأمم؛ وإنما المهم أن تكون اللغة التي وضعوها قائمة على مقاييس فنية عجيبة تدهش العقول وتخلب الألباب. ولم يُعرف أن لغة أخرى غير العربية قام فيها الوضع على مثل هذه الملاحظات والدقائق. فكثير من الألفاظ التي أطلقاها العرب على بعض المسميات أو بعض المعاني لم تكن لمجرد التسمية فحسب، بل كانت فوق ذلك لملاحظات فنية بارعة؛ فمن ذلك أن العربسموا المتاهة المخوفة (مفازة) تفاؤلا بالسلامة من المكاره وارتقابا للنجاة من المخاطر؛ وفي ذلك إشعاع على النفوس وإمداد لها بالطمأنينة والرجاء. . . كما أنهم سموا الملسوع الذي لدغته الأفعى (سليماً) ليوحوا إلى نفسه شيئاً من الأمل بالبرء، وليوقعوا في ذهنه بعض الرجاء في الشفاء. . . وسموا الأعمى (بصيراً) ليهدئوا في نفسه ثورة التبرم ولئلا يشعر بأن العمى منقصة في الحياة أو جناية من الجنايات، أو أنه شيء مما يقصر بالمرء عن مساواة الناس في الحقوق. . .
ومن هذا النوع الشيء الكثير من مفردات اللغة يستدل منه على أن الوضع في العربية قام على أركان غير ملحوظة في سائر اللغات العالمية التي توخى واضعوها تركيب الألفاظ لقاء المعاني المقصودة ليستعان بها على التخاطب والتفاهم. . .(831/20)
وهناك أنواع من المفردات أتقن الواضع العربي أمرها كل إتقان، وأحكم تدبيرها كل إحكام، فجاءت مهندسة الشكل معينة على بلاغة الأساليب صريحة في دلالتها على عظمة هذه اللغة وعلى جلالة قدرها وارتفاع شأنها. وقد وضعت هذه المفردات لتدل دلالة مفاجئة على المعاني المقصودة، فمن ذلك لفظة (ضيزى) فإذا قرأ أحد قوله تعالى: (تلك إذن قسمة ضيزى) علم بالبداهة أن هذه اللفظة إنما تعني وصف القسمة بالجور والنقيصة، وإن كان لم يسبق إلى ذهنه شيء من تفسير معنى اللفظة، وذلك لأن النمط الذي نسجت عليه يدل دلالة واضحة على أن هذه اللفظة لا ترمي لغير معنى الجور والنقص. وكذلك الحال في معظم ألفاظ العربية فإنها جاءت مقارنة لمعانيها فلم توضع في العربية لفظة خشنة لمعنى رقيق، ولا وضعت لفظة رقيقة لمعنى ثقيل. . . وأسباب ذلك أن الواضع كان يتأثر نفسياً ببعض الأعمال أو ببعض الأمور فيضع لها مسميات بحسب ما يسيطر عليه من الشعور نحو تلك الأعمال والمسميات، فكان إذا كره شيئاً أو اشمأز منه سماه باسم فيه وعورة وخشونة، وإذا أحب شيئاً ورغب فيه سماه باسم فيه رقة وليونة؛ فهو مثلا عندما بوغت يوماً ما بقسمة جائرة اشتد غضبه وعظم انزعاجه فانبرى يصف تلك القسمة بوصف يثير أكبر مقادير الاشمئزاز في النفوس فكان لديه من ذلك لفظة (ضيزى). ويرى الواضع شيخاً هرماً خائر القوى فلا يجد إلا أن يطلق عليه تسمية خشنة تنم عن مبلغ ما اعترى هذا الواضع من الدهشة لذلك المنظر الذي هو رمز من رموز الموت، تلك التسمية هي: (القشْعُمان).
ونجد الواضع يستمع إلى شاعر يلقي قصيدة من الشعر الركيك المهلهل فيمج ذوقه مثل هذه القصيدة ويستسخف مثل هذا الشاعر فيؤلف له من بعض الحروف الخاصة تسمية يصب عليها شعوره الحاد، ثم يطلقها عليه ليثأر منه فينقلب ذلك الشاعر وقد حمل اسماً جديداً هو (القرزام)
ويمشي الواضع في طريق كثيرة التبلد والأعقاد فينهكه التعب ويجهده السير فيلقي على الطريق اسماً جديداً ينم عن شدة تذمره منها وذلك الاسم هو (القردودة) وكذلك أطلق نفس الاسم على شدة برد الشتاء. . . وينزعج الواضع من امرأة كثيرة الكلام والصخب تقطع عليه راحته وتشوش عليه طمأنينته فيطلق عليها اسم (القُراقِرة) تشويهاً لها. ويرى رجلاً(831/21)
متهيئاً للشر متربصا لأسباب الشقاق والخصومات على الدوام فيسميه (المقدَحِر). . .
ومن هنا وجدت في العربية مفردات متنافرة الحروف أو ثقيلة على الأسماع، وكان البلغاء يظنونها معيبة في البلاغة غير أنها إذا جاءت في مواقعها الملائمة لها كانت من عرافين البلاغة ومن عيون الكلام. . .
ولقد عيب على الشاعر استعماله كلمة (النقاخ) في هذا البيت
وأحمق ممن يكرع الماء قال لي: ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرّد
مع أن الشاعر نال باستعمال هذه الكلمة توفيقاً عظيماً من البلاغة، لأنه أراد أن يهجو الماء تحدياً لمن نهاه عن الخمر، ولم يكن مناسباً لهذا الهجو إلا أن يطلق على الماء أبشع أسمائه.
والعجيب في هذه اللغة أن كل لفظة موضوعة فيها يمكن الوصول إلى معرفة السر في وضعها واختيارها، وما وضعت في العربية لفظة واحدة لمعنى من المعاني إلا لعلاقة رابطة أو بسبب وثيق. فإن الواضع العربي وضع مثلا لفظة (المضجع) لمعنى وضع الجنب على الأرض، ثم وضع نفس اللفظ لمعنى ميلان النجم للغروب، وأسباب ذلك أن النجم عندما مال للغروب شابه ميلان الرجل للنوم فأطلق عليه ذلك. ولما كان النائم المضطجع قاصراً عن كل عمل فقد قالوا: تضجَّع الرجل إذا قصر في الأمر، وأطلقوا (الضجعة) على الوهن في الرأي، لأن الرأي الواهن أشبه بحالة الراقد الذي لا يفكر تفكيراً سليماً. وأطلقوا لفظة (الضاجع) على الأحمق لأنه أشبه بالنائم لعدم إنتاجه لشيء من الخير والمصلحة، وكذلك أطلقوا هذه اللفظة على منحنى الوادي لأنه مائل كالنائم المضطجع، وأطلقوا لفظة (الضجوع) على السحابة المثقلة بالماء والبطيئة في سيرها كأنهم شبهوها بمن يريد أن يضطجع من ثقل وتراخ. . وهكذا الأمر في كل لفظة من ألفاظهم. . .
وليس للألفاظ المشتقة في العربية أصل لدى الواضع فإنه كان طوراً يبدأ الاشتقاق بالفعل وطوراً يبدأه بالمصدر وطوراً باسم من الأسماء، فمثلا على ذلك أنه أطلق اسم (الأسد) على الحيوان المفترس المعروف، وبعد حين احتاج إلى أن يصوغ منه فعلا فقال (أسِد) أي صار أسداً في بعض خصائصه. . وكذلك الأمر في سائر الألفاظ فإنها تنقسم في الاشتقاق إلى هذه الأقسام. وقد يضع الواضع المعنى المطلوب لأول مرة بصيغة الأمر ثم يشتق منه الماضي، أو بصيغة الماضي ثم يشتق منه باقي الأفعال؛ وربما وضعه بصيغة اسم الفاعل(831/22)
أو اسم المفعول ثم ينتقل فيتصرف في النحت والاشتقاق. . .
وقد أعانت هذه الطرائق في الوضع على توسيع دائرة البلاغة وإنهاض أساليب الكلام، فقد هيأ واضع اللغة للشعراء جملة كبيرة من الوسائل الميسرة لقرض الشعر وتجويده؛ فإعداد مئات من الألفاظ والمترادفات أدى إلى انتعاش القافية في الشعر كما أدى إلى تعدد الأوزان والبحور، ولولا هذه المترادفات الكثيرة لما حصل لدينا هذا الرقم الكبير من البحور والقوافي والتفاعيل، فإن الشاعر إذا لم يجد ملاءمة بين بعض الألفاظ ذات المعنى المقصود وبين وزن التفاعيل استطاع الإتيان بألفاظ أخرى تماشي الوزن وتناسب الروى وتقضي المطلوب. . .
وهناك حروف إن اجتمعت في بعض كلمات دلت على معان متقاربة (فالعين) و (القاف) و (الدال) إن اجتمعت دلت على الشدة والأحكام؛ و (العين) و (الطاء) و (النون) دلت على الإقامة والثبات؛ و (الكاف) و (الراء) تدل على الجمع والترديد؛ و (الهاء) و (الزاي) تدل على الاضطراب والحركة. وهناك حروف إن اجتمعت في كلمات دلت على أنها منقولة إلى العربية من ذلك (الظاء) إذا جاءت بعد (الخاء) وكذلك (الزاي) بعد (الدال). . .
وهناك أسرار وأعاجيب في هذه اللغة المجيدة تثير الدهشة
ذلك تلخيص الكلام عن أسرار الوضع في العربية فكيف يا ترى تيسر لسكان جزيرة العرب أن يؤلفوا لغتهم هذا التأليف المحكم، وكيف كان عليهم أن يضعوا مفرداتها هذا الوضع الفني الدقيق؟!. . .
إن ذلك شيء عجيب يستحق الكلام الطويل. . .
(بغداد)
جلال الحنفي(831/23)
ترجمة وتحليل:
الخلود
لشاعر الحب والجمال لامرتين
ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 1 -
كان لفاجعة لامرتين في حبيبته (جوليا) - وهي موضوع قصة (رفائيل) - أثر عظيم في إرهاف حسه، وإخصاب خياله، وتفتيق عبقريته: فله فيها مراثٍ جياد تفور بالعاطفة الجياشة، وتزخر بالتصوير البارع، وتمتاز بالنفس الطويل.
ولا ينسى مطلع على كتاب (من الأدب الفرنسي) تلك اليد البيضاء التي أسداها إلى أبناء هذا الجيل أستاذنا الجليل الزيات يوم نقل إلى العربية بقلمه الرشيق، وحسه الدقيق، وأسلوبه الذي لا يجارى، قصائدَ (البحيرة، والوحدة، والوادي، والمساء، والذكرى، والدعاء) فأظهرنا على نفسية شاعر عظيم، وعلمنا كيف نترجم للخالدين. . .
أما القصيدة التي نقدمها اليوم إلى الرسالة - بعد غيبتنا الطويلة - فهي إحدى مراثي لامرتين لحبيبته، وهي فياضة بصوره وأخيلته، تصف بلباقة ما كان يكظمه من الحزن، وتفصِّل بأسلوب شعري علاقة الروح بالبدن، وتقوِّي في الفطرة السليمة عقيدة (الخلود).
نظم الشاعر هذه القصيدة سنة 1817 بعد أن مضى زمن قصير على موت جوليا وأفول شمسها، وكان الحزن لا يزال يلوع قلبه، ويحطم أعصابه؛ فلا غرو إذا كانت نغماته في كل فقرة تنطلق كالزفرات وتوشك أن تسكب الدموع؛ ولا يدع إذا شرع - في استهلال قصيدته - يصور فكرة الفناء بأسلوب يثير الخشوع.
فالشمس ليست عنده آية النهار ومصباح الوجود، وإنما هي شمس أيامنا السريعة التي ما تكاد تشرق حتى تؤمر بالغروب؛ فتشحب في صباحها قبيل ضحاها، وتستبدل اصفرارها بسَناها، وتأفل متعثرةً بخطاها، وتضنُّ على جباهنا الكليلة الفاترة، بأشعتها المرتجفة الحائرة، ثم تمن بها علينا باهتةً حائلة تتماوت بين يدي الليل الهاجم، فتتوالد في عقِبها ظلمات حوالك يولي منها كل شيء فراراً، ويمتلئ من سوادها رعباً، وينمحي في طياتها(831/24)
ذعراً ورهباً.
(إن شمس أيامنا تشحب مع صبحها المتنفس؛
وعلى جِباهنا الكليلة تلقي وهي تتردَّد
أشعة مرتجفة تقاوم الليل المعسعس:
فيولد الظلام، ويموت النهار، وينمحي كل شيء ويتبدد!)
وجدير بالإنسان الذي وُهب حساسة وشعوراً أن يتمثل فكرة الفناء كلما رأى مغرب الشمس، وحضر مأتم النهار، وشهد مولد الليل! وجدير به أن يقشعرَّ جلده ويلين قلبه لهذا المنظر الخاشع المؤثر، وأن يوجس في نفسه خيفةً من ظلام الدجى وأن يتلمس مواطئ قدميه حيثما أسرى، فإذا أحس أنه على شفا حفرة أو لدى شفير مهوى، تراجع منتفضاً ناكصاً على عقبيه، وظل متراجعاً حتى يثوب حسه إليه.
ولقد يسمع أثناء نكوصه وانقلابه ألحاناً تشكو، وأنغاماً تبكي، وزفرات تتصاعد حرَّى، وأنفاساً تختنق كرباً، ونواقيس تنتحب ولْهى، وأَجراساً تعلن نعياً. . . فتلك أصوات تعزي العشاق في فقد أحبابهم، والإخوان في رحيل صحابهم، يوم جثوِّهم على سُرُر الموت لا يتزحزحون، وتشبثهم بأقدامها لا يتحولون. فلتتمشَّ الرعدة في أوصال الإنسان إذا ما سمع هذه النغمات، فإنها - مهما بعدت عنه - نذير بالفناء، يعكر في القلب صفو الهناء.
(ما أحرى الإنسان أن يقشعر لهذا المنظر ويلين
ويتراجع منتفضاً عن مهاوي الشقاء،
ثم يرتعد حين يسمع لحن الموت الحزين
الذي يوشك أن يتعالى في الفضاء،
ومحتبس الأنفاس من عاشقة ولْهى أو أخ حيران
متشبثين بأقدام السرير الرهيب،
أو ناقوساً منتحباً يُنبئ صوته الهيمان
أن شمس بائس شقي آثرت المغيب!)
أما وإن هذه الشمس الغاربة الخليقة بتحية الشعراء، فإنها رمز حزين لاحتضار بائس يستحق العزاء! فليضع الشاعر يده على ما يكمن في الموت من أسرار، وليسمِّ المحتضر(831/25)
(فدية) تستغفر بها السماء من ذنوب الأرض وخطاياها؛ وليناج روحه مخففاً عنه ما غشيه من سكرة الموت ورهبة الحساب، غابطاً إياه على رحيله من دار الفناء إلى الملأ الأعلى، حيث تتغير حياته، وتتبدل عاداته؛ فلن يحمل سيفه الصقيل ليطيح بالرءوس ظلماً وعدواناً، ولن يقطب جبينه ويحدق بصره ليغاضب إنساناً، ولن يطلب الشر ويسعى إليه، فسيلهمه الله كل معاني الخير، وسيجعله ملكاً رحيماً يضئ بنوره ما حوله، ويحمل بيده مشعلا قدسياً يمض منه بريق الرفق والحنان.
(سلاماً أيها المحتضر! إنك لم تبدُ لحظة في دنياك
- يا فدية السماء - بهذا المنظر المخيف
الذي غشَّاك به ذعرُك أو خطاياك.
لن تشهر ذراعك أبداً سيفك الرهيف؛
ولم يعُدْ لك جبين عبوس، ولا بصر حديد:
فسيلهمك الإله الرحيم مواساة الضعفاء.
وأنت لا تبيد. . . بل ستنطلق في عالم الخلود،
حاملاً بيدك مشعلاً قدسياً يا ملك السماء!)
طوبى لروح المحتضر! فإن مآله إلى عالم الأنوار المشعشع إلى الأبد، بينما الأحياء في دار الفناء يقضون نصف حياتهم بلا نور؛ فمتى ولد الليل هجعت العيون، وانطفأت الأنوار، وامتد الظلام.
طوبى لهذا الروح! فإنه سيكون أحد هذه الأرواح العلوية التي تحمل مشاعلها القدسية، وتنزل من السماء إلى الأرض لتتسور بيوت النائمين، فتدنو من فراشهم، وترقد إلى جانبهم، ثم تسبح بهم في بحر من نورها الأزلي، وتُغرق أجفانهم في موج من ضيائها الأبدي؛ وتريهم في منامهم أخيلة رائعة، وأضواء ساطعة؛ وتريهم الليل نهاراً، والسراب أنهاراً؛ وتريهم الهائمين بين القبور يفتحون بيد الأمل أبواب الخلود، ويدخلون بسلام آمنين
(وإذا أحيل بين بصري الحسير وبين النور
أقبلت تغرق جفني بنهار أصفى وأزهى؛
فيفتح لي الأمل - وأنا قريب منك هائم بين القبور(831/26)
معتصم بالإيمان - عالماً أسمى وأبهى. . .)
وهذا العالم السرمدي الذي تنعم به الأرواح في منامها ودَّ الشاعر لو يسمو بنفسه إلى آفاقه، لأنه الموطن الأول الذي نزح الإنسان منه فينبغي أن يعود إليه؛ ولكنه يرى أغلال حسه وقيود بدنه تعوقه عن الطيران، فليست يداه جناحين فيحلق بهما في السماء، وإنما هما وسائر أعضائه سجن ضيق يتحرك فيه بقدر، ويدور منه على حذر. فمن له بتحطيم أغلاله، وفك قيوده، وفتح سجنه، وجعلهِ طائراً يطير سوى هذا الروح الطليق الذي يمضي في اللانهاية حيث يشاء؟
فليستغث به عله يُصرخه، وليستعجله إلى نجدته قبل أن يقذف بنفسه إلى العالم المجهول، وهو في غمرات الحيرةوالذهول.
(تعال إذن. . . تعال حطم أغلال حسي!
ثم افتح سجني وأعرني جناحيك فأطير على رسلي!
ما يبطئ بك؟ أسرع فإني قاذف بنفسي
إلى هذا العالم المجهول غايتي وأصلي. . .)
ويخيل إلى الشاعر - وما ذاك منه سوى خيال - أن روحا لبى نداءه، فحطم أغلاله، وأطلقه من سجنه، وألقى في روعه أنَّ في مكنته أن يطير؛ فينظر فيما حوله حائراً شروداً، ويرى أنه خُلق خلقاً جديداً؛ فتعجب نفسه من نفسه، ويقارن بين حاضره وأمسه. ويتساءل عن الذي فك قيود حسه، ويستفهم عن منقلبه ومصيره، وعن سر مبعثه ونشوره. ويستعلم عن الضيف المجهول الذي أجابه إلى رجيته، وعن مثواه العلوي الذي كان فيه وعن غرضه حين يسعى إليه.
(من حطم أغلالي؟ من أنا وما ينبغي أن أكون؟
إني أموت. . . ولا أفهم سر بعثي ونشوري. . .
عبثاً أسألك أيها الضيف المجهول والروح الأمين!
أين كان مثواك قبل أن ترد حياتي وشعوري؟)
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح(831/27)
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراي
- 3 -
يزعم سارتر أخذ هذه الفلسفة عن الفليسوف الألماني المعاصر هيديجر ويجب أن نعرف أن هيديجر هذا كان يلوّح للناس لينظروا إلى فلسفته بصفتها بشيراً ورسولا من لدن الاشتراكية الألمانية. وبعد أن دالت دولة هتلر رأيناه في كل ما وصل إلينا من آرائه تقريباً يتجه اتجاهاً لا هو بالاشتراكي ولا هو بالإلحادي ولا هو بالشيوعي، وإنما هو أقرب - كل القرب - إلى أن يكون دينياً منه إلى أي شيء آخر. يزاد على هذا أنه يدعو الناس إلى أن ينظروا إلى فلسفته القديمة بهذا المنظار ويؤولوها بما يتفق وهذا المعنى الجديد. فأي شيء بقى إذن للتلميذ وعشاقه؟
يزعمون أن الوجودية ليست بدعاً وإنما قال بها الفيلسوف الطبيعي باسكال قبل سنة 1662، ولكن باسكال هذا حينما أحس بوجوده وتعمق هذا الوجود، وحينما نظر إلى الموجودات الأخرى وتعمق النظر راعه أن يرى الإنسان - وهو أسمى الموجودات طراً - ينغمس في شهواته الحسية الجامحة مهملا عقله فصاح صيحته الخالدة: (عجبي للإنسان يهمل عقله الذي به صار وجوده)! ولما أدمن النظر العميق في الكون، أدرك خالقه الأعظم سبحانه وآمن به أعمق إيمان، ثم انصرف ببحثه إلى الدين وبدأ يؤلف كتابه المشهور في الدفاع عن المسيحية فكان أشبه في ذلك بالرجل المتصوف.
فهل فعل سارتر مثل ما فعل؟ لقد قال إن للسن عند باسكال عذره!!
وعلى نهج باسكال، أو قريب منه، سار كيير كجارد الفيلسوف الدنمركي وكثيرون غيره أخص منهم بالذكر الكاتب المسرحي الفيلسوف جابرييل مارسيل الذي توصل إلى معرفة الله وبين أن أسمى صلة بين الموجودات ما كانت قائمة على المحبة، وأسمى أنواع المحبة محبة واجب الوجود سبحانه.
لم يبق إذن لاتحاد شركات سارتر وآخرين كما يسمونهم في فرنسا إلا أن يدعوا أنهم وريثوا فلسفة نيتشه وأنهم على طريقه ناكبون. فما هي فلسفة نيتشه هذا؟ وهل الغرض الذي قامت من أجله هذه الفلسفة في ألمانيا هو الغرض الذي تقوم من أجله في فرنسا؟ وهل(831/29)
يمكن لزاعم أن يزعم أنه حتى هذه النظرية - نظرية نيتشه - كتب لها البقاء؟
أما من الناحية العلمية فلم يعد لهذا النظرية ظل من الوجود بعد زوال ظروفها وبهذا قضت على نفسها بنفسها.
وأما الغرض الذي قامت من أجله هذه الفلسفة في ألمانيا فهو تخليص الشعب من أزماته النفسية التي حلت به إثر طغيان الروح الرومانتيكية عليه كما قدمنا، وتخليص كذلك من سلطان الدين وسيطرة رجاله، لأن نيتشه كان يظن أنهم أصل كل شر، وأن الدين علم الناس العبودية للناس، هذا فضلا عن بث روح الجندية القوية التي لا تعتمد على شيء خارج عن ذاتها والتي لا تبال بشيء في الشبيبة، لأن موقع ألمانيا الجغرافي يحتم عليها ذلك.
لهذا جعل إنسانه الأعلى هو ذلك الذي يحقق لذاته وآلامه وحاجاته، أو بالمعنى الاصطلاحي (يحقق وجوده) بنفسه وبفعله الإرادي دون خوف أو ترقب لإرادة السماوات فهي لا تمطر ذهباً ولا فضة.
وليس لنا إلا اللحظة التي نحن فيها: إما عشنا عظماء وإلا فلنمت عظماء. ومن السخف أن ينظر الإنسان إلى تالد مجده فهذا شيء قد مات، ومن الغباء النظر إلى الموتى. لنفعل دائماً بإرادتنا شيئاً جديداً نجدد به وجودنا، ولنكن أقوياء نطفر قدما نحو الأمام، وويل لمن ينظر وراءه أو ينتظر عون الإله. فليست الحياة هي التي تحدد للإرادة وجهتها، وإنما الإرادة هي التي تحدد معنى الحياة ووجهتها.
وبفرض أننا تغاضينا عما في هذه النظرية من التناقض البين فمهما يكن من خطئها أو صوابها، فإنها على كل حال قد ماتت واستنفدت غرضها ووجودها أيضاً في مهدها ألمانيا. فماذا يقصد هذا الرجل المعاصر بنشر نزواته في فرنسا ومحاولة نشرها خارج فرنسا؟ شتان بين ما أراد نيتشه وبين ما يريد (اتحاد الشذوذ)، فإنهم يهملون الغاية؛ لأنهم ليسوا لها أكفاء كما أثبتت الحوادث الأخيرة في حرب هتلر، ويتشبثون بالوسيلة ولا هم لهم إلا الإباحة وهتك ستر ما بقي للناس من وشل الحياء.
وفي هذا يقول شاب فرنسي من الوجوديين المتحمسين يصف حال الشبان هناك بعد تفشي هذا المذهب فيهم واعتناقهم له: (كان الرجل البرجوازي يطالب أسرته بأن تتكلم كلاماً(831/30)
مهذبا وتتأدب بآداب حسنة. . . ولكن ذلك لم يمنع من إتيان المفاسد سراً). (فالأجيال الناشئة إذ تنبذ هذه الحياة الزائفة تصر عمداً على كل هذه النقط التي يراد الحيلولة بينها وبينهم في سنهم الصغيرة؛ فهم يقضون كل يومهم في ضروب التسلية في السينما وصالات الرقص والحانات، وهم يمجدون الكسل ويمارسونه، ويتكلمون كما تتكلم شخصيات سارتر، لغة مشوبة باللهجة الدارجة مملوءة بالألفاظ التي يأباها الحياء. وليس هذا عندهم مجرد ميل طبيعي، بل هم يمون إلى ذلك روح عدم الاكتراث، وهو روح الحياة التي قد خلصت من الأوهام بما فيها وهم اللذة نفسه، ويجمعون إلى ذلك أيضاً نظراً منيراً يعرفون به أن (الوجود) هو هذا، وأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل سوى أن يكون موجوداً) اهـ
ولكم بعد هذا أن تفرقوا بين غاية نيتشه وغاية سارتر إن استطعتم إلى ذلك سبيلا.
وأخيراً قولوا لي بربكم مالي أرى الإنسان هكذا يأبى إلا أن يكون عبداً؟
إنه يريد واهماً أن يتخلص من (عبودية) اختيارية سامية يحتمها العقل السليم ويوجهها الذوق المهذب؛ وأقصد بها عبودية المدين للدائن، عبودية المحسن إليه للمحسن، أستغفر الله! فما كان مثل هذا عبودية! وإنما هو الشكر: شكر الموجود لمن أوجده، شكر المخلوق للخالق.
يخدعه الشيطان ويخدع نفسه بوجوب التخلص من هذه العبودية (الثقيلة البغيضة)! ثم يخدع نفسه بوجوب تعطيل الفكر من النظر في آثار رحمة هذا المعبود لكي لا يكون في ذلك منغص لوجوده، وهذا غاية الإفلاس.
ويخدع المسكين نفسه مرة أخرى فيخيل إليه أنه قد صار - بهذا - موجوداً بعد أن لم يكن كذلك؛ لأنه - في زعمه - قد صار (حراً). وما هذه الحرية لو تبصرناها إلا ارتماء في هوة أحط دركات العبودية وأقذرها، وإنها لتتنافى ويستحيل وجودها مع أبسط قواعد التفكير السليم.
أو تدرون ماذا؟ إن الفلسفة حين ارتقت وتقدمت اكتشفت هذا الكشف الباهر وهو أنه إذا كان هنالك إله فهو الشهوة، وإذا كاهن لا بد للإنسان من عبودية فأنعم بها من معبود؛ لأنه يكون حينئذ بكامل حريته، ومهما تكن فهي على كل حال خير ألف مرة من العبودية للإله؟!
رحمك الله يا من قلت: (يظن ابن آدم أنه حر وذلك لجهله مصدر العلل التي تجره لما يقوم(831/31)
به من عمل)
ولكن ليس لنا أن نعجب فهذه بدعة من بدع العصور الحديثة (المودرن) التي تتوهم الحرية في هذا الضرب من الجنون الذي يسمونه الوجودية، وما زالت الليالي حبالى. . .!
فوا ضيعة هذا الشريد المسكين (الإنسان)! إن أهون ما يقال فيه هو أنه عبد بفطرته. ذلكم هو الرأي المتواضع الذي أرجو أن تسمحوا لي بتقريره وقد بلغنا هذا الموضع من حديثنا.
هذه عقدة الفاجعة الإنسانية التي يعاد تمثيلها اليوم على مسرح المدنية باسم الفلسفة الحديثة.
والحق أننا نكون أسوا حالا لو انتظرنا منهم غير هذا. وماذا تنتظر من قوم (خليين) يجلسون في المقاهي وفي المجتمعات والصالات يزجون فراغهم بالمناقشة في أي شيء: في أصل الكونن وكنه الإله، ويصفون الميتافيزيقيا وحقيقة الوجود، وما إلى ذلك من أي شيء يخطر ببالهم؛ ويحكمون على هذا كله حكم من شاهد واختبر وتثبت ما داموا هم قد اقتنعوا بصحة هذا أو بطلان ذاك! ماذا ننتظر من هؤلاء القوم أكثر من انتظارنا من جماعة من الصبية نشأوا في بيت ريفي منعزل: لم يروا أحداً ولم يرهم ولم يختلط بهم أحد ولا يعرفون - فيما عدا بينهم - عن العالم الخارجي شيئاً؛ ثم ننتظر منهم أن يصفوا لنا حياة الزنج في مجاهل أفريقيا، وناطحات السحاب في أمريكا، وطرق المناقشة في هيئة الأمم المتحدة - وصفاً دقيقاً صميما!
والواقع أنه لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء إلا أن أولئك نسميهم فلاسفة وهؤلاء نسميهم صبية، كما نطلق على هذا (نبيل) وعلى ذاك (ابن المقفع).
(يتبع)
إبراهيم البطراوي(831/32)
رسالة العلم
من مشاهير رجال العلم:
بافلوف 1849 - 1936
يعد العلامة أفان بتروفيتش بافلوف من أشهر رجال العلم الحديث. وقد تبوأ مكانة سامية ومقاماً ملحوظاً بين علماء روسيا.
بدأت شهرته كعالم فيسولوجي منذ سنوات عديدة، عندما شرح المبادئ الرئيسية لعملية الهضم، ونجح في ذلك البحث العظيم. وكان يحافظ على راحة الحيوان الذي يجري عليه تجاربه أثناء دراسته دورته الدموية. كان يقول إنه إذا تألم الحيوان أثناء إجراء الاختبارات عليه، فإن أعصابه المضطربة تؤثر في العمليات الفسيولوجية التي تحدث في جسمه. فإن الألم يمنع الغدد التي تمد المعدة بالعصارات الهاضمة من إفراز هذه العصارات إفرازاً طبيعياً. وكان هذا الأمر باعثاً له على محاولته التخلص من الألم. فانعدامه شرط من الشروط الرئيسية لنجاح البحث الفسيولوجي. ولذلك سنحت الفرصة لبافلوف - حينما أنشأ الأمير أولد نبرج معهد الأبحاث الفسيولوجية ببترغراد عام 1891 - أن ينشئ معملاً خاصاً ومستشفى بالمعهد ليمارس فيهما إجراء التجارب على الحيوان بأقل ألم. ويعد هذا المعمل الأول من نوعه في العالم.
وقد استطاع بافلوف في أوائل تجاربه على الدورة الدموية، أن يقلل بقدر المستطاع من آلام الحيوان أثناء إجراء العمليات الجراحية له، بطريقة فنية دقيقة. وكانت عملياته في العروق من السرعة بمكان حتى أن الكلب الذي كانت تجرى له هذه العملية لم يكن يشعر بها على الإطلاق. وتعود الكلب أن يقفز طواعية يوماً بعد يوم وفي عروقه أنابيب لقياس ضغط الدم، دون أن يشعر بوجودها.
وقد ساعدته مهارته الفائقة في الجراحة أن يثبت - عن طريق الاختبار - أن هناك أعصاباً معينة في الجسم تتحكم على الغدد التي تمد المعدة بالعصارات الهاضمة.
وكان بافلوف يدعو إلى دراسة التركيب الفسيولوجي للجسم الحي دون الإخلال من نظام عمله؛ ولذلك يقول: (نحن لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بتحطيم التركيب الآلي للجسم الحي، بما فيه من أسرار خفية تحتل أفكارنا منذ زمن بعيد، بل طول حياتنا. فإذا كانت الميكانيكا(831/33)
ترفض أحياناً أن تغير أو تتداخل مع تركيب بعض الآلات الدقيقة، حتى لا تفسد آليتها؛ وإذا كان الفنان يخشى في رهبة أن يلمس بريشته إنتاج فنان عظيم، أليس العلماء الفسيولوجيون الذين يتعاملون مع أدق تركيب آلي - وهو الكائن الحي - أليس لهم نفس هذا الشعور؟)
وقد نال بافلوف جائزة نوبل عن أبحاثه في عملية الهضم عام 1904. ومع ذلك فقد اشتهر في أبحاث أخرى، كبحثه الشهير في نشاط المخ المعروف باسم (الانعكاسات الشرطية) , ولو أن هذا البحث يبدو مختلفاً عن بحثه السابق، فإنه يتفق معه في موضوعين: فعل الغدد الهاضمة، وإجراء التجارب بدون ألم.
ومن الجلي أنه إذا كان الألم يعرقل عملية المعدة الفسيولوجية، فإنه لا بد أن يعرقل أيضاً عملية المخ الفسيولوجية. إذاً يجب أن تجرى التجارب على المخ بدون ألم، وتراقب في عناية زائدة. ولذلك كان على بافلوف أن ينشئ معملاً خاصاً لإجراء اختباراته على الكلاب بعيداً عن تدخل المختبر، نفسه والأصوات، بل حتى أشعة الشمس.
إن الصلة بين المخ وعملية الهضم ناتجة من الظاهرة الطبيعية التي تربط الفم بالمعدة، تلك الظاهرة التي تدعى (اللعاب). فحينما يشاهد كلب أو إنسان، الطعام، أو يشمه، أو حتى عندما يسمع وقع أقدام الخادم وهي مقبلة به، فإن لعابه يسيل. ويسيل كذلك، بمجرد أن يضع الكلب الطعام في فمه فيأخذ في مضغه. ويفسر هذا الفعل بأنه انعكاس بدأ من التأثير الكيماوي للطعام على سطح الفم الداخلي، تبعته رسالة على طول المسار العصبي، تصل إلى عضلات الفك، ولكن، لماذا يسيل لعاب الكلب بمجرد سماعه وقع خطوات الخادم؟ هل تدخل عقله وفسر ذلك الصوت إلى الفم؟ يقول بافلوف: لسنا في حاجة إلى معرفة أن الكلب لا يعقل. إن الصوت يؤثر على أذن الكلب، فتذهب رسالة إلى الأغشية، ثم إلى الفم. ولكن، لماذا ترسل الأغشية الرسالة إلى الفم؟ ذلك لأنه في الحالات السابقة كانت تعقب خطوات الخادم عملية الهضم في انتظام وبذلك اختلطت الرسائل التي نشأت في الجهاز العصبي من ذلك الصوت بالرسائل التي ولدت عملية المضغ. ونشأ من ذلك أنه في مرة، تبعث الرسائل العصبية التي نشأت من تأثيره، برسالة إلى الفم ليقوم بعملية، يسيل اللعاب.
ويبدو من ذلك، أن أي رد فعل يعزى إلى ذكاء الحيوان، كمعرفة أن صوت وقع الأقدام(831/34)
يعني الطعام، نستطيع تفسيره تفسيراً صحيحاً بمصطلحات من الرسائل العصبية والانعكاسات. فلماذا إذاً لا نعزو كل فعل نفسره بالذكاء إلى انعكاسات محضة على قدر كبير من التعقد؟ ذلك كان موضوع بحث بافلوف، وهذا سبب أهمية آرائه.
جعل بافلوف يجري الاختبارات على الحيوانات ويبحث هو وأتباعه في نشاط الانعكاسات وموقعها من السلوك. وبذلك حصل على معلومات قيمة. واستطاع بتنشيط بعض الانعكاسات على بعضها الآخر وضع الكلب في حالات من النوم والتنويم والنورستانيا.
وعلى ذلك فسلوك الكلب أثناء هذه التجارب يستطاع وصفه بأنه من تدبير الانعكاسات. وتلك نتيجة غريبة!!
كان بافلوف من رجال العلم الذين يؤمنون بأن رفاهية العالم وسلامته، ورقي الإنسان وتقدمه، لا تتوفر إلا عن طريق العلم. ولذلك كان يدعو إلى ذلك في محاضرات، وكانت أهمها تلك التي يقول فيها (إني مقتنع تمام الاقتناع أننا سنجد في هذا الطريق - أي طريق العلم - أن العقل البشري قد انتصر انتصاراً تاماً على أعظم معضلاته، وهو معرفة التركيب الآلي وقوانين طبيعة البشر. وبهذا فقط يستطيع الإنسان أن يحقق لنفسه سعادة دائمة كاملة. دع العقل يسمو من نصر إلى نصر على الطبيعة المحيطة به، دعه ينتصر للحياة البشرية، لا على سطح الأرض فحسب، بل بين أعماق البحار، بل وفوق أجواز الفضاء. دعه يسخر لخدماته نشاطاً فائقاً يفيض على العالم من بقعة إلى أخرى. دعه يسيطر على السماء حتى تنتقل أفكاره. ومع ذلك، فالمخلوق الحي ذاته، ذلك الذي ينقاد بقوى حالكة إلى الحروب والثورات وما فيها من شرور، ينتج لنفسه من وسائل الدمار ما يجعله يرتد إلى الحياة البهيمية، ويقاسي من الآلام ما يجل عن الوصف. العلم الصحيح الدقيق في طبيعة البشر ذاتها، هو الذي سينقذه من ظلامه الحالي، ويطهره من عاره على سطح الأرض المعمورة)
ولد بافلوف في مقاطعة زيازان بروسيا. وتلقى العلم في بطرسبرج. وكان والده كاهناً ريفياً، وأقاربه مشهورين بأنهم محاربون من الطراز الأول. ولذلك كان بافلوف يهوى فلاحة البساتين والملاكمة وغيرها من الألعاب الرياضية التي تحافظ على قوة عضلاته. فقد كانت شيئاً ضرورياً له في الجراحة التي كان بارزاً فيها. وكان دقيقاً في مواعيد عمله، وأوقات(831/35)
راحته، فيثابر على العمل في ساعات معينة، وحينما ينتهي منه يترك معمله، إلى أن يعود إليه في ساعة معينة في صباح اليوم التالي. وكان ذا نشاط عظيم ومقدرة فائقة في كبح جماح نفسه.
وفي عام 1897 عين أستاذاً للفسيولوجيا بالأكاديمية الحربية. وفي عام 1907 أصبح عضواً من أعضاء علماء أكاديمية سان بطرسبرج. ومنح وسام كوبلي من الجمعية الملكية عام 1915.
وكان بافلوف لا يميل إلى البلشفية، ولذلك كان يناهضها في كل مكان، ولا يخفي كراهيته لها، بل يصرح بذلك لتلاميذه في كل مناسبة.
ثم اختفى ذلك الرجل العظيم خلف ستار روسيا الحديدي. وتساءلت الأوساط العلمية في أوربا إذ ذاك: ما الذي يحدث له هناك؟ وماذا يعمل في روسيا؟ وهل هو حي أو في عداد الأموات؟
وأخيراً، تبين، أنه على الرغم من عداوته للبلشفية، فقد بذل لينين مجهودات كبيرة لمده بالمهمات العلمية، وبذلك حصل على كل ما يلزمه لمواصلة أبحاثه.
وفي عيد ميلاده الخامس والستين، منحته الحكومة الروسية - وكان لا يزال ينتقدها - مبلغاً كبيراً من المال لتوسيع معامله، ومعاشاً سنوياً قدره 20 ألف روبل.
وظل يواصل أبحاثه الهامة حتى مات في سن السابعة والثمانين
محمد فتحي عبد الوهاب(831/36)
نفسي حزينة حتى الموت
للأديب أميل خليل بيدس
(الكلمة الأخيرة التي قالها خليل بيدس لشريكة حياته قبل أن
ينام ليظل نائماً، فلا يفيق من رقاده الأبدي)!
(نفسي حزينة حتى الموت)! ما أسمى نفسك هذه يا أبي؟ ما أنبل القلب الفياض بالعاطفة، المختلج بالشعور الهادئ الحزين الذي يستطيع وهو يعاني سكرات الموت ويشرب من كأس الحمام أن يعبر عن خلجاته بهذه الكلمات القليلة البسيطة؟!
ما أصفى هذه النفس الحزينة التي شاركت كل متألم ألمه، وعانت مع كل شقي لوعته، ورمضت مع كل من أرمضته البرحاء، وأثخنته ضربات الدهر بالجراح؟!
هكذا كان حزن نفسك وألمها! هكذا كانت تباريحك انعكاساً لتباريح البشرية، وصدى لبؤس الإنسانية، وصورة لما يعانيه إحساسك المرهف المصقول من شعور من يكون من المسئولين أمام الله للتخفيف من كروب الإنسانية وأوصابها!
كنت مملوءاً حياة، وكنت تحب الحياة وتحب كل ما هو حي، وكانت الحياة في نظرك هي الحركة والعمل، وكانت الحياة في ناموسك كل شيء جميل.
فالفن الجميل هو الحياة؛ والأدب الجميل هو الحياة؛ والإنسان الجميل في نفسه وقلبه وأخلاقه وأعماله وحزنه وألمه وفرحه وانشراحه، هو الحياة؛ وما عدا ذلك جميعاً فهو الموت والاندثار، وهو الفناء والزوال!
كنت تحب الحياة لأنك عشت في سبيل الحياة، وتفانيت من أجل الحياة، وجاهدت للإعلاء من شأن الحياة. . . والحياة من عمل الله وصنعه؛ والحياة هي الإنسانية التي أحببت والتي جاهدت من أجله وضحيت في سبيلها، لأنك أحببتها وأخلصت لها.
ما أرق هذا القلب المشبع بخوف الله، المستنير بهدى الله، العامل على خدمة الحياة التي خلقها الله!
ما أرق هذا القلب الذي شع نوراً ساطعاً ساحراً، وومضت فيه ومضات من القوة السماوية الكامنة فيه!(831/37)
ما أرق هذا القلب الذي ما نزع يوماً إلى النفاق والرياء، وما جنح مرة واحدة إلى المكر والخديعة والدهاء؛ بل كان عنوان الطيبة ورسولا من رسل الخير، أدى الرسالة التي ناطه الله بها خير أداء وعلى أحسن وجه وأتم صورة.
كنت تحيي الليل تسطر بدائعك الزاخرة. وكنت تتعذب في جسمك المتعب المرهق المحتاج إلى الراحة وإلى الغذاء. . كنت تقنع بالقليل من القوت تقيم به الأود، لأن نفسك الملهمة كانت (حزينة حتى الموت) ولأنك كنت تريد أن تسكب على القرطاس حروفاً متسقة العقود من الكلم الكثير الذي نصب الله لسطوره أبهى المعاني وأبدعها.
(نفسك حزينة حتى الموت) ولكن دمي جمد في عروقي، وقلبي تحول إلى حجر ساعة أراحك الموت من حزن نفسك. . .
(نفسك حزينة حتى الموت) ولكن صدري تمزق، وقلبي سالت دماؤه ساعة رأيت ضبابة الموت منتشرة على محياك. . .
وإن في فؤادي من نار الحزن ما يحرق جسدي. . لأن مرارة الحياة تمثلت لي بانفصالي عمن كان سبب وجودي وكياني.
أميل خليل بيدس(831/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
الفن والحياة بيني وبين الدكتور طه حسين:
كان للكلمتين اللتين كتبتهما عن (الفن والحياة) على صفحات (الرسالة) أثرهما البعيد عند أديبين كبيرين هما الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم، فقد عقب عليهما الدكتور في (الأهرام) بكلمة مستفيضة وكذلك فعل الأستاذ الحكيم في (أخبار اليوم).
أما الكلمة الأولى فقد حاول فيها الدكتور أن يرسم الطريق فخانه التوفيق. . . ومعذرة إذا ما بدأت ردي بهذه العبارة لأني لا أعرف في النقد صداقة ولا مجاملة! وأشهد أنني أعجبت كل الإعجاب بروح الدكتور حين بدأ تعقيبه على ما كتبت بهذه الكلمات: (وكذلك تشيع في بيئات المثقفين ألفاظ ظاهرة الوضوح شديدة الغموض (يقصد لفظي الفن والحياة) ومع ذلك يخيل إليهم أنهم يفهمونها حق الفهم فإذا أرادوا تفسيرها لم يحققوا منها شيئاً). . . أعجبت بهذه الكلمات لأن صاحبها قد نسي ما بيني وبينه من صلات الود والصداقة في سبيل إبداء رأي يعتقد أنه الحق، وكذلك أفعل أنا حين أؤكد لقرَّاء (الرسالة) أنني أصبت بخيبة أمل مريرة حين خرجت من مقال الدكتور بحقيقة ناصعة، وهي أن كل ما كتبه حول (الفن والحياة) لم يكن سوى (لخبطة) من طراز ممتاز!!
ولن أعيد اليوم ما قلته بالأمس حول (الفن والحياة) فقد قرأه الناس وعرفوا رأيي فيه، كل ما يهمني هو أن أنقل إليهم تلك الخطوط الرئيسية التي خرجت بها من مقال الدكتور طه حسين، ليروا أينا كان أكثر فهماً لموضوعه وأينا كان أوفر احتشاداً لفنه!
لقد تساءل الدكتور في ثنايا كلمته: هل يتاح للإنتاج الفني أن يبلغ ذروته دون أن يكون هناك اتصال بالحياة العامة الصاخبة أم لا سبيل إلى تلك الذروة إلا إذا اضطرب الكاتب أو الشاعر أو صاحب الفن في كل ما يضطرب الناس فيه من شئون حياتهم اليومية على اختلافها وتنوعها واختلاطها وتعقدها في أكثر الأحيان؟ إن صاحب الفن في رأي الدكتور وكذلك الكاتب والشاعر ليسوا محتاجين إلى أن يعيشوا في أعماق المجتمع لينتجوا فناً تنبض فيه الحياة؛ (فالقراءة والاستمتاع من أخصب المصادر التي تتيح للأدباء وأصحاب الفن أن يتصلوا بالحياة ويسيغوها، وتتيح لهم بعد ذلك أن يصوروها خيراً من الذين يبلون(831/39)
حلوها ومرها ويسعدون بنعيمها ويشقون بجحيمها)!
إلى هنا ونقف قليلا لنناقش هذه الكلمات التي تحفل بطلاوة الأسلوب وتفتقر إلى سلامة النطق. . . إذا أمكنك أن تصدق أن (القراءة والاستماع) من أخصب المصادر للاتصال بالحياة، فلا بأس عليك إذا كنت من بلد آخر غير مصر أن تقرأ ما نقله إليك عنها بعض الكتاب المغرضين من أمثال وندل ويلكي، لتستطيع بعد ذلك أن تصور الحياة المصرية خيراً من الذين بلوا حلوها ومرها وسعدوا بنعيمها وشقوا بجحيمها كما يقول الدكتور طه حسين! ولا بأس عليك أيضاً إذا كنت من بلد آخر غير مصر أن تستمع لكاتب مثل جان كوكتو إذا ما حدثك عن البيئة الشعبية في مصر لتستطيع بعد ذلك أن تصور هذه البيئة خير تصوير، مع أن كوكتو مثلا لم يشهد من معالم الحياة المصرية غير فندق الكونتننتال ودار الأوبرا وأهرام الجيزة وجامعة فؤاد!
أريد أن أقول لك إن القراءة قد تنقل إليك الحقائق مشوهة وإن الاستماع قد يطلعك على الوقائع محرفة، ومعنى هذا أن الأديب إذا اتصل بالحياة عن هذا الطريق فهو اتصال لا فائدة منه في الأغلب الأعم ولا خير فيه، لأنه اتصال مشوه المعالم ممسوخ السمات!
إن الدكتور يستشهد على صدق ما ذهب إليه بما كتب جيته عن الشرق، فهو (قد كتب مثلاً أشياء رائعة صادقة فيها كثير من الدقة والصدق وحسن الاستقصاء مع أنه لم يزر الشرق ولم يشهد حياة الناس فيه، وإنما قرأ كتب الذين رحلوا إلى الشرق وقرأ ما ترجم من آثار الشرقيين في عصره ففهم الشرق خيراً مما فهمه الذين رحلوا إليه والذين ترجموا آثاره)!
هذا كلام لا يقوى على التمحيص ولا يثبت على المراجعة، لأن جيته الذي استمد كل معلوماته عن الشرق وحياة الشرقيين من كتب الغير، لا يمكن أن يكون أكثر صدقاً ولا استقصاء من هؤلاء الذين قرأ لهم ونقل عنهم، ورأوا الشرق رأي الحس والعين لا رأي الفكر والخيال! وإذا كان جيته قد صور الحياة في الشرق تصويراً رائعاً عن طريق (القراءة والاستماع). فمما لا شك فيه أنه لو قدر له أن يزور الشرق وأن يطلع بنفسه على حياة أهله لكتب خيراً مما كتب ولأجاد التصوير خيراً مما أجاد؛ لأن الواقع المحس شيء والواقع المنقول شيء آخر. . . وإذن فلا مبرر إطلاقاً للقول بأن (القراءة والاستماع) من أخصب المصادر التي تتيح للأدباء أن يصوروا الحياة خيراً من الذين بلوا حلوها ومرها(831/40)
وسعدوا بنعيمها وشقوا بجحيمها، إلى آخر هذه الكلمات التي تحفل بطلاوة الأسلوب وتفتقر إلى سلامة المنطق.
بعد هذا انتقل الدكتور طه إلى رأي آخر حيث يقول: (وليس الأديب المعاصر مضطراً إلى أن يخالط الناس مخالطة مادية، فحياة الناس كلها تحمل إليه، وليس اتصال الأديب بالحياة هو العسير الآن وإنما اعتزال الأديب للناس هو الشيء الذي لا يكاد يجد إليه سبيلا).
إنني أوافق الدكتور على أن الأديب المعاصر متصل حقاً بالحياة، ولكن الدكتور ينسى أن هذا الاتصال يفترق عند أديب عنه عند أديب سواه. . . هناك أديب يرقب مجرى الحياة من حجرة مغلقة، وهناك أديب يرقب مجرى الحياة من زقاق ضيق، وهناك أديب يرقب مجرى الحياة من شارع واسع، وهناك أديب يرقب مجرى الحياة من ميدان عام، وهناك أديب يرقب مجرى الحياة من كل حجرة وكل زقاق وكل شارع وكل ميدان! ومعنى هذا أن هناك أدباً هو أدب الجدران المغلقة والآفاق المحدودة، وأن هناك أدباً آخر هو أدب الهواء الطلق والآفاق الرحيبة!.
ومالي أذهب بعيداً والدليل قائم بين يدي من أدب الدكتور نفسه ممثلا في بعض أعماله الأدبية؟ لقد عالج الدكتور فيما عالج من فنون الأدب فن القصة، أعني أنه حاول فيما حاول أن يكون فناناً يصور الحياة وينقل عن الحياة. . . وها هو ميزان النقد يقرر في ثقة واطمئنان أنه قد أحس الحياة يوماً كما يجب أن تحس، وأنه قد عاش فيها بفكره وقلبه وشعوره، وأن هذا الإحساس الصادق الكامل الأصيل المتميز قد انعكس في صورته القوية الرائعة على صفحات (الأيام)! في هذه القصة الذاتية تلهب حسك الفني حرارة الحياة. . . الحياة التي نقلتها حواس طه حسين لا حواس الناس وكتب الناس وأقوال الناس!! ترى هل يستطيع بعض الكتاب عن طريق (القراءة والاستماع) أن يصوروا حياة طلاب الأزهر في أمسهم الغابر خيراً مما صورها هذا الأديب الذي بلى حلوها ومرها وأعني به الدكتور طه حسين؟
نترك (الأيام) لننتقل إلى (شجرة البؤس) و (دعاء الكروان)، ولننتقل من فن الحياة إلى فن المخيلة، ومن فن الهواء الطلق إلى فن الجدران المغلقة. . . إن الأديب الذي يحاول أن يرسم صورة للحياة والناس في إقليم من أقاليم مصر وهو جالس في حجرته من ذلك البيت(831/41)
القائم في حي الزمالك، أشبه بمن يحاول أن يرسم صورة للحياة والناس في منطقة من مناطق القطب الشمالي وهو يعيش في منطقة من مناطق خط الاستواء. . . أقول هذا ولا أزيد!
ويختم الدكتور طه مقاله بهذه الكلمات: (ولكن أريد قبل كل شيء أن يطمئن الشباب الذين لا يتاح لهم التنقل ولا يتيسر لهم مخالطة الناس ومشاركتهم في حياتهم بالفعل، فإن هذا كله لم يتح لكثير من أفذاذ العبقريين ولا لكثير من أوساط الأدباء، فلا ينبغي أن ييأس الشباب الأدباء وأصحاب الفن إذا لم يتح لهم من ذلك ما يريدون)!
لقد كنت أود أن يذكر لنا الدكتور طه اسم عبقري واحد من هؤلاء الأفذاذ الذين لم يتح لهم التنقل ولم يتيسر لهم مخالطة الناس عبقري واحد حتى لا أتهمه بأنه يلقي الكلام على عواهنه. . . إنني أؤكد لقراء (الرسالة) أن طه حسين لو قدر له أن يعيش في بيئته التي نشأ فيها دون أن يرحل إلى أقطار الغرب ليتنقل هنا وهناك، وليتصل بالحياة في أوسع آفاقها ممثلة في مخالطة الناس من كل جنس ولون، ولو قدر له أن يقضي عمره في تلك البيئة التي نشأ فيها لكان حتى اليوم أديباً محدود الأفق قاصر الأداة!
مرة أخرى أعود فأقول: من أعماق الحياة ينبع الصدق في الفن، ولن يتحقق الصدق في الفن ما لم يستخدم الفنان كل حواسه في تذوق الحياة. . . يرقب، ويتأمل، ويهتك الحجب، وينفذ إلى ما وراء المجهول. فإذا استطاع أن ينقل كل ما يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني فهو الفنان، وإذا استطاع أن ينقل إلى هذه اللوحات كل ما في القلب الإنساني من نبض وخفوق فهو الفنان الإنسان. وعلى مدار القوة والضعف في دفقة الحياة وخفقة القلب يفترق العمل الفني عن مثيله في كل فن من الفنون!
هذا هو الطريق، فمن شاء أن يسلكه فليسلك، ومن شاء أن ينحرف عنه فلينحرف. . . ولكل اتجاه من هذين الاتجاهين ميزان يقام.
الفن والحياة بيني وبين الأستاذ توفيق الحكيم:
حلقت بك في أفق الدكتور طه حسين، وبقى لي أن أحلق بك في أفق الأستاذ توفيق الحكيم. . . ومرة أخرى أقدم إليك الخطوط الرئيسية في كلمة هذا الفنان الصديق، تلك التي يبدأها بقوله: (ولقد رددت الألسن عبارات (الفن والحياة) و (الفن والشعور). . . وهو كلام في(831/42)
جملته صحيح والخطأ فيه يسير)!
أما تلك العبارات التي أشار إليها الأستاذ توفيق الحكيم فقد وردت في كلمتي عن فنه، حين تحدثت عن هذا الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة وحين وزنته بميزان القلب والشعور. . . من حقه إذن أن يدافع عن نفسه فيما كتب على صفحات (أخبار اليوم)، ومن حقه أن ينسب إلي بعض الخطأ فيما أخذته عليه، وإن كان الأستاذ توفيق قد اتصل بي عقب أن كتبت عنه ما كتبت متفضلا بإبداء موافقته غير مشير إلى هذا الخطأ اليسير! مهما يكن من شيء فقد كان في كلام الدكتور طه شيء كثير من اللخبطة، أما كلام الأستاذ الحكيم ففيه شيء يسير من المغالطة!
يقول الأستاذ توفيق: (القلب في الفن هو الصدق، لا الصدق بمعناه الضيق المقصور على الشعور العاطفي أو الوجداني، بل أيضاً الشعور بحقيقة فكرة من الأفكار. . . على هذا النحو يجب كذلك أن نحدد معنى (الحياة) في الفن. ما من شك أن الفن هو التعبير عن الحياة، وليس من السهل تصور فن منفصل عن الحياة).
إن الفن يا صديقي ليس هو التعبير عن الحياة، وإنما هو صدق التعبير عن الحياة، لأن التعبير عن الحياة حين يخلو من (الصدق) لا يعد فناً! هذه واحدة. . . أما الثانية فهي قولك بأن القلب في الفن هو الصدق. . . ترى أي قلب هذا الذي تقصد؟ أهو القلب الذي ينبض بشعور صاحبه وحده دون سواه؟ إن هناك كثيراً من أمثال هذا القلب، القلب الذي يخفق بعاطفة لا تمثل عواطف كثير من الناس، وبالشعور بحقيقة فكرة لا تتفق وأفكار كثير من الناس. . . صدقني إن قلباً من هذا الطراز لا يمكن أن يمثل الصدق في الفن، لأنه إذا حقق شيئاً من المشاركة الوجدانية بين الفن وصاحبه، فإنه لا يحقق شيئاً من هذه المشاركة بين الفن ومتذوقه!
كلماتك يا صديقي تحتاج إلى كثير من الدقة وإلى كثير من التحديد. . . القلب في الفن هو الصدق؟ نعم، ولكنه القلب الذي تتفق دقاته ودقات قلوب الملايين، هو القلب الذي يهتز بين جنبي صاحبه فيهتز له الجيل الذي يعيش فيه ومن بعده أجيال، هو القلب الذي يقبس وهج حرارته من أفراح الناس وأحزان الناس، هو القلب الذي يرى فيه كل صاحب شعور صورة من قلبه، هو القلب الذي يستطيع كثير من الأحياء أن يفزعوا إليه فراراً من(831/43)
أنفسهم! هنا يا صديقي يتحقق الصدق في الفن، لأن القلب الذي أعنيه بهذه الكلمات هو الذي يغترف من ماء الحياة!
هذا عن الصدق في الفن، أما قولك بأنه ليس من السهل تصور فن منفصل عن الحياة فتجد الرد عليه في كلمتي عن الدكتور طه حسين.
بقي أن أناقش المغالطة الأخيرة عندما تقول عن الحياة في الفن: (لا بد أن تكون الحياة في الفن وليس فقط كل ما يقع في العالم الخارجي ويضطرب فيه الإنسان بحسه وقلبه وشعوره، بل أيضاً كل ما يقع في العالم الخارجي ويستخرجه الإنسان بفكره وذهنه وتأملاته. . . إن الحياة تسكن في كل جزء من أجزاء الإنسان الحي، في قلبه وفي غريزته وفي حسه وفي رأسه. . . ولو جئت بإنسان، شاعر أو مفكر، وحبسته في جب وأغلقت عليه بسبعة أختام وتركته الأعوام، لأخرج بعد كل ذلك حياة!)
ما هذا الكلام يا أستاذ توفيق؟ إن أحداً ممن يفهمون رسالة الفن لا يمكن أن يوافقك عليه!. . . شاعر أو مفكر تحبسه في جب، ثم تغلق عليه بسبعة أختام وتتركه الأعوام، ثم يخرج بعد كل ذلك حياة؟! أية حياة تلك يا صديقي؟ إنها حياة المغاور والكهوف. . . ولا يمكن أن ترضي حياة المغاور والكهوف إلا عشاق الفن منذ خمسين ألف سنة! معذرة يا صديقي فإننا نعيش في القرن العشرين، ومن مزايا القرن العشرين أنه يضيق بالحياة محبوسة بين جدران أربعة، فما بالك لو قدمت إليه فناً تتنفس فيه الحياة داخل جب تغلق عليه بسبعة أختام؟!. . . كلا يا أستاذ توفيق، إننا لا نريد أن نعيش في الماضي الغابر، ولكننا نريد أن نعيش في الماضي المشهود!
أنور المعداوي(831/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
التوجيه السامي والأدباء:
حيا الله الفاروق العظيم، فقد اقتضت رعايته لهذه الأمة أن يكون توجيهه الكريم السامي فارقاً بين أمر وأمر، أو قل بين خير وشر. لقد راعه أن رأى روح الحزبية يطغى على الصالح القومي، ويحول دون استفادة البلاد من كفايات بعض أبنائها، لأن غباراً مما يثار بين الأحزاب يعلق بأشخاصهم، بل قد يفضي الأمر إلى استهلاك هذه الكفايات في ضروب من الصراع الشخصي الزائل، فلا يكاد يبقى من طاقاتهم شيء للعمل الصالح الخالد.
فكانت التفاتة الرعاية من الفاروق لخير هذه الأمة، التنبيه على وجوب النظر إلى المسائل العامة نظراً قومياً، وألا يحول شيء دون انتفاع الوطن بكفايات من أنجب.
وكان من أثر ذلك التوجيه الملكي السديد، أن استجاب له معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف بما صنع من التقدير والتكريم للأدب في أشخاص أربعة من كرام الأدباء، هم الدكتور طه حسين بك والأستاذ علي محمود طه والأستاذ محمد سعيد العريان والدكتور زكي مبارك؛ فأحسن التلقي من القائد الأعلى، وأحسن عملا؛ وقد كرم أيضاً بذلك المثل الأعلى لولاة الأمور في شخصه العظيم. وإذا كانوا يقولون: العلم لا وطن له، فقد أضاف معاليه إلى هذا القول - بلسان العمل - أن الأدب لا حزب له. والعلم والأدب والفن أخوة لأب واحد هو الفكر الفائق.
وبعد فقد وضع معالي الوزير بذلك الصنيع عنوان الكتاب والمأمول بعد ذلك أن يقوم بتأليفه. . فإن هناك غير أولئك الأربعة أربعات من الأدباء، ما أجدرهم بأن يتم بالالتفات إليهم وتقديرهم تأليف الكتاب، وما أجدر معاليه أن يبحث عنهم بإبرة العالم، ولا يخفى عليه أن الأدباء أهل كبرياء وذوو حماقة. . . وأن كبرياءهم وحماقتهم تمنعانهم من كثير مما يظفر به (العقلاء) فليقرب إليهم - متفضلا - ما أبعدته عنهم كبرياؤهم، وليغض - جزاه الله صالحة - عن حماقاتهم.
في وزارتكم يا معالي الوزير، وزارة العلم والثقافة، جمع ذو عدد من الأدباء الذين يعرفهم الجمهور بإنتاجهم، وقد حشد أكثرهم في الإدارة العامة للثقافة مع من حشد فيها من غيرهم.(831/45)
للقيام على ما تختطه للتثقيف العام من الوسائل الأدبية والفنية. يعيش هؤلاء الأدباء في غمار الموظفين، لا ينالون ما هم أهل له - بحكم مواهبهم وآثارهم النافعة - من وسائل العيش الكريم؛ ومما يتذرع به لتأخيرهم شيء اسمه (الأقدمية) يقدم عليهم من لم تقدمهم السنون في غير العلاوات والدرجات. . .
ومن أولئك الأدباء من أفسدت الحماقة عليه أقدميته، ومنهم من ألزمته حماقته العزلة اليائسة الساخرة، وجعلت هذه الحماقة بعضهم ينتظر ركب الزمن المتواني. والحماقة، بما فيها من الكبرياء، فنون. . .
والخطير في الأمر يا معالي الوزير، أن ما تجره حماقة أولئك الأدباء عليهم يكاد يستنفد الطاقات ويستهلك الكفايات. فهلا أنقذت الأدباء من حماقاتهم وأغضيت عن كبريائهم وبحثت عنهم. . . لتيسر من أمرهم ما يعسرونه على أنفسهم بحماقاتهم، وتقدمهم إلى ما هم خليقون أن ينهضوا به، إتماماً للعمل بتوجيه الفاروق العظيم نحو خير هذا الوطن العزيز.
الصحافة والفن:
ألقى الدكتور محمد صلاح الدين بك محاضرة موضوعها (الصحافة والفن) يوم السبت الماضي في قاعة فاروق الأول بنادي نقابة الصحفيين، فبين أهمية الفنون للمجتمع قائلا بأنها علاج روحي لأمراض الأمم النفسية، ثم انتقل إلى موقف الصحافة من الفن، فقال إن صحافتنا تقدمت تقدماً كبيراً في النواحي المختلفة، ولكنها مقصرة في حق الفن؛ حقاً إن أكثر الصحف يخصص كل منها صفحة أسبوعية للشئون الفنية وتصدر بعض المجلات خاصة بالفنون، وحقاً أيضاً إن النقد في هذه المجلات وفي تلك الصفحات قد تجرد مما كان يسوده قديماً من التأثر بالعلاقات الشخصية، إلا أن الصحافة على العموم تنظر إلى الفن على أنه شيء كمالي، لا تهتم به كما تهتم بالشئون السياسية والاجتماعية، ولا تضع لها فيه خطة تسير عليها كما تفعل في تلك الشئون، وهي لا تعني بالبحوث الفنية من الناحية العملية التطبيقية، فتنظر مثلا هل عناية الحكومة بالفنون كافية أو لا، وهنا ذكر المحاضر أنه تتبع خطب العرش من سنة 1924 إلى الآن فلم يجد بإحداها كلمة واحدة عن الفن، وقال إن الصحافة هي التي تستطيع أن تحمل الحكومة والشعب على النظر إلى الفنون باعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة، تجب العناية بها كما يعنى بسائر الأمور.(831/46)
وقد تحدث الدكتور صلاح الدين عن تقصير الصحافة والحكومة والشعب نحو الفنون، وبين خاصة موقف الصحافة من حيث أنها لا تختط لها خطة في خدمة الفن كما سبق، ولكنه لم يحدثنا عن أهل الفن وهل هم يؤدون رسالتهم الفنية أو هم أيضاً مقصرون، ولم يذكر لنا الخطة التي رسموها للغايات الفنية في هذا البلد، إن كانت لهم خطة.
ولست أدري أظلم الصحافة أم حاباها حين أخذ عليها أنها لم تتخذ لها منهجاً في خدمة الفن. . . والذي أراه أن خطة صحفنا ومجلاتنا إزاء الفن وأهله واضحة كل الوضوح، وهذه الخطة ترتبط بالإعلان عن الأفلام والروايات بها. . . وتقوم خطة صحافتنا الفنية على استغلال الرشاقة والجمال والفتنة والإغراء لدى الممثلات والراقصات وعلى ما يسود البيئات الفنية من الحرية في العلاقات وعدم التحرج من كثير مما يتحرج منه سائر الناس، فمن أخبار شخصية ماجنة إلى صور مغرية فاتنة، فهذه ممثلة تحافظ على رشاقتها بتمرين تنام فيها على قفاها وترفع رجليها إلى أعلى. وهذه راقصة تبادل ذاك الممثل قبلة عميقة يهتز لها كيان القارئ العزيز. وأيسر ما تشتمل عليه هذه الصحف هو النقد، وكثيراً ما يكون مرتبطاً بالاعتبارات التي قال المحاضر إنه تجرد منها.
ليلة الإسراء في سفارة الباكستان
دعا سعادة سفير الباكستان إلى الاحتفال بليلة الإسراء في دار قسم الصحافة والاستعلامات بالسفارة الباكستانية. وكانت ليلة تجلت فيها وحدة الشعور بهذه الذكرى الدينية المقدسة بين أمتين إسلاميتين، مصر والباكستان، وأثيرت فيها آمال العروبة والإسلام في حياة كريمة قوية تليق بسالف المجد وتبعثها عظمة الروح الكامنة في خير تراث على الأرض.
ابتدأ الحفل مدير قسم الصحافة بالسفارة، واختتمه سفير الباكستان، فرحبا وشكرا، وأشادا بجلال الذكرى ونوها بروح الإسلام وحاجة العالم إلى رسالته إزاء المادية المتفشية، وألقى صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا كلمة قيمة قال فيها إن لهذا الاحتفال مظهراً اجتماعياً وأدبياً إلى مظهره الديني، لما يشتمل عليه من تبادل الشعور وجمال التعبير، وأشار إلى الاتجاه القويم الذي تسير عليه دولة الباكستان من حيث ربط مصائرها بمصائر البلاد العربية الإسلامية.
وقال الأستاذ محمد مصطفى حمام في كلمته الظريفة إننا في هذه المناسبات: ليلة الإسراء،(831/47)
والمولد النبوي، والهجرة الشريفة، وما إليها، نحتاج إلى تجديد إيماننا بل إلى اعتناق الإسلام من جديد
وأنشد الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي قصيدة تحدث فيها عن قصة الإسراء والمعراج حديث الشاعر المفتن الممتع، وقد ختمها بقوله:
إن من شاقه السمو لواد الـ ... غيب فليحي ليلة الإسراء
يذهب الدهر ليلة بعد أخرى ... وهي فيه حنينه للبقاء
وقد أثار الدكتور منصور فهمي باشا مسألة فلسطين، من حيث مناسبة المسجد الأقصى في الإسراء، فعبر عن الألم لما يحيط به من القلاقل والمخاوف؛ وقد بدأ الدكتور كلامه بأنه لا يحسن الكلام على ليلة الإسراء لأنه ليس من رجال الدين، واستند إلى ذلك عندما أخطأ في إيراد آية من القرآن الكريم. ولا أرى هذا العذر خيراً من الذنب، فقد كان الدكتور عميداً لكلية الآداب وأستاذ الفلسفة الإسلامية بها وهو عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية، ومن كان في مكانه لا تبعد عنه مناهل العلم الإسلامي وأنا لا أحب هذه الكلمة التي جاءت إلينا من الخارج وهي (رجال الدين) فكل مسلم رجل دين.
وقد قفي الدكتور حسن إبراهيم حسن على أثر الدكتور منصور فهمي باشا فتواضع تواضعه. . . وقال قولته تلك، كما قال إنه إنما يعرض للأمر من ناحيته التاريخية البحتة. والدكتور حسن إبراهيم كان أيضاً عميداً لكلية الآداب ولا يزال أستاذاً للتاريخ الإسلامي بها. وقد سلك في حديثه عن الإسراء مسلك الرواية، أعني أنه روى عن فلان، كأنه كان يقرأ في كتاب من كتب السيرة النبوية فلم يقص القصة متماسكة ولم يقل شيئاً من عنده ولا من أسلوبه.
وتطوعت السيدة ملك في ختام الحفلة لغناء قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب) فأبدعت فيما لم تخرج فيه عن التلحين المرسوم في غناء أم كلثوم. . . وقد بدت خفيفة مرحة، تضحك وتبادل الدعابة، مما حفز الدكتور زكي مبارك على إدناء مجلسه من المنصة وهو مبرنشق يبدي رغبته في اختطافها لولا أنها في حمى معالي الوزير. . .
عباس خضر(831/48)
البريد الأدبي
حول مدفن الاسكندر:
أورد الأستاذ عزيز خانكي في العدد (824) من مجلة الرسالة الزهراء تعليقاً على مقالي (إيوان كسرى) فقال: إن الاسكندر توفي في مدينة بابل وتابوته لا يعرف له مقر حتى الآن، وأمه عند وفاته كانت تقيم في بيللا مسقط رأس عائلة الاسكندر.
أما مدينة بابل فقد سبق خرابها قبل ظهور الاسكندر إلى عالم الوجود. وفي ذلك يقول البستاني في دائرته بمادة بابل م5 ص16: (ولما استولى عليها الاسكندر كانت خربة بالنسبة إلى حالها الأولى فعزم على إعادة بنائها وجعلها عاصمة لمملكته في آسيا غير أن المنية أدركته قبل إنفاذ مقصده) وليس في هذا الخبر ما يدل على أن الاسكندر مات في بابل كما أنها ليست في ذلك الوقت بالمدينة العامرة الآهلة بالسكان.
والمسعودي لم يتحقق تماماً من المكان الذي مات فيه الاسكندر فذكر في ذلك أقوالاً ثلاثة لم يرد فيها اسم بابل. قال في ج1 ص180: (وسار الاسكندر راجعاً من سفره يؤم المغرب. فلما سار إلى مدينة شهرزور اشتدت علته. وقيل ببلاد نصيبين من ديار ربيعة وقيل بالعراق فعهد إلى صاحب جيشه وخليفته على عسكره بطليموس. فلما مات طافت به الحكماء. . . الخ)
وما ادعاه الأستاذ خانكي من أن (تابوته لم يعرف له مقر حتى الآن. وأمه عند وفاته كانت تقيم في بيللا مسقط رأس عائلة الاسكندر) لا ندري من أين استقاه. والمسعودي يصرح في ج2 ص182 من المروج أن الاسكندر (عهد إلى ولي عهده بطليموس بن أذينة أن يحمل تابوته إلى والدته بالإسكندرية). وقال بعد ذلك: (وأمرت به فجعل في تابوت من المرمر وطلي بالأطلية الماسكة لأجزائه وأخرجته من الذهب لعلمها أن من يطرأ بعدها من الملوك والأمم لا يتركونه في ذلك الذهب، وجعل التابوت المرمر على أحجار نضدت وصخور نصبت من الرخام والمرمر قد رصعت، وهذا الموضع من الرخام والمرمر باق ببلاد الإسكندرية من أرض مصر يعرف بقبر الاسكندر إلى هذا الوقت وهو سنة 332هـ). هذا ما نص عليه المسعودي وهو من المصادر المعتبرة التي يعتمد عليها في مقام النقل.
وجاء في تاريخ بغداد للخطيب ج1 ص128 ما يلي: وذكر بعض أهل العلم: أنها - أي(831/49)
المدائن - لم تزل مستقره - أي الاسكندر - بعد أن دخلها حتى مات بها، وحمل منها فدفن بالاسكندرية لمكان والدته فإنها كانت باقية هناك.
وأورد ابن خلكان هذا الخبر ونسبه إلى الخطيب فقال: وحكى الخطيب في تاريخ بغداد أن الاسكندر جعل المدائن دار إقامته ولم يزل بها إلى أن توفي هناك. . . إلى آخر ما وجدته في كتاب الكنى والألقاب للقمي ج3 ص132 إذ ذكر هذا الخبر عن ابن خلكان.
ولا يخفى ما لابن خلكان والخطيب من شهرة واسعة في عالم التاريخ وما لديهما من خبرة ودراية بشئون الأمم القديمة وأحوال ملوكها وأيامها وغير ذلك.
كاظم المظفر
حول كتابي (خمر وجمر):
سألني سائل بالبريد: ما السبب الذي دعا الصفوة من الكتاب إلى الإحجام عن الكتابة والتعريف بكتابك (خمر وجمر) مع العلم بأن كتاباً مثل هذا الكتاب - الفريد في الباب واللباب (كذا) - يجب أن يكتب فيه ويجب أن ينشر ويذاع في الناس؟ ومع العلم أيضاً بأن أضأل كتاب - بل أثقل كتاب -! يصدر فتقرع من حوله الطبول ويحرق من أجله البخور؟!. . . الخ
وأنا بدوري أشكر للسائل الفاضل سؤاله، وأرجو أن يتفضل فيعلم يقيناً بل ويعتقد - كما يعتقد بوحدانية الله - أن صاحب الكتاب في أغنى الغنى عن الكتّاب والتعاريف. . . ولو أراد أن يكتب فيه وله - وليس عليه - مائة من المأجورين لكان ما أراد. . . وأنا حقيقة - وكما تقول - قد بعثت بعشرات النسخ إلى الأصدقاء من الأدباء والشعراء والكتاب، ولكن ما كان ذلك إلا من باب رد الجميل بالجميل أو من باب الإهداء لا غير.
والكتاب الذي لا يأخذ القراء سبيلهم إليه ليقرؤوه - وليس يأخذ هو سبيله إلى القراء ليقرأ - بعد - عندي على الأقل - من فقع القاع أو من سقط المتاع.
ثم أعود لأعلن على صفحات الرسالة - منبر الحق - أن أية كلمة يكتبها الكتاب في تقريظ كتابي سأعتبره وأستميح القراء كذلك أن يعتبروه مأجوراً من المأجورين؛ ولو كان الكاتب ممن لا يرقى إليهم الشك في قليل أو كثير.(831/50)
على أني أستثني من هؤلاء الأديب الشاعر الأستاذ محمد الأسمر الذي تفضل - بادئ ذي بدء - فكتب في الزمان المسائية - كلمتين مشكورتين حول الكتاب، وقد كان في نيته - كما يقول في رسالة منه إلي - أن يكتب كلمة أخرى تعقبها كلمات. . . الأمر الذي اضطرني إلى أن أبعث إليه برسالة شاكرة فيها الرجاء الذي ألجم القلم. . . وكان من المشكورين!
وبعد: فالشكر أزجيه بدياً للناقدين ثم للسائل الفاضل، والسلام.
(الزيتون)
عدنان
انسجام:
خطأ أحد الباحثين استعمال الانسجام بمعنى الوفاق؛ لأنه في اللغة سيلان الماء وانصبابه وأقول: إن استعمال الانسجامبمعنى الوفاق والوئام والائتلاف والانتظام، والتناسب والتجانس والامتزاج وما أشبه ذلك صحيح بل فصيح لأنه استعمل في غير هذا المعنى على سبيل التجوز والتشبيه وإليك النصوص التي تؤيد هذا وتبين تطور الكلمة:
فقد جاء في محيط المحيط للبستاني:
الانسجام: مصدر انسجم، وعند البديعيين أن يكون الكلام لخلوه من التعقيد متحدراً كتحدر الماء المنسجم ولسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه وعدم تكلفه يكاد يسهل رقة ويكون له في القلوب موقع وفي النفوس تأثير اهـ
وجاء في نفحات الأزهار في فن البديع ص295:
الانسجام: هو أن يأتي الشاعر أو الناثر بالبيت أو الفقرة من النثر خالية من العقادة وتكلف السبك، كانسجام الماء في انحداره يكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة وعذوبة مع لطافة معناه ورشاقته وخلوه من الأنواع البديعية إلا أن يأتي ضمن السهولة من غير قصد وإن كان الانسجام في النثر يكون غالب فقراته موزونة ومن غير قصد لقوة انسجامه الخ.
جاء في خزانة الأدب لابن حجة الحموي في البديع ص236 المراد من الانسجام أن يأتي(831/51)
الكلام لخلوه من العقادة كانسجام الماء في انحداره ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسهل رقة. . . الخ وجاء في زهر الربيع للحملاوي:
الانسجام ويقال له السهولة أيضاً هو أن يكون النثر أو النظم خالياً من التعقيد وتكلف السبك بحيث يكاد يكون كالماء في انسجامه وسهولة انحداره عذب الألفاظ متين السياق مع لطافة المعنى ورشاقته وخلوه من أنواع البديع إلا أن أتت بغير قصد وبدون تكلف الخ.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
مدرج مصطفى عبد الرازق:
أرسل الدكتور أحمد فؤاد الأهواني خطاباً إلى عميد كلية الآداب جاء فيه بعد التحية: أذكر أن هيئة التدريس بقسم الفلسفة اجتمعت عقب وفاة المغفور له الأستاذ مصطفى عبد الرازق باشا واتخذت بعض قرارات لتخليد ذكراه.
منها أن يطلق اسم مصطفى عبد الرازق على أحد مدرجات الكلية إحياء لذكرى العاملين وتخليداً لفضل أستاذنا وقد كان من أعلام المفكرين.
وقد رأيت من واجبي نحو أستاذي الذي أخذت عنه وطلبت العلم عليه أن أتقدم بهذا الاقتراح إليكم راجياً عرضه على مجلس الكلية.
وأحسب أنه سوف يلقى من قبلكم الاستحسان والترحيب ومن ألسنتكم الموافقة والتقدير.
الضبع عند ابن جني:
تعليقاً على ما دار حول (الضبع) في مجلة (الرسالة) أورد ما يأتي: يقول العلامة الأمير شكيب أرسلان في (المناظرة اللغوية الأدبية) المطبوعة بالقاهرة ص94: هذه مسائل قيل فيها الشيء وعكسه كثيراً، وما أوسع أبواب العربية لمن عرفها.
وقال الإمام ابن جني في (كتاب المذكر والمؤنث): الضبع مؤنثة. . .
عبد الله معروف(831/52)
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 3 -
16 - ص31 يقول ابن قتيبة: (وقد فضح الله بالشراب أقواماً من الأشراف فحدوا، ودونت في الكتب أخبارهم ولحقت بتلك السبة أعقابهم، منهم الوليد بن عقبة، شهد عليه أهل الكوفة بشرب الخمر، وأنه صلى بهم الغداة وهو سكران وقال: أزيدكم يشهد الله بذلك، وبمنادمه أبي زبيد الشاعر - وكان نصرانياً - فحده هناك عمرو بن العاص سراً، فلما قدم على عمر رضي الله عنه جلده حداً آخر).
وهذا نص مضطرب أشد الاضطراب؛ يشوه وجه الحق والتاريخ معاً. فإن الوليد بن عقبة لم يكن والياً للكوفة في عهد عمر، وإنما وليها في عهد عثمان بن عفان؛ ولم يذهب عمرو بن العاص إلى الكوفة ليحده هناك، ولم يحد الوليد في الكوفة وإنما حد في المدينة، ولم يشترك عمرو بن العاص في حده بسبب من الأسباب. والذي حده عمرو في مصر سراً وأعاد عليه عمر بن الخطاب، كما ذكر المؤرخون، وكما ذكر ابن قتيبة نفسه في هذا الموضع من كتاب الأشربة. وقد ضلت تلك الحقائق التاريخية عن ذهن كرد علي. ولو وجد ريحها لأحس أن في الكلام سقطاً لا يستقيم معناه إلا بذكره. وهو كما جاء في العقد نقلا عن ابن قتيبة: (. . . وأنه صلى بهم الغداة وهو سكران ثم التفت إليهم فقال: إن شئت زدتكم. فجلده عليّ بن أبي طالب بين يدي عثمان وكان نديمه أبو زبيد الطائي، وفيه يقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ... ليزيدهم خيراً ولا يدري
ليزيدهم خيراً ولو قبلوا ... لجمعت بين الشفع والوتر
كبحوا جماحك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحده هناك عمرو بن العاص سراً. فلما(831/53)
قدم على عمر رضي الله عنه جلده حداً آخر).
17 - وفي صفحة 32 ذكر ابن قتيبة أبيات الأخطل في نديمه العباس بن عبد الله بن العباس التي أولها:
ولقد غدوت على التجار بِمُسْمِحٍ ... هرَّت عواذله هرير الأكلب
فضل الكياس إذا تمشى لم يكن ... عند الشراب بفاحش متقطب
مر الأستاذ على البيتين الأخيرين ولم يعقب؛ لأنه لم يدرك معناهما، ولو أدركه لأصلح ما فيهما من خطأ. وصواب البيت الأول منهما: (خُضِلُ الكِياس إذا تشتى) والخضل: الندي والكياس جمع كأس. وتشتى: أي دخل في الشتاء.
وصواب البيت الثاني (وإذا تُعُوِّرت الزجاجة) من التعاور وهو التعاور وهو التداول.
18 - ص32 ذكر ابن قتيبة أن من المفضوحين بشرب الخمر (عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي بالكوفة، فضح بمنادمة سعد بن هبار فقال حارثة بن بدر:
نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار
ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دويا دويّ النحل في الغار
فأصبح القوم إطلاقاً أضربهم ... حث المطي وما كانوا بسفار
يدين أصحابه فيما يدينهم ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار
ولست أدري كيف فهم كرد علي معنى أن القوم أصبحوا (إطلاقاً) وهي لا معنى لها لأنها محرفة وصوابها (فأصبح القوم أطلاحا) جاء في لسان العرب: (الطلح والطلاحة: الأعياء، وجمع طلح: أطلاح وطلاح).
19 - ص34 يتابع ابن قتيبة حديثه عمن فضح بالشراب فيقول: (ومنهم خالد بن عمرو بن الزبير، وفيه يقول القائل:
إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... حبيراً وعاطيت الزجاجة خالدا
أمنت بإذن الله أن تقرع العصا ... وأن يوقظوا من رقدة السكر راقدا
وصرت بحمد الله في خير فتية ... حسان الوجوه لا تخاف العرابدا
والعجب عندي من قوله: وأن يوقظوا من نومة السكر راقداً وأكثر ما يوقظ السكران للصلاة، أفتراهم حمدهم على تركه إيقاظه للصلاة إذا سكر).(831/54)
والصواب (وذا الندى جبيراً) والرواية الصحيحة التي رواها ابن قتيبة كما ذكرها في الجملة السابقة هي: (وأن يوقظوا من نومة السكر راقدا). ولكن الأستاذ لم يفطن لذلك التخالف البين بين رواية البيت والرواية التي يتحدث عنها ابن قتيبة. وصواب الجملة الأخيرة: (. . . أفتراه حمدهم. . .) على أن في هذا النص خطأ تاريخيا كبيراً لم يلحظه الأستاذ، وهو من أوهام الناسخين الماسخين وليس من أوهام المؤلف، فإن ابن قتيبة لم يقل (ومنهم خالد بن عمرو بن الزبير) وإنما قال: (ومنهم خالد بن أيوب الأنصاري) وقد أشار إلى ذلك في كتاب المعارف ص105، 106 في ثنايا حديثه عن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، قال: (ولسهيل عقب بالمدينة. منهم عتير بن سهيل وكان صاحب شراب وفيه يقول الشاعر:
إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... جبيراً وعاطيت الزجاجة خالداً
وجبير هو ابن أيمن ابن أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخالد هو ابن أبي أيوب الأنصاري).
ولم يسم ابن قتيبة قائل هذا الشعر لا في كتاب المعارف ولا
في كتاب الأشربة، وهو السريُّ بن عبد الرحمن بن عتبة بن
عويم بن ساعدة الأنصاري. قال أبو الفرج الأصفهاني في
كتاب الأغاني 1825 (والسري شاعر من شعراء أهل المدينة،
وليس بمكثر ولا فحل، إلا أنه كان أحد الغزلين، والفتيان
المنادمين على الشراب، كان هو وعتير بن سهيل ابن عبد
الرحمن بن عوف، وجبريل بن أيمن، وخالد بن أبي أيوب
الأنصاري يتنادمون، وفيهم يقول:
إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... جبيراً وعاطيت الزجاجة خالدا
وذكر بقية الأبيات ثم أعاد روايتها مرتين في ص67، 66 وروى في هذه الصفحة أنهم(831/55)
قالوا له: (قبحك الله ماذا أردت إلى التنبيه علينا، والإذاعة لسرنا؟ إنك لحقيق أن لا ننادمك، قال والله ما أردت بكم سوءاً، ولكنه شعر طفح فقئته عن صدري. . .)
20 - ص34 يقول ابن قتيبة (وهذا أبو محجن الثقفي شهد يوم القادسية وأبلى بلاء حسناً، شهر وكان فيمن شهد ذلك اليوم عمرو بن معدي كرب فقال عليه، وهو القائل:
إذا مت فادفني إلى أصل الكرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها)
وهذا نص مضطرب جداً لا معنى له وقد مر عليه الأستاذ مرور الكرام كما يقال وكأنه قد فهمه، ما معنى (فقال عليه) وما معنى إقحام (عمرو بن معدي كرب) هنا؟ لست أدري ولعل الأستاذ يتفضل علينا وعلى القراء ببيان معناه.
21 - ص35 (قال العتبي شعراً ذكر فيه كثيراً من مقابح السكر:
دع النبيذ تكن عدلا وإن كثرت ... فيك العيوب وقل ما شئت يحتمل
هو المشيد بأسرار الرحال فَما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا
كم زلة من كريم ظل يسبرها ... من دونها سُتر الأبواب والكلل
أضحت كنار على علياء موقدة ... ما يستسر لها سهل ولا جبل
والصواب (. . . ظل يسترها) ثم يقول العتبي:
والعقل علق مصون لو يباع لقد ... ألفيت بُيَّاعه ما سُألوا
والصواب (يعطون ما سُئلوا)
فاعجب لقوم مناهم في عقولهم ... أن يذهبوها بعل بعده نَهَل
قد عقدت لخمار السكر ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها عِلل
وازورت بسنات النوم أعينهم ... كأن أحداقها حول وما حَوِلوا
والصواب (قد عقدت بخمار. . . وازَّاوَرَت بسنات النوم أعينهم) أي مالت.
22 - ص26، 27 (وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة حين تتابعت الأخبار عليه، وتتابع الناس في الأشربة المسكرة على التأويل: أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الشراب أمر ساءت فيه رغبة الناس حتى بلغت بهم الدم الحرام، والمال الحرام والفرج الحرام، وهو يقول: شربنا شراباً لا بأس به. وإن شراباً حمل الناس على هذا البأس شديد(831/56)
وإثم عظيم، وقد جعل الله عنه مندوحة وسعة من أشربة كثيرة، ليس في الأنفس منها حاجة: الماء العذب، واللبن والعسل والسويق، وأشربة كثيرة من نبيذ التمر والزبيب في أسقية الأدم التي لا زفت فيها، فإنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نبيذ الضروف المزفتة وعن الدنان والجرار).
والصواب (أمر ساءت فيه رِعْيَتُهم. . .)
جاء في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص101 (كان في الناس من هذا الشراب أمر ساءت فيه رِعْيَتُهم، وغشوا فيه أموراً انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، بلغت بهم الدم الحرام. . .) وهذه الجملة أدق من الجملة التي نقلها ابن قتيبة.
والصواب أيضاً (. . . من أشربة كثيرة ليس في الأنفس منها جائحة).
والصواب أيضاً (. . . فإنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نبيذ الجرّ والدُّبَّاءِ والظروف المزفتة) وليس لكلمة (الضروف) أي معنى في لغة العرب.
23 - 37، 38 (وقد شهر المتعاشرون على الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك، قال الشاعر:
أرى كل قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فدميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سؤوم
فهذا ثباتي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
والصواب (فهذا ثنائي) كما في العقد الفريد 4321 وليس
للثبات هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام، ويقوم عليه بناء
معناه.
(يتبع)
السيد أحمد صقر(831/57)
المدرس بالليسيه فرنسية بمصر الجديدة(831/58)
العدد 832 - بتاريخ: 13 - 06 - 1949(/)
7 - أمم حائرة
المرأة في هذا العصر
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
قلت في خاتمة مقالي عن الأسرة وما أخشاه عليها: (والمرأة وقاية من هذا الشر، وطب لهذا الداء، وشفاء لهذه العلة).
وفي هذا المقال نظرات إلى المرأة في هذا العصر. وأقدم قبل حديث المرأة في عصرنا هذا ثلاث مقدمات:
الأولى أنه لا يمكن أن تقع خصومة بين الرجال والنساء، فيكون الرجال فريقاً والنساء فريقاً، ويتحزب هؤلاء بعضهم لبعض، وبتحزب أولئك بعضهن لبعض، وينحاز الذُّكْران كلهم إلى جانب، والإناث كلهن إلى جانب؛ إلا أن تكون الخصومة ضرباً من المزاح وأسلوباً من الفكاهة.
ذلك بأن الرجل أبو المرأة وابنها وأخوها، وأن المرأة أم الرجل وبنته وأخته. وهيهات أن تثور عصبية بين هذه الأواصر، أو يقطع تحزبٌ هذا الوشائج، أو يفرّق خلاف ما جمعه الله، أو يفصل نزاع ما وصله الخالق.
فالخصومة في كل أمور المرأة واقعة بين رجال ورجال، ونساء ونساء، يقال الرأي فينصره نساء ورجال، ويخذله نساء ورجال، وتُدَّعى الدعوة فيستجيب لها رجال ونساء، ويردَّها كذلك رجال ونساء.
فالرجال قبل النساء طَلبوا بعض ما يُطلب للمرأة في هذا الزمان، والنساء قبل الرجال عارضوا بعض ما يُطلب للمرأة في هذا العصر.
وأحسب الرجال المنتصرين لمطالب للمرأة أكثر من النساء المنتصرات لها، كما أحسب النساء النافرات من مطالب المرأة أكثر من الرجال النافرين منها.
ولو تعرفنا آراء النساء وحدهن في كل ما يختلف فيه الرأي من شئون المرأة في عصرنا هذا لكانت الكثرة الكاثرة، والغلَبة الغالبة، مخالفة لما ينادَي به من حقوق المرأة أو مطالبها(832/1)
ودعاويها.
ومن كان في ريبة من هذا فليجربّه، ومَن أكبر هذه الدعوى فليستَفتِ النساء فيها. . . هذه المقدمة الأولى.
والمقدمة الثانية، وهي لا جرم، متصلة بالأولى:
إن المخالفين فيما يُدَّعى للمرأة في زماننا، ويُطلب باسمها في أيامنا، لا يخالفون استخفافاً بشأن المرأة، وازدراء لها، واحتقاراً لمكانتها، وإنكاراً لفضلها، وغفلة عن أياديها. بل المخالفون من أولى العلم والفكر والرأي يخالفون في بعض هذه المطالب إعظاماً لشأن المرأة، وإجلالا لها، وإكباراً لمكانتها، واعترافاً بفضلها، ومعرفة بأياديها. يرون في هذه الدعاوى تعظيماً ظاهراً، وتحقيراً باطناً، ورحمة في القول، وقسوة في الفعل، وتحريراً في الوهم، وتسخيراً في الحقيقة، ونعمة على المرأة بادي الرأي، ونقمة عليها حين التأمل. ويخافون أن تُمتَهن كرامتها، وأن تُبتذل صيانتها، ويشفقون أن تذِل عزتها، وتذال سيادتها، ويحذرون أن تنتهك حرمتها، وتستباح قداستها، ويخافون أن تستبدل بكرامة الأمومة، وعزة الزوجية، ذلَّ الخدمة، وأن تعُطَى بحرمة البيت ابتذال السوق، وأن تترك سيادة الأسرة إلى عبودية المصنع، وأن تُهمل جمال الخلقة ونضرة الطبيعة إلى زيف الأصباغ والألوان، وتدع زينة الثياب إلى سخرية الأشكال التي نراها.
والمقدمة الثالثة: أن للمرأة حقوقاً لا تنكر، وعلى الجماعة للمرأة واجبات لا يرقى إليها خلاف. ونحن - المسلمين - سبقنا إلى تكريم المرأة، والإشادة بحقها وفضلها، وحسبنا من آيات كثيرة هذه الآية الجامعة (ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة). وحسبنا من أحاديث كثيرة هذا الحديث (سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النساء).
وقد اعترفنا - قبل غيرنا - بحق المرأة في الميراث والملك، والتصرف فيما تملك بكل الوجوه، وتوليها كل أنواع العقود - أمور لم تنلها المرأة الأوربية في بعض الدول حتى يومنا هذا - ودعونا المرأة إلى التعلم وفرضناه على النساء والرجال سواء، وزخر تاريخنا بالمحدّثات والفقيهات والأديبات والشاعرات.
بل بلغنا في تدليل المرأة أن قال فقهاؤنا: إن المرأة لا تُلزم بخدمة دارها إن كان الرجل(832/2)
قادراً على أجرة خادم، بل لا يجب عليها إرضاع ولدها إن كان في مكنة الزوج أن يأتي لولده بمرضع.
هذا موضوع يتسع فيه مجال القول، ولكنه ليس من قصدنا في هذا المقال.
ولا ننكر أن هذه الشريعة العادلة، وهذه السنة الكريمة، غطى عليها الجهل في أوطان وأزمان، كما غطى على حقوق كثيرة للجماعات، وأن المرأة ظُلمت وما تزال مظلومة في بعض البلدان أو بعض الطوائف، وأن علينا أن نأخذ بيدها وندفع عنها ونرد إليها كرامتها ومكانتها، ونعترف بسلطانها في الأسرة، ويدها على الأمة.
خلصنا من هذه المقدمات إلى أن الخصومة في قضايا المرأة ليست خصومة بين الرجال والنساء، وأن المخالفين في هذه القضايا لا يغضون من قدر المرأة، بل يعظمونها ويحرصون على كرامتها وسعادتها، وإن أحداً لا ينكر أن للمرأة حقوقاً على الجماعة يجب أن تؤدَّي إليها، وفضلاً على الأمة يجب أن يُعترف به.
بعد هذه المقدمات يضيق مجال الخلاف، ويُحد موضع النزاع، ويستبين الطريق. علام الخلاف إذاً بين المختلفين؟ وفيم الخصومة بين المختصمين؟ الخلاف كله أو جله في هذه القضية:
يقول قائلون وقائلات: (إن مكان المرأة دارها، ومملكتها أسرتها، ومعقلها بيتها، وعملها القيام على العش وإسعاد نفسها وزوجها وأولادها فيه، لا تتجاوز هذه المملكة أو تهملها إلا معتديةً ظالمةً، ولا تُخرج منها أو تُقهر فيها إلا معتدىً عليها مظلومة).
وتقول جماعة أخرى: (بل للمرأة السوق، والمصنع، والمنصِب، ومُعترك السياسة، والمقهى والملهى والمرقص وما وراء هذه. . . ولها أن تزاحم الرجل بالمَنكِب في كل مُزدحم، وأن تغالبه في كل معترك).
فتقول الجماعة الأولى: مَن للبيت إذاً؟ من للأسرة؟ من يربي الأولاد وينشِّئ النشء، ويقوم على هذه المدرسة أو المعبد أو الجنة التي ذكرنا آنفاً؟ إلى من يسكن الزوج المرهق حين يفر إلى داره من ضوضاء الأسواق ومعترك العيش؟ وبمن يعتصم الناشئ حين يأوي إلى بيته؟ وأية يد رحيمة - غيرَ يد المرآة - تُطعم وتُسقي، وتُفرش وتُنيم؟ وأي قلب غير قلبها يسع الرأفة والرحمة والحب والود، ويُشيع النظام والجمال في الدار؟ من غيرها يَطب(832/3)
للأدواء، ويضع في مواضعه الدواء؟!
إنما أخرج المرأة الأوربية من معقلها، وأنزلها عن عرشها هذه الوحشية المدمرة التي قتَّلتْ الرجال فحرمت المرأة عائلها، فخرجت تسعى لنفسها، وتكدح لقوتها. . . ولو خيّرت ما اختارت هذا الشقاء! وما على وجه الأرض امرأة تؤثر السوق والمصنع على سكينة البيت ونعيم الأسرة! إن هذه ضرورات أدَّى إليها تعاسة الإنسان وشقاوته، والضرورة تُقدَّر بقدرها، وينبغي السعي لدفعها، وألاّ نقر لها ونخضع لسلطانها، ونجعلها قانوناً تسير عليه المعيشة، فإنما هي شذوذ عارض، وخلل طارئ، في نظام الأسرة وقانون الأمة.
ويقول فريق: حرَّرنا المرأة من أغلال العصور الأولى، وفككناها من إسار العادات القديمة، وأخرجناها من الظلمات إلى النور، وأطلقناها تمرح كما تشاء، وتخالط الرجال في كل مجتمع، وتغالبهم في كل عمل.
فيقول فريق آخر: نحن ننصركم في التحرير وفك الإسار، والإخراج من الظلمات، ولكنا نرى في كثير مما تفخرون به تسخيراً لا تحريراً، وأسراً لا فكاكاً، ومهانة لا كرامة، وشقاء لا سعادة!
إنا ننظر إلى مدنيتكم هذه فنرى فيها مُتعاً وفِتناً، وملاعب وملاهي، وأسواقاً للذات رائجة، ومجامع للمرح صاخبة، وفنادق للترف آهلة، ونرى تجاراً وسماسرة، وشياطين وسحرة. ثم لا نجد في متعكم وفتنكم وملاهيكم وملاعبكم وأسواقكم ومجامعكم وفنادقكم إلا سلعة واحدة تتداولونها، وبضاعة مفردة تديرونها، ومخلوقاً تعبثون به وتلهون، وتجمعون به المال في أساليب شتى وتتّجرون، هو المرأة البائسة الشقية! لقد أدرتم عليها المسارح والمراقص والحانات، وكل دار للهو، وكل مباءة للاثم، وعرضتموها على النظّارة رقيقة في صورة حرة، ومُكرهة كأنها مختارة، وباكية بوجه ضاحكة، وشقية في ثياب سعيدة، ومبتذلة بدعوى التكريم، ومسخّرة باسم التحرير. . . جعلتموها وسيلة إلى كل كسب، وشركاً لكل صيد، وجلبتم بها المشترين إلى متاجركم، ونشرتم صورها في آلاف الأشكال للترويج لبضائعكم، وجذب القراء إلى صحفكم. . . وأخذتموها إلى سواحل البحار، وإلى مسابح الملاهي، فعرَّيتموها ولهوتم بها ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وكذبتم على أنفسكم وعلى الحقائق، فقلتم: حررناها وأسعدناها، وليس للمرأة في هذا كله تحرير، ولا لها من السعادة نصيب. إنها(832/4)
مسخَّرة مسيَّرة بأهواء الرجال، وإشراك عبَّاد المال. وليس لها في الحق نصيب من هذه المتع، ولا اختيار في هذه الأسواق. وهان على العابثين كرامة المرأة، وخفّت على اللاهين كرامة الأمة، واستوى عندهم صلاحها وفسادها، وصحتها ومرضها، وعزها وهونها.
ثم استدرجتم المرأة إلى الطرق والأسواق كاسية كعارية، وجعلتموها أُلهِيَّة لِكل سائر، ومتعة لكل ناظر، وحديثاً لكل عابث، وهوَّنتم أمرها على الدهماء، فلقيها الأوباش بالأقوال والإشارات، حتى لم تبق للسيدة في الطريق حرمة، ولا لربة البيت في السوق من الأشرار عاصم!
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(832/5)
قطرات ندى. .
للأستاذ راجي الراعي
الكفر ماء الروح إذا جمد.
سخرية الموت أشد بروزاً فيه من جشعه.
المنطق الذي لا هم له إلا أن يوثق النتائج بالأسباب حبل قديم ثخين - ينظر إليه الخيال مذعوراً إذ يحسبه حبلا في عنقه.
كلما تمثلت المد والجزر تمثلت الطي والنشر والوصال والهجر
المنتحر رجل يستبطئ الموت فيحشو فمه تراباً!
كأني بالعبارة وهي تذهب في الطول عبارة تائهة تفتش عن محورها أو هدفها الذي انحرفت عنه.
أترانا نميل إلى تجسيد ما نتخيل؛ لأن لنا أجساداً. . أفي هذا اليد التي تشير إلى الميثولوجيا والأساطير والتهاويل والهالات والتماثيل؟
كل صخرة من صخور الجبل فلذة من كبده، ولك كثيب من كثبان الرمال منبر من منابر الصحراء.
يطلبون العناق والإخاء، وهذه النجوم المتفرقة لا تعرف غير الجفاء والعداء، ويقولون إن الطبيعة هي الألف والياء في أبجدية الأحياء.
الدعوات التي تتلقاها العبقريات هي بطاقات الآلهة لحضور الوليمة الخالدة.
القاعة التي تقام فيها وليمة العباقرة ما تزال مفتوحة الأبواب منذ العبقرية الأولى.
الوهم ضباب الرأس.
أتكون الأجيال فصول راوية بدأها الزمان ولم يهتد بعد إلى الخاتمة؟
* أتكون الحقيقة إطار هذا الرسم الذي ندعوه خيالا؟
إن المجهول يستهويكم حتى يصبح معلوماً، ذلك أنكم لا تحبون أن تمشوا وراء راع ترون عصاه وتنشدون في نقصكم وضعفكم الكمال فكلما ظهر لكم وجه قائد تحولتم عنه وقد عرفتموه إلى غيره، ولعل في هذا السير المستديم وراء القوى الخفية المتعاقبة سر بقائكم.
الزلزلة أرض انتفض ضميرها وارتعش وجدانها.(832/6)
لا يستطيع العظيم أن يتبوأ مقعده في العلاء إذا لم يرفعه إليه جناح فنان.
إن الفنانين الخالدين المخلدين هم الذين تقام على قواعدهم تماثيل التاريخ.
الحياء والكبرياء يلتقيان في العزلة، ويفترقان في الثقة بالنفس.
هذا الوادي يذهب في الأعماق كأنه حامل جواهر يريد أن يودعها قلب الأرض أو رجل يرى غير رأى الجبل فيقول له: أنت تحسب العظمة في الشموخ والقسوة والطموح وأنا أراها في الوداعة والتواضع واللين، أو يرى رأيه ويحالفه في الكبر فيقول له: كلانا طالب عظمة: أنت تطلبها في آفاقك وأنا أطلبها في أعماقي.
إذا استطعت أن تجمع بين القوة واللين كان لك جناح العقاب وبيتك في القمة.
إذا كان الذكاء لساناً من نار فالماء بلادة.
للعبقري موجاته الأربع: موجة اللهيب، وموجة البحر وموجة الأثير، وموجة الصحراء.
أنت أول الخونة إذا رضيت أن تتخلى عن قيراط واحد من جنونك الفني الأدبي السامي إرضاء للجماهير.
النجوم شظايا ما انفجر في جوانب القبة الزرقاء يوم غضب الله غضبته فطرد آدم من الجنة.
العبقري غني بنفسه تأتيه عبقريته المستقلة بكل ما يطلب فلا يمده يده إلى العواطف والأحداث والأهواء مستجدياً.
الطعنة الطعنة طعنة العدالة إذا طعنت بمدية غلافها القانون ودمها مداد النص وبريقها بريق الحق والوجدان.
سألت عن السياسة الحكيمة المتئدة التي لا تُجري الأمر على إطلاقه فقيل لي. هي في البحر، في المد والجزر.
كلما أطبقت الجفنين والشفتين اشتممت رائحة التراب، وسمعت فيَّ شيئاً كأنه قرقعة المعول في يد الحفار.
من أتعس الناس رجل ذو ذاكرة قوية يصرف الساعات الطوال في نهاره وليله في المطالعة ولا يرى فيه قوة للتعبير عما يشعر به فتظل تلك الخلائق في أرحامه لا تقوى على الخروج وتتراكم مع الزمن حتى يصاب بالاستسقاء الروحي الذهني. وفي مساء يوم من(832/7)
أيامه السود ينفجر رازحاً تحت أثقاله ويسلم الروح منتحراً أو مجنوناً. . . إن النفس إذا غصت ساحتها بما فيها ولم تجد لها منفذاً أصيبت بالاختناق فلا تصرفوا أوقاتكم في القراءة إذا كنتم لا تستطيعون أن تكتبوا. . . القلم فرجة الروح فاكتبوا كلما قرأتم لترتفع أشجاركم بدورها بين تلك الأشجار التي تتفيأونها في غابات الفكر والإحساس. . . افتحوا كوى أرواحكم بين الحين والحين لئلا يفسد هواؤها.
كلما تمثلت نفسي محشوراً في ذلك الوادي الرهيب، وادي يوشافاط تبسطت ما استطعت في دنياي وأحلامي مغتنماً فرصة البقاء قبل الجلاء إلى ذلك الموقف المخيف بين الملايين التي لا تعد من الموتى الأحياء، يتلى عليهم الماضي ويحاكمون. .
البحار ابن البحر رجل كئيب فمن أين أتاه البحر الفسيح الرحاب بالكآبة. ونحن نعرف الرحب الصدر صابراً متفائلا غير كئيب؟
أنا أومن بالوراثة ولكن أين خليفة المتنبي في صحراء العرب. . وأين نظرات الفراعنة في عيون المصريين اليوم. وأين أثينا القرن العشرين من أثينا أفلاطون وسقراط إلى آخر تلك القافلة العلوية التي جاورت الأولمب وسيطرت بفلسفتها وخيالها على الدنيا. . وأين هذا الإيطالي الناعم الفنان، صاحب الأوتار والألحان، في البندقية وميلان، من أولئك الجبابرة الرومان الذين ملكوا بشجاعتهم الأرض وخضع لهم الزمان؟ ألا ترى معي أن هناك سلاسل تقطعت ودماً تحول عن مجراه؟
القلم الذي يأتيك بالموجة الطويلة ليس قلماً عربياً. . إن مذياع لغة العرب لا يعرف غير الموجة القصيرة.
راجي الراعي(832/8)
سفينة المعارف
في يد (الربان علي أيوب)
للأستاذ عبد الله حبيب
كيف قاد الربان سفينة المعارف؟ وكيف اجتاز بها مصاخب الأمواج الهوج، في مصادم البحر، بين الرياح الرْعن، والمهاوي السحيقة؟؟
الربان مقضي عليه أن يجهد جهده، فيحسب حساب المد والهواء، بين أفاعيل الماء والسماء، ليهتدي في تعاريج تلك المهاوي بين الضباب والأمواج، إلى ما يبغي من سبيل مأمون العواقب، محقق الثمرات.
وقد جهد وزير المعارف جهده، فحسب حساب المد والهواء، ففكر، ودبر، وأنعم النظر فيما كان، وما يجب أن يكون. واستطاع - في فترة وجيزة - أن يقود سفينة العلم والأدب بيد ربان حكيم حصيف. وهو الوزير الذي لم يتدرج - قبل أن يلي الوزارة - في مراحل الوظائف الحكومية، ولم يعرف من (صناعة الحكم) أو أساليب الحكام، ما عرف غيره من الوزراء الذين لابسو شئون الوظائف في مراحلها العديدة. . . وأثبت أن الحكم ليس (صناعة) تستوجب المران والتمرس، ولكنها تستوجب العقل الراجح والوعي الشامل والأفق الفكري المترامي الأنحاء.
وقد أقبل على وزارة المعارف مفترضاً أن شئون التعليم وشئون رجال العلم والأدب (قضايا) يجب أن تدرس بعقل المدرة المستنير، فجعل لكل قضية من تلك القضايا واجباً في عنقه. وراح يقرأ ويقرأ مئات من الأضابير في مئات المسائل، وما زال حتى وضحت أمامه المعالم، واستوى الطريق، فأخذ يقضي في تلك القضايا - واحدة إثر أخرى - بأحكام قاض عادل متزن. وحالف التوفيق تلك الأحكام، فجاءت موضع الإعجاب والتقدير.
وكانت (قضية الأدباء) أول قضية استهل بها عهد أحكامه العادلة، يوم نظر إليها نظرة وطنية شاملة فرد إلى طائفة منهم حقوقاً كانت ضائعة، وجعل يبحث ويبحث عن حقوق بقية الأدباء ليردها إليهم، ويدفع الظلم عنهم، بقلب وطني شجاع، لا يخشى فيما يراه حقاً لوم اللائمين وتعنت المتزمتين، ويقول في ذلك: إن العلم والأدب لا وطن لهما، ولا حزبية فيهما، وإنه أراد بما فعل أن يوحد الجهود في سبيل العلم والأدب؛ راجياً أن يكون علمه هذا(832/9)
فاتحة خير لتوحيد الجهود في سبيل قضية الوطن.
وقد أعلى بذلك شأن الأدب - في عهد الفاروق - أعلى الله شأنه، وأكرم الأدباء أكرم الله صنيعه، ولقي في سبيل إنصافهم ما لقي من عنت ولوم واحتجاج، فكان عزاؤه ما لهجت به الألسنة من الثناء عليه، والدعاء له، ورضاء الأمة عن عمله، وعرفانها لجمليه.
ونفي عن الأدباء - بما فعل - تهمة التعطل والتعطل والميل إلى الكسل وتلمس الرزق من أيسر طريق. فأظهر الناس على أن الأدباء (كفايات) مذخورة للوطن، يجب أن يعلو بها الوطن، وأن الأمة التي تطمس حق أدبائها، وتأخذهم بجريرة الحزبية البغيضة، لا خير فيها ولا أمل يرجى في صلاحها.
أما بقية القضايا فهي في طريقها إلى النور، وسوف تظهر أحكامها السديدة الرشيدة لكل ذي عين وبصيرة، ناطقة بما وهب الله قاضيها من سداد ورشاد وبصر وإيمان.
وأما السفينة بما فيها ومن فيها، فهي في طريقها إلى شاطئ السلام وبر الاطمئنان، يقودها ذلكم (الربان) الذي عرف من أفاعيل الماء والهواء، والرياح الرعناء، ما لم يعرفه ربان قديم.
ولم يبق أمام هذا الربان القدير سوى بعض صخور وبعض أعشاب تنساب فيها الأفاعي والحيات. ومن يدري!! فلعله (رفاعي) يرود الأفاعي والحيات، ويعرف كيف يخدرها بتعاويذه وأدعيته، ثم يستلها من بين تلك الأعشاب، فيكسر أنيابها ويقي الناس من سمومها، ويصل بالسفينة إلى شاطئ السلام، بعد القضاء على الصخور والأعشاب.
وسيعرف الناس - بعد ذلك - أي جهد بذل هذا الوزير العادل، وأي مجد بنى لأمته في محيط العلم والأدب.
أما أدباء مصر، فقد أصبح في أعناقهم لهذا الوزير المنصف العادل دين أي دين، وكذلك علقت بنفوسهم أكبر الآمال في عدله وبره ورعايته وتعميم فضله وتقديره لأهل العلم والأدب.
عبد الله حبيب(832/10)
صور من الحياة:
على هامش القبعة
للأستاذ كامل محمود حبيب
لقد صادفت مقالات (القبعة) هوى في نفوس قراء (الرسالة) الغراء ممن يحسون في أنفسهم غيرة وحماسة، فأهدى إليَّ الأستاذ عدنان أسعد كتابه (خمر وجمر) وقدم هديته الأنيقة المشكورة بقوله (أهدي إليك كتابي المتواضع لقاء مقالك الماتع القبعة) ولمست في تضاعيف كتابه ثورة على هذه الفئة من الناس الذين لبسوا القبعة حيناً من الزمان لينبذوا المعاني السامية للوطن والدين واللغة، حيث يقول: (. . . وهكذا تفرنج الشرقي إذ انسلخ من شرقيته وصبأ من تقاليده، فلبس القبعة وتبرنط ووضع البيبة وتهبَّط، ولوي لسانه اليعربي برطانة الغرب ولغة الهمج ثم تبجح فقال: هي المدنية يا قوم فقلدون!)
وكتب إلى الأستاذ عبد الحميد يونس المدرس بكلية الآداب يقول: (. . . لم يكن المنظر الذي أثار اهتمامي هو منظر النيل الساحر تقف على ضفتيه عمد النخيل الباسقات والأشجار الخضر المتشابكة وهو يتلألأ صافياً رقراقاً يُصافح أشعة الشمس الذهبية عند الأصيل كأنه يودعها وداع الحبيب الوامق إن حمَّ الفراق. ولا هو للصحراء الساجية بالليل المتثابتة بالنهار كأنها أمواج البحر المتلاطمة مسحت عليها يد ساحر رهيب فجمدت في مكانها لا تريم. ولا هو لعاشقين تأجج الهوى في قلبيهما ضراماً من شباب وشواظاً من عاطفة فذابت أنفاسهما مع لظى النجوى وزفرات الغرام. ولا هو للزهر النضير المتألق وهو يزهو في رونق ويختال في بهاء وينفح أريجه في خيلاء وقد تعهدته يد صناع فبدا على نسق يخطف البصر ويأسر اللب. ولكنه منظر يشغل أذهان العامة وتطرب له أفئدة الأطفال. . . هو منظر سيارة عطلت في عرض الطريق فتقدم لها حمار يجرها. والسيارة رمز الجديد وشارته والحمار صورة القديم ورسمه.
تحارباً وتخاصماً وتدابراً، وسخر الأول من الثاني في عزة وكبرياء، وأغضى الثاني عن الأول فصمت وطأطأ رأسه في استسلام، ثم اندفع على سننه لا يعبأ به ولا يلقى السمع إلى حديثه وحاول كل منهما أن يقتل صاحبه ويمحوه ويبيده، حتى إذا حزب الأمر بأحدهما ونزلت به النازلة وضاقت به سبل الأرض أسرع الثاني إليه يمسح عنه ما أضناه ويهوِّن(832/11)
عليه ما آده ويعينه على ما أعضل عليه. . . ما أشدهما خصمين وما أكرمهما عدوين!
هذه - يا صاحبي - هي الحرب الصحيحة بين الجديد والقديم، ولكنها في مصر - وطننا العزيز - معركة عنيفة في ضعف، شديدة في فتور، لا تسمو عن المهاترات الوضيعة والألفاظ النابية والمفارقات العجيبة، يريد الواحد أن يحط من قدر أخيه على جهل منه وصلف.
وأنت هنا لا تكاد تفرِّق بين المجدد والمحافظ إلا من أسماء خاوية تسمى بها البعض دون البعض الآخر، فليت شعري هل آن الأوان لأن تفقه السيارة المجددة أنها ستصاب - في وقت ما - بالعطب فيتقدم إليها الحمار في رزانة وهدوء ليقيلها من عثرتها وليكون لها عوناً وساعداً. أو أن يفهم حمارنا المحافظ أن من سماحة الطبع وسمو الخلق أن يهفو نحو غريمه - في ساعة الخطر - ليكون صاحب الشدة ورفيق العسرة؟
والمجدد هنا رجل لبس القبعة حيناً أو بعض حين وقرأ الكتب الغربية سنة أو بعض سنة وانكب على الثقافة الإفرنجية ردحاً من الزمان، ثم جاء يلوي لسانه برطانة بربرية ويملأ شدقيه بكلمات أعجمية على جهل منه بالغرب، لا ريب فهو قد عاش زماناً في بلاد الغرب ولكنه لم ينغمر في البيئة ولم يتغلغل إلى عاداتهم ولم يكشف عن أخلاقهم، فبدا فج العقل والعقيدة والفكر. وما به إلا أن يهدم تراث الشرق وهو تراث أقامته الأجيال العديدة على دعامات قوية ثابتة.
وداء هذه الأمة أنها تبذر - دائماً - في القبعة روح الغرور والكبر حين تفسح لها المكان المرموق، وحين تضعها في صدر الجماعة، وحين تهيئ لها مجلساً عالياً بين القادة والزعماء. والقبعة - لهذا - تتكلم وتخطب وتعلمِّ فتملأ قلوب الشباب من أبنائنا خلطاً وخرفاً، وتزين لهم - في أسلوب سياسي رقيق - أنّ يعقوا الدين والوطن اللغة، وتدفعهم - في مكر ولين - إلى الهاوية.
وأكبرهمِّ صاحب القبعة أن يعبث بصورة الوطن الحبيبة لتبدو شوهاء مبتورة تعافها النفس ويزدريها العقل، وأن ينقب عن النقائض يلصقها بأهله ثم يتحدث بها في طلاقه وإسهاب، وأن يأخذ نفسه بالبحث عن نواحي الضعف في بني وطنه فيذيعها في غير اكتراث ولا مبالاة. ثم ينكر علينا النبوغ والعبقرية والسمو، ويسمنا بالتقصير والخمول والتخاذل،(832/12)
وينسى أنه واحد من هذه الأمة لا يستطيع أن يهرب من عاداتها ولا أن يتفلت من خصالها.
ولشد ما يحلو لصاحب القبعة أن يتمادى في الغي وأن يسترسل في المكابرة، فيتصنع احتقار المصري ويحاول جهده أن يحط من قدره، وأن ينال من كرامته، فهو لا يؤمن به عالماً ولا أديباً ولا صانعاً ولا. . . ثم يتبجح فيجهر برأيه السقيم في غير تحرج ولا حياء.
وأنا أعرف رجلاً من ذوي القبعات رأى أثراً من آثار الصناعة، ظنه مصرياً - وفي رأيه أن الصانع المصري رجل متواكل واهي العزيمة مغلق الحس - فهاله ما في هذا الأثر من ضعف وتداع، فراح ينحط على الصنعة والصانع يثلبهما بأقذع الكلم ويسلقهما بألفاظ غلاظ. فلما تبين له أن الصانع إفرنجياً تراجع في ندم وتخاذل في ضعف كأنما عزَّ عليه أن ينال من الإفرنجي وهو سيده ومثله الأعلى.
وأعرف رجلا آخر من هذه الفئة ترامى إليه أن أجنبياً ذا مكانة أدبية يوشك أن يزور مصر، فأخذ يترقب مقدمه في شغف، ثم اندفع يستقبله في حفاوة وأفسح له من قلبه ومن قلمه في وقت معاً، وملأ صَّفحات الصحف بما أضفى عليه من إطراء ومدح. ثم حاول أن يمن عليه الأجنبي فيزوره في داره لتسعد الدار بزورة السيد الأجنبي، ولتظفر المائدة بفضل الأديب الغربي، فتشاغل هذا عنه وتعلل بالتعلات، ثم ضاق بإلحاحه فردَّه - بادئ ذي بدئ - في هوادة، ثم ضاق به مرة أخرى فردَّه في عنف. وحزَّ في نفس صاحبنا أن يندفع إلى الرجل في غير صبر، وأن يتشبث في غير أناة، ثم لا يلقي - بعد هذا كله - إلا الاحتقار والمهانة، فأطلق فيه لسانه وقلمه يثلب علمه وأدبه وأخلاقه، ويزدري رجولته وإنسانيته وفنه. . .
هذه هي أخلاق القبعة، وهذه هي عقيدتها، وهذا هو إيمانها، فمتى. . . متى نتحلل من قيودها؟ إن القبعة - ولا ريب - هي بقايا عهد زال منذ زمان، عهد السيطرة الأجنبية البغيضة، عهد الاستخذاء والضعف. . . فمتى. . . متى نتحلل من قيودها لنمسح عنا عار التعبد والخضوع؟
وجاءني صديق من ذوي القبعات هائجاً يهدر وهو يتلظى غيظاً وغضباً، وفي يده مجلة أسبوعية وصحيفة يومية، ثم قذف بهما أمامي وهو يرغي ويزبد، ثم قال: (أرأيت، أرأيت الصحافة في بلادنا وهي تشوه الحقائق؟) قلت: (ماذا؟ ماذا أصابك؟) قال: (هذه الصحيفة(832/13)
نشرت مقالاً بعنوان: الشعب الإنجليزي ذهبت أخلاقه. وهذه المجلة كتبت مقالاً بعنوان: عشش الترجمان في لندن!). قلت: (وماذا يعنيك وأنت رجل مصري الجنس؟) قال: (هذا افتراء بيِّن على شعب عظيم!) قلت: (وما لك أنت ولهذا الشعب؟) قال: (لقد عشت هناك سنوات فما شعرت بشيء مما يقولون!) قلت: (عجباً! إن في الصحيفة أرقاماً تنطق، وإن في المجلة صوراً تتكلم!) قال: (فأنت تصدق هذا البهتان الواضح فتنكر على هذا الشعب العظيم خصاله العالية وأخلاقه السامية، وهو قائد العالم وسيده) قلت: (وأنت تغضي عن الدعايات النكراء، والشائعات الشوهاء، يروجها عنا أصحاب الأغراض السقيمة في البلاد الأجنبية لتحط من كرامتنا و. . .) قال مقاطعاً: (إنهم لا يقولون إلا حقاً) قلت: (كأني بك قد تعلمت هناك - يا سيدي - كيف تنبذ المعاني السامية للدين والوطن واللغة!)
وأحس هو بأن كلماتي تخزه وخزاً شديداً، فانطلق من لدني في ثورة وغضب، ولكني لم أعجب أن يكون هذا الفتى قد استحال في سنوات إلى قبعة تتفلسف فلسفة واهية منحطة!!
وقص عليَّ صديق حبيب إلى نفسي قصة زواج القبعة. . .
فليت شعري هل أفلح صاحب القبعة أن يكون زوجاً وأباً ورب أسرة؟!
كامل محمود حبيب(832/14)
ترجمة وتحليل:
الخلود
لشاعر الحب والجمال لامرتين
ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 2 -
وما ينفك الفضول مستأثراً بلب الشاعر، فهو يريد أن يعرف كل شيء عن هذا الضيف الكريم الذي فتح عليه سجنه وحطم له قيده؛ فما الذي حمله على الهبوط من سمائه إلى الأرض، ومن دار الخلود إلى دار الفناء؟ وما هذه القدرة الخارقة التي أمسكته عن الطيران، ووقفته عن الجوَلان، ثم حبسته في هذا الكوكب الأرضي بين أجساد مخلوقة من سلالة من طين؟ وأنى يتسنى له وهو سجين أن يتصل بالبدن الذي تحللت عناصره، فأمسى رميم العظام؟ وما هذه العرى المدهشة للعقول، والصلات الخفية عن الأبصار التي تربط بينهما هذا الربط المحكم الوثيق؟
(أي قدرة ألقتك على هذه الأرض الفانية؟
أي يد غيبتك في سجن من الطين؟
وبأي عرى مدهشة، وروابط خافية،
يمسك بك الجسم كما تمسك به وأنت سجين؟
ولم يكتف لامرتين بهذه الأسئلة؛ فهو يرتقب بشوق لجوج يوم يُفصل بين الروح والبدن، يوم لا تنفع العرى والروابط مهما حفيت على الأبصار؛ وينتظر مفارقة الروح لهذه الأرض وصعوده إلى السماء حيث يجد قصراً مشيداً بدلاً من القبر الذي كان يشترك فيه مع البدن.
(متى يوم الفصل بين الروح والبدن؟
متى تغادر الأرض إلى قصرك المشيد؟
هل نسيت كل شيء؟ ألن يبعثك الزمن
من أعماق القبر إلى مجهل جديد؟. .)
وإذا انفصل الروح عن البدن وتحرر من قيوده وطار من هذه الأرض إلى السماء، وانتقل(832/15)
من قبره إلى قصره - فكيف تكون حياته المقبلة؟ أهي مماثلة لحياته الماضية؟ أفيها متع عاجلة وشهوات زائلة، ومطامح سرعان ما تُنسى، ورغائب ما أقل ما تبقى؟ أم فيها نعيم خالد لا يُصدَّع عنه ولا يُنزف، ولا ينقطع ولا يفتر، ولا يُمل ولا يُستكره، لأنه يتدفق من عين قدسية تنبع من الذات الإلهية؟
(هل ستحيا غداً حياتك الماضية؟
أم ستتمتعْ أخيراً بنعيم السماء
دافقاً من نفس الإله عينك الجارية،
بعد أن تحررت إلى الأبد من قيود الفناء؟)
وهنا يثوب الشاعر إلى وعيه، ويصحو على نفسه، فيوقن أنه لم يمت ولم يُقبر، وأنه لم يُبعث ولم يُنشر؛ وأن نفسه جالت فأكثرت التجوال، وتخيلت فأسهبت في الخيال؛ وأن كل ما تصوره وتمثله لم يعدُ أن يكون آمالاً عذاباً كثيراً ما تراءت أمام عينيه؛ وإنما شخص له هذه الآمال ذكراه لحبيبته التي انفصلت عنه انفصال الروح عن البدن، وعرجت إلى ملكوت السماء بعد أن خلفته وراءها جسداً محطماً وأعضاء جامدة، ومشاعر خامدة؛ فكيف لا يناجي روحه الذي فارقه، ولم لا يتمنى أن يلحق به ولو بالموت والفناء؟
لا. لن يندم لامرتين على جسده إن كان فناؤه قرباناً لروحه؛ فإن أمله في لقاء المحبوبة يهوِّن عليه كل شيء، وأن هذا الأمل نفسه هو الذي جعله لا يُراع ولا يضطرب حين رأى شحوب الموت على وجه (جوليا) الجذاب كأنه صفرة ألوان الربيع بعد أن تذوي وتحول: كلاهما أمر جرت به سنة الحياة، وقضت به حكمة الوجود.
من أجل ذلك عاد يناجي روحه - وهو في الحقيقة لا يناجي غير حبيبته - بهذه الكلمة التي لا تفيض إلا من قلب نقي وسريرة طاهرة.
(بلى. . . تلك - يا نصف حياتي - آمالي العِذاب
فبها استطاعت نفسي أن تجول،
وترى بلا روْع على وجهك الجذاب
ألوان الربيع الزاهيات تحول. .)
ويؤكد هذا المعنى النبيل بأن آماله في لقاء (جوليا) ومناقلتها الحديث ومشاركتها في نعيم(832/16)
السماء لم تبعثه على الصبر والاحتمال فقط، وعلى الرضا بحكم القضاء فحسب، وإنما ستبعثه على الشجاعة وقت الشدة؛ فهو سيبتسم ساعة يتأرجح بين الوجود والعدم، ساعة يحتضر على فراش موته؛ ثم هو لن يأسف على صباه حين يفصم الدهر عُراه، وإنما سيبكي من فرط سروره بلقيا حبيبته منية نفسه، ونصف حياته.
(وبها ستراني أبتسم وأنا أحتضر،
بعد أن يفصم الدهر عُرى صباي
وأن دموعي من فرط السرور ستطفر
في لقائنا. . . فتتلألأ بها عيناني!)
ويستمر لامرتين في نجواه - وما أروعها من نجوى! - فيتمثل حبيبته ويجثو بين يديها مقلباً لها صفحات الماضي البهيج بذكرياته الحلوة؛ وما يفتأ يخاطبها على أنها روحه الذي انفصل عنه فيذكر هذا الروح باليوم السعيد الذي ولد فيه الحب بينهما من نظرة عاجلة تلاها حديث لطيف ومجلس عفيف، ثم جولات جميلة وسكرات نبيلة، في محراب الطبيعة حين تأخذ زخرفها وتزَّين تارة على رءوس صخورها الناتئة كأنها رقيب نشوان يرهف أذنيه ليسمع أحاديث الهوى؛ وتارة حول بحيراتها الحزينة كأنها صديق أسوان يقاسم الحبيبين ما كتبت لهما يد القضاء؛ وأحياناً على شطئانها الجُردْ وكثبانها النواعم التي تكتم السر فلا تفشيه وتحفظ العهد فلا تنساه؛ والحبيبان - في تلك الأويقات كلها - لا يحسان مرور الزمن، ولا يكترثان بالظلال التي تهوي من الجبال، ماحية القرى في أذيالها السود، فإنهما لفي نشوة، وإنهما لطائران عن هذا العالم المادي المحدود إلى عالم عرضه السموات والأرض تصفو فيه الأنفس، وتمتزج الأرواح، وتأتلف القلوب!
(كثيراً ما تستعيد الذكرى في هذا المقام السعيد
الذي وُلد فيه حبنا الخالد من نظر عجلان،
تارة على رءوس هذه الصخور الجلاميد،
وتارة حول البحيرات الحزينة على موحش الشطئان،
حيث كنت أقتحم معك الظلمات الغاشية،
طائرين - بنجوة عن العالم - على جناح الأمل المنشود(832/17)
وكانت الظلال - وهي من الجبال هاوية -
تمحو أمامنا القرى في طياتها السود!)
ولكن الله زين السماء الدنيا بمصابيح جعلها كمنثور اللآلي، موشية برقع الليالي. إن لها لأنواراً رخية تغشى الفضاء، وإن لأنوارها لألحاناً توقعها أنامل قدسية في الخفاء، وإن في ألحانها لسراً عجزت عن فهمه العقول؛ فربما كان رجعاً لزفزفة الرياح، أو صدى لزقزقة الأطيار، أو ترديداً لخرير الأنهار، أو تسجيلاً لسحر العشاق.
وقد اكتفى الشاعر بوصف ألحان الليل بالخفاء، وبدنوها بلا ضوضاء؛ فانطوى تحت وصفه الوجيز ما تشاء أخيلة الشعراء من سبْح في العالم المجهول.
(لكنَّ كواكب الليل بألحانها الخفية
- وهي تدنو بلا صخب ولا ضوضاء -
تغشَى الفضاء بأنوارها الرخية،
ملقيةً على كل شيء نقابها الوضاء!)
وما كان أسرع لامرتين إلى اقتناص التشبيهات المحكمة!
فلقد رأى صورة الكوكب الذي يضيء في الليل محراب الطبيعة أدنى إلى صورة المصباح الذي ينير بضوئه الخاشع جنبات المعابد بعد أن تنمحي آية النهار: وكما أن هذا المصباح يعوض لألاء الشمس عند الراهب المتبتل، فيحسب ضوءه الباهت الخاشع نوراً ساطعاً وهاجاً، لأنه يشعره بمعاني الورع والتقى والزهادة، فإن الكوكب يعوِّض النهار الأضحيان، عند العاشق الولهان، فيخلع على ضوئه الرخيّ معاني شعرية، وأسراراً علوية، إذ يوحي إليه سمراً شجياً، وحديثاً حلواً ندياً. . .
(كذلك. . . حين تشحب رويداً رويداً أشعة المساء
في معابدنا المقدسة التي تضيئها آية النهار،
يملأ المصباح - وهو يرسل خاشع الضياء -
جوانب المحراب بساطع الأنوار.)
ولعلَّ ألحان الكواكب - بلطفها وخفائها - هي التي ذكَّرت الشاعر بألحان روحه، وقتما كان هذا الروح يسكر سكرته الوديعة، وهو يتأمل مناظر الطبيعة، ويرجع البصر فيها بين(832/18)
السماء والأرض فينقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير، ثم إذا يوقظ بسكرته عيني الشاعر الحالمتين، ليطلعه على جمال الوجود، ويسبِّح معه للإله المعبود، ويبرهن له على عقيدة (الخلود).
وما يبرح لامرتين خالعاً على روحه شخص حبيبته، ليستدل في هذا الجو العاطفي على الإيمان بالله، مهاجماً من طرْف خفي الفلاسفة الأبيقوريين والماديين الذين ينفون خلود الروح.
وكأني بالشاعر - في إصاخته لصوْت الغريزة ورفضه البراهين المنطقية - يريد أن يطوي في غضون شعره مذهبه في تمثل الإيمان وتعقل معانيه. . . فليدع تلك المناقشات البيزنطية العقيمة، وتلك البراهين الجدلية السقيمة، ولينطق في نفس الإنسان لسان حاله إذا ما تأمل معبد الطبيعة القدسي، وسمع ألحان الأرض والسماء حتى استنارت بصيرته بما رأى بصره، فتجلت له حقيقة الإيمان.
ألا وإن هذه الحقيقة السامية لتسبيحه خالدة طالما تمتم بها روح الشاعر، فأيقظه من سباته، وبعثه من مرقده.
(حينئذ توقظ عينيَّ بسكرتك الوديعة
وأنت ترجع في السماء والأرض طرفك الحيران
قائلاً: (أيها الإله الباطن! معبد الطبيعة.
فإذا تأملها البصر شهدتك البصيرة في كل مكان)
(البقية في العدد القادم)
صبحي إبراهيم الصالح(832/19)
شعر المعتمد بن عباد
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وبرغم شهرة شعراء الأندلس بوصف الطبيعة، وغرام المعتمد بها لم نجد له كثيراً من الشعر فيها، اللهم إلا حديثاً عرضياً عن البدر الذي كان يساهره، وهو هانئ بشرب الراح، كما تحدث عن شمعة سهرت معه كذلك وهو يشرب الخمر أيضاً، وقد رأى في نورها ولهبها ممثلاً لجمال ساقية ونار غرامه إذ يقول:
ساهرتها والكاس يسعى بها ... مَن ريقه أشهى من الكاس
ضياءها لا شك من وجهه ... وحرها من حر أنفاسي
ويقف ابن عباد في وصفه للخمر عند حد ما تراه العين، غير متجاوز ذلك إلى الحديث عن وصف أثرها في نفسه كما ترى ذلك في قوله:
لو زرتنا لرأيت ما لم تعهد ... ذوب اللجين خليط ذوب العسجد
ولعل المعتمد قد شغله الجمال الناطق ممثلا في المرأة عن الجمال الصامت ممثلا في الطبيعة.
ووصف المجن عندما طلب إليه أبوه وصفه، وكان قوي الخيال عندما ربط بين منظر المجن وقد أصبح يحكى السماء بما رسم عليه من نجوم وبين بُعد أن تناله طوال الرماح إذ قال:
مجن حكى صانعوه السماء ... لتقصر عنه طوال الرماح
وله قصيدتان تهكميتان بلغ فيهما مبلغاً كبيراً من الإتقان والإجادة، أما أولاهما فتلك التي رد بها على ابن عمار عندما طمع في أن يستأثر ببلنسية، فقال ابن عمار في ذلك شعراً يشيد فيه بمجده ومجد أسرته، ولم يكن ابن عمار من أسرة رفيعة الدار، بل كان خامل البيت، كما يقول مؤرخوه، فما هو إلا أن قال:
كيف التفلت بالخديعة من يدي ... رجل الحقيقة من بني عمار
حتى أنشد المعتمد قصيدة يعرض فيها بابن عمار وآبائه، ويذكر نشأتهم ومنبتهم، ويسخر من فخره بهم في أسلوب تهكمي لاذع بدأه بقوله يكمل قصيدة ابن عمار:(832/20)
الأكثرين مسودا ومملكا ... ومتوجا في سالف الإعصار
والثانية بعث بها إلى ابنه الراضي، عندما أرسل إليه يأمره بالخروج لمحاربة عدو هاجم (لورقة) فأظهر الراضي تمارضاً وانصرف إلى القراءة، فكتب إليه قصيدة تهكمية بدأها بقوله:
الملك في طي الدفاتر ... فتخل عن قود العساكر
وللمعتمد فخر بنفسه وبأسرته في ثنايا قصائد غزله ورسائله إلى أبيه، ولم ينشئ قصيدة للفخر قصداً إلا تلك التي أوحى إليه بها فتحه قرطبة، وإلا ثانية يفتخر فيها بالجود، وإلا ثالثة أنشأها في الأسر وسوف نعرض لها.
ولم يَرْثِ غير بنيه الذين قتلوا وهم يدافعون عن مدنهم، وهو حين يرثي يندفع حيناً وراء حزنه، حتى ليرى من الغدر ألا يفيض جفنه عليهم، ويرى نفسه أحق بالبكاء من تلك القمرية التي أثارها فقد إلفها:
فمالي لا أبكي؟! أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لآلاف عديدهم كثر
غدرت إذا إن ضن جفني بقطره ... وإن لؤمت نفسي فصاحبها الصبر
وحيناً تتغلب العاطفة الدينية لديه، فيخفف ذلك من وقع المصائب عليه:
مخفف عن فؤادي أن ثكلكما ... مثقل لي يوم الحشر ميزانا
أما عندما كان في الأسر فإنه وجد في رثاء بنيه وبكائهم متنفساً عن آلامه، ووجد في الجزع عليهم تعبيراً عن يأسه وتبديد أحلامه، ولا ريب أن حاله في الأسر هو الذي أوحى إليه بهذا البيت الباكي:
يقولون صبراً، لا سبيل إلى الصبر ... سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري
وهو في هذه القصيدة يرى الطبيعة تشاركه في الحزن، فالبدر والنجوم الزهر في مأتم كل ليلة، والغمام يبكي مشاركة له في مصابه، ولا غرو فذو المنظار الأسود يرى الدنيا كلها سوداء، والمعتمد يناجي ولديه، محدثاً لهما عما خلفه بعدهما في القلوب، من جروح وندوب، وما استحال إليه مجده بعدهما من تبدد وانهيار، حتى إنهما لو عادا لآثرا الموت على أن يرياه مقيداً مأسورا.(832/21)
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
أما شعره في الأسر فكان سلواه، يشكو له بثه، ويندب إليه حظه، ويحدثه بآلامه، ويبكي به مصيره ومصير ملكه.
وقد دافع المعتمد عن عرشه، وخرج بسيفه يذود عن حماه، ولم يستمع إلى رأي ناصحيه الذين أشاروا عليه بأن يتخذ خضوعه للمغيرين سياسة ينتهجها، عساهم يبقونه على العرش، فأبى، ورأى استلاب عرشه أفضل من النزول عن شرفه:
قالوا: الخضوع سياسة ... فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو ... ع على فمي السم النقيع
إن يسلب القوم العدا ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطبا ... ع، أيسلب الشرف الرفيع
واستقبل المعتمد أسره لا بالثورة والتهديد والوعيد، ولكن بالبكاء والنحيب، فلم نر في شعره حديثاً عن أنصار سيثورون، ولا عن شعب سينتقم، بل رأينا استسلاما لآسريه، وبكاء على ماضيه. خرج به يوسف بن ناشفين إلى العدوة بعد أن خلعه، فوصل إلى موضع منها، وأهل البلد خارجون للاستسقاء فقال:
خرجوا ليستسقوا، فقلت لهم ... دمعي ينوب لكم عن الأنواء
قالوا: حقيق، في دموعك مقنع ... لكنها ممزوجة بدماء
ولم نره طول مدة مقامه في الأسر متوعداً ولا ثائراً، بل يائساً مستسلماً، ولم يمر به أمل العودة إلى سابق مجده إلى مروراً عابراً كما يمر به في حلم إذ يقول:
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... أمامي وخلفي روضة وغدير
تراه عسيراً أم يسيرا مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير
ولم نحس بروح الثورة في شعر المعتمد وهو أسير إلا عند ما بلغ نبأ ثورة ابنه عبد الجبار، فهنا يذكر المعتمد السيف الذي طال رقاده في جفنه، والرمح الذي عطش إلى شرب الدماء، والجواد وقد حيل بينه وبين ارتقاب غرة في العدو فينادي قائلاً:
ألا شرف يرحم المشرفي ... مما به من شمات الوثين(832/22)
ألا كرم ينعش السمهري، ... ويشفيه من كل داء دفين
ألا حنة لابن محنية ... شديد الحنين ضعيف الأنين
بل أن ذكرى مجده ومجد آبائه الغابر في القصيدة الفخرية التي أنشأها في الأسر لم تكن لتثير فيه الطموح إلى إعادة هذا المجد، بل يسلى نفسه فيها بقوله.
وإذا ما اجتمع الدين لنا ... فحقير ما من الدنيا افترق
فالسائد في شعره روح الاستسلام لجور الدهر وظلم الأيام: يوصي نفسه بالصبر، ويدعوها إلى تحمل الكرب، ويوطنها على الكره، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيقول:
اقنع بحظك في دنياك ما كانا ... وعز نفسك إن فارقت أوطانا
في الله من كل مفقود مضى عوض ... فأشعر القلب سلواناً وإيماناً
أما سمعت بسلطان شبيهك قد ... بزته سود خطوب الدهر سلطانا
وطن على الكره، وارقب إثره فرجا ... واستغنم الله تغنم منه غفرانا
كان هذا الأسر القاسي وما عومل به من إذلال فيه، والموازنة بين حاضره وماضيه، مدعاة لإثارة شجونه، وإدماء عيونه، وها هو ذا يصف لنا عيداً حزيناً قد أقبل عليه في منفاه وقد دخلت عليه بناته، يلبسن ثياباً أخلاقا وفي أيديهن المغزل يغزلن به للناس حتى لمن كان لهن بالأمس خادما، فثارت في خاطره أطياف السعادة الماضية، فتمزق قلبه وقال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في أغمات من عُدُم ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين، والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهياً ومأمورا
وكثيراً ما كان يتذكر قصوره بالأندلس فيحن إليها، ويحسن كأنها تبكي أيامه الزاهرة، ولياليه المتلألئة، ويشعر على البعد بما ارتدته من الذل والوحشة بعده.
ومما ضاعف أساه، هذا القيد الذي غلت به قدماه، وشعره مليء بالحسرة التي تمزق قلبه لهذا القيد الثقيل الذي يراه يتلوى كالحية الرقطاء، وذا أيد وبطش كالأسد، ومن أروع شعره في ذلك حديثه إلى القيد، وقد دخل عليه ابنه أبو هاشم فارتاع له:(832/23)
قيدي، أما تعلمني مسلما ... أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك، واللحم قد ... أكلته لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم ... فينثني القلب وقد هشما
ارحم طفيلا طائشاً لبه ... لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخياتٍ له مثلهَ ... جرعتهن السم والعلقما
ولم يكن هناك بصيص من أمل في النجاة والحرية ينفذ إلى قلبه، وكان الهم يحطمه والأسى يوهنه، واليأس يمصر قلبه، فكان يشعر بدنو أجله، بل كان يتخيل هذا اليوم قد حل، ولعله كان يراه آلامه وأحزانه، فرثى نفسه بأبيات أوصى أن تكتب على قبره، لم يشر فيها لغير ماضيه، وكأنه يريد بذلك أن يمحو من ذاكرة التاريخ ما بلاه من الأسر والشقاء حيث يقول:
قبر الغريب، سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا ... بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي
نعم هو الحق وافاني به قدر ... من السماء، فوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ... أن الجبال تهادي فوق أعواد
فلا تزل صلوات الله نازلة ... على دفينك لا تحصى بتعداد
وقبل أن أختم هذا الفصل أشير إلى صلة المعتمد بالشعراء في منفاه، فقد استقبله في طنجة الحصري الشاعر، وأقبل عليه يلح في طلب العطاء ورفع إليه شعراً، فبعث إليه المعتمد بأكثر ما كان معه من مال قليل، واعتذر إليه بقطعة من الشعر، فأخذ الحصري ما أرسل إليه، ومضى مستقلاً للعطاء، مهملاً للمعتد؛ ولما سمع الشعراء بعطاء المعتمد أقبلوا عليه يسألونه، فعجب من أمرهم وقال:
سألوا العسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق منهم فأعجب
لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا لحكاهمو في المطلب
ووفى له ثلاثة من شعرائه هم أبو بكر الداني، وابن حمديس، وابن عبد الصمد، وأبى كرم المعتمد إلا أن يرسل إلى أولهم عندما زار أغمات بالقليل الذي كان يملكه، فأبى الداني أن يأخذ على وفائه أجراً، وأما الثاني فقد أقبل يريد زيارته فصرفه بعض الخدم، فأرسل المعتمد إليه قصيدة يعتذر فيها. ولعله كان يرجو أن يرى في شاعره صورة من مجده(832/24)
الغابر، وأثراً من آثار عظمته وسلطانه، وأما ابن عبد الصمد فإنه مضى إلى قبر المعتمد بعد صلاة العيد مع ملأ من الناس يتوجعون له ويترحمون عليه ثم أنشد قصيدة طويلة أرلها:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وخر يبكي، وبعفر وجهه في تراب قبره.
- 4 -
أهم ما يتصف به شعر المعتمد الوضوح الذي يدل على وضوح التجربة لدى الشاعر، فلا تعثر في شعره علىغموض ولا التواء. ومما ساعد على هذا الوضوح الوحدة في شعره؛ فكل مقطوعة أو قصيدة تتحدث عن خاطر من نفس المعتمد، وتتضافر الأبيات في إيضاح هذا الخاطر وتسير في اتساق ونظام.
وكثير من شعره في عهد الإمارة والملك مقطوعات تدل على انفعال يكفي هذا القدر في تصويره، مع قدرة المعتمد على الإطالة إذا أراد.
أما موسيقاه فمناسبة لهذه الانفعالات، ولذا ترى أكثر أوزان الغزل مطربة سارة سريعة كقوله:
يا بديع الحسن والإح ... سان، يا بدر الدياجي
يا غزالاً صاد مني ... بالطلا ليث الهياج
قد غنينا بسنا وجـ ... ك عن ضوء السراج
وترى شعره في الأسر يلتزم البحور الطويلة التي تدل على التأمل والأناة لا على الثورة والجموح. وليس في شعره في هذا العهد موسيقى تشعر بالسرعة إلا قطعته التي قالها في أثر ثورة ابنه عبد الجبار؛ فهي من المتقارب السريع الحركة؛ لأنها تعبر عن انفعال سريع، وحركة تضطرم في صدره، كما اختار البحور الطويلة لذلك في رثائه.
وتشبيهات المعتمد مألوفة، ولكن يزينها ما يضفيه على الشعر من تناسب كقوله:
يا هلالا، إذ بدا لي تجلت ... عن فؤادي دجنة الكربات(832/25)
فأنت ترى التناسب بين الهلال والدجنة. وحينما يفصل التشبيه في الغزل زيادة في بعث اللذة بتصوير من يحب حين يقول:
يا هلالا حسن خد، يا رشا ... غنج لحظ، يا قضيباً لين قد
ولا يتخذ المعتمد الغزل مقدمة لقصائد مدحه لأبيه، كما كان يفعل الشعراء السابقون.
ويميل المعتمد إلى الجمال الطبيعي في شعره، فقل أن يلجأ إلى الصناعة. وإن كنت لا تعدم أن ترى هنا جناساً، وهناك طباقاً وهنالك لفاً ونشراً، وغيرها، ولكنه مع ذلك يحسن الصوغ، فلا تحس بنبوّ ولا قلق، وإن كنت لا أنكر أثر الكلفة في قوله، يدعو بعض زملائه إلى الشراب:
أيها الصاحب الذي فارقت عي - ني ونفسي منه السنا والسناء
نحن في المجلس الذي يهب الرا - حة والمسمع الغنا والغناء
نتعاطى التي تنسيك في اللذ - ة والرقة الهوى والهواء
فأنه تلف راحة ومحيا ... قد أعد لك الحيا والحياء
وزادت الصناعة من جمال قوله يتحدث عن قمرية تنوح:
وناحت وباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفاً يبوح به سر
ولم تغض الصناعة من جمال مقطوعته الغزلية التي جعل في أول كل بيت منها حرفاً من حروف زوجه اعتماد.
والمعتمد دقيق ذو ذوق مرهف في اختيار ألفاظه التي توحي إلى القارئ بخاطره. وخذ مثلاً لذلك كلمة الأوار التي توحي إليك بلهيب النار وقد دل بها على نيران المعركة، وكلمة شخيص المصغرة وهي توحي بضآلة جسم ابنه أبى هاشم، وهذا في البيتين اللذين أوردناهما في معركة الزلاقة، وتأمل كلمة (مسيحا) في قوله يسترضي أباه:
سخطك قد زادني سقاما ... فابعث إلى الرضى مسيحا
لترى ما توحي به إلى نفسك من مقدرة المسيح على الإبراء، وما في الكلمة نفسها من دلالة على مسح آثار الداء، وهو يصف الليل باعتكار، ويضيف الوسواس للحلي، ويصف النَّفَس بالنرجس في قوله:
فلاقتك بالنفَس النرجسي ... ولاقتك بالملبس المسجدي(832/26)
وكل ذلك دليل الدقة في اختيار الألفاظ.
وقوافي الشاعر محكمة في أبياتها، لا تشعر فيها بقلق، ولا اضطراب؛ بل هي مستقرة مطمئنة تشعرك بقدرة الشاعر على تذليلها، إذا استثنينا كلمة كبد في قوله:
أغائبة عني وحاضرة معي ... لئن غبت عن عيني فإنك في كبدي
فالمحبوب مكانه القلب لا الكبد.
وبعد فإن على شعر المعتمد بن عباد مسحة من الحسن تأسر النفس، وتملك الحس، لصدق العاطفة التي انبعث عنها، وجمال الأسلوب والذي صيغ فيه.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(832/27)
الانحراف الجنسي
أسبابه وعلاجه
للأستاذ عبد العزيز جادو
كان الدكتور سيجموند فرويد، مبتكر التحليل النفسي، أول من وصف الأطفال بأنهم (ذوو انحراف متعدد الأشكال) ولقد أثار بذلك عاصفة من السخط واتهم من جميع الأوساط بقذف الطفولة البريئة وطعنها.
ماذا تعني هذه العبارة؟
إنها تعني باللغة السهلة أن كل نوع من أنواع الانحراف الجنسي ينغمس فيه المراهقون ونتغاضى عنه أو نتساهل فيه، يمكن أن يُبحث في حالات النشاط العادي عند الأطفال.
وإنا إذا قلبنا هذا الأمر على وجوهه المختلفة، فلا يكون أسوأ مما كان، فليس الأطفال هم الذين يتصرفون كالرجال، ولكن الرجال هم الذين يتصرفون كالأطفال. ويقصد بهذا أيضاً أن كل طفل به انحراف جنسي يكون في الغالب الأعم ناقص النمو من جهة غريزته الجنسية. ويرقد ارتقاؤه ونضجه وراء تلك الغريزة الجنسية عند المراهق العادي.
وليس الطفل هو المنحرف الضال، وإنما يعتبر المنحرف طفلاً وكلمة (منحرف) معناها التحول عن المجرى الطبيعي. والمنحرف الجنسي هو الذي لا يستعمل دافعه الجنسي بالطريقة السوية.
وكثير من الرجال لا يستطيعون جعل حياتهم الغرامية متناسقة بقدر الإمكان، لاعتقادهم أن كل شيء يميل عن الطريق القويم إنما هو انحراف. وهناك بالفعل مجال في لعب الحب الأوَّلى لكل نوع من أنواع الملاطفة والتودد.
ويمكن استعمال أي صورة من صور الاتصال التي يحتمل أن تكون مقبولة ومنبهة لكل من الطرفين على شرط أن تؤدي إلى الاختلاط الجنسي ولا تحل محله
والملاعبة للغرض الجنسي يجب أن تظل بمثابة (المشهيات) لا أن تكون الوليمة ذاتها.
وفي الانحراف الجنسي أصبحت الملاعبة غاية في حد ذاتها، وليس الامتزاج أو الصلة بشخص من الجنس الآخر هي الغاية المشتهاة.
فلكي ندرك كيف يحدث هذا، علينا أن نرجع إلى الطفل فليس هناك من يقرر بأن الطفل،(832/28)
بما له من أعضاء ناقصة النمو وبما يحتاجه من إفراز غددي، يكون في حالة جنسية كحالة المراهق أو البالغ؛ ولكنه قادر من أول أمره على جلب المتعة عن طريق الاحساسات الجسدية، وهذه هي خلاصة اللذة الجنسية ولو أنها لا تهم الغرض الجنسي في شيء.
وهكذا نرى أن المصَّ ليس وسيلة فحسب لتخفيف الجوع وتهوين أمره، ولكنه يمسي لذة في حد ذاته. وهذا ما يلمسه أي فرد من مشاهدته طفلا يلعب بدميته. ويقتنع معظم الناس بأن التدخين، سواء بالغليون أو بالسيجار يدين بشيء من جاذبيته إلى تخلف اللذة أو بقائها في الشفة، وتكون هذه اللذة في الغالب كلذة التقبيل سواء بسواء.
وهناك في الواقع عدة أجزاء في الجسم تلتقي فيها المحتويات الداخلية أي الغشاء المخاطي بالجلد الخارجي. وجميع هذه المناطق ذات حساسية وشعور باللذة. والفم - كما ذكرنا - أحد تلك المناطق، كما أن الثغرة التي في الطرف المقابل للقناة الهضمية منطقة هي الأخرى.
وموضع الأعضاء التناسلية في كل من الذكر والأنثى متشابه. وكلما اطرد التحسن وتدرج النضج وصلت تلك الأعضاء إلى درجة أعلى من المناطق الأخرى. ولو أن هذه المناطق لن تفقد حساسيتها جميعاً ويمكن أن تقوم بدورها في الحياة الجنسية.
ولقد امتدت هذه الحساسية إلى أن بلغت بشكل واضح الأرداف. أما كيف أحاطت هذه الحساسية بتلك المنطقة حتى أن اللذة والألم صارا أكثر تمييزاً فيها، فهي مسألة لم يصل العلم إلى حلها. ولكن لا ريب في أن وظيفة الأم المحبوبة عند اعتنائها بنظافة رضيعها شيء له أهميته. كما أن ملاطفات المرأة الفاتنة غير المتزوجة عند إعجابها بالطفل لها أهميتها أيضاً. ومما لا شك فيه أن مثل هذه العادات تقوي اللذة الأصلية المكتسبة وتعززها.
وقليل من الناس في حاجة إلى أن يعرفوا أن هذه الطاقة من اللذة والألم كائنة. وفي النزوات التي تصحب العادة السرية يحتل الجلد المكانة الأولى. وليس بعجيب أن تأخذ تلك النزوة هذه الهيئة، إذ أن تخيل تجربة ماضية أسهل من التوسل إلى وصف شيء ليس للمرء معرفة شخصية به؛ وهذا هو الوضع العادي للاستمناء الصبياني بالنسبة إلى الامتزاج الجنسي.
ولا يكون الاستمناء انحرافاً إلا حينما ينم في حياة المراهق بإيثاره إياه على حياة جنسية(832/29)
كاملة ممكنة. وإنه لنشاط عادي للصبي المنقب تنقيباً اختيارياً ليس فيه أي ضرر إلا عندما يأتي القلق والخوف والجزع ليتجمع ويتركز حوله.
وكثير من المراهقين الذين يعوقهم الطبع أو الظروف عن الزواج ولا يمكنهم التمتع بالعملية الجنسية المحرمة، ربما يكون هذا هو الحل السوي للحافز الجنسي عندهم. ولكن يجب أن نذكر ونضع نصب أعيننا الحقيقة التي تتركز في الفعالية الذاتية فهي تشبع الشعور الذاتي إلى حد يصبح فيه معتلاً.
واقتران الجلد باللذة الجنسية هو السبيل الذي يمكن أن يوصِّل إلى القمم الوهمية، ولذا فقد أصبح عبادة منظمة ذات آداب خاصة وحياة اجتماعية سفلية.
وله، كما أسلفنا القول، أسس طبيعية. ولا ينبغي أن يلتبس علينا الأمر بينه وبين السادية؛ فالسادية حالة لا يمكن أن تأتي فيها الهزة أو الرعشة الجنسية إلا إذا كانت مصحوبة بالتعذيب والتشويه والبتر، وتنتهي في أكثر الحالات بموت الضحية. ويكفي بقاؤها لتذكيرنا بأنه لا وجود لنوع من الرعشات لا يمكن أن يكون ملتوياً في صالح الغريزة الجنسية.
وبينما نرى احد الأشخاص في حاجة إلى التحكم في الباعث على رغبته أو مشاغبته والاستبداد به أو تعذيبه، نرى آخر يختبر اللذة الجنسية الكاملة ويتذوقها حين يكون مغلوباً أو عندما يُهان ويؤذي ويحتقر. وهذا الأخير هو الذي يطلق عليه: (مازوكي)
ومتوسط الرجال والنساء يمكنهم أن يكشفوا في أنفسهم جراثيم الاتجاهين ولا حاجة بهم إلى القلق والانزعاج من هذه المعاينة. والملاعبة يمكن أن تضيف صنفاً منسوجاً في مصلحة الحب بدون خطر من أن يغدو انحرافاً.
والفيتيشية انحراف جنسي آخر يأخذ صوراً غريبة. ومعناه في الأصل أن الباعث على التهيج الجنسي ليس شخصاً بعينه أو أشخاصاً معينين ولكنه بعض شيء. وقد يكون هذا الشيء حذاء أو جورباً أو معطفاً من الفرو أو أي شيء ذا وبر أو خصلة من الشعر أو أي أداة من أدوات الملبس. كما أن أصل الفينيشية في جميع الانحرافات قد يرجع إلى بعض تجارب صبيانية
يقول الشاعر (ما الحب إلا للحبيب الأول) وهي حقيقة سيكولوجية؛ ذلك أن سلوك الطفل في أزمة من الأزمات الانفعالية يمكنه أن يصنع نموذجاً من السلوك حينما تتلاقى فيما بعد(832/30)
بعض الحالات بميل انفعالي يماثلها.
وطبيعي أنه كان ينبغي أن يغير اللبيدو، وهو تيار الحب حينما كان قصده كلما ترعرع الفرد. فهو في البداية يتركز بكليته في الذات، ولكن وظائف الدم تبعث على تحويل التيار إلى نفسها فتغدو محبة لشخص آخر.
وهذا التعلق الأول بالأم جنسي بأوسع معنى الكلمة - ليستبدل به فيما بعد حباً يقوم على تبادل المنفعة والاستحسان.
وإن لم يحوَّل هذا التعلق الأساسي كما يجب، يحار الفرد في ارتقائه الجنسي، ولا تكون شهوته طليقة كما يجب أن تكون لكي تنفذ أو تمر من الأم إلى رفيق الدراسة أو صديق من الجنس ذاته إلى أن تجد أخيراً حبيباً ورفيقاً في شخص ما من الجنس الآخر. وإنه لو تحرر الدافع الجنسي من الأم، لكان عرضة لمقابلة الكبت في اي مرحلة من مراحل النضج والارتقاء؛ ومن ثم يرتد راجعاً إلى الوراء، كمجرى من الماء وضعت أمامه السدود، وينتشر في مساحة أوسع. ويمكن إذن أن يكون الفرد مراهقاً في كل شيء ما عدا الحافز الجنسي الذي يظل في المستوى الصبياني مضافاً إلى ذلك الشذوذ. وقد يكون نوع الكبت موضحاً بواسطة حالة ثابتة.
يضبط صبي في السادسة من عمره وهو يقارن هيكله بهيكل أخته التي تصغره، وبدلاً من أن يتغاضى والداه عن هذا الأمر باعتباره دافعاً طبيعياً للاستطلاع ويوجهانه التوجيه الصحيح بتعليمه الحقائق الواضحة، نراهما يردَّانه عنه بغضب وسخط.
إذن فالارتقاء الجنسي في الولد قُطع دابره من أول الأمر، وبعد ذلك حين يأخذ النشاط الغددي في تنبيه الغريزة والتأثير فيها لازدياد النمو يشعر نفسه (بعدم الأهمية) فالحادث الأصلي يضاف إليه الشعور بالخطيئة والندم وتأنيب الضمير، كل هذا لابد أن ينسي وإلا سيجعله قليل الاهتمام بالجنس الآخر، وبالتالي تقمع شهوته.
وقد ينجذب وراء تعلقه بأمه واتصاله بها. ولكن بما أنه من غير المعقول أن تظهر في نزواته، فإنه يجد بديلا من ذلك في بعض أشياء في لا شعوره يقرنها بأمه. وربما تكون رائحة معطفها أو لمسه إياه حين يكون على انفراد هو الذي يؤنس وحدته. وربما يكون الحذاء الذي تركته خارج باب حجرة نومها هو الذي يؤكد له أنها في الداخل وأنها على(832/31)
استعداد للترحيب به في سريرها.
وكما أن أي شيء يتناسب غالباً مع ما يشاركه في العاطفة، كذلك تأخذ الحياة الجنسية لهذا الشاب صورة العادة السرية تحت المؤثرات الفيتيشية، وربما لا يرجع إلى عهد بعيد، ولكنه يرجع إلى أواخر طفولته عندما شعر في نفسه بمؤثر سارحين قاده حب الاستطلاع إلى النظر من خلال ثقب مفتاح (الحمام) وقت أن كانت أخته الكبيرة تغتسل.
واحتمال آخر هو أنه قد يصير محباً لإظهار جسده لغيره غير قادر على اللذة الجنسية السوية، ولكن يتوق إلى عرض نفسه على بنات المدرسة - وأخيراً ينقاد لبعض نماذج من السلوك المخزون في الماضي.
هذه كلها أمثلة للانحراف الناتج عن النكوص ولكننا لم نشر إلى التفسير بعد.
ومتوسط البنين والبنات الذين تتراوح أسنانهم بين الحادية عشرة والخامسة عشرة على جهة التقريب يكونون في مرحلة حب الجنس للجنس حيث يتركز اللبيدو على واحد من الجنس ذاته. وليس معناه هذا أن كل صغير ينغمس في اللذة الجنسية، ولكن معناه أن الاهتمام المتيقظ وأوهام أحلام اليقظة تتركز حول بعض زملاء اللعب أو المدرسين.
وهذه الحالة إن كانت في صورة تبلغ من الصحة والعافية منتهاها يكون صاحبها فيه (شبه بطل) أو يكون (ذا بطش شديد). وهذه المرحلة تندمج بطبيعة الحال في المرحلة الثانية والأخيرة من ميل الجنس إلى الجنس الآخر وضبط اللبيدو وأوصده عن تقدمه كما يحتمل أن يحدث من خوف في الحياة الجنسية ناتج من مشاهدته مشاجرات عائلية، أو عن أي سبب من مئات الأسباب المحتملة للأغراض اللاشعورية، ربما يوقفه (أي اللبيدو) عند مرحلة حب الجنس للجنس. وهنا أيضاً نجد اختلافات وفوارق في الدرجة والطبع.
ويجد بعض محبي الجنس ذاته أن تصور الامتزاج بواحد من الجنس الآخر يبعث حتماً على النفور والاشمئزاز. وآخرون يغالبون شعورهم بكل جهد ليتزوجوا وينسلوا أطفالا.
وبعض الذكور من محبي نفس الجنس تبدو على هيأتهم الذكورة كاملة، ومزاولة الانحراف الجنسي بين هؤلاء كان يشجع عليها قدماء اليونان إذ كانوا يعتقدون أن هذه الارتباطات إنما جعلت للتدريب الصحيح وللجنود الطيبين. ولقد قيل إن حب الجنس للجنس يقابل اليوم بمثل هذا التشجيع في بلدان أخرى ولأسباب مماثلة.(832/32)
وفي الطرف الآخر من السلم يوجد نموذج (اليانسيه) المخنث، والمرأة المسترجلة. ويوجد غالباً في مثل هذه الحالات خطأ ما في الارتقاء الغددي والجسدي. والتقارير الطبية الأخيرة في أثر تأدية هرمونات الجنس، فتحت باب الأمل لمثل أولئك الناس؛ لكي يكونوا عاديين وفي حالة سوية.
ومحبو الجنس ذاته، من جهة أخرى ليس لديهم الرغبة ليعالجوا ويشفوا وسيجادلون بعد زمن في تحبيذ طريقهم في الحياة.
ويجب أن يكون واضحاً للقارئ الآن أن الانحراف الجنسي عصاب جوهري ناشئ عن أسباب مماثلة، وأنه سهل الانقياد لمعالجة مماثلة شأنه شأن العصابات الأخرى.
والأسباب في كل الحالات مخبوءة في اللاشعور. وفي قدرة التحليل النفسي أن يحرر اللبيدو ويجعله يرقى إلى طرق سوية. ولكن هذا ليس من الميسور عمله ما دام الانحراف الجنسي يتنحى عن المسئوليات ويتملص منها. والعلاج لابد أن تصحبه الرغبة في مواجهة حياة نقية تقية. وليس هناك بالطبع من يرغب رغبة أكيدة في الشفاء ويترك اليأس يستولي عليه.
عبد العزيز جادو(832/33)
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراوي
- 4 -
لسائل أن يسألني: إذا كانت جميع الوسائل التي التمسها أولو الأمر لعلاج الأزمات التي يعانيها الشباب قد أخفقت هذا الإخفاق، فأي باب مأمون يمكن أن يطرقه الشباب وهو على يقين من أنه سيجد فيه ضالته وشفاءه وسعادته؟
والحق أقول - وأعتذر إذ أضطر إلى الحديث عن نفسي - أنني بعد أن أفنيت كل عمري العلمي حتى الآن وهاأنذا أناهز (سن الرشد) التي يقولون، وبعد أن أذويت شبابي ومازلت في أبحاث شاقة متشعبة - لم أجد ما أجيب به غير كلمتين اثنتين: العلم والدين. أما الدين فأقصد به الدين النقي الخالص، وأما العلم فأقصد به العلم اليقيني الثابت من ذلك الذي يسميه الإنجليز
وكما يقول بعض الباحثين: (إن الدين وإن انحطت درجته بين الأديان ووهي أساسه، فهو أفضل من طريقة الشك والإلحاد، وأمس بالمدينة ونظام الجمعية الإنسانية، وأجمل أثراً في عقد روابط المعاملات، بل في كل شأن يفيد المجتمع الإنساني، وفي كل ترق بشرى إلى أية درجة من درجات السعادة في هذه الحياة الأولى)
ورحم الله ذلك الفيلسوف العربي الشاعر أبا العلاء حيث يقول:
قال المنجم والطبيب كلاهما: ... لا تحشر الأجساد، قلت إليكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله ... طهر، فأين الطهر من جسديكما؟
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
أما العلم الثابت فلأنه يحترم نفسه ويعرف لها قدرها فلا يزج بها إلى ما فوق طاقتها، ولا يقول عن شيء إنه حقيقة حتى يتثبت بالتجربة الدقيقة الصحيحة؛ ولهذا فحقائقه ثابتة يعكس الفلسفة فمعظمها آراء ظنية يخيل إلينا أصحابها أن الحقيقة هي، ومن هنا نشأ الخلط والتناقض فيها مع الغموض، ولم تكتسب كالعلم صفة البقاء والخلود.
أما العلم فلا يخلط بين الظن والحقيقة - ولاسيما فيما يمس الدين - متعصباً لرأيه كما تفعل الفلسفة؛ بل يقول في تواضعه المعهود على لسان بعض رجاله: (الفرق بين أي اعتقاد ديني(832/34)
وبين نظرية علمية أن الاعتقاد فيه عند معتقديه عنصر من الحقيقة المطلقة. أما النظرية العلمية، فهي عند أهلها صحيحة ما دامت نافعة. ويعتبر رجل العلم حتى أحسن نظرياته وسيلة مؤقتة تعينه على طريقه. ولا ينفك ينظر حوله منقباً لعله يجد شيئاً خيراً منها وأشمل. . .
ويرى بعض الفلاسفة من أتباع وليم جيمز أننا حين نقول عن معتقد إنه حق لا نعني أكثر من أنه نافع - أي أن كل حق في رأيهم إنما يحكم له أو عليه بالاختبار والتجربة لا عن طريق آخر)
أما إذا خرج العالم عن دائرته (دائرة الحقائق القطعية) وأدلى برأي فيجب أن نحترس منه ولا نقبل كل قوه من غير تمحيص؛ لأن العالم أحياناً يتفلسف ولكل عالم هفوة.
ومهما يكن فلكل شيء حد إذ جاوزه اختلت موازينه، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته: (لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وبأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك له في بادئ رأيه ينحصر في مداركه لا بعدوها؟ والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه: ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في عالم المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات؟ وكذلك الأعمى بالنسبة للمرئيات. . . ولو أننا سألنا الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات) من منطق ورياضة. . . الخ (وكانت ساقطة لديه كلية) وكذلك الدودة بالنسبة للجهات النائية والسماء. فهل ينحصر الوجود حقاً فيما ندرك وما عداه معدوم؟ (فانهم إدراكك ومدركاتك واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقاد وعمل لأنه أعلم بما ينفعك وأحرص على سعادتك).
(العقل ميزان صحيح ولكنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة الوجود والنبوة وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال) اهـ
وهذه الكهرباء والمغناطيسية والجاذبية كلها موجودات نعرفها - فقط - بآثارها، ولكن العلم الحديث أثبت أنه لا يمكن إدراك كهها. فهل معنى أننا نعجز عن إدراكها يجعلنا نستطيع أن ننكر وجودها؟.(832/35)
ولله ما أجمل تلك العبارة الرائعة التي تنسب لفيلسوف من أجدادنا الفراعين زعموا أنها وجدت منقوشة على هرم في هيكل إيزيس بـ (صا الحجر) وهي: (أنا كل شيء كان، وكل شيء كائن، وكل شيء سيكون. ومحال على من يفنى أن يزيل النقاب الذي تنقب به من لا يفنى). ولكن العلم بنفس التواضع وبنفس الدقة وبرغم كثرة مشاغله استطاع أن ينير لنا الكثير من معالم الطريق، وأن يقول كلمة الفصل التي ينتظرها منه العالم بفارغ صبر.
فأثبتت جميع تجاربه على طول الخط وجود قوة مدبرة مسيطرة هي الله، بل ذهب إلى أكثر من هذا فأثبت كذلك أنه تعالى قيوم ونزهه سبحانه عن الزمنية والمكانية. كما أثبت له صفات الكمال ونفى عنه كل صفة نقص. ذكر ذلك العلامة الفلكي النابغ السير جيمس جينز في مؤلفاته ولا سيما في كتابيه - وكذلك ذكره غيره من مشاهير العلماء الأفذاذ.
وليس ببعيد ذلك اليوم الذي نعني فيه الدين حينما ننطق بكلمة العلم كما تنبأ بذلك أستاذنا العلامة الورع الدكتور محمد أحمد الغمراوي أستاذ الكيمياء بكلية الطب.
العلم والدين: وهل هنالك لذة أسمى من لذة المعرفة؟ وهل هنالك سعادة أكمل من سعادة الاطمئنان؟ (الدين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) (أولم يتفكروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء. وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فبأي حديث بعده يؤمنون؟)
سمعاً وطاعة! لقد تفكرنا وتحققنا فآمنا ولم يبق إلا أن نفرغ من مشاغلنا المتعددة فنكمل إيماننا بالعمل.
هذا ما أجاب به العلم الحديث بعد طول تأمل وتدبر.
وإن هذا التفكير العلمي المتأمل في نظام الكون أنطق شيخ الإلحاد الفرنسي فولتير في أخريات حياته بقوله: (إنه لا توجد ساعة بدون ساعاتي يصنعها):
أما الدين فمعروف أمره وليس هذا مجال البحث فيه. وأما العلم فأي شيء لديه؟ وحبذا لو قمنا بسياحة إلى أرضه الطيبة فإن هذا يعود علينا بخير كثير. إلا أن عقولنا المتزنة، وحياتنا المثقلة بالمواعيد، وأعصابنا الرقيقة المرهفة، كلها دواع تستلزم الاقتصاد في الزمن، وتجعل من العسير إن لم يكن من المستحيل علينا أن نحتمل حصر الأرقام، أو(832/36)
نطيق المكث في المدن العلمية ومعاملها بين هذا الدخن المتصاعد، والوهج المتطاير! فلنكتف بالوقوف في هذه الزاوية إذن حيث آلة التسجيل التي يدون فيها كل شيء.
وأول ما يصادفنا في هذا المعمل المتواضع توقيع صغير للفلكي الرياضي النابه السير آرثر إد نجتون يقول فيه: (إن صورة الكون كما ترسمها النظريات العلمية الحديثة، توضح لنا ترتيباً للعناصر الأساسية لا يترك فرصة للمصادفة فيه إلا بنسبة واحد إلى ملايين متعددة). يلي هذا توقيع متمم للعالم الجيولوجي (لل) يقول فيه: (إننا كلما تعمقنا بأبحاثنا في أية ناحية من نواحي الكون نجد أوضح البراهين على وجود عقل الخالق وعنايته وقدرته وحكمته).
إلا أن هذا الهمس الذي يعلو بعض الشفاه يشعر بأنه مازال في النفس شيء! ولكن رويداً رويدا؛ فها هو ذا النابغة الألماني (ليبج) عالم النبات الشهير يقدم إلينا في حزمه المعهود أول البراهين التي نتطلع إليها في لهفة وشوق:
(إنني أفضل الاعتقاد بأن كتاباً في علم الكيمياء أو النبات (كتب نفسه) ونشأ من تلقاء ذاته من المواد غير الحية، على الاعتقاد بأن ورقة من أوراق الشجر أو زهرة من زهوره استطاعت أن تخلق نفسها وتتكون من تلقاء ذاتها بواسطة العوامل الطبيعية المجردة) ثم يبتسم وهو يشيح عنا بوجهه قائلاً: (حقاً!) إن دراسة الطبيعة هي الطريق لعبادة الخالق.
ولكننا وإن سلمنا بهذه النتائج يلوح أنا في حاجة لأن نخلو بأنفسنا لحظات نتناقش معها بهدوء: فكيف توصل العلم إلى هذه النتائج؟ وهل هناك براهين أُخر؟
وقبل أن نتم هذا التساؤل - نجد الرجل النشيط ذا الروح اللطيف الجذاب السير جيمس جينز - وكأنما أدرك بفطنته ما نعاني - لأنه يعرف طبيعة النفس البشرية التي قالت لربها (ولكن ليطمئن قلبي) - نجد هذا العالم الإنجليزي يقبل نحونا وبيده طائفة من الكتب وهو يقول متهللاً: إليكم الجواب! ثم يفتح أولها وهو (الكون المحيط بنا) لنجده فيه يأتي بمقدمات مهما تعددت وتباينت فإنها تصل بنا حتما إلى شيء واحد هو (أن في الكون آيات ساطعات صحيحات على وجود قوة مدبرة مهيمنة عليه) لنسمها ما شئنا: المدبر، المتحكم، الطبيعة، الله؛ فإن هذه الأسماء كلها تصل بنا إلى معنى واحد هو (الرب الخالق) الذي نزلت باسمه الأديان.(832/37)
(النهاية في العدد القادم)
إبراهيم البطراوي(832/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
لحظات مع الأستاذ العقاد في كتاب (الله):
جاء في كتاب (الله) للأستاذ عباس محمود العقاد ما يلي: (ولا يرى علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة، ولكنهم يقررون أن (ديانة الشمس) لم تنتشر في تلك الأطوار؛ لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا نتيسر للهمج وأشبه الهمج في أقدم عصور التاريخ الخ) ص (29)
وإنني لأشذ عن هذا القول، وأعتقد أن ديانة الشمس كانت أكثر انتشاراً من غيرها في العهد البدائي؛ وذلك لعظم تأثير الشمس على حياة الهمج العامة، وبخاصة تأثيرها على الزراعة؛ إذ لا بد أن الهمجي قد لاحظ تأثيرها ولو بطريق الصدفة، ورأى كيف أن نبتة عاشت تحت أشعة الشمس قد زانها الازدهار والنمو؛ بينما الأخرى التي نمت في الظلال قد أصابها الذبول والاضمحلال. أليس في ملاحظة ذلك ما يدعو الهمجي إلى معرفة مصدر الخير وهو (الشمس) فيتجه إليها ويأخذ بعبادتها؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلا أعتقد أن هناك من يستطيع القول بأن الهمجي كان قليل الاهتمام بالطوارئ التي تحدث أمامه؛ فلا يهتم للتغيير الذي تحدثه الشمس عند شروقها وغروبها في طقس إقليمه، بالإضافة إلى كونها هدفاً لأنظار الهمج على الدوام. فلا يعقل أن الهمجي كان يفترش أديم الأرض، وينام ملء جفنيه دون أن يفكر فيما يجري حوله وما يراه وما يحسه من التبديل الطارئ، ثم لا يقارن بين الحالتين: حالة شروق الشمس وما تبثه في الكون من الحركة والنشاط، وحالة غروبها وما يتبعه من سكون وهجوع!
كل هذا يحمل على الاعتقاد بانتشار عبادتها في ذلك الزمان. كما أني لا أرى أن للثقافة العلمية والأدبية تأثيراً في الأمر؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعرف حقيقة بعض الأشياء دون معرفة بعلم أو أدب، كأن يحدث ذلك عن طريق الصدفة المحضة أو الإحساس الباطني الذي يتخيل حقيقة الشيء فيدفع الإنسان إلى الإيمان به.
لهذا كله أرجو من الأستاذ المعداوي أن يكشف لنا عن الحقيقة فيما ذهب إليه الأستاذ العقاد وفيما أدليت به من رأي، فقد أكون مخطئاً في اعتقادي وبخاصة إن كان هناك شيء خفي(832/39)
عليَّ فلم أتبصره وفانتني حقيقة معناه. . . ودمتم سنداً لمحبي المعرفة وطالبي الثقافة الحقة.
(بغداد - العراق)
عبد الواحد محمد
أستاذ العربية بمدرسة الكرخ الثانوية
أشكر للأستاذ الفاضل جميل ثقته وحسن ظنه، وأجيبه في مجال التعقيب على قول الأستاذ العقاد بأن علماء المقابلة لا يرون أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة الخ. . . أجيبه في هذا المجال بأن هناك فارقاً بين (عبادة الشمس) و (ديانة الشمس) في واقع الأمر وفيما ذهب إليه الأستاذ العقاد وهذا هو الشيء الذي غاب عن السائل الفاضل فلم يتنبه له.
إن القول بأن (ديانة الشمس) تستلزم درجة من الثقافة العلمية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ صحيح لا غبار عليه؛ وذلك لأن العبادة شيء والديانة شيء آخر. . . وإذا كانت العبادة لا تحتاج إلى شيء من الثقافة العلمية؛ فإن الديانة تحتاج إلى مثل تلك الثقافة كل الاحتياج وأهمها الإحاطة بعض الشيء بالعلوم الفلكية والحسابية. إن العبادة تقوم على أسس من الشعور بالتأليه والخضوع للإله، أما الديانة فتقوم على أسس أخرى هي تنظيم هذا الشعور عن طريق إبرازه في صور شتى من إقامة الشعائر وتقديم القرابين وبناء المعابد والمحاريب.
كلام الأستاذ العقاد إذن عن (ديانة الشمس) صحيح لا غبار عليه إذا قصرناه على الثقافة العلمية لا الأدبية. أما كلامه عن (عبادة الشمس) حين يقول إنها لم تكن معدومة في أطوار الديانات القديمة فليس صحيحاً في جملته. . . إن عبادة الشمس مثلاً في العصر البليوليثي المتأخر لم يكن لها وجود على الإطلاق، وهو العصر الذي عرفته الحياة منذ عشرين ألف سنة على وجه التقريب.
فإذا انتقلنا إلى العصر النيوليثي المبكر وجدنا عبادة الشمس على نطاق ضيق لا يكاد يذكر، وهو العصر الذي عرفته الحياة منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. فعبادة الشمس كانت معدومة تماماً في أقدم عصور التاريخ، وكانت شبه معدومة في عصر آخر أقل قدماً، وهذا(832/40)
هو التحديد الذي يؤكده بالدليل المادي (ورثنجتن سميث) في كتابه (الإنسان المتوحش البدائي)، ويؤكده بأدلة أخرى معنوية كل من العالمين الكبيرين (ج. ج. أتكنسون) في كتابه (القانون البدائي) و (هـ. ج. ولز) في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية)!
بعد هذا التحديد، نعرض لشيء من التحليل والتعليل لظاهرة انعدام (عبادة الشمس) عند الهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ كما ورد في كتب هؤلاء العلماء الثقات، لنرد به على الآراء الخاصة التي أبداها الأستاذ صاحب السؤال.
لم يكن الإنسان الهمجي في أقدم عصور التاريخ يعرف لوناً من ألوان التفكير الذي يقوده إلى الكشف عما يجري حوله من ظواهر الكون وأحداث الحياة؛ لقد كان كل تفكيره محصوراً في قليل من الأمور التي تهمه كإنسان يتجنب الخطر حرصاً على حياته ويسعى إلى اجتلاب الرزق ليستطيع أن يعيش. فأفق التفكير عنده كان مشغولاً بمثل هذا الإجهاد الفكري الممثل في طريقة الخلاص من حيوان مفترس قد يعترض طريقه في الليل أو النهار، وفي طريقة الحصول على حيوان أليف يهيئ من لحمه طعاماً يرد به غائلة الجوع!. . . ولقد كان قصوره عن التفكير المتغلغل فيما حوله من ظواهر وأحداث مرجعه إلى قصور اللغة التي تعد في حقيقتها الدعامة الأولى لكل تفكير عميق. إن الرجل الهمجي في العصر البليوليثي المتأخر لم يكن يعرف لغة تعينه مثلاً على أن يفكر لماذا تشرق الشمس في الصباح ولماذا تغرب في المساء، ومن أين جاء ولماذا يعيش؟! لقد كانت لغته هي لغة الحركات والإيماءات، وكان فكره يدور حول تلك الأشياء التي تقع في دائرة إحساسه الساذج الذي لا يفترق أبدا عن إحساس الأطفال؛ لأن اللغة كما يقول (ويلز) هي يد الفكر التي يطبق بها على الأشياء ويختزنها لديه إلى حين!
وليس من شك في أن الرجل الهمجي في ذلك العصر لم يؤت درجة من التفكير تهيئ له نعمة التمييز بين ما هو جماد وبين ما هو حي. . لقد كان يرهبه منظر النهر إذا ما تدفق وفاض، وتخفيفه رؤية الظلام إذا ما أطبق بجناحيه على الكون، ويعصف بجلده وشجاعته زئير حيوان مفترس أو حدوث رؤيا مزعجة تقض مضجعه. وكل تلك الأمور في وهمه أعداء يخشاها كل الخشية ويأتي من الأعمال ما يستجلب به رضاها عنه وعطفها عليه!
ولدينا من الأدلة المادية ما يثبت أن تفكير الهمج في العصر البليوليثي لم يكن يتيح لهم(832/41)
بحال من الأحوال أن يستشفوا ما وراء الظواهر الكونية؛ فرسوم الإنسان حتى التي تنتسب منها إلى العصر البليوليثي المتأخر لا تقدم لنا أية إشارة إلى أنه كان يهتم أدنى اهتمام بالشمس أو القمر أو النجوم أو الأشجار. . . لقد كان كل تفكيره مركزاً في الحيوان والإنسان دون غيرهما مما يقع تحت حسه وبصره من شتى الصور والمرئيات!
ولقد يسأل سائل: ألم يكن هناك نوع من العبادة يحتل مكانه من نفوس الهمج في ذلك العصر من التاريخ؟ ونحن نجيبه بأن هناك نوعاً من العبادة كان له أبعد الأثر في حياة الإنسان البدائي في العصر البليوليثي وهو (عبادة الرجل المسن). . . لقد كانت خشية الرجل المسن وأثرها العميق في نفوس أهله وعشيرته هي مقدمة الشعور الديني عند الهمج البدائيين كما يؤكد ذلك (جرانت ألان) مقتفياً أثر (هربرت سبنسر) في كتاب (تطور فكرة الإله) هذا الشعور الديني الأول كان مبعثه إجلال الأهل والعشيرة للرجل المسن، حتى لقد كان يحرم على كل فرد أن يلمس رمحه أو يجلس في مكانه! ومما كان يبث هيبته وخشيته في النفوس، ويبعث على احترامه وتقديره ذلك الدور الذي كانت تقوم به الأمهات في توجيه شعور الأبناء نحو هذا الهدف المقدس!
هذا في العصر البليوليثي، فإذا ما انتقلنا إلى العصر النيوليثي لمسنا بعض التطور في عقلية رجاله من الهمج وأشباه الهمج. . .
لقد بدأت مرحلة الرعي البدائي الذي يتطلب الترحل من مكان إلى مكان، ولقد أجبر الراعي النيوليثي المترحل بحكم هذه الحياة الجديدة على أن يشحذ فكره ليدرك الاتجاهات المختلفة وانبساط الأرض كما أجير على أن يهتم بالشمس في النهار وبالنجوم في الليل لأنها كانت أشبه بموازين يزن بها الوقت وتهديه إلى الطريق وترشده في تنقلاته ورحلاته. من هنا نبتت في نفسه بذور لون من الشعور الديني يختلف عما سبقه من شعور عند الإنسان البليوليثي. . . إن توقير (الرجل المسن) هناك قد تحول هنا إلى توقير هذه الظواهر الكونية ممثلة في اعتقاده بأنها أجسام ذوات أرواح وشخصيات تقدم له من الهداية والعون ما كان يقدمه الرجل المسن إلى أهله وعشيرته! ولكن عبادة الشمس على الرغم من هذا كله لم تحظ بنصيب وافر من عناية الرجل النيوليثي حيث وجه جل عنايته إلى عبادة النجوم؛ لأنها كانت في رأيه أثبت دليلاً من الشمس! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان(832/42)
للثعابين أثر كبير في نفسه ترتبت عليه أن اضمحلت عبادة الشمس أو كادت لتحل محلها (عبادة الثعبان)، وبخاصة في تلك المناطق التي كان فيها للأفعى أهمية عملية خطيرة في الحياة الإنسانية!
وهكذا ظلت عبادة الشمس شبه معدومة حتى أَواسط العصر النيوليثي، ولم يقدر لها أن تنتشر إلا يوم أن تكتل البشر في مجموعات إنسانية تنتظم دولاً مميزة المعالم موحدة الكيان، هناك حيث توطدت أركان عبادة الشمس وديانة الشمس في كل من مصر وبابل وفارس والهند واليابان.
وسيط هيئة الأمم وعدالة الديمقراطية الأمريكية:
يقولون إن في أمريكا ديمقراطية، ويقولون إن من مبادئ هذه الديمقراطية الأمريكية تلك المساواة بين رعاياها في الحقوق والواجبات. . . إذا لم تصدق هذا الذي يقال فاقرأ معي هذين الخبرين اللذين طالعتهما في الصحف منذ أيام:
(حجز معهد الشرق الأوسط في أمريكا حجرة في فندق بارك لإجراء مباحثات خاصة بين خبراء شئون الشرق الأوسط غير أن خادم الفندق ما كاد يرى الدكتور رالف بانش بين هؤلاء الخبراء حتى انبرى له ومنعه من الكلام لأنه أسود، ثم قررت إدارة الفندق إلغاء حجز الحجرة وإعادة النقود التي دفعت لذلك إلى المعهد، لأن الدكتور بانش زنجي لا يسمح له بارتياد مثل تلك الأماكن)!
هذا هو الخبر الأول الذي طالعته في (المصري).
وإليك الخبر الثاني الذي طالعته في (الأهرام):
(صرح الدكتور رالف بانش لمندوب مجلة (كوليبزر) الأمريكية بأنه رفض منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية الذي عرضه عليه الرئيس ترومان لأنه (أي بانش) لا يستطيع الإقامة مع أسرته في واشنطن حيث يلقى الزنوج اضطهاداً شديداً على أيدي البيض)!
رالف بانش وسيط هيئة الأمم المتحدة في المشكلة الفلسطينية هذا الشاب العظيم المثقف الإنسان الذي خلف الكونت برنادوت عقب أن اغتالته الأيدي اليهودية القذرة، هذا السياسي الممتاز الذي عرض عليه الرئيس ترومان منصب مساعد وزير الخارجية لكفايته ومواهبه؛ رالف بانش هذا تحول بينه الديمقراطية الأمريكية في شخص خادم وبين الكلام لأنه(832/43)
زنجي، وتحول بينه الديمقراطية الأمريكية في أشخاص أبنائها البيض وبين المنصب الخطير لأنه زنجي. . . ترى كم علامة من علامات التعجب تكفيني لأثبتها في ذيل هذا التعقيب؟ أغلب الظن أن مئات الألوف منها لا يمكن أن تكفي لتعبر عما يجيش بنفسي من شتى الخواطر والانفعالات!
لقد كان الأمريكيون ينفقون من ميزانيتهم في خلال الحرب ملايين الدولارات ليقنعوا الشعوب المضللة بتلك الحقيقة الفذة، وهي أن الألمان برابرة متوحشون، لماذا؟ لأنهم يضطهدون جنساً يستحق الاضطهاد، ويشردون جنساً يستحق التشريد، ويحتقرون جنساً يستحق الاحتقار، وأعني به تلك الفئة من حثالة المخلوقات البشرية في كل زمان وكل مكان!. . . قالوا هذا عن الألمان وهم يمثلون نفس المأساة، وما أبعد الفارق بين جنس وجنس في حساب الإنسانية وحساب الخلق والضمير، نعم ما أبعده بين موسى شرتوك ورالف بانش في مجال التمثيل بالفرد الواحد للألوف والملايين!!
دكتاتورية حين تصدر عن الألمان وديمقراطية حين تصدر عن الأمريكيين. . . وصفقوا ما استطعتم للديمقراطية الأمريكية المزيفة!
أنور المعداوي(832/44)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
حول الكتب الأدبية بوزارة المعارف:
قررت اللجنة المختصة في وزارة المعارف، تقرير طائفة من كتب الأدب الحديثة للقراءة الأدبية بالمدارس الثانوية في العام الدراسي القادم، وهي توزع على الطلبة، ويقدر ما يؤخذ من كل كتاب بين عشرة آلاف وعشرين ألف نسخة، وأهم هذه الكتب ما يلي:
(زعماء الإصلاح في العصر الحديث) للدكتور أحمد أمين بك وقد جدد تقريره إذ كان مقرراً في العام الماضي، و (الشاعر) للمنفلوطي بدلاً من (في سبيل التاج) التي كانت مقررة في العام الماضي، و (أبو الهول يطير) للأستاذ محمود تيمور بك بدلاً من (نداء المجهول)، و (مجنون ليلى) لشوقي بدلاً من (الشوقيات)، و (المهلهل) للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك بدلاً من (عنترة)، و (عبقرية الصديق) للأستاذ عباس محمود العقاد بدلاً من (عبقرية عمر)، و (يوميات نائب في الأرياف) للأستاذ توفيق الحكيم، و (العباسة) لعزيز أباظة باشا، وجدد تقرير الجزء الأول من (الأيام) للدكتور طه حسين بك و (فارس بني حمدان) للجارم.
وقد ثار حول هذه الكتب، أمران: الأول متعلق باختيارها والثاني خاص بثمنها.
أثار الأمر الأول معالي وزير المعارف عندما اطلع على الكتب التي قررتها اللجنة، إذ سأل معليه عن أدباء كبار منهم الأستاذ الزيات، لم لم تقرر لهم كتب؟ وسأل عن كتب قررت وكان قد لوحظ بها أخطاء في اللغة والنحو والموضوع - لم قررت؟
وأجابت اللجنة عن أسئلة معالي الوزير، ومما قالت إن مؤلفات الأستاذ الزيات فوق مستوى الطلبة، وأن الكتب التي بها أخطاء قد تعهد أصحابها أن يصححوا هذه الأخطاء في الطبعات الجديدة! وإجابة اللجنة، وفيها غير ذلك، لم تستطع أن تزحزح علامات الاستفهام من مواضعها. وهناك علامة استفهام كبيرة تحدق في اللجنة من تحت إلى فوق ومن فوق إلى تحت. . . وذلك أن اللجنة مؤلفة من نحو ثلاث سنين، للنظر في أمثل الطرق للنهوض باللغة العربية في المدارس وتحبيبها إلى الطلاب، وهي مهمة وقتية غير دائمة، واتخذت اللجنة طريق تقرير الكتب الأدبية لتحقيق هذه الغاية؛ هذا حسن، ولكن علامة الاستفهام(832/45)
تريد أن تعرف لم فرضت اللجنة نفسها سلطة تنفيذية دائمة، تقرر وتنفذ في كل عام، ولا تعرف الجهات الأخرى في الوزارة التي لها شأن فني في الموضوع، إلا الأوامر تأتي إليها للتنفيذ، حتى سميت (لجنة الأوصياء) وكأن علامة الاستفهام تريد أن تقف باللجنة عند وضعها الفني الاستشاري، وقد تسائلها لم أعطت نفسها حق الاستمرار.
والمتأمل في الكتب التي تقررها اللجنة سنوياً، يرى مؤلفيها (طقماً) ثابتاً لا يأتيه التبديل من بين يديه ولا من خلفه، ولا أريد أن أمس أحداً من أولئك الأعلام الذين تقرر كتبهم، فهم أساتذتنا ومكانتهم الأدبية معروفة وكتبهم نافعة من غير شك. ولكن لم الاقتصار عليهم والاحتفاظ بهم في كل عام، حتى أن من لم يجدد كتابه يقرر له كتاب آخر، كأن المقرر هو المؤلِّف. . .
أنا أفهم من تقرير تلك الكتب أنه يرمي إلى غرضين: اتصال الطلاب بالحركة الأدبية العامة، وتشجيع المؤلفين. والغرضان يقتضيان التنويع في الاختيار بحيث يشمل ألواناً مختلفة من آداب العصر لأدباء مختلفين من مؤلفي العصر، شيوخاً وكهولاً وشباباً. وعندنا طائفة من الأدباء ذوي النشاط المحمود في التأليف قد تقدموا إلى الكهولة، لم لا يقرر الصالح من كتبهم؟ وأذكر منهم - على سبيل المثال - سيد قطب والعريان وعلي طه والخفيف وعلي أدهم ونجيب محفوظ. ولعل هؤلاء أولى بالتشجيع من أولئك المقررة كتبهم لحاجتهم إليه أكثر منهم، ولا شك أن الناشئين وغير الناشئين يجدون في إنتاجهم ألواناً مختلفة محببة.
ويلاحظ أن بين الكتب المقررة كتباً لبعض أعضاء اللجنة ورئيسها الدكتور أحمد أمين بك، وأنا أحب هذا الرجل الكبير، ومما أحبه فيه أفكاره التقدمية المبنية على أساس من ثقافة أصيلة. وليس لهذا علاقة بالموضوع ولكنه استطراد أعود منه لأقول: إني لا أحب أن يسلبني ذلك الحب حريتي في تناول الموضوع بما أراه. بين الكتب المقررة (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) وكانت اللجنة قد قررته في العام الماضي قبل أن يطبع؛ قررته في إبريل وظهر في أغسطس، وبينها (المهلهل) ومؤلفه الأستاذ فريد أو حديد بك عضو اللجنة. وقد يكون بينها كتب أخرى لأعضاء آخرين لم ألتفت إليها، وهذا المثالان يكفيان لما أمري إليه، وهو أن هؤلاء السادة يحكمون بذلك لأنفسهم مهما قيل في تبرير(832/46)
موقفهم وتعليله، وفي الوقت نفسه يحكمون على غيرهم ممن لم تسعدهم الحال بعضوية اللجنة. .
ولا أدري لمن الكتب التي اشتملت على أخطاء تعهد أصحابها بإصلاحها، هل هي لأعضاء في اللجنة أو لغيرهم؟ وهل كتبوا (التعهدات) ووقعوها أو تعهدوا شفوياً؟ وهل تعهدوا بأنفسهم أو تعهد عنهم أولياء؟
أما الأمر الثاني الخاص بأثمان الكتب فأرجئه إلى الأسبوع القادم.
متحف الثقافة العربية:
احتفلت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية يوم الأربعاء الماضي، بافتتاح متحف الثقافة العربية فألقى سعادة عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام للجامعة كلمة نوه فيها بأثر الرابط الثقافي بين الأمم العربية من حيث إنه أهم الروابط بينها، وقال إنه إذا وقع اختلاف على خطط عسكرية أو أغراض سياسية فإن الجميع متفقون على الأهداف الثقافية، كما قال إن العمل الثقافي في الجامعة ليس مقصوراً على الدول المشتركة فيها وإنما هو لجميع الأمم العربية. وأعقبه الدكتور أحمد أمين بك فبين الأعمال التي قامت بها الإدارة الثقافية والأغراض التي تعمل على تحقيقها، وعرف بمتحف الثقافة العربية وذكر المقصود منه وهو جمع المعلومات والوثائق المتعلقة بشئون الثقافة ونظم المعارف في مختلف الأقطار العربية وتهيئتها للباحثين، ثم عرض خلاصة هذه المعلومات وأهم الوثائق على الأنظار لإعطاء فكرة واضحة عن الحالة الثقافية في كل قطر من الأقطار العربية.
وقد دلفنا بعد ذلك إلى مكان المتحف فألفيناه مقسماً إلى أقسام، منها (التعليم الجامعي) و (التعليم الثانوي) و (التعليم الابتدائي) الخ، وقد عرض في كل قسم نسخ من كتبه الدراسية وبعض صور للمدارس وما فيها من نشاط، وما إلى ذلك مما يتعلق بالنظم والحياة المدرسية، وعلقت بجدران المتحف مصورات ورسوم بيانية.
والمتحف وإن كان وليداً صغيراً إلا أنه عظيم الفكرة، وقد نسق تنسيقاً جميلاً في حدوده الضيقة. وقد ساءلت نفسي بعد مشاهدته: هل هو متحف للثقافة العربية؟ حقاً إن معروضاته تعطي فطرة واضحة عن النظم والمناهج المدرسية في البلاد العربية ولكن أين ما بمثل الثقافة العامة والنشاط الأدبي خارج النطاق المدرسي؟ وهل هو متحف؟ إن كلمة (متحف)(832/47)
أول ما يتبادر إلى الذهن منها أن ما تطلق عليه يضم منتوجات من الفنون الجميلة، وهو خال من هذه المنتوجات، ألهم إلا بعض صور فوتوغرافية ومصورات جغرافية. كنت أوثر أن يسمى (معرض التعليم في البلاد العربية) ولو مؤقتاً حتى يتسع ويشمل ما يجعله أهلاً لاسم (متحف الثقافة العربية).
حسن فائق باشا:
في الأسبوع الماضي عقد معالي وزير المعارف اجتماعاً دعا إليه رجال التعليم في الوزارة وفي الجامعة، عرض فيه أمر استقالة وكيل وزارة المعارف سعادة حسن فائق باشا من منصبه، وقال إنه ألح على سعادته في البقاء واستعان بدولة رئيس الوزراء على إقناعه بالعدول عن الاستقالة، ولكنه أصرَّ عليها مراعاة لصحته فاضطر آسفاً إلى قبولها.
وقد كان ذلك الاجتماع حفلاً رائعاً لتكريم حسن فائق باشا وتوديعه، تجلى فيه الوفاء الكريم والتقدير العظيم لرجل خدم العلم والتعليم أربعين عاماً كان فيها، وخاصة أثناء توليته المناصب الكبيرة، مثلاً للرجل العادل النظيف. . . وقد كان معالي الوزير دقيقاً في وصفه إذ قال له: (عرفتك مترفعاً في غير صلف، ليناً في غير ضعف، متميزاً على نظرائك في غير خيلاء ولا زهو) وهذه العبارة من كتاب بليغ وجهه معاليه إلى سعادته بهذه المناسبة. ومن معاني ذلك الحفل أنه كما قال فائق باشا في كلمته، تكريم للعلم ورجاله في شخصه.
كان حسن فائق باشا بوزارة المعارف دعامة لحفظ التوازن فيها فلعلك تعرف أن في هذه الوزارة منذ قديم عهدها تيارات مختلفة وعصبيات معهدية وغير معهدية، وكان الرجل متجرداً من تلك الصغائر، ينظر إلى الجميع نظرة واحدة، لا يعين فئة على فئة، ولا يقصر في نصرة الجانب الذي يرى فيه الحق. ومن هنا كانت خسارة الوزارة باستقالته عظيمة.
أرواح هائمة:
هذا هو اسم الفلم الذي ابتدأ عرضه هذا الأسبوع في سينما بارادى وسينما متروبول. وهو يعرض قصة تبدأ بمنظر في مكتب رئيس تحرير جريدة (الحرية) حيث نرى الآنسة هدى رئيسة جمعية تحرير المرأة تحتج على المقالات التي يكتبها الأستاذ زهدي ضد حقوق المرأة، ثم تدعوه إلى حفلة في (الأوبرج) تقيمها الجمعية للاحتفال بتخريج الفوج الأول من(832/48)
الفتيات اللاتي تطوعن للعمل في حرب فلسطين، كي يقتنع بأن المرأة تستحق المساواة بالرجل. وفي الحفلة نرى زهدي مع فتاة عابثة مستهترة باللهو هي مخطوبته، وهدى مع شاب ماجن هو خاطبها. ثم يتطوع زهدي للقتال في فلسطين، وتتطوع هدى للتمريض في الحرب. ويعود زهدي في إجازة، وعند وصوله إلى منزله يفاجأ ببرقية تتضمن أن والده يحتضر، فيسرع إليه في سيارته التي تنقلب به في الطريق فيصاب إصابات شديدة ينقل على أثرها إلى المستشفى العسكري حيث يعالج فيشفى غير أن وجهه يشوه تشويهاً منكراً. ثم يذهب إلى مخطوبته، وهو يخفي دمامته بقناع يبدي الوجه طبيعياً، ويلومها على سلوكها، ويفسخان خطبتهما، وكذلك تفسخ هدى وخاطبها خطبتهما في منظر آخر، وبعد ذلك نرى زهدي يغازل بعض الفتيات، ثم يخلع القناع ويبدي لهن وجهه فيفرن منه. ثم يلتقي بهدى، ويغازلها وهو مقنع، ثم تكشف هي أنه المريض الذي كانت تمرضه في المستشفى وخرج مشوه الوجه، فتنفر منه أولاً، ثم تذهب إلى أبيها وتقول له إن زهدي يريد أن يخطبها إليه فيرسل الوالد إليه ويفاتحه في الأمر، فيرفض زهدي ويكشف له وجهه، ولكن هدى تبدي رغبتها في زواجه لأن تشويهه من التضحيات الوطنية، ثم يذهب والدها به إلى سويسرا ويعالج وجهه حتى يعود إلى طبيعته.
وفي الفلم فجوات وتضاريس. . . منها أن زهدي يلتقي بهدى في المرة الثانية على أنه أول لقاء وقد سبق أن تعارفا، ولست أدري لماذا جُعلت إصابة زهدي في السيارة بعد أن عاد من الحرب وكان الأولى أن تكون إصابته في الميدان حتى يتحقق معنى التضحية التي قدرتها فيه هدى؟ وفي حفلة (الأوبرج) لم نر فتيات مجندات غير الست هدى. ولم يكن طبيعياً أن يعنف السيد زهدي مع مخطوبته ويكشف لها وجهه فترمي بخاتم الخطبة في هذا الوجه الكريه، ثم يقبل عليها بعد هذا بشغف وببثها هواه ويذكرها بالذي كان.
ثم أريد أن أسأل عن هدف القصة، هل هو الاعتراف في آخر الأمر بأن المرأة تستحق المساواة بالرجل؟ تظهر في القصة هذه المحاولة ولكنها لا تستند إلا إلى شخصية هدى، وقد انتهت عقدة القصة بقبولها الزواج من الرجل الذي قدرت شخصيته وتضحياته. . . ولكن هذا التقدير لم يظهر إلا في كلمات مفتعلة عندما أبدت رغبتها في هذا الزواج، ولم يكن لهذا (الشعور) مقدمات، ثم هل هذا يعني المساواة؟ وقد أفضى منظر الوجه المشوه على الفلم(832/49)
روحاً ثقيلاً قابضاً، وقد انطلق صاحبه يخفيه ثم يظهره فيفزع بنات الناس ويروعهن. . . ولست أدري هل (الأرواح الهائمة) هي أرواح هؤلاء البنات المروعات، أوهي روح صاحب الوجه الشاردة وراءهن، وقد جمعت على (أرواح) اعتباطاً. .؟ فإني لم أجد بالفلم ما يدل على اسمه (أرواح هائمة) غير ذينك الفرضين. أو لا تكون الأرواح الهائمة هي أرواح الجمهور التي شردتها مشاهدة الفلم. . .؟
وقد مثل في هذا الفلم أحمد علام وزوزو حمدي الحكيم، وقد ظهرا في بضعة مناظر قصيرة، وكمليا (هدى) ولولا صدقي (مخطوبة زهدي) وقد أحسنت كمليا في دورها غير أنها كانت متكلفة في زيها العسكري وجامدة في التمريض. أما لولا صدقي فقد أجادت في تمثيل الفتاة العابثة وقد تخصصت في هذا الدور. وأما سائر الممثلين والممثلات فأكثرهم وجوه جديدة، ومنهم بطل الفلم (زهدي) واسمه سليمان عزيز، وكذلك المؤلف سامي عزيز، وقد أخرج الفلم كمال بركات. وأود لهم التوفيق في مقبل الإنتاج.
عباس خضر(832/50)
البَريدُ الأدَبي
مدفن الاسكندر:
قرأت الكلمة التي كتبها الأستاذ كاظم المظفر (حول مدفن الاسكندر) رداً على ردي على ما كتبه من قبل.
لا زلت أقرر وأكرر وأؤيد ما قلته من قبل من أن الاسكندر الأكبر
توفى في مدينة بابل وأن تابوته لا يعرف مكانه حتى الآن وأنه عند
وفاته لم تكن أمه في مصر بل كانت في بيللا مسقط رأس عائلة
الاسكندر.
يسألني الأستاذ كاظم: من أين استقيت ما أقول؟ فأقول له: إن جميع المؤرخين اليونانيين والألمانيين والفرنساويين والإنجليز وغيرهم وغيرهم حققوا ودققوا وقالوا ما قلت وقولهم هو عين اليقين
منهم المؤرخ اليوناني أرييين وها ما قاله عنه صاحب القاموس العام للتراجم والتاريخ والجغرافيا القديمة والحديثة:
' ' ' ,
ومثله المؤرخ درويزن الألماني الذي كتب كتابه المشهور (تاريخ الاسكندر) المطبوع في برلين في سنة 1833.
ومن قبله المؤرخ الإنجليزي وليمس الذي كتب عن (حياة وحروب الإسكندر الأكبر).
ومثلهم المؤرخ الفرنساوي سنت كروا الذي وضع كتاباً عن بحث ونقد ما كتبه مؤرخو اسكندر الأكبر. وهذا الكتاب طبع ونشر في سنة 1775 وقد وصفه صاحب القاموس سالف الذكر بقوله إنه:
' ; ' ' ' '
فإذا أضفت إلى كل هذا كتاب بلوطرخوس عرفت صحة المصادر التي استقينا منها ما كتبناه.
على أن من ينعم نظره فيما كتبه الأستاذ كاظم يدرك على الفور بأن المصادر التي استند(832/51)
إليها هو لا تفيده. فمثلاً استند إلى البستاني الذي قال (ولما استولى الاسكندر على بابل كانت خربة بالنسبة إلى حالتها الأولى فعزم على إعادة بنائها وجعلها عاصمة لمملكته في آسيا، غير أن المنية أدركته قبل إنفاذ مقصده) هذه الجملة ليس فقط لا تقيد أن الاسكندر لم يمت في بابل، بل ترجح بالعكس أنه مات فيها. وكون المنية أدركته قبل إعادة بنائها وجعلها عاصمة لمملكته في آسيا لا ينفي وجوده وموته فيها بعد تجديد بنائها وتعميرها. لأن اسكندر لما رأى الخراب عم مدينة بابل أمر 20 ألفا من جنوده برفع أنقاض العمارات المتخربة ورفع أنقاض معبد بابل ثم البدء فوراً بترميم ما تخرب من المدينة وتعميرها وتجميلها لتكون مقراً له؛ وجعل تنفيذ هذه الأعمال تحت إشراف حاكم بابل، ثم أمر بحفر ترعة على مقربة من بابل. فما قاله البستاني صحيح في بعضه وغير صحيح في كله.
ثم يقول الأستاذ كاظم إن (المسعودي لم يتحقق تماماً من المكان الذي مات فيه الاسكندر، وأنه ذكر في ذلك أقوالا ثلاثة لم يرد فيها اسم بابل) وهذا استدلال غير منتج أيضاً.
على أن من القرائن الواضحة - علاوة على أقوال وتحقيق المؤرخين الذين ذكرتهم - على أن الاسكندر توفى في بابل أن جميع المؤرخين رووا أنه قبل دخول الاسكندر مدينة بابل حذره المنجمون من دخولها وقالوا له إذا دخلت بابل كان دخولك وبالا عليك، فلم يحفل الاسكندر بتحذيرهم ودخلها فكانت وفاته فيها في يوم 11 يونيه سنة 323 قبل الميلاد. ومن القرائن أيضاً أنه عقب وفاة الاسكندر نودي بابنه ملكاً في مدينة بابل نفسها خلفاً لأبيه. فإن كان الاسكندر مات في ديار ربيعة أو في العراق بناء على أن بابل كانت خراباً يباباً لما نودي بابن الاسكندر ملكاً في بابل
أما قولي بأن تابوت الاسكندر لم يعرف له مقر حتى الآن فتؤيده الأبحاث والحفريات والتحقيقات الجارية حتى الآن. كما يؤيده مضى 2300 سنة على وفاة الاسكندر وعدم العثور على تابوته حتى الآن. وإن كان الأستاذ كاظم يعرف أين مقر هذا التابوت فليرشدنا ليكون له شكر جميع المؤرخين في العالمين القديم والحديث.
أما ما صرح به المسعودي من أن الاسكندر (عهد إلى ولي عهد بطليموس أن يحمل تابوته إلى والدته بالإسكندرية) فقول بعيد عن الحقيقة بُعد الأرض عن السماء؛ لأن إقامة الاسكندر في مصر لم تطل أكثر من ستة شهور ما كانت تكفي وما كانت تستحق سفر أمه من بيللا(832/52)
إلى مصر. ولم يقل أحد من المؤرخين أنها تركت مقدونياً وحضرت إلى مصر، بل أجمع المؤرخون على أن بطليموس أحد قواد الاسكندر أراد أن ينفذ وصية الاسكندر عندما وصى بأن يدفن في واحة سيوه بجوار أبيه آمون رع. وقد حار المؤرخون في أمر معرفة إن كان تابوت الاسكندر نقل حقيقة من بابل إلى مصر. ولما أشاع بعض المؤرخين أن تابوت الاسكندر موجود في مصر وعين بعضهم موضعه في شارع النبي دانيال قام المغفور له الأمير عمر طوسون بعمل حفريات على مقربة من مسجد النبي دانيال فلم يعثر على شيء.
إن الرجوع إلى بعض المؤرخين العرب مثل المسعودي وابن خلكان والخطيب في جميع الحوادث القديمة وعلى الخصوص فيما تعلق منها بغير العرب من إغريق ويونانيين ورومانيين وغيرهم وغيرهم غير مأمون العواقب، لأنهم لم يحققوا ولم يدققوا بأنفسهم كما فعل المؤرخون الإفرنج، لأنهم يكتفون بنقل ما يقوله من سبقهم نقلاً بغير تحقيق وبغير تدقيق. فقول الأستاذ كاظم بأنه (لا يخفى ما لابن خلكان والخطيب من شهرة واسعة في عالم التاريخ وما لديهما من خبرة ودراية بشئون الأمم القديمة وأحوال ملوكها وأيامها وغير ذلك) لا يكفي لاعتماد ما يقولونه بغير بحث وبغير الرجوع إلى أبحاث العلماء الذين بحثوا وحققوا ودققوا وأصبحوا ثقة فيما يكتبون وفيما يقولون. . .
عزيز خانكي(832/53)
القَصصُ
مادلين
للأديب يوسف جبرا
(لم تجف الزهور البيضاء التي وضعوها على قبرك، ولم تتلاشى أصداء النواح من الأفق بعد. لقد كف جرس الموتى عن دقاته الحزينة المتفرقة، ولكن الأسى لم يكف عن دق الصدور التي اشتملت على صورتك الحبيبة يا مادلين، والدمع لم يكف عن الاشتعال في مآق تسهر الليل بعدك. . .
هاهي ذي الشمس تغمض جفنيها بين فلذات من الدم القاتم، وهاهو ذا وشاح الليل يلف الكائنات، وهاهي ذي الأشجار الضخمة في نواحي المكان ساكنة واجمة. . . الجميع يشاركونني آلامي ووحدتي. . . وأنت في طي لحدك يا مادلين راقدة، كما رقدت ماجد ولين المسكينة من قبل!)
أقبلت علينا صاحبة النزُل في صباح تقول: بشرى لكم. . . إن أسرة صغيرة من مواطنيكم توشك أن تحل هنا: أب وابنه وابنته. . . لقد أعددنا الغرفة المجاورة وهيأناها، وستكون هنا في المساء).
وانطلقت صاحبة النزل فانضمت إلى أختيها في الغرفة الكبيرة التي كنا نسميها (الإدارة). كن ثلاث أخوات سوريات يشتغلن بالخياطة ويدرن هذا النزل الصغير الأنيق. وكان للثلاث طابع واحد. . . بدانة مفرطة تصحبها رقة وظرف - وكثيراً ما تكون البدانة والرقة صنوان!
أما (الإدارة) فهي المكان الذي تجلس (الزكائب) الثلاث في ناحية منه معظم النهار. . . بينما تتناثر في النواحي الأخرى ماكينات الخياطة، والفتيات اللواتي يتعلمن المهنة، وخليط من الأدوات والأقمشة والسلال. . . دائماً! وفي هذه الغرفة يتشاور الثلاث البدينات همساً في ما يهمهن من الأمور التي تختص بالنزلاء؛ وفي هذه الغرفة تقوم (الزبونات) بتجريب (البروفة) أمام المرآة وتسلم الثياب التي تكمل خياطتها.
وفي هذه الغرفة تنعقد جلسات عائلية بين الأسر المقيمة بالنزل، فينصت الجميع إلى حكايات طريفة تحكيها (الزكائب) عن أصلهن الرفيع وعن الشبان الذين تقدموا للزواج(832/54)
منهن في غابر الأيام. . . وكان نصيبهم جميعاً الرفض!
في ذلك المساء قدمتنا كبرى الأخوات الثلاث إلى مادلين وأسرتها الصغيرة. . . أما أبوها فكان رجلاً، مسناً، في فمه أسنان صناعية، وعلى عينيه منظار غائم لا تكاد ترى عينيه من ورائه. أما الأخ فكان شاباً ظريفاً لما ينته من دراسة الطب. أما هي - مادلين - فقد بدت فتاة في الربيع الخامس والعشرين من عمرها، نحيلة، سمراء، في عينيها لهيب قاتم، وفي خصلات شعرها الأسود المهدل فن وعبقرية.
كانت الصورة الأولى التي وعتها لها ذاكرتي هي تلك، وكانت أذاك في ثوب بنفسجي اللون، يزيد لهب عينيها قتامة وسحراً. كانت مرحة كثيرة الضحك، وكان أول ما فعلته أن دعتني إليها - وكنت إذاك في السادسة من العمر - فقالت لي: ما اسمك؟) وحاولت أن أجيب. . . ولكن قبلتها كوت فمي وخدي، وأرسلتني أعدو إلى أمي في تعثر وخجل!. .
وسرعان ما اتصل الود بين مادلين وبين أمي، فكانتا تشتركان في كل أمر من الأمور. . . كنت تراهما معاً طيلة الوقت في المطبخ، أو أما ماكينة الخياطة، أو في الخارج تبتاعان شيئاً. . . إلى آخر هذا كله!.
واتصل الود أكثر من هذا بيني - أنا الصغير - وبين مادلين. كانت دائماً تدخر لي جانباً من الحلوى، وكانت دائماً تستقل هي بعمل ما أحتاج إليه من قطع الملابس الصغيرة، وكانت في كثير من الأحيان تصحبني معها إلى الخارج. . . ومن قبل ومن بعد كانت تحيطني بساعديها وتضمني إلى صدرها الحار لتغمرني بقبلات لا عداد لها. . . قبلات محمومة والهة أشعر أنا الصغير بأنها تختلف كثيراً عن قبلات أمي وسائر من بالمنزل. . .
أما من ناحيتي، فقد كنت أحب كثيراً أن تقبلني، وأن أملأ خياشيمي الصغيرة بعطر البنفسج الذي يفوح دائماً من شعرها الحالك. وكنت أحب أن ألوذ بغرفتها التي كانت غالباً ما تخلو من الأب والأخ. . . وهناك أطل من نافذة كبيرة على سطح دار مجاورة - كانت على ذلك السطح بقايا لعب ملونة، وأصص صغيرة في كل واحدة منها زهرة حمراء!.
. . . إلى أن كان ذلك اليوم الذي رأتني فيه أمي بين ذراعي مادلين وهي تقبلني تلك القبلات المحمومة، فدعتني إلى غرفتنا بعيداً عن أنظارها، ثم عبست في وجهي وحذرتني قائلة: لا تدعها تقبلك مرة ثانية. . أفاهم أنت؟ لا تذهب إليها إن دعتك. . إياك! وعرتني(832/55)
الدهشة، ولم يستطع عقلي آنذاك أن يفسر ذاك التصرف الغريب. . أتحرمني من مادلين؟. . لماذا لا أدعها تقبلني؟ لماذا لا أذهب إليها. .
رحمك الله يا أمي، فما كنت آنذاك أستطيع أن أدرك شيئاً مما كان يدور بخلدك. . أنت يا من حنكتك التجارب وعرفت من أمور الدنيا الكثير. أما الآن، وقد كبرت واتسعت مداركي، فأني أعتب عليك يا أمي - أعتب عليك حتى وأنت في عالمك الآخر: لماذا دار بخاطرك ما دار عن مادلين؟ هل كانت مادلين كغيرها من البشر؟ لماذا حرمتني منها، وحرمتها مني؟ إن الأمر لم يكن أكثر من أنها فتاة جياشة العاطفة طال بها انتظار الزواج والأمومة. . فلماذا قصرت عن فهمها؟. . .
وقد كان محالاً أن أقطع صلتي بها هكذا دفعة واحدة! أريد على الأقل أن أعود لرؤية الصور الجميلة التي بغرفتها، وأن أطل أحياناً من النافذة الكبيرة على السطح المليء باللعب وأصص الزهور!. . وهكذا مضيت إلى أمي، وتوسلت إليها والدموع في عيني قائلاً: لا أدعها تقبلني. . لكن دعيني أذهب إليها إذا نادتني مثلاً! فنظرت إلى نظرة حادة، وقالت: حسن. . . سنرى!
(وفي ذلك المساء دعوتني إليك يا مادلين، وأريتني آلة للتصوير اشتراها أخوك، ثم حاولت من بعد أن تقبليني. . كدت أن أستسلم أول الأمر حسب ما اعتدت، لكني تذكرت والدتي. . فاضطربت! لكنك ألححت يا مادلين، فلما حاولت أن أتخلص من ذراعيك. . عرت وجهك سمات الدهشة، وقلت ماذا. . ألا تريد أن أقبلك؟)
وحاولت أنا أن أنظر في عينيك لكنني لم أستطع، فأرخيت أهدابي، وكان طبيعياً أن تلحظي في تصرفي إزاءك شيئاً غريباً طارئاً، فوضعت يديك على كتفي، وحدقت فيَّ بعينين تجلت فيهما الحيرة، وقلت: لماذا؟. . لماذا لا تريد!؟)
وفي براءة الطفل، كأني أريد أن أخلص من هم يجثم على صدري، أو كأنني أريد أن ألصق التهمة بصاحبتها، رميت في وجهك بالحقيقة ويدي تخفي اضطراب وجهي. . . قلت: أمي قالت لي. لا تدع مادلين تقبلك!). فكأنما أصابتك لطمة شديدة. . . لقد شحب وجهك الحبيب، وغامت عيناك فتلاشى منهما ذلك الألق الحار في الضباب. صرفتني في لطف، لكني مضيت إلى تلك الشرفة الكبيرة التي تطل على الميدان الفسيح، وهناك انتحيت(832/56)
ركناً بعيداً، وجلست أبكي - لم أكن وحدي في تلك الساعة. . لقد رأيت في يدك منديلاً صغيراً وأنت تحملين الطعام إلى أبيك في الليل!
ولم يكن في مقدورك أن تطيلي الصبر أو السكوت، ففي صباح اليوم التالي فاتحت أمي في الأمر - كان ذلك وهي تطهو الطعام - فعاتبتها عتاباً رقيقاً، فأنكرت يا مادلين وقالت إنني - أنا - قد اخترعت ذلك الشيء اختراعاً. .!
ولم تصف القلوب في تلك الساعة، فكان أن تشاجرتما من بعد كطفلتين، وكان أن انطلقت كل واحدة إلى غرفتها تغسل كبرياءها بفيض من الدموع السخينة.
كان اليوم التالي يوم الرحيل، فاستطاعت كبرى الشقيقات الثلاث أن تصلح بينكما، فتعانقتما عناقاً مؤثراً، وأبت أمي إلا أن ترتدي ثياب الخروج من وقتها وتصحبك أن وأسرتك الصغيرة إلى القطار.! أما أنا، فقد أوعزت أمي لإحدى الشقيقات أن تأخذني إلى (الإدارة) لتقص على قصة شائقة، حتى لا أفكر في اللحاق بك. كانت تعلم مدى تعلقي بكن فكنت عند (حسن ظنها) وهربت من الأخت الطيبة إلى الشرفة المطلة على الميدان الفسيح، ومن هناك جعلت أصغي إلى أصوات القطر الغادية والرائحة، متخيلاً إياك وأنت ترحلين إلى السودان!
مضت عليَّ أيام من بعدك قضيتها في ذكرى اليمة، كلما أتاني صفير القطار اغرورقت عيناي بالدموع، وكلما نظرت إلى غرفتك الخالية! أكل قلبي الأسى. ثم كان أن انتهت أيامنا بدورنا ورحلنا إلى السودان - كنت أحس دائماً بفرحة كلما عدنا إليه، لكنها كانت هذه المرة فرحة زائدة. . . تذكرني بشعوري يوم عدت إلى دارنا بعد أن ضللت في إحدى المرات نهاراً كاملاً. ولقد تخليت أني سرعان ما ألقاك يا مادلين، لكن آمالي خابت إذ عرفت أنك تقيمين في بلد مجاور، ومن ثم فلا أمل في شيء أكثر من زيارات معدودة. . . ربما اعترضت أمي أيضاً على أن تصحبني فيها. . ما كان أشد فرحتي يوم زرنا بيتك للمرة الأولى! كان البيت جميلاً يوحي بالرغد والسلام، وكان بالفناء شجرة تين جعلت تقطفين منها وتطعمينني، وكانت بالفناء الآخر (عشة) كبيرة فيها سرب من اليمام الجبلي، وقبل هذا وذاك كنت أنت هناك.
لقد كانت المرة الأولى والأخيرة يا مادلين، وإني لا أزال أذكر كيف ظهرت مرحة أمام(832/57)
الجميع حتى لكأنك فتاة مقبلة على الزواج! ماذا قلت! سامحيني. . فربما أكون قد مسست شعورك! لا أنكر أني تساءلت طويلاً. . . لم بقيت دون زواج حتى ذلك الوقت؟ لو كنت زوجة آنذاك وكان لك أطفال، لما أفرغت عليَّ كل هذا الحب، ولما تركت في حياتي ذلك الأثر العميق!. . . ثم كان يا مادلين أن حملوا إلينا ذلك النبأ السيء، حملته إلينا جارة تمت إليك بصلة قرابة، قالت إنك شغفت بالقصص وأدمنّها إدماناً شديداً - وجدك أخوك ذات يوم نائمة وعلى صدرك قصة حب ضممت عليها راحتيك. . . فما كان منه إلا أن جذبها منك في عنف وهو يصرخ بك: استيقظي! كانت حماقة منه كلفتك أعصابك. لقد دهتك نوبة حادة انتهت بذلك (الشلل) الذي أصاب إحدى يديك! أواه يا مادلين! قالوا إنك بت ضحية للسقم والعلة، وإنك تذوين كغصن في طريقة إلى الخلف. كان من سخف الأيام أن منعتنا زيارتك في ذلك الوقت، وأن شهوراً مرت فكدنا ننسى أمرك كل النسيان.
وفي يوم سعيد - أحد أيام العيد الثلاثة - كانت ساحة البيعة في أوج زينتها، تموج بالناس رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، وكان هناك حلقة منهم تحت شجرة (اللالوب) الضخمة في ظل البرج الكبير، وفي وسط الحلقة شاب ظريف يقوم ببعض الألعاب ليضحك الناس. لمحتك فجأة، وأنا على حافة الجدار مع ثلة من الرفاق، مع فتاة أخرى في ناحية من المكان. لم أكد أعرفك يا مادلين، لكنني أحسست أنه لا بد أن تكوني أنت، فوثبت إلى الأرض دون أن أعي، ورخت أخترق جموع الناس وقلبي يدق في خبل!
آه، كم كنت جميلة في ذلك اليوم يا مادلين! كنت في معطف من الصوف أحمر اللون، وكان على رأسك قلنسوة بديعة حمراء أيضاً، وكنت كأحسن ما تكون الفتاة صحة وجمالاً. لم تبخلي على بقبلة صغيرة في خدي، ولكن ترقرقت في عينيك آنذاك دموع الفرح والسعادة؟ لقد رأتك أمي في تلك الساعة فأقبلت عليك تحييك في شوق واهتمام. . وأي اهتمام! لقد أثرت يا حبيبتي يومها حسد النساء وألهبت قلوب الرجال - وصدقي أنني فرحت لك كل الفرح إذ قالوا إنك ستتزوجين. . . أخيراً!
ستجدين إذن من تفرغين عليه ذلك الحنان المكبوت، وسيروي حقلك الظامئ أيضاً بفيض من الحب والرعاية. . لكن جاء ذلك اليوم المشئوم. . بعد شهر من الزمن. . اهتز البرج الكبير في الصباح، ودق الجرس الضخم في أعلاه دقات متقطعة رهيبة!(832/58)
لقد غرقت سفينة كانت تحمل خطيبك. . وغرق كل أمل باق لك في الحياة! لم تتحملي الصدمة يا مادلين. . فعادتك نوبة شديدة كانت هي النهاية! هاهي الشمس تدرج في السماء، وهاهي الطيور البيضاء تنشر أجنحتها على قبة البيعة، وهاهو الندى يترقرق بعد على الغصون وإلى الساحة الكبيرة يحملون نعشاً أبيض صغيراً، نعشك أيتها العروس!
يوسف جبرا(832/59)
العدد 833 - بتاريخ: 20 - 06 - 1949(/)
8 - أمم حائرة
المرأة في هذا العصر أيضاً
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
قال الفريق الأول: أتبغون المرأة حبيسة في دارها، منقطعة عن دنياها، محجوبة عن الطرق والأسواق، ممنوعة من الأندية والمجامع، محرومة من المسارح والملاهي؟ أتبتغونها قعيدة بيت لا تعرف إلا ما حوته الجدر من دارها ودور جيرتها وأهلها؟ أكذلك تبغونها أيها الظالمون؟
فيقول الفريق الآخر: كلا كلا. لقد بينا قبلا مكانة المرأة من نفوسنا، وأعربنا عن إعظامنا بل تقديسنا إياها، ودعونا إلى أن تبلغ من العلم والخلق الدرجات العليا، وهي اعز علينا واكرم من أن تحبس أو تحجب أو تمنع وتحرم.
إننا نريدها أميرة دارها، وملكة أسرتها، قوامة على أولادها، في الدار عملها، وفيها جهادها، وفيها عبادتها، وفي الأسرة يتجلى علمها وأدبها، ثم لا حرج عليها بعد هذا أن تخرج إلى الأسواق، وتسير في الطرق، وتغشى المجامع؛ ولكن مسير السيدة الكريمة ربة الأسرة التي تخرج من دارها لشئونها ثم تسرع الأوبة إليها.
نريد أن تكون خارج دارها ملء الناظر إعجابا وإكبارا، وكرامة ومهابة، يخسئ العيون عنها تصونها وكبرياؤها، ويرد السفهاء استقامتها في طريقها، وسمتها في سيرها.
كذلك نود أن تكون المرأة حيثما توجهت، وأينما سارت، ونود أن تحيطها البيئة بأدب يزيدها كرامة وعزة، وتلقاها بأخلاق تيسر لها السيرة الكريمة، والخطة القويمة، والمنزلة العالية. لا كما تعرفون في شوارعكم وأسواقكم ومجامعكم وملاهيكم، فنحن لا نخالفكم على الحرية، ولكن على الأخلاق والآداب والكرامة والصيانة.
وليس الذي ندعو إليه محالاً ولا عسيرا. نحن لا نزال في أول الطريق ونخشى العاقبة التي ينتهي إليها هذا المسير، والنهاية التي تؤدي إليها هذه البداية. وكم رأينا في بلاد شرقية وغربية المرأة الوسيمة المتجملة جادة في طريقها، مستقيمة إلى وجهتها، توحي إلى كل من(833/1)
يراها الإجلال والإكرام والأدب والحياء. وكثيرا رأينا هؤلاء عامدات إلى مسجد أو كنيسة معهن أولادهن، كأنما هن في معبد على الطريق إلى المعبد. فكذلك نريد النساء.
وعلى ذكر المساجد والكنائس نقول: هؤلاء الداعون والداعيات إلى ارتياد كل موطن، وغشيان كل مجمع، والمزاحمة في كل مضيق - لماذا لا يدعون إلى حق النساء في المساجد؟ لماذا لا يطالبن بأن يغشين المساجد مشاركات للرجال أو منفردات، ليصلين ويستمعن إلى المواعظ بل ليعلم بعضهن بعضاً من علوم الدين والدنيا؟ لماذا لا يطالب بأن يكون للنساء مدرسة دينية لتخرج عالمات في الفقه والحديث والتفسير وآداب الدين؟ لماذا تتوجه الدعوة وجهة واحدة؟ ولماذا تذكر الحقوق في جانب وتنسى في جانب؟ أليس الأمر محاكاة وتقليداً أو إيثارا للدعوى المدوية.
هذا فصل المقال بيننا وبينكم أيها المجادلون: تريدون خروج المرأة عن طبعها، وهجرانها دارها، وابتذالها في الأسواق والمجامع؛ ونريد لها الحياة على طبيعتها، والاعتصام بدارها، والصيانة والكرامة في كل سبيل، وكل مكان، وعلى كل حال.
قال الفريق الأول: إن دعواكم ينقض بعضها بعضاً، ويكذب آخرها أولها. تقولون لا نضيق على المرأة ولا نحجبها ولا نمنعها غِشِيان المجامع، وتقولون أن عملها في دارها، لا نخرجها منها إلا لضرورات، وتحرمون عليها العمل في المصانع وتولي المناصب، بل كل عمل خارج البيت، وهذا التهاتر في أقوالكم هو صورة الاضطراب في أفكاركم، وتزلزل الأدلة وراء دعاويكم.
ويقول الفريق الثاني: لو فقهتم ما قدمنا، وبلغتم غور ما أسلفنا، لم ترمونا بالتناقض في القول والاضطراب في الفكر.
إن الكلمة الجامعة في رأينا أن المرأة للدار، ويحرم الدار تدبيرها محرم عليها إلا ما اضطرتها إليها الضرورات، والضرورة شر ينبغي دفعه، وفساد في الجماعة يجب إصلاحه. وللمرأة أن تتولى كل عمل يلائمها ولا يقطعها عن أسرتها، ولا يخل بشؤون بيتها، ولا يحرم أولادها تربيتها ورعايتها، ولا يسلب زوجها إيناسها وإسعادها، والأعمال التي على هذا الشرط كثيرة.
للنساء مجال فسيح في أعمال البر والرحمة من تربية الأيتام، والقيام لهم مقام الآباء(833/2)
والأمهات بالشفقة والحنو، والعمل لتعليمهم وتهذيبهم، ومواساة الأسر الفقيرة وإنقاذها من العوز والمرض، وإمدادها سراً بما يحفظ كرامتها ويصون سمعتها، وإنشاء الملاجئ وما يتصل بها لصيانة الصبايا المشردات الآتي لا يجدن من يأخذ بأيديهن في هذا المجتمع المائج ومن يسمع شكواهن في هذا العيش الصاخب.
كل أولئك وأمور أخرى مثلها المرأة بها أولى، وبدخائلها أدرى، وهي احسن قياماً عليها بالرأفة والشفقة واللين والرفق والحلم والصبر.
فلسنا ندفع المرأة عن هذه الأعمال وما أكثرها، وما أعظم العمل فيها، براً بالأمة وإحسانا إلى الجماعة. ويستطيع النساء أن يعملن هنا ما يعجز عنه الرجال عملا دائباً في غير دعوى ولا جلبة، ولا جدال ولا خصومة. ولكن كثيراً من نسائنا مولعات بالقال والقيل، مغرمات بالبطولة والزعامة، يؤثرون الأمور الصغيرة التي يثور فيها الخلاف، ويشتد النزاع، وتذكر الأسماء، ويلتمس الصيت، فراراً من الأمور المجدية الشاقة التي يقوم بها الدأب والصبر والصمت وجهاد الأفكار والأيدي لا الألسن والأقلام.
ورحم الله الغزالي! كان يسمي المسائل التي يشتد فيها الجدل ويتمادى عليها النزاع (بالطبوليات)، ويرى أن كثيراً من فقهائنا يؤثرون هذه الطبوليات الجوفاء على العلم النافع والعمل الصالح والجهاد الخالص لوجه الله.
فما أشد ولوع بعض نسائنا ورجالنا بالطبوليات، يملأ بها الجو ضوضاء، وتشتغل الأمة عما هو أجدى وأعظم وأولى بسعيها وجدها وإعدادها فيما تتصدى له من الخطوب، وما يحيط بها من الحادثات، وما تضطلع به من أمور الإصلاح الكبار، وشئون التدبير الجسام.
(للكلام صله)
عبد الوهاب عزام(833/3)
قطرات ندى
للأستاذ راجي الراعي
ليس من السهل على من تزخر نفسه بالصور والأحاسيس أن يعرف ماذا يريد.
كن الشين أو الزاي في مستشزرات، ولا تكن الواو في عمرو. أقول كن كيف شئت ولا تكن كمية مهملة.
قلب الجبان سيف يعلوه الصدأ.
المثابرة تتحدى القدر.
الليل ثوب أسود يرتديه النور.
كلما بكى الإنسان هدم حجراً من كبريائه.
تتآخى الليالي وتتنادى ثم تندغم في ليل واحد كثيف تطلع بعده الشمس على ترابك!
كلما مشيت على التراب هبت على ريح قدميه.
تكبر ما شئت ولكن لا تنسى انك الحيوان الكبير.
ما تزال الحكمة تائهة شاردة تفتش عن مكان لها في هذه الأرض تبني فيه بناءها!
لو كنت جبلا لهويت بقمتي الشامخة إلى السهل نكاية بالمتكبرين.
العشاق والشعراء هم الذين طبلوا وزمروا للقمر فأحلوه المحل الرفيع.
عجبت للأثير كيف لم يتكاتف حتى اليوم وفيه ما فيه من زفرات البشر.
الحكمة كلها في رأس الميت فأذهب إليه واسأله أن يتلو عليك فصولها.
إن (أبا الهول) في صمته المستديم ثائر على كل ثرثار.
الجلاد والحطاب والحفار: هذا مثلث الموت!
إذا افلت من الأحياء لحق بي موتاي فإلى أين المفر؟
ماء الشجرة دمها تسكبه في الثمار.
الأرض الدائرة أسطوانة تنشد مجد الشمس.
الندم عاطفة شائكة.
الشيب ما سحقه فيك الدهر فذرته الحقيقية في خيالك.
تقضى العين حياتها بين جفنيها لا تدري أيهما تختار.(833/4)
العبقرية كتاب أبرز ما فيه صفحة القلق.
ليت للأفلاك أبجديتها فأعرف أين تبدأ وأين تنتهي.
كنت احسب الفجر مخلصاً فلما رأيت له وجهين الكاذب والصادق شككت فيه. . أفي الفجر كذباً أيضا؟ أكذبه عدوي أتته من الدنيا؟
إذا حلت عليك النعمة حل قيدك.
إذا كانت الجبال شعراً تجسد معه الخيال وانقلب تماثيل فجبلي (لبنان) بيت القصيد في الملحمة الجبلية.
العمود عريان وقح.
الصحراء جثة بحر مات.
للقدر أختامه والعبقري هو الذي يفضها.
يقيمون للأسد عرشاً ولكنهم ينسون أن أمانة الكلب تعدل شجاعة الأسد.
أشم في الليل رائحة عراك وقد فازت الظلمة بالشمس.
أغصان الشجرة هي اتجاهات روحها المصفدة بالتراب التواقة إلى الانعتاق.
العين ملتقى الخطوط الصاعدة والمنحدرة والمنحرفة.
كل موهبة حجر كريم في تاج الله.
كم من خيال كثيف كالجدار وعقل يسيل كالماء وذاكرة لا أذن لها وقلب ضاق شريانه وقل ماؤه!
الفناء شرط البقاء، إن فناءك في الله هو الذي يبقيك. .
الهرم فجر الموت.
أرقام الرجل الخيالي نجومه في جدول الأفقي.
رأيت الحياة الصفراء والمنون السوداء والجنة الخضراء والجحيم الحمراء في علم واحد يخفق في الفضاء، علم الموتى والأحياء.
بين دورة الزمن ودورة الأرض ودورة الفكر ودورة الدم دورة خامسة هي دورة الدائرة علي يوم الحد!
ما أكثر وجوه الموت وألوانه! الجنون عقل مات. . . والقلب الذي لا يعرف الحب جثة في(833/5)
الصدر. . والبله شعلة الذكاء انطفأت. . والأعمى ميت يتأمل. . والأصم رجل توارى عن الدنيا. . والأبكم رجل ماتت فيه الكلمة. . والجاهل ميت سقط في ساحة العلم. . والحائر المتردد قتيل يسيل الدم من إرادته الجريحة. . وابن الطمع والجشع قتيل ترثيه الفلسفة والحكمة. . والعاقر قتيلة في ساحة الأمومة. . والشيخوخة موت الشباب. . والانتحار موت قبل الموت. . والعليل الذي لا برء لدائه يبني لنفسه في كل يوم لحداً. . والشاعر الحالم الطموح الذي تخذله الحياة وتهدم له عروش أحلامه هو الميت الأكبر الذي لا يعلوه ميت!
الحياة برق خلب في أفق مبهم.
الذهب يملأ السماوات وما فيها ويبرق في العظمة والجمال ولكن الناس لا يرونه ولا يعرفونه إلا في مناجمه.
لا هم لي في الحياة إلا أن أوافق بين قصرها وطول أحلامي.
أسرح الطرف في هذه الطبيعة فلا أرى غير أمهات وأرحام: الأرض تلد الشجرة والشجرة تلد أوراقها، والجبل يلد الينبوع والينبوع يلد الجدول.
الخط المستقيم هو الذي جاء بكلمة الاستقامة في معجم الأخلاق.
لو كنت بركاناً لابتلعت حممي ولم أطلقها عبثاً في الفضاء الذي لم يسيء إلي فتبقى في أحشائي ليصطلي بها موتاي.
من حبل بالروائع ولم يستطع أن يلدها تألبت عليه أجنته السجينة وأخمدت أنفاسه.
كلما أطل علي الفجر جمعت شتيت نفسي التي بعثرتها الأمس.
الهوس يشق بمحراثه النفس فيخرج لك ما فيها من قمح وزؤان.
أحب الذهب إذا كان معدنه الجبين.
أتموت جوعا؟ وسنابل القمح هذه التي تملأ الرحب، لمن هي؟؟؟
لولا المعدة القاهرة لما فكرت لحظة في المال.
يقول لي سقراط: اعرف نفسك ولكنه لم يعطيني كتابها لأقرأ هذا الذي يدعوني إلى معرفته، ويقول غيره: ادخل إلى محراب نفسك ولكنه لم يهدني إلى الباب.
لا تعجب لهذا الظالم العاتي فإن لنفسه ساحة احتلتها الشياطين فلم يبق فيها مكان لملاك!
إن للموت هيكلا عظامه عظام القبور!(833/6)
أعجب ما في الخليقة هذه الأرض التي تنمو سنابل قمحها بين جماجم موتاها وتشع مناجم ذهبها بين فحيح أفاعيها وتندلع السنة نيرانها من قلبها الذي تنبجس منه الينابيع. . .
راجي الراعي(833/7)
صور من الحياة:
قبعة تتزوج
للأستاذ كامل محمود حبيب
أما قصة زواجك أنت - يا صاحب القبعة - فهي عجب من العجب، قصة فيها سلوى للنفس وعظة للعقل ومتعة للقلب.
أتذكر يوم إن جئت، أيها الفيلسوف، من البلد الأجنبي - بعد أن نيفت على الأربعين - وإن رأسك ليزدحم بالخواطر والخرافات، وإن قلبك ليجيش بالآمال والأماني، وإن فلسفتك لتتحدث إليك بأمر.
ونظرت حواليك فتراءيت في عين نفسك عزباً تضطرب في الحياة وحيداً منبوذاً، والأيام تنطوي بسرعة في سرعة لتدفعك نحو الشيخوخة في غير هوادة ولا لين، وأنت تفتقد العطف والحنان فلا تستشعر الهدوء في الدار ولا الاستقرار في العمل، وإن وظيفتك لتدر عليك ما يفيض على حاجات نفسك ورغبات قلبك، وضقت بحياة القلق والاضطراب فعقدت النية على أن تتزوج.
وسيطرت عليك الفكرة فشغلت قلبك وعقلك، واستولت على مشاعرك فأرقت جفنيك وأزعجتك عن مرقدك، وبدا عليك الوجوم والصمت لأنك انطويت على نفسك زماناً ففقدت الأهل والصاحب والصديق فأغلق أمامك السبيل إلى الزوجة. ثم وجدت متنفساً حين جلست إلى زميل لك تحدثه حديثك وتقول: (إنني اشعر - دائماً - بالضياع والشقاء، فالأعزب رجل مقطوع الصلات مجذوذ العلائق، يجد الهم والأسى في داره، ويحس الضيق والملل في خلوته، ويلمس الضنى والعذاب في وحدته، تتراءى له - دائماً - أخيلة مفزعة تزعجه عن الدار، وتصرفه عن العمل وتملأ ذهنه بالخرافات، وتحطم أعصابه بالقلق، لا تهدأ له ولا يقر له قرار، وهو يرى نفسه لقيً في ناحية من حجرة، هملاً بين همل من الأدوات والأثاث والملابس. فإن أبق الخادم طار صوابه، وتناثرت خواطره، وتشعثت حاجاته، رغم أنه يثق بأن الخادم رجل يسرق ماله ويستلبه من وقته ويزعجه عن راحته، وهو هم لا يدفع إلا بهم آخر. وإن مرض انحط في فراشه ليكون بقايا إنسان قذر تافه تنطوي الساعات وإن نفسه لتئن أنينا رهيباً، وإن قلبه ليبكي بكاء مراً: لهذا - يا صاحبي - فأنا أشعر -(833/8)
دائماً - بالضياع - والشقاء). . .
وأطرق زميلك ساعة من زمان ثم قال: (لا بأس عليك، ستجد في بيت فلان بك بغيتك وتحس راحة نفسك، فهو رجل ذو مكانة وشأن وذو ثراء عريض. . . وابنته فتاة في مقتبل العمر ونضارة الشباب، تتألق بهاء جمالا وتشع رونقاً وصفاء، فيها جاذبية الأنثى وخفر العذراء، لم يلوثها بهرج المدينة ولا دنسها زيف الحياة، وهي قد تخرجت في الجامعة منذ قريب. . . وأبوها - سعادة البك - فيه الحصافة والرأي، وبينه وبيني صلات قربى ووشائج نسب. . . وأنت في - رأيي - خير من يتقدم ليخطب ابنته، فهو لا يطمع في مال، ولا يسعى إلى جاه، لكنه يريد رجلاً فيه الرزانة والعقل، لأنه يخشى شباب الجيل، وإن فيهم ميوعة وليناً، وإن فيهم استهتاراً وضعفاً). . .
وتفتح قلبك - لأول مرة في الحياة - لحديث زميلك حين أحسست فيه النصيحة والإخلاص فقلت: (لا ضير، ولكن من عسى أن يكون رائدي وأنا لا أستطيع أن أجد السبيل إليه وحدي؟)
فقال لك الزميل: (إن شئت رافقتك إليه). .
وفي أمسية يوم من أيام الصيف انطلقت - يا صاحب القبعة - بصحبة زميلك إلى دار السعادة البك، وجلستما إليه ساعة من زمان، ثم خرج زميلك وحده. . . خرج ليخلفك إلى جوار البك، وقد أنس كل منكما بصاحبه واطمأن إلى حديثه، فسميت الفتاة عليك بعد أيام، ثم خطبت إليك. . .
وهدأت جائشة نفسك، واستقرت أفكارك إلى شاطئ أمين. . . ولكن ترى فيما كنت تفكر؟ آه. . . إن فلسفتك العفنة قد لصقت بك فلم تترك ساعة واحدة في حياتك. . . لقد خيل إليك أن سعادة البك رجل يستطيع أن يشبع نهم طمعك وأن ينقع غلة أنانيتك، وأن ابنته فتاة تستطيع أن تمهد لك السبيل الوعر، وتفتح أمامك الباب الموصد، ثم تدفعك إلى الهدف في سهولة ويسر، وأنت من ورائها تندفع حتى تبلغ، فتركت مسكنك القذر الوضيع ورحت تعد داراً أنيقة لتستقبل العروس المنتظرة، ونبذت ملابسك القذرة المشعثة لتتأنق في الجديد الغالي ليروق مظهرك في ناظري أهل الزوجة، وتصنعت الرزانة والعقل لتخدعهم بثقافتك الفجة، وتجملت بالرقة والذوق لتصرفهم عن خواطرك السقيمة، وخرجت من عزلتك القاتلة(833/9)
لتكون رجلا لبس القبعة حيناً أو بعض حين.
وانطلى على سعادة البك ما تكلفت من قول أو فعل فحباك بالثقة، وخصك بالتقدير، وقربك إلى قلبه ونفسه. . . واطمأنت الفتاة إليك ففتحت لك باب حجرتها لتجلس إليها في خلوة، وتحدثها في غير رقبة. .
واندفعت تزين للفتاة أن تصحبك إلى السينما وإلى المسرح وإلى الندي، فما تمنعت ولا تأبت، وهي لا ترى بأساً فيما تفعل لأنك زوجها. . . وتماديت في غيك فأردت أن تحملها على أن تنزع عن نفسها تقاليد الأسرة، وأن تمتهن تاريخها - وهو قد تدفق في عرقها منذ زمان - لترود معك الملاهي الوضيعة، وإن كثيراً منها لينَضم على فنون من الخلاعة والفجور، ويحوي ألوانا من الخداع والإغراء، فهي تثير في الرجل الدوافع الحيوانية، وتبذر في المرأة غراس الثورة على الدار والزوج والأولاد، وألقت الفتاة إليك السلم - بادئ الرأي - ثم استيقظت التقاليد في عقلها فرفضت أن ترتدغ في هذه المباءة، فرميتها أنت بالجمود والرجعية، واحتقرتها لأنها تمسكت بالشرف وتشبثت بالكرامة.
لقد كنت تريدها على أن تندفع في الغواية لحاجة في نفسك.
وأرادت فلسفتك الثعلبية أن تمكر بالفتاة فتخدعها عن نفسها فتتعلم الرقص وتصاحب رفاقك وتتحدث إلى صحابك، تأخذ منهم وتعطي، ولكنها كانت قد جبلت على الحياء وطبعت على الخجل فرأت الطريق أمامها وعراً وبدت لها الغاية صعبة، فتراجعت. .
وجلست إليها - ذات مرة - تخدعها عن نفسها وتغريها أن تصحبك لتزور معاً دار فلان باشا، وزعمت بأنه من ذوي قرابتك، فانطلقتما معا إلى داره مرات ومرات. واستقبلها الباشا - بادئ ذي بدء - في احترام وشملها بالعطف وانهالت عليها منه الهدايا، ثم راح يداعبها في رقة ويعابثها في ظرف، وهي تطمئن إلى عطفه وتسكن إلى حديثه، غير أنه ما تلبث أن سقط عن وجهه قناع التصنع فانكشف عن ذئب مفترس في مسلاخ إنسان، وامتدت يد الباشا إلى الفتاة فذعرت، وأوجست خيفة منه ثم أقبلت عليك تنفض أمامك ذات نفسها فأغضيت عن حديثها وامتهنت هواجس نفسها على حين أنك توقن بأن هذا الباشا داعر شرير لا يتورع عن نقيصة ولا يترفع عن دنيئة. وعز على الفتاة أن تلمس فيك هذا الخلق الواهي المنحل فلاذت بعقلها واعتصمت بكريم منبتها، ورفضت أن ترافقك - بعدها - إلى(833/10)
دار الباشا، وأصررت أنت وأصرت هي، ثم فزعت عنك إلى أبيها وفي قلبها أسى يتضرم وفي عينيها عبرات تترقرق.
وعجب البك أن يرى ابنته تنطوي عن زوجها وتهرب من لقياه، وعلى وجهها أثر الحزن وفي عينيها اثر البكاء، فجلس إليها يريد أن يهدئ من ثورتها وأن يمسح على أتراحها بقبلة الرفيق، فأجهشت للبكاء وهي تقص قصة زوجها الفيلسوف الذي لبس القبعة حيناً من الزمان وهو يدفعها إلى الهاوية مرة بعد مرة ثم يسوقها إلى دار الباشا الداعر لتنزل هناك عن كرامتها وتتخلى عن شرفها.
وثار البك لما سمع ثورة قذفت بالفيلسوف العبقري، صاحب القبعة، إلى خارج الدار بعد أن سامه الاحتقار والمهانة، قذفت به إلى خارج الدار لأنه حين لبس القبعة نبذ المعاني السامية للدين والوطن و. . .
وأصابتني الدهشة حين رأيتك - يا صاحب القبعة - تنصرف عن دار البك فلا تزورها وتنفر من زوجك فلا تلقاها، فذهبت أستوضحك الأمر فزورت كلاماً يمتهن عقل الفتاة المصرية ويضع من قدرها ويحط من خطرها، ويتهمها بالرجعية والجمود. فما انطلى على الزور، وأنا أعرف أنك استنزفت كل ما ادخرت في سني حياتك لتهيئ داراً أنيقة تستقبل فيها عروسك الجميلة ولتخلق من نفسك رجلا أنيقا جذاباً ولتغمر فتاتك بالهدايا الثمينة الخلابة. فعلت كل ذلك وأنت كز الجبلة شحيح الكف ضغين بالمال. فيا ليت شعري هل حملت نفسك ما لا تطيق لترضى سعادة البك ولتخدع الفتاة عن نفسها؟
آه، يا صاحب القبعة، لقد خسرت مالك وشرفك لأنك رفضت أن تكون مصرياً يتمسك بالمعاني السامية للدين والوطن و.
كامل محمود حبيب(833/11)
الحركة العلمية بالإسكندرية في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
كانت الإسكندرية تلي القاهرة من حيث المكانة العلمية في ذلك الحين، حفلة بطائفة كبيرة من أعيان العلماء، في مواد الثقافة المختلفة، ودرس فيها كثير من رجال السنة، حتى في الوقت الذي كان مذهب أهل الشيعة سائداً فيها، وأنشئت فيها أول مدرسة في الديار المصرية كلها، وإليها رحل صلاح الدين لاستماع حديث رسول الله.
وقبل أن تنشأ المدارس بها، كان جامع العطارين منذ أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة 477هـ. معهد علم وينبوع ثقافة، وقد ظل يؤدي رسالته طول عصر الحروب الصليبية، ويساهم مساهمة جدية في نشر العرفان.
وتنوعت الدراسات في جامع العطارين؛ فهذا عمرو بن عيسى السوسي نحوي أخذ عنه النحو أكثر أهل الإسكندرية؛ وكان يقرأ لهم فيه كتاب سيبويه وتوفي سنة 498هـ. وهذا عبد الرحمن ابن أبي بكر بن خلف شيخ الإسكندرية الذي انتهت إليه رياسة الإقراء فيها، ونبغ حتى قال فيه سليمان بن عبد العزيز الأندلسي: ما رأيت أحدا أعلم بالقراءات منه، لا بالمشرق ولا بالمغرب. وهذا محمد بن أحمد بن الخطاب شيخ الإسكندرية في الحديث وتوفي سنة 525. أما أبو القاسم بن مخلوف فأحد كبار المالكية الذين أذاعوا هذا المذهب في الإسكندرية. وكان لمحمد بن الحسن بن زراره حلقة في الجامع لإقراء الأدب كما كان المشرف على خزانة الكتب فيه. وممن سجل لهم التاريخ تدريسهم بالجامع الجيوشي العالم الأديب أحمد بن محمد بن المنير أحد الأئمة المتبحرين في التفسير وفقه المالكية والأصول والبلاغة كما كانت له اليد الطولي في علم الأدب. وكان عز الدين بن عبد السلام يقول عنه: الديار المصرية تفتخر برجلين في طرفها: ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية.
وأول مدرسة أنشئت بهذا الثغر المدرسة الحافظية التي أقيمت في عهد الحافظ الفاطمي (524 - 544 هـ) ويظهر أنها أنشئت في عهد الوزير أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش لتدريس علوم الشريعة. ويحفظ لنا القلقشندي في كتاب صبح الأعشى (ج 10ص(833/12)
458) نسخة سجل بتوليه مدرس هذه المدرسة. وقد تكفل فيه الوزير برزق طلبة المدرسة وأستاذها الذي سيشرف على هذا الإنفاق. وفي هذا السجل يتحدث عن السبب الذي دعا إلى بناء مدرسة بثغر الإسكندرية فيقول: (ولما انتهى إلى أمير المؤمنين ميزة ثغر الإسكندرية - حماة الله تعالى - على غيره من الثغور، فإنه خليق بعناية تامة. . . لأنه من أوقى الحصون والمعاقل، والحديث عن فضله وخطير محله لا تهمة فيه للراوي والناقل، وهو يشتمل على القراء والفقهاء، والمرابطين والصلحاء، وأن طالبي العلم من أهله ومن الواردين إليه، والطارئين عليه، مشتتو الشمل متفرقوا الجمع - أبى أمير المؤمنين أن يكونوا حائرين، ولم يرض لهم أن يبقوا مذبذبين متبددين، وخرجت أوامره بإنشاء المدرسة الحافظية. . .)
واختارها ابن السلار الوزير الفاطمي كذلك سنة 546هـ (1151م) لإنشاء مدرسة للشافعية فيها، أسند إدارتها إلى السلفي وقد عمرت هذه المدرسة، وكانت تعرف بالمدرسة السلفية حتى بعد وفاة شيخها، وفيها تخرج كثير من العلماء الممتازين ولم يكن للشافعية مدرسة غيرها.
وقبل هاتين المدرسين، سكن الإسكندرية ودرس فيها عالم ممتاز هو محمد بن الوليد الطرطوشي، فقد تزوج من موسرة وهبت له داراً هيأ منها قاعة وهبها للطلبة، وجعلها مدرسة لازم التدريس فيها، وتفقه عنده بها جماعة من الإسكندرية. ولما توفي الطرطوشي سنة 520هـ جلس لإلقاء الدرس بها بعده تلميذه سند بن عنان الفقيه المالكي.
تلك حال المدارس قبل عهد الأيوبيين، فلما جاء صلاح الدين استكثر منها، وفتح أبوابها للأقربين والأبعدين، ونصب فيها مدرسين لجميع أنواع العلوم. وقد شاهد ابن جبير هذه المدارس عندما زار الإسكندرية في أيام ابن أيوب وقال عنها في كتابه: (ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد يفدون من الأقطار النائية، فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه، ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء يقوم بجميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء، الطارئين، حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستان لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم، وتحت أيديهم خدام(833/13)
يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء.)
والظاهر أن أغلب مدارس الإسكندرية كان لطائفة المالكية، فقد عرفنا عدداً جماً من أساطين هذا المذهب يسكنون ذلك الثغر، فمن تلك المدارس مدرسة ابن الأنجب، وقد عرفت باسم مدرسها علي بن الأنجب الفقيه المالكي، وأحد أكابر حفاظ الحديث وعلومه، صحب السلفي وانتفع به، وصحبه العلامة المنذري وأطال صحبته وعليه تخرج، وله نظم علماء كقوله:
أيا نفس، بالمأثور عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين تمسكي
عساك - إذا بالغت في نشر دينه - ... بما طاب من نشر له أن تمسكي
وخافي غداً يوم الحساب جهنما ... إذا لفحت نيرانها أن تمسك
وكان ينوب في الحكم بثغر الإسكندرية ومات سنة 621.
ومنها مدرسة بني حديد التي درس فيها أحمد بن محمد بن سلامة وهو من رؤساء المالكية توفي سنة 645.
ولست أدري إن كانت دار الحديث النبيهية التي تولى مشيختها علي بن أحمد العراقي المتوفى سنة 704 وقد أنشئت في عصر الحروب الصليبية أو بعده.
وعرفت الإسكندرية طائفة من أعلام العلماء درسوا في دور العلم المختلفة بها، مما يدل على حركة علمية ناضجة:
فمن فقهاء الشافعية، وكانوا قليلين بها - أبو الحجاج يوسف ابن عبد العزيز، وهو من علماء الأصول والجدل، روى عنه السلفي ومات سنة 522، ومحمد بن عبد الله بن النن المتوفى عن ثمانين سنة بالإسكندرية سنة 679.
ومن فقهاء المالكية، وكانوا بها أكثرية - أبو الحرم مكي نفيس الدين، وقد أدرك السنين الأولى في الحروب الصليبية، ومات سنة 501، وألف شرحاً عظيماً لتهذيب المدونة للبراذعي في مجلد، وشرحاً على ابن الجلاب في فقه المالكية أيضا في عشر مجلدات، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأيباري الذي برع في علو شتى: الفقه والأصول وعلم الكلام، وله مؤلفات حسنة، منها شرح البرهان في أصول الفقه، وكان بعض العلماء يفضله على فخر الدين الرازي في الأصول، ومنها كتاب سفينة النجاة، على طريقة إحياء العلوم للغزالي. وكان الفضلاء يقولون: إنه أكثر إنقانا من الأحياء وأحسن منه. وأصله من مدينة(833/14)
أبيار على شاطئ النيل بالقرب من الإسكندرية، ومات سنة 616. ومنهم ابن رواج تلميذ السلفي، وهو عالم ورع توفي سنة 648هـ.
ونبغ في الإسكندرية طائفة كبيرة من القراء، نذكر منهم الحسن بن خلف القيرواني المتوفى سنة514. واليسع بن عيسى الأندلسي الذي أخذ القراءات عن أبيه، وكان أبوه من جلة المقرئين، وأقرأ هو بالإسكندرية، ثم رحل إلى مصر فقربه صلاح الدين، ورتب له معلوماً وافراً. وكان يكرمه ويشفعه في مطالب الناس. وكان مقرئا محدثاً حافظاً نسابة مؤرخاً، له كتاب تاريخ في محاسن المغرب وتوفي سنة 575. ومنهم عبد الرحمن بن عبد المجيد الصفراوي الفقيه المالكي المقرئ المحدث المتوفى سنة 636، وقد انتهت إليه رياسة العلم في الثغر. وعبد الله بن محمد النكزاوي المقرئ النحوي المؤلف المتوفى سنة 683. والمكين الأسمر شيخ قراء الإسكندرية المتوفى سنة 692هـ.
ومن رجال التفسير بالإسكندرية يحيى بن محمد التجيبي، قال الذهبي: حج وجاور، وسمع بمكة وسكن الإسكندرية ووعظ، وصنف في التفسير والرقائق ومات سنة 652.
ومن رجال الحديث بها عبد الله عبد الرحمن العثماني، من ولد عثمان بن عفان، كان واسع الباع في علم الحديث، كثير الرواية، متصرفا في النظم والنثر، مات سنة 572. وأبو الطاهر إسماعيل بن مكي بن عوف، وهو شيخ المالكية بالثغر، تفقه على الطرطوشي، وصار إمام عصره في المذهب، وعليه مدار الفتوى من الورع والزهد، وله مصنفات منها كتاب التذكرة في أصول الدين، وهو الذي قصد إليه صلاح الدين وسمع منه موطأ مالك ومات سنة 581هـ. ومنهم الفقيه المالكي المحدث أبو العباس أحمد ابن عمر القرطبي، سمع الحديث من مشايخ المغرب وتلمسان وسبته، ورحل مع أبيه من الأندلس صغيراً، وسمع بمكة والمدينة والقس ومصر، واستقر به المقام في الإسكندرية، وكان معروفاً بالبلاغة والتقدم في علم الحديث، وله على صحيح مسلم شرح سماه المفهم في شرح صحيح مسلم، واختصر صحيحي البخاري ومسلم ومات سنة 656، ومنهم ابن العماد منصور بن سليم الذي رحل في طلب العلم إلى مصر وبغداد ودمشق وحلب وغيرها، وعني بالحديث وفنونه ورجاله، وبالفقه، وألف فيهما كما ألف تاريخاً للإسكندرية، وصنف معجم شيوخه. وممن روى عنه الشرف الدمياطي، ومات سنة 673. ولم يخلف في الثغر(833/15)
مثله.
وعرفنا في الإسكندرية طائفة من النحاة، نذكر من بينهم الحسن بن جعفر بن مروان الذي صنف كتاباً في النحو سماه المذهب، وكان موجوداً سنة 517. ومنهم ثابت بن حسن خليفة اللخمي، وكان له معرفة بالنحو، وبنظم شعر علماء كقوله:
العلم يمنع أهله أن يمنعا ... فاسمح به تنل المحل الأرفعا
واجعله عند المستحق وديعة ... فهو الذي من حقه أن يودعا
والمستحق هو الذي إن حازه ... يعمل به أو إن تلقنه وعي
ومات سنة 625، وعيسى بن عبد العزيز بن عيسى، وكان مقرئا نحويا، وترك مؤلفات تزيد على خمسة وأربعين في النحو والحديث والوعظ والتاريخ والأدب والقراءات والتجويد والفقه، منها كتاب الأمنية في علم العربية، والرسالة البارعة في الأفعال المضارعة، والإفهام في أقسام الاستفهام، وكتاب الجامع الأكبر والبحر الأزخر في القراءات، وقد قرئ عليه في رجب سنة614 بداره في ثغر الإسكندرية. وله ديوان شعر ومات سنة 629هـ. ومنهم العالم المشهور ابن الحاجب فقد وفد على الإسكندرية. وعبد العزيز بن مخلوف الذي قدم إلى الإسكندرية من بلاد المغرب وأصبح بها من أئمة النحو، وتخرج على يدي نحاة الإسكندرية ولكنه لم يصنف شيئاً، وله شعر متأثر بالنحو تأثرا بالغاً مثل قوله:
ومعتقد أن الرياسة في الكبر ... فأصبح ممقوتاً به وهو لا يدري
يجر ذيول العجب طالب رفعة ... ألا فأعجبوا من طالب الرفع بالجر
ومات سنة 693.
وأرجو أن أوفق في فرصة أخرى إلى دراسة باقي ألوان الثقافة ومعرفة رجالها.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(833/16)
مالتوس ومشاكل السكان في العالم
للأستاذ فؤاد طرزي
لم يثر أي كتاب من الكتب ضجة كالضجة التي أثارها كتاب توماس مالتوس (بحث في نظرية السكان) الذي صدر في سنة 1798 في منتصف فترة النهضة التي تسمى نهضة (الزيادة الكبرى) في مجموع السكان وفي بلاد ازداد عدد سكانها زيادة سريعة لم تدانها أية زيادة من الزيادات التي حصلت في بلدان القارة الأوربية الأخرى. فقبل هذه النهضة بـ150 سنة كان سكان القارة الأوربية يبلغون قرابة الـ 100. 000. 000 نسمة، ولكن بعد النهضة بـ 150 سنة أخرى واجهت شعوب أوربا مشكلة ابتداء حصول نقصان في مجموع السكان. ولكن سنة 1798، عندما أخذ يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية الذي يبلغ الـ187. 000. 000 - على الرغم من ارتفاع عدد المهاجرين الذي بلغ 550. 000. 000 - اكتسبت نظرية مالتوس التي سماها نظرية زيادة السكان أهمية مريعة.
ففي عام 1650 كان تعداد سكان العالم يقارب 500. 000. 000، ثم بلغ هذا التعداد في سنة 1940 بليونين، وقد حصل نصف بليون من هذه الزيادة خلال المائة سنة بين 1650 و1750، في حين حصلت زيادة البليون الآخر في السنوات التي تلت ذلك. وبذلك ازداد في 3000 سنة عدد الأوربيين - الذين يدخل فيهم السلالات المتحدرة النقية التي تعيش في الخارج - زيادة تبلغ السبعة أضعاف، وهكذا، ومع مرور الزمن غدت ظاهرة الزيادة - كما كتب لنكزلي دافيس - شبيهة بسلك رفيع يحترق ببطيء وتعثر، إلى أن أدرك الاحتراق نهايته فأنفجر. ولعل أبرز مظهر لظاهرة زيادة السكان في الغرب - وهي الظاهرة التي أطلقنا عليها اسم نهضة (الزيادة الكبرى) في مجموع السكان - تتبدى في ازدياد عدد نفوس الشعوب الناطقة بالإنجليزية. فقد كان تعداد هذه الشعوب يبلغ 5. 500. 000 في عام 1600 فتضاعف إلى 200. 000. 000 في عام 1940. وفي المائة سنة الأخيرة من التاريخ التقويمي ازداد عدد سكان الجزر البريطانية نحو أربعة أضعاف ما كان عليه، وهذا بالإضافة إلى أن أكثر من 17. 500. 000 قد هاجروا من هذه الجزر إلى أمريكا الشمالية ودومنيونات ما وراء البحار.
ويرى العلماء المحدثون أن مالتوس قد وجه نشاطه مبدئياً، في الطبعة الأولى من رسالته،(833/17)
نحو دراسة مشكلة الفقر، وإن مسألة السكان كانت ثانوية في آرائه. فقد أراد أن يدرس طبيعة الفقر كما انكب آدم سمث على دراسة طبية الثروة؛ إلا إنه وضع رسالته يرد بها على وليم كودوين والتلاميذ الاشتراكيين مستهدفاً إثارة المحافظين الدينيين والاشتراكيين المتطرفين في آن واحد. وكتب مؤرخ حياته جيمس بونار يقول: (لقد غدا مالتوس من بعد ثلاثين سنة أمطر خلالها الناس سيلاً من الأخطاء أعظم شرير في عصره، وأصبح إنساناً يدافع عن الجدري والعبودية وعن قتل الأطفال وعن إلغاء الزواج المبكر، إنساناً بلغت به الوقاحة أن يتزوج بعد إلقائه وعظاً يبين فيه مساوئ العائلة، إنسان ظن أن العالم بمجموعه سلسلة ظواهر تحكمها عوامل الشر حكماُ يدفع إلى الاعتقاد بأن خير الأعمال هي ما كانت أكثرها إيذاء. ولم يقدم مالتوس - باعتباره شارحاً لأسباب الفقر - أجوبة مقنعة تتفوق في شمولها وقناعتها على تلك الأجوبة التي وضعها بعض المتعصبين من ذوي العقول الجافة كهنري وجورج وكارل ماركس. وإن نظريته التاريخية التي نقحها في الطبعة السادسة لرسالته هي أكبر ما قدمه).
قرر مالتوس بأن نسبة الزيادة بين السكان تفوق نسبة الزيادة في المواد الغذائية، ولذلك - إذا لم نضبط هاتين النسبتين عند حد متوازن واحد - فستجتاح الإنسانية المصائب والكوارث والنكبات والآلام. وقد أفرغ نظريته في قانونه المشهور: تجري زيادة السكان على شكل متوالية هندسية - بهذه الصورة 32. 16. 8. 4. 2. . . الخ - وتجري زيادة المواد الغذائية على شكل متوالية حسابية - بهذه الصور 5. 4. 3. 2. 1. . . الخ فإذا لم تضف أراض جديدة كما يقول مالتوس فسوف لا يستطيع أي شعب في العالم أن ينتج المواد الغذائية سنوياً إلا ما كان ينتجه في السنة السابقة، في حين أن عدد السكان - كما ظهر في أمريكا - يزداد زيادات متضاعفة من جيل إلى جيل، ولذلك فإن زيادة السكان لا تسير في مستوى واحد مع إنتاج المواد الغذائية إلا بوجود تحديدات معينة، وإن التحديد الحاسم بين هذه التحديدات هو المجاعة التي تعتبر الضابط الذي يوقف ازدياد السكان. 0 وعلى ذلك فإن هناك تحديدات أخرى من الممكن أن يظهر مفعولها قبل ظهور فعل هذا التحديد، وهي الفقر والحرب وسوء التغذية والفجور. كما أن تقييد الزواج من الوسائل الرئيسية المعينة على التهرب من مثل هذه النتائج المخيفة. وكل مشروع يوضع لإنشاء(833/18)
مجتمع أصلح لتحقيق حاجات أكبر يستهدف إضعاف مفعول هذا القيد - تقييد الزواج - لا ينجح إلا في تقوية الجراثيم التي ستأكل قلب الإنسانية.
إن العلماء يميلون اليوم إلى تجنب المناقشات التي لا طائل تحتها بتوجيه سؤال واحد، هو: كيف يمكن لفروض مالتوس أن تصاغ بشكل تثبت فيه لاختبارات الباحثين في مشاكل زيادة السكان. ويقول هؤلاء العلماء: دعنا نفترض حدوث زيادة كبيرة في السكان أعقبها هبوط في استهلاك الأغذية، وإن ارتفاع معدل الوفيات أدى في النهاية إلى المجاعة. ففي هذا الفرض - حسب نظرية مالتوس - يجب أن يكون العلاج الوحيد تقليل نسب الزواج بدرجة كافية للتقليل من نسب الإخصاب البشري. ولكننا إذا ما أخضعنا هذا التقدير الافتراضي إلى حقائق علم السكان نجد - باستثناء حالات الحرب - أن شعباً واحداً فقط من بين شعوب أوروبا قد انطبقت عليه تنبؤات مالتوس وهو الشعب اليهودي. وبتعقب فترة المائة والخمسين سنة التالية لعهد مالتوس ظهر لعلماء السكان بأن هذا الباحث قد عاش في مرحلة خاصة من مراحل التطور الإنساني. وعن طريق المصادر العلمية المادية وتقدم الوسائل الإحصائية والرياضية وتطور أساليب إحصاء النفوس يستطيع هؤلاء العلماء أن يحللوا هذه المراحل ليكتشفوا التغييرات الأساسية في نسب الوفيات والولادات التي تخللتها، وبذلك تستطيع هذه التحليلات والدراسات أن تعينهم على إعداد العدة للمستقبل. ومن هنا يظهر أن أغلب أساليب التحليل والإحصاء الحديثة قد استخدمت لإصلاح عمل هذا الباحث الذي عبر عن روح العصر الذي كان يعيش فيه
ونحن نعلم علماً تاماً - بعد أن ندع جانباً التطورات التي تعود في أصلها إلى ظروف الحرب - بأن معدل الوفيات قد استمر في هبوطه منذ زمن مالتوس كما نعلم بأن ارتفاع معدل الأعمار لا ارتفاع معدل الولادات هو الذي سبب هذه الحركة في مسائل السكان وهي الحركة التي دفعت مالتوس دفعاً مباشراً لصياغة نظريته. وكان لكارساندرس فضل الكشف عن هذا الهبوط في معدل الوفيات الذي بدت ظواهره في إنجلترة حوالي 1730 في السنة التي ولد فيها أكبر معمر في عصر مالتوس. وقد أبان هذا الباحث أن المعدل قد هبط من 35 في الألف إلى 22 في الألف في عام 1830، أي بعد ثلاث سنين من إخراج مالتوس الطبعة الخامسة من رسالته. ثم مرت بعد ذلك مائة وأربعون سنة أخرى قبل أن تبدو بوادر(833/19)
هبوط في معدل الولادات عام 1880 يعادل الهبوط الذي طرأ على معدل الوفيات في إنجلترة حوالي 1740. وظلت الوفيات تتناقص إلى أن بلغت 10 في الألف في العقد الأول من هذا القرن، وظلت تتزايد نسبة الولادات خلال الستين سنة التالية. ويعود سبب ذلك لحد كبير إلى الفرق الكبير بين المعدلين.
ولقد كان من نتيجة التطورات العظيمة في العلوم الطبية والصحية وفي الشؤون الاجتماعية العلمية إنقاذ نفوس كثيرة، ثم تطعم ذلك في عام 1750 بقيام الفلاحين بزرع أرضهم زروعاً زودتهم بالخضروات واللحم الطازج بدلاً من تركها بوراً في الشتاء، كما وفر استعمال القطن بعد ذلك للطبقات العامة منسوجات رخيصة فازداد هبوط معدل الوفيات.
إن مشكلة السكان التي شغلت مالتوس خاصة، مشكلة إطعام الشعب الإنجليزي الذي يتزايد عدده مع بقاء جزيرته كما هي من حيث المساحة. هذه المشكلة قد حلت - كما يقول هارولد رايت بعد بضع مئات من السنين بنتيجة الزيادة الهائلة التي حصلت في إنتاج البضائع المصنوعة ومبادلتها بالأغذية والمواد الخام المنتجة في القارات الجديدة. فكلما ازدادت النفوس أصبح الغذاء أرخص لازدياد المهاجرين الذين ينتجون الأغذية في الخارج وازدياد العاملين الذين انتشروا في أوروبا عند استعمال الماكينة الزراعية والبواخر والقاطرات وهي الوسائل التي ساعدت على إنتاج الأغذية ونقلها من مكانها إلى محلات استهلاكها: فالثورة الصناعية قد قضت على أزمات السكان طوال مدة بلغت المائة عام. في الخارج وازدياد العاملين الذين انتشروا في أوربا عند استعمال الماكينة الزراعية والبواخر والقاطرات وهي الوسائل التي ساعدت على إنتاج الأغذية ونقلها إلى محلات استهلاكها: فالثورة الصناعية قد قضت على أزمات السكان طوال مدة بلغت المائة عام.
وتزايد هذه الوسائل الجديدة مكن أوربا من إنشاء شعب صناعي كثيف لم تكن تحلم باستطاعتها إعاشته. وكي لا نغمط كل حق لمالتوس يجب أن نشير إلى إنه قد تنبأ بهذه الإمكانيات ولو كان تنبأ مشوباً باليأس كما يظهر من الملاحظة التالية الواردة في رسالته.
(وقد نفرض، ونحن في غمرة التأملات الشاردة المجدية، أن أوربا يجب أن تنمي حبوبها في إنجلترة وأن تكرس نفسها تكريساً تاماً للصناعة والتجارة وتصبح أحسن آلة عاملة على سطح الكرة الأرضية. ولكن حتى إذا ما جارينا المفترضين في مباغاتهم وقلنا بان طبيعة(833/20)
الأشياء ستنتهي بجعل أوربا آلة عاملة من النوع الذي يفترضونه، وأنها ستوفر إمكانيات تستطيع بواسطتها هذه القارة أن تزيد نفوسها زيادة تتجاوز مساحة أراضيها، إلا أنها مع ذلك ستكون النتائج مؤلمة إيلاما كبيرا، إذ إن الحقيقة التي لا يصح نكرانها تتطلب أن يقوم كل إقليم، حسب إمكانياته الطبيعية وقدرته على خلق الثروة، للإنتاج لنفسه فما العمل إذن عندما تبدأ أمريكا - بمقتضى هذه الظاهرة - بسحب حبوبها من أوربا لتكفي نفسها، وحين تصبح المنتجات الزراعية غير الأوربية كافية لسد النقص الذي تحس به؟ لاشك إنه سيبدو حينذاك بأن الفوائد الوقتية سيبدو حين ذاك بأن الفوائد الوقتية المتحصلة من زيادة نسب الثروة والسكان قد كلفت غالياً ودفعت إلى مقاساة لفترة طويلة عامرة بالآلام والمتاعب.
ومع أن الثورة الصناعية قد وقت أوربا من أخطار ازدياد السكان، إلا أنها لم تعدل تعديلا أساسيا تحدي مالتوس، ولذلك فإنه حين ابتدأت حركات الموازنة اتخذت الأسلوب الذي دعا إليه - اطراد هبوط معدل الولادات - ولو أنها لم تتشكل بالشكل الذي تنبأ به. فإن معدل الزواج ظل في منطقة واحدة مرتفعا - في الروسيا - أما شعوب المدنية الغربية فقد تجنبت أزمات السكان بالإشراف على الولادات عن طريق وسائل التحديات العائلية. فإذا ما قلنا بأنه قد تخلل عصر نمو السكان هبوط معدل الوفيات فيجب أن نعترف بأن هبوط معدل الولادات قد كان جزرا مضادا.
فقد كان واضحا منذ عام1850 بأن معدل الولادات قد هبط في فرنسا والولايات المتحدة وايرلندا، كما كانت الدلائل تدل على أن الزيادة الهائلة التي طرأت على الولادات في أمريكا قد ابتدأت في الهبوط ثانية منذ الإحصاء الأول عام 1790. فبين عام 1847 وعام 1914 هبط معدل الولادات في فرنسا من 27 في الألف إلى 19، وهبط خلال الحرب العالمية الأولى إلى 11 في الألف ثم استأنف بعد ذلك الهبوط بعد ارتفاع وقتي. وقد اشتد هذا الهبوط، مع بعض التغيير حيناً، أو مع عدمه في حين آخر، في العصر الذي يسمى عصر الزواج، ويعزى سبب هذا الاشتداد إلى تحديد الولادات داخل العائلة، إذ المعروف أن عمليات تقليص حجم العائلة قد استمرت في فرنسا، ثم انتشرت من هذه البلاد إلى شعوب أوربا الغربية.
وأما في إنجلترا فإن معدل الولادات قد وصل إلى درجة عالية عام 1850، إلا إنه من عام(833/21)
1880 أخذ يعاني هبوطا مستمرا. وفي خلال فترة قصيرة أمدها ستون سنة (بين 1870 و1930) هبط هذا المعدل من 35 في الألف إلى 15. وقد كان لهذا الهبوط أثر كبير على الحياة الإنجليزية.
فكيف إذن فشل مالتوس في التنبؤ بإمكانية هذا التقلص في حجم العائلة الذي يعتبر أعظم إنقلاب في شؤون السكان في العالم الحديث؟ لقد ظهر لأغلب المفكرين الأحرار بأن مالتوس كان يخدم جبهتين مختلفتين: جبهة المستغلين، وجبهة ذوي السلطة. واكتشف العالم الألماني هانس ميوهوف بأن أعمال مالتوس قد تأثرت بدفاعه عن التقاليد، كما أن العالم جيمس فيلد قد وصل بعد دراسة دقيقة إلى نتيجة أثبت فيها بأن مالتوس كان مطلعاً على الدعاية الموجهة لتحديد الولادات في زمانه، ولذلك عارض بقوة كل تدبير طبيعي لتحديد حجم العائلة.
ولعل هذا الدفاع عن التقاليد الاردذوكسية - والذي دفع علماء السكان إلى أن يسموا صاحبه (البارسون مالتوس) قد جعل من منافسيه من أمثال فرانسيس بلاس وريشارد كارليك وروبرت ديل والدكتور جارلس نولتن أقدر منه في معالجة الفروض العلمية
إن الضرورات تقتضي - حسب نظرية مالتوس - أن يكون الزوج قادر على إعالة زوجة وستة أطفال، أما علماء السكان في الوقت الحاضر فيقولون إن إنجاب العائلة ثلاثة أطفال يكفي لاستقرار السكان، بينما يؤدي إنجاب كل عائلة ستة أطفال إلى مضاعفة السكان من جيل إلى جيل. وليس هناك من يشك في إخلاص مالتوس في دفاعه عن الضابط المعنوي، ولكننا يجب أن نشير في مقابل ذلك إلى أن الكتاب والمصلحين في أيامه قرروا ما يقرره اليوم كثير من رجال الدين وعلماء التشريح وقادة الاجتماع بأنه إذا ما أراد المجتمع أن يجعل من الاتصال الجنسي قيمة سامية؛ فالزواج المبكر خير معوان على ذلك.
ويبدو أن تاريخ الشعب الايرلندي خير تصوير محزن لفرضية مالتوس، وهو الشعب الذي كانت المجاعة أكبر آفة أصابته؛ ففي سنة 1610 ابتدأ السير والتر رالية بزرع بذور البطاطس المستوردة من أمريكا في مزرعته، وبعد مضي جيلين أصبحت البطاطس الغذاء الرئيسي في ايرلندا. وكان الفرد يزود بهذا المصدر الغذائي الجديد، فيتزوج شاباً ثم ينمو بسرعة. ولذلك أخذ عدد السكان يتضاعف ابتداء من عام 1849 إلى أن بلغ هذا التضاعف(833/22)
أوجه عندما صار تعداد السكان 8 , 300 , 000. وقد جاء في كتاب السير جيمس كونور (تاريخ ايرلندا) ما يلي: (لقد شجع المسلك الديني الزيجات المبكرة، وشجعت السياسة الايرلندية الزيجات المبكرة كذلك، وأدى هذا التشجيع المزدوج إلى حصول زيادة سريعة في السكان. ولكن ظل ما يقارب الثلاثة ملايين والنصف من النفوس ملمومين في أكواخ موحلة مغطاة بالقش، كل كوخ يتكون من غرفة واحدة بلا نافذة ولا منفذ. وفي عام 1844 ظهرت في أمريكا الآفة النباتية التي تعطن البطاطس خلال بضعة أيام.
وفي صيف 1846 اجتاحت هذه الآفة ايرلندا كالوباء الأسود وأهلكت المؤن الغذائية التي يعيش عليها الفلاحون؛ ومات خلال خمس سنين بين 1846 و1851 حوالي 1 , 000 , 000 شخص. وكان من نتيجة ذلك فيضان هجرة كبيرة من ايرلندا فغادرها خلال عقد واحد ربع السكان متوجهين إلى الولايات المتحدة. ثم أخذ عدد المهاجرين في التزايد حتى بلغ في ظرف جيلين 5 , 000 , 000 ولكن الايريلنديين جابهوا الموقف بإيقاف الزواج أو تركه. ويصعب علينا قياس معدل الولادات في ايرلندا إلا فيما يتعلق بفترة منتصف القرن التاسع عشر، ولكن كاساندرس قال إن هذا المعدل ربما كان حوالي الأربعين في الألف عام 1850 ثم أخذ في الهبوط بعد فترة قصيرة من هذا التاريخ فصار 622 بالألف بين عامين 1871 و1881، و212 بالألف بين عامي 1910 و1926. وخلال هذه الفترة ازداد معدل نسبة النساء الايرلنديات غير المتزوجات من اللواتي تتراوح أعمارهن بين الـ 25 و35 من 28 في المائة في عام 1841 إلى 52 في المائة في عام 1926. ولا شك أن ترك الزواج بالنسبة لشعب بأكمله فترة طويلة يعني بالطبع أن عددا كبيرا سيتركون الزواج نهائيا.
ففي عام 1841 كان 15 بالمائة من النساء الايرلنديات بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين غير متزوجات. وفي عام 1926 ارتفع هذا المعدل إلى 29 بالمائة. وهكذا، فإن ثلاثة أعشار النساء الايرلنديات يعشن بلا زواج. وأما بالنسبة لأولئك اللواتي تزوجن فإن معدل الولادات بقي بينهن عالياً. وفي عام 1861 كان يوجد لكل 100 امرأة ايرلندية متزوجة من اللواتي دون الخامسة والأربعين 130 طفلا دون الخامسة. وفي عام 1826كان العدد المماثل 130طفلا أيضا. ويقابل ذلك في إنجلترا وفي نفس الفترة هبوط(833/23)
المعدل من 100 طفل لكل امرأة متزوجة إلى 071 وقد استقر الآن عدد سكان ايرلندا حوالي 4. 300. 000 نسمة أي ما يقارب نصف العدد الذي كان عليه عدد النفوس قبل المجاعة. ولهذا السبب نجد أن عدد المنخرطين في المسلك الديني في ايرلندا يفوق أي عدد مماثل له في العالم الغربي إذا لم نقل في العالم كله. فقد جندت هذه البلاد أبناءها في سلك الرهبنة ليخدموا الكنيسة الكاثوليكية في كافة أنحاء العالم. ولكنا إذا عدنا إلى إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة وجدنا انه لم يحدث في هذه البلدان إلا هبوط قليل في نسبة الأفراد المتزوجين؛ ولذلك نرى الكنيسة الكاثوليكية خسرت كثيرا من المجندين في هذه الأقطار. ومن هنا نرى أن تخفيض ايرلندا معدل الولادات فيها بترك الزواج يعتبر نتاج سلسة غريبة من الظروف الاقتصادية قويت بإخلاص أهلها للكنيسة، وأن قصتها تعتبر نموذجاً لطريقة إنقاص عدد السكان في العالم وهي الطريقة التي يمكن أن تلفت انتباه مالتوس الأخلاقي أكثر من جلبها انتباه مالتوس العالم علاوة على دلالتها على مبلغ جسامة الوسائل التي يحتاج إليها لهزيمة تفسير مالتوس.
(البقية في العدد القادم)
فؤاد طرزي(833/24)
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراوي
(تتمة)
وفي هذا الكتاب كما في بقية الكتب جينز تقريبا نجد أوضح البراهين وأقواها، تصريحا أو تلويحا، على أن العلم - بعد تجارب مضنية استغرقت القرون الماضية - عجز بل اعترف أنه من المحال عليه أن يجد معلولاً من غير علة. ودليله على هذا جميع تجاربه الصحيحة الماضية بدون استثناء، ولذا وضع قانونه الشهير عن (العلة والمعلول)
ثم يرينا في (نجومه) دلائل عظمة الله وقدرته ولطفه وحلمه وعطفه، تلك الدلائل القوية التي تبهر العقول وتصعقها. وإن أصدق ما يوصف به هذا الكتاب هو أنه تسبيحة العالم.
ثم ينظر إلينا قائلاً: وهاكم البرهان الواضح القاطع. . . بينما أشار إلى كتابه (الكون الغامض) وإذا فيه:
(إن الطبيعة تتجافى الآلات ذات الحركة المستديمة. . . ويفسر علم الديناميكا الحرارية كيف أن كل شيء في الطبيعة يصل إلى حالته النهائية بعملية يطلق عليها: (زيادة درجة التعادل)
فدرجة التعادل إذن يجب أن تزيد على الدوام، وهي لا تقف عن الزيادة إلا إذا وصلت إلى حد لا يمكن أن تتعداه. فإذا وصل الكون إلى هذه المرحلة وأصبحت كل زيادة أخرى في درجة التعادل (أنتروبي) مستحيلة، فني الكون. . .
(وقانون الطبيعة دائما هو أحد شيئين ليس غير: النماء أو الموت. وهي لا تجيز إلا سكونا واحداً هو سكون القبر. . .
وعلى أصح المشاهدات العلمية نجد أن درجة التعادل الكونية في ازدياد مستمر سريع، وإذن فقد كانت لها بالضرورة بداية وأنه حدث ما يمكن أن يسمى (خلقاً) وفي وقت ليس ببعيد بعداً لانهائياً).
وإن نهاية الفضاء والزمن على هذا النحو لتضطرنا إلى التسليم بأن عملية الخلق عمل من أعمال الفكر).
(وإن تحديد الثوابت مثل نصف قطر الكون، وحجمه، وكهاربه (ليستلزم) وجود الفكر الذي(833/25)
تقاس خصوبته بضخامة هذه الكميات).
ثم يبن لنا أن الله سبحانه وتعإلى لا يشبه شيئاً من خلقه، وليس كمثله شيء، فلا يجوز عليه ما يجوز على خلقه بهذه العبارة الرائعة: (إن الخالق القادر على كل شيء، والذي لا يخضع للقيود أياً كان نوعها، لا يقيد نفسه بالقوانين التي تسود هذا الكون)
ولم يكتف بهذا بل نزهه سبحانه عن الحلول في زمان أو مكان لأنه (خالق الزمان والمكان) بنفس الحجة القاطعة والأسلوب العذب الرنان.
فالزمن والفضاء اللذان هما إطار الفكر قد كان وجودهما من غير شك جزءاً من هذه العملية - عملية الخلق - وقد كانت علوم الهيئة البدائية تتخيل خالقاً يعمل في الفضاء والزمن فيصوغ الشمس والقمر والنجوم من مادة غفل موجودة من قبل؛ أما النظرية العلمية الحديثة، فإنها تضطرنا إلى أن ننظر إلى الخالق على أنه يعمل خارج الفضاء والزمن اللذين هما جزء من خلقه، كما يعمل المصور خارج لوحته.
وهذا يقابل قول أوغسطين: (لم يخلق الله الكون في زمن بل خلقه مع الزمن).
والحق أن هذا الرأي قديم يرجع إلى زمن أفلاطون الذي يقول: (خلق الزمن هو والسماوات في وقت واحد، وذلك لكي يفنينا إذا أريد فناؤهما. هكذا كان عقل الله وفكره في خلق الزمن)
وحين يهم جينز بتوديعنا لا يفوته أن يؤكد كلامه بقوله: (والآن فإن الآراء متفقة إلى حد كبير يكاد في الجانب الطبيعي من العلم يقرب من الإجماع - على أن نهر المعرفة يتجه نحو هذه الحقيقة وهي أن الكون بدأ يلوح أكثر شبهاً بفكر عظيم منه بآلة عظيمة. . .).
(ولسنا نقصد بهذا العقل بطبيعة الحال عقولنا الفردية - إنما نعني ذلك العقل الكلي الذي نوجد فيه على شكل فكر تلك الذرات التي نشأت منها عقولنا).
وهذا ما يعنيه بعض الفلاسفة المتقدمين من تخويل الفكر إلى مادة، وما يعنيه العلم الحديث اليوم من محاولات لعله يستطيع رداً لطاقة أو تحويلها إلى مادة.
وفي قول جينز تفسير (إلى حد ما) لمعنى قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).
على أنه يجب أن نكون أكثر حذراً ولباقة في تمييز حقائق العلم من فروضه وآرائه:(833/26)
فالقانون أو الحقيقة قصدنا، وماعدا ذلك يكون حكمه حكم غيره من الآراء الإنسانية. وعلى حد تعبير الغزالي:
العاقل يقتدي بسيد العقلاء علي رضي الله عنه حيث قال: (لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله. فالعاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول: فإن كان حقاً قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً، ربما يحرص على انتزاع الحق من كلام أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام) اهـ
هذا هو العلم، وإن شئنا قلنا الدين؛ فكلاهما فطرة الله. وكلاهما في تواترة - في حدود قوانينه ومجموعاته الأزلية - خاضع لإرادة الله وسنته التي منها سنة التطور والارتقاء.
ولعل خير ما أوجهه إلى الشباب تلك العبارة الطريفة التي وجهها إليهم وإلى الشيوخ أيضا قبل اليوم بقرون، المفكر العبقري الإمام الغزالي. قال رحمه الله في كتابه الممتع (المنقذ من الضلال): (إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؛ فظهر لي أن العلم اليقين هو الذي ينكشف منه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم. ولا يتسع القلب (أي العقل) لتقدير ذلك؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم يورث ذلك شكا وإمكانا: فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة وقال قائل لا؛ بل الثلاثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا، وقلبها وشاهدت ذلك منه؛ لم أشكك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه؛ فأما الشك فيما علمته فلا.
ثم علمت أن كل مالا أعلمه إلى هذا الوجه ولا أتيقن على هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقين) اهـ
تلكم هي قضية الشباب بوقائعها وملابساتها. وهذا غاية ما أمكن أن تصل إليه من وسائل علاجها، والتاريخ بحوادثه شاهدها وأنتم قضاتها العدول، فالحكم لها أو عليها وما يترتب على ذلك منوط بذمتكم أنتم، فعليكم وحدكم تقع جميع تبعاته.
وقبل أن أختم كلامي أرى واجب العلم يحتم علي أن أثبت ضمن أقوالي هذه الحقيقة:
وهي إننا سجلنا في أفقنا المحلي هذه الأيام ظاهرة تنبئ القرائن أنها تتجه وصالح قضيتنا.
ومهما يكن الباعث عليها فإنا على كل حال نرجو أن نستفيد منها إلى حد كبير.(833/27)
إبراهيم السطراوي(833/28)
ترجمة وتحليل:
الخلود
لشاعر الحب والجمال لامرتين
ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة)
وهذه البصيرة التي تشهد الإله باطناً في كل شيء، ظاهراً من كل مكان، ترى فوق ذلك أن العالم - بحيه وجماده - ما يفتأ باحثاً عن الله، ناشداً نجواه، حريصاً على عرفان صفاته، والتقرب إلى ذاته: وأنه بجماله ونظامه وأحكامه صورة تحكي جمال خالقه، وحكمة مدبره، وقدرة صانعه، ومرآة تنعكس فيها معاني رحمته ورأفته، وفضله وكرمه. فالنهار لا يشعع بنور الشمس وإنما يشرق بنظرات الإله، والحسن لا يرثه المرء عن أبويه وإنما يفيض من بسمات الله؛ فإذا ما ابتسم راضيا عن العبيد، إذن لمولود جميل سعيد، أن يبهر هذا الوجود!
فما اجدر القلب الذي ينبض بإذن الله أن يعبده ويهواه!
(إن هذا العالم الذي ينشد الوصول إلى كمال صفاتك
صورة تحكي جمالك، ومرآة تعكس مزاياك:
فالنهار يفيض من نظراتك، والحسن يفيض من بسماتك،
والنفس في كل مكان تلقاك، والقلب أينما كان يهواك!)
بيد أن هذا الإله الحي القيوم، المقتدر الرحيم، لو اجتمعت الفطرة السليمة والأرواح الصافية على أن تصفه لا تستكمل وصفه ولو كان بعضه لبعض ظهيراً؛ وإن العقول البشرية لأعجز من أن تدرك مزاياه الحسنى: فهي كلما شرعت تصفه أدركها الكلال، وكلما أخذت تتكلم عنه غالبها الصمت، وكلما طفقت تتحرك نحوه رزحت تحت ذاته القاهرة؛ فتستكين وتشعر بضعفها ثم لا تجد الراحة بعد كلالها إلا في طمأنينة الوجدان، ولا تطيق الكلام بعد سكوتها إلا بألفاظ الحمد والتقديس، ولا تستطيع الحركة بعد جمودها إلا بالقيام والركوع والسجود.
(لا يستكمل وصف اسمك كل هذه المزايا الباهرة(833/29)
أيهما القيوم الأزلي المقتدر الحبيب!
والروح - وهو رازح تحت ذاتك القاهرة -
يقدس قدرتك حتى في صمته الرهيب!)
ومهما قدس الروح قدرة الله، ومهما جد في البحث عنه وألقى اليد بذاته وخضع له في جميع أحواله، فلن يسلمه شيء من ذلك إلى أكثر من أن يحبه حباً يملك عليه مشاعره ويزيد شوقه وحنينه؛ فيستحيل هذا الحب في النفس الشاعرة ناراً مضطرمة لا تتراجع دون باب الله مهما طردت عنه حتى يؤذن لها بالدخول فيأخذ لهيبها في الانطفاء حين ترى عن قرب بعض صفات هذا الخالق العظيم.
(رباه! ما زال يلقي إليك بذاته
هذا الروح المحطم خاضعاً لإرادتك الأزلية.
ولما ضاق بالحب شاعراً أنه ختام حياته،
التهب لعرفان صفاتك القدسية!)
هذه صلاة الروح في معبد الطبيعة: ألحانها من السماء، ونورها من الله، وينبوعها الشعور والوجدان.
ومثل هذه الصلاة الروحية كثيراً ما صفا بها قلباً لامرتين وحبيبته، فانطلقا على نغماتها إلى العالم المجهول الذي يتخيلان الوصول إليه، فيجثوان بين يدي الإله الرحيم، ويصليان لوجهه الكريم، ويدعان الصباح والمساء يحملان إليه أنفاسهما الطاهرة ثم يستشعران في سكرتهما البون الشاسع بين السماء والأرض؛ فما الأرض إلا سجن أو منفى، وما المساء سوى المأمن والمأوى.
(ولما ختمت القول استجمع أنفاسنا قلبانا
إلى عالم مجهول حققته الآمال،
ودأب الصباح والمساء ينشدانه نجوانا
ونحن جاثيان أمامه بالغدو والآصال؛
فرأت عيوننا الأرض منفانا والسماء مثوانا
وهي سكرى في نشوة ما تزال!)(833/30)
ومع ذلك فما هذه الصورة الرائعة التي تبدو لعيني الشاعر في سكرته الروحية سوى نشوة ما أسرع ما تزول؛ والروح كلما شرد هذا الشرود، ورأى هذه الرؤى وثب ثائراً هائجاً وراح يضرب الجسد الذي يحبه، ويريد أن يتخلص منه إلى الأبد لينتقل من هذه الأخيلة الكواذب إلى عالم الحقيقة الخالد. وهذا ما حرك نفس الشاعر وحمله على التأوه والأنين، وعلى التضرع إلى الله أن ينعم على الروح بفصله حقاً عن الجسد وإطلاقه من قيوده حين يكونان في مثل هذه السكرة لكيلا يرتدا بعدها إلى الصحو الذي ليس فيه سوى المر الأليم.
(وفي هذه اللحظات التي يثيب فيها الروح الشرود،
ويود لو حطم الصدر الذي يحبسه ويخنقه. . .
أواه! لو استجاب لنا الإله من أعلى الوجود،
فضرب كلا منا ضربة تفصله وتطلقه. . .)
يتمنى لامرتين هذا في تأوه وأنين، لأنه يتوقع السعادة يوم تنفصل الأرواح عن الأبدان!
فالأرواح ما دامت أجسادها تكبلها بأغلال من عظام ولحم وشحم وعروق وشرايين، وتكلفها ما لا تنتهي مطالبه من طعام وشراب ومشتهيات، لن تستطيع أن تتحرك قيد أنملة؛ بل ستبقى محجوزة عن كل ما تريد، محجوبة عن كل ما ترقب!
وما بالأرواح رغبة في حطام فان أو مادة زائلة، إن تريد إلا أن تسري في العوالم أنى تشاء، وأن تجتاز حزنها وسهلها، وعاليها وسافلها، وظاهرها وباطنها؛ وأن تعرج من سماء إلى سماء فترى ما يغشاها وتتسمع موسيقاها وأن ترقى في لمح البصر إلى موطنها الأول روضة الخلود، وإلى ينبوعها الذي لا ينضب روح الإله؛ وأن تطير على جناح الحب في فضاء واسع لا يحده البصر، ولا ينتهي في الزمان ولا المكان؛ وأن تضيء في طيرانها ما حولها كما يضيء شعاع الشمس في سطوعه كل شيء؛ وأن تنفذ أخيرا إلى نفس الخالق وتمتزج فيها إلى الأبد امتزاج الأنفاس، ثم تهدأ بعد ثورتها، وتأنس بعد وحشتها، وترى الحقيقة بعينها بعد أن ذهلت كثيرا في دنيا الخيال.
ولو استجاب الله دعاء لامرتين ودعاء أمثاله.
(إذن لاجتازت أرواحنا العوالم في مسراها
وهي ترقى بوثبة واحدة إلى ينبوعها الثرار،(833/31)
ولا صاعدت على جناح الحب في فضاء لا يتناهى
كأنها شعاع من أشعة النهار،
ثم امتزجت إلى الأبد في نفس من براها
بعد أن تصل إليه ولبها مستطار. . .)
والشعراء مهما استغرقوا في أخيلتهم لابد للشك أن يغزو قلوبهم؛ وما هو إلا أن يصحوا من سكرتهم، ويصرخوا في وجه الأقدار مستنسخيها ما تكتب أيديها، ومستنطقيها عز، ما تبيته لياليها؛ فهل هي خادعتهم عن أمانيهم وضاحكة من آمالهم أم ستجعل أخيلتهم حقائق، وأحلامهم واقعات؟
وكذلك فعل لامرتين. . . فإنه لما أحس استغراقه في خياله عاد إلى الأقدار يسألها: هل الكائنات مولودة للفناء؟ ثم يسألها بشيء من المرارة: هل ستفنى النفس مع الجسد إذا قضت عليها الشركة أن تقاسمه الموت؟ وهل سيبلغ القبر في جوفه هذه النفس في ظلام الليل؟ وما تصير بعد فنائها؟ أتستحيل غباراً متناثراً، أم تطير فوق الأحياء، ثم تذهب في الفضاء؟
وفي هذه الأسئلة حيرة الشاعر وتردده، وفيها خوفه على مصيره ورهبته من عاقبته وعواقب الناس.
(أيتها الأقدار! هل خدعتنا أمانينا؟
وهل الكائنات مولودة للفناء؟
وهل يبلغ القبر أناء ليالينا
نفسا تقاسم جسدها حكم القضاء؟
وهل تصير غبارا أم تطير حوالينا
ثم تتلاشى كصوت ذاهب في الفضاء؟)
وحين يختم لامرتين هذا اللحن الحزين في هذه القصيدة العصماء يأبى إلا أن يصرح بأن الروح الذي خاطبه وناجاه لم يكن سوى حبيبته (جوليا) فنراه يتغنى باسمها في البيت الأخير، مستعلما منها عما امتنعت الأقدار من أعلامه به، إذ يسألها بعد أن فاضت أنفاسها وفارقت دنياها: هل بقي على حبها شيء مما أحبت؟ وهل تشعر بحب هذا المقيم على العهد أم تريد على وفائه موثقا ودليلا؟ ثم يعلن لها أنه يهبها حياته، ويرجو أن تشهد مماته(833/32)
مقابل شيء واحد: هو أن تشعر بحب هذا الذي أخلص في حبها فيكون شعورها برهاناً على خلودها ويكون خلودها جواباً لسؤال خطير طالما خبأته الأقدار، وعوذته بالأسرار.
(بعد أن فاض نفسك يوم الوداع الأخير
ألم يبق شيء يحبك من كل ما كنت تحبين؟
أواه! لن أسأل سواك هذا السر الخطير،
فانظري يا جوليا موت حبيبك ثم أجيبيني!)
وهكذا عاد الشاعر إلى خياله، واستمسك بآماله، وختم قصيدته بمعاني الخلود. . .
صبحي إبراهيم الصالح(833/33)
من وحي الربيع:
زهرة!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
سألتني ذات مرة ... ما تراني؟ قلت: زهرة
عطرها في القلب أفرا ... ح، وفي النفس مسرة
ولها لون كلون ال ... حب ما أعجب سحره!
ولها إشراقة النو ... رعلى صدر البحيرة
وربيع مستهام ... قد أطال الحب عمره
ليس يمضي عن رباها ... وصباها قيد شعره
أسرته بهواها ... فغدا يعشق أسره!
كلما مرت عليها ... نسمة تعرف سره
حدثتها عن جواه ... ومضت تنشد شعره
وتغنت بهواه ... وأزاحت عنه ستره
فتثنت وهي نشوى ... وأغاني الحب خمرة
أنت يا زهرة عندي ... جنة عذراء نضرة
أنت للحيران أفق ... عنده يبصر فجره
أنت للظمآن عين ... بأمير العذب ثَرَّة
أنت الهام وفن ... يعرف الفنان قدره
أنت في أعماق روحي ... وفؤادي مستقرة
فيك أحلام حياتي ... - يا حياتي - مستسرَّة
فيك شيء لا تراه ... لا تراه غير روحي وهي حرة
فيك سحر لست أنسا ... هـ، وقد أنسيت غيره
فيك ما أجهل سره ... فيك ما أعرف أمره!
يا هوى عمري ويا نو ... ر الهوى السامي وعطره
يا رجاء بعد يأس ... واهتداء بعد حيرة(833/34)
يا صفاء بعد أن كا ... نت حياتي مكفهرة
يا نعيما بعد أحز ... ن وحرمان وحسرة
إن يكن قصر فني ... فاعرفي للفن عذره
هل تحوز الكون ذرة ... أو تضم البحر قطرة؟
إنما أنت جمال ... يترامى الفن إِثره
نادر في وقت ... ساحر في كل فترة!
قد تجلى فيه ما لل ... هـ من فن وقدرة
أنت لحن تخشع الأر ... واح إذ تسمع نبرة
زهرة أنت، ولكن ... يا نسيم أي زهرة
حسب قلبي منك عطر ... وكفاني منك نظرة(833/35)
من الحان الوفاء:
أبي. . .
للشيخ محمد رجب البيومي
أبي، لستُ أهوى في الحياة سوى أبي ... فلا تلحني إن ضِقتَ يوماً بمذهبي
مليكٌ على قلبي توطد عرٌشه ... يُتوجه حبي بتاجٍ مُذهب
تربيتُ طفلا في حدائق بره ... وقد لبست من وشيها كل معجب
فذقتُ جناها وانتشيتُ بكرمها ... ولذت بفينان من العيش مخصب
وما زلت في دور الشباب أزورها ... فاقطف من ريحانها الغض مأربي
حماني وللدهر الخؤون براثن ... تأوهتُ منها بين ناب ومخلب
وآثر تعليمي ولم يك ذا غنىً ... فانفقٌ جهداً طال منه تعجبي
يظل وراء الرزق يكدح مُتعبا ... لا رفل في نعمائه غير مُتعَب
كأنيَ منه مستظلٌ بدوحةٍ ... نمت فأقامت وحدها بين سبسب
أراه فأنسى الهم مبتهجا به ... كسار رأى في الليل طلعة كوكب
وما سر قلبي أنْ أفارق ظله ... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب
إذا مسني سُقمٌ تبدد بِشره ... فليس يُرى إلا بوجه مقطبِ
فيدعوا أطبائي ويسأل ربه ... ويمكث عندي لا يطيق تجنبي
أقول له هون عليك مطمئنا ... فللداء وقتٌ إن دنا منه يذهب
ويعلم أني بالقراءة مُولَعٌ ... فيملأ بالأسفار والصحف مكتبي
ويقرأ مثلي ثم يصدر نقدهُ ... فإنْ أر للتعقيب باباً أعقب
وأطلب منه الرأي إن عنَّ مشكل ... فينطق عن فكرٍ أصيل مُرتب
فإن جاء أضيافي تهلل وجهه ... فيلقاهمو عني بأهلٍ ومرحب
كأن أمينُ الله أقبل نحوه ... من الملأ الأعلى، على رأس موكب
فيا ليت شعري هل إذا كنتُ والدا ... أكون لأولادي كما كان لي أبي
وهيهاتَ أن أرقى إليه فوالدي ... ملاك ومن لي بالملاك المحجب
بعثت به يا رب والليل حالك ... يظل به الساري فبدد غيهبي(833/36)
فعش يا أبي - طوال الحياة فإنما ... بقاؤك في دنياي غاية مطلبي
لكل أب فضل كبير على ابنه ... فمن يرٍو سوءً أعن أبيه فكذّب(833/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
سلامة موسى أو قصة الكاتب وما كتب:
لم أكن أعلم أن للأستاذ سلامة موسى تلميذا آخر إلا حين وقع في يدي العدد الأخير من مجلة (المقتطف). . . ففي هذا العدد الذي أصدرته المجلة عن شهر يونيو طالعت مقالا آخر في الرد علي تحت عنوان (النقد والتعقيب في الصحف والمجلات) لكاتب لا داعي لذكر اسمه لان أحدا لا يعرفه؛ لا يعرفه على الرغم من أن له كتاب صدر منذ شهور اسمه (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث)!. . . وأعلم أن هناك سؤالا يتردد في الأذهان ليأخذ طريقه إلى الشفاه: كيف لا يعرفه أحد وله في أسواق الأدب كتاب؟ الجواب عن هذا السؤال هو أن الكتاب (القيم) لم تعرفه أسواق الأدب حتى الآن، وإنما عرفته أسواق تجار الورق حيث (يباع الفن الرفيع) بالرطل!!
إن لهذا الكتاب قصة. . . قصة تكمن فصولها وراء هذا الهجوم الذي شنه علي صاحبه في (المقتطف) منذ أيام. ولا بأس من أن أسرد لك فصول القصة بإيجاز، لتدرك أن الدافع الأصيل لهذا الهجوم لم يكن بسبب موقفي من الأستاذ سلامة موسى، ولكنه كان بسبب موقفي من الكتاب (القيم)! وقبل أن أحدثك عن فصول القصة أقسم لك أن هجوم الكاتب (النابه) قد هزني هزاً عنيفاً. . . إن التافهين يستطيعون أن يهزونا نفس الهزات العنيفة التي نلقاها من العباقرة؛ فالعبقري يستطيع أن يزلزل كيانك حين تقرأ له زلزلة تقديس وإعجاب. وكذلك التافه فإنه يستطيع أن يزلزل أيضا كيانك زلزلة رثاء وسخرية! ومن هنا هزني الكاتب (النابه) هزاً عنيفاً خشيت معه على رئتي القويتين أثر الانفجار. . . من الضحك!!
قصة طريفة ما في ذلك شك، أقصها عليك لتنسى - ولو إلى حين - حر الصيف و (هجوم الذباب). . .
مفتاح القصة أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة؛ إنه ليس إلا نسخة من كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث). . . إياك أن تظن أنني من الغفلة بحيث أشتري مثل هذا الكتاب، ولكن صاحبه هو الذي كان من الغفلة بحيث أهداه يوما إلي لأكتب عنه سطوراً تقدمه إلى(833/38)
القراء! ويبدو أنني كنت قليل الذوق لأنني تغافلت حتى اليوم عن الكتابة عنه، على الرغم من أن الكتاب قد أرسل إلي مع رسول خاص يحمل إلي رجاء صاحبه أن أخصه شيء من عطفي، وعلى الرغم من أن صفحته الأولى قد حملت إلي إهداء ضخما يمكن أن يرتفع بي إلى مكانة سانت بيف في النقد الأدبي!!
ومضت الأيام (والرسول الكريم) يلاحقني ليلا ونهاراً موفداً من قبل (الأستاذ) المؤلف لأكتب عن الكتاب ولو كلمة صغيرة في (الرسالة) ولكنني تماديت في قلة الذوق إلى الحد الذي دفعني إلى مصارحة (الرسول الكريم) بأنني أهين قلمي وأهين (الرسالة) وأهين عقول القراء إذا كتبت عن هذا الكتاب. . . وذهل (الرسول الكريم) ولم يجد بدا من نقل كلماتي إلى (الأستاذ) المؤلف، ولعله فعل هذا ليريح لسانه من كثرة الرجاء وقدميه من طول المسير!!
أنا على استعداد لأن أنقل إليك عبارات الإهداء الضخمة بالزنكغراف، وعلى استعداد لأن أذكر لك اسم (الرسول الكريم) وعلى استعداد لأن أقدم لك أسماء من شهدوا فصول القصة من الأدباء، لتدرك الدوافع الأصيلة لهذا الهجوم الذي (عطر) ثلاث صفحات من (المقتطف)؛ لقد كنت بالأمس في رأي الكاتب (النابه) أديبا كبيرا يشار إلى بالبنان فأصبحت اليوم في رأي الكاتب نفسه لاشيء. . . وسبحان من جرد الكاتب (الجهير) من ثوب الخلق والضمير، ومن أضاع ماء الحياء من وجوه بعض الأحياء!!
أترك هذا كله لأقول للكاتب (النابه) إن القائمة الطويلة التي قدمها إلي عن كتب الأستاذ سلامة موسى راجياً مني أن أعود إليها عسى أن أغير رأيي فيه، أقول له إن تلك الكتب بما تحمل في أحشائها من جراثيم الفتك بالقيم والتقاليد والضمائر والأخلاق والعادات، هي وحدها سبب حملتي عليه. . . فليرجع هو إليها ليغترف العلم من منابع الانحلال!
أما تلك الفقرات التي نقلها إليَّ من كتاب (تربية سلامه موسى) ليستدر بها عطفي على رجل (خدم الأدب والفكر قرابة أربعين سنة كي ينير ويعلم ويسمو بالشباب إلى مثليات القرن العشرين ويخرجهم من ظلمات القرون الماضية ويكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد) إلى آخر هذا الكلام المضحك الذي ورد في ذلك الكتاب، أقول إن تلك الفقرات جديرة بالتصديق من نزلاء مستشفى المجاذيب!!(833/39)
ليصدقني قراء (الرسالة) إذا قلت لهم إنكم لم تجدوا تلميذاً لهذا الرجل إلا وهو واحد من هذه التشكيلة العجيبة:
متعلم فاشل، وماجن مستهتر، وفتاة عابثة، ومشاغب يبيع الشغب لمن يشتريه، ومسخ مشوه منبوذ من الحياة. . .
مع أخلص التحية للأستاذ عباس محمود العقاد!!
بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية:
هذه قصة ذات مغزى ودلالة، وقعت حوادثها في أرض الديمقراطية الحق لا أرض الديمقراطية المزيفة. . . هناك حيث يتفيأ الناس ظلال الحرية ويستروحون أنسامها الوديعة! ولقد حدثتك في العدد الماضي من (الرسالة) عن أرض الديمقراطية المزيفة، تلك التي يلقي فيها (رالف بانش) ما كان يلقاه العبيد في أحلك عصر من عصور التاريخ. . . من حق هذه الأرض أن نهدي إليها هذه القصة، وإن كنا نخص بالإهداء أرضاً أخرى يعرفها المضللون من أصحاب الأفكار المنحرفة والمبادئ الهدامة!
(حنَّ المستر كليمنت أتلي رئيس وزراء بريطانيا يوماً إلى كليته القديمة فذهب لزيارتها حيث أقيمت له حفلة غذاء. . . وبدأ الطلبة المحافظون عملهم فكتبوا بحروف كبيرة فوق سيارة رئيس الوزراء (ممنوع الوقوف هنا)، ثم داروا حول السيارة وأطلقوا سراح الهواء المحبوس في العجلات ثم ذهبوا من حيث أتوا. وفي تلك اللحظة حضر سائق سيارة رئيس الوزراء وراعه ما أصاب السيارة فجرها إلى أقرب جراج ولم يخرجها منه إلا في اللحظة التي استعد فيها المستر أتلي لمغادرة كليته القديمة! غير أن الطلبة المحافظين أبوا أن ينتهي نشاطهم عند هذا الحد فأسرعوا إلى الغرفة التي توجد فيها قبعة رئيس الوزراء، ولما وجدوا بابها مغلقاً داروا حولها حتى وجدوا نافذة مفتوحة فتعلقوا بها وانتزعوا القبعة بعصا لأحدهم ثم كتبوا على ورقة بخط جميل (أنتخب المحافظين في الانتخابات القادمة)، ثم ثبتوا الورقة ببعض الدبابيس في قبعة المستر كليمنت أتلي. . . كل ذلك وقع ولا علم لرئيس الوزراء به، ولكنه ما كاد يستقل سيارته حتى هرع الطلبة المحافظون إلى نافذة في الطابق الأعلى ورشوا عربة الرئيس بالماء!
وتقبل أتلي كل هذه الأعمال بروح طيبة، واعتبرها مداعبة مألوفة من الطلبة)!!(833/40)
ديمقراطية يؤمن بها الحاكم ويستشعرها المحكوم، ويلتقون جميعا في رحابها كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم وما أروعها من أرض تلك التي تنبت الحرية ليجني ثمارها الأحرار ضع أي رجل من رجال (الكرملين) في مكان كليمنت أتلي، وضع بعض الطلبة من الروس في مكان بعض الطلبة من الإنجليز وتصور ما حدث هنا وقد حدث هناك! إن في مجاهل سيبريا متسعاً للجميع. . . وهذا هو مفرق الطريق بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية!
إلى المضللين من أصحاب الأفكار المنحرفة في مصر نهدي هذه القصة، ونهدي إلى المثقفين منهم - وما أقلهم - كتابين يصوران هذا الجحيم الشيوعي خير تصوير، وإن كان أحدهما قد نقل عن رأي العين بينما نقل الآخر عن رأي الشعور. . . (أثرت الحرية) للكاتب الروسي كرافتشنكو، و (الأيدي القذرة) للكاتب والفيلسوف الفرنسي سارتر!!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
هناك أصدقاء مجهولون يكتبون إلي من حين إلى حين. . . لماذا يؤثرون أن يظلوا مجهولين وهم أصدقاء؟ إنني أود من الكاتب المجهول (س) الذي بعث إليَّ برسالته الكريمة حول قصة (من وراء الأبد) أن يكشف عن شخصيته لأرد على تحيته.
وهذه رسالة أخرى نبيلة الهدف جليلة الغاية من (حلفا - سودان) يقترح علي مرسلها الأديب الفاضل الطيب عبد الله جلال الدين أن أطلب إلى الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد أن يكتب الأول كلمة في (الرسالة) عنوانها (أخي الزيات) وأن يكتب الثاني كلمة أخرى عنوانها (مصطفى صادق الرافعي) ليتحقق الصفاء في الأدب عن طريق الصفاء في النفوس. . . أود أن أقول للأديب الفاضل إن الكلمة التي ينتظرها من الدكتور طه عن الأستاذ الزيات ستلقى قريباً عندما يستقبل مجمع فؤاد الأول للغة العربية صاحب (الرسالة) بمناسبة اختياره عضواً في المجمع؛ أما الكلمة الأخرى فلعل الأستاذ العقاد يكتبها يوماً ما. ومهما يكن من شيء فقد حسم الموت ما بين الرجلين من خلاف. أما الرسالة الثالثة فتحمل إلي من (من الخرطوم - سودان) تقديراً كريماً أرده لصاحبه شكراً خالصاً وهو الأديب الفاضل أحمد عوض محمد الموظف بالبنك الأهلي المصري، وكم أود أن يرجع إلى بعض مؤلفات الأستاذ سلامه موسى ومقالاته ليدرك سر نقمتي على أفكاره المنحرفة، هذه الأفكار(833/41)
التي تهدم كثيراً من القيم الخلقية والإنسانية!
وحين أنتقل إلى الرسالة الرابعة أشعر أن إخواني في الجنوب قد بلغوا الغاية في الوفاء للخلق والعقل. . . كان الأديب الفاضل عبد الله شلبي من (عطبرة - سودان) يقدم الدليل على هذا السمو الخلقي والفكري في ثنايا رسالته. أما الجواب عّما سألني عنه حول شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الفنية فيستطيع أن يستخلصه مما كتبته عنه على صفحات (الرسالة)، لأنني قد تعرضت لهذا الجانب من جوانب شخصيته في الكلمة التي جعلت عنوانها (الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة). وأقول لصاحب الرسالة الخامسة الشاعر الفاضل جعفر عثمان موسى (كوستي - سودان) إنني قد قضيت مع شعره لحظات تذوق ودراسة، وسأوافيه برأيي في رسالة خاصة.
أما الرسالة السادسة فأشكر لمرسلها الشاعر الفاضل محمد العديسي نبيل عاطفته وعاطر ثنائه، وأقول له إن الكلمة التي كتبها صديقي الأستاذ عباس خضر رداًعلى رسالته إليه قد خفف من وقعها وضوح القصد في رسالته إليَّ. . . ولهذا يبادر الأستاذ خضر بشكر الشاعر الأديب مثنياً على هذه الروح المثالية. وهذه هي الرسالة الأخيرة من الأديب الفاضل عبد الرحمن أحمد شادي الطالب بالأزهر، أنها تحمل سؤالاً ينتظر الجواب عن رأي لشوبنهور ورد في كتاب (قصة الفلسفة الحديثة) للأستاذ أحمد أمين بك والدكتور زكي نجيب محمود. . . أرجو أن يتسع وقتي للرد على سؤال الأديب الفاضل في الأيام المقبلة، لأن التعقيب على آراء الفلاسفة يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والعناء!
(مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصفهاني:
إذا قلت عن هذا الكتاب إنه كتاب قيم فلا أعدو الحق والواقع. . . حسب القارئ أن يكون مؤلفه هو أبو الفرج صاحب (الأغاني) وحسب أبي الفرج أن يكون (الأغاني) مشيراً إليه ودليلاً عليه. أما محققه الأستاذ السيد صقر فشاب يظن بوقته على أن ينفق فيما لا فائدة منه ولا خير فيه، كما يفعل كثير من شباب العلم في هذه الأيام. . . وإنما ينفقه في البحث والتنقيب والتحقيق ليقدم إلى قراء العربية من حين إلى آخر ما يقع عليه من نفائس الآثار الفكرية في التراث العربي القديم؛ يقدمها خالصة من الشوائب في حدود ما بين يديه من مصادر تتصل بموضوع تحقيقه من قريب أو من بعيد: أما موضوع الكتاب فتدرك أهميته(833/42)
ونفاسته من عنوانه: مقاتل الطالبين!
في هذا الكتاب ترجم أبو الفرج للشهداء من سلالة أبي طالب، أولئك الذين استشهدوا في سبيل الرأي والعقيدة على أيدي الخصوم من بني أمية أو بني العباس! ترجم لهم في الفترة التي تبدأ من عصر الرسول وتنتهي بنهاية القرن الثالث الهجري، سواء أكان المترجم له قد لقي حتفه بالسيف في ساحة الجهاد، أم لقي حتفه بالسم في ساحة الغدر، أم لقي حتفه بالتعذيب في غيابة السجن، أم لقي حتفه في مكمنه الذي لجأ إليه فراراً من البطش والعدوان!
ولقد رجع الأستاذ السيد صقر في تحقيق هذا الكتاب إلى نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية، كما راجع نصوص الكتاب على الكتب التي نقل منها أبو الفرج أو التي نقلت عنه مثبتاً ما بينها من فروق. . . كما حرص على أن يثبت في أول كل ترجمة كل ما يعرف من مراجع عرضت للمترجم له بأي لون من ألوان الذكر، وعلى أن يصنع للكتاب فهارس مفصلة للرواة والأعلام، والجماعات، والفرق، والأماكن، والأيام، والشعر، والمصادر، والتراجم.
كل هذا يطلعك على مدى الجهد الذي بذله الأستاذ المحقق واستحق عليه كل تقدير وكل ثناء. . . أما الكتاب نفسه فتحفة نادرة من تحف أبي الفرج ينشدها قارئ الأدب وقارئ التاريخ!
أنور المعداوي(833/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أثمان الكتب في وزارة المعارف:
أوضحت في الأسبوع الماضي موضوع اختيار الكتب للقراءة الأدبية في المدارس الثانوية وما أثير حوله في وزارة المعارف، كما أبديت ما عنَّ لي من الملاحظات في شأنه. وأريد أن أعرض اليوم لمسألة أثمان تلك الكتب، وغيرها من الكتب المدرسية المؤلفة وفق المناهج الرسمية.
أما كتب المطالعة الأدبية فقد كانت الوزارة تشتريها من السوق الحرة بأثمانها التي تباع بها الجمهور أو بما ينقص قليلا عن هذه الأثمان، إذ كانت الوزارة تكتب إلى المكتبات ودور النشر، تطلب موافاتها بالثمن الأصلي وبمقدار ما هي مستعدة أن تنقصه من أصل الثمن من أجل الوزارة. .
وفي فبراير الماضي قررت الوزارة أن تثمن الكتب بحسب نفقات طبعها وورقها وحبرها وتغليفها وما إلى ذلك، وتقدر هذه النفقات لجنة خاصة في الوزارة تضم بعض الفنيين في الطباعة والنشر، وبطبيعة الحال تحصى اللجنة عدد الصفحات والسطور والكلمات والحروف لتقدر ما تكلفته المطبعة في إعدادها. ويضاف إلى هذه النفقات ستون في المائة منها، للناشر والمؤلف حسبما يتفقان.
وقد كان يقوم بنفسي إزاء الذي كان متبعاً من قبل، أنه لا يليق بالوزارة أن تطلب من الناشرين وأصحاب الكتب معاملتها معاملة خاصة من حين إنقاص الثمن بنسبة معينة، فهذا أشبه بالمساومة التي يرتفع عنها كثير من الناس، ولم تشتري الحكومة بثمن غير الذي يشتري به الناس؟ وهل هي عندما تشتري السلع الأخرى تطالب بمثل هذا (الخصم)؟
ولكن ذلك شيء يسير، يشغلنا عنه الآن هذا القرار الأخير الذي جب ما قبله، والذي أربى عليه غبنا. ويظهر أن (حرفة الأدب) تدخلت في الموضوع، فبغت - كدأبها - أن ترزئ أهلها: الأدباء. . .
وقل لي بربك هل تشتري الحكومة العلف من تبن وشعير وبرسيم لما تملكه من بهائم، بحسب نفقات الإنتاج، في غير ما يدخل التسعير العام للجمهور؟ فما بالها تتخذ هذه الطريقة(833/44)
في غذاء العقول ومنتجات قرائح أصحابها من الطبقة الممتازة في الآدمية؟
ولم يرتح أصحاب الكتب المقررة إلى تلك الطريقة التي تقرر اتباعها في تثمين كتبهم، ومن أوجه الضرر التي تلحق بهم أن الوزارة حينما تشتري الكتاب بثمن بخس وتأخذ منه عشرة آلاف أو عشرين ألفاً أو ما بين ذلك، ترخصه في السوق، فقد يعود إليها بعد التوزيع على الطلبة بثمن أقل. ويرون أن الأمر غير لائق من الوجهة الأدبية كما هو مجحف من الناحية المادية يقول بعضهم: هل نحن نعتصر أفكارنا لتقدر بسعر ما تكتب به من الحبر؟
وقد حدث أن قدرت اللجنة الجزء الأول من كتاب (الأيام) بسبعة قروش وهو يباع للجمهور بعشرين قرشاً؛ ولما علم الدكتور طه حسين بك مؤلف الكتاب بهذا التقدير، رأى الامتناع عن بيعه للوزارة، فزيد التقدير عدة مرات إلى أن وصل التقدير إلى ثلاثة عشر قرشاً، حتى رضى الدكتور. وهذا مثل يطلعنا على ما عساه أن يكون لذلك القرار من جرائر وما يسود تنفيذه من اعتبارات. .
ومما يوجه إلى طريقة تثمين الكتب بنفقاتها المادية، أنها تسوى بين كتاب وكتاب قد يكونان مختلفين في القيمة الأدبية، وتلك الطريقة لا تكون عادلة إلا في بيع الكتب المتخلفة عن الرواج حينما توزن بالأقات والأرطال. .
ومما يذكر في هذا الصدد، أن الكتب التي تقرر لمكتبات المدارس تطبق في تثمينها الطريقة الأخيرة، فيما يؤخذ منه أكثر من ثلاثمائة نسخة، أما ما دون ذلك فيشتري بأثمان السوق أو بما ينقص عنها قليلا كما تقدم.
أما الكتب المدرسية المؤلفة وفق المناهج الرسمية فلها قصة أخرى: كانت الوزارة تطبع هذه الكتب بالمطبعة الأميرية، وتوزعها على طلبة المدارس الأميرية. وقد جرت على أن تعطي المؤلف مكافأة نحو مائة أو مائتين من الجنيهات، وكثيراً ما يكون للكتاب عدَّة مؤلفين، وقد يكون له عدا المؤلفين مراجعون ولم تكن المكافأة في نظر المؤلفين والمراجعين شيئاً مذكوراً إنما كان ربحهم من طبع الكتب في مطابع أهلية بنفقات أقل من نفقات المطبعة الأميرية وبيعها بالثمن المقدر رسمياً على أساس هذه النفقات، لطلبة المدارس الحرة في مصر، ولبعض وزارات المعارف والمدارس الحرة في الأقطار العربية الشقيقة. وفي فبراير الماضي قررت وزارة المعارف أن توزع الكتب المدرسية على(833/45)
المدارس الحرة كما توزعها على مدارسها.
ورأت دور النشر في هذا القرار ما يهددها في أرحب مجال لعملها وخاصة في هذا الوقت الذي قل فيه الإقبال على الكتب وتعذر إصدارها إلى الخارج. فشكت إلى الوزارة ما ينالها من جرائه وما يؤدي إليه من تعطيل عمالها، وشاركها في ذلك المؤلفون إذا رأوا أن كل كسبهم من تأليفهم ينحصر في المكافأة الضئيلة الهزيلة التي تمنحها الوزارة لهم، وقد قرر بعضهم الامتناع عن التأليف المدرسي مادامت هذه الحال.
ومما لاشك فيه أن امتناع المؤلفين الممتازين عن التأليف وقيام غيرهم به ممن يرضى بالقليل يؤدي إلى ضعف التأليف للمدارس وانحطاط مستواه. وقد تولى وزارة المعارف معالي الأستاذ علي أيوب، وتلك الحال قائمة، وقد تلقى شكايات واستمع إلى وجهات نظر مختلفة. والأمر - في كل ما يتعلق بالكتب مدرسية أو أدبية عامة - بين يدي معاليه قيد البحث والنظر، ولا شك أن روح القاضي التي يعالج بها معاليه أمور وزارة المعارف منذ وليها، يبعث الطمأنينة في نفوس المهتمين بالأمر وذوي الغيرة على الصالح العام.
اليوم خمر:
هي حياة امرئ القيس، وهي تتلخص في هاتين الكلمتين (اليوم) و (خمر) فقد كان يعيش في يومه عيشاً كله خمر، فلم يعبأ بالغد ولم يجدَّ فيما نازعته، إليه نفسه أحياناً من أمر، فهو يلهو بالشرب والصيد ومغازلة الحسان، حتى إذا قتل أبوه وبلغه نعيه وهو عاكف على لهوه لم يثنه ذلك عن شرابه ولعبه وأعلن أن (اليوم خمر وغداً أمر) فإذا نال من قتلة أبيه بعض الشيء أعلن فك الحظر واستأنف يومه وخمره، وأعرض عن غده، وأعياه أمره. وتعرض له فكرة الرحلة إلى القسطنطينية للاستعانة بقيصر على استعادة ملك أبيه، فيحزم أمره على الرحلة عندما يعلم ما في القسطنطينية من خمر معتقة ومن فيها من حسان فاتنات. وهناك يستبدل حانة ميخايلوس بدارة جلجل، وأين عذارى الغدير من لا ريسكا ومينورقا وابنة القيصر؟
تلك هي حياة الأمير الشاعر امرئ القيس بن حجر الكندي كما صورها الأستاذ محمود تيمور بك في مسرحيته الجديدة (اليوم خمر) وقد عنى فيها بتصوير الصراع في نفس امرئ القيس بين حياة اللهو والمرح وبين المجد المؤثل، ويغوص الأستاذ في طوايا هذه(833/46)
النفس ليستخرج حقيقة معدنها، فإذا هي نفس جادة إذا هرلت وهارلة إذا جدت!
والمعجزة الكبرى في هذه المسرحية، هي تطويع الجزالة العربية لأسلوب العصر وصب الفحولة الجاهلية في قالب الرشاقة العصرية، وقد مزجت بعض العبارات الأصلية المأثورة بأسلوب المؤلف فلا تميزها إلا بمعرفتك إياها من قبل، ومع هذا لا يذهب بك بعيداً عن لغة عصرنا هذا برقتها وسهولتها. . وأعتقد أن الأستاذ تيمور بك توخى لذلك أن يستكمل تصوير عصر المسرحية بأسلوب أشبه بلغته، وقد بلغ بذلك ما أراد مع تجنب الإغراب وترك ما ليس مأنوساً في هذا العصر.
وتعرض المسرحية صورة صادقة للحياة العربية البدوية الأولى - كما نتخيلها - وتبرز شيمها وطبائعها التي تنزع نفوسنا إليها باعتبارها أصلاً من أصولنا، ولا نزال نترسمها في مثلنا وحياتنا. وفيها تعبير عن معان وحقائق إنسانية خالدة. وهي تتسم بالجمال، جمال البيان، وجمال التنسيق في عرض الحوادث والمناظر، وجمال الصدق في التعبير عن خلجات النفوس ومفارقات الحياة.
وقد آثرت أن أمسك عما لاحظته في المسرحية مما أظنه مآخذ، إلى أن نلتقي بها في المسرح، ولعل الفرقة المصرية تفتتح بها موسمها القادم على مسرح الأوبرا، وتهيئ لنا بذلك لقاءها هناك.
نجيب الريحاني:
توفى يوم الأربعاء الماضي، الممثل الكبير الأستاذ نجيب الريحاني، وقد بعث نعيه الحزن في كافة الطبقات، فلم يكن فقيد طبقة أو طائفة دون أخرى. إنما هو فقيد أمة، عاش لها وخدمها بفنه ظل حياته على المسرح يضيء لها، وأخيراً احترق.
كان رحمه الله فناناً ساخراً، يسخر من الحياة وممن يعقدون أمورها على أنفسهم وعلى الناس، وطالما حل مشكلاتها بحكمته الضاحكة، وطالما بعث المسرة إلى القلوب بفكاهته الرائقة، وأخيراً أسدل الستار على المأساة إذ فارق الحياة. وقد كان يكشف بحاسته الفنية ما في الحياة من سخف وتفاهة، ولعله بمفارقتها قد بلغ نهاية الفن. . . إذ أشرف روحه على مهازل الأحياء فسخر منهم السخرية الكبرى.
ووفت له الجماهير، إذ احتشدت في تشييع جنازته التي هرع الناس إليها من جميع(833/47)
الطبقات فكانت جموعهم ودموعهم مرثية رائعة مطلعها مندوب جلالة الملك.
كانت صحة الفقيد الكريم قد اعتلت أخيراً، ولكنه ظل يعمل على المسرح لأنه لم ير للعيش طمعاً مع اعتزال الفن والخلود إلى الراحة، ولكن الراحة الكبرى سلبته الاختيار، فخلى مكانه في المسرح، وأسلم الراية مكرها.
كان الريحاني مدرسة في فن التمثيل تهدف إلى الأغراض الإصلاحية، وتؤدي إلى هذه الأغراض بطريقة فكاهية محببة إلى الخاصة والكافة، فكان المجتمع يتلقى عليه ويستفيد منه وهو يستمتع بفنه ويطرب لدعابته.
فما أشد فاجعة المسرح في الريحاني، وما أفدح خسارة الأمة في فنانها العظيم.
عباس خضر(833/48)
البَريدُ الأدَبي
1 - حول شاهد:
أستشهد أحد الكتاب على تأنيث الضبع بقول الشاعر:
فإن (قومك) لم تأكلهم الضبع
وقد أخطأ في استشهاده، وفي روايته، كما أخطأ من قبل في ادعائه التأنيث فقط. فقد جاء في لسان العرب: الضبع السنة الشديدة المهلكة المجدبة، قال عباس ابن مرداس:
أبا خراشة أما (أنت) ذا نفر ... فإن (قومي) لم تأكلهم الضبع
ومثله في شرح القاموس وغيره.
وجاء في مادة (خرش) من اللسان وغيره ما نصه:
أبا خراشة أما (كنت) ذا نفر ... فإن (قومي) لم تأكلهم الضبع
قال ابن بري: البيت لعباس بن مرداس السلمي، وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة، فقال يخاطبه: إن كنت ذا نفر وعدد قليل فإن قومي عدد كثير لم تأكلهم الضبع وهي السنة المجدبة اهـ ومن هذا يظهر لك خطأ الرواية أيضاً.
والعرب يستعملون هذا كثيراً في الشكايات ونحوها، فقد جاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: إن رجلا أتاه فقال قد أكلتنا الضبع يا رسول الله، يعني السنة الشديدة المجدبة، وهي في الأصل الحيوان المعروف، والعرب تكنى به عن سنة الجدب اهـ. وفي النهاية أيضاً ومنه حديث عمر (خشيت أن تأكلهم الضبع).
وفي اللسان: جاء أعرابي إلى رسول الله فقال يا رسول الله أكلتنا الضبع فدعا لهم اهـ.
وفي شرح القاموس: وفي حديث أبي ذر قال رجل يا رسول الله أكلتنا الضبع فدعا لهم، وهو مجاز اهـ. وقوله مجاز أي تجوز في التعبير بالضبع، فإن المعنى الأصلي الحيوان المفترس المعروف، والمعنى المجازي هو العام المجدب، وهو أشد فتكا من الضبع كما ترى في المجاعات ولاسيما في بلاد العرب.
وجاء في خزانة الأدب للبغدادي ج 2 ص 81 ترجمة خفاف ابن ندبة ما نصه: قال حمزة الأصبهاني في أمثاله التي على وزن (افعل) عند قوله (أفسد من الضبع) إنها إذا وقعت في الغنم عاثت ولم تكتف بما يكتفي به الذئب. ومن إفسادها وإسرافها فيه استعارت العرب(833/49)
اسمها للسنة المجدبة فقالوا أكلتنا الضبع. ومما يؤيد هذا أن العرب يقولون أكلتهم السنة إذا أهلكهم الجدب والقحط (شرح القاموس - سنة)
2 - هام ومهم:
لغتان عربيتان صحيحتان ولا فرق بينهما في الاستعمال:
فقد جاء في لسان العرب: همه الأمر هما وأهمه، وقال أبو عبيدة في باب قلة اهتمام الرجل بشأن صاحبه همُّك ما همَّك ويقال: همك ما أهمَّك اهـ
وجاء في القاموس والمعيار: همه الأمر هماً كأهمه اهـ
وجاء في المصباح: أهمني الأمر بالألف وهمني هماً من باب قتل مثله اهـ
وإني أحذر الكتاب من النقود المزيفة في (لغة الجرائد) وغيرها وعليهم أن يرجعوا إلى المعاجم العربية وغيرها من المراجع العربية.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
لفظة في بيت:
في مقال للأستاذ السيد أحمد صقر حول كتاب (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي عقب على البيت التالي:
فهذا ثباتي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
بقوله: (والصواب (فهذا ثنائي) كما في العقد الفريد، وليس للثبات هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام، ويقوم عليه بناء معناه)!
قلت: بل للثبات) هنا معنى يستقيم به نظم الكلام وهو إلى الصواب أقرب مما ورد بالعقد الفريد وذلك لسببين:
الأول: أن الشاعر يقرر حالة هي إلى قدح القادح أقرب منها إلى (ثناء) المادح. وأي (ثناء) ذلك الذي يوجه إلى قوم لا يحفظون الحريم، وينقلبون بين الجيئة والذهاب من حب إلى بغضاء، ومن وفاء إلى عداء؟!
والثاني أن الأستاذ الناقد فهم من (الثبات) أنه الدوام والاستقرار، ومن ثم كتب ما كتب(833/50)
معتمداً على رواية العقد الفريد وهي - كما سبق - رواية لا يزكيها واقع الحال. . . وإنما يقال في مقام التصحيح أن (الثبات) بمعنى الحجة والبرهان.
تقول: لا أحكم بكذا إلا بثبت أو بثبات أي بحجة وبرهان ودليل. فالشاعر إنه يقول عن علم وليس عن جهالة وهو بالفاسقين عليم. . . وحجته معه!
(الزيتون)
عدنان
ثلاثة جاهدوا فصدقوا:
نشرت الرسالة الغراء في العدد 829 مقالاً قيماً للأستاذ محمد سليم الرشدان تحدث فيه عن ثلاثة جاهدوا فصدقوا، في فلسطين، فأجاد وأبدع في وصف بطولة الشهيد المرحوم عبد الرحيم محمود الشاعر المبدع.
لقد كان بطلاً في حياته ومماته، وقد كانت الخسارة فادحة، والرزء عظيم فيه.
وحينما تحدث الأستاذ عن البطلين الآخرين، لم يصاحبه التوفيق، لأن الأستاذ الرشدان من السلط من شرق الأردن، وليس من فلسطين، ومعرفته بجغرافية فلسطين وأهلها محدودة جداً، وهذا ما كان سبب عدم الدقة في حديثه عن هذين البطلين.
فأما البطل الثاني السيد أحمد السبع فهو من أسرة السبع المشهورة بثرائها وأملاكها الواسعة في قلقيلية، فلم يكن في حاجة إلى العمل خارج فلسطين، ولا ينتظر من شاب مثقف مثله أن يترك أملاكه وثروته ويتشرد جائعاً، وقلقيلية لم يتطرق إليها خطر مباشر كما حدث في البلدان الفلسطينية الأخرى. . .
وأما البطل الثالث وهو الأستاذ عبد الله الريماوي، فقد نسبت إليه البطولة لأنه أبى أن ينسحب هارباً من قريته بروقين ليلة كارثة اللد والرملة. والذي يعرف مكان قرية بروقين وبعدها عن اللد والرملة يستغرب كيف خطر للأستاذ الرشدان أن ينسب بطولة لشاب مثقف: يريد أن يفر من مسقط رأسه. وهي تبعد مسافة تزيد على عشر ساعات سيراً على الأقدام داخل الجبال التي يعسر على الإنسان السير فيها عن اللد والرملة.
وللأستاذ الرشدان تحياتي.(833/51)
راتب يحيى الشامي
(الجائزة) أو لماذا أومن بالله:
كتاب في 310 صفحات يدلل على وجود الله في أسلوب سهل شائق كأنك تقرأ في قصة. يتناول كل شبهات الملحدين التي ضلوا بها وأضلوا - فينقضها نقضاً ويدحضها دحضا.
من الموضوعات التي عالجها لإثبات وجود الله تعالى: تهيئة البيئة الصالحة للحياة، إمداد الكائن الحي بجميع معدات الحياة، للإنسان كل ما في الأرض وهو خليفة لله فيها، دليل الضبط والتقدير الكوني. . . الخ.
ومن الشبهات التي دحضها: الصدفة، الطبيعة، القوة والمادة، نظرية النشوء والارتقاء، وهل هي تريب إن صحت. شبهة أعطى فكفر، ضلالات المتدينين وأخطاؤهم في تعليل الأمور - وما يتعلل به الملحدون علينا بسبب ذلك للآن.
إن الملحدين قد دأبوا على تضليل الناس وتشكيكهم في عقائدهم باسم العلم وكتاب كهذا يكشف الأمر على وجهه ويرد الحق إلى نصابه. ثمنه 25 قرشاً(833/52)
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 4 -
24 - ص 38 (وقال آخر:
بلوت النبيذيين في كل بلدة ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظ
إذا أخذونا ثمَّ أغنوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ
مواعيدهم ريح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاظوا
بطان إذا ما الليل ألقى رواقه ... وقد أخذوها فالبطون كظاظ
يراغ إذا ما كان يوم كريهة ... وأسد إذا أكل الثريد فظاظ
وعلق الأستاذ على هذه الكلمة بقوله (في ع: يراعوا)
والصواب (يراعٌ إذا ما كان يوم كريهة) جاء في لسان العرب: (اليراع: القصب، واحدته يراعة. واليراعة، واليراع: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب، أنشد ابن برى لكعب الأمثال:
ولا تك من أخذان كل يراعة ... هواء كسقب البان جوف مكاسره
25 - يقول ابن قتيبة: (وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله، قال المأمون لقوم: يا نطف الخُمار، ونزاع الظؤور، وأشباه الخؤولة).
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (في الأصل ونرالع الصؤور والذي أثبتناه رواية ع)
والصواب: (. . . ونزائع الظؤورة)
26 - ص 38 (وقال مسلم بن قتيبة: إن آل فلان أعلاج أوباش لئام غدر، شرابون ما نقع. ثم هذا يُعد في نفسه نطفة خمار في رحم صناجة)
وقد علق الأستاذ على ذلك بقوله (في الأصل بأنقع، ولعل الصواب ما اخترناه) وقد أخطأ الأستاذ في تغييره العبارة عن أصلها، ولم يفطن إلى أن (شرابون بأنقع) تعبير فصيح، ولم يعرف أنه مثل عربي مشهور. جاء في لسان العرب: (ومن أمثال العرب: إنه لشرَّاب(833/53)
بأنقع، وورد أيضاً في حديث الحجاج: إنكم يا أهل العراق شرابون عليَّ بأنقع. قال ابن الأثير: يضرب للرجل الذي جرَّب الأمور ومارسها، وقيل للذي يعاود الأمور المكروهة، أراد أنهم يجترئون عليه ويتناكرون. وقال ابن سيده: هو مثل يضرب للإنسان إذا كان معتاداً لفعل الخير والشر).
وصواب عبارة مسلم بن قتيبة: (. . . شرابون بأنقع، ثم هذا بَعْدُ في نفسه نطفة خمار. . .).
27 - ص 39 يقول ابن قتيبة: (وربما بلغت جناية الكأس زوال النعمة، وسقوط المرتبة، وتلف النفس. فإن الرجل ربما استخلصه السلطان لمنادمته، وأدخل موضع أنسه فيزين له الكأس غمز الفينة).
والصواب: (فتزين له الكأس) لأن الكأس مؤنثة. ومثل ذلك ما جاء في ص41 (ومن شربة النبيذ الشطار والخلعاء والمجان فحمله الكأس على المجون) والصواب: (تحمله الكأس على المجون).
28 - ص39
(وقد كان عمرو بن هند استخلص طرفة ابن العبد لندامته، فبينا هو يوماً معه يشرب أشرفت أخته عليهما فرأى طرفة ظلها في الجام فقال:
ألا أيها الملك ال (م) ... ذي يبرق شنفاه
ولولا الملك القاعد ... قد الثمنى فاه)
والصواب: (استخلص طرفة بن العبد لِندامه) أي منادمته.
وقد شرح الأستاذ كلمة الشنف بقوله: (الشنف بفتح الشين أعلى القرط)!!!
ولما كنت لا أعرف أن لأجزاء القرظ أسماء خاصة بها فقد سألت صديقي الراوية الأستاذ محمود محمد شاكر عما قاله الأستاذ فقال: (هذا كلام لا معنى له، ولك ما قاله اللغويون أن الشنف هو القرط الذي يلبس في أعلى الأذن، والرعثة: هو الذي يلبس في أسفل الأذن ولعل صاحبك قرأ ما جاء في القاموس واللسان والصحاح من قولهم: الشنف القرط الأعلى، فلم يدرك ما يريدون وصحح لهؤلاء العلماء الأجلاء هذا الخطأ، فجعل للقرط أعلى وأسفل على ما يتوهم، وأبى إلا أن يكون الصواب أعلى القرط).(833/54)
29 - ص 48 (واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام. فإن هذا منسوخ، نسخ يشربه الصلب يوم حجة الوداع).
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (في النهاية لابن الأثير: في حديث أبي عبيده: تمر ذخيرة مصلبة أي صلبة، وتمر المدينة صلب. وقد يقال رطب مصلب بكسر اللام أي يابس شديد)
فيكون معنى كلام ابن قتيبة بناء على شرح الأستاذ (فإن هذا منسوخ، نسخ بشربه التمر)!
ولو رجع الأستاذ إلى صفحة 20 من هذا الكتاب لوجد ابن قتيبة يقول: (وأما النبيذ فاختلفوا في معناه فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا، فإذا اشتدَّ ذلك وصلت فهو خمر). وجاء في صفحة 22 (حدثني أصحاب أنس عنه أنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي يكون في الخوابي) وفي ص 29 (. . . وبأن عمر كان يشرب على طعامه الصلب ويقول: يقطع هذا اللحم في بطوننا).
وبمعنى احترامي للأستاذ محمد كرد على من أن أعقب على شرحه هذا بحرف واحد. . .
30 - ص 48 (وبأن ابن مسعود قال: شهدت التحريم وشهدت التحليل وغبتم، وبأنه كان يشرب الصلب من النبيذ الجر حتى كثرت الروايات عنه. . .)
والصواب: (كان يشرب الصلب من نبيذ الجر. . .)
31 - ص 48 (. . . عن عبد الملك بن أخي القعقاع بن ثور عن ابن عمر أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بقدح فيه شراب فقربه إلى فيه ثم رده، فقال بعض جلسائه: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: ردوه فرده، ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب وقال انظروا هذه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء).
وقد علق الأستاذ على ذلك بقوله: (في قول عمر رضي الله عنه إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاكسروها بالماء قال أبو العباس: يقول: إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر)
أخطأ الأستاذ في فهم النص السابق وحسب أن عمر بن الخطاب هو الذي قال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاكسروها بالماء. ولست أدري كيف أقحم الأستاذ عمر بن الخطاب هنا وليس في النص ما يشير إليه؟ ولعله توهم أن ابن عمر روى ذلك عن أبيه أو لعله يقصد(833/55)
أن ابن عمر هو الذي قال هذه الكلمة.
وسواء علينا أتوهم الأستاذ ذلك أم قصد هذا فإنه مخطئ لا محالة وقاتل هذه العبارة - حسب تلك الرواية هو النبي صلى الله عليه وسلم (. . . فقال بعض جلسائه أحرام هو يا رسول الله؟ فقال ردوه فردوه، ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب وقال: أنظروا هذه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء)
وهذا حديث مكذوب على النبي، وسنده يحمل في أطوائه دليل وضعه (عن عبد الملك ابن أخي القعقاع بن ثور عن ابن عمر أنه قال كنا عند النبي الخ)
جاء في خلاصة تذهيب الكمال ص 208 (عبد الملك بن نافع أو ابن القعقاع عن ابن عمر. قال أبو حاتم لا يكتب حديثه)
على أن في الكلام تحريفاً لم يتبينه الأستاذ وهو (القعقاع بن ثور) والصواب: (القعقاع بن شور) بالشين لا بالثاء، قال ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار 1 - 306، 307 (كان القعقاع بن شور إذا جالسه رجل فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيباً في ماله وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً. وقسم معاوية يوماً آنية فضة ودفع إلى القعقاع حظه منها فآثر به القعقاع أقرب القوم إليه فقال:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس
راجع القاموس وتاج العروس في مادتي (شور وقعقع) ولسان الميزان 4 - 474 والبيان والتبيين 3 - 203 ومحاضرات الأدباء 1 - 230 وثمار القلوب ص 100
والتاريخ الكبير للبخاري 4 - 188 من القسم الأول، وتهذيب التهذيب 6 - 427
32 - ص 47 (. . . عن ابن جرير، عن عطاء أن عمر وقف على السقاية فوضع يده على بطنه فقال: هل من شراب؟ فإني أجد في بطني غمزاً، فأتى بشربة من السقاية فشربها. . .) وعلق الأستاذ على ذلك بقوله (في البغدادية: عن أبي جريح)
والصواب: (عن ابن جريح عن عطاء. . .) وابن جريح كما في المعارف للمؤلف ص 214 وخلاصة تذهيب الكمال ص 225 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الأموي المكي، قال ابن المديني: لم يكن في الأرض أحد أعلم بعطاء من ابن جريح. توفى سنة(833/56)
خمسين ومائة. وكانت وفاة عطاء بن أبي رباح القرشي في سنة 114هـ كما في تهذيب التهذيب أو في سنة 115 كما ذكر ابن قتيبة في المعارف ص 196
(يتبع)
(السيد أحمد صقر)
المدرس في الليسيهس بمصر الجديدة
تصويب:
وقع في الكلمة المنشورة في العدد الماضي تحريف كثير نذكر بعضه مصوباً فيما يلي:
ص 961 س 13 من العمود الأول (والذي حده عمرو في مصر سراً وأعاد عليه عمر بن الخطاب الحد هو عبيد الله ابن عمر بن الخطاب. . .)
س 10 من العمود الثاني (خيضل الكياس)
ص 962 س 25 من العمود الأول (وجبير ابن أيمن)
س 20 من العمود الثاني (بياعه ببطون ما سألوا)
ص 963 س 1 (وهم يقولون)
س 2 (على هذا لبأس شديد)(833/57)
العدد 834 - بتاريخ: 27 - 06 - 1949(/)
9 - أمم حائرة
المرأة والانتخاب
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
ثار جدال واشتد نزاع على اشتراك المرأة في الانتخاب. وحسبي في هذا المقال أن أصور للقراء جدالا في مجلس ضم جماعة من أولي العلم تختلف آراؤهم في هذا الشأن.
تحدث حاضرو المجلس في بعض ما نشر في الصحف تأييداً لمطالبة المرأة، أو المطالبة لها بالانتخاب، وإنكاراً لهذه المطالب. فبدأ أحد المتكلمين الجدال إذ قال:
حقٌّ للمرأة كيف يجحد، وكرامةٌ لها كيف تهان، ومشاركة في تدبير أمور الأمة كيف تحرَّم عليها؟ لا أرى لمنكر حجة، ولا لمخالف عذراً).
قال أحد المتحدثين: (وددت أنّا تجنبنا هذا الحديث في هذا المجلس، ولكن صاحبنا لا يجد لمنكر حجة ولا لمخالف عذراً، فحق علينا أن نبيّن حجتنا وعذرنا.
إنا نعوذ بالله من السياسة ومكايدها، وعصبية الأحزاب وطرائقها، وتحيز الصحف وجدالها.
ونعوذ بالله أن تسابق المرأة في هذا المضمار، وأن تَصلى بهذه النار. ونعيذها بالله أن تَشغل نفسها بهذا اللجاج، وأن تزج نفسها في هذا العجاج، ونحذر أن تمتد ضوضاء السياسة إلى سكينة البيت، وخلافُ الأحزاب إلى وفاق الأسرة.
أن من شئون الأمة لشئوناً ينبغي أن تُنزَّه عن الجدال، وتُصان عن النزاع والخصام، ويكتنفها الوفاق والوئام، وتحوطها السكينة والسلام، وأولها شئون الأسرة.
إننا لا نرضى لطلبة العلم أن يعملوا في السياسة فيتفرقوا شيعاً، ونود أن تكون معاهد التعليم للأمة كلها، يجمع طلابها الحق، ويؤلف بينهم العلم، ويوكد أخوتهم التعاون على كل بر، والجهاد لكل خير. وقد خبرنا من عمل السياسة في الطلبة ما خبرنا، وبلونا من شرها ما بلونا.
وإن الأمم تنأى بالجيوش عن معارك السياسة وخصومات الأحزاب، لأنهم للوطن كله، وللأمة جميعها، والوطن واحد والأمة واحدة.(834/1)
ونعوذ بالله من جند يختلف أحزاباً ويتفرق طرائق! إن الجند سياج الوطن المنيع، وحرزه الحريز، ينبغي أن تجتمع قلوبهم وألسنتهم وأيديهم على الذود عن ديارهم، لا تفرقهم الأهواء، ولا تتقسمهم النزعات.
وشئون أخرى للأمة لا تصلح إلا باجتماع الرأي فيها، واتفاق القلوب عليها. وشئون الأسرة أولى هذه الشئون بالتنزه عن التحزب، والتطهر من التعصب.
والمرأة ربة الأسرة، وملكة البيت، تنشر فيهما السلام والسكينة، وتبعد عنهما النزاع والضغينة، فتربِّي أولادها للوطن كله، وتنشِّئ ناشئتها للأمة جميعها. مثِّل لنفسك زوجين اجتمعا على مائدة، وقد تعصب كل منهما لحزبه، وجادل عنه، وذكر حزب الآخر ونال منه، واستمع الأولاد لجدال الأبوين، والجدال طريق الخصام، والخصام رسول العداوة والبغضاء. ثم انظر كيف تكون العاقبة.
هذا جانب واحد من جوانب عمل النساء في السياسة، وآفة واحدة من آفات تعصبهن، ودخول التحزب إلى بيوتهن.
نناشدكم الله والوطن أيها الدعاة أن تدعوا لنا المرأة نسكن إليها من ضوضاء العيش، ونفر إليها من خلاف المذاهب، ونستريح عندها من جدال الأحزاب، ونعلم في جوارها الحب والود، والسلام والبر.
نناشدكم ألا تجعلوا من كل أسرة لجنة حزبية، أو لجاناً متعددة لأحزاب مختلفة، وألا تنقلوا الجدال والخصام، والافتراء والبهتان، إلى المعبد الذي نأوي إليه، ونلتمس الدعة والسكينة والألفة والمحبة فيه.
حسبنا - أيها الإخوان - هذا النزاع الدائم، والدويّ المستمر الذي نلقاه في كل طريق، وكل نَديّ، ونقرؤه في كل صحيفة، ونسمعه في كل مذياع. فنحن منه في شغل بالنهار وهمٍّ بالليل.
دعوا المرأة تتزوَّد من العلوم والآداب والأخلاق، وأبعدوها من هذا المعترك لتكون داعية وفاق ورسول مودة، ولتكون - كما خُلِقتْ - مصدر خير وبر، وألفة وحب.
قال الأول - وقد احتدَّ قليلاً -: (إنكم إذاً تحرمونها المشاركة في أمور الأمة، وتحرمون الأمة تدبير المرأة، وهي - كما تعترفون - مصدر خير وبر وألفة ووفاق، فلماذا تحرمون(834/2)
الأمة من برَّها ووفاقها في بعض شئونها؟)
فأجابه مناظره: (كلا، كلا، بل تشارك خير مشاركة بالتربية والتهذيب، وبالتعليم والإرشاد، وتدّبر أجدى تدبير بالقيام على أخلاق النشء وأفكارهم، وبدعوتهم إلى الحق والخير، وتنشئتهم على العدل والإحسان، وإشراب قلوبهم المودة والمحبة، وتعويدهم العدل والإنصاف.
إنها إذاً تشارك وتدّبر بقلبها الطاهر، وفكرها المبرأ من العصبية، وتهدي الأمة إلى الخير دون تحيز، وترشدها إلى الحق دون تحزب، فتكون داعية ألفة لا فرقة، ومنبع سلام لا خصام. وليس هذا بعيداً من المرأة، إن قبلتم فيها دعوتنا إلى التكريم والتقديس، ورضيتم لها سلطانها في الأسرة، ومكانها من الأمة.
إننا نرضى شركتها في كل أمر ماعدا الخصام والجدال، ونقبل تدبيرها في كل شأن حاشا معارك السياسة ومكايد الأحزاب.
إننا ننزه المرأة - ومكانُها في القلوب مكانُها - أن تباشر الخصام، وتتخلل الزحام، وتسير في مواكب الانتخاب، وضوضاء المظاهرات، وترمي منافسها ويرميها، ويَبهَتها وتبهته.
إنا والله نُشفق عليها أن تسير في المدن والقرى، وتطرق الأبواب ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وإسراراً، وتلقي الكريم واللئيم، والحر والنذل، والغليظ والرقيق، مستجدية التأييد، منفقة من الوعود!
ثم ضحك المجادل وقال مازحاً: (ولسنا نعرض لما وراء هذا من الأقاويل حين يقول السفهاء: هذه المرشحة جميلة، وتلك دميمة، وهذه بسَّامة، وتلك متجهمة، وتلك غليظة في القول، وهذه لينة. . . وهلم جرا.
وإنا والله لنرثى لها حين نتمثلها وقد ابتُلِيت بالنيابة فجاءت الوفود تستنجز الوعود، وطرق الناخبون دارها كل حين، يرفعون الشكايات، ويقتضون الحاجات، ويخرجونها من أسرتها طوعاً أو كرهاً، ويشغلونها عن عيالها، شاءت أم أبت!
إنا وايم الحق لنشفق على الرجال ونرثي لهم حين نراهم في معركة الانتخاب وبعدها، وحين نرى تحكم المُبْطِلين فيهم، وتدلل الطامعين عليهم، حتى لنتمنى أحياناً أن يُعفى الرجال من الانتخاب ومطالبه، والتمثيل ومتاعبه. . وكم عرفنا وبلونا وأشفقنا ورثينا!(834/3)
فاشتد صاحبه في الجدال، واحتد في الحوار، قائلاً: (أيها المدعون المبطلون، والمجادلون الجاهلون، إنكم تعطلون نصف الأمة أو أكثر، وتحرمونه الإبانة عن رأيه، والإعراب عن حجته في المجالس النيابية، والتمثيل لا يصح حتى يمثل كثرة الأمة ويُبين عن آرائها، فكل أمة لا تشارك نساؤها في الانتخاب والنيابة، لا يصح تمثيلها، ولا يجوز في الحق تصرفها. . . هذه حجة دامغة، فكيف تحتالون لدفعها؟)
قال له صاحبه: قلت آنفاً إن على النساء تنشئة الأجيال وتربيتها، فآراؤهن منبثة في نفوس الرجال والنساء، ممثلة فيها، وأقول الآن: إن مدار تمثيل الأمة على أن يكون لكل مذاهبها وآرائها من يتكلم بها ويجادل عنها في مجالس النيابة. التمثيل صحيح ما تحقق هذا الشرط، فإن عمدت أمة إلى تقليل مشاغل الانتخاب بتقليل عدد الناخبين بأية وسيلة دون إجحاف بطائفة بعينها، أو تمييز جماعة على أخرى. كان الناخبون ممثلين لآراء الأمة، وصح التمثيل، ولم يضر هذا التقليل.
هب أنك أخذت دفاتر الانتخاب في بلد فحذفت نصفها بالاقتراع، ألا يكون النصف الباقي ممثلاً أفكار هذه البلد ونزعاته؟ أتقول إن مذهباً أو رأياً فقد أصحابه بهذا الاقتراع، إن انتصر للرأي ستون من مائة، أو ثلاثون من خمسين، أو خمسة عشر من خمسة وعشرين، لم تختلف النتيجة، ولم تتغير النسبة.
وليس النساء طائفة، أو طبقة في الأمة، ولكنهن شريكات في كل أسرة وفي كل جماعة، فإن أعفت أمة نساءها من مشاغل الانتخاب تمكيناً لهن مما هو أولى بهن، وتنزيهاً عن معارك السياسة ومطاعن الانتخاب، لم يخل هذا بتمثيل الأمة، ولم ينقص من كرامة المرأة.
فسخر صاحبه بهذا الرأي وشرع يجادل فيه، فصاح به: لقد ضاق الوقت، لا تجادل، سأدع كل حجة إلا حجة واحدة، وأتجنب كل القضايا إلا قضية فذة، فإن أجبتم عنها، وخلصتم من سلطانها، كان بيننا وبينكم ما شئتم من جدال.
إني أقول لمن يطلب الانتخاب للنساء، أتطلب هذا عن رضاً من النساء أو كره، أتكرههن على الانتخاب، أو تأخذ برأيهن فيه قبولاً ورداً؟
إن فيصل الأمر بيننا وبينكم أن تبدءوا فتعرفوا آراء النساء في قضيتهن هذه، أيُردن الانتخاب أم يأبينه، أيحرصن عليه أم يزهدن فيه؟ فاستفتوا النساء قبل أن تطلبوا لهن،(834/4)
واسألوهن قبل أن تدَّعوا عليهن.
فإن استفتيتم النساء فأعرض أكثرهن عن المشاركة في الانتخاب، وأبين أن يكون لهن هذا العناء، فليس لفضولي أن يتكلم عنهن.
وإن قلتم إن عسيراً أن يعرف رأي النساء في أحوالهن الراهنة، قلنا فكيف إذن تحاولون إشراكهن في الانتخاب؟ إنهن إن عجزن عن الإعراب عن آرائهن في قضيتهن فهن في غيرها أعجز! وإن قلتم إن أحوال النساء تحول الآن دون تعرف آرائهن ولكنها حال تزول، وسيكون لهن من الثقافة ما يعربن به عن أفكارهن من بعد؛ قلنا فانتظروا حتى تحول الأحوال، ثم عودوا إلى الجدال.
إنها لحجة دامغة لا تستطيعون الفرار منها، وبرهان مفحم لا تملكون الجدال فيه!
تعرَّفوا رأي النساء في أمرهن، ولا تفتروا عليهن، ولهن القول الفصل، وعلينا السمع والطاعة.
وأخذت المجادل سَورة الحجة، فوجم وفكر، وانتهز الحاضرون الفرصة، فأنهوا الجدال وانفض المجلس.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(834/5)
صور من الحياة:
قبعة تتزوج
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
آه، يا صاحبي، لقد خرجت من لدن سعادة البك بعد أن سامك الاحتقار والمهانة، وبعد أن سفه رأيك وازدرى عقلك، وبعد أن قذف بك إلى خارج الدار ليحول بينك وبين أن تعبث بكرامة ابنته الشابة، أو أن تلوث شرفها.
خرجت وفي قلبك أسى ولوعة، وفي نفسك هم وضيق. . . فلشدَّ ما آذاك ما رأيت من إباء الفتاة المصرية ومن ترفعها! ولشد ما أزعجك ما لمست من كبرياء الأب المصري ومن صلفه! ولشد ما أفزعك ما أحسست من صلابة الأسرة المصرية ومن تماسكها! وحز في نفسك أن يفلت الطائر الجميل من بين يديك بعد أن ظفرت به، فيطير معه أمل عقدته على جمال الفتاة وعلى جاه الأب وعلى ثراء الأسرة.
وحاولت أن تداري خيبة أملك خلف ستار من الكذب والرياء، فذهبت تحقد على الفتاة المصرية وتتهمها بألوان من النقائض، وتقذفها بفنون من الافتراء، لأنها استعصت على خداعك الوضيع، وتمنعت على أساليبك الثعلبية، وضنت بشرفها أن تعبث به يد، وصانت كبرياءها على أن تنحط إلى أسفل.
وقلت لي - ذات مرة -: (إن الفتاة المصرية إنسانة ضعيفة العقل، خاوية الذهن، واهية الخلق، سقيمة الفكر، تنزعج لكل صوت، وتفزع من كل نأمة، وتضطرب لكل حادثة. يلذ لها - دائماً - أن تعيش على حيد الحياة، بعيدة عن نور المدنية لأنه يعشى بصرها، وفي منأى عن دوافع العيش لأنها تصعق أعصابها.
هذا هو تاريخها - تاريخ العزلة والإهمال - يتدفق في عروقها دماً قذراً تافهاً، وهي لا تستطيع أن تنهض بعمل ولا تصبر على مسئولية. وإن تعلمت أضافت سخفاً إلى سخف فيها، وضمت سفهاً إلى سفه، وجمعت بلاهة إلى بلاهة، فهي تتحدث بلسان العلم حديثاً فيه السخف والسفه والبلاهة جميعاً، وهي. . .)(834/6)
فقلت لك مقاطعاً: (وهي فتاة فيها الشرف والكرامة والانزواء عن الشرور، والنأي عن الدنايا، والفزع عن الفحش. وهي إن تعلمت كانت في الدار صاحبة ورفيقة، وفي الجماعة نبراساً وضياء، وإن تزوجت أصبحت أماً وزوجة ومعلمة).
وقلت لي في ملل وضيق: (إن فيها الرجعية والجمود وانغلاق الذهن وفساد الرأي).
فقلت لك: (وإن فيها بواعث الحياء والخجل والترفع والإباء، ولكنك أنت - يا صاحبي - قد لبست القبعة حيناً، فنفثت فيك من روحها ودمغتك بأسلوبها، فهل كنت تؤمن بما تقول حين اندفعت إلى فلان بك في غير أناة ولا صبر تخطب إليه ابنته وهي فتاة مصرية. . .)
فأرتج عليك، واضطرب ذهنك، وتبلبل عقلك، وخانتك فلسفتك، وأنت فيلسوف كبير.
لا عجب - يا صاحبي - إن كنت قد عصفت بك صاعقة عنيفة يوم أن طردك سعادة البك من داره فتزلزل كيانك وتصدع قلبك، لأن رجلاً مصرياً دَّعك من داره في غير هوادة ولا لين، وامتهنك وأنت فيلسوف عظيم لبس القبعة حيناً من الدهر!
وآدك أن تصبر على ما أصابك من سعادة البك ومن ابنته، فانطلقت تشوه الحقيقة وتمسخ الواقع لتثلب الأسرة المصرية وتحط من قدرها بحديث تافه فيه المغالطة والمكابرة.
وذهبت تلقي أعباء نفسك في نُزل قاهري الموقع أجنبي الصبغة بين يدي سيدة عجوز، ألمانية اللسان يهودية النزعة، ومن حواليها بناتها الثلاث، وإن الواحدة منهن لترف رفيف الزهرة الغضة حين تنفح عطرها الجذاب لتأسر به القلب وتسيطر على الفؤاد.
وسكنت إلى هذا النزل، تعيش بين العجوز وبناتها تمثالاً صامتاً لا ينبض بالحياة ولا يخفق بالإنسانية، فأنت تقضي يومك منطوياً على نفسك في حجرة لا تندفع إلى حديث ولا تنشط إلى سمر، ولا تبسم لمفاكهة، ولا تنزع نفسك إلى رفيق. وضاقت العجوز بأسلوبك في الحياة، فهي تطمع أن تراك طلق الوجه واليدين واللسان تنغمر في حياة الأسرة تأخذ منها وتعطي. . . ضاقت بك العجوز وهي ذات مكر وخداع، وهي ذات حيلة ودهاء، لا يعجزها أن تتوسل إلى غايتها بأساليب شيطانية، ولا يقعدها أن تبلغ الهدف بأفانين أرضية. وانصرفت أنت إلى خلوتك وشغلت بخواطرك، ولكن العجوز اليهودية لم تنصرف عنك، فراحت تسعى إليك، وتنفث فيك سمومها، وتنقض عليك - بين الحين والحين - تريد أن تنزعك من خلوتك، وأن تزعجك عن وحدتك، وأن تكشف عن سرك، وإن لنفثاتها لسحراً،(834/7)
وإن لحديثها لطلاوة، وبين يديها فتياتها الثلاث وإن فيهن الدلال والجمال وفيهن السحر والجاذبية. وأخذت العجوز اليهودية تتلو رقى السحر حواليك وتتقرب إليك ثم تنشر عليك شباك التمويه والمداهنة لا تهن عزيمتها ولا تفتر قوتها. واستطاعت - بعد لأي - أن تجذبك إلى المائدة الخضراء لتسرق مالك؛ واستطاعت - بعد جهد - أن تسقيك الكأس الأولى لتسرق عقلك. وهكذا خطوت أول خطوة في سبيل الانهيار العقلي والانهيار الاجتماعي، ولكن عقلك المغلق لم يتوضح الطريق فما شعرت بقدمك وهي تنزلق إلى الهاوية. لقد غطى على عينيك ستار من لذاذات كنت تحسها وأنت تطوي لياليك بين فتيات النزل تصغي إلى حديثهن وتنتشى بخمرهن وتشاركهن اللعب والمزاح والعبث، تتودد إليهن وهن يتملقنك فبدأت تهوى إلى أسفل وهن من ورائك يدفعنك إلى الهاوية والأم العجوز - من ورائهن - توسوس بأمر وتسعى إلى غاية. وراقتك الحياة الجديدة وفتنك زخرفها فاندفعت لا تجد رادعاً من دين ولا وازعاً من خلق على رغم أنك تخسر مالك وتقتل وقتك. لقد أسرك القمار والخمر وخلبك الجمال والإغراء فما عدت ترى أنك أنت
ألآن - يا صاحبي - رضيت بأن تصبح سجيناً في قفص من ذهب، وأغلق باب القفص من دونك حين تزوجت من أصغر فتيات المنزل، وهي فتاة عابثة لعوب ريقة الشباب غضة الإهاب، ذات دل آسر وجمال خلاب، وتراءى لك أن الفتاة قد مسحت بيدها الرقيقة البضة على أحزانك، وآست بحديثها الجذاب جراحك العميقة، وبدا لك أنك أمسيت روح هذه الدار وريحانها، وأنك أصبحت فتاها المرموق وسيدها المدلل فاطمأنت نفسك وهدأت نوازعك. ثم أردت أن تحول بين المنزل وبين زواره من كل جنس - وهم كثر - فما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وأوحت إليك زوجك الأجنبية بأن تتخذا داراً غير هذه تكون عش الغرام ومنزل السعادة ومهبط الأمان، فانطلقتما معاً تهيئان داراً صغيرة فيها البساطة والأناقة وفيها النظام والترتيب وفيها الهدوء والاستقرار. ثم دفعتك الفتاة إلى السينما وإلى المسرح وإلى الندىّ، ورافقتك إلى الملهى وصحبتك إلى المرقص، وأنست بصحابك تأخذ منهم وتعطي، وأقبلت أنت على رفاقها في بشر وإيناس
وهكذا - يا صاحبي - وجدت في زوجك الأجنبية ما افتقدته في زوجك المصرية، وحدثتك نفسك قائلة: (لا ضير فهذه الفتاة تستطيع أن تمهد لك السبيل الوعر وتفتح أمامك الباب(834/8)
الموصد، ثم تدفعك إلى الهدف في سهولة ويسر، وأنت من ورائها تندفع حتى تبلغ) أما هي فكانت تجلس إلى أمها العجوز بين الحين والحين وتستمع إلى حديثها بين الفينة والفينة، وإن العجوز لتعرض إليها بأمر وتغريها برأي وهي من ورائها تندفع. ووجدت الفتاة في رفاقك لذة صرفتها عنها، ولمست فيهم متعة شغلتها عن الدار
وعشت حيناً مع زوجك الأجنبية. وهي ألمانية اللسان يهودية النزعة شيطانية المشرب لا تجد غضاضة في ما تفعل ولا تحس أذى في ما تذر. ولكن دمك الشرقي ما تلبث أن ثار وهدر؛ وإن للشرقي لكرامة يعز عليه أن تنهار، وإن له لشرفاً يضن به عن أن يمتهن، وإنه ليبذل روحه ودمه دون أن يخدش. فأنت حين تغاضيت عن مثالب زوجك كنت قد نزلت عن شرقيتك وانصرفت عن مصريتك لتعيش زماناً في جو القبعة وترتدغ في مبادئها، ولكن دمك الشرقي ما تلبث أن ثار وهدر فعزمت على شيء. وأني لك ما تريد وإن زوجك - ومن ورائها أمها - لذات حيلة ودهاء، فهي تترضاك حيناً وتتوسل برؤسائك حيناً، حتى إذا ضاقت بجهلك وعجزت عن ترويضك راحت تتهددك بأن تفصلك عن عملك إن وسوست لك نفسك أن تنالها بأذى، وإنها لقادرة على أن تفعل.
وجاءك - ذات يوم - رجل من بني جلدتها ذو جاه ومكانة يحذرك غب طيشك بقوله: (حذار أن تحدثك حماقتك فتطلق زوجك، وإذن لا تلبث إلا قليلا حتى تطلقك الوظيفة ثم لا تجد بعدها ملجأ ولا ملاذاً إلا الشارع) وصمت لسانك حين شعرت بأن غلاً ثقيلاً يشد على عنقك فلا تستطيع أن تفلت منه، وحين خشيت أن تصبح صعلوكاً تتقاذفك مضلات الحياة وتصفعك متاهات الحاجة، فألقيت السلم وكبتَّ في نفسك نوازع ونوازع لتكون في الدار حمَلاً وديعاً تتلقى الأمر من زوجك الأجنبية الفاجرة فلا تجد مصرفاً عن الطاعة، ولتكون خارج الدار ثوراً هائجاً تفرغ هم نفسك في موظف صغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وتنفس عن غرائزك المكفوفة في خادم عاجز لا يملك أن يتقي شرك
ليتك، يا صاحبي، تعلمت من فلسفتك أن صلات الأسرة تزداد قوة ومتانة حين توثقها روابط الوطن والدين واللغة، فهي تلم شعتها وتجمع ما تبعثر منها وتبذر فيها غرس الألفة والحنان وتنفث روح العطف والمحبة! ليتك يا صاحبي، ليتك. . .!
كامل محمود حبيب(834/9)
مثل من فهم الشعر القديم
في بحث أدبي جامعي
للأستاذ أبو حيان
قرأت هذه الأبيات التي أوردها بعد قليل، في كتاب من هذه الكتب الجامعية التي يتعرف بها الناس، عادة، ألوان النشاط العلمي في الجامعة. وقد زعموا أن هذا الكتاب من خير ما يمثل الجامعة في سنواتها الأخيرة، إذ لم يجل على الناس إلا بعد أن أقرته الجامعة وأجازت صاحبه، ورأته جديراً بأن يحمل أرفع ألقابها، وهو كتاب (الهجاء والهجاءون، تأليف الدكتور م. محمد حسين، مدرس بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول) كما يتألق به صدره.
أما هذه الأبيات فهي أبيات الخطيل بن أوس، أخى الحطيئة وقد قالها في حركة الردة وها هي ذي، كما أوردها صاحب ذلك الكتاب، نقلاً عن الطبري، وكما ضبطها هذا الضبط الذي رآه:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي ... عشية يحدي بالرماح أبو بكر
ولكن يُدَهْدَى بالرماح فهبنه ... إلى قدر ما إن تقيم ولا تسرى
ولله أجناد تذاق مهانة ... لتحسب فيما عد من عجب الدهر
ثم يعلق على البيت الثاني، شارحاً له، بقوله:
(دهديت الحجر فتدهدى دحرجته. هبنه كذلك هي بالنص (يريد: بالمصدر المنقول عنه)، لعلها من أهاب بالإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب، فيكون المقصود أن هؤلاء الرجال يزجرون أبا بكر وجيوشه، ويدفعونهم إلى قدرهم وحينهم)
أما البيت الأول فلا إشكال فيه عنده، فلا حاجة به إلى التعليق عليه بشرح أو تفسير أو تحرير. وإن كنت أنا لم أفهم - ومعذرة لامرئ بعيد عن منهج المدرسة الحديثة - كيف يحدى أبو بكر بالرماح، فالحادي يحدو الإبل بغنائه، فتنساق خلفه وتطرد وراء حدائه، فكيف يمكن أن تكون الصورة حين يضع الرماح في موضع الحداء؟
يستطيع كل امرئ - ولو لم يكن من الأساتذة الكبار - أن يتكلف ويتمحل في الفهم والتخريج، ويلتمس المذاهب المختلفة في ذلك، وإن لم يمكن أن تستقيم مع ذوق أدبي سليم، أو منهج علمي سديد، ولكن هذه التمحلات لا غناء فيها، ولا جدوى لها، في أداء الصورة(834/11)
الشعرية الجديرة بذلك الشاعر. والأمر بعد أيسر من هذا العناء، فالدال في يحدى إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها، فتكون العبارة: (عشية يحذى بالرماح أبو بكر) بمعنى يطعن ويمزق جسده، كما هو الأصل في معنى حذا وأخواتها، كحذ وحذق وخذف وحذم.
هذا هو البيت الأول، ولا بأس على الأستاذ أن يتجاوزه، كما تجاوز - فيما يبدو - كثيراً غيره، إذ ليس بصدد التحقيق والتدقيق والتنقيب والتعقيب، وإذا كان أمر الدرس الأدبي قد صار - فيما يبدو أيضاً - أمر دراسة خاطفة عابرة، يعنيها أول ما يعنيها أن تخطف الأبصار - فيما يخيل إليها - ببعض الظواهر البراقة الباهرة، وأن تصل إلى أهدافها المرموقة. . . بما تستطيع أن تصطنعه من حركات بارعة ماهرة.
ولكنا لا نغمط الأستاذ حقه، فبقدر ما تجاوز البيت الأول مسرعاً عجلاً، وقف عند البيت الثاني مستأنياً محققاً متأملاً، كما رأينا في التعليق الذي نقلناه عنه منذ قليل. ففسر كلمة (يد هدى) كما لقنته المعاجم، وجزاه الله عن الباحثين خيراً! ولكن هذه المعاجم التي أسعفته في موقفه من هذا البيت، في هذه الكلمة، فقدمت إليه تفسيرها، فأسرع إليه يدونه كما هو، أميناً عليه، فرحاً به، جعلت تراوغه وتعابثة وتمكر به في الكلمة التالية، فخيلت إليه أنها تسطيع أن تمده فيها بما يثبت أستاذيته، ويظهر ألمعيته، ويحقق دكتوريته، فتشبث بها، وتعلق بذراعها:
(ولكن يد هدى بالرجال فهبنه)، فهبنه؟ ما عسى أن يكون معنى هذه الكلمة؟ أجيبي أيتها المعاجم العزيزة كما أجبتني من قبل. ولكن المعاجم لم تجبه في الأولى إلا لتزلقه وتعيث به وتسخر منه في الثانية. فها هي ذي تأخذ بيده المتشبثة بها. وتجره معها، وتجول به بين هذا الموضع وذاك من مواضع الهاء والباء، ثم تقف به أخيرا ً - وقد بلغ منه الكلال والعناء حتى كاد يسَّاقط من الوهن والأعياء - عند كلمة (أهاب)، وتقول له، وهي تبسم بسمة ساخرة ماكرة: انظر ها هنا ضالتك! أجل ها هنا أخيراً ضالته، وما يكاد يصدق أنه واجدها، ولكنه يسارع فيصطنع هيئة العلماء المتزمتين، ويتخذ سمت الأساتذة المحققين، ثم يتناول قلمه، فيكتب: (لعلها من أهاب بالإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب)، ثم يتنفس الصعداء بعد هذه الرحلة المضنية الموفقة! مستريحاً إلى هذه الجملة البارعة الرائعة!
ويا لله لهذه الشرارة التي سطعت له من بين صفحات المعاجم، فأضاءت له أرجاء ذلك(834/12)
البيت وجعلته يتبين فيه سبيله على ذلك الوجه!. وكذلك أحس الأستاذ من أعماق قلبه بالولاء البالغ لهذه المعاجم، فهو مخلص لها، منصرف إليها، مغمض عينيه بين يديها، متفان في الخضوع لما تشير به، وإن لم يتبين وجهه، غير عابئ بما يمكن أن يعارضها فيما يلقفه منها. وكذلك ضرب صفحاً عن قوانين النحو والصرف، وأعرض، ونأى بجانبه عما تحتمه هذه القوانين، إذا كان فيها ما يعترض سبيل الفهم الذي فهمه عن المعاجم، أيا كان هذا الفهم، أو يخالف ما حسب أن المعاجم تدلى إليه به.
وإذن فلا عليه أن تكون هذه الكلمة (هبنه) معدولة عما ينبغي أن تكون عليه، باعتبارها من (أهاب)، ولا عليه أن تكون بدلاً من (أهابوا به) مؤدية ما تؤديه هذه، وأنف القوانين اللغوية الأولية المجمع عليها راغم، ما دام لابد من هذا فيما تأدى إليه. ومنذ الذي أجاز للغة أن تستعصي عليه، أو تنفر من بيد يديه؟! وأي شيء هذه القوانين التي تجعل اللغة شيئاً جامداً متماسكاً لا يساير الأفهام، ولا يطوع لأستاذيته، أو لما تريده منه، وما لا تستطيع أن تفهمه إلا به.
وهكذا يكون معنى البيت، بعد هذا كله: (أن هؤلاء الرجال يزجرون أبا بكر وجيوشه، ويدفعونهم إلى قدرهم وحينهم)، ويا له من معنى!
من هم (هؤلاء الرجال)؟ أهم رجال أبي بكر (يزجرون أبا بكر وجيوشه) أي يزجرون أنفسهم؟ أم هم بنو ذبيان الثائرون على أبي بكر، والذين يفديهم الشاعر برحله وناقته، ثم يجعلهم يتدحرجون كما تتدحرج الحجارة؟ أم ماذا؟ ما أحوج هذا الشرح، بعد كل ما سبق، إلى ما يشرحه، ويزيل ما يبدو صارخاً من تهافته.
لا لا! ما هكذا ينبغي أن يتناول الشعر. وماذا يبقى لـ (بطن الشاعر) إن كان لابد للشعر أن يكون ظاهراً واضحاً مكشوف المعنى مستقيم الوضع؟ وأين إذن فضل الغموض وأثره الوجداني والهزة التي يبعثها في حنايا النفس؟ ولكنها المدرسة القديمة، قاتلها الله! لا تزال تلجأ إلى قواعد النحو والصرف، ثم إلى قوانين المنطق والعرف، دون أن تعني بالمذهب الجديد في الشعر وأساليب قراءته وإدراكه.
وبعد، فما أدري ما القديم والجديد في فهم الشعر وتذوقه ونقده، ولكني أرى الأمر في هذا البيت أيسر من هذا التخبط والتسكع وتحدي قواعد النحو والصرف والعقل والمنطق والفن(834/13)
أيضاً. فليس هناك أكثر من أن نتعلم كيف نقرأ قراءة صحيحة دقيقة، ولا نكون كهؤلاء الصحفيين والمصحفين الذين يتندرون بأخبارهم، والذين يحكون عن أحدهم أنه نظر في المصحف قوله تعالى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة)، فقرأه: اذئباً يعونك تحت الشجرة. وأمضى ليلة يكد نفسه في التماس التخريجات المختلفة من هنا وهنا تحقيقاً لأستاذيته!
فالأمر في هذا البيت شبيه بالأمر في البيت الأول. تصحيف يسير قريب، ولكنه أدى إلى ذلك الخلط العجيب. فليست كلمة (فهبنه) المؤلفة من فاء عطف لا يدري ماذا تعطفه وماذا تعطف عليه، وفعل لا يعرف من أي أصل هو، ونون نسوة لا موضع لها، وضمير غيبه لا مرجع له. ليست هذه الكلمة أو الجملة إلا تصحيفاً قريباً لكلمة واحدة، هي كلمة (مهينة) من الهوان وبذلك يكون البيت:
ولكن بدهدى بالرجال مهينة ... إلى قدر، ما إن تقيم ولا تسرى
وبدهدى بصيغة المبني للفاعل لا المبني للمفعول، والفاعل هو أبو بكر، وبذلك يستقيم البيت ويطرد المعنى، دون تحد للنحو أو معاندة للصرف أو معارضة للمنطق.
وأما بعد فهذا مثل من فهم الشعر القديم في كتاب (الهجاء والهجاءون)، ولم أقرأ الكتاب جملة بعد، ولكنني أحسست عند هذا الوضع الذي عرضته بالحسرة تلذع قلبي وتفزعني أشد الفزع، أن يكون مثل هذا من صور الدرس الجامعي في هذه السنوات الأخيرة. والمشتكي إلى الله.
(أبو حيان)(834/14)
من رجال البلاغة في عصر الحروب الصليبية:
ابن الأثير
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أخوة ثلاثة، بلغوا حظاً كبيراً من المجد العلمي، والمنزلة الرفيعة في الحياة، وخلود الذكر بعد الموت. أما أكبرهم فمجد الدين المبارك (544 - 606هـ) الذي كرس حياته لدراسة القرآن والحديث والنحو، له فيها مؤلفات، لا يزال بعضها باقياً إلى اليوم. وأوسطهم عز الدين علي (555 - 630هـ) المبرز في التاريخ، والمصنف فيه عدة مصنفات، أهمها الكامل الذي يعد مرجعاً من أشهر المراجع وأصغرهم ضياء الدين نصر الله، الأديب الوزير، وهو الذي يردي الحديث عنه، ومع اختلاف مناحبهم في الثقافة شغفوا جميعاً بالأدب وألفوا فيه. وتحتفظ دار الكتب برسائل المبارك الأدبية، وبكتاب الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور لعز الدين. أما أصغرهم فكان أوفاهم حظاً من الأدب وبلوغ أسمى المناصب، وإن قصرت به سياسته عن أن يحتفظ بما ناله من سلطان وجاه.
ولد نصر الله في يوم الخميس العشرين من شعبان سنة 558هـ (1163) بجزيرة ابن عمر، وهي بلدة على دجلة في شمال الموصل وبالقرب منها. وإذا كان التاريخ لم يتحدث عن والده محمد بن محمد بن عبد الكريم فأغلب الظن أنه كان ميسور الحال يسراً هيأ لأولاده أن يغترفوا من الثقافة وأن يتفرغوا لها.
وانتقل نصر الدين مع والده إلى الموصل حيث تثقف بها، فحفظ كتاب الله وكثيراً من الأحاديث النبوية، وأخذ بحظ صالح من النحو واللغة، أما علم البيان فقد خصص له أكثر وقته، ووقف عليه معظم جهوده، قرأ فيه الكتب النظرية، وأقبل على دواوين الشعراء بحفظ منها ما يشاء، فدرس ما ألف في البلاغة، وعرف ما انتهى إليه العلماء فيها؛ ومن أهم ما قرأه منها:
كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، والتذكرة لابن حمدون البغدادي، وكتاب أبي العلاء محمد بن غانم، والأقصى القريب للتنوخي، وكان معجباً بكتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي، وكتاب سر الفصاحة لابن سنان الخفاجيء، (غير أن كتاب الموازنة أجمع أصولاً، وأجدى محصولاً)، كما قال في المثل السائر. أما علمه بالشعر، وحفظه له، فقد قال عنه في(834/15)
كتابه: (ولما نصبت نفسي للخوض في علم البيان، ورمت أن أكون معدوداً من علمائه، علمت أن هذه الدرجة لا تنال إلا بنقل ما في الكتب إلى الصدور، والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور. . .
ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وأنفذت شطراً من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحراً لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله، فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده، وتتشعب مقاصده، ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم، في اتباع من قصره نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل، وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس، وأبي عبادة الوليد، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته. وقد حوت أشعارهم غرابة لمحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين لأمثال السائرة وحكمة الحكماء).
وأخذ ابن الأثير كذلك بحظ من الحساب، والجبر، والمقابلة، والهندسة ولست أدري إن كان قد عرف لغة غير العربية، مما هيأ له أن يحكم على الالتفات بأنه خاص باللغة العربية دون غيرها من اللغات؛ وأرجح أنه كان يعرف الفارسية والتركية، كما يدل على ذلك حديثه عنهما في كتابه؛ وكان ابن الأثير متعصباً للغة العربية، مؤمناً بأنها سيدة اللغات، لما أوتيت من خصائص في تركيب كلماتها، وما منحته من سعة ودقة جمال.
أما موقفه من الفلسفة فموقف المبغض المزدري، يرى في دارسيها من أمثال ابن سينا والفارابي رجالاً مغرورين أضلهم أرسطو وأفلاطون.
ولما استكمل ابن الأثير ثقافته، مضى يريد الاتصال بصلاح الدين، فأوصله القاضي الفاضل إليه في جمادي الآخرة سنة 587 وقرر له صلاح الدين مرتباً، ولكنه لم يلبث في معية صلاح الدين بضعة أشهر، حتى طلبه الملك الأفضل نور الدين من والده، فخيره صلاح الدين بين الإقامة في خدمته، والانتقال إلى ولده، فاختار ولده، ومضى إليه في شوال من تلك السنة. ولعل الباعث له على هذا الاختيار رغبته في أن يكون بمكان يستطيع أن يظفر فيه بسامي المناصب وقوى النفوذ، ولن يكون ذلك مع صلاح الدين ووزيره القاضي(834/16)
الفاضل. وحقق ابن الأثير أمنيته عند الملك الأفضل، فقد استوزره، ونعم بما كان يبغيه من السلطان. فلما مات صلاح الدين، وصارت دمشق إلى الأفضل انفراد ضياء الدين بتدبير شئون الملك، وتصريف أمور الرعية، وأصبح مرجع الحل والعقد. ويجمع المؤرخون على فساد سياسته الخارجية والداخلية فقد توترت العلاقات بين الأفضل وملوك أسرته، بسوء تدبير وزيره، ونفرت الرعية من حكمه، وكان له بلا ريب أكبر الأثر في المصير المحزن الذي انتهى إليه مليكه بعزله عن الملك. وكثيراً ما أشار العادل على ابن أخيه أن يقبله فلم يكن يفعل؛ وهجاه الشهاب فتيان الشاغوري فقال:
متى أرى وزيركم ... وماله من وزر
يقلعه الله فذا ... أوان قلع الجزر (ي)
وبلغ من سخط الشعب أن الناس هموا بقتله عندما نزل الأفضل عن عرش دمشق، فأخرجه الحاجب مستخفياً في صندوق مقفل عليه، ولكن ذلك كله لم ينزع ثقة مليكه فيه، فصحبه أنى ذهب وحضر إلى مصر في معيته، عندما جاء الأفضل وصياً على العرش لابن أخيه العزيز. وظل ابن الأثير في خدمة الأفضل حتى أواخر سنة 607 بعد نحو عشرين عاماً قضاها في صحبته، ثم تنقل بين حلب عند الظاهر غازي، والموصل، وإريل، وسنجار، ولكن لم يطلب له المقام في واحد منها، فعاد إلى الموصل، واتخذها دار إقامة، وكتب الإنشاء لصاحبها: ناصر الدين محمود بن عز الدين مسعود، وكان ذلك سنة 618، وبقى بالموصل زهاء عشرين عاماً أخرى. وفي رحلة له إلى بغداد، يحمل رسالة من صاحب الموصل توفى بها في إحدى الجماديين سنة 637 (1239م)، ودفن هناك.
كان أظهر صفات ابن الأثير إعجابه بنفسه، وإيمانه بمواهبه، تلمس ذلك في كل خطوة تخطوها في كتبه، فتراه حيناً يعرض عليك نماذج من رسائله، معجباً بها، منوهاً بقدرها، مبيناً ما استطاع أن يصل إليه فيها من معان جديدة، وأفكار مبتكرة، وحيناً يوازن بين كلامه وكلام غيرهن ليقنعك بجودة ما خطته براعته؛ وفي نظريات البلاغة كثيراً ما تراه يقدم إليك آراء يعدها من مبتكراته، أو يأخذ بيدك لتلمس ما زاده هو على آراء من سبقه.
وإنا نقر لابن الأثير كان من مجتهدي هذا الفن، وأن أكثر كتابه كان ناشئاً عن تجارب لصاحبه، وعن تقليبه النظر في ألوان الكلام ليستخلص منه وجوه حسنه، وإن كنا نعرف(834/17)
أنه يغالي أحياناً في ادعاء الاختراع لمعاني رسائله؛ قال ابن خلكان (ومن رسائل ضياء الدين ما كتبه عن مخدومه إلى الديوان العزيز من جملة رسالة وهي: ودولته هي الضاحكة وإن كان نسبها إلى العباس، فهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس، ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم، وأنها لا تزال محبوبة من أبكار السعادة بالحب الذي لا يسلي، والوصل الذي لا يصوم. وهذا معنى اخترعه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لا تخطه الأقلام في صحفها، ولا أَجالته الخواطر في أفكارها.
أقول: لعمري، ما أنصف ضياء الدين في دعواه الاختراع لهذا المعنى، وقد سبقه إليه ان التعاويذي في قصيدته السينية التي مدح بها الإمام الناصر لدين الله أبا العباس أحمد، أول يوم جلس في دست الخلافة ومنها:
ورأى الغانيات شيبى فأعرضن، وقلن: السواد خير لباس كيف لا يفضل السواد، وقد أضحى شعاراً على بني العباس ولا شك أن ضياء الدين زاد على هذا المعنى، لكن ابن التعاويذي هو الذي فتح الباب، وأوضح السبيل، فسهل على ضياء الدين سلوكه.
وتنوعت أغراض الرسائل التي كتبها ضياء الدين بين سلطانية وأخوية، وهي رسائل دسمة، فيها كثير من معاني ما حفظه من قرآن وحديث وشعر، وكثير من الأمثال والإشارات التاريخية، فقد كان ابن الأثير مثقفاً ثقافة أدبية قوية، والتزم في رسائله السجع؛ لأنه كان يراه أعلى درجات الكلام، ولا يرى وجهاً لمن يذمه سوى عجزه عن أن يأتي به؛ وإلا فلو كان مذموماً ما ورد في القرآن الكريم، ويعلل وجهة نظره في استحسان السجع بأنه اعتدال في مقاطع الكلام، والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء، والنفس تميل إليه بالطبع.
وجمعت رسائله في ديوان بلغ عدة مجلدات، يبلغ المختار منها مجلداً واحداً، ولكني لم أعثر على هذا الديوان، بل رأيت نماذج له كثيرة في كتابيه المثل السائر، والوشى المرقوم.
وبلغت ثقته بنفسه في إنشاء الرسائل، والعلم بقوانين البلاغة حداً كبيراً؛ فكان يعارض شيخ الإنشاء في عصره: القاضي الفاضل؛ يكتب في أغراض كتبه، وحيناً يعرض له من المعاني ما يراه قد نقص عبد الرحيم؛ فمن ذلك أنه قد عرض عليه كتاب له، أرسله إلى بغداد على لسان صلاح الدين سنة 571، وضمنه ما أبلاه في خدمة الدولة: من فتح مصر،(834/18)
ومحو الدولة العلوية، وإقامة الدعوة العباسية، وشرح فيها ما قاساه في الفتح من الأهوال، فلما تأمله ضياء الدين، وجده كتاباً حسناً، قد وفي فيه الموضوع حقه، إلا أنه أخل بشيء واحد، وهو أن مصر لم تفتح إلا بعد أن قصدت من الشام ثلاث مرات، وكان الفتح في المرة الثالثة، وهذا له نظير في فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه قصدها عام الحديبية، ثم سار إليها في عمرة الفضاء، ثم سار إليها عام الفتح ففتحها، فلما عارض ضياء الدين رسالة القاضي الفاضل، أشار فيما أشار إلى الشبه بين فتح مصر وفتح مكة، وقال بعد أن أورد هذه الرسالة التي أنشأها: وعجبت من عبد الرحيم بن علي البيساني مع تقدمه في فن الكتابة، كيف فاته أن يأتي به في الكتاب الذي كتبه. وانتقد القاضي الفاضل مرة أخرى وإن لم يصرح باسمه عندما رآه يشبه حصناً من حصون الجبال بأنه أنملة، قال: فأي مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؟!
وكان يوازن بين رسائله ورسائل الصابئ الكاتب ليرى مقدار تفوقه عليه؛ وهو يرى فيه أن عقله زائد على فصاحته وبلاغته، ذلك أنه يورد في كلامه وصايا وشروطا، واستدراكات وأوامر، ما بين أصل وفرع، وكل وجزء، وقليل وكثير: إلا أنه عبر عنها بعبارة في بعضها ما فيه من الضعف.
أما موقفه من علماء البلاغة فموقف الناقد المحاسب لا القابل المسلم، يورد أفكارهم، فيقبل منها، ويرفض، مناقشاً، مدعماً رأيه بالحجة، وإن جانبه الصواب أحياناً. وما كان يرى أن يدخل علماء النحو في الأمور البلاغية حتى لا يصدروا أحكاماً لم تؤهلهم لها دراستهم؛ وهو لذلك ينتقد أبا الفتح بن جني عندما شرح قول أبي الطيب:
كل جريح ترجى سلامته ... إلا جريحاً دهته عيناها
تبل خدي كلما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها
فظن ابن جني أن أبا الطيب أراد أنها كانت تبتسم فيخرج الريق من فمها، ويقع على وجهه فشبهه بالمطر؛ قال ابن الأثير: وما كنت أظن أن أحداً من الناس يذهب وهمه وخاطره حيث ذهب وهم هذا الرجل وخاطره، وإذا كان هذا قول إمام من أئمة العربية تشد إليه الرحال، فما يقال في غيره؟!
وأما رأيه في الشعراء فإنه يرى الفرزدق وجريرا والأخطل أشعرالعرب أولا وآخراً. (ومن(834/19)
وقف على الأشعار، ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه، ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امريء القيس وزهير والنابغة والأعشى فإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به حتى قيل في وصفهم: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب. وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب. وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا به من المعاني المختلفة. وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون وهم أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء، أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها). وهو في هذا الفصل من كتابه يورد آراء بعض الناقدين في الشعراء ويناقشها كعادته.
ومع تعصب ابن الأثير للعربية، يقر بفضل العجم فيما أتوه من المقدرة على الإطالة المفرطة في الشعر، (فإن شاعرهم يذكر كتاباً مصنفاً من أوله إلى آخره شعراً، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها، وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر).
وألف ابن الأثير كتباً بعضها لم أعثر عليه.
1 - كتابه في السرقات الشعرية الذي حدثنا عنه في المثل السائر.
2 - كتاب كنز البلاغة الذي أشار إليه السبكي في شرحه على التلخيص.
3 - كتاب مختارات اختار فيه من شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي، قال عنه ابن خلكان: (وهو في مجلد كبير، وحفظه مفيد)، وقال أبو البركات بن المستوفي في تاريخ إريل: نقلت من خطه في آخر هذا الكتاب المختار ما مثاله:
تمتع به علقاً نفيساً فإنه اختيار ... بصير بالأمور حكيم
أطاعته أنواع البلاغة فاهتدى ... إلى الشعر من نهج إليه قويم
4 - كتاب المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء.
5 - الكتاب المرصع في الأدبيات، وقد طبع في القسطنطينية سنة 1304.(834/20)
6 - أما أهم كتاب له فهو المثل السائر الذي حاول أن يضبط فيه قواعد البلاغة، ونهج في تأليفه نهجاً أدبياً عملياً، لا نظرياً جافاً، وملأه بالأمثلة وبيان مواضع الجمال، ونقد مواطن القبح، وعقد الموازنات، وهو يعد من أسس كتب البلاغة، وكان لهذا الكتاب وقع كبير في الدوائر البلاغية فعندما وصل هذا الكتاب إلى بغداد انتقده المدائني بكتاب سماه الفلك الدائر على المثل السائر، وانتصر أبو القاسم السنجاري المتوفي سنة 650 للمثل السائر، فألف كتاباً سماه نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر؛ وتستطيع أن ترجع إلى كشف الظنون لترى ما أثاره هذا الكتاب من دراسات.
7 - وكتابه الوشي المرقوم في حل المنظوم منهج تطبيقي لفكرته التي يدعو إليها؛ ذلك أنه يرى الكاتب محتاجاً لحفظ القرآن الكريم والأخبار النبوية والأشعار الكثيرة بقدر المستطاع.
وفي هذا الكتاب يبين بطريقة عملية كيف نستفيد مما نقرأ ونحفظ في ترقية أسلوبنا والثروة في معانينا، ولو أن اللفتات التي نبه عليها ابن الأثير، في المعاني والعناية بها، وكيف نستنبطها، ونبتكرها سارت في طريقها، ولم تعقها الدراسات النظرية المحضة لكان لبلاغتنا اليوم شأن جد رفيع.
وله بدار الكتب:
8 - كتاب مؤنس الوحدة، جمع فيه أشعاراً وأخباراً في المدائح والأوصاف والتشبيهات.
9 - كتاب المفتاح المنشا لحديقة الإنشا، بدأه مبيناً فضل صناعة الإنشاء وأنها أشرف صناعات الممالك، (فهي اليد اليمنى التي بها الأخذ والعطاء، والمنع والإمضاء، والقبض والبسط)، فلا جرم كان من الواجب أن يختار لهذه الصناعة رجل تتوافر فيه صفات خاصة بين عقلية وخلقية وثقافية. ورتب الكتاب على بابين: أولهما في مراتب الكتب والمخاطبات، والثاني في الأدعية والانتهاءات، فذكر ما تبدأ به الرسائل، والألقاب التي يخاطب بها المرسل إليهم، والدعاء لهم. وذكر فصلا في الأدعية لأرباب غير الملة الإسلامية؛ وأورد الصيغ التي يقدمها الكاتب بين يدي مراده، كما شرح فيه كثيراً من ألوان المحسنات البديعية.
ولابن الأثير شعر قليل، لا يضارع قوة نثره، ولعل من أجوده قوله:
وساءلتموني عندكم كيف حالتي ... وذلك أمر بين ليس يشكل.(834/21)
فعن قلبه، لا تسألوا فهو عندكم ... وأما عن الجسم المخلف فاسألوا.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(834/22)
حرارة الصيف بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
يعاني اليوم قراء (الرسالة) في أنحاء الشرق الأدنى سطوة عامل فيزيائي يقسو على سكان بعض البلاد العربية ويخف بطشه بآخرين - ذلك هو ويل الأمواج الحرارية التي نصلي شواظها في هذه الفترة من الزمن فتنصب على رؤوسنا من هذا الكوكب الملتهب الذي سجر لظاه رب السماوات. فلنتحدث عن حرارة الصيف وما قال عنها العلم الحديث مخصصين عنايتنا بأثرها في أجسامنا، ثم فلنعرض شكوى الأدباء وعويل الشعراء من وهج بلاد العرب وكيف كانوا يتقون عنفها في المملكة العربية قبل أن ينعم أديسون وإخوانه - على البشرية بالكهرباء ومراوحه السحرية، ومولدات الثلج في لحظات تغلب خطو الأماني عبر الدياجي إلى تخوم الوجود.
لعل من مظاهر الرفق ومجالي العطف على القارئ الكريم أن لا تفحمه أبحاث علماء الفيزياء في الحرارة فالمثل يقول: (لا تكن أنت والزمان عليها). فليس من لطف الإنسانية أن نخوض به غمار تلك الأبحاث المتعبة التي يشكو اليوم من ويلاتها الطلبة وهم على أبواب الامتحانات فلنغض عن حديث ما تسببه الحرارة من تمدد في الغازات والسوائل والأجسام الصلبة، ولنضرب صفحاً عن معاملي التمدد الحجمي والطولي فلا نريد أن نبني جسوراً فولاذية في رأس القارئ الكريم وهو يرزح تحت سطوة الحر في بلاد العرب، ولنترك للطلبة استظهار الحرارة النوعية وبحث الانصهار والجمود تلك الأبحاث التي اعتادوا أن يجمدوها في حافظتهم لساعة الامتحان الحرجة حتى إذا انغمروا في لهو العطلة الصيفية انصهرت معلوماتهم، فكأنما كانت تماثيل من الثلج أذابتها حرارة الصيف وتلاشى قانون (بويل) كما غاب نفس بويل قبله في عالم العدم وتصاعدت المعلومات متطايرة بعد أن تكاثفت لخزنها لأوقات الامتحان ولنصم آذاننا عن تعريف الفيزيائيين للحرارة بأنها (عبارة عن طاقة حركية للجزيئات) ولكن لنصغ إلى ذلك الأديب يعرف لنا الحرارة تعريفاً شعرياً. وقديماً عد اليونان في علم المنطق من أساليب البرهنة - القياس الشعري وضربوا له المثل بقولهم: (الخمر مرة مهوعة) فالحق أن التعريف الشعري والبرهان الشعري أقوى تأثيراً في نفوس الناس من الأبحاث الدقيقة القائمة على الإحصاءات، فأكثر الذين اندفعوا(834/23)
إلى الهيام بالخمر جذبتهم أخيلة الشعراء الذين وصفوها بأنها ياقوتة ذائبة تطير بالنفوس بأجنحة الخيال في عالم الأفراح. ولو قالوا إنها سم يشل مراكز التفكير العليا لكانوا أقرب إلى الحقيقة. ولكنهم يبعدون عن تفكير الجماهير العمياء التي لا يقودها غير عاطفتها. وإذن فلنترك الأديب يحدثنا عن الصيف وحره فيقول (كما أورده النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب).
(أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها. فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق، حر تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس، لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش، فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور) هذا مما قيل في حرارة الصيف نثراً، وأما الشعر فحسبك منه ما يلي: قال ذو الرمة:
وهاجرة حرها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبي
تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطالب
وتسجد للشمس حرباؤها ... كما يسجد القس للراهب
(في المنجد: حاجب الشمس ناحية منها وأول ما يبدو منها مستعار من حاجب العين، وحواجب الشمس أشعتها) وقال مسكين الدارمي:
وهاجرة ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود
تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حر السنان طريد
وقال ابن الفقيسي:
في زمان يشوي الوجوه بحر ... ويذيب الجسوم لو كن صخرا
لا تطير النسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا
ويود الغصن النضير به لو ... أنه من لحائه يتعرى
وقال أيضاً:
يا ليلة بت بها ساهداً ... من شدة الحر وفرط الأوار
كأنني في جنحها محرم ... لو أن للعودة مني استتار
وكيف لا أحرم في ليلة ... سماؤها بالشهب ترمي الجمار(834/24)
وقال آخر:
ويوم سموم خلت أن نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لواذع
ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزي ملآن ومائي فارع
وقال محمد بن أبي الثياب شاعر اليتيمة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنها ... إذا لفحت خدي نار توهج
وماء كلون الزيت ملح كأنه ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج
وقال الثعالبي:
رب يوم هواؤه يتلظى ... فيحاكي فؤاد صب متيم
قلت إذ صك حره حر وجهي ... (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)
ولقد تقدم من ذلك الأديب أن وصف حر الصيف بأنه: (لا يطيب معه عيش ولا ينفع معه ثلج ولا خيش). فما هو الخيش؟ يحدثنا الطبري وياقوت في معجم الأدباء إنه كانت عادة الأكاسرة أن يطين سقف بيت في كل يوم صائف فتكون قيلولة الملك فيه وكان يؤتي بأطباق الخلاف (وهو صنف من الصفصاف طوالا فتوضع حول البيت ويؤتي بقطع الثلج الكبار فتوضع ما بين أضعافها. وكانت هذه عادة الأمويين أيضاً؛ ولكن في عهد المنصور العباسي اتخذت طريقة أخرى للتبريد فكانوا ينصبون الخيش الغليظ ولا يزالون يبلونه بالماء فيبرد الجو (في المنجد: الخيش نسيج خشن من الكتان)
وكان أهل الترف في ذلك العصر يستعيضون عن دخول السراديب بنصب قبة الخيش أو بيت الخيش.
وفي لطائف المعارف للثعالبي (وكان الخيش ينصب على قبة ثم اتخذت بعدها الشرائح فاتخذها الناس). وحكى المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم، في معرفة الأقاليم): أنه رأى في دار عضد الدولة البويهي بشيراز بيوت الخيش يبللها الماء على الدوام بواسطة قنوات حولها من فوق.
قال الأستاذ آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) يظهر أن طريقة استعمال الخيش وسيلة لتبريد الهواء كانت شائعة في بغداد جداً؛ إذ يحكى عن أحد القواد في القرن الرابع الهجري أنه لم ير فرقة من الجند أتت من بغداد أهلا للقيام بغزوة(834/25)
هامة لأنهم في رأيه قد ألفوا بيوت دجلة وشرب النبيذ والثلج وبيوت الخيش المبلل وسماع القيان كما نقل ذلك ابن مسكويه.
وقال الغزولي في مطالع البدور: وكان يستعمل في البيوت صيفاً مروحة تشبه شراع السفينة تعلق في سقف البيت ويشد بها حبل يديرها وهي تبل بالماء وترش بماء الورد؛ فإذا أراد الرجل أن ينام وقت القائلة جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجئ فيهب منها نسيم بارد طيب.
وجاء في جمهرة الإسلام للشيرازي وكتاب المحاسن والمساوئ للبيهقي (أنه كانت حراقات دجلة التي يستعملها رجال الدولة في غدوهم ورواحهم يعد فيها الثلج ويعلق عليها الخيش المبلل بالماء وكانت ترخى على الخيش ستور الكرابيس).
وقد رأيت في كتاب أساس البلاغة للزمخشري ما نقله عنه في تاج العروس من أن (الحراقة هي سفينة خفيفة المر). أما الكرباس فهو كما في المنجد: الثوب الخشن جمعه. كرابيس والكلمة من الدخيل.
وكان أهل بغداد ينامون في ليل الصيف على سطوح البيوت يدل على هذا ما حكاه معظم المؤرخين كابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم وغيرهما - من ظهور حيوان يسمى الزبزب في عام 394هـ كان بحسب زعم الناس يأكل الأطفال بالليل من على السطوح وما كان حيواناً بل وهماً نشأ من وجود اللصوص. ويقول ابن الجوزي في المنتظم إنه في تموز من سنة 308هـ برد الجو حتى نزل الناس من السطوح وتدثروا باللحف؛ هذا في مدينة بغداد أما في آمل وهي كما في المعجم لياقوت أكبر مدينة بطبرستان في السهل لأن طبرستان سهل وجبل - لقد كانت السطوح في آمل مسنمة لكثرة الأمطار صيفاً وشتاء كما نقل ذلك الاصطخري في مسالك الممالك.
أما في اليمن فيحدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب - فكان الغالب على صنعاء البرد حتى كان إذا اشتد بها الصيف ودخل الرجل ليقيل على فراشه لم يكن له بد من أن يتدثر لأن البيوت باردة بسبب القصة (الجصة) التي تشبع بها (تطين) بواطن البيوت لأن الجص في صنعاء يخلط بمادة غروية هناك فيظهر للبناء بعد جفاف الجص بريق جوهري كبريق المصقول من الجواهر؛ وتشبه الجدران في بياضها(834/26)
الفضة.
وربما دخل الرجل في صنعاء في المخدع على فراشه وأطبق عليه الباب وأسبل السترين والسجف فلا يتغير ضياء البيت لما في الجدران والسقف من الرخام؛ بل إذا كان في السقف رخامة صافية نظر عوم الطائر بظله عليها إذا حاذاها وتؤدي الرخامة لمعان الشمس إلى القصة فتقبلها بجوهرها وبريقها.
ولكن في سامراء من العراق كانوا يستخدمون السراديب تحت الأرض. قال آدم متز: لقد كشفت لنا حفائر سامراء عن طريقة بناء الدور عند أهل العراق في القرن الثالث الهجري حيث كانت تشتمل على سراديب للسكني مهيأة بوسائل التهوية. ولا نجد فيها بين أيدينا من أخبار القرن الرابع في العراق ما يدل على استعمال السراديب للسكني في فصل الصيف ولا تشير إلى ذلك أية حكاية من الحكايات الكثيرة التي ترجع إلى ذلك العصر
وفي كتاب العيون أنه كان السرداب في ذلك العصر عبارة عن مكان تحت الأرض فيحكى مثلا أن الخليفة المقتدر أمر بحفر سرداب لمؤنس وأن مؤنساً وقع فيه ومات، هذا ما نقله ولكن الذي في كتب التاريخ أن مؤنساً هو الذي قتل المقتدر على يد أصحابه.
ويقول عريب وكان عند رجل في داره سرداب تحت الأرض عليه باب من حديد. بل يحكى عن مروج الذهب أنه في عهد المنصور سير جماعة من أبناء علي إلى الكوفة وحبسوا في سرداب تحت الأرض لا يفرقون فيه بين ضياء النهار وسواد الليل. وفي مقاتل الطالبيين عن رجل كان مسجوناً مع يحيى العلوي في عهد الرشيد، وكان الرشيد يعذبه تعذيباً مؤلماً حتى مات من وقع السياط، وكان اسم السجن المطبق وهو تحت الأرض وكان من شدة ظلامة لا يعرفون أوقات الصلاة فيه.
وإذن فالسراديب لم تكن في صدر الدولة الإسلامية متعارفاً استعمالها لاتقاء الحر في بغداد، وإن كانت موجودة في السجون التي يحبس بها العلويون الذين كان بنو العباس يخشون من ثوراتهم قال آدم متز.
ويرجع أصل عادة اتقاء الحر الشديد بالنزول في السراديب إلى بلاد آسيا الوسطى حيث يحكى لنا الرحالة وانج بن تي في عام 981م أن بعض أهل تلك البلاد يسكنون في الصيف غرفاً تحت الأرض. أما في بلاد الإسلام لذلك العهد فقد كانت مدينة زرنج أكبر مدن(834/27)
سجستان ومدينة ارجان بفارس أول مدينتين اتخذ أهلها في الصيف سراديب تحت الأرض يجري فيها الماء كما نقل ابن حوقل في كتابه صورة الأرض.
قال ياقوت في معجم البلدان إن أرض سجستان كلها رملة سبخة والرياح فيها لا تسكن أبداً ولا تزال شديدة تدير رحيهم وطحنهم كله على تلك الرحى. وفي القرن الخامس الهجري يفكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أن من خصائص مدينة أرجان أن فيها من الأبنية تحت الأرض مثل ما فوقها وإن الماء يجري تحت الأرض وفي السراديب وفي أشهر الصيف يستروح الناس فيها.
ويذكر المقريزي بعد ذلك بقرون (إن من محاسن مصر أن أهلها لا يحتاجون في حر الصيف إلى الدخول في جوف الأرض كما يعانيه أهل بغداد). وأما اليوم فقد ضربت مدينة النجف الأشرف في العراق الرقم القياسي في استعمال السراديب، وذلك لأنها واقعة على أرض مرتفعة في الصحراء قد جذب المسلمين إليها قبر الإمام علي (ع) فازدحم حوله علماء الإسلام فقامت حركة علمية جبارة وقصدها طلاب العلم في أطراف العالم الإسلامي، ففيها الطلبة من أنحاء إيران والعراق ومن لبنان وسورية والحجاز والصين والهند وأفغانستان وسمرقند وبخارى وغير ذلك فهي مقر (الأمم الإسلامية المتحدة) وإن هؤلاء المهاجرين يعانون من قسوة الصيف ولذع هاجرة الصحراء - أعنف التعذيب لو لم يتفنن النجفيون في نحت السراديب تحت الأرض فيحفرون في طبقات الأرض حفراً عميقاً جداً حتى يصلوا إلى طبقة صخرية يسمونها (السن) فيضربونها بالمعاول ضرباً قوياً عنيفاً حتى يثقبوا تحتها ممراً فينتهون إلى طبقة رملية سريعة الإزالة وإن كان في تضاعيفها صخور كبيرة فإذا حفروا تحتها فسحة تسع أهل البيت برفاهية أووا إليها في هاجرة الصيف فإذا البرد الشديد الذي لا يطاق إلا بالتدثر باللحف على حين أن الحرارة الملتهبة على سطح الأرض تشوي الوجوه؛ وبذلك يستغني النجفيون عن الثلاجات ولاسيما إذا وصلوا تلك السراديب بالآبار حيث تجهزهم بالهواء النقي من أعلى. ولعل هذه العادة اقتبست من أواسط آسيا حيث يكثر في النجف المهاجرون في تلك الأنحاء الإسلامية. وتبلغ السراديب أرقى درجات الإتقان في مدارس الفقهاء ولاسيما مدرسة السيد كاظم اليزدي التي من محاسن مرافقها (الزنبور) وهو طريق للهواء يهبط من أعلاه ثم يمر تحت أرض السرداب(834/28)
فيكوِّن تحتها تجويفاً يقلل الرطوبة فيه. ثم إن ذلك الطريق ينتهي بثقب صغير في وسط أرض السرداب فيخرج منه الهواء الملطف البارد. وهكذا يحتمي الطلبة فتطيب لهم دراسة الفلسفة والمنطق والرياضيات وعلوم الأدب والشريعة وقد أنتجوا الكتب الكثيرة فيها.
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي(834/29)
رثاء الفنان
للأستاذ الشاعر علي محمود طه
أسألكم: ويح من يُجيب! ... ما خطبكم؟ لم يَمتْ نجيب
ما مات من أضحك المآسي ... من قَدَرٍ صُنعُهُ عجيب
وصير الدمع في المآقي ... على ابتساماته يذوب
وجمَّل العيش للحزاني ... فكل حال به تطيب
وأنصف الدهر من حظوظ ... تُخطئ في الناس أو تُصيب
ومثَّل الزَّيْف من حياة ... مُرَقعٍ ثوبُها القشيب
كادتْ لتمثيله الليالي ... تبكي، وتستعبر الخطوب
وكاد منه الزمان يُغضى ... خِزياً، وتستغفر الذنوب
مُعلِّمٌ ماله ضريبُ ... معهدُهُ المسرحُ الحبيب
فتىً كطير الربيع روحاً ... موهوبةٌ نفسُه وهوب
البارعُ اللفظ في بيانٍ ... يحار في صوغه الأديب
كأنه ما ثلٌ لعيني ... وعهده بالنوى قريب
حلوُ الأشارات في سِماتٍ ... له بتصويرها ضروبُ
وصوته ملء كل سمع ... تهفو لأيقاعه القلوب
أستاذ جيل إلى نِداهُ ... عواطفُ الجيل تستجيب
يعلمُ الشعبَ أو يُسلي ... من شفَّهُ الهمُ واللغوبُ
في قصةٍ مُرَّةٍ حوَتها ... ملهاته الحلوةُ الطروب
أو مُلحةٍ عذبة جلاها ... أسلوبُه الساخر اللعوبُ
يُلقى بها ضاحكاً ويمشي ... وقلبه ساهم كئيب
حياتنا مثلما رآها ... صورها ناقد لبيب
مصرية الذوق لم يشبها ... تصنع لفظه مشوب
ولم تلفق ولم تنمق ... بها الأباطيل والعيوب
حقائق لم يوار منها ... مجامل هازل هيوب(834/30)
مدرسة ما بها كتابٌ ... ومنبرٌ ماله خطيب
لا سِنَّ للدارسين فيها ... طُلاَّبُها فتيةٌ وشيب
ويستوي جاهل لديها ... وعالمٌ فاهم أريب
ألكل فيها لهم متاع ... وفْرٌ ومن علمه نصيب
يا لهفة الفن حين أودى ... وما اعترى نجمه شحوب
ولا روى أفقه ظلام ... له على موجه وثوب
في لحظةٍ لم يجُلْ يذهن ... قضاؤها الفاجع الرهيب
حيث يُنادي وحيث يُرجى ... مشيبه الرائع الخصيب
قم يا نجيب انفُضِ المنايا ... واسمعْ تجد أُمَّةً تُجيب
صَحَتْ على موكب هلوع ... بخنقه الحزنُ والنحيب
مصر التي قدَّرتك حياً ... يا أيها النابغ الغريبُ
بمثل ما شيعتك يوم ال ... وداع لم تسمع الشعوب
وأنت بالعهد من هواها ... ربيبها وابنها النجيب
لم يَنس (فاروقُ) من إليها ... انتمى، ومن باسمها يُهيب
ومن رعاها، ومن حماها ... هواهُ أو صدرهُ الرحيب
مْلكٌ تلوذ الفنون منه ... بسُدَّة حصنها القلوبُ
في مفرق الفنِّ في يديه ... لؤلؤة حُرَّةٌ خلوبُ
تود منها الشموس قبساً ... وتصعد الشهبُ أو تصوب
أشعةُ المجد من سناها ... عن ملكه الضخم لا تغيب!
علي محمود طه(834/31)
مالتوس ومشاكل السكان في العالم
للأستاذ فؤاد طرزي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
لا يتوقع إلا قلائل من الباحثين إمكان الوصول إلى قانون عام في موضوع نمو السكان ينطبق على الشعوب وفي كل الأزمان؛ ولهذا تحتل اليوم مشكلة التوازن القسم الأكبر من أعمال الباحثين في مسائل السكان وفي مسائل المواد الغذائية على السواء. ولكن فروض مالتوس كانت بمثابة فتيلة ظلت متقدة طوال عصور التاريخ من حين نشر هذا العالم نظريته. وإذا كان هناك من يميل إلى إنكار هذه الفروض فيجب عليه تبعاً لذلك أن يطلع على الملاحظة الدقيقة التي أثبتها لينارد هوبوس والتي قال فيها (إن نظرية مالتوس ذاتها كانت من جملة الأسباب في هزيمة تنبؤاتها فقد كان فحواها أن السكان يتزايدون بسرعة فائقة في الوقت الذي تجري فيه عمليات غير مباشرة تعمل للحد من هذه الزيادة).
ويظن علماء الإحصاء اليوم بأن نظرية مالثوس تكون أكثر نفعاً متى اعتبرت على ضوء صلتها بعصور الدورة الإحصائية العالمية وهي العصور التي تمثل مراحل مختلفة مرت بها شعوب ومناطق مختلفة. وقد بذلك فرنك نوتستين ومساعدوه في جامعة برنستون جهوداً كبيرة لاكتشاف هذه الدورة وترتيب هذه المراحل كما يلي: المرحلة الاحتمالية، والمرحلة الانتقالية، وتمثلت في التجربة الأوروبية الغربية التي شهد مالثوس قسما منها، ومرحلة الهبوط الأولى، (وهذه المرحلة لم ترد في نظرية مالثوس).
يخمن الأستاذ نوتستين بأن ما يقارب نصف سكان العالم هم اليوم في مرحلة النمو الاحتمالي بالقياس إلى العصور الإقطاعية. وإن الشرق الأدنى وجميع آسيا (باستثناء اليابان والاتحاد السوفيتي) والبلدان المتأخرة في جنوب ووسط أميركا لا تزال، مع بعض الاختلافات، في هذه المرحلة التي سبقت عهد مالتوس. فهناك ولادات كثيرة ولكن عدد السكان لا يزال ثابتاً بسبب ارتفاع معدل الوفيات. وهذه هي البلدان التي يمكن إنقاذ النفوس فيها بالوسائل الطبية والصحية ولا يمكن فقدانها إلا بسبب الفقر والمجاعة وفق طريقة مالتوس الأصلية. ومع أنه من الصعب أن نشرح بأي قدر من الدقة الظروف التي تحيط بشعب ما وتؤدي إلى انعدام الطرق الإحصائية الحديثة فيه، إلا أنه من المحتمل اتخاذ(834/32)
الصين كمثل لتقلبات إحصائيات السكان المتصلة بهذه المرحلة. فنحن نعرف أن الوسائل الطبية والصحية لم تنتشر إلى الآن بين الجماهير الصينية، ولذلك فإن عدداً من العلماء يشكون في إمكان حصول أية زيادة ثانية بين الشعب الصيني الضخم. وعلى كل ففي حالة حدوث أي تغير في النسبة المتعادلة بين معدل الولادات ومعدل الوفيات فإن للصين شعباً قادراً على إحداث زيادة كبيرة حالما تضبط معدلات الوفيات.
وقد ظهر في الماضي أن نمو الشعب الصيني قد جرب الأسلوب الدوري الذي جربه العالم الغربي. فحين تسلمت أول عائلة جديدة الحكم شاع السلام واستتب النظام ورجح معدل الولادات على معدل الوفيات بين طبقات العمال المتزايدة وبين الجماعات المثقفة. ولكن الصين رغم بلوغها مرحلة عالية من مراحل المدنية لم تعمل على تحسين مواردها الآلية كما فعلت أوروبا؛ ولذلك بلغ فيها عدد السكان حد الإشباع. ثم جاءت المجاعات والثورات والحروب فخففت من ضغط السكان. وقد حدثت دورة مالتوس هذه أربع مرات منذ القرن الثاني بعد المسيح. واليوم تعيش المرحلة الاحتمالية في الصين في حالة سكون فلا يحس خلالها بضغط السكان ولكن من غير أن تغذي الزيادة فيها كما يحدث في اليابان.
وأما في الهند فإن تنظيم الأساليب الصحية وطرق مكافحة الأمراض الوافدة وتحسين طرق المواصلات واتساع سيطرة القانون والنظام قد ساعد على إحداث هبوط في الوفيات أدى إلى حصول زيادة في السكان مقدارها 83. 000 , 000. خلال عقدين (من 1921 إلى 1941) وهكذا فإن الهند مستعدة الآن لقبول زيادة أخرى، ولا توجد حتى الآن دلائل تشير إلى أنها ستمر بالأدوار التي مرت بها كل من فرنسا وأيرلندا.
وقد دخلت اليابان في المرحلة الثانية من مراحل الدورة فحدثت فيها زيادة في السكان أثر انخفاض معدل الوفيات. إن إمكانيات التصنيع قد استغلت في هذه البلاد بنطاق واسع ثبت منه بأن في إمكان الشرق أيضاً أن يخفض الولادات. ولم يسجل معدل الوفيات في اليابان انخفاضاً ملموساً؛ بل إن معدل الولادات في الفترة الحالية تحول نحو الهبوط. وقد أظهرت الإحصائيات اليابانية بين 1920 و1940 نتائج مشابهة للإحصائيات التي حصلت في إنكلترا ووبلز بين 1881 و1910. وخلال العقدين اللذين تخللا الحربين الأولى والثانية كانت معدلات الوفيات والولادات تشبه تقريباً مثيلاتها في إنكلترا قبل 40 سنة: وبهذه(834/33)
المناسبة من المهم أن نتذكر، كما يقول الأستاذ نوتستين: (بأن التمدين والهذيب في اليابان قد قطعا أشواطاً بعيدة؛ إلا أن نمو السكان كان من نوع التضاعف الثلاثي في القرن الواحد. وقد حصلت أكثر من نصف الزيادة بعد أن ابتدأ معدل الولادات في الهبوط. ومع أن اليابان قد قدمت للعالم مثلاً للتصنيع السريع فإن الاتجاه القادم لنمو السكان فيها سيعتمد على المدى الذي ستؤثر فيه الهزيمة على تطورها الاقتصادي. ولكن علماء السكان يقدرون بأن النمو لا يزال يفعل فعله بين الشعب الياباني.
وإذا عدنا إلى روسيا التي تملك مساحة واسعة من الأرض بين أوربا وآسيا، وتلتقي فيها خصائص الشرق والغرب المتنوعة التي تتميز بها ظاهرة النمو، وجدناها تجني الآن ثمار النهضة الإحصائية، لأنها البلاد الوحيدة القادرة على استغلال كل إمكانيات النمو الانتقالي. فقد حصل فيها توسع صناعي كبير، وانخفض معدل الوفيات بنتيجة التقدم الصحي والطبي. ولم يتخلل عهد التصنيع في هذه البلاد سوى هبوط ضئيل في معدل الولادات، ومع ذلك فإن هذا المعدل حسب ما هو ملاحظ آخذ في الازدياد؛ لأن السياسة القومية تشجع بنشاط العائلات الكبيرة، يضاف إلى ذلك أن الوضع الحالي للاتحاد السوفيتي يشير إلى احتمال حصول زيادة في عدد النساء خلال العقود القادمة. ويتوقع فرانك لوريمر المستخدم في شعب الإحصاء في روسيا في كتابه (سكان الاتحاد السوفيتي) حصول زيادة في السكان بين عامي 1940 و1970 تقدر بـ 70 , 000 , 000. وقد وصلت روسيا في الوقت الحاضر إلى المرحلة الانحدارية من الدورة، ودخلت كدولة أوربية في مرحلة الهبوط الأولى. وإذا ما استقرينا قوانين السكان وجدنا أن معدل النمو في روسيا لا يفوق معدل الزيادة الكبيرة في نفوس سكان جاوه مثلاً تحت ظل النظام الاستعماري الهولندي، ولكن في روسيا مجالات تمدد جديدة تتمثل في الحركة الصناعية النامية بينما سبق لجاوة أن اجتازت المرحلة النهائية من مراحل التطور الاقتصادي الزراعي. وبالإضافة إلى ذلك أن الاتحاد السوفيتي يملك داخل حدوده منطقة بكر واسعة لا تملكها أية دولة كبيرة أخرى وهي منطقة سيبيريا. فليس هناك من شك بأن روسيا تنتظر توسعاً كبيراً في السكان، ولكن السؤال الذي يدور في بقية أنحاء العالم هو فيما إذا كان في مستطاع روسيا أن تحتفظ بهذه الزيادات داخل حدودها.(834/34)
وعندما بحثنا المرحلة الثالثة للدورة الكبرى - مرحلة الهبوط الابتدائي - لم نسر خلف مالتوس لأن توقف الزيادة وهبوطها لم يكونا معروفين في الفروض المالتوسية. فبلدان أوروبا الوسطى والشمالية الغربية كانت أولى المناطق التي دخلت في المرحلة الثالثة، في حين أن فرنسا والسويد وأيسلندا واستراليا وإنكلترا وويلز ستواجه هبوطاً في عدد السكان ابتداء من سنة 1970. أما أيرلندا فقد استعادت كما رأينا قواها ولكنها لم تحقق أية زيادة. ويمكن إضافة ألمانيا إلى هذه المجموعة بسبب خسائرها في الحرب. كما تعاني بولندا نقصاً في السكان لم تعانه أية أمة أخرى في العصور الحديثة. إلا أن طبيعة تكوين شعبها تساعد على العلاج إذا ما توفرت الظروف الاقتصادية الملائمة. ويقول علماء الإحصاء إن شعوب أوروبا الوسطى وأوروبا الشمالية الغربية قد بلغت مرحلة النضج، وقد أدى تحديد النسل بينها إلى إنقاص نسبة الشباب بينما رفع تقدم مستوى المعيشة من نسبه ذوي الأعمار الطويلة. وما دامت أعمار أغلبية النساء في هذه المنطقة قد تجاوزت معدل الخمسين فإن ذلك سيجر وراءه زيادة في طول الأعمار يؤدي إلى توسع إنتاجي إضافي. ففي الولايات المتحدة واستراليا وزيلندا الجديدة من الممكن أن تعيش المرأة البيضاء إلى سن السابعة والستين، كما أنه من الممكن أن تستطيع المدنية الأوربية أن تزيد معدل الحياة عشر سنوات أخرى خلال العقدين القادمين
وقد كان متوقعاً من دراسة معدلات 1935 - 1939 أن يبلغ نمو سكان أميركا نهايته حوالي 1980. إلا أن الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب العالمية الثانية بأرباح غير متوقعة في النفوس، لقد فاقت الولادات مقدار عدد الضحايا بين الشعب الأميركي الذي لم يدخل بعدُ مرحلة الهبوط الابتدائي.
وعند هذه المرحلة من مراحل دراستنا سندخل منطقة يميل عند بلوغها علماء الإحصاء في العصر الحديث إلى وضع إرشادات تجريبية فقط بشأنها. إن معرفة ما يمكن أن يحدث وماذا يستحب أن يحدث، إذا ما سارت القوى الطبيعية في مجراها الطبيعي، تدفع الأفراد لأن يستعملوا عقولهم وإرادتهم للوصول إلى نتائج أكثر تكيفاً مع حاجاتهم ورغباتهم. وهناك بعض الباحثين لا ينظرون إلى ظاهرة النقص في السكان نظرة جدية، في حين أن هذه الظاهرة قد بنيت على أسس الاتجاهات التي توجه الوقائع والقوانين. ولكن يتساءل اليوم(834/35)
عمن يستطيع التحدث عن التقلبات الاجتماعية التي ستظهر فعل هذه الاتجاهات؛ إذ أننا نرى أن ظاهرة زيادة السكان من المكن أن توجه توجيهاً يساير حركات القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تعترضها. فهل يمكن أن تفعل مثل ذلك بالنسبة لمشكلة الخوف من نقص السكان؟ وهل ضبط النسل يمثل ثورة على بعض انحرافات النظام الاقتصادي والصناعي؟ وهل يمكن أن يوقف إذا ما تحسنت مؤسسات اجتماعية أخرى تحسناً مناسباً؟ وللإجابة على هذه الأسئلة يجب أن تترك المرحلة النهائية من مراحل دورة السكان مفتوحة، معترفين بأنه من المحتمل حصول هبوط مطرد بين السكان بسري قانونه على البلدان المتقدمة في المدنية الغربية. كما أن هناك بعضاً من الخبراء يعتقدون بإمكان ظهور نوع من أنواع الحركات الميكانيكية توازن بين السكان لتقليل الهبوط الناجم من تحديد النسل.
وإذا ما أردنا أن نطبق هذه التطورات التاريخية على مسائل السكان في الشرق جابهتنا في الحال - وعلى الأخص في البلدان العربية - الصعوبات الناجمة عن تأثر الطرق الإحصائية الحديثة التي يمكن الاعتماد عليها لتنظيم دراسة متفقة موحدة. وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد هو أن البلاد العربية لا تزال في مرحلة النمو الاحتمالي، وأن مجتمعاتها مستعدة لتقبل زيادات أخرى نظراً لكثرة الموارد الطبيعية غير المستغلة إلى الآن، ولانحطاط وسائل الاستغلال الزراعي والصناعي فيها. ولذلك فإن مشاكل السكان الحديثة لا يمكن أن تطبق على هذه المجتمعات إلا بعد أمد طويل نسبياً.
(بغداد)
فؤاد طرزي
المحامي(834/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(كلهن نساء) للأديب اللبناني سهيل إدريس:
لصاحب هذه المجموعة القصصية مجموعتان أخريان صدرا من قبل وكتبت عنهما في مكان آخر غير (الرسالة)؛ ومعنى هذا أنني تتبعت هذا القصاص اللبناني الشاب منذ أن كتب أول قصة حتى فرغ من آخر قصة. . . هناك تطور لا شك فيه، فالوثبة الأولى كانت وثبة الأديب الذي يعالج فن القصة لأول مرة: جناح يصعد به نحو القمة، وجناح يهبط به إلى السفح، وبين الصعود والهبوط تلمح موهبة أصيلة ينقصها الزمن والمران لتنضج وتكتمل وهكذا كان سهيل إدريس في (أشواق).
ومضت فترة أخرى أخرج بعدها مجموعته القصصية الثانية (نيران وثلوج). . . في هذه الوثبة الجديدة لمست أن القصاص الشاب قد قطع مرحلة بعد بها عن نقطة البدء حتى أوشك أن أن يبلغ منتصف الطريق. لقد كان خط السير في المجموعة الأولى بكثرة تعاريجه، يشعرك أن المؤلف لا يصل إلى نهاية الشوط إلا وهو مكدود فاتر الأنفاس! أما في هذه المجموعة الثانية فقد استطاع أن يبصر المسالك التي تدفع به في خط مستقيم تقل فيه الدروب والمنحنيات. . . وكانت محاولة ثالثة تبلورت فيها القطرات الأولى في بوتقة التجربة النفسية والفنية، وإذا (كلهن نساء) دليل مادي حي على أن الجهد والمثابرة جديران بخلق عمل فني مهما حوى من مآخذ فهو جدير بالتهنئة! وتبقى بعد ذلك حقيقة نسجلها قبل أن نسجل غيرها من حقائق، وهي أن سهيل إدريس كاتب قصة أدبية سواء في مجموعته الأولى أو في مجموعته الثانية أو في مجموعة الثالثة. . . هذه في رأيي ميزة كبرى؛ لأن القصة العربية القصيرة التي تطالعها في هذه الأيام قد فصلت عن هيكل الفن التعبيري الرفيع؛ لقد أخرجها القصاصون العوام من حظيرة الأدب ليلحقوها بحظيرة الربورتاجات الصحفية!
هذا هو قصاص الأمس أشت إليه في كلمات، أما قصاص اليوم فمن حقه على أن أحدد اتجاهه القصصي الجديد على ضوء هذه الخطوط الفنية: الخط الأول هو خط النزعة التحليلية التي تضحي بالحادثة في سبيل الفكرة ذات الطابع التصويري، والخط الثاني هو(834/37)
خط التمثيل للواقع المحس عن طريق النماذج النفسية والبشرية، والخط الثالث هو خط تحديد الزاوية التي تلائم بين الفكرة التصويرية والنموذج النفسي، والخط الرابع هو خط امتداد نقط الارتكاز الفنية في ثنايا العرض، والخط الخامس هو خط التقاء العناصر الرئيسية التي تكون الهيكل الأخير للقصة الكاملة. . . هذه الخطوط التي تبرز التصميم الفني العام للقصة، أو هذه الخيوط التي تنسج الثوب الفني العام للقصة، قد توفرت منها أشياء في (أشواق)، وتوفرت منها أشياء أخرى في (نيران وثلوج)، وتوفر منها الكثير في (كلهن نساء). هناك في (عودة الماضي) و (أنانية) و (الخطيئة الطاهرة) و (لعنة الحب) و (القصاص) و (دموع في الكونتننتال)!. . . إن هذا الترتيب الذي نراه هنا قد أمته على أساس من الصدق الفني أولاً، وعلى أساس من الصدق الشعوري ثانياً، وأخيراً على مدار اللمعات الفكرية والنفسية فيما حدثتك عنه من خطوط القصة.
بعد هذا أقدم إليك قصة من قصص هذه المجموعة هي (عودة الماضي). . . هذه القصة في رأيي من القصص التي تعرض لك موهبة الأستاذ إدريس خير عرض، وتصور ملكته القاصة أكمل تصوير، وتطلعك على نموذج قصصي ناضج يشير إلى فنه ويدل عليه. إنها قصة الحب بين فتى وفتاة، الحب القوي الجارف الذي يجمع في النهاية بين قلبين تحت ظل وريف من الرباط المقدس وتمضي الأيام وتصبح الفتاة امرأة ويصبح الفتى رجلاً ويتخطى كلاهما دور الشباب! ويبقى الحب بين الزوجين ما بقى الوفاء المتبادل والبيت الآمن والأبناء الأحباء. ولكن القدر يضرب ضربته ليتصدع البناء ويتفرق الشمل ويتناثر عقد السعادة حبات من دموع! ستة عشر عاماً ذاق فيها العش الجميل الهادئ ما ذاق من ألوان البهجة وضروب النعيم، ثم ختمت أيامه بأبشع ما يتلقاه الأحياء من معاني الألم والحسرة والعذاب. . . لقد عصفت ريح الغواية بوفاء الزوجة المخلصة فنبذت منطق العقل وانقادت لمنطق العاطفة، وفي سبيل حبها الجديد نسيت الزوج والبيت والولد، وهذا الماضي الأثير بكل ما فيه من ذكريات! ولم يكن الشيطان الذي طرق أبواب الجنة غير أخ تجمع بينه وبين أخيه رابطة الدم وينتهي الأمر بالزوجة الوفية إلى أن تمل السير في طريق الشباب الآفل لتنحرف إلى طريق الشباب المقيم، ولا بد من جمرة تشع تحت الرماد لتلهب الضمير الذي مات. . وفي رسالة يتلقاها الزوج من شريكة حياته تقع عيناه على(834/38)
قصة حبه الشهيد؛ لقد مضت تستعرض فصول القصة كما وقعت على مسرح الحياة: مبتدئة بدور الزوج، معرجة على دور الزوجة، منتهية بدور الحبيب. ولم تنس الهاجرة وهي في غمرة الوفاء للذكرى الباقية أن تطلب الصفح والمغفرة!
هذا هو الإطار الخارجي لقصة الأستاذ إدريس، إنني لو اقتصرت عليه لبدت لك القصة هيكلاً عظمياً عارياً من اللحم والدم والروح. . . إن الحياة تكمن هناك، في تلك الصورة النفسية التي تعرض طبيعة امرأة؛ امرأة يضع المؤلف بين يديك مفتاح شخصيتها وكل شخصية تمثل المرأة الخالدة! وهذه هي الصورة التي حملتها رسالة الزوجة إلى الزوج، أقدمها إليك منتزعة من معرض السطور: (لقد حمل نايف إلى جونا الاضطراب والخوف والعذاب، ولكنه مع ذلك هز مني الأعماق أعنف الهز، وكشف أمام عيني دنيا جديدة تزخر بالمتناقضات وتمتلئ بالمفارقات. ولست أدري يا صبري كيف أعبر لك عن الأثر الذي تركه أخوك في نفس ساعة وصوله!). . . (وسرعان ما أسبلت جفنيَّ، كأنما خشيت أن تنفر من عيني صور كثيرة، جلية، تعيد إلى الماضي بحذافيره فتبعث في نفسي فيضاً غنياً من المشاعر العذبة. أجل! إن الماضي تدفق ساعتذاك يا صبري كأنه نبع جار يحمل في ثنايا أمواجه ذكريات وذكريات). . . (وفتحت عيني مرة أخرى، لا يا صبري! لم يكن نايف يشبهك، وإنما كان هو نفسك. . . أجل! كان أنت في شبابك، يوم عرفتك للمرة الأولى. لقد رجع في نايف ماضي شبابك يا صبري، شبابك ذاك الذي أغرمت به قبل أن يولي وعشقته يوماً حتى الجنون!). . . (لا يا صبري! أنا لم أخنك! إنني مقيمة على شدة إخلاصي لك، إنني أحبك في نايف، وسأظل أحبك إلى الأبد. أراك تود أن تسألني: وأولادنا؟ وحاضرنا؟ ومستقبلنا؟. . . لا تكن ساذجاً يا عزيزي! أما أدركت أنه لم يبق لي شيء بعد، وأنه لا حاضر عندي ولا مستقبل غير هذا الماضي الذي يعود؟!).
أرأيت كيف حلت الفكرة الناضجة من جسم القصة محل الروح، وكيف سما بها النموذج النفسي النابض إلى الأوج؟. . . هكذا تخلق القصة، وهكذا تحيا، وهكذا تتنفس، وهكذا يكتب لها البقاء! إنك تستطيع أن تجد في هذه المجموعة القصصية نماذج أخرى لا أقول إنها تبلغ هذا المستوى الممتاز، ولكنها تقترب منه وتنبع من نفس المنبع وتدور في نفس الأفق.(834/39)
وتسألني بعد هذا كله ماذا ينقص سهيل إدريس ككاتب قصة؟. . إنني أعود إلى ما سبق أن كتبته عنه في مكان آخر غير (الرسالة)، أعود إليه لأحذف منه فقرات وأقتطف فقرات، تبعاً لما جد من أسباب الكمال وما بقى من أسباب القصور.
إن كل ما يؤخذ على فن الأستاذ إدريس ظاهرتان: الظاهرة الأولى هي أنه لا يكاد ينظر إلى الحياة إلا من زواياها الضيقة، تلك التي لا تتمثل الخلجات النفسية إلا في إنسان يحب وإنسانة تحب، مع أن في الحياة زوايا متعددة وألواناً لا حصر لها من المشاعر الإنسانية! أما الظاهرة الثانية فهي خلو قصصه من النماذج البشرية؛ إن سهيل إدريس لا يقدم إليك نموذجاً بشرياً واحداً يمكن أن يمثل شخصية من الشخصيات المحلية في المجتمع اللبناني الذي يعيش فيه، ومن هنا كان نقص النماذج البشرية في قصصه يفقدها عنصراً ممتازاً من عناصر التصوير الوصفي، ذلك الذي يعني برسم الملامح الخارجية للشخوص كما هي في واقع الحياة! وتسألني مرة أخرى عن حكمي الأخير على هذه المجموعة القصصية فأقول لك: إنها عمل فني جدير بالتهنئة!
(من وراء الأبد) ورسالة من شرق الأردن:
قبل أن أكتب إليك ما أريد كتابته عن قصتك الخالدة (من وراء الأبد) المنشورة في الرسالة الغراء العدد (838)، أقدم إليك تحية التقدير والثناء، تحية القلب من الأعماق إلى روحك الطهور المثالي وقلبك الخفاق، يفيض الإبداع في شجون القلب وشئون الفكر.
لقد ساقت إليك الأقدار فتاة أحلامك، فوجدت فيها الجمال الروحي الذي كنت تنشده في سماء الوهم يوم أن هبطت إليك وأنت على أرض البشر لتأخذ باقة من الزهور فأحببتها، وأنت تعرف جيداً زيارتها لأملها الدفين يوم كنت تقدم لها تلك الباقة في صباح كل ثلاثاء، لتعطر ثرى ذلك القبر. . . ثم تقدمت إلى تلك الروح بغير تردد حين وجدت أنها ضالتك المنشودة، لتملأ فراغ قلبك ودنياك. فلم كرهت ذهابها إلى القبر بعد الزواج، حتى أدى ذلك إلى القطيعة والفراق؟ أليس الحب شعوراً مقدساً قبل الزواج وبعده؟! ولماذا لم تستطع أن تملأ هذا الفراغ الموحش من قلبها (إن كان موجوداً) بعد الزواج بأحاسيسك وشعورك وأنت صاحب الأحاسيس والشعور والخيال؟!
إن الحب لا يبلغ أعلى مراتب السمو إلا بالتضحية وأنت هنا لم تضح بشعورك وقلبك في(834/40)
سبيل إسعادها. . . إذ الحب المثالي العميق يقضي عليك في هذه الحالة أن تقدم إليها باقة الزهور، ولو أنك؟؟؟ لتناست ذلك القبر الكئيب البغيض الرابض في صحراء الإمام، ولأصبح مع الأيام طيفاً ضئيلاً وبالتالي تمسي وأنت مسيطر على أحاسيسها ووجدانها مالكاً كل قلبها بأطيافه وأحلامه هذا إذا فرضنا جدلاً أنها مازالت تحن إلى أملها الأول، ولكنها وهبت لك قلبها وأخلصت لك الحب طيلة مدة الزواج، بدليل أنك لم تستشف من خلال شعورها أن هنالك طيفاً يملأ فراغ قلبها وتتشوق إليه بقلب مفجوع وأنت صاحب الشعور والنظرات العميقة، ولو لم تكن تلك العودة لما اكتشفت سرها الذي لم يكن إلا وفاء بعهد.
ألم تشعر أخيراً يا سيدي أنك سببت لها نكبة أخرى فوق نكبتها الأولى، وسببت لك لوعة تصرخ بين الضلوع كلما عاودتك ذكرها؟. . . أنا في انتظار جوابك.
محمد دوبلة
عمان - شرق الأردن
أود قبل كل شيء أن أشكر للأديب الفاضل هذه العاطفة الكريمة النبيلة التي أملت عليه هذه الكلمات. . . الحق أنني لم أتلق في حقيبة البريد أجمل من هذه الرسالة ولا أطرف حول قصتي (من وراء الأبد)؛ هذه القصة التي حركت مشاعر الأديب الأردني الفاضل وأثارت شجونه، حتى دفعته إلى أن ينقل إلى هذا الفيض من المشاركة الوجدانية العميقة التي عشت في أجوائها يوم أن عكست من الحياة على الورق مأساة فنان جني عليه الخيال!
لقد ظن الأديب الفاضل أن القصة قصتي الذاتية، ولعل هذا الظن قد استقر في نفسه من أن القصة كانت في رسالة. . الحق يا صديقي أنني قد نقلت القصة من حياة الناس حيث ألف القدر فصولها لا من حياتي! وصدقني إذا قلت لك إنني مازلت واقفاً على الشاطئ أرقب كل زورق حالم يمخر عباب النهر المقدس، منتظراً أن تدفع أمواج السعادة إلى شاطئ بالحلم الجميل الكبير، بالزورق الذي يمكن أن يحمل إلى أعذب أماني العمر. . وأعني بها رفيق القلب وشريك الحياة! متى تتحقق الأحلام؟ متى تتألق الأيام؟ لست أدري!!
لفتة إنسانية للأستاذ العقاد:
قرأت في (المصور) منذ أيام مقالا تحليلياً للأستاذ العقاد حول نفسية المنتحر، وقد كتب(834/41)
المقال بمناسبة حادث الانتحار الذي وقع في وزارة المعارف وراح ضحيته موظف بائس. . ولست أبغي من وراء هذه الكلمة أن أعقب على هذا التحليل النفسي الموفق الذي ورد في مقال الأستاذ العقاد، وإنما أحب أن أشير إلى كلمة حق تهز كل صاحب ضمير كضمير الرجل العادل وزير المعارف. كلمة حق نطق بها العقاد الإنسان حين طالب بمعاقبة المسئولين عن الحالة النفسية التي دفعت بالموظف البائس إلى التخلص من الحياة، فيما إذا ثبت بالتحقيق الدقيق أن رؤساءه قد حالوا بينه وبين حقوقه التي كان يطالب بها كانسان يحتاج إلى شيء من العطف والرعاية!
إننا نسجل هذه اللفتة الإنسانية للأستاذ العقاد، ونتوجه بها في نفس الوقت إلى معالي وزير المعارف.
أنور المعداوي(834/42)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
نحن وأدباء المهجر:
كتب الأستاذ حبيب كتاباً من نيويورك إلى جريدة الأهرام، يقول إنه التقى هناك بالأستاذ عبد المسيح حداد صاحب جريدة (السائح) التي تصدر بالعربية في أمريكا، بعد عودته - عودة الأستاذ حداد - من رحلته الطويلة في البرازيل والأرجنتين وتشيلي، فأراد أن يستطلع رأيه في الأدب العربي بأمريكا الجنوبية، فقال الأستاذ حداد:
إن هناك فرقاً أساسياً بين السوريين واللبنانيين في أمريكا الجنوبية وفي أمريكا الشمالية، ويتجلى هذا الفرق بأجلى مظاهره في البرازيل، فالسوريون وغيرهم من الناطقين بالضاد هنا - في أمريكا الشمالية - هم عرب ولكن أولادهم ليسوا عرباً. أما في البرازيل فهم عرب جيلاً بعد جيل) ثم ذكر تعليلاً لذلك أن العرب في البرازيل - حيث تسنى له أن يدرس أحوالها درساً وافياً دون غيرها - يحرصون على تعليم أبنائهم وبناتهم اللغة العربية، وأن هناك كليتين عربيتين تتبعان برنامج البلاد في التعليم المدرسي وتلقنان العلوم العربية بأجمعها من صرف ونحو وبيان وبلاغة وعروض وإنشاء وبعض العلوم الأخرى بالعربية، وقال إنه سمع كثيرين من خريجي هاتين الكليتين يخطبون ويلقون قصائد بالعربية من نظمهم، وذكر مع الأسف أن إحدى الكليتين قد اضطرب إلى إقفال أبوابها بعد أن خرجت خمسة عشر ألف طالب. . .
وإنا هنا - حين نقرأ هذه الأنباء - لتهفو نفوسنا وتتطلع إلى تلك الآفاق التي انبثقت منها ألوان جديدة معجبة من الأدب العربي الحديث، واسترعت أنظار الأدباء، وجرت في مشاعر الشباب؛ تلك الآفاق التي لمع فيها جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وغيرهم، وقد امتازت آدابهم بالحرية والانطلاق والتجديد.
تتطلع نفوسنا إلى أدباء العرب في المهجر الأمريكي، فنحب أن نطلع على كتاباتهم وتتصل أفكارنا بأفكارهم، كما نحب أن تتوافر لهم وسائل الإبقاء على اللغة العربية وآدابها وازدهارها هناك. وإنه لمما يسوؤنا أن نتفقد المجلات العربية الأمريكية في القاهرة مثلاً فلا نجدها، وتلك الأنباء تنقل إليها أن هناك صحافة عربية زاهرة، وبودي أن نقرأ لهم(834/43)
ويقرؤون لنا، ونبدي الرأي فيما يكتبون كما يبدون آراءهم فينا، وجملة القول أن نعاملهم معاملة أدبية كاملة تعود علينا وعليهم بالفائدة المرجوة في عالم الفكر والأدب والاجتماع.
ولست أدري من المسؤول عن الانقطاع الحالي بيننا وبين أبناء العمومة في عالمهم الجديد، ولكنا نذكر هذا الانقطاع فنتألم له، في الوقت الذي نرانا فيه نسعى إلى توثيق الأواصر الثقافية بين جميع بلاد العالم ما عدا العالم العربي في أمريكا، ولنا مكاتب ثقافية في لندن وباريس وواشنطون للتعاون الثقافي بيننا وبين هذه البلاد، فليت وزارة المعارف تنشئ مكتباً على غرار هذه المكاتب في إحدى العواصم الجنوبية بأمريكا حيث تكثر الجاليات العربية، ويكون من عمل هذا المكتب تحقيق التعاون والتبادل الأدبي بيننا وبين أدباء المهجر، كما يعمل على إمداد المعاهد العربية هناك بما تحتاج إليه من مؤلفات وأساتذة.
والإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، لماذا لا تمد يدها إلى هناك؟ وهي غير مقصورة على الدول المشتركة في الجامعة فالمفروض فيها أن تخدم الثقافة العربية في كل مكان، ويا حبذا لو ضم (متحف الثقافة العربية) شيئاً مما هناك، وهي ترسل بعثات المخطوطات إلى مختلف البلاد الغربية والشرقية فلماذا لا ترسل بعثة لرياد الثقافة العربية المعاصرة في البرازيل والأرجنتين وتشيلي؟
وليس الاتصال المنشود بين البلاد العربية وبين أبنائها في أمريكا، مقصورة فوائده على الآداب والثقافة، بل هو إلى ذلك يخدم قضايا العرب في الهيئات العالمية، وإنهم ليستجيبون لداعي القومية العربية بدافع الشعور المشترك الذي يعززه تنظيم العلاقات، ويتحقق لنا بذلك ما لا نبلغه باستجداء الأمم الغربية التي تخذلنا لقرب مشاعرها من خصومنا.
ونحن نرى الدول الغربية تعمل دائبة على نشر لغاتها وثقافاتها في خارج حدودها وخاصة في بلادنا الشرقية، وهي ترمي بذلك فيما ترمي إلى توسيع نفوذها وكسب أصدقاء موالين لها، فما أجدر البلاد العربية أن تعين تلك الجاليات العربية الكبيرة في العالم الجديد، على تعزيز لغتها وثقافتها العربيتين. ولن يحتاج ذلك فيما أعتقد إلى جهود وأموال كبيرة، بل يكفي القليل مع العناية بتنسيق وسائل التبادل والاتصال.
تقدير وتبعات:
في غمرة الأسى على فقيد فن التمثيل المرحوم نجيب الريحاني يستطيع المرء أن يلاحظ(834/44)
ظاهرة تدعو إلى الارتياح، بل تبعث الاغتباط.
ذلك أنك لا تكاد تفتح مجلة أو تطالع صحيفة منذ توفى الريحاني في الأسبوع الماضي، إلا ألفيت بها رثاء له نثراً أو شعراً، وقد حفلت بعض الصفحات بالكتابة في تاريخه والتحدث عن فنه وأثره في هذا الجيل وما إلى ذلك مما يتصل به
ولم يكن ذلك إلا صدى لما يجيش في صدور الناس على اختلاف طبقاتهم من الأسف لفقد هذا الرجل والشعور بمكانته باعتباره ممثلاً أدى رسالته الفنية على أتم وجه. ومعنى هذا أن الجمهور في مصر قد عرف قيمة فن التمثيل وقدر أهله إذ أصبح لهم في حسه وشعوره ما هم أهله من مكانة واعتبار، فإذا قضى علم من أعلام التمثيل أخذ الحزن عليه مظهراً عاماً، واستشعر الجميع فجيعتهم فيه، وهذا ما عنيته في صدر هذه الكلمة بالظاهرة التي تدعو إلى الاغتباط، وهي كذلك لأنها تدل على تطور عظيم في حياتنا، إذ تغيرت نظرتنا إلى التمثيل والممثلين من حال إلى حال، ولا تزال للحال الأولى آثار باقية، وإن كانت في سبيل الزوال، تلمح ذلك فيما تنشره بعض الصحف من أن يوسف وهبي أو عبد الوهاب أو غيرهما من الفنانين، يعتزم ترشيح نفسه عن دائرة كذا في الانتخاب القادم لعضوية مجلس النواب، وهي تنشره على أنه أمر طريف جديد، ولعله كذلك فعلا لأننا لم نعهد بعد نواباً من المشتغلين بهذه الفنون مع جدارتهم بأن يأخذوا المكان اللائق بهم في قيادة الأمة.
وقد كان الريحاني من القلائل الذي أعلوا قدر التمثيل في مصر إذ جعلوا له أهدافاً في المجتمع وسايروا به ارتقاء العلوم وسائر الفنون في مصر، فأثبتوا أنهم من المضطلعين بترقية الأمة والناهضين بها. والريحاني أول ممثل ظفر بنشان النيل، وأول ممثل تفضل جلالة الملك بإرسال مندوب عنه لتشييع جنازته، وأول ممثل أعرب جلالة الملك عن حزنه عليه بعبارة كريمة سامية.
وبعد، فذلك هو الوعي القومي نحو فن التمثيل وتقدير أهله ولا شك أن هذا التقدير يلقى على فنانينا تبعات نحو فنهم والإخلاص له وإفادة الناس منه، وعلى مقدار شعورهم بهذه التبعات ونهوضهم بمقتضياتها يتوقف مصير الغراس الذي نما وأثمر بعض الشيء ولا يزال في حاجة إلى تعهد وعناية ورعاية ليؤتي أكله على ما يشتهي الجميع.
قضية (عيسى بن هشام) والإذاعة:(834/45)
عرضت على قاضي التحضير بمحكمة مصر الكلية يوم الثلاثاء الماضي، القضية المرفوعة من خليل بك المويلحي مؤلف كتاب (حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن) ضد الإذاعة لأخذها تمثيليات من الكتاب وإذاعتها بلغة عامية مبتذلة، على ما فصلناه في عدد مضى من الرسالة. وقد أجل نظر القضية إلى جلسة 7 نوفمبر المقبل أمام محكمة مصر الكلية.
وأذكر بهذه المناسبة أني وقفت على مقال عن ذلك الكتاب للمستشرق الفرنسي هنري بريز عضو المعهد الفرنسي بدمشق، في المجلد العاشر من مجلة الدراسات الشرقية لسنة 1943، 1944 قال فيه: (إن حديث عيسى بن هشام يعد في طليعة الكتب المؤلفة في الأخلاق والعادات والنقد الاجتماعي، وما من شك في أنه كان العامل الأول في بناء صرح النهضة الحديثة للغة العربية، وإن سلاسة لغته وسجعه غير المتكلف يعيدان إلى الذاكرة أسلوب الكتابة الفنية لجنكور والإنشاء الخيالي لهويسمان. ولقد صور المويلحي الحياة المصرية في شتى مظاهرها الاجتماعية بقلم جريء وصراحة واضحة وإخلاص بلغ حد القسوة في تصوير الحقائق الواقعة تصويراً دقيقاً أذكرنا كتابة بلزاك وفلويير. وإنه لمن المتعذر على أي أديب أن ينسج على منوال حديث عيسى بن هشام أو أن يصل إلى سمو أسلوبه مقلد، فقد بلغ المثل الأعلى للإنشاء الوصفي ودقة تصوير المجتمع ولقد بزغ نوره في فجر النهضة الحديثة للأدب العربي، فمحت آيته مختلف المقامات الأدبية وهدى لنوره الرجعيين القدامى في كتاب الأدب، واسترشد بسناه المجددون من الأدباء فسلكوا من بعده الطريق المعبد إلى المستقبل المثمر)
والواقع أن حديث عيسى بن هشام يعد المحاولة الوحيدة الناجحة في عصره لإحداث فن قصصي جديد في الأبد العربي الحديث، ومن المحاولات المخفقة التي عاصرته (ليالي سطيح) و (صهارج اللؤلؤ)، ومما يؤسف له أشد الأسف أن تتخذ الإذاعة ذلك العمل الأدبي التاريخي الخالد، ذريعة إلى إحداث فن جديد في تمثيلياتها العامية الهابطة المسفة، فن يجري فيه الحوار بمثل: (يا حلمبوحة) و (يا مدهول يا منيل على عينك) وغير ذلك من ألفاظ اللغة التي يدعو إليها سلامة موسى بدلاً من العربية الفصيحة!
والإذاعة بذلك لا تكتفي باستباحة كتاب لم يتصدق به عليها مؤلفه، بل تعمد إلى تحريف(834/46)
أهدافه عن مواضعها وتهوى به إلى برامجها العامية، بعد أن سلك سبيله إلى نهضة أدبية مثمرة
خمر وجمر:
تلقيت من الأستاذ عدنان أسعد رسالة ذكر فيها ما دفعه إلى كتابه ما كتبه في (الرسالة) عن كتابه (خمر وجمر) منذراً من يقرظه بأنه سيعتبره مأجوراً، قال: (إن جماعة من الأدباء والشعراء الأصدقاء أجمعوا على أن كتاب (الخمر والجمر) كتاب يعتاص على الفهم وتحتاج معاني شعره ونثره إلى التذييل والشرح الطويل. ومن ثم ذهبوا إلى أن أية كلمة يكتبها الكاتب في تقريظ الكتاب لا تخرج عن كونها واحداً من اثنين: إما أن الكاتب المقرظ قد غمض عليه معنى في بطن الشاعر أو ظهر الناثر. . فأراد أن يظهر للناس علمه وفهمه بكلمة التقريظ حتى يقول الناس: قرأ وفهم ثم هضم. وإما أنه (مأجور) أو (مدفوع) بدافع الصداقة، وللصداقة تكاليف، أو (مرجو) يجيب رجاء الراجي ولا يخيب آمال ذوي إلى مال فكان جوابي على هؤلاء إنكم أرضيون ماديون والكتاب على ضآلة شأنه روحاني المذاهب سماوي الجناح مطلق السراح. . وصاحب القلب الكبير والروح الطليق من أسهل السهل عليه أن يستوعب الكتاب من الغلاف إلى الغلاف في جلسة أو جلسات بغير ما حاجة إلى تذييل أو شرح طويل).
وأقول للأستاذ عدنان: إني أراك تقرظ الكتاب، ولا يسعني - على الرغم من بيانك السابق - إلا أن أعتبرك (مأجوراً) من المؤلف. . . ولك تحيتي.
عباس خضر(834/47)
البَريدُ الأدَبي
رد وتصحيح:
حضرة الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة الرسالة:
يأبى الأستاذ كاتب التعقيبات إلا ان تكون له الكلمة الأولى والأخيرة في إنتاج الأدباء وفي ذواتهم، وتثور ثورته، إذا ما وجد كلمة حقه هادئة أو متحمسة، رداً على تعقيباته، وهذه مجافاة للروح الأدبي الرياضي المنشود.
وقد كان نصيبي من الرد على بعض تعقيباته، حملة شعواء
على شخصي وأدبي، في العدد (833) المؤرخ 2061949
أما حملته على شخصي فسأترك جزاءه لمجال آخر، ويهمني
الآن تصحيح الرد على ما جاء في هذه التعقيبات من وقائع
غير صحيحة
فقد زعم الكاتب أني سعيت إليه بوساطة رسول كريم لكتابة كلمة، ولو صغيرة عن كتابي (الشعر المعاصر) وإن هذا الرسول الموفد من قبلي - كما يقول - دميت قدماه في سبيل هذه الكلمة وإن الكاتب صارحه بأنه لو كتب عن هذا الكتاب لأهان قلمه وأهان (الرسالة) وأهان عقول القراء وهذه قصة خيالية، ابتدعها التوهم، فإن مركزي الاجتماعي، وتاريخي الأدبي الطويل، وخلقي المترفع، تدحض جميعاً، ما أسند إليَّ من لهفة لكلمة منه، يقدمني بها كما يقول، إلى الناس، فلست في حاجة إلى التقديم، وبحوثي الأدبية والاجتماعية، منذ أكثر من عشرين سنة وكتبي التي أخرجتها كفلت لي التقدير من الخاصة.
وأما عن كتابي (الشعر المعاصر) فقد حفلت به البيئات الأدبية
وأنصفته الأقلام الممتازة، وحفلت به وزارة المعارف واقتنت
منه عدداً (ضخماًً) لمكتباتها كما ازدانت مجلة الرسالة ذاتها
بكلمة عنه من قلم أحد محرريها، وهو زميل للكاتب المعقب(834/48)
في التحرير، ومما جاء في قوله بمجلتكم الصادرة بتاريخ 410
سنة 48 (لا يسع متتبع الحركة الأدبية إلا أن يلتفت لهذا
الكتاب ويهتم به لأنه كتاب جديد في المكتبة العربية، وهو أول
مؤلف في موضوعه (وقوله في خاتمة كلمته: (وحسب الأستاذ
السحرتي أنه وضع بكتابه هذا لبنة في بناء الأدب العربي
الحديث).
فما رأى الأستاذ المعقب في زميله، وما رأيه فيما كتبته السيدة الأديبة (ابنة الشاطئ) وهي من جماعة الأمناء التي ينتمي إليها إذ قالت عن الكتاب الذي يباع بالرطل في الأسواق (والكتاب يكاد يكون دائرة للشعراء المعاصرين فلم يدع الأستاذ المؤلف شاعراً عرفه أو قرأ له إلا سلكه في هذه الدراسة، وقدم نماذج من شعره، ويجد القارئ إلى جانب هذا عرضاً طيباً لمذاهب النقاد وأساليبهم في وزن الشعر وتقويمه، كما يقرأ خلاصة لمقاييس النقد الأوربي الحديث مطبقة على شعرنا المعاصر).
وزعم الأستاذ المعقب أن الدافع لكلمتي بالمقتطف (النقد والتعقيب) راجع إلى أنه لم يكتب كلمة عن كتابي، ونسى أنه ذكر في صدر كلمته أنني تلميذ للأستاذ سلامة موسى وأن كلمتي في المقتطف كانت دفاعاً عنه. وأحق يشهد بأني لا أدافع إلا عن كرامة الأدباء كيفما كانت ألوانهم وإني قد وهبت قلمي المتواضع للدفاع عن الحقيقة منذ تخرجي في الحقوق من ثلاثة وعشرين عاماً إلى اليوم، وقد شهدت منابر القضاء والخطابة والديمقراطية والوطنية؛ فقول الأستاذ المعقب بأني من التشكيلة العجيبة، التي يريد إرهاب كل من يحاول تصحيح آرائه بها يحمل اتهاماً باطلاً، وما كان يساغ بأي حال من الأحوال أن يلوذ الأستاذ الكاتب إلى مثله.
وليس هذا المكان مجالاً للرد على ما ورد في تعقيبات الأستاذ الكاتب من عبارات مهينة لا داعي لذكرها؛ لأن قاموسنا الأدبي قد خلا من مثلها خلواً تاماً.(834/49)
ولكن لنا أن نطرح هذه الأسئلة تعقيباً على كلمة الأستاذ الكاتب وعلى طريقته في الكتابة، هل يجوز للكاتب من الوجهة القانونية أو الأدبية أن يترك عمل الأدباء ويتناول أشخاصهم؟ وهل يباح للأدباء الدفاع عن أنفسهم، والرد على نقد ناقديهم؟ وهل يصح في شرعة الأدب محاولة الغض من كرامة الأدباء للاختلاف في الرأي؟
والجواب الصحيح على هذه الأسئلة، وهو محور النقد الأدبي السليم أن الناقد ليس حاكماً بأمره وليس له تناول أشخاص الأدباء تناولاً غير كريم وأن للأدباء أن ينقدوا النقدات الموجهة إليهم وهذه الآراء التي تدين بها هي محور الخلاف بيننا وبين كاتب التعقيبات.
مصطفى عبد اللطيف السحرتي
هذا هو الرد الذي بعث به إلى (الرسالة) الأديب صاحب التوقيع وفي الأسبوع المقبل يقرأ ويقرأ معه القراء تعقيبنا على هذا الرد.
أنور المعداوي
الألفاظ بين الحقيقة والمجاز:
يعرف أبناؤنا دلالات الألفاظ في حقائقها ومجازاتها، و (العلاقة) الرابطة بينها سواء أكانت للمشابهة أم للارسال، وقد كتب مدعي نذكير الضبع - بتصحيح موهم - ينفي رواية (قومي لم تأكلهم الضبع). . . (بقومك) مما لا يبعد الضبع عن أن تكون مؤنثة! فإن التصحيف في المضاف إليه واقع في أشعار الفدامي، بل إن (زهر الآداب) وغيره محتشد شواهد متعددة دالة على عدم إبعاد المعنى مع وجود هذا التصحيف.
لكن الكاتب - كدأبه - يريد الضرب في منحى دعوى البحث؛ فتوقعه الورطة في مأزق المغالطة؛ فالإضافة إلى ياء المتكلم أو كاف الخطاب لم تخرج الضبع على أنها (اسم للحيوان المعروف)! وهي مؤنثة!
أما المباحثة في الحقيقة والمجاز؛ فنكبر (المجمع اللغوي) على عرضهما في معرض الإفادة، لكنا نشير إلى أن التجوز بلفظة (الضبع) إلى السنة المجدية لن يبعدها عن وضعها في حقيقتها، لأن الحقيقة أصل المجاز!
فما إجداء سياقة الكاتب ومكاثرته وهو لم يستشهد على (تذكير) الضبع، ولم يسق في(834/50)
(تحقيقه) الأخير ما يباعد بين وضع اللفظ والتجوز فيه؟.
إننا لم نخطئ في الاستشهاد لأن حقيقة اللفظة باقية على مدلوها في إفادة الحيوان، ولم نبعد في الرواية لأن اختلافها لا يقدح في صحة الإيراد، ولم نجانب الصواب في التأنيث لعدم ورود ما يباعده؛ فلعل الكاتب لا يتورط فيما يدعو إلى المؤاخذة والتوجيه
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
تعقيب على تعقيبات:
قد وردت بالتعقيب الأول من تعقيبات الأستاذ الفاضل أنور المعداوي بالعدد (832) من الرسالة - جمل من هذا القبيل: (لم يكن يعرف. لم تكن تتيح) وهي بينة الخطأ. وصوابها حسب استعمالات العرب - أن ترى على هذه الهيئة: (لم يكن ليعرف. لم تكن لتتيح)؛ لأن كان المنفية بما، ويكن المنفية بلم لا يرد بعدها الفعل المضارع إلا مسبوقاً باللام المؤكدة للنفي. ويسمونها لام الجحود.
وقد ورد القرآن الكريم بهذا الاستعمال قال تعالى: (لم يكن الله ليغفر لهم).
محمد غنيم(834/51)
القَصصُ
صديقان حميمان
للكاتب الإيطالي لويجي بيراند للو
كان جيجي ميار ينتظر مركبة الترام لتقله كالمعتاد إلى طريق باسترينو حيث مقر عمله وكان متذيراً بمعطفه ذلك الصباح، وقد وضع منديله على أنفه، ويديه في قفاز إنجليزي صفيق فإن المرء إذا ما جاوز الأربعين، فإن ريح الشمال لا تعد مزاحاً.
إن كل امرئ يعرف أن مركبة الترام لن تقبل بأية حال إذا كان في انتظارها. فإما أن تتعطل في منتصف الطريق لانقطاع التيار الكهربائي، أو تختار مركبة تمر عليها، أو شخصاً سيئ الحظ تدهمه تحت عجلاتها. وكانت ريح الشمال الباردة تهب بشدة في ذلك الصباح. وجعل جيجي ميار يرفع رجلاً وينزل أخرى، وهو يراقب النهر وقد بدا كأن المسكين يشعر بالبرد القارص أيضاً.
وأخيراً أقبلت مركبة الترام تدندن، وأخذ جيجي يستعد للقفز فيها وهي سائرة دون أن تقف، عندما سمع صوتاً آتياً من بونت - كافور ينادي (جيجي، أيها الصديق العزيز، جيجي) فالتفت فرأى سيداً يهرول قاصداً نحوه، يلوح بذراعين كأنهما عموداً التلغراف. وفي تلك الآونة ابتعدت مركبة الترام. وكان عزاء جيجي على ابتعادها أن وجد نفسه بين ذراعي السيد الغريب الذي لابد أن يكون صديقاً حميما له، إذا حكم على ذك من عنف القبلتين اللتين طبعهما الرجل على المنديل الحريري الذي يغطي وجهه
وقال الرجل - أتعلم أني عرفتك في الحال، أيها العزيز؟! ألا تخجل من نفسك؟ أعطنا قبلة يا عزيزي لبلوغك هذه السن. إنك تبدو وكأنك كنت واقفاً في انتظاري. وعندما شاهدتك تمد ذراعك لتتعلق بمركبة الترام اللعينة قلت لنفسي (هذه خيانة محض خيانة). فقال ميار وقد علت شفتيه ابتسامة مغتصبة - نعم، كنت ذاهباً إلى المكتب.
- أرجوك، لا تحدثني عن مثل هذه الأشياء المنفرة.
- لماذا؟ - إني أعني ذلك. في الواقع أُلح.
- أنت شخص غريب الأطوار أتعرف؟
- نعم أعرف. ولكن خبرني، إنك لم تكن متوقعاً رؤيتي، أليس كذلك؟ إنه يبدو في وجهك.(834/52)
- حسن، كلا. . . في الواقع.
- لقد وصلت مساء أمس. وأخوك يرسل إليك تحياته. وهو - على فكرة، سأجعلك تضحك - لقد أراد أن يبعث إليك بكتاب يقدمني فيه إليك!. . . فقلت (ماذا! كتاب تبعث به إلى جيجي الصغير؛ ألا تعلم أني أعرفه قبل أن تعرفه أنت؟ نحن صديقان منذ الطفولة، ورفيقان في الدراسة الجامعية ألا تذكر بادوا القديمة الشهيرة؟ وذلك الناقوس الضخم الذي لم تكن تسمعه مطلقاً؟ فقد كنت تنام مثل - مثل - ماذا أقول - مثل الزغبة! أظن كان يجب أن أقول، كالخنزير. حسن. . . وعندما سمعته - مرة واحدة - حسبته إنذار حريق. . . ما أحلى تلك الأيام! إن شقيقك في صحة جيدة، وشكراً لله، فنحن مشتركان في عمل صغير. وأنا هنا من أجله، ولكن، ماذا بك؟ إنك تبدو كالجنازة أمتزوج أنت؟
فأجب جيجي ميار في دهشة وشدة - كلا يا عزيزي!
- على أهبة الزواج؟ - أمجنون أنت؟ بعد سن الأربعين؟ يا إلهي؟ كلا. لم أفكر في ذلك مطلقاً.
- أربعون! إنك تبدو في الخمسين أيها الصغير جيجي.
ولكن، لم لا؟ لقد كدت أنسى أن وجه غرابتك هو في أنك لا تسمع ما يحدث - من الأجراس والسنين. خمسون يا صديقي العزيز، خمسون سنة، أؤكد لك ذلك. لقد ولدت. . دعني أفكر. . في أبريل عام 1851، أليس كذلك؟ 12 من أبريل.
وصاح ميار قائلاً في لهجة من التأكيد - لا تؤاخذني، في مايو. ولا تؤاخذني أيضاً عام 1852، أتعرف أحسن مني؟ 12 مايو سنة 1852، وعلى ذلك فسني الآن 49 سنة وبضعة أشهر
- وبلا زوجة! هذا عظيم! أنا متزوج، ألا تعرف؟ آه، بلى، إنها مأساة. سأجعل جانبيك ينفجران من الضحك، وفي أثناء ذلك، سأعتبر نفسي بالطبع، مدعواً للغداء عندك. أين تأكل هذه الأيام؟ ألا زلت تقصد مطعم باربا القديم؟
وتعجب جيجي في دهشة بالغة وقال - يا إلهي، أتعرف أيضاً أني أذهب إلى باربا؟ أظنك كنت من رواده.
- أنا، عند باربا!؟ كيف أكون هناك وأنا في بادوا؟ لقد علمت وسمعت عن ذهابك أنت(834/53)
والآخرين تقصدون - أيحق لي أن أقول الحانة، أو الهيكل، أو مكان الأكل؟
فأجاب ميار - سمعها الحانة، أو ما شئت، ولكن إذا كنت ستتناول طعام الغذاء معي فلا بد أن أخبر الخادم بذلك.
- صغيرة، أليس كذلك؟
- أوه، كلا، عجوز يا صديقي، عجوز. فضلاً عن أني انقطعت عن الذهاب إلى باربا. ثم لم أتردد عليه منذ ثلاثة أعوام. فأنت في سن معينة. . . - بعد الأربعين
- بعد الأربعين، يجب أن تتحلى بالشجاعة، وتدير ظهرك للطريق الذي قد يؤدي بك إلى الهاوية. فإن أردت التردي - حسن، فليكن ذلك، على أن تنزلق في بطء، في منتهى البطء وفي خفة، محاذراً ألا تتدحرج، أو تتعثر فتسقط. حسن، ها قد وصلنا. سأطلعك على ما قمت به من عمل طيب بسيط لداري الصغيرة
وأخذ صديق جيجي ميار يردد قائلاً وهو يصعد الدرج خلفه - في بطئ في منتهى البطء، وفي خفة. . علم طيب بسيط. . دارك الصغيرة. مخلوق ضخم التكوين مثلك يتأنق! مسكين أنت يا جيجي! ما الذي فعلوه بك؟ أحرقوا ذيلك؟ أتود أن تترقرق عيناي بالدمع؟
فقال ميار وهو ينتظر حتى تفتح الخادم الباب - حسن، يجب أن نكون في وفاق مع وجودنا اللعين، عند هذه المرحلة من العمر. دلل هذا الوجود، تملقه حتى بالتوافه، وإلا جعلك تافهاً. إني لا أود بأية حال من الأحوال أن أجد نفسي مدفوناً في حفرة عمقها أربعة أقدام. لا، لست أنا.
فقال الآخر يحاول أن يجادله في هذه النقطة - إذا فأنت تعتقد في الرجل أنه حيوان من ذوي الساقين؟ لا تقل إنك تعتقد ذلك يا جيجي الصغير؟ أنا أعرف أية مجهودات أبذلها لأظل قائماً على قدميَّ. صدقني يا صديقي، لو تركنا الطبيعة تسير في طريقها لأصبحنا من ذوات الأربع. إن هذه المدينة اللعينة تهدمنا لو كنت من ذوات الأربع لأصبحت حيواناً متوحشاً جميلاً، ولرفصتك رفصات عديدة بسبب ما حدثتني عنه، ولأصبحت بلا زوجة، وبلا ديون، وبلا هموم. أتريدني أبكي؟
ودهش جيجي من حديث صديقه، ذلك الذي هبط إليه من السحاب وجعل يتأمله وينقب في أركان ذهنه عن اسم ذلك الشيطان، وكيف ومتى عرفه في بادوا، سواء في طفولته أو في(834/54)
دراسته الجامعية. واستعرض في مخيلته أصدقاءه الحميمين كل من كان يعهدهم في تلك الأيام، دون ان يطابق أحدهم ملامح هذا الرجل. على أية حال، أنه لا يجرؤ على سؤاله، فقد كان يخشى أن يجرح شعوره بعد أن بدت منه كل هذه المودة. فعزم على أن يعرف الحقيقة عن طريق اللف والمداورة.
ومكثت الخادم مدة طويلة دون أن تستجيب إلى قرع الباب فقد كانت لا تتوقع أوبة سيدها سريعاً. وقرع الباب مرة أخرى وأخيراً وقع أقدامها.
وقال لها ميار: ها أنذا قد عدت ثانية أيتها الفتاة العجوز ومعي رفيق فاعتني به، وانتبهي، فلا يقبل مزاحاً مع صديقي هنا، صديق ذي الاسم الغريب. . .
فقال الرجل وهو يضحك مما جعل المرأة لا تدري هل تشاركه ضحكة أو تعبس في وجهه: (إنسان متسلسل من تيس بقرنين ولحية!). ولا يميل أحد إلى التعرف بذلك الاسم الجميل، اسمي أيتها الفتاة! لقد جعل وجوه مديري البنوك تلتوي، والدائنين يترنحون. ما عدا زوجتي. كانت مسرورة به. إنه الاسم الوحيد الذي وهبته لها. ادخل يا جيجي، ودعني أرى رياشك ومتاعك المسكين. .
وقاده ميار وقد خاب أمله من جراء فشله في معرفة اسمه، وجعل يطلعه على شقته الصغيرة وغرفها الخمس، وقد امتلأت بالرياش في عناية وترتيب. وزاد عذابه في غرفة الاستقبال عندما سمع صديقه يتحدث في مودة كبيرة عن أشيائه العائلية، ويتطلع إلى الصور القائمة فوق الموقد ويقول:
- وددت يا جيجي الصغير لو كان لي زوج أخت مثلك. لو عرفت أي وغد تزوجت أختي؟
- أيعامل شقيقتك معاملة سيئة؟
- كلا، بل يسيء معاملتي أنا. لقد كان من الهين عليه أن يساعدني في عسري. ولكن لا، ليس هو الذي يفعل ذلك.
- أرجو المعذرة، إني لا أذكر اسم زوج شقيقتك.
- لا داعي للاعتذار. إنك لا تذكره؛ لأنك لا تعرفه. إنه لم يقدم إلى بادو إلا منذ سنتين. أتدري ما الذي فعله بي؟ إن شقيقك كان رؤوفاً بي ووعد أن يساعدني، إذا قبل هذا التعس أن يبدل سنداتي - ولكن صدقني، لقد رفض أن يفعل ذلك. وشقيقك، مع أنه غريب، قبل(834/55)
أن يأخذ مشكلتي بين يديه وهو ساخط ناقم عليه. فلأخبرك عن سبب رفض زوج شقيقتي لقد كانت شقيقته سيئة الحظ فوقعت في شراك حبي. يا للفتاة المسكينة! لقد سممت نفسها. . .
فقال ميار: - توفيت؟
- كلا، لقد لفظ جوفها ما ابتلعته؛ ولذلك شفيت. ولكنك تستطيع أن تدرك أنه أصبح من المستحيل على أن أطأ عتبة دار شقيقها بعد هذه المأساة. يا إلهي ألا نأكل؟ أصبحت لا أرى من الجوع. أكاد أموت جوعاً كالذئب!
وعندما كان يتناولان الطعام على المائدة جعل جيجي ميار يدفعه عن طريق الثقة المتبادلة بين الأصدقاء، على أن يحدثه عن أخباره في بادوا، لعله بذلك يزلق لسانه فيذكر اسمه على الأقل. وكان ضيفه إذ ذاك يزداد شيئاً فشيئاً. فقال له حدثني عن بعض أخبارك - كيف حال فالفيرد مدير بنك إيطاليا، وزوجه الحسناء وشقيقتها الحولاء، ألا يزالون في بادوا؟
وإذا بصديقه ينفجر ضاحكاً. فقال ماير في دهشة - ما الأمر؟ أليست شقيقتها حولاء؟ فرجاه الآخر أن يكف عن أسئلته وقد ارتجف بدنه وتملكه نوع من التشنج من كثرة الضحك الذي كان يحاول كتمانه دون جدوى، وقال له - أصمت لحظة، بحق السماء، أصمت. حولاء؟ لم أكن أعتقد أنها كذلك. وذلك الأنف المتسع الذي ترى منه مخها! نعم إنها نفس المرأة.
- أية امرأة؟ - زوجتي!
وشده جيجي ماير دهشة. ولم يبق له من قوته إلا ما يستطيع بها أن يتمتم بعض كلمات الاعتذار. ولكن ظل الرجل سادراً في ضحكه أكثر من ذي قبل، إلى أن هدأ أخيراً، ثم عبس، ثم أخذ نفساً عميقاً، وأخيراً قال: - يا صديقي العزيز، هناك في الحياة بطولة لا تستطيع حتى مخلية الشاعر أن تتصورها.
فتنهد ميار قائلاً: - نعم، حقاً، أنت على صواب. . . إني أعرف ماذا تعني.
فعارضه الآخر قائلاً: - إنك لا تعرف شيئاً مطلقاً. أتعتقد أني أنوه عن نفسي؟ أنا البطل. أنا لست إلا الضحية! إن الشجاعة صفة نادراً ما تتحلى بها شقيقة زوجتي، زوجة لوسيوفالفيرد أصغ لي قليلاً. يا إلهي ما أغباك أيها الرجل!
- كلا، أنا أنا! في خداع نفسي بأن زوجة لتوتشيوفالفيرد تعشقني، لدرجة أنها تزوجت(834/56)
زوجها. ولكن ماذا تظنه حدث؟ مثال من الروح التي لا تبالي في سبيل التضحية، كما ستسمع.
دعتني ذات مرة إلى دارها، وكان زوجها متغيباً. وعندما حدثت اللحظة المؤلمة التي فوجئنا فيها سوياً، أخبأتني في حجرة شقيقتها السيدة الحولاء، فاستقبلتني في حياء وخجل، وبدت كأنها تضحي بنفسها في سبيل شرف أختها. ولم يكن عندي متسع من الوقت لأصيح. . ولكن يا سيدتي العزيزة، انتظري لحظة. كيف يصدق لوتشيو ذلك. فقد اندفع لوتشيو غاضباً مزمجراً. وتخيل أنت الباقي.
فصاح ميار متعجباً - ماذا؟ أنت، بكل ما فيك من ذكاء؟
فقال الآخر - وديوني؟ فقد يرفض مدي بما يلزمني من المال. دعنا من ذلك الحديث أرجوك. على أية حال وازنت بين حقيقة كوني لا أملك فلساً، وبين عدم رغبتي في الزواج. .
فقاطعه ميار قائلاً: - ماذا؟ أتزوجتها؟
- أوه، كلا، إنها هي التي تزوجتني. إنها هي التي تزوجت فقط. لقد حدثتها في ذلك وكلمتها بكل صراحة. قلت أيتها السيدة، إذا أردت اسمي. حسن، إذاً، خذيه. إني أكاد لا أعرف ما الذي أفعل به، أقسم لك. أكاف هذا؟
وجازف ميار قائلاً: - إذا فهذا ما حدث؟ لقد كان اسمها فالفيرد، ثم أصبح الآن. . .
فضحك الآخر وهو يهب قائماً - تماماً.
وهتف جيجي ميار، وقد أصبح لا يحتمل أكثر من ذلك وتمالك شجاعته بين يديه وقال: كلا، اصغ، لقد تمتعت معك بصباح طيب. وعاملتك كما لو كنت أخي. والآن يجب أن تقدم لي معروفاً. - لعلك تود أن أقرضك زوجتي؟
- كلا، شكراً. أود أن تخبرني عن اسمك.
فسأله في دهشة وهو يطرق بأصبعه على صدره، وكأنه يشك في وجوده - أنا؟ أسمي؟ ماذا تعني؟ ألا تعرف؟ ألا تستطيع أن تتذكر؟ فأجاب ميار معترفاً في حياء - كلا، أرجو المعذرة، سمني أكبر رجل عديم الذاكرة في العالم. ولكني أكاد أقسم أني لم أرك مطلقاً.
- أوه، عظيم جداً، عظيم جداً، يا عزيزي جيجي الصغير، ضع يدك في يدي. إني أشكرك(834/57)
من أعماق قلبي على حسن ضيافتك - ولكني سأذهب دون أن أخبرك - وهذا كل ما هنالك!
فانفجر جيجي ميار صائحاً وقد هب واقفاً على قدميه - ستخبرني، عليك اللعنة! لقد أرهقت عقلي طول الصباح، ولن أدعك ترحل دون أن تخبرني.
فأجابه الآخر في هدوء وثبات - اقتلني، قطعني إرباً، ولكني لن أخبرك!
فأخذ ميار مرة أخرى يعدل من لهجته وقال - كن رجلاً طيباً. إني لم أجرب مثل هذه التجربة من قبل - فقدان الذاكرة - أنت تعرف. إني أقسم لك أنه شعور مؤلم. فخبرني عن اسمك بحق السماء. . . . ابحث عنه بنفسك.
- استمع إليّ. إن ضعف ذاكرتي لم يمنعني عن السماح لك بالجلوس على مائدتي. وفي الواقع، حتى إذا لم أكن أعرفك على الإطلاق، فقد أصبحت الآن عزيزاً لديَّ. صدقني. إني أشعر بشعور الأخوة نحوك، وأعجب بك، وأود أن تظل معي دائماً. فخبرني إذا عن اسمك.
فقال الآخر في حزم - لا فائدة ترجى من ذلك. أنت تعرف أنك ستنساني إذا ما رجلت. كن عاقلا. أتود أن تحرمني من تلك اللذة التي لم أكن أتوقعها، لذة تركي إياك دون أن تعرف من يكون ضيفك؟ كلا. . اذهب. . إنك تطلب الشيء الكثير. إني أرى جيداً أنك لا تملك أية ذاكرة نحوي. فإذا لم تكن تود أن تجرح شعوري بذلك النسيان، فدعني أذهب كما سأفعل الآن
فصاح جيجي بغضب عاصف - اذهب إذاً، سريعاً، هذا كل ما أطلبه. إني لا أحتمل رؤيتك بعد الآن.
- حسن، إني ذاهب. ولكن اسمح لي أولا بقبلة صغيرة يا جيجي الصغير.
فأجاب ميار صائحاً - إني أرفض، إلا إذا أخبرتني. .
فقاطعه الآخر قائلاً - كلا، كلا، هذا كل ما هنالك. والآن. . إلى الملتقى. وذهب ضاحكاً. والتفت إليه وهو يتأهب في نزول الدرج؛ وأرسل إليه قبلة في الهواء. . .
محمد فتحي عبد الوهاب(834/58)
العدد 835 - بتاريخ: 04 - 07 - 1949(/)
10 - أمم حائرة
سبل الهدى والطمأنينة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
عرضتُ جوانب من قلق الآراء واضطراب الأعمال في مدنيتنا هذه، وذكرت مواطن تسرب إليها القلق وكانت جديرة أن تنجو منه؛ وبدت فيها بوادر الخلل وهي خليقة أن تنأى عنه، وذكرت الحكومات والقوانين والصحف والنساء والأسَر
والآن أفصل القول، بعد إجماله، في السبب الذي تنشأ عنه هذه العلل، والأصل الذي تتفرع منه هذه الأدواء لنعرف الدواء ونلتمس الشفاء:
لابد للنفس مما يقيمها على طريقة، ويسيرها على نهج، ويوجه رغباتها وجهة واحدة، ويجمع نزعاتها على سنة بينة. فكلما همت بأمر رأت أمامها سبيلا واضحة ولم تشتبه عليها المناهج، ولم تضطرب بها الآراء وتتجاذبها الأهواء. وكلما حزبها أمر لم تتبلد ولم تذهب شعاعا؛ بل تعمد إلى عدتها من الآراء القويمة والمذاهب المستقيمة، فتعرف ما تفعل وما تجتنب، وما تأخذ وما تدع.
والذي يقيم النفس على طريقة، ويعرفها منهجها فيما تهم به، وفيما ينزل بها، هو العقائد الراسخة، والقوانين الواضحة، عقائد الدين، وقوانين الأخلاق، وشرائع الأمة كلها. فإذا ثبتت النفسَ العقائد، وقومتها الآداب، ووضحت أمامها القوانين، خضعت أهواؤها للحق، واتفقت نزعاتها على الخير، وسارت في أعمالها على قوانين تطمئن بها، وتسكن إليها، وتحرص عليها، ولم تشتبه عليها السبل، وتنبهم أمامها الغايات.
وإن لم تئِل النفس إلى عقائد بينة، وترجع إلى مذاهب معروفة، لم تستطع السير على طريقة، ولا العمل على قانون، واضطربت في شدتها ورخائها، وحربها وسلمها، وكانت نهباً لنزعات مختلفة، وآراء متشاكسة، وتذبذبت بين دواعي الوقت وخطرات الساعة، واختلف عملها بين الحين والحين، ولم تثبت في المحن، ولم تصبر في الشدَائد، وكانت عرضة للحيرة كل آن. والحيرة هي تفرق الفكر، بل تقسم النفس، ولا يبلي الإنسان في(835/1)
حياته بشر من الحيرة، وكثيراً ما أقدمت بالإنسان على الهلاك.
إن نزعات الإنسان كثيرة مختلفة، نزعات إلى اللذة والى الغلبة والسيطرة والى إيذاء من يخالفه، وحسد من يفضُله، والبغي على من يحسده، والى جمع المال والحرص عليه. وهو يحب ويبغض، ويسكن وينفر، ويرضى ويغضب، وفي كل هذا نزوات ونزعات.
ومواضع هذه النزعات كثيرة لا تحد، تعرض للإنسان كل حين، وفي كل مكان، فهو إن لم يعتصم بالعقائد والمذاهب يمضي على غلوائه إلى أهوائه، ويضطرب فيأخذ الشيء حيناً ويدعه حيناً، وينهج السبيل وقتاً ويحيد عنه وقتاً. شريعته رغبته، وقانونه نزعته وكيف تكون الرغبات المتغيرة والنزعات المتقلبة شريعة أو قانوناً؟ وهذا فرق ما بين الخير والشرير، والمصلح والمفسد.
وإذا حار الإنسان أو سار على هواه، اضطرب في نفسه، واضطرب في جماعته، وصادمت أهواؤه أهواء غيره، فصار أمره في الجماعة نزاعاً وشقاقاً، واختلافاً وافتراقاً.
وهذه النزعات كثيرة كثرة الحسيات المحيطة بالإنسان وهي لا تعد، والجزئيات التي تتعلق بها رغبته وهي لا تحصى؛ فلا بد من عقيدة أو مذهب يرد هذه الكثرة الحسية إلى معنى جامع من معاني الخير أو الشر، فيسير الإنسان على قانون من التحريم والتحليل، والعرف والنكر. فإذا التزم الإنسان العدل والإحسان - مثلا - حسنت له آلاف من الأعمال الجزئية التي يرى فيها معنى العدل أو الإحسان، واستقام على هذه الطريقة لا يتردد في كل حادثة، ولا يتحير في كل جزئية. وإذا كره الجور والإساءة فكذلك يتجنب آلافاً من الأعمال يدرك فيها معنى الجور والإساءة. وهكذا تجمع معاني الخير والشر في نفس الإنسان، هذه الجزئيات التي لا تنتهي، وتردها إلى كليات يشرع بها قوانين يسار عليها.
وإذا انتقلنا من الجزئيات الحسية إلى الكليات المعنوية، فقد انتقلنا من العالم الخارجي إلى النفس، ومن الماديات إلى المعنويات، ومن الجثمانيات إلى الروحيات. يجب أن نزكي النفوس ونزيدها إدراكا للمعاني وكلفاً بها، حتى تسيطر على الحسيات سيطرة كاملة، فتعمل الخير وتجتنب الشر، غير مبالية بآلاف الصور الحسية وآلاف اللذات الجزئية.
ويسمو الإنسان شيئاً فشيئاً إلى إدراك اللذات المعنوية التي لا تحد ولا تنتهي، ولا يقدرُها قدرَها إلا من عرفها وأنس بها، ويتمكن الإنسان في عالم المعاني، حتى يسمو على الحدود،(835/2)
حدود الزمان والمكان والأشخاص، فتتسع حياته، وتعظم همته، ويكلف بكل جليل، وينفر من كل حقير، ويُكبر بالقوانين العامة، ويستصغر المنافع الخاصة.
إذا جمعت النفس الواحدة هذه المعاني أو هذه القوانين، وجمعت الأنفس الكثيرة أي الجماعة أو الأمة هذه المعاني وهذه القوانين، استقام الواحد على طريقه مؤتلفاً مع كل واحد، وسارت الجماعة في طريقها متآلفة متحابة.
وحينئذ يكون سعي الواحد لنفسه وللجماعة كل حين، إذ التأمت منفعته ومنفعتها بهذه القوانين الجامعة المؤلِّفة، وكان صلاحه صلاحها، وفساده في فسادها.
وترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن حتى يجد العامل الخير كل الخير، واللذة كل اللذة، في إعطاء غيره بالعدل، وفي حرمان نفسه بالعدل، وحتى يكره كل الكراهة أن يأخذ ما ليس من حقه، ويأبى كل الإباء أن يستمتع بما يؤذي غيره، بل لا يجد فيها لذة ومتاعاً، ولكن ألماً وندماً.
ثم ترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن، حتى يبلغ الإنسان المرتبة التي سماها بعض الصوفية مرتبة الكلية، وهي المرتبة التي بلغت بأحد المتصوفين أن يقول: (أشعر بأني مأخوذ بذنوب الناس كلهم). كأنه أرتكب كل ما أرتكب الناس من ذنوب، فهو يألم لها ويخاف عاقبتها.
والجماعة كالنفس الواحدة تؤلف بينها العقائد وتهديها الشرائع، وتنشئها التربية على العمل بالعقيدة وإطاعة الشريعة، فتجتمع آحادها، وتتعاون أفرادها، فتلقى الحوادث بعقائد تثبتها، وشرائع تقومها، مجتمعة غير متنافرة، متعاونة غير متخاذلة، فتسير إلى غاية معروفة، على سبيل بينة، قوية على السير، متعاونة عليه، محتملة كل مشقة، مقتحمة كل عقبة.
والأمة التي لا تضمر عقيدة صحيحة، ولا تطيع شريعة قويمة، ولا يؤلف بينها نظام جامع، ولا يثبتها في اللزبات إيمان ولا خلق، فتلقى الخطوب فزعة هلعة، متدابرة متنافرة، متجادلة متلاعنة، كثلة من الغنم تفجؤها الذئاب.
فالعقائد والمذاهب والشرائع هي وسائل الوفاق في النفس الواحدة، وفي الجماعة، وعلى قدر قوتها وصحتها تكون قوة الائتلاف وصحته، وتكون استقامة الواحد والجماعة على العمل الصالح، والدأب على المسير والصبر عليه، والثبات في الشدائد حتى تزول، والتجلد في(835/3)
الغمرات حتى تنجلي. وفي القرآن الكريم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم). (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء).
وسنبين من بعدُ الأصل الذي ترجع إليه فروع الإيمان الصحيح، والقاعدة التي تقوم عليها طمأنينة الناس ونجاتهم من الضلال والحيرة إن شاء الله.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(835/4)
مستقبل الشعر
للأستاذ يوسف البعيني
أجمع فريق من الحكماء والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء. ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأميركية الحديثة.
لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة. أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها، إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سالف الأجيال.
ليس من ينكر أن عصرنا هو عصر الراديو والسيطرة على عناصر الوجود. فالذوق البشري يتجه اتجاهاً نحو المادة هازئاً بالروح. وقد نجم عن ذلك أن تدني مستوى الموسيقى والشعر وسائر الفنون. وكما أن الآلة لا تفهم الفن، فهل يفهمه الإنسان المستعبد للآلة؟
إن فن الرسم، وهو من أرقى الفنون، فقد كثيراً من روعته بسبب اختراع آلة التصوير. وقد لاحظ أحد الرسامين أن الفنان في الماضي كان يعنى عناية خاصة بإعطاء الصورة ملامح الوجه وتقاطيع الجسد - وهذا يظهر جليا في رسوم رفائيل وليونارد دى فينشي ولاكروا وسواهم - بينما نرى أكثر مصوري اليوم يهتمون بتصوير خطوط سطحية دون أن يعنوا بإيجاد الفكرة والمقاصد النفسية والخلقية في الإنسان.
وما يقال عن فن الرسم يقال كذلك عن الموسيقى، إذ أن الموسيقى الكلاسيكية لا تزال مرجعاً للناس في هذا العصر. ولم يظهر حتى اليوم من تفوق على بيتهوفن وباخ وموزار وشوبين وبيزيه وفردي - في زمن نرى فيه من يخترع القنبلة الذرية بدلا من أن يخفف مصائب المجتمع.
فإذا كان الرسم والموسيقى قد منيا بالرزيئة الفادحة فهل يتمتع الشعر، وهو أجلى مظهر من مظاهر الألوهة في الإنسان، بتلك المنزلة التي كان يشغلها قديماً؟
لقد كان للشعر دولة وأعلام في الغرب؛ أما اليوم فنرى نظماً لا شعراً، وقشوراً لا لباباً، وقتاماً لا نوراً. والسبب الوحيد هو أن الإنسانية أشاحت عن جوهر الجمال إلى مساخر(835/5)
مموهة بالطلاء والمساحيق. ومهد لهذه الحالة ما عصف بالمجتمع من زعازع، وما روعه من مصائب، فأفلتت أعنة الشعر من أيدي الشعراء وراح بعضهم يجشم الألفاظ والبحور ما لا طاقة لها به.
كان الشاعر يحمل على جبينه نجمة الإلهام فيتقوى على النوائب ويخوض الظلمات غائصاً إلى الأعماق، فصرف نفسه عن الهدف المقصود متلهياً بالأوضاع السخيفة تلهي الطفل بالأكر. . . وهكذا فقدت الحياة تلك الروعة التي كانت ترفل في أوشحتها الهفافة.
فإذا لم يتحرر الشاعر من مادية هذا العصر ويعمد إلى قيثارته القديمة فإن الشعر سائر إلى الموت.
هذا - وهل يستطيع أن يسمعنا أنغام الحياة بما فيها من خير وشر وقبح وجمال غير الشاعر؟ وهو لا يؤدي رسالته في الناس إلا حين يصور لهم أحزانهم وأفراحهم، ويهديهم إلى مواطن الحق حيث تسود الميول والعاطفة والإحساس.
وكيف ترتاح النفوس إلى الشاعر إن لم يحمل إليها الأمل والتعزية، ويوفر لها تلك الحياة الجميلة في شتى نواحيها؟
وهذه الحياة التي نريد أن يخلقها الشاعر لا نعثر عليها في منتجات شعراء العصر بسبب المادة التي استأثرت بشعرهم فأفقدته تلك الحرارة بفقد العوامل التي كانت تثيره وتطلقه شعلاً زافرة على آفاق المجتمع. وهكذا اختل نظام الشعر - وما كان الشعر إلا دموع الإنسانية تنحدر قطراتها بلسماً على جراحه.
وبعد. فيستطيع الإنسان أن يبني القصور، ويحشد الثروات، ويستعمر الأرض والفضاء. . . يستطيع أن يفعل كل شيء، لكنه إذا تغافل عن الشعر فإن حياته تمسي عارية جرداء. والغرب لو لم يخنق عاطفته وشعوره ما كان ليعاني اليوم أكبر أزمة فكرية في تاريخه.
إن مستقبل الشعر بين الموت والحياة. فعلى الملهمين من أبناء الحياة، وقد سطروا القيم الخالدة على مدار العصور، أن يحتضنوا الشعر ويغذوه بجمال الطبيعة ليقوى على مواكبة الأجيال.
يوسف البعيني
من العصبة الأندلسية(835/6)
المثل الأعلى
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
من أهم وسائل النجاح في الحياة أن يحدد المرء له هدفاً يجعله غاية يسعى إليها؛ لأن تحديد الغرض يمكّن صاحبه أن يتخذ له من الوسائل ما يضمن تحقيقه والوصول إليه، أما هؤلاء الذين يسيرون في حياتهم بلا هدف معين، فهم كالذين يخبطون في الصحراء على غير هدى، قد تقودهم أقدامهم إلى بلد أمين، وقد يرديهم الجهل والتخبط فيهلكون.
والمثل الأعلى نوع سامٍ من أنواع تحديد الهدف، لأنه الغاية القصوى التي يراها الإنسان منتهى آماله، ويعد نفسه سعيداً ناجحاً إذا انتهى به المطاف في الحياة إليها؛ فهو للإنسان كالمنار الهادي، يجذبه بنوره ولألائه، ويضيء له مسالك طريقه ويرشده إن انحرف أو ضل، ويغريه إن يئس أو مل.
وهو يختلف باختلاف الناس، فما يصلح أن يكون مثلا أعلى للتاجر، لا يصلح أن يتخيره الصانع، والزارع والمصلح والكاتب والسياسي؛ لاختلاف كل فرد منهم في غاياته ومراميه، كما تختلف المثل العليا باختلاف عزمات الناس؛ فما يتخيله صغير الهمة مثلا أعلى لا يرضى به الطموح، ولا يقنع بالوقوف عنده:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
والغاية التي يسعى إليها المرء لا تسمى مثلا أعلى إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان: أولهما أن تكون بعيدة المثال، تحتاج إلى أمد طويل في تحقيقها، بل قد تحتاج إلى الحياة كلها. فالآمال التي يمكن أن تنال في بضعة أعوام لا تدعى مثلا عليا، فأن تكون مهندساً أو طبيباً أو قاضياً ليس من المثل الأعلى في شيء؛ ولكن أن تكون كبير المهندسين أو شيخ الأطباء أو قاضي القضاة هو المثل الأعلى الذي تكرس على نيله الحياة. وثانيهما أن تتطلب في الوصول إليها جهداً غير عادي؛ فما يمكن أن تناله من الرقي بمرور الزمن وحده لا يعد مثلا أعلى، أما ما يحتاج منك إلى المشقة، ويكلفك الجهد، ويدفعك إلى العناء، وكثيراً ما يحملك على أن تنهج نهجاً غير مألوف، وأن تخترق الطريق من غير مواضع بدئه ونهايته فذلك هو المثل الأعلى.(835/8)
يتخذ المرء مثله الأعلى شخصاً حيا يرقبه من قريب أو من بعيد، أو شخصاً تاريخياً تبهره عظمته، أو فكرة نبيلة تملكه، ويهب حياته لتحقيقها، فالتاجر مثلا قد يتخذ تاجراً آخر ناجحاً موفقاً مثلا أعلى له في الحياة، والحاكم قد يتخذ عمر بن الخطاب أسوة له حسنة، والمصلح يتخذ فكرة صالحة مثلا أعلى يسعى لتحقيقه.
وإذا اختار الإنسان مثله الأعلى شخصاً حيا أو تاريخياً استطاع أن يدرس سيرته، فيلمس فيها نواحي القوة والعظمة، ويدرس المناهج التي اتخذت لتذليل الصعاب وتحطيم العقبات، والوسائل التي اتبعت لنيل الظفر والفوز بالنجاح، فتشحذ هذه الدراسة من عزيمة المقتدي، ويرى فيها الدروس الصادقة الواقعية. غير أن الواجب في الاقتفاء ألا يلغي المرء شخصيته فيكون ذيلا لسواه، لأن إضعاف الشخصية، ينافي طلاب الكمال والتسامي إلى المجد. والتقليد إنما يحصل في نوع الفضائل التي تبهر كعدل عمر وصلابته، ووطنية مصطفى كامل ومثابرته، وقوة المتنبي وفحولته؛ أما إذا اتخذ الشاعر شاعراً آخر مثلا له، وظن أن معنى المثل الأعلى تقليده في أفكاره، والسرقة منه في معانيه، فإنه يعيش عيلا عليه، لا يرتفع إلى مستواه، ولا يمنحه الناس من الإجلال ما يمنحونه لمن يقلده، فاحتفاظ المرء بشخصيته، وطبع أعماله بطابع هذه الشخصية شرط أساسي للنجاح ونيل المجد.
كيف نختار لأنفسنا مثلا عليا؟ ومن أين نأخذها؟ وكيف ننجح في الوصول إليها؟ مسائل ثلاث مهمة؛ فإن نجاح المرء في الوصول إلى المثل الأعلى يتوقف إلى حد كبير على اختيار هذا المثل؛ ولا يكون الاختيار حسناً إلا إذا عرف المرء نفسه، ودرس اتجاهاته وميوله، وعرف مقدار ما لديه من قوة الإرادة وصلابة العزم، ثم بنى اختياره على أساس من هذه الدراسة الدقيقة. والإخفاق إنما يأتي من غرور المرء بقوته، وظنه أن له من المزايا والصفات ما ليس له، أو من خطئه في تعرف ميوله واستعداده، فيضل الطريق ويتيه، فإذا كانت استعدادات الإنسان وميوله تتجه مثلا إلى التجارة، والتصرف في شئونها، فليختر مثله الأعلى المجد التجاري، وليثق بأن النجاح سيكون حليفه. أما إذا اختار أن يكون مثله الأعلى كاتباً يشار إليه بالبنان فهنا يكون الإخفاق ولا يتم الظفر بإحدى الغايتين.
والمثل العليا لها مصادر شتى، منها كتب التاريخ، فهي حافلة بالنماذج السامية للإنسانية، يستطيع القارئ أن يتخذ منها ما يتفق مع ميوله وما يراه جديراً بالتأسي والقدوة. في تلك(835/9)
الكتب يجد الحكام والزعماء والعلماء والمخترعون مثلا تهديهم وتنير لهم السبيل.
ومن تلك المصادر أيضاً كتب السير التي تتخذ موضوعها شخصية ناجحة تدرس حياتها ووسائل نبوغها، والأسباب التي مهدت لها سبل الفوز والنجاح. وبهذه المناسبة أرى أن التأليف العربي، يجب أن يعنى بتاريخ العصاميين الذين نجحوا في حياتهم من التجار والصناع والزراع حتى نضع بين أيدي النشء نماذج لأنواع المثل العليا.
ومن مصادرها المسرحيات التي يكون من أغراضها تصوير السمو الإنساني لبطل حقيقيّ أو متخيل، وكذلك الروايات والقصص التي تعالج هذه الناحية السامية.
ومن تلك المصادر الشعر أيضاً؛ فقد حفظ لنا صورا لنماذج ممتازة من الناس، ومثلا راقية من الأخلاق. ومنذ القديم يضع القادة الشعر في قائمة تربية الناشئين، وغرس المثل العليا في نفوسهم. وللشعر أثر كبير في توجيه النفس نحو الكمال، والبعد عن الصغار، وها هو ذا معاوية بن أبي سفيان يتخذ مثله الأعلى بطلا يأبى الفرار من ميدان القتال مهما كان الثمن:
حدث معاوية قال: (اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر أدبكم، فقد رأيتني بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صريح
وقد صدق أبو تمام حين قال:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة الندى من أين تؤتي المكارم
هذا وفي الحياة أمامنا نماذج صالحة لأن تكون مثلا عليا؛ فلدينا عصاميون جعلوا وسيلتهم إلى المجد همة ماضية وعزيمة قوية، وهم شواهد حية على أن المرء يستطيع أن يحقق مطامعه إذا أراد وعمل.
والطريقة الفضلى لتحقيق المثل الأعلى أن نرسم الخطط والوسائل التي تصل بنا إليه؛ فإننا(835/10)
إذا حددنا المنهاج وضح أمامنا الطريق، ورسم الخطة يحتاج إلى تفكير عميق ووزن دقيق للأمور واستفادة من تجارب الآخرين. ومن الواجب أن تكون الخطط التي تصل إلى المثل الأعلى متنوعة متعددة؛ فإذا نال المرء الإخفاق في واحدة، لم يكن لليأس سبيل إلى نفسه؛ ولم يصدم بهذا الإخفاق، بل يكون قد أعد العدة من قبل لينهج نهجاً آخر يصل إلى الغاية عينها؛ أما إذا رسم لنفسه خطة واحدة، ولم يفكر فيما يصنعه إذا أصيب بالإخفاق فيها فإن الصدمة تكون قاسيةٍ إذا فشل قد تقضي عليه وتحطمه. والمرء حين يضع الخطط يقدر دائماً أن كل خطة منها عرضة للنجاح والفشل، لأن ظروف الحياة لا سلطان لأحد عليها حتى يكيفها كما يريد. فليقدر المرء إذاً حين يخطو كل خطوة أنه قد يفوز وقد يخفق، لأن هذا التقدير يحول بينه وبين الصدمة إذا لم تنجح خطوته، فيعود من جديد ليحاول محاولة جديدة. والذي يصمم على النجاح لا بد أن يظفر به ولو كانت الخطوات الأولى في سبيل أمله فاشلة غير ظافرة:
ومغالب العقبات حتما غالب=إلا إذا أطرح الجهاد وقصرا
فأول شرط النصر - كما يقولون - إرادة النصر. والتصميم على الظفر يسهل على المرء بدء المحاولة من جديد إذا أخفق، كما أنه يحول بينه وبين اليأس الذي هو أعدى أعداء المثل العليا؛ لأن اليأس رضا بالخيبة واعتراف بالضعف، ووقوف في منتصف الطريق ونكوص عن الجهاد. ومن أين لليائس أن يظفر بغايته وقد رضى أن يضع سلاحه ويستريح:
لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
ومن بواعث اليأس في النفس التفكير في ماض مخفق، والحزن على ما أفلت من فرص، فإن ذلك الحزن يضعف قوة المرء على الجهاد. وإنما يفكر المرء في الماضي لا ليحزن على ما فات، ولكن ليتخذ من أغلاطه عظة ودرساً في قابل الأيام!
إن من يهيئ نفسه لنيل مثل أعلى يجب أن يعلم أن الطريق إليه شاق طويل مليء بالصعاب والعقبات، وأن لا سبيل إلى قطعه إلا إذا كان لديه ذخيرة كبيرة من الجلد والمثابرة، فإن بلوغ الآمال لا يتطلب منا ذكاء نادراً، ولكنه يتطلب الصبر والمثابرة. سئل(835/11)
بعض المربين عن شروط النجاح فقال: ثلاثة: أولها المثابرة، وثانيها المثابرة، وثالثها المثابرة.
كما أن التفاؤل يجب أن يكون رفيق المرء في هذا الطريق، لأن التفاؤل يبعث في النفس سروراً، والسرور يضاعف قوة المرء على الاحتمال، وعلى تخطي الصعاب والعقبات؛ وليس معنى التفاؤل تقدير النجاح في كل خطوة، ولكن معناه تقدير النجاح النهائي، واعتقاد أن الفشل عارض من المستطاع التغلب عليه.
هذا، وعلى من يريد المثل العليا أن يحاسب نفسه في الحين بعد الحين، ليرى مقدار ما قطع من الطريق، ومدى نجاحه في خطته؛ ليعدل منهجه إذا احتاج إلى التعديل، ويستفيد من أخطائه إذا هفا وزل.
ومن ذلك يتبين أن المثل الأعلى ليس أمنية تتمنى، ولا أملا يرجى، ثم يقف المرء عند التمني والرجاء:
فما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
فهو هدف يجاهد المرء في سبيله، ويكرس له حياته واضعاً نصب عينيه قول أبي تمام:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(835/12)
فلسفة طاغور الأخلاقية:
حقيقة الموت لا تبعث على التشاؤم
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن خوف الهند التقليدي من المرض والشيخوخة والموت خوف قديم قدم حضاراتها الأولى، إذ كانت الهند منذ أن عرفها التاريخ موطن الأمراض المعدية المهلكة التي تحصد الناس حصداً، ومرتعاً خصيبا للأوبئة الفتاكة التي كانت تجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتنزل بأهلها السقام
فأشاع أنين المرض الفزع في النفوس، وعدت الأوبئة من تلك الأحداث الفاجعة التي تحض على كراهية الحياة، وتحث على الهرب منها. ولم يكن للشيخ مكانة محترمة في هيئة اجتماعية مزحومة بالسكان، لعجزه عن القيام بمطالب الحياة الضرورية، واعتماده على غيره في كل شيء. بينما الموت الذي لا يعبر إلا عن نهاية الحياة، كان أشد الأحداث الإنسانية وقعا في نفوس الهنود الذين أفقدهم الموت الأمل في جدوى العيش في كنف عالم لن يفلت فيه أحد من شر المنية.
ولقد كان لهذه الوقائع الثلاث أثر ملحوظ في الحياة الهندية الروحية لوَّنها بلون قاتم نشر فيها التشاؤم، وبغض الهنود في الاندماج في الحياة العامة، وأصبح مثلهم الأعلى هو تجنب كل ما يتعلق بالدنيا من أمور عارضة، لأنها تجلب الآلام؛ والانغماس فيها لا يثير إلا القلق والخوف والشك. فاستطاب الهنود اعتزال المجتمعات حتى لا يتعرضوا لأي نوع من الأذى يملأ قلوبهم بالأسى والشجن.
وما هجر بوذا قصر أبيه الملكي إلا بدافع من الفزع من الموت والشيخوخة والمرض، وما تخلى عن حياة الترف إلا ليدفع عن نفسه عذاب الدنيا الذي تمثل له في هذه الأحداث الأليمة التي صبغت تفكيره بصبغة سوداء، وشكلت وجدانه في قالب حالك، فرأى العالم غارقاً في الآلام، واعتقد أن الحياة سلسلة لا تنتهي من الأحزان لن يخرج من دائرتها أحد ما لم يعتزلها، ويرضى بعيشة الزهاد.
أما طاغور فلم يجزع من الحياة جزع بوذا، ولم يطرأ على باله أن ينسحب منها، ويأوي إلى زاوية تائبة يعتزل فيها الناس، ويعيش في كهف أو غار عيشة الرهبان؛ بل رأى أن(835/13)
الخلق انطلق من السرور اللانهائي حينما غمر الخالق هذا السرور، وأن سعادة الحياة في عودة الإنسان إلى مصدره الأصلي أي إلى السرور. فالخلق يخرج من السرور بالسرور ويرجع إلى السرور، والحياة قائمة على السرور تستمد منه نشاطها وتطورها، بل هو حافزها إلى التقدم والرقي. وإن كانت هذه الآراء أفكارا هندية قديمة، فإن طاغور أضفى عليها من ضياء نفسه ما جعلها تبدو كأنها صادرة منه، ولم تصدر من أحد قبله، لأنه أعطاها قيمة أولية، واتخذ منها مبدأ يزيل به ما يعلق بالنفس الهندية من نزعات تشاؤمية، حببتها في حياة سلبية اعتزالية بعيدة عن ميادين الأرض الحيوية، مما حمل المستشرقين على اتهام العقلية الهندية بأنها تقف من الحياة موقفاً سلبياً، وتعجز عن الاندماج فيها، ولا تقدر أن تسلك طرقاً إيجابية فعالة تفيد الإنسان في عيشته الواقعية أو تقدم ركب الحضارة الإنسانية.
ولكن ما الذي يفزعنا من المرض والشيخوخة والموت ما دمنا نعلم أننا انبثقنا من السرور بالسرور وأننا يجب أن نسعى لنعود إلى السرور إذا أردنا أن نعيش في سعادة لا يشوبها ألم.
لا ريب أن تحقيق وحدة الوجود بتلاشي الفرد في النفس الإنسانية ثم في محتويات الطبيعة، هو السبيل المباشر لذلك السرور. لأن فناء الفرد في النفس الإنسانية يتطلب التمثل بقوانين النفس الأخلاقية عن طريق خوض المجتمعات الإنسانية، حتى تمتحن أعماله، وتختبر مشاعره، ويتأكد من صفاء نيته في الاتحاد بالله.
فإن جاهد في سبيل الله، وعمل على رقي الحياة البشرية، ولم يبال بما يقابله من صعاب، ولم ينظر إلى منافعه الخاصة، فقد سار في طريق وحدة الوجود، وقرب من السرور الإلهي. وإذا استمر في السير في طريق الله، وعمل على أن يمحي ذاته في محتويات الطبيعة بالكشف عن القوانين الطبيعية مدركا أنها رسل الله في الكون، وآياته البينات التي تشير إلى وجوده في كل مكان، فبشره بالفوز بالحياة في السرور المطلق لأنه أدمج في ذاته النفس الإنسانية بالطبيعة الكونية وحقق وحدة الوجود.
وهكذا لم يكتف طاغور بإخراج الإنسان من السرور بالسرور، وإنما اتخذ من السرور نفسه محوراً جوهرياً تدور عليه حياته، إذ اعتبر القيم الروحية والعمل الخير النافع والعلم البعيد(835/14)
عن الهوى المؤدي إلى الله، ومسائل تحقق وحدة الوجود التي تبعث السرور. لأن التمسك بالفضائل من غيرية وتضحية وحب للإنسانية، تطهر النفس من العواطف الشريرة والانفعالات القاسية التي تعرض الحياة لمختلف ضروب الآلام النفسية. بينما العمل الخير النافع يقوي العلاقات بين الأفراد، ويوثق الروابط بين الدول، ويحث الجميع على المساهمة في الشئون الإنسانية، ويساعد على تنقية الفكر من الاتجاهات التشاؤمية، وتبرر له ضرورة اندماجه في الحياة الاجتماعية.
وبذلك يقضي العمل على كل نزعة تحض على الهرب من مشاكل الأرض. ولا يقل شأن العلم في حياة الإنسانية عن شأن القيم الأخلاقية والعمل الخير، إذ أن معرفة القوانين الطبيعية فضلا عن أنها تبين ملامح الله في وجه الخليقة، فإنها تفهمنا كذلك طبيعة الأشياء وكيفية سيرها. وذلك يسهل علينا إصلاح أي خلل يصيبها. فهي تعرفنا قوانين الجسم الإنساني، وتعدد أسباب إصابته بالأمراض، وتبين وسائل مقاومة هذه الأمراض التي أرهبت الهند منذ فجر الحضارة، وتخفف من حدة آلامها التي دفعت الهند إلى هجرة المجتمعات. وبذلك يزيل العلم خوفنا من المرض وما قد يحدثه في النفوس من ذعر واضطراب وريبة. . .
فالهندي في طريقه نحو الله يزداد إيمانه بالقانون الخلقي لأنه يجلب السرور، ويقوى اعتقاده في أن السعاة في الانغماس في الحياة اليومية لا في الهرب منها؛ ويستفيد في معرفة قوانين الطبيعة في توضيح أسباب المرض، وتعرض عليه كيفية علاجها وتعلمه طريقة تجنب آلامها، فتصون عليه مصائبها، وتذهب عن نفسه تلك الهواجس التي تفسد حياته وتحصرها في آلام وهمية، وأحزان مبالغ فيها.
وتحقيق وحدة الوجود لا يستأصل بذور التشاؤم من النفس، أو يقضي على مخاوف المرض، ودائماً يهيئ النفس كذلك لأن تبقى في شباب أبدي لا يلحقه الهرم، ولا تدركه الشيخوخة، ويحافظ دائماً على حيوية الروح، حتى لا يسري العجز إطلاقاً إلى قوتها، ويحمي النفس من الضعف والوهن. لأن الإنسان في مثل هذه الحياة الإلهية يعيش في كنف اللانهاية التي لا تعرف غير نضارة الشباب وقوة الفتوة. فمن بلغ درجة الفناء في الله، وغمرته وحدة الوجود لا تتصدع قواه، ولا تختل طاقاته، ولا يتخلف عن مهام الحياة(835/15)
الاجتماعية مهما كبر سنه، لأن روحه ستظل شابة إلى الأبد تحس بقوة دافعة إلى الاضطلاع بأعظم الأعمال بدون أن تنفر من كد الحير أو تتألم من قسوة العمل.
ولذلك لا ينبغي أن يقصر أحد في تحقيق وحدة الوجود، فإنها تسوقه إلى ذلك السرور الذي بزغ منه، وتنجيه من آلام المرض ومخاوفه، ومن هزال الشيخوخة وخذلان القوى. أما الموت الذي يعد المصدر الرئيسي للتشاؤم، والذي عول عليه كل متشائم في تعزيز نظرته الداكنة نحو الحياة، فما هو إلا حدث من تلك الأحداث التي تقابل الإنسان في طريق الحياة، وهو لا يحول دون تقدمه، ولا يقف عثرة في سبيل رقي البشر. كما أن الحياة لا تعطي له من الأهمية بحيث تشغل به فكر الإنسان، فيغفل عما هي قائمة عليه من سرور، وما يمكنها أن تبعثه في نفسه من غبطة وحبور. والذي يشهد على ذلك هو أن الإنسان يلهو ويلعب ويضحك كما يجد ويعمل ويدخر ويأخذ أهبته لذلك اليوم الذي يفاجئه فيه الموت. بل إن سير قادة الروح تدل على أن الموت لا يوجد ثغرة في ميدان الحقيقة التي يسعون إليها، لأنه لا يؤدي إلى فناء الروح الخالدة، ولا يعوق تلاشيها في الذات الإلهية، أو يعطل تحقيق وحدة الوجود، إذ أن الروح لن تموت أبداً، ما دامت هي والعالم الذي يكمن فيه الله شيئاً واحداً، وتنم عن صورة من سرور الله الذي أظهر بها ذاته في الكون
فالموت ليس له أثر عميق في الحياة، ولا يعبر إلا عن حادثة فردية، لا تفسر إلا ذاتها فقط، وإنما تفزع منه عندما تلتفت إلى حادثة من أحداثه، وتنظر إليها نظرة منفصلة عن الحياة الشاملة التي تضم جميع الأحداث الإنسانية التي من بينها الموت. ومثل من يبالغ في جزعه من الموت في ميدان الحياة، مثل من ينظر إلى جزء صغير من قطعة قماش كبيرة خلال مجهر، فتبدو له كالشبكة، فيرتعد فرقا من مجرد مشاهدة خروق هذا الجزء المكبر، بدون أن ينتبه إلى بقية أجزاء قطعة القماش.
ولكي يذهب عن الإنسان ذلك الهلع الذي يثيره الموت في نفسه، يجب أن يعلم أن هناك وحدة مزدوجة في الحياة تشمل الموت والحياة معاً، وأن الموت مظهرها السلبي الخادع لأنه موت لا يسبب فناء الروح وإن كان رفيقاً لا يفارق الحياة، بل إن الروح العظيمة ترحب بالموت، وترى الدوام فيه وفي الحياة على حد سواء، وتقبل أن تضحي بوجودها الدنيوي في سبيل تحقيق وحدة، وتنظر إلى ظهور الإنسان واختفائه على أنه شيء أشبه بارتفاع(835/16)
الأمواج وانخفاضها على سطح البحر، بينما الروح باقية أبداً في الموت والحياة مثل بقاء البحر سواء علت أمواجه أم هبطت. ولا تغالي إذا زعمنا أننا نطلب الموت حين نرفضه، لأن خوفنا منه يحبس الروح في حدود الحياة الأرضية، ويلزمها أن تعيش على وتيرة واحدة لا تغير فيها، ولا تسمح بأي تطور يعتريها، فلا تحس بأي دافع يحفزها لتجعل حدودها شيئاً لا نهائيا، ولا تستطيع أن تتصور أن الحصول على الكمال الروحي، قد ينتهي بها إلى موت دائم وحياة دائمة يسيران جنباً إلى جنب في وقت واحد، لأن بلوغ الكمال لا يتم إلا بعد فناء الذات الفردية وبقاء حقيقة وحدة الوجود الإلهية.
وهكذا لا يبعث المرض والشيخوخة والموت على التشاؤم، ما دام الإنسان لا يجهل حقيقة اتحاد الخليقة بالخالق، ويعمل على تحقيقها في ذاته، ويؤمن بخلود الروح في اللانهاية. أما الذين يمعنون في التشاؤم، ويستشهدون بالموت في تدعيم نظرتهم العابسة نحو الحياة، لا شك أن تشاؤمهم ليس إلا نزوة فكرية أو انحرافاً عاطفياً ينبذ ما في الحياة من سعادة وخير وحب كما ينبذ المريض الطعام الصحي، ويعب في شراب التشاؤم الفاسد، الذي يسمم النفس؛ نغم مصطنع يوحي إليها بالأفكار الحزينة، ويبعث فيها العواطف الضالة التي يمكن أن تبدد من الأذهان بمجرد ملاحظة قدرة الحياة على التقدم المستمر، ونجاحها المتواصل في تحقيق مآربها الحضارية التي تنشد الوصول إلى أقصى درجات الكمال، لتنعم البشرية بحياة ملائكية في سرور إلهي سروري.
وينتهي طاغور من ذلك كله إلى أنه لا ينبغي أن نهيم في واد من الهواجس المرعبة، أو نغرق في خضم من الأوهام السود، أو نرى الوجود قائماً على العذاب والحزن، فنهجر الحياة هربا من آلامها وخوفاً من أشرارها؛ وإنما يجب أن نخوض المجتمع الإنساني واثقين من أن كل من يجتهد في سبيل وحدته بالله الذي يتجلى في كل شيء في الوجود، سيتغلب حتما على ما يقابله من أحزان وآلام، ويقتلع الشر من أساسه، ولا يجد في المرض والشيخوخة والموت إلا أحداثاً تافهة تمر بكل إنسان، ولا تؤثر في حياته، ولا تلهيه عن توجيه عنايته نحو الله، ليفوز بالاتحاد به ويعيش في السرور الذي صدر عنه.
(كفر الزيات)
عبد العزيز محمد الزكي(835/17)
أثر العظماء في التاريخ
للأستاذ نجم الدين حمودي
إن أثر الأفراد في تغيير مجرى التاريخ من الموضوعات الطريفة التي جلبت اهتمام المفكرين في كافة العصور. ولا عجب إذا وجدنا الفلاسفة يولون هذه المشكلة عنايتهم، فيثيرون الجدل حولها. ومن الجدير بالذكر أن هذا الجدل جعل الفلاسفة ينقسمون إلى فئتين متناقضتين: فئة تقول: (إن التاريخ في جوهره عبارة عن سير العظماء)؛ أو بكلمة أوضح: (إن التاريخ من صنع الصفوة الصالحة من الذين يؤلفون زعامة اجتماعية مستمدة من مزاياهم الشخصية). أما الفئة الثانية فتدعى عكس هؤلاء تماماً، ولسان حالها يقول: إن العظماء نماذج كاملة للبيئة التي يعيشون فيها.
إن فيمن يعضد نظرية تأثير العظماء في سير التاريخ وقدرتهم على تغييره الكاتب الإنكليزي (توماس كارليل) في كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فيتحدث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم و (أوليفر كرومويل) ويجعلهما أمثلة للرجال العظماء الذين غيروا مجرى التاريخ. أما رأي (كارليل) في نابليون فيختلف كل الاختلاف عن رأيه في النبي محمد وكرومويل، إذ أنه يجرده من صفة العظمة. ويشاركه في هذا الرأي الكاتب الروسي (تولستوي) الذي يحلل شخصية نابليون بقوله: (إنه رجل خلقته الظروف والمصادفات التي تحكمت في انتصاراته أول الأمر ثم عادت فسببت خذلانه واندحاره).
ومن أبرز المؤرخين المعاصرين في إنكلترا الذين شرحوا نظرية العظماء وأثرهم في التاريخ السر (شارل أومان) أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد الذي يعارض نظرية التطور التي فحواها: إن التاريخ سلسلة من الحوادث التدريجية الاعتيادية. وبهذا تتغافل هذه النظرية عن أثر العظماء وقدرتهم في تغيير التاريخ فنجعل من أعمالهم صورة للأمور التدريجية الاعتيادية المحتمة الوقوع.
إن السر (أومان) من مؤيدي نظرية العظماء، ويدعم رأيه بأمثلة لأشخاص غيروا مجرى التاريخ دون أن يكونوا ممثلين لبيئتهم التي عاشوا فيها. وأول مثل يستشهد به هو النبي محمد (صلعم) فيقول: (لقد أخفقت في محاولاتي الكثيرة لإيجاد مؤرخ واحد يستطيع البرهنة على أن النبي محمد (صلعم) كان وليد الحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية(835/19)
التي كانت تسود الجزيرة العربية في القرن السابع بعد الميلاد. ولم أجد بين المؤرخين أيضاً من يقدر أن يقول: لو لم يبعث النبي محمد (صلعم) لكان من الطبيعي أن يستعاض عنه بشخص يقوم بنفس المهام التي اضطلع بها. ويستمر السر (أومان) في بحثه عن النبي محمد (صلعم) فيقول: (منذ القرن الثاني للميلاد حتى أواخر القرن التاسع عشر وجد عدد من الأنبياء أو الذين حاولوا التشبه بهم كظهور المهدي في السودان، إلا أن جميع هؤلاء لم يقوموا بأعمال خارقة كالتي قام بها النبي محمد الذي جعل أبناء الصحراء أمة تمكنت من المحافظة على المدينة وتقدمها في نصف أرجاء المعمور.
يبلغ اعتداد السر (أومان) بنظريته الذروة عندما يستشهد بسيرة وليم الفاتح فيقول: (لقد لعبت بريطانيا العظمى خلال القرون الماضية دوراً مهماً في تاريخ ومقدرات العالم. وإني أؤكد جازماً أنه لولا مجيء وليم الفاتح لما تيسر لبريطانية أن تلعب هذا الدور في الأوضاع العالمية، وأن تاريخ بريطانية كان من المحتمل أن يكون شبيهاً بتاريخ الدول الاسكندنافية، أي معزولاً عن السياسة الأوربية العامة لولا وليم الفاتح وانتصاره في موقعة (هيستنكز) عام 1066. ولا غرو إذا قلنا إنه لو كتب لوليم الفاتح أن يندحر عوضاً عن (هارولد كود وينسون) في موقعة جسر (سنلاك) لبقيت بريطانية محافظة على عزلتها ولازمت عدم التدخل في القارة الأوربية.
ونستعرض الآن رأي كاتب آخر يفوق السر (أومان) في أعمق تفكيره وبحثه الفلسفي المركز؛ وهذا الكاتب هو (جيكوب برخاروت) أستاذ التاريخ بجامعة (بيزل) في سويسرا بين عام 1865، 1885. يبتدئ (برخاروت) بإلقاء نظرة عامة على مفهوم كلمة العظمة والغموض الذي يكتنف ماهيتها لعدم وقوعها ضمن الأشياء المادية التي يمكن وزنها وقياسها، فلا هي هبة حتى يعرف مصدرها، ولا هي منحة حتى يشار إلى مانحها؛ وعلى هذا الأساس فإن الحكم على عظمة الأشخاص حكماً عادلاً أمر من الصعوبة بمكان عظيم.
ويعتقد (برخاروت) أن من أهم الصفات الملازمة للعظمة أنها وحدة فريدة غير ممكنة التعويض. ولهذا فالرجل العظيم هو ذلك الشخص الذي لولا وجوده لما تم تنفيذ جزء مهم من الأعمال الخطيرة في تلك الحقبة من الزمن والمكان اللذين عاش فيهما. ويتعرض (برخاروت) إلى المثل السائر (ليس هناك فرد لا يمكن تعويضه فيقول: (نعم إن هذا المثل(835/20)
يصدق في أكثر الحالات وأعمها، إلا أن أولئك الأفراد الذين لا يمكن تعويضهم هم العظماء، ويكونون عادة أقلاء وسيبقون كذلك أو ربما يقلون.
ولا شك أن التقدم الذي بلغته الإنسانية في المضمار الحضاري من علوم وفنون وآداب أصبح ممكناً بفضل جهود نفر من العظماء الذين سخروا مواهبهم في سبيل تحقيق هذا التقدم. وإن من يدرس آراء (برخاروت) بصورة دقيقة يلاحظ أنه يميل إلى أن العظمة تتمثل في الفلاسفة والفنانين فقط، فيقول في سياق بحثه: إنني لا أعد المخترعين والمكتشفين من العظماء لأن ما ينتجونه يمكن الوصول إليه في يوم من الأيام، أما الفلاسفة والفنانون فلا يمكن أن يستعاض عنهم بصورة مطلقة. فلو صادف أن مات رفائيل قبل نضوجه الفني لما خرج في العالم شخص مثله يتمكن من رسم لوحته الخالدة (تجلي المسيح). ومن البديهي أن يكون تصوير العاطفة والخيال، وتجسيد الوحي والإلهام في هيئة جميلة، وإظهارها بشكل آية فنية رائعة تكشف النقاب عن مواطن الجمال، ليس بالأمر الهين؛ لأن إعادة خلق الأفكار وتجسيدها في مظهر فني لا يقدر أن يقوم به إلا خالق الفكرة نفسه.
خاتمة:
أعتقد أن الآراء التي بينتها حتى الآن تكفي لإعطاء فكرة عامة عن النظرية التي تقول: (أن التاريخ سلسلة من سير العظماء) أما النظرية المعاكسة التي من أبرز زعماتها (سبنسر) فتقول إن الإنسان خاضع لمحيطه ويتطور بتطوره. وإذا ما تعارضت ميول الفرد مع سير الحوادث تبددت وزالت ولا يبقى إلا أثار التطورات الاجتماعية المحتمة الوقوع. ويدعى أصحاب هذه النظرية - نظرية التطور - أن الأعمال العظيمة التي استطاع أبطال التاريخ أن يقوموا بها لم تتيسر لهم إلا عندما اتجهت إرادتهم وميولهم نحو تحقيق الرغبات التي كانت ضرورية لتطور المجتمع. لذلك فإن التطور المادي هو أساس كل شيء في التاريخ وكل الحوادث التاريخية بما فيها سير الأبطال تتمشى وسنة الطبيعة بدون استثناء
وبعد أن استعرضت بصورة مجملة آراء كل من أصحاب النظريتين أود أن أذكر بأن كلا الفريقين على الرغم من الحقائق التي يبينوها كانوا مغالين في نظرياتهم، والمثل على ذلك ما ذكره السر (أومان) عن النبي محمد (صلعم)، فمع أنه عظيم حقاً إلا أن ذلك يجب أن لا(835/21)
يحجب عنا حقيقة واقعة وهي لو لم تكن الظروف مهيأة لقبول دعوته، ولو لم تكن هناك عوامل كثيرة ساعدت على نشر رسالته لما كان له هذا التأثير على مجرى التاريخ. والكلام نفسه يقال على وليم الفاتح، إذ أن إيجاده لنواة بريطانيا كان في طريق التحقيق قبل ظهوره.
أما جهة نظرية التطور فليس من المعقول أن تفسر جميع حوادث التاريخ بتفسيرات مادية صرفة ونهمل أثر الشخصيات الفذة التي أثرت في سيره. ولهذا فالنظريتان إذ فرقنا كلا منهما على حدة تفشلان في تفسير الحوادث التاريخية وأثر العظماء فيها؛ ولكن إذا جمعناهما معاً وشكلنا نظرية ثالثة تجعل العظماء يؤثرون على الظروف ويكيفونها بحسب أهوائهم، وفي الوقت نفسه تجعل الظروف تؤثر على العظماء وتتحكم في مصير أعمالهم نكون قد قربنا كثيراً من الحقيقة.
نجم الدين حمودي
سكرتير مجلة سومر - بغداد(835/22)
حرارة الصيف بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ومن ظريف ما ينقل عن تدابير القدماء في اتقاء قسوة الحر ما نقله ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء في ترجمة الطبيب بختيشوع بن جبرئيل، وقد قال عنه الدكتور أمين أسعد خير الله في كتابه عن (الطب العربي) إنه كان مقرباً من الخليفة المتوكل وكان غنياً وأنيقاُ يشابه الخلفاء من حيث اللبس والحاشية والمعيشة. ومن الطريف أنه كان أول من استعمل طريقة تكييف الهواء والحرارة كما حدث عنه أبو محمد بدر. قال ابن أبي أصيبعة (حدث) أبو محمد بدر بن أبي الأصبع الكاتب قال حدثني جدي قال دخلت إلى بختيشوع في يوم شديد الحر وهو جالس في مجلس مخيش بعدة طاقات من الخيش وفي وسطها قبة عليها جلال من قصب مظهر بدبيقي قد صبغ بماء الورد والكافور والصندل وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة ومطرف قد التحف به، فعجبت من زيه، فحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم، فضحك وأمر لي بجبة ومطرف وقال يا غلام اكشف جوانب القبة، فكشفت فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكبوسة بالثلج وغلمان يروحون ذلك الثلج فيخرج منه البرد الذي لحقني، ثم دعا بطعامه، فأتي بمائدة في غاية الحسن عليها كل شيء ظريف، ثم أتى بفراريج مشوية في نهاية الحمرة، وجاء الطباخ فنفضها كلها فانتفضت، وقال هذه فراريج تعلف اللوز و (البزر قطونا) وتسقى ماء الرمان.
ولما كان في صلب الشتاء دخلت عليه يوماً والبرد شديد وعليه محشوة وكساء وهو جالس في طارمة في الدار على بستان في غاية الحسن وعليها سمور قد ظهرت به وفوقه جلال حرير مصبغ ولبود مغربية وأنطاع أدم يمانية، وبين يديه كانون فضة مذهب مخزَّق وخادم يوقد العود الهندي وعليه غلالة قصب في نهاية الرفعة؛ فلما حصلت معه في الطارمة وجدت من الحر أمراً عظيما، فضحك وأمر لي بغلالة قصب وتقدم بكشف جوانب الطارمة فإذا مواضع لها شبابيك خشب بعد شبابيك حديد، وكوانين فيها فحم الغضا، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق كما تكون للحدادين؛ ثم دعا بطعامه فأحضروا ما جرت به العادة في(835/23)
السرو والنظافة فأحضرت فراريج بيض شديدة البياض فبشعتها وخفت أن تكون غير نضيجة، ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت، فسألته عنها فقال هذه تعلف الجوز المقشر وتسقى اللبن الحليب. وكان بختيشوع بن جبرئيل يهدي البخور في درج ومعه درج آخر فيه فحم يتخذ له من قضبان الأترج والصفصاف وشنس الكرم المرشوش عليه عند إحراقه ماء الورد المخلوط بالمسك والكافور وماء الخلاف والشراب العتيق، ويقول أنا أكره أن أهدي بخوراً بغير فحم فيفسده فحم العامة، ويقال هذا عمل بختيشوع.
(وحدث) أبو محمد بدر بن أبي الأصبع عن أبيه عن أبي عبد الله محمد بن الجراح عن أبيه أن المتوكل قال يوماً لبختيشوع: ادعني؛ فقال السمع والطاعة. فقال أريد أن يكون ذلك غداً. قال نعم وكرامة؛ وكان الوقت صائفاً وحره شديداً، فقال بختيشوع لأسبابه وأصحابه: أمرنا كله مستقيم إلا الخيش فإنه ليس لنا منه ما يكفي. فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش بسر من رأى، ففعلوا ذلك وأحضروا كل من وجدوه من النجارين والصناع فقطع لداره كلها صحونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها خيشاً حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيش، وإنه فكر من روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة فأمر بابتياع كل ما يقدر عليه بسر من رأي من البطيخ، وأحضر أكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه، فتقدم إلى فراشيه وعلقوا جميعه في المواضع المذكورة. فلما وافاه المتوكل رأى كثرة الخيش وجدَّته، فقال أي شيء ذهب برائحته؟ فأعاد عليه حديث البطيخ فعجب من ذلك. واستشرف المتوكل على الطعام فاستعظمه جداً. وأراد النوم فقال لبختيشوع أريد أن تنومني في موضع مضيء لا ذباب فيه، وظن أنه يتعنته بذلك. وقد كان بختيشوع تقدم بأن تجعل أجاجين السيلان في سطوح الدار ليجتمع الذباب عليه فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة. ثم أدخل المتوكل إلى بيت مربع كبير سقفه كله بكواء فيها جامات يضيء البيت منها وهو مخيش مظهر بعد الخيش بالدبيقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور. فلما اضطجع للنوم أقبل يشم روائح في نهاية الطيب لا يدري ما هي لأنه لم يرى في البيت شيئاً من الروائح والفواكه والأنوار، ولا خلف الخيش لا طاقات ولا موضع يجعل فيه شيء من ذلك. فتعجب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح حتى يعرف صورتها، فخرج يطوف فوجد(835/24)
حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبواباً صغاراً لطافاً كالطاقات محشوَّة بصنوف الريَاحين والفواكه واللخالخ والمشام التي فيها اللقاح والبطيخ المستخرج ما فيها المحشوة بالخام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والخلوق والكافور والشراب العتيق والزعفران الشعر. ورأى الفتح غلماناً قد وكلوا بتلك الطاقات مع كل غلام مجمرة فيها ند يسجره ويبخر به، والبيت من داخله إزار في إسفيداج مخرم خروماً صغاراً لا تبين يخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت. فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده كثر تعجبه منه وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه، وادعى شيئاً وجده من التباث بدنه وحقد عليه ذلك، فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ من بختيشوع مالا كثيراً لا يقدَّر (نقل ذلك ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء ج1ص141) والخبر صورة من ترف بغداد وسر من رأى في عهد العباسيين؛ ولكن ليس معنى هذا أن كل الشعب كان يعيش في مثل ذلك الرفاه والسعادة.
وقبل أن نفرغ من حديث الخيش ننقل لك من معجم الأدباء القصة التالية وفي أبياتها تعرف أن المسلمين في ذلك العهد كانوا يضربون الأمثال ببرودة قبة الخيش لأنها لعهدهم عنوان البرودة. وقد استعار بعض الشعراء برودتها المائية للبرودة المعنوية في الألفاظ والتراكيب الشعرية. قال ياقوت الحموي في أخبار عوف بن محلم الخزاعي المتوفى سنة 220هـ إنه كان صاحب أخبار ونوادر وله معرفة بأيام الناس، وكان طاهر بن الحسين قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته، ومن بعده قربه عبد الله بن طاهر من نفسه، وأنزله منزلته من أبيه. قال: وكان قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له (روح) وعرض على عوف شعره فمنعه من إنشاده عبد الله وقال: إن عبد الله رجل عالم فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه. فقال له: قد حسدتني، وتوصل حتى أنشده عبد الله فاسترذله واستبرده ورده، فبلغ ذلك عوفاً فقال:
أنشد في (روح) مديحاً له ... فقلت شعراً فقال لي فيش
(فيش: من فاش الرجل فيشاً: افتخر وتكبر ورأى ما ليس عنده. وفايشه فاخره، وفايش الرجل أكثر الوعيد في القتال ثم لم يفعل).
فصرت لما أن بدا منشداً ... كأنني في قبة (الخيش)(835/25)
وقلت زدني وتفهمته ... والثلج في الصيف من العيش
ولقد كان عوف هذا من أدباء القرن الثالث الهجري.
ولقد صبر العربي على قسوة محيطه ولم يتضجر من عنف الحياة فيه بل خلق من سيئاته حسنات؛ فكان صبره على شظف العيش في بلاده مصداق قول الدكتور أحمد أمين في كتابه (الأخلاق) في بحث الوطنية. (على أن حب الوطنية يكاد يكون طبيعياً في كل إنسان حتى لنرى بعض الحيوانات تحن إلى أوطانها كما تحن الطيور إلى أوكارها. ولقد ينشأ البدوي في بلد جدب ومكان قفر وهو مع ذلك يسعد بوطنه ويقنع به ويفضله على كل مصر). قال الجاحظ: (وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى، حن إلى وطنه ومستقره. وخير مثال لقول الجاحظ قصيدة مالك بن الريب يحن إلى بادية العرب وهو في جنان إيران، وكان قد ذهب إليها مع الجيوش العربية التي سارت لفتحها فمنها:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القطا أزجي القلوب النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه ... وليت الغضا ماشي الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لودنا الغضا ... مزار ولكن الغضا ما دنا ليا
وهذا هو السر في أنك ترى البلد تفشي فيه أنواع الحميات، أو يكون مثاراً للبراكين من حين إلى حين أو عرضة لطغيان الماء أو عصف الرياح ثم لا يبرحه أهل ولا يعدلون به بلداً سواه. قيل لأعرابي كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلا فيرفض عرقاً ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى!
لقد أطلنا الحديث عما قاله الأدب عن حرارة الصيف فلننهض العلم ليقف على المسرح ويحدثنا عن أثر حرارة الصيف في الجسم فنجمع بين الحسنيين. وما أجمل العاطفة والعقل إذا اجتمعا في صعيد واحد! وإن الأدب والعلم زوجان ينتج من اقترانهما تمام المعرفة.
قال البروفيسور (بويد) صاحب المؤلفات الغزيرة الفائدة في علم الباثولوجي وهو العلم الباحث عن كيفية تهدّم الجسم بالأمراض: إن ضربة الحر في أساسها شلل في الجهاز المنظم للحرارة ويسببه التعرض لحرارة شديدة. وإن درجة الحرارة التي توجب الإصابة(835/26)
بضربة الحر تتوقف على الرطوبة وتختلف باختلاف الأشخاص؛ وإن تخليص الجسد من الحرارة الفائضة يتم بفعل قابلية الجلد للتعرق؛ إذ أن الرشيح العرقي يتبخر فيجذب الحرارة من الذي يتبخر منه فينتعش الإنسان. غير أن بعض الناس يقل عرقهم، وإن درجة حرارة الجسم الطبيعية هي حوالي 98 , 5 فهرنهايت؛ فإذا تشبع الجو ببخار الماء لحد الإشباع وارتفعت حرارته إلى التسعين فهرنهايت سبب ذلك أن ترتفع حرارة الجسم ارتفاعاً جامحاً لا يضبط ولا يسيطر عليه جهاز تنظيم الحرارة فيه؛ وعندما تتجاوز حرارة الجو حرارة جسم الإنسان تتوقف عملية تخليص البدن من حرارته الفائضة الداخلية - بواسطة الإشعاع أين تشع الحرارة إذا كان المحيط أزيد حرارة فيغدو عند ذاك - التعرق لتبريد الجسم بواسطته هو المعول الوحيد لإضاعة الحرارة المتراكمة فيه.
وقد يفرق الأطباء بين الإعياء وانهيار القوى المسببين بالحرارة الخارجية - وبين ضربة الحرارة. ولكن البروفيسور (بويد) يرى من الصعب التفريق بينهما إذ هما مرحلتان لمرض واحد. ففي الانهيار المسبب عن الحرارة الخارجية يحصل إجهاد عنيف لماكنة تنظيم الحرارة في الجسم فيهجم عليه الضعف والاصفرار والذهول وهبوط ضغط الدم، وإذ ذاك قد ترتفع درجة حرارة ولكنها قد تكون أقل من الطبيعي.
أما في ضربة الحرارة فإن جهاز تنظيم الحرارة يصبح مغلوباً على أمره فترتفع حرارة الجسم عشر درجات فهرنهايت أزيد من الطبيعي أو أكثر. وقد سجلت وقعة بلغت حرارة الجسم الداخلي للمريض (117) فهرنهايت، والطبيعية كما قدمنا هي (98 , 5) فهرنهايت. وليكن معلوماً أن حرارة الجسم الداخلية الحقيقية التي تمثلها حرارة الشرج قد تكون أعلى بكثير من حرارة الفم وتحت الإبط. وهذه الموضع اعتاد الأطباء أن يضعوا فيها مقياس الحرارة.
وإن ضربة الحرارة قد تسبب بالتعرض المباشر للشمس الحالة المعروفة بضربة الشمس. ولا علاقة لأشعة الشمس الفوق البنفسجية بإحداث الضربة الشمسية؛ إذ أن نفس الأثر المرضي يمكن إحداثه بالتعرض لأية حرارة زائدة وبخاصة إذا اجتمع إليها زيادة في الرطوبة النسبية، وأن الأشخاص الذين يعملون في غرف المكائن الحارة والحدادين الذين يشتغلون بالقرب من الحرارة العالية يصابون بنفس الطريقة، وإن حالة الشخص الفيزيائية(835/27)
تسبب بعض الاختلاف، وإن المرضى المعرضين لعملية جراحية خطيرة خلال فترة تمر فيها موجة حرارية على البلاد - قد يموتون بالضربة الحرارية. وقد أجريت تجارب مهمة على الحيوانات بتعريضها لضربات حرارية. وقد لوحظ أثر تغيرات الدم الكيماوية مما يطول شرحه. وقد يموت المريض من ضربة الحرارة بمباغتة مرعبة، وقد يسقط فاقداً شعوره وهي الحالة المعروفة بداء السكتة الحرارية. وهذه الحالة شائعة الوقوع في الجنود الذين يجبرون على المسيرة المتعبة في المناطق الاستوائية، وحتى في الحالات الأقل مفاجأة قد يصبح المريض بسرعة فاقداً شعوره.
وفي الإعياء المسبب بالحرارة قد تجد الجلد رطباً، ولكن في ضربة الحرارة من المعتاد أن تجده جافاً ومحرقاً بحرارته الشديدة، ويظهر عجز المريض عن التعرق. وقد ينتابه تهيج شديد حتى قد يبتلى بجنون حاد. وقد تصعد درجة الحرارة درجات عليا، ولكن ليس ذلك في كل وقعة. وفي الأدوار الأخيرة تصبح الحرارة أقل من الطبيعية. وإذا استعاد المريض صحته وعوفي فقد يصاب بعطل عصبي أو عقلي دائمين.
ويقول (كرين) في كتابه أن تعريض كل الجسم لحرارة عالية خارجية خاصة إذا اجتمع إلى ذلك رطوبة الجو - ربما يؤدي إلى الإصابة بالضربة الحرارية وهو الأمر المشاهد في وقادي الآلات البخارية العاملين في غرف المكائن في البواخر الماخرة في المناطق الاستوائية. وفي فرق الجنود في مسيراتها في الأجواء الشديدة الحرارة أو إذا عسكرت في تلك المناطق. ويحدث ذلك بصورة طفيفة في السكان المدنيين الذين يقومون بأشغال ومساعي اعتيادية، ولكن في جو رطب شديد الحرارة. وإن من العوامل المهيئة للإصابة بضربة الحرارة العمل الشاق والإفراط في السكر والملابس الغير الصالحة. في الحالات الشديدة يحصل تدهور وانحطاط فجائيان في القوى وتضييع للشعور مع هذيان وتشنجات عضلية، وأخيراً إغماء. وقد ترتفع حرارة الجسم إلى درجات عالية فقد تبلغ (108) أو (110) وهي نهايته ويقال أن المريض مصاب بحمى فوق المعتادة.
وفي الدرجات الأقل عنفاً قد يحصل انتهاك في القوى وعسر في النفس وازرقاق اختناقي، بينما نجد في الحالات الطفيفة - تعباً وصداعاً وحمى خفيفة، وإذا شرح جسم الميت بالإصابة الحرارية لا يوجد تغيرات مرضية ثابتة ما عدا الاحتقان الشديد في الأعضاء(835/28)
الداخلية والأحشاء. وقد يرى تورم بالمائعات في الدماغ وزيادة في السائل الذي تحت الطبقة العنكبوتية في أغشية الدماغ، ويرى في حجيرات الدماغ التغيرات الخاصة المشاهدة في الحمى العالية.
وإن تعريض الرأس والعلياء لأشعة الشمس المباشرة في المناطق الاستوائية - قد قيل أنه يسبب مرضاً شديداً قد يكون مهلكا يسمى بضربة الشمس.
والظاهر أن الإصابة تسببها الأمواج الحرارية؛ أما الأشعة الفوق البنفسجية فلم ينهض دليل علمي على تركها أثراً ضاراً في المجموعة العصبية إذا جردناها من أمواج الحرارة التي تصحبها. وفي غالب الظن أنه لا يوجد مرض مستقل منفرد متميز من ضربة الحرارة يصح أن نطلق عليه اسماً خاصاً هو (ضربة الشمس)
أما سير الحوادث فيظهر كما يلي: إن الحرارة الخارجية عندما تتجاوز حرارة البدن فإن إنعاشه بالتعرق الذي يبرده عندما يتبخر العرق - يكون العامل الوحيد والواسطة الفعالة لتنظيم درجة الحرارة. فإذا انهار هذا الجهاز وأصابه العجز فإن الحرارة سترتفع وتسبب الحمى العالية مع نتائجها المتلفة المسببة للهلاك.
ولا فرق في إحداث ضربة الحرارة بين أن تكون ناتجة من سير الإنسان في الشمس أو عمله في غرفة وقاد السفينة أو في غرفة شديدة الحرارة رديئة التهوية (تعددت الأسباب والمرض واحد) وبعد مدة ما من التعرض للحرارة نصل إلى حالة العجز من التخلص من الحرارة الداخلية الزائدة فيصاب بالعطل والعجز جهاز التعرق ويعتري القلب الوهن ويقع ارتفاع لا بد منه في درجة الحرارة الجسمية. أما أثر القبعة الصيفية والمظلة وأشباههما فهو مجرد تقليل ما يأخذه الجسم من الحرارة الخارجية؛ أما تناول الثلج والماء المثلج ورش الماء البارد على الجسم والمراوح - فكل هذه وسائط لزيادة تضييع الحرارة من الجسم وتخليصه منها.
وبينما تجد عجز البدن عن التعرق يؤدي إلى ضربة الحرارة فإن التعرق الزائد الغزير يسبب في عضلات الأطراف والبطن تشنجها واعتقالها الوقتيين، وهذا لا علاقة له بجهاز تنظيم الحرارة لكنه بسبب إضاعة ملح الكلوريد من الجسم بواسطة الرشيح العرقي مما يؤدي إلى اختلال في توازن الصوديوم والبوتاسيوم في البدن، ومن الممكن مداواة تلك(835/29)
التشنجات بسهولة بشرب ماء مالح بدلا من الماء العذب حتى يعوض الجسم ما فقده من ملح الطعام (كلوريد الصوديوم) بالرشيح العرقي الزائد.
(بغداد)
ضياء الدخيلي
الطبيب المتمرن في المستشفى التعليمي (سابقا)(835/30)
رثاء الجارم
للأستاذ محمود غنيم
(ألقيت في حفلة التأبين التي أقامتها جماعة دار العلوم للمغفور
له علي الجارم بك)
عرش ينوح أسى على سلطانه ... قد غاب كسرى الشعر عن إيوانه
طوت المنون من الفصاحة دولة ... ما شادها هارون في بغدانه
في ذمة الفن المقدس عازف ... لقي الحمام على صدى ألحانه
لما تهامست الصفوف بنعيه ... كاد الفؤاد يكف عن خفقانه
ساءلت حين قضي عليُّ فجأة: ... هل حل يوم الحشر قبل أوانه؟
سقط المؤبن وهو يسمع شعره ... من ذا يؤبنه بمثل بيانه؟!
وصف الزمان لنا وجاد بنفسه ... لتكون برهاناً على حدثانه
قال احذروا غدر الحمام معززاً ... بحياته ما قال بلسانه
لا تعجبوا من موته في حفله ... إن الشجاع يموت في ميدانه
بطل المنابر ما له من فوقها ... يهوى وكم عرفت ثبات جنانه؟
إن خانه ضعف المشيب فطالما ... قهر المنابر وهو في ريعانه
كلا لعمري لم يخنه مشيبه ... لكنَّ حس المرء من خُوَّانه
لم يجنها إلا رقيق شعوره ... والمرهف الحساس من وجدانه
حر قضى متأثراً ببيانه ... ولكم جنى فن على فنانه
يا شاعراً طار اسمه بقوادم ... من عبقريته ومن إتقانه
ما دان يوماً للصغار بصيته ... أو دان للزلفى برفعة شانه
والمجد منه زائف وممحض ... لا تخلطوا بلوره بجمانه
ما كل لماع يبرق ممطر ... البرق غير الآل في لمعانه
عرش القوافي بعد موتك شاغر ... يا طول ما يلقاه من أشجانه
قل للذي يومي إليه بلحظه ... هذا مجال لست من فرسانه(835/31)
لا هُمَّ حكمك في الورى جارٍ وما ... من حيلة للعبد في جريانه
الطير ملء الروض أشكالا فما ... للسهم لا يصمى سوى كروانه؟
يمضي العظيم من الرجال فينبري ... لمكانه خلفاء من أقرانه
والشاعر الموهوب فلتة دهره ... إن مات أعيا الدهر سد مكانه
قل للرياض قضى عليُّ نحبه ... ولطيرها الشادي على أفنانه
الشاعر الغرِد المحلق في السها ... بجناحه قد كف عن طيرانه
بكت اللآليُ بعده لاَّ لَها ... وتساءل الياقوت عن دهقانه
وتساءل التاريخ عمن شعره ... كان السجل لحادثات زمانه
بكت الكنانة في علي شاعراً ... جعل اسمها كالنجم في دورانه
عف اللسان مؤدب الأوزان لم ... يتلق وحي الشعر عن شيطانه
بل كان نفح الخلد أمتعنا به ... حيناً وعاد به إلى رضوانه
للنيل شاد بشعره ما لم يشد ... فرعون والهرمان من بنيانه
من كل بيت في السها شرفاته ... تتلألأ الأضواء في أركانه
يعيى الفراعنة الشداد أساسه ... ويحار ذو القرنين في جدرانه
شعر إذا غنى به لم يبق من ... لم يروه كالبرق في سريانه
غنى الطروب به على قيثاره ... وترنم المحزون في أحزانه
بهر العذارى حسنه فوددن لو ... صيغت قلائدهن من عقيانه
ويكاد سامعه يفسر لفظه ... من قبل أن يسري إلى آذانه
تغري سلاسته الغرير فيقتفى ... آثاره سيراً على قضبانه
حتى إذا هد المسير كيانه ... حصب الورى بالصلد من صوانه
يا رب ديوان تأنق ربه ... في طبعه وافتن في عنوانه
لا يسمع اليقظان وقع قريضه ... حتى يدب النوم في أجفانه
والشعر إما خالد أو مدرج ... من ليلة الميلاد في أكفانه
قالوا: عليُّ شاعر؛ فأجبت: بل ... ساقٍ عصير الكرم ملء دنانه
قم سائل الفقهاء: هل في شرعهم ... حرج على ثمل بخمرة حانه؟(835/32)
كم خط من صور الحياة مداده ... ما لم يخط مصور بدهانه
ببراعة لو أدركت موسى رأى ... من سحرها ما غاب عن ثعبانه
أين القصائد كالخرائد كلها ... بكر، وبكر الشعر غير عوانه
أحيا لنا ابن ربيعة تشبيبها ... وأعاد للأذهان عهد حِسانه
شيخ يحس الشيخ عند نسيبه ... بدم الشباب يسيل في شريانه
وإذا تحمس قلت حيدرة انبرى ... تحت العجاجة فوق ظهر حصانه
وإذا تبدى قلت لابس بردة ... قد جاء من وادي العقيق وبانه
وإذا تحضر قلت نسمة روضة ... من فرط رقته وفرط حنانه
يا طالما حمل الأثير نشيده ... وكأنما هو عازف بكمانه
بغداد مصغية إلى أنغامه ... ودمشق راقصة على عيدانه
وكأنما الحرمان عند هتافه ... سمعا بلالاً هاتفاً بأذانه
يثني على الفاروق تحسبه فتى ... ذبيان قد أثنى على نعمانه
والملك يظهر بالثناء جلاله ... والشعر مثل الدر في تيجانه
والشعر مرآة النفوس يذيع ما ... طويت قرارتها على كتمانه
من أحرف سوداء إلا أنه ... نقش يريك الطيف في ألوانه
والشاعر الموهوب تقرأ شعره ... فترى جمال الله في أكوانه
يا ويح قومي كم أشاهد بينهم ... من شاعر هو شاعر بهوانه
يا رائي الموتى ومخلد ذكرهم ... بالخالد السيار من أوزانه
أرثيك حفظاً للجميل وإنه ... دين أعيذ النفس من نكرانه
ماذا يؤمل شاعر من راحل؟ ... أتراه يطمع منه في إحسانه؟
وأنا الذي ما سمت شعري ذلة ... أو بعثه بالبخس من أثمانه
يا رب بيت قد ضننت ببذله ... ضناً على من ليس من سكانه
أقسمت ما جاوزت فيك عقيدتي ... قسم الأمين البر في أيمانه
دار العلوم بنتك حصناً شامخاً ... للضاد تلقى الأمن في أحضانه
رزئت لعمري فيك رزء الدوح في ... كروانه والفلك في ربانه(835/33)
دار قد انتظمت أياديها الحمى ... أشياخه والنشء من ولدانه
دار العلوم ونيل مصر كلاهما ... بنميره يروى صدى ظمآنه
فاضا على الوادي فكان العلم من ... فيضانها والماء من فيضانه
يا خادم الفصحى وكم من خادم ... تعتز سادات بلثم بنانه
أفنيت عمرك ذائداً عن حوضها ... ذود الكريم الحر عن أوطانه
أنصفتها من معشر مستعجم ... الغرب أصبح آخذاً بفيانه
والضاد حسب الضاد فخراً أنها ... كانت لسان الله في فرقانه
هي سؤدد العرب يوم فخاره ... وقوام نهضته وسر كيانه
من ذاد عنها ذاد عن أحسابه ... بل عن عقيدته وعن إيمانه
نم يا علي جوار ربك آمناً ... لك عنده ما شئت من غفرانه
لك عند رب العرش أجر مجاهد ... فانعم برحمته وعدن جنانه
كم من شهيد مات فوق فراشه ... جمد الدم السيال في جثمانه
إن المجاهد من أغار بفكره ... لا من أغار بسيفه وسنانه
سيظل شعرك يا علي مردداً ... ما غرد القمري في بستانه
أقسمت ما نال البلى من شاعر ... يحيا حياة الخلد في ديوانه
محمود غنيم(835/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أمر جديد في مسألة الكتب المدرسية:
أتيت في الأسبوع الأسبق على موضوع الكتب المدرسية من حيث ما قررته وزارة المعارف في فبراير الماضي من القيام بتوزيع هذه الكتب على طلبة المدارس الحرة كما توزعها على طلبة مدارسها وأبنت ما اكتنف ذلك وما يترتب عليه من آثار سيئة مادية وأدبية، وأذكر اليوم أن ذلك القرار يتضمن أن تغير الوزارة العقود مع المؤلفين بحيث تصبح وحدها صاحبة الحق في طبع الكتب وتعوض مؤلفيها عن كسبهم مما كانوا يطبعونه لغير مدارس الوزارة، وذلك بمضاعفة مكافآتهم، وينص القرار على أن ينفذ ذلك ابتداء من السنة الدراسية 1950 - 1951 وبينما الناشرون والمؤلفون يواصلون مساعيهم للعدول عن ذلك في ريث وتمهل لا يرون داعياً إلى العجلة لأن أمامهم موسماً دراسياً كاملا يستمر العمل فيه بالنظام القديم ويأملون أن يوفقوا في خلاله إلى تسوية عادلة - بينما هم كذلك إذ فوجئوا بأمر لم يكن في حسبانهم إذ اتصل بهم بعض مجالس المديريات فأبلغهم أن مدارس هذه المجالس لن تحتاج إلى كتب منهم في السنة الدراسية القادمة 1949 - 1950 لأن وزارة المعارف ستتولى صرف الكتب لها
ذلك أن وكيل وزارة المعارف كتب إلى وزارة الداخلية لتوافي وزارة المعارف بإحصاء عن مدارسها وعدد طلبتها لتحسب الوزارة حسابها في توزيع الكتب المدرسية عليها ابتداء من العام الدراسي القادم.
وعجب المؤلفون كيف تبادر الوزارة إلى اتخاذ هذه الخطوة، وهي لم تجدد معهم العقود بعد، ولا تزال العقود القديمة بأيديهم، وهي تخول لهم أن يطبعوا كتبهم لغير مدارس وزارة المعارف حتى تتغير هذه العقود. وغضبت دور النشر وانحسر ظل الطمأنينة عن عمالها، فقد كان أمامهم سنة أخرى يرجى أن يعدل الله الأمور بعدها.
والمؤلفون من رجال العلم والتعليم في الوزارة، فكانوا عندما يجمل بهم إذ هدءوا رجال الطبع والنشر وأشاروا عليهم بما تقتضيه الحكمة في معالجة الأمور، وتولوا هم مواجهة الحال فتقدموا إلى معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف بشكاياتهم وتفنيدهم لما حدث(835/35)
وبيان حقهم في الموضوع، ولا يزال الأمر بين يدي معاليه.
وإذا جاوزنا المؤلفين والناشرين وجدنا في الأمر ما هو أخطر مما يتصل بهم، ذلك أن مدارس مجالس المديريات قد قطعت صلتها ومعاملتها لدور النشر اتكالا على وزارة المعارف، فهل ستوزع الوزارة على تلاميذ هذه المدارس الكتب في العام القادم؟ يقف في سبيل ذلك نص القرار على البدء بتنفيذه من سنة 1950 - 1951، كما يقف في سبيله أيضاً عدم تجديد عقود المؤلفين، ومن الحائز عقلا ألا يوافقوا على التجديد فتعهد الوزارة إلى آخرين يؤلفون من جديد، ومع الإغضاء عن كل ذلك فإن سير العمل بالمطبعة الأميرية لا يكفل الطبع في الشهور القليلة التي يعقبها بدء الدراسة على فرض أن يبدأ الآن في الطبع.
فماذا يا ترى تصنع مجالس المديريات في العام الدراسي القادم؟ وهل يبقى طلابها من غير كتب؟
تأبين الجارم:
أقامت جماعة دار العلوم حفلا لتأبين الشاعر الكبير المغفور له علي الجارم بك، يوم الخميس الماضي بمسرح حديقة الأزبكية، وقد افتتح الحفل الأستاذ سعد اللبان رئيس الجماعة بكلمة ألم فيها بصور من حياة الفقيد كان لها تأثير في شاعريته وتكوين شخصيته الأدبية. وتوالى بعده الخطباء والشعراء، فتحدث الأساتذة مصطفى أمين بك ومحمد علي مصطفى والسباعي بيومي، وألقى الأساتذة محمود غنيم وعلي عبد العظيم ومحمود حسن إسماعيل، قصائدهم في رثاء الجارم.
وأول ما يلاحظ على الكلمات التي ألقيت أنها لم تكن ذات موضوعات موزعة، أعني أنه لم يختص كل واحد من المتكلمين بناحية معينة من نواحي الفقيد المؤبن، فنشأ عن ذلك أن كلا منهم كان يطرق ما طرق الآخر. ومما توافقوا عليه وكرروه، نشأة الجارم في مدينة رشيد في أسرة ذات علم وأدب، وما كان للبيئة الساحرة والأسرة الفاضلة في إذكاء شاعريته، وذكرياتهم مع الفقيد في دار العلوم وفي إنجلترا، وغير ذلك. ولم يكن لأحد من المتحدثين موضوع خاص بعد كلمة الأستاذ سعد اللبان التي اقتضاها مقام الافتتاح، سوى الأستاذ السباعي بيومي فقد تناول بالدراسة موضوع (الجارم الأديب) فتتبع مناحي شعره وأرجعها(835/36)
إلى منبعين في نفسه هما حبه للجمال وإيمانه بالوفاء، وطاف بأجزاء ديوانه الأربعة فأورد منها أمثلة لما قرر، فوفى الموضوع حقه، ودل حديثه على اقتدار الدارس وذوق الأديب.
وكان حظ التأبين من الشعر أقيم من النثر، فقد كانت القصائد جيدة، ولا سيما قصيدتا الأستاذين غنيم ومحمود إسماعيل وقد خرج محمود شيئاً مما اعتاده من الإبهام وإكراه الاستعارة، وأجاد في تصوير وفاة الشاعر وهو يسمع قصيدته تلقى في تأبين المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وأحسن في استطراده إلى الحديث عن النقراشي باشا ومصرعه وفجيعة البلاد فيه.
ويظهر أن ترتيب الخطباء والشعراء كان وفق (أقدمية التخرج) فقد ران على الحفل بعد كلمة الافتتاح، وهن الكبر، فبعث شيئا من الخمود، لم يلبث أن ذهب بما اتقد بعده من جذوات كانت أخراها قصيدة محمود حسن إسماعيل. . .
تأبين الريحاني:
وأقامت نقابة الصحفيين حفل تأبين لفقيد الفن المرحوم الأستاذ نجيب الريحاني يوم الجمعة الماضي. وقد تكلم في هذا الحفل الأستاذ حافظ محمود عن نقابة الصحفيين، والأستاذ أنور أحمد عن وزارة الشؤون الاجتماعية، والدكتور محمد صلاح الدين بك رئيس اللجنة العليا للتمثيل المسرحي والموسيقى والسينما، والأستاذ يوسف وهبي بك نقيب الممثلين، والأستاذ بديع خيري باسم أسرة الفقيد؛ فألقى كل منهم كلمة مناسبة للصفة التي تقدم بها، وعزف الأستاذ سامي الشوا على الكمان قطعة حزينة موضوعها (نجيب الريحاني).
والذي يستوجب الوقوف عنده في هذه الحفلة، كلمة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وقصيدة الأستاذ علي محمود طه. أما الأستاذ المازني فقد حلل شخصية الريحاني الفنية وفكاهته المسرحية تحليلا قيماً بارعاً، قال فيه: ما تذكرت الريحاني أو ذكر اسمه إلا تذكرت صوته الأجش الخشن الذي كنت أشعر أنه خارج من أعماق صدره، وأنا عاجز عن الفصل بين نجيب وصوته حتى لقد كان صوته يغنيني عن رؤية تمثيله فأغمض عيني أو أطرق. وقال إن الريحاني لم يكن يشعر أنه يظهر على المسرح ليؤدي دوراً في رواية ثم يخرج ليستأنف حياة أخرى لا علاقة لها بالمسرح، وإنما كان يشعر أن هذه الرواية هي الحياة الحقيقية وأنه لا يمثل بل يحيا، وأنه إنما كان يمثل حين يترك المسرح ويخرج إلى(835/37)
هذه الحياة. وبين الأستاذ قيمة الفكاهة في التمثيل وقال إن الريحاني سما بها إلى مرتبة التوجيه الاجتماعي. ولم تخل كلمة المازني مع قيمتها مما دعا إلى الملل في الحفلة، وذلك عندما أطال في علاقة الريحاني ببديع خيري واشتراكهما في التأليف وأيهما كان صاحب الفضل الأكبر في جودة التأليف وحبكه وسلاسة الحوار والبراعة فيه.
وأما قصيدة الأستاذ علي محمود طه فقد صور فيها نجيب الريحاني وفنه تصويراً شعرياً دقيقاً تكاد ترى فيه معالم السمات وجمال الألوان، وقد عبر فيها عن فجيعة مصر في فقيدها تعبير الشاعر الناطق بلسانها المعبر عن آلامها، فكان (شاعر مصر) النابض بآمالها وآلامها، يرثي فقيد مصر في فن التمثيل.
مجلة المجمع اللغوي:
قال محدثي: كنت قد قرأت منذ شهور أن مجمع فؤاد الأول للغة العربية أصدر الجزء الخامس من مجلته. وأخيراً أردت أن أحصل على نسخة منها، فجعلت أبحث وأسأل عن طريقة الحصول عليها، حتى علمت أنها تباع في إدارة التوريدات بوزارة المعارف. وقصدت إلى هذه الإدارة وصعدت إلى طبقة عالية هناك حتى بلغت الموظف المختص متعباً متتابع الأنفاس، فقد كان اليوم حراً والسلم طويلا. وطلبت المجلة، وطلب مني الثمن، فأخرجت ورقة بجنيه، فقال لي الموظف: (مفيش فكة) ولم أجد بداً من أن أنزل وأخرج إلى الشارع لأفك الجنيه. ثم عدت وتجشمت الصعود للمرة الثانية، ولكني في هذه المرة لم أجد الموظف المختص فانتظرت، وضقت ذرعاً بالانتظار ولم يتسع وقتي له، فانصرفت ثم عدت في اليوم التالي وقد حرصت على إعداد الثمن (فكة) وكنت قد دعوت الله في طريقي أن ييسر لي أمري هذا اليوم فاستجاب دعائي وظفرت بالمجلة.
عجبت لجلد محدثي هذا وصبره في سبيل الحصول على مجلة المجمع اللغوي، وقلت في نفسي: كم واحداً يطلبها هكذا ويتعب في طلبها كما تعب صاحبنا؟ ما أظن أمثاله كثيرين إن كان له أمثال.
إن الباعة ينادون على الصحف والمجلات في كل مكان، ويلوحون بها في الوجوه، ويلاحقون بها ركاب الترام وغيرهم، وقد يعرضون ما على غلاف بعض المجلات من صور جذابة - يأتون كل ذلك كي يغروا الناس بالشراء، ومع ذلك قد لا يفلحون في(835/38)
إغرائهم. . فما بالك بمجلة المجمع اللغوي وهي مستقرة في مخازن (التوريدات) بوزارة المعارف قيد (الروتين)؟
وإذا كان من غير المستطاع الخروج عن هذا (الروتين) فلم يتكلف المجمع إصدار هذه المجلة؟ أليس الغرض منها أن تنشر على الجمهور أعماله وما وضعه من مصطلحات وما أقره من كلمات؟ فإذا كانت المجلة لا تنشر فما الفرق بينها وبين محاضر جلسات المجمع وأضابيره؟
هلا نظر مجمعنا في هذا الموضوع، لعله يصل إلى طريقة تكفل توزيع مجلته أو على الأقل تيسير الحصول عليها لطلابها.
رأيي في كتاب:
رأيت ما كتبه مؤلف (الشعر المعاصر) في العدد الماضي من الرسالة، واسترعى التفاتي فيه استشهاده على قيمة كتابه بما اقتطعه من كلمة كنت كتبتها عنه، فقد رأيته يقطع أوصال تلك الكلمة ويأخذ منها ويدع. . أخذ قولي إن الكتاب يستوقف نظر متتبع الحركة الأدبية وإنه لبنة في الأدب الحديث، وترك الباقي وفيه قلت مترفقاً: (ولا أخال المؤلف قصد إلى التطفيف والإرجاح في ميزانه بما لاحظته في الكتاب منهما، ولا أرجع ذلك إلا إلى ما ارتآه. وأكتفي بهذه الإشارة لأن المقام لا يسمع بالتفصيل والتمثيل) ومن هذا وذاك يتكون رأيي في هذا الكتاب وأوضح هذا الرأي فأقول: إنني أعني بقيمة الكتاب في المكتبة العربية ما نقله المؤلف من آراء النقاد الغربيين ومذاهبهم في النقد. أما ناحية التطبيق من حيث تعرضه لشعر الشعراء - وهي الناحية التي تختبر فيها الأصالة الأدبية - فقد امتلأ الكتاب فيها بالخبط في الحكم على الشعر وإنزال الشعراء في غير منازلهم صعوداً وهبوطاً، وهذا ما عنيته بالتطفيف والإرجاح.
أما أن الرسالة (ازدانت) - لفظ المؤلف - بما كتبته عن كتابه، ففيه نظر. . .
تصويب:
وقع في العدد الماضي تحريف مطبعي في أول موضوع (نحن وأدباء المهجر) إذ جاء هكذا: (كتب الأستاذ حبيب كتاباً من نيويورك) وصوابه: (كتب الأستاذ (حبيب كاتبه) من(835/39)
نيويورك).
وحدث كذلك سقط في موضوع (قضية عيسى بن هشام والإذاعة) إذ جاء في فقرة منه (خليل بك المويلحي مؤلف كتاب حديث عيسى بن هشام) وصوابه: (خليل بك المويلحي شقيق محمد بك المويلحي مؤلف. . . الخ)
عباس خضر(835/40)
الكتب
اليوم خمر
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
ما يبرح الأستاذ تيمور يحبو صحابه بكرمه، فهو لا ينسى - أبداً - وشائج الصداقة الأدبية، ولا يغفل أواصر المحبة الروحية، ولا يغضي عن روابط الإخاء والود، فهو - دائماً - يخصهم، أول ما يخص، بمؤلفاته وكتبه، ولقد أهدى إلي - أخيراً - مسرحيتين هما (المخبأ رقم 13) و (اليوم خمر).
وإنه ليعز علي أن أتحدث عن (اليوم خمر) قبل أن أقف حيناً بازاء مسرحيته (المخبأ رقم 13) فلقد ألفيت فيها روحاً وثابة متألقة وفناً عالياً رقراقاً وجمالاً في السبك وقوة في الأداء وسمواً في التصوير. ووجدته قد جمع فيها أخلاطاً من الناس اختلفت مشاربهم وتنافرت بيئاتهم وتضاربت ثقافتهم، ثم أنطقهم بحديث يكشف عن خلجات نفوسهم وخواطر عقولهم، فجاء الحديث قوياً لم يصبه الفتور ولا الضعف ولم يشبه الإخفاق ولا الوهن. وإنك لتعجب أشد العجب أن يتقمص المؤلف روح الرجل الأرستقراطي المهذب وروح السوقي الوضيع في وقت معاً فلا يخطئه التوفيق في التعبير عن نوازع نفسيهما ولا يفلت من بين يديه زمام التحليل السيكولوجي. ولا يسف في حادثة ولا يتصنع الحديث ولا يتكلف الحبكة الفنية. . . هذه - ولا شك - هي عبقرية الفنان ونبوغ القاص وتجربة المجرب. . .
أما مسرحية (اليوم خمر) فهي قصة حياة امرئ القيس الشاعر العربي الجاهلي المعروف من لدن كان فتى غض الإهاب في العشرين من عمره إلى أن خذله قيصر الروم فأحس خيبة المسعى وضياع الأمل. وإن القارئ ليعجب أن وفق المؤلف توفيقاً عجيباً حين التزم أسلوب البداوة في قوة التعبير وجزالة اللفظ ورصانة الأداء ليخرج لنا من حياة الشاعر تمثيلية فيها روح هذا العصر، وإنه ليحس - مع ذلك - بأشخاص الرواية ينبضون بالحياة ويخفقون بالإنسانية مما يدل على سمو الفن في روح المؤلف وسلامة ذوقه. ولا عجب أن يستنبط الأستاذ تيمور - وهو فنان عظيم - مسرحية مسلسلة مترابطة الأوصال متماسكة(835/41)
الجوانب، يستلهما من حوادث التاريخ المضطربة المتداعية، فهذا عمل لا يتأتى إلا لمثله، وهو فتح عظيم في هذا المضمار الشائك.
وإن الحوار ليبلغ غاية القوة والإتقان في مواقف ثلاثة: في يوم دارة جلجل حين هبط امرؤ القيس على العذارى وهن يبتردن في الغدير. وفي تصادم الشاعر مع أبيه وهما إلى جانب ذي الخلسة، حين تصارعت قوتان: قوة الملك حجر الجبار القاسي وقوة الفتى البوهيمي الذي لا يؤمن بمقاييس الحياة المادية ولا يخضع إلا لشهوات عقله وجسمه. وفي موقف امرئ القيس من وفد بني أسد حين أقبلوا إليه يترضونه ويستغفرون لزلتهم أن ثار بعض صعاليكهم بأبيه الملك فقتلوه. . .
ولقد أراد المؤلف فأبان عن كثير من خصال الشاعر: فهو رجل عربيد داعر لا يرده الحياء ولا يمسكه الخجل فيقف على غدير دارة جلجل موقفاً مشيناً فيضطر العذارى إلى أن يخرجن إليه عاريات. . . وهو - في حادثة أخرى - يجلس إلى فاطمة ابنة عمه يغازلها ويغريها بأمر في الساعة التي علم فيها بمقتل أبيه حجر فترده فاطمة بقولها (أصبابة وهيام في مثل هذا المقام؟ لقد أفقدتك الخمر رشدك وهاجت في نفسك شجوناً ليس هذا حينها) ولكنه يجيبها في استهتار وخفة (إن الحب يا فاطمة لا يضرب له وقت موعد ولا يعين له حين. . . أحبك، يا فاطمة، أحبك في كل آن. . . ما ضرنا اليوم وقد زالت من طريقنا العوائق أن نحقق حلمنا القديم، يا طالما حالوا بيننا وبين وصالنا. أما الآن فلا حائل يحول). هذا - ولا ريب - كلام رجل لا يشعر بالعبء الذي يثقل كاهله؛ فلا هو أحس الحزن لمقتل أبيه ولا هو ارعوى فاحترم مصيبة ابنة عمه في أبيها وفي أبيه في وقت معاً.
وهو رجل متلاف لا يبقى على شيء مثلما قال خادمه حنظلة. . (أخبرني فديتك، ماذا بقى لهذا الأمير من جاهه وثرائه؟ أنه كما ترى لا يبقي على شيء. ولست أدري إلى أين ينتهي به وبنا المساق ألم يتنكر له أبوه فيغدو شريداً طريداً؟)
وهو رجل خال من الفحولة، فلقد غبر زماناً يدفعه الشوق إلى أقحوان الغانية، حتى إذا ظفر بها وخلا إليها خانته رجولته فارتدت الفتاة عنه مغيظة يبدو عليها النفور لتقول لرفاقه: (إن صاحبكم ليتشدق بالطعن والضرب، آخذا للحرب أهبتها في كل وقت، فإن حانت ساعة العراك تبوأ مقعده يرقب السماء ويحصي نجوم الليل). هذا تعبير قوي عن خلة من خلال(835/42)
الشاعر يعرفها له التاريخ ولكنه تعبير يترفع عن الإسفاف والضعة.
ولكن القصة مثلت امرأ القيس فتى داعراً لم تغيره الحوادث ولا عركته السنون ولا أصابه الوهن يتراءى في كهولته فتى في الثلاثين غزلا يتشبب بالنساء ويفرغ للكأس، عزباً يرنو إلى فاطمة حيناً والى ابنة قيصر حيناً آخر. . غير أن التاريخ يقول أنه تزوج من أم جندب بعد أن تزوجت فاطمة من أبي عنبسة وإن قصة تحكيم أم جندب فيما شجر بين امرئ القيس وبين علقمة الفحل قصة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأمير الشاعر.
لست أنكر أن تاريخ العرب في الجاهلية مضطرب اضطراباً كبيراً لا تجمعه آصرة ولا تربطه صلة ولا يدعمه سند، ولكن فيه حوادث ثابتة أجمع المؤرخون على صحتها. وما كان للمؤلف أن يغفلها في مسرحيته، أو أن يضع شيئاً مكان شيء إلا أن تكون قد تضاربت الروايات.
وهكذا انضمت المسرحية على بعض المآخذ التاريخية منها: أن المؤلف جمع بين يوم دارة جلجل وبين حادثة عفو الملك حجر عن أسرى بني أسد. . . جمعهما في قرن في حين أن الحادثتين كانتا في مكانين مختلفين ويفصلهما زمان طويل. ومنها أن المؤلف أقحم صمصاماً في نهاية الفصل الرابع من المسرحية ليوحي إلى امرئ القيس بأن يطلب العون من قيصر الروم وليزين له الرحلة إلى القسطنطينية في حين أن التاريخ يجزم بأن السمؤال بن عاديا هو الذي مهد السبيل لامرئ القيس كي يبلغ بلاد الروم في أمان ويستقر هناك في هدوء. . . ومنها ما جاء في ختام القصة حين فر امرؤ القيس ورفاقه من القسطنطينية، وهذه حادثة لم نعثر لها على أصل في ما لدينا من مراجع إلا أن تكون قد حاكتها يد فنان بارع. وأنى لرجل من أعداء قيصر أن يفر من بين يدي جنده وحراسه وجواسيسه وهم يملئون أرجاء المدينة وشعابها؟ أما التاريخ فإنه يقول أن قيصر كان يخشى سطوة الأمير الشاعر فأهدى إليه حلة مسمومة فلبسها فأصابته القروح وتناثر لحمه ومات في أنقرة وهو في طريقه إلى حرب كسرى على رأس كتيبة من جيش عرمرم.
هذه - ولا شك - هنات هينات لا تضع من قيمة الجهد العظيم الذي اضطلع به القصاص الكبير الأستاذ تيمور.
كامل محمود حبيب(835/43)
البريد الأدبي
أخي الأستاذ أنور المعداوي:
كثر الكلام حول مسرحية (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم، فأرجو ألا أثقل عليكم بعودتي إلى طرق أبواب الموضوع نفسه من جديد. فقد لفت نظري في التعقيب الذي عقب به توفيق الحكيم على مقدمة الترجمة الفرنسية للمسرحية ما يلي:
1 - قال الحكيم أن الإسلام يرفض فكرة الله المدبر لأذى الإنسان تدبيراً سابقاً دون مقتض أو جريرة. وقد شاء الحكيم لهذا السبب أن يوفق بين فكرة الأسطورة وبين روح الإسلام فجعل من رغبة أوديب في العلم بالحقيقة وبحثه المتصل عنها سبباً يدفع أوديب إلى الكارثة. أي أن الحكيم جعل الموجب للكارثة - كما يقول صراحة في ص 267 - طبيعة أوديب ذاتها، طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة. وهو يقول: إن رغبة أوديب في العلم بالحقيقة هي التي جرته إلى ما جره العلم الحديث على الإنسان الحديث ممثلا في (فرويد) عندما طفق يحفر في أعماق الإنسان إلى أن وجد أنه عاشق في الباطن لأمه. وقد استبدت بي الحيرة عندما قرأت هذا التعليل.
فلست أدري كيف استساغ كاتب فنان كتوفيق الحكيم أن يجعل من حب أوديب للحقيقة وسعيه وراءها إثماً يستحق عليه ذلك العقاب المنكر الفظيع، فإن حب الحقيقة والسعي وراءها - مطلقة كانت أو نسبية، عامة كانت أو جزئية - لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق خلد ذكرهم في أعماق الأفئدة وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور.
ثم إنني لم أفهم كيف ارتضى الحكيم أن يشبه حالة أوديب أمام المأساة بحالة فرويد أمام حقائق النفس. فعندما طفق فرويد يحفر في أعماق الإنسان بحثاً عن الحقائق النفسية ووجد أنه عاشق في الباطن لأمه لم يكون هذه الحقيقة ولم يخلقها أو يوجدها بنتيجة سعيه وراء الحقيقة وإنما اكتشفها وقررها.
فالحقيقة التي اكتشفها فرويد كانت موجودة، ولكنها كانت مطمورة في أغوار النفس الإنسانية. ولكن أوديب عندما بدأ يبحث عن أصله وذويه لم تكن الكارثة أو الحقيقة موجودة، وإنما حدثت فيما بعد على يده. ولو ادعى الحكيم أن الحقيقة التي واجهت أوديب(835/45)
كانت موجودة ومستقرة سلفاً في ضمائر الآلهة، فإن ذلك لا يغير من صلب الحقيقة؛ لأن وجود الحقيقة واستقرارها في ضمائر الآلهة شيء وحدوثها في عالم الحس والواقع شيء آخر. فالبحث عن الحقيقة قد أدى عند فرويد إلى اكتشاف الحقيقة فحسب، والبحث عن الحقيقة أدى عند أوديب إلى وقوع الكارثة أو المأساة أو الحقيقة. وواضح أن الفرق بين الحالين أكبر وأوسع من أن يستسيغ أي تشبيه بينهما.
2 - لاحظت أن الحكيم يقول في الرد نفسه أن الطعن الذي أنزله أوديب بعينيه قد ذهب في تفسيره أندريه جيد في مسرحيته إلى كونه إمعاناً في الكبرياء. والواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد لم يقل مثل هذا الكلام ولم يفكر فيه؛ لأنه قال بصراحة عن لسان أوديب مخاطباً الكاهن تيرسياس بأنه - أي أوديب - إنما يفقأ عينيه لأنهما لم تحسنا تنبيهه إلى الكارثة قبل وقوعها ولم تضيئا له الطريق، فهو إذ يطعن عينيه إنما يتلف أداة عاطلة لم تنفعه إن لم تخدعه في نفس الوقت.
هذا ما وددت أن أعرضه عليكم آملاً أن أتلقى منكم الرأي المصيب الذي عودتمونا إياه في أغلب الفرص والمناسبات. وختاماً أبعث إليكم والى صاحب الرسالة الجليل أطيب الود وأخلص التقدير
(بغداد)
فؤاد الونداوي
ليسانسيه في الحقوق
حول هام ومهم:
قرأت للأستاذ علي هلالي تصويباً لاستعمال كلمتين لم يقل أحد بخطأ إحداهما وصواب الأخرى وهما هام ومهم. وبعد أن استعان بلسان العرب والقاموس وغيرهما وحكم بأنهما لغتان عربيتان صحيحتان ولا فرق بينهما في الاستعمال قال: وإني أحذر الكتاب من النقود المزيفة في لغة الجرائد، فدخل في روعي أن في لغة الجرائد تخطئ لإحدى الكلمتين فعدت إلى تلك النقود المزيفة عند الأستاذ فوجدت ما يأتي:
(ويقولون هذا أمر هام بصيغة الثلاثي لا يكادون يخرجون عنها في الاستعمال والأفصح(835/46)
مهم بالرباعي) (وعليه اقتصر في الصحاح والأساس).
فعجبت مما فهم الأستاذ من هذا النص الصريح الذي دفعه إلى أن يتبرع بكلمة (مزيفة).
رجل قد رأى الناس لا يستعملون إلا كلمة (هام) ويتحاشون استعمال كلمة (مهم) بل لعله قد رأى من تعرض لتخطئتها فدلنا على الأفصح والأفصح لا ينفي الفصيح، أفترميه بالزيف؟!!
كنت أود أن يدقق الأستاذ (هلالي) في تعابيره كما يدقق في البحث عن بعض الكلمات في المعجمات. يقول الأستاذ في نهاية كلمته (على الكتاب أن يرجعوا إلى المعاجم العربية وغيرها من المراجع (فهل يثق الأستاذ بصحة هذه المعاجم؟ ألم يطلع على ما في هوامشها من الحواشي؟ أو لم ير مآخذ الفيروزأباذي على الجوهري؟ ولماذا ننتظر من المجمع اللغوي قاموساً صحيحاً شاملا جديداً؟
ثم إن الأستاذ هلالي يخطئ من (يدعى) - على حد تعبيره - تأنيث كلمة الضبع فقط للحيوان المعروف، فهلا أتى بشواهد على جواز تذكوها تعزز هذا التخطيء؟
ابن ماضي
1 - التقليد:
أنكر أحد المدرسين استعمال التقليد بمعنى الإقتداء والمحاكاة لأنه لم يرد في كتب اللغة، وهذا ليس بصحيح فقد جاء في لسان العرب وشرح القاموس ومعيار اللغة وأساس البلاغة وغيرها ما نصه:
قلدتها قلادة: جعلتها في عنقها، ومنه التقليد في الدين، وتقليد الولاة الأعمال وهو مجاز كأنه جعل قلادة في عنقه الخ
وجاء في كتاب التعريفات للجرجاني: التقليد عبارة عن إتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتداً للحقيقة من غير نظر وتأمل في الدليل كأن هذا المتبع (وهو المقلد) جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه، أو التقليد عبارة عن قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل اهـ
ومن هذه النصوص يظهر لك أن المعنى الأصلي للتقليد واحد فقط وهو وضع القلادة في العنق، ثم استعمل في غيره على سبيل التجوز والتشبيه والاستعارة وقد ألفت كتب(835/47)
ووضعت بحوث في التقليد ولم يطعن فيه أحد لأنه يرجع إلى معنى عربي صحيح.
2 - المصيف:
من الأخطاء الشائعة مصْيَف بتسكين الصاد وفتح الياء والصواب: كسر الصاد لأنه اسم مكان من صاف يصيف كمصير من صار يصير، وجمعه مصايف بالياء، ولا تقل مصائف بالهمزة لأن الياء أصلية في تركيب الكلمة (ص ي ف) فلا بد من ظهورها في الجمع ولا تقلب همزة.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
إلى خنساء فلسطين الآنسة فدوى طوقان:
تحية التقدير وسلام الوفاء وبعد:
منذ زمن طويل بعد أن قامت الحرب في الأرض المقدسة ونحن ننتظر منك حدثاً جديداً في عالم الفن والأدب ولاسيما وقد سطرت في عالم الخلود أروع ترانيم الحسرة واللوعة على أخيك المرحوم شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.
وحوادث فلسطين الأخيرة قد تفتت لهولها صلد الصخر ونضب لها معين الضمير الحي، إن كان في الوجود ضمير حي، وما أظنك يا أختاه إلا سكبت في بوتقة الشعر والفن أعظم آلام الإنسانية المعذبة.
(والرسالة) مذ كانت وهي منبر الحق والفن والعلم والأدب وقد ترعرت بين أحضانها، فهل لك يا خنساء الأندلس الجديدة أن تزفري زفراتك من فوق منبرها الرفيع؟
ذلك ما نرقب وننتظر. . فهلمي يا أختاه.
وللأديبة الموهوبة نجوى مقوار (مي فلسطين) أطيب تحياتي
فتى الأندلس
كلية اللغة العربية بالأزهر
رغبة واستجابة:(835/48)
وعدت القراء في عدد (الرسالة) الماضي بأن أعقب على الكلمة التي نشرت في (البريد الأدبي) للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرني، ولقد كنت أود أن أفي بهذا الوعد لولا رغبة كريمة من صديقين عزيزين بأن أكف يدي وأقبض قلمي، تحقيقاً لغاية نبيلة هي إعادة الصفاء إلى النفوس. . .
وأنا لا يسعني إلا الاستجابة لرغبة الصديقين العزيزين، وهما الأستاذان إبراهيم الأبياري وحسن كامل الصيرفي.
فإلى القراء أعتذر، راجياً أن يتقبلوا الاعتذار على ضوء أسبابه ودواعيه. . . وللأستاذين الصديقين أستجيب، آملا أن أكون عند حسن الظن من الراغبين في الخير والداعين إلى الصفاء
أنور المعداوي
الاتساع في اللغة:
إن المجدي على محبي العربية في التنويه بالثروة اللغوية التي
ترمز إلى مدى الاتساع في دلالات الألفاظ المشتركة في إفادة
المعنى الفذ، ولقد حررنا منذ سنوات بالأهرام الغراء
29101938 كلمات: (الذعر، والرعب، والفزع، والخوف.)،
وأوضحنا مدى ما في هذه الكلمات من تلاق في الدلالة وتباعد
في الصياغة؛ ونحب أن نورد بالرسالة الزهراء ما وقع لنا من
ألفاظ تدل على السعة، وتعطي الراغبين في البحث نهزة
للإيناس بما يوضح جلال هذه اللغة.
(أ) جاء الفعل الدال على (الرأفة) - وهي أشد الرحمة - بثلاث صيغ (رؤف) به و (رأف)(835/49)
به و (رئف) به.
(ب) يقال: رجع الشيء بنفسه و (رجعه) غيره: متعد ولازم من الثلاثي.
(جـ) يقال في مقام الرجاء. ترجاه، وارتجاه. بمعنى واحد.
(ء) يقال في التنقل: رحل، وارتحل، وترحل.
(هـ) مصدر حدث: المحادثة، والتحادث، والتحدث والتحديث.
(و) يقال: أضاءت النار، وأضاءت النار المكان. يتعدى ويلزم.
(ز) يجرى على الألسنة (تشكر له) وهو صواب (كشكر له)
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر(835/50)
رسَالة النقْد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 5 -
33 - ص49 يقول ابن قتيبة: (وحدثني محمد بن خالد ابن خداشْ، عن سالم بن قتيبة قال: حدثنا حمزة الزيات. . .)
والصواب (. . عن سلم بن قتيبة. . .) وهو سلم بن قتيبة الشعيري - بفتح المعجمة وكسر العين - أبو قتيبة الخراساني نزيل البصرة. قال ابن أبي عاصم: مات سنة مائتين كما في خلاصة تذهيب الكمال 124
وأما حمزة الزيات: فهو كما قال ابن قتيبة في المعارف ص230 (حمزة بن حبيب بن عمارة ويكنى أبا عمارة، مولى لآل عكرمة ابن ربعى التيمي مات بحلوان سنة ست وخمسين ومائة في خلافة أبي جعفر).
34 - ص50 (وكذلك قال الأشج لبنيه: لا تشربوا ولا تثجروا، ولا تعاقروا فتسكروا)
والصواب. (لا تبسروا ولا تثجروا. .) جاء في لسان العرب
(البسر هو خلط البسر بالرطب أو بالتمر وانثباذهما جميعاً.
والثجر: أن يؤخذ ثجير البسر فيلقى مع التمر، والثجير: ثغل
البسر) والحديث بتمامه في الفائق للزمخشري مادة بسر راجع
ترجمة الأشج في الإصابة وابن سعد 760 وأسد الغابة196
وقد روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأشج
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فيك خلقين
يحبهما الله ورسوله، قلت: وما هما؟ قال: الحلم والحياء، قلت:(835/51)
وقديماً كانا فيَّ أو حديثاً؟ قال: بل قديماً، قلت: الحمد لله الذي
جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.
35 - ص52 (. . . وقال أبو الغالية الرياحي: أشرب النبيذ ولا تمزز، والتمزز أن يشرب قليلاً قليلا).
والصواب: (أبو العالية) بالعين لا بالغين، واسمه رفيع بن
مهران الرياحي البصري، وهو من الأئمة المخضرمين، صلى
خلف عمر، ودخل على أبي بكر. وتوفي في شوال سنة
تسعين، وكان ثقة كثير الحديث. وهو من موالي بني رياح،
اشترته امرأة منهم، ثم انطلقت به إلى المسجد الجامع بالبصرة
في يوم جمعة والإمام على المنبر، فقبضت على يده وقالت:
اللهم أذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله
ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. وقد حدث أبو العالية
عن نفسه قال: كنت مملوكا أخدم أهلي فتعلمت القرآن ظاهراً
والكتابة العربية وقرأت المحكم بعد وفاة نبيكم بعشر سنين، فقد
أنعم الله علي بنعمتين لا أدري أيتهما أفضل: أن هداني
للإسلام أم لم يجعلني مرورياً، ثم يقول: وكنا نسمع الرواية
بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم
نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم. ويقول:(835/52)
لما كان زمن علي ومعاوية وإني لشاب القتال أحبَّ إليَّ من
الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم فإذا صفان لا
يرى طرفاهما، إذا كبَّر هؤلاء كبَّر هؤلاء، وإذا هلل هؤلاء
هلل هؤلاء، فراجعت نفسي فقلت: أي الفريقين أنزله كافراً؟
وأي الفريقين أنزله مؤمناً؟ أو من أكرهني على هذا؟ فما
أمسيت حتى رجعت وتركتهم. وكان ابن عباس أيام إمارته
بالبصرة يكرمه ويجلسه معه على سريره. وكان أبو العالية
يبعث بصدقة ماله إلى المدينة فتدفع إلى أهل النبي فيضعونها
في مواضعها. ومن كلامه: إذا سمعتم الرجل يقول: إني أحب
في الله وأبغض في الله فلا تقتدوا به. راجع ترجمته في تهذيب
التهذيب وميزان الاعتدال 1340 وطبقات ابن سعد 781 -
85 وحلية الأولياء 2217 - 224 وصفة الصفوة 3135
والمعارف لابن قتيبة ص 200
36 - ص 52 (وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال: نعم، قيل وكيف تشربه؟ قال: على غدائي وعشائي وعند ظمئي. قيل فما تركت منه؟ قال: النكات ومحادثة الرجال)
وقد علق الأستاذ على ذلك بقوله: (النكات: جمع نكتة وهي هنا الجملة المنقحة المحذوفة الفضول)
ولست أرى رأيه في هذه الكلمة وهي عندي محرفة بيد أني لم أدرك وجه تصويبها. ويرى صديقي الراوية الأستاذ محمود محمد شاكر أن صوابها (التكأة) يريد بها الجلوس المطمئن(835/53)
وإدارة الأقداح. ويستدل بما رواه المؤلف في صفحة 60 من قول جميل ابن معمر:
فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلالْ من قلله
ومحمد بن واسع قائل هذه الكلمة فيما يقال من كبار الزهاد
العابدين الورعين توفي في سنة عشرين ومائة. راجع ترجمته
في صفة الصفوة 3190 - 195 والمعارف 209.
37 - ص 53 (وقيل لسعيد بن سالم: أتشرب النبيذ؟ قال لا. قيل ولم؟ قال: تركت كثيره لله، وقليله للناس)
والصواب: (وقيل لسعيد بن سلم) كما في عيون الأخبار 437
وقد مدحه أعرابي فقال:
أيا سارياً بالليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم ضوء كل بلاد
لنا سيد أربى على كل سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد
فلم يعطه شيئاً فقال:
لكل أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهلي ثواب
مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب
وسعيد بن سلم هو القائل: إذا لم تكن المحدِّث أو المحدَّث فانهض وراجع. وقد هجاه أبو الشمقمق، ومسلم بن الوليد، ورثاه عبد الصمد بن المعذل بأبيات جيدة تجدها في الكامل للمبرد مع شيء من أخباره في ص 712 - 718 من طبعة الشيخ أحمد محمد شاكر.
38 - ص58 (ولو كان تحريم الخمر للسكر لم يطلقها الله تعالى للأنبياء والأمم قبلنا، فقد شربها نوح عليه السلام حين خرج من السفينة واعترس الحبلة حتى سكر منها)
وجد الأستاذ هذه الكلمة بهذا الرسم فلم يفهم معناها ولم يفطن إلى وجه الصواب فيها، وعلق على الجملة بقوله: (كذا في الأصل، والحبلة: العنب، وفي الحديث: لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة. الحبلة: بفتح الحاء والباء وربما سكنت).
والصواب (واغترس الحبلة) بمعنى غرس، وكذلك رويت جاء في لسان العرب (وفي(835/54)
الحديث لما خرج نوح من السفينة غرس الحبلة).
39 - ص 58 في الحديث عن الخمر والنبيذ (وأما قولهم الخمر ما خمر، والمسكر مخمر فهو خمر مثله. . .)
والصواب (والنبيذ مخمر فهو خمر مثلها) كما في العقد الفريد
4336
40 - ص59 (ولو كان الله تعالى حين أحل النبيذ أحل منه السكر الذي يكون منه الخمار وكان شرَبة النبيذ من الصحابة والتابعين سكروا فأصابهم ذلك، للزمنا أن يقال: نباذ ولا يقال فيجب ما ذهبوا إليه) وعلق الأستاذ على (ولا يقال) بقوله: وفي الأصل أو، وما أثبتناه رواية ع)
والصواب: (للزمنا أن يقال نباذ ولا يقال: خمار فيجب ما ذهبوا إليه).
41 - ص62 ففي شعر بعض الأشراف:
تلم بنا الخصاصة ثم تعفى ... على إقتارنا حسب ودين
والصواب: (ثم يعفى)
42 - ص62 وقال يحيى بن نوفل اليماني:
ويغتبقان الشراب الذي ... يحل به الجلد للجالد
شراب يوافق فهر اليهود ... ويكره للمسلم العابد
وقد ضبط الأستاذ كلمة (فهر) بكسر الفاء، والصواب ضمها كما في لسان العرب، وجاء في القاموس: (وفهر بالضم مدارس اليهود تجتمع إليه في عيدهم، أو هو يوم يأكلون فيه ويشربون)
43 - ص70 (وقال الأعشى:
ولقد شربت ثمانياً وثمانيا ... وثمان عشر واثنتين وأربعا
من قهوة باتت ببابل صفوة ... تدع الفتى ملكا يميل مصرعا
والصواب: (وثمان عشرة. . .)
44 - ص75 (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر ما سكنت إليه القلوب،(835/55)
واطمأنت إليه النفوس، والإثم ما حاك في صدرك فكرهت أن تطلع عليه الناس. وقال ابن مسعود: الإثم جواز القلوب، وهي الهوادج فيها بالشكوك، فإذا كان الإثم يكون بما قدح في القلب من الشك فكيف هو فيما يتيقنه القلب، أو ليست الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله)
وعلق الأستاذ على ذلك بما يلي: (الهودج: مراكب النساء وهدج الظليم: مشى وسعى وعدا، وكل ذلك إذا كان في ارتعاش، وظليم هداج ونعام هداج، وهوادج وتقول: نظرت إلى الهوادج كما في التاج)
وهذا شرح عجيب غريب لست أدري كيف ارتضاه الأستاذ في هذا المقام، والذي أوقع الأستاذ في هذا الخطأ الطريف أنه اعتقد أن (الهوادج) هنا كلمة صحيحة قالها ابن مسعود، وهي محرفة وصوابها: (القوادح) كما أن (جواز) محرفة أيضاً وصوابها: (حُزَّاز) جاء في لسان العرب: (وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: الإثم حُزَّاز القلوب، وهي الأمور التي تحز فيها، أي تؤثر كما يؤثر الحز في الشيء، وهو ما يخطر فيها من أن تكون معاصي لعقد الطمأنينة إليها، وهي بتشديد الزاي. جمع حازّ، يقال إذا أصاب مرْفق البعير طرف كِركرتَه فقطعه وأدماه: قيل: به حاز. وقال الليث يعني: ما حز في القلب وحك. وقال القدَّيس الكناني: العرك والحاز واحد، وهو أن يحز في الذراع حتى يًخلص إلى اللحم، ويقطع الجلد بحد الكركرة وقال ابن الأعرابي: إذا أثر فيه قيل: ناكت، فإذا حز به قيل: حاز، فإذا لم يدمه فهو الماسح. ورواه شمَّر: الإثم جواز القلوب بتشديد الواو، أي يجوزها ويتملكها ويغلب عليها. ويروى: الإثم حزَّاز بزايين الأولى مشددة، وهو فعال من الحزِّ)
(يتبع)
السيد أحمد صقر
المدرس في الليسيه بمصر الجديدة(835/56)
القَصَصُ
قصة طفل
للكاتب الإنجليزي شارلس ديكنز
ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
يحكي أنه منذ سنوات كان هناك مسافر، يقوم برحلة سحرية. فقد وجد عندما بدأ القيام بها، أنها تبدو طويلة جداً، وقصيرة جداً عندما وصل إلى منتصفها.
وسار في طريق حالك بعض الوقت دون أن يقابل أحداً. ثم التقى أخيراً بطفل جميل، فقال له (ماذا تفعل هنا؟ (فأجاب الطفل) أني دائماً في لهو ومرح، فتقدم وامرح معي!).
ولعب مع الطفل طول اليوم، وكانا سعيدين. كانت السماء زرقاء، والشمس مشرقة، والماء متألقاً، وأوراق الشجر مخضرة، والأزهار يانعة. واستمعا إلى تغريد الطيور، وشاهدا مختلف الفراش، وراقبا هطول المطر، واشتما الروائح الزكية. وكانا يسران من الاستماع إلى هبوب الرياح، ويتخيلان ما تهمس به، عندما تندفع مقبلة من موطنها. ويتساءلان في عجب عن أصل نشأتها، وهي تصفر وتزمجر، وتدفع بالسحب أمامها، وتحني الأشجار في طريقها، وتندفع خلال المداخن، وتهز الديار هزاً، وتثير غضب البحر فيهدر مزمجراً. وما أجمله مشهداً عندما يتساقط الجليد، فيتمتعان برؤية البرد النازل في سرعة وغزارة، وكأنه الزغب الساقط من صدور ملايين الطيور البيضاء. ويشاهدان تراكم الثلج الناعم، ويستمعان إلى الهمسات الصادرة من الدروب والطرقات. وكان لديهما العديد من أجمل الألعاب في العالم، وأغرب الكتب المصورة.
ولكن في ذات يوم، وعلى غير انتظار، تفقد المسافر الطفل فلم يجده. وناداه مرات ومرات دون أن يسمع مجيباً. فتابع سيره في طريقه، ومشى مدة من الزمن دون أن يقابل أحداً، حتى التقى أخيراً بصبي حسن الطلعة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الصبي (إني أتعلم، هلم وتعلم معي).
وأخذ يتعلم مع الطفل عن جوبيتر، وجونو، والإغريق والرومان، وشتى مختلف العلوم. وكان لديهما بجانب ذلك أبهج أنواع الألعاب الرياضية. فكانا يجدفان في النهر صيفاً(835/57)
وينزلقان على الثلج شتاء، ويعدوان في نشاط، أو يمتطيان صهوات الجياد. وهكذا كانا يمارسان شتى أنواع الرياضة، حتى أصبحا لا يفوقهما أحد فيها. وكانت لهما حفلات للرقص، ومسارح يتمتعان فيها برؤية قصور من الذهب واللجين. وشاهدا كل عجائب العالم. وكان لديهما من عزيز الأصدقاء ما لا يعد ولا يحصى.
ومع ذلك، ففي ذات يوم افتقد المسافر الصبي مثلما افتقد الطفل وبعد أن ناداه دون جدوى تابع رحلته. وسار فترة من الزمن دون أن يشاهد أحداً، حتى التقى أخيراً بشاب، فسأله (ما الذي تفعله هنا؟) فأجاب الشاب (إني أعشق دائماً. أقبل واعشق معي).
وسار المسافر مع الشاب فالتقيا بفتاة من أجمل ما شاهد من الفتيات، ذات عينين نجلاوين، وشعر أثثيت، وابتسامة خلابة ووجه مشرق. ووقع الرجل في حبها من النظرة الأولى. ومعذلك كانا يغضبان في بعض الأحيان، ويتشاجران، ويتخاصمان ويجلسان في الظلام يكتبان الرسائل كل يوم. ويختلسان النظر إلى بعضهما، ثم يصطلحان في حفلة عيد الميلاد، ويعتزمان الزواج في أقرب وقت.
ولكن المسافر تفقدها ذات يوم مثلما تفقد الشاب فلم يجدها، وبعد مناداته عليهما تابع رحلته. ومشى فترة من الزمن دون أن يرى أحدا، ثم التقى أخيراً بسيد متوسط العمر فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب (إني مشغول دائماً. تعال واشتغل معي).
وهكذا تعددت مشاغله. وذهب مع السيد إلى الغابة. وأصبحا يرحلان إليها كثيراً. وكانت الغابة بادئ ذي بدء مكشوفة خضراء ثم أخذت تتكاثف وتظلم، وحاول لون أشجارها التي كان قد ألتقي بها مبكراً إلى لون قاتم. ولم يكن السيد وحيداً، بل كانت ترافقه سيدة في مثل عمره، وهي زوجته. وكان لهما أولاد أيضاً. وذهبوا جميعاً يخترقون الغابة، ويقطعون الأشجار وينشئون دروبا بين الأفنان، ويعملون في حرارة.
وكان أحيانا يقابلهم طريق أخضر مكشوف في غابات كثيفة. ويستمعون إلى صوت على مقربة منهم يقول (أبتاه، أبتاه، أنا طفل آخر! انتظرني!) ثم يشاهدون شخصا صغيرا جدا ينمو ويكبر وهو مقبل يعدو ليلحق بهم، حتى إذا ما وصل، التفوا حوله، وقبلوه، ورحبوا به، ثم تابعوا سيرهم جميعا.
وكانوا أحيانا يلتقون بطرق مختلفة في وقت واحد فيقفون. ثم يقول أحد الأولاد (أبتاه إني(835/58)
ذاهب إلى البحر) ويقول الآخر (أبتاه، إني راحل إلى الهند)، والثالث (إني مسافر لأبحث عن الثروة أينما استطعت) ويقول الرابع (أبتاه، إني مرتفع إلى السماء!) وهكذا يفترقون وقد فاضت دموعهم في غزارة. ويذهبون، كل منهم في طريق من هذه الطرق. ويرتفع الطفل الصاعد إلى السماء، يرتفع في الهواء الذهبي، ثم يختفي.
وكان حينما يحدث مثل هذا الفراق، ينظر المسافر إلى السيد فيشاهده يتطلع إلى السماء فوق الأشجار، حيث يأخذ النهار في المضي، وتبدأ الشمس في الغروب. ويلاحظ شعره وقد اشتعل شيباً.
ثم ساروا يقطعون رحلتهم دون أن يستريحوا لحظة. فقد كان من الواجب عليهم أن يكونوا منشغلين. وهكذا أقبلوا على طريق أكثر حلكة من غيره، واندفعوا في رحلتهم، عندما وقفت السيدة وقالت (زوجي، أنهم ينادونني).
فأصغوا فاستمعوا إلى صوت آت من بعيد يقول (أماه، أماه!) كان صوت الطفل الأول الذي قال أنه صاعد إلى السماء. وقال الأب (لا تذهبي الآن، أرجوك، إننا على وشك الغروب، لا تذهبي الآن، أرجوك). ولكن الصوت نادى (أماه، أماه) دون أن يبالي به ولا بما أصبح عليه السيد من بياض الشعر وغزارة الدمع.
وعندئذ قبلت الأم زوجها وهي تبتعد عنه، وتنسحب في الطريق المظلم، وتحرك ذراعيها ولا يزالان ملتفتين حول عنقه. وقالت له (يا أعز أعزائي، لقد نادوني، وها أنذا ذاهبة) ثم رحلت، وظل الزوج والمسافر وحيدين.
واستمرا في سيرهما حتى اقتربا من نهاية الغابة. فاستطاعا أن يشاهدا الشمس تغرب أمامها بأشعتها الحمراء خلال الأشجار.
وبينها كان المسافر يشق طريقه خلال الأفنان، إذ فقد الرجل. ونادى، ثم نادى دون مجيب. وأخيرا سار وحيدا حتى أقبل على رجل كهل جالس على شجرة ساقطة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الكهل في ابتسامة وديعة (إني أتذكر دائما. أقبل وتذكر معي!).
وهكذا جلس بجوار الكهل وجهاً لوجه يشاهد غروب الشمس الصافية وجعل يتذكر، فأقبل عليه أصدقاؤه عائدين في هدوء، ووقفوا وأحاطوا به. الطفل الجميل، والصبي الحسن الطلعة، والشاب العاشق، والأب والأم والأولاد. كانوا كلهم حوله. ولم يفقد منهم أحداً.(835/59)
وهكذا أحبهم جميعاً، وكان رحيما رفيقاً بهم، ومسروراً بوجودهم. وكانوا يجلونه ويعشقونه.
وأظن أن هذا المسافر هو أنت يا جداه؛ لأن هذا هو ما فعلته بنا، وهذا ما فعلناه بك.
محمد فتحي عبد الوهاب(835/60)
العدد 836 - بتاريخ: 11 - 07 - 1949(/)
البرلمان الشعوبي العربي والاستعداد للحرب مع
اليهود
للأستاذ نقولا الحداد
لا يخفى على أحد ما ينوي اليهود من البغي والعدوان على الأمم العربية؛ فهم عاقدو العزم على غزوها جميعًا وامتلاك بلادها واستعمارها. وفي هذه الحالة يتسنى لهم أن يستعبدوها استعباداً مطلقاً أو تهاجر منها جماعات وفرادى. . . ولكن إلى أين وقد وطد اليهود العزم على هذا وحرصوا عليه منذ دُمر هيكلهم في أورشليم وتشتتوا في جميع أقطار المسكونة، وصمموا أن ينشئوا دولة يهودية يتوقعون أن تشمل جميع دول الأرض!
قد تتراءى هذه الفكرة سخيفة لأنها شبه المستحيل، ولكن سلوك اليهود منذ قديم الزمان إلى اليوم يدلنا على أنهم يستطيعون المستحيل. ومنذ القرن الماضي شرعوا لتنفيذ هذه الحطة الجبارة، فعقد حكماؤهم أو حاخاماتهم عدة مؤتمرات سرية لدراستها وتقرير إمكانيتها ووضع خططها كما شرحنا ذلك في هذه المجلة. وكانت إثاراتهم للثورات والحروب والانقلابات منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن من جملة خططهم؛ كالحرب السبعينية الألمانية الفرنسية، والثورة التركية في أوائل هذا القرن، والحرب العظمى الأولى، والانقلاب الروسي، والحرب العظمى الأخيرة - كل هذه الثورات والانقلاباتحدثتبدسائسهم الفظيعة ووسائلهم المختلفة، ومنها ماسونيتهم الخاصة التي كانت وما زالت تسخر الماسونية العامة لأغراضهم - كل هذا يؤكد لنا أنهم عاقدوا العزم على اجتياح البلاد العربية، ثم اجتياح الشرق كله، ثم اجتياح العالم كله!
ومنذ الحرب العظمى السابقة شرعوا ينفذون خططهم على أن تكون فلسطين نواة مملكتهم. وقد اختاروها نواة لسببين جوهريين: الأول أن فلسطين بحسب ما لفقوهفي توراتهممنذ ستة قرون قبل المسيح، هي أرض الموعد التي وعدهمبهم الرب (لا الله)، فجَّر هذه التوراة عليهم وعلى سائر الأمم الوبال، لأنها غرست في أذهان عاماهم أنهم شعب الله المختار. والسبب الثاني أن مقامهم ساء بين الأمم الأوربية الجبارة ولا سيما الأمم الألمانية، فصاروا يطلبون سلامتهم في الخروج منها، إلى أين. . . إلى بلاد أهلها ضعاف يستطيعون هم أن يستعمروها من غير نزاع، فرأوا أن الأُمم العربية خير مرعى لهم، فقاموا يطالِبون(836/1)
بملكإسرائيل، وقد نجحوا وا أسفا النجاح الأول وأسسوا دولة إسرائيل فيأرض الميعاد، وشرعوا يوسعون فيها قبل أن يحددوها ويرسموا خارطتها، فلم يعودوا يرضون بمشروع التقسيم الذي قررته هيئة الأُمم المتحدة، بل صاروا يريدون كل فلسطين، وكل يوم لهم غزوة في هذا السبيل، حتى أنهم غزوا لبنان، وسيأتي دور سوريا. وأما شرق الأردن فقد صار في جيبهم بفضل الملك عبد الله، وعما قليل يمدون أيديهم إلى مصر فالعراق، وهكذا دواليك حتى تصبحكل البلاد العربية في وطابهم!
ليس من الضروري أن يحتلوا البلاد العربية احتلالاً حربياً أو احتلالا عسكرياً لأول وهلة، ويكفي أن يحتلوها تدريجياً احتلالا اقتصاديا واحتلالا سياسياً، وهذان يتمشيان معاً بسرعة. وقد لا يمضي وقت طويل حتى نرى هنا وفي جميع البلاد العربية بنوكاً لإسرائيل تمنح تسهيلات لا تمنحها البنوك الأُخرى، ثم نرى فروعاً لمتاجرهم وشركاتهم حتى تصبح معظم اقتصاديات العرب في أيديهم، وبحجة ازدياد معاملهم في البلاد، وبقوة الأموال التي يبذلونها، تصبح لهم كراسي في الحكومة. وسنرى أنه لا تمضي بضع سنوات حتى يكون في الوزارات العربية وزراء يهود يكثرون أو يقلون حسب الظروف، وفي مصالحها الإدارية المختلفة رؤساء إدارات يهود، وبعد ذلك تصور ما تشاء من التغلغل اليهودي والأغلال اليهودية التي تغل بها أيدي البلاد!
لا يستغرب القارئ إذا قلت أن هذا يتم أو يحدث في بضع سنينمن 6 - 9. وقد يحدث بتؤدة واحتيال وتملق وإغراء؛ وهو حاصل ألان. كم من مصلحة يهودية صارت تسمى مصلحة مصرية لأنها استخدمت وزيراً أو وجيهاً مصرياً أو باشا في مجلس إدارتها! وإذا وقفت الوطنية أو النعرة العربية في طريقهم فعندهم جيش عظيم يضمن تنفيذ مآربهم. ومتى أستفحل أمرهم فلا بد أن يقع احتكاك بينهم وبين العرب يقدح شرر الحرب، فهل نحن لها مستعدون؟
هذا ما أُلفت له أنظار العرب!
كانت الجامعة العربية تجمع نحو35 مليوناً على الأقل من العرب، وكان اليهود ثلاثة أرباع المليون، ومع ذلك انتصروا وانخذلنا! لا يحق لنا أن نقول أن الإنكليز خانونا، ولا أن الأمريكان مالئوا اليهود علينا، ولا أن الروس ناصروهم!(836/2)
كل واحدة من هذه الدول التي تألبت علينا مع اليهود عملت بمقتضى مصلحتها. ليس الإنكليز ولا غيرهم أولاد عمنا حتى نعتب عليهم. أما الشعوب العربية فهي أولاد أعمام؛ وأولاد الأعمام بعضهم على بعض، فعلينا أن نبحث أسرارأنخذالنا0
قالوا لم يكن عندنا سلاح صحيح، فيجب أن نبحث أسباب نقص السلاح عندنا. . . وأن نزيله! ولكن ليس هنا مصدر الخلل0
فالو كانت الجامعة هي المسؤولة عن جميع النقائص والعيوب فيجب أن نبحث عن سبب خللها ونصلحه!
قالوا كان عندنا خونة0 وذلك حق؛ فأن مصر حينما كانت تجاهد وحدها في الميدان كانت دولتان تخونانها وتمنعان ثالثة عن إمرار جندها في أراضي إحداها لمساعدتها، فيجب إذا أن نطهر جامعتنا من الخونة. . .
كان أحد الخونة العرب وأحد الوزراء في دولة عربية يجندان بعض العرب (الدروز) لكي يحاربوا العرب مع اليهود وقد سلمنا حصناً لبنانياً لليهود. وهل في ضروب الخاناتأعظم من هذه الخيانة وأفظع! ومع ذلك بقى ذلك الوزير وزيراً للدفاع في دولته، مع أن محاكمة طبارة (في دمشق) ورفيقه الذين قتلوا كامل الحسين أحد الخائنين قد شهرت بذلك الوزير تشهيراً يندى له الصخر الجلمود، ومع ذلك لا يزال وزير الدفاع وزيراً في حكومته إلى اليوم والغد. فخيانة كهذه يجب أن تجد لها قصاصاً في الجامعة العربية.
في الجامعة العربية إذن ضعف وأي ضعف يجب أن نداويه. أنناالآنفي بحر لحي من الخطر الهائل، فإذا لم نبن السفينة بناء متيناً غصنا إلى قاع الفناء!
الخطر عاجل جداً ما دام ابن غريون رئيس وزارة إسرائيل يقول للجنود الهاجاناه: (لم يزل أمامكم فتح من أعالي الفرات إلى أعالي النيل)! وكل تهاون في شأن هذا الخطر يفضي بنا إلى الخطر الماحق!
لكي نتدارك هذا الخطر يجب أن ينعم القراء العرب النظر في الأمور التالية:
كان أكبر عيوب الجامعة أنها مجموعة مندوبين من سبع دول عربية ليس لها ميثاق إلا بروتوكول عقد في الإسكندرية ولم يكن له من غرض سوى ضم العرب في اتحاد (لماذا هذا الاتحاد؟) ولكن لم يكن في البروتوكول قانون للدفاع. وليس لأي مندوب في الجامعة(836/3)
من وظيفة إلا أن يحمي استقلال دولته وحريتها من هذا الاتحاد خطر على الدولة! لذلك ولدت الجامعة ضعيفة. كانت اتحاداً لا وثاق فيه، ومجتمعاً لا وحدة به.
غرضي من هذا المقال أن نبحث الوسائل اللازمة لجعل الجامعة قوة. يجب أن تكون هذه الجامعة جامعة الشعوب العربية - لا جامعة الدول العربية؛ لأنها باعتبارها جامعة دولية تسعى كل دولة فيها إلى مصلحتها الخاصة لا إلى مصلحة شعبها وبهذه الصفة تكون كل دولة حرة فيها بحيث أنها إذا لم تجد مصلحتها فيها أعرضت عنها وتخاذلت إذ لا تهمها مصالح الدول الأُخرى. وليس لهذه الجامعة سلطة على أي دولة من الدول العربية بحيث ترغمها على أن تبقى في الاتحاد. وبسبب هذه العيوب تفككت كأنها كومة من الهشيمهبت عليها ريح فبددتها.
لكي تكون الجامعة اتحاداً قوياً يجب أن تكون برلماناً نيابياً لجميع شعوب العرب يكون فيه لكل شعب عدد من النواببنسبة عدد أفراده كان يكون لكل مليون نسمة وكسورها نائب، أو لكل مليونين وكسورهما نائب إذا شئنا تقليل الأشخاص لتقليل الجدال والنقاش.
وعلى الشعب نفسه أن ينتخب نوابه من غير تدخل حكومته. ولا يجوز اختيار النواب بالتعيين بل بالاقتراع فقط. ويجب أن يرشح للنيابة أشخاص مثقفون ثقافة عالية ووسطى يكونون قد مارسوا السياسة وفهموها وعرفوا بالنزاهة. فيجتمع لنا في هذا البرلمان الشعوبي العربي نحو 30 أو60 نائباً لا سلطان لأحد عليهم؛ فيكونون أحراراً مستقلين عن أي تأثير خارجي.
تكون وظيفة هذا البرلمان الشعوبي الرئيسية:
أولاً: الدفاع عن الجميع الأقطار العربية.
ثانياً: فض المشاكل التي تقع بين الدول العربية، حتى إذا اقتضى الأمر إرغام بعضها على قبول أحكامه باستخدام سلطته العسكرية. وهذا يلتزم:
1 - أن تكون لهذا البرلمان قوة عسكرية تناهز المائتي ألف جندي أو أزيد في أول الأمر. وبعد ذلك تزداد حسب اللزوم.
2 - أن تعبأ هؤلاء الجنود من جميع الشعوب العربية بنسبة عدد كل منها.
3 - أن يمول هذا البرلمان بالمال الكافي لنفقاتهونفقات الجيشوسائر النفقات الحربية.(836/4)
فيجبى المال - على ألا يقل من خمسين مليون جنيه كل عام بنسبة عدد السكان ونسبة مقدرة كل شعب. ويزاد حسب اللزوم.
4 - أن هذا البرلمان ينتخب قائد الجيش الأعلى وأركان الحرب والمجلس الحربي كما تقتضيه الفنون الحربية.
5 - لا يكون لأي دولة جيش محلي غير ميليشيا والبوليس اللازمين لحفظ النظام المحلي والأمن العام؛ لأن الجيش الشعوبي كفيل بالمحافظة على سلامة كل دولة.
6 - يجب أن هذا البرلمان إنشاء معامل سلاح وذخيرة في كل مملكة أو في بعض الممالك وينفق على هذه المعامل من خزانة البرلمان الأعلى.
7 - ينشئ هذا البرلمان المدارس الحربية لتدريب الجنود والضباط ويضعها تحت إدارة مجلس حربي يشترك فيه القائد الأعلى ويحسن أن يكون هذا القائد رئيسه.
8 - القائد الأعلى وأركان حربه أو المجلس الحربي الأعلى يقرر أماكن معسكرات الجيوش حسب مقتضى الحال لكي يكون استدعاء الجيوش وتحريكها سهلاً وسريعا.
9 - سياسة الدول العربية الخارجية تكون في يد هذا البرلمان. ولا شك أنه حريص على مصالح دوله جميعاً ولا يفرط في شيء منها. وأظن أن هذا الأمر أضمن لسلامة الدول العربية من الاستعمار الأجنبي الذي يثلم الاستقلال.
10 - ليس لدولة من الدول العربية أقل سلطة على هذا البرلمان. وإنما له هو سلطة على الدول في العلائق بينها وفي الشؤون الخارجية أيضا. ُ
11 - إذا تمردت إحدى الدول على هذا الاتحاد وجب على البرلمان الشعوبي أن يخضعها ويردها إلى حضيرة الاتحاد.
هذا هو ملخص مشروع جامعة الشعوب العربية العملى0 ولأجل إخراجه إلى حيز الفعل لابد من إقناع جميع الدول العربية بصلاحيته وضرورته ووجوب تحقيقه عاجلاً قبل أن يستفحل خطر الغزو اليهودي. فإذا لم تقتنع الدول العربية كلها بضرورية العاجلة فإسرائيل اليهودية واقفة بالمرصاد تتحين الفرص للهجوم الاقتصادي والحربي معاً. ولا يردها هذا الهجوم إلا علمها بأن مشروعنا هذا في طريق التنفيذ. فما هي الخطوة الأولى التي نخطوها في هذا السبيل؟(836/5)
أولا. إذاعة هذا المشروع على جميع الشعوب العربية وحثها للعمل بمقتضاه. وأول ما يقتضيه هو السعي لدى الحكومات أن تقبله على اعتقاد أنه السبيل الوحيد لإنقاذ الأمم العربية من الخطر الصهيوني لكي تساعد على انتخاب البرلمان الشعوبي العام.
ثانياً: استدعاء ممثلين من كل أمة عربية لعقد مؤتمر للبحث الجدي في هذا المشروع وقريره وإنشاء ميثاق له ودستور للبرلمان الشعوبي.
2ش البورصة الجديدة القاهرة
نقولا الحداد(836/6)
أنا 000 والموت!
للأستاذ راجي الراعي
رأيت الموت أمس جاثماً بين القبور يتأمل ما صنعته يداه، ومنجله الدامي إلى جانبه، فجرَّ أني عليه سكونه، وأن المنجل ليس في يده، فأتيته. . . فتفرَّس في، وقلب بين جفنيه، ثم زفر قائلا:
- ما الذي جاء بك! إن ساعتك لم تأت بعد!
- ولماذا تزفر؟
- لأنك لم تقع بعد في يدي!
- ومتى أقع فيها؟
- تقع فيها يوم تبلغ حدك المرسوم، أو يوم تطلبني!
- وهل أنت تُطلب؟ أنني أتخيلك وفي يدك المنجل تطرق الأبواب وتدخل متى شئت!
- لا، لست وقحاً إلى هذا الحد. أنا لمن يبلغ المائة، وهي الحد الأخير الذي أقيم لعمر الإنسان، فإذا بلغه أقبلت عليه وأعدته إلى ترابه، ولا آتيه قبل ذلك إلا إذا دعاني!
- وكيف يدعوك؟
- يأثم ويشذ عن الصراط القويم، ويجن جنونه، فتحترق كبده، ويجف عرقه، ويتضخم قلبه. . .
إن معظم الذين يموتون يقبلون علي قبل أن أقبل عليهم، ويسوقونني إليهم سوقاً الحياة عبء عليهم، وكأنهم يستطيبونني!
- ألم تتعب بعد من الحصاد أيها الموت؟
- وهل تعبت الحيات من زرع بذورها؟
- أليس لك ساعة تموت فيها؟
- الأقوياء الخالدون يميتونني، ثم أبعث في الضعفاء حْيا
- من يشحذ منجلك؟
- حنين التراب إلى بنيه.
- كم بلغ عدد الذين قبضت عليهم حتى اليوم؟(836/7)
- أن عددهم في التراب عدد ذراَّ ته. . . فكيف أحصيهم
- أين أنت مني الآن؟
- كلما نبض قلبك نبضة خطوت إليك خطوة!
- ما هي كلمتك في لغة الأحياء؟
- الرحيل. . .
- أحقاً أنك القبح كله والقسوة كلها؟
- يقولون ذلك، ولكن من أراح الإنسان من ألم الحيات، وطول البقاء، وأطل به على دنيا قد ينتظره فيها النعيم، لا يكون قاسياً قبيحاً، بل جميلا رحيما. . .
- أتكون الموت وتذكر الجمال والرحمة؟
- نعم، أذكرهما شيئاً آخر هو الغبطة التي يشعر بها الراقد في سريري.
- ما هو كتابك؟
- أنا كتاب عنوانه الولادة، وسطوره مطموسة، وخاتمته رسم يتكشف عن جفن مطبق على قلب مطعون. . .
- ما ألذ ما تلذك رؤيته في الأرض؟
- قطع السنابل في الحقول، وجمع الكثبان من الرمال!
أين تقيم؟
- وراء الباب، وفي الزاوية. . .
- وأين أيضاً؟
- في العلة العاصية، والشريان الجاف، وفي عقل المجنون، وإرادة العاشق، وشهوة الزاهد، وثمالة الخمر؛ وفي موجة البحر، وموجة اللهيب، وفم المجد، والصاعقة، والبركان، وناب الأفعى، وضمائر بعض الناس، وجبين الأبله. . .
- أين ترى ظلك في الناس؟
- في الحْصاد والحطاب والحفار والجزار والجلاد والمنتحر.
- كيف أنت وهذه الأولوية الخفاقة؟
- لوائي هو اللواء الذي يخفق في أفسح الأجواء.(836/8)
- أي الألوان والأصوات أحب إليك؟
- السواد والحشرجة.
- كيف أنت والحروب؟
- أرى فيها أخصب مواسمي.
والحب؟
- الحرب بيننا سجال.
- والجريمة؟
- أنها حليفتي. . .
- والشمس؟
- إن لهذه المتعجرفة الهازئة بي في أعالي الفضاء يوماً من أيامي، وقبراً من قبوري. . . إن أشعتها أصابع النور، وهذه الأصابع ستقطع يوماً. . . وفي ذلك اليوم تنتهي المهزلة الأرضية، وأقبض عليكم جميعاً في لحظة واحدة. . . أنظر إليها، لقد جاوزت حد الشباب، وهي الآن في كهولتها، وعما قريب يدب فيها الهرم. . سيملكم النور وأنتم في فنون حيوانيتكم لا تستحقونه. . إنكم تقابلون هذه الشمس التي تكرمكم كل يوم باللؤم والجحود. إن سماجتكم تكره جمالها، ولو أمكنكم أن تصعدوا إليها وتطفئوها لفعلتم!
- كيف تريد أن أرسمك أيها الموت؟
- ارسمني قمة لجبل الحياة، أو حجراً في القلب، أو صليباً في الحب، أو شبحاً يقهقه في رحم المرأة، أو عظَمة في حلق الأمل
- من أنت في الأدب؟
- أنا ناثر أنثر ما تنظمها الخليقة.
- كيف أنت والجوع والظمأ؟
- لا أعرفهما، فمنذ ولدت والتخمة تقتلني، والدماء في فمي. . .
والرقاد. . . هل تعرفه؟
كيف أرقد وأنا هو اليل، وهل يرقد الليل؟ أنا إن رقدت هللت الخلائق، ومرت الحياة فوق أحلامي هازئة بي، وأفلتت من يدي. . أنا اليقظة الكبرى، فكيف أطبق أجفاني؟(836/9)
كيف تراني أيها الموت؟
أراك تنأى بخيالك عن الحياة، وتدنو مني. . . إنك تعيش في عالم الأشباح، وهو من عوالمي. . . إن مطارق الخيال والتصوف تهدم فيك تمثال للبقاء. . .
لي حاجة أسألك قضاءها
وما هي؟
إذا دقت ساعة الرحيل، فلا تقبض علي وأنا مقوس الظهر أتوكأ على عصاي. . . اقبض علي ورأسي ينطح الأفق، وقدمي راسخة فيالأرضلكي يقال أنني صارعتك، وفي ذلك عزائي في بلية الترب. . . أنا لا أحب الغنيمة الباردة. . . اقبض عليَّ وأنا أحدق إلى الشمس، وأفتش عن وجه الله، حتى إذا مثلت بين يديه تذكر أنني كنت بريئاً جريئاً. . . فتش عني في أعماق قلب الحياة، وانتزعني منها إذا استطعت. ولا تنتظر أن اجمع بقاياي لأرمي بنفسي على باب بيتك. . . والويل لك ثم الويل إذا أنت مسست روحي، وتجرأت على خيالي. . . إن خيالي أقوى منك فحذار. . .
أن خيالك يتكلم الآن. . . أما أنت. . . وهنا نفخ الموت نفخة جمد لها دمي، وحدق في منجله الملقي إلى جانبه، وأخذ يهز رأسه ويحملق ويغمغم، فخيل إلي أنه يقول لنفسه: لقد أتعبني هذا الوقح بتحديه وأسئلته التي لا آخر لها، فإذا وكزته بهذا المنجل، أو لوحت به أمام عينيه كف عني. فتملكني الرعب وكاد يهوى قلبي، فشددته بيدي ورحت أهرول مطلقاً ساقي للريح، لا ألتفت إلى الوراء، وأنا أحسب أن الموت يجد في أثري. . . وبعد قطع المئات من الأميال وأنا أعدو كجياد المتنبي الذي قال فيها:
عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا
وقفت عند ينبوع يتدفق بالحياة وأنا أرتجف وألهث إعياء، ورحت أعب الماء، وأجس رأسي وصدري وما فيَّ من شرايين وأوردة ودماء بعد أن تحدثت إلى الموت. . .
نعم، الموت الذي لا يفتح فمه إلا ليشرب الدماء. . .
راجي الراعي(836/10)
مصطفى كمال الزعيم التركي
بقلم الكونتسفورزا وزير خارجية إيطاليا
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 1 -
منذ أشهر لمع اسم سفورزا في الحفل السياسي الدولي وقد قلت أن مثله قليل في الساسة، وهو يذكرني بكافور ومدرسته، الذي حقق الوحدة الإيطالية، فإذا تبنى سفورزا عودة المستعمرات لإيطاليا فهو خصم جبار لا يستهان به0 وإذا أردت أن تعلم من هو هذا الجبار فاقرأ له.
هذا بحث قديم عثرت عليه بين أوراقي، وأغلب الظن أنني كتبته في عام 1927 حينما كنت أشغل وظيفة سكرتير قنصلي بمدينة تريستا، بإيطاليا، ولم يكن لدي من العمل أو من العبث ما يشغلني عن مثل هذه الأبحاث.
أعرضه على قراء الرسالة ليرو ناحية من نواحي ساسة الغرب حينما يتكلمون عن الشرق وأهله: فأن لنا في كل هذا ذكرى وعبرة.
أحمد رمزي
من الغريب أن كتب التاريخ الحديث المستعملة في المدارس الإنجليزية والفرنسية والإيطالية لا تزال تلقن الأطفال الذين ولدوا بعد الحرب العظمى أن تركيا من الممالك التي قهرها الحلفاء وفرضوا إرادتهم عليها، مع أن الحقيقة بخلاف ذلك لأننا إذا حاولنا التفرقة بين الغالب والمغلوب، رأينا أن الغالب هو الذي خرج من الحرب بمعاهدة حصل فيها على كل مطالبه، والمغلوب هو الذي فقد كل مصالحه وتنازل عما يدعيه من الحقوق التي كانت له قبل الحرب في بلاد الآخر.
فمن من الطرفين الذي حصل على مطالبه، الحلفاء أم تركيا؟ لا نزاع في أن تركيا هي التي وصلت إلى كل ما تطلبه من الحلفاء 0 وقد حصلت على ذلك بعمل رجلها مصطفى كمال.
عرفته لأول مرة وهو شاب في الثامنة والعشرين من عمره وذلك في سنة 1908 حينما(836/11)
كان يشغل وظيفة أركان حرب محمود شوكت باشا قائد الجيش التركي الذي زحف على استنبول وأجبر السلطان عبد الحميد على منح الدستور لرعاياه. وكان شوكت باشا في ذلك العهد آلة بيد جماعة الاتحاديين في سلانيك تلك المدينة التي كانت مركز الثورة والتي تمخضت عن فكرة الانقلاب والاستيلاء على الحكم، والتي اشتهر أهلها المسلمون بنزعاتهم الوطنية في تاريخ الانقلاب التركي. وقد نشأ مصطفى كمال بتلك المدينة وتشبع فيها بأفكار جماعة الأحرار، وسرعان ما صار أحد خطبائهم العاملين على نشر الأفكار الثورية الحديثة بين الضباط في الجيش
والذي يفسر لنا اختيار شوكت باشا إياه ليكون رئيساً لأركان حربه رغم حداثة سنه هو أن شوكت لم يكن عضواً بأحد الألواج المركزية لجماعة الثورة فاختار مصطفى كمال ليجتذب إليه ثقة أصحاب النفوذ في الحركة ويفهمهم باختيار أحد المتحمسين لهم أنه مُسلِّم بأفكارهم متبع لخطتهم.
وقد تمكن مصطفى كمال بعد أثنى عشر عاماً مضت على هذه الحوادث أن يصير رئيساً مطاعاً في أمته ذا كلمة نافذة على الجيش ورؤسائه - ثم انتهى بعد ثلاث سنوات إلى تقلد رئاسة الجمهورية التركية - ويعد هذا نجاحاً عظيماً لأي شخصية ولو كانت وليدة عصر مملوء بالانقلابات والثورة.
أنني مع ثقتي التامة بالنواحي الظاهرة مع شخصية مصطفى كمال مثل همته المقرئة بالإقدام وشجاعته المقترنة بالتحوط والانتباه أرى عدم إغفال الإشارة إلى العامل الأساسي الأول الذي دفع به إلى قمة النجاح، وهو عمل السياسة الإنجليزية في تركيا بعد الحرب؛ لأن مصطفى كمال وأنصاره ما كأنة بوسعهم أن يفكروا أو يصلوا إلى عزل السلطان وحيد الدين أو الذهاب إلى أنقرة والعمل على تحطيم معاهدة سيفر المشؤومة - بغير حدوث الأغلاط التي ارتكبتها السياسة الإنجليزية في بلادهم.
وأنه لجدير بمصطفى كمال أن يتخذ دوننج استرليت حيث كان يقطن لويد جورج كعبة ينحني أمامها لأنها كانت سبب صعود نجمه السياسي.
وفعلاً قد اعترف بذلك رجال إنجلترا الرسميون؛ ولا أريد بذلك لويد جورج الذي لا يكتب ولا يبوح - وإنما أقصد ونستون تشرتشل الذي اعترف بهذا في كتابه عن مفاوضات(836/12)
الصلح -
وطبيعي أني لا أقصد بكلامي هذا مناقشة وتحقيقما تم في هذا العهد الذي انتهى بالتسليم بوجهة النظر التي لمستها من أول الأمر وشرحها من المبدأ بطريقةإيجابية للجهات المسؤلة.
انتهت حالة الحرب معتركيا بهدنة مدروس التي تم التوقيع عليها على ظهر بارجة إنجليزية في 30 أكتوبر سنة 1918 ولم ينص في بنودها على شروط خاصة بنزع السلاح ولا تسريح الجيش بشكل قطعيولا على العقوبات التي كان يجب أن توقع على الرجالالمسؤولين الذين باعواضمائرهم لدول الوسط
ولما كانت فكرة تقسيم تركيا بعيدة عن الأنظار في ذلك العهد ولم يكن أحد متوقعاً لها - وإن كانت السياسة الإنجليزية أعلنها بعد ذلك وجعلتها غرضاً من أغراضها - لذلك لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتنفيذها ولم ينص على شيء من ذلك في عقد الهدنة. وهذا يدهش طبعاً العقلية الألمانية أو الفرنسية التي اعتادت التفكير بشكل منطقي منظم يتطلب النظر والاستعداد لكل حالة بعد وقوعها، ويجعل الكثيرين حيارى أمام التغيرات التي تطرأ على السياسة الإنجليزية بل تجعل بعضهم يرمونها بأنها دائماً مقترنة بنكث العهود مع أن الحقيقة أن هذه التغييرات هي نتيجة للتسرع في العمل أمام حالات طارئة، وهذا التسرع تستدعيه طبيعة القرارات التي توجه السياسة لجهة معينة بغير الدخول في التفاصيل التي يترك لمقتضى الأحوال تكييفها أو تسييرها
قررت الحكومات الثلاث لدول إنجلترا وفرنسا وإيطاليا بعد عشرة أيام من إمضاء الهدنة تعيين ثلاثة مندوبين ساميين لتعهد مصالحها في تركيا، فعينت إنجلترا الأميرال كالثروب الذي عقد الهدنة مندوباً لها، وعينت فرنسا الأميرال أميت قائد أسطول الشرق، وتعينت أنا مندوباً عن إيطاليا فسافرت لتسلم عملي عن طريق كورفو، وسافر معي جزء من الأسطول إلى استنبول.
ولما وصلنا تبين لنا أن الآلة الحكومية التركية قد تعطلت وفقدت سلطتها فأصبح من المحتم علينا تحمل عبء الحكم مؤقتاً انتظاراً لما يقرره مؤتمر الصلح في باريس.
وكانت القوات البحرية الراسية في البوسفور والقوات البرية المعسكرة في تركية الأوربية(836/13)
كفيلة بضمان تنفيذ ما نقرره في كل جهة. وكما نعقد كل أسبوع اجتماعاً في إحدى السفارات الثلاث تحت رئاسة المندوب المجتمع في داره - وكان لتركيا في ذلك العهد صدر أعظم يعمل في الباب العالي، وسلطان يقيم في سراي ضولمة باغجة - ولكن لم يكن هناك من يهتم بهما لأن طلبات المعونة والحماية والتعويض كانت كلها تقدم لإحدى هذه السفارات كأنها الجبهة أو السلطة صاحبت الشأن في البلاد، وكان عملنا سائراً لا تشويه غيرة أو تنازع على المصالح، وإنما بإنفاق تام ساعد عليه كثيراً تآلفنا الشخصي.
وكنت قد استحضرت معي علماً إيطاليا من إحدى البوارج أسرعت برفعه على دار السفارة بعد أن قمنا بتحية إنزال العلم الأسباني الذي كان يرفرف عليها طوال مدة سنوات الحرب الطوال، وما كادت الموسيقى تعزف ألحان النشيد الوطني الإيطالي حتى اجتمع عدد كبير من الأهالي مكون من يونان وأرمن ويهود وبعض الترك، الذين لم يظهر عليهم أي مظهر عدائي نحونا.
لقد أقتنع كثيرون من أن حملة الدردنير كانت نكبة من الوجهة العسكرية لما سببته من النتائج الخطيرة التي أطالت مدة الحرب، ولكنني تيقنت من ذلك حينما أقمت باستنبول بعد الهدنة لما علمته من السلطات التركية من أن القواد الترك دهشوا لما رأوا انسحاب القوات البحرية في الوقت الذي بدأت فيه قوى المدافعين تخذلهم - فكأنهم لم يشعروا بانتصارهم إلا بعد انسحاب عدوهم - وهذا دليل جديد على أن العامل النفسي هو أساس كل انتصار حربي.
وقد دهشت كثيراً عند وصولي استنبول وبعد زيارتي لبروسية من وفرة المؤن والمحاصيل الغذائية في البلاد، لأنإيطاليا تأثرت كثيراً من حالة الضيق التي كانت فيها مدة الحرب 0 ولعلمي بوجود جالية إيطالية كبيرة في تركيا، كنت أنتظر أن أجدها في شبه مجاعة، فاستحضرت من إيطاليا كميات كبيرة من الدقيق لتوزيعها على أفراد الجالية - ففوجئت حينما علمت أن الجالية ليست في حاجة إلى شيء من المعونة وإن أفرادها يفضلون الدقيق التركي الممتاز ببياض لونه ونقاوته على الدقيق الإيطالي - وعلمت من ذلك أيضاً فداحة ما تحمله الحلفاء بسبب إخفاق حملة الدردنيل؛ ولكن الماضي قد انتهىالآن وليس أمامنا مواجهة الحقائق التي أمامنا.(836/14)
أقنعتني هذه الحقائق منذ البداية أن تركيا لم تكن قد ماتت بل بالعكس كانت الحكومة المركزية تمثل وحدها الجزء الفاني المحطم في البلاد، أما تركيا الحقيقية فكانت موجودة يستطيع من يريد أن يلمسها، فكان في اعتقادي من خطل الرأي محاولة تضييق حبل الخناق كثيراً - لأن في تضييقه انتقال تركيا إلى آسيا وبقاءنا نحن في استنبول وسط بلد مهجور.
هذا الري الذي كونته لنفسي عن الحالة والمستقبل بادرت بإخبار حكومتي به وأبلغته في نفس الوقت إلى مؤتمر باريس. وصارحت روما بأنني لا يسعني أن اخدم بلادي الخدمة الحقيقية إلا إذا حصرت الجهد كله للوصول إلى صلح عاجل يعطي إيطاليا كل المزايا الممكنة في الأراضي التركية بشرط الإقلاع عن أي فكرة ترمى إلى القضاء على وحدة البلاد.
ولم أكن أجهل المشروع الذي وضع لتقسيم الأراضي التركية إلى مناطق نفوذ بين الدول، وأعلم أيضاً أن هذا المشروع يوافق هوى الدوائر الرسمية في باريس، ولكني لم أعطي نفسي حق الوقوف عند ذلك - بل تيقنت أن رأيي هو الذي يلتئم مع الحقائق التي أمامي، وأن من الواجب علي لمصلحة بلادي أن أصارحها به لعلمي أنه يغلب في النهاية أن يكون الرأي المتبع.
وكنت أنتظر من الحكومة استدعائي من مركزي بعد تصريحي بهذا الرأي ولكن لم تبد من جهة أورلاندو ولا سونينو (أولهما رئيس الوزارة والثاني وزير الخارجية) أي بادرة لمعارضتي في هذا الرأي مما دل على موافقتهم لي ضمناً - وإنما كتب لي سونينو بعد ذلك، أنه إذا أظهرت الأيام فساد هذا الرأي وعدم مطابقته للواقع فأنه سيترتب على ذلك تنصل الحكومة الإيطالية من تبعة أعمالي وإعلانها عدم موافقتها على سياستي.
وكان السلطان ضعيفاً لا يقر على رأي حتى ينقضه مهتماً بمستقبل عائلته أكثر من اهتمامه بمستقبل بلاده وشعبه. وكان مظهره وحركاته مثلاً تاماً لسليل عائلة انتهى عملها وظهرت بوادر فنائها.
واختار له وزيراً أول الداماد فريد باشا؛ وهو كما يدل عليه أسمه صهر للبيت المالك بزواجه من الأميرة خالدة، وهو مثل لما تفرغه التربية الإنجليزية في عقلية شرقية، لأنه(836/15)
أنم دراسته في أكسفورد وتأثر في ذلك فخرج صورة تامة للجنتلمان الإنجليزي.
ولما كانت الدوائر التركية في سبات تام لا تبدر من جهتها بادرة حياة، اقتنع الرجال المنوط بهم الاتصال بلويد جورج وكيرزون أن تركيا قد أصبحت طوع أيديهم وفي وسعهم أن يفرضوا عليها ما تشاء أهوائهم - ويرجع معظم الخطأ إلى هؤلاء الأفراد وممثليهم ودعاتهم ومأجوريهم أبوا من المبدأ أن يتصلوا بأي فرد من الترك الذين تكونت منهم النواة الأولى لحكومة أنقرة - وقد ساق لي الحظ مقابلة بعض هؤلاء الترك في منزل مهندس إيطاليا والتحدث إليهم في نادي (السير كل دوريان) تحت أنظار زملائي الذين اشمأزوا من ذلك.
وقد شعرت من أول وهلة أن هؤلاء الرجال لم يحاولوا قط تضليلي بل فاتحوني بصراحةتامة قائلين أنه إذا اشتدت الحال ببلادهم ففي وسعهم أن يحافظوا على استقلالهم مهما كلفهم ذلك ولو بانسحابهم جميعاً إلى آسيا.
ولذلك لم أتردد في اليونان أن أصرح برأيي حينما أبلغني الأميرال كالثروب في 12 مايو سنة 1919 قرار مؤتمر باريس القاضي باحتلال لأزمير - من أني مقتنع تمام الاقتناع أن مسائل الشرق الأدنى ستزداد تعقداً وقد تدخل دوراً مملوء بالحوادث الفاجعة - ولكن الأوامر التي صدرت إلينا كانت قاطعة ولم يكن هناك مناص من إطاعتها وتنفيذها.
وقد تم إنزال الجنود واحتلال المدينة بالشكل الذي كنت أتوقعه أي بعمل حربي مجرد من القتال ولكن مقرون بالدماء. وقد اتضح لي خطأ أتيناً في اليوم الذي احتفلت برفع علمها الأزرق على قلاع أزمير بعد معركة تمثلت فيها البطولة كما نقلت إلينا البرقيات في حينه.
وكانت الجنود التركية وقت مباشرة الاحتلال بواسطة القوات اليونانية ملازمة لقشلاقتها، مطيعة للأوامر التي صدرت إليها من الحكومة وحملها رسل من طرف الداماد مؤكدين بان الاحتلال مؤقت وسترون في القريب - وكانت المدينة خالية من أولئك الفدائيين الذين ظهروا في كثير من جهات آسيا الصغرى وقدموا حياتهم بشجاعة خارقة للعادة فداء للوطن التركي.
فمن المسئول إذن عن أول طلقة وجهت من ناحية الثكنات؟
أكد لي بعض المكلفين باستقاء الأخبار أن مطلقها أحد المهيجين اليونان بقصد إثارة الفتنة والمذابح. فإذا كان هذا صحيحاً فمن المؤكد أن حكومة (أتينا) بعيدة عن إرسال أوامر بمثل(836/16)
هذه الأعمال التي تصدر غالباً - وفي كل البلاد بدون استثناء - من عمل بعض الرجال العسكريين المتحمسين لدخول معركة لا يكلفهم الانتصار فيها شيء.
وقد كان احتلال أزمير وخيم العواقبلأن الأمل الضعيف الذي كان باقياً في توطيد الحالة وإيجاد حل يقبله الطرفان قد انتهى بارتكاب هذا الخطأ - والأخطاء في عالم السياسة كالذنوب لدى الأفراد تأتي تباعاً ويجر بعضها بعضاً.
أحمد رمزي(836/17)
صور من الحياة
رجُلٌ!. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا رجل! لست رجلاً إلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تفخر بالشهامة والإباء أن تتشبث بالرجولة والعفة، لا يغنيك عنها أن تبدو أنيق اللباس نضير الإهاب بهي الطلعة.
عرفتك يا صاحبي - أول مرة - فتى في مقبل العمر وزهرة الشباب تتأنق في لباسك وتتألق في زينتك حسن الهيئة والشارة يتضوع العطر من جوانبك وتفوح رائحة الأنوثة من أعطافك، فأنت متكسر الرجولة لين العود فاتر الهمة، وعجبت - أول ما عجبت - أن أراك في زي ذوي الثراء والغنى وأنت موظف حكومة لم يبلغ راتبك إلا تسعة جنيهات، وأن تبذل في بذخ وإسراف وأنت لا تملك شيئاً غير راتبك، وإن الموظف - وإن علت درجته - ليعاني الجدب والإمحال من شدة الغلاء ويقاسي الضيق والعنت من قلة الدخل، فهو يأكل التافه بقدر ويلبس الخلق البالي، ويحمل نفسه على شظف العيش ويصبر على بؤس الحياة. وراعني أن أرى زملاءك في المكتب يقابلونك في ابتسامة ساخرة وأفزعني أن أجد أترابك في الديوان يتهامسون فتطوف همساتهم حولك بسوء، فجلست إلى زميل لك استشف خبرك وأستجلي قصتك، فقال:
هو فتى - كما ترى - واهي الرجولة صغرت نفسه من الشهامة، يتهاوى ضعفاً وأنوثة، فهو بيننا أحدوثة قذرة تمجها الألسن وتعانقها الأنفس، وهو يحس منا فنوناً من الازدراء ويلمس ألوناً من الاحتقار، ولكنه لا يرعوي ولا يرتدع كأنما استمرأ حياة الذلة والضعة حين جعل المالمنتهى غايته.
قلت: وماذا يضير المرء إن جعل المال بعض همه لينفذ منه إلى متعة نفسه وسعادة قلبه وهدوء باله.
قال: ولكنه يتخذ إلى المال سبيلاً معوجاً يتنافى مع الكرامة والشرف. . . أما قصة الفتى فهي:
عشت أنا وهو حيناً من الزمان زميلين يربطنا عنت العمل وقسوة الرئيس وتضمنا أواصر(836/18)
الأخوة ونزوات الشباب، فكنت أقضي إلى جانبه ساعات الفراغ ننشق معاً أريج الحياة وهي تتفتح لنا رويداًرويداً، ونبسم للصبا وهو يرف علينا رفيفاً حلواً، ونستمتع بالعافية وهي تنشر علينا جناحاً رفيقاً، ونسعد بالهدوء وهو غاية قصدنا. لا يبهرنا زيف المدينة وهو فوق طاقنا، ولا يسحرنا بهرج الحياة وإنا لنحس ضيق اليد، ولا نندفع إلى شهوة وإنا لنشعر بالحياء والخجل. وغبرنا زماناً نجد اللذة والسعادة في حيات الهدوء والاستقامة. ثم جاءت الحرب فصفعت الموظف صفعة قوية طار لهالبه وزلزلزت كيانه وشغلته شدة الحياة عن نفسه وأن لي أخوة صغاراً أحمل ثقلهم فأكاد أنوء به في الرخاء فما بالي وقد ضربني الغلاء وعركتني الفاقة، فعشت دهراً لا ألقي صديقي إلا في الديوان ولا أجلس إليه إلا في المكتب، وصمت هو فلا يحدثني بأمر ولا يكشف لي عن حادثه. ثم جاء ذات صباح ثائراً ضيق النفس مضطرب الخاطر. وأرادني على أن أجلس إليه في خلوة ليقص لي قصة أخته، وهي فتاة في العشرين من سني حياتها تتنزى شباباً وتتوثب جمالاً، وأن دلالها ليعصف باللب ويخلب الفؤاد، وأنها لتتأرج بهاءً وإشراقاً، تشع من عينيها معاني الأنوثة والجاذبية وتنفث ابتسامتها في القلب هزات الكهرباء. . .
آه، يا صاحبي، لقد كنت أخشى نظراتها الجذابة وأغضى عن بسماتها العاصفة وأغمض عن أنوثتها العنيفة خيفة أن ينفرط فؤادي أو أن ينقد قلبي على حين أن نفسي كانت تنازعني إليها، ولكني لا أستطيع أن أنفض على عيني أخيها خلجات قلبي، فما كمان لي أن اصبح زوجاً وبين يدي أخوة أخاف أن يستشعروا - بفقدي - اليتم والضياع. فكنت أنصرف من لدن زميلي وقد شاع الأسى في أوصالي وأفعمني الحزن وسيطر علي الضجر، ولكن لا سبيل. . وعاشت الفتاة إلى جانب أخيها الموظف عيش الكفاف والشرف، ثم أقبلت الحرب والغلاء معاً فأحست بأنوثتها وهي تتكامل رويداً رويداً ولكن الضيق يوشك أن يعصف بها، وشعرت بجمالها الوضاء يشرق حيناً بعد حين غير أن الفاقة تحاول أن تستله منها، وعز عليها أن تنطفئ فيها شعلة الشباب والدلال من أثر الحاجة والفقر فراحت تتوسل إلى غايتها بأساليب شيطانية منحطة، فتعرفت على فتى ثري من أبناء الذوات. وأبناء الذوات فئة من الناس أتلفهم الثراء وأبلاهم التعطل فغدو زبداً لا ينفع الناس وعاشوا عيالأ على الجماعة، لا يقيمونة وزناً لمقاييس الأخلاق السيامية من خور التربية،(836/19)
ولا يتمسكون بالشرف من انفراط عقد الأسرة ولا يؤمنون بالعفة من اثر الاستهتار والتبذل، وهم داء الامة العضال وعظامها النخرة.
وترامى إلى زميلي أن أخته قد حادت عن الطريق المستقيم وأشكت أن ترتدغ في هاوية مالها من قرار فأخذ يتأثر خطاها ويضيق عليها السبل0
ولكن الفتاة كانت ذات مكر ودهاء فسلكت إلى قلب أخيها مسلك براقة فغمرته بالطيب من الطعام والغالي من الثياب وحبته بسبل من الهدايا ما ينضب معينه، فوهي ما اشتد من قوته وانحلت عقدت عزيمته فأغضى عن زلاتها وأرخى لها العنان، فاندفعت الطائشة لا تلوى على شيء، وعاش هو لا يهمه إلا أن يبدو في زي الثراء والغنى، لا يشغله إلا أن يبذل في بذخ وإسراف. . . ثم تاقت نفس صاحبنا إلى أن يكون زوجاً ورب أسرة فجلس إلى أخته يكشف لها عن ذات نفسه فما صرفته عن رأيه ولا ردته عن غايته، ثم راحت تمهد له السبيل من مالها وهي تذكره - في لباقة - بأنه موظف حكومة يجب ألا ينسى أن راتبه لم يبلغ بعد إلا تسعة جنيهات.
وانطوت الأيام فإذا الفتى زوج لفتاة جميلة آسرة رغم أنها من أسرة رقيقة الحال تقنع بالتافه وتجتزئ بالضئيل لا ترنو إلى المال ولا تطمع في الترف. ولقد راع الزوجة أن ترى بيت زوجها يموج بالطنافس والصور ويفهق بالأثاث والزغرف، ولكنها عاشت إلى جانب زوجها سعيدة تنظر إلى ما حولها ولا تتكلم وترى ولا تتحدث وخشيت أن تكون ضحية حماقتها أن هي ثرثرت بكلمات تؤذي زوجها أو تنال من كرامة أخته، وخُيل إليها أن زوجها في عمى عن نزوات أخته فانضمت على أذى في نفسها ووقفت على حيد الطريق في صمت وضيق، ومرت أيام وأيام.
وأرادت الفتاة أن توسوس لزوج أخيها بأمر لتجتذبها من وحدتها فجلست إليها تحدثها قائلة (أريت ما أفعل؟) قالت الزوجة (وماذا تفعلين، يا أختي) قالت (أرأيت الشاب الذي يطوف بسيارته حول دارنا فلا يقر له قرار إلا أن أرافقه فأملأ فراغ وقته وفراغ قلبه في وقت معاً) فقالت الزوجة (ما رأيت شيئاً) فقالت الفتاة في إصرار وصراحة (لا تنكري، لقد سمعت ورأيت، ولا عليك فنحن الآن في خلوة لا يسمعني أحد ولا يرى) فأجابت الزوجة (نعم، لقد رأيت وسمعت، ولكن مالي أنا ولذلك الشاب) قالت الفتاة (أن له لأخاً في مثل(836/20)
شبابه ورونقه وثرائه، وهو يطمع في أن تكوني شغل فراغه وشغل قلبه) فأجابت الزوجة في ذعر (أنا؟ لا، لن أكون شيئاً من ذلك! فقالت) الفتاة (لا بد أن تكوني، لعلك من الحمق والغباء بحيث تطمعين في أن أبذل من نفسي لأوفر لك السعادة والهناء!) فأجابت الزوجة في غيض (إنني أجد السعادة إلى جانب زوجي فأقنع بإخلاصه وأقنع براتبه الضئيل) وثارت الفتاة في وجه الزوجة قائلة (إذن لا معدى لك عن أحد آمرين: إما أن تكوني كما أريد وإما أن تبرحي هذه الدار حالاً) فصاحت الزوجة (وزوجي. . وزوجي. .!) فقالت الفتاة (لا زوج لك هنا. . . أنا هن صاحبة الدار وصاحبة الرأي وصاحبة الأمر).
وران الأسى على قلب الزوجة لما سمعت فقضت ليلتها تتململ في فراشها لم يغمض لها جفن ولا قر لها قرار، وإن الخواطر السود لتضطرب في خيالها فتفزعها عن هدوئها وراحتها، وإن الخوف ليسد أمامها الطريق فهي تخشى لأن تزل قدمها فتفقد كرامتها وشرفها وتخشى أن تبوح لزوجها بما سمعت من أخته فيرميها بالفتنة والنميمة، فكتمت أتراحها لا تبدي عن شيء منها.
وآدها أن تصبر على حديث الفتاة وهي تلاحقها تريد أن تدفعها إلى الجريمة، فانطلقت - بعد لأي - إلى زوجها تنفض أمامه جملة الخبر فما أحست فيه الإباء ولا الترفع ولكنه انطوى عنها وعلى شفتيه ابتسامة. . ابتسامة الذئب يوشك أن يغرر بالفريسة، فعاودها الأسى والضيق وتراءت أمامها فوهة الرذيلة تنفرج في غير رحمة ولا شفقة تكاد تبتلعها فأصابها الذعر والخوف، فطارت إلى أمها العجوز الفقيرة علها تجد هنا متنفساً0 وترفعت الأم العجوز الفقيرة عن أن تبيع شرف ابنتها الطاهرة بثمن بخس دراهم معدودة، وأخذتها العزة بالإثم فآثرت أن تبيت ابنتها على الطوى تقاسي المخمصة والشعب على أن ينثلم شرفها أو تنخدش كرامتها.
أما أنت يا رجل، فلست رجلاً إلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تفخر بالشهامة والإباء وإلا أن تتشبث بالرجولة والعفة، لا يغنيك عنها أن تبدو أنيق اللباس نضير الإهاب بهي الطلعة.
كامل محمود حبيب(836/21)
قصة الحياة
(إلى روح صديقي محمود، الذي رحل إلى عالم الخلود)
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
كنت في الحديقة ساعة الأصيل أتفيء شجرة وارفة الضلالمتأملاً سفيرها المتأثر بين قدمي ومن حولي؛ ثم التقطت منه - على غير شعور مني - ورقة صفراء يابسة ففركتها بين إصبعي، وهفت الريح فأطارت ما في يدي مع الغبار، وتركتني أهيم في تفكير طويل!
ولكن. . . لشد ما آلمني تفكيري، وأرهف حسي وشعوري!
لقد تلوت (قصة الحياة) تحت هذه الشجرة وشهدت تمثيلها الخاطف العجول؛ ولقد كانت القصة مأساة بثقت لها عيناي، وكان تمثيلها مؤثراً حرك حزني وأساي. . .
رأيت الحياة - في هذه المأساة - نبتة نزل عليها الغيثفأخرجت شطأهاوهاجت وترعرت، ثم استوت على سوقها وأينعت وأثمرت، ثم علا رأسهافأغصنت وأفرعت، ثم اضحت شجرة فأخصبت وأمرعت، فجنى ثمارها الخاطفون، واستورف ظلالها العابرون.
على أن الرياح - وا أسفاه - استطالت عمر هذه الشجرة فهوت عليها، وحطمت أفنانها، وذرت أوراقها، وأتلفت ثمارها، وأنذرتها فناء قريباً!
ولبثت الشجرة حائرة في مهب الرياح، ترى أوراقها تذوي فلا تملك إلا النواح
تلك فصول هذه (القصة) تلوتها وشهدت تمثيلها تحت هذه الشجرة: فلم أربعد اللعب واللهووالزينة، وبعد البهجة والفرح والمسرة، وبعد التكاثر والتنافس والتفاخر، إلا ضعفاً وعجزاً ومرضاً، وكهولة وشيخوخة وموتاً.
ولم أر أنفسنا إلا أوراقاً على أغصان هذه الشجرة، غير أن هذه الأوراق مختلفة الألوان والأحوال، فمنها الخضراء الناضرة، ومنها الصفراء الشاحبة، ومنها التي أوشكت أن تصوح، ومنها التي تساقط أسفل منا ونحن لا نشعر!
وقلت في نفسي وأنا أستعيد في خيالي فصول هذه القصة: (كما فركت بين إصبعي وأنا لا أبالي تلك الورقة اليابسة المسكينة يفرك الدهر الجبال بين إصبعين من فولاذ أوراقنا الجافة بغير اكتراث.
ومرت بي آنئذ - في لمح البصر - صور عزيزة لا تنسى، وذكريات قريبة لا تمحى،(836/22)
لبعض أصدقائي الأوفياء، وأقربائي المحبوبين الذين أبى الدهر أن يؤنسني ببقاء أوراقهم على الغصن الذي أورقنا جميعاً عليه، فأختطفهم وأرسل عليهم ريحاً صرصراً جعلتهم كهشيم المحتظر!
وبكيت لأول مرة في حياتي بكاءً مراً - وما عهدت نفسي بكاء ولا مدامعاً - لأني فكرت في العالم المجهول الذي سيق إليه أحبابي وأصحابي، وخشيت ألا يجدوا فيه روحاً وريحاناً، لا لأني في شك من الخلود، ولكن لأن بعض أولئك الأعزة الذين فارقوني لم يتح لهم من الزمن ما يستعدون معه من الرحيل، ويتأهبون خلاله لسفر طويل، إذ جفت أوراقهم واصفرت بعد اخضرارها بقليل. . . وكان (محمود) أخر من أسرع إليه الجفاف من أصحابي؛ ولقد والله كان انضرهم وجهاً وأحلاهم مبسماً، وأنداهم حديثاً، وأنسهم مجلساً، وأرقهم شعوراً، وأنبلهم عاطفة، وأطهرهم قلباً، وأصفاهم نفساً، وأعفهم يداً، وأصدقهم لساناً، وأكثرهم تواضعاً؛ وكنت أحسبه أطولنا عمراً، وأنساناً أجلاً، وأرغدنا عيشاً لكن الموت عدا على (محمود) وهو في ربيعه الخامس والعشرين - ما يزيد عني سوى عامين - فدفنه كنزاً ثميناً، ودفن معه آماله الكبيرة. . . فكيف أبقى صامتاً لا أرثيه، أم كيف أضل جامد العين فلا أبكيه؟!
وفيما أنا مستغرق فيما يساورني من الأفكار، هزت الريح الشجرة كرة أخرى، فتناثرت أوراق تتري، فأسرعت أفتح لها حجري كأني وددت لو أتلقاها وأحول دون سقوطها على الأرض ووطئها بالنعال، بيد أنها آثرت جميعاً أن تتقبل نهايتها وتقع على الأرض إلا ورقة واحدة كان نصيبها حجري، وانحنيت لألتقط أخواتها وأنا شاعر بأني أحبي أنفاساً توشك أن تموت، وإذا بالورقة نفسها تسقط أثناء انحنائي فأسحقها بقدمي على غير إرادة مني، فعدلت عن التقاط الأوراق الباقية، وأيقنت أن لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأننا لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ولا نملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأننا أوراق في مهب الرياح، لا ندري كم تبقى نضرتنا، ولا نعلم متى نصفر فنموت!
وحينئذ فاضت معاني الإيمان في قلبي، واستطاعت هذه المعاني على سذاجتها وبساطتها ونفورها من التعقيد أن تلهمني الصبر، وتوحي إلي الرضى والسكينة، وهي تهمس في أُذني آية خالدة صورت (قصة الحياة) أروع تصوير: (وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء(836/23)
أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرضفأصبح هشيماً تذروه الرياح. . . وكان الله على كل شيء مقتدراً).
صبحي إبراهيم الصالح(836/24)
وقفة. . .
للأستاذ محمد محمود عماد
حبذا ساعة نجوى ... ساقها الدهر إلينا
قد طوينا من فصول ال ... حب فيها ما طوينا
وقفة دامت فما نع ... لمُ كم فيها قضينا
لم ندري؟ لم نحصي؟ ... والأماني في يدينا
ساعة أو ساعتين ... أو ثلاثاً ما علينا
كل ما نبغيه من حب ... ومن قرب لدينا
قد تباعدنا زماناً ... ثم من بعد التقينا
كنت ظمآن وكانت ... فاحتسينا وارتوينا
ارتوينا من يناب ... يع الهوا قلباً وعينا
حبذا القبلة رفت ... عذبة في مسمعينا
قبلة طالت فما ند_ري متى منها انتهينا
نحن الاثنين نسينا ... أو تناسينا فمينا
محمد محمود عماد(836/25)
اهتمام الباكستان
بترقية الثقافة العربية فيها
للدكتور حسين الهمداني
(الملحق الصحفي بسفارة الباكستان)
لكل حضارة ومدنية تقاليدها الخاصة يعبر عنها فنها وأدبها وتتمثل في مظاهر الحياة اليومية المحيطة بها. والتقاليد هي التي تميز أي شعب عن شعب، وهي التي تفرق بين قوم وقوم، وهي التي تعطي كل لون من ألوان التفكير في الحياة اللون الخاص الذي يصطبغ به. فالحضارة الإسلامية غير الحضارة الأُوربية، والحضارة العربية غير الحضارة الصينية. وعلى كل تقليد إذا ما أراد أن يحافظ على كيانه، وأن يبقى سليماً من كل شائبة، صامداً ضد كل عدوان أن يعمل أولاً على الاحتفاظ باللغة التقليدية ومن ثم على تقويتها. وأمامنا حضارة الصين التي ترجع إلى خمسة آلاف سنة فأنها بقيت وظلت متماسكة متصلة غير متغيرة بفضل محافظتها على لغتها وعدم التفريط فيمن لها من حق الرعاية.
وبقيام الباكستان أمة تضم شعباً تربطه وشائج الحضارة الإسلامية أصبحت لزاماً عليها أن تفسح للثقافة العربية الإسلامية المكان اللائق وأن تحلها محلها من الاعتبار فالباكستان تريد أن تعيد لهذه الثقافة مكانتها السامية المرموقة، وهي تريد أن تصل ما أنقطع من ذلك التراث. والحضارة الإسلامية ككل حضارة كبيرة أخرى سجلت سطورها في ثبت التاريخ لها تقاليدها ولها كتابها الخاص بها الذي منه تنبثق ينابيع التقاليد الإسلامية العظيمة والذي فيه تتجسم وتتصور الحضارة بكل مظاهرها والذي فيه تتبلور المعاني والأفكار ثم ترسلها إلى الناس منعكسة حقائق ظاهرة ملموسة. هذا الكتاب وهو القرآن الكريم الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام والنقطة التي سارت منها مدينة الإسلام؛ لهذا يتطلع إليه المسلمون كافة لأن فيه الوحي بصدق الإيمان والتعبير بصلابة الدين. عرفنا أن القرآن هو المصباح الذي ينير للمسلمين طريقهم ويدلهم على مسالك الخير ويبعدهم عن مهاوي الشر، عرفنا لماذا تريد الباكستان أن تندمج وأن تتصل بحضارة الإسلام، وأدركنا لأول وهلة عزمها على التمشي حسب تعاليمه السمحة مؤملة الفلاح والنجاح. وهي لم تقصر(836/26)
رغبتها هذه على مجرد النية الطيبة أو الادعاء عمدت إلى تضمين هذه الأغراض الشريفة والدوافع الطيبة التي تتمثل في الإسلام دستورها الجديد الذي أقرته الجمعية التأسيسية أخيراً متوخية أن تعطي الشعب بواسطة ممثليه ونواية السلطة والوديعة المقدسة التي في أيديهم مراعين الله في أوامره ونواهيه
وليس اهتمام مسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية وتعلقهم بالقران ظاهرة جديدة بل هو أمر يمتد إلى مئات السنين أيام أن غزا العرب هذه الأنحاء ومعهم لغتهم. واللغة العربية كانت وما زالت لغة عنيفة بألفاظها بليغة بأسلوبها عميقة في معانيها وتعبيراتها. ولهذا أصبحت الأداة الأدبية الوحيدة التي تربط سكان هذه المناطق لمدة ثلاث عشر قرناً طويلة. وعلى قصر حكم العرب لهذه الأنحاء المعروفة اليوم بالباكستان بقيادة الفاتح محمد ابن القاسم إلا أنه كان للغة العربية عزها وأثرها. ساعد على ذلك وجود كثرة من المتأدبين والعلماء المتفقهين في الدين والمتشرعين ضمن جحافل الجيوش الغازية. وظل الأدب العربي مزدهراً في هذه الأرجاء وظلت اللغة جزءاً لا يتجزأ من حياة المسلمين بسبب تعلقهم بالدين حتى في تلك الأيام التي حكم البلاد فيها حكام غير عرب. ففي أيام الأتراك والتتار والفرس، وحينما كانت اللغة الفارسية لغة رسمية كان للغة العربية المكان الأول لم تستطع عوادي الدهر أن تمحوها ولا تقلبات الزمن أن تزيل أثرها. وكان المسلمون هناك على اتصال فكري وروحي دائم بالعالم الإسلامي الخارجي، وامتد هذا الامتزاج إلى أيام الغوري. وفي أيام السلطان علاء الدين الخلجي ازدهرت مدن عدة في الهند وأصبحت مراكز للتعليم الإسلامي وقواعد للدراسات الدينية واللغوية ومنها دلهي ولاهور.
وأحمد أباد كان شأنها تماماً كشأن بغداد والقاهرة. واهتمام شبه القارة بتعلم اللغة العربية أمر طبيعي كان على أشده أثناء حكم الإسلام. ولكن كنتيجة لقيام الثورات السياسية والأزمات الاقتصادية وكنتيجة لاستعمار الأجانب لهذه البلاد أفل نجم اللغة وضاع أثرها بين الناس. ولكن كان يقوم بين وقت وآخر رغم قيام هذه المصاعب أفراد يعشقون هذه اللغة فيرفعون منارها ويخصصون لها المعاهد للعلم والدرس. وقد أرادت الباكستان اليوم بعد أن استكملت استقلالها وسيادتها أن تعيد مجدها وأن تحيي تقاليدها القديمة، وتحققت أنها بسبيل هذا لابد لها من إعادة مجد ثقافتها ولهذا قام زعماؤها وأولو الرأي فيها من أول ساعة يمهدون(836/27)
الطريق أمام هذه الفكرة ويبسطون للناس كافة أن عليهم إذا ما أرادوا أن يوثقوا الروابط الثقافية والفكرية والروحية بينهم وبين مختلف البلاد العربية سارعوا لتوحيد اللغة بينهم. ولما كانت اللغة هناك متعددة واستعمال الأحرف العربية يغني عن استعمال أية أحرف أخرى، ولما كان هناك رابطة تربط الناس بعضهم ببعض كما تربط هذا الشعب بغيره من الشعوب وهي رابطة الدين، ولما كانت لغة القرآن العربية فقد هبوا يشجعون على تعلمها واتجهوا نحو مصر منارة العلم والدين حامية الأزهر الشريف حاملة اللواء ذخر المتعطشين إلى الارتواء، فهي تريد الآن أن تتخذ الحروف العربية حروفاً بها تكتب لغتها؛ وهي تريد أن تتخذ اللغة العربية لغة أن لم تكن رسمية فهي إلى الرسمية أقرب؛ وقام الكبراء والعظماء يرعون هذه الحركة ويشجعونها فساعدوا في تأسيس جمعية ثقافية عربية باكستانية أنشئت في العام الماضي بعد مرور شهور قليلة من قيام الباكستان تحت رعاية معالي وزير المعارف السيد فضل الرحمن وكانت فرصة طيبة ومناسبة حسنة للتعرف بأهمية اللغة العربية0 وأهمية الاتصال بالعالم العربي تلك التي أتيحت يوم افتتاح هذه الجمعية فقد شرفها بحضوره فخامة الحاكم العام السيد ناظم الدين وأعلن من فوق منبرها أن أحسن وسيلة لإقامة علاقة متينة وثيقة بالبلاد العربية إنما يكون من طريق اللغة العربية0 وكم كان جميلاً منه أن يقول (أن معرفة اللغة العربية أمر ضروري جداً لكي تتخذ الوحدة الإسلامية صورتها العملية0 وليس في مكنة العالم الإسلامي أن يحكم اتصالاته وأن يدعم روابطه إلا. إذا اتخذ اللغة العربية لغة مشتركة أتقن دراستها. وواجبنا أولاً أن نتخذ الحروف المطبعية العربية حروفاً بها تكتب لغتنا؛ لأننا بهذا نتفادى الاختلاف والتعقيد ونتوخى الحصول على أقصر ما يمكن من التماثل والسهولة والتقرب بين المعاني والافكار0 فعلى العالم الإسلامي أجمع أن يخطو هذه الخطوة وأن يتخذ اللغة العربية لغة له) وقد استجابت الباكستان لهذا الدعاء فقامت تنشئ الجمعيات وراحت الحكومة تنفذ كل مشروع يرمي إلى هذه الغاية ويهدف إلى هذا الهدف. ومن ذلك أن الحكومة تنشر مجلة عربية اسمها (البشير) تحاول بواسطتها أن تنقل أفكارها وتعرف بأحوالها وتتعاون مع شقيقاتها مؤمنة بأن إصدارها لهذه المجلة خطوة موفقة نحوه التآخي والتآلف الذي تنشده.
ولقد ترك الاستعمار الأجنبي الطويل لشبه القارة الهندية الباكستانية تركة ثقيلة كريهة من(836/28)
نظم التعليم لا تتصل بثقافة الناس ولا تناسب مع ظروفهم وحيلتهم ولا تتوافق مع بيئتهم0 فأما الباكستان والحال كذلك صعوبات جمة لتزيل هذا الأثر ولا سيما وأن الجهل متفشي بين غالبية الناس؛ فهي تجاهد اليوم لأن توفق بين سياسة التعليم وبرامجه وميول الشعب واستعداده مدفوع في ذلك بتاريخها الطويل وثقافتها متوخية في ذلك مقتضيات العصر الحديث واضطرار التقدم في مناحي الحياة. وقد عقد بكراتشي سنة 1948 مؤتمر تعليمي نصح الباكستان أن تهتدي في سياستها التعليمية بالمثل العليا الإسلامية التي تنادي بالإخاء والتسامح والعدالة، والباكستأن بسبيل تنفيذ هذا، تسهم بقسطها بسير القافلة الدولية فتشارك في تبادل الأساتذة والطلاب وفي تبادل المطبوعات وفي إرسال بعثات إلى الخارج. وقد وقف معالي فضل الرحمن وزير المعارف في إحدى اجتماعات الجمعية الثقافية العربية الباكستانية وقال: (كثيراً ما نوهت بضرورة اتصالنا بالبلاد العربية المختلفة والعمل على ربط ثقافتنا بثقافتهم. واليوم أكرر القول بأن علينا ألا نقف مكتوفي الأيدي أمام مجرد رغبتنا بالاحتفاظ بتراث ديننا القويم، بل علينا أن نسعى بإخلاصلأننعيد المجد الغابر وأن نقوي علاقتنا الثقافية والدينية التي تكمل فيها روح الإسلام وفلسفته، وتحقيقاً لهذا الاقتراح أن تصبح الحروف العربية وسيلة لكتابة لغتنا بها حتى يصبح سهلاً على الباكستان أن تتقرب من هذا الطريق نحو البلاد العربية الأخرى. فاللغة هي طريق الاتصال الفعال بين أمة وأخرى. ونحن أن سلكنا هذا السبيل فتحنا الباب على مصراعيه أمام تبادل التفاهم والمعرفة وتبادل الأفكار كما أننا في نفس الوقت نتيح لشعبنا الفرصة كي ينهل من معين الثقافة العربية المجيدة)
حسين الهمداني
مكتبتك الخاصة
للأستاذ إليا حليم حنا
1 - المكتبة الخاصة ضرورة لازمة:
المكتبة الخاصة ضرورة لازمة من ضرورات كل منزل في هذا العالم المتجدد المتغير0 والكتب أداة قيمة لإحكام الصلة بيننا وبين تيارات الفكر الحديث والقديم، في صفحاتها ننصت إلى أصوات نتحدث معها من خلال العصور0 ولا غنى لإنسان يشعر أنه عضو(836/29)
نافع في المجتمع عن الكتب الحافزة للشعور المقوية للنفوس التي تعالج موضوعاته المحببة إلى نفسه وتعينه على أداء أعماله ومشروعاته الهامة وتحل له مشاكله وتوقفه على ثمار العقل البشري في نواحي النبوغ المختلفة العديدة حتى لا يتخلف عن قافلة الزمان0 قال ماكولى الناقد العظيم والكاتب المؤرخ الكبير: لو طلبوا مني أن أصبح ملكاً بتاج على رأسي وقصر فخيم أسكن فيه ومآكل ومشارب فاخرة، وملابس مزخرفة وحدائق وعربات وخيول ومئات من الخدم - لكن بدون كتب أقرأها - فأني ارفض أن أكون ملكاً؛ لأني أفضل المسكين الساكن في كوخ حقير يقرأ ما لديه من الكتب على الملك الذي لا يحب أن يقرأ.
وقال أوجستين برل (يوجد مكان واحد في العالم يمكن للشخص أن يكون فيه سعيداً، أنه المكتبة.)
والقراءة هواية مفيدة فأنة بين كتب مكتبتك تدفن آلامك وأتعابك بعد العمل المضني تختار الكتاب الذي يلائم تفكيرك وشعورك0 يقول العالم الكبير السرجون هرشل (لو تضرعت إلى الله وكانت دعواتي مضمونة الإجابة من أجل موهبة تكفيني مؤمنة تقلبات الظروف وتبدلات الأحوال، وتكون نبع سعادة وسرور لا ينضب، وعدة اتقى بها سهام الأيام، ودواء يشفيني من كل سقام، لكانت تلك الموهبة محبة الكتب والرغبة في المطالعة.)
2 - كيف تكون مكتبتك؟
الناس مختلفون في أذواقهم وثقافتهم، متفاوتون في مواهبهم. وبنسبة هذا الاختلاف يتباين تذوقهم للكتب وتقديرها. لذلك كان تكوين المكتبة لا يخضع لقواعد ثابتة ونواميس معينة , فكل يختار كتبه بما يتفق وعقليته وشعوره وذوقه وعمله.
يقول (أوجستين بريل) جميل أن ترث مكتبة ولكن الأجمل والأفيد من ذلك أن تجمع أنت كتب مكتبتك واحداً بعد الآخر؛ فالمكتبة لا تجمع دفعة واحدة , ولكنها تنمو حسب ذوقك وحاجتك النفسية العابرة وتأملاتك وخوالجك ومشاكلك وأبحاثك وعملك. دع الظروف التي تمر بك تدفعك إلى شراء الكتاب وبذلك يكون بينك وبين كتبك اتصال روحي وفكري. نظرة واحدة خاطفة إلى كل منها وهو على رفه ترجع بك إلى وقت شرائه والفكرة التي كانت تخامرك في ذلك الوقت، وما يحوي بين دفتيه من أفكار وآراء. ولا يفيد أن تكون(836/30)
مكتبتك بشراء كتاب تلو الآخر أن لم تفرغ من قراءة كل كتاب قبل أن تشتري غيره؛ فإن تكديس الكتب بدون قراءة يجعل المكتبة قليلة الفائدة لصاحبها. ولكن هناك كتباً يجب أن تزود بها المكتبة الخاصة دفعة واحدة؛ لا يستغني عنها القارئ المثقف الذي يطالع للإلمام بأنواع المعارف المختلفة، أو القارئ الأديب الذي يقرأ للاستلهام، وهي المعاجم ودوائر المعارف باعتبارها مراجع، وكتب النحو والصرف والبلاغة والنثر الفني والدواوين الشعرية للتمكن من اللغة وفنونها ومفرداتها وتراكيبها.
3 - ماذا يجب أن تحتوي مكتبتك:
يجب أن تحتوي مكتبتك الكتب التي تنمي قواك العقلية جميعها نمواً متناسباً. ويمكن حصر هذه الكتب فيما يلي.
(أ) كتب تتعلق بعملك:
أول ما يجب أن توليه عنايتك من الكتب هو الأبحاث التي تتعلق بمهنتك. ويلزم أن تتابع كل ما يكتب عنها في اللغات التي تعرفها وبذلك ترقى بعملك وتكون حجة ومرجعاً فيه وتراه شيقاً متجدداً دوماً بإدخال عوامل التحسين التي سبقك إليها الخبراء. وهذا يعود عليك بأحسن النتائج الأدبية والمادية فأنة أفضل ما تفعله لتنجح مالياً هو إتقان عملك وبلوغ الغاية فيه فتصل إلى المال دون أن تقصد إليه مباشرة.
ومن الجهل أن يعتقد الشاب أن الكتب القليلة التي درسها في حياته المدرسية كافية لتسيره في عمله، ومن ثم لا يقرأ شيئاً يتعلق به فيركد ويتضاءل، ولا يرفعه عمله بل هو ينزل بعمله إلى مستوى دون المطلوب فيجرم في حق المجتمع ويحرم وطنه من موهبة كامنة فيه كانت تظهر لو أنه تمشى مع الزمن وضاعف معلوماته ووقف على آخر ما جد في عمله في تقدم فتعظم شخصيته ويكسب ثقة نفسه وغيره في مهنته.
اقرأ وادرس واطلع على أحدث ما جد في عملك وتابع سيره ونموه حتى ترقى به ويرقى هو بك.
(ب) كتب تتعلق بهوايتك:
وهناك الكتب التي تتعلق بهوايتك التي تلجأ إليها في أوقات فراغك لتعالج الملل الناتج عن عملك وتجدد نشاطك وتعيد لنفسك اتزانها وتعطيك مهارة عقلية أو يدوية أو الاثنين معاً.(836/31)
هوايتك هذه يجب أن تتفقدها لتنمو، ويجب أن تقف على أفكار وآراء وأعمال الآخرين فيها حتى تكون ناضجة تعطيك لذة أكبر وفائدة أوفر فتشعر بالسعادة في التطور والتجدد والنمو والتوسع:
وقد تصبح الهواية يوماً عملك الذي تعيش به وترزق منه وتظهر فيه مواهبك الكامنة أكثر مما تظهر في مهنتك أو حرفتك. ويساعد الاطلاع على كل ما يختص بهوايتك من كتب ومجلات ونشرات ومطبوعات دورية على نبوغك فيها وتنمية شخصيتك وترقية ذهنك.
(ج) كتب تختص بالمرأة والأطفال:
يغفل كثير من المثقفين نصيب المرأة والأطفال في المكتبة الخاصة ولا يهتمون إلا بنواحيهم وما يتعلق بهم وحدهم بينما يجب الاهتمام إلى حد كبير بركن المرأة والطفل في المكتبة الخاصة وتغذية هذا الركن بأحدث الكتب التي تبحث في شون المنزل وإدارته وتربية الأطفال وتنشئهم وكل ما يتعلق بالمرأة والفنون النسوية وتكون الزوجة والأم والمواطنة العاقلة الكاملة في خلقها ومثلها العليا.
وهذا الركن في المكتبة الخاصة أكبر معين للوالدين على تربية أبنائهم وتعويدهم حب القراء بوضع ما يلفت نظرهم ويناسب مداركهم وأطوار نموهم العقلي بين أيديهم وأمام ناظرهم. ويجب أن يحوي هذا الركن معجماً صغيراً يستخرج منه الطفل ما يصب عليه فهمه من المعاني بإرشاد أحد والديه، ودائرة معارف مبسطة بجانب الكتب التي يرى الوالدان أنها موضع أسئلة الطفل وميوله
أن ما يعرفه الطفل بهذه الطريقة لا يمكن أن ينسى علاوة على أنه يتعود القراءة ومحبة الاطلاع بالتوجيه الحسن وتأثير هذا الوسط المنزلي الثقافي الراقي فيه.
(ء) كتب للثقافة العامة:
وتأتي أخيراً الكتب التي تتناول الثقافة العامة في كل ما بذلك قراءته وما تدفعك إليه حاجتك النفسية ومشاكلك وذوقك وما يجب أن تقف عليه من أنواع المعارف والثقافات التي بدونها تكون متخلفاً عن عصرك الذي تعيش فيه. ومن الخطأ أن تهمل التراث القديم وكتبه الخالدة التي عاصرت كل الأزمان والحضارات؛ فالكتاب النفيس الخالد كما قال ملتون هو دم الحياة الثمين المتقطر من روح كبيرة، محنطاً ومحفوظاً لحيات بعد الحياة(836/32)
ويخطئ الشاب الذي نال القليل من التربية المدرسية عندما يندب سوء حظه الذي لم يتح له الحصول على الثقافة المدرسية اللازمة فأن أمامه فرصة التثقيف الذاتي؛ فأنة بين مجلدات مكتبته يتصل بأذكى العقول في أرقى الأمم ويصل إلى درجة عالية من الثقافة يحسده عليها حائزوا أرقى الشهادات الذين لا يقبلون على القراءة ويكرهون الكتب. يقول (ارنولد بنيت) لا أرى سبباً يمنع أي رجل متوسط الذكاء بعد أن يقضي عاماً في القراءة المتواصلة أن يصبح قادراً على الهجوم على أسمى ما أنتجه الإنسان من البراعات في التاريخ أو الفلسفة.
في ركن الثقافة العامة هذا تلم بأحسن ما سبق التفكير فيه ثم تبدأ أنت نفسك فتفكر في حل ما يصادفك في الحياة من المسائل في الآداب والفنون والسياسة والدين والمسائل الدولية والعلاقات المنزلية.
4 - فلسفة شراء كتاب: عند شراء كتاب ضع أمامك الاعتبارات الآتية:
عندما تدخل مكتبة لشراء كتاب كون لنفسك فكرة سريعة عنه بملاحظة العنوان والمؤلف ومكانته ومؤلفاته الأخرى التي تعرفها والناشر ومركزه الثقافي والسنة التي طبع فيها الكتاب ثم المقدمة والفهرس وطريقة عرض الموضوع.
2 - خابر دور النشر المشهورة لترسل إليك نشراتها وقوائمها عن أحدث مطبوعاتها في المعارف المختلفة لتكون على اتصال بآخر التيارات الفكرية في الموضوع الذي تخصه بالدراسة الدقيقة وتكرس له جهودك.
3 - اهتم بالمراجع اللغوية والفنية والتي تتصل بنوع عملك والموسوعات المختلفة فهذه عون كبير لك في تسهيل أبحاثك وجعل مادتها ميسورة في متناول يدك.
4 - الكتب الملخصة لا تصلح أن تكون مكتبة ذات أثر ثقافي عميق ولكنها نواة لشراء الكتب الأصيلة الدسمة في نفس الموضوع. أنها أداة للتثقيف السطحي فقط.
5 - لا تشتر أكثر من واحد في المرة الواحدة؛ ولكن إذا وجدت عدة كتب متممة لناحية من نواحي ثقافتك أو لبحث تشتغل بإعداده فضعها في برنامج قراءتك اليومية في أقرب فرصة وإلا فستجد في يوم من الأيام صفوفاً من الكتب على الرفوف لم تقرأها وقد لا يسعفك الوقت بأن تقرأها بعد ذلك.
6 - لا تشتري الكتب لاقتنائها بل للانتفاع بها0 وأجعل أساس شرائها حاجة نفسية أو(836/33)
عملية حاضرة كأن تحل لك مشكلة أو توجهك وجهة صحيحة في عملك أو تكمل لك بحثاً علمياً أو أدبياً حتى تقبل على قراءتها بلذة وشغف بمجرد شرائها. ولكن عندما يعجبك كتاب لرغبة عارضة لا ترمي إلى هدف، فأنك تتوانى في قراءته وتتكدس لديك الكتب دون أن تؤدي غرضها المقصود.
7 - اختر من الكتب ما يجعلك أكثر تعلقاً بأملك، ويعطيك آراء جديدة في الحياة تجعلك اكثر صلاحية لتعيش وتخلق في نفسك الحماس وتجعلك أكثر إصراراً على الاندفاع نحو هدفك. وأبتعد عن الكتب التي تغذي المثل الدنيا الحقيرة والتي تقلب غرائزك ولا تسمو بها فأنها تهدد مستقبلك وتحطم أملك وتخلق منك أنساناً مسلوب الإرادة ضعيف الشخصية.
5 - احتفظ بكتبك ورتبها:
لا تكدس كتبك بعضها فوق بعض بل ضعها على رفوف أو في خزائن ورتبها بحسب موضوعاتها بطريقة يسهل عليك تناولها بسرعة حتى لا تضيع وقتاً في البحث عن كتاب تريده فتضطر أن تقلب كل كتبك رأساً على عقب فتفقد الدافع وتخسر الحماس الذي تشعر به لقراءته أو تفوت عليك فرصة الاطلاع عليه للاستعانة به في بحث تعده.
لا تكن ممن يلقون بالكتاب لأنك فرغت من قراءته أو لأنك لم تتذوقه. أن الكتاب الذي لم يحز إعجابك في وقت من الأوقات قد يصبح مدار اهتمامك بعد ذلك عندما يفيدك للاستنارة به في موضوع يشغلك أو يوضح لك رأياً غمض عليك أو يحل لك مشكلة تقلقك. والذي لا تهضمه اليوم قد تهضمه غداً عندما ينمو ويزداد زادك العقلي.
6 - الألوان في حجرة المكتبة:
للألوان أثر كبير في نفسية الإنسان، فمنها ما يرتاح إليه ويجعل الراحة والهدوء يسريان في جسمه ونفسه. ومنها ما يجعله منقبضاً متململاً0 فالأزرق والأخضر المائل للزرقة والرمادي تدعو للراحة وتبعث في النفس الارتياح. والأزرق الغامق والرمادي الغامق يدعوان للوجوم والانقباض.
وللألوان أيضاً أثرها في امتصاص وانعكاس الضوء وفي جعل الحجرات تبدو ضيقة أو متسعة. فإذا كانت حجرت مكتبك ضيقة كثيرة الضوء فاستعمل الألوان الزرقاء أو الرمادية أو الخضراء أو الخضراء الضاربة للزرقة فأن هذه الألوان تمتص الضوء وتجعله مريحاً(836/34)
للأعصاب فضلاً عن أنها تشعر الناضر أن الحجرة فسيحة.
وإذا كانت النوافذ في الجهة الشمالية فأن ضوء الشمس لا يدخلها إلا قليلاً جداً، وأيضاً إذا كانت الحجرة قليلة النوافذ وجب أن تستعمل فيها الألوان الزاهية مثل الأصفر والبرتقالي والأخضر الضارب إلى الصفرة والقرنفلي الفاتح والخوخي الخافت فهذه الألوان تعكس الضوء ولكنها تجعل المكان يبدو ضيقاً.
وإذا سقط نور المصباح على ألوان زاهية كالأحمر والأصفر والبرتقالي فأنه يعكس هذه الألوان على جدران الحجرة؛ أما الألوان الباهتة مثل الأزرق والأخضر والرمادي فأنها تخفف من حدة الضوء الطبيعي فيرتاح له النظر والنفس.
(أسيوط)
إيليا حليم حنا
مدرس أول اللغة الإنجليزية والآداب
مدرسة النهضة الوسطى.
الأبيض. سودان(836/35)
طمأنينة السماء
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
عج الأسى في نفسها الشاعرة ... في ليلة مقرورة كافره!
وحيدة؛ ضاق بها مخدع ... توغل فيه الوحشة السادرة!
كم شهد المكبوت من شجونها ... تثيره خلجاتها الثائرة. . .
كم التوت فيه على قلبها ... تبكي أماني قلبها العاثره
وكم!. وكم!. ولا يدٌ برةٌ ... تأسو جراح الزمن الغائره!
تنهدت مما عراها وقد ... مالت على شرفتها حانيه
وقلبته بصراً تائهاً ... في قلب تلك الظلمة الغاشيه
لا ومضة تخفق من كوة ... لا نبأة تصعد من ناحيه
سوى هزيز الريح تهتاجها ... أصداؤه المفجوعة الباكيه
وقلبها المحروم ما يأتلى ... يدق خلف الأضلع الواهيه!.
ورجت الوحشة أعماقها ... في هيكل الليل الكثيب الضرير
فاصطرعت فيها أحاسيسها ... كاللج يطغى في الخضمَّ الكبير
ووثبت أشباح آلامها ... مجنونة، تشبُّ شبَّ السعير
فجمدت في جفنها دمعة ... تصاعدت من قلبها المستطير
ثم همت محرورة، مرَّةً ... كأنها تضرّع المستجير
تلفتت وراءها في أسىً ... نحو مهاوي أمسها الغابر
لعل في أغواره لمحة ... تلوح من ذكر ى سنيً عابرة
لعل في المضي وأطيافه ... عزاَءها من قسوة الحاضر!.
فما رأت غير حطام المنى ... على صخور القدر الغادر. .
وبعض أشلاء هوًى حالمٍ. . ... مرتطم بالواقع الساخر. . .
وسرَّحت أمامها طرفها ... عبر غدٍ مكتنف بالضباب!
فأبصرت، ما أبصرت؟ مهمهاً ... مستبهم الأفق، مخوف ألشعاب
تبعثرت فيه الصوى واختفت ... معالم السبل وراء اليباب(836/36)
وهي على الدرب ذعور الخطى. . ... رفيقها الوحدة. . والاغتراب.
والظمأ الكاسر لا يرتوي ... في قلبها الهائم خلف السراب!
وكان أقسى ما شجي نفسها ... وابتعث الراعب من هجم
تدفق الظلمة في يومها ... في غدها المحروم. . في أمسها.
ظلمة عمر، كل أيامه ... ليل تدجى في مدى حسم
النور، أين النور؟ هل قطرة ... تسيل منه في دجى يأسم
من أين؟ والأقدار قد جففت ... منابع الأضواء من نفسها!
وفي شرود مبهم غامض ... تعلقت مقلتها بالسماء!
فأنشق صدر الليل عن كوكب ... مشعشع الوهج، دفوق الضياء
كأن روح الله من فوقه ... تمده بنورها عن سخاء
فأنخطفت في ذهلة روحها، ... خلف النهايات، وراء الفضاء.
هناك، حيث النور لا ينتهي، ... هناك حيث النور فوق الفناء
هناك غشتها طمأنينةٌ ... علوية، ما لمداها حدود
وصاح عن أعماقها هاتف ... ينتظم الأرض مداها البعيد:
يا أرض، أهواؤك مهما طغت ... وأقعدت خطوى بثقل القيود. .
يا أرض، أحزانك مهما قست ... وطبقت حولي مجالي الوجود
هيهات أن تلمس روحاً سرى ... فيها من الله ضياء الخلود!.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(836/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
كرسي شوقي للأدب العربي الحديث:
تحت هذا العنوان وفي جريدة (الأساس) منذ أسبوعين، كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة عن شوقي بمناسبة الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يشغل كرسيه الذي أنشأته كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. مؤكداً أنها مبالغة في التيسير على طالب هذا الكرسي لأنه للأدب العربي الحديث كله لا للأدب المصري وحده. . . وليس أدل على هذا التيسير في رأي المازني من أن الجامعة قد اشترطت على من يتقدم لشغل هذا الكرسي أن يكون حاصلاً على الدكتوراه من مصر أو ما يعادلها من الخارج، أو أن يكون حاصلا على أعلى الأجازات العلمية التي كانت تمنح قبل إنشاء الجامعة المصرية، أو أن تكون له أبحاث أتت للعلم بفائدة محققة، أو أن يكون قد مضت أربع عشر سنة على حصوله على درجة بكالوريوس أو ليسانس، وأن تكون له أبحاث قيمة مبتكرة.
هذه هي خلاصة الشروط التي حددتها الجامعة، والتي يرى فيها المازني وأرى معه أنها مبالغة في التيسير على طالب هذا الكرسي الجامعي الممتاز؛ لأنها لا يمكن أن تنهض بالدراسة الفنية التي تتفق ومكانته، ولا بالمستوى العلمي الذي يجب أن يتوفر فيه شاغله. . . ومرة أخرى يضع المازني الأمر في مكانه ويزنه بميزانه حين يقول (أن درس الأدب العربي الحديث على وجهه الصحيح في هذا العصر يتطلب علماً وافياً بلغة أو لغات أجنبية وآدابها وفلسفتها أيضاً، فما تستطيع - ولا سيما في زماننا هذا - أن تباعد بين الفلسفة وبين الأدب ونقده. ثم أن أستاذ هذا الباب لا يستغني عن الإحاطة بأحوال الاجتماع والسياسة في كل قطر عربي، وبكل عامل من العوامل التي تؤثر في الأدب وتطوره، وبمذاهب الفلسفة والنقد، وبأثر الأداب الغربية في الأدب العربي فأن الأدب - أي أدب - ليس شيئاً قائماً بذاته مستقلاً عما عداه، وإنما هو فرع من شجرة ضخمة، ومن أولى من رجال الجامعة بأن يحرصوا على الأصول التي أخرجت الفروع؟!. . .
أكاد أقول - بل أنا أقول - أن هذا الكرسي الذي يعد من أعظم الكراسي شأناً يحتاج إلى علم غزير وإلى إحاطة شاملة بالآداب العربي والغربية، والى دماغ فلسفي منوع الثقافة،(836/38)
وإلى معرفة بالتاريخ السياسي والاجتماعي، وإلى بصيرة نافذة؛ فليس يكفي أن يكون مشروطاً أن يكون لطالب هذا الكرسي أبحاث قيمةلأنالأمر أكبر من ذلك، والموضوع أوسع و؟ أعمق، وأحوج إلى العلم الشامل المنوع. . . وأخشى ألا تكون العجلة في هذا الأمر إلا من الشيطان، فالتريث أحجى وأرشد، ولن تعاب الجامعة إذا هي تأنت، ودققت، إيثاراً لحمل الأمانة العلمية كما ينبغي أن تحمل. ولكنها تعاب ولاشك إذا هي اكتفت (بملء الخانات كيفما اتفق، أي إذا قدمت المظهر على المخبر والصورة على الحقيقة)!
من هذه الكلمات تخرج بأن المازني لم يكن غالباً في شعوره بأهمية الموضوع الذي تعرض له بالبحث والمناقشة، ولا بضخامة العبء الذي يجب أن يقوم به من هو أهل للقيام به، ولا بقصور النظرة الجامعية إلى مقومات الأستاذية الكاملة التي تنهض بواجبها العلمي عن جدارة واستحقاق. . . ولكن المازني - غفر الله له - شاء أن يدرس بين زهوره الفكرية أشواكا تبخر معها الشذى المعطر والعبير الفواح، وبقيت منها وخزات تجرح الذوق والفن والشعور! يقول المازني عن شوقي في ثنايا كلمته: (وقد سرني أن كلية الآداب أنشأت هذا الكرسي وسدت به نقصاً ملحوظاً في دراستها. . . ومع احتفاظي برأيي القديم في شعر شوقي أقول إنه قد سرني أن يطلق اسمه على هذا الكرسي)!!
ترى ألا يزال المازني بينه وبين الناس؟ أخشى أن يكون الفرض الأخير هو الأصح، لأنني أعلم أن هناك أدباء يشعرون بالحرج إذا ما واجهوا الرأي العام الفني يتغير آرائهم بين الأمس واليوم. . . إننا نعلم أن رأي المازني في شعر شوقي يرجع إلى أيام الشباب وحماسة الشباب واندفاع الشباب، ولكن للشباب نظرة التي قد يهذب من جموحها مضى الزمن، وذوقه الذي قد يحد من انحرافه تقدم السن، وحكمه الذي قد يعدل من مقاييسه اكتمال الثقافة واتساع الأفق0 لهذا كله أخشى أن يكون المازني قد نبذ بينه وبين نفسه رأيه القديم في شعر شوقي واحتفظ به بينه وبين الناس، خشية الحرج من أن يتهم بتقلب الرأي بين اليوم والأمس وترجحه بين اليمين والشمال!. . . إننا نعرض لهذا الآمر على أنه فرض يحتمل أن يكون هو الواقع أولا يكون، فإذا كأن فيما أحوجنا إلى شيء من الشجاعة يردنا إلى الحق ويرد الحق إلى نصابه فأن ذلك أدعى إلى التقدير لا إلى الحرج والتشهير. أنني لم أقدر الدكتور طه حسين يوماً كما قدرته وهو يذيع على الملأ منذ قريب استنكاره لرأيه(836/39)
القديم في أدب المنفلوطي. . . بل لقد زاد تقديري له وهو يعلن في صدق نادر وصراحة محببة أنه يشعر بالخجل كلما تذكر أيام الشباب وما جنت حماستها على القيم الأدبية ومنها آثار المنفلوطي، حتى لقد نعت نقده لتلك الآثار بأنه لم يكن إلا لوناً من ألوان السخف!
هذا مثل طيب يجب أن يحتذيه المازني وغير المازني من شيوخ الأدب إذا ما خطر لهم أن يرجعوا إلى آرائهم القديمة في صدر الشباب لينفضوا عنها غبار التجني الذي أثاره الهوى والغرض إذا ما كانت هناك أهواء وأعراض. . . ونستطيع بعد هذا كله أن نلغي هذا الفرض وما حمله بين طياته من مقدمات ونتائج، لنقول أن المازني بينه وبين نفسه كان وما يزال محتفظاً برأيه القديم في شعر شوقي، إذا عبر هذا الفرض الآخر عن الواقع فليس من شك في أنه سيعبر عن واقع آخر، وهو أن موازين النقد الأدبي ستحتفظ برأيها الصريح في ذوق المازني!؟. . .
جولة فكرية في ربوع الريف:
لم أستطيع في الأسبوع الماضي أن أكتب (التعقيبات) لأنني غادرت القاهرة إلى الريف على غير انتظار. . . وفي غمرة الحزن على فقد قريب تلقيت نعيه المفاجئ، راعني ما رأيت على طول الطريق من شتى المشاهد والصور والوجوه، حتى خيل إليَّ أنني منذ عشرين عاماً لم أر كل هذا الذي بدا لعينيَّ غريباً، مع أنني لم أتغيب عن الريف إلا عاماً وبعض عام!
وقلت لنفسي وأنا أنقل الطرف بين الوجوه الصفر والحقول الخضر: أين أنا اليوم مما كنت فيه بالأمس؟ أين المدينة الصاخبة الضاحكة الجياشة بالحياة، من هذا الريف الهادئ العابس الذي يطالعك منه ألف معنى من معاني الهمود والجمود والموت؟! ألا ما أبعد الفارق بين أرض وأرض وبين أحياء وأحياء. . . هذه الأجسام الذابلة ما أحوجها إلى تدفق العافية، وهذه العقول المظلمة ما أحوجها إلى نور المعرفة، وهذه القرى المهملة ما أحوجها إلى شيء من الاهتمام والرعاية! ومع ذلك فأنت هنا تلمس حلاوة الرضا حين تلمح مرارة التذمر هناك؛ ذلك لأن نفس الريفي قد طبعت على القناعة، وفطرت على الصبر وجبلت على الإيمأن. . . وتلك أمور تنثر في تربت النفوس بذور الصفاء الروحي الذي يرفع الملتصقين بالأرض إلى آفاق السماء!(836/40)
إن أجمل ما في القناعة أنها تظهر لك القليل على قلته وهو أكثر من الكثير، وأن أروع ما في الصبر أنه يفلسف لك أعباء الحياة فلسفة تنقلك من عالم المادة إلى عالم الروح. . . أما الأمان فهو قائم من وراء هذا كله ليرد الأمور إلى أسبابها من حكمة القدر ومشيئته فلا اعتراض للناس!
من هنا أعرض المسئولون عن إصلاح الريف، لأنهم لا يستجيبون في الكثير الغالب إلا للأصوات الساخطة المتذمرة تحمل إليهم العجيج والضجيج؛ تحملهما من قلم كاتب، أو من حنجرة نائب، أو من وساطة يتقدم بها صاحب جاه وسلطان!
ومن العجيب أنك تجد أكثر الكتاب والنواب وأصحاب الجاه قد نشاءوا في ربوع الريف، واستروحوا طيب أنسامه، وترعرعوا بين أحضانه، ومع ذلك فلا يرتفع لهم صوت إلا للمدينة على حساب القرية، وللمتعلم على حساب الجاهل، وللطائفة على حساب الفلاح، وللمصلحة الفردية على حساب المصلحة العامة!
ذلك لأن الكاتب إذا ذهب إلى الريف فإنما يذهب إليه طلباً للهدوء والترويح عن النفس، وأما النائب فليجدد للناخبين عهوده الكاذبة ووعوده الباطلة، وأما صاحب الجاه والسلطان فليشرف على استغلال الأرضليستكرش بطنه وتمتلئ خزائنه!
صدقني إذا قلت إن ريفنا المصري مصنع نادر للبطولة. . . البطولة الكريمة على الضيم، الصابرة على الشدائد، العامرة بأعمق مشاعر التضحية. كل من فيه أبطال، وأروع ما يروعك من هؤلاء الأبطال. . . أنهم شهداء!
كلمات عن فقيد الفن نجيب الريحاني:
كتب إلى أكثر من قارئ، وقال لي أكثر من صديق: لماذا لم تكتب عن نجيب الريحاني؟. . . إن الذي مات فنان، فكيف لم يحرك فقده في نفسك كوامن الشجن، وكيف لم يستجب قلمك للفجيعة كما استجابت بقية الأقلام؟ ورجعت إلى شعوري أسأله: أمن الممكن أن يهزني نجيب الريحاني أعنف الهز في حياته، ثم لا يهزني أعنف الهز في مماته؟ وسمعت جواب الشعور منبعثاً من الأعماق: محال!
ومع ذلك فلن أكتب اليوم عن نجيب الريحاني. . . لن أكتب عن الفنان الإنسان الذي كان أسطورة أبدع فكرتها خيال الفنان الإله. . . لن أكتب عن اللحن الخالد الذي وقعته على(836/41)
قيثارة الأبد أنامل العبقري الأعظم. . لن أكتب عن الحلم القصير الذي داعب أجفان الحيارى، ثم صحو من بعده على صرخات الدموع!
لن أكتب عن نجيب الريحاني إلا إذا جاءني الغد المرتقب بأن مكانه الشاغر لم يشغل. . . عندئذ سأصدق أن نجيب الريحاني قد مات، وأن من حقه علي أن أكتب عنه صفحات وصفحات!
رسالة ثائرة من شيوعي ثائر:
حقيبة البريد تحمل إلي من حين إلى آخر كثيراً من روائع العقول وطرائف الأفكار. . . من هذه الطرائف وتلك الروائع ما نقلته إلي في الأسبوع الماضي رسالة ثائرة من شيوعي فاضل آثر السلامة فلم يذكر اسمه! لم يناقشني الشيوعي الفاضل مثلاً فيما كتبته على صفحات (الرسالة)، ولم يناقشني مثلاً فيما جاء به أستاذه الأكبر كارل ماركس من آراء ومذاهب؛ لم يناقشني في شيء من هذا ليقنعني بعدالة قضيته، أو لأقنعه - على الأقل - بأنه مضلل مفتون، ولكنه غمرني بفيض من شتائمه التي أن دلت على شيء، فإنما تدل على طيب عنصره وكرم محتده، شأن كل شيوعي من أمثاله!
يقول حضرته إنني كاتب رجعي مأجور. . . مأجور من الرأسمالية في مصر وغير مصر، ولولا (المرتب) الذي أحصل عليه كل شهر من بعض (الجهات المعينة) لما هاجمت مذهباً من مذاهب الإصلاح الاجتماعي يحتاج إليه ملايين المصريين ليرتفعوا من مرتبة الحيوانات إلى مرتبة الآدميين!
أود أن أقول للشيوعي الفاضل أنني أرحب بالرجعية مادام رائدها الكشف عن مخازي الشيوعية، أما (المرتبات) فلا يعرفها سوى زبائن (الكومنفورم). . . وأما ملايين المصريين الذين أشار إليهم فأؤكد له أنهم آدميون والحمد لله، وإذا كان في مصر حيوانات فهم بضع مئات لعل منهم حضرة الشيوعي المحترم!
أنور المعداوي(836/42)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
خليل مطران
فقد عالم الشعر يوم الخميس الماضي (3061949) علماً من
أعلامه بوفاة خليل مطران، كما فقدت به وسائر الأقطار
العربية شاعراً كبيراً، عاصر حقبة مضطربة من حياتها
السياسية ولابس فترة انتقال في حياتها الأدبية، فكان في
الأولى ممن غضبوا للكرامة الوطنية وجاهدوا في سبيل
الحرية، وكان في الثانية أستاذاً من أساتذة الجيل الذين ارتادوا
آفاقاً جديدة في عالم الشعر العربي الحديث، فسبق أقرانه في
الابتعاد بافتنانه في المعاني والصور الشعرية الجديدة، ومهد
السبيل لمن أتى بعد المدرسة الشعرية القديمة من شعراء
اتجهوا بكل فهم إلى الحس والشعور والحياة. . .
نشأ خليل مطران في موطنه الأول لبنان، وأمضى به صدر شبابه، ثم هجره إلى باريس حيث اشترك في بعض الحركات الوطنية، ثم عاد إلى مصر وكان قد نزل بها في طريقه إلى باريس فطاب له المقام بها، واشتغل فيها بالصحافة، وشارك بالإنتاج الأدبي كتابة وشعراً، وكان من العاملين على رقي المسرح فترجم له وألف، وظل يغرد بأشعاره في وادي النيل حتى أخذ مكانه في الصف الأول من الشعراء المقدمين. وكان المطران إلى جانب ذلك نشاط في مجال الاقتصاد والمال، زاوج بينه وبين نشاطه الأدبي.
كان رحمه الله دقيق الجسم، رقيق الحس، كريم العاطفة، وكان من الذين تأكل مشاعرهم(836/43)
العليا وإنسانيتهم الرفيعة وحيويتهم وغذاء أجسامهم. . . وقد قضى سنواته الأخيرة يعاني الاعتلال ويغالب الأدواء، ثم غلبته ففقدناه.
وكان مطران موضع التقدير والتكرم من كبار الرجال في مصر وغيرها، وكان أباً ودوداً وأخاً كريماً للأدباء والشعراء، ولم يسعد كاتب هذه السطور بلقائه ومعرفته الشخصية، ولكن طالما استرحت نسمات من سيرته الطيبة في مجالس الإخوان، وامتلأت مشاعري بما استفاض من بره ورقة شمائله0
فان مات خليل مطران فهو خالد في ضمير الأمة العربية شاعراً وإنساناً 0
اللغة في الإذاعة:
نشرت مجلة الإذاعة المصرية، أن حديثاً جرى في اجتماع لجنة الشؤون الدستورية بمجلس الشيوخ، بين بعض الأعضاء وبين الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة الذي كان يشهد هذا الاجتماع، وأن سعادة العشماوي باشا رأى أن تكون الأغاني والتمثيليات باللغة العربية المبسطة، وقال الأستاذ جمال الدين أباضة بك: أن الشيخ سلامة حجازي الذي كان الجميع يطربون لأغانيه وتمثيلياته كان يلقى هذه الأغاني والتمثيليات باللغة العربية، ثم طلبت المجلة أن يبدي المستمعون آراءهم في هذا الموضوع.
والذي يقرأ هذا يخيل إليه أن الإذاعة تحافظ على اللغة العربية في كل برامجها ولم يبق إلا الأغاني والتمثيليات، والواقع أن جزءاً كبيراً من برامج إذاعتنا يؤدي بلغة لا هي عامية ولا هي عربية، مثل الأحاديث الطبية والزراعية، وما يلقى في ركن المرأة وركن الفلاح وغير ذلك، وأقصد هذا النوع الذي يعده صاحبه على أنه باللغة العربية، وما هو إلا تكسير لها واعتداء على صحتها. وأنها لمهزلة كبرى أن تذاع هذه اللغة المكسرة المهلهلة من الإذاعة الرسمية بأكبر عاصمة عربية في العالم.
في الصحف والمجلات رقابة لغوية، وأن لم تكن دقيقة في بعضها، تمنع نشر ما كتب بأسلوب غير سليم، أو تقومه؛ فلم لا يكون بالإذاعة موظفون في مقام رئيس التحرير أو سكرتير التحرير أو المصححين في الصحف، يشرفون على لغة الأحاديث؟ ولم لا يشترط على المتحدث أن يجيد النطق العربي ويجرب قبل إلقاء حديثه؟ وإن بعضهم ليخجل إذا أخطأ في نطق لغة أجنبية وأنه لأجدر أن يخجل لخطئه في لغته.(836/44)
ذلك مثل من الفوضى اللغوية في إذاعتنا المصرية التي تنطلق بلسان مصر زعيمة العروبة، وفيها غير ذلك كثير، وقد كدت أنفلق من المذيع الذي يلقي النشرة الجوية فيقول: إذاعة مصلحة الأرصاد التنبؤات التالية عن حالة الجو من ظُهَيْرة اليوم إلى ظهيرة غد، فهو يريد أن يظهر مقدرته اللغوية بالإتيان بكلمة (ظهيرة) بدل (ظهر) ولكن نطقه لها يأبى إلا أن يظهر حقيقة مقدرته ولو أنه تجنب الحذلقة لما وقع في هذا الخطأ الفادح.
أما الأغاني والتمثيليات فمن الواجب حقاً أن تكون باللغة العربية المبسطة كما قال العشماوي باشا، فاللغة الفصيحة يجب أن تكون لسان الإذاعة المصرية العربية في كل برامجها، وليس من الحق ما يقال من أن طبقات الشعب الجاهلة لا تفهم العربية فهما صحيحاً، فإن هذه الطبقات تصغي إلى القران الكريم وتفهم كثيراً من آياته، ويقرؤون أو تقرأ عليهم الصحف بالأسلوب العربي المصري فيفهمونه حق الفهم، وأن وسائل الاتصال بالمجهول المعبرة بالعربية لتمد الألسنة بفيض منها فتدنى لغة العامة من لغة الخاصة، فلماذا تتخلف الإذاعة عن سائر تلك الوسائل؟ وتقول مجلة الإذاعة فيما نشرته تسويغاً للعامية، أنها أدق تصويراً لواقع الحياة في المجتمع. وإذاعتنا نفسها تذيع باللغة العربية تمثيليات مترجمة فهل اللغة العربية قادرة على تصوير واقع الحياة في المجتمع الإنجليزي مثلاً وليست بقادرة على ذلك في المجتمع المصري. . .
أقول ذلك وأنا لا أشير على الإذاعة أن تتخذ العربية لغة لكل الأغاني والتمثيليات، فهذا هدف لم تعد العدة الكافية لبلوغه في إذاعتنا أو لم نصل إلى الحال الملائمة له بعد، فإن أكثر المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات الذين يعملون الآن بالإذاعة، لا يحسنون إلقاء هذه الفنون بالعربية، فلو أنهم حملوا عليها لما كانت هذه الأغاني والتمثيليات خيراً من تلك الأحاديث.
يجب أن يسبق الإقدام على (تعريب) التمثيليات إعداد ممثلين وممثلات، مدربين على التمثيل بالعربية. وهناك كثيرون مدربون ولكنهم غير الذين يعملون بالإذاعة، وهناك أيضاً خريجو المعهد العالي لفن التمثيل. أما الأغاني فالإذاعة تذيع كثيراً منها بالعربية وبعضها لا بأس به ولكن جمهرة المغنين والمغنيات لا تحسن أداء العربي الفصيح
ومدار الأمر في كل ذلك على السياسة المرسومة والعمل لبلوغ الهدف؛ فإذا لم يكن من(836/45)
المستحسن أن تكون الأغاني والتمثيليات بالعربية جملة واحدة والحال على ما هي عليهالآنفي الإذاعة - كما أرى - فينبغي أن توضع خطة توصل إلى الحال التي يصح فيها تنفيذ ذلك الغرض.
في قاعة المطالعة بدار الكتب
شيئان في مصر لا يزالان كأول عهدهما لم يلحقهما التطور، ولم تجري عليهما سنة الارتقاء: محراث الفلاح، وقاعة المطالعة في دار الكتب المصرية، فكما أن الفلاح المصري لا يزال يشق الأرض بمحراثه على نحو ما كان يفعل أسلافه منذ آلاف السنين، لا يزال ذلك الساعي ذو الحلة الصفراء يتردد بين المخزن وقاعة المطالعة في دار الكتب. توافينا أنباء الغرب بما يجد هناك في عالم المكتبات العامة وما يصطنعه القوم من أنواع التيسير على جمهور المستعيرين، وأني لأخال آخر نبأ في الطريق أن مكتبة في نيويورك أو واشنطن أو غيرها من العالم الجديد قد استحدثت طريقة تكفل لطالب الكتاب الحصول عليه بمجرد كتابة رقمه ووضعه في ثقب معين، إذ يخرج الكتاب إليه ساعياً إلى لقاءه دون أي انتظار. .
أما في دار الكتب المصرية الكائنة بميدان أحمد ماهر من القاهرة المعزية، فإنك بعد ما تكتب (سند الاستعارة) وتملأ المطلوب فيه من الاسم والوظيفة والسن والمسكن والعنوان واسم الكتاب والجزء والمؤلف ورقم الفن ورقم المعقد. . . الخ، تجلس في القاعة ترقب طلعة الساعي، تستبشر إذا بدا ينقل خطوة كما يخطو الطير الآمن على الأرض. . وقد ضم إلى حضنه مجموعة من الأسفار مختلفة الأحجام، وتؤمل أن يرمي لك أحدها، وإذا هو لا يلتفت إليك بل يجاوزك تنتظر لتعيد التطلع إليه في الدورة القادمة لعل وعسى. . . وقد يرمي إليك بعد كل ذلك (سند الاستعارة)
مخطوطاً عليه مالا تفهمه، فإذا لجأت إلى من يحل الرموز ظهر أن المكتوب: (في الخارج) أو (في المطالعة) أو (لدى الموظفين) أو (ليس في المخزن نور) وما إلى ذلك وخلاف ما يستجد من نحو (الكتاب متعب) أو (في لجنة!)
وإذا كنت من ذوي الجد السعيد وجاءك الكتاب، فعليك أن تقرأه أو تأخذ منه حاجتك في نصف ساعة بقي من الوقت وأنت بين صغار يتحدثون ويعبثون ويتضاحكون، لم يخصص(836/46)
لهم ولكتبهم مكان في القاعة، بل أنتثروا فيها لا فرق بين كبير وصغير ولا رعاية لمزاج باحث تضايقه حركات الغلمان من قراء روايات حافظ نجيب وأرسين لوبين.
والمترددون على قاعة المطالعة من قراء تلك القصص والروايات هم الذين يضخمون العدد الذي تصدر به بيانات الدار التي تنشر ويظهر أن الدار تحب أن تنشر هذه الأرقام الكبيرة مغتبطة بدلالتها على إقبال الجمهور على التزود من المعارف والآداب، ولكن التزود من المعارف والآداب مظلوم لأن دار الكتب تزحم نفسها بهذه الروايات وبطلابها، وهي ليست بذات غناء في التثقيف من جهة، والجهة الأخرى أنها تباع في الخارج الواحدة بقرش، والأولى منها بالتوفير في الدار الكتب ذات القيمة العلمية والأدبية، وخاصة الكتب والمراجع الغالية التي يحتاج إليها طلبة الجامعة وطلبة الأزهر، والتي يقال لمن يطلب واحداً منها (معار) أو (لا يوجد منه غير نسخة في الدار) فيخرج الطالب وهو ينظر إلى عشرات من الصغار منهمكين في قراءة الروايات البوليسية والغرامية.
لا اعتماد للفن:
كان مجلس النواب قد وافق في ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية على اعتماد 7000 جنيه لإنشاء فرقة نموذجية من خريجي المعهد العالي للتمثيل، و1500 جنيه زيادة على المقرر لتشجيع التأليف المسرحي، 2500 جنيه لإنشاء مسرح صيفي بالقاهرة و300 جنيه جائزة لأحسن فلم خلال العام. ولكن لما عرضت هذه الميزانية على مجلس الشيوخ رفض اعتماد تلك المبالغ، قائلاً أنه لا داعي لإنشاء الفرقة النموذجية، ويلحق خريجو المعهد بالفرقة المصرية ليكسب الشباب الجدد مرأناً وتجربة إلى جانب من مارسوا التمثيل قبلهم؛ أما الزيادة للتأليف المسرحي فلا مبرر لها لأن ما صرفته الوزارة من اعتماد العام الماضي لم يزد على نصفه؛ وأما المسرح الصيفي فكان قد اقترح إقامته في حديقة الأزبكية أو على شاطئ النيل شمال حديقة الأندلس بجوار المسجد المقام بها، فرأى مجلس الشيوخ أنه من غير اللائق إقامة المسرح بجوار المسجد، وسكت عن حديقة الأزبكية؛ وأما من حيث الجائزة السينمية فاستند المجلس إلى أن إنتاج الأفلام يجب أن يترك المنافسة الحرة.
وقد أعيدت الميزانية إلى مجلس النواب، فوافق على حذف تلك الاعتمادات منعاً لتعطيل الميزانية.(836/47)
وهكذا خرج الفن من هذه الجولة البرلمانية صفر اليدين، فلم يظفر بأي اعتماد في ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية التي تشرف على المسرح والسينما.
والدولة بعد كل هذا تعتبر فن التمثيل ضرورياً لتربية الشعب وتثقيفه عن طريق الإمتاع الفني، فهل يتفق حذف اعتماداته مع هذا الاعتبار؟ لقد علل مجلس الشيوخ رفضه لكل اعتماد منها، ولكن أين الهيئة الفنية التي تستطيع أن تؤيد المشروعات الفنية وتدافع عنها وتدعم رأيها إزاء وجهة نظر المجلس؟ أين من يقول مثلاً بحاجة البلاد إلى عدة فرق مسرحية لا فرقة أو فرقتين، وبأن المسرح الصيفي يمكن إقامته في غير المكان المعترض عليه، وبأن التأليف المسرحي يكاد يكون معدوماً، وبأن مكافأة الفلم تؤدي إلى تحسن الإنتاج.
تتجه الأنظار إلى وزارة الشؤون فهي راعية الفنون، ولكن من المؤسف أننا نجدها غير جادة في هذه الرعاية، ومما يدل على ذلك ما لاحظه مجلس الشيوخ من أنها لم تصرف من المقرر للتأليف المسرحي في العام الماضي غير نصفه. . . فهل هي تحرص على الإشراف على المسرح والسينما لتتفرج أو لتنهض بهما؟
عباس خضر(836/48)
الَبريدُ الأدبيَ
في مجالس الأدب:
أن في مجلس الأدب جمعاً بين إشباع الوجدان، وإمتاع العقل، وإشعاع المواصلة الروحية التي تجمع وحدة الطبع، واتفاق المزاج، وتآلف الميل؛ ولقد تلمع الخواطر، فيبدو في لمعاتها ما يشرق بالمجلس الأدبي. ونعلم أن للرسالة الزهراء ندوة فيها نداء المعرفة، وندى الوفادة، وبالود منا أن يسجل بين الحين والحين ما يألق في جوانب الندى للقبس منه، والأخذ عنه، والمشاركة فيما يترامى إلى أهداف سامية لها وصلة في الحيلة، التي اصطرعت أهواؤها في مصارع المادة، وتنكب جادة المعاني الروحية. ولقد دعانا إلى تلك الإشارة ما عاودنا قراءته عن (المناظرات الأدبية) وما كان لها من شان، بعد أن حاورنا محاور عن الصيغ التي تفيد الصفة، ووثب إلى الذهن ما حققه المازني (النحوي) في حضرة المتوكل في قوله تعالى: (وما كانت أمك بغياً) بعد أن سئل: كيف حذفت التاء وبقى فعيل مع أنه فعيلاً إذا كأن بمعنى فاعل لحقته التاء كفتى وفتية؛ فكان حقها (بغية)؟ فأجاب: أن بغياً ليست بفعيل؛ وأنما هي فعول بمعنى فاعلة - يقصد أنها كصبور - فالأصل فيها (بغوي) وأجرى عليها تقعيد التصريف من قلب الواو ياء وإدغام الياء؛ فهي (بغي)، ووجب حذف التاء لأنها بمعنى باغية. على هذا الأسلوب أمكنه الإعلام والإفحام، وسجل تحقيقه مخلداً تتعاوره الأجيال، فلماذا لا تثبت مباحث الإثبات؟.
أن من حق الأدب على الهداة إنارة الطريق، وليست المباحث وحدها بكافية للاستنارة، فمجالس الأدب في محاوراتها، ومناظراتها، وطرائفها، وطرائقها ذات تشوق وتشويق!
ولقد أعجبنا من الأديب الموفق الأستاذ (العباس) عرضه قضية ذلك البطر البشم بغروره الذي أنتفخ أنفه باسترواحه رائحة (الأجنبي، وتكسر لسانه برطانة الصلف؛ فعاب على الشرق تربيته العالية، وتورط بعد أن (تبرنط) ثم خرج من لدن المجلس يدُّعه الخزي، ويخزيه العار. من هذه الإبانة وضحت ظاهرة المغالاة في تمجيد الغرب إلى درجة تجاهل الشرقية المشرقة من قوم يجب أن يشرقوا من ماء النيل!
أن رجوتنا تجاوز الإلحاف في وجوب العناية بمجالس الأدب التي ندرت في هذا الزمان الذي نثر الأوقات الرخيصة على كراسي المقاهي حيث إضاعتها بين قالة اللسان، ومطاولة(836/49)
اليد، والبعد عن سمو الحياة!
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف برر
أسرفةأم تهافت أدبي؟
قرأت في العدد832 من مجلة الرسالة الغراء قصة بعنوان (مادلين) للأديب يوسف جبرا. وهذه القصة نشرتها جريدة البلاغ بدون توقيع في عددها الصادربتاريح8 ديسمبر سنة 1948. ولقد راعني أن تنقل القصة المنشورة في جريدة البلاغ من ترجمة الأديب يوسف جبرا نفسه؟ وإذا ادعى أنها له فهل له أن يتكرم فيثبت لنا صحة ما يقول بالدليل القاطع الذي لا يقبل الجدل ولا يرقى إليه الشك؟ وإذا أحسنا الظن بالأدب الناشئ فاعتبرنا قصة البلاغمن ترجمته هو فأنا نعتبر السعي إلى إعادة نشرها تهافتاً أدبياً وتكالباً على الشهرة غير مشروعة، وهو أن دل على شيء فإنما يدل على إفلاس عقلي وفرار من الجهد الذي يعانيه الأديب ليخرج للناس أثراً يقرأ. وإن للأديب حدوداً من الأدب واللياقة لا يتعداها المرء إلا حين يحس بالخور والفتور. وإذا كان ما نشر في جريدة البلاغ ليس من عمل الأديب جبرا فهذه سرقة أدبية أربأ به عن أن يرتدغ فيها.
يا سيدي الأديب، هذه هي ثاني مرة ترتكب فيها مثل هذه المخالفة الأدبية. ولابد أن تثق بأن للقراء عيناً وقلباً وعقلاً. هذا وإن عدتم عدنا.
كامل محمود حبيب
وضع الزهور على القبور:
دارت مناقشات في بعض الصحف حول هذه العادة وكيف نشأت، فمن قائل أنها غربية، وقائل أنها شرقية إسلامية والرأي الثاني هو الصحيح.
فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: مر النبي عليه السلام بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله؛ وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة. ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، قالوا يا رسول الله لم(836/50)
فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا. والحكمة في ذلك أن كل حي ونام يسبح الله دون الميت واليابس، وفي الحديث الشريف إشارة إلى أنهما يسبحان مادامتا رطبتين دونما إذا يبستا0 وهذا الإشراق الروحي للرسول عليه السلام حيث يشاهد تسبيح النبات والجماد من خصوصياته، وقد يكشف الحجاب لبعض الأطهار من أمته حتى يسمع تسبيح الكائنات كما حصل ذلك لبعض الخواص من أهل الطريق ولازالت هذه السعادة عند العامة في جميع البلاد متأسية بالرسول الطاهر ثم أبدلت بالزهور عند الخاصة - والتسبيح من كليهما وأقع - والتخفيف على الترجي بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الرحمان الرحيم
(شطالوف)
محمد منصور خضر
لام الحجود. ومظلنها:
كنا وما نزال نستظهر أن من ضمن نواصب المضارع وعلى التجوز، لام الجحود، ونتذكر أيضاً أن لام الحجود هي المسبوقة يكون ناقص ماض منفي؛ ولكنا كنا نجهل أن لها شرطاً عدا ما تقدم: وهو أن يكون المسند إلى ما كان، ولم يكن هو عين المسند إلى المضارع الآتي بعدها حتى تلحقه اللام المؤكدة للنفي الصريح؛ وزدت الصريح لأنه لو كأن غير صريح لصح للفعل المضارع أن يأتي بعد السكون الناقص الخ - خاليا ًمن اللام، وإليك قوله تعالى: (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) فإن النفي هنا صوري في معنى الإثبات أي قد تليت عليكم آياتي فكنتم بها تكذبون.
وليتم الاستقصاء أزيد على ما أسلفت أن يكون ثم مقتض بلاغي يقتضيها، والقران الكريم مليء بهذه المقتضيات. وقد بينها لنا بأجلى بيان في معارض شتى: كالتخويف، والإنذار، والتقرير، والإصرار، وها هي ذي طائقة من الآيات توضح ما مر: قال تعالى في معرض الإنذار (لم يكن الله - يستغفر لهم) وفي مجال التقرير: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) وفي موضع الإصرار: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) وبلى القران في ذلك الحديث وهاهو ذا يطفئ غلتنا بنغبة من حديث مشهور قال صلى الله عليه وسلم: (وأعلم أن أخطأك لم يكن ليصيبك)(836/51)
وإذا استوفيت الشروط المتقدمة ولم يكن ثم مقتض لتأكيد النفي فلا داعي لهذه اللام، ويرد الفعل المضارع خالياً منها - كما في هذه الآيات: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون) (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولاجلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون)
محمد غنيم(836/52)
القصص
الطفل الضال
للكاتب الهندي ملك راج أناند
ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
كان ذلك اليوم مهرجان الربيع، وقد خرج الناس مبتهجين في حلل قشيبة، وازدحمت بهم الطرقات، يسيرون وكأنهم حشد من الأرانب المتعددة الألوان اندفعت خارجة من أجحارها. وأغرقّتهم الشمس في بحار أشعتها العسجدية، أثناء سيرهم قاصدين السوق. فمشى البعض على قدميه، وامتطى البعض صهوة جواده، وجلس البعض الآخر تحمله مختلف المركبات.
وهرول صبي صغير، مفعم بالنشاط والبشر، وكأنه ذلك الصباح المشرق البسام يرحب بالناس في حرارة ويدعوهم بصدر رحب إلى ارتياد الحقول بأزهارها وأغأنيها.
وناداه والداه (هلم يا بني، هلم) وقد تباطأ خلفهما. كانت قد جذبته رؤية الدمى القائمة في الحوانيت المصطفة على جانبي الطريق. وأسرع الصبي الخطى صوب والديه. وقد لبت قدماه نداءيها ولما تزل عيناه تتطلعان إلى الدمى وهي تبتعد عن ناظريه. وعندما أقبل إلى حيث وقفا ينتظرانه لم يستطع كبت رغبة فؤاده على الرغم من مشاهدته نظرات الرفض الباردة التي كانت تبدو في أعينهما، والتي كأن معتاداً رؤيتها في توسل (أريد تلك الدمية).
ونظر إليه والده نظرة صارمة بعينين متقدتين، وأولته والدته - وقد ذاب فؤادها بهجة ذلك اليوم - نظرة من العطف، ثم ناولته أصابعها ليمسك به وهي تقول (أنتبه أمامك يا بني).
وما كد ضيق الطفل - الذي أنتابه لعدم تحقيق رغبته - يخمد في الزفرة الحارة المتصاعدة مع أنفاسه وهو ينادي والدته بصوت متقطع، حتى امتلأت عيناه الشفافتان بهجة ما بدا أمامه. كانوا قد تركوا الطريق وغباره، ومشوا في حركة التفاف صوب الشمال، ثم سلكوا طريقاً داخل حقل مزدهر ينبتان الخردل الباهت وكأنه الذهب السائل، أنتشر أميالاً وكأنه نهر من الضوء الأصفر يتماوج مع الريح، وتجري أمواجه لتصب في محيط الضوء اللجيني للأفق البعيد. وقامت الديار على جوانب الحقل بجدرانها الطينيه، وقد تعالت منها أصوات قطانها وصفيرها وصخبهم وهمهمتهم، ترتفع صوب قبة السماء الزرقاء وكانها(836/53)
صوت ضحكة (سيفا) الجنونية.
ورنا الطفل إلى والديه وقد غمرته البهجة والإعجاب بتلك الغابة الشاسعة. وبدا له كأنما أشرقت السعادة على محياهما، فترك الطريق، واخترق الحقل، يعدو ويطفر وكأنه المهر.
كانت جموع من اليعاسيب تطن بأجنحتها الشفافة الأرجوانية وتترقب تحليق نحلة سوداء منفردة أو فراشة تبحث عن رحيق شذى من أعماق الزهور. وتبعها الطفل بناظريه، وحاول أن يمسك أحدها وقد طوى جناحيه. ولكن سرعان ما فردهما وحام في الهواء. وقامت نحلة سوداء جريئة باستهوائه بطنينها حول أذنيه حتى تتجنب القبض عليها، أن تستقر على شفتيه لولا أن نبهته والدته قائلة (هلم يا بني، هلم، تعال إلى الطريق).
وقصد إلى والديه مبتهجاً، وسار معهما جنباً إلى جنب. ثم إذا به يتركهما وقد جذبته رؤية الحشرات والديدان تسعى على طول الطريق، وقد خرجت من مخابئها لتتمتع بأشعة الشمس.
وناداه والداه وقد جلسا على حافة بئر، يتفيآن ظل دغل، فجرى صوبهما، كانت شجرة التين قد بسطت أذرعتها القوية على الأهليج المزدهر وغيره من النباتات، وألقت بظلها على أحواض الزهور الذهبية والقرمزية، وكأنها جدة بسطت ذيلها على أحفادها الصغار. وقامت البراعم بعبادة الشمس وقد كشفت قليلاً عن أوراقها في حياء. واختلط العبيق الشذي بحبوب لقاحها بالنسيم العليل يهب بين الفينة والفينة.
وتساقط فيض من الزهور الصغيرة على الطفل عندما أتى الدغل، فنسي والديه وأخذ يجمع بين يديه أوراقها المنهملة كالمطر. ولكن. . ما هذا!؟ لقد سمع هديل الحمام، فأسرع إلى الخطى صوب والديه هاتفاً (الحمامة! الحمامة!) وسقطت أوراق الزهور العديدة من يديه المتخاذلتين، وبدا على وجه والديه نظرات الاستغراب والفضول وهتفا يناديان الطفل (تعال يا بني، تعال).
كان الصبي قد ذهب يعدو في طفرات جنونية حول الشجرة فانضموا إليه، ثم سلكوا الطريق الضيق المنحني الذي يؤدي إلى السوق. واستطاع الطفل عند وصوله أن يشاهد العديد من الطرق تعج بالناس القادمين إليه.
ونادى بائع على ما يعرضه من الحلوى، وهو قابع في ركن من أركان السوق، واحتشد(836/54)
الناس حوله وقد قامت تحت أقدامه أكوام منتظمة من الحلوى الملونة المزكرشة بأوراق مذهبة ومفضضة وحدق الطفل فيها وقد اتسعت عيناه وسال لعابه من رؤيته حلواه المفضلة (البوفي)، وتمتم في بطأ قائلاً (أريد البوفي). ولكنه كان يدري أن هذا الطلب لن يلقى أذناً صاغية، فقد يقول عنه والده أنه شره ولذلك أبتعد دون أن ينتظر أية إجابة.
ونادى بائع الزهر على باقته المختلفة، وبدا الطفل كأنه جذب بالشذى الدائم الذي أتى إليه سابحاً على أجنحة النسيم الواهن. فذهب صوب السلة حيث ترقد باقات الزهور وتمتم قائلاً: (أريد تلك الباقة). ولكنه كان يعرف جيداً أن والديه سيرفضان شراءها، فقد يقولون أنها زهور تافهة، ولذلك تحرك مبتعداً قبل أن ينتظر أجابتهما.
وأمسك رجل بعمود خشبي تدلت منه بالونات تتطايح بألوانها المتعددة، فمنها الأصفر والأحمر والأرجواني، ودهش الطفل من جمال ألوانها وكأنها قوس قرح. وغمرته رغبة جارفة في امتلاكها جميعاً. ولكنه كان يدرك تماماً أن والديه لن يبتاعاها له، فسيقولان أنه أكبر من أن يلعب بمثل هذه الألعاب، ولذلك سار مبتعداً عنها.
ووقف مشعوذ يصفر بمزماره لأفعى تتلوى في سلة، وقد أرتفع رأسها في انحناءة لطيفة وكأنها عنق إوزة. وانسابت الموسيقى إلى أذنيه الخفيفتين وكأنها خرير مسقط ماء صغير. وكاد الصبي أن يتجه إلى والديه لولا أنه كأن واثقاً أن والديه سيمنعانه عن سماع مثل هذه الموسيقى الفظة، فتابع سيره مبتعداً.
وكانت هناك عجلة دائرة في أبان حركتها محملة بالرجال والنساء والأطفال وهي تتحرك بهم حركة سريعة. وشاهدهم يتصايحون في ضحكات جزلة، وراقبهم يدورون ويدورون وقد علت شفتيه ابتسامة حياء زاهية. وعينيه تتماوجان مع حركة العجلة، وفغر فاه دهشته وقد بدأت العجلة تهدئ من سرعتها تدريجياً. ووقف الطفل مذهولا وإصبعه في فمه يشاهدها وهي تقف. وفي هذه المرة - وقبل أن ينطفئ شوقه الشديد بذلك الإصرار الأبدي على رفض كل طلب له - قال في جرأة (أريد أن أركب العجلة الدائرة، أرجو يا أبتي، وأنت ياأماه) فلم يسمع أي جواب وتلفت ينظر إلى والديه فلم يجد لهما أثراً.
وانفلتت من حنجرته الجافة صيحة مدوية عميقة، وفجأة أندفع يجري وهو يصيح في رعب (أبي، أمي) وانهملت الدموع من عينيه، غزيرة جارفة. واختلج وجهه الممتقع خوفاً، وعدا(836/55)
وقد تملكه الفزع، من ناحية إلى أخرى، في شتى الاتجاهات، دون أن يدري أين يذهب. ونشج بالبكاء وهو ينادي (أماه، أبتاه) وقد تبللت حنجرته بما أبتلعه من لعاب، وانحلت عمامته الصفراء، وثقل جسمه الخفيف، وصار ككتلة الرصاص، بعدما ابتلت ملابسه بما تصبب من جسمه من العرق وما أختلط بها من غبار.
وبعد أن هرول هنا وهناك مقهوراً على أمره، وقد تحول صوته إلى عويل. وشاهد عن بعد، خلال عينيه وقد علتهما طبقتان شفافتان من الدمع، رجالا ونساء راقدين على العشب الأخضر، يتحدثون ويتسامرون. وحدق فيهم بين رقع ملابسهم الصفراء اللامعة، لعله يشاهد أثراً لوالدته أو والديه بين أولئك الناس، وقد بدا المرح على ملامحهم، يتحدثون ويضحكون لمجرد الضحك والحديث وجرى لفي حرارة مرة أخرى، وقصة حرم معبد احتشد فيه الناس. كانت كل بقعة من الأرض تموج بالناس، وعدا بين أرجلهم، وكانت صيحاته الصغيرة تنادي لهفة (أماه، أبتاه) وازردادت كثافة الحشد قرب المعبد. كان الناس يتدافعون بالمناكب، رجال ثقلاء بأعين لامعة من الغدر وأكتاف ثقيلة. وجاهد الطفل يشق طريقه بين أقدامهم، ولكن كانوا يدفعونه هنا وهناك بمخالبهم المتوحشة. وكادوا أن يطئوه بأقدامهم لولا أنه صرخ يقول في صوت جوهري (أبتاه، أماه) فسمعه رجل منهم وانحنى في مشقة ورفعه بين ذراعيه.
وسأله الرجل وهو ينأى به بعيداً عن هذه الكتل المتراصة (كيف جئت إلى هنا يا بني؟ أبن من أنت؟).
وبكي الطفل في مرارة زادت عن ذي قبل وصاح قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).
وحاول الرجل أن يهدئ من روعه فأخذه إلى العجلة الطائرة وقال له وهو يقترب منها (ألا تود أن تجلس على أحد جياد العجلة.؟)
وخرجت من حنجرة الطفل آلاف النشجات المدوية، ولم يجب إلا بقوله صائحاً (أريد أمي، أريد أبي).
واتجه الرجل صوب المكان الذي لا يزال المشعوذ يصفر فيه بمزماره إلى الكوبرا الراقصة وقال في رجاء (استمع إلى هذه الموسيقى الساحرة يا بني) ولكن الطفل صم أذنيه وصاح (أريد أمي، أريد أبي).(836/56)
وحمله الرجل إلى مدخل المدينة، وكان لا يزال يشفق على الطفل ويرغب في الترفيه عنه، ووقف أمام بائع الزهور وقال له (أنظر، ألا تود أن تشم شذى هذه الزهور اللطيفة يا بني؟ ألا تريد باقة تضعها حول عنقك؟).
وأبعد الطفل أنفه عن السلة وردد نشيجه قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).
وظن الرجل أنه قد يبتهج الطفل وتذهب عنه كآبته لو أهداه قطعة من الحلوى، فأخذه إلى البائع وسأله (ما الذي تختاره من هذه الحلوى يا بني؟).
ونحى الصبي وجهه عنها وبكى قائلاً (أريد أبي، أريد أمي)
محمد فتحي عبد الوهاب(836/57)
العدد 837 - بتاريخ: 18 - 07 - 1949(/)
11 - أمم حائرة
الإيمان بالله
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
قوام العقائد الصحيحة، ونظام السير القويمة، وعماد الحياة الروحية السعيدة، ومدد كل خير، ومنبع كل طمأنينة، ومصدر كل سعادة، والهادي إلى الصراط المستقيم، والسنن القويم، والمنير في ظلمات الحياة، والدليل في مجاهلها، والجامع ما ظهر وما بطن من حقائق العالم، والمجلي لما جل ودق من مواهب الإنسان - هو الإيمان بالحقيقة العظمى، حقيقة الحقائق، ومركز الدائرة من الخلائق، الحقيقة التي نطق بها الكون مفصحاً ومعجماً وصريحاً ومجمجماً، وتكلم بها الإنسان ضالا ومهدياً، وسعيداً وشقياً، وقرأها القارئ والأمي، وبصر بها البصير والضرير، وأعرب عنها الناطق والصامت، وتحدث بها المتكلم والساكت، وأقر بها المنكر وهو لا يدري، واعترف بها الجاحد وهو لا يشعر، والتي ظهرت حتى بهرت، واستسرت حتى حيرت. وهي من فضائلها ظاهرة للمتوسمين، وفي ظهورها خافية على الغافلين. الحقيقة التي تخترق كل حجاب، وتدخل من كل باب. ويبين عنها النور والظلام، كسواد المداد وبياض القرطاس، لا تدري أيهما أدل على المكتوب، وأهدى إلى المحجوب، وكالليل والنهار، في نظام الشهور والأعوام، من النور والظلام، فيهما يسير الزمان، ويستمر الحسبان.
ذلكم الإيمان بالله جل وعلا.
(تسبح له السموات والأرض ومن فيهنَّ وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لاتفقهون تسبيحهم.)
الأيمان بالله حياة النفوس وقوامها. يجمعها ويدفعها ويصلها بالكون العام، والروح الشامل، فينظم قواها، ويحكم ملكاتها، ويشرف بها على العالم، مسيطرة عليه، نافذة إلى أسراره، مسخرة لقوانينه لا تتفرق أجزاء متخاذلة، ولا تسقط أهواء متهافتة، ولا تضطرب مطامع ومخاوف، يجذبها ميل ويدفعها آخر، وتقدم بها رغبة، وتصدها رهبة، بل تضئ سريرتها،(837/1)
وتصفو بصيرتها، وتستقيم سبيلها، وتبين غايتها.
والإيمان بالله العظيم، وذكره والاتصال به، تملأ النفس عظمة وقوة، وتصغر أمامها الأهوال، وتذلل العقبات، فتنطلق كأنها إرادة الله في خلقه، وقدره في عباده. ولله من عظماء خلقه أقدار. يسلطهم ويمكنهم، فإذا هم ينشئون الأجيال، ويخلقون الإعصار. لا يعتلون بالزمان والمكان، ولا يفرقون بين اليسير والعسير، والبعيد والقريب، يصدق الله أقوالهم، ويبر أقسامهم. ويقسم بأيديهم أرزاقه، ويصرف بعزائمهم أقداره. بصرهم الإيمان، وأضاء لهم العقل والوجدان. . . لولا الإيمان بالله ما اهتدوا ولا قدروا، وما جاهدوا وما صبروا.
الإيمان بالله الواحد السلام، يوحد النفس ويملؤها سلاماً ووئاماً، وألفة ونظاماً، فتدرك الالتئام في الحق والخير والجمال والحب، وتعرف التنافر في الباطل والشر، والقبح والبغض. فتسير على الأرض سلاماً يهدي إلى السلام، ونظاماً يدعو إلى النظام، وجمالا يهفو إلى الجمال، وحباً يرشد إلى الحب.
وما أحسب الشر وما يتصل به في هذا العالم إلا قلقاً وتنافراً أو سبيلاً إلى القلق والتنافر. ولا أرى الخير وما هو منه بسبيل إلا سكينة وائتلافاً، أو وسيلة إلى الائتلاف والسكينة. وإذا لم يوحد النفس الإيمان، تنازعتها أصنام من آلهة أو أهواء، وتجاذبتها أوثان من أرباب أو مطامع، فلم تلتئم في نفسها، ولم تعرف الالتئام في غيرها.
ذلكم مبدأ الضلال والهدى، والشقاء والسعادة.
والإيمان بالله الذي لا يحده زمان ولا مكان، يطلق النفس من قيودها، ويخرجها من حدودها ويرفعها على الزمان والمكان، فإذا هي، فيما تحب وتكره، وفيما تأتي وتذر، سنة من سنن الله لاتحول، وقانون من قوانينه لا يزول. فتستكبر على الشهوات المحدودة، والنزعات الضيقة، ولا تبالي المنافع والمضار الخاصة، فيسمى الإنسان لنفسه ولأسرته ولطائفته وللناس جميعاً، على قوانين الحق العامة، وسنن الخير الشاملة، لا يسعه غيرها، ولا يتسع هو لغيرها. وكذلك يعلو على الأهواء والعصبيات والنزعات والنزغات المتزاحمة المتصادمة، المتنازعة المتقاتلة، المنفرة المفرقة، المهلكة المدمرة. إنما انتصاره للحق والحق لا يتغير، وتحيزه للعدل والعدل لا يتعدد. فهو في توحيد من إيمانه، ومن عقله ووجدانه، ومن قوله وفعله، في سره وعلنه.(837/2)
إذا أضاء الإيمان بالله في سرائر الإنسان، وعمل في نفسه فجمعها ورفعها ووصلها بالحق والخير، وعظمها وقواها، وأحكم قواها، ووحدها وملأها سلاماً ووئاماً، وحباً للحق والخير والجمال، ثم أطلقها من قيودها، وأخرجها من حدودها، عملت جاهدة مصلحة راضية صابرة، وأدركت اللذات الروحية وأنست بها، وسكنت اليها، وكلفت بالسلام والوئام، وبكل ائتلاف واتفاق، ونفرت من كل اضطراب واختلاف، وتفرق وتنافر.
وقد جاء في بعض الآثار أن يتشبه المخلوق بخالقه، أو يتخلق العبد بأخلاق ربه. فهذا هو التشبه والتخلق. يسير الإنسان من الخاص إلى العام، ومن المقيد إلى المطلق، ومن المتغير إلى الثابت، ومن الجزئيات إلى الكليات، ومن الأحداث الفانية إلى الباقيات الصالحات، حتى يكون كأنه سنة من سنن الله في خلقه، وشريعة من شرائعه في عباده. وإذا نزعاته وشهواته مهجورة إلى الخير العام. بل نزعاته وشهواته في الخير العام، ولذته وطمأنينته في صلاح الناس كلهم، وانتظام العالم جميعه.
وإن لم يكن هذا هو الفناء في الله كما قال الصوفية فليس بعيداً منه، وإن لم يكن هو البقاء بعد الفناء في طريقتهم فليس نائياً عنه.
عبد الوهاب عزام(837/3)
المتنبي
للأستاذ راجي الراعي
تمر الأجيال بالمتنبي فلا تجسر أن تلقي عليه ستار النسيان وتتابع السير في طريقها فيستوقفها لتنشد الشعر؛ شعره الذي نظمه كله ليرويه له الدهر فتروى له بعضه والموتى من حوله واقفون إجلالاً والخلود يلقي ظلاله وينصت فخوراً طروباً. . .
وليس من السهل أن تنطفئ شعلة أضرمها المتنبي. ومن يزر ضريحه يشهد فوقه كل يوم صراعاً دامياً بين الموت والخلود يقع بعده الموت في كل مرة قتيلاً يتشحط في دمه. . . أن الموت يخاف الشاعر العبقري ويحسب له حساب خلوده. وهو إذا أتاه أتاه مكرهاً قياماً بوظيفته التي لا تعرف الإقالة والاستقالة، وكل ما يستطيعه الموت هو أن يوقف حركة القلب الواحد الخفاق في صدر الشاعر العظيم. أما القلوب الأخرى التي يحملها فتظل على الرغم من الموت والفناء حية نابضة في صدور قصائده. . .
هاهو ذا المتنبي الذي قال الشعر لينشده الدهر، يقف أمامي في ساحة الموت في نبوته التي لم تشهده نبياً أتحدث إليه أو أتحدث عنه كأن ابن أبي جهل لم يضربه تلك الضربة التي حسبها قاضية ولم تقض له أمراً. . . وإذا كنت قد فكرت في المتنبي وناديته في عالم الأرواح لأراه واحييه وأقول كلمتي فيه والناس لا يحتفلون بذكراه التي مضى يومها، فذاك لأني لا أحب أن أتقيد بما يتقيد به الناس وهم يحتفلون بموتاهم ويحددون لاحتفالاتهم البرامج والمواعيد. فالميت الحي الكبير ماثل أمامي في كل حين أناجيه ويناجيني. وليس للمتنبي يوم خاص لذكراه ثم تطوى صفحته، إن له علينا حقه الكبير كلما أشرقت هذه الشمس وغابت بالأشعة من شاعريته. ومن أخلص لمن أحبه وقد هيل عليه التراب دفعه الحب والوفاء إلى رفع الغطاء عن ضريحه بين الحين والحين ليرى وجهه ويشعره أن يد الموت قد قصرت عنه. . .
وبعد فمن هو المتنبي؟ من يكون هذا الجبار الذي تهيبه الردى فارتد عنه؟ إنه يطربنا، فما هو هذا الذي يطربنا به؟ وهل كل ما فيه يطرب؟ وكيف رفع بناءه؟ وهل من صدوع في ذلك البناء؟ وما هي وأين هي؟ ما هي نقطة الاحتراق التي التقت فيها أشعته؟ قال بعضهم إنه أشعر الشعراء؛ ولكنني لا أذهب إلى هذا الحد، فلا محل لأفعل التفضيل. كتاب الشعر(837/4)
ودولة الشعر لا تعرف لها ملكاً واحداً؛ وإنما هي عروش وإمارات متفرقة. وصولجان الشعر أكبر وأرفع من أن تقبض عليه يد واحدة ولو كانت يد هوميروس. . .
لكل شاعر لونه وصوره ومجاله؛ والألوان والصور والمجالات كثيرة، فما هو مجال المتنبي؟
هو شاعر القوة والطموح والكبرياء، يطاعن خيلاً من فوارسها الدهر، ويقدم إقدام الأتي كأن له سوى مهجته، ويعلن أنه (إذا قال شعراً أصبح الدهر منشدا) وأن (الخيل والليل والبيداء تعرفه والسيف والرمح والبيداء والقلم) ويجري القسمة على هواه (فله النفوس وللطير اللحوم وللوحش العظام وللخيالة السلب) وليته أبقى للخيالة غير هذا الدور ولم يدخل السلب في هذه القسمة التي تخيلتها البطولة.
هو سيد الأولمب وشقيق المشتري ورب البادية والسيف والقلم. هو القوة بكل ما فيها؛ ولكنها قوة لم تتعد عالم خياله. أرته فيما أرته النبوة؛ فلما عاد من تحليقه إلى الأرض والتفت حوله لم يجد المحراب ولا المصلين. . نبي وهم وخيال؛ غير أن هذا الطموح إلى ذروة الذرى نفخ في شعره الروح التي نهتز لها؛ ولولاها لما استطاع أن يأتينا بروائعه. . . إن الكبرياء شيء لا غنى عنه للفنان الكبير، فهو يقيم على قاعدتها تماثيله الفنية. .
هو الشاعر الذي يدور في شعره حول كلمة هي (أنا)، وقد تمركزت في رأسه وتزعمت، وللرأس زعامته، فدارت حولها الصور النفسية الأخرى. ولو أن المتنبي نظر إلى العظمة دون أن ينظر إلى نفسه لكان شعره أبلغ أثراً في النفوس، فكلمة (أنا) وإن نبعت من أعماق طبيعة الإنسان لا يلتف حولها الخلق، وهي تشير إلى المتكلم، التفافهم حول العظمة العامة الشاملة. . . إن تغنيك بعظمتك شيء وتغنيك بالعظمة شيء آخر. . وقد خيل إلى البعض إن المتنبي نسي تغنيه بنفسه عندما راح ينظم القصائد لسيف الدولة وضد الدولة وابن العميد وكافور، ويرفعهم بمدائحه إلى الأوج طمعاً في المال الذي كانوا يغدقونه عليه، وتسائلوا عن عظمته وهو بين أيديهم. والحق أن المتنبي أنفق الكثير من عبقريته في هذه السوق الملكية الرابحة بدلاً من أن يقول الشعر للشعر ويقيم هياكله للفن وروحانياته. غير أن من نظر إلى البيئة التي نشأ فيها والى العقيدة العربية وسلطان الملوك في عهده وقدرهم قدر الشعراء لا يرى في مدائحه لملوكه ما يغض من عظمته التي كانت تظل مكانها لو أنه(837/5)
كف عن هجائهم يوم كانوا يقطعون عنه الصلات. . .
المتنبي شاعر الخيال قبل أن يكون شاعر العاطفة؛ فخياله أكبر من قلبه. إن بدائعه صور تصيبك بدوار الإعجاب، ولكنك لا تسمع فيها صراخ القلب ونحيبه. ولعل طموحه وتعاظمه شغلاه عن الدمع فلم يأت به غزيراً محرقاً، وعن دم القلب الجريح فلم يره إلا على شفار السيوف، وحولاه عن المرأة مع مالها من سلطان وصدر أرضع الشعراء في كل زمان ومكان فلم يقف عندها طويلاً، في حين إن أبياته فيها حين كانت تستوقفه في سيره إلى العظمة لا تنحط عن سائر ديوانه، بل هي أشد ما فيه روعة وقد فاض بها القلب. وهل أجمل من قوله:
تناهى سكون الجسن من حركاتها
وقوله:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
وقوله:
نرى عظما بالبين والصد أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
ومن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
ليت المتنبي وقف طويلاً عند هذا الوتر من قيثارته! كان لامرئ القيس عنيزة، ولطرفة هريرة، ولمجنون ليلى ليلاه، ولجميل بثينة، ولأبنأبي ربيعه الثريا، وللبحتري علوة. أما المتنبي فقد كان عالياً على الحسناء، (علوته) العلياء. . .
ولا نرى المتنبي يشرب الكأس التي نعرفها للشاعر وخمرته وانما كانت كأسه كأساً صب فيها بدل الخمرة مجداً سكر به فلم يسأل عن الخمار والخمرة ولم يقل فيها وحولها شعراً لا سراً ولا جهراً، وكم من شاعر استعان بها لتثير ما كمن في صدره وتطلقه حمماً ومعجزات. كان شاعر الخمرة التي لا كأس لها، شاعر العروش التي لم يشأ أن يجلس عليها المرأة وهي التي تقيمها. . .
ليس المتنبي مع إبداعه بالشاعر الوجداني الروحاني؛ فاعتداده بنفسه ومزاجه وبيئته، وحبه(837/6)
للمال، وبريق سيوفه وهزيم رعوده وصهيل خيوله وروعة أوتاره أقصته عن تلك الأصوات والهمسات التي تأتي من الأعماق فلم يسمعها؛ فهو يمدح ويهجو ويرثي ويصف ويفخر ويتغزل ويطلق الحكم، ولكنك لا تحس في ذلك كله تلك الخلجات والرعشات التي لا يعرفها غير الإحساس المرهف الدقيق الصارخ القاطر دماً ودمعاً، القائم بين الحيرة والاضطراب والذهول والوجد. . كان شاعر الحس والمادة لا شاعر الروح والروحانية. . وكان شاعر الحكمة التي تكاد تحتل قمة شاعريته، وكأنه شعر بذلك فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.
إن الحكم والأمثال التي أطلقها هي الدعامة الكبرى التي قامت عليها شهرته فقد تداولها الناس وحفظوها لأنها تعبر عما تنطوي عليه صدورهم، وهي حكم وأمثال معروفة دونت قبله بأجيال فلا إبداع فيها، ولكنه عرف كيف يصوغها في قالب جديد.
إن في شعر المتنبي روعة الصور التي يجيش بها الخيال الخلاق وهو اليد التي تشير إلى العبقرية. وقول القائلين أنه سرق بعض شعره قول فيه الكثير من الجور والتعسف؛ فشاعر يأتيك بقوله:
وتكاد الظبي لما عودوها ... تنتظي نفسها إلى الأعناق
وقوله:
كأنها الشمس يعي كف قابضة=شعاعها ويراه الطرف مقترباً
وقوله:
وخص تثبت الأبصار فيه=كن عليه من حدق نطاقاً لا تنسب إليه السرقة في الشعر. ويكفي أن يأتي الشاعر ببيت واحد يدل على الإبداع حتى يقال إن فيه منجماً من ذهب. .
على إن كل ما قذفت به أرحام المتنبي ليس بالرائع العجيب. فبينما تسمعه يقول:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا
إذا بك تقع على قوله:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
وقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا(837/7)
وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعراناً
إلى ما هناك من هذا الطراز.
لو كان تعاظم المتنبي سمح له بأن يضحي ببعض ما نظم لزاد عدد ملوكه وقل حجابه. . . وحبذا لو اختير الملوك في شعر المتنبي وجمعوا في قاعدة واحدة فيتجلى سلطانه على غير الوجه الذي يعرفه الناس. هذا الكتاب الذي يجمع ملوك المتنبي وجواهره دون الحجاب والأصداف تطالب به المكتبة العربية وهو روح ديوانه! وهو ديوانه الحقيقي الذي لا أرى له في غيره روقين ينطح بهما النجوم ودهراً يروي له القصائد وينشد. . .
راجي الراعي(837/8)
صور من الحياة
زلة. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا عجباً! وي كأن الحياة تأبى إلا أن تسخر منك - يا صاحبي - فتفسح لي مكاناً في زاوية دارك لأكتب قصة حياتك بين جدران حجرتك، أستلهم الوحي مما كان يدور هناك من عبث وسخف، وألتقط المعاني مما كان يشرق به المكان من حماقة وطيش.
خَّبرني، يا صاحبي، أي لذة استشعرتها في الكأس الأول عند أول رشفة تجرعتها من قدح الخمر؟ لا تدع قلبي يرثي لحماقتك وأنت ما تزال فتى في عنفوان العمر، ولا تذر النفس تساقط حسرات لجهلك وأنت موظف كبير تدر عليك الوظيفة ما يكفيك أنت وزوجك وأولادك. آه، يا صاحبي، لو ثاب عقلك فرجعت من غيك! إذن لأصبحت - كما عرفتك منذ سنوات - رجلاً طيب النفس هادئ الطبع رضي الخلق.
لقد عرفتك يا صاحبي، بعد أن تخرجت في كلية التجارة، شاباً كثير الدأب والنشاط شديد القوة مفتول العضل وسيم الطلعة جميل السمت، ولمست فيك توقد الذكاء ورجحان العقل وقوة الحجة، ثم ضربت بيني وبينك نوازع الحياة ومشاغل الوظيفة فما تلاقينا منذ سنوات.
أما أنت فقد تلقفتك الحياة لتلقي بك بين براثن الشهوة وتقذف بك بين براثن الشر. وقال لك شيطانك: لا عليك إن أنت ألقيت بدلوك في الدلاء فتكون قد تذوقت رحيق الحياة ورشفت رضاب اللذة واستمتعت بجمال السعادة.
إن الحياء الذي دفعك عن النساء هو الذي دفعك لتعب الكأس الأولى حتى الثمالة. وسرت حميا الخمر - أول الأمر - في مفاصلك فأحسست بالنشوة تتدفق في عروقك فتشيع المرح في أعصابك والطرب في قلبك. وخيل إليك أن في الخمر سحراً تتجاب له هموم النفس وتنزاح أعباء الروح، فطابت لها خواطرك وهدأت جائشتك: لا ضير علي إن أنا اختلست من عمري فترات أقضيها بين رفاق الحانة أسعد بحديثهم وهو طلي وأشاطرهم الكأس وهي لذيذة، وأنا أجد فيها شفاء من رهق الحياة ودواء من هموم العيش وجلاء من صدأ العقل. ولكن الخمر جذبتك إليها في شدة وعنف فما استطعت أن تنصرف عنها. يا لحماقتك يا من تضع قدميك عند حافة الهاوية ثم تطمع أن ترتد عنها قبل أن تبلغ القرار.(837/9)
لقد كان راتبك يربو على حاجات عيشك، ومتعة نفسك، ولذة قلبك. ولكن الخمر قد سيطرت عليك فسلبتك مالك، واستنفدت وفرك، فقنعت بالعيش الخشن، واللباس الوضيع، والحياة المضطربة، ثم شعرت بضيق ذات اليد، فتعرفت على (فلان بك)، وهو فتى في مثل سنك من أبناء الذوات، يغمره الثراء ويفهق جيبه المال، ولصقت به في غدوه ورواحه، تشاركه عبثه ولهوه، وتشاطره هزله وجده، وراقه حديثك وطرب له، فصاحبك وسكن إليك. ووجدت أنت في ماله دريئة تقيك ثمن الخمر وهو باهظ، وتزيح عنك تكاليف اللهو وهي ثقيلة، ثم انحطت همتك، وسفلت رجولتك، ففتحت له بابك، وأفسحت له مكاناً بين زوجك وأولادك ليقضي هناك لياليه في عبث ومجون وقد لعبت الخمر بعقله وهتكت عنه أستار الخجل وسلبته نعمة الحياء. ثم مرت أيام وإذا رفيقك - سعادة البك - يحس بثقلك ويضيق بشهواتك ويضن عليك بماله، ثم راح يدفعك عنه - بادئ ذي بدء - في رفق ولين، ويفر من صحبتك في لباقة وذوق. ثم ضاق بك مرة أخرى فانطوى عنك وأنت تطلبه وينفر منك وأنت تتلمسه، ثم طار عنك فما عدت تراه ولا تسعد بماله.
ونظرت حواليك فإذا سعادة البك قد ضربك بالقلى والهجران وصفعك بالاحتقار والازدراء، وإذا راتبك لا يكفيك إلا أياماً. لقد خذلك رفيق اللهو وان الذكاء ليتألق في ناظريك، وإن الحيلة لتضطرب في خيالك، وأنت موظف كبير في مصلحة الضرائب. وركبك شيطان الخمر وشيطان الحاجة معاً حين عز عليك ألا تجد ما تنفقه في ملذاتك التافهة، وألا تجد ما تسد به طلبات زوجك وأولادك، وخشيت أن تنهار حياتك في المنزل وأن تبدو على أولادك سمات الذلة والمسكنة، فانطلقت تريد أن تتلمس فرجة تنفذ منها إلى رغبات نفسك ورغبات الأسرة.
وخلوت إلى نفسك تحدثها حديث شهواتك والشيطان من ورائك يوسوس لك ويزين الشر في عينيك، ورأيت في مصلحة الضرائب فجوات يستطيع المرء أن ينفذ منها إلى المال في غير مشقة وأن يبلغ الثراء من خلالها في غير جهد، ولكنك نسيت أنها فجوات لا يسترها إلا الرياء والمداهنة، ولا يداريها إلا المكر والخداع، ونسيت أيضاً أنك إن واريت الجيفة التراب لم تستطع أن تكتم رائحتها النتنة أن تفوح فتملأ الخياشيم فتتقزز لها النفس ثم غدوت تجمع حواليك أصحاب رءوس الأموال من التجار والصناع تناقشهم في يسر(837/10)
وتخضع لهم بالقول وتتبسط معهم في الحديث حتى أنسوا إليك. لقد كان الواحد منهم - من قبل - يخشى وطأة قلمك ويرتعد لحدة ذكائك ويشفق من سلاطة لسانك ويفزع من جفوة حديثك. أما الآن فقد أنفتح الباب ولان الحاجب و. . .
وهمست الألسن بكلمات، وطارت شائعة بين موظفي مأمورية الضرائب انك - لأمر ما - نزلت عن جفوتك ونأيت عن غلظتك وجمعت كبار التجار والصناع في مكتبك تحبوهم بعطفك وتسبغ عليهم من رقتك وظرفك.
وجاءك - ذات مرة - تاجر أجنبي من كبار التجار يساومك لترفع عن ظهره الرقيق سوط المصلحة وهو جاف غليظ ويوحي إليك أنه يريد أن يدفع ثمن رأيك وجاهك، فوعدته. . . وجلس التاجر أمامك في صمت وأمل ليرى ما عساه أن يكون. وأمرت أنت فجاءك موظف شاب سمهري القوام مرفوع الرأس علامة الكبرياء، ثابت الخطوة علامة الثقة بالنفس، تتأجج في عينيه نار الذكاء وتبدو على قسمات وجهه علامات الفطنة وتتوثب حركاته نشاطاً وحياة وهو - إلى ذلك - جميل الطلعة طلق المحيا أنيق اللباس من أثر النعمة والثراء. . .
جاء الموظف الشاب يتأبط أوراقاً وفي رأيه انك تسهلت بعد صعوبة، ولنت بعد صلابة، وأسلست بعد شماس، ونظر فرأى التاجر إلى جانبك فبدا له ما تكن نفسك، وآذاه أن تحدثه في شأن من شئون العمل وهذا التاجر الأجنبي يسمع ويرى، ولكنه صبر على مضض وسكن على غيظ، وبدأت أنت تحدث الموظف الشاب بقولك: (ماذا فعلت - يا بني - بهذا الملف) فقال في هدوء: (يا سيدي، لقد انتهيت من فحصه وربطت عليه الضرائب، والأمر الآن في سبيل التنفيذ). فقلت أنت: (ولكني أريد أن تجيل بصرك ورأيك فيه مرة أخرى، لأن التاجر يشكو عنت المصلحة وغلوها فأجابك (لا سبيل إلى ذلك، فالعمل من ورائي يستحثني وقد خلصت من هذا الأمر منذ زمان) فقلت له في غلظة (ولكنني آمرك) فنظر إليك الموظف الشاب في احتقار ونفضك في مهانة ثم قال لك (تأمرني، نعم، لأنك رئيسي، ولكنني لن أطيع أمرك) فنهرته في شدة قائلاً (ماذا؟ ماذا تقول؟ كيف؟ إنني آمرك ولابد أن تطيع) فألقى الموظف الشاب أوراقه على مكتبك وخرج من لدنك وهو يقول (هذا هو الملف خذه، افعل به ما تشاء. أما أنا فسأعرض الأمر على سعادة المدير العام!) وسقط في(837/11)
يدك، يا صاحبي، حين ألقى الموظف الشاب عليك درساً عنيفاً قاسياً لن تنساه أبداً، لأنه أمتهنك أمام التاجر الأجنبي ولأنه سخر من أمرك وعبث برغبتك، فما فاستطعت أن تفعل شيئاً.
الآن برح الخفاء واستحالت الهمسات إلى كلام يسمع، تتناقله الألسن في نواحي المصلحة ويتشدق به صغار الموظفين، فما لبث أن بلغ مسمعي المدير العام. وذعر المدير للخبر وعجب أن يرتدغ في هذه الحمأة موظف في المصلحة ذو رأي ومكانة. وتحدث إليك بالأمر فما استطعت أن تنكر وأمامك الموظف الشاب يرمقك بنظرات يتطاير الشرر من خلالها. وترفق بك المدير فأرغمك على أن تترك المصلحة كلها في أقرب وقت.
ولفظتك المصلحة لتلقي بك في زاوية من وزارة المالية وان رائحة النتن لتفوح من بين مخا زيك، وأصبحت مفتشاً بالمالية. والمفتش في رأي الحكومة موظف واهي الهمة أو وضيع الكرامة لا يستطيع أن ينهض بعمل ولكنه يعتاص عليها أن تقذف به إلى الشارع لأن القانون يحميه، وهو - دائماً - يكتب التقارير لتلقى في سلة المهملات.
والآن، يا صاحبي، لقد انثلمت كرامتك ولوثت الأقذار ذكرك من اثر الإدمان على الخمر، ولكنك ما تزال تأنس إلى الشراب وتطمأن إلى الكأس، فعمى بصرك عن حاجات البيت فهذه زوجك تضيق بك لأنك تنفق جل مالك في التافه الوضيع وتغضي عن رغبات نفسها، ولأنك - دائماً - محطم الأعصاب ثائر النفس كثير الشغب في المنزل وفي الديوان وفي الشارع. وإن أولادك ليفتقدون عطفك أحوج ما يكونون اليه، ويفتقدون مالك حين يحسون الضياع والشقوة وإن شهواتهم لتدفعهم إلى اللباس الأنيق والطعام الشهي والى الحلوى واللعب فلا يجدون شيئاً منها، ويفتقدون عقلك حين تترنح في فناء الدار من أثر الخمر، ويفتقدون الهدوء حين يعج المنزل برفاق السوء.
فهل تستشعر - يا صاحبي - اللذة في الكأس أو تلمس السعادة في الشراب؟ إن قلبي يرثي لحماقتك وإن نفسي تساقط حسرات لجهلك، لأنني عرفتك يوم أن كنت فتى متوقد الذكاء راجح العقل قوي الحجة تفور شباباً وقوة وجمالاً. . .
كامل محمود حبيب(837/12)
خليل مطران
1871 - 1949
فجع العالم العربي بأفول نجم لامع في سماء الشعر والبيان، شغل الناس أكثر من نصف قرن بشعره الطريف الجديد. ولد خليل مطران سنة 1871 في بعلبك ونشأ تحت سماء سورية بين أوديتها الخضراء وجبالها البيضاء وبحرها الصافي وأمواجه المتدفقة وصخوره الناتئة، فكان لذلك كله الأثر البين في صقل خياله وتغذية روحه ووجدانه بالعواطف النبيلة والجمال العبقري. ثم قدم مصر سنة 1892 وهو ما يزال في فورة الشباب فشب وترعرع بين آثار المدينة القديمة وأهرام مصر الخالدة، فهو شاعر بعلبك والأهرام، تغنى بوطنيه في قصائده الرائعة. وهو إذ يذكر بعلبك وآثارها، إنما يذكر أيام الطفولة المرحة والحياة الطروبة، ويحن إلى وطنه الأول ومسقط رأسه. استمع إليه في قصيدة (بعلبك) يصف آثارها وقلعتها ويتذكر طفولته:
إيه آثار بعلبك سلام ... بعد طول النوى وبعد المزار!
ذكريني طفولتي وأعيدي ... رسم عهد عن أعيني متواري
يوم أمشي على الطلول السواجي ... لا افترار فيهن إلا افتراري
نزقا ًبينهن غراًلعوباً ... لاهياً عن تبصر واعتبار. . .
إلى آخر هذه الأبيات الوجدانية الرقيقة.
وهو إذ يتغنى بمصر وطنه الثاني، إنما يتغنى بمجدها التليد وأهرامها المجيدة ونيلها السعيد وسمائها الصافية ويثني عليها وعلى كرم ضيافتها ونبل أخلاق شعبها العريق. استمع إليه يقول:
يا مصر أنت الأهل والوطن ... وحمى على الأرواح مؤتمن
أي الديار كمصر ما برحت ... روضاً بها يتقيد الظعن
فيها الصفاء وما به كدر ... فيها السماء وما بها غضن
مصر التي أخلاق أمتها ... زهر سقاه العارض الهتن
فهي التي عرفت مروءتها ... أمم ويعرف مجدها الزمن
ويقول من قصيدة (تحية الشام لمصر):(837/13)
فحباً أيها الوطنان إني ... وسيط العقد في هذا النظام
بلادي لا يزال هواك مني ... كما كان الهوى قبل الفطام
قدم خليل مطران مصر وعرف صاحب الأهرام واشتغل مدة في تحريرها، ثم أصدر جريدة الجوائب، وأنشأ أيضاً المجلة المصرية، واشترك في تحرير المؤيد واللواء، وناصر المرحوم مصطفى كامل في جهاده المجيد، وأتقن دراسة الأدب العربي قديمه وحديثه، كما أتقن الأدب الفرنسي مما أثر في نزعته الثورية ألي التجديد في الشعر إلى أبعد حدود التأثير. ولم تشغله صناعة الأدب، عن أعمال ليس لها صلة بالأدب، وهو في أثناء ذلك كله لم ينقطع عن نظم الشعر والتأليف المسرحي وترجمة المسرحيات. وقد تولى إدارة الفرقة القومية زهاء سبع سنوات.
ولا يهمنا في دراسة خليل مطران تلك الدراسة العاجلة إلا الناحية الشعرية منه وان كانت آثاره جميعا جديرة بالدراسة العميقة. خليل مطران صاحب مدرسة حديثة في الشعر العربي، فهو أول شاعر ثار على أساليب المدرسة التقليدية، وجاهر بمذهبه الجديد في الشعر ورأى أنه المذهب الذي سيسود في شعر المستقبل حينما أصدر ديوانه الأول؛ لأنهذا الشعر كما قال (شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا).
نهج خليل مطران نهجاً جديداً في نظم لشعر ونادى بمذهبه حيث قال (اللغة غير التصور والرأي، وان خطة العرب في الشعر لا يجب حتماً أن تكون خطتنا، بل للعرب عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم ولنا آدابنا وأخلاقنا وحاجاتنا وعلومنا؛ ولهذا وجب أن يكون شعرنا ممثلا لتصورنا وشعورنا لا لتصورهم وشعورهم، وان كان مفرغاً في قوالبهم محتذياً مذاهبهم اللفظية). بهذا الرأي الجريء الغريب نادى خليل مطران ودعا إليه؛ بينما كان شعراء مصر في ذلك الحين يتورطون في شعر المديح والتهاني يرفعونه إلى السدة العلية والأعتاب السنية.
ومن هنا كان شعر مطران ومذهبه في النظم نقطة تحول في تاريخ الشعر العربي وانقلابا بعيد المدى، فهو بحق شاعر العربية الإبداعي، يمر شعره على أوتار القلوب فيحركها ويهز الوجدان ويثير العواطف.
(فمطران أول من عمل على إخراج الشعر العربي من نطاق الذاتية والفردية إلى باحة(837/14)
الموضوعية وميدان الحياة. وهو أول رائد خرج على الطريق الاتباعية الكلاسيكية إلى الطريقة الإبتداعية الرومانتيكية وأن ساير الاتباعية غالبا في الأسلوب. وهو أول من أثر في شعراء الشرق سواء باتجاهاته أو شاعريته). ولعل السبب في ثورة مطران على الطريقة التقليدية في نظم الشعر هو إن هذه الطريقة وذلك اللون من الشعر التقليدي اصبح لا يعبر عن العواطف تعبيراً صادقاً ولا عما يعتلج في النفس من أحاسيس، وزاده إيماناً بذلك ثقافته الأجنبية ولاسيما في الآداب الفرنسية وهي أغنى الآداب الأوربية بالشعر العاطفي الوجداني ذي النزعة الإبداعية. لذلك لم يكن غريبا أن ينبذ مطران المدرسة القديمة العتيدة ولها أنصار كثيرون في مصر، ويأخذ بالمدرسة الحديثة قي نظم الشعر. ونلاحظ هنا أن كثيراً من الشعراء الذين أخذوا بهذه المدرسة الحديثة ونهجوا نهج مطران في الشعر بالغوا إلى أبعد حدود المبالغة وأصبح الواحد منهم على حد قول محب الدين الخطيب: (يظل يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستل منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضاً!! فلا يفهم منها القارئ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني!!) أما خليل مطران فهو وإن تأثر بالآداب الإفرنجية لا يزال عربيا خالصا في أسلوبه وتعبيره وصيغه، ومحل ما أدخله على الطريقة التقليدية في الشعر العربي هو التجديد الطريف في المعاني والأخيلة والموضوع. وقد ذكرنا أن مطراناً نفسه قال: (. . . وجب أن يكون شعرنا ممثلا لتصورنا وشعورنا وان كان مفرغا في قوالبهم (أي قوالب العرب) محتذيا مذاهبهم اللفظية).
فمطران إذن عرف كيف يستفيد من اللغات الأجنبية دون تقليد، وأن ينهج نهج قدماء العرب دون تقييد، فاحتفظ بصيغة العرب في التعبير، وأدخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير.
ومن هنا نجد الفرق الشاسع بين هؤلاء الشعراء الذين يدعون (التجديد) وبين إمام المجددين خليل مطران.
وقد أدخل مطران على الشعر العربي لوناً طريفاً من ألوان التجديد وهو الشعر القصصي. وقد ثار البحث بين الأدباء عما إذا كان للعرب شعر قصصي أم لا. وأخذوا يتلمسون ذلك اللون في الشعر العربي القديم؛ ولكنا نستطيع أن نجزم أنه قبل مطران لم يكن للشعر(837/15)
القصصي مكان في العربية. فمطران أول شاعر نظم شعراً قصصياً بالمعنى المعروف. ولا شك أن هذه النزعة في شعر مطران تساير نزعته الإبداعية في سائر فنون الشعر التي نظم فيها. ولعل من روائع هذه القصص الشعرية قصيدة (الجنين الشهيد) التي لا مثيل لها في الشعر العربي، وقصيدته (فتاة الجبل الأسود) و (العصفور) و (فنجان قهوة) و (نيرون) التي تعد من عيون الشعر القصصي.
ومطران واقعي في قصصه الشعري لا يحلق به الخيال في آفاق مفقودة بيننا في الحياة العادية، ولكنه يستلهم الحوادث المألوفة لنا في الحياة الواقعية ويفرغها في قالب قصصي رائع بديع.
وقصصه الشعرية تستأهل دراسة مستفيضة منفصلة عن باقي شعره؛ ذلك بأن القصص هو العنصر الفذ الذي قامت عليه شاعرية مطران.
ولخليل مطران (تجارب شعرية) رائعة أمتاز بها على المعاصرين من شعراء العصر الحديث، نذكر من هذه التجارب الشعرية قصيدته الرائعة (المساء) وقصيدته (الحمامتان) وقصيدته (الشمس والنبتة) وقصيدته (بدري وبدر السماء) التي خلع فيها على أحداث الطبيعة سمات البشرية.
ويلاحظ في شعر مطران ظاهرة واضحة هي أنه لا يعنى بالبيت منفرداً كما هي عادة العرب حيث (ينفرد كل بيت من القصيدة بإفادته في تركيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وعما بعده) وإنما يعني مطران بالوحدة الفنية في القصيد كله، ولذلك نشعر بانسجام تام وتسلسل بديع إذا قرأنا له قصيدة من قصائده الوجدانية جملة واحدة بينما يفسد ذلك تجزئة القصيدة كما تنال من الوحدة الفنية فيه.
أما عن الخيال عند مطران فإن نشأته بين الخضرة والماء والصخور في ربوع الشام وجبل لبنان، ثم في ربوع الوادي وربى الأهرام، فتق خياله عن معان عبقرية رائعة. استمع إليه من قصيدة يستقبل بها الشام:
هذي رؤس القمم الشماء ... نواهضاً بالقبة الزرقاء
نواصع العمائم البيضاء ... روائع المناطق الخضراء
يا حسن هذي الرملة الوعساء ... وهذه الأودية الغناء(837/16)
وهذه المنازل الحمراء ... راقية معارج العلاء
وهذه الخطوط في البيداء ... كأنها أسرة العذراء
وذلك التدبيج في الصحراء ... من كل رسم باهر للرائي
مشوش النظام في جلاء ... منتسق بالحسن والرواء
وهذه المياه في الصفاء ... آناً وفي الازباد والإرغاء
تنساب في الروض على التواء ... خفية ظاهرة اللألاء
وهذه القصيدة كما يقول الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم في بحثه القيم عن مطران (تلمس فيها طبيعة الشام وتستحضر في ذهنك صورة محسوسة بين يديك عنها). وكما يقول المنفلوطي الكاتب الوجداني (يكاد يلمسك خياله ويسمعك رنين أوتار قلبه) وذلك لأن نفس الشاعر كالمرآة الحساسة ينطبع عليها كل ما يمر بها ولذلك كان الخليل شاعر الشعور والخيال.
ومن روائع شعره قوله في قصيدته الخالدة (المساء):
يا للغروب وما به من عبرة ... للمستهام وعبرة للرائي
أو ليس نزعاً للنهار وصرعة ... للشمس بين جنازة الأضواء
والشمس في شفق يسيل نضاره ... فوق العقيق على ذرى سوداء
مرت خلال غمامتين تحدرا ... وتعطرت كالدمعة الحمراء!
وهذا من رائع الوصف ورائق الشعر العربي:
ومجمل القول في مطران أنه أول شاعر إبداعي عرفته العربية. وقد أثر إلى أبعد حدود التأثير في الشعر العربي بمدرسته الحديثة التي أخلص لها وغذاها بروائع شعره الإبداعي والقصصي فالتف حوله جمهور من شباب الشعراء والأمل معقود عليهم في أن يحملوا مشعل الإبداعية في مصر بعد أن رفعته يد مطران نصف قرن تقريباً.
رابح لطفي جمعة
مراجع البحث:
بحث الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم عن (خليل مطران شاعر الإبداعية) في المقتطف(837/17)
سنة1939.
شعراء مصر للأستاذ عباس محمود العقاد.
كتاب (نقد الشعر المعاصر) للأستاذ مصطفى السحرتي.
كتاب (رواد الشعر الحديث) للأستاذ مختار الوكيل
مقال للأستاذ سلامة موسى عن خليل مطران في مجلة الهلال.
مجلة الزهور.
ديوان الخليل.
كتاب (شوقي) للأمير شكيب أرسلان.(837/18)
مصطفى كمال الزعيم التركي
بقلم الكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 2 -
كان مصطفى كمال يتمتع بعد الحرب العظمى بشهرة عامة في بلاده باعتباره بطلاً من أبطال الجندية التركية الذين أبلوا بلاء حسناً في معارك الدردنيل، وقد أعتقد الباب العالي إبان هذه الحوادث أن في بقائه باستنبول خطراً على الحالة السياسية الداخلية، ولذلك أسندت إليه وظيفة عسكرية لإقصائه إلى داخلية الأناضول، وكانت رغبتهم في التخلص منه كبيرة لدرجة أعمتهم عن تقدير ما في عملهم هذا من أن المبعد سيكون أشد خطراً في آسيا منه في العاصمة. وقد علم مصطفى كمال بخبر احتلال أزمير وهو في سمسون فكان وقعه شديداً عليه، ولذلك جمع أهالي هذه المدينة وألقى عليهم خطاباً حماسياً من أشد الخطب التي ألقاها في حياته، فأسرع الضابط البريطاني الذي كان مكلفاً من قبل القيادة العامة بمراقبة أحوال وسير الولاية في إرسال برقية إلى استنبول يطلب فيها استدعاء هذا الضابط المهيج للخواطر.
وهنا قررنا بناء على إلحاح المندوب السامي البريطاني التدخل بطلب استدعائه فقبل الباب العالي ذلك، ولكنه لاعتياده الأساليب البيزنطية لم يستدعه نهائياً، وإنما طلبه لأخذ آرائه واستفتائه في مجرى الأحوال العامة، وقد بادر أصدقائه المقيمون باستنبول إلى تحذيره من هذه الدعوة، فقرر عدم إجابتها وتنصل منها بسفره فجأة إلى أرضروم محتجاً بأن الاستدعاء الرسمي وصل متأخراً بعد قيامه.
لقد كن من الممكن إنقاذ الحالة بعمل سياسي قاطع، وكنت الوحيد بين المندوبين السياسيين الذي أبلغ حكومته وأبلغ مجلس الأربعة بباريس أن الحالة تستدعي قراراً حاسماً بعرض صلح عادل يسلم ببعض مطالب تركيا مع المحافظة على المزايا والمصالح الأجنبية التي يجب التمسك بها في أراضيها. أما حكومة الباب العالي، فقد بدأت تتردد في قراراتها وتبدو عليها مظاهر الضعف التي هي عوارض كل نظام انتهى دوره.(837/19)
وبعد مضي أسبوعين على احتلال أزمير طلب مني الصدر الأعظم مقابلة خاصة سرية، فقابلته في مصيف السفارة الإيطالية بطرابيا على البوسفور، حيث أسمعني حديثاً منمقاً بالجمل التي كالها في مدح إيطاليا وما تتمتع به من المحبة في القلوب، ثم شكى إلي بشدة من وقع القرار الذي أصدره مؤتمر الصلح بالتصريح لدولة كانت في القريب تحت حكم الترك لتحتل جزءاً من وطنهم ولتستعبد وتدوس حقوق أحفاد أولئك الذين كانوا سادة لأجداد رعايا هذه الدولة. ثم قال: - ألا يفهم رجال باريس أن هذه هي الطريقة الوحيدة لأحياء روح الكراهية، وأنه إذا قامت يوماً ما مذابح من جراء اتباعكم هذه السياسة سيكون أول عمل لكم اتهمانا بها كما حدث في المائة السنة الماضية من إلصاق تهم المذابح دائماً بالترك أني أرى من واجبي تنبيهكم إلى ذلك، وتحميلكم من الآن مسؤولية ما يحدث في المستقبل.
ثم التفت إلى كمن يريد أن يبوح بسر خاص قائلاً:
- من المسلم به أنه لن يكون هناك موضع لهذه المخاوف لو كانت تقدمت دولة عظمى من الدول المحبوبة للترك وأخذت على احتلال أزمير وولايتها.
- قال ذلك منتظراً إجابة مني لم يظفر بها مدة العشر دقائق التي دامت فيها محادثتنا، والتي توقعت في خلالها ما يريد أن يقول، وأخيراً ألقى كلمته قائلاً:
لماذا لا تطلب إيطاليا عمل استفتاء بين أهالي ولاية أزمير الذين يفضلون بالإجماع أن يروا إيطاليا تحتل بلادهم بدل اليونان؟
كان فريد في ذلك مقلداً للسياسة القديمة التي أتبعها وأتقنها عبد الحميد، واستعملها لمدة ثلاثين عاماً ضد أوربا يحرك الغيرة بين دولها، ويشجع أطماعها، ويزيد في شقة اختلافها، حتى يضمن بقاء استقلال بلاده. ولكن هذه السياسة كانت علاجاً مسكناً نجح في وقته؛ أما الآن فقد انتهى ذلك العهد، ومن جهتي لم أكن واثقاً من نجاح مشروع كهذا بفرض التسليم بإمكان وقوعه، ولا واثقاً من فوائده لإيطاليا، لأن مصلحتها هي في اعتبار كل تركيا سوقاً لمصنوعاتها. أما أزمير وولايتها، فلا تصلح لنا كبلاد لتشجيع هجرة الإيطاليين إليها، لأن أهاليها أكثر انتشاراً وتناسلاً من الإيطاليين أنفسهم، ثم احتلالها مع كثرة ما سيتطلبه من التكاليف سيكون عقبة في سبيل التوسع السلمي التجاري، ذلك التوسع الذي كنت أعلق على تنفيذه أهمية خاصة.(837/20)
أما الاعتراف لنا بالجميل، فكان من الظاهر أنه ينتهي بعد مضي شهر من رحيل اليونان، بل وينقلب إلى كراهية إذا أقمنا هناك.
كانت تجول بمخيلتي هذه الأفكار وقت حديثي مع الداماد، ولم أشأ أن أبوح له بشيء منها، ولكنه أخذ صمتي كأنه تحوط دبلومتي وخرج من عندي مقتنعاً بأنه وجه طعنة قوية إلى صلب الاتفاق السياسي القائم بين الحلفاء.
ولكن الأخبار تتسرب بسرعة غريبة في الشرق، حتى ما يقال في السر بين رجلين تتناقله الآذان، ويذاع بين الناس كأنه قد ألقي من على منابر المجالس النيابية في أوربا. وبالفعل انتقلت فكرة الداماد إلى آذان مصطفى كمال وأعوانه، لأن أحد رجاله حضر إلى وخاطبني باحترام قائلاً: إن أصدقاءه - ويريد بذلك مصطفى كمال - يؤملون مني ألا أشجع من جهتي مشروع الباب العالي، لأن تركيا الحديثة ترى من واجبها أن تحارب إيطاليا بنفس الشدة التي تحارب بها اليونان إذا طمعت في شطر من أراضيها.
ولم يكن في وسعي إلا أن اعجب - في داخل نفسي - من صراحة هذا القول، وارى فيه فتحاً جديداً في السياسة الشرقية لم نكن نحن في أوربا نعتاد سماعه.
وبمضي الزمن انتهى كل من زميلي الأميرال كالثروب والأميرال أميت، رغم الروح الحربية المتغلبة عليهما، والتي اعتبرها طبيعية واحترمها في الوقت نفسه، إلى التسليم بأني لم أكن بعيداً عن الصواب في إبداء رأيي بخصوص التعجيل بالصلح. ولكن الوصول بهما إلى الدفاع عن هذا الرأي أو زعزعة الفكرة السائدة لديهما كان صعباً على عقلي رجلين خرجا من الحرب وكانا لا يزالان واقعين تحت تأثير ثورة القتال. ولكم من مرة طرق بالهما أنني رغم ضعف مركزي باعتباري رجلاً ملكياً (غير جندي) لم أتأخر عن تبليغ ما أعتقد أنه حقيقة ملموسة إلى علم حكومتي.
ولكن ما فائدة أي نصيحة يبديها الآن المندوب السامي البريطاني لحكومته إذا كان تأثيرها يضيع بجانب تقارير ضباط قلم الاستخبارات الذين كثر عددهم وكثرت بالتالي تقاريرهم إلى لندرة. وأصبح أسلوبهم بعيداً عن التقاليد البريطانية الأولى المعروفة بنزعتها إلى التسامح وطول الأناة، فكثرت أغلاطهم في جو العاصمة التركية الذي أستوعب في السابق دهاء الدبلوماتية الغربية وصبر رجالها. لقد جاء أسلوبهم هذا ليعمل على ضياع الهيبة التي(837/21)
كان الدبلوماتيون الغربيون يتمتعون بها في نفوس الشرقيين، إذ من الخطأ البين الاعتقاد بأن اليد القوية واستعمال العنف هي السياسة المنتجة في الشرق.
وقد كان يصعب على مثلي - الذي بدأ حياته السياسية في القاهرة، وقدر عمل أمثال كرومر وونجت، وأعجب بالتقاليد البريطانية في تسامحها وتمسكها بالحرية والعدالة - أن يسمع وهو متأثر صديقي طلعت باشا يقول بلهجته التهكمية، والابتسامة على شفتيه عن بريطانيا:
- هي ألمانيا فقط تنقصها الدقة والضبط الألمانيين.
مثال ذلك حوادث بوليس الحلفاء باستنبول، وبعضها جدير بالتدوين، لأنه في صباح أحد الأيام أخبرنا أننا قد نجونا من مؤامرة خطيرة كانت تدبر في الخفاء ضد الحلفاء، ولم نصدق نحن
- لأول وهلة - هذه الأخبار. ولكن الجنرال البريطاني قرر العمل بسرعة بمجرد علمه بخبرها، وقدم كشفاً إلى السلطات التركية يحتوي على أسماء المتآمرين وطلب القبض عليهم. وكان في الكشف ثمانية وعشرين اسماً بينهم أحد عشر شخصاً منهم يشتغلون بالسياسة ويقيمون فعلاً بأنقرة، أي بعيدون عن متناول السلطات، والباقي سبعة عشر اسماً لأشخاص غير معروفين يصعب العثور عليهم، إذ يتعذر بطبيعة الحال القبض على مثل علي أو أحمد في مدينة كبيرة مترامية الأطراف مثل استنبول.
والأغرب إن السلطات التركية لم يبد عليها أي انزعاج، بل قدمت تهانئها للجنرال، لأن رجاله تمكنوا من اكتشاف هذه المؤامرة الخطيرة، وفعلاً وعدوا بتسليم المتآمرين ونفذوا ذلك بالقبض على عدد من يدعون علي وأحمد جمعوهم من أحياء غلطة واستنبول ممن لا شأن لهم واعدموهم شنقاً. فاكتفى الجنرال بذلك وأعلن رضاءه وسحب تهديداته. . .
وقد علمت في ما بعد أن هذه المؤامرة الموهومة وضع شباكها بعض الترك وأدخلوها على رجال قلم الاستخبارات للانتقام من بعض مواطنيهم، وكان كل ذلك مدعاة للتسلية والتهكم إذا استثنينا حادث شنق الأفراد الذين ذهبوا ضحية هذا التلفيق وهم أبرياء.
إن الأخطاء التي ترتكب في سياسة أي دولة تضطر هذه الدولة أن تدفع ثمنها في الغالب غالياً. وكذلك كان الحال مع دول الحلفاء في تركيا، لأن الزعيم التركي وأنصاره لم يجدوا(837/22)
بداً بعد كل هذه الحوادث من المجاهرة بعدائهم ضد الإنجليز والفرنسيين واستثنوا الإيطاليين فقط من ذلك. فما كان من الإنجليز إلا أن ازدادوا تمسكاً برأيهم وأرادوا أن يؤثروا في الترك باتخاذ هذه الطرق الشديدة.
أما الزعيم التركي، فقد باشر بحرب عصابات مسلحة تحميها قوات من الجيش المنظم الذي بدأ ينظمه في الداخل بإرادة تشهد بعبقريته المنظمة.
وبقدر ما كانت تزيد قواته المنظمة بقدر ما اتجه الناس إليه، حتىأن موظفي حكومة الباب العالي لم يعودوا يخفوا إعجابهم به وشعورهم نحوه.
وهكذا فهم الترك أن الزمان حليفهم، وأن حل المسائل المعلقة بأيديهم.
بقيت أمامنا بعد هذه الحوادث مسألة واحدة موضعاً للتساؤل، وهي ماذا ينوي الحلفاء عمله بعد أن صدقوا في المؤتمر الذي عقد في سان ريمو في أبريل سنة1921 على الشروط القاسية التي وضعت في لندرة؟
لقد وقف اللورد كيرزون عند افتتاح جلسات المؤتمر يقول:
(انه قد بولغ كثيراً في تقدير القوة التي لدى الكماليين، وليس مصطفى كمال بالعامل المهم الآن كما يحاول إظهاره بعض السياسيين) وكنت طبعاً المقصود بهذه الإشارة، لأنني داومت من روما حيث كنت أقيم في ذلك الوقت على إسداء النصيحة بعرض صلح مقبول على تركيا.
وبعد انفضاض مؤتمر سان ريمو الذي انتصرت فيه السياسة الإنجليزية على فرنسا وإيطاليا تابع لويد جورج التمسك بخطته التي سار عليها، وجاهر بثقته بها في خطبة رنانة ألقاها بلندرة في شهر يونية حيث قال: إن اليونان هي الدولة الوحيدة القادرة على تأخذ مكان الحكومة التركية في آسيا الصغرى.
وفي اجتماع هيث حيث التقى لويد جورج بميليران عرض فنزيلوس على انجلترة فكرة تعاون حكومته باستعمال الجيش اليوناني في تأديب الكماليين، وكان اقتراحه يرمي إلى توجيه قوات مشكلة من90000 جندي يوناني مزودون بأحدث الأسلحة للقيام بحركة سريعة إلى وسط الأناضول لقطع كل اتصال بين الكماليين والساحل تلجئ الأخيرين إلى التقهقر إلى الداخل، حيث يكون مصير قواتهم الانحلال والتشتت.(837/23)
وكان ميليران على علم بما في هذا الاقتراح الإنجليزي اليوناني من المجازفة والأخطار، ولكنه فضل التسليم به رغبة منه في استبقاء مودة لويد جورج، وهو في حاجة إليه لتعقد الحالة على نهر الرين.
أضف إلى هذا أن نشاط الترك كان كبيراً في هذا الوقت على حدود سوريا، حيث سببوا لفرنسا مشاكل لا يستهان بها.
ولكن الوزيرين كانا في حاجة إلى موافقة إيطاليا حتى تأخذ هذه التصميمات صبغتها الدولية؛ فعقدا مجلساً لهذا الشأن بعد عدة أيام من هذا التفاهم اختاروا له مدينة بولونيا وحضرته نائباً عن إيطاليا بصفتي وزيراً للخارجية، وما أن عرضت فكرة حملة الأناضول حتى بينت لهما بشكل قاطع أوجه الخطأ في تنفيذ هذه الخطة التي لن يتحقق بها تشتيت القوات التركية، بل تؤدي حتماً إلى إذكاء الروح الحربية وتقوية عوامل القتال والوطنية لدى الأتراك وفي مدينة أسبا حيث عقد مؤتمر آخر كنت أشد تمسكاً بهذا الرأي، ولكن المؤتمر قرر قبول اقتراح فنزيلوس لسوء حظ الشعب اليوناني.
أحمد رمزي
(البقية في العدد القادم)(837/24)
مالتوس
ومشكلة السكان في مصر
للأستاذ محمد محمد علي
يعتبر مالثوس أشهر من كتب في مسألة السكان، إذ أثار الرأي العام في بلاده وفي البلاد الأخرى، كما نبه إلى ضرورة دراسة السكان، فهي أساس المشكلات الاجتماعية.
وقد ألقى مالتوس ضوءاً جديداً على مسألة السكان وقد أثار هذا جدلاً واختلافاً في الرأي. ولعل ما يعنينا في مصر هو معرفة الحد الذي تتحقق عنده آراء مالتوس في مشكلة السكان في مصر. وللوصول إلى ذلك يجمل بنا أن نعرض آراء مالثوس ونظريته في السكان، ثم نلخص النقط الأساسية في مشكلة السكان في مصر.
هنالك دوافع ثلاثة حفزت مالتوس إلى وضع كتابه المشهور: هي حياته وثقافته، والعصر الذي عاش فيه، ثم آراء معاصريه. فقد كان أبوه صديقاً لجان جاك رو سو، ونشأ في بيت تسوده المحافظة على التقاليد، لذلك كان لا يعتقد في إمكان إصلاح المجتمع عن طريق الثورة. وفي كمبردج جعلته حياته الدينية يؤمن بملازمة الألم للإنسان بسبب وجود الغريزة الجنسية وغريزة البحث عن الطعام.
وكان للعصر الذي عاش فيه أكبر الأثر في تكوين آرائه، ووضع نظريته؛ إذ كانت أوربا - في أواخر القرن الثامن عشر - في حالة سيئة نتيجة الثورة الفرنسية، وإنجلترا كانت تسودها أزمة اقتصادية واجتماعية، فقد ساء المحصول الاقتصادي في الريف. وكانت الصناعة تتقدم تدريجياً وزاد السكان تبعاً لذلك، وحالت الضرائب ورسوم الجمارك دون ازدياد موارد الغذاء. كما نتج عن الاختراعات لتحسين الآلات الاستغناء عن الكثير من العمال فانتشرت البطالة وعم البؤس مما أثقل كاهل الفقراء.
وكان من نتيجة كل ذلك ظهور آراء فوضوية بغية الإصلاح. وكان من زعماء الحركة الاشتراكية حينئذ: جودرين الذي كتب بحثاً في العدالة الاجتماعية، وكان يعتقد في طبيعة الخير التي تنطوي عليها البشرية؛ وكندرسيه وكان يرى إن الإنسانية تسير نحو الكمال في عشر مراحل وإنها كادت تبلغ ذروة الكمال في عهده.
إذن فالظروف التي سادت في عصره أوحت إليه بالتشاؤم فأراد أن يحذر مواطنيه من سوء(837/25)
العواقب. ثم إن آراء معاصريه لم ترقه فأراد أن يرد عليهم. لذلك وضع مالتوس كتابه وظهرت الطبعة الأولى منه 1798 بعنوان طويل اختصره في الطبعة الثانية عام 1803 ويبحث الكتاب في أربعة موضوعات:
العقبات التي تعترض زيادة السكان في الأزمنة الغابرة. ثم العقبات التي تعترض زيادتهم في الأمم الحديثة. ثم دراسة النظم المقترحة لعلاج أضرار زيادة السكان، وأخيراً عرض لآرائه ومقترحاته.
وتتلخص نظريته في السكان في نقط ثلاث:
1 - إن عدد السكان يحدد بالغذاء، فهناك علاقة بين عدد السكان وكمية القوت.
2 - يزيد عدد السكان كلما زادت كمية القوت إلا إذا وجدت عقبات قوية.
3 - هذه العقبات التي تجعل ازدياد السكان متناسباً مع الغذاء هي البؤس، أي المجاعة والحرب والأوبئة، والرذيلة أي الخيانة الزوجية والعلاقات الجنسية الفوضوية؛ والضابط الأخلاقي أي تأخير الزواج مع حياة العفة. وهذا العامل الثالث أضافه في الطبعة الثانية بعد إذ أتهمه الناس بالكفر لظنهم أنه إنما ينسب البؤس والرذيلة إلى قوة إلهية.
فمالتوس يرى أن المجتمع الإنساني كالكائن الحي في حاجة دائمة إلى الغذاء. وان من العبث معالجة الفقر بالتوزيع العادل للثروة. وينسب الفقر في المجتمع إلى اختلال التوازن بين عدد السكان وموارد الغذاء، على أن السكان يزيدون على حسب متتالية هندسية والغذاء طبقاً لمتتالية حسابية. لذلك يتضاعف عدد السكان كل ربع قرن: ما لم تكن هناك ضوابط إيجابية أو مانعة. ولم يناد مالتوس بضبط النسل بل نادى بالضابط الأخلاقي.
هذا عرض عام لآراء مالتوس والظروف التي أحاطت به حين تأليف كتابه. أما عن مشكلة السكان في مصر، فقد تحدثت عنها بإيجاز في مقال سابق. وأساسها ازدياد عدد السكان زيادة لا تتناسب مع زيادة الموارد الغذائية، وسوء توزيع الثروة، وإحجام أصحاب الأموال والشباب عن خوض غمار الصناعة واستغلال الثروة المعدنية. والآن يمكن أن نتبين مدى تحقق آراء مالتوس في مسالة السكان في مصر:
لم يتضاعف عدد السكان في ربع قرن بل تضاعف في نصف قرن. وقد يكون هذا راجعاً إلى الضوابط الإيجابية وهي البؤس والرذيلة.(837/26)
وزاد السكان زيادة خطيرة في حين أن الغذاء زاد زيادة بسيطة. وهنا يحسن ألا ننظر إلى المسألة بعين مالتوس، فقد قامت الصناعة في مصر وبدأت تزدهر منذ ربع قرن وذلك بفضل عاملين: الحرب العالمية الأولى، والتعريفة الجمركية وحمايتها للصناعة المحلية. وليس من شك في أن العامل الصناعي يعيش في مستوى أرفع وأرقى مما يعيش فيه العامل الزراعي، وأوضح دليل على ذلك تكوين النقابات العمالية واهتمام الحكومات بالعامل الصناعي وخاصة في (وضع الكادر) والتأمين الاجتماعي. . . ومما يبعث على الأمل إمكان ازدهار الصناعة المصرية في المستقبل، وغنى مصر بثرواتها المعدنية، وما سيحدثه من تغيير عظيم مشروع توليد الكهرباء من خزانة أسوان.
ومن الصعب تنفيذ الضابط الأخلاقي في مصر في ظل المدنية الحديثة وما يعج فيها من مباهج و. . . حقاً يعمد الشباب إلى تأخير الزواج لدوافع اقتصادية واجتماعية، ومن جهة أخرى يستخدم ضبط النسل بنجاح بين الطبقة العليا والمثقفة.
أما توزيع الثروة توزيعاً عادلا فهذا ليس من العبث كما قرر مالتوس فليس يعيب ثروة مصر كميتها بل توزيعها. إذن لم تتحقق آراء مالتوس كلها كاملة:
ويرى الدكتور وندل كليلند حلاً لمشكلة السكان في مصر بما يأتي:
1 - العمل على زيادة الموارد الطبيعية زراعية وصناعية.
2 - تحديد عدد السكان بوسائل ضبط النسل.
ويظهر لنا من كتاباته أنه يحبذ الاتجاه الثاني لأنه لاحظ أن التقدم الحضاري في أوربا يصحبه نقص في المواليد، وذلك لزيادة رغبة الناس في صحة أحسن وسعادة أعظم وثقافة أرقى ورغبات أسمى، ولكن تحديد النسل من الصعوبة بمكان تبعاً للتقاليد والعادات والأفكار القديمة.
ولعل من المفيد أن أختم هذا المقال بما اختتم به كليلند كتابه إذ يقول:
إن موقع مصر الجغرافي يجعل من الصعب عليها أن تحل مشكلتها وحدها بل لابد من التعاون مع جاراتها، ذلك لأن النيل دولي:
محمد محمد علي
ليسانسيه في الآداب(837/27)
من أدب رمضان
للأستاذ أحمد مصطفى حافظ
(. . . ورياضة للنفس بالتجرد، وثقافة للروح بالتأمل، وتوثيق لما وهن بين القلب والدين؛ وتقريب لما بعد بين الرافه والمسكين. . . ونفحة من نفحات السماء تفعم دنيا المسلمين بعبير الخلد وأنفاس الملائكة!. . . فالبيوت الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات. . . والمآذن الحالية بالمصابيح الشادية بالتسابيح ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته!)
(الأستاذ أحمد حسن الزيات)
عن ابن مجير، قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يوماً، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه، ثم قال: (ألا ربّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة. ألا رب مكرم نفسه وهو مهين لها! ألا رب مهين نفسه وهو مكرم لها) فانظر - عافاك الله - إلى إنسانية سيد الخلق العليا، فهو يضرب أروع الأمثال لكي تتأسى به أمته من قبل ومن بعد. . . وهو الذي خير أن يكون له مثل (أحد) ذهباً فقال: (لا يارب، أجوع يوماً فأدعوك، وأشبع يوماً فأحمدك!) فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هو السواد الحي، سواد الليل حول الروح النجمية الساطعة، كما يقول الرافعي الخالد. وبعد فالغرض الأسمى من صوم رمضان المبارك إن هو إلا العمل المصمم على إضعاف الحيوانية، وكسر شرة الهوى، وكفكفه النفس عن الشهوات والأهواء، بالحرمان والمجاهدة فتتحرر الروح من ربقة الأسر في الجسد، وتتطهر من الأدران المخجلة، وتسمو إلى مراتب الإيمان العالية. . . فتتهدى إلى جلال ربها، وتدرك ما كانت عليه من زيغ وغفلة، فتتذكر الموت وهوله، والقبر وسؤاله، والبعث وأهواله. . فتخشع وتخضع وترجع إلى طاعة ربها راضية مرضية. . .
ما لذة الأيام تتعاقب على استواء حالة واحدة؟. . . بل كيف يصنع المرء إزاء الدهر وتقلباته، وضرباته وهجماته. . . أن لم يتزود بذخيرة من الصبر والجلاد؟. . .
ولقد فاضت كتب الدين، وخطب المصقعين، تحض على التآلف والإخاء، والتمسك بأهداب الشرائع السماوية المقدسة، ولكن كل ما كان ويكون لها من أثر لا يقاس بأثر الردع(837/29)
والأديب الإلهي، الذي تحس وقعهما في أعصابك وحلقك وأحشائك. . . وسعار الجوع هو الذي يدع الخيال يصنف للمعدة معاني متجددة متعددة للطعام. . . فلا تنفك تستشعر - على التضور - آلاماً لذيذة ولذات أليمة!. . .
وليس يطرب صوت الماء منحدراً ... كما ترى وقعه في سمع ظمآن!
وترى الغني المترف المتنعم وقد ردعه الضمير، وأدبه الدين. . فلديه ما لذ وطاب ولكنه يصبر ويصابر، ويتذكر أنه يسأل عن النعيم. . .
ولا صيام للنمامين والمغتابين؛ فعن ابن مسعود، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل، فوقع فيه رجل من بعده. . . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخلل) قال: مم أتخللّ؟ ما أكلت لحماً. . .) قال: (إنك أكلت لحم أخيك!). . .
أحمد مصطفى حافظ
محرر بمجلة المدينة المنورة
(السويس)(837/30)
رسالة الفن
نظرات في الفن
للأستاذ نجم الدين حمودي
الفنان والطبيعة:
علاقة الفنان بالطبيعة متينة محكمة، فهي مصدر وحيه وإلهامه، منها يستقي عبقريته، ومن جمالها يروي أحاسيسه ومشاعره. ومع أن الطبيعة ينبوع الجمال وموطن الروائع، فهي ليست كل شيء عند الفنان، كما أنه من العبث أن نشبه الفن بتقليد الطبيعة، أو محاكاة الجميل فيها، إذ ليس الفن تقليداً وتشبيهاً، وإنما هو تفسير وتحليل وخلق وإبداع. وليس من المبالغة في شيء أن يقال: يبتدئ الفن عندما يبتعد الفنان عن التزامه لتقليد الطبيعة.
نعم، إن الطبيعة مصدر الجمال ولها أعظم الأثر في عمل الفنان، إلا أنها - كما ذكرنا سابقا - ليست كل شيء عنده. فالفنان في روائعه يضفي على الطبيعة من أعماق نفسه جمالاً يزيد من جمالها، وألواناً من خلقه وإبداعه تكسبها جاذبية وتأثيرا. وإذا كانت السمفونية الريفية لبيتهوفن قطعة فنية رائعة، فهي ليست كذلك لكونها تقليداً لأصوات طبيعية، بل لأن بيتهوفن نفسه استطاع أن يعبر فيها عن احساسات تفتحت من جراء اتصاله وانغماسه بجمال الطبيعة، وتمتعه بنغمات أصواتها الجميلة العذبة، فخرجت تلك الاحساسات، وتفجر ذلك الشعور إلى عالم الواقع بأصوات موزونة ونغمات منسجمة، وبهذه النغمات وتلك الأصوات برزت عبقرية الفنان وقوة خلقه وإبداعه، فجعل من توفيقه بين هذه وتلك قطعة موسيقية رائعة تتوق القلوب لسماعها، وترتوي النفوس من أنغامها وألحانها.
فالابتهاج الذي يغمرنا عند سماعنا السمفونية الريفية، والروعة التي برزت بأجلى مظاهرها في أنغامها المنسجمة الموزونة، لا يرجعان كلية إلى الطبيعة، بل إلى عبقرية بيتهوفن وملكته الفنية.
يشير الأديب الفرنسي أندريه جيد في دراسته للفنان الفرنسي بوسان إلى رأي الكاتب كريستفر مارلو عن أثر الطبيعة في نضوج الفنان فيقول: (يثبت الأستاذ مارلو بأن الباعث على الخلق الفني في كل الرسامين لا يتأتى مباشرة من الطبيعة، وإنما يتأتى من بعض(837/31)
الروائع الفنية التي أنتجها قبلهم عظماء الرسامين الذين حللوا في روائعهم ما في الطبيعة من جمال وفتنة وكمال). ويعلق الأستاذ أندريه جيد على ذلك بقوله: (لا شك أن جمال العالم الخارجي ومظاهره البديعة الخلابة لا يمكنها أن تترك بوسان دون أن تؤثر في مشاعره واحساساته، بل في الحقيقة أن اتصاله بالروائع الفنية القديمة هو الذي دعاه إلى أن يدرك قابليته في الخلق الفني).
نقد الفن:
إن تعذر إيجاد مقاييس عامة لمعرفة المدى الذي تبلغه الروائع الفنية من الكمال، كل حسب نوعه، هو الذي جعل أمر نقد الفنون الجميلة من الصعوبة بمكان عظيم. ويقول الأستاذ أندريه جيد في هذا المعنى: (إن نقد الفنون الجميلة من أخطر أنواع الكتابة، ولم يجد في هذا الباب إلا النزر القليل من الكتاب) ومن الممكن حصر الأسباب التي تجعل النجاح في نقد الفن عسيراً في ثلاثة أمور:
عدم وجود نماذج مثالية تقاس عليها القطع الفنية.
اختلاف الأذواق وتباين النزعات في تقدير القطع الفنية، ومن النادر أن تجد ناقدين يتفقان على أمر واحد بحذافيره.
والسبب الثالث ويتفرع من الثاني، هو صعوبة وجود التجرد التام في الحكم على القطع الفنية.
وكثيراً ما يصدر النقاد حكمهم على قطع فنية عظيمة دون أن يعيروها الوقت الكافي، فيكون حكمهم غير دقيق وبعيد عن الحقيقة والواقع. ويذكر الناقد الكبير كلايف بل في موضوعه (مهلاً أيها النقاد) بأن نقاد الفنون على الرغم من ادعائهم بعدم التسرع في الحكم على القطع الفنية كثيراً ما يقترفون أخطاء جسيمة ويجورون على الفنانين بغير حق.
ويستمر كلايف بل في بحثه قائلاً: (إن بعض القطع من الممكن تذوقها من أول التفاتة يوجهها الناقد إليها، أما البعض الآخر فيستحيل عليه إدراك مواطن الجمال فيها، واكتشاف الأفكار التي تحملها، والبواعث التي دعت الفنان أن يجعل قطعته بهذا الشكل دون غيره ما لم يمعن هذا الناقد في النظر ويتعمق في التحليل).
ويدعم الأستاذ كلايف بل معالجته لهذا الموضوع بأمثلة عديدة لأخطاء جسيمة أقترفها كبار(837/32)
النقاد.
يذكر الأستاذ ماك كول في كلامه عن نقاد الفنون أن هناك نوعين من هؤلاء: النوع الأول وأحسن كلمة نصفهم بها هي كلمة (مراسلون)، وهؤلاء لا هم لهم سوى حشو الصحف والمجلات بكلمات فارغة معسولة عن المعارض التي يحضرونها نيابة عن الصحف والمجلات التي يراسلونها، ومعظم هؤلاء لا يملك المعرفة الكافية التي تؤهلهم لنقد القطع الفنية، فإذا ما عرضت عليهم قطع ترجع في طابعها إلى الفن الكلاسيكي القديم، قالوا: لقد سبق أن صدر الحكم الفن القديم، وإن جادلتهم في معروضات الفن المعاصر، أجابوك بقول: إما ينطوي على عدم الاكتراث، أو يدل على الإطراء والإمعان في المديح.
ويقول الأستاذ ماك كول في هذا: (ليس الفنانون بضاعة يكال لها المديح والإطراء، أو الذم والافتراء، من النقاد حسب ما تمليه عليهم أذواقهم وأهوائهم).
أما النوع الثاني من النقاد، فمنهم من يملك معرفة كافية واطلاعاً واسعاً بالفنون، ولكنهم إلى جانب هذه المؤهلات مدفوعين بعامل التحيز. ولهذا فإنهم ممقوتون من الفنانين لافتقارهم إلى النزاهة في الحكم، وتراهم يختارون من القطع ما لذ لهم، ويجعلونها هدفاً لصب معلوماتهم، كأنه لا فرق بين القطع الفنية الرائعة والمواد الأولية التافهة.
نجم الدين حمودي
سكرتير مجلة سومر - بغداد -(837/33)
حيران!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حيران في دنيا الجمال ... نشوان من خمر الخيال
لمن العيون كأنها ... نور يطوف بالظلال؟
حوراء إن نظرت تخا ... ل بها - وليس بها - الكلال
سكرى من الخمر التي ... لعبت بأفئدة الرجال
لمن العيون كأنها ... أفق توشح بالجلال؟
زرقاء تحلم في هدو ... ء لا يعذبه ملال
كبحيرة مسحورة ... سحرت حواليها الرمال
تسبي القلوب كمنظر ... الآفاق من قمم الجبال
لمن الغدائر حرة ... من كل قيد أو عقال!
يشدو النسيم لها فتر ... قص في اليمين وفي الشمال
سوداء في لين الحري ... ر، ورقة الماء الزلال
لمن الخدود نقية ... كالنبع في أعلى القلال؟
قد ضمه وحنا علي ... هـ في خشوع وابتهال
زهر يقبله الندى ... وتضمه ريح الشمال
لمن الشفاه نواضراً ... ريا بأحلام الليال
شعت كشمس في الضحى ... وتقوست مثل الهلال
تدعو الرشيد إلى الضلا ... ل، وآه من هذا الضلال!
لمن النهود روانياً ... في كبرياء واختيال؟
متحفزات للوثو - ب، مبادرات للنضال!
تدنو لمن تهوى، وتب - عد عن سواه، فلا تنال
لمن الخصور الراقصا ... ت مع الأشعة والضلال؟
من كل خصر مرهف ... ريان من خمر الدلال
أخشى عليهم من النسي ... م دنا فطوقه فمال(837/34)
ومن الغلالة إذ تعا ... نقه، فيشعر بالملال!
أواه لو رويت هـ ... ذا القلب من خمر الجمال!
أواه! لكني أعي ... ش كزهرة بين التلال!
أبكي من الحرمان حتى ... صرت أنتظر الزوال
فتن تمر بناظري ... وبخاطري منها مثال
فتن حرمت وصالها ... وأنا المشوق إلى الوصال
علقت بها نفسي كما ... علقت بأطياف المحال!
فتن أعانقها وأل ... ثمها، ولكن في الخيال!(837/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مع الأستاذ توفيق الحكيم في (أوديب الملك):
في العدد (835) من الرسالة، سألني أديب عراقي فاضل هو الأستاذ فؤاد الونداوي عن بعض الآراء التي عقب بها الأستاذ توفيق الحكيم على مقدمة الترجمة الفرنسية لمسرحية (أوديب الملك). . . ولقد عرض الأستاذ الونداوي لتلك الآراء بالنقد والتحليل، مخالفاً صاحبها فيما ذهب إليه من تفسير لبعض القيم النفسية والفنية، طالباً أن أعقب على الرأيين: رأي الكاتب ورأي الناقد.
يقول الأستاذ الونداوي إن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يوفق بين فكرة الأسطورة وبين روح الإسلام، فجعل من رغبة أوديب في العلم بالحقيقة وبحثه المتصل عنها سبباً يدفع أوديب إلى الكارثة، أي أنه جعل الموجب للكارثة طبيعة أوديب ذاتها؛ طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة. ثم يعقب الأديب العراقي الفاضل على ذلك بقوله: ولست أدري كيف استساغ كاتب فنان كتوفيق الحكيم أن يجعل من حب أوديب للحقيقة وسعيه ورائها إثماً يستحق عليه ذلك العقاب المنكر الفظيع؛ فإن حب الحقيقة والسعي وراءها - مطلقة كانت أو نسبية، عامة كانت أو جزئية - لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق وخلد ذكرهم في أعماق الأفئدة، وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور!
أود أن أقول للأستاذ الونداوي رداً على اعتراضه: هل أقمت اعتراضك يا صديقي على أساس من خطأ الفكرة النفسية، أم على أساس من التعثر في خطوات العمل الفني؟ في رأيي إن الأستاذ الحكيم قد بعد عن منطقة الاعتراض في كلتا الناحيتين؛ لأننا لو وضعنا الفكرة النفسية تحت المجهر لبدت لنا متفقة مع منطق الحياة ومنطق الفن. . . لا خطأ أبداً إذا ما جعل توفيق الحكيم من جري أوديب وراء الحقيقة سبباً يدعو إلى الكارثة؛ لأن طبيعة أوديب النفسية - طبيعة الشك والتحدي والغرور والكبرياء - من شأنها أن تدفع به إلى هذا المصير المحزن الذي انتهى إليه! إننا لو بحثنا عن نقط الارتكاز الفنية في المسرحيات الثلاث وأعني بها مسرحية سوفوكل ومسرحية أندريه جيد ومسرحية توفيق الحكيم(837/36)
لوجدناها تتفق جميعاً على إن الطبيعة النفسية عند أوديب كانت هي مصدر الكارثة؛ الكارثة التي أدت بأوديب إلى أن يقتل أباه لايوس ويتزوج من أمه جوكاست ويفقأ في النهاية عينيه ليحرم إلى الأبد من نعمة الضياء. . . أوديب عند سوفوكل يبحث عن الحقيقة وعند أندريه جيد يبحث عن الحقيقة، وهو يبحث عنها أيضاً عند توفيق الحكيم؛ فالأساس النفسي موجود عند الكاتب الإغريقي وموجود عند الكاتب الفرنسي وموجود عند الكاتب المصري. وإذا كان الصراع الخارجي بين إرادة الآلهة وحرية الإنسان هو الهدف الأصيل لخطوات العمل الفني عند سوفوكل وأندريه جيد، فإن خطوات العمل الفني عند توفيق الحكيم قد أحالته صراعاً داخلياً بين إرادة الإنسان وبين سطوة الحقيقة. . . هناك صراع مشبوب تثيره في نفس أوديب نزعة التحدي للقوى الخفية ولو كان فيها ألف مورد من موارد التهلكة، وهنا صراع مشبوب أيضاً ولكن الدافع إليه نزعة أخرى هي نزعة الشك الملح في التخلص من الواقع، ولو كان فيه ألف سبيل من سبل النجاة من الكارثة. وكلا الصراعين يتقرر معه المصير على ضوء الطبيعة النفسية التي عالجها الأستاذ الحكيم علاجاً حاول فيه أن يوفق بين فكرة الأسطورة وروح الإسلام!
هذا يا صديقي عن منطق الفن، أما عن منطق الحياة فلا أرى أن توفيق الحكيم قد خالف منطق الحياة أو أعترض سيرها الطبيعي. . . إن الحياة تقدم لنا في كثير من الأحيان نماذج نفسية من طراز أوديب يدفعها حب الاستطلاع والبحث عن الحقيقة إلى كثير من المتاعب والكوارث والآلام! أنا معك في أن حب الحقيقة والسعي ورائها لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق وخلد ذكرهم في أعماق الأفئدة، وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور. أنا معك حين أقدم إليك واحد ممن ذكرت وهو الفيلسوف الألماني نيتشه. . . ولكن لا تنس إن هذا الفيلسوف العظيم الذي ظل يبحث عن الحقيقة حتى رفع عنها الغطاء، هذا الفيلسوف يا صديقي قد فقد عقله في سبيل الجري وراء الحقيقة!
أختلف معك في هذه النقطة وأختلف معك في نقطة أخرى، هي اعتراضك على الأستاذ الحكيم حين يقول: إن رغبة أوديب في العلم بالحقيقة هي التي جرته إلى ما جره العلم الحديث على الإنسان الحديث ممثلاً في (فرويد) عندما طفق يحفر في أعماق الإنسان إلى(837/37)
أن وجد أنه عاشق في الباطن لأمه!. . . الواقع إنك لم تعد الحق حين أفصحت عن حيرتك أمام هذا التعليل، وحين قلت إنك لم تفهم كيف أرتضى الأستاذ الحكيم أن يشبه حالة أوديب أمام المأساة بحالة فرويد أمام حقائق النفس! إلى هنا يا صديقي وأقف إلى جانبك لأنه لا وجه للمقارنة على الإطلاق. . . أما بعد ذلك فلا أرضى عن تفسيرك للمشكلة عندما تقول: إن البحث عن الحقيقة قد أدى عند فرويد إلى اكتشاف الحقيقة فحسب، ولكنه عند أوديب قد أدى إلى وقوع الكارثة أو المأساة وواضح إن الفرق بين الحالين أكبر وأوسع من أن يستسيغ أي تشبيه بينهما!
أريد أن أسأل: هل كشف فرويد حقاً عن الحقيقة التي يرددها من بعده الكثيرون في الشرق والغرب، وأعني بها عشق الطفل في الباطن لأمه؟ هذا العشق الناتج عن مص ثدييها في حالة الرضاع مما يترتب عليه لون من ألوان اللذة الجنسية، حتى لتتحل تلك اللذة عند تقدم السن إلى عادة التدخين عند كثير من الناس؛ لأن فيها بقية من المتعة الجنسية في الصغر ممثلة في عملية المص بالشفتين، والفم كما يقول فرويد منطقة من المناطق الشديدة الحساسية والشعور باللذة؟!. . . ليصدقني الكثيرون إن هذا التفسير النفسي الذي جاء به فرويد تفسير يحفل بالشذوذ وانحراف التفكير؛ لأنك لو أرضعت الطفل من ثدي أنثى من إناث الحيوان لهام بها نفس هيامه بأمه، ولتعلق بها نفس التعلق ولأقبل عليها نفس الإقبال؛ لأن عقله الصغير إلى أبعد حدود الصغر لا يهيئ له أن يفرق بين مرضعة ومرضعة ولا بين حيوانه وإنسانه! إن المسألة مسألة الشعور بالجوع واندفاع إلى كل منبع من منابع التغذية يمكن أن يرد عن الطفل الجائع غائلة الجوع، فكيف نقبل هذا الشذوذ الفكري الذي ينادي به فرويد حين يلصق بالطفولة البريئة نزعة الانحرافات الجنسية؟!. . . ثم هل تتحول حقاً تلك اللذة الجنسية المتخلفة عن أيام الطفولة إلى لذة التدخين عند كثير من الناس؟ ترى كيف يستقيم هذا التفسير العجيب إذا ما قدر لفرويد أن يعيش في تلك الأيام التي لم يكن فيها تدخين ولا مدخنون؟!. إننا في انتظار الجواب من المولعين بهذا اللون الطريف من الدراسات النفسية!
بقي أن أرد على النقطة الأخيرة التي أثارها الأستاذ الونداوي حول رأي آخر من آراء الأستاذ الحكيم حين يقول: إن الطعن الذي أنزله أوديب بعينيه قد ذهب في تفسيره أندريه(837/38)
جيد في مسرحيته إلى كونه إمعاناً في الكبرياء. يؤكد الأستاذ الونداوي أن الواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد لم يقل مثل هذا الكلام ولم يفكر فيه، لأنه قال بصراحة عن لسان أوديب مخاطبا الكاهن تيرسياس بأنه - أي أوديب - إنما يفقأ عينيه لأنهما لم تحسنا تنبيهه إلى الكارثة قبل وقوعها ولم تضيئا له الطريق! معذرة يا صديقي إذا أكدت لك أن الواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد قد قال مثل هذا الكلام وفكر فيه. . . أما عن الواقع فهو ممثل في تلك الزاوية التي سلط أضواءه على شخصية أوديب الإنسانية؛ وهي الشخصية المتعالية المتحدية المتكبرة المغرورة الثائرة على الآلهة في كل فصل من فصول مسرحيته. إن طعن أوديب لعينيه لم يكن في الواقع إلا تحديا للألم وإمعاناً في الكبرياء! مهلا يا صديقي ولا تعترض. . . إن صحائف الكتاب تشهد بصدق ما أقول، هناك قبل نهاية الفصل الأخير بصفحتين حيث يقول أندريه جيد عن لسان تيرسياس مخاطباً أوديب بعد أن فقأ عينيه: (إذن فهي الكبرياء التي دفعتك إلى أن تفقأ عينيك. لم يكن الإله ينتظر منك هذا الإثم الجديد ثمناً لجريمتك الاولى، وإنما كان ينتظر منك الندم ليس غير)!
بعد هذا أرجو أن يتقبل الأستاذ الونداوي خالص الشكر على حسن ظنه، وعاطر التحية على صدق إخائه.
حول مستقبل الشعر وانحراف المواهب:
هذا العنوان يجمع بين عنوانين، أحدهما لمقال كتبه الأستاذ يوسف البعيني في العدد (835) من الرسالة، والآخر لمقال كتبته أنا في العدد (797) من الرسالة. . . ولقد لاحظت أن الأستاذ البعيني قد جال بفكره في نفس الأفق الذي جلت فيه من قبل، وأن هناك كثيراً من التقارب بين وجهات النظر وطرائق التعبير ومرامي الألفاظ. أنه لون من توارد الخواطر غير شك؛ لأن طبيعة الموضوع الذي تناولته بالدراسة كما تناوله الأستاذ البعيني حول ماضي الفن وحاضره، من شأنها مع النظرة المتغلغلة في أعماق المشكلة أن يخرج منها الباحث بمثل ما خرج به الأستاذ وخرجت، من تحليل يؤدي إلى تعليل ومن مقدمة تدفع إلى نتيجة.
يبدأ الأستاذ البعيني مقاله عن (مستقبل الشعر) بهذه الكلمات: (أجمع فريق من الحكماء(837/39)
والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريفسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء. ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأمريكية الحديثة. لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة. أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سابق الأجيال). هذا هو مفتاح المشكلة الذي يعالج به الأستاذ البعيني فتح المنافذ المؤدية إلى نتائج موضوعة، وهو نفس المفتاح الذي قدمته من قبل حيث قلت: (. . . هذه الحضارة التي نعيش فيها حضارة قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير الأدب والفن في كثير من الأحيان؛ لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأمول العواقب في ميدان النضال مع الحياة ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكاتهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان المرموق والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا، وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان!. . .
إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شيء لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء)!. . .
إن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة، وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي البعيد يعيشون للفن ويطربون له ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادة على كل شيء طغيانها الجارف، انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق)!
(من وراء الأبد) وجرأة القصاصين العوام:(837/40)
قيل إن الذبابة هبطت يوماً على رأس الفيل، فلما يئست من أن تشعره بوجودها قالت له: ياعزيزي، إني طائرة عنك. . . ونظر إليها الفيل ضاحكا ثم قال: يا عزيزتي، والله ما أحسست بك هابطة حتى أحس بك طائرة!!
تذكرت هذه القصة الطريفة وأنا أستمع لمن نقل إلي خبراً فحواه أن قصاصاً من القصاصين العوام، اجترأ على أن يتهمني في إحدى الصحف اليومية بالسطو على أحد الأفكار من قصصه لتزدان بها قصتي (من وراء الأبد). . . أما هذا القصاص العامي النابغ الذي أراد أن يشعرني بوجوده كما فعلت الذبابة الخالدة، فهو السيد أمين يوسف غراب!
أود أن أقول لهذا القصاص الذي لا أشك لحظة في أنه درس فن القصة في كتاب القرية؛ أود أن أقول له أنه لو قدر له أن يعاصر المثال الفرنسي العظيم رودان لألهمه الإبداع في صنع تمثال يمثل الغباء النادر. . . ذلك لأنه لو خطر لي أن أنقل فكرة عن أحد القصاصين، فإن الذوق يفرض على أن ألجأ إلى أعلام القصة في أدب الغرب. عندي مثلا في الأدب الفرنسي بلزاك وديماس وفلوبير وزولا وموباسان، وعندي مثلا في الأدب الروسي تولستوي ودستويفسكي وتورجنيف وتشيكوف وجوركي، وعندي مثلا في الأدبيين الإنجليزي والأمريكي ديكنز ولويس ولورنس وبووموم. . فمن يصدق أنني أترك تلك القمم حيث يحلق النسور، لأهبط إلى السفوح حيث يحلق الغراب؟!
أنور المعداوي(837/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تعليم اللغة بدراسة الأساليب
عقد مفتشو اللغة العربية مؤتمراً بكلية دار العلوم في الأسبوع الماضي برياسة عميدهم الأستاذ مهدي علام، ومن الموضوعات التي نظروا فيها موضوع دراسة قواعد اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية؛ وقد انتهى المؤتمر في هذا الموضوع إلى أن تدرس اللغة العربية عن طريق اللغة نفسها نصوصها وأساليبها وتستخلص القواعد من هذه الأساليب من غير إسراف في الاصطلاحات النحوية المطولة. وقد عرض الفكرة على المؤتمر، الأستاذ مهدي علام، فلقي معارضة شديدة في أول الأمر من لدن أنصار النحو والقواعد، ولكنه ما زال يبين وجهة نظره ويدلل عليها حتى وافقه الجميع إلا واحداً، وكان عند بدء عرضها لا يؤيده فيها غير واحد. .
وقبل أن أعقب على قرار المؤتمر أبسط الموضوع بعض البسط فأقول: إن الطريقة الطبيعية في تعلم اللغة هي سماع مفرداتها وتراكيبها والتمرن على محاكاتها بالتعبير على مثالها، حتى تصبح القدرة على هذا التعبير ملكة يصدر عنها القلم واللسان، أما القواعد فهي ضوابط يقصد منها التحرر من الخطأ في اللغة لا تعلم اللغة نفسها.
وقد وضعت القواعد أول ما وضعت لذلك الغرض ولكن المشتغلين بها تدرجوا فيها إلى أن صارت دراسة مقصودة لذاتها في العصور المتأخرة، وهي العصور التي انحطت فيها اللغة وركت أساليبها، ومن المشاهد المعروف أن النحوين على قدر ما برعوا في صناعة النحو لحقهم العجز والضعف في ملكة التعبير والبيان، على خلاف البلغاء من الكتاب والشعراء الذين لم يحصلوا من تلك الصناعة إلا القدر الضروري لضبط ما يقولون ويكتبون.
وقد رأينا في عهد التعلم معلمين يتوكؤن على الإعراب حتى في غير دروس القواعد، فإذا عرض أحدهم لبيت من الشعر مثلا شغل بأوجه الإعراب في ألفاظه عن وجه الجمال السافر فيه، وكان لنا أستاذ ألف كتاباً سماه (ترويق الجو بتحقيق لو) ثم كان من فضل الله أن ضاع منه أصل هذا الكتاب قبل أن يدفعه إلى المطبعة فراق الجو بفقده ولم يكن من المنتظر أن يروق بتحقيق لو. . وكم رأينا مدرسين يحولون دروس المطالعة والأب إلى(837/42)
نحو وصرف لأنهما المجال الذي يحسنون الكلام فيه. وإن ناقشت هؤلاء في جدوى كثير من التفصيلات النحوية التي يخوضون فيها، قالوا: إنها رياضة ذهنية. أوليس من العبث أن تنفق الجهود والأوقات في هذه الرياضة الذهنية العقيم، ي هذا العصر الذي تعددت حاجاته إلى أنواع المعرفة؟
ولا تزال مناهج المدارس في اللغة العربية مثقلة بهذا النحو، وخاصة في المدارس الابتدائية التي يبدأ فيها التلميذ تعرف اللغة العربية، فالطفل في السنة الثانية مكلف أن يعرف الفاعل والمفعول به والمبتدأ والخبر، ومطالب بتكوين جمل تشتمل على مضاف إليه خبر، ومضاف مبتدأ، ومنعوت مفعول به. . . الخ، وهو لم يتصور بعد هذه اللغة التي يطلب منه أن يحللها ويفهم مصطلحات قواعدها. ولابد أن نذكر إلى جانب ذلك حقيقة بديهية مفهومة، وهي أن اللغة العربية الفصيحة ليست لغة البيت والمجتمع الآن، فلا بد إذن من ضوابط تعصم من الخطأ فيها، ولنفرض أننا فرغنا من تصفية هذا الخليط من القواعد ومصطلحاتها وغربلته، حتى حصلنا على القدر الميسر النافع منه، فكيف ومتى يتعلمه الناشئ؟ وهنا نصل إلى ما قرره مؤتمر مفتشي اللغة العربية، وهو دراسة الأساليب واستخلاص القواعد منها، وأقرر أولا أنه لا جدال في ضرورة الإكثار من المطالعة بأنواعها مع التشويق إليها والإكثار من التمرين على التعبير شفوياً وتحريرياً. ثم أسأل ما المقصود باستخلاص القواعد من الأساليب؟ هل هو أن يبدأ بتعليم القواعد على طريقة الإتيان بأمثلة كثيرة واستنتاج القاعدة منها؟ أو المقصود أن يترك الناشئ سنوات يسمع فيها اللغة ويقرؤها ويعالج التعبير بها، بحيث يدركها إدراكاً كلياً، وبحيث يشعر بالحاجة إلى ضوابط لها؟ وعند ذاك تنتهز فرصة تشوقه إلى الضوابط، فيعرف بها بطريقة سهلة ميسرة؟
أما الطريقة الأولى فهي المتبعة الآن، وهي طريقة لهوجة، لأن التلميذ لا يكاد يبدأ في تذوق اللغة حتى يصدم بالقاعدة والمصطلحات، والمأمول أن تعد المناهج الجديدة وفق الطريقة الثانية ليتحقق المنشود من دراسة الأساليب واكتساب ملكة اللغة من نفس اللغة.
كابوس ليلة:
هو فلم (حلم ليلة) الذي عرض في هذا الأسبوع لأول مرة بسينما أوبرا، وهو من تأليف(837/43)
وإخراج (وجه جديد) في الإخراج بمصر هو صلاح بدرخان، وبطلاه أيضاً وجهان جديدان هما وجيه بدرخان ونور الصباح، واشترك في التمثيل من الممثلين المعروفين بشارة واكيم ومنسي فهمي.
آدم (بشارة واكيم) تاجر قماش شامي بمصر، تحتال عليه امرأة من بنات البلد، فتأخذ منه بضاعة وتغريه بأن يصحبها على أن تحضر له الثمن من زوجها الطبيب، وتفلت منه في عيادة الطبيب الذي ادعت أنه زوجها بعد أن أدخلت على الطبيب زوجها تاجر القماش مجنون، فيفحصه ويدفع به إلى مستشفى المجانين، ثم يهرب آدم من المستشفى ويعود ليستأنف عمله. وفي أثناء ذلك يتوجه ابن أخته نبيل (وجيه بدرخان) إلى عيادة الطبيب ليخاطبه في أمر خاله، وهناك يسمع غناء، فينظر من نافذة بسور الحديقة، فيرى بنت الطبيب نجاح (نور الصباح) تغني ومعها فتيات يرقصن. ثم يدخل من الباب ويلتقي بنجاح ويقول لها أنه موسيقار، وقد سمع صوتها فأعجب به، فستصحبه إلى ملعبهن في الحديقة حيث يعزف لهن، وبعد ذلك يصير معلماً لها في الموسيقى، ويتبرم به رشاد ابن عم نجاح، ويحاول أن يحقره أمام نجاح فتنهره، وينشأ حب بين نجاح ونبيل، ويفاجئهما أبوها في وضع غرامي فيغضب ويطرد الموسيقار العاشق. ويحاول رشاد أن يكسب ود نجاح ويخطبها إلى أبيها ولكنها تعرض عنه وترفض خطبته، فيخرج ساخطاً، ثم يلجأ إلى الانتقام فيسرق خزانة عمه ويدب على ابنة عمه ليلا، ويحرض عليه المجانين في المستشفى فيعتدون عليه اعتداء يذهب ببصره، ثم يختفي لدى قبيلة من الأعراب. ويتوجه نبيل هو وخاله إلى الطبيب، فيتوددان إليه ويخطب آدم نجاح لابن أخته نبيل فيرحب بهما أبوها الطبيب. ويجد نبيل وخاله آدم في البحث عن رشاد حتى يعثرا عليه في البادية، فيفر ويلحقان به ومعهما بعض الأعراب، فيقتلونه، ويعود نبيل بالنبأ إلى مخطوبته ووالدها الضرير الذي يسر ويضمهما إلى صدره، ولابد أن يعود إليه بصره في هذا المنظر الأخير. . .
والقصة كما تراها فارغة لا غاية لها، وقد حشيت مناظر قصد بها الإضحاك، ولكن المضحك حقاً هو نفس الحوادث الجدية فيها فمثلاً هذا الشاب (نبيل) البطل المحبوب الذي يفترض فيه (النبل) يقف ليختلس النظر إلى عورات الناس من النوافذ. . وما يكاد يدخل(837/44)
حتى تلتقطه الفتاة وفي منتهى السرعة والسهولة يصير لها معلماً ويأتي أبوها تواً ويسأل عن هذا (الأفندي الغريب) ويوافق في الحال!
ولا أدري لماذا أباحت نجاح لنفسها أن تشتم ابن عمها وتهينه عندما أراد أن يخطبها ولم تظهر لنا الحوادث قبل ذلك أن شيئاً بدر منه يستحق عليه هذه الشتيمة التي لا تليق ببطلة الفلم، والغريب أن ما أرتكبه من الحوادث يأتي بعد ذلك، فكأنها تؤنبه مقدماً! وكان منظر دبيب رشاد إلى ابنة عمه داعياً إلى الاشمئزاز وكان يمكن أن ترتبط الحوادث دون الوقوع في هذه الزلة. وكانت خاتمة الأضاحيك هي ختام القصة بذلك المنظر الذي عاد فيه البصر إلى الرجل لأنه سر بقتل ابن أخيه المجرم وزواج ابنته من حبيبها، وهي طريقة فريدة في علاج العمى واسترداد النظر، جديرة بأن يلتفت إليها أطباء العيون أو بأن يستغني بها الناس عنهم.
وأخلص بعد ذلك إلى ثلاثة عناصر حشي بها الفلم بقصد التسلية والإمتاع أو قل لملئ فراغه من القيمة الموضوعية، تلك العناصر هي: روعة المناظر، والحوادث المضحكة، ثم الرقص والغناء. من الأولى منظر البدو في الصحراء وعدو الخيل ومطاردة الفرسان، عندما عثر على الجاني هناك. ولا تدري لم اختفى الجاني ولجأ إلى تلك القبيلة ولم يصدر أمر بالقبض عليه ولم يجر أي إجراء لمحاكمته، ولكن الرغبة في عرض المنظر نفسه جعلت الأعراب مكان الشرطة، وجعلت الموسيقار الفنان يجيد الرماية ويطلق الرصاص على منافسه في الحب ويرديه قتيلاً!
وأما المضحكات فقد أخذ لها في الفلم بشارة واكيم ومنسي فهمي، ووضع الثاني في موضع رجل بخيل يقتر على زوجته، فيحتال لها جارها آدم (بشارة) ويمثل للرجل الأشباح والأرواح ليفزعه ويهدده إن لم يوسع على زوجته وإن لم يذهب إلى (آدم) ويعطيه مقداراً كبيراً من المال، وهذه الحادثة تمثل مما ربط إلى القصة من غير حاجتها إليه ليضحك، ولكنك ترى إنها أفسدت شخصية آدم إذ جعلته محتالاً على اخذ مال الغير وهو ليس شريراً في القصة. ولم يكن بشارة واكيم واضح الدعابة ولا خفيف الظل في هذا الفلم، ومن أسباب ذلك التواء لسانه وتكلفه تقليد اللهجة الشامية. أما منسي سلامة فكان متقناً لدوره ظريفاً إلى حد ما.(837/45)
وتأتي بعد ذلك ثالثة الأثافي: الغناء والرقص، وقد امتلأ الفلم بالغناء من البطلين نور الصباح ووجيه بدرخان، وهو غناء متوسط الحال، لا هو مطرب ولا هو مضحك، ولكن تكراره والإكثار من مواقفه والانهماك فيه، بلغت به درجة الطرف الثاني. ولا أريد أن استرسل في وصف غناء هذين المطربين، خشية أن تضمهما الإذاعة إلى مطربيها. . . وحسب الناس ما يلقون من هؤلاء. والحق إن الموسيقى كانت جيدة.
ومن تعمد مواقف الغناء والرقص أن آدم مر في طريقه وهو هارب من المستشفى بعرس فيه راقصة ومغن، فتفرج عليه ومضى في طريقه. . ولم يكن لهذا العرس أية صلة بحوادث الفلم غير ذلك وهذه الراقصة هي الوحيدة التي ترقص في الفلم على أصول الفن، أما بقية المناظر فهي اجتهادية فطرية، وقد أوحى اهتزاز الفتيات اللائى يرقصن في أحد المناظر إلى خيالي منظر (بلاليص) على عربة (كارو) تركت بلا ربط فراحت تتمايل على صرير العجلتين ووقع حوافر الحمار.
والوجهان الجديدان صالحان للتقدم للتمثيل، ولكن ينبغي ألا يعتمدا كثيراً على الغناء.
عباس خضر(837/46)
البريد الأدبي
المصريون في نظر أنفسهم
دعينا لسماع محاضرة سنوية يلقيها الأستاذ مصطفى شاهين برحبة نادي فاروق الرياضي حيث تطل على شاطئ البحر، ويحتشد فيها الجمع المثقف في جو ينعش الوجدان، ويسحر العقل - مرة في كل عام -!
وكان موضوع المحاضرة (شائقاً - شائكاً) - على حد تعبير المحاضر - لكنه أقتدر على تقديم الأزاهير من بين الأشواك في بيان أخاذ جامع بين لغة الخاصة والتنزل إلى الأسلوب الدارج. ولقد أبان قسمة الأمم بتواضعها، واعتزازها وغرورها، موضحاً المفارقة بينهما ونصيب مصر منها قائلاً: إن المصري يعنف في الحكم على أمته مدفوعاً بتوثب طبيعة النقد لديه؛ لكنه يسرف إلى حد إغفال حقه نحو وطنه؛ فيرميه رميات كلها تسقط السقطات!
وقد عرض بمن يدعون الثقافة وينعون على الوطن أوضاع الحياة، ويتخذون من الحوادث الفردية قاعدة عامة للسلوك الاجتماعي ويجعلون هممهم الزراية عليه في أساليب غير مهذبة تحط بالكرامة الوطنية.
وألمع إلى قول فولتير: (إن الشعور بالنقص أول درجات الكمال. .، وعقب على هذا القول بأنه يعني به (الشعب الناقد الساخر لا ينقد نفسه لذات النقد بل لدافع قوي يحضه على الكمال. لكن هذا المعنى ليس ممثلاً تمام التمثيل لدى الزاري المنتقص لوطنه، لأنه يتخذ أسلوب نقده لتجاهل قيمته.
ثم استطرد المحاضر عارضاً خصائص تفكير الأمم في النقد معرضاً ببعضها على طريقته الساخرة، وخلص من هذا العرض إلى وجوب قيام معرفة النقص على ركنين أساسين أولهما (الكرامة الوطنية) المقصود بها الاعتزاز بالوطن عند نقده، وثانيهما (معرفة الواجب نحو الكمال) باتخاذ الأسباب المهيئة له.
ولقد سوغ حدة ثورة النقد بفترة الانتقال التي شبهها (ببكارة الفتاة، ووثبة بلوغ الفتى) قاصداً عدم القصد في هذه النزوة؛ فكأنه يبرر ما يبدو من نظر المصري إلى نفسه على الطريقة المسفة المسرفة، لكنه يدفع هذا التبرير بوجوب (التوجيه) في أسلوب مقصود به الإصلاح في شتى مناحيه.(837/47)
وكنا نود أن يلمع الأستاذ إلى نزوات بعض المبعوثين الذين يعدون التقاط بعض الثقافة الغربية (بعثاً) لهم بعد موت شرقي!
فلعقول المستنيرة تغشيها غشاوات هؤلاء المضلين المترامين تحت أقدام الغرب وهم يضعون السم في الدسم استجابة لرغبة جامحة يقصد بها الخفض من رفعة وطنهم ملقاً لمظاهرة كاذبة، وظواهر مخدوعة! على إننا ننوه بقدرة المحاضر على الاستمالة، وإبداعه في العرض وإخضاعه العبارات التي تستعصي على أفهام السواد. ونعتقد إن (الروع) القلب أو الروح و (الروع) الفزع؛ فقد وردت مرات متعددة في المحاضرة على غير وضعها، لكن هذا لن يغض من قيمة هذه المحاضرة القيمة التي يجب أن تكون نواة محاضرات متصلة بالوطنية المتلاقية مع الوعي القومي في حياتنا الماثلة!
أحمد عبد اللطيف بدر
بور سعيد
كلمة هادئة إلى المعقبين اللغويين:
في البريد الأدبي من العدد (834) من الرسالة، وقعت على كلمة موجزة تحت عنوان (تعقيب على تعقيبات) للأستاذ الفاضل محمد غنيم. . . في هذه الكلمة ذهب الأستاذ غنيم إلى أن قولي (لم يكن يعرف) قول بين الخطأ، وصواب الجملة حسب استعمالات العرب أن ترى على هذه الهيئة (لم يكن ليعرف) لأن كان المنفية بما ويكن المنفية بلم، لا يرد بعدها الفعل المضارع إلا مسبوقاً باللام المؤكدة للنفي ويسمونها لام الجحود. وقد ورد القرآن الكريم بهذا الاستعمال، قال تعالى: (لم يكن الله ليغفر لهم) ولما كنت أعلم تمام العلم أن التعبير صحيح لا غبار عليه، وإن كان المنفية بما ويكن المنفية بلم لا يتحتم ورود الفعل المضارع بعدهما مسبوقاً بتلك اللام، لما كنت أعلم هذا فقد رحت أجمع للأستاذ كثيراً من الشواهد من القرآن الكريم والحديث وأدب العرب شعره ونثره، ولكن. . . ولكنني في الوقت الذي تأهبت فيه للرد كفاني الأستاذ مؤونة الرد! لقد عاد الأستاذ غنيم في العدد الماضي من الرسالة فتطوع من تلقاء نفسه بتقديم الأدلة على صحة التعبير الذي خطأني في استعماله، ولم ينس أن يستشهد ببعض الآيات من القرآن الكريم!(837/48)
أود بهذه المناسبة أن أوجه كلمة هادئة إلى المعقبين اللغويين، هي أن يتريثوا قبل أن يكتبوا، وأن يحتشدوا لموضوعهم قبل أن يعقبوا. . . لأن العجلة من الشيطان، وما أغنى صاحبها عن الحرج الذي يدفع به آخر الأمر إلى ما يشبه الأسف والاعتذار!
أنور المعداوي
زوج وزوجة:
جاء في المصباح وشرح القاموس
قال أبو حاتم وأهل نجد يقولون في المرأة زوجة بالهاء. وأهل الحرم يتكلمون بها. وعكس ابن السكيت فقال وأهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء، وسائر العرب زوجة بالهاء وجمعها زوجات. والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها (زوجة) للإيضاح وخوف لبس الذكر بالأنثى إذ لو قيل: تركة أو فريضة فيها زوج وابن لم يعلم أذكر هو أم أنثى أه.
وجاء في لسان العرب
وبنو تميم يقولون هي زوجته وأبى الأصمعي فقال زوج لا غير، واحتج بقول الله عز وجل: (اسكن أنت وزوجك الجنة) فقيل له نعم كذلك قال الله تعالى فهل قال عز وجل لا يقال زوجة، وكانت من الأصمعي في هذا شدة وعسر أه.
من هذا يظهر أن جميع العرب يقولون زوجة ما عدا الحجازيين وعبروا بها في شعرهم ونثرهم كما إن العلماء ورجال الشرع يؤثرونها على زوج دفعاً للاشتباه. وأرى أن نخصصها للمرأة ونخصص الزوج للرجل، ولاسيما في لغة التخاطب.
علي حسن الهلالي
بالمجمع اللغوي
يراعوا الابراع:
علق الأستاذ السيد صقر في العدد 833 على تعليق الأستاذ كرد علي على البيت:
يراعوا إذا ما كان يوم كريهة ... وأسد إذا أكل الثريد فظاظ
فقال والصواب يراع ' لا يراعوا. وأقول للأستاذ الفاضل إن يراعوا هي الصواب وهي من(837/49)
الروع بمعنى الفزع قال قطري بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعي
ولو قرأ الأستاذ الفاضل هذه الأبيات لأدرك أن الكلام عن جماعة لا عن فرد، وأن يراعاً بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط. قال في الأساس: (ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعه ويراع قال. . . فارس في اللقاء غير يراع. كذلك خطأ الأستاذ (فيزين له الكأس) وأوجب تأنيث الفعل ونسي الأستاذ أن الكأس مجازية التأنيث يجوز معها تأنيث الفعل وتذكيره. وأخيراً للأستاذ الناقد تحياتي وإعجابي.
عمر إسماعيل منصور
من صميم العربية:
مما يجري على ألسنة العامة كثيراً حتى ليظن أنه عامي ولا يمت إلى الفصحى بسبب قولهم: (فلان يفك المشاكل) يعنون أنه يحل المعقد من الأمور، وهو بهذا المعنى ورد في اللغة. ففي (تاج العروس) - وهو يفك المشاكل - الأمور الملتبسة - ج7، ص394.
ومن هذا القبيل قولهم: (شكل فلان كذا، ظريف أو جميل) يقصدون صورته - وبهذا ورد في اللغة في (اللسان) شكل الشيء صورته المحسوسة والمتوهمة.
من الأخطاء - أبحاث - والصواب - بحوث - يدور هذا الخطأ على ألسنة الخاصة، ويرد في كتاباتهم مع أن القياس لا يجيزه، وكتب اللغة لم تذكره.
(اللسان) أقتصر على ذكر البحوث جمعاً - لبحث - ومثله - تاج العروس - و (الأساس، ومحيط المحيط، والمختار، والمصباح) لم يتعرضوا له. والغريب أن صاحب (أقرب الموارد) يذكره - ونص عبارته (البحث: طلب الشيء تحت التراب وغيره، ج - أبحاث - ولنا أن نسأل: ما مصدره؟
رياض عباس
دبلوم في التربية، وعلم النفس
تصحيح:(837/50)
في العدد الأخير من الرسالة وقع خطأ في ترقيم الصفحات. فذكرنا بعد رقم 1099 رقم2000 وكان اللازم 1100.(837/51)
رسالة النقد
اللهجات العربية
الدكتور إبراهيم أنيس
الأستاذ المساعد بدار العلوم
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
ما من شك أن أستاذنا الدكتور أنيس قد بذل مجهوداً عظيماً في كتابه اللهجات العربية، وحاول مشكوراً تطبيق ما تخصص فيه من علم الأصوات الحديث على ما ورد إلينا من اللهجات العربية وسيجد القارئ تبويباً مرتباً وتسلسلاً مرتبطاً في عرض واضح لفكرته التي يسوقها وهو يكاد يقنعنا بموافقته على آرائه وقد أبدع في معظم فصول كتابه الستة ودل - كما نعهده - على علم فياض.
وإذا جاز أن تكون العادات والتقاليد في جميع العالم خاضعة لناموس واحد، جاز لنا أن نقهر جميع اللهجات العربية على الخضوع لما استنتجه الأوربيون من دراستهم للهجاتهم وأصواتهم ولكن ما أحسب أن العوامل التي أثرت في التقاليد الإنجليزية مثلاً تتفق مع العوامل التي أثرت في التقاليد العربية تمام الاتفاق فليست البيئة كالبيئة وكذلك في اللغة ليست الحروف في أكثرها كالحروف وإذا كانت نظرية الطب أن سوء التغذية مثلاً يسبب ضعفاً عاماً فليس كل ضعف عام في الطب يرجع إلى سوء التغذية ولكن الظاهرة التي نلحظها في كتاب أستاذنا هي وجوب إخضاع اللهجات العربية بدون قيد ولا شرط لما قرره علم الأصوات الحديث فإذا وجدنا بعد البحث أن كثيراً من الظاهرات العربية في لهجاتها غير منطبق على ما قرره طعناً في رواية الرواة مهما بلغت من القوة.
في رأيي أن هذا الاتجاه غير مستقيم، فليس من العدل أن أفرض الفرضيات فرضاً، وإنما العدل أن أدرس وأستقصي ثم أحاول استخلاص قواعد غالبية غير مكتف بمثل أو ببضعة أمثلة. لكنه كما قدمت جعل نظريات علم الأصوات الحديث قضايا مسلمة تنطبق على اللهجات العربية تمام الانطباق، مع أن النظريات الهندسية لا ينطبق فيها كل مثلثين إلا إذا تساوى في الفرض ضلعان والزاوية المحصورة بينهما أو زاويتان وضلع. كما إن الطب(837/52)
إذا وجد أغراضاً حاول أن يطبق عليها علمه السابق فإذا وجد فيها نوعاً من المغايرة بحث عن الأسباب ودرسها لا أنه ينكرها أو يخضعها بالقوة لمعلوماته.
أول ما يطالعك كتاب اللهجات العربية في مقدمته ويتكرر في ص32: (ولسنا نعلم مؤلفاً من علماء العربية على وفرتهم واهتمامهم بكل دقائق الدراسة اللغوية عني باللهجات العربية عناية خاصة فافرد لها كتاباً مستقلاً) لو أنه قال لم يصلنا مما ألفه علماء العربية كتاب مستقل باللهجات لكان محقاً لكن إنكاره عليهم العناية باللهجات العربية حكم جائر، ولقد رجعت إلى كلمة كتبتها في كراساتي من زمن فوجدتني كتبت منها ما يأتي: وليس إفراد كتاب في لغات العرب بالأمر المستحدث، فقديماً كتبت في هذا الموضوع مصنفات أفردها أعلام العربية بالتأليف، وأول من أفرد كتاباً في لغات العرب هو يونس بن حبيب ونسج على منواله الأصمعي وأبو زيد الأنصاري وأبو عبيده وجرى على نهجهم أبو عمر الشيباني والفراء ثم ابن دريد وغيره، إلا إن أيام الشقاء في بغداد والعراق التي جلبها المغول إليها كانت أشد شقاء على العلم والأدب فعبثت أيديهم بما أنتجته القرائح الفذة وأتت على مجهود كثير من العلماء الأعلام، فلا يوجد بين أيدينا - فيما أعلم - كتاب ينفرد بلغات العرب، وقد قرأ هذه الكلمة أستاذنا المرحوم الجارم بك أيام كان عميداً بالنيابة لدار العلوم منذ ثمانية أعوام، وفيها بخطه لفظان بالقلم الأحمر عدلهما. أرجو أن يراجع الدكتور تراجم من قدمتهم وغيرهم في كتاب ابن خلكان ومعجم الأدباء، وسيجد أنهم عنوا باللهجات العربية عناية خاصة وأفردوا لها كتباً مستقلة، ولكنها مع الأسف لم تصلنا، وقد تكون مختفية في ثنايا مكتبات العالم تنتظر من يخرجها.
في ص42 (ولكن الذي يدعو إلى الدهشة أن قراءة أبي عمرو وتلميذه يعقوب لم تنتصر للإمالة إلا في مواضع خاصة نصت عليها كتب القراءات، ولعل الصراع العلمي الذي كان بين الكوفة والبصرة هو الذي دعا إلى أن تتخذ البصرة طريق الفتح في معظم المواضع حتى لا تشبه الكوفة بإمالتها). . .
حقيقة إن يعقوب لم ينتصر للإمالة إلا في مواضع خاصة، أما أبو عمرو فهو من الذين انتصروا للإمالة ومن المكثرين فيها - يراجع إتحاف البشر - غاية ما في الأمر أن الإمالة قسمان كبرى وهي التي تسمى الإضجاع والبطح، ومتوسطة وتسمى التقليل والتلطيف،(837/53)
وأبو عمرو يميل إمالة كبرى تارة ويميل إمالة متوسطة مرة أخرى، ولكنه على كل حال من القراء المكثرين في الإمالة، أما أن الصراع العلمي الخ ففيه نظر حيث إن القراءة سنة متبعة تؤخذ بالتلقي والرواية لا بالتشهي والهوى، وقد يخالف القارئ من حوله لتلقيه عن شيوخ آخرين متأثراً بما تلقاه عنهم، ولهذا لم يكن من الغريب أن عاصماً خالف الكوفيين في إمالتهم لأنه قال لحفص: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها علىأبي عبد الرحمن السلمي عن علي. والقراءة التي أقرأتها أبا بكر بن عياش هي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود.
في ص46 (في مثل الفعلين باع، وقال يظهر أنه قد أتى عليهما حين من الدهر كان ينطق بهما بيع وقول بفتح فسكون ثم تطور الصوت الأول إلى والصوت الثاني إلى ثم تطور إلى أي أن فتحة باء الكلمة في الفعل الأول قد أميلت إلى الكسرة وفي الفعل الثاني قد أميلت إلى الضمة - وحقه أن يقول فخمت لأن هذا هو الاصطلاح كما في النشر وكتاب سيبويه ومفصل الزمخشري - ثم تطورت الإمالة إلى الفتح باع وقال).
أين الدليل على إنهما أتى عليهما حين من الدهر كان ينطق بهما بيع وقول مع إن الأفعال الماضية الصحيحة وهي الأكثر متحركة الوسط ويقاس على وزنها الأجوف ولم لم تكن مثلاً من أول أمرها قال وباع والطفل يقول بابا وماما من أول الأمر وهل اللفظ الإنجليزي كان أصله مثلاً ثم تطور وأنه ينتظر تطوره إلى التي بمعنى آخر محافظاً على معناه وهل لفظة مثلاً كانت ثم تطورت إلى ثم صار أخيراً حيث يقول لنا في ص 47 تلك هي المراحل التي تبررها القوانين الصوتية، وهل لفظة كانت ثم تطورت إلى وأرجو ألا يحتج علي بمثل وماضيها لأن الأول مضارع والثاني ماض، وإلا فهمت أن الأول كان يستعمل للماضي أولاً، ومع ذلك فهل سيصير مستقبلاً بالمعنى الأصلي لا بالمعنى الحالي، ثم ما قوله في الشعر الآتي:
ليت وهل ينفع شيئاً ليت ... ليت شباباً بوع فاشتريت
و: حوكت على نيرين إذ تحاك=تختبط الشوك ولا تشاك
في ص 52 (ثم قسموا الإدغام إلى كبير وهو الذي فيه يفصل بين الصوتين الساكنين صوت لين قصير (أي حركة) وقد نسب الإدغام إلى أبي عمرو بن العلاء، وهذا النوع من(837/54)
الإدغام يتطلب عمليات صوتية معقدة قبل أن يتحقق. . . أما النوع الثاني للإدغام عند القراء فهو الإدغام الصغير وفيه يتجاوز الصوتان الساكنان دون فاصل من أصوات اللين وهو الذي شاع في معظم اللغات لأن شرط تأثر صوت بآخر هو التقائهما التقاءً مباشراً) أما أن الإدغام الكبير يتطلب عمليات صوتية معقدة قبل أن يتحقق ففيه نظر لأنه لا فرق بين الصغير والكبير إلا أن الكبير يكون فيه المثلان أو المتجانسان أو المتقاربان متحركين مثل: لذهب بسمعهم ويشفع عنده. والصغير يكون أولهما ساكناً مثل: اضرب بعصاك واذهب بكتابي، أما شروط تأثر صوت بآخر هو التقاؤهما التقاءً مباشراً ففيه نظر أيضاً لأن كلمة سراط ومسيطر وباسط وغيرها تأثرت السين بالطاء فقلبت صاداً أو أشمت فقرئ صراط ومصيطر وباصط. الخ وقرئ بعضها بالإتمام وكلها قراءات صحيحة مسموعة وليس الالتقاء فيها مباشراً بل فصلت بينها أصوات ساكنة وأصوات لينة.
ص 57 (على أنه قد روى أيضاً أن بعضاً من تميم يقلبون الهمزة الساكنة إلى صوت لين من جنس حركة ما قبلها فيقولون في رأس وبئر وشؤم على الترتيب راس وبير وشوم).
لقد نقل هذا الخطأ عن حفني ناصف بك فليس هناك كتاب ينسب إلى تميم أو بعضها تسهيل الهمزة، لأن التميميين أحرص العرب على النبر وذلك بإجماع كتب اللغة، فمن أين جاء به وكيف تجمع القبيلة بين متناقضين؟ وقد يجاب أن أبا عمرو التميمي كان يسهل كثيراً من الهمز في قراءته ولكن الجواب قد قدمته في مقالي المنشور بالرسالة في العدد 813 عنأبي عمرووهو أنه تأثر بشيوخه الحجازيين وهم أكثر من أخذ عنهم، وكانت نشأة أبي عمرو الأولى في مكة والحجاز.
ص63 ذكر ما اختلفت عليه القبائل من جهة الإعراب وأورد. . ليس الطيب إلا المسك وما الحجازية وإن النافية وكم الخبرية - مع ملاحظة أنه وضع علامة استفهام بعد أمثلة كم الخبرية ولعله سهو - ولعل والجر بها ومتى. . الخ ثم قال في ص65 (والحق أن هذا النوع من الاختلاف الإعرابي لا يمت للهجات العربية بصلة، وإنما هو من صنع النحاة حين أشتد الجدل بينهم فلم تكن لهجات الكلام عند القبائل تلتزم الإعراب على الصورة التي رويت لنا في كتب النحاة، وإنما ألتزم الإعراب على تلك الصورة في اللغة الأدبية التي نزل بها القرآن الكريم ونظم الشعر) ثم قال في ص66 (وإلا فكيف يتصور من الناحية(837/55)
الصوتية أن لساناً يعجز عن نصب خبر ما أو نصب اسم لعل أو جر تمييز كم الخبرية)
ونحن قد نسلم أولاً - جدلاً - أن هذا من صنع النحاة فكيف رضي في صفحة 69، 73، 74 أن يعتبر صنع النحاة يمت للهجات العربية حين يقول إن القبائل البدوية تميل بوجه عام إلى الضم واستشهد له ص73 بورود: يا آيه الناس ونحن الذون صبحوا الصباحا وأن بني تميم يعربون أمس. فكيف تصورنا هنا أن لساناً يعجز عن يا أيها الناس ونحن الذين وبناء أمس على الكسر أم أننا حين نقرر نظرية ننكر وحين نقرر نظرية أخرى نثبت؟ ومع ذلك فإن هذه الاختلافات الإعرابية التي نسبها إلى صنع النحاة قد جاءت في القراءات والشعر، فقد قرأ ابن مسعود: ما هذا بشر، وقرئ في رواية المفضل عن عاصم: ما هن أمهاتهم بالرفع. وورد في الشعر:
لعل أبي المغوار منك قريب ... متى لجج خضر لهن نئيج
فلا معنى لأن نكذبهم في كثير ونصدقهم في قليل بدون مبرر ص70 (القبائل البدوية تميل إلى الأصوات الشديدة في حين أن أهل المدن المتحضرة يميلون إلى رخاوة تلك الأصوات الشديدة بوجه عام، فلباء والتاء والدال والكاف وغيرها من الأصوات الشديدة قد نسمعها من أفواه المتحضرين: فاء. سيناً. زاياً. شيناً. على الترتيب) أما أنا فاعترف أنني لم أسمع أحداًمن المتحضرين يفعل ذلك، ولعلنا سنسمع في المستقبل من ينطق جملة: بركت دابتك هكذا: فرشس زافسبسن، وجملة بنيت بيتي عندكم هكذا: فنيس فيسي عنزشم، وحينئذ ننتقل بالتحضير إلى الرطانة. أما إذا كان قصده بالتاء الثاء وبالدال الذال وحدث خطأ مطبعي فأقول أيضاً إن الثاء حالياً تنطق تاء توب. تلاتة. تور. تعبان. . الخ والذال تنطق دالاً: دهب. ديب. ديل. . الخ ومع ذلك تبقى الباء والكاف فنسمع جملة بثثتك ما في ذاكرتي هكذا فسستش ما في زاشرتي.
ص86 (أجمع الرواة على نسبة صفة خاصة لقبائل ربيعه سموها أحياناً بالكشكشة وحيناً آخر بالكسكسة. . . ثم قال ونحن حين ننظر إلى هذه الروايات على ضوء القوانين الصوتية نستطيع إن نستخلص أموراً:
1 - أن الكسكسة بالسين لا وجود لها في اللهجات العربية.
2 - أن الكشكشة مقيدة بكاف مكسورة. .(837/56)
3 - ليست الكشكشة مقيدة بحالة الوقف.
4 - لابد في الكشكشة أن تحل الشين محل الكاف.
5 - أن ما خيل للقدماء أنه شين ليس شيناً خالصة - وأراد حرف (تش ثم يقول وهذا الصوت هو نفس ما سمعه القدماء في تلك الظاهرة، ثم نقل حفني ناصف أن لهجة بلدتي شرويدة وزنكلون وما حولهما من مديرية الشرقية يجعلون الكاف كالشين في مثل الكلمتين: كلب وكتاب. ثم يقول: (وعلى هذا فلا شك أن أهل شرويدة وزنكلون ينطقون بكلمة كلب على إنها مكسورة الكاف. . .)
إن أغلب الرواة والكتب القديمة والحديثة يقرنون الكشكشة بالكسكسة ولا يفردونهما. واختلافهم إنما هو في نسبة كل منهما إلى القبيلة - انظر الصاحبي والقاموس وشرحه ولسان العرب والصحاح وكافية ابن الحاجب والأشموني وخزانة الأدب - وليس كل منهما قد نسبه معظم الرواة إلى قبيلة واحدة فقد نسب إلى تميم وإلى أسد، وإلى هوازن من قيس، وإلى بكر من ربيعه وإلى مضر عموماً شاملة تميماً وقيساً وأسداً، وإلى ربيعه عموماً شاملة بكراً وتغلب. ومن مجموع هذه الروايات يتبين أن الكشكشة والكسكسة موجودتان. على أن الدكتور أنيس في قسم المترادفات ص145 ذكر أنه قام بجمع عشرات من الكلمات مع ذكر العلاقة الصوتية بينهما، ومما ذكره ص152 تحت اختلاف المخرج: الرعس والرعش. والغبس والغبش. الخ) كما أننا نجد كثيراً من الأطفال وبعض الكبار يجعلون يجعلون الشين سيناً. فإنكار الكسكسة ليس له ما يبرره بل يجب أن ندرسه. أما أن الكشكشة مقيدة بكاف مكسورة وإلزام أن يكون أهالي شرويدة وزنكلون وما حولهما من مديرية الشرقية ينطقون بكلمة كلب على إنها مكسورة الكاف فهو إلزام بغير ملزم إذ ليس من ذكرهم يكسرون الكاف في كلب ولا كمون، ولم يقل ذلك من نقل عنه مع أنه نقل كسر أول المضارع في موضوع آخر تحت ملاحظة أخرى. على أن اللهجات العامية فيما كان على وزن فعال و ' فعال بضم الأول أو كسره ككتاب وحصان وبساط وغراب وصداع يسكنون فاء الكلمة فيقولون كتاب وغراب وذلك البدء بالساكن موجود في اللغات كما أن حرف تش ينطق في كثير مفتوحاً والرواة لم يقيدوا الكشكشة بحالة الوقف، بل قالوا من الناس من يجري الوصل مجرى الوقف ورروا فعيناش عيناها ولبيش اللهم لبيش، وعلى فيها ابتقى(837/57)
ايفيش. الخ ما رواه الدكتور نفسه في صفحات 86، 87، 90، أما ما أستخلصه تحت رقم 4 فيناقضه ما هو منتشر في اللهجات العامية الآن - ولندع قول القدامى فإنه يناقضه أيضاً - من أنهم يلحقون شيناً آخر الكلام في النفي والاستفهام التقريري سواء كانت هناك كاف أم لم تكن في وصل الكلام ووقفه فيقولون يا فلان ما تلعبش وما قابلنكش وسافرش فلان؟ ونحن وإن كنا نستطيع إرجاع الشين في بعض الأحوال - ماعدا الاستفهام وما آخره كاف خطاب - إلى لفظة شيء مثل ما تلعبش أصلها لا تلعب شيئاً، ثم ضاعت الحركة الإعرابية والتنوين بفعل العامة فصارت: ما تلعبشي أو ما تلعبش، إلا أننا لا يمكن أن نرجعها في مثل: سافرش فلان؟ وما سمعتكش تتكللم إلا بتكلف وتجوز بعيد، ولهذا نرجع أمثال ذلك إلى التوسع في لهجة ربيعه ومضر. وعلى كل حال فهنا صوت آخر اتصل بصوت سابق.
ص128 (كل لهجة من اللهجات أو مجموعة منها قد التزمت اشتقاق المضارع من الماضي الثلاثي على هيئة خاصة ولا تشذ عنها إلا في النادر).
ولقد كتبت في الرسالة في العدد 805 مبيناً خطأ ذلك ولا داعي لتكراره على أننا في لهجاتنا العامية لا نسير على نظام واحد في اشتقاقنا نقول يكتب ويرسم وينسج. . . الخ بكسر الثالث ونقول يرطن وينتر. . . الخ بضم الثالث وحلم ويلعب. . . الخ بفتح الثالث وكل هذا مما له أوزان في الفصحى قد توافق العامة وقد لا توافقها. أما الإمالة والتسهيل ونحوهما فذلك من العادة اللغوية التي لا تشذ فيها الجماعة المرتبطة والبيئة المتفقة.
ص139 (روي أن أبا هريرة لم يعرف المقصود من لفظة السكين لأنها في لهجته تسمى المدية ثم قال: ولعل هذه الحادثة كانت قبل نزول القرآن الكريم بلفظ السكين في سورة يوسف) ولو أنه اكتفى بالمثل دون التعليل لكان أحسن لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة وسورة يوسف نزلت قبل الهجرة ولو قال قبل سماعه سورة يوسف لكان أدق.
ص140 ذكر أن رجلاً ذهب إلى أحد ملوك اليمن فأطلع إلى سطح والملك عليه فلما رآه الملك اختبره فقال له ثب. . . الخ ولست أدري سبب زيادة (اختبره) لأن القصة وسؤال الملك ما شأنه وإجابة الحاضرين ليست عربيتنا كعربيتهم تنفي أنه أختبره.
ص167 (لمقت الشيء بمعنى كتبته في لهجة عقيل وبمعنى محوته عند قبائل قيس) مع أن عقيلاً من قبائل قيس ولو قال عند بقية قبائل قيس لكان أفضل.(837/58)
لقد أعجبني كال الإعجاب تحليله في الإمالة ووصوله في ص47، 48 إلى أن الكلمات التي أصلها يائي تكون الإمالة فيها هي الأصل ويكون الفتح تطوراً والحجازيون قد قطعوا مرحلة في تطور لهجتهم. وإن الإمالة لأجل الحركة في مثل كتاب وهي التي كان سببها الكسرة للانسجام بين أصوات اللين يكون أصلها الفتح وتكون الإمالة تطوراً إلى مرحلة الانسجام. وكنت أنتظر أن يحكم بعد هذا بأن الحجازيين يميلون الألف لأجل الكسرة لأن النظرية التي قررها سليمة وهي نظرية السهولة والاقتصاد في الجهد العضلي تتجه إليها القبائل المتحضرة ولكنه لم يسعفه الدليل فقال ص69 (أما حين تكون الإمالة نتيجة انسجام بين أصوات اللين كما في إمالة نحو كتاب فتلك صفة اختصت بها القبائل البدوية وقد سبقت فيها القبائل المتحضرة) ولو رجع إلى الهمع مثلاً لوجد النظرية صحيحة إذ نص على أن الحجازيين يميلون الألف لأجل الكسرة. ولاستغنى عما قاله ص69 فناقض به نظريته الصحيحة.
إني أكتفي بهذا القدر وأعتقد مع ذلك أن كتاب اللهجات العربية قيم في أبحاثه جميل في عرض موضوعاتهوإني إذ أنقد كتاب أستاذي فإنما أعطي حق العلم أيضاً ولكل إنسان رأيه وبخاصة أنه كتاب نشر على الناس وأصبح من حق الجميع فأما كنت على حق فيعاد النظر فيما نقدته وإما كنت مخطئاً أم لم أفهم بعد فيردني المؤلف والقراء مع رجائي ألا يكون علم الأصوات الحديث هو كل شيء في الرد وبخاصة ما استنبط بمقارنة السنسكريتية باللاتينية واليونانية مع التعليل المعقول لما عارضت به.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(837/59)
العدد 838 - بتاريخ: 25 - 07 - 1949(/)
12 - أمم حائرة
العدل
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك وزير مصر المفوض
بالمملكة السعودية
إذا اجتمعت النفس بالإيمان، وقويت واستنارت، وارتقت إلى عالم المعاني، وأنِست بالمعاني الجميلة العامة، وأحست الوئام والسلام، ونفرت من النزاع والخلاف، وانطلقت من حدود الأهواء والشهوات والرغبة والرهبة والعصبية، وعلت على الزمان والمكان - حينئذ تؤهل للحق والخير والجمال والعدل والإحسان وإذا أهلت النفس للعدل. وسكنت إليه وآثرته كانت أهلا لأداء الأمانة التي قال فيها القرآن:
(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنا وأشفقَ منها وحملها الإنسان).
وكانت أهلا لخلافة الله في الأرض، أي القيام بعدله بين خلقه، وجهدت للارتقاء إلى منزلة العدل، العدل المطلق، في الرغبة والرهبة، والمنشط والمكره، والرضا والغضب، ومع القريب والبعيد، والعدو والصديق، في كلُّ حين وعلى كلُّ حال.
العدل الذي قال فيه القرآن:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا هو أقرب للتقوى)
وقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)
فتجعل النفس هذا العدل قصدها وغايتها، وغايتها، وأملها ومنيتها، وتسير إليه دائبة، وتعمل له جاهدة، حتى تبلغه أو تقاربه، أو تبقى راغبة فيه، سائرة إليه على قدر الطاقة، حتى تبلغ أو تقارب أو تنقطع دونه وقد سارت إليه مراحل، وضربت في طريقها أمثالا وخلقت فيه آثاراً.
بهذا العدل قامت السموات والأرض، واستقامت الخليفة، واتسقت أمور الأمم.
(والسماء رفعها ووضع الميزان، ألاّ تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسِروا(838/1)
الميزان)
فإذا عدل الواحد فيما بينه وبين الناس، وعدلت الجماعات فيما بينها، والتزمت العدل وآثرته ومرنت عليه ودأبت، زال البغي والعدوان والطغيان، وكل ما يمت إلى هذه المعاني، مما هو خلل في النظام، وميل في الميزان وحيد عن الائتلاف والوئام، ونزوغ إلى الاضطراب والخصام.
وإذا زال التنافر والتنازع والتغابن في صورها الكثيرة، وأحوالها المختلفة، وغلبت قوانين العدل المؤلفة الجامعة، وأخذ الوحدان والجماعات بالحق وأعطت به، وصرَّفت صغار الأمور وكبارها بالعدل، ائتلفت الأعمال، وانقلب البغض حباً، والاختلاف ائتلافاً، والخصام وداً، والتنازع تعاوناً، والتقاطع تعاضداً.
تمثل الوجدان والجماعات، وقد أخذ كلُّ حقه وأعطى حق غيره، وتعاونت الألسن والأيدي والقلوب على خير وسعادة الناس، وتحول هذا الجهد الدائب والعمل الناصب في تدريب الجند، وإعداد السلاح، وتدبير خطط القتال، للتسلط والغصب والجور، إلى اجتهاد في إسعاد الناس دون تفريق بين شرقي وغربي وأسود وأبيض. وانقلب مصانع الدمار وآلات البور مصانع للعمران وآلات لرغد العيش، وجلب الرفاهية للناس ودفع الشر ومغالبة الفقر والمرض وما يتصل بهما من بؤس وتعاسة.
تمثل هذا ثم اعجب لهذه الإنسانية الضالة، والبشرية الشقية تملأ الأرض والسماء عداء وقتالا، وتشغل بالقتال والإعداد له عن خيرها وسعادتها، ثم تحاول بعد كلُّ معركة غسل الدماء، وضمد الجراح، ودفع البؤس غير آلية في الإعداد للمعركة الأخرى. ولن يستقم للناس العمل للخير والشر والسعادة والشقاء معاً، لن يستقم العمل للحرب والسلم، والسعي للعمران والدماء سواء؛ فإما عملوا للشر والتعاسة. يرجون النجاة ولا يسلكون مسالكها، ويقصدون الخير ولا يسيرون على نهجه!
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلنا جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم).
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا عليهم بركات من السماوات والأرض).
كلُّ هذا القلق وهذا الشقاء مما حاد الناس عن العدل.(838/2)
إن آفة الناس في البغي والعدوان، وشقائهم في الاثرة والعصبية التي تحيد بهم عن العدل، وتنأى بهم عن النحاب والتعاون.
وإذا تعامل الناس بالعدل بينهم، وضعفت الأثرة أو امّحت في نفوسهم، أرتقوا من بعد درجات إلى الفضل في المعاملة، والإيثار فيما بينهم. وراء هذا درجات من السعادة لا تنتهي.
يرى كثيراً من الناس أن هذا خيال أو حلم، وأن الناس لن يتعاملوا بالعدل مقيدا أو مطلقاً، ولن يكفوا عن العدوان والبغي. ولست أذهب مذهبهم.
ففي وجدان الإنسان خير، وفيه نزوع إلى الحق والعدل إذا أوقضت في نفسه دواعي الخير بالدعوة الصالحة، والأسوة الحسنة، وإذا أحيط من العلم والعدل بما يعظم رغبته في الخير، وصدوفه عن الشر وينبه معاني الحق والعدل في وجدانه.
وإن كانت درجات العدل التي ندعو إليها أرفع من العامة، وأعلى من الدهماء، فليس بعيداً أن يستجيب لها في كلُّ أمة طائفة من أولى العقل والعلم. وإذا قامت في كلُّ أمة أئمة تدعو إلى العدل ونبع فيها قادة تسير عليه وتعمل به وصرّفوا الأمور بالعدل المطلق وأخذوا الناس به طوعاً وكرهاً عمّت الأسوة وسكن الناس إليها وغلب العدل في قلوب الناس وأعمالهم، واستقرت عليه الأمور، وشاعت به المحبة والسلام. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(838/3)
مصطفى كمال الزعيم التركي
بقلم الكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا
للأستاذ أحمد رمزي بك
(تتمة)
وددت كثيراً لو أن ما رأيته في المؤتمر الذي عقد بلندرة في فبراير سنة 1921 كان كافياً ليكتشف الغطاء عن أنظار أولئك السياسيين الذين أبوا أن يصغوا لأي نصيحة فيتبينوا الحقائق.
حضر إلى هذا المؤتمر وفدان تركيان. .
الأول يمثل تركيا الرسمية حكومة السلطان المعترف بها وعلى رأسه توفيق باشا، وهو رجل طاعن في السن محترم من الجميع تولى الصدارة العظمى عدة مرات.
والثاني وفد حكومة أنقرة يرأسه وزير خارجيتها بكير سامي بك. وقد رفضت الحكومة البريطانية استقباله حتى لا يؤخذ هذا منها بأنه اعتراف رسمي بحكومة الكماليين.
ولكن كم كانت دهشة المفوضين الأوربيين الذين كانوا يؤملون رؤية أعضاء الوافدين تفرق بينهم الكراهية والبغضاء أن يجدوهم في تآلف تام جالسين على نفس المقاعد.
وكم كان تعجبهم لدى رؤية ذلك الشيخ الوقور توفيق باشا يقف بما حوله من حق الرياسة على المندوبين الترك ليعطي الكلمة لبكير سامي بك رئيس وفد أنقرة الذي تكلم بالنيابة عن الوفدين.
وقد أدرك بكير سامي بك قيمة النصائح التي أسداها إليه المسيو بريان رئيس الوفد الفرنسي والتي أبديتها من جهتي بالتمسك يخطه معتدلة وقد ما يمكن أن تكسبه قضية بلاده إذا أظهر أنه أكثر رغبة من المفوضين اليونان رأى هيئة تحكيم منصفة.
وبناء عن هذه الخطة تم القبول التحكيم ومشروع إجراء التحقيق الدولي في آسيا.
وكان هذا القرار على جانب من الأهمية السياسية لما قد يأتي به من النتائج الحاسمة ولأن في قبول دول إنجلترة وفرنسا وإيطاليا إجراء تحقيق في الأناضول اعترافاً ضمناً من واضعي معاهدة سيفر، أنهم لم يحسنوا استقاء المعلومات الحقيقية فبنوا عملهم في سياستهم(838/4)
الشرقية على مبادئ غير مستقيمة مع الواقع.
ولم يكن لدى الزعيم التركي ما يحمله على التشدد، لأن كلُّ المظاهر تدل على أنه قد اقترب من الحصول على صلح يصح أن يقبل.
ولكن لم تمض ثلاثة شهور على هذا حتى انهار كلُّ البناء لأن حكومة أثينا رفضت الاعتراف بقرارات لجنة التحقيق ولجأت إلى تحكيم القوة.
فكانت هزائمهم لسنة 1921 التي أعقبت توغلهم في الداخل وانتهت بتراجعهم إلى خط أفيون قره حصار وكوتاهية حيث وقفوا سنة بطولها ينتظرون، ذلك لأن الزعيم التركي أراد لهم هذا - وقد يكون المرء في تريثه وإمهاله لخصمه أكثر شجاعة منه في مبادرته بالهجوم ومناجزته لعدوَّه.
وهكذا تحفز بهم سنة بطولها حتى أتم عدته ثم قضى عليهم بضربة كانت الأخيرة.
لأنه في 26 أغسطس سنة 1922 هاجم أفيون قره حصار؛ وفي اليوم التالي أتم فتح الثغرة في قلب الجيش اليوناني، فأصدر القائد العم الجنرال تريكوبيس أمراً بالتراجع انتهى بتمزيق الجيش كله ووقوع القائد نفسه أسيراً في يدي مفرزة من الفرسان الأتراك، وكان ختام المعارك احتلال أزمير التي دلها الترك بعد مضي أسبوع وأحد على اختراقهم الجبهة.
أعقب ذلك ضياع الملك من يدي قسطنطين ثم اجتماع مندوبي إنجلترة وفرنسا وإيطاليا في 11 أكتوبر سنة 1922 ليوقفوا الحركات العدائية بهدنة مودانية التي اختتمت بعدها أربع سنوات مملوءة بالأوهام والأخطاء، والتي أرجعت لحكومة أنقرة استنبول وترقيا الشرقية وأدخلت جيشهم إلى أوربا منتصراً تحت قيادة مصطفى كمال فكر بعض عمال بريطانيا عند بدء الاحتلال في نفيه إلى مالطة.
وليس الغرض من سياق هذا الحديث والدخول في التفاصيل أن أشرح حوادث كنت شاهداً لها وعاملاً فيها فبطبيعة المراكز التي شغلتها كمندوب سام لإيطاليا في باريس وقت عقد هدنة مودانياً، وإنما قصدت أن أشير في هذه التفاصيل إلى الأسباب الخارجية الحقيقية التي سببت نجاح الزعيم التركي وساعدته على الوصول إلى هذه النتيجة
لقد حكم الزعيم التركي بلاده منذ ذلك التاريخ وأظهر رغبة وحماساً شديدين للتجديد والتبديل متجهاً بكليته نحو أوربا بشكل جعل مفكري الغرب ينظرون إلى هذه التغييرات(838/5)
بغير النظرة التي كان ينتظرها منهم، لأن أغلبها مظهري، ثم هي ثانوية بجانب الأعمال الضرورية الأخرى ولم تقتصر نتيجتها على أعمال التقاليد الإسلامية التي طالما استمد منها الشعب التركي قوته وجلده في القرون الماضية.
والخطأ العظيم الذي ارتكبه الزعيم في عمله الإصلاحي هو محاولة الجري بسرعة لم يجرؤ عليها المصلحون الذين تقدموه، ولا يبعد أن تكون وسائل الاتصال الحديثة من السكك الحديدية وغيرها وما طرأ على العالم بعد الحرب العظمى قد أثرت فيه وجعلته يعتقد إن فكرة التقريب بين شعوب تختلف اختلافاً ليلً في الأفكار والعواطف أصبحت أمراً سهلاً ولكن هذه الإصلاحات الغربية مهما تشعبت وكثرت فلم تكن في يوماً ما إلا دوراً ثانوياً الذي قام به الزعيم كمنظم وموجد للقوة العسكرية التي كونها من العدم في بلاده، ثم كمحرك لعوامل الدفاع والجهاد بين قومه، وسيبقى أسمه كجندي ورجل من رجال الحرب يذكره التاريخ دائماً مقروناً بالحركة العظيمة التي كان على رأسها.
وقد امتاز مصطفى كمال في كل أدوار حركته الاستقلالية بتيقظه وضبطه لنفسه وطول أناته؛ وكان في أشد الأوقات وأعصبها مالكاً لحواسه شديد الحذر في تصرفاته بقدر ما كان سريع الإقدام والتنفيذ في إصلاحاته وتغييره الطربوش وأخذه بالقبعة.
ولطالما دفعه أنصاره - وفريق منهم يبطن الكيد له - إلى التعجل. فكان يا [ى إلا أن يكون يصبر الشهور وهو لا يبدي نشاطاً للقتال، بل يجمع قواته ويزيد في معدات جيشه، ويزن الآمر حتى يتأكد من أن كل عوامل النجاح في صفه، ثم يوجه ضربته الآخرة. وما أن يقذف بقواته حتى يرى أعوانه أن ذلك التباطؤ الذي طالما أخذوه عليه قد أنقلب إلى دفعة ومناجزة للخصم قوية يسيرها نشاط دائم منظم لا يوقفه عائق حتى يقذف بالأعداء إلى البحر.
والذي يدهش إليه الإنسان إن الصفات التي ملكها الزعيم التركي لم تغادره وهو في أعلى قمة مجده وعلى رأسه أكاليل النصر وطوع أمره جيش يترنح بنشوة الظفر - لأنه غداة المعارك التي أكتسبها تلاقت طلائع جيشه أمام غاليبولي بقوات بريطانية تحاول منعه من العبور إلى الشاطئ الأوربي إذ قرر لويد جرج ساعتئذ أن يوقف سيل الجيش المنتصر أمام المنطقة المحايدة للمضايق، ومعنى هذا قيام حرب جديدة.(838/6)
وكان رئيس وزراء بريطانيا مصمماً على هذا الرأي على رغم مخالفة فرنسا وإيطاليا له، وقبل أن يستشير رؤساء وزارات الممتلكات البريطانية الحرة - الدومنيون - قبل قذفه بالإمبراطورية في غمار حرب جديدة، وهذه غلطة أخذها عليه السياسيون الإنجليز لمخالفتها النصوص نظام تكوين إمبراطوريتهم.
ولكن الزعيم التركي فاز بصبره عليه إذ عرف كيف يتجنب خطر ذلك الموقف الزلق، وكيف يدرأ عن بلاده مصيبة حرب، جديدة، وقدر على نفسه وهو في قمة مجده وبيده مقاليد رجال طوع إشارته، فردها على سراب الأطماع وأخضع نفسه لإرادته
ويلذ لي هنا ذكر ما كتبه تشرشل وهو الواضع مع لويد جورج أساس السياسة التي أتبعتها بريطانيا في الشرق الأدنى والمسئول معه عن نتائجها وإن كان كاتبها لم يقدر تماماً ما كان للزعيم التركي من فضل في حقنه للدماء وإيقافه اشتعال حرب جديدة مع دولة أوربية بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العظمى قال. .
(وجه كمال كل مجهوده إلى الغرض الأساسي الذي أمامه والذي كان من السهل الوصول إليه وأستعمل قوات الفرسان التي كانت تحمى جناحيه ليظهر قوته أمام الإنجليز المحتلين لجناق - ولكنه أصدر لضباطه تعليمات شديدة ليتحاشوا القيام بأي مظهر عدائي، وأن يكون تقدمهم بطريقة ودية. ولم يتغير تصرفهم هذا أمام كلُّ الظروف التي اعترضتهم، بل ذهبوا إلى إظهار التآخي بطلب بعض المهمات والأشياء التي يحصل تبادلها بين قوات متحابة معسكرة في مكان واحد - وبهذا أمنت كلُّ القوات البريطانية التي كانت محتلة للمضيق في الوقت الذي كان الخطر محدقاً فيه باستانبول التي لم يكن من اختصاص بريطانيا الدفاع عنها.
لقد عرفت عن كثب أنور باشا وهو من رجال الحرب نبغ من أحرار الأتراك، وكان عاملا من أول الحركة التي أشعلتها جمعية الاتحاد والترقي، ثم قائداً في حرب طرابلس ضد إيطاليا، وأخيراً في الحرب البلقانية.
ولم أر اليأس قط متغلباً على أنور حتى في أشد الأوقات محنة حينما كان البلقانيون على خطوط تشا طلجة، ولكن مزاياه الخلقية والفكرية كانت تتضاءل أمام حبة للمباهاة بنفسه وخيلائه.(838/7)
ولذلك قصر عن تملك القدرة على النظر بدقة إلى الأمور وتفهم الأشياء على طريقة كمال الذي يتبع خطة للعمل يقرن فيها إقدام المتناهي مع الصبر والتأني الطويل ويعرف كيف يُملى على نفسه وهو قائم يحرك الجيوش على جبهة القتال - وهذا هو سر نجاحه -
وهذا دليل على أن الروح العسكري القديمة التي كانت لدى العثمانيين القدماء ومكنتهم من تدويخ أوربا ومقارعتهم لها وهم تحت أسوار فينا قد عادت وتقمصت فيه.
ولكن المهمة السياسية التي ألقيت على عاتق هؤلاء كانت سهلة ليست مستعصية كالتي تلقاها خلفهم في القرن العشرين لأنهم دخلوا أوربا منتصرين واحتلوا بلاداً وأقطاراً شاسعة وكان من حقهم إهمال من يعيش فيها ما دامت القوة في جانبهم.
إني أصرف النظر كما ذكرت في السابق عن موضوع إصلاحاته الغريبة التي أعدها من قبيل عمل المسيطرين الغواة المتشبعين بطريقة بطرس الأكبر - وأعود إلى سياسته التي أوجدها لنفسه أمام الظروف القاسية التي وجد فيها بلاده، تلك السياسة التي أملاها بحزم، وقصر نفسه عليها من المبدأ إلى النهاية تم دوام على اتباعها مخالفاً بذلك تقاليد الدكتاتوريين الذين قبله وما يعمله دكتاتوريو هذا العصر.
لأن كلا منهم في حاجة إلى اتباع مظهرية ترمي إلى إدخال الهيبة في نفوس العامة، وفي حاجة إلى إشعال الشعوب التي فقدت حريتها بشيء من المجد.
وأرى مصطفى كمال الأول من هذا النوع من الناس الذي أوتي من الشجاعة الأدبية ما جعله يقرر من أول الأمر أن يقصر نفسه عن هذه المظاهر الفخرية - ثم أن يدام على حرمان نفسه وعدم إشعال أمته بمثل هذا بعد انتصاره وقد بلغ من الأمر منتهاة. فكثيراً ما هددت الدولة العثمانية بخلافتها وبإعلانها الجهاد رغبة منها في الظهور الدولة ذات السياسة العالمية وإن كانت تمثل الرجعية والتقهقر بأجلى مظاهرهما. وجاء مصطفى كمال فكان أول من تحقق من أن مصلحة تركيا تقضى بتنازلها عن أي نفوذ أو سلطة خارج حدودها القومية، ولذلك وضع نصب عينية أن يتحاشى أشغالها بأي عمل يشتم منه الرغبة في مغامرات خارجية فوق طاقتها.
وقد عانيت ذلك بنفسي في الشهور الأولى من عام 1919 حينما كنت باستانبول وتيقنت من أن الزعيم التركي قد عزم على اتباع هذه السياسة الإيجابية التي تؤدي حتما إلى(838/8)
استقلال فعلي حقيقي لتركيا.
وكان قد لجأ إلى بروسة في تلك الأيام السيد أحمد السنوسي الزعيم الديني المشهور في برقة حينما أيقن من ضياع آماله في إخراج الإيطاليين من بلاده. ولما كنت مقنعاً بأن السياسة العملية الوحيدة لتوطيد الأمن والسلام في ربوع المستعمرين الإيطاليتين تتلخص في إعطاء الأهالي الوطنيين شيئاً من الحكم الذاتي الواسع النطاق، لم أتردد لحظة واحدة في قبول المفاتحات التي عرضها على أصدقاء السيد السنوسي باستنبول، وفعلاً دخلت معه في محادثات طويلة على الطريقة المعتادة للشرقيين انتهت به إلى فهم وتقدير مشروع اتفاق مع الحكومة الإيطالية يعطى للسيد السلطة متسعة في الداخل على شرط أن يعترف نهائياً بسيادة إيطاليا على بلاده وأن يعطى المواثيق بتشجيع ومساعدة المصالح الاقتصادية والسياسية في بقية الجهات الواقعة تحت حكم إيطاليا مباشرة في طرابلس وبرقة.
وقد عقد فعلاً وزير المستعمرات الإيطالية السنيور لويجي روسي على أساس هذه المحادثات اتفاقاً حكيماً جنت منه إيطاليا ثمرات عديدة حتى جاءت الحكومة الفاشية فضربت به عرض الحائط، لأنها وجدت في المستعمرتين ميداناً واسعاً لاستغلال منشوراتها وتقاريرها عن انتصاراتها الحربية التي يتضح للمتأمل عبث القيام بها بجانب ما تتكلفه من التكاليف والخسائر.
ولم يكن منتظراً بقاء مثل هذه المحادثات في طي الخفاء ونحن في جو استنبول لأنها سرعان ما تنتقل إلى علم أنصار مصطفى كمال وقد يعملون على إحباطها، ولذلك رأيت من المصلحة إبلاغه عنها فجاءني منه الرد الآتي:
(كان علة شقائنا وسقوطنا محاولتنا المحافظة على سيادة تركيا على الأقطار العربية فنحن لا نريد أن نسمع من الآن شيئاً عن ذلك، والسنوسي حر في أن يفاوضكم على ما يرغب وأن تتفقوا معه على ما تريدون).
ولقد زادني هذا الرد القاطع المقرون بالصراحة اعتقاداً في أننا على وشك أن نلمس عصر إحياء جديد في النفس التركية - ووصل مصطفى كمال إلى أوج ما ينشد من المجد والسلطة فلم يغير من خطته هذه - وهو موقف يستدعى الإعجاب والتقدير وهو نادر في نفس الوقت.(838/9)
لقد عرف من البداية أن الدولة العثمانية بلاد متأخرة تقع بين أوربا وآسيا، وأن تركيا إذا اقتصرت على توجيه قواها إلى استغلال آسيا الصغرى أمكنها تحت نظامها الجديد أن تصير عامل حضارة وتقدم، وقد تأتى يوم تلعب فيه دوراً مهماً تجاه آسيا الوسطى.
وهنا يظهر عمله الإنشائي الحقيقي الذي أتمه بحنكة وشجاعة وإن بقى مجهولاً لدى الكثيرين بجانب ما يتحدث الناس به من إصلاحاته الثانوية في تغيير الحروف وفرض القبعة.
وإنه لمن المشرف له أن يشاد بعمله هذا وأن يقال إن هذا الزعيم وصل من بين الدكتاتوريين أن يجنى ثمار نجتحه بحق، لأنه أقدم على ما لم يقدم عليه غيره، وعرف كيف ينظر شزراً إلى مخلفات سياسة المجد الكاذب التي كانت تتبعها الحكومة العثمانية السابقة والتي لم يكن لها غرض إلا ما تحدثه من الضجيج الفارغ والضوضاء الكاذبة. . .
أحمد رمزي(838/10)
طرائف من العصر المملوكي:
الشكوى في شعر ابن نباتة
للأستاذ محمود رزق سليم
لا ريب أن البشرية غايتها السعادة؛ فهي تسعى إليها أفراداً وجماعات، وتطرق كلُّ باب يؤدي إليها، وكل سبيل تفضي نحوها. - وقد اختلف الناس - ولا يزالون مختلفين - في كنه السعادة وفي الوسائل المؤدية إليها. ولكن - ليت شعري - أيكون البؤس مظهراً من مظاهر السعادة، أو يكون وسيلة من وسائلها؟ نتساءل، لأن النفوس مختلفة الطباع، متباينة الاتجاه. ومن الناس من يجد لذته في شقائه، وسعادته في بؤسه. إذ خلقت نفسه ذات طبيعة قلقة حائرة تنشد الهدوء، حتى إذا وجدته نفرت منه، وعاودت سعيها إليه. وتطلب الرضا، حتى إذ ظفرت به ونعمت بأسبابه، قطعت ما بينها وبينه، ثم شاقها الحنين للبحث عنه. هذه نفوس من طراز خاص توسع في آمالها ما أفسح لها الخيال، وتسعى في سبيلها ما بدا لها السعي. حتى إذا وصلت إلى أمل جددت أملاً؛ وإذا ما انتهت من سعى عاودت سعيا. لأن غايتها في السعي نفسه، لا في عاقبته. ولأن إربتها في البحث ذاته، لا في نهايته، فهي أبدا في عمل دائب وهم ناصب. وهي لقلقها الذي فطرت عليه، وحيرتها التي خلقت بها، لا تستريح إلى طريق في الحياة ممهدة معبدة، لا أمت فيها ولا عوج. ولا تطيب لها السبل، إذا امتلأت جبناتها بالورود والأزاهير. بل تفضل منها المعقدة الملتوية المجذبة، على السهلة المستقيمة المخصبة. وتختار المشقة على اليسر، وتؤثر التعب على الراحة. كلُّ ذلك لا ليقال: مجيدة بلغت السيادة بجدها وجهادها، ولا ليقال: فريدة حازت السعادة بكدها وجلادها، بل لكي تلائم بين هذه المشقات وبين طبيعتها، وما فيها من قلق وحيرة. ولكي تجد فيها من الأسباب ما ترتل عليه شكواها وتوقع أنينها. فهي مطبوعة على حب الشكوى، تجيدها وتجد فيها راحتها، ومفطورة على الأنين تحبه، وتستشعر خلاله طمأنينتها. وهي لا تستطيع الحمد فلا تجأر به، ولا تستسيغ الرضا فلا تهدأ إليه. ولو راحت تحمد وترضى، ما استطاعت ذلك إلا متكلفة مجهودة، ومتعبة مكدودة.
هذه نفوس من طراز خاص كما أشرنا. وتأبى الأقدار إلا أن تهيئ لها كلُّ العوامل التي تنضج فيها هذا الفن من فنون الحياة فتلقى في طريقها الأشواك، وتبث الشراك، حتى يكثر(838/11)
عثارها، ويتكرر نفارها. وهي - في الحق - راضية في قرارتها، هانئة في أعماقها؛ لأن ما تصنعه لها الأقدار يتلاءم مع سجيتها، وينسجم مع طبيعتها. وهكذا تبدو بائسة يكاد يأكلها البؤس، ونحسة يكاد يطويها النحس. فتقر بقلقها من دار إلى دار، ومن سبيل إلى أخرى. تنشد ما تزعم من سعادة وعزاء، شاكية آنة، باثة حانة. حتى إذا ما ظفرت نفرت وإذا وصلت فصلت. ولم تستطب هذا الاستقرار، ولا ما هيأه لها من سعادة، ولا ما دعاها إليه من لهج بالحمد والثناء.
تتجاذبنا هذه الخواطر كلما جلسنا إلى ديوان ابن نباتة الشاعر المصري الكبير، لنقرأ طرفاً من أبياته؛ إذ نرى فيها شاعراً بادي القلق ظاهر البؤس، كثير الشكاية، وتلك سمة واضحة في شعره، وفي مراحل حياته.
كان جمال الدين بن نباتة (686هـ - 768هـ) أمير شعراء مصر في جيله غير منازع، وهب الله له نفساً أديبة خصيبة، وخيالاً واسعاً رحيباً، ولساناً طيعاً، ومنطقاً مصوراً بارعاً. فهام لذلك في أودية الشعر، وطرق الجم من فنونه. وحق له أن بفخر بقوله:
فما الدر إلا دون نظم أصوغه ... وما القصر إلا دون بيت أشيده
ويقول:
من مبلغ العرب عن شعري ودولته ... أن ابن عباد باق وابن زيدونا
ظن ابن نباتة، وقد طاع له من القول عصيه، ودان له من الشعر أبيه، أن من حقه على الزمن أن يسعده لا يجحده، وأن ينعمه لا يشقيه، وأن يهيئ له من أسباب الرضا ما تقر له عينه، وتطيب به نفسه، حتى يستبقى جهده، لفنه وحده لا تشغله عنه شواغل الحياة، ولا تقعده دونه هموم الرزق.
ظن ابن نباتة ذلك، ولم يعلم أن الزمان قد استحال، وأن الدهر قد تغير، وأن دولاً ذهبت، وجاءت على أنقاضها دول. وأن الملوك قد استعجمت بل والشعوب، وذهبت أيام الرواج للشعر، وطويت بسط الإنشاء، وانفض سامره، وقضى عهد التكسب، وقبضت يد العطاء عن الشعراء، وأقفلت في وجوههم جنات النعيم.
هذه حقيقة فطن لها انداده من شعراء عصره فلووا جيدهم وانصرفوا عن التكسب بالشعر إلى التكسب بغيره. فكان منهم العالم الفقيه، أو الكاتب المنشئ، أو التاجر المتنقل، أو(838/12)