ما لم نرها في أمكنة مختلفة (ص 23).
أما الفصل الثاني فيتصدى لبحث وجود المادة، ويأخذ بمنهج ديكارت الذي يبدأ بالشك للوصول إلى اليقين، وبإثبات الذات لإثبات الموضوع إلا أن الذات التي يثبتها ديكارت لا يلزم أن تكون دائمة؛ بل قد تكون الأنا المدرك في لحظة إدراكه. وإذا صح أن أفكارنا ومشاعرنا الخاصة، وكذلك الأحلام والأوهام والإدراكات الحسية العادية هي ما يتصف باليقين الفطري؛ فقد لا تكون هذه رموزاً وعلامات للشيء الطبيعي المراد إثباته. وهنا نقف حائرين مع المؤلف بين نوعين من البرهان: الإدراك العادي البسيط يظهرنا على أن المائدة وغطاءها وأدوات الطعام فوقها ليست مجرد معطيات حس لا حقيقة لها، وحين أشترى المائدة لا أشترى مجموعة معطيات حس صاحبها؛ بل شيئاً حقيقياً. وحين تتفق مجموعة من الناس على رؤية مائدة - مع فارق بسيط - لا يتفقون إلا على وجود حقيقي. . . بينما المنطق يرى أن ليس ما يمنع من افتراض أن العالم يتكون - كما عند بركلي والمثاليين عموماً - من ذاتي وأفكاري وشعوري وإحساسي، وما عدا ذلك فهو وهم وخيال؛ وأن الحياة ذاتها حلم نبدع فيه بأنفسنا كل ما نتمثله أمامنا؛ فقد يكون وجودهم أنفسهم من صنعنا، وهم حلم يتراءى لنا. . . وينتهي هذا الفصل بالأخذ بالإدراك العادي البسيط القائل بالنظرية الطبيعية، ووجود أشياء لا يعتمد وجودها على إدراكنا. ونحن مهيأ ون للاعتقاد بها بالغريزة، ولا أستطيع رفع هذا الاعتقاد حتى يقوم الدليل على خطئه وتناقضه مع غيره. وإذا كان من بين هذه الاعتقادات الغريزية ما هو أقوى، وما هو شبه غريزي دخيل؛ فإن مهمة الفلسفة أن تبحث أيُّ هذه البديهيان والمسَلمات أولى بالقبول أو الرفض أو التعديل. وإلى أن تنهض بهذا التنظيم والفحص النقدي يجب أن نأخذ بهذه المعتقدات في شيء من الحيطة والشك.
وإذ ثبت أن الظاهر الحسي دليل على الحقيقة الموضوعية يشرع رسل في بحث ماهية المادة، فيفند التفسير العلمي الفرضي الناقص من حيث نظرته للضوء والصوت وغيرهما بوصفها حركات تموجية؛ مع أنها في حقيقتها أكثر من هذا: إدراك نحسه بالسمع والبصر ولا نستطيع وصفه أو نقله للأعمى أو الأصم. وينقد كذلك نظرة العلم إلى المكان والزمان العامين المحايدين للشيء الحقيقي (المكان والزمان العام كما يسميهما) بصرف النظر عن(815/32)
مكاننا وزماننا الخاصين كمدركين للأشياء الطبيعية في المكان والزمان العلميين. . . يريد رسل أن يخلص من هذا مرة أخرى إلى توكيد التفرقة بين الشيء الطبيعي في المكان الطبيعي والزمان العام؛ في مقابل معطيات الحس في مواضع مكانية خاصة وزمان تقديري خاص (والأولى منها لا نعرفها في ذاتها؛ بل نعرف نوع تنظيمها نتيجة علاقاتها المكانية)، وإلى تقرير أن هذه الخواص والعلاقات القائمة في مقابل الأشياء الطبيعية ومعطيات الحس هي ما يمكن معرفته؛ أما الماهية فتبقى مجهولة؛ برغم أن معطيات الحس إن لم تكن هي الأشياء الطبيعية على حقيقتها؛ فإنها تشبهها قليلاً أو كثيراً.
أفليس ثمة إذن دليل على أن للمادة الحقيقية التي سلمنا بها. ماهية معلومة؟ يرى الفلاسفة المثاليون - وعلى رأسهم كل موجود فهو عقلي - حتى المادة ذاتها - ويدفعون عن مذهبهم بأدلة مستمدة في معظمها من نظرية المعرفة والشروط التي يجب توافرها في الأشياء لنعرفها. وعندهم أن وجود الشيء هو إدراكه، وحين يقال لهم إن الأشياء توجد حتى ولو لم ندركها حينئذ، وهو سر وجودها. فما يسميه رسل (الشيء الطبيعي) هو عندهم (أفكار في عقل الله) وما يسميه معطيات الحس هو مشاركتنا نحن الجزئية في هذه الأفكار. ويأخذ رسل على هذا المذهب (ويحسن أن ترجعوا إلى مذهب بركلي على الأقل لتقفوا على نموذج من المذهب المثالي في مصادره):
1 - أن الذي في عقولنا هو فكرة الشيء لا الشيء نفسه.
2 - يثير بركلي مشكلة أخرى هي: ما يعرف مباشرة يجب أن يكون في العقل؛ بدلاً من مشكلته: وجودالشجرة ولو لم ندركها.
3 - فكرة المائدة مثلاً يمكن تحليلها إلى فعل إدراك (هو عقلي لا شك) وشئ مدرَك (لا يمكن أن يكون عقلياً بحال). وبالجملة يرى رسل أن بركلي قد خلط بين الشيء موضوع الإدراك وفعل الإدراك ذاته، وأخذ كلمة فكرة بمعنى الأشياء المدركّة، فجعل المدرك والإدراك شيئاً واحداً؛ بينما التميز بينهما ضروري، لأن قدرة العقل إنما تقوم في تحصيل معرفة خارج ذاته؛ أي إدراك ما ليس بعقلي. فهو قد أخطأ في الشكل والموضوع. أما النظرية التي تقول إن ما يثير أهمية لدينا لا يمكن أن يكون حقيقياً، وبالتالي لا يمكن أن نعرف أنه يوجد شيء نحن لا نعرفه؛ فهي نظرية واضحة البطلان تقوم على الرغبة(815/33)
والمنفعة وتفترض أن المادة ما لم تكن مكونة من عقول وأفكار عقلية فهي أمر مستحيل ووهم مجرد. وينتهي رسل هنا إلى تحليل ألفاظ الفعل (يعرف) في لغات مختلفة ليخلص من ذلك إلى نوعية من المعرفة: معرفة الحقائق والمعرفة المباشرة.
وبذا نكون قد وصلنا إلى القسم الثاني في مشاكل المعرفة وهو أهم أقسام هذا الكتاب؛ والمعرفة فيه نوعان. معرفة أشياء ومعرفة حقائق: أما الأشياء فمنها ما نعرفه مباشرة بإدراك الشيء بلا واسطة من عملية استدلال أو حقائق معلومة؛ كمعطيات حسنا عن المائدة من لون وشكل وصلابة. . وما نعرفه بالوصف للمائدة ذاتها كشيء طبيعي يُسبب معطيات الحس السابقة؛ وصف لحقائق شيء غير معلومة لدينا ماهيته على الإطلاق. فما نعرفه مباشرة من الأشياء الجزئية هو في الدرجة الأولى (معطيات الحس) ولكن لابد من معرفة الحقائق المجردة التي تسمى كليات:
2 - فهناك الذاكرة مصدر كل معرفة بالماضي.
3 - وهناك ثانياً التأمل الباطني والشعور الذاتي بالفاعلية الشخصية ثم بفاعلية الآخرين قياساً عليه ـ مما لا يوجد لدى الحيوان؛ أي الشعور بالذات العارفة المدركة في مقابل ادراكاتها الخارجية - مهما كانت الذات متغيرة - شعوراً مباشراً (الفقرة الثالثة ص 46 في غاية الأهمية في تلخيص هذا).
4 - وأخيراً المعرفة المباشرة للكليات والأفكار العامة. أي التطورات الذهنية للمدرك الكلي.
أما الأشياء الطبيعية فنعرفها بالوصف، ومن الوصف ما هو غامض مثل رجل، وما هو محدود مثل: الرجل ذو القناع الحديدي. أما الغامض فيسقطه رسل ويطلق كلمة الوصف على المحدد من نوعيه عموماً. وحينئذ يطلق الوصف ويراد به المفرد (هذا الشيء الفلاني) وتذكر له وحدة خاصة معينة يتميز بها دون أن يُعرف مباشرة من هو (الرجل ذو القناع أو المرشح الفائز؟). ومن الأوصاف الأعلام والكلمات العامة حين لا نعبر بها صراحة، حتى تختلف بين الأشخاص، ولدى الشخص في أوقات مختلفة (في ص 49: حكم بسمارك على نفسه معرفة مباشرة بالتأمل المذكور قبلا، وحكم صديقه عليه مزاج من معرفة مباشرة لمعطيات الحس في ارتباطها بأوصاف جسمه وعقله التي يعرفها فيه كشيء طبيعي يدرك(815/34)
بالوصف، ومعرفتنا نحن له وصفية صرف هي شهادة الغير والتصورات الجزئية والأحكام الكلية والتاريخية عليه). لاحظوا أننا هنا نبتعد عن المعرفة المباشرة ونوغل في المعرفة بالوصف على درجات أربع:
1 - فبسمارك الذي عرفه الناس بطرب من معرفة الناس المباشرة لشخص آخر (معرفة مباشرة رقم 3)
2 - وبسمارك الذي عرفه الناس من التاريخ فقط لا نزال نعرف من هو.
3 - والرجل ذو القناع الحديدي لا نعرف من هو، ولكننا نستطيع أن نستخلص من صفته هذه أحكاماً كثيرة.
4 - والرجل الذي عاش أطول مدة - لا يعرف عنه أكثر مما يتضمن هذا الوصف.
وللكليات تسلسل يشبه تسلسل الجزئيات هذا، والمهم هو مبدأ تحليل القضايا الوصفية: (كل قضية في مقدورنا أن ندركها يجب أن تتكون كليتها من مجموعة مكونات نعرفها مباشرة) أي أن يكون معنى الحدود التي نستخدمها في القضية نعرفها مباشرة (مثال يوليوس قيصر). وللوصف أخيراً أهمية تمكيننا من تجاوز حدود تجربتنا الخاصة ومعرفة الأشياء التي حال ضيق التجربة المباشرة دون إدراكها.
أما الاستقراء فتتخلص مشكلته في إمكان التوسع والتعميم وبالتالي التنبؤ بالأحداث المقبلة، وتوقع أن وجود (أ) يستتبع دائماً وجود (ب) المرتبطة بها في تجربتنا (شروق الشمس غداً، سقوط الأجسام بفعل قانون الجاذبية. . .) فإن وجود شيئين في وقت واحد بصورة مطردة سبب كاف لتوقع وجوداً أحدهما متى وُجد الآخر في مناسبة تالية - أي أن كل علة تحدث نفس المعلول عن العلة مستقبلا يجعل هذا المبدأ موضع شك. أما القوانين الطبيعية (كالحركة والجاذبية) فيطرَّد وقوع الحوادث فيها بلا تخلف، ومهمة العلم أن يكشف عن هذا الاطراد في وقوع الأحداث الطبيعية والتنبؤ بالمستقبل على أساس الماضي، ما دام أن هذا الماضي مستقبل تحقق فعلا. ومبدأ الاستقراء بشطريه اللذين ورد ذكرهما 58 وتعديلهما ص 59 يفسران بوضوح هذه الفكرة. وعليكم أن تفهموا بعد هذا أن مبدأ الاستقراء قد يبرهن عليه بالتجربة الماضية، ولكنه هو الذي يبرر لنا الاستدلالات المقبلة، بمعنى أن ما سبق امتحانه من الأمثلة يصل بنا عن طريق الاستقراء إلى مبدأ عام يتولى هو البرهنة(815/35)
على ما لم نمتحنه بعد. فالاستقراء انتقال مما امتحناه إلى ما لم نمتحنه، والمعرفة التي تظهرنا بالتجربة الماضية على شيء لم يحدث من التجربة بعد هي اعتقاد لا نؤيده ولا نرفضه، ولكنه متأصل في نفوسنا بهذه التجربة.
وإليكم المبادئ العامة الأخرى التي تخلص لنا بالاستدلال من المحسوسات، والتي ليس لها من اليقين إلا ما نستمده من التجربة أيضاً، والتي حين تبرهن التجربة على يقينها وصحتها تصبح هي مبدأ يبرهن به عن طريق الاستدلال منه. هذه المبادئ من الوضوح لدرجة أنها تقوم في أساس كل استدلال عقلي، فلا مجال للشك فيها، لأنها تقوم في العقل كبديهيات مسلم بها. وأهم هذه المبادئ ما يسميه المنطق: قوانين الفكر الثلاثة:
قانون الذاتية ورمزه: أليس (ب).
قانون التناقض ورمزه: أليس (ب) و (لا - ب) في وقت واحد.
قانون الثالث المرفوع ورمزه: (أ) إما (ب) (أو لا ب).
وكذلك المبدأ المنطقي: ما ينتج عن مقدمات صادقة فهو صادق، ولا يقتصر الأمر في هذه المعارف الأولية على مبادئ المنطق، بل يوجد في الرياضيات مثلا البديهية التي تقول: المساوي لأحد المتساويين يساوى الآخر، ورمزها: أ=ب، ب=ج ? أ=حـ؛ وفي الأخلاق المبدأ الذي يقول: الإنسان ينشد السعادة ويتجنب الألم؛ وفي الاقتصاد المبدأ القائل: الإنسان يسعى بفطرته لخير نفسه. . . فكل هذه مبادئ لا نستنتجها من الأمثلة، بل نوضحها بذكر أمثلة لها، فهي أولية عقلية غير مأخوذة من التجربة، بل موجودة في العقل كبديهيات
وبالجملة يجب أن تفرقوا بين أحكام كلية تركيبية هي في أصلها تعميمات تجريبية (كل إنسان فإن) ومبادئ أولية عقلية غير مستنتجة بل موجودة أصلا في العقل (كمبادئ الهندسة والأخلاق والاقتصاد والمنطق التي ذكرنا). أما الأولى فنحصلها بالاستقراء الذي هو تعميم وانتقال من جزئيات إلى كلى أعم واشمل، وأما المبادئ العامة الكلية فقد تكفل بتفسير وجودها. في أذهاننا (كانت) الألماني حين ميز بين قضايا تحليلية وأخرى تركيبية؛ الأولى فطرية هي بمثابة قوالب في الذهن أولية وسابقة قبلية (ومن الخير هنا أن ترجعوا إلى نظريتي هيوم وكانت من الفصل الثامن وخصوصاً في تفرقة كانت بين الشيء في ذاته والظاهرة، والفرق بينهما وبين الشيء الطبيعي ومعطيات الحس عند رسل في الفصول(815/36)
السابقة).
ولن يعسر عليكم بعد هذا متابعة رسل في تفصيله القول في (عالم الكليات) وتطوره في تاريخ الفلسفة، ثم في (معرفتنا للكليات) مباشرة وبالوصف، ولكن يفيدكم كثيراً الوقوف عند صفحتي 93، 94 وتلخيص ما جاء فيهما في جدول عام شامل لتقسيم أنواع المعرفة عند رسل؛ على نحو يتبين لكم منه بسهولة ما كان يتحدث فيه كذلك ما سيحدثكم عنه بعد من معرفة الحقائق الواضحة بالذوق في بقية الكتاب.
كمال دسوقي(815/37)
إلى جيش مصر الباسل
للأديب عبد الرحيم عثمان صارو
وقفت وحدك في الميدان تصطرع ... وهو مت حولك الأعوان والشبع
فما وهنت ولا كانت جبابرة ... بعزمة الجن في الهيجاء تدَّرع
ينفى اللهيب من الياقوت زائفه ... والجوهر الحر في النيران يلتمع
لما دعتك (فلسطين) لنجدتها ... وقد ألمَّ بها العدوان والفزع
نهضت تدافع عنها شر محترب ... باغ سواعده (الدولار) والجشع
يغيث في حرمات الله مجترثاً ... لم تنج منه محاريب ولا بيع
تنام عنه وعن آثامه دول ... كبرى لها في حواشي نفعه نفع
لم يثن عزمك يا ابن الأمس ما جلبوا ... ولم يُلنك من الأصقاع ما جمعوا
فكيف لو لم يعق ناشيك مغتصب ... قد كان يكره أن يلقاك تتسع
حفزت همه من هبوا ومن نهضوا ... وُصنت حومه من ناموا ومن هجموا
وقفت كالصخرة الشماء كم ذهبت ... بصفحتيها رقاب الموج تنقطع
ملاحم المجد لم تشهد نواظرها ... كصارم لك في الأهوال ينتزع
يُسقون منه الردى في كل عرك ... ويدبرون وقد خانهم الخدع
سيُهزمون بما ماتوا وما اختلفوا ... ويقهرون بما كادوا وما صنعوا
شتان ما بين مأجور وبين فتى ... لله والحق والعلياء يندفع
يا صارم الروح عند الروح ما برحت ... أنباء نصرك هن الزاد والمتع
ولهت شعري حتى كاد من وله ... يختال في جنبات الطرس لو تسع
يا ليت لي ناي (هومير) وأرغنه ... لرحت أشدو وراح الدهر يستمع
ما أعجز الشعر عن تصوير ما ذهبت ... ضراغم لك بالأحداث تصطنع
بعثت سيرة أجداد لنا سلفوا ... كأنهم بك قبل البعث قد رجعوا
أيبتغي الدهر منا فوق ما صنعت ... كفاك، معجزة تجلى وتبتدع
لله، لا لبروق الغنم، صادقة ... من الجهاد بها أقدمت تضطلع
قضية النيل لم يشغلك شاغلها ... عن الوفاء بما ضنوا وما منعوا(815/38)
راعت بطولتك الدنيا وأروع من ... هذى حفاظك للعهد الذي قطعوا
حفاظك العهد والميثاق في زمن ... به العهود، كأشلاء العدى، قطع
سلمت للشرق ترعاه وتمنعه ... من كل مختتل أغرى به الطمع
يزهى بك القائد الأعلى وأنت به ... نتيه فخراً على الدنيا وترتفع
عبد الرحيم عثمان صارو(815/39)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(آثرت الحرية) أمام القضاء الفرنسي:
كتاب ترجم إلى كثير من اللغات الحية، ولقي اهتماماً كبيراً في كل بلد حلَّ ضيفاً على لغته وقرائه، ذلك هو كتاب (آثرت الحرية) للكاتب الروسي فكتور كرافتشنكو. . . واليوم يثير هذا الكتاب أعظم ضجة عرفها محيط الرأي العام الفرنسي، وردد صداها البرق إلى كل بقعة من بقاع العالم!
أما كرافتشنكو فكان موظفاً بالسفارة الروسية في أمريكا ثم ترك منصبه وتخلى عن حاشيته، ولجأ إلى حكومة البلد الذي يقيم فيه طالباً حمايته. . . ثم ما لبث أن أخرج كتابه ليهاجم فيه نظام الحكم في بلاده، وليتحدث عن الجو القاتم الذي يكتم الأنفاس ويقبض الصدور؛ ذلك الجو الذي قدر له يوماً أن يعيش في رحابه، وأن يطلع على كثير من قيوده التي تحد من حرية الرأي والفكر، وتلغي كثيراً من القيم التي ينشدها الأحرار في المجتمع الكريم!
لهذا كله أثار الكتاب اهتمام قرائه. . . ولكنه عاد اليوم فرابهم بقدر ما راعهم، حتى لقد أصبحوا يترقبون باهتمام بالغ نتيجة هذه الضجة التي أثارها حوله مجلة (ليتر) الفرنسية، وهي الضجة التي اتخذت طريقها إلى القضاء منذ أيام!
ولقد ذهبت المجلة في تخريجها للكاتب الروسي إلى أنه كذاب مخادع لا يمت إليه كتابه بصلة من الصلات، وإنما هو من صنع قلم المخابرات السرية في الولايات المتحدة. . . وأمام هذا التجريح السافر لم يجد كرافتشنكو بداً من رفع الأمر إلى القضاء، مطالباً بمعاقبة القائمين على أمر المجلة الفرنسية طبقاً لنصوص القذف في القانون الفرنسي!
وفي سراي العدل في باريس حيث عرضت هذه القضية المثيرة، ضاقت القائمة على سعتها بجمهور يتلهف شوقاً إلى سماع كلمة القضاء في حقيقة هذا الكتاب. . . أهو حقاً من وضع مؤلفه أم هو من وضع غيره ثم رؤى أن ينسب إليه؟! أما أنا فقد تتبعت أدوار القضية مما وافتنا به شركات الأنباء في الأيام الأخيرة، وأستطيع أن أقول إن موقف المؤلف الروسي قد بلغ غاية الحرج في أول جلسة من جلسات المحاكمة، حتى لقد سرى الهمس بين الحضور حول حقيقة نسبة الكتاب إلى مؤلفه. . . كان ذلك حين وجه محرر (لي ليتر(815/40)
فرانسيز) سؤالين إلى كرافتشنكو أوقعاه في حيرة بالغة، وكان السؤال الأول: هل يستطيع كرافتشنكو أن يذكر لنا شيئاً عن نهاية (منزل العروس)؟ وأرتج على المؤلف الروسي وعجز عن الجواب ولم يدرك ما وراء السؤال. . . عندئذ تهيأت الفرصة لخصومه فانبثوا ينعتونه بالكذب والخداع؛ كيف يعجز عن تذكر مسألة أفرد لها بعض الصفحات في كتابه وهو يتحدث عن مسرحية (منزل العروس) للكاتب النرويجي هنريك إيسن؟! وكيف يعجز عن تذكر مسألة أخرى دار حولها السؤال الثاني حين طلب إليه المحرر أن يدلي بما رسب في ذهنه عن مسرحيات دستويفسكي الثورية، وهي مسألة تناولها المؤلف من زاوية خاصة في بعض صفحات (آثرت الحرية)؟!
وهل من المعقول أن يخرج كرافتشنكو كتاباً يقع في ستمائة صفحة من القطع الكبير بهذا الأسلوب المشرق كما يقول خصومه وهذه مقالاته في الصحف الروسية تحفل بين أيديهم بهلهلة الأداء وانحطاط العبارة؟!
هذه هي القضية التي تعرض اليوم أمام القضاء الفرنسي. . . وليس من شك في أن الذين قاموا بترجمة هذا الكتاب من مختلف الشعوب إلى شتى اللغات، سيلقون بعض الحرج إذا وقف القضاء إلى جانب المجلة الفرنسية، ومما يذكر في هذا المجال أن الأستاذين محمد بدران وزكي نجيب محمود قد قاما بنقل الكتاب إلى العربية بتكليف من وزارة المعارف!
لحظات مع أمير الشعراء:
هي تلك التي نعمت فيها منذ أيام بالاستماع إلى قصيدة (النيل)، تنطلق أبياتها في أنغام ساحرة من حنجرة أم كلثوم. الشعر الممتاز يتناوله الصوت الممتاز فيحيله لحناً فريداً يمتع السمع والفكر والخيال.
أما السمع فكان مع الصوت الجميل النادر، وأما الفكر فكان مع الشعر الذي هز مكامن الشعور، وأما الخيال فكان مع الشاعر العظيم يسبح في دنياه!
نعم، كان الخيال مع الشاعر الذي أنكرته يوماً مع المنكرين ثم عدت فأنكرت ما كان من أمر نفسي. . . إن ضجيج المعاول التي كانت تحاول هدم البناء الذي أقامه الرجل في دنيا الشعر، هو الذي حال بين سمعي وبين الإنصات لتلك القيثارة الفذة! لقد كنت أصبح على أصوات المعاول وأمسى على أصوات المعاول وفي غمرة هذا الضجيج طغت الصيحات(815/41)
الجائرة على الألحان الساحرة فضلت طريقها إلى قلبي. . . ولم تكن الملكة الناقدة في السن المبكرة قد بلغت من النضج ما يمكنها من إقامة الميزان لملكات الموهوبين وحملات المغرضين! وحين أقبل اليوم الذي خفتت فيه أصوات المعاول خجلا من صمود البناء، أرهفت سمعي لألحان الشاعر المفترى عليه، وأرسلت فكري يقف عند كل بيت من أبياته ويطيل الوقوف، ورحت أزن الرجل وشعره بميزان الذوق الذي يحتكم إلى العقل والقلب والشعور. . . وخرجت من هذا كله بشيء واحد: هو أنني آمنت بشوقي وكفرت خصومه!
كان السمع إذن مع أم كلثوم، وكان الفكر مع الشعر، وكان الخيال مع الشعر. . . أما الشعر فقد عرفت رأي فيه وفي صاحبه، وأما الغناء فلا بد فيه من كلمة! إن أم كلثوم في رأى الفن لا تمتاز بموهبة الصوت وحدها كما ينادي بذلك بعض الغلاة ولكنها تمتاز بموهبتين أخريين هما براءة الإلقاء ودقة الأداء. . . إنها تكاد تنفرد بتلك الموهبة التي تتمثل في سلامة النطق لمخارج الحروف في المقطوعات الشعرية، أما موهبة الأداء فتتمثل في أنها تنقل اللحن كما يلقى إليها في دقة عجيبة، يعينها عليها ذوق صقله المران وأذن بلغت الغاية في رهافة الحس الموسيقى. كل ما ينقص هذه الفنانة هو أن صوتها النادر ينطلق من أوتار الحنجرة دون أن يمر على أوتار القلب وهنا مفرق الطريق بينها وبين فنانة كأسمهان!
كلمات من (قطرات ندي):
حدثتك في العدد الماضي عن كتاب الأديب اللبناني راجي الراعي. . . ولن أنعت هذا الرجل إلا بكلمة (أديب) ولو ترك الأدب إلى المحاماة، وترك المحاماة إلى القضاء، وترك القضاء إلى حيث لا أدري ولا يدري!.
ولعل هذه الكلمات التي أنقلها هنا عن كتابه تهز قلبه وتحرك قلمه وتعود به إلى ماضيه. . . وإنها لكلمات تعلو في رأي فوق مستوى نظائرها في (كرم على درب) لميخائيل نعيمه. وإذا كنت قد استمعت لنعيمه في كرمه ودربه فما أحراك أن تستمع لراجي الراعي في قطرات نداه:
يقولون أبطلوا الثورات، ولكنهم ينسون أن الألوهية نفسها قد ثارت يا لخليقة على العدم!.
إذا شئت أن تبكي فاذرف الدمع أينما كنت، فلست في حاجة إلى زاوية تختارها فيها فالجميع يبكون!.(815/42)
الرجل الذي لا يستحق أن يحيا لا يستحق أن يموت أيضاً، فقد يجاور جثمان رجل عظيم!.
إذا صفعتك الحياة بارزها بسيف الإرادة وأرسل إليها شاهديك: العمل والأمل!.
الفشل دمعة وقهقهة، فإذا فشلت بكى الوهم فيك وقهقهت الحقيقة!.
الزنا في رأي لا يعني فقط تحول المرأة عن زوجها الشرعي، ولكنه يعنى أيضاً التحول بصورة عامة عن طريق الواجب، فأي منا لا يتحول عن
هذا الطريق! أي منا لا يعد مع هذا التعريف زانياً!.
لا تقل لي كم عشت من السنوات ولكن قل لي كيف عشتها!.
من أنت وما هذا التبجح فيك، ما دامت ثلاث كؤوس من الخمرة الطيبة تستطيع أن تتصرف بك على هواها؟!.
إذا وقعت الحياة على أوتارها جاءتك بنغمة واحدة هي الأنين!.
الحياة تسقيني خمورها ولكن الموت هو الداعي إلى الوليمة، فكأن الحياة تقدم لي كأسها لأشرب نخب القبر الذي أنا صائر إليه!.
كيف اجتمعت عظمة الفن في بناء الأهرام مع عبودية بنائها؟!.
الفترة بين ضلال وضلال هي التي تحبسها هدى وما هي إلا صلة بينهما!.
ليتني أظل حياً في الموت لأدرك أسراره!.
الذكرى جرس يدق في عالم النسيان!.
الأبطال يشيدون بحبال مشانقهم أوتاد خيامهم في بطاح المجد!.
ثلاثة قهروا الموت: الخالد، والمنتحر، والذي لم يولد بعد!.
عجبت للموت كيف يدعى أنه يغمض الجفون، ألم تغمضها الحياة من قبله؟ أي لحظة تمر بنا والجفن فيها قرير؟!.
مهما قيدوا حرية الكلام فإن الخطيب الحق هو من إذا جاشت في صدره الشجون لا يلتفت يمنه ولا يسرة، بل يصعد إلى المنابر عنوة وقسرا!.
سوفوكليس والأستاذ الصعيدي:
الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي عالم من العلماء الأزهر؛ ومعنى هذا أن ثقافته لا تعينه في البحث والدراسة إلا في حدود المجال الذي يخصص فيه وتفرغ له. . وكم أود أن(815/43)
يقصر بعض الباحثين جهودهم على الميدان الذي أعدوا له أذواقهم وملكاتهم، وأنفقوا فيه كل ما تهيأ لهم من وقت ومثابرة!
أقول هذا بمناسبة الكلمة التي كتبها الأستاذ الصعيدي في العدد الماضي من (الرسالة) حول مسرحية (الملك أوديب) للأستاذ توفيق الحكيم. . . ولعله يوافقني على أن مجال الكتابة عن فن المسرحية أمر يبعد عن دائرة اختصاصه، لأنه لا يعرف لغة أجنبية تعنيه على الإلمام بأصول هذا الفن عند سوفوكليس وغير سوفوكليس من كتاب المسرحية في الأدب اليوناني. ولو قدر له شيء من هذا لما كتب هذه الكلمة التي تحفل بسذاجة النظرة إلى ذلك العمل الفني الذي نسجت خيوطه من جو الأساطير القديمة!. . . إن الأستاذ الصعيدي يضحكني حين يخالف رأي النقاد على مدار القرون، وهو الرأي الذي يقطع بأن هذه المسرحية قد بلغت من الكمال الفني أوجاً يعد مفخرة للذهن البشري. إنها في رأيه ـأو على الأصح في رأي ثقافته ـ ألاعيب كهان جهلة، يستغلون جهل الشعوب، ويلعبون كما يشاء لهم جهلهم بمصيرهم!
إذا لم تصدق أن الأستاذ الصعيدي قد قطع بهذا الرأي، فارجع إلى عدد (الرسالة) الماضي. . . وإذا سألتني تعقيباً، فليس لدي غير تعقيب واحد هذا نصه: أفادكم الله يا أستاذ!
دفاع عن قضية خاسرة:
عاد الأستاذ محمد محمود عماد المحامي ليخالفني مرة أخرى فيما عقبت به على كلمته الأولى خول شخصية محمد الإنسانية؛ وأود أن أوجه نظر الأستاذ عماد إلى هذه الطريقة التي يناقشني بها، تذكرني بطريقة كل محام يدافع عن قضية خاسرة. . . لا شيء غير اللف والدوران (والتعامل) مع الألفاظ والعبارات!.
ترى هل يرمي الأستاذ عماد من وراء هذا الجدل إلى أن يخرج القراء بنتيجة؟. . . إنني أرحب بالنقاش إذا ما حاول أن يفهمني، وإلا فلن أرد عليه، لأن وقتي ووقت القراء وصفحات الرسالة يجب أن تشغل بشيء ذي غناء.
وللأستاذ مني خالص الشكر على كريم تحيته.
أنور المعداوي(815/44)
الأدب والفن في أسبوُع
للأستاذ عباس حضر
براعم التمثيل في الأوبرا:
أقام المعهد العالي لفن التمثيل العربي يوم السبت الماضي حفلة تمثيلية بدار الأوبرا الملكية، لمناسبة توزيع صور جلالة الملك على الطلبة المتفوقين وتسليم إجازة المعهد إلى خريجيه.
وقد أحيا هذه الحفلة طلبة المعهد بتمثيل مسرحيتي (المنقذة) و (الصعلوك) تأليف الأستاذ محمود تيمور بك وإخراج الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد.
أما (المنقذة) فهي مسرحية تقع حوادثها بمصر في عهد المماليك الجراكسة، وتظهر مناظرها على المسرح في قصر الأمير (برسباى) الذي يشتمل على الأميرة (فريهان) وقد أنقذها الأمير، وكان مملوكاً لأبيها من (داود بك) الذي اغتال أباها. وتدل الحوادث التي يتردد صداها على المسرح، على أن القتال يدور بين (برسباى) وبين (داود بك) للمنافسة على مشيخة البلد حتى يقتل الأول الثاني ويفوز بالمشيخة. أما خشبة المسرح فتدور عليها معركة أرق وأعنف في آن واحد. . . هي معركة الحب بين (فريهان) وبين (برسباى) أو بعبارة دقيقة بين حب فريهان وكبريائها، فهي تحب برسباى وتهتم به في غيبته ولكنها تتأبى عليه وتظهر له عدم الاكتراث وتنكر عليه أن يطلب مبادلتها الحب لأنه كان مملوكاً لأبيها، ويشقى هو منها بذلك ويضيق به، حتى ينبهه مربيه الشيخ (طويل العمر) على أمر له خطره، فيقول له، أنها تحبك ولكنها تشعر بفضلك عليها وأنها أسيرة هذا الفضل، وأن هذا الشعور يؤذي كبرياءها وترى في مكاشفتك بالحب إذلالالها:
وتلك هي عقدة المسرحية وهي مبنية على الازدواج في نفسية فريهان، إذ يلصق بشعورها الظاهر إن برسباى ليس أهلا لحبها مهما أبدى من الشجاعة والنبل، وينوء عقلها الباطن بعبء ما أسدى إليها من جميل.
ويعمل الشيخ الفطن (طويل العمر) على حل العقدة، فيتظاهر بأنه يدبر مؤامرة مع (قاسم) رئيس حراس القصر لاغتيال برسباي، ويرتب الأمر بحيث تعلم فريهان بالمؤامرة، فتتدخل في وقت تنفيذها، وتنقذ حياة برسباي وتبادله معروفاً بمعروف، ثم تبادله الحب.
وقد أجاد الممثلون من طلبة المعهد وطالباته، وخاصة كمال يس (طويل العمر) وناهد سمير(815/46)
(فريهان) وكان نطقهم للعربية فصيحاً. ولا آخذ عليهم غير بعض التكلف في الشخصيات الفكاهية كشخصية (قاسم) رئيس الحراس)، فإنه وإن كان قد قصد به الإضحاك إلا أنه كان مفرطاً في تكلف حركاته.
وأما (الصعلوك) فهي مسرحية قوامها شخصان (درديرى أفندي) المفلس الطروب الذي يتردد على (وحيدة هانم) فينقل إليها أخبار المجتمع وفضائح الناس، ويتلقى هو منها الإهانة والسخرية بالحمد والشكران. ويخبرها في نهاية حديثه معها بأن في جيبه ألف جنيه ويبرزها لها، ويقول أنه سينفقها في ليلة واحدة. فتتبدل وحيدة هانم إزاء درديرى أفندي امرأة أخرى ناعمة متكسرة مدللة، ويلبى النداء، ولكنه سرعان ما يغير سلوكه معها ويمزق الأوراق المالية ويسخر منها.
والحوار يدلنا على حقيقة شخصية درديري أفندي وفلسفة حياته، فهو ينفق ما يقع في يده من مال دفعة واحدة لينعم باللذة إلى أقصى حد، ثم يعيش في ضنك وبؤس، أو كما يجري على لسانه: يذوق حلو العيش ومره. وهو يرى الحياة قد فرضت عليه الذل والحرمان فهو وإن كان يُضحك من يسخرون منه إلا أنه في أعماقه يمقتهم ويتوق إلى إذلالهم والثأر لنفسه منهم ومن المال لأنه سبب شقائه.
وقد قام كل من ملك الجمل (وحيدة هانم) وعبد الغني قمر (درديري أفندي) بدوره خير قيام.
وهكذا ترى المسرحيتين تقومان على التحليل النفسي، والإبداع في هذا التحليل أنه مصوغ في قالب سهل صياغة فنية ممتعة، فالأداء الفني يدنو بالموضوع الرفيع من العقول كما يخاطب به القلوب، ولست أفهم الفن المسرحي إلا أن يكون المسرح (بهلوانية) وهراء.
أما طلبة معهد التمثيل وطالباته، الذين قاموا بتمثيل تينك المسرحيتين، فقد بعثوا في قلوي عشاق المسرح الطمأنينة على مستقبل الفن الجميل في مصر. وما أجدر خريجي هذا المعهد أن يأخذوا أماكنهم اللائقة بهم في الفرقة المصرية، فيملئوا فراغاً كبيراً بها، وحقاً إن الفرقة تضم الآن بعض هؤلاء، ولكن لا تعطي لهم إلا الأدوار الثانوية، ويصر الممثلون والممثلات الذين يعملون على المسرح منذ ثلاثين عاماً على أن يمثلوا أدوار الفتيان والفتيات الأوائل. . . أفلا يفسح ذوو الوجوه المتغضنة التي يتعب (الماكياج) في إصلاحها، لهذه الأزهار المتفتحة في الوجوه الجديدة. . .؟(815/47)
وأظن أنه قد آن الأوان لأن تفكر وزارة المعارف أو وزارة الشؤون الاجتماعية في الانتفاع بخريجي نعهد التمثيل في تأليف فرقة أو فرق جديدة تحقق الأهداف المنشودة من إنشاء المعهد.
الأديبة الشريرة:
نشرت مجلة المسامرات قصة فتاة أديبة ضريرة بائسة، تخلى عنها أهلها، وآواها الاتحاد النسائي في حياة المغفور لها السيدة هدى شعراوي، وكان الدكتور طه حسين بك قد توسم فيها استعداداً أدبياً فألحقها بكلية الآداب، واسم الفتاة (ابتسام حافظ).
والنهاية المحزنة لهذه القصة أن الاتحاد النسائي ألقى بها أخيراً إلى الطريق شريدة لا تعرف لها مأوى ولا عائل!
والفتاة الأديبة ابتسام حافظ تقول الشعر، ومن قولها بعنوان (من وحي الألم):
والناس عباد الدراهم يشهدون له بفعل واجب الإطراء فقد الجميع ضميرهم سحقاً لهم وتجردوا من عفة وحياء شغلوا بحب النفس حتى لم يعد يعنيهم إلا رضا الأهواء
ولستُ أدري ماذا أقول، وهل غادر (المنفلوطي) من تردم؟ ولكني أقول: إن في مجتمعاتنا فتيات يغزون القلوب، ويغدق عليهن، فهل في القلوب مكان من نوع آخر لهذه الأديبة البائسة؟!
القياس في اللغة:
قال لي صديق في المجمع اللغوي: أنك تهجم على المجمع. وهو يعنى ما أناقش به منهج العمل في مجمع اللغة وما أعقب به على بعض آراء الأعضاء، وهو يعني أيضاً شيئاً من العتاب لأنه يعلم أني من ألصق الناس بالمجمع لسابق عملي به وكثرة أصدقائي وإخواني فيه، أعضاء وموظفين فلا ينبغي أن أقف منه موقف المعارضة في بعض المواطن.
فهل هو على حق في ذلك؟ لقد شكا بعض الأعضاء من عزلة المجمع وعدم شعور الناس به كما ذكرت في الأسبوع الماضي، وأنا أذيع على الناس عمل المجمع وأعرض آراء أعضائه في مسائل اللغة والأدب والمجمع يدعو إلى إبداء الرأي فيما يبحثه، وأنا أبدي ما يعني لي إزاء ما أعرضه من الأعمال والآراء.(815/48)
فهل أنا في ذا يالهمذان ظالم؟
ولعلي في هذا الأسبوع أسجل عملاً مشرقاً من أعمال المجمع، وهو ما يتعلق بقرار المؤتمر الأخذ بالقياس في اللغة وجواز الاجتهاد فيها، وقد أتخذ هذا القرار، كما ذكرت في الأسبوع الماضي، بعد محاضرة للدكتور أحمد أمين بك ومناقشة فيها؛ وبعد هذا الموضوع أهم ما أثير في دورة المؤتمر لهذا العام، وأقرب الأشياء إلى الناحية العملية في مهمة المجمع بل هو الشيء العملي الوحيد الذي انتهى فيه المؤتمر إلى نتيجة موفقة، بفضل هذا البحث أو المشروع القيم الذي ألقاه الدكتور أحمد أمين بك في إحدى الجلسات.
عنوان المحاضرة (مدرسة القياس في اللغة) وقد بدأها بقوله: من طبيعة الأشياء أن يكون في كل جماعة مفكرة طائفة من المحافظين وطائفة من الأحرار. ثم قال: إن الاختلاف في اللغة، من حيث المحافظة والتجديد، كان واقعاً حتى بين الأدباء، فمن الشعراء والأدباء من كان يلتزم ما ورد في اللغة ولا يخرج عنه بحال من الأحوال، ومنهم من كان يجيز لنفسه أن يجدد، فيحكمون عن العجاج وابنه رؤية أنهما كانا يصيغان ألفاظا لم يسبقا إليها، ويروى عن بشار أنه كان يقيس ما لم يرد على ما ورد. ثم فصل وقوف اللغويين عند ما ورد، وأخذ النحويين والصرفيين بالقياس وبراعتهم فيه، وقال إنه كان بجانب كثرة المتقيدين بالسماع من علماء اللغة، قلة من القياسيين أو بعبارة أخرى مدرسة القياس في اللغة ومن أعلام هذه المدرسة أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني، وكان أبو علي يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت لفظة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب وعددتها إلى حد لم نصل إليه إلى اليوم فكان من رأيه أن الألف اللينة في الكلمة الثلاثية تكتب ألفاً مطلقاً سواء كان أصلها واواً أو ياء.
وبعد أن فرغ الدكتور من الناحية التاريخية في المحاضرة وصل إلى ما أسميه (مشروعاً عملياً) فبين ما يمكن أن يستفاد من القول بالقياس في اللغة - فيما يلي:
1 - كثيراً ما تذكر المصادر في كتب اللغة ولا تذكر أفعالها أو العكس، أو لا يذكر باب الفعل، وبالقياس يمكننا تكميل هذا النقص.
2 - إذا وجدنا وزناً معيناً مستعملاً في الدلالة على شيء خاص أمكننا أن نقيس عليه ما لم يرد، وذلك مثل (فعال) كنجار للدلالة على محترف الحرفة.(815/49)
3 - الاعتراف بالدخيل وعده عربياً وإدخاله في معاجمنا ما دام يجري على الصيغ العربية ويسير على نمط العرب في وضعهم أو اشتقاقهم.
4 - نجد العرب أحياناً يلحظون في الشيء معنى من المعاني فيسمونه باسم مشتق من الكلمة التي تدل عليه، فلماذا لا نستعمل هذا الباب في المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة التي نقف أمامها حائرين؟
5 - كان للعرب ذوق مرهف في وضع الكلمات بمحاكاة الأصوات، كالخرير لصوت الماء. وأرى أنه لا بأس من مراعاة الأصوات في وضع كلمات جديدة.
ثم قال: الذي يجوز له هذا؟ لقد شرط الفقهاء للمجتهد شروطاً، وكذلك نفعل في المجتهد اللغوي، فلابد أن يكون مثقفاً ثقافة لغوية وأدبية واسعة، ويكون له ذوق أرهف بكثرة القراءة.
وقد ناقش الأعضاء هذه المحاضرة مناقشة مستفيضة، واستعرضوا النتائج الخمس واحدة واحدة. وفي العدد التالي إن شاء بيان ذلك.
عباس خضر(815/50)
البريد الأدبي
وفاة الجارم:
توفي الشاعر المغفور له الأستاذ علي الجارم بك يوم الثلاثاء الماضي، وقت شاء القدر أن يموت وهو يستمع إلى قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وكان يلقيها ولده الأستاذ بدر الدين الجارم في حفلة تأبين النقراشي باشا بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية، وكان يتلوا الأبيات مع ولده بصوت منخفض، وفجأة توقفت شفتاه ومال إلى الجالس بجواره، بينما كانت قصيدته (وداع) تلقى في وداع النقراشي، حمل إلى غرفة مجاورة لقاعة الاحتفال، ثم فاضت روحه.
والفقيد الكبير تخرج في دار العلوم سنة 1908، ثم بعث إلى إنجلترا وعاد منها سنة 1912 أستاذاً في دار العلوم، وكان بعد ذلك مفتشاً في وزارة المعارف، ثم كبيراً لمفتشي اللغة العربية، ثم وكيلاً لدار العلوم، حتى أحيل إلى المعاش سنة 1940. وقد أختير أول بالمجمع اللغوي أول أنشاءه سنة 1934.
وللجارم مؤلفات قيمة معروفة في اللغة والأدب، وكان رحمه الله بقية مدرسة في الشعر تؤثر الجزالة والديباجة العربية المتينة. وكان معدوداً من شعراء العروبة المبرزين، المعبرين عن آلامها وآمالها، وطالما تغنى بمجد العرب، وله في ذلك آيات خالدات.
و (الرسالة) إذ تنعى (الجارم) إنما تنعى علماً من أعلام الأدب والشعر في هذا العصر، وهي تشعر بالحسرة لفقده، وتشاطر المحزونين عليه آلامهم، وتسأل الله له واسع المغفرة والرحمة.
هل الحج يمحص الذنوب؟
قرأت في العدد 811 من الرسالة الزهراء قول الأستاذ الزيات في كلمته (حج غير مبرور) إن المجرم اغتر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا. وفي العدد 813 تعليق للأستاذ محي الدين حمودة خالف فيه الأستاذ الزيات في وجهة نظره في الموضوع.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). وقد ورد في شرح هذا(815/51)
الحديث أن من حج من المسلمين ولم يأتِ زوجه ولم يعمل سيئة من شتم وسباب لرفقائه والمكارين رجع كيوم ولدته أمه مشابهاً للطفل يوم الولادة في البراءة من الذنب، وهو يشمل الصغائر والكبار المتعلقة بحقوق العباد، وهذا الأخير هو المسمي بالتبعات خلافاً للترمذي فقد خصه بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله سبحانه دون حقوق العباد، ثم الحج بعد ذلك لا يسقط الحقوق أنفسها. بل من كان لا يقيم الصلاة: ولا يؤتى الزكاة. ولا يصوم رمضان. ولا يكاد يتشهد كهذا المسلم الفاجر أو عليه كفارة أو نحو ذلك من حقوق الله أو دين للعباد لا تسقط عنه لأنها حقوق وجبت لله أو العباد لا ذنوب.
والحاصل أن العلماء في هذا الموضوع على رأيين: الرأي الأول، اتفقوا على عدم سقوط نفس الحقوق المطلوبة لله أو للعباد؛ فمن كان عليه حق الله كصوم أو صلاة أو زكاة أو عنق في كفارة، أو حق للعباد كدية أو مال مغصوب فهذه كلها لا يسقطها الحج.
الرأي الثاني. سقوط الذنوب المتعلقة بحقوق الله تعالى كذنب تأخير الصلاة والصوم عن وقتهما.
واختلف العلماء في الذنوب المتعلقة بحقوق العباد كذنب الغصب في الأموال على اختلاف أنواعها، والتعدي بالقتل والضرب فقال بعضهم يسقط ذلك بالحج، وقال آخرون. لا يسقطه إلا استرضاء صاحب الحق أو عفو الله تعالى.
والواقع أن العلماء الذين يقولون إن الحج يمحص الذنوب ويمحو الخطايا طائفة من الحشويين الجامدين الذين لم يعرفوا من الدين إلا اسمه ولا في القرآن إلا رسمه ويعتلون ذؤابة المنابر في الريف المصري منذ قرون وهم في جهلهم يعمهون.
(قنا)
علي حسن محمد بقوق
حول مسابقة المصور للقصة القصيرة:
قرأت في الرسالة الغراء في العدد 812 كلمة للأستاذ أنور المعداوي ينقد فيها بيان مجلة المصور الذي نشره في مسابقة القصة القصيرة التي أزمعت قيامها.
وقد كان الأستاذ على حق حينما عاب على المجلة بعض ما جاء في بيانها كاعتقادها أن(815/52)
عنصر المفاجأة أهم ركن في القصة القصيرة على الإطلاق، وتحديدها عدد كلمات القصة بستمائة كلمة.
غير انه انحرف عن الصواب حينما برهن على صدق نقده بأن عنصر المفاجأة أهم ركن في القصة على الإطلاق بقوله:
(. . . إن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت).
فقد كان لهذا القول يتفق مع الواقع لو أن مجلة المصور اشترطت أن تكون القصص المتسابقة من النوع التحليلي، فإن عنصر المفاجأة وإن كان غير ضروري في القصة التحليلية إلا أنه ولا شك من أهم الأركان التي تدعم عليها سائر القصص الأخرى.
ويقول الأستاذ المعداوي في كلمته: (إن القصة الطويلة بعد هذا هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص وطاقة القصاص، ولا كذلك الأمر في القصة القصيرة).
وفي هذا الكلام نظر. . . فلو كان الأستاذ المعداوي يقصد بكلامه هذا أن قوة القصاص وطاقته الفنية يمكن قياسهما بقصة طويلة واحدة. . . فهذا هو المستحيل.
فإن مواهب القصاص ومقدرته وطاقته الفنية لا يمكن قياسها والحكم عليها بقصة واحدة، طويلة كانت أم قصيرة، كما لا يمكن الحكم على شاعر بقصيدة واحدة، ولا على كاتب بمقالة واحدة ولا على مصور بصورة واحدة. . . ففي قصص القصاص ما هو مرتفع إلى ذروة الكمال، وما هو مسف إلى أغوار الحضيض، كما في شعر الشاعر، ومقالات الكاتب وصور المصور؛ فالحكم الصحيح على الفنان والموازنة الصادقة بينه وبين غيره لا تكون إلا بمجموع ما أنتجه لا بجزء منه.
وأما إذا لم يقصد إمكان الحكم على القصاص بقصة طويلة واحدة فلا داعي أن ترجح كفة القصة الطويلة على كفة القصة لصغيرة في معيار القيم الفنية للقصاص، فكلتاهما سواء ما دام لا يمكن الحكم بهما منفردين.
أما أخذه على مجلة المصور قولها (إن ما يبذله كاتب القصة من جهد لا يقل إن لم يزد على ما بذله كاتب القصة الطويلة) فليس فيه إنصاف، فإن كاتب القصة القصيرة يلاقي دفعة واحدة جميع الصعاب التي كانت متفرقة في القصة الطويلة، فهو يكتب القصة القصيرة(815/53)
بجميع عناصرها الفنية في حيز ضيق محدود مع إكمال كل عنصر وإيفائه حقه في اقتضاب ملموس وحد كبير من حريته، ولا يخفى ما في الاقتضاب والاختصار والحد من الحرية من الضيق الشديد والجهد الكبير الذي يبذله كاتب القصة القصيرة. وقد أرسل سعد زغلول باشا إلى أصحابه رسالة طويلة واعتذر لعدم كتابة رسالة قصيرة بسبب ضيق الوقت!!
فلا ينافى قصر الزمن الذي تكتب فيه القصة القصيرة، وقلة الصفحات التي تكتب عليها بذل الجهود الكثيرة المضنية التي لا تقل - إن لم تزد - على ما يبذل في كتابة القصة الطويلة.
(إسكندرية)
حسن صادق حمدان(815/54)
القصص
البجعة
للكاتبة الإنكليزية بامبلا. هـ. جونسون
في اللحظة التي شاهدت فيها الطفلة ولاحظت هزالها وهى واقفة بجوار النافذة المستديرة، ويداها تعبثان بعنق التمثال الخزفي للبجعة البيضاء، أيقنت أنها ستصير حتماً من الجميلات عندما يكتمل نموها. ولم تكن قد شعرت بوجودي، فوقفت ساكناً بجوار باب الغرفة أتأملها في إمعان.
كانت سنها - على ما أعتقد - تتراوح بين الحادية عشرة وكانت - إذا عن لي أن أحكم عليها - أكثر شبهاً بوالدتها جلاديس من صورة أبيها توم، تلك الصورة التي شاهدتها معلقة في المطبخ. ولاحظت أن أطرافها نامية نمواً ملحوظاً، وعينيها واسعتان بالنسبة إلى وجهها، ترتدي مئزراً قديم الطراز أبيض اللون قصير الأكمام، يتحلى بزركشة وزخارف من (الدانتيلا) على حافته. وكان نظيفاً على خلاف ردائها الداخلي الداكن الذي كان يبدوا قديماً رثاً.
كانت الطفلة تحرك أصابعها بحنان على صدر البجعة وجناحيها. وبدت كأنها معجبة بذلك التمثال المصقول، فكانت تتأمله وكأنها خبيرة بفنه وجماله. وكان شعرها مشدوداً خلف جبهتها الصغيرة البارزة، وقد انعقد بشريط أبيض. ولعلي أحدثت حركة بسيطة، فقد التفتت الطفلة ناحيتي ونظرت إلي، ثم فارقتها في الحال روح الطمأنينة، ودفعت بالبجعة خلف ستار، ثم جعلت تمسح يديها في مئزرها - وكان في بياض الثلج - فتترك فيه أثراً خفيفاً من قذارة يديها. وبدت أسنانها من بين شفتيها وتراجعت كما لو أنها ستختفي كما (أليس) خلال المرآة.
ولم أتفوه بكلمة وأنا أتأمل ذلك الجمال المنتظر. حقاً، لقد كانت أكثر شبهاً بجلاديس من توم. كانت تشبه جلاديس التي كنت أعهدها منذ زمن بعيد، لا تلك التي أعرفها الآن. ولم تصرف الطفلة عينيها عن وجهي، في الوقت الذي كانت فيه تتحسس الحائط خلفها، وتتحرك في تلصص بجواره وقد تصلب ظهرها. فقلت (تعالى. لا تذهبي) فشهقت شهقة قصيرة من الرعب، ولكني تقدمت إليها وقبضت على معصميها، وانحنت في ذات الوقت(815/55)
حتى صار وجهي في مستوى وجهها، وقلت (لا تهربي إني عمك (فيل)). وحاولت أن تبتسم في أدب ثم ارتجفت عضلة على ركن فمها بعد أن تلاشت ابتسامتها.
سألتها في رقة (لماذا تخافينني؟ إني أعرف والدتك منذ زمن طويل. وها قد مضت عشرون عاماً دون أن أراها. أليست تلك مدة بعيدة؟ لقد أخبرتني أن أحضر هنا لأشاهدك) وأضفت قائلاً حتى أجعلها تشعر بالسعادة (لأشاهد أي فتاة كبيرة لها).
وأومأت الفتاة برأسها في ضمت تشير إلى البجعة. فقلت (تمثال جميل، أيعجبك؟) فابتسمت.
قلت (ما اسمك؟) فلم تجب. قلت (أنت (آسي)) فهزت رأسها بالنفي في شدة وخوف ظاهر. وعجبت، ما الذي فعلته جلاديس حتى جعلت هذه الطفلة مرهفة الأعصاب تهاب الغرباء؟ وشاهدت جلاديس من خلال النافذة، واقفة عند مدخل الخباز، تسارع في شراء كعك للشاي، فقد كانت زيارتي لها فجائية، ولم يكن عندها ما تقدمه إلى، ولذلك قالت لي (ألا تستطيع أن تسلي نفسك مدة عشر دقائق يا فيل؟ يجب أن أستحضر العشاء لتوم. وإذا حضرت آسي قبل عودتي فعرفها بنفسك).
وقلت للطفلة (متى قدمت؟ لقد أخبرتني والدتك أنك ذهبت إلى الخليج).
فابتسمت كأنما سرت لقدومها إلى الدار على غير انتظار. فجأة أمسكت البجعة ودفعتها في يدي، ثم قالت (جميلة!) فوافقتها على ذلك. تذكرت رؤيتي لهذا التمثال منذ عشرين عاماً في الدار جلاديس القائم على قمة الجرف. وكانت البجعة قطعة أثرية نفيسة من الخزف.
ووضعت الطفلة يديها على كتفي، فركعت، وإذا بها تجلس على ركبتي، وهى تبتسم في وجهي، وكأنما توطدت الصلات بيننا. وأخبرتها بوجه الشبه بينها وبين والدتها، وحدثتها عن جمال أمها. وقلت أتعرفين أننا اعتدنا - أنا ووالدتك أن نذهب إلى الخليج، وقد حملنا معنا أدوات الشاي انقضي بقية يومنا هناك؟ وكنت أسبح حيث تقوم تلك الصخور الثلاثة في صف واحد، وأدعي بأني في يوم ما سأسبح وأسبح ولن أعود بتاتاً. ثم أختبئ في ذلك الكهف الصغير الواقع تحت الجرف مباشرة وأناديها مثل. . .) وبحثت عن كلمة لطيفة فقلت (مثل النورس)
وصفقت الفتاة، ثم عقدت يديها كما لو أنها تذكرت تحذيراً بألا تفض أصابعها مطلقاً.(815/56)
وانتظرت متابعتي الحديث فقلت (ثم أسبح راجعاً فتعنفني، ثم ننفجر ضاحكين. . . كان ذلك منذ زمن بعيد).
فسألتني وهي ترفع إصبعها في حذر لتلمس قمة رأسي (وأين كنت؟) فاعتقدت أنها تعني (أين كنت هذه المدة؟) فأجبت (كنت في الخارج).
فبدت كأنها تفقه ما قلته. وكنت قد وضعت البجعة على الأرض بجواري فشعرت بها تنزلق عن ركبتي متجهة الوجه ثم عادتِ تجلس معي وانتظرت أن أفضى إليها ببقية الحديث، فقلت (إني لم أقابل والدك بعد، مع إني شاهدت صورته) فعبست فقلت (ولكني - سأقابله الليلة عندما يعود من عمله).
ووضعت الطفلة ذراعها حول عنقي، فشعرت بسرور عظيم يخالجني، وإذا بي أسألها (أية هدية تودين أن أبعث بها إليك؟) فابتسمت. فأردفت قائلاً (سأشتري لك واحدة مثلها من لندن، وسأبعث بها إليك في طرد مسجل ومدون باسم الآنسة آسي أون) فحركت رأسها في عنف، ثم أخفت وجهها بين يديها، وبعد لحظات نظرت إلي، وقد استعادت هدوءها السابق، ثم جذبت الشريط المعقود من شعرها، فانسدل بلونه الأشقر كلون الصباح على رمل الشاطئ الندي.
وسألت الطفلة (أتميلين إلي؟) فلمست خدي. ولاحت لي جلاديس مرة أخرى، تتحدث إلى جار لها خارج البوابة، وشاهدتها الطفلة فقفزت من ركبتي، وبدت كأنها خجلة أو خائفة. ثم اختطفت الشريط من يدي، وجمعت شعرها وعقصته، ثم ربطته، بالشريط ربطة غير متقنة في لهفة وكأنها تتوق إلى الرحيل. فسألتها إلى أين تذهبين؟).
وأشارت إلى جلاديس من خلال النافذة، ففتحتها وسألتها ما الأمر، فقالت (لقد نسيت المفتاح. أرجو أن تفتح لي الباب).
وعندما التفت حولي، وكانت الفتاة قد اختفت، فظننت أنها أسرعت إلى المطبخ تنتظر قدوم والدتها أو صعدت لتغسل يديها استعدادا للشاي، فقد لاحظت أنهما قذرتان وبهما خدوش كأنها حدثت أثناء محاولتها تسلق الصخور الزلقة التي حول الخليج وأحسست الخيبة، فقد كنت أود أن تراني جلاديس معها، فربما حدثتني بلهجة أقل خشونة من حديثها السابق، عندما ترى الوفاق الذي توطد بيني وبين الفتاة.(815/57)
وفتحت الباب فدلفت منه جلاديس مجهدة وقالت (إني آسفة لتغيبي هذه المدة الطويلة يا فيل. إن هذا هو الضرر الذي يأتي من معرفة الناس للإنسان في الطرق، ولابد أن تقف وتحي عند كل ناصية).
وذهبنا إلى المطبخ وجعلنا أساعدها في فض حاجاتها وسمعتها تقول لي (كيف استطعت أن تجلس هنا وحدك؟). فقلت ضاحكاً: (لم أكن هنا وحدي. إن آسي كانت معي) فلم تفه بكلمة، فنظرت إليها فشاهدت في دهشة أن وجهها قد تقنع بقناع من الحيرة، فقلت (ما الأمر!؟) قالت (لا يمكن أن تكون شاهدت آسي. أنني قابلتها في طريقي وهى مقبلة من الشاطئ، وقد أرسلتها إلى محل لويز لتقص شعرها، وستحضر وقت تقديم الشاي).
وأحسست بشعور خفي من الرهبة يغزو قلبي، فقلت (ولكن، لا يمكن أن يحدث ذلك، لقد كانت تتحدث معي هنا، وكانت تجلس على ركبتي فقالت (ما شكلها؟) فجعلت أصف لها الطفلة بشعرها المعقود بالشريط، وردائها البني، ومئزرها الأبيض وقلت (وكانت تلعب بالتمثال الخزفي للبجعة البيضاء الموضوع على النافذة).
وهبت جلاديس واقفة، وقد تصلب جسمها، ثم صرخت صرخة مخيفة، وأمسكت بها قبل أن تخر ساقطة، وأجلستها على المقعد. وعندما فتحت عينيها نظرت حولها في ذهول ورعب ثم قالت (أغلق الباب والنافذة) وازداد شعوري بالخوف وخيل إلى بأن ظلاماً حالكاً قد خيم على جو الغرفة، لم أعهده فيها من قبل.
وقالت جلاديس (لقد رأيت مارجريت) واعتدلت في مقعدها وقد اتكأت على مرفقها تراقب الباب المغلق. وألححت عليها أن تفسر لي ما غمض من حديثها، وتخبرني به دون إبطاء، فقد كنت أود أن يطغى صوتها على أي صوت أتوقع حدوثه كوقع أقدام تسير في تؤدة وتردد على الدرج، واحتكاك يد صغيرة تستند على الباب، ولكنها ل تفه بكلمة. وبدافع قوي، تركتها وهى تبكي وتتوسل أن أظل معها، وذهبت إلى الغرفة الأمامية، وأزحت ستائر النافذة. كانت البجعة لا تزال في موضعها ولكني لاحظت فيها شيئاً لم ألاحظه من قبل. كان العنق يتصل ببقية الجسم بمسمار فضي لامع. واستمعت في سكون الغرفة إلى دقات قلبي، وأغمضت عيني وأنا أسير في الممر عائداً إلى المطبخ وجعلت أتحسس طريق بأطراف أصابعي دون أن أدرك ما الذي ألمسه. كانت جلاديس ما تزال متكئة على مرفقها،(815/58)
وقد بدت في عينيها دلائل الرعب والخوف. فقلت (من هي مرجريت؟) قالت (أنها ابنتك. أنت بعد فراقك الفجائي مباشرة. كانت طفلة جميلة. وكانت تعيش معنا - أنا ووالدتي - دون أن يعرف أحد عنها شيئاً، ولم نكن نسمح لها بالخروج فيما عدا الحديقة بعد الغسق. كان من الصعب أن نهدئ من حالها، فقد كانت دائمة اللهو والمرح، دائبة على اللعب والغناء. وكانت معجبة بالبجعة البيضاء وتحب أن تلهو بها، فتنهاها جدتها عن ذلك، لأن التمثال كان تحفة ثمينة. ولكن حدث في ذات يوم أن أسقطت البجعة فانفصلت رأسها. أظنك قد لاحظت المسمار المثبت في عنقها).
وكنت أعرف انه لم يكن هناك مسمار عندما كانت الطفلة تداعب بأناملها الجميلة جسم البجعة المصقول.
واستطردت تقول (كانت والدتي ذات مزاج حاد، وكان من الصعب عليها أن تساعدني في ولادة ابنتي التي لا يعرف الناس عن والدها شيئاً، بل كانت تشعر بالعار من ذلك. ولم يكن يزور دارنا القائمة على الجرف هناك سوى اللبان وبائع الصحف. وعندما رأت والدتي البجعة المكسورة، انحنت على الطفلة، وقبل أن أمنعها، كانت قد لطمتها لطمة قوية على أذنها. ولم تكن والدتي في الواقع تعني أن تؤذيها، بل أرادت أن تلقنها درساً في الطاعة. وعدت مرجريت صاعدة إلى الطابق العلوي وهى تبكي وتنتحب، وشعرت بألم وارتباك من كل ما حدث فقد كنت مغرمة بالطفلة، حقيقة كنت احبها حباً شديداً. وفي تلك الليلة خرجت مر جريت من نافذة غرفتها وهربت ولا أدري كيف استطاعت النزول من ذلك الارتفاع، فقد كان من الصعب على طفلة مثلها أن تهبط على تلك النباتات المتسلقة الرفيعة.
وكدت أجن. ولم أجرأ على الحث عنها بحثاً دقيقاً خشية ألسنة الناس. على آية حال، مكثت طوال الليل هائمة عند الجرف. وفي الصباح عثرت على قطعة بيضاء من القماش ملتصقة على قمة إحدى الصخور الثلاثة، فنزلت ولا أدري كيف، فإني كما تعرف أخاف دائماً المرتفعات. كانت قطعة من مئزرها قد انحشرت بين نتوءين. فاستنتجت ما حدث. ومكثنا أسابيع ننتظر دون أن نجرؤ على التحدث، ولم نستطع النوم ليل نهار. وأخيراً وجدوا جثتها. كان قد لفظها البحر وقد ألقاها على الشاطئ على بعد أميال من هنا، في مكان لا أعتقد أننا ذهبنا إليه يوماً ما. ولم يتبينوا شخصية الجثة، فإنه لم يبق منها شيء عندما. . .)(815/59)
وفجأة أمسكت بمعصمي وقالت: (ألا تسمع؟).
وكدت أموت رعباً وأنا أقول (ماذا؟). قالت (توم. أنه قادم. لا تخبره بشيء. قل إني مريضة. قل إنه أغمى علي. قل أي شيء. . .).
وسمعته وهو يفتح الباب. فقلت لها في سرعة (ولماذا احتفظت بالبجعة؟)
فنظرت إلي كأنها لا تعي ما أقول. ثم قالت (إنها تحفة قيمة. لقد كانت والدتي تقول أنها ثمينة) وجعلت عيناها تتطلعان إلى السقف والحوائط والأركان، كأنها لا تدري من أي فضاء في العالم قد يعود شيء إليها، شيء كان عزيزاً عليها، ثم فقدته إلى الأبد.
محمد فتحي عبد الوهاب(815/60)
العدد 816 - بتاريخ: 21 - 02 - 1949(/)
خاطرة. . .
التاريخ مادته عمل ابن آدم وقوله. وابن آدم وان كذاب لا يقول الحق على نفسه ولا ينقل الصدق عن غيره. والذين أولعوا بتسجيل أعماله وأقواله من كل لون وجنس ووطن وزمن هم من سلالة خُرافة. وخرافة فيما زعموا رجل من أعراب جُهينة اختطفته الجن فلبث فيهم زمناً ثم رجع إلى قومه وأخذ يحدثهم أعجب الأحاديث مما رأى فكذبوه. ثم صار الناس يسمون كل حديث مستملح من الكذب حديث خرافة. والأقرب في نفسي أن يكون خرافة هذا رجلا رغَّاءً يعجبه أن يتحدث ويلذه أن يسمع الناس. فلما فرغ ما عنده من صرف الحديث وزخرف الرواية أخذ يصوغ الأخبار، وينسج الأقاصيص، ويصنع الأساطير، ويبتدع النوادر، ويختلق العجائب، وينسب ثمرات فنه إلى وادي عبقر وسكانه من الجن ليكون الحديث أعذب، والخبر أغرب، والتصديق أقرب. ومن طبيعة أكثر الناس تزيين الكلام والزيادة فيه، فلا تجد إنساناً ينقل حادثاً أو يروى حديثاً إلا دخل فيه برأيه وذوقه ومنفعته وهواه، فيغير ويزور ويموه وينمق، لا فرق في ذلك بين جاهل وعالم، ولا بين فرد وجماعة، ولا بين شعب وحكومة.
يقع الحادث اليوم بمرأى من الناس ومسمع فتحكيه الألسن وترويه الصحف، فلا تجد لساناً يوافق لساناً ولا صحيفة تطابق صحيفة! وتقرأ صحف العاصمة في حادثة من حوادث المدن، أو واقعة من وقائع الأقاليم، أو أمر من أمور العالم، فتجد له في كل جريدة رواية تناقض كل رواية، وصيغة تعارض كل صيغة، حتى ليبلغ الخلاف بينها حد التغاير، فتراها مثلا يو الأحد الماضي تجمع على أن الشُّرط اكتشفوا في شارع من شوارع القدس لغما من البارود؛ ولكن (البلاغ) تنفرد بأن الذي كشفوه منجم من الرصاص!
وتجلس في قهوة من القهوات فتسمع من الأفواه أصل الخبر وقد نبتت له فروع؛ ثم تسمعه في قهوة ثانية فإذا الفروع قد نبتت بها أغصان ثم تسمعه في قهوة ثالثة فإذا الأغصان قد نبتت لها أفنان؛ ثم تسمعه في قهوة رابعة فإذا الأفنان قد خرجت منها أزهار مختلفة الأشكال والألوان , فلا ينقضي النهار حتى تمسي بذرة الخير دوحة راسخة الجذور، باسقة الذرى، وارفة الظلال؛ أو قصة بارعةالخيال، رائعة العرض، شائقة الحبكة، فيها للحزبية مغزى، وللشيوعية مرمى، وللفضولية مسلاة.
وتشهد قضية من القضايا في المحكمة فتجد في الجناية التي ترتكب في سَواء الطريق وفي(816/1)
وضوح النهار , من شهود النفي مقدار ما تجد من شهود الإثبات، أولئك يفندون، وهؤلاء يؤيدون، والقاضي أمام هذه الأيمان الكاذبة والأقوال المتضاربة لا يملك للحق من الباطل إلا أن يفزع إلى توفيق الله فيخلّص بين الصحيح والفاسد بعقله، ويوفق بين القانون والعدل باجتهاده.
وتحضر مجلس العدل أو مجلس الأمن فتسمع الحقائق تنكر الحقائق، والوثائق تكذب الوثائق، والكتب البيض والزرق والخضر والصفر في دولة، تقف من أمثالها في دولة أخرى موقف الكاذب من الكاذب، والثالب من الثالب، يدفع كل منها الآخر بما حشد من شهود وجمع من أدلة وساق من وقائع!
هذه مصادر التاريخ اليوم والكتابة شائعة، والتسجيل منتظم، والعمران متصل، والمواصلات سريعة، والاستخبار صناعة مستقلة وفن قائم له وسائله التي تعين عليه، وشركاته التي تستبق فيه، وأهله الذين فرغوا، فما ظنك بمصادره يوم كانت الأمية فاشية والجهالة غاشية، والشقة بعيدة، والأسباب منقطعة، والألسنة وحدها هي التي تنقل الأخبار من إنسان إلى إنسان، ومن قبيلة إلى قبيلة، ومن مدينة إلى مدينة، ومن قطر إلى قطر؟
لا يا سيدي! ألحق أن التاريخ ثروة طائلة هائلة من كذب الإنسان! فاقرأه كما تقرأ إلياذه هوميروس، وإنياذة فرجيل، وشهنامه الفردوسي، ولا تلتمس الحق في أحداث الأرض وأعمال الناس إلا في الكتاب الذي يخرجه الله يوم القيامة لكل إمرىء فيقرأ فيه ما قدمت يداه، ثم يحاسبه أحكم الحاكمين على مقتضاه!
أحمد حسن الزيات(816/2)
الجديد في المشكلة الألمانية
للأستاذ عمر حليق
ألمانيا هي لولب السلم والاستقرار والرخاء في القارة الأوربية إجمالا، فإنتاجها من الصناعة الثقيلة والفحم والمواد الخام الأخرى، ومبادلتها هذا الإنتاج مع الدول الأوربية المجاورة، بالإضافة إلى حيوية الشعب الألماني وتأصل الروح العسكرية في بنيه، يفرض على المهتمين بالشئون الدولية مراقبة كل تطور يلم بالمشكلة الألمانية باهتمام خاص. فإن الظروف التي أحيط بها الألمان في أعقاب هزيمتهم ظروف مؤقتة تتلاعب بها مصالح متنافسة بين الروس وحلفاء الغرب مما يهيئ لشعب واع كالشعب الألماني أن يستفيد من حدة هذا التنافر كما حدث له في أعقاب الحرب الأولى في الأشهر الأخيرة ألم بالمسألة الألمانية أحداث هامة. فقد أعلن حلفاء الغرب في مناطق احتلالهم مشروعين رئيسيين يتوخيان إنهاء حالة الاحتلال العسكري في ألمانيا والعمل لإنشاء دولة ألمانيا مقيدة الصلاحية في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية؛ لكنها إصلاحيات واسعة في الشؤون الإدارية والاقتصادية والفكرية إلى حد ما. وهذا التطور يعني أن الألمان منذ هزيمتهم الأخيرة يعطون الفرصة لإعادة ما يستصوبونه من يتفق مع حاجاتهم ومصالحهم ونزعاتهم. وأحد هذين المشروعين يتعلق بتصفية الخلاف بين حلفاء الغرب أنفسهم حول المنطقة الصناعية الألمانية الهامة في الرور، وهذا يعني أن عقبة كبرى في وجه الحكم الذاتي لألمانيا قد زالت في منطقة حلفاء الغرب على الأقل.
أما المشروع الآخر فيتعلق بأنظمة الحكم والإدارة ومراقبة نمو القومية الألمانية لتسير في اتجاهات ديمقراطية وتكف عن التمجيد العنصري الذي مكن للنازية سرعة النجاح، وجعل العسكرية البروسية نظاماً تقليدياً هو المحور الذي يدور حواليه الألمان باحثين عن مخرج لأزماتهم النفسانية والاقتصادية.
والدراسات المتوفرة عن حاضر ألمانيا تشير إلى سرعة نمو القومية الألمانية نمواً عنيفاً حاداً. وهذا ما دفع حلفاء الغرب لأن يصوغوا الأنظمة والبرامج التي يضمونها للحكم الذاتي في ألمانيا في قوالب تحارب هذا النمو وتسعى جديا ًللحد من عنفه وتوجيه توجيهاً إنشائيا يتفق ومصلحة الحلفاء والديمقراطية التي يتوخون تثبيتها في أواسط أوربا. والسلاح(816/3)
العلمي الذي استعمله حلفاء الغرب لتوجيه هذا الانفعال الألماني هو إعادة (تثقيف) الشعب الألماني على أسس الديمقراطية الغربية.
أما السوفييت في منطقة احتلالهم من ألمانيا الشرقية، فإنهم يتبعون برامج تطبيقية عملية لبلشفة ذلك الجزء من ألمانيا بنفس الوسائل التي اتبعوها في كل شبر من أوربا الشرقية التي خضعت لنفوذهم، في بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبلغاريا ودول البلطيق. ففي ألمانيا الشرقية ألحق الروس أجزاء غنية من الوطن الألماني ببولندا وتشيكوسلوفاكيا وأمعنوا في انتزاع أنياب الألمان العسكرية بنقل المصانع ووسائل الإنتاج إلى روسيا، واستخدام المهرة من العمال الألمان فيها لخدمة الإنتاج الروسي، وزجهم مئات الألوف من الجنود الألمان المسرحين في معسكرات العمل الإجباري الخفي. هذا إلى توجيه النظم الاقتصادية في الصناعات الخفيفة والزراعة وأحوال المعيشة اليومية توجيهاً ماركسياً على النحو الذي تتبعه الحكومات الشيوعية في روسيا ومنطقة نفوذها في شرقي أوربا. وحلفاء الغرب وإن لم يلجئوا إلى هذه القسوة في قمع الروح الألمانية، سعوا تارة بجد وطوراً بغير جد للاحتياط لها على طريقتهم الديمقراطية. فقد أنشأ الحلفاء في اجتماع عقد في لندن في الربيع المنصرم مجلس الدفاع العسكري لألمانيا وهو يشرف على ثلاث هيئات تفتيشية تراقب الألمان في نشاطهم العسكري والصناعي، وفي بحوثهم العلمية، إلى جانب الهيئة الدولية لمراقبة الرور التي تحول بين ألمانيا وبين الاستفادة من الفحم والحديد لتنمية الصناعة الثقيلة وهي نوع خفي من الاستعداد الحربي، وقل من الخبراء بشؤون ألمانيا من يعتقد بأن حلفاء الغرب مستطيعون كبح النمو الألماني في الناحية القومية والصناعية والعسكرية.
وحتى في هذا الطور الحالي من أطوار النمو الألماني فإن الوعي الألماني قد أخذ ينفجر عن انفعالات تعزز هؤلاء الخبراء.
فقد أضرب مثلا عمال المصانع في منطقة الاحتلال البريطانية احتجاجاً على تفكيك المصانع الكبرى في تلك لمنطقة. والقارئ للصحف الألمانية في مناطق الحلفاء يلمس بوضوح على الرغم من وطأة الرقابة حدة الانفعال الألماني واتجاهه نحو هذا النمو القومي في شتى نواحيه. وإن مهارة العامل الألماني ووعيه وتركز النشاط الألماني في الصناعة(816/4)
والاقتصاد والتشكيل السياسي في بوتقته القومية الألمانية يجعل (تثقيف) حلفاء الغرب للألمان عملا ضئيل الجدوى ولكن ألسنة الرأي العام في المعسكر الإنجلوسكسونى يحلو لها أن تعتقد إن الألمان مكبوح جماحهم بواسطة هاتين السلطتين:
مجلس الدولي لمراقبة الرور، وهيئة مراقبة الروح العسكرية والإنتاج الصناعي والبحوث العلمية. وهذه السلطة الأخيرة مقصورة على الدول الثلاثة: بريطانيا وأمريكا وفرنسا.
وقد رأينا أن هيئة المراقبة الحليفة هذه وفروعها التفتيشية الثلاثة محدود نجاحها لأسباب تتصل بصميم الخلق القومي الألماني، إلا إن هناك كذلك دوافع (خارجية) تؤثر على مدى هذا النجاح وهي لذلك مصدر صراع للمعنيين بالمشكلة الألمانية. ولما كان النشاط الألماني الصناعي والفني حيويا وضروريا لا لإنعاش ألمانيا ورفع عبء النفقات المادية عن كاهل دافع الضرائب في بريطانيا وفرنسا وأمريكا فحسب، بل لإنعاش أوربا المحطمة إجمالا، فإن سلطة الرور الدولية تقيد الإنتاج الألماني بشروط تلزم الألمان بتصدير جزء معين إلى البلدان المجاورة سواء رضي الألمان أم لم يرضوا، وسواء فاض عن حاجتهم أم لم يفض، ومن هذه الشروط كذلك إقصاء الصناع والخبراء الألمان الذين كانوا على صلات وثيقة بالحركة النازية عن وسائل الإنتاج في الرور وغير الرور.
ويتوجس أعداء ألمانيا خيفة من هذه الحالة. فبالرغم مما يبدوا من صرامة في هذه القيود فإن هناك من يؤمن بأنها لن تكفي لإبادة عزم الألمان على المحاولة مرة أخرى للسيطرة على منطقة نفوذها التقليدية في أوربا وفي العلاقات الدولية، وفي الانتقام من عدوين لدودين هما اليهودية العالمية، والشيوعية الدولية. وقد اضطرت سلطات الحلفاء في الأسابيع الأخيرة لأن تنذر أصحاب الصحف الألمانية مراراً بأن يتفادوا توجيه الانفعال الألماني توجيهاً عنصريا ضد اليهود، وإن كانت قد أغفلت حدة التوجيه الملتهب الموجه ضد الشيوعية لأسباب واضحة. ولكن الألمان أو القوميين العنيفين منهم على الأقل يمزجون عن وعي (اليهودية العالمية) والشيوعية الدولية معاً. وبسبب هذا الخوف تواجه سلطات الاحتلال الحليفة في ألمانيا انتقادات عنيفة من الكتلة اليهودية القوية النفوذ في الولايات المتحدة وفرنسا كما حدث في قضية (الزاكوخ) زوجة مراقب معتقل يوخنفالد وما تبع الحكم المخفف عنها من موجة انتقاد وضغط سياسي استدعى تأليف لجنة برلمانية(816/5)
أمريكية للتوصية بإعادة محاكمتها من جديد. ويواجه الحلفاء كذلك تحديا ًقوياً من الاتحاد السوفياتي لإعادة الحكم الذاتي لألمانيا الغربية الذي هو في الواقع جوهر النزاع الشكلي بين الانجلوسكسون والروس في المشكلة الألمانية. ولعل هذه المصلحة المشتركة تفسر لنا بعض دوافع التحالف السوفياتي اليهودي في فلسطين وغير فلسطين حيث يشتد العنصر اليهودي في كل حزب شيوعي يدين بالولاء لموسكو.
والخوف من بعث ألمانيا لا يقتصر على هؤلاء بل يحسب حسابه الفرنسيون والبلجيكيون والهولنديون الذين أصابهم منه شر عظيم مرتين في ربع قرن. ولذلك فإن المشكلة الألمانية لا تزال موضوع خلاف على بعض النقاط الجوهرية بين حلفاء الغرب أنفسهم.
وهناك من يشير إلى خطورة برامج الاحتكارات الدولية (الكار تل) لاستغلال المهارة الألمانية في الإنتاج الصناعي على حساب مستقبل السلم الأوربي على نحو ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ولكن تباين الصالح بين حلفاء الغرب حول البعث الألماني لم يحل بين صناع السياسة منهم، وبين تنفيذ مشروعات هامة للإنعاش الألماني.
والخلاصة أن الألمان حين يتركون لأنفسهم سيكون طموحهم لبناء المجد العسكري واستعادة المركز السياسي والسيطرة الصناعية على أواسط أوربا مقيداً بسياسة روسيا الصارمة في الشرق وسلطات المراقبة الحليفة في الغرب.
وكان كلا الفريقين يحاولان انتزاع عود الثقاب من يد الولد الشرير، وبقي عليهما انتزاع الشر نفسه. ولعل هذا أصعب المهتمين في جوهر أس (الإصلاحية) وهم عنه مشغولين بالتناطح.
نيويورك
عمر حليق(816/6)
السري الرفاء
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
- 2 -
تحدثت في المقال السابق عن الشاعر الكندي الموصلي السري الرفاء، وذكرت ما كان بينه وبين الأديبين الأخوين المعروفين بالخالدين من عداوة، وأنه أولع باتهامها بسرقة الأشعار وضَّمن كثيراً من شعره هذه التهمة. واليوم أعود إلى حديث هذا الشاعر، فأبين عن جانب من الوصف في شعره كيف سلك فيه وافتن نواحيه.
هو شاعر مولع بوصف ما يرى من الحيوان ومناظر الطبيعة وآثار الصناعة. ومما راقني في شعره، وصفه خطّافاً عشش في حجرته، وتكريره هذا الوصف في شعره ودعوته أصدقائه لرؤيته وعدد من محاسن داره. وفي الشعر العربي الجاهلي وصف الحيوان الوحشي والمستأنس، وصف صورة الحسية، ومعيشته وعاداته، والإعراب عن صحبة الإنسان لبعض الحيوان وعطفه عليه ومشاركته إياه البأساء والضراء، ولاسيما الجمل والفرس. ولست أعرف أدباً آخر فيه الاهتمام ومخالطته ومعاشرته إلى حده الذي بلغه الشعر العربي. والذي يذكر ما نظمه العرب في الإبل والخيل، وحمر الوحش والنعام والذئب والضبع والأسد وحيوان الصيد من الكلاب والفهود والبزاة. ويذكر مثل قول المثقب العبدي في ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بلبل ... تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضينى ... أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقي على وما يقيني
فأبقى باطلي والجد منها ... كدكان الدرابنة المطين
وقول القائل:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقيار اسم جمل الشاعر.
وقو آخر:
شكى إليَّ جملي طول السري ... صبراً جميلاً فكلانا مبتلي(816/7)
وقول آخر:
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى ... وإني وإياها لمختلفان
وقول القائل:
حيتك عزة بعد الهجر وانصرفت ... فحيِّ ويحك من حياك يا جمل
وقول أبي الطيب:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وألوانها فالحسن عنك مغيب
من يذكر هذا وأمثاله يعرف مقدار ما عني شعراء العرب بوصف الحيوان بل بصحبته ومعاشرته.
الشعر العربي حافل بهذا الضرب من الحديث عن الحيوان.
وهو يدل على العطف عليه والإكبار من شأنه.
وقد حدثني أستاذ إنجليزي كبير من الأطباء البيطريين عن إعجابه بتكريم العرب والمسلمين للحيوان، ورفعتهم شأنه، ومعاملته ذي الروح، والرفق به على حين كان لغير المسلمين مع الحيوان شأن آخر، وقد كتب هذا الأستاذ في هذا المعني رسالة.
هذا موضوع واسع لا تسعه إلا المؤلفات الكبيرة، ولكني عرضت له هنا لأذكر كلف هذا الشاعر العربي الموصلي بوصف الحيوان والعطف عليه والعناية بأمره سنة شعراء العرب، ثم فرحه بطائر عشش عنده وجاوره وصاحبه.
زوجان من الخطاف اتخذا في قبة حجرته عشاً فلم يرعهما، بل أنس بهما، وسعد بصحبتهما، وذكرهما في شعره مرات،. وجعلهما من محاسن حجرته، ومما يرغب أصدقائه في زيارتهما.
انظر قوله في أرجوزة يستدعي صديقاً له:
لنا مغن حسن الغناء ... وقهوةٌ ضاحكة الإباء
وغرفة فسيحة البناء ... طائرة القمة في الهواء
يوطن في قبتها العلياء ... زور خفيف الروح والأعضاء
محلق في كبد السماء ... وتارة يلصق بالغبراء(816/8)
في يلمق مشهَّر الأثناء ... كأنما طُوَّق بالدماء
يُطلب أو يُخلب قلب الرائي ... بين غناء منه أو بناء
يذكر لصديقه أن زائراً خفيف الروح ضئيل الأعضاء يسكن في قبته، وأنه يصعد ويصوب، فتارة يبلغ كبد السماء، وتارة يلامس الأرض، وهو ثوباً ثناياه بيض، وله طوق أحمر، كأنه طُوق بالدماء، فمن مغنياً أو يبصر بانياً عشه، يطرب أو يغلب على قلبه جمال هذا المغني الصغير والبناء الماهر فيخلبه.
ويقول في قصيدته يستزير بها صديقاً آخر ويُحسِّن له الزيارة بأن له غرفة عشش فيها الخطاف وأنس بها واطمأن إليها:
وقد كتبت أيدي الربيع صحائفاً ... كأن سطور البرق حسناً سطورها
فمن روضة سارِ إلينا نسميها ... ومن مُزنة مرخي علينا ستورها
وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها ... بزائرة في كل عام تزورها
بمبيضة الأحشاء سود شطورها ... مزنرة الأذناب حمر نحورها
مرفرفة حول البيوت وفودها ... محلقة حول السقوف وكورها
لهن لغات معجبات كأنها ... صرير نعال السبت عال صريرها
(كأن صوتها صرير هذه النعال المصنوعة من جلد مدبوغ جيد)
تجاورنا حتى تشب صغارها ... فيحلق فينا بالكبير صغيرُها
فزرنا تر اللذات بيضاً وجوهها ... محببة روجاتها وبكورها
أليس هذا وصف شاعر محب لهذا الطائر معجب به يرغب أصدقائه في زيارته بوصفه. ولولا رفقة به ورعايته له، ما عشش وفرخ في سقف حجرته وبقي حتى شبت صغاره فطارت مع كباره ويقول في قصيدة أخرى يدعو صديقاً له ويذكر ما عنده من المرائي الجميلة، وآلات اللهو، والفتية الأدباء، وهذا الطائر الصديق المستجير بغرفته، المحترم بجواره:
وغرفتنا بين السحائب تلتقي ... لهن عليها كلة ورواق
تقسِّم زوار من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاق
أعاجم تلتذ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهن طلاق(816/9)
أنسن بنا أنس الإماء تحببت ... وشيمتها غدر بنا وإباق
مواصلة والورود في شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق
فزر فتية برد الشباب عليهم ... حميم إذا فارقتهم وغساق
فهذه غرفة يضرب السحاب عليها رواقة، تقسمها جماعة الخطاف، وهي في ألوان أهل الهند، فهو يسميها زوار من الهند وهو يسمع أصواتها عجما لا تبين، وهي تتصايح وتتطاير وتختلف أحياناً فتتشاجر كأنها كواعب من الزنج في خصام.
وقد أنس هؤلاء الزوار بهذه الغرفة، كالإماء المتوددات، ولكنهن لا يقمن على حال فهن يهجرن الغرفة ولا يرعين الصحبة والجوار، وإنما تقيم إبان الربيع والورد في شجره. فإن فارق الورد فارقت فما ودها إلا كهذه الزهرة، سريعة الذبول قصيرة اللبث.
هكذا يفتن شاعرنا في وصف جارته وإعجابه بها، وذكر ألوانها وأصواتها , ومرحها وخصامها، وهذا لاشك ضرب من الشعر الطبيعي الإنساني، يؤلف بين الإنسان وبين ما يحيط به من حيوان وجمال، وهو في أدبنا كثير، ولكنه في حاجة إلى المتنوية والجمع والترتيب.
والسري يعد شاعر وصاف يفتن في الوصف، ويتناول بها الطبيعة: سمائها ونجومها وسحبها، والأرض: أنهارها وغدرانها ورياضها وحدائقها، والصناعات البشرية من القصور والتماثيل والسفن وغيرها. ولا يتسع المجال للإتيان بأمثلة في هذه الموضوعات فأكتفي بمثالين:
قال يصف السفن:
كل زنجية كأن سواد الليل ... أهدي لا سواد الأهاب
تسحب الذيل في المسير فتختا - ل وطوراً تمرمر السحاب
وتشق العباب كالحية السوداء ... أبقت في الرمل أثر انسياب
وإذا قدمت رءوس المطايا ... للسري قدمت من الأذناب
وقال يصف الجراد:
وجحفل من جنود الله منتشر ... مثل الخناصر منقوش الحيازيم
يحل بسطة إقليم فإنه عصفت ... به الصبا صيرته جو إقليم(816/10)
ما شنّ وهو ضعيف البطن غارته ... إلا استباح حمي الشم اللهاميم
يلقي على الحب في أعلى منابته ... كلا كلا نقشت نقش الخواتيم
إذا استغل أعاد الأرض معدمة ... واستودع الترب نسلا غير معدوم
تلك نبذة عن السري الرفاء، ولعله يجد من عنابية الأدباء ما يؤدي حقه من نشر شعره والإشادة بذكره. . .
عبد الوهاب عزام(816/11)
عدل السماء
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
(ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلاً يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حماقتك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)
لقد نزلت - يا رفيقي - قربتك فأحسست بالوحدة وأنت بين أهلك واستشعرت الغربة وأنت في دارك، وعشت فيها أياما ًفما رف إليك قريب من ذوي قرابتك، ولا هفا نحوك واحد من أخوتك. وكيف يفعلون وهم قد لمسوا منك الجفوة والامتهان والشح، فما تلبثت نفسك أن ضاقت بالحياة وحيداً في هذه القرية، فثارت خواطرك ثورة عنيفة جَياشَّة فبعت دارك لأنك لم تجد فيها الراحة ولا المأوى، بعتها - وهي كل ما تملك في القرية - فعفت على آخر أثر لك هناك، مثلما مسحت على آخر خفقة من خفقات العطف والحنان حين اشتريت هذه الدار وأفزعت عنها أهلها، اخوتك أنت. . . ثم خرجت - وحدك - من الدار ومن القرية جميعاً. انطوت الأيام فما عدت سوى ذكرى في القلوب، أو تاريخ على الألسن كان حديث القوم حيناً.
يا لعدل السماء! لقد خرجت اليوم قسراً من الدار التي طردت منها بالأمس اخوتك في غير شفقة ولا رحمة. وأرسل اخوتك الأطهار نظراتهم في إثرك وأنت تتواري خلف الافق، وتعلقت بك أبصارهم، وخففت في أسى ولوعة حين أيقنوا أنك أصبحت غريباً عنهم، وترقرقت العبرات في عيونهم لأنهم وجدوا لذع فقدك، فقلوبهم ما تزال غضه نقية لم تشوهها المدنية ولا حجرتها المادة، وأزعجتهم أن تخرج من القرية - وحدك - كآسف البال مضطرب النفس يرمضك الأسى ويمضك الهم. ولكن واحداً منهم لم يستطع أن ينطلق وراءك ليردك إلى أهلك خشية أن تلقاه في غلظة أو تحدثه في قسوة.
آه يا رفيقي، لو وجدت الرحمة إلى قلبك سبيلاً!
وعدت إلى المدينة، إلى عملك الحكومي، وما في يديك سوى ما قبضته ثمناً لدارك وسوى ما فدحك من بث وشجن حين فقدت الأخ والصديق والقريب، وحين لفظتك القرية التي ولدت فيها وترعرعت بين ربوعها. . . لفظتك وقلبك يهفو نحو ملاعب الطفولة وأحباء(816/12)
الصبا ومسارح الشباب.
لشد ما غاظك - وأنت في القرية - أن يتغافل عنك أهلك وأن يتجاهلوا وجودك وأن ينبذوك جانباً، على حين قد جئت إليهم تريد أن تخطب الود، وتكفر عن الخطيئة وتصل ما انقطع. ماذا - يا ترى - طمس على قلوبهم فما نبضت بحب ولا خفقت بعاطفة، وأنت ابن أبيك، وأبوك كان في الذروة خلقاً وجاهاً، وهو قد عاش بينهم عمره الطويل في العزة والمنعة والشرف يوقره الكبير ويحترمه الصغير؟ ماذا يا ترى؟
وتراءى لك أن أهلك قد جفوك لفقرك، وعافوك لمرضك، فعقدت العزم على أمر، وأنت ما تزال شاباً فيك مسكَ من قوة وبقية من نشاط.
وخلصت إلى عملك الحكومي وتقضي فيه صدر النهار، وإلى عمل في شركة تجارية تقضي فيها صدرالليل، وأنت بين هذا وذاك تعين محاسباً - زميلاً لك - على عمله لقاء أجر معلوم. واغتمرت في عمل مستمر متواصل يستغرق وسعك ويستنفذ طاقتك، وأنت في شغل لا تجد مس الضنا ولا تحس شدة الرهق، فقلبك راض مطمئن، تأخذ نشوة المال حين تجمعه وتحصيه ثم تدخره عسى أن تبلغ الغنى أو ترقى إلى الثراء فتكون بين أهلك وذوي قرابتك رجلاً.
وضننت بهذا الجهد - وهو ضخم - أن تبعثره نوازع الحياة أو أن يمزه بهرج المدينة، فعاودك داء البخل والكزازة فتلمست مسكناً في حجرة ضيقة من منزل حقير بأجر زهيد تقضي فيها ساعات نومك، تقبل عليها في هدأة الليل وتفرغ عنها في بكرة النهار.
هذا المكان قذر وضيع تتراكم في نواحيه الأوحال والأوساخ وتفوح منه رائحة نتنة ذفرة، ولكنه لا يوحي إلى نفسك الغضاضة ولا يبعث في قلبك التقزز. وماذا يضيرك وأنت تتوارى في هذا الوكر عن الأبصار والقلوب؟ ثم لجَّ بك البخل وضربك الشح فأصبحت لا تبالي أن تبدو أمام الناس في أسمال خَلِقة تزدرديها النفس وتقتحمها العين، ثم ضيقت على نفسك لا تحبوها إلا بالتافه من الطعام، ولا ترفه عنها ما تعاني من كلال ونصب ولا تخفف عنها ما تقاسي من عناء وسأم.
وتعاورك الإرهاق وسوء التغذية وانحطاط المسكن، ولكنك ادخرت مالاً.
وعجبت أن ترى زملاءك في الديوان يتلقفون (الترقية) و (الدرجة) و (العلاوة) وأنت(816/13)
تنظر وتنتظر فلا تنال شيئاً , لماذا؟ وأنت لا تهمل ولا تتكاسل، تنطوي على عملك في دأب ونشاط وتنزل عند رأي (المدير) في غير تردد ولا نقاش تبتغي أن تنال عنده الحظوة، وأن تبلغ منه الرضا، ولكنك ما تبرح في مكانك منبوذاً في ناحية.
أما هؤلاء الذين يظفرون بالترقية والدرجة والعلاوة فما منهم من يؤمن بالعمل، ولا من يرعى حق الوظيفة، ولا من يعني بالواجب، فهذه أكداس من الورق تتراكم أمامهم فلا يعيرونها التفاته ولا يأبهون لما بها، ولكنهم يجنون رضا الحكومة، ويستمتعون برحيق الوظيفة، وأنت تنظر وتنتظر في غير رجاء ولا أمل، فليت شعري لماذا؟
وخُيِّل إليك أن السر هناك في حجرة المدير فذهبت تكشف عن خبيئة الأمر فما أعجزتك الحيلة ولا ضاقت بك الوسيلة وأنت ذو ثقافة وعقل.
ورأيت الموظف يتملق (سعادة المدير) بأساليب أيسرها الإطراء والمدح، ويقترب إليه بوسائل أكرمها التذلل والتعبد والمدير يتقبل هذا وذاك في رضا وسرور. . هذا سبيل وعز عليك أن تسلكه فما في طبيعتك أن تفعل. ولكنك برمت بما ترى حواليك وحار عقلك، وآنذاك أن ترى مَنْ هم دونك يتسلقون السلم في سرعة وسهولة، وأردت أن تتذوق بعض ما يسعدون به.
وسطعت في خيالك خاطرة انجابت لها كل الخواطر السود في رأسك، وهدأت لها أعصابك الثائرة، فأنت قد عقدت العزم على أن تصل حبلك بحبل (سعادة المدير) فتتزوج من ابنته.
وزَين لك خيالك الأمر، فغداً - حين تتزوج من ابنة المدير - تصبح أنت صاحب الرأي في المكتب، وصاحب السلطان في الديوان، وصاحب الكلمة في المصلحة. واستبدت بك الفكرة فبعثت فيك النشوة واللذة. . .
وذهبت إلى (سعادة المدير) تخطب إليه أبنته فربتَ على كتفك وأجلسك إلى جانبه وحباك بعطفه وانفتح لك باب حجرته وباب داره في وقت معاً، وانحنى لك ساعيه وبوابه وهابك مرءوسيه وأعوانه، واحتفل بك أهله وأقاربه، ثم طلب إليك المهر فما تعوقت وما تعوق هو الآخر، فجاءتك الترقية والعلاوة والدرجة جميعاً، وابتسم (سعادة المدير) وابتسمت أنت أيضاً ولكن الأيام. . .
فيا ليت شعري هل كان أبوك يستنزل سخط السماء على ابنه العاق حين كان يتمتم بكلمات(816/14)
لم تسمعها أذن؟
وتمت المراسيم الأولى للزواج، وجاء جهاز العروس بين فرح الأهل وبهجة الأقارب، وانتهى كل شيء فلم تبق سوى أيام ثم تزف إليك عروسك السعيدة. وأردت أن تلقي بنفسك في غمرات العمل الشاق لتدخر مالاً تنفقه عن سعة في شهر العسل، ولكنك أحسست بقوتك تتقوض وبصحتك تنهار، فانطلقت تطب لمرضك فأرسلك الطبيب إلى مصحة حلوان.
وأنت الآن - يا رفيقي - هناك في مصحة حلوان لا تجد الصديق لأنك خاصمته منذ زمان ولا تجد المال لأن المدير قد استنزف كل مالك مهراً لابنته ثم طار عنك، وتزوجت أبنته من مال دفعته أنت مهراً لها.
أنت هناك - يا رفيقي - تنتظر النهاية وحبداً لأن أباك استنزل سخط السماء على ابنه العاق. فيا ليت شعري. . يا ليت!
كامل محمود حبيب(816/15)
حين تعبث الأقدار
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
ليست هذه القصة خيالية، وإنما حادث حقيقي؛ وقف كاتب هذه السطور على تفصيلاته من أشخاصه أنفسهم وباشر أخيراً بنفسه بعض إجراءات فضائية ترتبت عليه.
بدأت وقائع هذا الحادث منذ خمس عشرة سنة. وفي الشهر الماضي سدل الستار علىالفصل السبابقأسدل الستار على الفصل السابق للأخير منه. أما نهايته فهي سر المستقبل.
منذ خمسة عشر عاماً خطفت امرأة طفلة صغيرة تبلغ من العمر خمس سنوات من أسرة غنية تقطن بلدة من أعمال مديرية أسيوط. وكان اختطاف البنت بتحريض أحد خصوم والدها وتدبيره - على ما يقول - لضغينة بينهما. ولم تُسفر في ذلك الحين أبحاث البوليس ولا تحقيقات النيابة عن نتيجة، ولم تثبت التهمة على شخص معين وقُيدت القضية (ضد مجهول) و (حفظت لعدم معرفة الفاعل) وانتهى الأمر عند هذا الحد من الناحية القضائية، وظلت الطفلة مفقودة، ولم يهتد إليها أحد على رغم جهود والدها المتواصلة في البحث عنها، وقد أرسل في هذا السبيل أقاربه ومعارفه إلى أطراف المديرية، ثم إلى مختلف أنحاء البلاد، وأنفق جانباً من ثروته بلا جدوى. وكم نصب عليه الكثيرون من الدجالين: من محضري الأرواح ومحترفي التنويم المغناطيسي والمنجمين وقارئي الكف وغيرهم. وقد وفد إلى القاهرة لمقابلة بعضهم مخدوعاً بإعلاناتهم ومحاضراتهم الماكرة التي يُغرون بها السذج. وكان كل واحد منهم يرسله إلى ناحية نائية من البلاد يزعم أن ابنته نقلت إليها حتى يُبعده عنه بعد أن يستولي على كل ما يمكنه الاستيلاء من ماله. وادعى بعض الخبثاء منهم أن الطفلة هُرِّبت إلى خارج البلاد ليعجزه عن السفر إليها.
وظلت الأم المسكينة تبكي ابنتها ليل نهار السنين الطويلة حتى فقدت بصرها وعز الدواء. وكان أشد ما يفزعها أن تكون ابنتها تقاسي آلام الجوع أو ذل الخدمة أو ما هو شر من هذا كله وحشية بعض الرجال يقودونها إلى الرذيلة ويكرهونها عليها، حتى كانت أن تكون ابنتها قد ماتت خيراً من أن تتجرع هذه الأهوال وتسقط في تلك الهاوية.
وأخيراً ترامى إلى علم والدها أن لخاطفي أبنته، أو بالأحرى لمن اشتبه فيهم - أقارب في(816/16)
القاهرة يذهبون إلى زيارتهم من حين إلى أخر، فظن الرجل أن يكونوا قد أرسلوها إليهم ليخفوها، أو أنهم تركوها شريدة في شوارع العاصمة. فاستأنف بحثه فيها واستعان ببعض أقاربه وأقاربهم هنا، وصاروا يتفرسون في كل فتاة يقابلونها في الأزقة والطرقات عساها أن تكون ضالتهم المنشودة.
وحدث في الشهر الماضي أن وقع نظر أحدهم على فتاة فقيرة في أحد الأحياء الوطنية تشبه ملامحها - بعض الشبه - ملامح ابنتهم المفقودة فتعقبها عن بعد إلى أن وصلت إلى مسكنها المتواضع، ثم أرسل إليها خالتها التي تحققت من التفرس فيها ومن حديثها معها ومن الكشف على بعض مميزات في جسمها أنها أبنة أختها المفقودة، فلجأ إلى البوليس وهناك قصت الفتاة تاريخها من بدء ما أمكنها أن تذكر إلى حالتها الراهنة.
قالت إنها تذكر أنها كانت مع امرأة اعتادت أن تعاملها بخشونة وتضربها بقسوة، ثم انتقلت من منزل إلى منزل لا تستطيع الإرشاد عن أماكنها، وكانت تخدم في البيوت، وأخيراً التحقت بخدمة أسرة تجاور كاتب هذه السطور، وكان لرب هذه الأسرة خادم يعمل في محل تجارته فتزوج الفتاة من نحو عامين وتركت الخدمة وعاشت مع زوجها راضين قانعين بما قسم لهما من شظف الحياة. ومنذ بضعة شهور ولدت طفلا ففرح الزوجان به فرحاً شديداً وانصرفت الزوجة إلى العناية بمولودها والسهر عليه ولقيت من مخدومتها السابقة كل مساعدة. . . إلى أن فوجئت بطلبها إلى مركز البوليس هي وزوجها على الوجه المتقدم.
وهنا قامت مشكلة على جانب من الخطورة، فقد كان من المستطاع حل المسألة على خير وجه بأن يساعد والد الفتاة، وهو غني، زوج ابنته الفقير على رفع مستواه حتى يصبح كفئواً له فيؤجر له مثلا بعض أطيانه بإيجار قليل في بادئ الأمر، أو يقيم له متجراً يرتزق منه الخ. . . ولكن وقفت عقبة أمامهم عقبة كؤود فقد اتضح أن الزوجة وأسرتها من الأقباط المسيحيين، وكانت الفتاة قد تزوجت هذا الشاب المسلم وهي تجهل حقيقة أمرها وتعتقد أنها مسلمة مثله. ولم يكن أهل الزوجة على درجة من التعليم وسعة العقل والتسامح الديني يجعلهم يقبلون هذا الزواج الذي تجيزه المسيحية والشريعة الإسلامية على السواء؛ بدليل زواج الكثير من المسلمين بالأجنبيات المسيحيات بقبول أهل الزوجة ورضاهم. لهذا عارض والد الفتاة وأقاربهم في استمرار زواج ابنتهم بزوجها هذا، وقالوا إنهم سيطلبون من(816/17)
القضاء إبطاله لأنه بُني على الخطأ، والخطأ يبطل التعاقد.
أمام هذا الإشكال وهذا النزاع وأي بوليس القاهرة أن يحيل الموضوع كله إلى (الجهة المختصة) وهي مركز بوليس أهل الزوجة حيث وقعت الجريمة - جريمة الخطف - وحيث يسهل استكمال تحقيق شخصية هذه الفتاة رسمياً، وهل هي حقيقة ابنة (المشتكي) وذلك بشهادة الجيران وباقي أفراد العائلة على ضوء المحضر القديم (المحفوظ) بالنيابة، فعارضت الفتاة وقالت: إنها لا تريد أن تفارق زوجها والد ابنها، وأنها راضية بحياتها الحاضرة؛ غير أن المأمور أمكنه أن يقنعها بالسفر مع زوجها، فقبل الزوجان بعد أن رأيا من كرم أخلاق والد الفتاة وباقي أسرته وحسن معاملتهم ما شجعهما على ذلك، وسافروا جميعاً.
وكان منظر مؤثراً حقاً لقاء تلك الأم المسكينة الضريرة بابنتها بعد فراق خمسة عشر عاماً، فأخذت تضمها إلى صدرها بحنان وتقبلها وتتحسس بيدها رأسها ووجهها وشعرها وجسمها تستعيض بهذا عن نعمة الأبصار وكأنها في حلم لذيذ لا تصدق أنه حقيقة. وبعد أن استراح الجميع وأكلوا وشربوا وأكرموا الزوج كل الإكرام، أخذوا يطوفون بالفتاة أنحاء المنزل وملحقاته وعلى الشوارع المحيطة به فقالت إنها تذكر فعلاً بعض هذا حين كانت طفلة، وأيقنت أنها ابنة هذه العائلة حقيقة. وقد تأثرت بحالة والدتها وقالت إنها لن تتركها بعد الآن. وأشفق زوجها كذلك على هذه الأم الضريرة. وبعد أن كان مصمما على الرجوع مع زوجته إلى القاهرة أقنعه ذووها بأن منا الخير لابنه أن يتولوا هم بما لهم من ثروة وجاه أمر تربيته وتعليمه حتى مرحلة التعليم العالي الذي يعجز عنه هو بطبيعة الحال؛ ويخصون الطفل ببعض أملاك جده بشرط أن يتخلى أبوه عن زوجته ويترك لهم الطفل على أن يحضر إلى القاهرة من وقت إلى آخر لمشاهدته، أو يحضر هو لزيارته كلما شاء معززاً مكرماً في ضيافتهم. وبعد أن تردد الرجل كثيراً وفكر رأى أن يضحي بسعادته الزوجية ويحرم نفسه ابنه العزيز ضماناً لمستقبل الطفل، فقبل أن يطلق زوجته ويترك لها حضانة ابنها، وعاد إلى القاهرة وقلبه يتمزق حزناً على فراقها وفراقه، ومازال يحن إليها بكل جوارحه. وهكذا ذهب ضحية اختلاف الدين. على أنه يجد في المستقبل الزاهر الذي ينتظر الطفل خير عزاء. وهو يكرر الآن القول ليعزي نفسه: (إن الله فتح على أبني وإن(816/18)
كان قد حرمني منه ومن زوجتي).
على أن الرواية لم تتم فصولها، لأنه يبقى أن نعرف ما يكون عليه مركز الابن من والده ومن والدته ومن وأسرة كل منهما متى بلغ سن الرشد، وإلى من منهما ينتمي؟
نصيف المنقباوي المحامي(816/19)
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
وكان للجيش ديوان من الناحية الإدارية والمالية. وكان الجندي في ذلك الحين موسعاً عليه الرزق، بل كان الخير يغدق عليه أحياناً من ناحية المتنافسين على تولي زمام السلطان، فعندما وزر شاور مثلا زاد الأجناد على ما كان لهم عشر مرات
وفي العصر الفاطمي كان الجنود يتقاضون مرتباتهم نقودا، ً ويظهر أنهم ما كانوا يأخذون مرتباتهم شهرياً، وإنما كان يعطي لهم في العام مرة، وأن هذه المرتبات تبلغ ثلث خراج الدولة، يفهم ذلك من قول المقريزي في خططه. وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند من فيه حماسة وشدة، ومن الكتاب العدول، وكاتب نصراني، فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج على ما تشهد به المكلفات المذكورة، فينفق في الأجناد، فإنه لم يكن حينئذ للأجناد إقطاعات.
ولكن نور الدين محموداً بالشام فضل أن يعطي جنده إقطاعات ينالون منها أجورهم. وكان الجندي إذا مات أعطي إقطاعه لولده فإن كان صغيراً رتب معه من يلي أمره حتى يكبر؛ فكان أجناده يقولون: الإقطاعيات أملاكنا، يرثها أولادنا الولد عن الوالد فنحن نقاتل عليها؛ وسارت الدولة الأيوبية والمملوكية على هذا النظام فكانت تمنح الأمير وأجناده الإقطاع، على أن يكون للأمير الثلث ولأجناده الثلثان، فلا يمكن الأمير ولا مباشروه أن يشاركوه أحداً من الأجناد فيما يخصهم ألا برضاهم , وكان الأمير لا يخرج أحداً من أجناده حتى يتبين للنائب موجب يقتضي إخراجه. فحينئذ يخرجه نائب السلطان، ويقيم الأمير عوضه وكانت إقطاعات جند الأمراء على ما يراه من زيادة بينهم ونقص، ومن مات من الأمراء والجند قبل استكمال مدة الخدمة حوسب ورثته على حكم الاستحقاق، فإما أن يرتجع منهم، وإما أن يطلق لهم على قدر حصول العناية بهم. وإقطاعيات الأمراء والجند، منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها. وكان لجميع(816/20)
الأمراء على السلطان الرواتب الجارية في كل يوم من اللحم وتوابله كلها والخبز والشعير للخيل والزيت؛ ولبعضهم الشمع والسكر والكسوة في كل سنة، وكذلك لجميع مماليك السلطان وذوي الوظائف من الجند. ولكل أمير من الخواص على السلطان مرتب من السكر والحلوى في شهر رمضان، ولسائرهم الأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم، وكانت الخيول السلطانية تفرق على الأمراء مرتين في كل سنة.
وفي الحملات الحربية الكبرى كان بعضها السلاطين يلجأ إلى فرض ضرائب جديدة على الشعب المصري كما حدث في عهد قطز فإنه عند ما أزمع حرب التتار أخذ من أهل مصر والقاهرة على كل رأس من الناس من ذكر وأنثى ديناراً واحداً، وأخذ من أجرة الأملاك والأوقاف شهراً واحداً وأخذ من الأغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلا، وأخذ من الترك الأهلية الثلث من المال وأخذ على الغيطان والسواقي أجرة شهر، فيبلغ جملة ما جمعه من الأموال في هذه الحركة ستمائة ألف دينار. وبهذه الأموال جند جيشاً هزم التتار لأول مرة تاريخ حياة التتار.
والقارئ لوصف المجلس الاستشاري الذي عقده قطز من علية القوم لفرض ضرائب جديدة للجيش يرى ما كان عليه هذا الجيش من سعة في الحياة. والحق أن سلاطين ذلك الحين لم يضنوا على جيوشهم، لعلمهم بأنهم الساعد والعضد في الدفاع عن أرض الوطن. ولم يكن الجند يخرجون إلى قتال إلا وهم مغمورون بالرزق والعطاء. أنفق الأشرف خليل ابن قلاوون في سني حكمه الثلاث نفقات: الأولى في أول جلوسه في السلطنة، والثانية عند توجهه إلى عكا، والثالثة عند توجهه إلى قلعة الروم.
وكما عني الفاطميون بإنشاء جيش يرى لجب يحفظ ملكهم، ويصون إمبراطوريتهم، لم يغفلوا عن أن بلادهم - ولها شواطئ مترامية الأطراف على بحرين عظيمين الأبيض والأحمر - تحتاج إلى أسطول ضخم يصون الحمى ويحمي الذمار، فأنشأ المعز لدين الله قوة بحرية مكونة من أكثر من ستمائة قطعة، وقد أعانته تلك القوة وأعانت خلفاءه على تثبيت سلطانهم وحفظ هيبتهم.
ولكي ينال الأسطول ما يستحقه من الرعاية أنشأت الدولة له ديواناً خاصاً يقال له ديوان العمائر، يعني به من الناحية الإدارية والمالية.(816/21)
وزاد عدد جنده على خمسة آلاف مقاتل، لهم عشرة قواد بعين منهم واحد رئيس الأسطول، فإذا ساروا إلى الغزو وكان هو الذي يقلع بهم، وبه يقتدي الجميع، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه. وعلى الأسطول مقدم يكون أميراً كبيراً من أعيان أمراء الدولة وأقوالهم نفساً وللجند عشرون عريفاً يسمون النقباء هم الذين يفرقونهم ويجمعونهم إذا كان غزو.
ولقواد الأسطول مرتبات يصل أعلاها إلى عشرين ديناراً في الشهر، وبعضهم يأخذ خمسة عشر ديناراً، أو عشرة دنانير أو ثمانية أو دينارين، وذلك أقل مرتباتهم. وللجند الأجور والجرايات مدة سفرهم لكل واحد خمسة دنانير، أما بعد عودتهم فإنهم ينالون رزقهم بكدهم، ويكونون على استعداد للغزو إذا طلبهم العريف له.
وتتفق الدولة على الأسطول من إقطاعات خصصت به تعرف بأبواب الغزاة وفيها ما يرد إلى الخزانة من ثمن المطرون الذي احتكرته الحكومة.
فإذا أراد الأسطول الغزو جمع النقباء له الرجال من غير أن يكرهوا أحداً على السفر، ثم يعين الخليفة يوماًُ للنفقة يجلس فيه ومعه الوزير، كما يحضر صاحباً ديوان الجيش وهما المستوفي والكاتب وللمجلس أنطاع تصب عليها الدراهم ويحضر لذلك الوزانون لبيت المال فإذا تهيأ الانفاق أدخل الغزاة مائة مائة، وتكون أسمائهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحداً واحداً فإذا كمل عددهم عشرة وزن الوزانون لهم: لكل واحد خمسة دنانير، ويستمر ذلك مدة أيام متوالية مرة ومتفرقة مرة، فإذا تكاملت النفقة وتهيأت السفن للسفر خرج الخليفة والوزير إلى ساحة النيل بالمقس خارج القاهرة، وكان هناك منظرة يجلس فيها الخليفة لوداع الأسطول ولقائه إذا عاد، فإذا جلس للوداع جاءت القواد بالمراكب من مصر إلى هناك، للقيام بمناورة بين يدي الخليفة وهي مستكملة عددها وأسلحتها وما فيها من المنجنيقات، فيرمي بها، وتنحدر المراكب وتقلع وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدو، ثم يحضر المقدم والرئيس بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو للجماعة بالنصر والسلامة. ويعطي للمقدم مائة دينار وللرئيس عشرين دينار. وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى البحر الأبيض للغزو والجهاد؛ فإذا أدى واجبه عاد وخرج الخليفة أيضاً للقائه. ومن ذلك يبدو مقدار اهتمام الخليفة بالقوة البحرية ومدى عنايته بأمرها. وكانت العادة أن ما غنمه(816/22)
الأسطول من المال والثياب ونحوهما يكون لغزاة الأسطول لا يشاركهم فيه أحد وليس للخليفة سوى الأسرى والسلاح.
ولم يزل أمر الأسطول معيناً به طول عصر الدولة الفاطمية؛ وإن كانت عدد سفنه قد قلت في عهد الحروب الصليبية، ولكنها لم تنقص عن قطعة في آخر عهد الدولة الفاطمية. فلما دخل الفرنج أرض مصر في عهد شاور خاف أن يقع الأسطول الفاطمي في يد ملكهم مري، فأحرق جزءاً كبيراًُ منه ونهبه العبيد فيما نهبوا، وهكذا فقدت مصر جزءاً كبيراً من قوتها البحرية بسبب هذا العراك الذميم على السيطرة والسلطان بين وزراء ذلك الزمان.
فلما جاء صلاح الدين رأى واجباً عليه لكي يتم رسالته أن يعني بأمر الأسطول به أساطيل الصليبية؛ ففي سنة 572 وهو مقيم بالإسكندرية رأى الأسطول وقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته فأمر بتعميره، وجمع له من الأخشاب شيئاً كثيراً ومن الصناع عدداً جماً حتى إذا تم صنع المراكب أمر فحمل إليها ما هي في حاجة إليه من السلاح والعدد وشحنه بالرجال، وولى فيه أحد أصحابه، وخصص له إقطاعاً خاصاً، وموارد ثابتة يجني منها مقدار ضخم ينفق عليه، وزاد في دينار الأسطول، فجعله يساوي نصف دينار وربعه بعد أن كان يساوي نصف دينار وثمنه، وأفراد للأسطول ديواناً خاصاً سلمه إلى أخيه الملك العادل، وأعطى صلاح الدين صاحب الأسطول سلطة كبرى في تخير رجاله وإعداد سلاحه فكتب إلى سائر البلاد يقول: القول قول صاحب الأسطول وألا يمنع من أخذ رجاله وما يحتاج إليه واشتهر من قواد البحر في عهد صلاح الدين القائد العظيم لؤلؤ. وبلغت عدة الأسطول سنة 575 ستين شينياً وعشرين طريدة ولابد أن يكون عدد قطع الأسطول قد زاد بعدئذ فإن صلاح الدين ما كان يضن هذه القوة البحرية بمال.
واستمرت العناية بأمر الأسطول قليلا بعد وفاة صلاح الدين ثم قل الاهتمام به صار لا يفكر إلا عند الحاجة إليه فإذا دعت الضرورة طلب له الرجال، وقبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهاراً وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا ولا يعطون إلا قليلا من الخبز ونحوه، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدو فصارت خدمة الأسطول عاراً يسب به الرجال وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطولي غضب غضباً شديداً بعد أن كان خدام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله والغزاة لأعداء الله، ويتبرك(816/23)
الناس بدعائهم.
ثم عادت العناية بأمره في عهد الصالح أيوب، وكان له أكبر الأثر في معركة المنصورة كما رأينا، وأهمل أمره بعد ذلك حتى أيام بيرس فاستدعى رجال الأسطول وأمر بصنع السفن وقطع الأخشاب لعمارتها، وكان يشرف على صنعها بنفسه ويجلس بين الأخشاب والعمال ويقتدي به الأمراء فيحملون بأنفسهم آلات الشواني ويساعدون في صنعها وبني أكثر من أربعين سفينة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد وذلك في شوال سنة669 ولما حطم هذا الأسطول عند قبرص أعيد بناء غيره وخرج بيرس لاستعراضه كما كان يركب مع الخليفة لمشاهدة مناوراته الحربية في النيل. وفي تقليد الخليفة لبيبرس يوصيه بالعناية بأمر الأسطول ويقول له: وكذلك أمر الأسطول الذي تزجى خيله كالأهلة وركائبه، سابقة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حامله، وهكذا تكلفت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام وإذا شبهها قال هذه ليل تقلع بالأيام وهذا التشبيه يدل على أنها كانت تطلى باللون الأسود. فلما كان عهد قلاوون رأينا في الحملة التي وجهها إلى بلاد النوبة سنة 688 خمسمائة مركب، ما بين حراريق وغيرها.
وفي عهد خليل بن قلاوون زادت العناية بأمر الأسطول حتى كملت عدة الشواني نحو ستين شونة ملأها بالعدد وآلات الحرب. وعزم السلطان على الخروج لمشاهدته، فأقبل الناس من كل صوب يريدون أن يشهدوا تلك القوة البحرية الضخمة، واستعدوا لذلك قبل مقدم السلطان بثلاثة أيام، وصنعوا لهم أخصاصاً على شاطئ النيل وأكثروا الساحات التي قدام الدور بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا خرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك ولما حضر السلطان برزت الشواني واحدة بعد واحدة، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملح، والنفط يرمي عليها وعدة من النقابين يعمل الحيلة في النقب، وما منهم إلا من أظهر في شونته عملاً معجباً وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه، ثم عاد السلطان وأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم وكان شيئاً يجل وصفه، وأتفق فيه مال لا يعد بحيث بلغت أجرة المركب ستمائة درهم ولما بلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنجة بعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح، وأقيمت مثل هذه(816/24)
المناورة وهذا الاحتفال سنة702 في عهد الناصر محمد ابن قلاوون.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(816/25)
اقرأ معي
للأستاذ إيليا حليم حنا
كان الملك هنري الرابع ملك فرنسا يقول دائماً للولاة والحكام:
أوصيكم بالفقراء والوضعاء خيراً فإنهم عماد المملكة ولولاهم لما كنتم ولما كنت أنا شيئاً يذكر؛ ففي استطاعتهم أن يستغنوا عنا؛ أما نحن فليس في استطاعتنا أن نستغني عنهم!
عندما حاصر الإمبراطورية (كنراد الثالث) دوق بافاريا وتغلب عليه وافتتح أمر رجاله بقتل الدوق مع كل رجاله الأخصاء فمثلت زوجة الدوق ونساء قصرها بين يدي الإمبراطور وطلبن منه أن يسمح لهن بالخروج من القصر إلى مكان أمين حاملات ما يقدرن على حمله. ولما سمح لهن بما طلبن خرجت كل واحدة منهن حاملة زوجها على ظهرها. فلما رأى الإمبراطور ذلك أعجب بأمانتهن وحبهن لأزواجهن وعفا عنهم.
كان قدماء اليونان إذا نبغ فيهم صانع أو شاعر أو خطيب أقاموا له الأعياد وسيروا المواكب ونظموا الحفلات وقدموا له تاج فخار مصنوع من أغصان الشجر المسمى بشجر الغار الذي كانوا يعتبرونه من الأشجار المقدسة الخاصة بالآلهة ولا سيما (أبولون) إله الشعر والفنون الجميلة. وكان القوم يهرعون إلى تلك الحفلات من كل جانب وينسلون إليها من كل حدب فيذهبون من برقة وصقليا وإيطاليا إلى أثينا للاشتراك في تكريم نوابغهم.
وكذلك كان الرومان، لكنهم كانوا يجعلون تلك الحفلات التكريمية مقصورة فيها للمحتفل به الهدايا والمكافآت.
على أن هذه كانت أيضاً من عادات العرب قبل الإسلام. قال أبو الحسن بن رشيق القيرواني في الجزء الأول من كتاب العمدة (كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس وبتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم وذود عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ)
وفي عهد الإسلام وخاصة في عصر الدولة العباسية رفع الخلفاء والأمراء قدر العلماء والشعراء وأجزلوا لهم العطاء. وروى عن المأمون أنه كان يعطي زنة الكتاب المترجم ذهباً.(816/26)
يقول الدكتور أدلر أحد أقطاب علم النفس الحديث إن معظم ما يرى في بعض الناس لا يرجع إلى امتياز طبيعي وإنما يرجع في الحقيقة إلى نقص فيهم وخاصة في أجسادهم وهذا النقص يدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم دون غيرهم كفاية فيضاعفون جهدهم لكي يبلغوا نوعاً من التبرز يغطون به هذا النقص. والإنسان العادي الذي ليس به أي نقص في رأى أدلر محدود الأطماع والجهود لا يرى ما يدفعه إلى التبرز. أما الناقص فإنه دائم الإحساس بنقصه يدأب على أن ستره بتفوقه في ناحية من النواحي. وقديماً حاول الروماني الألكن أن يكون خطيباً وتغلب على لكنة لسانه وأصبح أكبر خطباء الرومان. وقلما نجد رجلا نابغة إلا وبه شيء من النقص الطبيعي حاول أن يعتاض عنه بكفاية جديدة فحذق فنا أو طريقة حتى زاد حذقه عن المعتاد فنبغ.
خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته ام إياس فوافق والدها وخلت بها أمها فقالت: أي بنية. . . أنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي درجت، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبداً واحتفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينيه وأنفه، فلا تقع عينيه منك على قبيح، ولا يشتم منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبه، وتنغيص النوم مغضبه.
وأما السابعة والثامنة، فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصي له أمراً، ولا تفشي له سراً، فإن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. وإياك والفرح بين يديه إذا كان ترحا، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً. فاحفظي وصيتي واعملي بنصيحتي.
قرأت في مقال أعده مكتب رئيس البوليس في مدينة لندن ما يلي عن بصمات الأصابع:
إن تطور علم بصمات الأصابع قد ثبتت أهميته العظمى لنفع الجنس البشري الذي يعيش(816/27)
في العصر الحديث. أخذ بصمات الأصابع لا يساعد على اقتفاء آثار المجرم وعلى إثبات جريمته فقط، بل إنه يعمل كذلك على حماية البريء ضد اتهامات لا يكون لها أساس من الصحة.
عندما تنظر إلى راحة يدك ترى خطوطاً عرضية وفجوات صغيرة تبدو أنها تتجه في جميع الاتجاهات؛ وعندما ننظر إلى أطراف أصابعك ترى أن تلك الخطوط تنظم نفسها في نموذج خاص. وهذا النموذج وتلك الفجوات كانت موضع دراسة العلماء لعدة سنوات وكان من نتيجة أبحاثهم أن توصلوا إلى هذه الحقيقة العجيبة وهي أن الخطوط التي توجد على راحة اليد تتكون قبل مولد الإنسان إلا أنها لا تغير شكلها مهما طال عمر الإنسان وتظل واضحة على اليد حتى يتحلل الجسم بالموت. ولم يكتشفوا أن بصمات أصابع كل أنسان تختلف عن غيره فحسب بل أن كل إصبع في اليد الواحدة يختلف عن غيره في تفاصيل النموذج.
ولو انفق وحدثت إصابة سطحية على الجلد الذي يغطي الإصبع نتيجة حرق أو نتيجة القبض على شيء ساخن فإن الخطوط قد تختفي مؤقتاً ولكنها لا تلبث أن تعود إلى الظهور مرة أخرى متخذة شكلها السابق. ولكن إذا جرحت راحة اليد أو الأصابع جرحاً عميقاً تظل هناك علامة دائمة.
ويعمل بنظام أخذ بصمات الأصابع في معظم أنحاء العالم المتمدن منذ ما يقرب منتصف قرن. وهذا النظام من الدقة بحيث لم يخفق مرة واحدة في تحقيق الشخصية.
الأبيض - سودان
إيليا حليم حنا(816/28)
في القاع يا رب
للشاعر سعد دعبس
مهداة إلى روح الشاعر البائس (عبد الحميد الديب)
(دعبس)
حطمي الزورق يا ريح فقد طال ظلامي
وجرى الشك ورائي ومشى الوهم أمامي
فدعى الأمواج تسري في الدياجي بحطامي
واجعلي من شاطئ النسيان داري ومقامي
حينما تسبح روحي فوق هامات الخلود
وأرى عمري سطراً في قواميس اللحود
سوف أحيا في سنا الفجر وهمسات الورود
مثلما شاء خيالي لا كما شاءت قيودي
أنا يا رب شكاة سمح الزمان
لم يع الدهر صداها فجفاها وجفاني
أنا يا رب غريب في زماني ومكاني
وطني تاه عن العين ومن روحي دان
أه لو يسري بي الموج إلى واد بعيد
حيث لا أحيا بدنيا ما أحست بوجودي
حلق الباغم فيها وهوى رب القصيد
آه ضاعت أنغم الأحرار في دنيا العبيد
وأنا ذوبت روحي في أناشيد خيالي
وتوهمت الصدى يبقي على مر الليالي
وإذا بالقاع يطو يني ولا يدري بحالي
وإذا لحني سراب ضاع في بطن الرمال(816/29)
كيف أشدو يا إلهي والأعاصير ورائي
عابثات بهنائي ساخرات بشقائي
كلما لاح صباحي لم أجد إلا مسائي
وإذا أرسلت لحناً خلته رجع بكائي
لِمَ أشدو يا إلهي وأنا رهن القيود
وجموع الكون غرقى في بحار من جمود
ليس يدري عالم الموت أناشيد الخلود
وسواء أنغم الطير وصيحات القرود
قهقهات من فم الأوهام تطوي بسماتي
ورياح الشك حولي عاصفان بصلاتي
لا تدعني يا إلهي أتغنى بشكاتي
ربما تفني دموعي فأغنى بحياتي
أنا في القاع ولا شيء سوى القاع أمامي
ربما ينعم بالفجر الأفاعي وأنا رهن الظلام
قل لمن يطفو على السطح بعيداً عن حطامي
أنا في القاع ولا شيء سوى القاع أمامي
سعد دعبس(816/30)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
تحية قلبية وأخرى قلمية:
أتلقى من حين إلى آخر كثيراً من الكتب التي يهديها إلىَّ أدباء تربطني ببعضهم صلات ود وصداقة، ولا يربطني بأكثرهم شيء من صلات الود والصداقة، وكذلك الأمر فيما يختص برسائل القراء. ومما يؤسف له أن الذين يخرجون الكتب في هذه الأيام من الكثرة بحيث لا يستطيع الذين يكتبون النقد وهم قلة، أن يتتبعوهم فيما يكتبون وأن يتحدثوا عن مؤلفاتهم ناقدين أو عارضين! وليت الأمر يقف بهم عند هذا الحد، وهو التفضل بإهداء الكتب والاكتفاء بتقبل الشكر. . . كلا ولكنهم يطلبون إلى الناقد - عن طريق التلويح أو التصريح - أن يكتب عن الأثر الأدبي الذي أخرج، وأن يثني على الجهد الفني الذي بذل، لقاء ما قدموا إليه من ثمرات القرائح وما خلعوا عليه من أثواب المديح والإطراء! ويحار الناقد ماذا يقرأ وماذا يدع إن وقته لأضيق مما يقدر الذين بعثوا إليه بكتبهم راجين أن يشير إليها من قريب أو من بعيد، وإنه ليلقي من كتبهم ما قرأها كثيراً من العنت والإرهاق وإن منها ليذهب فيها الوقت والجهد بلا فائدة ترجي ولا غناء!.
والدهشة بعد ذلك في تلقي العتاب إذا ما تحدث عن كتاب فلان وأغفل كتاب علان؛ الدهشة التي تصاحبها الحيرة في الاعتذار لمن يهدون إليه كتبهم فلا يكتب عنها فيتبعون. . . ماذا يقول لهم وكيف يعتذر إليهم؟ أيقول لهم إنه لم يجد من وقته متسعاً للكتابة، أم يعتذر إليهم عن غثاثة الإنتاج وضآلة الجهد وتفاهة المادة؟ أمران كما يقولون أحلاهما مر. وليت الكتاب من أصدقاء يقدرون ويخففون من وقعها على النفس والشعور.
أما أنا فقد آليت على نفسي ألا أكتب عن أي أثر أدبي إلا إذا لمست فيه للأدب وفائدة للقراء. وحسب كتاب لم يتحقق فيه هذا الأمل المرجو أن أقدم الشكر على إهدائه، وحسب صاحبه تحية أقدمها إليه من قلبي. أما الكتاب الذي يضيف إلى رصيد القارئ ثروة فكرية جديدة فلن أتردد في أن أقدم إلى صاحبه التحية من قلمي!
هذه كلمة من مؤلفات الأدباء أنتقل بعدها إلى رسائل القراء. إن بعضها يردد واحدة لا تكاد تتغير وهي الشكوى من إهمال (الرسالة) لكثير مما يرسل إليها من إنتاج أدبي لا ذنب(816/31)
لأصحابه إلا بعدهم عن الشهرة وذيوع الاسم! أما بعضها الآخر فيحمل إلىَّ مقالات وقصائد مصحوبة برجاء مرسليها أن أدفع بها إلى المطبعة لتأخذ طريقها إلى صفحات (الرسالة) وأيدي القراء، لأن ذوقي المتواضع من شأنه - في رأيهم - أن يستجيب لأمثال هذه الوثبات الفكرية والتهويمات الروحية!
إن ردى على هؤلاء الذين يحتكمون إلى ذوقي ويطلبون وساطتي، هو أنني لا أملك لهم غير الشكر والإعجاب، ولكن إعجابي لن يغني من (الرسالة) شيئاً. . . أن المرجع الأول والأخير هو ذوق الأستاذ العميد واعجاب الأستاذ العميد وانه فيما أعلم لا يوصد بابه ولا يغلق قلبه في وجه الذين تلوح له منهم بوادر نبوغ أو نفحات ذكاء أو اكتمال أداة! أما الشاكون من إهمال إنتاجهم فيستطيعون أن يجدوا الجواب على شكواهم في هذه الكلمات، وليثقفوا من أن عميد (الرسالة) لا يتردد في نشر ما يستحق أن ينشر، ولا في تقديمه على غيره إذا كان يستأهل التقديم
والدليل على ذلك قصيدة هذا العدد، فإن صاحبها الناشئ لم يعرفه أحد ولم يقرأ له فيما أظن أحد. .
رأي في السير ريالزم:
يسألني قارئ فاضل من قراء (الرسالة) عن رأيي في مذهب (السيرريالزم) عقب أن أتيت على ذكره في الكلمة التي تناولت فيها بالنقد كتاب (خلف اللثام) وهل يقدر لهذا المذهب الجديد الذي غزا ميدان التصوير والأدب في فرنسا وبعض البلاد الأوربية أن تشيع تعاليمه وتسيغه الأذواق ويستجيب له الفنانون هنا كما استجاب له بعضهم هناك؟
إن رأيي الذي أومن به ولا أحيد عنه أن مذهب (السير ريالزم) شعوذة فنية لا أكثر ولا أقل سواء في ميدان التصوير أم في ميدان الأدب إن الفن الذي لا تخرج منه بغير (اللخبطة) لا يعد فناً! وأي فن هذا الذي لا يبعث في نفسك وحسك شعوراً بالجمال ولا تذوقاً لألوانه ومعانيه؟ أي فن هذا الذي لا تلمس فيه أثراً للربط بين فكرة وفكرة ولا بين مقدمة ونتيجة في أدب الكاتب ولا تناسياً بين بُعد وبُعد ولا بين زاوية وزاوية في لوحة الرسام؟!.
(لخبطة) ولا شيء غير (اللخبطة). . . وحسبك أن تقرأ كتاباً لأندريه جيد وآخر لأندريه بريتون، وأن تشاهد لوحة من لوحات دى لاكروا وأخرى من لوحات بيكاسو إن جيد يمثل(816/32)
الوضوح والصدق والجمال، فهو قريب إلى عقلك قريب إلى قلبك، قريب إلى ذوقك؛ لأن أدبه وليد وشائج قوية من صلة الفن بالحياة. . . أما بيتون فهو هناك فيما وراء الواقع، أو فيما وراء العقل والقلب والذوق أو وراء الشطحات الفكرية التي تلغي كل صلة بين الفن والحياة!
بريتون في الأدب وبيكاسو في التصوير، وكلاهما عميد المذهب السريالي في فنه. . . أما بيكاسو فكان فنانا عظيماً يرفع من فنه الخصوم قبل الأصدقاء ولكن انحرافه في أواخر أيامه إلى هذه الشعوذة السريالية أفقده من كانوا يكبرون فنه ويشيدون بنبوغه وعبقريته! إن الفارق بين لوحة من لوحات دي لاكروا وأخرى من لوحات بيكاسو، هو الفارق بين فن يهز فيك مواطن الإحساس بالجمال وفن يهز مواطن الإحساس بالنفور. . .
إنك تستطيع هناك أن تخرج بشتى المعاني ولكنك لا تستطيع هنا أن تخرج بشيء!
هذا هو رأي في المذهب السريالي، وأؤكد للأديب الفاضل أن هذا المذهب الجديد لا يشق طريقه في فرنسا وهي موطنه الأول بسهولة ويسر لأن خصومه الكثيرين يهاجمونه في عنف لا هوادة فيه ويرمون أصحابه بالدجل والخروج على كل مألوف من أوضاع الفن وإذا كان بعض الكتاب والفنانين قد انحرفوا إلى هذا المذهب واندفعوا في تيار الدعوة إليه فإنه على التحقيق انحراف إلى حين واندفاع إلى حين. . . ذلك لأن الساخطين عليه لا يقاس إليهم الراضون عنه، سواء في مجال الكثرة العددية أو في مجال الطاقة الفكرية أو في مجال الشهرة والتفوق وغلبة الآراء والأحكام. ولا أعتقد أن مثل هذا الشذوذ في محيط الأدب والفن يمكن أن يكتب له البقاء هنا إلا إذا كتب له البقاء هناك، وهذا أمر يشك في وقوعه إذا ما احتكمنا إلى العقل الذي يزن النتائج على ضوء المقدمات!
حول مسابقة المصور للقصة القصيرة:
لم أكن أعرف أنني محتاج إلى دروس في فن القصة حتى قدر لي أن أطلع على كلمة في (البريد الأدبي) وجهها إلى الأديب حسن صادق حمدان في عدد (الرسالة) الماضي!
لقد رأى الأديب (العالم) أن يعقب على كلمتي التي نقدت فيها رأيا لمجلة المصور عن فن القصة القصيرة، ولقد جاء في تعقيبه أنني انحرفت عن الصواب حين قلت إن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى(816/33)
المفاجآت؛ انحرفت عن الصواب لأن مجلة المصور لم تشترط أن تكون القصص المتسابقة من النوع التحليلي. . لو راجع الأديب المعقب نفسه ورجع إلى ما كتبت لعلم أنني كنت أنقد رأياً ينادي بأن المفاجأة في ختام القصة تعد أهم أركانها على الطلاق ومعنى هذا أنني كنت أعترض على رأي يغلب عليه التعميم حيث يجب التخصيص، لأن هناك فناً قصصياً يخرج عن دائرة هذا الحكم الذي لا يفرق بين قصة موضوعية وأخرى تحليلية، هذا هو ما قصدت إليه في مجال التعقيب على رأي لا صلة له بما اشترطه (المصور) للمسابقة من تحديد النسبة العددية لكلمات القصة بستمائة كلمة، وإذن لا أكون قد انحرفت عن الصواب، ولكن الأديب المعقب هو الذي انحرف عن الفهم!
وأؤكد له مرة أخرى أن القصة الطويلة هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص، وطاقة القصاص، وأن الجهد الذي يبذل فيها لا يمكن أن يقاس إليه نظيره في القصة القصيرة. ولقد قدمت له الرأي في شيء من التفصيل وبقي أن أقدم إليه الدليل: إن الأستاذ توفيق الحكيم بكتب (لأخبار اليوم) قصة تمثيلية قصيرة كل شهرين تحتل صفحة واحدة لا تزيد عليها إلا في القليل النادر ويمكنه أن يرجع إليه ليسأله عن الوقت والجهد اللذين يبذلهما في كتابة مثل هذه القصة إنه لا يتفق في كتابتها إذا ما نضجت الفكرة في ذهنه أكثر من بضع ساعات. . . هذا في تمثيلية قصيرة من فصل واحد، فهل يدري الأديب المعقب كم بذل توفيق الحكيم من وقته في وضع مسرحيته الجديدة (أوديب الملك) لقد أنفق من وقته وجهده أربع سنوات لا بضع ساعات!! ثم يظن أن العناء الذي لقيه محمود تيمور في كتابة قصة قصيرة مثل (خلف اللثام) يعادل ما لقيه من عناء في كتابة قصة ضخمة مثل (سلوى في مهب الريح) وإذا أراد أن يحكم على الطاقة الفنية عند توفيق الحكيم فهل تنكشف له هذه الطاقة من مسرحية تحتل صفحة من (أخبار اليوم) كما تنكشف له من (أهل الكهف) و (بجماليون) و (شهرزاد) و (سليمان الحكيم) و (أوديب الملك)؟! وهل تنكشف له الطاقة الفنية عند تيمور من قصة قصيرة كما تنكشف له من (نداء المجهول) و (حواء الخالدة) و (سلوى)؟! وبعد ذلك يقول في تعقيبه: (إن كاتب القصة القصيرة يلاقي دفعة واحدة جميع الصعاب التي كانت متفرقة في القصة الطويلة)!. . أي صعاب يا أٍستاذ؟ إن حي دي موبسان في مجال القصة القصيرة خير بكثير من أونوريه دي(816/34)
بلزاك؛ ولكن أنفاسه تتقطع إذا ما حاول أن يجري معه في حلبة القصة الطويلة. . . هناك حيث رفعت بلزك طاقته الفنية إلى مرتبة أعظم قصاص في تاريخ الأدب الفرنسي إن القصاص العظيم أشبه بالجواد الأصيل. . . ذلك الذي لا تتضح طاقته على العدو إلا في رحاب المسافات الطويلة!
هذه كلمة لا أعتقد أنها تشق على فهم الأديب المعقب، وارجوا ألا تشق على إفهام غيره من المعقبين!
الفن عندنا وعندهم:
وقفت في (الأهرام) منذ أسبوعين عند صورة رائعة المغزى بعيدة الدلالة، تستحق من كل ذي عينين أن يقف عندها طويلا ليخصها بفيض من إكباره وإعجابه. . . أما تلك الصورة الفريدة فقد أشارت إليها الصحيفة الكبرى بهذه الكلمات:
(يقوم الممثل الكبير سيرلورنس أوليفييه مع زوجته فيفيان لي بتمثيل مسرحيتهما الجديدة (مدرسة الإشاعات) على مسرح (نيوثييتر) بلندن. وقد بلغ تهافت الجمهور على مشاهدة هذه المسرحية أن حجز جانب كبير من الأماكن مقدماً لعدة أسابيع؛ ويرى في الصورة جمع كبير وقد افترشوا الأرض لقضاء ليلتهم أمام مدخل المسرح ليتمكنوا من حجز أماكنهم عند فتح شبابيك التذاكر في الصباح).
أناس يفترشون الأرض وفي بيوتهم الفراش الوثير، ويتحملون مرارة الانتظار وما كان أغناهم عن الانتظار، ويضحون بالوقت وما أحوجهم إلى كل دقيقة يفندوها وتعود عليهم بما يشتهون ولكنه دعاء الفن. . . يلقي منهم آذاناً مصغية، وقلوباً متلهفة، ونفوساً تنشد متعة الذوق والفكر والروح.
عندهم فنانون عشقوا الفن وأخلصوا له. وعندنا مهرجون أجادوا التهريج ونبغوا فيه. . . وعنهم جمهور يستهويه كل جليل من الأمور وكل رفيع من الفنون وعندنا جمهور بليد الذوق متحجر العاطفة، يقضي ليله ونهاره متسكعاً في الطرقات أو متثائباً على القهوات! عندهم الوقت يوزعونه بين العمل المثمر حين يناديهم الواجب، وبين الكتب المفيدة حين تدعوهم المعرفة، وبين ملاعب التمثيل حين يشوقهم التحليق في سماء كل معنى جميل؛ وعندنا الوقت نضيق بطوله؛ لأنه فراغ وهباء: العمل في إخلادنا استخفاف بالتبعة(816/35)
وانحراف عن الجادة، والكتب في أيدنا مجلات تدغدغ الغرائز بالصور العارية والأفكار العارية، والترويح عن النفس في رأينا ميل إلى كل تسلية تافهة وكل لهو رخيص! هذا هو الفن عندنا وعندهم. . . وإذا كنت قد دفعت إلى شيء من الاستطراد فإن الحديث في مجال الفن يغري به ويدعو إليه وحسب المسرح هناك هذا الامتلاء، وحسبه هنا هذا الخواء!
شهداء المثل العليا:
قرأت بتأثر بالغ تلك الفصول التي كتبها في (المصور) القائمقام الشهيد فهيم بيومي قبل أن يودع مثله العليا في الطريق إلى الله. . . فصول كتبها بمداد قلمه ثم ختمها بدماء قلبه، وعلى صفحات (المصور) وفوق ثرى الأرض المقدسة ترك البطل الشهيد وصيته لأصحاب المثل العليا: سطورها من وقدات الفداء ونبل التضحية، وألفاظها من لفحات الجهاد وصدق البطولة، ومعانيها من وثبات وحرارة الأيمان!
فهيم بيومي ومن قبله أحمد عبد العزيز ومن بعدها أبطال وأبطال. . . وفي سبيل الله والوطن دماء فجرها القدر عيوناً لتسقي بها رمال الصحراء! لقد كانوا أصحاب مثل عليا في سبيل مثلهم عاشوا على الأرض وفي سبيلها صعدوا إلى السماء: أرواحهم على أيديهم وأنظارهم إلى الأفق البعيد، وهمساتهم في رحاب المجد أشواق. . . ولقد مضوا إلى غير رجعة، وبقيت منهم الذكرى تعبق في آفاقنا بأرج الحب، وتعطر مآقينا بدموع الوفاء، وتملأ تاريخنا برنين الخلود! يا رحمة الله لكم يا أبطال!. . لقد كان شاعرنا ينطق بلسانكم حين قال:
أخي إن جرى في ثراها دمي ... وأطبقت فوق حصاها اليدا
ففتش على مهجة حرة ... أبت أن يمر عليها العدا
وقبل شهيداً على أرضها ... دعا باسمها الله واستشهدا
أنور المعداوي(816/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قضية أدب وفن:
يذكر القراء ما كتبته عن تغزل الهائمة أماني فريد في الدكتور إبراهيم ناجي، والعكس. . . وكان اهتمامي بالكتابة في هذا الموضوع لأني وجدته أمراً جديداً يستحق الوقوف عنده ولاشك أن تغزل امرأة برجل معين على صفحات منشورة قفزة جريئة بالغة الجرأة، يتهيبها الرجل فضلا عن المرأة والمرأة الشاعرة نفسها لا تزال تردد في خطوة تسبق تلك القفزة، وهي أن تتغزل غزلا غير محدد كما يفعل الرجل.
وقد حفزني على العودة إلى هذا الموضوع ما تلقيته من الرسائل وما سمعته من الأحاديث تعقيباً عليه وصدى له، وكلها تعبر عن الارتياح إلى ما كتبت عدا رسالة واحدة حوت لومي عليه، وهي من الهائمة أماني فريد تقول في أولها: (إني لجد خجلة من أن أرى كاتباً وأديباً لا يستطيع أن يفرق بين العلاقات الأدبية بين الشعراء وغيرها من العلاقات التافهة العابرة). وكنت أحسبها خجلة لغير هذا فإذا هي خجلة بالنيابة عني. . . وبعد كلام آخر لا يفيد في الموضوع تختم رسالتها بقولها: (والعجيب إن الرجل المصري لازال يحقد على المرأة إذا رآها استطاعت أن تبزه وتنتج ما لا يستطيع هو. . . فرفقاً يا سيدي وكن في أحكامك متوخياً العدل حتى لاتسم كتاباتك بسمة النقد الجائر. . كنت انتظر أن اسمع منك ومن غيرك من النقاد الأفاضل كلمة مدح وتشجيع لا قدح وأقباط للهمم).
وأترك جانباً مسألة حقد الرجل على المرأة وبزها له، لننظر هل أنا ظلمتها، وهل ما صنعته هي يستحق المدح والتشجيع؟ قد يستحق غزلها في الدكتور ناجي مدحه وتشجيعه، وقد فعل كيلا بكيل. . . ولست أدري علام المدح والتشجيع، أعلى (العلاقات الأدبية بين الشعراء)، أم على قيمة الإنتاج؟
أما (العلاقات) وكما بدت في مجلة (العالم العربي) فقد استنكرها من حدثوني ومن كتبوا إلى. كتب الشاعر النابغ الأستاذ إبراهيم محمد نجا: (وقد ارتاحت نفسي إلى حديثك عن الملهمة (فلانة)، والدكتور (عمر بن أبي ربيعه)، ذلك الحديث الذي تشيع فيه السخرية التي تبعث الألم وتورث الإشفاق، وقد كنت أحب يا أخي الفاضل أن تصرح بأن هذه الأبيات(816/37)
المنسوبة - إلى تلك الهائمة - ليست من صنعها، وإنما هي من صنع صاحبها المتيم، يعرف ذلك كل من قرأ شعر الطبيب الشاعر، ويعرف ذلك أيضاً كل من عرف هذه الهائمة، وعرف (مقدرتها) على نظم الشعر) ويقول الأديب صبري حسن علوان بكلية العلوم: (وماذا تريد أماني من الأماني؟ أأن تكون ليلى القرن العشرين، حتى يكثر في حبها المجانين. . . أم أن تناجي. . وليس إلا أن تناجي. . . أم أنها رأت الجرائد والمجلات لا تنشر إلا كل غريب جديد فبالغت في الأغراب والتجديد. . .؟)
أما من حيث الإنتاج نفسه، فأنا لم أعرف الهائمة ولم أعرف (مقدرتها) على نظم الشعر ولكني أعرف الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي (خليفة عمر بن أبي ربيعه) وأعرف شعره، وأزعم أني أجد في الأبيات المنسوبة إلى الهائمة. وننظر في الأبيات من ناحية أخرى، وهي ناحية الصدق في التعبير، تقول:
تعال إلى القلب بعد العذاب ... فقد مر عمري وولى سدى
يناديك قلبي هوى واشتياقاً ... فما لك لست تجيب الندا
فإذا فرضنا أنها كانت في عذاب قبل الدكتور ناجي، وأن عمرها ذهب سدى قبل الهيام به، وأن قلبها يناديه ويهواه ويشتاقه، فهل هو لا يجيب الندا؟ ما أظن ذلك وتقول:
أبيت على لهفة للقاء ... ولكن أخاف حديث العدا
فكم ليلة يا قرير الجفون ... تركت جفوني بها سهدا
ولنفرض أيضاً أنها باتت تتلهف على لقائه، فهل تخاف حديث العدا من تنشر هوى قلبها العالم العربي. . .؟ وهل من مقتضيات (العلاقات الأدبية بين الشعراء) أن يبيت الشاعر قرير الجفون الشاعرة يستبد بها السهد ليالي كثيرة؟
ونتابع البحث عن صدق التعبير فنرجع إلى الأبيات التي نشرت للهائمة في (البلاغ)
وجاء فيها هذا البيت:
أراني شقياً حزيناً ... فيا نفس أين الرجاء
وكان ينبغي لتكون صادقة التعبير أن تقول إنها (شقية) أما (الشقي) فهو غيرها. . .
وأنا أعلم أنه لا يرضيها أن تحلل (أبياتها) على ذلك النحو ولكن كيف رضيت أن تقولها؟ أو تظن أنها لا تشتمل على ما يثقل التبعة؟ هي مسكينة على كل حال ولكنا بازاء باب(816/38)
جديد في الأدب ترى أنه لا يفضي بنا إلى خير، ولو أنا وجدنا وراء هذا (السلوك الأدبي) فناً أصيلا لكان من المحتمل أن نجد مجالا للإغضاء أو العزاء.
والقضية قضية أدب وفن أكثر مسلك اجتماعي؛ فليس لمعترض أن يدفع بالحرية لأدبية التي تخول لكل أديب أن يعبر عن نفسه في صراحة وصدق، فالوقائع في قضيتنا غير مبنية على الصدق في التعبير كما بينت، ولك أن تلمح ما يدل ذلك عليه من عدم الأصالة، أما الصراحة فهي مفتعلة لجذب الأنظار وهذا كله مع غض النظر عن تفاهة المقول وانعدام الجودة فيه.
شاعرة خضرة:
ولعل (حقد الرجل المصري على المرأة التي تبزه) لا يمنع أن نقضي لحظة مع الآنسة (ط. ع) في عالم الخيال. وهذه الآنسة تمثل طرف النقيض الثاني. . وقد استرعى انتباهي ما تنشره (البلاغ) لها من قطع شعرية تصور حياة فتاة غريبة في هذا العصر المتبرج الصاخب، هي فتاة تصور نفسها ونوازعها في شعرها تقول في قطعة بعنوان (الغد).
يقولون في الغد يأتي الهناء ... ترى أين ذاك الغد المنتظر
أيقبل بعد الشقاء النعيم ... كما يقبل الصحو بعد المطر؟
إذا كان هذا نظام القضاء ... أصبحت أسعد من في البشر
ولكنني قد رأيت الزمان ... أصم السريرة أعمى البصر
إلى أن تقول:
فيا رب رد طمأنينتي ... على، وصن هذا الخفر
فإني البريئة في عالم ... كثير الغواية جم الخطر
فهذه فتاة تتشوف غدها حذرة حائرة لم يمنعها الخفر من صدق التعبير عن مشاعرها صانها الله وأدامها الخفر.
وتقص علينا قصة رمزية مبينة بعنوان (عقل وقلب) تتخيل فيها أن القلب يستغيث بها من سطوة العقل ويقول:
يا ويح للقاسي ... أسمعت أندادي
وتهكم الناس ... في خارج الوادي(816/39)
مغرورة قالوا ... تحيا على الآل
مسرورة خالوا ... من شقوة الآل
يا ضيعة العمر ... في ذلك السجن
محبوسة الفكر ... في ميعة السن
ثم تقول
أأطيع ذا القلبا ... وأجيب إحساسي
وأجرب الحبا ... وأعيش كالناس
ويكاد القلب يبلغ بحجته، ولكنها تعتصم من رغباته، وتقول:
ورجعت أدراجي ... أتجانب الناسا
في برجي العاجي ... أتذوق الكاسا
كأس من الطهر ... وهناءة البال
والفن والشعر في ... برجي العاجي
وتصر على التشبث بالشعر غاية ومثلاً، وتقول:
هل يأخذ القبر ... مني سوى جسمي
والصيت والشعر ... لن يتركا اسمي
سأصير شاعرة ... من قادة الفكر
أنا لست ساخرة ... يا قلب من يدري
وأهم ما في هذا الشعر إن به روحاً، والشاعرة موفقة في تصويره تصويراً يبرزه حياً، وإن كان في حاجة إلى مزيد من العناية من حيث إخضاع التعبير ويتحقق ذلك بالتأمل في المأثور وكثرة المعالجة. والفتاة الآنسة وإن كانت في أول الطريق إلا أنها على الجادة، تهديها إلى الغاية موهبة صادقة مخلصة. فهنا يا آنسة ن. من يدري. . .
القياس في اللغة:
أتيت في الأسبوع الماضي على ملخص مضغوط لمحاضرة الدكتور أحمد أمين بك (مدرسة القياس في اللغة) التي ألقاها في مؤتمر المجمع اللغوي ودعا فيها إلى الاجتهاد في اللغة وأذكر الآن أن الأعضاء الذين عقبوا على المحاضرة بالمناقشة أجمعوا على الإشادة بها وإن(816/40)
كانوا قد خالفوه في بعض أجزائها وخاصة من الناحية التاريخية وقد عبر الدكتور أحمد زكي بك عن ذلك فقال إن التعليق على المحاضرة بتصحيح هنا وتخطيء هناك لا يؤثر في غايتها وإنما تهمنا هذه الغاية. وقال الدكتور طه حسين بك: ليس علينا خطر من أن نبيح لأنفسنا ما أباحه العرب لأنفسهم من قديم الزمن، ولا نزاع إن المحاضرة لا تمثل اعتدال الدكتور أحمد أمين بك فقط ولكنها كذلك تمثله محافظا في تجديده وقد تليت النتائج الخمس التي ذكرتها في الأسبوع الماضي فوافق المؤتمر على الأربع الأولى، ودارت مناقشة في النتيجة الخامسة التي تتضمن جواز ارتجال كلمات جديدة فقال الدكتور عبد الوهاب عزام بك: يجب أن يقتصر وضعنا للكلمات على ما نحتاج إليه فقط. وقال (المرحوم) الجارم بك: أريد ضابطاً لهذا الأمر. فقال الدكتور طه: الضابط هو أصول للغة العربية في قبول الألفاظ الأجنبية. وسأل الشيخ عبد القادر المغربي: هل الارتجال يضر سلامة اللغة فلو اخترع أحد لعبة وارتجل لها كلمة مثل (دمخ) فهل يجيزها المجمع أولا يجيزها؟
ثم رأى أن يتخذ في هذا الموضوع قرار عام هذا نصه:
(الأخذ بمبدأ القياس في اللغة على نحو ما أقره المجمع سلفاً من قواعد وجواز الاجتهاد فيها متى توافرت شروطه كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد أمين بك في محاضرته (مدرسة القياس في اللغة).
عباس خضر(816/41)
البريد الأدبي
حرية الأدب والفن:
إن المناقشة التي دارت في المجمع اللغوي بين الدكتور احمد أمين والدكتور طه حسين في حرية الكاتب وتقيده بأهداف معينة - وعلينا الشكر للأستاذ عباس خضر على نشره لموجز أدلة الفريقين - إنها لمناقشة جديرة باهتمام كبير وإن كان الموضوع قد قتل بحثاً ودرساً في الغرب منذ إن اتفق لفيكتور هيكو اختراع قوله (الفن للفن) فقد كان الصراع بين أنصار هذه النظرية - نظرية عدم استخدام الفن لأغراض معينة - وخصومها، ومن بينهم هيكو نفسه، قوياً حاداً طيلة القرن الماضي ولسنا نحن الشرقيين في حاجة إلى (تمثيل) ذلك الصراع في بلادنا وترديد آراء الغربيين في مسألة كهذه لأن الغربيين هم كما قال الدكتور إقبال الحكيم الشاعر الهندي (يكتشفون ويتتبعون مسير النجوم في السماء، ولكن لا يسعهم أن يهتدوا إلى الطريق في دنيا الأفكار) لا يؤمل منهم أن يصلوا إلى رأي قاطع حازم فيما يتعلق بالمسائل الأخلاقية، مع أن تفوقهم في العلوم الطبيعية لا يسع أحداً إنكاره في العصر الحاضر. والحقيقة التي يجب أن نتأكد منها ونذكرها دائماً، هي أن الاختلاف والتجديد في الرأي والتقدم - تلك الكلمة التي يحلو لنا الإكثار من النطق بها - إنما هو مفيد في حقل المسائل الطبيعية دون ما ينتمي إلى الأخلاق والمبادئ التي يبتني المجتمع عليها؛ فإن الحرية بشأن التعرض لها إنما تؤدي إلى عدم الاستقرار والفوضى الاجتماعية، وعلاوة على ذلك فإن الحرية لا تتميز عن الفوضى إلا بأن الأولى تحدد بحدود معروفة، والثانية لا حدود لها.
وخلاصة القول أن المسلمين في غنى عن مثل هذه المناقشة في المسائل الأخلاقية والاجتماعية، لو أنهم ردوها إلى الإسلام وسيرة الرسول. لننظر إلى قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون وقول النبي في أمريء القيس بأنه قائد الشعراء إلى النار، ولنتقارن هذا وذاك بما هو معروف من تشجيع النبي لحسان بن ثابت وإنعامه على كعب بن زهير، ثم لنتأمل لعلنا نجد فيه حكما فصلا بأن الفن ليس للفن، بل إنه عامل من العوامل الشديدة التأثير في النفس وفي الحياة، ولذلك يجب أن يخضع لقاعدة التنظيم الإجماعي حتى يخدم أغراض المجتمع الخاصة ولا يخرج عليها. وهذا هو تفسير تلك القيود التي وضعها(816/42)
الإسلام على بعض نواحي النشاط الفني والتي ربما ثقلت على دعاة حرية الفن؛ فإن كل ما يدعوا إلى الوثنية أو أخلاق الجاهلية إن كان من الفن فهو فن سوء، ولا مجال للاعتراف به في نظام شامل كالإسلام الذي يكفل حياة جد وعمل دائمين في سبيل الخير لا حياة لهو وترف في حال من الأحوال. وكذلك الانهماك في اللذات والتعبير عنها تعبيراً صادقاً مثل حكاية طروق حبلى ومرضع، فإن هذا النوع من الحرية للأديب التي يدعوا إليها بعض الكتاب الفرنسيين ويعجب بها بعض كتابنا البارزين - لا توجه الإنسانية إلى سواء السبيل وحسن المصير، بل تعاون على صرف النظر والذهول عن سوء الحال وخير المستقبل وتسبب الفتور في العزيمة والركود في التعمير لاشك أن مدار الفن على التعبير الصادق ولكن هل يتحول الشر بمجرد كونه موضوعاً لمثل هذا التعبير إلى الخير؟ أفلا يجب على الكاتب إذا اتخذ الشر موضوعاً لعمله أن يعالجه بحيث يبغضه إلى القراء؟ ولا يقل أحد في ذلك إرهاقاً للكاتب لأن الكاتب الذي حبب إليه الشر قل نفوره منه عن نفور الجمهور هو عدو للخير والمجتمع قبل أن يكون كاتباً أو شاعراً. أما القول بأن مذهب الفن للفن ليس له أية صلة بالأخلاق فإنه سينتفض إذا راعينا هذا الجانب نفسه أعني جانب الموضوع الذي يقع عليه اختيار الكاتب، كما أن حسن التصوير أو قبحه من الناحية الأخلاقية لا يمكن في الفن نفسه، بل يأتي من الموضوع الخارجي له. وعلى كل حال فإن الأدب الذي لا يرمي إلى غاية إنما مثله هز الأرداف العارية الذي يسمي فن الرقص في بعض الحانات ولكل منا رأيه في مدى جدواه للمجتمع والأخلاق والإنسانية.
السيد محمد يوسف الهندي
معنى المكروفون:
اطلعت في عدد الرسالة الغراء (814) على مقالة صاحب العزة الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب عزام بك بعنوان (من آفات هذه المدينة) وفيه ذكر عزته أن المكروفونات (المجاهر) تسبب ضوضاء. . . الخ وبودي في هذه الرسالة العاجلة أن أبين من الناحية العلمية خطأ ما سار عليه البعض في تسمية هذه الأجهزة بالميكروفونات.
فهذه الأجهزة من الناحية العلمية تسمى وهو ما يمكن ترجمته (أجهزة مخاطبة الجماهير)(816/43)
وتتركب هذه الأجهزة من ثلاثة أجزاء رئيسية:
الأول: المكروفون ووظيفته تحويل الموجات الصوتية الحادثة أمامه إلى موجات كهربية.
الثاني: جهاز تكبير ووظيفته تكبير الموجات الكهربية الواصلة إليه من المكرفون وهو مركب من عدة صمامات لاسلكية بطريقة تختلف من وقت إلى آخر.
الثالث: مضخم الصوت ووظيفته تحويل الموجات - الكهربية - الواصلة إليه من المكرفون عن طريق المكبر - إلى موجات صوتية.
وبذلك تصل الموجات الصوتية الحادثة أمام الميكروفون إلى جمهور المستمعين مكبرة مضخمة (عالية).
والمكروفون متصل بالمكبر بسلك كهربي
والمكبر المتصل بمضخم الصوت بسلك كهربي أيضاً.
لذلك رأيت أن أكتب إلى حضرتكم راجياً الإشارة إلى ذلك في مجلتكم الغراء لما في إطلاق اسم ميكروفون على هذه الأجهزة من خطأ علمي.
أحمد محمد حلمي
مهندس لاسلكي
في التعزية عن مصيبة الموت (للرافعي):
لما فجع الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في وحيده (أمين) رحمه الله غراء السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله عن فجيعته، بهذا الخطاب المؤثر البليغ:
سيدي الأخ الجليل.
كنت مسافراً وعلمت بالنبأ الفاجع الذي يتكلم عنده الصمت: إنا لله لقد دفعك الإيمان إلى أشد معاركه في هذه الفجيعة وكأنك الجبل الباذخ لا تريد الحكمة الآلهية أن يستندإلى شيء ليكون جلاله ظاهراً بنفسه.
(إن قلبك العظيم يحمل الزمن بما فيه، ولكن الذي هو أشد من حمل الزمن، هذه القطعة الصغيرة من الماضي.
أسأل الله أن يثبت بما ثبت به النبوة، وأن يضاعف لك بالصبر والإيمان قوة على قوة،(816/44)
وأن يجعلك من الذين عليهم صلوات من ربهم ورحمة. ولما احتسب الدكتور شخاشيري طفلا له لم يجد في مرضه طب أبيه ولا علمه (وخرّ العلم والطب على أقدام الموت جرى على لسان الوالد الحزين هذا البيت من الشعر).
أين السعادة والأيام تأباها ... مرت علينا فلم نشعر بمجراها
وبعثت بهذا البيت إلى صديقه الرافعي رحمه الله فأجابه بالأبيات الحكيمة الآتية:
الله أوجدها للناس قاطبة ... فما الذي عن جمع الناس أخفاها
لا ذلك المال سواها لنا ذهباً ... ولا من الطين هذا الفقر سواها
والعمر في وهمها ضاعت حقائقه ... كأنما هي تحيا بين موتاها
فسل صغار الورى عن هم أولها ... وسل شيوخ الورى عن هم أخراها
إن السعادة أن ترضى بلا غضب ... وكيف ذاك بدنيا لست ترضاها
وكتب الرافعي رحمه الله إلى صديق يعزيه قال:
المصيبة حرسك الله، وإن كانت أكبر من التعزية لكن ثواب الله أكبر من المصيبة، والإيمان بالله أكبر من الثواب، وما آمن بالله من لا يثق به، ولن يثق به من لا يطمئن إلى حكمته، ولا اطمأن إلى حكمته من لا يرضى بحكمه، ولا بحكمه من سخط على ما ابتلاه. ولقد عرفتك من أوثق الناس إيماناً فلتكن من أحسنهم صبراً وأجملهم عزاء. ونحن الضعفاء المساكين إنما نعامل الله بما يصيبنا به، فإن جزعنا فقد بلغنا حق أنفسنا فلا حق لنا من بعد! وكأنما أصبنا مرتين، وإن صبرنا فما أحرى أن يكون الصبر على المصيبة هو ربح المصيبة والسلام.
ولما مات أخوه كامل بك الرافعي قال يشكر الناس:
(تتوجه أسرة الرافعي إلى الله بقلوبها المتوجعة الحزينة تستلمه فيما تشعر به ما تشكر به، فلئن كان رزؤها في فقدها أليما، لقد كان عطف الأمة عليها كريماً. والحمد لله الذي لا بأس من روحه، بيده الخير يجعله ما يشاء فيما يعطي وفيما يمنع وهو القوي العزيز فيما يصيب به، لكنه الرحمن الرحيم فيما يثيب عليه. فاللهم اجز بفضلك عنا أحسن ما جزيت كل من واسانا أو توجع لنا أو عطف علينا ممن ساروا في الجنازة أو جاءوا للتعزية، أو حضرت رسائل عطفهم برقاً وبريداً، ندعوك اللهم أكرم مدعو، فكن اللهم أكرم مستجيب.(816/45)
رحم الله الرافعي رحمة واسعة.
(المنصورة)
محمد أبو ريه
الأحرف السبعة:
قرأت ما كتبه الأستاذ عبد الستار أحمد فراج في (عدد الرسالة 815) فكان من الواجب الحتم أن أتمم ما كتبه بكلمة أنقلها من مقالة للأستاذ محمد زاهد الكوثري المتخصص في هذا الشأن الخطير، لأنه كان أستاذ علوم القرآن في معهد التخصص باصطنبول:
تواترت الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف، لكن اختلفوا في تفسيرها إلى نحو أربعين قولا، لا تعويل إلا على أقل قليل منها. قال الطحاوى في مشكل الآثار: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله (ص) فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. أهـ. قال القرطبي: قال ابن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأنه القرآن على حرف واحد. أهـ وقد أطال الطحاوي النفس في مشكل الآثار (ج4) في تمحيص هذا البحث بما لا تجد مثله في كتاب سواه. ومما قاله هناك إن ذلك توسعة من الله عليهم لضرورتهم إلى ذلك لحاجتهم غليه، وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما بألفاظ واحدة. اهـ
فأقامة المرادف مقام اللفظ المنزل كانت لضرورة وقتية نسخت في عهد المصطفى عليه صلوات الله وسلامه بالعرضة الأخيرة المشهورة.
عبد الله معروف(816/46)
الكتب
على هامش الأدب والنقد
تأليف الأستاذ علي أدهم
بقلم الأستاذ نقولا حداد
الأستاذ علي أدهم واسع العلم عريض الاطلاع عميق التفكير؛ أعني أنه جمع الأبعاد الثلاثة في حيز ذهنه، وأبى إلا أن يجمعها بالبعد الرابع لكي تستوفي النسبية قسطها من قلمه، وهو فيض الإنتاج. فقد أخرجت المطابع له إلى الآن 12 كتاباً. والله يعلم بما عنده من كتب أخرى معدة للطبع.
وقد قرأت أمس له كتاباً ممتعاً عنوانه (على هامش الأدب والنقد) افتتحه بفصل (النقد والشخصيات) وإذا به يستفيض في الأدب النفسي بحيث يجرد الأديب والعالم عن أنفسهم ويجعل لهم كياناً غير شخصيتهم. والنقد يتوجه إلى هذا الكيان.
ثم تناول التقدير الفني بين النظرتين العلمية والفنية. وبسط الفرق بين العلم والفن ببحث جامع مانع. ثم عطف على فن كتابة التراجم وبحث نشأته وما طرأ عليه من تطور في الكتب المقدسة في الصين والهند ومصر الخ. واسترسل إلى العصر الحاضر.
وفصله في النقد الفني بين المذهب الاجتماعي والفردي دفعه إلى فيافي الفلسفة النفسية والعقلية والفلسفة العامة فأعطاك دراسة فيهما لا أظن أن لها ضريبا في مباحث الآخرين إلى أن ساقه البحث إلى الكتب والكتاب، ثم ارتفع به إلى أثر النبوغ والعبقرية في الأدب والفن، وشرح لنا الفروق بينهما. وهو بحث لاشك فلسفي عميق. إلى أن قذف به النقد إلى دار الشيطان (أعيذه منها) في الشعر الحديث. وقد راجعت هذا الفصل مرتين لما وجدت فيه من متعة عقلية ونفسية.
ثم تساءل قائلا: هل تجدي مطالعة التاريخ (الفقير بالخرافات) وهناك أبحاث لا تخطر علىبال اااأبحاث لا تخطر لك على بال تلك كيف بدئ التاريخ منذ سبعمائة سنة ميلادية وهي بدء الكتابة بالحروف الصوتية التي يقال إنها من اختراع الفينقين. وجرى على ما اعتور التاريخ من الغث والسمين والحق والباطل والعلم والجهل إلى غير ذلك من طبائع(816/47)
التاريخ.
ثم تحول من هذه المباحث العلمية النقدية إلى نقد المتنبي الشاعر العظيم، وشرحه تشريحاً نقدياً وكشف لك عن سريرته ودل على قلبه ونزعته وطموحه فوصفه في تدينه وغروره وحزنه ومكانته في أهيل عصره (كما يسميهم هو) ونظريته في حساده حتى إذا خرجت من هذه النقدات التي كانت كمدى المشرح في البدن السمين ظهرت لك أخلاق المتنبي ونفسيته وانجلى لك المتنبي الحقيقي كأنك عشت معه.
ثم نال أبو تمام قسطاً من نقده فقابل بينه وبين المتنبي بحيث ترى أن أدهم دخل إلى سريرة هذين الشاعرين العظيمين وظفر بمزية كل منهما في الشعر.
ولم يحرم الشاعر ابن هانيء من كلمة فلسفية رائقة فيه، ويريك أن شعره يغري بالأبيقورية، وهي أن الحياة في نظره فترة قصيرة ونهزة عارضة. . . وليست جديرة بأن يقضيها المرء في طلب الغايات البعيدة وليس فيها أعماق سحيقة ترهب الناظر. وفي الوقت نفسه كان يقنص اللذات؛ فهو بعيد حياة سليمان الحكيم الذي ما ترك متعة إلا تمتع بها، وأخيراً قال: باطل الأباطيل، الكل باطل.
ولأدهم بعد ذلك فذلكات عن سير بعض الخلفاء وفذلكة عن أدب رابندرات طاغور الشاعر الفيلسوف الهندي الذي هو خير نموذج للأدب الوطني.
في هذا الكتاب المنفذ في موضوعاته ومباحثه تجلت مقدرة الأستاذ علي أدهم في التفكير والتعبير والتحبير.
روضات الفردوس:
ثم إن الأستاذ على أدهم أتحف اللغة العربية تحفة نادرة المثال في كتابه الأخير روضات الفردوس وهو محاضر مناقشات لأرواح أعلام التاريخ في جميع المذاهب الاجتماعية المختلفة. وقد تولى العالم جيثي رئاسة هذا المجلس الخيالي. وكان أبرز المتناقشين فيه كارل ماركس أبو الاشتراكية. وقد احتدم النقاش بينه وبين فولتير فيما آل إليه الأمر في روسيا عن يد لينين الذي اعتنق إنجيل ماركس بحروفه، وفحواه أن الاشتراكية لا تقوم على يد الأكثرية في البارلمان بل على يد الثورة.
وكانت ماري ستيورت ملكة فرنسا وسكوتلاندا في هذا المجلس الروحاني وكانت كل هينة(816/48)
وأخرى ترمي كلمة تحاول بها أن تزج نفسها في المناقشة، ولكنها كانت كالسيدة التي تشتغل في التريكو تقول الكلمة وتخاف أن تخطيء في القطبة.
والعجيب أن نابليون تكلم في الخلق. وعنده أن العقل بغير الخلق نكبة الأمم. فهو شعلة يحملها طفل ويجب إطفاؤها بأي ثمن حتى ولو اقتضى ذلك موت حاملها. ولكن كارل ماركس جبهه بقوله: هذا ما فعله تلميذاك هتلر وموسوليني. وما تسميه خلقاً أسميه أنا جشعاً، وما تسميه ظهوراً وصعود نجم ليس إلا تكديس الأرباح المسروقة من جيوب الموجد الحقيقي للثروة.
فيسأله جيتي: من هو موجدها؟ فيجيب كارل ماركس. هو العاقل الصعلوك.
وهكذا يتمادى كارل ماركس في النقاش بجد ويتدخل فولتير وماري ستيورت وجيتي. وإذ يقسم نابليون الدولة إلى ثلاث طبقات: القادة، وهيئة الضباط، والجند، تنبري الملكة ماري ستيورت وتضيف إليها طبقة رابعة وهي طبقة النساء. ولكن نابليون لا يعطهن أهمية اجتماعية خارج المنزل. في كل هذه المناقشات يكون صوت كارل ماركس ملعلعاً.
ثم يأتي وشنطون محور أميركا ويجتهد أن يدخل الرب في الموضوع فيحتدم النقاش بينه وبين فولتير. ثم ينبري نابليون ويزج الباباوية والإمبراطورية في البحث. ويكون جيتي في كل موضوع ممسكاً الميزان لتأييد الاعتدال والعدالة.
وهكذا ينتقل الجدال من الاشتراكية إلى الشيوعية الدين إلى السياسة إلى جميع المذاهب الاجتماعية وأخيراً إلى الحرب. ونابليون يؤيد القوة كعامل للحضارة. وواشنطون يؤيد الإيمان كأساس لها.
ولما أشتد الخلاف استدعى جيتي روح أحد الشيوخ الأحياء وهو يغط في نومه في البرلمان وسأله عن سياسة أميركا الحالية فقال له: إننا نسير غير مرتبطين باتفاقات دائمة مع أي جزء من أجزاء العالم.
ويحتدم النقاش بين وشنطون والسناتور (الشيخ) إلى أن يتطرق إلى عصبة السلام وكانت في رأي وشنطون ثوب تنكر لعصبة الحرب ونصحاً بالابتعاد عنها.
وهنا اشتبك كارل ماركس وفولتير في موضوع عصبة السلام، واقتضى الأمر التعريض بهتلر وموسولوني، ثم بالفاشية.(816/49)
ثم يستدعي جيتي روح أحد الفاشين من الأرض وهو نائم لكي يسألوه عن مذهبه. وإذ يرى هذا الفاشي مارى ستيورت يقول: أسيدة في حلقة رقص أو ربما كانت مغنية في الأوبرا. والنساء في إيطاليا يطعن موسولوني ويلدن الأطفال في أقصى سرعة - إلى غير ذلك من الحديث عن تربية الأطفال لأنه هو مدرب للأطفال وأنه يصوغهم كما يشاء موسولوني.
ثم يستدعي جيتي شخص نازي ويحتدم الجدال بين هذا النازي وفولتير ومارى وستيورت إلى أن يقول لهذه الملكة أي سلوك فجور ودعارة تسلكه امرأة هنا. ما الذي تصنعينه هنا محفوفة بالرجال. . . اذهبي واحملي أطفالا لوطنك والفوهرر. . . وما قال كارل ماركس كلمة حتى كان ذلك النازي يصيح به: أيها اليهودي القذر!
ثم أستدعى جيتي شيوعياً من نومه فجرى بينه وبين كارل ماركس جدال لا يسعه هذا المقال. فعلى القارئ أن يطالعه في الكتاب الذي نحن بصدده. وفيما كنت أقترب في هذا السفر النفيس إلى آخره كنت آسف أنه سينتهي وأنا لا أريد أن ينتهي لأنه كان آخذا بمجامع لي فأشكر لصديقي الأستاذ علي بك أدهم انتقاءه هذا الكتاب وتقله إلى العربية لمؤلفه العلامة الإسباني سفاد وردى مادارياجا.
نقولا الحداد(816/50)
القصص
من روائع أدب القصة القصيرة الإنجليزية:
أولالا
للكاتب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنس
(روائي أديب إسكتلندي ولد في أد نبرة في 13 نوفمبر1850 ودرس القانون في أكاديمية أد نبرة وجامعتها ومارس المهنة ثم انصرف عنها إلى الأدب. أول ما ظهر من آثاره الأدبية مقالاته في مجلة (كورن هل) 1874. تجول في أوربا وكتب عن رحلاته هذه. ذهب إلى أمريكا عام 1880 وتزوج بالمز إزيون الأمريكية. عاد إلى إنجلترا وكتب في 1882 قصة (جزيرة الكنز) التي جعلت اسمه على كل لسان. وفي عام 1886 كتب قصة (كدنايد) والقصة العجيبة التي سماها (الدكتور جاكيل والمستر هايد) وهي التي تضرب الأمثال بين الناس بها للرجل المخاتل ذي الشخصيتين المتنافرتين. وكتب قصصاً قصيرة كثيرة عام 1884 - 1887 وفي هذا العام ذهب إلى أمريكا، وساح في المحيط الهادي، واستقر به النوي في (ساموا)، وأخذ يرسل منها إلى إنجلترا أروع القصص، حتى وافته منيته بعيداً عن الوطن الرابع من ديسمبر عام 1894 وهو مكب على كتابة قصته
تمهيد للقصة:
تقع حوادثها في شمال أسبانيا في قصر عظيم من قصور أشرافها قد عبث الفقر بجدرانه وسكانه عبثاً شديداً وتدور حوادث القصة بين أربعة أشخاص: أولهم شاب إنجليزي في ميعة العمر، جميل الطلعة، في رجولته وجماله وشجاعته كل ما يحرك الحب في قلب المرأة ويدلهها - وهو جريح. وثانيهم شاب ريفي غير متعلم، تبدو عليه دلائل البله وهو ابن السنيورة النبيلة صاحبة القصر. وثالثهم السنيورة نفسها، وهي سيدة في العقد الخامس من العمر، تطل من وجهها أثار جمال ساحر، وهي مصابة بالجنون. ورابعهم أولالا، ابنة السنيورة، وهي فتاة في ربيعها الثامن عشر، رائعة الجمال شاعرة، وفيلسوفة، ومتبتلة.
تلخيص القصص:
أخذت جراح الشاب الإنجليزي تتماثل للشفاء، فقرر الطبيب إبعاده عن ضوضاء المدينة(816/51)
إلى مناخ جبلي جاف مدة شهرين، واتفق مع عائلة إسبانية في الريف على قبوله هذه المدة في قصرها، ولكن العائلة اشترطت سلفا أن لا يحاول هذا الإنجليزي التعرف على أفراد الأسرة، أو التدخل فيما لا يعنيه من شؤونهم، وقد كان هذا الشرط كافيا لرفضه الذهاب، لولا أن الضرورة الصحية جعلته يخضع لهذا اللون العجيب من حسن الضيافة وكرم الجوار!
وحضر فيليب ابن السنيورة لاستصحابه، وأخذ طريقهما إلى قصر يبعد عن المدينة عشرين ميلا، في عربة أثرية يجرها جواد هزيل. لم يحاول أحدهما التحدث إلى صاحبه، إنما كان فيليب يرفع عقيرته، طيلة الطريق، بغناء سمج لا يجري فيه على قاعدة من أبسط قواعد ذلك الفن الجميل. واختفت ذكاء وراء الأفق، تاركة خلفها على حواشيه ذيولا ممتدة هنا وهناك من نضار مصهور، وأخذ الظلام يسحب رداءه فتبدو في الظلمة موحشة تبعث الكآبة والخوف في أحشائها إلى النفوس. . ولمحا ضوءاً بعيداً ما لبث أن ظهر أنه ينبعث من إحدى نوافذ القصر الذاهبين إليه.
وعلى مسافة يردات معدودات من القصر تركا العربة، في حراسة فلاح من خدم القصر، واجتازا الباب الخارجي والردهات الداخلية حتى وصلا إلى غرفة قد وضع فيها سرير ومنضدة عليها نبيذ وطعام حار شهي، وقد أضرمت فيها نار جعلت جوها دافئاً.
انصرف فيليب إلى بعض شؤون، وتناول الجريح الطعام، وأوى إلى فراشه متعباً منهوكا وراح يسبح في نوم هادئ عميق! وأفاق مبكراً وأول ما دار بخلده أن يتعرف على ما حوله وعلى كل شيء يجد السبيل إليه مدفوعا إلى ذلك بحب الاستطلاع الذي أثاره في نفسه شروط الأسرة البعيدة عن اللياقة وأول ما بدأ به الغرفة التي يرقد فيها. أجال بصره فرأى صورة فتاة جميلة تدل ملابسها على أنها لا تعيش في هذا الزمن ولكن قسمات وجهها شديدة الشبه بملامح فيليب أخذ يطيل النظر إليها وهو في كل مرة يشعر بأن الصورة توقظ في قلبه لوناً غامضاً من الحب وارتاح إليه وأنس به الوحشة، وفي هذا المكان المقفر من العطف والوجوه الجميلة.
ثم أخذ يقضي أوقات فراغه في لهو بريء: يبدأ من الصباح فيصعد التلال المجاورة، ويدور بالغابات والجداول حتى يأخذ منه التعب مأخذه، فيعود إلى غرفته غير ملتفت إلى(816/52)
شيء حسب الاتفاق مع الطبيب، إلا بمقدار ما هو ضروري لرؤية الطريق.
مل هذه الحياة الرتيبة وكرهها، واستدعى فيليب إلى غرفته وأخذ يحدثه في لباقة وبراعة عن مواضيع بعيدة، يدس في ثناياها أسئلة عن الأسرة وأحوالها، ما لبثت أن أغضبت فيليب فتركه دون أن يجيبه عن شيء منها.
غير أن ذلك لم يثبط عزيمته وصمم على أن يكتشف بنفسه كل شيء، وأخذ في ذهابه وإيابه يلتفت يميناً ويساراً فرأى الجناح الذي تعيش فيه السنيورة. وبينما يهم بالخروج في صبيحة يوم مشمس جميل رآها جالسة في نور الشمس بالقرب من طريقه فحاول أن يتقدم إليها بالتحية، ولكنه تذكر الشرط القاسي فمر بها وهي تتلفت إليه دون أن يرفع طرفه إلى مكانها، غير أن الجرأة عاودته فحياها، فردت له تحية جافة، لا حياة فيها ورمقته بنظرة جامدة هادئة، منبعثة عن كبرياء. . ولكنه أدرك بعد زمن أنها صادرة عن عقل غير سليم!
وألف صاخبا السنيورة وألفته، فكان يمر بها صباح ومساء يرفع إلى مكانها تحياته، وينطلق إلى رياضته وراء التلال أو يمر بفيليب وهو منهمك في أعماله الزراعية. لقد كان سلوك السنيورة السلبي غير مشجع له على التحدث إليها، لذلك رغب في الابتعاد عنها.
وقد أدرك بفطنته أن الأسرة مرضاً وراثياً من الغباوة أو الجنون، بدا له واضحاً في عقل فيليب وسلوكه وفي عقل السنيورة وسلوكها. لقد سمع من الطبيب أن للأسرة فتاة في ريعان الصبا، فحسبها نوع والدتها وأخيها فاحتقرها وأمات الخيال الذي كان يود البحث عنها في شعوره!
واستمر في رحلاته القصيرة. ولك الشيطان سول له في أحد الأيام أن لا يذهب إلى التلال البعيدة، ولكن إلى داخل القصر، واغتنم فرصة ذهاب فيليب إلى أعماله الزراعية، وفرصة استسلام السنيورة إلى نوم تحت الشمس، وانسل إلى القصر وأخذ يور في حجراته وصالاته الرحبة، فبهره تخيل ما كان هذا القصر من السؤدد والثراء، وراح يغرق عواطفه في لجة من الفن تبدت في مئات الصور الرائعة لكبار الفنانين قد علقت هنا وهناك وقد أخذت يد التلف تشوه جمالها واستمر في تجواله حتى وصل إلى مكان فيه أوراق مبعثرة وكتب قيمة، بعضها أدبي وبعضها ديني، والآخر فلسفي. وهي لكبار المؤلفين في اللغة اللاتينية. ومظهر الكتب يدل على كثرة استعمالها وامتدت يده تعبث بأوراق فوق كرسي،(816/53)
فرأت شعراً قد كتب بقلم رصاص وبخط أنيق جداً على ورقة، يدل على براعة فنية وشاعرية فذة والهام خصب فعلم صاحبنا أن الغرفة التي هو فيها مخدع العذراء التي يبحث عنها، وإنها هي الشاعرة الجميلة الفيلسوفة. أحس في أعماق نفسه بأنه أقترف جرماً أخلاقياً بشعاً لاستباحته مخدع فتاة خفية عنها وعن أسرتها كما يفعل اللصوص، وتراجع مذعوراً من تأنيب ضميره إلى قواعده في تلك الغرفة الكئيبة، والشعر الرائع لا يزال يتردد في حنايا حسه وهو يقول لنفسه، إن التي تنظم شعراً من هذا النوع لا تكون إلا ملاكاً من ملائكة الرحمة وغير ممكن أن تكون مصابة بجنون.
وارتمى فوق سريره يفكر في الشعر وفي ناظمه، ويحلم بلقائها. . وعبثاً حاول صرف خيالها عن خاطره، وعبثاً حاول مقاومة تلك الرغبة العنيفة التي تدفعه دفعاً إلى العودة للجناح الخاص الذي تعيش الشاعرة الشابة فيه من ذلك القصر الكئيب وأخذ طريقه بعد أيام إلى مكانها. . . وفيما هو يهم بفتح الباب المؤدي إليه، إذا بيد تفتحه وإذا به وجها لوجه أمام فتاة بارزة النهدين، في عنفوان الصبا ونضارة الشباب. وما رأى لها شبيها في حياته. . . تراجعت الفتاة قليلا مشدوهة. . . وهي تكاد تلتهمه بنظراته الجائعة. . . وتراجع قليلا، محمر الوجه خجلا من اكتشافه في ذلك المكان الخاص من القصر لا يسمح له بالذهاب إليه، وولى الأدبار إلى غرفته، بعد أن ألقي نظرة طويلة على الشاعرة الجميلة الشابة الساحرة، وهي تلاحقه بنظراتها التي حملت إلى قلبه أولى رسائل الحب الجارف العنيف.
تغيرت حياة الشاب بعد هذا اللقاء. . أصبح لا يجد معنى للحياة إلا إذا رآها. . . لا يشتهي الطعام، ولا يجد النوم إلى جفنه سبيلا. وأحس في نفسه أنه يتحول إلى مخلوق جديد لا يمت بصلة إلى الإنسان الذي كان يعيش في جلده. . .
أصبحت المروج الجرداء والتلال الموحشة والبراري الصامتة روضة من رياض الجنة. . . أنه يرى وجه أولالا في كل ما تقع عليه في الدنيا، فيرى كل شيء ساحراً جميلا. لقد أصبح عاشقاً.
وأفاق مبكراً ومر في طريقه العادي فرأى وجه الشاعرة الجميل يطل من مكان قريب. . . فاندفع إليها مشدوها مذهولا ولكنها تراجعت قليلا وحاول أن يقول لها كلمة فرأى أن الكلمات تموت على شفتيه. ففر متجها إلى التلال القريبة. . . وجلس على صخره تطل(816/54)
على قصر الحب والسعادة وأخذ يحلم بسعادة اللقاء، ويضمد في قلبه الجراحات العميقة التي خرج بها في المعركة النظرات في صباحه. وبينما هو مذهول، إذ لمح شبحاً يقترب من مكانه وراء الأشجار. . حدق طويلا. يكاد يجن! لقد اقتربت! إنها. . إنها أولالا. . . أسرع بلا فيها مادا ذراعيه إليها فغابت معه في قبلة طويلة وهي تبكي بكاء موجعاً عنيفا. . ثم تدفعه فجأة وتفر منه كالمهاة التي يطاردها الصياد إلى سجنها في القصر العتيد.
عاد إلى القصر يتبعها، وهو كالمجنون. . . إنه يريد أن يضمها إلى صدره مرة أخرى، يريد أن يتحدث إليها. ولم يكد يدخل غرفته حتى وجد ورقة من نفس الورق الذي قرأ القصيدة فيه قد كتبت بنفس الخط، تطلب منه أن يرحمها إن كان يحبها، بمغادرة القصر في اليوم التالي.
كان يقدر أن يمر به كل هول في الحياة، بعد ما حمل قلبه حباً من هذا النوع، فلا يأبه له، ولكنه ما قدر أن تطلب إليه أولالا. . أولالا التي أحبته وأحبها حباً جنونياً، أن يغادرها حالا وتستحلفه باسم الحب أن يفعل. أنه لا يحتمل ذلك أراد أن يخادع الواقع بالكذب زاعماً أنها لم تطلب منه، وأنه يحلم. . ولكنه يرى أن خطها وأسلوبها الشعري ودموعها وراء كلماتها. . إنه أمام الحقيقة المرة. . . أنه لا يقوى على ذلك. . . وأسرع نحو النافذة يريد التخلص من الحياة ولم يفطن إلى أنها موصدة فاصطدمت ذراعه بالزجاج فجرحت جرحاً بالغاً تصبب منه الدم بغزارة. . . فصرخ وأسرع نحو أولالا. . . فصادفته السنيورة فطلب مساعدتها. لقد هاج منظر الدم المتدفق جنونها المكبوت فاندفعت إلى ذراعه تعضها كالحيوان المفترس عضاً أليما وهي تصرخ صراخاً منكراً وصل إلى مسامع أولالا وفيليب فأسرعا وأنقذا حياته واحتملاه إلى غرفته وراحت أولالا تضمد جراحاته وتصلي وهي دامعة العينين. . وأفاق بعد لأي فوجد أولالا منفردة إلى جانبه تمرضه وتسهر عليه وهي تبكي راكعة أمام سريره فتناول يدها بقبلاته وبللها بدموعه وعلى حين فجأة تترك الغرفة، فيدخل فيليب ويحمله إلى مدخل القصر ويوصله إلى عربته إلى دير قريب.
قضى صاحبنا في الدير الجديد أياما اندملت فيها جراح ذراعه ولكن ما تزال جراح قلبه دامية. وأخذ بعد أن استرد قسما من عافيته يتردد على جبل منيف يطل من مسافة بعيدة على قصر أولالا. كان يجد عزاء كبيراً في الجلوس على قمة ذلك الجبل.(816/55)
وكثر تردده على ذلك المكان، وكانت في قمته صخرة وجد الراحة والعطف في قلبها الجلمود. . . واستغرق في أحد الأيام في ذهول عاطفي جعله كالميت لا يتأثر مما حوله ولا يحس بوجود نفسه وفتح عينيه فجأة وحملق. . وعاد إلى وعيه فرأى. . وحسب نفسه في حلم. . ولكن التي يراها أولالا. . أولالا جاءته بنفسه تبتسم إليه. . لقد تلاقيا. . عجبت أولالا من رؤيته في تلك القمة - ولكنها كانت تعرف ذلك وتعمدت المجيء - وتظاهرت بالعتب عليه لبقائه قريباً منها حتى ذلك الوقت وقالت له إن قصة حبهما قد تحث بها القاصي والداني وأن الناس قد نذروا قتله وقتلها. وجثت على الأرض واستغرقت في صلاة عميقة وهو يدعو الله أن يلهمه ويلهما الصبر والرحمة. وودعته بعد أن قالت له إنها راهبة، وقد وضعت حب الله بينه وبينها.
وعاد إلى ديره وقد أخذ اليأس من نفسه كل مأخذ: إنه لن يراها بعد اليوم.
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلبي ... لو أنا وجدنا من فراق لها بدا
كفى حزناً أن رحت لم أستطيع لها ... وداعاً ولم أحدث بساكنها عهداً
المسيب - العراق
علي محمد سر طاوي
مدرس الإنجليزية في متوسطة المسيب(816/56)
العدد 817 - بتاريخ: 28 - 02 - 1949(/)
مشروع مولوتوف
للأستاذ عمر حليق
في الخامس والعشرين من يناير سنة 1949 أعلنت موسكو نبأ تأليف اتحاد اقتصادي للمنفعة المشتركة في منطقة النفوذ السوفيتي ليعمل علانية على مكافحة مشروع مارشال الأمريكي للإنعاش الأوربي. وقالت وكالة الأنباء الروسية الرسمية (تاس) التي أذاعت الخبر أن المشروع الروسي الجديد جاء نتيجة لمؤتمرات عدة عقدتها في موسكو الدول الحليفة لروسيا في أوائل السنة الجديد؛ وأن هذه الدول (التي رفضت الانصياع لديكتاتورية مشروع مارشال) قد أنشأت فيما بينها (مجلساً للمساعدة الاقتصادية المتبادلة لتدعيم التعاون الاقتصادي أكثر فأكثر) بين بعضها وبعض. وقالت تاس كذلك أن عمل المجلس الاقتصادي هذا سيتناول (تبادل الخبرة الفنية والاقتصادية) بين الدول المشتركة فيه، و (تقديم المعونة المتبادلة للحصول على المواد الخام والمواد الغذائية والآلات الصناعية وما إليها) وأن المجلس سيجتمع دورياً وأنه يرحب بكل من يرغب في الانضمام إليه من الدول الأوربية التي تدين بها بالمبادئ التي يدين بها مؤسسوه والمشتركون في هذا المشروع غير الروس خمس دول في منطقة النفوذ السوفيتي وهي رومانيا وبولندة وبلغاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا. وقد تركت يوغسلافيا - وخلافها مع موسكو قد اتسعت شقته - خارج هذا المجلس.
قبل سنة ونصف أي في منتصف عام 1947، خرج الرفيق مولوتوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي في اجتماع مجلس وزراء الدول الأوربية بباريس غاضباً. وكان موضوع البحث بين روسيا وفرنسا وبريطانيا في ذلك الاجتماع مشروع مارشال الأمريكي لإنعاش اقتصاديات أوربا. وقد اصدر مولوتوف عقب انسحابه تصريحاً قال فيه: أن الاتحاد السوفيتي قد رفض المشاركة في المشروع الأمريكي لأن أمريكا لا تتوخى إنعاش أوربا بل تريد تقسيمها وبث الشقاق بين دولها.
وتبع تصريح مولوتوف هذا بيان من (البوليت بيرو) القيادة العليا للسياسة السوفيتية اعترف فيه الروس بأن مشروع مارشال هو أكبر تحد يواجه الاتحاد السوفيتي.
وعلى أثر ذلك شرع الروس في اتخاذ خطوات عملية في ميادين السياسة والاقتصاد(817/1)
لمكافحة مشروع مارشال. وكان أبرز هذه الخطوات في مجال السياسة تأليف (الكومنفورم) وهو المركز الرئيسي الرسمي للشيوعية الدولية (وكانت روسيا قد حلته خلال الحرب) وجعلت قيادته المركزية في العاصمة البلغارية، وتلا ذلك نشاط عسكري في مناطق الثورات الشيوعية في اليونان والصين واتخذت المساعدة السوفيتية ليهود فلسطين دوراً عملياً لم يشعر العرب بخطورته إلا بعد سنة من استمراره.
ولم تقتصر روسيا في إجابتها على تحدي مشروع مارشال على هذه الخطوات السياسية والعسكرية، بل أردفتها بنشاط اقتصادي تدريجي شبك الروس فيه اقتصاديات دول شرقي أوربا بعضها ببعض ثم ربطتها جميعاً بالاقتصاد السوفيتي. وهذا في الواقع عملية ابتدأت روسيا بالعمل بها منذ أن احتلت شرقي أوربا أثر تراجع الألمان عنها 1945، وكانت وسائل موسكو لتحقيق هذه السيطرة الاقتصادية سلسلة من المعاهدات التجارية ركزت الإنتاج الصناعي والزراعي في منطقة نفوذها في بوتقة التبادل التجاري الإقليمي. وقطعت دول شرقي أوربا الجزء الأكبر من معاملاتها التجارية مع أوربا الغربية والعالم الخارجي إجمالا. ثم جعل الميزان التجاري في جميع الدول الشيوعية المتحالفة متمشياً مع رغبات الاتحاد السوفيتي الذي أصبح بحكم هذا التوجيه وبما له من سيطرة ونفوذ سياسي، العنصر السياسي في الكيان الاقتصادي في شرقي أوربا وهي جزء من العالم يضم ست دول تبلغ مساحتها حوالي عشرة ملايين ميل مربع وعدد سكانها 262 مليونا من الأنفس.
وأستمر نشاط الروس في منطقة نفوذهم لتدعيم النظام الشيوعي ومكافحة الغرب الانجلوسكسوني في ميادينه الاقتصادية والسياسية والفكرية، وظل العالم الخارجي لا يعلم إلا قليلا عن مدى اتساع هذا النشاط ومبلغ نجاحه بسبب الرقابة السوفياتية الشديدة. ولكن المتتبعين للشؤون الروسية قدروا بأن جواب موسكو على مشروع مارشال الذي أحرز قسطاً من النجاح للغاية التي وضع من أجلها - جواب روسيا سيكون من نوع التحدي. وقال الخبراء بأحوال منطقة النفوذ السوفيتي أن هناك خططا اقتصادية منسقة يعمل لها السوفيت بالتعاون مع الحكومات الشيوعية القائمة هناك. وكان هؤلاء الخبراء يطلقون اسم (مشروع مولوتوف) على النشاط السوفيتي. وفي الأشهر الأخيرة كاد العالم أن ينسى أن هناك شيئاً اسمه مشروع مولوتوف، لندرة ما تتناوله الألسن، على عكس الدعاية الواسعة(817/2)
التي يلقاها مشروع مارشال في الصحافة العالمية - أو صحافة الحلف الغربي على الأقل. إلى أن نقلت وكالة تاس نبأ تأليف المجلس الاقتصادي الجديد.
هذا المشروع السوفيتي الجديد، مجاله منطقة جغرافية غنية بالمواد الخام من الفحم والحديد والزيت لا يزال معظمها في باطن الأرض إذ لا تتوفر لدى دول شرقي أوربا الوسائل الآلية الحديثة ولا رأس المال ولا الخبرة الفنية لاستخراجها. فالخبرة في الإنتاج والتعدين، ومدى التصنيع في شرقي أوربا إجمالا قاصر عن اللحاق بالحضارة المادية المتفوقة التي عرفت بها دول أوربا الغربية والعالم الجديد. ولذلك فإن الخبراء في العالم الإنجلوسكسوني يعتقدون بأن هذا المشروع الروسي الجديد سيقتصر على تنسيق المعاهدات التجارية بين الدول الشيوعية، وأنه لن يسعى لتنفيذ برامج اقتصادية ضخمة تتناول التصنيع وتدعيم التبادل النقدي وغير ذلك من أوجه الاقتصاد التطبيقي على النحو الذي يعمل له مشروع مارشال في غربي أوربا وشمالها وجنوبها.
ويضيف إلى ذلك هؤلاء الخبراء - إن العقبة الكبرى التي تقف في وجه المشروع الروسي الجديد، حتى ولو اقتصر على تنسيق التبادل التجاري، هي أن منطقة النفوذ السوفيتي لا تشكل كتلة طبيعية تستطيع موازنة التبادل التجاري. فليس في الكتلة السلافية سوى تشيكوسلوفاكيا من يستطيع أن يؤمن تبادلا تجارياً سليماً؛ ففي تشيكوسلوفاكيا صناعات ثقيلة تستطيع أن تتبادلها مع حاصلات روسيا الزراعية أو حاصلات الدول الشيوعية الأخرى ومعظمها زراعي كذلك.
وكانت هذه الدول قبل أن تنصهر الكتلة السلافية تتبادل النسبة الكبرى من محاصيلها الزراعية مع ألمانيا ودول أوربا الغربية المعروفة بوفرة الإنتاج الصناعي.
وليس للدول الشيوعية في منطقة النفوذ السوفيتي الآن سوى روسيا لتتبادل معها الإنتاج الزراعي بإنتاج صناعي يسد حاجتها. ويعتقد الخبراء إنجلوسكسون أنه ليس لدى الاتحاد السوفيتي وفرة الإنتاج الصناعي ما تسد حاجيات حلفائه في شرق أوربا بسبب مشروعات الخمس سنوات الإنشائية التي تحدد طاقة الإنتاج الروسي وتوزعه على مطالب الشعب الروسي قبل كل شيء. وفوق ذلك وفرة الإنتاج الزراعي في روسيا نفسها من القمح الأوكراني والمواد الغذائية الأخرى يجعل شراءها للمنتجات الزراعية من الدول الخاضعة(817/3)
لنفوذها نوعا من الإحسان لا يستند إلى دعائم اقتصادية سليمة.
وهنا تتدخل لايك سكسس فيقول خبراؤها أن الدول التابعة لمشروع مولوتوف الروسي، والدول المنظمة لمشروع مارشال الأمريكي، سيرغمان في نهاية الأمر على تبادل التعاون. فإن الكيان الاقتصادي الذي تحاول موسكو تدعيمه في شرقي أوربا هو كيان زراعي؛ وإن الإنعاش الذي يحاول الإنجلوسكسون تحقيقه في باقي أوربا هو كيان صناعي؛ وإن تشابك السياسة والاقتصاد في الحياة الأوربية والدولية إجمالا ليس من السهل القضاء عليه. ولذلك فإن خبراء لايك سكسن يعتقدون بأن التبادل التجاري بين منطقة النفوذ السوفيتي ومنطقة الحلفاء لن ينقطع ما دام أن كلا المعسكرين ليس في صراع مسلح، وهذا الاتصال التجاري أحد السدود التي تقف في وجه اندلاع لهيب جديد.
(نيويورك)
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية(817/4)
الغزي الشاعر
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
هو شاعر من كبار شعراء العرب عاش في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة ورحل إلى الشرق فأمضى معظم عمره في الأسفار. ونشر شعره بالعراق وخراسان. وكان أحد شعراء العربية الثلاثة الذين عرفتهم بلاد العجم في القرنين الخامس والسادس. وثانيهم أبو المظفر الأبيوردى الأموي شاعر العربية في القرن الخامس، والثالث الأرجاني الذي عاش من سنة 460 إلى سنة 544
ولد الغزي في غزة هاشم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. وفارق وطنه في سن الأربعين فدخل دمشق ورحل إلى بغداد وأقام في المدرسة النظامية سنين كثيرة. ومدح ورثي كثيراً من المدرسين بها. . . ثم رحل إلى خراسان ومات بها في طريقه من مرو إلى بلخ سنة 523. ونقل إلى بلخفدفن بها.
وقد تحدث المؤرخون عن كثرة أسفاره فقال ياقوت في معجم البلدان: سافر الدنيا. وقال صاحب الخريدة: جاب البلاد وتغرب وأكثر النقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان.
وقد ذكر هو أسفاره في مواضع من شعره. يقول:
كم بلدة فارقتها فوجدت في ... أخرى مُراداً مكثباً وَمرادا
وتركتها ربداء كالظلم التي ... يلبسن من فقد البدور، حدادا
إن كنت سرت عن العراق مؤنبا ... جيا فلست بشاكر بغدادا
فمتى أضام وهمتي فوق السها ... أو يستطيع لي الزمان عنادا
ويقول:
كم لبسنا أضفي السوابغ ذيلا ... وطرقنا أحمي القبائل جارا
فخلونا بالعامرية والخيل صـ ... يام والحي ما شب نارا
وانكفأنا والفجر يعطس والريـ ... ح تعفي بذيلها الآثار
وشهدنا الوغى وقد رتق النقـ ... ع فتوق الآفاق والأمصارا
ولقينا الملوك عربا وعجما ... وحصلنا على الجزيل مرارا(817/5)
وسهونا عن قص أجنحة العمـ ... ر بما يصلح المعاد فطارا
وكأنه في هذه الأبيات يجمل سيرته، ويذكر خلاصة ماضيها وتجاربه.
ويقول في أبيات أخرى.
وطامعة ترى الخرِّيت فيها ... كأمي تناوله كتابا
لبست قتامها وخرجت منها ... خروج مهند سلب القرابا
بسير يحرق النار اشتعالا ... وعزم يسبق الماء انصبابا
ولما قل منتقدٌ وأمت ... بغاثة كل منتحل عقابا
وأصبح منسم الدنيا سناما ... وخر الرأس وارتفع الذنابى
شمخت بأنف فضلى عن مرام ... يضم أُسود بيشة والذئابا
وكم أرسلت من مثل شرود ... سري في ظهر قافية وغابا
مدح الغزي كثيراً من أمراء المشرق وملوكه، كبني نظام الملك، والسلطان سنجر بن ملكشاه.
وفي شعر الغزي، كالابيوري والأرجاني - وهم عرب خلص عاشوا في إيران وما يتصل بها في ذلك العصر وقد حيت اللغة الفارسية وازدهرت آدابها - في هذا الشعر مجال واسع لتأريخ الأدب العربي وقياسه بالآداب الأعجمية التي نشأت في حضانته وتحت سلطانه، وبيان مكانته في تلك الأقطار.
وفيه كذلك إبانة عن نزعات شعراء العرب في الأقطار الأعجمية واعتدادهم بأصولهم وتشوقهم إلى أوطانهم.
وقد سبق أبو الطيب المتنبي إلى الحنين إلى الشام، وافتقاده بني قومه حينما رحل إلى فارس أشهراً قليلة مدح فيها ابن العميد وعضد الدولة فقال:
أحب حمصا إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها
وذكر مواطن لهوه في تلك الأصقاع. وقال أيضاً في وصف شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
وافتقد ما ألف في دمشق من ضيافة فقال:(817/6)
ولو كانت دمشق تني عناني ... ليبق الثرد صيني الجفان
وأما الأبيوردي الشاعر الأموي فكان لسان العرب في القرن الخامس. أشاد بمجدهم وتمدح بأخلاقهم وحن إلى أوطانهم وهو لم ينشأ بها، ولم يعش فيها إلا قليلا في العراق، حتى سمى قسماً من ديوانه النجديات.
وهذا أبو اسحق الغزي تعاوده ذكر غزة وباديتها، وبلاد العرب، فيعرب عن شوقه وحنينه.
وكما أشاد أبو الطيب بالبداوة حين قال:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
ابن المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
أولع الأبيوردي ببوادي العرب وكرر ذكرها والإشادة بالعيش فيها.
ومن قوله في هذا:
ويعجبني نفح العرار وربما ... شمخت بعرنيني وقد فاح عنبر
ويخدش عمدي بالحمى صفحتا الثرى ... إذا جر من أذياله المتحضر
وما العيش إلا الضب يحرشه الفتى ... وورد بمستن اليرابيع أكدر
بحيث يلف المرء إطناب بيته ... على العز والكوم المراسيل تنحر
ويغشى ذراه حين يأتم للقرى ... ويسري إليه الطارق المتنور
يفخر في هذه الأبيات بالبداوة، ويشيد بما يعبر به الأعراب من أكل الضباب فيقول:
وما العيش إلا الضب يحرشه الفتى ... في هذه البادية العزيزة الكريمة
حيث تستحكم الشجاعة والسخاء. وكذلك الغزي يحن إلى البادية بين الحين والحين. ويذكر قبائل العرب ويمدحها ولكنه أقل من الأبيوردي حماسة وحنيناً؛
يقول:
أين أيامنا بغزة والعيش ... نضير واللهو رحب المجال
ومزايا حسن البوادي بَواد ... بهلال في حلة من هلال
أي بإنسان كالهلال حسناً في حلة من بني هلال.(817/7)
ويقول في تفضيل البدو على الحضر.
وغضة العين يحمي حسنها خفر ... ولا خفير فعين الحسن كالخفر
سجية في البوادي لا أخل بها ... والبدو أحسن أخلاقا من الحضر
قوم كأن ظهور الخيل تثنيهم ... وما سمعت بأنبات بلا مطر
لا يجسر الطيف يجري في منازلهم ... مهابة خيمت في مطرح الفكر
لما رضوا بشفار البيض معتصما ... عزوا فما احتاج جانيهم إلى وزر
ويقول:
وأبرح ما يكون هوى البوادي ... إذا رفعوا على العيس القبابا
تسير بكل جارحة حتما ... أسود يتخذن السمر غابا
ثم الغزي بعد وقور في شعره حكيم، يصوغ الحكم والمواعظ، ويضرب أمثالا من تجارب وما لقي من غير الزمان. وهو في هذا الفن يبلغ درجة عالية يمتاز فيها. وهو مهما يفتن في ضروب الشعر لا يستطيع إخفاء نزعته إلى الزهد، وابتئاسه بأحداث الدهر، وقد عاش الرجل أكثر من ثمانين عاماً، وطرف في البلاد كثيراً فرأى وسمع وجرب ملء الأزمنة التي عاش فيها والأمكنة التي أقام بها.
أنظر إلى قوله:
لا تعجبن لمن يهوى ويصعد في ... دنياه فالخلق في أرجوحة القدر
وقوله:
ما الدهر إلا ساعتان: تعجب ... مما مضى، وتفكر فيما بقي
ولكل شيء مدة فإذا انقضت ... ألفيته وكأنه لم يخلق
والمرء أتعب ما يكون إذا ابتغى ... سعة المعيشة في الزمان الضيق
وهنا يظهر الفرق بين الغزي القنوع والأبيوردي الذي لاتسع الدنيا همه ومطلبه.
ويقول الغزي.
هلا نكرت شبابي وهو أغربه ... للبين معربةٌ عن غربة السفر
ليت البياض الذي زال السواد به ... أبقى لنا منه في القلب والبصر
قد ضقت ذرعاً بعيش لا يسوغ ولا ... تمجه النفس حتى عيل مصطبري(817/8)
فلست حياً، ولا ميتا، ولا دنفا ... ولا صحيحاً، جميع الداء في الكبر
الغزي جدير بعناية أدباء العربية لبلاغة شعره وما فيه من معان قيمة وحكم عالية، ثم لما في سيرته من تبصرة بأحوال البلاد الإسلامية في ذلك العصر، وأحوال الأدب العربي في بلاد العرب والعجم. وديوانه جدير بالتصحيح والنشر. وقد أدرج كثير من شعره غلطاً في ديوان الأبيوردي. ولابد من نشر الديوانين قضاء لحق الشاعر بن، بالعناية بشعرهما وسيرتهما.
عبد الوهاب عزام(817/9)
صور من الحياة:
انتقام
للأستاذ كامل محمود حبيب
دعني - يا صاحبي - أنفض أمامك جملة حالي، فما في حديثي ما تضيق له النفس ولا ما ينزعج له القلب. هذا أمري وما كان لي الخبرة منه وإني لأضطرب بين نوازع جياشة لا تهدأ ولا تستقر.
فتعال - ياصاحبي - واجلس إلى جانبي والق إلى السمع ثم لا تلمني فأنا تجربة قاسية من تجارب الحياة. . .
صفعتني الأيام في غير شفقة ولا رحمة - أول ما صفعت - حين ماتت عني أمي طفلاً أدرج في فناء الدار، ولا أكاد أعي من أمر الحياة شيئاً، ولا أكاد أنأى عن حضن أمي إلا ريثما أعود إليه أجد فيه الحياة والدفء والحنان جميعاً، وأبي بين عمله وشبابه في شغل. وافتقدت أمي حين افتقدت القلب الذي يسعدني وأطمئن إليه، وحين غاضت الابتسامة الرفافة الساحرة التي تجذبني وتحنو على؛ فرحت أسأل عنها في شوق وأبكي بعدها في حزن وأهلي من حولي يوهمنني بأن أمي ذهبت إلى القاهرة تطب لمرضها. وعجبت أن لا أجد لها شبيهاً في من أرى. فهذه عمتي وهذه خالتي وهذه وهذه. . . لأحس في واحدة منهن معنى الأمومة ولا ألمس روح الحنان.
واشتد شوقي إليها ولجت بي اللهفة إلى رؤيتها، ثم انطوت الأيام وعبرتي ما ترقأ وحنيني ما يخبو.
وصحبتني جدتي لأبي - ذات ليلة - إلى دارها، وأرادتني على أن أستحم وجاءت هي تزيل عني أوساخ الإهمال وتمسح أعفار الشارع، تدهن شعري بالزيت وتضمخ جسمي بالعطر ثم تلبسني الحرير في رفق وتلفني في الدمقس في عناية.
يا عجباً! ما لوجه هذه العجوز الشمطاء يفيض بشراً وإشراقاً وما لها تتزين وتتطيب كأنها في ليلة زفافها!.
وسألتها ما الخبر، فقالت: (بابني غداً ستذهب لترى أمك في بيت أبيك) وثوثب قلبي طرباً وطار عقلي سروراً، وشملتني طفولتي فما أستطيع أن أكتم دوافع نفسي، فذهبت أملأ الدار(817/10)
ضجيجاً وصخباً، أغني وأصيح وأنادي وأقفز وأجري، يكاد إهابي ينشق نشاطاً على حين يفيض قلبي فرحاً. غداً سأرى أمي! وافرحتاه! وذهبت أهيئ نفسي للقيا الحبيبة أزين وأتأنق وأقف أمام المرآة أتحسس ملابسي وشعري وحذائي. ونامت العجوز وأنا إلى جانبها لا يجد النوم إلى عيني سبيلا؛ والأخيلة الجميلة البسامة تتوزعني وأنا بينها لا أحس معنى الزمن ولا يضنيني السهر وقد مضى الليل إلا أقله.
وفي الصباح لصقت بجدتي أتبعها وأتعلق بثوبها، أستنجزها ما وعدت وهي تستمهلني، والساعات تنطوي. والأمل يخبو في نفسي رويداً رويداً حتى لفني الوجوم والأسى وبدت على الخيبة وضياع الأمل. وعند الظهر قالت لي جدتي: (الآن، نذهب لنرى أمك).
وذهبت إلى دار أبي، إلى جانب جدتي، أختال في الحرير والدمقس وأزهو في طفولتي وعطري وأرنو هنا وهناك وقلبي يخفق في شدةوعنف، ترى أين كانت تتوارى أمي، أفحقاً كانت تطب لمرضها في القاهرة؟ ودخلت حجرة واسعة من حجرات الدار فإذا عبير المسك يتضوع في نواحيها وتفوح في جنباتها روح العطر. ولقد تأنقت الحجرة في زينتها وتبرجت في أثاثها فهي تخطف البصر وتخلب اللب. وأخذت أقلب البصر في أرجاء المكان فما رأيت المرأة الجالسة في أقصى الحجرة إلا حين قالت جدتي العجوز (هذه أمك) واندفعت أنا إليها ألقى بنفسي بين ذراعيها وأدفن وجهي في حجرها لأستشعر الحنان والعطف وقد فقدتهما منذ زمان.
وألقيت بنفسي في حجرها ولكني لم أحس بذراعيها تنفرجان لتضماني ولا بنفسها تستبشر للقائي ولا بقبلها ينبض لمقدمي فرفعت بصري إلى وجهها أحدق فيه، واستلبتني الدهشة والحيرة من حياء الطفولة فأرسلت من شفتي صرخة مدوية وأجهشت للبكاء ثم رجعت إلى الوراء في فزع، رجعت صوب الباب لأن هذه المرأة لم تكن أمي. وشعرت بأنني أحتقر جدتي وأمقت المرأة التي زعموا أنها أمي.
وألفيت أبي لدى الباب فربت على كتفي في حنان وضمني إليه في عطف وقال: ما بالك؟ قلت: من عسى أن تكون هذه المرأة؟ قال: هي أمك. قلت: لا. قال: ألا أن لك أمين واحدة في القاهرة وهذه هنا! قلت: فما لي لم أرها من قبل؟ وتلعثم لسان أبي وماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا لي أن أبي كذاب فشعرت بأنني أحتقره وأمقته.(817/11)
آه، لقد انطوى صدري على كراهية أبي وجدتي والمرأة التي زعموا أنها أمي. . . كرهتهم جميعاً لأنهم كذبوا. . . وأحسست بالأسى يتدفق عارياً إلى قلبي. وجرفني الحزن حين أيقنت بأنني فقدت أمي إلى الأبد.
وحين رأتني زوجة أبي قذى في عينيها اتخذتني هدفاً لغضبها وثورتها وعشت في الدار ضائعاً لا أفوز إلا بفضله مما يتركه الخادم. حينذاك أرسلني أبي إلى المدرسة في المدينة ودفع بي إلى خادم يقوم على أمري فكان هو أبي وأمي وجلادي، فهو أب لا يعرف الرحمة وأم لتعرف الحنان وجلاد لا يعرف الشفقة. وعشت هناك أشعر بالغربة فأبي لا يزورني إلا لماماً إرضاء لزوجته، وهو أن فعل لا يحبوني بعطفه ولا يهش للقائي ولا يتبسط معي في الحديث ولا يهتم بحاجاتي ولا يعني بطلباتي، ومرت الأيام وهو ينأى عني رويداً رويداً حتى أصبح غريباً عن نفسي وعن قلبي في وقت معاً وأغص بالحرمان فالخادم ينعم وحده بمال أبي وأنا لا أنال قرشاً واحداً أشتري به بعض ما يشتري أترابي. وأشرق بالمهانة فأنا أغدو إلى المدرسة وأروح في ثياب مضطربة قذرة مهلهلة على حين أن رفاقي يرفون في الجديد والنظيف. وأحس بالضعة فما أستطيع أن أدفع عن نفسي عبث زملائي وتهكمهم فما بي من قوة أن أفعل. وتمادى صحابي فامتدت أيديهم إلى وجهي ورأسي، فطرت أفزع عنهم وافر منهم وهم يجدون في إثري لأكون لهم سخرية ولهواً. ولم تستطع نفسي أن تطمئن إلى هذا الوضع الوضيع وأنا عاجز اليد واللسان والقلب، فذهبت أتلمس مهرباً فكنت أقضي أوقات الفسحة مختبئاً في (المرحاض) ثم أنفلت - آخر اليوم المدرسي - إلى بيتي أحمل همي بين جنبي فما أجد متنفساً إلا أن أشكو إلى هذا الخادم الفظ وهو لا يلقي بالاً إلى شكاتي إلا والعصا على ظهري، وأبي بين عمله وشبابه في شغل.
وقضيت السنوات الأولى من عمري المدرسي أتوارى عن زملائي خشية أن تنالني أيديهم وألسنتهم، وأنطوي على نفسي في ركن من حجرة خيفة أن أعرض أسمالي البالية على أعين الناس في الشارع، فعشت في منأى عن الناس أطمئن إلى الوحدة وأرى فيها سلوان القلب وراحة النفس.
أفكنت أطمئن إلى هذا الوضع الوضيع في سهولة ويسر؟. ليت شعري ماذا كان يضطرب في خاطري حين أخلو إلى نفسي وإن قلبي ليتضرم غيظاً ويحتدم حقداً على(817/12)
أولئك الذين اتخذوني سخرية ولهواً؟.
وثارت في ثائرة القرم إلى الانتقام واشتد بي النهم إلى الثأر وشغلتني الخاطرة فملأت نفسي وسيطرت على أخيلتي، وفي رأيي أن الناس يحترمون القوي ويتملقونه ويسخرون من الضعيف ويمتهنونه. وعز على أن أعيش عمري في الذلة والمسكنة فعزمت على أمر. . .
ورحت أقضي شطراً من يومي في أحد الأندية الرياضية، وشطراً آخر بين أوراقي ودرسي، ومرت الأيام فإذا ساعدي قد اشتد وعضلي قد تكتل وإذا عقلي قد استوى واستقام.
وقويت نفسي حين رأيتني في الصدر قوة وعلماً، فطردت خادمي بعد أن أذقته وبال أمره، وانطلقت إلى أبي أطلب - في شدة وعنف - أن يرتب لي من المال ما يحفظ علي كرامتي وكبريائي فما تمهل، وانطويت عن زوجة أبي وأنا أحدجها بنظرات فيها الاحتقار والبغض، ووجدت اللذة والسعادة في أن أبطش بأترابي وأقاربي فاندفعت أذيقهم الذلة وأسلوبهم الخسف لا تأخذني بهم رأفة ولا أستشعر نحوهم الرحمة.
وتخرجت في الجامعة لأفرغ إلى الانتقام وبي إليه قرم وأخلص إلى الأخذ بالثأر وبي نهم إليه. وسلكت إلى غايتي سبلاً شيطانية وأنا أعجب أن تسيطر علي روح الإجرام وأنا رجل علم وأدب. ولكن، هل كان الشيطان إلا وعاء علم وأدب لبسته روح الإجرام؟
ودفعتني شيطانيتي إلى أفانين من الانتقام أحكم نسجها، فانطلقت. . .
اليوم غلتي وأشفيت داء صدري، بعد أن عذيت من سخروا مني طفلا وقتلت من قسوا علي
صغيراً فهل تراني ندمت على أمر وأنا أشعر بأنني قد أديت رسالة قلبي؟.
ولكن عين العدالة لم تغفل عني فأنت ترى الآن الغل في يدي والقيد في رجلي وسيف الجلاد ينتظرني بعد أيام.
فقل لي - يا صاحبي - من عسى أن يكون الملوم، من عسى أن يكون يا صاحبي؟.
كامل محمود حبيب(817/13)
حول الفكر العربي
الغرض من دراسة الفكر العربي
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
- 1 -
في الوقت الحاضر تبذل الدول العربية قصارى جهدها لتحظى بمكانة دولية مهيبة تساعدها على نيل مآربها السياسية والاستقلالية إلا أن الوصول إلى مثل هذه الغاية يحول دونه عقبات، من بينها عقبة ضعف الشخصية العربية وضآلتها، ثم عقبة جهل العرب بمقوماتهم العقلية الممتازة.
ويرجع ضعف الشخصية العربية إلى تهاون العرب في التمسك بأخلاق القرآن، وتفريطهم في إعطاء التعاليم الإسلامية صبغة عملية يظهر أثرها النافع في الحياة الخاصة والعامة، بينما يعود جهل العرب بمقوماتهم العقلية الراقية إلى أن الشعوب العربية لم تكلف نفسها مشقة الكشف عن كنه ميولها الفكرية، أو تهتم بشحذها حتى تنضج، أو تعتني بكشف الميادين التي تقدر أن تخوضها وتتفوق فيها، حتى تستطيع أن تدخل غمار النضال العالمي مزودة بأسلحة أخلاقية سامية وواقعية في نفس الوقت، وتنم عن شخصية قوية لها صفات مميزة، وممونة بمعدات عقلية تستعين بها في إثبات وجودها ككائن حي فعال في الحياة الدولية يختص بأداء عمل معين لا يضارعه فيه كائن آخر من الكائنات الدولية؛ فيحقق ذلك كله للعرب ما تصبو إليه نفوسهم من رقي، ويحتلون مكانة دولية تجبر المستعمر على احترام حقوقهم المسلوبة. أما من ناحية ضعف الشخصية العربية فإنها لن تتقوى ما لم تمهد السبل لبعث التعاليم الإسلامية في صورة حية واقعية، تطلقها من سجن أروقة المساجد وحجرات الدراسة، وتدفع بها في تيار الحياة اليومية الرحب المتنوع، حتى لا يشعر أي فرد بوجود انفصال بين الدين والحياة، ويحس بأن الدين من الحياة وأنه أنزل من السماء ليلبي أغراض الحياة سواء أكانت روحية أو مادية، ولا يعترض سيل تطورها، أو يعوق تقدمها؛ فإن انقطعت الصلة بين الدين والحياة كما هو الحال في البلاد العربية، عد ذلك تقصيراً من رجال الدين في البحث عن هذه الصلة. ولذلك يجب عليهم أن يوثقوا العري(817/14)
بين تعاليم الدين الإسلامي وحياتنا الحاضرة، وألا يحيطوا هذه التعاليم بهالة من السمو والرفعة بحيث تعلو عن حياة عامة الناس، فيصعب عليهم التمثل بها ويظنون أنها تنطوي على قيم عليا لا يقدر أن يصل إليها إلا خاصة الخاصة، مع أن الدين أراد أن يسلكها الجميع بدون تفرقة. فإذا اتصلت هذه التعاليم بحياة الناس العادية، وطبقت على شتى ظروفهم الاجتماعية، أدرك كل عربي جدوى التعلق الحق بالدين الإسلامي، وتلمس فائدته الروحية والمادية معاً، فيعتقد أن الدين قوة دينية كما هو طريق إلى الله.
إن غرض الفتوح العربية في صدر الإسلام كان نشر الدين فسلامي خارج حدود بلاد العرب. ولقد استبسل الكثير من العرب، واستشهدوا في سبيل الله، ففازوا بالجنة من ناحية، ونال أهله من ناحية أخرى قسطاً من الغنائم مثل بقية الجنود العائدين من الحروب.
فالقتال في سبيل الله وإن كان باعثه ديناً يخلد المستشهد في الجنة، وهذه غنيمة روحية، يضمن كذلك لعائلته من بعده العيش الرغد وهذه غنيمة مادية، أحس كل عربي بمدى فائدة الاستشهاد من أجل نشر الإسلام من الناحيتين الروحية والمادية، فأقبل على الجندية وخاض الوغى بشجاعة لا تقهر، فاستطاع على قلة عددهوعدده أن يزيل من الوجود الدولة الفارسية، ويزعزع أركان الدولية الرومانية.
وفي هذا الجو السماوي الأرضي عرف العرب قديماً كيف يثبتون دعائم الدين الإسلامي في النفوس. وفي هذا الجو كذلك يقدر العربي في الوقت الحاضر أن يقضي على ما تركته المدنية الغربية في نفسه من القلق الوجداني والاضطراب العقلي، لانقياده المطلق لمغرياتها المادية ومفاتنها الحسية، ولإهماله تهيئة الحياة الروحية التي تلائم مزاجه وتبعثه على طلب الكمال.
ولقد سبقنا الهنود في المضمار الديني الاجتماعي، وأخذ المفكرون الهنود من أمثال راما كريشنا وفيفكاناندا يستوحون تراثهم الديني القديم، ويعرضونه في أسلوب حديث يتفق وغايات الحضارة الحديثة بدون أن يخل بأصول الفكر الهندي الروحي. ثم جاء طاغور ووضع القواعد الثابتة للحياة الهندية الكاملة، وأبرزها في صورة واضحة في كتابه (سادهانا) استقاها من تعاليم الكتب الهندية المقدسة، ودعمها بروح الغرب العملية، فأعطى المبادئ المثالية قيما واقعية تنفع في الحياة. وبعد أن كان الهندي ينزع لاجتناب الحياة(817/15)
أصبح بفضل هؤلاء المفكرين لا يقدس الزاهد الهاجر للحياة، المعتزل للأهل والوطن، والغارق في نفسه، والهارب من مشاكل الأرض، وإنما يقدس الزعيم القومي الذي تمثل في شخصية غاندي، ذلك البطل الوطني الذي دفع بمقومات الهند الروحية في ساحة النضال السياسي، فنالت بلاده حريتها، فعرف الهنود من مفكرين وسياسيين كيف يتفادون عيوبهم القديمة، ويتغلبون على ميلهم إلى اعتزال الحياة، ويبرزون قدرتهم على احتمال الألم في سبيل الغايات القومية بعد أن كانت قاصرة على الغايات الدينية الصرفة.
وها هو نهرو خليفة غاندي يقتفي أثره، ويسير على هدى الطابع الهندي، فما كاد يطمئن على استقلال بلاده، ويضمن ود الباكستان، حتى بادر يخوض مجال دولي حيوي أراد أن تساهم فيه بلاده في خدمة الإنسانية، وتؤدي ما عليها من واجبات في سبيل رسالتها الروحية التي ترغب في أن تعم بلاد العالم أجمع. فدعا لعقد مؤتمر ينشد عن طريقه ضم شمل الدول التي تعتنق المثل العليا والمبادئ المعنوية، وتؤمن بقوتها في تدعيم السلام، كما يبغي توحيد صفوفها للتعاون على إنقاذ العالم مما هو فيه من تفكك وتنازع، وذلك بالقضاء على النزعات الاستعمارية، وبث روح المحبة والوئام في ربوع العالم.
وهكذا عرف نهرو كيف يختار المجال الوحيد الذي تقدر العبقرية الهندية أن تشترك فيه، وتظهر براعة لا تفوقها براعة، فنجح في استغلال استعدادات قومه الأصلية في إعلاء شأنهم، ورفع مكانتهم بين الدول.
فأمام العرب نموذج من الفكر الديني الخالق الذي استطاع أن يرفعن كاهل بلاده كابوس الاستعمار بفضل تعاليم غاندي في المقاومة السلبية، وأن يقتحم الميدان الدول متخذا من أساليبه الروحية وسيلة لتحقيق سلام العالم، وهي غاية هندوكية قبل أن تكون غاية سياسية إنسانية؛ فهيأ بذلك لمبادئه الدينية قوة إيجابية
أما كيف يعطي الفكر تعاليمه الإسلامية قيمة عملية فعالة ونافعة في حياتنا الخاصة والعامة، فذلك يكون بعد تطبيقها تطبيقاً جدياً واسع النطاق يشمل المجتمع العربي بأكمله. فكل ما تأمر به التعاليم الإسلامية من تشريعات لا ينبغي أن تهمل ويستعاض عنها بغيرها من تشريع الغرب، وبحجة أنها أكثر إنسانية. فنرفض قطع يد السارق وجلد الزاني ورجم الزانية، فإن ذلك يضعف من قوة دينا، ويقلل من قدرته على مواجهة مشاكل الإنسان، وذلك(817/16)
يورث في نفوسنا نوعاً من المهانة، فتستكين لتشريعات الغير، بينما يجب أن نتمسك بتشريعات الإسلام، لا بدافع من نعرة دينيةرجعية، ولكن بدافع من المحافظة على روح الأمة العربية، وصيانة كيان حياتهم الاجتماعية وكل ما في القرآن الكريم والحديث الشريف من مثل عالية يجب أن تؤسس عليها الأخلاق العربية. وكل ما يتضمنه هذا الكلام المقدس من حكم يجب أن تقوم بها أهواءنا ورغباتنا، حتى تصفو نفوسنا مما علق بها من شوائب المدنية الحاضرة، وتعيش في كنف حياة روحية ترتاح إليها عقولنا العربية، فتقدر أن تستوحيها، وتنهج سبل التطور إلى أن تكيف التعاليم الإسلامية بظروف الحضارة المعاصرة بدون أن تفقد شيئاً من أصالتها.
فإخراج هذه التعاليم من منابر لجوامع إلى ساحة الحياة الاجتماعية يعد أمرا ًضرورياً لنهضتنا الحضارية. إن غاندي عندما علم الهنود المقاومة السلبية قد أضاف إلى مبدأ عدم العنف الهندوكي من القوة ما ألهب مشاعر قومه الدينية، وأرهب الإنجليز وهزا إمبراطوريتهم، فكان عمله هذا أعظم عمل ديني أداه هندي لوطنه. فنحن نريد أن نشعر بقوة مفعول تعاليمنا الدينية في أعمالنا وتصرفاتنا حتى يزداد إيماننا بها قوة، ولا نفكر في أن نتخلى عنها، ونبذل جهد الطاقة لكي نبثها في جميع صور الحياة الدنيوية، فيكون ذلك باعثاً رفيعاً على طلب الرقي، ودافعاً عظيما ًإلى تشييد حضارة عربية تستمد مقوماتها من صلب التعاليم الإسلامية، وتجاري المدنية الغربية في نفس الوقت.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(817/17)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 6 -
قيس وأسد وهذيل وكنانة:
أتيت في المقالات السابقة على ما كان لتميم من اختلاف مع القبائل الأخرى مشيراً إلى ما شاركها فيه غيرها من قيس وأسد وبعض قبائل نجد، وذلك مما كان له أثر في القراءات واللغة وقواعدها. والواقع أن لنا سبق هو الكثرة الواضحة أما خلافات القبائل الأخرى فقليلة، وسأعرض لها تكملة للبحث وإتماماً للموضوع.
وقد راعيت أن أقدم فكرة عن موطن كل قبيلة أو بطن حتى يسهل على الباحث تتبع القبيلة والعوامل التي أثرت فيها، وكيف اشتركت مع غيرها في خصائص لغوية كان سببها الجوار وأذكر مع ذلك أن هذه الأبحاث والتوفيق بينها وجمعها في وحدة مرتبطة مما لم يسبق إليه إنسان ولا وجدت أحداً أعطاها حقها من العناية والاستقصاء ويرجع هذا إلى عسر الحصول على مكوناتها وعناصرها فإذا وجدت لهجات لقبيلة مبعثرة في كتب الأدب واللغة والنحو فلا تذكر لك ارتباطها بالقراءات. وإذا أتيحت نسبتها في كتب القراءات والتفسير، فلا تمر إلا عرضاً مبتورة ينقصها الترتيب. وفوق هذا فإن مساكن القبائل ومواطنها وديانتها لا يجمعها كتاب واحد من كتب الأدب والتاريخ. وذكر ديانات العرب وأصنامهم ومن كان يعبدها يسهل معرفة القبائل المتجاورة أما ذكر شخصياتها فمن باب التعريف بمن كان له من هذه القبائل نصيب من الشهرة والذيوع. ولعل في هذا كله بياناً لمن يحسب لأول وهلة أنه زيادة أو خروج عن الموضوع.
قبيلة قيس:
تجمع هذه القبلية عدداً كبيراً من القبائل والبطون ونسبها هو قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وقد أصبح كثير من بطونها في عداد القبائل لكثرة ما شملته من أفراد فمن فروع قيس:
1 - غطفان: ومنها عبس وذبيان، ومن ذبيان فزارة الذين وقعت بينهم وبين عبس حروب(817/18)
كثيرة بسبب الفرسين: داحس والغبراء. ومن ذبيان أيضاً بنو مرة، ومنهم الحارث بن ظالم المرى، أحد فتاك العرب المشهورين والذي يضرب به المثل فيقال أمنع من الحارث وقد كان السبب في بعض المعارك العربية التي تسمى أيام العرب.
ومن بني عبس عنترة الفارس الشاعر. ومن ذبيان النابغة الذبياني الشاعر. ومن غطفان أيضاً بنو أشجع. وكانت منازل غطفان بنجد مما يلي وادي القرى وجبلى طيء أجا وسلمي إلا أشجع فقد كانت منازلهم حوالي المدينة. وقد اتخذت غطفان لها بيتاً للعبادة أرادوا أن يجعلوه حرماً مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه، واسم هذا البيت (بس) ووضعوا حجرين متباعدين وقالوا إنهما الصفا والمروة، واجتزءوا بذلك عن الحج إلى بيت الله الحرام، فأغار عليهم زهير بن جناب الكلبي فهدمه وعطل حرمهم وذلك في الجاهلية. وقد تفرقت غطفان في الفتوح الإسلامية.
2 - بنو سليم بن منصور، وكانت بلادهم في عالية تجد قريباً من خيبر.
وكان بعض بني سليم سدنة (للعزي) وفي عام الفتح بعث الرسول سيدنا خالد بن الوليد فأحرقها وقال:
يا (عز) كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ومن سليم الخنساء الشاعرة ونصر بن حجاج الذي كان بارع الجمال، فسمع سيدنا عمر بن الخطاب امرأة تنشد:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
فنفاه بعيداً عن المدينة وقال لا يساكنني رجل تتشبب به النساء.
3 - غني وهم بنو غني بن أعصر بن سعد بن قيس، وباهلة وهم بني معن بن أعصر نسبوا إلى أمهم باهلة. وكانت غني وباهلة يعبدون (العزي) ومساكن غني وباهلة متجاورة في نجد شرقي الطائف، وبعض بني باهلة كانوا يسكنون إلى الجنوب الشرقي في الطريق بين مكة واليمن في موضع يسمى تبالة حيث كانوا سدنة لضم اسمه (ذي الخلصة) وكانت تعظمه أيضاً وتهدي له خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن ويحكى أن رجلا من العرب - وينسب ذلك إلى امرئ القيس - قد قتل أبوه فأراد الطلب بثأره فأتى ذا الخلصة فأستقسم عنده بالأزلام فخرج السهم ينهاه عن ذلك فقال:(817/19)
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلي، وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
ومن باهلة الأصمعي الرواية المشهور.
4 - بنو عدوان وفهم أبناء عمرو بنم قيس وكانت منازل عدوان الطائف ثم غلبتهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة، ومن عدوان عامر بن الظرب العدواني حكيم العرب، ومن حكمه:
من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به. للكثرة الرعب، وللصبر الغلبة. رب أكلة تمنع أكلات.
ومنهم ذو الإصبع العدواني، ومن شعره العذب:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني فتخزوني
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... عن الضيوف ولا خيري بمنون
ولا لساني على الأدنى بمنطلق ... بالفاحشات، ولا أغضي على الهون
ماذا علي وإن كنتم ذوي رحمي ... أن لا أحبكمو إن لم تحبوني
كل امرئ صائر يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
وكانت منازل فهم بنجد ومن فهم الشاعر المشهور الأعشى وتأبط شراً أحد الفتاك والعدائين المشهورين.
5 - هوازن: وكانت ديارهم بنجد والعالية شرقي المدينة ومكة إلى الطائف. ولهوازن فروع كثيرة منها ثقيف الذين كانوا بالطائف وما حولها، ومن ثقيف الحارث بن كلدة طبيب العرب، وأمية بن أبي الصلت الشاعر، والحجاج بن يوسف الثقفي.
وكانت ثقيف تخص (اللات) بالزيارة والهدية وسدنتها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناء، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله (ص) المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها، وفي ذلك يقول شداد بن عارض الجشمي حين هدمت وحرقت وينهي ثقيفاً عن العود إليها والغضب لها:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف نصركمو من ليس ينتصر
إن التي حرقت بالنار فاشتعلت ... ولم تقاتل لدى أحجارها، هدر(817/20)
إن الرسول متى ينزل بساحتكم ... يظعن، وليس بها من أهلها بشر
وكان لهوازن أيضاً صنم أسمه (جهار).
ومن هوازن سعد بن بكر الذين استرضع فيهم ر رسول الله (ص)، وكانوا بنجد شرقي مكة، وهم الذين عناهم رسول الله (ص) حينما أمال في قراءته (يحيى) وسئل في ذلك: هذه للغة الأخوال بني سعد.
ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة الذين منهم بنو نمير وبنو كلاب وبنو كعب، وأولئك هم الذين عناهم جرير بقوله يهجو الراعي النميري الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
ومن كعب بنو عقيل رهط توبة بن الحمير وليلى الأخيلة الشاعرين العاشقين.
ومن بني عامر أيضاً بنو هلال منهم أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوج النبي (ص)، ومنهم بنو جشم الذين منهم دريد بن الصمة صاحبالبيت المشهور المتمثل به:
نصحت لهم نصحي بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وكانت مساكن نمير بنجد ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق شمالا. وكانت كلاب وكعب بلادهم بنجد مما يلي تهامة، وكانت كلاب أقرب إلى المدينة في حمى ضرية والربذة وفدك، ثم انتقل بنو كلاب في الإسلام شمالي الشام حول حلب. وكان بنو هلال في الجاهلية بنجد، ثم ساروا في الإسلام إلى مصر ثم إلى المغرب وكانت منازل جشم في السروات قريباً من قبيلة هذيل.
قبيلة هذيل:
هم أبناء هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. كانت ديارهم بالسروات وسراتهم متصلة بجبل غزوان بالطائف، وكانوا يعبدون من الأصنام (سواعاً) وسدنته منهم، وفي ذلك يقول رجل من العرب في القرشيين:
تراهم حول قبلتهم عكوفاً ... كما عكفت هذيل على سواع
وقد افترقت هذيل في الفتوح الإسلامية على المماليك. ومن هذيل أبو أبو ذؤيب الشاعر صاحب المرئية المشهورة التي مطلعها:
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس يمعتب من يفزع(817/21)
ومنهم سيدنا عبد الله بن مسعود الصحابي المشهور، ومن نسله المسعودي على بن الحسين المؤرخ.
قبيلة أسد:
هم أبناء أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت بأرض نحد مجاورين لقبيلة طيء من جهة وقبائل قيس وتميم من جهات أخرى وهم الذين قتلوا والد امرىء القيس وقصة ذلك وما جرى بسببها مشهورة. وقد تفرقت أسد في الفتوح الإسلامية. وكانلجديلة من طيء صنم - ولعله (الغلس) لأنه كان لطيء ومن يليها - أخذته منهم بنو أسد فتبدلوا بعده صنماً يسمى (اليعبوب) وفي ذلك يقول أحد الشعراء وهو عبيد ابن الأبرص:
فتبدلوا اليعبوب بعد آلهم ... صنماً فقروا يا جديل وأعذبوا
ومن بني أسد أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش التي تزوجها رسول اللهبعد طلاقها من زيد ابن حارثة ومنها عبيد بن الأرض والكميت بن زيد الشاعران وطليحة بن خويلد الذي كان كاهناً ثم أدعى النبوة بعد وفاة الرسول ثم عاد إلى الإسلام ومنهم زر بن حبيش الذي أخذ عنه كثير من القراء.
كنانة:
هم أبناء عبد مناة ومالك وملكان أبناء كنانة بن خزيمةبن مدركة بن إلياس بن مضر، وهم الذين يطلق عليهم كنانة حيث احتفظوا باسم أبيهم. أما أبناء النضر بن كنانة فهم الذين يطلق عليهم لقب قريش سواء كانوا قريش الظاهر أم قريش أم قريش البطاح، وهم سكان مكة وما حولها، فإذا نسبت لهجة أو لغة لكنانة لم تشترك فيها قريش.
ومساكن كنانة متفرقة، ولكنها لا تبعد عن مكة كثيراً جداً ومن كنانة شرقاً إلى الجنوب قريبين من القبائل اليمنية وهم بكر بن عبد مناة، ومنهم من كانوا غربي مكة إلى الشمال قريباً من البحر الأحمر، وكانت غفار من بكر بن عبد مناة تكاد تقرب من المدينة من غريمها.
وقد عبد جماعة من كنانة القمر، وتهود منهم جماعة ولعلهم الذين قاربوا أهل اليمن، وكان لبني مالك وملكان صنم اسمه (سعد) بساحل جدة، ومما يحكى أن رجلاً من ملكان أقبل بإبل(817/22)
له ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما دنا منه ورأته وكان يهراق عليه الدماء تقرباً إليه، نفرت منه الإبل فذهبت في كل وجه فغضب صاحبها فتناول حجراً فرماه وقال: لا بارك اللًه فيك إلهاً أنفرت علي إبلي ثم خرج في طلبها حتى جمعها ثم انصرف يقول:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد
هذا ومن غفار من بني بكر بن عبد مناة أبو ذر الغفاري الصحابي المشهور، ومنها كذلك عزة محبوبة كثير، ومن الدئل من بني بكر بن عبد مناة أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع النحو، وكذلك منها سارية بن زنيم صاحب القصة المشهورة في سيرة سيدنا عمر حيث قال له وهو بعيد عنه يا سارية ابن زنيم الجبل. . ومن بني مالك بن كنانة نسأة الشهور في الجاهلية وكذلك منهم ربيعة بن مكدوم أحد الفرسان في الجاهلية النابهين. . .
(للبحث بقية)
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(817/23)
طرائف من العصر المملوكي:
الروح القومية
للأستاذ محمود رزق سليم
الروح القومية عاطفة عامة، وإحساس مشترك بين بني الوطن الواحد، تشعرهم بأنهم مجموعة من الناس، من الخير لهم أن يأتلفوا ويتحدوا، ليكون لهم من وراء ذلك قوة يستطيعون بها أن يتغلبوا على صعاب الحياة وعقباتها، في الداخل والخارج، وتحدد لهم أهدافاً خاصة يرون فيها حفظاً لكرامتهم، وإحقاقاً لحقهم، وتغذية لنزعاتهم، وإقراراً لآمالهم.
ويتركز حب هذه الأهداف في نفوسهم تركز العقيدة، إيماناً بها وإيثاراً لها. لذلك يسعون جاهدين في سبيل بلوغها، مضحين بكل مرتخص وغال، من رأي ونفس ومال.
والروح القومية في الأمة مثلها مثل الكائن الحي، يولد ويتغذى وينمو ويقوي ويعمل ويوجه. ولها عوامل لميلادها وغذائها ونموها وقوتها، كما أن لها عوامل مضادة مناقضة، إذا هي صادفتها أضعفتها، وكبتها وأماتها.
وعوامل نموها وقوتها كثيرة متعددة لا مجال لحصرها والحديث عنها الآن، ولا لتوضيح أثرها؛ ولكننا نذكر أن من بينها اتحاد أبناء الوطن قي الوطن واتفاقهم في الجنس واللغة والدين وتجانسهم في الثقافة وتعرضهم لعوامل اقتصادية مشتركة أو لأخطار خارجية أو داخلية متشابهة، وكذلك قيام أفذاذ الرجال من بينهم وقادة الفكر الذين ينزعون نزعة وطنية خالصة من الشوائب، فيوقظون وينبهون ويحمسون ويوجهون، ويضرمون نار البعث والنشور، حتى تفيق الأمة من سباتها، وتتنبه من غفلتها، وتعرف لنفسها كرامتها وحقها، وتسعى لإدراك آمالها.
ومن عوامل لإضعافها تتابع الغارات الخارجية وطول العهد بالاستعمار، وضعف الثقافة واضطرابها، وانتشار الأوباد واستبداد الولاة ونحو ذلك.
وبمقدار ما يتاح للأمة من عوامل القوة، تذكو فيها الروح القومية، وتنشط النزعات الوطنية، ويقوى الرأي العام، ويفرض مناهج الأمة في السياسة والإدارة والاقتصاد والتعليم والأوضاع الاجتماعية، وغير ذلك.
وبعد فهل كانت بهذه البلاد المصرية العزيزة إبان العصر المملوكي روح قومية ونزعات(817/24)
وطنية ترمي إلى المحافظة على الكرامة العامة، ورعايةالحقوق؟ وإذا كانت هناك روح، فما مظاهرها وما عوامل حياتها؟ وإن لم تكن هناك روح، فما الأدلة على ذلك، وما الأسباب التي وجهتها الأقدار سهاماً إلى هذه الروح، فقضت عليها؟
الحديث في ذلك يطول، لا يستوعبه مقال واحد؛ إذ البحث فيه يتطلب النظر الطويل في التاريخ وفي النظم الإدارية والأحداث الاجتماعية، وفي أنواع الثقافة وأصباغها، وتتبع نزعات العامة، وتلمس مصادفاتها التي تخرج فيها عن وقارها، وعن حياتها الآلية العادية، في تلك العصور الوسطى التي امتحنت فيها الأمة بطغيان سلاطينها واستبداد أمرائها وعبث جندها وتراخي كثير من علمائها عن إصلاح إدارتها.
لقد انضوت مصر تحت اللواء العربي، واندمجت في نطاق الأمم العربية، بعد الفتح العربي. ولا غضاضة على روحها القومية من هذا الانضواء والاندماج، ما دامت قد رأت في الإسلام عدالة فياضة، ومساواة كاملة، وأخوة نقية، وأنست في الحاكم الإسلامي رعاية عامة ونزاهة تامة، وتسامحاً كريماً، وحباً للخير.
ولكن جرت الأحداث في الدول الإسلامية، بعد، على غير ما يشتهي الإسلام، فانساقت مصر إلى الانفصال والاستقلال وأخذت سمتها نحوهما، واستردت روحها القومية حريتها في الظهور والعمل.
وبدأ ذلك بدءاً جميلا منذ العصر الطولوني، وما زال حتى كان تمهيداً حسناً للعصرين الفاطمي والأيوبي اللذين استقلت فيهما مصر استقلالا كاملا أكثر من ثلاثة قرون، وغزت جنودها باسمها في البلاد المجاورة وفرضت سيطرتها، وحملت أعباءها كاملة إبان الحروب الصليبية.
فلما آلت سلطنة مصر إلى حكم المماليك وجدوا فيها أمةمستقلة غازية حاكمةاتسعت رقعة مملكتها خارج حدودها، وعنيت بنشر ثقافتها عناية محمودة، فوجدوا من هذا، الأساس الوطيد لبناء مجيد.
وكنا نرجو لو أن المماليك نهجوا في سياستهم الداخلية منهجاً يرمي إلى إعزاز الشعب وإنهاضه، والسمو بمستواه الروحي، واتبعوا إزاءه هذا النهج الحميد الذي اتبعه وإلى مصر ومحييها الكبير محمد علي، بعدهم بنحو ستة قرون. . إذاً لاستطاع الشعب المصري أن(817/25)
يغير وجه التاريخ، وأن يفرض سيادته - على الأقل - على هذه الرقعة الواسعة من غرب آسيا أكثر مما فرض. ولتحققت لمصر على يدهم، أحلام محمد على، الذي صادفته عقبات لم يكن لها وجود في العصر المملوكي، كأتمار الدول الأوربية به، ووقوفها سداً منيعاً وعصبة واحدة في سبيل توسعه. ولكن المماليك تجاهلوا الشعب وأنكروا مواهبه وتناسوا حقوقه، وفرضوه بقرة حلوبا تدر لهم وهم ملاكها.
حقا! قد كونوا لأنفسهم جيشاً عظيما كثيفا مزوداً، حفظوا به كيان دولتهم وفرضوا مهابتها ووسعوا رقعتها، وحكموا به فيما حكموا البلاد الشامية والحلبية والحجازية، حتى أصبحت سلطنتهم أقوى سلطنات المسلمين شرقاً وغرباً. وفي هذا ما فيه من إعزاز لمصر، وتقوية لمعنوياتها، وتنشيط لروحها.
غير أنهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً، وراشوا للروح القومية سهاماً قاتلة جديرة بالقضاء عليها، قمينة بأن تورث في النفوس ضعف الثقة بكفايتها، والارتياب بمواهبها، والشك في نباغتها.
لقد كان منهم الجافي الطبع الكثير الصلف، المتتابع الجور السريع إلى تقرير الضرائب الفادحة، العاجل إلى المصادرات الظالمة، المبالغ في فرض الغرامات المالية والعقوبات.
حقاً كان السلاطين والأمراء في طليعة ملوك الإسلام وأمرائه احتضاناً لشرعه، وتشجيعاً للعاملين على نشر سننه، واحتفاظاً ببلاده. ولقد احتضنوا الخلافة بعد زوالها من بغداد، فجددوا لها شباباً، وألقوا عليها ثياباً، وأنشئوها نشئاً آخر منذ عصر الظاهر بيبرس. وهي على علاتها قد جعلت القاهرة - فيما جعلها - رمزاً ومحوراً تطيف به قلوب المسلمين.
ولكننا لا ننسى أنهم كانوا يباينون أهل البلاد وعامة شعبها في اللغة والجنس، ولم يحاولوا السير خطوة واحدة في سبيل محو هذه الفوارق الأصلية الجوهرية، التي من شأن بقائها وطول قيامها أن تصيب الروح القومية في الصميم، وتعمل على هدم الكيان الوطني، والفرقة بين عناصر الأمة.
بل لا نغلو إذا قلنا إنهم بكثير من تصرفاتهم، وبألوان من فهمهم السقيم قد زادوا هذه الفرقة وعملوا على هذا الهدم.
ونقصر حديثنا هنا على ثلاثة عناصر ذات مساس مباشر بالنواحي المعنوية في النفوس،(817/26)
مبعث الروح القومية الصحيحة، وهي ملكية الأراضي الزراعية، والجندية، والتعليم.
أما ملكية الأراضي الزراعية فقد حرموها على أهل البلاد، وقصروها على الطبقة الحاكمة، وهي المكونة من السلطان وأمرائه وجنودهم، ولعل لهم عذراً إذ وجدوا مثل هذا النظام الإقطاعي كان قائماً من قبلهم في عهد بني أيوب وغيرهم، وقد قسموها على أنفسهم، واتبعوا في تقسيمها أحد نظامين يسمى كل منهما (الروك) وهما الروك الحسامي نسبة إلى ملك مصر حسام الدين لاجين، والروك الناصري نسبة إلى ملك مصر الناصر محمد بن قلاوون.
والنظام الناصري هو الذي اتبع في أكثر أعوام العصر. ويتلخص في أن الأرض الزراعية تقسم إلى أربعة وعشرين قيراطاً. . للسلطان منها عشرة، وللأمراء والجنود أربعة عشر. ويختلف عنه النظام الحسامي في نسبة الأنصبة.
ثم قسمت الأراضي إلى قطع ذات مساحات مختلفة، كل منها يسمى إقطاعاً. يهب السلطان منها ما يشاء للأمراء والجنود في حدود النسبة المبينة المتفق عليها. والإقطاعات لا تورث بل ترد إلى السلطان بموت أصحابها. وكذلكيستردها السلطان إذا شاء لسبب من الأسباب، أو يستبدل بها غيرها.
وصاحب الإقطاع يستغل أرضه وينتفع بثمراته كما يشتهي وفق هواه، مستعيناً بمن يسكن في الإقطاع من الزراع.
ونحن لا نريد هنا أن نفيض في وصف تلك النظم الشائنة. وإنما همنا أن نشعر القارئ الكريم بما كان يعانيه المواطن المصري، وبخاصة الزراع؛ فقد حرم عليه أن يملك أرضاً ولد فيها جده وأبوه، وبنياته وبنوه، ووهب لها كل ما في قلبه من حب، وما في جسده من قوة. ثم هو لا ينتفع بشيء من غلاتها يتناسب وما يبذل في سبيله من جهد وكد وكفاح وعرق. فأية غضاضة ترين على نفسه وأية مرارة تفيض على فؤاده، وأي ضعف ينتاب روحه، وأي وهن يصيب معنوياته حينما يشعر بما يعانيه من حرمان وقسوة وشظف عيش. . .؟
لقد عرف الزارع حينذاك بأنه (فلاح). فقد قال المقريزي ما نصه: (ويسمى المزارع المقيم بالبلد (فلاحاً) قرارأً، فيصير عبداً قناً لمن أقطع تلك الناحية، إلا أنه لا يرجو قط أن يباع(817/27)
ولا أن يعتق، بل هو قن ما بقي، ومن ولد له كذلك).
وقد لبث الفلاح المصري محروما ملكية أرض بلاده الزراعية والانتفاع الحر بثمراته، حتى صدرت لائحة الأراضي في عهد سعيد باشا، فأباحت له الامتلاك والانتفاع، لأول مرة.
أما الجندية والتعليم فقد سبق لنا أن أشرنا إليهما في بعض هذه المقالات. ولقد كان بالبلاد نوعان من التعليم: عسكري وشعبي. أما التعليم العسكري فقد كان مقصوراً على طائفة المماليك دون سواها لكي تتكون منها جنود الدولة والطبقة الحاكمة من أمراء وسلطان. وكان المدد التقليدي لها، المماليك الجدد الطارئين على البلاد أرقاء من الأسواق الخارجية. ولا يسمح لأي فرد من أفراد الشعب بالانتظام في سلك الجندية، ولا أن يتعلم في طبقاتها. كأن المهارة العسكرية وقف على طائفة المماليك دون سواهم، وموهبة خاصة خلقتها العناية فيهم. وفي هذا ما فيه من إضعاف للروح القومية، وقتل للثقة بالنفس، فكنت ترى الشعب وكأنما استقر في أفئدة أبنائه أنهم لا يصلحون لحرب أو ضرب، وأنهم غير أكفاء للدفاع عن أنفسهم ووطنهم.
غير أن من الإنصاف أن نذكر أن الوطني المصري الصميم لم ينعم بالانتظام في مسلكالجندية ببلاده منذ زمن بعيد جداً، قد يصل إلى ما قبل العهد الروماني، ولم يرد إليه هذا الحق الطبيعي إلا منذ النهضة الحديثة في عهد محمد علي.
أما التعليم الشعبي فكان في جماع أمره دينياً ومكانه المساجد وما شابهها من دور التعليم. وقد أغدق عليه السلاطين إغداقاً محموداً وعنوا به عناية مذكورةمشكورة، وكذلك فعل الأمراء والرؤساء.
وقد وجد الشعب في هذا الضرب من الثقافة شيئاً يعوضه ما حرمه من التعليم العسكري، فكان فيه متنفس لمواهب أبنائه. ومن حسن الحظ أن طائفة المماليك لم تشارك الشعب في الأخذ من هذه الثقافة بنصيب إلا لماماً لماماً - وقد يكون هذا من سوء الحظ كذلك - فاتسع نطاق العمل أمام أبنائه الذين يتخرجون في هذا التعليم الشعبي الديني، وسموهم المتعممين، ووكلت إليهم مناصب القضاء الشرعي، والكتابة، وما إليهما من الأعمال.
وأهم ما يشوب هذا الضرب التعليمي أنه كان يقدم إلى الشعب صدقة عليه وإحساناً، لا(817/28)
على أنه حقه يؤدي إليه.
ومهما يكمن شيء فاختلاف الثقافة هذا الاختلاف الصارخ بين العنصرين، وحرمان الشعب من التعليم العسكري - فضلاً عن الاختلاف في اللغة والجنس - كان له أثره في شجب هذه الأمة والتفريق بين طوائفها، وخلق جو من الشقاق والحقد والشك بينها.
وهذه العوامل كلها من دأبها أن تشيع الغربة بين طبقات الشعب، وأن تسلط بعضها على بعض، فيستأثر البعض بالنعيم والسلطان، ويبوء الآخر بالفقر والحرمان. ولا يتحقق بينهم معنى التعاون الصحيح الناشئ عن الشعور العميق بالواجب ومقتضياته. ولهذا يروي ابن إياس أن الشعب امتنع عن دفع الضرائب للأشرف طومان باي سلطان مصر حين الفتح العثماني مع حاجة هذا السلطان الشديدة إلى الضرائبالمذكورة. وكانت حجة الممتنعين أنهم لا يدرون حينذاك لمن البلاد! أللمماليك هي أم للعثمانيين الغازين؟ فهم ينتظرون ريثما ينجلي القتال ويعرف ولي أمر البلاد الشرعي، فتؤدي إليه الضرائب. . .
على أن جميع العوامل التي انتابت الأمة المصرية في ذلك العصر، لو انتابت أمة غيرها لقضت عليها القضاء الأخير، وشتت شمل بنيها، وفرقتهم أيدي سبأ، ولعانى الزمان معجزة إذا هم بجمع شملها ولم شعثها مرة أخرى.
ففي بقاء هذه الأمة، وفي حرصها على الذود عن كرامتها، والدفاع عن حقها، والسعي لإدراك أملها، ما يدل دلالة واضحة على مذ خورها العظيم من القوى الروحية والمقومات المعنوية.
وقد بدت منها هذه الروح في عصر المماليك في مناسبات كثيرة ومظاهر جمة. وأبرز تلك المظاهر هذه المكانة التي تبوأها علماء الدين وفقهاء الشريعة. فقد كانوا من صميم الشعب وناشئته وآلت إليهم - كما نوهنا - مناصب والكتابة والتدريس والفتوى ورعاية الوقف وأموال اليتامى وما إلى ذلك، فأصابوا حظاً وفيراً من الفقه والعلم والدين والمال جميعاً، أنبت في نفوسهم عزة ومنعة، وفي أفئدتهم أنفة وإباء، فكان كثير منهم يتأبى إلا على الحق، ويترفع إلا عن العدالة. وكانوا بطبيعة نشأتهم، وبطبيعة عملهم الرسمي وغير الرسمي، ألصق بالشعب وأدنى صلة به وأكرم هيمنة عليه، وأقدر على التأثير فيه. ولهذا خشيهم السلاطين وتملقوهم لكي يدرءوا عن أنفسهم مغبة سخطهم، ورحبوا بالوافدين منهم الأمصار(817/29)
الإسلامية، الفارين من وجه، الطغاة والغزاة ببلادهم. وأخذوا يستشيرون النابهين منهم في كثير من أمور الدولة، وبخاصة إبان الأزمات.
ومنهم عز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، كان ذا مهابة وجلال، توقف عن مبايعة الظاهر بيبرس بالسلطنة، فعطلت المبايعة حتى ثبتت له عتقه. ومنهم أمين الدين يحيي الأقصرائي الذي كف يد قايتباي - على قوته وجبروته - عن المساس بمال الوقف، وقد أراد الاستيلاء على شيء منه للأنفاق على حروبه، ولهذه الحادثة أشباه.
على أن العلماء أنفسهم كانوا لا ينون يبذلون البذل الشديد والجهد الجهيد في نشر الدين القويم بين الناس، وبث الشريعة السمحة، والدعوة إلى العمل بها واتباعها، وتميز الحلال من الحرام، فقعدوا للتدريس العام في المساجد، وتصدوا للفتوى العامة، يقصدهم من أجلها القصاد، ويراسلهم بها المرسلون من فجاج العالم الإسلامي، فنهضوا بهذا العبء أفضل نهوض، وجرى الجدل بين بعضهم والبعض بسبب هذه الفتاوى والمساءلات. والعامة تترقب نتيجة الجدل وعاقبة النقاش، وتتعصب للبعض على البعض، وتتحيز لفريق دون فريق، فكان من وراء ذلك حركة ذهنية فكرية لا بأس بها ذات مساس بالعقيدة، ووجد الناس فيها عوضاً عن هذا الكبت السياسي، وبديلا من هذا الحرمان العسكري، ومتنفساً عن هذا الاختناق.
ومن المظاهر الحية لتلك الحياة الفكرية المحاكمات التي جرت على بعض العلماء المجهدين - كابن تيمية الحراني وتلميذه ابن القيم - بسبب بعض آرائهما وأدى ذلك إلى سجنهما واشترك في الجدال عدد جم من أفاضل علماء العصر، وألفت في موضوعاته شتى الرسائل والمؤلفات.
وفي عهد الأشرف قايتباي قامت فتنة كبرى بين العلماء وتابعهم فيها العامة، واشترك في لجتها العلماء. وكانت بسبب الشاعر الصوفي عمر بن الفار - أحد شعراء العصر الأيوبي - وما ساقه من ألفاظ وعبارات في تائيته المشهورة، مما رمزبه إلى الذات الإلهية. فكفره بعضهم ونسبة إلى الحلول، وأعتذر له البعض بضيق اللغة عن أداء معانيه النفسية، وكانت ضجة كبرى ضلت زمناً، وألفت فيها الرسائل والمقالات والبحوث والأشعار، وأوذي بسببها بعض العلماء، حتى حسمها السلطان بفتوى كتبها شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وكانت(817/30)
في صالح ابن الفارض.
وإذا علمنا أن الدول الإسلامية في تلك العصور كانت تقوم على أساس من الدين متين - والدين أهم دعائمها - تبين لنا خطر مثل هذه الفتن والمشكلات، وفهمنا أنه تمت بصلة ما إلى سياسة الدولة وعقلية الجماهير ومشاعرهم.
من هذه الحوادث وأشباهها نستدل على أن روحالمعارضة والإقدام على النقد كانا على ضرب من الحياة محمود، والنقد والمعارضة الصالحة بعض مظاهر الروح القومية ومقومات الرأي العام
وقد سبق لنا في إحدى هذه المقالات أن تحدثنا عن النقد الاجتماعي وبينا كيف تناول كثير من الأدباء والشعراء الحياة الاجتماعية بالنقد المرير السافر، فنقدوا الأسرة ونظامها وعلاقات أفرادها بعضهم بالبعض، والنظام الإداري وما فيه من فوضى واضطراب وقلق وسرقات وادعاءات ورشوة ومحاباة وظلم وما بين طوائف الأمة المختلفة جنساً ولغة وديناً من أحقاد وأحن. وقد مزح بعض الشعراء نقده اللاذع بالتورية والفكاهة والدعابة فخرج مخرجاً كيساً مقبولا.
والحق أن الشعب المصري كان - على علاته - ذا إحساس سياسي ناقد عجيب، شارك به في حادثات بلاده على اختلاف ألوانها. يبدو لنا ذلك مما يقحمه بعض المؤرخين - كابن إياس - من العبارات في ثنايا روايتهم التاريخية كقولهم في سياق حادثة ما:
و (كثر القيل والقال) و (أرجف الناس) و (فأشيع بين الناس) و (فضج الناس له بالدعاء) إلى نحو ذلك من العبارات. وأذكر أن ابن إياس قال في إحدى عباراته ما مؤداه: (إن أهل القاهرة ما تطاق ألسنتهم، ويل لامريء تقع عيونهم منه على مذمة) هذه العبارات وأشباهها تشعرنا بوجود ذلك الإحساس الذي أشرنا إليه، وإن كانت ساذجة غامضة. غير أن هذا الإحساس لم تتح له حرية كافية للظهور والعمل خوفاً من المستبدين الطغاة، ولم ينضج نضوجاً كافياً يسمو به إلى تكوين رأي عام له أثر في سياسة الدولة وإرادتها.
على أن التاريخ يحدثنا أن الشعب كثيراً ما نهض إلى معونة حكامه في حروبهم الخارجية، وقدم إليهم ما طلبوا من الدواب والغلال والمال، ولم يتأب كثيراً على الضرائب التي يفرضونها عليه، ولكنه كان يتأبى عليها ويقاومها إذا كانت فادحة ظالمة. ومثال ذلك ما(817/31)
حدث في عهد الأشرف الغوري، فقد فرض ضريبة جائرة ضج لها الناس وثاروا في وجه نائب سلطنته وغيره من الأمراء، وعرضوا لهم في الطريق ورجموهم بالحجارة، فأعمل المماليك فيهم السيف وقتلوا منهم وأثخنوا فيهم.
والذي نحب أن نخلص إليه - ما سبق أن نوهنا به - وهو أن هذا الشعب المصري الكريم - على علاته - تكمن فيه روح قومية فطرية قويمة سليمة تحتاج إلى ما يظهرها ويحسن توجيهها ويسير بها في الطريق السوي بما يعود بالنفع والعزة لهذا الوطن الكريم.
محمود رزق سليم
مدرس الآداب بكلية اللغة العربية(817/32)
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 4 -
وتنوعت سفن الأسطول، فكان منها الشواني وهي أكبر السفن الحربية في مصر وأكثرها استعمالا، وكانت أهم القطع التي يتألف منها الأسطول، وهي سفن حربية كبيرة تتخذ الأبراج العظيمة والقلاع، وتزود بالعدد الحربية، وتجهز بالأسلحة والنفطية لتستعمل في الهجوم على الأعداء والدفاع عن نفسها إذا هاجمها العدو، وبها اللجام وهو حديدة طويلة محدودة الرأس تقذف به سفن العدو لتفرقتها. وبها أيضاً كلاليب وهي خطاطيف كبار من الحديد تطرح عليها فتوقفها. ومنها الجلاسات مفردها جلاسة وهي نوع من السفن الحربية الكبيرة تسير بالشراع والمجاذيف وهي أثقل وأقوى من الشيني. والمسطحات وهي من أكبر سفن الأسطول. وكذلك السلنديات وهي مراكب حربية كبيرة مسطحة لحمل المقاتلة والسلاح وتعادل في أهميتها الشونة والحراقة. والبطسات وهي من أشهر أنواع السفن في أيام الحروب الصليبية، قد يكون لها أربعون قلعاً كانوا يشحذونها وقت الحرب بالآلات والأقوات والميرة والرجال والمقائلة والأسلحة وآلات الحصار وكانت تحمل آلاف الجند، ولها أسطح عالية، وطبقات كل طبقة خاصة بفئة من الجيش. والغربان ولا يبعد أن يكون أسمها مأخوذاً من أسم الغراب لأن مقدمتها على شكل رأسه، وهي تحمل الغزاة وسيرها بالقلع والمجاذيف منها ما له مائة وثمانون مجذافاً. والعشاريات وتجر بعشرين مجذافا، ولعلها كانت خاصة بالرؤساء، كما يفهم من وصف عبد اللطيف البغدادي لها. والقوارب نافعة لغزاة المسلمين وقت الحرب في البحر، يكون في كل قارب أربعة أو خمسة من الرماة يعينون غربان المسلمين على قتال غربان الإفرنج وقراقيرها. والبركوشات وهي مراكبصغار.
ومنها الحراقات وهي نوع من السفن الحربية كانت تستخدم لحمل الأسلحة االنارية، وكان بها مرام ومنجنيقات تلقى منها النيران على العدو، وكان في مصر نوع آخر من الحراقات(817/33)
في النيل استخدم لحمل الأمراء ورجال الدولة في الاستعراضات البحرية والحفلات الرسمية.
والحمالات وهي مراكب تحمل الأزواد للرجال، وآلات الحرب والحصار من الأخشاب الكبار والدبابات وأبراج الزحف وغير ذلك، ويكون فيها غلمان الخيالة وصناع المراكب؛ والقواقير، ولا تقف إلا في المكان الغزير الماء لأنها سفن عظيمة تحمل الزاد والكراع والمتاع للأسطول؛ والطرائد وهي سفن صغيرة سريعة الجري كانت تستعمل غالباً لحمل الخيل وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرساً.
والشيطي ووظيفته الكشف والاستطلاع.
وعني الخلفاء والسلاطين بتوفير الخشب للأسطول فكانوا يعينون له الحراج ومنها ما هو بالوجه القبلي في البهنسا وسقط والأشمونين وأسيوط وإخميم وقوض وغيرها، والحراج أشجار من سنط لا تحصى كثرة في أرجاء المملكة، ويأمرون بحفظها، وألا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وأحياناً تصنع من خشب الجميز، وهو الخشب الذي جهز به الظاهر بيبرس شوانيه بدل ما تحطم له عند قبرص، وحيناً يستخدم له شجر الأثل والنبق والسرو، وكثيراً ما كانت الأخشاب تجلبمن بلدان أوربا الجنوبية على أيدي البنادقة.
وكان لصناعة الأسطول ثلاثة أماكن بمصر هي جزيرة الروضة ودمياط والإسكندرية، وموانيه التي كان يرابط بها هي دمياط والإسكندرية وعيذاب على شاطيء البحر الأحمر وعسقلان وعكا وصور وغيرها من سواحل الشام قبل أن يغلب الفرنج عليها.
والظاهر أن جند الأسطول في العصر الفاطمي كان مكوناً من المغاربة لمعرفتهم بمعاناة البحر، وفي عهد صلاح الدين استخدم جنوداً مغربية كذلك وجنداً من المصريين الأقوياء الأشداء، وظل المصريون هم المورد الأساسي للأسطول حتى بعد انتقال السلطان إلى المماليك فإنا نجد بيبرس يجهز أسطولا لغزو قبرص، فيه الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور رئيس مصر، وشهاب الدين محمد بن عبد السلام رئيس الإسكندرية، وشرف الدين علوي بن أبي المجد بن علوي العسقلاني رئيس دمياط، وجمال الدين مكي بن حسون مقدماً على الجميع، فلما جاء خليل بن قلاوون رتب بالأسطول عدة من المماليك السلطانية وألبسهم السلاح وإن كان الجند المصري له الغلبة أيضاً وكذلك جند المماليك في الأسطول(817/34)
في عهد الناصر بن محمد بن قلاوون.
وكانت التعبئة الحربية تشبه أختها أحياناً، فقد يصنع أمير البحر من سفنه وجناحين ومقدمة وساقة وقد يصنع مراكبه على شكل نصف دائرة حتى إذا حاول العدو الاقتراب منها أحاطت به، وقد يقابل أمير البحر عدوه بمراكبه صفوفا ًمستقيمة فتنطح مراكبه مراكب العدو باللجام قريباً من مؤخرها لتغرقها، أو يشغل أمير البحر مراكب خصمه ببعض المراكب ثم ينقص عليه مرة واحدة من ورائه وهكذا.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(817/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
كاتب لا يعرف قدر نفسه:
سلامة موسى هو الكاتب الذي أعنيه. . . ولو كان يعرف قدر نفسه لما تهجم على أستاذين يعرف قدرهما المثقفون لا أنصاف المثقفين من قرائه والمعجبين به!.
لقد كتب حضرته كلمة في العدد (188) من مجلة المسامرات عن الشاعر الألماني جيته تحت عنوان (مثلي الأعلى). . . ومن حسن حظ الشاعر الخالد أنه ودع الحياة قبل أن يعلم أنه مثل أعلى لسلامة موسى، وقبل أن يقرأ كلمة يستطيع أن يكتبها عنه بعض النابغين من طلبة المدارس الثانوية!.
لا يهمني أن أنقل للقراء ما كتب هذا الرجل في مجال الحديث عن جيته، لأن صفحات (الرسالة) تضيق بهذا الطراز من المعلومات التي يعرفها صغار الطلاب. . . ولكن يهمني أن أنقل إليهم هذه الفقرات التي تكشف عن مركب النقص في الشخصية الأدبية:
(وقد ترجم من كتب جيته إلى العربية كتابان الأول آلام فرتر الذي ترجمه و (ألفه) الأستاذ أحمد حسن الزيات، والثاني فاوست الذي ترجمه الدكتور محمد عوض محمد. . . وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصتي الشاعر الألماني، وعلى من يريد الوصول إليه أن يرجع إليهما في الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية)!.
هذه كلمات رجل يتقلب على جمرات محرقة من مركب النقص، ومركب النقص في حياة سلامة موسى أنه تناول قلمه ليكتب منذ ربع قرن، ومعذلك فهو ينظر فيجد نفسه في مؤخرة الصفوف. . . من هنا ينبع حقده الدفين على هؤلاء الذين ارتقوا سلم المجد الأدبي في وثبات وخلفوه على الأرض!.
ترجمة الزيات عن الأصل الفرنسي لا تعجب سلامة موسى، وترجمة عوض محمد عن النص الألماني لا ترضي سلامة موسى. . . وعلى الذين يريدون الوصول إلى الروح الأصلي أن يرجعوا إلى سلامة موسى وقلمه، قلمه الذي يذكرني بأقلام المترجمين في روايات الجيب!.
مركب النقص ولا شيء غير مركب النقص. . . ولن يغير هذا المركب البغيض شيئاً من(817/36)
هذه الحقيقة المؤلمة التي يحس لذعها الرجل، وهي أنه يوم تؤرخ هذه الفترة من أدبنا العربي المعاصر فلن يذكر فيها أسمه إلا في مجال التسجيل الإحصائي!.
إن الثقافة المهوشة والمعومات المبعثرة لا يمكن أن تحتل مكانها في تاريخ الأدب، إلا إذا قدر لتاريخ الأدب أن يكتبه المعجبون بقلم الأستاذ سلامة من قراء (النداء)!!.
كرافتشنكو مرة أخرى:
إنك تذكره بلا ريب. . هذا الموظف الروسي الكبير صاحب (آثرت الحرية). ولقد حدثتك في عدد مضى من (الرسالة) عن الكتاب وصاحبه، وعن تلك الضجة التي أثارتها حوله مجلة (لي ليتر فرانسيز)، وهي الضجة التي شغلت الرأي العام الفرنسي قبل أن تأخذ طريقها إلى القضاء، وشغلت الرأي العام في العالم بعد أن دفع بها كرافتشنكو إلى أيدي العدالة مطالباً بمعاقبة خصومه طبقاً لنصوص القانون!.
يقول خصوم المؤلف الروسي إنه كذاب يبرأ منه كتابه بكل ما حوى من تضليل وخداع. . . ويقول كرافتشنكو إن لديه الدليل على صحة كل رأي سجله، وكل قصة أتى بها، وكل حادث أورده وأستند إليه. والرأي العام بعد ذلك موزع الفكر بين مزاعم ومزاعم، وبينوثائق ووثائق، وبين شهود وشهود، يترقب اليوم الذي يقول فيه القضاء كلمته. . . وإنها لكلمة تقرر مصير الكتاب ومستقبل صاحبه، وتحدد مكان الخصوم وسمعة الصحيفة الفرنسية.
كرافتشنكو في رأي خصومهه سكير ومحتال وجاهل وكذاب وخائن. ولكن تجريحهم لشخصيته يستند أول ما يستند إلى تلك الدعامة الكبرى من دعائم الاتهام وهي الكذب. أنهم يسلكون شتى الطرق بغية الوصول إلى هذا الهدف الذي تتحطم على صخوره كل حقيقة من حقائق (آثرت الحرية)، وهو أن كرافتشنكو كذاب بالطبع والسليقة.
في هذه الدائرة يحصر القائمون على أمر المجلة الفرنسية جهودهم ويستمدون أدلتهم من واقع الكتاب وواقع الحياة. أما واقع الكتاب فقد قدمت إليك منه ثلاثة نماذج لثلاثة أسئلة وجهها الخصوم إلى صاحب (آثرت الحياة) عن بعض ما عرض له من وقائع هي في رأيهم أوهام وأباطيل. وأما واقع الحياة فقد خطر لهم أن يواجهوا كرافتشنكو بزوجته السابقة لتدلي برأيها فيمن كان أقرب الناس إليها، تلك التي كانت في يوم من الأيام أقربهم إليه. . . ومرة أخرى يقف كرافتشنكوا في مهب العاصفة! إن الزوجة السابقة تقف اليوم في ساحة(817/37)
القضاء لتنعت زوجها بالكذب وسوء الخلق وانحراف الطبع، وإنها لتنتزع الأدلة على صدق قولها من أعماق الذكريات، ومن واقع تلك الفترة التي جمعت بينهما تحت سقف واحد ثم دفعت بكل منهما إلى طريق. . . ولقد كان زواجهما منه جحيماً لا يطاق، خرجت منه بطفل تدعو الله ألا يرث شيئاً من أخلاق أبيه!
وهنا يقف كرافتشنكو ليزأر كحيوان جريح: أن هذا الذي تنطق به محض افتراء دنيء وادعاء باطل. . . أليس عجيباً ألا أسمع إلا في هذه اللحظة بأنني أب لطفل لا أعلم شيئاً من أمره ولا متى ولد؟! أن الملقن الحقيقي لهذه الشهادة الملفقة هو الجستابو الروسي ولقد بعث بها من موسكو إلى هنا لتشهد ضدي. . . هذه السيدة المحترمة التي لقي أبوها حتفه في مجاهل سيبيريا تحت وطأة التشريد والتعذيب!
وتنهض الشاهدة مرة أخرى لتصرخ في وجهه: إنك أكبر كذاب يا كرافتشنكو. . لقد طلبت إليك يوماً أن تساعدني على تربية طفلك فضننت عليه بعطفك دون أبوتك، أما أبي فقد مات على فراشه في موسكو ولم يمت كما زعمت في مجاهل سيبيريا! وإنك بعد ذلك لفي الطليعة من صفوف الخونة. . لقد أنكرت بنوتك لوطنك بالأمس في (آثرت الحياة) وأنكرت أبوتك لولدك اليوم في ساحة القضاء!
هذه هي المفاجأة الثانية من مفاجآت القضية المثيرة التي يترقب الناس نهايتها بشغف بالغ واهتمام كبير. . وفي انتظار كلمة القضاء نستطيع أن نؤكد حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل، وهي أنه لو قدر لكرافتشنكو أن ينتصر على خصومه لكان انتصاره لطمة قاسية للشيوعية الروسية والفرنسية! ترى من سيخرج من هذا النضال مرفوع الرأس! سؤال تجد الجواب عنه في الغد القريب.
رسالة من أديب ثائر:
سيدي الأستاذ أنور،
هذه الرسالة لك وحدك لا للبريد الأدبي. . كيما أضمن الحرية لقلمي.
بلى يا سيدي، هاأنذا وقد رجعت إلى عدد (الرسالة) الماضي كما أشرت أراني قد حرت وفي مخيلتي ما أعجز عن أن أصوره بيراعي. ولقد نقلت لنا في تعقيبك على كلمة الأستاذ الصعيدي في مسرحية (الملك أوديب) بأنه إنما بني انتقاده للمسرحية على أنها من(817/38)
الأساطير، فهي من ألاعيب كهان جهلة - كما زعمت مما جعلك تسترسل في قذفك له بذلك التهكم اللاذع، حين رميته بسذاجة النظرة الخ. . ويا ليت الأمر قد وقف بك عند هذا الحد، ولكنك قد اجترحت ما لا تغفره لك لغة قومك ولغتك التي نسبت إليها النقص! وإني أحيلك يا من تعرف غير لغتك إلى البحث عن أصول فن المسرحية والمبتغى منه. . . ثم لتراجع المسرحية مرة أخرى وترجع بعد ذلك إلى رأي الأستاذ الصعيدي مدققاً النظر: هل ما أراد هو ما أردت، أم أنه رأى فيما أورده (سوفوكليس) من حوادث مضطربة في مسرحيته بعداً عن الغرض الذي سيقت له؟ وهل بلغت أوج الكمال الغني أم أنها بحق ألاعيب كهان جهلة. . .؟
وكأين من عجلة تجر صاحبها إلى حيث تتقطع راحتاه من الطرق على أبواب الندم.
وإلى الأستاذ أطيب تحياتي.
الثائر
محمد الهادي عطية
هل تستطيع أن تخرج بشيء من هذه الرسالة الرائعة؟ إنها امتحان عسير لمقدرتك على الفهم، وتجربة طريفة لاختبار مقاييس الذكاء. أما أنا فقد رسبت في الامتحان وأعلن ذلك على رءوس الأشهاد! لماذا نشرتها إذن وقد بعث بها صاحبها إلي وحدي؟ لقد نشرتها لسبب واحد، هو أن أطمئن حضرة الثائر على أن أعصابي تحتمل في كل يوم كثيراً من اللغو الذي يضيع معه الوقت والفائدة، ولأطمئنه أيضاً على أني كما أبيح لقلمي أبيحها لأقلام الناس ولو بلغو من النبوغ هذه المرتبة العالية التي بلغها السيد عطية!
لقد خشي الأديب الثائر - وأتوسل إليه أن يترفق بأعصابه حرصاً على صحته الغالية - خشي أن يبعث بكلمته إلى (الرسالة) فلا تحظى بعطف (البريد الأدبي)، ومن هنا بعث بها إلي كي يضمن الحرية لقلمه!
ترى هل اطمأن على أن كلامه القيم قد اطلع عليه القراء؟ هذا هو الأمر الوحيد الذي تقطعت بسببه راحتاي من الطرق على أبواب الندم!
من عجائب الترجمة في العصر الحديث:(817/39)
تسمع في العصر الحديث عن عجائب المخلوقات فهل سمعت عن عجائب الترجمة؟
هذا موضوع طريف أعددته للنشر والتعقيب، ولكن الأستاذ الجليل صاحب الرسالة قد سبقني إلى الإشارة إليه في ثنايا كلمته التي طالعها القراء في الأسبوع الماضي حيث قال: (يقع الحادث اليوم بمرأى من الناس ومسمع، فتحكيه الألسن وترويه الصحف، فلا تجد لسانا يوافق لسانا، ولا صحيفة تطابق صحيفة! وتقرأ صحف العاصمة في حادثة من حوادث المدن، أو واقعة من وقائع الأقاليم، أو أمر من أمور العالم، فتجد له في كل جريدة رواية تناقض كل رواية، وصيغة تعارض كل صيغة، حتى ليبلغ الخلاف بينها حد التغاير، فتراها مثلاً يوم الأحد الماضي تجمع على أن الشرطة اكتشفوا في شارع من شوارع القدس لغماً من البارود، ولكن (البلاغ) تنفرد بأن الذي كشفوه منجم من الرصاص!)
هذه هي إشارة أستاذنا الزيات إلى إحدى عجائب الترجمة حيث انفردت بها جريدة البلاغ. والخبر الذي أذاعته وكالة (اليونيتديرس) وترجمته الصحف المصرية ومنها (البلاغ) يتمثل في هذه الكلمات: (أكتشف مراقبو هيئة الأمم المتحدة لغما أرضيا في الطريق الموصل إلى بيت الحكومة في القدس، حيث يقيم أعضاء لجنة فلسطين التابعة للهيئة. وقال المراقبون إنهم تتبعوا السلك المتصل باللغم إلى أن وصلوا إلى نقطة تابعة لإسرائيل المزعومة، وإن اللغم كان في المنطقة المحايدة التي تحيط ببيت الحكومة. وأضاف المراقبون إلى ذلك أن تقريراً بهذا الحادث سيرفع إلى المستر تريجفي لي السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة. . . الخ).
لغم في كل الصحف ومنجم رصاص في (البلاغ). . والذنب في ذلك ذنب المترجم اللبق الذي رجع إلى القاموس فاكتفى بالمعنى الأول لكلمة ولم يكلف نفسه عناء الاطلاع على المعنى الثاني! ولو فرض أن المترجم (البلاغ) لا يعرف غير معنى واحد للكلمة فكيف غاب عن ذكائه أن الكشف عن منجم رصاص لا يستحق أن يرفع بشأنه تقرير إلى سكرتير هيئة الأمم المتحدة؟! كيف غاب عن ذكائه أن المعنى المقصود لا يستقيم مع (منجم الرصاص) فلابد للكلمة من ترجمة أخرى؟!
(تشنيعة) على السير ريالزم:(817/40)
قلت وأنا في نعرض الحديث عن المذهب السريالي في العدد الماضي من (الرسالة) إن هذا المذهب الجديد لا يشق طريقه في فرنسا وهي موطنه الأول بسهولة ويسر، لأن خصومه الكثيرين يهاجمونه في عنف لا هوادة فيه، ويرمون أصحابه بالدجل والخروج على كل مألوف من أوضاع الفن!. . . قلت هذا بالأمس، ويهمني اليوم أن أقدم للقراء هذه (التشنيعة) الطريفة التي يهديها خصوم المذهب السريالي إلى الرسام بيكاسو:
أقام بيكاسو معرضاً لصوره في إحدى المدن الفرنسية، وفي يوم من الأيام الزاخرة بالزوار والمشاهدين، وقف أحد الفنانين يتأمل لوحة فريدة أشير إليها بهاتين الكلمتين: (هتك عرض)! وقف يتأملها ساعتين دون أن يخرج بشيء يوضح الصلة بين اللوحة ما جاء تحتها من كلمات يأباها الذوق والسمع. . . وعند ما هم بمغادرة المكان شاكا في ذكائه سمع صوتاً ساخراً يقول له:
- ثق يا صاحبي أن ذكائك بخير. . . لقد وقفت أمام هذه اللوحة ساعتين دون أن تفهم شيئاً، فهل تعلم أنني أمامها أربع ساعات دون جدوى، أنا الذي قدمت إلى محكمة الجنايات ست مرات بتهمة هتك عرض؟!
أنور المعداوي(817/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأسمر يسطو على شعر الزين:
قال الشاعر الذي فقد منذ عام، الأستاذ احمد الزين في مطلع رثائه لشاعر النيل حافظ إبراهيم:
أفي كل حين وقفة إثر ذاهب ... وصوب دم أقضي به حق صاحب
أودع صحبي بعد واحداً ... فأفقد قلبي جانباً بعد جانب
تساقط نفسي كل يوم فبعضها ... بجوف الثرى والبعض رهن النوائب
فيا دهر دع لي من فؤادي بقية ... توصل ودود أو تذكر غائب
ودع لي من ماء الجفون صبابة ... أجيب إليها في البين صيحة ناعب
وأخيراً قال الأستاذ محمد الأسمر في تأبين المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا:
أفي كل يوم دمعة خلف غائب ... وفي كل يوم لوعة بعد غارب
رجال كأمثال النجوم فثاقب ... مضى وهو لماع إثر ثاقب
لأوشك دمعي أن تجف شؤونه ... على كل ماض ليس يوماً بآئب
إذا ما انتهينا من رثاء لذاهب ... بدأنا رثاء بعد ذاك لذاهب
أما يسترح الشعر في كل ساعة ... ورثاء لحر، أو رثاء لصاحب
وقد كان الأسمر صديقاً للزين، فهل استباح السطو على شعر صديقه الراحل بحق الصداقة؟ وهل هذا نوع جديد من الوفاء بين الشعراء؟ أو هو مذهب جديد في الأدب يقضي بإرث الصديق فيما قاله من الشعر. . .؟ أو حسب الأسمر أن الزين قد قضى وانطوى شعره، وأن أحداً لن يراه وهو يتسلل إلى مراثيه يستمد منها ما يجلجل به على المنابر؟ على أنني عجبت للأسمر وما هو بالعاجز عن النظم، أن يكون أخذه من شعر الزين هكذا ظاهرياً مكشوفاً. . دع عنك اتحاد الوزن والقافية، وانظر إلى الألفاظ والمعاني. اللهم إلا إذا قدرنا جهده الجبار في استبدال (يوم) ب (حين) والعدول عن (وقفة) إلى (دمعة) ثم تحويل (إثر ذاهب) إلى (خلف غائب) في البيت الأول مثلاً! وكأني به قد أمسك بكل بيت من أبيات الزين، فخنقه، فأخذ أجزاء منه ميتة فبنى بها بناء لا تسكنه روح، فقضاء حق الصاحب(817/42)
بسفح الدموع قضى نحبه في البيت الأول على يد الأسمر، وكذلك كان مصير فقدان القلب تباعاً من توديع الراحلين المتتابعين في البيت الثاني، وهكذا لحقت بقية الأرواح النابضة في أبيات الزين يروح صاحبها وانتقلت إليه في العالم الآخر. وانظر إلى الزين يستبقي الدهر بعض فؤاده ويسأله أن يدع من ماء الجفون، ليقضي حق الصاحب الورود ويستجيب لداعي البين حين يصيح الناعب، ثم انظر إلى الأسمر الملول الذي يطلب الراحة للشعر، فالأول يندمج في جو الحزن ويستعذب بكائه ويستبقي للآتي بعده، أما الثاني فهو ضجر من وقته من وقفته يستعجل الخلاص منها، فيقول:
أما يستريح الشعر في كل ساعة ... رثاء لحر، أو رثاء لصاحب؟
ولست أدري لم يرثي (الصاحب) إذا كان شيئاً آخر غير (الحر)! كما لا أدري معنى التنويع بين الحر والصاحب، ولم لا يكون الصاحب حراً؟
وبعد فقد كان أحمد الزين وفياً لأصدقائه الراحلين من الأدباء والشعراء، حتى لقد مراثيه عليهم، فهل هذا جزاؤه ممن رحل عنهم من الأصدقاء؟ لكأنه كان يقول في نفسه حينما قال في حافظ:
وفيُّ الرسل بين معاشر ... نصيب الحمى منهم وفاء الثعالب
يدورون بالأمداح يبغون مأرباً ... فيا ضيعة الأوطان بين المآرب
أو كما قال في ختام هذه المرئية الخالدة:
إذا الشعب بالإهمال أرسب عالياً ... فلا بدع لو يعلو به كل راسب
بين مدير الإذاعة وأم كلثوم:
لم يعد خافياً ما نشأ من خلاف بين الإذاعة وبين أم كلثوم في شأن إذاعة مسجلاتها الغنائية. ويظهر أن الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة قد هالته طلبات أم كلثوم الباهظة فوقف في سبيلها. ومن هنا نشأت بين الاثنين معركة طريفة. تستمد طرافتها من مظهرها، فقد كتب الأستاذ محمد التابعي يدافع عن أم كلثوم ويقول باستحقاقها ما تطلب من مال، ويهاجم شخص المدير. ورد عليه الأستاذ عبد الرحمن الخميسي بمقال في جريدة (المصري) عنوانه (الأغاني في السوق السوداء) وصف فيه الأستاذ التابعي بأنه صديق أم كلثوم. ونشرت (البلاغ) مقالا بعنوان (الآنسة أم كلثوم تتقاضى أكبر مرتب في الدولة) ثم(817/43)
نشرت (أخبار اليوم) مقالا هاجمت فيه مدير الإذاعة وحسبت ما يتقاضاه من الإذاعة ومن معاشه في الحكومة فإذا 3060 جنيهاً سنوياً على حين أن مرتب رئيس الوزارة 2500 جنيه فقط.
وكأن مؤيدي أم كلثوم يقولون ليست هي وحدها التي تأخذ مالا كثيراً من الإذاعة أو تريد أن تستزيد من المال. ولكن هل هذا يبرر مطالبها؟ إنها الآن تأخذ من إذاعة مسجلاتها 6300 جنيه في السنة وتريد أن تزيدها إلى عشرة آلاف وثمانين جنيهاً وكل ذلك دون أن تبذل أي جهد، ولكنها وجدت إذاعة (عسلا) فتريد أن (تلحسها) كلها. . وعقدة الخلاف أن الإذاعة تحرص على رضاء المستمعين وعدم حرمانهم غناء أم كلثوم وهي تعلم ذلك فتغالي في الثمن وتعلم أيضاً مكان (خاطرها) من أعضاء مجلس الإذاعة.
ولولا أني لا أريد أن أنتقل من الجد إلى المزح لاقترحت أن ينقل أمر الإشراف على الإذاعة من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى وزارة التموين ليعالج الأمر وزيرها الرجل العظيم صديق الشعب الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، فيضم مسألة الغناء إلى مسائل السكر والصابون والصودا الكاوية. . .
ولكني ألزم الجد، فأقول أن الأمر يتطلب الحزم والصرامة في سبيل الصالح العام، فحرام أن تبدد أموال الدولة، والدولة في حاجة إليها؛ فهذه الأموال إما أن تكون الإذاعة محتاجة إليها في تدبير شؤونها كتحسين البرامج وإنصاف الموظفين وغير ذلك، وإما أن تكون زائدة على حاجتها فعند الدولة لها ألف وجه ووجه.
جوائز فاروق الأول:
أقيمت حفلة لجوائز فاروق الأول في العلوم الاجتماعية والكيميائية والجيولوجية وعلوم الحياة بجامعة فاروق بالإسكندرية في عيد الميلاد الملكي. وألقى معالي وزير المعارف كلمة اللجنة الدائمة للجوائز، فأعلن فيها ما وصلت إليه لجان الفحص لسنة 1949، وقد رأت هذه اللجان أن الكتب والبحوث التي فحصتها لم تستوف بعض الشكليات والشروط لاستحقاق الجوائز.
وكانت لجان الفحص قد غربلت ما قدم لها، ثم صفت ما غربلته، فكانت الصفوة: كتاب (أسس الصحية النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي عميد معهد التربية العالي، وكتاب(817/44)
(سافونارولا) للدكتور حسن عثمان الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة فاروق، وكتاب (السودان في قرن) للأستاذ مكي شبيكة، وبحث في الجيولوجيا غير مطبوع للدكتور رياض عبد المجيد حجازي. فأوصت لجان الفحص بإيفاد حضراتهم إلى الخارج على نفقة الدولة تمكيناً لهم من وسائل البحث والدراسة بالاتصال بالمعاهد العلمية والهيئات العالية. وكان الدكتور القوصي والدكتور حسن عثمان موجودين في الحفلة، فصالحها مندوب جلالة الملك. أما الأستاذ مكي شبيكة والدكتور حجازي فهما في الخارج، الأول مبعوث من كلية غوردون السودانية إلى إنجلترا والثاني في بعثة من وزارة المعارف إلى أمريكا وقد مدت له اللجنة مدة البعثة.
وقد نوه معالي وزير المعارف بأسماء المختارين الأربعة، وأشاد بجهودهم العلمية، وأشار إلى أن الغاية من تنظيم هذه الجوائز التي يتفضل بها جلالة الفاروق، هي رفع مستوى الإنتاج العلمي، فإذا رأت اللجنة الدائمة عدم استحقاق الجوائز فإنها تلجأ إلى وسائل أخرى تؤدي إلى تلك الغاية، مثل إيفاد العلماء إلى الخارج لأنه يسهل لهم البحث واستكمال الدراسة.
ولا شك أن هؤلاء الأربعة المختارين - وإن كانت مؤلفاتهم لم تنل الجائزة المادية - قد نالوا ما هم أهله من حسن التقدير والتكريم، وخاصة الدكتور عبد العزيز القوصي، فهو من مفاخر مصر في علم النفس، وله مكان ملحوظ في المجامع العلمية بالخارج.
بناء النهضة:
نظم قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية سلسلة من المحاضرات العامة موضوعها (بناة النهضة المصرية في القرن العشرين) شملت أنواعاً مختلفة من النهضات، من سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، وكان آخر حلقة في هذه السلسلة محاضرة للدكتور محمد صلاح الدين بك عن بناة النهضة في المسرح والموسيقى، فتحدث عن الموسيقى من عهد محمد عثمان وسلامه حجازي إلى عبد الوهاب وأم كلثوم، وتحدث عن المسرح من سلامة حجازي أيضاً إلى زكي طليمات، وقد بين أهمية من تحدث عنهم في الفن وأثره في تطوره، فسلامه حجازي زواج بين المسرح والغناء، وجورج أبيض استطاع أن يجعل للتمثيل قيمة مستقلة عن الغناء، ومحمد تيمور وزملاءه من هواة المسرح المثقفين كانوا(817/45)
طبقة ذات أثر كبير في ارتقاء المسرح، ومن هؤلاء زكي طليمات الذي لا يقتصر على الجهد الفردي فهو يصنع الآن جيلا جديداً يرجى على يديه عهد للتمثيل في مصر، وكذلك مثل في الموسيقى، وقد وقف طويلا مع سيد درويش، وقال إنه استطاع أن يجعل الفن ذا موضوع، ومن عبقريته أنه ذهب في التجديد إلى مدى بعيد مع الاحتفاظ بالأصول الشرقية للنغم والموسيقى.
هذا وقد نشر في الصحف عنوان هذه المحاضرة هكذا (بناة النهضة الأدبية) واحتشد جمهور كبير في قاعة يورت التذكارية، وقدم رئيس قسم الخدمة العامة، للمحاضرة بكلمة قال فيها أن المقصود بالنهضة الأدبية ونهضة المسرح والموسيقى لما لهما من شديد الصلة بالأدب. وقد ألمع هذا الوضع وهذا الجو إلى تقصير في هذه السلسة، إذ أهمل فيها الجانب الأدبي إهمالا تاماً، ولم يذكر رئيس الخدمة العامة سبباً مبرراً لهذا الإهمال. قد يقال أن الجامعة حرة فيما تختار من الموضوعات، ولكنها محاضرات عامة تدعو إلى إلقائها بعض قادة الرأي والفكر في مصر، ومن تمام الفائدة أن تستوعب الجوانب المختلفة، ولم يكن ينبغي أن يهمل الحديث عن النهضة الأدبية وهي أم النهضات جميعاً، حتى أنك لا تجد نهضة إلا كان الأدب لسانها والأدباء باعثيها وداعين إليها.
عباس خضر(817/46)
البريد الأدبي
نصيب المعلم:
كان من صدى الإعلان في (الرسالة) عن كتاب عالم الذرة ثلاث رسائل لا أكثر من بعض القراء. وصاحب إحداها بفرض علي جزاء لقراءته مقالاتي في الرسالة أن أقدم إليه كتابي مع الشكر وأنا أقول له:
أنت غال وقد طلبت رخيصاً ... ينفع العلم أن تنله قنيصاً
وصاحب الرسالة الثانية يطلب الكتاب هدية لا قيمة لها جزاء تدلله في حبي. وقد حبر بهذا الكتاب أربع صفحات. وأنا أظنه من حسناء، حتى كدت أعتقد أني أخو أفروديت أو ابن فينيس، أو أني كيوبيد بعينه على الرغم من أني (بلغت من الكبر عتياً) والسنون (قد أحوجت سمعي إلى ترجمان) وما انتهيت من تلاوة الرسالة حتى رأيت نفسي أمام المرآة.
وصاحب الرسالة الثالثة قصم رقبة ضني بأن استشفع بعيد ميلاد فاروقنا المعظم لأنه كتبها في يوم العيد السعيد. وأنه أرجو من حضرات القراء الكرام أن يعلموا أني أغلقت باب الشفاعات لكيلا يستشفعوا بالنبي وبالمسيح الرحيم. وخير لهم أن يتشفعوا بالقروش العشرين إن كانوا يرون أن كتابي يساوي هذا الثمن السقيم، والحمد لله رب العالمين.
نقولا الحداد
2ش البورصة الجديدة بالقاهرة
لاوجود إلا وجود واحد:
لاشك أن آفة الشرق هي الغرب، وأن داء الشرقيين المستفحل هو إيمانهم بأن كل ما أتى به الفكر الغربي من مذاهب هو المثل الأعلى الذي ينبغي أن يحتذيه كل فكر ينشد الكمال. ونحن العرب نتخذ دائماً من المعايير الغربية مقاييس أفكارنا. فإن خالفتها فهي مبهمة غامضة، وإن سارت على منوالها فهي واضحة جلية، ولا نفكر مطلقاً في أن نعتز بنتاج الشرقيين بل ننظر إليه من خلال المذاهب الغربية التي تحول دون فهمه فهماً صادقاً، وتفسد أحكامنا عليه.
وها هو الأستاذ نقولا الحداد لم يستطيع أن يفهم مضمون حقيقة وحدة الوجود عند طاغور؛(817/47)
لأن ذهنه مشبع بمذاهب الغربيين في هذه الحقيقة. ولا يدري كيف يحدد موقف طاغور بالنسبة للذين يقولون بأن أصل الوجود جوهر واحد سواء أكان روحياً أو مادياً، أو بالنسبة للذين ينادون بثنائية الوجود أو يعتقدون بجوهرين هما الروح والمادة، لأنه تعود أن ينسب كل رأي إلى فكرة غربية مماثلة لها، ويقارنها بها؛ فإن لم يجد لها نظير صعب فهمها عليه. ولذلك يجب علينا جميعاً أن نتعود فهم الأفكار الشرقية وعقولنا خالية من النظريات الغربية، فإنها تشتت أذهاننا وتبلبلها فتأسرها في مكان ضيق لا تقدر أن تدرك ما خارجه، وإن حاولت عجزت عن فهمه. وكما هال الأستاذ الحداد أن يكون منبت حقيقة وحدة الوجود هو الشرق، ولم يكن أول قائل لها هو اسبينوزا، فأخذ يستوضح عن صلتها بالدين الهندوكي وتغافل عن أفلوطين قد تأثر بأفكار الهنود في وحدة الوجود الروحية، وأتى من قبل اسبينوزا بمذهب فيها، قد تأثر به اسبينوزا نفسه كما تأثر ببعض المتصوفين الإسلاميين الذين تكاد كل نظرياتهم في التصوف مستمدة من صلب التعاليم الهندوكية.
أما كيف عرف الهنود تلك الوحدة فيرجع ذلك إلى عهد يبعد في القدم إلى أكثر من خمسة وعشرين قرناً، يوم كانوا يؤمنون بآلهة كثيرة تمثل مختلف قوى الطبيعة وشتى مظاهر الكون. ويوضح (الفيدا) وهو كتاب هندي مقدس لا يعرف واضعه أو واضعوه - ماهية كل إله. ويذكر الأدعية التي ترفع له، ويعين القرابين التي تبذل من أجله ولا يشير كتاب الفيدا إطلاقاً إلى حقيقة وحدة الوجود التي جاء بها (اليوبانيشاد) من بعده وهو كتاب هندي ديني آخر مجهول مؤلفه أو مؤلفوه. يضع فلسفة الهنود الهندوكية في وحدة الوجود، ويضم كافة الآلهة الهندية في إله واحد يشملها جميعاً ويحل فيها، وهو براهما الذي يستمدون وجودهم من وجوده، ولا يبعدهم الهنود إلا لأنهم آلهة يتجلى منها الإله الأكبر (براهما) الذي يكمن في كل شيء في الكون. وإن مظاهر عبادة الحيوان وتحريم قتله، وتقديس الأشجار ومنع قطعها، والتبرك بمياه الأنهار، يبين لنا كيف يعبد الهنود الظاهرات الطبيعية التي يستقر فيها يراهما.
وتناول طاغور هذه الحقيقة بتفكيره الشاعري وعرضها بخيال الفنان الملهم في أسلوب روحي يفيض عذوبة وحلاوة. فإن اعترى أفكاره عند تأملها عقلياً الإبهام، فلا يجب أن نلومه لأنه شاعر قبل أن يكون فيلسوفاً، وما أراد لنفسه أن يكون في يوم من الأيام فيلسوفاً،(817/48)
وإن ارتضى أن يكون شاعراً حكيماً. فهو ليس صاحب مذهب محكم التصميم يستند في تفسيره على منهج عقلي منظم. ولم يخط كتباً فلسفية قط. وإن حاولت أن أستخرج من كتابه أصول فلسفة أعالج فيها المشاكل الميتافيزيقية والأخلاقية والفنية التي اشتغل بها طاغور بطريقة لا تمت لطرق الفلسفة بصلة، فإنما ذلك رغبة مني في أن أعرض أفكار حكيم في أسلوب فلسفي لا غير.
لقد زعم طاغور أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة لا تحتمل التفرقة بين خالق ومخلوق، وجودها روحي، وأن ما يبدو في الكون من مادة فهي مظهر خادع يخفي براهما المستقر داخلها؛ لأن براهما حين امتلأ بالسرور - ذلك السرور الذي لم يبين لنا طاغور كنهه، أو يذكر سبب نموه في براهما حتى امتلأ به - فصدرت عنه الخليقة لم يفصل بينه وبينها فصلا تاماً، وإنما كمن فيها وأعطى للإنسان فرصة للعودة إلى منبعه الذي انبثق منه، بمنحه حرية التصرف في شئون دنياه، وتقييده بقانونه الأخلاقي ومن يقطع الصلة بين براهما والمخلوقات يقع في (المايا) أي الباطل الذي إليه أن الباطل مستقل عن المخلوقات بينما براهما يتجلى في الكون في صور القوانين التي يتقيد بها هذه المخلوقات فتخضع روح الإنسان للقوانين الأخلاقية ويخضع جسده وجميع محتويات الطبيعة الأخرى للقوانين الكونية. ومعرفة هذه القوانين معرفة لله المتحد بكل شيء، إلا أنه لا يكفي للإنسان أن يعرف هذه الوحدة ليصل إلى الكمال الروحي وإنما يجب عليه أن يعرفها ويحياها معاً ويحس ببراهما الذي يوجد في كل جزء من أجزاء الكون إحساساً حياً، تنطق به كل حركاته من أفعال وأقوال ويدمج شعوره بفرديته فيها جميعاً بحيث لا يستطيع أن يميز بين وجوده وبين سائر الموجودات.
وإذا أراد الأستاذ نقولا أن يعرف المزيد وكيف يفوز الإنسان بهذه الحياة فإني أرجعه إلى ما سبق أن نشرته في مجلة الرسالة عن طاغور وما سأنشره قريباً إن شاء الله عن فلسفة طاغور الأخلاقية والفنية.
عبد العزيز محمد الزكي(817/49)
القصص
في ميدان الجهاد
للأستاذ وهبي إسماعيل حقي
إلى المجاهد الكبير من اجتمع إلى حكمة الشيوخ عزمات الشباب صاحب الدولة (احمد باشا حلمي) وفقه الله في مهمته. . .
كان الوقت ليلا، وكانت السماء صافية الأديم، وكان القمر يرسل أضوائه الفضية الساطعة، فتملأ الأرجاء أمنا، وتغمرها نوراً، ولولا أن الجو تتمشى في جنباته موجات من يرد فبراير القارس لتبدلت الحال، ولخرج الناس من مكامنهم ليستمتعوا بهذه الطبيعة الأخاذة، ويستنشقوا عبير النسيم الذي انبعث من البحر الأبيض يحمل النشاط والقوة، ولما لجأت (كتيبة الإيمان) - إلى ذلك الكهف الذي اتخذته مقر لقيدتها، في إحدى جبال فلسطين الكثيرة، والتف أفرادها حول النار ليصطلوا.
وكانت هذه الكتيبة واحدة من الكتائب التي ألفت جيش الإنقاذ الذي خف فلسطين حينما وضح اليهود عن المغالاة في مطامعهم بإثارة الغارات - من آن لآخر - على القرى العربية الآمنة ومثلوا معهم تلك الأدوار التي حدثنا عنها التاريخ في عصور الجاهلية الأولى، ومن هتك الأعراض، وسلب الأموال وقتل الضعفاء من الشيوخ والأطفال.
واتخذت كهفاً واسعاً مركزاً لها، فيه توضع خططها الحربية، وفيه تحفظ المؤونة ومنه تشن ضد الصهيونيين العتاة.
كان ضوء القمر على باب الكهف يعاون أشعة النار في تبديد الظلمة، فيستطيع الإنسان أن يميز وجوه الحاضرين، فيرى فيهم الأبيض والأسمر، والأسود والأشقر، ويرى فيهم الطويل والقصير.
فهولاء الأربعة البيض الذين اتخذوا مجلسهم قريباً من الموقد، تنبئ ملامحهم أنهم أوربيون: فأما العملاقان - اللذان تشع من عيونهما أشعة القوة والجد، وينبعث منها بريق الأمل - فهما من إحدى المدن الألبانية التي تغذى أهلها بلبان الحرية، ومن أجلها حاربا الطليان والألمان، ثم حاربا الشيوعية، وأخيراً تركا الوطن إلى إيطاليا فراراً بعقيدتهما.
وأما هذا القميء العريض المنكبين الذي اتسمت آيات الحزن على صفحة وجهه، ولاح(817/50)
الامتعاض وحب الانتقام في أساريره، فإنه من تلك القرية البوسنوية المسلمة التي أغار عليها ذلك الوحش الآدمي المجرم (ميخائلوفيك) فحرق رجالها وهم يؤدون صلاة العيد في أحد مساجدهم واجبر، نساءها أن يرقصن على الثلج عاريات، بعد أن سلبهن الشرف والعرض، ثم أعدمهن رمياً بالرصاص. وكان من حظ رفيقنا هذا أن تأخر عن شهود الصلاة فنجا من الموت، وفر إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا.
أما هذا الذي يشبه الصيني إلى حد بعيد فهو من تتار بولونيا غادر بلاده بعد الزحف الروسي ليحارب الظلم والاستبداد فوصل إلى جبال ألبانيا وحارب مع عصابتها جيوش المحور.
وجمعت المقادير بين الأربعة في أحد معسكرات إيطاليا، واستمتعوا إلى تلك الفظائع التي يرتكبها اليهود مع عرب فلسطين فهبوا للدفاع عن الحقوق المهضومة ورد العدوان الصارخ.
أما الباقون من أفراد الكتيبة فيستطيع من يراهم أن يعرفهم بسيماهم ولكنتهم العربية، فمنهم المصري والسوداني، ومنهم السوري والعراقي والمغربي واللبناني ومنهم غير هؤلاء كثيرون.
اجتمعوا حول النار في الكهف يتشاورون ويتباحثون في الأعمال التي يجب أن يبتدئوا بها في غدهم.
وقال قائدهم الأكبر، وهو فلسطيني أتم علومه أتم علومه في ألمانيا، ودرس الفنون الحربية في معاهدها، ونبغ في الهجوم الخاطف: في الصباح المبكر سنهجم على مواقع العدو القريبة منا في ناحية الشمال.
وأستقر الرأي أن يبدأ الهجوم من الساعة الخامسة قبل أن تبزغ الشمس، ويملأ نورها الجو، وصدرت الأوامر للجميع أن ينظفوا أسلحتهم، وأن يتموا استعدادهم. . . وتفرقوا إلى مضاجعهم
في زوايا الكهف، وفي الساعة الرابعة جلجلت أصوات المؤذنين في الفضاء: (الصلاة خير من النوم) فهرع الكل إلى الينبوع الذي لا يبعد كثيراً عن الكهف وأسبغوا الوضوء لصلاة الفجر، وأمهم قائدهم. ولما قضيت الصلاة، توجهوا إلى الله مخلصين أن يهيئ لهم النجاح(817/51)
في مسعاهم وأن يكتب لهم النصر على أعدائهم.
ورجعوا إلى مقرهم فلبسوا أسلحتهم وحملوا أمتعتهم وخرجوا إلى باب الكهف يقطعون المسافة أمامه ذهوبا وجيئة وهم ينتظرون الأمر بالانقضاض، وكل منهم يهمس لأخيه: متى سنذهب؟ لقد تأخرنا اليوم!.
ثم دوى في الفضاء صوت جهوري تردد صداه في جنبات الوادي: استعدوا.
فخشعت الأصوات، وشمل الحاضرين سكون رهيب، وتراص الجميع في صفوف منتظمة، ووقف على رأس كل صف ضابط ينادي الجنود بأسمائهم.
ثم برز القائد الأعلى وخطب فيهم يستنهض الهمم ويستحث العزائم فقال: لست أرابي في حاجة لأن أذكركم بما يجب على الجندي في الميدان من الاستبسال في القتال، والحرص على الفوز. لا أملك إلا أن أقول: علينا أن نصل إلى النصر بأي ثمن.
فرد الجند من أعماق قلوبهم: إننا - بعون الله تعالى وحسن قيادتك - منتصرون (إن ينصركم الله فلا غالب لكم).
وزحف الجند في حذر، وكانت النجوم لا تزال تؤدي رسالتها في كبد السماء، ترشد الضال، وتنير الطريق. وكان البرد قد بلغ النهاية في الشدة، ولكن الكتيبة ما كانت تقيم له في حسابها وزنا كأن حرارة الإيمان بددت من حولها برودة الطقس.
وكان على الجند الزاحف أن يقطع مسافة غير قصيرة ليصل إلى خنادق العدو التي توفرت له فيها أسباب الراحة وألوان المتع، وكميات من الزاد والذخيرة لاتحد. . . ففيها الفرش الوثير، والطعام الكثير، والعتاد الوفير، الذي انثال على اليهود من كبريات دول الغرب.
وحين أصبحوا غير بعيد من مراكز العدو استمعوا إلى القائد يصيح فيهم: تأهبوا للهجوم. فانقسموا إلى أربع فرق، كل فرقة لا تعدو العشرين، وإن هي إلا لحظات حتى كانوا مرهفي الحس لتلقي أمر القائد.
ووصلوا إلى المنطقة التي تجب فيها الحيطة ويلزم الحذر حيث الألغام المبثوثة، والأسلاك الشائكة والقنابل المنثورة. ولم يمض إلا قليل حتى أصوات الطلقات في الفضاء، فعلموا أن الحراس قد أحسوا بهم، وأنهم يستعدون للقائهم.
وانبطح أفراد الكتيبة على الأرض، وابتدأت المعركة، وكانت رعدة من البرد قد سرت في(817/52)
أجسادهم حين افترشوا الأرض، لكنها لم تلبث أن تبددت عندما حمى الوطيس.
ثم تعالت صيحات الفزع من خنادق الصهيونيين، وارتفعت أصوات السب واللعن لمن حرمهم لذة التمتع بالنوم في ذلك الوقت الباكر.
وأخذ أفراد الفرق يتقدمون رويداً رويداً زحفاً على البطون ووابل الرصاص يمرق من فوق رءوسهم فلما كانوا على خمسين متراً من مقر الأعداء، تزايدت الطلقات، فلم يعقهم ذلك عن التقدم في العراء.
وقد أطلقوا العنان لأسلحتهم تقذف بنيرانها إلى الخنادق التي لم تتأثر بها كثيراً فكانت تصدم بالجدر المتينة ثم تعود من حيث أتت حسيرة، لأنها لم تبلغ الغاية ولم تقيم بالمهمة.
ونادى القائد نداءه الصارم: أيها الجنود البواسل! الكلمة الآن للقنابل. . . ليهجم الصف الأول على الخنادق الكامنة إلى اليمين. وأما الثاني والثالث فليقوما بالهجوم على الخنادق في الشمال. وليقف الرابع بالمرصاد، ليتقدم إلى من هم في حاجة إلى مساعدته.
وبدأت الشمس تنشر أشعتها في صفحة الكون، فتبعث الدفء وتخفف حدة البرد، وتجلى الموقف على حقيقته، فهاتان قوتان تعتركان: أما أولاهما فهي قوة الظلم والعدوان، وحوش في زي الإنسان وجائرون في لبوس ذوي الحق المضاع والجناح المهيض. وهم من أجل ذلك يرتعشون فرقاً ويرتعدون خوفاً كلما التقوا مع المجاهدين في ميدان؛ لأنهم لا يعرفون الحكمة ولا الداعي لمحاربتهم لهؤلاء الوادعين الذين أمنوا في أوطانهم، واطمأنوا في ديارهم.
أما القوة الثانية فهي قوة الحق تتمثل في هذه الحفنة من الأبطال الذين خرجوا من ديارهم وأبنائهم، واستلموا سيوف العدالة ليبطشوا بالذين استباحوا الحرمات واعتدوا على الحريات، وعاثوا في الأرض فساداً. . . إنهم حين يندفعون إلى الأوكار اليهودية، قد وقر في نفوسهم، وارتسم في أذهانهم تلك الفظائع التي ارتكبها هؤلاء الأشرار من سفك الدماء، وتقتيل الأبرياء، وهتك الأعراض، وتشتيت الأسر، وبقر بطون الحبالى، فتلتهب عزائمهم وتتمليء نفوسهم بالشجاعة والقوة، ويشعرون بالارتياح فيتقدموا إلى العدو وهم أشد تعطشاً لسفح دمه ثأراً لإخوانهم.
واستطاع جند الكتيبة أن ينفذوا إلى الخنادق، وفي داخلها نشبت المعركة، واشتد القتال. فلم(817/53)
يثبت لليهود قدم، ووجلت قلوبهم، وارتخت أعضاؤهم، ولم يكن لهم هم سوى البحث عن الوسيلة للفرار.
ووقف بعض الجند من كتيبة الإيمان يقتلون من زينت له نفسه الهرب على باب الخندق، وهم يصيحون من الفرح: أين موسى شرتوك الذي سول له شيطانه أن يفخر برجاله في العالم أجمع
أهؤلاء هم الرجال الذين هددوا باحتلال الأراضي المقدسة حتى الحدود المصرية؟. أهؤلاء هم الذين نشروا الخوف وأشاعوا الرعب في ربوع فلسطين الآمنة؟ هاهي حصونهم لم تحملهم منا؟ وهاهي أشلائهم قد تناثرت حولها؟ وهاهي أسلحتهم واستعداداتهم لم تحل بيننا وبينهم. إنهم باغون وعلى الباغي تدور الدوائر.
واحتلت الكتيبة خنادق اليهود. وتولتهم الدهشة من عجيب ما رأوا فيها، فهي مزودة بكل طريف من الكماليات فضلا عن الضروريات: فهذه وسائل التدفئة الحديثة وتلك، آلات الكهرباء، وهذا رياش فاخر، وذاك معين من المؤونة لا ينضب، إلى غير ذلك مما لا يدع للشك مجالا في إنهم كانوا يعتقدون أنهم في هذه الأماكن مخلدون.
وتراءى لأفراد الكتيبة عظم الفرق بين القوتين وبين الاستعدادين، كعظم الفرق بين السماء والأرض. . . وانخلعت قلوبهم من الحيرة لهزيمة هؤلاء الصهيونيين مع هذا العدد الوفير، وهذه العدة البالغة، وأيقنوا أن النصر للقوة المعنوية دائماً، وللقوة المادية نادراً.
وألقى الجنود نظرات خاطفة على عتاد الأعداء ليحملوا ما هم في حاجة إليه من متاع وسلاح، ثم التفوا حول قائدهم ليصغوا إليه وهو يأمرهم بملاحقة الأعداء ومواصلة الهجوم حتى يجتنوا ثمار النصر ناضجة، فانبسطت الأسارير، وارتسمت على الشفاه بسمات الفرح بذلك النصر المبين. وتزايد سرورهم حين عرفوا أن عددهم لا ينقصه إلا ثلاثة قد لقوا حتفهم برصاصات صهيونية غادرة.
وتعانق الجميع عناقاً سريعاً حاراً، تعبيراً عن ابتهاجهم بهذا الفوز الحاسم، ثم انصاعوا لأمر القائد الذي ناداهم: إلى الأمام أيها الأصدقاء؛ فعلينا أن نحتل جميع المراكز القريبة ليتم تطهير المنطقة كلها.
واستبسل اليهود في الدفاع عن مراكزهم، ونشطت مدافعهم الثقيلة والخفيفة، وأطلت فوهاتها(817/54)
من فتحات الخناق لتقذف الحمم، وتجاوبت الطلقات، وتلوت في أجواز الفضاء مسرعة متوالية كأنها حيات تسمى، وكأنها تزأر زئيراً مفزعاً، وتدوي دوياً مزعجاً، لو سمعه من لم يتعود لطاش عقله، وفقد السيطرة على أعصابه.
ولكن أفراد الكتيبة كانت قلوبها تخفق الشجاعة كلما سمعت قصف المدافع، ورعد القنابل وعصف البنادق، ولم يفت في عضدها تلك الانفجارات من حولها ولا ذلك الدوي الذي يصم الآذان.
وأحس الجنود أن ما معهم من العتاد أوشك أن ينفذ، ومع ذلك لم ينكص واحد منهم عن التقدم. ولكن اقتصدوا كثيراً في إطلاق الرصاص، وكانوا يسدون إلى الهدف دائماً. وفرغت القنابل ولم يبق لدى الكتيبة سوى عدد لا يفي بالغرض من الطلقات.
وأحس العدو ذلك من فتورهم في الهجوم، فقويت روحه، واجترأ على الخروج من مكمنه، وواجه أفراد الكتيبة بالعدد والعدة، وتحولت المنطقة إلى قطعة من الجحيم؛ فالتهبت البقاع، واشتد القتال. . . ثم نفذت ذخيرة الكتيبة، وخمدت مدافعها، وسكتت بنادقها، ولكن أحداً من رجالها لم يتزحزح عن موقفه لأنهم يعلمون أن لهم إحدى الحسنين، والنصر المؤزر أو الفوز بالجنة.
ونادى القائد محمد: إلى الأمام أيها الأبطال. . . لا ترهبوا الموت. . . إلى الممر فهناك النصر. . . لكنه لم يتم كلمته فقد نفذت إلى قلبه رصاصة آثمة ألقته على الأرض، وحاول أن يقف على رجليه فلم يستطع. . . أراد أن يستمهل الموت حتى يؤدي واجبه كاملا لكن الموت لم يمهله. . . تقدم خطوتين إلى الأمام زحفاً ولم يقو على الاستمرار، فعلم أنها آخر لحظاته فرمق الجميع بنظرة عطف وحنان، وسمعه أقرب الجند إلى مكانه يهمس بكلمات متقطعة وعى منها: (إلى الأمام. . يا أصدقائي خذوا بثأري. لا تهدروا دمي. . . تحيا. . .) ثم فاضت روحه إلى بارئها تشكو تعسف الصهيونيين، وتستنجز وعيده فيهم (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله). . . وأتم الجندي كلمته. (تحيا فلسطين).
ثم تقدم أصدقاؤه لينفذوا خطته، وهم يعلمون أنه إنما أراد أن يقذف الرعب في قلوب الأعداء بهذا التقدم، فيفسد عليهم خططهم، وإن أعقب ذلك موت كثير من رجاله، فالحرب تضحية.(817/55)
ثم سمع الجند صوت القائد يأمرهم أن يثبتوا في أماكنهم، وأن يفكروا في الانسحاب حتى لا يفجعوا الوطن في حياتهم؛ فإن الذخيرة قد نفدت، وإن القائد قد قتل، وإن التقدم مع كل هذا معناه موت الباقين. وكان مما قاله لهم: قفوا إلى أن تصدر إليكم أوامر أخرى.
واشتدت ضربات اليهود، وأقاموا ستاراً كثيفاً بمدافعهم الرشاشة لا يتسنى لإنسان معه أن يرفع رأسه إلى أعلى إلا إذا كان في غنى عن حياته.
وطلب القائد إلى الجند أن ينبطحوا على الأرض، وأن يزحفوا على بطونهم إلى أن يخرجوا من ميدان القتال ويبعدوا عن مرمى قذائفهم.
وكانت جثة قائدهم محمد على عشرة أمتار منهم، تسبح في بحر من دمائه الزكية، والتبس الأمر عليهم أيتركون هذا الجدث الطاهر في تلك العصابة الآثمة يمثلون به؟ أم يعودون إليه ليحملوه معهم وإن سبب لهم هذا العمل المتاعب والصعاب.
ولم يطل بهم التردد؛ فقد وقف (سعيد) - وهو جندي من جنود الكتيبة غير المبرزين - وأسرع إلى حيث جثم قائده وحاول زملاؤه أن يحولوا بينه وبين ما أراد فلم تجد محاولتهم. . . وانحنى سعيد على جثة القائد بين يديه وهم به أن يرفعه إلى أعلى، وما هو إلا أن برز صدره حتى ندت عنه صيحة مدوية أعقبها أنات موجعة؛ وسقطت الجثة أمامه؛ فقد سدد إليه الأعداء رصاص بنادقهم فأصابه منها رشاش، خارت له قواه، واصطكت أسنانه ولكنه ملك زمام شجاعته، واستجمع قوته وحمل الجثة ثانية، وأسرع بها إلى قومه وهو يجر رجليه في مشقة بالغة وحين وصل إلى رفاقه سقط أمامهم مغشياً عليه، تتفجر الدماء غزيرة من جوانبه تخط على رمال الصحراء صفحة المجد الخالد والبطولة النادرة. . . وارتسمت على شفتي سعيد بسمة الرضا بما صنع؛ فقد حال بين جثة قائده وزميله وبين الأعداء ن تبطتتتتتبطشتبطش أن بها. وتم انسحاب الكتيبة إلى مكان أمين، وقد حملوا معهم سعيداً الجريح، ومحمداً القتيل. ثم التفوا حول سعيد يضمدون جراحه، وكلهم أسف لما حل به. فلما أفاق توالت عليه الأسئلة، عن حاله، وبماذا يحس، وأجابهم بصوت خافت: إني بخير والحمد لله. . . ليست حياتي في خطر. . . وليس بي سوى الحزن على محمد القائد البطل. . . لقد كتب المسكين إلى أمه أمس، وأنا الذي أودعت البريد رسالته التي يقول فيها إنني في صحة جيدة. . . وإنني سعيد في حربي لهؤلاء الجبناء الأنذال، وأجد اللذة في(817/56)
الانتصار المتوالي عليهم. . . ثم ختم الرسالة بقوله: إنك يا أماه ستفخرين كل الفخر عندما أعود إليك مرفوع الرأس عقب الانتصار النهائي على (بن صهيون) وأقص عليك تفاصيل المعارك التي خضناها، وسيرة الأبطال الذين اشتركوا معي في هذا الجهاد المقدس). ثم سالت من عيني سعيد قطرات من الدموع مسحها براحتيه، والتفت إلى زملائه الذين أحسوا مثل إحساسه وهو يقول: ولآن علينا أن ننتقم لمحمد. أليس كذلك أيها الأصدقاء؟ فأجابه الجميع في صوت واحد: نعم يا سعيد! سننتقم له أشد الانتقام!
قال من نقل إلى هذا الحديث - وهو ممن خاض جميع المعارك مع هذه الكتيبة، قبل أن تزحف الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، وكان ضابطاً في الجيش برتبة الملازم الأول، فترك وظيفته وتطوع في جيش الإنقاذ - استرحنا يومين كاملين، تم فيهما استعدادنا، وعادت إلينا حيويتنا، ثم قمنا بهجوم خاطف عنيف على مراكز العدو في تلك البقعة، واشترك معنا سعيد، وأبلى فيه بلاء حسناً، واستشهد وهو ينزل العلم الصهيوني ليرفع مكانه العلم العربي فوق برج المستعمرة.
واحتفلنا بجنازته احتفالا رهيباً، ودفناه بجوار (محمد القائد البطل) ووضعنا بجوار قبريهما حجراً كبيراً خططنا عليه تاريخ استشهادهما في الهجومين المتوالين، ليذكر الذين يزورون الأراضي المقدسة تلك الأعمال الحربية العظيمة التي قامت بها الكتائب المتطوعة في تنظيف فلسطين من الوباء الصهيوني.
والآمال كبيرة في الجيوش النظامية ألا تدع صهيونياً واحداً يتنفس هواء تلك البقاع الطاهرة التي روتها دماء المجاهدين الأحرار.
ثم انحدرت على وجه صديقي (صدقي) دمعة كبيرة وهو يستنزل الرحمة لزملائه الأبطال.
وهبي إسماعيل حقي
عضو البعثة الألبانية بالأزهر(817/57)
العدد 818 - بتاريخ: 07 - 03 - 1949(/)
عودة الأبطال
اليوم يعود أبطال الفلوجة إلى أحضان الوطن المنجب الحاني، فيلقاهم لقاء المعجب المزهو، وفي يمناه أكاليل الغار للجباه المرفوعة، وفي يسراه أوسمة الفخار للصدور الجريئة. ثم يقبل بلبه على حماة العز وأباة الذل وسقاة المنون ويقول لهم بألسنة الجموع الوافدة من كل إقليم، الحاشدة في كل طريق، الهاتفة في كل مكان: مرحى! مرحى! لله غرس زكا ونشأ كرم وشباب عز! لا تزال مصر كنانة الله مادام ثراها طيبا ينبت هذه الأجساد، ونيلها ظهورا ينشئ هذه الأرواح، وجوها صافيا يبدع هذه الشمائل!
كانت هذه البطولة المثلية النادرة لجيش الوادي مكظومة في نفوسه الكبيرة، لا تجدها متنفسا ولا مفِيضا من سوء الحال ومكر الاحتلال حتى ظنت به الظنون، وطارت حوله الريب، وقال المرجفون من ذئاب الاستعمار وأذناب المستعمر: إن مصر كالحسناء المشتهاة، جمالها يغرى بها ولا يدفع عنها. فلابد لها من زوج قادر يضمن لها المصير، ويذود عنها المغير. وأوهموا الناس أن جنودنا دمى للزينة، وأسلحتنا لعب اللهو. وساعدهم على هذا الإفك حكومات كنواطير الكرمة أقامها الثعلب ليخدع بها غيره. ثم أخذ يعبث في العنب ولا يخاف، ويجأر بالضباح ولا يبالي! حتى أراد الله للسر المكنون أن يذيع، وللكنز المدفون أن يظهر، فقيض لهما رجل الأمة النقراشي. وحانت محنة فلسطين، فألفى الرجل العظيم في وطيس الحرب بالجوهر الأصيل والمعدن الحر، فثبت على النار كما يثبت الذهب المصفى على المحك.
فلله يوم ذوَّب الغشَّ نارُه ... فلم يبق ألا صارم أو ضُبارم
تقطعَ مالا يقطع الدرع والقنا ... وفرَّ من الأبطال من لا يصادم
وبقي المعدن المصري وحده في البوتقة! وقال الغريب: إنها فرصة تبعث بيني وبين مصر المعاهدة المقبورة. وقال القريب: إنها محنة تكفكف قليلا من غلواء مصر المغرورة! وقال جيش الفاروق: لا هي فرصة، ولا هي محنة، وإنما هي نشيد جديد من ملحمة البطولة التي لا تزال تنظمها مصر. ووقف من قواد روسيا وجنود صهيون وأسلحة أوربا وممالأة أمريكا ومخادعة إنكلترا، موقفه الخالد، فيخيب آمال العدو، وكذب ظنون الصديق!
وكانت الفلوجة بؤرة النار وقطب المحنة: احتشدت لها جموع اليهودية وأوربا الشرقية مدربة مجهزة، وأحدقت بها قواها البرية والجوية مجمعة مركزة، وتفجرت عليها قذائف(818/1)
الجحيم من جهاتها الخمس أربعة أشهر وأثني عشر يوما لم يهادن فيها صهيون المحنق المغيظ ألا ليجدد ما دمر من عتاده، أو ليدفن ما قتل من أوغاد. وظاهر المحاصرين على المحاصرين اشتداد البرد ونفاد القوت ونقص الذخيرة وانقطاع المدد وإغواء العدو. فلو أن قائد الفلوجة سلم على هذه الحال لقواد الروس، لوسعه من العذر ما وسع قائد باريس حين سلم لقواد الألمان، وقائد برلين حين سلم لقواد الحلفاء.
ولكن أسد العرين كان أعرف بأشباله وأبصر بواجبه وأشعر بتبعاته؛ فوقف موقفه الذي قلت في تواريخ الأمم نظائره، ثم أخذ يطلق المنايا على قطعان المحاصرين كلما هاجموه فيجعلهم حصيدا يحجب وجه الثري، ويتخم بطن الأرض!
وهكذا اختار الله سيد طه وأركان حربه وسائر جنده ليكونوا حجة لمصر على أن صبرها لا ينفذ، وعزمها لا يخور، وجيشها لا يقهر!
لقد طلبوا الموت فوجدوا الحياة، وابتغوا الشهادة فظفروا بالمجد، وحاربوا جنودا فانتصروا أبطالا، ودخل الفلوجة وهي نكرة من نكرات فلسطين، ثم خرجوا منها وهي معرفة من معارف العالم!
أحمد حسن الزيات(818/2)
الكنيسة والدولة في ضل الشيوعية
للأستاذ عمر حليق
اتجه رأس الحرية السوفيتية إلى المعقل الرئيسي الذي تتركز فيه المعارضة الراسخة المنظمة للفكرة الماركسية والدعوة الشيوعية والتوسع السوفيتي. هذا المعقل هو الكنيسة الكاثوليكية وهي نظام عالمي ثابت الأركان متحد الولاء في مركزية بابوية تعمل في تؤدة وخبرة ودقة طالما اشتهرت بها هذه الرهبانيات الكاثوليكية التي تحمل تراث عشرات القرون من النشاط الديني، وهو في المجتمعات الكاثوليكية مزيج من شؤون الدنيا والدين لا يقتصر على ناحية معينة في المجتمع الذي يعيش في وسطه ولكنه يسعى متعمدا لأن تكون له اليد الطولى في التوجيه الشعبي عن طريق المدارس والسنة الرأي العام والكلمة النافذة في التوجيه الحكومي في الشؤون الداخلية والخارجية بواسطة التكتل الكاثوليكي في الحياة السياسية. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية في يوم من الأيام قاصرة عن تمويل هذا النشاط المحكم لأنها - كما قلت نظام على موفور الموارد يتساند في الملمات ليسعف الأجنحة المهيضة في هيكله الضخم وهو يضم رعية تبلغ حوالي 400 مليون من مسيحي العالم
فلا غرابة أذن أن تثير محاكمة الكاردينال ميدزنتي هذه الضجة العنيفة لا في العالم الكاثوليكي فحسب، وله حوالي ثلثي الأصوات في الأمم المتحدة، بل كذلك في الثقافات التي بينها وبين الكاثوليكية في صراع تقليدي عنيف كالبورتستانتية الأنجلوسكسونية والأسكندنافية. ذلك لأن التحدي السوفيتي لا يقتصر على الكنيسة الكاثوليكية في محاربتة للقيم الدينية. وإنما هدفه هذه القيم نفسها في أي مذهب كانت، لأنها في مفهوم الشيوعية: (أفيون الشعب).
ولموسكو طرق متنوعة في صراعها في النظم الدينية. ففي التحاد السوفيتي نفسها، لم تجده الثورة الشيوعية في مستهلها (1917) صعوبة في القضاء على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فقد كانت عناصر التفكك في المجتمع القيصري تشمل الكنيسة، فضلا عن أن الكنيسة الأرثوذكسية ليست عالية وليس لها طبيعة الرسوخ والنفوذ الدولي الذي يمتع به الفاتيكان. ولما تمكنت العقيدة الماركسية في نفوس الجيل الجديد في الاتحاد السوفيتي. لم يجد (البوليت بيريد) في موسكو بأسا من أن يعاد تأليف الكنيسة الأرثوذكسية في كيان(818/3)
صوري يعالج مشاكل الجيل البائد من الأرثوذكسي الروسي بالإضافة إلى أن هذه الخطوة جاءت في مستهل التوسع السوفيتي الإقليمي مما صبغها بطابع من الدعاية لم يخف على أحد.
أما حالة الثلاثين مليونا من المسلمين في روسيا السوفيتية فغامضة يحط بها ستار من الكتمان لم يحاول الأزهر - وهو السلطة العليا في الإسلام - أن يعترف مبلغ بؤسها. فالاتصال الروحي والفكري والجغرافي مع هذه المناطق الإسلامية في القارة الروسية منقطع. وقد بعثت موسكو نماذج من المسلمين الروس إلى الحج على سبيل الدعاية ولكنها أقلعت عن ذلك. ولم يسمع للمسلمين الروسيين صوت المأساة التي ألمت ببيت المقدس. وفي تقرير نشرته جماعة من المسلمين القوقازيين المشردين في معسكرات اللاجئين الأوروبية أن النسبة الكبرى من قتلى الجيش الأحمر في معارك الشتاء الجهنمية (1943) ضد الجبار النازي كانت من مسلمي القوقاز وتركستان والمناطق السوفيتية الإسلامية الأخرى في شرقي آسيا وأوسطها. فقد قدم السوفيت زهرة الشباب الروسي المسلم طعما لآلة الحرب السوفيتية في مستهل الهجوم العنيف الذي طوح بحملة هتلر، وكانت هذه أكبر تضحية في الأنفس التي قدمها الروس في الحرب المنصرمة.
على كل حال فإن ظروف الإسلام ليست خيرا من ظروف المسيحية في منطقة النفوذ الشيوعي في أوربا وآسيا.
وتنفرد اليهودية بحرية العمل في تلك المنطقة. فاليهود وحدهم محظيو السوفيت، ولهم حرية النشاط المذهبي والسياسي (كالصهيونية) والتنقل من روسيا وشرقي أوربا إلى أي مكان شاءوا خارج ما يسميه الغربيون (الستار الحديدي). وأرقام الوكالة اليهودية لسنة 1947 تشير إلى أن 89 بالمائة من يهود فلسطين هم من السلافين.
أما الكاثوليك في الاتحاد السوفيتي نفسه فقلة ضئيلة لا تتجاوز بضعة آلاف. ولكن الصراع بين الكومنفروم (الشيوعية العالمية) والفاتيكان يزداد حد يوما عن يوم في الدول الكاثوليكية التي يسطر عليها الشيوعيون إما بالغزو المسلح أو بموجب معاهدات بوتسدام وبالطا، أما بواسطة الانقلاب الثور ي كما حدث في تشيكوسلوفاكيا والدول الكاثوليكية في المعسكر السوفيتي هي:(818/4)
مجموع سكانها
عدد الكاثوليك
بولندة
24 مليون
22 مليوناً
تشيكوسلوفاكيا
12 12 مليونا
12 8 ملايين
المجر - هنغاريا
9 ملويين
7 ملايين
وهناك أقليات في رومانيا وبلغاريا لا تبلغ هذه النسبة المرتفعة
والطرق العملية التي تلجأ إليها الشيوعية لمحاربة الكنيسة في هذه الدول تختلف في بعض أوجه التنفيذ؛ ولكنها تتحد في مبلغ العداء والتحدي. وهذا باعتراف ستألين حين قال في أحد خطبه:
إن الحزب (الحزب الشيوعي الروسي) لا يستطيع أن يقف على الحياد إزاء العقيدة الدينية، وأنه يشن حملة على الدين وعلى كل أنواع التحامل المذهبي، فهذه هي افضل وسيلة لتقويض النفوذ الذي يمارسه رجال الكهنوت وينصرون (الطبقات الاستغلالية).
فلم يفعل الشيعيون في بولندة ضد الكنيسة الكاثوليكية ما فعلوه في روسيا ورومانيا مثلا حيث قيد نشاط الكنيسة الكاثوليكية في التوجه الشعبي والحكومي وجردت من صلاحيات التعليم والتوجيه السياسي وجعلت دائرة حكومية مقيدة بالتعليمات شأنها شأن الدوائر الحكومية الأخرى في الناحية العملية إن لم يكن في المظهر الخارجي. ثم حملت الأهلية الكاثوليكية على اعتناق الأرثوذكسية والتخلص من الولاء للفاتيكان هذا على الأقل ما تردده مصادر الحلفاء من أنباء شرقي أوربا.(818/5)
أما بولندة حي للكاثوليكية رسوخ متين في الأكثرية الساحقة من السكان. فقد أحجم النظام الشيوعي القائم هناك عن الإمعان في سياسة القمع والعنف مع الكنيسة الكاثوليكية، فقد أبقى لها بعض الحرية والنفوذ في التعليم والنشاط الاجتماعي، إلا أنه قيدها في المجال السياسي بمشروع السنة الماضية يسلخ عنها ممتلكاتها الواسعة مما جعلها تعجز عن القيام بمصاريف التعليم والمعاهد الخيرية محاولا بذلك إبعاد الشقة بينها وبين القوى الشعبية المؤازرة لها المتحمسة للدفاع عنها. وحين انتصرت القيادة الكاثوليكية العالمية في الفاتيكان الكنيسة بولندة وضع الشيوعيون العراقيل في وجه هذه المساعدة وترك هذا الجناح المهيض من العالم الكاثوليكي يعيش على تبرعات المزارعين البولنديين في بلد يوجه الاقتصاد فيه نحو الماركسية الشاملة مما يجعل مبلغ العون الشعبي للمؤسسات الحديثة شحيحا ضئيلا مما سيؤدي إلى تقليد نشاطها التقليدي.
وفي تشيكوسلوفاكيا اتخذت الكنيسة الكاثوليكية موقفا سلبيا في النظام الشيوعي الذي استولى على الحكم، ولكن كاثوليك تشيكوسلوفاكيا كما ليس خيرا من إخوانهم في بولندة.
أما في هنغاريا، فقد كان التحدي في أعنف مظاهره في بلد أكثر من ثلثي سكانه من اتباع الكاثوليكية، فقد صادرت الدولة الشيوعية أموال الكنيسة عملا بقوانين توزيع الأراضي على صغار المزارعين ولم تترك الدولة لمؤسسات الكنيسة الخيرية سوى مخصصات تافه، وحددت نسبة المعلمين من الرهبان في المدارس الأولية والثانوية التابعة للكنيسة، ومنعت التعليم الديني إجمالا في مدارس الدولة والمعاهد الأهلية. وقد حمل الكاردينال مندزنتي وكيل البابوية في بودابست لواء التحدي لهذه الإجراءات مما أدى إلى محاكمته على النحو الذي تناقلته الأنباء.
والاتهامات التي عزيت إلى الكاردينال الهنغاري أربعة:
1 - تعاونه مع الأواسط الأجنبية (الفاتيكان وسفارة أمريكا) ضد الحكومة الهنغارية.
2 - رياسته لمنظمة تسمى لقلب نظام الحكم.
3 - متاجرة بالعملة الأجنبية (لعلها المساعدة التي يتلقاها من الفاتيكان).
4 - عداوته لليهود. فالعنصر اليهودي في النظام الشيوعي القائم في هنغاري وفي كل مكان واسع النفوذ متمكن في مراكز التوجيه.(818/6)
وهذه الاتهامات في حد ذاتها تظهر طبيعة الدفاع الذي تهيئه الكنيسة الكاثوليكية ضد التحدي الشيوعي.
فالفاتيكان لا يترك أجنحة المهيضة في منطقة النفوذ الشيوعي تصارع منفردة، وإنما يقدم لها المعونة المادية والمعنوية بواسطة المبعوثين الدبلوماسيين للدول الغربية في عواصم الحكومات الشيوعية. ويبدو أن الولايات المتحدة بحكم المصلحة هي رسول الفاتيكان لاتباعه في المنطقة الشيوعية.
وهذه الاتهامات كذلك تدل على أن الكنيسة الكاثوليكية في صراعها مع الشيوعية لا تقتصر على التربية الدينية، فهي ترعى منظمات سياسية دنيوية الوسائل كعصبة العمل الكاثوليكي التي أنشأها البابا بنديكت الخامس عشر قبل ثلاثين عاما، وهي شبكة من الهيئات الشعبية تجند القوى الشعبية لنصرة الكنيسة وتتكلم باسمها في الشؤون المدنية، وهي مرتبطة مع بعضها على يد الفاتيكان وإدارته المركزية في دقة وأحكام.
وقد شعرت الكنيسة الكاثوليكية بخطورة التكتل العمالي واحتكار اليساريين لهذا التكتل فشرعت تنافسهم، ففي كل مجتمع كاثوليكي نقابات للعمال الكاثوليك توحي إلى الطبقات العامة أن الكنيسة نصيرة للعمال، وان نصرتها لا تقتصر على الخلاص الروحي، بل تتناول كذلك الإنعاش المادي عن يد التنظيم العمالي وما يستلزمه من ضمانات اقتصادية واجتماعية، وهذا النشاط يكون خارج سيطرة الكنيسة المباشرة، ألا أنه يعمل بإيحائها وينال بركتها ويلبي دعوتها عند الحاجة.
أما موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود في صراعهم مع الشيوعية الدولية، فهو غامض ودقيق، فمن التهم الموجهة إلى الكاردينال الهنغاري تهمة التحريض على اليهود. وقد حوكم من قبله عدد من الرهبان الكاثوليك في بولندة ورومانيا بنفس التهمة. والعداء لليهودية العالمية يقرأ بين السطور في المنشورات والصحف الكاثوليكية، ومع ذلك فلا يتخذ هذا العداء على خطورته طابع التحدي العلني (وقضية العدوان الصهيوني على الأماكن المقدسة اقرب مثل على ذلك)، وذلك لأسباب عدة، منها أن تسرب النفوذ اليهودي إلى ألسنة الرأي العام الدولي يجعل الكنيسة الكاثوليكية تتفادى أثار غضبه، وخصوصا في الدول الانجلوسكسونية لئلا تتهم حملتها (أي الكنيسة) على الشيوعية بالعداء المذهبي والعنصري،(818/7)
وهو (وباء) أحاطته اليهودية العالمية بحاجز من الأشواك الفكرية، فأصبح وصمة يهدد بها في الحضارة المسيحية المعاصرة كل من حدثته نفسه بالكشف عن خفايا الأجرام اليهودي في مجاله العالمي.
وقد وجد الكاثوليك أنفسهم في العالم البروتستانتي مرغمين على إسقاط هذه الناحية اليهودية في صراعهم مع الشيوعية الدولية لئلا يمعن النفوذ اليهودي القوي في ألسنة الرأي العام في إثارة الوقيعة التقليدية بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وقد ظهرت بوادر هذه الوقيعة من جديد في تصريحات بعض القساوسة البروتستانت الأمريكان في تعليقاتهم على محاكمة الكاردينال الهنغاري، وكادت هذه النزعة تتسع لولا أن أقدمت حكومة شيوعية أخرى هي بلغاريا على اعتقال 15 قسيسا بروتستانتيا، فقضت بذلك على أحداث المستنكرين البروتستانت للضجة الكاثوليكية.
وقد استفادت القيادة العسكرية الغربية من حدة هذا الصراع الديني الشيوعية والدين لتكسب لها عونا أدبيا في البرنامج الحربي الهائل الذي يعده الآن المعسكر الغربي للمعركة الفاصلة.
(نيويورك)
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية
-(818/8)
على رمال أحد
الفدائية الأولى
للسيد عمر الخطيب
(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المج الكبرى ورسمت حدود عالم إسلامي واسع).
- 1 -
خرج محمد يستقبل وفد (يثرب) وقد بدت على وجهه متاعب ما يكابد من عنت وأذى، ومعاندة واستهتار، من هذه العصبة الفاجرة من قريش، التي ألبت عليه القبائل، وأغرت به الصبيان والسفهاء، ودفعت إلى هجوه الشعراء، ينعتونه تارة بالكاهن والساحر، وطورا بالمجنون والشاعر، وهو صابر على أذاهم راض بقضاء الله فيه، يتسع قلبه الكبير لهذه المكاره كلها، وتطوى نفسه العظيمة هذا العبث الذميم، فهو يمشي على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا أسمعه السفهاء شتما والصبيان رجما رفع يده إلى السماء وقال (ربي أهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وحين لمح (صلى الله عليه وسلم) الوفد اليثربي الكبير، أختفت من وجه سحابة الألم، واستقبله باسما مرحبا، وجلس يحدثه عن عودته، ويبين له مبادئ رسالته، ويحثه على الصبر والشجاعة والتضحية، ويعلن لهم أن شريعته لا ترضى بالظلم والعبودية، ولا تقر الشرك والأوثان، وتنفر من البغي والعدوان. . . فإذا بالوفد يخشع، وبالعيون تدمع، وبالقلوب تجب، وبالنفوس تصفوا، وبالأرواح تصفق، فيتقدم الوفد اليثربي من الرسول مصافحا معاهدا، يبايعه على أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يأمر بالمعروف، ويسعى في الخير، ويدعو الله ويضحي في سبيله بالمال والنفس. . .
وتقدمت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك امرأة رزان، تمشي استحياء، ويكسوا محياها خفر المؤمنة التقية، وصبر الأم الحنون، وجلال من تملكت الخشية قلبه، وبسالة من باع في سبيل الله روحه. . . تقدمت تعاهد محمداً إلى الأيمان والتضحية والأقدام. . . فبارك صلى عليه وسلم عهدها، ودعا لها، وأمرها أن تكون رسولا إلى لداتها وأترابها،(818/9)
تدعوهن إلى الأيمان، وتغدوهن بلبان الإسلام، حتى تجلى نفوسهن، وتطهر قلوبهن، وتسمو مكانتهن، وينلن حقوقهن. . .
- 2 -
بينا (أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية) تنتقل من دار إلى دار، مبشرة الإسلام، داعية إليه نساء العرب، تمحضهن النصيحة، وتزف إليهن البشرى، وتحثهن على الخير والمعروف. . . وإذا بصوت النفير ينساب من جوانب المدينة، ويصل إلى أذنها ضئيلا خافتا، فيفزع فؤادها، ويهز جوانب نفسها فتخف مسرعة إلى بيتها، لتعرف الخبر من أهلها فإذا بها تفاجأ برهط من الصحابة مقبلين، وقد لبسوا دروعهم، وتقلدوا سلاحهم، فعلمت (أم عمارة) أنها الحرب، فانبلجت أسارير جبينها، واستيقظت مشاعر فؤادها. . . وأغذت السير حتى دخلت دارها، فألفت ابنيها وزوجها يجلون سيوفهم، ويصلحون لأماتهم، ويسرجون جيادهم، فانفجرت ثناياها عن ابتسامة الرضى والفرح، وأقبلت على أبنيها لتعانقهما وتقبلهما قبلت الوداع. . . وهنا صاح بها هاتف من ضميرها الحي المؤمن أن أذهبي يا أم عمارة مع الرسول في غزوته، تضمدين الجرحى، وتعدين السقاء، وتصلحين من شأن المجاهدين. . فلم تشعر إلا وقد انصرفت عن ابنيها، وراحت تعدو نحو المجد، لتلقى إلى الرسول بدخيلة نفسها، وأمينة فؤادها، لعله يسمح لها فتنال الشهادة في سبيل الله؛ وتضع في بناء الإسلام لبنة المرأة الشهيدة (والفدائية الأولى). . .
أذن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لأم عمارة بالخروج لغزوة (أحد) مع زوجها وابنيها، فرجعت فرحة جذلة، يرقص فؤادها طربا، وتزغرد روحها سرورا، وأعدت للخروج عدته، فجمعت العصائب، وأصلحت المراشف، وخرجت تمني النفس بالشهادة، وترنو إلى الجنة، وترقب من وراء هذا النقع الثائر النصر المبين.
- 3 -
شمرت الحرب عن ساقها، وحمى الوطيس، واحمرت الأحداق، ولم يمض غير قليل حتى التحم الفريقان: جيش محمد وجيش أبي سفيان، فجلجلت المساء بالتكبير، وصدق فرسان الإسلام الحملة، وأعملوا في رقاب المشركين السيوف، وثبتوا ثباتا انخلعت له قلوب(818/10)
أعدائهم، وتزلزلت قواهم، ووهنت عزائمهم وإذا بهم يلوذون بالفرار، أمام هذه الوثبات الجبارة من هذه الأسود المؤمنة. وظن المرابطون على الجبل أن المعركة قد انتهت، فانصرفوا إلى الغنائم، وكانت هذه فرصة لجيش قريش، فكر راجعا وعزم على أن يمحو الإسلام، ويبطش بمحمد، واستمات المشركون في الهجوم، وعللوا أنفسهم بالحياة بعد الموت، وبالنصر بعد الاندحار. . .
رأت أم عمارة كتيبة من الأبطال المغاوير الثابتين حول محمد يردون عنه، ويقاتلون دونه، وقد آلوا أن يفدوه بأرواحهم، ويموتوا أمامهم عن أمامه عن أخرهم، فثارت فيه حميت الإسلام، وأيقنت أنها ساعات فاصلة في تاريخ هذا الدين، وتمثلت أمامه الجنة الوارفة الظلال بسبيلها ونعيمها وخلودها، ورأت أن ليس بينها وبين الجنة وما أعد الله فيها للشهداء إلا أن تجود بهذه الروح، وتهرب من هذه الدنيا. . . وذهبت تطوف بخيالها في جوانب هذا العالم المنشود، وتمتع الروح بهذه الأماني العذبة، والآمال العطرة. . . ولم يردها إلى الواقع التي هي فيه إلا صياح القريب ترامي إلى أذنها، وصوت قوي يقول (دلوني على محمد لا نجوت إن نجا). فنظرت أم عمارة فإذا (بابن قميئة) يعدو والسيف بيده قاصدا رسول الله، فأظلمت الدنيا في وجهها، وربت ربوة شديدة، وزأرت زئير اللبؤة ديس عرينها، وانتضت حسامها البتار، وأقبلت تعترض طريق أبن قميئة. . . وتستقبل ضرباته بصدرها وكتفيها، حتى ردت هذا الوحش الهائج عن محمد، وأكرهته على الفرار حتى ليقول الرسول صلوات الله عليه (ما ألتفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
ورأت أم عمارة ابنها، وفي ذراعه جرح ينزف الدم فأقبلت نحوه تعصب جرحه وتضمده، ثم تحفز إلى العمل، وتلقى عليه دروس الصبر والبطولة فتقول: (قم يا بني فضارب القوم وجاهد في سبيل الله. . .) فيقوم الفتى الباسل، ترب الشجاعة، ولدة الإقدام، ويمشي نحو سيف ملقى بجانبه، ليعاود الكر والفر، ويقاتل في سبيل الله، وهنا تند من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فيرى هذا المشهد المؤثر فيمتلئ قلبه إكبارا وحبا ويقول: (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟) ويلتفت عن يمينه فيرى رجلا مقبلا يخب في سيره، ويلتفت يمنه ويسره فيقول الرسول: (يا أم عمارة هذا الذي ضرب ابنك) وما إن سمعت أم عمارة نداء الرسول حتى أهتز كيانها، ووثب جنانها، وأسرعت تعترض طريقه، وقد آلت أن تثأر(818/11)
لابنها ولإخوانه الذين جرحوا واستشهدوا في سبيل الإسلام، ثم شهرت في وجه سيفها وضربت به ساقه وصدره، فوقع قتيلا يتخبط بدمه. . .
ورأى رسول الله هذه البطلة تثار لابنها، وتقتص من جرحه فتملكه إعجاب شديد، وأبتسم حتى بدت نواجذه وقال لها: (استقدمت يا أم عمارة، الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك من عدوك واراك ثأرك بعينك).
ولم تكد أم عمارة تجهز على فريستها، وتمسح حد سيفها، وتلقى به في غمده، حتى سمعت تصايحاً، ولمحت غباراً، ونظرت فإذا بها ترى ثلة من مشركي قريش، قادمين نحو محمد، وفي عيونهم حنق وشر يريدون قتل الرسول واستئصال المدافعين عنه فتحسست مقبض سيفها، ثم سلته من غمده وعلمت أن حديثه لم ينته، وأن لسانه لم يسكت، وانه مازال به شوق إلى الدم، وشغف بأعناق المشركين فاستلته وصاحت (الله أكبر الله أكبر) وهمت أن تعدو نحوهم. . . لتؤدبهم مرة أخرى، وترجع برأس قائدهم الطاغية، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مولياً ومعه ترس فصاح به: (ألقي ترسك إلى من تقاتل). فألقى الرجل ترسه وتناولته أم عمارة ونهدت إلى المشركين، وهنا أقبل عليها فاستقبلت ضربته بالترس، وأهوت بضربة قوية على عرقوب فرسه فوقع على ظهره، يفحص بقدميه: وخشي الرسول أن ينهض هذا العاثر فيقتل أم عمارة فصاح يأبنها (يا أبن أم عمارة، أمك أمك فعاونها) فانتضى الفتى سيفه وتقدم من الفارس العاثر وعاون أمه في القضاء عليه ولم يتركاه إلا جثة هامدة. . .
- 4 -
انصرف (ابن قميئة) إلى صحبة بعد أن ردته أم عمارة خاسئا ذليلا، يحمسهم، ويقسم عليهم باللات والعزى، أن يقتلوا محمداً ويستأصلوا دعوته، ويبيدوا صحابته، وينصروا آلتهم. . . ومازال بهم حتى أثار حفائظهم، وأذكى قلوبهم وأحمى دمائهم فقاموا يقصدون محمداً. . .
ورأت أم عمارة أبن قميئة مقبلا قد عاد ثانية مع أصحابه بعد أن ردته على أعقابه خاسراً، فعلمت أنه قد بيت أمراً وأراد شراً فلم تجزع ولم تجبن، بل تطلعت نحو السماء، تستلهم العون والقوة؛ وتقدمت تدافع عن الرسول، فتجندل الفرسان، وتصرع الشجعان، وتتلقى الضربات ثابتة الجنان، صابرة راضية مطمئنة حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا، ولم ترجع(818/12)
إلا ومرفوعة الهامة، موفورة الكرامة، قد ردت مع إخوانها عدوان المشركين ودافعت عن قائدها العظيم. . . والرسول الأمين. . .
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء تتدفق من جراحها فصاح بابنها (أمك أمك. اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وقلان. . .) وسمعت أم عمارة رسول الله يثني عليها هذا الثناء ويطري عملها ويبارك جهادها، فطابت نفسها، وقرت عينها وقالت (يا رسول الله، ادع الله أن نرافقك في الجنة) ثم تركت لدموعها الحديث. وهنا رفع محمد يديه إلى السماء وقد اخضلت لحيته بالدموع وقال: (اللهم أجعلهم رفاقي في الجنة) فقالت أم عمارة: (ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد هذا الدعاء) ثم ألقت رأسها في حجر ابنها، ونامت متأثرة بجراحها، فخورة بجهادها، وقد اطمئن ضميرها، وقر فؤادها. . . ثم أرخى الليل جناحه، وغمر المدينة بظلام وسكون. . .
- 5 -
نظرت (أم عمارة) وكان لا يزال رأسها في حجر أبنها فرأت الشمس ساطعة، والنهار مشرقا، وسمعت المنادي يدعو إلى الجهاد والناس يسرعون في الاستعداد، والمدينة في حركة دائبة، وعمل مستمر فعاودها الحنين للقتال، وصاح بها هاتف من ضميرها مرة أخرى يقول: (إلى حم راء الأسد يا أم عمارة. . . إلى الثأر من المشركين إلى أعداء كلمة الله. . . ورفع منار الإسلام) فهبت واقفة وأرادت أن تخطو إلى الأمام لتحمل سيفها وتهاجر إلى الله وتجاهد في سبيله، ولكنها عجزت عن المسير، وأقعدتها الجروح الدامية فمكثت تبكي وتندب حظها العاثر، وتعلل النفس بالجهاد القريب تحت راية محمد، وانصرف أهلها يضمدون جروحها، ويخفون عنها، حتى اقبل الليل. . . فنامت دامية الجسد حسيرة الفؤاد. . .
القاهرة
عمر الخطيب
(فتى الفيحاء)(818/13)
شعراء معاصرون
العاطفة الدينية في شعر محرم
للشيخ محمد رجب البيوتي
- 1 -
منذ انتقل إلى جوار ربه الشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد محرم وأنا أشعر بحماس يدفعني إلى الكتابة عن عاطفته الدينية، فقد قرأت الكثير من روائعه المبدعة، فلمست فيها روحا حية متوثبة، وكان للنغم الساحر الذي تردده قيثارة الشاعر روعة عجيبة، فهو يرتفع بالقارئ إلى أفق رحب فسيح ترفرف فيه أجنحة الفضيلة والعزة، ويذكره بما كان للأمة العربية في عهدها الغابر من مجد باذخ قامت دعائمه على البسالة والكرامة فيحرك العاطفة ويوقظ الشعور. . .
والحق أن دراسة محرم رحمة الله من ألزم اللوازم في عصر ماجن ما جن مستهتر، فقد عصفت برءوس بعض الشعراء قي الشرق والغرب فوازع خبيثة تدفعهم إلى الفوضى الخليقة والتحلل الإباحي، زاعمين أن الشاعر الحق هو الذي ينساب وراء غرائزه وميوله، وأن العبقرية توقع صاحبها في مزالق مريبة، بل إن منهم من يتعمد الوقوع في البغي ليكون أحد هؤلاء العباقرة المتحللين!! وكم جر الاستعمار الغاشم على أبناء الشرق فضائحه ومخازيه، فزين له الخبيث، وبغض إليهم الحسن الجميل!.
نشأ الشاعر في بيت ريفي متدين فقد كان والده حريصا على تثقيفه وتهذيبه، فأحظر له في دور الطفولة من قام بإرشاده وتوجيهه فحفظ القرآن الكريم ودرس النحو والعروض واللغة، وأكب على استظهار النصوص الأدبية، ففتحت أكمام شاعريته الغضة، وبدأ يتغنى بمقطوعات بدائية تبنى عن ملكة واستعداد، وقد اتجه بنوع خاص إلى الثقافة الدينية فقرأ الحديث الشريف، وطالع السيرة المطهرة ودرس التاريخ الإسلامي المجيد، ثم عكف على قراءة الصحف والمجلات فألم إلماما مفيدا بسياسة أمته ووطنه، وشاهد في معية صباه ما يدبره المستعمرون من مكايد خاتلة للعالم الإسلامي، فتأوه لمصباح الفادح، وأطلق لشاعريته العنان فتغنى بمجد الإسلام وحث على استرجاع ما فقده الشرق من عظمة شاهقة وجاه(818/14)
عريض.
وإذا كنا نعتبر محرماً شاعر العاطفة الدينية في عصره دون منازع فأننا نتخذ منه دليلا يبطل ما زعمه الأصمعي من أن الشعر في جملته نكد صعب لا يسهل إلا في الشر، وتلك دعوى زائفة وجدت مكانها في العقول فحولت أنظار الشعراء عن الدعوة إلى المثل العليا، والتمدح بالأخلاق الدينية الرفيعة، وأنت تطالع الدواوين الشعرية فتجد ما قيل في المجون والخلاعة أضعاف ما قيل في التصوف والاحتشام وبديهي أن الشاعر المتمكن المطبوع يستطيع أن ينظم - بقوة إتقان - في شتى الأغراض التي تأخذ بمجامع قلبه، وتسيطر على خوالج نفسه، سواء كانت تتجه إلى الخير أو الشر، فالمدار على إذن قوة الشاعر وموهبته، ومن يستطيع نظم الرقائق الفاتنة في الليل الدامس، لا يعجزه أن يرسم الصور الساحرة للصباح الضئ، وهاهو ذا محرم قد أندفع وراء عاطفته اندفاعاً حميداً، فجاء شعره نموذجاً حسناً للشعر المثالي الرصين.
ونحن حين نشيد باتجاه محرم وجهة الخلق والدين، ولا نعني بذلك أنه عقد في ديوانه فصولا خاصة بالدعوة الإسلامية، ولكننا نؤكد أن عاطفته الدينية قد ارتسمت بوضوح في شتى الأغراض الشعرية التي تحدث عنها الشاعر الكبير، فأنت تقرأ مدائحه ومرائية واجتماعياته وسياساته فتجد كل بيت ينطق بإيمان قائله، ويحدد الهدف الخلقي الذي يدعو إليه في حرارة وإذا رزق الشاعر إيماناً فلابد أن يترسم في مرآة شعوه، فهو إذا جال في إحدى سبحانه سيطرت عليه عاطفته المخلصة فوجهته أكمل توجيه حتى يصل إلى المرفأ الأمين.
وكنت سألت من أثق بهم من خلطاء محرم ورفقائه عن حياته وأخلاقه فسررت بما عملت من مروءته ونبله، حيث كان يبذل ما يملك - على ضآلته - في معونة المستعين، كما يحافظ على فرائض العبادة من صلاة وصيام. ثم هو إلى ذلك صفوح متسامح لا يؤاخذ مسيئاً بنقيصة، ولا يميل إلى الجدال والثرثرة في غير طائل. ويمكننا أن نقول إنه اتخذ كتاب الله إما ما يأتمر بأوامره، ويجيد عن نواهيه، وإنه ليعلن ذلك في صراحة إذ يقول:
أقول لصاحبيّ - وعاهدني - ... كتاب الله بينكما وبيني
فكونا صادقين ولا تخونا ... فإن لنا لإحدى الحسنين(818/15)
ولست ببائع نفسي وديني ... ولو أتيت ملك المشرقين
لهذا سلطة ولتلك أخرى ... فما بالي وبال السلطتين
سأملأ هذه الغبراء مجداً ... وأترك أهلها صغر اليدين
على التاريخ بعد الموت حقي ... وعند الله يوم الدين ديني
وقد أباح الشاعر لنفسه أن يتمدح بمروءته وتقواه، ولسنا نؤاخذه على ذلك فقد نشأ في عهد إباحي، وجد فيه من يتشدقون بآثامهم المخزية ويجاهرون بفضائحهم المندية، فإذا ألم بهم داع إلى الحق لووا رءوسهم ساخرين!! فلا مناص من أن يجاهر المهذب العف بشمائله، ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولقد صور الشاعر أخلاقه، وشرح عواطفه تشريحا صادقا حين:
من أيادي الله أني لم أخن ... عهد الأوفى أروم المغنما
راودتني عصبة عن حقه ... فأبى العرق الكريم المنتمى
عفة تقذف بي عن همة ... تقذف النسر وترمي المزرما
لا أرى الغدر وأن جشمني ... صرف دهر ظالم ما جشيما
مرحبا بالبؤس في أسبابه ... عفة البأس عن أن يأنما
ما يريد الدهر من مستبسل ... ما يهول الخطب إلا اقتحما
وسنوجز الحديث إيجازا، فنترك كلام الشاعر عن نفسه ونميل بشي من التحليل إلى بعض الأغراض التي جال في حلباتها جولات موفقه. وفي رأي أن قصائد محرم السياسية والاجتماعية والتاريخية تكفي الباحث المنصف في تكوين رأي صادق في عاطفته الإسلامية، ونبدأ بالحديث عن سياساته فنقول:
- 2 -
كان للخلافة العثمانية في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن ظل ينبسط على الدول العربية المتجاورة، ولئن تغلغل النفوذ النفوذ الاستعماري في شتى بقاع الشرق حقبا متوالية، فقد كان أبناء هذه الدول ينظرون إلى الخليفة العثمانية نظرة عالية، فيرون طاعته فرضا أكيداً يوحيه الإسلام وتملية العقيدة، ورغم ما أشتهر به عبد الحميد من العسف والجور والخروج عن شرعة الأنصاف فقد لهجة بمدحه كثيرا من الأدباء والشعراء، إذ(818/16)
كانوا يصرفون النظر عن شخصه ويرون الخليفة فكرة رمزية تقيم العدل وتجدد معالم الدين، وقد تفانى محرم - جربا وراء عاطفته الدينية - في محبة الأتراك فمنح خلفائهم الود وهاجم أعدائهم بقذائفه الصائبة. وأنت تقرأ مديحه في السلطان العثماني فتجده ينظر إليه من نافذة العقيدة، فيذكره بمركزه الديني ومقامه الإسلامي ثم يدلف إلى تقديم نصائحه التقليدية فيحث على الوحدة القومية، وينادي بالجامعة الإسلامية، وكان للمعارك الحربية التي خاضها الجيش العثماني صدى تردد في نفس الشاعر، فسجل الوقائع اليونانية، وندد بمن يهددون (الرجل المريض) بالثورات الداخلية والفتن الخارجية، وقد اعتمد الشاعر على خياله البعيد، فبالغ في مديح الجنود الأتراك مبالغة تدعو إلى العجب، وكأنه أراد أن يقوى الروح المعنوية في الشعوب الإسلامية فجوف الحقائق تجويفا يناقضه الواقع، وهو بلا شك مشكور لغيرته وحميته، وإلا فهل كان الجيش التركي في رمقه الأخيرة كما قال فيه؟
لهم كل يوم غارة تصبح العدى ... وأخرى تضئ الليل والليل فاحم
إذا نفروا لم ينفروا عن شمالها ... ولم يصحروا عن سيلها وهو عارم
بنوها الألى لا يرهبون بها الردى ... إذا اهتزمت في حافتيها الزمازم
إذا أقدموا لم يثنهم عن مغارهم ... غداة الوغى أهوالها والمآزم
معمون فيها مخولون إذا اعتزوا ... نمتهم قريش في الحفاظ وهاشم
أولئك أبطال الخلافة تحتمي ... بأسيافهم أن داهمتها العظائم
هم المانعوها أن يقسم فيئها ... وأن تستبي بيضاتها والمحارم
هم الناس لا ما تنكر العين من قذى ... وتوشك أن تنشق منه الحيازم
وما الملك إلا ما أطالت وأثلت ... طوال العوالي والرقاق والصوارم
ولقد ظل الشاعر على إخلاصه للدولة العثمانية، يمجد في أعلامها ويسهب في الثناء على مواقفها، وينذر الثوار الداخلين فيذكرهم بمسئوليتهم الفادحة أمام الله إذ يشعلون الفوضى بلا موجب، ويوقدون الفتنة في ربوع مضطربة تعصف بها الرياح الهوج.
وكم كان الألم لاذعاً في نفس محرم حين طوى بساط الخلافة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقد أفزعه اضطهاد الكماليين لرجل الفقه والتشريع، ونقا إليه ما ارتكبوه من غلو فاحش، حيث وأدوا العاطفة الدينية في وقت أصبح فيه القابض على دينية كالقابض على(818/17)
الجمر. وأذكر أنه نظم في سقوط الخلافة ملحمة طويلة طبعت وحدها في كتاب مستقل، وكان يهمني أن أستشهد ببعض أبياتها الدامغة، لولا ضياعها من يدي. ولا أدل على حماس الشاعر للأتراك العثمانيين من قصيدته المؤثرة في رثاء والده، فقد نسى مصابه الشخصي، وغالبته العاطفة الدينية فترك الأنين والدموع وأندفع إلى الحديث القائم العثمانيين والإنجليز، ولك أن تقدر معي شعور مسلم غيور، هاجت عاطفته الدينية فأنسته ما وقع فيه من أسى قاتل، وحزن مرير.
هذا وسياسات محرم تتسم بطابعها الإسلامي فمدائحه في العزيز حث وتذكير بالآداب الخلقية، ورجوع بالأمة إلى ماضيها المجيدة؛ وقصائده في الحرب العالمية الأولى تنديد بالحضارة الغربية المتوحشة، وتصوير صادق للمسارح الدولية التي تراق فيها الدماء وتتناثر عليها الأشلاء. هذا إلى مقارنة معتدلة بالحضارة الإسلامية في عهدها الزاهر، وكيف كانت مناراً شع على العالم بضوئه الوهاج. وحين قامت الحرب الطرابلسية الإيطالية صرخ محرم صرخات مؤرقة، ولم يشأ أن يقصر شعره البربرية الإيطالية المتوحشة، فيكتفي برسم الفضائع الدامية التي أرتكبها المحتلون بالشعب الأعزل المستكين، بل غمره شعوره الديني في طوفان جارف صخاب، فتمثل البيت الحرام يرتجف رعبا بمكة، ويثرب ذات القبر الطهور تولول جازعة؛ استصرخ الغر الميامين من أبطال الإسلام، فتساءل عن علي بن أبي طالب، وتطلع على خيل الله يقدمها صاحب اللواء، وتذكر ابن الخطاب في فتوحاته الشاسعة وحن إلى المقاديم من فهر ومضر وقريش، أسمعه يقول:
أين ابن عم رسو الله يطفئها ... حرباً على كبدي من نارها شرر
أين اللواء وخيل الله يبعثها ... عمرو ويقدم في آثارها عمرو
أين المقاديم من فهر ومن مضر ... ومن قريش وأين السادة الغرر
أين الملائكة الأبرار يقدمهم ... جبريل يستبق الهيجا ويبتدر
أين الوقائع تهتز العروش لها ... رُعباً وتنتفض التيجان والسرر
أين القياصر مقهورين لا صلفا ... نآى بجانبهم عنا ولا صعر
أيطرب البيت أم تبكي جوانبه ... حزنا ويقول فيه الركن والحجر(818/18)
ويح الحجيج إذا حانت مناسكهم ... ماذا يرى طائف منهم ومعتبرو
أين الحماة وقد ضاعت محارمنا ... أين الكفاة وأين الذادة الغير
وهكذا كان التذكير بالماضي سلاحا سلا بائرا في قبضة الشاعر، والحق انه آتى أكله وأثمر في حينه فوثقت الأمم العربية بماضيها المجيد، بعد أن حاول الاستعمار الغاشم أن يبرزه في صورة نكراء.
وطبيعي أن يكون ندب الماضي االبهيج مقروناً بالتحسر على الحاضر الأليم؛ فالصورة الجميلة المشرقة لا تكمل لها أسباب الروعة إلا إذا قرنت بصورة دميمة بشعة، وحالة الشعوب الإسلامية قد بلغت من الهوان مبلغا يستدر الدموع، فكانت الشكوى من انحطاط الشرق ميدانا فسيحا تحول فيه الأقدام حتى ليجوز لنا أن نعتبره عنصراً هاماً من عناصر الشعر الحية في نهضتنا الحديثة. ومعلوم أن الشعور بالنقص هو الدافع الأول إلى الكمال والتقدم، فلا مناص إذن من الاعتراف بالواقع الأليم. وكم تضرع محرم إلى ربه راجيا أن يأخذ بيد أمته إلى طريق البر، وكم سهر الليالي الطويلة يتألم فيما خيم عليها من غواش حالكة؟ وكم وقف بين اليأس والأمل لا يدري أي يبتسم الدهر للشرق أم تكون الأخرى فيضل الكابوس الأوربي جاثما فوق صدور المسلمين؟ عواطف مشتجرة متناحرة خلقتها الروح المتوثبة في نفس الشاعر فصيرته في حيرة من أمره إذ يقول.
تفاقمت الخطوب فلا رجاء ... وأخلفت الظنون فلا وثوق
تطالعنا السنون مروعات ... ونحن إلى أهلتها نتوق
يمر العهد بعد العهد شراً ... فأين الخير والسعد الأنيق
نوائب روّع التنزيل منها ... وضج القبر والبيت العتيق
بنا من ضارب الحدثان مالا ... يطيق مضاءه العضب الذليق
كأن جراحه في كل قلب ... شفاء للمنية أو شدوق
رويد البوم والغربان فينا ... أما يغني النعيب ولا النعيق
وردنا للنواعب لو عمينا ... وسدت من مسامعنا الخروق
أمض قلوبنا داء دخيل ... وهمّ في جوانحنا لصيق
وجف الريق حتى ود قوم ... لو أن السم في اللهوات ريق(818/19)
وبرح بالترائب مستطير ... يعاوده التميز والشهيق
ولولا هذه الصيحات المدوية ما أستيقظ أهل الكهف في: الشرق. ولن ألفت القارئ إلى ما في الأبيات السالفة من سلاسة وعذوبة فهي يتم عما يترقرق فيها من جمال فاتن، وتشهد لقائها المطبوع بالجودة والافتنان.
ولقد كان الشاعر دارساً لدينه دراسة مستفيضة، ولم ينجح به هواء - وهو المسلم الغيور - إلى المغالاة والتعصب، بل كان يضع الأمور في نصابها وضعاً صحيحاً، فحين بذر (السيرغورست) بذور الشقائق بين المسلمين والأقباط، أدرك محرم مراميه الدنيئة، فهب يدعوا إلى التسامح الديني ويذكر العنصرين المتناصرين لمبادئ الإنجيل والقران، ويشيد بعظمة المسيح ومحمد، ويرجع القهقري إلى التاريخ المصري القديم فيصور مجد الفراعنة الزاهر، ويستشهد بالأهرام الشاهقة، والمعابد الماثلة، ويعرض لما كان بين عمر والمقوقس من عهود، ثم يهدف إلى المطامع الأوربية وما بيته الإنجليز لمصر من شر يعصف بالعزة ويمحق الكرامة. وقديما كان التسامح والتواد منهج القادة من المفكرين والمصلحين وبهذه الروح السامية تكشفت خبائث المحتلين وافتضح الثعلب الإنجليزي الماكر فأطرق برأسه إلى الأرض حين أبصر الهلال والصليب يتعانقان في محبة وسلام.
(البقية في العدد القادم)
محمد رحيب البيومي(818/20)
المغامر العظيم
عن الإنجليزية
في فتن الجبال،
وعلى رؤوس الأمواج،
في منابع المياه،
وتحت قبور الأموات،
في غمرة الفيوض العميقة،
التي يطأطأ (نِبتُون) لها الرأس،
وفوق الصخور الوعرة الشُّم،
لن يعدم الحب أن يشق لنفسه طريقاً،
وحيث لا مكان للدودة تقر وسكن،
وحيث لا فضاء للذبابة ترن فيه وتهَوِّم،
حيث لا يجرؤ الفارس التَحْريم،
خوفاً على نفسه من التلف والبوار،
فإن الحب - إذا أقيل - مرق في سرعة،
ولم يعدم أن يشق لنفسه طريقاً،
قد تعدُّه طفلا إن نظرت إلى قُواه،
أو تعده جباناً لأنه يجنح إلى الفرار،
على أن تلك التي يَشرِّفُها،
لو اختبأت من ضوء النهار،
وأقامت على نفسها ألفاً من الحراس،
فلن يعدم الحب أن يشق لنفسه طريقاً،
تخلصاً منه يرى البعضُ يسجنه،
والبعض يحسبه - يا للمخلوق المسكين - أعمى،
ولكن أغلقوا عليه ما شئتم،(818/21)
فان الحب الأعمى - كما يحلوا لكم أن تدعوه -
لن يعدم أن يشق لنفسه طريقاً،
قد ترضون النسر على أن يخضع لقبضاتكم،
أو لعلكم تصرفون كاهن الشرق عن دينه،
أو لعلكم تصرفون كاهن الشرق عن دينه،
بل ربما زحزحتم اللبؤة عن فريستها،
ولكنكم لن تستطيعوا أن تقفوا في وجه العاشق،
فإنه لن يعدم الحب أن يعشق لنفسه طريقاً.
السيد مصطفى غازي
ليسانس في الآداب من جامعة فاروق الأول(818/22)
نصير الدين الطوسي
حامي الثقافة الإسلامية وتراث العرب الفكري إبان الغزو
المغولي
للأستاذ ضياء الدخيلي
مدرسته ومكتبته في مراغة، جهوده الخصبة في حقول علم الفلك في مرصده العظيم، شهادات كبار المستشرقين سيديو الفرنسي، نلينو الإيطالي وفليب وسارتون واسمث الأمريكيون.
ما يقوله فيه ابن العبري وأبن شاكر وابن كثير ودائرة المعارف الإسلامية وابن الوردي وابن قيم الجوزية.
قال داود اسمث الأمريكي في كتابه تاريخ الرياضيات ج1 ص 287. (وفي عصر انحطاط المعرفة في بلا الإسلام لا تجد في القرن الثالث عشر من يستحق أن نخصه بالذكر سوى المؤلف من إيران أنفق سنوات حياته الأخيرة في بغداد. ذلك هو النصير الدين محمد ابن محمد بن الحسن أبو جعفر وكان من سكان طوس في خراسان وعاش من 1201 حتى سنة 1274 وقد نبغ في علوم مختلفة وألف في علم المثلثات والفلك والحساب والهندسة وفي تركيب الإسطرلاب وكيفية استعماله).
فها أنت تجد اسمث يسجل إعجابه بالطوس وبالظاهرة التي لفتت إليه الأنظار وهي تبريره في علوم مختلفة وتأليفه فيها الكتب الخالدة. وقد فات اسمث علوم جليلة أخرى تفوق فيها الطوسي ومنها الفلسفة. فإن كتابه في شرح إشارات ابن سينا من أنفس الكتب كما شهد له بذلك ذوو الفضل، وأن دائرة المعارف الإسلامية قد اعترف له أيضاً بأنه كان علامة في مواضيع شتى وعلوم متباعدة الأغراض وأنه ألف فيها الروائع النفسية وقالت أنه ومعنى هذه الكلمة صاحب التآليف والتصانيف في مواد شتى، وقالت أنه يرجع الفضل في شهرته وذيوع صيته وراء الدوائر الشيعية لكتيبة وتتبعاته في العلوم الصحيحة من الطب والطبيعيات (الفيزياء) والرياضيات وعلى الأخص في علم الفلك والهيئة حيث نال الطوسي أكبر شهرة بأعماله العظيمة في حقل علم الفلك. وقد كان مدينا في حصوله على وسائل(818/23)
تتبعاته الفلكية لشغف خانات المغول بفن التنجيم وعلى الأخص صاحبه هولاكو الذي رغبه في بناء مرصد كبير في مراغة جهزه جهز بأحسن الأدوات وبعضها أستبط وصنع لأول مرة وزوده بجماعة كبرى من الراصدين والمراقبين. وكان عمر الطوسي عندما ابتدأ ببناء الرصد 60 عاماً وقد بقى 12 سنة أخرى حتى أنجز وأتم عمله في حسا ب جداول جديدة للكوكب السيارة قامت على الأرصاد والمشاهدات الشاملة. وقد دون استنتاجاته في كتابه (الزيج الايلخاني) وتتناول المقالة الأولى بحث التواريخ، والثانية حركات السيارات، وخصصت المقالتان الثالثة والرابعة للأرصاد التنجيمية. ومن مؤلفاته الأخرى نذكر كتاب (التذكرة الناصرية) وفيها تخطيط وعرض لجميع ما في حقل علم الفلك وقد علق عليها العلماء المتأخر ون وشرحوها عدة شروح الخ (راجع في دائرة المعارف الإسلامية الجزء الرابع ص 890 من النسخة الإنجليزية).
وقال المستشرق الفرنسي العلامة سيديو في كتابه (تاريخ العرب العام) وكان سيديو أستاذ التاريخ في كلية سان لويس عضوا في مجلس الجمعية الآسيوية وفي اللجنة المركزية للجمعية الجغرافية في فرنسا وسكرتير كوليج دو فرانس الخ. . قال في (ص 410) واختلط تاريخ سلاطين آل سلجوق بأخبار الحروب الصليبية منذ القرن الثاني عشر فظلت العلوم في المشرق مغطاة طيلة هذه الحروب بغطاء لم يرفعه عنه أحد بعد.
وهذا لا يعني أن الدراسات الجدية هجرت فقد أبصرنا خان المغول هولاكو بجمع في بلاطه (عام 1259 م) علماء اشتهروا بمعارفهم الرياضية والفلكية وأشهر هؤلاء العلماء هو واضع الزيج الأبلخاني نصير الدين الطوسي. وقد وجد هذا العالم في نعم مولاه الجديد ما يشجعه فأقام مرصد مراغة وجمع بعناية ما هو منثور في خراسان وسورية وبغداد والموصل ومن المخطوطات. ولم يأل جهدا في إكمال الآلات التي يستعملها في إرصاده.
ومما صنعه أحداث ثقب في قبة المرصد تنفذ منه أشعة الشمس على وجه تعرف به درجات حركاتها اليومية ودقائقها وارتفاعها في مختلف فصول السنة وتعاقب الساعات: وهذا يعني تطبيقا جديدا للميل ذي الثقب الذي استعان به العرب منذ القرن العاشر. ومن هذا الميل وذات الحلق الكبرى التي تشابه آلة (نيخو براهة) وأرباع الدائرة المتحركة والكرات السماوية والأرضية وأنواع الإسطرلاب تتألف مجموعة آلات مهمة استعان بها(818/24)
نصير الدين الطوسي.
قال (سيديو) وساعد نصير الدين في أعماله مؤيد الدين المرضي وفخر الدين الخلاطي التفليسي ونجم الدين بن دبيران القزويني وفخر الدين المراغي الموصلي ومحي الدين المغربي وغيرهم. فانجز في (12) سنة من الأعمال ما يتطلب (30) سنة على حسب الحسابات الأولى وعلمنا أنه اقتبس الزيج الحاكمي لابن يونس مع إدخال تعديلات مفيدة قليلة إليه ففتح دور إقبال كبير على المرصد ولخص على شاه البخاري والندام (كذا في أحياء الكتب العربية - ولعل الصواب هو النظام) ونجم الدين ابن اللبود ي - الزيج الأبلخاني، وصحح هذا الزيج غياث الدين جمشبد بن مسعود الكاشي؛ فكانه معول جميع المدارس الفلكية حتى ظهور ابن الشاطر الذي عد في سنة 1360 شيئا مما ارتضاه أسلافه في النتائج.
يقول (سيديو) آذن أعاد مغول بلاد فارس إلى المدارسة العربية بعض رونقها وترى من ناحية أخرى أن (كوبلاي خان) أخا (هولاكو خان) عندما أتم فتح الصين نقل إلى مملكة أبن السماء وسائل علماء بغداد والقاهرة.
ونلقى (كوشى كيننغ) في سنة 1280 م أزياج ابن يونس من جمال الدين الفارسي فدرسها دراسة دقيقة وإن عرض (غونيبل) لآثار (كوشي كينغ) لم يكن ليكتشف القناع عن أصلها. وعلى ذكر سيديو ابتكار الطوسي إحداث ثقب في قبة المرصد تنفذ منه أشعة الشمس على وجه تعرف به درجات حركاتها اليومية ودقائقها وارتفاعها في مختلف الفصول وتعاقب الساعات الخ - بهذه المناسبة نذكر للقارئ الكريم ما نقله ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774هـ في الجزء 13 من كتابه (البداية والنهاية) عن عظم قبة المرصد.
قال ص 267 (إن الخواجا نصير الدين هو الذي كان قد بنى المرصد بمراغة ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء وبنى فيه قبة عظيمة وجعل فيه كتابا كثيرة جدا).
وكان ابن العبري المتوفي سنة 1286م في مدينة مراغة من أعمال أذربيجان - قد انتقل اليها منذ برهة من الموصل، روى أخوه برصوما أنه لما فتشت التعديات في نواحي نينوى الح عليه في الانتقال إلى مراغة وكان هناكفي (مراغة) مكرماً من خاصة الناس وعامتهم(818/25)
(وإذا عرفنا أن وفاة الطوسي رحمة الله - كانت عام 1274م علمنا أن ابن العبري توفي بعد الطوسي ب (12) سنة فهو إذن قد شاهد الحركة العلمية في مراغة).
وقد قال ص500 من تاريخه (وفي 675هـ توفي في الخواجا نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغه: وهو حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة واجتمع إليه في المرصد جماعة من الفضلاء والمهندسين وكان تحت حكمه جميع الأوقاف في جميع البلاد التي تحت حكم المغول وله تصانيف كثيرة: منطقيات وإلاهيات وأوقليدس ومجطسي وله كتاب أخلاق فارسي في غاية ما يكون من الحسن جمعه فيه نصوص أر سطو وأفلاطون في الحكمة العملية، وكان يقوي آراء المتقدمين ويحل شكوك المتأخرين والمؤاخذات التي أوردوا في مصنفاتهم ثم يذكر أعوانه على الرصد. وقد ذكر عن محي الدين المغربي ما نقله له من كيفية خلاصه من ذبح التتار له فقال: كان محي الدين المغربي مع الملك الناصر فلما أراد المغول أن يقتلوه وجماعته قال محي الدين لهم: إنني رجل أعرف علم السماء والكواكب والتنجيم ولي كلام أقوله لملك الأرض (يعني هولاكو) يقول أبن العبري - قال محي الدين المذكور لما اجتمعنا به في مدينة مراغة - أنني لما قلت لهم هذا الكلام أخذوني وأحضروني بين يدي هولاكو فتقدم أن يسلموني إلى خواجا نصير الدين).
وإنك من كلام ابن كثير وابن العبري وهما قريبا عهد بالطوس إذ توفي ابن كثير بعد الطوسي ب (99) سنة - نجد أن الطوسي رحمة الله قد أحدث حركة علمية جبارة في مراغة عهد الغزو المغولي وقد حمى الثقافة الإسلامية من الدثور والاضمحلال في زمن تهدمت فيه اغلب الحواضر الإسلامية من سمرقند إلى بغداد وغيرهما، وكان مرصده عظيما ومكتبته أعظم.
لقد شيد نصير الدين صروح تلك المدرسة التي اسبغ عليها طابعة الخاص من اهتمامه بالفلك والرياضيات والفلسفة فلم تكن مدرسة لغوية كمدرستي الكوفة والبصرة حين انتظمت حلقات الكوفيون والبصريين من النحاة وعلماء اللغة كالأصمعي وأبي زيد والخليل بن أحمد وتلميذه سيبوية - كلا إنما كانت مدرسة الطوسي معهداً للعلوم العقلية؛ لذلك تركت صدها مدويا في أوربا وأمريكا وكانت يد الطوسي المباركة رحمة حمى الله بها تراث الإسلام(818/26)
ونتاج الأدمغة العربية وباقي الأمم الإسلامية فحفظ به كتب العلم وأنقذها كما أنقذ كثيرا من النفوس المحترمة من سيوف البرابرة المتوحشين (المغول). وما أدرى ما يريد بعض المتطاولين عليه رحمه الله أكانوا يريدون منه أن ينتحر بسيوف أولئك الطغاة وماذا يفعل أولئك الطغاة وماذا يفعل تجاه تيار همجيتهم وبربريتهم؟ بل أن روضات الجنان يحدثان أن هولاكو كاد يفتك به في بعض المواقف بتأثير دس المغرضين والكائدين والحاسدين.
إن الطوسي امتاز بعقلية جبارة. والغريب أنه مع كثرة تآليفه في أدق العلوم الفكرية - كان سياسيا محنكا، وزر لعدة ملوك واحتفظ بكرامته لولا وشايات الحساد الذين كادوا له حتى أعتقل في سجن الموت عند الإسماعيلية.
قال الإمام الحافظ المؤرخ بن كثير الدمشقي (أن الطوسي كان يقال له المولى نصير الدين ويقال له الخواجا نصير الدين. اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً وصنف في علم الكلام وشرح الإشارات لأبن سينا، ووزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية؛ ثم وزر لهولاكو وكان معه في واقعة بغداد. ومن الناس من يرغم أنه أشار على هولاكو خان يقتل الخليفة فالله أعلم وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه وقال كان غافلا فاضلا كريما الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله. وقد توفي وله خمسة وسبعون سنة وله شعر جدي قوي، واصل اشتغاله على المعين سالم بدار (كذا) بن علي المصري المعتزلي المتشيع فنزع فيه عروق كثيرة منه حتى أفسدت اعتقاده)
وقال الشيخ زين الدين عمر بن الوردي في تاريخه (ج2 ص223).
(وفي سنة 675هـ في ثامن من ذي الحجة توفي النصير الطوسي محمد بن محمد بن الحسن خدم صاحب الألموت (كذا) ثم خدم هولاكو وحظى عنده وعمل له رصدا بمراغة وزيجا، وله إقليدس يتضمن اختلاف الأوضاع ومجسطي وتذكرة في الهيئة، وشرح الإرشادات وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها ومولده جمادي الأول سنة 597 ودفن في مشهد موسى الجواد) لقد شيد الطوسي قواعد مدرسته في مراغة ولم تكن هذه المدينة عاطلة من العلم قبله فإن ياقوتا المتوفى سنة 626 هـ وكان قبل الطوسي يحدثنا أنه ينسب إلى المراغة جماعة من المحدثين والفقهاء وأن بها أثار ومدارس وخانقاوات(818/27)
حسنة وأنه كان بها أدباء ومحدثون وفقهاء.
ويقول أبن العبري في تاريخه (وكان في هذا الزمان وفي سنة 575 هـ وما قبيلها من الحكماء المشهورين بالشرق السموأل ابن أيهوذا المغربي الأندلسي الحكيم اليهودي قد هو وأبوه إلى المشرق وكان أبوه يشدو شيئا من الحكمة، وكان والده السموأل قد قرأ فنون الحكمة، وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنفات. وصنف كتباً في الطب وارتحل إلى أذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولاداً هناك سلكوا طريقته في الطب، ثم أسلم وصنف كتاباً في إظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراوغة قريبا في سنة 570 هـ).
وإذن فإن مراغة كانت تحتضن حياة علمية قبل الطوسي رحمه الله الذي ولد عام 597 هـ أي بعد وفاة هذا الحكيم اليهودي بسبعة وعشرين عاما.
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي(818/28)
القوية الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 5 -
حاول الأسطول المصري في أول عهد الحروب الصليبية أن يقوم بدوره في الدفاع عن الأراضي المقدسة، فكان ينجد المسلمين عسقلان ويافا وصور وبيروت وطرابلس وجبلة واللاذقية، وكان ينتصر على الإفرنج أحيانا، وأحيانا يرده الفرنج عن وجه فيعود إلى مصر، وكان أهل الشام يترقبون قدوم الأسطول إليهم، ويدخل الأمل قلوبهم إذا وجدوه في موانيهم، وكان قديرا على رد العدوان عن بلادهم لو أن الحالة السياسية في مصر ساعدته ذلك؛ فلم يكن ضعف ولا قلة في جندا أو سلاح أو أموال، ولكن الحالة السياسية التي سادت مصر في آخر عصر الدولة الفاطمية هي التي حالت بين الأسطول وبين المساهمة الفعالة المجدية في هزيمة الصلبين.
فلما جاء صلاح الدين الأيوبي انتفع بالأسطول المصري أيما انتفاع واشترك الأسطول اشتراكا فعلياً ناجحاً في إنزال الهزيمة بالأعداء المغيرين، فهو، حينا يستولي على سفنهم، ويظفر بالأسرى منهم، كما حدث سنة 575، ففي هذا اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في معركة مرج عيون ظفر الأسطول بسفينتين وألف أسير وغنمت من هذه الغزوة أقوام كانت أعينهم لا تعرف عين الدرهم ولا وجه الدينار، وحيناً يغزو الساحل غزوة موفقة يحطم فيها أسطول الفرنج كما حدث في غزوة عكا؛ تلك الغزوة التي وصفها القاضي الفاضل بقوله: الأسطول المصري غزا غزوة ثانية غير الأولى، وتوجه عن السواحل الإسلامية مرة أخرى، من الله فيها منة أخرى، وكانت عدته هذه السنة قد أضعفت وقويت، واستفرغت فيها عزائم الجهاد، واحتلت به الرجال الذين يعملون في البحر، ويفتكون في البر، ومن هو معروف من المغاربة بغزو بلاد الكفر، فسارت على سوار هي كنائن، إلا أنها تمرق مروق السهام، وواكد هي مدائن إلا أنها تمر مر السحاب غير الجهام، فلا أعجب منها تسمى غرباناً وتنشر من ضلوعها أجنحة الحمام، فطرقت في الأحد حادي عشر جمادى الأولى(818/29)
ميناء عكا، وهي قسطنطينية الفرنج ودار كفرهم، أبدلها الله من الكفر إسلاما، وخلع عنها الشرك البالي، وخلع عليها من التوحيد أعلاما؛ فما هي إلا أن حذفت والجة على الميناء وفيه المراكب والبضائع، فاستولت على المراكب تحطيما وتكسيرا، ونطاحا يقلقل ولو كان ثبيرا، وأخلت ساحل الفرنج بقتالها، وباشرت مثل المساء بنزولها ونزالها، وهذا مما لم يعهد من الأسطول الإسلامي مثله في سالف الدهر، لا في حالة قوة إسلام ولا ضعف كفر.
وفي مرة أخرى أغار على بيروت فسبي منه وعاد بالغنائم وحيناً يساعد الجيش البري فيشغل العدو بالقتال، كما حدث في معركة طبرية، وإذا كان الأسطول المصري قد كسر أمام صور فليس ذلك راجعاً إلى الغفلة رجاله في الليل، وكأنهم كانوا شديدي الثقة بأنفسهم فأنتهز الفرنج هذه الغفلة وخرج أسطولهم في الليل، فأسر الفرنج مقدمي الأسطول المصري وقتلوا خلقاً عظيما، وأخذوا منه خمس قطع، ولم يؤثر ذلك في قوة الأسطول الذي أستعاد مركزه، وأخذ مكانه في معركة عكا، وقد ألقي عليه في هذه المعركة عبء كبير؛ ففي سنة 585 يستدعيه صلاح الدين ليعينه على أخذ المدينة، فتسرع إليه خمسون قطعة مع القائد لؤلؤ، تنقض فجأة على أسطول الفرنج فتبدده، وتضفر ببطستين كبيرتين بما فيهما من أموال ورجالهم، وقويت نفوس أهل عكا بوصول الأسطول، وقى جنانهم وأرسل صلاح الدين الذي يطلب مدداً جديداً من الأسطول، فعني الفرنج بتعمير أسطولهم لقتاله ومنعه من دخول عكا، واشتد أسطول صلاح الدين في قتال أسطول العدو، وسار الناس على جانب البحر تقوية للأسطول وإيناساً لرجاله، والتقى العسكران في البر والأسطول في البحر، وجرى بينهما قتال شديد انتهى بانتصار الأسطول المصري، واخذ من العدو الشواني، وقتل به ونهب جميع ما فيه، وظفر من العدو بمركب أيضاً كان واصلاً من قسطنطينية، ودخل الأسطول المنصور عكا، وكان قد صحبه مراكب من الساحل فيها ميرة وذخائر، وطابت قلوب أهل البلد، وانشرحت صدورهم؛ فإن الصاعقة كانت قد أخذت منهم.
ولما أشتد الأمر بعكا وأدار الفرنج مراكبهم حولها حراسة لها من أن يدخلها مراكب المسلمين، وقويت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة، ركب جماعة من المسلمين في بطسة، وتزيوا بزي الفرنج، حتى حلقوا لحاهم، ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث ترى من بعد، وعلقوا الصلبان واستطاعوا بهذه الحيلة دخول عكا سالمين. وفي مرة أخرى قدمت(818/30)
إلى المحاصرين من مصر ثلاث بطس مشحونة بالأقوات والميرة وجميع ما يحتاج إليه في الحصار بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاء، وقد فني الزاد ولم يبقى عندهم ما يطعمون، فلما دنت من عكا خرج إليها أسطول العدو يقاتلها، ولكنها استطاعت أن تفلت وتصل سالمة إلى عكا، وتلقاهم أهلها تلقي الأمطار بعد الجدب وامتاروا ما فيها، وحاول الفرنج وهم يحاصرون عكا حرق الأسطول المصري بها، والاستيلاء على برج الميناء حتى يحرسوه، ويحولوا دون دخول المراكب بالميرة إلى المدينة، فأعدوا بطسة ببرج مملئوها حطبا يشعلونه نارا ويلقونه على برج الميناء لقتل ما فيه وأخذه - وبطسة ثانية ملئوها حطباً ووقوداً على أن يدفعوا بها، حتى تدخل بين البطس الإسلامية، فيلهبوا الوقود فيحرق البطس الإسلامية، ويهلك ما فيها من الميرة، وجعلوا في بطسة ثالثة مقاتلة تحت قبو، بحيث يكونون تحت في مأمن لا يصل إليهم أذى سلاح، فأذ أرادوا إحراقه دخلوا تحت ذلك القبو فأمنوا، ولكنهم ما كادوا يشعلون النار، حتى أنعكس الهواء عليهم، أما البطسة التي كانت معدة لإحراق البرج فإنها احترقت بأسرها، وهلك من كان فيها من المقاتلة إلا القليل، وكذلك احترقت البطسة التي كانت معدة لإحراق الأسطول المصري ووثب المسلمون عليها فأخذوها. وأما ذات القبو فقد أنزعج من فيها وخافوا وهموا بالرجوع، واضطربوا اضطراباً عظيما، فانقلبت وهلك جميع من كان بها، لأنهم كانوا في قبو لم يستطيعوا الخروج منه.
وحاول الأسطول مرة أخرى دخول الميناء يحمل إليها الميرة فتحطم بعضه على صخور الميناء، لاضطراب البحر واشتداد هيجانه. وكان فيه من الميرة مما لو سلم لكفى البلد سنة كاملة وكان هذا سببا من أسباب سقوط عكا. وحاول صلاح الدين أن يرسل بطسة كبيرة مشحونة بالالآت والأسلحة والميرة والرجال والأبطال المقاتلة، حتى تدخل البلد مرا غمة للعدو، وكان عدة رجالها المقاتلة ستمائة وخمسين رجلا، فأحاط بها العدو من جميع جوانبها واشتدوا في قتالها، وجرى القضاء بأن وقف الهواء فقاتلوها قتالاً عنيفاً، وقتل المن العدو عليها خلق كثير، وأحرقوا للعدوا شينياً كبيراً فيه جند كثير هلكوا جميعاً، ولكن العدو تكاثر على أهل البطسة، وكان مقدمهم رجلاً شجعان مجربا يقال له: يعقوب، من أهل حلب، فلما رأى أن الدائرة ستدور عليهم صمم هو ومن معه ألا يسلموا من هذه البطسة شيئاً. فأعملوا معاولهم فيها ففتحوها من كل جانب فامتلأت ماء وغرق جميع من فيها وما فيها، ولم يظفر(818/31)
العدو منها بشيء. وتلفف العدو ومن كان فيها، وخلصوه من الغرق وأرسلوه إلى المدينة ليخبرهم بالواقعة.
وظل الأسطول المصري طول عهد صلاح الدين قائماً بواجبه يغير على أسطول الفرنج، ويقتل من رجاله، ويأسر ما شاء منهم ويستولي على مراكبه.
ولم يقف جهاد الأسطول في عهده على حزب الفرنج بالبحر الأبيض فقط، كنت له وقفات حاسمة في البحر أيضا، دافع فيها الفرنج عن الأراضي المقدسة بالحجاز؛ ذلك أن صاحب الكرك وهو من ألد أعدا المسلمين وأشدهم نكاية فيهم، فكر في مهاجمة المسلمين في البحر الأحمر ظناً منه أنهم غير مستعدين فيه، وتأديباً لحماية أيلة التي كنت تغير عليه، ولا سبيل له عليها لأنها تقيم بقلعة في وسط البحر، فبنى سفنا، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل، وجمعها في أسرع وقت، وشحنها بالمحار يبن وآلات القتال، وسارت السفن وقد افترقت فرقتين، أقامت إحداهما على حصن أيلة يحصرونه ويمنعون أهله من ورود الماء، فأصاب أهله شدة وضيق، ومضت الثانية، وهي فرقة فدائية إلى عيذاب، وأفسد جندها في السواحل، ونهبوا، واخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية، ومن فيها من تجار، وفاجئوا الناس منهم على حين غفلة منهم، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً ولا محارباً وأرادت الفرقة أن تقطع طريق الحج، فقد كانت الغزوة في شهر شوال سنة 578، وأن تمضي إلى المدينة المنورة لتنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقل جسده الشريف إلى بلادها، وتدفنه عندها، ولا تمكن المسلمين من زياراته إلا بجعل؛ وسارت الفرقة إلى بلاد الحجاز، وجاء الخبر إلى مصر وبها الملك العادل أخو صلاح الدين، فأمر قائد الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ أن يتتبع هؤلاء الغزاة، فانقض على محاصري أيلة انقضاض العقاب، فقاتلهم فقتل بعضهم وأسر الباقي، ومضى تواً إلى شاطئ الحجاز، فوجدهم قد أوغلوا في طريق المدينة حتى لم يبقى بينهم وبينها إلا مسافة يوم، فمضى خلفهم على خيل أخذها من الأعراب وحاصرهم هناك في شعب حتى استسلموا، فقتل أكثرهم، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها، عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله، وعاد الباقين إلى مصر، فكان لدخولهم يوم مشهود، وأرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل بأمره بقتل أسراره، وبقول له على لسان القاضي الفاضل: وهؤلاء الأسارى قد ظهروا على عورة الإسلام كشفوها(818/32)
وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها. . . ولابد من تطهير الأرض من أرجاسهم، والهواء من أنفاسهم، بحيث لا يعود منهم مخبر يدل الكفار على عورات المسلمين. ويظهر أن العادل كان من رأيه الإبقاء عليهم فكتب إلى أخيه بما رآه، ولكن صلاح الدين لم يغير رأيه فيهم فكتب إلى العادل يقول له: (وليس في قتل هؤلاء الكفار مراجعه، ولا للشرع في إبقائهم فسحة ولا في استبقاء واحد منهم مصلحة، ولا في التغاضي عنهم عند الله عذر القبول، ولا حكم الله في أمثالهم عند أهل العلم بمشكل ولا مجهول، فليمض العزم في قتلهم، ليتناهى أمثالهم عن فعلهم، وقد كانت عظيمة ما طرق الإسلام بمثلها)؛ غير أن العادل والسياسة جزء من عناصره لا يسرع إلى قتلهم بل يراجع أخاه كرة أخرى، فيرد عليه بالقول الفصل: قد تكرر الفناء في معنى أسارى بحر الحجاز، فلا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، ولا نوردهم بعد ماء البحر إلا ناراً فأقلهم إذا بقى جنى الأمر والأصعب، ومتى لم تعجل الراحة منهم وعدت العاقبة بالأشق الأصعب، فلم يبق بعد ذلك مجال للمراجعة وقتل الأسرى، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الدينانة.
هذا وكان للأسطول المصري في البحر الأحمر الفضل في بلاد اليمن على يد توران شاه أخي صلاح الدين فهو الذي حمل الأزواد والعدد ولآلات إلى تلك الديار.
ورأينا الأسطول المصري في عهد العادل يظفر بالفرنج سنة593 ويعود القاهرة غانما سبعين فارساً بذل أحدهم في فدائه ثمانين ألف دينار، ويعود من الغزو في السنة التالية حاملا معه أربعمائة وخمسين أسيراً.
وكان للأسطول المصري أثر حاسم في معركة المنصورة الأولى في عهد الكامل سنة 617، وكان عدد شواني المسلمين مائة قطعة والمعركة الثانية سنة 647، تلك التي انتهت بهزيمة الغزاة من الفرنج، فإن صالح أيوب ما كان يدخل المنصورة، حتى قدمت الشواني المصرية بالعدد الكاملة والرجالة؛ فلما مات وعسكر الصليبيون أمام المنصورة كانت الميرة ترد إليهم من دمياط في النيل، فصنع المسلمون عدة مراكب، وحملوها وهي مفصلة على الجمال إلى بحر المحلة، وطرحوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، فلما جاءت مراكب الفرنج خرج عليها تلك المرغبة بغتة، وقاتلتها وقدم الأسطول المصري من المنصورة، فأخذ مراكب الفرنج أخذاً وبيلا، وكانت اثنتين وخمسين مركباً وقتل منها وأسر نحو ألف(818/33)
فرنجي، وغنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحملت الأسرى على الجمال إلى المعسكر، فأنقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقعه الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب، وقوى المسلمون عليهم، وطمعوا فيهم، وأراد الفرنج الانتقام، فأخذوا من مراكب المصريين سبع حراريق، وأرسلوا إلى دمياط في طلب الميرة، فجاءت مراكبهم تحملها، فالتقت بها شواني المسلمين، وأخذت منها اثنين وثلاثين مركباً، منها تسع شوان، فاشتد الغلاء عند الفرنج، وشرعوا في مراسلة السلطان يطلبون الهدنة.
وفي عهد بيبرس أراد السلطان أن يغزو قبرص، ويستولي عليها، فلم علم أن صاحبها قد قدم عكا بمراكبه، نجدة لأهلها، انتهز فرصة خلوها، فجهز سبعة عشر شينيا، وصلت الجزيرة ليلا، فهاجت عليها ريح طردتها عن المرسى، وألقت بعض الشواني على بعض، فتحطم منها أكثر من أحد عشر شينيا، وأخذ من فيها من الرجال والصناع أسرى، وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفس، فعظم ذلك على الظاهر بيبرس، وأرسل صاحب قبرص رسالة كتاباً إلى السلطان، يشمت به فيه، فرد عليه السلطان بجواب أرعد فيه وأرق وقال فيه: إلى حضرة الملك. . . نعلمه أن الله إذا أسعد إنسانا دفع عنه الكثير من قضائه باليسير، واحسن له بالتدبير فيما جرت به المقادير، وقد كنت عرفتنا أن (الهوى) كسر عدة من شوانينا. . . ونحن الآن نبشره بفتح القرين، وأين المبشارة بتملك القرين، من البشارة بما كفى الله ملكنا من العين، وما العجب أن يفخر بالاستيلاء على حديد وخشب، الاستيلاء على الحصون الحصينة هو العجب. . . وليس من أتكل على الله وسيفه كمن اتكل على الريح، وما النصر بالهواء مليح، إنما النصر بالسيف هو المليح. . . وأن عدمت من بحرية المراكب آحاد فعندنا من بحرية المراكب ألوف، فلئن كنتم أخذتم لنا قرية مكسورة، فكم أخذنا لكم من قرية معمورة، وان استوليتم على سكان، فكم أخلينا بلادكم من سكان). ثم أصدر بيبرس أمراً بإنشاء عشرين شينياً، وبذل جهده في الإسراع بصنعها، فلما كملت احتفل بإتمامها، وخرج لأستعرضها، ولكنه لم يحاول غزو قبرص مرة أخرى.
وقد رأينا ما كان من انزعاج الفرنج عند ما سمعوا باستعراض خليل بن قلاوون أسطوله الضخم في النيل، فأرسلوا إليه الهدايا طالبين الصلح، واستطاع الأسطول المصري في أيام(818/34)
الناصر محمد بن قلاوون أن يمضي إلى الجزيرة أرواد من أعمال قبرص ويستولي على ما فيها ويملكها، ويأسر من الجزيرة مائتين وثمانين أسيراً.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي
المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(818/35)
أدب القصة القصيرة
للأستاذ نصري عطا الله
قرأت ما كتبه أدبيان فاضلان عن القصة القصيرة بالعدديين 812، 815 من الرسالة الغراء بمناسبة المباراة التي أجرتها إحداها المجلات الأسبوعية، وقد عن لي أن أعلق على ما جاء في مقاليهما بما يلي:
تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في (الكم) وحده بل في (الكيف) أيضا. وقصر الأقصوصة يجب أن يكون إيجابيا لا سلبيا، وذلك يعني أن العاطفة التي تحفز كاتب الأقصوصة إلى كتابتها هي العاطفة التي يمكن التعبير عنها تعبيراً كاملاً يفي بشروط الفن في حدود قصرها، ولإيجاز هنا لا يمكن أن يكون إرادياً واختياراً بل هو تلقائي محض. أما اصطناعه اصطناعاً لغاية يهدف أليها الكاتب فذلك ما يخرج بالأقصوصة عن جوهرها ومقومات كيانها، ومن هنا قيل إن أول شروط كتابة الأقصوصة الجيدة هو ضرورة تلك الكناية أي نضج العاطفة وتبلورها أولا في نفس الكاتب ثم شعوره بالحاجة إلى التعبير عن تلك العاطفة في أقصوصة لا في قصة أو مقالة أو قصيدة.
وهكذا نستطيع أن نقول أن الأقصوصة ولدت يوم قامت الحاجة إلى التعبير عن لون معين من الإحساس بطريقة خاصة لم تحققها الصيغ الأدبية التي كانت موجودة حتى ذلك الحين. وليس هناك إذا (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد كبير من حرية الكتاب).
الخاصية التي تتميز بها الأقصوصة هي وحدة المحور التي تدور حوله، أي أنها تنصب على فكرة واحدة أو عاطفة واحدة فقط؛ فالكاتب يرتب حوادثها ويختار شخصياتها ويحلل نفسياتهم ويضع على ألسنتهم الحوار بحيث يؤدي كل هذا إلى جلاء حقيقة واحدة لتكن (حب الترف يؤدي إلى التهلكة) مثلا ولا يجوز أن يضمنها ما يرمى إلى جلاء فكرة أو عاطفة أخرى.
وترتبط هذه الخاصية بخاصية أخرى هي الإيجاز وهو مالا يتوفر على وجه سوى إلا للكاتب الفطن، الخبير بالنفوس وأغوارها المتمكن من اللغة وأساليبها فمثل هذا الكاتب وحده يستطيع أن يختار الخطوط الرئيسية لشخصيات أقاصيصه دون أن يزحمها بالتافه من الأوصاف والوقائع، كما يستطيع أن يعبر عما بنفسه تعبيرا دقيقا، قويا، مؤدبا في أقل(818/36)
عدد ممكن من الألفاظ.
تحتفل الحياة حولنا بمئات الموضوعات التي تصلح مادة للأقصوصة؛ ولكن الكاتب لا يفطن إليها إلا وهو في مرتبة خاصة من حرارة الإحساس ونضج الشعور. والأقصوصة جيدة هي التي تشعر بعد قرأتها بأننا قد زدنا شيئا، ولا يتحتم أن تضيف القصة إلى معلوماتنا وخبرتنا شيئاً جديداً، بل يكفيها أن تزيدنا إحساساً وشعوراً بما كنا نعرفه قبلا ولا نحفل به كثيراً. وقد قال دوهاميل (. . . إن ما في المألوف من روائية لا يلبث أن يربنا كيف يصبح العادي خارقاً والحادث اليومي شاذاً، المهم هو أن ندرك ما نراه كل يوم دون أن نلتقي إليه بالا، ومنه يتكون نسيج حيانا اليومية العجيبة لو تأملنا. ونحن بذلك نضيف إلى معرفتنا بالإنسان وتصورنا غليه أشياء جوهرية).
لا يتحتم أداً على كاتب الأقصوصة أن يضمنها (حكاية) تتألف من حوادث متعددة أو معقدة، بل يكفيه أن يبنى الأقصوصة على فكرة مفاجئة، أو بارقة شعور، أو اتجاه جديد في النفس جاء إثر حادث أو تجربة، أو تطور ما طرأ على إحدى العواطف لسبب من الأسباب المستمدة من واقع الحياة أو باطن النفس. أن كل ما تجيش به النفس وتستجيب له يصلح مادة للأقصوصة ولكن لن يكتبها إلا الذي يستطيع أن ينقل إلى نفوسنا ما جاش بنفسه وذلك عن طريق الأداء الفني الموفق.
قد تكون المفاجأة عنصرا من عناصر الأقصوصة أو قد لا تكون، ولكن ما من كاتب أو ناقد يسلم بأن كل أقصوصة يجب أن تقوم على المفاجأة، بل يجب أن نقرر واثقين مطمئنين أن الكاتب الفقير في عواطفه وخياله وخبرته بالنفس والحياة وهو وحده الذي يعمد إلى حشد الحوادث وترتيب المفاجئات لا لشيء إلا لاستثارة نفوس السذج من القراء بطريقة صناعية مفتعلة.
من السذاجة أن يقول قائل إن الأقصوصة ليست ميداناً لعرض صور الحياة المختلفة بما تحفل به من كثرة وعمق وغنى وقنوع؛ والأمثلة على صدق ما نقول كثيرة؛ فالكاتب الكبير (موباسان) يبرز من وراء أقاصيصه عملاقا جبار الفكر جال بذهنه في كل مجال، ودرس كل عاطفة، وحلل كل غريزة، وعرض لكل رأى. وفي أقاصيصه نستطيع أن ندرس النفس البشرية والطبيعية والحياة دراسة شاملة مستوفاة. والقول نفسه ينطبق على تشيكوف(818/37)
أيضاً. والعبرة بشخصية الكاتب؛ فكلما كان صاحب شخصية فذة اتسع ميدان الكتابة أمامه.
وأحب أن أذكر هنا أنه لا يصح أبدا أن يحكم القارئ الشرقي على شخصيتي موباسان وتيشكوف بما نقل من أدبهما إلى العربية فذلك اقل من القليل ولا يكشف أبداً عن كل نواحي شخصيتهما.
يجب أن ننزل على حكم الواقع آسفين مضطرين، ونفرق - دون أن نعترف - بين الأقصوصة الأدبية والأقصوصة الصحفية. فالأقصوصة الأدبية هي التي أجملنا عناصرها قيما سلف، أما الأقصوصة الصحفية فهي التي يضع شروطها ويحتضنها أصحاب ومحرر المجلات الرائجة. وهي أقصوصة تجافي كل عناصر الأدب وخاصيته؛ فمن شروطها ألا تكون عميقة، وان تخلو من التحليل النفساني، وأن تتراكم فيها الحوادث والمفاجئات بعضها فوق بعض، وان تكون بالغة القصر، مشوقة، غير قاتمة أو قابضة، وأن تنتهي بحادث سعيد، وأن تكون سهلة حتى يستطيع قراءتها كل قراء المجلة من البواب والحلاق وبائعة الخردوات إلى الكواء والقصاب وطالب المدرسة الابتدائية. والقاعدة في هذه المجلات هي: (عندنا جمهور يجب أن نرضيه بأي شكل) وقد قال لي كاتب كبير (كبيرة الحجم!) كان يرأس إلى وقت قريب تحرير إحدى المجلات الكبيرة: إن القارئ فريسة يجب إصابتها من أول طلقة. ومؤدى هذا أن الأقصوصة التي يشك المحرر في أن قارئاً من القراء الذين سبق بيانهم قد يعرض عنها أو لا يرتاح لأي سبب يمليه الرأس الأجوف أو الذوق الفاسد، فمصيرها إلى سلة المهملات حتى لو كان كاتبها موباسان أو تشيكوف.
(القاهرة)
نصري عطا الله(818/38)
أحلام
للأستاذ إبراهيم الوائلي
رُدَّي إليَّ ترانيمي وأقداحي ... فقد ظمئت إلى الأنغام والراح
هجرتني وزويت الكأس والنغما ... فعاد قلبي كالأوتار منحطما
ماذا عليك إذا ما الدهر قد أثما ... لو تطفئين من الأنفاس ما اضطر ما
يا جنتي وخيالاتي وأفراحي
ردى إلىَّ ترانيمي وأقداحي
سلي الطيور ونجواها على الشجر ... ونسمة الروض تندى بالشذى العطر
والنور يلمع فوق الزهر والغُدرُ ... هل كان إلا الربيع السمح من وطر
فيه أبدد آلامي واتراحي
ردى إليَّ ترانيمي وأقداحي
ردي إليَّ ربيعاً كان مزدانا ... وجنة عبقت بالسحر ألوانا
أيام كنت بعيد الهم جذلانا ... كالطفل يبسم للأطياف وسنانا
وأنت لحن أماسيِّ وأصباحي
ردي إليَّ ترانيمي وأقداحي
هذي حياتي ضلالات وأوهام ... ونغمة الشعر أنات وآلام
والسكر، ما السكر؟ لا خمر ولا جام ... تلك الحياة - وعيش المرء أحلام -
لم يبق في النفس منها غير أشباح
ردي إليَّ ترانيمي وأقداحي
عاودت أمسيَ أستجلى الذي دفنا ... فلم أجد غير عهد يشبه الوسنا
وجئت أبحث عن يومي وما اضطبنا ... فما تبينت إلا الكد والمحنا
وغاية كظلال الأجرد الضاحى
ردي إليَّ ترانيمي وأقداحي
البيد جُنت بأنياب وأظفار ... والركب ما بين أهوال وأخطار
يا للضلال ويا للسلسل الجاري ... دنيا من العيش قد لُفت بإعصار(818/39)
فعاد كل هزاز غير صداح(818/40)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
راجي الراعي يعود إلى ميدانه:
إلى الأديب الأستاذ أنور المعداوي
لم يسعدني الحظ بعد بالتعرف إليك - وبين النعمة والنقمة نقتطان هما الحظ - ولكنني قرأت كلمتك عن (قطراتي) في (الرسالة) فتبينتك على ضوء قلمك الصافي العميق صفاء الينبوع وعمقه، وما أجمل الصفاء والعمق يجتمعان! ما أجمل الأديب - وأنت هو الأديب - يفتش عن الكتاب العاري الذي لا يتشح بغلاف، لعل فيه قوة مكنونة ضائعة فيلبسه وشاحه ويجبي صاحبه بتلك الكلمات الفواحة بطيب الخلق وعبيره. . .
لقد هزني في الصميم قلمك الحي الصادق الصريح المخلص للأديب وبنيه كما هزك كتابي. وأنا كنت هجرت الأدب لرأيتني أعود إليه اليوم وقد أيقظت ما رقد في صدى! ولكن القضاء لم يشغلني ولم يشغلني عن الأدب الذي هو محور كياني وقبله أملي في هذه الحياة الصغيرة القصيرة التي لا تتسع للحلم البعيد الكبير، وكأن بينهما عداء قديما لا أدري من أثاره ولماذا أثير. . .
أحييك شاكرا لك حسن ظنك، معجباً بروحك وكأسك التي لا شائبة فيها ولا ثمالة.
إن لي إلى جانب الفجر في كل يوم فجري الذي يأتيني بتلك (القطرات) ويأبى أن يفارقني كأنه يقول: أنت صاحب القطرات ولست شيئاً آخر؛ ذلك هو حكم القدر في الناس يفرغهم على الصور التي يختارها. . .
لدي الآن بالعربية من طراز الكتاب الذي وقعت عليه (القطرات) التي أبعث بها إليك، ما يسمع ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير أود إخرجها في كتاب للأقطار العربية، ولكنني لم أوفق بعد في تحقيق هذه الأمنية، ولدي من الطراز نفسه كتاب الإنجليزي لم يطبع بعد، وكتاب بالفرنسية طبع في عام 1936 أبعث إليك أيضاً بنسخة منه. . .
منذ ربع قرن وأنا أكتب وتبقى لي كتبي لا أوافق في نشرها على الملأ، وأنا لا أملك في الدنيا غير قطراتي التي تفتش عن كؤوسها. . . وكأنه كتب للخيال الخلاق أن تنكره الحياة لمواليده وتحرمها الغذاء والدواء، فتظل عرباته في العراء تتحرق وتتلوى بين الضعفاء(818/41)
والبلداء، تلك هي المعركة الناشبة منذ الأزل بين الأرض والسماء، وهذا هو ما في ما تدعوني إليه موضع العلة ومصدر البلاء! ولكنني مازلت أعتقد أن في الناس على وفرة القوالب التي أفرغوا فيها جيشاً من الخلق إلى جانب قراء الروايات والأدب السهل الرخيص، تلذ له الموجة الفكرية الوضاءة القصيرة التي تحمل شيئاً جديداً. ولا هم لي الآن إلا أن أطل بفجري وندا على هذه الدنيا المترامية الأطراف دنيا العروبة وفي رأسها مصر. فإذا سيقت وشربوا ظللت في الكرمة أسقي وظلموا يشربون حتى تفرغ الدنان، ولن تفرغ ما تبقي القلم في يدي. . .
إن كلمتك هي التي تملى على ما أكتب، وإني أتمنى أن يكون هذا الذي جرى به قلمك الجميل على صفحات (الرسالة) أول الصداقة بيننا، تنيرها الروحانية ويوثق الأدب عراها. . .
والسلام عليك من المخلص:
راجي الراعي
قصر العدل - بيروت
إلى الأديب المبدع الأستاذ راجي الراعي:
من حق رسالتك الرائعة على أن يقرأها الناس، لأنها في رأي الفن قطعة من الفكر المحلق والبيان المشرق والخيال الوثاب. ولن أنسى أنني مدين بالشكر لقطرات نداك لأنها هي التي قادتني إليك، وعلى جناحيها طفت بسمائك وحلقت في أفقك، وصافحتك بروحي من وراء الآماد والأبعاد! إن رسالتك لتؤكد لي مرة أخرى أنك تحمل بين جنبيك قلب إنسان، وتحمل بين يديك قلم فنان. . ومن هذين المنبعين يفيض إعجابي بك وتقديري لك، وكلاهما همسة يتردد صداها بين حنيا الضلوع وشغاف القلب. . .
وأنا سعيد بأن يكون هذا الذي جرى به قلمي على صفحات (الرسالة) أول الصداقة بيننا، وإنها لصداقة تنيرها الروحانية كما تقول ويوثق عراها الأدب، وشاكر لك هذا التقدير الكريم الذي أضفيته على قلم يهتز حياء من فيض ثنائك، وحسبه أنه قد اغترف يوما من فيض نداك!(818/42)
وإذا كان القضاء لم يشغلك عن الأدب، فإن الأدب ليعتز بأن تكون في ميدانه، تسقى الظامئين من كؤوس خمرتك الفكرية المعتقة في دنان الإلهام!
أجل يا صديقي، إن بإمكانك هنا ولي هناك. . . إنك صاحب القطرات ولست شيئا آخر، وإن فجرك الذي يشع في بأضواء النبوغ ليهدي السالكين إلى فجاج الحق والخير والجمال.
بقى أن أقول لك إن راجي الراعي القاضي لم ينصف راجي الراعي الأديب، وإن ميزان عدلك قد ظلم ميزان فنك: قطراتك أنت تفتش عن كؤوسها؟ كلا يا صديقي، أن كؤوسنا نحن هي التي تفتش عن قطراتك! مواليد خيالك الخلاق تنكر لها الحياة؟ أنك لتظلم الحياة في جوهرها المصفى. . . إن الحياة لا يمكن أن تبخل على الموهوبين من أمثالك بالذكر الجميل! أما الذين يبخلون فهم والبلداء الذين حرمهم الله نعمة الذوق والفكر والشعور، وأظنك توافقني على أن هذا القطيع الآدميين لا يستطيع يغير شيئاً من وجه الحقيقة، ولا أن يقيم الميزان لأقدار الناس، ولا أن يحول بين فيض الإبداع وبين التدفق في أودية الروح ومسارب العاطفة!
عليك إذن أن تكتب لهؤلاء الذين تلذ لهم الموجة الفكرية الوضاءة التي تحمل شيئا جديداً. . وثق أنك إذا سقيت فستظل في الكرمة تسقى ولن تفرغ الدنان: إن كرمتك يا صديقي لنمت جذورها إلى أرض العبقرية بأسباب، أما دنانك فأنا أبشرك منذ اليوم بكثرة الظامئين المتلهفين إلى أن يشربوا نخب أدبك العالي وفنك الرفيع!
أخلص الشكر على هديتك الكريمتين. . . وإلى اللقاء في رسائل خاصة، تنقل إليك والي ومضات من الفكر ودفقات من الوجدان.
توفيق الحكيم والفن الإنساني:
منذ أيام دق جرس التلفزيون في مكتبي بوزارة المعارف، وكان المتحدث هو الأستاذ توفيق الحكيم. . . لقد تفضل الأستاذ الصديق فاتصل بي ليقول إن كلمات كتبتها عن (شهداء المثل العليا) قد تركت أثرها في نفسي وصداها في قلبه، وكم يود أن يستمع لكثير من هذه النبضات الإنسانية فيما أكتب من تعقيبات! وقلت للصديق الكريم رداً على جميل تقديره: يبدو أن بين فكرينا شيئاً من توارد الخواطر، وأن بين قلبينا شيئاً من توارد الخفوق. . . لقد كنت على وشك الاتصال بك لأقول لك أيضاً إنني أود أن تخرج لنا روائع أخرى يبلغ(818/43)
فيها الفن الإنساني ذروته كما بلغها في (سليمان الحكيم)! ثم تشعب الحديث من الفن الإنساني إلى غيره مما عرضنا له من فنون.
والحق أني لم أكن قد قرأت بعد هذه المسرحية الرائعة حتى تفضل الأستاذ الحكيم فأهداها إلي في طبعتها الثانية التي ظهرت منذ قريب. . . ولقد خرجت بعد قرأتها بحقيقة ملموسة، تغيرت على ضوئها نضرتي إلى معدن الإنسانية في قلب هذا الفنان. إن من يقرأ (سليمان الحكيم) يلمس أن صاحبها يملك قلبا يهتز اهتزازا عميقا أمام جيشان العاطفة! ولكن أين كانت كل تلك النبضات الشعورية والحركات النفسية، ولم لم تفرض نفسها على بقية إنتاجه بمثل هذا التدفق الذي عطر كل صفحة من صفحات (سليمان الحكيم)؟!
هناك جواب واحد لهذه السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه نفسيات أبطاله، هناك حيث تجد الصراع بين ذهن وذهن لا بين عاطفة وعاطفة، ومن هنا تختفي الومضات الوجدانية في تيه من التأملات الذهنية، ولكنه في (سليمان الحكيم) شيء أخر. . . إن جو المسرحية كان جوا عاطفيا خالصا هيأ للشعور الإنساني أن يظهر على حقيقته، حين تراجع الفكر المجرد متخليا عن مكانه للروح المرفرفة والقلب الخفاق!
هذا أمر سأعرض له بالتفصيل عند الحديث عن مسرحية (الملك أديب) في الأيام المقبلة. . . كل ما أرمى إليه من وراء هذه الكلمة هو أن أقرر إنسانية الفن في شخصيته توفيق الحكيم الأدبية؛ وتلك ناحية كان يخالجني فيها الشك قبل أن أقرا (سليمان الحكيم) وقبل أن أستمع لرأي صاحبها في (شهداء المثل العليا)!
تحية قلبية وأخرى قلميه:
تحت هذا العنوان تحدثت في عدد مضى من (الرسالة) عما تعانيه الحياة الأدبية في هذه الأيام من تخمة في الكتاب وأزمة في النقاد، حتى يتعذر على الناقد أن يتسع وقته لقراءة هذا العدد الضخم من الآثار الأدبية والكتابة عنها! ثم قلت في ثنايا كلمتي إنني لم أكتب عن أي أثر أدبي يهدي إلي إلا إذا لمست فيه نفعا للأدب وفائدة للقراء، وحسب كتاب لم يتحقق فيه هذا الشرط أن أقدم إلى صاحبه تحية قلبية. . . أما الكتاب الذي يضيف إلى رصيد(818/44)
القارئ ثروة فكرية جديدة فهو جدير بتحية أخرى قلميه! قلت هذا فكتب إلي بعض القراء عاتبين ومعترضين: إن النقد كما يقولون لم يخلق ليقصر على التنويه بالكتب القيمة والآثار النافعة لأن أصحاب هذه الكتب قد بلغوا من الشهرة والنضج وإقبال القراء ما يجعلهم في غير حاجة إلى التعريف بكتبهم والتحدث عن جهودهم، وحسبهم أن مكانتهم الأدبية قد بلغت من الصمود والمنعة ما يحاول بينها وبين الاهتزاز أمام عواصف النقد وأعاصيره! أما صغار الكتاب فما أحوجهم إلى العطف والتشجيع، والتوجيه الذي يسدد خطاهم وينمي ملكاتهم، ويغذي في نفوسهم نزعة التشوف إلى بلوغ الكمال. فالأعراض عن كتبهم أمر يثبط العزائم ويجني على المواهب ويبعث على الخمول. . . ورب شجرة تتعهد بالسقيا وتخص بالرعاية، تنموا وتشتد أعوادها وتخرج للناس كل شهي من الثمر وكل مرجو من الفائدة!
إن ردي هؤلاء العاتبين المعترضين هو أنني حين عرضت لهذه المشكلة لم أقصر إغفال الكتابة على أديب صغير دون أديب كبير، ولكني قصرته على كل كتاب يضيع معه الوقت سواء أكان صاحبه يكتب منذ ربع قرن أم كان يكتب منذ ربع شهر! أما قولهم بأن صغار الكتاب أحوج إلى التحدث عن آثارهم من كبار الكتاب؛ لأن هؤلاء الكبار تحميهم مكانتهم الأدبية من زلزلة النقد وهزات الناقدين فلا أوافقهم عليه. أن مقالا واحدا يتسم بالفهم والعمق والأصالة جدير بأن يزلزل سمعة كبر أديب من أصحاب المكانة المرموقة، وجدير بأن يبقي كتبه في رفوف المكتبات لا تمتد إليها أيد ولا ترنو عيون! ولقد أصبحنا اليوم نجتاز مرحلة فكرية بلغت الأوج وأوفت على الغاية؛ مرحلة ليس فيها أديب كبير ولا أديب صغير إلا في حساب الموازين الناضجة التي لا تفرق بين المواهب والثقافات، على ضوء الأعماق وحدها لا على ضوء الأهواء والغايات! ومع ذلك فلا بأس من الكتابة عن كتب كنت خصصتها بتحية القلب دون تحية القلم، ولا اعتراض بعد ذلك ولا عتاب!.
رسالة ماجستير في كلية الآداب:
كان ذلك في الأسبوع الماضي إذا لم تخني الذاكرة، حين توجهت إلى كلية الآداب وحملت نفسي ما لا تطيق واستمعت لمناقشة رسالة عن (العماد الأصفهاني). . . أنا لا أظلم الطالب الذي فاز بالماجستير في الآداب من درجة جيد، فكم من طلاب فازوا قبله بالدكتوراه من(818/45)
درجة جيد جداً وممتاز؛ فهذه رسالة عن (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) حظي صاحبها بمرتبته الشرف الأولى واستحق شكرا الجامعة، ومعه ذلك فقد طبعها لينتفع بها الناس فبقيت لتأتنس بها رفوف المكتبات! وتلك رسالة أخرى في الفلسفة عن (الزمان الوجودي) حظي صاحبها أيضاً بمرتبته الشرف الأولى مع لقب أول فيلسوف مصري، ومع ذلك فقد طبعها ليرفع بها رأس الفلسفة الوجودية في الشرق فلم يبقى لها وجود. . . وكم من رسائل أخرى لقيت مثل هذا التقدير وانتهى بها الأمر إلى نفس المصير. . .
تخرج من هذا كله بأن لكلية الآداب نظرتها إلى قيمة الرسائل العلمية، وأن للرأي العام الفني نظرته. والفرق بين النظرتين هو الفرق بين القدرة على جمع النصوص من بطون الكتب وترتيبها وتبويبها وإخراجها في رسالة، وبين القدرة على الغوص في أعماق تلك النصوص ومراجعتها وتمحيصها وإخراجها في نظرية أو مذهب! إن خمسين صفحة تحفل بوثبات الذهن المحلق خير ألف مرة من مئات الصفحات التي لا تزخر بغير الترديد والتقليد ولكن من يسمع؟!
لحظات مع إيليا أبو ماضي
شيء في شعر المهجر يثير إعجابي، وأوثره بتقديري، وأشعر نحوه بتجاوب الفكر والعاطفة. . . ذلك هو صلة الفن بالحياة! الحياة في شعر المهجر نفس عميق، وهمس رفيق، ونبع شعور متدفق، ولعل هذه القصيدة التي صدح بها أبو ماضي في الحفلة التكريمية التي أقيمت له منذ أسابيع في دمشق من خير ما قرأت إشراقة لفظ، ورحابة أفق، وأصالة شاعرية!
عنوان القصيد (عجباً لقومي). ومطلعها هذه الأبيات:
حي الشآم مهنداً وكتاباً ... والفوطة الخضراء والمحربا
ليست قباباً ما رأيت وإنما ... عزم تمرد فاستطال قبابا
فالثم بروحك أرضها تلثم عصو ... راً رأى للعلى سكنت حصى وتربا
والى العدد المقبل حيث يتشعب بها الحديث.
أنور المعداوي(818/46)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قصة أوديب في الآداب المختلفة:
ألقى الدكتور طه حسين بك محاضرة عنوانها (قصة أوديب في الآداب المختلفة) بنادي الخريجين المصري يوم الجمعة الماضي. فبدأ بتلخيص قصة أوديب كما وضعها سوفوكل في أوائل القرن الخامس قبل المسيح، وحوادث القصة - كما هو معروف - تدور حول أوديب ابن الملك لايوس ملك طيبة، وصراعه مع الأقدار التي قضت بأن ينشأ بعيداً عن والديه، ثم تسوقه إلى حيث يقتل أباه وهو لا يعلم بأنه أبوه، ثم يتزوج أمه وهو لا يعلم أنها أمه، ويولد له منه أربعة أولاد، ثم يعلم أن أولاده هم أخوته لأمه. . . الخ
ثم قال الدكتور طه: أن سوفوكل صور في هذه القصة الصراع بين القضاء المحتوم والإرادة الإنسانية المختارة، وبين ذلك في مواقف القصة المختلفة. وقال إن الأسطورة كتبها كثيرون في القديم وفي الحديث، حتى لم تخل منها لغة من اللغات الحية في العالم الغربي، وقد أتيح للعربية أن تشارك في هذه الجهود، فترجمت (الدكتور طه) إليها قصة سو فوكل وقصة أندريه جيد. وجاء أخيرا الأستاذ توفيق الحكيم فكتبها بالعربية، وأنا سأقصر الحديث إلى قصتين هما قصة جان كوكتو وقصة أندرية جيد، وقد وضعتا في وقت واحد تقريبيا حوالي سنة 1930.
ثم حلل قصة جان كوكتو وقال إنه جمح فيها إلى الفن ولم يعن بالفكرة الفلسفية، فقد صور جوكاستا (أم أوديب) امرأة مرحة ماجنة تعشق الكاهن ترسياس وتتغزل فيه، وقد أهمل جان كوكتو الفكرة الفلسفية القديمة في القصة واتجه نحو فلسفة فرويد فيما يكون من الأحاسيس الخفية بين الأمهات والأبناء. وأنتقل الدكتور بعد ذلك إلى قصة أندرية جيد إنه أمضى القصة كما أمضاها سوفوكل ولكنه جعل أولاد أوديب من شباب العصر الحديث يندفعون إلى التجديد في كل شيء، وجعل الصراع بين الدين ممثلا في الكاهن ترسياس وبين أوديب الملك الذي لا يؤمن إلا بنفسه وعقله وشعوره ووجدانه.
ثم قال إنه يفضل قصة أندرية على قصة جان كوكتو. ويفضل على الاثنين قصة سوفوكل.
وبعد ذلك وصل الدكتور طه إلى الأستاذ توفيق الحكيم فقال إنه يسره أن يحاول الأستاذ(818/48)
توفيق هذه المحاولة، ولكنه لم يتخذ ما كان ينبغي أن يتخذه من عدة، وأول ما كان ينبغي أن يتخذه من عدة، وأول ما كان ينبغي أن يتخذ أن يقرأ وأن يقرا كثيرا، على رغم ما يحدثنا به من أنه قبل أن يكتب القصة قرا في الأدب اليوناني كثيرا، فإنا نرى أن هذه القراءة متواضعة ومتواضعة جدا. . . ثم ذكر الدكتور بعض المآخذ في قصة الحكيم، منها جعل أوديب يقتل الأسد بهراوة بيده ثم يحمله على ظهره ويلقيه في البحر، ولو فرضنا أنه من الممكن أن يقتل الرجل الأسد بهراوة ويحمله على ظهره فأي بحر هذا الذي ألقاه فيه؟ إن الإنسان يسير بين طيبة وبين البحر يوما كاملا دون أن يحمل أسداً على ظهره. أكبر الظن أن توفيق الحكيم لم ير الخريطة، ولعله قد اشتبهت عليه قرية صغيرة قريبة من البحر أسمها طيبة وهي غير طيبة والتي وقعت فيها أحداث القصة.
ومن تلك المآخذ مأخذ قال إنه أفسد القصة من ناحية الفنية إفسادا ليس بعد إفساده، ذلك أنه صور ترسياس في صورة المتآمر الذي ينزل إلى ما يجري عليه الناس من أنواع الدسائس والشرور، ثم مأخذ قال إنه افسد الناحية الفلسفية بأن جعل أوديب يطلب إلى زوجته وأمه جوكستا أن تصرف النظر عما حدث، ليعيشا مع أولادهما مكتفين بالنفي من طيبة، وهذا لا يتفق مع غاية القصة من شعور بالإثم، ومن حسن الحظ أن جوكستا ماتت ولم تقبل ذلك.
ثم قال أن توفيق الحكيم لم ينس أنه كان عضواً في النيابة العمومية، فقد خلط الحوادث خلطاً عجيباً عندما حكم على الكاهن ترسياس بأن يختارا بين الموت والنفي ثم وقفهما أمام الشعب ليحاكما.
وخرج الدكتور طه من الكلام على قصة توفيق الحكيم بأنها جمعت بين قصور جان كوكتو في الناحية الفلسفية وبين قصور أندرية جيد في الناحية الفنية.
ثم تحدث الدكتور عن المقدمة التي كتبها الأستاذ توفيق الحكيم لقصته فقال إن أقل ما يقال فيها إنها كانت تحتاج إلى عناية، فقد كتب صفحات في الجواب عن السؤال: لماذا لم ينقل العرب التمثيلية اليونانية؟ وذكر أن أمرأ القيس ذهب إلى قسطنطينية - وأنا لا أعرف أن أمر القيس ذهب إلى قسطنطينية - فلماذا لم يعد من هناك بشيء من هذا الفن؟ وراح الأستاذ توفيق يسهب في ذكر أسباب وفروض كثيرة، وما كان إغناه عن هذا كله لو علم أن العرب لم ينقلوا التمثيل عن اليونان بسبب واحد بسيط، هو أن اليونان لم يكن عندهم تمثيل(818/49)
في عهد العرب لأن المسيحية كانت قد قضت عليه، ولو ذهب أمرؤ القيس إلى هناك لما وجد تمثيلا. . .
ثم ختم المحاضرة بقوله: وأنا على كل حال أهنئ الأستاذ توفيق الحكيم بهذا الجهد، وأقول إننا يجب أن نبدأ ولو مخطئين لننتهي مصيبين.
تعقيب:
أما وقد تعرض الدكتور طه حسين بالنقد لكاتب (أوديب الملك) للأستاذ توفيق الحكيم، فقد كان قسطاس النقد المستقيم يقتضيه أن يشير إلى مواطن الإجادة فيه، ولا يقصر النقد على مواضع المؤاخذة ثم على الثناء والتهنئة الساخرين. . . وأنا لم أقرأ بعد هذا الكاتب، ولكني لا أتصوره خيالا من شيء يستحق أن يوضع في كفة الحسنات، فتوفيق الحكيم كاتب معروف بجودة الإنتاج القصصي على العموم مهما كان في هذا الإنتاج من مآخذ، ويعرف قراء العربية حسن رأي الدكتور طه في بعض ما كتب الحكيم، فهل هو الآن يستوفي النقد بذكر المآخذ في (أوديب الملك) بعد أن فرغ فيم مضى من الإشادة بما أحسن توفيق الحكيم في (أهل الكهف)؟! وهل لي أن أقول أن الدكتور طه حسين لا يقصد في التقريظ إذا قرظ ولا يقتصد في الثلب إذا ثلب؟.
الثقافة المصرية في السودان:
زار السودان منذ أسابيع الدكتور عبد السلام الكرداني بك الوكيل المساعد لوزارة المعارف، واتصل هناك بالمشرفين على التعليم في حكومة السودان، وبطبيعة الحال كانت المسائل التعليمية والثقافية هي موضع الاتصالات؛ وقد استرعى التفاني من أنباء هذه المرحلة أمران، الأول رد الكر داني بك على جريدة (النيل) السودانية وكانت قد تناولت مسألة توحيد التعليم في السودان التي أثارتها الحكومة السودانية في وجه مشروع التوسع في التعليم المصري بالسودان - قال الدكتور الكر داني: (إنني ممن يرون الخير في تعدد أنواع التعليم والثقافات واعتقد أننا في مصر قد كسبنا من وجود مدارس ذات مناهج مختلفة) ثم قال: (إن هناك من يقولون في الوقت الحاضر بضرورة توحيد الثقافات عند الأمم المتكتلة بتوجيه ثقافاتها وبرامج دراستها وجهة واحدة، وكذلك ترى الجامعة العربية فيما تختص(818/50)
بالأقطار العربية المشتركة فيها وقد اتخذت خطوات فعلية في هذا الاتجاه، فهلا ترون أن من مصلحة السودان العزيز وأهله الأعزاء أن يكون لديهم في بلادهم فريق من أبنائه يسيرون في دراستهم وفق المنهج الذي يسير عليه أشقاؤه في مصر الشقيقة الكبرى وأبناء عمومتهم في بقية البلاد العربية المتحدة المتضامنة سعياً وراء خيرها ورفعتها جميعا؟).
وهذه لفته بارعة من الدكتور الكرداني، وإن كان قد صاغها في قالب من التحفظ، فالسودان باتفاق السودانيين جزء من البلاد العربية إلى تتجه إلى توحيد غايتها الثقافية والتقريب بين برامج الدراسية، وتتخذ خطوات مصر وجهودها في ذلك المضمار محورا ومثلا لها، فكل جهد يبذل في الوقوف أمام انتشار التعليم المصري بالسودان ليس ضاراً فقط بوحدة الوادي، وإنما هو يمتد إلى مكان السودان من العروبة ونصيبه من قيمها الثقافية.
أما الأمر الثاني الذي لاحظته في هذه الزيارة، فهو أن الكرداني بك أدى مهمته باعتباره رجل تعليم وثقافة على خير ما تؤدى، وكان عندما يجعل بمثله أن يكون، لقي الجميع وأحسن التفاهم مع الجميع، فاحتفى به الجميع حتى امتدحت جريدة (النيل) وهي لسان الانفصاليين مسلكه في المناقشة وسعة أفقه. والذي يهمني من كل ذلك أن أضربه مثلا لرجل التعليم المصري ورسل الثقافة إلى جنوب الوادي، ولو أن كل من بعثنا بهم إلى هناك لهذه الغاية كانوا كذلك، ولم يقحموا أنفسهم فيما ليس من شأنهم، لتجنبنا كثيراً من الأشواك، ولما اضطرت حكومتنا إلى ما اضطرت إليه من الحرج فيما يتعلق ببعض مناصب التعليم بالسودان.
عزيزتي السيدة ملك:
أكتب لك هذا بمناسبة استئنافك العمل في مسرحك، بتمثيله كليوباترا لشوقي بك، فأهنك أولا بهذا الافتتاح وأتمنى لك أطيب التمنيات، ثم أتوكل على الله وأفضي إليك بغاية القصد المراد. . . راجيا أن تتقبلي ما أفضي به تقبلا حسنا وألا يتكدر منه خاطرك.
ذلك يا سيدتي أن صوتك جميل جدا ولكنك تجنين على جماله بتشبك أن تلحني لنفسك، ولا أقول فقط إنك لا توفقين في التلحين، وإنما يخيل إلي حينما أسمعك أنك تغنين غناء فطريا، وأن سامعك ليأسف على ضياع تلك الآهات والنبرات الحارة الشجية المنبعثة من قلب يشعر، في الهباء، تذروها فوضى التنغيم. ولا شك في أن عدم توفيقك في التلحين لا ينقص(818/51)
شيئاً من قيمة مواهبك الأخرى، فأنت ممثلة مسح ذات ذخيرة فياضة من حنان الأنوثة، ومغنية مسرح معبرة من الطراز الأول؛ واعتقد أن صوتك يكون شيئاً آخر لو أسلمت قياده لملحن مقتدر، ونحن في عصر الاختصار، فمن أراد أن يكون كل شيء فلن يكون شيئا.
والمهم بعد هو أن الميدان الغني عندنا تنقصه الآن المسرحية الغنائية، مع أن الجمهور المصري يعشق هذا اللون من الفن. وأنت الآن - ولا أرى غيرك في هذه الظروف - التي تستطيع أن تحي المسرح الغنائي بتقديم روائع التمثيليات من الأدب الرفيع، كما يدل على ذلك اختيارك لإحدى مسرحيات أمير الشعراء في افتتاح موسمك الحالي.
فالتلحين، ياست ملك، التلحين. . . ولاشيء ينقصك غير التلحين، فلا تكابري وكوني ممن يسمع القول فيتبع أحسنه.
ولك تحياتي واحترمي.
عباس خضر.(818/52)
البريد الأدبي
الفلوجة لا الفالوجة ولا الفالوجا:
أصبحت هذه البلدة العزيزة عنوناً مجيداً مضيئا من عنوان المجد في تاريخنا الحربي الحديث، فينبغي أن ننطبق بها ونكتبها على الوجه الصحيح. والعرب كانوا وما زالوا ينطقون في بالفلوجة مفتوحة الفاء مشدودة اللام مختومة بالتاء، ويجمعونها على فلاليج، ويريدون بها الأرض المصلحة للزرع، ثم أطلقوها على كل قرية بسواد العراق كما يجوز لنا اليوم أن نطلقها على كل قرية أو إقطاعية بالأرض التي تصلحا الحكومة في كفر سعد أو في غيره ثم صارت الفلوجة علما على هذه القرية بفلسطين وعلى قرية أخرى بالعراق على طريق ما بين الرمادي وبغداد. وقد كان المرحوم الرصافي يهاجر إليها كلما نبا به العيش في دار السلام. والعراقيون ينطقون بها على الضبط الوارد في كتب اللغة.
التقريب بين اللغتين:
كتب الشيخ محمود أحمد الغمراوي كلمة طامنت من أسلوب الرسالة الرفيع المتزن، فقد رمى الدعوى رمية عشواء وقولنا غير قولنا! ونحن ندعو أن يعاود قراءة كلمتنا ثم يرجع البصر، ويضيء البصيرة، فيرى أننا لا نحل الدخيلة محل الفصحى، بل دعونا دعوة (مخلصة) إلى وجوب المحافظة على اللغة ببقاء قواعدها، وأليه مقولنا:
(ونحن إذا تجوزنا في القاعدة، وقلنا لا عنت في جواز جعل فاعلين لفعل واحد كما في شأن أكلوني البراغيث لشاعت القاعدة وجرت على الألسنة، فتضيع اللغة في أوضاع تعقيدها).
وان كل ذلك ذي بصر يرى مدى تحفظنا في أيراد السياق. فقد (تجاوزنا) ولم نسق الحقيقة، وقلنا: أن إشاعة (الدخيلة. تجنى على اللغة؛ فمن أتى الشيخ بدعوتنا إلى هدم العربية؟ إن لغة القرآن تسمو إلى التعقيد، لأنها أبلغ استدلال عليه، ومقتضى هذا هو الارتفاع به عن التأويل المفضي إلى الفصاحة كوهمه وإيهامه. فنحن نعنى بالتأويل في الآية الدنو من (القاعدة) بحسب الظاهر لدفع ما قد يوهم؛ لكن الشيخ يؤيد ما لا يريده المنطق ثم يريدنا عليه!
أن المفسرين - لا الزمخشري وحده - يسيرون في التأويل على وفاق اتساق السياق ولم ينجحوا - كادعائه - إلى الإعراب متقصدين التذرع به لإيضاح وحدة المعنى.(818/53)
بل اتجهوا إلى الفحوى ثم رغبوا في التأويل ليزداد الوضوح؛ فالإعراب ليس مقصودا لذاته، لأنه فرع المعنى!. وليعلم الشيخ أن لغة طيء وأزد شنوءة موافقة الفعل لمرفوعة. قال عمرو بن ملقط:
أُلِفيتنا عيناك عند القفا ... أوْلىَ فأوْلى لَكَ ذا واقِيَةْ
وقد ذكر التوضيح أن هذه اللغة لا تمتنع مع المفردين أو المفردات المتعاطفة بدليل قول عبد لله بن قيس الرقيات يرثى مصعب بن الزبير.
تولى قتال المارقين بنفسه ... وقد أسلماه مبعد وحميم
وعدم المنع بين صحة جعل ما يتصل بالفعل ضمائر في (لغتهم).
إما إدعاء الشيخ (محمود الغمراوي) أننا نحل الألفاظ الدخيلة محل الفصحى فردنا عليه في قولنا:
(وعندنا أن التقريب قد يكون في إشاعة الألفاظ المتقاربة في (الدلالة) مثل أمتي؟ في - متى - ومين؟ في - مَنْ - وفين - في - أين.
هذا ما يمكن بحثه في مقام (دراسته) أما القواعد الأصلية فيجب أن تبقى محافظة على اللغة).
هذا ما أثبتناه وفحواه ما يأتي:
أولا: أننا جعلنا (دلالة) الألفاظ مسوغة لتقاربها ولم نؤيد استعمل الدخيلة.
ثانياً: أننا جوزنا هذا التسامح في (دراسة) أدوات الاستفهام للأبناء.
ثالثا: أننا أوجبنا بقاء القواعد سليمة محافظة على اللغة.
أحمد عبد الطيف.
المدرس ببور سعيد - ومن العلماء
حافظ وشوقي:
طلبت مجلة المقتطف من الأستاذ الشاعر الأديب حسن كامل الصيرفي أن يكتب لها مقالة عن حافظ وشوقي بمناسبة مرور خمسة عشرة سنة على وفاتهما، فكتب لها دراسة مطولة عن الشاعرين جاوز بها حد المقالة، وجعلها كتاباً يقع في أربع وسبعين صفحة من القطع(818/54)
المتوسط، وقد طبعته مطبعة المقتطف والمقطم سنة 1948م
والأستاذ حسن كامل الصيرفي شاعر وأديب، وللشعر عنده رسالة يجب أن يؤديها في كل عصر، فهو ينظر إلى حافظ وشوقي على أنهما شاعران عاشا يتردد اسماهما معا زمنا، وتعترض حياتهما عواصف تنافس أحيانا، وتمر بهما نسمات صفاء أحيانا أخر، ولكنهما كانا يشعران أنهما يتعاونان على أداء رسالة واحدة وجهتهما إلى طريقها عرائس الشعر، وطبيعة العصر، وقد ماتا معاً في سنة واحدة، كأنهما شعرا أنهما أديا رسالتهما في الشعر، ولن يستطيع واحد منهما أن ينهض وحده بعبء تلك الرسالة، بعد هذا الجهاد الطويل في تأديتهما.
وعلى هذا الأساس تقوم تلك الرسالة النفسية لشعر حافظ وشوقي، وتقوم الموازنة بين شعر كل منهما، وقد وجد الأستاذ حسن كامل الصيرفي من ذوقه - وهو ذوق شاعر أديب - مما ساعده على بلوغ الكمال في هذه الدراسة، وإني أهنئه عليها تهنئة صادقة.
عبد المتعال الصعيدي
تصحيح مردود:
في البريد الأدبي للرسالة الغراء عدد (811) اطلعت على كلمة للأديب الفاضل محمد الشاذلي حسن يخطئ فيها استعمالي لفظة (ماتع) صفة الشيء المستحسن الجميل، ويستشهد لذلك بيت المجنون الوارد في أغاني الأصفهاني:
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا ... من الصيف يوم لا فح الحر ماتع
ويذكر أن الشراح ذكروا أن (الماتع هو الطويل).
وأقول: كون (الماتع) بمعنى الطويل لا يمنع كونه بمعنى الجيد بل البالغ في الجودة؛ ففي اللسان - أعنى لسان العرب - (متع الرجل ومتع جاد وظرف وقيل كل ما جاد فقد متع وهو ماتع والماتع من كل شيء البالغ في الجودة الغاية بابه):
خذه فقد أعطيته جيداً ... قد أحكمت صنعته ماتِعا
وبعد: فلو لم يكن مرجعنا (اللسان) لطال حبل الكلام في مقام الاستشهاد والإيراد، خير الكلام - كما قيل - ما قل ودل، وارجوا أن يكون في هذا القليل الدليل، والسلام.(818/55)
الزيتون
عدنان(818/56)
أحكام اللجنة
عن نتيجة المسابقة الثقافية
1 - تمثيليات قصيرة للمسرح المدرسي:
تقدم للجنة إحدى عشرة تمثيلية رأت اللجنة منح الجائزة الثانية وقدرها خمسون جنيها لتمثيليتي (عروس النيل) و (الساعة 12) معا لمؤلفهما عزت السيد إبراهيم، وكذلك الجائزة الثانية وقدرها ثلاثون جنيها لتمثيلية (مؤامرة صغيرة) لمؤلفها حسين محمد القباني.
2 - تمثيليات قصيرة للإذاعة المدرسية:
تقدم للجنة إحدى عشر تمثيليات رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها ثلاثون جنيها لتمثيلية (أفراح أنشاص) لمؤلفها فريد عين شوكة. والجائزة الثانية وقدرها عشرون جنيها لتمثيلية (أرض الآباء) لمؤلفها صوفي عبد الله. والجائزة الثانية وقدرها عشرون جنيها لتمثيلية (الأم) لفتحية حسن.
3 - المسرحيات العامة:
تقدم للجنة ثماني مسرحيات رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها مائة وخمسون جنيها لقصة (ساحر بابل) لمؤلفها عثمان حلمي. والجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لمسرحيتي (الحرية والعدالة) و (أرض السلام) معا لمؤلفهما محمد محمد شعبان، والحائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لمسرحية (جلاء الصدا) لمؤلفها عبد الواحد فرج، والجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لمسرحية (السلسلة والغفران) لمؤلفها علي أحمد با كثير.
4 - القصة الطويلة:
تقدم للجنة ثماني قصص وقد رأت اللجنة - كما هو مخول لها - تعديل قيم الجوائز فجعلت درجة بين الدرجة الأولى وبين الدرجة الثانية سمتها (الثانية الممتازة وقدرها مائة وعشرون جنيتها) وجعلت قيمة الدرجة الثانية تسعين جنيها، وزادت درجة ثالثة خصصت لها خمسين جنيها. ثم رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها مائة وخمسون جنيها لقصة (بعد الغروب) لمؤلفها محمد عبد الحليم عبد الله، ومنح الجائزة الثانية الممتازة وقدرها مائة جنية لقصة (وراء الأفق) لمؤلفها محمد محمود شعبان، والجائزة الثانية وقدرها تسعون جنية لقصة (رجل المعجزات) لمؤلفها محمد أمين حسونه. والجائزة الثانية وقدرها تسعون جنيها(818/57)
(دعاء الفجر) لمؤلفها حسين محمد القباني. والجائزة الثالثة قدرها خمسون جنيها لقصة (طريق المجد) لمؤلفها سعد مرسي أحمد، والجائزة الثالثة وقدرها خمسون جنيها لقصة (شقائق عذراء) لإبراهيم محمد با يزيد.
5 - القصة القصيرة:
تقدم اللجنة سبع وعشرون قصة رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها خمسون وعشرون جنيها لقصة (الضاربون في الأرض) لنظمي لوقا. والجائزة الأولى خمسة وعشرون جنيها لقصة (غابت الشمس) لمحمد يسري أحمد، والجائزة الأولى خمسة وعشرون جنيها لقصتي (الأرملة العذراء) و (الأعماق) معا لمؤلفهما صلاح الدين حافظ، والجائزة الثانية وقدرها عشرون جنية لقصة (سرقة بالطابق السادس) ليوسف إسحاق الشاروني، والجائزة الثانية عشرون جنيها لقصة (المسلمي أفندي) لنجيب محمود عزب. والثانية عشرون جنيها لقصة (صراع) لرجائي محمد. والثانية عشرون جنيها لقصة (مغامرة ليلة) لعبد العزيز شريف. والثانية عشرون جنيها لقصة (قبور في الطريق إلى تل أبيب) لعواطف بيومي. والثانية عشرون جنيها لقصة (أسطورة الأساطير) لنعمان سعد الدين. والثانية عشرون جنيها لقصة (تصفية حساب) لنري عطا الله. والثانية عشرون جنيها لقصة (هؤلاء المساكين) لمحمد عبد الرزاق مرزوق. والثانية عشرون جنيها لقصة (عذراء دمشق) لإبراهيم محمد با يزيد. والثانية عشرون جنيها لقصة (نداء الإنسانية) لعز الدين فراج. والثانية عشرون جنيها لكل من قصتي (درس) أو (السيد الحديد) لمحمد لبيب البوهي.
6 - البحوث الأدبية والفنية:
تقدم اللجنة ثلاث بحوث رأت منح الجائزة الثانية وقدرها مائة جنية لبحث (إبراهيم باشا) لمؤلفه صبري كامل. والثانية مائة جنيها لبحث (مسلم ابن الوليد) لحسين محمود البشبيشي. وجائزة ثالثة وقدرها خمسون جنيها لبحث (الحب عند العرب) لمؤلفها محمد فتحي.
7 - بحوث في التاريخ والآثار:
لم يتقدم أحد.
8 - الرحلات:
تقد اللجنة مؤلفان رأت منح الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لكتاب (رحلات في المغرب(818/58)
وأسبانيا) لمحمد وهبي.
9 - الموضوعات المبسطة في العلوم:
تقدم اللجنة سبعة موضوعات رأت منح الجائزة الأولى وقدرها مائة وخمسون جنيها لكل من موضوعي (القيمة الغذائية) (ودنيا العلم) معا لمؤلفها عز الدين فراج والجائزة الأولى مائة وخمسون جنيها لموضوع (الغذاء الكامل) لمحمد الشحات محمد، والجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لموضوع (العلماء الثائرون) لجمال الدين موسى، والثانية مائة جنية لموضوع (الجيل الجديد) لعزت السيد إبراهيم، والثانية مائة جنية لكل من موضوعي (الصناعات الكيميائية) و (وسائل السفر الحديث) معا لمؤلفها حسن العشماوي.
توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر ألما زني، عباس العقاد، عبد الرحمن صدقي، زكي طليمات، فريد أبو حديد، دكتور إبراهيم عبد الرحمن. دكتور مصطفى الديواني.
يعتمد
السنهوري(818/59)
العدد 819 - بتاريخ: 14 - 03 - 1949(/)
هل الشقاق طبع في العرب؟
جواب عن سؤال
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
وجهت هذا السؤال مفصلا إلى صديقي الأستاذ الكبير ساطع الحصري بك المستشار الفني لجامعة الدول العربية. ولكن المقال لم يعجب الرقيب فلم يأذن بنشره. ولما اطلع عليه الأستاذ أبو خلدون أجاب عنه بهذا البحث الذي تقرأه. وإني لأرجو بعد أن ينشر أن أعلق عليه بما يتفق مع رغبة الرقيب وواجب الحق وسياسة الرسالة.
(الزيات)
صديقي الأستاذ. . .
لقد اطلعت على السؤال الذي وجهتموه إلي، في مقالكم المعنون (هل الشقاق طبع في العرب؟).
فقد أشرتم في المقال المذكور إلي حوادث الشقاق والتنافس والتخاصم التي توالت في تاريخ العرب؛ واستعرضتم الأحزاب السياسية والفرق الدينية التي ظهرت بينهم؛ ثم ذكرتم رأي ابن خلدون في هذا المضمار. وفي الآخر تساءلتم: (هل كتب الله على العرب أن يعيشوا أبداً بطبيعة البادية ونفسية الغابة وعقلية القبيلة؟)
فوجب على أن ألبي طلبكم، فاكتب إليكم ما اعتقده في هذه القضية الهامة. غير أني رأيت من الضروري أن أقف أولاً أمام (المقدمات) التي صدرتم بها هذا السؤال، قبل أن أحاول الإجابة عنه إجابة مباشرة.
فاسمحوا لي أن أسألكم بدوري: هل تظنون أن الاختلافات التي ذكرتموها كانت من خصائص الأمة العربية وحدها؟
أنا لا أشك في أن جوابكم عن هذا السؤال سيكون بالنفي؛ لأنكم تعرفون جيداً - كما يعرف ذلك كل من يستعرض التاريخ العام - أن تواريخ الأمم الأخرى لم تخل من أمثال تلك الاختلافات.
فيترتب على ذلك إذن أن أنقل البحث إلى كمية هذه الاختلافات وشدتها، فأسألكم: هل(819/1)
تعتقدون أن الاختلافات السياسية والدينية التي حدثت في تاريخ العرب كانت أكثر وأشد وأعنف من التي تجلت في تواريخ الأمم الأخرى؟
أنا أعرف أن الآراء الشائعة الآن لا تدع مجالاً للتفكير ملياً في هذا السؤال؛ لأنها تحمل الأذهان على الرد عليه فوراً بالإيجاب.
وأعترف بأني أنا أيضاً كنت - مدة من الزمن - من المتأثرين بهذه الآراء الشائعة، ومن المسلمين بأن تاريخ العرب يشذ في هذه القضايا عن تواريخ الأمم الأخرى شذوذاً كبيراً. أني بدأت أشك في صحة الآراء الشائعة عندما أخذت أتعمق في دراسة التاريخ العام؛ وازددت شكاً فيها كلما تغلغلت في هذه الدراسة؛ إلى أن أصبحت أعتقد اعتقاداً جازماً بأنها لا تتفق مع الحقائق التاريخية الثابتة أبداً؛ لأنها لا تقوم على مقارنات شاملة، بل تستند إلى استقراء ناقص جداً.
إننا ننفعل، ونتألم، ونغضب. . عندما نقرأ أخبار الاختلافات التي حدثت في تاريخ العرب. . ولا سيما عندما نتتبع نتائج هذه الاختلافات ونطلع على كيفية تضاؤل سلطة الخلافة، وتشتتها بين سلطات السلاطين وملوك الطوائف العديدين.
إننا ننفعل ونتألم من هذه الأخبار والحوادث التاريخية، لأننا نقيس أحوال القرون الماضية بمقاييس الأزمنة الحاضرة. . . ولا نكلف عناء البحث في التاريخ العام بحثاً شاملاً، لكي نعرف ما كانت تلك لأحوال من الأمور التي تشذ فيها الأمة العربية عن سائر الأمم، أو كانت من الأمور الطبيعية التي تتساوى فيها جميع الأمم في بعض الأطوار من تاريخها.
فيجب علينا، قبل كل شيء، أن نطلق أذهاننا من ربقة هذه الآراء الشائعة، لندرس هذه القضايا من جديد، بنظرات علمية بحتة، مع استقراء الحوادث التاريخية استقراء تاماً.
فلنبدأ أولاً بقضية الاختلافات الدينية. ولنستعرض ما حدث منها في أوربا، طوال القرون الوسطى وخلال النصف الأول من القرون الأخيرة. . . نجد أنها لم تكن قط أقل تنوعاً ولا أخف عنفاً مما حدث في العالم العربي خلال الأزمنة المذكورة، إن لم تكن أكثر تنوعاً وأشد عنفاً منها. .
أحصوا المذاهب المختلفة التي نشأت في الغرب منذ ظهور المسيحية في البلاد الأوربية خلال القرون المذكورة. . . استعرضوا الخلافات الدينية والمذهبية التي حدثت بين الدول(819/2)
وبين الكنائس من جهة، وبين الكنائس المختلفة من جهة أخرى. . . استقصوا أخبار الحروب الأهلية والدولية التي نجمت من هذه الاختلافات الدينية في مختلف أقسام البلاد الأوربية، حتى في فرنسا التي تظهر الآن أكثر تباعداً عن الاهتمام بالأمور الدينية من جميع بلاد العالم. . . قلبوا صحائف التاريخ التي سجلت أعمال محاكم التفتيش من جهة، وحياة مؤسسي المذاهب الدينية من جهة أخرى. . . فإنكم تضطرون إلى التسليم بأن الاختلافات الدينية التي حدثت في البلاد الأوربية كانت - بوجه عام - أوسع نطاقاً، وأكثر تنوعاً، وأشد عنفاً من التي حدثت في العالم العربي.
وأما الاختلافات السياسية، فأمرها يحتاج إلى أشمل، وتفكير أعمق. . .
فيجب علينا أن نلاحظ قبل كل شيء: أن العرب انتشروا - بعد الهجرة النبوية - بسرعة خارقة، في بقاع واسعة جداً من القارات الثلاث المعلومة قديماً. ففتحوا خلال قرن واحد، بلاداً أوسع بكثير مما فتحه الرومان خلال ثمانية قرون.
تصوروا الاتساع الهائل الذي وصلت إليه الدولة العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة وأواسط القرن الثامن للميلاد. . تتبعوا حدود تلك الإمبراطورية التي كانت تمتد من سواحل بحر المحيط الأطلسي إلى شواطئ نهر السند وسهول كشغر، ومن سفوح همالايا إلى جبال البرنس والألب، ومن سواحل بحر الهند إلى أواسط بحر قزوين وبحيرة آرال، ومن باب المندب إلى جبال القافقاس. . . وتذكروا في الوقت نفسه بساطة الوسائط الناقلة والمواصلات ووسائل الحروب والسيطرة التي كانت معلومة ومستعملة في تلك العصور. . . ثم قولوا لي: كيف كان يمكن أن تبقى تلك السلطنة المترامية الأطراف مصونة من مغبة الانقسام مدة طويلة من الزمن، بالرغم من اختلاف الشعوب الكثيرة التي دخلت تحت حكمها، وبالرغم من طول المسافات الهائلة التي كانت تفصل ثغورها من عاصمتها، وضآلة الوسائط التي كانت تضمن اتصال هذه العاصمة بتلك الثغور.
قولوا لي: أية سلطنة من السلطنات التي يذكرها التاريخ القديم والوسيط، استطاعت أن تسيطر على مثل هذه البقاع المترامية الأطراف، مدة أطول من التي سيطر عليها العرب، دون أن نتعرض إلى اختلافات وانقسامات؟
لا تنس أن إمبراطورية إسكندر الأكبر - في القرون الأولى - تجزأت بعد موت مؤسسها،(819/3)
مع أنها كانت أصغر بكثير من الإمبراطورية العربية. كما أن إمبراطورية شارلماني - في القرون الوسطى - لم تسلم من الانقسام بعد موت عاهلها، مع أنها كانت قليلة الاتساع جداً بالنسبة إلى اتساع الدولة العربية في أواخر عهد الأسرة الأموية، أو أوائل عهد الأسرة العباسية.
ولا تنس أن انقسام السلطنات والإمبراطوريات الكبيرة وانحلالها إلى إقطاعيات صغيرة كانت من الأمور الطبيعية المألوفة في جميع أنحاء العالم المعلوم في القرون الأولى والوسيطة.
ولذلك أعود وأسألكم مرة أخرى: كم أمة من الأمم التي عرفها التاريخ كانت أقل اختلافاً وأكثر اتحاداً من الأمة العربية من الوجهة السياسية؟
اليونان؟. . . ولكن التاريخ يشهد شهادة صريحة على أن هذه الأمة لم تتحد سياسياً في يوم من الأيام. . . كانت كل مدينة من المدن اليونانية الكثيرة مملكة قائمة بذاتها، دولة مستقلة عن غيرها. وهذه الحالة كانت تبدو لليونانيين طبيعية وضرورية حتى أن كبار مفكريهم كانوا يحبذون هذه الحالة، وكانوا يشاركون الرأي العام في هذا المضمار. وقد قال أفلاطون: إن عدد المواطنين في الدولة - أي الجمهورية - يجب ألا يزيد على خمسة آلاف. وقال أرسطو: إن الدول يجب أن تكون صغيرة، حتى يستطيع جميع أفرادها أن يعرف بعضهم بعضاً معرفة مباشرة.
في الواقع أن هذه المدن المستقلة - أي هذه الدويلات الصغيرة - كانت تتفق وتتحالف من حين إلى حين لدرء الخطر الخارجي الذي يحدق بالجميع. غير أن هذا التحالف كان لا يلبث أن ينفصم وينحل من جراء تنافس المدن الرئيسية على زعامة الحلف.
ومن المعلوم أن أشهر وأهم هذه المحالفات تكونت عند هجوم الماديين على بلاد اليونان. غير أن هذه المحالفة أيضاً لم تعمر طويلا، بل انحلت وزالت قبل أن يمضي على تكوينها عقدان من السنين!
وقد انقضى تاريخ اليونان السياسي بالمنافسات والمنازعات التي قامت بين أثينا وأسبارطة وكورنت. ومن المعلوم أن هذه المنافسات أدت إلى حدوث عدة حروب دامية بين مختلف المدن اليونانية كان أشهرها الحروب التي عرفت باسم حروب اليلويونيز(819/4)
ولا ننس أن هذه الحروب التي اشترك فيها معظم المدن اليونانية هي التي أدت إلى تحطم الأسطول الأسبارطي من جهة، وإلى تدمير أسوار أثينا من جهة أخرى.
وقد حدثت هذه المنافسات والمحاربات بين تلك الدويلات، مع أن مساحة اليلويونيز - مع شبه جزيرة آتيكا - كانت أقل من مساحة بعض المديريات في مصر، والمحافظات في سوريا، والمتصرفيات في العراق. ومع أن المسافة التي تفصل أثينا عن أسبارطة لا تختلف كثيراً عن المسافة التي تمتد بين القاهرة والإسكندرية، وتقل كثيراً عن التي تفصل دمشق من بغداد، وتتضاءل تماماً أمام المسافات الشاسعة التي تفصل بغداد عن قرطبة ولا سيما بلخ عن لشبونة.
إن هذه المئات من الدويلات اليونانية التي تقاسمت هذه الرقعة الصغيرة من الأرض ظلت متفرقة متنافسة متخاصمة، ولم تجتمع تحت إدارة واحدة إلا عندما دخلت تحت حكم دولة أجنبية.
ترون، أيها الأستاذ، أن الأمة اليونانية لم تكن قط في حالة تحسد عليها من هذه الوجهة.
وأما الرومان، فلا شك في أنهم امتازوا بين أمم التاريخ القديم بالاتحاد والانتظام. والإمبراطورية التي أسسوها عاشت مدة أطول من مثيلاتها بوجه عام.
غير أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن هذا الامتياز نتج عن توافر عدة عوامل وأوضاع مساعدة لم تتيسر لغيرها أبداً.
أولاً: أن السلطنة الرومانية تكونت بتدرج عظيم، وهذا التدرج ساعد على رسوخ الأوضاع الجديدة واستقرارها مساعدة كبيرة.
ثانياً: أن الإمبراطورية الرومانية شملت جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط. ولا حاجة إلى القول بأن روما كانت في نقطة مركزية من هذا البحر، وقد ساعد ذلك كثيراً على اتصال العاصمة بمختلف أقسام السلطنة عن طريق البحر بسرعة وسهولة بالنسبة إلى وسائط النقل والمواصلة المعلومة في تلك العصور القديمة.
ثالثاً: أن السلطنة الرومانية لم تتباعد عن السواحل كثيراً، ولم تتغلغل في الأقطار القارية أبداً. إنها لم تسيطر على جزيرة العرب ولا على ما بين النهرين؛ فمعظم أقسام العراق، وجميع بلاد إيران وخراسان، وما وراء النهر والأفغان. . . ظلت خارجة عن حوزة(819/5)
السلطنة الرومانية، وذلك قلل إلى حد كبير مشاكل الحكم التي تلازم السلطنات المترامية الأطراف.
إن اجتماع هذه الأسباب الأساسية هو الذي ساعد على إطالة عمر الإمبراطورية الرومانية بالنسبة إلى ما كان معتاداً في القرون الأولى والوسطى.
ومع كل هذا يجب ألا ننسى أن هؤلاء الرومان أيضاً لم يسلموا من آفات الاختلاف والتنافس: استعرضوا تاريخ روما بنظرة فاحصة ولاحظوا كم من المنازعات قامت بين مختلف الطبقات الاجتماعية، حتى في مدينة روما نفسها، وحتى في عهد الجمهورية؟ وكم من الحروب الداخلية نشبت بين القواد في عهد الإمبراطورية؟ وكيف أصبحت الجيوش ذات الكلمة النافذة في تنصيب الأباطرة؟ وكيف كانت الغلبة والكلمة العليا في هذا الأمر تارة إلى الجيوش المرابطة في أسبانيا، وطوراً إلى الجيوش المرابطة في سوريا، وتارة إلى الجنود المرابطة في أفريقيا؟ وكيف أصبح الوصول إلى العرش رهن النجاح في مؤامرات لا تعد ولا تحصى؟
وإذا لاحظتم كل ذلك اضطررتم إلى التسليم بأن الإمبراطورية الرومانية لم تعش سالمة من الاختلافات، بل إنما عاشت بالرغم من الاختلافات، وأما إخلاف الرومان القدماء، فلا ننس أنهم عاشوا متفرقين متخالفين مدة لا تقل عن خمسة عشر قرناً.
وإذا تركنا السلطنات القديمة جانباً، وانتقلنا إلى الدول المعاصرة لنا، وتتبعنا أحوالها الماضية - طوال القرون الوسطى وخلال النصف الأول من القرون الأخيرة - وصلنا إلى نتائج مماثلة لما ذكرناه آنفاً.
ولنأخذ فرنسا مثلا؛ فقد كان من المعلوم أنها أسبق الدول الأوربية إلى الوحدة السياسية الكاملة، والتماسك القومي المتين، ولكنا إذا استعرضنا أحوالها خلال القرون التي ذكرناها آنفاً وجدناها بعيدة عن الوحدة كل البعد، ومسرحاً لشتى أنواع الخلافات والحروب.
أنا لا أود أن أطيل الحديث في هذا الموضوع، ولذلك أكتفي بنقل كلمة كتبها مؤرخ فرنسا الشهير (أرنست لافيس) لتلخيص تلك الأحوال، قال المؤرخ:
(لقد مضى عهد من التاريخ كانت فيه فرنسا شبيهة بمقدونيا الحالية منقسمة إلى أجزاء كثيرة، متخالفة، متنابذة، متنافسة، متخاصمة. وقد وجب أن تسيل الدماء مدراراً حتى تلتحم(819/6)
هذه الأقسام المختلفة، فتصل فرنسا إلى وحدتها الحالية. . .).
هذه كانت أحوال فرنسا التي سبقت جميع الدول الأوربية في طريق الاتحاد. وأما إذا أنعمنا النظر في تواريخ الدول الغربية الأخرى، فنجد فيها أيضاً أحوالاً مماثلة لذلك تجلت بمقياس أوسع، وبشدة أعظم، واستمرت مدة أطول.
لابد من أن نتذكر - في هذا الصدد - أن ألمانيا كانت منقسمة إلى أكثر من ثلاثمائة دولة ودويلة حتى أوائل القرن الماضي، وكانت لا تزال منقسمة إلى تسع وثلاثين دولة قبل ثمانين عاماً فقط!
إن اتحاد هذه الدول لم يتم إلا بعد جهود كبيرة وتضحيات عظيمة، وهذه الجهود قد اجتازت مرات عديدة أطوار فشل أليمة
ولهذا كله أستطيع أن أقول بكل تأكيد: إننا كلما توسعنا وتعمقنا في دراسة تاريخ الدول الأوربية ازددنا يقيناً بأن معالم الاختلاف والانقسام فيها لم تكن قط أقل من التي تجلت في تاريخ العرب بوجه عام.
إني أقول هذا بكل تأكيد مع علمي بأني أخالف بذلك آراء الكثرة الساحقة من الكتاب والباحثين.
وقد فكرت ملياً في الأسباب والعوامل التي حملت الرأي العام على التباعد عن طريق الصواب في هذه القضية الهامة، وأعتقد أنني وصلت إلى معرفتها بكل وضوح:
إن مراكز رؤيتنا لتاريخ العرب تختلف - بوجه عام - عن مراكز رؤيتنا لتواريخ الأمم الأخرى.
فنحن ننظر إلى تواريخ الأمم الأخرى عن بعد نظرة إجمالية فندرك خطوطها الأساسية العامة دون أن نتيه في تفاصيلها الفرعية. ولكننا ننظر إلى تاريخ العرب من قرب نظرة تفصيلية فنطلع على كثير من تفاصيله دون أن نحيط علماً بخطوطه الأساسية.
وأستطيع أن أقول: إن موقفنا تجاه التاريخ العام موقف رجل يتفرج على الجبل من السهل البعيد.
وأما موقفنا تجاه تاريخ العرب، فهو موقف رجل يسير في قلب الجبل ويتغلغل في وهاده.
ومن المعلوم أن الجبال تتألف عادة من وهاد ووديان، ومرتفعات ومنخفضات، وهضاب(819/7)
ومنحدرات، فلا تبدو عالية شامخة، إلا لمن ينظر إليها من بعيد، ويدرك شكلها العام دون إن يتيه بين خطوطها الفرعية المعقدة. . .
إن تواريخ الدول الأوربية تبدو لنا جبالاً مرتفعة شامخة، لأننا ننظر إليها بنظر المؤلفين الأوربيين، ومن الخارج ومن البعد، فلنغير موقفنا منها ونظراتنا إليها، وذلك بالتغلغل فيها، نرى عندئذ أنها مؤلفة من وهاد ووديان بالرغم من منظرها الخارجي العام.
وأما تواريخ الدول العربية، فتبدو لنا مجموعة مرتفعات ومنخفضات مشوشة ومعقدة، لأننا ننظر إليها بنظر الإخباريين القدماء، ومن داخلها؛ فلنغير موقفنا منها، ولننظر إليها من بعد - نظرة تسمو على النزعات - فنرى عندئذ أنها أيضاً مرتفعة شامخة بالرغم مما فيها من وهاد ووديان.
يجب علينا أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا على الدوام، وأن نسعى لتوحيد نظراتنا إلى صحائف التاريخ القومي والتاريخ العام، ولنعدل عن استعمال نظارات مكبرة للعيوب في الأولى، ومصغرة للعيوب في الثانية، كما اعتدنا ذلك إلى الآن.
وعندما نفعل ذلك نفهم حق الفهم أن الأحكام الشائعة بيننا على تاريخ العرب، إنما هي وليدة نظرات خاطئة، ومقارنات قاصرة، ولهذا السبب كانت في حاجة شديدة إلى التصحيح والتقويم بوجه عام.
أبو خلدون ساطع الحصري(819/8)
ضوء علمي على مشكلة اللاجئين العرب
للأستاذ عمر حليق
في سنة 1946 شهد أمام لجنة التحقيق الانجلو - أمريكية أستاذ يهودي هو البرفسور فرانك توتستين رئيس دائرة علم السكان (ديموغرافيا) في جامعة برنستون الأمريكية الشهيرة عن مستقبل الكيان اليهودي في فلسطين من الناحية العلمية الصرف وعلى ضوء مشاكل السكان. وكانت خلاصة تحقيقاته وتحليلاته المعززة بالأرقام والدراسات الإحصائية تفيد أن تزايد السكان العرب في فلسطين هو أكبر خطر يهدد مطالع اليهود فيها وصرح نونستين بما يلي بالحرف الواحد:
(إن من الصعب جداً أن يتصور المرء الظروف التي يستطيع اليهود أن يصبحوا فيها أكثرية في فلسطين. فإن العرب (ونسبة تزايد السكان بينهم بفلسطين أعلى نسبة في العالم على الإطلاق) حائزون لجميع الإمكانيات الطبيعية والاجتماعية لأن يحتفظوا بهذه النسبة المرتفعة. ومهما يكن عدد اليهود المتدفقين على فلسطين كبيراً فإن مقدرة الزراعة والصناعة اليهودية على استيعابهم ستظل محدودة مقيدة بعوامل اقتصادية واجتماعية، منها الرغبة في الاحتفاظ بمستوى للمعيشة مرتفع، ونزعة اليهود الأوربيين لتجديد نسلهم بولد أواثنين، وطبيعة الاشتراكية التي تجعل اليهودي في فلسطين غير ميال إلى بناء عائلي كبير. وهذا عكس ما ينزع إليه العربي
وحتى لو تسنى لليهود أن ينشئوا لهم دولة فإن من المستبعد أن يستطيعوا الاحتفاظ بالسيادة السياسية في كل فلسطين أوفي جزء منها، بسبب هذا التزايد الهائل بين السكان العرب. وحتى لو عززت اليهود دولة أو دول خارجية كبرى فإن هناك عوامل طبيعية واجتماعية ديمغرافية (بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية) تجعل تزايد السكان بين العرب أكبر خطر حقيقي يواجه مطامع اليهود في فلسطين.
وعلى ضوء هذه الحقائق فإن أكبر الظن أن حماسة اليهود ونشاطهم والجهد والمال والتضحية الإجماعية التي بذلوها لبناء الدولة اليهودية، وجعلها دولة حديثة مزدهرة ستذهب سدى.
وسيجد اليهود أنفسهم بحكم هذه العوامل الديمغرافية عاجزين عن تحقيق التفوق العددي(819/9)
والسيطرة السياسية للاحتفاظ بالسيادة الفعلية في فلسطين).
هذه شهادة عالم يهودي مهما قلبتها وجدت فيها، على ضوء علم السكان، حقائق راهنة تلقي ضوءاً قوياً على مشكلة اللاجئين العرب يساعد على تفهم مصلحتهم ومصلحة الوطن الفلسطيني الذي يحبونه ويتطلعون إلى الاستقرار في ربوعه إلى أن تهب عليهم وعلى إخوانهم في الوطن العربي الأكبر رياح مواتية لإتمام الصراع الفاصل مع اليهودية العالمية في أرض الميعاد.
وهذه اللفتة العلمية تلقي كذلك ضوءاً على هذا الجدل الذي يسود المحافل العربية الآن بصدد مسألة العرب الذين أقصاهم الإرهاب والإجرام اليهودي عن ديارهم، وهي مسألة تستحل مكان البروز من أعمال لجنة التوفيق التي بعثت بها هيئة الأمم إلى فلسطين والتي تتناقل الصحف الآن أنباء نشاطها.
فهناك رأيان بصدد مشكلة اللاجئين العرب: رأي يدعو إلى العودة واستعادة الأموال والممتلكات حتى ولو لم تسو المسألة الفلسطينية تسوية نهائية. والرأي الآخر يتناول مسألة العودة هذه من ناحية عملية، فيقول إن طبيعة السلوك اليهودي في منطقة نفوذه في فلسطين لا تدعو مطلقاً إلى استئمانه على حياة نصف مليون من العرب.
والواقع أن عملية اليهود في إجلاء السكان العرب بواسطة الإرهاب اليهودي عملية مستمدة من الحقائق البينة التي أكدتها شهادة نوتستين هذا وغيره من خبراء مشاكل السكان. والقيادة الصهيونية الدولية أمهر من أن لا تشعر بخطورة هذه الحقائق وأن لا تحتال للتغلب عليها بواسطة مذابح (دير ياسين) وحيفا وترستجا وألف حادثة وحادثة من أعمال الإجرام اليهودي المنظم
ولو أخذنا تحليلات نوتستين هذا من ناحيتها العلمية لاستطاع الداعون إلى عودة اللاجئين العرب إلى منازلهم وديارهم وحقولهم ومرابعهم في فلسطين استنباط حجج قوية قد تكون قاسية تتطلب روحاً جبارة وأعصاباً حديدية وتنظيماً قوياً ووعياً سياسياً حساساً، ولاستطاع هؤلاء الداعون إجابة مخالفيهم في الرأي على أساس (الأمر الواقع) كذلك.
فإن إقامة أقلية عربية كبيرة في منطقة احتلال اليهود، له ذيول عملية بعيدة الخطورة والخطر على مستقبل الكيان اليهودي إذا تحققت لهذه الأقلية العربية حقوقها الثقافية التامة(819/10)
وضمانات سياسية واقتصادية. وتوفير هذه الشروط مستطاع عملياً وقانونياً ودولياً. وستكون هذه الأقلية العربية مكونة من ستمائة ألف شخص على الأقل وهو عدد السكان العرب بموجب خارطة الأمم المتحدة للتقسيم. ولن يستطيع اليهود حين يعود العرب إلى ديارهم جلب أكثر من 100 ألف إلى 150 ألف يهودي من الخارج خلال الأعوام الخمسة القادمة، وذلك بسبب المقدرة الاقتصادية اليهودية على الاستيعاب، وهي مقدرة ستحددها تحديداً سيئاً إغلاق الأسواق العربية في وجه الإنتاج اليهودي ومنع الجوالى اليهودية في الشرق العربي من أن تعود إلى فتح المبادلة التجارية مع يهود فلسطين وتعزيز اقتصادياتهم كما فعلت في السنين السابقة عن طريق إيطاليا واليونان وغيرها. وسبب آخر هو طبيعة المجتمعات اليهودية في الخارج. فإن يهود أمريكا لمن يتركوا بحبوحة الرخاء في العالم الجديد لاختيار تجربة الصهيونية الشيوعية في فلسطين، وكذلك حال يهود غربي أوربا.
وقد تكاثرت مؤخراً الأنباء بأن النظم الشيوعية القائمة في شرقي أوربا، ونسبة أولى الأمر من اليهود فيها كبيرة، قد بدأت تحول بين هجرة ما تبقى من اليهود في منطقة النفوذ الشيوعي لتحتفظ بسند لها أمام سخط الأكثرية من غير اليهود.
والقيادة الصهيونية تتطلع إلى أن تسد هذا العجز في سياسة تهويد فلسطين ومشكلة التعدد في برنامج الهجرة الطامة - تتطلع إلى جلب الـ 800 ألف يهودي الذين يستوطنون مختلف أقطار الشرق العربي وشمالي أفريقيا. وهذه ناحية لا يبدو أن صناع السياسة في العالم العربي يعطونها ما تستحقه من مراقبة واهتمام
ولقد كان عدد العرب في فلسطين في مستهل الغزوة اليهودية (1919) حوالي 650 ألفاً فأصبحوا بعض مضى 25 عاماً مليوناً ونصف المليون تقريباً، وذلك بسبب هذه العوامل الديمغرافية الفريدة التي ذكرها الخبير نوتستاين وغيره من الباحثين في مشاكل السكان. فنستنتج من ذلك أن بقاء 600 ألف عربي بين ظهراني 900 ألف يهودي الآن سيقلب أوضاع هذه الكثرية اليهودية رأساً على عقب في بضعة عشر عاما. وهذه طريقة عملية على غاية من الأهمية في تقرير مصير المطامع الصهيونية في فلسطين والشرق العربي.
كل ذلك بالإضافة إلى العواقب السياسية الخطيرة في العالم العربي إجمالا وهي التي تستلزمها رعاية مصالح السكان العرب في منطقة النفوذ اليهودي، وما سيترتب على ذلك(819/11)
من استعداد نفساني وعسكري يضمن دوام اتجاهات العرب نحو القضية الفلسطينية كلما ارتفعت شكاوى العرب المقيمين بين ظهرانى اليهود في فلسطين.
وإذا كان الداعون لتفادى عودة اللاجئين العرب إلى ديارهم في المنطقة اليهودية يبنون دعوتهم على نظرة عملية واقعية فإن الداعين إلى العودة يبنون دعوتهم على أسس واقعية صرفة مستمدة من طبيعة التزايد الهائل بين السكان العرب، وطبيعة مستقبل الصراع بين اليهودية العالمية والوحدة العربية.
والرياح الدولية لا بد أن تهب مواتية للسفينة العربية عاجلاً أو آجلاً، وإن الحرب الفلسطينية قد أخذت تتمخض عن نزعة عسكرية صادقة واتجاه عملي إلى الإصلاح في الجهاز الإداري والنظم السياسية والاقتصادية والوعي الاجتماعي.
هذه تعليلات ولفتات قد تفيد عند البت في مستقبل اللاجئين العرب. ومسألة البت أكبر من أن تعالج في بحوث عارضة وهي تتطلب دراسات شاملة لا يصلح أن تكون العاطفة أساسها الوحيد. فهذا الاتجاه العاطفي إذا تجرد من المعرفة الصائبة قد يولد عكس ما يتوخاه العاطفون، ويسبب ارتجالا في السلوك على النحو الذي صبغ تاريخ القضية الفلسطينية بطابع النكبات المتلاحقة.
نيويورك
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية(819/12)
على رسلك يا صديقي
بيني وبين الشاعر الزين
للأستاذ محمد الأسمر
كتب صديقي أديبنا الفاضل الأستاذ عباس خضر كلمة عنوانها (الأسمر يسطو على شعر الزين) ذكر فيها أنني سطوت على صديقي الشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد الزين فسرقت أبياتاً، أدخلتها في قصيدتي التي رثيت بها المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا. والقصيدة المذكورة أكثر من خمسين بيتاً، أبياتها الأولى ما يأتي:
أفي كل يوم دمعة خلف غائب ... وفي كل يوم لوعة بعد غارب
رجال كأمثال النجوم، فثاقب ... مضى وهو لمَّاع على إثر ثاقب
لأوشك دمعي أن تجف شؤونه ... على كل ماض ليس يوماً بآئب
إذا ما انتهينا من رثاء لذاهب ... بدأنا رثاء بعد ذاك لذاهب
أما يستريح الشعر في كل ساعة ... رثاء لحر، أو رثاء لصاحب؟!
ثُريا رجالات تهاوتْ نجومها ... وكانت على الوادي ثريا الكواكب
وقال صديقنا الفاضل إن أبيات الزين التي أخذنا منها أبياتنا ما يأتي:
أفي كل حين وقفة إثر ذاهب ... وصوب دم أقضي به حق صاحب
أودع صحبي واحداً بعد واحدٍ ... فأفقد قلبي جانباً بعد جانب
تساقط نفسيكليومفبعضها ... بجوف الثرى، والبعضرهنالنوائب
فيا دهر دع لي من فؤادي بقية ... لوصل ودود، أو تذكر غائب
ودع لي من ماء الجفون صبابةً ... أجيب بها في البين صيحة ناعب
والقارئ لأبيات الزين رحمه الله، لا يجد كل هذا التهويل الذي أثاره الناقد الفاضل، وإيضاحاً لذلك أقول: إن قصيدة الزين رحمه الله لا علم لي بها، فهي ليست من محفوظاتي التي حفظتها في صباي، وليست من القصائد التي قرأها الزين لي أوسمعتها منه، ولا هي من المتداول المعروف بين الناس، ومن الاتفاقات التي ليست بالعجيبة أن يحزن الزين لفقد أصدقائه، وأحزن أنا لفقد أصدقاء لي، أو فقد رجالات من رجالات مصر، فيقول كلانا قصيدته من بحر وروي واحد، فيجيء بعد ذلك تشابه في بعض الألفاظ في بيت أو بيتين(819/13)
أوفي بعض المعاني المطروقة للجميع، وقد قلنا في مثل ذلك ندفع تهمة السرقة عن العقاد حينما كتب إلينا أديب ناشئ يقول إن العقاد سرق حينما قال:
فقبلتكفيه وقبلت ثغره ... وقبلت خدَّيه وما زلت صاديا
فقد زعم الأديب الناشئ أن العقاد سرق هذا المعنى من قول القائل:
أعانقه والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد العناق تدان؟
وألثم فاهكي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان
كأنَّ فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحين يمتزجان
نقول إننا قلنا لهذا الأديب الناشئ إنه لما كانت العواطف تتشابه فقد يجيء الشعر متشابهاً لأن الألفاظ وهي أداة التعبير عن العاطفة مِلكٌ لكل شاعر، فإذا كانت العواطف المتشابهة يتفق فيها الكثير من الشعراء، وإذا كانت الألفاظ التي هي أداة التعبير مِلكاً لجميع الشعراء، فإنه والحالة هذه يجدر بالناقد أن يتريث في حكمه على فلان أنه سرق من فلان.
هذا كلام قلناه قبل أن يموت دولة النقراشي باشا، وقبل أن يرثيه الراثون، ندفع به تهمة وجهت إلى شاعر، ونُبَصِّر الناشئين بالنقد السليم وصراطه المستقيم.
يقول ناقدنا الفاضل متحدثاً عني ما يأتي: (على أنني عجبت للأسمر وما هو بالعاجز عن النظم أن يكون أخذه من شعر الزين هكذا ظاهراً مكشوفاً) وأنا أقول لصديقنا الناقد إذا كنت تعلم أنني لست عاجزاً عن النظم فهلا درأت الحدود بالشبهات؟! وإذا كنت تعلم أنني لست عاجزاً النظم فهلاَّ ترفعت يا صديقي عن أن تجعل من الحبة قبة؟ وهلاَّ أرحت بالك من أن تشغله بأنني سرقت ألفاظاً هي مُلك للجميع، أو أغرت على معنى ليس من مبتكرات المعاني وإبداعاتها، قال الجرجاني:
(ولستَ تُعدُّ من جهابذة الكلام ولا من نقاد الشعر حتى تميز بين أصنافه وأقسامه وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه، والمبتذل الذي واحد أحق به الآخر وبين المختص الذي حازه المبتدى فملكه) وقالوا (إن السرقة في البديع المخترع لا في المعاني المشتركة) وقالوا (إن صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر فتلك المواردة).
وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال الشعر جادة وربما وقع الحافر على موضع الحفر!!
ألم يمرَّ صديقي الأستاذ عباس على ذلك وأمثال ذلك قبل أن يجلس على منصة حكمه بمجلة(819/14)
الرسالة الغراء، ثم يقول (الأسمر يسطو على شعر الزين) خصوصاً إذا كان صديقنا يقول إن الأسمر ليس بعاجز عن نظم الشعر.
ألم يقل امرؤ القيس (يقولون لا تهلك أسًى وتجمل) وقال طرفةُ (يقولون لا تهلك أسًى وتجَلّدِ) ألم يقل امرؤ القيس:
وشمائلي ما قد علمتِ وما ... نبحتْ كلابك طارقاً مثلي
وقال عنترة:
وإذا صحوتُ فما أقصرُ عن ندًى ... وكلما علمتِ شمائلي وتكرمي
ثم ألم يقل عنترة:
وخيْلٍ قد دلفتُ لها بخيْلٍ ... عليها الأسد تهتصرُ اهتصارا
وقال عمرو بن معد يكرب:
وخيٍْل قد دلفتُ لها بخيٍْل ... تحيةُ بينهم ضرب وجيع
وقالت الخنساء ترثى أخاها صخراً:
وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ ... فدارت بين كبشها رحاها
ثم ألم يقل أبو تمام:
بمحمد؛ ومُسوَّد، ومُحسَّدٍ ... ومُكرم، ومُمدَّح، ومُنعزَّلِ
وقال البحتري:
ذاك المحمدُ والمسوَّ ... دُ والمكرَّمُوالمحسد
هذا قليل من كثير تفيض به كتب الأدب والأمثلة على ذلك كثيرة من شعر المتقدمين والمحدثين، ولولا خوف الإطالة ذكرنا ما جاء في الكتب، وذكرنا ما لحظناه نحن ولم تذكره الكتب، ونحب أن نذكر هنا مما لم تثبته الكتب قليلاً من الأمثلة:
قال امرؤ القيس متحدثاً عن نفسه في مرضه:
(ولكنها نفس تساقط أنفساً)
قال الزين رحمه الله في الأبيات التي ذكرها صديقنا وصديقه الأستاذ عباس:
تساقطنفسيكلَّيوم فبعضها ... بجوف الثرى والبعض رهنُ النوائب
وكذلك قال عبد الله بن الخياط الأندلسي يصف الليل:(819/15)
كأنه راهب في المسح ملتحفٌ ... شدَّ المجرُّ له وسطاً بزّنار
وقال البارودي في قصيدة عينية يصف فيها الليل بيتاً لا أذكر جميعه الآن جاء في آخره قوله: (كالراهب المتلفِّع). . . ورثى شوقي رحمه الله صديقه المغفور له إسماعيل باشا صبري بقصيدته التي قال في أولها:
أجل وإن طال الزمان مواف ... أخلي يديك من الخيل الوافي
وهي قصيدة معروفة لدى خاصة الأدباء وعامتهم، ثم جاء الجارم رحمه الله فرثى دولة النقراشي باشا من بحر هذه القصيدة ورويِّها فوقع في موافقات لفظية كثيرة استرعت أنظار الأدباء لمعرفة خاصتهم وعامتهم قصيدة شوقي ولكنها لم تسترع نظر ناقدنا الفاضل. . . ولو أردنا سرد ما نعلمه من هذه الأمثلة، ضاقت به صفحات مجلة الرسالة:
وبعد: فهذا ما رأينا أن نعلق به على بعض ما جاء بكلمة صديقنا، أما بقية النقد من هذه الألفاظ التي تخيرها لنا الصديق فليست لدينا أخواتها لنتحف بها صديقنا كما أتحفنا، ولوأنها كانت لدينا أمسكناها عنه، فقد رُضْنَا أنفسنا على أن لا نتحف بها صديقاً كالأستاذ عباس، مهما أَلحَّ وألحف وتابع ولاحق؟! ولا يفوتني أن أشكر له هذه العناية المتلاحقة بكل ما نقوله في بعض المناسبات، فتعليقه على ما نقول أياً كان لون هذا التعليق تخليد من لدنه لنا، وهوعناية على كل حال! ويا حبذا لو تفضلت الرسالة الغراء وهي سجلٌّ أدبي فنشرت قصيدة الأستاذ الزين كاملة، ثم تفضلت فنشرت قصيدتي معها. . .
رحم الله الأموات، وغفر الله للأحياء.
محمد الأسمر(819/16)
نصير الدين الطوسي
حامي الثقافة الإسلامية وتراث العرب الفكري إبان الغزو
والمغولي
للأستاذ ضياء الدخلي
أما ياقوت الحموي فإنه قد توفي عام (616 هـ) أي قبل وفاة الطوسي بـ (46) عاماً، هذا العهد لم يكن الطوسي قد اتصل بهولاكو، إذ أنه خرج من سجن قلعة الموت واصطحبه هولاكو في عام 654 هـ وإذن فالمدارس والحياة العلمية التي يصفها ياقوت كانت في مراغة قبل مجيء الطوسي إليها، ولربما كان الطوسي وقت وفاة الحموي مؤلف معجم البلدان - في طوس حيث كان يطلب العلم.
والغرض أن المراغة كانت مدينة علم وأدب فاختارها الطوسي مقراً لمدرسته. ويقول جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم: (إن حسن مناخها وصلاح جوها للأرصاد الفلكية بصورة ممتازة - شجع الطوسي على بناء مرصده فيها) وقد التف حول الطوسي فيها جمهور من العلماء وطلاب العلم حتى أنه عندما رحل منها إلى بغداد في عام (1274 م) ارتحل في جيش جرار منهم. قال ابن شاكر (المتوفى عام 764 هـ) في فوات الوفيات (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه كثير من تلامذته وأصحابه فأقام بها مدة أشهر ومات).
فالطوسي في جمعه رجال العلم حوله حفظ سلسلة الثقافة الإسلامية في الشرق موصولة الحلق متصلة الأسباب وأبقى منار العلوم مضيئاً لم تطفئه هجمات الأمم الابتدائية؛ وإذن فأي خدمة عظيمة توازي ما قام به الطوسي رحمه الله؟
نعم لقد ألب عليه بعض المتعصبين من جهلاء المتقشفين الذين أمسكوا بقشور الدين وخسروا لبابه - لقد أثار عليه حفيظة هؤلاء تشيعه، ولا ريب أن هذا العامل الذي لا أهمية له في الأوساط المثقفة العصرية - كان في العصور الوسطى ذا أثر في توجيه نقد الناقدين وتسديد حملاتهم الزائفة. ولا يهم مؤرخ الحضارة اليوم ما كان يعتنقه الشخص من عقيدة دينية بقدر ما يهمه من آثاره العلمية والأدبية وما أنتجته عبقريته؛ فإذا وزنا قيمة النصير(819/17)
بهذا الميزان رجحت كفته، فقد رأيت في تتبعاتي الخاصة مدى اهتمام الغربيين بهذا الفيلسوف الرياضي العظيم. ففي الوقت الذي ترى فيه الرجعيين الجامدين من المتزمتين يكيلون السباب جزاءاً لهذا الفيلسوف العظيم تجد كبار مؤرخي الحضارة الإسلامية يسجدون لعظمة العبقرية النادرة في شخص نصير الدين الطوسي وينسبون إليه المعجزات في الرياضيات ويسجلون له الابتكارات والاكتشافات والاختراعات الرائعة فتسخر من هؤلاء الجهلاء الذين تحاملوا على كرامة الطوسي، وأساؤا إلى سمعة المسلمين في جهلهم بقيم رجال العلم وانصياعهم لداعي التعصب الذميم. لقد كان أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) يخبط خبط عشواء (رحمه الله وعفى عنه)، إذ قال في ص 297 من الجزء الثاني من كتابه (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان).
(وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه (المصارعة) أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفى علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد (يقصد نصير الدين الطوسي رحمه الله) وقعد، ونقضه بكتاب سماه (مصارعة المصارعة) ووقفنا على الكتابين - نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه لا يعلم شيئاً وأنه لا يفعل شيئاً بقدرته واختياره ولا يبعث من في القبور. وبالجملة فكان هذا الملحد (أي نصير الدين) هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر). ومن قرأ كتب الطوسي في علم الكلام آمن أن ابن قيم الجوزية مفتر على الرجل، وأن كتب الطوسي في الإيمان والعقائد وصلت إلى برلين، ولم يصل أسمها إلى مؤلف إغاثة اللهفان إلى الباطل والبهتان. وقد شرح كتاب الطوسي تجريد العقائد جماعة من العلماء والمتكلمين الأفاضل وفي مقدمتهم المولى على القوشجي الشافعي من سمرقند والعلامة الحلى من العراق. ثم يستمر ابن الجوزية في هذيانه فيقول: (والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه (أي عن الطوسي) وعن إمامه ابن سينا. وبعضها عن أبي نصر الفارابي وشيء منها من كلام أرسطو وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه كثير التطويل لا فائدة فيه. وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه. .) ولا أدري كيف حكم بركاكة ألفاظ أرسطو في لغته اليونانية التي أعتقد أنه يجهلها!(819/18)
ولنعد إلى حديث المستشرق العلامة الفرنسي سديو في كتابه تاريخ العرب العام.
قال (ص 269 من تعريب عادل زعيتر) دخل المغول بغداد عنوة فانتهبوها في سبعة أيام فحرقوا بعض المخطوطات الثمينة التي وجدوها في المكتبات والمدارس وألقوا بعضها الآخر في نهر دجلة فأصبحت مياهه من مدادها على حسب رواية مؤرخ عربي مبالغ فيها.
نهب المغول ما اشتملت عليه مدينة المنصور بغداد من الكنوز العجيبة مع أنهم سلبوا بخارى وسمرقند ومرو ونيسابور وأصفهان فيما مضى، وخنق المستعصم بأمر هولاكو فجرت جثته الدامية تحت أسوار بغداد التي كانت شاهدة على عظمة العباسيين وانحطاط هؤلاء وذلهم.
وأمحى العرب بين تلك الثورات (الداخلية) المتصلة - أمام برابرة الشمال والترك والمغول ولم يبق لهم كيان سياسي خارج جزيرة العرب أي تواروا من مسرح تاريخ أمم الشرق؛ بيد أن الأثر العظيم الذي طبعوا به الحضارة لا يزال ظاهراً، ولم يؤد ما وقع في آسيا من الانقلابات إلى غير تأييده بأسطع بيان؛ فقد رأينا أن ملكشاه السلجوقي اقتبس من مدرسة بغداد إصلاح التقويم الفارسي، وأن محموداً الغزونوى اتخذ مشاوراً له ذا التأثير العظيم في عصره العبقري العالمي البيروني.
ولما ظهر هولاكو المغولي الذي لا يعرف كيف يصون من اللهب الآثار الرائعة التي جمعت بفضل ذوي البصائر أذعن لنفوذ نصير الدين الطوسي فأذن لهذا الرياضي الشهير في إقامة مرصد فخم بمراغة.
ولما أصبح أخوه (كوبلاي) عاهل الصين نقل إلى مملكة ابن السماء معارف العرب. ولما مضى قرنان قامت على أنقاض الدولة المغولية دولة تيمورلنك الذي اعتقد وهو على رأس الترك الشرقيين أنه مرسل من الله ليملك آسيا بأسرها فخلفه ابنه شاهرخ وحفيده (ألوغ بك) فعد هذان الأميران ممثلي المدرسة العربية الأخيرين، ثم كان للهندوستان التي أنارها علم البيروني منذ عهد أصحاب غزنة بابن الأخ الصغير لأولوغ بك والمؤسس لدولة المغول في الهند (بابر - كان للهندوستان حافز مثمر إلى ثقافة العرب (في عهد بابر) انتهت شهادة المستشرق سيديو للعرب.
ولنصغ إلى شهادة مستشرق آخر هو السنيور كرلونلينو الذي كان أستاذاً بالجامعة المصرية(819/19)
وبجامعة بلرم بإيطاليا (قديماً) فقد جاء في كتابه (علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى) وهو ملخص المحاضرات التي ألقاها بالجامعة المصرية، وقد طبع الكتاب بمدينة روما سنة 1911 م.
قال نلينو: (أما كتب العرب الفلكية فيجوز تقسيمها إلى أربعة أنواع؛ الأول، الكتب الابتدائية على صفة مدخل إلى علم الهيئة الموضح فيها مبادئ العلم بالأجمال، ودون البراهين الهندسية كالجاري في أيامنا في كتب السموغرافيا - ومن هذا النوع كتاب التذكرة لنصير الدين الطوسي وكتابه غير مطبوع، ومنها الملخص في الهيئة للجغميني المتوفى سنة 745 هـ (الموافق 1344 م) طبع في إيران مع شرح قاضي زادة الرومي المتوفى في نحو منتصف القرن التاسع.
النوع الثاني، الكتب المطولة المستقصى فيها كل العلم المثبتة لجميع ما جاء فيها بالبراهين الهندسية المتضمنة أيضاً لكافة الجداول العددية التي لا غنى عنها في الأعمال الفلكية وهذه الكتب على منوال كتاب المجسطي لبطليمومن فمنها تحرير المجسطي لنصير الدين الطوسي ونهاية الإدراك في دراية الأفلاك لقطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي (وهو تلميذ نصير الدين).
قال نلينو و (النوع الثالث) الكتب المعدة لأعمال الحساب والرصد فقط المسماة أزياجاً أوزيجات أوزيجة، ولفظ زيج أصله من اللغة البهلوية التي كان الفرس يستخدمونها في زمن الملوك الساسانيين يقول نلينو في هذه اللغة زيك معناه السدى الذي ينسج فيه لحمة النسيج، ثم أطلق الفرس هذا الاسم على الجداول العديدة التي يبنى عليها كل حساب فلكي مع إضافة قوانين عملها واستعمالها مجردة في الأغلب عن البراهين الهندسية. ومنها الزيج الصابي لمحمد جابر البناني المطبوع بروما في ثلاثة أجزاء، وكتب أخرى عديدة (أقول ومنها الزيحالايلخاني للطوسي).
وقد ذكر نلينو نصير الدين في عدة مواضع من كتابه فقال ص 198 إن أحد علماء القرن السابع للميلاد أعنى سلمسيوس الفرنسي عثر على اسم أحد علماء الفلك البابليين في شرح نصير الدين الطوسي على كتاب الثمرة لبطليموس فزعم الطوسي أنه منجم بابلي صاحب كتاب يوناني ذائع الصيت وموضوعه صور الوجوه، ألفه في النصف الثاني من القرن(819/20)
الأول للمسيح.
وأثنى نلينو على الطوسي ص 236 فقال إن المستعمل الآن في أيامنا تسمية الضلع المقابل للزاوية القائمة (وتراً) وهذا الاستعمال قد سبقنا إليه الطوسي في كتابه تحرير أصول اقليدس في الهندسة. وقال نلينوص 244 ومما يستحقى الذكر أن العرب توصلوا في النصف الثاني من القرن الرابع إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، بل وضعوا هذه القاعدة أساساً للطريقة التي سموها (الشكل المغنى) في حل المثلثات الكروية. قال نصير الدين الطوسي في كتاب الشكل القطاع المطبوع في القسطنطينية سنة 1309) الخ وليس هنا مقام بيان ما خلد الطوسي من آثار رائعة في الهندسة وعلم المثلثات وباقي الرياضيات فقد أفردت لذلك مقالا مستقلا. إنما نقتصر في حديثنا اليوم على جهود الطوسي في مرصد مراغة وفي علم الفلك والهيئة - فقد كانت حديث المستشرقين ومؤرخي الحضارة الإسلامية العربية ولم نجد من ضرب صفحاً عن ذكره أو ولغ في ذمه إلا من أعماه التعصب الذميم.
الحق أن الطوسي رحمه الله من مفاخر الثقافة العربية ومن العقول الجبارة التي غمرت الأوساط العلمية بنتاجها الخصب، فازدهر تاريخ الشرق الأوسط. وقد أنقذ الطوسي منار العلوم بعد أن هددته عاصفة المغول وكادت تنطمس أنواره وتنمحي آثاره؛ فهو الذي منع شر المغول عن الفلاسفة ورجال العلم وأنفق واردات الأوقاف الإسلامية في بناء حياة علمية جبارة في مراغة بقيت آثارها في المكتبة العربية وكم من نفس أحياها باستنقاذها من سيوف التتار، وكم من قلب أحياه بالعلم.
ولنصغ إلى الأستاذ فيليب حتى يحدثنا في كتابه (تاريخ العرب) ص 377 - 378.
وإن هولاكو بعد تخريب بغداد بسنة شرع عام 1259 بشيد بقرب بحيرة بورمية مرصد مراغة العظيم، وقد كان أول مدير له نصير الدين الطوسي الشهير (نقلاً عن ابن العبري ص 500، وعن جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله).
وفي هذا المرصد نظم جداول فلكية جديدة سماها (الزيج الايلخاني) إذ ألفه على شرف هولاكو أوخانات المغول (أي ملوكهم) وقد ذاعت الجداول وأصبحت مألوفة في جميع آسيا حتى في الصين، وأن أثار هذا المرصد القصير العمر لا تزال قائمة حتى الآن (1937 م)(819/21)
وبالقرب منها مكتبة أسسها هولاكو أيضاً، وقد قيل إنها كانت تحتوي 400000 مجلد، وأكثر هذه الكتب كان قد نهبه جيوش المغول في سورية والعراق وإيران.
وقال فيليب حتى ص 683: لقد حافظ العرب بعد منتصف القرن الثالث عشر على قيادتهم للعلم من الفلك والرياضيات. حاوية المثلثات، ومن الطب خاصة علم أمراض العيون، ويقول فيليب حتى وكان الإقبال على التأليف - من العلماء الفرس الذين يكتبون باللغة العربية (والحق أن كثيراً من المؤلفين كانوا عرباً أفحاحاً) وكان مركز نشاطهم مرصد الخان (هولاكو) ومكتبته في مراغة المؤسستين اللتين كانتا تحت إشراف نصير الدين الشهير (1201 - 1264 م) يقول فيليب حتى ومن الجميل أن تقرأ كتاب الكاثوليكي اليعقوبي السوري أبى الفرج ابن العبري (مختصر تاريخ الدول) وقد أرجعنا فيليب إليه لأنه كان معاصراً للطوسي وكان في مراغة كما تقدم.
ويظهر أن فيليب حتى لم يطلع على كتاب ابن الفوطي الذي كان أميناً لمكتبة مراغة وكاتباً لنصير الدين، وقد طبع في بغداد بإشراف الدكتور مصطفى جواد، وعلى كل فإن من الغريب أن ينسى فيليب حتى المؤلفين من العرب في ذلك العهد وهم كثيرون ومنهم من أخذه هولاكو إلى مرصد مراغة كمؤيد الدين العرضي الدمشقي، وابن الفوطي ومحي الدين المغربي وآخرين في مصر والشام والأندلس وبغداد وعلى الأخص في الحلة قرب بابل التاريخية على الفرات.
ومن أولئك العلامة الحلي تلميذ الطوسي وقد شرح كتابه التجريد في الكلام وقرأ عليه الإلهيات بالشفاء لأبى علي بن سينا وبعض التذكرة في الهيئة من تصنيفه. وأما ابن الفوطي فقد نقل ابن العماد الحنبلي أنه في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف فلازمه وأخذ عنه علوم الأوائل وبرع في الفلسفة وغيرها وأمده بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم. ومن معاصري الطوسي - السيد علي بن طاوس الحلي والشيخ ميثم بن علي البحراني. ومن مشايخه معين الدين سالم ابن بدران المصريوآخرون رحمهم الله جميعاً.
ضياء الدخيلي(819/22)
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 6 -
وكان الجندي يمضي إلى القتال لابساً درعه، وعلى رأسه المبيضة أو المغفر، وفي يده ترسه أو درقته، ويتسلح بالسيف أو الرمح أو الحربة أو الدبوس، وهو عصا من خشب أوحديد، مضلعة ملبسة بالكيمخت الأحمر والأسود ذات رأس مدورة مضرسة، أو اللت وهو كالدبوس ولكنه ذو رأس مستطيل، أو المستوفيات وهي عمد من حديد طولها ذراعان مربعات الأشكال لها مقابض مدورة، أو الخنجر أو القسى والسهام والنبال والنشاب.
ويسير الجيش إلى الحرب وأهم ما معه من آلات القتال والحصار المجانيق، ومنها الكبار تحملها مائة عجلة، ومنها دون ذلك، ومن أنواعه ما يشد بلوالب وأقواس، أو يدار كالمفلاع. ويستخدم المنجنيق غالباً لهدم الحصون بالحجارة مضخمة أو لرمي الأعداء بالنبال أو العقارب ونحوها من آلات الأذى، أو لإحراق أماكن العدو بالنقط وغيره. فأن كانت المقذوفات خفيفة ثقلوها بالرصاص، وإن كانت من الشواعل كالنفط ونحوه صنعوا لها كفة علقوها بسلاسل.
والعرادات وترمى بالحجارة المرمى البعيد أيضاً، وهي أصغر من المجانيق.
ويتخذون الدبابات لتسلق أسوار العدو، وهي آلات من الخشب السميك. وقد تكون طباقاً، وتغلف بالجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستدير يدفعها الرجال ويصعد الجند في أعلاها ويستعلون على السور، وينزلون فوقه أو يحاربون المحاصرين من أعلى السور. وقد يستخدمون الدبابات لهدم الأسوار فيسيرونها ويحتمون بجدرانها، ويجعلون رأسها محدداً يصدمون به الأسوار حتى تهدم، أو يتخذون لهدم الأسوار الكباش، وهي كالدبابات ولكن رأسها في المقدمة مثل رأس الكبش، وهو متصل في داخل الدبابة بعمود غليظ معلق بحبال تجري على بكر معلقة بسقف الدبابة لسهولة جره، فيتحصن الرجال في الداخل، ويتعاونون من داخل الدبابة على ضرب السور حتى يمزقوهأو يتخذون الزحافات يدقون بها الحصون والأسوار. وبها أبراج للجند مجهزة بالقسى.(819/23)
ويلقي الجند على أعدائهم بندقاً من الحديد يزن عشرة أرطال إلى مائة رطل، ورماة هذا النوع من أدوات القتال يسمون الجوخية، أو يقذفونهم بقوارير النفط والقطران يرمون بها الحصون والقلاع للإحراق، ويسمى القاذفون بالرازقين؛ لأنهم يستخدمون لذلك أنابيب تعرف بالرزاقات.
ومن أشد ما استخدمه المصريون للفتك بأعدائهم النار اليونانية، وقد كتب عنها الأستاذ عبد الله عنان في كتابه: (مواقف حاسمة) حديثاً طويلاً عن نشأتها وتطورها، فذكر في (ص102) أنها كانت تركب من زيت النفط والكبريت والجير والقار. فينتج من ذلك السائل الملتهب. وكانت تستعمل في حروب البر والبحر معاً، في أثناء التحام الصفوف، وفي أثناء الحصار. فتقذف من فوق الأبراج أو الأسوار في آنية كبيرة، أو تطلق في كرات مشتعلة من الحديد والحجارة، أوفي سهام ملتوية قد لفت بالقنب والوبر والشعر مشبعة بالسائل الملتهب. وأما في المعارك البحرية فكانت تحمل في سفن النار: الحراقات. وتطلق من أنابيب طويلة من النحاس ركبت على مضخات ضاغطة توضع في مقدمة السفينة، وتجعل على هيئة وحوش فاغرة أفواهها تقذف وابلاً من النيران السائلة المضطرمة) ويذكر الأستاذ ما كان لهذه النار من أثر في نفوس الفرنج في معركة المنصورة، وينقل لذلك قول مؤرخ شاهد عيان في تلك المعركة من الفرنج هو (دي جوانفيل) الذي يصف هذه النار بأنها تثب مستقيمة كأنها أسطوانة كبيرة، ولها ذيل من اللهب قدر الحربة، ودوياً يشبه الرعد، وكأنها جارح يشق الهواء، ولها نور ساطع جداً من جراء عظم انتشار اللهب الذي يحدث الضوء حتى إنك ترى كل ما في المعسكر، كما ترى في ضوء النهار، ويصف هذا المؤرخ ما أحدثته هذه النار من تدمير في معسكرهم ورعب في قلوبهم، ولم يستطع الصليبيون في ذلك الحين معرفة سر تركيب هذه النيران.
وكان المسلمون يتقون مقذوفات عدوهم بسنائر توضع على الأسوار والسفن لتستر المقاتلين، ويكافحون نيران عدوهم التي تقذف على مراكبهم بأن يعلقوا حول سفنهم الحربية من الخارج جلوداً مبلولة بالخل والماء والشب والنطرون لدفع أذى النفط، وكذلك كان يستعمل الأعداء في تحصين آلاتهم الحربية، ولكن بعض العرب قد اخترع من النيران ما لا يقف الخل في سبيله: صنع العدو في حصار عكا ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها(819/24)
الجلود المسقاة بالخل، بحيث لا تنفذ فيها النيران، وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال عالية على سور البلد، ومركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر، ويتسع سطحها، لأن ينصب عليه منجنيق، وقد ملأ ذلك نفوس المسلمين خوفاً ورعباً، ويئس المحاصرون في المدينة، ورأوها وقد تم عملها ولم يبق إلا جرها قرب السور وأعمل صلاح الدين فكرة في إحراقها، وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وحثهم على الاجتهاد في إخراقها، ووعدهم على ذلك بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة، ولكن ضاقت حيلهم عن ذلك. وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه أن له صناعة في إحرانها وأنه إن مكن من الدخول إلى عكا، وحصلت الأدوية التي يعرفها أحرقها؛ فحصل له جميع ما طلبه، ودخل إلى عكا وطبخ الأدوية مع النفط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ثم ضرب واحداً بقدر، فلم يكن إلا أن وقعت فيه، فاشتعل من ساعته ووقته، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستغاث المسلمون بالتهليل، وعلاهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب. وبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج الثاني بالقدر الثانية، فما كان إلا وصلت إليه واشتعل كالذي قبله فاشتد ضجيج الفئتين، وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالتهب وغشي الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوي الأحلام.
وهكذا تفوق المسلمين الحربى في تلك العصور.
واستخدم المسلمون في سفنهم الكلاليب يلقونها على مراكب أعدائهم. فيقفونها، ويشدونها إليهم، ثم يصنعون جسوراً من الألواح تصلهم بها، فيدخلون إليها ويقاتلون أصحابها.
ولخلق جو من الحماسة في صدور الجند استخدموا، والمعركة دائرة، دق الكئوس ونفير الأبواق، كما تصنع الآن الفرق الموسيقية.
هذا وكانت آلات القتال تصنع في مصر والشام وتباع فيهما في سوق السيوفيين وسوق السلاح.
وعنى في ذلك الحين بإنشاء القلاع في المدن، والأسوار حولها وكان صلاح الدين يتفقه في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق وأحب أن يجعل لنفسه معقلاً بمصر كمعاقل الشام، فأمر بإنشاء قلعة بالقاهرة وسور يحيط بها وبالقلعة ومصر وأقام على عمارة ذلك بهاء الدين(819/25)
قراقوش الأسدي، فبدأ في بناء ذلك سنة 572 وهدم ما هنالك من المساجد، وأزال القبور، وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة، وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة وتم قسم كبير من القلعة. وكان صلاح الدين يقيم بها أياماً، كما سكنها الملك العزيز عثمان، في أيام أبيه، ولكن السلطان مات قبل أن يتم العمل في السور والقلعة فأهمل العمل إلى أن كانت أيام الملك الكامل محمد، فإنه أتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية ودواوين الدولة، وسكنها حتى مات، وظلت من بعده دار مملكة مصر إلى أن كان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فإنه أنشأ قلعة بالروضة شرع في حفر أساسها يوم الأربعاء 5 شعبان سنة 638. وهدم لها ما كان في هذه الجزيرة من دور ومساجد وكنائس، وقطع ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، وأنفق في عمارة قلعته أموالاً جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجاً، وبنى بها جامعاً وغرس فيها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصوان من البرابي وعمد الرخام وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والزاد والأقوات خشية محاصرة الفرنج، وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة. وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل حتى بلغت حداً يدهش؛ لكثرة زخرفها وحسن سقوفها وبديع رخامها. ولما كملت تحول إليها بأهله وحرمه واتخذها دار ملك، وأسكن فيها معه مماليكه البحرية، ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولة بني أيوب. فلما ملك المعز أيبك أمر بهدمها، وعمر منها مدرسة، وطمع في القلعة من له جاه، فأخذ ما يروقه من سقوفها، وأخشابها، وشبابيكها حتى بنى بعضهم منازل منها، فلما جاء بيبرس اهتم بعمارة قلعة الروضة، وأراد إعادتها كما كانت، فأصلح بعض ما تهدم فيها، ولكن هيئتها لم تدم فإن قلاوون لم يكد يشرع في بناء البيمارستان والقبة والمدرسة المنصورية، حتى أخذ من قلعة الروضة ما يحتاج إليه منها، كما أخذ الناصر محمد منها ما احتاج إليه في بناء أبواب بقلعة الجبل وجامع له. وهكذا ذهبت القلعة كأن لم تكن.
أما بلاد الشام فكانت مليئة بالقلاع والحصون كقلعة حلب وقلعة دمشق وحصن الكرك وكوكب، وشقيف أرنون وبصرى وهوتين وتينين وتل باشر وقلعة حماة وحمص وعكا والشوبك وصرخد وكثير غير ذلك. ومعظمها يناطح السحاب بعلوه ويشبه الجبال بمتانته(819/26)
وعنى بهذه القلاع والحصون؛ لأن المدينة إذا خلت من حصن يسهل على العدوأن يجتاحها كل حين. وأحياناً كان المسلمون يضطرون إلى هدم أسوار المدن وقلاعها، حتى لا يتحصن بها الأعداء إذا سقطت في أيديهم، وقد شاهدنا أمثلة لذلك فيما مضى.
ومما عنى به في ذلك الحين برجا دمياط، فقد كانت دمياط هدفاً للصليبيين في ذلك العصر، هاجموها في عصر الدولة الفاطمية والأيوبية. والمؤرخون مختلفون في وصف هذين البرجين، فأبو شامة يجعل البرج واحداً في وسط النيل، ودمياط بحذائه من شرقيه، والجزيرة بحذائه من غربيه، وفي ناحيتيه سلسلتان تمتد إحداهما على النيل إلى دمياط، والأخرى على النيل إلى الجزيرة، تمنعان عبور المراكب من البحر المالح، فهو قفل الديار المصرية إذا أوثقت السلسلتان امتنع على المراكب العبور إليها، ومتى لم تكونا عبرت المراكب، وبلغت إلى القاهرة ومصر وإلى قوص وأسوار.
والمقريزي في السلوك (ج2ص72وص188) والخطط (ج1ص347) يقول: (وكان إذ ذاك على النيل برج منيع في غاية القوة والامتناع فيه سلاسل من حديد عظام القدر والغلظ تمتنع في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله، ويعرف اليوم مكانهما في دمياط بين البرجين). وأبو شامة قد وصف ما رآه والظاهر أن البرج الثاني القريب من شاطئ دمياط لم تكن له أهمية حربية، كالبرج القريب من الشاطئ الثاني. ويرجع إنشاء هذا البرج غالباً إلى أيام المتوكل سنة237. فإن دمياط منذ العصور الأولى للإسلام كانت محط أنظار الغزاة.
وعنى صلاح الدين بهذين البرجين، فرتب المقاتلة عليهما، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين وشدت إليها مراكب ليقاتل عليها ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورم شعث سور المدينة، وسدت ثلمه، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار.
وهاجم الفرنج دمياط سنة 615 في آخر أيام العادل، وعملوا آلات ومرمات وأبراجاً متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكنوا من المدينة، وألحوا في مقاتلة أهل البرج، فلم يظفروا منه بشيء مدة أربعة أشهر، ثم احتال الفرنج فأقاموا برجاً من الصواري على بطسة كبيرة وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه، وقاتلوا من به حتى أخذوه. وكان ذلك ممهداً لأخذهم دمياط على ما ذكرنا. ولما علم العادل بأخذ الفرنج(819/27)
برج السلسلة تأوه تأوهاً شديداً، ودق بيده على صدره أسفاً وحزناً ومرض من ساعته، واشتد مرضه حتى مات. قال أبوشامة: وأذكر وأنا بدمشق حين بلغ الناس أخذ الفرنج برج السلسلة وقد شق ذلك على من يعرفه مشقة شديدة، ومنهم شيخنا أبو الحسن السخاوي، ورأيته يضرب يداً على يد ويعظم أمر ذلك. وسمعت الفقيه عز الدين بن عبد السلام يسأله عنه، فقال: هو قفل الديار المصرية، وصدق. ويظهر أن الفرنج خربوا هذا البرج كي لا يكون عقبة في سبيلهم ولا قوة في أيدي المصريين كرة أخرى، فأنا لم نسمع شيئاً عنه عندما غزا الفرنج دمياط في عهد الصالح نجم الدين أيوب، ثم عمره قطز، وهو البرج الذي اعتقل فيه أسرة المعز أيبك.
(النهاية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي(819/28)
ليتني أدري!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ليتني أدري!
ما الذي يغري ... يا حبيب الروح
بالهوى البكرِ ... قلبي المجروح؟
روحك الهيمان؟ ... جسمك الريان؟
حرت في أمري ... ليتني أدري!
ليتني أدري!
ما الذي يجري ... خلف هذا الباب؟
والهوى يسري ... في دمي المنساب!
آهة حرَّى ... تحمل السرَّا!
حرت في أمري ... ليتني أدري!
ليتني أدري!
والدجى مسحورْ ... حول أيامكْ!
هل يذيع النور ... سر أحلامك؟
إنها الأشباح ... أشعلي المصباح!
في يد الفجر ... علني أدري!
ليتني أدري!
كيف لا يظهر ... سرك المستور؟
نورك الأحمر ... كيف يخشى النور؟
بينما سري ... ذاع في شعري!
آه من أمري! ... ليتني أدري!
ليتني أدري!
حين تنسابْ ... موجة الإحساس!
ترقص الأهداب ... تسرع الأنفاس!(819/29)
يخفق القلبُ ... هل هو الحبُّ؟
حرت في أمري ... ليتني أدري!(819/30)
وفاء وحنان. . .
للآنسة (ن. ظ. ع)
(من وحي قصة سينمائية غربية شاهدتها على الشاشة تمثل أروع صورة للحنان الإنساني يضفيه رجل على أسرته وزوجته المريضة، مما يهز أرق المشاعر، ويثير أنبل الخواطر).
إلهي. . . أفي الغرب هذا الوفاء؟ ... أتحظى النساء بهذا الحنانْ؟
وفي الشرق يظلمهُنَّ الرجال ... ويقسو عليهن صرْف الزمان!
أَتُظْلَمُ حواء روح الحنان ... ويُجزى الوفاء بهذا العقوق؟
أتظلم بالشرق مهد الهداةِ ... وأرض الشداة بنيْل الحقوق؟
أرى حكمة الله في شرعه ... ترد الفساد وتهدي الظلال
ففيم التلاعب بالدين. . . ربي ... وباسم الشريعة يطغى الرجال!
يُريدونهنَّ متاعاً لهم ... تعدَّدنَ مثنى به أو رُباع
أهذا هو الشرع. . . يا ويحهم ... لقد صيَّرُوه سبيلَ الخداع
أخذتم من الغرب تلك القشور ... وحب المظاهر دون الُّلباب
وأنتم لعمريَ لا تبتغون ... سوى الجسم مثل جِياع الذئاب
وأنكرتم الروح. . . يا ويحكم ... وأين هو الرفق! أين الحنان؟
ونبل النفوس؟ وصدق الوفاء؟ ... وأين النبيل بهذا الزمان!
ويا لهفَ من ضَلّلتها المعاني ... وحثَّت خطاها ابتغاء الكمال
فطاح الخيال بعذب الأماني ... ولم تدر أين تحطُّ الرحال!
ظَنَنتُ بأحلامها أن تُسامَ ... صَغار الجُسوم وثِقْل الأنام
أتهوى إلى الطين بعد التسامي ... كما يسقط النجم فوق الرَّغام؟(819/31)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
أدعياء الأدب في الصحافة اليومية:
يأخذ على بعض القراء هذا العنف الذي ألقى به الحياة الأدبية فيما أكتب من تعقيبات؛ والواقع أنني لا ألجأ إلى هذا الاتجاه حباً فيه ولا ميلاً إليه، ولكن الحياة الأدبية هي التي تدفعني دفعاً إلى أن أسلك هذا الطريق وترغمني إرغاماً على أن أسير فيه! وما ذنبي إذا كنت أقع على أشياء تجافي الحق والذوق، وتصدم الخيال والواقع، وتخالف منطق الحياة والأحياء؟! وما ذنبي إذا مددت عيني إلى صحيفة من الصحف أو مجلة من المجلات فرأيت ناقداً يكتب في غير مجاله، أو أديباً يطمس الحقائق بسخف خياله، أو شاعراً يفرض شعره على الناس وهو محروم من نعمة الشعور؟!. . .
يا من تأخذون على العنف في معالجة القضايا الأدبية، تعالوا واقرءوا معي هذه الكلمات؛ إنها من مقال كتبه في (المصري) الأستاذ عبد الرحمن الخميسي تحت عنوان (لعنة القلم). . اقرءوها معي لتعلموا إلى أي حد تثيرني بعض الأقلام حين تتناول مشكلات الأدب والفن هذا التناول الذي يبعث على الضحك والعجب والإشفاق! يقول الأستاذ الخميسي:
(ألم تبدل موسيقى فاجنر الألماني اتجاه الحياة في ألمانيا تبديلاً عظيماً؟ إن فاجنر الفرد الواحد، الذي تغلغلت موسيقاه في نفوس الألمان والذي طبعت أنغامه بوحشيتها وقوتها روح الشعب الألماني، والذي حفزت ألحانه الناس إلى الاستعلاء وإلى التحليق، هذا الفرد الواحد كان يكتب بقلمه موسيقاه حروفاً صماء على الورق، ثم يشعل بهذه الحروف حين يعزفها الأوركسترا أرواح الملايين ويبهرها، ويجلوها، ويرتفع بها إلى عليين!. . كانت موسيقى فاجنر الأفق المجيد الذي استنزل منه نيتشة الشاعر الفيلسوف أروع قصائده وأبسل أغانيه، وكانت هي الأفق المجيد الذي استلهمه فاجنر صورة الإنسان الأعلى. وهكذا ترى أن موسيقى فاجنر هي التي فتقت أكمام العبقرية في نيتشة، وهي التي مهدت الطريق للمذهب النازي. . الخ)!
بجرة قلم فتقت موسيقى فاجنر أكمام العبقرية في نيتشة. . . من أين جاء الكاتب بهذا الرأي الذي يذوب خجلاً أمام الحقيقة؟ لا أدري ولا المنجم يدري كما يقول المازني! يبدو أن(819/32)
موجة الإعجاب بسحر هذا التعبير (فتقت أكمام العبقرية) هي التي طغت برنينها العذب على جوهر الواقع فشوهته في غفلة من أعين الرقباء!
إن المثقفين في كل مكان يعلمون أن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشة أعنف وأبشع ما لقيته موسيقى فنان من قلم فيلسوف!. من يصدق أن فاجنر قد فتق أكمام العبقرية في نيتشة، نيتشة الذي رمى موسيقاه بكل نقيصة، وأذاق فنه من ألوان الهدم والسخرية ما أذاق، ورفع في وجهه معول التدمير يهوي به في ضربات قاسية لا تعرف ليناً ولا هوادة؟!
فاجنر في رأي نيتشة مثال فذ للشخصية المنحلة، وموسيقى فاجنر في ذوق نيتشة نموذج صادق للموسيقى المريضة، وفن فاجنر في ميزان نيتشة همجية تختلط فيها الشعوذة بالجنون!. . إن فاجنر كما يقول نيتشة: (لا يستطيع أن يهز بموسيقاه إلا أعصاب النساء، وهكذا تفعل الموسيقى المريضة! إن فنه يستند إلى دعائم زائفة لا يمكن أن يرضى عنها إلا كل منهوك القوى منحل الشخصية محطم الأعصاب. . إن الفيلسوف الرابض بين جوانحي ليثور على كل ما هو مريض ومنحل! إن القدرة على خلق فن منحط أهون بكثير من القدرة على خلق فن رفيع؛ ومن هنا استطاع فاجنر إن يرضي الأذواق الفاسدة، الأذواق (الفاجنرية) المنحرفة!. . إن هذا العصر الذي نعيش فيه ليدين بشروره وآثامه إلى شخصية فاجنر، هذا المتلف الهدام)!
هذه هي الموسيقى التي قال فيها نيتشة ما قال، وقال عنها عبد الرحمن الخميسي إنها كانت الأفق المجيد الذي استنزل منه نيتشة أروع قصائده وأبسل أغانيه!. . . إنني أنصح قراء (الرسالة) إن يصدقوا نيتشة، أما قراء (المصري) فلا بأس من أن يصدقوا عبد الرحمن الخميسي إذا قال لهم إن موسيقى فاجنر هي التي خلقت عقلية هتلر وفون مولتكه وبسمارك. . . وفريدريك الأكبر!!
ترجمة تحتاج إلى تصحيح:
تحدث الدكتور عبد الرحمن بدوي في عدد (شباط) من مجلة الأديب اللبنانية عن مسرحية الأيدي القذرة للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. . ولقد استوقفني ما جاء بمقاله من ترجمة خاطئة لبعض كلمات رأيت أن أصححها، حتى لا تبعد الشقة بين أصلها في الفرنسية وبين ما يقابلها في العربية:(819/33)
ترجم الدكتور بدوي هذه الكلمات وهي عنوان مسرحية لسارتر (بالعاهر المهيبة)؛ وهنا يبدو شيء من الانحراف في الترجمة لا يستقيم معه المعنى سواء أكان منسوباً إلى عنوان المسرحية أم كان منسوباً إلى الفكرة التي بنيت عليها!. . . إن المهابة كما يدل عليها موضوع المسرحية وكلمة لا تنسب إلى (العاهر) وإنما تنسب إلى المحيطين بها عشاق الجسد، أولئك الذين كانت ترحب بهم وتحتفي بمقدمهم؛ وإذن تكون الترجمة الصحيحة هي (العاهر الحفية). أما (العاهر المهيبة) فلا يقابلها في الفرنسية غي هذه الكلمات:
وترجم الدكتور بدوي عنوان مسرحية أخرى لسارتر ترجمة خاطئة أيضاً وهي مسرحية حيث قابلها بكلمة (القرف) مع أن ترجمتها الدقيقة هي (الغثيان). . والفارق بين الترجمتين بعيد!
أما قوله بان (الأيدي القذرة) هي خير ما أنتج سارتر إحكام صنعة فنية وبراعة حوار وإبداع تسلسل، فلا أجد في الرد عليه خيراً من رأي الدكتور طه حسين بك في هذه المسرحية، وهي أنها أقل أعمال سارتر الأدبية توفيقاً في مجال العمل الفني الذي يقوم عليه بناء التمثيلية الحديثة، وهو رأي جهر به الدكتور طه - كما قال لي - في وجه مديرة المسرح الفرنسي الذي مثلت عليه مسرحية سارتر، يوم أن سعت إليه السيدة تسأله عن رأيه في (الأيدي القذرة). . ومما هو جدير بالذكر أن المحيطين بالدكتور قد حاولوا في شيء من اللباقة أن يخففوا من وقع رأيه على شعور السيدة الفرنسية، ولكن صراحته المعهودة أبت إلا أن تؤكد للمرة الثانية ما سبق أن أفضي به، وهو أن هذه المسرحية عمل فني يعوزه التوفيق!
بين طه حسين وتوفيق الحكيم:
لم يسعدني الحظ بالاستماع للمحاضرة القيمة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك عن (قصة أوديب في الآداب المختلفة)، والتي تناول فيها بالنقد والتحليل بعض الأعمال الفنية التي أعقبت أوديب سوفوكل. . ولقد حدث أن خرج بعض المستمعين لمحاضرة الدكتور وقد وقع في ضنهم أن الأستاذ توفيق الحكيم قد ناله رشاش من التهكم حين جاء ذكر مسرحيته في سياق الحديث! هذا ما فهمته من بعض الذين لقيتهم عقب المحاضرة ومما أورده صديقي الأستاذ عباس خضر حين عرض لها في الأسبوع الماضي بالتلخيص والتعقيب.(819/34)
ومن العجيب أنه قد وقع في الظن أيضاً أن علاقات الود والصداقة بين الدكتور والأستاذ الحكيم تجتاز مرحلة من الفتور، ليس أدل عليها من هذا الذي قيل وتعرض فيه صاحب (أوديب الملك) لشيء من السخرية!
أود أن أؤكد هنا أن كل ما تبادر إلى الأذهان من ظنون لا يستند إلى دعامة واحدة من دعائم الحقيقة، فعلاقات الود والصداقة لا تزال تربط بين الرجلين بأقوى رباط. . وإذا كان الدكتور طه قد لجأ في حديثه إلى شيء من العنف أو إلى شيء من القسوة، فمرجع ذلك إلى صراحته المعهودة التي لا تجامل صديقاً على حساب القيم الفنية والموازين النقدية، وتلك ناحية أكدها لي الدكتور حين فاتحته في هذا الأمر منذ أيام. ومما يؤيد هذا القول تلك القصة الطريفة التي أتيت على ذكرها في الكلمة السابقة، والتي تمثل بوضوح صراحته السافرة عندما سألته مديرة المسرح الفرنسي عن رأيه في مسرحية (الأيدي القذرة) ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يتهم الدكتور طه بأنه كان يسخر من فن سارتر أو يتهكم عليه. . وإذا كان الأستاذ الحكيم قد تعرض في ثنايا المحاضرة لشيء من العنف فقد تعرض فولتير لهذه العبارة القاسية، وهي أنه في تناوله لقصة سوفوكل قد أمعن في سخف لا يطاق!
لا أدري لم يعد الناس هنا قسوة النقد تهكماً وصراحة الناقد سخرية، ولم يميلون في مثل تلك المواقف إلى الظن بأن بين الناقد والمنقود أسباباً من الجفاء يفسرها الوهم بالتحامل ويردها الخيال إلى محاولة النيل من الأقدار؟! ألا يجدر بنا أن ننظر إلى الأمور من خلال منظار آخر يهيئ لنا رؤية الحقائق في جولا يكتنفه هذا الضباب؟ إنني أود أن تتحقق هذه الأمنية في يوم من الأيام!
درس آخر في أدب القصة:
يبدو أنني لن أفرغ من هذه الدروس التي تلقى علي من حين إلى آخر في أدب القصة؛ فبعد أن عقب أحد الأدباء على ما كتبت حول مسابقة المصور للقصة القصيرة، وبعد أن رددت عليه بكلمات أعتقد أنها وضعت كل شيء في مكانه، بعد هذا كله هب (أستاذ) آخر ليمدني بنصائحه ويزودني بمعلوماته وهو الأستاذ نصري عطا الله!
إنني أرحب بأن أكون (تلميذاً) مخلصاً على شرط أن يكون (أساتذتي) على شيء من العمق والإحاطة. . . وأشهد أنني لا أضيق بالتوجيه والإرشاد ولو صدر من أديب لم أسمع به من(819/35)
قبل على شرط أن يكون في توجيهه وإرشاده ما يهديني إلى أشياء تدق على فهمي المتواضع؛ ولكن الذي أضيق به، هو أن يتحدث الأستاذ عطا الله عن فن القصة القصيرة بهذه اللهجة التي تذكرني بخالدي الذكر (تين وسانت بيف وأرنولد)، ثم لا أخرج من كلمته بشيء يمكن أن يدفع بي إلى الصف الأول من صفوف تلاميذه!
ينكر الأستاذ عطا الله أن مجال العمل الفني في القصة القصيرة مجال محدود، فهل يأذن لي بأن أقدم إليه هذا التعقيب الطريف الذي أدلى به الأستاذ توفيق الحكيم في حديث دار بينه وبيني يوم أن قطعت بهذا الرأي؟ لقد قال الأستاذ الحكيم: (أنا معك في أن العمل الفني في القصة القصيرة لا يمكن أن يقاس إلى نظيره في القصة الطويلة، إلا إذا أمكن أن يقاس سباق القطط إلى سباق الخيل؟!
ومن العجيب أن الأستاذ عطا الله يحرم على القارئ الشرقي أن يحكم على شخصيتي موباسان وتشيكوف لأن ما نقل من أدبهما إلى العربية أقل من القليل، ومع ذلك فقد أباح لنفسه أن يتحدث عن موباسان وتشيكوف بلهجة تذكرني أيضاً بخالد الذكر بندتوكروتشه. . ألم أقل لك إن ما يباح للأساتذة يحرم على التلاميذ؟!
هذا هو كل ما يستحق التعقيب في مقال الأستاذ عطا الله. . . ومعذرة يا (أستاذي) فقد علمت من آخر صفحة في عدد (الرسالة) الماضي أنك قد فزت بجائزة من جوائز الدرجة الثانية في مباراة القصة القصيرة التي أقامتها وزارة المعارف؛ ومعنى هذا أن هيئة التحكيم التي لم تقدر فنك كانت أجدر مني بهذا الدرس القيم في أدب القصة!
أين العلوم في الرسالة؟:
يسألني الأديب الفاضل الأستاذ عبد المنعم العزيزي في رسالة بعث بها إليَّ عن مكان العلوم في (الرسالة) مع أنها تحمل هذا الشعار: (مجلة أسبوعية للآداب والعلوم والفنون). . . ثم يعقب على سؤاله بقوله إن المهتمين بالبحوث العلمية يجب أن يخصص لهم في (الرسالة) بعض الصفحات، أسوة بعشاق النقد والقصة والفلسفة والسياسة والاجتماع ممن تقدم إليهم مجلتنا الرفيعة من أسبوع إلى آخر فنوناً من هذه المعارف المختلفة. . . ثم يقول في ختام كلمته إنه يود أن تستجيب (الرسالة) لهذا الرجاء حتى تكتمل لها رسالتها المثلى في خدمة الأدب والعلم والفن، وبخاصة في هذه الأيام التي يقوم فيها العلم بأخطر أدواره في توجيه(819/36)
حياة البشر ورسم الطريق أمام مستقبل الإنسانية!
الواقع أنه لو كان الأمر بيدي لاستجبت لرجاء الأديب الفاضل لأنني أوافقه على هذه الآراء الناضجة. . . وكم كنت أود أن يكون لي في رحاب العلم قطرة من فيض العالم الجليل الأستاذ نقولا الحداد، إذاً لكفيته مؤونة السؤال والرجاء، ولعلَّ الأستاذ الحداد يحقق يوماً هذه الأمنية، فيعطر صفحات (الرسالة) بغزير علمه، بعد أن عطرها بوخز (المخلوقات الخبيثة) بسنان قلمه!
أنور المعداوي(819/37)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
النقد الأدبي في القرن العشرين:
ألقى الدكتور محمد مندور يوم السبت الماضي محاضرة عنوانها (النقد الأدبي في القرن العشرين) في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية. وقد بدأ بتعريف النقد الأدبي بأنه فن تمييز الأساليب قائلاً بأن الأسلوب ليس هو طريقة الأداء اللغوي فحسب بل هو كذلك طريقة إدراك الكاتب للعالم الخارجي ثم مدى قدرته على اصطياد المعاني والأحاسيس وإسكانها اللفظ الملائم. ثم قال إن النقد فن لا علم، ولكنه لا يقوم على الجهل، فأول ما يطلب في الناقد الاستنارة، وإن الناقد يلزمه أن يحصل كثيراً من المعارف ولكن يجب عليه أن ينساها في الأدب، فثقافة الإنسان هي ما يتبقى في نفسه بعد أن ينسى ما حصله. والثقافة التي تنبغي للناقد متعددة الجوانب، وأولها الأدب ذاته الإنشائي والنقدي، ومن ذلك معرفة المعنى الدقيق للكلمات والاصطلاحات، فإن كثيرين يرددون كلمات مثل (الواقعية) و (الرمزية) وهم يفهمون خطأ غير معناها، فيفهمون الواقعية مثلاً على أنها تصوير لواقع الحياة كما هو، ويتبادر ذلك إلى أذهانهم من المعنى اللغوي للكلمة. غير عالمين بالملابسات التاريخية لهذا المذهب الذي يقوم على النظرة إلى الجانب الحالك من الحياة والإيمان بعدم وجود الخير فيها. ومن ذلك مذهب (الفن للفن) فليس هو كما يفهمه الكثيرون من أنه يقتضي الخروج على مواضعات المجتمع والأخلاق، وإنما هو يدعو إلى أن تكون غاية الفن صور جميلة لذاتها، وأن الفن غاية في ذاته وليس وسيلة للتعبير عن مشاعر خاصة.
ثم قال الدكتور مندور: إن ثقافة الناقد في القرن العشرين أصبحت ضرورية لتعدد المذاهب واختلاطها، فمثلاً كانت المسرحية إما كوميديا أوتراجيديا، فجاء النقاد في القرن العشرين يقولون أن الحياة ليست كلها مآسي كما أنها ليست فكاهة مغرقة في الضحك، فهي ليست بالسوداء ولا بالبيضاء الخالصة، وإنما هي خليط من الأمرين، فما الذي يمنع من وجود لون رمادي على المسرح، هو الدراما التي تجمع بين المحزن والمضحك؟
ثم تساءل المحاضر: ترى هل يستحق النقد كل ذلك العناء؟ وأجاب بأن النقد ليس تبعياً وإنما هو خلق أدبي، وسيان أن يتحدث جيته عن منظر طبيعي أوإنسان في الحياة وأن(819/38)
يتحدث عن شخصية روائية أو كاتب زميل، فتحصيل الأدوات للنقد جهد غير ضائع.
وبعد ذلك قال الدكتور مندور: وفي مصر هل نستطيع أن نقول إن النقد الأدبي قد استقر له أصول؟ ترجمت كتب، وكتب نقاد، بحيث نلاحظ أن النقد أخذ يرتفع عن الشخصيات إلى الأفكار، ولكن الملاحظ أن وسائل إذاعة النقد لا تزال محصورة، فأكثر ما ينشر في الصحف والمجلات تعريف لا نقد تغلب عليه المجاملة والرغبة في ترويج الكتاب. وهناك نوع يتمثل في الطعن والقدح لأسباب شخصية أو شعبية. . . وعلى العموم نرى النقد الأدبي الصحيح من حيث التطبيق على مؤلفاتنا - يعاني ضيق مجال النشر.
ثم قال: إننا الآن في مرحلة تتطلب أمرين: الأول أن نكثر من النقل والترجمة عن الغرب، والثاني أن يتجه النقد إلى غرس روح العلم والخلُق الأدبي بجانب نقد الأدب ذاته. وبذلك نستطيع أن ننشئ أدباً أصيلاً وأن نبني على أساس سَليم.
وألاحظ أن نقطة نسيان المعارف كانت تحتاج إلى بيان، وما أحسب الدكتور إلا يشير بذلك إلى الحقيقة النفسية القائلة بأن كل المعلومات تكمن في العقل الباطن الذي يهضمها ويماثل بينها، ثم هي تسعف الإنسان في الفرصة الملائمة دون التفات الواعية الظاهرة، ويكون ذلك أدنى إلى الأصالة من الترديد الببغاوي، بل هوالأصالة نفسها. ولكن هل نقول من أجل هذا بنسيان كل ما نحصله؟ وكيف إذن ندرك ما دعا إليه من معرفة المذاهب الأدبية ودقائق الفروق بينها إذا لم يظل ما نحصله منها عالقاً بالذاكرة؟
شعر البالاليكا:
رأيت في (البلاغ) يوم الاثنين الماضي قطعة تحت صورة امرأة وفوق إمضاء (يوسف جبر) عنوانها (بالاليكا) وهي كلام مكتوب على هيئة النظم، أعني أنه مقسم أجزاء كأجزاء الشعر، ومنه ما يأتي:
قبل شروق السحر
أسمع نجوى وتر
عند خيام الفجر
فعندما يتنفث
بلحنه الحيران(819/39)
يعود وجدي ويبعث
ما كان من شجن
في بالاليكا
وأنا لم أذهب إلى (بالاليكا) حتى أحكم على ما توحي به من الروائع. . . ولكن أليس لقائل آخر، ما دام الباب مفتوحاً، أن ينشر قطعة قد تكون أروع من هذا العنوان (شرم برم)؟!
مسرحية أوديب:
قدمت جمعية أنصار التمثيل والسينما رواية (أوديب) على مسرح الأوبرا يوم السبت الماضي، وهي مسرحية قديمة مترجمة عن الفرنسية، وقام بدور أوديب فيها الأستاذ جورج أبيض بك الذي قام بنفس الدور وقت أن قدمت فرقته هذه المسرحية سنة 1912.
وقد نقلت الإذاعة تمثيل الرواية إلى مستمعيها، وكان صوت (الملقن) مسموعاً واضحاً كأصوات الممثلين، فالمستمع يسمع كلاماً كالفحيح ثم يسمع نفس الكلام من الممثلين بصوت عال. . . وكانت فرصة لحذلقة المذيع، إذ أخذ يخبط ويخلط قبل أن يرتفع الستار، فقال إن هذه المسرحية مثلت لأول مرة في مصر سنة 1920، ورأى أن يدلنا على واسع علمه فقال: إن هذه المسرحية قام عليها المسرح في كل أمة! وتصور أنت مسرح أمة واحدة يقوم على رواية واحدة. . . ولو أنه قال إن الرواية مثلتها المسارح في مختلف الأمم لكن معقولا.
وقد بدأ أسلوب المسرحية وموسيقاها التي وضعها الشيخ سلامة حجازي، بعيدين عما يستساغ في هذا الوقت، مما جعلها غير مستحقة لإعادة تمثيلها الآن، وليت الذين قدموا الرواية القديمة أتعبوا أنفسهم ببذل جهد جديد، فقاموا بإخراج (أوديب الملك) لتوفيق الحكيم ووضع تلحين لها يناسب الذوق المصري، بدل هذا الاجترار الذي لا طائل وراءه. . .
المسرح بين جيلين:
الجيل الأول يتمثل في الفرق الحاضرة، وأهمها الفرقة المصرية التي تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية، والجيل الثاني هو الجيل الجديد الذي تتطلع إليه الأنظار في المعهد العالي لفن التمثيل التابع لوزارة المعارف.(819/40)
ولا ينكر أحد ما أسداه الجيل القديم لفن التمثيل، ومقدرة أفراده التي تكونت على مر السنين من المران وتنمية المواهب، ولكن هناك حقيقتين بارزتين، الأولى كسل هؤلاء الممثلين في العمل المسرحي، أوبتعبير أصح انشغالهم عن المسرح بالسينما، فهذه الفرقة المصرية تجتر الروايات القديمة التي حفظ الممثلون أدوارهم فيها فلا تكلفهم عناء في الحفظ ولا في التجارب (البروفات) وقد دعا مديرها العام الأستاذ يوسف وهبي في أول الموسم، الأدباء إلى معاونته بالتأليف، ولكن البرنامج الذي قدمته الفرقة طوال الموسم إلى الآن دل على رغبتها في الراحة من العناء في إنتاج جديد، فقد قدم لها الأستاذ محمود تيمور بك مسرحية جديدة هي (اليوم خمر) كما كتب لها أيضاً الأستاذ توفيق الحكيم مسرحية (اللص) وقد مضت شهور على فراغ الأديبين الكبيرين من هاتين المسرحيتين وتقديمهما ولم يبد ما يدل على أن الفرقة ستقدمها في هذا الموسم. وتسأل الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة عن ذلك، فيقول: وماذا أصنع وأنا لا أجد يوسف وهبي؟ وأين يوسف؟ في (الاستديو) أي أن (مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ المسرح) ليس عنده وقت للمسرح! وهكذا نرى أن الممثلين العريقين يتخذون الفرقة المصرية (محطة) يشربون بها النبيذ المعتق ويأكلون الشطائر المعدة في (جروبي) كما يقول ديوان المحاسبة. . .
الحقيقة الثانية، وهي التي تقضى بها سنة التطور في كل شيء، أن المسرح في حاجة إلى نوع جديد من الممثلين قد يكون أقدر على التقدم بالفن ومسايرة ما جدَّ فيه. وهنا نصل إلى الجيل الجديد المرجو من خريجي معهد التمثيل وطلبته، ولاشك أن هؤلاء يمتازون بأنهم يتلقون دراسات منتظمة في الآداب والفنون وثقافة العصر، وأحرى بهم أن يكونوا - كما قال الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد في كلمته بحفلة توزيع الجوائز على الخريجين في الأوبرا - (حجر الزاوية في حركة جديدة يكون من ورائها إصلاح وتقدم للمسرح المصري يتمان على يد الممثل نفسه وبواسطة الممثل نفسه) وقد قال الأستاذ طليمات أيضاً في تلك الكلمة (لقد جرت الحكومة منذ أكثر من عشرين عاماً، وهي تحاول الارتقاء بالمسرح، على سياسة منح الإعانات المالية للفرق العاملة وإجراء تعديل وتغيير في أنظمتها، ثم الإشراف عليها وتولى توجيهها توجيهاً فعلياً بوساطة اللجان وإصدار القرارات، وقد أفاد هذا إلى الحد الذي ترون فيه (الفرقة المصرية) كما أفاد أيضاً في إبراز كيان اجتماعي للمثل. ولكن(819/41)
الحكومة اليوم تواصل عملها لتحقيق الارتقاء المنشود، متخذة طريقاً أخرى، استلهمتها ولاشك على ضوء البديهية الاجتماعية المبذولة لكل مفكر، وهي أنه لن يفيد ولن يجدي في شيء أن نحاول إصلاح النظم القائمة بالتغيير والتعديل قبل أن نأخذ بإصلاح الفرد الذي يعمل في هذه النظم، ويتولاها وينهض بكيانها. فالمعهد بحكم هذا مرجوأن يكون معقد الأمل في تحقيق هذا الإصلاح باعتبار أنه المصنع الذي يخرج رؤوساً جديدة تعد أحسن إعداد لاحتضان المسرح في نظامه الديمقراطي).
وقد أشرت منذ أسابيع إلى أن وزارة المعارف تعمل على إنشاء فرقة نموذجية خاصة بطلبة معهد التمثيل، وقد كان معالي السنهوي باشا وزير المعارف السابق وافق على المبلغ المقترح لهذه الفرقة وهو ثمانية آلاف جنيه، وقدم معاليه المشروع إلى اللجنة المالية لمجلس النواب، وقد رفضت اللجنة الموافقة على هذا (الاعتماد) ورؤى إرجاء المشروع إلى العام القادم. وكان من حجة اللجنة المالية في هذا الرفض الاكتفاء بالفرقة المصرية على أن يضم إليها خريجو المعهد. ولكن الفرقة المقترحة شيء آخر غير الفرقة المصرية القائمة، لأن الأولى يرجى منها أن تنهج منهجاً آخر يقوم على استغلال الحماس الفني في إحياء التمثيل المسرحي، وهذا الحماس يخشى عليه أن يخبو وأن يثبط إذا عاشر واصطدم بالجيل القائم المتسلط، كما يقوم المنهج المرجو على الخلاص من الاعتبارات التجارية إذ يكون الاتجاه إلى تقديم مسرحيات من الأدب الرفيع، والفرقة المقترحة بعد كل هذا تؤمل أن تكون أساساً سليماً لبنيان جديد في المسرح المصري بعد أن دلت التجارب الماضية على فساد البنيان القائم.
وإلى معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف الحالي أسوق الحديث، راجياً أن يتم على يديه إنعاش المسرح الراقي، وحبذا أن تحقق وزارة المعارف الغرض المنشود من الفرقة الجديدة بإمداد المعهد بالمال اللازم لإقامة الحفلات التمثيلية العامة من ميزانيتها الخاصة، حتى يستطيع أن يبرز مجهوده ويقدم ثمراته، إلى أن يتيسر إنشاء الفرقة المأمولة.
عباس خضر(819/42)
الكُتُب
ديوان من وحي الريف
تأليف الأستاذ توفيق عوضي
بقلم الأستاذ ثروت أباظة
كثرت في هذه الملاوة مدارس الشعر وتعددت مذاهبه. فترى من الشعراء من يقصد إلى المعنى غير محتفل باللفظ أو الصياغة، وهو في ذلك يسير بالشعر في طريق النثر. وترى منهم بعضاً يعنون بالصياغة واللفظ دون التفات إلى التجديد في المعنى؛ وعذرهم في ذلك أن عنترة شاعر الجاهلية قد قال (هل غادر الشعراء من متردم) فإن كان عنترة منذ ألفي عام قد يئس أن يجد معنى جديداً فهل يبحثون هم عن معنى جديد بعد هذه الحقبة الطويلة من السنين التي مرت فانتهكت القديم وأخلقته، بل وأخلقت أيضاً ما ظهر في غضونها من معان جديدة؟
ومن الشعراء من يقول إن الشعر الصادق إشعاع للعاطفة، والعواطف منذ كانت خالدة على الزمان لا تتغير؛ فواجب الشاعر إزاءها أن يبين عنها في أنصع تعبير. وهنا يختلف القوم مرة أخرى، فمنهم من يرى أن الصياغة يجب أن تكون مشرقة في عربية صريحة لا تيسير فيها، ومن الشعراء من يرى وجوب التحلل من قيود الصياغة العربية؛ ويقف البعض موقفاً وسطاً فتراه يلتزم السهولة في تعبيره مع التزام الصياغة العربية معتقداً أن واجب الشاعر هو الوصول إلى قلب سامعيه من أقرب طريق، وزعيم هذه المدرسة هو الشاعر العربي الأكبر إيليا أبو ماضي. وقد انضوى كل شاعر تحت مدرسته يأبى أن يجيز لأي مدرسة أخرى أن تقول الشعر معتقداً أن الشعر هو ما يكتب وما دونه كلام لا يصح أن يسمى شعراً. . . ولاشك أن هذا التعصب ينساق مع طبيعة الشاعر المتكبرة ولكن واجبه إزاءها ألا ينتقد أبداً. . . ذلك أن نقده على أية حال سوف يكون - رغم أنفه - جائراً. وواجب النقاد إزاء كل هذه المدارس أن يقفوا منها على حياد المتفرج حتى يحكموا على كل شاعر بالنسبة للمدرسة التي يؤمن بها، وبهذا يكون المعيار سليماً لا تحيز به ولا إجحاف. . .(819/43)
والأستاذ توفيق عوضي من الذين يؤمنون بالسهولة دون الميوعة في الصياغة ولا يقبل أبداً أن يترجم عن إحساس لا ينبعث من صميم قلبه؛ فهو يفهم كلمة العاطفة فهمها الصحيح، فقد ذهب البعض إلى أن العاطفة هي الحب أو البغض بما يستتبع كلا الحالين من مشاعر وأحاسيس، أما توفيق فقد فهمها على أنها انعكاس الصور الخارجية على نفسه الشاعرة ثم عبر عنها على أنها منبعثة من صميمه؛ وعلى هذا تراه دائم النظر إلى ما حوله يحاذر أن تفوته واقعة فلا يسجل أثرها في نفسه شعراً. فتراه يقول حين يستأجر الحمار والغلام بثمن واحد:
يزهدني في النسل أني بأمة ... تساوي بها الإنسان والعير في الأجر
وما دام أجر المرء والعير واحدا ... فحمداً لمن أغنى عن النجل بالعير
ويذهب ليقضي أمسية عند صديق له فتطيب وتبعثه في الصباح يقول مستبشراً به طروبا:
وصحت ذكاء فغنت الأكو ... ان ألحان الصباح
فسكرت من أضوائها ... ونعمت بالسكر المباح
ضحكت ثغور وروده ... كتضاحك الغيد الملاح
المقبلات كأنهن ... منى تتوج بالنجاح
وذكرت لطفك فانتشيت ... فكنت ريحاني وراحي
يا صاحبا في صحبة ... جمعت أزاهير الصلاح
وعلى اقتراحك قد نزلت ... وقد نزلت على اقتراحي
فتمازجت أرواحنا ... كالراح والماء القراح
هذه الرقة التي تلمسها وتلك الانطلاقة التي تجري بها الأبيات هي لاشك شعور صادق لا مين فيه. وإنك لتراه مع هذا يحب كما يحب الشعراء ولكنه يعبر عن شعوره في هذه الرقة نفسها. وإنك حين تقرأ له شكواه من الحب لا تملك إلا أن تفزع معه. يقول:
كف الصدود. . كفى. . كفى ... عذبت قلبي بالجفا
يكفيك مما شفنى ... أن الحسود قد اشتفى
إن ترض لي طول السقام ... قضيت عمري مدنفاً
أوترج حتفي إنني ... قد صرت منه على شفا(819/44)
إن توف أولا توف لن ... ارتد عن عهد الوفا
تلك الثورة التي يبدأ بها أبياته هي لاشك مجلى ما يعتلج بنفسه من حب وما جره عليه هذا الحب من المرض. . ثورة عارمة ولكنها رقيقة وصلت إلى قلبك دون أن يركب إليه ألفاظاً أنيقة أو صياغة متبرجة. . . إنها مدرسة. . . والأستاذ توفيق لاشك من أنبغ تلاميذها. سوف ترى معي ذلك حين تقرأ الديوان كله كما فعلت أنا فحرت في أي قطعة أختار وأيها أدع ثم انتهيت إلى ما نقلت إليك تاركاً لك الفرصة لتحتار وتختار إذا استطعت أن تختار.
ثروت أباظة(819/45)
البَريدُ الأدَبي
الرجل يخطب لا المرأة:
تنشر الصحف كل يوم أنباء الزواج، وربط عقدته والخطبة له في عبارات يأباها فصيح اللغة، وتنفر منها نخوة الرجولة فتقول مثلاً: - (تمت خطبة فلان للآنسة فلانة!) (بحفل بهيج تمت خطبة فلان بكريمة فلان!). (تمت خطبة فلان إلى الآنسة فلانة!) وغير ذلك مما يطول إيراد أمثاله.
ومما أثار عجبي إني قرأت يوماً في جريدة الأهرام هذا النبأ:
(في حفل عائلي تم زفاف الأستاذ أ. ح. ع المحامي وعضو مجلس بلدي. . . إلى الأستاذة ف. ح المحامية فبالرفاء. . .).
وهذا كله وأمثاله من الخطأ الذي لا يصح السكوت عليه، وذلك بأنهم يجعلون الأنثى هي التي تخطب الذكر أو يزف إليها العريس، والذكر هو الذي يُخطب أو يزف إلىالعروس. ولكن اللغة تقضي بأن يكون الذكر هو الذي يخطب أو تزف إليه العروس والأنثى هي التي تُخطب وتزف إلى عريسها.
وفي الأساس: خطب الخطيب خطبة حسنة، وخطب الخاطب خطبة. وكان يقوم الرجل في النادي في الجاهلية فيقول: خِطب. وفي المصباح وخطب المرأة إلى القوم، إذا طلب أن يتزوج منهم، واختطبها، والاسم الخِطبة، فهو خاطب وخطاب مبالغة وقال تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) وفي الحديث المتفق عليه (ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب). وأما القِران فيقال: قرن الشيء بالشيء فاقترن به، وجعلوا من المجاز، هي قرينة فلان لامرأته.
هذا هو حكم اللغة، إلا إذا كانت الأمور قد انقلبت والمدنية قد تحكمت في اللغة كما تحكمت في غيرها فاستنوق الجمل واستتيست الشاة!!
محمود أبو ربه
حول الأدب الشعبي في الكويت:
بعث إليَّ أحد الأصدقاء يستنكر تسميتي للخليج الفارسي (بالخليج العربي_الفارسي سابقاً)(819/46)
في مقالي عن (الأدب الشعبي في الكويت) الذي نشر في الرسالة الغراء (العدد 813) مدلياً لي بأن جميع الكتب التي ذكر فيها اسم هذا الخليج دعي فيها بالفارسي وليس بالعربي كما أنه فارسي الصبغة. . . الخ.
وأحب أن أنبه هذا الصديق وأمثاله إلى أن هذا الخليج الذي تحده من الشرق بلاد فارس، ومن الغرب الكويت والبحرين والأحساء، ومن الشمال البصرة في العراق، ومن الجنوب عمان والربع الخالي وبلاد الغرب عربي الصبغة تماماً، وإن تسميته بالفارسي تسمية عتيقة بالية ويكفي أن تعلم أن السواحل العربية التي تطل على هذا الخليج أطول من السواحل الفارسية التي تطل عليه، كما لا ننسى أن تلك السواحل الفارسية نفسها التي تطل عليه تدعى (عربستان) فسواحله عربية ومياهه عربية خالصة وإن الأسطول التجاري العربي الكويتي الذي على طوله وعرضه ليدلك الدلالة الواضحة على عروبته كما أن الكويتيين والبحرانيين من أعمالهم الهامة صيد أو قطف اللؤلؤ من مياهه. والعرب الذين يقطنون السواحل العربية منْه كالكويت مثلاً قد اصطلحوا على تسميته بالخليج العربي ويعتزون بذلك، فلئن ذكرته الكتب العتيقة فارسياً فقد آن للجديد منها أن يطلق عليه هذا الاسم الحقيقي الطارف.
أحمد طه السنوسي
أسف واعتذار:
في تعقيبات العدد الماضي من (الرسالة) عند الكلام عن مسرحية (سليمان الحكيم) سقطت إحدى العبارات فاختل معها المعنى الذي كنت أقصد إليه. . ولعل القراء قد فطنوا إلى تلك الفجوة التي فصلت بين شقي التعبير حيث وقعوا على هذه الكلمات: (هناك جواب واحد لهذا السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه شخصيات أبطاله، هناك حيث تجد الصراع بين ذهن وذهن لا بين عاطفة وعاطفة). وصحتها: (هناك جواب واحد لهذا السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات الفكرية أكثر مما(819/47)
يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه شخصيات أبطاله. . الخ).
لهذا أسجل أسفي، أما الاعتذار فأتقدم به إلى القراء حيث ضاق النطاق عن تناول قصيدة الشاعر إيليا أبو ماضي بالعرض والتحليل كما وعدت. . فإلى العدد القادم إن شاء الله.
أنور المعداوي
بيت قلق:
في العدد (816) من الرسالة الغراء أطلعت على قصيدة للشاعر الأديب سعد دعبس بعنوان (في القاع يا رب) مطلعها:
حطمي الزورق يا ريح فقد طال ظلامي
وجرى الشك ورائي ومشى الوهم أمامي
وهي من الرمل المربع (فاعلاتن أربع مرات). ومنها هذا البيت القلق بالزيادة:
ربما ينعم بالفجر الأفاعي وأنا رهن الظلام
ولا أظن الخطأ من التطبيع فهو زيادة لا النقص، وتمام المعنى بالزيادة الزائدة!.
وبعد: فما - بكلمتي - قصدت التصويب، بل التعقيب بالشكر للشاعر الأديب الذي قام يهدي قصيدته إلى (روح الشاعر البائس (عبد الحميد الديب) وفاء وذكرى، في زمان قل فيه الوفاء والوفيون، ونضب الذكرى من ألسن الذاكرين. رحم الله الأديب، وجزى الله الأديب.
(الزيتون)
عدنان
مآخذ أربعة:
في عدد الرسالة الغراء رقم (813) قصيدة للشاعر الملهم زهير ميرزا بعنوان (شهرزاد) وهي قصيدة منورة ماتعة، وقد ازدانت كالعروس الحسناء برواء بديع لولا هذه المغامز: قال الشاعر:
1 - (كأسك الفن ومغناك أغاريد العصور). والمغنى مقصوراً واحد المغاني وهي المواضع(819/48)
التي كان بها أهلوها. وأغنيت عنك (مغنى) فلان و (مغناة) بضم الميم وفتحها فيهما: أي أجزأت عنك مُجزأه.
وما أظن الشاعر قصد كلا المغنيين إذ لا يكون المنزل أغاريد العصور بله أن يجزأ عنه مجزأه. وأظن الشاعر حسب (المغنى) من الغناء كما يقول بيرم التونسي على لسان أم كلثوم. المغنى حياة الروح يسمعها الحبيب تشفيه ولا وجه له.
2 - (ونداءك عشيق فاتر اللحظ الكسير).
والندامى جمع ندمان. ذكر الشاعر أولئك الندامى ولم يذكر منهم سوى ذلك العشيق، وكان الصواب أن يقول: ونديمك أوندمانك عشيق فاتر اللحظ الكسير أن يأتي بالمفرد دون الجمع.
3 - (ورواه الدهر فاستلقاه خفاقى وثارا).
واستلقى: على قفاه ولا معنى له هنا، والصواب أن يقول: وتلقَّاه خفاقى وثارا، أي استقبله. ومنه قوله تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم) أي يأخذ بعض عن بعض.
4 - (يرقبك السمار حيرى والمساء).
والصواب أن يقول: يرقبك السمار حيارى بالضم والفتح جمع حيران. أما حيرى فهي للمفرد المؤنث.
وكنا نود أن نضرب صفحاً ونسبل ستراً على هذه المآخذ اللغوية لولا أن مكانة الشاعر الذي أتحف قراء (الأديب) بروائعه أعلى من هذه الهنات. وللشاعر شكري؛ إذ أن هذه الغميزة لا تحط من قيمة هذه (الشهرزادية الرنان).
يافا - فلسطين: عمان
سامي حسين حبش(819/49)
القَصَصُ
قصة من الحياة:
من الأعماق
(مهداة إلى الأستاذ أنور المعداوي)
للأستاذ كامل محمود حبيب
مضى الليل إلا أقلّه و (إلهام) تضطرب في فراشها لا تستقر، تتلمس الكرى فلا تجده وتنشد الراحة فلا تنالها، وقد اطمأنت إلى الظلام والسكون يعصرها الهم ويضنيها الأسى، تنغمر في خواطرها والساعات تنطوي. و (إلهام) فتاة في الثامنة عشرة من سني حياتها فهي في شبابها الأول تنبض بالحياة وتتفتح عن أمل باسم وتتألق عن جمال رائع فتان، تشع نوراً وسعادة وتتلألأ بهاءً وضياءً. لم تذق الحزن ولا عرفت معنى الكآبة، فهي بين أبيها وأمها وأختها الصغرى في بهجة ما تنقطع أسبابها، فما لها - الآن - تجلس وحدها في ظلام الحجرة وظلام الأخيلة؟ وإن الشيطان ليوسوس لها بين حين وحين فلا ترى الحياة إلا عوداً من ثقاب تشعله في ثيابها، وإلا حبلاً تلفه حول عنقها وتتعلق به فيقضقض عظام رقبتها، وإلا نافذة تنفتح لتقذف بنفسها منها. ولكنه ما يزال فيها بقية من دين وصبابة من أمل.
وتسرب نور الصباح إلى حجرة إلهام يفزعها عن فراشها وعن خواطرها في وقت معاً، واندفعت صوب الشباك تريد أن تسرّي عن نفسها بعض ما أمضّها فما وجدت في نسمات الصباح الندية ما يرفه عنها كربة قلبها، ولا في النور الجميل المتدفق من لدن المشرق ما يمسح على همّ روحها.
يا عجبا! لقد كانت تجد في بسمة الصبح الجمال والحياة والنشاط جميعاً فما بالها الآن تفر منها في ضيق وملل.
وفي عصر يوم من أيام الربيع - منذ أربع سنوات - والرياح تهب رخيةً لينة توقع لحن السعادة والنور على قيثارة الربيع الهادئ الجميل، والطائر الغريد يثب على أفنان الشجر وهو يشدو بأنغام النشوة والمرح، والأزاهير تنفح عبيرها في خيلاء وتتمايل سكرى وقد هزتها اللذة واستخفها الطرب، والشمس تنحدر إلى خدرها رويداً رويداً لتذر هذا العالم(819/50)
المضطرب ينام في هدوء وراحة وأشعتها تتعابث وتتعانق، يودع بعضها بعضاً قبل أن تتلاشى لدى المغرب.
حينذاك اندفعت إلهام إلى الحديقة في ثوبها الحريري الأبيض الرفاف وهي في عطرها المتأرج وشبابها الفياض تنفث الحياة في هذه الناحية وما فيها سوى البستاني العجوز يفحص الأرض بفأسه الصغيرة، اندفعت إلى الحديقة تحنو على أزهارها وتحبو شجيراتها ببعض عطفها وتتنقل هنا وهناك، فهي زهرة نضيرة بين أزاهير، ولكن فيها هي الحياة الوثابة وفيها الجمال الآسر وفيها الخفة والفتنة وفيها السعادة والبشرى. لقد تفتحت الأزاهير وتكاد أوراقها أن تذبل، أما هي فتوشك أن تتفتح عن أكمامها فتبدو في بهائها ورونقها ملء العين وسحر القلب وإن ربيع الأزاهير لينطوي في غير بطأ ولا تلبث، أما ربيعها هي فيقبل في هدوء وأناة، وغمُر الحديقة نور الفتاة فتراءت كأنما ترقص طرباً وحبوراً.
ودخل (عادل) إلى الحديقة - على حين غفلة - فألفى الفتاة أمامه وجهاً لوجه فرأى فيها معاني قلبه الشاب ولكنه ما يزال في الجامعة وما تزال هي طفلة. وسألها عن أبيها وعن أمها فما وجدهما. لقد خرج معاً ليقضيا شطراً من الليل خارج الدار. وهمَّ الفتى أن يرجع غير أن الفتاة طلبت إليه أن يتلبث قليلاً لتعرض أمامه أزهارها وشجيراتها.
وتحدثت الفتاة في طلاقة واستمع الفتى. وانطلقت وانطلق هو إلى جانبها يحدثها وتحدثه هي حديث الزهر والشجر والربيع والأصيل والعطر. . ورقت كلمات الفتى وتكسرت نبراته. . . ثم خرج ووقفت هي تنظر إليه في صمت، وأحسست الفتاة بالوحدة حين رأت عادلاً يتوارى خلف سور الحديقة فأرادت أن تندفع في إثره لترده إليها، ولكن. .
وعادل فتى سمهري القوام قوي العضل وضاح الجبين يتألق وجهه حياة ونشاطاً، وتنبعث من عينيه أشعة نفاذة قوية علامة الذكاء والفطنة، وتضطرب في محجريه آثار عبرات مكفوفة علامة الإنسانية والرقة، وهو - إذ ذاك - طالب في السنة النهائية من كلية الآداب واسع الأفق حلو الحديث طلي الأسلوب رقيق الحاشية، طيب القلب، عالي الهمة، يعتز بعلمه وأدبه، حريص على كبريائه وكرامته.
لقد دأب عادل - منذ أن التحق بكلية الآداب - على أن يزور (فكري بك) - والد إلهام - كل أسبوع فهو صديق أبيه وهو عونه هنا في القاهرة. وإن عادلاً ليفزع إلى فكري بك(819/51)
يستعينه على أمره ويستنير برأيه ويطمئن إلى نصيحته، وهو فتى ريفي يشفق على نفسه أن يجرفه تيار المدينة ويتهيب أن يعصف به لهو الحياة، فهو يرى في (البك) الأب والقائد والمثل الأعلى، وفكري بك يرى في عادل الابن والصاحب والصديق. وأنس واحد إلى واحد واطمأن إليه، فعادل ما يبرح يزور (البك) و (البك) ما يبرح يفتقد عادلاً ويطلبه فيلح في الطلب، يقيمه على بعض شأنه ويفتح له بابه وقلبه وذراعيه.
لطالما جاء عادل إلى الدار، ولطالما تحدث إلى إلهام في عطف، ولطالما جلس إليها يعينها على الدرس ولطالما قص لها الأقاصيص وأهدى إليها الكتب ولكنها لم تحس بما يدفعها إليه إلا في هذه المرة. أفكان ذلك من أثر شعورها بأنه أزال عنها الوحدة في الحديقة في عصر يوم من أيام الربيع؟ أم هو شعور بالعطف عليه حين لم يجد أباها فأراد أن يرتد في خذلان؟ أم هو التقدير والإجلال لمن وجدت فيه الحمى والعون؟ لا ريب فهي قد أحست في نفسها شعوراً غامضاً لا تعرف مأتاه ولا تدرك كنهه ولكنه يدفع قلبها صوب هذا الفتى.
وبدأت الفتاة تترقب موعد زيارة عادل في شغف وتنتظر مقدمه في شوق وتتأهب للقياه في زينة. ولكنها في سنها المبكرة ما تزال تجهل ما يضطرب في نفسها.
وانطوت الأيام والفتاة تأنس إلى فتاها، تهفو إلى مجلسه وترنو إلى حديثه وقلبها يزداد تعلقاً به وأخيلتها تحوم حواليه فهي تخلق الأسباب لتسأله فيجيب وتتصنع الجهل ليشرح لها درساً أو يحل لها مسألة، والفتى مطمئن إلى ما تفعل راض بما يجد، يرى فيه راحة قلبه وشفاء نفسه. غير أن الفتاة لم تستطع أن تدرك كنه ما تحس. هذه العاطفة المشبوبة تبعث فيها الحيرة والاضطراب وهي تكتمها فلا تتحدث بها إلى أمها ولا تبوح بها إلى أختها الصغيرة. وكيف تفعل وفي رأيها أن فتاها لا يبادلها عطفاً بعطف ولا إخلاصاً بإخلاص؛ وهي إن فعلت لا تأمن أمها أن تغلظ لها في الحديث أو تتهكم عليها بكلمات قاسية عنيفة. وأختها طفلة لا تفهم لغة القلب ولا تعي حديث الهوى، وهي لا تستطيع أن تحدث صاحبها بذات نفسها خشية أن يكون في شغل عنها فيحتقر خلجات روحها ويمتهن نبضات قلبها. وألقت بها هذه الخواطر في تيهاء مقفرة ثم قنعت بأن تستمتع برؤيته بين الحين والحين، وأن تسعد بحديثه بين الفينة والفينة، تروي ظمأ نفسها وتنقع غلة قلبها، والأيام تنطوي. . .
أما عادل فقد أحس بالهوى الجياش يتدفق إلى قلبه في غير هوادة ولا لين منذ أن رآها تثب(819/52)
بين النبت والزهر ترفل في ثوبها الحريري الهفهاف تتوثب نشاطاً وحياة وتتألق بهجة ونوراً، وشغف بها حين رآها تستكمل - على الأيام - أنوثتها وجمالها، فهو يتودد إليها في رفق ويسعى إلى رضاها في صمت؛ والحياء يمنعه عن أن يكشف لها عن دخيلة قلبه خشية أن تنفر منه فلا يراها بعدُ وأن تزدري عاطفته فتسخر منه فتتحطم كبرياؤه وتتصدع كرامته.
وحال الخجل بينه وبين أن يحدث أباها بما يكن للفتاة من حب خيفة أن يثور به فيضع بينهما سداً لا يستطيع واحد أن يظهره وإن جهد.
وليست هذه بالسبيل التي يسلكها إلى غايته، فهناك في القرية أبوه وهو رجل ذو عقل وتجربة، يرى الرأي ويوطئ للأمر فينفذ إليه من منافذ يعجز عنها عادل نفسه.
وألقت به هذه الخواطر في تيهاء مقفرة، ثم قنع بأن يستمتع برؤية فتاته بين الحين والحين وأن يسعد بحديثها بين الفينة والفينة يروي ظمأ نفسه وينقع غلة قلبه، والأيام تنطوي.
ورأى الأب بعيني تجاربه أن الفتى يحنو على الفتاة وأن فتاته تعطف على الفتى، وخشي أن تمتد يد إلى يد أو يهفو صدر نحو صدر أو تقترب شفة من شفة، ثم ساورته الريبة واستولى عليه الشك. فماذا يفعل؟ وهولا يريد أن يغلق بابه دون الفتى وهو صديق أبيه، ولا أن يدفعه عن داره وهو يستعينه على بعض شأنه، ولا أن ينشر ظنونه أمام الفتى فيظن هو ويظن أبوه أنه يعرض ابنته كما تعرض السلعة البائرة في السوق الراكدة يبتغي من وراء ذلك أمراً. وتملكته الحيرة.
وجاء عادل - كدأبه - يزور (سعادة البك)، ورأته إلهام وهو يدلف إلى حجرة المكتب فانطلقت إلى هناك كعادتها، ولكن أباها طردها في غلظة، ونهاها عن أن تدخل حجرة فيها (الأستاذ عادل) إلا أن يؤذن لها.
وذهل الفتى حين بدا له أن عين الشيخ يقظة مترقبة، وعجب ألا ينطلي على (البك) ما يتصنعه من رزانة وما يتكلفه من هدوء: الآن وقع ما كان يخشاه وضرب بينه وبينها بحجاب كثيف ما يستطيع واحد أن يظهره وإن جهد. وأطرق الفتى وقد تجهم وجهه وتقبضت أساريره، ثم خرج من لدن الرجل يهيم على وجهه وقلبه يبكي في حرقة وألم ونفسه تتغيظ في أسى ولوعة وثارت كبرياؤه فخاصم الدار وروحه ترف حواليها.(819/53)
يا لقلبي حين تغشاه غاشية من مصائب الحياة ونكباتها فلا يجد عنها مصرفاً! الآن ذاق قلب الفتى مرارة الحسرة والكمد حين تلفّت فإذا هو وحيد على حيد الطريق، أما الفتاة. . .!
ومضت سنة كاملة والفتى يدافع نفسه عن الدار التي يهفو إليها قلبه. وحين خيل إليه أنه ثأر لكبريائه واقتص لكرامته أحس برغبة ملحّة تجذبه إلى دار فكري بك - مرة ثانية - ليرى هناك روح قلبه ونور عينيه وجمال حياته.
وعجب عادل أنْ رأى الخادم يتقدمه ليفسح أمامه الطريق وليقوده إلى حجرة الجلوس دون حجرة المكتب! ماذا كان؟ لا ريب فقد أصبح غريباً عن هذه الدار فهو يرى الأستار تسدل في وجهه، والأبواب تغلق دونه، ولا يجد السبيل إلا إلى حجرة الجلوس، ولا يلقى إلا (سعادة البك) و (البك) يلقاه كما يلقى رجلاً غريباً عنه ويحدثه حديثاً فيه التكلف والتصنع ويجلس إليه في فتور وملل. وأحس بأن في الدار حركة لم يتألّفها وأن شيئاً يتوارى خلف الأستار المنسدلة. ماذا وراء؟ وهو قد كان - منذ شهور - يدخل إلى الدار في غير إذن فتنفتح الأبواب وترتفع الأستار ويهفو نحوه كل من في الدار في غير تحرج ولا حذر. . .
وذهب عادل يتحسس من الأمر وإنه لذو حيلة ورأي فتناهى إليه أن فتاته قد سُميت على جلال بن عزت بك وهو ضابط في الجيش وهو من أسرة ذات جاه وثراء، وإن الدار تموج منذ أيام بمن يهيئون لليوم السعيد يوم أن تزف إلهام إلى جلال.
ورجع الفتى إلى داره يلفه الهم ويطويه الأسى وفي نفسه ثورة بركان هائج لا يهدأ، فهو يذهب ويجيء ويضطرب في الحجرة مثلما اضطرب وحش كاسر في قفص. آه، يا قيود الإنسانية لو قُيِّض للفتى أن يقذف بك عن عاتقه لزأر زئير سبع غاظته الحياة وعضَّته الأيام! ولكنك أرغمته على أن يكتم الحيوانية الصريحة فيه، فهو يضم جوانحه على أتراحه وقلبه يكاد ينشق من فرط الشجن. وحين آده الجهد والإرهاق جلس إلى نفسه يحدثها: (ماذا كان في غيابي؟ لعلها وجدت فقدي زماناً ثم تسلت، ولعل أمها قد طلبتني ساعة ثم نسيت، ولعل (البك) انتظرني حيناً ثم انصرف! يا لطيشي حين خاصمت هذه الدار وفيها روح قلبي، ونور عيني، وجمال حياتي! هذا ذنبي أحمله وأعاني من وخزاته ما ينوء به ذو الجلد والصبر. ولكن هل أستسلم وأخضع؟ كلاّ! غداً أجد السبيل إليها وأحدثها حديث قلبي، ثم أرى ماذا تفعل وماذا تقول. ولكن كيف أفعل وهي قد سميت على رجل غيري وستصبح -(819/54)
بعد أيام - زوجة وربة دار. إن قلبي لا يستطيع الصبر ولا السلوان، فغداً أراها وأتحدث إليها). وانطوى الليل كله فما غمضت عينيه ولا هدأت ثائرته، وفي الصباح انطلق إلى هناك يلقى الفتاة!
وجلس إليها في غير رقبة ولا حذر يحدثها ويعتب عليها وينشر أمامها مكنون قلبه وهي تقول له: (أترى يوم أن تلاقينا في الحديقة منذ سنوات أربع، لقد أحسست بقلبي يندفع نحوك، وشعرت بروحي تصفّق حواليك، ووجدت - منذ تلك الساعة - لذة الحياة وسعادة القلب، وخشيت أن أنفض نفسي أمامك، وأنت في شغل عني، فلا أجد منك إلا الاحتقار والامتهان، وأنا أرسف في أغلال التقاليد وقيود البيت، وما كان لي - وأنا فتاة فيَّ الخفر والحياء - أن أتحدث حديث الحب إلى فتى فيه الشباب، لم يسع هوإِليَّ، ولم يكشف لي عن دوافع قلبه ولا خلجات ضميره)! وأطرق الفتى ساعة ثم قال: (وماذا وراء، وأنا أحبك ملء روحي، وأراك نور الحياة وشباب القلب؟) قالت: (. . . وحين وافقت على رأي أبي كنت قد خشيت أن تكون قد طردتني من نفسك لأنك نأيت عني، وخفت أن أطرد خطيبي فأتخلّف عن الركب، وإن شبح ابنة عمي ليضطرب في ناظري كلما ذكرت الخطبة والزواج، فهي قد تأبت حيناً على الزوج أنفة منها وصلفاً. وهي الآن قد أشرفت على الأربعين ولما تجده، لقد فاتها الركب، وتخلفت عن القافلة). فقال: (فماذا ترين وأنا لا أجد الصبر عنك؟ إن عقلي قد ضل فهولا يهتدي إلى رأي)، قالت: (سنرى، وإن في الوقت فسحة).
وخرج الفتى ليذر فتاته وحدها في مضطرب من الأفكار يلتهمها الهم ويفريها الأسى، وهي جالسة في ظلام الحجرة وظلام الأخيلة، وإن الشيطان ليوسوس لها فلا ترى الحياة إلا عوداً من ثقاب تشعله في ثيابها، وإلا حبلاً تلفه فوق عنقها، وإلا نافذة مفتوحة تقذف بنفسها منها. وأصاب الحزن نفسها، وزعزعتها الحيرة، فبدت في عيني أمها ذاوبة ذابلة، وهي تلقى خطيبها في فتور، وتحدثه في ملل، وهي تغدو وتروح في تراخ، وتقضي حاجاتها في كسل. ونظرت إليها أمها بعيني المرأة والأم معاً، فتبين لها أن قلبها قد تحول ناحية أخرى، فراحت تتسلل إلى قلبها في عطف حيناً، وفي مكر حيناً آخر، فما تلبث الفتاة أن كشفت لها عن خطرات قلبها. . .(819/55)
وراحت الأم تنبه جلالاً إلى أمر ذي خطر، وتوحي إلى ابنتها الصغيرة أن تسر إلى عادل أن يقطع صلته بهذا البيت فلا يزوره أبداً، فهو يخلق بزياراته مشكلة يعضل عليهم حلها.
ووعى الشابان كل ما سمعا. أما عادل فانطلق يتلمس دواءً لقلبه، وأما جلال فراح إلى غريمه يحدثه: (. . . وأنت تعلم - يا صاحبي - أنها سميت عليّ، وأنني أحبها، وأنني رجل حرب لا أومن إلا بأحد أمرين: الفوز في المعركة، أو الموت! فأنت حين تضحي تحفظ عليّ حياتي. . .) فأجابه عادل في هدوء: (وأنت حين تفوز في المعركة تقتلها وتقتلني معها)! قال جلال: (ولكنني قد أعددت كل شيء، وتستطيع أنت أن توهمها بأنك لا تليق صحياً، أو أنك تخشى انتقامي). قال: (وهذا لا أرضاه، وكيف أرضى أن تنهار كبريائي في نظر الفتاة، ولا تنس أن رجلاً ثالثاً سيعيش دائماً بينكما. لقد سبقتُك إلى قلبها، وإن كنت أنت سبقتني إلى خطبتها). قال جلال: (ولكنني أفزع إلى كرمك ورجولتك). فأجابه عادل: (هذا شيء لا أملكه، فنبضات قلبي وقلبها تتفقان معاً، فكيف أستطيع؟) فقال جلال في رجاء: (أرجو أن تفكر في الأمر ملياً قبل أن تهدم بيتاً توشك عمده أن تقام على أساس).
وافترق الشابان ابتغاء أن يقلّب كل واحد منهما الرأي، واتفقا على أن يضحي واحد في سبيل الآخر! وظل الشابان في تردد وحيرة، والفتاة في الدار لا تجد الخيرة من أمرها، وهي قد وافقت منذ حين على أن تتزوج من جلال. فمن عسى أن يضحي يا قارئي العزيز؟
كامل محمود حبيب(819/56)
العدد 820 - بتاريخ: 21 - 03 - 1949(/)
هل الشقاق طبع في العرب؟
جواب عن سؤال
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وأما ما ذكرتموه عن رأي ابن خلدون في هذه القضية، فهو أيضاً في حاجة إلى إنعام النظر.
فقد نقلتم الفقرات التالية، من مقدمة هذا المفكر العظيم:
(والعرب أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة؛ فقلما تجتمع أهواؤهم من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر من الدين على الجملة).
أنا أعرف أن ابن خلدون أبدى هذا الرأي في مقدمته المشهورة، ولكني أرى من الضروري أن نفطن جيداً إلى ما يقصده من كلمة العرب الواردة في هذه الفقرات؛ ثم نبحث عن نصيب رأيه هذا من الصحة والصواب.
من الأمور التي يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام - حين نقرأ مقدمة ابن خلدون ونستشهد بها - أن مؤلفها كان يقصد من كلمة (العرب) العربان بوجه خاص وفقاً لما هو متعارف بين العوام -؛ ولم يقصد قط أفراد الأمة العربية بوجه عام كما نفهمها ونتصورها نحن الآن.
إنني سردت الأدلة الكثيرة التي تبرهن على ذلك برهنة قاطعة في عدة مقالات نشرتها في بيروت وبغداد وفي فصل خاص من الدراسات التي كتبتها عن مقدمة ابن خلدون، ولا أرى لزوماً إلى إعادة تلك البراهين والأبحاث في هذا المقام. ولما كانت الدراسات المبحوث عنها قد نفذت، رأينا أن ننقل هنا نموذجين من البراهين المسرودة فيها، وقد انتخبنا أحدها من القسم الأول من المقدمة، والثاني من القسم الأخير منها، قلت:
(فلنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون (إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب) ولننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل رأيه هذا:(820/1)
(فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لتصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني فيخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد لبيوتهم فيخربون السقف عليه. . .) (ص 149).
ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام. ولا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال (لا يحتاجون إلى الحجر إلا لوضع القدور، ولا إلى الخشب إلا لتصب الخيام) لم يفكر قط في أهل دمشق أو القاهرة، ولا بسكنه تونس أو فاس. إنما قصد أعراب البادية وحدهم. وقال:
(وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها. وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها) (ص 544).
يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة العرب مرتين مقابلاً لكلمة الحضر، بشكل لا يترك مجالاً للشك في أنه يقصد منها البدو على وجه التخصيص ويخرج من نطاق شمولها الحضر على الإطلاق. غير أني أرى من الضروري أن ألفت الأنظار إلى موضع الفقرات الآنفة الذكر من أبحاث المقدمة: إن تلك الفقرات مستخرجة من الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني؛ وعنوان الباب المذكور هو: (العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال). وذلك أيضاً يدل على أن ما جاء في هذه الفقرات ينصب على الذين يعيشون في حالة البداوة، ولا يشمل الذين يعيشون في المدن. ومن المعلوم أن أحوال المدن تكون موضوعات البابين الثالث والرابع من المقدمة. والفقرة الآنفة الذكر لا تدخل في نطاق البابين المذكورين.
وبناء على كل ما تقدم يحق لنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذه القضية - وفق أسلوب كلامنا الحالي - بالعبارات التالية: (إن العرب - عندما كانوا في حالة الفطرة والبداوة - لم يستطيعوا أن يؤلفوا دولة ويؤسسوا ملكاً، إلا عندما تأثروا بدين أو ولاية تزيل عنهم التحاسد والتنافس، وتحملهم على الانقياد والاجتماع).
ومن الغريب أن كلمات ابن خلدون في هذا المضمار - عندما تفرغ في هذا القالب - تصبح موافقة تمام الموافقة للنظرية التي توصل إليها علماء الاجتماع في العصر الحاضر(820/2)
عن منشأ الملك بوجه عام: لأن أصحاب هذه النظرية يقولون إن الممالك لم تتكون في بادئ الأمر إلا بفضل المعتقدات الدينية.
إن الأبحاث التي قام بها عدد كبير من العلماء والمفكرين - مستندين إلى المعلومات التي جمعوها عن أحوال الأقوام البدائية من جهة، وعن تواريخ الدول القديمة من جهة أخرى - قد أوصلتهم إلى هذه النظرية. فقالوا: إن تكون الجماعات السياسية الكبيرة والممالك العظيمة، في القرون القديمة، لا يمكن أن يفسر إلا بتأثير الاعتقادات الدينية، على اختلاف أنواعها وأطوارها. فالاعتقاد بقوى خارقة للعادة - من الاعتقاد بالقوى السحرية إلى الإيمان بالقوة الإلهية - هو الذي مهد السبل إلى تكون الجماعات الكبيرة واستقرار الحياة السياسية. . . في أطوار البداوة والهمجية.
وقد كتب الباحث الإنكليزي المشهور (فرايزر) كتاباً ضخماً ضمنه أمثلة وبراهين كثيرة، تدل على أن الملكية نشأت من الاعتقادات السحرية: كان الناس يخضعون للملك، لاعتقادهم بأنه يتمتع بقوة سحرية، وكانوا يرون من الطبيعي أن يخلفه ابنه، لاعتقادهم بأن هذه القوة السحرية تنتقل منه إليه
وقد برهن المؤرخ الفرنسي المشهور (فوستل دو كولانثر) - في كتابه (المدينة القديمة) - أن الحياة السياسية عند اليونان والرومان أيضاً قامت على بعض الاعتقادات والعبادات.
وقد لاحظ جميع المؤرخين أن الاعتقادات الدينية تلعب دوراً هاماً في سياسة دول القرون الأولى. والاعتقادات الدينية السياسية اجتازت مراحل عديدة ومتنوعة: الملك إله. . . الملك ابن الإله. . . الملك من نسل الآلهة. . . الإله يتقمص جسد الملك. . . الإله ينفخ في الملك شيئاً من روحه. . . الإله يمد الملك بالهاماته. . . هذه أشكال مختلفة - وأطوار متتالية - من الاعتقادات التي كانت تربط الملكية بالدين، وتساعد على جمع طوائف كبيرة من الناس تحت إدارة واحدة في تلك القرون القديمة.
أنا لا أرى هنا مجالاً لذكر الأمثلة والبراهين والنصوص التي تؤيد هذه النظرية. ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى كتاب (تيارات التاريخ العالمي العظيمة) الذي نشره أخيراً (جاك بترن) أستاذ التاريخ في جامعة بروكسل. تصفحوا المجلد الأول من هذا الكتاب القيم، (وهو المجلد الذي يلخص التطورات التاريخية التي حدثت في العالم منذ القدم حتى ظهور(820/3)
الإسلام)، تجدوا في فصل من فصوله تقريباً بعض الأبحاث التي تنم عن الترابط المتين الذي كان قائماً في تلك العصور القديمة بين تطور الحوادث السياسية وبين تقلب المعتقدات الدينية.
لا شك في أن الحروب كانت تلعب دوراً أساسياً في توسع الممالك وتكون الامبراطوريات: فإن ملك قطر من الأقطار يستولي على مدن وأقطار أخرى بقوة السلاح، ويوسع حدود ملكه عن طريق الفتوح العسكرية. غير أن نتائج هذه الفتوح ما كانت تدوم وتستقر، إلا إذا دعهما شيء من التفاعل والتزاوج والتلاقح بين معتقدات البلاد الفاتحة وبين معتقدات البلاد المفتوحة، وهذا التفاعل كان يأخذ أشكالاً مختلفة: تارة كان الاعتقاد ينتشر بأن آلهات جميع تلك البلاد لا يختلف بعضهم عن بعض إلا بالأسماء؛ فكان يصبح الملك ممثلاً لآلهة البلاد الفاتحة والمفتوحة على حد سواء. وطوراً كان بتولد الاعتقاد بأن إله الملك الفاتح هو الإله الأكبر. وأما آلهة البلاد المفتوحة فهي من أتباع ذلك الإله الأعظم. . . وعلى كل حال كانت هذه المعتقدات - وأمثالها من المعتقدات المتنوعة - تساعد إلى حد كبير على خضوع أهالي البلاد المفتوحة للحكم الجديد خضوعاً نفسياً، فكانت تقلل أو تزيل الحاجة إلى استعمال القوة والقسوة لإدامة ذلك الخضوع.
ولا أراني في حاجة إلى القول بأن أمثال هذه المعتقدات الدينية السياسية، ما كان يمكن أن تدوم بعد انقضاء عهود الوثنية القديمة، ومع هذا أرى من الضروري أن أشير إلى نظرية (سياسية دينية) سادت على الأذهان في أوروبا - في عهد تكوين الممالك - حتى القرن الثامن عشر: وهي نظرية القائلة (بأن الملوك يحكمون بتفويض من الله). ومما لا مجال للشك فيه أن هذه النظرية كانت بمثابة (الأصداء الأخيرة) لتلك المعتقدات القديمة التي شرحناها آنفاً.
وخلاصة القول أن الأبحاث التاريخية والاجتماعية تدل دلالة قاطعة على أن خضوع الناس إلى أحكام السلطات، لم يتيسر في بادئ الأمر - إلا بفضل المعتقدات الدينية.
ويظهر من ذلك - بكل وضوح - أن ما قاله ابن خلدون في مقدمته المشهورة، عن العرب في طور البداوة، لا يختلف عما يقوله العلماء والمفكرون والمعاصرون عن الأمم القديمة بوجه عام.(820/4)
فنستطيع أن نقول - بكل تأكيد - أن تاريخ العرب لا يشذ عن تواريخ سائر الأمم، من هذه الوجهة أيضاً.
بعد هذه النظرات الانتقادية التي وجهناها إلى المقدمات التاريخية، يجدر بنا أن نرجع إلى السؤال الأصلي، لنرى: هل الشقاق طبع في العرب؟
إن المقارنات التي قمنا بها آنفاً بين تاريخ الأمة العربية وبين تواريخ الأمم الأخرى من وجهة الشقاق، تسهل علينا الإجابة عن هذا السؤال إجابة مبنية على قياس صحيح واستقراء تام.
إن الشقاق وليد الأنانية، والأنانية طبع غريزي في الإنسان، وجماح هذه الأنانية لا يكبحها إلا التربية الاجتماعية المتينة، والتشكيلات الحكومية القوية، والنزعة المثالية الفعالة، والإيمان الديني أو القومي أو الوطني العميق.
ففي كل أمة من أمم الأرض، وفي كل دور من أدوار التاريخ يظهر أناس تتغلب في نفوسهم الأنانية على العوامل التي ذكرناها آنفاً، ولكن الرأي العام من جهة، والقوانين الموضوعة من جهة أخرى، تعاقب هؤلاء وتعزلهم عن المجتمع بصور شتى ووسائط متنوعة، وتجعلهم عبرة للآخرين، فتحول بذلك دون استفحال هذه الأنانية وانتشارها بين الناس.
غير أنه يأتي أحياناً في كل أمة من أمم الأرض بعض الأدوار من التاريخ تضعف فيه هذه القوى الوازعة فتتفلت الأنانيات عقالها، ويتضاءل تأثيرات الرأي العام فيها، فتقل سلطة الحكومات عليها، وكل ذلك يؤدي إلى ازدياد الشقاق وانتشار الخلاف بين الناس.
هذا ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث في كل أمة من الأمم، وفي جميع أدوار التاريخ.
وليس في طباع العرب ما يجعلها شاذة عن سائر الأمم في هذا المضمار.
هذا هو جوابي، يا صديقي الأستاذ، عن السؤال الذي وجهتموه إلي.
لا يوجد في طباع الأمة العربية ما يجعلها شاذة عن سائر الأمم في أمر الاتفاق والانشقاق.
يجب علينا أن نعرف ذلك حق المعرفة، كما يجب علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً بأن طبائع الأمم لا تبقى على وتيرة واحدة على مر العصور. وقد صدق من قال: (إن من يتوهم الاستقرار في طبائع الأمم كمن ينشد البقاء في الموجات التي تحدث على سطح الماء عندما(820/5)
ترمي حجراً فيها).
فإن الماضي لا يقيد الحال تقييداً مطلقاً. وتحقق الوحدة والاتفاق في الماضي لا يكفي لدرء أخطار التفرقة والشقاق في الحال كما أن، حدوث التفرقة والشقاق في الماضي لا يمنع الاتحاد في المستقبل.
فيجب علينا أن نتخلص من نزعة الانشغال بالماضي كثيراً، وأن نقلع عن الالتفات إلى الوراء دائماً. فلا يجوز أن نحاول تبرير مساوئنا الحالية بنقائض أسلافنا الأقدمين، ولا أن نسعى لإلقاء مسئولية نكباتنا على عاتق تاريخنا القديم، ولا يسوغ لنا - على وجه خاص - أن نستسلم إلى دواعي الخور والكسل، وأن نتقاعس عن الكفاح والعمل، بحجة أن الحالة الحاضرة نتيجة حتمية لطبائع الأمة ولمجرى تاريخها العام.
إننا لم نستجمع قوانا المادية والمعنوية، ونحشدها لتحقيق هدفنا الأسمى بل إنما علمنا بتراخ وتردد بدون عزم قوى وتنظيم متين وإيمان عميق فأضعنا بذلك فرصاً كثيرة،
ومهما يكن الأمر، يجب علينا أن لا نقطع الأمل في النجاح في المستقبل، وأن لا نتأخر عن إعادة الكرة بإيمان أعظم، إذ يجب علينا أن لا ننسى أنه ما من أمة وصلت إلى الكمال الذي تنشده إلا بعد أن اجتازت عقبات كثيرة، وذاقت مرارة الفشل مرات عديدة، واضطرت إلى تضحيات كبيرة.
إن الأمم الحية الوثابة تتعظ بالنكبات فتندفع إلى العمل وتواصل الكفاح بحرارة أشد وعزم أمتن، كما أنها تغضب من الفشل وتستفيد من دروسه فتعيد الكرة لتضمن النجاح ولو بعد حين.
وأستطيع أن أقول: إن االايمان المتواصل القوي العميق بإمكانيات أمتنا، والعمل المتواصل لتحقيق غايتنا، والاستعداد التام للكفاح مصحوبا بروح التضحية الحقيقية، ومدعوماً بالأمل الذي لا يقهر!
، وكأني أسمع سلسلة أسئلة اعتراضيه تقابل ما قلته آنفاً:؟ ألا تلاحظ فظاعة الاختلافات التي تهز كيان جامعة الدول العربية هزاً عنيفاُ؟ ألا تشعر بالأخطار التي صارت تهدد مستقبلنا في عقر دارنا؟
بلى، إني أدرك واشعر وألاحظ كل ذلك إدراكاً تاماً وشعوراً عميقاً وملاحظة دقيقة، وأتألم(820/6)
من كل ذلك ألماً شديداً.
وهل كان فشل مؤتمر فرنكفورت في ألماني - قبل قرن واحد من يومنا هذا - أقل خطراً من فشل مجلس جامعة الدول العربية هذه السنة؟ ألم يقل بعض الساسة - عقب انحلال المؤتمر المذكور - (أن الألمان فقدوا حتى قابلية الدفاع عن أنفسهم؟) ألم يتساءل بعض الكتاب عندئذ قائلين: (أين هي ألمانيا؟ هل لها وجود في غير مخيلة بعش الشعراء وأحلام بعض رجال السياسة)؟ ومع ذلك، ألم تتحقق وحدة ألمانيا في حياة الكثيرين من حضروا مؤتمر في نكفورن الفاشل؟
وبناء على هذه الملاحظات أقول بلا تردد: لا يجوز لنا أن نترك مجالاً لتسرب الخور والقنوط إلى أنفسنا ويجب علينا أن نعلم علم اليقين: أن النكبة لا تصل إلى حدها الأقصى إلا عندما تثبط العزائم، كما أن الفشل لا يصبح تاماً إلا عندما يؤدي إلى التقاعس عن مواصلة العمل والكفاح. . .
فعلينا أن نحذر كل الحذر من العمل على زيادة النكبة وإتمام الفشل. . بالاستسلام إلى القنوط والخور. . .
أبو خلدون ساطع الحصري(820/7)
روسيا والسلم
للأستاذ عمر حليق
هناك تعليلان في رأي (ماكس بيلوف) للأسباب التي دعت موسكو مؤخراً لأن تحمل غصن الزيتون وتواجه خصومها حلفاء الغرب أمام الرأي العام العالمي بأنها دعاة حرب لا يرضون الدخول في مفاوضات مباشرة لتدعيم السِّلْم في هذا الجو الذي ازداد توتراً.
أما التعليل الأول فيقول بأن روسيا جادة في حملتها السليمة الأخيرة، وأن التحطيم الذي أصاب المدن والعساكر الروسية في الحرب المنصرمة هو تحطيم طاحن لا يزال هوله يسيطر على مخيلة الشعب الروسي فهو يخشى الحرب حقاً ويبغي السلم، وأن حالته النفسانية هي كحالة معظم سكان أوربا الذين نالتهم المجزرة الأخيرة بوبلاتها. ولذلك فإن هذا التعليل يجد من يؤمن به من الأوربيين خصوصاً أتباع الأحزاب اليسارية التي تميل إلى مسايرة السوفيات. ويقول أنصار هذا التعليل كذلك أن العقلية الروسية ليست عقلية عسكرية كعقلية الشعوب الجرمانية، وذلك فإن حرباً طاحنة كالحرب المنصرمة كانت كافية لأن تزيل غشاوة العنف والغطرسة العسكرية عن أعين الروس فتجعل رغبتهم في السلم حقيقية.
أما التعليل الثاني فيقول إن مراكز التوجيه في قيادة روسيا السوفيتية اليوم في يد جماعة من المتهوسين وهم مسؤولون عن مسلك موسكو الحالي في العلاقات الدولية، وأن ستالين هو أسير هذه الجماعة التي منها مولوتوف وزير الخارجية وكبار قادة الجيش السوفيتي. وأنه لو تسنى لأحد أن يخترق هذا الحصار المضروب على ستالين - كما فعل عدد من الصحفيين الأجانب في موسكو مؤخراً - لوجد أن لديه استعداداً حقيقياً للسلم. ويبدو لي أن المستر ترومان ومتشاوريه الخصوصيين في البيت الأبيضمن أنصار هذا الرأي. فهم يعتقدون خطأ أو صواباً بأن ستالين رجل (طيب القلب) على حد تعبير ترومان يرغب في السلم لو تخلص من أسر (البوليت بيرو) المكتب السياسي الأعلى للاتحاد السوفيتي.
هذان هما التعليلان اللذان يقومان لتفسير حملة السلم التي صدرت عن القيادة الشيوعية الدولية في الأسابيع الأخيرة. ولنا أن نتساءل أولاً: هل الروس راغبون في السلم حقاً؟ وإذا اقتنع حلفاء الغرب بهذه الرغبة، فلماذا لا يمدون يدهم للروس لتدعيم السلام في نية(820/8)
صادقة؟
والجواب على هذا التساؤل صعب. فإن تاريخ السوفيات في روسيا يشير إلى سرعة التقلب في سياسة روسيا الخارجية عندما تتطلب منها الظروف ذلك. وخير مثل على ذلك اتفاق روسيا وألمانيا النازية في مطلع الحرب العالمية الثانية بالرغم مما في المذهبين (الشيوعي والنازي) من التناقض والمعاداة والتنافس. ومن أبرز الأمثلة على التقلب موقف الشيوعية السوفيتية من الصهيونية التي وصفها ستالين في كتاب (الماركسية ومشاكل الأقليات والاستعمار) الذي صدر سنة 1920 بأنها (حركة رجعية انتهازية، وأنها وليدة الاستعمار الغربي). وقد كانت الصهيونية محرمة في روسيا ومضطهدة إلى ما قبل بضع سنوات (عام 1943)، وكانت تحارب في السر والعلانية. قارن هذا الموقف الروسي بحاضر العلاقات بين موسكو ويهود فلسطين والتحالف السوفيتي الصهيوني تر عنصر هذا التقليد الانتهازي في سياسة السوفيات الخارجية. وهو في الواقع تقلب لا تخلو الدبلوماسية الدولية إجمالاً منه وإن كان يبدو عادياً في سلك السوفيات.
فقد تكون إذن حملة السلام الروسية الجديدة خطوة انتهازية جديدة يتطلبها الموقف الدولي، دفع إليها حمل الشعوب في المعسكر الغربي على الحد من برامج التسلح الهائلة التي تندفع الآن دول الحلف الغربي في تنفيذها. والضرب على وتر السلام الحساس في البلدان الديمقراطية خصوصاً في الولايات المتحدة يجد صداه في مجتمع يشكو من ارتفاع الضرائب التي تتطلبها هذه الالتزامات الضخمة التي تفرضها مشاريع مارشال وشريعة ترومان والبرنامج الجديد لتوسيع هذا النوع من الحرب الاقتصادية في بلدان الشرق والقارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية.
هذا بالإضافة إلى أن حدة الموقف الدولي تفرض تعاوناً وثيقاً بين بريطانيا وأمريكا، فإذا خفت هذه الحدة وشاعت الرغبة في السلام التي تذكيها حملات ماهرة كحملات الشيوعية الدولية فإن هذا التعاون الإنجلوسكسوني سيفتر بينما تمضي روسيا قدماً في برامجها المنظمة التي تتقيد - في ظل الاقتصاد الماركسي الموجه - بتحالف ثنائي في مجال الاقتصاد والاستعداد العسكري في القارة الروسية على الأقل.
فمن خبراء الشؤون الروسية إذن من يقول بأن هذه الخطوة الروسية السليمة ليست إلا(820/9)
تكتيكاً لا يستر حقيقة المقاصد والغايات. ويؤكدون بأن رسوخ النظام السوفيتي في روسيا اليوم ورسوخ العقيدة الماركسية في أدمغة حملتها تجعل التقلب في التصريحات والمسلك الخارجي أمراً سهلاً يستطيع الروس اللجوء إليه دون أن يبدلوا حقيقة سياستهم من خصومهم من برامجهم الواقعية لبلشفة العالم. ولنا في الصهيونية مثل على هذه الحقيقة. فكلنا يعلم كيف أن الأحزاب والجماعات اليهودية في فلسطين والعالم إجمالاً كانت ولا تزال تتوفى هدفاً واحداً هو السيطرة على نقطة التركز في الشرق الأوسط، وأن السياسة الصهيونية كانت ولا تزال تتقلب تبع الظروف الطارئة، فمرة وطن قومي، ومرة حكم ثنائي، ومرة تقسيم محدود بدون شرقي الأردن، وبعد ذلك - حين تواتي الظروف - أرض الميعاد بحدودها الطبيعية وهي تشمل أجزاء من مصر وسوريا والعراق ولبنان. فوابزمان كستالين كان ولا يزال يتلاعب بتصريحات تتلاءم مع الظروف الحالية. والمتتبعون لتطور المسلك الصهيوني يدركون ذلك تمام الإدراك.
فالتقلب في سياسة روسيا الخارجية، يعود إلى ثقة صناع السياسة في الاتحاد السوفيتي من رسوخ النظام الذي يسومونه خصوصاً وأن وسائل المواصلات الفكرية بين الشعب الروسي والعالم الخارجي خاضعة لمراقبة توجيهية دقيقة يتولاها خبراء مهرة مما يجعل للتصريحات الروسية الرسمية طابعين: طابعاً للاستهلاك الخارجي، وآخر للداخلي. وليس من الضروري أن يتناسق الطابعان. وهذا في الواقع مسلك تقليدي في الدبلوماسية الدولية، ولكنه لا يتخذ طابع الاتقان الذي يتخذه في ظل الحكم السوفياتي المطلق.
وعلى أساس هذا الاستقرار في النظام الشيوعي في روسيا كان خبراء الانجلوسكسون يعتقدون بأن برامج (البوليت بيرو) (والكومنفورم) الشيوعية الدولية لبلشفة العالم كهدف أساسي جوهري لتدعيم الشيوعية في روسيا والدول الشيوعية الأخرى - هذا البرنامج لا يزال موضوع العمل عند السوفيات، وعلى هذا الأساس، فلا صحة لادعاء الماركسيين الأخير بأن الشيوعية والرأسمالية والنظم الأخرى تستطيع أن تعيش بسلام في عالم واحد.
والحقيقة التي يشير إليها هؤلاء الخبراء (ومنهم بوهلن مستشار وزارة الخارجية الأمريكية) هي أن جوهر الفلسفة الماركسية يصر على أن لا حياة للدول والشعوب الشيوعية المبدأ والنظام في عالم فيه شعوب ودول لا تدين بهذا المبدأ. وهذا الإصرار الماركسي يستند إلى(820/10)
نظريات في الاقتصاد وعلم الاجتماع تحللها العقيدة الماركسية على طريقتها الدياليكتكية الجدلية، وليس المجال هنا لبحثها.
إذن فإن دعوة للسلم تأتي من جانب السوفيات هي في الواقع اكتساب للوقت، وعرقلة برامج التسلح، وإثارة الوقيعة بين خصوم حلفاء الغرب وهذه جميعها - ككل خطوة من خطوات السوفيات - تستند إلى تحليلات علمية - علمية لأنها مستمدة من السياسة الروسية المنظمة - وهي كالاقتصاد الموجه ومشاريع الخمس سنوات الاقتصادية تلتزم الدقة وتؤمن بالنتائج على أساس هذه الدقة.
وعلى أسس هذه السياسة الموجهة فإن السوفيات يعتقدون بأن، كل مجتمع لا يدين بالشيوعية ولا يسير بموجب الاقتصاد الماركسي الموجه مآله إلى التفكك، فهناك مشاكل التضخم المالي وبلبة التوزان التجاري وصراع العمال وأصحاب العمل مما يخلق مشاكل اقتصادية واجتماعية تؤدي إلى الثورة العمالية وتطرح بالنظم الرأسمالية في المراحل النهائية.
ولما كانت روسيا غير مستعدة الآن للحرب استعداد خصومها فمن الخير إطالة مدة الاستعداد وإيهام الدول الرأسمالية والرأي العام الدولي بالرغبة الصادقة في السلم، وفي ذلك مكسب مزدوج؛ فهو يحقق النبوءة الماركسية في تفكك المجتمع الرأسمالي - كما تشير علانية إلى ذلك الدراسات السوفيتية للاقتصاد الأمريكي المعاصر - وهو يعطي روسيا متسعاً من الوقت للاستعداد.
والماركسية فوق ذلك تعتقد بأن، طبيعة التجمعات الرأسمالية متنافسة تسعى لالتهام بعضها البعض - وهذا التنافس أصيل مبعثه طبيعة النظم الاقتصادية على ظل الرأسمالية (والاشتراكية الغربية كبريطانيا ليست ماركسية حقة عند السوفيات) ولذلك فإذا نجحت روسيا في تخفيف حدة الموقف الدولي استطاعت أن تسبب فتوراً في شدة التحالف الأمريكي البريطاني وتترك النظم الرأسمالية تكتسب طبيعتها المتنافسية فيقوض بعضها البعض بدل الاتحاد. على تفويض الروس بأي ثمن.
ويستنتج من هذا كله - والاستنتاج نظري في أكثره - أن روسيا تعلم بأنها عاجزة الآن عن الكفاح المسلح لتعميم المذهب الشيوعي في كل مكان على أنقاض النظم والمجتمعات(820/11)
التي لا تؤمن بالماركسية - وهذا العجز قصور عن مجاراة المستوى الصناعي والقوة والدعامة المالية المتوفرة في المعسكر الغربي في الآونة الحالية على الأقل - وأنها تنهج سياسة عاجلة مؤقتة لتحقيق الحدة في معسكر الخصم عن طريق التلويح بغضن الزيتون.
وفوق ذلك فقد تكون تجربة المارشال تيتو في يوغسلافيا حيث مازج بين القومية المحلية الضيقة وبين النظام الماركسي، وما يشاع من أن الشيوعيين الصينيين ينوون الاقتداء بتيتو - هذه التجربة جعلت موسكو ترى أن المجتمعات الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي قد لا تقبل الرضوخ مباشرة للكومنفورم والبوليت بيرو وإن كانتا تشبهاتها في الاتحاد الفكري والأهداف. فإن النظام السوفيتي في روسيا قد جعلت من القيصرية الروسية الصارمة مجتمعاً روسياً يستسلم بسهولة للحكم المركزي المطلق. وهذه حالة فريدة قد لا تنطبق على كثير من المجتمعات الأخرى خصوصاً في أواسط أوروبا وشرقيها حيث تكثر الأقليات العنصرية والطائفية وعداؤها للحكم المركزي تقليدي. والواقع أن لينين وستالين قد أوليا مشكلة الأقليات دراسة وافية.
وهذه - كما نرى - حالات تصعب معالجتها على يد موسكو في جو دولي متوتر، ولذلك فإن مراكز التوجيه في معسكر حلفاء الغرب تنظر إلى غصن الزيتون الذي حملته موسكو في الآونة الأخيرة على أنه مناورة بارعة في الصراع الدولي لا يلاقي رد فعل إيجابي لدى حلفاء الغرب.
وهذا يعني أن مشاكل السلم الحقيقية لا تزال على ما هي عليه من الخطورة السريعة الانفجار.
(نيويورك)
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية في نيويورك(820/12)
صور من الحياة:
فتى من الريف
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال صاحبي: جئت إلى القاهرة - أول ما جئت - لألتحق بالأزهر، وكانت أمي قد نذرتني للقرآن، ونذرني أبي للعلم؛ فأنا وحيدهما، وأنا أمنيتهما على الله حين أحسا بالوحدة وقد خلت الدار من الحياة والحركة لأنها خلت من مرح الطفولة وجمالها، وحين شعرا بأن تاريخهما على الأرض يوشك أن ينبت فما لهما ولد، وحين عاشا زماناً يجدان لذع القحط والجفاف، جئت إلى القاهرة وأنا فتى ريفي لا أعرف المدينة إلا معنى يقع على أوتار أذني موقع النغم الموسيقي العذب، فينجذب له قلبي وتنبسط أساريري، ثم رأيتها فإذا هي نور يخطف البصر، وحركّة يتفزَّع لها القلب، وثورة يحار لها الفؤاد، وحياة دائمة مضطربة لا تنام ولا تخبو. وبدت عليَّ سمات الحيرة والارتباك، فإنه ليزعجني أن أسير في الشارع خفية المدنيّ أن يمكر بي وله أفانين شيطانية تسخر من بساطة الريفي وسذاجته، وخيفة السيارة أن تصفعني ومالي عهد بأساليب الحيطة والحذر، وخشية الترام أن يحطمني وبه نهم دائم إلى لحم البشر يتأرَّث ولا يشبع. ليتني كنت أستطيع أن أغدو وأروح في شوارع القاهرة أتهادى في مشيتي، وأختال في جبتي، وأفخر بعمامتي، وتحت إبطي محفظة بها وريقات صفر لا أعي مما فيها حرفاً!
وكان أبي - رحمه الله - قروياً، نشأ وتربى في الريف لا يبرحه إلا لماماً، أتسم بسماته وانطبع بطابعه، والريف ينفث في بنيه روح الكسل والتواكل، فهو يقضي ساعات الشتاء يستمتع بالدفء والفراغ، ويطوي عمر الصيف يستروح النسمات الهينة اللطيفة في ظل شجرة، يجلس إلى رفاقه على المصطبة يتجاذبون أخبار القرية، أو يتربعون على الثرى يلعبون السيجة، أو يعقدون المجالس الصاخبة يشربون الشاي الأسود. ولا همَّ له - من بعد - إلا أن ينظر - بين الفينة والفينة - إلى النبت وهو ينسرب من بين الثرى لينمو رويداً رويداً، وإلا أن يرقب البهائم وهي ترعى البرسيم في هدوء وعلى مهل. وسكن أبي إلى هذه الحياة وهي تنطوي على نسق واحد، فأصبح لا يطيق صخب المدينة ولا يصبر على ضجتها. ولكنه ما يستطيع أن يقذف بي إلى القاهرة وحيداً، وهو لا يطمئن إلى واحد من(820/13)
شباب القرية وطلابها ممن تزخر بهم المدينة لأن فيهم الغفلة والطيش، ومرت الأيام وأبي لا يستقر على رأي.
ثم عهد بي أبي - بعد لأي - إلى الشيخ فهمي وهو شيخ كبير من شيوخ القرية، نيف على الخمسين ولما يبرح طالباً في الأزهر، يأتي إلى الجامع بين الحين والحين، يجلس إلى أستاذه ساعة أو بعض ساعة، ثم ينفلت إلى القرية في غير تمهل ولا تلبث. وهو حريص على أن يظل طالباً في الأزهر على رغم أنه لا يطمئن إلى حلقة الدرس، ولا يُعني بالقراءة والمطالعة، ولا يأخذ نفسه بالمذكراة والحفظ، وهو ضنين بمسكنه في القاهرة، وهو حجرة ضيقة قذرة، لا تتنسم هبّات الهواء النقي، ولا تغتسل بأشعة الشمس الدافئة، ولا ينفتح جفناها على نور، ولا ينتفض عن جنباتها الغبار، عُطَلُ من الأثاث إلا من حصيرة بالية لا تكاد تستر أرض الحجرة، وإلا من مخدة ولحاف مشت عليهما أحداث الزمن فتركتهما مزقاً لا تتماسك، وإلا من صندوق ضم أشتاتاً من حاجات الطالب العزب، مبعثرة متناثرة في غير عناية ولا ترتيب: ففيه الخبز والغموس، وفيه اللباس والمنشفة، وفيه الكوز والإبريق، وفيه. . . وفيه الكتاب والحذاء، وإلا من زير مهجور في ضاحية وإلى جانبه موقد. . . وعاش هذا الشيخ بين القرية والقاهرة، وانطوت السنون فما أفاد علماً ولا أصاب عقلاً ولا بلغ غاية، غير أنه عرف مسارب القاهرة ومنعطفاتها.
وتنازعتني عاطفتان متناقضتان نحو هذا الشيخ - رائدي - فأنا أطمئن إليه لأنه يكشف أمامي الطريق، وينير لي متاهات القاهرة ومضلاتها، وغداً يفتح أمامي باب الأزهر فأدخله لأول مرة وعلى شفتي ابتسامة وعلى هامتي كبرياء، أدخله طفلا يستشعر الرجولة الباكرة والشباب المتوثب والرزانة المتكلفة، وغداً يريني شيخي وهو في رأي عيني لا يبذني بشيء سوى لحيته البيضاء المرسلة التي تبعث في من حواليه المهابة والاحترام والخوف، وأنا - إلى ذلك - أمقته لأنني أحس فيه معنى من معاني جهلي، وعلامة من علامات ضعفي، فأنا لا أستطيع أن أتبين طريقي إلا حين يسير إلى جانبي. وأنا أحتقر عقله، فكيف يبلغ هذه السن وهو ما يزال طالباً لم يظفر بالشهادة ولا بلغ مبلغ العلماء! واكره رجولته وهي قد تضاءلت في ناظري حين دخلت الحجرة التي يسكن فوجدتها على تفاهتها وقذارتها تضطرب في غير نظام، وتموج بدو يبات الأرض. وأبغضه حين يتكلف العطف ويتصنع(820/14)
الحنان، وهو لا يحس شيئاً من هذه العاطفة، فهو رجل قفر ممحل، عزب لم يشهد معنى الأبوة، ولا ذاق لذة الابن!
وأراد رائدي أن يغريني بأن أتخذ من حجرته مسكناً فما رضيت، وكيف أفعل وأنا قد رأيت (السام الأبرص) يدرج على جدرانها فسرت الرعدة في مفاصلي، وإني لأخاف هذه الحشرة وأبغضها وأتفزَّع لرؤيتها. هذه الحجرة قد بعثت في الانقباض والضيق، واستشعرت لدى بابها أن خواطري الجميلة قد انهارت كلها، خواطري التي حاكها خيالي منذ أن غادرت القرية، ومنذ أن هبطت القاهرة لأرى الحياة والحركة والنور. أين النور المتدفق وهو يغمر الشوارع والمنعطفات ويسيل من المنافذ والأبواب؟ أين ضجة الحياة وهي تصاعد صيحات تهتز لها أرجاء السماء؟ أين النشاط والحركة؟ أين المرح والسعادة؟ لقد توارى كل أولئك خلف جدران هذه الحجرة. يا عجباً! كيف يعيش الظلام إلى جانب النور، ويطمئن الهدوء إلى جانب الضجة، ويحيا الصمت إلى جانب الضجيج، وتستقر الذلة إلى جانب الكبرياء؟ ويهدأ الصغار إلى جانب السمو، ويلصق الشقاء إلى جانب السعادة؟ وسيطرت علي الدهشة فسلبتني من خواطري اللذيذة، وتبين لي - لأول مرة - كيف يجتمع النقيضان في صعيد واحد!
وأصر رائدي وأصررت أنا، فما استطاع أن يثنيني عن عزمي، ولا رضي بأن أبيت في المنزل، وإن المنزل ليستنفذ من مالنا في ليلة واحدة ما يكفينا أياماً، وهو حريص على المال شحيح به، حتى علي أنا وهو مال أبي. ثم استحر النقاش بيني وبينه، فقلت: (أبيت في حجرة الشيخ علي)، ووافق هذا الرأي هوى في نفس رائدي، ولكن غاظه أن أفضل تلك على هذه!
والشيخ علي فتى من طلاب الأزهر قميء نحيف ضعيف يكاد يتهاوى من هزال، ويوشك أن ينقض من وهن، يخيل إلى من يراه - بادي الرأي - أنه بقية من إنسان أو أنه نفاية رجل. وإنه ليحس مكانه من الناس وقد تخلف عنهم، فهو ما يبرح يتهادى في مشيته، ويتأنق في حديثه، ويشمخ بأنفه، ويتطاول على رفاقه، ولكنه لا يبلغ أن يكون رجلا!
وهو يعيش بين خمسة من ذوي قرابته في حجرة واحدة، وهو رئيسهم، لأنه يكبرهم جميعاً في السن، ولأنه أعرفهم بالقاهرة، ولأنه ألصقهم بالأستاذة، يتقسمون أجر المسكن على(820/15)
سواء، يتعاونون على نفقات العيش، ويتآزرون على حوادث الحياة، يتكاتفون على قسوة الغربة، ويتظاهرون على مشقة الدرس
ودخلت حجرة الشيخ علي مثلما دخلت حجرة الشيخ فهمي من قبل، فهما على نمط واحد، لا تبذ واحدة واحدة. ولكن نفسي اطمأنت إلى هذه حين لمست فيها الإيناس بقدر ما نفرت عن تلك حين وجدت فيها الوحشة. أنست إلى هذه لأنني ألفيت هنا الصاحب والرفيق، ولأنني وجدت ومهرباً من الشيخ فهمي، فما لي به حاجة من بعد، وهو رجل ضيق العقل، راكد الذهن، شحيح النفس، جامد الكف؛ وهؤلاء رفاقي: نغدو معاً إلى الأزهر، ونروح سوياً إلى الدار. وهدأت هواجسي، فأنا الآن أستطيع أن أعبث مع صحابي كيف أشاء، وأستطيع أن أمكر بالشيخ علي حين تسوّل لي شيطانيتي أن أفعل، وهو الآن وليّ أمري وقائدي!
وصرفتني روح المرح واللعب والعبث - بادئ ذي بدئ - عن أن ألمس ما أعاني من شظف وشدة، وعن أن أحس ما أقاسي من حرمان وضيق. والشيخ علي ممسك لئيم مخادع، يراوغ الواحد منا عن قروشه، ويداوره عن مصروفه، وهو فظ لا يستشعر قلبه الحنان ولا الرحمة، ولا يبض كفه بدرهم أتنسم به روح الحياة الناعمة في القاهرة، فمشت زماناً لا أتذوق إلا الخبز والجبن والمالح، ثم جف حلقي وما لي طاقة بذلك!
وضاقت نفسي بما أجد فانطلقت إلى الشيخ في ثورة جامحة أسأله حقي، فرتب لي مليماً كل يوم لأشتري به متعة الحياة ولذة العيش!.
وادخرت - بعد أيام - مليمات، وإن نفسي لتهفو نحو الفاكهة وقد حرمتها منذ زمان وأنا أرى دكان الفاكهي في غدوي ورواحي فيجذبني إليه في شدة وعنف ولكني لا أجد الجرأة على أن أقف ببابه أساومه. ثم دفعني شيطاني إليه - بعد حين - فاشتريت ربع أقة عنب دفعت ثمنها ستة مليمات. ولكن حرارة القيظ تركت العنب يتلهب كأنما أوقد عليه بنار جهنم، ثم دفعني شيطاني مرة أخرى فاشتريت ثلجاً بمليم واحد. وهكذا أنفقت في واحدة كل ما أملك: سبعة مليمات ادخرتها في أيام وأيام.
وتسللت إلى حجرتنا في حذر وأنا أوقن بأنها خاوية، وأن أصحابي جميعاً في الأزهر ولن يحضروا إلا بعد ساعة؛ ودلفت إليها على مهل، ثم وضعت أمامي العنب وسويت عليه الثلج، وطفقت أنظر إليه في شوق وأتأمله في شغف، وأتناول الحبة إثر الحبة، أتذوقها في(820/16)
لذة وسعادة وطمأنينة.
وعلى حين فجأة انفتح الباب ودخل الشيخ عليَّ، واعتراني الارتباك والخجل، ونظر هو إلى الطبق أمامي وقد ملأَته الدهشة وسيطر على العجب واندفع يلومني: (عنب وثلج! عنب وثلج! هذه هي متعة الحياة ولذتها!) ثم انصرف وعلى وجهه سمات الغيظ والحرمان في وقت معاً.
وعجبت أنا لحديث الشيخ، ثم انطويت على نفسي أحدثها: (ما أتفه الحياة وولذ ائذها إن كانت تشتري بسبعة مليمات!)
ثم انطوت الأيام لتعلمني أن متع الحياة ولذ ائذها غالية غالية تكلف المرء الدم والعمر والمال جميعاً. . .
كامل محمود حبيب(820/17)
في ذكرى أديب العربية:
يرحمك الله أبا عبيده!
للأستاذ محمد سليم الرشدان
يا لله ما أعجب! هذا هو الدهر تنقضي أيامه وتنطوي لياليه، فيجتاز بذلك حولاً من العمر، يطل من ورائه أبو عبيده، أديب العربية الأكبر، العلامة الجليل محمد إسعاف النشاشيبي. فإذا هو ذكرى في ثنايا التاريخ، وإذا هو حنين تنبض به القلوب، ثم إذا هو طيف تجتليه الخواطر، وتفتقده النواظر.
ويح هذه الآمال المديدة، لطالما زينت له مخوف السيل، وهونت عليه وعر المسالك. فعبر كؤودها، واعرورى متونها، ومضى قدُماً لا تقعده المخاطر، ولا تكبح جماحه لأرزاء. فكلما أدرك غاية، برزت له من ورائها غايات.
بل ويح هذا الطموح مازال به يستحث خطوه الجامح، فهو لا يستقر إلى آمال، وهو ما يفتأ يشد الرحال ولكنه أخيراً مضى بعد أن خاض شتى المجاهل في دنيا (العربية)، وتجاوز في ارتيادها بعيد الآفاق. فلم تفته منها صغيرة، ولم تقف بين يديه كبيرة. فقد ألم بهذه وسبر أغوار تلك، وأحاط من ذلك كله بما لم يحط به إلا قليل، فكان شأنه في هذا السبيل، شأن المجاهد المستبسل، لا تقعده جراحات الغدر، ولا ترده أحابيل العدو المخاتل. فخاض غمرة الكفاح، ولا أيد ولا وَزَر، إلا ما اشتمل عليه من مضاء العزيمة، فأدرك النصر الباهر في كل ميدان، ومضى في قافلة العمر تزامله العزة والأنفة والإباء، لا يضير هذه القافلة أن تعترض سبيلها (الثعالب) حيناً، ثم لا تلبث أن تحول أو تزول.
أرأيت - يا أخي القارئ - بركاناً يتضرم أواراً، ويستعر لهيباً، ويغلي في جوفه شواظ وحمم، فهو إذا ما فار وما زفر زفرة أسكت بها من حوله كل باغم؟ كذلك عهدت النشاشيبي المتقد حيال أعداء العربية، وأجراء ذوي الأغراض. ومالك لا تستيقن ذلك حين تسمعه يردد ساخطاً:
(وأن نجم ذئب فصاح. (إن لكل عصر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً على القول، فكيف تنادينا إلى لغة يقول العصر - إن استمعها - ليست هذه بلغتي! فنحن نشنأ ما تنادينا إليه، ولا نحب أن نقتل أنفسنا منكبين على القول القديم العتيق، الذي شرب الدهر عليه وأكل،(820/18)
ولا نهوى إلا لغتنا العصرية السهلة الواضحة، التي يفهمها كل إنسان حتى راعي البقر. . .) أن نجم لنا مثل ذلك الذئب وعوى عواءه، ألقمناه حجراً وحجرين، وعصوناه ثم قلنا له: أجل أيها المدجل المحاوت إن لكل دهر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً. . . غير أن (لغتك العصرية) هذه لغة معتلة، فنحن ندعوك إلى مداواتها وتقويتها بتلاوة القول القديم، لكيلا تُسَلْ أو يدود لحمها ثم تموت. . .).
بمثل هذا القول كان يصمت أولئك الذين طالما دعوا - من حوله - إلى نبذ لغة (القرآن)، والاستعاضة عنها برطانة غوغاء السوقة، وترك ما أفنى أئمة العربية شباة أقلامهم وشباب أعمارهم، بجمعه واستنباطه من قواعدها وأصولها، واستبداله بما خيلته طبيعتهم الأعجمية، من كلام مهمل سقيم. . . يا للكفر الصراح، ويا للعقوق الآثم! لم لا يعد هذه (الثلة كالثلة)؟ ولم لا يعد من كان في مثل هؤلاء (ذنيماً أفاكاً)! بل هل عسيتك - لو كنت حيث كان - إلا معترضاً بمثل قوله:
(كلا! إن هذا الزنيم قد جهل وجار عن الحق، واحتقد على لغة العرب فكدح في محقها (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، يأبى الله أولا يتم نوره. . .).
لكأني بك تقول ذلك (أو من مثله) ما دمت تغضب لهذا الإرث الجليل الخالد، الذي لو كان حصاد عام، بل لو كان حصاد جيل لتأسى فاقده. ولكنه - يا فتى - حصاد المئين من السنين! فأنى لك العزاء (آنذاك)؟ والخطب - لو حصل - جليل، والمصاب - لا كان - مفزع مهول! فما لأبي عبيده لا يفزع؟ بل ماله لا يستنفر الإنس والجن والسموات والأرض والجبال. فيخرج من (صومعته) هائجاً، وهو يردد متسائلاً:
(وكيف يسول الخبث والعجز والجهل ولؤم الضريبة، كيف يسول كل ذلك للفتى أن يأتي بالكفر براحاً وبالشر صراحاً، ولا يحسب لكفره بالحقيقة حساباً، ولا يخشى لشرارته عذاباً، ولا يخاف عقباها؟ وكيف يهون له احتقاب كل موبقة. أن يؤتى إلى اللغة العربية. . . فيجز شعرها، ويخدش ذلك الخد الأسيل. . . ويخمش ذلك الوجه الجميل ويفحم! وتصبح (ابنة عوف) مضرب المثل في القبح، وهي المثل المضروب في الحسن والجمال!!. . .).
أرأيت كيف كان أبو عبيده (طيب الله ثراه) يغضب للعربية وأهلها، فلا تأخذه في سبيلها لومة لائم، ولا يبالي أن يخاصم القريب والبعيد مادام قد أنحرف عن الجادة، وجانب(820/19)
السراط السوي. وإذا كان المرء يناضل في ميدان واحد لا يعدوه، فقد كان هو يناضل (في آن واحد) في ميادين شتى. ومن ذلك أن يتصدى (موجهاً أو مجيباً أو معترضاً أو متحدياً) في أقطار مختلفة، وفي صحف متعددة، وقد تنكر خلال ذلك في أزياء، وادرع لكل ميدان بلبوس. فهو (أزهري المنصورة) حيناً، وهو (السهمي) حيناً آخر. ثم هو إن بالغ في التواضع (التواضع خلة لا تعدوه) أرسل ما يكتبه غفلاً من أية سمة، فيشاركه صاحب المجلة تكتمه معرفاً كلامه الذي ينم عليه بقوله: (لأستاذ جليل) أو بما هو من على شاكلة هذا التعريف. ثم هو جريء لا يهاب. إذا تعرض لأمر تخشى عواقبه نحى حجاز التواضع جانباً، وتبدى للخصوم باسمه وكنيته، شأن البطل المقدام لا يبالي أن يعرفه الخصم استهانة بخطره، وغلواً في الحفاظ والنجدة. فليرحمك الله أبا عبيده، لقد كنت أمة في رجل، وكنت رجلاً (نسيج وحده).
ليتك تعلم - يا قارئي الكريم - مبلغ اعتزاز ذلك الأديب الفذ بكتاب الله لطالما أجابني على كثير مما كنت أسأله عنه بآيات بينات منه. وهو يردف مفتخراً: (أرأيت أي كنز يحوي بين دفتيه هذا الكتاب؟ أو رأيت شبيهاً له فيما عبر بك من لغات (آشور وسريان وعبران)؟ هيهات! ولئن تحريت فما أنت بواجد! (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
كان رحمه الله كثيراً ما ينظر إلى هذا الكتاب العظيم نظرة المشفق المحب ولسان حاله يستعيد قوله فيه: (يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك قدرك، ويعطيك من خدمتك حقك. لقد هلك من كنت تتلو علهم آياتك فيدهشون، ويخرون سجداً وبكياً. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البليغة، إلا عربي قح صليب، لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة، ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة واهنة!! فسقياً لمثل هذا سقياً، وتعساً ونكساً وترباً وجندلاً لمن يبغي أن نضل، فنستحب اللغة المرذولة، على لغتك البارعة العذبة المضرية. . .).
ولن أنسى يوماً قدمت فيه إليه، فأقبل علي يحدثني بقلبه ولسانه عن دنيا العربية والإسلام. وينطلق شأن المؤمن المتفائل، يؤكد لي اندحار هذه العجمة في يوم (قرب ابانه)، وانطلاق لغة الضاد من عقالها لتنهض بأعباء الإنسانية، تؤدي رسالة الحضارة. وما فتئ يكرر بين حين وحين: (ولم لا يكون ذلك واللغة هي اللغة، والآباء هم الآباء، والابن مهما كان جاحداً(820/20)
عقوقاً فلا بد أن تجذبه أصالة المحتد وكرم النجار. . .) ويحين موعد انصرافي فأستشيره في فقرات من قوله أعرضها نمطاً من أسلوبه وأنا أتحدث عنه في طليعة الأدباء أثناء بحثي عن (الأدب في فلسطين) في المجلة المحببة إلى قلبه (الرسالة الزاهرة)، فلا يكون منه إلا أن يتناول كتاباً يضع سبابته على سطر فيه وهو يقول: (أكتب من هنا، ولن تنطقني بقول تنتزعه من سويداء نفسي، وتستخلصه من قرارة يقيني إلا أن يكون هذا!!). ثم أجدني أقرأ (هناك) كلاماً لا يختلف عما كنت أسمعه منذ هنيهة إلا بالفاظه، وجعلت أعجب حين رأيتني حيال كلام قاله عام (1972) جاء فيه:
(اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة. وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. . . واللغة ميراث أورثه الآباء والأبناء، وأحزم الوارث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع. وإنا أمم اللسان الضادي لعرب، وإن لغتنا هي العربية، وهي الإرث الذي ورثناه. وإنا لحقيقون - والآباء هم الآباء، واللغة هي اللغة - بأن نقي عربية الجنس، وعربية اللغة.
ولو كان المورثون صغاراً، ولو كان الميراث حقيراً لوجب علينا إكبارهم وأعظامه، فكيف والتاريخ يقول: إن الآباء كانوا كراماً، وإن الآباء عظاماً. . . والزمان يقول: إن العربية خير ما صنعت يداي. (وأن الدهر لصنع)، وأنها لخير طرفة أطرفها الناس، والزمان بالخير وإن جاد شحيح، فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية الدرة اليتيمة، أو كنز الزمان، ضن به ثم سخا. . .).
يا أخي القارئ: هذه عبرة ناطقة، أذرفها بين يديك في ذكرى هذا النابغة العبقري فإن أنت عرفته من آثاره ولم تره، فليس الخبر كالخبر! وإن كان خبره جديداً عليك (وما أخاله يكون)، فاعلم أننا في فقده حيال مجاهد كان سيفه القلم، وميدانه القراطيس، وجلاده عنيف قاصم، لا هوادة فيه مع أخصامه، (وأخصامه أخصام العربية):
ولطالما حاز النصر باهراً، والظفر مؤزراً. فرفع من شأن هذه اللغة الكريمة، ما أعلى منارها وسهل من عسيرها حتى حببها إلى غلف القلوب. وفي سبيلها لم يجاوز ميداناً إلا صال فيه ولا خصماً إلا ثبت في وجهه ثبات (أحد) و (أبي قبيس)
وأخيراً، أثخنته جراحات الدهر، فسكن الفؤاد النابض بحب العربية وأهلها، وصمت اللسان(820/21)
الذليق، وما كان ليصمت لولا أن أصمته الدهر. . .
ففي رحمة الله أبا عبيده.
محمد سليم الرشداق
ماجستير في الآداب واللغات السامية(820/22)
شعراء معاصرون:
العاطفة الدينية في شعر محرم
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد 818)
- 3 -
أما شعر محرم الاجتماعي فقد كان مضمخاً بعبير عاطر من التوجيه الديني والإرشاد الخلقي، فقد نظر الشاعر نظرات صائبة إلى الأوبئة الحلقية التي تفتك بالأمم الشرقية فتحصد المروءة، وتطيح بالشرف، حيث انسابت الأفاعي البشرية في ظلام الاحتلال تنفث سمومها في الأجسام الصحيحة، فإذا الإنسان الطاهر العف يتحول مارداً فاجراً يعب الخمر في نهم، وبريق الدم المصون في تهتك، ويلطخ وجه بآثام فاحشة يندى لها الجبين، وقد قام محرم بدور الطبيب الحكيم، ففحص الداء فحصاً دقيقاً ثم أخذ يشخص الدواء الناجع، وكان القرآن الكريم قبلته ووجهته، فنادى بالرجوع إلى آدابه، وشهر بمن يجترحون السيئات ويقترفون الفواحش، وقد اتخذ من الجرائم الخلقية التي يرتكبها الإباحيون، وتنشرها الجرائد اليومية مادة دسمة لإنتاجه. وفي الجزء الأول من ديوانه أقاصيص شعرية تجلي هذه الفضائح، وقد أحاطها الشاعر بسياج من النصح الأدبي، والتوجيه الخلقي. وأنك لتلمس لهفة محرم وأسفه حين يتحدث عن شرذمة غاوية ائتلفت على البغي فهوت إلى حمأة الرذيلة تلغ في أرجاسها الشائنة غافلة عن عتاب الله نابذة وراءها عهود محمد وزواجر التنزيل فهو يقول:
أسيت لمسرفين أعان كلاّ ... على إدمان لذته أبوه
إذا ما عاقر الفحشاء منهم ... أخو النشوات غناه أخوه
لهم فتكات أطلس ما يواري ... دم الهلاك مخلبه وفوه
عليهم من خزاياهم سمات ... وما أنفوا الفجار فيجحدوه
إذا ما عن في الظلماء صيْد ... تداعوا حوله فتصيدوه
تردي بينهم فتعاور وه ... إلى أن قال قائلهم دعوه(820/23)
قفا السمار واد لجوا إليه ... وأكبر همهم أن يبلغوه
أيأمرهم بتقوى الله قوم ... وما عرفوا الآله فيتقوه
شباب العار ما تركوا رجاء ... لنا في مصر إلا خيبوه
أناس ريعتِ الغبراء منهم ... وضج العرش مما أحدثوه
أنى التنزيل بالمثلات تترى ... وبالحق المبين فكذبوه
فوا أسفي لعهد الله فيهم ... وعهد محمد إذ ضيعوه!!
وفي ديوان الشاعر من هذا الطراز جذ وات مشبوبة تتقد باللوعة فليتْها وجدت من يسمع أو يجب!!
ومع أن محرما قد نادى في صيحاته الاجتماعية بضرورة التعليم كدعامة راسخة يرتكز عليها بناء النهضة، فقد وجد من الناس من ظن به رغبة عن تعليم الفتاة والنهوض بها إلى ذروة الرقي، رغم ما امتلأ به ديوانه - في الجزء الثاني خاصة - من حث على ثقافة المرأة وإيضاح لمركزها الدقيق الذي تحتله في المجتمع. ولعل هذا الظن الخاطئ قد أتى من مهاجمة الشاعر لدعوة التحرير التي رفع لواءها قاسم أمين، ونحن إذا نظرنا لهذه الدعوة نجد صاحبها يحث على تعليم المرأة وتهذيبها عن طريق السفور والتملل من الحجاب! والشاعر وإن كان من المنادين بضرورة تثقيف الفتاة لا يوافق على السفور مهما تكاثرت المبررات فاندفع إلى مهاجمة قاسم متأثراً بعاطفته الدينية التي تحرم التبرج تحريماً قاطعاً، وما كان له أن يحيد عن ذلك وهو يضع كتاب الله نصب عينه. ولعله كان ينظر من وراء الغيب إلى ما سيجره السفور من فتن فشدد عليه النكير. فمحرم إذن يكتفي بضرورة تعليم الفتاة دون ما عداه، فليس لها أن ترتع في الأسواق، وتزاحم الرجال فيما لم تهيأ له من الأعمال، واستمع حجته في ذلك إذ يقول:
هممنا بربات الحجال نريدها ... أقاطيع ترعي العيش وهي سوائم
وإن امرأ يلقي بليل نعاجه ... إلى حيث تستن الذئاب لظالم
وكل حياة تثلم العرض سبة ... ولا كحياة جللتها المآثم
أتأتي الثنايا الغر والطرر العلا ... بما عجزت عنه اللحى والعمائم
فلا ارتفعت سفن الجواء بصاعد ... إذا حلقت فوق النسور الحمائم(820/24)
سلام على الأخلاق في الشرق كله ... إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم
أقاسم لا تقذف بنفسك تبتغي ... لقومك والإسلام ما الله عالم
ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها ... لما قام للأخلاق في مصر قائم
نبذت إلينا بالكتاب كأنما ... صحائفه مما حملن ملاحمُ
أحاطت بنا الأسد المغيرة جهرة ... ودبت إلينا في الظلام الأراقم
ألا إن بالإسلام داء مخامرا ... وإن كتاب الله للداء حاسم
ولنقرن هذه الصيحة الناقمة على دعاة السفور بإحدى صيحات محرم في ضرورة تعليم الفتاة، لنعلم أن الشاعر لم يحارب تعليم المرأة في يوم من الأيام، وإنما احتاط لدينه ومروءته، وتمسك بكتاب ربه وهدى نبيه. وحسب الإسلام منه أن يذود عن مبادئه في قوة، ويتمسك بحدوده في إيمان، قال محرم:
ما أبعد الخير والمعروف عن أمم ... تعيش فوضى وترضى بالحياة سدى
وجاهل ظن أن العلم مفسدة ... للبنت فانتقص التعليم وانتقدا
مهلا قرب فتاة أهلكت أسرا ... بجهلها وعجوز أفسدت بلدا
الأم للشعب إما رحمة وهدى ... أو نكبة ما لها من دافع أبدا
لا يذهب الشعب في أخلاقه صببا ... والأم تذهب في أخلاقه صعدا
لا تيأسوا وأعدوا الأم صالحة ... في السبيل إلى إصلاح ما فسدا
على أن الشاعر لم يهاجم قاسماً وحده، بل كان يهاجم من المسلمين من يرى منه نزوعاً عن الشريعة، وكان يتأدب في هجومه بتوجيه الإسلام، ويسترشد بتعاليمه، فلا يميل إلى الإسفاف والمهاترة، أو يعمد إلى التشهير والتنديد، بل إن قصائده في أعداء الإسلام (كهانوتو وكروم) كانت تخضع إلى المنطق المعتدل وتتحاشى ما ينفر منه الأدب والذوق. ولله محرم، فطالما جادل بالتي هي أحسن، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، مع أن الشعراء يبيحون لأنفسهم من الإقذاع في الهجو ما ينأي عنه ذو الخلق الكامل والنبل الأصل!!
بقى أن نتحدث عن الناحية التاريخية في شعر محرم، وهي ناحية هامة شغلت جانباً كبيراً من اهتمامه، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من إشارة إلى موقف تاريخي طواه الزمن،(820/25)
فخلده الشاعر ولا جرم فقد كانت ثقافته تاريخية إسلامية، حيث استوعب ما قدر عليه من الصحائف المجيدة التي تجلو عظمة الفتح الإسلامي ويتحدث عن أبطاله المعلمين، فكان له من هذا الاستعياب مادة دسمة أكسبت انتاجه قوة ذاخرة، وأمدت سعره بأسباب متينة من الروعة والتفوق!! وإذا كان الشاعر قوي الإيمان بعظمة القادة المبرزين من أعلام الإسلام، فقد فتحت له عاطفته الدينية أبواب القول فصال وجال في ميدان التاريخ حتى لينفرد وحده بين شعراء العربية بتصوير البطولة الإسلامية تصويراً لا يتعلق بغباره متعلق، مهما حاول التقليد.
لقد نظر محرم إلى أعظم أبطال الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم فبهرته عظمته الفائقة، وأخذته روعته الخارقة، فنظم إلياذة كبيرة تقع في عدة آلاف من الأبيات المختارة المنتقاة، يسجل بها تاريخ الرسول الأعظم من ميلاده إلى أن جاءه اليقين. وقد قرأتُ ما وقع لي من شعر الإلياذة فكدت أستظهره في نهم، وتأكدت أن بلاغة محمد قد نضحت عليه من بيانها الرائع، فتطامن له المعنى الجموح، ووقف يده على النادر اليتيم من الأساليب، وقد راعى أحمد منازع حديثه، فهو في بدر وأحد يجلجل ويهدر حتى ليسمعك الصليل والصهيل، وقد يعمد إلى القافية الشموس في موقفه الحماسي. فيخضعها لبيانه المشرق. وللقارئ أن يطالع قصيدته الفائية في فتح مكة فهي وحدها الحجة والدليل.
وكنت أقع في دهشة عجيبة حين أجد الشاعر يتكلم في الموضوع الواحد مرات متعددة، وهو في كل فريدة من فرائدة يطالعك بمعان لم يجش بها خاطره قبل ذلك، وقد فرض على نفسه أن يحي رسول الله في كل عام بقصيدتين في مناسبتي الهجرة الشريفة والمولد السعيد. أضف إلى ذلك ما يعرض من المواسم الأخرى كذكرى غزوة بدر، وذكرى الفتح! ثم هو بعد هذا كله يشعر بأنه لم يقل شيئاً بجانب ما يليق بعظمة محمد فيقول في مخاطبته:
ما في النوابغ من لبيب حاذق ... إلا وأنت ألب منه وأحذق
والقول مستلب المحاسن عاطل ... حتى يقول العبقري المفلق
أنت المجال الرحب تعتصر القوى ... فيه وتمتحن الجياد السبق
حسان منبهر وكعب عاجز ... والنابغ الجمدي عان موثق
أطمعهّم فتجاوزوا فيك المدى ... وأبيت فانصرفوا وكل مخفق(820/26)
لي عذرهم ما أنت من عدة المنى ... إلا وراء مخيلة ما تصدق
والحق أنه - رحمه الله - كان يجد في الذكريات الدينية ظلاً وارفاً يتفيأه في هجير الحياة، فهي تتيح له الموازنة بين الحاضر والماضي مما تكلمنا عنه قبل ذلك، كما تمكنه من إسداء النصائح الصادقة لأبناء الدعوة المحمدية في مختلف البقاع وتلك رسالة الشاعر العامل، إذ يحمل بيده المشعل المضئ فينير السبيل.
وكنت أود أن أتكلم عن الإلياذة كوحدة مستقلة فأعرض لها ببعض التحليل والتسريح، ولكن القدر قد كتب لها أن تظل في مهملات وزارة المعارف مجفوة منسية في عصر مجحف ظالم رسبت الدرر الغالية في قاعة، وطفت الجيف المنتنة فوق سطحه، فطبعت دواوين المتشاعرين من الهتافين والمصفقين، وأهملت ملاحم النوابغ الملهمين. ولولا ما قرأته في المجالات الأدبية والعلمية كالرسالة والثقافة والأزهر من قصائد متناثرة تنتمي إلى إلياذة محرم لظنّها خرافة مختلق مريب!!.
وإذا تعدينا تاريخ محمد إلى غيره من المرسلين فإننا نجد محرماً قد اندفع أيضاً وراء عاطفته الدينية فنظم في قصص الأنبياء معلقة طويلة ألقاها في موسم الشعر وقد ابتدأها بقصة آدم وحواء، وخروجها من الجنة، ثم دلف إلى الأنبياء الذين ذكرهم القرآن فروى قصصهم الماضية مبيناً جهود كل نبي في دعوته، وما قابله به قومه من العناد والاستخفاف، ثم ما كان في النهاية من ظهور الحق وخذلان الباطل، وإن كان هناك فرق شاسع بين حديث الشاعر عن الأنبياء في ملحمته الجيدة، وحديثه عن محمد في إلياذته العامرة، حيث كان في الأولى مؤرخاً يسجل الحوادث كما حكاها القرآن، وتناقلها الرواة والمفسرون دون أن تقوم شاعريته بتوليد بارع أو ابتكار رائع؛ ولكنه في الإلياذة قد جمع بين التاريخ والفن، فهو يبدع في الفكرة والعرض معاً كما يرسم صورة للزمان والمكان. وقد يهتم بالجزئيات الصغيرة فيصوغها في لباقة تحمد للنائر المترسل فما ظنك بالمقيد بقافية ووزن!! ذلك توفيق كبير.
رحم الله محرماً فقد أسدى إلى العروبة والإسلام يداً بيضاء لم يسلفها شاعر عربي قبله، ومع ذلك فقد عاش حياته الطويلة في دمنهور كادحاً متعباً لا يجد الناشر الذي يظهر له ديوانه الرائع في ثوب لائق بمركزه المرموق، ثم وافاه الأجل المحتوم فسكت الأدباء عنه(820/27)
في قسوة، غافلين عن أدبه الحي وفنه الرفيع، وكأني له في حنادس القبر يردد متأوهاً نائحاً بيته الحزين.
ظمئت وفي فمي الأدب المصفى ... وضعت وفي يدي الكنز الثمين
(جزيرة الروضة)
محمد رجب البيومي(820/28)
إلى الخير. . .
للأستاذ ثروت أباظة
. . . نعم يا سيدي، لقد رأيتني أهيم في الحوالك من الظلمات، شارداً أضرب في الحياة وتضرب بي ولا تصير. . . أقطع الطريق أو أقف دونه لا يشجعني على السير صديق أو يحثني دون الوقوف رفيق وأنا مع الحياة لا أبالي أيان يلقي بي موجها، فكل أفق لي قِبلة، فليس لي في أي أفق من الآفاق أمل مرتقب، وحولي الناس كلهم لاهٍ عن غير إلى نفسه، فلهوت عنهم؛ ولم يكن لي نفس لأثوب إليها أو أطمح بها، فكنت أشرئب إلى السماء مرات خمساً بين الصباحين فاسأله في عليائه أن يفسح بيني وبين أحد عباده على الأرض طريقاً. . . فإذا طال بي السؤال دون الإجابة ابتهلت إليه أن يضمني إلى سمائه أرى الرحمة الكبرى من ورائها تلف التقي في سيبها والمعاصيا.
ولم يكن بي عصيان لأوامره، غير أنني أحسست على الناس النقمة، وكرهت أن أرى السميد منهم، فأنصرفت إلى دار الكتب حيث يباح التثقيف بغير أجر، فظلت أقرأ وأقرأ، وكنت كلما ازددت قراءة قلت في نفسي: لو لم تكن هذه الكتب من عمل الإنسان لكانت أعظم مما هي عليه. . . وكنت أعجب كيف يستطيع الإنسان الكنود أن يخرج مثل هذا الصفاء. . . كتاب لا يَملك، فإذا مللته أنت لم يغضب، بل يقيم أيان تضعه منتظراً منك العودة؛ فإذا عدت لاقاك مفتوح الصدر، صريح العبارة، لا يخفى عنك شيئاً؛ وإذا قصر يوماً عن ابلاغك مرادك اعتذر إليك وقدم زميلاً له يشرح ما غمض فيه. . . هكذا يا سيدي عرفت صديقاً على الأرض، وهكذا كنت أفكر في شأنه، فما خانني ولا خنته، بل زادني تجربة وعلماً. . . وهكذا يا سيدي خلت أن الله قد أجاب به الدعاء وحقق لي الأمل فرحت أكتب إلى الجرائد أستعين بما ترسله من مال زهيد على مأكل يأبى الوصول إلىّ، أو مسكن ينفر - على رئاسته - أن يضمني بين حشراته، أما الناس يا سيدي فقد يئست من وجودهم منذ أزمان بعيدة.
ولم يكن اليأس مريحاً - كما يقولون - فقد ضنيت به برغم صداقة صاحبي، الكتاب. . . كذلك ياسيدي كنت حين شاء لك ذوقك الأدبي الرفيع أن تختارني لأعمل لديك على سبيل الدوام فقصدت إليك يائساً من الصداقة والشهرة، أملاً في الكسب، ولاقيتني يا سيدي(820/29)
فأحببت في خلقاً وسلوكاً، وأحببت فيك كل ما فيك، ولم أجرؤ أن أبين عن هذا الحب خشية أن يتمادى بي ثم تنقطع بيننا الأسباب. . . خشيت على نفسي يا سيدي، ولكن خلقا فيك كريماً أبى أن يشجمني فأجبتك وأحببت الناس فيك ولك. . ووجدت نفسي قد خلقت خلقاً آخر فلا حقد ولا بأس ولا قنوط؛ وما زلت بي يا سيدي تمد لي من عطفك فأمد لك من حبي حتى وجدتني أقول لك من غير داع (إنه لو جاء يوم أغبر قطعني هنك فإنني والله لن تقوم لي قائمة بعده). . . ولست أنساك يومئذ يا سيدي وأنت تضحك لي في حب كبير. . . (إنها أوهام. . . طالما يتخيل الإنسان أموراً ثم يجسمها فلا تلبث أن يذيبها مرور الأيام) وقلت لك يا سيدي: (إنه لن يكون هناك أيام لتذيبها فسوف أذوب أنا قبل أن تمر هاته الأيام) هكذا يا سيدي بلغ بي الحب فعشت أرصد حياتي لك ولخدمتك حتى نلت لديك ما نلت. وكنت أنت حياتي بعد أن تقلصت بي أسباب الحياة.
وهاأنت ذا يا سيدي اليوم تقصيني عن موارد حبك فأخرج إلى الكتاب مرة أخرى وألاقيه فيلاقيني مفتوح الذراعين حانياً، وكنت أقسمت يا سيدي وأنا أعمل بجريدتك ألآ أكتب في غيرها أبداً؛ ومازلت يا سيدي باراً بهذا القسم؛ بيد أنني تذكرت اليوم فقط أمراً لم يخطر لي ببال، تذكرت يا سيدي أنك مرهف الحس، دقيق الشعور، وخشيت يا سيدي إذا أنا حطمت حياتي أن تشعر بما جنيته علي، ولا أريدك يا سيدي أن ترجع إلي وأنا حطام لتعينني على حياة أكرهها ما دمت أنا بعيداً عنها. فقلت في نفسي: لأعمل حتى لا يشعر بما جناه، وحتى يطمئن إلي أنني مازلت أقاوم الحياة. وإنني يا سيدي حتى اليوم كلما سألني سائل عن سبب القطيعة خلقت في نفسي عيوباً لا أظنها تجرؤ أن تنتسب إلي وأنا من أحببته أنت حيناً من الدهر، ولكني كنت أجور على نفسي حتى لا يجور القوم عليك. . . فأنا مازلت أحبك شأني دائما، أما ما قام بنفسك من شك في وفي حبي لك فأنت وحدك الذي ستمحوه حين تستبين حقيقة نفسي ما دمت لم تستبينها حتى اليوم، وما دمت يا سيدي تعتقد - رغم كل ما أبنت لك - أنني كنت أداهنك وأداجيك. ولعمري أي فائدة تعود علي من المداهنة والمداجاة وأنا لم أطلب منك يوماً مطلباً لنفسي؟. . أي فائدة وقد أغريت لتركك بالمال فكنت أسب كل من يجرؤ على هذا أي فائدة!. . اللهم إلا إذا كنت تظنني أمثل لمجرد التمثيل؛ وحينئذ يا سيدي أسمح لي أن أرى في هذا التفكير انحطاطاً عما عرفته فيك من ذكاء لماح. . . ولكن(820/30)
دعني يا سيدي أقل الحقيقة. . . إنك عجبت أن يكون في العالم إخلاص كإخلاصي، واستبعدت أن يحب شخص شخصاً مثلما أحببتك، وخشيت أن أكون كاذبا فقلت في ضميرك: لأرح نفسي من عناء البحث والاستقصاء والتحليل، ولأقطع بين وبينه الصلات قبل أن يفجعني بالخيانة. ولو أنك نظرت إلى ماضي وأنت تعرفه لعلمت أن مكانك من نفسي ليس بالغريب. . . لقد كنت يا سيدي بمثابة الواحة التي يجد بها التائه ماء وظلا وعيشاً، فهو قائم بها لا يريم. . . كنت يا سيدي كذلك في حياتي وما تزال يا سيدي كذلك ولن تزال.
لعلك تعجب لم أكتب إليك كل هذا الكلام. . . كتبت لأبين لك عما ينتفض به حسي، ولأطمئنك على قلبي من الأيام فلا يملكن عليك العطف شعورك، ولتهدأ بالا ولتثق يا سيدي أنني لن أصادق بعدك أحداً حتى لا أفجع فيه مرة أخرى، ولكنني سأعيش، وسأعيش بما أتحته لي من شهرة، فأنالك أيان تلقي بي الأيام رحلها، ولكنني أستحلفك يا سيدي إلا تعامل غيري بمثل ما عاملتني. . . على أنه لن يتاح لك أن تفعل، فأن أحداً لن يحبك أو يخلص لك كما أحببتك وأخلصت لك. . . لأن أحداً لم يلق في حياته إجداباً كما لاقيت. والسلام عليك ورحمة الله.
قرأ صاحبي الخطاب وأنا أتابعه مأخوذاً بأسلوبه المترسل عاجباً من إخلاصه المكين؛ وما أنتهى الصديق من القراءة حتى صحوت إليه أقول:
- فمن الكاتب؟
- لقد عرفت شخصيته وما أظنك بحاجة إلى معرفة اسمه.
- ولم أقصيته عن موارد حبك بعد أن أتحتها له؟!
- لقد أجاب هو عن هذا السؤال خير إجابة.
- أو ما يزال مقصيا!!
- أو تظنني إلى هذا الحد من الجمود! لقد ذهبت إليه أستغفره فنفر. . . إن كل ما أرجو أن يبلغ إخلاصي له مبلغ إخلاصه لي. . . أرج الله معي.
- والله إن لم تخلص له فأنت أكبر جحود رأيته، وأعيذك أن تكون ولن تكون. . . فبالله عليك لا تسر به إلا إلى الخير.(820/31)
- إلى الخير دائماً إن شاء الله. . . إلى الخير.
ثروت أباظه(820/32)
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
(تتمة)
واقتضت الضرورات الحربية هدم بعض المدن التي يخشى أن تكون خطراً في يد العدو إذا سقطت في يده، وقد رأينا أمثلة لذلك في فصل الحروب السياسية.
ومن تلك المدن التي هدمت مدينة تنيس التي أمر الملك الكامل سنة 614 بتخريبها، فخربت وظلت خراباً إلى اليوم، ومدينة دمياط، ففي عهد الممز أيبك اتفق المماليك على تخريبها خوفاً من مسير الفرنج إليها مرة أخرى، فوقع الهدم في أسوارها سنة 648، وخربت كلها، ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع، وصار في قبليها أخصاص على النيل، سكنها ضعاف الناس وسموها المنشية، وهي أساس مدينة دمياط الحالية. وفي عهد بيبرس أخرج عدة من الحجارين سنة 659 لردم فم بحر دمياط حتى لا تستطيع سفن الأعداء دخوله، فمضوا وألقوا فيه من كبار الحجارة ما ضيقه، حتى أصبح من العسير دخول مراكب البحر الكبار منه، ولا يزال على ذلك إلى الآن.
وإذا كانت الضرورة الحربية قد قضت بهدم بعض المدن، فقد أنشأت الحرب بعضاً آخر، كمدينة المنصورة التي أنشأها الملك الكامل سنة 616، بعد أن ملك الفرنج مدينة دمياط، فإنه نزل بموضع هذه البلدة، وخيم به، وبنى قصراً لسكناه، وأمر من معه من الأمراء والجند بالبناء، فبنيت هناك عدة دور، ونصبت الأسواق، وأدار عليها سوراً مما يلي البحر، وستره بالآلات الحربية والستائر، ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط، وأخذت تنمو من يومئذ حتى صارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق، وفي هذه المدينة نزل الصالح أيوب عندما هاجم الفرنج دمياط، فأصلح سورها وجعل الستائر عليه، وشرع الجند في تجديد الأبنية هناك، وبعد موت الصالح بها، دارت المعركة التي انهزم فيها الصليبيون هزيمة نكراء.
وأنشأ الصالح أيوب مدينة في أول الرمل للذاهب إلى الشام من مصر، سميت الصالحية،(820/33)
وكان ذلك سنة 644، وجعل فيها سوقاً جامعة ومسجداً، وقد أنشأها لتكون مركز العساكر عند خروجهم من الرمل، ومنذ ذلك الحين اتخذها الجند مركزاً لهم إذا خرجوا للغزو، أو عادوا إلى مصر.
وكان لمصر في ذلك العصر علم يميزها، كان لونه في عصر الدولة الفاطمية أبيض، مكتوباً عليه بلون لعله أصفر قوله تعالى: نصر من الله وفتح قريب. وتختلف أحجام الأعلام، إلا أن أكثرها استعمالاً كان كوله ذراعين في عرض ذراع ونصف. وكان إلى جانب هذا العلم الرسمي علمان خاصان بالخلفية، يعرفان بلواءي الحمد، وهما رمحان طويلان، ملبسان بأنابيب من ذهب إلى حد أسنتهما، وبأعلاهما رايتان من الحرير الأبيض المرقوم بالذهب، ملفوفتان على الرمحين غير منشورتين.
فلما جاء صلاح الدين اتخذ راية ذات لون أصفر، وكأن في ذلك إشارة إلى أن مصر وإن كانت قد عادت إلى أحضان الدولة العباسية - مستقلة ذات كيان خاص بها، ولست أدري إن كان هذا اللون الأصفر لون أعلام نور الدين أو هو لون انفرد به صلاح الدين، لأننا نجهل لون راية نور الدين، ولعلها كانت سوداء كرايات العباسيين.
ولا نعلم بوجه التحقيق السر في اختيار صلاح الدين هذا اللون. أما سر اختيار الفاطميين للون الأبيض، فهو مخالفتهم المخالفة التامة للعباسيين، الذين اختاروا اللون الأسود شعاراً لهم فعلى الضد منهم اختار الفاطميون لون أعلامهم.
وظل العلم الأصفر علم الأيوبيين والمماليك لمن بعدهم، وكان من الرايات عندهم عدة أنواع: فمنها راية عظيمة من حرير أصفر، مطرزة بالذهب عليها ألقاب السلطان واسمه، وتسمى العصابة، وراية عظيمة في رأسها خصلة من الشعر تسمى الجاليش، ورايات صغر صغار تسمى السناجق، وصار للمتولي أمر الأعلام السلطانية في عهد المماليك وظيفة أمير علم، أما العلم دار فهو لقب الذي يحمل العلم مع السلطان في المواكب.
ولم أعرف زي الجند في العصر الفاطمي سوى أنهم كانوا يلبسون السراويل والبرانس أما بعد ذلك فقد أدخل سلاطين الأيوبيين لبس الكلوتة بمصر فكانوا يلبسون الكوتات الجوخ الصفر على رءوسهم بغير عمائم، وذوائب شعورهم مرخاة تحتها، وكذلك كان يفعل أمراؤهم وجندهم ومماليكم. ولم يزل السلاطين والجند يلبسون الكلوتات الصفراء بلا عمامة(820/34)
إلى عصر المنصور قلاوون فإنه أضاف لبس الشاش على الكلوتة، وقد صارت تصنع من الصوف الملطي الأحمر، وفي عهد ابنه الأشرف خليل رسم لجميع الأمراء أن يركبوا بين مماليكهم بالكلوتات المزركشة، حتى يميز الأمير بلبسه عن غيره، وتركت الكلوتات الجوخ الصفر لمن دونهم. على أنها ظلت تلبس فوق ذوائب الشعر المرخاة، على ما كان عليه الأمر أولا. وفي عهد الناصر محمد بن قلاوون استجد العمائم الناصرية وهي صغار، وحلق رأسه، وحلق الأمراء رءوسهم، وتركت ذوائب الشعر.
وفي عهد المماليك كان الجند يشدون أوساطهم ببنود من قطن بعلبكي مصبوغ، وعليهم أقبية بيضاء أو مشجرة حمراء أو زرقاء، وهي ضيقة الأكمام، وفوق القباء كمران بحلق وأبزيم وصولق، والصولق جراب أو كيس من جلد، وفيه منديل طوله ثلاثة أذرع، فلما جاء قلاوون صاروا يلبسون الأقبية التترية، وفوقها القباء الإسلامي، وعليه تشد المنطقة والسيف. ويتميز الأمراء والمقدمون وأعيان الجند بلبس أقبية فوق ذلك قصيرة الأكمام.
وكان العادة في الأسرى أن ينزلوا في معسكر خاص بهم، تضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى ويمضي بالنساء والأطفال إلى قصر الملكي بعد أن يعطي الوزير طائفة منهم ويفرق ما بقى من النساء على الجهات والأقارب فيستخدمونهن ويربونهن حتى يتقن الصناعات، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الأستاذين فيربونهم ويتعلمون الكتابة والرماية، ويقال لهم (الترابي) وفيهم من صار أميراً من صبيان خاص الخليفة ومن كان يستراب به من الأسرى ضربت عنقه، ولم يعرف قط في الدولة الفاطمية أنها فادت أسيراً من الفرنج بمال ولا بأسير مثله، أما في الدولة الأيوبية فكانت المفاداة تحدث من الجانبين.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول(820/35)
موكب الأبطال
للأستاذ علي محمود طه
(هذا هو النص الكامل لقصيدة الأستاذ الشاعر التي يحي فيها
أبطال الفلوجة بعد أن استلهم موكبهم الظافر بعض المعاني
والخواطر)
أقدم فداك حديدها ولهيبها ... واغنم مجادتها فأنت ربيبها
مجدُ الفتوح الغرِّ أنت وريثه ... والحربُ أنت على المدى موهوبها
ما الحرب إلا ما شرعتَ، وما رأت ... أممٌ تذود عن الحقوق شعوبها
نادت فهبَّ على الدماء ضريحها ... يمشي، ويقتحم السعير خضيبها
شرفُ المحارب أن يعف سلاُحه ... إن جارت الهيجاء وهو حريبها
ليجبر شعباً أو يحرر أمةً ... لا تستباح ولا يضام نجيبها
النصرُ أن نلقى الطغاةَ بضربة ... شعواء لم يُصبِ الطغاةَ ضريبها
فخذ العدو المستخفُّ بطعنةٍ ... إن لم تمته، غدا تمِتْهُ ندوبها
والمجد أن تحمي وراءك قريةُ ... ضاعت مسالكها وضاق رحيبها
جُن الحديدُ بأرضها وسمائها ... فجرى وطار، تصيبه ويُصيبها
شدت يدُ الفولاذ حول نطاقها ... حلقا تصيح النارُ: كيف أذيبها؟!
بالروح والإيمان أنت قهرتها ... بأساً، فلان على يديك صليبها
حتى إذا أعيا العدوَّ جلادُها ... ووهتْ جحافله وطاش وثوبها
عضتْ على كّفيه، والتّفت على ... ساقيه، وانسدت عليه دروبها
ومشت له منها ضراغمُ غابة ... كلُّ الردى أخلابها ونيوبها
قذفت به عنها، وعودر جيشه ... بَدداً تعقَّبُه الحتوف وحُوبها
جثثاً تعاف البيدُ شربَ دمائها ... ويعفُّ كاسرها ويأنف ذيبها
شرفاً كماةَ النيل أيُّ بطول ... راع الكماةَ فنونها وضروبها
مواقف لكمو تُشيد بذكرها ... دولٌ وراء النار قام رقيبها(820/36)
وملاحمُ الأبطال في (فلوجة) ... قصص الكفاح غريبها وعجيبها
(هومير) ما غنى بها (طروادة) ... ومكثلها ما ألهمتهُ حروبها!
ضربوا الحصارَ على الكماةِ فجاءهم ... فطن الشجاعةِ في الحروب أريبها
متمرِّسٌ بطباعها متفرِّسٌ ... في روعها، يَقظ الخطى مرهوبها
فادِ أحمُّ كأنما إحترقت به ... حربٌ من الميلاد كان نشوبها
فمْا وشبَّ، عليه من يحمومها ... أدّمٌ زَهاهُ من السِّماتِ مهيبها
طلعت به إفريقيا وتطلّعتْ ... آجاُمها وجبالها وسهوبها
يزري بما نصب الدُّهاةُ لصيده ... ويضلُّ أشراكَ الردى ويخيبها
ما زال مصطرعاً يصول ودونه ... بيداء يغشاها اللظى ويجوبها
ساق الطغاةُ لها فرائسَ فتنة ... حمراء ينفخ في الجحيم ربوبها
عرضت مآثمها بهم وتقدَّمت ... أمم تمور على الرمال ذنوبُها
حتى رأته كوي السماء ففتحتْ ... وتلألأت بسنى السلام ثقوبها
ومشى الكميُّ أشنَّ بين رجاله ... أبطال حرب لا يقر سليبها
لن تُستذلَّ ثرىً عليه دماؤهم ... سالتْ. لقد روَّى الحياة صبيبها
يا أيها الأبطالُ مصرُ إليكمو ... بالغاز يَستبقُ الشبيبةَ شِيبها
وعقائلٌ خلف الخدور هوائفٌ ... كالطير أذَّنَ بالصباح هبوبُها
ينثرن بالريحان فوق رؤوسكم ... طاقات ورد ليس يذهب طيبها
وهفت غمائمُ في السماءِ تُظلّكم ... ويرفُّ مُصعُدِها لكم ومصيبها
وعلى طريق المجد من (فلوجة) ... مُهجٌ حوائم، في التراب وجيها
شهداؤكم ودُّوا هناك لو أنهم ... قدموا بألوية يروع خضيبها
طلعوا بنور الفجر فوق مآذن ... تدعو، ورحمنُ السماءِ يجيبها
هاتوا حديث الحرب كيف تطامنتْ ... لكمو مفازُعما وهان عصيبها
في قرية محصورة كسفينة ... في لجةٍ هاجت وماج غضوبها
لم تدرِ فيها الريحُ أين قرارها ... والشمس أين شروقُها وغروبها
كم حدَّثوا عنها وقالوا في غدٍ ... للقاع تهوى أو يحينُ رسوبها(820/37)
وبمصر والدنيا عيونُ أحبةٍ ... ألسهدُ والألم الممضُّ حبيبها
ترعى النهار، وتتقي غسق الدَّجى ... هذا يُطمئنها وذاك يريبها
إيه حُماةَ الشرق كم بجهادكم ... تشدو العصورُ بعيدعها وقريبها
هذي ضفافُ وهذه داراتكم ... دارتُ شمس لا يحول شيوبها
ترنو لكم وتكاد من أشواقها ... تمشي! وكيف حراكها ودبيبها؟
لم لا أغنيكم قوافيَّ التي ... غنى بملحمة الحياة طروبها
هي من روائعكم ووحي جديدها ... منكم، ومنى في البيان رنينها
بالله إن طُفتم بساحةِ عاهلٍ ... ترعاهُ مصرُ عيونُها وقلوبها
فتقدَّموا تحت اللواء وقرِّبوا ... هذه السيوف الداميات غروبها
أحيت له ولمصر أيَّ مجادة ... هي زُغرُهُ المأثورُ وهو وهوبها
هيهات تُنبتُ تربةٌ غيرَ العلى ... ما دام يُسقى بالدماءِ خصيبها
علي محمود طه(820/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول العبقرية والحرمان:
أستاذي. . . . . . . . .
قرأت لكم مقالاً تحت عنوان (العبقرية والحرمان) بأحد أعداد الرسالة الزهراء. وكنت ككل كتاباتك ملهماً مبدعاً حتى أنني قرأت المقال مرات ومرات، واستوقف نظري بين ثناياه كلمات كتبتها عن (بيرون) الشاعر الإنجليزي العظيم عندما تقول: (إن بيرون في الأدب الإنجليزي قد أبدع أعظم آثاره الفنية وهو يتقلب في بحبوحة من العيش لا تتهيأ إلا لمن كان في مثل مركزه الاجتماعي العظيم). . . وفي الوقت نفسه تحاول السيدة أمينة السعيد في كتابها عن شاعرنا هذا، وهو أحد أعداد سلسلة (اقرأ) أن تنقض هذا الرأي وأن تقول إن التاريخ الأدبي لم يخلد (بيرون) وأشعاره إلا يوم أن كان يعيش تحت كآهل الحرمان! وإليك هذه السطور التي كتبتها عنه: (كانت طبيعة بيرون الحقة إذا حزن وتألم فاض بالشعر قلمه في سهولة وقوة وعذوبة، وإذا سعد وهدأت ثورته هدأ الوحي بهدوء نفسه وضعف بضعف ثورته، وظل على هذا الحال طوال حياته، فسجلت أيام الشقاء أروع قصائده وأكثرها خلوداً). إلى هنا ينتهي رأي الكاتبة الأديبة. وهو رأي يحتاج إلى التأمل العميق والحكم بأي الرأيين أصوب. . . إننا نقدس حرية قلمك ونزاهته، ونأمل أن يكون الرد على صفحات الرسالة.
عبد العال حسن إسماعيل
(معهد فؤاد الأول بأسيوط)
أشكر للأديب الفاضل كريم التقدير وأدب الخطاب، وأسجل إعجابي بهؤلاء الشباب المخلصين للأدب والفن من طلاب الأزهر في هذه الأيام؛ وإنها لظاهرة تبشر بالخير في مجال خلق جيل يقرأ ويناقش وينهل من ينابيع المعرفة في شتى فنون الفكر وألوانه. . . من حق هذا الجيل الجديد أن أحييه على صفحات (الرسالة)، لأن الكثرة الغالبة فيما أتلقاه من رسائل ممتازة هي من طلاب الأزهر لا من طلاب الجامعة!(820/39)
بعد هذا أجيب الأديب الفاضل بأن هذه الكلمات التي جرى بها قلم السيد أمينة السعيد تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنريك هاينى، وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. . . ولقد كنت أرجو أن يكون رأي الأديبة المصرية قائماً على دراسة شعر بيرون مرتبطاً بحياته ومقترناً بطبيعته النفسية والخلقية، ولو أجهدت نفسها في هذه الدراسة لخرجي برأي غير الرأي ونظرة غير النظرة، ولكن كتابها في ميزان أدب التراجم لا يعدو أن يكون قصة طريفة تدور حوادثها حول شخصية بيرون ومغامراته ونزواته ورحلاته! ومعنى هذا أن الدراسة النقدية لشعره لم تحظ من قلمها بنصيب، وكذلك الدراسة النفسية في مجال الكشف عن صلة الفن بالحياة، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل ما يتلقاه من هزات القلب والشعور!
شخصية بيرون الأدبية والإنسانية شخصية جليلة المعالم واضحة السمات. لقد انحدر من صلب أسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن آباء، ولكن بيرون خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة ومواهب الفنان، ولقد خففت هذه من حدة تلك فلم يلق الحياة بالشر المطلق الذي يلغي الإحساس بالألم العارض والهم العابر ووخزات الضمير. . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي يعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الرجل الجميل المدلل الذي لا يمد عينيه أبداً إلى أمام! وفي محيط الشر والإئم كان (الفنان) الذي في دمه يستيقظ من حين إلى حين، ومن هنا كان بيرون يتألم ولكنه الألم العابر كما قلت، يطرق بابه ليرتد عنه بعد لحظات أمام جموح الشباب المترف الذي يحطم في سبيل غايته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! الألم في حياة بيرون لم يكن ألماً بالمعنى المفهوم عند شاعر مثل هاينى، ولكنه كان لوناً من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه. . . حلوة، صافية، عميقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذا رأى الجو صحواً والسماء صافية، فإذا امتلأ الجو بالغيوم وتوارى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تنعى هذا(820/40)
الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء! من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد. . . يقول بيرون: (لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهوراً بتردد اسمي على كل لسان)، قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى أيدي الناشرين فدفعوا باسمه إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشابلدهارولد)، وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق!. . . لقد جادت قريحته الوثابة بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق أجمل أيامه وأسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به عباب البحر إلى إثينا وأزمير ومالطة واستانبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيراً، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلدهارولد)!
وإذا ما تردى بيرون في هوة الإثم والفسق والفجور سعدت نزواته وسعد فنه وسعد قراؤه. . إنها لحظات الصفاء بالنسبة لرجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الجامحة الشريرة في شخص (أوجاستا) أخته من أبيه. . ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون في (عروس أبيدوس)، وهي القصة الشعرية التي تصور قصة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو قصة الهوى الآثم بين (أوجاستا) و (بيرون) على التحقيق! صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من إثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسيه أنه لم يكن يفرع من الآمه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك. . يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور.
إن العبقريات كما سبق أن قلت معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال. . ومن البعض الأول كان بيرون، ومن البعض الثاني كان هاينى، ومن البعض الثالث كان جوركي، ولعل في هذه العجالة ما يهدي الأيبة المصرية إلى معالم الطريق!(820/41)
إلى صديقي الفنان المجهول:
رسالتك القوية الروح نقلتني إلى عالمك.: إن عالمك كما بدا لي من خلال كلماتك ترفرف عليه الإنسانية بجناح من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان. لقد ناديتني بهذه الكلمات العميقة: (أخي في الفن، أخي في النقد، أخي في العروبة، أخي في الإسلام، أخي في سماوات الفن الإنساني الرفيع). . وشاء ذوقك المصفى أن تفني على قلمي المتواضع من الثناء الجم ما لا طاقة لي على ذكره!
لماذا آثرت ألآ تذكر لي اسمك؟ إنني أود أن أعرفك أيها (الإنسان). . ويسرني أن تبعث إلي بشيء من إنتاجك لأراك رأي الفكر حين يعز علي أن أراك رأى العين!
تسألني ما هي الأبحاث التي تغلغلت إلى الأعماق وحازت قبولي، وما القصص الذي قدرته وما التراجم والدواوين والأبحاث النقدية التي أرى فيها ومضاً من فكر ونوراً من حس، وإدراكاً للقيم الحقيقية دون التفات إلى البهرج الزائف والغلاف المصنوع؟
معذرة إذا قلت لك إن هذا السؤال يحتاج إلى شيء من التحديد، فأنا لا أدري إذا كنت تريد الجواب عن هذا كله في نطاق الأدب العربي أم في نطاق الأدب الغربي أم في نطاقيهما معاً! إنني في انتظار رسالة منك تحدد لي فيها ما تريد الجواب عنه.
ولك يا صديقي المجهول تحية ملؤها الود الخالص والتقدير العميق
لحظات مع ايليا أبي ماضي:
قلت في عدد مضى من (الرسالة) إن في شعر المهجر شيئاً يثير إعجابي، وأوثره بتقديري، وأشعر نحوه بتجارب الفكر والعاطفة. . . ذلك هو عمق الصلة بين الفن والحياة! الحياة في شعر المهجر نفس عميق، وهمس رفيق ونبع شعور متدفق. ولعل هذه القصيدة التي صدح بها أو ماضي في الحفلة التكريمية التي أقيمت له في دمشق من خير ما قرأت إشراقة لفظ، ورحابة أفقن وأصالة شاعرية. . . عنوان القصيدة (عجباً لقومي)، ومطلعها هذه الأبيات:
حي الشآم مهنداً وكتاباً ... والغوطة الخضراء والمحرابا
ليست قبابا ما رأيت وإنما ... عزم تمرد فاستطال قبابا
فالثم بروحك أرضها تلثم ... عصوراً للعلى سكنت حصى وترابا(820/42)
هنا وفي كثير من شعر أبي ماضي تلمس الصدق في الفن كما تلمس الصدق في الشعور، وحسب الشاعر المطبوع أن يعبر عن وقع الحياة على وجدانه فيصدق في التعبير، وحسبه أن تمر به التجربة الشعورية فيسجلها في صدق وأمانة، وحسب الناقد أن يقنع بمظهر الصدق الشعوري في تلوين الصورة، وأن ينشد بعد ذلك مظهر الصنعة الفنية في إبراز الإطار! أرأيت إلى التناسب النادر بين ضخامة اللفظ والمعنى والخيال في البيت الثاني، وإلى قوة الوثبات التعبيرية والنقلات الموسيقية في البيت الثالث؟ إن الإيقاع هنا يتعاون مع التعبير فإذا الشعور ينساب مع رنين الكلمات ويهتز تجاوباً مع درجات السلم الموسيقي: فالثم بروحك أرضها - تلثم عصوراً للعلى - سكنت حصى وترابا. . إن التوزيع الإيقاعي هنا أشبه بتوزيع الضوء في يد مهندس فنان!
وانظر إلى هذا التوزيع الممتاز مرة أخرى حين يخاطب (بردي) بهذه الهمسات:
روح أطال في السماء عشية ... فرأى الجمال هنا فحن فذابا
وصفا وشف فأوشكت ضفاته ... تنساب من وجه به منسابا
بردي ذكرتك للعطاشى فارتووا ... وبني الهوى فترشفوك رضابا
مرت بك الأدهار لم تخبث ... ولم تفسد وكم خبث الزمان وطابا
وإذا ما انتقل أبو ماضي من مناجاة (بردي) إلى مناجاة (شهيد ميسلون) نقلك معه من أفق إلى أفق. . إن صوته الهامس هناك قد بدأ يعلو هنا في نبرات قوية صاخبة، وكذلك موسيقاه. إنها لم تعد تلك الأنغام الهادئة الوديعة التي تنطلق من ناي أشبه بناي الرعاة، ولكنها تستحيل هنا أنغاماً أخرى تهز مسمعيك منها ضربات موسيقية عاصفة، كتلك التي تطالعك من (صوناته) لبيتهوفن قبل أن تشرف على الانتهاء:
إني لأزهى بالفتى وأحبه ... يهوى الحياة مشقة وصعابا
ويضوع عطراً كلما شد الأسى ... بيديه يعرك قلبه الوثابا
ويسيل ماء إن حواء فدفد ... وإذا طواه الليل شع شهابا
وإذا العواصف حجبت وجه السما ... جدل العواصف للسما أسبابا
هنا لون من الغناء، ولكنه الغناء الحماسي الملتهب الذي يتلاءم وشعر الملاحم، وهكذا يكون شعر: همساً في مواضع الهمس، وحرقاً في مواقف الحنين، وارتفاع نبض وجهرة صوت(820/43)
في لحظات التوهج والتوئب والانطلاق!. . وقف طويلاً أمام هذه الصورة الفنية التي اكتملت لها الأبعاد والزوايا في مجال التسلسل التعبيري: يضوع عطراً إذا ما عرك قلبه الأسى - يسيل ماء إذا ما حواء فدفد - يشع شهابا إذا ما طواه ليل - يجدل العواصف أسباباً للسماء إذا ما حجبت العواصف وجه السماء. . . إن الشاعر هنا لا ينظم فحسب، ولكنه يشرف من قمة الفن على الحركة النفسية في شعره، كما يشرف الجندي البارع من فوق منصته على حركة المرور في ميدان يموج بالعابرين!
بعد هذه المناجاة الحارة لشهيد ميسلون يضرب أبو ماضي بجناحيه القويين في أفق أخر، حين يعرض لموقف العرب المتخاذل من القضية الفلسطينية. . . ومعذرة إذا ما اقتصرت على ترديد أبياته في هذا المجال بيني وبين نفسي لأن قلم الرقيب هناك! حسبي أن أثبت هنا هذه الصرخات:
دنياك يا وطن العروبة غابة ... حشدت عليك أراقماً وذئابا
فالبس لها ماء الحديد مطارفاً ... واجعل لسانك مخلباً أو نابا
لا شرع في الغابات إلا شرعها ... فدع الكلام شكاية وعتابا
هذي هي الدنيا التي أحببتها ... وسقيت غيرك حبهاأكوابا
إن وراء هذا الشعر شاعراً جبار الجناحين مكتمل الأداة!
رأي في ترجمة آلام فرتر:
في جلسة جمعت بين نفر من أسرة (الرسالة) وزائري ندوتها الأدبية، دار حديث عابر حول الكلمة التي عقبت بها على رأي الأستاذ سلامه موسى في ترجمة آلام فرتر للشاعر الألماني جيته. . . وكان التعليق الوحيد من الأستاذ صاحب (الرسالة) هو أن مد يده إلى أحذ أدراج مكتبه، ثم أخرج منه رسالة بعث بها إليه المستشرق الألماني الدكتور جولياس جرمانوس حول ترجمته العربية لآلام فرتر. وتناولت الرسالة وقرأتها فإذا هي قطعة من التقدير العميق والإعجاب البالغ، بترجمة يقول عنها الدكتور جرمانوس إنها تستحق منه خالص التهنئة على مطابقتها للأصلين الألماني والفرنسي، مطابقة بلغت الغاية في الأمانة والصدق وبلاغة الأداء!
ولم أجد بداً في سبيل تحديد القيم ووضع كل شيء في مكانه، من أن أطلب إلى الأستاذ(820/44)
الزيات أن يأذن لي بترجمة هذه الرسالة التي فرض عليه التواضع أن تبقى في مكتبه دون أن يطلع عليها الناس. . . وفي العدد المقبل أقدم الترجمة العربية لرأى المستشرق الألماني في ترجمة صاحب (الرسالة) لآلام فرتر.
من الأعماق ولوعة الذكرى:
لو علم الأستاذ كامل محمود حبيب أي جراح أثارتها في نفسي قصته، لتردد طويلاً قبل أن يتفضل مشكوراً بإهدائها إلي. . . أيها الأديب الصديق، لماذا يبعث بلكلماتك من طوايا حلم دفنته، أشلاء ماض جريح؟ إن هذا الماضي الذي تنهد يوماً في سحيق عظامي، ستجيبك أطيافه في العدد المقبل وتناجيك رؤاه!(820/45)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
الأدب والفن في المعرض:
لم يخل المعرض الزراعي الصناعي المقام في الجزيرة، من رائع الفنون وأهمها الرسم والنحت. وأبرز ناحية تجلى فيها الفن بالمعرض (متحف الحضارة) الذي يمثل الحضارة العربية من العصر الحجري القديم إلى العصر الحديث، بالتماثيل والنماذج واللوحات والخرائط. وأول ما يطلع القادم على المتحف تمثال كبير للإنسان الحجري القديم وقف في مدخل كهفه، والمنظر رائع من غير شك، والتمثال موفق التكوين من حيث الدلالة على فكرته، غير أن باب الكهف الحجري محكم منتظم الشكل مما لا يتفق مع العصر الذي يمثله، وفي القرى المصرية الآن أبواب أقل منه إحكاماً وانتظاماً، وما يتصور العقل أن يكون باب الكهف في العصر الحجري القديم أكثر من حجر غير منتظم يسد به المدخل على قد الإمكان البدائي.
ويشتمل المتحف على حجرات خصص كل منها لتمثيل عصر من العصور، وقد احتوت على مجسمات ورسوم وأدوات تصور مظاهر الحياة في العصر. وأنت تحتاج إلى نحو ساعة تطالع فيها تلك المعروضات الفنية، فما تنتهي منها إلا وقد ألمت بالخصائص البارزة في عصور التاريخ بمصر، من العصور البدائية إلى إن ترى الفاروق يرفع العلم المصري على القلعة، ويوزع الإقطاعيات على صغار المزارعين، ويضع الحجر الأساسي لمشروع كهربة خزان أسوان، ولو تأخر الفراغ من إعداد المتحف قليلاً لرأيت به الفاروق يعانق بطل الفلوجة الأمير الاي السيد طه بك في يوم عيد البطولة.
وقد استرعى انتباهي في المتحف ما كتب على كل من المناظر الطبيعية المجسمة وهو (ديوراما (1)) و (ديوراما (2)) الخ. والكلمة تدل على المنظر الطبيعي المجسم. ويقول المشرف على المتحف: لم يضع لنا المجمع اللغوي كلمة عربية بدل (ديوراما) والمتحف كله عربي مصري صنعاً ولغة ما عدا (الديوراما).
وقد انتثرت في المعرض - عدا متحف الحضارة - آثار فنية جميلة، وخاصة في معرض وزارة المعارف الذي صفت به تماثيل فريق من أعلام النهضة المصرية في شتى النواحي:(820/46)
كعلي مبارك، وقاسم أمين، وسعد زغلول، ومختار المثال وغيرهم. وهناك مكان مخصص لمعروضات دار الكتب المصرية التي تتكون من بعض المخطوطات، وقد وقف جماعة من الطلبة الأزهريين الزائرين إزاء (متن الكافية) يقرؤون بعض عباراته ويتضاحكون ولسان حالهم يقول: هذه الكتب وراءنا وأمامنا!
وفي معرض نقابة الصحفيين رأيت العدد الأول من جريدة (الأهرام) العريقة، وفي صدره مقال بغير عنوان أوله: (كيفما وجه العاقل أفكاره باحثاً عن حركة العالم الإنساني يرى فروع الحوادث راجعة إلى أصل واحد) فقرأت المقال وسرت مع الكاتب وهو يبحث عن حركة العالم الإنساني، حتى انتهيت إلى آخره حيث يقول:
(فنلتزم وقتئذ بعد معاناة البحث أن نرجع هذه الفروع إلى أصل أحد أنتج هذه النتائج وندعوه بالمقال ودليل الحال حب ذات غير مرتب أصدر طمعاً فعل ما ترى) وهذا الحكم المبني على (التأمل في حركة العالم الإنساني) يدل على أن العالم كان في ذلك العهد كما هو الآن: يسوده (حب ذات) وإن كان قد صار (مرتباً) و (فعل ما ترى) لا يزال الطمع (يصدره) فالعالم هو هو لم يتغير غير الشكل وطريقة التعبير. . .
ولا أريد أن أمعن في التأمل والفلسفة كما أمعن كاتبنا القديم فأنتقل إلى (الأخبار البرقية الواردة إلى الإسكندرية) وليس السجع في العنوان فقط، فهذا أيضاً مطلع الأخبار البرقية: (باريز في 30 تموز) ولو أن صحف اليوم تلتزم مثل ذلك النسق لكنا نقرأ فيها مثل (قصر شايو في 30 مايو).
ولعل من مظاهر الفنون الجميلة في المعرض، الرقص. . . رقص الخيل على نغمات الموسيقى البلدية. ويظهر أن فن الرقص أصيل لدى الفرس؛ فإن مشيتها العادية تبدو فيها مخايل الفن والمدربون الذين يرقصونها يتجهون بها إلى (هز الأرداف) ولو أن الفرنسيين التفتوا إلى موهبة الرقص في الخيل لاتجهوا بها إلى (الباليه) ومن يدري؟
وبعد أن ترى تلك المظاهر الفنية في المعرض العام تدلف إلى (حديقة الملاهي) فتشاهد الاعتداء المنكر على جمال الطبيعة في حديقة الجزيرة التي كانت من أجمل منازه القاهرة وأحفلها بالجمال، وطالما كانت مرتاداً للأدباء والفنانين، ومجلى للقرائج، ومراحاً للناشئة
وقد كنا حين نكتب في موضوعات الإنشاء عن (البساط السندسي) نتخيل أرض تلك(820/47)
الحديقة الخضراء الناضرة، فليس من الهين أن نرى الآن ذلك البساط يطوى لتحل محله الأراجيح و (الأميرة بنورة المسحورة أعجوبة الزمان وتحفة القرن العشرين التي تخرج من زهرية الورد وتتكلم. . .)
وقد تبدل زوار الحديقة خلقاً آخر، فبعد أن كان يغشاها رواد الطبيعة والهدوء أفراداً حالمين، أو مثنى حبيبيْن، أو زرافات مرحين؛ صارت مطلباً للراغبين في لعب الولدان وعبث الطفولة، ومكسباً لذوي الحيلة، في ابتزاز الأموال، من الأجانب.
صور شعرية للشعراء:
أعلنت رابطة الأدباء يوم الأحد الماضي عن حديث في ناديها عنوانه (رأي شاعر في شعر الجيل) يعرضه الأستاذ علي الجمبلاطي، والشاعر المقصود هو الأستاذ أحمد مخيمر، وقد نظم رأيه في خمسة وأربعين شاعراً، أو صنع لكل منهم - كما يراه - صورة شعرية بأبيات أتبع فيها طريقة أبي العلاء المعري في (لزوم مالا يلزم)
وقال الأستاذ الجمبلاطي إنه يقصد عرض لون من الشعر وإثارة الآراء فيه. وقد استمعنا إلى هذه الأشعار، وطربنا لبعض ما تضمنته من دعابات وما بدا في بعضها من ومضات ولكني ألاحظ أن أكثرها تنقصه عناصر الصورة الأساسية وهي ملامح الشخصية الشعرية والقليل ما تبدو فيه هذه الملامح ومن هذا القليل قوله في الدكتور زكي مبارك:
أديب بنى مجداً ... وصيتاً ورفعة
وما فتئ المقدار ... يهدم ما يبني
فليت الألى، عابوا عليه غرروه
رأوا ما يلاقي من عقوق ومن غبن
وقوله في الأستاذ محمود حسن إسماعيل:
قد ينظم الشعر ولكن يعجمهْ
فشعره أفق توارت أنجمهْ
وراء كل خاطر منجمه؟
فيا ذوي القدرة من يترجمه؟
قد ضاع من بين يديَّ معجمه(820/48)
ومنه ما قال في الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي، وأوله قوله:
متأنق في شعره ولباسه ... فكأنه لقريضه كواء
أما الكثير الذي يفقد ملامح الصورة، فهو إما مدح أو هجاء والهجاء هو الغالب، وقد نال به من شعراء أفاضل. ويحسن مخيمر صنعاً لو أنه طوى هذا النوع من شعره، فنشرهُ يجني على ما يبدع من ألوان أخرى، وحسبه (لزوم ما لا يلزم) في القافية!
بين صديقي الأستاذ الأسمر وبيني:
قرأت ما كتبه صديقي الفاضل الأستاذ محمد الأسمر في العدد الماضي من (الرسالة) رداً على ما كتبته في الصلة بين قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وبين قصيدة الزين في حافظ إبراهيم. والحق أن كرم الأستاذ الصديق في الرد أسرني وكادت محاسنته تمسكني عن معاودة الموضوع، لولا منازعة القلم إلى إزالة الغبار عن الحقائق الأدبية فيما يلي:
1 - قال صديقي الأستاذ الأسمر: (إن قصيدة الزين رحمه الله لا علم لي بها) وقال: (ولا هي من المتداول المعروف بين الناس) وأنا لا دخل لي في علمه، ولكن أقول إن القصيدة متداولة معروفة بين الأدباء، ومما يدل على ذلك أني لما أردت كتابة الموضوع ورأيت أن أتثبت من نصها، قصدت إلى دار الكتب المصرية، وما إن أبديت رغبتي في الاطلاع على قصيدة الزين حتى بادرني الأستاذ أحمد حسين بالقسم الأدبي في الدار، بأن القصيدة لديه وأنه نسخها بخطه وقت نشرها لإعجابه بها، وفي نفس الوقت أسرع بعض الحاضرين إلى إنشادها.
2 - نعم ليست المعاني المطروقة ملكاً لشاعر دون آخر، والموافقات اللفظية جائزة الوقوع بين الشعراء، ولكن الأمثلة التي أتى بها الأستاذ الأسمر ذاتها تدل على أن الأمر في ذلك لم يعد العبارة أو الشطرة أو الخاطرة. والذي معنا موافقة ستة أبيات لخمسة في بعض الألفاظ، وفي المعاني باختلاف يسير فيها، مع اتحاد الوزن والقافية؛ فهل يصح أن نسمي اجتماع كل ذلك مواردة؟
3 - لم أنتبه لأخذ الجارم من قصيدة شوقي في إسماعيل صبري، وليست هذه أول مرة يأخذ فيها الجارم من شوقي. وارتكاب أحد أمراً لا يسوغ أن تأتي مثله.(820/49)
وللصديق الكريم تحيتي وودادي. . .
من الأعماق:
يسرني أن أكون أول قارئ لصديقي الأستاذ كامل محمود حبيب، يبدي رأيه في ختام قصة (من الأعماق) المنشورة في رسالة الأسبوع الماضي، فأقول إن موقف جلال موقف غريب إذ بصر على الزواج من إلهام بعد أن يعلم أن في حياتها شاباً آخر هو عادل، فمن أبسط الأشياء عند الخطبة أن يتحرى الخاطب عن مثل ذلك حتى لا يعاني شقاء العيش مع زوجته المتوقعة إن كانت تحب رجلاً آخر، ولكنا نرى الحقيقة تسعى إلى جلال، ومع هذا لا يزال يصر! فهو إذ ينسحب من الميدان لا يكون مضحياً بل ناجياً بجلده من الشقاء الذي ينتظره.
ولكن المشكلة - فيما يظهر لي - إنما هي كيف يقتنع جلال بضرورة الانسحاب، أو كيف يحمل على ذلك؟ أرى أن يبتعد عادل قليلاً ويترك المعركة تدور بين كرامة جلال - ولابد أن يستشعرها مع الزمن والتكرار - وبين فتور إلهام وإعراضها عنه، ويبعث عادل بالمدد إلى قلبها من بعيد، وسترى الأم سوء حال ابنتها فتشفق عليها وتتحول إلى جانب عادل فتكون عاملاً مهماً في إنها الموقف، بحيث يرى الضابط ضرورة فوز كرامته في المعركة بالانسحاب. . .
عباس خضر(820/50)
البَريُد الأدَبي
أين العلوم في (الرسالة)؟
يسأل الأستاذ عبد المنعم العزيزي الأستاذ أنور المعداوي: (أين العلوم في مجلة الرسالة) في حين أن هذه المجلة تحمل هذا الشعار: (مجلة أسبوعية للآداب والعلوم والفنون).
لا تلومن الرسالة يا سيدي لأنه إذا كانت كبرى المجلات المخصصة
للعلوم قد انمسخت وخلعت عنها ثوب العلم لكي تكتسي ثوباً فضفاضاً
ملوناً مزخرفاً لا يمت إلى العلم بشيء، فلا غبار على الرسالة إذا
أقتصرت على الأدب لأن فرسان الأدب كثار والأدب أقرب منالاً من
العلم. وإذا كانت المجلة الموسومة بالعلم لم تخصص عُشر صفحاتها
لمقالة علمية واحدة لأن بين قرائها عشرة بالمائة على الأقل يفهمون
العلم ويودونه، فلا بدع أن تحرم الرسالة 10 بالمائة من قرائها من
قطرات العلم مع أن في قرائها 20 و 30 بالمائة من أهل العلم
ويتوقون إلى الاطلاع على ما يستجد من النظريات العلمية؛ فإذا
خصصت الرسالة في كل عدد 4 أو 6 أو 8 أعمدة لبحث علمي تكون
قد أتمت رسالتها وبزت غيرها.
في معظم ما تصدره مطابعنا من دوريات ورسالات وكتب لا تحيد عن الأدب، ومعظمه أدب قديم نلوكه ثم نتقيؤه وقد نتقيؤه زنخاً، وليس في دور العلم إلا المؤلفات التعليمية للمدارس وطلاب العلم.
ما من مدنية قامت على الأدب وحده. وقد يمكن أن تقوم مدنية على العلم وحده. إن مدنية العالم الحديثة قامت على العلومالطبيعية والكيماوية والرياضية والفلكية والطبية الخ. فإذا شئنا نحن أن نبني في شرقنا العربي مدنية خاصة بنا يجب أن نحذو حذو أوربا وأميركا في العناية الأولى بالعلوم، وإلا فنحن وراء وراء وراء. ولا يمكن أن تتقدم إلى الأمام.(820/51)
اليابانيون في قرن واحد شرعوا ينافسون الغرب؛ لأنهم اقتبسوا العلم من الغرب، حتى إنهم اقتبسوا لغة غربية لكي يتعلموا العلوم بها فأصبحت اللغة الرئيسية لهم. أما أن نقتصر على زخرف الكلام والطباعة في صحافتنا فما هو إلا مرفين يخدر العقول ويطمس الصواب.
يحفزني الأستاذ أنور المعداوي إلى كتابة بعض مقالات علمية في الرسالة لكي تستوفي الرسالة حقها من العلم كما تستوفي حقها من الأدب والفن. فأشكر له حسن ظنه بي وقد ألبي طلبه وإن كنت في العلم دون ما يظن. وله وللعزيزي أطيب تحياتي.
2 ش البورصة الجديدة
نقولا الحداد
أدب القصة وأدب المعقب:
تفضل الأستاذ الكبير محرر (التعقيبات) فتناول مقالي عن أدب القصة القصيرة بتعقيب جاء صورة صادقة لأدبه، فقد توهم أنني عنيته بمقالي، كأن الرسالة مجلة منزلية تنشر وتطبع له وحده، أما القراء فلا حساب لهم، وراح يحاسبني - متهكما - على الوقوف منه موقف الأستاذية وهو ما لم يجر في خاطري أبداً. وما توهمت لحظة واحدة أنني أقرر جديداً في أمر القصة، إنما هي خواطر مرسلة ليس لي فيها إلا فضل الدراسة والتحصيل والاستنتاج، وأقول بكل تواضع أنني واثق تماماً من صحتها.
قد ترك المعقب كل ما أوردت في مقالي من حقائق - لأنه لا يستطيع هو ولا غيره أن ينقص منها حرفاً واحداً - وأمسك بتلابيي ليحاسبني على ما توهمه ولم أقله مما يثبت جموح النفس وتمكن شهوه التهكم وتجريح الناس من نفسه.
قال الأستاذ الغاضب (. . . ينكر الأستاذ عطا الله أن مجال العمل الفني في القصة القصيرة مجال محدود. . .) في حين أنني لم أقل إلا العبارة التالية: (من السذاجة أن يقول قائل إن الأقصوصة ليست ميداناً لعرض صور الحياة المختلفة بما تحفل به من كثرة وعمق وغنى وتنوع) وقد استنتج هو من عندياته أن عكس ما أقول لابد أن يكون غير صحيح، كأننا بصدد قضية جدلية! كما أنني لم أقارن مطلقاً بين القصة الطويلة والقصة القصيرة، ولم أذهب إلى أن القصة القصيرة تبلع أعلى مراتبها في كل حين، بل ذكرت أمثلة محدودة(820/52)
وقلت إن الشخصيات الفذة هي التي ترقى بالأقصوصة إلى مرتبة الأدب العالي الشامل العميق، ومن البديهي أن مجال الأقصوصة في أيدي العاديين من الكتاب مجال محدود.
كما أنني لم أنكر مطلقا ً - وليس هذا تراجعاً مني - أن القصة الطويلة أوسع مجالاً من القصة القصيرة أو أنها الميدان الوحيد الذي يتسع لدراسة تطور الشخصيات وتفاعلها مع الحياة دراسة وافية، بل قلت إن الأقصوصة يجب أن تدور حول محور واحد وتعالج أمراً واحداً معالجة خاطفة فكيف استخرج الأستاذ المعقب من مقالي ما ذهب هو إليه؟؟
ولماذا يحب الأستاذ المعقب أن يضع نفسه دائماً في بؤرة الضوء ويلتمس لذلك شتى الحيل فيتوهم أنه المعنى بالحديث، ويقول للناس إن الكتاب يرسلون إليه كتبهم راجين أن ينقدها ويفترض أنه الناقد المثالي الأول فيعلن في زهو وصرامة أنه وجد أكثرها تافهاً لا يستحق العناء؟؟
ويختم الأستاذ كلمته بقوله إنني فزت بجائزة من جوائز الدرجة الثانية في مباراة القصة القصيرة التي أقامتها وزارة المعارف، ومعنى هذا أن هيئة التحكيم لم تقدر فني. . . أليست هذه مغالطة تكشف عن عنصر آخر من عناصر نفسية؟. .
نصريالله
مدمس:
نشرت الأهرام كلمة لأحد الباحثين تحت عنوان (بين العامية والفصحى) ادعى فيها أن (المدمس) أصله (المدمث) بالثاء المثلثة بمعنى اللين؛ وأقول إن هذا ليس بصحيح وإليك الأدلة:
أولا: اشتراك المدمس والمدمث في صفة وهي اللين لا يبرر أنه محرف عنه.
ثانياً: المدمس إدام مصري وطعام محلي بحت وهو غير معروف للعرب.
ثالثاً: جاء في (محيط المحيط) للبستاني ما نصه: المدمس طعام في بلاد مصر يصنعونه من الفول المسلوق والخل والملح والزيت اهـ. ولم يقل أنه محرف عن المدمث مع أنه يعني دائماً بالألفاظ الحديثة والكلمات الدخيلة.
رابعاً: جاء في مادة (دمس) ما نصه: دمسه في الشيء تدميساً دفنه وخبأه وأخفاه وغطاه(820/53)
وستره اهـ. ومن هذا أخذ المصريون كلمة المدمس وأطلقوها على الفول المطهي بوساطة الحمام أو الفرن أو نحوهما لأنه يوضع في قدر بها ماء ويسد فمها جيداً وتدفن في الرماد الحار حتى تنضج.
خامساً: يمكن اشتقاق كلمة المدمس من (الدمس) بكسر الدال وتسكين الميم وهو ما يتخلف من روث المواشي ويتخذ وقوداً يوضع في الفرن ونحوه فيتخلف عنه رماد حار توضع فيه القدر بالطريقة السالفة.
سادساً: تسمع في الريف كلمة (الدمسة) بكسر الدال وتسين الميم وهي عبارة عن مكان محفور أو غير محفور يوضع فيه الدمس السابق وتشعل فيه النار للتدفئة وغيرها، ويقولون دمس الدمسة دمساً إذا وضع فيها الدمس. ومما يؤيد هذا: الفطير الدماسي، وهو المصنوع على الدمس.
علي حسن هلال
محرر بالمجمع اللغو
بين نقشة وفجز:
أرسل إلينا الأستاذ عبد الرحمن الخميسي يقول إن لديه رداً على ما أخذه عليه الأستاذ المعداوي في (التعقيبات)، ويرجو أن يفرغ منه هذا الأسبوع لينشر في العدد القادم.
فصيح ثعلب والشروح التي عليه:
مجموعة جديدة في فقه اللغة أخرجها الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي المدرس بكلية اللغة ونشرتها مكتبة التوحيد بالجماميز في نحو الخمسمائة صفحة.
وتشمل هذه المجموعة: كتاب فصيح اللغة لثعلب، وكتاب شرح الفصيح للهروي، وكتاب ذيل الفصيح للبغدادي، وكتاب فعلت للزجاج، وكتاب الاشتقاق الكبير لابن دريد. وكلها من أمهات الكتب في اللغة العربية وفقهها.
ومع هذه المجموعة: دراسات وتحقيقات جديدة قيمة في اللغة، وشروح وتعليقات وافية.
ونشر معها لأول مرة في تاريخ الثقافة العربية شواهد الكتاب لسيبويه مرتبة بحسب حروف الهجاء، مع الإشارة إلى مواضع الشواهد من الكتاب لسيبويه.(820/54)
ونحن في غنى عن التنويه بهذا العمل العلمي، وبقيمته اللغوية وأهميته للدارسين والباحثين.
ويطلب الكتاب من مكتبة التوحيد بالجماميز أمام الخديوية وثمن النسخة خمسة وثلاثون قرشاً.(820/55)
الكتب
وميض الأدب بين غيوم السياسة
لصاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا
بقلم الأستاذ أحمد أحمد العجمي
معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات ورئيس جامعة أدباء العروبة علم من أعلام الشعر والأدب والسياسة، وهو بشخصه العظيم وأدبه الرفيع في غنى عن الإشادة بذكره والتنويه بفضله. وآخر الدلائل على علو منزلته في الشعر والنثر، ورسوخ قدمه في النقد والتحليل، كتابه القيم (وميض الأدب بين غيوم السياسة).
ولعل السبب الأول في نشر هذا الكتاب حب المؤلف للشعر حباً سافراً متوقداً يجعله يقول عن القصائد: (وقد أكبر بعضها فأقرؤها واقفاً عند الوثبات التي تتخلل الشعر. . . والشعر سحر وفتنة، وقد افتتنت به؛ وفيه خيال، وفي الخيال تسلية ولذة؛ وهو موسيقي، وفي الموسيقى طرب وترويح وبهجة؛ وهو مناجاة تتصل بالروح فتستولي على الشعور وتملك الوجدان. وأعتقد أن الذي لا يهتز لجيد الشعر جاهل أو بليد، أما الجاهل فلا شأن لنا به، وأما البليد فله عذره، لأنه لم يخلق نفسه، على ألا يلوم غيره، وويل للشجي من الخلي).
بهذا الكلام الجميل، وبهذا الشعور العميق، وبهذا القلم الصناع تناول المؤلف في كتابه أكثر الشعراء والكتاب المعاصرين، فتحدث عن حافظ إبراهيم في موضعين حديثاً ألم فيه بميلاده ونشأته ونواحي نبوغه وذيوع شعره وما كان بين حافظ وبين (بني أباظة) من ود وإعجاب. ثم كتب عن شوقي فصلاً صور فيه سحره وعبقريته وجمعه بين الثقافتين العربية والغربية، وتوفيقه البارع في نظم رواياته الشعرية خاصة (مجنون ليلى) التي كان المؤلف يحفظها عن ظهر قلب. وسجل لأحمد محرم أكبر نصر ظفر به حين قال عنه: إنه شاعر الإسلام غير منازع في عصرنا هذا، وأشاد بالإلياذة الإسلامية ورجا من معالي وزير المعارف طبعها.
وكتب عن خليل مطران بك شاعر القطرين وأبدى إعجابه بتقدير الناس له وكيف انعقد الإجماع على حبه، ونوه بتجديده وبشعره الرقيق في الغزل وقال: إنني مولع بشعر مطران(820/56)
كل الولع.
ثم كتب المؤلف مقدمته الخالدة لديوان الدكتور إبراهيم ناجي (ليالي القاهرة) فأفاض في الحديث عن الجديد والقديم، وعن اللفظ والمعنى، وعن طرق تعبير المدرسة الحديثة في الشعر، وكيف قوبلت هذه المدرسة بالحرب العوان، وكيف انتصرت هذه المدرسة التي يمثلها ناجي. وأشار إلى الفروق الدقيقة بين المدرسة القديمة والمدرسة الحديثة في الشعر والتفكير، وإلى شخصية ناجي وطابعه الواضح وعاطفته المتأججة في كل أشعاره الطريفة، وقال عنه: إنني لأحب هذا الشاعر كل الحب، ولا أعتقد أن حبي طغى على تقديري له، فهو شاعر رقيق تصل معانيه إلى قلبك قبل أن تصل إليه ألفاظه في طلاوة وسهولة. وقال: إن ديوانه يمثل نهضة الشعر المعاصر وتطوره. ولعل هذا الفصل أبدع وأروع فصول الكتاب.
ثم أبدى المؤلف إعجابه بالأستاذ محمود غنيم وقال: إن ديوانه (صرخة في واد) صرخة الأدبالرفيع سيرن صداها على مدى الأجيال بين آفاق العروبة. ونوه بخصائص الأستاذ العوضي الوكيل في ديوانه الجميل (أصداء بعيدة) وأظهر خصائصه قدرته على سرعة النظم سرعة تكاد تكون ارتجالاً، وإجادته في الربيعيات خاصة في ديوانه (أغاني الربيع)، ونظم الشعر الرائع في أسرته وأولاده حتى أعد ديواناً كاملاً سماه (عالمي الصغير). وقال المؤلف عن الشاعر: فأنا إذ أقدمه إلى قراء الشعر العربي الحديث أقدم موضوعاً كاملاً من الأدب العالي والفن الرفيع.
وقص علينا كيف لقي الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي في (غزالة) لأول مرة في مقدمته لديوانه (أحلام الفجر) - وسيصدر قريباً - وقال عنه: إنه شاعر تنبض العاطفة الجياشة في كل ما يصادف القارئ من قصائده ومقطوعاته، وشبه ديوانه بالمعرض الفني العظيم، وعلل كيف يراه بحترياً متنبياً في آن، أو شوقيَّ عقاديَّا معاً.
ويمتاز ما كتبه الناقد العبقري صاحب (وميض الأدب) في الشاعرين: العوضي والغزالي بقوة التحليل ودقة التعليل وبراعة التدليل والربط بين الشاعرين وأشعارهما برباط محكم لصلتهما به منذ زمان طويل.
وفي وميض الأدب كلمة عن الأستاذ الصاوي شعلان صدر بها كتابه (حكمة الشرق) وبين(820/57)
فيها مقدرته على الترجمة ومعرفته كثيراً من اللغات وفي الكتاب نص الكلمة القيمة التي نشرت في صدر الرسالة منذ شهور بعنوان (أدباؤنا المعاصرون) يليها نموذج رائع من شعر الشاعر الكبير دسوقي باشا بعنوان (مصر والصين) وهو شعر جدير بوزير. ولابد من التنويه هنا بأبحاث عظيمة في الكتاب مثل (لماذا حاربنا الصهيونية) و (من مهرجان العروبة) وقصيدة العقاد في تكريم المؤلف، وهي قصيدة قيمة، ومقدمة ضافية للعقاد في صلة الأباظية بالأدب وحبهم له، ومنزلة الدسوقي باشا وفضله على الأدب والأدباء، وفي آخر الكتاب كلمة مناسبة للناشرين.
هذا عرض سريعلفصول الكتاب الذي وفق فيه معالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا ودل على مقدرة بارعة وإحاطة واسعة بوفرة ما تمثل به من أشعار الشعراء، وكان اختياره الحسن دليلا ناطقاً وبرهاناً صادقاً على ذوقه الرفيع.
ولم يخل الكتاب من مناقشات طريفة لبعض آراء كبار الأدباء، كمناقشة المؤلف رأي الأستاذ عباس محمود العقاد في الشاعر المجدد خليل مطران، ومناقشته رأي الدكتور طه حسين بك في مرائي الشاعر الخالد حافظ إبراهيم للأباظيين، ومناقشته رأي أستاذ الجيل لطفي السيد باشا في شوقي وحافظ، والمؤلف يبدي آراءه ويدلي بحجج قوية ناصعة تخالف هؤلاء الأعلام، والرجوع إليها في الكتاب أفضل من تلخيصها في كلمات.
وللمؤلف تعبيرات جديدة محكمة كقوله: لغة الشعر غير لغة القاموس؛ وتعبيرات سديدة حاسمة كقوله: في رأيي أن الشاعر المجدد تعنيه الفكرة ويتصباه الموضوع، وربما أبعده هذا عن جمال الأسلوب وإشراق الديباجة وحلاوة التعبير؛ وتعبيرات لغوية دقيقة كقوله: أمسى اليتيم لطيما (واليتيم من مات أبوه واللطيم من مات أبواه والعجي من ماتت أمه) وتعبيرات ساخرة لاذعةكقوله: فليسمح لي الدكتور طه المعجب بالفيلسوف ديكارت القائل بنظرية الشك أن أشك في إسنادههذا الرأي لأستاذنا الكبير لطفي السيد باشا؛ وتعبيرات لطيفة ظريفة مرحة كقوله في التعليق على قول مطران:
أقسمتُ ما أشركتُ فيكِ ولم يكن ... لي في الهوى دينٌ سوى التوحيد
بهذا البيت اعترف المطران بالإسلام دين التوحيد فاشهدوا عليه!!
وتعبيرات أخرى يخفى مدلولها على كثير من القراء كقوله: هل يكون الشاعر الأول - بين(820/58)
شعراء الشباب - إبراهيم ناجي أم أبا فاشا أم غنيما أم العوضي الوكيل أم أحمد الغزالي أم مخيمرا أم حماما؛ وكتابة الأسماء بهذا الشكل الملفوف فيها ترتيب مقصود إلا في اسم أو اسمين.
وفي الكتاب بعض آراء تقبل المناقشة، ولا خير في كتاب أدب وشعر ونقد ليس فيه آراء تقبل المناقشة، كقول أديبنا الكبير في شوقي: (تستدبر الأجيال ألف عام حتى تعثر على من يقف في صفه ويصح أن يقارن به، شاعر واحد بعد ألف عام لك أن تفاضل بينه وبين شوقي - إنه المتنبي) هذا كلام يمليه حب شديد لشوقي يوشك أن يكون غلواً أو تعصُّباً، والمتنبي يفوق شوقي بقدر ما بينهما من عدد السنوات!!
وقد فضل المؤلف قصيدة خليل مطران على قصيدة حاقظ إبراهيم في رثاء البارودي، وهي القصيدة المشهورة التي مطلعها:
ردوا عليّ بياني بعد محمود ... إني عييتُ وأعيا الشرر مجهودى
بسبب بيت واحد في قصيدة مطران هو:
على الشمس أن تهدي المبصرين ... وليس على الشمس أن تبصرا!
والبيت رائع جداً ولكن قصيدة حافظ أفضل بالرغم من أنها لاصقة بالشعر القديم، وإن كان مطران أعظم من حافظ مع كراهيتي الشديدة تفضيل شاعر على شاعر فلكل فنان مزاياه.
ويقول المؤلف: محمود غنيم شاعر مرموق المكانة يقف في طليعة الرعيل الأول من شعرائنا المعاصرين وليس في بلاد العرب من لا يعترف له بذلك! ويبدو أنني - بحق وصدق - من بلاد العجم، لأنني لا أعترف بأن (محمود غنيم) في طليعة الرعيل الأول من شعرائنا المعاصرين مع إعجابي بفنه الرفيع.
بقيت كلمة في أسلوب صاحب الكتاب، وقد قدمت منه نماذج كثيرة، وهو أسلوب ناصع اللون، واضح الجرس والرنين، جزل سهل متين النسج، أقرب إلى الطبع من الصنعة، وأدنى إلى السحر من الشعر، وإنه لسحر مبين.
أحمد أحمد العجمي(820/59)
العدد 821 - بتاريخ: 28 - 03 - 1949(/)
تعليق على جواب
صديقي الأستاذ أبا خلدون:
سألتك: هل الشقاق طبع في العرب، فأجبتني أن الشقاق طبع في جميع الناس. وكما سقت إليك في سؤالي شهادة التاريخ على شقاق العرب في الجاهلية والإسلام، وفي البداوة والحضارة، وفي الدين والسياسة، وفي الشدة والرخاء، سقت إلىَّ في جوابك شهادته على شقاق اليونان والرومان والفرنسيين والألمان في كل أولئك! وقصر الشقاق على العرب، والخلاف على المسلمين، لم يخطر ببالي حين وجهت إليك سؤالي؛ فإن من يَقصر الخلاف في حياة الناس على بعض دون بعض، كمن يَقصر التقلب في حال الطبيعة على أرض دون أرض. والله العليم بكل سر والشهيد على كل أمر يقول: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)؛ إنما قصدت بسؤالي أن أواضعك الرأي في طبيعة الشقاق العربي الذي لم يحسمه الدين ولم تخففه التجارب: أيصدر عن علة تزول، أم يصدر عن جِبلَّة تبقى؟ والذي رابني من هذا الشقاق ما أراه اليوم من تَمرده على الميثاق الجامع، وخروجه على الرأي الجميع، وتحديه للخطر المشترك، لشهوة تستبد ببعض النفوس، أو لنزوة تعصف ببعض الرءوس، لا لفلسفة تبرر سياسة الفرقة كما كان عند الإغريق، ولا لاجتهاد يتوخى سلامة الجماعة كما كان عند الرومان.
أما قولك يا صديقي إن العرب ليسوا بدْعاً من الأمم في الشقاق والانشقاق، فإني كنت أرفعهم في نفسي وفي رأيي فوق ذلك؛ لأن الأمة العربية إحدى أمتين اختارهما الله لإعلان دينه وإعلاء حقه، فبعث آخر رسله من بينها، وأنزل دستور شرعه بلسانها، ووضع ميزان عدله في يدها؛ فإذا هي أصاخت كغيرها إلى صوت الغريزة، واستجابت لدعاء الهوى، لم تكن حرية بقول الله فيها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). ولا بقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس).
وأما تفسيرك العرب بالبدو في قول صديقك أبن خلدون، فلا يؤخر في التهَمة ولا يقدم في الدفاع، لأنك تعلم أن الموج من العُباب، وأن العرب من الأعراب، وأن العصا من العُصَيّة. والطباع قلما تتغير بانتقال صاحبها من سكني الوبر إلى سكني الحجر، ومن رعاية الإبل(821/1)
إلى رعاية الناس.
وأما تعليلك هذه الصد عات التي أصابت العروبة فمزقت الكلمة وفرقت الدين، بسرعة الفتح، واتساع الرقعة، ومؤونة الانتقال، وصعوبة الاتصال، فيضعفه علمك بأن الصدعة الصغرى كانت في (السقيفة) بعد أن قُبض الرسول، وإن الصدعة الكبرى كانت في (الدار) بعد أن قُتل عثمان!
لا يا صديقي، إن الفردية هي علتنا الأصيلة، وإن العصبية هي داؤنا الموروث. وإن هاتين الرذيلتين هما جماع الآفات التي مُني بها العرب، وعُني بعلاجها الإسلام. وقد فصَّلت ذلك في مقالتين نشرا في (وحي الرسالة). والدليل قائم اليوم يا صديقي على أن الفردية والعصبية لا تزالان توهنان البناء، وتحللان العقدة، وتفرقان الجماعة. ولولا أن بيني وبينك ثالثاً يمحو ويثبت، لبينت الأسباب، وعينت الحوادث، وسميت الأشخاص؛ ولكني كضفدع الشاعر التي يقول فيها:
قالت الضفدع قولا ... ردَّدته الحكماء
في فمي ماء، وهل ين ... طق مَن في فيه ماء؟
أحمد حسن الزيات(821/2)
الذرة والسياسة والحرب
للأستاذ عمر حليق
في المعسكر الغربي جدل حول خطورة القنبلة الذرية كسلاح فاصل وعن الدور السياسي والحربي الذي ستلعبه في مستقبل العالم.
فهناك من يعتقد بأن القنابل الذرية التي يملكها وينتجها حلفاء الغرب كافية لأن تقضي على الكيان السوفيتي وآلة حربية في فترة من الصراع المسلح قصيرة الأمد؛ وأنه لا يمكن أن توجد أسلحة دفاعية ضد هذا السلاح الجهنمي.
ويستند أصحاب هذا الاتجاه إلى اختبار اليابان؛ فهذا النوع من التدمير الجهنمي الذي محا مدينتي هيروشيما وينجاساكي شاهد حي على تحليلاتهم وتعليلاتهم وهي تتعرض إلى النواحي الفنية في مفعول القنبلة الذرية وإنتاجها. وعلى رأس أنصار هذا الرأي العالم المعروف البرت إنشتين.
وأصحاب الرأي الثاني متحفظون في نظرتهم إلى سياسة القنبلة الذرية؛ فهم لا يرون في مفعولها هذا الهول العظيم الذي يتصوره الرأي العام العالمي. ومن أبرز أصحاب هذا الرأي العالم البريطاني الشهير البروفيسور بلاكيت. , , وهو متخصص في شؤون الذرة، وقد نال مؤخراً جائزة نوبل للعلوم الطبيعية، كما أنه أصدر مؤخراً كتاباً ضمنه آراءه بصدد سياسة القنبلة الذرية، فأثار ضجة في المملكة المتحدة في الأوساط العالمية إجمالا، وضرب بذلك مثلا على مكانة العلم وحرية الرأي في ظل الديمقراطية، إذ أن استنتاجاته وتحليلاته تخالف الرأي الرسمي للحكومة البريطانية ولكنها مع ذلك لم تعترض سبيله ولم تنفر من الاستفادة بخبرته العلمية.
ولنعد إلى عرض فحوى هذا التعليل الذي لا يميل إلى تعليق أمل كبير على القنبلة الذرية كسلاح سريع الفصل في حرب المستقبل. فهو يقرر أول ما يقرر أن نقطة الضعف الرئيسية في القنبلة الذرية كونها لا تختلف عن القنابل الجوية الأخرى إلا بتدميرها عدداً كبيراً من المنشئات والأنفس، وأنها لا تستدعي تغييراً جوهرياً في الخطط العسكرية التقليدية من حرب المشاة والأساطيل والطائرات، وأن حرب المستقبل لا مفر لها من اعتبار هذه الخطط العسكرية للنصر العسكري، فقد بلغ ما ألقته أساطيل الحلفاء الجوية(821/3)
على ألمانيا في الحرب المنصرمة مليوناً وثلث المليون من أطنان المتفجرات، ومع ذلك فإن تقرير وزارة الحربية الأمريكية يقول بأن إنتاج ألمانيا الصناعي كان في سنة 1944 (بعد أربع سنوات من ابتداء الحرب) أكثر منه في مطلعها سنة 1939. وهذا التقرير الأمريكي الرسمي يعترف صراحة بأن خسران ألمانيا واليابان للحرب كان بسبب فقدان المؤونة من الأغذية والمواد الخام لا بسبب التدمير الجوي - فإن مصانع الحرب في هيروشيما وينجساكي لم تدمرها القنابل الذرية لأنها كانت في الضواحي، وأنه لو تسنى لليابانيين استعمال ملاجئ واقية حصينة لكانت إصاباتهم في الأنفس أخف. فقد كان العالم يجهل آنئذ مفعول القنبلة الذرية فلم يحتط لها بملاجئ واستعداد وقائي يتناسب وخطورتها. ويقول أصحاب هذا التعليل استناداً إلى معرفة فنية بإنتاج القنابل الذرية أن هذا الإنتاج في الدول التي تملك شر صنعه محدود، وأنها لا تستطيع توفير قنابل كافية لتدمير جميع المدن ومراكز الإنتاج الصناعي المعادي قبل مضي سنوات عديدة.
والناقدون لهذا التعليل يشيرون إلى أن خبراء القنابل الذرية لدى حلفاء الغرب يعتمدون على ضربة خاطفة على عصب الإنتاج لدى العدو بشكل لا يستطيع معه استرداد رباطة جأشه وترميم الخراب والحرب دائرة. وهناك من خبراء الذرة من يعتقد بأن الأنجلوسكسون لا يستطيعون في ظروف السلم إنتاج أكثر من 1000 قنبلة في السنة، وهم يقدرون كذلك - ولا يفهم عن مصادر هذا التقدير إلا أنها تستند إلى معرفة تكنولوجية - إن روسيا لن تستطيع إنتاج أول قنبلة ذرية قبل عام 1953. وهذا القصور في السباق يهيئ لحلفاء الغرب ذخيرة 4000 قنبلة، وهذا التفوق في الإنتاج يمهد للدعوة في بعض أوساط الحلفاء لإنهاء الكيان السوفيتي في أقرب فرصة، وللخلاف على مراقبة الإنتاج الذري بين الدول الكبرى عدا تعليلات أخرى سياسية واقتصادية فالبروفيسور بلاكيت المذكور مثلا يعتقد - ويردد بذلك ما يشتكي منه السوفيت - بأن عناد الولايات المتحدة في وضع معلوماتها عن الإنتاج الذري للخدمة الاجتماعية العالمية يعود إلى أنانية محضة من جانب الأمريكان، فإن الكيان الصناعي والعمراني في بلاد العم سام مثبت على أساس الوقود البترولي والكهربائي؛ فإذا عم استعمال الطاقة الذرية، فان ملوك البترول والتوليد الكهربائي وألف نوع ونوع من المنتجات الصناعية المتفرعة منهما سيتضررون ضرراً خطيراً يقلب بعض(821/4)
أوجه النظام الاقتصادي رأساً على عقب؛ فلا غرابة أن تجاهد واشنطون ومن ورائها ملوك البترول والكهرباء في سبيل الاحتفاظ بالإنتاج الذري ضمن نطاق مقيد يراعى فيه مصلحة النظام الاقتصادي الحالي في أمريكا.
وفوق ذلك فإن في اطلاع روسيا على سر الإنتاج الذري وتوفير المواد الخام والمساعدة الفنية لهو خطر على تفوق أمريكا الصناعي الفريد. فإن الاقتصاد الموجه وسيطرة الدولة على الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي قد يحقق تعمم الطاقة الذرية في أقصر وقت على النحو الذي يخشاه ملوك الصناعة والمال في الولايات المتحدة، إذ أن ذلك يحقق في الاتحاد السوفيتي تطور الحياة الصناعية والاقتصادية على نوع هائل وخطير يضع الولايات المتحدة في مرتبة ثانوية في الحضارة المعاصرة والسيادة العالمية.
ويقول أصحاب هذا التعليل الاقتصادي - السياسي: إن مشروع الولايات المتحدة لمراقبة الطاقة الذرية المعروض على هيئة الأمم المتحدة لا يتوخى صادقاً إشراك الدول الأخرى في سر الإنتاج الذري، ولكنه يرمي إلى التعرف على مراكز التجارب الذرية في الاتحاد السوفيتي متخطياً بذلك الستار الروسي الحديدي عن طريق لجنة مراقبة الأمم المتحدة.
هذه هي وجهة النظر الروسية بصدد مراقبة الذرة.
ويجيب خصوم هذا الرأي مشيرين إلى أن روسيا غنية بالمواد الخام من الفحم والبترول، وأن قوتها الكهربائية الموَّلدة أضخم قوة في العالم على الإطلاق، وأنها لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنتج الطاقة الذرية على نطاق واسع قبل مضي ربع قرن على أقل تقدير؛ ولذلك كان خيراً لها أن تنشط لاستغلال خيراتها بغير الطاقة الذرية.
والقول بأن أمريكا تتحكم متعمدة ومخادعة في الإنتاج الذري لتحفظ كيانها وتدفقها الصناعي من الانقلاب الثوري الذري الخطير العواقب قول خاطئ. فإن الطاقة الذرية قد ولدت وهي الآن - لأسباب فنية - قيد الإنتاج البطيء، ولكنها ستعمم إن آجلاً أو عاجلاً فليس من المنطق أن تتهم الولايات المتحدة بالأنانية والوقوف في وجه التقدم الحضري فإن طبيعة العقلية الأمريكية واتجاهاتها وخصائصها تتوخى تنمية التقدم الآلي كما تشهد بذلك الحضارة الأمريكية الحالية.
وإذا تركنا هذه التعليلات ورجعنا إلى المسلك الرسمي الذي سلكه حلفاء الغرب في لجنة(821/5)
الطاقة الذرية التابعة لهيئة الأمم والتي تجتمع الآن في لايك سكسس للمرة السابعة عشرة وجدناه يتأرجح بين ثلاثة حلول:
واحد منها سلبي، فالمشروع الأمريكي إذا لم يؤخذ بحذافيره فأنه يمنع المعلومات الحيوية منعاً باتاً عن الدول الأخرى.
والثاني إيجابي إلى حد ما رضيت بواسطته الولايات المتحدة مساعدة أعضاء هيئة الأمم في توفير الإنتاج الذري بالقدر الذي تحتاج إليه هذه الدول في صناعتها السلمية. فبذلك تظل واشنطون السيدة الأولى في مجال التفوق الذري.
والثالث بريطاني تسوده مسحة المخرج اللبق الذي عرفت به الدبلوماسية البريطانية. فهو يقول إن الخلاف في جوهره خلاف على الثقة به، وهو يقر المشروع الأمريكي في أصوله، ولكنه يطلب تقرر الثقة المتبادلة في العلاقات الدولية قبل التقيد بالالتزامات الخطيرة.
هذه الأزمة في الثقة هي عقدة العقد في الخلافات الدولية، لأنها تستند إلى تباين في الميادين والأهداف والسبل. وجميع الحلول التي قدمت ليست سوى محاولات دبلوماسية اللغة مبطنة المقاصد تحاول أن تخرج من المأزق فتنفق الوقت والجهد في الجدل العقيم، تذر به الرماد في عيون الرأي العام العالمي وتستر به استعداداتها للمعركة الفاصلة.
(نيويورك)
عمر حليق(821/6)
صور من الحياة:
الشيخ علي
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا لقسوة الحياة حين تستلب الطائر الغريد من حريته فترغمه على أن يعيش سجيناً يضطرب في قفص، يدف بجناحيه بين السياج فلا يستطيع أن ينشرهما. يرى الهواء والماء والشجر من وراء القضبان ولا يجد لذتها، ويحاول - في وحدته - أن يترنم بإلحان الغابة الشجية فلا تنبعث منه إلا صيحات الأسى والألم، ثم ينطوي على نفسه في يأس يستشعر الحزن والكمد، فالباب مغلق من دونه وماله طلقة بأن يظهره. ولكنه - وهو في سجنه - لا ينسى أن يسرِّي عن نفسه بعض ما يضنيها فيعبث بها ويعبث منها.
مازلت - يا صاحبي - أذكر يوم أن حدثني أبي حديث سفري إلى القاهرة لألتحق بالأزهر. فلقد كان لكلماته - إذ ذاك - نغم حلو يبعث في نفسي اللذة والطرب، ويشيع في قلبي السعادة والنشوة، ويملأ جوانحي مرحاً وسروراً وطافت برأسي أخيلة جميلة جذابة فتراءيت في عين نفسي شيخاً فيه المهابة والوقار، وفيه الهدوء والرزانة، على وجهه سيما العفة والطهر، يدخل الأزهر في صمت ويجلس إلى شيخه في خشوع، يتأنق في جبته، ويختال في عمامته فابتسمتُ. . . ابتسمت حين أحسست بالسمو والعظمة، فما في صاحبي من رأي القاهرة أو دخل الأزهر ولا مَن لبِس العمامة أو جلس إلى شيخ. ولكن أين أنا الآن مما كان في خيالي؟ لقد كان حلماً جميلاً يوشك الآن أن ينطفئألقه، فأنا أشعر كأنني أعيش وحدي في ناحية من الأرض لا أعرف عنها شيئاً لا أتفاعل معها ولا تجذبني هي إليها. وأنا أحس الضيق والملل حين أجدني بعيداًعن داري وأهلي لا أرى أبي ولا المس عطف أمي ولا استمتع بالحديث إلى رفاقي في القرية
ومرت الأيام وأنا في القاهرة أعيش مثلما يعيش الطائر الغريد سُجن في قفص، فلا أجد لذة الحياة ولا متعة المدينة ولا رفاهة العيش، أذوق لذع الغربة وغضاضة الحرمان، ولا أرى من دنيا القاهرة سوى الأزهر والحجرة وما بينهما فحسب. أعدو إلى الأزهر أستمع إلى شيخي فلا أفهم عنه شيئاً، وأحفظ كلماته فلا تطرب لها نفسي، وأستظهر عباراته فلا يهتز لها قلبي. ثم أروح إلى الحجرة التي أسكن لأندفع مع رفاقي في ثرثرة وهذر ما ينتهيان.(821/7)
وضقت بالحياة هنا في القاهرة، وضاقت هي بي، فذهبت أتلمس لنفسي متنفستا ً بين صحابي في الأزهر، وبين رفاقي في الحجرة، فتفجرت حياتي عن لذاذات فيها البهجة والسرور. فنحن - أنا ورفاقي، حين نغدو إلى الأزهر لا نهفو إلى الشيخ ولا نسعى إلى الدرس، كدأب الطالب المنتسب لا يلصق بشيخ ولا يوثق إلى ميعاد ولا يقيد بدرس، ولكن ننطلق إلى حماقات الصبي وسفاهات الشباب، ولكثير من شباب الأزهر حماقات شيطانية تبدو عندما تهب أول نسمة من نسمات الصبححين يوشك الأزهر أن ينفض عنه سنات النوم، ومن بعد الظهيرة حين يثقل الكرى أجفان الطلبة من فرط الشبع والامتلاء، ومن بعد صلاة العشاء حين تنهد الأجسام من أثر الكلال والتعب. فما نبرح في هزل ومزاح حتى يضج صحن الأزهر، وحتى يضيق بنا من يتكلف الرزانة، وحتى يثور من يريد أن يفرغ إلى الدرس أو من يطمع في أن يهدأ إلى الفراش. فلا نخرج من هناك إلا حين ترتفع في وجوهنا عضا المشد أو توشك أن تصفعنا نعال الطلبة.
ونحن حين نروح إلى الحجرة نتحّلق حلقة واحدة نتفكه بما يفعل أساتذتنا ونتندر بما يقولون ونتهكم عليهم في عبث وإقذاع. وإن أعجزتنا فنون الحديث أخذ شاعرنا يقرأ طرفاً من قصص أبي زيد الهلالي أو الزناتي خليفة أودياب، يقرأ في غير تعثر وينطلق في غير توقف، وهو يترنم بما يقرأ في صوت رقيق جذاب يأخذ اللب ويأسر القلب. وقد نجلس إلى رجال ممن نزحوا عن قريتنا منذ زمان يبتغون سعة من الرزق هنا في القاهرة فنستمتع معاً بشرب الشاي الأسود، ويستمتعون هم بوقت جميل فيه المرح واللذة، ونستمتع نحن بما نسمع من أغانيهم الريفية وألحانهم الشجية، فتمتلئ الحجرة ضجيجاً تهتز له أرجاء المكان. فلا تهدأ العاصفة إلا حين يدخل الشيخ علي في وقاره المصنوع وهو ينادي بصوت أجش (الله، الله! هذا هو العلم يا مشايخ!) فينقض السامر في صمت. أما أنا فأنطلق إلى لحافي أتلفف فيه، أواري ابتسامة السخرية وقد تطلْق بها وجهي.
ولطالما أحسست السعادة بين صحابي في الأزهر ورفاقي في الحجرة فما يزعجني إلا هذا الشيخ القزم المعروق، وهو يثير في نفسي الكآبة والحزن، وإن حديثه ليبعث فيّ الملل والضيق، وإن حركاته لتحملني على النفور والبغض، وإن طباعه لتبذر فيّ غراس الكراهية له والاشمئزاز منه.(821/8)
والشيخ علي فتى ضئيل مهزول تقتحمه العين وتزدريه النفس، يتعالى حين يحس الصغار، ويترفع حين يحس الضعة، ويتكبر حين يحس الذلة، في وجهه عبوس، وفي كلامه خشونة، يتصنع الرقة ويتكلف الظرف. وفي طبعه الشراهة والأنانية فهو يحرمني مال أبي، فما يحبوني بقرش أشبع به بعض رغبات نفسي، وإنها لتدفعني إلى أشياء أراها في الشارع، أهفو نحوها ولا أجد السبيل إليها. وهو يحرمني حاجات القرية، فأبي يرسل إلي الدجاج والأرز والفطير والعسل والسمن و. . . فأراه وأشتهيه ولكن يدي لا تستطيع أن تبلغه؛ وإن كبريائي لتترفع عن أن تتحدث بهذا لواحد من الناس. وهو فظ لا يَجلس إلى واحد منا ولا يتبسط معنا في الحديث، ولا يلقي إلينا بالتحية، صلفاً منه وتيهاً، فهو - في رأي نفسه - شيح يوشك أن يكون عالماً. ثم هو يتأنق في لباسه الرخيص ويحرص على أن يلبس نفسه - دائماً - ثوب الطاووس.
اشدّ ما غاظني ما أرى من طباع هذا الشيخ وفيها اللؤم والضعة، ولشد ما ضايقني أن أراه يحاول أم يضعني منه موضع الخادم وأنا شموس صعب، ولشد ما حزّ في نفسي أن يزعم لنفسه الرئاسة فيريد أن يبسط علينا سلطانه، وما هو في القرية بشيء.
وثارت شيطانيتي - ذات يوم - ودفعتني إلى أن أعبث بالشيخ فرحتُ أنشئ كلاماً موزوناً مقفى فيه الهجاء المقذع والتهكم المر، والسخرية اللاذعة، أخاطب به هذا الشيخ القميء، وأخذت اردده بين رفاقي كل مساء في الحجرة، وفي وقت الظهيرة في صحن الجامع الأزهر، فما تلبث رفاقي أن حفظوه وراحوا يترنمون به وجاءني الشيخ علي يفور غضباً ويتوثب غيظاً، يتكلف الوقار والهدوء ثم صاح في وجهي (أأنت قلت هذا الكلام؟) فقلت (نعم، وويلك إن أنت رفعت يدك أو حركت لسانك!) وذهل الشيخ لحديثي حين رأى فيه الجرأة والغلظة، فقام عني ليكتب إلى أبي يشكوني.
وجاء أبي ليسمع ويرى، فأغلظ لي في القول وعنف في الحديث، ولكنه حين أراد أن يعود إلى القرية أعطاني عشرة قروش. . . عشرة قروش كاملة! ورأت طفولتي في نظرات أبي وفي قروشه معاني خفيت على الشيخ نفسه. وسافر أبي إلى القرية ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحق الشيخ في كل مكان ويترنم بها كل لسان.
وضاق صاحبنا بهذا الهجاء فانطلق إلى شيخي ينشر أمامه سفاهتي وقلة أدبي، وشيخي(821/9)
رجل فظ غليظ جافي اليد واللسان. وأراد شيخي أن يبطش بي ولكنه وجدني لين العود لين العظم ضئيل الجسم فنخشى إن هو ضربني أن أتحطم تحت يده أو تحت عصاه، فنهرني في شدة ثم جذبني من أذني جذبة خِلتُ معها أن رأسي قد انشطر لها شطرين. ورضي الشيخ علي ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحقه في كل مكان ويترنم بها كل لسان.
ورضيت نفسي بما فعلتُ. ومرت الأيام والشيخ علي يزداد كراهية لي ومقتاً، وأنا أتمادى في إغاظته وإثارته، وهو لا يستطيع أن يثأر مني خشية لساني وجرأتي، وإبقاءً على ما يرسله أبي من مال وطعام.
وجاء ابن عمي من القرية - ذات مساء - يحمل معه الطعام والنقود، وأسررت له أمراً ووافق هو، فلم تمض ساعة حتى كنت أنا وابن عمي والطعام والنقود جميعاً في حجرة الشيخ حسن.
لقد انفلت الطائر الغرِّيد من قفصه ليذر صاحب القفص - الشيخ علي - يندب صحبتي حين فقد أطايب الطعام وهي تهطل عليّ من القرية فأتنسم ريحها ولا أتذوقها، وحين فقد مال أبي وهو كان يستمتع به وأنا أقاسي مرارة الحرمان.
فوداعاً، وداعاً، أيها الشيخ ألقمي، فما في شراهتك وأنانيتك وبخلك ما يدفعني إلى أن أقول لك: إلى اللقاء. . .
كامل محمود حبيب(821/10)
فزان بين يدي الأتراك والطليان
للأستاذ أحمد رمزي بك
المقدمة:
1 - أعبر عن شكري لهيئة مجلس الإدارة الممثل لرابطة خريجي جامعات فرنسا وسويسرا وبلجيكا إذ أتاح لي الفرصة مرة ثانية لكي أتحدث إليكم، وسيكون حديثي عاماً عن مقاطعة (فزان) وهي الجزء الجنوبي من ليبيا.
وهو حديث كما ستسمعونه سهل غير متكلف يعبر عن شعور المتكلم أكثر من أن يكون محاضرة بالمعنى الصحيح، إذ أنني لا اقصد من هذا تقديم بحث علمي أو تاريخي، وإنما أتقدم بمعلومات متفرقة ونظرات أوحاها إلىَّ ما كان ينطبع في مخيلتي عند مرور هذا الاسم عليَّ في أوقات مختلفة ومناسبات عدة.
2 - ولقد اخترت التحدث عن هذا الموضوع لأنني رأيت أسم (فزّان) بارزاً في الأسابيع الأخيرة، فهي موضع نزاع قائم بين أهل ليبيا وبرقة الذين يطلبون الوحدة لبلادهم أي لا يفرقون بين الجزء الغربي المسمى ليبيا، والجزء الشرقي المسمى برقة، ولا يسلمون بانتزاع الجزء الجنوبي المسمى (فزان) ومع دعاة التقسيم وتوزيع الأسلاب.
3 - ولا شك أنكم قرأتم في الصحف أن فرنسا تحتل هذا القسم المسمى (فزّان) وأن السلطات العسكرية المحتلة منعت ممثلي الشعب الليبي ورجال الصحافة العربية من دخول مقاطعة (فزّان) أو الاقتراب من حدودها. فحالت بينهم وبين الاتصال بالسكان. وأترك لحضراتكم تفسير وقع هذا المنع وأثره في الضغط على حريات الشعوب المظلومة.
4 - إن الوحدة الإقليمية التي ينادي بها أهل البلاد هي وحدة قائمة منذ العهد العثماني، واستمرت طول الحكم الإيطالي إذ كان يطلق على هذا الإقليم اسم ولاية أو إيالة طرابلس الغرب حتى جاءت إيطاليا واعتدت عليها فأصدر ملكها في أوائل سنة 1912 أمراً ملكياً، جعل الولاية قسمين: قسم ليبيا وقسم برقة وألحقت قائمقامية فزان بالقسم الليبي، وبقي الحاكم الإيطالي يسيطر على الأقسام جميعها.
5 - ويجعل الطليان امتداد فزان 900 كيلو متراً من الشرق إلى الغرب و 700 كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب، ويجعلون مساحتها أكثر من 300 ألف كيلو متراً وهي كما ترون(821/11)
تتوسط تقريباً الصحراء الكبرى بين وادي النيل وشواطئ المحيط الأطلسي وتكون هضبة يبلغ مستوى ارتفاعها 500 متراً فوق مستوى البحر وإن كان يتخللها وديان ومنخفضات تهبط أحياناً إلى 150 متراً تحت سطح البحر.
6 - فهي تتمتع بمركز ممتاز جعل منها لعدة قرون مضت ممراً للطريق البرية، وأصبحت عاصمتها (مرزوق) في وقت ما مركز تجمع القوافل التي كانت تسير من بلاد المغرب ومن مصر وطرابلس وبرقة في اتجاهها إلى بلاد السودان وأواسط أفريقيا.
7 - فالطريق من مصر كان يمر بالجغبوب وجالو وزيلا إلى مرزوق ومنها يتجه جنوباً إلى الأقاليم السودانية، وأحياناً يتجه إلى حوض النيجر وتمبو كتو.
والمطلع على كتب التاريخ القديمة يذكر الجاليات السودانية التي كانت تأتي من دكرور وتقطن وادي النيل ويحيطها كثير من ملوك مصر وسلاطينها بعطفهم أيام دولتي المماليك، ثم أتى وقت كانت فيه كل من غات ومرزوق منزلين مهمين من منازل الحجاج المسلمين في طريقهم من غرب أفريقيا. وأخيراً فقد المدينتان هذه الأهمية بعد أن أتخذ الحجاج طرق البحر، وبعد أن أضاعت الإمارات الإسلامية استقلالها في أفريقيا وخرجت الجهات والواحات التي كانت يوماً ما آهلة بالسكان، عامرة بالمزارع.
ومع هذا فليس ببعيد أن تسترد هذه المناطق منزلة قد تفوق منزلتها الأولى، إذ أن النصف الثاني من القرن العشرين يخبئ لنا الكثير من المفاجآت وأهمها العودة إلى الطرق العتيقة التي كان أسلافنا يقطعونها في أيام فإذا بالسيارات تقطعها في ساعات.
ثلاثة تواريخ هامة يجب أن نضعها أمام حضراتكم حينمانتحدث عن فزان:
من مارس سنة 1914 احتلت إيطاليا مرزوق وخرجت منها في ديسمبر من نفس السنة.
في عام 1917 استردها الأتراك ثم تركوها لأهلها سنة 1918 حتى استعادها الطليان سنة 1929
في 12 يناير سنة 1943 دخلتها قوات فرنسا الحرة ولا تزال تحتلها إلى اليوم.
وقد أعلن هذا الفتح في بلاغات ثلاثة عسكرية:
الأول: يصف العمليات الحربية الأخيرة في الشمال ويعين الجنرال دلانج حاكماً عسكرياً.
الثاني: يعلن سقوط مدينتي سبها ومرزوق معاً.(821/12)
الثالث: يعدد الأسرى والمغانم ويشيد بعمل الفرق السنغالية التي اشتركت في المعركة.
9 - وفي 17 يناير سنة 1943 أصدر الجنرال ديجول بياناً للسكان جاء فيه:
إلى أهالي فزان الشجعان الكرماء:
أحييكم باسم فرنسا التي حررت بأسلحتها أراضيكم، وستأخذ من الآن فصاعداً على عاتقها حمايتكم.
إن فرنسا ستبقي في فزان وفي غيرها الصديقة المخلصة لرعاياها المسلمين.
لقد ترتب على هزيمة العدو المشترك أن أصبحت مقاطعتكم تتمتع بالأمن والرفاهية تحت سيطرة فرنسا.
10 - ومن ذلك اليوم، ظهرت نوايا فرنسا في أن تنتدب على فزان وجاهرت بأنها جزء متمم للمستعمرات الفرنسية أقرب إلى الجزائر وتونس منها إلى ليبيا وبرقة.
بل جاهر رجال فرنسا بأنها المحطة الرئيسية للطريق الجوي بين مدغشقر وفرنسا.
وقيل أن بريطانيا وأمريكا سوف لا تعارضان في الضم إذا قبلت فرنسا بعض الاشتراطات.
11 - فما هي فزّان حتى تصبح ذات أهمية وموضوع خاص؟ جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي:
هي ولاية واسعة بين الفيوم وطرابلس الغرب تقع في الإقليم الأول، بها نخل كثير، ومدينتها زويلة السودان والغالب على ألوان أهلها السواد.
وقد ذكرهم جرير في شعر له فقال:
قفراً تشابه آجال النعام به ... عيداً تلاقت به فزان والنوب
مما يشعر أن فزان كان اسماً يطلق على جنس أو قبيل من الناس، والمسألة تحتاج إلى تحقيق.
12 - ولن أترك هذا القسم من الحديث دون أن أشير إلى باب مشهور من أبواب القاهرة هو باب زويله المعروف باسم باب المتولي، فقد أطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى جنود الدولة الفاطمية الذين كانوا من هذه المنطقة من أقاليم الصحراء الكبرى.
13 - من السهل التعرض إلى وصف الإقليم الفزّاني ومظاهر الطبيعة وتضاريسها من(821/13)
وديان وجبال، والكلام على طرق المواصلات، فيها وفي داخلها، كما أنه من المفيد الإشارة إلى توزيع السكان وأصولهم من عرب وبربر، وعوائدهم وما يسود هذه الجماعات من معتقدات قديمة وأساليب معاشيهم؛ ولكن هذه المعلومات موجودة في المراجع المختلفة ويمكن الاطلاع عليها، ومجرد ذكرها لا يعد من المواضيع الجديدة التي يصح أن أعرضها في حديث فرضت من المبدأ أن يكون الغرض منه تنيبه الأفكار للنواحي التاريخية الغامضة من حياة فزان الحديثة والتي تصلح كدروس لنا وتجارب للمستقبل.
14 - وهذه النواحي لا يمكن فصلها عن حياة ليبيا وبرقة، فلنبدأ بإعطاء صورة من اعتداء إيطاليا على هذا الركن من العالم، ثم ننقل إلى تقسيم العمليات الحربية التي كانت فزان مسرحاً لها حتى دخلت قوات فرنسا المحاربة هذه المنطقة وحررتها كما تقول.
(يتبع)
أحمد رمزي(821/14)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 7 -
من المستحسن بعد أن قدمت في المقال السابق نبذة عن أربع قبائل أن أستقصي خصائص كل قبيلة على حدة مشيراً إلى ما تشارك فيه غيرها أو أحقق ما ينسب إليها وهو بغيرها أحق.
1 - إذا أضيف الاسم المقصور إلى ياء المتكلم ظل على حاله من بقاء الألف كما هي فيقال فتاي وعصاي، أما إذا كان قبل ياء المتكلم ألف من حروف الجر (إلى وعلى) أو من الظرف (لدى) فإن الألف تدغم في ياء المتكلم فيقال إلىَّ وعلىَّ ولدىَّ. هذا هو الشائع المستعمل في القبائل العربية ماعدا هذيلاً فإنها تستعمل الجميع استعمالاً واحداً وهو بالإدغام فيقولون فتىَّ وعصىَّ مثل: إلىَّ وعلىَّ. قال شاعرهم:
سبقوا هوىَّ وأعنقوا لهواهمو ... فتحزموا ولكل جنب مصرع
وقد قرأ عبد الله بن أبي إسحق وعاصم الجحدري (قال هي عصي أَتوكأ عليها) كما قرآهما وعيسى بن عمر (فمن تبع هدىَّ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وما شابه ذلك من المقصور المضاف إلى ياء المتكلم قرء به على لغة هذيل، اما قراءة الجمهور فهي على اللغة المشهورة.
2 - (لمَّا) يدل في المشهور على الحين أو الشرط إذا كان قبل الفعل الماضي كقوله تعالى: (ولمَّا فتحوا متاعهم وجدُوا بضاعتهم رُدَّت إليهم) أو يدل على النفي مع الجزم للمضارع إذا سبقه كقوله تعالى: (كلا لما يقض ما أمرَه) أما لغة هذيل فيستعمل فيها بمعنى إلا الاستثنائية تقول أقسمت عليك لمَّا فعلت كذا أي إلا فعلت كذا. وقد قرأ عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر (إن كل نفس لمَّا عليها حافظ) بتشديد الميم بمعنى إلا (وإن) في هذه الآية على قراءتهم نافية أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. كما جاءت لمَّا بمعنى إلا في قراءات صحيحة في سور أخرى.
3 - ما كان اسماً على وزن فَعْلَة مفتوح الفاء وبعده واو ساكنة أو ياء ساكنة فإنه في اللغة المشهورة يجمع جمع مؤنث سالماً على فَعْلات بإسكان العين بعد الفاء المفتوحة يقال في(821/15)
جمع بيضة وعورة (بيضات وعوْرات) لكن هذيلاً تحرك حرف العلة بالفتح تبعاً لفاء الكلمة يقولون بيضات وعوَرات بفتح الياء والواو. وذكر في تفسير البحر أن الأعمش قرأ (ثلاث عوَرات لكم. . . أو الطفل الذين لم يظروا على عوَرات النساء) بفتح الواو على لغة هذيل. أما الجمهور فقرءوا بالإسكان لكن صاحب البحر نقل نسبة هذا الفتح إلى هذيل وبني تميم. . ونحن نعلم أن تميماً مبدؤها الغالب إسكان الوسط المتحرك تخفيفاً كما أنه ليس هناك علاقة مجاورة بين القبيلتين حتى تشتركا في ظاهرة قوية كهذه، ويرجع هذا الخلط إلى أن ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات قال: إن بني تميم يقولون روَضات وجوَزات وعوَرات بتحريك الواو بالفتح وسائر العرب بالإسكان. لكن المشهور في كتب النحو والصرف أن تحريك الواو والياء في مثل جوزات وبيضات هو لغة هذيل بن مدركة وهو ما أرجح صحته لما سبق أن قدمته، والفراء نسبة إلى هذيل فحسب وقد روى عليه:
أبو بيَضات رائج متاوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح
4 - الفعل أو الاسم المنتهي آخره بياء مكسور ما قبلها تشبع حركته وهي الكسرة في وصل الكلام ووقفه تقول يقضي والقاضي. . . الخ أما هذيل فإنها في وصل الكلام تجتزئ بالكسرة عن الياء ولهذا عند الوقف يسكن ما قبل الياء فتضيع وقد أنشد على لغتهم:
كفاك كف ما تُليق درهما ... جوداً وأخرى (تعط) بالسيف الدما
وجاء في قراءة سبعية كثيرة. . . ذلك ما كنا نبِغ. . . (يوم تاتِ. . . والليل إذا يسر. . . وهو الكبير المتعال. . . الذين جابوا الصخر بالواد) فبعض القراء يسير على طريقة الهذليين في الوصل والوقف فيسكن ما قبل الياء ويجتزئ بالكسرة وصلا وبعضهم يسير على اللغة المشهورة فيقرءون المتعالي ويسري والوادي. . . الخ في الوقف والوصل.
5 - ذكرت في مقالي سابق أن تميماً وقيساً وأسداً وربيعة يكسرون حرف المضارعة إذا كان الهمزة أو التاء أو النون أما قبيلة هذيل فإنها تكسر حرف المضارعة إذا كان ثاني فعله الماضي مكسوراً للإشارة إلى أنه في ماضيه مسكور وأن بعض قبيلة كلب من قضاعة يكسرون جميع أحرف المضارعة أما بهراء وهي من قضاعة فإنها تكسر ما كان أوله تاء فحسب ومع ذلك فإن بهراء هي التي سمي باسمها هذا الكسر فقيل (تلتلة بهراء) فأصبح كثير من الكتاب يخطئون فيحسبون كسر حرف المضارعة على إطلاقه من لهجة بهراء(821/16)
تأثراً بما اشتهر عن ذلك بأنه تلتلتها وبعضهم يخطئ فينسب بهراء إلى تميم وقد رأينا أن بهراء لا تكسر حرف المضارعة إلا إذا كان تاء وعلى العموم فإن القبائل الشمالية وبخاصة النجدية هي التي اشتهرت بكسر حرف المضارعة على التفصيل السابق ولم يشركهم في بعض هذا إلا هذيل التي تعتبر في دائرة الحجازيين فيما كان ثاني ماضيه مكسوراً.
وقد رويت أبيات كثيرة في كتب النحو والمعاجم وفيها كسر حرف المضارعة من ذلك قول الشاعر:
لو قلت ما في قومها - لم تِيثم - ... يفضلها في حسب وميسم
أراد لو قلت: ليس في قومها أحد يفضلها في الحسب والميسم لم تكن آثماً.
وهذا البيت ينطق في بهراء وتميم وقيس وأسد وربيعة وكلب وهذيل بكسر حرف مضارعه لأن ثاني ماضيه مكسور (أثم). ولأن أول مضارعه التاء ومثل هذا البيت قول لآخر:
قلت لبواب لديه دارها ... تِيذن؟ فإني حمؤها وجارها
أراد: أتأذن؟ فحذف همزة الاستفهام وقد تقدم بعض ما قرء به في مقال سابق.
6 - نسب صاحب البحر إلى هذيل أنها تبدل الواو المكسورة المصدرة همزة وذلك عند تفسير قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه) حيث قال (قرأ أبن جبير من إعاء أخيه بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا إشاح وإسادة في وشاح ووسادة وذلك مطرد في لغة هذيل يبدلون الواو المكسورة الواقعة أولا همزة) وقال الصبان في حاشيته على الأشموني: وقرأ أبي ابن كعب وابن جبير الثقفي من إعاء أخيه. . .
ونقل عن المرادي: قوله (رأيت في بعض الكتب أنه لغة هذيل) اهـ ولعل بعض الكتب هو تفسير أبي حيان. أما لسان العرب فقد نسب ذلك إلى قبيلة تميم حيث يقول: إقاط ووقاط جمع وقيط. ولغة تميم في جمعه إقاط مثل إشاح يصيرون كل واو تجيء على هذا المثال ألفاً (ولعله أراد بهذا المثال) ما كان على وزن فِعال أو فِعالة حيث ورد وشاح وإشاح ووقاط وإقاط ووكاف وإكاف ووعاء وإعاء ووسادة وإسادة ووراثة وإراثة ووفادة وإفادة ووقاء وإقاء) وقد يكون أراد بهذا المثال ما كان واواً مكسورة في أول الكلمة وهو الأظهر فقد ورد (ورب وإرب وورث وإرث ووصر وإصر) حيث يوافق الصبان على الأشموني(821/17)
في إطلاقه على ما كان واواً مكسورة مصدرة.
وقد نقل شارح القاموس أيضاً ما ذكره صاحب اللسان. ويختلف اللغويون في جواز هذا الإبدال واطراده والقياس عليه أو أنه قاصر على السماع! فأبو عثمان المازني يرى أنه مقيس مطرد وغيره يقصره على السماع.
ونحن حين نناقش هذا الإبدال ونريد الترجيح بين نسبته إلى القبيلتين وفي هذه الكتب نجد أنه بتميم ألصق وإليها أقرب وأن ما ذكره أبو حيان وما عزى إلى المرادي في حاشية الصبان سهو منهما أو خطأ فقد بينت في المقال الثاني أن هذيلا كالحجازيين لا ينبرون. فإذا كانوا في المهموز يخففون همزته فكيف يهمزون ما ليس كذلك! وبينت أيضاً أن قبيلة تميم أحرص العرب على النبر كما أنها قد تلجأ في إبانة الحرف إلى ما هو أقوى منه وأوضح حتى تنتقل بالهمزة إلى العنعنة وبعضها ينتقل بالياء إلى الجيم في العجعجة. أما القياس وعدمه فيحتاج إلى قرار يصدره المجمع اللغوي في جواز ذلك أو قصره على السماع.
وهناك إبدال في الواو المضمونة المصدرة ولكن لم ينسب إلى قبيلة بعينها أو جهة بخصوصها وقد نقل صاحب لسان العرب عن المازني قوله: كل واو مضمومة في أول الكلمة فأنت بالخيار إن شئت تركتها على حالها وإن شئت قلبتها همزة فقلت وُعِد وأُعد ووُجوه وأجوه ووُورى وأُورى. . .) وورد (وُقتت وأقتت) وذكر أبو حيان في تفسيره (قرأ الجمهور أقتت بالهمز وشد القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى بن عمر وأبو عمرو بالواو وشد القاف قال عيسى وهي لغة سفلى مضر) اهـ. وسفلى مضر هي القبائل التي تقارب النجديين أو هي النجديون أما عليا مضر فهي التي تقارب المدينة وما حولها ودنا منها فإما أن (وقتت) بخصوصها هي التي ينطقها سفلى مضر وإما أن يراد بسفلى مضر القبائل القريبة جداً من أهل الحجاز الذين لا ينبرون وهم بعض قيس المجاورون للحجازيين حيث إن الهمزة من خصائص النجديين وقلب الواو همزة وهي مضمومة بهم ألصق وبلهجتهم أنسب، وبخاصة التميميون وقد قيل تميم بن أد وأصله ود. كما ورد في الواو المصدرة المفتوحة هذا الإبدال بقلة: ورخ وأرخ ووبخ وأبخ.
ومما يؤيد كون قلب الواو المسكورة من خصائص تميم أن المزهر نسب الإكاف بالهمزة(821/18)
إلى تميم والوكاف بالواو إلى الحجازين وهذيل تجاورهم أشد المجاورة.
7 - (متى) اسم يدل على الاستفهام أو الشرط يفيد معنى الزمن في كليهما فمن الاستفهام قوله تعالى متى نصر الله ومن الشرط قول الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
أما لغة هذيل في (متى) فهي استعمالها حرفاً بمعنى (من) الجارة فتعمل عملها وبمعناها سمع من قولهم (أخرجها متى كمه) أي من كمه وروى:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
أراد من لجج فخرجت في لغتهم عن الأسمية والاستفهام والشرطية. والقرآن الكريم لم تقع (متى) فيه إلا استفهامية.
8 - (الأم) تنطقها القبائل بضم الهمزة ماعدا هذيلاً وهوازن فإنهما يكسران همزتها إذا سبقتها الياء أو الكسرة وقد قرأ بكسر الهمزة (فلإمه الثلث) حمزة والكسائي وقرأ الباقون بضمها.
9 - تقول هذيل أرجعته وغيرها يقول رجعته، وجمهور القراء قرءوا ما ورد في القرآن من الثلاثي: فإن رجعك الله. فرجعناك إلى أمك. ترجعونها. يرجع بعضهم إلى بعض القول وحكي أبو زيد الأنصاري أن المفضل الضبي قرأ: أفلا يرون أن لا يُرجع إليهم قولا. وقال رب أرجعون) من الرباعي على لغة هذيل.
10 - هذيل وعقيل وطئ يبنون اسم الموصول الدال على الجمع في حالة الرفع على الواو وفي حالة النصب والجر على الياء وقد جاء على لغتهم:
نحن اللذون صبحوا الصباحا=يوم النخيل غارة ملحاحا
11 - اشتهر عن هذيل ما يسمى الفحفحة ويعرفونها بأنها قلب الحاء عيناً يقولون في حتى عتى، وذكر السيوطي في كتاب الاقتراح في أصول النحو أن فحفحة هذيل هي أن يجعلوا الهاء عيناً فيقولون في هل عل. ولست أدري من أين جاء بهذا الذي لم يقل به أحد، بل إن الحاء وإبدالها عيناً لم يذكروا لها إلا عتى في حتى مما يدل على أن قلبها إنما هو في هذه الكلمة بخصوصها ويؤيد ذلك ما يروى أن عبد الله بن مسعود قرأ: عتى حين، فلو كان الإبدال مطرداُ لقرأ: عتى عين. والذي يبدو لي أن الهذليين يجهرون بالحاء إلى أن تقارب(821/19)
العين وظهر ذلك في (حتى) بوضوح فجلعها إلى العين اقرب ثم طال بها العهد فصارت في استعمالهم بخصوصها عتى.
12 - كذلك اشتهر عن هذيل والأزد وقيس وسعد بن بكر من قيس والأنصار ما يسمونه الاستنطاء وهو أن يجعلوا العين الساكنة قبل طاء نوناً يقولون أنطى في أعطى. . والحقيقة أن ما ورد من هذا الاستنطاء هو في أعطى وتصريفها فحسب، وهي التي استعملها الرسول قي بعض كتبه حيث قال وأنطوا الثبجة وقرء عليها إنا أنطيناك الكوثر، وروى الحديث لا منطي لما منعت ولا مانع لما أنطيت. ولم يرد إلينا أنهم قالوا في أعطف وأعطب وأعطر وما شابه ذلك: أنطف وأنطب وانطر. ويخيل إلي أيضاً أن العين في أعطى دخلها ما يشبه الغنة والإدغام فحولها الأنف إلى ما يشبه النون وبمضي الزمن ورثت على أنها نون وصارت لفظة أنطى مرادفة لأعطى كما أصبحت عتى مرادفة لحتى وليس كل عين ساكنة قبل طاء ينطقونها نوناً ولا كل حاء يبدلونها عيناً، أما الفحفحة التي ذكرها السيوطي في الاقتراح فلم أجد من ذكرها غيره وقد تكون الهاء فيها نالت من التقوية عند البدء بها ما جعلها تشبه العين. ولم يرد غير: ألا لغة في هلا وأل لغة في هل ولم يقل أحد علا ولا عل.
13 - ذكر ابن الجزري في غاية النهاية أن هذيلا تكسر أول الماضي المبني للمجهول إذا كان مضعفاً فيقولون في رُدّ بالضم رِدَّ بالكسر، وأن عاصما قرأ: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) بكسر الراء. ويروي أبو حيان أن هذا الكسر لغة بني ضبة، وهم بنو عمومة تميم حيث يقول: (قرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش) وجدوا بضاعتهم رِدت إليهم (بكسر الراء وهو لغة بني ضبة). أما إتحاف البشر فقد نسب قراءة الكسر إلى الحسن فحسب، واكتفى بأن قال إنها لغة ولم ينسبها إلى قبيلة. ولعل الكسر تشترك فيه القبيلتان.
14 - نِعمَ إذا اقترنت بها (ما) تنطقها هذيل بكسرتين في أولها. أما غيرهم فبإسكان العين أو اختلاس الحركة وقرئ بذلك جميعاً. وهذا وما ينسب إليهم أنهم يقولون المِرء بكسر الميم يقوي اشتراكهم مع ضبة.
15 - من ألفاظهم: السرحان والسَّيد بكسر السين معناهما الأسد. الجمسة: النار. انتعص الرجل: وتر فلم يطلب ثأره. الجعسوس والجمعوس: النخل. التكريم: التكثير. الحساب:(821/20)
الجمع الكثير من الناس. العنج: الرجل. الشبج: الباب العالي البناء رجل عوَّق: جبان. الهكع: السعال. لدَّه عن الأمر: حبسه. الفعفعاني: الجزار. السنائع: الطرق في الجبال واحدتها سنيعة. الخلوج من السحاب: المتفرق. المعصوب: الجائع الذي كادت أمعاؤه تيبس جوعاً. العبر: جماعة القوم. ويقولون: البوع وغيرهم الباع. ويقولون: السميج وغيرهم السمج. ويقولون صلوته: أصبت صلاة أي ظهره وغيرهم: صليته. وهم وبنو ضمرة يقولون اليازع وغيرهم الوازع. وهم ومن والاهم من أزد السراة يقولون الخزومة ومعناها البقرة. وهم يقولون في نجد: الساكن الوسط نجد بضمتين. ويقولون: استراب به. وغيرهم: رابه. ويشاركون الحجازيين في أنهم لا ينبرون. ويشاركون النجديين في أنهم يقولون الحج بكسر الحاء. وتقول هذيل الضحضاح بمعنى الكثير. واعثقت الأرض: أخصبت. والليث معناه اللسن البليغ.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(821/21)
حول الفكر العربي:
الغرض من دراسة الفكر العربي
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
- 2 -
إن كانت نهضتنا الثقافية تحتاج إلى تقوية شخصيتنا العربية، عن طريق تجسيم المبادئ الإسلامية في ظروف الحياة العصرية، فإنها تحتاج كذلك إلى أن يضع العرب أيديهم على مواضع عبقريتهم التي لمستها الحضارة الغربية، ومحت معالمها الأصلية التي لن تتضح إلا إذا لجأ العرب إلى دراسة تراثهم الفكري الذي يعتبر الوثيقة الصادقة الوحيدة التي يختبئ في ثناياها سمات النبوغ العربي، وقدراته الفذة، والذي يسوق البحث فيه إلى معرفة اتجاهات هذا الفكر التي إذا أتيح لها فرص القيام بالأعمال التي تلائمها، وتتمشى مع نوازعها، مهرت في أداء كل ما تكلف به، وأظهرت براعة في كل ما يطلبه منها من واجبات سواء أكانت قومية أم دولية. ولذلك يجب على كل من يشتغل بالفكر العربي من العرب أن يراعي هذه الحقيقة، ويضعها نصب عينيه، ولا يقف عند حد تحليل العلوم العربية وفنونها، وإنما يجب أن يتعدى مثل هذه الأبحاث، ويرمي إلى إبراز مؤهلات العقلية العربية وكفاياتها، ويهدف إلى رسم الطرق التي تصمم أسس ثقافات جديدة تتفق مع روح المدينة الحديثة، وتحقق للعرب مآربهم في الحياة، ولا ينبغي لأحد من العرب أن يحاكي المستشرقين في دراستهم للفكر العربي.
لاشك أن المستشرقين هم رواد الباحثين في الفكر العربي، وإن كنا نقدر هذا السبق إلا أنهم لم يوجهوا البحث فيه وجهته الصحيحة، وذلك لأنهم ما أقبلوا على دراسته في أول الأمر إلا بتأثير نوعين من البواعث: أولهما حب الاستطلاع ومعرفة مدى ما وصلت إليه الثقافة العربية من رقي، في وقت كان الغرب يعيش على الفطرة، فبعثت دراستها في نفوس الغربيين الحسد والغيرة من تلك الثقافة التي اعتمدوا عليها في غذائهم الروحي فترة طويلة من الزمن، وأثارت الحقد على حضارة فشلت حملاتهم الصليبية في القضاء عليها، فحاول المستشرقون الحط من قيمة هذه الثقافة بالتشكيك في استعدادات العرب العقلية. والباعث(821/22)
الآخر لا يخرج عن دوافع استعمارية سعت عن طريق الثقافة، كما سعت عن طريق غيرها من الوسائل: تحطيم روح أمة لم تتهاون في مقاومة المستعمرين؛ وقصدت إخضاع العالم العربي بإضعاف الثقة في مقوماته العقلية وإشعاره بحاجته إلى غيره من الأمم الناهضة، فيضطر إلى أن يخضع ويقبل سيطرة الغرب، ويذعن لسيادته. فلا عجب إذاً من تحامل المستشرقين على العرب، ولا غرابة إذا زعموا أن العقلية العربية عقلية ساميَّة قاصرة عن الخلق، عاجزة عن استنتاج المعاني المجردة، غير قادرة على تجاوز الجزئيات المحسوسة، أو إذا ادعوا أن العرب استمدوا علومهم وفلسفتهم من قدماء اليونانيين الغربيين، ولا فضل لهم فيما عرفوه من فنون وآداب ومدنية، فإن معظمها مأخوذ من الفرس والهنود.
ولكن لما أخذت النزعة الاستعمارية تخف باستمرار مقاومة العرب لقوى الاستعمار، ومناهضة الآراء الاستعمارية، ومحاولتها الدائمة لرفع مستواهم المعنوي والمادي، وإظهار قوة مواهبهم، وقدرتهم على مجاراة المدنية الحديثة، والمساهمة فيها، اختفت تلك الآراء المتطرقة في العقلية العربية، وبدأ المستشرقون ينظرون إلى البحث في الثقافة العربية على أنه ضرب من الهواية العلمية، ينعمون فيها بفهم فكر ليس من نتاج عقول شعوبهم، أو يظهرون قسطاً من البراعة في كشف النقاب عن أسرار إحدى الثقافات القديمة، أي لا يبغون غير متعة روحية أو نزهة علمية، ولا ينشدون الكشف عن خواص العقلية العربية ومميزاتها، ولا يهدفون من وراء ذلك إلى إحياء تراث العرب وبعثه في صورة تناسب روح الحياة الحديثة، وتدفع بالشعوب العربية إلى الأمام.
وهذا ما يجب أن يطلبه كل من يبحث من العرب في آثار ثقافته، ولا يكتفي بدحض مزاعم المستشرقين وادعاءاتهم، أو يرضى باقتفاء أثرهم في مناهج أبحاثهم العلمية الدقيقة التي تتوخى تحليل الواقع تحليلا موضوعياً بدون أن تهتم بالاستفادة منه في ترقية مستوى العرب الثقافي، أي لا تصل هذه الدراسات ماضي العرب بحاضرها، أو تربط حياتهم في عهد الأمويين والعباسيين بحياتهم في العصور الحديثة، ولا تنظر إلى التراث العربي على أنه أحد التجارب الثقافية التي مرت بالشعوب العربية، وأنه يجب أن توجد علاقة وثيقة بين مختلف المراحل الثقافية العربية تبدو في تطورها الدائم، وتدفقها المتواصل نحو الرقي(821/23)
والتقدم، وأن الحضارات المعاصرة يجب أن تهتدي بالحضارات القديمة، وتتفادى ما وقعت فيه من أخطاء عاقت سيرها الطبيعي. فلو هدف العرب من دراسة فكرهم القديم للكشف عن مقوماتهم العقلية الأصلية لهيئت لهم السبل لتقوية ما يكتنفها من ضعف ونقص، وإبراز ما تشتمل عليه من نبوغ ومهارة في مختلف نواحي النشاط الإنساني، ولتجنبوا كل ما اقترفته سابقاً من أغلاط، وتمثلوا بكل ما أظهرته من براعة.
إن محاولات كثير من الكتاب لإثبات قدرة الفكر العربي على الابتكار والخلق يستهلك جهوداً عظيمة، تصرفهم عن البحث الحق في التراث العربي؛ وتشغلهم بكتابات بيزنطية لا تقدم ولا تؤخر. فبدلاً من أن نتطاحن في سبيل التدليل على قدرة العرب على تأليف العلوم، ووضع المذاهب، وتكوين النظريات، يجب أن نفتش عن الأسباب التي دعت العرب إلى الأخذ من غيرهم، وننعم النظر في الظروف التي نشأت فيها الحضارة العربية، وتطورت. فإن انتقال العرب المفاجئ من بلاد بدوية إلى بلاد ذات مدنية عريقة ومجد ثقافي، أصابهم بنوع من الذهول، شل تفكيرهم، وأفقدهم القدرة على التأمل الحر. ولما حاول العربي أن يندمج في الحياة الجديدة أخذ يحاكي الشعوب الخاضعة له وهي تفوقه حضارة ومدنية، ويردد علومها وفلسفاتها، حتى أصبح كأنه صاحب هذه الحضارات. ولكنه ما كاد يلم بمختلف الثقافات حتى تضاربت في ذهنه، وتشابكت الاتجاهات الشرقية والغربية، فأدى ذلك إلى أزمة روحية ظهرت جلية واضحة في نوبة الشك التي طرأت على نفس الغزالي، فعبرت بقوة وصدق عن مدى اضطراب الحياة الروحية في العالم العربي نتيجة لتصادم المذاهب اليونانية بالأفكار الفارسية والهندسية في العقلية العربية المتشبعة بتعاليم الدين الإسلامي، فانتاب العرب حيرة فكرية بلبلت أذهانهم وشتتّها.
فالبيئة الثقافية التي نشأ فيها الفكر العربي هي التي لم تسمح له بأن يتدرج في مراحل النضوج، مرحلة بعد مرحلة، وإنما ساقته دفعة واحدة من حالة يدوية إلى حالة راقية، لم تمهله لينمو نمواً طبيعياً، وعجلت بنضوجه قبل الأوان فلم تتح له فرص الترقي، أو التمرن على التفكير الذاتي المستقل، لأنها زودته بثقافات تامة التكوين، بهرته، فتعلق بها تعلقاً شديداً لجدتها عليه، فوقع في أسرها، ولم يستطع أن يتخلص منها، ويتعداها، لأن ذلك يحتاج إلى فكر تعود التأمل العميق، ومارس الحياة الثقافية مدة طويلة. وليت تأثير هذه(821/24)
البيئة الثقافية المعقدة في الفكر العربي وقف عند هذا الحد، بل كما عجلت بنضوجه عجلت بإطفاء جذوته بعد أن أجهدته، لدرجة أنه بذل كل طاقاته في استيعاب شتى الثقافات الشرقية والغربية، فأصابه ضرب من الجمود والركود نتيجة لهذا الإجهاد المفتعل أقعده عن أن ينتج إنتاجاً عربياً خالصاً يتميز به، فأوحى ذلك للمستشرقين بأن العقلية العربية عاجزة عن الإبداع العلمي، ولم ينصفوا العرب ويعلنوا أن هذا العجز خارج عن إرادة عقليتهم ولا يرجع إلى أي نقص فيها، وإنما يعود إلى اضطراب الظروف الثقافية التي نشأت فيها هذه العقلية.
بالرغم من كل هذا بزغ بين العرب أفراد قلائل استطاعت عبقريتهم أن تتغلب على هذه الظروف المضطربة، وتتجاوز ما هو مألوف بينهم من علوم وفنون، وأبرزت قدرة العقلية العربية المجال العلمي، وابتكرت علوماً جديدة لم ينتبه إليها عامة علماء العرب. ولم يساهم واحد منهم في ترقيتها. ومن بين هؤلاء المفكرين الأفذاذ عبد القاهر الجرجاني الذي نجح في وضع نظرية جديدة في الأدب لم يعهدها العرب من قبله، وهي تعتمد على إنعام الذوق في النصوص الأدبية وكشف أوجه البلاغة فيها؛ إلا أن هذا المذهب سريعاً ما ابتلعته النظريات الشائعة التي تستند على المنطق الأرسطي، ولم يجد له من الأنصار الأكفاء من يرعاه من بعده حتى يستكمل تكوينه. وذلك لإيمان العرب الساذج بسحر المنطق وضرورة تطبيقه على كافة العلوم ليأخذ الصبغة العلمية في ذلك الوقت. وكذلك الحال بالنسبة لابن خلدون الذي وفق في تأليف أصول علم جديد أطلق عليه (علم العمران) ويعرف الآن باسم (علم الاجتماع) ابتكرته قريحته التي شغفت بالتاريخ وولعت بملاحظة أحوال مختلف البلدان التي رحل إليها وتجول في ربوعها، واكتسبت ملكات التفكير المنظم من دراسة الفلسفة بفروعها فساعدته هذه الدراسات وغيرها من العلوم والفنون على استخلاص هذا العلم الذي افتقر من بعده لمن يتعهده، حتى نسي ونسب وضعه إلى أوجست كونت الفرنسي الذي ظهر بعده بقرون
فأحسب أنه يبدو أن اضطراب البيئة الثقافية، وتعقدها هو أصل داء الفكر العربي وعلة أخذه من ثقافات الغير بدون أن يضيف إليها شيئاً كثيراً. ولذلك يجب أن نتعظ بما أصاب عقلية أسلافنا من عقم، ونجنب فكرنا الحياة في أي جو ثقافي خانق يعوق انطلاقه في عالم(821/25)
الخلق، ويعرضه لنفس الاتهام السابق، فتتأكد مزاعم المستشرقين في العقلية العربية. وأول خطوة يجب أن تخطى في هذا السبيل هو أن نهيئ لأنفسنا بيئة علمية تحث عقولنا على أن تسلك سبلها الطبيعة، ولا تنخدع ببريق الثقافات الغربية الحديثة، أو تغتر بما وصل إليه الغرب من مدنية، ونقبل عليها إقبالا أعمى، وتظن أن حشو أذهاننا بكافة العلوم والفنون الغربية يعد دليلاً على التمدن الصادق، ويتخذ مقياساً للتثقيف الكامل، وتغفل عن أن الثقافات الغربية بما بلغته من رفعة وعمق، لا تستطيع أن تنضج العقلية العربية التي تختلف مقوماتها الروحية عن مقومات العقلية الغربية المادية. فلا ينبغي بأي حال أن يقتصر أحد من العرب على التزود بعلوم التربيين وفنونهم، بل يجب عليه أن يعتمد اعتماداً رئيسياً في التثقيف على نتاج عقول أمته، فينهل من معين الثقافات العربية، وما يشابهها من الثقافات الشرقية؛ لأن فكره في كنفها يشعر باطمئنان وحرية وانسياب فيستجيب لها، ويبدع في شتى نواحي النشاط الفكري، ولا يحس بضغط أية ثقافة غريبة عن مزاجه تلزمه أن يطرق طريقها قسراً، أو تجبره على أن يتشكل باتجاهاتها بالرغم منه، فتعرقل تقدمه، وتعدم ابتكاره.
وهذا لا يعني أن العربي لا يجب أن يهتدي بتجارب الغرب الثقافية في تنمية علومه وفنونه، فإن له جهاداً فكرياً عظيم الشأن لا يمكن لأمة تريد أن تنهض علمياً أن تستغني عنه، أو لا تنتفع بما كسبه هذا الفكر للإنسانية من خيرات، كان لها أكبر الأثر فيما نحن فيه من حضارة. إلا أنه لا يجوز أن تترك لهذا الفكر أن يسيطر على عقولنا، أو يتحكم في أهوائنا، حتى لا نقع فيما وقع فيه الغزالي من قلق نفسي وارتياب عقلي، ونعاني شعوراً مؤلماً بالنقص في قدرتنا العقلية من جراء تضارب نزعاتنا الشرقية بالنزعات الغربية، الذي قد يحول دون تقدمنا العلمي، ويجعلنا نحس بحاجتنا الدائمة إلى عون الغرب. فإعداد الجو الثقافي الملائم لطبيعة العقلية العربية يعتبر الدعامة الأساسية التي تربى عليها النوازع الفكرية تربية حرة تساعد على تشييد حضارة جديدة تنافس الحضارة الغربية.
تلك الحضارة التي لم تعرف طريق المجد إلا بعد أن حطمت قيود الكنيسة التي فرضتها على الفكر، وتخلصت من استبدال رجال الدين الذين حبسوا العقلية الغربية داخل نطاق التعاليم المسيحية الروحية التي تحالف اتجاهات الغرب التي تميل للمادية، فكانت حركة(821/26)
النهضة الأوربية التي استغاثت بكفايات الفكر الغربي القديم، الذي يتمثل في الفكر اليوناني، فقامت النهضة الحديثة على أساس بعث ثقافة اليونان، واستغلال مقوماتها في خلق حضارة جديدة. وفي هذا الجو الثقافي نجح الفكر الغربي في أن ينفض عن نفسه ذلك الخمول الذي نشره طغيان الأفكار المسيحية على الروح الغربية، ووفق في وضع علوم مبتكرة، واختراع صناعات متنوعة وآلات كثيرة.
فلم لا يحاكي العربي الغربيين في هذا العمل، ويكف عن تقليدهم في عاداتهم وأخلاقهم، ويكتفي بما أخذه منهم من ثقافات ويكشف عن مزايا العقلية العربية عن طريق دراسة مخلفات الأفذاذ من العرب أمثال عبد القاهر الجرجاني وابن خلدون وغيرهما دراسة تحليلية، يحاول أن يستشف منها ميول الفكر العربي الأساسية، ثم يسعى في أن يبث هذه الميول في عقول صغارنا، حتى يأتي ذلك اليوم الذي ترى أثرها ظاهراً في كل ناحية من نواحي الحياة العربية.
ننتهي من هذه المقالة والتي قبلها إلى أن تحقيق نهضتنا الحديثة يعوزه تعاون رجال الدين ورجال الفكر في جميع البلدان العربية على خلق وسط حضاري تنبسط فيه العقلية العربية، وتنساب حسب سجيتها، لا يعوقها أي مؤثر خارجي ولا يفسدها أي عيب داخلي، ولذلك يجب أن يساهم كل من هاتين الفئتين من الرجال في تنقية الأخلاق العربية، وتوجيهها أثناء هذه التنقية توجيهاً اجتماعياً صالحاً يتفق مع التعاليم الإسلامية، ويعود على الوطن العربي بالخير، ويكسب العرب شخصية قوية ذات لون خاص يميزها عن غيرها من الشعوب. ويمكن أن يستغلوها في مواجهة المشاكل القومية أو الدولية كما يجب أن يشتركا في التنقيب عن خواص العقلية العربية، حتى يمكن لرجال التربية من وضع الطرق التربوية الصحيحة التي تتسق مع العقلية العربية وتنميها إلى أقصى حد يمكن أن تبلغه من الكمال، ثم استغلالها في خلق ثقافة عربية جديدة، تتصل بالحضارات العربية السابقة وتعبر عن حياة العرب الوجدانية والعقلية في صور تنسجم مع روح المدنية الحديثة.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(821/27)
بين بدر وأحد:
الشهيدان الصغيران
للأستاذ عمر عودة الخطيب
- 1 -
قال الفتى عمير بن أبي وقاص لصاحبيه أسامة ورافع وكانوا يعلبون في ظاهر المدينة، وقد أشرفوا على بيوتها ومساربها:
- هل تريان ما أرى يا صاحبي؟!
- وماذا ترى!
- انظرا. فهاتان رايتان تعلوان وتخفقان وما أحسبها إلا لحرب.
- أجل. واسمع هذا التصايح وهذه الجلبة، وانظر الغبار يجلل الدور ويذهب في السماء. . .
- لئن كانت الحرب فوالله لنذهبن مع القوم، نقاتل في سبيل الله، ونجاهد تحت لواء رسول الله. . .
- لكننا نخشى أن يردنا رسول الله لصغر سننا يا عمر.
- وماذا علينا أن نسير في إثر الجيش، ونتواري عن الأعين، ونختفي وراء الآكام، حتى تبدأ المعركة، وعندها نبرز إلى الميدان ونقاتل المشركين، ونساهم في إعلاء كلمة الله، ونستشهد في سبيل هذا الدين. . .
- إنه الرأي ورب الكعبة!
وانحدروا إلى المدينة مسرعين، وقد ذهب كل إلى داره، يكتم الخبر عن أهله، وبتجهيز للحرب، ويستعد للقتال، وكانوا قد تواعدوا على أن يلتقوا جميعاً أمام المسجد، بعد صلاة الفجر. وأعد كل منهم عدته، وناموا ليلتهم تلك هانئين وادعيم، يحلمون بالجهاد والنصر المبين. . .
- 2 -
هب (عمير) من نومه، طرب الفؤاد، رضي النفس، هانئ البال، ومشى نحو النافذة، يسرح(821/29)
طرفه في ذلك الأفق البعيد، وكان الليل يتلفت ويسرع في الهروب، وقد ألح عليه الصبح مسرعاً في المسير. . . فاستجلى (عمير) في هذا المنظر الرائع معاني الحق والحرية. . . تطارد الباطل والعبودية. . وراقه أن ينهزم الظلام أمام النور، ويتواري الليل أمام النهار. . . واستبشر بهذا المنظر الساحر. واعتبره فأل خير ويمن وفتح كبير. . . ورفع يديه الصغيرتين نحو السماء، وتتم لسانه بأحلى آيات الدعاء. . . وهبت إذ ذاك نسمة رقيقة عطرة، شرحت صدره، وداعبت وجهه وشعره، وكانت تلك لحظة قدسية مباركة، رق فيها قلبه وصفت نفسه، وغمره شعور ندي بأسمى معاني الإيمان. فذرفت من عينه عبرة غبطة وخشوع، وسبح في بحار من الأخيلة الجميلة والأماني العذاب. . . ولم يوقظه من سبحته تلك إلا صوت أمه تناديه: هلم يا عمير فأسبغ عليك وضوءك، وتهيأ لصلاة الفجر، فقد نادى المؤذن بالصلاة والفلاح. . .
وخف عمير إلى نداء أمه، وتوضأ ثم أخذ سمته نحو المسجد مشيعاً بنظرات عطف وحنان من أمه الرؤوم. ولم يكد يمشي بضع خطوات حتى ترامى إلى سمعه دعاء أمه له، بأن يكلأه الله ويرعاه، فاطمأن لهذا الدعاء وفرح به، وسره أن يكون هذا الدعاء آخر ما يسمعه من أمه، وقبل أن يبتعد عن البيت التفت نحوه وألقى عليه نظرة أودعها كل ما في قلبه من حب وحنان نحو أمه وأبيه. وحدثته نفسه أنه ربما كانت آخر نظرة يلقبها على هذه الديار، وبعدها يفارق هذه الدنيا إلى دار الخلود، فترقرت في عينه عبرة حرَّى، كانت دمعةَ الوداع. وما قارب المسجد حتى التقى بصاحبيه أسامة ورافع، وقد دلفا إلى المسجد، بعد أن التقيا في بعض طرق المدينة، فما إن رآهما حتى افتر ثغره عن ابتسامة جميلة، وصافحهما مسلماً، وكانت الدمعة لا تزال حائرة في عينيه، وحدثهما عن تلك الساعة المباركة في السحر، وعن ذلك المنظر الفاتن الجميل، وعما أثار في قلبه من مشاعر، وأوحى إليه من معان وبشائر. .
وذهبوا جميعاً إلى المسجد يؤدون الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وطدوا العزم وعقدوا النية على أن يخرجوا معه في غزوته، يضربون بأيديهم اللينة، وسواعدهم الرقيقة هامات المشركين، وقد كان يشعر كل واحد منهم أنه بطل كبير وأنه المسؤول وحده عن هذا الدين، ذلك أنهم لم يرضعوا أفاويق الدعة وينشئوا في الحلية والدلالة. . . إنما(821/30)
تربوا في (مدرسة الصحراء (وتتلمذوا على (بطل الأبطال).
- 3 -
سار (علي بن أبي طالب) رافعاً بيمينه راية (العقاب) السوداء، وبجانبه رجل من الأنصار بحمل الراية الثانية، وسار المسلمون خلفهما يقدمهما قائدهم الأعظم (محمد) قاصدين بدراً، ليقاتلوا المشركين الذين جمعوا جموعهم، واستعدوا للقتال. . . ساروا وكانت الأرض تهتز تحت أقدامهم، والروابي والهضاب تتجاوب مع نشيدهم، وتجلجل السماء بتكبيرهم. . . حتى إذا ما بعدوا عن المدينة ميلا أو بعض ميل، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستعرض الجيش ويتفقد الفرسان، ويلقي على جنوده الأوفياء تعاليم القائد الخبير، ويحثهم على الصبر والشجاعة ويضمن لمن يستشهد في سبيل الله الجنة.
وكان الفتيان الثلاثة قد انتحوا جانباً غير بعيد من مؤخرة الجيش، يشجع بعضهم بعضاً، وقد علا البشر وجوههم، وملأت الغبطة نفوسهم. وكان (عمير بن أبي وقاص) أكثرهم توارياً حتى قال له أخوه: (مالك يا أخي؟!) فقال: (إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة). . . وفيما هما يتحاوران وإذا برسول الله قد أقبل، فرأى هؤلاء الفتيان الصغار وقد تقلد كل واحد منهم سيفاً يلامس الأرض، ووقفوا ينتظروا المسير. فسألهم رسول الله عما جاء بهم من المدينة، فأجابوه بأنهم يريدون الخروج معه لجهاد المشركين، وأنهم تعاهدوا على الشجاعة والإقدام، وبذل الروح في سبيل الإسلام. فضحك صلى الله عليه وسلم إعجاباً بهم، ونظر إلى تلك الأجسام الصغيرة التي خرجت لتكون وقود الحرب، فأخذته الرحمة لها، وأشفق عليها أن تكون طعمة للسيوف، وعز عليه أن يقذف بها إلى الموت، فردهم وأبى أن يخرجهم معه. فعظم ذلك عليهم، وحزنوا من أجله حزناً شديداً، وجلس عمير يبكي وقد أحزنه كثيراً أن يحرم من الجهاد تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف أخوه وصاحباه من حوله يبكون لبكائه ويودون لو سمح له رسول الله بالخروج إلى الجهاد، فرق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم له وأجازه وعقد له حمائل سيفه، فوثب فرحاً نشيطاً، يودع صاحبيه ويبعث معهما إلى أمه بتحية الجندي الباسل، لتكون لها عزاء وسلوى. . . وذهب المسلمون إلى (بدر) وقاتلوا المشركين، وأطاحوا برؤوس الكفر، وزلزلوا كيان(821/31)
قريش، ورجعوا غانمين ظافرين، قد أمكنهم الله من عدوهم، ونصرهم عليه. بيد أنه كانت في عين كل واحد دمعه حزينة، استنزفها ذلك البطل الصغير (عمير) الذي استبسل في المعركة بسالة رائعة، وخاض غمرات الموت ببطولة نادرة، حتى وقع (شهيد) إيمانه القوي ويقينه الصادق، وإقدامه العظيم. . .
- 4 -
حزن رافع وأسامة وأتراب (عمير) كلهم على مصرعه، وجلسوا يذكرون أيامه، ويتحدثون عن إيمانه وبطولته. .
قال رافع لأسامة:
- أتذكر يا أسامة ليلة أن التقينا به أمام المسجد!
- نعم وحدثنا حديث تلك الساعة المباركة في السحر التي أفاضت على روحه صفاء وجمالاً. . .
- أرأيت إلى ذلك النور الذي كان يلتمع في جبينه تلك الليلة؟ وأحسبك رأيت تلك الدمعة التي كانت تجول في عينيه. . .
- نعم وأحسب ذلك نور الشهادة، فقد كان ينم عما في قلب صاحبه من إيمان وتضحية وإقدام. وأما تلك الدمعة فقد رأيت فيها تلك الليلة معاني الوداع. . . الوداع من هذه الدنيا الصاخبة الحقيرة التي يتنازع فيها الناس على حطام فان، ويظلم بعضهم بعضاً، فيستعبد القوي الضعيف، ويتعالى الغني على الفقير.
- حق ما تقول يا أسامة! وهل نسيت موقفه حين ردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحداثة سننا يوم بدر. . .
- كيف وقد كان - رحمه الله - يدافع الحياة ويطلب الموت ويبكي حرقة على الجهاد، حتى رق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فأجازه.
- رحمه الله وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.
وانصرف الفتيان إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم باستعداد قريش للحرب بعد تلك الهزيمة التي حاقت بهم في بدر، وحثهم على الصبر والشجاعة، وأنبأهم بأنه قد عزم على مناجزة القوم وقتالهم وبأنه واثق بنصر(821/32)
الله له، وأمرهم بالاستعداد للجهاد. فانصرف المسلمون إلى بيوتهم يتهيئون للحرب، ويعدون السلاح، ودخل رسول الله إلى بيته بعد صلاة العصر ومعه أبو بكر وعمر. فتقلد سيفه وقوسه وعصب بعمامته رأسه وخرج يتفقد المسلمين.
- 5 -
سار النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة من أصحابه حتى بلغوا (أُحُداً) وقبل أن يلتحم الفريقان، وقف القائد الأعظم، يستعرض جنده، ويهيب بهم أن يثبتوا ويصبروا، ويحمسهم ويزكي نفوسهم. . . وبينما رسول الله يستعرض الجيش، إذا به يجد فتى صغيراً أخذ يتطاول على أطراف أصابعه ويعلو بنفسه، فإذا هو (رافع بن خديج) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من عمله، وربت على كتفه، وتقدم منه وسأل عما يحسن من فنون الحرب، فقيل له بأنه رام يجيد ضرب السهام، فسمح له بالخروج. . . وتباع استعراضه حتى وقف على (سمرة بن جندب) وكان فتى حدث السن لدْن العود غض الجسم، فأشفق عليه رسول الله من القتال وأمره بأن يرجع، وطيب نفسه، وأعجب به ودعا له، فحزن الفتى حزناً شديداً وانصرف باكياً دامع العين، حسير الفؤاد على ما فاته من أمر الجهاد. ووقع له أثناء انصرافه خاطر اطمأن إليه وفرح به، فانثنى راجعاً إلى حيث يعسكر المسلمون، وترامى على زوج أمه يبكي وقال: (أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه!!. . .) ثم جلس غير بعيد يتطلع بعينيه الدامعتين إلى هذه الصفوف المؤمنة التي امتلأت قوة وعزماَ، وود لو يسمح له رسول الله بالقتال مع هذا الجيش بينما انصرف زوج أمه إلى الرسول ينقل إليه ما قاله سمرة. . فأعجب رسول الله بهذا الرأي وأكبر هذا الإيمان، وأمر بأن يصارعا أمامه. . . وتشابكت الأيدي. . . وما هو إلا قليل حتى صرع سمرة رافعاً، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياه وسمح له بالقتال. . .
- 6 -
ابتدأت المعركة، وخرج من صفوف المشركين فارس صعب المراس قوي الشكيمة يدعو للبراز، فوثب عليه الزبير وقتله، وكان كلما خرج من صفوف المشركين مبارز قتله فارس من فرسان المسلمين. حتى اختلط الجيشان، وحميت المعركة، وثار النقع، فلم يعد يسمع إلا(821/33)
صهيل الخيل، وصليل السيوف، وقعقعة الرماح، وصفير السهام. ووقع فيها من الفريقين صرعى كثيرون. وانجلت المعركة بعد أن رد الله كيد الباغين الذين أرادوا بالرسول شراً. وإذا (برافع ابن خديج) الفتى الصغير مخضب بالدماء قد أصابه سهم من سهام المشركين، هد قواه، وأنزف دمه. ورآه المسلمون وقد وضع ذراعه تحت رأسه والدماء منه، وقد استسلم لغيبوبة عميقة. فأيقظوه وضمدوا جرحه ففتح عينيه وسأل عن المسلمين، واطمأن على رسول الله. . . ثم أغمض عينيه وسلم روحه الطاهرة الزكية، وقدمها قرباناً إلى الله، وبرهاناً على الجهاد في سبيله، وطارت روحه إلى السماء. . . إلى الفردوس الأعلى. . . حيث روح صاحبه (عمير) لتنعما هناك بالخلود الدائم. . . ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه استشهد حزن عليه حزناً شديداً، ودمعت عيناه، وقد ذكر بطولته وإيمانه وقال: بعد أن دعا له بالرحمة، وسأل الله له الجنة (أنا أشهد له يوم القيامة. . .
(القاهرة)
عمر عودة الخطيب(821/34)
أشواق ودموع. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
كتبتْ من باريس تقول:
(أيها الطائر العزيز. . . لم أحسد بغداد إلا لأنك تغنيها في غبش الفجر الساحر وعند الأصيل الفاتن، أغنيات الهوى والشباب، وأنا في زحمة الأصداء والأضواء والمباهج لا أحس لهذه كلها صدى في نفسي ولا أثراً في وجداني بل أجهد عيني على أن لا ترى وأذني على أن لا تسمع. . . لأستطيع أن أتخيلك وأنت كما كنت تقرأ لي خلجات قلبك الكبير الحساس، فرجائي يا طائري أن تسمعني غناءك ولو من بعيد. . .)
(من رسائلها إلي)
سألتني لم لا أشدو كما كنت أغني
ولماذا لا يباري الوترَ المسحور فني
قلت يا عذراءَ أحلامي ويا أصداء لحني
أو ما كنت نُشيد الحبِ في ليلِ التنمي
أو ما كنتُ صلاةَ الطيب في الروض الأغن
أو ما ذابَ حنيني فوقَ أوتارِ المغنى
أو تنسَينَ وكنت العطرَ في ثغر الربيع
ونشيداً لم يزلْ هيمانَ في تلك الربوعِ
وابتساماً شعَ في دنيا دماء ودموع
وسلاماً رفَّ فوق الأرضكالروحِ الوديع
كيف تَنسينَ حنيني، كيف تنسينَ ولوعى
أين خلفتِ فؤاداً ضاقَ بالشمل الصديع؟
لم أزل يا فجرَ الهامي ويا ربةَ شعري
روضةً يفضحُ عطرُ الفنِ منها كل عطر
وهزاراً اطربَ الليل فلم يجنحْ لفجرِ
وربيعاً نَظراً بالحبِ محفوفاً بسحر(821/35)
أين أنتِ الآن من عطري وألحاني وزهري؟
أين أنت الآن من صدري ليطويك كَسري؟
يا (هنائي) كنتِ في صحراء أعوامي زاهرا
يا (هنائي) كنت في ظلمِة أيامي بدرا
أنت نَضَّرتِ شبابي فنفحتُ الكونَ عطرا
ولكم أشرقت في ليلِ صباباتَي فجرا
وسكبت الوحي في روحي فصغت الشعرَ سحرا
وإذا دنياي أحلامٌ وأنغامٌ وبشرى
وإذا بي بعد ما جرعني الحرمانُ صابا
وأحال اليأسُ دنياي طلاماً وضَبابا
والقنوطُ المرُ أفنى - من أماني - العِذابا
وغدتْ جنةُ أحلامي من البلوى يبابا
لحتِ في حالكِ أيامي - من الغيبِ - شهابا
وتفجرتِ كينبوعٍ وما كنت سرابا
أنا من بعدَكِ لو تدرينَ قَيثارٌ جريجٌ
آهةٌ فوق سماءِ (السين) بالنجوى تبوح
وهزازٌ سرمديُ الحزنِ بالشوق ينوح
وخَيالُ خلفَ أطياِفكِ يغدو ويروح
يا عذابي الحلوَ شعري بين كفيك يفوح
فاسأليه فهو أشواقٌ ودمعٌ وجروحُ
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(821/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
رأي في ترجمة (آلام فرتر):
سيدي:
لقد فرغت من قراءة ترجمتكم العربية الرائعة لقصة آلام فرتر، ومن القيام بمقارنة دقيقة بينها وبين الأصل المقابل في الألمانية. بعد هذا أرجو أن تأذن لي بأن أقدم إليك أصدق التهنئة على هذا العمل الباهر. وإنه ليعد في رأيي خير ما عرفته اللغة العربية في بابه.
أنا واثق من أن الجمهور القارئ في مصر، سيجد في ترجمتكم ما ينشد من متعة بعيدة المدى وكسب لا يحد. إن الدقة في هذا الأسلوب التصويري الوثاب، أسلوب جيتة، لتجد أداءها الصادق في لغتكم، هذه اللغة التي تصبح تحت سنان قلمكم مرنة طيعة لمشاعر المؤلف ومعانيه.
ولقد قمت بمقارنة أخرى دقيقة بين المصدر الذي نقلتم عنه وبين النسخة الأصلية التي ظهرت عام 1787، وأستطيع أن أقرر بأن الترجمة الفرنسية التي نقلتم عنها، قد بلغت من الأمانة حداً يتعذر معه أي اختلاف إذا ما ترجمت القصة عن الألمانية. إن كتابكم ليفوح منه أرج الإلهام الذي يعبق في قصة الشاعر الألماني، وإنني لأرجو أن تتاح لي الفرصة للاطلاع على كثير من أعمالكم الأدبية.
مرة أخرى أعبر عن شكري لما لقيت من متعة خالصة في ترجمتكم لآلام فرتر، آملاً أن أظل.
صديقكم المخلص
بروفيسور دكتور جولياس جرمانوس
هذه هي الرسالة التي بعث بها المستشرق الألماني إلى الأستاذ الزيات، والتي شاء تواضعه أن يحتفظ بها أكثر من عشر سنين دون أن يلحقها بأية طبعة من طبعات كتابه أو يشير إليها من قريب أو من بعيد. . . ولولا أنني طلبت إليه أن أقوم بنقلها إلى العربية لبقيت إلى الأبد لا تقع عليها عين ولا تسمع بها أذن!(821/37)
اقرءوا هذه الكلمات التي تضع الحق في مكانه، ثم وازنوا بينها وبين كلمات أخرى يجترئ صاحبها على الحق حين يعلن أن الزيات قد ألف آلام فرتر. . . إن الفارق بين الرأيين هو الفارق بين دكتور جرمانوس وسلامة موسى!
من الأعماق ولوعة الذكرى:
أيها الأديب الصديق، لماذا بعثت بكلماتك من طوايا حلم دفنته، أشلاء ماض جريج؟. . .
وأنت يا من جرعتني الظمأ من كؤوس حرمانك، ترى هل رفت (من الأعماق) رفيف الزهر في رحابك، وتضوع منها عطر الأسى في ثراك؟ إن الماضي الذي تنهد يوماً في سحيق عظامي، يعود لتناديك أطيافه وتناجيك رؤاه!
أتذكر يوم غمست القلم في دماء القلب وكتبت قصة هواك؟ هواك الذي شيعته بالدمع إلى ظلام القبر، وذقت من بعده غربة الروح في مأتم الأحلام؟ ترى هل ذقت يا شقيق الروح غربة الروح. . هناك حيث ترق الكلمات فتستحيل إلى أنات، تهتك ستار الصبر والجلد، وتترك مكانها من حنايا الضلوع وشغاف القلب، وتخرج إلى الناس تروي لهم فعلت الأيام؟ هناك حيث تعبر النجوى عالم الأسى والأنين، مرتاعه ملتاعة، تنشد الري فلا تجد إلا الظمأ، وتترقب النشوة فلا تحس إلا الألم، ولا تعود من عالمها هذا إلا بأشتات المنى تحتضر؟!
إن فكري ليقطع المدى وثباً ليفرش طريقك بورود حبي. ترى هل يعبق في أفقك أرج فكري؟ إن روحي لترفرف فوق مكانك بجناح طوته على الجراح عوادي الزمن. . ترى هل تسمع رفرفة روحي؟ تعال نهتف في موكب الأيام هتاف الحبيب في كأس فاضت بخمر نواك. تعال نردد في محارب الشجن صلاة تنشج الحسرة فيها ويعول الأنين. تعال. . . تعال من هناك، من وراء الأبد، من وراء الصمت، من وراء الوحشة المطبقة، من وراء السكون العميق. تعال فقد تقطعت من بعدك أوتار النغم فما استمع الحيارى لنشيد. . تعال فقد جف من بعدك أوتار النغم فما سعد الندامى بحبيب!. . تعال وأحمل إلى السماء نفحة من عبقرية الألم في الأرض، وقل لها إننا نعيش من بعدك كما يعيش الشوق الراهب في دير الذكريات!
أقرأ معي هذه الكلمات:(821/38)
(عندما يستحيل الحلم إلى جنون، ينتصب تمثال أسو داخل الروح، وتبرز فجأة شطئان بلورية تطوف بها جماجم الأحياء، وتمتد تحتها في انحدار عنيف بحار متسعة من الجليد، وتستيقظ العطور والضحكات، وتتفتح الكهوف الخرافية بعدما تكون الكنوز قد ضاعت فتزدحم الغابات بنهود من نحاس، وتتصلب الشفاه وهي تبتسم، وتسمع أصوت الفيل آتية خلال النعاس، ويقف ظل أمام ظل، وتغادر الفلول الميدان، ويسمع في السراديب السحرية قرع الطبول، وتبدأ المعركة بين الأشلاء، من أجل الحصول على ذراع أو ساق!
ويحترق الهمس في الهدير، وتنداح دوائر في المياه، من مكان غير معروف، قاصدة في سفرها المرتعش المعتوه التقاء اللانهاية بالعدم).
هل تستطيع أن تفهم هذه الكلمات؟ إنها لأديب مصري اسمه يوسف الشاروني، دأب على أن يتحف بمثلها في كل شهر زميلتنا مجلة (الأديب) اللبنانية. . ويوسف الشاروني هذا واحد من فئة أعرف بعض أفرادها من لقائي لهم بين الطور والكلمات، هذا اللقاء الذي لا يخرج منه أي إنسان عاقل إلا بما حرجت به زوجة الشاعر الإنجليزي روبرت بروننج، حين قدم إليها الشاعر قصيدة نظمها في وصف البحيرة فقالت له: إنني لا أدري إذا كنت تتحدث في قصيدتك عن بحيرة حقاً أم تتحدث عن كلبنا الصغير!
وأنا والله لا أدري عن أي شيء يتحدث الأستاذ الشاروني. ولا أدري كيف اتسعت صفحات الزميلة اللبنانية لهذه البضاعة التي تصدر إليها من مصر، بعد أن أقفلت في وجهها جميع أسواق الأدب في عاصمة المعز! أباسم الأدب والفن يكتب هذا الكلام؟ إن الأدب والفن ما خلقا إلا لتثقيف الناس وهديهم إلى معاني الحق والخير والجمال، فأين من يدلني على لمحة واحدة من لمحات الأدب والفن في كلمات السيد يوسف الشاروني؟. . قد يقول قائل إنها (سمبولزم)، وقد يقول آخر إنها (سير ريالزم)، أما أنا فأحيي الأستاذ عباس محمود العقاد وأقول معه: إنها (تهجيص)!.
لحظات مع الأستاذ العقاد:
حييته هناك ولا بأس من أن أختلف معه هنا، ومهما اختلفت مع العقاد والناقد في نظرته وموازينه فستبقى حقيقة أعترف بها بيني وبين نفسي وبيني وبين الناس، وهي أنني أحترم(821/39)
ثقافة هذا الرجل. إنه يقرأ كثيراً؛ يقرأ في كل شيء، يقرأ قراءة فهم وهضم واستيعاب، في بلد فيه عدد المثقفين وغمرت أسواقه أمية المتعلمين!
إن ذوق العقاد لا يرضيني بعض الأحيان، وكذلك موازينه؛ ولكن ثقافته ورحابة أفقه وسعة اطلاعه تدفعني إلى تقديره والإعجاب به. هذه كلمات يمليها عليَّ الضمير الأدبي، وإذا كنت قد هاجمت كثيراً من آرائه فإنني لا أبيح لقلمي أن يهاجم ثقافته!
لو أنك مقدم على رحلة عاجلة، فأي سبعة كتب تصطحب؟ هذا هو السؤال الذي وجهته إلى الأستاذ العقاد مجلة (الاثنين) في عددها الأخير فأجاب عنه بأنه يصطحب معه هذه الكتب السبعة: ديوان ابن الرومي، اللزوميات لأبي العلاء، تهافت الفلاسفة للغزالي، تراجم بلوتارك، مجموعة شكسبير، تاريخ الفلسفة لبرتراند رسل، خوالج الحيوان لداروين. ولقد تحدث الأستاذ العقاد عن هذه الكتب حديث ناقد يزن قيمها الفنية مشفوعة بأسباب التفضيل والإيثار.
أما ابن الرومي فأنا أعلم أن الأستاذ العقاد يتفانى في حبه وتقديره والتعصب له، ولكن حين يبلغ التعصب حد القول بأن ابن الرومي في مجال الشعر الوجداني لا يضارعه شاعر في العالم كله فهذا هو الانحراف الذي أضيق به ترى أيبلغ ابن الرومي في وصف الخوالج النفسية ما بلغه جيته وهابني في الأدب الألماني، وبودلير وفرلين في الأدب الفرنسي؟ لا أظن! لقد كنت أود أن يقتصر الأستاذ العقاد على القول بأن ابن الرومي في مجال الوصف التصويري لا يفوقه شاعر في العالم كله، فهذا ما لا أختلف معه فيه.
ومرة أخرى تتخلى الدقة عن ميزان الأستاذ العقاد حين يقرر أن (بلوتارك) هو سيد كتاب السير والتراجم في جميع العصور. . . أؤكد للأستاذ العقاد أنه لو قرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي جان يول سارتر عن (بودلير) لعدل عن رأيه في بلوتارك؛ إن هذا الكتاب كما سبق أن قلت في (الرسالة) ليعد في رأى الفن خير كتاب أخرج في موضوعه، منذ أن احتل أدب التراجم مكانه إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى!
بعد هذا لا أرى كيف يطيق الأستاذ العقاد أن يصطحب معه اللزوميات في رحلة ينشد فيها المرء متعة الذوق والفكر والخيال؟. . . معذرة يا سيدي إذا قلت لك إِن هذا الاختيار لا يرضيني! إن رحلة تخطر فيها اللزوميات لرحلة تصيب الرأس بالصداع وحركة الذهن(821/40)
بالجمود. . . لقد كنت أود أن تصطحب بخلاء الجاحظ بدلاً من لزوميات أبي العلاء!
أدب القصة وأدب المعقب:
تحت هذا العنوان قرأت في عدد الرسالة الماضي كلمة خصني بها الأستاذ نصري عطا الله. . . صدقني إنني لم أكن أنتظر أن أن يفقد الأستاذ أعصابه في بداية كلمته ثم يعود في نهايتها ليفقد ذاكرته! وصدقني إنني شعرت نحوه بشيء من العطف الممزوج بالدعاء. . الدعاء له بأن يحفظ الله أعصابه من الأوجاع وذاكرته من الضياع!
لقد رماني الأستاذ عطا الله بجموح النفس وتمكن شهوة التهكم والتجريح من نفسي. . . يبدو أنه قد نسى أن في الحياة الأدبية في مصر أناساً يستحون التهكم ويستأهلون التجريح ويرغمون الناس على الجموح!!
ينكر الأستاذ أنه كان يعنيني بمقاله. . . لمن إذن كان يوجه نصائحه بأنه لا يصح أن يحكم القارئ الشرقي على شخصية موباسان. لأن ما نقل من أدبه إلى العربية أقل من القليل؟ لي بالطبع؛ لأنني أنا الذي كنت أتحدث عن موباسان! ولمن إذن كان يبعث بتوجيهاته حين يقول (. . . وليس هناك (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد من حرية الكاتب)؟ لي بالطبع لأنني أنا الذي كنت أنادي بـ (الحيز المحدود) في القصة القصيرة
ومن العجيب أنه يؤكد لقارئيه بأنه لم يقارن مطلقاً بين القصة الطويلة والقصة القصيرة. . . ترى من الذي كتب في هذه المقارنة اثني عشر سطراً تبدأ بهذه الكلمات: (تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في الكم وحده بل في الكيف أيضاً)؟
بعد هذا خرج الأستاذعن موضوع المناقشة ليذكر أنني أضع نفسي دائماً في بؤرة الضوء، وأقول للناس إن الكتاب يرسلون إلي كتبهم راجين أن انقدها مفترضاً أنني الناقد المثالي الأول، حين أعلن في زهو وصرامة أنني وجدت أكثرها لا يستحق العناء!
أقسم للأستاذ عطا الله أنني ما أهملت هذه الكتب إلا لتفاهتها. . . وكذلك الأمر فيما يتعلق بإهمالي لكلمته الخارجة عن موضع المناقشة!!
أروع ما قرأت عن كذبة أبريل:
لا يصل هذا العدد إلى أيدي القراء إلا ويكون (أول إبريل) قد أوشك أن يحل ضيفاً على(821/41)
هواة الكذب الطريف. . . الكذب الذي يلجأ إليه الناس رغبة في اللهو البريء، وشغفاً بالدعابة التي تجني في الغالب على الذين لا يعدون العدة لهذا اليوم الخالد في حساب الظرفاء والكذابين!
ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن إحدى الصحف الفرنسية قد كتبت في اليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس سنة 1948 ما يلي: (تقيم الحكومة الفرنسية في صباح الغد معرضاً ممتازاً للحمير بميدان الكونكورد، ومن المنتظر أن يهرع الكثيرون من سكان العاصمة لمشاهدة هذا العرض الذي تقيمه الحكومة لأول مرة، وتحشد فيه نماذج مختلفة من الحمير التي لم يرها الفرنسيون من قبل). ولم يقبل صباح أول إبريل إلا وكان ميدان الكونكورد يموج بالألوف ممن صدقوا خبر الصحيفة ولم يقبل المساء حتى صدرت الصحيفة حاملة إلى قرائها هذا التعليق الرائع: (كان للخبر الذي نشرناه أمس عن معرض الحمير أثره البعيد في نفوس القراء، حتى لقد أقبل الألوف منهم على مشاهدة المعرض. . . ويقول مندوبنا إنه شاهد في ميدان الكونكورد ما لا يقل عن عشرين ألف حمار)!!.(821/42)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
موكب الأبطال:
يقول (مدرس أدب في الأزهر الشريف) في مطلع كتاب منه: (ما تزال دولة الشعر بخير، فقد هزتني قصيدة الشاعر علي محمود طه في أبطال الفلوجة التي نشرتها الأهرام في عدد يوم الخميس 10 من مارس، ولا ريب عندي في أنك قد قرأتها، وأنها قد هزتك كما هزتني، وأن مثلها جدير بأن يحظى بإحدى تعقيباتك في الرسالة، سجل الأدب العالي وديوان الفن الرفيع. وإنما حملني على أن أوجه إليك هذه الكلمة، حرصي على أن أسجل إعجابي بهذه القصيدة، وقد مضى لي أن غمزت (أنشودة فلسطين) لصاحبها أيضاً في الرسالة الغراء، حتى لا أكون مثل كاتب الشمال: لا يحصي غير السيئات).
ويقارن الأستاذ (مدرس أدب في الأزهر الشريف) بعد ذلك بين هذه القصيدة وبين قصيدة أخرى لشاعر آخر في نفس الغرض، وفي نفس الجريدة وقد اصطنع أسلوباً لبقاً في استدراجي إلى هذه المقارنة، وكأني به يؤلبني على الشاعر الثاني، إذ يقول في نهاية المقارنة: (أرأيت - يا عباس - كيف يطغي بعض الشعر، فيبدو شيطاناً مريدا، وكيف يتواضع بعض الشعر، فيبدو ملكا كريماً؟!! إني أترك لك الباقي) وهو يقصد بالذي يبدو شيطاناً مريدا، شعر أبي طه. . . كما يعبر في رسالته، وما أخال الشاعر الآخر يسر بأن شعره ملك كريم في هذا المقام! ويظهر أن الشيطان أليق بالشعر من الملك!!
أما الباقي الذي يقول إنه يتركه لي، فهو على غير ما كان يتوقع، فلست أرى داعياً لهذه المقارنة، فلكل شاعر طاقته ومذهبه وأفقه.
أما قصيدة (أبي طه) فقد رآها القراء في الأسبوع الماضي كاملة بالرسالة بعد أن أضاف إليها الشاعر ما استلهمه من مشاهدة أبطال الفلوجة يهرع الشعب إلى الاحتفاء بهم وينثر الغيد طاقات الزهر فوق رؤوسهم، ولابد أنها هزتهم كما هزتني وكما هزت الأستاذ الأزهري، وحقاً ما قال في رسالته: (وإذا صح أن في الشعر مواضع للسجود، فإن من هذه المواطن في الصميم:
جن الحديد بأرضها وسمائها ... فجرى وطار، تصيبه ويصيبها(821/43)
شدت يد الفولاذ حول نطاقها ... حلقاً تصيح النار: كيف أذيبها؟
وقد تآخت في هذه القصيدة قوة التركيب وقوة الروح، فطابقت بذلك موضوعها الخماسي. ومما يستدعي الالتفات أن بنيانها القوي لم تتخذ لبناته من القوالب المرددة التي يلجأ إليها شعراء الجزالة. وأقول صادقاً، أو أعتقد أنني صادق إذا أقول: إن قصيدة (موكب الأبطال) من القليل في أدبنا المعاصر الذي يجمع بين الديباجة العربية المتينة التي يظهر أثر الشاعر في نسجها وبين نهيج المدرسة الحديثة في الشعر من حيث صدق التعبير والصدور عن الشعور الذاتي دون تقليد أو تزييف. ولعلها أول قصيدة للشاعر نفسه على هذا النحو، فقد كان يؤثر قرب المنال من عامة القراء؟ ولكن الموضوع في هذه المرة حكم عليه أن يخلد البطولة المصرية في الفلوجة بشعر يذهب مذهبها في القوة ومجاوزة المستوى العادي. ولست أريد بذلك أن أفضل القصيدة على غيرها من شعر الأستاذ علي محمود طه، إنما أنعتها بصفاتها، فلا شك أن السهولة والرقة لهما مكانهما في غزلياته وغرامياته.
وبعد فقد قام شاعرنا الكبير بحق البطولة على الشعر، وجاءت قصيدته عملاً ممتازاً، ينبغي أن ينظر فيه الشعراء الذين يؤثرون العزلة والهرب من المجتمع والانطواء على عواطفهم الشخصية وخيالاتهم البعيدة عن مضطرب الحياة. ونحن أمة لم تستكمل ضروراتها من الحرية والحياة الراقية المستقرة، فإذا كان لشعراء أمم أخرى أن يعكفوا على ألوان مترفة من الشعور والتفكير فإن ذلك لا يروج في بلادنا ولا يناسبها ف هذه المرحلة من حياتها، وأقل ما يرجى من الشاعر أن يشارك مواطنيه مشاعرهم ويصدق في التعبير عنها. وما أكثر من يسترون العجز بدعوى (التحليق) الذي لا يأتون من بشيء. . .
فليا يا فليا:
(أطلعت في العدد 809 من الرسالة الغراء على كلمتكم الحكيمة عن شعر (البلالايكا) التي قلتم في نهايتها (أليس لقائل آخر ما دام الباب مفتوحاً أن ينشر قطعة قد تكون أروع من هذه بعنوان (شرم برم)؟ ولقد قرأت في عدد مارس من مجلة الشرق الأدنى للإذاعة اللاسلكية قطعتين من الشعر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي، إما أن أضعهما فوق مستوى تفكيري، وإما أن أضعهما تحت عنوان (شرم برم) والقطعتان مرسلتان إليكم، بعد أن انتزعتهما من المجلة، دفعاً لمظنة التزوير، لتروا رأيكم فيهما).(821/44)
تلقيت هذه الرسالة من الأستاذ محمد محمود عماد المحامي، ومعها القطعتان المذكورتان، الأولى عنوانها (فليا يا فليا) أولها بيتان موزونان يستطيع الإنسان أن يفهم منهما أن (فليا) لها محب يخفق قلبه بحبها، وأن للحبيبين أسطورة (تعيش مع الغاب) وبقية القطعة:
حكم هوى العذراء
لو عرب سنا الجوزاء
طوقت همسة بالزهور
فليا يا فليا يا حلمي الكبير
رحماك بالقلب فهو كسير
فليا يا فليا اسمعي لي الغناء
يزجي الهوى ما يشاء
استطعت أن أقرأ وأن أفهم الأربعة السطور الأخيرة وآخرها موزون، أما الثلاثة التي قبله فهي كسير كالقلب، غير أن القلب كسير من حب (فليا)، والكلام الذي قبل ذلك لم أعرف أي شيء هو!
والقطعة الثانية عنوانها (حلم الزواح الساحر) أجزاؤها مشردة تائهة بين ثلاثة بحور، وبعضها كالقلب الذي حطمته (فليا)، فمنها:
لو أنني في ألواج
أغلقت قلبي بالرّتاج
الشطر من (مجزوء الكامل) أما الأول فلم أدرك معناه ولا وزنه، لأني لم أعرف معنى كلمة (ألواج) ولا ضبطها.
ومن القطعة أيضاً:
أواه لو تكن معي ... حبيبتي ضياء عيني
الشطر الأول من (مجزوء الرجز) والثاني من لا شيء. . وقد استطاعت (لو) بقدرة خارقة أن تجزم (تكن).
يا أستاذ عبد الرحمن الخميسي، لا أريد أن أكون شديداً في مناقشتك، فأنا أهدأ من زميلي الأستاذ أنور المعداوي وأذكر أننا التقينا مرة، فعتبت علي لظنك أني عرضت بك في بعض(821/45)
ما كتبت، وقلت إنك تحب أن أواجهك بالنقد لتستطيع الرد. وها أنت ذا تراني قد فعلت. فهل تتفضل وتشرح لنا ما لم ندركه أنا والأستاذ عماد، وتبين لنا الحكمة في استعمال (هيئة البحور المتحدة) في القطعة الواحدة، ولم وقف غير الموزون ينظر إلى محطماً كسير القلب؟ ولا تنس (لو) التي منحتها حق الجزم، وقد كان يمكن أن تمنعها من ذلك، فيكون الشطر الأول كالثاني، ولا ضرورة!
والأستاذ محمد محمود عماد ينتظر الرأي، هل القطعتان فوق مستوى تفكيره - وتفكيري أيضاً - أو هما من نوع (شرم برم)؟ وهو على حق في ذلك، فلا ثالث للأمرين. وأنا أوثر أن أضعهما فوق مستوى تفكيرنا، حتى يتفضل الأستاذ الخميسي بالإفادة.
تأبين الجارم:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المرحوم علي الجارم بك يوم الأحد الماضي لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته. وقد اختير لذلك المكان الذي فاض روح الفقيد فيه، وهو دار الجمعية الجغرافية، حيث كان يستمع إلى قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا.
وقد قصر التأبين على كلمة للأستاذ أحمد العوامري بك، وقصيدة للأستاذ عباس محمود العقاد. أما كلمة العوامري بك فقد كانت جامعة، عمد فيها الأستاذ إلى السرد التاريخي لحياة الفقيد منذ كان طالباً في دار العلوم، وما تخللها من جهوده في التعليم واللغة والأدب، وفصل ذلك تفصيلاً وافياً في نظر التاريخ وقد بدا هذا التفصيل كأنه ممل، نظراً إلى أن الحاضرين من المثقفين والأدباء الذين لا تخفى عليهم هذه المعلومات.
وقد ألقى الأستاذ شوقي أمين قصيدة الأستاذ العقاد الذي لم يتمكن من الحضور لمرضه - عافاه الله - وقد كان إلقاء الأستاذ شوقي هادئاً معبراً، فأدى الشعر أحسن أداء.
وأول قصيدة الأستاذ العقاد.
فجعت مصر يوم نعى علي ... بالأديب الفهامة الألمعي
شاعر لازم القريض إلى أن ... كان يوم الفراق حرف روى
وقضى واجبين يوم قضى ... وأعظم بالواجب المقضي
واجب الشعر، والوفاء مدى العم ... ر فطوبى لشاعر ووفي(821/46)
إن جهد الرثاء لوعة راث ... في مضامين شعره مرئي
الفرابين الغنائية لطاغور:
كتب الأستاذ عبد اللطيف شرارة بالعدد الأخير من مجلة (الأديب) اللبنانية، بعنوان (قربان الأغاني) نبه فيها على تقصير أدباء العرب في دراسة طاغور وترجمة آثاره، وذكر بعض ما ترجم منها إلى العربية ثم قال: (ولكن أحداً من أدباء العرب المعاصرين لم يفكر في نقل ديوانه الأعظم (قربان الأغاني) الذي سما فيه طاغور إلى أعلى ذروة يستطيع أن يبلغها شاعر، إن في الحس المرهف، وإن في الحكمة الصافية، وإن في روعة التعبيرعن أغرب الأجواء الروحية والصوفية. دام الأمر كذلك إلى أن جاء الأب يوحنا قمير - وهو من عني بفلاسفة العرب) ومفكريهم فسد ذلك الفراغ ونقل (قربان الأغاني) إلى لسان العرب
وأذكر أن الأستاذ كامل محمود حبيب نقل ذلك الديوان إلى العربية من نحو اثنتي عشرة سنة، ونشرته (الرسالة) تباعاً ابتداء من العدد (230) الصادر في 29 نوفمبر سنة 1927 بعنوان: (جيتا نجالي) وقدمت له الرسالة بما يلي:
(جيتا نجالي كلمة هندية بنغالية معناها القرابين الغنائية وهي أناشيد صوفية تبلغ 103 نشيد نظمها طاغور في البنغالية ثم نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، وشهرتها في الأدب العالمي كشهرة رباعيات الخيام. وهي تمثل الروح الغالبة على فلسفة طاغور من جهة، والطبيعة المميزة للبوذية من جهة أخرى. وسننشرها كلها مترجمة بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب).
وقد أتاح لي ذلك فرصة سعيدة، إذ رجعت إلى مجموعتي من الرسالة، ونعمت وقتاً بقراءة هذه الأناشيد الروحية العالية، وأقطف للقارئ أولها فيما يلي:
(أنت خلقتني أبدياً، تلك مشيئتك. هذا الحطام الفاني - جسمي - أنت تفرقه مرة ومرة ثم تملؤه بالحياة الغضة. هذا الناي الصغير أنت علوت به وهبطت؛ ثم وقعت عليه أنغاماً سحرية خالدة، وحين لمست يداك قلبي الضعيف لمسة إلهية، شاع فيه السرور وانبعث منه لحت أخاذ، وبين يديّ الضعيفتين استقبلت آلاءك العظيمة، والأعوام تتصرم وأنت ما تزال تحبوني وفي قلبي شوق وطمع).
وقد ترجم الأستاذ كامل لطاغور، غير ذلك، ديوان (البستاني) ونشر تباعاً في المقتطف سنة 1940 ثم جمع في كتاب، وترجم له كذلك (قطف الثمار) ونشر أيضاً في المقتطف سنة(821/47)
1941.
عباس خضر(821/48)
البرَيدُ الأدَبي
بين نيتشه وفجنر
كتب الأستاذ أنور المعداوي في عدد (الرسالة) رقم 819 في باب (التعقيبات) كلمة تحت عنوان (أدعياء الأدب في الصحافة اليومية) يرد بها على الأستاذ الخميسي فيما كتبه بجريدة المصري عن موسيقى فاجنر وأثرها في الفيلسوف نيتشه خاصة والشعب الألماني عامة. فحمل حملة شعواء على الخميسي لا داعي لنقلها فقد طالعها القراء. . . وإني أقول للأستاذ المعداوي كلمة هادئة. . . ترفق يا صديقي فما هذه بلهجة ناصح مرشد، وإنما هي لهجة مصارع جامح. . . وحتى لو كان الحق في يدك والباطل في يد غيرك فلهجتك تشوه جمال حقك. . . فما بالك إذا لم يكن معك كل الحق، وليس مع غيرك كل الباطل؟!
إن ما قاله الأستاذ الخميسي عن تأثير نيتشه بموسيقى فاجنر حق لا شك فيه، وقوله (إن موسيقى فاجنر فتقت أكمام العبقرية في نتيشه) يدهشني بصدقه ودقته؛ هذا التعبير الذي جعله الأستاذ المعداوي هدفاً لأمرً سخرياته. وإليك الدليل يا أخي (الأستاذ) بقلم نيتشه نفسه من كتاب (رسائل الصداقة بين نيتشه وفاجنر) وهو سفر يقع في حوالي مائتي صفحة من القطع الكبير منه طبعة بدار الكتب بالقاهرة - وهو حافل بآيات الإعجاب والإشادة التي طالما أهداها الفيلسوف إلى صديقه الموسيقار العظيم. ونحن نكتفي منه بمقتطفات من إحدى هذه الرسائل - على سبيل التمثيل لا الحصر - (صفحة 85) كتبها الفيلسوف يهدي معه نسخة من أول كتاب (تفتقت عنه عبقريته) إلى صديقه الموسيقار وقد سماه: (مولد التراجيديا من خلال روح الموسيقى).
وهذا المؤلف بالذات تناوله البروفيسور ليشتنبرجر في أبدع فصوله من مؤلفه القيم عن نيتشه - إنجيل السوبرمان -.
ويفتتح نيتشه خطابه بهذه العبارة الشائعة في خطاباته لفاجنر:
أيها الأستاذ العظيم التبجيل:
لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه
وإذا كنت أعتقد أنني به قد أصبت الحق فليس لذلك سوى معنى واحد هو أنك في فنك علي(821/49)
حق مدى الزمن والخلود - في كل صفحة من صفحاته تجد شاهداً ناطقاً يشكري على كل ما أوليتنيه؛ ولكن يعروني الجزع لشكي المخيف - إلى أي مدى استطعت أن أظهر نفسي أهلاً لنفحاتك؟! سأكون قادراً على إبداع أعمال أخرى أفضل في مقتبل الأيام وأقصد بمقتبل الأيام ذلك الزمن الذي يكون فيه فن بايروت (يقصد فن فاجنر) قد طار صيته.
وفي نفس الوقت أشعر بالزهو إذ أحس بنفس إذ أحس بنفسي كجمرة تضطرم؛ لأنني من الآن فصاعداً سيقترن اسمي باسمك إلى الأبد.
مدينة يال في 2 يناير 1872 ف. نيتشه
ألا ترى يا أستاذ معداوي أن نيتشه يعترف صراحة بأثر فاجنر وفنه في أول كتاب تفتقت عنه عبقريته؟ فكل صفحة من صفحاته شاهد ناطق بذلك كما يقول الفيلسوف نفسه!! وإن نجاح نيتشه في كتابه ليس إلا برهانا على نجاح تأثير الموسيقار وفنه؟ بل إن الفيلسوف ليؤجحه الشعور بالزهو والفخر إذ شعر باقتران اسمه باسم الموسيقار العظيم إلى الأبد! مسكين أيها الخميسي الدعي! يا من تتناول مشكلات الأدب والفن هذا التناول الذي يبعث على الضحك والعجب والإشفاق!
إن (المثقفين يا أستاذ في كل مكان يعلمون حقاً أن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشه أعنف وأبشع ما قليته موسيقى فنان من قلم فيلسوف) ولكن هؤلاء المثقفين أنفسهم يعلمون أيضاً أن هذه الموسيقى بالذات قد لقيت من قلم نيتشه أسمى آيات المديح. إنها حقيقة ذات وجهين يعرفهما كل مثقف في كل مكان! فهل أظهرت يا أخي أحد الوجهين وأخفيت الآخر متعمداً لترخي لقلمك العنان في سخرياته من الخميسي الدعي الذي يصدم الخيال والواقع ويخالف منطق الحياة والأحياء هو وأمثاله (على حد قولك) حين يكتبون؟! أم أنك كنت بالوجه الثاني لتلك الحقيقة على غير علم؟! إنني أترك لك اختيار إحدى الحالين. . . ولست أغبطك على هذا الموقف. . . الذي لا يبعد كثيراً عن ذلك الذي أراد أن يتمسك من الآية القرآنية بعبارة (لا تقربوا الصلاة. . .) وترك الباقي لغاية في نفسه وإن كنت شخصياً أنزه ناقداً مثلك عن هذه الغايات!
أما سبب ذلك الانقلاب من النقيض إلى النقيض للفيلسوف على صديقه الموسيقار فيعزوه المثقفون أو بعضهم على الأقل إلى علاقة غرامية أحس بها الفيلسوف نحو زوج صديقه(821/50)
الفنان. . . حين كان يتصل بالزوجين اتصال المعجب ويخالطهما مخالطة الصديق. . . وللحب سلطان فوق كل سلطان يا صديقي - ولما عرف الزوج السر وقعت الجفوة بين الصديقين. . . وإنك لتعرف أيها الأخ أن نيتشه لا يعرف في العواطف أنصاف الحلول. . فإما الصداقة الجارفة وأما العداوة الصارخة، وهو في فلسفته أيضاً كذلك. . . فهو إما هدَّام مدمر كأعنف ما يكون الهدم والتدمير، وإما بان كأضخم ما يكون بناء بنَاء. . . ومن كتبه التي تشهد بذلك - زرادشت - ضد المسيح - شفق الأصنام -. . .
ولقد سبق لينتشة أن رفع شوبنهاور وفلسفته إلى عنان السماء ثم عاد وذمهما أشنع الذم. . ثم حملته العنيفة التي شنها على المسيح والديانة المسيحية. . إن ما قاله مالك في الخمر هو بعض ما قاله نيتشه في المسيح. والعجيب أنه كان يعد أولاً ليكون من رجال الكنيسة. .!! ويقل نيتشة في كتابه - ما وراء الخير الشر - وربما يعلل بهذا القول تقلباته العنيفة - إن المفكر عندما يبلغ الثلاثين يكون مر بجميع الأدوار التي مرت بها الإنسانية في تطورها.
كنت أحب أن أنتهز هذه الفرصة لأستطرد في بحث عن نيتشة الفيلسوف العجيب الفذ، ولكني أرجئ هذا إلى فرصة أخرى. وأشكر للأستاذ المعداوي أن أتاح لي إنصاف الحق وأحب أن أقول له مخلصاً. . والله لولا حرمة الحق ما حركت قلمي في هذا الموضوع - وإذا كان الخميسي صديقي فالحق عندي أعز من كل صديق. . وفي النهاية أهمس في أذنه: إنها جولة كسبها منك الخميسي لأنك لم تسد الثغرة حين سددت الضربة. . . وعسى أن توفق في جولة أخرى. . على أن كاتباً مثلك ينتظره مستقبل باهر عليه أن يبذل غاية الجهد ليحفظ قلمه بعيداً عن آفة الهوى. . .
محمد فهمي
(الرسالة) تلقينا رداً آخر للأستاذ الخميسي فاكتفينا برد الأستاذ
فهمي لاقتصاره في النقل ووفائه بالغرض.
كلام الجوهر والدرر:
في ص 1350 من عدد (الرسالة) 804 يقول كاتب المقال: (ترجمة الأوزاعي لابن حجر العقلاني).(821/51)
عنَ لي أن أحقق هذا فرجعت إلى كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي) الذي نشرته مكتبة القدسي بالقاهرة فوجدته في ص 120 يسرد ما ألف من التواريخ في أفراد مخصوصين، قم يحيل على كتابه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) فرجعت إلى النسخة المصورة في دار الكتب المصرية فعثرت في خاتمته على جريدة حافلة في ذلك، يقول فيها: وسيرة أبي عمرو الأوزاعي جمعها الشهاب أحمد بن محمد بن زيد الدمشقي الحنبلي أحد من أخذت عنه، في جزء سماه (محاسن المساعي في مناقب أبي عمرو الأوزاعي).
وقد ترجم السخاوي لابن زيد هذا في تاريخه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) المطبوع بمصر، وذلك في الجزء الثاني منه وذكر في ثبت مؤلفاته كتابه هذا (محاسن المساعي).
ثم رجعت إلى الباب الخامس من (الجواهر والدرر) المعقود لمؤلفات ابن حجر العسقلاني، وهو في 18 صفحة كبيرة، فلم أجد فيه ذكراً لكتاب في هذا الموضوع للحافظ. ولو كان له مصنف في ذلك لما خفي على تلميذه الأثير شمس الدين السخاوي وترجم له ابن العماد في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في أربع صفحات، وسرد من أسماء مؤلفاته 71 كتاباً، ليس منها هذا الكتاب.
وقصدت أيضاً إلى (الضوء اللامع) فوجدت للحافظ ترجمة فيه، ليس فيها شيء من ذلك أيضاً.
وعلى هذا فالنسخة الموجودة في دار الكتب من (محاسن المساعي) المنسوبة إلى الحافظ ابن حجر هي للشهاب بن زيد قطعاً.
محمد أسامه عليبه(821/52)
الكتب
كتابان وكاتبان
بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي
في الربع الأول من القرن الحالي، كان يقول الأدباء في مجالسهم في أديب كان معروف المكانة الأدبية آنذاك: إنه يؤلف عندما يترجم، ويترجم حينما يؤلف.
تلك المقالة التي كانت تقال همساً في مجالس الأدباء كانت تنطبق على أكثر كتاب وأدباء ذلك الجيل ممن كانوا يردون الأدب من موارد الغرب، ولم يكن يستثنى منهم إلا نفر حرصوا على كرامتهم الأدبية وعلى كرامة الأدب نفسه من الابتذال، فبقيت آثارهم تدل على أمانتهم في الترجمة وفضلهم في النقل.
ما كاد يهل الربيع الثاني من القرن العشرين؛ عصر الآداب والفنون والعلوم، حتى ظهرت بيننا ظاهرة جديدة في الترجمة والنقل استحدثها كاتب شيطان لبق مرن، واسع الاطلاع على الأدبيين العربي واللاتيني، فتوفر دائماً للحركة والعمل، ودأب على الإنتاج وعلى إثارة الضجيج حوله، وما لبثت تلك الظاهرة بدعة الشيطان الدريش، أن انتشرت بين الكتاب لسهولتها وعم اقتباسها واستعمالها عند الكثيرين من الكسالى الذين تستهويهم الشهرة ويجذبهم حب الكسب. وهكذا صار تلخيص الكتب والروايات الغربية ونشر هياكلها بعد مسخ روحها ونسخها هو القاعدة في الترجمة والنقل، ولكن أبى الأمناء من المترجمين، وهم قلة، والحرصاء على النقل الصحيح في آداب الغرب إلا السير في طريقهم القديمة، النهل من الينابيع النقية الصافية، غير آبهين بالترهات والخزعبلات الشيطانية، وقد أنكروا ذواتهم واستهانوا بمنفعّتهم حباً للأدب، ووفاء لأمتهم الناهضة. وهكذا أعدوا للجيل الجديد عوائد فوقها ما فوقها من الشهي المستحب من أدب الغرب النافع.
الترجمة في الأصل فناء شخصية معجبة في شخصية مبدعة. وهي ككل الفنون لا محيد لمتعشفها من موهبة طبيعية. فكما أن المستحيل على غير الموهوب أن يكون موسيقياً أو شاعراً أو رساماً، كذلك يكون من العسير أن يكتسب الكاتب فن الترجمة اكتساباً (وفن الترجمة لا يكفي فيه الجهد المبذول، ولا تحمل العناء؛ ولا بد فيه من التوفيق). ولما كانت خصائص إعجاب المترجم الأمين تتقارب من خصائص المبدع الفني وتضارعها؛ لأن(821/53)
كليهما يستلهم الوحي من فيض الروح، ولما كانت نهضتنا الأدبية في وقتنا الحاضر قد سبقت النهضات الأخرى غير الأدبية بمراحل، وقد سلكت في سيرها الحي سبيل الجد في الإنشاء والتأليف والترجمة، ولما كانت الأمانة رائد المترجمين الموهوبين وهدفهم، صار لرام بحكم تطورنا أن يتجلى صبح الترجمة وأن يشرق نورها، وقد انجلى ذلك الصبح البهيج في أمور ثلاثة تستوقف النظر وتسترعي الانتباه.
الأول: القدرة على تقمص روح المترجم عنه والاندماج فيه
الثاني: الحرص على جو الزمان والمكان وحسن الاختيار.
الثالث: استيعاب فلسفة أن أتاجأأنالموضوع وإبراز شخصية المترجم.
وقد وضحت هذه الصفات الثلاث وتبدت في كتابين ظهراً حديثاً: الأول (فيرنا) للأستاذ على أدهم الكاتب الغني عن التعريف، والثاني (أقاصيص مأثورة) للأستاذ كامل البهنساوي بك القاضي بالحكمة المختلطة.
في كتاب الأستاذ أدهم خمس عشرة قصة تمثل الأدب الألماني والفرنسي والروسي والإيطالي والبولندي، منها المستمدة من صميم الحياة، ومنها القائمة على الأسطورة. وكذلك في الكتاب الثاني خمس عشرة قصة تمثل الأدب الذي اختاره الأول، منها ثلاث تمثيليات هي (فاوست) و (كارمن) و (البوهيمية) وقصة ملخصة تمثل الأدب البولندي قرأتها كلها بلذة المطالع، ورغبة الناقد، وحب الإفادة والتتبع، وقصد التعريف.
تمنيت لو عمد الأستاذ البهنساوي بك إلى النقل وأهمل التلخيص، ولكني , ان كنت أرضى بعض الرضى عن تلخيص التمثيليات الغنائية ولكني لا أرضى أبداً عن تلخيص قصة (حارس المنارة) ولا أقبل أي عذر يسوغ حذف صورة واحدة أو اقتضاب جملة واحدة من تلك القصة العظيمة لأنها بجملتها قائمة على التصوير الفني.
يجلس البهنساوي وأدهم على مائدة أدبية واحدة حافلة بأغذية دسمة متنوعة، إلا أن الأول جائع يتلقف لقمته بنهم ويبتلعها على عجلة. والثاني جائع أيضاً ولكنه يتناول طعامه بقدر وتمهل وأناقة بمضع ويزدرد ولا يعف عن المرق والتوابل (يرمرم وينقنق) وطبق على الحلوى والفاكهة، ويعب ويغب. . . ويجتر. وأنت ترى هذه المائدة ممدودة في كتابيهما عليها الكثير من ألوان وأنواع الأدب الشهية ما عدا الأدب السكسوني!!(821/54)
البهنساوي بك قاض في التحقيق التجاري، والأستاذ أدهم (دعباس) بحكم وظيفته بوزارة المعارف، لا يترك صغيرة أو كبيرة لا يحققها، وكفى به أنه - في أكثر ما يكتب - نباش قلوب العظماء ومستحضر أرواح الخالدين في كتب التاريخ يسألهم عن اللمحة الخاطفة التي غفلت عدسات المؤرخين عن تسجيلها ليردها إلى حقيقتها ويضعها موضعها الصحيح، فكاتبان هذا شأنهما في حياتهما اليومية - أدبية عملية - قد لا ينحرفان في الترجمة عما اكتسباء من ضبط ودقة يوّجبهما حكم العمل، فضلاً عن حكم الفطرة الأصيلة الدقيقة.
إن الذقة في الترجمة والأمانة في النقل، وهما الخلتان اللتان تجمعان بين البهنساوي وأهدم في كتابيهما التوأمين، يفرق بينهما الأسلوب، فأسلوب القاضي إنما هو (تقريري) محض، في حين أن أدب القصة بعيد عن التقرير الفقهي والقانوني، وقد لمس الأستاذ خليل مطران هذا الموضوع لمساً رقيقاً في مقدمة الكتاب حيث قال (توخي ناقل أقاصيص مأثورة إلى لغة الضاد أن يجلوها للمطالعين مصورة بمثل التصوير الشمسي) وقال أيضاً: (ينبغي أن يكون الكلام متحركاً بحركات الحياة في كل حالة من متعدد حالاتها) بيد أن أسلوب أدهم أدبي مجنح، وقد حرص على المعنى وحافظ على جمال المبنى. أما الأستاذ البهنساوي فقد حرص أيضاً على روح الموضوع واحتفظ بجو المكان، وقد لزم كل منهما طبعه الأصيل.
عنى الأستاذ البهنساوي بتقديم قاصي قصصه وتمثيلياته وتعريفهم بترجمة حال وسير موجزة أراد بها أن يستوفي الواقف عليها ما يعينه على إدراك الكنه في تلك الأقاصيص، وتفهُّم الخصائص التي تمتاز بها كل منها في نوعها وفي بيئتها، إلا أنه أوجز كثيراً واكتفى بذكر سنة الولادة والوفاة. وإليك المثال في التعريف (وولوع (بول هيس) مؤلف قصة (الغاضبة) بالرحلات إلى إيطاليا هي التي أوحت إليه فنه). في حين أن الأستاذ أدهم عني ذات العناية، ورمى ذات هدف، ولكنه لم يوجز بل وقف في تعريف القاص الذي ترجم عنه، وفي التمهيد له بفلسفة القصة موقفاً لم يسبقه لمثله سواه من المترجمين.
قال يترجم لكاتب ألماني: (وكتابة جاكوب فاسومان لم تتسم كما يبدو بالإشراق والصفاء والاتزان، وإنما تمتاز بالجدية والصرامة والقوة، فلا يطالعك من صفحاته الروض الناضر، أو الصباح البسام، وإنما تشرف منها على الليل المدلهم والعاصفة العازفة، وهو لا يكشف لك عن حرية الإنسان وقوته، ومجده وعظمته، وإنما يريك مصارعة الإنسان لأحزانه(821/55)
العميقة، وهمومه الشديدة، ومطاردته لأهوائه العنيفة وشهواته الغلابة. وربما كانت قوة شعوره أعظم من قوة فنه) وقال: في التمهيد لفلسفة قصة (اضطهاد) للكاتب الفرنسي بوتيه: (الحياء علة من علل الإرادة، وآفة من آفاتها الشخصية. وقد عرفه أحد من توفروا على بحث طبيعته، بأنه حاجة ماسة إلى العطف وجدت ما يصدها ويدفعها، أو يغرر بها ويحدها، والحيي إنسان عاطفي يود أن يفتح قلبه وينفض ما في نفسه ولكنه يحجم عن ذلك. . .).
ما كل قصة جديرة بالترجمة حتى وإن كان مؤلفها من كبار القصصيين، وما كبار القصصيين أصحاب الشهرة العالية سوى أناس مثلنا يصيبون ويخطئون، يجيدون ويقصرون في الإجادة. ويكفي للدلالة على ذلك أنه ما من كاتب من الخالدين سلمت تواليفه كلها من النقد خصوصاً بواكيرها أو خواتيمها، وأن شهرتهم ما قامت إلا على القصة التي تحمل من عناصر الحياة الإنسانية ومن خصائص الابتكار والإبداع القني أوقرها، ومن إكسير الخلود ما يجعلها موفورة النضارة والجمال والحيوية لكل جيل وزمان وأمة.
ولا عبرة بما ينشره الناشرون التجار من قصص كتبها العظماء قبل تمام نضوجهم، بل العبرة في الاختيار: لأنه عنصر فني أساسي. وقد أحسن الأستاذان: البهنساوي وأدهم اختيار القصص كلها لأنها تمثل ألواناً من أدب وقسمات من حيوات نحن في أشد الحاجة إليها؛ ولأنها تعين كتاب القصة منا وتسد حاجة الذين لم ييسر لهم أن يعرفوا لغة أجنبية؛ ولأنها ركن من أقوى أركان الثقافة التي تربع مستوى المنتجات الفكرية وخصوصاً في نواحي السياق والاستنباط والتصرف في الفن القصصي.
إني وإن كنت استحسنت ما اختار الأستاذ أدهم من القصص التي ستكون نماذج للذين لم يخرجوا بعد في قصصهم عن نطاق الغرائز ودائرة الشهوات الجنسية. لا أميل إلى الأسطورة، ولا أستسيغها سواء أكان ملفقها تولستوي أو زفائج - وهذا لا يعني أني لا أقدرها قدرها ولا أقيم وزناً لمراميها الإنسانية التي هي فوق مستوى البشر كما في قصة (فيراتا) وإن كانت تدفع بالفكر إلى ما وراء المعقول وبالذهن في أجواء واسعة للتصور والتخيل، بل لأن إدراكنا ما برح يقف عند بدائه الأشياء وأوائل الأمور، ولأنه ما برح يزحف في نطاق ضيق من المادية الملموسة المنظورة، ولمَّا نففه بعد نطاقنا الضيق وحدوده(821/56)
فما بالك بما هو أبعد من البدائه وأعمق من الأوائل؟
قال الأستاذ البهنساوي في مقدمته (من بين فنون الأدب وطرف البلاغة تفردت القصة بالذيوع، وخصها جمهرة المطالعين بالأولوية، وحبسوا عليها أوقات فراغهم؛ والسر في ذلك هو اتصال الرواية بالحياة، ففيها تأخذ الحوادث بأعناق بعضها زاخرة بالشخصيات، وقد أفرغ عليها الكاتب من فنه المبدع ما يجعلها ماثلة أمامك يجري فيها الدم تهتف بالبقاء للبقاء فتكون متعة للناس، ومطلبهم جيلاً بعد جيل).
وقال الأستاذ أدهم: (والقصة في العصر الحاضر كثيرة الألوان متنوعة الشكول، تكاد تتحدى كل تعريف وتتجاوز كل تحديد، وتختلف صورها لاختلاف العقول وتباين الأمزجة فلا يستطيع الإنسان أن يحدد معالمها، ويحصي سماتها وملامحها) وكما كانت القصة أصدق في تصوير الواقع وترديد صدى الحياة كانت أدخل في الأدب والفن وأدنى إلى البقاء والخلود).
وأعيد هنا ما سبق لي قوله في مقدمة كتابي (شعاب قلب) لا شك في أن القصة قصيرة كانت أم طويلة، هي خير وسيلة للتعبير عن الخلجات الإنسانية، وأرحب مجالاً للذهن الخصب، وأبرع حيلة يحتال بها صاحب الرسالة على عقول ومشاعر لا تؤخذ ولا تستصلح إلا بالحيلة والتشويق).
وددت لو أقف طويلاً حيال قصة من تلك القصص والأقاصيص الممتعة التي دمجها المترجمان الفاضلان في أدبنا العربي، ويسرني أن أقول إنه سيكون لكتابيهما الأثر الفعال في الإعداد لإنشاء القصص، وأنهما سيخلدان ذكراهما كمترجمين أمينين، وأنهما يعينان على النهضة الأدبية وتوسعة آفاقها وتهيئة الأسباب القوية لتبلغ المقام الحق بها بين أوفى اللغات في هذا العصر.
حبيب الزحلاوي(821/57)
العدد 822 - بتاريخ: 04 - 04 - 1949(/)
رؤيا مزعجة
لم أكد آوي إلى فراشي البارحة حتى انثالت على خاطري صور
أشتات من جملة ما سمعت وقرأت عن حال المشردين من عرب
فلسطين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وجردوا من مالهم بغير
رحمة، وقضي في مصيرهم بغير عدل. وكان مبعث هذه الصور
حديث سمعته عصر الأمس من صديق عاد من فلسطين بعد ما رأى
بعينيه افظع مناظر البؤس، وسمع بأذنيه أروع مآسي الحياة. وكنت
وهو يتحدث أتمثل من خلال وصفه طرائد صهيون من ورَّاث المجد
وربائب النعيم يلوذون بمغاور الجبال وكهوف الأودية، ويتبلغون بيابس
النبت وآسن الماء، ويتسترون بأخلاق الثياب ومِِزق الخيش، وأطفالهم
دفاق الأشباح فوق ظهورهم أو بين أيديهم يتضاغون من الجوع
ويتطرحون من الكلال؛ ونسائهم الشواحب العجاف يجررن أرجلهن
الدامية على الحصى جراً فلا تكاد تتبعهن من فرط اللغوب. فإذا ذكرن
ما صنع بهن علوج إسرائيل ذرفن ما بقي في المآقي، ثم تطلعن لها في
إلى صلاح الدين الهاشمي يستصرخنه للمجد المغلوب، والتراث
المغصوب، والعرض المسلوب، فتهب وا أسفاه ريح (غريبة) تعدل
بصرختهن عن القصر إلى الفقر، فلا يسمعهن وريث الرشيد، ولا
ينجدهن سليل المعتصم!
أمست هذه الصور المروعة تتمثل في ناظري، أو تتراءى في خاطري، وصوارف العمل أو شواغل الناس تخفيها الساعة بعد الساعة، حتى خلوت إليها على وسادي القلق، فتوالت في ظلام الغرفة مسرعة على عيني، كما تتوالى صور الفلم متلاحقة على عين المشاهد،(822/1)
فرأيت في أطراف فلسطين وعلى حدود جاراتها المضيافة ثلاثة أرباع المليون من كرام العرب يعيشون في الخرائب والملاجئ عيش الحرمان، يقتاتون السوف، ويكابدون الجوع والخوف، وينظرون إلى رياضهم الجنية تعيث فيها الذئاب، وإلى حياضهم الروية تلغ فيها الكلاب، فلا يملكون لأنفسهم إلا عبرات تتحدر وزفرات تتصعد، ومجلس الأمن ووسيط هيئة الأمم ولجنة التوفيق ودول الديمقراطية يستطعمون الواغل لصاحب المأدبة فلا يطعم، ويستعطفون الدخيل على مالك الدار فلا يعطف!
وثقل الأسى على أعصابي المضطربة فغلبني النوم. ولا أدري بعد كم دقيقة أو ساعة من رقادي دخل علي في مكتبي صديقي المغفور له إسعاف النشاشيبي في هيئة مبذوءة وثياب رثة: بذلة من الصوف المهلهل لا لون لها من البلى ولا معالم، وطربوش كلبدة الفلاح دارت عليه لفافة من بقايا قميص ممزق، وحذاء غليظ من أحذية الجيش لا رباط له ولا جورب. . . فقلت له وأنا لا أصدق عينيَّ ولا أملكهما: ماذا صنع الدهر بالثريِّ السخي المترف المتنطس يا إسعاف؟! فقال في تسليم واستكانة: هو ما ترى! رأيت بعيني حي (الشيخ جراح) يٌستباح ويجتاح، وداري العربية تحتلها كتيبة يهودية، ومكتبتي الحبيبة تنتقل إلى الجامعة العبرية، وضياعي الخصيبة في يافا يحول ريعها إلى تل أبيب! فلما رأيتني أصبحت لا دار ولا أهل ولا ملك ولا مال، هاجرت مع المهاجرين، ولجأت إلى مصر مع اللاجئين. وقد كنت تقول لي وأنا أوثر (الرسالة) بجهدي الضئيل: لولا غناك لأعطيناك. وهاأنذا اليوم أصبحت فارغ الكف والقلب من المال والأمل، لا في الجيب ولا في الغيب! ثم بكى فبكيت؛ وسمع نشيجي بعض أهلي فأيقظوني، فاستيقظت وأنا احمد الله أن مات، قبل أن يقاسم وطنه وقومه هذه النكبات!
أحمد حسن الزيات(822/2)
الجديد في القضية الأندنوسية
للأستاذ عمر حليق
الحالة في أندنوسيا بناء على التقارير الواردة إلى لايك سكس مقر هيئة الأمم المتحدة تشير إلى أن سياسة (الأمر الواقع) التي أتبعتها الحكومة الهولندية للقضاء على الجمهورية الأندنوسية سياسة مصيرها الفشل، وأن نجاح الحملة الهولندية العسكرية كان نجاحاً مؤقتاً لعبت فيه الدعاية دوراً موفقاً بادئ الأمر، إلا أن حقيقة الأوضاع العسكرية والسياسية تظهر بوضوح تعقد الحالة مما يتطلب تغييراً جوهرياً في موقف الهولنديين من الجمهورية الأندنوسية، ومن عنادهم تجاه مقررات مجلس الأمن الدولي، ومن الصوت الأسيوي الذي ناصر الأندنوسيين من مؤتمر نيو دلهي.
والتقارير عن الحالة في أندنوسيا ترد عن ثلاثة مصادر:
(ا) لجنة التوفيق الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة التي تعمل الآن في اندنوسيا. (ب) ممثلي الجمهورية الأندنوسية.
(ح) الحكومة الهولندية.
وفيما يلي بإيجاز أهم ما بعثت به هذه المصادر الثلاثة من معلومات تلقي ضوءاً على مستقبل الصراع بين الحرية والاستعمار في ذلك الجزء المهم من العالم الإسلامي:
فلجنة التوفيق الدولية (وهي المعروفة سابقاً بلجنة المساعي الحسنة) تؤكد بأن الوضع العسكري وحالة الأمن في أندنوسيا هما الآن ابعد ما يكونان عن الاستقرار، فلقد احتلت القوات الهولندية في ضربات خاطفة، وبعد استعداد شهور طويلة، بعض المدن الأندنوسية الكبرى، ولكنها عجزت عن السيطرة على أكثرية المناطق الريفية كما عجزت عن تامين المواصلات بين مناطق احتلالها وعن حفظ الأمن حتى في المدن التي ترابط بها الجيوش الهولندية. ويقول مراقبو هيئة الأمم المتحدة إن حرب العصابات قد أخذت تشتد، وإن فلول قوات الجمهورية الأندنوسية قد أعادت تنظيم صفوفها وتركيز قيادتها، وإنها تسيطر على أجزاء شاسعة من البلاد، وأنها أخذت تشن حملات هجومية موفقة على الهولنديين في معاقلهم في المدن الكبرى، وتتعمد قطع المؤونة عن القوات الهولندية في المناطق البعيدة عن الموانئ ومراكز التموين، وتتعمد قطع المواصلات بين هذه القوات حتى ولو أدت إلى(822/3)
إحراق الزرع وتخريب المنشآت العمومية. لعل في هذا النشاط حافزاً للذين يضعون مستقبل الصراع في فلسطين!
ويقول هؤلاء المراقبون كذلك أن معظم السكان الاندنوسيين ينهجون منهجاً سلبياً في مناطق الاحتلال الهولندي فيتعمدون المقاطعة وعرقلة الأعمال التي تعود على الهولنديين بالنفع.
وتلخص تقارير اللجنة الدولية هذا الوضع العسكري السيئ فتقول إنه ليس للحكومة الهولندية قوات عسكرية كافية لحفظ النظام في منطقة الجمهوريين، وإن الإدارة المدنية الهولندية هناك لا تحظى بثقة الشعب وتعاونه، وان على الهولنديين والحالة هذه أن يكفوا عن المواربة وان يعيدوا نظام الحكم الجمهوري، وأن يجعلوا قرارات مجلس الأمن القاضية بتأليف اتحاد الولايات الأندنوسية في نطاق الحكم الذاتي الذي يتدرج بالبلاد في فترة شهور قصيرة إلى الاستقلال التام، بعيداً عن السيطرة الهولندية.
وترد الحكومة الهولندية على تقارير اللجنة الدولية هذه فتقول إن تحليل الوضع العسكري والسياسي في البلاد هو رأي خاص تبديه اللجنة، وإنه لا يستند إلى المعلومات الوافية الصحيحة.
ولكن الهولنديين يعترفون مع ذلك بان الوضع في أندنوسيا ليس مرضياً، ولذلك فإنهم تواقون إلى التعاون مع الزعماء الجمهوريين الوطنيين في إيجاد حل وسط - حكومة اتحادية تشمل المناطق الرئيسية الثلاث في الجزر الأندنوسية تكون مرتبطة في العاصمة الهولندية لاهاي ارتباطاً من شأنه أن يحفظ المصالح الهولندية التي يعيش عليها الجزء الأكبر من الاقتصاد الهولندي لا في أندنوسيا فحسب، بل في هولندا نفسها.
وجواب ممثلي الشعب الأندنوسي من الوطنين الجمهوريين على هذه المقترحات الهولندية يؤكد بأن طبيعة التعاون الذي تنشده هولندا يقضي على بعض الحقوق الأساسية للقوميين الأندنوسيين. فيشير الدكتور محمد رويم رئيس الوفد الأندنوسي الملحق بلجنة التوفيق الدولية في مذكرة بعث بها إلى مجلس الأمن مؤخراً إلى أن طريقة التسوية التي تدعو إليها هولندا تخالف اتفاقية سابقة عقدتها هولندا مع الحكومة الجمهورية الأندونيسية المعروفة باتفاقية رنفيل كما تخالف قرارات مجلس الأمن فضلاً عن تجاهلها بعض النواحي الهامة من حقوق الأندوسيين الشرعية.(822/4)
ويقول الدكتور رويم: إن الجمهورية الأندنوسية كانت وليدة الصراع الدامي الذي حمل لواءه الأندنوسيون ضد الاحتلال الياباني إبان سيطرته على الجزر الهولندية خلال الحرب العالمية المنصرمة، وأن هولنده عجزت عن حماية الأندنوسيين من العدوان الياباني، وتركتهم لمصير قاتم عندما تراجعت القوات الهولندية في جبن أمام جحافل اليابانيين. ولقد بذل الوطنيون الأندنوسيين أرواحاً غالية ثمن الاستقلال الذي عملوا له في وجه التعسف الياباني، وأعلنوه عندما واتتهم الفرصة السانحة في أعقاب هزيمة اليابان.
فأي حق لهولندا أن تطالب بان تكون شريكة في تقرير مصير أندنونسيا أو أن تطالب بحقوق وامتيازات؟
ثم أن هناك نقطة قانونية تصر على أهميتها مذكرة الدكتور محمد رويم؛ وهي أن النزاع بين الجمهورية الأندنوسية وهولندا هو نزاع دولي وليس نزاعاً محلياً كما يدعي الهولنديون؛ فقد اعتدت دولة هولندا على دولة أخرى (هي الجمهورية الأندنوسية) ذات سيادة اكتسبتها بالدم والنار ولها من العمر ثلاث سنوات معترف بها من دول عديدة في طليعتها الجامعة العربية. وقد اعترف بها مجلس الأمن الدولي كذلك، ووصف الهولنديين بأنهم خصم للجمهورية الأندنوسية، إذن فدعوة الحكومة الهولندية دعوة غير قانونية، والمشروع الهولندي الذي تحاول هولندا بواسطته أن تسوي النزاع مشروع باطل لا يستند إلى قانون فوق كونه يتضمن في خبث القضاء على حرية الشعب الأندنوسي وسيادته. فهو يرمي إلى تقسيم البلاد ثلاث مناطق، كل منطقة لها حكم ذاتي خاص، ولكنها تشترك في إدارة مركزية تكون سيطرة الهولنديين عليها قوية في معظم الشؤون الداخلية، وفي السياسة الخارجية.
وهذه المناطق الثلاث التي يقترحها الاستعمار الهولندي للبلاد الأندنوسية مقسمة تقسيماً مشوهاً يخدم مصالح الهولنديين ويعبث بالوحدة الاقتصادية والثقافية للبلاد. وفوق ذلك فإن القسم الذي تمكن فيه نفوذ الجمهورية الأندنوسية هو أكبر الأقسام فهو يضم الأكثرية الكبرى من السكان (60 من 75 مليوناً) والقسمين الآخرين (جزيرة يورنيو وجزر شرقي اندنوسيا) لا يضم من السكان سوى 15 مليوناً يخضعون قسراً لإدارة صورية لا تنال ثقة الشعب بها، ومع ذلك فإن الحكومة الهولندية بموجب مشروعها المذكور تنوي إعطاء هاتين(822/5)
المنطقتين الأخيرتين صوتين مقابل صوت واحد لمنطقة الجمهورية الأندنوسية التي تشكل 90 بالمائة من السكان. وتؤكد مذكرة الدكتور رويم بأن الإدارات الصورية التي أقامها الهولنديين في مناطق سيطرتهم لها أن تعيش ساعة واحدة إذا سمح للشعب الذي تسيطر عليه أن يعبر عن رغبته الصادقة باستفتاء محايد أو انتخابات ديمقراطية.
ويضيف ممثلو الجمهورية الأندنوسية في تفنيدهم لما استتر من شر في المشروع الهولندي مشيرين إلى أن فترة انتقال الحكم من الهولنديين إلى الوطنيين جٌعلت بطريقة تجعل السيادة الوطنية في المستقبل حين تتحقق، سيادة قلقة ضعيفة لا تلبث أن ترتمي في أحضان الاستعمار الهولندي. إذ أن القوة الحقيقية في فترة الانتقال هذه ستظل في أيدي الهولنديين وسيمنع الجمهوريون في فترة الانتقال هذه ممارسة الإدارة، والحكم في مراكز التوجيه وسيمنعون حتى من إنشاء قوات بوليسية وعسكرية لحماية البلاد وصيانة الأمن ويترك ذلك كله في يد الجيش الهولندي، ولن يكون للاندنوسيين تمثيل سياسي خارجي ولا اتصال مباشر بالعالم الخارجي.
وقد بحث مجلس الأمن مؤخراً هذه الشكاوى والادعاءات والتقارير الواردة من المصادر الثلاثة: اللجنة الدولية، وممثلي الجمهورية الاندنوسية، ومن الهولنديين، فقرر أن تظل قراراته السابقة بصدد النزاع في أندونيسيا أساساً لتسوية الحالة. وهذه القرارات في جملتها في صالح الوطنيين الأندنوسيين وهم يريدونها أن تكون أساساً للحكم على مستقبل السيادة في ذلك الجزء الغني من القارة الأسيوية.
وقد ندد مجلس الأمن بموقف الحكومة الهولندية بعد سماعه شكاوى لجنة التوفيق الدولية من أن الحكومة الهولندية تعمل متعمدة على عرقلة أعمال اللجنة فتماطل في التعاون، وتحاول أن تتفادى قرارات مجلس الأمن وان تقوض النظام الجمهوري في اندنوسيا.
وتلاقي القضية الاندنوسية عطفاً منقطع النظير في الأوساط الدولية الغربية إذا قورنت بقضايا التحرر الأخرى والإسلامية منها على الأخص. ولعل السبب في ذلك مغريات الجزر الأندنوسية والسعي لاكتساب صداقة الأندنوسين الذين سيفوزون عاجلا أو آجلا بسيادتهم التامة على بلادهم.
وكان موقف مندوب الحكومة الهولندية في جلسات مجلس الأمن الأخيرة الخاصة بالقضية(822/6)
الأندنوسية أميل إلى التسليم. وهذا ما يبعث المتتبعين للقضية الأندنوسية على الاعتقاد بأن الجمهوريين سينالون في المراحل النهائية سيادتهم.
(نيويورك)
عمر حليق(822/7)
(وقعة صفين)
للدكتور جواد علي
واقعة صفين الوقائع الهامة التي يجب دراستها بعناية، لأن لها ولسائر الوقائع الأخرى التي وقعت في صدر الإسلام أثراً كبيراً في التاريخ العربي. وقد عنى جماعة من الرواة بأخبارها وألفوا في ذلك كتباً، تعد في نظر المؤرخ المراجع الأولى التي يجب الرجوع إليها لمعرفة العوامل السياسية والظروف التي لعبت دوراً جسيما في إثارة تلك الأحداث التي أثرت في مستقبل العرب والإسلام.
وتلك المصنفات التي ذهب الدهر بأكثرها عامة جداً لأنها المراجع الأولى التي يجب أن يعتمد عليها المؤرخ في تدوين التاريخ وليس لكتب اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن مسكوية، وابن الأثير وغيرهم تلك القيمة - على جلالتها وأهميتها - التي يضعها الناقد الحديث للأصول. ثم إن هذه الكتب نفسها قد رجع إليها واغترف منها. وقد أخذت أكثر أخبارها من شهود عيان. وليس الخبر كالعيان.
من أجل هذا ومن أجل رغبتنا في تدوين تاريخ نقي للعرب صاف يعيد إلى ذهننا صفاء الإسلام وصفاء تلك العقيدة التي حاربت الحمية الجاهلية والتفكير الجاهلي والعصبية القَبلية، ومن أجل أن يكون لنا تاريخ مكتوب وفق الأساليب العلمية الحديثة مستمد من المصادر الأولى وجب علينا التفتيش قدر الطاقة عن أقدم النصوص لدراستها دراسة علمية حديثة، ولا سيما تلك النصوص التي دونت في البيئات المحايدة التي لم تنجرف مع التيارات السياسية ومن أشخاص عرفوا بالعلم والإطلاع، في الأماكن التي حدثت فيها تلك الأحداث أو كانت قريبة منها. ويؤسفني أن أقول إن أكثرها قد فقد وأتلف عمداً أو سهواً، فنحن لا نملك من الكتب التي وضعت في الصدر الأول شيئاً، ولا نملك من المؤلفات الأصول غير مؤلف أو مؤلفين.
فالعالم العربي والعالم الإسلامي بل والعالم الغربي في حاجة إلى هذا التاريخ، إلى تاريخ علمي منظم دقيق يكتب بروح حيادية على نمط الكتب المؤلفة في الغرب، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بالاعتماد على الأصول، وعلى تحسين فهم الأصول عقول، ولأجل هذا لا يمكن الاعتماد بعد اليوم على مؤلفات المستشرقين لأن ما فيها إما أن يكون غير حيادي(822/8)
وإما أن يكون ناقصاً لا يعبر عن نفسيه هذا الشعب. لأنهم لا يستطيعون التعبير عن نفسيته ولا فهم عواطفه. ثم إن من العار على أمة تريد النهوض ومجاراة الأمم الأخرى الاعتماد على المستشرقين وفيهم الغالبية من الصهاينة أعداء العرب والإسلام. من أجل هذا كان سروري عظيماً بكتاب (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 213 للهجرة؛ لأنه أصل من تلك الأصول التي أبحث عنها والتي كتبت عن وقعة واحدة وجمعت مختلف الروايات التي قيلت عنها. وأرجو أن نوفق إلى روايات أخرى تمثل وجهة نظر أهل الشام مثل روايات عوانة الكلبي الذي كان يعرفها بحكم اتصاله بكلب التي كان لها نفوذ هناك، كما أتمنى العثور على كتب أخرى عن هذه الوقعات وعن الحوادث المهمة التي وقعت في صدر الإسلام.
ولنصر بن مزاحم مؤلفات قيمة تناولت الأحداث التي وقعت في العراق، وهو ثقة فيها وقد نقل عن مؤلفاته جماعة من المؤرخين فأعتمد على كتابه (كتاب الجمل) الذي تناول أحداث وقعة الجمل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 للهجرة.
أخذ ذلك عن علي بن أحمد بن الحسن العجلي عن الحسين ابن نصر العطار وهو ابن نصر ابن مزاحم المنقري. ووضع رواياته هذه مع الروايات الأخرى التي أخذها عن السرى عن شعيب عن سيف بن عمر الأسدي الكوفي المؤرخ الشهير وصاحب الكتب المعروفة في الفتوح والردة والجمل وغير ذلك، والذي هو موضع ثقة الطبري فيها حتى أنه رجحه على الواقدي، وهو سند نصر بن مزاحم بنفس الوقت.
وقد ألف غير واحد من المؤرخين في وقعة صفين، منهم ابو مخنف لوط بن يحيى المتوفى سنة 158 للهجرة. وهو من أنشط الرجال الذين عنوا بتاريخ العراق؛ وهو من مشائخ نصر أبن مزاحم بنفس الوقت. وقد اعتمد عليه الطبري في وقعة صفين والتاريخ الأموي والأحداث التي وقعت قبل صفين وأورد من كتب أبى مخنف قطعاً طويلة تعطينا فكرة مهمة عن الأسلوب المشرق الذي أتبعه في تدوين التاريخ وفي الإنشاء العربي وفي ذلك العهد وهو مرجع لأكثر المؤرخين. ويمكن جمع أقواله المشتتة في كتب الواقدي والبلاذري والمسعودي وغيرها وتكوين فكرة عامة عن هذا المؤرخ القديم.
وألف أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي المتوفي سنة 207 هـ وهو مؤرخ شهير ومرجع(822/9)
لا يحتاج إلى تعريف في وقعة صفين وقد أشار إليه والى أبي مخنف الأستاذ عبد السلام محمد هارون في مقدمته لكتاب صفين. وألف غيرهما ممن لم يشر إليهم الأستاذ مثل إسحاق بن محمد بن عبد الله بن سالم أبو حذيفة البخاري المتوفي سنة 206 للهجرة فهو من معاصري نصر بن مزاحم، وكان مثله صاحب مؤلفات في الأحداث الإسلامية. فله كتاب الفتوح وكتاب الردة وكتاب الجمل وكتاب الألوية وكتاب صفين وكتاب حفر زمزم وكتاب المبتدأ وهو في مبدأ الخلق، ومثل إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفي سنة 283 للهجرة وهو مؤلف صنف في هذه المواضيع كتباً مثل كتاب الجمل وكتاب صفين وكتاب الحكمين وكتاب أخبار عمر إلى غير ذلك من الكتب التي ذكرها أصحاب التراجم. ومثل الغلابي أبو عبد الله محمد بن زكريا بن دينار أحد الرواة للسير والأحداث والمغازي وله من الكتب كتاب مقتل الحسين بن علي وكتاب وقعة صفين وكتاب الجمل وكتاب الحرة وكتاب مقتل أمير المؤمنين فهو من المؤلفين في تواريخ أحداث العراق.
ولقد عنى الكوفيون عناية خاصة بتدوين الأحداث الإسلامية التي وقعت في العراق وبأمر الفتوحات، وهم يتفوقون في ذلك على أهل الشام وعلى أهل المدينة الذين عنوا بالسيرة والمغازي وأحداث الحجاز وبالدولة بقدر ما للدولة من علاقة بالمدينة. فلم يهتم رواتهم بما كان يقع في العراق أو الشام أو ما إلى ذلك. ويشبه أهل الكوفة في ذلك رواة أهل اليمن الذين حافظوا على الرواية التاريخية وأحيوا القصص الشعبي وخلقوا لليمن قصصاً اصطبغ الصبغة المحلية وبالعصبية القبلية. ولوجود عدد كبير من الرواة الذين يرجعون أنسابهم إلى اليمن في مدينة الكوفة دخل ولا شك في تقدم فن التاريخ في هذا المكان.
ونصر بن مزاحم راوية من رواة أهل الكوفة من الطبقة الممتازة وقد فقدت اكثر مؤلفاته مع الأسف، وإن كانت لا تزال بعض قطع منها محفوظة في بطون الكتب التي اقتبست منها. وقد كان ولده (الحسين) من الرواة وقد سجل له أبو الفرج الأصبهاني شيئاً من الأقوال في كتابه (الأغاني). وفي كتاب صفين قطع أخذت من كتب الفت في أيامه أو في أيام مضت قبله. فحفظ نصر لنا بذلك نماذج من النثر ترينا كيف كان المؤرخون يكتبون.
وقد عرف كتاب صفين بين الناس واقتبس منه، قديماً وحديثاً. وممن نقل منه عز الدين أبو حامد عبد الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد شارح كتاب (نهج البلاغة) وقد أدخل في(822/10)
كتابه (وقعة صفين) لنصر وجزأه إلى أقسام جعل كل قسم في الموضع الذي يليق به من الخطبة أو الإشارة. وقد أدخل في كتابه في الواقع كتباً أخرى من الكتب التي ألفت قبله ولا مجال للبحث عنها في هذا المكان.
وقد دفعني البحث الذي أقوم به الوقت الحاضر عن المصادر التي أخذ منها الطبري في تاريخه المعروف لمجلة المجمع العلمي العراقي على مراجعة كتاب (وقعة صفين) في جملة كتب كثيرة رجعت إليها فكان تحقيق الأستاذ السيد عبد السلام محمد هارون محقق هذا الكتاب الذي طبع عام 1365 للهجرة في القاهرة هو الحافز لي على الكتابة في هذا الموضوع.
والحق أن الأستاذ قد أجهد نفسه وبذل عناية تستحق التقدير في إخراج هذا المؤلف الثمين، وقد وضع لرجال السند ولأشخاص الرواة تراجم مختصرة تناسب المقام وزينه بفهارس أحيت الكتاب، وهو عمل متعب لا يعرف مشقته إلا المساكين الذين دفعهم القدر إلى الاشتغال بالتحقيق في بلاد تقيم للتحقيق العلمي وزناً ولا تضع له أية قيمة.
وقد حملني إعجابي بالإخراج على إبداء بعض الملاحظات البسيطة التي جاءت في المقدمة. من ذلك قول المحقق (طبع هذا الكتاب لأول مرة على الحجر في إيران سنة 1301 وهذه الطبعة نادرة الوجود عزيزة المنال حتى أنها لم تدخل خزائن دار الكتب المصرية إلا منذ عهد قريب، وهي نسخة مروية تقع في ثمانية أجزاء في صدر كل منها سند الرواية التي تنتهي إلى نصر بن مزاحم وهذه لأجزاء الثمانية في 305 صفحة. . . الخ. . .).
وقد تحدث السيد عبد السلام محمد هارون عن حالة الكتاب في مصر؛ أما في العراق فهو موجود يباع عند الوراقين بثمن زهيد وكنت أود أن يشير إلى ما ذكره المستشرق (بروكلمن) عنه في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) فعندي أنه يستحسن من كل محقق أو مؤرخ الإطلاع على ما جاء عن الكتب وأصحابها وان كان البحث لا يخلو من أوهام في بعض الأوقات. فقد أشار (بروكلمن) إليه وذكر أنه طبع سنة 1301 (1884) بمدينة طهران طبعه (فرج الله الكاشاني). وكنت أود أن يشير إلى ذلك اعترافاً بخدمة من سبقنا من الباحثين. والظاهر أن الأستاذ لم يراجع كتاب هذا المستشرق وإلا كان في مقدمة من(822/11)
أشار إليهم.
والواقع أن الأستاذ لو قرأ الصفحة الأولى من كتاب (وقعة صفين) المطبوع بإيران لوجد أسم الناشر إذ جاء فيها: (يقول الراجي عفو ربه الغني فرج الله بن هاشم العلوي الفاطمي الحسيني ان كتاب الصفين في شرح غزاة أمير المؤمنين. . . الخ) وجاء في آخر الكتاب اسم الخطاط الذي طبع الكتاب على الحجر واسمه محمد حسن في سنة 1300 هـ لا سنة 1301 كما ذكر ذلك بروكلن والأستاذ عبد السلام محمد هارون.
وجاء في مقدمة السيد هارون (وهناك نسخة ثالثة كانت في ضمير الغيب وأمكنني أن أكشفها شيئاُ فشيئاً بمطالعتي في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد الذي جرت عادته على أن يضمن تأليفه جملة من الكتب ينثرها في تضاعيف كتبه. . .)
وكنت أود أن يطلع الأستاذ على كتاب بروكلمن فقد أشار فيه إلى أخذ أبن أبي الحديد لكتاب صفين ونثره في تضاعيف كتابه كما أشار إلى النسخة التي أشار إليها السيد عبد السلام محمد هارون وهي المطبوعة في بيروت عام 1340 بعد حذف الأسانيد منها وكنت أود ألا يكتفي الأستاذ بقراءة النص المطبوع بإيران، بل كنت اطمع أن يقرأ الصفحة الأولى منه وهي مقدمة أشار فيها إلى كتاب آخر حوى وقعة صفين وهو كتاب شهير جداًُ يقال له (بحار الأنوار) وقد قرأ (بروكلمن) الصفحة الأولى من طبعة (وقعة صفين) التي أعتمد عليها السيد عبد السلام محمد هارون فأشار إلى هذا الكتاب.
وكتاب (بحار الأنوار) دائرة معارف في العلوم الشرعية والتاريخ وهو من مؤلفات محمد باقر بن محمد تقي المجلسي الأصفهاني المتوفي سنة 1110 للهجرة (1700م) ويقع في 26 مجلداً بديء بطبعه طبعاُ حجرياُ سنة 1303 وانتهى منه سنة 1315، وقد حوى المجلد الثامن منه وهو المجلد الخاص بالإمام علي بن أبى طالب على وقعة صفين، فأدخل المجلسي كتاب وقعة صفين في هذا المجلد وشغل حيزاً واسعاً منه من صفحة 484 حتى صفحة 621. ولو طالع الأستاذ هذا الكتاب الذي أشار إليه (بروكلمن) وقبله ناشر كتاب وقعة صفين الأولى منه لوجد الكتاب كاملا ولوجد له نصاً ثانياُ يساعده كثيراً على التحقيق. والظاهر أنه لم يعثر عليه في دار الكتب المصرية وفي مكتبات مصر.
وقد أشار المجلسي في كتابه إلى وجود زيادات في كتاب صفين لم ترد في كتاب شرح نهج(822/12)
البلاغة لابن أبي الحديد. وقد استفاد المجلسي وهو عالم محقق واسع الاطلاع من نسخة قديمة لكتاب وقعة صفين. كما استعان بكتب أخرى عن هذه الوقعة مثل (كتاب صفين) لإبراهيم بن ديزبل الهمذاني الذي من رواته (حبة العرفي) وهو من رواة نصر بن مزاحم. وكذلك سيف ابن عمر الصنيعي الكوفي المتوفي سنة 180 للهجرة الراوية الشهير صاحب الكتب في الردة والفتوح والجمل ومسير عائشة وعلي. وقد نقل عن الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة الكوفي. ومثل كتاب شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني وغير ذلك.
وقد سبق لعالم آخر أن أعتمد على كتاب (سفين) فأخذ منه شيئاً حذفت منه الأسانيد هو الشيخ السيد محسن الأمين من علماء الشام أدخله قي كتابه (أعيان الشيعة) في الجزء الخاص بالإمام علي المطبوع سنة 1354 للهجرة والظاهر أن الأستاذ لم يقف عليه.
هذه ملاحظات بسيطة دفعني على تدوينها موضوعي الذي أشتغل فيه في الوقت الحاضر عن (مصادر تاريخ الطبري) لا تغض من قيمة الكتاب سجلتها رغبة مني في التعقيب لأن العلم بحر لا يحاط به مهما أوتي الإنسان من علم. أرجو من القارئ ألا يسيء ظنه في قيمة التحقيق والإخراج.
(بغداد)
جواد علي(822/13)
أساليب التفكير:
التفكير الفلسفي
الأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
فوضى التعريف:
عودتنا كتب الفلسفة التي تقدم لعامة القراء أن تطالعنا في السطور الأولى بمعنى كلمة فلسفة فتردد إنها كلمة من أصل يوناني مركبة من (فيلو) أي محب و (سوفيا) أي الحكمة، وتنتهي من ذلك إلى أن الفلسفة معناها (محبة الحكمة). ثم تمضي لتؤكد في جرأة أن أول من أستعمل الكلمة للدلالة على علوم الفلسفة عالم يوناني من أعلام الرياضة والفلك والموسيقى، فيثاغورس الذي توفي في القرن الخامس قبل الميلاد؛ إذ قال: (لست حكيماً، فالحكمة لا يتصف بها غير الآلهة وما أنا إلا محب للحكمة). تردد الكتب ذلك القول مع أنه لم يثبت بالدليل التاريخي البات أن فيثاغورس أول من أستعمل كلمة فلسفة بمعنى اصطلاحي، فالمؤرخ (هيرودوت) يذكر أن (كريزوس) قال (لصولون) إنه سمع أن صولون قد جاب كثيراً من الأقطار يتقلسف، وأن الذي دفعه إلى ذلك رغبته في المعرفة.
ولذلك يحق لنا أن نرجح أن هيرودوت أول من استعملها للدلالة على علم من العلوم، أو - على الأقل - أن نشك في نسبتها إلى فيثاغورس.
وعودنا جمهور المثقفين أن يتساءل عن معنى الفلسفة، ويتطلب تعريفاً جامعاً مانعاً لها في كلمات قلائل، ولما كان موضوع الفلسفة غير واضح المعالم، غير محدود الأفق، ولما كانت المعرفة الفلسفية متشعبة الأطراف، متنوعة الاتجاهات حتى ليستحيل أن تقضي إلى نتائج ثابتة نهائية شأن العلوم المختلفة، لما كان الأمر كذلك تعذر تعريف الفلسفة على اعتبار أنها لون من ألوان التفكير البشري، أو فرع من فروع المعرفة الإنسانية.
وإذا كان الفلاسفة قد تصدوا لتعريفها فإن تعريفاً واحداً من تعريفاتهم لم ينج من النقد فضلا عن التقريع، حتى ليتعذر علينا أن نجد فيلسوفين يتفقان على تعريف واحد. سر ذلك أن كل فيلسوف إذ يتصدى للتعريف إنما يكون واقعاً تحت تأثير فلسفته الخاصة فيكون التعريف الذي ينتهي إليه مجرد عبارة قصيرة توجز فلسفته، وتركز مذهبه.(822/14)
أفلاطون، مثلا، يصف الفيلسوف بأنه شخص غايته معرفة الأمور الأزلية، أو الوصول إلى حقائق الأشياء، أو الارتقاء من العلم بشئون حياتنا الوهمية إلى إدراك مسائل الحياة الأزلية. وهو يصدر في ذلك عن نظرية عرف بها، نظرية المعاني أو المثل، التي ترى العالم المحسوس الذي نحيا فيه حياتنا الراهنة عالم أشباح زائلة، لحقائق أزلية أبدية لا تحس وإن لم يكن من المستحيل إدراكها إن اصطنعنا التأمل العقلي الخالص من أوهام الحس والبدن. فيصبح العلم بأمور هذا العالم تافهاً، في حين يصبح العالم الحق هو الإحاطة بعالم الحقائق الأزلية الروحية، وما ذلك العلم غير الفلسفة. بل نراه يقول: (الفيلسوف الحق هو ذلك الذي يسعى إلى انتزاع الروح من الجسد) ألا يلخص ذلك القول نظريته في العلاقة بين الروح والجسد التي ترى الإنسان لا مركباً من روح وجسم، بل تراه روحاً حلت عرضاً في جسد هو سجن لها ينبغي أن تتحرر منه؟
وشيشيرون، الخطيب الروماني، ينافح عن الفلسفة الرواقية التي تدين بالفضيلة غاية للحياة، وترى السعادة في الخضوع لمحتوم القضاء، والإذعان للقدر، والابتسام للخطوب، والرضا بواقع الأمور. ذلك أن الأمور ليست فوضى إنما هي وفق إرادة عليا خيرة عاقلة، ثم هي فضلا عن ذلك منبثة في أرجاء الكون، حالة في جنباته. حتى لتصبح السعادة شأناً من شئون النفس لا يتوقف على الظروف الخارجية، ولا يرتهن باعتدال الأمور أو تقلب الأحوال، إنما هي طوع أمرك إن ارتضيت حكم الإرادة الكلية، وازدريت اللذات الجسدية. ينافح شيشيرون عن الفلسفة الرواقية هذه، فهل نعجب حين يذكر في معرض الحديث عن الفلسفة: (أيتها الفلسفة! أنت المدبرة لحياتنا: أنت صديق الفضيلة وعدو الرذيلة، ماذا تكون حياة الإنسان لولاك؟!) أو حين يضع حدود المعرفة الفلسفية بقوله: (إن الفلسفة هي العلم بأفضل الأشياء، والقدرة على الانتفاع به لكل وسيلة ممكنة).
إن شيشيرون بقوله هذا لم يعرف الفلسفة بقدر ما عرفنا وجهة نظره الخاصة.
وأرسطو، المعلم الأول، يقسم الفلسفة إلى فروع عدة جميعها حكمة بيد أن (ما وراء الطبيعة) أحق تلك الفروع باسم الحكمة وهو يسمى علم ما وراء الطبيعة (الفلسفة الأولى) في مقابلة (الفلسفة الثانية) ويعني بها العلم الطبيعي. ويعرف الفلسفة الأولى بأنها العلم الإلهي الذي يبحث في الله، المحرك الأول، مسبب الأسباب وعلة العلل، ذلك أن دراسة الله(822/15)
عبارة عن دراسة الموجود من حيث هو كذلك، فضلاً عن أن الطبيعة الحقة للوجود تتجلى فيما هو دائم لا فيما هو زائل.
وإليك مثل من الشرق العربي، عالم مسلم مشبوب العاطفة الدينية، ذلك هو الجرجاني، بطل التعريفات، يعرف الفلسفة بأنها (التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية). فيأتي تعريفه خير معبر عن نزعته الفكرية فكيف ننتظر منه أن يكون تعريفاً للفلسفة في ذاتها؟!
وإذا كان معنى الفلسفة يختلف من فرد إلى آخر فهو يختلف كذلك من عصر إلى آخر. كان في القرون الوسطى العلم الذي يصل إليه العقل بطريق النظر الفكري الصرف في مقابلة العلم الإلهي الذي يصل إليه الإنسان بطريق الوحي.
وهكذا صار معنى الفلسفة العلم العقلي المنظم. وفي العصور الحديثة تدل كلمة فلسفة على مجموعة العلوم النظرية التي تستند إلى النظر العقلي الصرف في مقابلة مجموعة العلوم المستندة إلى الملاحظة والتجربة.
ناهيك بشتى التعريفات التي تنكر الفلسفة وتزدري الفلاسفة يطلقها نفر من المتزمتين الحرفيين في تدينهم، يصدرون في تعريفهم لها عن تهيب من العقل وخشية على إيمانهم السطحي من عمق التأمل العقلي؛ أو يتفكه بها قوم من المازحين الجهلاء يصدرون في تعريفهم لها عن العداء لما يجهلون: فمن تعريف لها بالفكر والزندقة، إلى القول بأنها تعقيد البسيط، إلى اتهامها بتهمة الثرثرة والقدرة على الحديث حين ينبغي وحين لا ينبغي، أو قوة الحجة في مجال الحق أو مجال الباطل على حد سواء.
فقد اتضح إذن بعد هذا العرض السريع أن لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الفلسفة من تعريفاتها، كما أنه لا سبيل إلى حقيقة المرء من بطاقته، أو الكتاب من عنوانه. وإن نم التعريف عن أمر ما، فعن اتجاه صاحبه العقلي أو نظريته الفلسفية أو شعوره نحو النهج الفلسفي منكراً كان أو مؤيداً.
المنهج الفلسفي
إن تعريف الفلسفة قد يوهم القاريء أنها مجرد علم من العلوم، ابتدأه أو ابتدعه ذلك النفر من الحكماء، وتعاون على إقامته وتطوره أجيال الفلاسفة؛ في حين أن الحقيقة التي تخفى(822/16)
على الكثيرين من طلاب الفلسفة المبتدئين، أن الفلسفة أسلوب من أساليب التفكير البشري، وناحية من نواحي النشاط الفكري. فالإنسان المنطوي على طلب المعرفة، المطبوع على تفسير الظواهر، المتلهف على تلمس العلل والأسباب والغايات كما ينهج النهج الخرافي في تفكيره، قادر إذا ما بلغ طوراً من التقدم العقلي أرقى، وإذا ما تهيأت له ظروف مادية خاصة، على أن ينهج نهجاً فلسفياً. بل إن بذور التفكير الفلسفي لتبرز في طفولة المرء وفي طفولة البشرية. وقد انتهيت في مقال سابق من رسالة بعد استعرض أمثلة من الشرق القديم إلى أن الخرافة أو الأسطورة وإن كانت تطبع التفكير الشرقي القديم، فإن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وفي ذلك المحيط من ظلام الفكر حيث تتراقص المردة والأشباح والشياطين التي تراها عين الخيال وتذكيها العاطفة والهوى، كانت تنبثق أحياناً بروق فلسفية ومحاولات لتفسير الأمور تفسيراً عقلياً، فتغالب الأشباح وتبدد الخرافات إلى حين.
وأضيف إلى ذلك أن الفلسفة كثيراً ما كانت تبلغ الأوج دون أن تبدد الأشباح تبديداً تاما. وكثيراً ما ألمت بها نكسات لا يزال التاريخ يذكرها فقد أعقب العصر الذهبي للفلسفة اليونانية إِبان القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد ذبول هو ارتداد إلى الفكر الشرقي القديم من حيث الامتزاج بالدين والاقتصار على مباحث الأخلاق والميل إلى التصوف، وما التصوف في حقيقة الأمر إلا نوع من الإعراض عن العلم العقلي الذي يستند إلى الدليل والبرهان، والاكتفاء باليقين القلبي والإيمان. وفي عام 529 بعد الميلاد أغلق الإمبراطور يوستنيانوس مدارس الفلسفة في أثينا، وكانت قد أقفرت من التلاميذ، وتناقص عدد العلماء فيها وخمد الفكر الفلسفي في اليونان ليذكر في الشرق، في ربوع فارس حيث كسرى أنوشروان، صديق الفلسفة الذي فتح ذراعيه للنازحين من ربوع الاضطهاد الفكري.
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم عبد العزيز المليجي(822/17)
فزان بين يدي الأتراك والطليان
للأستاذ أحمد رمزي بك - 2 -
العدوان الإيطالي
15 - في أكتوبر عام 1911 روع العالم الإسلامي والعربي بخير اعتداء صارخ قامت به إيطاليا على القطر الطرابلسي بغير إعلان حرب وبدون مسوغ. ولم يكن هناك نزاع أو ما يشبه النزاع، بل كان هناك أمن وسلام. ولم يعلم الناس بأمر مفاوضة انقطعت أو أمر اختلاف على مبدأ أو رأي أو قاعدة مما تختلف عليه الأمم والشعوب فيتخذ ذريعة للحرب، بل لم يسمعوا بشيء أو بعض الشيء مما يحضر الأذهان لمثل هذا العدوان وينبه العقول لمقدمة.
16 - وإنما سيرت إيطاليا بوارجها وجحافلها واستيقظ أهل المدن طرابلس وبني غازي ودرنة الآمنة، على أصوات المدافع، تقذف عليهم الحمم والموت في عقر دارهم الله من يوم كنا صغاراً لا نعقل من الأمر شيئاً، ولكننا لمسنا الألم والأسى، مرتسمين على وجوه الآباء والأهل والعشيرة والجيران فحزنت قلوبنا لحزنهم وتألمنا لألمهم.
كنا صغاراً نلعب ونلهو - فتركنا اللهو وقاطعنا اللعب وشعر كل منا بأن ساعة فاصلة قد دقت في حياته. نعم كان وقع الاعتداء شاملاً وكان الجرح عميقاً ليس من الجراح التي تبرأ وتلتئم وتنسى مع الزمن.
وسرت بين الناس موجة دافعة، من تلك الموجات التي تملأ النفوس والمشاعر، وتخفق لها القلوب، وارتجت مصر من أقصاها، فمن كتب عليهم القتال من المجاهدين قاتلوا وقتلوا، ومن لم يقدر على تحمله جاد بالمال عن نفسه وبنيه.
وأتى أنور ومعه حفنة ممن باءوا أنفسهم في سبيل الله، وصعد عرب طرابلس وعرب برقة وعلى رأسهم السيد أحمد السنوس ليكتبوا بدمائهم ملحمة من ملاحم الملثمين والموحدين في دفاعهم وجهادهم واستماتتهم عن أرض أندلس فواجهوا الموت وعاينوا الهزيمة، كما لاح لهم الظفر والمجد، وقاتلوا وانتصروا واستشهدوا، وامتلأت أيديهم بالعتاد والسلاح وأسرى العدو.
17 - وفجأة خفقت أصوات المدافع وعادت السيوف إلى أغمادها وسادت فترة هدوء على(822/18)
الجبهة. نعم لقد قامت حرب أشد هولاً، هي حرب البلقان واتجهت الأنظار لمعارك في جبهة مقدونيا حيث تعرض ثلاثة ملايين من المسلمين الهجوم والتشتيت وتساءل الناس عن المصير.
أما مقدونيا فرثاها شوقي بقوله:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
وأما ليبيا وبرقة فقد استحوذ عليهما الطليان ورتل قائل بشعر قديم فقال:
أحقاً خبا من جورندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازلها ذات العلا وقصورها
ترى للأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستبعد وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأنم ومزورها
كلا لم تدم المحنة طويلاً إذ قامت الحرب العظمى الأولى سنة 1914 ودخلت إيطاليا الحرب، فارتجت البلاد فعادت إلى الجهاد وبدأت ملحمة جديدة من تلك الملاحم الخالدة في تاريخ العروبة التي تقاتل فيها فئة صغيرة فئة كبيرة - فيأتيها النصر من عند الله.
18 - لقد فرحت مصر وفرحنا بمعارك درنه وعين زارة وغيرها من التي من الله بها على المجاهدين والمرابطين وذوي البأس في قتال الطليان وكان ذلك في عامي 1911 - 1912. أما ايام الحرب العظمى فقد سار المجاهدون فيها من نصر إلى نصر، بل كان يوم يمر يأتي إليهم نصر جديد من عند الله، ولم تمضي 1915 إلا وقد زحزحوا الطليان عن برقة واستعادوا فزان، واقتحموا خصومهم ومعاقلهم واحد بعد الآخر، واستحوذوا على أسلحتهم وسياراتهم وأسروا كتائبهم المرتزقة من سود وحبش وغيرهم، ساقوهم بأسلحة الطليان لقتال الطليان وتلك والله مقدرة لأهل برقة وليبيا.
وتتبعوا المنهزمين وسدوا عليهم المنافذ والطرق. وفي يوم أصبحت العاصمة تحت أزير رصاصهم وغدا الساحل تحت سيطرتهم فأتتهم المؤن والذخائر من حيث شاءوا.
فهل رأيت دفعة كهذه الدفعة أو قوة من المستضعفين يملأها الإيمان والثقة في النفس والدعوة إلى الحق والقتال في سبيل الله عملت في القرن العشرين عملا يشبه هذا؟ إنها وأيم الله وقفة رائعة.(822/19)
19 - وانتهت الحرب العظمى الأولى 1918 وتدخل الإنجليز بين الطليان وأهالي البلاد فاعترفوا بنظام ليبيا ومسراطه وأقروا أمارة برقة ووقعوا المعاهدتين وضمنوا استقلال الداخل وخيل للناس أن عهداً من الطمأنينة والأمن قد أشرق.
وفي يوم من الأيام إذ موسوليني يضرب بمواثيق إيطاليا وضماناتها عرض الحائط وحنث بالإيمان المأخوذة وآثار حرباً ضروساً مهلكة يحاول بأساليبها إبادة شعب بأسره. كانت تعليماته وأوامره وقراراته واضحة لا شبة فيها فليراجعها من يشاء يجدها في كتبهم وما نشره قوادهم.
وكان كبش الفداء شعب ليبيا.
20 - قابل هذا الشعب، صدمة الخيانة بشجاعة نادرة. رأى الحرب تفرض عليه في دياره، فواجهها كما يواجهها كل مقاتل كريم كتبت عليه التضحية فقدم بنيه وأحفاده. ضيق عليه الخناق بحصار من البر والبحر، فتحمل وصبر. أوذي في حريته ومعاشه وماله ودكت بيوته، ولكن لم ينزل على حكم ظالميه، ولا تراجع عن مبدأ من مبادئه.
واتبعت إيطاليا سياسية العنف والتشريد، فلم ترع شيخاً ولا مقعداً ولا طفلاً ولا رضيعاً وخربت المنازل وأفنت قبائل وحولت بقاعاً عامرة فجعلتها صعيداً جزراً.
21 - هذا هو الشعب الأبي الكريم الذي حررته الديمقراطية في الحرب الأخيرة واتخذت من اسمه عنواناً ومثلاً لتحرير الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها. والذي جمعت من أفراده ورجاله المتطوعة، وحاربت بهم، وقالت للعالم هاأنذا قد أرجعت الحق لأهله، وأنقذت أول شعب وقع العدوان عليه وأزلت أثر الظلم والطغيان عن عاتقيه.
وترقب أهل البلاد نعمة الخلاص، وباتوا يعللون الآمال، فماذا يراد بهم اليوم؟ إننا لنسمع الكثير من اللغط. فمن قائل بعودة هذه الأرض البائسة إلى سادتها الطليان، وآخر يقول بانتداب الغير عليهم كأن هذه البلاد خلو من السكان!
22 - أنه ليهمنا نحن معاشر الأمم العربية، شأن برقة وليبيا، ويهمنا شعب هذه البلاد. لماذا؟ لأننا منه وهو منا. إنها لصلات الدم والقربى والثقافة والتاريخ الحي، لا التاريخ المتحجر الجامد، ثم ما يوجبه هذا التاريخ المشترك من ذكريات الجهاد والنصر والهزيمة.
إننا نعبر عن رأيه ونقول، هذا الشعب لا يريد شيئاً مستغرباً أو فوق متناول الإنسان، وأنه(822/20)
يريد أن ينعم بحدوده وبلاده واستقلاله وحريته. إنه يطلب كياناً تحت الشمس شأنه شأن بقية الشعوب الصغيرة.
فهل تجاب دعوته؟ وهل يجد لتضحياته حسابا، وهل يعترف بجهوده؟ أم ستعرض بلاده للبتر والتقسيم، ويوضع مصيره وحريته ليضارب بها في سوق توزيع مناطق النفوذ؟!
23 - كان عدد سكان ليبيا وبرقة العرب في مستهل عام 1910 أكثر من مليون نسمة؛ وقد هبط هذا العدد إلى أقل من النصف، على أثر سياسة التشريد التي اتبعتها الحكومة الفاشستية فكأن هذا الشعب قد بذل من الأنفس والأرواح دفاعاً عن كيانه واستقلاله ما لم يبذله الشعب الإيطالي طوال قرن من الزمن ثمناً لتحريره! فهل رأيتم شعباً يضحي بنصف عدده في سبيل مثله العليا؟
هذا هو الشعب العربي في ليبيا وبرقة الذي ينتظر أن يكتب الناس تاريخ جهاده في الفترة بين حربين عالميتين.
والآن أعود بحضراتكم إلى نهاية عام 1914 أي بعد إعلان الحرب الأولى في الأشهر التي كانت فيها إيطاليا على الحياد.
(يتبع)
أحمد رمزي
(ملحوظة): سبق للرسالة أن نشرت مقالاً عن ليبيا بقلم أحمد رمزي وقد استعان به في محاضرته هذه.(822/21)
طرائف:
في الأدب والتاريخ والسياسة
(دار الحقوق إلى فتاها المجتبي)
للأستاذ محمد حسين الفار
أثار بنفسي انتخاب دولة خطيب الثورة الوطنية الأستاذ الزعيم إبراهيم عبد الهادي باشا رئيساً للهيأة السعدية الموقرة على أعقاب استشهاد زعيم النزاهة العفيف العيوف الأبي الشريف النقراشي باشا عليه الرحمة والرضوان.
أثار بنفسي هذا الانتخاب ذكريات كريمة قديمة برغم ما أعانيه الآن من ظروف ملتوية، وأويقات عاتية، إذ عاد بذاكرتي إلى سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، حينما كان الزعيم الجليل المغفور له سعد زغلول باشا في دست الحكم واستصدر عفواً عن الرعيل الأول من المجاهدين الأحرار الذين كانوا باكورة من حكم عليها بالإعدام في سبيل البلاد، واستبدل بعد بالإعدام السجن مدداً متفاوتة، وكان بمكان الرياسة منهم المرحوم المبرور رجل الوطنية الصامتة عبد الرحمن بك فهمي طيب الله ثراه، كما كان أبرزهم مكاناً وأنبههم شأناً خطيب الشباب المتوثب إبراهيم أفندي عبد الهادي الطالب بالسنة الرابعة بمدرسة الحقوق السلطانية إذ ذاك.
خرج هذا الرعيل الأول من السجن على أثر استصدار العفو أطهاراً أبراراً، فاحتفت بهم مصر حكومة وشعباً، واحتشد لهم المصريون زمراً وأفراداً، وأقيمت لهم حفلة تكريم كبرى عرفت بحفلة تكريم المسجونين السياسيين، وألقيت فيها جريدة شوقية خالدة عرج فيها أمير الشعراء أحمد شوقي بك الشاعر الخالد نضر الله نزُله على فتى الحقوق المجتبي إبراهيم أفندي عبد الهادي، فقد اختصه بذكر اسمه في فريدته الشوقية دون سائر المسجونين المكرمين جميعاً.
ذلك أن الفتى الناهض إبراهيم عبد الهادي قد تقدم لترشيح نفسه، كما رشحته جدارته لرآسة لجنة شباب القاهرة والأقاليم التنفيذية العليا، وتقدم منافساً له في تلك الرياسة حسن أفندي يسن النائب السابق والوفدي المعروف. ولكن العامة خطبت ود إبراهيم منذ فتائه، فقد(822/22)
أكتسح خصمه، ومحا من قائمة انتخاب الرياسة اسمه ورسمه. وكان لمدرسة الحقوق في أمثال تلك المعارك الانتخابية بن الشبيبة المثقفة يد طولى وقِدح مُعلّي، فوقف سوادها الأعظم، وجمهورها الأكرم، خلف إبراهيم خطيب الشباب الموهوب.
فأشاد بذلك أمير الشعراء وشدا، وغرد البلبل الصيداح، فأسر الأفئدة، ونقع الصدى بسلسلة العذب ودرة الفريد الذي يفني الزمان ولا يفني، ويبيد الدهر ولا يبيد.
وذلك في قصيده الرائع الذي توَّج به هامة حفل التكريم، والذي كان مطلعه ذلك الغزل الرقيق الذي بلغ منتهى العذوبة وغاية الطلاوة والرواء:
بأبي وروحي الناعمات الغيدا ... الباسمات عن اليتيم نضيدا
الرانيات بكل أحْور فاتر ... يذر الحلى من القلوب عميدا
الزاويات من السُّلاف محاجزاً ... الناهلات سوالفاً وخدودا
اللاعبات على النسيم غدائراً ... الراتعات مع النسيم قدودا
أقبلت في ذهب الأصيل ووشيه ... ملء الغلائل لؤلؤاً وفريدا
يحدِجن بالحدق الحواسد دُميةً ... كظباء وجرة مقلتين وجيدا
حوت الجمال فلو ذهبت نزيدُها ... في الوهم حسناً ما استطعت مزيدا
لو مر بالوُلدان طيف جمالها ... في الخلد خروا ركعاً وسجودا
أشهى من العود المرنم منطلقاً ... وألذ من أوتاره تغريدا
وهنا انتقل انتقالا رائعاً، وتخلص من الغزل إلى السياسة تخلصاً بارعاً، إذ قال:
لو كنت سعداً مطلق السجناء لم ... تطلق لساحر طرفها مصفودا
ما قصر الرؤساء عنه سعى له ... سعد فكان موفقاً ورشيدا
وهكذا سار أمير الشعراء كما عهده الناس يتدفق بياناً وسحراً، فنوه فيما ساقه لنا من روائع آياته وخوالد بيناته بفتى الشباب المرتجي في ذلك العهد إبراهيم عبد الهادي مشيراً إلى تبوئه مكان الزعامة من الشبيبة في بيتين من أوابد الشعر وبدائع القريض حافلين بالإشادة والثناء. ذلك إذ قال:
دار الحقوق إلى فتاها المجتبى ... ثنت العنان وألقت الإقليدا
عمدت لإبراهيم فانتخبت فتى ... ثبت الجنان على الزمان جليدا(822/23)
هذا ما خلد به أمير الشعراء أحمد شوقي بك زعامة إبراهيم المبكرة التي أهلته لها جدارته، وقفزت به إليها كفاءته.
وبعد، فلست أدري، ولا المنجم يدري - كما يقولون - لِمَ أسقط هذان البيتان من القصيدة الخالدة حين طبع الجزء الأول من ديوان الشوقيات؟!
أللحزبية الصارخة في ذلك العهد يد في هذا؟ أم ماذا؟!
وهل من الأمانة للأدب أن نقبر بعض روائعه في لحود الإهمال وزوايا النسيان لأي غرض مهما يكن؟!
وقصارى الكلام نأمل أن يتدارك هذا البيتان الخالدان لدى الاضطلاع بأول طبعة في المستقبل لهذا الديوان أداء للأمانة وإنصافاً للناس، فهذا شأن كل طاهر العنصر، طيب الأرومة، عريق الأساس. . . والسلام على من أتبع الهدى.
محمد حسين الفار
المدرس بالأزهر الشريف(822/24)
الكتب الموجزة كأداة تعليم وتثقيف
للأستاذ إيليا حليم حنا
ما هي الكتب الموجزة؟
أقصد بالكتب الموجزة الكتب التي تعطينا الفكرة الأساسية المتماسكة المشوقة عن الموضوع بشكل عام دون أن نخوض في دقائقه فتثير رغبتنا في الاستزادة، فنجري وراء التفاصيل في مصادر أخرى فتكون بذلك سلماً ووسيلة تشويق للإلمام بالموضوع وحافزاً لقراءة الكتب المطولة الأصيلة.
وهذه الكتب هي الطريق إلى مدارك العامة وقلوبهم يجدون فيها غذاء لا يتعب الذهن في تلقفه، أنها لا تتناول الاصطلاحات الفنية والتفاصيل العلمية المعقدة. وهي لا تفيد العامة فقط، فإنها ذات فائدة كبيرة للخاصة الذين يشغلهم موضوع واحد قد لا يتسع وقتهم لغيره فتكون لهم في النواحي المختلفة الأخرى أداة تثقيف قيمة في نواحي مغايرة.
ولا يقصد بهذه الكتب تلك الملخصات التي تعطي نتفاً من الموضوع من هنا وهناك دون تماسك وتشويق من باب العلم بالموضوع فقط، فإن هذه ضعيفة الأثر تكاد لا تثير الرغبة في القراءة، لأن مادة هذه الملخصات أشبه بجسم معلق في الهواء لا يرتكز على حامل يحمله. وهذه الكتب التي لا تتناول الموضوع كوحدة متماسكة مشوقة هي العامل الأول الذي لا يجعل المتعلمين يقبلون على القراءة بعد تخرجهم في مدارسهم ومعاهدهم. وطالب العلم في مراحل دراسته المختلفة يركز الفكرة المبتورة على الحافظة والاستنكار، وليس على التفكير السليم والرغبة، فيعاني كثيراً في حفظ ووعي الملخصات المدرسية التي لا ترابط بينها، ويحاول أن يبقيها بالتكرار، ثم لا يلبث أن ينساها، ثم يعود من أجل الامتحان فيستذكرها وهكذا، وتكون النتيجة أخيراً أن ينفر من المواد التي درسها في المدرسة، ولا يحاول أن يقرأ ما يمت إليها بصلة بعد أن ينتهي من مرحلته الدراسية، لأن معلوماته كانت ملخصة تلخيصاً بعيداً عن مبدأ الكلية، أي إدراك الشيء وتذوقه كوحدة حية قبل فحص طريقة تركيبه من أجزاء مختلفة. والشخص منا يرى الزهرة كلها فيجذبه منظرها وشكلها، وإنما لو قدمت له أول مرة يراها فيها مشرحة إلى أجزاء لا تماسك بينها ولا اتساق، فإنه لا يلبث أن يلقي بها الناحية الكلية عند تقديمها تكون أشبه بأشلاء مبعثرة لا ترابط بينها ولا(822/25)
حياة فيها.
ودراسة الشيء كوحدة بأسلوب مبسط سهل يجعل هذه الوحدة نواة للتثقيف والاتساع في محيط هذا الشيء، وأرى أن نبدأ بصورة كاملة عامة عن المادة بحيث نبرزها بما يشوق فيها في الكتب الملخصة أو الموجزة، وهذا يجعلنا نسعى من تلقاء أنفسنا إلى الاستزادة منها، فمثلاً في بدء دراسة علم الفلك، أو عند وضع كتاب موجز عنه أرى أن نبتعد عن القوانين الطبيعية، ونعالج عجائب الكون معالجة مشوقة في هيئة قصة عن الأفلاك في مسالكها، وموضع بعض النجوم والكواكب التي ترى بالعين المجردة ووقت ظهورها، ثم نذكر شيئاً مشوقاً عن النجم الذي نتأمل صفحة السماء فنراه. وأنا واثق أن هذا سيدفع من يقرأه إلى الاستزادة في كتب أصلية مطولة. وفي التاريخ أيضاً بدلاً من أن نتكلم عن المواقع الحربية وأسبابها ونتائجها يجب أن نبدأ بحياة أحد الملوك كقصة. ونبرز فيها النواحي المثيرة، أو الخصال الحميدة والعادات والتقاليد والأساطير، ونترك النواحي المفصلة من أسباب ونتائج وتواريخ لمن تشوقه المادة ويريد التوسع فيها، لأن هذه الدقائق والحقائق الجافة تنفر القارئ الذي لم يتذوق الموضوع، ولم يعرف عنه شيئاً كلياً مجملاً من قبل.
مزايا الكتب الموجزة
1 - هذه الكتب بذرة ثقافية تنمو وتكبر وتمهد للدراسات الدقيقة والشرح التحليلي في الكتب الأصلية.
2 - ترشدنا إلى ما يمكن أن نتذوقه من أنواع المعارف المختلفة، ولا تستغرق منا وقتاً طويلاً نندم على ضياعه إن لم نتذوق ما نقرأه، وبوساطتها نعتمد على أنفسنا في اختيار الغذاء الثقافي الذي نهضمه، لأن مثل هذه الكتب تقرأ للتذوق وللبحث عن الكتب الطويلة الأصلية في الموضوعات الملخصة التي فازت بإعجابنا وأثارت رغبتنا.
3 - تساعدنا على متابعة التيار الثقافي في النواحي التي لم نخصص لها كل اهتمامنا وجهودنا، والتي لا يلذ لنا أن نخوض في تفاصيلها؛ والحقيقة أنه لولا الالتجاء إلى ملخصات الكتب والمقالات الأصلية، لأصبح من المستحيل أن نلاحق السيل المنهمر من ثمرات المطابع.(822/26)
4 - أثبتت التجارب أن متوسط ما يستوعبه الطالب في الدقيقة من المادة الملخصة بالطريقة الكلية ضعفان ونصف ضعف ما يستوعبه من المادة الأصيلة المفصلة.
5 - تربي الكتب الموجزة في الشخص الميل إلى القراءة، لأنها لا تثقل على طبع السواد الأعظم من جمهرة القراء لبعدها عن التفاصيل الفنية التي لا يهضمها القارئ العادي، كما أنها لا تحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير للتركيز وحصر الذهن والانتباه.
6 - صغيرة الحجم مريحة في استعمالها يمكن أن تلازم جيب القارئ في أسفاره، كما أنها تحتل مكاناً صغيراً في المكتبة علاوة على رخص ثمنها الذي يجعلها في متناول الجميع.
إيليا حليم حنا
(الأبيض - سودان)
دبلوم عالي في التربية - دبلوم صحافة
مدرس أول اللغة الإنجليزية والآداب بمدرسة النهضة الوسطى(822/27)
رسالة العلم
الأرقام الفلكية
للأستاذ نقولا الحداد
في هذا الزمان متى كان عدد شيء يتجاوز المألوف قيل إنه يعد بالأرقام الفلكية. في حرب روسيا مع اليابان في أوائل هذا القرن كان ربع مليون ياباني مقابل ربع مليون روسي، فقيل هذا عدد من الجيوش لم يسبق له مثيل، حتى إذا زاد عدد الجيوش على هذا القدر قالوا هي أرقام فلكية.
وصار عدد الجيوش في الحرب الأخيرة يعد بالملايين فلا بدع أن يوصف بالأرقام الفلكية. ولما كانت أمريكا تنفق فيها كل يوم 64 مليون ريال، وإنجلترا تنفق 14 مليون جنيه، قالوا هذه أرقام فلكية، وكذلك قيل لما خسرت روسيا في الحرب عشرين مليون جندي ذلك لأن في علم الفلك أرقاماً لا يكاد يتصورها العقل ولا سيما أرقام الأبعاد والمسافات بين النجوم والكوكبات فلم يعودوا يحسبون هذه الأبعاد بالكيلومترات أو بالأميال، بل صاروا يحسبونها بمقدار سرعة النور. فما يقطعه النور في ساعة أو يوم أو سنة صاروا يحسبونه مقياساً على اعتبار أن النور يقطع في الثانية مسافة 300 ألف كيلومتر أو 186 ألف ميل. فالأرض تبعد عن الشمس 8 دقائق بهذا المقياس. فلنر ما هي أبعاد الأجرام الفلكية وكيف تحسب. ولنبتدئ بأقربها للأرض، ثم نتقدم صعداً إلى أن يحار العقل في الأرقام والأبعاد.
القمر أقرب جرم إلى الأرض وهو مولودها، يبعد عنها نحو 239 ألف ميل. ولما كان محيط الأرض نحو 25 ألف ميل كان أنه إذا تدحرجت الأرض نحو القمر فقبل أن تتم العشر قلبات تصل إلى القمر. ولو أمكننا أن نقطع الأرض قطعاً كل قطعة بقدر القمر لأمكننا أن نفصل من الأرض 49 قمراً.
والشمس تبعد عن الأرض 93 مليون مليون، فلو تدحرجت الأرض نحو الشمس لقلبت على نفسها نحو 365 قلبة تقريباً قبل أن تصل إليها. ولكن يجب أن نخرج نحن منها قبل أن تشرع تتدحرج، لأن حرارة الشمس تحرقنا عند أول قلبة تقلبها الأرض.
ومتى وصلت الأرض إلى الشمس صهرتها حرارة الشمس التي تبلغ عند سطحها 6 آلاف درجة بمقياس سنتغراد. وإذا سقطت الأرض المصهورة أو المتبخرة إلى باطن الأرض(822/28)
حيث الحرارة 40 مليون درجة سنتغراد امتزجت أبخرة الأرض بأبخرة الشمس.
قلنا إن النور يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية فهو كسرعة الصوت مليون مرة. ويمكننا أن نفصل من الشمس مليونا وثلثمائة ألف أرض. ولو وضعت الأرض في مركز الشمس ومعها القمر على بعده المعلوم عن الأرض لبقي القمر يبعد عن سطح الشمس بقدر ما يبعد عن الأرض، لأن نصف قطر الشمس 432000 ميل في حين أن بعد القمر عن الأرض 239000 ميل.
حول الشمس 9 كواكب (سيارات) أقربها إليها عطارد. وهو يبعد عنها نحو 36 مليون ميل، وأبعدها السيار بلوتو هو يبعد عن الشمس نحو 4 ساعات نور ولكن متى بعدنا عن نظامنا الشمسي بسرعة النور فبعد 4 سنين و 65 يوماً نصل إلى أقرب نجم إلينا إذا جعلنا وجهتنا إليه. والنجم المسمى قنطوروس أو والنجوم لا تقرب إلى بعضها أكثر من هذه المسافة.
بعض الأحيان نرى أمام الهلال نجمة كأنه يحتضنها، هي كوكب الزهرة، ولكنها تبعد عنه نحو 26 مليون ميل، وهي أكبر منه بنحو 45 مرة.
ولا يخفى عليك أننا لا نزال في جوار الشمس، وما بعدنا عنها أكثر من 4 سنين وخمس السنة إذا سرنا بسرعة النور. أنظر كم في السماء من نجوم فهي لا تكاد تحصى، ولا نرى منها إلا القليل، اللهم إلا بالمقراب (التلسكوب) وهذه النجوم تتباعد ببعضها عن بعض بمثل بعد قنطوروس عن الشمس تقريباً.
أبعد مسافة استطاع أقوى تلسكوب أن يكتشفها هي مسافة 50 مليون سنة نورية.
النجوم التي نراها بالمرقب (التلسكوب) في أثناء الربع وعشرين ساعة ضمن نطاق درب الدبان الذي يسميه الإفرنج الدرب اللبني تبلغ نحو 300 ألف مليون نجم تقريباً. وهذه المجموعة الهائلة من النجوم تسمى (المجرة). وشمسنا مع كواكبها تقع في الثلث الأول بعد مركز المجرة. وجميع هذه النجوم أو الشموس تدور حول المركز وأسرعها أقربها إليه، وأبطئها أبعدها عنه والشمس تقضي 25 مليون سنة لكي تتم دورتها حوله. وقطر محيط هذه المجرة نحو 150. 000 سنة نور، وسمكها نحو 25000 إلى 4000 سنة نور، وإذا جمعت جميع هذه النجوم معاً كانت كتلتها 16000 مليون مرة ككتلة الشمس. وذلك نحو(822/29)
52 أمامها 27 صفراً من الأطنان.
هذه النجوم أو الشمس التي تعد بالملايين تختلف في الحجم اختلافاً كبيراً. وشمسنا من الحجم الذي هو دون الوسط. والجوزاء المسماة كبيرة جداً بحيث لو وضعت في مركز الشمس لغطت جميع فلك الأرض، أي لملأت الرحبة التي تدور الأرض فيها حول الشمس وزادت عليها. يعني أن قطرها يزيد على 272 مليون وهي تبعد عنا نحو 30 سنة نورية. وتعد من كوكبة الجبار وهي أسطع الكواكب في السماء
ومعظم النجوم جماعات جماعات، كأنها أسراب متضامنة وتسعى كوكبات. وبعضها مجموعة نجوم وبعضها تعد بعشرات الألوف ومئاتها. وكل كوكبة منظمة قائمة بنفسها وتدور على نفسها. وفي الوقت نفسه تدور مع سائر الكوكبات الأخرى والنجوم حول مركز المجرة العظيمة.
ونحن إلى هنا ما زلنا في نطاق المجرة فإذا خرجنا منها يجب أن نطوف على بعض مليون سنة بسرعة النور من حول مركز المجرة من جميع النواحي، فنشرع نصطدم بمجرات أخرى مثل مجرتنا وهي مبتعدة بعضها عن بعض كبعدها عن مجرتنا، ونظام كل منها كنظام مجرتنا ولكنها تختلف حجماً اختلافاً قليلاً.
وإلى الآن أمكن العلماء أن يكتشفوا نحو 30 مليون مجرة. وقد يمكن أن يكتشفوا غيرها متى نصب مرصد كابسفورنيا العظيم الذي تبلغ قوته أربعة أضعاف قوة مرصد جبل ويلسن الذي هو أعظم مرصد إلى الآن. ولما كان النور الذي يرد من أي نجم إلى الموشور (أي المظياف الذي يحل النور إلى ألوانه السبعة) يدل على أن النجم يبتعد عنا إن كان طيفه يدنو من الأحمر، ويقترب إلينا إن كان يدنو من البنفسجي، فقد رئي أن طيوف المجرات والأجرام تدنو من الأحمر (ماعدا بعضها لأسباب لا محل لتفسيرها هنا) وهو أمر يدل على أن الأجرام تتباعد بعضها عن بعض ومقدار الانحراف أو الابتعاد يدل على مقدار سرعتها.
ومعنى ذلك أن الكرة الكونية الشاملة جميع العوالم تنتفخ وتتسع. والمتطرفة منها تبتعد بأسرع من القريبة للوسط. وعلى بعد 135 مليون سنة نورية تبلغ سرعتها 14. 300 ميل في الثانية ومتى صارت السرعة (على بعد آخر) كسرعة النور أي 300000 ميل فلا(822/30)
يعود أعظم المراصد يرى ذلك الجرم الذي فاقت سرعته سرعة النور مهما بلغت قوته.
وبحسب رأي ادنغتون أن حجم الكون الأعظم يتضاعف كل 1300 مليون سنة. فإذا صحت نظريته فالكون كان أصغر جداً مما هو الآن. وعلى حسابه فالكون ابتدأ منذ 90000 مليون سنة (قبل الخليقة أي قبل 4004 سنة ميلادية). وماذا كان قبل أن ابتدأ هذا السكون؟؟
وفي رأي تجايمس تجينز. ابتدأ الكون مجموعة فوتونات أي ذرات أيثر كانت مالئة الحيز الكوني. ثم مَدَّ الله تعالى أصبعه فحرك هذا البحر الفوتوني فجعلت الفوتونات تتجمع الكترونات فبرتوتونات فذرات فجزئيات فأجسام فأجرام فعوالم فأكوان. وبعد أن تشع كل ما فيها من حرارة تتقلص وتعود تبتدئ. أن تتمدد من جديد وتعود إلى سيرتها الأولى. وهكذا دواليك من الأزل وإلى الأبد بلا بداية ولا نهاية. واللانهاية واللابداية ملك الله. فلا يمكن الإنسان أن يحصيهما بقاصر عقله.
وفي رأي علماء آخرين أن محيط مجموعة المجرات التي هي كرة الكون الأعظم (وخصوصاً في رأي اينشطين) نحو 6000 مليون سنة نور. وهي ذات قدر محدود أي معين لا يزيد ولا ينقص. فبحسب حساب انشتاين أن الكون مؤلف من إلكترونات تبلغ نحو 6 أمامها 72 صفراً (1072 6) وهي ضمن نطاق 6000 مليون سنة نور كما تقدم.
وبعد هذا النطاق لا توجد أجرام مادية وإلا شعرنا بوجودها بواسطة مراصدنا وعن يد إشعاعاتها إن كانت من طبيعة كوننا الأعظم هذا. أما إذا كان ثمة بعد ذلك عوالم أخرى ليست مادية أو ليست من طبيعة كوننا هذا فليس لنا أن نقول بها ما دام ليس لنا دليل حسي على وجود شيء آخر. وأما أن نفرض فروضاً ونقول قد يمكن أن يوجد عالم آخر يختلف عن عالمنا فليس من منطق يبرر هذا الفرض. وإلا يمكننا أن نفرض ألوف الفروض ويكون الكلام ثمة لغواً.
وقد نسأل: إذا كان هذا الكون نطاق واسع يحده محيط قدره 6000 مليون سنة نور فماذا وراء هذا النطاق؟ هنا يقف العقل حائراً لأنه لا يستطيع أن يتصور المحدود الذي لا وراءه شيء - لا يستطيع أن يتصور النهاية التي لا شيء وراءها كما أنه لا يستطيع أن يتصور اللابداية. هنا يبتدئ جهل الإنسان المطبق مهما تعمَّق في العلوم، وتبحر في الفلسفة،(822/31)
وتوسع في اكتشاف أسرار الكون. هنا يقف العقل حائراً.
قد يفهم العقل ما بقي من أسرار الكون وهو أكثر جداً مما عرفه ولكنه لا يمكن أن يفهم اللامتناهي واللامحدود. إن هذا العقل البشري الصغير الذي هو ذرة في الكون ولا يقاس بشيء أمام عظمة الكون. لقد أدرك عظمة الكون وشمله كله بعلمه. فهو على حقارته أعظم من هذا الكون إذ استطاع أن يحتويه في عقله. فما أصدق قول أبي العلاء المعري فيه.
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
نقولا حداد
2ش البورصة الجديدة بالقاهرة(822/32)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بين نيتشه وفاجنر أو بين الخيال والواقع:
تطوع الأستاذ الشاعر محمد فهمي لينتصف لصديقه الأستاذ عبد الرحمن الخميسي، وخيل إليه - وما أخصب خيال الشعراء - أنه قد انتصف له!
أول شيء أسجله للأستاذ محمد فهمي أنه رجل طيب، والدليل على أنه رجل طيب هو أن كل دليل استند إليه لا يغير شيئاً من جوهر الحقيقة التي يقررها ميزان النقد؛ النقد الذي يقف من النصوص موقف التأمل والمناقشة، ويقف من التاريخ موقف التمحيص والمراجعة.
لقد قلت إن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشه أعنف وأبشع ما لقيته موسيقى فنان من قلم فيلسوف، وأوردت مما قاله الفيلسوف في الفنان قليلا من كثير، ووافقني الأستاذ فهمي علي ما قلت، ولكنه عاد ليذكرني بأن هذه الموسيقى قد لقيت أيضاً من قلم نيتشه أسمى آيات المديح. . . أنا والله أعلم هذا يا أستاذ ولكن علمي يختلف عن علمك؛ يختلف عنه بقدر ما تختلف عقلية ناقد عن عقلية شاعر!
يا قراء (الرسالة) تعالوا نسلط الضوء على الدليل الفذ الذي أورده الأستاذ فهمي في مجال الانتصاف لصديقه، إنه رسالة. . . من نيتشه إلى فاجنر بمناسبة أول كتاب أخرجه وإهداء إليه، تلك التي يقول له فيها: (لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل، رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه) إلى هنا ونقف قليلاً لنهم الأستاذ فهمي بتشويه الترجمة في سبيل تأييد رأيه! إن الكلمات المقابلة لهذه الترجمة العربية المشوهة هي:
إن التشويه هنا متركز في عبارة: (رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه) لقد ترجم الأستاذ بكلمة (أوليتنيها) تكلموا يا من تعرفون الإنجليزية. يا من تعرفون فن الترجمة! تكلموا لتقولوا إن المقابلة الصادقة لكلمات نيتشه تتمثل في هذه الترجمة: (لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل، جزاء لما أبديت من اهتمام بالغ(822/33)
في أثناء إخراجه)!. . . يريد نيشته أن يقول لفاجنر إنك أظهرت نحوي كثيراً من الاهتمام والعطف بمناسبة أول كتاب ألفته، وإني لآمل أن يجزيك إهداؤه إليك أجر ما أظهرت من كريم العاطفة نحو مؤلفه! ولكن الأستاذ فهمي يريد أن (يجبر) نيتشه على القول بأن كتابه مدين بخلقه لفاجنر!
هذه ملاحظة على هامش المشكلة نعود بعدها إلى جوهر المشكلة. . . هل يعلم الأستاذ فهمي في أية سن اتصل نيتشه بفاجنار، وفي أية سن بعث إليه بهذه الرسالة المرفقة بكتابه الذي أهداه إليه؟ لو علم لبحث عن دليل آخر غير هذا الدليل المتهافت الذي أورده في كثير من الزهو والثقة والاعتداد! لقد اتصل نيتشه بفاجنر في سن الخامسة والعشرون، وألف كتابه الأول وأهداه إليه في سن الثامنة والعشرون، وفي هذا الوقت كان فاجنر في سن التاسعة والخمسين من عمره. . . شاب ناشئ يخطو أول خطوة في طريق مجد يتطلع إليه، وشيخ قطع طريق المجد كله حتى بلغ منتهاه. وهنا نرفع معول التدمير لنهوى به في (رفق) على الدليل الفذ الذي يزهي به الأستاذ فهمي ويعتد! شاب ناشئ يتعلق أستاذاً في الموسيقى طبقت شهرته الآفاق ليمهد له طريق الشهرة والظهور، ولابد - شأن كل ناشئ يعيش في رحاب أستاذ كبير - من التملق والمجاملة في سبيل الوصول إلى تحقيق أمانيه. . . هذه هي الحقيقة التي يقررها الواقع ويقررها رومان رولان في كتابه ' (ص 63) ولعل الأستاذ يوافقني على أن كلمات يمليها، التملق في السن المبكرة، غير كلمات يمليها الإيمان والثقة والفكر الناضج في السن المتأخرة! يقول نيتشه لفاجنر في سن الثامنة والعشرين: إنك موسيقي عظيم أشعر بزهو لا يحد حين يقترن اسمي باسمه إلى الأبد، ويقول له في سن الخمسين: إنك رجل منحل، متلف هدام، لا تهز بموسيقاك المريضة إلا أعصاب النساء. . . بأي القولين نثق وبأي القولين نؤمن؟. أيقول الفتى الناشئ المتملق الذي لا تعنيه سنه على وزن الفن بميزان الملكة الناضجة، أم بقول الفيلسوف العبقري الذي نطق بكلماته الأخيرة في وقت كان يطلق عليه فيه سيد المفكرين؟. . . إننا نهمل كلمات المجاملة التي نطق بها الفتى الناشئ ليصل عن طريقها إلى مجد يتطلع إليه؛ نهملها ولا نقيم لها وزناً على الإطلاق، ولا نثق إلا بتلك الكلمات الأخرى التي نطق بها الفيلسوف العظيم في أوج نضجة الفكري واستقامة موازينه وفهمه لحقائق الأمور، نثق بها لأن نيتشه(822/34)
يقول لنا بصراحة: (إن رأيي الأول في فاجنر قد غيرته السن، أما رأيي الأخير فلن تغيره الأيام) نفس المصدر ' (ص68). . . إن بعض الآيات في القرآن الكريم يا أستاذ قد نسخت أحكامها أحكام آيات أخرى، فلم لا تنسخ أحكام نيتشه الأخيرة أحكامه الأولى، وتلغيها، وتدفع بها إلى زوايا الإهمال والنسيان؟!
من هنا يا أستاذ فهمي أصدرت حكمي على هذا الرأي الذي نادى به صديقك ووافقته أنت عليه، حين يقول إن موسيقى فاجتر قد فتقت أكمام العبقرية في نيتشه! لقد ولد نيتشه يا صديقي وفي دمه بذور عبقرية موهوبة، ولو قدر له ألا يرى فاجتر لما تبخرت من نبغ فكره المحلق قطره واحدة من قطرات عبقريته، وكل من يقول بغير هذا الرأي إنسان لا يحترم عقله. . . متى كان إعجاب رجل بآخر ومديحه له دليلاً على تفتيق أكمام العبقرية فيه؟! إننا نستطيع أن نفرض المستحيل، والمستحيل الذي نفرضه لنمضي مع الأستاذ فهمي إلى نهاية الشوط، هو أن نيتشه قد أعجب بفاجنر وأن هذا الإعجاب قد ترتب عليه خلقه لعبقريته. إذا فرضنا هذا وحلقنا في أفق الشعراء والتقطنا النجوم ونثرناها درراً من الكلام، وخرجنا من هذه الدرر بهذه الحقيقة الفذة، فإننا نستطيع أيضاً بهذا الميزان الذي يقام على أجنحة الخيال أن نقول إن موسيقى بيتهوفن قد فتقت أكمام العبقرية في جتيه! ألم يكن جيته يعجب بموسيقى بيتهوفن، ويقدسها، ويعدل بها موسيقى فنان آخر؟ لا بأس على الإطلاق من أن نعلن على الملأ هذه الحقيقة التي تذوب خجلاً من روعة هذا القياس!
بقي أن نرفع معول التدمير مرة أخرى لنهوى به في (رفق) على آخر دليل أورده الأستاذ فهمي، وهو أن نيتشه قد صب نقمته على فاجنر حين أقصاه هذا عن بيته وقطع صلته الغرامية بزوجته، يصدق الأستاذ فهمي هذا الفرض الذي نقل إليه، فلم لا يصدق هذا الفرض الآخر الذي يمكن أن يقال له، وهو أن نيتشه لم يخلع على فاجنر أثواب المديح والإطراء إلا بفضل علاقته الغرامية السابقة بزوجته؟!. . . ترى أكان نيتشه حين رمي فلسفة شوبنهاور بالزيف والخواء، ترى أكان متصلاً بزوجته أيضاً ثم قطعت هذه الصلة يا أستاذ فهمي؟ حنانيك يا موزاين النقد!
بقي شيء يفرض عليّ الموقف أن أثبته في ختام هذه الكلمة، وهو أنني أشكر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي رحابة صدره في تقبل نقدي له. . . الحق أنه أدهشني بهذه الروح(822/35)
المثالية حين لقيني منذ أيام في ندوة الرسالة، وحين قال إنه لا يضيق بالنقد مهما عنف ما دام هدفه الأول هو الكشف عن الحقائق ووضع كل شيء في مكانه.
إنني أسجل إعجابي بهذه الروح الطيبة، وأرجو أن أكون قد كشفت عن حقيقة الصلة بين نيتشة وفاجنر، كما يقررها الواقع لا كما يتصورها الخيال!
وللأستاذ الخميسي أطيب تحياتي.
لحظات مع الفنان الفرنسي جان كوكتو:
يزور مصر الآن فنان فرنسي موهوب هوجان كوكتو، ولا أعرف رجلاً من رجال الأدب والفن في عصرنا الحاضر تعدد مواهبه كما تعددت مواهب هذا الرجل. . . إن كوكتو رسام وشاعر وكاتب مسرحي وناقد وأديب، وهو بعد ذلك مخرج مسرحي يشرف بنفسه على إخراج قصصه وقصص غيره في فرقة الممثل الفرنسي النابه جان ماريه، وهي الفرقة التي تعمل منذ أيام على مسرح الأوبرا الملكية.
ولقد استوقف نظري ما جاء بمقال الدكتور طه حسين بك في (الأهرام) عن كوكتو حين قال: (وجان كوكتو أديب فرنسي ممتاز، ولعله أن يكون من أظهر الأدباء الفرنسيين وأشدهم امتيازاً في هذا العصر، وربما كان أظهر الخصال التي تميزه أن نزعاته الأدبية والفنية لا تسلك طريقها إلى الفوز دون أن تلقي من العقاب والمقاومة ما يثير حولها كثيراً من الخصومه والجدال)!
الواقع أن هذه الكلمات التي نطق بها أديبنا لكبير تقرر الواقع في كثير من الدقة بالنسبة إلى فن جان كوكتو. . . إن الرجل فنان ممتاز ما في ذلك شك، ولكن فنه يثير كثيراً من الجدل واختلاف الرأي بين خصومه وأنصاره، أناس يرفعونه إلى القمة وآخرون يهوون به إلى الحضيض، والزمن وحده كفيل بتقدير فن الرجل ووزنه بميزانه. ولقد تهيأ لي أن أطلع على أربع رسائل تلقاها من باريس أحد أصدقائي من بعض زملاء دراسته في السوربون، وهي تدور كلها حول كوكتو وفنه ورحلته إلى مصر رسالتان تحطان من قدره وتحملان على خلفه، ورسالتان ترفعان فنه وتشيدان بمواهبه، وأنا بين الرسائل الأربع يأخذني العجب من رجل لا يلقي رأياً وسطاً بين المعجبين به والمتحاملين عليه!
مهما يكن من أمر كوكتو وأمر خصومه وأنصاره، فإنني أشارك الدكتور طه دهشته من أن(822/36)
بيئة ثقافية واحدة في مصر، لم تفكر في إحداث صلة بين هذا الأديب العظيم وبين شبابنا المثقفين. . الواقع أننا نغط في نوم عميق!
ردود قصيرة على رسائل القراء:
أشكر للصديق المجهول الذي كتب إلي من القاهرة جميل تقديره، وأود أن يبعث إلى باسمه وعنوانه لأرد إليه تحيته، أما الصديق الآخر المجهول الذي كتب إلي للمرة الثانية من الإسكندرية فأرجو أن يبعث إلي أيضاً باسمه وعنوانه لأجيبه عن أسئلته التي أشرت إليها من قبل، لأن الإجابة عنها في (الرسالة) ستشغل الصفحات الثلاث المحددة للتعقيبات.
أما الأديب الفاضل صبري حسن علوان الطالب بكلية العلوم بجامعة فؤاد فيعتب على تلك التحية التي وجهتها إلى طلاب الأزهر، ومما جاء في رسالته: (. . وأحب أن تحيي الشباب المخلصين للأدب والفن على أنهم أدباء، لا على أنهم من طلاب الأزهر أو طلاب الجامعة)!. . إن ردي على هذا العتاب هو أنني ما حييت هؤلاء الشباب إلا لأنهم أدباء، ولكن من حقهم علي أن أشير إلى أنهم من الأزهر، ومن حقك علي أيضاً أيها الأديب أن أحييك مشيراً إلى أنك من الجامعة. وهذه رسالة رابعة من بغداد يناقشني فيها الأدب الفاضل محمد روزنامجي الطالب بكلية الحقوق حول ما كتبته عن الأستاذ سلامة موسى. أحب أن أقول لهذا الصديق العراقي الفاضل إنني أرجو أن يتسع وقتي لأرد عليه في رسالة خاصة. ورسالة خامسة من طنطا يقول مرسلها الأديب الفاضل محمود محمد على إنه يؤيد ما أبديت من رأي في شخصية بيرون الأدبية والإنسانية، ويرجو أن أتناول بالنقد والتحليل - كما فعلت عند الحديث عن بيرون - بعض الشخصيات الأدبية في مصر. . . إنني أشكر له خالص ثنائه وقد أستجيب لكريم رغبته.
أما الرسالة السادسة فمن (أبو حمرة - سودان) يقول صاحبها الأديب السوداني الفاضل عبد الحليم الحاج محمد إنه يود ألا أقتصر في (التعقيبات) على التوجيه الأدبي وحده، بل يجب أن أخصص جانباً منها للتوجيه الاجتماعي. . يسعدني أن أحقق هذه الأمنية في القريب. وأقول لصاحب الرسالة السابعة الأديب الفاضل محمد علي مخلوف بمعهد التربية العالي بالإسكندرية إنني سأدفع بقصيدتك إلى الأستاذ الزيات مع تزكيتي، كما أقول لصاحب الرسالة الثامنة الأديب الفاضل علي أحمد الخطيب الطالب معهد الإسكندرية الديني إن(822/37)
الكتاب الذي رجع إليه لا يعتمد عليه، لأنه يشوه الوقائع الثابتة ويخالف منطق التاريخ. . ولهؤلاء القراء الأصدقاء جميعاً أصدق الود وأخلص التحية.
جولة طويلة في معرض الفن الإيطالي:
لحظات جميلة وممتعة، تلك التي قضيتها منذ أيام في معرض الفن الإيطالي. . كم أود أن يزور المثقفون هذا المعرض الممتاز الذي نظمته جمعية محبي الفنون الجميلة بالقاهرة ومتحف بينالي بمدينة البندقية بإيطاليا، ليحلقوا بأفكارهم كما حلقت قي سماء الفن الرفيع! يؤسفني أن يضيق النطاق عن التحدث عما شاهدت، فإلى العدد المقبل حيث أقدم للقراء عرضاً تحليلياً لبعض اللوحات الممتازة التي وقفت منها موقف التأمل والدراسة والمقارنة.
أنور المعداوي(822/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأدب والمجتمع:
قامت مناظرة يوم الخميس الماضي في قاعة علي باشا مبارك بكلية دار العلوم، موضوعها (هل الأدب للأدب أو الأدب في خدمة المجتمع؟) ورأس المناظرة الأستاذ عبد الحميد حسن، وتناظر في الموضوع ستة من الطلبة، فأيد الرأي الأول عبد الخالق الشهاوي وأحمد عبد الله البهنساوي ومحمد محمود عبد النبي، وأيد الرأي الثاني محمد موسى طحان وأحمد غنيم وأحمد الزقم.
وسأعرض هنا بعض ما قاله المتناظرون، وأعلن أولاً أني لست محايداً، وإنما أقول بالرأي الثاني، ولهذا سأجعل من همي أن أفند ما لم يفند من أقوال أصحاب الرأي الأول، وأعرض صفحاً عما لا أراه ينفع من كلام أصحاب الرأي الثاني. . . ولا شك أن للقارئ حريته فيما يرى.
قال الشهاوي: إن الأديب ينتج وهو حالم ولا يتجه في إنتاجه إلا إلى الجمال، وليس من هدفه الحق والمنفعة والخير. وأقول: إن الأديب لا يحلم بالهواء وما هو حين يستسلم للغفوة الأدبية إلا يستوحي ما رسب في أعماقه من شئون الحياة وصور المجتمع؛ أما الجمال فلا تعارض بينه وبين الحق والمنفعة والخير، ولم الفصل بينه وبينها وكثيراً ما يكون داعياً إليها؟ وقال هل تريدون أيضاً أن تكون الأساطير الأدبية في خدمة المجتمع؟ ورد عليه غنيم بأن الخرافية في الأدب ليست مقصودة لذاتها وإنما هي تشيد بالمثل العالية.
وقال البهنساوي: إن الأديب يشعر بما شعر حراً فكيف تحملونه على أن يعبر كما يريد المجتمع؟ وقال: إنه قد يغضب من المجتمع فكيف يعبر عن غضبه بما يرضى المجتمع؟ وقال: إن الإنسانية هي نبع الأدب لا الاجتماعية. ورد غنيم بأن الأديب إنسان ممتاز يشعر بما في الحياة شعوراً ممتازاً ويترجم عنه لصالح المجتمع دون أن يملي عليه شيئاً، وإنه حين يغضب من المجتمع لا يعاديه وإنما يثور عليه لإصلاحه، وقال: إن الأديب لا يكون إنسانياً إلا إذا كان اجتماعياً.
وقال عبد النبي: إن الأخلاق اعتبارية تتغير والأدب خالد يعبر عن الحقائق الثابتة. وأقول:(822/39)
نحن لا نريد من الأديب أن يكتب في الأخلاق مباشرة، وإنه حين يثور على وضع من الأوضاع الأخلاقية إنما ينشد التطور ورقي المجتمع.
ورد طمان على أن الأدب فن من الفنون الرفيعة لا يقصد إلا إلى الجمال، فقال إنا لا نسلم بأن الفنون قاصر أمرها على الجمال، فأنت تمر بتمثال الحرية مقاماً في أحد الميادين فيوحي إليك معاني الوطنية ومشاعرها، ولم يقل أحد بأنه يجب عليك أن تشعر بجمال التمثال وتمضي دون أن تحس شيئاً من أهدافه القومية والاجتماعية. ومن ظريف ما قاله طمان: إن (الأدب للأدب) كالنحو للنحو. . أي أن الإنسان بناء على هذا يعرف النحو ويلحن كما يشاء، لأنه يعرفه لذاته لا ليقيم به الكلام. . . وتساءل غنيم: هل الأديب حشرة ائتلافية؟
وقال الزقم: إننا إذا نظرنا في الأدباء الخالدين لم نجد إلا من خلدته آثاره في خدمة المجتمع.
وقد أثار المتناظرون موضوع (التابعي وأسمهان) إذ قال أحد الفريق الأول: إن التابعي يكتب في (آخر ساعة) مذكراته عن أسمهان ليعبر عن أحاسيس هذه الفنانة، ولم يعبأ بمن ثاروا عليه. وقد كان ذلك مثار حملات من الفريق الثاني على شغل تلك الصفحات بمثل ذلك الكلام. والحق أن الفريقين ظلموا التابعي، فليست مذكراته عن أسمهان من (الأدب للأدب) وإنما هي تهدف إلى إغراض اجتماعية وسياسية يستشفها القارئ من خلال ما يعرض من حوادث.
وختم المناظرة الأستاذ عبد الحميد مثنيا على المتناظرين وحسن نقاشهم وما بدا فيه من الروح الرياضية قائلاً بأنه إذا كان العمل الرياضي تمريناً للجسد فهذا تمرين للفكر، والثاني أحق بأن تسوده الروح الطيبة. وآثر الأستاذ ألا يجري الاستفتاء بين الحاضرين لأن المقصود ليس انتصار فريق على آخر وإنما هو بحث الموضوع وتبين جوانبه. وأبدى رأيه في الموضوع فقال أنه لا تعارض بين الرأيين، لأن الأدب ينبع من الفرد ومن المجتمع ومدار الأمر فيه على الصدق، والأديب الصادق التعبير يخدم الإنسانية فرداً أو مجتمعاً.
وقد كان أصحاب الرأي الأول يرددون أن الأديب ليس واعظاً ولا مرشداً ولا مقرر(822/40)
نظريات وعلوم. وكان الفريق الثاني يقول بأن الأديب لابد أن يعالج شؤون المجتمع ويكتب في مشكلاته. وهنا أمر يحسن الالتفات إليه، وهو أن الأديب لا يدعو إلى الأخلاق دعوة مباشرة ولا يعالج مشكلات المجتمع كما يعالجها الباحث الاجتماعي؛ وإنما هو يتناول كل ذلك بطريقته الفنية وصوره الأدبية ومن المسلم به أن تجارب الحياة أجدى من الوعظ إن كان فيه جداء، والأديب يعبر عن تجاربه الشعورية فينقل القارئ إلى عالمه ويؤثر فيه بحيث يجعله مشاركاً له في التجربة، والأديب حين يتجه إلى المسائل الاجتماعية إنما يأتيها من حيث آثارها في صوره وأشخاصه، لا من حيث هي مشاكل يقترح لحلها كذا وكذا.
والأدب الآن يتجه إلى الإنسانية وتحليل النفس، والأديب حين يتغلغل بقلمه إلى إبراز المشاعر الإنسانية وتحليلها إنما يهدف إلى الحق والخير والجمال.
الأدب المصري:
قال الأستاذ بدوي طبانة في كلمة له بالأهرام، إنه لاحظ وهو يحقق كتاب (جريدة القصر وجريدة أهل العصر) للعماد الأصفهاني - أن مصر أنجبت نحو مائة وثلاثين شاعراً في القرن السادس الهجري، جلهم إن لم يكن كلهم مغمورون لم يتناولهم علماؤنا وأدباؤنا بالدراسة كما تناولوا غيرهم من أعلام المشارقة والمغاربة.
وأذكر أن بعض الكتاب قد أثار هذه الموضوع منذ سنين، ونبه على إهمال مصر الأدب المصري مع جدارته بالإحياء والدراسة، وأنشأت الجامعة كرسياً بكلية الآداب للأدب المصري، شغله الأستاذ أمين الخولي، ووضع له منهجاً لم ينفذ، والأستاذ يدرس الآن في الكلية مواد ليس من بينها الأدب المصري وهو لا يزال أستاذ الأدب المصري!
ولا يزال أساتذة تاريخ الأدب في المدارس وكليات الآداب ودار العلوم واللغة العربية يمرون بالأدب المصري عابرين معجلين، وقلما يحظى هذا الأدب بالتفات الأدباء في غير المدارس والكليات.
ولعل من أسباب ذلك أن أكثر مراجع التاريخ والأدب في العصور المصرية المتأخرة مخطوط.
ولا شك أن أول ما يجب عمله في هذا السبيل، هو إحياء هذه الكتب بالتحقيق والطبع لتكون في متناول طلاب الأدب، وعندنا هيئات حكومية وأهلية تعمل في إحياء تراثنا(822/41)
الثقافي، كالقسم الأدبي بدار الكتب، وإدارة التراث العربي بوزارة المعارف، ودار المعارف، فلا وجهت عنايتها إلى هذه الناحية؟.
في معرض الفن الإيطالي:
هناك على شاطئ النيل في قصر الخديوي إسماعيل، أخذت معروضات الفن الإيطالي مكانها، وفي مدخلنا إلى هذا المعرض استغرقنا السرور بمرأى الجنود المصريين حيث تعودنا أن نور السحن الحمراء التي كانت تحتل هذا القصر، وشارك العلم المصر المرفوع قلوبنا في الخفقان. ألا ليت معرض الفن المقام هناك والذي نقصد إليه، كان مصرياً. . حقاً إن الفن لا وطن له كما يقولون، ولكن ظروف المكان تحتاج إلى استدراك. . .
المعرض فخم، والمكان فخم، تنقل بصرك بين اللوحات المعروضة وبين النقوش على السقوف والجدران، فتحار بين هذه وتلك، ومن الغريب أنهما يتشابهان في الفخامة. وقد جلنا بالمعرض، فاستدعى التفاتنا إتقان الأبعاد والألوان، ولكن قلما وقفنا مشاركين في إحساس وشعور. وطالما وقفت وقفات شاعرة أمام لوحات في معارض مصرية، أما في هذا المعرض الإيطالي فلم أحس بالمشاركة الوجدانية إلا في بضع صور منها صورة الحصان الميت وقد وقف بجانبه صاحبه العجوز البائس وملامحه تنطق بأنه لا يملك سواه، وصورة أم تنظر إلى ابنها نظرات كلها حنان، وفي مقابل هذه الصور صورة أخرى كبيرة بها امرأة تحمل طفلها وبقرة بجانبها رضيعها، والصورة الكبيرة فخمة جيدة التلوين، باهرة المنظر، ولكنها فقيرة في الإحساس والوجدان، ومن الصور التي أعجبتني أيضاً لوحة تهجم فيها عنزات على عربة حشيش، وبالقرب منها راعية تبدو فيها (الراعية) واضحة.
وقد وقفنا أمام صورة هناك فحدقت فيها لأرى ما هي، وأنا أقول لصاحبي: هذه الصورة لا بد أنها من (السريالزم) ثم أردفت: إنها تمثل ديكا، قال صاحبي - وهو الأستاذ أنور المعداوي - بما أننا تبنينا فيها ديكا فلا يمكن أن تكون من (السريالزم)!
نصف مليون جنيه يصدع رأس الدولة:
صرح دولة إبراهيم عبد الهادي باشا للصحفيين في أحد اجتماعاته بهم، بقوله (إن ميزانية وزارة المعارف قد تضاعفت عدة مرات حتى أصبحت الآن حوالي ثمانية عشر مليوناً من(822/42)
الجنيهات، تضاف إليها ثلاثة ملايين جنيه للتعليم الجامعي، أي أن واحداً وعشرين مليوناً من الجنيهات تنفق في العام الواحد في نشر نور العلم ومحاربة الجهل في مصر. وقد تدهشون إذا عرفتم أن إيرادات المصروفات المدرسية لا تواجه من هذا المبلغ الضخم غير ثمانمائة ألف جنيه. .).
ومعنى ذلك أن الدولة تنفق على التعليم نحو 26 % مثلا لما تحصله من التلاميذ، وأنت قد تريد الذهاب إلى حلوان مثلاً، فيقدم لك العامل في (شباك التذاكر) ورقة تبرع لإحدى الجمعيات الخيرية بقرش، وإذا ناقشته قال لك: من يدفع ستة قروش لا يكثر عليه قرش! فهل نقول للدولة كذلك: إن ثمانمائة ألف جنيه ليست شيئاً إلى جانب واحد وعشرين مليوناً من الجنيهات؟
والأمر أهون من ذلك، فإن وزارة المعارف تبذل جهوداً وتنفق أموالاً بسبب تنظيم المصروفات المدرسية، فهناك بحث حالات المجانية ونصف المجانية ومن لا يستحق المجانية، وتتفرع من ذلك أعمال كثيرة يقوم بها موظفون ينظرون في أعمار التلاميذ ونسب نجاحهم، وفي إحصاء أبناء المدرسين والصحفيين والضباط وفحص حالاتهم لتبين من يستحق نصف المجانية منهم، وفيمن لديه ولدان ينفق عليهما في إحدى المدارس الثانوية وما يعادها فيعفى بقية أولاده، ومن لديه ولد واحد إذا كان مدرساً وفيمن أخنى عليهم الدهر. . . إلى غير ذلك من التحصيل والرصد وكتابة (الاستمارات) وإعداد الميزانية، مما يخصص له موظفون يتناولون مرتبات ويطالبون بتطبيق (الكادرات).
ولا بد أن كل ذلك يستنفد بعض ثمانمائة ألف الجنيه؛ وما يبقى بعد ذلك، ولنفرض أنه نصف مليون جنيه، يصدع رأس الدولة بالشكاوي، ويشغل وقت الرؤساء والنواب والشيوخ وغيرهم من ذوي الجاه بالوساطات والشفاعات، ويشغل بال المعوزين من آباء التلاميذ ويربك حياتهم ويتحيف مستوى معيشتهم، وقد يحملهم على بذل ماء الوجوه في التوسل والرجاء، ولا يخفى أن الأولاد تنطبع في أذهانهم صور من ذلك تخل بمعيار النظر الصحيح إلى الأمور.
نصف مليون جنيه. . . استغنوا عنه وضموه إلى الواحد والعشرين. وأريحوا أنفسكم أريحوا الناس. . .(822/43)
عباس خضر(822/44)
الكتب
على هامش كتابين:
1 - مع الناس
تأليف الأستاذ محمد علي الحوماني
الأستاذ الحوماني أديب لبناني جمع إلى أدبه الفياض وشعره الرصين وحديثه الطلي، سرعة الخاطر ودقة التعبير وسلامة الأسلوب، وهو عربي يعتز بعروبته ووطنيته. بدأ حياته مجاهداً ضد الاستعمار الفرنسي - وهو ما يزال في مقتبل العمر وفي فجر الحياة، غض الإهاب لين العود - فأحيل إلى المجلس التأديبي، ولكنه لم يستخذ ولم يستسلم، ففر إلى شرق الأردن حيث أخرج ديوان الحوماني (سنة 1926)، وديوان نقد السائس والمسوس (سنة 1928).
ومنذ ذلك الحين اضطربت به نوازع الحياة ودوافع السياسة، فأخذ يتنقل بين وطنه (الشرق العربي كله) وبين المهجرين الأمريكي والأفريقي. وكان في كل بلد يصل حبله بقادة الرأي وزعماء السياسة وأهل الفكر يبادلهم الحديث ويناقشهم الخاطرة، وتفجر الحديث - في هذه المجالس - فنوناً، وتفتق عن أبحاث قيمة ناضجة في الأدب والعالم السياسة والاجتماع والفن. فهو - من ناحية - يتحدث عن الموسيقى حديثاً عبقرياً فيقول: (الموسيقى هي واحد من هذه الأشياء التي لا تستطيع التعبير عنها بأكثر من أنها لغة تخاطب الروح مباشرة دون ما رمز من إشارة أو تصوير. أما الموسيقى، الموسيقى العبقرية، فإن الروح تتناولها من يد العازف على رنة الوتر دون ما جهد أو إعنات، وتعليل هذه الهزة الروحية التي يتأثر بها السامع وهو يصغي إلى توقيع الفنان يكاد يعجز بيان الفكر الحاذق). وهو - من ناحية أخرى - يتحدث عن الدين: (فالعروبة في أي زمن تستهدف للزوال إذا لم يعضدها الدين. . .).
هذه المجالس، وهذه الأحاديث، عمل صحفي جليل لا عجب إن قام به المؤلف، وهو صاحب مجلة (العروبة) اللبنانية. ولقد ضمنها كتاب (مع الناس)، وهو كتاب فيه ألف فكرة لألف رجل، وللمؤلف فكرة واحدة هي إيمانه بقول سيد العرب (ص): (لا يصلح آخر هذه(822/45)
الأمة إلا بما صلح به أولها). وهو دائرة معارف عربية يستطيع المرء أن يرى من خلالها العقل العربي وهو يضطرم في الشرق والغرب معاً، وأن يعيش حيناً بين أهل الرأي وسادة الفكر من العرب يحس نبضات قلوبهم وخلجات أفكارهم ونوازع أنفسهم، فيلمس - من قريب - آراءهم وخواطرهم، ويشرف على آمالهم وأمانيهم.
وإن القارئ ليجد خواطر المؤلف منبثة بين أضعاف الكتاب في سطور متناثرة هنا وهنالك، يستطيع الأديب المدقق أن يضم أشتاتها بعضاً إلى بعض لتصبح مبدأ يقول بأن الأمة توشك أن تنهار إن هي لم تتمسك جهدها بثلاثة أشياء متساندة مترابطة هي: اللغة والأخلاق والدين. فهو يوقن بأن (اللغة قبل كل شيء، لأنها العنصر الذي يقوم به أمجاد الأمة، فعلينا أن نعلم الولد كرامة أمته ومجدها في الكلمات العربية ليقرأها ويشعر أنه يشرف على مجده وعزته القومية من خلال الحروف والكلمات). وهو يؤمن بأن (الثورة التي تقوم في العالم على أساس الأخلاق، إنما تمهد للإنسانية فتنمو وتصعد إلى مستوى الملكوت. أما الثورة من أجل السياسة، أو العصبية للعنصر أو الوطن، فإنما هي مدعاة للتناحر لا تنفك تفتك في البشرية حتى تصب بها إلى العهد الذي نحن فيه: علم يصعد إلى السماء لينحل قنابل تتفجر أو مدافع تدمر فتعود بنا إلى دور الوحشية الذي تمسنا الحاجة فيه إلى أمثال موسى وعيسى ومحمد. . .) وهو يعتقد بأن (التعصب للدين ليس عقبة تصدم الإنسان في نهوضه إلى الحياة الحرة كما يتوهم من لا يفقه الدين، فإنا نرى اليهود في العالم كله يتعصبون لدينهم، ونراهم محسودين من جميع العالم، والعالم مسخر لهم، وهم بضعة عشر مليوناً. فلو تعصب المسلمون لدينهم تعصب اليهود - ودينهم مدني فوق كل دين - لكانوا المثل الأعلى على هذه الأرض. . .)
وهكذا يرى المؤلف أن اللغة والأخلاق والدين هي العمد الثابتة المتينة التي يجب أن تكون أساساً لرقي الأمة وسموها. . . وحبذا لو أخذنا بهذا الرأي، حبذا. . .
وإن الكاتب ليحس صعوبة شديدة في الكتابة عن هذا السفر لما فيه من آراء متفرقة وأبحاث متشعبة، بقدر ما يلمس القارئ في قراءته من لذة ومتعة. وإني لا أجد ما اقدم به هذا الكتاب إلى قراء العربية سوى أن أقول: إنه دائرة معارف تسمو بقيمتها وروائها.
2 - اصطلاحات عربية لفن التصوير(822/46)
تأليف الدكتور بشر فارس
هذا (مبحث ألقي في المجمع العلمي المصري في جلسة علنية في السابع عشر من شهر مايو سنة 1948). وهو معجم يحتوي على اصطلاحات فرنسية في فن التصوير عدتها تسعة وثلاثون ومائة جمعها الدكتور بشر ورتبها على حروف المعجم الإفرنجي وترجمها هو، فصارت مرجعاً فيماً للباحث والكاتب والقارئ، ثم أخذ يوضح مدلولات الألفاظ العربية المقابلة للتعبير الفرنسي (وقصر الكلام هنا على الكلمات التي هي من ثمرة بحثه وعدتها خمس ومائة).
وخشي المؤلف أن يعثر المطلع في معجمه على لفظة خشنة، أو اصطلاح جاف، فاستدرك يقول: (وتراني في أثناء النقل أتقرب ما استطعت من اللغة الجارية عندنا لهذا الزمن، متلفتاً إليها، أو مستشهداً، خشية أن تتسع الفجوة بين الذوق السائد واللفظ المستنبط فيموت وليداً).
ولقد كتب الدكتور بشر تصديراً لهذا البحث جاء فيه: (على أن أحداً لا يشك في أن لغتنا الكريمة وإن زخرت بالألفاظ وعلت بالتعبيرات لتقصر اليوم عن الأداء الإفرنجي في صنوف الفنون والصناعات. وكأني بك ترى اضطراباً واختلافاً في أكثر ما يقع عليه بصرك. لذلك بدا لي أن أهيأ طائفة من الاصطلاحات الدائرة في باب التصوير وما يجري مجراه، عسى أن تستقيم أداة التأليف، وتندفع آلة النقل. . .).
هذا هو رأي الدكتور في اللغة العربية، فهو يراها قاصرة عن الأداء الإفرنجي في صنوف الفنون والصناعات. وأنا لا أوافقه في ما ذهب إليه، فإن لغتنا الكريمة لم تضق يوماً بعلوم اليونان حين بدأت النهضة العلمية الإسلامية، وحين ازدادت نشاطاً وقوة في العصر العباسي، فراح العرب - إذ ذاك - ينقلون علوم الفلسفة والطب والفلك والرياضيات، فنقلوا - في سنوات - مئات من أمهات الكتب في الفنون المختلفة. ولم تعجز عن أن تقتحم باب العلوم الرياضية حين نقل (محمد بن موسى الخوارزمي) أرقام الحساب عن الهنود وأدخلها في العربية، وحين وضع (الصفر الحسابي) فحل بذلك أكبر معضلة رياضية في العالم، وحين وضع جداول اللوغارتيمات وهي ما تزال تحمل اسمه حتى اليوم فهو يعرف عند(822/47)
الفرنجة باسم ولم تقصر عن أبحاث الميكانيكا والإيدروستاتسكا بين يدي (أبي الريحان البيروني) حين وضع كتابه (الآثار الباقية). ولم تضعف أمام أبحاث (الحسن بن الهيثم) في الضغط الجوي - وهو قد سبق في ذلك البحث تورشيللي بخمسة قرون أو أكثر - ولا في البصريات. وإن أبحاث ابن الهيثم التي استغرقت نيفاً وستين كتاباً كلها في العلوم التعليمية (الطبيعية) ما تزال مرجعاً يهتدي بنوره علماء الغرب للآن.
هذه اللغة التي وسعت كل هذه الأبحاث، وهي أسس النهضة العلمية في أوربا، ووسعت غيرها مما يضيق عن سرده هذا المقام، لا أخالها تقصر عن الأداء الإفرنجي في صنوف والصناعات.
على أنني ما زلت أعجب أن يقول الدكتور بشر بذلك وهو نفسه قد استعان باللغة العربية - في معجمه - في التعبير عن الألفاظ اللاتينية المقابلة. ولو أنها عجزت عن هذا الأداء لما أمدته بهذه المصطلحات.
ومهما يكن من خلاف بين رأي المؤلف ورأيي فإنه لا يسعني إلا لأن أعترف بأنه قد بذل جهداً عظيماً مشكوراً في تصنيف هذا المعجم.
كامل محمود حبيب(822/48)
البريد الأدبي
حوله (مآخذ أربعة):
تفضل الأديب الطلعة سامي حسن حبشي - في العدد 819 من الرسالة الغراء - فشمل قصيدتي (شهرزاد) بثنائه الكريم ونقده الرفيق: ورأى في القصيدة مآخذ أربعة أخذها علي. وردى عليه كما يلي:
1 - ذهب الأخ الناقد في تفسيره لكلمة (مغنى) الواردة في البيت التالي:
(كأُسِك الفنُّ ... ومغناك أغاريدُ العصفوِر)
مذاهب، خرج منها بأنه لا وجه لاستعمالي هذه الكلمة في هذا المقام. أما أنا فأقول بأن كلمة (مغنى) - كما وردت في البيت - إنما قصدت بها المنزل: وليس المنزل مجرداً عرياناً، (أو الموضع الذي كان به أهلوه)، ولكنه المنزل الذي تدل عليه كلمة مغنى نفسها. وأظن أن الأديب الفاضل معي ومع المرحوم أمير البيان الأرسلاني حينما وجه هذه الكلمة - مغنى - توجيهاً خاصاً خرج من إلى أنها (منزل الأنس والطرب والهناء والسمر. أو هي باختصار نزل السامر). وعلى هذا يكون المعنى الذي رميتُ إليه: إن معناها - وهو موطن سمر شهرزاد وأنسها - أصبح أغرودة من أغاريد العصور، تلهم الشعراء والكتاب. إذ لا وجه للقول مطلقاً بأن معنى شهرزاد (بمعنى غناء) قد اصبح غناء العصور. . . إذ يرك المعنى ويسفّ جداً: فما كانت شهرزاد تغني أصلاً: وليس غناؤك هو الذي يدوي في أجواء العصور، وإنما الذي دوي هو سامرها وأصداء ذاك السامر!.
وكنت أرجو من أخي الناقد عدم الاتكاء على الزجال السيد بيرم التونسي؛ فهو الذي يغرف منا ومن مفاهيمنا.
2 - واعترض الناقد الفاضل على البيت التالي:
(ونداماك عشيق فاترُ اللحظ الكسير)، بقوله: كان الصواب أن يقول: ونديمك عشيق؛ أي أن يأتي بالمفرد دون الجمع!
وواضح هنا شيء من الإبهام لدى الأخ الناقد؛ لأنني عنيت تماماً اتجاهي حينما قلتُ: (ونداماك عشيق. . .): لأن الأبيات السابقة توضح هذا الاتجاه، إذ قلت:
ولياليكِ غرامٌ ... بين أحضان الدُّهوِر(822/49)
كأُسكِ الفنُ ... ومغناِك أغاريدُ العصفورِ
ونداماِك عشيقٌ ... فاترُ اللحظ الكسير. .)
فتلك الليالي، وتلك الكأس، وذاك السامر، بحاجة إلى ندامي لا إلى نديم. وقد جُمع أولئك الندامي فكانوا ذاك العشق (شهريار) الفاتر اللحظ الكسير! وواضح أن اللغة تقرني على ما ذهبت إليه، تأويلاً ودوت تأويل أيضاً.
3 - وأخذ علي حضرة الأخ الناقد قولي: (ورواء الدهر فأستلقاه خفاقي وثارا) ذهاباً منه إلى أن (أستلقي) إنما هي من (أستلقي على قفاه) - ولا معنى لها هنا) وأنا معه حقاً إن كانت استلقي بالمعنى الذي ذهب إليه. ولكن اللغة وحدها هي التي تقول بأن الاستفتاح بالسين والتاء إنما للدلالة على الطلب، قياساً على قولنا (رضي واسترضى، بكي واستبكى، غني واستغنى) ومن هذه الزاوية القياسية الصحيحة يتضح أنني كنت على صواب في هذا الاستعمال.
4 - أما المأخذ الأخير حول (السماء حيرى) فوجهة نظري أن كلٌّ جمع مؤنث، فعاملت الجمع معاملة الفرد والمؤنث.
وإنني في الختام أشكر للأخ الغالي هذه الفرصة التي جمعتني وإياه لتعارف على صفحات (الرسالة) الأم؛ وأنعم به من تعارف وأعظم بها من رسالة تؤديها (الرسالة).
دمشق
زهير مبرزا
سرقة قصة:
لم يستنكف الأستاذ عبد الله عبد الصمد البشير من أن ينقل قصة أمريكية مشهورة لكاتب أمريكي مشهور ثم يدعي أن الله قد وهبه مقدرة على كتابة القصة القصيرة. فلا يشير إلى كاتبها بكلمة واحدة بل وينشر القصة في مجلة الدنيا الجديدة عدد مارس الذي صدر أخيراً تحت عنوان (صانع السم).
أما القصة الأمريكية فهي راشيل وأما كاتبها فهو الكاتب الأمريكي ارسكين كالدويل وقد ظهرت هذه القصة في مجموعة من القصص الأمريكية القصيرة تحت عنوان ونشرت(822/50)
في كتاب رقمه 112 من سلسلة بنحوين وطبعت بالقاهرة إبان الحرب الماضية.
ولو أننا قرأنا راشيل وهي القصة الأمريكية لوجدنا مثالا رائعاً للقصة القصيرة تدل على أن هناك من الكتاب من يستطيع أن يخرج قصة قصيرة محبوكة مستوفية للشروط الفنية للقصة.
لقد استبدل الأستاذ عبد الله عبد الصمد البشير باسم راشيل في القصة الأمريكية سميحة في قصته المصرية، ثم أختصر القصة الأمريكية. فقصته ترجمة مختصرة للقصة الأمريكية. ولا يخفى هذا على قارئ القصة الأمريكية إذ أن النهاية والبداية في القصتين بل والأفكار فيها واحدة رغم الاختصار في القصة التي زعم المفضال عبد الله عبد الصمد البشير أنه كتبها.
لا ينبغي أن يمغط حق المؤلف فلا يذكر بينما يذكر اسم المترجم. إن حق الترجمة للمجلات والصحف معروف الأهمية، ولكن يجب عند تمصير القصة أو المقال أن تكتب كلمة للتعريف بمن كتبها قبل أن يعرف من مصرها.
شفيق أحمد عبد القادر
جامعة فؤاد الأول
الشهر والأشهار:
نشرت (الأهرام) الغراء كلمة تحت هذا العنوان جاء فيها: لا مانع من استعمال الفعلين (شهر) و (أشهر) على حد سواء استناداً لما ورد في (المنجد) وهو أشهر الأمر أظهره وصيره شهيراً اهـ
وأقول: لم يرد في المعاجم القديمة أشهره متعدياً أصلا، وإنما ورد فيها أشتهر بمعنى شهره.
وأخشى أن يقال: جاء في مستدرك شرح القاموس: ومن المجاز أشهرت فلاناً استخففت به وفضحته وجعلته شهرة. اهـ فأن هذا النص منقول عن أساس البلاغة، ونص عبارته كما جاء في طبيعته: ومن المجاز أشتهر فلاناً. . . الخ
ولكن جاء في (المغرب) للمطرزي من علماء القرن السادس أو السابع الهجري (538 - 161) ما نصه: واشهره بمعنى شهره غير ثبت اه. وقوله: غير ثبت أي ليس بحجة. وجاء(822/51)
في المصباح للفيومي من علماء القرن الثامن الهجري: وأما أشهر بالألف فغير منقول اه. ونقل صاحب المعيار هذا النص بدون تعليق. وهذا يدل على أن أشهره كان مستعملاً بمعنى شهره الثلاثي ولكنه مشكوك فيه. ولعلنا نظفر به في المخطوطات اللغوية القديمة فإن هذا الاستعمال المتواتر قد يكون موروثاً عن العرب.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي(822/52)
الكهلان
للكاتب الفرنسي الفونس دودبه
- هل هذا كتاب أيها الأب أزان؟
- نعم يا سيدي. أنه آتٍ من باريس.
كان الشيخ الوقور ينظر إلى كل ما هو قادم من باريس في رهبة وإعجاب، ولذلك سلم لي الرسالة بعناية واحترام.
ولما كنت رجلاً لا أسير وراء الخيال، ولا أبالي بسحر العاصمة، فقد ألقيت نظرة على الرسالة القادمة في الصباح المبكر وكأنها نذير بحلول زائر سأبتلي بمقدمة هذا اليوم. ولكني كنت مخطئاً، فقد كانت الرسالة تتضمن الآتي:
(عزيزي دودية - يجب أن تغلق الطاحونة اليوم وتذهب في مهمة لأجلي إلى إيجوير. إنها على بعد عشرة أميال ليس إلا من الطاحونة، نزهة صباحية لشباب مثلك (ولم يذكر نزهة أوبتي!) وعندما تصل، اسأل عن ملجأ الأيتام، فبجواره تقع دار صغيرة ذات نوافذ رمادية، وحديقة خلفية. وستجد الباب دائماً مفتوحاً، فادلف إلى الدار دون أن تطرقه. ثم صح بأعلى صوتك) صباحاً طيباً يا أصدقائي، إني صديق موريس (وعندئذ ستشاهد عجوزين، من الحفريات، قبل عهد الطوفان، غارقين في مقعدين أكثر قدما منهما فعانقهما لأجلي كما لو كانا من أجدادك الطيبين. ثم تحدث معهما فسرعان ما يشتركان معك في حديث واحد لا ينتهي - حديث موضوعه موريس. ولن يكلا مطلقاً من تقريظ كمال منقطع النظير لذلك الأنموذج الكامل الفريد الذي لم يكن ولن يكون. وأرجو ألا تتخلى عني، ولا تتردد في الإجابة عن أسئلتهما. اضحك كما تشاء! ولكنهما جداي، رفيقاي في حياتي الطويلة إلى عشر سنوات مضت. نعم، إنها عشر سنوات منذ أن رحلت عنهما قاصداً باريس.
(إن هذين الثرين الواهنين قد يتناثران في الطريق إذا حاولا القيام برحلة إلى هنا. فأرجو يا صديقي الطحان المحترم أن تقوم بواجبات البنوة بدلاً مني وتقبلهما. لقد انتهيت من رسم صورة لك بالحجم الطبيعي عندهم، ولونت فيها ملامحك باللون الوردي. . .) وسارت الرسالة على هذا النمط حتى نهايتها.
وهكذا شاء حظي العاثر ألا أستمتع بهذا اليوم الفريد، فأظل بالدار غارقاً في بحاراً أحلامي(822/53)
في ركن تغمره الظلال. وها أنذا مرغم على الابتعاد عشرة أميال، سائر تحت وهج الشمس ومثار الغبار يؤذي عيني. ولكن، كل شيء يهون في سبيل الصديق، وأغلقت الباب، وأدرت المفتاح، ومضيت ومعي متبغي وعصاي.
وصلت إلى إيجوير قبيل الساعة الثانية. كانت القرية تكاد تكون خاوية، كان أهلها يعملون إذ ذاك في الحقول. ولم أجد هناك بالطبع ألا أتانا تتمتع بضوء الشمس، وحماماً يحوم حول نافورة الكنيسة، وجنادب - أكثر نشاطاً من زميلاتها في أوران - تتعالى أصواتها حول شجرة الدردار الأخضر، وقد اغبرت أجسامها , وهكذا أم أشاهد مخلوقاً يرشدني إلى ملجأ الأيتام. وفجأة لاحت (جنية) طيبة لنجدتي. فقد لمحت عجوزاً هزيلة منطوية على نفسها في مدخل. فسألتها عن الطريق فأشارت بإصبع متخاذلة. وبدا لي الملجأ كأنما ظهر بفعل عصا سحرية. كان بناء شامخاً قديماً قابضاً، يعلوه صليب من الآجر، وقد نقشت على مدخله كتابة لاتينية، وقامت بجواره دار صغيرة، ذات نوافذ رمادية وحديقة خلفية. كانت مقصدي، فدلفت إليها دون أن أقرع بها.
إن مشهد تلك الدار قد نقشت في ذاكرتي إلى الأبد: تلك النظافة التامة، وذلك الهدوء الشامل في الردهة الطويلة، والجدران الوردية، والحديقة بأزهارها تتمايل مع النسيم، وقد بدت خلال النوافذ ذات الألوان الزاهية، وصفائح الجدران المزدانة بصور الزهر، وقد حالت من القدم. وخيل إلى كأني في دار أحد أشراف سيدان. وسمعت خلال باب منفرج نضف انفراجه دقة ساعة، وصوت طفل يقرأ في صوت جهوري، كلمة كلمة، ومقطعاً مقطعاً (ثم - أنا - القديسة - أيربنية - صحت - أنا - دقيق - الإله - ويجب - أن - أطحن - وأنثر - بأنياب - تلك - الوحوش. . .) واقتربت وأنا أمشي على أطراف قدمي وتطلعت.
شاهدت في غلالة من ضوء النهار الساكن، كهلا منفرج الفم، واضعاً يديه على ركبتيه، ومستغرقاً في سبات عميق على مقعد. كانت وجنتاه موردتين، وجلده مجعداً حتى أطراف أصابعه. وجلست تحت قدميه فتاة صغيرة، ترتدي (شالا) طويلا ارزق اللون، وقلنسوة صغيرة زرقاء - لباس الأيتام. وكانت هي التي تقرأ سيرة القدسية إيرنيه من كتاب يكاد يقارب حجمها. وكانت القراءة العجيبة تفعل فعل المخدر في الحجرة الساكتة. فقد كان كل من الكهل في مقعده، والذباب في السقف، والكناري في القفص، في سبات عميق. ولم يعكر(822/54)
صفو الحجرة سوى دقات ساعة الجد، وقد تدفقت أشعة الشمس خلال النافذة بذراتها الكثيرة المتراقصة. وكانت الطفلة لا تزال تقرأ وسط ذلك النعاس الشامل (وسرعان - ما - اندفع - أسدان - صوبها - وافترساها. . .) ودلفت إلى الحجرة عند هذه المرحلة الخطيرة!
كان من الجلي أن الأسدين الضاربين لم يحدثا أدنى اضطراب لأهل الدار. ولكن، عندما لمحتني الفتاة ذات الرداء الزرق، أسقطت الكتاب وقد ندت عنها صرخة رعب. واستيقظ الكناري والذباب، ودقت الساعة، وقفز الكهل في فزع وذهول. ووقفت بالمدخل حائراً، ولكني تدرعت بالشجاعة وصحت قائلاً (عم صباحاً يا صديقي! أنا صديق موريس).
وفعل موريس فعل الطلسم. هرول الكهل صوبي مفتوح الذراعين، وعصر يدي، ثم جعل يجول في الحجرة ويصيح في ذهول (يا ألهي! يا ألهيَ!).
وأشرقت كل تجعداته، وتحول وجهه قرمزيا من الحماس. ثم تمتم قائلا (أواه يا سيدي! أواه يا سيدي!).
ثم هرول صوب الباب يصيح قائلا - هلم يا (ماماه)، أسرعي يا (ماماه). وفتح باب في الردهة، وسمعت صوت حركة، ثم دلفت (ماماه).
ما أرقه مشهداً عاطفاً مثيراً! كانت السيدة العجوز ترتدي وشاحاً ورداء كرملياً باهتاً، وتحمل في يدها منديلاً مطرزاً. وما اشد الشبه بينهما وياله من شبه عجيب! أن أقل تبديل في الملبس، من قلنسوة أو ما شابه ذلك، وإذا بك تحسب الجد جدة. فلم تكن تختلف عنه إلا في كثرة تجاعيدها. وكانت لهما فتاتان صغيرتان من الأيتام ترعيانهما - الكهولة ترعاها الطفولة! وانحنت الجدة انحناءة منخفضة، كما كان يحدث في عهد الفروسية ولكن لم يطلق الكهل صبراً لذلك، فقطع الاحتفال القصير قائلاً - (ماماه) هذا صديق موريس.
وارتجفت السيدة وكأنها ورقة من شجر الحور، وسال الدمع على وجنتيها، وسقط منديلها، واحمر وجهها أكثر احمراراً من وجه الجد. ومع أن الكهلين لا يحملان في عروقهما سوى قطرة واحدة من الدم، فقد كان أقل انفعال يؤثر عليهما يكسي وجهيهما بقناع قرمزي. وقالت السيدة للفتاة الزرقاء - أسرعي! مقعداً للزائر. وقال الكهل لفتاته - افتحي النوافذ.
ثم أخذ كلاهما بذراعي وسارا في خطى قصيرة إلى النافذة حتى يتفحصا الزائر، واستحضرت المقاعد وإذا بي جالس بينهما، وقد وقفت الطفلتان خلفهما. وأخذت الأسئلة(822/55)
تترى علي: كيف حاله؟ كيف يقضي وقته؟ لماذا لم يأت لمشاهدتنا؟ هل هو سعيد؟ وهكذا انهالت أسئلتهما قرابة الساعة.
وتحملت ذلك في جلد، وأخبرتهما بكل ما أعرفه، بل اختلقت، بل حتى جاملت. وقلت - ما أرق لون غلاف الحائط يا سيدتي! إنه لا زوردي جميل، مزدان بأفنان الورود.
فقالت - حقاً؟ ثم أضافت وهي تلتفت إلى (باباه) - أليس هو شاباً وسيماً؟ فقال - أجل، أجل. شاب وسيم!
وشاهدت أثناء محنتي، إيماءات من الرأسين المشتعلين شيبا، واشراقات على الوجهين المجعدين، وضحكات صبيانية جزلة ونظرات متبادلة. ثم التفت إلى الكهل قائلا - ارفع صوتك. أنها لا تكاد تسمع. وأخذت (ماما) بثأرها فقالت - أرفع صوتك. إن سمعه ثقيل.
وأطعت، فابتسما ابتسامة شكر، وظلا يبتسمان وهما يسبران غور عيني، ويبحثان فيهما عن شبيه لولدهما. ونظرت في أعينهما، فشاهدت في حلكتها كأنما بدا خلال الضباب المخيم عليها وجه صديق يبتسم. وفجأة صاح الرجل في عجب وهو يهب من مقعده - (ماماه) أتحلمين؟! لعله لم يتناول غداءه بعد.
وخشيت أن تكون أفكارها قد انتقلت بها إلى موريس، فسارعت أؤكد لها أن الصبي العزيز لا يتناول غداءه متأخراً.
وقال الرجل - إني أعني صديق موريس.
فقالت - أوه، عفواً يا سيدي، عفواً كثيراً.
كان جوعي قد زادت حدته، ولذلك لم أراوغ.
وقالت للطفلتين - أسرعا أيتها الصغيرتان الزرقاوان، وضعا غطاء يوم الأحد وسط المائدة واستحضرا أفخر الأواني المنمقة بالزهور. أسرعا، لا تضحكا كالإوز الأبله، هيا.
وفي لمح البصر كان الطعام معداً. وقالت الجدة وهي تقودني إلى المائدة - هذه وجبة بسيطة وأرجو المعذرة لعدم اشتراكنا معك. فقد تناولنا طعام الغداء قبل الظهر.
لقد كان الكهلان كلما حل عليهما ضيف يقولان دائماً أنهما تناولا طعام الغداء قبل الظهر!.
كان الغداء يكونا من قطعتين من بياض البيض، وبعض التمر، وقطعة من الحلوى تدعى (الباركت) تكفي لأن تطعم الجدة وكناريها مدة أسبوع. واتجهت إلي الأنظار أثناء تناولي(822/56)
الطعام. كانت الصغيرتان الزرقاوان تتخافتان، والكناري يغرد قائلاً - أوه، انظروا إلى النهم الشره الكبير، أنه يلتهم كل (الباركت).
كان ذلك النهم الشره الكبير - في الواقع قد ألتهم كل ما على المائدة من طعام دون أن يشعر بذلك. فقد كنت غارقاً في تأمل الحجرة الهادئة المشرقة، وما يفوح منها من أريج الذكريات.
ووقعت عيناي على فراشين صغيرين، يكادان يشبهان المهد. وتخيلتهما عند الفجر، وما زالت ستائرهما المزركشة الحواشي منسدلة، والساعة تدق ثلاثاً، وقت استيقاظ الكهلين. وسمعتهما يتبادلان الحديث:
- أنائمة أنت يا (ماماه)؟
- كلا يا عزيزي.
- أليس موريس شاباً وسيما؟
- أجل، أنه شاب وسيم، وسيم.
نعم كان مدار حديثهما كله عن موريس. لاشيء غير موريس. من الصباح المبكر إلى المساء الندي!
وبينما كنت غارقاً في تأملاتي، إذ بمأساة تجري فصولها في طرف الحجرة. كان الكهل واقفاً على مقعد، يجاهد جهاد الأبطال ليصل إلى قارورة من الشراب المحفوظ، قائمة على قمة الضوان، لم تمسها يد منذ عشر سنوات، بل ظلت تنتظر عودة موريس. وأخذت زوجه تثنيه عن القيام بهذه المحاولة، ولكن الجد كان قد وطد العزم على الحصول عليها وفتحها تكريماً لضيفه. وكان يجاهد بكل عصب من أعصابه، وعضلة من عضلاته، والصغيران ممسكان بالمقعد، والسيدة الكهلة تنتظر في خوف ورعدة وقد ترددت أنفاسها، وذراعاها ممتدتان لتنقذ البطل عند الضرورة، وأخيراً، وبعد مجهود فائق، نال الكهل مكافأته، ودفع بالقارورة إلى الجدة وقد أشرق وجهها. وهبت رائحة البرغموت الشذية من الملبوسات داخل الضوان.
واستحضروا قدح موريس الفضي وامتلأ بالشراب حتى حافته. نعم، كان موريس يعشق هذا الشراب. وهمس الجد وهو يناولني القدح وقد سال لعابه في تلذذ ابيقوري - أنت(822/57)
مجدود، فإنك لا تحصل على مثل هذا الشراب في الطاحونة إن جدته تحفظه له. ومها كانت الجدة خبيرة في حفظ الشراب، فإنها فشلت هذه المرة، فقد نسيت أن تحليه بالسكر. على أية حال، يجب أن نتغاضى عن شرود ذهن الكهول. ووقفت لهذه المناسبة، وصررت على أسناني، ثم جرعت الشراب دون أن تطرف عيني. وهمست في انفراد بيني وبين نفسي - سيدتي أن شرابك فظيع!
وعندما قمت أستأذن في الانصراف، ألح علي الكهلان أن أستمر في سرد حقيقة قصة ذلك المثال الكامل، ولكن الوقت كان قد أزف للرحيل بعد أن خبا الضوء، لا سيما وأن الطاحونة (على بعد عشرة أميال ليس إلا!).
وهب الكهل واقفاً وهو يقول - معطفي يا (ماماه) من فضلك. يجب أن أرافقه إلى ما بعد الميدان.
وأشارت (ماماه) إلى برودة نسيم الليل، ولكنها لم تثبط نزوة الكهل. وبينما كانت تساعده على ارتداء معطفه الأسباني المزين بالأزرار الصدفية، وقد انتشرت عليه بقع السعوط، إذ قالت له - والآن يا عزيزي، عدني وعداً مخلصاً، إلا تتأخر طويلا
فأجاب الكهل، منتصراً، في لهجة تدل على أنه لن يأتي الدار قبل الصباح - نعم! كلا! ربما أتأخر، وربما لا أتأخر - لا أعرف! ولا أبالي! - لا تنتظري يا عزيزتي، فمعي المفتاح.
ونظر كل منهما في عيني الآخر، ثم انفجرا ضاحكين حتى سالت دموعهما. وضحكت معهما الصغيرتان الزرقاوان. وشاركهم الكناري يغرد مع مرحهم. وإني أعتقد بيني وبينكم - أن الشراب قد أخذ برأسيهما وجعلها في نشوة.
كان الظلام يخيم رويداً رويداً، عندما غادرت الدار يرافقني الجد. وكان الرجل يسير في زهو واعتداد في ذلك المساء خلال القرية، وقد أشتبك ذراعه بذراع صديق موريس. فكيف يشعر بحارسته الصغيرة الزرقاء وهي تتبعه عن بعد حتى تعود به إلى داره؟ وكانت الجدة واقفة على مدخل الدار تراقبنا، وقد أسرق وجهها، وهي تقول - أترى؟ أن رجلي لا يزال قادراً على المشي!
محمد فتحي عبد الوهاب(822/58)
, أنو(822/59)
العدد 823 - بتاريخ: 11 - 04 - 1949(/)
أيها المنطق. . . لقد خبرناك!
أذاعت شركة روتر للأنباء الشرقية منذ أيام نبأ خطيراً اهتزت له قلوب هنا وقلوب هناك، وبعض الاهتزاز يثيره العجب حيناً ويثيره الإعجاب حيناً آخر. . . العجب من تناقض الأقوال والأفعال، والإعجاب بهذه القدرة القادرة على التحول من الشمال إلى اليمين ومن اليمين إلى الشمال. ولا بأس من التحول والتناقض ما دام منطق التبرير يفسر التناقض على ضوء المصلحة الفردية، ويصور التحول على هدى التلاعب بالألفاظ والعبارات!
وإليك هذا النبأ الخطير: (كانت بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي رفضت اليوم أن تؤيد مساعدة مؤسسة اللاجئين للمهاجرين اليهود إلى إسرائيل، قبل أن يتفق على حل لمشكلة اللاجئين للمهاجرين العرب. أما الأعضاء الخمسة عشر في المجلس العام لهذه المؤسسة، فقد أعطوا أصواتهم في صالح مساعدة هؤلاء المهاجرين بمبلغ تسعة ملايين دولار، تصرف لهم خلال السنة التي تنتهي في يونيو المقبل. وقد قال مستر إدموند مندوب بريطانيا في المجلس: إن من غير اللائق إطلاقاً أن تمنح هذه المؤسسة مساعدات لهجرة اليهود إلى فلسطين، في الوقت الذي تبقى فيه مشكلة اللاجئين العرب معلقة بدون حل)!
وهكذا تجد أن بريطانيا تقف دائماً في صف العرب. . . تقف باللفظ المنمق والقول الملفق والشعور المصنوع! لقد وقفت وحدها لترفع الصوت عالياً ينقل إلى أقطار العروبة عطفها البالغ على مشكلة اللاجئين العرب؛ هذا العطف الذي يتمثل في قبض يدها عن مساعدة مؤسسة اللاجئين الدولية للمهاجرين اليهود! إنك تستطيع أن تقف طويلاً لتزن كلمات المندوب البريطاني بميزان القيمة اللفظية التي ترتكز على دعائمها كل نتيجة عملية. . . تستطيع أن تقف عند هذا التعبير الذي يمكن أن يبرز بوادر الانحراف في الغد القريب، وهو أن بريطانيا ترى (من غير اللائق) إطلاقاً أن تؤيد مؤسسة المهاجرين اليهود قبل الاتفاق على حل لمشكلة اللاجئين العرب! إننا واثقون على أن بريطانيا لا تعني ما تقول، وأنها ستؤيد غداً ما تنكرت له اليوم، وأنها ستمد لليهود يد العون كما مدتها لهم من قبل، ولا اعتراض بعد ذلك ولا عتاب. . . وأي اعتراض هذا الذي يمكن أن يوجه إلى المنطق البريطاني حين يواجه القضايا الدولية بأمثال تلك الكلمات التي تنساب من كفتي الميزان كما تنساب قطرات الزئبق دون أن تلحظها عيون؟! إن المنطق البريطاني يعد لكل موقف يحتمل التحول ما يلائمه من صيغ وعبارات. ولن تجد في قاموس البلاغة الدبلوماسية(823/1)
أعمق ولا أبرع ولا أروع من هذا التعبير: (إن من غير اللائق) أن يحدث هذا الأمر؛ و (إن من غير اللائق) أن يقع ذاك! هذا الوضع لائق، وهذا الوضع لا يليق. . . ولا بأس بهذه التعبيرات الزئبقية التي يطالعنا بها المنطق البريطاني اليوم كما طالعنا بها بالأمس، حين وقف مستر بفين ليعلن على رؤوس الأشهاد في مجلس العموم أن بريطانيا ترى (من غير اللائق) أن تعترف بحكومة إسرائيل، لأن هذه الحكومة لم تتوفر لها الأسباب القانونية التي تبرر قيام دولة مستقرة الجوانب مكتملة الكيان. . . ومع ذلك فقد رأت بريطانيا أن تعترف بحكومة إسرائيل، لأن (من غير اللائق) أن تسبقها أمريكا إلى هذه المكرمة، والعهد بالشرف البريطاني أنه السباق دائماً إلى المكرمات!
أيها المنطق: حنانيك. . . لقد عرفناك، ودرسناك، وخبرناك!
(ا. م)(823/2)
من خصائص الأدب المسرحي
للدكتور محمد القصاص
مما يؤثر عن رتشار فانجر قوله: (إن المسرح في أتم أشكاله هو المكان المقدس الذي تلتقي فيه جميع الفنون وتتزاوج ويذوب بعضها في بعض. وتلك هي فكرة الفن المسرحي كما تصوره كبار التراجيديين الإغريق قبل الميلاد بقرون. والواقع أن المسرح، والمسرح وحده، هو الذي يستطيع أن يقدم للناظر الحد الأعلى من نشاط فني يتضافر فيه الفن المرئي والموسيقى والشعر، بأنصبة متساوية متناسقة، على أن تسحر بصره وسمعه وقلبه في آن واحد. ولكن أيصدق هذا الحكم في عصرنا الحالي على المسرح الغنائي وحده الأيرا البحتة) وهو الذي عناه فاجنر بلا ريب في جملته السالفة الذكر دون أن يصدق على الدرامة الأدبية، الدرامة التي تتكلم لا التي تغني؟ نحن لا نظن ذلك بأية حال لأن كل تأليف مسرحي مهما كان حظه من الروح الأدبي ومن التجريد العقلي لا يمكنه أن يستغني عن مشاركة الفنون الأخرى في تكوينه دون أن يختل توازنه ويفقد مقومات العمل المسرحي الأساسية. إذ لا سبيل له إلى القلب ولا إلى النفس دون العين والأذن. فالتمثيلية لا تفرض على مؤلفها أن يعنى بالكتابة وأن يراعى القيم الأدبية فحسب، هذا العمل الذي يتفق فيه مع كاتب المقالة والقصة والقصيدة، بل لا بد وأن يوجه اهتمامه نحو الموسيقى يصبها في كلماته ونحو الفن الجسماني من صور وحركات يحمل بها عباراته كأنه يرى أبطاله فوق خشبة المسرح. وأما هذا الإدراك السقيم الذي يسيطر على غالبية كتاب التمثيليات عندنا من بين رجال الأدب، فيجعلهم ينظرون إلى التأليف المسرحي على أنه عمل كتابي محض، فهو الذي يضرب على آثارهم بالبوار ويحرم المسرح المصري مشاركة أدباء العربية في الأخذ بيده وترقيته. بل في يقيننا أن هذا الإدراك الخاطئ قد أصاب المسرح المصري بشيء من العقم لما باعد بين الأدباء وبين المسرح.
ذلك أن الأدب المسرحي، إذا سلمنا أنه من فنون الأدب يتميز عما هو عداه بأنه يفيض عما هو مكتوب، فهو وحده من بين سائر الفنون الأدبية - ومعه الخطابة إلى حد ما - الذي يتوفر له وجودان: وجود داخل الكتاب، ووجود خارج الكتاب. وإذا أمكنه أن يستغني عن وجوده في الكتاب فلن يتأتى له أن يستغني عن الوجود خارجه، وإذا أتيح له أن لا يكون(823/3)
أدبياً فلن يجوز أن لا يكون مسرحياً.
ذلك أن النص ليس كل شيء، وإن كنا لا ننكر أهميته الكبرى، فهو نواة الدرامة والخلية الأم التي لا يمكن الاستعاضة عنها إذا فقدت. لأن الفكر إذا ما تخلى عن النص، أي عن الألفاظ والعبارات، فقد تخلى عن تحديده لنفسه وبالتالي عن وجوده خارج المفكر. وإكثار التفكير عن المسرح أمر مستحيل الوقوع، لأن المسرح إذا باعدنا بينه وبين الفكر فقد فرغناه من لبه ومن مادته الأساسية. وهذا إزراء به وحط من قدره. ولكن هذا لا ينبغي أن ينسينا أن الدراما لها لغتها، وهي غير لغة القصيدة وغير لغة المقالة والقصة؛ لأن آثار الفن الأدبي غير المسرحي إذا لم تجد قارئها المأمول يوم صدورها أمكن لها أن تنتظر قارئاً بعيداً لم يوجد بعد. يساعدها على ذلك أن كاتبها (وهو الذي نسميه الكاتب البحت) في وسعه أن يودعها كل ما في نفسه أو جله على الأقل لا يحده في ذلك من خارج فنه إلا مقتضيات اللغة العامة من نحو وصرف ومفردات وما هو من هذا القبيل. أما الكاتب المسرحي فإنه إذا أخذ نفسه بالنظر إلى الكلمة نظرة الشاعر والقصاص فراح يمد كتابه بالكلمات الرصينة والصيغ الجميلة والتراكيب المتينة المنتعشة بالحياة، دون مراعاة لما تقتضي به ظروف المسرح الخاصة، فإنه يجعل من مسرحياته أعمالاً تصلح لغير القراءة أو الاحتفاظ بها في أحد المتاحف أو المكاتب العامة لأنها في هذه الحال تكون أعمالاً جامدة في حروفها لا تستطيع الخلاص منها: فعلى كاتب التمثيلية إذن أن يحمل كلماته بتلك القوة المسرحية التي تجعل منها كلمات مسرحية ملفوظة وفاعلة.
نعم إن الكلمة تتحكم في كل شيء (الكتاب والمسرح في ذلك سواء)، فهي مندوب القلب والفكر، مندوب النفس جميعها. غير أنها في المسرح يجب أن تمر من فم الإنسان وأن تبعث الحياة والحركة في كائنات إنسانية من لحم ودم؛ يجب أن تفعل لأنها هي التي تعطي الحياة وتملي الحديث. وهي قبل أن تصيب السامع وتحركه يجب أن تصيب وتحرك جهازاً كاملاً معقداً متناثر التركيب: هو المسرح بأسره بما فيه من أشياء مادية وكائنات إنسانية. والكاتب المسرحي وحده دون المخرج والممثل هو الذي يبعث هذه الصفات في كلماته وعباراته، في القطعة التي يكتبها بجميع مقوماتها. والكاتب المسرحي الذي يستحق هذا اللقب لا يعتبر نفسه قد خلق خلقاً مسرحياً إذا ما تناول قلمه ونشر قرطاسه وراح يسجل(823/4)
عليه حلماً جميلاً من ابتكاره، غير آبه بظروف المسرح الخاصة، حتى لو كان هذا التسجيل آية في الجمال الأدبي والكمال المنطقي معا. ً أجل لا يصح لهذا الكاتب أن يعتبر نفسه أنه قد خلق عملاً مسرحياً إذا ما ألف نين جماعة تتحاب وتتباغض، تعيش وتموت، تبعاً لهواه وإرادته، دون أن يكون هذا الحلم ممكن التحقيق، ممكن (اللعب)، ممكن الظهور في الخارج وفوق خشبة المسرح. لأنه ليس في مقدور المخرج والممثل أن يخلعا على عمله ولغته من الحياة والحركة ومن الصور والأشارات ما لم يستطع هو أن يقوم به، اللهو إلا عن طريق الافتعال الظاهر، وفي هذه الحال يرى المتفرجون أنفسهم أمام قطعتين تمثلان في آن واحد ويقوم بتمثيلهما نفس الأشخاص: إحداهما ملفوظة من خلق الكاتب، والأخرى (ملعوبه) من خلق المخرج والممثل؛ أو بأن يخلقا عمله خلقاً جديداً يختلف اختلافاً جوهرياً عما أراده، وفي هذه الحال من حق كل شخص أن يتساءل لمن تنسب هذه الرواية، أللكاتب أم للمخرج وفرقته؟
نحن لا نعني بذلك أن يعمد المؤلف إلى رسم هذه الحياة في روايته بكل تفاصيلها ودقائقها حتى لا يدع شيئاً لتصرف الممثل ونزواته: فمثل هذه المبالغة تضرب على الدراما بالجمود، فهي في حاجة إلى حياة أخرى لتتفحصها وتبرزها. وإنما نعني أن يقترح على الممثل، من طريق خفي، مجموعة من الإمكانات ليختار من بينها: على الكاتب أن يشير ويبدأ، وعلى الممثل أن ينفذ ويكمل.
وهذا الذي قدمنا يفترض في المؤلف معرفة عميقة بوسائل المسرح الفنية وأن تكون له به حاسة فطرية - ولن يكون كاتباً مسرحياً دون هذه الحاسة. ويا حبذا لو أتممها في نفسه بالممارسة. فمعظم الكتاب المسرحيين الخالدين كانوا يقومون بإخراج وتمثيل ما يكتبون، مثل شكسبير ومليير. ونحن نعلم أن جان ككتو الكاتب الفرنسي المعروف الذي يقيم الآن بيننا مخرج كبير، وقد رأيته بعيني يقوم بتمثيل الدور الرئيسي لإحدى مسرحياته على مسرح الأمبسادير في باريس. ذلك أن الكاتب لا يكتب روايته للقراءة أصلاً، بل للمسرح ولمسرح خاص، ومن أجل الجمهور، جمهور خاص، ولتمثل دون تأجيل فيتحتم عليه أن يكون على معرفة عميقة بهذا المحيط.
قد يقول معترض إن اعتبار الأثر المسرحي على هذا النحو من شأنه أن يقضي على هذا(823/5)
أن يكون لاحقاً بعصره الذي ألف فيه، رهناً بالظروف التي أحاطت بكتابته، ما دامت حال المسرح في تغير دائم وهذا حق من جهة وباطل من جهة أخرى. حق لأن الكاتب يجب أن يكتب للعصر الذي يعيش فيه وأن يراعي فيما يكتب ظروف المسرح العابرة وتلك الوسائل التي في متناول يده في اللحظة التي يكتب فيها بما فيها من خير وشر، ولذلك فإنه لا يكاد يبقى من عمله للأجيال المقبلة إلا المجهود الأدبي دون العناصر المسرحية التي لا يمكن إدراكها على حقيقتها إلا للذين عاصروا تحقيق الرواية؛ ونحن نعلم أن الأثر الأدبي ليس كل شيء في المسرحية. وباطل من جهة أخرى لأن التأليف المسرحي لا يمكن أن يتخطى جيله إلى الأجيال المقبلة إلا بهذه الشروط التي أسلفنا الكلام عنها. وإذا لم يبق من عمل الكاتب بعد قرن أو أقل أو أكثر من قرن إلا كلمات، فإن هذه الكلمات تكون في تلك الحال جديرة بالاحتفاظ بشيء من هذه الحركة الفعالة الخاصة بالدرامة، فإن كان صاحبها قد كتبها بعيدة عن فكرة التطبيق كان لها جمالها ولا ريب، ولكنه جمال من نوع آخر. أما إذا أحسسنا حياة عميقة تسري في شرايينها فلا شك أن هذه الحياة إنما جاءتها من أن المؤلف قد تصورها متصلة بعصرها الذي كتبت فيه، وكتبها لتحقق وسط الحياة التي عاشت فيها ومن أنها قد حييها بالفعل وفوق المسرح أناس من لحم ودم. لأن الكلمات المكتوبة إذا كانت قد كتبت حقاً لتمر بأصوات أناس ولتتقمص صورهم وتحرك أعضاءهم وتتشكل بأشكالها فلا بد لها من أن تحتفظ بهذه الذكرى. أما إذا كتب المؤلف مسرحيته دون مراعاة لفكرة التحقيق الحالي فقد فقَدَ كيانه، وما عليه إلا أن يفتش له عن مهنة أخرى.
فالكاتب المسرحي تابع لإمكانيات المسرح، تابع لإمكانيات الممثلين، وبعد أن يصفي حسابه مع الأسلوب ومع قوانين الفن المسرحي (من الحركة، وتسلسل الحوادث، والتتابع المنطقي والفن المرئي. . . الخ) يرى لزاماً أن يلجأ إلى صاحب الملابس والمزخرف والكهربائي والميكانيكي والمخرج، ثم بعد كل هذا بل قبل كل هذا إلى الممثل. ولا شك أن فن الكاتب يصاب بأفدح الخسائر إذا كان التناسق بين هذه الوسائل مفقوداً أو كان ما في المؤلف من نقص مما يتيح للمخرج أو الممثل أن يشتغل لحسابه الخاص.
محمد القصاص
دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس(823/6)
أساليب التفكير
التفكير الفلسفي
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
الفلسفة والشعر
بل إن أطول الفلاسفة باعاً في ميدان التأمل ليس بمنجاة من شطحات الخيال، ونزوات الشعر، وضغط القصائد المكبوتة - تعصف ببنائهم الفلسفي بين حين وآخر حتى لتكاد من قوتها لدى البعض من تسلكهم في عداد الشعراء المتفلسفين، أو الفلاسفة الشاعرين. فذاك أفلاطون: برغم عبقريته الفلسفية، وتناسق مذهبه، وتكامل آرائه، تعصف به في رحلة الفكر أنواء الخيال، وتهب عليه في جفاف البحث العقلي نسمات شاعرية تتبدى في نظرية المثل وما يورد لها من تشبيهات، كقصة الكهف المشهورة التي ترى الحياة الدنيا أناساً يحيون في كهف مظلم، مقيدين حتى ليقضون العمر مولين ظهورهم لباب الكهف لا يستطيعون حراكاً، وموكب الحياة والأحياء ماض في سبيله أمام باب الكهف لا يرون منه غير أشباح وأخيلة ترسلها شمس قوية من خارج جدار الكهف. فهم لطول العهد بتلك الأشباح ولحرمانهم من معرفة الأصول التي تنبعث عنها يظنون لجهلهم ومحدود أفكارهم أنها الحقائق. كذلك شأننا في الحياة الدنيا، طال مقامنا فيها، وكبلتنا أغلال الحس وسلاسل البدن، فتوهمنا الكائنات المادية حقائق واقية، في حين أنها صور زائلة لحقائق باقية، مسوخ مشوهة لمثل كاملة؛ ثم يمضي أفلاطون الحالم بعالم كامل تتحقق فيه المثل العليا التي يطمح إليها، مثل الحق والخير والجمال، ليتمثل عالماً آخر غير عالمنا يجد فيه ملاذا من نقائص عالمنا، ثم يدعو الناس أن يحلموا معه في قول شاعري حلو يورده في محاورته (المأدبة):
(إن ما يعطي قيمة لهذه الحياة إنما هي مشاهدة الجمال السرمدي نقياً لا تشوبه شائبة، بسيطاً لا تغطيه أشكال وألوان مصيرها إلى الفناء. هذي مراحل الحب يقطعها في البحث عن ضالته، وشفاء لغليله، فهو واسطة ومساعد يحفز النفس إلى الكمال، ويبهج الذكرى القديمة: ذكرى المثل والحياة السماوية الأولى، ذكرى الفردوس المفقود تحن إليه بكل(823/8)
جوارحها. فالحب الحقيقي الكامل هو الفيلسوف يزدري الجمال الزائل الذي يملأ النفس جنوناً ليتعلق بالجمال الدائم)
وبعد فذلك تأمل أفلاطون، فلسفة تمتزج بالوجدان: فيها تطلع إلى الجمال، فيها حنين إلى عوالم مبتغاة، فيها ذكريات وحب وأمل نبيل. ولا عجب فقد زاول أفلاطون الشعر في شبابه ثم صرفه عنه أستاذه سقراط.
وهذا برجسون في العصر الحديث يتميز أسلوبه بطابع رقة وروح فنية تتبدى في منهجه الفلسفي الذي يسلكه في الوصول إلى الحقيقة، مقابلاً به منهج الاستدلال العقلي الذي يشوه الواقع ولا يزودنا منه إلا بوجهة نظر سطحية تجريدية؛ ذلك هو منهج الحدس أو الذوق كما يحلو للبعض أن يسميه. ويعرفه برجسون بأنه نوع من التعاطف العقلي يتعمق المرء بواسطته كنه الأمور وجوهرها.
وابن سينا - الشيخ الرئيس - يصوغ نظريته في النفس وخلودها وسبق وجودها على الجسد في قصيدته العينية المشهورة التي يبين فيها كيف هبطت النفس إلى الجسد من عالم آخر على الرغم منها، وكيف سجنت في ذلك الجسد وكيف تسعى إلى التحرر منه، والعودة ثانية إلى العالم النائي، عالم الروح الخالد.
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تمنع وترفع
محجوبة عن كل مقلة ناظر ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت من الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لاشك ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
ذلك شعر وخيال، ومع ذلك فقد كان الشيخ الرئيس فيلسوفاً لأنه يأبى إلا أن يبرهن على روحانية النفس وجوهريتها وخلودها برهنة منطقية.
أما محي الدين بن عربي، زعيم التصوف المذهبي في الإسلام فيتصوغ جل مذهبه قصائد شعرية، زاخر بحر الوجدان مشبوب العاطفة، يعبر عن نظرية وحدة الوجود التي ترى الكون والله كائناً واحداً لا وجودين منفصلين، وترى كل موجود مظهراً من مظاهر الله أو(823/9)
مجلى يتجلى به الله لعباده حتى ليستوي في نظره كل موجود ويتحد كل دين، يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني
وبعد فلست أريد أن أقحم نفسي في الأدب فأتمثل بشعر أبي العلاء المعري أو رباعيات عمر الخيام أو أناشيد طاغور الصوفية لأبين بغض ما تنطوي عليه من فلسفة عميقة تكسب شعر هؤلاء رصانة وتزيده رونقاً وبهاء. إنما أريد أن أخلص إلى أن النشاط الفكري تيار معقد متشابك متعدد الاتجاهات، وهو مع ذلك تيار دائب الحركة مستديم الفوران. فالعقل منذ نشأته، يحاول معرفة الواقع كما هو. وإرجاع المعلول إلى علته أو كشف الستر عن غايته. فإن كان الإنسان طفلاً في بداوة الفكر وطراوة الذهن فالخيال مزود إياه بتفسيرات لا أساس لها من الصحة، والإيمان مثبت لتلك التفسيرات لا لشيء إلا لأنها تصادف هوى في نفسه، فلا يصبح - وقد آمن - في حاجة إلى البحث عن دليل أو برهان. وما الداعي إليهما وقد اطمأن قلبه إلى ما وصل إليه من تفسير. ألا ترى إلى المصري القديم مطمئناً كل الاطمئنان إلى خلوده؟ لا خلود روحه فحسب، بل خلود جسده أيضاً؟ واثقاً من البعث حيث يلقى جزاء ما كسب وحساب ما اكتسب؟ حيث يستمتع بما استمتع به في هذه الحياة من نعيم، بل حيث يرى العوض عما حرم منه فيها من سراء؟!
ما سر يقينه ذلك الذي لا يقبل الشك؟! رغبة في الخلود قابعة في كل نفس، وسعي خفي إلى اللذة الكبرى التي تقصر عنها حياة الأرض القصيرة الغاصة بالمتاعب والآلام. رغبة محتدمة، وهوى مستبد، وطموح متطلع إلى المجهول، تسخر جميعها المطية الذلول، الخيال، ليفسر الكون ويكشف عن سر الوجود. بيد أنه عندما تكثر المعارف الواقعية وتبدو الحقائق الخافية، ويكتشف الإنسان وهمه فضلاً عن جهله، لا يجد مناصاً من مواجهة الواقع، والسعي إلى رد المعلولات إلى العلل، ونسبة المسببات إلى السبب؛ تارة في تحرر نهائي من الأهواء وتنحية للخيال، وتارة في تحرر جزئي منها دون تملك تام لناصية الأمور. إن فعل المرء ذلك قيل أنه عالم أو فيلسوف: عالم إن اكتفى بتقرير الواقع وإرجاع(823/10)
الظواهر المحسة إلى أسبابها، وسعى إلى اكتشاف قوانين العالم الطبيعي دون غيره باستخدام منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المحض؛ وفيلسوف إن أوغل في التفسير متعدياً حدود العالم الطبيعي، متجاوزاً البحث في الجزئيات إلى البحث فيما هو أعم وأرحب، مستخدماً منهج البرهان المنطقي والاستدلال العقلي. أميز هنا بين الفلسفة والعلم برغم أن العصور القديمة بل والحديثة حتى مستهل القرن السابع عشر الميلادي لم تألف هذا التمييز فكانت جماع المعارف النظرية الحرة من الأسطورة تنضوي تحت كلمة فلسفة أو حكمة؛ ولم يميز العقل الإنساني ذلك التمييز الحاسم بين شطري النشاط الفكري المتكامل، إلا في مطلع القرن السابع عشر، أي في أعقاب عصر النهضة بما خلق من نهضة علمية تجريدية قامت على أنقاض الاتجاهات الفلسفية التقليدية.
عبد المنعم المليجي
المدرس بمدارس حلوان الثانوية(823/11)
فزان بين يدي الأتراك والطليان
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 3 -
انسحاب الطليان من فزان في عام 1914:
24 - يفسر كتاب إيطاليا أن ظروف التعبئة العامة في إيطاليا أملت سياسة إخلاء المستعمرة من حامياتها في الداخل والاكتفاء باحتلال الساحل ويعدون هذا الانسحاب بمثابة نكبة كبرى على الدولة الاستعمارية، فقد كان هروباً سريع أمام الخطى قوات السنوسيين الذين توغلوا في كل جهة.
كانت برقة مهد السنوسية ولما اشتد ساعدها امتدت حركتها إلى نواحي المستعمرة الأخرى فكان الجزء الجنوبي الممتدشمالي فزان من نصيب السيد محمد العابد ابن الشريف محمد ابن علي السنوني الحسني الأدريسي الخطابي الذي بدأ الدعوة إلى الجهاد في تلك الجهات. وقد وجد السيد العابد أنصاراً له عديدين نفذوا أوامره وقاموا بنشر دعوته خير قيام منهم محمد مهدي السني ابن محمد ابن عبد الله السناري وهو من مواليد السودان.
25 - وقد انتشرت دعوته حتى وصلت إلى قبائل الطوارق وانضم إليها كثير من زعماء الجنوب الذين بدءوا يهاجمون المواقع الحصينة التي كان يحتلها الفرنسيون والإيطاليون على السواء وكان أن تألفت حكومة بدوية تحت زعامة دينية حكمت هاتيك البقاع وبقيت تحتل فزان وأجزاء من الأراضي الفرنسية طول مدة الحرب الماضية حتى تقلص ظلها بسرعة غريبة حينما أرسل نوري باشا القائد التركي ثلاثة من الضباط المغامرين الذين نجحوا في استخلاص فزان والجهات المجاورة واستعملوا أساليب السياسة والدهاء في المفاجأة في تنفيذ أغراضهم.
26 - وكانت أول غارة للثوار ضد حصن سبها الإيطالي في ليلة 27 نوفمبر 1914 إذ حصل الهجوم على الحامية ليلاً حينما علا المجاهدون أسوار القلعة وسلطوا نيرانهم وأعملوا السلاح فاضطرت القوة للتسليم إلا من تمكن من الهرب تحت الظلام منسحباً إلى سخناً في الشمال. جاء في وصف هذه المعركة أن رصاص المهاجمين كان ينهمل على(823/12)
عساكر إريتريا فنسمع أزيز المصابين كما نسمع أصوات الفيران التي أخذت في المصيدة.
ويقول الطليان أن السيد العابد هو المسؤول عن مجزرة سبها إذ انتقل سراً من الكفرة إلى واحة واو الكبيرة واتخذها مركزاً للدعاية وبعث منها بداعيته مهدي السني الذي دخل وادي الزلاف وهناك دعا الناس إليه وحرض المقاتلين على مهاجمة الحصن حتى إذا نجحوا كان على رأس الغنائم وإذا فشلوا عاد إلى سيده بواو. ولما دخلوا الحصن واستولوا عليه فأصبح طريق فزان مفتوحاً أمامهم.
27 - وما كاد يصل خبر الكارثة إلى السلطات الإيطالية حتى تيقنت بحلول الخطر على حاميتها الموزعة في فزان، فبعثت بسيارات وصلت إلى مرزوق في ليل ديسمبر سنة 1914 حملت الضباط والجنود الأوربيين وتركت الحمايات المكونة من عساكر المستعمرات تتلقى بصدورها رصاص الثوار وهي التي تولى قيادتها جاويش عربي من متطوعي الفرق اليمنية اسمه محمد بن عبد الله من قبيلة بني حبيش.
ولا شك في أن تصرف السلطات العسكرية الإيطالية على هذا النحو كان مدعاة لسقوط هيبة إيطالية في الصحراء مدة من الزمن ولم تسترجعها إلا بعد مضي سنوات طويلة.
28 - ولا بد أن نذكر شيئاً عن هذا اليمني المتطوع في صفوف الإيطاليين فهو قد بدأ خدمته في الصومال الإيطالي ضمن الجنود الذين اعتادت الحكومة الإيطالية تجنيدهم من عرب اليمن رغم أن هذا الجزء من أملاك الدولة العثمانية. وقد أظهر هذا اليمني تفانياً في خدمة إيطاليا إذ توجه في يوم 7 ديسمبر سنة 1914 إلى منزل الضباط بمدينة مرزوق فوجده خالياً فجزم بانسحابهم فقرر في نفسه أن يأخذ مكانهم، وعاد إلى القلعة وأعلم الحامية بأن الطليان قد ذهبوا إلى الشمال في صدد تلقي أوامر جديدة صادرة إليهم بمداومة القتال وسيعودون ومعهم الإمدادات. وهكذا صمد هذا اليمني على رأس القوة المحاصرة بالقلعة مدة 16 يوماً أمام الثوار المحيطين به حتى اتصل بعض هؤلاء برجال الحامية وقرروا التسليم. وتذهب الرواية الإيطالية إلى أنه أخذ العلم الإيطالي الذي كان يرفرف على القلعة وعاد به إلى منزله حيث أحرقه أمام زوجته.
29 - ولما وقع أسيراً أراد السنوسيون أن يستفيدوا من خبرته في تدريب المقاتلين وتهيئتهم للحرب على طريقة الجيوش الإيطالية فأبى: وعُدّ إباؤه من مفاخره.(823/13)
وإنما نسوق هذه الحادثة بالذات لأن المؤلفين الطليان اتخذوا منها دليلاً على صلاحية التدريب الإيطالي وتأثيره في بعض النفوس من السكان الوطنيين والوصول بها إلى درجة التضحية في خدمة الحكومة وتهمنا هذه الناحية بالذات، فإن الفرنسيين برعوا في تجنيد العناصر الملونة الأفريقية، وتقدموا في أساليبهم إلى درجة تقرب إلى الكمال فقد رأينا كيف يتعلم السنغالي القواعد الأولى بهوادة وصبر بحيث لا يتعد التعليم ساعة من النهار موزعة على دقائق معدودة تسمح لهذا المجند أن يستوعب دقائق الأسلحة بطريقة تغلب عليها قواعد علم النفس بحيث يخرج بعد أشهر وهو متحمس إلى الفرقة وللعلم ولفرنسا.
فإلى الذين يتولون تدريب النشء على القواعد العسكرية نسوق هذه الأمثلة للتدليل على أن تجارب علم النفس هي التي يجب أن تسير على هديها للتغلب على المصاعب التي تواجهنا في تهيأة منظمات الشباب وتدريب الجنود: إذ يصعب على النفس أن تقرر نجاح المستعمر الغاصب وقصور الأمم الفتية الناهضة.
30 - هذه الناحية من حياة فزان طوال عام 1915 و1916 تحت الحكم السنوسي تكلم عنها ضابط إيطالي وقع في أسر السنوسية وأعتقل في معسكري واو الكبير وواو الناموس وطبيعي أن معلوماته التي دونها في يومياته مستقاة مما كان يصل إلى علمه عن طريق الثوار الذين عاش بينهم.
أما الفترة العثمانية التي تولى فيها الضباط الأتراك حكم الولاية فستأتي في القسم التالي وقد تخللها هجوم من المتطوعين وعمليات حربية داخل الأراضي الفرنسية في الصحراء الكبرى وأراضي الجزائر والجزء الجنوبي من تونس وهي خارجة عن نطاق فزان وأشير على المهتمين بجهاد الأمم المظلومة والمغرمين بالتاريخ الحربي أن يقرءوا كتاب الكولونيل عن:
,
استيلاء الأتراك على فزان وانتزاعهم الجزء الجنوبي من مستعمرة ليبيا من أيدي حلفائهم السنوسيين.
31 - ظهر في أفق أفريقيا في أواخر عام 1916 نوري باشا شقيق المرحوم أنور باشا إذ وصل إلى السلوم وتوجه منها إلى إجدابية ثم غادر بزقة في غواصة أوصلته إلى مسراطة(823/14)
التي اتخذها مع من معه من الضباط الألمان والأتراك مركزاً لحركاتهم العسكرية ضد الإيطاليين وهي عمليات لا شك أنها خارجة عن موضوع فزان.
32 - وكان نوري باشا في إيجابية حينما عرضت عليه فكرة من تلك الأفكار التي لا يتركها تمر أمامه رجل مثله بدون أن ينفذها. وتتلخص هذه الفكرة في أن مهمته في طرابلس الغرب لن يلازمها للتوفيق إذا لم يدعم جهاده بعمل حاسم في الجنوب يرى إلى احتلال مقاطعة فزان وتحريرها من السنوسيين حتى يتمكن من تهديد المستعمرات الأفريقية للحلفاء أي فرنسا وبريطانيا. باتجاه الصحراء الكبرى وشمال السودان المصري.
لذلك أرسل بعثيين إلى الجنوب الأولى وجهتها الفكرة والثانية وجهتها فزان.
33 - كانت بعثة فزان مكونة من ثلاثة ضباط: (إحسان ثاقب) و (سنوسي شوكت) و (محمد الأرناؤطي) أما الأول فكان يوزباشياً من أهالي طرابلس وتخرج من المدارس العسكرية العثمانية وامتاز بقوة إرادة هائلة وكان الثاني من أهالي برقة تعلم في مدرسة المدفعية وحصل على رتبة الملازم. أما الثالث فكان من الضباط المغامرين الذين لا يقف أمامهم عائق وهو من كريد.
34 - فلنتصور قوة صغيرة تغادر إجدابية وتتجه إلى الجنوب وتمر بالمراده وبير نعيم وزيلة وتكاد تهجم من قطاع الطرق ونظراً لضعفها، تضل إلى انتزاع إقليم مثل فزان وتهدد منه المستعمرات الأوربية الأخرى.
فعلى الطريق الواقع بين أوجله ومرزوق افترق الثلاثة أبطال. أما أولهم فاتجه رأساً إلى عاصمة فزان حيث دخلها وأقام حكومة باسم السلطان بانضمام قوات السنويين إلى لوائه. أما الآخران فكانت وجهتهما وأو الكبير حيث استقبلهما السيد العابد السنوسي بحفاوة زائدة وأطلقت المدافع ترحيباً بهما وقدماً إليه هدايا سلطان تركيا وفرماناً بمنحه رتبة الباشوية كما وزع النقود الذهبية على الجنود والأتباع.
وكان القصد من هذه الحركة الأخيرة اشتغال السيد العابد حتى لا تتجه أنظاره إلى فزان وما يقوم به الضابط الثالث.
35 - ولم يكد الضابطان يغادرا واو الكبير متجهين جنوباً حتى وصلت الأنباء بالحركة التي قام بها ثاقب في مرزوق ولذلك وجه السيد العابد قوة من رجاله تحت قيادة صهره(823/15)
السيد العاشب زحفت على مرزوق وأجلت الأتراك عنها واستعملت كل وسائل العنف والتشريد مع الأهالي. ثم اتجهت شمالاً إلى الأبيض حيث التقت بالقوة التي جمعها الضباط العثمانيين وهناك دارت معركة فاصلة انتهت بهزيمة السيد العابد وأسر صهره العاشب الذي حوكم على النهب والقتل الذي ارتكب في مرزوق فأعدم شنقاً في سبها ولما وصلت هذه الأنباء إلى السيد العابد غادر واو الكبير منسحباً إلى الكفرة.
36 - إن هؤلاء الضباط من أهل طرابلس الذين تلقوا تدريباً عسكرياً في مدارس الأتراك قاموا بعمل من أعظم الأعمال فهم كان اعتمادهم على الجنود الوطنيين الذين جندتهم الدولة العثمانية في السابق ثم على الجنود خدموا في الجيوش الإيطالية وأخيراً حينما توطد شأنهم عرفوا كيف يضمون الجنود الوطنيين من المغاربة والطوارق والسنغال إلى صفوفهم.
37 - إن هذه الصفحة خطيرة وهي تكاد تقنعنا بمخاوف الدول الاستعمارية في أفريقية بأكملها إذا قدر لها أن تواجه في المستقبل رجالاً من هذا النوع فيهم التصميم والإرادة ومواجهة الأخطار ومن هذا نفهم جيداً مركز فزان في القارة الأفريقية. لأن الذي يسيطر عليها بوسعه أن يملأ السودان والصحراء بالدعوة والدعاية التي يريدها. ويهز الاستعمار الأوربي.
وقد جاء في كتاب الكولونيل لارشيه الذي أشرت إليه ذكر بعض عمليات ترتب عليها تسليم مراكز عسكرية فرنسية بعتادها في الحرب العالمية الأولى.
38 - ويشير صاحب كتاب طرابلس
أن الحكومة التي أنشأت بفزان استطاعت أن تربط مرزوق بخط تلغرافي مع مسراطه باستعمال زجاجات المياه المعدنية لحمل الأسلاك وذكر أنه لجأ إليهم ولقى لأول مرة معاملة مدنية ورأى بعينه حركة القوافل والاتصال بين الشمال والجنوب وإلى رجالها يرجع الفضل في ترحيله إلى مسراطه حيث ضم إلى معسكر الأسرى الإيطاليين فاتصل بالعالم لأول مرة وعرف أهله بوجوده حياً يرزق بعد أن كانوا قطعوا الأمل من حياته.
وقد بقيت فزان تدار بمعرفة هؤلاء ما دامت حكومة مسراطه قائمة حتى أمضيت الهدنة 1918 فانسحب الألمان والأتراك ثم رأس الحكومة (رمضان الشتوي) ثم ساد فزان عهد من الفوضى نتيجة للنزاع الداخلي.(823/16)
31 - وفي سنة 1921 جاء (فولبي) حاكماً للمستعمرة فاتجه إلى احتلال مسراطه ثم أقرت الحكومة الفاشستية سياسة القمع والفتح والتشريد فأخذت 11 عاماً بين 1918 و1929 للوصول إلى فزان.
ومن دروس هذه الحقبة وتجاربها أخذت الدولة المستعمرة بمجرد استعادتها لهذه الأراضي تنفذ برنامجاً واسعاً لرصف الطرق، وأنشأت حصونها على أحدث طراز منها الذي يعد أقوى الحصون الدائمة في المنطقة وهو في مدينة سبها. وسنرى في القسم التالي مشاكل إيطاليا وقوادها مع فزان وأهلها.
أحمد رمزي
(يتبع)(823/17)
عبد الله بن مسعود
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
(وعاء ملئ علماً) عمر بن الخطاب
الرحمن علم القرآن:
تلك قريش في جبروتها متربصة بمن يجيب داعي الله ويشهد لمحمد بالرسالة. فما يلم به من آمن إلا في خفاء، ولا يتلو أحد مازال الله إلا همساً أو من وراء جدر. وإن قريشاً لتبالغ في الإيذاء وتمعن في العقاب، يخشى ألسنتها من له قوم عديدون، ويتوقى إذا من حرم الكثرة والأتباع، فكيف بمن لا أهل له ولا عشيرة. وأولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تسللوا إلى حيث يجتمعون وبينهم فتى يوشك أن يبلغ الحلم، ذلكم هو عبد الله ابن مسعود. قال أصحاب الرسول: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟ قال ابن مسعود: أنا ذلك الذي يجهر لهم فقالوا وهم يرون جسمه الذي تقتحمه العين لفتى ما له في مكة من ركن شديد: إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إذا أرادوه فقال: دعوني فإن الله سيمنعني.
وما راع قريشاً في أنديتها ضحى ذلك اليوم إلا صوت يتردد في جوانب البيت ينبعث من عند مقام إبراهيم: (بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان. . .) واستقبل السورة يرتلها فاستقبلوا صاحب الصوت فإذا هو عبد الله ابن مسعود، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ما يقول ابن أم عبد؟ فأجاب منهم مجيب: إنه يتلو ما جاء به محمد، فاندفعوا إليه يضربون وجهه، ولكنه ما يكف بل جعل يقرأ وهم يضربون حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثرت بوجهه ضربات القوم ولطماتهم ولعل أشدها كانت لطمة عدو الله أبي جهل. قال له أصحاب الرسول وقد رثوا لحاله: هذا الذي خشينا عليك فقال: ما كان أعداء الله قط أهون علي قط منهم الآن ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
إنك غلام معلم
كان أبوه مسعود وأمه أم عبد قد تركا قومهما هذيل الذين يسكنون جبل السراة قريبا من(823/18)
الطائف وأقاما بمكة حيث حالف مسعود عبد الله بن الحارث بن زهرة خال زوجه أم عبد والدة عبد الله بن مسعود، ولما صار غلاماً يافعاً اشتغل برعي الغنم لعقبة ابن أبي معيط من سادات قريش، وبينما هو قائم كعادته أقبل رسول الله ومعه أبو بكر فقال يا غلام هل معك من لبن؟ قال: نعم ولكني مؤتمن، فقال له ائتني بشاة لم تحمل ولم تلد، فأتاه بواحدة فجعل الرسول يمسح ضرعها ويدعو الله حتى درت فأتاه أبو بكر بإناء فاحتلب فيه ثم قال لأبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم بعده، ثم قال للضرع: أقلص فقلص فعاد كما كان. هذا وعبد الله يشهد ويسمع فقال: يا رسول الله علمني من هذا الكلام فمسح رأسه وقال: إنك غلام معلم.
لقد أسلم عبد الله فكان من السابقين وترك غنم عقبة فأخذه الرسول وجعله في رعايته، فلقد كان أبوه حليف أخوال الرسول وإن جدته لتمت بصلة القرابة إلى أخوال الرسول، وعقبة من رؤوس الشرك ولن يبقى عليه بعد أن أصبح من أتباع محمد فكان يخدم رسول الله: يلبسه نعله، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام. حدث أبو موسى الأشعري قال: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن، وما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. وتمر الأيام ويشتد أذى قريش للمسلمين فيهاجر جماعة منهم إلى الحبشة وفيهم عبد الله ثم يهاجرون إلى المدينة ومعهم عبد الله.
هذه رأس أبي جهل:
نحن في العام الثاني من هجرة الرسول في غزوة بدر الكبرى وهذا أبو جهل ملقى بين الجرحى وقد أمر الرسول أن يلتمس في القتلى فوجده عبد الله بن مسعود بآخر رمق فوضع رجله على عنقه قال أبو جهل قد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً أخبرني لمن الدائرة فقال لله ولرسوله وإني قاتلك، قال أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي فقتله وحمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال الرسول: الله الذي لا إله غيره؟ ورددها ثلاثاً، قال نعم، ثم ألقى رأسه بين يدي الرسول فحمد الله تعالى وسجد شكراً له.
لقد عاش عبد الله حياة الرسول مقرباً منه أثيراً عنده قال له مرة: اقرأ علي سورة النساء، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عبد الله حتى(823/19)
بلغ: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم
وأمره مرة أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها فنظر أصحاب الرسول إلى حموشة ساقيه - أي دقتهما - فضحكوا، فقال النبي: ما يضحككم؟ لَرجْلا عبد الله في الميزان أثقل من أحد
في أيام الخلفاء:
كان عبد الله في حياة أبي بكر مع الجيوش التي سارت إلى الشام، وكان موكلاً بأمر الغنائم وشهد موقعة اليرموك، ثم رجع إلى المدينة فكان مقرباً إلى عمر، قال زيد بن وهب: إني لجالس مع عمر إذ جاءه بن مسعود، يكاد الجلوس يوارونه من قصره، فضحك عمر حين رآه فجعل يكلم عمر ويضاحكه وهو قائم ثم ولى فأتبعه عمر بصره حتى توارى، فقال: (وعاء ملئ علماً) ولما أنشأت الكوفة، كتب عمر بن الخطاب إلى أهلها: (إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي).
ظل عبد الله بالكوفة حياة عمر، وزمناً من أيام عثمان، فلما كادت فتنة القراءات تقع بين المسلمين، كلف عثمان جماعة من الصحابة وعلى رأسهم زيد بن ثابت أن ينسخوا المصحف الذي جمع أيام أبي بكر، وأرسل عثمان إلى مكة والكوفة والبصرة ودمشق ما نسخ بعد أن أبقى مصحفاً بالمدينة سمي المصحف الإمام وعين زيد بن ثابت أن يقرأ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وأمر أن يحرق ما عدا هذه الخمسة المصاحف إذ كان فيما عداها بعض الاختلاف اللفظي الذي كان مأذوناً فيه من قبل توسعة على المسلمين. حينئذ تأثر عبد الله بن مسعود لأنه كان يرى نفسه أولى من زيد بن ثابت بالإشراف على نسخ المصاحف، ولعله كان يرى أن يستمر جواز ما كان مأذوناً فيه؛ يضاف إلى هذا أن له مصحفاً بعض الاختلاف، ويتناوله الأمر بالإحراق، هذا إلى أن كثيراً من التابعين من أهل الكوفة تلقوا عنه فقال: لقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله(823/20)
وما أنا بخيرهم ولو أني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته. وقال: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة - وفي رواية سبعاً وسبعين - وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان) لكن خشية الفتنة التي أطلت برأسها وخوف أن يدخل في القرآن ما ليس منه والحرص على وحدة المسلمين جعل سيدنا عثمان ومن حوله من كبار الصحابة لا يعبئون بأي اعتراض، ولقد سبق أن كلف أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن في مصحف واحد مما كان مكتوباً، وشهد شاهدان أن هذا المكتوب هو عين ما سمعه كاتبه من فم الرسول فلم يبد عبد الله بن مسعود اعتراضاً، لأن ذلك كان جمعاً للقرآن خوفاً عليه من الضياع بوفاة حفاظه، ولم يأمر أبو بكر بالاقتصار بما جمع وحرق ما عداه مما كتبه آخرون أو حفظوه، أما سيدنا عثمان فقد ألزم الناس - وهو محق - بالاقتصار عليه وعبد الله يعلم أن جامعه هو زيد بن ثابت ويرى أنه أولى منه لسبقه في الإسلام ويعلم أن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى والصحابة يقرأ كل منهم كما علم لهذا كان منه ما قال. قال ابن شهاب الزهري: بلغني أن رجلاً من أفاضل الصحابة كرهوا مقالة عبد الله بن مسعود. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري: والعذر لعثمان في ذلك أنه فعل بالمدينة وعبد الله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر وأيضاً فإن عثمان إنما أراد نسخ التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفاً واحداً، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كان كاتب الوحي فكانت له أولية ليست لغيره)
ولقد بلغ سيدنا عثمان ما قاله عبد الله، فأرسل إليه يأمره بالقدوم عليه بالمدينة ولعله خشي أن يظل في العراق يلقن مصحفه الذي يدخل تحت إباحة (أنزل القرآن على سبعة أحرف. . .) فاجتمع الناس على عبد الله بالكوفة فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه فقال عبد الله: إنه على حق الطاعة ولا أحب أن أكون أول من يفتح باب الفتنة) وتوجه إلى المدينة واستغنى عما كان مفروضاً له من العطاء.
دخل عليه عثمان مرة يعوده في مرضه فقال له ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك(823/21)
بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً) فلما توفي رضي الله عنه سنة 32هـ دفع عثمان مجموع ما كان مفروضاً له وامتنع عنه إلى ورثته. وقال أبو الدرداء حينما بلغه موت عبد الله: ما ترك بعده مثله.
من مصحفه وبعض قراءته:
أجمع الأئمة على أن ترتيب الآيات توقيفي فقد كان بأمر الرسول جاء به جبريل من الله العزيز الحكيم أما ترتيب السور فالصحيح أنه ليس توقيفياً، ولهذا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيبها فمصحف علي كان مرتباً حسب نزول السور يبدأ بالمكي ثم المدني وأكتفي بذكر ترتيب السور العشرة الأولى من كل مصحف، ولمن شاء المزيد أن يرجع إلى الإتقان وكتاب المصاحف.
المصحف المشهور مصحف أبي مصحف ابن مسعود مصحف علي
1 - أم الكتابأم الكتابالبقرةاقرأ
2 - البقرةالبقرة النساءن
3 - آل عمران النساء آل عمران المزمل
4 - النساءآل عمرانالأعراف المدثر
5 - المائدةالأنعام الأنعاماللهب
6 - الأنعامالأعرافالمائدةوالشمس
7 - الأعرافالمائدة يونسالأعلى
8 - الأنفاليونس براءةوالليل
9 - براءةالأنفال النحلوالفجر
10 - يونسبراءة هودوالضحى
وهذه مقارنة بين بعض ما روي من قراءة عبد الله والقراءات الصحيحة السند المشهورة:
القراءة الصحيحة السند ما روي من قراءة أبن مسعود
1 - اهدنا الصراط المستقيمأرشدنا الصراط المستقيم(823/22)
2 - صراط الذين أنعمت عليهمصراط من أنعمت عليهم
3 - فأزلهما الشيطان عنهافوسوس لهما الشيطان عنها
4 - إن البقر تشابه عليناإن البقر متشابه علينا
5 - وإثمهما أكبر من نفعهماوإثمهما أكثر من نفعهما
6 - إنما وليكم الله ورسولهإنما مولاكم الله ورسوله
7 - والمتردية والنطيحةوالمتردية والمنطوحة
8 - لا يظلم مثقال ذرة لا يظلم مثقال نملة
9 - إن كانت إلا صيحة إن كانت إلا زقبة
10 - كالعهن المنفوش كالصوف المنفوش
تلاميذه وأثره
لعبد الله أثر في قراءة الكوفة سواء كانوا من السبعة أو من العشرة، أم من الأربعة عشر فقد تلقى عنه عاصم ابن ضمرة والحارث بن عبد الله وزر بن حبيش وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو عمرو سعد الشيباني وعبيدة بن عمرو والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع وزيد بن وهب وعلقمة بن قيس وعبيد ابن نضلة وأبو الأسود الدؤلي. وإلى هؤلاء - الذين انفرد بعضهم بالأخذ عنه، وبعضهم جمع إليه الأخذ عن غيره من الصحابة والتابعين - تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي من السبعة وخلف من العشرة والأعمش من الأربعة عشر هذا إلى جانب ما تلقوه من رواة آخرين عن صحابة مختلفين.
لكن هؤلاء الذين رووا لنا قراءة ابن مسعود وغيره اقتصروا على ما وافق الرسم العثماني وتركوا ما خالف ذلك تبعاً لأمر الخليفة واتباعاً لإجماع المسلمين فأصبح ما يروى مخالفاً للرسم العثماني من قراءته وقراءة غيره كأبي بن كعب وعلي وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وغيرهم يستدل به في التفسير ويستعان به في التشريع ولا يعول عليه في الصلاة والعبادات مع العلم أن هؤلاء السابقين وغيرهم وافقوا عثمان وأقروه ولزموا ما وافق رسم المصحف الإمام والواقع أن ما يروى عنهم مخالفاً له لا تتفق في ضبطه الروايات ما ذلك إلا لهجران الأئمة الثقاة تحمل روايته وتكلف حفظه والعناية بتحقيقه فأصبح سنده منقطعاً. وشرط صحة التعبد بالقرآن أن يكون صحيح السند إلى جانب ما اشترطوه من موافقة رسم(823/23)
أحد المصاحف العثمانية ولو احتملا وموافقة العربية ولو بوجه من الوجوه، أما اختلاف القراءات السبع وغيرها من القراءات الصحيحة فيرجع السبب فيها إلى أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف التي أمر بنسخها سيدنا عثمان كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، فلما أمر بحرق ما عدا تلك المصاحف وأن يسيروا على رسم واحد ثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً من الصحابة بشرط موافقة الرسم العثماني ولو احتملا وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن؛ فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين برسم وخط واحد.
عبد الستار أحمد فراج
المحرر بالمجمع اللغوي(823/24)
عود على بدء:
من الأعماق
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
كتبت في العدد 819 من (الرسالة) الغراء قصة (من الأعماق)، وتركتها - كما هي الحياة - بدون خاتمة، وانتظرت رأي عقل القارئ العزيز لعله ينير السبيل لقلبين، فانثالت علي الرسائل من كل ناحية، فاجتمع لي منها آراء اعرض بعضها على صفحات (الرسالة). وأنا - إذ أفعل - أدير الكلام على طريقتي وأسلوبي، لي الأسلوب والأداء، ولأصحاب الرسائل الرأي والفكرة:
جاء في رسالة الأديب عيسى الأشعري بأسيوط - بعد كلام طويل - ما يأتي:
سيدي - يا حضرة الضابط الفاضل - أنت تؤمن بأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت. فدعني أجثو أمامك في خشوع وأنحني لك في احترام، أنشق عبير روحك الوثابة وأقبل ثرى وطئته قدمك الطاهرة، وأستمتع ساعة باستجلاء طلعتك الصارمة، أحي فيك الشجاعة، والشهامة والرجولة. وحين رجعت إلى أرض الوطن الغالي - عائداً من الميدان - رأيتك يا قلب مصر النابض، وأملها البسام، وعلمها الخفاق، فخفق لك قلبي واهتزت مشاعري، لأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت. آه لو استطعت فاقتحمت هذا الجمع الزاخر وهو يفوز ويضطرب لأقف بين يديك أقدم لك نبضات قلبي ووثبات فؤادي وصلوات روحي!
تلك هديتي إليك، فقلبي قد تفتح عن تقدير لك وإجلال، وفؤادي قد انتشى بعطر إيمانك الزكي، وروحي قد هفت نحو زهرات شبابك النظير المتألق. فأنت بعثت فينا - من أطواء الزمن - روح العزة والكبرياء.
لقد قلت لي - إذ ذاك - (إنني أنا القنبلة التي يقذف بها عاهل البلاد العظيم في وجه العدو فتتفجر هدامة مدمرة، وأنا المدفع يطلقه القائد الأعلى على صفوف الطغاة فلا يخطئ ولا يخيب، وأنا السيل العرم الذي يتدفق فيجرف في تياره الجناة وإن عتوا وتجبروا).
هذه الشجاعة، وهذه العقيدة، وهذا الأيمان، كل أولئك - يا سيدي - أشرقت نوراً يتلألأ(823/25)
على جبين الوطن فينعكس على صفحات التأريخ فخراً تنحني له هامة الزمن، وتخضع أعناق الجبابرة. . .
وحين سللت سيفك زها وأشرق تاريخ الوطن، وثارت حميته، وتأججت كبرياؤه، وتألقت فيه روح الحرية. وحين قذفت في الميدان بالحديد والنار، ارتد العدو على أدبارهم خاسرين، وانهزموا أمام عزمك صاغرين، وفزع كل ذي طمع، وذعر كل ذي مأرب. وحين أصررت وتقدمت في الشجاعة، وصبرت في إيمان - حينذاك - انطوى العالم بين جناحيك في ذلة وصغار، وصمتت السن كانت لولاك سليطة بالباطل، جريئة على الحق. فدعني - يا سيدس - أجثو أمامك في خشوع، وأنحني لك في احترام، لأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت!
هذا أنت - يا سيدي - في نفسي، أما هذه المعركة القلبية، فأنت إن ظفرت بها خسرت هدوء قلبك وراحة نفسك. غداً يجذبك عملك الشريف عن دارك فتذر زوجك وحدها، فتذهب وما في خيالك سوى خاطرة واحدة، فأنت ما تبرح ترى بعيني قلبك شبحاً يضطرب حول دارك يوشك أن يلجها في غيبتك. سيثور بك الشك، وتلتهمك الريبة، وتصفعك الغيرة، فتعيش في غيرة قاتلة تصرفك عن الواجب المقدس. فدع الفتاة تنطلق إلى فتاها، في الأرض مراغم كثيرة وسعة.
ستقول: هذه فتاة عاقلة متعلمة تقضي حق الزوج وترعى واجبها، وهي من بيت راسخ الأرومة طيب الجرثومة، يتدفق في عروقه دم الشرف والأباء منذ الجد الأول. ولكن هل لها غير قلب امرأة وعاطفة الأنثى وروح الإنسان؟ ستخلو حيناً إلى نفسها تحدثها حديثاً طويلاً لو اطلعت عليه لوجدت مس الفزع والرعب في نفسك. . . فدع الفتاة تنطلق إلى فتاها. . .
وإذا انكشفت القصة كلها أمام الأب فرأى نوازع قلب ابنته سافرة واضحة، فإن تجاربه ستدفعه حتماً إلى أن يتلمس لها السعادة التي تريد، وسيضن لها أن تقضي عمرها في مضطرب من الأفكار يعصف بها اليأس ويقصمها الأسى!
وفي رسالة الأستاذ محمد أحمد شكم المدرس بمدرسة سعيد الأول بالإسكندرية رأى يشبه رأي الأديب الأشعري.(823/26)
وإن في رأي صديقي الأستاذ عباس خضر المنشور في العدد 820 من (الرسالة) حلاً سايكلوجياً عجيباً، فهو يرى (أن يبتعد عادل قليلاً ويترك المعركة تدور بين كرامة جلال - ولا بد أن يستشعرها مع الزمن والتكرار - وبين فتور إلهام وإعراضها عنه، ويبعث عادل بالمدد إلى قلبها من بعيد، وسترى الأم سوء حال أبنتها فتشفق عليها وتتحول إلى جانب عادل فتكون عاملاً مهماً في إنهاء الموقف، بحيث يرى الضابط ضرورة فوز كرامته في المعركة بالانسحاب. . .)
هذا رأي العاطفة والقلب، أما أصحاب الرأي الثاني، رأي العقل والمنطق، ففي مقدمتهم الأديبة الآنسة سلوى الحوماني، ففي رسالتها يتحدث عقل المرأة وقلبها في وقت معاً، فكلاهما ثائر هادئ، يطعن في هوادة ويصفع في رفق، وهي قد استهلت رسالتها بقولها: وإني أشكر كاتب قصة (من الأعماق)، لأنه أتاح لي فرصة أخوض بها غمار هذا الموضوع وهو من صميم الحياة. إن الفتاة لتجد حرجاً كبيراً في أن تتحدث - علانية وفي صراحة - في مثل هذا الموضوع، لأنها تشعر في قرارها بالرجعية العقلية تدفعها عن هذا المضمار؛ وهي حين تتنحى عن إبداء الرأي ترتكب خطأين: الأول، أنها تذر الموضوع يفقد نصف الحياة حين يفقد نصف الرأي. والثاني، أنها تفر من ميدان الحياة وهو ميدانها.
ثم تتدفق بعد ذلك تقول:. . . ويجب أن ينسحب عادل من هذا الميدان، فهو يغالط نفسه حينما يزعم أنه يحب الفتاة حب قلب وعاطفة وتضحية، وهو لو صدق لما انقطع عن زيارتها سنة كاملة، لأن (أباها نهاها عن أن تدخل حجرة فيها الأستاذ عادل، إلا أن يؤذن لها).
هذا - ولا ريب - سبب تافه ضئيل لا يستطيع أن ينهض عذراً لمن يحب فينطوي سنة كاملة عن من أحب. لقد أراد أن يثأر لكرامة خدشت - كزعمه - فهل عجز عن أن يلقى فتاته خفية وفي مأمن من الرقيب، أو قعد عن أن يرسل إليها رسولاً يحدثها حديث قلبه وينشر عليها ذات نفسه، وهو رجل ذو حيلة ورأي؟ لقد كان يستطيع أن يفعل لو أراد، فإذا ضاقت به الحيلة أو خانه الرأي، انطلق إلى أبيها في غير وناء ولا تريث يكشف أمامه رغبة قلبه وأمل حياته، أو طار إلى أبيه هو يخبره الخبر كله، ولكنه لم يفعل شيئاً، بل وقف على حيد الطريق ينظر إلى الركب وهو يسير، ثم يزعم - بعد ذلك - أنه يحب فتاته(823/27)
حب قلب وعاطفة وتضحية.
والفتاة أيضاً كاذبة فيما تزعم، فهي تتصنع لفتاها وما بها إلا التصنع، ولو أنها أحست له حباً صادقاً لما وافقت - بادئ الرأي - على أن تتزوج من جلال، ولاستطاعت أن تجد التعلات والأسباب لترفض أو تؤجل، ولما قالت لعادل تعتذر: (وخفت أن أطرد خطيبي فأتخلف عن الركب، وإن شبح ابنة عمي ليضطرب في ناظري كلما ذكرت الخطبة والزواج، فهي قد تأبت حيناً على الزوج أنفة منها وصلفاً. وهي الآن قد أشرفت على الأربعين ولما تجده، لقد فاتها الركب، وتخلفت عن القافلة).
هذا حديث خلو من الروحانية القلبية، لا يحمل عاطفة، ولا ينبض بإحساس.
هذا النوع من الحب فيه فورة الشباب وجموح العاطفة فحسب، والحب في أي صورة من صورة لا يصح أن يكون أساساً للسعادة الزوجية، لأنه ضعف عقلي يسيطر على الفتى والفتاة في سن الطيش والاندفاع، فيتمثل لهما صوراً أخاذة وأضواء خلابة تخطف البصر وتخلب اللب.
ولا عجب، فإن بناء أساسه هذا الضعيف يوشك أن ينهار!
وأخيراً، إن فتاة في الثامنة عشرة من سني حياتها لا تستطيع أن تختار فتاها اختياراً فيه الرأي والعقل والتجربة.
لقد اختار أبوها، اختار برأيه وتجاربه وأبوته، وهي ألقت السلم لرأي أبيها - بادئ ذي بدئ - فلو أن عادلاً ظل منزوياً لأصبحت إلهام زوجاً لجلال لا تلقي بالاً إلى من زعمت إنها تحبه.
والآن، كيف يخول عادل لنفسه أن يقتحم باب الفتاة ليغريها بأمر، وكيف تطاوعه هي، وهي توشك أن تكون زوجاً وربة دار، فليستشعر عادل رجولته وإنسانيته، ويذر العش ترفرف عليه أجنحة السعادة والطمأنينة. . .
وكتب الأديب صبري علوان بجامعة فؤاد ما يأتي:
إن القصة التي ذكرت - يا سيدي - هي قصة صديق لي هو في نفسي أخ، وفي قلبي حبيب. وهو رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه القوة والفتوة، فيه العلم والأدب، وفيه الرقة والظرف، وهو موظف حكومي لا يملك غير راتبه، وموظف الحكومة الآن رجل فقير لا(823/28)
ترمقه عين، ولا يغبط على حال.
أما هي ففتاة في مستهل الحياة، مشرقة كالضحى، ندية كالفجر، رشيقة كالغصن، نضيرة كالزهرة، تتأرج عطراً وحياة وجمالاً. . . جمعهما الحب وتعاقد قلبهما على أمر. ثم جاء الفتى الثاني يخطب الفتاة إلى أبيها وبين يديه الثراء والشباب والجاه، فوافق الأب، واستسلمت هي. . . وترامى الخبر إلى صاحبي، فتوارى إلى الأبد عن عيني فتاته حين أحس أنها ستجد السعادة والرفاهية في دار خطيبها. . . توارى وفي قلبه الأسى والكمد، وضحى بقلبه في سبيل من أحب. . . فهل يستطيع عادل أن ينسج على هذا المنوال؟
وقال (فتى الأندلس) في رسالة افتتحها بتحية حارة مشكورة إلى كاتب (من الأعماق):
. . وإلهام فتاة عاقلة حصيفة تفحص الأمور بعقلها فحسب، ودليلي على ذلك قولها: (وحين وافقت على رأي أبي كنت قد خشيت أن تكون قد طردتني من نفسك لأنك نأيت عني). . . فهي إذن قد هفت نحو جلال، واستشعرت ميلاً له، ونسيت عادلا. أما العاطفة التي بدت لعادل منذ أن كان وكانت. فلم يكن حباً عميقاً يسمو على النوازع المادية، ويعلو على الخواطر الأرضية، بل كانت ألفة عقلية استشعراها لأنهما عاشا صديقين حيناً من الزمن. لهذا أرى أن ينسحب عادل ليذر الحياة تنطلق بالخطيبين إلى غايتها.
هذه آراء بعض صحابي من قراء (الرسالة)، وللباقين - ممن تنطوي آراؤهم تحت هذه المعاني - تحيتي وشكري، ثم عذري عن أن أذكر حديثهم.
أما رأي الحياة في هذه المشكلة، فسأقصه في العدد القادم - إن شاء الله - ولطالما امتدت يد الحياة إلى مشاكلنا لتحلها بطريقة عجيبة تسخر من المنطق البشري. . .
كامل محمود حبيب(823/29)
إيوان كسرى
للأديب كاظم المظفر
ازدهرت الدولة الفارسية في عهدين من عهودها التاريخية المهمة: العهد الأول، أيام سابور المعروف بـ (ذي الأكتاف)؛ والعهد الثاني، أيام الملك العادل كسرى انوشروان. فقد تنازع هذا مع ملك روما الذي كان العدو الأول للفرس وأول منافس لكسرى. وقد حاربه وتغلب عليه في عدة مواضع بعد أن واصل هل زحف جيشه إلى مجاهيل أفريقيا واليابان والصين والروس فأصبحت إمبراطوريتهم من أعظم إمبراطوريات العالم.
وكانت عاصمة ملكهم (طيسبون). وذلك أيام الملوك الساسانية وكثير ممن سلف من ملوك فارس الأولين. وتقع هذه المدينة في الجانب العربي للمدائن من أرض العراق، ولكن سابور بن هرمز حول العاصمة إلى الجانب الشرقي من المدائن، وسكن هناك بعد أن بنى الإيوان المعروف بـ (إيوان كسرى) لهذه الغاية. . . وإنما سمي الإيوان باسم كسرى دون أن يسمى باسم بانيه سابور لما أدخل عليه الثاني من محسنات كثيرة في هيكلة كالزخرف والنقش وإقامة التماثيل بعد أن أتم الأماكن الناقصة من بناء هذا الإيوان، إذ لم تتسن لسابور إتمام بنائه قبل موته.
والإيوان ينبئنا عما وصلت إليه الحضارة الفارسية من تقدم ورقي وازدهار. وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي في وصف المدائن: (لم تزل المدائن دار مملكة الأكاسرة ولهم بها آثار عظيمة وأبنية قديمة منها الإيوان العجيب الشأن. لم أر في معناه أحسن منه صنعة ولا أعجب منه عملاً) وقيل إنما سميت هذه المدينة بالمدائن لكثرة ما بنى بها الملوك والأكاسرة وما أبقوا فيها من الآثار وهي على جانبي دجلة شرقاً وغرباً ودجلة تشق بينهما.
ومن أهم الأسباب التي دعت ملوك فارس إلى جعل عاصمتهم في المدائن موقعها الجغرافي الحسن وهواؤها الطيب النقي وتربتها الصالحة وماؤها العذب. ويقال - في هذا الصدد - إن الإسكندر المقدوني نزل المدائن وسكنها بعد أن جال في ربوع الأرض وبعد أن وطئ السهل والجبل فلم يختر منزلا من منازل العالم التي رآها وفتحها سوى المدائن. وقد بنى بها مدينة عظيمة وجعل عليها سوراً أثره واضح حتى وقتنا هذا. إلى أن توفي فيها وحمل تابوته إلى الإسكندرية؛ لأن أمه كانت مقيمة هناك ودفن عندها.(823/30)
ولما فتح المسلمون بلاد الفرس واستولوا على المدائن تحت قيادة سعد بن أبي وقاص في صفر سنة 16هـ وهي السنة الرابعة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرب المسلمون ما خربوا من قصورها وانتهبوا ما انتهبوا من رياشها وأثاثها، ووصل عمل التخريب إلى إحراق ستر باب الإيوان فأخرجوا منه ألف ألف (مليون) مثقال من الذهب. فبيع المثقال بعشرة دراهم وبلغ ذلك عشرة آلاف ألف (10 ملايين) درهم. وقد جعل سعد بن أبي وقاص الإيوان محطاً لرحله وصلى فيه صلاة النصر بثماني ركعات.
وأنشئت في الدور الإسلامي الأول مدينة البصرة والكوفة فانتقل الناس إليهما. وما كاد المنصور يختط مدينة بغداد ويبنيها حتى تهافت الناس عليها وهجروا المدائن شيئاً فشيئاً حتى أصبحت أكثر العمارات خاوية والبنايات والقصور قفراً.
ولقد أراد الرشيد أن يهدم الإيوان وشاور في ذلك يحيى بن خالد البرمكي حين كان معتقلاً عنده إثر الفاجعة المعروفة فأشار عليه بأن لا يفعل، ولكن الرشيد أصر على رأيه في هدم الإيوان، وشرع في تخريبه. ثم نظر فإذا يلزمه في هدمه أموال طائلة لا طاقة له بها، فأمسك عن ذلك وكتب إلى يحيى يعلمه الخبر فأجابه أن ينفق في هدمه مهما بلغ من الأموال ويحرضه على فعله. فعجب الرشيد من تناقض كلامه وبعث إليه يسأله عن هذا. فقال: أما ما أشرت عليك به في الأول فلأني أردت بقاء الذكر لأمة الإسلام وبعد الصيت، وأن يكون من يرد في الإعصار ويطرأ من الأمم في الأزمان يرى مثل هذا البنيان العظيم فيقول إن أمة قهرت أمة هذا بنيانها لأمة عظيمة شديدة منيعة. وأما جوابي الثاني فأردت به نفي العجز عن أمة الإسلام كي لا يقول من يأتي في الإعصار الآتية إن هذه الأمة عجزت عن هدم ما بنت فارس. . . فلما بلغ الرشيد ذلك قال: قاتله الله فما سمعته قال شيئاً قط إلا صدق فيه ثم أعرض عن هدم الإيوان.
أما الآن، فلم يبق من ذلك البناء الشامخ إلا طاقه وجناحاه. وقد ورد أن هذا الإيوان من أعظم أبنية العالم، وهو مبني بالآجر على مرتفع من الأرض طوله (150) ذراعاً، في عرض مثلها، وأمامه ميدان طوله (80) ذراعاً في عرض (25). وقيل سعة الإيوان من ركنه إلى ركنه (90) ذراعاً وارتفاعه (80) ذراعاً. وقد تهدم هذا الإيوان ولم يبق منه في القرن السابع الهجري على ما ذكر ياقوت. إلا طاق يعرف بطاق كسرى، وهو طاق عظيم(823/31)
بني بالآجر طول كل آجر نحو ذراع في عرض أقل من شبر. وكان فيه من التماثيل والصور شيء كثير: منها صورة كسرى أنوشروان وقيصر ملك إنطاكية وهو يحاصرها ويحارب أهلها.
وأما المدائن فقد أصبحت شبه قرية في الجنب الغربي من دجلة أهلها فلاحون، شيعة أمامية. ومن عاداتهم أن نساءهم لا يخرجن نهاراً أصلاً. وفي الجانب الشرقي منها مشهد الصحابي المعروف سلمان الفارسي رضوان الله عليه، وله موسم يذهب الناس إليه لزيارته والتبرك به ويكون ذلك في منتصف شعبان من كل سنة. وكان على مقربة من الإيوان قبران محترمان يرقد فيهما الصحابيان: عبد الله الأنصاري، وحذيفة ابن اليمان فأشرفا على الغرق لأن يه دجلة كانت - ولا تزال - تنال من الشاطئ، فنقلت الحكومة بقايا رفاتيهما إلى جامع سلمان الفارسي في عام 1350 هـ بمهرجان عسكري فخم.
وقد شاهدت الإيوان منذ سنة تقريباً فرأيته لم يبق من عظمته غير الطاق المرتفع الذي يطاول السحاب بعلوه. أما ما وصفه (البحتري) من تلك الصور المنقوشة على الإيوان كصورة كسرى وجنوده وقواده وهم يتقدمون إلى جيوش أعدائهم الرومان. وصورته والجارية الحسناء تقدم له كأس الشراب وقد أحدقت به المغنيات والراقصات. كل تلكم الصور وأمثالها لا وجود لها الآن في الإيوان فقد انطمست أعلامها وانمحت آثارها. والفرق واضح بين ما كان عليه الإيوان في عصر الدولة العباسية وبينه في عصرنا الحاضر.
وكان من ولع شعراء العرب بوصف ما يرونه من آثار الطبيعة وما فيها من جمال وسحر، أو تجهم وعبوس، أن تطرقوا إلى عظمة هذا الإيوان، وذلك حين كانوا يقفون على أطلال المدائن الخاوية فيتصورون أن أهلها أحياء يسيرون في الأزقة والشوارع بدعة واطمئنان وأن الملوك في وسط قصورهم مع بلاطهم وحاشيتهم وما عليهم من ثياب مزركشة وحلل زاهية فتستفز هذه الأخيلة قريحة أولئك الشعراء وتحرك هذه المناظر قيثارتهم الشعرية، فيروحون ينشدون قصائدهم التي تفيض بعواطفهم المكبوتة إزاء ذلك الملك الذاهب فيأتون بالشعر والسحر الحلال. وكان من بين الذين شاهدوا عظمة الإيوان وما فيه الشاعر الأرجاني الذي رأى التماثيل الموجودة في الإيوان فنظم قصيدته الرائعة التي لم تدعه إلى(823/32)
نظمها عصبية الفرس - كما يدعي البعض - وإنما كان استجابة لطبع الشاعر وتلبية لسجيته المطلقة التي دعته إلى وصف بعض الصور الجميلة التي شاهدها. وكان من هذه القصيدة قوله:
رأيت عجيباً والزمان عجيب ... رجالاً ولكن ما لهن قلوب
تماثيل في صخر فحيت كأنها ... بنو زمن لم يلف فيه أريب
نزلنا وفوداً في حماها ولم يكن ... لنا من قراها في الوفود نصيب
فنحن لدى كسرى إبرويز غدية ... نزول ولكن الفناء جديب
بظاهر قرميسين والركب محدق ... حواليه فيهم جيئة وذهوب
لدى ملك من آل ساسان ماجد ... وقور عليه التاج وهو مهيب
مكان المناجى من خليليه واقفاً ... وإن عز منهم سامع ومجيب
يرينك من تحت الحوادث أوجهاً ... بها من تصاريف الزمان شحوب
وقاموا على الأقدام لا يعتريهم ... مدى الدهر من طول القيام لغوب
وقصيدة شاعر الدولة العباسية أبو عبادة البحتري التي وصف بها الإيوان فكانت آية من آيات التصوير الشعري بعد أن سارت مسير المثل لما فيها من وصف بديع بعد أن ذكر جميع ما رأى من النقوش والتماثيل التي ارتسمت على جدران الإيوان وما أحيط به من العظمة والجلال. . . وهاهو يقول في أولها يمتدح نفسه:
صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جدي كل جبس
وتماسكت حين زعزع عني الد ... هر التماساً منه لتعسي ونكسي
إلى أن يقول في وصف الإيوان مشيراً إلى ما فيه من زخرف وتصاوير:
لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت منه مأتما بعد عرس
فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا موائل وأنوشر ... وأن يزجى الصفوف تحت الدرفس
وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منه وإغماض جرس
وكأن الإيوان من عجب الصد ... عة جوب في جنب أرعن جلس
مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس(823/33)
ليس يدري أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس
وقال ابن الحاجب في وصف الإيوان ويخاطب بانيه ويذكره بتقلب الدهر وعثرات الزمن:
يا من بناه بشاهق البنيان ... أنسيت صنع الدهر بالإيوان
كتب الليالي في ذراها أسطراً ... بيد البلى وأنامل الحدثان
إن الحوادث والخطوب إذا سطت ... أودت بكل موثق الأركان
ولشاعر قريش السيد الشريف الرضي يفتخر بالإسلام وقوته على الفرس وذلك في ذي الحجة 397هـ وقد اجتاز بالمدائن ونظر الإيوان فبهره منظره وأنشد في ذلك:
قربوهن ليبعدن المغارا ... ويبدلن بدار الهون دارا
إلى أن يقول:
قد نزلنا دار كسرى بعده ... أربعاً ما كن للذل ظوارا
وإذا لم تدر ما قوم مضوا ... فسل الآثار واستنب الديارا
آل ساسان حدا الخطب بهم ... واسترد الدهر منهم ما أعارا
كل ملموم القرى صعب الذرى ... يزلق العقبان منه والنسارا
جعجعوا الإيوان في مبركة ... مبرك البازل قد فض السفارا
مطرقاً إطراق مأمون الشذا ... غمر النادي حلماً ووقارا
أو مليك وقع الدهر به ... فأماط الطوق عنه والسوارا
ويحكي أن الملك جلال الدولة البويهي اجتاز بالإيوان فكتب عليه.
يا أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... بديار كسرى فهي معتبر الورى
غنيت زماناً بالملوك وأصبحت ... من بعد حادثة الزمان كما ترى
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مر على المدائن عند ذهابه إلى حرب الخوارج في النهروان. . . فلما رأى آثار كسرى وقرب خراجها قال رجل ممن معه:
جرت الرياح على رسوم ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
وإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد
فقال علي: أفلا قلتم كما قال الله عز وجل: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام(823/34)
كريم، ونعمة كانوا بها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منتظرين).
وكان ممن زار المدائن وشاهد القصر الأبيض - الإيوان - الإمامان الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب (ع) وذلك حين قتل أبوهما وقد توجها إلى المدائن فلحقهما الناس بساباط فحمل على الحسن رجل من أهل الكوفة فطعنه في فخذه، وسبقهم الإمام حتى دخل قصر المدائن فأقام فيه نحواً من أربعين ليلة ثم توجه إلى معاوية بن أبي سفيان وصالحه.
ومن العلماء الذين وقفوا على أطلال الإيوان علم الهدى السيد المرتضى الذي استثارت المناظر قريحته وطفق ينشد من قصيدة معروفة منها:
يا زميلي أنخ بشرقي سابا ... ط مناخاً على الركائب دحضا
قد رأينا الإيوان إيوان كسرى ... فرأينا كالطود طولاً وعرضا
وترى العين منه أبهة الملك ... وعيشاً لأهله كان خفضا
حيث كانت ضلوع من ولج الأ ... يوان ينفض بالمخافة نفضا
ولعل أحسن من وصف الإيوان من المعاصرين شاعر النجف السيد محمود الحبوبي في قصيدته العامرة (وقفة على طاق كسرى) يقول في أولها:
قفا واسألا أعجوبة الزمن الكبرى ... عن الأعصر الأولى وعن ربه كسرى
لقد شاهد الأجيال والدهر يافع ... وشاهدها والدهر محدودب ظهرا
هنا كان كسرى أم هنا لست دارياً ... سلا هذه الجدران فهي به أدرى
وأنشد في الإيوان أيضاً الشاعر النجفي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي قصيدة عامرة أولها:
قف في المدائن واستنطق بها العبرا ... عن ألف جيل وجيل فوقها عبرا
واستعرض الدهر أشكالاً منوعة ... فيها لتعرف من أحوالها صورا
واستخبر الرسم عنها حين تقرؤه ... فسوف يعطيك عن تاريخها خبرا
والعين إن تك قد فاتتك رؤيتها ... فلا يفوتك منها أن ترى الأثرا
ويقول فيها مخاطباً الإيوان:
أنشودة أنت للأجيال خالدة ... لذاك أضحى فم الدنيا لها وترا
وآية طأطأ الدهر الخطير لها ... لما تسامت على عليائه خطرا(823/35)
وفكرة في دماغ الفن زاولها ... قرناً فقرناً ليبديها فما اقتدرا
حتى إذا نضجت أفكاره ولدت ... نتيجة ترهب الأجيال والعصرا
كاظم المظفر
(النجف - العراق)(823/36)
في تكريم أبطال الفلوجة
للأستاذ العوضي الوكيل
دارت رحاها، واستمر مريرها ... وظغت زمازمها، ولج قتيرها
حميت على الأسد الغضاب دروعها ... فانداح في لجج الفضاء زئيرها
من كل أروع تطيبه شهوة ... للنصر. . . يفلح جانبيه سعيرها
يمضي إلى غاياته، وكأنه ... قدر يبيد خصومة، ويبيرها
في كفه كأس المنون روية ... وعلى العدا الباغين راح يديرها
هل في صوارمه، وفي آماله ... إلا أماثيل يرام نشورها
أخت تضام فكيف ينكل دونها ... إن لم يجرها فالفناء مجيرها
وشقيقة أخنت عليها عصبة ... أمصارها أسلابهم وثغورها
هتفت إلى أين النصير، فإن ينم ... عنها. فأين على الزمان مجيرها؟
يمضي لها شاكي السلاح مقذف ... خفاق ألوية العلا، منشورها
أرأيت للأبطال في (فلوجة) ... قصصاً تألق في العيون سطورها
إن أغطشت دنيا الكفاح، تألقت ... فأضاء آفاق الكنانة نورها
فصل من التاريخ ترنو نحوه ... حقب الزمان وتشرئب عصورها
حرب العزائم تلك. خاب عجولها ... وتطاحن الأرواح، فاز صبورها
وجزيرة في لبيد تصخب حولها ال ... لجج الهوادر ما يخف هديرها
إن يندفع موج إلى شطآنها الش ... ماء ردته هناك صخورها
ما كان من سور هناك فإنما ... جلد الرجال على المكاره سورها
العسكر المحصور في أرباضها ... جن تثور فلا يطاق ثؤورها
حلفت بمصر فصدقت أيمانها ... مهج يفيض على الرمال طهورها
ما راعها قصف الحديد وفتكه ... كلا، ولا نار يفور زفيرها
راح الكفيف بها يسدد رميه ... فيصيب أبعد ما يصيب بصيرها
يد خالق الأكوان ترمي دونه ... فيقيم من تقديره تقديرها
وإذا التقى الإيمان في قلب امرئ ... بالعزم أيسر في الحياة عسيرها(823/37)
أبطال مصر هفت لكم أنسامها ... وشدت بكم فوق الغصون طيورها
في كل منعطف، وكل ثنية ... دنيا يفيض حبورها وسرورها
في حيث سرتم يغتدي ريحانها ... بسطاً. وتنتظم الطريق زهورها
حتى السماء. رمت عليكم طلها ... بشراً. ووذ على الحشود مطيرها
وتلفت الملك الهمام لجيشه ... في نظرة لا يختفي تفسيرها
عاش المليك لمصر قائد نهضة ... سارت، وفي نعماه كان مسيرها(823/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
توفيق الحكيم في كتاب عن الأدب المعاصر:
سيدي الأستاذ
قرأت لك كل ما سطره قلمك منذ أن تناولت قلمك لتكتب. تتبعت فصولك النقدية في (العالم العربي) ثم تتبعت بعد ذلك مقالاتك وتعقيباتك في (الرسالة)، وكما تبدي رأيك في الغير فلا بأس أن أبدي رأي فيك. إن ملكتك الناقدة هي خير ملكاتك جميعاً، بل هي خير ملكة إذا ما وضعت ملكات النقاد المعاصرين في الميزان!. . . بالله لا تتعرض لهذه الكلمات بالحذف إذا ما نشرت هذه الرسالة وعقبت عليها، إنها رأي حر يبديه فيك إنسان قرأ أكثر ما أخرجته المطبعة في الشرق والغرب من دراسات نقدية، إنسان يزن أقدار الناس ويؤمن بما يقول. . . ولولا إيمانه برأيه لما لجأ إليك يسألك بعض العون في فصل من فصول كتاب يضعه منذ شهور عن الأدباء المعاصرين!
إنني أعرف أنك صديق قديم لهذا القصاص العبقري توفيق الحكيم وليس من شك في أنك قد درست شخصيته الفنية من خلال كتبه دراسة ناقد، ودرست شخصيته الإنسانية من خلال معرفته دراسة صديق، أعني أنك تستطيع أن تربط ما بين الشخصيتين لترسم لنا صورة دقيقة لهذه الشخصية المزدوجة التي تبدو لعيني مبهمة ولفكري معقدة. . .!
إن شخصية توفيق الحكيم هي الشخصية الوحيدة التي أقف منها دائماً موقف الشك وعدم الثقة من ناحية وزنها والحكم عليها، حتى هؤلاء الذين اتصلت بهم من معارفه ليحدثوني عن طبيعته النفسية كما هي في واقع الحياة والفن، لم يستطيعوا للأسف أن يمدوني برأي فاصل أطمئن إليه؛ يبدو أنه مبهم حتى على الذين يعرفونه ويتصلون به. . . لست أدري إن كنت سأجد عند قلمك مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة! إنني أرجو إذا تحققت هذه الأمنية ألا تسبب لك هذه الرسالة بعض الحرج إذا ما كشفت عن أشياء قد لا ترضي صديقك. . . مهما يكن من شيء فلا تنس أنك تؤرخ للأدب، وأن النكوص عن ذكر الحقائق في سبيل إرضاء الصداقة من شأنه أن يجرح التاريخ الأدبي والضمير الأدبي، وهذا هو الانحراف الذي أنزه قلمك عن الوقوع فيه!(823/39)
إنك تعلم ولاشك أن النقد الأدبي الحق هو ما قام على دراسة أدب الكاتب مرتبطاً بشخصيته، لأن الأسلوب من الرجل كما يقول بوفون، وكل دراسة لا يتحقق لها هذا الجانب تفقد عنصراً خطيراً يهدد قيمتها الفنية بالضياع!. . . على هذا الأساس أريد أن تكتب، ولا أطلب منك صفحات فإن سطوراً تقدم لي مفتاح هذه الشخصية تكفيني. ولا أطلب منك تطبيقات فحسبي أن تمدني بالقاعدة العامة وعلي أنا أن ألتمس المثال!
وفي انتظار كلمتك الفاضلة، أرجو أن تتقبل تحيات المقدر لفنك.
محمد عادل المرصفاوي
قسم الدراسات العليا - جامعة فاروق
أشكر للأستاذ الفاضل هذا التقدير الذي يسبب لي كثيراً من الحرج. . . لقد ظن أن الحرج سيتمثل في نقدي لشخصية الأستاذ توفيق الحكيم الفنية، ولكن الحرج كل الحرج يتمثل في هذه الكلمات التي تخصني بثناء لا أستحقه! يا صديقي، آمل ألا يدفعك الإعجاب بكاتب إلى الغلو في تقديره، وبخاصة في هذا الكتاب الذي ستخرجه في القريب عن الأدب المعاصر وتقيم فيه الميزان لأقدار الأدباء. . . إن رسالتك لتنبئ عن عقلية ناضجة حقاً وفهم أصيل لقيم الدراسة النقدية، وفي هذا ما يطمئنني على أن كتابك سيكون له في رحاب النقد الأدبي مكان!
إنه ليسعدني أن أقدم إليك كل ما في حدود الطاقة من عون. . . سأقدم لك رأيي في فن الأستاذ الحكيم مرتبطاً بشخصيته، وهو رأي أقمته على دراسة أعتقد أن عناصرها قد اكتملت على هدي صلتي به وقراءتي له. إنني أوافقك على أن هذه الشخصية تحتاج إلى كثير من التثبت قبل الأقدام على الكتابة عنها والحكم عليها، لأنها من الشخصيات التي لا تتكشف لدارسيها إلا بعد تأمل وعناء!
أرجو أن أضع بين يديك (مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة) في العدد القادم إن شاء الله. وثق أنني سأحدثك عن توفيق الحكيم الصديق بما يرضي الحق وحده والفن وحده، وللأستاذ الفضل تحيتي خالصة.
لحظات أخرى مع جان كوكتو:(823/40)
الكاتب الفرنسي مشغول. . . مشغول بمقابلاته، ومشغول بمسرحياته، ومشغول بجولاته الفكرية وتهويماته الفنية، ومعنى هذا أن زائره لن يظفر من لقاءه إلا بالرأي الطائر والحديث العابر، وهذان أمران يقنع بهما مندوب صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية لينقل إلى القراء لمحات خاطفة عن جان كوكتو!. . . أما أنا فقد حاولت أن ألقاه لقاء أديب يود أن يجلس إليه ساعات يسأله عن كل شيء ويتحدث معه في كل شيء: في أدب القصة، في أدب المسرحية، في الموسيقى، في التصوير، في النقد الأدبي، في الشعر، في كل تلك الفنون التي يشارك فيها جان كوكتو ويستطيع أن يتحدث عنها حديث خبير. حاولت أن ألقاه هذا اللقاء ولكنه اعتذر بضيق وقته وكثرة شواغله، مما لا يتيح لزائره غير فترة يقضيها معه ويخرج منها بالرأي الطائر والحديث العابر. . . وكما اعتذر إلي عن هذا اللقاء الطويل فقد اعتذرت إليه عن هذا اللقاء القصير، بعد أن قدمت إليه تحيتي وتحية (الرسالة) وبعد أن تلقيت خالص شكره على التحيتين مع رجائه بتلبية رغبتي إذا تهيأت له فسحة من الوقت في مقبل الأيام!
لا بأس إذن أن نقضي مع جان كوكتو لحظات من تلك اللحظات العابرة التي قضاها معه مندوب (المصور) وخرج منها بهذه الآراء العابرة التي تحمل بعض اللمحات والتوجيهات سأله مندوب (المصور) وخرج منها بهذه الآراء العابرة التي تحمل بعض اللمحات والتوجيهات سأله مندوب (المصور): هل شاهدت مسرحيات مصرية؟ ما هي ملاحظاتك عليها؟ ألم توح لك مصر بكتابة شيء عنها؟ ما رأيكم في آثارنا؟ وأجاب الكاتب الفرنسي بأنه لم يشاهد غير قصة سينمائية مصرية واحدة، حفلت بالحشو والتعقيد وكأنها عشرة قصص في قصة! أما الإخراج فيعج بالمبالغات والحركات المفتعلة والانفعالات المتلاحقة المتباينة التي لا تفهم. . . إن الفيلم المصري في رأي كوكتو لا يهدف إلى فكرة، وإن المؤلف الحق هو من يهدف بقصصه إلى الدعاية لفكرة، وكلما بسط هذه الفكرة وأوضحها وفق ونجح في الوصول إلى هدفه، واستطاع أن يخرج بعمله من إطار المحلية في الفن إلى نطاق العالمية! أما مصر فقد قال عنها كوكتو إنها أوحت إليه الكثير. . . لقد انفرد بأبي الهول ساعات في النهار والليل، وصادف من قلبه منزلة حسنة فباح له بسره، أما هذا السر فسيحمله إلى المصريين كتاب يود كوكتو أن يفرغ منه في الشهور المقبلة، كتاب يقبس(823/41)
أسلوبه السحر من وحي النخيل الباسق على ضفاف النيل! بعد هذا يقول كوكتو إنه زاد دار الآثار العربية ورأى فيها أشياء عظيمة رائعة، ولكن طريقة عرضها خاطئة. . . إنها مكدسة كما لو كانت في مخزن!
هذه الآراء الناضجة يبديها فنان ناضج، يملك من رهافة الذوق وعمق الخبرة وطول المران ما يعنيه على النظر الثاقب، والحكم الصائب، والتقدير الممتاز. . . إن كل ما نطلبه من كتابنا القصصيين، ومخرجينا السينمائيين، والمشرفين على صناعة الفلم المصري، هو أن يتدبروا هذه الكلمات لأن الذي ينطق بها هو جان كوكتو لا الأستاذ يوسف وهبي! وما نطلبه من هؤلاء نطلبه من أولئك الذين يقومون بأمر دار الآثار العربية، وحسبهم أن الذي يوجههم إلى الأصول الفنية في عرض تحفنا وآثارنا هو جان كوكتو أيضاً لا الدكتور زكي محمد حسن!
أما الشيء الذي نطلبه من الكاتب الفرنسي فهو أن يكون صادقاً في إصغائه لكلمات أبي الهول، أميناً في نقل حديثه ونجواه. . . إن أبا الهول لا يمكن أن يتجنى على وطنه، لأنه عاصر تاريخه، وأشرف على حضارته، وبارك منذ خمسة آلاف عام مجده الخالد؛ إننا في انتظار كتاب جان كوكتو لننظر فيما إذا كان قد استمع لكلمات محدثه أم انقاد لنزوات هواه!
جولة في معرض الفن الإيطالي:
هذا المعرض الممتاز إقامته بسراي الخديوي إسماعيل بثكنات قصر النيل جمعية محبي الفنون بالقاهرة، بالاشتراك مع متحف بينالي بمدينة البندقية بإيطاليا. . . ولقد ساهم في إعداده كثير من المتاحف وقاعات العرض العامة بميلانو وفلورنسا والبندقية وبليزانس وتريستا، وأصحاب المجموعات الخاصة؛ أما المدارس الفنية التي يمثلها هذا العدد الكبير من اللوحات التصويرية الرائعة، فموزعة بين النيوكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والذاتية والسريالية.
سأقدم إليك مما شاهدت بعض لوحات ممتازة إذ يضيق النطاق عن التحدث عن كثير. . . اللوحة الأولى (أولاد الأمير والأميرة تروبتسكوي) للفنان الرومانتيكي الملهم دانيال رانزوني. ستلمس في هذه اللوحة عبقرية التلوين والتظليل. . . إن رانزوني ينقلك بظلاله وألوانه إلى آفاق وافنشي وموريللو ويوسان، ولكنه يختلف عنهم في ظاهرة الميل بفنه إلى(823/42)
الأجواء القاتمة المحجبة، تلك الأجواء التي تخضع لأثر البيئة في مزاج الفنان. . . لقد كان رانزوني من أبناء مقاطعة يغلب فيها الضباب على الإشراق، ومن هنا انعكس الدور الذي عاش فيه بحسه على الفن الذي عاش بروحه، وما الفن كما قلت غير مرة إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!
أما اللوحة الثانية فهي (الحصان الميت) لأبرع فناني إيطاليا في القرن التاسع عشر جيوفاني فاتوري. . . إن فاتوري لا يمكن أن يسمو بظلاله وألوانه إلى مقدرة رانزوني، ولكنه يبزه ويتفوق عليه في مجال الفن التعبيري. إن مزية هذا الفنان تتركز في ريشته التي تنقل إلى الورق أدق ما في الحياة من لمحات؛ نظرة واحدة إلى لوحته الفريدة تنبئك بأن هذا الرجل الواجم المطرق الملتاع، لا يملك من دنياه غير هذا الحصان الملقى تحت قدميه. . . هنا وجه معبر تطلق الريشة من قسماته أعمق معاني اليأس والألم والدموع! هل تعرف دي لا كروا في دقة تعبيره؟ إن فاتوري يذكرك بهذا الفنان!
تعال بعد ذلك لنتأمل هذه اللوحة الثالثة (حنان الأم). . . إن مبدعها ترانكيلو كريمونا يمتاز بالجمع بين موهبتين: التلوين والتعبير. أما التلوين فطريقته فيه تختلف عن طريقة زملائه، ' ن ألوانه على القرب متداخلة، باهتة، تمتزج فيها الأضواء بالظلال ولكنها على البعد شيء آخر. . . إنها تبدو لعينيك متناسقة، مشرقة، متميزة ببراعم التصميم! أما في مجال التعبير فإن هذه اللوحة تذكرك بلوحة أخرى لرفائيل هي (العذراء والطفل). . . إن كريمونا يكاد يقترب من رفائيل في تصويره لأسمى معاني الأمومة في نظرات السيدة العذراء، وفي تعبيره عن أرفع معاني البنوة في نظرات السيد المسيح!
وقف طلايلاً أمام هذه اللوحة الرابعة، إنها (الهجوم على عربة الحشائش) لحامل لواء المذهب الواقعي في إيطاليا فيليبو باليتزي. . . إن هذا الفنان يمتاز بالحساسية المرهفة؛ الحساسية التي تطبع أعماله الفنية بطابع الحركة الجياشة المتدفقة. تمثل هذه اللوحات عدداً من المواعز يهجم في نهم بالع على عربة محملة بالحشائش. . . أنعم النظر في وثبات المواعز وفي تلك النشوة المنبعثة من عيونها وهي مقبلة في ثورة الجوع على غذائها الحبيب، لتلمس كيف يشيع باليتزي الحياة والحركة في لوحته، وكيف يغرقها في جو من الواقعية التي تطبع الفن بطابعها القوي الصادق المتميز. . . إن الحركة في فن باليتزي(823/43)
تذكرني بمثيلتها في فن رمبرانت!
بقي أن أشير إلى لوحات أخرى تغري بالتأمل وإطالة الوقوف وهي: (الراحة) لأنطونيو فونتانيزي، (وموسيقى المشاة) للويجي نونو، و (رجل يقرأ) لجينوبي أباني، و (الحظيرة) لباليزي صاحب (عربة الحشائش)، و (غروب الشمس في سان مورو) لفونتانيزي أيضاً. . . أما الحجرة التي تقع إلى اليمين وأنت تتخطى الباب الخارجي فلا تحاول أن تدلف إليها حتى لا يفسد ذوقك، إنها حجرة السير ريالزم!!
إيفات على قبر غاندي:
هل تعرف هذا الرجل العظيم هربرت إيفات؟ إنه وزير خارجية أستراليا، والرجل الذي هز أعماق الضمير الإنساني حين وقف أكثر من مرة ليدافع عن حقوق الأمم الصغيرة أمام هيئة الأمم المتحدة! لقد شاهدته فبل أيام في إحدى الصحف اليومية وهو يحج إلى قبر الروح العظيم؛ شاهدته يقف وقفة العابد المتبتل يضم يديه في خشوع إلى صدره، وكأن القبر الذي أمامه قد استحال إلى محراب! ولقد خيل إلي في وقفته تلك أن عينيه تسران إلى القلب حديثاً فيه رؤى ما كان أروعها وأطياف. . . إن هربرت إيفات كان يتحدث في لغة الصمت إلى الرجل الذي وهب قلبه للإنسانية وضحى بحياته من أجل السلام. ترى ماذا كان يقول له وهو في رحاب الأبد وفي ضيافة السماء؟ وأية كلمات تلك التي انطلقت من نظراته الحالمة لترطب الثرى المعطر برفات رجل السلام والوئام والمحبة؟. . . لعله كان حديثاً عن الإنسانية التي مات فتها الضمير يوم أن امتدت إلى غاندي يد لطخها العار فأطفأت الشعلة وعصفت بالضياء، وأي ضياء هذا الذي خبا يوم أن قضى الروح العظيم والقلب الكبير، وترك الحياة من حوله تغيش تحت قبضة الظلام؟. . . ما كفرت بالضمير الإنساني إلا بعد أن قتل غاندي، وما كفرت بالضمير الإنساني إلا بعد أن وقف إيفات ليدافع عن حقوق الضعفاء فضاع صوت الحق وسط ضجيج الباطل وخفت صداه. . . ترى أكان إيفات يتحدث إلى غاندي عن خيبة الأمل وضيعة الرجاء، أم كان يسأله الرأي ويستمد من روحه العون ويقضي حقوق الوفاء؟!
أنور المعداوي(823/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
شعر المناسبات:
قلت في العدد الأسبق من (الرسالة) بصدد الكلام على قصيدة (موكب الأبطال) للأستاذ علي محمود طه: (وبعد فقد قام شاعرنا الكبير بحق البطولة على الشعر وجاءت قصيدته عملاً ممتازاً ينبغي أن ينظر فيه الشعراء الذين يؤثرون الهرب من المجتمع والانطواء على عواطفهم الشخصية وخيالاتهم البعيدة عن مضطرب الحياة. . .) الخ
قال لي صديق من الشعراء، وقد قرأ ذلك: أتدعو إلى شعر المناسبات؟
شعر المناسبات؟ تلك كانت قضية أثارها بعض الكاتبين منذ زمن، فأزروا بمن يحملون أنفسهم على القول فيمل لا يشعرون به بدافع المجاملة أو الملق أو حب الظهور أو غير ذلك من دوافع النظم الذي يخلو من حرارة التعبير الصادق.
ولكن قل لي بالله أيها الصديق: إذا جاءت مناسبة قومية أو اجتماعية فخالجت نفس المشاعر أو هزت مشاعره واستجابت لها شاعريته، أنقول له: امسك عليك لسانك فهذا شعر مناسبات؟
المسألة ليست شعر مناسبات وغير مناسبات إنما هي شعر صادق وشعر متكلف، وكما يكون كل منهما في شعر المناسبات يكون في غيرها، فكم من شاعر يتملح بالحب والوجد والهيام وهو لا يعرفها غير ألفاظ!
حقاً إن كثيرين من المتهافتين على مائدة الشعر يكثرون من التزييف في المناسبات، ولكن الصيرفي الحاذق يميز الصحيح من الزائف، فلا يرفض النقود كلها لأنه هناك مزيفين كثيرين.
فلم محمد على الكبير:
درست وزارة الشؤون الاجتماعية موضوع إخراج فلم عن حياة محمد علي باشا الكبير يصور مختلف مراحل حياته وأعماله العظيمة وفتوحاته المجيدة، ليكون ضمن مظاهر الاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على وفاته. ويرجى أن يكون هذا الفلم دعاية لمصر لما(823/46)
سيعرضه من روائع تاريخها في تلك الفترة التي وضع فيها أساس مصر الحديثة، إلى أنه العمل الفني الذي يعتبر الأول من نوعه في مصر التي لو سئلت الآن عن إنتاجها من الأفلام الثقافية لصمتت صمتاً يخرجها منه فلم محمد علي المنتظر.
وقد أرسل معالي وزير الشؤون إلى دولة رئيس الوزراء مذكرة بنتيجة دراسة هذا الموضوع، وهي تتلخص في أن اللجنة المؤلفة لإعداد المشروع قد انتهت من وضع مشروع القصة وقدرت نفقات إنجاز الفلم باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية بمبلغ 80000 جنيه وقد أبدت شركة مصر للتمثيل والسينما استعدادها لتنفيذ هذا المشروع، على أن تعاونها الوزارات التي يحتاج الفلم إلى معاونتها فيه وأن تمنحها الحكومة إعانة مالية قدرها 30000 جنيه، تردها إلى الحكومة إذا بلغ إيراد الفلم مقدار نفقاته.
هذا وقد كتبت بعض الصحف تشير إلى أن يستعان ببعض الأجانب في تأليف قصة الفلم وكتابته (السيناريو). وهو رأي لا أراه على شيء من الصواب، لأنه فلم قومي ولا بد أن يشتمل على نواح قد تصطدم برضاء بعض الدول الاستعمارية التي كانت تناوئ مصر وتعمل على إحباط مساعي محمد علي، كما حدث في حرب المورة وإرسال الأساطيل إلى الإسكندرية.
فإذا قيل أن من نختارهم للعمل في الفلم من الأجانب سيعملون تحت إشرافنا وإنهم لن يستطيعوا أن يشوهوا مفاخرنا، أقول: كيف نحملهم على تزويد الفلم بالحرارة القومية التي لا يشعر بها إلا المصريون؟
إن إعداد الفلم وإخراجه بأيد مصرية يكسب الحياة ويلبسه الروح الوطني المنشود ولو جاء غير مستكمل لأسباب الكمال الفني ثم هي فرصة طيبة لتجربة الجهود المصرية وتدريبها في هذا المجال.
بيان وتعقيب:
التقيت بالأستاذ عبد الرحمن الخميسي على أثر ما كتبته عن قطعتين له هما (فليا يافليا) و (حلم الزواج الساحر) وكان قد اتصل بي بالتلفون قبل اللقاء كما ذكرت في الأسبوع الماضي وتحدثنا بالموضوع فأفضى إلي بوجهة نظره فيه، هي تتلخص في أن تينك القطعتين من (أوبريت الأرملة الطروب) التي قصد بترجمتها إلى العربية نقل فن من(823/47)
الموسيقى الغربية إلى الأسماع الشرقية لتتعود هذا النغم، عسى أن يؤدي ذلك إلى ترقية الموسيقى العربية، وأنه حين ترجم القطعتين كان في جو تلك الموسيقى العالمية، فكان يساير نغماتها، وينظم مقاطع موافقة لها وإن كانت مخالفة للأوزان العربية، إذ كان غرضه أن يوافق على النغم ويؤلف مقاطع للغناء لا شعراً للقراءة. وقال الأستاذ: إنه لا يعرف من أين جاءت كلمة (الواج) التي لا معنى لها في قوله:
لو أنني في الواج ... أغلقت قلبي بالرناج
ولا يذكر لها أصلاً. أما (لو) في قوله:
أواه لو تكن معي ... حبيبتي ضياء عيني
فأصلها (إن) وقد حرفت في الطبع
وأنا لا أوافق الأستاذ الخميسي على ما ذهب إليه في إخضاع تأليف الأغنية للنغمات الغربية، وللأستاذ مذهبه وذوقه في الموسيقى الغربية، أما ذوقنا في موسيقى الشعر وغنائه فهو منطبق على الأوزان العربية، ولست ممن يستسيغون ذلك الذي يسميه النغم العالي، ثم هل يصح أن نؤلف كلاماً غير مفهوم لينسجم مع لحن ما؟ إننا إذن نحتاج إلى إعادة النظر في أن (كلامنا لفظ مفيد كاستقم) لنرى هل نستثني بعض الكلمات لغرض موسيقى، من كلامنا المفيد. . .
استقلال مجلس الإذاعة:
يتضمن قانون الإذاعة الجديد الذي تبحثه الجهات المختصة أن تمنح الإذاعة استقلالاً ذاتياً فيما يتصل بالأعمال الفنية. ولكنها تخضع في ميزانيتها العامة لوزارة الشؤون الاجتماعية وألا يكون مدير الإذاعة عضواً في مجلس إدارة الإذاعة وله أن يحضر جلساته بصفة مستمع فحسب، وكذلك المستشار.
وقد كان ذلك القانون مثار جدل وأخذ ورد بين إدارة الإذاعة وبين الجهات التشريعية في الحكومة، وكانت الإذاعة حريصة على المطالبة باستقلالها لتكون بعيدة عن التيارات الحزبية السياسية، وقد نالت هذا الاستقلال في الجانب الفني من أعمالها. ولكن هناك استقلالاً أهم من ذلك وأبعد أثراً في تأثير هذه الناحية الفنية وهو استقلال مجلس إدارة الإذاعة عن موظفيها من المدير والمستشار والمراقب وغيرهم(823/48)
نرى مجلس الإذاعة يجتمع وينفض، وتنشر الصحف ومجلة الإذاعة أنباء اجتماعية والموضوعات التي نظر فيها والقرارات التي اتخذها، وإذا هي لا تكاد تخرج من علاوات الموظفين وترقياتهم وتحديد أجور الفنانين ومبنى الإذاعة الجديد. وكأنها صيغة معدة أو قطعة محفوظة أو (شريط مسجل) يذاع على إثر كل اجتماع وكأن هذه البرامج التي أجمع الناس على سخفها ليست من اختصاص مجلس الإذاعة.
والواقع أن موظفي الإذاعة (الفنيين) يقدمون من يشاءون ويؤخرون من يشاءون، ويتملقون الكبير ويخطبون النافع حتى أصبحت الأمور في الإذاعة تجري وفق الاعتبارات الشخصية اكثر من الاعتبارات المصلحية. وترفع الأوراق إلى مجلس الإذاعة للموافقة، فيوقع الأعضاء بالموافقة، ثم ينظرون في علاوات الموظفين ومبنى الإذاعة الجديد. . . الخ
وقد تضمن القانون الجديد أيضاً أن يؤلف مجلس الإذاعة من أحد عشر عضواً، ستة من الوزارات وثيقة الاتصال بأعمال الإذاعة، وخمسة من كبار المشتغلين بالأدب والثقافة. وحسن جداً أن لا يكون المدير أو المستشار عضواً في هذا المجلس كما ينص القانون الجديد ليتم للمجلس استقلاله، فيبحث كل شيء، ويناقش كل ما يجري، وليضع خطة وهدفاً يشرف على تنفيذها بحيث لا يحيد عنهما أحد.
وكما تحرص الإذاعة على استقلالها لتكون بمنأى عن الحزبية السياسية، فإن مجلس الإذاعة يجب أن يكون مستقلاً عن الموظفين ليكون هو أيضاً بمنأى عن حزبيات موظفي الإذاعة واعتباراتهم الشخصية.
من طرف الأسبوع:
زرت الأديب الكبير إبراهيم ناجي في مكتبه بمستشفى الخازندارة، والدكتور الأديب هو مدير المستشفى، فبادرني قائلاً: اسمع لما أقول لك. ليس هنا أدب، ولا فن. هنا طب وأطباء فقط. ثم أخذنا في حديث الأدب والشعر! ولم اخرج من عنده حتى اتفقنا على تعريف الأدب (بلغة الطب) بأنه داء لا برء منه.
ومما أطرفني به الدكتور أبيات قالها لصديقه الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير التموين عندما ذهب إلى معاليه في الوزارة ولقى هناك ما لقى من السكرتير، فكتب الأبيات وطلب من السكرتير أن يوصلها إلى معالي الوزير، وانصرف. والأبيات هي:(823/49)
لم أنس في باب الوزير الذي ... لقيت من رَكن ومن لطع
وعسكري قائم دونه ... كالسيف في طول وفي قطع
وللأفندي نفخة مرة ... ذممتها ما شاء لي وسعي
وكيف أنسى مرة موقفي ... عندك بين السيف والنطع
ومن طرف الأسبوع أيضاً أن الآنسة أماني فريد قدمت قصيدة إلى جامعة أدباء العروبة لتلقيها في الحفل الذي أقامته الجامعة للاحتفاء بأبطال الفلوجة، وأول القصيدة:
أأبصرتمو العاصف المرعدا ... أأبصرتمو الضبع الأسودا
ولما عرضت القصيدة على معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا، واطلع عليها، وردت على خاطره قصيدة الأستاذ علي محمود طه التي أولها:
أخي جاوز الظالمون المدى ... فحق الجهاد وحق الفدا
فقال معاليه: إما أن يأتي الأستاذ علي طه فيلقي بنفسه وإما لا!
عباس خضر(823/50)
البريد الأدبي
حول نيتشة وفجنر:
يقول الأستاذ محمد فهمي في الرد على الأستاذ أنور المعداوي: (أما سبب ذلك الانقلاب - أي انقلاب نيتشة على فجنر - من النقيض إلى النقيض للفيلسوف على صديقه الموسيقار فيعزوه المثقفون وبعضهم على الأقل إلى علاقة غرامية أحس بها الفيلسوف نحو زوجة صديقه الفنان) ولا يمكن أن يكون في هذه الأسباب الصغيرة سر تحول رأي نيتشة في الفنان الكبير؛ وإن نيتشة يعتبر في تاريخ الفلسفة الواحد الفرد الصارم العميق والذاهب إلى الحقيقة كيفما كان ثمنها، والذي ظل يحارب المرض والجنون والفقر سعياً وراء الحقيقة حتى دفع ثمنها آخر قبس من نور عقله العظيم.
والأستاذ (محمد فهمي) لم يصور لنا بأسلوب علمي صريح معنى فكرته؛ فأي شيء يمثله لنا تأثر نيتشة بفجنر؟ هل يعني بذلك أن فجنر تسلط على نيتشة بعصاه السحرية حتى شكله تشكيلاً موضوعياً؟ ومعنى هذا أن فجنر شكل أسلوب تفكير نيتشة ولون ميوله الفنية والفلسفية ووجه نظره نحو الناس والأشياء وأوضاع الكون حتى نراه قد حارب في الميدان الفكري الذي حارب فيه فجنر ومن أجل فكرة فجنر!
هذه الصورة من التأثر هي التي تشغل مكانها في أحكام النقد الفلسفي. فنحن نقول مثلاً: إن (إنجلز) تأثر (بماركس) لأنهما حاربا من أجل فكرة واحدة وغاية واحدة في الحياة، وهذا هو الذي لم يحدث بالنسبة لنيتشة وفجنر، فإن نيتشة قد تأثر بفجنر كصديق وتأثر بشوبنهور كأستاذ، وكانت سنه في ذلك الحين قرابة الخامسة والعشرين، وكانت هذه المرحلة بالنسبة لنيتشة مرحلة تحصيل واستيعاب: مرحلة هام فيها الفيلسوف الشاب وراء الحقيقة تساوره الوساوس والشكوك في قيمة الوجود ومعنى الحياة، وأخيراً وجدها نيتشة قائمة في نفسه، وإذ ذاك وصل إلى نقطة الارتكاز فثار بعقله الجبار على كل الأصنام، ودعا إلى تحطيم ألواح الوصايا والآراء الفلسفية الداعية إلى الحياة السلبية، وقد أيقن في قرارة وجوده الفلسفي أن الإنسان العظيم هو الذي يبدع القيم والاعتبارات ويخلع على الحياة لون تفكيره.
وعندما وصل نيتشة إلى المرحلة الإيجابية من حياته تنكر للصديق والأستاذ تنكراً شريفاً(823/51)
من أجل رسالته الفلسفية، فاحتفظ بحبهما ولكنه حاربهما في أقدس ما آمنا به من آراء ومعتقدات في قيمة الفن ومعنى الحياة.
ولذلك تعتبر خصومة نيتشة لشوبنهور وفجنر مفتاح شخصيته الحقيقية؛ إذ هي المرحلة التي ابتدأ بعدها يخاطب الحياة كفيلسوف لأن هذه الخصومة لأن هذه الخصومة كانت الأساس الذي بنى عليه أخطر آرائه في القيم والأوضاع والفن. وقد اعتبر نيتشة أن مرحلة الإخلاص للأستاذ والصديق كانت مرحلة نوم عميق وتخدير لطلبات الحياة فبدا كالهادم العابث الذي زال من صدره عامل الرحمة والإشفاق حين راح يحطم أسوار الشرائع أبراج الأخلاق.
يقول نيتشة: (يجب على طالب الحقيقة ألا يحفل بما تجنيه عليه جهوده من انتصار أو اندحار فهذا من شأن الحقيقة، إذ عليه أن يكون خصماً قاسياً لما آمن به من آراء وحقائق؛ فإذا صادفه من الآراء ما يناقض الحقائق التي قال بها فعليه أن يأخذ بها دون تردد) - وهكذا كان رأي نيتشة في كل شيء فهو مخلص للحقيقة حتى ولو كانت ضد آرائه التي قال بها.
يقول نيتشة عن صداقته لفجنر وعن اتجاهه الفلسفي: (كنا صديقين غريبين. . . كلاهما له غايته وله سبيله. . . قد نتلاقى ونرفع أعلام اللقاء كما فعلنا. . . ولكن الضرورة التي لا تدفع قد تقذف بمركبينا قذفة جديدة نحو بحار مختلفة وأنواء متباينة. قد نتراءى ولكن لا نتلاقى. . . كم لوحتنا الشمس والأمواج!! نظل غريبين لأن الشريعة الغالبة تريد ذلك، ولكن صداقتنا تبقى شيئاً قدسياً. . . وهكذا نريد أن نؤمن بصداقتنا في النجوم؛ حتى في العهد الذي يجب أن نكون فيه خصمين على الأرض).
إن هذا وحده يكفي للاستدلال على أن نيتشة يحترم عزيز الذكريات في نفسه لصداقته للفنان؛ ويجحد بعنف رسالة فجنر الفنية لأنها لا تمثل حقيقة الحياة، وفي ذلك اعتراف ضمني على أنه لم يأخذ من فجنر شيئاً ولم يتأثر به. وقد رأينا فيما مر بنا من الأدلة شيئاً من الجزم والوضوح يكفي لهدم ما يدعيه الأستاذ (الخميسي) من أنه (فتق أكمام عبقرية نيتشة):
فما كان لهذا المفكر الجبار أن يتأثر أو يستمد وجوده الفلسفي من أي إنسان مهما تكن(823/52)
مكانته في الحياة الفنية؛ وهو الذي قال في (زرادشت) لرفاقه وأنصاره: (ماذا بهم (زارا) من جميع المؤمنين به؛ إذ عليكم أن تجحدوني لتجدوا أنفسكم).
إبراهيم السيد السروجي
هل من المستحسن استعمال الحروف المنفصلة كتابة وطباعة؟
إن الكتابة بالأحرف منفصلة لا تكون أمراً محدثاً أو شيئاً جديداً فيما إذا جرى عليها الخط العربي؛ إذ لو نظر القارئ الكريم إلى تاريخ الأبجدية العربية لعلم أن هذه الطريقة قد سار عليها الخط العربي في أول نشأته سواء في بلاد اليمن ذات الحضارة القديمة أو في عهد مملكتي: لخم وغسان. كما أنه سارت عليها جل الأبجديات السامية كالفينيقية والآرامية والمسند والسريانية والعبرية والتدمرية وغيرها. ولا زالت بعض هذه الخطوط مستعملة إلى وقتنا الحاضر وعلى نفس الطريقة المذكورة كالأمهرية في الحبشة وغيرها.
وأنا لا أرى بقولي هذا إلى نبذ الطريقة المعتادة (المتصلة الحروف) كلا. . بل مرماي الوحيد استعمال كلتا الطريقتين معاً على حسب ما يقتضيه المقام والذوق والفن.
إن في استعمال الطريقة المشار إليها قد لا تحل من أمور لها أثرها الحسن بل ربما كانت خطوة طيبة في مضمار الخط العربي ومجاراة للتجدد النافع. ومن الأوفق الآن أن اعرض على القارئ الكريم بعض النقط التي قد نستفيدها فيما إذا اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات فأقول:
أولا: يسهل في هذه الطريقة تعليم الأبجدية قراءة وكتابة، وذلك لعدم لزوم تنويع الحرف كتابة في أول الأمر.
ثانياً: سهولة التصفيف بها في الطباعة مع اختصار الوقت والعمل.
ثالثاً: سهولة ضبط الكلمات المطبوعة بها.
رابعاً: بساطة تجسيمها للأطفال (بالورق المقوى) ونحوه مع الحركات وقدرتهم بعد ذلك على تركيب مختلف الكلمات وقراءتها.
خامساً: وضوح الكلمات المكتوبة أو المطبوعة بها، وذلك لبروز وضعها وظهور شكلها ولو مع صغر حجمها.(823/53)
سادساً: السلامة من الالتباس والغموض والتعقيد في الكلمات المرسومة بها. والتي طالما تعتري بعض الكلمات في الطريقة المعتادة لاندماج حروف هذه الكلمات وتركيبها مع عدم ظهور شكلها ولا سيما في الكتابة الخطية.
سابعاً: عدم إيجاد أي صعوبة في تركيب هذه الطريقة، إذ لا يغرب عن القارئ الكريم أنه ما فتئت هذه الطريقة متبعة في بعض الكلمات في الطريقة الحالية، وذلك فيما إذا كانت الكلمة مركبة من بعض الحروف الستة الآتية: اود ذ ر ز، أو مع حرف متطرف كما في الكلمات: رزق، زرع، أدب، روض، دروس، إدراك الخ. وهذا مما يجعل تطبيق هذه الطريقة طبيعياً.
وقد رأيت من الجميل أن ألفت القارئ إلى أهم الحالات أو المواطن التي يجب أن تتبع فيها الطريقة المذكورة إتماماً للفائدة
كتابة عناوين الكتب والنشرات والمواضيع إذا أريد بروزها.
في رسم أسماء الأعلام المختلفة والكلمات المتشابهة كتابة والمتباينة نطقاً كما في كلمات الدَّرَّة والدِّرَّة والذَّرَّة والذُّرَّة والحِلْم والحُلُم وغيرها، والمراد وضوح شكلها وضبطها.
في كتابة جذور مواد المعاجم ومشتقاتها لإبراز وضعها بالنسبة لشرح المادة ولتنسيق ضبطها بالحركات والسكون.
في كتابة أنواع اللوائح (اللافتات) ونحوها.
في كتابة أو طبع مختلف الإعلانات أو بعض فقراتها طلباً لما يقتضيه الذوق أو الحاجة.
في كتابة الأسماء أو العناوين الشخصية إذا لزم توضيحها.
في سبك الأختام وما شابهها.
في كتابة أو طبع الفقرة أو الفقرات المراد إبرازها للقارئ في صفحات الكتب أو أعمدة الجرائد والرسائل ونحوها.
هذا ما رأيت إثباته على صفحات (الرسالة) الغراء إذ ربما يكون في الأمر ما يلفت القارئ الكريم، آملا أن يجد فيه ذوو الشأن وأرباب المطابع ما يرتاح له ذوقهم ويلائم الواقع والله وحده ولي التوفيق.
(طرابلس المغرب)(823/54)
عيسى سالم لأسود(823/55)
الكتب
الشروق
ديوان شعر للأستاذ حسن كامل الصيرفي
بقلم الأستاذ مختار الوكيل
علم الله كم سعدت وفرحت حينما أهدى إلي صديقي الكبير الأستاذ حسن كامل الصيرفي ديوانه الجديد الأنيق (الشروق). فرحت لأنه أعاد إلى ذاكرتي تلك الحقبة الطيبة المباركة من مطالع الشباب الغرير الطافر، التي تعارفنا خلالها وتعاونا في ظلال تلك الدوحة الأدبية الفنية الوافرة الظلال (أبولو) التي رعت النهضة الشعرية في هذه البلاد وفي سائر بلاد العروبة، وأحدثت - بفضل نشاط باعثها الدكتور أبي شادي نزيل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم - نهضة وثابة جريئة في دنيا الشعر والأدب؛ فعليها وعلى باعثها ورائدها الأول ألف تحية وسلام!!. . وسعدت لأن الشعر الأصيل الحي لا يزال، في هذه الآونة التي طغت المادية فيها على كل شيء عداها، يجد التأييد والمؤازرة الصادقة من الناشرين المخلصين الذين يأبون إلا أن يطلعوا القارئين على روائع الإنتاج الأدبي، فيسوقون إليهم هذا الشراب الخالد من نبع الشعر الكريم ليكرعوا منه فتطهر نفوسهم ويذهب عنهم ما يرين عليها من صدأ المادية الصماء!!. .
عرفت الصيرفي إذن منذ ستة عشر عاماً شاعراً متصوفاً يميل إلى الرمزية ويجنح إلى الإغراق في التأمل، لا ينظر إلى ظواهر الأشياء والمرئيات وإنما يتعمقها ويغوص إلى باطنها باحثاً عن صميمها وجوهرها، ويعاني التجارب الشخصية ويكابدها ولكنه لا يتحدث عنها، إذ ينظم، حديثاً شخصياً وإنما يصوغها مبلورة في تجارب عامة مما يعانيه جمهور الناس في كل مكان وزمان. أجل وعرفت الصيرفي في ذلك الحين شاعراً رشيق اللفظ موسيقي الجرس، يحسن بموسيقاه الطلية المنغومة التعبير عن نفسه الصافية وروحه النقية الشفافة، كما عرفته شاعراً صادقاً لا يتعب الناقد في التعرف على شخصيته مما ينظم! وبينما كان معظم الشعراء أو الذين عرفوا بأنهم شعراء ينظمون في المناسبات التافهة ويمدحون ويتهالكون على الملق والرياء، ويرثون ويمعنون في تكلف البكاء، كان حسن(823/56)
كامل الصيرفي من القلة الثائرين على تلك الأوضاع المتكلفة المقيتة، الذين يؤثرون النظم عندما تتحرك عواطفهم وتجيش نفوسهم وتستعد لاستقبال (الوحي) الفني، ولو كان ما ينضمونه في قطعة بكاء أو صخرة جرداء!!. . وعرفت الصيرفي في طليعة المعنيين بمتابعة الحركة الشعرة في مختلف الأقطار العربية، بل وفي بلاد المهجر، فكان يواصل الكتابة ناقداً ومقدماً ومعقباً على النتاج الشعري والأدبي والفني في بلاد المهجر وبلاد العروبة على اختلافها، وتولى في غير من تعريف الأدباء المصريين برصفائهم في المهاجر الأمريكية وفي الأقطار العربية الأخرى، في زمن قلت فيه الصلات والروابط فيما بينها. ولعل شاعرنا قد شغف حباً بأدب المهجر، ولعل نفسه انجذبت إلى تلك الينابيع المتحررة في المهاجر فتاقت إلى انعتاق فني مماثل. .!! ومن هنا تلاقت روحه بأرواح أولئك المجددين عبر الأطلنطي، وامتزجت بها في انسجام رائع أنتج لنا تلك الأشعار (الصيرفية) التأملية الصوفية ذات الموسيقى المنغومة والألفاظ الرقيقة المضيئة!!. .
ذلك هو الصيرفي الشاعر كما عرفته منذ ستة عشر عاماً، وازدادت معرفتي به توثقاً بما كان ينظم وينشر من دواوين حافلة، إلى أن تفضل فأسعدني بديوانه الجديد (الشروق). فهل تغير الصيرفي أو حاد عن الاتجاهات التي جعلها قبلته، أو آمن بشعر المناسبات، أو عزف على أوتار أخرى كانت غريبة عنه في ذلك الشباب الباكر؟ أشهد لقد طالعت ديوان الصيرفي الجديد فمثلت حيالي في كل قصيدة، بل وفي كل بيت من قصيدة، تلك العناصر التي امتاز بها شعره الباكر، وإن كانت الأيام والتجارب قد مكنت لتلك العناصر وأبرزتها في أقوى صورة وأنصع ديباجة.
دافع الشاعر في قصيدته الأولى عن الشعر ووجه الخطاب فيها إلى أولئك الذين يقولون إن الشعر لم يعد من مستلزمات هذا العصر)، ولقد ذكرت، وأنا أطالع هذه القصيدة الرائعة، دفاع الشاعر الإنكليزي ب. ب شيللي عن الشعر، وأشهد أن قصيدة الصيرفي قد هزتني وحركت شجوني؛ وأعتقد أنها قصيدة بارعة رائعة، ولقد أعجبت غاية الإعجاب بقوله:
فيوم نُفارق الدنيا ... وتلك قصيدة الله
سنغرق في صداه العذْ ... بِ بين ضيائه الزاهي
وهنا يلخص الشاعر الكون كله ويختصره ويعتبر نهايته (القصيدة الكبرى) قصيدة الشاعر(823/57)
الأكبر المعجز!
ولعل قصيدة (الحرمان) التي أهداها الشاعر إلى صديقه الدكتور أبي شادي، الذي ناضل وجاهد، وأحس بمرارة الحرمان في الشعر العربي الحديث. اسمعه يقول:
أعبد الحسن زها في كوكب ... أجتليه صامتاً لم أعرب
وهل لم يشعر بإحساسي وبي. . .! ... خاطر من حسنه في موكب
مشرق مَن نوره المنسكب ... فائض الكأس شهي المشرب. .!
ولا أستطيع التعليق على هذه اللوحة الفنية البارعة، لأن كل محاولة تبذل في هذا السبيل إنما تشوه من جمالها وتخدش من ملاحتها، واستمع إليه حيث يقول:
كلما جئتُ بمعنى مُعْرب ... عن هوى قلب ولوع متعب
فرَّتْ الألفاظ حيرى تختبي ... فهي كالشمعة في عين الأبي
وهي كالفكرة في ذهن الصبي. .! ... وهي كالفتنة في قلب النبي. .!
والواقع أن الشاعر الذي تفر منه (الألفاظ) وهو يبحث عنها جاهداً ساعة الاحتشاد للنظم هو وحده الذي يستطيع أن يدرك جمال الحيرة وجلال اللوعة الممثلين في هذه الأبيات المعربة غاية الإعراب عن القلق والحرمان.
أما أغنية (القبلة) فهي من أرق المقطوعات الغنائية التي طالعتها أخيراً، وهي جديرة بأن تلحن وتغنى فتطعم أغانينا بطراز راق من الفكر الممتاز والمعنى المستطاب، ويا حبذا قوله منها:
أغرودة في السكون ... يطوي بريق العيون
فيها، فتور الجفونْ
لو ردَّدتها الشفاهْ
في لثمها. بادليني!
والصيرفي في قصيدته (اجعلني حُلماً) شاعر متصوف حالم رقيق اللفظ نقي الصور، ويا ما أبرعه حيث يقول:
اجعليني حلماً يطوف ويسرى ... من قلوب الورى إلى شفتيك
اجعليني حلماً لذيذاً شهياَ ... مثلما يحلم الفقير بملك(823/58)
اجعليني حلماً كما أنت حلمي ... فأريك الحياة من غير إفك
بلبلات الخميل تنقل عني ... شعر قلب نقلته أنا عنك
كذلك يبلغ الصيرفي المدى في الإجادة في قصيدته (الأفق) حيث يقول:
أنت كالأفق إذا حاولت أن ... أبلغ الغاية منه بعدا
تعبت عيناي في إدراكه ... وشكت رجلاي فيه الجددا
أشهد الأسرار فيه تختفي ... كالأغاني في تضاعيف الصدى
فإذا حاولت أن أكشفها ... صرت سراً طيها قد خلدا
ليتني أفق! فلا أتعب من ... يرتجي الأفق وقربت المدى.!
كذلك يبلغ الصيرفي أقصى غايات الإبداع في قصائده العاطفية الصادقة (تنهداتي) و (القائد المدحور) و (وحدة العمر)، وهذه الأخيرة مقطوعة من الشعر التجريبي المشوب بالفلسفة الهادئة الرزينة، على الرغم مما تنطوي عليه من مرارة وسخرية كما في قوله:
تعال فربما جاوزت داري ... فتجربني الحياة إلى قراري
فأمشي بين أضواء النهار ... إلى ليلى ويهزأ بي انتظاري.!!
وشد ما أعجبت (بنشيد الثورة) الذي نظمه الشاعر في نوفمبر عام 1935 وكم يكون رائعاً ومفيداً لو وجد هذا النشيد عناية من ملحني العصر البارزين، ولا أحب أن أقبس منه هنا، فيحسن الرجوع إليه في جملة الديوان، لأن النقل منه يشوه جماله.
ولقد لاحظت في شعر (الشروق) ظاهرة (جديدة) هي ميل الشاعر إلى الإكثار من الحديث عن (الصمت) و (السكون) ففي قصيدة (إلى المعبد) يقول:
(والصمت) يغمره ويفني ذاته ... ولقد يكون (الصمت) خير تعبد
ويقول في القصيدة نفسها:
طال الوقوف به فأعيا (صمته) ... هل تنفع النجوى بباب موصد؟
ويقول في قصيدة (ساعة اللقاء):
ساكن الأرض (صامت) في حنين ... لنشيد مرجع من سمائك
وفي (خمرة الفن) يقول:
ما أعجب (الصمت) أعياني وأنطقني! ... فهل يحرك هذا (الصمت) منشده؟(823/59)
وفي (تنهداتي) يقول:
قالت: علام تنهداتك في (سكونك) يا حبيبي؟ ... هل أنت في فردوس حبك حامل عبء
الغريب
وفي (ثورة الجدول) يقول:
(سكنت) إلية (سكون) المصلي ... أمام جلالة محرابه
يعانق نور الجلال البعيد ... وينسى الرغائب في بابه
وفي (موت فنان) يقول:
أأنت يا (صامتاً) تؤوب ... أيامه للمدى البعيد
ويقول:
(أصمتك) الموحش الكئيب ... يا هاتف الأمس سخرية
بعالم مغرم يذوب ... على ترانيم أغنية؟
ويقول:
قد خفت في (صمتك) المنون ... بروحك الحية الصدى!
إلى غير هذه الإشارات والتعبير والصور التي تنوه بالصمت وترسم السكون في لوحات موحشة وأخرى ساخرة أو حزينة أو متفلسفة أو رمزية.
حقاً لقد سعدت بمطالعة ديوان الصيرفي الجديد (الشروق) هذا الديوان الذي أضاف كثيراً إلى ثروة الشعر العصري الأصيل المبتدع الذي نسعى جاهدين لكي يزداد ازدهاراً وإشراقاً، حتى تكون له آخر المطاف على مدرسة الاتباعيين والتقليديين الذين يعيشون على المدائح والمرائي والمجاملات والمناسبات.
فهنيئاً لمدرسة الجديد بهذا الديوان الرشيق الذي سكب فيه شاعرنا الكبير روحه المتأملة، وعاطفته الخالصة، وموسيقاه الرقيقة، وهنيئاً لشاعرنا بهذا الإنتاج القيم الذي نرجوه أن يتصل ويستمر لخير النهضة الشعرية.
مختار الوكيل(823/60)
العدد 824 - بتاريخ: 18 - 04 - 1949(/)
الدولار والشرق العربي
للأستاذ عمر حليق
هناك حقائق خطيرة قل أن تتعرض لمعالجتها ألسنة الرأي العام العربي عندما تتحدث عما يقترحه المعسكر الغربي على الشرق العربي من مساعدة اقتصادية ومحالفة عسكرية. وهذه المغريات التي تنقلها إلى القارئ العربي في غير فطنة مواصلات فكرية هي فريسة بؤر التوجيه الضار في السفارات الأجنبية وفي وكالات الأنباء (العالمية) التي يعيش على محصولها الإخباري قارئ الصحف العربية والمستمع العربي.
ومن أبرز هذه الحقائق تجاهل المعقبين العرب لحقيقة الوضع الاقتصادي القلق الذي تعيش عليه الولايات المتحدة وهي عماد المعسكر الغربي، وحاجة هذا الوضع إلى استثمار الأموال في المناطق التي توفر الربح العاجل المضمون كمنطقة العالم العربي.
فللمشروعات الأمريكية للمساعدة الخارجية كمشروع مارشال أوجه أخرى غير الأوجه السياسية. (الإنسانية) التي يبدو أن معظم ألسنة الرأي في الشرق العربي ميالة إلى التعلق بها وحدها.
وحين نسلم بأن التوسع السوفيتي وذيوله السيئة في شتى نواحي النشاط الإنساني هو أخطر ما يواجه حاضر الشرق الأدنى يجدر بنا كذلك أن لا ننسى مطلقاً ما يستر من الشر في الاستسلام المطلق للتوسع الأنجلو أمريكي. فإن امتداد مشاريع (المساعدة) الأمريكية إلى الشرق العربي هو توسع تستلزمه الأزمات الحاضرة في السياسة والاقتصاد والحرب التي تواجه المعسكر الغربي.
ولعل الوقوف على الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة وعلى برامج التوسع التجاري الذي لا مفر للصناعة البريطانية من تحقيقه إذا حرصت على النهوض الصحيح - هذا الوقوف يلقي ضوءاً هادياً على سياسة الدولار في منطقة الجامعة العربية.
إن الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قلق؛ وليس هذا الجزم مقتبساً من تعقيبات (برافدا) و (ازفستيا) وراديو موسكو؛ بل هو حقيقة لا يستطيع الأمريكان كتمانها عن أنفسهم وإن استطاعوا - بفضل ما لهم من نفوذ قوى في المواصلات الفكرية العالمية - التقليل من خطورتها خصوصاً لدى الشعوب التي ينقصها الوعي الاقتصادي الحساس(824/1)
كشعوب الشرق الأوسط وأبرز مظاهر هذا القلق الاقتصادي في منطقة الدولار مشكلة التضخم المالي وازدياد التبطل بين العمال الفنيين والصناعيين والتباين في معدل الإنتاج والاستهلاك، وألف وجه ووجه من المشاكل الاقتصادية المعقدة التي تأتي في أعقاب الحروب الكبرى فالنكسات الاقتصادية - والنكسة وصف معتدل لحاضر الاقتصاد الأمريكي - لا تولد بين عشية وضحاها؛ إنما هي وليدة تضخم في الإنفاق وتضخم في الشراء وتضخم في الافتراض. فقد اتسع الإنتاج الصناعي في أمريكا زمن الحرب اتساعا هائلا في طفرة غير اعتيادية، فارتفعت نسبة الإنفاق على النحو الذي خبره العالم بأسره، وزادت نسبته في أمريكا. ومما ساعد على التضخم في الاقتراض طبيعة التعامل النقدي في الحياة الأمريكية (تسهيلات الدفع والتقسيط الخ)؛ فنتج عن ذلك هذه التيارات التي واجهها الكيان الاقتصادي في أمريكا منذ أكثر من عامين، ونجح في تفادي أزمتها الجارفة بالقرض البريطاني أولا، تم بمشروع مارشال وببرنامج التسلح الهائل الذي ينفذ في إسراف يستوعب العمال العاطلين ثانياً. وهو يحاول الآن أن يخطو خطوة إنقاذ أخرى على طريق التوسع الاقتصادي في المناطق (المتأخرة).
إن إنهاض التنمية الاقتصادية ضرورة لاستقرار السلم العالمي - هذه حقيقة مسلم بها، ولكن المهم في هذا العرض هو الوقوف على بعض العوامل الأساسية في مسألة قد تقرر مصير الكيان العربي لأجيال عديدة.
فالمساعدة الاقتصادية المقترحة ليست إحساناً خالصاً لرفع مستوى المعيشة للبائسين في الشرق العربي؛ فالضمير الأمريكي لم ينفعل كثيراً لفاجعة فلسطين بالرغم من أن له اليد الطولى فيه.
والمساعدة الأمريكية ليست سهماً يوجه للشيوعية التي تربض على أبواب الشرق الأدنى - فموقف أمريكا من التطور في الصين، وقصدها من تزويد الأتراك بحاجتهم الماسة ينفيان ذلك - ولكنها مصلحة فيها عنصر أناني وضرورة اقتصادية ملحة تضع في يد الشرق العربي عنصر مساومة فريد.
ذلك لأن هذا الشرق في رأي المستر إميل شرام رئيس بورصة نيويورك الكبرى، من أفضل المناطق لاستثمار رؤوس الأموال الأمريكية لأسباب عددها في عدد يناير من مجلة(824/2)
عالم الأمم المتحدة وهي:
أولاً - إن الوضع الاقتصادي في الشرق الأدنى سليم جداً. فهو لم يتضرر من الحرب المنصرمة.
ثانياً - أن هذا الشرق لا يواجه وعياً اقتصادياً، ولا نزعة اشتراكية جدية تعرض رؤوس الأموال الأجنبية للتأميم. فالقدمية الاقتصادية في الشرق الأدنى أن تستيقظ بصورة خطيرة إلا بعد أن تعطى رؤوس الأموال المستثمرة أٍُكلا طيبا.
ثالثاً - إن هذا الشرق بحاجة إلى التمويل وأولو الأمر يقدرون ذلك، والتعامل معهم سيكون على أساس اقتصادي سليم.
وطبيعي أن ما يقترحه الأمريكان من مساعدة للشرق الأوسط لا يقتصر على المخصصات الحكومية. وأكبر الظن أن هذه المخصصات ستكون أقل نسبة. والواقع أن برنامج ترومان للمناطق التي تحتاج إلى التنمية الاقتصادية قصد في أساسه إلى تهيئة الفرص لرؤوس الأموال الأمريكية للاستثمار في الخارج وضمانة أرباحها.
وهناك نواح أخرى لابد من الوقوف عليها لأية مساومة قد تدفع دول الجامعة العربية إلى الأخذ بها في هذه التيارات الجارفة.
فكما يستفاد من القليل الذي تنشره الصحف الأمريكية ومن الكثير الذي تنشره الصحف العربية! عن طريقة حكومة أمريكا في مد مشروع مارشال إلى الشرق العربي، فإن المساعدة ستقتصر على ناحيتين:
الأولى: تحسين الدفاع الاستراتيجي من الناحية الحربية الصرف ومن وجهة نظر حلفاء الغرب الصرف كذلك.
والأخرى: تنمية الإنتاج الزراعي كوسيلة لرفع مستوى المعيشة.
والتريث في بحث هاتين الناحيتين يكشف عن شؤون غاية في الخطورة للكيان القومي في كل من الدول العربية، وفي السياسة الإقليمية التي تمثلها الجامعة العربية التي لا مفر - لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، للناطقين بالضاد من السير بموجبها على الرغم مما ألم بها من نكسات.
فمشاريع الإنتاج البترولي وأنابيبه وتأمين سريانه وحماية مواصلاته ستكون لولب(824/3)
(الإنعاش) المقترح.
وطبيعي أن للشرف العربي حاجة ماسة لتحسين المواصلات؛ ولكن هذا التحسين إذا توخى ما ينتظر منه من فوائد وجب أن لا يتقيد بمصلحة الإنتاج البترولي على حساب النواحي الأكثر أهمية والأشد ضرورة؛ فالناحية الحيوية في مشكلة المواصلات في الشرق العربي أعقد من أن تقتصر على الإنتاج البترولي والمطارات السعودية والليبية القريبة من آبار الزيت الروسية في (باكو) وفي حوض قزوين ومصانع الإنتاج الحربي الروسي فما وراء جبال الأورال.
وللناحية الثانية وهي تحسين الإنتاج الزراعي كوسيلة لرفع مستوى المعيشة أوجه غير هذا الوجه الخلاب الذي قد يغري من لم يدرك حقيقة العلاج للعلل الاقتصادية في الشرق.
فان الإنتاج الزراعي إذا لم يلازمه التصنيع الواسع النطاق الثابت الأركان فأنه لن يستطيع رفع مستوى المعيشة لملايين المصريين مثلاً ولا حل أزمة السكان وضآلة الدخل القومي؛ وهذه الحقيقة تنطبق على العراق وسائر أنحاء المشرق. وأن طبيعة العوامل الاقتصادية التي تدفع أمريكا وبريطانيا لمساعدة الشرق العربي تتطلب أن يظل هذا الشرق مستهلكها لا منتجاً للسلع التي يعيش عليها الكيان الاقتصادي في أمريكا وبريطانيا. ولعل المصلحة البريطانية في هذه الناحية أشد انتفاعاً وأبعد في النتائج العملية. فإذا أشرك الأمريكان البريطانيين في مشاريعهم للشرق الأوسط فإن البريطانيين قد أشركوا من قبل (ركفللر) وأمثاله من أقطاب المال الأمريكان في هذه الإمبراطورية الاقتصادية التي تعمل الآن في صمت في أواسط القارة الأفريقية.
هذه ألوان من الحديث قد تساعد على معرفة بعض مواطن الضعف والقوة فيما يقترحه المعسكر الغربي. ويضاف إلى هذه التلميحات الاقتصادية ذيول والتزامات سياسية خطيرة العواقب. فإن أي مساعدة أو منحة أو قرض يستلزم التعاون مع الكيان اليهودي في فلسطين سيحقق له في الحاضر والمستقبل ما حققته الناحية الخفية من أعمال (مركز تموين الشرق الأوسط) الذي أقامه الحلفاء أبان الحرب العالمية الماضية؛ إذ استطاع الاقتصاد اليهودي بواسطته أن يتركز بعد أن كان مضعضع الكيان مشرفاً على الإفلاس، واستطاع أن يحظى بأنواع من المواد الخام والتصنيع الحربي عن يد مركز تموين الشرق الأوسط، وهذا ما(824/4)
أثبتت معارك فلسطين مبلغ خطورته. والذي يزيد من حدة الدعوة إلى هذا الحذر من مثل هذا التعاون مع يهود فلسطين - مباشراً كان أم غير مباشر - المناصرة الشديدة التي يلقاها مشروع (مساعدة) الشرق الأوسط في البرلمان الأمريكي من الشيوخ والنواب الذين حملوا منذ سنين لواء العمل للمصلحة الصهيونية.
ليست الخيرات الكامنة في الشرق العربي وحدها هي التي تغري واشنطون بالتودد؛ ففي أمريكا الجنوبية أضعاف الخيرات التي في هذا الشرق. وليس خطر الشيوعية وحده هو الدافع لهذه (المساعدة)، ففي الصين وكوريا وفي أمريكا الجنوبية كذلك - وهي الباب الخلفي للعم سام - ثغرات من الفقر والجهالة أوسع مما في الشرق العربي، ومع ذلك فلا يضعها الأمريكان في طليعة الدول التي لها الأسبقية في (سخاء) الأمريكي. وليس الموقع الاستراتيجي وحده كذلك هو السبب الوحيد.
ولكن هذه الأسباب مجتمعة أوجدت حالة فريدة، تجتمع فيها المصلحة الاقتصادية الاستثمارية مع الحاجة العسكرية، وأخشى أن أقول مع المنفعة الصهيونية. فعلى الذين يتولون التوجيه في هذه الحالة مسؤولية فاصلة في الكيان الأساسي للعالم العربي.
وإذا كان لابد من مساومة فلتكن على أساس من المصلحة القومية تراعى في حرص وفطنة حاضر العرب ومستقبلهم، والتيارات الجارفة التي تحيط بهم.
(نيويورك)
عمر حليق(824/5)
المسرح والجمهور
للدكتور محمد القصاص
ليس الفن المسرحي هو المؤلف وما كتب فحسب، ولا المؤلف ومعه الممثلون وحدهم، بل لابد له من جمهور أيضاً. تلك هي الدعائم الثلاث التي إذا فقد المسرح إحداها انهار.
بالطبع كل من يكتب ويطبع يبتغى أن يقرأ، وإلا لاكتفى بتسجيل خواطره وأفكاره تسجيلا سريعاً دون أن يعمد إلى تنظيمها وتبويبها وطبعها ونشرها. فالفن اجتماعي بطبعه إذا عي بجوهره. ومن ثم فإننا نعجب لكاتب يكتب مالا يفهم القراء ومالا يعنيهم (ولا نتكلم هنا عن الشعر فقد يكون له موقف خاص) الكاتب الذي يعيش - كما يقال - في برجه العاجي بعيداً عن الحياة وعن الناس.
ولا نقصد من وراء ذلك أن يخر الكاتب راكعاً أمام جمهوره فيتملق عواطفه مهما انحطت، ويتغنى بمواطن الضعف فيه؛ كلا، فإن هذا مفسدة للأدب مفسدة للفن، بل هو إلى التهريج أقرب منه إلى الفن.
ولكن احتقار الجمهور والبعد عنه، ومخاطبته بلغة غير لغته، والاشتغال بنجوم السماء دون الأرض ومن عليها، جرم مرتكب في حق الفن والمجتمع على السواء. ومع ذلك فقد نسلم جدلا، جدلا فقط، أن الرسام يستطيع أن يرسم لوحة يحتفظ بها لنفسه، ولنفسه فقط، وأن الشاعر يستطيع أن يكتب قصيدة يرددها بينه وبين نفسه من طلوع الشمس إلى غروبها، ويكتمها عن جميع من عداه، وأن القصاص قد يكتب قصة ثم يتركها تغط في سباتها العميق سنين وسنين حتى يأتي يومها، حتى يأتي جمهورها بعد زمن يطول أو يقصر. ولمن يضيرها ذلك في شيء فهي قد وجدت بالفعل منذ انتهى صاحبها من كتابتها، ولن يزيدها وجوداً أن تظفر بعشرة آلاف قارئ أو بمائة ألف قارئ. ولن يكون لقارئها أي تأثير عليها، بل هو الذي سيتأثر بها تأثراً سطحياً أو عميقاً، عاجلا أو آجلا.
ومن جهة أخرى إذا كانت أفكاره عسرة الهضم، أو كان ملتوي الأسلوب معقد التعبير مقتصداً في المقدمات خفي النتائج، فقد يجوز له أن يترك كلامه على ما هو عليه دون أن يجهد نفسه في أن يرفع عن كتابته غموضاً يستطيع القراء أو غالبية القراء رفعه ولو بشيء من العسر. ذلك لأنه يعلو أن الكتاب يستطاع أن يقرأ وأن تعاد قراءته، وأن كاتبه(824/6)
يستطيع فتحه أو إغلاقه متى شاء وأنى شاء، وأن يكرر من عباراته كلما عن له أن يفعل حتى يفهم. فإذا لم يكن بعد ذلك أهلا للفهم فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
أما العمل المسرحي فله شأن آخر فهو بمثابة كتاب يقرأ جماعة، ومتى فتح لم يتسن لواحد من القراء أن يغلقه تبعاً لهواه. كتاب تدار صفحاته من تلقاء نفسها من أول صفحة إلى آخر صفحة. إذا قيلت منه كلمة فقد فانت، وليس لسامع أن يرجو من الممثل إعادتها، وإلا أصبحت قاعة المسرح ميداناً لكوميديا أخرى غير كوميديا المؤلف، كوميديا الجمهور لا كوميديا الممثلين، إذا راح المتفرجون - كما تخيل أحد الساخرين - في رواية غامضة يقومون الواحد بعد الواحد، مطالبين بإعادة تلك الجملة أو بتفسير هذه الكلمة، فيتصدى لهم الأذكياء أو من يتظاهرون بالذكاء فيطلبون إليهم أن يتركوهم أن ينصتون في هدوء وألا يقطعوا على الممثلين سلسلة اللعب؛ ويجيبهم الأولون على عنفهم بعنف أشد منه، حتى ينتهي بهم الأمر إلى التقاذف بالشتائم ثم إلى استعمال الأيدي. وهنا ينتقل تمثيل الدراما من فوق المسرح إلى قلب الصالة على كل حال سواء أدفع المتفرج أجر مكانه أم لم يدفعه، فإنه يصر على أن يفهم، وأن يفهم على الفور كلمات المؤلف بمجرد أن يفوه بها الممثل.
ومن ثم وجب أن تكون التمثيلية مثلا أعلى في قوة الإفهام ووضوحه. فالمسرح إذاً معبد الوضوح، يجب أن تسمى فيه الأشياء بأسمائها. وويل للمؤلف الذي يحاول أن يمثل قطعة باللغة الصينية على مسرح من مسارح القاهرة لا يفهم زائروه غير العربية. تلك هي إحدى الحقائق الكبرى التي على كاتب المسرحية أن يراعيها، مهما كلفه ذلك من جهد ومن تضحية: أعني أن يستعمل لغة مشتركة بين الجميع، مفهومة من الجميع، مهما كانت منتقاة طافحة بالصور والأخيلة موغلة في الروج الأدبي.
وإليكم حقيقة أخرى ليست أقل من صاحبتها في الأهمية. وهي أمر يتعدى الكلمات والعبارات إلى الموضوع الذي تعبر عنه، إلى الأفكار التي هي لباس لها. فما جدوى الكلمة الواضحة المعنى والعبارة الصحيحة المبنى اليسيرة الفهم الجميلة الصورة، إذا كانت الفكرة التي تعبر عنها أو العاطفة التي تصفها أو تستثيرها لا تمت بشيء إلى ما في ذهن الجمهور وقلبه، إذا كانت لا توقظ فيه صدى ولو خافتاً لهذه العاطفة أو تلك الفكرة؟ وأسوأ من ذلك إذا أثارت فيه عاطفة مضادة لمل أراد الكاتب، أو إذا أثارت عاطفة ما عند بعض(824/7)
المتفرجين فجعلتهم يبكون وأخرى مناقضة لها عند البعض الآخر فجعلتهم يضحكون.
فعلى الكاتب المسرحي أن يخاطب عواطف وأفكاراً مشتركة بين جميع أو معظم أفراد جمهوره، ولو كانت موزعة بينهم بأنصبة مختلفة.
قد يعترض علينا معترض فيقول: أواثق أنت من أنه قد يوجد شخصان فقط يؤخذان من بين الشعب دون اختيار فيرى بعد الاختيار أنهما يتفقان في إحدى الفكر اتفاقاً كاملاً؟ ونحن نجيب على هذا بأن الاتفاق في التفاصيل أمر عسير. ولكن من الطبيعي أن يتفق أفراد مجتمع من المجتمعات التي يصح أن يطلق عليها هذا الاسم في طائفة من القيم العقلية والأخلاقية: كالحق والباطل، والخير والشر (ولا نقول الجميل والقبيح، فإن تلك قيم جمالية تخضع لاختلافات كثيرة لا محل لذكرها هنا). فالاتفاق على الخير والاتفاق على الشر، ذلك هو الحد الأدنى الذي على المؤلف أن يسعى في تحقيقه حتى يتفق التناسب بين عمله وجمهوره. ذلك هو الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر في التمثيلية لتثير انفعال الجمهور ولتجتذبه إلى ما يريد المؤلف أن يجتذبه إليه. فالقطعة التمثيلية لا تكون حقاً ولن تحيا حقاً إلا إذا حييت في نفوس الجمهور كما حييت في نفس الكاتب والممثل، وفي نفس اللحظة التي يشاهدها فيها. هذا ما جعل جاك كوبو من أعلام المسرح الفرنسي يقول (لن يكون هنالك مسرح بمعنى الكلمة إلا يوم نجد رجل الصالة يتمم بنفس الكلمات التي بقوة بها رجل المسرح في نفس الوقت وبنفس القلب.) نعم لا يمكن أن يكون ذلك إلا يوم يصير رجل الصالة ورجل المسرح والمؤلف وكأنهم شخص واحد؛ ولابد لهم من ميدان معنوي مشترك. هذا الميدان يستطاع العثور عليه بسهولة في مجتمع سليم التكوين، فيه شيء كثير من التجانس، يجتمع على الاعتراف ببعض الخير لأنه خير، وببعض الشر على أنه شر، وببعض الحق على أنه حق. أما إذا كان المجتمع مهلهلاً لا تجانس فيه فإن مهمة المؤلف تعتبر من أشق الأمور. ففي هذه الحال يتعسر على المشاعر أن تتفق ويصعب على الكاتب أن يخاطب جمهوره بلغة يفهمها الجميع. ولكنه حتى في هذه الحال لن يعدم أن يجد بذوراً طفيفة لآمال ومخاوف مشتركة. وحينئذ فعليه أن يتخذ منها نقطة ارتكاز يصدر عنها في مسرحيته، وأن يتخذ من مسرحيته ومن نشاطه في الأدب المسرحي وسيلة لتقريب ما تنافر من عقلية أبناء وطنه. وهنا يبدو لنا بعض ما يستطيع المسرح أن يقدم للوطن وللمدينة من(824/8)
خدمات. فمن الخطأ إذاً أن ننظر إلى المسرح (على نحو ما يفعله البعض) كما ننظر إلى حجرة مغلقة تدور بها بعض الأحداث ثم رفع منها أحد حوائطها فأصبح ما يجري بداخلها على مرأى من المارة، ولكنهم يشاهدونه مبهوتين دون أن يستطيعوا المشاركة فيه بعقولهم وقلوبهم، بل دون أن يفهموا شيئاً منه؛ وإنما يجب أن ننظر إليه كمنصة منصوبة في ميدان عام تمثل عليها أحداث، وتتصارع فوقها أفكار وميول وعواطف تتصل بنفوس المشاهدين جميعاً. فهو لذلك مكان التبادل النفسي بمعناه الصحيح. وعلى الكاتب المسرحي أن يدرس في الحياة نفسها شروط هذا التبادل وأن يستخرج قوانينه حتى يضمن تحققه في عمله، وحتى لا يكلم الجمهور بلغة غير لغته.
فالفن المسرحي يقتضي وجود عادات ووجود مجتمع ووجود شعب بأنبل معاني الكلمة.
فالفن المسرحي ليس فناً مغلقاً، ولا مما يؤجل تحقيقه خارج الكتاب الذي كتب فيه، بل فن مفتوح، فن الساعة التي يكتب فيها.
محمد القصاص
دكتوراه في الآداب من جامعة باريس(824/9)
أمام أبي الهول
للأستاذ راجي الراعي
يا إله الصمت، ويا ملتقى الأسرار، ويا عقدة الألسنة، ويا مثال المتأملين!
أيها الأسد الرائع المتحفز منذ القدم للوثوب على فريسته التي لم يجدها بعد. . . يا ربيب الفراعنة، ويا رفيق (الأهرام)، ويا عجيبة المصريين. . . أيها المتكبر الجبار الذي لم يخفض رأسه لأحد في الدنيا، وقد مرت كلها من أمامه. . . يا مصيبة الثرثارين ويا محتج الحائرين. . . أيها الضاحك الباكي، السعيد البائس، الحائر المهتدي، الثمل الصاحي، القوي بأهرامه، الضعيف برماله، الجريء بصدره، الحكيم بلسانه. . . أيها البحر الذي تلاطمت فيه أمواج الأسرار ولم تنفث زبدها. . . أيها الناسك الذي لم يؤمن بالعالم فأقام في صومعة الرمال وأنقطع إلى ربه ونفسه، الناسك الأكبر، زعيم الناسكين، تدق له نواقيس الذكرى في أودية التاريخ التي تعاقبت عليه، ومن يستطيع أن يحصيها؟.
أيها الثمل بالذكريات غمرته بخمورها فلم يقو على العربدة، وكيف يعربد الغريق؟ وطوقته بجمالها وقبحها فجمد كالمجنون وتكأكأت عليه الخلائق. . .
أيها البطل الضائع الذي ازدحمت في بطولته مشاهد القرون على مختلف ضروبها وألوانها فضاق بها ذرعاً ولبث مكانه لا يبدي حراكاً. . .
أيها المبرد بوسادته الحجرية لظى المغرمين، المخجل برباطة جأشه المذعورين الفارين، المحطم بصخرة حيرته وشكه سفينة المهتدين، المخرس بفصاحة عينيه زمرة المعربدين، الهازئ بالعابرات والعابرين، الضاحك على الأذلاء الخانعين، الباكي على الضاحكين!.
يا أبا الهول الذي هالته نفسه فلم يعرف أين يضعها وكيف يعبر عنها، ويا فتنة النيل ورب الوادي. . . أيها الأمين الأكبر الذي يحمل مفاتيح التاريخ ولم يخن واجب الأمانة، أيها المبرم مع المجهول عهداً يحسده عليه المعلوم، أيها الغارق في لجج اللانهاية ولم يبلل ثوبه. . . أيها المبسوط في حجره المنكمش في تصلبه، أيها الطليق بعينيه السجين بين ألغازه، أيها الناظر إلينا نظرته الغريبة بين صممه وبكمه كأنه يفتش بين السماء والأرض عمن جاءه بالصمم وعقل لسانه ليصعقه ويضمه إلى قلب رماله. . .
أيها الواقف بين الماضي والمستقبل كأنه الصلة المفقودة التي نفتش عنها! أيها الرجل(824/10)
العجيب الذي لم يتحرك بعد في هذا الجيل، والكهرباء تشع في وجهه، والطائرة تحلق فوق رأسه! أيها الصابر صبراً دهشت له الأرض التي تصبر على موتاها، ودهش له البحر الذي يصبر على غرقاه. . .
أيها المتمرد الأكبر، أيها الحاكي الذي يردد أصداء الإنسانية، أيها العداد الذي يحصى فضائل الخليقة وعيوبها وساعات نعيمها وبؤسها. . .
يا أبا الهول!
أتيتك بعد تلك القرون التي توالت على رأسك. . أتيتك في القرن العشرين متأخراً، وتفرست فيك، فخطرت لي النعوت والأسماء التي كسوتك بها. . . رأيتك بعيني ولا أدري بأي عين رآك أسلافي، وحرت فيك كما حاروا من قبلي، ورمتني الحيرة بين أمواج الخيال فتخبطت في أسرارك، وغرقت في أوصافك!.
ما هي حقيقتك يا سيدي وأين هي؟ وهل أنت تجهلني كما أجهلك؟ من أنا؟ أنظر إليَّ جيداً. . . أقوي أنا أم ضعيف؟ أسعيد أنا أم بائس؟ أنا كاتب يعرض في القراطيس رسوم النفس والحياة. . . فهل قلمي، وهل رأيت رسومي؟ هل أنت شاعر بي، أم أنت تنظر إليَّ وترى نفسك؟!
قل لي أبا الهول: ألأمسي أنا أم لغدي؟ وأين هو رقمي في جدول الإنسانية؟ وهل في جبيني السطر الذي تفتش عنه منذ القدم؟ أمصيب أنا في عقيدتي أم مخطيء؟ وهل الشعراء في نظرك هم الناس، وهل في صدرك القاسي فؤاد رحيم؟
أتيتك أسألك عن حقيقتك وحقيقتي، فهل من جواب يخرج من فمك ويريحني؟ أما تاقت نفسك يا صاحبي إلى الكلام ولو مرة واحدة، ألم تسأم الصمت؟؟
حدثني. . وأن كنت معقود اللسان، ففي عينيك الجاحظتين ألف بيان دفين. . . لا تخش أن تبوح لي بسرك، فقد هجرك الناس وجئتك وحدي، وفي هذا الدليل على حبي وإخلاصي. . .
إن في رأسك حلماً كبيراً قديماً حار فيه لسانك، وسقط تحت أثقاله صدرك، فجثمت مكانك صابراً صبر الأسياد لا صبر العبيد. . . لقد أقعدك حلمك عن السير، وملأ نفسك فلهوت به عن الناس. . .(824/11)
حدثني أبا الهول: ما هذا الحلم الذي تنسج خيوطه على مهل؟ أما حان لك أن تستريح؟ لقد طال حلمك وطال صبري!
بماذا تفكر؟ أبالله وسمواته وكواكبه ونجومه، أم بالقرون التي مرت بك، أم بهذا العالم الفاني، أم بي؟؟
حدثني. . ولكن لا، ابق صامتاً، فإنني أخاف إذا تكلمت أن لا يقال بعد ذلك: هذا (أبو الهول). . . إن صمتك حديث الناس، وقد لا يكون حديثك حديثهم، فما يدريك أن تكون الكلمة الأولى التي تنطق بها وبالا عليك، ودليلاً على أنك لم تكن إلا حجراً. . ابق صامتاً. . . إن قوتك في صمتك. . . أنت ملك الصمت، فلا تخلع عرشك بيدك!
ولعلك فقهت معنى الحياة، فرأيت أن الصمت خير ما فيها، أنت صخرة اقتطعتها السماوات من جبال عظمتها وأمجادها، فكبرت نفسك حتى أنفت أن يكون اللسان بوقها وترجمانها ورسولها، وهل يصلح اللسان، هذا الثرثار الضعيف المزعج ليعبر عن أسرار النفس والطبيعة؟ هل يقوى على الثبات في ساحة النفس الكبيرة إذا ثار بركانها؟
انظر إلى الفيلسوف كيف يخرس ساعة يصطدم بالمجهول، وإلى الجندي كيف يُعقل لسانه ساعة يصطدم بالخطر ويصافح الموت، وإلى الفنان كيف يصمت صمته العميق ساعة يسحره الجمال، وتحتل الشاعرية أعماق قلبه. . . وانظر إلى الفقير الذي شرب ثمالات الكؤوس كيف يعجز عن النطق وفي فمه كل دموعه، وإلى المؤمن الناسك كيف يقطع لسانه ليتصل بالخالق، وإلى النسور والأسود كيف تأوي إلى عزلتها وصمتها وتترفع عن الخلائق. . .
أبق صامتاً، أبا الهول، فقد يكون في صدرك كثير من الحسد والضغينة والرياء والضعف والكبرياء والطمع واللؤم. . . وأنا لست بحاجة إلى نفث سمومها، فيكفيني ما ينساب في طريقي من الأفاعي. . . يكفيني هذا الإنسان الذي يوزع لسانه الشقاء في العالم ويكشف ما انطوى عليه صدره!
ابق صامتاً، فلا أدري ما وراء صمتك. . . إن كنت إنساناً فزميلك يكفيني، وإن كنت من جماعة (الأولب) فابق بين آلهتك. . .
ابق صامتاً، فالصمت أرحب من الكلام وأبلغ لأنه يحويه!(824/12)
راجي الراعي(824/13)
مشكلة الشر في ضوء وحدة الوجود
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن اعتناق طاغور عقيدة وحدة الوجود لم يضف جديداً للفكر الهندي، بل هو أخذ من القديم، وترديد لنفحات حكماء السابقين. وأن تدعيمه هذه العقيدة بتوضيح ما يكتنفها من إبهام، وما يشيع فيها من إشكال، أو بعثه لها في قالب شعبي يجدد من حيويتها، ويذيعها بين العام قبل الخاص، ولئن كان فيه شئ من الجدة فأنها لا تظهر طاغور إلا بمظهر المدافع عن تراث ديني عتيق. وإنما الذي يفصح عن ابتكاره الفكري، هو استعانته بهذه العقيدة في تدعيم المبادئ الأخلاقية، وتفسير ما يشوب الحياة الإنسانية من شر، وما ينتابها من سوء.
وإن كان في تصور تجلي الله في مكونات الوجود في صورة قانونها العام شئ من البراعة الفكرية، فإن تصور حلول الله في الإنسان على صورة القانون الأخلاقي، ينم عن مهارة روحية فائقة، تظهر قدرة طاغور الملائكية في كيفية إحكام ربط الإنسان بالله، إذ جعل أفضل ما في الإنسان متمدا من الله، واتخذ من أنبل ما يحتويه كيانه من قيم روحية سبيلا لتحقيق اتحاده بخالقه اللانهائي. وإن كان هناك كثير من البشر يعصي أوامر القانون الأخلاقي، الذي ليس إلا قبسا من نور الله فاض به على الإنسان، فظهر فيه في قالب قطرته الخيرة، التي تحارب الغرائز البهيمية والشهوات المنحطة، وتقاوم سحر ملاذ الدنيا، وتدفع إغراء متعها المادية، كما تطهر النفس من كل ما يمكن أن يتسرب إليها من دنس، وتخضع حياة الإنسان للقيم الفاضلة؛ فإن هؤلاء الذين يعصون هذا القانون الخلقي، ولا يؤمنون بسيادته على النفس، يعتقدون أن منفعتهم الخاصة يجب أن تكون قانون حياتهم الوحيد، ويفضلوا أن يتمردوا على قطرتهم الخيرة على أن يستسلموا لها إذا تعارضت مع فائدتهم، ويقبلون أن يتبعوا أهواءهم الخبيثة ما دامت ترضي رغباتهم الجشعة. وبذلك يفسحون المجال لهذه الرغبات لأن تعيث فسادا في النفس، وتملأها بأنانية بشعة طاغية، تحبسها في سجن رهيب من المصالح الخاصة، لا تسمح لها بأن تخرج من دائرة الذات الضيقة إلى ساحة المجتمع الإنساني، بل تبذر فيها بذور الطمع، وتلقنها فنون اقتراف الخطايا، فتغرق في بحر من الآثام، وتقع في وهدة الشر، فتغيب عنها معرفة الله الكامن في أغوارها على صورة ذلك القانون الذي أبت أن تخضع له، وتتقيد به.(824/14)
وبذلك يحجب الإثم والشر عن النفس إدراك قانونها العام، ويسلبها حب الذات القدرة على تحطيم أغلال الأنانية، فتحيد عن طريق وحدة الوجود، وتعجز عن معرفة أن جوهرها يتضمن أكثر من وجودها الفردي، وتخفق في الإحساس بالله الذي أودع ذاته في طياتها، وبالتالي تفشل في الكشف عن اتحاد الله بسائر الأشياء، وتخيب في تحقيق كمالها الروحي، ولا تتمتع بالحياة في كنف حقيقة الحياة الأولى ألا وهي حقيقة (وحدة الوجود).
وخروج الإنسان عن طاعة قانونه الخلقي مرده إلى أن الله وإن قيد الإنسان بضرورة الخضوع لهذا القانون، ترك له حرية تامة في طاعتها أو عصيانه، كما منحه إرادة حرة لها التصرف في الشئون الدنيوية، ولم يلزمه يفعل الخير أو تجنب الشر، لأن قطرته تسمح له بأن يميز بين الخير والشر، وتمكنه من أن يسلك طائعاً مختاراً الطريق السوي. لأن في النفس الإنسانية نوعين من الرغبات: أحدهما خاص والآخر عام. والرغبات الخاصة تجري وراء المطالب الذاتية، وتقف عند حد الفوائد الشخصية، بينما الرغبات العامة مطالبها تتعدى كل ما هو ذاتي، وتنشد خير كل ما هو كلي مثل الأسرة أو الوطن أو الإنسانية. وإرادة الإنسان يمكنها أن تسير تحت ضغط أي من النوعين من الرغبات، وتملك القدرة على تغليب سيطرة الرغبات العامة على الرغبات الخاصة.
فإن خضع الإنسان لقيادة القوانين الأخلاقية، وتحكم في أهوائه ونزعاته سار في طريق الخير، وإن أتخذ من الإيثار والتضحية سبلا لسعادة الغير، فهو لاشك مساهم في خدمة أهله، ومشارك في إصلاح وطنه، ومجاهد في سبيل ترقية الحياة الإنسانية عامة. وإن بذل نفسه رخيصة من أجل عشيرته أو بلاده ولم يكترث بما يعانيه من حرمان، فقد عرف كيف يذيب الأنانية، ويقضي على حب الذات في نفسه، وإن أصر على تحقيق خير البشرية ولم يحل دون ذلك ما يقف أمامه من صعوبات، فإنه يعد لنفسه طريق الاندماج في الله. وعلى يد هؤلاء الذين فازوا بسرور غير محدود ينبع من الحياة في حقيقة وحدة الوجود ينال البشر سعادتهم، ويتخلصون من كل ما ينغص عليهم حياتهم من شر، وينتشر بينهم الخير.
أما الذي يأبى أن يخضع للقوانين الأخلاقية، ويركب رأسه ويريد على الدوام أن يستولي على ربح خاص لا يشاركه فيه أحد، أو يحظى بمزايا لا ينافسه فيها إنسان، فإنه فضلاً عن أنه لن يهتدي إلى حقيقة وحدة الوجود، ولابد أن يصطدم برغبات الجماعة، ويدخل في(824/15)
حرب مع كل نفع عام عندما يعرقل نفعه الخاص. وذلك يشيع التفرق والتنابذ بين أفراد المجتمع الإنساني، وينشر بينهم التكالب على المصالح الذاتية، بل يحطم ما يربطهم من علاقات محبة وتعاون، فتنحل أواصر الأسرة، ويتفكك كيان الوطن، وينعدم الأمل في تآلف دول العالم، ويتقلب النظام الطبيعي في الحياة إلى فوضى، فيضع القوي قوانين جائزة يدعى أنه وضعها لتنظيم المجتمع، بينما هي تستمد أصول تشريعها من أشرار الأنانية، وتعتمد على القوة والوحشية في تنفيذها، وتبتدع أساليب جديدة في إذلال الإنسان الوديع واستقلال الشعوب المتأخرة.
ولكن إذا أمعن غيه، وصمم على أن لا يحيد عن طريق حب فائدته، واستكبر أن يطيع أوامر القانون الخلقي، سيلبث في صراع عنيف مستمر مع صلح الكل، يستفحل أمره شيئاً فشيئاً إلى أن يقضى عليه آخر الأمر. وهذا مصير كل فرد يقف في وجه الجماعة، ولذلك يجب على الإنسان أن يكبح جماح غرائزه وشهواته التي تلح في طلب المنافع الخاصة، وتوهمه بأن هذه المنافع هي غاية حياته، وتحرضه على أن لا يسلم أمرة النفس للقيم الروحية التي تطلب منه أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه، وأن يضحي برغباته الشخصية إذا تعارضت مع سعادة النفس الكبرى التي تشمل حياة الإنسانية بأجمعها. والإنسان العاقل هو من يوفق بين الرغبات التي ترضي النفس القروية وبين رغبة إسعاد المجتمع الإنساني، لأن كل من يحاول أن يقف وحده في وجه قوى المجتمع، ويرغب في أن يحصرها في نطاق فائدته مصيره إلى الدمار. إن سجل التاريخ الإنساني لحافل بالثورات العظمى، التي تشهد بأن الجزء حينما يحتقر الكل، وينشد لنفسه منافع خاصة من دون الجماعة، ويسير في طريق منفصل عن طريقهم، لا بد أن تثور ضده القوى الكلية، وتشن عليه حرباً لا هوادة فيها حتى ترغمه على أن يسلك طريقها العام صاغراً.
يتضح مما تقدم أن نار الشر تندلع من شرر عصيان الأوامر الأخلاقية التي تنذر بأن الأنانية ستسود حياة الفرد، وأن الإرادة ستسكن لِسيطرة الشهوات والغرائز، التي تفسد الناحية الخيرة في النفس، وتتلف مقوماتها الروحية وتدفعها في طريق الخطايا والآثام، وتوهمها بأن ذاتها هي غايتها الوحيدة في الحياة، وأن لا عمل لها إلا الجري وراء غنمها الشصي. ومثل هذه الأهواء الشريرة تخيم على البصيرة فتحجب عن الروح إدراك الله(824/16)
المستقر في قرارة النفس على صورة القانون الخلقي، فيضل الإنسان في غياهب الشر، ويبعد عن طريق وحدة الوجود. كما تلائم هذه الأهواء الفردية الحياة العامة وتعرقل تقدم المجتمع الإنساني، وتسوق المتأثر بها إلى خوض غمار حرب مع قوة العواطف الخيرة، أو يصطدم بالمصالح العامة، لأنها تؤذي أغلبية القوم وتضر بمنافعهم، وتوقع عليهم ظلماً وجوراً لا تصبر عليه النفوس طويلاً، وسريعاً ما تتآلب عليه وتحطمه، وتضع الحق في نصابه، وتسلب من الظالم أداة ظلمه، وترده إلى طريق الصواب، وتجبره على أن يفعل الخير للجميع.
فرغبة الشر رغبة ذاتية عرضية، لا تدوم إلا بدوام سيادة الأنانية على النفس، وتزول عند مثول رغبة الخير التي تنسجم مع القانون الأخلاقي. أما الشر في حد ذاته فحقيقته سلبية غير ثابتة، ولا ينفك يتحول في مظهره إلى أن يصبر على آخر الأمر خيراً يعم الجميع، لصراعه الذي لا ينقطع مع قوى الحق التي تنشد حقيقة وحدة وجود. ومثل الشر في تغيره هذا مثل الفلسفة الفكرية التي يأخذ العلم في تنقيحها وتصحيحها شيئاً فشيئاً إلى أن تصبر حقيقة ثابتة.
بينما رغبة الخير يقويها في النفس الإيمان العميق بأن الله أودع ذاته الإنسان على صورة القانون الخلقي، الذي يجب أن نتمسك به كل عاقل، ويرضى رضاء تاماً أن يخضع لتعليماته وإشاراته. والخير قبس من لدن الله ينير سبيل الروح نحو وحدة النفس الإنسانية، ويهديها إلى الكشف عن أوجه الله المختلفة في أعماق الكون، فمن رغب الخير سار في طريق وحدة الوجود وأتبع هدى رغبة كلية إيجابية تتمشى مع أغراض الحياة العامة وتدفعه دفعاً حثيثاً نحو الرقي والسعادة، وتحصن بقوة لا ترهب نيران الشر المفترسة، وتسحق الأنانية في النفس. إن تطور الحضارات، ودأب الإنسان المتواصل في الوصول إلى أرفع درجات الكمال، لأوضح دليل على أن الخير يتغلب على الشر، وأن الغيرية تنازع الأنانية، وأن الوحدة الإنسانية تبتلع كل وحدة فردية، وأن العالم في طريقه نحو وحدة الوجود.
فليس هناك ما يدعو للاعتقاد في أن الحياة شر في شر، أو تسير من الشر إلى الشر، ولا خير فيها على الإطلاق، ولن ينجو فيها أحد من سوء. لأن الشر فوق أنه حقيقة سلبية متغيرة غير ثابتة على الحال ومالها للزوال، لا يمكنه أن يعوق تدفق تيار الحياة أو يعرقل(824/17)
تحقيق مثلها العليا في الخير، أو يفتت من عزم الإنسانية الوطيد على الفوز بحقيقة وحدة الوجود عن طريق التمسك بالقانون الخلفي الذي هو إحدى آيات الله التي تكمن في شتى الموجودات. وأن ما بلغه الإنسان من تمدن ليشهد على أن الشر ليس له من القوة الإيجابية ما للخير، ولا يقدر أن ينضب ينابيع الخير التي خاض بها الله على الحياة الإنسانية، بل إن ما في الوجود من شر يلاحظ أنه يتلاشى تدريجيا مع تقدم الحياة المستمر، بينما ما يتحقق من خير تبقى أصوله ثابتة في أعماق الحياة، ويبدو أثرها في مختلف نواحي النشاط الإنساني. فالحياة تتحرك دائماً نحو الخير متخذة منه وسيلة لتثبيت أركان الوحدة الإنسانية، التي عن طريقها تسير البشرية خطوات نحو وحدة الوجود.
أما ذلك الشر الذي ينتشر في الكون، ويقاسي منه البشر كافة أصناف الآلام، ليس دليلا على أن الحياة في أصلها تجلب الشر، وإنما هو علامة على أن الحياة الإنسانية لم تبلغ بعد كمالها الأقصى الذي يجب أن تبلغه، وأنه مازال أمامها مراحل شاقة من التضحية والإيثار عليها أن تبذلها، حتى تصير حقيقة وحدة الوجود حية في القلوب، فينعم الجميع بالراحة والسعادة والأمن وينجون من ظلام الشر الذي يثير القلق، والخوف والحزن في النفوس.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية(824/18)
من الأعماق
للأستاذ كامل محمود حبيب
. . . وظل الشابان في تردد وحيرة، والفتاة في الدار لا تجد الخيرة من أمرها، وهي قد وافقت منذ حين على أن تتزوج من جلال. . .
وأصر جلال على رأيه في تشبث وعناد، لأنه خطب الفتاة إلى أبيها فوجد منه الرضا والقبول، ووجد من أمها العطف والحنان، وألفى في أهلها الصاحب والرفيق. وأهله يتأهبون - منذ حين - ليوم الزفاف وهو قريب. على حين قد أخذ هو يستعد لما بعد هذا اليوم - لشهر العسل - في سرور واستبشار.
ماذا يضير الفتى بعد، وإنه ليدخل إلى دار الفتاة فيجد من يستقبله في حفاوة وإيثار، ومن يتحدث إليه في رقة وحنان، ومن يبذل له العطف والمحبة، ومن يحرص على راحته وهدوئه، وأخيراً يجد من يودعه في حرارة وشغف.
وأحس فكري أن في شباب جلال وقوته ما يبعث في الدار الحياة والحركة، وما يرسل في قلبه الهدوء والطمأنينة، واستشعرت الأم في الفتى النور والبشرى. لقد أنبثق هذا الشعور في قلبيهما قوياً عميقاُ، لأنهما عاشا عمراً يلتمسان الابن (الذكر) فلا يجدانه، والرجل ذو ثراء وذو حاجات، يقعده عن أن يشرف على كثير منها ما يحس من وهن وضعف من أثر الشيخوخة التي تدب في مفاصله رويداً رويداً. وهذا أخوه الفلاح يسيطر على رغباته ويغتال ماله في عنف، وهو يقوم على حاجات العزبة، ويدير أمورها، ويستبد بشئونها، ثم لا يرسل إلى سعادة البك إلا فضلة ما يبقي من غلات أرضه، والبك لا يستطيع أن ينزع الأطيان من بين يدي أخيه فتضطرب شئونها ويختل أمرها وماله عهد بإرادتها، ولا أن ينال حقه بقوة القانون فتلوكه الألسن، ويتندر به الفلاحون في مجالسهم.
والآن جاء جلال - بعد لأي - ليكون ابناً في الدار لتنبض بالحياة والنشاط، وسيداً في العزبة ليزيح عنها هذا الكابوس الجاثم على خيراتها ومغانمها.
كل أولئك غشى على عيني الفتى فلم يلق باله إلى هذا الشحوب البادي على وجه الفتاة فيعصف بنضارتها ورونقها، ولا إلى هذا الفتور الذي يستلبها من إرادتها حين تلقاه. ولم يزعجه هذا النفور الذي يلمسه دائماً، فهي لا تأنس إليه إلا ريثما تنفلت من لدنه. ولم(824/19)
يضايقه أن لا تبتسم له إلا ابتسامة جافة عابرة ينبجس من أضعافها معنى الألم والحسرة. فهو لا يحس أنها تنطوي على بغض له ما تستطيع أن تبوح به خشية أن تجتاحها ثورة الأب ونقمة الأم. إنه لفي شغل عن ما يختلج في أطواء الفتاة، لأنه سعيد في هذه الدار، سعيد بالضجة التي تكتنفه هنا وهنالك، سعيد بالزواج من هذه الفتاة الجميلة الزكية. غير أن خاطرة كانت تحوم حول عقله توشك أن تلجه فيدفعها عنه في شدة وعنف، خاطرة نبت غرامها في قلبه منذ أن تحدث إلى عادل حديثه وحديث الفتاة، فوجد منه الإصرار والعناد، لقد استطاع أن يوهم نفسه بأن الفتاة تلقاه في سهوم وصمت من أثر الحياء والخفر، وأنها تنزوي عنه حين تريد أن تتصنع الدلال ولتمنع، وهو حين يسيطر عليه الشك يتخيل بأن خلجات نفس الفتاة نزوة طائشة من نزوات الشباب لا تلبث أن تهدأ وتستقر.
وانطوت الأيام تدفع المشكلة إلى نهايتها.
أما عادل فكان يرى الحوادث حواليه تضطرب وتندفع إلى غايتها، وما له يد يدفع بها هذه العاصفة وهي توشك أن تلفه في غير رحمة ولا شفقة. لقد كان يلقى فتاته بين الحين والحين لا يستطيع أن يزع نفسه عنها، ويجلس إلى جوارها ويتحدث إليها، وإن قلبه المكلوم ليئن أنيناً يسمع ويرى، وهو يواري زفراته الحرَّى، ويداري عبراته الساخنة خلف ستار من الرجولة والكرامة.
ولكن عين الفتاة كانت تنفذ إلى ما وراء الحجاب فلا ينطلي عليها هذا التصنع وهي ترى فتاها ينهد من حزن عميق، ويتضعضع من أثر الصدمة. وهو يرى فتاته تذوى وتذبل لأنها تنقاد إلى أمر.
آه، ليت هذا الفتى المرح الطروب ينطلق على سجيته فلا يدع الأوهام الكاذبة تكبَّل روحه الوثابة.!
وضاق عادل بما يجد، فأنطلق إلى أبيه في القرية يطب لروحه وترقق الأب الشيخ بابنه الشاب وهو يحدثه: (يا بني، وماذا عسى أن أفعل والفتاة قد سميت على فتى آخر؟ أفتراني أستطيع أن أطلب إلى فكري بك أن يطرد خطيب ابنته في غير ذنب لتستقر أنت مكانه؟ إنني - وقد عركتني الحياة - لا أومن بالحب، وهو خرافة قلبية خلقها الشباب ليبرر بها نزوات الطيش وبدوات النزق، والحياة الزوجية - في رأي العاقل - دار وزوجة وأولاد.(824/20)
وغداً تطم حاجات الدار على ثورات القلب، وتمسح تكاليف الحياة على نوازع النفس، وتبدو الحياة أمامك طفلاً يدرج في فناء الدار، ثم صبياً يتقلب في المدرسة، فإذا هو شاب تنمحي حاجاتك أنت لتفسح الطريق لما يطلب هو، فتبذل له المال والنفس والروح جميعاً. . . ولكن ألا تعلم شيئاً عن الفتى الذي تزعمه غريماً لك؟) قال عادل: (أنا لا أعلم من أمره شيئاً، ولم أجلس إليه إلا مرة واحدة في مقهى على النيل من مقاهي الجيزة. لقد جاء ليحدثني حديثه، ويطلب إليَّ أن أنسحب من هذا الميدان كي لا أخلق المشكلة التي يعضل حلها. إنه فتى وسيم الطلعة، عليه سيما القوة والجد، وعلامة النعمة والثراء، وهو هادئ الطبع، لين الحديث في غير ضعف. . . هو جلال بن عزت بك)!
وبدت الدهشة على وجه الأب حين سمع هذا الإسم، ونظر إلى ابنه نظرة صارمة، ثم راح يقول: (الأميرالاي عزت بك! إنه رفيق الصبا، وترب المدرسة والملعب، وصديق الشباب، وإنه مني بالمكان الذي أحرص فيه على رضاه لأيادٍ كثيرة له عندي. هذا أمر لم تكن تعرفه من قبل. وهكذا ترى أنني لا أستطيع أن أزحمه في أمر اختاره لابنه وسبقني إليه. ولا ريب في أن رجولتك وعقلك وحقي عليك ستدفعك حتما إلى أن تبقى عليَّ وتنزل عند رأيي، فدع عنك هذا الأمر، دعه وأنا أختار لك من تشاء لتكون زوجاً لك، وأبذل لك الجهد والمال لترضي!)
وخرج الفتى من لدن أبيه يتعثر في خيبته، وإن قلبه ورجولته ليتجاذبانه، فما يدري ماذا يفعل، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً. الآن - وقد سدت الأبواب جميعاً في وجهه - لم يبق أمامه إلا أن يتوارى عن عيني الفتاة إلى الأبد. ولكن رجولته أبت عليه أن ينسل خفية كما يفر الجبان الرعديد من الميدان تحت سترين من الظلام والسكون.
لقد عقد العزم على أن ينسحب مثلما يرتد الجندي العاتي الجبار حين يرتد في وضح النهار ووجهه دائماً قبالة العدو، لا يطأطأ رأسه ولا تذل هامته، فذهب إلى الفتاة يعلن أمامها رأيه في قوة وصراحة.
وجلسا معاً في ناحية من حديقة الدار. لقد جاء يعلن لها رأيه ورأي أبيه. ولكنه تخاذل أمام جمالها الآسر وهو إلى جواره يشع حياة ونوراً، وتداعى أمام حبها المتأجج وهو يتألق في روحه بهجة وروعة، فأمسك عن الحديث. أفكان يطمع في أن يمد في عمر سعادته قبل أن(824/21)
يفترقا إلى الأبد، أم كان يشعر بأن في كلماته صفعات عنيفة فهو حيناً بعد حين رحمة بقلبين؟ ولكن صوت أبيه الشيخ رن في أذنيه ينادي: (ولا ريب في أن رجولتك وعقلك وحقي عليك ستدفعك حتماً إلى أن تبقى عليَّ وتنزل عند رأيي). فهمَّ مندفعاً يعلن رأيه، وانطلقت كلماته هينة رقيقة ولكنها وقعت على قلب الفتاة المسكينة في مثل قوة العاصفة العاتية فأجهشت للبكاء، وانطلق صوب الباب يريد أن يهرب من ضعفه.
لقد انطلق عادل ليهرب من ضعفه، ولكنه ما كاد يقترب من الباب حتى ارتطم بشاب يزحمه الطريق: هو جلال. لقد رأى جلال بعينيه. . رأى الفتى والفتاة في ركن تحت شجرة من أشجار الحديقة يستمتعان بالخلوة في منأى عن الرقيب، فوقف ينظر في ذهول وغيظ وحديثهما لا يكاد يبلغ مسمعيه. وحين انطلق عادل صوب الباب أخذ جلال عليه الطريق، ولكن عادلا لم يعبأ به وانطلق في طريقه دون أن يلتفت إليه، يريد أن يهرب من ضعفه.
وحز في نفس جلال ما رأى، فانطلق إلى الفتاة يرَّبت على كتفها ويقول في غيظ وكمد: (لا تحزني يا فتاتي، لقد رأيت وسمعت. والآن أتنحى أنا لتجدي السعادة والرفاهية إلى جانب الحبيب). ثم أندفع إلى أمها في ثورة تفور وتغلي يقذف في وجهها بخاتم الخطوبة.
لقد خسرت الفتاة الحبيب والزوج في وقت معاً، وجلست في زاوية، وإن شبح ابنة عمها ليضطرب في ناظريها كلما ذكرت الخطبة والزواج، ابنة عمها التي أشرفت على الأربعين ولما تجد الزوج.
كامل محمود حبيب(824/22)
فزان بين يدي الأتراك والطليان
للأستاذ أحمد رمزي بك
إيطاليا تسترد فزان:
حينما يتكلم جراتزياني تنصت السماوات العلا ويفتح الناس آذانهم، إلا أهل فرنسا فهم لا يتركونه من غير أن يناله رذاذ من نقدهم: أنظر إليه يقول: (لا توجد على الأرض دولة بوسعها إن تفخر أنها ختمت حملة استعمارية بالنصر الذي ختمنا به حملتنا على الكفرة وفزان: ليس بوسع الفرنسيين أن يدَّعوا شيئاً من ذلك، بل نؤكد أمام العالم تفوفقنا عليهم رغم الانتقادات التي توجه إلينا من سكان ما وراء الألب (يقصد فرنسا) أو سكان ما وراء المانش (يقصد بريطانيا).
ثم انظر إلى ردهم بعد فتحهم فزان في سنة 1943 فيما نشره الفرنسيون بسخريتهم المعروفة:
, ' ,
أنصت إليه في مؤلفه:
يحدثنا عن نفسه:
(ها قد أعطيت الكلمة لتحكيم السيف وإنها لكلمة مقدسة حينما نريد أن نفرض إرادتنا على خصم عنيد؛ إنها مقدسة ولمائة مرة حينما نقذف في وجه الأهالي الوطنيين الذين صمت آذانهم عن سماع أي منطق إلا ما توحيه إليهم عقولهم الهمجية، أولئك لا يقنعهم شيء سوى استعمال القوة تصحبها العدالة).
أرأيتم مثل هذا إلا في عهد قيصر!!!
فهو إذن يشيد بعمل الحكومة الفاشية التي قررت فرض إرادتها باستعمال السلاح يقول أن سياستها تتلخص في جملة واحدة (أصبح من المحتم الخروج من الحالة المبهمة السائدة في المستعمرة وأن تفرض إرادة الحكومة على كل جهة، وأن يكون فرض التسليم والخضوع شرطاً لكل عمل سياسي مع الأهالي، فعلى كل من يباشر أي سلطة حكومية أن يواجه أهل البلاد بهذه الحقيقة التسليم بلا قيد وشرط أو الحرب بلا هوادة).(824/23)
وكانت هذه هي السياسة التي نادى بها فولى والذي وقف من أول الأمر ينادي (بأن حق إيطاليا من الناحية الدولية في امتلاك المستعمرة حق ثابت لا نزاع فيه، وأن عناد الأهالي ما هو إلا ثورة يحركها بعض الرجال المتعطشين للسلطة تقودهم أطماعهم الذاتية فليس هناك روح قومية أو حركة وطنية تحركها عواطف عالية أو روح جماعية، وإنما هناك أطماع وأغراض وأهواء: فلنضرب ضرباً قاسياً (وهل وجد المستعمرون في مدغشقر وفي إندونيسيا غير هذا المنطق؟
وجاء جراتزياني ينفذ خطته لاحتلال فزان على طريقته الخاصة وإلا فانظر إلى تعليماته للوحدات التي يقودها: فهي تعبر عن نفسية يجدر بنا تتبعها:
1 - توزع قوات الاحتياطي على أنحاء الجبهة بطريقة تمكن من الاستفادة منها بغير إضاعة وقت ولكي يسهل تجمعها واستعمالها إذا احتاج الأمر إليها لضرب العدو ضربات قاصمة.
2 - تقسم الجبهة إلى أقسام، وأن يتولى كل في دائرته مطاردة العدو بواسطة أفواج تبدأ عملها من نقط ارتكاز مختلفة ومتباعد ولكنها متجهة في سيرها إلى غرض واحد - أو تظهر أنها متجهة لأغراض متعددة في وقت واحد مع تلاقيها عند هدف واحد، وبذلك تتوزع قوات العدو المتجمعة أو تتفرق أو تثبت في أماكنها.
3 - يراعى أن تستعمل الوحدات على أساس العمل على جبهة واسعة الأطراف، أي تعمل كل واحدة على أنها مستقلة تماماً في تحركها إلى أبعد مدى وتترك كل قواعد وأساليب التعبئة القديمة، وتعتمد الوحدات على مرونتها في الحركة والتقدم والعودة بدون أن تلجأ إلى طلب مساعدة الوحدات الأخرى: يفهم من هذا أنه اتبع نظام دوريات دائمة متحركة بانتظام.
وقد تبين من كتابته رأيه في المقاتلين العرب، فهو لا ترهبه كثرتهم العددية بل يقرن النصر بالقرار الحازم والتقدم للهجوم، فالمهم لديه اكتشاف أماكن تجمع الثوار ومهاجمتها بغير تردد ويوصي بأنه عند التلاقي يجب أشغال العدو وقبول المعركة، فإذا حاول العرب الانسحاب لا تتركهم قوات الجيش ولا تمكنهم من الراحة واستعادة شجاعتهم، بل يجب مع انسحابهم إصابتهم مادياً والفتك بهم حتى تفنى قوة المقاومة لدى العدو ولا يستطيع استعادتها.(824/24)
ثم عاد فقرر (أنه لا يصح احتقار شأن الثوار، بل يحسن إعطاؤهم ما يستحقونه وليذكر الطليان أن عزيمة العرب وإن بدا مظهرها قوياً في المبدأ إلا أنها لا تستند على قوة دافعة مستديمة، ولذلك تضعف وتهبط في النهاية فالمقاتلة من الثوار لا يسعهم أن يصمدوا في المعركة طويلاً أمام قوات نظامية مدربة تدريباً أوربياً)
ويهمنا أن نتعرف إلى جميع آرائه فينا فهو يتكلم بصراحة وبوسعنا أن نصلح أخطاءنا دائماً إذا اطلعنا على ما يكتبه عنا أمثال هؤلاء ويقرر (أن حاجات العرب في الميدان محدودة. ولذلك لديهم مقدرة فائقة على جمع وسوق قوات كبيرة واستعمالها في ميادين مختلفة والعربي مقاتل بغريزته وطبعه فهو لا يهاب المواجهة ولا يخشى التصادم، ويعتمد على عاملين: مقدرته على التضليل ليصل إلى توزيع القوة التي أمامه وتفرقها حتى لا تعمل كموحدة متكاتفة وقوية ثم يعتمد على المؤثرات الأفريقية التي تصيب الجيوش الأوربية وتسبب لجنودها التعب والإعياء حينئذ يضرب ضربته).
ثم يعقب هذا بقوله: (إنه في كل مرة من تلجئهم الظروف إلى مواجهة حالة قتال تقرب من أساليبنا الأوربية، ويتحتم عليهم قبول المعركة يدب الخلل في صفوفهم ثم يسهل لنا التفوق عليهم لعدم تمكنهم من الوسائل الفنية العديدة التي بين أيدينا (على ضوء هذه التعليمات الصريحة قاد جراتزياني جنوده في العمليات التي سبقت فتح فزان وهي عمليات بوليسية على حد تعبير إخواننا الهولنديين حينما يتحدثون عن جهاد الشعوب
وفي هذه الأثناء جاء بادوليو إلى ليبيا وتولى سلطتي الحاكم العام والقائد الأعلى (وكان هذا في نظر جراتزياني فتحاً جديداً عبر قوله (بعد عشرين عاماً من التلكؤ والتردد والهزائم تسلم الأمور ليد عسكرية ونضع لأول مرة برنامج منسجم جامع روعي تطبيقه بإرادة قوية).
وبهذا انتقلت السلطات العليا ليد العسكريين، فأمر بأن تكتب هذه العبارة وتعلق على بابه (ليس لدى هذه القيادة خزينة لدفع مرتبات). وذلك لاعتياد الحكومة الإيطالية على توزيع مرتبات نقدية وهدايا وأسلحة وذخيرة وقال إنه رفض من المبدأ الدخول في مفاوضات أو إعطاء مواثيق أو وعود، وصرح في كل مناسبة أن الحكومة تريد أن تعرف من هم أصدقاؤها ومن هم أعداؤها وأخذ يترنم بمقطوعة من شعر فرجيل الشاعر الروماني.(824/25)
وتعريبه (تذكر أيها الشعب الروماني أنك ستدعى إلى حكم الشعوب فاعف عمن يلين لك واخضع الأقوياء لسلطانك).
وهكذا نرى أن فزان فتحت لنا آفاقاً بعيدة نطل فيها على حوادث متعددة ونتعرف على نفسية القواد وغرورهم ورأيهم فينا:
فلنقف قليلاً لنحدد أثر الحوادث وتسلسلها التاريخي في فاصل قبل الدخول إلى المقاطعة وحروبها الحديثة.
فنحن نعلم أن فزان كانت مستقلة تحت حكام من أمراء بني خطاب من قبائل الهوارة كما حكمها ملوك من السودان ولا تزال بقايا قصورهم وقبورهم قائمة. ونحن نذكر نقلا عن صاحب تاريخ طرابلس الغرب المسمى التذكار (حوادث عن أمراء فزان) في ولاية سليمان داي التركي وحروب صاحبها المنصور بن الناصر ابن المنتصر ورفضه دفع الإنارة وعراكه مع الوالي ثم حروبه وعودته وشكوى أهل فزان للسلطان أحمد بن السلطان محمد ابن مراد بن سليم بن سليمان فهذه حوادث تتكرر في كل عصر حتى عصر عبد الحميد. وكان أن أصبحت فزان منفى لرجال الأحرار من الأتراك في عهده والغريب أن يلجأ حكام روما الفاشيون إلى فزان والكفرة لفرض الإقامة الجبرية على فريق من أعداء العهد الفاشي، فإذا جنود فرنسا حرر بعضهم وكان قد مضى عليهم سنوات وهم مبعدون من أوطانهم.
لنذكر بعد ذلك أن إيطاليا جمعت أواخر سنة 1913 حملة قوامها1200 جندياً إيطالياً ووطنياً تحت قيادة الكولونيل ميامي ووجهتها من طرابلس إلى الجنوب واحتلت المراكز الهامة حتى وصلت إلى مرزوق ولكن هذا الاحتلال لم يدم طويلا كما ذكرنا ففي نهاية عام 1914 انسل الطليان منسحبين إلى الشمال تاركين الجنود الوطنيين وحدهم فدخل فزان السنوسيون مع حلفائهم من الطوارق وأقاموا بها حكما لم يدم طويلا لأن الأتراك أعدوا الكرة فزحزحوا السنوسيين عنها وعينوا إحسان ثاقب متصرفاً للإقليم وجعلوا المدعو خليفة زاوية في وظيفة محاسبجي للمتصرفية حدث هذا في سنة 1917 ثم تولى الأخير السلطة في نهاية سنة1918 ولما غادر الضباط الأتراك بعد عقد الهدنة - ثم ساد عهد الفوضى(824/26)
والتنازع بين الأخير وجماعة سيف النصر وشيخ يدعى عبد النبي انتهى باستيلاء الأخيرين على مرزوق وطرد خليفة من المقاطعة فلجأ الأخير إلى الطليان وهو بحالة يرثى لها فأعطاه جراتزياني منزلا وخادماً ووعده بأن يستخدمه في فتح فزان.
وضعت خطة الفتح بناء على إرشادات المارشال بادليو وروعيت فيها منتهى الدقة بحيث لم تتجاوز اعتمادات الصرف 21 مليون ليرة إيطالية أيما يقرب 200 ألف من الجنيهات المصرية يدخل تكاليف تعبيد الطريق لغاية سبها وإصلاح الطريق من سبها إلى مرزوق ثم منها إلى غات على الحدود الفرنسية.
ثم كل هذا ابتداء من النصف الأول لسنة 1929 وتحدد شهر ديسمبر لابتداء العمليات الحربية التي وضعتها القيادة العامة في طرابلس من ناحية تعبئة القوات المكلفة بالفتح وتهيئتها وإمدادها بعربات النقل وكل ما يتعلق بمراكز التموين والتجمع ونظام سوق الجيش وتركت على عاتق جراتزياني الناحية الفنية ناحية اختيار الضباط وتدريب القوة المكلفة بالزحف.
فحصر همه في اختيار أعوانه ووضع لذلك شروطاً ألزم نفسه باتباعها فاشترط.
1 - أن يكون الضابط على خلق قيم وجرأة وإرادة.
2 - أن يكون من المتحمسين للأمور الاستعمارية.
3 - أن يكون من الذين يتحملون المشاق ويرضون بالتخشن في العيش.
ولما عرف كيف ينتقي ضباطه فرض هذه الشروط على ضباط الصف ثم أخذ يختبر معلومات ومقدرة رجاله ففرض على القوة القيام بتمرينات متعددة على خاصيات حرب الصحراء واهتم بوسائل الارتباط والمخابرة مع الطائرات حتى يسهل الاتصال بين الوحدات وبعضها وبينها وبين القيادة وطبع كتاباً مختصراً عن فزان وأحوالها ووزعه على الجنود وضباط الصف وأخذ في تحضير خريطة مفصلة على أحدث ما وصل إليه علم السلطات عن طبيعة الأرض والمناطق وأسماء البلاد والمسافات التي تفصلها.
ولم ينسى خليفة زاوية الذي انضم مع الطليان على رأس مفرزة من الوطنيين ومعه مهدي موسى للانتقام من أعدائهما في مرزوق وتحركت. القوتان في نهاية شهر أغسطس وقاتلت جماعة من المجاهدين تحت قيادة سيف النصر واحتلت واحة براق الواقعة على طريق(824/27)
سبها.
ولما وصل خبر احتلالها إلى طرابلس أصدر بادوليو أمره بالتقدم إلى مرزوق وأن تكون المقدمة من فوج من السيارات المدرعة ومعه كتيبة من جنود إرتريا تحملها السيارات وتتبع كل هذا قافلة تحمل ما يكفي لمدة شهر من المؤن والذخائر ولما وصلت الحملة إلى براق وجدت أن سبها قد سقطت في يد خليفة وبهذا أصبح الطريق مفتوحاً إلى مرزوق.
يقف الطليان هنا موقفاً خاصاً يشيرون فيه إلى أخطائهم الماضية فهم يدرسون عمليات سنة 1913 ويقررون أن أسلافهم لم يفكروا في حماية مواصلاتهم وكان تقدمهم لاحتلال مراكز العدو دون التفكير فيما تتعرض جنودهم إذا تركوا جيوباً للعدو يشن الغارة منها عليهم وكان أن سقطت حامياتهم وعزلت واحدة تلو الأخر ويكشف جراتزياني عن فكره بقوله (إن هذه الأخطاء لن تتكرر مرة أخرى) ولذلك ترك الزعماء الوطنيين يتقاتلون في فزان. حربهم الداخلية الفانية التي تحضر للرق رؤوسهم وأخذ يستعد لحملة واسعة النطاق وكان ذلك في الشهور بين أغسطس و25 نوفمبر سنة 1929 حيث وصل فجأة إلى سبها وأصدر تعليماته التي تتلخص في
1 - إتمام تطهير الجزء الشمالي بأكمله واحتلال براق وسبها بالقوات النظامية.
2 - السير مرة واحدة إلى واو الكبير على طريق مرزوق - الكفرة ومنها كانت الحملة التي وجهها العابد إلى سبها سنة 1914.
3 - الهدف الأخير احتلال مرزوق - أوبارى - غات لحدود الصحراء الفرنسية.
إن القصد النهائي هو أن تتطور المعركة على شكل ديناميكي وينتهي للوصول إلى احتلال نهاية الحدود السياسية وإخضاع أبعد المناطق مما لا يتصور العرب أن في وسع الحكومة الإيطالية الوصول إليها1.
وقد نفذت هذه الخطة التي كان الكتمان رائدها بحذافيرها تامة فاستولت إيطاليا على واو الكبير ومرزوق وفي 35 فبراير سقطت غات التي غادرها الثوار منسحبين إلى داخل الأراضي الفرنسية وفي 30 مارس تركت مفرزة من قوات البادية مراكزها في فزان متجهة جنوبا فاحتلت جبال طمو في 2 إبريل أي على بعد1500 كيلو متر من الساحل وأتمت حركتها بأن عادت إلى مراكزها عن طريق بئر الوعر وبقيت إيطاليا تسيطر على(824/28)
فزان حتى قامت الحرب الأخيرة. أليس في ذكر هذا ما يحرك في النفس أشياء؟ نعم لقد انتهى عهد إيطاليا وانتهى جراتزياني وسلمت جيوشه في صحراء مصر ولكن الدروس التي ألقاها علينا في زحفه إلى فزان تستحق العناية أو تنبهنا إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها أسلافنا أو وقعنا نحن فيها ألم يكن من الأوفق لنا أن نعرف أساليب الخصم العاتي وأن الاستعمار مجموعة تحارب والحروب سلسلة من الدروس القاسية والفرص تأتي ولا تعود.
والآن انتقل إلى الحلقة الأخيرة لفزان وهو احتلال فرنسا لهذا الإقليم:
(النهاية في العدد القادم)
أحمد رمزي(824/29)
حول مشكلة السكان في مصر
للأديب محمد محمد علي
إن دراسة السكان على جانب كبير من الأهمية للباحث الاجتماعي، وذلك لوجود علاقة متبادلة بين تكوين وحجم المجتمع من جهة، وبين النظم الاجتماعية والمظاهر الحضارية من جهة أخرى. وعلى ضوء هذه الدراسة توضع خطط إصلاح المجتمع. والسكان في العالم موزعون توزيعاً غير صحيح، لأن هناك عوامل كثيرة تؤثر في هذا التوزيع، وأهمها المظاهر الجغرافية والموارد الطبيعية والتحسينات البشرية.
وفي مصر يتجمع السكان (تسعة وتسعون في المائة منهم) في جزء صغير لا تتجاوز مساحته خمسة وثلاثين كيلو متراً مربعاً، فتبلغ كثافة السكان 750 نسمة في الكيلو متر المربع على اعتبار أن عدد السكان قد وصل تسعة عشر مليونا. وتختلف هذه الكثافة في جهات القطر المختلفة، وتبلغ أقصاها في المنوفية: أشد المديريات إزدحاماً، إذ تزيد الكثافة على ثمانمائة نسمة. ولا عجب في هذا الازدحام فإن اعتماد الأهالي على الزراعة.
ومن مقارنة التعدادات المتتالية يتبين لنا أن عدد السكان في مصر قد تضاعف في نصف القرن الأخير إذ زاد من تسعة ملايين وسبعمائة نسمة في عام 1897 إلى تسعة عشر مليوناً. في عام 1947 حيث بلغ متوسط الزيادة 2 % في السنة. وهذه زيادة كبيرة لا تتناسب وزيادة الموارد الطبيعية: وذلك هو أصل الداء رأس المشكلة. فإن المساحة المنزعة لم تزد في هذه الفترة إلا حوالي ثمانمائة ألف فدان إذ بلغت في عام 1945 خمسة ملايين وسبعمائة ألف. وليس من شك في أن هذه الزيادة الكبيرة في السكان تؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة، لكنها زيادة في طبقات معينة ألا وهي الطبقات الدنيا، لأنها لا تزال تعتقد أن في زيادة السكان خيراً وبركة، اعتماداً على قول الرسول الكريم (ص) (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) ثم لطبيعة الفلاحين في حب النسل الكثير. ومن جهة أخرى أن نجد أن الطبقات المثقفة والعليا تستخدم وسائل ضبط النسل بنجاح كبير لدوافع اقتصادية وصحية وثقافية. إذن فالطبقات الدنيا هي التي ينخفض مستواها من هذه الزيادة، وهم سكان الريف المهمل في شتى الخدمات الاجتماعية.
وتعتبر الملكية العقارية عماد النظام الاقتصادي الزراعي في مصر. فقد بلغ عدد الملاك في(824/30)
عام 1945: 2 , 600 , 000 أي 15 % من السكان. فإذا فرضنا أن كل مالك يعتبر ربا لأسرة قوامها خمسة أفراد، فإن عدد من يعتمد على الزراعة من سكان القطر كمورد يبلغ نحو خمسة وسبعين في المائة من جملة السكان. ومن هؤلاء الملاك سبعون في المائة يقل ما يملكه الواحد منهم عن فدان! ولا جدال في أن الفقر يؤدي إلى سوء الصحة، بالإضافة إلى الجهل الضارب إطنابه نرى أن ثمانين في المائة من سكان مصر الحديثة يعيشون عيشة ضنكا! وهذا أمر عجيب في بلد ذي مناخ معتدل وموقع ممتاز، وهو يعد مهد أقدام حضارة أضاءت بنورها ظلمات العالم. وهنا نتساءل: هل يؤدي ازدياد السكان إلى انخفاض مستوى المعيشة؟ ولكل سؤال جواب كما يقول جميل لصاحبته. فما ينبغي أن نتشاءم كما تشاءم ملثس (1766 - 1834) في انجلترا، فقد حذر مواطنيه من كثرة التناسل وحثهم على تأخير الزواج مع حياة العفة. وحينما تغيرت الأحوال ونهضت الصناعة في القرن التاسع عشر، زاد عدد السكان زيادة فائقة استجابة لزيادة الموارد، ولم يصحب ذلك انخفاض في مستوى المعيشة.
قد يقال إن أمام المصريين أرض الله واسعة فليهاجروا إليها، ولكنما المصري قد تعود التعلق بأرضه منذ القدم، ثم أن الهجرة ليست بالأمر الهين السهل، لأسباب مختلفة وظروف متباينة. وقد يقال إن ضبط النسل هو الحل الصحيح، ولكنه غير ممكن من الناحية العملية إذ أن وسائل ضبط النسل قلماً تلاقي نجاحاً عند الطبقات الدنيا كما أشرنا من قبل، مع أن المجتمع لا يرغب في زيادتهم الكبيرة، وذلك بعكس الحال عند الطبقات المثقفة والعليا التي توسعت في استخدام ضبط النسل مع أن كثرة نسلهم ليس منها ضرر، إذ أن في إمكان هذه الطبقات أن تربي الأطفال مهما كثروا تربية حسنة. إذن فعلاج الحال نجده في الموارد الطبيعية.
ففي الناحية الزراعية يمكن زيادة الأراضي المنزرعة وذلك بإصلاح الأراضي البور وبواسطة مشروعات الري مثل مشروع وادي الريان وغيره والاهتمام بطرق الزراعة والعناية بأنواع النباتات وتحسينها، مع ملاحظة قانون الغلة المتناقصة وهو أن للأرض حداً في الإنتاج لا تتعداه مهما أجرى من وسائل التحسين والإصلاح، وكل زيادة في الإنتاج يحصل عليها بأكثر من زيادة متناسبة في الأيدي العامة.(824/31)
ويرى سعادة حافظ عفيفي باشا أن هناك أربع وسائل لرفع مستوى المعيشة في مصر2:
1 - قيام الشركات المساهمة.
2 - رفع الرسوم الجمركية على الموارد الأولية والآلات.
3 - العناية بأجور العمال وتحسينها.
4 - تشجيع التصدير إلى الخارج.
وهناك غير ذلك من وسائل رفع المستوى الاقتصادي للشعب مثل الضرائب التصاعدية وتأميم المشروعات والتصنيع الريفي والتوجيه المهني للنشء. . . ومن وسائل رفع المستوى الصحي مثل العناية بمياه الشرب والمساكن الصحية وإنشاء المستشفيات والتأمين الصحي للسكان وتشجيع الجمعيات الخيرية. والاهتمام بالتعليم ونشر الثقافة الشعبية ومحو الأمية لرفع المستوى الثقافي. هذا مع العلم بأن هناك ارتباطاً بين النواحي الاقتصادية والصحية والثقافية؛ فلا صحة للقول الشائع بأن نبدأ في القضاء على الأعداء الثلاثة الفقر والمرض والجهل واحداً فواحداً، مع أن المشكلة واحدة وينبغي علاجها من كافة الوجوه.
ولا بد لنا من أن نسجل بالفخر في هذا المقام ما قامت به حكومة الفاروق أعزه الله من جهود في سبيل رفع مستوى الشعب بمختلف الوسائل.
والخلاصة أن ازدياد السكان لا يؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة ما دامت هناك إمكانيات لزيادة موارد الغذاء، إلا أن هناك ضرورات تستوجب استخدام وسائل ضبط النسل مثل عدم ملائمة الحالة الصحية أو اشتغال المرأة بالأعمال المختلفة وغير ذلك. وينبغي أن نتذكر دائماً فرنسا التي ما زالت تعاني خطر قلة عدد سكانها، إذ استخدم ضبط النسل في أول الأمر كعلاج للمشكلة عندهم، ثم بمضي الزمن أصبح ضبط النسل من تقاليد السكان الذين لم يستطيعوا التخلص منه رغم إغراءات الحكومة المختلفة لزيادة النسل. مع أن المقصود بضبط النسل فيما نرى هو مراعاة مقتضى الحال في الزيادة والنقصان.
محمد محمد علي
قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد(824/32)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
توفيق الحكيم في ميزان الفن والنقد
الرأي الذي كونته لنفسي عن فن توفيق الحكيم قبل أن أعرفه، هو الرأي نفسه الذي انتهيت إليه بعد أن عرفته. كل ما حدث هو أن معرفتي به قد زادتني اقتناعاً بهذا الرأي وإيمانا به. أما هذا الإيمان فقد قام على دراسة بعيدة المدى لفنه أولا ولشخصه ثانياً، وأستطيع أن أقرر وأنا مطمئن أن كل ما أكتبه هنا - في رأيي على الأقل - يتسم بسمة المعرفة، والصدق، والثقة التي تستمد عناصرها ومقوماتها من الواقع الملموس.
أول مزية من مزايا هذه الشخصية الفنية أنها من الشخصيات النادرة التي تتمتع بحظ كبير من القلق النفسي، وهو أول أداة من أدوات كاتب القصة. . . ومن طبيعة الشخصية القلقة أنها تثير دائماً ألواناً من (الصراع الفكري) في ثنايا القصة والمسرحية، وكلتاهما تعتمد أول ما تعتمد على هذه الدعامة الفنية الفذة، وأعني بها (الصراع)! القلق الدفين والشك الملح صفتان تجريان مجرى الدم في طبيعة توفيق الحكيم النفسية؛ ومن هنا تجد شخصيته القلقة منعكسة بوضوح في أكثر ما يكتب، ويستطيع الذين لم يتصلوا بهذا الكاتب، ولم يتهيأ لهم أن يعرفوه معرفة خبرة ودراسة ويقين، أن يلتمسوه هناك في كثير من شخصيات قصصه ومسرحياته. . . إنها شخصيات حائرة، قلقة، مترددة، يندر أن ينتهي بها المطاف إلى استقرار. وهكذا تجد توفيق الحكيم في واقع الحياة؛ يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس: في تأملاته، في سبحاته الروحية؛ وهو لهذا كله يثير في فنه أشتاتاً من المشكلات الفكرية العميقة التي تحفل بالصراع، ولكن أي صراع؟ إن توفيق الحكيم يذهب في مقدمة (أوديب الملك) إلى أنه يقيم الصراع دائماً على دعامتين: الواقع والحقيقة، أي أنه يغرق أبطال قصصه ومسرحياته في خضم من (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)! الذي تتجاذبهم فيه أمواج الواقع من هنا وأمواج الحقيقة من هناك. . هذا ليس كل الحق؛ إن في بعض مسرحياته صراعاً بين الواقع والخيال، وقد يبدو الخيال لبعض الواهمين ضرباً من الحقيقة، كما حدث لبعض شخصيات توفيق الحكيم في (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)!
وسواء أكان الصراع بين الواقع والحقيقة، أم كان صراعاً بين الواقع والخيال كما حدث في(824/33)
(شهرزاد) و (سليمان الحكيم)، سواء أكان هذا أم ذاك فإنك تخرج من هذا (الصراع الفكري) بظاهرة فنية ملموسة، وهي أن شخصيات توفيق الحكيم القصصية تفرمن الواقع هنا وهناك. . . ومرة أخرى تجد هذا الفنان منعكساً بلحمه ودمه على صفحة فنه، لماذا؟ لأن هذه هي طبيعته النفسية والفكرية؛ لقد قدر له أن يلقى الحياة بهذه الطبيعة العجيبة، يلقاها ليفر منها، جرياً وراء الحقيقة أو جرياً وراء الخيال!
(الصراع الفكري) هو السمة الغالبة على آثار توفيق الحكيم الفنية، أما (الصراع النفسي) فلن تجد منه إلا ومضات لا تلبث أن تشع حتى تختفي. . . في هذا التيه من التأملات الفكرية والتهويمات الذهنية، وتستطيع أن تلمس هذا بوضوح في (أوديب الملك)؛ لقد حاول توفيق الحكيم جاهداً أن يتخلص من هذه الظاهرة التي تفرض نفسها على فنه ليبتعد بتمثيلية سوفو كل عن حيز (المسرح الذهني) ولكنه لم يستطع. . . من هنا تنبع شكواي من فن توفيق الحكيم؛ شكواي من انعدام (الصراع النفسي)! إن أول مزية من مزايا هذا الصراع هي أنه حين يرسم لك الخطوط الرئيسية في مشهد من المشاهد أو في شخصية من الشخصيات، يجعلك تعيش بفكرك وشعورك في محيط هذا الجو الذي تمتزج به ويمتزج بك، فإذا أنت متجهم في جو المشهد القاتم والشخصية العابسة، وإذا أنت منطلق الأسارير في جو المشهد الوضيء والشخصية الباسمة. . . لهذا كله لم يهزني (أوديب) في محنته؛ أوديب الذي تحالفت عليه المقادير فقتل أباه وتزوج من أمه. وكذلك لم تهزني (جوكاستا) الشقية البائسة؛ جوكاستا التي تنجاب عن عينيها الغشاوة يوماً فترى أن الزوج هو الابن، وأن الأطفال الأحباء قد خرجوا إلى الحياة، كما خرج أبوهم من قبل. . . خرجوا جميعاً من بطن واحد!
هذا النقص في (الصراع النفسي) تحل محله موهبة أخرى في (الصراع الفكري)، ولولا هذه الموهبة الفذة لما ملئ هذا الفراغ في فن توفيق الحكيم. . . إن طبيعته القلقة قد انعكست على شخصيته الفنية فأكتسبها فيضاً من المزايا التي لا تجتمع كثيراً لغير هذا الفنان: منها هذه الحرارة المتدفقة التي يضفيها على فنه إشعاع ساطع من عنف الصراع ونفاذ التأملات، وتلك الحركة الجياشة التي تشيع في ثنايا المواقف النابضة بالحيوية والانطلاق.(824/34)
ومع ذلك فأنل أرجو من الذين قرءوا (أوديب الملك) وغيرها من المسرحيات التي يطبعها طابع (الصراع الفكري) أن يرجعوا إلى (سليمان الحكيم). . . إنهم سيلمسون ظاهرة فريدة لا عهد لهم بها في فن توفيق الحكيم. ظاهرة وقفت عندها وأطلت الوقوف، ودرستها في كثير من التأمل وإنعام الفكر. . . (صراع نفسي) وهذا هو العجب، (وقلب إنساني) وهذا هو الأعجب! ترى أكان توفيق يوم كتب (سليمان الحكيم) يعيش نفس التجربة التي صورها بريشته لقلب (بلقيس) حين خاض هذا المعترك الرهيب بين حب (منذر) وجاه (سليمان)؟ أكاد أقطع بصحة هذا الظن، وإلا لما استطاع توفيق الحكيم أن يهزني كل تلك الهزات الشعورية العميقة في هذا العمل الناضج من أعماله الفنية؛ أقول (هزات شعورية) لأن العهد بتوفيق الحكيم أنه في أغلب آثاره لا يهز قارئه إلا (هزات فكرية)!. . .
(سليمان الحكيم) في إنتاجه كله تقف وحدها متفردة باكتمال (الصراع النفسي) وقوة النبضات في القلب الإنساني، وحكم التفرد أمر لا يقاس عليه إذا ما أقمنا الميزان للشخصية الفنية على مدار إنتاجها كله؛ ومعنى هذا أنني أعود فأكرر بأن (الصراع الفكري) هو السمة الغالبة على آثار توفيق الحكيم في واقع الفن وواقع الحياة!.
تعال بعد ذلك أحدثك عن موهبة أخرى في فن توفيق الحكيم هي موهبة الحوار - قد تقول لي إن توفيق الحكيم ينطق شخوص قصصه ومسرحياته في بعض الأحيان بما يبعد عن أن تنطقهم به الحياة. إنني أوافقك على ما تقول، ولكنك لا تستطيع أن تنكر أنه يدير دفة الحوار بمهارة فائقة تنسيك هذا الجانب الذي يلوح منه شبح الاعتراض. ولا تستطيع أن تنكر أيضاً أنه قصاص قادر على الانفعال في تلك المواقف التي تتطلب دفقات هائلة من السرعة والحركة وحرارة التعبير، وتلك مزية تنقص الكثيرين من كتاب القصة!
أما الموهبة الأخيرة التي تهزني في فن توفيق الحكيم فهي أن القصة بين يديه تمتاز با (التصميم الفني). . . إنه يعرف كيف تبدأ القصة، وكيف تسير. وكيف تنتهي، دون أن يكون هناك شذوذ أو اضطراب في هذه المراحل الثلاث؟
هذا هو كل ما يمكنني أن أقدمه إلى الأستاذ محمد عادل المرصفاوي في حدود المجال الذي طلب إلي أن أكتب فيه، وأنني لأرجو أن أكون قد وضعت بين يديه مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة. . . على حد تعبيره حين كتب إلى مشيراً إلى(824/35)
شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الأدبية والإنسانية!
كرافتشنكو ينتصر على مجلة (ليتر) الفرنسية:
أخيراً وبعد نضال مرير عاصف عنيف شهدت أدواره جوانب قاعة المحكمة بسراي العدل في العاصمة الفرنسية، أصدر القضاء حكمه في صالح الكاتب الروسي الثائر على نظام الحكم الفاصل بين صاحب (آثرت الحرية) وبين القائمين على أمر مجلة (لي ليتر فرانسيز)، تنهار أدلة الاتهام التي وجهها خصوم الكاتب الروسي إلى حقيقة كتابه وما حوى من وقائع ومعلومات!.
إنها لطمة قاسية من غير شك، تلك التي وجهها القضاء الفرنسي منذ أيام إلى الشيوعية الروسية الفرنسية. . . وأية لطمة أقسى من أن أن يصدر حكم القضاء مؤكداً نسبة الكتاب إلى صاحبه، ومؤيداً لكل ما تضمنه من بيانات أوردها كرافتشنكو ليدلل بها نظم الحكم في بلاده، تلك النظم التي تحد من حرية الرأي والفكر، وتلغي الكرامة الفردية والعقلية وكل ما ينشده الأحرار من مثل في المجتمع الكريم؟!
إن كرافتشنكو يخرج اليوم مرفوع الرأس، بعد أن حكم له القضاء بتعويض قدره خمسون ألف فرنك عن الجزء الأول من الدعوى التي رفعها على المجلة الشيوعية الفرنسية، وبعد أن حكم له بتعويض آخر مماثل للتعويض الأول في مقابل الجزء الثالث من الاتهام. . . أما مسيو كلود مورجان مدير المجلة ومسيو أندرية ورمستر رئيس تحريرها فقد قضت المحكمة بتغريم كل منهما مبلغ خمسة آلاف فرنك؛ ومع إلزامها بنشر هذا الحكم في أول صفحة من صفحات (ليتر فرانسيز). . . مجلتهما الأسبوعية!!
هذا هو ما وافتنا به شركات الأنباء عن آخر مرحلة من مراحل هذه القضية المثيرة، ولكن هيئة الدفاع عن محرري المجلة الفرنسية تعد العدة لاستئناف هذا الحكم في الأيام المقبلة. . . ومعنى أن هناك فصلا أخيراً يهم النظارة أن يشهدوه!.
(كافر) للشاعر السوري زهير ميرزا:
هذه مجموعة شعرية تستحق تحية القلب وتحية القلم. . قال صاحبها وهو يتفضل مشكوراً بإهدائها إليّ: (أقدم إليك هذا الشعر، قال صاحبها وهو يتفضل مشكوراً بإهدائها إليّ: (أقدم(824/36)
إليك هذا الشعر، صدى لكلمتك (تحية قلبية وأخرى قلمية)، التي لولاها ولولا الرسالة ما تم مثل هذا اللقاء الفكري الذي أرجو أن يكون فاتحة صداقة متسامية، رائدها الكفر بالمفاهيم للأيمان بها)!. . . إهداء فيه تحليق وشعر فيه تحليق، وأنا أحب أن أعيش في أجواء المحلقين من أمثال زهير ميرزا، سواء كانوا كتاباً أم شعراء.
أجمل ما في هذه المجموعة الشعرية أن زهير ميرزا يصب شعره في قالب من الحوار الفني الذي يدور حول فكرة، تنبع من أعماق الشعور لتحلق على أجنحة الخيال. . . ولا أقول إن الفكرة الجديدة، ولكن الجديد فيها هو تلك اللقطات البارعة التي تجيد اختيار الزاوية في مجال الإخراج الفني للصورة النفسية، تلك التي يتسع لها إطار التعبير ولا يزيد!
صورة من النفس يلفها وشاح من ومضة الفكر، وإذا أنت في (الحقيقة الكبرى) مأخوذ بصراع العقل والعاطفة بين (قمر) و (شهرزاد). . . هناك حيث تنفر الروح من هذا (الشيء) المعاد الذي تبلى جدته في عالم الواقع وتحيا في عالم الوهم الطليق! وهكذا يمضي زهير ميرزا في (لقاء) و (وغانية الفكر) و (كافر) و (مصرع المثال). . . أما (لقاء) فتصور هذا النضال النفسي الذي يثيره (نداء الأعماق) في طريق قد خلت من كل شيء إلا فتى وفتاة؛ أمواج من دعاء الوجدان تعترض سير الشراع الحالم ولا تزال به حتى يغيب تحت أطباق العباب! وفي (غانية وفكر) يقبل جسد وتعرض روح. . . وتحتدم المعركة بين اللهب المنبعث من وقدة نار تتأجج، وبين الفراشة التي تحوم حول النور تبغي الضياء ولا تريد أن تحترق؛ إن ريشة زهير قد بلغت الغاية في تلوين هذه اللوحة التي تمثل فورة الصراع بين بائعة جسد وبين راهب الفكر!. . . أما (كافر) فتنقلك إلى ذلك الجو الفكري السابح في أعماق الوجود وحقيقة الحياة؛ هل تذكر قصيدة (الطلاسم) لإيليا أبي ماضي؟ إن جناحي زهير ميرزا يضربان في هذا الأفق ضربات عميقة تهز الخيال المحلق فيما المجهول!
إنني لا أريد أن أقدم للفراء بعض النماذج من هذه المجموعة الشعرية حتى لا يغنيهم القليل عن الكثير، إنني أود أن يرجعوا إلى المجموعة كلها ليقضوا مع الشاعر لحظات جميلة وممتعة كتلك التي قضيتها معه. . . أما أنت يا صديقي زهير فيسعدني أن نكون صديقين،(824/37)
يلتقيان على الكفر بالمفاهيم للأيمان بها، وليس أحب من هدم يقوم على أنقاضه بناء!!
جوهر النفوس عندنا وعندهم:
نشرت (المصور) في الأسبوع الماضي صورة لصبي أمريكي يجلس بين أكوام من الأوراق المالية، ثم أشارت إليه بهذه الكلمات: (إنه (بوبا) الفتى المقعد الذي ضاق ذرعاً ذات مساء بوحدته والحياة، فقصد دار الإذاعة في ولاية تكساس بأمريكا، حيث ناشد المستمعين أن يمدوه ببعض (الدراهم) التي تعينه على الحياة. . . وما كادت تنقضي بضعة أيام حتى دعي إلى مقر البريد حيث سلمه مديرها الرسائل التي وردت إليه من أنحاء الولاية استجابة لدعوته. وقد وجد الفتى نفسه غارقاً في أكوام من الرسائل تحمل بداخلها ثروة تقدر بعشرين ألف دولار، هبطت إليه من السماء)!
هل تستطيع أن تقف معي لحظات لنزن هذا الخبر الذي يحمل إلينا قليلا من الألفاظ وكثيراً من المعاني؟!. ترى لو كان هذا الصبي المقعد في مصر، وذهب إلى الإذاعة ليذيع نداء الحاجة على ذوي القلوب الرحيمة، ترى ماذا كان يحدث؟ الشيء الذي أتصوره ولا يمكن أن أتصور شيئاً سواه، هو أن يهاجم ذوو القلوب الرحيمة دار الإذاعة هجوماً لا (رحمة) فيه، لأنها سخرت الجهد وأضاعت الوقت في خدمة المقعدين والمتسولين!. . والشيء الذي أتوقعه ولا يمكن أن أتوقع شيئاً سواه، هو أن تضج الصحف بالشكوى من تفاهة هذا (البرنامج) الذي تفتقت عنه أذهان المشرفين على الإذاعة، أولئك الذين لا هم لهم إلا إزعاج المستمعين!
ألا ما أبعد الفارق بيننا وبينهم. . . هناك قلوب من ذهب وهنا قلوب من قصدير!!
أنور المعداوي(824/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
العربية تزحف على يد وزير المعارف:
كتب معالي الأستاذ علي أيوب بك وزير المعارف، صفحة جديدة في تاريخ الكرامة المصرية، إذ أعز اللغة القومية ورفع لواءها على مكاتب السفراء ورجال السلك السياسي الأجنبي في الأسبوع الماضي، حينما أمر بكتابة الدعوات التي أرسلت إليهم لحضور حفل المرشدات باللغة العربية، على خلاف ما جرت عليه الوزارة من كتابتها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
وهي دفعة من الدفعات التاريخية التي قام بها رجال من رجالنا في العصر الحديث لنصرة اللغة العربية والتمسك بها ورفع شأنها باعتبارها لغتنا وأن لا شخصية لنا إلا بسيادتها.
ولا شك أن من حقنا أن نكتب بلغتنا لمن نشاء، ولكن كنا نتسامح ونفرط في هذا الحق ولم يحدث أن تمسكنا به واستطاع أحد أن يصدنا عنه، بل العكس كنا نتطوع بتمكين الأجانب من إهمال لغتنا لأننا نهملها معهم. وهذا هو السفير البريطاني يرد على دعوة وزير المعارف باللغة العربية أيضاً، آسفاً لعدم إمكانه تلبية الدعوة لتغيبه بالإسكندرية يوم الحفل. فأين كنا من زمان؟!
إن اللغة تقوى بقوة أصحابها وتضعف بضعفهم، وليس هناك لغة حية ولغة ميتة، فالأحياء والأموات هم الناس.
مدرسة حديثة في فن القصة:
لا تقر فضل الخير على الشر، ولا تعترف بفارق بين الفضيلة والرذيلة، ولا تميز الحق من الباطل؛ أية نزعة من نزعات الإنسان عندها كأية نزعة أخرى، لا تقول للص يا لص، ولا تقول للبطل يا بطل، لأنه لا جريمة ولا بطولة، فلكل عمل دوافعه ومقدماته، وكل ما يأتيه الإنسان أمر طبيعي لا ينبغي الحكم عليه ولا يجوز أن يستنكر.
هي مدرسة حديثة في فن القصة، ظهرت في مصر، وأعلنت صوتها يوم الأحد الماضي في نادي رابطة الأدباء، على لسان الطالب الأديب صلاح حافظ الذي ألقى محاضرة دعا فيها(824/39)
دعوة هذه المدرسة وأعلن ميلادها في زهو، وتطأ من فبشر بزعيمها الجالس بجوار المنصة يبعد عن سيماه خجل التواضع.
والزعيم أو الكاتب القصصي الأول في هذه المدرسة الحديثة، هو الأديب محمد يسري أحمد، وأعلام المدرسة وأنصارها والمتحمسون لها، يجتمعون في واحد هو محاضرنا الأديب صلاح حافظ، وهما طالبان بالسنة الثالثة بكلية الطب، إنهما يشرحان الإنسان الحي كما يشرح الإنسان الميت في قصر العيني. هل يأبه الطبيب للقذارات أو يأنف من روائح الجثث؟ كذلك كاتب القصة يحلل الإنسان كما هو ويتغلغل في أعماقه ليصورها كما هي، فإن قلت إن غاية الطبيب المشرح الوصول إلى الحقائق العلمية قالت لك المدرسة الحديثة في فن القصة إنها لا غاية لها، فالكاتب يجب أن يبدأ القصة ويسير فيها مع الطبيعة لا يهدف إلى شيء، فإن قلت إن الطبيعة لا تعتسف طريقها فهذا هو الفارق بين الطبيعة وبين المدرسة الحديثة.
يظهر أنني بمذهب هذه المدرسة في عرض الأشياء كما هي وإبراز الإنسان كما هو، فإني أتحدث عنها كما هي، وإتماماً للخطة أضربت في هذا الموضوع عن استعمال علامات التعجب لأنها تدل على الانفعال وقد تشير إلى الحكم. وأستمر في السير على هذه الخطة فأقول:
حدثنا المحاضر صلاح فقال إن المدرسة الحديثة قد اكتسحت كل ما عداها وأحرزت نصراً مؤزراً في مسابقات القصة المختلفة ففاز يسري بقصة في مهرجان الشباب، وبأخرى في مسابقة الإذاعة، وبثالثة في مسابقة الثقافة العامة، وفاز هو، أي صلاح، بقصة في المسابقة الأخيرة.
وليس هذا هو كل إنتاج المدرسة الحديثة، فقد كان ليسري في مهرجان الشباب قصة غير التي فازت، تحدث فيها عن حادثة غرام بين فنان وأخته وحلل العوامل التي جعلت بطل القصة يفتتن بمحاسن أخته ويستمتع بجسدها ثم يقتلها. ولم يعجب ذلك الاتجاه النفساني في فن القصة شيوخ الأدب المحكمين في المسابقة، فرفضوها وقال إن الأستاذ عبد الله حبيب قرأ هذه القصة، إذ كان يعمل في تنظيم المهرجان، حتى وصل إلى نهايتها وهو لا يشعر أن فيها جريمة ترتكب، وإنه دافع عنها أمام لجنة التحكيم (وقد سمعت أنا أيضاً ذلك من(824/40)
الأستاذ عبد الله).
وأنا مازلت أتحدث على طريقة المدرسة التجريدية، ولكني وصلت إلى نقطة أراني فيها مضطراً إلى الخروج مع المدرسة نفسها عن طريقتها.
شيوخ الأدب جامدون لا يقدرون الاتجاه النفسي الجديد لأنه يخالف اتجاههم، فالشيوخ يتحدثون عن جمال الربيع ولا يهتمون بالإنسان، فإذا عرجوا عليه لزموا السطوح ولم ينزلوا إلى الأعماق، كما يقضي بذلك علم النفس، وكما تفعل ذلك المدرسة الحديثة. وقرأ المحاضر في هذا المعنى رسالة كتبها يسري إلى الأستاذ فريد أبو حديد بك، ومن فقراتها (لا يا سيدي نحن جيل وأنتم جيل).
ثم أرجع إلى الطريقة التجريدية فأقول: هكذا يقضي الشيوخ بفوز قصص المدرسة الحديثة في المباريات، وتعتز المدرسة بذلك، ثم تهاجم الشيوخ الذين حكموا بفوز قصصها. أقول هكذا فقط ولا أذكر الوفاء ولا الاعتراف بالجميل فليس شيء من هذا في معجم المدرسة الحديثة في فن القصة. أما لماذا قضت لجان التحكيم في المباريات بفوز تلك القصص، فقد قال أحد أعضائها وهو الدكتور إبراهيم ناجي، في تعقيبه على المحاضرة: إن القصص التي فازت، إنما فازت لأن بقية القصص المقدمة تافهة ليس فيها شيء من فن القصة بل هي حكايات و (حواديت).
وجرياً على مذهب تلك المدرسة في العطف على الضعف الإنساني وإن جانب الذوق السليم واندفع مع الحيوانية السائمة - لا أريد أن يتجه القلم إلى القسوة على بطليها، غير أننا نختلف في أن لرفقي بهما غاية.
إنكما يا ابنيَّ تتعجلان. وإني وإن كنت لم أقرأ لكما يبدو لي من الملابسات والقرائن أنكما من ذوي الاستعداد ويمكن أن يجيء منكما، ويدل ما يقول الأستاذ عبد الله حبيب عن قصة عاشق أخته على براعة يسري في السياق والحبكة، ولكن ما أشبه حال الأستاذ وهو يقرأ القصة غير شاعر بأن فيها جريمة ترتكب، بمن (نشلت) حافظة نقوده وهو لا يدري.
إن مناقضتكما للأخلاق الكريمة بهذه الدعوة مناقضة ظاهرة، وأنتما لا تنكران ذلك، وإنما تتمسكان بأهداب الفن وأنا لا أدري كيف يتسق الفن مع مخالفة الذوق السليم وإغفال المثل الإنسانية والانسياق مع الحيوانية البحتة. وما هو الفن الذي يتجرد من العاطفة؟ إن تحليل(824/41)
الأشخاص وإظهارهم دون انفعال وحكم، عن طريق التصوير الفني، على ما يأتون وما يدعون لا ينتج إلا شيئاً قد يسمى (علم نفس تطبيقياً) أما الفن فلا بد فيه من عاطفة الفنان، فإن تجرد منها فليس فناً. والعاطفة في العمل الفني إما أن تهدف إلى الخير وتتجه نحو الجمال الذي يهفو إليه الذوق السليم، أو تنزل إلى الشر وتتدلى إلى القبح.
أريد أن أفرض في شأن هذين الشابين أحسن الفروض، وهو أنهما يتكلفان الشذوذ على طريقة (خالف تعرف) ولا بأس بأن حققت لهما شيئاً من ذلك، وغاية ما أرجو أن يكون الثمن هدايتهما إلى سواء الأدب القويم.
رسالة من غراب:
تلقيت رسالة كريمة رقيقة من الأستاذ أمين يوسف غراب، على أثر ما ظهر في (كشكول الأسبوع) خاصاً بخطأ لغوي في قصة له بمجلة الأديب، قال الأستاذ في رسالته (أما الخطأ الذي تفضلتم بالإشارة إليه فأنا أعترف به، ولا أريد أن أحمل المطبعة وزره، أو أحيله على غيري كالذي نقل عني هذه القصة مثلا. ولكني لا أعترف بأنه كان يستحق عنايتكم إلى هذا الحد، أو يستهل إشارتكم الكريمة، إن هناك على ما أعتقد من جديات الأمور ما هو أجدر بعنايتكم وأحق بتوجيهاتكم. كنت أفهم مثلا أنكم تتحدثون عن القصة في مجموعها كوحدة فنية. . . الخ)
وأقول إني لم أعرض لنقد القصة حتى أستوعب نواحيها المختلفة، ولم يصرفني هذا الخطأ عن جديات الأمور. إنما هي نظرة من زاوية، صيغت في سطور من (الكشكول) وليس من دأبي تتبع الأخطاء اللغوية، ولا آتي بشيء من ذلك إلا لملابسات أخرى غير مجرد الخطأ، والذي لابس إشارتي إلى قصة الأستاذ غراب هو ما ألاحظه من استهانة بعض الكتاب ذوي المواهب الفنية بسلامة الأسلوب وصحة اللغة.
وقد لمحت فيما قرأت للأستاذ سمات الإجادة الفنية، وقد بدا لي من رسالته أن ما ندَّ من قلمه ليس عن استهانة، وأنا لا أعتبره ممن قلت إنهم ركبوا ظهور الصحف والمجلات في غفلة الزمان، أحسن عملا وأكثر نفعا من أولئك الذين ركبت الصحف والمجلات ظهورهم؟) ولو سألني أي الفريقين أسوأ أثراً وأكثر ضرراً لكان من المحتمل أن أجيب. . .
الخطب المؤذية:(824/42)
كنت بالأمس في أحد نوادي العاصمة، مع الحاضرين لسماع محاضرة تلقى به، وقام سكرتير النادي ليقدم المحاضر، وأنل للآن لا أعرف اسم هذا السكرتير، أما المحاضر فهو شخصية معروفة، فبالله أيهما أولى بالتعريف. . .؟ وهي عادة متفشية في أنديتنا وجمعياتنا، ينتهز السكرتير أو الوكيل أو الرئيس وقد يكون المراقب أو أمين الصندوق،. . . ينتهز أحد هؤلاء فرصة اجتماع الناس لسماع محاضرة لأحد الإعلام، فيحتل المنصة نحو نصف ساعة بحجة التقديم للمحاضرة وما هو إلا يريد توكيد شخصيته. أعجبني مرة أن رأيت الدكتور طه حسين بك يبرز إلى الجمهور وحده على المنصة بقاعة المحاضرات بالليسية الفرنسية، فلم يقدمه أحد، وما هو بحاجة إلى تقديم.
ذكرني موقف ذلك السكرتير بما قد نشر في إحدى الصحف من المتبع في بعض ولايات أفريقية الجنوبية لحماية الناس من الخطب الطويلة المملة، إذ يوجبون على الخطيب أن يقف على قدم واحدة، فإذا تعب ومست الأرض قدمه الثانية يجب أن يمسك عن الخطابة وإلا منعه السامعون من الاسترسال بقوة! ولو أن في تلك الولايات من يقدم الخطباء كمن هم لدينا في مصر، لقضوا عليهم أن يقفوا على إصبع واحدة من قدم. . .
وكم كان ظريفا ذلك الأعرابي الذي حضر حفل زواج قام فيه خطيب فحمدل وهلل وكبر وأطال في ذلك حتى أمل، فقال له الأعرابي: أيها الخطيب لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء.
عباس خضر(824/43)
البريد الأدبي
كلمة أخيرة في نيتشة وفاجنر:
حين قارب نيتشة الثلاثين كان كما قال في كتابيه زرادشت - وما وراء الخير والشر - قد مر بالمراحل التي مرت بها الإنسانية في تفكيرها، إذ كان قد عب بشراهة ونهم شديدين من الفنون والفلسفات قديمها وحديثها. وكان الفيلسوف في السن التي اتصل فيها بفاجنر أستاذاً في أرقى الجامعات الأوربية؛ فهو في صلته بالفنان رجل له مكانته الفكرية ومركزه الاجتماعي، لا شاب ناشئ كما يريد أن يصوره الأستاذ المعداوي منساقاً مع قول رومان رولان المتعصب لبيتهوفن كل التعصب حيث مجده في كتاب سماه بيتهوفن الخالق - وإن محاضرات الفيلسوف (الناشئ) ودراساته في تلك السن لا زالت أهم المراجع فيما عالجته من موضوعات - وقد كانت الفلسفة الإغريقية وعلى الأخص أفلاطون أهم الينابيع التي استقى منها نيتشة، إذ يصور نفسه في إحدى رسائله3 إلى فاجنر في ذلك الحين جالساً بين عدد من كتب هذا الفيلسوف يكاد يحجبه عن الرائي - ولا أظنه بهذا يتملق الفنان أو يدّعي - أما في الفلسفة الحديثة قد تتلمذ على شوبنهاور حتى رفعه إلى الدرجة العليا التي رفع إليها فاجنر في عالم الفن. (انظر كتابيه - شوبنهاور المعلم - والفاجنرية الكاملة) وكان قد أستوعب أيضاً فلسفة ماركس وله عنها تنبؤات صدقت بشكل يدعو إلى الدهشة - إذ أن نيتشة هو الذي تنبأ في كتابه ما وراء الخير والشر لفلسفة ماركس بالذيوع، وعين بالذات الدولة التي ستحمل مشعلها وهي روسيا في وقت كان لا يتصور هذا أحد؛ لأن روسيا كانت ترزح تحت حكم القياصرة الحديدي - وقد صح ما تنبأ به نيتشة فاحتضنت روسيا الماركسية الألمانية وحملت مشعلها - وقد كان هذا العصر الذي ضم فاجنر وشوبنهاور ونيتشة يموج بأحداث جسام. فقد حدث أن اهتزت أوربا كلها لموجة فكرية عنيفة كان لها ما للقنبلة الذرية في عصرنا من وقع، بل ربما أكثر، فهذه جاءت في عصر ألف فيه الناس العجائب وكانت القنبلة منتظرة منذ سنوات.
أما ذلك الحدث الخطير فقد كان مفاجأة عنيفة. . . وذلك هو نظرية التطور لداروين 1859 التي زلزلت الأفكار في أوروبا بل العالم طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولما أوشك نيتشة أن يكمل الحلقة الرابعة من عمره كانت نفسه تجيش أعظم جيشان عرفته نفس(824/44)
مفكر. . . إن نفسه التي امتلأت بفلسفة الإرادة عند شوبتها وعالم المُثل عند أفلاطون وألهبتها روائع موسيقى فاجنر أخذت تنتفض انتفاضاً شديداً. . . إنها تتمحض عن مولد فجر جديد قد يغير مجرى التفكير الإنساني كله! وظل فكره في هذا الميلاد قرابة عقده الخامس. لقد بدأ داروين حبل الخليقة من الخلية إلى الإنسان فجاء نيتشة (حين أحس بأنه امتلأ كالنحلة التي ملّت حمل عسلها) وتهيأ للرسالة، فمد يده وتناول الحبل من داروين ليعبر به قنطرة الإنسان الحالي إلى السوبرمان. . . ومن هو السوبرمان؟! إنه الهدف الذي تسعى إليه البشرية في تطورها. . . (وكما صار الفرد بالنسبة إلى الإنسان فسيصير الإنسان بالنسبة إلى سوبرمان. . .)!
وهكذا خرج زرادشت نبي نيتشة بإنجيل دينه الجديد. دين السوبرمان الذي لا بد أن تصل إليه البشرية (في زعمه) محطمة في طريقها كل شيء يعوق هذا المسير فوجب إذن أن نتسلح بالقوة والعنف - وهكذا تطورت فلسفة الإرادة عند شوبنهاور إلى إرادة القوة عند نيتشة وسقط شوبنهاور المتشائم أمام سوبرمان نيتشة المتفائل وتحطم إ له المسيحية الشفوق الحنون بما فيه من مشابه من أفلاطون (ليست المسيحية إلا الفلسفة الأفلاطونية ختمت بخاتم إلهي) 4 لأن الشفقة والحنان أخطر العوائق في طريق السوبرمان. . . وأصبحت موسيقى فاجنر التي كانت تحلق بنيتشة في سماء الفكر لا تستطيع اللحاق به في آفاق السوبرمان.
وهكذا هوت الآلهة من سمائها في نظر نيتشة تلك الآلهة التي طالما قرب إليها قرابين العبادة وتسابيح العبودية. . ومن أفلاطون الآن؟ ومن شوبنهاور؟ ومن فاجنر؟ بل من هو الشعب الألماني كله الذي رماه نيتشة بأقسى النعوت؟ كل هذا لا شيء ما دام لا يؤمن بالسوبرمان. . . وهل للقرود (الإنسان الحالي) قيمة في نظر السوبرمان؟ هذه قصة تحطيم نيتشة لآلهته الأولى. . . قد يكون هناك بعض الأسباب التي عجلت بعضها قبل الآخر كزوجة فاجنر مثلا إن كان حقاَ لها كل هذا الأثر، ولكن التحطيم كان آتياً لا محالة. فهذا هو حكم التطور في عقلية الفيلسوف الذي بينا خطوطه البارزة بقدر ما تطيقه عجالة في مقالة. . .
ويؤسفني بعد هذا أن أناقش الأستاذ المعداوي في التوافه التي وقف عندها كل الوقوف(824/45)
وركز فيها هجومه. . . ليس لكلمة في الإنكليزية كلها إلا هذه المعاني:
' '
ولادة - خلق - سفر التكوين - لا الإخراج - (أي خلق العالم) فكيف يصدق أي عقل ترجمتها بلفظ إخراج؟! أما الجملة الأخرى فمنصبة على خلق الكتاب (مولد التراجيديا) أي على القائم بخلقه وكلا الوضعين يؤيد ترجمتي. أما تملق الفيلسوف الشاب للفنان الكبير ليأخذ بيده في طريق المجد، فهذه وصمة لا تليق بالأستاذ المعداوي، فكيف تليق بنيتشة العظيم؟!
تقول (إن العبقري يولد وبذور العبقرية في دمه؟ كيف تعتقد أني لا أقرر هذا؟ لكن هذه البذور ألا تحتاج إلى هواء وإلى شمس وتربة تمد فيها جذورها؟! إنها بغير هذا تظل بلا شك بذرة عبقرية لا عبقرية. . والشمس والماء والهواء لا تحيل البذرة يا سيد (سروحي) إلى شمس أو إلى ماء أو إلى هواء، وإنما هي عوامل مساعدة على التفتيق والإنبات وهكذا كل تأثير في العبقرية يا صديقي. ونقول: (ما كان لهذا المفكر الجبار أن يتأثر أو يستمد وجوده الفلسفي من أي إنسان مهما تكن مكانته في الحياة الفنية). إن هذه الحياة الفنية هنا شأنها شأن أي حياة. ليس العبرة بنوع التأثير بل بوقوعه على أي وجه. ثم أنك تقول إن زارا قال لرفاقه وأنصاره ماذا يهم زارا من جميع المؤمنين به؛ إذ عليكم أن تجحدوني لتجدوا أنفسكم. . . والصواب أن تقول هذا للأستاذ المعداوي الذي ينكر أي إيمان سابق لنيتشة بفاجنر ما دام قد جحده أخيراً، ويرى ذلك كان تملقاً متحدياً كل حقيقة! مع أن نيتشة ظل يمجده فاجنر حتى أواخر عقده الرابع.
أما سؤلك عن تأثير بتهوفن في جوته يا أستاذ معداوي فهو مثل معكوس لأن جوته الفيلسوف كان يكبر بتهوفن بمراحل، بينما نيتشة كان مع فاجنر فتي ناشئاً يخطو أولى خطواته كما تقول. ومع هذا لا نستطيع أن نحكم بعدم تأثير موسيقى بتهوفن في تفتيق عبقرية جوتة عن بعض المعاني. ونيتشة بالذات ذو سليقة موسيقية لأنه شاعر لا ناقد - يا أستاذ معداوي - إذ هو القائل: (إن كتابي زرادشت أنغام موسيقية صدحت في داخلي فأصغيتُ إليها وسجلتها)!
أما استشهادك بالناسخ والمنسوخ في القرآن فإننا نقول بوقوع التأثير في عبقرية نيتشة(824/46)
والتأثير وقع أيضاً في فترة ما بفضل الآيات المنسوخة قبل نسخها، فمثلا في آيات الخمر قد شرب الخمر بعض الصحابة فعلا بمقتضى إباحة الآيات المنسوخة قبل وقوع النسخ وهذا ما يؤيد لقولنا أيضاً. . . أما كلمة خلق العبقرية التي ذكرتها فلا محل لها مطلقاً في المناقشة؛ وشتان بين الخلق والتفتيق! يا أيها الأستاذ الناقد!
أما ما جاء في مقالك من لغو فنمر عليه كراماً. . .
محمد فهمي
في تفسير الإمام محمد عبدة:
جاء في تفسير جزء (عم) للأستاذ الإمام - رحمه الله - عند تفسير أول سورة (الليل) ما يأتي:
(والليل إذا يغشى) يبتدئ في هذه السورة بأن يقسم بالليل وهو الظلمة لأنها الأنسب بما به السورة السابقة من الدمدمة وإطباق العذاب. . .
والإمام يعني بالسورة السابقة سورة (الشمس) التي آخرها (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، ولا يخاف عقباها) والمعلوم أن سورة الشمس سابقة لسورة الليل في الترتيب لا في النزول إذ أن سورة الليل نزلت بعد سورة الأعلى - وبذلك يكون لا محل هنا لذكر المناسبة التي ذكرها الإمام.
أما المناسبة؛ فلما كان المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة اشتملت صيغة القسم على أشياء مختلفة لتركيز المعنى المقصود في عقول المخاطبين. . . فقد أقسم بالليل والنهار في قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) وهما مختلفان - كما أقسم بخالق الذكر والأنثى في قوله: (وما خلق الذكر والأنثى) وهما مختلفان أيضاً، كأنه يريد أن يقول لهم: إن اختلاف سعيكم في الحياة مؤكد تأكيد اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى ذلك الاختلاف الذي لا يتطرق إليه أدنى ريب ولا تستطيعون إنكاره.
محمد عبد الله السحاق
مدرس بمدارس الإسلام الكبرى الابتدائية بالجيزة
أبن دفن الاسكندر:(824/47)
ورد في مقالة الأديب كاظم المظفر عن (إيوان كسرى) أن الاسكندر المقدوني توفي في المدائن وحمل تابوته إلى الإسكندرية لأن أمه كانت تقيم فيها. والتاريخ يقول غير ذلك إذ يقول إن الإسكندر توفي في مدينة بابل وتابوته لا يعرف له مقر حتى الآن وأمه عند وفاة ابنها الإسكندر تقيم في بيللا مسقط رأس الإسكندر.
عزيز خانكي
جمع غيور:
جمع غيور على غيورين صحيح على مذهب الكوفيين لأنهم لا يشترطون في الصفة التي تجمع جمع تذكير ألا يشترك فيها المذكر والمؤنث سواء كانت على وزن فعول أم لا بخلاف البصريين وقس عليه نظائره ولا يخفي أن هذا الجمع المألوف المشهور، أخف وألطف من جمع التكسير (غُير) الغريب المهجور.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
سويا بمعنى معا:
اطلعت على ما كتبه الأستاذ كامل محمود حبيب تحت عنوان (فتى الريف) في عدد الرسالة 820 فأعجبني الأسلوب القوي والتركيب المتين والبلاغة المتدفقة في كلامه ولكن رأيت في ثنايا تعبيره جذبت نظري.
ففي ص 233 يقول على لسان هذا الفتى (وهؤلاء رفقائي نغدو معاً إلى الأزهر ونروح سوياً إلى الدار. . .
واستعمال سوياً في هذا الموضع بمعنى معاً خطأ شائع على الألسنة لأن لفظ سوي بمعنى مستو.
قال في اللسان ورجل سوي والأنثى سوية أي مستو فأرجو التنبيه على فساد هذا الاستعمال في مجلتكم الزاهرة التي تدعو دائماً إلى رفع الثقافة العربية والأساليب البارعة في مختلف الأقطار العربية.(824/48)
عبد العليم علي محمود
قلم صنع لا صناع:
ورد في المصباح المنير في مادة صنع ما يلي (ورجل صنع (بفتحتين) وصنع اليدين أيضاً أي حاذق دفيق. وامرأة صناع (وزان كلام). . . الخ).
وعليه نقول: قلم صنع؛ لا صناع كما جاء في عرض الأستاذ العجمي لكتاب (وميض الأدب بين غيوم السياسة) في عدد الرسالة (820) إذ قال: وبهذا القلم الصناع تناول. . . الخ).
هدى الله الأقلام، فصيح الكلام.
إسماعيل أبو ضيف
(المنصورة)
تاريخ الأزهر:
(لفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ أبو العيون)
الجانب الذاتي في تناول التاريخ هو الذي يعطر جوه؛ ويشيع الدفء في أنفاسه؛ ويبعث الحياة والنشاط والتأثير في جسمه. وهنا يغدو الجانب الموضوعي وهو الهيكل العظمي مكسوا باللحم والدم. وعمل كاتب التاريخ هو تقديم صورة واضحة لما يعالجه. وهذا ما يحسه القارئ لهذا العمل الذي قام به فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون في التأريخ للأزهر وإلقاء الضوء على تلك البيئة الفاطمية التي ولد بين أحضانها الأزهر. فشهدنا ميلاده ووقفنا على الآمال التي كانت معقودة على هذا الوليد، ثم تطوره حتى صار جامعة إسلامية كبرى. ثم يعطينا فكرة عن مواد الدراسة فيه، ويقدم لنا شيوخه الذين تولوا قيادته، ويقف بنا غير طويل ليعرفنا بأشهر رجاله، ويمرج بنا على نظام الدراسة قبل النظام وبعده؛ ثم بين تلك الأطوار التي مرت عليه حتى استقر به المقام في هذه المرحلة الأخيرة وما يطبعه من سمات فكرية وروحية. وهذا عمل قيم جاء في وقته؛ فتاريخ الأزهر الحافل لم تكن صورته واضحة محددة إلا في أذهان القلة القليلة من المثقفين؛ وما عداهم فهي مهمة(824/49)
مطموسة وجراحة.
وقد غدت بفضل هذه الدراسة واضحة للعيون مستقرة في الأذهان. ولعل هذه الدراسة الموجزة تكون فاتحة لدراسات مستفيضة دقيقة تتناول كل ناحية من نواحيه. وبعد فلا أظن أن أستاذنا في حاجة إلى تقديم آثاره في نواحي الجهاد السياسي والأدبي والديني لا تزال رائعة خصبة.
محمد عبد الحليم أبو زيد(824/50)
قصص الأطفال الحسابية المصورة:
(تأليف الأستاذ حسن محمد السكري)
هذه سلسلة جديدة من (كتيبات) صغيرة الحجم عظيمة النفع كبيرة الفائدة توفر على تأليفها حسن محمد السكري المدرس بمعاهد المعلمين، وأفرغ فيها الجهد المشكور فجاءت متمشية مع أحدث طرق التربية الحديثة لتعليم مادة الحساب.
ومادة الحساب - لا شك - من المواد الجامدة التي لا يقبل عليها صغار التلاميذ وبخاصة في المراحل الأولى من التعليم، وذلك لخلوها من أدوات التشويق والترغيب وجلب انتباه الصغار.
والأستاذ مؤلف الكتاب وفق كل التوفيق حين جعل مسائله الحسابية قصصا مصورة ملونة مشوقة تدفع الأطفال وترغبهم في قراءتها كموضوع من موضوعات المطالعة، وكمسألة من مسائل الحساب في آن، وفي ذلك يقول في تقديم كتابه (حملتي على وضعها ما ألمسه من شغف الأطفال بمطالعة القصص، وما أراه من خير محقق في الاستفادة بهذا في تدريبهم أثناء المطالعة على بعض العمليات الحسابية حتى تزدوج الفائدتان العربية الحسابية). . .
وبعد: فإننا نزجي أفضل الشكر للأستاذ الملف الذي أخذ على عاتقه القيام بهذا العمل الجليل في خدمة النشيء، ونرجو أن ينتفع الأبناء بالإقبال على مثل هذه المؤلفات التي تتوخى الفائدة، وتستهدف أسمى الأغراض، وأنبل الغايات.
(الزيتون)
عدنان أسعد(824/51)
القصص
قصة من روائع موباسان:
الغريب. . .!
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
أخذنا بأطراف الحديث والعربة تغادر بنا مدينة (كان) زاخرة براكبيها، ولم نكد نتجاوز (بارسكن) حتى صاح أحدنا:
- ها هو ذا المكان الذي كانت تذبح فيه الناس!
فإذا بنا نخوض في أخبار الخرافات، ونتناول سيرة أولئك القتلة الذين كانوا - فيما مضى - يسلبون الناس أرواحهم ويغتصبون أموالهم. فراح كل منا يدلي بما يساوره من قصص، ويطرح ما يراوده من خواطر. . . وطفقت النساء يحملقن مروعات في ذلك الظلام الحالك من خلا النوافذ. . . يتوجسن خيفة أن تقع أبصارهن على رأس آدمي لدى الباب!
وتأهب أحد الأطباء - وكان يشد رحاله إلى الجنوب كل عام إذا ما بدت تباشير الشتاء - ليلقي في أسماعنا واحدة من تلك القصص التي يكتنفها الغموض والغرابة:
(لم يسعدني الحظ يوما لكي أبلو شجاعتي وأهجم جسارتي في أمر من هذا القبيل، إنما كنت على معرفة بسيدة قد طواها الموت وكانت ممن أعالجهن. . . حدث لها أمر من أغرب الأمور وأشدها حزنا في هذا الوجود. .
(كانت روسية تدعى (الكونتس ماريا بارنوا). . . وهي امرأة عظيمة ذات حسن ساحر وفتنة باهرة. . . وأنتم تدركون كم هن جميلات أولئك الروسيات بأنوفهن الرقيقة، وثغورهن الرشوفة، وعيونهن النجل، وقدودهن الفضة. وما يبدين من الصلابة الأباء مع فيض من العذوبة والإغراء. . . فيهن كل ما يخلب لب الرجل الفرنسي ويثير افتتانه!
(وكانت (الكونتس) فريدة بينهن، وقد فطن طبيبها منذ سنوات إلى الداء وهو ينهش في صدرها، فأخلص لها النصح في أن تسعى إلى جنوب فرنسا. . . بيد أنها أبت أن تبارح (سان بطرسبرج)، فانثنى الطبيب - في الخريف الماضي - فانذر زوجها بسوء المصير، فألح هذا على امرأته أن ترحل إلى (منتون) في فرنسا.(824/52)
(فاستقلت القطار - منطوية على نفسها في عربتها - أما حاشيتها فقد أقامت في ناحية أخرى من القطار.
وران عليها الحزن واحتواها الشجن، وهي جالسة على كثب من الباب تلقي بطرفها إلى الحقول والقرى وهي تمر بها في إثر بعضها، وقد استشعرت ألم الوحدة، وأحست لذع الوحشة في حياتها وهي عاطلة من أطفال يملؤونها بهجة وبشرا، وخالية من ذي رحم يحيلها مرحاً وأنساً. . . غير زوج ماتت في قلبه عواطف الحب، ونضبت منه عيون الحنان. . فلم يتورع أن يقذف بها في ركن قصي من العالم دون أن يصحبها كما ينبذون الخادم المريض في معزل عن الخلق!
وكن تابعها (إيفان) ينزع إليها في كل محطة لينظر إن كانت سيدته تروم أي شئ فيؤديه لها، وكان رجلاً كهلاً شديد الإخلاص، مغلق القلب على الطاعة، سريعاً إلى إنجاز كل أمر تلقي به إليه. . .
وفجأة عن لها أن تحسب ما قدم لها زوجها - في اللحظة الأخيرة - من النقود الذهبية الفرنسية، ففتحت حقيبتها الصغيرة، وأفرغت في حجرها ذلك الفيض الأصفر الرنان!
وعلى حين غرة أصابت وجهها نسمة قارصة من الهواء، فرفعت رأسها - وقد تولتها الدهشة - تستجلي الأمر، فإذا بالباب قد فتح، فلم تملك الكونتس المضطربة سوى أن تطرح غلالتها السمراء على ما في حجرها، ثم قبعت مترقبة!
فلم تمض لحظات، حتى دلف من الباب رجل عاري الرأس، جريح اليد، لاهث الأنفاس، وأغلقه من خلفه، واستقر في مقعد يلقي إلى جارته بنظرات حادة، ثم لم يلبث أن لف منديلاً حول رسغه المخضب بالدماء!
فأحست السيدة لفرط خوفها أنها تكاد تغيب عن وعيها، فلا مجال للريب في أن هذا الرجل قد لمحها وهي تحسب نقودها، فخف إلى سلبها. . . ثم. . . ثم يزهق روحها! إنه ما برح يحدجها بنظراته الثاقبة. . . مضطرب الأنفاس، مقطب السمات، يتربص بها الفرص حتى يثب عليها!
قال بغتة: سيدتي. . . لا تخافي ولا تجزعي!
فلم تنبس ببنت شفة، وقد تحجر لسانها، وطنت أذناها، وازداد قلبها خفقاً!(824/53)
واستطرد فيما يقول: ما أنا بشرير. . . أيتها السيدة!
فأمسكت على صمتها، ولكن حركت ساقها فجأة - وهي لا تدري - فأخذ الذهب يتدفق إلى الأرض كما يتدفق الماء من الصنبور. . . فمكث هذا الرجل يحملق حيناً وقد أخذته الدهشة في ذلك السيل الذهبي، ثم لم يلبث أن انحنى يلتقطها ويجمعها!
فهمت مروعة، وألقت بكل ما معها على البساط، وهمت أن تجري تروم النجدة وتتوخى النجاة!
ولكن الرجل - قد أدرك ما هي مقدمة عليه - قفز إليها وأطبق على ذراعها، ثم دفعها في غلظة إلى حيث كانت تجلس وهو ممسك برسغها. . . وراح يقول في صوت مرتعد النبرات: اصغي إلي يا سيدتي. . . لست بشرير، ولا معتد أثيم. . . والبرهان على صدق ما أقول أني سأجمع هذا الذهب وأرده عليك لا ينقص دانق، ولكنك إذا لم تكوني لي عوناً وملاذاً حتى أعبر الحدود، فما أنا إلا رجل يساق إلى موته، ولن أبوح لك بغير ذلك!
ففي خلال ساعة سيمرق بنا القطار من الحدود الروسية، وحياتي معلقة حينئذ بين يديك رهن بمشيئتك. . . ولا يذهب بك الخيال، وتتوزعك الوساوس، إلى أني سفكت دماً، أو سلبت مالا، أو جئت أمراً يخالف الشرف ويدنس الضمير. . . أقسم لك أني لم أجانف إثما ولم أقارف ذنباً. . . ولكن لن أبوح لك بالمزيد!
ثم ركع ثانية، وراح يجمع الذهب، حيث انتثر تحت المقاعد وفي ثنايا البساط، حتى إذا امتلأت الحقيبة به مرة أخرى، ناولها لجارته في هدوء دون أن تنفرج شفتاه عن كلمة يرددها. . . ثم انثنى إلى الركن الآخر من العربة فجلس فيه لا يحرك ساكناً! ومكثت هي جانحة إلى الصمت وقد لفها السكون. . . وما برحت الغشية تراودها من أثر الخوف والرعب، وإن أفرخ روعها وبدأت نفسها تنزع عن الاضطراب ويطمئن قلبها رويداً رويداً!
أما هو، فقد جلس لا يريم، ولا يختلج له طرف، وهو يحدق أمامه، شاحب الوجه، تعلوه صفرة كأنها صفرة الموت. . . وأخذت هي ترسل إليه - بين الفينة والفينة - نظرات عاجلة تختلسها اختلاساً، وسرعان ما ترتد عنه. . . بدا الرجل وضيء الوجه منبسط السمات، عليه سيماء السيادة والنبل، وقد تجاوز عقده الثالث!(824/54)
وكان القطار ينساب في سرعة مخيفة خلال الظلمات الطامية، ويرسل بين آونة وأخرى صفيره الحاد يمزق هدأة الليل بحدته! ولكن ما لبث أن خفف من سيره. . . ثم سكنت حركته بعد أن زفر بعض الصفيرات. . . فلما برز (إيفان) من الباب، ألقت (الكونتس ماريا) نظرة عجلى على رفيقها، ثم قالت لخادمها في صوت خافت ونبرة سريعة: (إيفان سوف تعود إلى الكونت، فما بي حاجة إليك!)
فحملق فيها الرجل بعينين واسعتين يتراقص فيهما الاضطراب وقد تجلت على وجهه الحيرة، وأرتج على لسانه القول: (ولكن يا سيدتي!) فأجابته:
- (كلا. . . لا تصحبني. . . فقد غيرت من فكري ورجعت عن رأيي. . . ومن الخير أن تبقى في روسيا. . . إليك بعض النقود لتعود بها، وناولني قبعتك وعباءتك!)
فخلع الخادم في جزع ودهش قبعته وعباءته دون أن ينبس بسؤال يستجلي به الأمر، فقد عودته التجارب وعلمته الأيام أن يطيع أهواء سادته ويجيب نزواتهم ولو كانت غريبة مباغتة، ثم أرتد على أعقابه مغرورق العنين بالدموع!
ولم يلبث القطار أن أندفع يطوي الأرض شطر الحدود. فقالت (الكونتس ماريا) لرفيقها: (إن هذه الأشياء لك - أيها السيد - أنت الآن (إيفان) خادمي. . . ولا أروم إزاء ذلك سوى شرط واحد، هو ألا تحدثني بكلمة، ولو كانت تحمل معنى الشكر!). فانحنى الرجل في رقة دون أن ينبس ببنت شفة!
ثم عاد القطار إلى الوقوف ثانية، وصعد إليه نفر من الضباط في أرديتهم الرسمية، فمدت لهم الكونتس يداً بأوراقها قائلة - وهي تومئ إلى الرجل في مؤخر العربة -:
(ها هو ذا خادمي إيفان وأوراقه هنا!)
انطلق القطار في سيره من جديد، وقد جلس كلاهما غير بعيد من الآخر، والليل يضمهما، والصمت يحتويهما، حتى إذا انسلخ نور الصبح من دياجير الليل، وقف بهما القطار في محطة ألمانية، فنهض الرجل المجهول، وقام إلى الباقائلا في صوت هادئ رقيق:
- معذرة يا سيدتي إن أخلفت ما كان من وعدي، يبدو أني قد حرمتك من خادمك، فلا أقل من أن أحل مكانه، أما تعوزك حاجة؟!
فأجابته في فتور: اذهب وادع وصيفتي!(824/55)
فمضى ثم طواه الخفاء، ولم يقع عليه طرفها بعد ذلك إلا حينما كانت تتناول غداءها في إحدى المحطات وهو يرمقها من بعيد، ثم أخيراً في (منتون) حيث استقر بها النوى!
- 2 -
وثاب الطبيب إلى صمت هنيهة، ثم وصل ما انقطع من حديثه قال:
(وذات يوم، بينما كنت أتلقى مرضاي في عيادتي، دخل علي شاب فارع القامة وسيم المحيا وسألني في هدوء وسكينة: (أيها الطبيب، لقد أقبلت متقصياً أخبار الكونتس ماريا بارنوا! إني من أصدقاء زوجها، وإن كانت لا تربطني بها معرفة!)
فأجبته: (لقد أفلت الزمام من يدها، ولن تطأ أرض روسيا بعد الآن!)
فإذا بي أرى الرجل يغرق في البكاء، ثم مضى في سبيله يترنح كمن ذهبت بلبه الخمر! وقد أخبرت (الكونتس) في المساء بما كان من شأن ذلك الرجل الغريب، فهزت رأسها وقد لاحت على وجهها سيماء التأثر. . . ثم أخبرتني بتلك القصة التي رددتها على أسماعكم لتوي!
ثم أضافت قائلة: (إن هذا الرجل الذي لا أدري عنه شيئاً. يتبعني الآن كظلي!. ولا أكاد أخرج يوماً حتى ألتقي به. . . فينظر إلي في رقة ونبل. . . بيد أنه لم يحاول أن يخاطبني أبداً!. . .
وران الصمت عليها حيناً، وهي تحاول أن تجمع شتات فكرها. . ثم قالت: (تعال. . . سأراهنك على أنه قائم تحت النافذة في هذه اللحظة!.)
وغادرت كرسيها الطويل، وخطت إلى النافذة. . ثم أزاحت الستار عنها، وجعلتني أرى ذلك الرجل الذي أتاني في الصبيحة. جالساً على مقعد في الروضة أمامنا. . يمد بصره إلى المنزل. . فما إن وقع بصره علينا - ونحن في النافذة - حتى نهض من جلسته، ومضى في الطريق لا يلوي على شيء، حتى غاب عن ناظرينا!. .
وحينئذ فطنت إلى شيء عجيب يبعث الحزن ويثير الإعجاب. لقد أدركت سر ذلك الحب الصامت الذي توثقت عراه وتمكنت وشائجه بين هذين المخلوقين اللذين جهل كل منهما صاحبه كل الجهل!. .
إنه يهيم بها ويعبدها عبادة خالصة، ويود أن يفديها بحياته. فكان يقبل علي في كل صباح(824/56)
يسألني: (كيف حالها؟!.) وهو على يقين من أني أدرك مدى أحاسيسه ومشاعره. . . ثم ينشج في نحيب وجزع وقد أسدل على وجهه راحتيه. . . كلما أحس بأنها تزداد ضعفاً وتشتد نحولاً. . . وقد ثقلت عليها وطأة العلة.
قالت لي يوماً:
(إني لم أخاطب ذلك الرجل العجيب سوى مرة واحدة. ولكن يبدو الآن كأني أعرفه منذ عشرين سنة. . .) وحينما التقت به ردت على انحناءته الرقيقة؛ بابتسامة أضاءت على ثغرها، وفاضت على صفحة وجهها! وقد أحست - على الرغم خطاها السريعة إلى القبر - أنها سعيدة كل السعادة هانئة كل الهناء بذلك الحب الذي يفيضه عليها هذا الإنسان ويغمرها به في وفاء نبيل وإخلاص شاعري. . . يكاد أن يذهب بنفسه كل مذهب!. ولكنها أبت أن تعرف اسمه ورفضت أن تخاطبه وهي. . تردد: (كلا. . . ثم كلا. . . أن هذا سوف يمحو تلك الصداقة الغريبة بيننا. . . ويفسدها. . ينبغي أن يظل كل منا جاهلاً صاحبه. قريباً إليه بقلبه بعيداً عنه بلسانه!)
أما هو، فقد كبت نفسه وراضها على ألا يدنو من صاحيته. . . وحزم أمره على أن يفي بعهده الذي قطعه على نفسه في العربة وهو ألا يكلمها أبداً. . . وقد كانت هي خلال الساعات الطوال التي يشتد بها الوهن عليها ويضيق صدرها بالحياة. . . تنهض عن مقعدها وتسعى إلى النافذة فتزيح ستارها. . . حتى تنظر إن كان تحت النافذة؟! فإذا اطمأن بصرها إليه وهو جالس على مقعده لا يريم. . . انثنت إلى فراشها، وقد انفرجت شفتاها الذاويتان عن ابتسامة رقيقة!. .
وأشرقت عليها الشمس ذات يوم جسداً بلا روح، وقد طوى الموت صفحة حياتها!. . وبينما كنت أهم بمغادرة البيت. . . أقبل على الرجل شاحب الوجه زائغ العنين، وقد تجلى على محياه أنه علم بوفاتها منذ لحظة. . وابتدرني قائلا في صوت كله رجاء وتوسل: (كم أود أن أراها ولو لحظة في حضرتك!) فأخذته من ذراعه ودلفنا إلى المنزل معاً. فلما بلغنا حيث سجيت السيدة الميتة. ركع إلى جوارها في خشوع، وأمسك بيدها في رفق، وطبع قبلة طويلة حارة تبللها الدموع. . . ثم انقلب على أعقابه. . . وانطلق في سبيله. . . وكأنما تجرد من مشاعره وتعطل من أحاسيسه!. .(824/57)
وخيم الصمت برهة على الطبيب! ثم عاد الحديث: (إن هذه الحادثة هي أغرب ما مر بي من الحادثات. بل لعلها الوحيدة التي تظهر لكم الناس. . . وما هم عليه من غرابة وجنون!. .) فتمتمت إحدى النساء في نبرة خفيضة: (لم يكن هذين المخلوقان سادرين في جنونهما كما تذهب بك الظنون. . . بل إنهما كانا! إنهما كانا!. .)
بيد أنها لم تمض في عبارتها. . . فقد شرقت بالدموع! ولم يدرك أحد منا ما كانت ترمي إلى قوله. . . إذ حولنا دفة الحديث لنهدئ من روعها وننزل على قلبها السكينة.
مصطفى جميل مرسي
(طنطا)
1 قارن هذا بعمليات اليهود في النقب وخليج العقبة1949 33 * 32
2 جريدة المصري1521949
3 كتاب رسائل الصداقة بين نيتشة وفاجنر.
4 سانت هيلير في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو
? ?
? ?
? ?
? ?(824/58)
العدد 825 - بتاريخ: 25 - 04 - 1949(/)
أمم حائرة
فوضى الآراء والأعمال
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بجدة
يحس الإنسان حيثما توجه في هذا العالم قلقاً واضطراباً وسخطاً، ويسمع أينما حل ضوضاء وصخباً وجدالاً. كأن قلق النفوس واضطرابها، أو هذه الضوضاء النفسية التي تدوي في كل فكر وكل قلب - صدى الضوضاء الحسية المستمرة المسلطة على الخلق في هذا العالم، من سياراته وقطاراته وطائراته ومجاهره ومذياعاته؛ أو كأن هذه الضوضاء الحسيه التي لا يجد الناس منها مفراً ولا عنها حولاً، صدى لتلك الضوضاء النفسية. لا جرم أن هذه الضوضاء متصلة بتلك، فالعالم في ضوضاء نفسية وحسية، وفي صخب ظاهر ومضمر، وعيشة الإنسان بين الضوضاء ين شقاء، وجهاده للخلاص منهما عناء.
كل طائفة لها مذهب، وكل إنسان له رأي، وإلى المذاهب والآراء، مآرب وأهواء، لبس فيها الحق بالباطل، والصدق بالكذب.
وقد طويت المسافات، ورفعت الحجب، فصار الإنسان في بقعة من العالم يقرأ ويسمع ما في أقصى البقاع كأنه يعيش فيها، ويقيم بين أهليها. فاجتمعت على الإنسان ضوضاء العالم كله، ونزاعه، وفتنه.
والمسائل الكبرى التي كانت شغل الفلاسفة والعلماء في العصور السالفة وضعت في هذا العصر، بهذه الوسائل، وسائل النشر والإذاعة، أمام كل قارئ، بل كل أمي، فشارك الجهلة العلماء، واستوت الأئمة والدهماء. كل يسمع أو يقرأ ويفكر ويقول. فما ظنك - مع هذا كله - بما تموج به الجماعات من مذاهب وأراء، وأقوال وأفعال؟
كل طائفة وكل فرد يعلن بما فكر وما قدر، وكل قارئ أو سامع يردد ما قرأ أو سمع، وتدعي كل طائفة وكل فرد أن له الحرية كاملة مطلقة في أن يعلن برأيه، وينشره على الناس بشتى الوسائل، ويدافع عنه بكل الطرائق.
فإن أعوزته الحجة، وخذله البرهان، ولم يجد لمذهبه في العقول قبولا، ولا لرأيه في(825/1)
الجماعة مساغاً، فلا بأس عليه أن يكذب ويخدع ويفتري ويلبس الحق بالباطل، ويبذل المال إن استطاع، ويستعين بالشهوات إن قدر، ويتوسل بكل ما عرف الناس من وسائل الدعوة أو الدعاوة.
وإن لم تجد الدعوة، ولم ينفع الخداع والتلبيس، والتسميع والتشهير، فلا بأس أن يوجه حريته إلى الإخلال بالنظام، وإشاعة الفوضى، وعمل كل ما يذهب بسكينة الجماعة، ويخل بأمنها، ويقضي على طمأنينتها، ويصرفها عن عملها، ويذيع بينها التعادي والتنافر، والتخاصم والتقاتل، لتجد آراؤه في هذه الضوضاء مجالاً، وفي هذه الفوضى مسلكاً، وفي هذا القلق طريقاً، وفي هذا الحراب مأوى!
وللداعي من هؤلاء أن يستمسك بحقه في الحرية لنشر رأيه، فيقتل من يخالفه، من فرد أو جماعة، ويهدم الأبنية وينسفها نسفاً ليرغم الناس على الإذعان لرأيه. . . وماذا عليه في هذا؟ أليس حراً في أن ينشر مذهبه كما يشاء؟ هو حر، وليس للمخالف حرية مثله في أن يستمسك برأيه ويدفع عنه؛ بل ليس له الحرية في أن يعيش. وإذا أخذ بجريرته نادى بحقه في الدفاع عن نفسه والاستعانة بالمدافعين، وطالب بحريته في أن يقول ما يشاء، قبل أن يقضى عليه.
صارت هذه الحرية البائسة كلمة تقال في الحق والباطل، وينادي بها في الخير والشر، والصلاح والفساد. وأين هؤلاء الأغرار من أخلاق الأحرار؟ لقد اشتبه عليهم الأمر، والتبست عليهم السبل، فهم في أمر مريج.
هذه فوضى المذاهب والآراء، فوضى الحرية في الدعاء إليها والدفاع عنها!
وفوضى أخرى في سنن الجماعة وآدابها، وعمل الفرد وسيرته: فتحت على الناس أبواب من اللذات، وزينت لهم فنون من الشهوات، ونشأت بجانبها ضروب من التجارة وألوان من المكاسب، اتخذت إليها سبلاً شتى؛ وطرقاً مختلفة، لا يبالي سالكوها بما يقترفون إن أصابوا الربح الذي يبتغون!
افتن تجار المآثم في التزيين والترغيب والفتنة، فهفا كثير من الناس إليهم وعلقوا في شراكهم. وللناس شرائع تعصمهم من المآثم، ولهم آداب ومروءات تمسك بهم عنها، وفيهم إباء وحياء؛ ولكنها لذات فاتنة، وشهوات قاهرة، وخدع غالبة، وفتن محيطة. فيرجع(825/2)
الخادعون والمخدوعون إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها فيقولون: الحرية والجمال والرياضة والفكاهة. . . إلى أسماء أخرى يحتجون بها لما أقبلوا عليه، ويقطعون بها ما يمسك على المعيشة الفاضلة من عقائد وفضائل وآداب ومروءات لتستريح النفوس إلى شهواتها، وتنطلق من قيود الأخلاق والآداب.
ويرى هؤلاء التجار الربح فيزيدون افتناناً في إغراء الناس، ويتنافسون في جذبهم إلى ملاهيهم، وكلما اعتدى الحدود واحد ليغري الجمهور بملهاه، أنف غيره أن يتخلف عن منافسه في تعدي الحدود، وهلم جراً إلى الهاوية.
وعلى قدر حرص هؤلاء المفسدين يقبل الأغرار عليهم، وعلى قدر افتنانهم في آثامهم يقع الشبان في مفاسدهم.
والحرية المظلومة يعتل بها هؤلاء وهؤلاء. وما هي الحرية، ولكنها العبودية، عبودية المال، وعبودية الشهوات.
والجماعات تسير إلى مهالكها سادرة في غفلاتها، والحكومات ذاهلة عن تبعاتها. يحسبون الأمر هيناً وهو يفعل فعله في آدابنا وأخلاقنا وجماعتنا وأسرنا وفي عقولنا وأجسامنا. وإليه فيما أرى يرجع كثير مما نحن فيه من عبث وفوضى وعصيان على القوانين قوانين الأسرة، وقوانين الجماعة، وقوانين الحكومة.
ولا بد للناس من سنن صالحة، وقوانين حازمة، تحمي الأغرار من عبث الفجار، وتصون الناشئين من تضليل المضللين، وتعصم الشبان من التهافت في هذه النيران التي لا تبقى ولا تذر!
هذه فوضى الأخلاق بعد فوضى الأفكار.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(825/3)
مسرحية (سليمان الحكيم)
للأستاذ توفيق الحكيم
بقلم الدكتور محمد القصاص
- 1 -
يذكر الأستاذ توفيق الحكيم في مطلع مسرحيته أنه بناها على كتب ثلاثة: القرآن والتوراة وألف ليلة وليلة؛ وأنه سلك فيها مسلكه من استخدام النصوص القديمة والأساطير لإبراز صورة في نفسه. ولعل هذه الكلمة خير ما يلخص مذهب الأستاذ الحكيم ومنهجه في التأليف المسرحي. فماذا أخذ من هذه الكتب الثلاثة وماذا ترك؟ وما الذي أضافه إليها من فنه ومن فكره؟ هذا ما نريد الآن أن نعرفه.
أما قصة القمقم والصياد ففي ألف ليلة وليلة؛ ولكن الصياد فيها، لما رأى من لؤم الجني الذي أراد أن يقتله جزاء تخليصه إياه من سجنه، يحتال عليه حتى يدخله القمقم من جديد ويغلقه ثم يقذف به في البحر كما كان. وهو مسلك لا يتصور غيره من إنسان، لأنه يتفق مع طبيعته وفكرته عن العدالة حتى في أسمى صورها. ولكن صياد سليمان الحكيم لم يفكر في شيء من هذا، بل راح يحاور الجني ويداوره في بلاهة تشبه القداسة، أو قداسة تشبه البلاهة، ليصل معه إلى اتفاق شريف، وهو هادئ الطبع أمام الموت الذي يهدده كأنه سقراط يهزأ بالموت وبالجلاد في سمو يليق بسيد الفلاسفة. وتلك ظاهرة بارزة لدى الأستاذ توفيق الحكيم، وفي الرواية التي ندرسها على وجه الخصوص؛ ظاهرة تنزع إلى إظهار شخصياته الثانوية أكثر تميزاً من أبطاله أنفسهم، فنراهم في كثير من مواقفهم (يسمون على أنفسهم) على حد تعبير المؤلف - عن شعور أو غير شعور. وقد نرجع إليها في مقال آخر. وأما القرآن فهو الذي أمده بالشطر الأكبر من هيكل المسرحية: ففيه قصة الهدهد، وحكاية النمل، وخطاب سليمان إلى بلقيس يدعوها أن تمثل بين يديه، واستشارتها لرجال دولتها، وهديتها لسليمان، ورفض سليمان الهدية، ثم إذعانها لزيارته، وعرض أمرها عليه، وقصة عرش بلقيس، وصرح سليمان، وأخيراً موت سليمان الذي لم يعرف نبأه الأنس والجن إلا بعد أن دلتهم عليه دابة الأرض تأكل منسأته. هذا إلى إطرائه حكمة سليمان، وما(825/4)
أوتي من علم وسلطان، وتسخيره للجن، ومعرفته للغة الطير والنمل وسائر الحيوان وما يشبه ذلك من التفاصيل التي تهيئ جو الرواية. والكاتب يسير على نهج القرآن في ترتيب الحوادث وتتابعها، لا يكاد يختلف عنه في شيء - من هذه الوجهة فحسب بالطبع. وإن اختلف القرآن والتوراة أخذ برواية الأول منهما في غالب الأحيان. وجل ما أخذه من الكتاب المقدس من هذه التفاصيل التي قلنا أنها تهيئ الجو المعنوي للرواية وما يسمى في لغة المسرح (بالديكور) زوجات سليمان الألف، وماشيته، وبذخ قصوره الذي لا يحيط به وصف، وثراؤه الذي لا يحده حصر. ولعل الكتاب المقدس هو الذي أوحى إليه بفكرة الرواية ولو من بعيد، أو على الأقل بالخاتمة التي انتهى إليها سليمان. ففيه أن سليمان - وكان يهيم بالنساء - قد حاد في شيخوخته عن سبيل الحكمة بإغراء من نسائه الأجنبيات اللائى حولن قلبه عما كان قد عاهد عليه ربه، فأصر الله على أنه ينتقم لعهده، ولكن لا من سليمان نفسه بل من أبنه. غير أن الكتاب المقدس لا يقول بأن بلقيس هي التي كانت سبباً في سقطة سليمان كما في المسرحية، ولكنه يرجعها إلى ًهيامه بالنساء على كل حال. ومع ذلك فنحن نعلم من قصة أخرى حبشية تتصل بتفاسير العهد القديم، أن سليمان أحب بلقيس، وسواء أبادلته بلقيس الحب أم لم تبادله، فأن هذا الحب قد أثمر مولوداً تنحدر من ذريته سلالة البيت المالك الحبشي. ولكنا لا نعرف أن كان مؤلفنا قد علم بأمر هذه الرواية أم لا.
هذه قصة الملك سليمان أو نبي الله سليمان كما وردت في الكتب المقدسة والأساطير القديمة. فماذا صنع بها توفيق الحكيم؟ كيف خلق منها بفنه وفكره شيئاً جديداً، عملاً أدبياً ورواية تمثيلية؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال نفضل أن نشير إلى بعض المسالك التي يسلكها المؤلفون عادة في استخدامهم للأساطير وحوادث التاريخ في الأدب القصصي والتمثيلي، لنرى أيها اختار توفيق الحكيم:
قد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي فيصوغه صياغة جديدة ليجعل منه قصة أو رواية فنية، دون أن يضيف إليه شيئاً من لدنه غير الصياغة والأسلوب القصصي أو التمثيلي، اللهم إلا أن يعمد إلى بعض نقط لم تكن بارزة في النص الأصلي، وإن كانت مما يسلم به ولو ضمناً، فيبرزها ويضخمها، أو إلى بعض الأبطال فيبالغ في إظهار بطولتهم ويشيد بفضائلهم، ولكنه لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن وجهة نظر النص الأصلي؛ بل إن كان(825/5)
هناك اختلاف فهو اختلاف في الكم (والرتوش). وقد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي أو الاسطورة، فيفسرهما تفسيراً جديداً يختلف عما هو شائع من تفسيرهما، بل وعما يعطيه نصهما، كما فعل شوقي في مصرع كليوباترة أو كما أراد أن يفعل. وقد يناقض هذا التفسير الجديد مرمى النص القديم على خط مستقيم، كما فعل جان بول سارتر في أسطورة أورست لما أتخذ منها مادة لمسرحيته الخالدة (الذباب).
ومسلك ثالث، هو أن يتخذ الفنان من الحادث التاريخي أو من الأسطورة إطاراً يحيط به أفكاره الخاصة، إناء فارغاً يصب فيه مذهبه في الميتافيزيقا أو الأخلاق أو المجتمع أو غيرها، وقد تكون فكرة المؤلف لا تمت بسبب إلى ما في الأسطورة. ولكنه يتخذ من حوادثها المادية آلة ينشر عليها خيوطه وخاماته لينسج منها الثوب الذي يريد، ومن أشخاصها أبطالاً يتقمصون أفكاره لتحيى في نفوسهم، وتتجلى في أفعالهم وأقوالهم. وهذا هو المسلك الذي سلكه توفيق الحكيم لما خلق بفكره وفنه رواية (سليمان الحكيم) من النصوص التي تكلمنا عنها.
فما هو فن الأستاذ توفيق الحكيم في هذه المسرحية؟ وما هي الفكرة التي أراد هذا الفن على أن يحملها عنه إلى جمهوره، قراء كانوا أم متفرجين؟ الفكرة، بل الدعوى التي يجعل الأستاذ توفيق الحكيم من قطعته عرضاً لها ودفاعاً عنها، هي وجود قوة خفية، قوة عليا تسيطر على أعمال الإنسان وتختار له كما تشاء هي لا كما يشاء هو، حتى إذا ما سار في الطريق الذي اختطت له أو التي حملته على السير فيه دون إرادة منه، وضعت أمامه من العراقيل ما لا يستطيع التغلب عليه، أو ما لا ينبغي له أن يتغلب عليه، ما دامت تلك مشيئة الأقدار. وكأن هذه الأقدار أو القوة الخفية - إذا سلمنا بمنطق الأستاذ الحكيم - لا تبغي من وراء ذلك إلا العبث والسخرية من بني الإنسان. ولا أظن كاتباً يطمع في تصوير الإنسان في صورة من التفاهة والاحتقار أكثر مما عمل أو مما أراد أن يعمل مؤلف سليمان الحكيم. والميدان الذي أختاره الأستاذ المؤلف لإبراز فكرته وتحقيق صدقها هو ميدان الحب، ميدان القلب والعاطفة لا ميدان العقل والفكر؛ لأن شخصية الفرد - على ما تريد المسرحية أن تظهره - تتكون من واديين منعزلين: وادي العقل والذكاء وفيه الإنسان سيد نفسه ولكنه قليل الخطر في حياته وحياة العالم. ووادي القلب، وادي الحب والبغض، موطن السعادة(825/6)
والشقاء، ومفتاحه في يد الأقدار، في يد تلك القوة الخفية التي تديره وتدير معه الإنسان (من خارجه) ولا سلطان لغيرها عليه. وتمزيق شخصية الإنسان على هذا النحو قد يرضي الأمثال المأثورة والحكم العامية، ولكن عقل المفكر قد ينبو عنه بعض الشيء. لأن الحب مثلاً قد يكون مبعثه الإعجاب والتقدير الشعوريين أو غير الشعوريين؛ وقد يكون منبعثاً عن أشياء أخرى كثيرة كامنة في عقل المحب الباطن، وعدم إطلاعنا عليها لا يبرر حكمنا عليها بالعدم. ولكن المؤلف يجعلنا نرى سليمان - ذلك الشيخ المتصابي، ذلك الزواج الذي يقتني في قصوره ألف امرأة - يهيم ببلقيس بمجرد أن سمع أسمها من الهدهد، وكأنه مدفوع إلى هذا الحب بتلك (القوة الخفية) التي تديره دون أن تختلط بنفسه والتي لا قبل له بها.
ويكشف لنا سليمان عن هذا الحب (الشيطاني) بدعوتها لزيارته، وفي قلقه وهو ينتظر مقدمها في قصره، حتى لكأنه جالس عل أحر من الجمر، وفي غيرته من منذر لما (حدثته بصيرته بأنه المالك لقلب الملكة دونه. وهو الذي (شم عطرها وبينهما بحار من رمال، ودعاها وبينهما آماد طوال). وما تكاد تستقر في ضيافته حتى (يفاوضها) في أن (تنزل) له عن قلبها، بعد أن صرحت له بهيامها بغيره. فإذا أنس منها إعراضاً راح يبهر عينها بمساعدة العفريت، ويمخرق لها بشعوذته وألاعيب سحره. قد يعترض علينا معترض بأن هذه الأشياء موجودة بالفعل في النصوص القديمة، وأن المؤلف لم يفعل غير أن استغلها في إبراز فكرته ودغمها ولكنه على أية حال استغلال غير موفق. بعد هذا عماذاً تنجلي التجربة، أو المعجزة إذا شئنا؟ عن إصرار بلقيس على ألا (تبيع) إلى سليمان، وإمعانها في حب منذر، إذ (لو كان قلبها في يدها ما زال حرا لمنحته إياه مرة أخرى) (هذه المرة دون تدخل القوة الخفية!!). ثم عن حب مكتوم ولكنه متبادل بين منذر وشهباء وصيفة بلقيس، كشف يفاجئ بلقيس فيكاد يقضي عليها بقسوته، ويهيئ بذلك الفرصة (لنبي الله) ليضاعف من شماتته بها وضحكه من خيبة أملها. أليس هو الذي يقول واصفاً لهذا المنظر: (استخدمت وسائل فظيعة لقهرها وتعذيب قلبها. . . لقد أردت التشفي من صدها برؤية دماء نفسها تشخب وجراح فؤادها تسيل. . . حتى انهدت بين يدي وانهارت وأنا أرسل في وجهها الشاحب الضحكات). وأي ضحكات؟ ضحكات تدوي بها أرجاء القصر، مما لا نتصور صدوره من شخص أضناه الحب وأذله.(825/7)
(لها بقية)
محمد القصاص
دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس(825/8)
العمل الأدبي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
يقف الأديب عند سرير جندي جريح عائد من ميدان القتال، فيثير فيه منظره معاني شتى للبطولة والتضحية. أو يدخل مصنعاً قد أنصرف فيه كل عامل إلى آلته، ومضت الآلات في عملها تنتج مسرعة، فيوحي إليه ما يراه بخواطر عن الدأب والنظام والتقدم. ويحاول أن يسجل إحساسه إزاء ما رأى، وأن ينقل هذا الإحساس إلى غيره، فينشئ مقالة أو يقرض قصيدة أو يؤلف قصة أو رواية، ويختار لذلك ألفاظه وأساليبه، بحيث تنقل إحساسه نقلاً صادقاً غير منقوص.
هذه المقالة أو القصيدة أو القصة أو الرواية هي العمل الأدبي، فهي الصلة بين الأديب والسامع أو القارئ، وبها أنتقل إحساس الأول إلى الثاني. ونستطيع أن نعرف العمل الأدبي بأنه (التعبير عن تجربة للأديب بألفاظ موحية)، والتعبير بالألفاظ هو الذي يميز الأدب من باقي الفنون الجميلة، لأن الأدب يعبر باللفظ، بينما تعبر الموسيقى بالصوت، والرسم باللون، والنحت بالحجارة.
ونعني بالتجربة كل ما جربه الأديب ومر بنفسه من شعور، سواء أكان حقيقياً أم متخيلاً، فقد تكون حادثة صادفت المنشئ في حياته أو صادفت غيره، وقد تكون قصة سمع بها، أو منظراً رآه، أو فكرة عرضت له، أو وهماً مر بخياله، ومن هنا كان كل شئ في الحياة صالحاً لأن يكون مادة للأديب، يتخذ منها صوراً لبيانه، على شريطة أن يكون قد امتزج بشعوره وملك عليه جوانب نفسه، ودفعه إلى الكلام، ولهذا وجب أن يكون في التجربة أمر غير عادي مألوف، وأن تكون ذات قوة ممتازة، وشدة خاصة، حتى تبعث في الأديب القوة الضرورية لمجهود أدبي يستطيع به أن يصف التجربة في صدق ودقة، وإتقان وبراعة، وبذلك يستطيع أن يبعثها مرة أخرى في نفوس قارئيه.
هذا، وآن الحقائق العلمية، قد يمزج بها الأديب إحساسه، وينقلها بهذه الصورة إلى القارئ، فتصبح عملاً أدبياً رائعاً، كما سنرى فيما يلي:
إن التجربة لا تكون بسيطة أبداً، بل لابد أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتي به الفكر نفسه من معان يدعو بعضها بعضاً، فالواقف أمام نهر النيل مثلاً، لا(825/9)
تنقل إليه حواسه لون مائه، وحركة موجه، وما على جانبيه من حقول فحسب، بل تنقل إليه أيضاً رقة النسيم، ولون السماء، وما قد يكون فيا من سحاب، وهو يضيف إلى ذلك احساسات أخرى ولدها خياله كموازنة هدوءه بالبحر وثورانه، وقد يطوف هذا الخيال بينابيعه، وبالشعوب التي تعيش على ضفافه، أو يعود متوغلاً في القدم، فيذكر ما قام على شاطئيه من حضارة ومدنية، فإذا كانت تلك اللحظة الشعورية قوية تتطلب التعبير عنها، فإن الأديب يستخلصها من بين ما يمر به من التجارب، ويحتفظ بها في نفسه، وكلما احتفظ بها ازدادت غنى بما ينضم إليها من ألوان الإحساس وبتداعي المعاني. فإذا أراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجب أن ينقلها كاملة، فلا نكتفي منه بأن يصور لنا آثار التجربة، ولا أن يذكر الظروف التي حدثت فيها فالشاعر الذي يروقه منظر من مناظر الطبيعة، لا يستطيع أن ينقل تجربته هذه إذا اكتفى بذكر المنظر الذي رآه، أو ذكر الإحساس الذي خالطه عندما رآه، بل يجب أن يؤدي تجربته كاملة الأجزاء لما شاهده وما أحسه معاً، مرتبطين ارتباطاً وثيقاً، حتى يحس بها القارئ إحساساً كاملاً، وتنتقل إلى شعوره، فيتخيلها، كما أدركها منشئها، وبمثل هذا التناول يخلد الأديب لحظة من لحظات شعور مرت به في حياته.
إن في الإنتاج الأدبي لعملاً إيرادياً للأديب، ذلك أنه يتناول تجربته، وهي مكونة من أجزاء، فيرتبها ترتيباً منسقاً، ثم يأخذ في إيضاح سلسلة خواطره واحداً واحداً، على أن يكون لكل خاطر منها دخل في تصوير التجربة وإكمالها، فيكون له وجود من أجل نفسه، ووجود من أجل الكل الذي هو جزء منه؛ وبجمع هذه الأجزاء تصير التجربة وحدة متسقة، وكلا موحداً، يتصل كل جزء فيها بسائر الأجزاء. أما إذا كان بعض الأجزاء لا دخل له في تكوين الصورة، ولكنه جاء بطريق الأستطراد، أو لم تكن التجربة مسلسلة الخواطر، يرتبط بعضها ببعض، فإنها تنقل إلى السامع مشوهه لا صلة بين أجزائها ولا اتساق. وهاك تجربه لقتيلة بنت الحارث وقد أخذت تعاتب الرسول لقتله أخاه النضر برغم قرابته له، واتصاله بنسبه:
أمحمد يا خير صنو كريمة ... في قومها، والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق(825/10)
والنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم أن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
فقد بدأت حديثها معه تناديه باسمه نداء القريب الذي لا كلفة بينك وبينه، مشعراً إياه بشدة الصلة بينهما حتى لكأنها توحي إليه بأن هذه القرابة القريبة ما كانت تنتظر على يده هذا المصير. ثم أتبهت إلى مكانة الرسول في قومه، فنادته واصفة بما يتفق مع هذه المكانة، وكأن قلب الأم الذي في كل أنثى دفعها إلى أن تصفه بأنه خير ابنلأم كريمة في قومها، وأب عريق في الشرف، حتى إذا انتهت من استرعاء سمعه بهذا النداء أخذت تسأله سؤال الموجع الموقن بأن حكم القضاء قد تم ولا سبيل إلى استرجاعه، فاستخدمت لذلك هذا الاستفهام الحزين الموحي بأنه لم يكن ثمة خطر في إطلاقه، فضلاً عما في هذا الإطلاق من مكرمة المن، وأتت بكلمة (لو) المشعرة بالأسف لدلالتها على امتناع وجود الفعل. وما كان أدق ذوقها في اختيار كلمة مبما، الدالة على حسن الأدب، والتماسها العذر للرسول، وتلميحها إلى ما في العفو برغم الغيظ والحنق من مثل أعلى جدير بالإقتداء، حتى إذا انتهت من ذلك لمست من الرسول موضع العطف فذكرته بقربه منه واستحقاقه أن يظفر برعايته. ثم تنتقل من ذلك إلى تصوير هذا القريب الجدير بالود أو بالمن والعتق - هدفاً لسيوف أقربائه، تتناوله بأطرافها فتمزق بتمزيق أديمه القرابة وتقطع أواصرها.
وهكذا كان كل جزء له آثره في نقل هذه التجربة التي ملكت نفس قتيله، ونجحت في إيصال ألمها للسامع، حتى روي أن الرسول بكى، وقال: لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.
نستطيع أن نسمي التجربة التي تسيطر على الأديب، وتدفعه إلى التعبير عنها بالإلهام، وكلما عظم هذا الإلهام احتاج إلى قوة كبيرة تستطيع التعبير عنه تعبيراً يمثله تمثيلاً صادقاً، ولذا كان كبار الأدباء ذوي سلطان على اللغة، وقدرة قديرة على التعبير، فاستطاعوا أن ينقلوا إلينا من التجارب أعظمها وأسماها.
وإن لدى الأديب إحساساً لغوياً ممتازاً، يستطيع به أن يختار من الألفاظ ما هو قوي في تصويره، واضح في دلالته على مراده؛ ويدرك ما تستطيع الألفاظ أن توحي به إلى القارئ، وإن للألفاظ لوحياً يشع منها، فيملأ النفس شعوراً، ويثير الوجدان، ويحرك العاطفة، ذلك أن الألفاظ تراكم حولها بمضي الزمن والاستعمال، معان أخرى أكثر من هذه(825/11)
المعاني التي نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معاني الألفاظ في المعاجم سوى هذه المعاني المتبلورة؛ والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان أضفاها عليها الزمن، فتثير في النفس أعمق الاحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور. وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معاني كلمات: أم، وطفولة، ومدرسة، ووطن مثلاً، فالأم في اللغة هي الوالدة؛ ولكن هذا اللفظ يثير في النفس إذا سمع أسمى معاني الحب، وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معاني الحنان.
وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر التي تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة؛ وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هي في المعجم مكان الدراسة.
أما كلمة الوطن فقد تراكم حولها من المعاني والذكريات ما أشار أبن الرومي إلى بعضه حين قال:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة. وإن أردت أن تدرك شدة وحي الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ وانظر أي تقزز ونفور يثيره في النفس تخيل أكل لحم الأخ ميتاً. . .
واقرأ قول الشاعر:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة، فحنا عليه ... حنوا المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، وبأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
وانظر ما توحي به إلى النفس (لفحه الرمضاء) فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن يلفح وجهك، ويرمض عينك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه السخونة(825/12)
الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادي عليه، فقد حماه من وهج الشمس وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه أن يسقيه مضاعف الغيث. وانظر ما توحي به إلى خيالك كلمة (دوح) من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس بعد لفحه الرمضاء. وتخيل حنو المرضعات وما يثيره من معاني العطف والحنان. أما (أرشف) فتوحي إليك بهذه المتعة التي يحس بها الظمآن لفحه حر الشمس فأوى إلى ظل ظليل، وأخذ يشرب على مهل، ليستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ ألذ من المدامة. وتخيل كذلك ما يثيره عندك كلمة (يروع) والصورة التي ترسمها، وكلمة العذارى، وموضع الفاء التي تدل على هذه الحركة السريعة الناشئة من الروعة.
وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية أن يسيطر على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره. ولعل هذا هو السر في أن علماء البلاغة قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنه، فضلاً عن أن تثير هذه الخواطر التي تحيط بالكلمة إذا استعملت.
على أنه قد يشفع في بعض الأحيان لاستخدام الكلمة الغريبة أنها وضعت في موضع سهل الأسلوب فهمها، وكانت هي جرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقي:
خلوا الأكاليل للتاريخ أن له ... يدا تؤلفها درا ومخشلبا
فهذا الجمع بين الدر والمخشلب يوحي بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة ما يوحي بأنها تعني شيئاً حقيراً.
والإحساس اللغوي عند الأديب هو الذي يختار اللفظ اختياراً دقيقاً، بحيث يؤدي المعنى على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات ويأخذ بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق. سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:
بالله ربك أن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة قائما بالباب
فقال له: لم أقل (قائماً)، أكنت أتصدق؟ قال: (قاعداً)؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: (واقفاً)، وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى.
بل إن الإحسان اللغوي قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين(825/13)
الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحي به إلى الخاطر كما تحس بذلك في كلمة (أرشف) من الشعر السابق، وكما اختار المتنبي كلمة (تفاوح) في قوله:
إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده
فهي تدل بصيغتها على هذه الموجات النسيمية، تحمل في أردانها عبق المسك والرند، وكلمة صليل في قوله:
وأمواه تصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني
فهي تسمعك بحروفها وسوسة المياه تداعب الحصى.
وبعض ألفاظ اللغة أسلس على اللسان وأجمل وقعاً على الأذن من بعض، وهو جمال ظاهري يساعد الأديب على إيصال تجربته. وعلماء البلاغة يذكرون من صفات الألفاظ المفردة ما يصح أن تلتمسه هناك.
وفضلا عما للكلمات من خصائص يدركها إحساس الأديب كذلك النظم في العبارة الأدبية يحمل معنى أكثر مما تؤديه الجملة بجريها على النحو، فإن هناك قوى يبثها المؤلف فيها، عن غير عمد حيناً، وعن عمد حيناً أخر، فنجده يقدم ويؤخر ويذكر ويحذف ويصل ويفصل، ويأتي ببعض ألوان المعارف دون بعض، وحيناً يدع المعرفة إلى النكرة، وآنا يستخدم أداة من أدوات الطلب مكان أخرى، أو يأتي برخرفة في مكانها. وقد وصل علماء البلاغة إلى إدراك كثير من هذه الأسرار، فعقدوا علماً يتحدث عن خصائص الجملة، ودعوه علم المعاني، وعلماً للخيال الذي يعقد الصلة بين الأشياء ودعوه علم البيان، وآخر لبعض ألوان الجمال وسموه علم البديع.
ولكن خصائص النظم لا تقف عند حد الجملة بل إن للأساليب خصائص، فمنها ما يناسب الانفعال السريع والحركة المتوثبة، ومنها ما يناسب العاطفة الهادئة والحركة البطيئة، وقد يدفع الإحساس الفني الأديب إلى انسجام في النظم وموسيقى لفظية، تساعد على الإيحاء، وإن هذا الانسجام وهذه الموسيقى يصلان إلى الذروة في فن الشعر، وبذلك يستطيع الأديب أن يصل إلى أسمى درجات التأثير.
أحمد أحمد بدوي(825/14)
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(825/15)
من أدبنا المجهول:
المنصف لابن وكيع المصري المتوفى سنة 393هـ
للأستاذ السيد أحمد صقر
كان أبو الطيب المتنبي (354هـ) يرسل قصائده الفرائد فتسري في أرجاء العالم العربي مسرى الأضواء، حاملة بين اطوائها بذور نقدها، فتملأ الدنيا بدويها، وتشغل الناس بحديثها، فمنهم من يكبرها ويغلو في إعظامها والإعجاب بها، حتى يملك عليه الإعجاب أقطار نفسه، ويأخذ بمسارب حسه؛ ومنهم من يحقرها، ويغض من شأنها، ويسرف في ثلبها، حتى ليكاد يخرجها من حلبة الشعر، ويسل صاحبها من بين الشعراء؛ وبين أولئك وهؤلاء أقوام قد تفارتت حظوظهم من المودة والبغضاء، والإعجاب والإزراء، فيكثرون من الحديث عنها والجدل فيها كما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويغتصم
ولعل أهم مسألة شغلت النقاد، واستأثرت بنشاط أفكارهم مسألة سرقات المتنبي، فقد كان الرجل واسع الثقافة، دائب الإطلاع على أشعار الشعراء، يجيل النظر فيها، ويعمل العقل، ويدير الفكر بنفس مشوقة وحس جميع، فكان إذا جاشت نفسه بالقريض ربما ألم بهذا المعنى أو ذاك، وطاف بهذه الفكرة أو تلك شاعراً بما صنع أو غير شاعر، وقد اهتبل النقاد مسألة السرقات هذه، وحاول بعضهم أن يصدم بها المتنبي في مجالس الإنشاد، وأتخذها الحساد غرضاً يصوبون إليه سهامهم المسمومة لعلهم ينالون من عظمته، ويديلون من ذكره، فيشفوا بذلك نفوسهم، ويذهبوا غيض قلوبهم. وكان أول من عرض لها وكتب فيها الصاحب ابن عباد وأبو علي الحاتمي (388). ولما ألف الجرجاني (366هـ) كتاب (الوساطة) أدار الحديث فيه عن هذه السرقات، وأفاض حتى أنفق فيها أكثر صحائف الكتاب. وجاء معاصره ابن وكيع المصري فألف كتاب (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي) وابن وكيع هذا (شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعه تسحر الأوهام، وتستعبد الإفهام) وله ديوان شعر جيد ولد في مدينة تنيس بالقرب من دمياط، ومات بها في جمادي الأولى سنة 393، وقد ضاع ديوان شعره، ولم يبق من كتاب المنصف إلا نسخه واحدة فيما يقول برو كلمان، محفوظة في مكتبة برلين(825/16)
برقم 7577، وهي تقع في 167 لوحة، وفي كل لوحة صفحتان، يستغرق الجزء الأول منها 148 لوحة، واللوحات الباقية من الجزء الثاني. . . وهو كتاب نفيس حقاً أضعه في ثقة وأمن في طليعة كتب النقد الأدبي، واعد مؤلفه في مقدمة الطبقة الأولى من أعلام النقد، لا في القرن الرابع وحده بل في كل العصور. ولنفاسة هذا الكتاب وطرافته، لا أريد أن أحدثك عن فكرته وأسلوبه ومنهجه، بل أذر مؤلفه يحدثك عن ذلك كله لتتبين بنفسك أغراضه ومقاصده، وتتعرف بذوقك رأيه وتفكيره، ولئن كان الكتاب يعرف من عنوانه كما يقال فإنه أيضاً يفهم من مقدمته.
قال ابن وكيع: (أما بعد حمد الله والصلاة على رسوله الكريم، وعلى آله المصطفين الأخيار الطيبين الأبرار، فإنه وصل إلي كتابك الجليل الموضع، اللطيف الموقع، تذكر إفراط طائفة من متقدمي عصرنا في مدح أبي الطيب المتنبي وتقديمه، وتناهيهم في تعظيمه وتفخيمه، وأنهم قد أفنوا في ذلك الأوصاف وتجاوزوا الإسراف، حتى لقد فضلوه على من تقدم عصره عصرَه وأبر على قدرِه قدره. وذكرت أن القوم شغلهم التقليد فيه عن تأمل معانيه، فما ترى من يجوز عليه جهل الصواب، في معنى ولا إعراب. وذكرت أنهم لم يكتفوا بذلك حتى نفوا عنه ما لا يسلم فحول الشعراء من المحدثين والقدماء منه، فقالوا: ليس له معنى نادر، ولا مثل سائر، إلا وهو من نتائج فكره، وأبو عذره، وكان لجميع ذلك مبتدعاً، ولم يكن متبعاً، ولا كان لشيء من معانيه سارقاً، بل كان إلى جميعها سابقاً، فادعوا له من ذلك ما ادعاه لنفسه على طريق التناهي في مدحها، لا على وجه الصدق عليها فقال:
أنا السابق الهادي إلى ما أقوله ... إذا القول قبل القائلين مقول
وهذا تناه ومبالغة منه كاذبة، وقد يأتي الشاعر بضد الحقائق، ويتناهى في الوصف وهو غير صادق. وذكرت أنك عارضت دعواهم بأبيات، وجدتها في شعره مسروقات، فادعوا فيها اتفاق الخواطر، ومواردة شاعر لشاعر. واحتجوا عليك بامرئ القيس في قوله:
وقوفاً بها صحبي علىَّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فوافق خاطره خاطر طرفة في قوله:
وقوفاً بها صحبي علىَّ مطيهم=يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وأحببت إنهاء ما عندي إليك، غير متحيف لك ولا عليك، فأقول والله الموفق للصواب:(825/17)
إن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتقريظ منه خاملاً، بل فضلوا شاعراً مجيداً، وبليغاً سديداً، ليس شعره بالصعب المتكلف، ولا اللين المستضعف، بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإطالة؛ كثير الفصول، قليل الفضول. لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصراً، وأحسن شعراً، كأبي تمام والبحتري وأشباههما، فإني لا أزال أرى من منتحلي الآداب من يعارض شعريهما بشعره، ويزن قدريهما بقدره، من غير انتقاء للشعر استعمل فيه كد فكره، ولا استقصاء نظره، وإنما قلد الخطوة الرافعة، والشهرة الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال والنقل، لهجة بالاستطراف والملل، ولكل جديد لذة، فلما كان شعره أجد فيهم عهداً، كانوا له أشد ودا. وهبنا أغضينا لهم عن تفضيلهم إياه على من لا يشق غباره، ولا يعشر مقداره، مع علمنا في ذلك أن مذهبهم أوضح فساداً من أن نطلب لهم المعارضة، أو نتكلف من أجلهم المناقضة، فكيف بالإغضاء عن نقيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري، جاهلي أو إسلامي، من استعارة الألفاظ النادرة، أو الأمثال السائرة. وإذا كانت مستعملة في أشعار جميع الناظمين من القدماء والمحدثين. وسلمنا لهم نفيهم عن أبي الطيب ذلك كنا قد سلمنا لهم أنه أفضل أهل الشعر في كل أوان وعصر. وهذه دعوى لا بد من كشف أسرارها وإظهارها، وهي بالعناية أولى من الأولى، لأن تلك دعوى خصت طائفة، وهذه تعم جميع القائلين من الأولين والآخرين. ولقد ادعى قائلها إفكاً واسعاً، وظل للحق فيها دافعاً؛ لأنه أدعى وقوع جميع الشعراء فيما سلم أبو الطيب منه، وفقرهم إلى ما غنى عنه، وهذه صفة تتجاوز الصفات، وتكاد تشبه المعجزات. ولو علم صدقها أبو الطيب من نفسه لجعلها آية له عند تنبيه، ودلالة على صحة ما ادعاه من تنويه، يتحدى بها أهل دعوته.
(البقية في العدد القادم)
السيد أحمد صقر(825/18)
صور من الحياة:
حرمان. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا صاحبي، لا تمتهن عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. فالعبرة - يا سيدي - هي ذوب القلب السامي حين بطل على آلام الإنسانية وهي تضطرم وتتأجج، وهي خلاصة الدم النبيل حين تأخذه الرقة والحنان، وهي الصريح المحض من صفاء الروح وحرارة الحياة وسمو النفس ولعمري إن جامد العين إنسان لم يبلغ بعد درجة الحيوان.
أنني أذكر - الآن - يوم أن فررت من حجرة الشيخ علي، ذلك الفتى القميء العبوس. لقد أختاره أبي ليكون قائداً لي فوجدت فيه غلاً بغيضاً إلى نفسي ثقيلاً على قلبي، فرحت أحطم هذا القيد بطريقة صبيانية جميلة. وتدفقت النشوة في قلبي حين رأيتني أمكر بالشيخ علي فأغلبه على أمره وانتظر على أساليبه الملتوية الوضيعة. وظفرت - لأول مرة - بالحرية التي تدفعني إلى أن لا أخشى الرقيب ولا أخاف أبى ولا أرهب الشيخ علي. وأصبحت وما في حياتي من ينهرني عن لهو ولا من يردعني عن غي ولا من يدفعني عن طيش، فارتدغت في حماقات ما دعني عنها واحد من رفاقي ولا ذوي قرابتي: فأنا لا أذهب إلى الأزهر إلا حين يحلو لي ولا أطمئن إلى أستاذ إلا حين أجد فيه الفتور والضعف ولا أستمع إلى درس إلا حين ألمس فيه ما يجذبني إليه؛ ثم لا أجد وازعاً يغريني بالقراءة والمطالعة ولا أحس ميلاً إلى الاستذكار والتحصيل، فاطمأنت نفسي إلى عبث الطفولة ولهو الصبا. وأبي في القرية لا يعلم من أمري شيئاً وفي رأيه أن ابنه الشيخ الصغير يوشك أن يسمو إلى مرتبه ذوى المكانة والشأن من مشايخ الأزهر وإلى جانبي الشيخان حامد وحسن لا يستطيع واحد منهما أن يلومني على أمر ولا أن يؤذيني بحديث.
وذهبت غير بعيد، ثم استحالت حالي فلمست في حريتي معاني رجولتي. وللرجولة في نفس الصبي علامات لا تتم إلا بها. فأنا أقضي صدر النهار جالساً إلى عمامتي أهيئها على نسق وأرتبها على طريقة، أطويها وأنشرها ثم لا أبرح أطويها وأنشرها فلا أهتدي. وأنا أخلو إلى جبتي طرفاً من الليل - أزيل عنها ما علق بها من غبار وأمسح ما لوثها من(825/19)
طين، والطريق بين الأزهر والدار ضيق قذر تتراكم فيه - دائماً - الأوساخ والوحل، ثم يعجزني أن أدفع بها إلى الكواء ومالي طاقة بما يطلب من أجر، فأنشرها تحت الحشية علها تبدو في رأى العين قريبة عهد بالمكواة. وأنا أنطوي على حذائي - ساعة من زمان - أطليه بالورنيش حيناً وأغسله بالماء أحياناً. ثم تصنعت الرجولة فأخذت أمشي الهوينى منتصب القامة متزن الخطو، وأتحدث في هدوء ورزانة، وأجلس إلى شيخي في ثقة واطمئنان، وأستمع إلى الدرس في أناة وصبر. ومضت أيام ثم غلبتني طبيعتي الصبيانية وضاقت بما أتصنع فإذا أنا صبي بين صبيان يملئون الحارة صياحاً وضجيجاً ويندفعون في لهو ولعب ما ينتهيان إلا أن يثور بنا صاحب الدار أو يهربنا رجل من الجيران فننطلق في ذعر صوب الحجرة كفئران أفزعهم قط كاسر.
وأنست إلى حجرة الشيخ حسن وما هي بأوفر حظاً من حجرة الشيخ علي ولا أسعد حالاً من حجرة الشيخ فهمي، وما فيها غيرنا: أنا والشيخ حسن، والشيخ حامد. ثلاثة ضمتهم آصرة القربى وجمعتهم وشيجة السن فكلاهما تربى في الكتاب وزميلي في الملعب ورفيقي في الغيط وصاحبي في القرية. هنا وجدت الحرية والراحة وسعدت بالهدوء والطمأنينة.
أما الشيخ حامد فهو فتى مدلل رقيق الحاشية لين الأعطاف لدن الأوصال غض الإهاب. وضئ الوجه، وسيم القسمات، يتألق نضارة وجمالاً، يتأنق في لباسه ويتثنى في مشيته ويتأرج في عطره، ليس فيه من معاني الرجولة إلا ثياب الرجل ولكنه صاحبنا وعلينا أن نرعاه ونتعهد حاجاته.
وأما الشيخ حسن فهو فتى في فجر العمر أيد في غير نزق، صلب في غير جفوة، رقيق القلب رضي النفس حلو الحديث خفيض الصوت. أخذ نفسه بالشدة والقسوة فهو يصرفها عن نوازع الحياة ويلفتها عن شهوات المدينة، ويجد لذته في الدرس والكتاب، فيقبل على الدرس في نهم ويطمئن إلى الكتاب في رضا، ويقضي سحابة النهار في صحن الأزهر لا يبرحه إلا إلى حلقة الدرس أو إلى الصلاة. وعلى وجهه سمات حزن ما ينجلي، وفي عينيه عبرات تترقرق ما تنحدر، من أثر ما لاقى من عنت الأيام وجفوة الحياة.
لقد أحس الشيخ حسن اللوعة والأسى حين ماتت عنه أمه صبياً فوقع بين فظاظة أبيه الجاهل وشراسة زوجه القاسية. وأبوه رجل ريفي لم تصقله الحياة ولا هذبته التجارب فهو(825/20)
جافي الطبع غليظ الكبد لا تأخذه الرأفة ولا تهزه الشفقة؛ وزوج أبيه فتاة في مقتبل العمر ورونق الشباب، مكرت بالرجل فأذاق ابنه البأساء والضراء وضربه بالجوع والعرى وأرهقه بالعمل في الحقل وفي الدار، ولكن أحقاد نفسها كانت تتأرث حيناً بعد حين فراحت تمكر بالصبي وأبيه في وقت معاً فدفعه إلى الأزهر. . . دفعه إلى هناك ليعيش ضائعاً يعاني غمرات الحياة وشظف العيش وقسوة الحرمان. ولكنه رضي بالكفاف أن وجده، واطمأن إلى الجوع، وسعد بالعرى، وصبر على الحرمان، ووجد اللذة والسعادة في الدرس.
وعاش الفتى في دنيا نفسه يسكن إلى آلامه ويستقر بين خواطره، يفزع عن الناس لأنه لا يجد فيهم الصاحب، وينفر من الجماعة وما فيهم من يشعره بالعطف. وهو أبي النفس كريم الأخلاق يترفع عن أن ينشر ضعفه أمام واحد من الناس لأنه يخشى أن يسخروا منه ويتندروا به. وأبوه في القرية في شغل عن أن يعني بابنه ومن ورائه زوجه توحي إليه بأمر فهو لا يرسل إليه إلا نفاية الخبز، وإلا قدراً من المش، وإلا قروشاً يدرأ بها سفاهة صاحب الدار. ثم هو يرى الشيخ حامد إلى جواره، هذا الفتى المدلل، وهو يستقبل أطايب الطعام والمال تترادف إليه من القرية الفينة بعد الفينة، فلا يهش لها وإن نفسه لتجذبه إليها جذباً عنيفاً، والشيخ حامد يلح عليه في أن يشاطره الطعام والشراب والمال فيتأبى عليه. ولشد ما كان يحزننا أن يفر من هذا الطعام وهو شهي لذيذ فيعتصم بالأزهر من بكرة النهار حتى الهزيع الأول من الليل، فلا يجلس إلينا إلا حين يوقن بأن الطعام قد نفد أو فسد.
ولطالما أزعجني أن يعيش هذا الفتى بيننا لا يطمئن إلى واحد منا، ولا يلمس المتعة في صحبتنا، ولطالما حاولت أن أصل إلى قرارة نفسه لأستل عنها أشجانها فما ظفرت إلا بالخيبة والإخفاق فعاش بيننا غريباً عنا.
وسار الفتى في سبيله لا يلوي على شيء يدفعه قلبه وعقله وكرامته معاً إلى غاية يبتغيها، فتقدم في خطى فساح يقفز فوق هامات رفاقه حتى أوشك أن يبلغ.
يا عجباً! ما لهذا النبت الغض وقد غذته القسوة وغمرته أشعة الشدة وسقاه الحرمان. . . ما له أينع ونما وأشتد غراسه فأثمر الرجولة والعبقرية والنبوغ؟ أفكانت جميعاً تصقله من صدأ وتحفزه إلى غرض؟
وفي ذات مساء دخلنا الحجرة - أنا والشيخ حامد - فإذا الشيخ حسن يلقانا في بشر وإشراق(825/21)
على غير عادته، ويتبسط معنا في الحديث على غير شيمته، ويشاركنا اللهو على خلاف طبعه. واستولت علينا الدهشة والذهول أن رأيناه متهللاً، وقد انبسطت أسارير وجهه، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة رقيقة، وزادت عنه سمات التجهم والعبوس. وعهدنا به أن ينزوي في ناحية لا يأنس إلا للوحدة، ولا يلوذ إلا بالصمت. ماذا جرى؟ لقد جاء رسول من عند أبيه يحمل إليه - لأول مرة في حياته - ألواناً من الطعام ومبلغاً من المال. لقد كان الطعام تافهاً والمال ضئيلاً، ولكنهما أزاحا عنه كابوس الهم والأسى حين أحس فيهما معاني جياشة من عطف أبيه وحنانه.
وفزعنا نحن عن طعامه مثلما كان يفزع عن طعامنا، وعجز عن أن يثنينا عن عزمنا، فراح يأكل بقدر ويدخر من طعام اليوم لمائدة الغد، والطعام يكفيه أياماً.
ما لي أهب اليوم من نومي مضطرب الأعصاب مقلقل الخاطر مفزع الوجدان كأني أنتظر حادثة أو أتوقع أمراً. لقد ظللت طول يومي أحس في نفسي خيفة وفي قلبي ذعراً، رغم أن هذا اليوم من أيام الربيع الجميلة الهادئة. وكان قد مضى ثلاثة أيام منذ أن استقبل الشيخ حسن رسالة أبيه التي أزاحت عنه خواطره السود، فعجب وهو في مرحه ونشوته أن يراني ساهماً مقطب الجبين مشغول البال، فجلس إلي يريد أن يصل إلى قرارة نفسي ليستل منها أشجانها فما ظفر إلا بالخيبة والإخفاق. وانطلقت أنا إلى الأزهر أريد أن أتحلل من أعباء نفسي وألقي ثقل همي هناك بين رفاقي وأصحابي. وعند الأصيل جاء الشيخ حامد يندفع نحوي وعلى وجهه سمات الفزع والرعب وعلى حركاته علامات الخوف والاضطراب. وحين رآني تشبث بي يجرني وهو يردد في ذهول (تعال، تعال! الشيخ حسن، الشيخ حسن!) فطرت معه إلى الحجرة، إلى حيث أرى الشيخ حسن يتلوى من الآلام وجبينه يرفض عرقاً، وهو صامت لا ينطق بكلمة، ولا يفصح عن شكاه ولا يرسل صيحة. لقد كان جلداً صبوراً حتى حين سرى السم في عروقه من أثر الطعام الذي أزاح عنه الغمة فحفظه في صندوقه وفي قلبه أياماً حتى فسد وتسمم. وأنسرب الرعب في نفسي من أثر ما رأيت فأنعقد لساني وشلت حركتي، فجلست إلى جانبه أنظر ثم ألقيت بنفسي عليه. . . ألقيت بنفسي عليه وهو يلفظ أخر أنفاسه ثم اندفعت أبكيه، أبكي فيه الصداقة الصافية والشجاعة الكاملة والرجولة الباكرة وهو ما يزل في سن الصبا.(825/22)
فلا تمتهني - يا صاحبي - عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. . .
كامل محمود حبيب(825/23)
طرائف من العصر المملوكي:
شعراء أميون
للأستاذ محمود رزق سليم
ما الأمية؟ وما مبلغ صلتها بالشعر؟
أول ما يطالعنا من معاني الأمية أنها الجهل بمبادئ القراءة والكتابة، اللذين هما مفتاح الثقافة، والطريق المؤدى إلى العالم. غير أننا نجد أحياناً أناساً ممن مهروا في القراءة والكتابة، ونالوا من العلم والثقافة حظاً، ينحدرون إلى جهالة جهلاء وضلالة عمياء، إذ لا يفرقون بين حق وباطل، ولا يميزون بين فضيلة ورذيلة، ولا يؤدون حق العلم عليهم بالترفيه عن قومهم، وبخدمة أوطانهم، أولئك والأميون سواء، بل أن بعضاً من الأميين الذين لم يمحصهم أدب، ولم يوقحهم تعليم، قد يكونون أسلم نية، وأطهر طوية، وأصدق عاطفة، وأعرف بأقدار الناس وحقوق الأوطان. وقد استعاضوا بالذكاء والتجربة عن أميتهم، ودرسوا علوم الحياة في مدرستها فتخرجوا فيها فضلاء يشاءون أولئك الذين أخرجتهم الكتابة من ربقة الجهل، وخلصتهم القراءة من حظيرة الأمية، ولكن لا تزال بنفوسهم من الجهل الأصيل علقة، ومن الأمية الراسخة لوثة.
وليس معنى ذلك أننا نتجنى على الكتابة والقراءة، ونضلع مع الأمية، ونحط من قدر الثقافة. كلا وحاشا: ولكننا نحبها جميعاً على أن تكون الطريق الموصلة إلى فهم الحق فهماً صحيحاً؛ وبلوغ الفضيلة بلوغاً كاملاً.
ويبدو أن هذا المعنى الذي نفهمه الآن عن الأمية، لم يكن معروفاً قبل أن تسلك الكتابة الخطية سبيلها إلى الانتشار والذيوع. فكان الأميون هم العامة لا الخاصة، والأوشاب لا الأشراف، والإمعات المغمورين لا الرؤساء المشهورين، ولهذا أطلق اليهود قديماً لفظ (الأميين) على عرب الجاهلية استهانة بأمرهم، وتحقيراً لشأنهم، حتى رفع الله هذا اللفظ وشرفه وكرمه، فنعت به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
أما الشعر فهو فطرة موهوبة لأخلة مكسوبة، ولحن إلهي لا نغم تعليمي، تكسبه المقادير في نفوس جبلت منذ أزلها على أن تكون شاعرة، نفوس تتوثب عاطفاتها، وتتوقد احساساتها وتسجل عليها الأيام ما يطيب لها من جادثات بشرية ومشاعر إنسانية.(825/24)
وتولد هذه النفوس أمية كسائر النفوس، فإذا خرجت عن أميتها ونزعت منزع الثقافة زادت حذقاً وفراهة، وأصبحت دانية إلى كمالها.
وقد أنجبت البشرية، وولدت قبل عهد الكتابة والقراءة، كثيراً من الشعراء. وشعراء العرب في العصر الجاهلي كانوا يمتون إلى هذه الأمية بأوشج الصلات. غير أن هذه الأمية لم تمنعهم أن يكونوا شعراء، ولم تمنع نفوسهم أن تتغنى بما تجيش به وأن يكون غناؤهما على جانب من الرونق والجودة والصدق والسمو، أستأهل إعجاب الأجيال، وأستحق أن يكون موضع دراسة، بل باباً من أبواب العلم والثقافة حتى اليوم. وقد أفادتهم - بلا ريب - زجاجة عقولهم وثقوب نظرهم وسمو تجاربهم، عوضاً عما عانوه من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة.
ويتبين لنا مما سبق أنه لا غضاضة على عصر - أدبي من عصور الكتابة والقراءة أن يكون من بين شعرائه قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون. بل العجيب حينذاك ألا تطرد طبيعة الأقدار وفطرة البشرية، فتقصر الشاعرية على قوم من المثقفين بالقراءة والكتابة، بدلاً من توزيعها على الناس والبيئات والطوائف بقسطاس مستقيم عادل، ما دامت الشاعرية فطرة موهوبة لا خلة مكسوبة - كما أشرنا -
وفي الحق أن الأقدار مطردة في طبيعتها، والبشرية متشابهة في عصور فطرتها، جارية على وثيرة واحدة، وتوزيع الموهبة قائم على العدالة منذ القديم. فلكل جيل شعراؤه، وكذلك لكل بيئة ولكل طائفة. لا تبالي الأقدار في توزيعها واختيارها بأن تخص من يقرءون ويكتبون بأوفر حظ من الموهبة، وأوفى نصيب، دون سواهم.
ومنذ ذلك العصر الذي وجدت فيه الكتابة الخطية سبيلها إلى الوجود والحياة والقوة والاستمرار، واتخذت منهجاً أولياً، تعليمياً، وللراغبين في العلم، والساعين إلى الثقافة، ومن ثم فرقت الناس إلى شطرين: عالم يقرأ ويكتب، وجاهل أمي لا يقرأ ولا يكتب. ومنذ ذلك العصر الذي تولدت فيه اللغات العلمية، وافترقت فيه لغة العامة عن لغة الخاصة. نقول: منذ العصرين المذكورين، والطبيعة سائرة على وتيرتها، مطردة في بابها، توزع موهبتها توزيعها العادل. ولهذا كثيراً ما ترى مخايل الشاعرية، ودلائل الفنية بادية في أوساط الأميين.(825/25)
غير أن حرص أهل الفصحى ومؤرخيها عليها، وحفاظهم الشديد على سلامتها، نفرهم من الأمية والعامية، ومن أدبائهما، وشعرائهما. لا يلمون بحياتهم ونتاجهم إلا في حذر وإباء، وأنفة وكبرياء. ولهذا طغى عليهم سيل الحرمان، وسحب عليهم ذيل النسيان. فعاشوا نكرات مغمورة، وأغفالاً مهجورة. . .
وبعد فنحن لا ندري بالضبط، ما موقفنا من الشعراء العوام، وما رأينا في إنتاجهم الشعري؟ أنحمده لهم أم نجحده، ونشكره أم نكفره. وهل نغبط عصرهم عليهم أم نفمطه، ونهنئه بهم أم نعزيه؟. . .
وقد قلنا (الشعراء العوام) لا (شعراء العامة)، لأننا نقصد أولئك الأدباء، الذين شبوا أميين لم يتعلموا الكتابة والقراءة، ولذلك لم يسلكوا سبيلهم إلى المطالعة والبحث والتحصيل والدرس، ولكن غلبت عليهم حرفة الأدب، ونزعت بهم نازعة الشعر، فنظموا بالفصيحة السليمة شعراً قوياً بارعاً، ومشرقاً ساطعاً، يتضمن الجديد من المعنى، والمفيد من الرأي، والسلس من الحديث - فضلا عما نظموه من الشعر العامي.
فهل أمثال هؤلاء وصمة في جبين عصرهم؟ من حقنا أن نشوهه بهم، ونعيره بوجودهم؟ أم نعتبرهم حلية من حلاه، وزينة من زيناته، لأنهم استطاعوا على رغم عاميتهم وأميتهم، أن ينفذوا بفنهم وشاعريتهم، إلى الفصحى، فينظموا بها، ويصوغوا الأبيات مصقولة بصقالها؟.
هؤلاء كشعراء الجاهلية ولكن بفرق يسير. . . وهو أن شعراء الجاهلية كانوا يعيشون والفصحى سليقة في اللسان، تجري مع الخاطر مجرى الطباع. أما شعراؤنا العوام فقد عاشوا في بيئة عامية اختلطت لغاتها وتبلبلت لهجاتها، فكانت محرفة اللسان سقيمة البيان.
هكذا عاش عدد من الشعراء في العصر المملوكي. ولكنهم برغم هذا، قادتهم فطرتهم السليمة، وأذواقهم المصقولة، إلى أن يدلفوا إلى الفصيحة المعربة من، بابها ويعيشوا ردحاً في رحابها، وينظموا الأبيات الرائقة في جنابها. فوعت بطون الأسفار طرفاً من أخبارهم، وروت لمعامن أشعارهم، تنم عن فنهم وتدل عليه، كما نم الأرج عن الزهر، ودل الحرير على النهر.
وكان بعضهم يحكم عاميته، ينظم كذلك الأزجال، وما إليها؛ ولكنه يضرب في وديان من الظرف واللطف، ويفيض بألوان من السحر والبيان.(825/26)
ونحن فيما يلي ننوه ببعض هؤلاء فمنهم:
الأمير بيبرس الفارقاني. كان من المعمرين، وتوفى عام 808هـ وأسس حماماً تجاه المدرسة البندقدارية. وكان من أهل الدين والصلاح. وله مشاركة في العلم. وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. ويزن الشعر بطبعه، وله شعر جيد باللغة الفصحى. ومن قوله في الغزل، وفيه تورية:
من لي بظبي غرير ... باللحظ يسبي الممالك
إذا تبدي بليل ... جلا سناه الحوالك
من حور رضوان أبهى ... لكنه نجل مالك
روى ذلك ابن إياس في البدائع.
ومنهم ابن الربيع. وهو مجاهد بن سليمان بن مرهف ابن أبي الفتح المصري التميمي، ويعرف بالخياط. كان أديباً رقيقاً ويعتبر من كبار أدباء العوام. عاصر الشاعر المصري البارع أبا الحسين الجزار، والأديب ناصر الدين بن النقيب، وغيرهما من أدباء الحلبة الأولى في العصر المملوكي. وكانت بينه وبين كثير منهم مراسلات ومساجلات. وقد سل لسانه زمناً على الشاعر أبي الحسين الجزار، فهجاه وهجا شعره. ومن هجائه قوله:
أبا الحسين تأدب ... ما الفخر بالشعر فخر
وما تبللت منه ... بقطرة وهو بحر
وإن أنيت ببيت ... وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلا ... عليه للناس حكر
ومن شعره في التشوق والحنين، مخاطباً البرق:
أعد يا برق ذكر أهيل نجد ... فإن لك اليد البيضاء عندي
أشيمك بارقاً فيضل عقلي ... فوا عجباً تضل وأنت تهدي
ويبكيك السحاب وأنت ممن ... تحمل بعض أشواقي ووعدي
بعثت مع النسيم لهم سلاماً ... فما عطفوا عليَّ له برد
وقد توفي مجاهد عام 672هـ. وتحدث عنه صاحب فوات الوفيات.
ومنهم أيضاً شرف بن أسد المصري. قال عنه صاحب الفوات (شيخ ماجن متهتك ظريف(825/27)
خليع، يصحب الكتاب، ويعاشر الندماء، ويشبب في المجالس على القيان). ونقل أيضاً عن صلاح الدين الصفدي قوله عن هذا الأديب، قال (رأيته غير مرة بالقاهرة وأنشدني كثيراً من البلاليق والأزجال والموشحات وغير ذلك. وكان عامياً مطبوعاً، قليل اللحن. يمتدح الأكابر ويستعطي الجوائز. وصنف عدة مصنفات في شاشات الخليج والزوائد التي للمصريين والنوادر والأمثال، ويخلط ذلك بأشعاره وهي موجودة بالقاهرة عند من كان يتردد إليهم.
وقد توفى ابن أسد المصري عام 738هـ.
ولم يرو له الصفدي شيئاً من شعره الفصيح. وروي له موشحه زجلية طريفة يخاطب بها شهر رمضان في دعابة وتفكه ويبدو أن رمضان إذ ذاك كان شديد الحرارة، فأثارت حرارته في الشاعر هذه الدعابة.
ومن لطيف ما رواه الصفدي لهذا الأديب العامي، مقامة منثورة مسجوعة، فيها فكاهة وفيها حوار بين أحد النحاة وأحد الأساكفة، يطلب فيها النحوي من الإسكافي نعلا، طفق ينعتها له، ويصف شروطها. فرد عليه الإسكافي رداً محنقاً ملأه بالكثير من الكلمات الغريبة.
ومما جاء في هذه المقامة، وصفاً للنعل على لسان النحوي قوله: (ظاهرها كالزعفران، وباطنها كشقائق النعمان. أخف من ريشة الطير، شديدة البأس على السير، طويلة الكعاب، عالية الأعتاب، لا يلحق بها التراب. ولا يعرفها ماء السحاب تصر صرير الباب، وتلمع كالسراب، وأديمها من غير جراب. جلدها من خالص جلود الماعز. ما لبسها ذليل إلا أفتخر بها وعز). الخ
ومن الشعراء الأميين أيضاً إبراهيم بن علي الحراني، ويعرف بعين بصل. كان حائكاً، وكان عامياً أمياً، نظم الشعر الفصيح في الغزل والوصف وغيرهما.
ومن غزلياته قوله من قصيدة:
جسمي بسقم جفوته قد أسقما ... ريم بسهم لحاظه قلبي رمى
كالريح معتدل القوام مهفهف ... مُرَّ الجفا لكنه حلو اللمى
رشأ أحل دمي الحرام وقد رأى ... في شرعه وصلى الحلال محرما
رب الجمال بوصله وبهجره ... القي وأصلي جنة وجهنما(825/28)
وله قصيدة جيدة في وصف دمشق وجناتها يقول في مطلعها:
ولوع جلق للأوطار أوطان ... وليس فيها من الندماء ندمان
كم لي مع الحب في أقطارها أرب ... إذ نحن في ساحة الجيرون جيران
أيام تجرير أذيالي بها طرباً ... ولي مكان له في السعد إمكان
إذ بت أنشد في غزلانها غزلا ... لما عزت كبدي باللحظ غزلان
ومنها يقول:
قم يا نديمي إلى شرب المدام بها ... من قبل يدرك بدر السعد نقصان
فأنت في جنة منها مزخرفة ... وقد تلقاك بالرضوان رضوان
وأنت فيها عن اللذات في كسل ... أنهض فما بلغ اللذات كسلان
أما ترى الأرض إذ أبكى السحاب بها ... آذارها ضحكت إذ جاء نيسان
والزَّهر كالزُّهر حياه الحيا فبدت ... في الروض منه إلى الأبصار ألوان
زمرد قضب فيها مركبة. . . ... جواهر ويواقيت ومرجان. الخ
ومن يقرأ هذه القصيدة بتمامها، يستروح فيها أنساماً من قصيدة أمير الشعراء شوقي بك في وصف دمشق؛ ولا سيما أن القصيدتين من بحر واحد وروي واحد.
هذا، ويقول صاحب فوات الوفيات: أن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان (المتوفى عام 681هـ) - كان قد قصد هذا الشاعر، واستنشده من شعره فقال له: أما القديم فلا يليق وأما نظم الوقت الحاضر، فنعم. وأنشده:
وما كل وقت فيه يسمح خاطري ... بنظم قريض رائق اللفظ والمعنى
وهل يقتضي الشرع الشريف تيمماً ... بترب وهذا البحر يا صاحبي معنا
ومن الأميين أيضاً: ذلك الأديب الشاعر الرقيق صاحب البيتين المشهورين:
قد بلينا بأمير ... ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فينا ... يذكر الله ويذبح
ذلك الشاعر هو إبراهيم المعمار. قال عنه صاحب الدرر الكامنة: شاعر مشهور عامي، لكنه ذكي الفطرة، قوي القريحة، لطيف الطبع ولم يتمدح بأحد. وقال إنه مات عام 749هـ.(825/29)
وبمناسبة ذكر عام وفاته، نشير إلى أن المؤرخين اختلفوا فيه والذي يبدو لنا أنه من شعراء النصف الأول من القرن الثامن.
وقد نظم الشعر في أغراض كثيرة منها: النقد، والفكاهة، والغزل والمجون والخمريات والوصف. وقد اصطنع البديع وبخاصة التورية. وكان سلس الأسلوب، واضح المعاني؛ غير أن له أخطاء لغوية أحياناً.
وإلى جانب شعره الفصيح، نظم الزجل والمواليا، في نفس الأغراض الشعرية التي طرقها.
ومن شعره قوله؛ وفيه اقتباس:
قال لي العاذلون أنحلك الحب ... وأصبحت في السقام فريدا
أئذا صرت من جفاهم عظاما ... أبوصل تعود خلقاً جديداً
ما رأينا ولا سمعنا بهذا ... قلت كونوا حجارة أو حديداً
ومنه وفيه تورية:
يا قلب صبراً على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين
وأنت يا دمع إن ظهرت بما ... يخفيه قلبي سقطت من عيني
وبعد فهؤلاء خمسة شعراء أميين لا يقرءون ولا يكتبون، جاد بهم عصر المماليك، فجادوا الناس بالبديع الممتع من الشعر، فلا أقل من أن نذكرهم بالحمد والشكران بدل الذم والنسيان.
حلوان
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(825/30)
فزان بين يدي الفرنسيين والطليان
للأستاذ أحمد رمزي بك
(تتمة)
احتلال فرنسا:
في سنة 1940 وقبيل عقد الهدنة بين فرنسا وألمانيا دعت الحكومة الفرنسية الجنرال والقائد العظيم فيجان لتولي القيادة العامة وسد ثغرة سيدان، لقد تحطمت الجبهة واندكت حصون خط ماجينو في الشمال والزحف الألماني لا يقف وراديو برلين يصيح (لو بعث نابليون من قبره، لما كان في وسعه أن يغير القدر المحتوم) لقد هزمت فرنسا وتمزقت جيوش الجمهورية.
وكنت جاراً للجنرال كابو وقد زالت الكلفة بيننا وفي عصر أحد الأيام دعاني لمنزله وقال لي إنه يغادر البلاد الليلة إلى مصر فالسودان فأفريقيا الغربية فمراكش إلى فرنسا، وذلك بناء على دعوة فيجان الذي طلب إليه أن ينضم إلى هيئة أركان الجيش الفرنسي، إذن يجب أن يكون بجبهة القتال قبل أربعة أيام قلت (إنكم تنتظرون قرارات حاسمة لإيقاف هذا الزحف المستمر) قال: (إن إنقاذ فرنسا يحتاج إلى معجزة). أن ذكر أربعة أيام للوصول إلى فرنسا هي التي لفتت نظري، فهذا القائد يغادر بيروت إلى القاهرة ومنها إلى الخرطوم ومنها إلى واداي ومنها إلى بحيرة نشاد ثم تمبو كتو ومنها إلى وسط الصحراء ثم الدار البيضاء ليصل في أربعة أيام إلى فرنسا (التي كان بوسعه أن يصلها في ساعات).
هذا الموقف الحاسم في استراتيجية البحر المتوسط سببه دخول إيطاليا الحرب تلك الدولة التي تملك من المراكز ما يمكنها من أن تشل حركة الحلفاء جميعاً وتجعل من البحر قسمين وتدخل في صميم القارة الأفريقية بقطاع يهدد أملاك إمبراطوريتين.
ومن هذا نفهم أول مبرر يدفع الفرنسيين للتمسك بأقليم فزان على أساس أنه على الطريق الجوي بين مدغشقر وفرنسا.
وحينما عقدت الهدنة ظهرت حركة الفرنسيين الأحرار التي ترأسها الجنرال ديجول أخذ يسعى إلى جمع شمل الإمبراطورية تحت لوائه فكان أول من أنضم إليه الجنرال كاترو(825/31)
بالهند الصينية ولكن موقف اليابان حال دون استمراره فغادرها واتجهت الأنظار إلى منطقة قريبة فكان الكنغو الفرنسي أول المقاطعات التي انضمت إلى الحركة والغريب أن الظروف تركت هنالك حاكماً وطنياً من الشعوب الملونة وهو الذي توفى قبل نهاية الحرب بالقاهرة وكان أمل فرنسا يستهدف أن تحتفظ بمكان لها على مائدة الحلفاء، ولذلك تغير اسم فرنسا الحرة إلى فرنسا المقاتلة وحاول الجنرال ديجول مراراً أن يسمح له بالجلوس مع روزفلت وستالين وتشرشل، وكان الأولان يعترضان على وجود فرنسا لأنها سلمت ولم تحارب ولذلك اتجهت إرادة فرنسا الحرة إلى تحمل أعباء قتال في أي جهة وكان أن سمعنا بفراق من المتطوعين وجنود المستعمرات تحارب في صف البريطانيين وبين أيدينا في سوريا ولبنان ذكريات ضباط البر والبحر والجو الذي كانوا يخترقون حدود فلسطين للانضمام إلى قوات فرنسا المحاربة، وكان أن ظهرت قوات في ميدان سوريا ولبنان، ثم في الحدود المصرية في بير حكيم حين استبسلت قوة فرنسية أمام قوات تفوقها عدداً عن جنود المحور.
إلا أن العملية الحربية المنفصة والمستقلة تماماً عن بقية جيوش الحلفاء هي العملية التي تولتها فرنسا المقاتلة بزحفها من بحيرات تشاد عبر الصحراء الكبرى وانتهت إلى فزان وهي من أعظم حركات حروب البادية.
ولقد كان رأي فرنسا في الحكم الإيطالي يختلف تماماً عن رأيها اليوم وإليك الدليل من نشرة رسمية لحكومة الفرنسيين الأحرار وسأقرأها بالفرنسية:
كانت مقدمة هذه الحركة. عملية من أخطر العمليات التي مرت في تاريخ حروب البادية ولكنها أشبه بحركة كشفية منها بعملية حربية. فقد قام من الجانب الفرنسي ضابط أسمه جان كولوتا دورنافو من ضباط قوات البادية الفرنسيين واشتركت معه ضابطان بريطانيان اجتمعا في القطاع الجنوبي حيث تلتقي الحدود بين المستعمرات الإيطالية والفرنسية وحدود السودان وكان هذا في 4 يناير سنة 1941 وفي11 يناير تمكنت هذه القوة المخاطرة من تدمير مطار مرزوق والسودة بعد أن ظل الضابط الفرنسي كولوتا دورتانو تحت وابل رصاص الطليان. وتعرضت بعد هذه الحملة واحة كفرة والجزء الجنوبي من فزان لعدة هجمات سنة 1942 وفي أوائل سنة 1943 زحفت قوة الجنرال الفرنسي من الجنوب(825/32)
وأهم أغراضها احتلال فزان وتحريرها وكان مركز التجمع ثم وأتت المؤن والذخائر وبالسيارات من برازافيل، وكانت القوة الزاحفة عددها 738 ضابطاً ورجلاً.
وقد اختير موعد الزحف بين شهري نوفمبر وفبراير وفي 25 ديسمبر أذيع أول بلاغ عن العملية يتضمن دخول القوة في يوم 22 ديسمبر 1942 أراضي فزان، وفي 30 ديسمبر احتلت أم الأرانب بعد مناوشات مع قوة إيطالية وسلم عشرة من الضباط وأكثر من مائتي جندي وطني وفي الوقت نفسه سلمت البطرون ثم سبها وفي 12 يناير سلمت مرزوق.
كان الاستعداد لهذه العملية كامل من جميع الوجوه وجاءت في الوقت المناسب الذي كان الحلفاء يدفعون بجيوش المحور إلى الحدود التونسية، ولذلك تمكنت الحملة الفرنسية بعد احتلال فزان أن دخلت طرابلس في 25 يناير، واحتلت في 26 يناير سنة 1943 غد أمس.
وقد اشتركت القوات الهوائية الفرنسية وأبلت في المعارك بلاء حسناً، ولكن عظمة الحملة فهي في تنظيمها وسيرها وأنها حركة مفاجأة رغم أن الحرب التي واجهت الحملة هي حرب مع الطبيعة أكثر من أنها حرب مع الطليان، وقد دلت عمليات الصحراء من 1941 إلى 1943 على أن قيادة الحلفاء كانت تحسب حساباً للمطارات الإيطالية في الكفرة وفي مرزوق، وقد ذكر الفرنسيون أنهم وجدوا في مطار الكفرة البريد السري الذي كان يرسله حاكم جيبوتي التابع لحكومة فيشي مما يدل على أن مطارات الصحراء كانت تسمح باتصال الإيطاليين بأثيوبيا مع دولتي المحور.
هذه هي العمليات التي أدت إلى دخول الفرنسيين وهي بطبيعتها مكملة لحركات الحلفاء في شمال أفريقيا، ولقد كانت الأهداف تبدو مستعصية وبعيدة عن التحقيق لو كانت مستقلة تماماً ولكنها كعملية للحروب الاستعمارية الصحراوية تستدعي أن تقف قليلاً لنتحدث عن الصحراء.
حروب الصحراء:
للصحراء روعة تحدث عنها الكثيرون من أهل أوربا من رجال الجندية وغيرها. فحافتها تمثل في نظرهم حدود بحر متسع من الرمال يدعو الواقف على شاطئه أن يركب الأخطار فيكتشف فيها ما وراء الأفق أو هي قطعة من عمل الطبيعة تتحدى الإنسان - أقصد(825/33)
الإنسان الواعي - وتدعوه أن يقدم عليها ويواجهها وينازلها ليكتشف ما تخفيه في أنحائها.
ولذلك كثر عدد الرواد وانتهى الأمر إلى أن أصبح للصحراء حروب ومعارك وأنظمة علق عليها المستعمرون أهمية خاصة. وكان من أهم مظاهرها وفوائدها أنها تخلق تلك الفئة الممتازة من الرجال الذين تخرجهم مدارس الحروب الأفريقية والأسيوية بتجاربها القاسية. ويعد أفراد هذه الفئة ذخراً لا يقدر بثمن للبلاد التي تملك المستعمرات الشاسعة البعيدة عن العمران والتي يحتاج استتباب الأمن فيها إلى القيام بحملات دائمة ومستمرة ضد أهالي وسكان البلاد الوطنين الذين يحدثون أنفسهم بالدفاع عن أوطانهم.
فلكي يكون لدينا مثل هذه الفئة الممتازة لنرد العدوان وشره، يجب أن ندفع بعدد من رجالنا دائماً إلى الأخطار فإن لم تكن لدينا حروب وجب أن نشجع هذا الفريق أن يتطوع خارج البلاد وأن يشترك في أية حروب قائمة بصرف النظر عن ميلنا لهذا الفريق أو ذاك من المتحاربين. إنما يكون غرضنا الأساسي الحصول على تجارب كل فريق وأساليبه في القتال متجهين إلى تربية روح المغامرة في النفوس.
من هذه المدرسة تخرج قواد المستعمرين الذين قادوا الحروب في أوربا وكانوا قوة للبلاد التي ينتمون إليها ذلك لأن وجودهم في جو يدعو إلى تحمل المتاعب ومواجهة الأخطار وأخذ المسئوليات بثقة في النفس يخلق فيهم صفات ممتازة أهمها الجرأة على الوقوف أمام عقبات تبدو مستعصية ووسط ظروف تعد خطيرة ثم تعويد النفس على أحد القرارات السريعة الحاسمة وتنفيذها وهي صفات تبدو في كثير من الأمم وكأنها قد فقدتها مع اليوم الذي فقدت استقلالها فيه.
وليس معنا هذا أننا معاشر الشعوب الإسلامية في تاريخنا الطويل المملوء بالحروب المتتالية سواء في آسيا أو أفريقيا لم تذق طعم الانتصار وحلاوته، بال كان لدينا من هذه الفئة الممتازة كثيرون، ومنهم من لا يمكن مقارنته بغيرهم من الرجال الأوربيين نظراً لتفوقه ومنهم لا يقل في صفاته عنهم.
ولقد كان من أسلافنا من قادوا الحملات عبر الصحراء عدة مرات ودانت لهم القارة الأفريقية بحسب الأساليب التي كانت متبعة في عصرهم فهناك حملات من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء الكبرى وحملات من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الغرب قام(825/34)
بها أسلافنا من المرابطين والموحدين على شكل أوسع وأعظم مما يفتخر به قواد المستعمرين من الإيطاليين والفرنسيين. ولكننا اليوم مضطرون أن نأخذ من الغرب وأن نتتبع خطواته، وأن ندرس هذه الحملات ونقلدها حتى أساليب القتال على أراضينا وأوطننا.
بعد مضي سبعين عاماً على حملة فرنسا التي ساقتها على الجزائر أي في سنة 1900 احتلت القوات الفرنسية المقيمة في جنوب الجزائر واحة عين صلاح، وكان هذا الاحتلال بمثابة فتح جديد قابله العالم بدهشة زائدة ذلك لأن فرنسا فاجأت العالم بإنشاء قوة عسكرية جديدة للبادية يرجع الفضل في تدريبها وتهيئتها إلى المأجور لابرين فهذه القوه أشار إليها جراتزياني في كتابه عن إخضاع ليبيا وقال إن إيطاليا أدخلت هذا النظام لديها وزادت عليه فتولى قيادة رجال البادية الدوق داوستي الذي أخذ هذا العمل بجد ولا أزال أذكر حديثه عن الأيام التي قضاها وسط الصحراء وكيف أنه كان يعبر عن حنينه الدائم وهو في أربا عن أيامه في تلك البقاع.
والتكلم عن قوات البادية وتنظيمها لا بد أن يذكر العمل الذي قام به المأجور جلوب باشا المسمى بأبي حنبك في بادية الشام، فهذه وإن كانت بعيدة عن فزان إلا أنها نوع من أعمال الأوربيين يستحق اهتمام أولي الأمر وتفكيرهم.
ماذا نستخلص من محاضرة فزان:
أولا: اهتمام الدول الأوربية بالصحراء الأفريقية مما يتطلب ضرورة التعجيل بإنشاء معهد الصحراء لدراسة مستقبل الصحاري في بلادنا وفي القارة الأفريقية وفي أسيا خصوصاً جزيرة العرب.
ثانياً: اهتمام الدول الاستعمارية بطرق المواصلات عبر الصحراء وهي مواصلات برية وهوائية.
فالأولى ستعود بنا إلى طرق القوافل القديمة فعلينا أن نستعد من الآن على دراسة هذه الطرق ورسمها على الخرائط ثم العمل على إعادتها واكتشاف مواقع المياه فيها، أما الطرق الهوائية فأول واجب يحتم علينا إنشاء مطارات حديثة في مناطق الواحات المصرية حتى تكون دائماً على استعداد للمساهمة مع الآخرين في تعمير الصحراء.(825/35)
يسير العالم بخطوات سريعة نحو توطيد سيطرة الدول الأوربية مرة أخرى على المشارق والمغارب، ومشكلة فزان إحدى المشاكل المرتبطة بمستقبل ليبيا، وقد ظهر للعيان كيف تطورت السياسة العامة بالنسبة لإيطاليا فهي قد كانت تقبل منذ سنتين مساعدات الدول العربية بأصواتها لاستعادة إرتريا والصومال في مقابل الاعتراف باستقلال ليبيا كاملاً، أما اليوم فلا أدرى هل تقبل ذلك؟
من الناحية الفرنسية يبدو لنا أن فرنسا تحاول أن تعمل على إعادة نفوذ إيطاليا كاملاً، وفي هذه الحالة هل تسلمها حدودها القديمة أم تقتطع فزان، وإذا سلمت لها بفزان هل تحتفظ بـ 100 , 000 كيلو متراً من الأراضي التي سلمها لافال إلى موسوليني؟ وما هو موقف الإنجلو أمريكان؟
إن موقفهم يتلخص في الاحتفاظ بالمراكز الاستراتيجية.
ولا يوجد شك في أن بريطانيا لها مراكزها في برقة كما لا يوجد شك في أن أمريكا لها مراكزها في طرابلس.
في مصلحة من استقلال ليبيا موحدة. .
هذا ما تمليه تطورات السياسة العالمية ومقدار الثقة التي يحصل عليها أهل ليبيا وبرقة أنفسهم.
أما أهل فزان فداخل السور الحديدي أسلاك شائكة وجنود السنغال، مثلهم كمثل ملايين من بني آدم لا يتمتعون بما يسمى حقوق الإنسان: تحرمهم منها أمم كانت هي أول من نادى بحرمة حقوق الإنسان.
أحمد رمزي(825/36)
رسالة العلم
انفعال الجو الأرضي من السفع الشمسية
لماذا اضطرب الراديو في العالم؟
للأستاذ نقولا الحداد
في الخامس من هذا الشهر اضطربت الإذاعات اللاسلكية في العالم من الصباح حتى الساعة الأولى بعد الظهر فلم يعد أحد يسمع إذاعة واضحة كأن البحر الأثيري التج وأمواجه هاجت فضرب بعضها بعضاً والتطمت لججه. وكانت الإذاعات اللاسلكية يطغي بعضها على بعض، فلم يعد أحد يفهم كلاماً أو يميز نغماً إلى أن أذاع راديو لندن: (نأسف أن إذاعاتنا لم تنتظم اليوم بسبب اضطراب صاخب في قرص الشمس).
ذلك لأن براكين السفع الشمسية هاجت متجاوزة حد هياجها المعتاد. فأثرت مغنطيسيتها في مغنطيسية الأرض وكهربائيتها في كهربائية هذه وقلقلت إيجابيتها وسلبيتها وعكست اتجاهاتها فاضطربت إبرة الحك بحيث لم يعد الملاح يعرف يمينه وشماله واتجاهه القويم وانتفضت كهربائية الشمس فصادمت كهربائية الأرض واضطربت ميزانها. وبالإجمال يقال أنه لم يبق اعتدال كهربائي أو اعتدال مغنطيسي على الأرض.
وقد لاحظ العالم الإنساني كله أن شتاء هذا العام كان صارماً جداً وبرده كان قارصاً وثلجه ومطره متدفقين. وفي أوائل هذا الشهر (إبريل)، ونحن الآن في الربيع، كان الطقس قاسياً حتى أنه كان في الخامس عشر منه كأنه طقس يناير. فعاد الناس يرتدون المعاطف الثقيلة بعد أن خلعوها.
هذه تأثيرات الشمس على الأرض حين تثور السفع الشمسية وتهيج براكينها كأن الشمس غضبت فانقضت صواعق غضبها على أولادها السيارات وأقمارها ومن جملتها الأرض وما الأرض بأعز عندها من سائر الكواكب، إلا إذا كانت الشمس قد استائت من هذه الفتاة المدللة من بين فتياتها الأخريات لما بدا من أخلاق أهل الأرض الجهنمية فاختصتها بهذه النقمة.
أما هذه السفع فهي بقاع على سطح الشمس تكثر أو تقل بلا ميعاد مقرر، ولا قرار معين.(825/37)
وإنما تكثر إلى ناحيتي القطبين وتقل جداً عند خط الاستواء. والبقعة الشمسية تكبر أو تصغر بلا سبب معروف. فقطر الواحدة يختلف بين بضعة عشر ميلاً إلى 50 ألف ميل وأكثر. والظاهر أنه كان من سفع هذا العام أو هذا الشهر سفع ضخمة جداً سببت هذا الاضطراب في الجو المتيورولوجي الأرضي.
والسفع الشمسية كمعظم الظاهرات الشمسية غامضة لم يتفق العلماء حتى الآن على تفاسير مقنعة لها. ولهم فيها نظريات مختلفة ومعظمها ظنون وتخمينات.
وأكثرهم يرجحون نظرية العلامة (هايل) الذي اشتغل كثيراً في دراسة الظاهرات الشمسية وتعليلها. وهذا ملخص نظريته السفعة هي في الظاهر بقعة قائمة في الشمس وسطها ظل ثقيل ومن حوله ظليل خفيف. وتحيط بها بقع ساطعة. ولدى التدقيق في رصدها من مرصد قوي تبدو كأنها بركان هائج. وشكلها كشكل القمع - القمع الذي يسكب فيه الماء إلى القارورة - منفرج كثيراً في خارجه. وهو قائم في الجو الشمسي الخارجي المسمى (فوتوسفير). وأنبوبته تتدلى إلى ما تحت الفوتوسفير. ولما يقذف منه من غاز يظهر بشكل (بالوعة) أي دوامة أو (دردور) وسرعة دوران هذا الدردور هي في الغالب مرافقة لأصل المجال المغنطيسي الذي في الشمس. هي بالوعة فوارة لا بلاعة والغالب أن دورانها لولبي. ثم أن الغازات المتصاعدة منها تحمل معها كثيراً من الذرات المكهربة ومنها تتدفق التيارات الكهرطيسية.
وقد أثبت التحقيق أن التيارات التي تتصاعد من السفعة الواحدة، وهي لا تزال في الجوف، إنما هي منخفضة الحرارة عن معدل حرارة سطع الشمس الذي هو ستة آلاف درجة من مقياس سنتيغراد. وحرارة تلك الغازات المتصاعدة لا تتجاوز ألفي درجة سنتيغراد. إذن فلا بدع أن يكون تعدد السفع وتضخمها سبب هبوط الحرارة على سطح الأرض وتساقط الأمطار.
ولا يزال هبوط الحرارة هناك مجهول السبب، على أنها صاعدة من بيئة أشد حرارة من السطح.
والراجح أن المجال المغنطيسي في الشمس ذو صلة بدوران الشمس المحوري. وفي رأي أحد العلماء أن الدردور (أو الدوامة) الأصيل ممتد تحت سطح الشمس على عمق عميق(825/38)
امتداداً أفقياً، ولعله يمتد في دائرة حول باطن الشمس، وأحياناً يلتوي إلى سطحها حيث يطلق من هناك مقادير عظيمة من طاقته. وهذا ما يفسر انطلاق الغاز من نصفي الكرة الشمسية على مقربة من القطبين مدة أسابيع، وهو يعلل ظهور السفع ثم انطفاءها هنا فهناك حيناً بعد حين من غير مواعيد أكيد ة. وكذلك يعلل نشاط السفع في اتجاهها نحو خط الاستواء الشمسي.
وقد ظهر من مباحث (هايل) أن للشمس مجالاً مغنطيسياً مشابهاً جدا للمجال الأرضي. والقطب الشمالي المغنطيسي كزميله في الأرض. وهو قريب جداً لقطب الدوران الشمالي ولكنه غير مطابق له تمام المطابقة.
وقد لوحظ جيداً أن التغيرات حتى الطفيفة في المحور المغنطيسي تنبثق من الأرض أو ترد إليها بفعل دوران الشمس المحوري. وقد رئي أن القطب المغنطيسي منحرف 4 درجات عن قطب الدوران. وأن ذاك يدور حول هذا في 31 يوماً ونصف اليوم. ومقدار حدته المغنطيسية الشمسية مائة ضعف حدتها الأرضية.
هذه السفع تنشأ في نصفي الكرة الشمسية وكل من الجانبين ضد الآخر في الإيجابية والسلبية. ومتى بلغت أشدها في الضخامة ظهرت الاضطرابات المغنطيسية والكهربائية في الشمس وبالتالي على الأرض.
مدة حياة السفعة الواحدة من يوم إلى 4 أيام للسفع الصغيرة. وأما السفع الكبيرة فقد تطول حياتها أياماً وأسابيع وأشهراً حتى 18 شهراً أحياناً.
ولما كانت السفعة كالدردور أي كالبالوعة تدور على نفسها حول محورها دورة لولبية، فهي ترحل ولو ببطيء نحو خط الاستواء الشمسي أو من الشرق إلى الغرب أو بالعكس، والصغيرة منها أسرع من الكبيرة.
أما أقطار هذه السفع فمتفاوتة من 50 ميلاً إلى 40000 و50000 (من أربعين إلى خمسين ألفاً) وأحياناً تبلغ إلى 150 ألف ميل، وهذا نادر. فطبيعي إذن في هذه الحالة أن يكون تأثيرها على الأرض شديداً جداً. ولا بدع أن تختل الإذاعات اللاسلكية، وأن نرى سفعة كهذه رأي العين عند الغياب، أو من وراء زجاجة مموهة بالسواد، أو إذا كان الجو الأرضي غائماً قليلاً شفافاً. ولا يستغرب القارئ هذا الكبر إذا علم أن حجم الشمس مليون(825/39)
و300 ألف مرة كحجم الأرض، وسعة سطح الشمس 13 ألف مرة كسعة سطح الأرض. وإذا وضعنا الكرة الأرضية في السفعة الكبيرة غرقت فيها وبقي حولها فراغ كبير.
أما سبب ظهور هذه السفع فلا يزال مجهولاً، وقد ظن أن للكواكب السيارة والرجم تأثيراً في الشمس ولا سيما حين تتقارب بعض السيارات على جانب واحد من الشمس، ويخرج قطب محورها أو يزوغ عن موضعه. ولكن هذا الظن لم يصادف تحبيذاً من جميع العلماء، وإنما يقال بالإجمال في هذا الموضوع أن الطاقة في باطن الشمس حيث الضغط شديد تتفلت هنا وهناك كأن الشمس تتنفس الصعداء لكي تسري عن نفسها، فتنفجر الطاقة كانفجار البراكين، وتظهر السفع بشكل فوهة البركان المنفرجة وتشرع تتسع كاتساع البالوعة التي تدور دوراناً لولبياً، وتتسع وتتسع حتى تبلغ عشرات ثم مئات الألوف من الأميال، وهي تتحرك متجهة إلى خط الاستواء الشمسي. وحين تنشأ السفعة على مقربة من القطب الشمالي تنشأ أخت لها على مقربة من القطب الجنوبي.
ومتى صارت كل منهما تدنو من خط الاستواء تشرع تصغر وتتقلص حتى تتلاشى تماماً، ويندر أن تعبر خط الاستواء، ومتى تقاربت السفعتان إلى خط الاستواء تتفانيان متنافيتين تنافي الإيجابية والسلبية.
وجماعات السفع في إبان تضخمها ترى في متوسط كل من نصفي الكرة الشمسية كنطاقين حول الشمس يحزمان نصفيها.
تنشأ السفع هكذا قليلة أو كثيرة، وتتضخم وتترحل من عند القطبين إلى الاستواء على طول السنة عاماً بعد عام، وتبلغ في بعض الأعوام أشدها. وقد لوحظ أن شدتها دورية، كل إحدى عشر سنة تقريباً تحتد مرة احتداداً فائقاً، كما حدث في هذا العام وفي هذا الفصل. وبعد ذلك تخف هذه الحدة رويداً رويداً إلى أن تبلغ درجة التراخي والخمود أو الهمود.
بناء على هذا بعد 11 سنة تقريباً سيرى سكان الأرض غالباً اشتداد البرد في مثل هذا الفصل، واختلاط اللاسلكي، واضطراب الجو على العموم.
نقولا الحداد
2 شارع البورصة الجديدة بالقاهرة(825/40)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مع الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى:
أخي الأستاذ
أملي الدكتور طه حسين بك في كتابه (الفتنة الكبرى) الجزء الأول الآراء الثلاثة التالية:
1 - (وسيرى الذين يقرءون هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهم وقام من دونهم. وأن غير عثمان لولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيها عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن) ص 5.
2 - (هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها أو أثيرت أيام عثمان - لا لأن عثمان كان هو الخليفة - بل لأن الوقت قد أن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه وليثير الناس بعضها الآخر) ص 9.
3 - (ولكن لو سار عثمان سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس لما كانت الفتنة. ولما احتجنا إلى إملاء هذا الكتاب) ص 156.
وإنني لأرى من ظاهر هذه الآراء تضاربها الواضح عندما يحاول الدكتور تركيز رأيه في أسباب الفتنة ومشكلاتها. فأرجو من الأستاذ المعداوي أن ييسر لنا الأمر ويوضح ما أراده الدكتور ويدلنا على الحقيقة التاريخية في هذا الحدث المهم في الحياة الإسلامية. . . ودمتم عوناً لمحبي المعرفة وطالبي الثقافة الصحيحة.
حسين حسن
معلم المدرسة الغربية
العراق الناصرية
أشكر للأستاذ الفاضل حسن ظنه، وأجيبه بأن هذا التناقض الذي يبدو له من ظاهر هذه الآراء مرجعه إلى أنها تقف وحدها في رسالته الكريمة، دون أن ترتبط بما حولها من شروح وملاحظات تتناول أسباب الفتنة ودواعيها. . . ولو ربط الأستاذ بينها وبين ما سبقها وجاء بعدها من تحليل لمقدمات الفتنة ونتائجها لا ننفي التناقض الذي يبدو له من(825/42)
ظاهر الألفاظ فيما كتب الدكتور طه حسين؛ هذه الألفاظ التي تحتفظ بدلالتها المعنوية إذا ما طبقت على ما جاء بكتاب (الفتنة الكبرى) من تفسير لمجرى الحوادث ووقائع التاريخ.
يشير الدكتور طه في الرأي الأول إلى أن غير عثمان لو ولى خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيما عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ثم يشير في الرأي الثالث إلى أن عثمان لو سار سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس لما وقعت الفتنة. . . وقد يبدو هنا شيء من التناقض بين الرأيين؛ لأن كلمة (غير عثمان) في الرأي الأول قد تنصرف إلى غيره من صحابة الرسول وفيهم عمر بن الخطاب؛ ولأن الدكتور قد قطع في الرأي الثالث بأن عثمان لو سلك مسلك عمر في معالجة الأمور لما وقعت الفتنة على هذا الوجه الذي وقعت عليه. الواقع أنه لا تناقض هناك ولا شذوذ؛ لأن الدكتور يقصد من وراء (غير عثمان) أولئك الذين رشحوا للخلافة بعد مقتل عمر وكان من الممكن أن يليها أحدهم لو لم يقع الاختيار على عثمان. . . فلو وليها علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص أو طلحة بن عبيد الله أو الزبير بن العوام لتعرض كل واحد منهم لمثل ما تعرض له عثمان من ضروب السخط وصنوف الكيد وفنون الوقيعة! كل ما حدث هو أن عثمان رضي الله عنه قد عجل بوقوع الفتنة بضعفه وتسامحه وقلة خبرته بشئون السياسة وأصول الحكم وطبائع النفوس، ولو قدر لغيره من هؤلاء الذين أتينا على ذكرهم أن يأخذ الأمور بشيء من الحزم والعنف لأبطأت الفتنة في سيرها بعض الإبطاء ولتأخرت النهاية عن موعدها بعض التأخير، ولكن هذا كله لم يكن ليحول بينهم جميعاً وبين هذا المآل الذي كان بالنسبة إلى عثمان خاتمة المطاف.
هذا التفسير المقبول يمكن أن نعالج به الشق الأول من الرأي الثاني حين يقول الدكتور طه حسين بأن هذه المشكلات التي ثارت من نفسها أو أثيرت أيام عثمان - لا لأن عثمان كان هو الخليفة - بل لأن الوقت كان قد أن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه وليثير الناس بعضها الآخر. . . أقول الشق الأول من هذا الرأي لأننا لا نستطيع أن نبرئ عثمان من هذه المشكلات التي أثيرت وكان لطبيعته النفسية والخلقية في إثارتها أكبر أثر وأوفى نصيب. أما تلك المشكلات الأخرى التي ثارت من تلقاء نفسها فأوافق الدكتور طه على أنها(825/43)
لم تثر لأن عثمان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان هو السبب الأول والدافع الأصيل إلى بعثها وإثارتها بعد أن كتمت أنفاسها يد عمر، وأخمد صوتها حزم عمر وحد من جموحها سوط عمر. . . يوم أن كان يدوي فوق الرءوس ويلهب الأجساد!.
بعض المشكلات أثاره الوقت ولم يكن لعثمان يد فيه وبعضها الآخر أثاره عثمان (الخليفة) بضعفه وتسامحه واستسلامه لذوي قرباه. . . أقول هذا لأن هناك كتاباً عن (عثمان بن عفان) يطمس حقائق التاريخ حين ينظر صاحبه إلى الفتنة ودواعيها من وراء هذا المنظار الديني الساذج الذي يظهر له عثمان فوق مستوى الشبهات والتبعات! ما هكذا تعالج القضايا التاريخية بوضعها فوق مشرحة العواطف الدينية؛ إننا لا نستطيع أن نضع على أعيننا هذا المنظار إلا إذا استطعنا أن نلغي العقل والمنطق حين نتحدث عن هذه الفتنة الكبرى دون أن نقدم النتائج مستندة إلى المقدمات. . . موقف عثمان من مقتل الهرمزان، تدليله لقرابته، إنصافه المنتمين إليه على حساب الناس، عزله ابن أبي وقاص عن الكوفة ليحل محله الوليد بن عقبة، إقصاؤه أبا موسى الأشعري عن البصرة ليضع في مكانه عبد الله بن عامر، خلعه عمرو بن العاص عن مصر ليخلفه فيها عبد الله بن أبي سرح، إيثاره الحكم بن العاص طريد الرسول، إغداقه المال على مروان بن الحكم صفيه المقرب، خضوعه لتوجيهات معاوية في نفي أبي ذر، اعتدائه أو اعتداء رسوله على عمار بن ياسر. . . كل هذه الأمور وأشباهها قد فرقت الشمل وعصفت بالصفوف، لأن عثمان كان هو الخليفة، ولئن كان السخط قد ولد في النفوس هذا الانفجار، فلأن عثمان قد شارك في الأمر بضعف رأيه وقصور نظره وسقوط هيبته!
أما المشكلة الكبرى التي أثارها الوقت ولم يكن لعثمان فيها ذنب ولا جريرة، فهي أتساع رقعة الفتوح، وتدفق الأموال، وانطلاق الأرستقراطية القرشية من معاقلها انطلاق الأسود السجينة قد تخلت عن زجرها قبضة السجان. ولم تكن القبضة الجبارة غير قبضة الجبار العادل عمر بن الخطاب لقد كان عمر يقف أبداً في طريق هذه الأرستقراطية التي لا يصدها جشع ولا يحدها طموح، لأنه كان أخبر الناس بالطبيعة القرشية إذا ما خلي بينها وبين ما تطمح إليه من سؤدد وما تطمح فيه من سلطان. . . الدرة في يمينه تخشع لرؤيتها رءوس السادة من قريش والكلمة تحت لسانه تخضع لسطوتها نفوس السادة من قريش: (ألا(825/44)
إن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، أني قائم دون شعب الحرة أخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار)!
ولكن عمر يموت وتتنفس قريش بملء رئتيها بعد أن لقيت العواطف المكبوتة ما لقيت من قسوة الكبت ومرارة الحرمان، وما كان لرجل غير عمر أن يقف في وجه هذه القوة المتحفزة للتوثب والانطلاق في غير حكمة ولا روبة ولا اتزان. . . لا هذا الخليفة المستضعف ولا هؤلاء الذين قاموا من بعده ليخلفوا، لأن الأرض لم تظفر بغير عمر واحد لا شبيه له في العدل ولا النظير!
في رحاب الوقت على التحقيق ثارت من تلقاء نفسها هذه المشكلة الرئيسية وما تفرع عنها من مشكلات، وفي رحاب عثمان على التحقيق أثار الناس وأثار هو ما جد بعد ذلك من أزمات!
دفاع مضحك عن السير ربالزم:
يذكر القراء أنني تناولت مذهب السير ريالزم بالنقد في عددين سابقين (من الرسالة)، حيث تحدثت عنه في مجال الأدب والفن عند عميديه في فرنسا: بريتون وبيكاسو. . . ويذكرون أيضاً أنني رميت هذا المذهب بأنه شعوذة فنية لا أكثر ولا أقل، وبأنه (لخبطة) ولا شيء غير (اللخبطة)! قلت هذا فتصدي للرد عليه في جريدة (البصير) التي تصدر في الإسكندرية أديب لا داعي لذكر أسمه لأن أحدا أيضاً لا يعرفه. . . ولقد هاجمني الأديب الإسكندري في بداية كلمته حتى خيل إلي أنه يمد بصلة القرابة إلى مسيو أندريه بريتون أو أنه على الأقل أحد تلاميذه النابغين! قال الأديب النابغ بعد تهجمه النابغ: (وبذلك شاء الأستاذ المعداوي أن يقضي بجرة قلم على مدرسة فنية ذات شهرة ذائعة ترتكز إلى مبادئ يدين بها فنانون هم الآن في طليعة حركة التجديد، يكفينا أن نذكر أسم زعيمهم (بيكاسو) للتدليل على أهمية ثورتهم على التقاليد القديمة. وبيكاسو فنان معاصر، مبدع مذهب السير ريالزم، ولنا إلى تاريخ حياته رجعة. إنما حديثنا اليوم حول موضوع السير ريالزم في حوار مع (نيكولا كالاس) وهو شاعر يوناني يعيش الآن في نيويورك، وقد طبع له في باريس منذ عشر سنوات كتاب (النقد الفلقي) من أجمل ما يتضمنه ما جاء في موضوعنا.
- ما هي أغراض السير ريالزم؟(825/45)
- يرى السير ريالزم إلى التقليل - إن لم يكن التخلص نهائياً - من المتناقضات المفضوحة القائمة بين الحلم والحياة المستيقظة، أو بين الخيال والواقع، أو بين الشعور واللا شعور.
ويرمى أيضاً إلى الخروج بالشعر من (غرفات) الشعراء المشهورين إلى عالم واسع الجنبات، يصبح فيه هذا الشعر ملكاً مشاعاً للجميع!.
- ولكن ألم يكن الشعر أو التصوير ملكاً مشاعاً للجماعات!
- لم يكن الشعر أو التصوير ملكاً للجماهير على النحو الذي يقصده السير ريالزم. فيما مضى كان الشعر والتصوير مجرد تضليل وخداع للفرد. أما الآن فالسير ريالزم يفهمهما على أنهما تعبير عن أعمق الرغبات التي تختلج في أعماق الفرد.
- ما هي أهم قواعد السير ريالزم؟
- الشيء الذي يجب أن يكون نصب أعيننا دائماً هو الحقيقة والحقيقة لا ضير عليها مع التخفي وعدم التصريح! بل إننا بأتباعنا هذه السبيل إنما نساعد على التحلل من القيود الشكلية وهذا يعتبر من أظهر أهدافنا!.
إلى هنا ونكتفي بهذا القدر من كلمات هذا الشاعر اليوناني المخرف. . . وأي تخريف أروع من قوله بأن الحقيقة لا ضير عليها من التخفي وعدم الوضوح؟ لست أدري كيف تختفي الحقيقة عن أعيننا وعن أذهاننا ثم يتهيأ لنا القول بأننا قد عثرنا على الحقيقة، ولست أدري كيف نعيش في ظلام الحيرة من الفهم لأهداف المذهب السريالي في لوحة فنية أو قطعة شعرية ثم يتيسر لنا القول بأننا نعمل في رحاب النور! أليس من المضحك حقا أن يذهب السرياليون إلى أن الشعر والتصوير كانا مجرد تضليل وخداع للفرد، وأن السير ريالزم هو وحده الذي ينهض بهما إلى مستوى رفيع من التعبير عن أعمق الرغبات؟!. . . تصور أن الغموض ينهض بالوضوح، وأن المجهول ينهض بالمعلوم، وأن الشعوذة تنهض بالعقل، وأن الخيال السقيم ينهض بالمعنى الجميل! هل تستطيع أن تتصور؟ لا أظن. . . اللهم إلا إذا فقدنا نعمة الذوق والشعور!!
حقوق المرأة المصرية بين الأنصار والخصوم:
تدور منذ أيام على صفحات الصحف اليومية معركة حول مطالبة المرأة المصرية بحقوقها(825/46)
السياسية، وفي هذا الموضوع قرأت في (الأهرام) كلمة (موزونة) للأستاذ محمد زكي عبد القادر يقول فيها: (. . . وذكرت أنه منذ سنوات دخلت الفتاة المصرية المحكمة وعليها روب المحاماة، وحسب الرجال أن الفتيات سيهرعن إلى هذا الروب، ولكن المهنة الشاقة ظلت وقفاً على الرجال!. . . لو كنت صاحب سلطان لفتحت أبواب البرلمان ومنصات الوزارة للمرأة، وأطلب لها كل عمل تزاوله كما تشاء، واثقاً أنها ستظل حتى وهي في أوج السلطان، يسعدها أن تسمع من رجل كلمة إعجاب أضعاف ما يسعدها أن تبلغ كرسي الوزارة!).
هذا الذي يقوله الأستاذ زكي عبد القادر يقرر الواقع بلا جدال. . . وكم أود - لضيق النطاق - أن أسأل المطالبين بحقوق المرأة سؤالاً واحداً لا أنتظر الجواب: كم في مصر من المثقفات اللائي يستطعن النهوض بهذا العبء الخطير ويشاركن بثقافتهن الناضجة في ركب الحياة السياسية؟
إنني أنظر فلا أرى منهن من تعينها ثقافتها على تحمل المسئولية الضخمة غير عدد ضئيل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك فقد بحت الأصوات من المطالبة بحقوق المرأة في مصر. . . بالله خففوا من هذه الغلواء، وإذا قال واحد منكم بأن الجامعة يمكن أن تخرج لنا جيلاً ناهضاً من الفتيات المثقفات فقد كذب على الواقع الذي لمسته يوم أن كنت في الجامعة؛ أن الفتاة المصرية لا تذهب إلى الجامعة طلباً للعلم. . . ولكنها تذهب إليها طلباً للزوج!
أنور المعداوي(825/47)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عراك فكري بندوة الرسالة:
لقد أصبحت محنة فلسطين والحوادث التي وقعة أخيراً على مسرحها ومن أجلها - محنة لأفكارنا ومشاعرنا في هذه الأيام ابتلينا ولا نزال نبتلي بها من أفراد نحمد الله على أنهم قلة لا يعبأ بها. أفراد من مواطنينا اضطربت أفكارهم واختلطت عليهم حقائق الأمور من جراء تلك الحوادث، فصاروا يجادلوننا في (العروبة) فيخلطون بين حقيقة الوحدة الخالدة وروح الشعوب المتآخية وبين اختلاف الساسة وتهويم الجامعة.
ألحت علي تلك المقدمة فلم أجد مناصاً منها، على كراهية للمقدمات، قبل أن أدخل إلى (ندوة الرسالة) حيث اعتركت في هذا الموضوع وما تفرع منه - أفكار جماعة من أدباء العرب: من مصر، ومن لبنان، ومن العراق. كان أحد طرفي المعركة الدكتور فلان، ولا أسميه خشية أن يعتبر ما قاله مما يتحدث به في المجالس وبتحرج من نشرة، ويكفي أن أذكر أنه كاتب معروف، وكان يكتب بالرسالة فيما مضى، وهو إلى ذلك من هيئة التدريس بالجامعة. أما الطرف الثاني فهم سائر من كان في الندوة وعلى رأسهم الأستاذ الزيات عميد الرسالة، والباقون هم الأساتذة محمود الخفيف وكامل حبيب، ومحمد علي الحوماني وإبراهيم الوائلي، وكاتب هذه السطور.
وقد كنا أو كان الطرف الثاني يناقش الدكتور (الطرف الأول) فتخطر لهم الفكرة الواحدة أو يورد أحدهم خاطراً ويأتي أخر بحجة أخرى؛ وسأورد ما علق بذهني من ذلك جملة، أي من غير تفصيل وإسناد إلى فلان أو فلان، وأضيف إليه ما خطر لي بعد الجلسة؛ وقد ذكرت الأسماء لما لأصحابها من فضل في المناقشة، وعلى أي حال ليس بين الخيرين حساب. . .
كان مثار المناقشة ما تضمنه (كشكول الأسبوع) في الأسبوع الأسبق من الإشارة إلى ما نشرته إحدى الصحف لأحد قرائها من استنكاره ترحيب مصر بأبناء شقيقاتها العربية وتعليمهم في معاهدها، ومقارنة ذلك بما أبدته الحكومة الأسبانية من الاستعداد لقبول بعثة من الطلبة المصريين على نفقتها في جامعاتها. بدأ الحديث بالدهشة لذلك الذي نشر في تلك(825/48)
الصحيفة فانبرى الدكتور يقول:
- أتريدون الحق؟ أن أبناء مصر أولى. . ويجب ألا نبذل جهداً أو مالاً لغيرنا ونحن في حاجة إليه، وكفى ما بذلنا. .
فجاءه الرد يقول:
- يا أخي، كيف تقول بهذا؟ أتنكر التعاون العلمي بين الشعوب العربية؟ وإذا كانت الهيئات العلمية تدعو العالم كله إلى التعاون الثقافي أفلا يجدر ذلك بالبلاد العربية وهي ذات لغة واحدة وثقافة مشتركة؟ ولم التفاضل بين المصريين وغيرهم في هذا المجال؟ وبما يؤثر هذا القدر الذي تبذله مصر لتعليم أبناء شقيقاتها في تعليم أبنائها؟ وإذا كانت الجامعات الغربية تفتح أبوابها للطلبة من مصر وغيرها من البلاد العربية أفتقفل مصر أبواب جامعاتها ومعاهدها في وجوه شقيقاتها؟ على أن ما نبذله من مال أو جهد في الميدان العربي على اختلاف جوانبه إنما نبذله في تعزيز القومية العربية التي يدفع إليها وعي الشعوب العربية، والتي تدعو إلى التكتل والتعاون والتقارب، والتي لا ينال منها إخفاق في تجربة سياسية أو فشل من جراء الألاعيب الخارجية والدسائس الاستعمارية.
قال الدكتور: لا اعتبار عندي لكل هذا، إنما مدار الأمر في نظري على ما نستفيد نحن؛ ونحوا عني ألفاظ العروبة والوحدة والأخوة، أنا أريد استفادة مادية.
- أنت أحد المؤلفين المصريين، فلك عدة كتب ولا شك أنه قد وزع منها عدد كبير في البلاد الشقيقة ربما يكون قد غطى نفقات الطبع أن لم يكن جلب ربحاً، فما نظن ما وزع في مصر كافياً لذلك، هذا مثل قريب لاصق بشخصك نسوقه إليك مجاراة لمقياسك المادي، وإذا كان لا بد من هذا المقياس فإن الاستفادة لا ينبغي أن تقتصر على الفوائد الوقتية والمنافع القريبة، فإن مصر أغنى البلاد العربية وأكثرها حظاً من العلم والثقافة، وهي إذ تمد يدها إلى شقيقاتها وتتيح لها ما ينقصها فإنها تكسب مودتها وثقتها فتتحول إليها بدل أن تتيح إلى الأمم الغربية، والشقيقات ولا شك يستفدن من مصر، لأن معاملة مصر لها تختلف عن معاملة الغرب من حيث الإخلاص أو على الأقل من حيث تجرد مصر من المطامع التي ينطوي عليها الغرب فتحمله على عرقلة تقدمها. أما فائدة مصر مما تتيحه لسائر البلدان العربية من التقدم فهي إنها تجد فيها أخوات قوية قادرة على مبادلة النفع بالنفع. ولما لا(825/49)
تقول معنا إنها تكون حينئذ أجزاء متينة في كل العام وهو الكيان العربي؟ والفائدة إذن هي كفائدة الفرد مما يعود على الجماعة من الخير العام. ثم قل لنا يا أخانا في أي سبيل كانت مصر ولا تزال تبذل للأجانب من الغربيين؟ وهل استفادت مصر من كل ما أغدقته على هؤلاء؟ بل هل نجت من تشهيرهم بها وتقولهم عليها؟ وما هي الفائدة التي يجنيها الشعب المصري من فرق الممثلين والراقصات التي تجلب إلى مصر كل عام؟ قال الدكتور: ما دامت هناك استفادة ملسم بما تريدون.
ولم يرد الأستاذ الخفيف أن تنتهي المناقشة عند هذا الحد فقد أقبل في أثنائها ولم يحضر أولها، فلم يشبع من منازلة صديقه الدكتور، فأعلن أنه يريد أن يصفي معه الحساب هذه الليلة في قضية طالما أتعبه بالجدال فيها، وكان الأستاذ الخفيف يعاني ألماً في الحلق وبحة في الصوت، فما استشعر الحماس للنزال حتى لان حلقه وتوضح جرسه، قال:
ألا تعلمون أن هذه الأفكار منشؤها عند الدكتور أنه لا يؤمن إلا بالغرب في كل شيء وينكر الشرق والعروبة وما إليهما، ويرى أنه يجب أن نغلق هذا الباب الشرقي ونفتح الباب إلى الغرب على مصراعيه فنقطع كل صلة بماضينا وعروبتنا ونأخذ عن الغرب كل شيء بل نسعى إلى الاندماج فيه. .؟
اتجه الجميع إلى الدكتور مندهشين، ونظراتهم تسأله: أحقاً ترى هذا؟!
قال الدكتور نعم. . . فأنا أتصور مثلاً أنا مدير جامعة، وأردت أن أضع برنامجاً لدراستها فهل أجد غير العلوم الغربية؟ ليس في الشرق ما يستحق أن يدرس، وحتى الثقافة العربية أكتفي منها بما درسه وحققه المستشرقون، ولا قيمة لما عدا
ذلك!! وأنا لا أرى أن هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر، وإني أراكم تلوكون كلمة العروبة فمن هم العرب؟!
ارتفعت درجة الحرارة في المجلس، وتدفقت الردود تقول:
- أنسأل عن العرب؟ نحن العرب. . . نحن العبر بوراثتنا التاريخية وما كسبناه ومزجناه بها من الثقافات العصرية، نحن العرب الذين نتحد في قيمنا الروحية واتجاهاتنا الفكرية والاجتماعية، ونختلف في كل ذلك عن الغرب. وها نحن أولاء في مجلسنا هذا تمثل ثلاثاً من الدول العربية، يطبعنا طابع واحد في التفكير والمشاعر، ونتشابه حتى في الشكل(825/50)
والسحنة، لا يختلف مصري عن عراقي أو لبناني إلا كما يختلف أبناء الأمة الواحدة من حيث الفروق الفردية، ولو أننا انتقلنا بكامل هيئتنا إلى مجتمع إفرنجي لأحسسنا أننا غرباء عنه ولتزايل الدم من الدم. . .
وليس معنى أن نأخذ العلوم والمخترعات الحديثة عن الغرب أن نفقد شخصيتنا ونفني فيه. وإذ كنا الآن نأخذ من الغرب علومه فقد أخذ كثيراً من حضارتنا وعلومنا واستعان بها في نهضته الحديثة، وفي مكتبات أوربا نحو خمسمائة مجلد في الإشادة بالحضارة العربية وما أسدت إلى العالم الغربي.
إننا لا نغلق الباب الغربي بل نحن دائبون على الاتصال بالغرب والاقتباس منه والانتفاع بحضارته، فلم تقول أنت بغلق الباب الشرقي وقطع الصلة بماضينا وثقافتنا العربية بما فيها من آداب وعلوم وفنون؟ ولا شك أننا استطعنا في نهضتنا أن نكون ثقافة عربية حديثة مبنية على تراثنا الثقافي وعلى ما اقتبسناه من الثقافة الغربية، وعجيب أن تدعو إلى ما درسه المستشرقون من الثقافة العربية وفي نفس الوقت تدعونا إلى هجر هذه الثقافة فأنت تحرم علينا ثقافتنا وتبيحها للمستشرقين!
على أن ثقافة الغرب إما علوم أو آداب وفنون، فالعلوم نتلقاها منه باعتبارها أدوات لتنظيم الحياة وتيسير وسائلها، أما الآداب والفنون، وهي ألصق بالأرواح والمشاعر، فنقتبس منها ما يلائمنا لنضيفه إلى آدابنا وفنوننا التي هي الأساس في ذلك لأنها نتاج بيئتنا وصورة حياتنا ومرآة نفوسنا.
وهنا قال الدكتور:
- ما هي فنوننا؟ هل عندنا موسيقى كالموسيقى العالمية؟
- فنوننا هي التي نتذوقها، وإن كان فيها نقص فإننا في سبيل استكماله. ونحن نتذوق موسيقانا ونطرب للجيد منها ولا يضيرنا أن غيرنا لا يستسيغها، وماذا يهمنا من كلمة (عالمية) ما دام الوصف بها لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لأذواقنا؟
- إن الطفل يضرب (الصفيحة) بالعصا ويسر لما يحدثه ذلك من صوت، فهل معنى ذلك أنه موسيقى راقية؟
- إن هذا التشبيه يمكن أن ينطبق على الموسيقى الغربية بالنسبة للشرقي الذي لا يرى فيها(825/51)
إلا تصديعاً للرءوس.
نحن نسمع مثلاً موسيقى عبد الوهاب وغناء أم كلثوم، وغير عبد الوهاب وأم كلثوم من فنانينا المجيدين، فنتذوق فنهم ونسر به، لأنه يعبر عن مشاعرنا ويخاطب قلوبنا، فهو منا وإلينا، ولذلك نشعر بقرب الموسيقى الأسبانية من نفوسنا أكثر من موسيقى البلاد الأوربية الأخرى، لأن الأسبانية تنزع إلى أصل عربي كان في الأندلس. وليس مما يقع أن تحول مشير المذياع إلى محطة أجنبية، وأم كلثوم تذيع إحدى حفلاتها الغنائية، لتسمع بدلاً منها ثغاء إحدى الفرنسيات أو الإنجليزيات.
قال الدكتور وهو يتهيأ للانصراف: أن تذوق الموسيقى الأوربية يحتاج إلى تربية وتثقيف.
فسأله أحد الجماعة: عمن أخذ الأوربيون موسيقى (الجاز)؟ فسكت، وناب عنه من أجاب: من موسيقى الزنوج. . .
ثم أنصرف قبل أن يبدي رأيه في تذوق موسيقى الزنوج وهل يحتاج إلى تربية وتثقيف. . .
عباس خضر(825/52)
الكتب
الموالي في العصر الأموي
تأليف الأستاذ محمد الطيب النجار
بقلم الدكتور محمد يوسف موسى
كنت دائما أرى أنه من الخير أن نغير من فهمنا للتاريخ عامة والإسلامي خاصة، ومن الغاية التي ندرسه من أجلها، ومن المنهاج الذي نصطنعه في دراسته. فقد أعتاد الباحثون في التاريخ العناية التامة بالأحداث السياسية في كل تفاصيلها، ولكنهم يهملون تماماً أو يكادون التأريخ للنواحي الاجتماعية والفكرية ونحو ذلك من مقومات الحضارة الإسلامية، هذه النواحي التي توفر على دراستها واستخراج النتائج والعبر منها نفر من أفاضل المستشرقين.
كنت دائماً إذاً أن أنقد طريقتنا في دراسة تاريخنا الإسلامي، وأدعو إلى الأخذ بطريقة أخرى تكون غايتها الأولى دراسة الحضارة الإسلامية؛ بمعنى ألا نسرف في العناية بالناحية السياسية، هذه الناحية التي لا يجب أن يكون القصد من دراستها إلا بالقدر الذي يتيح لنا أن نفهم تماماً ما كان من تطور في نواحي الاجتماع والفكر وما يتصل بذلك من ألوان الحضارة.
من أجل ذلك أراني مسروراً حقاً إذ أقدم لقراء (الرسالة) كتاب (الموالي في العصر الأموي) لمؤلفه الفاضل الأستاذ الشيخ محمد الطيب النجار أحد أساتذة التاريخ الإسلامي بالأزهر، والحائز لدرجة الأستاذية في التاريخ. أن هذا الكتاب، في الغاية التي قصدها المؤلف، وفي المنهاج الذي سار عليه، يحقق ما كنت أرى أن يكون في دراسة التاريخ الإسلامي.
بحث الأستاذ - ؤ قد أخذ نفسه حقاً بالحيدة التامة إزاء صراع الأحزاب والمذاهب، وبأن يكون غرضه البحث عن الحقيقة وحدها - في الفصل الأول من الكتاب نشأة الرق في الإسلام والعصبية العربية التي تحولت فيما بعد إلى عصبية إسلامية، وحالت الموالي الاجتماعية قبل العصر الأموي. وفي الفصل الثاني توفر في بحثه على تصوير حالة(825/53)
الموالي في العصر الأموي، هذا العصر الذي كان يموج بالعصبية موجاً حتى كان نافع بن جبير بن مطعم إذا مرت به جنازة قال: (من هذا؟ فإن قالوا قرشي قال وا قوماه! وإذا قالوا عربي قال وا بلوتاه! وإذا قالوا مولى قال هذا مال الله يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء)! ص35.
وفي الفصلين الثالث والرابع تناول البحث سياسة الدولة الأموية نحو الموالي، وكيف وجد الأمويون أنفسهم في هذه المشكلة بين تيارين عنيفين: الإسلام وما يدعو إليه من عدالة عامة ومساواة بين الأجناس، والعصبية الجنسية العربية الحادة التي لم تقبل هوادة إلا في عهد عمر بن عبد العزيز. وأنتهى البحث بالإشارة إلى أن الموالي لم يجدوا لأنفسهم فرجاً إلا في التوفر على العلم والسيطرة على الحركة الفكرية فكان لهم من الرفعة من هذا السبيل عوض ما فاتهم بسبب التعصب عليهم من الدولة والأفراد؛ ثم مقاومة تيار العصبية العربية بتيار آخر قوي هو تيار الشعوبية؛ وأخيراً مؤازرة الحركات الثورية، التي انتهت بزوال الدولة الأموية، وذلك لكي ينتقم لأنفسهم، وتكون دولة جديدة يكون لهم فيها مركز السيادة والقيادة.
هذه الوسائل الثلاث، التي حاولوا بها استرجاع مجدهم الذي قضى عليه الإسلام، هي موضوعات الفصول الأخيرة من الكتاب. وبعدها كانت خاتمة ونتيجة البحث كله، ثم بحث خاص بالرق والولاء في الإسلام لصلة هاتين المسألتين بموضوع البحث العام الأصيل.
هذا هو موضوع الكتاب الذي نقدمه الآن للقراء؛ وقد رجع المؤلف في بحثه إلى أمهات المراجع الأصيلة العربية والأجنبية، وسار في معالجته على نور وبصيرة وفي أسلوب علمي واضح؛ وإن كان النقد الدقيق يجد في لغته وأسلوبه أيضاً بعض الهنات.
وهنا أجهر مرة أخرى بكل قوة بضرورة أن يخرج الأزهر من بقية الجمود الذي يلابسه فيعني عناية شديدة باللغات الغربية، ويقرر دراسة بعضها دراسة جدية منذ أول مرحلة الدراسة الثانوية، بحيث لا ينتهي الطالب من الدراسة العالية حتى يكون أجاد لغة واحدة على الأقل وألم بلغة أخرى. ذلك ضروري وبديهي لطلاب الأزهر، إذا أردنا أن يكون منهم علماء حقاً، وإذا كنا حقاً جادين في دراساتنا.
محمد يوسف موسى(825/54)
البريد الدبي
الفن بين الإبداع والاستمتاع:
حفلت قاعة المحاضرات بمعهد التربية العالي بالإسكندرية مساء الاثنين 17 إبريل بجمع كبير من رجال الأدب والتربية والعليم بسماع المحاضرة التي ألقاها الأستاذ - أحمد زكي - عن موضوع الفن بين الإبداع والاستمتاع. وحاول فيها أن يفسر نفسية المبدع أو المنشئ ونفسية المستمتع على ضوء علم النفس. فاستطاع أن يعرض أحدث ما بلغه علم النفس في تفسير نفسية كل من الفنان الخالق والمستمتع.
وسأحاول أن أقدم إلى القارئ خلاصة تلك المحاضرة: فقد ابتدأ بتعريف الفن بأنه الطبيعة نفسها موشاة بوجدان الفنان، وأن عمل الفنان يقوم على التفاعل بين الشعور وبين اللاشعور، أي بين الوعي والعقل الباطن، وهي الحالة التي نعرف بحالة الوحي الفني. وفيها تخف وطأة الرقيب على اللاشعور فيظفر الفنان بذلك الإنتاج الذي قد يعجب هو نفسه كيف تأنى له.
وهذه الظاهرة هي ما كانت تسمى قديماً بشياطين الشعر. ثم تناول نفسية المستمع وقسمها إلى طوائف أربع:
الطائفة الترابطية: وتقدر جمال الفن على قدر ما يثيره هذا الفن في نفوسهم من ذكريات. فتتوقف قيمته على ما يحمل من هذه الخصائص.
الطائفة الذاتية: ونقيس الفن بمسبار تأثيره على احساساتهم وكلما زاد الأثر الفني في تأثيره على حاسة من حواسهم كاللون مثلاً كان تأثيرهم أشد وانفعالهم أكثر.
الطائفة الموضوعية: وهؤلاء هم أندر الطوائف بين المستمتعين بالآثار الأدبية وهم ما يعرفون بنقاد الفن وواضعي مقاييس نفده. فهم يقفون من الأثر الفني موقف موضوعي ويحاولون بيان ما فيه من أسرار الفن ودلائل العبقرية، ولا يدعون لتأثرهم الشخصي دخل كبير في تقويم هذه الآثار.
الطائفة التعبيرية: وهم يخلعون على الأشياء والظواهر الطبيعية صفات إنسانية عامة مثل البحر غاضب والأمواج تختال الخ. .
ثم تناول بعد ذلك المذهب الذي كان يذهب إلى أن الجمال عبارة عن نسب عددية، بمعنى(825/56)
أن الوجه الإنساني يجب أن يكون بالنسبة للجسم كله بمقدار كذا حتى تصبح الصورة جميلة. وأبان بطلانه. ثم أشار إلى تأثير هذا التقسيم في الاستمتاع بالفن، ومقياسه مما حمل بعض الناس على القول بأن الجمال ذاتي لا موضوعي. ولكن لا شك في أن الجمال موضوعي إلى حد كبير، ولا بد له من عاملين أساسيين هما الوحدة والتنوع. فالوحدة هي المحور الذي يدور حوله العمل الفني. والتنوع هو الذي يلون الصور ويساوق بينها حتى يتم خلقها. وتتمثل الوحدة في القصة في الحبكة، وفي الصورة بوحدتها العامة وهي أن كل ما فيها من ألوان يخضع لغرض عام، ويهدف إلى تحقيق غرض معين. والمستمتع عادة لا يبحث في العمل الفني عن كل هذه الخصائص حتى يستمتع، بل هو يحس ما فيه من اضطراب لم يستطع أن يثيره عنده ما هو خليق بأثارته، وهو ما يعرف مثلاً في اللحن بالنشاز. ثم لم ينسى المحاضر أنه في معهد التربية وبين مدرسين فختم محاضرته بالإشارة إلى وجوب الوحدة والتنوع في الدرس حتى يثير في نفسية الطفل الاحساسات المختلفة ويبعث يقظته للدرس. ويتعهد جوانب شخصيته المختلفة من وجدانية ومزاجية وفكرية، لأن المدرس الحديث يجب أن يعنى بكل هذه الجوانب حتى يتسنى إخراج الشخصية المتكاملة، لا أن نعنى بأفكار التلاميذ، ونهمل جوانبهم الأخرى فنخرج رجالاً حظهم من تكامل الشخصية ضئيل.
محمد عبد الحليم أبو زيد
دبلوم في التربية وعلم النفس
1 - المزه:
في مساء 13 إبريل حدثنا بالمذياع الدكتور عزمي بك عن حالة سورية بعد الانقلاب الأخير، وعرض لنزول الوطني الكبير السيد القوتلي اليوم في (المزه) ونطق بها بفتح الميم، والصواب كسرها على ما في معجم البلدان والقاموس المحيط وغيرهما، بل طبعت مكتبة القدسي بالقاهرة لعشرين سنة خلت رسالة خاصة بتاريخ هذه البلدة اسمها (المعزة) وفيها النص على ضبطها بذلك.
2 - سيف بن عمر المؤرخ:(825/57)
يقول الدكتور جواد علي في عدد (الرسالة 822): (سيف بن عمر الذي هو موضع ثقة الطبري). ويقول العلامة الكوثري في مقالة له في ذلك: سيف بن عمر يقول عنه أبو حاتم: متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال الحاكم: انهم بالزندقة وضعفه غير واحد. والطبري نفسه يقول: لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج. .، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا.
عبد الله معروف
الضبع مؤنثة:
جرت الصحف على تسمية القائد المظفر بطل الفلوجة (الضبع الأسود)، وألمعت إحداها أنه يغضي عن تلك التسمية مبدياً الغضاضة، ولديه الحق في إغضائه وغضاضته، لأن (الضبع) مؤنثة، وليست - كما هو شائع - ذات فتك، بل متسمة بالجن، فالمقام ناه عن الاتسام بها، وأين الألقاب في دولة الآساد؟
إن مذكرها (ضبعان)، والجمع (ضباعين)، وأنثاه - بتلك الصيغة - (ضبعانة)، والجمع (ضبعانات)، وجمع الذكر والأنثى (ضباع)، وتحياتنا (للأسد الأسود!).
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
ليث العربية تزحف:
يمتلئ القلب سرورا - ولا شك - حين تزحف اللغة العربية على يد وزير المعارف ويرتفع لواؤها على مكاتب السفراء ورجال السلك السياسي الأجنبي، فليس هناك - كما يقول الأستاذ العباس - لغة حية ولغة ميتة. ومن حقنا أن نكتب بلغتنا لمن نشاء
ذكرت - بهذه المناسبة - أن مكتب الجوازات بوزارة الداخلية المصرية يضع تأشيرة الإقامة على جوازات أبناء البلاد العربية باللغة الأجنبية؛ فقلت لنفسي: ألا ليت اللغة العربية تزحف إلى هذا المكتب. . فأرى تأشيرة الإقامة على كل جواز - ولو كان أجنبياً - بلغتنا القومية. فليس في الكرامة مجاملة أعز الله هذه اللغة وأهلها.(825/58)
(فتى الفجاء)
القلم الصناع:
في العدد 824 من (الرسالة) الغراء نقل أديب بالمنصورة بعض ما ورد في المصباح المنير في مادة صنع زاعماً أني أخطأت في قولي: (بهذا القلم الصناع) وفي القاموس المحيط: (رجل صنع اليدين بالكسر وبالتحريك وصنيع اليدين وصناعهما حاذق في الصنعة) فليس في قولي خطأ، وإنما الخطأ في المراجع الناقصة والمراجع العجلان.
أحمد أحمد العجمي(825/59)
العدد 826 - بتاريخ: 02 - 05 - 1949(/)
2 - أمم حائرة
طغيان المادة وضعف الروح
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بجدة
كشف العقل أسرار الطبيعة فاخترع عجائب العلوم والفنون والصناعات، وغير تاريخ البشر كله. واهتدى الناس إلى سنن للحكومات، ونظم للجماعات، ضبطت كل شيء بالنظام والقانون. وعرفوا من قوانين الصحة ما عصمهم من كثير من الأوبئة والعلل، وافتنوا في عمران البلاد، وتعبيد الطرق، وتشيد المساكن، وذللوا كل صعب، وقربوا كل بعيد بفنون الهندسة وغيرها. وابتكروا في الملابس والزينة ما ابتكروا. وتهيأ لهم من أسباب الحضارة ووسائل الرفاهية ما لا يحتاج إلى بيان، فهو ملء الأسماع والأبصار.
ولكن الأنفس لم تساير العقول، والرقى الروحي لم يدرك الرقى الحسي، وليس عجيبا أن يسمو العقل، ويتسع العلم، ولا تسمو النفوس، وأن تتقدم الأفكار ولا تتقدم الأخلاق، فتصرف العقل أكثره في أمور خارجة عن نفس الإنسان، وإدراكه يجول في عالم الطبيعة. وهو في بحثه لا يفرق بين الإنسان وغيره، ولا يبالي بالخير والشر. فمقاصد العلم تتحقق بكشف الكهرباء - مثلا - وضبط قوانينها وتسخيرها. وسواء بعد هذا استعمال الكهرباء للإضاءة، أو المداواة، أو استعمالها للقتل والتدمير.
إلى العلم ترجع الحضارة الصناعية القائمة على قوانين الطبيعة والخارجة عن نفس الإنسان. وأما النفس الإنسانية وملكاتها وحالاتها ونزعاتها، فأمور وراء هذا كله وهى حقيقة الإنسانية.
وهى التي تدرك الجمال والقبح، وتميز ببين الخير والشر، وتقبل على الفضيلة، وتنفر من الرذيلة.
وهى مناط الأخلاق والعواطف والفضائل والرذائل، وإلى هؤلاء ترجع الحضارة الإنسانية وما يتصل بها من آداب وسنن ومادات ونحوها.
وبهذه تقدم الإنسانية، وبها يكون تقدمها الحق وتخلفها وعلوها أو شغولها. ومن أجل أن(826/1)
العلم يتصرف في قوانين طبيعية خارجة عن نفس الإنسان كانت العلوم غير مختلفة بين الأمم في قوانينها، فلا تختلف الرياضة أو الكيمياء بين أمة وأمة، ولا بين إنسان وإنسان، إلا بمقدار ما تزيد أمة عن أمة، أو فرد عن فرد، في الإحاطة بقوانين الرياضة أو الكيمياء. وبهذا كان نقل علم من أمة إلى أخرى يسيرا لا إعضال فيه.
وأما الحضارة الإنسانية، فهي مختلفة باختلاف الأمم والأفراد يعسر أن تنقل من أمة إلى أخرى، إذ هي متصلة بصميم النفس، مرتبطة بالعواطف والأخلاق والتاريخ والآداب. ولكل أمة في هذا خصائصها، ولها مزاياها ونقائصها.
ليس هنا مجال الإفاضة في هذا، ولكني أردت أن أشير إشارة عاجلة إلى أن العلم والصناعة لا يسايران الآداب والأخلاق كل حين.
وغاية قولي أن الفجوة بين العلم والأخلاق، ومسافة الخلف بين العقل والروح من أسباب الاضطراب والقلق، والضوضاء والصخب والشقاء، التي تحيط بالإنسان بعد أن سخر الأرض والماء والهواء، فقد أعطى الإنسان بعقله وعلمه ملكا عظيما، وسخر له العالم، وانقادت قوى الطبيعة، ولكنه لم ينل من المعالي الروحية، والفضائل الإنسانية ما يكافئ هذا الملك، ويلائم هذا السلطان، ولم يبلغ من العدل والإحسان والعفة وأخواتها ما يسير هذا الملك على شريعة منصفة، وسنة قويمة، فكان كمن أوتى ولاية ليس أهلا لها، ومن ورث ثروة لا يحسن تدبيرها. ومن أعطى سلطانا تصرف فيه بأهوائه على غير هدى. وكالشرير المسلح بالبنادق والسيارات وما يشبهها مما يمكن له في الشر، ويبلغه مقاصده من الأضرار والإفساد.
ألا ترى إلى قوى العقل وقوانين العلم كيف يوجهها العدوان والبغي، والشره والجشع والضلالة والحيرة، إلى تدمير الحضارة وأهلها.
ولم يكف الأشرار عن الشر على كثرة ما اخترعت الحكومات من وسائل لأخذ المجرمين وتعقبهم ومراقبتهم، وعلى كثرة ما أقامت من شرط وحرس وجيوش، وما سنت من سنن للمحاكمة، وقوانين للعقاب. ذلك بأن كل هذه الوسائل لا تمس النفس، ولا تصل إلى الوجدان، وإنما هي قيود وسلاسل، وأخذ وضبط، وشجن للأجسام، ولو أن ارتقاء النفس الإنسانية كان على قدر افتنان البشر في وسائل السيطرة والأخذ والعقاب ما احتاج البشر(826/2)
إلى هذه الوسائل، أو لاستفتوا عن معظمها، ولو أنصف الناس استراح القاضي.
ومن آثار هذا التباعد بين العلوم والأخلاق، والتفاوت بين العقول والأنفس أن سلك الناس إلى المال والجاه والشهوات مسالك شتى، وافتنوا في التوسل إليها بما عرفهم العلم ورضوا في سبيلها بالدنايا، ولم يقفوا في ابتغائها عند حد.
كل طامع جاهد مستزيد، لا يرضى ولا يقنع ولا يعف، ولا يقول هذا حسبي، وهذا حقي، وهذا حق غيري، وهذا حلال، وهذا حرام، وهذا شريف، وذاك خسيس (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم).
وضاع الحياء، وفقدت المروءة. . . ألا ترى بعض التجار يجذبون المشترين بنساء فاتنات يكلون إليهن البيع، أو قبض الأثمان، ومنهم من يدعوا إلى بضاعته في الصحف بصور مغرية، ولو كان امرأة في حمام، كما يفعل بعض تجار الصابون، ويعينهم على هذه الدنايا أصحاب الصحف ابتغاء الربح أيضا!
ألا ترى الصحف والجرائد والمجلات، إلا النادر، تستهوي الناس بنساء عاريات، وصور مفسدات، وقصص موبقات؟!
أليس معنى هذا، حين تسمى الأشياء بأسمائها، ويكشف عنها تمويهها، أن ناشر هذه الصور يتوسل إلى الرواج بأن يجذب الناس - بكل وسيلة - غير مبال بالأخلاق والأعراض، يستوي عنده الصلاح والفساد!
رحم الله من قال: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)!
ومن قال:
ولقد أبيت على الطَّوى وأظّله ... حتى أنال به كريم المأكل!
غلبت الناس المادة، وضعفت فيهم الروح، فجهادهم ونزاعهم وصياحهم وضوضاؤهم في المادة ولها إلا قليلا. بل هذه الشيوعية التي فتن بها بعض الناس وحسبوها مثلا عاليا، أو المثل الأعلى في التسوية بين الناس هي مادية خالصة تنكر كل شيء إلا الخبز، فهي كالمساواة بين القطيع في المرعى، وليس للقطيع اختيار في المسير أو الوقوف، وليس له حق في غير الكلأ والماء.
فأما التدين والسمو الروحي والحرية والفضائل والأواصر الرحيمة التي تربط بين الوالدين(826/3)
والأولاد، وكل ما هو بسبب من هذه، فتنكره الشيوعية، لأنها دين ولد في هذا العصر، وهذا العصر يعرف المادة، ويحرص عليها، ويخضع لها، ويموت فيها!
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(826/4)
قطرات ندي
للأستاذ راجي الراعي
القبلة بنت الحب اقترن بالجمال فولدها.
الرماد نار شابت.
اليوم بيت من الشعر في ملحمة الخالق، صدره ما سبق الظهيرة، وعجزه ما تلاها، والغروب هو القافية.
الحصاة حجر يذوب هياما بالماء.
العقل جنون هادئ.
في القمة شيء يقول لك: قم.
الاحتضار غبش الموت!.
الغفران هبة.
القبل لهث الحب وأنفاس النفس.
القبلة كتاب النفس في كلمة، أو كلمتها في حرف.
كم من يد رسمت في باطنها خطوط الإجرام، ولا معصم لها يعصمها من المنكر.
إنك لا تستطيع أن تلد الرائعة إذا لم يختل توازنك. . ألا ترى المرأة كيف تمزق أحشاؤها لتلد جنينها.
هي ثورة منذ البدء إن الله جل جلاله حين قال: (ليكن النور)، ثار على الظلمة.
أذيبوا أثمن درركم في الكأس إذا قمتم تشربون نخب الله.
الغمد عقل السيف.
السيف لسان القوة.
الموجة شهوة البحر.
الصرخة رداء يتمزق، أو جدار ينشق في الصدر.
الصدور الواحد العرش الذي يتربع عليه الموت.
الرماد ثورة سكنت، أو جنون صحا، أو جريمة ندمت، أو فجور تاب. . .
كلما قرأت الشعر عجبت للخيال الحر يرضى بقيود الوزن والقافية. . . أتسميها تلك التي(826/5)
هبطت عليك من سمائك صاعقة، ثم تأتيني بالطويل والمديد. . . ما هذا المارد الجبار الذي رميت به بين، فعولن، ومستفعلن، وفعلن، ومفاعلن، فألبسته ثوب القزم، وذهبت بنصف ما فيه إرضاء (للخليل) وقوافيه؟.
إذا تعريت من الدنيا لبست الله.
أنا بين تواضع السهل وكبرياء الجبل حائر لا أدري ما أفعل برأسي أأرفعه أم أحنيه. . .
الكلم، والسطور، والألحان، والألوان محاولات للتعبير عما في النفس.
لسانك واحد من ألسنة رأسك انفلت من بينها ولجأ إلى فمك فآواه.
الموت هبة تسترد.
الجسر بسطة ذراع وأداة صلح وتسوية.
الذئبة التي أرضعت مؤسس روما، محت شراسة الذئاب منذ كان الذئب.
الأعمى عينه مقلوبة تنظر إلى الداخل.
أنت الصخرة البطل، إذا انزلقت عنك الحياة فلم تأبه لها ولم تنل منك.
التوبة يدان: يد تمحو، ويد تكتب.
بين الأوراق والثمار، ما بين الأصداف والجواهر.
الصبر حفار يحفر في الصدور لحودا.
الجبين الذي ترجفه الفكرة الجريئة جبين جبان.
بيت الصلاة هو البيت، وما سواه من البيوت، حجر وطين.
الانطلاق طلاق بين طموحك ووهمك.
الموميات نساء عاصيات ساخرات يضحكن على الموت.
تولد في العاصفة، عاصفة الهوى. . . ونقيم في العاصفة، عاصفة الحياة. . . ونرحل في العاصفة، عاصفة الفناء، فكيف يرجى أن نكون عقلاء إذا كان العقل ذاك الذي نلبسه ثوب الهدوء والسكينة؟ أين وكان العقل هذا في قلب تلك العواصف؟؟.
الظل تعاسة تتذكرها أنها كانت شعاعا.
كلما رأيت تمثالا شعرت بالموت يقف منتصبا.
السيارات حول الشمس وصائفها.(826/6)
إن الأرواح لا تندغم فبين قبلتين مشتعلتين تجد دائما قليلا من الرماد.
من الناس من حشر في الخليقة حشرا كحروف الكلمات التي لا تلفظ.
الصلاة هدير بحر الإيمان والمرساة التي تقف بها سفنكم في مرفأ الخالق.
في كل طية من طيات القدر مستقبل محجوب.
الجبال عناد الطبيعة، والماء خلقها الدمث.
لقد تقاسمت الأمجاد والقمم فلكل مجد قمة.
أزهار الشجرة أحلامها تتحقق في الثمار.
ظل الشجرة شفقتها.
الصحراء كف مبسوطة تستجدي الماء.
الأعماق آفاق مطوية.
الدخان والرماد يتقاسمان النار، فهي لا تملك نفسها.
الكسل يحتضن الحلم.
لو خيرت لاخترت أن أنسل من شمس إلى أخرى.
نحن دقائق هذا الغبار الذي يقال له: الزمن.
لو كنت الفتنة لاتخذت مقامي بين الحياة والموت.
أنت مهما تضخمت جثتك وطالت قامتك طفل على سريرين تهزهما الأم والمنون.
إذا أغضبت البحر أتاك بزبده وغرقاه فإذا استهنت به أخرج لك من قلبه الدرر.
الحمد لله الذي خلق الجفنين ليطبقا على وقاحة العين وشرودها والشفتين لتطبقا على الثرثرة.
الغصة بنت الحشرجة!.
السم لعاب الإثم.
الثرثرة ما تطفح به الكأس.
النور: نار ساكنة هادئة وادعة، والنار نور ثائر.
الذكرى ريح تعصف في العظام. . . ورقاد يفرك جفنيه. . . ونسيان ينسى نفسه. . .
الأقدار قدرة القادر.(826/7)
الأمل فم يلثم جبين الغد.
أرى في الحياة شيئا يهزأ بك مهما أتيت بالمدهشات.
القوى النفسية تتجاذب قمة الرأس في صراع هائل مستديم.
كلما فشلت انقصف في غصن من شجرتي العاتية.
الله في شغاف قلبك وعصب عينك فحذار!.
إذا انبطح الجبل انقلب سهلا.
تتعاقب على الشموس كأنها تحاول أن تردني إلى أمر أو تردني عنه.
الحجر يقول للجدار: لولاي لم تكن. . . والجدار يقول للحجر: لولاي لم تلق وسادة تلقى عليها رأسك. . . الخمرة تقول للكأس: لولاي لم تنعم بك شفة والكأس تقول لها: لولاي لذهبت هدرا. . .
لو لم تكن حياتكم ليلا لما تقم إلى النور، ولعل الخالق أطلقها ظلمات تتبعها ظلمات لكي تنطفئ في صدوركم شعلة الإيمان فلو كنتم تسبحون في بحور من نور لألفتموه ولم تفكروا في الخالق، ولو كنتم في النعيم وأشجاره وأنهاره لما خطرت لكم جنة الخلد ولو كان في دموعكم ندى الفجر لما حسبتم للفجر حسابا. . .
ما رأيت غازيا كالوهم يغزو الناس جيلا بعد جيل. . إن له سيفا يشق كثافة الدهور كأن السيوف كلها مندغمة فيه فهو السيف ولا سيف بعده. .
المغامر الكبير سباح بحره الدنيا يعيش في الموجة ومن أجلها.
ليس لك أن تستصغر الطير والحيوان مادمت تصف الإنسان بالأسد إذا بلغ أقصى شجاعة وبالعقاب إذا بلغ رأس القمة.
في الدماغ سراديب يكمن فيها الخبث والدهاء والحيلة، وقمم شاهقة يتسلسل فيها المجد والشمم، ومنبسطات تعدو فيها جياد الإرادة، وبراكين تقذف بالشهوات والأهواء، وآفاق تحلق فيها نسور الخيال، وعروش من ذهب يتربع عليها العقل ذو السلطان والصولجان، وجنات تجري من تحتها الأنهار ينشد على ضفافها الإحساس أنغامه الشجية. . .
الموت عظمة في حلق الأمل وشبح يقهقه في رحم المرأة. .
راجي الراعي(826/8)
مسرحية (سليمان الحكيم)
للأستاذ توفيق الحكيم
بقلم الدكتور محمد القصاص
- 2 -
بعد الألاعيب والمفاجآت التي تكلمنا عنها في المقال السابق يرجع سليمان فجأة عن فكرته في استمالة قلب بلقيس إليه بعد أن أمعن في تعذيبها والسخرية منها حتى في أشد ساعات محنتها؛ فيتوب إلى الله ويخلو إلى تأنيب ضميره اللاذع وجحيم شعوره بسقطته، كما تعدل بلقيس عن (البصبصة) لمنذر وتبارك زواجه من شهباء حبيبته، ثم تغفر لسليمان زلته وتبالغ في الغفران، وتعزيه في محنته حتى لكأنها تهنئه على أن هيأت له (الأقدار) هذه الفرصة السعيدة لتطهره من الأدران. أو ليست هي التي تجيبه وهو يأسى على ما وقع منه: (من هذه الأخطاء تبرز أحيانا بصائرنا متفتحة. . . كما تتفتح الأزهار النابتة في الأوحال).! وهكذا يستقر كل أمر في نصابه: فقد أرغمت القوة الخفية سليمان إرغاما على حب بلقيس، وأرغمت بلقيس إرغاما على ألا تبادل سليمان حبا بحب، وكذلك الحال بالنسبة لبلقيس ومنذر سواء بسواء. ومن ذلك يعرف العاشقان غير المعشوقين (إن الحب قدر صارم يضرب ضربته حيث يريد هو لا حيث نريد نحن). فتهدأ نفساهما، ويندمان على أن لم يعرفا منذ البداية، ويباركان السماء أن جعلت الأشياء على ما هي عليه، (إذا لا ينبغي أن نكره هذا كثيرا. . . يجب أن تكون فينا زهرة لم ترو، وجوع لم يشبع، ورغبة لم تنل، وصيحة لم تسمع. . . بهذا نستطيع أن نكون جديرين حقا بالحكمة والتمييز، خليقين بفهم القلب الإنساني ومخاطبته، قادرين على أن نحمل إليه العزاء ورسالات السماء.) والغريب بعد هذا الكشف العجيب، كشف أن كل ما كان قد كان لغاية، بل لخير الغايات على حد تعبير فلتير متهكما على لسان بنجلس (وإن كان ذلك قول يتنافى مع فكرة الأستاذ الحكيم الأساسية) نقول الغريب بعد هذا أن يستمر سليمان في حزنه وندمه حتى يقضي الحزن والندم على حياته. ولكن لعل ذلك من فعل (القوة الخفية) لغاية في نفسها أيضا.
هذه هي الفكرة التي هدف المؤلف إلى إبرازها في كتابه، وتلك طريقة عرضها. وقد رأينا(826/10)
أنها لا ترفع من قدر الإنسان، وأن عرض الكاتب لها لا يرفع من قدرها في حد ذاتها، بل يبرزها مشحونة بالمتناقض وبالتافه وما لا يفهم. وإلا فكيف نلمس في حب سليمان لبلقيس وإعراض بلقيس عن مبادلته حبا بحب أثرا لقوة خفية دفعتهما إليه؟ ألا يكون أقرب إلى المنطق أن نرى في رفض بلقيس أن (تنزل) عن حبها لمنذر (لتبيعه) إلى سليمان أثرا لفرديتها المستقلة عن فردية سليمان، وبرهانا على حريتها التي هي غير حرية سليمان؟ عندئذ تصير المسألة صراعا بين حرية وحرية، بين ميول وعواطف وظروف من جهة وميول وعواطف وظروف من جهة أخرى، بين نفس تعيش في زمان ومكان معينين ونفس أخرى تعيش في زمان ومكان معينين أيضاً اللهم إلا إذا كان الأستاذ يشترط في حرية الإنسان ليعترف بها أن تكون شيئا منفصلا عن مقومات شخصيته كل الانفصال، شيئا يدير الإنسان من خارجه على نحو ما رأى في القوة الخفية. أو إذا كان يرى أن الحرية في الحب، بل وفي غير الحب، يجب أن يتمتع بها طرف دون الآخر. فما دام سليمان قد أحب بلقيس فما عليها إلا أن تتبعه كالعجماء يلوح لها بحزمة البرسيم، بل كالحجر يلقى به من حالق دون حرية ودون شعور. وما دامت بلقيس قد أحبت منذرا فما على منذر إلا أن يلغى حريته وكل ما يكون شخصه المعنوي ليبادل بلقيس حبا بحب وهياما بهيام. إن كان ذلك ما يريد الأستاذ الحكيم، فإنه يحمل الحرية ما لا نطيق ويعرفها تعريفا لم يعرفه لها أحد من قبله، فتمنى لبني الإنسان أو لبعض بني الإنسان حرية الآلهة لا حرية البشر ليخرج بهم من حدود البشرية إلى ملكوت الألوهية. وإلا لم يعترف بأن لبني الإنسان حرية. تذكرني هذه النظرة في فهم الحرية بفكرة ساذجة عن الحرية أيضاً يلقنها سارتر لإحدى أبطاله لينقضها ويسخر منها. وكانت هذه الفتاة قد تآمرت مع أخيها على قتل أمها لسبب ما، فقتلاها. ولكن الفتاة بعد الحادث وقعت فريسة للندم، وصمد الفتى للضربة لأنه فعلها بحريته، فيقول لأخته لينتشلها من براثن الندم: (أنا حر يا إلكترا. لقد انقضت على الحرية انقضاض الصاعقة). وتجيبه الفتاة: حرا أما أنا فلست أشعر بأني حرة. أتستطيع أن تعيد ما كان وكأنه لم يكن؟ وقد وقع منا ما وقع ولسنا أحرارا في أن نرجعه إلى ما كان قبل أن يقع: أتستطيع أن تمنعنا من أن نكون قاتلي أمنا إلى الأبد؟ فيرد عليها أورست قائلا: (أو تظنين أني أريد منعه؟ إنه فعلي أنا، وسأحمله على كتفي إلى الأبد). أجل إن حرية الإنسان(826/11)
محدودة بحد الإنسان، حرية غير تجريدية، بل متصلة بتفكيره وعواطفه وشهواته وكل ما هو من شخصه، ولكنها الحرية على كل حال. ولا يجوز في حكم العقل أن يدفعنا ما لها من صفة نسبية، من صفة الإنسانية إلى إنكار وجودها كما فعل مؤلفنا الكريم.
ربما رأى القارئ أننا أسرفنا بعض الشيء في عرض فكرة الأستاذ الحكيم وشرحها ونقدها. ولكننا إن فعلنا ذلك فلأننا نعتقد أن الفكرة في العمل الأدبي يجب أن تحتل المكان الأول لأن الكاتب إذ يكتب، لأن الكاتب إذا راح يجمع الكلمات في جمل يتوخى أن تكون واضحة مفهومة فلا بد أن أمرا غريبا عن مجرد الكتابة لذات الكتابة قد ساقه إليها، ذلك هو عزمه على أن يبلغ النتائج التي وصل إليها بذهنه إلى الآخرين. فإذا فعل ذلك دون أن يكون لديه شيء يقوله فقد فعل ما فعل في الفراغ. وأظن ذلك مما يجب أن تتنزه عنه أعمال العقلاء. وقد قلنا في مقال سابق إن إقصاء التفكير عن المسرح إفراغ له من مادته الأساسية وإنزال لقدره وحط لكرامته. كما نرى أنه من أجل أعمال الناقد أن يتتبع في العمل الأدبي نظرة الكاتب إلى العالم والحياة والناس، سواء أكانت هذه النظرة شعورية أو غير شعورية، ويحررها وينقدها ويقومها. لأنه إذا كان من أهم وظائف الأدب، كما يقول أندريه جيد. أن يضيف إلى المعرفة الإنسانية أرضين جديدة (في الميادين النفسية مثلا)، أرضين يتعسر الوصول إليها بطرائق أخرى غير طرائق الأدب فإن من وظيفة النقد أن يقوم هذه الأرضين ليجعلها صالحة للاستغلال، ويسهل للإنسان السيادة عليها. وفي اعتبارنا أن الأستاذ توفيق الحكيم جدير بهذا النقد الجدي، جدير به وأن لم نرضى عن أفكاره في رواية سليمان الحكيم التي ندرسها هذا العام مع طلبة الفلسفة بكلية الآداب. هذا إلى أن هذه الفكرة كان لها أثرها الفعال على فن الرواية نفسه كما سنبين فيما بعد. أما الآن فنود أن نشير إشارة عاجلة إلى الباعث الذي يجنح بالمؤلف إلى اختيار مثل هذه المواضيع مادة لمسرحه، وأن ندلي بوجهة نظرنا فيه.
يرى الأستاذ ويصرح بهذا الرأي في مقدمة مسرحيته: (أوديب الملك) بأن الدين كان أساس التراجيديا عند الإغريق القدماء فيقول: (أساس التراجيديا الحقيقية في نظري هو إحساس الإنسان أنه ليس وحده في الكون، وهذا ما أعبر عنه بعبارة الشعور الديني. . . مهما كان شكل التمثيلية وإطارها وأسلوبها والأثر الذي تحدثه في النفس فإن هذا كله لا يسوغ في(826/12)
رأيي وصفها بالتراجيديا ما دامت لا تقوم على هذا الشعور الديني). وهذا كلام لا نرتاب في صدقه ونقائه. فموضوع التراجيديا عند إسخيل وسوفوكل مثلا مأخوذة من عبادة الشعب بطريق مباشر. وكانت تمثل أمام شعب مجتمع متجانس يرى في آلهته الآلهة الحقيقيين، وفي أبطاله الأبطال الحقيقيين، وكلهم أبلوا في حماية الوطن وإعلاء كلمته. فتعرض على الشعب أعمالهم الجليلة ومظاهر بطولتهم وكلها معروفة من الجميع، حية في نفوس الجميع. تعرض هذه الأفعال العالية والبطولة النادرة، وتعرض معها جرائم الأسلاف ونكباتهم، أولئك الأسلاف الذين يرزحون تحت سطوة القدر القاسي: فمن خرافة بروفين إله النار الذي يخدع الآلهة فتقضي عليه الآلهة بأن يظل طول الأبدية مشدودا إلى صخرة وقد جثم عليه نسر عات ينخر كبده دون أن يخفف عنه العذاب أو يقضي عليه فيموت، إلى الملحمة التي انتهت بهدم طرواده وما تخللها من أعمال البطولة التي تعلو على طوق الإنسان، إلى سلسلة المآسي الفاجعة التي ترتبت ترتبا حتميا على مآدبة أنرية المشؤومة حتى انتهت بحماقة أورست المروعة، إلى الانتصار الهليني على العدوان الفارسي، ذلك الانتصار الذي كانت ذكراه تلهب قلب كل يوناني بالحماس. فكلها موضوعات شعبية دينية ليس منها واحد لا يمتزج امتزاجا بروح كل فرد في الشعب وبأخفى خفايا نفسه. وقد دعي شعراء التراجيديا للاحتفال بها أي إلى الاحتفال بروح الشعب المشترك وإيمانه المشترك في وقار، بل في أسمى ما يكون الوقار. دعى الشعراء التراجيديون لتقديم أعمالهم عن هذه الموضوعات، وكان على الشعب أن يتفانى في تكريم من كان منهم أهلا للتكريم، أعني من استطاع خيرا ممن عداه أن يثير في نفسه (نفس الشعب) الانفعال الذي كان ينتظره من بروميتي وأجاممنون وأوديب وأورست بعد أن تقمصهم أمامه أشخاص أحياء بضع ساعات من نهار.
(للبحث بقية)
محمد القصاص
دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس(826/13)
القيم الروحية بين العلم والمادة
للأستاذ واصف البارودي
الإنسان مجموعة متناقضات؛ لذلك تراه متناقضا في طبعه وفطرته. فهو صادق كاذب، وكريم بخيل، وشجاع جبان. . . الخ ولا تجد صفه من هذه الصفات متلبسة بلباس الفضيلة والرذيلة حتى إمكان تلبسها بالكساء الآخر. فالصدق أب الفضائل، والكذب أم الرذائل؛ ومع ذلك ألا نجد الصدق رذيلة في النميمة ونقيصة في الغيبة؟. . . ثم ألا نعتبر بعض مظاهر من الكذب، في إصلاح ذات البين مثلا، فضيلة ندعو إليها؟. . . وهل في العالم إنسان يعتر البخل فيما تستلزمه الكرامة الإنسانية، وفيما تقتضيه واجبات المحافظة على الوطن رذيلة ما؟ وهل في السماح بأرض الوطن فضيلة ترتاح لها النفوس؟. . . مثلا. فأين الفضيلة؟ وأين الرذيلة إذن؟. . . أهما مستقران في الألفاظ؟ أم هما من المعاني المنبثقة من صميم النفس بحسب إشعاع روح المجتمع فيها بأمر من الخالق المدبر، وبحكمته؟. . .
المطلق هو الله وحده، وكل ما يصدر عن هذا الكون نسبي لأنه خاضع، بحسب تكوينه، للتطور والتحول، بحكم مطاوعته لفعل المؤثرات في الخارج، وبحكم استجابته لأحكام التفاعل التكويني المستمر في داخله. فلا غرابه إذا تجاذبته المتناقضات، ولا عجب إذا اشترط تحققه الإنساني بتحقيق التوازن بين تلك المتناقضات، وبتركيزها!. . .
لكل كائن خصائصه التي يتميز بها، ويعرف. وخصائص الإنسان إنما تنجلي بمظاهر إنسانيته. وهذه لا تبرز إلا بتحقق الإرادة والحرية. وبقدر ما يتنازل الإنسان عن إرادته وحريته، يتنازل، في الحقيقة، عن إنسانيته. ولذلك كانت الحياة البشرية في الأفراد والمجتمعات، كفاحا مستمرا بين عزة الحرية ومنعة الإرادة، وبين ذل الجبرية واستسلامها. فالجبرية ضعف وجمود، والحرية قوة وتجدد. وهاتان العقيدتان المتناقضتان تلخصان، في الحقيقة، تاريخ البشرية منذ وجد الإنسان.
فمنذ تعرف الإنسان بهذا الكون المادي فكر بالسيطرة عليه وكان التوفيق حليفه في جميع الأدوار. غير أن المادة لم تكن تحجم عن الانتقام منه كلما وجدت لذلك سبيلا، ومظهر انتقامها أبرز ما يكون في سوقه إلى جبريتها، والجبرية هي الصفة الملازمة للمادة، ووسيلتها في الإنسان جسمه، إذ الحرية صفة تلازم الأرواح، والإرادة مظهر سام لها؛ ولا(826/14)
تكاد المادة تسوق الإنسان لجبريتها حتى ينقاد لهواه ويعق إرادته. ومنشأ الهوى فؤاد هدام، وسريرة مظلمة. وفي ظلام الفؤاد والسريرة تتناثر الفكرات السامية وتلتحق بالعدم، فلا يكون لها أي تأثير في توجيه الإنسان، أو في تحقيق إنسانيته؛ فيعيش حيوانا يدعي أنه إنسان ناطق.
الإنسان مجموعة متناقضات، وبقدر تقدمه في الحضارة تزداد مظاهر التناقض في نفسه، ولا تنجلي إنسانيته إلا في إيجاد التوازن بين تلك المتناقضات، وفي تركيزها، على ما سبق وألمعنا إليه. وهذه هي الحكمة التي تقضي بوضع كل شيء في محله؛ وبهذا تتكون حقيقة الفضائل وتتفاعل عناصرها. قال أحد الفلاسفة: (ليست الفلسفة إدراكا وتأملا وحسب، وإنما هي حكمة).
المادة والعلم:
من مظاهر التناقض في نفس الإنسان تعلقه بحقائق العلم ومستلزماته، وحرصه على مقومات الجسم والتنعم بملذاته. فالعلم والمادة متناقضان بحسب الظاهر، ولكنهما في الحقيقة، وسيلتان تصلحان لرفع مستوى الإنسان بتحقيق إنسانيته الفردية والاجتماعية، إذا أحسن التصرف، وعرف حدود كل منهما، وكان لبقا في استخدامه. والخير، وكل الخير، يستقر فيهما معا ما داما يستعملان أداة أو وسيلة؛ ومتى أصبح أحدهما غاية للإنسان في حياته، تبدأ الشرور.
فالمال، مثلا، مع فوائده الجمة يقوم عثرة في سبيل التقدم متى حصل اضطراب في نظام جمعه وتوزيعه، فيصبح بعيدا عما تقتضيه الحياة الاقتصادية والحياة الإنسانية من رقى. ويكون مظهر الاضطراب المادي في أمور ثلاثة هي:
1 - تعقيم المال: وهو الرغبة في جمعه وكنزه في الأرض، أو في الصناديق، فيصبح عقيما، إذ لا ينتج أعمالا، ولا يساعد على تحقيق أي مشروع.
2 - تحكم الآلة: والآلة إذا تحكمت بالإنسان تحوله لآلة. ولا نخشى هنا من أن تصبح وسيلة لكثرة العاطلين عن العمل، وحسب؛ وإنما نخشى أن تنقلب نفسية الإنسان وروحه لنوع من الآلية فيفقد بذلك إنسانيته. وتدارك هذا الخطر إنما يكون بالتربية وبتبديل أنظمة العمل وتثقيف العمال.(826/15)
3 - اتخاذ المادة معيارا للقيم. ومتى اتخذ المادة معيارا للقيم انجذبت إليها النفوس فتتأثر بخصائصها المميزة لها، وأهمها الجبرية فيعتقد الإنسان بأن مساق جبر حسب النواميس التي تساق بها المادة نفسها. وهنا يمكن الخطر.
وأما العلم فإنه يظهر لأول بادرة أنه يتعلق بالنفس لتعلقه بالمعرفة. وهو من حيث الغرض متعلق بالمادة نفسه، لأنه وسيلة التحكم بها مبدئيا. ويخشى عندما يتعلق العلم بالمادة تعلقا شديدا أن يكتسب منها صفة الجبرية، فيقول بها، كما ظهر لنا من أقوال كثير من العلماء، ولا سيما في عصور الانحطاط. وقد ظهرت بوادر هذه العقيدة عند الكثيرين من علماء عصرنا هذا، فكانت دليلا على ظهور إمارات الانحطاط في مؤسساته العلمية والاجتماعية، وأخذت الحضارة تنذر بالانهيار.
قال مونتاني: (من الجرأة الغريبة أن يرفع إنسان نظره أمام العلم) فأجابه هنري ماريون مؤخرا قائلا: إننا نحترم العلم ونخضع له، ولكن هل يقضي علينا ذلك باحترام العلماء أصحاب النظرات التصاعدية التي تتصل بالأوهام والسخف، وبالخضوع للعالم الذي يتخذ علمه وسيلة لاقتناص المادة والمناصب، ولخداع الناس؟. .
أننا نعرف كثيرا من الحوادث التي اتخذ بها العلم وسيلة لتحقيق مآرب خاصة، واقتناص فوائد مادية، دجلا وتزييفا، ومن قبل أناس مشهود لهم بالعلم والثقافة، وكانوا، في الحقيقة، على شيء من العلم والمعرفة. ولا يندر أن نجد مثقفين يقولون ما لا يفعلون، نفاقا ورياء؛ فهم يتخذون المعرفة والمبادئ وسائل رخيصة في سبيل تحقيق ما تميل إليه أهواؤهم، وإشباع جشعهم وأطماعهم.
القيم:
العلم، بذاته، لا يعرف الخير والشر. والمادة بذاتها، لا تعرف الخير والشر. وكل شر أو خير يتأتى عن العلم أو المادة، إنما يكون منشأه الإنسان. فالخير والشر كامنان في نفس الإنسان وحده، وفي روحه. . . ومن هنا نستطيع أن ندرك أهمية القيم.
يقول الشاعر:
قيمة الإنسان ما يحسنه ... أكثر الإنسان منه، أو أقل
وأسمح لنفسي أن أقول: قيمة الأعمال تقدر بنسبة صلتها بروح الإنسان. فالإنسان هو معيار(826/16)
كل شيء، حسب تعبير بروتا غوروس لا العلم ولا المادة، ولا العمل نفسه.
القيم الروحية:
القيم تتصل بالأعمال التي يقوم بها الإنسان. فكل عمل نقوم به، إنما يقدر ببواعثه. فإذا كان منشأه الهوى، أي الفؤاد الهدام المظلم، أو بتعبير آخر: النفس الأمارة بالسوء، فلا تكون له أية قيمة إنسانية، لأنه في هذه الحالة يكون فعلا مجبرا. وليس للأعمال الإنسانية قيمة صحيحة إلا إذا صدرت عن الإرادة المتحققة في الحرية. فصلة الأعمال والسلوك بروح الإنسان أي بإنسانيته، هي التي تهبها قيمة ما. والروح لا تكون روحا إلا بالإرادة والحرية، لأن الروح، في حقيقتها، حياة وحركة وتقدم وثورة.
وتقدر قيمة الأعمال بالبواعث. فإذا كانت البواعث أمورا خارجة عن الروح، أو بتعبير آخر: إذا لم تكن منبثقة عن الفعالية الروحية، فلا يكون للعمل قيمة روحية، وإنما تنسب قيمته إلى الباعث الذي أدى لوجوده. فإن كان كسب المال، مثلا، فتكون قيمته مادية، وإن كانت الشهرة، فهي الزهو والغرور. فما رأيك فيمن يولم وليمة وينفق عليها بسخاء، ويكون له من ورائها مأرب تجاري؟ أيصح أن يدعي كريما؟ أعتقد أن من ينفق قرشا على فقير بباعث الشفقة والرحمة، هو أجدر بالاتصاف بالكرم من ذلك المستثمر. إن صفة الكرم وأمثالها لا تمنح إلا لمن يقوم بهذا العمل بباعث روحي داخلي، لا لمآرب خارجية.
فالقيم الروحية إنما تقوم بالروح، بصفة أنها عمل بذاتها، وبسبب البواعث على العمل. وهذه القيم يسبقها نزوع له مبدأ، وله غاية، وبينهما قوة حركية يبعثهما الحدس والعاطفة. فإما أن تذهب إلى النفس المظلمة فتنقاد للهوى، وإما أن تتصل بالفؤاد البناء فتتصل بالإرادة، فيكون العمل إراديا حرا، أي إنسانيا. صور أحدهم من يبذل من ماله دون أن يكون لبذله أية قيمة روحية فقال:
يعطى ويمنع، لا بخلا ولا كرماً ... وإنما نزعات من وساويس
أثر الانفعال والتفكير في القيم:
ومما يقوي هذه النزعات، ويبعدها عن نظام القيم الروحية، الانفعال. والانفعال نسيب الهوى. ولذا يقول علماء النفس: إن الأمم الكثيرة الانفعال قليلة الإنتاج. ألا ترانا نحن في(826/17)
مؤسساتنا وفي منظماتنا، كثيرا ما نبدأ بحماس شديد، وننتهي إلى لا شيء؟ ونعبر عن ذلك بقولنا: (إننا نفور فورة الحليب). وهذا ما يتهمنا به الغربيون فيقولون عنا: إنهم يسيطر عليهم الانفعال فلا تخشوهم؛ ولكن اصبروا عليهم بادئ الأمر، وسرعان ما يهدأ انفعالهم، ويسكن في نفوسهم الحماس.
إننا نحترم الأمم التي تعتمد على التفكير في سلوكها، فلم لا نجعل التفكير والتؤدة من مبادئ سلوكنا، أي من القيم الروحية التي يجب أن تصدر عنها انفعالاتنا النفسية؟ وهل شيد أسلافنا صروح الحضارة إلا بهذا التفكير؟. . .
المثلث الخالد:
تتجمع هذه القيم الروحية في المثلث الخالد، وهو الحقيقة والجمال والخير. فالحقيقة توافق داخلي بين فعالية الروح وموضوعها. والإنسان بحاجة لمعرفة الحقائق ليحيي إنسانا. ولا يمكن الحصول على الحقيقة إلا إذا تجردنا عن مصالحنا وأهوائنا.
فللحقيقة قواعدها الخاصة، وهي موجودة في الكون، ولكنها موجودة بالقوة، والإنسان هو الذي يخرجها لخير الفعل، فتصبح به كائنة بالفعل. والإنسان الذي أنيط به إخراجها لخير الفعل يستطيع تزييف هذه الحقائق وقلبها، ومن هنا يصدر إمكان الدجل والتزوير، من العلماء أنفسهم.
والفرق بين الحقيقة المجردة والحقيقة المزيفة أن الإنسان يصل للأولى بقدر ما يترك نفسه على سجيتها، ومتى أراد التزييف بذل جهدا خاصا. ولذلك تقع التبعة في تزييف الحقائق على الإنسان وحده، لأنه يقوم به بمحض إرادته. ولعمري أنها جريمة من أفظع الجرائم، سواء أخدع الإنسان بذلك نفسه، أم خدع الآخرين.
أما الجمال فهو ما يثير في النفس الانبساط والإعجاب معا. وأقصد بالانبساط معناه اللغوي، أي امتداد النفس واتساعها، فيشعر الإنسان أمام أي مظهر من مظاهر الجمال بامتداد في روحه يجعله يحاول أن يتجاوز نفسه في السمو.
تصور نفسك أمام أثر فني رائع، وأثر معماري خالد، أو أنك تقرأ قطعة أدبية فنية، أو تستمع إلى سيمفونية راقية، أو أنك أمام غير ذلك من آثار الفنون الجميلة، فتشعر بذلك التأثير، إذا كان في روحك انطلاق. وما ذلك إلا لأن الجمال، في حقيقته، حر مجرد؛(826/18)
والتأثر به إنما يكون نتيجة لفعالية روحية حرة مجردة. فمتى اتصل هذا الإحساس بمأرب أو غرض ذهبت روعة الجمال، وضاعت على الإنسان مسرات سحرة، فيصبح حيوانا مخربا، يفسد على الجمال روعته. أو يخسر الجمال قيمته الروحية.
تذوق الجمال استجابة لفيض من القوة الروحية وفعاليتها، يبذلها الإنسان للبذل. كلنا يشعر، لا سيما في أوقات فراغه، بفيض من الفعالية يحتار في أمر استخدامها؛ فإذا لم تجد مخرجا ألقت بالإنسان في غياهب الذهول، فيصبح أسير الأحلام النهارية، ويتأثر بالمنامات. وهذه حالة كثيرا ما تؤدي إلى الضعف والفساد. إن قوى الإنسان بحاجة لأن تتمرن للتمرن، فلا تكتفي بالعمل العادي؛ فوجب أن تصرف في الألعاب ورياضة الجسد، وفي تذوق الجمال في مظاهره المختلفة من أدب وموسيقى وتصوير وغيرها من آثار الفنون الجميلة.
فإذا اهتمت الأمم الراقية بهذه الفنون وبالرياضة البدنية، فإنما تعني بذلك لتحفظ في الشباب قواهم الروحية، ولتنمي هذه القوى، خشية من تحولها لفساد، أو ذهول، تضعف معهما إنسانية الإنسان وقد تتلاشى. فلا غرابة إذا رأينا المربين يؤيدون مبدأ إصلاح المجتمع بالفنون الجميلة وبتشجيعها.
إن الفنان الجدير بفنه يتحكم بالزمن تحكما لا يستطيعه غيره. يستطيع كل إنسان أن يعود إلى أي مكان سبق ومر به؛ ولكنه لا يستطيع أن يستعيد لنا لحظة مرت سوى الفنان من بني الإنسان. والفنان يستطيع، عدا ذلك، أن يستبقي تلك اللحظة، وأن يخلدها. فإنه يأخذ من أي مظهر من مظاهر الجمال، وقد تجلى في زمن من الأزمان، عناصر هامة يركب منها رائعته التي تحفظ لك ذلك التجلي وزمنه، ويجعل باستطاعتك العودة إليه متى أردت. فكأنه يحرر هذه العناصر من جبرية المادة ونواميسها، ويمنحها كيانا جديدا يصله بروحك. وهذا ما يضمن للأثر الفني الخلود. إنه قد عبر عن نفسية الفنان، وانبثق عن روحه، فكانت له قيمته الروحية. ولهذا جعل الفلاسفة الجمال مبدأ للخير.
والخير هو حصول الشيء على كماله، أو، حسب تعريف بعض المعاصرين، ما يجب اختياره.
فالحرية والإرادة شرطان أساسيان في تحقيق وجوده ولا يستطيع الإنسان أن يكون حرا في اختيار ما يجب اختياره إلا إذا كان مثقفا لحد ما.(826/19)
ومن هنا نشأت فكرة وجوب الغاية لتثقيف الجماهير في الأمم الديمقراطية الحرة، إذ مهما كان العمل عظيما، فلا يعتبر فضيلة، إن لم يقترن بالفهم والتفكير، أي بالروح العلمية.
فهذه القيم: الحقيقة والجمال والخير، مهما افترقت في مفاهيمها، فإنه يجمعها أنها تشترك كلها في تكوين المثل العليا الصحيحة. ولا تكون المثل العليا صحيحة إلا إذا دخلت في دائرة التأمل والإرادة، وكانت ثورية في طبيعتها.
قال بيجوي: (. . . وهكذا، فإن أول شكل للمثل الأعلى في التاريخ، وأول شكل يكشفه، هو النقد والمناظرة، وإنه، لدرجة ما، ثوري دائما). ولعله يقصد بالثورة، هنا، ثورة النفس على النفس، ليتم الانقلاب فيها أولا، قبل أن تفكر في قلب المجتمع: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (قرآن كريم)
إننا ندعو للقيم الروحية لتستقر مشاريعنا، ولتستمر؛ لأن المشاريع التي تتعلق بالفرد تزول بزواله، أو بزوال نشاطه. قال ويلز: (إذا أردت أن تبعث شعبا من الشعوب من غفوته، فحسبك أن تبعث في حياته روحا علمية في التفكير، وشعورا لطيفا في النفس يتفجر عنه الحب والعواطف).
ومن هنا يجب أن يندفع الإنسان إلى العمل. فلا بد في الحصول على مسرات القيم الروحية ومباهجها وفي بلوغ نتائج تأثيراتها الرائعة في توجيه الأمم وإنهاضها وعظمتها؛ لا بد في ذلك كله من أن يبدأ المواطنون بثورة النفس على النفس؛ ولا يتسنى لأي إنسان القيام بهذه الثورة إلا بعد تحطيم الأصنام المتربعة على عرش قلبه، قبل كل شيء.
لا يمكن معرفة الحقيقة الناصعة، وتذوق الجمال الرائع، والانجذاب إلى عمل الخير النافع، ولا يستطيع الإنسان اعتناق المثل العليا، وهي وحدها تبعث الاطمئنان في النفوس، إلا بمواجهة الواقع. ومواجهة الواقع بصدق وإخلاص ودراية يقضي حتما بتحطيم ما في النفس من أصنام تدفعها لطرق ملتوية لا تستقيم معها النفوس. والأصنام كثيرة: منها ما هو مادي خارجي يؤثر في النفوس، كالمظاهر المادية ووسائل الترف؛ ومنها ما هو نفسي داخلي يتآكل في النفس إنسانية الإنسان. وكل امرئ يعرف أصنامه، وما دام عابدا لها فليس له أن ينتظر رقيا ولا تقدما في نفسه، بلة في مجموع يعتمد عليه.
قال بارودي: (نخشى من جمود المؤسسات والأخلاق والعقائد، لئلا تتحول لآلية نفسية أو(826/20)
اجتماعية، تصبح معها عائقا عن التقدم).
فلا يكفي إذن أن تتبنى القيم الروحية، بل يجب أن تتجدد حيويتها في نفوسنا بقوة فعاليتنا الروحية، ولا يتم ذلك على أكمله ويبعده عن التزوير والجدل والتزييف، إلا إذا اتصلت بالمثل الأعلى الأعظم، وهو جماع القيم الروحية في سموها، أي الحقيقة المطلقة، والجمال الأسمى، والخير الأعظم، وهو الله.
فمتى اتصلت قيمنا الروحية بالله، تصبح روحانية، فتتوازن وتتركز وتتوحد، وتكون منشأ الوحدة بين البشر، إذ لا يجوز أن يكون اسمه، جل شأنه، وسيلة تفرقه بين المواطنين والشعوب والأمم.
واصف البارودي(826/21)
صور من الحياة:
سعادة البك. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
ما لهذه الحياة تمزج الجد بالهزل، وتخلط الحق بالباطل، وتجمع بين الشدة واللين، وتوائم بين الصعب والسهل؟ لعلها تبتغي أن تنفث في الناس الأمل فلا يعتريهم الملل، وتبعث فيهم المرح فلا يضنيهم الأسى، وترسل فيهم الرجاء فلا يقتلهم اليأس!
سعادة البك رجل نيف على الأربعين، نال حظا ضئيلا من الثقافة العربية والفرنسية، درج في بيت من بيوت المجد والغنى والجاه، وكان أبوه الباشا يعتز به ويدلله ويقربه إلى نفسه وقلبه في وقت معا، فشب يرفل في الثراء والنعمة، ويتألق في الصحة والعافية، ويتقلب في السكينة والهدوء. يأوي إلى المسكن الرحب الأنيق، ويسعد بالثوب الغالي الجميل، ويسكن إلى الطعام الشهي اللذيذ. يقضي أيامه بين القاهرة والعزبة، يأخذ من هناك لينفق هنا عن سعة، ويستمتع في الريف بالهدوء الوداع والخمول الرخو، والهواء النقي، والخضرة النضيرة، ويستمتع في القاهرة بالصخب المثير، والحركة المستمرة، واللهو البريء. وهو إن وجد في العزبة ما يشغل بعض وقته فهو في القاهرة لا يجد إلا صراعا عنيفا بينه وبين الزمن: يريد أن يقتل الوقت فيقتله هو، ويحاول أن يلمس فيه الراحة والطمأنينة، فلا يحس إلا الضيق والضجر. والأيام تمر وهو يقضي صدر النهار قلقا مفزعا لا يجد الصاحب ولا الرفيق، والناس في شغل عنه. وهو في آخر النهار بتذبذب بين شرفتي الكونتنينتال وشبرد، يضطرب من نضد إلى نضد، ومن جماعة إلى جماعة، وصحابه جميعا من ذوي المكانة والشأن، ومن أصحاب الرأي والكلمة، يجلس إليهم في الشرفة ويزورهم في المنزل، ويرافقهم في اللهو، ثم هو يهيئ لهم المآدب الفخمة، والسهرات العابثة، يدعوهم إلى الملهى والمسرح فلا يتمنعون. وهم لا يملون صحبته، ولا يمل هو، فهو خفيف الظل لطيف المعشر، طيب القلب، حلو الحديث، بارع النكتة، حاضر البديهة، لا يثقل على واحد منهم بحاجاته، لأنه في غنى، وهو لا يشغل نفسه بحاجات غيرة.
عرفته منذ شهور، وقد ران عليه القلق من أثر الفراغ، وسيطر عليه الاضطراب من أثر الخمول. ولقد اطمأن إليّ فراح ينشر أمامي نوازع نفسه وخطرات ضميره: فهو يطمع في(826/22)
أن يلي منصبا عاليا من مناصب الدولة، ولكن أنى له الشجاعة التي تدفعه إلى أن يتحدث بذات نفسه إلى واحد من صحابه، وهو في نفسه عظيم بين عظماء، لا يسمو عليه الوزير، ولا يبذه الباشا، ولا يعلو عليه المدير. لا ريب فإن طلبه سيضع من قيمته في نظرهم جميعا، ولكنه سيجد الخلاص. وشمله مركب العظمة فهو لا يتكلم إلا عن عظمته هو، وعن مواهبه وعبقريته ونبوغه.
وفي ذات يوم قال لي (أرأيت؟ لقد ولى فلان باشا وزيرا لوزارة كذا، ولولا أنه صديقي لنازعته المنصب، ولو أنني فعلت لظفرت به ولغلبته على أمره) وابتسمت لكلماته الجبارة حين رأيت مركب العظمة يتوثب شامخا في غير تواضع مترفعا في غير تحرج، ثم قلت (وأنت لو شئت لاختارك معالي الباشا، وهو صديقك، وكيلا لوزارته) قال لي (حقا، حقا! غدا أذهب إليه لأهنئه ولأطلب إليه ما أريد في شجاعة وتشبث).
وغدوت إلى مدير مكتب معالي الوزير، وإن بيني وبينه صلات العمل وأواصر الصداقة، فألفيت صاحبنا البك جالسا على كرسي وثير وعليه سيما العظمة والكبرياء، وبين يديه ورقة وبين أنامله قلم، فحييته في احترام وجلست إلى جانبه أحدثه (ماذا تفعل يا سيدي البك) قال (لقد أردت أن أقابل معالي الوزير فلم أجده فأنا أكتب إليه خطبا أهنئه بالمنصب الجديد، وأطلب إليه ما أريد) قلت (وماذا تريد؟) قال (أريد أن أكون عضوا في مجلس الشيوخ في المكان الذي خلا بوفاة فلان باشا) قلت: وماذا عسى أن يملك الوزيرة من هذا الأمر، وهو بين يدي مولانا الملك) قال (لا عجب أن تقول هذا القول وأنت موظف صغير لا تفهم عن المناصب الكبيرة شيئا. ألا تعلم أن معالي الوزير إن شاء حدث دولة الرئيس في شأني حديثا طيبا، فما يحجم دولة الرئيس عن أن يزكيني لدى مولانا الملك) قلت (عجبا! كيف فاتني هذا الرأي!)
ثم أنطوى البك على قلمه وقرطاسه، وفرغت أنا إلى مدير المكتب، فقال لي (أو تعرف شيئا عن هذا الأفندي؟) قلت عابثا (لا تقل هذا! إنه رجل من ذوي المكانة والخطر، وهو صديق روحي لصاحب المعالي الوزير، لا يوصد في وجهه بابآ، ولا يرد له شفاعة) قال (ولكنه يجهل التقاليد الحكومية) قلت (ولمه؟) قال (لقد طلب إلي أن يلقى الوزير ليهنئه، وليطلب إليه أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وهذا أمر لا يد للوزير فيه) قلت (الآن(826/23)
ترى!).
وناديت سعادة البك ليشاطرنا الحديث فجاء فقلت له: (إذا قال لك الوزير إنني لا أملك أمر تعيينك عضوا في مجلس الشيوخ، ولا أستطيع أن أحدث دولة الرئيس بذلك، لأنك لم تكن يوما سياسيا من ذوي الرأي والمبدأ والعقيدة، ولم تكن عضوا في حزبه).
قال: (آه، نعم. لقد فاتني هذا الرأي، ولكن إذن أطلب إليه أن أكون مديرا عاما لإدارة كذا).
قلت: (وأنت رجل لا عهد لك بما تتطلبه هذه الإدارة من أعباء، وهي إدارة فنية، ثم إن هذه وظيفة تحط من قدر رجل عظيم مثلك).
قال: (فماذا أفعل؟)
قلت: (إذن لا معدى لك عن أمر واحد، هو أن تكون مديرا لمكتب معالي الوزير).
قال في غضب: (أي خساسة وأي ضعة! لقد جئت أرجو الرجل - وهو لا يعرفني - فتلقاني في بشر واحترام، أفأسعى - بعد ذلك - لأنتزع كرسيه؟ لا، لا. لن يكون ذلك أبدا!)
قلت: (هذا مكانك أنت، فستلقى هنا عظماء الدولة يرجون رضاك، ويتملقون كبرياءك، وينحنون لك، وستكون أنت - إلى ذلك - صاحب الرأي لدى معالي الوزير، وكاتم سره، ورفيق نفسه).
قال: (لا، لا. لن يكون ذلك أبدا!)
قلت: (وماذا عليك والمدير نفسه راض، لا يجد غضاضة في أن ينزل لك عن كرسيه؟)
قال: (أفيرضى هو؟ فلنسأله. . .)
وبدا للمدير ما أحاول من عبث ومزاج، وراقه ما أفعل، فأراد أن يسري عن نفسه بعض عنت العمل، فقال في مكر: (نعم، أنا راض على شريطة واحدة).
فأجابه البك في لهفة: (وما هي؟)
قال المدير: (أن تسعى لدى معالي الباشا لأكون مديرا للإدارة التي ذكرت).
قال: (لا بأس، فهذا أمر سهل بسيط).
ثم خلا البك إلى قلمه يديره على القرطاس مرات ومرات فلا يهتدي. وأعجزه أن يكتب كلمة واحدة فناداني لكي أعينه على أمره وقد حزبه، قال (تعال، يا أستاذ، أرني كيف تكتب(826/24)
طلبا أقدمه إلى معالي الوزير. فأنت - كما تزعم - أديب كبير) قلت (وما للأدب وللطلبات الحكومية. إن الأديب يكتب على نسق خاص لا تستسيغه الأوراق الحكومية وهي لا تنضم - عادة - إلا على ألوان من التملق وأساليب من الخضوع وفنون من الذلة وأنواع من المسكنة، وأنا لا أحسن شيئا منها) قال في غضب (ومن ذا الذي يحسنها غيرك أيها الموظف؟) قلت في ابتسام (مدير المكتب يمليك فهو يختار - دائما - من الكلام ما يرضي الوزير ويتملقه) قال وهو يلتفت إلى المدير (نعم، أفتسمح يا سيدي المدير فتملي).
ورأى المدير أن المزاح يوشك أن ينقلب جدا، فاضطرب في كرسيه حين تراءى له ما سيكون بعد، فاعرض عن البك ومال إلى يسر في أذني (أرأيت كيف جرنا المزاح إلى الهاوية؟) قلت (أي هاوية؟) قال (هذا الرجل صديق الوزير، ما في ذلك من شك، وهو سيصر على أمر وسيحدث به الباشا، فماذا ترى سيقول حين يعلم ما كان مني وما كان من هذا الرجل. لا ريب أنه سيثور علي ويقذف بي إلى أقصى الأرض رغم ما تعرفه من ثقته بي وحرصه علي) قلت (لا تخف!) ثم التفت إلى سعادة البك أحدثه قائلا (أتطلب إلى الوزير أن تكون مديرا لمكتبه؟ كيف ترضى أن تكون خادما له تحمل حقائبه وتتبعه كما يتبع الكلب الأمين سيده، وتنمحي أنت بين مشاغله ورغباته؟) فثار حينا ثم قال (ومن قال ذلك؟) قلت (هذا هو عمل مدير المكتب) قال (لا، لست أرضى بأن أكون تبعا لأحد، يكفيني أن أعين عضوا في مجلس الشيوخ) قلت (حسنا، هذا مركز ذو شرف وجاه).
وأخذ مدير المكتب يملي والرجل يكتب إلى الوزير رجاء أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وتنفس المدير واطمأن وهدأت وساوسه. ورضى سعادة البك. ثم التفت البك إلى مدير المكتب قائلا (مر من يكتب هذا الطلب على الآلة الكاتبة، وسأحضر غدا لأقدمه بنفسي إلى معالي الوزير) وأجاب المدير بالإيجاب. ولكن الشواغل شغلته عن أن يفعل.
وجاء البك في الميعاد فألقى طلبه ملقى في ناحية. وبدا له أن مدير مكتب الوزير قد أهمل شأنه فثار به. وعلى حين غفلة منه اندفع صوب باب الوزير يقتحمه ليشكو هذا الموظف المهمل، فما انتبه المدير إلا ليرى البك أمام الوزير وجها لوجه، والوزير يهش له ويبسم ويلقاه في سرور. وعجب المدير لما يرى ولكن الوزير أمره بأن لا يوصد بابه في وجه سعادة البك لأنه صديق روحه ورفيق قلبه.(826/25)
لقد دخل البك الثري حجرة الوزير لم يقف ببابه لحظة واحدة. . . دخل وخلف من ورائه موكبا لجبا يقف لدى الباب، تنطوي الأيام وأن الواحد منهم ليخشى أن يحين حينه قبل أن يلقى معالي الوزير. . .
كامل محمود حبيب(826/26)
موكب الربيع. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
النغم النشواق
يا حبيبي، ظمئت روحي وأضناها الحنين
أنا هيمان وشكى فيك يا حلو يقين
رقد الليل فما تفضح نجوانا العيون
قم نلَبَّ دعوة الحب فدنيانا الفتون
زورق الحب على الشط كقلبي المطمئن
قم فهذي ليلة الحب وهيا لنغني
أقبلت أطياف آذار تحيينا ابتساما
جددت للقلب أفراحاً وللروح هياما
فأقيموا للربيع السمح عيداً يا ندامى
عمت الفرحة وادينا أنسلوها نياما
يا هنائي آه لو كنت على الأحزان عونى
أتمناك على البعد وهل يجدي التمنى؟
يا ليالينا بوادي السحر عودي يا ليالي
لم أزل نشوان أستلهم أقباس الجمال
فالدجى غاف وبدري والأمانيُّ حيالي
الهوى يوحي إلى نفسي تهاويل الخيال
أين يا ليل نداماي وأكوابي ودني؟
أترى يرجعها الليل فأسقي وأغني
الضحى النشوان يغويني وسحر الصبح يغري
فأغني وأغاني مع الأنسام تسري
الهوى يحويه لحني والشذا يطويه شعري
فأنا زنبق سح عليها صوب عطر(826/27)
قل لمن ينكر شدوي أين من سمعك لحني
لو تفهمت أناشيدي لما أنكرت فني
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(826/28)
من أدبنا المجهول:
المنصف
لابن وكيع المصري المتوفى سنة 393هـ
للأستاذ السيد أحمد صقر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أو لم يسمع النافون عنه أخذ الكلام من النثر والنظام قول الفرزدق: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة؟ أو ما سمعوا قول الحكماء: من العبارة حسن الاستعارة؟ وما شيء بأعجب من وقوع جملة الشعراء في أمر يشترك فيه قديمهم ومحدثهم من استعارة الألفاظ والمعاني إلى مر الزمان بتحكيك الفحول منهم الشعر وتنقيتهم إياه، حتى أنهم كانوا يسمون قصائدهم الحوليات، لأنهم كانوا يعيدون فيها النظر حولا حولا قبل ظهورها، فلم يعصمهم طول النظر وكد الخواطر والفكر من أن يلم بعضهم بكلام بعض. ثم لا يرضى مقرظ أبي الطيب حتى يدعي له السلامة الكاملة من عيب لم يتكامل في أحد قط تكامله فيه. وأنى له بالسلامة من ذلك وقد جاء على ساقة أهل الشعر بعد استيلاء الناس على حلو الكلام ومره، ونفعه وضره، وهذا الظلم الواضح والأمك الفاضح.
وسأدل أولا على استعمال القدماء والمحدثين أخذ المعاني والألفاظ، ثم أعود إلى تنخل شعر أبي الطيب ومعانيه، وإثبات على ما أجده فيه من مسروقات قوافيه التي لا يمكن فيها اتفاق الخواطر، ولا تساوي الضمائر، لأن ذلك يسوغ في النذر القليل، ويمتنع في المتواتر الكثير. وسأنصفه في كل ذلك، فما استحقه على قائله سلمته إليه، وما قصر فيه لم أدع التنبيه عليه، لئلا يظن بنا الناظر في كتابنا خورا في قصد، أو تقصيرا في نقد. وذلك يلزمنا إلحاق ما فيه عيب غير السرقة بالمسروق، خوفا من أن يقول قائل قد تجاوز عن أشياء من الغثاثات واللحون والمحالات كانت أولى من الذكر للمسارقات. هذا إن لم يعبر عنا بالغفلة عنها إلا لتجاوز لها. وينبغي إذا عملنا على تسليم ما له من السرقات إليه، ورد المقصر منها عليه، أن أثبت لك وجوه السرقات، محمودها ومذمومها، وصحيحها وسقيمها، وأعرفك ما يوجب للسارق الفضيلة، وما يلحقه الرذيلة، ليكون ما نورده له وعليه مقيسا(826/29)
على أس قد أحكمناه، ونهج قد أوضحناه، وما غرضنا في ذلك الطعن على فاضل، ولا التعصب لقائل، وإنما غرضنا إفادتك ما استدعيناه، وكفايتك الفحص عما أستكفيناه، لتظهر على خصمك، وتزداد قوة في علمك، وبالله نستعين، وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل).
هذه هي المقدمة الرائعة التي قدم بها ابن وكيع المصري بين يدي كتابه، وفيها كل الغناء لمعرفة قيمة الكاتب والكتاب.
وقد تحدث ابن وكيع بعد ذلك عن السرقات ووجوهها العشرة المحمودة، ومثيلاتها المذمومة حديثا معجبا مطربا مركزا شاملا، ثم قال: (وقد عرفتك الآن وجوه السرقات محمودها ومذمومها لتسلم من الحيف عليه، وتقضي في الحقائق بما له وعليه مما أوجبه حكم السرقة من الإنصاف، ولقبنا كتابنا (المنصف) لما قصدنا من إنصاف السارق والمسروق منه).
وعقد بعد ذلك فصلا ضافيا عن أنواع البديع أو وجوهه، كما يعبر، ثم عقب عليه بقوله: (وقد قدمت لك من هذه الأقسام ما تقوي به معرفتك بنقد الشعر فائقة ومقصره، وأطلعتك على سرائر رذله ومتخيره، لتفاضل بين الشعراء بأصل، وتنطق بعدل). ثم شرع في مقصوده الأصيل، وهو بيان سرقات المتنبي. وقد نهج في تبيانها منهجا ممتازا، ذلك أنه تتبع شعر المتنبي تتبعا تاريخا، وسايره بالنقد من أبياته الأولى إلى آخره قصيدة قلها. . .
وقد خلا كتاب المنصف من ذلك الثقل البغيض الذي يشيع الملل في نفس القارئ، والذي تحسه واضحا قويا في كتاب الوساطة. وما كان خلوه من ذلك الثقل مصادفة ولا عفوا، وإنما كان أمرا قصد إليه المؤلف قصدا، واحتال للخلاص منه احتيالا بإيراد الأخبار النادرة، والمعاني الباهرة، كاملة غير مخدجة كلما اقتضى المقام إيرادها، واستدعت المناسبة القوية ذكرها.
وقد نبه على صنيعه هذا في مواطن كثيرة يقول في أحدها:
(وإنما قصدناه قصدا، وأتيناه عمدا، لأن موضوع الكتاب الفائدة للقارئ، ولسنا نأمن عليه من الإكثار عاقبة الإضجار بمعنى واحد من السرقات، فتريد أن ننقله إلى استماع شعر مطرب، أو خبر معجب، لنروح عن قلبه، ونجلو صدره، بما في الانتقال، من حال إلى حال، من مداواة القلوب من الأملال).(826/30)
ومما هو جدير بالذكر أن ابن وكيع قد اعتمد على ذوقه الخاص في نقد شعر المتنبي، ولم يقتصر على سرد أقوال السابقين من النقاد، كما صنع غيره من المؤلفين، وإنما أجال نظره، وأعمل فكره، وأدار عقله في شعاب شعره، ثم عبر عن مشاعره وآرائه وأحاسيسه وأفكاره في قوة ووضوح وثقة واعتزاز؛ ومن هنا كانت نفاسة الكتاب، وسمو منزلته بين كتب النقد الأدبي.
وقد حرص ابن وكيع في كتابه على أمرين عظيمين: نقد الصورة الشعرية ومحاولة إصلاحها، والموازنة المفصلة بين المعاني التي يتوارد عليها الشعراء. فقد ضرب في هذين اللونين من ألوان النقد بسهام وافرة، وأتى فيها بما يعجب ويطرب، ويلذ ويشوق
قرأ ابن وكيع قول المتنبي:
بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبراً ورنت غزالا
فلم ترفه الصورة الشعرية، لأن المتنبي قد أفسدها بإقحامه (العنبر) بين المشبهات التي شبه بها محبوبته، وهي القمر، والغصن، والغزال؛ فقال: وقوع (فاحت عنبرا) بين هذه التشبيهات التى هي أعضاء، قلة صنعة، وضيق عطن بما يليق في البيت، ولو قال (وماجت لجة) يريد ردفها كان البيت كله تشبيهات، وكان أحسن في صنعة الشعر؛ ولو جعل البيت بثلاثة تشبيهات فقال: (تثنى مائداً ورنت غزالا) لاكتفى بذلك.
وجميع البيت موجود في قول ابن الرومي:
إن أقبلت فالبدر لاح وإن مشت ... فالغصن مال وإن رنت فالريم
وقال البحتري:
فهي الشمس بهجة والقضيب ال ... نضر ليناً والريم طرفاً وجيداً
ويقرأ قول المتنبي:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكما
فعم صباحاً لقد هيجت لي شجناً ... وازدد تحيتنا إنا محيوكا
بأي حكم زمان صرت متخذاً ... رئم الفلا بدلا من رئم أهليكا
أيام فيك شموس ما انبعثن لنا ... إلا ابتعثن دماً للحظ مسفوكا
فلا يعجبه البيت الأخير لأنه لا يشاكل البيت الذي قبله، ولا تنسق به الصورة الشعرية(826/31)
فيقول: (هذا بيت رديء الصنعة، لأنه كان في حديث الوحش ثم قال: (شموس) ولو قال (ظباء) كان قد أورد ما يجانس البيت الأول) وأحسن من قوله في بقية البيت قول أشجع:
وإذا نظرت إلى محاسنها ... فلكل موضع نظرة قتل
وقال أبو نواس:
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكا عليه طويل
يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... إلا تشحط بينهن قتيل
قال ابن وكيع: وقد أخذت هذا المعنى فقلت:
لا ووجه لك بيدي ... صفحة السيف الصقيل
وسواد الشعر الأس ... ود في الخد الأثيل
وعيون لك لا تط ... رف إلا عن قتيل
ما جميل الصبر عن مث ... لك عندي بجميل
ومن ميز بين اللفظين عرف الفرق بينهما.
ويقرأ ابن وكيع قول المتنبي:
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
فيقول: (تخصيصه الشيب في فرق اللمة ضيق عطن بلفظ يعم جملة اللمة وكان ينبغي إذا خصص فرق اللمة بالشيب أن يقول (فصار مثل الدمقس أسوده) لعود الهاء على المذكر.
ولو قال:
شابت لهجر الحبيب لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
كان في الصنعة أملح، وهو مأخوذ من قول القائل:
بيني عنه أبان في شعَري ... أبيضه بعد حسن أسوده
في هذا البيت مجانسة من ذكر البين والإبانة، وفيه مطابقة، وفيه ضرب من استخراج معنى احتذى عليه، وإن فارق ما قصد به إليه، من ذلك قول امرئ القيس:
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
فشبه الأبيض بالأبيض، فنقل أبو الطيب هذا التشبيه من الشحم إلى الشيب وشبه الأبيض بالأبيض، ففي هذا البيت رجحان على ما قاله أبو الطيب والسابق أولى به.(826/32)
ويقف ابن وكيع عند قول المتنبي:
وقابلني رمانتا غصن بانة ... يميل به بدر ويمسكه حقف
ويقول: (إضلفة الرمانتين إلى غصن البانة تدل على أن أغصان ألبان من ثمرها الرمان، وقد عرفنا مقصده، إنما شبه الثديين بالرمانتين وقدها بالغصن، وأرانا جمع خلفها غرائب لا تجتمع، ولا تقع إلا فيه، ولو أمكنه أن يقول: (رمانتان في غصن بانة) كان أسوغ في مقصده كما قال ابن الرومي:
أغصان بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل ألبان
فكل يعجب مما ليس في العادة اجتماعه. فأما إطلاقه اللفظ على الرمان أنه من ثمر ألبان بغير مقدمة توضح مراده فلا أستحسنه هاهنا. وقوله: (يميل به بدر) فالبدر وجهه، وليس يميل وجهه بقده، لأن قده إذا مال، مال يوجهه حيث يميل. وابن الرومي أشعر منه في إثباته أن الفواكه ليست مما يحمل ألبان، فدل على أن المراد التشبيه لا الحقائق، وهو أولى به. وهذه معان متداولة إذا نشط لأحدها فلا بد من إخراج مواضعها، ومع ذلك فقد عرفتك نقصان صنعته فيها، وكلاهما بالسلامة أرجح وهما أولى بما قالا).
ويوازن ابن وكيع بين قول المتنبي:
هم الناس إلا أنهم من مكارم ... تغنى بهم حضر ويحدو بهم سفر
وبين قول ابن الرومي:
وقد سار شعري شرق أرض وغربها ... وغنى به الحضر المقيمون والسفر
فيقول: (فألفاظ بيت ابن الرومي ويأخذ بعضها بأعناق بعض، وقد عرف (الحضر والسفر) بالألف واللام، فيمكن أن يقال: إن الناس كلهم قد عنوا به، وأبو الطيب نكر، فأمكن أن يكون المعنى فرقة من الحضر وفرقة من السفر. وإذا كان كلام ابن الرومي أشرح وأمدح بإمكان العموم فيما خص فيه أبو الطيب، فابن الرومي أحق بما قال. ولعل قائلا أن يقول: جمع أبو الطيب حالتي الغناء والحداء، فصارت له زيادة فإنه إنما يحتسب له بذلك لو كان الغناء لا يكون إلا في الحضر، فإذا صلح للحضر والسفر، لم يصح تقسيمه، وقد قال عمر بن الخطاب: نعم زاد الراكب، فجعله بمنزلة الزاد للمسافر.
ويقرأ ابن وكيع قول المتنبي يخاطب حاديي عير حبيبته.(826/33)
قفا قليلا بها عليَّ فلا ... أقل من نظرة أزودها
فيقول: (معنى هذا البيت غير غريب. ولكن أبى الطيب لا يحقر شيئا، بل يأخذ الشعر الرفيع والوضيع، وهو في هذا الأخذ كما قال ابن المعتز في العشق:
قلبي وثاب إلى ذا وذا ... ليس يرى شيئاً فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي ... ويرحم القبح فيهواه
فيجب علينا الاهتمام بما اهتم، وهذا البيت من قول ذي الرمة:
فإن لم يكن إلا تعلل ساعة ... قليل فإني نافع لي قليلها
وهو من قسم المساواة، وقال ابن أبي فنن:
ما ضر لو زودت خلك نظرة ... قبل الرحيل وقلت قولا يجمل
إلى آخر ما هنالك من النفائس التي تضمنها كتاب (المنصف).
السيد أحمد صقر
المدرس بالليسية الفرنسية بمصر الجديدة(826/34)
إلى وكرك يا قلبي!
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
إلى وكرك يا قلبي ... ففي وكرك أحلامك
تعانق فيه ما يوحي ... هـ من شعرك إلهامك
وتفنى في جلال الح ... ب والأحلام آلامك
وتزخر فيه أصداؤ ... ك بالنجوى وأنغامك
فقد تسحرك الدنيا ... فتستيقظ آثامك
إذا ما حدت عن وكسر ... ك أو غرتك أوهامك
إلى وكرك يا قلبي ... فقد حاضرنا الليل
وجنت حولنا الدنيا ... فلا وحي ولا عقل
وخفت زمر العشا ... ق كالأحلام تنسل
دعتها الشهوة العميا ... ء قانساق بها الرحل
وهامت في ضلالتها ... بكأس قلما تحلو
فلذ بالوكر يا قلبي _ ... حسبك ذلك الظل
إلى وكرك يا قلبي ... لتطرح عنك أعباءك
وتسمع في سكون اللي ... ل من جارك أصداءك
ولا تعبأ بأضواء ... ينسينك أضواءك
فحلمك لم يزل يقظ ... ان يستلهم إحياءك
يطل عليك من مرقا ... هـ يستطلع أنباءك
فلا تحفل بمن تبسم ... ، أو تزعم إغواءك
إلى وكرك يا قلبي ... فإن الليل خداع
ترى الأضواء ساحرة ... وهذا السحر إيقاع
وهذى الفتنة الحيرى ... غوايات وأطماع
وهذا الحب يا قلبي ... ملذات وإمتاع
وهذى حية الجنات ... تلهو بالألي انصاعوا(826/35)
فعد للوكر يا قلبي ... فلا تشقى وتلتاع
حسن كامل الصيرفي(826/36)
دعاء الملاح الحائر
للأستاذ محمد خليفة التونسي
أيها الخابط في اليم اتئد ... قد توغلت، فهل تسمعني؟
يمم الشط، فما فيما تود ... راحة، آمنت أم لم تؤمن!
يمم الشط الذي منه أتيت ... تحظ بالراحة فيه والسكون
أنت - لا شك، إذا أوغلت - ميْت ... حيثما يبتلع اليم السفين
يمم الشط، ولا تخدع بما ... يتراءى لك في الأفق البعيد
تلك أوهام كِذَاب كلما ... زدت إيغالاً تراءت من جديد
تلك أوهام على اليم تلوح ... راقصات في جمالي الساحر
لا يراها غيري ذو القلب الطموح ... فيغاديها بعزم صابر
فإذا أوغل لم يظفر بما ... كان يرجو من نعيم وسلام
وهو - لا بد - سيفنى ندما ... إذ يرى اليم ظلاماً في ظلام
قد يريد المرء ما فيه دماره ... ولقد ينكر ما فيه علاه
من له - والغيب محجوب سراره ... عنه - أن يعرف ماذا منتهاه
أيها السادر في أحلامه ... لا تطاوع شهوة السبح اللجوج
آفة الإنسان في أوهامه ... وإذا شط الهوى عز الخروج
ما لهذا اليم حد ينتهي ... عنده، والسبح لا يجديك غنما
لا، ولن تلقى به ما تشتهي ... من منى أفنين أيامك هما.
يمم الشط، ودع ما يثقلك ... حسبك الشط، ففي الشط غناء
خير أوهامك وهم يحملك ... ويعزيك إذا عز العزاء
إنما دنياك لهو ولعب ... وهما أنفس ما يقني الرجال
فاله والعب طالما اسطعت تصب ... خير ما في وسع أبناء الزوال
(كوبري القبة)
محمد خليفة التونسي(826/37)
رسالة العلم
من طرائف العلم:
عندما تتقلص الشمس
صرح العلامة سير جيمس جينز أن الشواهد تدل على أن الذرات الكائنة في مركز الشمس تكاد تتقلص تقلصا هائلا، فيصير مصدر إضاءة المجموعة الشمسية نجما باهت اللون، يعجز عن إمداد وجه البسيطة بالحرارة التي تكفل استمرار الحياة، وأن احتمال انقلاب الشمس إلى نجم ضعيف الضوء قد يحدث في أية لحظة.
فهل معنى ذلك أن حياة البشر تبلغ نهايتها سريعا؟! إن مقياس الزمن - لحسن الحظ - في تقدير الفلكيين لمثل هذه النهاية يعادل ملايين الملايين من السنين. فإن تكن خاتمة الأرض قريبة في عرفهم، فأنا نستغرق أجيالا وأجيالا قبل أن تكون.
على أن الباحث قد يتأمل ويسأل: ما الذي يحدث إذا تقلصت
الشمس وتحولت إلى نجم من النجوم التي تدعى (الأقزام
البيض)؟ إن مثل هذا النوع من النجوم له كثافات تفوق كثافة
الماء آلاف المرات. فتوأم الشعري 4و40 أيرداني، وفان مانن
كثافتهما على التواني 440 ألف، و90 ألف و550 ألف كثافة
الماء. أي أن جزءا صغيرا من النجم فأن مانن في حجم عود
الثقاب قد يزن ربع طن على الأرض. أما توأم الشعري فكتلته
تضارع كتلة الشمس تقريبا. ولذلك يمكن الباحث أن يفرض
أنه إذا حدث للشمس انقلاب ما، فإنها تتحول إلى ما تحول إليه
هذا النجم. وسيجد في هذه الحالة أن جزءا صغيرا جدا من(826/39)
الشمس المتقلصة قد يزن عدة أرطال على الأرض. ولكن
كثافة الشمس في حالتها الراهنة تعادل كثافة الماء 1 , 41
مرة. فجزء منها في حجم عود الثقاب يزن ضعف وزن عود
الثقاب العادي المصنوع من الخشب الذي كثافته 0 , 7 من
كثافة الماء. أي أن هذا الجزء من الشمس يزن 51 من
الأوقية.
وعندما تتقلص الشمس، ينكمش قرصها إلى ما يقرب من
121 من قطرها الحالي، وبذلك تنقص مساحتها آلاف المرات
عن مساحتها الراهنة. وإذا فرض أن حرارة سطح الشمس
وشدة إضاءتها لا تتغيران أثناء التقلص، فإنهما ستكونان بعد
ذلك أقل ألف مرة من ذي قبل. إن شدة إضاءة الشمس لسطح
الكرة الأرضية في يوم من أيام الصيف تقدر بنحو عشرة
آلاف شمعة للقدم الواحد. أي أنه إذا وضعت عشرة آلاف
شمعة على ارتفاع قدم واحدة من سطح الأرض فإن إضاءتها
تعادل إضاءة الشمس، للقدم الواحدة. وعندما تتقلص الشمس
تنخفض شدة إضاءتها إلى ما يقرب من عشر شمعات للقدم
الواحدة في يوم صافي السماء، أو خمس شمعات في يوم كثير(826/40)
الغيم. وعلى ذلك، فإضاءة الأرض نهارا لن تعادل أكثر من
إضاءة إحدى الغرف ليلا بمصباح كهربائي عادي. ولما كانت
شدة إضاءة الغرفة نهارا تقدر بحوالي 1001 من الإضاءة في
العراء، فإن الشمس المتقلصة لن تكون قوة إضاءتها في
الداخل تقدر بأكثر من عشر الشمعة. وستصبح حينئذ إضاءة
القمر 10001 من إضاءته الحالية، وبذلك تتعذر رؤيته.
ولكن قبل أن تصل الأرض إلى حقبة التثلج الأبدي، تمر عليها أطوار غريبة الحوادث أثناء التغييرات المستمرة داخل الشمس. ويتنبأ العلماء أنه عندما تفقد ذرات الشمس المركزية آخر كهاربها يحدث تقلص عام فيها، يكون من جرائه تولد الزلازل على الأرض، وانتشار البرودة على سطحها، ولكن قد تحدث في بعض الأحيان اندلاعات نارية قصيرة الأمد تسبب جوا حارا على سطح البسيطة، فينشأ من هذه الحرارة الفجائية كثير من الأمراض كضربة الشمس والحميات وغيرها. ويتلف المحصول الزراعي من التغير الحراري، وتموت العضويات الصغيرة. وتقوم الشعوب الجائعة تطالب بتشكيل هيئة حكومية عالمية قادرة على توفير الغذاء. وتقوم هيئة تنفيذية دولية بتنظيم السفر إلى المناطق الاستوائية الحارة، حيث الحرارة تلائم المعيشة. ولم تمنح تصريحات السفر إلا لكل من ينتفع بمعلوماته وأعماله للمحافظة على كيان البشر. وسيهلك الكثيرون جوعا.
وأول من يسافر إلى المناطق الاستوائية علماء طبقات الأرض والمهندسون والمعدنون والكيمياويون. فعلماء طبقات الأرض يبحثون عن أماكن مناسبة لإيواء الناس، والمهندسون يعملون على تشييد الملاجئ والمساكن. وستكون لخبرة المعدنين في إنشاء طرق تحت الأرض منفعة هائلة يتمتع المعدنون من جرائها بنفوذ اجتماعي كبير. أما الكيماويون فيقومون بإنتاج شتى أنواع الطعام الصناعي بدلا من ذلك الذي ضاع بتلف المحصول الزراعي، وهلاك الماشية.(826/41)
وعندما يستقر الناس في معيشتهم الجديدة، سيجدون أن سطح الأرض قد تغير تغيرا كبيرا. فتجمد مياه المحيطات والبحار تجمدا تاما، وتزداد البرودة زيادة هائلة، ويتكاثف بخار الماء من الجو وبذلك تخلو السماء تماما من السحب.
ولعل الإنسان يعمل على تكييف نفسه في ذلك الوسط الجديد، فإن لم يستطع فقد وصل إلى نهايته المحتومة.
محمد فتحي عبد الوهاب(826/42)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة:
إني لمغتبط إذ أرى شخصية أدبية ممتازة كشخصيتك، تقف في (الرسالة) الغراء طارقا بأسلوبك التحليلي النفيس شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الأدبية. . الواقع أن هذا الكاتب الكبير الذي تربى في أحضان القانون واجتذبه الأدب إلى أحضانه وانتزعه من البيئة التي نبت فيها وعاش في كنفها، كان شمسا جديدا ضمت إلى شمس الأدب فزادت الأدب العربي نورا وبهجة ورواء!.
إنني لا أوافقك على رأيك عندما تقول: (إن توفيق الحكيم في واقع الحياة يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس). . إن أمامنا مثلا واضحا يظهر جليا في كتابه (يوميات نائب في الأرياف) الذي ألفه بعد أن كان وكيلا للنائب العام. يقرأه الإنسان فيحس إحساسا عميقا من قرارة نفسه أن الأستاذ الحكيم في هذا الكتاب أديب وفيلسوف. . . تارة يتهكم على بعض مفارقات الحياة، وتارة أخرى يسمو بفكرته ويحلق بالقارئ فيخيل إليه أنه في قلب المحكمة يسمع ويرى المتقاضين والمتهمين، ويعالج بقلمه بؤس الفلاحين فيؤكد لنا أنه يعيش في دنيا الناس لا في دنياه هو كما تقول!.
فهل للأستاذ أن يتناول بقلمه الرائع لمحة خاطفة عن شخصية الأستاذ الحكيم في كتابه (يوميات نائب في الأرياف)، الذي يصدره بتلك الكلمات: (أيتها الصفحات التي لم تنشر، ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق)؟.
محمد رضوان
كلية الحقوق جامعة فؤاد
الفن في ميزان القلب والشعور:
إن كلمتك التي طالعناها في (الرسالة) عن الأستاذ توفيق الحكيم رغم قصرها وتركيزها قد أطلعتنا على كثير من الحقائق والقيم التي لم يطلعنا عليها كاتب من قبل، إننا نهنئك من أعماق نفوسنا على أنك لم تتأثر في نقدك - كما يفعل الغير - بالصداقة وما نفرضه من(826/43)
مجاملات! ولكن الحقيقة الكبرى التي أحب أن تفسرها لنا تفسيرا كاملا وصريحا هي قولك: (صراع نفسي وهذا هو العجب، وقلب إنساني وهذا هو الأعجب). . . هل نفهم من هذه اللمسة السريعة العابرة أن الأستاذ توفيق الحكيم لا يهتز بين جنبيه قلب قوي الخفقات مكتمل النبضات؟ إن هذه النقطة هي أهم ما يجب أن تكشف لنا عنه في كلمات حاسمة وفاصلة، لأنها في الواقع مثار كل خلاف بين أنصار فن الأستاذ الحكيم وبين خصومه!.
مصطفى عبد العليم
دبلوم معهدي الصحافة والتربية
ناحيتان جديرتان بالبحث والدراسة بعد أن عرض لهما في هاتين الرسالتين أديبان فاضلان. . . الواقع أنني كنت أشعر وأنا أكتب عن الأستاذ توفيق الحكيم أن هناك قراء سيدفعهم التركيز فيما كتبت إلى شئ من الاستفسار، لأنني كنت أحرص كل الحرص على إبراز القواعد العامة وأعنى كل العناية برسم الخطوط الرئيسية. ومرجع هذا إلى أن الأديب الفاضل الذي رغب إلى أن أكتب في هذا الموضوع، قد ألزمني أن أدور حول هذا الهدف وأن أتحدث في حدود هذا النطاق. . . وإذن فلا بأس من العودة إلى ما سبق أن عرضت له من آراء وأحكام، لأتناول بالتوضيح بعض ما لم يتضح عند الإشارة العامة واللمحة العابرة، لينتفي في رحاب الشرح والتفضيل ما غمض في رحاب الإيجاز والتركيز!.
أول شئ أقرره في مجال الرد على الرسالة الأولى هو أنني أوافق صاحبها على ما أبداه من رأي في شخصية الأستاذ الحكيم الأدبية. . . الواقع أن هذا الفنان مهما وجه إليه من نقد ومهما أخذ على فنه من نقص، فستبقى حقيقة يقررها كل منصف حين تؤرخ هذه الفترة من أدبنا العربي المعاصر، وهي أن توفيق الحكيم هو واضح الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث في مصر. قد يأتي بعده في هذا الجيل أو الجيل الذي يليه من يرفع البناء الفني لهذا الأدب طبقات، ولكن توفيق سيضل في ميزان التاريخ الأدبي هو الباني الأول هو الموجه الأول، فلولاه ما كان عندنا قصة فنية، لما كان عندنا مسرحية ناضجة، ولما كان عندنا نفير من كتاب الشباب يستطيعون أن يحملوا الراية حين يخلو لهم الميدان. . . إن لم(826/44)
يكن اليوم ففي الغد القريب على كل حال. والفضل كل الفضل لأن هذا الفنان قد حمل المشعل منذ سنين فأنار الطريق، ودفع السالكين بكلتا يديه إلى الأمام!.
إنني حين أعلم أن بعض جوانب هذه الشخصية الأدبية لا يرضيني فليس معنا هذا أن توفيق الحكيم يقف وحده في مجال النقص والقصور، كلا. . . فما يسلم كاتب في الشرق ولا في الغرب من هذا الذي يأخذه النقد على توفيق الحكيم! إن (أوديب الملك) التي أخرجها منذ شهور لم تبلغ الغاية التي كنت أرجوها من كاتب يدرك تمام الإدراك ما ينتظره من صعاب وهو يطرق أبواب سوفو كليس، ولكن هذا العمل الفني الذي أخفق فيه توفيق الحكيم وهو يواجه عميد الترتديجيا اليونانية يعلو فوق مستوى أمثاله عند من حاولوا نفس المحاولة من كتاب المسرحية في أدب الغرب، وسأقف في كل وقت وفي كل مكان لأقول إن (أوديب) توفيق الحكيم أفضل بكثير من (أوديب) جان كوكتو , أندرية جيد!
بعد هذا أعود فأقول للأديب الحقوقي الفاضل إنني حين قلة عن توفيق الحكيم إنه يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس كنت أرمي إلى أدبه المسرحي لا إلى هذا الأدب الذي يدخل في باب اليوميات. . . إن الكتاب الذي أشار إليه لا يعد قصه بالمعنى المفهوم من القصة، ولكنه مشاهدات نقلها الأستاذ الحكيم من واقع الحياة إلى الفن بعد أن لونتها ريشة القصاص بألوان العرض الفني الذي يأخذ من القصة ثوبها الخارجي ولا يتعداه. ومع ذلك فأنا أحب أن أوضح نقطة تدخل في صميم هذا الجانب الذي نبحث فيه، وهو أن توفيق الحكيم قد مضى يعالج فن المسرحية في الوقت الذي ابتعد فيه عن الحياة وانطوى على نفسه. إنك عندما تقرأ أعماله الفنية الأولى التي سجلها ليصور بها تلك البيئات المختلفة التي عاشه فيها بالجسم والفكر والروح والحواس تلمس أن الحياة تتنفس تنفسا عميقا في فنه، وأن عدسة القصاص قد بلغات من دقة اللقطات ما لا يتهيأ إلا لكل فنان مفتوح العينين والقلب والذهن. . . اقرأ مثلا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) تحس أن الحياة فيهما تكاد تنتقض بين يديك وتتحرك أمام ناظريك؛ تنتفض بمواكب لا تحصى من الصور النفسية والنماذج البشرية! لقد كانت العدسة البارعة تنتقل من الشوارع إلى الأزقة، من المدينة إلى القرية، من القصر إلى الكوخ؛ ترقب، وتتأمل، وتسجل. . . وإذا حرارة التعبير قد ارتفعت لتلفح إحساسك على الورق، وإذا لمحة الخاطر قد استحالت فكرة في ثنايا(826/45)
العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!
لقد كان توفيق الحكيم يعب الحياة عبا إن صح هذا التعبير ويوم أن كان بطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينية كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة للتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات المستيقظة في فن توفيق الحكيم. . . فترات مستيقظة نقلت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح وأصالة، فإذا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فإن الصورة قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!. . . هذا هو الفن الرفيع حين يتصل بالحياة وحين يقبس من الحياة، ليعيدها إليك لوحة تكتمل فيها الزوايا وتأتلف الأبعاد.
في حي السيدة زينب جلس توفيق الحكيم إلى مائدة الحياة فتذوق من ألوان الطعوم ما شممت رائحته في (عودة الروح). وفي مدينة دسوق قضى فترة من شبابه وكيلا للنائب العام، يتحدث إلى الحياة وتتحدث إليه، حتى نقل إليك حديثهما ذلك الطلي النابض في (يوميات نائب الأرياف). . وفي مدينة النور قدمت إليه الحياة كأسا غير الكأس وسقته من رحيق غير الرحيق، وكان مذاق هذه الكأس الجديدة هو تلك الجرعة الملهبة في (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق). في كل عمل من هذه الأعمال الفنية خامة قصصية تستمد نفاستها من هذا المعدن الممتاز الذي لا يخبو له ضوء. . . معدن الحياة!
ولكن توفيق الحكيم ينتقل من حال إلى حال. . . يغلق النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، وكأني به قد سئم ضجيج الحياة والأحياء! ولا بأس عنده من أن يرقب هذا المسرح الزاخر بالنظارة والممثلين من وراء هذه النافذة ذات الزجاج (المصنفر) الذي يحجب الرؤية عن الأنظار، ولكن هذا الزجاج (المصنفر) لا يتيح له الرؤية الكاملة لتلك الفصول المتعاقبة من رواية الحياة. . . وإذن فلا مناص من الرجوع إلى المخيلة في تمثل حركات النظارة والممثلين! وهنا مفرق الطريق بين عهد وعهد في أعمال توفيق الحكيم الفنية. . . فن يأخذ مادته من الحياة في فترة من فترات شبابه، وفن آخر يأخذ مادته من المخيلة في فترة من فترات ما بعد الشباب، ويسدل الستار(826/46)
أو يكاد على تلك الألوان التي تستمد عناصرها ومقوماتها من واقع الحياة، ليرفع مرة أخرى عن تلك الألوان التي تستمد عناصرها ومقوماتها من واقع الأساطير!. . . قد يقول بعض النقاد إن الأسطورة في فن توفيق الحكيم مرجعها إلى أنه يريد أن يحلق في كل أفق ويريد أن يطرق كل ميدان؛ وقد يبدو هذا التفسير مقبولا لو كان هناك شئ من الاقتصاد في العمل الفني الأسطوري ولكنه إغراق له دلالته ومرماه، وأبلغ الدلالة فيه أن توفيق الحكيم قد ابتعد عن الحياة وأن الحياة قد ابتعدت عنه، وحين غاب عالم الصور الحية عن ناظرية لجأ إلى عالم الرؤى والأطياف؛ عالم المخيلة التي ترتب المنظر، وتحرك الشخوص، وتصنع الحوار، من وراء النافذة المغلقة لا في رحاب الهواء الطليق!
ومن يدري فلعل توفيق الحكيم يعود مرة أخرى إلى الحياة بعد هذا الهجر الذي طال أمده واتسع مداه، ولعله يكون قد عاد في هذه المسرحية التي تعرض منذ أيام على مسرح الأوبرا الملكية. . . إنني لم أشاهدها بعد، وأرجو إذا مشاهدتها أن تتحقق هذه الأمنية التي أنتظرها منذ بعيد، وهي رؤية فن توفيق يعب الحياة عباً كما كان. عندئذ سألهب قلبي من الإعجاب وكفي من التصفيق!
بعد هذا أعود إلى الرسالة الثانية لأقول لصاحبها إن مسألة القلب الإنساني في فن توفيق الحكيم هي مشكلة المشكلات. . . هل يملك قلباً إنسانياً أم لا يملك؟
هذا هو السؤال! إنه يملك هذا القلب، ولكنه القلب الذي لا يفتح على مصراعيه لتندفع النبضات قوية جياشة متدفقة. إنه قلب يفتحه صاحبه للحياة بمقدار، ويفتحه للناس بمقدار، ويفتحه للفن بمقدار. . . وفي غمرة هذا الضعف في الخفقة القلبية تطغى الموجة الفكرية والومضة الذهنية، هذا الطغيان الجارف في قصصه ومسرحياته!
في (عودة الروح) و (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق) و (الرباط المقدس) و (شهرزاد) و (بجماليون) و (أهل الكهف) تحس إحساسا عميقا أن نافذة القلب الإنساني في فن توفيق الحكيم لم تكن تفتح لتهب منها رياح الوجدان، حتى تعود فتغلق أمام عواصف الفكر المنبعثة من تأملات الذهن وسبحات الخيال! أما في (سليمان الحكيم) فقد انتصر القلب على العقل. . . وهذه هي المعجزة التي دفعتني إلى القول بأن هذه المسرحية تقف منفردة باكتمال (الصراع النفسي) وقوة النبضات في القلب الإنساني، ودفعتني إلى الظن(826/47)
بأن توفيق الحكيم كان يعيش في نفس التجربة الشعورية التي صورها بقلمه لقلب (بلقيس) بين حب (منذر) وجاء (سليمان)!. . . من هنا قلت وأنا في معرض الحديث عن (سليمان الحكيم): (صراع نفسي وهذا هو العجب، وقلب إنساني وهذا هو الأعجب)؛ لقد كان مصدر العجب البالغ أن توفيق قد خلا إلى قلبه خلوة طويلة، تمت في غفلة من عين هذا الرقيب الصاحي الذي لا يغفل، وأعنى به الفكر!.
إن الفن في ميزان الذهن المجرد شئ، وفي ميزان القلب النابض شئ آخر؛ هناك هزات فكرية، وهنا هزات شعورية. وما أبعد الفارق بين الفنين في حساب النفس وحساب الزمن!.
دفاع مضحك عن سلامة موسى:
لي صديق أديب هو في الوقت نفسه صديق للأستاذ سلامة موسى، ولكن يظهر أن إخلاصه للكاتب (الجبار) يفوق إخلاصه لي. . . والدليل على ذلك كتب في الرد على مقالين أحدهما في (الأديب) والآخر في (المقتطف)، حاول فيهم بكل ما أوتي من علم أستاذه أن يرفعه إلى السماء؛ ولكن السماء كانت قد امتلأت بضحكات الساخرين فلم يبق فيها مكان للكاتب الجبار فبقى كما تركته منذ أسابيع. . على الأرض!! إن سلامة موسى في رأي تلميذه الذي لا أعرف له تلميذا سواه (مفخرة خمس أجيال في تاريخ مصر، وإذا كان لكل كاتب مدرسة فإن المدرسة الأولى للدكتور طه حسين بك بلا منازع، والمدرسة الثانية منسوبة إلى الأستاذ سلامة موسى بغير شك). . . هكذا والله العظيم! ولو سئلت النملة رأيها في الذبابة لقالت: هذا فيل كبير!!.
أنور المعداوي(826/48)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أين هو الربيع:
حفلت الصحف والمجلات المصرية في هذا الأسبوع بالكلام على الربيع وبصور الربيع، وتفنن بعضها في عرض صور الحسان فهذه تخلع للربيع، وهذه تغفو ليصف الشاعر الفتنة النائمة، وهذه تتحدى أزهار الربيع بما تبدى من مفاتن. وترى هنا وهناك قصائد يتغنى فيها الشعراء بالربيع وما يسبغ على الكون من جمال.
ذلك كله على رغم هذا الجو المتقلب الذي لا يستقر على حال وعلى رغم هذه الرياح، رياح الخماسين، التي تقذى العيون وتزكم الأنوف. فأين هو الربيع؟ إن هذا الجو الكدر المضطرب سينقلب بعد قليل إلى حر لا يطاق.
إذا كان للربيع وجود فهو في بلاد أخرى غير مصر، شرقية وغربية، وهم يشعرون به لأنه يأتي عندهم بعد شتاء قاس، وينتقل فيه الجو ببطء وتدرج؛ أما عندنا فهو انتقال من شتاء معتدل، وإيذان بصيف ثقيل، وهو فترة مضطربة لا يستقر فيها الجو على حال. وإني أشعر أن الخريف عندنا أجمل من الربيع، فهو يقبل بعد الصيف كما تقبل نسمات الأصيل بعد الهجير، والجو فيه أكثر استقرارا من الربيع، ولم أر فيه شجرا يسقط ورقه كما يقولون، فالشجر في مصر دائم الإيراق وقليل منه يسقط في الشتاء، والأزهار كثيرة ناضرة فيها على مدى العام، وحتى صور الحسان في الصحف والمجلات لا تنقطع لها مناسبة. . .
فما نصيب تلك المظاهر التي نصطنعها في الربيع من الصدق؟ أليست كلها تقليدا في تقليد؟ وكم من شاعر يتغنى بجمال الربيع وليس في عالمه إلا جدران قهوة أو غرفة مغلقة، ويتحدث عن الحب في الربيع وهو لا يحب غير نشر القصيدة أو إلقاؤها في حفل، ويشيد بشدو الطيور وهو لا يسمع غير ما يطلبه المستمعون من الإذاعة. . .
إن الربيع الحقيقي في مصر هو (البرسيم) ربيع الحمير. . .
ذكرى إقبال:
احتفت سفارة الباكستان في القاهرة بالذكرى الحادية عشرة للشاعر الفيلسوف محمد إقبال،(826/49)
يوم الخميس الماضي في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية. وقد ألقى سفير الباكستان الحاج عبد الستار سيت كلمة ترحيب، وألقى الدكتور حسين الهمداني محاضرة عن حياة الشاعر وشعره، وألقى الدكتور عثمان أمين محاضرة عن (إقبال الفيلسوف) وأنشد كل من الشاعرين محمود حسن إسماعيل ومحمد مصطفى حمام قصيدة، وألقى آخرون كلمات أخرى.
وقد تضمنت كلمة الدكتور الهمداني أن إقبال ولد سنة 1873 في عائلة براهمية تشتغل بالزراعة في قرية (لوهار) بكشمير. وبعد أن أتم تعليمه في المعاهد الهندية لم يلتحق بخدمة الحكومة لضعف بصره فتفرغ للأدب والشعر. ثم رحل إلى أوربا سنة 1905 قاصدا كمبردج ثم هيدلبرج بألمانيا ثم ميونخ حيث حصل على شهادة الدكتوراه نتيجة لرسالة قدمها بعنوان (تتطور الفكرة العقلية في إيران) وفي سنة 1908 حصل على شهادة في القانون وعاد إلى وطنه.
وقال إن إقبال عندما اقتحم باب الشعر ألقى الوخم والكسل والقنوط مخيمة على حياة الناس كافة كما وجد روح التشاؤم سائدا من جراء الاستعمار، فأيقظ قومه وبعث فيهم الكفاح والحياة، ومزق الأستار التي كانت تحجب الحقائق عن أعين الشعب. ولم يقتصر على الخيال والجمال الفني في شعره بل راح يجاهد ويهيب بقومه أن يقلعوا عن أفكارهم القديمة ويتجردوا من روح التواكل الذي كان يشيع بينهم. وقد نادى بوجوب انفصال المسلمين عن الهندوس وتكوين دولة خاصة بهم، فتحققت أحلامه بعد وفاته وقامت دولة الباكستان.
وقد ألقى سعادة السفير كلمته بالإنجليزية، ومما يذكر لذلك أن في الباكستان الآن حركة تهدف إلى نشر اللغة العربية، فقد تقرر تعليمها بالمدارس الباكستانية على نطاق واسع، وجاء في نشرة لسفارة الباكستان بالقاهرة أن متحدثا بلسان وزارة المعارف الباكستانية قال إن الحروف العربية أثبتت تفوقها على الحروف الأردية، وقد عرف المؤيدون لاستعمال الحروف العربية أن ذلك يدعو إلى توثيق العلاقات بسائر الأمم الإسلامية، كما أنه يعتبر الوسيلة الفعالة للنهوض بالتجانس الثقافي وتوحيد الغايات إلى المستقبل القومي.
ومما يذكر أيضاً أن رجال الدولة في الباكستان ضربوا المثل بأنفسهم فجعلوا يتعلمون اللغة العربية. ولا شك في أنه لن يطول الأمد حتى يلقى سفير الباكستان بالقاهرة كلمته في(826/50)
ذكرى إقبال باللغة العربية.
المصري أفندي:
هو الفلم الذي عرض في الأسابيع الأخيرة بسينما مترو بالقاهرة، وقد ألف قصته محمد كامل حسن، وأخرجه ومثل البطل الأول فيه حسين صدقي وممن اشترك معه في التمثيل إسماعيل يس ومديحة يسري ولولا صدقي. ويعالج الفلم قضية إنسانية في صور من البيئة المصرية، تلك هي مشكلة الأولاد وحالة الأب المعيشية، فالمصري أفندي (حسين صدقي) شاب فقير يرزق أو (يصاب) بأولاد كثيرين، توائم وغير توائم، من زوجته (مديحة يسري) وتمر الأسرة بشدائد تجعل الوالد يضيق بأولاد، ويكاد يتحطم عندما يفاجأ بثلاثة توائم. ثم تنجاب الشدائد ويقبل المال وتتبدل الحال غير الحال. . . ولكن الأحداث تذهب بالأولاد ولا يبقى إلا بنت واحدة (عيشة) التي تصاب بمرض شديد فلا تشفى منه إلا وهي مقعدة. ويصبح الوالد من كبار الأغنياء ولكنه في الوقت نفسه أكبر الأشقياء، فقد هذه الحزن على أولاده وخاصة حسن الذي اختفى ولم يعرف له مقر، وتنتهي الرواية باللقاء بين الولد المفقود الذي صار شابا وبين والديه المحطمين والأخت المقعدة التي تذهلها المفاجأة السارة عن حالها، فتهب واقفة تمشي نحو أخيها حسن. . .
ويعرض الفلم صورا رائعة من الحب الزوجي والتعاون بين الزوجين في الملمات، إلى جانب ما بينه من تفاهة المال وعدم جدواه في السعادة الحقيقية. ويمتاز الفلم بالروعة الأصلية، والوصول إلى الأهداف عن طريق العرض الفني من غير إشعار يوعظ، والخلو من التهريج والحشو، والفكاهة فيه طبيعية غير مقحمة، ويبلغ فيه إسماعيل يس غاية الظرف، وهو يؤدي دور الغني الذي لا يشعر بحاجة إلى تنمية المال حتى يولد له ولد بعد انتظار طويل، وكانت المفارقة أن يقترن هذا بما يتوالى على (عديله) المصري أفندي الفقير من الأولاد وهو في شوق ولو إلى نصف ولد. . .
و (المصري أفندي) فلم عظيم من غير شك، وهو يأتي الآن في هذه المرحلة من مراحل الفن السينمائي في مصر، كما أتى فلم (العزيمة) لحسين صدقي أيضاً في المرحلة الأولى، كل منهما ينقل هذا الفن إلى (الموضوعية) مصاغة في قالب من الفن الممتع الشائق. وقد تعمدت أن أغفل فلم (نحو المجد) الذي أخرجه حسين صدقي أيضا، لأنه وإن كانت قصته(826/51)
جيدة إلا أن هناك أشياء أفسدته، منها إقحام (شكوكو) في الفلم من غير مناسبة فجاء ثقيل الظل.
وفي فلم (المصري أفندي) هنات قليلة، منها (السبوع) الذي احتفل فيه الولد الأول للمصري أفندي، فإن (برجيلاتك وحلقة في وداناتك) لا تتفق مع استنارة الزوجين وعصريتهما، وقد تم زواجهما على طريقة عصرية في غاية البساطة.
الأدب وغذاء العقل في الصحافة:
ألقى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني محاضرة عن (الصحافة المصرية في ربع قرن) يوم الجمعة الماضي بالجامعة الأمريكية، عرض فيها للصحافة في طورها الأول ثم قال: وفتحت الصحف صدورها للأدباء فصاروا ينشرون فيها شعرهم ونثرهم، وكانت أسبق الصحف إلى ذلك - على ما أذكر - جريدة الدستور لصاحبها الأستاذ فريد وجدي بك، وكان عونه في هذا الباب هو الأستاذ العقاد؛ وجريدة (الجريدة) التي كان يتولى أمرها الأستاذ الجليل لطفي السيد باشا، وقد استعان بجمهرة من الأدباء منهم المرحوم محمد السباعي؛ ثم تلتهما جريدة المؤيد فجعلت للقسم الأدبي صفحة خاصة وكلت أمرها إلى الأستاذ العقاد.
ثم انتقل إلى الصحافة في طور تقدمها الحديث، وقال: وقد جر هذا الرقى الصحفي إلى أمور يشكو منها العقلاء والمشفقون منها أن كثرة المادة في الصحف والمجلات وتنوعها وحسن عرضها وقرب منالها، كل ذلك صرف الكثيرين عن قراءة الكتب، وعودهم الاكتفاء بهذا المادة السهلة الميسرة، وهذا شر كبير لأنه لا غنى عن غذاء العقل كما أنه لا غنى عن الغذاء للبدن، ومادة الصحف لا تكفي لتغذية العقل.
يقولون لي:
يقول الأديب محمد فتحي سعيد بمدرسة دمنهور الثانوية (وقد وصلني كتابه منذ أسابيع ولكني رأيت أن أعود إليه): قلت في ما كتبته ردا على الأستاذ الأسمر (ليست هذه أول مرة يأخذ فيها الجارم من شعر شوقي) ومعنى ذلك أن الجارم كان يسطو على شعر شوقي ولكننا نعرف عن الجارم أنه شاعر فذ وأديب مجيد. إلى أن يقول: وجدير بنا الآن أن(826/52)